ـ[مجلة المقتبس]ـ
أصدرها: محمد بن عبد الرزاق بن محمَّد، كُرْد عَلي (المتوفى: 1372هـ)
الأعداد: 96 عددا
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد](/)
محمد كرد علي علاّمة الشام (1) 1876 ـ 1953 [جان الكسان]
من الأيام المشهودة في تاريخ دمشق، يوم الخميس، الثاني من نيسان لعام ثلاثة وخمسين وتسعمائة وألف، عندما خرجت المدينة عن بكرة أبيها لتشيع وتودع علامة الشام محمد كرد علي، حيث ووري الثرى بجوار قبر معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية، ليقف على القبر الأديب العالم الدكتور منير العجلاني يودعه بكلمة رثاء بليغة قال فيها: "إن ثمة إمارتين معقودتين في العالم العربي: إمارة الشعر، وكانت معقودة اللواء للمرحوم أحمد شوقي، وإمارة العلم وكانت معقودة اللواء لفقيدنا العلامة محمد كرد علي" ...
كانت كلمة إنصاف للراحل الكبير إذ يندر أن نجد بين أعلام العلم والأدب والبحث والمعرفة والترجمة في الوطن العربي. في القرنين التاسع عشر والعشرين من يتميز بمثل هذا التفرد الذي كان عليه علامة الشام محمد كرد علي، وقد أغنى المكتبة العربية بنتاجه الغزير من كتب مترجمة ومعربة وموضوعة، ومن أدب المقالة، والدراسات التاريخية والأدبية، وتحقيق الكتب والمخطوطات، كما كان أول رئيس لمجمع اللغة العربية في دمشق، الذي كان بدوره أول مجمع علمي عربي (أنشئ عام 1919) في البلاد العربية حيث أطلق عليه (أبو المجامع) اعترافاً بأسبقيته من الناحية التاريخية (2).
__________
(1) ـ الدراسة الفائزة بالجائزة الأولى مناصفة في المسابقة التي أعلنتها "الموقف الأدبي" عام /2002/.
(2) ـ كانت تجربة مجمع دمشق حافزاً لقيام مجامع في بقية الأقطار العربية، فأسس مجمع القاهرة عام 1932، والمجمع العراقي عام 1947، ومجمع الأردن في وقت لاحق.(/1)
وقد شاعت سيرة محمد كرد علي في أوساط الباحثين والمثقفين ورواد المعرفة، ولكن التعريف بنتاجه الغزير ظل دون المأمول، بل ظل محصوراً بين نخبة قليلة منهم، علماً أن الكتب والمؤلفات والمجلدات التي تركها، والتي يصل عددها إلى اثنين وعشرين مؤلفاً بحاجة إلى من ينفض الغبار عن أكثرها ويعيد طرحه أمام الجيل الجديد للتعريف بهذا الجهد الخارق الذي بذله صاحب هذه المؤلفات على مدى أكثر من ستين عاماً قضاها في العطاء الفكري، منذ أن كان يافعاً في الثالثة عشرة من عمره.
تراث ضخم بجميع المقاييس
وفي بعض جوانب سيرة العلامة الكبير أن أحد المستشرقين وقف مرة أمام التراث المطبوع للعلامة محمد كرد علي وسأل مرافقيه: "هل حاول أحد جمع عدد الصفحات التي كتبها الرئيس الراحل؟ "
ولما أجيب بالنفي، قرر هو أن يقوم بهذه المهمة، فكانت النتيجة أن مجموع صفحات كتبه المطبوعة بلغ عشرة آلاف ومئتين وأربعاً وخمسين صفحة، عدا مجلة (المقتبس) التي أصدرها في تسعة مجلدات وبلغ عدد صفحاتها ستة آلاف وأربعمائة وسبعاً وستين صفحة وكذلك جريدة (المقتبس) التي أصدرها يومية وشهرية لعدة سنوات.(/2)
أمام هذا التراث لا نستطيع أن نعتمد مقاييس الكم والكيف إلا ونجد أنهما متكاملان، فما أعطى الراحل الكريم عطاءً مرتجلاً، ولا كتب في أمور لم ينقص حتى أدق خصائصها وهو في هذا يقول (1): "وأهم ما أولعت بمطالعته بعد درس المطبوع من كتب الأدب العربي وجانب من المخطوط الذي عثرت عليه، كتب الفلاسفة وعلماء الاجتماع وأحوال الشعوب ومدنياتهم وطالعت بالفرنسية أهم ما كتبه فولتير وروسو ومونتسكيو وبنتام وسبنسر، ونوليه، وتين، ورنان، وسيمون، وتدارست المجلات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية والأدبية باللغة الإفرنجية، وجريت منذ نشأت على قاعدة مطردة لم أتخلف عنها قيد شبر وهي أن أقرأ أكثر مما أكتب، وقلّما دونت موضوعاً لم أدرسه، في الجملة ولم تتشربه نفسي" (2).
موهبة واعدة ومبكرة
وحتى نقف على المراحل التي كونت الأبعاد الفكرية لهذه الشخصية التي تتميز بكثير من صفات التفرد، لابد من استطلاع المحطات الأساسية في السيرة الحياتية والعلمية والثقافية لها، خاصة وإن جميع الدراسات التي وضعت عنها أشارت إلى أهمية الوقوف أمام المحطة الأولى، محطة ظهور الموهبة الواعدة لدى الشاب اليافع محمد كرد علي في وقت مبكر، وبالتحديد في الثالثة عشرة من عمره ... فقد كانت ولادته في دمشق سنة ست وسبعين وثمانمائة وألف للميلاد أي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، والمنطقة العربية ترزح تحت نير الحكم العثماني حيث لا مدارس ولا معاهد ولا جامعات، بل كتاتيب صغيرة يتعلم فيها الأطفال القرآن الكريم وبعض فرائض الصلاة والصوم، باستثناء عدد محدود من المدارس ليس متيسراً لأبناء عامة الشعب (3).
__________
(1) ـ المذكرات ـ أربعة أجزاء.
(2) ـ المصدر السابق.
(3) ـ عبد الغني العطري ـ كتاب (عبقريات شامية).(/3)
كانت الموهبة المبكرة لمحمد كرد علي هي التي فرضت نفسها على الجميع، وبخاصة على الأهل، وكان لابد من السعي لإرساله إلى إحدى المدارس الحكومية، حيث تلقى تعليمه الابتدائي ومبادئ اللغة الفرنسية على يد معلم خاص، ثم دخل المدرسة العازارية وتتلمذ على يدي الشيخ طاهر الجزائري، وكان يدعى كبير معلمي العصر وعنه أخذ العلم وحب العربية وعلومها وآدابها (1).
بين الأدب والصحافة
تعلق محمد كرد علي بالصحافة، وأحبها حتى العشق، فجمع بين الأدب والصحافة، وكان في كليهما مجلياً، ففي مجال الأدب كان يقرأ ما يستطيع الحصول عليه، وهو في الثالثة عشرة.
يسهر حتى الهزيع الثاني من الليل، وهو يقرأ في جريدة أو كتاب، حتى ضعف بصره، وساءت صحته، ونصح له الأهل والصحب بالاعتدال. ولكنه رفض هذا النصح، ولم يكن ليترك القراءة، إلا حين يطفئ أهله مصباح الزيت، الذي كان الناس يستضيئون به يوم ذاك.
كان منظر الكتب يغريه ويفتنه، ورؤية الصحف تسكره، وتسحره، فيندفع يغبّ من ألوان المعرفة، ويعبّ من بحور العلم.
كان إذا رأى عالماً أو أستاذاً، تمنى أن يصادقه، وحلم في أعماقه، أن يكون في المستقبل مثله.
وشجعه أبوه ـ رغم أميته ـ على اقتناء الكتب، وقدم له المساعدة الكافية على الفوز بها، فكانت الكتب ثروته الحقيقية.
وحين اشتد ساعده بالعلم واللغة، أخذ يقرأ الصحف والمجلات بالفرنسية والتركية والعربية، فزادته المطالعة تعلقاً بالصحافة، وعشقاً للمعرفة والعلم.
وعندما كان يحبو نحو السادسة عشرة، كان يكتب الأخبار والمقالات، ويدفع بها إلى الصحف.
ولم تقف هواياته عند هذا الحد، بل أحب الشعر العربي، والسجع المنمق، وعكف على شيوخه ـ كما يقول الدكتور سامي الدهان ـ "وأخذ ينهل من علمهم وأدبهم، وهم من مشهوري عصره في بلده، أمثال: سليم البخاري، والشيخ محمد المبارك، والشيخ طاهر الجزائري".
__________
(1) ـ عبد الغني العطري ـ حديث العبقريات - دار البشائر.(/4)
وتلاقت ثقافة القديم والجديد في نفس الفتى، فأحب الكتب الصفر القديمة، ذات الهوامش والتعليقات والشروح الكثيرة، وعشق الصحف والمجلات الأجنبية، التي تحمل أنباء العلم، على شاطئ البوسفور والسين.
جمع محمد كرد علي المجد من أطرافه، فعاش في مدرسة الثانوية، ينهل من العربية على أيدي شيوخه، ودرس في "العازارية" فنون العلم ... ومن أجل ذلك قيل أن علاّمتنا العظيم سبق عصره.
وفي العام 1897، كانت تصدر في دمشق جريدة تدعى "الشام" لصاحبها مصطفى الشقللي، وهو مدير مطبعة الولاية، ومدير إطفاء الحريق، فعهد إليه أمر تحريرها.
ولبث يحرر "الشام" ثلاث سنوات، وأخذ بعدها يراسل مجلة "المقتطف" المصرية، فانتقلت شهرته إلى مصر بعد الشام، وذاع صيته في البلدين" (1).
تجربة غنية في الديار المصرية
ورحل محمد كرد علي إلى القاهرة، ولبث فيها شهوراً عشرة، عمل خلالها في صحافتها، وتعرف إلى علمائها، وأدبائها، ورجال الفكر فيها، فاتسع أفقه، وذاع صيته، وباتت شهرته، في مصر، لا تقل عن شهرة أدباء تلك الفترة وعلمائها الأعلام.
وعاد ثانية إلى مصر، وعمل في تحرير بعض الصحف، وأصدر مجلة "المقتبس" الشهرية، ونشر فيها البحوث العلمية والأدبية والتاريخية، وكان ينقل عن مجلات الغرب أحدث أنباء العلم والحضارة والاختراع والتقدم. كما ترجم عدداً من الكتب المخطوطة النادرة، فجمع بين القديم والحديث.
وعاد محمد كرد علي إلى دمشق، وقد لجَّ به الشوق إلى غوطتها وقاسيونها وبرداها. عاد إليها وأصدر "المقتبس" جريدة يومية، بالتعاون مع أخيه أحمد، بعد أن أسس لها مطبعة خاصة. غير أن السلطة العثمانية ضايقته، وحاربته، ولاحقته، وأغلقت جريدته. ولا يلاحق إلا الأحرار، ولا يغلق الصحف، إلاَّ كل عدو للفكر والكلمة الحرة. فاضطر للفرار إلى فرنسا. وفي باريس زار مجمعها العلمي، ووقف في بهوه وسائل نفسه:
__________
(1) ـ عبقريات شامية ـ مصدر مذكور.(/5)
ـ "هل يكتب لنا في المستقبل تأليف مثل هذه المجامع، فنعمل فرادى ومجتمعين كالغربيين، أم نظل كما نحن، لا نعمل فرادى، ولا مجتمعين؟ ". (1).
أبو المجامع
كانت رحلة باريس بداية إرهاصات موضوع تأسيس المجمع العلمي العربي في خاطر محمد كرد علي. الذي كان سبباً مهماً في أسباب بعث اليقظة العربية والتراث القومي بثوب لغوي متين وأصيل والعمل على اكتشاف كنوز اللغة العربية التي تكاد تختفي تحت غبار أربعة قرون هي مرحلة الحكم العثماني التي سيطرت فيه العجمة والجهل والجمود، حيث تكاثفت جهود رجال مرحلة التنوير العربي، لإعادة استخدام اللغة العربية في احتياجات الثقافة والعلوم والفنون، وهكذا أصبح مجمع اللغة العربية بدمشق فيما بعد واحداً من أهم معالم النهضة العلمية العربية في الوطن العربي، ولأنه أول مجمع علمي عربي فقد أطلق عليه "أبو المجامع" فبعد اندحار الحكم العثماني وقيام العهد الفيصلي الهاشمي وجد محمد كرد علي الفرصة سانحة لتحقيق الحلم الذي طالما راوده ألا وهو إنشاء مجمع علمي عربي، على غرار ما تفعله الأمم المتحضرة لحفظ تراثها وصون لغتها ونشر آدابها وعلومها.
وعرض الفكرة على الحاكم العسكري رضا باشا الركابي فوافق على قلب "ديوان المعارف" برئيسه وأعضائه مجمعاً علمياً، وكان كرد علي رئيساً لهذا الديوان، وقد تم ذلك في الثامن من حزيران عام تسعة عشر وتسعمائة وألف، وظل "الأستاذ الرئيس"، رئيساً للمجمع حتى رحيله.
مجمع للعرب جميعاً
وكان قيام هذا المجمع حدثاً علمياً أثار اهتماماً واسعاً في الوطن العربي بدليل أنه استقطب مجموعة من أبرز المفكرين والأدباء والمثقفين العرب وانضم إليه كأعضاء مراسلين: الراحلون عباس محمود العقاد، الدكتور طه حسين، الدكتور أحمد زكي، الشاعر، أمين نخلة، محمد الطاهر، فيليب حتي ـ بن عاشور.
__________
(1) ـ المصدر السابق.(/6)
وفي طليعة أعضائه العاملين الأوائل السادة الأعلام محمد كرد علي، خليل مردم بك، الدكتور حسني سبح، مصطفى الشهابي، الدكتور منير العجلاني، أمجد الطرابلسي.
وفي عداد الأعضاء فيه الدكتور شاكر الفحام، الأستاذ راتب النفاخ، الدكتور شكري فيصل، وبين أعضائه الاوائل الشيخ طاهر الجزائري الشيخ أمين سويد وسعيد الكرمي.
وعقد المجلس أولى جلساته في مقره بمبنى المدرسة العادلية في باب البريد بدمشق، وهي المدرسة التي أنشأها السلطان نور الدين بن زنكي الملقب بالشهيد في عام 586 للهجرة، ودفن فيها الملك العادل شقيق السلطان صلاح الدين الأيوبي ولا زال ضريحه قائماً في هذا المبنى الأثري الهام حتى اليوم.
وفي أولى جلساته اختار المجمع أعضاء شرف من أعلام دمشق منهم: المرحومان الدكتور عبد الرحمن الشهبندر والأستاذ فارس الخوري. (1).
أهداف أساسية
أما الأهداف الأساسية للمجمع فقد حددت كما يلي:
ـ خدمة اللغة العربية والنظر في أوضاعها العصرية، ونشر آدابها وإحياء مخطوطاتها وتعريب ما ينقصها من كتب العلوم والصناعات والفنون عن اللغات الأوروبية، وتأليف ما تحتاج إليه من الكتب.
ـ جمع الكتب مخطوطة ومطبوعة وتأسيس دار كتب عامة.
ـ جمع الآثار القديمة.
ـ إصدار مجلة خاصة بالمجمع ينشر فيها أفكاره وأعماله.
__________
(1) ـ وجيه الشربجي: أضواء على تاريخ مجمع اللغة العربية بدمشق ـ مجلة (الدوحة) ـ مارس ـ آذار ـ 1982.(/7)
وكان ينشط في الجامعات ودوائر الدولة والصحف والمدارس والثقافة الشعبية، حيث كان يتقصى الخطأ ويطالب بتجنبه عن طريق وضع الكلمة العربية الفصحى مكان الكلمة الدخيلة المستعملة، وقام المجمع بتهيئة المصطلحات الإدارية عن طريق الترجمة والوضع والتعريب، وترجم بعض القوانين، وعرب أسماء الرتب والألقاب، وعمد إلى تدقيق وتصحيح لغة الكتب المدرسية، ونظم سلسلة من المحاضرات اللغوية على طلاب المدار س ودور المعلمين، وحمل الدولة والمجتمع على تبديل الكثير من المصطلحات التركية والأجنبية مثل (البوليس ـ الشرطة)، (نوبتجي ـ آذن أو بواب)، (نوم رو ـ رقم)، (رابور ـ تقريرطبي)، (بول ـ طابع) وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
ولم ينفرد المجمع بالعمل في وضع المصطلحات الحديثة بل كان دائباً على الاتصال بالعلماء الاختصاصيين في الوطن العربي للتعاون معهم في هذا المجال والاستفادة من خبراتهم، وتسنى له أيضاً اجتذاب نخبة من العلماء الشرقيين والغربيين منهم الأساتذة جبرايلي (إيطاليا)، وغوفر (إسبانيا)، ويدرسن (دانيمرك) دريدرنغ (السويد)، اربدي (بريطانيا) علي أصفر حكمت (إيران) كولان (فرنسا) أبو الحسن علي الحسني الندوي (الهند). وعلى الصعيد الشعبي نشط المجمع لمكافحة العجمة، واللحن، وعمل على نشر المصطلحات العربية بين الناس لتحل محل المصطلحات الأجنبية المستخدمة، وألقيت المحاضرات لخدمة هذا الهدف، كما كانت مجلة المجمع همزة الوصل بينه وبين آلاف القراء، تنشر أعماله وتعبر عن إنتاجه وآرائه.(/8)
وقد سميت المجلة منذ صدورها باسم المجمع (مجلة المجمع العلمي العربي)، ولما أصبح اسم المجمع (مجمع اللغة العربية بدمشق) سميت (مجلة مجمع اللغة العربية) وكانت تصدر في سنتها الأولى عدداً واحداً في /32/ صفحة كل شهر، ثم أصبحت المجلة تصدر أربعة أجزاء في السنة الواحدة، إضافة إلى الأعداد الخاصة التي تتصل بمناسبات علمية، ويطبع المجمع مجلدات من أعداد المجلة التي نفدت.
بين الترجمة والمقالة والدراسة والتحقيق
من خلال استعراض التراث الذي خلفه العلامة الكبير، ولتسهيل عملية دراسته يمكننا أن نقسم هذا التراث إلى أربعة أقسام رئيسية هي:
ـ الترجمة والتعريب.
ـ أدب المقالة.
ـ الدراسات الأدبية والتاريخية.
ـ تحقيق الكتب والمخطوطات (1).
أما عن المترجم والمعرب من آثاره فقد بدأ بترجمة روايات عن الفرنسية. ومن هذه الروايات (قبعة اليهودي ليفمان) التي أثارت ضجة بين النقاد عام 1894، وفي مصر ترجم (الفضيلة والرذيلة) لجورج اونيه الكاتب الفرنسي المعاصر، وكذلك رواية (المجرم البريء)، كما عرب تاريخ الحضارة لشارل سنيوبوس ... وقد كانت ترجمته لها من قبيل التمرن على الترجمة، وهي لا تعجبه، حتى أنه كتب عن الأولى يقول: (ياليتني نبذتها في زنبيل سقط المتاع) ....
كما عرب الأستاذ كرد علي كتباً أخرى في الحرية عن جون سيمون، وترجم الأسماء التركية لرضا الباشا ... ورغماً عن كل الجهود التي بذلها في تعريب الآثار فإنه يهمل في حديثه ما وقع من قلمه في الترجمة، وفي هذا يقول: ( .... وليس لي يد في القصص التي نشرتها أول أمري لأنها مترجمة). (2).
__________
(1) ـ مجموع الكتب التي تضم هذا التراث اثنان وعشرون كتاباً.
(2) ـ المذكرات.(/9)
وفي آداب المقالة أصدر محمد كرد علي في أدب المقالة ستة مؤلفات قيمة مختلفة، وقد فعل كما فعل كثيرون من الكتاب في مصر كالعقاد والزيات والرافعي والمازني فجمع مقالاته التي نشرها في الصحف اليومية والأسبوعية بمصر والشام، وطبعها في كتب بدأها بكتاب (غرائب الغرب). الذي نشر عام 1923 وجمع فيه وصف رحلاته الثلاثة إلى أوروبا، أما مقالاته التي نشرها في "المقتطف" و"المقتبس"، و"المؤيد" و"الظاهر" فقد جمعها في كتاب (القديم والحديث)، وهو فيها محدث عن العادات والآداب والتقاليد.
وكان محمد كرد علي من المنادين بالإصلاح الخلقي .. وقد كتب في هذا مقالات عديدة جمع أهمها عام 1946 في كتاب (أقوالنا وأفعالنا) وقد انتقد الأخطاء وأعرب عن سوءات العيوب ونادى إلى سبيل قويم.
ولما كانت حياة محمد كرد علي حافلة، فقد دونها في مذكرات مهمة عن تنقلاته بين الشرق والغرب، وجمع هذا كله في مؤلفه الذي سماه المذكرات (1)، والذي طبع بين عامي (1948 ـ 1951) ... ومذكرات كرد علي صريحة صادقة، وانقسم الناس أمامها إلى قسمين: محبذ ومستنكر، واعتبرها فريق آخر تتمة لمؤلفه الكبير (خطط الشام)، وقد ظل يكتب مذكراته حتى آخر أيامه ذلك لأنه وعد ألا ينثني عنها، ويتابع فيقول: (مادمت أتمكن من مسك القلم وأصبر على التحديق في الخطوط التي أخطها). أما كتاباه الأخيران (البعثة العلمية إلى دار الخلافة الإسلامية)، و (الرحلة الأنورية إلى الأصقاع الحجازية)، فقد أملتهما عليه بعض الظروف وهما لا يرتفعان إلى مستوى أدبه الإبداعي.
__________
(1) ـ المصدر السابق.(/10)
أما القسم الثالث، الدراسات التاريخية والأدبية فأهم ما في عطاء محمد كرد علي، وهي كتب قيمة لا تزال مرجعاً في مواضيعها. وأشهر هذه المؤلفات خطط الشام ... عمل من أجلها خمساً وعشرين سنة، وأنفق آلاف الليرات الذهبية، وقام بعشرات الأسفار وطالع أكثر من ألف ومائتي مجلد بعدة لغات ... وأصدر المؤلف في ستة أجزاء بحث فيها تاريخ الشام ونظمه الإسلامية والحضارة المتعاقبة فيه، والدول التي حكمت خلاله والحالة الأدبية والاقتصادية خلال هذه الحقب.
أما الكتاب الثاني في مجال الدراسة التاريخية الأدبية فهو (الإسلام والحضارة العربية) الذي نشره عام 1934 واستوحى مواضيعه من آراء المستشرقين ومؤتمراتهم، أما في كتابه (أمراء البيان) فقد جمع دراسات واسعة عن عشرة من مشاهير أعلام الفكر العربي كعبد الحميد الكاتب وابن المقفع، وسهل بن هارون، وعمرو بن سعدة، وإبراهيم الصولي، وأحمد بن يوسف الكاتب، ومحمد بن عبد الملك الزيات، والجاحظ، والتوحيدي، وابن العميد، وما يزال هذا الكتاب أوسع ما كتب عن هؤلاء الأعلام باللغة العربية.
أما في (كنوز الأجداد)، فقد تحدث عن الأعلام أيضاً، وفيهم سدنة الثقافة الإسلامية، كالأشعري، والأصبهاني، والتنوخي، والغزالي، والحريري وغيرهم، وهم يزيدون عدداً عن الخمسين ...
وكان محمد كرد علي يحب غوطة دمشق كثيراً حتى أنه عاش في قرية منها اسمها (جسرين)، وقد درس أهلها، وعاداتهم، وتقاليدهم وسجل كل شيء عنها.
ثم أرخ لها على منهاج لطيف في كتابه (غوطة دمشق)، الذي كتبه بعاطفة الحب وشوق الورود وإخلاص الشاعر الوفي ...(/11)
ونأتي إلى القسم الرابع والأخير ألا وهو تحقيق الكتب، وقد حقق كرد علي عدداً من نفائسها، كـ"رسائل البلغاء" و"سيرة أحمد بن طولون". و"المستجاد من فعلات الأجواد" الذي ضمنه أخبار الكرماء في الجاهلية والإسلام، ثم "تاريخ حكماء الإسلام"، وكتاب "الأشربة" لابن قتيبة الذي يجمع بين الأدب والفقه، وأخيراً كتاب (البيزرة) في الصيد وآلاته والحيوانات وإخراجها وما قيل فيها من الأدب والطرف والشعر اللطيف.
وفي هذا المجال نشير إلى حكاية حول دور الأستاذ الرئيس محمد كرد علي في موضوع تحقيق رحلة "ابن فضلان" وهي من أشهر الرحلات القديمة في التاريخ العربي ويروي الحكاية محقق رسالة الرحلة الدكتور سامي الدهان الذي يقول:
"من المؤسف أن المستشرقين والباحثين الأجانب بدؤوا اهتمامهم بهذه الرحلة وبرسالة صاحبها قبل الباحثين والمحققين العرب، وقد كان للعلامة محمد كرد علي "أول رئيس لأول مجمع عربي" فضل كبير في إصراره على وجوب تحقيق هذه الرسالة بعد أن اطلع في مجلة هنغارية صدرت في بودابست على مقالة لأحد المستشرقين مكتوبة باللغة الألمانية يعلق فيها على ما نشر، أو ترجم من الرحلة، يصحح ما يرى من وجوه التصحيح ويقترح روايات جديدة مشيراً في ذلك إلى نص الرحلة باللغة العربية، وقد أثبته في صور شمسية مع المقال.(/12)
ويتابع الدكتور سامي الدهان: كنت أزور الأستاذ الرئيس فاقترح علي تحقيق الرسالة لأهميتها، ولحاجة المثقفين العرب إلى قراءتها وفهمها، واستخراج العبر منها خاصة وأنها تصف بلاد الروس والبلغار والأتراك في القرن العاشر للميلاد، وهذا دليل على الاهتمام الكبير الذي كان يوليه العلامة محمد كرد علي لمثل هذه المواضيع وعلى سعة اطلاعه ومتابعته تراث الأسلاف في أكثر من مكان وأكثر من مصدر وفي جميع ما نقرأ للعلامة الكبير نجد أن محمد كرد علي كان قائداً فكرياً عظيماً بين مفكري القرن العشرين، فهو إمام في الصحافة، وحجة في التحقيق، وعلم في الكتابة والتأليف، ورئيس جليل لأكبر منظمة علمية ثقافية في البلاد.
وفي جميع ما نكتب نجد أنه يبتعد عن تكلف النسج على المنوال التقليدي، وكتبه تشير إلى عزوفه عن الأسلوب المنمق وكتابة السجع، وفي هذا يقول: ( ... وعمدت إلى الكتابة المرسلة بدون تكلف الأسجاع والازدواج) ..
ولأسلوبه صفات أخرى واضحة فهو رقيق من غير تفخيم، سهل من غير تكلف، يحدث صاحبه حديث الراوي والقاص، ويكتب كتابة المحدث، فلا يزاوج بين الجمل، ولا يتكلف الكتابة والاستعارة والسجع والجناس، إنما يرسل نفسه على سجيتها في جمل تطول وتقصر، على أن الصفة الغالبة على مقالات وكتابات الأستاذ كرد علي هي الاستقصاء فهو يسترسل في ذكر المصادر والكتب والمؤلفين وكأنه يستوعب في فكره كل شيء، أو كأنه يريد أن يذكر كل ما يعلم فيتدفق بفيض غزير وعلم كثير، ذلك أنه يندر أن نجد مفكراً عربياً معاصراً طالع ما طالع محمد كرد علي من تراث الأسلاف، حتى يظن الذي يدرس سيرته أن علمه نوع من الإعجاز الذي لا يستطيع أن يؤديه الإنسان العادي.(/13)
أما أسلوبه، فهو الذي وصفوه بالسهل الممتنع ... إنه رقيق في التعبير، بليغ باللفظ، الكلمات فيه على قدر المعاني، والجمل تطول حيناً، وتقصر حيناً آخر، وهو في جميع الأحوال لا يتكلف، ولا يتصنع، بل يرسل كلماته على سجيتها، ويهدف إلى التركيز على المعنى، دون أن يعطي كبير اهتمام للمبنى، إنه نثر العالم المفكر، لا الأديب الذي تغريه الصنعة، ويسيطر عليه الأسلوب والمظهر.
ويتجلى أسلوبه هذا، في جميع كتبه ومقالاته ... غير أن القلم يجمح به أحياناً، فيشتط الخيال، ويطيب له أن يعنى بالصنعة والعبارة، فيكثف جمله وعباراته، ويختصر في ألفاظه وكلماته. ومثل هذا فعله في كتابه "المذكرات" ولاسيما حين يتحدث عن الشباب، ويصف الشيخوخة، ويتوقع الرحيل، فيحاسب نفسه دون هوادة. لنستمع إليه يقول:
"يا نفس لا تغضبي، ولا تعتبي، فقد عمرت طويلاً، ومتعت كثيراً، وفتنت بجمال الوجود، وجلال الطبيعة، وهمت بصنع الخالق والمخلوق، واستكثرت من الخلان والمعارف، وسعدت، إذ كنت أقرب إلى التفاؤل من التشاؤم، وإلى الرجاء أدنى من القنوط، وإلى السرور أكثر من الغم. وعشت في سلطان الرضا طيبة الطعمة، لا يد لأحد عندك".
شخصية منفردة
تضافرت عدة معطيات في تكوين شخصية محمد كرد علي بهذا التميز، وكان للزمان والمكان بدورهما تأثير فعال في تشكيلها على هذه الحال من التفرد، فقد جاء إلى الدنيا في فترة كانت فيها البلاد العربية، وخاصة بلاد الشام ترزح تحت نير الاحتلال العثماني الذي فُرض عليها، بحيث كان الشرق العربي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر غارقاً في بحر من الظلم والظلام.
وكانت سياسة التتريك المفروضة على العرب، تجعل من يتقن الكتابة والقراءة باللغة العربية إنساناً ذا شأن، ومن هنا انصرف محمد كرد علي إلى القراءة والكتابة في سن مبكرة كان أولى بدايات تكوين شخصيته المتفردة ... وعن تلك المرحلة يقول:(/14)
"بدأت أقرأ في الجرائد العربية في الثالثة عشرة من عمري، وأنا في السنة الأخيرة من المدرسة الابتدائية. وبعد حين اشتركت بجريدتين. وأولعت بمطالعة "لسان الحال"، لأن فيها أخباراً طريفة مغرية عن الإنكليزية. واشتركت لما كنت في الثانية من المدرسة الثانوية بجريدة فرنسية أسبوعية تصدر في باريس اسمها "صديق الريف" فكنت أقرؤها قراءة تدبر، لا قراءة تفكه، وأطالع بعض الصحف التركية الصادرة عن الأستانة، ولاسيما المجلات الأدبية والتاريخية. وقد أقرأ بعض المقالات التي تروقني أكثر من مرة، ولاسيما مقالات كبار الكتاب والمفكرين في السياسة والاجتماع. وما بلغت السادسة عشرة، حتى أخذت أكتب أخباراً ومقالات في الجرائد" (1).
ولم يكن ظهور مجموعة كبيرة من رجال الفكر والأدب والمعرفة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مجرد مصادفة، فقد لعب هؤلاء الرواد دوراً قيادياً في مجابهة الظلم والاحتلال، والدعوة إلى التحرر والاستقلال في مرحلة عرفت بأنها مرحلة إرهاصات لمرحلة تالية هي مرحلة التنوير، وقد كان لانتساب هؤلاء الرواد إلى مختلف الجمعيات التي كانت تعمل في السر والعلن، ما أعطى تلك الجمعيات القدرة على المجابهة على الرغم مما تعرضت له من بطش واضطهاد كانت ذروتهما في سوق المفكرين العرب الأحرار إلى المشانق في دمشق وبيروت، بالإضافة إلى قوافل أخرى سابقة تعرضت للاعتقال والتعذيب والإغراق في البوسفور.
__________
(1) ـ عبقريات شامية ـ مصدر مذكور.(/15)
وإذا كانت القرون الأربعة التي فرضها الاحتلال العثماني على المنطقة العربية قد اقترنت بمحاولات قمعية لإطفاء جذوة القومية العربية، فإن الرواد من قادة الفكر العرب كانوا يؤسسون لمرحلة الاستقلال عن النير العثماني، بإحياء أصول اللغة والتاريخ واستطلاع التراث، ولعل مساهمة محمد كرد علي كانت متميزة في هذا المجال من خلال الخطوة الجبارة التي حققها مع انتهاء الحكم العثماني، وهي إنشاء مجمع اللغة العربية الذي وقفنا على أهدافه الأساسية في هذه الدراسة عن حياة وعطاء العلامة الكبير ولم يكتفِ بتأسيس المجمع ومجلته التي كان كتابها من أبرز علماء وأدباء الوطن العربي بل تحققت في هذا المجال خطوات لاحقة مهمة منها:
1 ـ تفرغ أعضاء المجمع للبحث الأدبي والدراسات اللغوية والتاريخية.
2 ـ تأسيس دار كتب عامة في المدرسة الظاهرية، فاتخذ منها داراً للكتب، أصبحت فيما بعد ذات شهرة كبيرة نظراً لأهمية ثروتها من المخطوطات وأمهات الكتب والوثائق، وقد ظلت دار الكتب الظاهرية تؤدي رسالتها في إتاحة مجال مطالعة أهم المؤلفات. أمام كل متعطش للثقافة.
وقد أنشأ الملك الظاهر بيبرس عام /820/ للهجرة هذه المدرسة لتكون مدرسة للعلم وتربة تضم رفاته، وفي عام 1927 تحولت المدرسة الظاهرية إلى مدرسة ابتدائية وظلت في عهدة دائرة الأوقاف ثم ألحقت بالمجمع.
وكان فريق من علماء دمشق لاحظوا تفرق المخطوطات والكتب في المساجد وتعرضها للضياع، فقاموا بحملة لجمع ما تبقى منها، وماهو هام جداً، وثمين وأودعت في خزانة داخل قبة المدرسة الظاهرية، وكانت نواة دار الكتب الحالية. (1).
3 ـ حقق مجمع اللغة العربية مئات المخطوطات (وهي كتب ورسائل) من التراث ومن هذه المطبوعات:
__________
(1) ـ وجيه الشربجي: أضواء على تاريخ مجمع اللغة العربية ـ مصدر مذكور.(/16)
"رسالة الملائكة " لأبي العلاء المعري ـ "ديوان علي بن الجهم" ـ "عثرات اللسان" للأستاذ عبد القادر المغربي ـ "كنوز الأجداد" للأستاذ محمد كرد علي ـ "تاريخ علم الفلك في العراق" ـ "الثقافة الإسلامية في الهند" ـ "تراجم الأعيان من أنباء الزمان" ـ "كتاب الأضداد لأبي الطيب اللغوي" ـ "أخطاء شائعة في ألفاظ العلوم الزراعية والنباتية" ـ "سؤال في يزيد بن معاوية لابن تيمية" ـ "معجم المصطلحات الأثرية باللغتين العربية والافرنسية" ـ "المعاصرون" ـ "ديوان الفرزدق" ـ "تاريخ حكماء الإسلام" ـ "تاريخ الخلفاء".
وشرع المجمع منذ سنوات عديدة، بتحقيق "تاريخ ابن عساكر" وهو مؤلف تاريخي ضخم عن تاريخ دمشق يتألف من ثمانين مجلداً ضخماً. (1).
سيرة حافلة
يندر أن نجد بين الذين عملوا في مجال البحث والدراسة شخصية تتمتع بمثل هذا النشاط الخارق الذي كان يتمتع به العلامة محمد كرد علي ... كان دؤوباً في العمل لدرجة مذهلة، يعمل أحياناً ثماني عشرة ساعة في اليوم، كان حركة دائمة بلا ملل أو فتور، في الإدارة، وفي الكتابة والتأليف، وظل طوال حياته يتمتع بهذا النشاط ومثل هذه القدرة على العطاء فكانت حياته في هذا الميدان سيرة حافلة إذ جمع بين الصحافة والجامعة، والوزارة، والمجمع العلمي العربي، والمجمع اللغوي في مصر ...
شغل محمد كرد علي عدداً من المناصب الحكومية الرفيعة فقد عين وزيراً للمعارف في وزارة جميل الألشي. وكان ذلك في السادس من أيلول 1920 لغاية الأول من كانون الأول 1920.
عقب تخليه عن وزارة المعارف عام 1920 أسندت إليه مهمة مدير المعارف، واستمر في هذا المنصب لغاية 31 كانون الأول 1924.
عين وزيراً للمعارف للمرة الثانية في حكومة الشيخ تاج الدين الحسيني، من 15 شباط 1928 لغاية 19 تشرين الثاني 1931.
وفي عام 1933 انتخب عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
__________
(1) ـ المصدر السابق.(/17)
ويقف محمد كرد علي في المكانة العلمية والأدبية بين أنداده الأعلام العرب أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد ومحمد عبده وغيرهم ... وقد مثل سورية في مهرجان مبايعة أحمد شوقي بإمارة الشعر وكانت له مكانة متميزة في مصر.
التنوع والتميز
وقف الباحثون طويلاً أمام طبيعة هذا التنوع الكبير الذي اشتمل عليه نتاج العلامة محمد كرد علي والذي لم يسبقه إليه أحد من الدارسين والباحثين العرب، كما لم يعقبه أحد بهذا التميز.
فمن مواضيع التراث والتاريخ، إلى الدراسات الإسلامية، إلى دراسة المدن، إلى وصف غوطة دمشق، أو عدة الصيد وآلاته، بالإضافة إلى خطط الشام وترجمة الأعلام والمذكرات.
وحتى نقف على أهمية وغنى هذا التنوع في نتاج العلامة الكبير، نقف بنوع من التعريف المكثف مع كتبه الاثنين والعشرين ولعل كثيرين من الذين تغيب عنهم سير مثل هؤلاء الأعلام لا يعرفون عنها إلا النزر القليل، ولا بد من تذكير الأجيال الجديدة مثل هذه العطاءات التي توثق وتؤرخ القضايا ومراحل من تاريخ هذه الأمة، في الماضي البعيد والقريب، وكم من الذين تركبهم الحيرة في البحث عن مراجع لبعض الدراسات لا يعرفون أن ما خلفه العالم الكبير يمكن أن يكون ذا فائدة كبيرة في هذا المجال، خاصة وأنه بذل جهوداً كبيرة في الاستطلاع والتقصي فجاءت دراساته دقيقة وشاملة ...
1 ـ "غرائب الغرب" ـ صدر في حزيران من عام 1923 يتحدث فيها عن رحلاته إلى أوروبا، بعيداً عن نموذج الكتابات السياحية التي يضعها البعض عن مظاهر سطحية في بلاد الغرب ... فهذا الكتاب يضع أمام القارئ دراسة دقيقة عن واقع الغرب الأوروبي في تلك المرحلة المبكرة من القرن العشرين.
2 ـ "غابر الأندلس وحاضرها"، صدر عام 1923 ويوحي عنوان الكتاب بأهميته.(/18)
3 ـ "خطط الشام"، في ستة أجزاء صدرت بين عامي (1925 ـ 1928)، ولعلها أهم ما كتب عن بلاد الشام بعد ما كتبه ابن عساكر عن الشام، وهي المرجع الرئيس لمن يريد الاطلاع الواسع على تفاصيل تاريخ وواقع بلاد الشام.
4 ـ "ثلاث سنوات من حكم سورية" ـ صدر عام 1931.
5 ـ "الإسلام والحضارة العربية" ـ جزءان صدر عام 1936.
6 ـ دمشق ـ مدينة السحر والشعر"ـ صدر عام 1952.
7 ـ "الإدارة الإسلامية في عز العرب" ـ صدر عام 1934.
8 ـ "أمراء البيان" ـ جزءان (1937ـ1969).
9 ـ "كنوز الأجداد" ـ 1950.
10 ـ "أقوالنا وأفعالنا" ـ 1946.
11 ـ "القديم والحديث" ـ مجموعة مقالات 1925.
12 ـ "غوطة دمشق" ـ (1949 ـ 1952).
13 ـ "رسائل البلغاء" ـ 1946.
14 ـ "سيرة أحمد بن طولون" (تحقيق) ـ 1939.
15 ـ "المستجاد من فعلات الأجواد" (تحقيق) 1946.
16 ـ "كتاب الأشربة، لابن قتيبة" (تحقيق) ـ 1947.
17 ـ "البيزرة" (في الصيد وآلاته) ـ 1953.
18 ـ "الحكومة المصرية في الشام" ـ محاضرة 1925.
19 ـ "ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية".
20 ـ "رسائل عبد الحميد بن يحيى الكاتب".
21 ـ "أبو الطيب المتنبي" ـ 1921.
22 ـ المذكرات ـ أربعة أجزاء 1250 صفحة ـ صدرت بين (1949 ـ 1951).
خطط الشام
وإذا كنا نقف ببعض التفاصيل مع (خطط الشام) فنظراً لأهمية هذا المؤلف الفريد والشامل عن بلاد الشام، والذي قيل عنه: "لو لم يضع محمد كرد علي غير خطط الشام، لكفاه هذا فخراً" (1).
تقع "خطط الشام" في ستة أجزاء تضمها ثلاثة مجلدات ضخمة، بحيث يضم كل مجلد جزأين وقد طبعت عدة طبعات، وهي مهداة من المؤلف إلى العلامة أحمد تيمور، الذي اعتبره محمد كرد علي الأهم بعد الشيخ محمد عبده، والشيخ طاهر الجزائري.
__________
(1) ـ خطط الشام ـ ستة أجزاء في ثلاثة مجلدات.(/19)
وقال يخاطبه في كلمة الإهداء: "لم تفتأ تبعث همتي على العمل، وتأخذ بيد عجزي، لأقوى على إخراج هذا السفر للناس، فالآن وقد تحققت الأماني، تفضل وزد في الإحسان، واقتطع من وقتك الثمين ساعات، ترشدني فيها إلى مواطن الضعف منه، فتقلدني من منتك اللاحقة قلادة فوق قلائدك السابقة!! "
في هذه الكلمة يتجلى تواضع العلماء، وخاصة من عالم جليل مثل محمد كرد علي، يتحدث عن مثل هذا السفر النفيس، وقد تحدث الباحث عن ظروف وضعه "خطط الشام" في تقديم الجزء الأول فقال: "شرعت أتصفح كل ما ظفرت به من المخطوطات، والمطبوعات باللغات العربية والتركية والفرنسية، وقصدت دور الكتب الخاصة، والعامة، في الشام ومصر والمدينة المنورة والأستانة ورومية وباريس ولندن وأكسفورد وكمبريدج وليدن وبرلين وميونيخ وبحريط والاسكوريال، وكنت كلما استكثرت من المطالعة تتجلى أمامي صورة العمل ... هذا مع ما قام في سبيل نشر هذا المجموع من العقبات منذ وطدت العزم على وضعه، وما نالني من الكوارث في العهد الماضي، ولكن الشقاء قد يأتي بالسعادة، ورب ضر أعقب ضراً، فإن التضييق علي نشأ منه اضطراري إلى الارتحال غير مرة، فأخذت أستقري المعالم والمجاهل في هذا القطر، ونزلت على أمم كثيرة في بلاد الغرب، فاستفدت من تنقلي بعض ما عندهم من أسفارنا وآثارنا وقابلت عن أمم بين عمراننا وعمرانهم وجمودنا اليوم وحركتهم.(/20)
رحلت إلى أوروبا ثلاث رحلات أبحث في دور كتبها عن المخطوطات التي يرجى أن يكون أصحابها قد تعرضوا لحوادث هذا القطر. وزرت أصقاع الشام لأقابل بين حاضره وغابره، ولما نسجت بآخرة ما جمعت قدمت له مقدمة في بيان ما تشترك بلاد الشام عامة من المظاهر والأوضاع، وسميته (خطط الشام)، وأعني بالشام الأصقاع التي تتناول ما اصطلح العرب على تسميته بهذا الاسم، وهو القطر الممتد من سقي النيل إلى سقي الفرات، ومن سفوح طوروس إلى أقصى البادية، أي سورية وفلسطين في عرف المتأخرين، ويراد بالخطط كل ما يتناول العمران والبحث في تخطيط بلد بحث في تاريخه وحضارته.
ولا جرم أن موضوع الخطط موضوع جليل، تتعين الإحاطة به على كل من يحب أن يعرف أرضه ويخدمها، ويستفيد منها، وأحق الناس بمعرفة بلد أهله وجيرانه، ومن لم يرزق حظاً من الاطلاع على ما حوى موطنه من الخيرات وما أتاه أجداده من الأعمال لا ينهض بما يجب عليه ليؤثر الأثر النافع في المال والمآل، ومن أجدر من الأبناء والأحفاد بالرجوع إلى سجلات الآباء والأجداد، وكيف يحب المرء بلداً لا يعرفه ويحرص على سعادته ليسعد هو فيه، وهو لا علم عنده بما تعاقب عليه حتى صار إلى ماصار إليه، وهل يفهم الحاضر بغية الغابر، وهل تنشأ في الأمة روح وطنية إذا لم تدرس تاريخها حق الدراسة".(/21)
في الجزء الأول
خصص الباحث الجزء الأول من "خطط الشام" لعدة فصول أولها، "تقويم الشام" حيث عرض فيه تعريف الشام للأقدمين، ومعنى الشام وجمعه، وجه الشام قديماً وخاصة مع مصر قبل الانتقال إلى مساحة الشام وصورته ومدخل الفاتحين إلى الشام، واستعرض مدن الشام وقراه وطبيعته وبحيراته وهواءه وماءه وخصائصه ... أما الفصل الثاني فقد خصصه لسكان الشام بجميع أجناسهم وشعوبهم، وبتركيز خاص على العرب في بلاد الشام، لينتقل في الفصل الثالث إلى لغات الشام: الآرامية والسريانية والعبرانية والفينيقية والعربية والبابلية والكنعانية والكلدانية والحثية والآرية واليونانية واللاتينية، وأعطى أهمية خاصة للغة العربية وانتشارها كلغة كاملة وفصيحة، ليصل إلى الشاميين من أمة واحدة لسانهم العربية فقط أما الفصل الأكثر أهمية في الجزء الأول فهو عن تاريخ الشام، وبدأه بمرحلة ما قبل الإسلام والغزوات التي تعرض لها الشام وخاصة من الفرس والرومان، لينتقل إلى الشام في الإسلام حتى عام 18 للهجرة والفتوحات الإسلامية لتبدأ مرحلة الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة الطولونية ثم الفاطمية والسلجوقية وصولاً إلى الحروب الصليبية.
الجزء الثاني من خطط الشام
يشتمل على الدولة النورية وحملات نور الدين وصلاح الدين أي الدولة الصلاحية ثم الأيوبية ودولة المماليك وظهور التتار، وصولاً إلى وقائع تيمورلنك واجتياحه المدن السورية ودخوله دمشق لينتهي عهد المماليك الأخير وتبدأ مرحلة الدولة العثمانية بجميع تفاصيلها ومراحلها.(/22)
الجزء الثالث من خطط الشام
يتابع الباحث في هذا الجزء ما وصل إليه في نهاية الجزء الثاني عن تاريخ الدولة العثمانية حتى سقوط السلطان عبد الحميد الثاني وصدور الدستور معرجاً على منشأ الصهيونية في تلك المرحلة والحرب العالمية وقسط الشام من الحرب، وإعدام جمال باشا أحرار الشام والوقائع المهمة في فلسطين، وسقوط القدس، وما إليها، وسقوط بلاد الشام بأيدي الحلفاء، وتجزئة الشام بين فرنسا وإنكلترا، ومبايعة الملك فيصل ملكاً على الشام، ودخول المستعمرين الغربيين بلاد الشام، وتقسيمها إلى دويلات، ودور الصهيونية في تلك المرحلة فيهجر اليهود إلى فلسطين تحت الحماية البريطانية، وتنفيذ معاهدة سايكس بيكو وصكوك الانتداب على سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن.
الجزء الرابع من خطط الشام
هذا الفصل يتميز من حيث موضوعه المختار عن العلم والأدب في بلاد الشام، بالتفصيل منذ القديم حتى نهاية القرن الرابع عشر بما في ذلك الجامعات والمكتبات والصحافة والطباعة والكتب، وينتقل الباحث بعد ذلك إلى الفنون الجميلة: الموسيقى والغناء والتصوير والنقش، والبناء، والشعر، والفصاحة، والرقص، والتمثيل، وكيفية الارتقاء بهذه الفنون.
وفي الفصل التالي من الجزء الرابع عرض شامل للزراعة الشامية وهو بدوره فصل غني يبدأ بالمشكلة الزراعية القائمة آنذاك من خلال قلة العناية بالأنهار، وخراب الزراعة والمزارع وعوامل هذا الخراب، وآفة الهجرة على الزراعة، لينتقل إلى خصب الأراضي ومعالجتها وما يزرع فيها، وتقسيم السهول والجبال، والطرق الجديدة في الزراعة، وأصناف الزرع، والأشجار، والتربة، والحراج، والري إلى الحيوانات والدواجن والصناعات الزراعية وطرق استثمار الأراضي والضرائب الزراعية وأقراض الزراع.(/23)
أما الفصل الذي يليه فقد خصص للصناعات الشامية: الغزل والحياكة والنساجة، والدباغة وصناعات الجلود، وتربية دود الحرير أو النجارة، والقبانة، والحدادة، والنحاسة، وتصنيع الزجاج والدهان والفخار والقيشاني، والمرايا، والصباغة وصناعة الصدف والرخام والسجاد والحصير، وصولاً إلى الصناعات المحدثة.
أما الفصل الأخير من هذا الجزء فكان عن التجارة، وموقع الشام من التجارة، وتجارة القدماء، ودور التجارة والاقتصاديات في العهد الحديث، والورق النقدي، والحواجز الجمركية والواردات والصادرات.
الجزء الخامس من خطط الشام
خصص الفصل الأول عن الجيوش قديماً وحديثاً، تليه تفاصيل عن الأسطول البحري، وعن الجباية والخراج والأوقاف والحسبة والبلديات، والترع والمرافئ والطرق والمساجد والمصانع والقصور وخاصة الجامع الأموي، والحرم القدسي، والمسجد الأقصى، والقصور الشامية والقلاع، وهندسة البيوت والجسور.
الجزء السادس من خطط الشام
خصص للبيع والكنائس والجوامع والمدارس والمستشفيات والبيمارستانات ودور الآثار ودور الكتب والأديان والمذاهب والعادات والتقاليد التي كانت تحكم بلاد الشام على مر العصور.
وهكذا نجد أن من الصعوبة تقديم دراسة تفصيلية عن هذه الأجزاء الستة الضخمة من (خطط الشام) لما تحتوي عليه من مادة غزيرة أعدها الباحث خلال ربع قرن من الزمن، ولم نكن نرغب أن يغيب التعريف بهذه الخطط عن قارئ سيرة محمد كرد علي، فآثرنا تقديم عرض مكثف لأهم العناوين التي اشتملت عليها الأجزاء الستة، فهذا يعين القارئ والباحث على استقراء كامل تاريخ بلاد الشام ويمكنه الرجوع إلى الأصل إذا أراد التوسع في الاطلاع.
المصادر والمراجع:
مراجع عامة
ـ عبد القادر عياش ـ معجم المؤلفين السوريين.
ـ خير الدين الزركلي ـ الأعلام.
ـ عدنان الخطيب ـ كتيب (محمد كرد علي).
ـ مصنفات مجمع اللغة العربية.(/24)
انتقادات على محمد كرد علي
1 - من مشاركة (أبو مشاري) في ملتقى أهل الحديث
لا زال الزمن يكشف لنا عن أقنعة، لمعظمين، لا يستحقون التعظيم، والقائمة في هؤلاء تطول، ولكن أعرض هنا، لبعض النظرات في مذكرات محمد كرد علي، رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق الشام، ووزير معارفها الأسبق، وصاحب مجلة المقتبس، والذي كنا نحسن فيه الظن، لتتلمذه على العلامة طاهر الجزائري، وامتداحه في مقالته ابن تيمية، والوهابية مع الإمام محمد بن عبد الوهاب.
حيث أني قد أنهيت قبل أيام النظر في مذكراته، في مجلداتها الأربع، والتي طبعت، بإعادة التصوير من دار أضواء السلف، طمعا في الاستفادة منها، ولأضيف لعمري عمرا آخر، كما استفدنا من ذكريات العلامة الموسوعي الأديب علي الطنطاوي رحمه الله رحمة واسعة، إذ فيها كل ما لذ وطاب.
ولكن تبين في مذكرات كرد علي عدة أمور، أعرض لبعضها:
* قلة الفائدة، خاصة في زماننا هذا، حيث غلب على مذكراته، الناحية السياسية، وتكلم على أحداث، وتفاصيل غير مهمة في شأن الدولة العثمانية، والدولة السورية.
وكنت بحثت عن اسمه في مجلة المنار لمحمد رشيد رضا رحمه الله، فرأيته يقول عنه، أنه ليس له في السياسة علم.
والعجيب أن كرد علي في كتابه (المعاصرون) ذكر هذا عن محمد رشيد رضا، أي أنه لا يفهم بالسياسة!.
* كتب مذكراته عند كبر سنه، فأساء الحكم على الرجال، والأزمان، كما ذكر الزركلي في أعلامه، والطنتطاوي في مذكراته، وغيرهم، وعلى حد تعبير الزركلي، أن خوفه من جمال باشا السفاح التركي، ظل يلاحقه حتى بعد سقوط الدولة العلية.
* الخلل العقدي العظيم عند هذا الرجل، إذ أنه لا يكاد يؤمن، بعقيدة الولاء والبراء، فهو قومي وطني بحت، حتى إنه ليقول أنه يأنس للياباني الذي أخذ بأسباب الحضارة والمدنية وإن لم يكن مسلما أكثر من، القروي الأمي المسلم!، أضف إلى ذلك ثناءه الحار وحبه لبعض الدرز والمورون والقساوسة ... الخ فقط لأنهم عرب.
* يثني في أكثر من موضع على مذهب المعتزلة، فيقول: ((لما انقرض مذهب المعتزلة تراجع أمر المسلمين عامة)) 4/ 1252.
* يدعو بدعوة مضل المرأة (قاسم أمين) كما في مقاله ((الحجاب والسفور)) 4/ 1048، يبارك ما بدأ في الشام من زيادة السفور يوما بعد يوم ببركة دعاة التحرير، ويزعم أن آية الحجاب خاصة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم!.
ويقول في موضع آخر ((ربما كان النساء يفضلن الحجاب على السفور حتى تستر صورخن القبيحة عمن يسارقوهن النظر متخيلين أن هناك جمالا ما وقعت على مثله عين)) 4/ 1271.
* نشأ حزب الإخوان المسلمون في عهده، على يد الإمام حسن البنا رحمه الله، فاتهمهم بسرقة مال الأمة، وأن الفقهاء وأهل الدين متى ما تكلموا بالسياسة أتوا بالعجائب، فلا ينبغي لهم الكلام بالسياسة.
ويقول: ((يوم فصلت الأمم النصرانية الدين عن الدنيا سارت أمورها على السداد)) 4/ 1075، ولذلك نجده في أحد مقالته يثني على علي عبد الرازق، بعد قبوله في مجمع اللغة العربية، ويعتب على من قدم له يوم دخوله ولم يذكره كتابه ((الإسلام وأصول الحكم))، والمعروف تكفير علماء الأزهر لكاتبه، وفصل من الأزهر، أيام العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله، شيخ الأزهر.
فهذه بعض النظرات على عجالة من الأمر، إلا فالطوام عديدة، وكثيرة، والله المستعان وعليه التكلان. " انتهى.
2 - من مشاركة (حسين بن محمد جمعة) منتدى مركز ودود
نعم للأستاذ: محمد كرد علي جهود مشكورة واهتمامات تفيد في البحث والجمع وغير ذلك من الإيجابيات.
فهذه يستفاد منها؛ كما أنها تستفاد من غيره
ومع ذلك نبين ونوضح أشياء أخرى قد جانب فيها الحق والصواب
فمن أحبه فـ لينظر فيما أحسن وأصاب، ولا يتابعه فيما أساء فيه وأخطأ.
ونحن نتفق على جعل القدوات لأجيالنا وأحفادنا من كان على الكتاب والسنة الصحيحة؛ وكل من وما يقربهم من فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على طريقة وفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم.
والأستاذ محمد كرد علي؛ كغيره من أولئك اللذين قد عاشوا فترات الفتن المظلمة الداعية للتغريب والعلمنة؛ بحجة السياسة المدنية الصرفة لليد المستعلية ولو كانت كافرة، تمهيدا لاحتلال بلد المسلمين، وتثبيتا للانحرافات العقدية والعلمية الشرعية والمدنية، ومسخ الهوية الإسلامية والقدوات الصالحة.
ففي تلك الفترة أعيد نشر وتعظيم تراث الاعتزال والمعتزلة ورموزها ورجالها؛ لهذا الغرض، كما أنه كانت النصرة كاملة لكل من يطعن أو يخالف الدولة العثمانية والخلافة العثمانية؛ اغترارا بمستقبل سياسي مدني أفضل، بغض النظر عن الشرع الإسلامي والحياة الإسلامية الصحيحة.
ولذا تجد هؤلاء ونحوهم يمدحون شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره؛ ولو كان المادح درزيا أو ماسونا، أو من المعتزلة الجدد ودعاة التغريب وغيرهم؛ ممن يجري مجراهم.
فالسياسة عندهم - عمليا - لا دخل لها في الدين، والدين عندهم لا دخل له في السياسة. والحياة المشتركة والاجتماع إنما هي بأن نجتمع على ما نتفق عليه (أيا كان)، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه. حتى جعلوا ذلك لهم عقيدة ومنهج حياة، وقاعدة ذهبية في السياسة والمدنية والاجتماع.
والواجب على المسلمين أن تكون قاعدة اجتماعهم تثبيت الدين والعدل وأداء الأمانات، ونفي الكفر والظلم والعدوان.
كما قال الله تعالى؛ وقوله الحق: " وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ".
وتفاصيل هذا تجده في كتب السياسة الشرعية.
وقد مهدت بهذا الاستطراد؛ لخفاء الأمر على كثير من الناس واغترارهم بأقوال لا حقيقة لها ولا اعتبار، وتاريخ ورجال؛ بلا تاريخ صحيح ولا أنصاف رجال.
وانظر في ذلك كتابا مهما؛ وهو كتاب: " الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، وآثارها في حياة الأمة "، رسالة ماجستير، بجامعة أم القرى، تأليف: علي بن بخيت الزهراني. وهي مطبوعة، في (1094) صفحة - دار الرسالة - مكة المكرمة.(/25)
العدد 1 - بتاريخ: 24 - 2 - 1906(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
رب إليك المفزع، وفيك الرجاء، ومنك الهداية، فاحلل اللهم عقدة من لساني، وعلمني بالقلم ما لا أعلم، كما علمت عبادك المخلصين، واهدني صراطك المستقيم.
وبعد فهذه نشرة تصدر على رأس كل شهر عربي تقتبس ما تتمثل فيه فائدة صالحة من كلام الثقات الأثبات من مشارقة ومغاربة ومحدثين. وقد سُميت المقتبس ولكل شيء من اسمه نصيب. وستتنكب في مسطورها مذاهب المذاهب والنحل، وتتجافى عن طرق طرق السياسات والدول، حتى تصفو مواردها من النزعات والنزغات، ولا يستهويها في جانب ما تعتقده الحق وازع ولا منازع. تتمحض للعلم المحض فلا يتحرج من تلاوتها الموافق والمخالف، ولا يتبرم بها العارف والعازف، وتنطلق في الفكر، وتتجوز في الاقتباس والنشر، وتدرج في مطاويها، ما يوافق أغراضها ومغازيها.
فليتفضل من أوتوا حظاً من العلم فكان همهم نفع الإنسان من حيث هو إنسان، وخدمة المعارف لأنها مشاعة في الأمم نافعة للعمران، ويمنوا عليها من فيض قرائحهم وثمرات أبحاثهم بما تتألف منه ندوة علمية حافلة بالمطالب الممتعة الموجزة، ومجلس علم يختلف إليه العالم والمتعلم فيعود كل منهما ببغيته منه، ومعرض حكمة تعرض في أصونته ما يلائم أذواق أهل كل جيل وأفق من ضروب البضائع والأعلاق، وديوان إخوان تسوده أقلام المنوّرين والمفكرين، وتقرهم عليه طائفة العالمين والعاملين.
والله المسؤول أن يربأ بهذا المقتبس عن أن يكون جعبة مشاغبة وأهواء، وصحيفة تبجح ورياء، وأن يبرئه من آفات التطويل والتكرار، ويدفع عنه عوادي المعايب والمعاير، ويجعله خير ذخر إذا الصحف نشرت، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه سبحانه وسعدانه.(1/1)
صدور المشارقة والمغاربة
ابن حزم
ولد سنة 384 وتوفي سنة 456هـ
في الناس من يفادون بنفوسهم حباً بنفع يرجون أن يجنيه أهلهم وعشيرتهم ويتعزون عن ذلك بما يصيبونه من مغنم ديني أو دنيوي ومن هذه الفئة ابن حزم الأندلسي. فقد ترك وزارة المستظهر بالله اختياراً لما آنس من نفسه الغناء في العلم، وأقبل على القراءة وتقييد الآثار والسنن، فنال من ذلك ما لم ينله أحد قبله بالأندلس حتى عد قريع دهره، ووحيد قطره، وألف من كتب الأدب، والدين والنسب وغيرها، ما يبلغ نحو أربعمائة مجلد أو نحو ثمانين ألف ورقة.
كان أبو محمد بن حزم على كثرة علمه وعقله، شديد اللهجة، صعب الطريقة، ولعل ذلك ناتج من العلة الشديدة التي كانت أصابته كما قال عن نفسه فولدت عليه ربواً في الطحال شديداً فولد ذلك عليه من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر والنزق، أمراً جاشت نفسه فيه، إذ أنه أنكر تبدل خلقه، واشتد عجبه من مفارقته لطبعه، وصح عنده أن الطحال موضع الفرح: إذا فسد تولد ضده. قال، ولكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحيي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف عظيمة النفع، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني، ما انبعثت لتلك التواليف.
وما يشاهد إذاً في كتابه الملل والنحل من إفحاش الطعن على من خالفه قد دفعه إليه مزاجه، وكان هو السبب الذي دعا إلى تألب خصومه عليه في حياته. قال أبو مروان بن حيان مؤرخ الأندلس: كان أبو محمد حافظاً فنوناً من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة. له في بعض تلك الفنون كتب كثيرة غير أنه لم يخلُ فيها من غلط وسقط، لجرأته في التسور على الفنون لاسيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زلّ هنالك، وضلّ في تلك المسالك، وخالف أرسطاطا ليس واضعه مخالفة من لم يفهم غرضه، ولا أرتاض في كتبه.
ومال أولاً به النظر في الفقه إلى رأي محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله وناضل عن(1/2)
مذهبه، وانحرف عن مذهب سواه، حتى وُسم به، ونسب إليه، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء، وعيب بالشذوذ، ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر مذهب داود بن علي ومن اتبعه من فقهاء الأمصار، فنقحه ونهجه، وجادل عنه، ووضع الكتب في بسطه، وثبت عليه، إلى أن مضى لسبيله رحمه الله.
وكان يحمل علمه هذا ويجادل من خالفه فيه على استرسال في طباعه، ومذل (إفشاء) بأسراره، واستناد إلى العهد الذي أخذه الله على العلماء من عباده، ليبيننه للناس ولا يكتمونه. فلم يكُ يلطف صدعه، بما عنده، بتعريض ولا يزنه بتدريج، بل يصك به معارضه صكّ الجندل، وينشقه متلقنه انتشاق الخردل، فينفر عنه القلوب، ويوقع به الندوب، حتى استهدف إلى فقهاء وقته فتمالؤوا على بغضه، وردوا أقواله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنه، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه، والأخذ عنه، فطفق الملوك يقصونه عن قربهم، ويسيرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة وبها توفي رحمه الله سنة ست وخمسين وأربعمائة وهو في ذلك غير مرتدع، ولا راجع إلى ما أرادوا به. يبث علمه في من ينتابه بباديته تلك من عامة المقتبسين منهم من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة يحدثهم ويفقههم، ويدارسهم، ولا يدع المثابرة على (التعليم) والمواظبة على التأليف والإكثار من التصنيف، حتى كمل من مصنفاته في فنون من العلم وقر بعير لم يعدُ أكثرها عتبة باديته بتزهيد الفقهاء وطلاب العلم فيها، حتى حرق بعضها باشبيلية، ومزقت علانية، لا يزيد مؤلفها في ذلك إلا بصيرة في نشرها، وجدالاً للمعاند فيها، إلى أن مضي لسبيله.
وأكثر معايبه زعموا عند المنصف له، جهله بسياسة العلم التي هي (أعوص) من إيعابه، وتخلفه عن ذلك على قوة سبحه في غماره، وعلى ذلك كله فلم يكن بالسليم من اضطراب رأيه، ومغيب شاهد علمه عنه عند لقائه، إلى أن يحرك بالسؤال فيفجر منه بحر لا يكدره الدلاء، ولا تقصر عنه الرشاء، له على كل ما ذكرناه دلائل ماثلة، وأخبار مأثورة، وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم. . .
وبعد أن ذكر ابن حيان إدلال ابن حزم بأرومته ونسبه، مع أنه من عجم لبلة، وماله من المجالس مع أولي المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام وأورد بعض تآليفه قال: ومن شعره(1/3)
يصف ما أحرق له من كتبه ابن عباد قوله:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رقّ وكاغد ... وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة ... فكم دون ما تبغون لله من سر
وله: من ظلّ يبغي فروع علم ... يُدرى ولم يدر منه أصلا
فكلما ازداد فيه سعياً ... زاد لعمري بذاك جهلا
وقال: كأنك بالزوار لي قد تناذروا ... وقيل لهم أودى عليّ بن أحمد
فيا ربّ محزون هناك وضاحك ... وكم أدمع تذرى وخد مخدد
عفا الله عني يوم أرحل ظاعناً ... عن الأهل محمولاً إلى بطن ملحد
واترك ما قد كنت مغتبطاً به ... وألقى الذي آنست دهراً بمرصد
فوا راحتي إن كان زادي مقدماً ... ويا نصيبي إن كنت لم أتزود
ويا لبدائع هذا الحبر عليّ وغرره ما أوضحها على كثرة الدافنين لها والطامسين لمحاسنها وعلى ذلك فليس ببدع فيما أضيع منه فأزهد الناس في عالم أهله. وقبله رُدي العلماء بتبريزهم على من يقصر عنهم والحسد داء لا دواء له - انتهى كلام ابن حيان في خبره.
قلت أنا (ابن بسام) ولعمري ما عقه، ولا بخسه حقه، وقال ابن بشكوال: كان أبو محمد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة على توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار. وسننشر طرفاً صالحاً من جيد شعره.(1/4)
الأمية والكتاتيب
ليس في التاريخ ما يصح الاعتماد عليه في حال الأمية في الصدر الأول اللهم إلا بضعة سطور مبعثرة في تضاعيف الأسفار. وغاية ما استخلصته أن الكتابة والقراءة والحساب انتشرت بين أهل الإسلام على الزمن ولم يكن تعليمها الناس إلزامياً حتماً بل كان اختيارياً على نحو ما أمر الرسول عليه السلام اسارى أصحابه في إحدى الوقائع أن يفتدوا أنفسهم إذا لم يكن لهم مال بتعليم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة.
والأُميّ والأُمان من لا يكتب أو من على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب وهو باقٍ على جبلته كما جاء في القاموس وزاد في التاج إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب أراد أنه على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى. وقال بعضهم ومجاز الأميّ على ثلاثة وجوه قولهم أميّ منسوب إلى أمة رسول الله (ص) ويقال رجل أمي إذا كان من أم القرى أي مكة والنبي الأُمي إنما أراد الذي لا يقرأ ولا يكتب والأمية في النبي فضيلة لأنها أدل على صدق ما جاء به.
قال صديق حسن خان: في تفسير قوله تعالى ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني أي من اليهود. والأمي المنسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها من أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا تحسن قراءة المكتوب. ومن حديث إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب فكأنه قال: ومنهم أهل كتاب وقيل هم نصارى العرب وقيل هم قوم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لذنوب ارتكبوها وقيل هم المجوس حكاه المهدوي وقيل غير ذلك والراجح الأول وقيل أميون أي عوام.
على أن الكتابة العربية لم تنتشر في جزيرة العرب قبل الإسلام بكثير. وأول من كتب فيها مرامرة بن مرة من أهل الأنبار. قال الأصمعي: ذكروا أن قريشاً سئلوا من أين لكم الكتابة فقالوا من الحيرة وقيل لأهل الحيرة من أين لكم الكتابة فقالوا من الأنبار. والناقل لهذه الكتابة كما في رواية بعض المؤرخين حرب بن أمية القرشي الأموي والغالب أن واضعها مرامرة المشار إليه. هكذا شاعت الكتابة قبيل الإسلام كما نقل العرب الحساب عن الهند. وكانت لحمير على ما روى ابن خلكان كتابة تسمى المسند وحروفها منفصلة غير متصلة وكانوا يمنعون العامة من تعلمها فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم فجاءت ملة الإسلام وليس في(1/5)
جميع اليمن من يقرأ ويكتب.
قلت: وليس هذا شأن اليمانيين وحدهم في منع عامتهم من تعلم الكتابة والقراءة والخروج من دركات الجهل والأمية بل كانت هذه عادة الأمم القديمة إلا القليل منها يخصون العلم والتعلم بطبقة خاصة من الناس. فقد حصر قدماء المصريين والآشوريين العلم بخدمة الدين واحتكره أبناء الأشراف عند الغرناطيين والرومانيين واختصت به فئة معلومة منتخبة من الهنديين واليونانيين حتى إذا جاء الإسلام أطلق حرية التعلم وأباح تناول العلم لكل متناول وكان من أثره ما كان من الحضارة الراسخة.
هذه زبدة ما يقال في معنى الأمية في الإسلام وقد تقلبت الأحوال بأهله حتى أصبح من لا يستحق منهم هذه الصفة أعزَّ من الغراب الأعصم وهبت على أهل هذا الشرق هبة من روح الارتقاء منذ نحو قرن وما برحت تختلف باختلاف الأيام حتى قام في العهد الأخير ناسٌ راغبون في إنهاض الأمة من حضيض الأمية رجاء تحسين أحوال المجتمع وانتقاء فئة من نوابغ المتعلمين ليكونوا بعد رجال العلم والقضاء والإدارة وسائر مذاهب المعاش.
وما أظن مصر حتى اليوم قامت بعمل أعظم من اهتمام رجالها هذه الآونة بافتتاح كتاتيب يتعلم فيها عامة بنيها ما يخرجهم عن طور الأمية ويلحقهم بالمتعلمين النافعين. وقد شهد كل عاقل ينظر في العواقب من آثار هذه الهمة القعساء ما يرجى معها إذا دامت على أشدها زمناً أن يزيد عدد الدارسين في هذا القطر على عدد الأميين من أهله وهناك أبشر بالخير الذي يعود من فضل هذه العناية على القطر المصري بل على سائر الأقطار والأمصار. وعسى أن يعتبر بهذه النهضة المباركة رجال البلاد المجاورة فيجنون من كتاتيبهم ومدارسهم لو توفروا على إصلاحها والاستكثار منها ما لا يأتيهم به الأماني والتعللات والله الملهم والمسدد.(1/6)
سيئات القرن الماضي
من مقالة لأحد علماء الفرنسيين نشرت حديثاً في إحدى المحلات العلمية
من القضايا التي استلفتت الأنظار انتشاراً الأمراض العصبية في القرن التاسع عشر وخصوصاً في النصف الثاني منه انتشاراً لم يعهد من قبل على ما دخل المجتمع من الإصلاحات والتقلبات في حالتيه الطبيعية والأدبية. فلو طاف الباحث نصفي الكرة الأرضية وراقب عن أمم شرقها وغربها شمالها وجنوبها، مدنها الصغرى والكبرى، أصقاعها الباردة والحارة، لسمع الإنسانية تئن من تزايد الأمراض العصبية كل يوم وقد أصيبت بها أرباب الصناعات والحرف على اختلاف الأعمار والجنس ولم تعمل فيها انقلاب العادات وطرق المعيشة وأساليب الفكر والحس على ما حصل من ارتقاء العلوم الطبيعية وعلوم الحياة التي بها عرف ما كان من قبل مجهولاً من أمراض الدماغ وما انتهى إليه العلم من طبائع الأمراض العصبية وعللها ودلائلها.
وارتقاء العلوم الطبيعية في هذا القرن لا يرفع الملام عن أطباء القرون الماضية لسكوتهم عن الأمراض العصبية. فقد نراهم أحسنوا معرفة الأحوال الطبيعية وظواهرها وراقبوها أحسن مراقبة وإن لم يعقلوا عليها شرحاً مرضياً. عرفوا حق المعرفة حقيقة البول السكري والصرع والتشنج وغيرها من الأدواء ولم يعرفوا الخناق وأنواع الحميات والهزال العصبي وهذيان الشيوخ وغيرها من الأوصاب المنتشرة بين أهل جيلنا. لا جرم أن كثرة الأمراض العقلية تستدعي نظر الحكومات والباحثين في الصحة والأخلاق فقد زاد عدد المجانين في أوروبا وأميركا زيادة عظيمة في أواخر القرن الماضي. والجنون على الجملة أربع طبقات: جنون مطبق، وجنون خبل، وجنون ناتج من خبال الشيخوخة، والبلاهة والتغفل والجنون كما قالوا فنون ويكون جنون الخبل ناتجاً من تعاطي الكحول فإن المدمنين للشراب ما برحوا ينمون نمواً عجيباً. وإنكلترا أكثر البلاد التي زاد فيها الجنون في هذه الأثناء. فقد كان عدد المعتوهين فيها سنة 1866 - 53 ألفاً فصار سنة 1897 - 99 ألفاً فالمعتوهون الآن واحد في كل 293 بإنكلترا. وقد ثبت لدى أدباء بريطانيا أن مجانينهم كثروا بكثرة انهماك القوم في تناول الأشربة الروحية فإن 33 في المائة من المعتوهين هم ممن يتعاطون المسكرات عندهم.(1/7)
وقد نشر حديثاً أحد نُطس الأطباء بحثاً دقيقاً في الجنون بالولايات المتحدة فثبت عنده بالإحصاء أن أكثر الولايات عرضة للجنون هي التي كثر تعاطي الأعمال الصناعية فيها في جنوبي البلاد. أما البلاد الزراعية فإن المصابين بها أقل من ذلك فتجد في مقاطعة الماساشوست مجنوناً في كل 348 ساكناً على أنك لا تجد غير مجنون واحد في كل 935 من مقاطعة الأركانساس. والجنون بين السود أقل انتشاراً منه بين البيض. ومادام الزنوج نازلين في الأرياف فهم في مأمن من ضياع العقل ولكن متى نزلوا الحواضر وأخذوا في مجاراة البيض ومجاذبتهم حبل الجهاد الاجتماعي يكثر فيهم هذا الداء فيملؤون البيمارستانات والمستشفيات.
ومن أمراض هذا القرن ما عرفه أطباء الأمريكان من مرض دعوه نوراستينا أو ضعف المجموع العصبي. مرض يكثر انتشاره في البلاد التي تزدحم فيها أقدام السكان. ولم يعرفه قدماء الأطباء فخلطه بعضهم بفقر الدم وبعضهم بالهستيريا ومعظم المصابين به ممن صرفوا قبل الوقت قواهم العصبية في الإفراط بالشهوات من الرجال وممن ضعف تركيبهن النامي من النساء بتعدد الحمل والرضاع وممن أصابتهم خطوب وأهاويل واستولى عليهم أرق متتابع. بل ويصاب به أيضاً من صرفوا أوقاتهم منذ طفولتهم في استعمال قواهم العقلية بما لا تسمح به تراكيبهم ولا يعوض الغذاء ما يصرفونه من دقائق الدماغ على نحو ما ترى شباناً أنجزوا دروسهم ولم يستطيعوا التغلب على مصاعب الحياة فخانتهم قواهم وجهادهم فأضاعوا الثقة بأنفسهم وظنوها عجزت عن الغلبة على ما صادفوه في طريق حياتهم من المشاق فسدت قلة القوة الحيوية في وجوههم سبل الأعمال، وقلبت لهم تقلبات الزمن ظهر المجن، فأمسوا ولا يرون الأمور إلا من وجهتها التي لا ينبغي أن ينظر إليها فيحدث عندهم كل ما يرتاح إليه نظراؤهم كدراً ولهفاً. وتختلف أعراض هذا الداء حتى في الشخص الواحد في كل دور من أدواره ويكثر شيوعه بكثرة الشقاء الاجتماعي وتعدد أسباب الجهاد في الحياة.
ومن أمراض هذا القرن ابتلاء بعضهم بالحقن بالمورفين تخفيفاً لبعض آلام تصيبهم أو تفادياً من تصور عوارض يخشون الوقوع بها وقد ابتليت المدنية الغربية بهذه الوصمة كما ابتليت المدنية الشرقية في الهند والصين وتركيا بوصمة التخدر بالأفيون. ومعظم من(1/8)
يخدرون حواسهم بالمورفين تسكيناً للآلام والأوصاب هم أهل العقول الكبيرة وربما كانوا ممن يعجب الناس بمواهبهم العلمية. وثلث المصابين به من الأطباء. وفيهم قادة الجيوش ورجال السياسة. وقد أقيمت مستشفيات في إنكلترا وألمانيا وفرنسا (وأميركا) ليقلع الداخلون إليها عن عادة استعمال هذا المخدر بالوسائط العلمية والعملية.
ومن مفسدات الجنس البشري في هذا القرن التسمم بالكحول فقد زاد صرف المشروبات الروحية في النصف الأخير منه حتى قدر أحدهم خمسة من المائة يموتون في مستشفيات باريس من فعل الكحول. وأوربا سواء في استعمال الخمور اللهم إلا الأقاليم الشمالية الباردة والرطبة منها مثل روسيا والسويد ونروج وبلجيكا فإن شرب الكحول مألوف فيها كل الألفة ويفرط السكان في تناوله وخصوصاً طبقات العملة منهم. فقد أصاب الفرد في فرنسا سنة 1876 أربعة ليترات من الكحول في السنة وأصاب الفرد في ألمانيا خمسة وفي إنكلترا ستة وفي روسيا عشرة إلى اثنتي عشر إلى عشرين لتراً بحسب الولايات والصناعات. ولم يجد فرنسا إكثارها من وضع الضرائب على الكحول إذ لم ينقص شاربوه.
والتسمم بالمسكرات أخف وطأة في البلاد التي تجود فيها الكروم مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وجنوبي فرنسا وقلما يصيب الفرد فيها غير لتر واحد أو لترين في السنة. واختلفت بلاد الغرب في وضع قوانين لبيع المشروبات فاكتفى بعضها بالاحتكار وبعضها بضرب الضرائب الفاحشة. ونشأت فيها عدة جمعيات تحض الناس على الامتناع عن المسكرات. وهذه الجمعيات تعظم فائدتها كلما كثرت في كل صقع وناد وساعدتها الإرادة الشخصية. وقد زاد عددها في إنكلترا ونورمنديا وسويسرا والسويد يعرف القائمون بأعبائها بني قومهم بمضار الكحول الطبيعية والأدبية والعقلية. وأن الحكومات لتحسن صنعاً إذا أرادت معلمي المدارس على أن يقرئوا الأطفال شيئاً في قواعد الصحة ويدلوهم على ما تحدثه الكحول من سوء الأثر في الجسم وما ينتج الامتناع عنها من سعادة المرء والأسرة.(1/9)
تعليم اللغات
إن تعليم اللغات على الطريقة التي جرى عليها الغربيون واقتبسها المشارقة قد تكون نظرية أكثر مما هي عملية فيطول أمرها ويصعب تناولها. ولطالما رأينا من يترجم أشعار شكسبير الإنكليزي أو بوالو الفرنسي وإذا رمته الأقدار في شوارع لندن أو باريس لا يطاوعه لسانه أن يلفظ كلمات يهتدي بها لوجه طريقه. ذلك لأن الطريقة في تعلمه تلك اللغة الأجنبية هي عين الطريقة التي يستخدمها الأوربيون في تعليم الصم والبكم بل عين النهج الذي ينهجه المغاربة في تعليم إحدى اللغات الميتة من لاتينية ويونانية أو إحدى اللغات الحية من إنكليزية وفرنسية وإيطالية وغيرها.
إذ يكون تدريس النحو والصرف والترجمة من الكتب هو العدة في إتقان اللغات ويسهل على المعلم أن يدرس تلميذه على هذا النحو وربما أخذ في تعليمه لغة وهو لا يحسن أن يؤلف بين جملتين صحيحتين في تلك اللغة التي عهد إليه تدريسها ولم يجود التلفظ بها فكان شغله الشاغل تعليم تلامذته أصول التصريف والإعراب والترجمة على حين قد ثبت أن الدارس قد يستظهر قواعد لغة وقوانينها ولا يبرع في اللغة نفسها. وأسقم المذاهب في تعلم لغة أن يتكلم المرء بلغته في خلال تعلمه لغة غيرها.
من أجل هذا قضت الحال أن تكون دراسة قواعد الإعراب والتصريف بعد معرفة اللغة معرفة عملية لا نظرية ولا تفيد الترجمة والنقل إلا إذا توفرت للطالب بادئ بدء معرفة الأساليب في اللغة الغريبة. فعلى من رام أن يتكلم لغة ويكتب فيها أن يفكر في تلك اللغة ويكون شعوره شعور أهلها فيها لا أن يصيغ تراجم وينقل جملاً. فتستدعي الأفكار والانفعالات للحال ما يحتاج إليه الطالب من الألفاظ التي يعبر بها عنها فتصير اللغة التي يتعلمها لغة ثانية له ولا تكون الترجمة من لغته أو إليها إذا دعت الحال حرفاً بحرف بل على طريقة تنقل بها الصورة إلى التعبير عنها. وقلما يسمع المتعلم في معظم المدارس اليوم صدى اللغة التي يتعلمها ويقتضي له أن يربي عليها أذنه وذاكرته ما أمكن. وما أشبه المدرس وهو يشرح للدارس دروسه بلغته الأصلية الابام تود أن تعلم طفلها وهوالكن تمام قواعد الفعل الماضي وتصريف الأفعال الشاذة بدلاً من أن تعنى بتعليمه أن يحسن تلفظ الكلمات الأولى التي يحاول لفظها.
وما فتئ تعلم اللغات يختلف باختلاف الاجتهاد في كل قوم ومعظمه دائر في الغرب منذ(1/10)
ثلاثين سنة على طريقتين وهما إما أن يقيم المتعلم زمناً في بلد اللغة التي يريد تعلمها أو أن يكون أهل الطفل في سعة من العيش فيتخذون له مؤدباً أو مؤدبة يعلمه اللغة بالعمل بين ظهراني أهله وأسرته. وقد ابتدع الأستاذ برليتز الأميركاني طريقة سهلة لتعليم اللغات جرى عليها بعضهم في أميركا وأوربا فأسفرت عن نجاح أكيد. وطريقته عبارة عن نظر عقلي وعلم عملي وبلفظ آخر نظرٌ في المحسوسات لا المجردات إذ اللغة عبارة عن أصوات محكية لا عن إشارات مكتوبة. والتعليم سماعي أولاً ثم نظري. ولا يعمد في طريقته إلى الترجمة ولا إلى النقل ولا يستخدم فيها الطالب معجماً ولا يستصحب كتاب قواعد يل يتعلم الإنسان القوانين بعد لإكمال المعرفة العملية على نحو ما يتعلم الطفل لغة أبيه وأمه. وليس في تعلم القواعد نفع حقيقي إلا متى عرف المرء اللغة فالقواعد تشرح اللغة شرحاً علمياً فتبحث عن علل يتأتى الاستغناء عنها بادئ بدءٍ وقلما تنفع في تلقين اللغة شأن مصور لا يحتاج إلى إتقان العلوم الطبيعية والكيماوية ليصنع صوراً شمسية بديعة.
ما اللغة في الحقيقة إلا صورة محكية من الحياة فاقتضى في تعلمها أن يسير الإنسان من نفس الحياة لا أن يعمد إلى أشكال من التعبير لا تمس ولا تتحرك. وقلما تتلاءم الألفاظ وصور الأفكار بين لغة وأخرى كل التلاؤم فالبداءة بالترجمة الحرفية من لغة إلى لغة يراد تعلمها إضاعة للوقت وإتعاب للذهن على غير طائل. ومن العسر المتعذر أن يرسم المرء صورتين رسماً خفيفاً على حين لا يضع إحداهما على الأخرى وكذلك الحال في اللغات فقد امتنع أن يحكم وضع لغتين بعضهما على بعض.
واللغة بموجب هذه الأصول الجديدة عبارة عن محادثة دائمة باللغة الغريبة فكل ما يقع نظر التلميذ عليه مباشرة يكون له منه مادة درس وموضوع تعلم. وذلك بتربية الأذن والحواس الصوتية. فيلقن الأستاذ تلميذه حسن اللفظ وسرعة التركيب فيدرس الأفعال الأولى بالأعمال والحركات يقوم ويذهب إلى اللوح الأسود فبكتب ويفتح الباب ويرفع الكتاب ويضعه ثم تعرض على سمعه مشاهد الحياة اليومية فيسهل عليه تأليف جمل صغيرة يتزايد كل يوم عددها بسرعة. فيكون للتلميذ بهذه الطريقة في تأليف الجملة ما يلزمه من أوليات القواعد والروابط. والأمم بأسرها تتعلم لغاتها بالعمل أولاً ثم بالنظر. فيتعلم المتعلم ما تمس حاجته إليه إلى أن يكتب بدون غلط ويتعلم التلميذ أولاً معاني الكلمات الغريبة ثم يلقن التمرينات(1/11)
العديدة بعد معرفة اللغة معرفة فطرية فمعرفة عقلية. ومن اللازم اللازب الاعتياد على الصور قبل القواعد. ثم يبدأ المعلم بالسؤال فيجيبه المتعلم ولا يزالان ينتقلان من البسيط إلى المركب ومن شرح المفردات إلى تفسير العبارات ويكون كل ذلك باللغة التي يراد إتقانها.
وللفظ في هذه الطريقة المقام الأعلى. ولم يكن يعنى بتقويمه من قبل. والأساتذة الذين يحسنون التلفظ بلغة ما هم ممن تعلموها على الأسلوب الطبيعي في طفوليتهم أو أتقنوها بمقامهم في البلاد التي تتكلم فيها تلك اللغة. وجودة التلفظ هو روح اللغة على التحقيق. ولا تعد العبارة شيئاً مهما بلغت من الضبط متى قبح اللفظ وتجلت الأعجمية فيه عياناً. ومن الهجنة أن التلفظ لا يكاد يصلح إذا فسد لأول أمره. وصعب على الإنسان ما لم يعود.
فالطريقة المشار إليها مغايرة لطريقة الترجمة المألوفة في الأغلب إذ كل معرفة يرشد إليها المتعلم على هذه الصورة لا تحسب ناقصة الجهاز مشوشة الأسلوب. وقلما تجد الألفاظ في لغة ما يقابلها في لغة ثانية ولكل لغة اصطلاحاتها الخاصة بها ليس للترجمة مهما أتقنت أن تنقلها على أصلها إذ التصورات التي تمثلها لغة لا تتحد مع تصورات تمثلها ألفاظ لغة أخرى اتحاداً ذاتياً معنىً ومبنىً. كتب أحد الغرباء إلى فنيلون العالم الفرنسي المشهور إن لي منك يا مولاي أمعاء والد يريد أن يقول قلب والد وقال الفونس الثاني عشر ملك إسبانيا وقد جاء قصره في يوم احتفال: أتود أن تتعب معي نحو النافذة يعني بذلك أن تقترب نحو النافذة.
ولو تعلم ذاك الكاتب وهذا الملك أن يتكلما الفرنسية على طريقة الأستاذ برليتز إذاً لنجيا من هذا الغلط الشائن وكان شأنهما في سهولة التعبير وجودة التصوير شأن أولئك التجار والسوقة ممن ينزلون بلاداً لا يحسنون لغتها فما هو إلا قليل حتى يمرنوا على تكلمها زمناً فيحسنونها ولا إحسان من تعلموها على دكات المدارس وهم يقلبون المعاجم ويتأبطون كتب نحوها وصرفها وبيانها ناقلين ناسخين مستظهرين ناسين. وطريقة برليتز هذه أن يستعمل أولاً اللغة المتعلمة خاصة وأن يتابع التصور في اللغة الغريبة مباشرة بدون وساطة اللغة الأصلية وأن تُعلَّم أسماء الأعيان بقوة الحس وتعلم أسماء المعاني بتتابع التصور ويدرس النحو بالأمثلة والشواهد.(1/12)
هذا مذهب الأستاذ برليتز في إتقان ملكة اللغات وقد انتقل من نيويورك إلى باريس عام 1889 فأسست في هذه العاصمة أول مدرسة على تلك الطريقة وانتقل هذا المذاهب في تلك السنة إلى إنكلترا وألمانيا فأسست في كل من لندن وبرلين مدارس لهذا الغرض. وما برحت مدارسها تتكاثر في الأصقاع الأوربية حتى كانت في بدء هذه السنة 242 مدرسة في أوربا وحدها وكلها أسفرت عن ارتقاء واقتصاد في الوقت والمال وطريقة القائمين بهذا الأمر أن يكون لكل تلميذ أستاذه الخاص به فيأخذ هذا يعلم تلميذه ما يقع نظره عليه في قاعة الدرس من منضدة وكرسي وكتاب وباب ونافذة يلفظها بلغتها ولا يزال يكررها المتعلم حتى يتقن التلفظ فإذا نفذت المسميات لدى الأستاذ في الغرفة يعمد إلى صور سهلة واضحة رسمت على صفحات مجموعة رسوم فما هو إلا أن يتعلم التلميذ أسماء الأشياء الواقعة تحت حسه مع الألوان التي يمتاز بها كل منها ثم ينتقل إلى صفات الحجم وأفعال الحركات والأعداد. فإذا أنجز درس الأشياء يشرع المعلم في اختيار جمل يكون التلميذ قد عرف أكثر مفرداتها. فلا يمضي ثلاثون درساً إلا وقد عرف التلميذ الأفعال الشائعة في الاستعمال والمفردات التي تدخل غالباً في الأحاديث العامة ويتمكن في ستين درساً من بيان فكره أصح بيان ف يكل ما له علاقة بمجرى الحياة الاجتماعية العادي. ويحسن في اختيار المعلمين أن يكونوا ممن لا يعلمون لغة المتعلم.
ومما يضحك ما وقع لولد أحد كبار المنشئين الفرنسيين وكان يدرس الألمانية على طريقة برليتز قيل أنه لما بلغ به المعلم إلى تمييز الفعل المتعدي من اللازم لم يفهم التلميذ المراد من المتعدي واللازم وأخذ معلمه يشرحهما له بالإشارة تارة والتشبيه طوراً فلم يفلح وكان تلميذه معه كأعجم طمطم لا يفهم ولا يُفهم. وأبى الأستاذ على تلميذه أن يفسر له شيئاً بلغته مع إلحاحه عليه في ذلك وراح الطفل إلى دار أبيه وقد بلغ منه الغيظ وأنشأ يقلب كتاب نحوه يفتش عن الأشكال فاهتدى بنفسه إلى حله وشكا أمره إلى والده فقال له: أي بني لقد أحسن الأستاذ أن أبى عليك شرح ما يريد تعليمك بلغتك ولو قاله لك لغرب عن ذهنك وأصبح لديك بعد زمن نسياً منسياً. أما الآن فإني على ثقة من أنك لا تنسى التفرقة بين الفعل اللازم والمتعدي ولو بعد مائة سنة.
قال الكاتب الذي عربنا عنه هذا المبحث وقد كاد أرباب الأفكار والحصافة يجمعون على أن(1/13)
اللغات الحية لا تعلم كاللغات الميتة بل أنه لابد في الأولى من المران على التكلم بها من أول وهلة وأنه ما من لغة مهما تراءى من صعوبتها على المتعلمين بادئ بدء سواء كانت اللغة الروسية أو الهندية أو العربية أو الصينية إلا ويتيسر إتقانها على طريقة برليتز في مدة تختلف باختلاف ذكاء المتعلم وصعوبة اللغة والله أعلم.(1/14)
الأخلاق الفاضلة
نعمنْ بنفسي وأشقينني ... فيا ليتهنَّ ويا ليتني
خلال نزلنْ بخصب النفو ... س تروَّيتهن وأظمأنني
تعودنْ مني إباء الكريم ... وصبر الحليم وتيه الغني
وعودتهنَّ نزال الخطوب ... فما ينثنين وما أنثني
إذا ما لهوت بليل الشباب ... أهبن بعزمي فنبهنني
فما زلت أمرح في قدهنَّ ... ويمرحن مني بروض جني
إلى أن تولى زمان الشباب ... وأوشك عودي أن ينحني
فيا نفس إن كنت لا توقنين ... بمعقود أمرك فاستيقني
فهذي الفضيلة سجن النفوس ... وأنت الجديرة أن تسجني
فلا تسأليني متى تنقضي ... ليالي الأمسار ولا تحزني
القاهرة
حافظ إبراهيم(1/15)
ماهية الحياة
للشاعر بيلي الإنكليزي
قدروا الحياة بأزمان وذا خطأٌ ... إن الحياة هي الأعمال والفكر
إن الحياة شعور لا يراد بها ... وسم الضياء ولا أنفاس تنحصر
لو فكروا جعلوها خفق أفئدةٍ ... من التأثر لكن فاتهم نظر
وأطول الناس أعماراً أسدهم ... رأياً وحساً وأعمالاً لها خطر
بيروت
عبد الرحمن شهبندر(1/16)
التمثيل في الإسلام
للتمثيل يدٌ في تربية الملكات وترقيق الشعور والإحساس يعده الغربيون من العوامل في إنهاض الأمم، ويعده العامة من المسليات. وما هو إلا أُمثولات، ويراه فريق هزلاً، وما هو إلا عين الجد. وأيُّ نفس لا تتأثر بالفضيلة والرذيلة. والسعادة والشقاء. والماضي والحاضر. والمفجع والمطرب. وكأن الغرب خُصَّ بمزية التمثيل كما اختص بكثير من المزايا ولم ترج سوقه في الشرق في عصر من العصور إلا في مملكة الشمس المشرقة بلاد يابان فإن التمثيل فيها قديم كما نقل أحد الفرنجة وقد جاءت إلى بلاد الألمان ممثلة يابانية منذ بضع سنين اسمها سادايا كو من أعظم الممثلات اليابانيات فأدهشت القوم بتمثيلها.
وليس من حجة تاريخية يستأنس بها على وجود التمثيل عند العرب غير عبارة كنت قرأتها في بعض أسفار كمال بك الشهير وأظن في مقدمة روايته جلال الدين خوارزمشاه تشعر بأن عرب الأندلس عرفوا التمثيل واشتغلوا به قليلاً. وما أدري على أي شيء بنى هذه الحادثة التاريخية على حين يكاد يكون في حكم الإجماع اتفاق الباحثين في مدنية المسلمين على أنهم ما عرفوا التمثيل على نحو ما كان عليه عند أمم الحضارة القديمة. قال أحد فضلاء الألمان أن التمثيل لم يشتغل به العرب بداعي غلظ حجاب النساء عندهم والحظر عليهم في الخروج والتمثيل لا يتم بدون مثول النساء فيه.
ذاكرت مرة أحد الأئمة في معنى التمثيل عند المسلمين فقال أنه من خصائص الجنس الآري وأن الجنس السامي ومنه العرب لا يعرف التمثيل ولا شغل نفسه به لأن حالته لا تقتضي ذلك. ولعل الفرس ألفوا كتاب ألف ليلة وليلة لأنهم من جنس آري وفي هذا الكتاب شيء من التمثيل. والعلوم والفنون تحدث في الأمم بحسب الدواعي والبواعث وفي العربية شيء من الروايات وقطع تمثيلية ولكنها مبعثرة غير منظمة.
وسألت أحد الحكماء عن ذلك فقال ليس التمثيل طبيعياً في الأمم والعرب يأنفون منه لما عرفوا به من الأخلاق فيرون من سقوط المروءة أن يمثل مجلس الأمير أو الوزير وإن كان لا يخلو من حكمة فكيف بمجلس صبابة وغرام. أما اليونان فقد ابتدعوا التمثيل لأن لهم خيالات وتصورات خصوا بها دون سائر الأمم ونقل الأوربيون التمثيل عن اليونان لأنهم أرادوا أن يتشبهوا بهم حذو القذة بالقدة. وهناك أسباب أخرى زهدت المسلمين في التمثيل(1/17)
ذلك لأنهم أمة لم تنقل عن غيرها إلا ما مست حاجتها إليه وانطبق مع عاداتها وليس العرب أمة خيال بل أمة حس وحقيقة.
هذا ما قاله العالمان المشار إليهما. وأنت ترى أن التمثيل في بلادنا حديث النشأة. كانت بعثته الأولى سنة 1382هـ في سورية ومنها انتقل إلى مصر. وما برحت حاله تتقلب بين هبوط وصعود وإن لم يعد ذلك صعوداً بالنسبة للأمم الراقية. وليس ذلك فيما أحسب إلا لانقطاع الرغبات في الآداب العربية واقتصار القوم من التمثيل على الأغاني والمناظر لا على المعنويات والجواهر.(1/18)
التناسل الغريب
سمعت وأنا صبيٌّ رجلاً من سراة بغداد يقول لوالدي يوماً أن في ضواحي مدينتنا شيخاً كبيراً له من الولد وولد الولد ما يربو عددهم على خمسمائة نسمة ذكوراً وإناثاً. قال وكان ربُّ هذه العيلة يدعو من ولدوا منه كل شهر إلى داره الخاصة به ويأدب لهم مأدبة يمنح في ختامها كل فرد من أفرادهم قطعة من الدراهم بثلاثة قروش. يريد بذلك اتصال الصلات الأبوية بين الأصل والفرع. وربما سأل أحدهم أو إحداهن وهو يستعرضهم عن اسمه أو اسم أبيه وأمه لأنه كان بلغ سناً تغرب فيها عن الذهن الأسماء.
سمعت هذا واستعظمت العدد لكن مقال البغدادي لا يخلو من حقيقة وإن حوى شيئاً من المبالغة شأننا معاشر المشارقة في تكثير الأرقام. ومازلت أيضاً استعظم ما يُروى من أن أبا الطيب المتنبي كان يركب ويركب معه خمسون فارساً من ولده فإذا سُئل عنهم يجيب بأنهم عشيرته خشية عليهم من العين بزعمه. إلا أن حادثة أولاد المتنبي وهم عشر عدد ذاك العراقي يقبلها العقل سيما وإنا نرى لعهدنا ما يشفع بها من تكاثر الذرية فقد اتصل بي أن في إحدى بلاد الأقاليم في مصر أسرة من صلب واحد تتجاوز ثمانين نسمة على أن الأسرات التي يناهز عددها العشرات كثيرة في هذه الديار.
وفي إحدى الصحف الإفرنجية أن للترنسفال من هذا المعنى حظاً وافراً قالت: إن قواد الترنسفاليين في حربهم الأخيرة لم يكونوا وحيدين في عيالهم وربما كان لأكثرهم من البنين ما يزيد على عشرة أو خمسة عشر. وإن دار الحرب صمت رجلاً وستة من أولاده يحملون السلاح حمله له. ويقاتلون أعداءهم مثل قتاله أو أشد. وفي الترنسفال أيضاً امرأة رزقت ثمانية عشر ولداً. ومن المشهودات اليوم أن المهاجرة الأول إلى أميركا قد ضعف تناسلهم حتى استدعى هذا الأمر نظر الرئيس روزفلت وأخذ يستطلع طلع آراء العلماء في ملافاة خطبه الجلل. ذلك لأن حياة المدن وما يلقاه أهلها من النصب وخصوصاً في الولايات المتحدة قد أضعفت مادة حياة أولئك الطوارئ مما لم يسبق له مثيل في تاريخ الجنس البشري.
بيد أن من غيروا مساكنهم وراحوا إلى داخلية البلاد منهم أمسوا يرزقون من الأولاد كأكثر المتناسلين وكثير فيهم من بلغ ولده العشرة.
وفي غاليسيا اليوم أسرة عدد أعضائها 326 كلها من الجيل الأول والثاني وهي أكبر أسرة(1/19)
في العالم. وربها من شيعة المورمون القائلة بتعدد الزوجات. ويكثر بين اليابانيين حتى في المدن من يرزق عشرة بنين وبنات أما في القرى فيكثر من يكون له عشرون ولداً. والروس كثير نسلهم. وقد عرض أحدهم ذات يوم على الإمبراطورة كاترينا الثانية تسعين ولداً من صلبه. وفي قازان خمس وعشرون أسرة فيها ثلاثون ولداً أحياء. ومن الدلائل على كثرة تناسل الروسيين أن إحدى نسائهم ولدت ولدها الثامن عشر وهي في السنة السادسة والتسعين. ولو لم يثبت هذا الخبر عند العلماء بالبرهان الصحيح لعدوه من الأحاديث الموضوعة إذ مازال الناس يرون من المستحيل بل رابع المستحيلات حمل النساء في سن اليأس.
ولئن خف بين أهل إسبانيا معدل التولد إلا أنك لا تزال ترى في بعض أقطارها أسرات يعد أفرادها بالعشرات. وفي العرب أسرات كبيرة العدد كثيرة الحصا وإن هلك بعض بنيهم صغاراً لقلة العناية بصحتهم ولعل ذلك قضى أن تكون حركة الجنس العربي على وتيرة واحدة لا قلب فيها ولا إبدال. وجماع الأمم الغربية تتناسل تناسلاً غريباً ما خلا فرنسا التي منيت بقلة النسل وعقلاء أهلها في المقيم المقعد من سوء عاقبة ذلك.(1/20)
التربية والتعليم
العمل والعملة
في الحديث كلكم حارث وكلكم همام. والحارث الكارث واحتراث المال كسبه والإنسان لا يخلو الكسب طبعاً واختياراً. والهمام مشتق من هم بالأمر يهم إذا عزم عليه. قال الراغب الأصفهاني: العمل كله فعل يصدر من الحيوان يقصده فهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد وقد ينسب إلى الجمادات والعمل قلما ينسب إلى ذلك ولم يستعمل في الحيوانات إلا في قولهم الإبل والبقر العوامل.
قال علماء اللغة: واعمله استعمله واعتمل اضطرب في العمل وقيل عمل لغيره ورجل عمِل وعمول ذو عمل ورجل عمول كسوب. والعُمالة رزق العامل الذي جعل له على ما قلد من العمل والعملة العاملون بأيديهم ضروباً من العمل في طين أو حفر أو غيره. والعامل هو الذي يتولى أمور الرجل في ماله وملكه وعمله. واستعمل غيره إذا سأله أن يعمل له واعمله أعطاه عمالته. قال باور:
يشكو بعض العملة من حظهم وسوء طالعهم ويقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما خلقنا عملة وما حالهم في شكواهم إلا حال من يشكو من كونه خلق إنساناً. فالعمل قانون الطبيعة البشرية وهو شريف بذاته في نظر العقل مقدس مبارك كيفما كانت الطرق التي يجري عليها والغاية التي يرمي إليها. والعملة صنفان: صنف يعمل ذكاؤهم فقط ويدعون عملة الفكر أو أرباب الصناعات الفكرية وهم الذين يتعاطون الأعمال الملقبة بالأعمال الحرة. والصنف الآخر طبقة العملة بأيديهم وأجسامهم وهم أوفر عدداً وأكثر سواداً. هؤلاء العملة هم الأولى يعملون في القرى والمدن ويتبارون في استخراج نتاج الطبيعة على اختلاف عناصرها ويكيفون تلك النتائج بحيث تصلح لما يتطلبه المجتمع من الحاجيات. وهذا الضرب من العملة قسمان أيضاً: زراع وصناع والفئة الثانية مفضلة إلا أن كلتيهما حريتان بالاعتبار والإكرام.
حياة العامل أضمن مراتب الحياة الإنسانية بأسرها لأن له من فكره رأس مال لا يسلبه إلا بفقد صحته وزوال كيانه. وليس هذا النوع من الثروة عرضة للأخطار كسائر أنواع الثروة إذ العمل للمجتمع البشري بمثابة التنفس في الحياة ولا يتأتى توقيف حركة العمل والتنفس(1/21)
بدون أن يؤدي هذا الانقطاع إلى بحران عظيم قد يودي بصاحبه إلى الفناء إذا دام على أشده.
وإن حياة الصناع لتستدعي نشاطاً أكثر وحركة دائمة وإذا حدث في الأحيان أن فترت الصناعة موقتاً في بلاد فإن بلاداً غيرها تتطلب نزول أهلها فيها. ومن اعتاد أن يستخدم قواه الطبيعية مدفوعاً بعامل العقل والذكاء يجد له بسطة في الرزق حيث حل من أرض الله. قال أحد عقلاء الأقدمين ليس للقدر سبيل إلي فيسلبني مالي لأني حيثما رمت بي تصاريفه لا أخاف الفاقة ولا اضطر إلى سداد من عوز إذ أحمل ثروتي كلها معي وهو كلام يصدق على العالم كما يصدق على العامل كل الصدق. لأن العامل لا يعدم من يحتاج إليه في أي ناحية رمته فيها يد الأقدار وكيفما قلبته صروف الدهر فعيشه أكثر ضماناً من عيش العالم مادام له من عمله مهارة، ومن جسمه قوة، وما عليه أن يتعلم لغة قوم ينزل عليهم لأن عمل يديه ينوب في خطاب من يود خطابه.
وللعامل من الاستقلال ما يفوق به سائر طبقات الناس وإن لم يتأتَ لامرئ في العالم أن يستمتع بالاستقلال المطلق. وذلك لأن العامل في غنى عن التزلف والملق لا يحتاج إلى من يمد إليه يد المعونة إذ قلما يحاذر أن يكون له ممن يجاريه ما يحرمه التمتع بعمالته فإن من يعمل له محتاج للعامل الذي يفوق غيره في أمانته ومهارته. فكما أن العامل يحتاج لمن يعمل له فهذا محتاج للعامل أيضاً والحاجة بينهما متبادلة فليس في ذلك غضاضة على العملة البتة.(1/22)
صحف منسية
نصائح ابن حزم
باب عظيم من أبواب العقل والراحة وهو طرح المبالاة بكلام الناس واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل بل هو العقل كله والراحة كلها. من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وأن المها في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه لأن مدحهم إياه إن كان بحق وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العجب فأفسد بذلك فضائله وإن كان بباطل فبلغه فسر فقد صار مسروراً بالكذب وهذا نقص شديد. وأما ذم الناس إياه فإن كان بحق فبلغه فربما كان ذلك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص. وإن كان بباطل فصبر اكتسب فضلاً زائداً بالحلم والصبر.
لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويحبونك وأن العلماء يحبونك ويكرمونك لكان ذلك سبباً إلى وجوب طلبه فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة. لو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء ويغبطه نظراؤه من الجهال لكان ذلك سبباً إلى وجوب الفرار منه فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة. لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس لكان ذلك أعظم داع إليه.
من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه كان كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البر وكغارس الشعراء (شجرة من الحمض ليس لها ورق ولها هدب تحرص عليها الإبل حرصاً شديداً تخرج عيداناً شداداً) حيث يزكو النخل والزيتون. نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والحلواء من به احتراق وحمى وكتشميمك المسك لمن به صداع من احتدام الصفراء. الباخل بالعلم ألوم من الباخل بالمال لأن الباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده والباخل بالعلم بخل بما لا يفنى على النفقة ولا يفارقه مع البذل. من مال بطبعه إلى علم ما وإن كان أدنى من غيره فلا يشغلها بسواه فيكون كغارس النارجيل بالأندلس وكغارس الزيتون بالهند وكل ذلك لا ينجب.
احرص على أن توصف بسلامة الجانب وتحفظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون(1/23)
منك حتى ربما أضر ذلك بك وربما قتلك. وطن نفسك على ما تكره يقلُّ همك إذا أتاك ولم تتضر بتوطينك أولاً ويعظم سرورك ويتضاعف إذا أتاك ما تحب مما لم تكن قدرته. الوجع والفقر والنكبة والخوف لا يحس أذاها إلا من كان فيها ولا يعلم قيمتها إلا من كان خارجاً عنها وليس يراه من كان داخلاً فيها. الأمن والصحة والغنى لا يعرف حقها من كان فيها. وجودة الرأي والفضائل وعمل الآخرة لا يعرف فضلها إلا من كان من أهلها ولا يعرفه من لم يكن منها. التهويل بلزوم زي ما والاكفهرار وقلة الانبساط ستائر جعلها الجهال الذين مكنتهم الدنيا أمام جهلهم. ثق بالمتدين وإن كان على غير ديتك ولا تثق بالمستخف وإن أظهر أنه على دينك. من استخف بحرمات الله فلا تأمنه على شيء تشفق عليه. وجدت المشاركين بأرواحهم أكثر من المشاركين بأموالهم وعلة ذلك طبيعية في البشر إنما تأنس النفس بالنفس فأما الجسد فمستثقل مبروم به ودليل ذلك استعجال المرء بدفن حبيبه إذا فارقته نفسه وأسفه لذهاب النفس وإن كانت الجثة حاضرة بين يديه.
خطأ الواحد خير في تدبير الأمور من صواب الجماعة التي لا يجمعها واحد لأن خطأ الواحد في ذلك يستدرك وصواب الجماعة يضري على استدامة الإهمال وفي ذلك الهلاك. سوء الظن يعده قوم عيباً على الإطلاق وليس كذلك إلا إذا أدى صاحبه إلى ما لا يحل في الديانة أو إلى ما يقبح في المعاملة وإلا فهو حزم والحزم فضيلة. من عيب حب الذكر أنه يحبط الأعمال إذا أحب عاملها أن يذكر بها وكاد يكون شركاً لأنه يعمل لغير الله تعالى وهو يطمس الفضائل لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حباً للخير لكن ليذكر به فواجب على المرء ترداد النصح رضي المنصوح أو سخط تأذى الناصح بذلك أو لم يتأذ إذا نصحت فانصح سراً لا جهراً أو بتعريض لا تصريح إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك فلابد من التصريح ولا تنصح على شرط القبول منك فإن تعديت هذه الوجوه فأنت ظالم لا ناصح وطالب طاعة وملك لا مؤد حق ديانة وأخوة. . . لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه ولا ينتفع بمعرفته فهذا فعل الأرذال ولا تكتمه ما يستضر بجهله فهذا فعل الشر.
الناس في بعض أخلاقهم على تسع مراتب فطائفة تمدح في الوجه وتذم في المغيب وهذه صفة أهل النفاق والعيابين. وهذا خلق فاش في الناس غالب عليهم. وطائفة تذم في المشهد والمغيب وهذه صفة أهل السلاطة والوقاحة من العيابين. وطائفة تمدح في الوجه والغيب(1/24)
وهذه صفة أهل الملق والطمع. وطائفة تذم في المشهد وتمدح في المغيب وهذه صفة أهل السخف والنواكة. وأما أهل الفضل فيمسكون عن المدح والذم في المشاهد ويثنون بالخير في المغيب أو يمسكون عن الذم وأما العيابون البراء من النفاق والقحة فيمسكون عن المدح وعن الذم في المشهد والمغيب.
مما ينجع في الوعظ الثناء بحضرة المسيء على من فعل خلاف فعله فهذا داعية إلى عمل الخير وما أعلم لحب المدح فضلاً إلا هذا وحده وهو أن يقتدي به من يسمع الثناء ولهذا نوجب أن نؤرخ الفضائل والرذائل لينفر سامعها عن القبيح المأثور عن غيره ويرغب في الحسن المنقول عمن تقدمه ويتعظ بما سلف. وتأملت كل ما دون السماء وطالت فكرتي فوجدت كل شيء فيه من حي وغير حي طبعه إن قوي أن يقلع عن غيره من الأنواع كيفياته ويلبسه صفاته فترى الفاضل يودُّ لو كان الناس فضلاء وترى كل من ذكر شيئاً يحض عليه بقول أو فعل أمراً مداوماً وكل ذي مذهب يود لو كان الناس موافقين له وترى ذلك في الغياض إذا أحال بعضها على بعض أحاله إلى نوعيته وترى ذلك في تركيب الشجر وفي تغذي النبات والشجر والماء ورطوبة الأرض وإحالتها ذلك إلى نوعيتها.(1/25)
نكات الوهراني
كتب الوهراني على لسان بغلته إلى الأمير عز الدين موسك فقال: المملوكة ريحانة بغلة الوهراني تقبل الأرض بين يدي المولى عز الدين حسام أمير المؤمنين، نجاه الله من حر نار السعير، وعطر بذكره قوافل العير، ورزقه من القرط والتبن والشعير، وسق مائة ألف بعير، واستجاب فيه صالح الأدعية من الجم الغفير، من الخيل والبغال والحمير، وتنهي كل ما تقاسيه من مواصلة الصيام، وسوء القيام، والتعب في الليل والدواب نيام، قد أشرفت مملوكته على التلف، وصاحبها لا يحتمل الكلف، ولا يوقن بالخلف، ولا يحل به البلاء العظيم، إلا في وقت حاجتي إلى القضيم، لأنه في بيته مثل المسك والعبير. . .
فشعيره أبعد من الشعرى العبور، لا وصول إليه ولا عبور، وقرطه أعزُّ من قرط مارية، لا يخرجه بيع ولا هبة ولا عارية، والتبن أحبُّ إليه من الابن، والجلبان، أعز من دهن البان، والقضيم، بمنزلة الدر النظيم، والفصة، أجمل من سبائك الفضة، وأما الفول، فمن دونه ألف باب مقفول، فما يهون عليه أن يعلف الدواب، إلا بعيون الآداب، والفقه اللباب، والسؤال والجواب، وما عند الله من الثواب.
ومعلوم يا سيدي أن البهائم، لا توصف بالحلوم، ولا تعيش بسماع العلوم، ولا تطرب إلى شعر أبي تمام، ولا تعرف الحارث بن همام ولاسيما البغال، التي تشتغل في جميع الأشغال، شبكة من القصيل، أحب إليها من كتاب التحصيل، وقفة من الدريس، اشتهى إليها من فقه محمد بن إدريس لو أكل البغل كتاب المقامات، مات، فإن لم يجد إلا كتاب الرضاع، ضاع ولو قيل له أنت هالك، إن لم تأكل موطأ مالك، ما قبل ذلك. وكذا الجمل، لا يتغذى بشرح أبيات الجمل، وحزمة من الكلاء، أحب إليه من شعر أبي العلاء، وليس عنده طيب، شعر أبي الطيب. وأما الخيل، فلا تطرب إلا لسماع الكيل، وإذا أكلت كتاب الذيل، ماتت في النهار قبل الليل، والويل لهاثم الويل. ولا تستغني الأكاديش، عن الحشيش، بكل ما في الحماسة من شعر أبي الحريش. وإذا أطعمت الحمار، شعر ابن عمار حل به الدمار، وأصبح منفوخاً كالطبل، على باب الإسطبل. وبعد هذا كله قد راح صاحبهما إلى العلاف، وعرض عليه مسائل الخلاف. وطلب من بيته خمس قفاف، فقام إليه بالخفاف، فخاطبه بالتقعير، وفسر عليه آية العير، وطلب منه ويبة (كذا) شعير، فحمل على عياله ألف بعير، فانصرف الشيخ منكسر القلب مغتاظاً من الثلب، وهو أنجس من ابن بنت الكلب، فالتفت(1/26)
إلى المسكينة، وقد سلبه الغيظ ثوب السكينة، وقال لها إن شئت أن تكدي فكدي، لا ذقت شعيراً ما دمت عندي: فبقيت المملوكة حائرة، لا قائمة ولا سائرة، فقال لها العلاف لا تجزعي من حباله ولا تلتفتي على سباله، ولا تنظري إلى نفقته، ولا يكون عندك أخس من عنفقته.(1/27)
وصف الجرائد
مقتبس من فصل للمرحوم عبد الله باشا فكري
لا يذهب عليك أن مثل هذه الصحف الخبرية وأوراق الحوادث الدورية، ليس من شأنها أن تختص بأمة معلومة من الناس، على رأي واحد من الاعتقاد، في بقعة مخصوصة من الأرض، حتى يتيسر لصاحبها أن يتقيد بعوائدهم، ويبني على قواعدهم، ويراعي ما يكون موافقاً لعقائدهم، بل الشأن فيها أن تنتقل من بلد إلى بلد، وتتداول من يد إلى يد، بين أقوام مختلفي الطباع، متبايني الأوضاع، متخالفين في العقائد، غير متفقين في العوائد، فالإتيان بما يوافق جميع الآراء، ويطابق عامة الأهواء، توفيق بين الأضداد، وأصعب من خرط القتاد، وإنما هي كالمطر ينزل على الأرض الطيبة والخبيثة، ثم تنبت كل بحسب طينتها، وكالمغني يقول ما ينطق به لسانه، وينبعث إليه خاطره، ثم كل سامع يذهب فيه مذهبه، ويأخذه على حسب ما عنده، ويتوجه منه إلى ما قصده، ويوجهه لما أراده، على وفق غرضه وهواه، وعلى حسب نظره ومرماه، وكالبضاعة المعرضة للبيع المعروضة على أنظار العامة، يأخذ منها كل واحد ما يعجبه ويستحسنه نظره، فربما كان الشيء الواحد مستحسناً عند واحد من الناس لوجه مخصوص مذموماً عند آخر لا يذمه إلا لذلك الوجه الذي استحسنه به الأول.
والعاقل الكيس يستفيد من كل كتاب يراه ما يرضاه ويدع ما وراءه مما يجده خلاف ما يعتقده ولا يدع كثيراً ينفعه لقليل لا يضره. هذا تفسير الكشاف فيه مواضع من الاعتزال أفيترك اللبيب المحصل من أهل السنة ما فيه من المزايا الجمة، والفوائد المهمة، والأسرار التأويلية، لما معها من تلك المواضع الاعتزالية، لا بل يستفيد محاسن ما فيه، ويترك ما وراء ذلك مما لا يرتضيه، ولذلك عكف عليه المحصلون، واعتنى بخدمته العلماء العاملون، بل عدّ في مناقب بعض علماء السنة السنية، أنه عكف عليه أحقاباً مديدة من الدهر، وصرف عليه مدة طويلة من العمر، اغتناماً لما فيه من العلم النافع، ولم يتركوه من أجل تلك المواضع، ومصداق ذلك ما ورد من أن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها فهو أولى بها كما قيل:
إن العلوم كأثمار على شجر ... فاجن الثمار وخلّ العود للنار(1/28)
مثاله رجل وجد في طريقه عقداً نفيساً فيه جوهر عظيم وفي أثنائه شيء من الخرز فإن كان فيه مسكة من العقل وذرة من التمييز أخذ العقد فانتفع بما فيه من الجوهر وما عليه مما في أثنائه من الخرز وإن كان أحمق سيئ النظر فاسد الرأي تركه لما في أثنائه من الخرز.(1/29)
الغزل المصري
من الجزء الثالث من ديوان الرافعي الذي يصدر بعد أشهر
في التحول
تقول أما ترضى مع الحب والجفا ... بأنك حيٌّ والحياةُ كثيرُ
وكل الذي أبقاه مني غرامها ... بقيةُ نوم في الجفون تطيرُ
كأنيَ من غاز الإنارة في الهوى ... فبينا يرى غازاً إذا هو نورُ
في الرضا بعد مجلس العتاب
حبيب يرينا قلبه ذا قساوة ... ويتبعها خوفاً علينا بلينه
عواطفه يوم العتاب كأنما ... عقدن جميعاً مجلساً في جفونه
فيأتي هواه ممسكاً بشماله ... فؤادي وأسباب الجفا بيمينهِ
يقول انظري يا رقة النفس وجدَهُ ... ويا رحمة القلب اسمعي لأنينه
فتحكم هاتيك العواطف بالرضا ... وتغريمه لي قبلةً في جبينهِ
في صديق إذا مسه الخير كتم وإذا مسه الضر باح
ولي صاحب أودعت سري حلمهُ ... ولم أدر أن الحلم فيه قريحُ
إذا مسه مني على غير ريبة ... أذى خطاٌ أمسى بذاك يبوحُ
أراه فنغرافاً فمن مسّ إبرةً ... وإن صغرت في جانبيه يصيح
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(1/30)
تدبير الصحة
أوقات الطعام
للتوقيت فائدة جلية في شؤون البشر وحياتهم الاجتماعية كما أن للنظام وحسن الترتيب شأناً في النهوض والحضارة. يعرف ذلك كل من له إلمام بحال الغربيين وما استفادوه من قوانينهم على اختلاف ضرر بها. والطعام كما علمت قوام الأبدان ولا تستقيم إلا بحسن تناوله واختيار الأوقات المناسبة له وفي ذلك تدبير الصحة وراحة العقل والجسم. ولا يتأتى تنظيم الأوقات إلا في بلاد غلبت عليها الحضارة وصفت موارد عيشها وحسنت أذواق أبنائها ومهما حاول الرجل في البلاد المنحطة أن يسير على مناهج المتحضرين فلا سبيل له إلى ذلك إذ يتعذر الجري على النظام الخاص إذا لم يتقدمه نظام عام وطيب العيش أشبه بسلسلة إذا حسن انتساق بعضها أمن انتساق الآخر والعكس بالعكس.
قام منذ حين جماعة من رجال الفرنسيين أولعوا باختيار الأحسن وتوفروا على التفكر في استكمال أسباب الراحة فأنشأوا يخاطبون بني قومهم في معنى محاكاة الجنس اللاتيني للجنس الإنكليزي السكوني في عاداتهم وأخلاقهم وقوانينهم وأوضاعهم موقنين بأن لا سعادة لذاك العنصر إلا بنزع ما رسخ فيه من الملكات على غابر الدهر والاهتداء بهدي السكسونيين في منازع حياتهم الاجتماعية والسياسية والأدبية. ومن جملة ما ارتأوا إصلاحه عندهم تنظيم أوقات الطعام ومعاطاة الأشغال على الطريقة الإنكليزية النافعة. قال بعضهم لو ذهب ذاهب إلى لندن عاصمة الأعمال الصناعية والتجارية لما شهد للأشغال حركة إلا الساعة العاشرة قبل الظهر حركة تتصل اتصال الشؤبوب إلى الساعة الخامسة بعد العسر. أي أن القيام بالأعمال التجارية يجري في سبع ساعات وذلك ما خلا السبت فإن المستخدمين ينقطعون عن أعمالهم الساعة الثانية بعد الظهر ولا يتعاطون شيئاً من الأعمال أيام الآحاد. فيهبُّ الإنكليزي من فراشه كل يوم ويتغذى غداء كافياً كضلعين أو ثلاثة من أضلاع الغنم أو العجول وبيض نيمبرشت وقطعة من فخذ الخنزير أو كتفه وصحفة من البطاطس وهو طعام الصباح لا كما يفعل الفرنسيين ويجري عليه معظم أهل البلاد المتمدنة في الشرق من الاكتفاء صباحاً بالشاي أو القهوة أو اللبن أو تناول شيء من المربيات والحلويات مع قطعة من الخبز السميذ أو المحمر.(1/31)
فإذا ملأ المستخدم الإنكليزي معدته صباحاً بهذا الطعام لا يتناول الوجبة الثانية إلا الساعة الخامسة اللهم إلا مرة نصف النهار حيث يتناول قطعة من اللحم رقيقة في قطعة من الخبز الساندويش مع كأس من الجعة الخفيفة المعروفة عندهم ولا يقطع عمله لذلك إلا بضع دقائق ويظل هذه الساعات مكباً على عمله بلا انقطاع. ذلك لأنه ثبت للباحثين في الحياة البشرية أن الإكثار من تناول الطعام في الهاجرة ثم أخذ النفس بمعاطاة الأعمال وخصوصاً العقلية مما يمرض النفس والجسم فتكون المعدة ممتلئة لا يحتاج الجسم معها إلا إلى المحاورة والراحة ليسوغ الهضم ويأخذ الدم مجراه وهذا متعذر على أرباب الأشغال من الفرنسيين ومن حذا حذوهم من الأمم وخصوصاً إذا دعي أحدهم إلى طعام غيره وأريد على مخالفة عادته من الإكثار من الأطعمة والألوان.
أما الإنكليزي فله من الغذاء الكافي الذي يقضمه ويفطر عليه ما لا يشتكي معه جوعاً ولا شبعاً ريثما ينجز أعماله اليومية. بل يكون له من طعامه ما يدب الحرارة الغريزية في جسمه على نحو ما يدبُّ الوقود في آلة التحريك والتنقيل في السكك الحديدية التي يقذف موقدها بالفحم الحجري أبداً. ولا يضيع وقته ويقطع سلسلة عمله في أبرك أوقات نهاره لأن الوقت من ذهب كما يقول المثل الإنكليزي. ومن دين كل إنكليزي أن يحتفظ بالنظام والانتظام ويرعى الواجب ويقوم بما يعهد إليه أحسن قيام وبهذا كان الهجوري في نظره مضيعة للوقت ومجلبة لصد صاحبه عن إنجاز واجباته ومفسدة للصحة.
قال الكاتب الذي اقترح على قومه اختيار الترتيب السكسوني وعندي أن الفرنسيين يضيعون أوقاتهم ولا يسيرون في أعمالهم على وتيرة واحدة إذ أن البداءة بالعمل حوالي الساعة التاسعة صباحاً وجعل فاصلة فيه قدر ساعتين لتناول طعام الظهر ثم معاودة العمل إلى الساعة السابعة مما لا فائدة فيه كما هو الحال في طريقة الإنكليز فحبذا لو تقيلنا مثالهم ونسجنا على منوالهم في طعامهم وشرابهم وأعمالهم. أما نحن فنقول أننا معاشر المشارقة لو نظرنا في أحسن ما اعتاده زعماء الحضارة من الأمم في أمور معاشهم واخترنا أنفعه لنا وأمسه بحاجتنا مع تعديل يوافق كل قطر واعتدال ينطبق على مقتضيات العصر إذاً لأحسنا صنعاً وزدنا عائدة ونفعاً.(1/32)
تدبير المنزل
استعمال السكر
لنا كل يوم ممن يعنون بتدبير المنازل وراحة أهلها شكل جديد في تدبير الصحة فتجد فئة لا ترى غير أكل اللحوم وفئة تمتنع عنها وتكتفي بالبقول وفئة تؤثر استعمال السكر. فقد قال بعضهم أن السكر خبز الفقير وخمره. وقال غيره أن السكر هو جل ما ينتفع به المحاويج من الأدوية. وقد أكد بعضهم أن أهالي غربي الهند يستعملون قصب السكر كثيراً ولذلك تجد لهم أسناناً ناصعة البياض وكل من يستعمل القصب تأمن أسنانه العطب. والإنكليز والأمير كان أكثر الأمم استعمالاً للسكر ولذلك كانوا ممتعين بأسنان بيضاء صافية سالمة في الغالب. فالسكر هو بمثابة فحم تحمى به الأعصاب وتستعيد به الصحة قواها بعد العناء. وقد جرب استعماله مدة في عشرين جندياً في ألمانيا فكان من استعملوه أسمن وأحسن ممن انقطعوا عنه حتى أن المدمن له ليصعد العقبة الكؤود أسرع من كل من ألف التصعيد في الجبال والنجاد. ويحسن أن يذاب في الماء أو في شاي خفيف ولا بأس باستعماله مع الليمون وإذا أذيب 150 غراماً منه في لتر من الماء أو الشاي فينفع في الهضم ويدب النشاط في الجسم.
حياة الفقير
أفاض أحد المفكرين في تدبير مساكن العملة والطبقة الدنيا من الناس فقال إنها تتطلب حسن تدبير الصحة والجري على قواعدها من حيطان وسقوف يمكن غسلها وإزالة الأوساخ عنها ومن نوافذ كبيرة وماء على ما يحب وسرب (قبو) للمؤنة وهري أو أنبار لتنشيف الغسيل. ولعله اختار أن تكون النوافذ كبيرة حتى يتخلل المساكن الهواء والشمس فقد جاء في المثل الفرنسي يدخل الطبيب حيث لا تدخل الشمس وما أصحه من قول ولذلك ترى من يعنون بصحة البيوت يقومون على تهوية المنازل كل يوم.
دواء الأرق
بحث أحد أطباء مدرسة اكسفورد الجامعة في بلاد الإنكليز بحثاً دقيقاً في مداواة الأرق فارتأى أن أحسن علاج له أن يتلو المؤرق وهو على فراشة كتاباً يسهل عليه فهمه هنيهة من الزمن لا تقل عن نصف ساعة ولا تتجاوز الساعة من مثل كتب بلوتارك اليوناني أو(1/33)
ولتير سكوت الإنكليزي أو أناتول فرانس الفرنسي. وارتأى غيره أن المنوماث هي الأشعار وخصوصاً القصائد الكبيرة. ونحن نرى أن تلاوة شعر كثير من شعرائنا المحدثين تجلب النوم لا محالة.(1/34)
مطبوعات ومخطوطات
مداواة النفوس
لابن حزم الأندلسي تآليف كثيرة ضاع أكثرها بما لقيه من أضداده في حياته على ما يتمثل لك من ترجمته. وقد ظفر بعض رجال العلم في المكتبة الظاهرية بدمشق بنسخة من كتاب له في الأخلاق سماه مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل فانتدب إلى طبعه الغيور محمد أفندي هاشم الكتبي فكانت من بعض ما أحيي بالطبع من مآثر السلف الصالح في هذا العصر. اقتبست منه صفحات قليلة في باب الصحف المنسية وعسى أن يتدارك الناشر بعض ما وقع فيه من الأغلاط في الطبعة الثانية. جمع المؤلف في كتابه هذا معاني كثيرة أفاده إياها واهب التمييز تعالى بمرور الأيام وتعاقب الأحوال والإشراف على أحوال الزمان وآثر تقييدها على جميع اللذات وعلى الازدياد من فضول المال وذم كل ما سبر من ذلك وأتعب نفسه وأجهدها ليكون ذلك أفضل له من كنوز المال وعقد الأملاك. وكتب الأخلاق مما ينبغي الحرص عليه اليوم وما أجمل ما قاله أبو محمد علي ابن أحمد في الأخلاق:
إنما العقل أسا ... س فوقه الأخلاق سور
فحلي العقل بالع ... لم وإلا فهو نور
جاهل الأشياء أع ... مى لا يرى كيف يدور
وتمام العلم بالعد ... ل وإلا فهو زور
وزمام العدل بالج ... ود وإلا فيجور
وملاك الجود بالنج ... دة والجبن غرور
عف إن كنت غيو ... راً ما زنى قط غيور
وكمال الكل بالتق ... وى وقول الحق نور
ذي أصول الفضل عنه ... احدثت بعد النذور
ومما ختم به ابن حزم رسالته وهو مما يقتضي أن يكون دستور العمل في كل علم وعمل قوله: وإذا ورد عليك خطاب بلسان أو هجمت على كلام في كتاب فإياك تقابله مقابلة المغاضبة الباعثة على المبالغة قبل أن تتبين بطلانه ببرهان قاطع. وأيضاً فلا تقبل عليه(1/35)
إقبال المصدق به المستحسن له قبل علمك فتظلم في كلا الوجهين جميعاً ولكن إقبال من يريد حظ نفسه في فهم ما سمع ورأى فالتزيد به علماً وقبوله إن كان حسناً أو رده إن كان خطأ فمضمون لك إن فعلت ذلك الأجر الجزيل والحمد الكثير والفضل العميم.
منشآت الوهراني
كتاب مخطوط في تسعة كراريس ظفرت به في بعض خزائن الكتب ولا أريد أن أدلَّ عليه إذ ما كل ما كتب تنبغي العناية بنشره. الكتاب جد في قالب هزل وعلم على مثال جهل وحقيقة في طرز خيال، تصفحته تصفح متفكه مستفيد فما رأيته خلواً من شاردة تنقل ونكتة تؤثر. كاتبه ركن الدين أبو عبد الله محمد الوهراني الجزائري من كتبة الرسائل والإنشاء في دمشق ومصر على عهد صلاح الدين يوسف وكان كما ترجمه ابن خلكان أحد الظرفاء قدم من بلاده إلى الديار المصرية في أيام السلطان صلاح الدين وفنه الذي يمت به صناعة الإنشاء فلما دخل البلاد ورأى بها القاضي الفاضل وعماد الدين الأصبهاني الكاتب وتلك الحلبة علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم ولا تنفق سلعته مع وجودهم فعدل عن طريق الجد وسلك طريق الهزل وعمل المنامات والرسائل المشهورة به والمنسوبة إليه وفيها دلالة على خفة روحه ورقة حاشيته وكمال ظرفه. وقد تولى الوهراني الخطابة بداريا إحدى أمهات قرى الغوطة بدمشق وتوفي بها سنة 575هـ.
هذا هو المؤلف ومصنفه أنموذج يقول بأن الرقاعة ارتقت في ذاك العصر كما ارتقت البلاغة وأن الدولة الصلاحية بما اشتهر عنها من الانطلاق وانتشار المعارف اتسع صدرها لمثل الوهراني اتساعه لأمثال البيساني للتين قوم وللجميز أقوام وكلام المؤلف على خلطه وخبطه يضحك العبوس وقلما تنقبض منه النفوس إلا لدن سماع بعض الألفاظ السخيفة التي تنبو عنها الأذواق السليمة في هذا العصر. وقد رأى القارئ أمثلة من كتابته ورقاعته في باب الصحف المنسية وهذا المؤلف أشبه بموليير ورابلي من شعراء الفرنسيين في النكات والأضاحيك ولكل أمة رجالها والناس كأسنان المشط في الاستواء.
نصائح للعملة
هو كتاب ألفه بالفرنسية أحد كتاب الفرنسيين المسيو بارو توخى البحث في إيجاد السبل لتحسين حال العملة فحاز استحسان الخاصة والعامة حتى منحه المجمع العلمي الباريسي(1/36)
جائزة الإجادة وتدارسه بعض الراغبين في النهوض. وقد كتبه بعبارة بسيطة ليفهمه طبقات القراء كافة ويتدبروه كل التدبر يقصد المؤلف مما كتب طبقة العملة خاصة من الصناع والزراع ولكن مصنفه البديع يستفيد به كل طالع محكمة بل كل عامل في الأرض موعظة حسنة. فيتناول منه عملة بولاق وترع النيل وسائر مزارعي أرياف مصر مثلاً كما يتناول منه العاقل أكثر من الجاهل والخاصي فضلاً عن العامي والكبير زيادة على الصغير في كل قطر ومصر.
وقد بحث المؤلف فيما يحول دون العامل ونجاحه وسعادته من المصاعب وأن بيده التنكب عنها ووضع المبادئ التي تنتج له طريق الفلاح والسعادة وتطبيقها على أدوار العامل الثلاثة أي حالة كونه خريجاً وعاملاً مستقلاً ومدير معمل وذكر في خلال تطبيقه لهذه الحالات ما يمكن أن يحدث للعامل من الأحوال النادرة الخاصة ويلم بما عساه يكون له من هذه الأحوال من التأثير في حياته الخاصة وعلائقه مع عياله وبين الطرق التي يتقي بها العامل عادية الأمراض ويقتصد جانباً من المال الذي يحصله بعرق جبينه مشفوعاً ذلك بما هو شائع من الأوهام بشأن العملة ورفاهيتهم رفاهية متناسبة مع حالتهم لا رفاهية يتمتع بها الرؤساء والكبراء بل رفاهية نسبية تتم لهم بها رغائبهم المشروعة التي أباح الله لهم الاستمتاع بها في هذه الحياة.
وسأحصل بعض فصوله في باب التربية والتعليم لينتفع بتلاوتها بعض أهل بلادنا كما انتفع به من ألف برسمهم ووسم باسمهم.
في وادي الهموم
رواية حقيقية لا خيالية كمعظم ما ينشر هذه الأيام نسج بردها الكاتب الأديب محمد لطفي أفندي جمعة أحد منشئي جريدة الظاهر الغراء وهي تبحث في الشقاء الاجتماعي المستحوذ على بعض النساء قال: إني أعتقد بأن المرأة تصلح لأن تكون ملكاً طاهراً أو ملكة عادلة أو أماً رحيمة أو زوجاً فاضلة أو مدبرة عاقلة أو بغياً ساقطة أو مجرمة قاتلة وكل ذلك في يد الرجل فليجعلها كما يشاء. والذنب على الهيئة الاجتماعية لأنها ترى كل تلك الأمور ولا تمديدها للمرأة وتساويها بالرجل في كل شيء فإنه عار على عصر العلم والمدنية والحرية والفلسفة أن تبقى فيه المرأة تفجر لتأكل. . .(1/37)
وفي الرواية من دلائل الإقدام ما لا يستغرب ممن تعلموا العلم المدني الصحيح وتشبعوا بآداب العصر الحاضر فكان لهم من علمهم وتربيتهم ما يدفع بهم إلى قول الحق ولو أمر في بعض الأذواق. وإنا لنحمد الله على أن رأينا في الناشئة المصرية أمثال الكاتب الموما إليه ممن يضعون الهناء مواضع النقب ولا يحفلون بالفقاقيع الفارغة في خدمة العلم والأدب.(1/38)
سيرة العلم
سفينة جديدة
اخترع أحد الأمريكان باخرة تسير بمحرك كهربائي تقطع أربع عقد في الساعة ولها ست عشرة آلة دافعة تجعل في مؤخر السفينة وجناحها. وقد ثبتت صحة دعواه بالتجربة وستجتاز هذه الباخرة المسافة بين أوربا وأميركا في ثلاثة أيام بعد أن كانت تقطعها في عشرة وزيادة.
أكبر دماغ
في شبان الإنكليز اليوم شاب في الثلاثين من عمره اسمه دانا يعجب الإنكليز والأمريكان بقوة ذاكرته. وقال العلماء أن ذاكرته فريدة في العالم. وقد أكثر من إجهادها حتى صرح أهل الأخصاء بأنه لا يعمر أكثر من خمس وثلاثين سنة. ولذلك أخذ يتدارك الأمر وهو يربح في الأسبوع ثلاثة آلاف فرنك وباع دماغه بخمسين ألف فرنك قبض بعضها من أحد الباحثين ليفحص دماغه بعد موته وأوصى إذا هلك في إنكلترا أن يحزَّ رأسه للحال ويحنط ويبعث به إلى أميركا. ويقال أن دماغه يزيد نحو ثلثمائة غرام عن دماغ كوفيه الذي حاز الأولية في كبر الأدمغة.
السل في القرى
يقولون أن السل ينتشر بين سكان القرى والريف انتشاره في الأمصار والمدن وسببه الغبار والكحول وفساد المعيشة وإنهاك القوى والفحش ولا سبيل إلى تلافي ذلك الخطب إلا بأن تجعل الحكومات فئة من أطبائها يختلفون إلى الأرياف فيعزلون السقيم عن السليم ويقيمون للمسلولين مستشفيات.
دجاجة حاضنة
جرت حتى اليوم تجارب كثيرة بين أجناس الحيوانات في أمر التناسل ولكنه لم يعهد في حوادث التاريخ الطبيعي أن حضنت دجاجة أجراء (كلاباً صغيرة) فقد خطر لأحدهم في بلاد الإنكليز أن يستعيض عن البيض الذي تحضنه الدجاجة بصغار الكلاب فطاوعته الدجاجة وبذل لها ولما تحضنه من هذه الرضع عنايته كأن يسقيها بإبريق ذي زمولة (مصاصة) وغير ذلك من ضروب العناية فأفلح في تجربته.(1/39)
وقاية الكتب
لما احترقت مكتبة تورين في إيطاليا في العهد الأخير وذهب فيها من أمهات الكتب العظيمة ما طالت له حسرة العلم والعلماء قام جمهور من رجال الغرب يفكرون في إيجاد طريقة تحفظ بها ثمرات العقول ولا تسطو عليها النار ولا غيرها من الآفات. وقد وفق أحد أساتذة مدرسة كاليفورنيا الجامعة بأميركا إلى أن أنشئ بفضله في الولايات المتحدة مكتب يعمل على ضم المنحس من الصحف المخطوطة وجعل أمهات للطوابع والنقود. وسيجعل من هذه الدفاتر نسخ يتناولها العلماء والباحثون بأقل ما يمكن من الأثمان.
جزيرة مغمورة
تركت إنكلترا لألمانيا سنة 1890 جزيرة ايليكولاندا في البحر الشمالي وأخذت عوضاً عنها جزيرة زنجبار لكن تلك الجزيرة أخذت تغمرها المياه فلم يبق منها غير ربعها على ما بذل من العناية في كفّ عادية المياه عنها ولا تلبث ايليكولاندا أن تصبح في خبر كان يضمها اليمُّ إلى صدره ويدرجها في قاعه وقعره.
ولوع اليابان بالمحسوسات
ليس اليابان في ولوعهم بالمحسوسات بأقل من الصينيين إذا صحَّ الحكم على أخلاقهم من مطالعة الكتب التي تتداولها أيديهم وترغب في تصفحها نفوسهم. ففي خزانة كتب طوكيو عاصمة الإمبراطورية اليابانية قلما يطالع المختلفون إليها الروايات والقصص فقد يتداول القراء في السنة 16 في المائة من الكتب الدينية الموجودة في تلك المكتبة و21 في المائة من الكتب الرياضية وعلوم الطب و20 في المائة من كتب الأدب و18 في المائة من كتب الجغرافيا والرحلات.
أخلاق الأمريكان
نشر أحد أساتذة هارفرد الجامعة بأميركا كتاباً في علم النفس الأمريكية ذكر فيه ما أمتاز به الأمريكان على من سواهم وهو يرجع إلى أربعة فصول الإبداع والإقدام واعتبار الذات وحب الارتقاء والثقة بالنفس. وقال أن ما عرف به الأمريكي من الانطلاق قد يجعله يتغاضى عما يأتيه غيره ولذلك تجد لأهل السخف والضعف مجالاً واسعاً في أميركا وربما(1/40)
نشطوا وأخذ بأيديهم على نحو ما ترى لكل مقالة جديدة بينهم أنصاراً يقولون بها بادئ الرأي.
اكتشاف مصري
عثر العملة أثناء عمارة المرفأ الشرقي في الإسكندرية على قبر في سفح أكمة أم القبة بالقرب من البحر يرد عهده إلى زمن بعيد. وهو منحوت في الصخر وذو مدخل مساحته عشرون قدماً مربعاً يمتد منها ستة إلى داخله وعليها شيد المذبح والقبر قائم الزوايا وطوله تسع أقدام وعلوه كذلك أما أعلاه فمصور وفيه 81 أيقونة مربعة فيها صور ورسوم مجهولة في الأكثر والجدران مصورة أيضاً ومنقوشة ومعظمها إما بكرور الأيام أو بمعادل أرباب المقالع. وقد قام في أطراف الشمال الشرقي والجنوب الغربي من المدخل ناووس من صخر يشغل عرض القبر وأقيمت في طرفيه صخرتان عظيمتان جعلت إحداهما على الأخرى على شكل وسادة وهذه الصخور منقوشة كسائر ما في القبر وداخل الناووس.
تاريخ العلم
أفاض أحدهم في بعض المجلات الفرنسية في كونه أيتعذَّر وضع تاريخ للعلم. ومن رأيه أن تاريخ العلوم سيكون أولاً في دور فوضى وارتباك قبل أن ينظم سيره بنظام ثابت غير متزعزع وانه بعد الآن سيختم عصر الأمور العلمية العظيمة ويرتقي العلم على وتيرة واحدة وتلغى الأمور الاتفاقية من سبيله ويكون مجراه إلى الطبيعة أقرب.
السحر بين الصفر
حدَّث أحد الأطباء في مجلة فرنسية عن حالة السحر في الحياة الخاصة والعامة بين الصفر فقال أن أفكار الصينيين في الأرواح والقوى السحرية تشبه ما يعتقده سائر الشعوب فإن انتشرت أمثال هذه الخرافات فذلك لأن أعمال السحرة من الصينيين والأناميين تشبه أعمال سخرة الإفرنج ومشعوذيهم ولها كلها نتائج واضحة تجمعها كلمة التخريف والتضليل.
ركاز الماس
في مجلة القرن العشرين الفرنسية بحث في معادن الماس في أطراف العالم قال فيه كاتبه: يظهر أن معادن جنوبي إفريقية هي مستودع الأحجار الضخمة من الماس ولكن أجمل(1/41)
الماس ما جاء من الهند ثم من البرازيل. وهذا الفرق ناتج من اختلاف أصول الماء وفيما خلا ركاز رأس الرجاء الصالح في إفريقية يعثر على الماس مؤلفاً من انحلال الصخور المحتوية على ماس أما في إفريقية فإنه يتولد في الصخر ومنه يتراءى للعيان.
منذر الحريق
جرب المنذر الجديد الذي اخترع للإعلام بالحريق قبل وقوعه في مدينة نيويورك وأخص ما في هذا المنذر أن يمنع سوء القصد ويكشف الفاعل للحال. ولهذا المنذر علبة متى فتحت تأخذ ساعة دقاقة تدق دقاً لا ينقطع تنبه رجال المطافئ والمضخات وأماكن الإعانة ويوجد في داخلها بابان صغيران لهما ثقب تدخل فيه اليد لتنادي به وتنذر حتى إذا استصرخ من يلزم إسراعه تمسك يد معمولة من معدن الألمنيوم وحافاتها من المطاط (كاوتشوك) كفَّ ذاك الشخص المنذر وتقبض عليه كل القبض ريثما يصل رجال المطافئ ويقتضي أن يعينه أحد حتى تخلص يده ويفلت من هذا الشباك.
أعلى جسر
فيكتوريا نيانزا أعظم بحيرة في إفريقية الوسطى وثاني بحيرة في العالم وقد أنشأت جمعية إنكليزية خطاً حديداً على مصبها في نهر زامبير وأقامت عليها جسراً كان أعظم جسر في العالم علوه 140 متراً وقد بني في 90 أسبوعاً. ومما جعلته الشركة في أسفله شبكة عظيمة تتلقى من يتفق سقوطهم من العملة من حالق لينزلوا بلا خطر.
الصم البكم
أثبت أحد الفرنسيين في أن الصم البكم ليسوا صماً لا يسمعون بتة وقد بين بواسطة آلة تنقل الاهتزازات الصوتية الأساسية أن بعضهم يحسون كثيراً بالأصوات الشديدة على حين ترى في آذانهم وقراً لا يسمعون تلك الحروف الصوتية المنبعثة من أصوات حادة على عكس ما تسمع الأذن المعتادة. قال ويصعب إسماع من أصيبوا بالصمم على هذه الصورة بخلاف غيرهم ممن لا ترى فيهم هذه العوارض فإنهم يتوصلون بواسطة السماعة وبعض تمرينات يقومون بها إلى سماع الصوت البشري أحسن سماع وهذه الملاحظات تفيد في أنها تدعم ما ادعاه هلمهولتيز في نظرياته. وهلمهولتيز من علماء منافع الأعضاء من الألمان توفي سنة 1894.(1/42)
المرأة الطليانية
كتبت إحدى كاتبات الطليان وهي من أعداء المرأة الأشداء قالت: أنه لم يحدث في حال النسوة أقل ارتقاء حقيقي. وزعمت أن المرأة الطليانية ليس لها ما تأخذه عن الغريبات عن جنسها وذكرت بأنه ينبغي توفير العناية بتعليم البنات في إيطاليا وغيرها من الممالك التعليم العالي.
النوام أو مرض النوم
نشر الأميرالاي بروس الذي عهدت إليه الحكومة الإنكليزية منذ عام 1902 بالبحث عن أسباب مرض النوام ودواعي انتشاره في أواسط إفريقية كتاباً قال فيه أنه لم يبق شك بأن هذا المرض ناتج من ذباب سام يتناول السم من دم الحيوان المصاب ويعض أو يقرص من هو عرضة له من الناس وتمتص الذبابة المادة المعروفة القتالة وتبقى في معدتها إلى أن تقذف بها بواسطة خرطومها عندما تمس جزءاً من جسم الإنسان. واللدغة تكاد لا يشعر بها بادئ بدءٍ حتى أن المرء لا يشعر بها في حينها إلا بعد مدة طويلة وربما بعد أن يمضي عليها حولان أو ثلاثة فتنسد الأوعية الدموية في الدماغ وتحرم جوهره من المادة وتصاب به الغدد الليمفاوية خاصة.
علم ذلك من تجارب في هذا المعنى أجريت على القرود. وينتشر مرض النوام خاصة في أقاليم ذات بطائح على شاطئ الأنهار والبحيرات وذبابه قلما يبتعد عن مقره أكثر من مائة متر ولكنه غزير جداً بحيث أنه هلك في أوغندا من سنة 1901 إلى سنة 1904 زهاء مائة ألف نسمة من هذا المرض. قال الباحث المشار إليه وسبب هذه الزيادة الهائلة أن أهل البلاد يحاذرون اتخاذ الأسباب الصحية ولا يعتقدون بخطر تلك اللدغة القتالة التي لا يشعرون بها أولاً حتى إنك ترى سكان إقليم فيكتوريا نيانزا لا يحفلون بالذباب الذي يغطي سوقهم عندما يغتسلون. وقد جرب السليماني في مداواة هذا المرض فخفف بعض الألم وإن لم يكن فيه الشفاء التام. وأحسن طرق الوقاية منه أن يباد الذباب بإبادة الأماكن التي تنبعث منها. وهذا ما يقوم به البيض الذي يحكمون تلك البلاد. بيد أن طرق الوقاية ليست عامة بين كل الطبقات فإن السكان لا يهتمون ولا يقلقون ويجهلون الداء والدواء. فاقتضت الحال أن تستعمل الأسباب الفعالة لإكراههم على التوقي وإبعاد من يسكنون مكاناً ملوثاً بجراثيم(1/43)
المرض عمن لدغوا بدون شعور منهم مدة سنين ولكن دون الوصول إلى هذا التدبير الصحي أهوال يتعذر عدم المبالاة بها مادام الأهلون يمانعون في إجرائها كل الممانعة ولذا ما برح النوام ينتشر فيهلك من يهلك ويسلم منه بالاتفاق من يسلم.
إعارة الكتب
في إحدى المجلات الروسية أنه أُسست منذ خمس سنين خزانة كتب في بلدة نيجني نوفكرود ليطالع فيها صغار المزارعين والحفاة العراة من الفقراء المنقطعين عن الأعمال فكانت رغبة المطالعين مصروفة أولاً إلى تلاوة الصحف ويليها الروايات وكتب التقاويم والرحلات والزراعة وانه أعير في هذه الحقبة من الزمن 175 ألف عارية لم يفقد منها سوى مجلدين مما يؤيد أن للكتب من قلوب الشعب الروسي مقاماً جليلاً وإن كان بعضهم يقول بسلب أرباب الأملاك أملاكهم.
موظفو الأمريكان
نشرت إحدى الصحف الروسية بحثاً مستفيضاً في وصف الموظفين في الولايات المتحدة فقالت أنهم يبلغون مليون موظف ومنهم 117 ألف من حراس المدن يقبضون في الشهر من 60 إلى 100 دولار أي من ثلثمائة إلى خمسمائة فرنك وأن للموظفين حقوقاً في النفوذ لا تشبه حقوق أمثالهم في بعض الممالك الأوربية.
آثار ثيبة
في بعض المجلات الطليانية بحث في المكتشفات الأثرية المهمة التي عثر عليها في ثيبة تلك المكتشفات التي تساعد خاصة على توضيح الأشكال المهم في مصادر الفلسفة اليونانية المتولدة من الفلسفة المصرية.(1/44)
مقالات المجلات
المجلات الإفرنجية
المرأة الشرقية
في مجلة إنكليزية بحث في المرأة عند الأمم قالت فيه كاتبته في الجزء المختص منه بالمرأة الهندية والصينية واليابانية: أن النسوة في تلك البلاد الشرقية قد نزعن ما طالما قيده بهن الرجال من القيود وأنهن أنشأن جمعيات في ترك العادة المتبعة في بلادهن من تضييق أرجل البنات منذ ولادتهن بالأحذية الضيقة مخافة أن يغادرن بيوت أزواجهن إذا كبرن. وأن حالة النساء اليابانيات كادت تكون إلى السعادة. وللمرأة الحق في اليابان أن ترفض اقترانها مثلاً بزوج ينتخبه لها أهلها وأنها ترى أن تكون تربيتها متفقة مع تربية قرينها ومع أن الطلاق يسهل في برمانيا فقلما يتطلبه أحد الزوجين وأن للمرأة وحدها تربية ولدها والزوج طوع أمر زوجه يأخذ عنها نصائح وينتفع بما تلقيه عليه من الأحكام قالت الكاتبة: ولذلك كان نساء برمانيا أسعد النساء طراً. والمرأة في كوريا هي القوة الاقتصادية العظمى في البلاد.
نوابغ الرجال
في إحدى المجلات الإنكليزية بحث في الأجناس والأفراد رأى فيه صاحبه أن النابغة هو الذي تنجح به الطبقات على اختلاف أشكالها وارتأى أنه يحكم على جنس من أجناس البشر من صلاته مع الأفراد ولم يفصل فصلاً صريحاً بين فطرة الأفراد وفطرة المجتمع. وهذا الرأي أشبه برأي كارلايل الإنكليزي القائل بأن الأفراد هم العالم بأسره وبهم عليه يحكم.
مكتبة الإسكندرية
في إحدى المجلات الفرنسية مقالة للمسيو البرسيم أحصى فيها أعداء الكتب وعد من جملة من أحرقوا الكتب بالنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر عامله بمصر أن يحرق مكتبة الإسكندرية لما فتحت. قالت الجريدة بيد أن ما نسب إلى هذا الإمام من الأمر بإحراق خزانة الإسكندرية لا أصل له إذ لم تكن المكتبة موجودة على عهده. وعدَّ في جملة أعداء الكتب النساء لأنهن لا يشفقن عليها ويمزقن جلودها ليجعلنها صرراً أو رزماً. وسننشر(1/45)
رسالة في حريق المكتبة الإسكندرية بياناً للحقيقة التاريخية.
المجلات العربية
التمثيل العربي
الهلال - بحث في أصل التمثيل قال فيه إنه شرقي المنشأ ظهر في الهند والصين واليابان وظهر في اليونان والرومان. وأن القدماء استخدموا التمثيل لمقاصد دينية ولإخضاع الشعب وتربيته ومن رأيه أن التمثيل قبل الإسلام لم يكن اللهم إلا إذا اعتبر ما كان العرب يقومون به في الكعبة وحولها من الطواف والرقص من قبيل التمثيل. وعدّ من التمثيل الديني ما يقوم به الشيعة من تمثيل مقتل الحسين كما عدّ ما يجربه بعض أرباب الطرق من التمثيل الديني أيضاً. وقال أن أول من أدخل التمثيل بالعربية مارون النقاش من أهل بيروت سنة 1855 أدخله إلى بيروت وعمه سليم النقاش أول من مثل الروايات العربية في مصر سنة 1867.
اختلاف الشرائع وغرائبها
أنيس الجليس - نقلت بحثاً عن صحيفة إفرنجية قالت فيه: من الأحكام المستغربة حكم أصدرته إحدى مدن إنكلترا تمنع به ثقب عيدان الكبريت على حيطان المنازل في الشوارع وجعلت القصاص على من خالف ذلك غرامة وسجناً. وحرمت إحدى مقاطعات أميركا التدخين فمنعت من حمله وعدت ذلك ذنباً عظيماً وهو حكم يذكر بأحكام القرون الماضية إذ كان مدخن التبغ يجلد في إنكلترا أو سواها ويناله السجن والعذاب. ومنعت إحدى مقاطعات أميركا تعاطي الشراب في الأندية الجامعة ولم تسمح به في المنازل إلا لواحد فقط مخافة أن يشربا فيعربدا. وأصدرت إحدى شركات السكك الحديدية بأميركا أمراً بمنع التقبيل في محطاتها لأنه يضيع به الوقت فتتأخر القطارات. وفي بعض ممالك أوربا يمنع البصق في الشوارع ومن مستغرب الأحكام في أميركا حكم يقضي على كل رجل وامرأة وغلام بأن يذهب إلى الكنيسة ثلاث مرات على الأقل في الأسبوع.
علوم الدعاة
المنار - في مقالة دعوة اليابان إلى الإسلام أن الداعية ينبغي له فهم الكتاب العزيز(1/46)
والاطلاع على السنة ومعرفة ما فيها من حكم التشريع ومعرفة السيرة النبوية وتاريخ الإسلام والبصيرة في علم الاجتماع والتاريخ العام والإلمام بسائر العلوم العصرية والاطلاع على ضروب الأساليب المدنية وغير ذلك.
محمد علي الكبير
المقتطف - ما برح يكتب في تاريخ محمد علي الكبير وهو في الحقيقة بحث في تاريخ سورية ومصر في أوائل القرن الماضي وجل اعتماد كاتبه على تاريخ الجبرتي وتاريخ مشاقة وكلاهما ثقة. وما أحلى اعتراف مشاقة بأنه كان يساعد إبراهيم باشا وخصومه معاً على حسب طاقته واعتذر عن نفسه بأن خدمة إنكلترا واجبة عليه لأنه من مأموريها.
شواذ الخلق
الضياء - شواذ الحلق هو كل ما شذ عن المألوف في نوعه بزيادة أو نقص في أعضائه أو اختلاف في بعض أشكاله أو تخاذل في خلقته وهو أن لا يكون بعض أعضائه مناسباً لبعض غرابةٍ في منظره بأن يتجاوز الحد في الضخامة أو الدمامة. قسمها بعضهم إلى أربعة أنواع الشذوذ البسيط وهو ما كان في عضو واحد أو جهاز واحد أو حالة واحدة من أحوال التركيب والشذوذ المركب وهو ما يتناول عدة أعضاء من الجسم ولكنه لا يمنع شيئاً من الوظائف والشذوذ المتداخل وهو في الغالب يرى من الظاهر ويكون باجتماع أعضاء الجنسين أو بعض مميزاتهما في شخص واحد والشذوذ بحده وهو ما يشوه الأشكال الظاهرة إلى ما يخالف شكل بقية النوع وهو في الغالب يؤثر على وظائف الأعضاء بحيث تتعذر الحياة في خارج جوف الأم.(1/47)
نفاضة الجراب
أسعار الأشعار
قال الوهراني لبعض أصحابه وقد فارقه من الشام إلى مصر: فاجتمع يوماً ببعض المعارف الراسخين في المعارف، فسأله عن أسعار الأشعار فأخبره عنها بالكساد، والفساد، وعن أهلها بالحراف، والانحراف، وقال: كل كلام مسجوع، لا يسمن ولا يغني من جوع، وصاحب القصيد، كالباسط ذراعيه بالوصيد، وما عند الأمراء، أخسُّ من ذقون الشعراء، فلو بشر أحدهم بشار وهنأه ابن هانئ، وقصده أبو العلاء، ونزل به صريع الدلاء، ومدحه الدؤلي بداليته، والطائي بطائيته، والوأواء بواويته، لما أجازوه على ذلك بجوزة، ولا أثابوه بثوب خليع، ورد أمس الذاهب أهون عليه من أخذ ذهبه، وخلع الأكتاف أهون من خلعه، وحنوط الغاسل أقرب من حنطته، والشعرى أقرب من قرطه، والتبن مثل التبر.
الشاعر والشعير
كتب سبط ابن التعاويذي - الشاعر المطبوع الذي يقول فيه ابن خلكان أنه لم يكن قبله بمائتي سنة من يضاهيه في جودة الشعر ورقة المعاني ودقتها (553) - إلى عضد الدين أبي الفرج محمد بن المظفر وهو من أبناء مواليه يطلب منه شعيراً لفرسه.
مولاي يا من له أياد ... ليس إلى عدها سبيل
ومن إذا قلت العطايا ... فجوده وافر جزيل
إليه إن جارت الليالي ... نأوي وفي ظله نقيل
إن كميتي العتيق سناً ... له حديث معي طويل
كان شرائي له فضولاً ... فاعجب لما يجلب الفضول
ظننته حاملاً لرحلي ... فخاب ظني به الجميل
ولم أخل للشقاء أني ... لثقل أعبائه حمول
فإن أكن عالياً عليه ... فهو على كاهلي ثقيل
ازحل كالبوم ليس فيه ... خير كثير ولا قليل
ليس له مخبر حميد ... ولا له منظر جميل
وهو حرون وفيه بطئ ... ولا جواد ولا ذلول(1/48)
لا كفل معجب لراءٍ ... إذا رآه ولا تليل
مقصر إن مشى ولكن ... إن حضر الأكل مستطيل
يعجبه التبن والشعير ال ... مغسول والقت والقصيل
إذا رأى عكرشا رأيت الل ... عاب من شدقه يسيل
وليس فيه من المعاني ... شيء سوى أنه أكول
فهب له اليوم ما تسنى ... وهبه من بعض ما تنييل
ولا تقل إن ذا قليل ... فالجل في عينه جليل(1/49)
العدد 2 - بتاريخ: 26 - 3 - 1906(/)
صدور المشارقة والمغاربة
كارلايل
ولد سنة 1795م وتوفي سنة 1881
هو أحد فلاسفة القرن الماضي في بلاد الإنكليز وأوحد رجال القلم وأرباب التاريخ منهم. كان أهله من صغار المزارعين فبعثوا به إلى كلية ادمبرغ المشهورة فامتاز فيها بالرياضيات وبذَّ فيها أترابه ولما أتم سني الدراسة عين معلماً في إحدى المدارس إلا أن صناعة التعليم لم ترقه فاقتصد شيئاً من الدراهم يستعين بها على درس الحقوق واللاهوت في الكلية المشار إليها. ثم تخلى عنهما وأخذ بأهداب الآداب والانكباب على خدمتها. وكان يقول إن الآداب هي البيعة الوحيدة التي تحشر في حجرها جماعة المؤمنين في القرون الحديثة. ويعني بذلك تشبيه الكاتب بواعظ يبشر بأفكاره ويبثها في كل مكان وزمان.
أخذ كارلايل يؤازر من أول أمره في إنشاء إحدى الموسوعات وينشر المباحث النافعة في بعض المجلات ويدرس الألمانية وآدابها وقد نقل عنها شيئاً إلى الإنكليزية ثم اضطر إلى معاودة صناعة التعليم قياماً بأود عياله. وكان في خلال ذلك ترجم شعر شيلر الألماني فلم يحز قبول العلماء وأهل الأدب.
تزوج كارلايل بفتاة ايكوسية عرفت بعقلها وجمالها بيد أنها كانت تشكو كل الشكوى من سكوته وأثرته. ولم يكن زواج العالم سعيداً لضيق ذات اليد وعموم الحاجة وأشياء داخلية هو الأصل فيها. ولقد كتب سنة 1835 أن الأدب لم يأته بفلس منذ ثلاثة وعشرين شهراً ومع هذا كان من الثبات والانكماش آية الآيات، وغاية الغايات. وفي تلك السنة أتم الجزء الأول من كتابه الثورة الفرنسية وبعث بمسودته إلى ستوارت ميل الكاتب المشهور ينظر فيها فما هو إلا أن جاءه كتاب منه يقول فيه: إن خادمة له خرقاء ألقت بكتابه إلى النار فأصبح رماداً تذروه الرياح. فكاد كارلايل يجن بهذا النبأ حتى أنه ظل ثلاثة أيام لم يأكل ولم يشرب وطاش عقله حتى هام على وجهه في الفلاة وبقي ثلاثة أشهر لا يعي على شيء إلا ما كان من تصفحه بعض الروايات على سبيل الفكاهة. ثم عاود كتابة ما سلف له في هذا الموضوع معزياً نفسه بقوله: لعل الأقدار أرادت أن تعاملني في كتابي كما يعامل الأستاذ تلميذه إذا فرض عليه فرضاً ولم يجد فيه فيقول: عد إلى كتابته ثانية لأنه لا يصلح.(2/1)
ولما أتم موضوعه كان الطابعون يخطبون ما كتب من كل صوب وارب يريد كل منهم أن يستأثر بما كانوا لا يرتاحون إلى النظر فيه منذ سنين لقلة شهرة صاحبه.
وكتب المترجم به مقالات في انتقاد المجتمع الإنكليزي تحزب في بعضها للألمان. وكان بعد عودته إلى لندن يخطب في الأدب والتاريخ ويقيم الحفلات لذلك. ونقد ما حصل من ارتقاء التمدن المزعوم وصنف عدة كتب منها تاريخ فردريك الثاني الألماني وفيه يدرس تلامذة المدارس الجندية الألمانية تاريخ فردريك. ويقول أميرسون الفيلسوف الأميركاني أن كتابه هذا هو أبدع ما كتب من الأسفار التي تشف عن عقل وفضل.
أبدع كارلايل في كتابة التاريخ على طريقة حديثة على عكس سائر الكتاب فهو يضم شتاته على نسق مقدمات العلوم وطريقته أن يعول على من ساعدتهم العناية الربانية فكانوا خيرة قومهم وخاصة بني جلدتهم. ومن رأيه أن لكل عصر مزاياه وأهواؤه وحاجاته ومفاسده تتجسد في بطل من الأبطال. وأن للرجال الحق وحدهم أن يحكموا العالم ويصرفوه تحت أمرهم. فللقائد كرومفل ونابليون أن يكونا وحدهما مثال الرجولية الحقيقية. قال وإن كل مجتمع يرأسه ضعاف العقول ينتهي بالانحلال. وعلى هذا الفكر بنى طريقته في الفلسفة التاريخية - هذه زبدة ما ورد في دائرة المعارف الفرنسية الكبرى وغيرها في ترجمة هذا الرجل العظيم.(2/2)
الصحافة العربية
مضت نحو ثمانية عقود من السنين منذ أنشئت أول صحيفة عربية أنشأها محمد علي الكبير في هذه العاصمة وسماها الوقائع المصرية وأنشأ رفاعة الطهطاوي أول مجلة علمية سماها روضة المدارس. دامت الوقائع إلى اليوم وانقطع نشر الثانية بعد أن صدرت أربع عشرة سنة. وما لبثت الصحافة أن ولدت ونمت في أرض سورية ثم انتقلت إلى مصر في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ودبت فيها ودرجت. فكأن الله خص مصر بأن تزكو تحت سمائها الأعمال العلمية كما تزكو تربتها بالأعمال الزراعية.
وما برحت الآمال معقودة بأن تبلغ الصحافة عما قليل أشدها ورشدها لتضاهي صحافة الأمم الراقية في موضوعاتها وتأثيراتها إذ أن العقلاء يذهبون إلى أن صحافتنا مازالت حالها على ما انتهت إليه غير متناسبة مع عمرها الطويل. والمعمر في الأعم من حالاته يشتد ساعده وزنده وتقوى ملكة عقله وعلمه بكثرة تجاربه وأسباب رويته. ولا خير في أمة لا يقوم بشؤونها شيوخ تفاخر بأعمالهم مفاخرتها بعقولهم وطول أعمارهم.
لا جرم أن تخلف الصحافة عن بلوغ مراقي الفلاح الحقيقي لأول أمرها ناجم عن كونها نشأت وسط أمة لا تعترف بالعلم إلا لرؤساء الأديان وهؤلاء لا يعدون من العلم في شيء إلا ما بحث في الأخرويات أو الزهديات أو الجدليات. وبين ظهراني أدباء يزعمون أن الأدب عبارة عما ألفوه من مد إطناب الإطناب في إطراء الكبراء والأسخياء وأرباب المظاهر والاغتراف من بحر المديح بالطويل العريض. وبين كتاب لا يعتقدون الكتابة إلا فيما اصطلحوا عليه من كتابة الصكوك والعقود والمواثيق. وبين عظماء موقنين بأن رؤساء الدين والعلم والأدب اتباع لهم. هكذا كان العلم والأدب في دور الصحافة الأول. ولا يفوتك العلم بأن من تنبهوا لها كانوا يشاكلون قومهم بعض المشاكلة في أدبهم وأخلاقهم لأنهم أبناء ذاك الوسط الذي هم بعض أفراده وسلالة تلك الطينة الشرقية التي جبلت بيد الضعة وصهرت بقطران المسكنة. ويعلم الباحثون في عقول الفصائل البشرية أن الشرقي ذكي مفطور على حب التقليد خصوصاً إذا تهيأت له الأسباب فقد نجد المصري أو السوري يتعلم شيئاً من لغات الغربيين فلا يعتم أن يقلدهم في مناحيهم وأطوارهم أما من ذهب إلى بلادهم ودخل مدارسهم فإنه يكون مثلهم إلا القليل. غير أن تقليدنا الغربيين في صحافتهم قد أبطأ وكان من حقه أن يتقدم كل تقليد. ذلك أن المجلات الدورية على ما في أكثرها من(2/3)
المحاسن والفوائد لا يزال بعضها يعرف بالتقليد ويكتب بلسان التقية على أن العالم لا دين له ولا نزعة. أما الجرائد السياسية فتكاد تكون نمطاً واحداً في إنشائها وأخبارها. ناهيك بما في بعضها من التضارب في الآراء والمذاهب. ولو خلت من هذه الشائبة وكان لها مواد وافرة تستعيض بها عن تجسيم الأخبار وبناء قبة من حبة لكان فيها خير ذخر ينفع العقول ويقودها إلى مهيع السداد وجواد الأسعار. وليس العلم كالسياسة في مسائل المغالطة والسفسطة فإن جوزهما فريق في السياسة حباً بالمصلحة فإنهما لا يسوغان في العلم بحال من الأحوال.
يعيب المغاربة على المشارقة تقلبهم في مآربهم وحركاتهم. وهذا التقلب محسوس في بعض جرائدنا فإنها كدوارة الهواء في الأفكار تنتسب اليوم إلى حزب وتستميت في الدفاع عنه حتى إذا لم تصادف من ورائه مغنماً أو تؤنس من أهله فتوراً تنقلب عليه وتنسى اليوم ما ذكرته أمس. وليس معنى هذا أني لا أقول بالأحزاب فإن الاختلاف بين الناس ضروري على شريطة أن يخلص صاحب المبدأ في أقواله وأفعاله ويعتقد صحته ويتفانى في نصرته دون أن يغمط حق خصمه ويغض منه. وحبذا لو طرحت مسائل التشيع للأحزاب جانباً واشتغل أرباب الجرائد السياسية في بث أدب وفضيلة وتأييد كلمة حق نافعة. وما التحزب للأحزاب لو أنصفنا إلا ضربٌ من ضروب الخراب وكل بيت ينشق على نفسه يخرب. وما أشبه بأهل البصيرة أن يخففوا من هذه النغمة فقد ضربوا على وترها أعواماً والحال ما استحالت، والأقوال ما نجعت، بلى ازدادت النفوس اشمئزازاً والصدور إيغاراً. ومن سوء طالع هذه البلاد أن معظم بنيها لا يرون الأمور بل لا يريدون أن يرونها إلا من جهة واحدة.
ومن الغريب دعوى بعضهم في أن غير هذه البضاعة في العلم والسياسة لا تنفق في سوق الأمة لأنها ما فتئت في الجهالة غارقة والصحيح أن التاجر الماهر يصرف ضروب السلع في معرض بضاعته إذا أجاد مصنوعاته وأحسن بياعاته. ألا ترى إلى رواج أنواع من الصحف ما كان يحلم برواجها. تهيأ لها الرواج عندما صحت عزائم القائمين بها وأخلصوا القصد في نشرها ولا يضر العمل الصالح إذا تصدى بعض ضعاف العقول إلى التزهيد في خطته فما قط اجتمعت كلمة العامة والخاصة على استحسان شيء وكذلك لا يضر الصحف(2/4)
ويحول دون انتشارها وما يوعز به بعض أنصار التقليد في العلم إلى اليوم من الرغبة عن مطالعتها لأنها مفسدة منقصة فإن أمثال هؤلاء المثبطين عن كل جديد نافع هم الحلمة الطفيلية في العمران، وكل من حال دون أسباب العلم والعرفان، هو العضو المؤوف في جسم الإنسان.
زار صديق لي من كتاب الصحف منذ سنين رجلاً ذا شهرة طائلة موسوماً بشعار العلم في إحدى المدن الكبرى وله من التلامذة والمريدين صنوف فعرفه إليه بعضهم وقال له: هذا فلان منشئ الجريدة الفلانية. فقال وما هي الجريدة. فأنشأوا يشرحونها له حتى فهمها ولكن بعد أن بحّ صوت الشارح في شرحه لمحدثه عن معنى الجريدة وهو يستغرب وجود شيء في العالم يعرف بهذا الاسم. فانقلب صاحبنا من لدن ذاك الرجل مغرباً في الضحك متعجباً من أناس في مثل هذا العصر جاهلين بأحوال العالم إلى هذا الحد بعيدين عن حوادث الأيام. وعندي أن أمثال هذا الرجل لا يفيد الصحف تنشيطه وتثبيطه. والمعارف اليوم كسيل جارف تودي بمن لا يجاري الدهر ويمشي مع الأيام والجامدون كثار في كل جيل وقبيل وليسوا هم المطالبين برواج بضاعة القلم أو المقصودين بالنفع من المكتوب. ولئن يهدي الله بهذا صعلوكاً صغيراً خير من إضاعة الوقت في ممارسة شيوخ الجمود وكهوله وشبانه.
وكلما تأملت الصحف وآراء طبقات الناس فيها استنتج أن من توفروا على نشرها أول النهضة كان معظمهم من العامة الذين لا يحبون من الجرائد غير ما تأتي به من الربح المادي وبعبارة أخرى كانوا تجاراً لا أصحاب دعوة إلى إصلاح أو إرادة في بث علم وفضيلة، وسماسرة أقوال، لا صيارفة عقول، وجهابذة جربذة لا جهابذة أفعال. دع عنك سيد الصحفيين في الدور الأول أحمد فارس الشدياق صاحب الجوائب في الأستانة فإنه أحسن الاضطلاع بوظيفة الصحافي وتمت على يده حسنات كثيرة من خدمة اللغة والأدب والعلم والسياسة لأن غرضه لم يكن مادياً محضاً. وأن ما نراه اليوم من ارتقاء بعض الصحف السياسية فالفضل له فيه لأنه واضع أساسها الحقيقي وما نراه من انحطاط بعضها فمنشأوه أولئك العامة الذين أنشأوا الجرائد في الدور الأول وغرضهم الدنيا من أي الطرق أتت وما نشهده من ارتقاء بعض المجلات فمصدره رفاعة الطهطاوي في مجلته روضة المدارس(2/5)
وما منزلة رفاعة في العلم بخافية على دارس تاريخ النهضة العلمية في هذه الديار.
ولقد قامت بعد ذاك العهد مئات من الصحف الإخبارية والعلمية ثم سقطت وانتشرت ثم انتثرت شأن كل نهضة في أولها خصوصاً في بلاد يغلب على أهلها القول حتى إذا حقت كلمة الفعل تضاءلت نفوسها أبنائها وأعوزهم الثبات والصبر. وما عهد في تاريخ الحياة الاجتماعية أن عملاً نجح فيه صاحبه دون التشبث بأهداب عامة أسباب النجاح وتهيئة المعدات الضرورية من علم وعمل ومال ورجال اللهم إلا في الشرق فإن معظم من ينجحون فبالاتفاق هذا وقد نفعت الصحف على قلة نصرائها في تنوير العقول وتحسين ملكة المنثور والمنظوم فانتقل زمرة من العامة بإدمان مطالعتها من طور العامية إلى طور العالمية. ولكم كانت الجرائد والمجلات باعثة على تعلق بعضهم بالمطالعة حتى صارت لهم عادة وجبلة وفتحت لهم طريق البحث والدرس. وسقياً ليوم تتأصل فيه الحرية الحقيقية في أخلاق الأمة فتذكر المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. ورعياً لعهد نرى فيه لقادة الأفكار من تعليمهم الحر ما يلتزمون به القصد فلا إلى تفريط ينهجون ولا في الإفراط يسترسلون. وقد خطب حاكم الهند منذ مدة متخرجي المدرسة الجامعة بكلكتا فقال أن المبالغة من شأن جرائد تلك البلاد فهلا خطب فينا من يحسن وصف جرائدنا هذه. وبعد فهذا رأي مولع بالصحف على اختلاف ضروبها منذ صغره بل خاطر صحافي خدم الصحافة سنين كثيرة صرح به على جليته غير مدالس ولا مؤالس والله يعلم وأنتم لا تعلمون.(2/6)
تأثير الآداب
للآداب معان كثيرة فمعناها اللغوي حسن الأخلاق وفعل المكارم وأطلقه المولدون في الإسلام على علوم العربية وأعني به هنا المنظوم والمنثور من الكلام ومنزلته من الفصاحة والبلاغة ليفعل في الأرواح فعل الراح. ولكل أمة أدب بحسب اصطلاحها ورسوم لغتها يطرب به عامتها فضلاً عن خاصتها وتثار به الأحقاد وتحرك الحفائظ وتدعى به إلى سبل السلام والوئام ويدلها على مواقع السداد والسؤدد ويذكرها بأيامها وأيام النازلين بقربها والقاصين عنها وهو على الجملة مسبر للوقوف على الحاضر والغابر ومهماز يدفع إلى العمل بعد القول ومثار كل فضيلة رافعة ومنار كل نجح عاجل أو آجل.
لابد في كل نهضة دينية كانت أو مدنية أن تتقدمها الآداب ويتفانى أبناؤها في حبها شهد بذلك تاريخ الأمم جمعاء. ألا ترى أن أديب القبيلة في الجاهلية كان يتدفق من لسانه معين البلاغة فتفعل كلماته في قبيلته يعقد بها سلمها ويشهر حربها ويعدد مفاخرها ومآثرها ويدون تاريخها وأيامها وإن سوق الأدب عند العرب لما نفقت وكثر تغاليهم في نقلها وإنشادها وأصبحت بينهم للبلاغة دولة، ولجوامع الكلم تأثير وصولة، نزل القرآن فأدهش بإعجازه البلغاء، وأسكت ببيانه مصاقع الخطباء، وتأدب رجال الخطابة والكتابة بآدابه وتبيانه فزاد تأثير الشعراء والخطباء أكثر من ذي قبل حتى كان أهل الحكم يحاذرون فلتات ألسنهم فيوسعون لهم من برهم ما يقطعونها به.
ولما أخذت الآداب موقعها من النفوس ونالت حظها من العناية ونضجت ثمرتها حتى كادت تذبل عرف العرب أن كيانهم لا يقوم بالآداب وحدها وسلطتهم لا تأمن البوائق ببنات الأفكار وإن دور الأقوال انقضى حكمه وجاءت النوبة للأفعال ونضبت مادة البيان ومست الحاجة إلى البرهان فأنشأوا إذ ذاك يتوفرون على الأخذ من كل علم يزيد في سعادتهم ويضمن لهم الراحة الدنيوية كما ضمن لهم الدين الراحة الأخروية وكان من أمر علوم الأمم وتناقلها بين ظهرانيهم ما كان من حسن الأثر وخدمة الحضارة والغضارة.
وهكذا لو بحثت في تاريخ كل أمة لألفيت الآداب روادها، إلى مسالك إسعادها، وقوادها، إلى ذرى رقيها وإصعادها، كان هذا شأن الفرس واليونان والرومان في القرون الماضية بل وشأن الترك والعرب في القرون الحديثة فإنهم لم ينبغ لهم في التاريخ والسياسة وفنون الحرب والطبيعة والرياضة والفلسفة رجال أحرياء بالاعتبار بالنسبة لمحيطهم وأسبابهم(2/7)
حتى نبغ بينهم أهل آداب أمثال منال وضيا وناجي والأبياري والفاروقي والأسير والأحدب واليازجي وكرامة والجندي والهلالي ومراش والشدياق والبربير وأمثالهم ممن بيضوا الصحف بما سودوه في القرطاس من رائع آدابهم وفيض قرائحهم وخفة أرواحهم.
وقر زعماء الأدب في الصدور بما نفثوه من صدرهم أكثر من العلماء والمفننين بما خدموا به العلم والمدنية من نتاج عقولهم المستنيرة وما ذاك والله أعلم إلا لأن الأدباء يكتبون للعامة والخاصة معاً أما العلماء فيكتبون للخاصة فقط. وشأنهم في هذا شأن أهل العلم والاختراع مع أرباب الأموال في الغرب لعهدنا فإن الأول يتعبون في الإبداع فلا يتمتعون بغير جزء طفيف من أعمالهم الشاقة الطويلة ويجيء أرباب المال فيجنون الثمرة غضة يانعة.
قال بلونشلي الألماني في كتابه السياسة ما تعريبه: للآداب في أفكار الطبقة المنورة تأثير أعظم من تأثير العلم إذ أن لجمال الشكل والصورة وقعاً كبيراً في النفس أكثر من العلوم التي هي في الغالب قضايا غثة باردة وأن كتب شكسبير وولتير سكوت معروفة أكثر من كتب باكون ونيوتن وأن التمدن الفرنسي ينسب إلى راسين ومولير أو فولتير أكثر منه إلى بوفون ولابلاس ودوبين. وإن كيتي وشيلر قد نورا وحمسا طبقات أكبر من التي نورها كانت والإخوان هومبولد وليسنغ قد أثرا بروايتهما في ناتان أكثر من روايات لاوكون.
قال لي أحد ساسة الألمان يوم زار الإمبراطور غليوم الثاني بلاد الشام أندري لم أحب مليكنا السلطان صلاح الدين يوسف حتى قصد دمشق لزيارة ضريحه وفاخر بأنه بات في مدينة عاش فيها من كان أعظم أبطال العصور السالفة قلت لا علم لي بذلك قال لأنه قرأ في صباه رواية وأظنه قال لشاعرنا شيلر تضمنت سيرة صلاح الدين ووقائعه فأشرب قلبه حبه وراح ما لقنه في العاشرة يبرز أثراً من آثاره وهو في الأربعين.
قلت وهذا ملك عظيم في الحديث أثر فيه شاعر أمته أحسن تأثير على أنه الأدب يلطف الشعور ويحسن العواطف ولقد كان جد هذا الإمبراطور فريدريك الكبير لما عزم على إنهاض أمته من كبوتها يوعز إلى الشعراء بواسطة بعض وزرائه أن ينظموا قصائد حماسة ترقق الإحساس وتكبر النفوس وتدعوها إلى المعالي فكانت هذه القصائد سبباً في إنهاض ألمانيا ووحدتها على ما قيل.(2/8)
وإليك مثالاً من تأثير الآداب في القديم قال معاوية بن أبي سفيان اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر آدابكم فإن فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم فلقد رأيتني يوم الهزيمة وقد عزمت على الفرار فما ردني إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لا دفع عن مآثر صالحات ... واحمي بعد عن عرض صحيح(2/9)
البشر والشعوب
معرب عن الفرنسية
علم خصوصيات الشعوب - يعمر الأرض ناس قلما يتشابهون، يختلفون بالطول وهيئة الأعضاء والرأس وسيماء الوجه ولون العيون والشعور ويتباينون باللغات والذكاء والإحساس. وبهذا التمايز ينقسم سكان المعمور إلى عدة أقوام تدعى أجناساً. فالجنس مجموع ناس يتماثلون ويباينون جنساً آخر وما يمتاز به جنس عن غيره من العلامات العامة ويسمى طبائع وأخلاقاً هو الذي يتألف منه مجموع خواصه. فيعرف الجنس الزنجي مثلاً بجلد أسود، وشعور مجعدة، وأسنان بيضاء، وأنف أفطس، وشفاه خنس، وفك ضخم. ويدعى درس أحوال الأجناس وما يتشعب عنها ايتنوغرافيا أي علم خصوصيات الشعوب. وهو علم لم يرتق بعد لحداثة وضعه وما برح مشوشاً منتشراً لكثرة مجموع خواص البشر وصعوبة التمييز بينها أحياناً.
الأجناس - أخص الأجناس الجنس الأبيض وهو يسكن أوربا وشمالي إفريقية وغربي آسيا. والجنس الأصفر ينزل في آسيا الشرقية ومنه الصينيون والمغول والترك والمجر. ومن دخل أوربا منهم من الفاتحين فبشرته صفراء وعيونه خرز مقطبة ووجناته ناتئة ولحيته خفيفة. والجنس الأسود يقطن أواسط إفريقية وهم الممتازون بأديم أسود وأنف أفطس ووفرة كالصوف. والجنس الأحمر يستوطن أميركا ومنهم هنود القارة حمر الأديم سبط الشعور.
الشعوب المتحضرة - يُعدُّ أهل الجنس الأبيض من المتحضرين إلا قليلاً أما سائر الأجناس فقد زلوا على حالة الهمجية والبربرية كما كان الناس قبل زمن التاريخ. قامت الشعوب المتمدنة على تخوم قارتي آسيا وإفريقية فقام المصريون في وادي النيل والكلدان في سهل الفرات. وكلهم أهل فلح وحرث ألفوا الإقامة وجنحوا للسلم. أديمهم مشبع، وشعرهم قصير أثيث، وشفاههم مبرطمة، ولا يعلم على التحقيق من أين منبعثهم. ولم تتفق آراء العلماء على تسميتهم فيدعونهم تارة كوشيين وأخرى شاميين. وقد انسالت من جبال آسيا بين القرن العشرين والخامس والعشرين ق. م عصابات من الرعاة أهل غارة وزعماء فتنة فانتشروا في أطراف أوربا كافة وفي غرب آسيا. ويقسمهم العلماء إلى قسمين آريين وساميين.(2/10)
الآريون والساميون - ليس بين هذين الجنسين من علامة خارجية جلية فكلاهما من الجنس الأبيض: اهليلجية سحناتهم، متناسبة أعضاؤهم، صافية جلودهم، أثيثة شعورهم، نُجل عيونهم، رقيقة شفاههم، منتصبة أرنبتهم، وهم في الأصل رعاةٌ من سكان الجبال يألفون الارتحال والقتال. ساميّهم من أرمينية، وآريّهم من وراء جبال حملايا وهم يمتازون بالعقل واللسان خاصة امتيازهم بالديانة قديماً. وقد وقع الاتفاق على تسمية الشعوب التي تتكلم لغة آرية بالآريين وهم الهنود والفرس في آسيا. والروم والطليان والأسبان والجرمان والسكنداويون والسلافيون (الروس والبولونيون والصرب) والسلت في أوربا. والساميون هم الشعوب التي تتكلم لغة سامية وهم العرب واليهود والسوريون ومما ينبغي أن يعلم أن بعض الشعوب تتكلم لغة آرية أو سامية وليست من الآريين والساميين في شيء كما أن الزنجي قد يتكلم الإنكليزية وليس فيه عرق من الإنكليز. وربما عددنا كثيراً من الأوربيين في مصاف الآريين وليست أصولهم في الواقع إلا من جنس غلب عليه الآريون فاقتبس لغاتهم على نحو ما اقتبس الفرس لغة العرب أيام غلبوهم على أمرهم. فهذان الاسمان الآري والسامي يطلقان اليوم على فريقين من الشعوب وليسا جنسين حقيقيين. ولا بأس أن يقال بناء على هذا المعنى أن الشعوب المرتقية كانت كلها سامية وآرية فنشأ من الساميين الفينيقيون رجال البحار واليهود رجال الدين والعرب رجال الحرب فسار فريق من الآريين إلى الهند وانصرف آخر إلى أوربا فنشأت منهم تلك الأمم التي كانت ولا تزال في مقدمة العالم. ولقد امتاز الهنود في القديم بآرائهم العالية الفلسفية أو الدينية واليونان بإيجاد الصنائع والعلم والفرس والرومان بتأسيسهم في الشرق والغرب مملكتين عظيمتين من أضخم الممالك التي نشأت في الأيام الخالية.
ويبدأ تاريخ الحضارة بالمصريين والكلدانيين حتى إذا كان القرن الخامس والعشرون للميلاد يصير عبارة عن تاريخ الشعوب الآرية والسامية.(2/11)
التاريخ
الأساطير - نقلت أساطير الأولين عن روايات متسلسلة طالما تحدث الناس بها قبل أن يدونوها لذلك تراها مشوبة بحكايات وخرافات. فتحدث اليونان أن أقدم أبطالهم أبادوا الغيلان وقاتلوا الجبابرة وكافحوا الآلهة وزعم الرومان أن روملس ربته ذئبة ورفع إلى السماء وقص جماع الشعوب عن طفوليتهم أساطير من هذا القبيل لا ثقة بها عند التمحيص مهما قدم عهدها.
التاريخ - يبدأ التاريخ حقيقة لدن وجود أخبار صحيحة دونها أهل ثقة وعلو سماع. وليس هذا الدور واحداً في الكلام على الأمم كلها فتاريخ مصر يبدأ قبل ثلاثة آلاف سنة ق. م وتاريخ اليونان يكاد لا يتعدى الثمانمائة سنة ق. م وليس لألمانيا تاريخ يعرف إلا في القرن الأول للميلاد ويعرف تاريخ روسيا منذ القرن العاشر وليس لبعض القبائل المتوحشة إلى اليوم تاريخ في نشأتها.
تقاسيم التاريخ الكبيرة - يبدأ تاريخ الحضارة بأقدم شعب متمدن وينتهي بأيامنا فمعنى القرون الماضية الدور العريق في القدم جداً ومعنى القرون الحديثة الدور الذي نحن فيه.
التاريخ القديم - يبدأ التاريخ القديم بالأمم القديمة المعروفة من المصريين والكلدانيين أي من نحو ثلاثة آلاف سنة ق. م ويعم شعوب الشرق من هنود وفرس وفينيقيين ويهود ويونان ورومان وينتهي حوالي القرن الخامس ب. م بسقوط المملكة الرومانية.
التاريخ الحديث - يبدأ التاريخ الحديث بأواخر القرن الخامس عشر زمان اختراع الطباعة واكتشاف أميركا وبلاد الهند ونهضة العلوم والصنائع ويلمُّ بذكر شعوب الغرب خاصة من أسبان وطليان وفرنسيين وألمان وروس وأمريكان.
القرون الوسطى - هي عبارة عن عشرة قرون مضت بين القرون القديمة والحديثة فلا هي قديمة لما اعتور الحضارة القديمة من الاضمحلال ولا هي حديثة لأن التمدن الحديث لم يتكون بعد. وهذا ما يدعى بالجيل المتوسط.
مصادر تاريخ الحضارة القديمة - ليس في الوجود اليوم آشوريون ولا يونان ولا رومان فقد بادت الشعوب القديمة كافة وما خلفوه من العاديات هي فهرست نستفتيه للبحث عن أديانهم وأخلاقهم وصنائعهم. والعاديات هي الكتب والرسوم والآثار واللغات. هذه عدتنا في دراسة الحضارة القديمة وهي تدعى مصادر لأنا نستقي منها معلوماتنا. والتاريخ القديم(2/12)
يتفرع من هذه الأصول.
الكتب - وضع القدماء الكتب أيام عرفوا الكتابة فكان لبعضهم مثل الفرس واليهود والهنود كتب مقدسة وخلف الرومان واليونان تواريخ وقصائد وخطباً ومقالات فلسفية. وقلما نجد في الكتب المواد اللازمة لمباحثنا إذ ليس لدينا كتاب آشوري ولا فينيقي أما ما بقي من أسفار الشعوب الأخرى فتافه جداً. ولقد كان القدماء يكتبون ولكن أقل منا ولذلك كانت تآليفهم أندر ولم يكن لهم من كل مصنف إلا نسخ قليلة لما أن الحال كانت تقضي باستنساخها كلها باليد وقد دثر غالب هذه النسخ أو ضاع أو تعذرت قراءة ما بقي منه ويسمى علم حلها باليوغرافيا أي علم الخطوط والكتابات القديمة.
المعاهد - أقامت الشعوب القديمة لأنفسها معاهد مثلنا من مثل معابد لأربابها وقصور لملوكها وقبور لموتاها وقلاع وجسور وقنوات وأقواس نصر. ولقد تهدم كثير من هذه المعاهد واستؤصل وتجزأ بيد العدو أو بيد سكان البلاد ومنها ما لم تقوَ الغير على تقويض دعائمه وما فتئت ماثلة للعيان متداعية مثل القصور العتيقة لانقطاع الأيدي عن تعدها. وقد بقيت بقية يعلم منها ما كانت عليه سالفاً. ومازال بعض هذه المعاهد فوق التراب كالأهرام في مصر ومعابد ثيبة وجزيرة فيلا وقصور البرسبوليس في فارس والبارتينون في اليونان والكوليزة في رومية والبيت المربع وجسر الحرس في فرنسا. وإن السائح لعهدنا لينظر إلى هذه الآثار نظره لأثر حديث. وقد ردم أغلب هذه المعاهد على التدريج بتراب أو رمل أو فتاة أرضية وأنقاض فينبغي تخليصها من هذا الساف الكثيف أو حفر أرضها وكثيراً ما تكون عميقة للغاية. ولم يعثر على القصور الآشورية إلا بخرق آكام وتلال. وقد حفرت حفرة عمقها اثنا عشر متراً للوصول إلى قبور ملوك ميسينا.
وبعد فإن عفاء هذه الخرائب لم يكن بصنع الدهر وحده فللبشر اليد الطولى في ذلك. ولم يكن القدماء ليتعبون مثلنا في التقدير والقياس لإقامة البناء. وما عنوا بنزع الردم من أماكنه بل كانوا يركمون الأنقاض ويبنون عليها ولا ينزعونها حتى إذا أشرف البناء الجديد على السقوط تنضم أنقاضه إلى أطلال أخواتها القديمة وهكذا تتألف طبقات عديدة من الأنقاض. وقد جاز أحد السياح المدعو شيلمان بحفرة في مكان مدينة طروادة خمس طبقات من الأطلال إذ كان ثمة خمس مدن خربة كلها وأعتقها على عمق خمسة عشر متراً. وما برحوا(2/13)
يعثرون في رومية في الأحايين على ثلاث بنايات منضدة بعضها فوق بعض وقد تراكمت عليها الأطلال فعلا التراب في سفح التلال بضعة أمتار.
بقيت مدينة برمتها لم تمسسها طوارق الحدثان وذلك بحادث طبيعي جرى عام 79 للمسيح وهو أن بركان فيزوف في إيطاليا قذف سيلاً من الحمم مائعة أمطرت رماداً فانكشفت للحال مدينتان رومانيتان كانتا مدفونتين وهما هيركولانوم وبومبيه. وكانت الأولى تحت الحمم السائلة والثانية تحت الرماد. وقد أحرقت الحمم المتاع وغشاها الرماد وحفظها من الهواء فبقيت سالمة. وكلما أزيح الرماد تظهر مدينة بومبيه للأعين على نحو ما كانت عليه منذ ثمانية عشر قرناً. وإنك لترى في بلاطها بعد مجرات العجلات وآثار سير المركبات وصوراً خطت بالفحم في الحيطان ونقشاً وأثاثاً وماعوناً وخبزاً وجوزاً وزيتوناً في الدور والمساكن وهياكل عظام من دهمتهم الكارثة مبعثرة مبددة. وبهذا عرف القارئ أن الآثار والمعاهد تفيدنا كثيراً في الوقوف على حالة الشعوب القديمة. ويدعى علم الأزمنة القديمة أركيولوجيا.
الرسوم - نعني بالرسوم كل ما يشمل الخطوط عدا الكتب فمعظم الرسوم زبرت على الحجر وحفر بعضها في صفائح من القلز ووجد منها في مدينة بومبيه ما زبر على الجدران بالأصباغ أو بالفحم. وأن بعض هذه الرسوم لتمثل تذكارات وقائع أو رجال كما هو جار الآن عند الإفرنج فيما يقيمونه من تماثيلهم وبناياتهم. وهكذا نرى الإمبراطور أغسطس دوَّن حياته على معهد انسير ومعظم هذه الرسوم عبارة عن كتابات زبرت على القبور ويماثل بعضها الإعلانات لعهدنا فتحتوي على قانون أو نظام تراد إذاعته بين القوم. ويدعى علم الرسوم ابيكرافيا.
اللغات - تفيد اللغات التي نطقت بها الشعوب القديمة في بيان تاريخهم فإذا فهم الباحث كلمات من لغتين مختلفتين ينجلي له أحياناً أن أصل هذين اللسانين واحد ويسجل بأن الشعوب التي تتكلم بها خرجت من نبعة واحدة. ويدعى علم اللغات لينكستيك.
النواقص - لا يذهبن ذاهب إلى أن الكتب والمعاهد والأطلال واللغات تكفي للإحاطة بتاريخ القرون السالفة فإن فيها تفاصيل جمة يمكن الاستغناء عنها وما ترغب نفوس الباحثين في استبطان حقيقته قد يعز عليها ويفر منها. وما برح العلماء يحفرون ويحلون(2/14)
ويظفرون كل يوم بأطلال ومعاهد لم تعرف من قبل وقد بقيت مع هذا نواقص وسيبقى كذلك أبد الدهر.(2/15)
الأمية في الغرب
ليس لدينا ما يركن إليه من الإحصاءات في نسبة عدد الأميين في بلاد الغرب إلى المتعلمين من أبنائهم إذ أن إحصاء اليوم قد لا ينطبق عليه إحصاء غدٍ. والذي علم بالتحقيق أن الممالك الأوربية الصغرى كالدانمرك والبلجيك وهولندا واسوج ونروج وسويسرا هي أكثر أهل أوربا انغماساً في التعليم وأقل أهلها أميين حتى أن عدد هؤلاء بالنسبة إلى المتعلمين يكاد لا يذكر ويكفي أنه لا يوجد في سويسرا غير شخص واحد أمي في كل ألفين من السكان ذكورهم وإناثهم.
ولئن كان التعليم إجبارياً في بعض الممالك الكبرى بأوربا وأميركا فلا يزال عدد الأميين يذكر فيها وفرنسا هي في مقدمة الدول العظمى بقلة أمييها وكثرة متعلميها ومنوريها. وجميع الدول شاعرة بوجوب التعليم تتفنن كل يوم في بثه على أساليب لم يكن يحلم بها اليونان والرومان ولا العرب ولا غيرهم من الأمم العظيمة التي كان لها شأن في بعض أزمان التاريخ. وقد ارتقت المدارك في الغرب حتى أصبح ما كان يدعو إليه خاصته في أوائل القرن الماضي قضية مسلمة عند الخاصة والعامة في أوائل هذا القرن وصار عليه الفتوى والعمل. كل ذلك بفضل أهل العلم منهم وعلى حسب سنة الترقي قال: بنتام ذهب بعض قادة الأمم إلى أن انتشار المعارف مضر وظنوا بأن قيمة الناس تعلو بمقدار نقصهم في المعارف وأنه كلما نقصت معارفهم غابت عنهم معرفة الأشياء التي تبعثهم على الضرر أو علمهم بوسائل فعله. وهو غلط فإن انتشار المعارف ما كان ولن يكون سبباً في ازدياد الجرائم ولا مسهلاً لارتكابها ولكنه نوع الطرق في اقترافها فاستعملت وسائل أقل ضرراً من التي كانت قبلها. لنفرض أن الأشرار يستفيدون من كل أمر وأنه بقدر معارفهم يسهل عليهم الضرر فهل نتيجة ذلك بقاء الناس جميعاً في ظلمات الجهل ولو كان خيار الناس وشرارهم منقسمين إلى نوعين ممتازين كالأمة البيضاء والأمة السوداء لقصرنا المعارف على الأولى وأبقينا الثانية في الجهل لكن تعذر ذلك وملازمة الخير للشر في الشخص الواحد تدعونا إلى القول بجعل الكل تحت نظام واحد فإما جهل مطبق للجميع وإما علم للجميع ولا وسط بينهما.
على أن الدواء في الضرر نفسه لأن المعارف لا تساعد الأشرار على شرورهم إلا إذا اختصوا بها لكن إذا عمت سهل على غيرهم أن يعرفوا حبائلهم فيسقط تأثيرها. ألا ترى أن(2/16)
الأمم في أزمان الجهل ما كانت تعرف من السميات إلا ما تسقي به أسنة رماحها ولكن الأمم المتمدنة عرفت جميع أنواع السميات وعرفت أيضاً كيف تقابلها بما يدفع ضررها. كل إنسان يمكنه أن يفعل جريمة ما وذو المعارف وحده هو الذي يتمكن من وضع قانون لمنعها وكلما قصرت معارف المرء صار ميالاً إلى فصل منفعته عن منافع الغير وكلما ارتفعت مداركه وسمت معارفه علم الجامعة بين المنفعتين.
وبعد فإن من نالوا غايتهم حقيقة بجعل أممهم في حضيض الجهل إنما نالوها بنشر الأوهام وإذاعة الأغلاط فيهم ولقد كان أولئك الرؤساء أنفسهم طعمة في هذه السياسة الحرجة إذ صارت الأمم التي استمرت في السقوط تحظر قوانينها عليها أن تصعد في مراقي التقدم فريسة الأمم التي ارتقت معارفها فارتفعت قيمتها عليها. لأن الأولى شبت في الجهل وشابت في الطفولية تحت قيادة قوم أطالوا زمان خمولها ظناً بأنه يسهل عليهم تملكها لذلك سهلت تلك الأمم فتح أبوابها للطالبين إذ لا فرق عندها بين حاكمها والجديد فهي خاضعة وأولئك يحكمون.
هذا ما قاله المتشرع الإنكليزي وقال روبرتسون: كان الإفرنج في القرون الوسطى أميين لا يقرؤون ولا يكتبون فكان الأعيان لا يحسنون توقيع الكتب الصادرة عنهم فيكتفون برسم الصليب عليها بدلاً من التوقيع وقد شوهد كثير منها في الأزمنة الأخيرة بعضها صادر عن الملوك وبعضها عن الأعيان كما ذكر دوكنج بل وجد في القرن الرابع عشر أن أعظم أكابر عصرهم وقوادهم مثل دوغسقلين رئيس الجيوش الفرنسية أمياً. وكان معظم القديسين أرباب المناصب الدينية والدنيوية لا يحسنون كتابة أسمائهم على المقررات في المجالس وكان أعظم امتحان يجري على من يروم أن يتقلد وظيفة سؤاله عما إذا كان يحسن قراءة الإنجيل والمكاتبات ويفسر معناها كلمة كلمة.
ولطالما كان الملك الفريد الأكبر يشكو من أنه لا يوجد في البلاد الواقعة بين نهري هومبير والتايمس أحد من القديسين يفهم الدعوات القديسية بلغتها الأصلية ويتمكن من ترجمة العبارات السهلة من اللاتينية. وسبب ذلك ندرة الكتب وعدم انتشارها وذلك أن الرومانيين كانوا يكتبون كتبهم على جلود مصقولة أو على رق قشر البردي ويقال له أيضاً ورق النيل لأنه كان يأتي إليهم من مصر ولما كان ورق البردي أرخص كان استعماله عندهم أكثر من(2/17)
الجلود. وبعد أن فتح المسلمون بلاد مصر انقطعت الصلات بين أهل مصر وأهل إيطاليا وغيرهم عن أمم أوربا فاضطر الناس أن يكتبوا جميع الكتب على الجلود فأصبحت نادرة. وقد مضت القرون على أوربا والكتابة والكتب نادرة عزيزة في كل أقطارها حتى أن لويز الحادي عشر لما استعار من جمعية الطب البشري بباريس مؤلفات الفخر الرازي أحد فلاسفة المسلمين اضطر أن يرهن مقداراً جسيماً من أعلاقه.
وقصارى القول فقد أصبح الأوربيون بعد أن كان علماء الشرع والتاريخ منهم ينادون بما ينادون به على نحو ما تقدم آنفاً يعلمون اليوم ابن الزارع والتاجر والعامل والعالم والموظف ما لا غنية له عنه في هذه الحياة الدنيا من الكتابة والقراءة والحساب ومبادئ الجغرافية والتاريخ والشريعة البسيطة. وفي فرنسا مثلاً يتعلم الجميع إلا أنه ينقطع ناس تفردوا بالذكاء ومن كان أهلهم في سعة من العيش يستطيعون معها الإنفاق على أولادهم يدرسون الدروس العالية كالطب والصيدلة والمحاماة والهندسة والعلم والأدب وخدمة الحكومة بيد أن علماء الفرنسيين يشكون اليوم - وأي أمة لا تشكو من حالها حباً بالازدياد من الارتقاء - من المتعلمين على هذا النمط وأنهم فائضون عن الحاجة وينادي علماؤهم بأنهم لو ألغوا درس اليونانية واللاتينية القديمتين وكفوا بنيهم مؤونة ترجمة سوفقلس وفيرجيل وأنهم لو استعاضوا عنها بأن ذهبوا مثلاً إلى المستعمرات وزرعوا قصب السكر وباروا الألمان والإنكليز في الشؤون الاقتصادية لكان أنفع لهم وأجدى على مجتمعهم.
يقولون أن شهادة العالمية (بكالوريا) التي سماها أحد ظرفاء الفرنسيين جلد حمار قد أخرتهم عن اللحاق بالأمم وقد غشي على بصائر بعض العقلاء منهم فصاروا لا يرون الفضل والعقل إلا فيمن درس هذه الدراسة إلا أن أهل النقد منهم يقولون أن من أسس معملاً توفرت فيه الأعمال وجرت على أتمها وكثرت فيه الاختراعات والتفنن وتاجراً أسس بيتاً تجارياً نجح فيه ليس في نظر المجتمع الإنساني دون ذاك العالم الذي يحمل شهادته في العلم والأدب بل هو فوقه. وما صح منذ نحو ثلاثين سنة للفرنسيين لا يصح لهم أن يتعاطوه اليوم والحياة الاجتماعية في تبدل مستمر والحضارة تصير من يوم إلى يوم حضارة صناعية علمية. وقد قال جول سيمون أحد فلاسفة الفرنسيين ينبغي أن نكون أبناء أحرياء بهذا العصر كما قال العرب خلقوا أولادكم بغير أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير(2/18)
زمانكم.(2/19)
الغناء المصري
الغناء صوت النفس وهو في كل أمة صورة آدابها وأخلاقها وعاداتها فبينا ترى الوحشيَّ في مفازة تمشي الرياح بها حيرى مولهة وهو يتغنى بذكر الشمس والماء والشراب والعربيَّ تحت القبة الزرقاء يتغنى بذكر البدر والليل والخيل إذا أنت بالحضري وهو آمن في سربه مطمئن في عقر داره لا يخشى زئير الأسد ولا يتطلب الغيث وقد احتفت به الغواني والغيد، والجواري والعبيد، وهو يرتع في خمائل البساتين، يتجرع كؤوس الهناء، ويتغنى بذكر الجمال، والتيه والدلال، والرقيب والعذال، والعتاب والوصال، وترى الجنديَّ يتغنى بذكر الحروب، ويترنم بأغاني الوغى، ويطرب لوقع السيوف على السيوف، كما يطرب الحضري لوقع الصنوج على الصنوج، أو لدق الأنامل على الأوتار والدفوف.
والغناء قديم وجد مع النفس لأن الإنسان ما لبث لما أخذه بصره جمال هذه الكائنات وجلال ذلك الخلق البديع أن تحركت عواطف نفسه فحركت عقيرته بأصوات الغناء. ولقد بلغ الغناء العربي شأواً بعيداً فلم يكد يستقر الملك لبني العباس حتى قربوا أهل الشعر وأرباب الغناء. فكانت مجالسه عندهم تفاخر مجالس الحكمة والشعر. وكان للغناء بلابل تغرد فتطرب، وتشدو فترقص. أقام الرشيد ببغداد قصراً على ضفاف دجلة فكان إذا أرقته الهموم يقصد ذلك القصر ويدعو إليه إبراهيم الموصلي ويضاء ذلك القصر البديع ويهب نسيم الليل حاملاً عطر الأزهار فيندفع المغني يحرك الأوتار فترقص الأسماك في أمواه دجلة طرباً وتشاركه البلابل في التغريد. ومن لنا بمجلس من مجالس الأنس بالأندلس وقد ضربت علينا قبة من البلور ينحدر الماء من جانبيها وحولنا الخرد العين وبيننا مائة القد تضم إلى صدرها ابن الطرب وهو يئن من لمس أصابعها تارة ويتأوه آهة المتيم المعمود طوراً وهي تنشد:
ما لذَّ لي شرب راح على رياض الأقاح لولا هضيم الوشاح
إذا أسى في الصباح أو في الأصيل أضحى يقول
ما للشمول لطمت خدي وللشمال
هبت فمال غصن اعتدال ضمه بردي
مما أباد القلوبا يمشي لنا مستريباً يا لحظه رد ثوباً
ويا لماه الشنيا برد غليل صب عليل(2/20)
لا يستميل فيه عن عهدي ولا يزال
في كل حال يرجو الوصال وهو في الصد
وإعجاب الناس في مصر بالغناء شديد وليس هذا الإعجاب لجمال في الشعر الذي يتغنى به ولكنه لبراعة المغني في التوقيع وحذقه في الضرب على الأوتار فإنه لا يلبث أحدهم أن يرفع صوته حتى تخال أنه يدق على صنج فؤادك أو ينقر على أوتار قلبك.
وأهل مصر وغيرهم في الطرب بغنائهم سواء لأنه لا تزال فيه روح الغناء القديم الذي كان يتغنى به الكهنة في الهياكل والمعابد ولا يبعد أن تكون تلك الأنغام أقرب الأنغام إلى النفس وأدناها من الجنان.
ولقد يسأم المصري غناء الإفرنج وهم يرفعون أصواتهم حتى تكاد تبلغ عنان السماء ثم يخفضونها حتى توشك أن تكون أخفى من دبيب النمل وهم بين هذا وذاك يلبسونها ثوب الرقة والخشونة فتكون وسطاً بين الصياح والنهيق. ولكنه لا يسأم الغناء المصري وهو يرفل في حلل تلك الأنغام البديعة التي تأخذ بمجامع القلوب وتستهوي الأفئدة قبل الأسماع.
وليس المصريون أمة حرب فيتغنون بالشعر الحماسي الذي يستفز النفوس ويهيج العواطف ويحرك الشجاعة الكامنة في الأفئدة ولسنا أمة بحارة فنتغنى بذكر الصرصر العاتية والبرق الخاطف والرعد القاصف والرياح العواصف ولسنا أمة عاملة نتغنى بذكر البخار والكهرباء والنار والماء بل نحن أمة مكسال آمنة مخلدة إلى الراحة خيراتها كثيرة وأمواهها غزيرة، نساؤنا طرب، وحياتنا لهو ولعب فلم لا نتغنى منشدين
يعيش ويعشق قلبي ... رق الدلال والتيه
سلطان زمانه حبي ... يأمر وينهى فيه
القاهرة
محمد لطفي جمعة(2/21)
فتيان يؤلفون
تناقلت الصحف الدورية في الغرب هذه الأيام رأياً للمسيو إميل فاغي من رجال العلم في فرنسا وأحد الأعضاء الأربعين في المجمع العلمي الباريسي قال فيه: أنه لا ينبغي للكاتب أن ينشر ما كتب لينفع به الناس قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره وما هو قبل هذا السن إلا معلم نفسه وممرن قلمه. وقد أذكرني هذا الرأي بأن في أمتنا من نبغوا قبل بلوغهم تلك المدة المعينة وأفادوا واستفادوا من ثمرات عقولهم. ولا يحضرني الآن من أهل الغرب إلا اسم الشاعرين الإنكليزيين كيت وشيلي اللذين قضيا في نحو الثلاثين من عمرهما وقد راق شعرهما كثيراً من الناقدين.
أما في الشرق العربي فقد توفي ابن المقفع صاحب كليلة ودمنة وغيره من الكتب الممتعة وهو في السادسة والثلاثين. وتوفي سيبويه وهو لم يتجاوز الأربعين وقد برز في النحو حتى كان من لا يحفظ كتابه لا يعد بشيء في علم الإعراب. وفي مثل هذا السن توفي بديع الزمان الهمذاني صاحب الرسائل والمقامات البديعة. ولم يستكمل ابن سينا ثماني عشرة سنة من عمره إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها التي عاناها من أصول الدين والأدب والطبيعي والرياضي والطب وعلم الأوائل ومات في الثالثة والخمسين وقد فاق الأوائل والأواخر. وابتدأ الشريف الرضي يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل. وألف ابن سبعين كتاب بدء المعارف وهو ابن خمس عشر سنة. واقرأ ابن الأعلم النحو قبل أن يلتحي. وكتب سليمان ابن وهب للمأمون وهو ابن أربع عشرة سنة ثم لايتاخ ثم لاشناس ثم ولي الوزارة. وقال السلامي الشاعر الشعر وهو ابن عشر سنين وأول شيء قاله وهو في المكتب
بدائع الحسن فيه مفترقه ... وأعين الناس فيه متفقه
سهام ألحاظه مفوقة ... فكل من رام لحظه رشقه
قد كتب الحسن فوق وجنته ... هذا مليح وحق من خلقه
واستظهر الوزير أبو القاسم المغربي من أهل القرن الرابع القرآن العزيز والكتب المجردة في النحو واللغة ونحو خمسة عشر ألف بيت من مختار الشعر القديم ونظم الشعر وتصرف في النثر وبلغ من الحظ ما يقصر عنه نظراؤه من حساب المواليد والجبر والمقابلة إلى ما يستقل بدونه الكاتب وذلك كله قبل استكماله أربع عشرة سنة واختصر كتاب إصلاح(2/22)
المنطق فتناهى في اختصاره وأوفى على جميع فوائده حتى لم يفته شيء من ألفاظه وكان ذلك قبل أن يستكمل سبع عشرة سنة.
ونظم الوزير إسماعيل بن حبيب النظم الفاتق والنثر الرائق قال في. . .: وأبو جعفر بن الأبار هو الذي صقل مرآته، وأقام قناته، وأطلعه شهاباً ثاقباً، يرسلك به إلى فنون الآداب طريقاً لا حباً، وله كتاب سماه بالبديع في فصل الربيع جمع فيه أشعار أهل الأندلس خاصة أعرب فيه عن أدب غزير، وحظ من الأدب موفور، وتوفي وهو ابن اثنين وعشرين سنة واستوزره داهية الفتنة ورحى المحنة قاضي اشبيلية عباد جد المعتمد ولم يزل يصغي إلى مقاله ويرضى بفعاله وهو ما جاوز العشرين إذ ذاك وأكثر نظمه ونثره في الأزاهر وذلك يدل على رقة نفسه.
هذا ومن يستقر التاريخ يجد أمثلة كثيرة للنوابغ قبل السن الذي ضربه الكاتب الفرنسي على أن النفع إذا لم يحصل ممن بلغ الرشد فأحر به أن لا يحصل أصلاً وحصول النفع الحقيقي من ثمرات أعمال الكاتب قد لا يكون في الثلاثين ولا في الأربعين من عمره ولذلك قيل
إذا بلغ الفتى عشرين عاماً ... ولم يفخر فليس له افتخار(2/23)
الجنون بالكتب
الغالب أن عشاق الكتب كعشاق الجمال أو هم أضل سبيلاً، فتراهم هائمين خاملين لا يعون على شيء في الأرض ولا يحفلون بعظائم الأمور فضلاً عن صغارها، يحملون الكتب روحهم وراحهم وريحانهم، بل فروضهم ونوافلهم وأحاديثهم وأشغالهم. وكل شيء إذا جاوز الحد انقلب إلى الضد. وكذلك الحال بعاشق الأسفار فربما جوَّز لنفسه السرقة ولكن سرقة الكتب بل وربما أفتى بحل ذلك لمن يستفتيه. ولقد قرأت فصلاً لأحد كتاب الفرنجة فآثرت تلخيصه كما يلي: أقر أحد عشاق الكتب يوماً في إنكلترا عن نفسه واسمه ديبدن (1776_1847) أنه همّ يوماً أن يسرق وحمد لله على أن خلا بنفسه في خزانة كتب ستراسبورغ ولم تحدثه نفسه بسرقة كتاب منها. وكان خطر على بال رجلين في إنكلترا أن يطبعا لأنفسهما خاصة كتاباً يكون آية في طبعه ووضعه وصوره وورقه وتجليده ولم يطبعا منه غير نسختين. فما كان إلا كلا ولا حتى حدثت أحدهما نفسه بأن يذهب لي دار صاحبه ويستأثر دونه بالنسخة فيسرق بعض صورها حتى تكون نسخته هي التي يرجع إليها فراح في غياب صاحبه إلى زوجه وطلب إليها أن تريه النسخة لغرض بدا له فدفعتها إليه وجعل يقلبها مهتماً بأمرها ثم استغفلها فمزق بعض صور الكتاب وجعلها في جيبه وانصرف فلما عاد صاحبه ارتاب في مجيء صاحبه وقلب أوراق الكتاب فرأى ما فعله فرفع عليه قضية حكمت له فيها جمعية الكتب بألفي جنيه تعويضاً.
وقد راودت أحد هؤلاء الغلاة يوماً نفسه أن يحرق مكتبته بعد أن زار مكتبة الدوك دومال ابن لويز فيليب أحد ملوك فرنسا المتوفى سنة 1897 إذ مزق الحسد والطمع والغيرة أحشاء ذاك الرجل. بيد أن العريق في محبة الكتب الحقيقي هو محب الآداب أيضاً وعضد المعارف فيغتبط إذا ظفر غيره بكتب لم يسعده الحظ بمثلها ويأمل أن يكون من ورائها مغنم كبير للمطالعين والدارسين.
ومن غرائب هؤلاء العشاق غليوم بودي (1467 - 1540) قال إنه اغتنم الفرصة يوم عرسه فمر بكتبه قبل أن يبني بعرسه ومع هذا رزق بنين وبنات وهو الذي يروى عنه أن خادمه جاءه يوماً وهو يلهث فقال أن لسان اللهيب أخذ يندلع على البيت وكان أمام كتبه بالطبع فأجابه قل لزوجي وهلا تعرف أنني لا أتداخل في أمور المنزل.
وأغرب من هذا ما أجراه أدرين تورنيب من مشاهير اليونان وأحد فلاسفة القرن السادس(2/24)
عشر (1512 - 1565) فإنه نسي يوم عرسه الذي يقضى عليه بأن يجتمع في يومه بالناس. وكذلك كان أمر فردريك مورل لجون من علماء فرنسا المشتغلين وكان يبحث في أخبار ليبانيوس السفسطائي اليوناني فجاءه رسول يقول له أن زوجته تريد أن تكلمه بضع كلمات وكان يحبها حباً جماً فقال له دعني الآن انظر هاتين الكلمتين لكن المهلة التي طلبها طالت واسبطرت فبعثت إليه برسول آخر قال له إن زوجتك كادت تفارق الحياة فحوقل وامتدح منها وردد بعض مآثرها وسيرتها الصالحة وعاد يغوص في بحر كتبه.
ومات القس كوجي (1697 - 1767) حزناً لأنه أكره على بيع كتبه. ويروى مثل ذلك عن سكاليجر العالم الطلياني المتوفى سنة 1558 وباترو الفقيه الفرنسي المتوفى سنة 1681 فقد قال الأول إن رمت أن تصاب بأعظم خطوب الأرض فبع كتبك تلق الشقاء ومن رام أن يجمع على رأسه ضروب البلايا صفقة واحدة فما عليه إلا أن يبيعه كتبه. ورأى يعقوب غوبيل (1564) من مشاهير فرنسا مكتبته نهب أيدي الضياع والسلب في فتنة عصابات الكاثوليك فمات يائساً بائساً. وحزن العالم الكتبي كولنه دورافل الفرنسي حزناً ولا حزن يعقوب على يوسف لما رأى كتب الأبرشية تطفو على نهر السين وكان يقدر قيمتها حق قدرها لأنه رتبها وبوبها.
واضطرت الحاجة اللغويَّ برونك من ستراسبورغ (1729 - 1803) أن يبيع جانباً من مكتبته واشتد حزنه عليها حتى كان إذا ذكر أمامه مؤلف اقتناه وباعه في جملة ما أباعه تنحدر عبراته على خديه طوعاً كرهاً. واضطر الأمير كاميراتا في القرن التاسع عشر أن يبيع أسفاره في المزاد العلني ولم تكد توزع على مبتاعيها حتى انتحر بيده وقال بيدي لا بيد عمرو. ويقرب من ذلك ما فعله الكونت لابيدويير فإنه توهم أن كتبه أتعبته فباعها فما هو إلا يوم وليلة حتى عاد يشتريها ثانية بكل مرتخص وغال فأشبه في حاله ولداً مبذراً غادر بيت أبيه.
وحدث أن أحد الأميركيين المستر بريان وهب إحدى المكاتب مجاميع نفيسة من روايات نادرة فلم تمض أيام حتى عاد إلى قيم المكتبة يطلب إليه أن يرى كتبه فأخذ يحدق بها ويصوب في جلودها ويصعد فظن القيم أن صاحبه ينوي أن يسترجع ما وهب ولكن راح المسكين فانتحر بعد يومين وعزَّ عليه أن يفعل فعلته قبل أن يودع محبوباته قديماً ويرعى(2/25)
لهن ذمامهن. ومات المركيز شالابر في القرن التاسع عشر قانطاً مخفقاً لكونه لم يتمكن من ابتياع نسخة من التوراة ثمينة. قيل إنه كان في محفظة جعلت في جلدها أوراق مالية بأربعين ألف فرنك فعثر عليها الكتبي لما اشتراها من صاحبتها فأعادها إليها. وقضى بيترارك (1304_1374) في مجلسه ولما استبطأه أصحابه أطلوا عليه فوجدوه ميتاً والكتاب في حجره. وكذلك مات الصحافي ارمندبرتين (1801_1854) مدير جريدة الديبا وكان له مجاميع من أجمل القنيات والكنوز ذكروا أنه مات بين كتبه عقيب وفاة حليلته فوجدوه ماسكاً بكتاب كانت هي تحبه في حياتها فجاء الموت وهو على هذه الحال.
ومات المؤلف يعقوب برونه (1780_1867) وهو على كرسيه وبين كتبه بعد أن عمر طويلاً ولا شغل له غير الدرس والتبحر. وقضى الجماعة موبللي منذ نحو نصف قرن وكانت مكتبته تساوي مائة ألف فرنك ولم يوجد عنده من الدراهم ما يكفي نفقات دفنه. ومن عشاق الكتب من سقطوا عن سلالم مكاتبهم فقضوا نحبهم ومنهم اييرت (1791_1834) من غلاة الكتب في درسد والمركيز مورانت (1808_1868) الإسباني وروفر وغيرهم. والمؤرخ الكاتب تيودور مومسان الألماني (1817_1903) ذهب إلى خزانة كتبه ذات يوم والشمعة بيده فسرى لهيبها إلى لحيته البيضاء وقضى بعد شهر متأثراً.
وأعجوبة المولعين بالأسفار انطون ماكليابيشي (1633_1714) من مدينة فلورنسا فقد خدم لأول أمره في دكان فاكهانية وأخذ ينظر في الأوراق التي تصر بها الفاكهة فوقع في نفسه أن يتعلم القراءة فاتصل بكتبي ولم يعدم من يدرسه ويعلمه وكان ذا ذاكرة قوية ما حفظ شيئاً ونسيه وحفظ من أسماء الكتب ومظانها حتى أصبح عبارة عن مكتبة سيارة ثم اتصل بالغراندوق كوسم الثالث وجعله قيماً على كتبه ولم تكن هذه الكتب لتشفي مطامعه بل أخذ يطالع فهارس المكاتب الأوربية مطبوعها ومخطوطها ويسأل كبار العلماء السياح عن نوادرها حتى صار يعرف كل دقيق وجليل من أحوال الكتب وكانت له طريقة غريبة في المطالعة فإذا أخذ كتاباً لم يكن طالعه من قبل ينظر في اسمه وفهرسته ومقدمته وتقدمته ويتصفح أوائل فصوله وبعد دقائق يقول لك رأيه في موضوع الكتاب والمصادر التي أخذ منها مؤلفه ولا ينسى ذلك على الدهر. ولم تكن له عناية بهندامه ونظام معيشته بل كان في ليله ونهاره مستغرقاً في أسفاره لا يخرج إلا إلى مكتبته. وكان أعلى بيته وأسفله ومدخله(2/26)
وحجره ونوافذه كلها ملأى بالكتب. وهو غريب في خموله حتى كان يأكل في الغالب بيضاً وخبزاً وماء - والخبز والماء أكل العلماء كما قيل - ولطالما سرق له خدامه وخدام جيرانه دراهم من خزانة بقربه كان يضع فيها البيض والدراهم معاً وقد أراده البابا والملك أن يتمثل بين أيديهما فتجاهل ما أمرا به وعاش على كسله إحدى وثمانين سنة وأوصى بمكتبته لبلده وكانت تبلغ ثلاثين ألف مجلد وجعل لها مورداً تعيش به ومازالت معروفة به إلى الآن.(2/27)
الميت الحي
تكاد عيوني تقرأ الغيب في الدجى ... وتسمع أذني فيه ما تضمر النمل
وما أنا من قوم تهون نفوسهم ... عليهم إذا خانتهم الصحب والأهل
فلي من مضائي رفقة وعشيرة ... فلا سيد ينأى ولا صاحب يسلو
فيا حظ لا تسعد ويا خل لا تزر ... ويا دهر لا تعدل ويا عيش لا تحل
فما هاجني سخط ولا كفني رضا ... ولا ساءني ظلم زلا سرني عدل
وما قتلتني الحادثات وإنما ... حياة الفتى في غير موطنه قتل
وما أبقت الدنيا لنا من جسومنا ... على بأسنا ما يستقيم به الظل
ولولا اختلاف الناس ما قال قائل ... عجبت لفرع لا يشاكله أصل
فهل أرشدت تلك النمال إلى الحجى ... وهل أرضعت بالشهد في كورها النمل
يحار الفتى في عيشه ومماته ... فأولها جهل وآخرها جهل
وقلت وقد سألني (حافظ إبراهيم) لِمَ لم تتزوج
يا خليلاً وأنت خير خليل ... لا تلم راهباً بغير دليل
أنا ليل وكل حسناء شمس ... فاجتماعي بها من المستحيل
القاهرة
محمد إمام العبد(2/28)
سيئات القرن الماضي
التسمم بالتبغ هو أيضاً من الجراحات الاجتماعية التي صيرها هذا العصر نغارة. فالتبغ هو ذاك المسلي الذي يستعمله الجندي والملاح والزارع والصانع والعامل والعالم. يدفع ببعضهم إلى العمل ويسكن في بعضهم شيئاً من انفعالات النفس. ومن العجيب أن الأوربي الذي ذهب إلى أميركا يبث نور المدينة في عقول برابرتها قد أسفَّ إلى الأخذ عنهم فاقتبس منهم عادة التدخين مع علمه أنهم دونه في الذكاء والعلم. فقد نقل الإسبانيون سنة 1560 عادة التبغ من المكسيك إلى لشبونة ومنها انتقلت إلى الديار الأوربية فأولعت النفوس بها. حتى إنه ليصرف على التدخين وما يلحقه من الثقاب (الكبريت) والعلب والغلايين والورق والأنابيب مبالغ جسيمة لو صرفت في تطهير المدن الكبرى وترقية المعارف العمومية وإنشاء دور لعجزة العملة لأتت المجتمع الإنساني بفوائد لا تقدر ولئن كان الضرر المشاهد من التدخين أقل من ضرر المسكر فإن مما لا يختلف فيه اثنان أن إدمان التدخين يحدث اضطرابات في القلب وضعفاً في البصر قلما تشفى إلا بالإقلاع عن هذه العادة السيئة.
والأمراض الزهرية إحدى رذائل هذا القرن فإنها هاجمت طبقات المجتمع كله من الفتى اليافع إلى الشيخ الهرم ومن مرضع سليمة إلى طفل ورث عدواه من أبيه وأمه فهواشد فتكاً في إفساد الجنس البشري من عامة الأوبئة التي انتابت المجتمع في أدوار الحقب. ومادام الجهاد في الحياة يتزايد كل آن وطرق العيش تتصعب فإن أسباب الزواج الشرعي تقل ويقل الراغبون فيه بل ومادامت الخدمة العسكرية لا مناص منها في سن مخصوصة من أيام الشباب فإن من العبث منع أسباب الفجور ليضرب دون هذا المرض الوبيل بأسداد منيعة.
وزاد انتشار السل الرئوي في الخمسين سنة الأخيرة فأصيبت به طبقات الناس على اختلافهم في البلاد المتمدنة وقد شوهد أنه يفعل في الغالب بالجند في ثكنهم والعاملين في معاملهم والسجناء في حبوسهم لأن الاختلاط الشديد هو من أهم أسباب انتقال العدوى والمصابون بالسل هم بين العشرين والخمسة والعشرين من عامة الوفيات في سائر الأمراض ويصيب الشبان والشيوخ غالباً. ومما يساعد على كثرة فتكه ماعدا انتقاله بالوراثة سوء العناية بالصحة كما هو المشاهد في البلاد الكبيرة فإن الأقدام تزدحم في الأحياء الضيقة والبيوت المظلمة التي لا تنفذ إليها الشمس ولا يتجدد فيها الهواء فتحدث في(2/29)
الأجسام ما تحدث. أضف إلى هذا كمية الغذاء وكيفيته على النحو الذي يتناوله العملة مما لا نسبة بيته وبين الأعمال الشاقة التي يتعاطونها ويقتضي لها من معوضات القوة ما يكفي ويشفي.
ومن الأوصاب التي شاعت في النصف الأخير من القرن في بلاد التمدن أمراض من دواعيها الاضطراب في التغذية والإكثار من الطعام وتدعى بلسان الطب ديستروفيك وهي على أشكال فمنها الرثية أو وجع المفاصل وأوجاع تصيب المثانة وتجعل فيها عسراً. وتجد المصابين بها زرافات كل سنة يغتسلون بالمياه المعدنية في فيشي وكارلسباد. وكان القدماء يظنون أن هذا المرض خاص بالأغنياء إلا أنه تبين مؤخراً أنه ما خص طبقة واحدة من الناس.
ومما عمت به البلوى من الأمراض في عهدنا وسببه الغذاء سلس البول السكري. مرض وإن اختلفت الأقوال في أسبابه فإنها لا تعدو أن تكون تأثرات أخلاقية مضنية واضطرابات وحصر للذهن عظيم وعمل عقلي مفرط وأوصاب طبيعية طويلة وأرق وقلة إغفاء. وكل ما يضعف الوظائف الدماغية ويصرف كثيراً من قوة الأعصاب. ومعظم من يختلفون إلى المياه المعدنية يستشفون بها هم من العلماء والساسة والماليين وأرباب الصنائع والأشغال والصيارف ممن حملوا أنفسهم فوق طاقتها.
وهناك كثير من الأمراض الحديثة التي جاءت مع الحضارة وهي من مفسدت الدم كالخنازير وأنواع الفقر الدموي وغيرها. فكما أن الكوليرا انتقلت إلى أوربا من آسيا فكذلك نقل أهل أوربا إلى أميركا وآسيا وجزء من إفريقية الحمى التيفوئيدية فإنها وإن عرفها القدماء باسم حمى خبيثة عفنية لم تعرف في أوربا إلا في سنة 1820. وقد انتشرت الدفثيريا أو الخناق في هذه السنين انتشاراً وبيلاً حتى صار مرض الدفثيريا إحدى المصائب المهلكة للأطفال يشترك في التلقيح بجراثيمها أبناء القرى والمدن معاً وذلك لما يبذل من القوى العصبية في جهاد الحياة وبفضل تعدد طرق المواصلات واختصار الأبعاد فتنقل جراثيم عدواها بسرعة من البلاد الموبوءة بها إلى البلاد السليمة منها. والنزلات قد اشتدت وطأتها كثيراً وصارت وبائية وافدة تفتك فتكاً ذريعاً.(2/30)
المومياء المصرية
لحكمة غابت عن الباحثين حنط قدماء المصريين جثث موتاهم وجعلوها مومياء منذ نحو سبعين قرناً. عثر علماء الآثار المصرية على أكثرها في نواويس ومدافن ووضعوا بعضها في المتاحف ودور العاديات لتشهد لتلك الحضارة القديمة بالرسوخ والارتقاء. ولم يكتف المصريون بتحنيط الملوك والملكات والعظماء والعظيمات والأولاد والنساء والعبيد والإماء بل تناولت أيديهم بالتحنيط ضروباً من الحيوانات تعد بألوف ألوف الألوف كشف أكثرها فاستعمل في تسميد الأرض وتزبيلها.
وقد أخذ المسيو ماسبرو مدير مصلحة الآثار المصرية طائفة من هذه الحيوانات والطيور المحنطة ودفعها إلى علماء من أهل الأخصاء فتعاورتها الأيدي بالبحث والعيون بالنظر والأفكار بالتأمل. وألف اليوم عالمان طبيعيان من مدينة ليون كتاباً في الحيوانات الخاصة بهذا القظر فمما قالاه فيه: لقد ظفر في مدافن الحيوانات بأنواع من القرد والكلب وابن آوى والهر والجرذ والضب والثور والظبي والغنم والعنز وغيره وبضروب من الطيور ونحو ثلاثين نوعاً من الجوارح وأكلة الحشرات والثمرات والتماسيح والحيات والأسماك وحيوانات لا فقار لها من ذوات الصدف.
ثبت للباحثين الموما إليهما أن حيوانات اليوم لم يختلف شكلها وخلقها عن الحيوانات التي حنطت قبل ستين قرناً إذ ما من مشتغل بالعلوم الطبيعية إلا ويأتيك بأمثلة كثيرة من الحيوانات التي لم تتغير خلقتها منذ مئات من القرون بل منذ ألوف. وهناك ضرب من ضروب الحيوانات يدعى بلسان الحيوان (براشيوبود) يرد عهده إلى أقدم عصور العالم.
ومعلوم أنه لا يتأتى حدوث القلب والإبدال في سحنات الإنسان والحيوان إلا بتغيير البيئة والمحيط ولما لم تتغير طبائع هذا القطر منذ ألوف من السنين فلا يعجبن القارئ لما أكده العالمان الفرنسيان من بقاء الحيوان على وتيرة واحدة منذ قرون. كان الهر مقدساً عند قدماء المصريين ولذلك عثر على كثير منه محنطاً وقد تجد بين القططة ما ولد حديثاً وما هي أجنة في بطون أمهاتها. والهر المصري نوعان داجن ووحشي وهذا هو الذي كانوا يحنطونه ويقدسونه.
وبعد فقد قدس المصريون اللقلق لأنه يأكل الهوام التي كانت تغير على شواطئ النيل وكان من هذا اللقلق الأبيض والأسود وعثر على كثير من الأسود في المدافن القديمة محنطاً أما(2/31)
الأبيض فانقرض منذ مائة سنة وهو موجود في الحبشة بكثرة ولعل النيل كان يأتي به. وقدس المصريون الغنم وهو نوعان ادعى بعضهم أن أحدهما جاء من آسيا على نحو ما جرت العادة أن ينسب لهذه القارة كل نوع من إنسان وحيوان ونبات وتوصف بأنها مبعث جماع الحضارة ومهد الكائنات. اتفقت الأديان وبعض الفلاسفة وجملة من الأساطير على أن الشرق مقيل أرقى الكائنات الحية. إلا أن العالمين الباحثين أثبتا بالبرهان أن هذه الحيوانات نشأت في قارة إفريقية على أن الملك سنفرون لما خرب النيل الأعلى وأتى من السودان بسبعة آلاف رجل وامرأة ومائتي ألف بقرة وغنمة جاء بالغنم المدعو لونجيب إلى هذه البلاد من السودان.
وفي هذا الكتاب بحث في تحنيط البقر - وبقرة بني إسرائيل صفراء فاقع لونها تسر الناظرين - وكان يظن أن بعض البقر المصري جاء من آسيا وبعبارة ثانية من سورية إلا أنه وجد منه هنا ما يماثله ودثر بعضه. ومن رأيهما أن البقر الذي حنطه قدماء المصريين كان من البقر الهندي ذي السنامين الموجود منه إلى الآن بكثرة في سهول مصر العليا. وقصارى القول فإن الباحث في تاريخ الإنسان والمؤرخ والطبيعي يرون في كتاب هذين العالمين مادة لطيفة في الكائنات بهذه البلاد وهذه المباحث طافحة بالفوائد في تاريخ الحضارة خاصة وتاريخ الكائنات عامة.(2/32)
صحف منسية
شعر ابن حزم
قال الفقيه أبو عبد الله الحميدي قال كان لشيخنا الفقيه أبي محمد بن حزم في الشعر والأدب نفس واسع وباع طويل وما رأيت أسرع بديهة منه وشعره كثير وقد جمعته على حروف المعجم ومنه ما كتبت عنه
هل الدهر إلا ما رأينا وأدركنا ... فجائعه تبقى ولذاته تفنى
إذا امكنت فيه مسرة ساعة ... تولت كمر الطرف واستخلفت حزناً
إلى تبعات في المعاد وموقف ... نود لديه أننا لم نكن كنا
حصلنا على هم وإثم وحسرة ... وفات الذي كنا نقر به عينا
حنين لما ولى وشغل بما أتى ... وغم لما يرجى فعيشك لا يهنا
كأن الذي كنا نسر بكونه ... إذا حققته النفس لفظ بلا معنى
قال وله أيضاً من قصيدة خاطب بها قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن بن بشير يفخر فيها بالعلم ويذكر أصناف ما علم يقول فيها
أنا الشمس في جو العلوم منيرة ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع ... لجد على ما ضاع من ذكري النهب
ولي نحو أكناف العراق صبابة ... ولا غروان يستوحش الكلف الصب
فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسف والكرب
فكم قائل أغفلته وهو حاضر ... وأطلب ما عنه ما تجيء به الكتب
هنالك يدرى أن للبعد قصة ... وأن كساد العلم آفته القرب
فوا عجباً من غاب عنهم تشوقوا ... له ودنو المرء من دارهم ذنب
وإن مكاناً ضاق عني لضيق ... على أنه فيح مذاهبه سهب
وإن رجالاً ضيعوني لضيع ... وإن زماناً لم أنل خصبه سغب
ومنها في الاعتذار في مدح نفسه
ولكن لي في يوسف خير أسوة ... وليس على من بالنبي ائتسى ذنب
يقول وقال الحق والصدق إنني ... حفيظ عليم ما على صادق عتب(2/33)
وأنشدني لنفسه
لا يشتمن حاسدي إن نكبة عرضت ... فالدهر ليس على حال بمترك
ذو الفضل كالتبر طوراً تحت ميقعة ... وتارة في ذرى تاج على ملك
وأنشدني أيضاً له
لئن أصبحت مرتحلاً بشخصي ... فروحي عندكم أبداً مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم
وقد كرر أيضاً هذا المعنى فقال:
يقول أخي شجاك رحيل جسم ... وروحك ما له عنا رحيل
فقلت له المعاين مطمئن ... لذا طلب المعاينة الخليل
قال أبو عبد الله الحميدي وقلت له يوماً قال أبو نواس:
عرضن للذي تحب بحب ... ثم دعه يروضه إبليس
فقل أنت في طريق التحقيق فقال:
أين قول وجه الحق في نفس سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق
سيؤنسه رفقاً وينسى نفاره ... كما نسي القيد الموثق مطلق
وأنشدت له (صاحب الذخيرة) أيضاً في ما كان يعتقده من المذهب الظاهر من جملة أبيات يقول فيها:
وذي عذل في من سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول
أفي حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل
فقلت له أسرفت في اللوم ظاهراً ... وعندي رد لو أردت طويل
ألم تر أني ظاهري وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل
وقال هذا الإمام الشاعر
قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت ... أقوالهم وأقاويل العدى محن
فقلت هل عيبهم لي غير أني لا ... أقول بالرأي إذ في رأيهم فتن
وإنني مولع بالنص لست إلى ... سواه أنحو ولا في نصره أهن
لا انثني نحو آراء يقال بها ... في الدين بل حسبي القرآن والسنن(2/34)
يا برد ذا القول في قلبي وفي كبدي ... ويا سروري به لو أنهم فطنوا
دعهم يعضوا على صم الحصا كمداً ... من مات من قوله عندي له كفن
إني لأعجب من شأني وشأنهم ... وا حسرتا إنني بالناس ممتحن
ما إن قصدت لأمر قط أطلبه ... إلا وطارت به الإظعان والسفن
أما لهم شغل عني فيشغلهم ... أو كلهم بي مشغول ومرتهن
كأن ذكري تسبيح به أمروا ... فليس يغفل عني منهم لسن
إن غبت عن لحظهم ماجوا بغيظهم ... حتى إذا ما رأوني طالعاً سكنوا
دعوا الفضول وهبوا للبيان لكي ... يدرى مقيم على الحسنى ومفتتن
وحسبي الله في بدء وفي عقب ... بذكره تدفع الغماء والإحن
وقال: بلغت من لذة الدنيا ذرى أربي ... في لذة العيش والسلطان والنشب
فأذهبت دول الأيام منزلتي ... وزاد فقدي للذات في كربي
وكان مالي لهذا كله تبعاً ... بل صار عوناً لأعدائي على طلبي
لكن رجعت وقد جد الزمان إلى ... كنز من العلم والأخلاق والأدب
فاعجز الدهر أن يودي بواحدة ... منها واقصر عني واهي السبب
لا اختشى تضع الأيام منزلتي ... مدى الزمان وعندي أغلب الطلب
لا يستطيعون عذلي عن ولايتها ... إذ كل وال لهم بالعزل في العقب
هذا بلا كلفة مني ولا حرس ... ولا عديد ولا إنفاق مكتسب
وكل من كان في دنياي يصحبني ... ناديته حين خانتني فلم يجب
كلام من جرب الأمرين واتضحت ... له المذاهب من جد ومن لعب
أنا ابن من دبر الدنيا بخاتمه ... عشرين عاماً وعشر بعد لم يرب
وإن منزلتي في العلم منزلة ... في الملك حظ كحظ الصادق النسب
مازلت اذخره دهري وانفقة ... (دأباً) كمثل اللجين المحض والذهب
وإنني لبخيل بالسلام إذا ... بخلت بالعلم من لفظي ومن كتبي
لو استطعت منحت الناس كلهم ... ما قد تجمع في حفظي وفي كتبي
أأبذل المال يفني البذل حاصله ... ولست أبذل ما ينمى على النهب(2/35)
سائل بأي علوم العالمين تجد ... عندي ينابيع ذاك العلم من كتبي(2/36)
التعليم والتربية
الإسراف وسوء السلوك
معربة من كتاب نصائح العملة
إن ما اعتاده بعض العملة من إهمال الأعمال ذهاباً مع هوى النفس قد يكون أبداً من ورائه ما يدعى بسوء السلوك. ومن عرف بهذا الميل فقد أطرح حلل الشرف في الإنسان ولبس رداء من الشرور قد يتعذر إطراحه في الغالب. لا يستحق اسم الإنسان إلا من جعل شهواته وأهواءه ورغائبه محكومة بنظام العقل على الدوام موضوعة على محك البصيرة والتدبر. ولا يسعد إلا من جعل هذا الخضوع عادة فيه لا يتكلفها ولا يجهد نفسه من أجلها. فعلى الشهوة أن تكون أبداً مطيعة وعلى العقل أن يأمر ولكن إذا أمرت الشهوة وأذعن العقل فقد المرء العقل والسعادة. وعدم اعتدال العامل في شؤونه دليل سوء تصرفه وبحانفه عن جادة الاستقامة وطرق الكرامة.
سهل على العامل من الأسف أن يتخلق بهذا الخلق في شبيبته وقبل زواجه أيام يكون في إبان قوته ونضارة صحته يتناول أجرة تفيض عن حاجته فيفيض منها على هواه ما يكفي رجلاً متزوجاً في إعالة عياله. فإن أجرة أمثال هؤلاء العملة الشببة الفتيان لا يكادون يقبضونها حتى يصرفوها في كل سبيل وينفقوها في لا يرضي. ومهما كثرت فإن لها مصارف تستغرقها برمتها ولا تبقي منها ولا تذر. والسرف متلفة كل شيء يتأصل على العادة في النفس مما يخشى منه بعد أن يتعذر إقلاع العامل عن هذا الخلق فيعيش بعد زواجه كما كان يعيش عزباً.
لا أجمع بين الانحراف الموقت وسوء السلوك على أن الثاني يتولد من الأول بسهولة. وما من امرئ لا يدرك إلى أين يؤدي الانحراف عن جادة الفضيلة لأول أمره. ومن الهين اللين أن يسقط الإنسان من الطيش إلى الاضطراب ومن هذا إلى سوء السلوك. وا رحمتاه لمن لا يحسن مقاومة شهواته الأولى فإن الهواء الذي يستنشق في المجتمعات وقد ركب الطيش أجزاءه ليحل في تضاعيفه اضطراباً وبحراناً في الحواس وينتهي بضرب من السكر الأدبي ويصعب تبديد شمله بقدر ما ترتاح النفس إليه. ومع هذا فقد يرجو الطائشون عبثاً إصلاح نفوسهم من هذا السكر وأنه موقت لا يلبث المنغمسون فيه أن يرجعوا عن غيهم.(2/37)
ولكن تجيء الأيام تلو الأيام والأسابيع تلو الأسابيع والشهور عقيب الشهور والنفس لا ترجع عن غيها وغلوائها.
ولقد أنشئت في إنكلترا وأميركا جمعيات دعيت جمعيات الاعتدال بغية إنقاذ العامل بل اضطراره إلى عدم إهمال العمل وسوء استعمال أوقات فراغه فأسفرت هذه الجمعيات عن بعض النجاح فيقضى على من يريد الانخراط في سلك هذه الجمعيات أن يقسم إيماناً مؤداه أن يتخلى عن استعمال أي شراب من المسكرات كان. ولكن حظر استعمال شيء حسن في ذاته ليكون المرء على ثقة من سوء استعماله معناه قلة الثقة بنفسه ومن المتعذر أن يكون لامرئ لا يعتبر نفسه ويثق بها من القوة أن يتغلب حيناً من الدهر على سلوكه فيجعله تبعاً لإرادته وإرادته تبعاً لكلامه. ولذلك ترى هذه الجمعيات عرضة للسقوط كثيراً لأنه لو لم يكن للمرء من نفسه وازع يقيه المضال والانغماس في حمأة السفاهة ليس لجمعية أن تناله منه بمجرد حلف يمين والقيام بمظاهر عظيمة.
لا تنتهي الأنفس عن غيها ... ما لك يكن منها لها زاجر
ومن استنار عقله بنور العقل الصحيح هيهات أن يحيد عن الجادة المثلى ويتعدى حدود الأدب واللياقة. ومن الشبان من يأتون المنكر فيقولون هذه المرة الأخيرة ونحن لا نأتي منكراً بعد. فهلا قالوا مثل هذا القول من قبل وصرحوا بأنهم لا يأتون المنكر ولا هذه المرة أيضاً فما هو إلا أن تستلب هذه المنكرات من أرباب العقول عقولهم حتى إذا أراد أحد المتلبسين بها أن يرجع عنها بعد أن تكون نفسه مجتها يتعذر عليه ذلك. تعرف هذا من عملة انقطعوا عن أعمالهم أياماً وراحوا يقضون أوقاتهم في القصف والسكر فتراهم بادئ بدءٍ قد وجدوا شيئاً من النشاط إن صح أن يسمى نشاطاً حتى إذا اليوم الثاني تصفر ألوانهم وتنقطع أيديهم عن كل عمل فيصبحون باهتين شاخصين ثم لا يلبثون أن يعربدوا ويصخبوا وربما طالت أيديهم بالتعدي على أبناء السبيل تدفعهم إلى ذلك عوامل الخمار.
إلا وأن سوء السلوك لتستوحش منه النفوس ويفسد القلوب بما يصحبه من الإفراط الذي ينهك الصحة فيعجل الهرم ويهيئ السبل للأمراض العضالة. إفراط تتلبس به النفس فيقودها من ضلال إلى آخر حتى يتناسى صاحبها ما يقضي به الشرف ويحيد حياداً ظاهراً عن مهيع الشرائع. وعقاب سوء السلوك بسيط فهو يميت القلب ويقتل في صاحبه التوبة(2/38)
والإنابة وما هو إلا أن يضعف النفس عن الإحساس الطيب والأفكار الصالحة ويميت في نفسه كل شعور حي. يعمل ولكن من دون لذة. بل مكرهاً وما هو إلا كلا ولا حتى تصير البطالة في عينه عبئاً ثقيلاً والعمل عذاباً أليماً فيبلغ حالة لا يبلغها من المرء اعدى أعدائه وهل أشد خطراً من عدو داخلي ينهك القوى ويهدم الأسس. وقد قبل اعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك والانكى من ذلك أن من يألفون الدعارة ويأخذون أنفسهم بالفسق لا يلبثون أن يعاشروا من هم على شاكلتهم على نحو ما جاء في الأمثال أن الطيور على أشكالها تقع وشبيه الشيء منجذب إليه. وهناك حدث ما شئت أن تحدث عمن يلقاهم من سخاف العقول وضعاف الآداب ينشط كل منهم صاحبه ويهيئ له سبيل الرذيلة ويحببها إليه وتراهم أبداً وأحاديثهم تدور على تلاعبهم وخلاعتهم ورقاعتهم في بيوتهم وأسرتهم ومع الناس أجمعين.
وهكذا ترى سوء السلوك يفسد القلب وينضب مادة الشعور الطيب الخالص فيصبح صاحبه مكروهاً فلا يعيش عيش الإنسان بل عيش الحيوان فسوء السلوك هو ألد أعداء العامل يبعد به عن النجاح والراحة والسعادة. ويا رب ماذا تكون حال العامل إذا ضعفت قواه وأسلمه سلوكه إلى الشقاء مدى العمر مؤدياً به كل يوم إلى أحقر المساكن. فإما أن يرميه مريضاً على حصير المستشفى أو على حضيض ملجأ الفقراء أو يموت تحت مبضع تلامذة الطب في المستشفيات.
ولا تسل عما يجلب هذا الحال من فساد نظام البيوت فإن الزوج أيضاً تحذو حذو زوجها وتنصرف إلى الرذيلة فترضع أبناءها سماً زعافاً من فسادها فما هو إلا أن يضيع عليهم مستقبلهم ويتعذر عليهم التحلي بالأخلاق الصالحة ولا يزال الفساد يدب من جيل إلى آخر ينقله الأب لابنه والأم لابنتها حتى تنحل بيوت أولئك العملة وكانت من قبل يتأتى لها أن تؤسس على التقوى وتعيش في هناء ويمسي أفرادهم وهم حلفاء شقاء وامتهان.
وبعد فإني أتقدم إلى من استرسلوا في هوى النفس أن يصلحوها ولا يقولوا الصيف ضيعت اللبن ولكن جئت في الزمن الأخير فإن إصلاح النفس يتأتى في الكبر كما يتأتى في الصغر. ومن لا يضبط نفسه زمان الفتوة وهو عهد العقل وسن الأماني الطاهرة والإخلاص الشريف هيهات أن يجيء منه ما ينفع أمته وينتفع هو به. فإصلاح النفس لازم في الكبر أكثر فإذا استقام أمر المرء شهوراً بل أياماً قبل موته لابد أن ينال اعتبار الجمهور(2/39)
بل الإنابة مطلوبة فيمن أبيض شعره حتى لا يجمع إلى الشيخوخة إهانة الناس وما على من ابتلوا منذ شبيبتهم بهذه المساوئ إلا أن يحاولوا الإقلاع عنها وتصح عزائمهم على ذلك فللإرادة شأن في سلوك الإنسان ومن لا إرادة له لا يعد في البشر.(2/40)
مطبوعات ومخطوطات
العربية ولهجاتها
وهي رسالة كتبها بالفرنسية حضرة العالم المدقق الكنت دي لاندنبرغ الأسوجي وقدمها إلى علماء المشرقيات في المؤتمر الدولي الرابع عشر المجتمع مؤخراً في الجزائر. والمؤلف من شيوخ العلم في اللغات الشرقية وخصوصاً العربية وله أصحاب كثيرون في بلاد العرب عرفوه في خلال رحلاته العديدة إلى بلادهم ولاسيما في مصر وسورية وجنوبي الجزيرة وله تآليف كثيرة أفادت التمدن وانتفع بها طلاب العلم. افتتح كتابه هذا بالثناء على عالمين فرنسيين مشهورين سلفستر دي ساسي وكاترمير اللذين جعلا العربية بما توفرا عليه من الدراسة والتدريس علماً أوربياً وبواسطتهما انتقل تعلمها إلى ألمانيا وأولع بنوها بتعلمها وخدمتها أحسن خدمة ثم انتشرت في سائر أنحاء أوربا.
وقد عني المؤلف منذ خمس وثلاثين سنة بدراسة اللغة المحكية حتى كان بعضهم في مصر والشام - على ما قاله عن نفسه - يصفونه بأنه مجنون لكثرة عنايته بلغة يحتقر أهلها فصيحها فما الحال بعاميها وقال أن شأنه في ذلك بداءة بدء كان شأن الرسول (ص) لما أخذ يدعو وقومه إلى الدين فيقولون أنه مجنون. وبعد الأعوام الطويلة التي قضاها في تتبع لهجات العرب من مظانها ودراسة الشعر قبل الإسلام والاطلاع على ما أبقوا في اليمن وسورية من الآثار التاريخية المزبورة على الصخور في القفار أيقن أن اللغة المحكية اليوم كان لها حظ من الانتشار قبل الإسلام وأن العرب في ذلك العهد لم يكونوا كما أدعى بعض الباحثين جهلاء أميين أو أنهم خلقوا من لا شيء كما خلقت منيرفا من رأس المشتري ويكفي أنهم كانوا على شيء من المعرفة أن رعاة تلول الصفا وغيرهم من جيرانهم خلفوا ألوفاً من الأحجار عليها خطوطهم وربما كتبت قبل الحميرية اليمانية.
ومما استدل به على وجود علاقة بين اللغة الفصحى والعامية وأن العامية كان يتكلم بها في بعض أنحاء الجزيرة أن الإعراب والتنوين قد ظهرا كل الظهور في الخط المسند البابلي الذي عثر عليه حديثاً في شريعة حمورابي وأن الإعراب والتنوين معروفان قبل تلك الكتابة ويقول بعض الباحثين في اللغة الآشورية أن عهد ذلك يرد إلى سنة 2800 ق. م ويرده آخرون إلى 3750 ق. م.(2/41)
ومن رأيه أن التنوين والإعراب لو حذفا من العربية لأصبح نحوها عبارة عن مائة صفحة مثل نحو لهجة عربية حديثة ولا تبقى كل تلك التراكيب قال: وبعد فلم يرفع من بناء العربية حجر واحد ولكن ربما أضاف إليه علماء النحو أحجاراً كثيرة على أن العلم قاصر عن الإحاطة بالقديم الذي كان قبل الارتقاء الإسلامي العظيم وبالحديث منه. وإن هذه اللغة لتعيش أيضاً على رقتها وما فيها من قواعد إعرابها في المدارس وبين طبقات الشعراء ويكفي في إقناعك يا هذا فيما أقول أن تحضر إليك معلماً عالماً وتسأله فيها مما هو ولا جرم معجزة للرسول صلوات الله عليه ذاك الجمال المسكين الذي ما خامره ريب بأنه يزين العلم الحديث بمشعل من النور يضيء ضياء يأخذ الأبصار منذ ألوف من السنين. فإن اجتمعنا هنا لنعجب بهذا البناء الخالد فبفضل رسول الله ولولاه لما شغلت العربية فرعاً من مؤتمرنا هذا وما كان ملايين من العرب تكلموا ودرسوا لهجة لطيفة خرجت من برج بابل من بين سائر اللهجات.
وبحسب ما وصل إليه المؤلف أن لفظ البدو النازلين في الجنوب من شبه جزيرة العرب أكثر انطباقاً مع قواعد النحو من غيرهم وقال أنه لا يضاد القائلين أن سكان حارب وبيحان هم الذاهبون بهذه المزية. وقد قيل للمؤلف أن قبائل فهم وقحطان في الحجاز يحسنون التكلم من بين عرب الشمال. وذكر ما قاله نولدك في مجمع علماء اللغات من الألمان في ستراسبورغ من إن اللغة العربية هي النقطة المركزية للدروس السامية وزاد بأن اللهجات العربية على اختلاف أقطارها لو أخذت بمجموعها مع ذخائر بلاد بابل وآشور التي تكاد لا تنضب كنز عظيم يعثر فيه على المواد الكافية للوقوف على اللغة السامية أحسن وقوف. وختم الكتاب بأنه يود أن يجاري العلماء ويكاثرهم في البحث فيما بقي عليهم أن يبحثوا فيه من لهجات العرب في الغرب الأقصى لولا أنه وصل إلى سن قال فيه امرؤ القيس
أراهنَّ لا يحببن من قلَّ جاهه ... ولا من رأين الشيب فيه وقوَّسا(2/42)
تدبير الصحة
التوقي من البرد
جاء زمن الكن والكانون وبرد الجو وتغيرت الأهوية فكثرت بذلك الأدواء ولاسيما النزلات فارتأى أحد أطباء فرنسا أن خير ما يقي الصحة من التداعي في مثل هذا الفصل الامتناع عن شرب الماء المبرد أو المثلج أو المقطر وأن يمتنع عن التوابل (السلطات) والبقول النيئة كالفجل والخرشوف (الأرضي شوكي) وأن تنظف المساكن كل التنظيف ويرش أرضها بكلور والجبر (الكلس) على معدل خمسة في المائة وتدهن حيطان الغرف بخاثر الجير مضافاً إليه كلور وأن لا يفرط الإنسان في استعمال الضروريات على أنواعها.
إطالة الحياة
كتب أحدهم في إحدى المجلات الباريسية الخطيرة مقالاً في معنى إطالة الحياة قال فيه أن القول بأن الهرم يبدأ في سن التسعين فينقطع المرء لهذا عن أعماله وملاذه استعداداً للموت هو حديث خرافة لا يقره من درس علم منافع الأعضاء. قال وإذا ضعفت وظائف هضمنا أو غيرها من الوظائف أو أقعدت عن عملها فلا تمل يا هذا باللوم على الأيام بل لم نفسك بما أسرفت واستهترت. الهرم هو دور الحياة الذي لا يعود فيه المرء يستمتع إلا بجهاز بال فيموت حتف أنفه بيد أن هذا الأجل هو أطول مما يتوهمه الناس إذ يمكن أن يمتد إلى مائة وخمسين سنة وأحياناً إلى مائتين والدليل على ذلك أنك إذا رجعت إلى سجل الوفيات في باريس تلك العاصمة التي فيها من مضنيات الحياة والصحة ما يسوء وينوء تجد الأعمار فيها قد تطول إلى ثمانين أو خمس وثمانين سنة وربما إلى أكثر من ذلك أحياناً.(2/43)
سير العلم
مسمعة
هذه المسمعة واسمها كوستيكون هي عبارة عن آلة تلفونية تسمع الصم اخترعها أحد الأمريكان وجربها في عدة محال للتمثيل والمعابد في نيويورك وهي مؤلفة من التلفون والميكروفون والميكالوفون وأشبه بآلة تصوير وتسمع كثيرين في آن واحد.
حب العلم
وهب أحد الأمريكان مليون فرنك لإنشاء منبر للتاريخ والأوضاع الأميركية في كلية برلين الجامعة رجاء نشر العلم الأميركي حتى في أغنى بلاد الله بعلمها. ولا يبعد أن يمنح الأمريكان بعد كليات لندن وباريس وبطرسبرج ورومية وآثينة ومدريد وسائر عواصم أوربا أمثال هذه المنح والعطايا. ولقد كان سسل رودس الغني الإنكليزي الملقب بنابليون إفريقية أوصى بمال لكلية اكسفورد ليدرس به طلاب العلم من المستعمرات الإنكليزية والأميركية في تلك المدرسة الجامعة ويرجعوا إلى بلادهم وقد تشبعوا بالأفكار الإنكليزية فلم تخل وصيته من النقد عند فريق من العلماء بل قالوا أن الموصي لو أوصى بأن يبعث بأساتذة إنكليز إلى المستعمرات والولايات المتحدة لكان بلغ الغرض وأصاب المحز.
غاز جديد
يعنى الآن أهل العلم في أميركا باكتشاف غاز جديد من خصائصه أن يمتص الرطوبة من جميع المواد العضوية ويحفظ الحاصلات الغذائية وأخشاب العمارة من الفساد بعض الحفظ. وقد جرب فثبت أن الثمار والبقول وجدت به سالمة من البكتريا بعد أربع سنين لم يطرأ عليها انحلال ولا تغيير كيماوي فغمست بالماء قليلاً فعادت إلى نضرتها ولونها وطعمها. وإذا زيد خمسون في المائة على أجرة الشحن تنقل الغلات في هذا الغاز من مملكة إلى أخرى. ولا يسطو عليها سوس ولا فساد وينقل الجندي منه مؤونة أسبوع ويكتفي الفقير به للدفء ويشفي من الأمراض بإهلاكه جراثيم العفن.(2/44)
المجلات الإفرنجية والعربية
الموسيقى العربية
ما برحت المجلة الفرنسية تأتيها الآراء بشأن الموسيقى الشرقية وأحسن ما ورد عليها من ذلك رأي يقول فيه صاحبه أن العرب يجهلون الإيقاع وينكرونه ويستغربونه وأقام صاحبه الحجة على ائتلاف الألحان الشرقية إذ ليس في ضرب الصوت الشرقي أدنى مناسبة مع الصوت الغربي.
الشبان المتعلمون
في إحدى الجرائد الألمانية بحث في أن الشبيبة المستنيرة يقف سير علمها بعد أن تنال الشهادات المتنوعة بدلاً من أن تزيد مادتها العقلية بالتوفر على دراسة الكتب الجيدة والأبحاث الخاصة الدائمة وقد أوصى الأهل والشبان أيضاً بطريقة في التعليم معقولة عملية وذلك بأن تلاحظ الحياة البشرية ونشوءها.
التبشير
الهلال - نشر مذكرات لدكتور فانديك في أعماله وأعمال المرسلين الأمريكان في سورية وصف فيها بيروت وصفاً مجملاً عند دخوله إليها سنة 1840 وكانت قليلة السكان والمنازل وقال أن دروز رأس بيروت تنصروا تخلصاً من الجندية وتتجلى في هذه المفكرات روح البحث والتفاني في المصلحة.
تاريخ المورو
المقتطف - قرظ كتاب تاريخ المورو أي مسلمي فيليبين الذي وضعه بالإنكليزية حضرة الفاضل الدكتور نجيب صليبي معاون حاكم جزائر فيليبين الأميركية ومن نوابغ سورية بعلمه وتربيته. قال المؤلف أن تاريخ مسلمي فيليبين قبل أن ينتحلوا الإسلام خرافي تناقلوه خلفاً عن سلف ولم يعن أحد بتدوينه ولكن ملا جاء الإسلام إلى تلك الجزائر جاء منه العلم والعمران فانتظمت الأحكام ودونت التواريخ ووضعت التراسيل وهي عندهم كشجرات الأنساب عندنا. والتراسيل بلغة مجندنا ولكنها مكتوبة بحروف عربية. ومعنى مجندنا هو البلاد المروية لأن فيها نهراً يفيض عليها ويرويها فأطلق هذا الاسم على البلاد وعلى سكانها. وكان بدء دخول الإسلام إليها في نحو سنة 1475 للميلاد. قال والمورو(2/45)
الموصفون بالقسوة والشمم أرقى جداً من الوثنيين الذين يسكنون سائر البلاد مع أنهم جميعهم من أصل واحد لكن الإسلام علمهم وهذبهم وأوصل بينهم وبين غيرهم من الأمم. والكتاب مله ينبئ عن روح صاحبه الشريفة التي تهذبت وأخذت ترى الحقائق بالعين المجردة وقد كان العامل الأعظم في تهذيب المسلمين في تلك الجزر فابتاع لهم منذ مدة كثيراً من المصاحف وكتب العبادة وأخذ يدرسهم فيها حاثاً لهم على التمسك بالإسلام وأقنع حكومة الولايات المتحدة بذلك من الوجهة السياسية جزاه الله خير الجزاء.(2/46)
نفاضة الجراب
تفقه في ساعة
من مضحكات الوهراني مقامة في قصة عجوز تزوجت بإسكافي فجعلته بتعليمها فقيهاً وقالت له كن فقيهاً فكان. قال عيسى بن حماد فقلت للراوي مثلك من أفاد، وشفى بحديثه الفؤاد، فكيف تمشي حاله، وتغطي على الفقهاء محاله، فقال أعلم أنه لما أجمعت العجوز على تعليمه، ورده إلى المدرسة وتسليمه، تخوف من ذلك الأمر، وبات ليلته على الجمر، فلما أصبح قال لها: اعلمي يا هذه أني كنت في بلدي إسكافياً. . . فكيف لي بالمدارس، وأنا كالطلل الدارس، ومن أين لي بالتخبيز (كذا) وأنا مثل حما العزيز، والله ما أفرق بين الحروف، وقرن الخروف، فقالت أيا أعلمك العلم كله، إلا أقله، وأعلمك فصلاً في التدريس، تغلب به محمد بن إدريس، فقال لها يا هذه والله ما أرجو من المدرسة نفعاً، وإني أخاف أن يقتلوني صفعاً، فدعيني في. . . فقالت أريد إخراجك من المدابر، وأرفعك على رؤوس المنابر، فاحضر ذهنك، وافتح لهذا الدرس أذنك، والعم أن الألف قائم كالمعول، وهو كتاب المنزل، والباء كالصنارة، أو كرجل المنارة، والهاء كالثقالة، وفيها شيء كالعرقالة، والطاء كالخف، أو كطائرة الدف، وكل مدور ميم، وكل معوج جيم، والصاد تشبه نعالك، والذال تشبه قذالك، وأن القاف والكاف، يشبهان الاكاف، فاحفظ هذا الكلام، وقد أصبحت مفتي العراق والشام، واحذر اعتزالي، والعم أن بهذا الفصل تقدمة الغزالي.
فأقبل التيس يكرر لفظه، حتى أجاد حفظه، وعندها خرج في القمة والغمة (كذا) وعزم على مدرسة جمال الأئمة، فخرجت تبخره من العين، وتقرأ عليه المعوذتين، وقالت له إذا جلست فتربع، ولا تتقنع، وانشر أكمامك، واظهر للناس أعلامك، فإن الغريب ابن ثويبة، والمقيم ابن جديبة (؟) فقال لها: أوصيني يرحمك الله. فقالت له إذا حضرت فانفخ حضنك، وبطنك، وانفش بين الفقهاء ذقنك، وباكر المدرسة عند الصباح، وسابقهم في الرواح، وإن غلبوك في العلم فلا يغلبوك عند الصياح، فقال والك، أخاف أن افتل باللوالك ولكن أوصيني فقالت خذ اللفظ بأناملك بين شفتيك، وزاحم الفقهاء بمنكبيك، وازعق في وجه الشيخ ولا جناح عليك. قال فهاتي إذا شيئاً من قماشك، أرد به صفع الشماشك، فقالت اجسر على القوم، فما هو الأبياض اليوم، واعلم أن الفقه ليس هو إلا النفاق والزعاق، وتلويث وجه(2/47)
الخصم بالبزاق، فقال لها إن صدقت، فأنا أكون أمام الوقت، وقام في ذلك الأوان، حتى دخل على الفقهاء في الإيوان، فهايته قلوب الجماعة، وخافوا أن يكون من أهل البراعة، فأنصفوه في السلام، وبسطوه في الكلام، وآنسوه بالمحاضرة، حتى جاء وقت المناظرة.
شكر المقتبس
نرفع إلى من كاتبونا وشافهونا من رجال الأمة أجمل شكر وحمد لما تكرموا به من عبارات التنشيط على نشر المقتبس سواء كان بالخطاب أو بالكتاب كما نثني أطيب الثناء على الصحف العربية على اختلاف نزعاتها وموضوعاتها التي ذكرت صدور هذه المجلة ونوهت بها ونسأل الله أن يحقق آمالهم وآمالنا ويصلح أحوالهم وأحوالنا.
وهنا ننشر تتميماً للفائدة ما تفضل به صاحب المقتطف وصاحب المنار الغراوين من نقد المقتبس عملاً بالتماسنا منهما وهاك ما قاله المقتطف في معنى النقد:
وفي باب تدبير الصحة شرح أسلوب الإنكليز في الإكثار من طعام الصباح وحث بعض الفرنسيين قومهم على اقتفاء آثار الإنكليز في ذلك لكن علماء الصحة من الإنكليز يخطئون قومهم ويقولون أن الإكثار من الطعام في الصباح ضرر محض ولنجاح الإنكليز أسباب أخرى ولا علاقة لطعام الصباح به. . . وأما ما ذكره في باب مقالات المجلات الذي قال أنه زبدة ما وقع عليه اختياره من أهم أبحاثها فيدل على أن مقام المجلات العربية ليس في عينيه على ما يرام. وهو أسمح من ذلك وأكرم. هذا محل النقد من مقال المقتطف وإليك محله من مقال المنار:
وقد انتقدنا عليه أموراً لا يسلم من مثلها المبتدئ بالعمل منها أنه كتب عن ابن حزم في ثلاثة أبواب وتكلم عن الوهراني في غير ما موضع. ترجم ابن حزم في الباب الأول ثم ذكر شيئاً من نصائحه في باب الصحف المنسية ثم ذكر الكتاب الذي اقتبس منه النصائح في باب المطبوعات وكان يحسن أن يذكر في باب واحد من هذا الجزء وكذلك يقال في تكرار ذكر الوهراني والكلام في العملة. ومنها أن ما ذكره من النصائح لم يعد من الصحف المنسية وقد طبع الكتاب قبل وجود المجلة. فإن أراد بالصحف المنسية ما أهمل الناس العمل به فالباب واسع يدخل فيه كثير من المجلدات العظيمة في التفسير والحديث والرقائق وغير ذلك فالانتقاد على الباب نفسه أولى. ومنها أنه لم يكن يحسن ذكر منشآت الوهراني(2/48)
والتشويق إليها والتصريح بتعمد كتمان مكانها لأن هذا يغري أهل الولوع بأمثال هذه المسائل إلى البحث عنها ومن بحث عن الموجود ظفر به غالباً. ومنها أن بعض المباحث لم توضع في الأبواب التي هي أليق بها فقد أدخل في باب التربية والتعليم الكلام في العملة والصناع وأخرج منه بحث تعليم اللغات. وذكر شيئاً من مقاطيع الشعر في باب النقالات دون باب الصحف المنسية. ومنها أن المقول في بعض المواضع لم يتميز بنسبته إلى الكتب والعلماء تميزاً ظاهراً يعرف أوله وآخره بلا اشتباه كما يرى المدقق في ترجمة ابن حزم وما نقل منها الذخيرة لابن بسام. ومنها الاختصار المخل في بعض المباحث كمبحث الأمية والكتاتيب فالظاهر أنه يريد الكلام على الأمية في الإسلام وكيف انتقلت العرب من بعده منها إلى التعلم حتى إنشاء الكتاتيب قديماً وحديثاً ولكنه جعل نحو ربع ما كتبه في معنى لفظ الأمي وفي تفسير ما ورد في أهل الكتاب من قوله تعالى ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني (وقد ذكر في المقتبس لفظ يقرؤون بدل يعلمون سهواً فليصحح) وكان المناسب أن يذكر تفسير قوله تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فقد فسر الكتاب هنا بالكتابة وهما مصدران لكتب. ثم ذكر شأن الكتابة في الجاهلية وذكر أمماً أخرى بالإيجاز ولم يذكر عن الإسلام بعد ذلك إلا سطراً ونصف سطر وقال بعد ذلك هذه زبدة ما يقال في معنى الأمية في الإسلام الخ والسبب في هذا الاختصار المخل رغبة الكاتب في إيداع الجزء مباحث كثيرة. وأمثال هذه الأمور التي انتقدناها مما يسهل تلافيها لاسيما بعد التنبيه إليها ومنها ما تبع فيه اصطلاح مجلات أوربا وإن لم يكن عندنا مألوفاً.(2/49)
العدد 3 - بتاريخ: 24 - 4 - 1906(/)
صدور المشارقة والمغاربة
ابن الرومية
من جملة تلامذة ابن حزم الأندلسي أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج النباتي المعروف بابن الرومية الأموي الاشبيلي المتوفى سنة 639هـ وهو الذي رحل إلى الشرق لمعرفة نباتاته، وأخذ علم الحديث عن ثقاته، ونشر تآليف أستاذه ابن حزم ولولاه لتناولتها يد الضياع خصوصاً بعد أن أصابت الكتب في بلاد الأندلس ما أصابها من طوارق الحدثان.
جاء في الإحاطة أنه كان غرة جنسه إماماً في الحديث حافظاً ناقداً، ذاكراً تواريخ المحدثين وأنسابهم وموالدهم ووفياتهم، وتعديلهم وتجريحهم، عجيبة نوع الإنسان في عصره وما قبله وما بعده في معرفة علم النبات، وتمييز العشب وتحليلها، وإثبات أعيانها، على اختلاف أطوار منابتها، بمشرق أو مغرب، حساً ومشاهدة وتحقيقاً، لا مدافع له في ذلك ولا منازع، حجة لا ترد ولا تدفع، إليه يسلم في ذلك ويرجع، قام على الصنعتين - الحديث والنبات - لوجود القدر المشترك بينهما وهما الحديث والنبات إذ موادهما الرحلة والتقييد، وتصحيح الأصول، وتحقيق المشكلات اللفظية، وحفظ الأديان والأبدان.
ولما وصل على رواية ابن أبي أصيبعة سنة ثلاث عشرة وستمائة إلى ديار مصر وأقام بمصر والشام والعراق نحو سنتين وانتفع الناس به واسمع الحديث وعاين نباتاً كثيراً في هذه البلاد مما لم ينبت بالمغرب وشاهد أشخاصها في منابتها، ونظرها في مواضعها، حل في الإسكندرية فسمع به السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب وبلغه فضله، وجودة معرفته بالنبات، وكان الملك العادل في ذلك الوقت بالقاهرة فاستدعاه من الإسكندرية وتلقاه وأكرمه ورسم بأن يقرر له جامكية وجراية ويكون مقيماً عنده فلم يفعل واعتذر بالحج.
ولهذا النباتي تآليف حسنة في الطب وله معرفة بأشخاص الأدوية وقواها ومنافعها واختلاف أوصافها وتباين مواطنها وبالجملة فلم يكن يتحرج من الجمع بين علوم الدنيا والآخرة، واشتهر فضله حتى دعاه أبو بكر بن أيوب إلى المقام في بلاده ولا خير في أمة لا تفاخر برجالها ولا تحرص على تكثير سوادهم.(3/1)
مكتبة الإسكندرية
زعم بعض متأخري المؤرخين أن عمر بن الخطاب (رض) أوعز إلى عمرو بن العاص لما فتح المسلمون مصر أن يحرق مكتبة الإسكندرية وكان فيها مؤلفات الحكماء الأقدمين فانقطع بذلك سند العلوم والصنائع والاختراعات التي عرفت وبعبارة ثانية محيت المدنية القديمة وعاد العالم في جهالة جهلاء. مسألة شغلت بال الباحثين والمفكرين. وقد ألف أحد أفاضل الأستانة محمد منصور كتاباً بالتركية سماه مكتبة الإسكندرية وذلك عقيب مناقشة دارت بينه وبين بعض كتاب تلك العاصمة في إحدى المجلات العلمية التركية منذ نحو أربعين سنة. فتصفحت الكتاب وعربت بعض صفحاته المتعلقة بحريق هذه المكتبة وهاك ما قاله ملخصاً:
هلك اسكندر المكدوني فانقسمت مملكته بين قواده واستولى على مصر بطليموس سوتير وكان محباً للعلوم والمعارف وإذ رأى تفرق حكماء اليونان ايدي سبا بما دهم بلادهم من زوال العلم وعفاء المدنية دعاهم إلى حماه فأتوه ومعهم بقايا من الكتب المنوعة فأحسن وفادتهم ووفادتها وأقام لحفظ هذه المصنفات مكتبة بالقرب من معبد السرابيوم علوها مائة قدم وهي قائمة على جبل صناعي وسط مدينة الإسكندرية. وروى بعض المؤرخين أن هذا الملك أحدث في قصره مكتبة أخرى جعل في الأولى أربعمائة ألف مجلد وفي الثانية ثلاثمائة ألف.
ولقد ظلت مكتبة الإسكندرية بعناية بطليموس وأخلافه مرجع أهل العلم وكهف حفدة المعارف إلى سنة سبع وأربعين ق. م وقد أبدى مالتابرون في جغرافيته والمجمع العلمي الذي ألف في فرنسا للبحث عن الأبنية القديمة الدائرة وجغالديغي في تاريخه العام وسائر كتب تواريخ رومية الأسف الكثير لحريق هذه المكتبة برمتها عقيب فتنة نشأت من افتتان أحد قياصرة رومية بملكية مصر كليوباترة المشهورة بجمالها وذلك لما استحال حكم رومية إلى الملوكية وأخذ القيصر يطارد عدوه بومبيس حتى بلغ الإسكندرية وهنا جرى بينه وبين كليوباترة أمور أدت إلى إحراق تلك الكتب المنوعة التي بذل النفس والنفيس في استجلابها منذ تأسيس المكتبة إلى أن نعق في أرجائها غراب الدمار.
واختلفت روايات المؤرخين في عدد أسفار هذه المكتبة وأكد بعضهم أن الكتب التي أثرت عن حكماء اليونان وحدهم تبلغ سبعة آلاف مجلد وهو عدد فيه نظر إذا أحصينا ما تنتجه(3/2)
كل مملكة على حدتها في أوربا لهذا العهد من المصنفات على انتشار الطبع والورق وتوفر أسباب التأليف توفراً لم يسبق له نظير في تاريخ العالم. وأن معظم حكماء اليونان اشتهروا عند بعض المؤرخين على حين لم يؤثر عنهم كتاب ما. وعليه فبعيد عن التصديق ما يدعى بوجود مليون كتاب في مكتبة الإسكندرية. ولو كان الأمر على ما ذكروا لاقتضى لكل حكيم من حكمائهم أن يؤلف ثلاثين أو أربعين كتاباً وهو محال.
عرفت كيلوباترة أن لها يداً في إحراق مكتبة الإسكندرية فأعادت بناء المكتبة تكفيراً عن سيئاتهم وجعلت في هذه الخزانة مكتبة برغمة التي أهديت إليها وكان فيها مائتا ألف مجلد في رواية. وبعد قليل استولى الرومان على مصر فاشتد ضغطهم على أهلها جرياً على عاداتهم القديمة فسقط عمران الإسكندرية في أوجز مدة ثم اشتغل أكثر الأهلين بحل المسائل الدقيقة من الدين المسيحي الذي كان ظهر في جوار تلك البلاد. واستحالت الحال فبطلت العلوم وانقطع تدريسها في الإسكندرية بالمرة.
واحتفظت دولة الرومان بالعاديات والمصانع التي وجدت في البلاد المتغلبة عليها في أوربا وآسيا وإفريقية إلى سنة 390 للميلاد أي قبل الهجرة بمائتي سنة تقريباً. بيد أن تيودوس أحد قياصرة الرومان ارتأى لجهله وتعصبه أن لا يبقى في المملكة الرومانية غير الدين المسيحي وأن تلغى سائر الأديان والمذاهب فاستولى على المعابد وضبط عقاراتها ونفائسها وقامت قيامة الرهبان وحملوا الحملات المنكرة على المعابد والمصانع وهدموها وعاثوا بما فيها جملة.
وفي خلال تلك المدة قام تيوفيل رئيس أساقفة الإسكندرية في جملة من رهبان تلك الناحية وخرب المعبد البديع المعروف باسم بباكوس ثم هد معبد السرابيوم بعد مجادلات امتدت لألاؤها وفتن شعواء طالت برحاؤها. وهذا المعبد الذي يعد من بدائع الصنائع وله المقام الأول بين مصانع المملكة الرومانية يمائل بناية الكابتول في رومية. وهدم ما كان في جوار المعبد الآنف ذكره من المكتبة التي أنشئت للمرة الثانية على ما تقدم وقد تلفت هذه المرة جميع كتبها. نعم أنشئت بيعة في محل هذا المعبد ولكن لم تتجدد المكتبة قط ولم يبق لها اسم ولا رسم.
واشتد ضغط الإمبراطور جوستنيانوس على عبدة الأوثان وعطل بيوت العلم وقضى بإقفال(3/3)
المدرسة التي كان يدرس فيها ديوجنس وهرمياس واتاليوس وبرسيان وداماسقوس وايسيدور وغيرهم من الفلاسفة لأنهم لم يرجعوا عن اعتقاد القدماء وينتحلوا النصرانية حتى اضطروا فراراً بأنفسهم عن مواطن الهلكة أن يرحلوا إلى فارس ولما أرادوا الرجوع إلى بلادهم توسط في أمرهم انوشروان ملك الفرس ومن الشروط التي عقدها مع قيصر اليونان أن لا يمس هؤلاء الفلاسفة بسوء وأن يكونوا أحراراً في اعتقادهم على أن مدرستهم عطلت وخربت مع غيرها من مدارس آثينة.
علم بهذا أنه كان للإمبراطورين تيودوس وجوستنيانوس يد طولى في إتلاف آثار أهل العلم ومصانعهم قديمها وحديثها رجاء بث دعوة النصرانية فدثرت المدنية التي قامت بحسنات الأجيال السالفة والأمم الغابرة وذلك بأعمال هذين العاهلين وبما أبداه الرهبان والرومان من ضروب العدوان.
ثم أفاض المؤلف في حملة أهل البندقية والفرنجة على القسطنطينية سنة 1202م وحرقهم لها ثلاث مرات بحيث دثر ثلثاها وأحرقت أعلاق الكتب التي جمعت فيها منذ نحو تسعمائة سنة ولما استولى هؤلاء الفاتحون على هذه العاصمة تفرقوا في أطرافها وأنشأوا يسلبون كل ما تطول إليه أيديهم من أموال الناس وعروضهم إلى آخر ما قاموا به من العيث في الكنائس والبيع التي أنقذت من لسان اللهيب وعبثوا بحليها وجواهرها وخصوصاً كنيسة أيا صوفية المشهورة فقد أخذوا كل ما أتحفها به الملوك والأغنياء من الجواهر والحلي والنفائس باعوا بعضه بيع السماح وأتلفوا الآخر كأنه لا قيمة له إلى نظائر ذلك مما قاموا به من الأعمال الوحشية التي فصلها حق التفصيل المؤرخ نيكيتاس أحد رجال دولة الروم.
واستفاض المؤلف فيما آل إليه أمر مكتبة الإسكندرية من الحريق بقضاء الله وقدره سنة 47ق. م وخرابها للمرة الثانية بحملات رئيس الأساقفة الإسكندري وجماعته عمداً قبل الهجرة بمائتي سنة وإحراق ما جمع في زهاء تسعمائة سنة منذ جعلت القسطنطينية عاصمة لدولة الرومان إلى استيلاء اللاتين عليها بداعي ما حدث فيها من الفتن بين الروم واللاتين. وإن ما أنقذ من هذه الحرائق من الكتب أتى عليه اللاتين بجهلهم واستهزائهم بالمعارف وأهلها حتى أن مصر لما فتحها المسلمون لم يبق لمكتبة الإسكندرية فيها عين ولا أثر ولما فتحت الأستانة أيضاً لم يكن فيها عاديات ولا أعلاق بتاتاً.(3/4)
وقد صرح جيبون في تاريخه على سقوط دولة الرومان بأن نسبة الحريق لعمر أو لعمرو أكذوبة لفقها أبو الفرج رئيس أساقفة حلب على طائفة اليعاقبة إحدى الطوائف المسيحية بعد مضي نحو ستمائة سنة من الهجرة في تاريخ له ألفه بالعربية ولما نقل ما كتبه إلى اللاتينية انتشرت هذه الأغلوطة في أوربا. ومما قاله أبو الفرج أن عمر بن الخطاب أصدر أمره إلى عمرو بن العاص بإحراق هذه الكتب اكتفاء بما في القرآن من العلم وادعى أن هذه الكتب وزعت على أربعة آلاف حمام في الإسكندرية فظلت المواقد تحرقها حصباً ووقوداً ستة أشهر لا تحتاج إلى غير لهيب تلك الكتب لإحماء الماء.
قال جيبون: لا يخفى على أهل البصر أن مكتبة الإسكندرية احترقت قبل الميلاد وما زعمه رئيس أساقفة حلب من أن المسلمين أحرقوها لم يتعرض له مؤرخ واحد ممن ظهروا قبل أبي الفرج حتى أن افتيكيوس بطريرك الإسكندرية عند توسعه في الكلام على استيلاء المسلمين على الإسكندرية لم يذكر كلمة عن حرق عمرو بن العاص لهذه المكتبة. وبهذا علم أن هذه أسطورة ملفقة بالكذب المحض.
على أن الإسكندرية كانت من القديم مقر البطاركة ومنبعث المجادلات المعلومة التي حدثت في مسألة الألوهية. فلو صح أنه كان في هذه المدينة مكتبة كما زعم أبو الفرج حين فتحها واحترقت بأمر عمرو بن العاص لاستخدمت تلك المجلدات الضخمة التي ملئت بمباحث تلك المسألة المذكورة ومقالات المناقشين فيها في غير إحماء ماء الحمامات. وهب أن العرب أحرقوا تلك المجلدات فقد أزالوا كثيراً من الأفكار الباطلة التي ألف الناس الاشتغال بها عبثاً وخدموا عالم الإنسان خدمة عظيمة.
قال المؤرخ التركي بعد أن أورد هذه الجملة عن المؤرخ جيبون: من البديهي أن ما افترض المؤرخ الموما إليه وقوعه وما زعمه رئيس الأساقفة المذكور من حريق عمرو بن العاص لمكتبة الإسكندرية التي ملئت بالمجلدات الضخمة في مباحث الألوهية أو مؤلفات الحكماء المتقدمين على فرض وقوعه فليس من العقل ولا من الحكمة ما روي في كيفية حريقها. وغير نكير أن هذه فقرة وضعت بعد لمآرب وغايات.
ولو كانت عقدت النية على إحراق هذه الكتب كما ادعى رئيس الأساقفة لمطابقتها للقرآن العظيم أو لمباينتها له لاقتدر عمرو بن العاص أن يبيد هذه الكتب بحضرته جملة واحدة في(3/5)
يوم واحد وربما في ساعات معدودة وكان في غنى عن تسليمها لأصحاب الحمامات في الإسكندرية ولأهل هذا الثغر وكلهم من الروم يحرقونها كما يحب ويرضى بما تلهمهم إليه معرفتهم. نعم كان ابن العاص يحذو حذو مسيحيي إسبانيا لما استولوا على قرطبة وأحرقوا في يوم زهاء مليون مجلد من مصنفات علماء المسلمين وكانت في عدة مكاتب على ما روى المؤرخ دياردو.
ومن البلاهة والحماقة أن يصدق أن عمر يختار هذه الطريقة في إبادة الكتب ويدفعها إلى أرباب الحمامات في الإسكندرية وينقطع عن وظيفة الجهاد المقدسة مع رجاله من المسلمين وعددهم لا يتجاوز أربعة آلاف رجل حين استيلائه على مصر لينقطعوا إلى إحراق كتب دونت بلغة أعجمية ويصرف في ذلك خمسة أشهر أو ستة في قمامين الحمامات مما لا يقبله العقل ولا يوافق الحكمة. وأنى لأرباب الحمامات في الإسكندرية وهم من بني الروم أن يحتفظوا بهذه الكتب ويحرقوها في غياب المسلمين حصباً لحماماتهم فاحر عند ذاك أن ينحي باللائمة على الروم لا على المسلمين باختلاق فئة من الجهال وخصوصاً بعض أصحاب الأغراض.
نقض الكاتب التركي ما أتى به بعض أرباب الأهواء وزيفه بالبرهان السديد ثم نقل ما قاله رئيس مدرسة آثينة الكلية في تاريخه العام عند كلامه على الإسكندرية من أن هذه المكتبة حرقت لدن وصول قيصر إلى مصر وأن ما بقي من الكتب تلف قبل استيلاء المسلمين على الإسكندرية بزمن طويل وأن ما يحكى من أن عمرو بن العاص حرقها إن هي إلا فقرة مدخلة بعد هذا. وقد عرب ما تقدم حباً بإظهار حقيقة طال البحث فيها وتعارضت الآراء بأمرها والحقيقة ضالة كل باحث ومستفيد.(3/6)
مصر
معربة عن الفرنسية
بلادها - مصر عبارة عن وادي النيل وهي في مضطرب ضيق خصيب ممتد على ضفتي النهر بين سلسلتين من الصخور طولها 240 فرسخاً ويكاد عرضها لا يتجاوز خمسة فراسخ وعند منقطع الصخور تبدأ الدلتا. وهناك سهل واسع تتخلله شعب النيل وترعه. فمصر كما قال هيرودتس أبو التاريخ هبة من النيل.
النيل - يزخر النيل كل سنة في الانقلاب الصيفي بعصارات ثلوج بلاد الحبشة فيفيض على أراضي مصر العطشى يرتفع ثمانية أمتار وأحياناً عشرة فتصبح البلاد كالبحيرة وتبرز القرى المشيدة على الآكام كأنها جزيرات ثم تنخفض المياه في أيلول (سبتمبر) ويعود النهر في كانون الأول (ديسمبر) إلى مجراه الأصلي وقد ترك في كل مكان طبقة من الطين خصبة وهي الإبلز وتسمى الطمي. هذه الرواسب تقوم مقام السماد ويكاد يزرع في التربة الندية بدون حرث. فالنيل إذا يأتي مصر بالماء والتربة وإذا تحول عنها تعود مصر كالبلاد المحيطة بها قاعاً صفصفاً، ورمالاً مجدبة، ما أمطرتها السماء وابلاً ولا رذاذاً. ولم يجهل المصريون فيما مضى ما يجود به نيلهم من الخيرات الحسان وهاك نشيداً كانوا ينشدونه تعظيماً له: سلام عليك أيها النيل أنت الذي تتجلى على هذه الأرض وتأتي بسلام فتحيي موات مصر. أنت إذا انجليت تملأ الأرض طرباً، والقلوب بشراً، فينال كل مخلوق قوته، وكل سن ما تقضمه، رحماك إنك تأتي بالأرزق الطيبة وتنتج كل خير ومير وتنبت للبهائم مرعاها.
غنى هذه البلاد - مصر على التحقيق واحة في قفر إفريقية تنبت تربتها البر والفول والعدس وأنواع البقل. والنخيل فيها غابات وآجام. وفي تلك المروج التي يرويها النيل بمائه ترعى قطعان الغنم والثيران والعنز والإوز وتكاد مساحتها تساوي بلاد البلجيك (29400 كيلومتر مربع) ومصر اليوم تقوم بأود 11 مليوناً من السكان وهي نسبة لا تعهد في أوربا على أن مصر كانت آهلة بالسكان قديماً أكثر منها اليوم.
روايات هيرودتس - عرف اليونان مصر أحسن من معرفتهم سائر الممالك الشرقية فزارها هيرودتس أبو التاريخ في القرن الخامس ق. م ووصف في تاريخه فيضان النيل وأخلاق(3/7)
السكان وأزياءهم ودينهم وذكر حوادث من تاريخهم وحكايات لقنها من أدلائه. وتكلم ديودور وسترابون على مصر أيضاً. بيد أن كل من ذكروها رأوها في انحطاط فلم يتيسر لهم أن يعرفوا شيئاً عن قدماء المصريين.
شامبوليون - دعت حملة الفرنسيين على مصر (1798_1801) إلى فتح أبواب الديار المصرية للعلماء فهرعوا إليها يزورون الأهرام وخرائب ثيبة عن أمم ويعودون منها وقد حفل وطابهم بالصور والآثار. ولم يكن لأحد أن يحل الخط المصري المسمى بالهيروغليفي. وتوهم الناس أن كل خط من هذه الكتابة يقوم مقام كلمة حتى إذا كان عام 1821 خالفهم شامبوليون أحد علماء الفرنسيين وعمد إلى طريقة أخرى وجاء أحد الضباط من رشيد بأثر ذي خطوط ثلاثة كانت الخطوط الهيروغليفية المسطورة بها مترجمة إلى الرومية. وهذا الأثر يمثل الملك بطليموس محاطاً بدائرة. فتوصل شامبوليون بهذا الاسم إلى الاطلاع على حروف ولدى مقابلتها بأسماء ملوك أخر وكانت أيضاً محاطة بدائرة اكتشفت حروف الهجاء. ولما تيسرت له قراءة الخطوط الهيروغليفية ظهر له أنها كتبت بلغة تشبه القبطية وهي اللغة التي شاعت بمصر على عهد الرومان وعرفت حق معرفتها.
علماء الآثار المصرية - جاء بعد شامبوليون زمرة من العلماء توفروا على دراسة أحوال مصر واكتشاف جليها وخفيها وتدعى هذه الفئة من العلماء اجبتولوك أي المشتغلون بالآثار المصرية ولهم رصفاء في ممالك أوربا كافة. وقد أجرى ماريت (1821_1881) من المشتغلين بالآثار المصرية على نفقة خديوي مصر ما يقتضي من الحفريات وأحدث متحف بولاق. وأنشأت فرنسا في القاهرة مدرسة لتعليم الآثار المصرية ناطت إدارتها بالمسيو ماسبرو.
الاكتشافات الحديثة - لا يعثر في بلد من بلدان الأرض على خبايا ثمينة كخبايا مصر ودفائنها لأن المصريين كانوا يبنون قبورهم أشبه بدور يضعون فيها ما يقتضي للميت من ضروب الأمتعة والأثاث والرياش والسلاح والطعام وقد غصت البلاد بالقبور الطافحة بهذه الذخائر والأعلاق. وساعد إقليم مصر الجاف الهواء على حفظ هذه الأمتعة سالمة بعد مضي أربعة أو خمسة آلاف سنة. فلم يترك شعب من الشعوب القديمة أثراً كآثار قدماء المصريين وما عرفنا شعباً معرفتنا له.(3/8)
المملكة المصرية
قدم الشعب المصري - قال كاهن مصري لهيرودتس: أنتم معاشر اليونان أطفال. كلام يفهم منه أن المصريين كانوا يرون أنفسهم أقدم أمم العالم فقد قامت ست وعشرون سلالة ملكية إلى عهد الفاتح الفارسي سنة 520ق. م ترتقي أولاها إلى أربعة آلاف سنة. وكانت مصر دولة في خلال هذه الأربعين قرناً فجعلت منفيس في بلاد الصعيد عاصمتها أولاً إلى عهد السلالة العاشرة (وهو دور الدولة القديمة) ثم صارت مدينة ثيبة في مصر العليا (وهو دور الدولة الحديثة).
منفيس والأهرام - بنى مدينة منفيس أول من ملك مصر وسورها بسور منيع فبقيت سالمة من بوائق الأيام زهاء خمسة آلاف سنة ثم أخذ السكان أحجار أنقاضها في القرن الثالث عشر وبنوا بها مساكن القاهرة وما تركوه منها أتى عليه النيل وسدل دونه حجاباً أما الأهرام فلا تبعد كثيراً عن منفيس ويرد عهدها أيضاً إلى الدور القديم وهي قبور ثلاثة ملوك من السلالة الرابعة وعلو أعظمها 147 متراً عمل في بنائه مائة ألف عامل مدة ثلاثين سنة. وقد أقيمت سدود منحدرة قليلاً لرفع الأحجار إلى شاهق ثم خربت.
التمدن المصري - يدل ما يستخرج من قبور تلك الأعصر من هياكل وصور وأدوات على أن هناك شعباً متمدناً. فقد عرف المصريون قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة للميلاد حراثة الأرض ونسج الثياب وتطريق المعادن والنقش والرسم والخط وكانت لهم ديانة منظمة وملك وإدارة. على حين كانت الأمم النبيهة وهم الهنود والفرس واليهود واليونان والرومان في حالة الهمجية مأثورة مذكورة.
ثيبة - خلفت ثيبة مدينة منفيس فصارت عاصمة البلاد على عهد السلالة الحادية عشرة ولم تزل خرائبها المدهشة في لوح الوجود وهي ممتدة على ضفتي النيل ومحيطها نحو اثني عشر كيلومتراً. وعلى الشاطئ الشمالي صف من القصور وهي لقصر والكرنك تبعد بعضها عن بعض نصف ساعة بنيت كلتاهما وسط الخرائب ويجمع بينهما شارع ذو صفين من تماثيل أبي الهول وكان هناك قديماً أكثر من ألف أبي الهول. وأعظم هذه المعابد الحربة معبد عمون في الكرنك أحيط به سور محيطه 2300 متر. وأن طول أشهر قصر (ايبوستيل) وأعظمه في العالم مائة ومتران وعمقه 53 متراً وهو حجم عمود فاندوم.(3/9)
وكانت ثيبة عاصمة ومدينة مقدسة ومقر الملوك ومسكن الكهنة نحو ألف وخمسمائة سنة.
فرعون - يعتبر ملك مصر المعروف بفرعون ابن رب الشمس ومثاله على الأرض ويزعمون أنه كان هورباً. وقد شوهدت صورة الملك رعمسيس الثاني جالساً بين ملكين. فالملك يتعبد إنساناً ويعبد ملكاً ولفرعون سلطة مطلقة على البشر لربوبيته فيحكم حكم المولى على كبار سادات قصره وعلى المقاتلة ورعاياه كافة والكهنة في عبادتهم إياه يلتفون من حوله ويحرسونه فيكون رئيسهم الكاهن الأعظم للرب عمون المستأثر بالحول والطول دونه وقد يحكم باسم الملك ويخلفه في الأحايين.
الرعايا - يملك مصر من أعلاها إلى أسفلها الملك والكهنة والجند والموالي وما عداهم فوصفاء يستخدمونهم في حرث الأرض وعمال الملك يلاحظونهم ويقبضون ثمار عملهم بضرب العصي أحياناً وإليك ما كتبه أحد هؤلاء الموظفين إلى صديق له: ألا تذكر حالة الفلاح الذي يحرث الأرض فإن جابي الأموال يقف على الرصيف المعد لجباية عشر الغلات وثلة من العمال بعصيهم يتبعونه وزنوج ماسكون بأيديهم سعفات النخل يصرخون بصوت واحد: البدار البدار إلى تسليم الحبوب. وإذا لم يكن للفلاح ما يؤديه من الغلات يلقونه على الأرض ويشدون وثاقه ويجرونه في الترعة رأسه إلى تحت وقدماه إلى فوق.
كيفية حكم مصر - كان الشعب المصري أبداً ولم يزل بعد فرحاً لا يهتم خاضعاً خانعاً أشبه بالطفل المستسلم إلى ظالمه. وكانت العصافي هذه البلاد أداة التربية والحكومة حتى كان أعوان الملك يقولون: (خلق ظهر الفتى ليضرب فهو لا يمتثل الأمر إلا إذا ضرب) ذكر أحد سياح الفرنسيين أنه كان واقفاً ذات يوم أمام خرائب ثيبة فهتف قائلاً: ليت شعري كيف بنوا كل هذا. فاستضحك دليله وقال ماسكاً بيده مشيراً إلى نخلة: بهذه بنوا هذا أجمع اعلم يا مولاي أنه إذا كسرت مائة ألف سعفة من سعف النخل على ظهر من أكتافهم عريانة أبداً تبنى قصور كثيرة ومعابد.
اعتزال المصريين - قلما خرج المصريون من بلادهم لما أنهم حاذروا ركوب البحر ولذلك لم تكن لهم ملاحة وما اتجروا والشعوب الأخرى ولم تعرف لهم بحرية إلا على عهد الدولة السادسة والعشرين وما كانوا أمة حربية قط. ولقد قاد ملوكهم الجند في حروبهم واتخذوا القتال دينهم فبعثوا البعوث إلى زنوج الحبش تارة وإلى القبائل السورية أخرى فإذا غلبوا(3/10)
صوروا صورة النصر على جدران قصورهم ومتى قفلوا راجعين من غزاتهم يأتون بالأسارى فيستخدمونهم في بناء المعاهد على أنهم ما أحرزوا قط نصراً مؤزراً ولا فتحوا فتحاً مبيناً فدهم الأغيار مصر أكثر مما حمل المصريون على الأغيار.(3/11)
حسنات القرن الماضي
عن الإفرنجية
تقدم في البحث السالف ما أصاب المجتمع الغربي من السيئات والمضنيات والآن نلم بما أتاه القرن التاسع عشر من الحسنات والمقومات فنقول: إن الثورة السياسية الاجتماعية العظيمة التي حدثت في القرن الماضي في أوربا قد أثرت في تحسين القوى العقلية في الأجيال الحديثة كما أحدثت الاكتشافات العلمية وانتشار التعليم بين السواد الأعظم من الناس نشوءً وارتقاء في المجتمع الحديث وفي الأفكار التي يجري عليها فتحكم فيه حكمها وها نحن نعطي البيان حقه من شرح النتائج الظاهرة من التربية الحديثة طبيعية كانت أو عقلية أو أدبية ونذكر ما أثرت في الشبان من تغيير طرق معيشتهم وأعمالهم وأفكارهم حتى صار من هم بعضهم أن يسيروا بالإنسانية نحو الكمال وإن كان ذلك الآن من المحال.
وأعظم هذه الحادثات وأولها هي الثورة الفرنسية إذ قوضت المبادئ التي كانت أساساً للحضارة الأوربية مدة قرون عديدة وبهذا كانت فرنسا مهد الإصلاح الاجتماعي العظيم والأرض التي نمت فيها وربت تلك الأفكار الأساسية التي استولت على المجتمع الحديث كمساواة الجميع أمام القانون واشتراكهم في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية وحرية العمل والصناعة وحرية الدين والفكر.
ولأمراء أن قد قل في العصور الغابرة عصر أثر في حياة الأمم الأوربية تأثيره في هذا القرن وما داناه قرن سابق ولا لاحق في أعماله. تلك الأعمال التي لم يقف نفعها عند حد الانقلابات السياسية بل تغيرت بها غايات الأعمال في المجتمع الإنساني وأماني الناس وأميالهم فدخلت الإنسانية كما قال بعضهم في طور جديد من الحياة مطالبة الإنسان بوضع أساس للحقوق كافة وللقوانين عامة على أن تكون روحاً لحق الحرية. نعم تغيرت المناحي والأفكار والعادات والنظامات الاجتماعية فتمثل للمرء ميدان الآمال الغريزية بعيد المضطرب ممتد الرواق وأيقن أن ساحة الجهاد شرع لكل العاملين فلم يفكر في غير تحسين حالته الاجتماعية بالعمل وتثقيف العقل. فانصرف بعضهم إلى العلوم والفنون وبعضهم إلى التجارة والصناعة وبعضهم إلى زراعة الأرض والاغتناء من غلاتها. وكل فرد من أعضاء هذا المجتمع يجتهد جهد طاقته في الأخذ بيد الترقي وإنعاشه من سقطته.(3/12)
ولم يقنع الإنسان بأن يكون أداة حيوانية في تعاطي الأعمال بل بحث على العكس في إيجاد أدوات وآلات تقوم مقام الأذرع التي لم تكف للقيام بما هدته إليه فكرته الباحثة. فانقسمت العناصر القائمة بالجهاد الإنساني وتنوعت بتعدد التنظيمات الطبيعية والعقلية المنبعثة كم كل امرئ على حدته جرياً على ناموس تقسيم الأعمال. وما فتئت أنواع المعارف الإنسانية المنوعة تكمل وتكبر والنجاح مؤاتيها إلى أن تبلغ مكانة سامية لم تعرف في القرون الماضية. فالعمل وحب العمل هما من العلامات التي ينعت بها عصرنا هذا ولا أعني بالعمل العمل البهيمي المعهود في الأزمان الماضية بل أريد العمل المنتج المتأتي عن ذكاء وفهم. ولقد كانت الحاجة ماسة قديماً للأذرع وقوة الحيوانات لطحن القمح وإدارة المطاحن أما اليوم فقد توصل الفكر البشري إلى استبدال البخار والكهربائية بتلك العوامل بمعنى الفكر في قرننا الذي يحق له أن يدعى قرن الماديات هو العمل والعمل هو الفكر. فماديات اليوم تختلف عن ماديات أمس من حيث أن هذه كانت تعد الفكر مادياً وتلك تحسن المادة بدرس خصائصها الطبيعية والكيماوية للانتفاع بها في الأرباح والمتاجرات الصناعية.
وبفضل ارتقاء الأشغال العقلية رقَّ الشعور وسما الإحساس فصارت للمرء قيمة وللعالم مقام وانتهت الحال بتحرير الرقيق والإماء. وبارتقاء العلوم واستخدامها في الحرف والصناعات بلغ الإنسان بإيجاد موارد الإنبات وتوفيرها والاستكثار من الثروة العامة مبالغها. وراح العامل وعدته المعارف العلمية في صناعته يعنى بالتعلم والتفكر والبحث ويهتم بارتقاء الصناعات والعلوم على حين كانت أداة ساذجة تابعة للآلات الصماء. وليس كل ما تم في هذا القرن من صالح الأعمال إلا نتيجة من نتائج العلم العملي وأثر من آثاره. وحقاً أن ارتقاء العلوم الطبيعية والكيماوية في هذه الخمسين سنة الأخيرة قد أثرت تأثيراً بيناً في الصناعات وفي الطبقة العاملة من الناس بل في التجارة وعملائها بحيث امتنع على المرء أن يعيش عيشاً ساكناً خالياً من الهموم وإشغال الأفكار على نسبة نجاح مشروعاته وأعماله. وإذا كانت قيمة الغلات الأرضية والصناعية عرضة أبداً للتقلبات على اختلاف أنواعها لتقلب كيفيات الاستعمال وتبدله صار القائمون على الصناعات في قلق أبداً مضطرين إلى إيجاد طرق جديدة أخرى لنيل الأرباح التي تطمح إليها نفوسهم.
إلا وأن اكتشاف البخار والكهربائية واستخدامها في التجارة والصناعة بتقريب الأبعاد(3/13)
والمسافات وقد دفع بظواهر الحركة الاجتماعية إلى الرُّقيّ فلم تتزايد طرق المواصلات فقط بل اختصرت بحيث استحالت الساعات دقائق والأيام ساعات والشهور أياماً والسنون شهوراً. فقوى الحركة الحية التي لا تنضب قد سهلت الصلات بقصر المسافات في لمحة بين أقطار المسكونة التي تتبادل للحال نتائج نجاحها وأفكارها وأعمالها. ثم رأى المرء نفسه في حاجة تضطره إلى أن يقوم على الصناعات والعلوم بدون وناء وأن يستخدم قواه العقلية بأسرها ويوجهها نحو خصومه في البلاد الأخرى إذ ليست المسابقة مقصورة على شعب واحد ولا على بلد واحد بل قد امتدت شرارتها في أطراف الأرض واتصلت بأمم الكرة الأرضية كلها وخصوصاً بين من توفرت فيهم شروط الإنتاج والعمل. ومع هذا فلم يقف عقل الإنسان عند حد اختراع السلك البرقي والآلات البخارية بل قد تعداهما إلى خرق الأنفاق في الجبال العظيمة وحفر الترع في القفار والأصقاع المستنقعة حبَّ تسهيل الصلات بين أنحاء الأرض المختلفة وتنشيطاً لمقايضة غلات الأرض وثمرات العمل والذكاء.
ومن نتائج المواصلات السريعة العديدة بين الأرجاء الكثيرة والبلاد الشاسعة والأجناس المختلفة الطباع واللغات انتشار أفكار التمدن الحديث بين جمهور الناس والتسامح مع الآراء المتضادة. ثم أن الحاجة مست في تعليم الطبقة النازلة من الناس وتلقينهم احترام الإنسانية والبلوغ بهم إلى تكريم الوطني بتعليمهم حقوقهم وواجباتهم.
ومما تم في هذا القرن الجليل إعطاء المرأة حقوقها وتحريرها من رق العبودية التي رسفت في قيودها من قبل قروناً متطاولة فقد أنالها حقوقاً ساوت بها حقوق الرجل فصارت بذلك جديرة أن تربي أولادها وتلقنهم حب العمل وتطبعهم على بغض الرذيلة لإصلاح ما اختل من أحوال المجتمع البشري. ولم تكن حال النسوة في عصر من الأعصار مشابهة لحالهن اليوم فقد نلن بفضل القوانين المسنونة حظاً من العلم والأدب تشتد به سواعدهن في التغلب على مشاق الحياة. وقد عنيت معظم حكومات أوربا بإنشاء مدارس عالية وابتدائية لتعليم الفتيات العلم وتلقينهن أساليب العمل وإذا صحت عزائم الأفراد على اتباع سيرة الحكومات ومضافرتها في هذا السبيل من إنشاء المدارس للبنات ترتقي آداب المجتمع الإنساني ويحيى نظام العالم حياة طيبة رغيدة.(3/14)
وقصارى القول فقد علمت مما مر بك بعض حسنات هذا القرن ولا يفوتك علم ما يناقضها. ومن نظر بعين البصيرة يتضح له كل الوضوح أن القرن التاسع عشر أفاد المجموع أكثر من الآحاد وإذا نظرت كل شيء في الوجود نظر المستبصر تراه ذا وجهين وجه النور ووجه الظل وأحدهما نتيجة لازمة للثاني. فإنك ترى الظافر في الحروب العظمى الوطنية يسكره النصر فيحتفل بما يؤيد تاريخه ويترنم بالأناشيد الوطنية ليخلد آثار سلاحه في رقاب الأعداء ويسجل عظمة أمته ناسياً ما أهرقه من الدماء وألوفاً من النفوس التي قضت نحبها في ساحة الوغى وألوفاً من العجزة من جراح أو أمراض أصابتهم في الحرب وكثرة الأيامى واليتامى ممن قضت عليهم أعمال القوة الوحشية أن يرفعوا باستلال أرواح ذويهم مجد أمته وعظمتها.
وبعد فلا يخفى أن كثرة انتشار الذكاء الإنساني في القرن التاسع عشر وازدياد مواد الغلات زيادة لا تنقطع بما تهيأ لها من وسائط العمل الطبيعي والعقلي وجمع الثروات العظيمة وسمو منزلة الذكاء الأدبية قد ولدت كلها سلسلة من الأهواء كانت فيما مضى مقصورة على طبقة قليلة من الناس. ذلك أن الإفراط في حب السلطة والصيت والطمع في الغنى والشرف وشدة الظمأ إلى البذخ والشهوات كان في القديم من خصائص الطبقة العالية والطبقة الغنية في الأمم فتناول اليوم أهل الطبقة الوسطى حتى أرادت السير على مناحي الطبقة العليا حذو القذة بالقذة. إذا عرفت هذا فقد ثبت لك أن الطموح إلى المطالب العالية والذهاب بفضل الشهرة لم يعم قط كما عم في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. وقد أهلك هذا المرض الوبيل عدداً من القتلى أكثر مما أهلك من طبقات المجتمع المختلفة في أيامنا. ولئن تولدت الرغبة في الشهرة أحياناً من شعور شريف كريم وحملت المرء أن يفادي بمصلحته بل بحياته الخاصة توقعاً للنجاح فهذا الهوى يتبعه العجب أحياناً فيسود صحيفة صاحبه بحيث يبعده عن غايته المقصودة فيحدث أحياناً هيجاناً عصبياً يستحيل إلى زيغان في العقل واختلال في المدارك.
وهنا سؤال وهو لم كانت هذه الاضطرابات العقلية والأدبية؟ فالجواب عنها جواب لا يحتمل الريبة والمغالطة إن ذلك ينسب إلى ميل أبناء عصرنا فقد افتتن الشبان بأبهة الشهرة كأنها الغاية الأصلية في الجهاد الإنساني وكأنها غاية السعادة التي ينبغي الطموح إليها.(3/15)
حتى أن الحكومات لتساعد حباً بزيادة نوابغ أبنائها على تنمية العجب وحب الذات في النفوس وتأصلهما في تلك القلوب الفتية الراغبة في المراتب العالية بما ينهال عليها من المكافآت الغرارة والتشريفات الزائلة وبعد أن تلقي أذهانهم خيالات غايتها تحسين مستقبلهم تتركهم وشأنهم على حين يدخلون معترك الحياة الحقيقية للشروع في الجهاد. نعم تسلمهم لقوتهم الخاصة عوضاً عن أن تكفل لهم ما يستطيعون معه أن يقوموا بواجبات صناعة شريفة.
ثم إن ارتقاء الأفكار الدستورية واشتراك الوطنيين كافة في الحقوق المدنية والسياسية والرغبة في الاشتهار بالمجادلات في دور الندوة قد كان من نتائجها الطبيعية الطمع في الزعامة وحب السلطة بحجة الرغبة في تحسين حال الأمة واتخاذ أسباب السعادة العامة. يشترك في الدعوة إلى هذا الأمر جميع طبقات الأمة. وكلما تأصلت الأفكار الجمهورية في العادات والقوانين زادت اللهجة بذلك وتوفر القوم عليه.
وهناك شيء آخر وهو أن الرغبة في المناصب والمراتب زادت زيادة خرجت فيها عن طور التعقل وحدود الاعتدال حتى عند من لم تساعدهم ملكاتهم على تحقيق شيء مما ينالونه. وأن قلة تمييز الحكومات بين مختلف الكفاءات والملكات في رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات قد دق عنق العدل وقتل روح المباراة وأطفأ نور القرائح قبل انبعاثه فصارت تعبث الشفاعة بالكفاءة الشخصية. فنتج من ذلك أن عدداً عظيماً من الفتيان رأوا بلوغ المراتب ومنازل التشريف غاية عملهم الوحيد فراح بعضهم يطمح فيها للوصول إلى الغنى وبعضهم يميل إلى الغنى للوصول إلى المراتب واتخاذ أسباب التصدر وكان عليهم أن يكون العمل سبب السعادة وغايته العالية.
بيد أن العلم والصناعات كانت عند كثيرين القاعدة التي استندوا إليها لبلوغ المناصب الاجتماعية السامية وسهلت لهم أسباب الغنى. وقد تولد من الطمع في التمول حب الشهوات والبذخ التي ما برحت تزداد نمواً في الطبقات الاجتماعية عامة كل يوم. وليس معنى البذخ الذي هو مقياس الثروة والغنى أو مظهر من مظاهر الراحة القائم بإنفاق مبالغ طائلة لامتلاك مجاميع جميلة من الأعلاق والنفائس أو العاديات المجلوبة من أقطار عديدة بل إن معناه الإشارة إلى النجاح والذكاء في كل من يحبون أن يشتهروا بحسن الذوق أو حب(3/16)
الصناعات والفنون. وما أقبح بذخاً غايته أن يحدث ضرورة ويستر في مطاويه الشقاء تحت رداء جميل من التمويه أو أن تكون غاية من يجعله ديدنه إغواء الناس ليخرج من ضائقة ويستلفت الأنظار إلى غناه فيربح من ذلك ما يسد مخمصته وينيله بغيته.
ومن أعظم الأعمال التي قامت في هذا القرن تأليف الشركات فإنها انتهت بتأسيس مشاريع عظيمة للانتفاع بموارد غلات الأرض وتنمية صناعتها. وهكذا كان من تأليف الشركات المالية وجمعيات الإحسان وأعمال وإن أسفرت عن معاضدة الثروة العامة فقد قطعت أيدي كثيرين عن العمل وأضعفت من همم الأفراد وخربت بيوتاً كانت من قبل عامرة. فإن ما يعمله الجماعة يستحيل على الفرد القيام به. وقد أكثرا اكتشاف ركاز كاليفورنيا وأوستراليا والترنسفال من الذهب في الأيدي وكانت التجارة في غنى عنه فنقص سعر الذهب وزادت قيمة المصنوعات والحاجبات مما جعل الإنسان في أحرج المواقف من جهاد الحياة. ونتج فقر وغنى من جمع رؤوس أموال عظيمة وتأليف جمعيات صناعية ومالية كبرى بل كان من وراء ذلك فراغ يتعذر إشغاله تعذر إملاء فنطيس (برميل) الدنائيد إذ بعدت غاية عملنا بقدر امتداد دائرتها وانفصمت عرى الموازنة بين رغائبنا وأسبابنا فبذلت القوى العصبية وأجهدت القرائح فوق طاقتها فكان من ذلك أمراض عصبية كثيرة.(3/17)
التصوير والرسم
ما برح أهل الأخصاء في مدينة الإسلام يعجبون من كونها بلغت عند أهله شأوا بعيداً على حين لم يكن لهم هوى في التصوير والرسم كما لأهل المدنية من الأمم الغربية لهذا العهد مثلاً فيحكم أولئك الباحثون حكماً إجمالياً على مجموع ما قام من تلك المدنية بجزء طفيف اطلعوا عليه منها.
نعم حظر الإسلام رسم الأشخاص مجسمة على حجر أو خشب أو نحوه تفادياً من أن يرجع العرب إلى عبادة الأصنام والوثنية التي جاء الإسلام للقضاء عليها. أما الرسم الذي يمثل الأجسام إلى حد ما فهو مباح لا حظر فيه ولا وزر على فاعله. والدليل على ذلك أنه كان يرد على الصحابة أقمشة من بلاد الروم وفارس رسمت عليها صور أشخاص وغيرهم فاستعملوها في ألبستهم وفرشهم وأثاثهم وتحاشوا من وضعها في مكان عال فلم يجعلوها ستائر للنوافذ ولم يعلقوها على الجدر مخافة أن يشعر ذلك بتعظيمها.
أما رسم المسائل العلمية وتصويرها كالنبات والبيطرة والحيوان والهندسة فقد استعمله المسلمون بحسب الحاجة إليه. نرى مثلاً من إجادتهم في هذا الشأن من رسوم كتب أبقتها لنا الأيام ومنها كتاب كليلة ودمنة الذي عرب في القرون الأولى وشاع بين الطبقات كافة مزيناً بصور الأشخاص. وكذلك مقامات الحريري فقد نقل لي من زار مكتبة باريس أن فيها نسخة من المقامات مصورة بأبدع الصور كتبت في القرن السادس. ولابن عربشاه الدمشقي كتاب فارسي اسمه المرزبانامة مزين بالصور أيضاً.
قال أحد العلماء الأعلام في أحوال الإسلام. أفرط الأوربيون في استخدام الصور والرسوم حتى صار مصوروهم يتخيلون من ضروب التصوير ما لا يتحقق في الحس وابتذل التصوير والرسم حتى صرت إذا قلت للغربي أنك زرت البلد الفلاني مثلاً ولم تأته بصور شمسية يكاد لا يفهم منك ولو كنت من الفصاحة بحيث يشترك في درك ما تقوله الكبير والصغير مما يكاد يدل على أن تلك الأمم لا تقبل أذهانها إلا المحسوسات وتدق عن تصور ما لا تراه في صورة مرسوماً رسماً مجسماً. قال وليس من العقل تصوير كل الكتب ولا جعلها خلواً من الرسوم بتة مع مسيس الحاجة إلى التصوير ولاسيما في المسائل العلمية والأدبية وأن الإكثار من الرسوم يضعف قوة التصوير.
ومن العجيب أن المسلمين وأن حظر دينهم التجسيد والهياكل والتماثيل فقد أبقوا في مصر(3/18)
على ما وجدوه منها مثل تمثال أبي الهول فإنه بقي سالماً إلى قبيل القرن الخامس حتى إذا اشتد التعصب قام بعض الجهلة يتقربون إلى الله بالعبث بها وقد ذكر ذلك عبد اللطيف البغدادي الفيلسوف المشهور في رحلته ورد عليهم رداً تفهم منه أن المسلمين كانوا من التسامح بحيث لا يطيلون يد الأذى حتى لما حرمه شرعهم.
نقل ابن أبي أصيبعة أن الملوك من اليونانية وغيرها كانت تعلم أولادها الحكمة والفلسفة وتؤدبهم بأصناف الآداب وتتخذ لهم بيوت الذهب المصورة بأصناف الصور قال وإنما جعلت الصور لارتياح القلوب إليها واشتياق النظر إلى رؤيتها فإن الصبيان يلازمون بيوت الصور للتأديب بسبب الصور التي فيها وكذلك نقشت اليهود هياكلها وصورت النصارى كنائسها وبيعها وزوق المسلمون مساجدهم.(3/19)
انحطاط الأخلاق
من البديهي أن للخلق عملاً كبيراً في الحياة الإنسانية يظهر أثره على كل فرد من أفراد النوع والحكم في هذا ثابت بالاستقراء مؤيد بالبداهة لا حاجة بنا إلى الفلسفة فيه وإقامة الدليل عليه. وإنما نريد أن نذكر من أثره في مجموع الأمة ما أصيب به أهل المشرق من الانحطاط الناشئ عن ضعف الأخلاق وفساد ملكات العلم بوسائل الحياة الطيبة التي يتمتع بها أمم غيرهم.
لا خلاف بين الباحثين في طبائع الأمم المشتغلين بتقصي أحوال الاجتماع في أن المدينة وإن كانت أثراً جميلاً من آثار ترقي الشعوب وتخلص العقل من قيود التقليد وتخلصه من أسر البداوة إلا أنها مرتع خصيب لجراثيم الأدواء المفضية إلى انحطاط الأمم التي تنو بنمو الحضارة وتتربى في أحضان المدنية. ومن ثم كانت المدنية أشبه بمرتفع ذي سلمين للصاعد والهابط لا ينتهي صاعده في الصعود حتى يبدأ بالنزول ذلك لأن الاستغراق في المدنية مدعاة للاستغراق في الملاذ بما يتوفر فيها من أسباب الراحة ودواعي الرفاهية وهما مجلبة الفساد الذي يتخلل أعضاء المجتمع فإما أن يتمكن منه فيرديه وإما أن يطاوله فيؤذيه.
وأكثر ما يظهر ذلك الفساد في الأمم العريقة في الحضارة البعيدة العهد بسلامة الفطرة حيث يتناهى بها الضعف الناشئ عن طول عهدها بالملاذ ويتولاها العجز عن مقاومة الفساد المتمكن في النفوس والأخلاق فتصير إلى حالة من الانحطاط تشبه حالة المريض بمرض معد كل من خالطه سرت إليه عدواه.
هذا شأن أمم الشرق التي توغلت في عصور المدنية منذ ابتدأ تاريخ الاجتماع البشري فكانت أقدم الشعوب عهداً بالتمدن لذا صارت إلى ما صارت إليه من الانحطاط وإهمال القيام على التربية الصحيحة التي تقاوم أعراض الضعف المتأتي عن الانغماس في المدنية والإمعان في سبيل الرفاهية وصار الغرب مع ما توفر فيه من أسباب الترف والحضارة أرسخ قدماً في المدنية وأبعد عن مكان الضعف لجدة مدنيته وقيامها على أصول التربية الصحيحة بما تسنى لأهلها من وجود بعض المخترعات النافعة كالمطابع التي أفادت الغربيين في تعميم العلم وتعليمه فوائد لا تحصى مع أن الطبع وجد قبل ذلك عند الصينيين من أهل المشرق ولم يستفيدوا منه ما استفاده الغربيون في رفع بنيان مدنيتهم على دعائم العلم الصحيح. ذلك لما قلناه من أن أمم المشرق الموغلة في الحضارة قد تولاها الضعف(3/20)
عن النهوض بما أفسد طول أيام حضارتها من أخلاقها منذ عصور بعيدة أو آلاف من السنين حتى صارت من ذلك إلى حال تشبه حال المريض الذي يعدي السليم. وليس فساد الأخلاق في المشرق بقريب عهد بل هو يغلغل فيه من عهد طويل بدليل ما نقل في التاريخ عن أحد قناصل رومية أنه قال إنا وإن غلبنا الشرقيين وهزمناهم ودوخنا ممالكهم إلا أنهم ثأروا منا بأن تركوا لنا مع هذه الممالك أخلاقهم المنحطة.
وفي الحقيقة أن الرومانيين وإن بلغوا من عزة الملك والسلطان باستيلائهم على المشرق ما بلغوه إلا أنهم منذ وطئوا بأقدامهم أرض المشرق خطوا الخطوة الأولى إلى الانحطاط بما تسنى لهم فيه من وسائل الترف التي كانت متوفرة يومئذ عند الشرقيين فغلبت على نفوسهم الشهوات وحب الراحة والتنعم بنعيم أهل المشرق ففسدت فطرتهم البدوية التي مهدت لهم بسلامتها من شائبة الحضارة سبيل الغلبة على القرطاجيين والرفس وغيرهم والتسلط على الغرب والشرق حتى إذا خالطوا أمم المشرق التي كان لها حظ من الحضارة ولم يحتاطوا لأنفسهم من آفات المدنية الشرقية التي تسممت بفساد الأخلاق سقطوا من حالق مجدهم ذلك السقوط المريع وغشيهم بعد ذلك من الضعف والذل ما ذهب بدولتهم. ومحا من عالم الاجتماع اسمهم. وحسبك أن تعلم مبلغ انحطاط الأخلاق في دولة الرومانيين في المشرق من تعاليم عيسى عليه الصلاة والسلام التي ترمي إلى الزهادة في نعيم الدنيا لتقف بالقوم عن الإمعان في مذاهب الشهوات والاستسلام لمطالب النفوس الهائمة بحب الانطلاق عن كل قيد. وهذا شأن المشرق أيضاً مع من سبق من الرسل أصحاب الشرائع التي جاءت كلها لتقويم أود النفوس وإنما تنزل هذه الشرائع عند الحاجة كما هو معلوم بالضرورة فكان المشرق لاستحكام الحضارة في أهله وتأصل فساد الأخلاق فيه لم تنقطع حاجته إلى رسول أو شريعة تقوم منآد ساكنيه.
وما أصاب الرومان من مخالطة الأمم المتحضرة من سكان المشرق أصاب العرب أيضاً فهم وإن كانوا من أهل المشرق غير أنهم من شعوبه البدوية التي تسيجت من تطرق الحضارة إليها بسياج واق من الصحاري الشاسعة التي تحيط بجزيرتهم حتى إذا بعث الله نبياً منهم بشريعة تدعو إلى الخير وترمي إلى تهذيب أخلاق الأمم ونهضوا لنشر هذه الدعوة وتقدموا للفتح كان لهم من سلامة الفطرة وطهارة الأخلاق ممهد عظيم لبسط جناح(3/21)
السلطة على الممالك القديمة وفي جملتها بقايا مملكة الرومان الشرقية. ولما تمكن لهم السلطان في الأرض واختلطوا بأهل الحضارة والترف من أمم المشرق غلبوا على أخلاقهم وأسرعت عدوى الفساد إليهم فلم يلبثوا إلا جيلاً أو بعض جيل حتى أخلدوا إلى الراحة ونسوا حظاً مما ذكروا به وحملوه من دعوة الخير والإرشاد إلى الأمم فانحطت أخلاقهم وزالت سطوتهم، وذهبت مع الذاهبين دولتهم.
يظن بعضهم أن ما منيت به مدينة الغرب لهذا العهد من فشو الفاحشة والتهتك بين أهلها هو نتيجة الإيغال في الحضارة والنزوع إلى الشهوات وأن فساد الأخلاق المؤذن بتلاشي الأمم إنما هو محصور بمثل هذه الرذائل الفاضحة وليس الأمر كذلك إذ أن هذه الرذائل وإن كانت من نتائج الحضارة ولها أثر قبيح في المجتمعات المدنية فهي بعض من كل ما ندعوه فساد الأخلاق ونراه مظنة انحطاط المشرق وأهله. إذ من المعلوم أن الأخلاق الفاضلة وأضدادها كثيرة جداً كالكرم والبخل، والعفة والشره، والشجاعة والجبن، والصدق والكذب، والأمانة والخيانة إلى غير ذلك من الملكات التي منها ما يكون بالفطرة ومنها ما يكتسب بالتربية وتولده في النفوس البيئة أو الوسط الذي يعيش فيه الإنسان. وضرر الكذب مثلاً إذا تفشى بين قوم أشد خطراً على حياتهم الاجتماعية من التهتك. لأن الكذب آلة كبيرة من آلات الفساد تهدم ركناً عظيماً من أركان المدنية وهو الثقة التي هي روح التجارة والصناعة في كل عصر ومصر. وكذلك الجبن مثلاً فإنه إذا استحوذ على النفوس أضعفها وانتزع ملكة الإقدام على جلائل الأعمال وحرم أربابها ثمرة الاعتماد على النفس والمجاهدة في سبيل الحياة. وهكذا يقال في كل خلق من الأخلاق الفاسدة كمال يقال بالعكس في الأخلاق الفاضلة. ومن أطلق على الشر نظر المتأمل ورأى ما تفشى بين أقوامه من ضعف النفوس، ووهن العزائم، وفقد الثقة والأمانة، والنميمة، والرياء، والكبرياء الباطلة، والعيشة الخاملة، والرضا بالقديم، ومعاداة العلم وغير ذلك من الأخلاق السافلة التي قضت بالشقاء على المشرق وأهله علم أن ما أصاب مدنية المغرب من الاستهتار وشيوع الفاحشة ليس بشيء في جانب ما يرى ثمة من الثقة المتبادلة، والأمانة في المعاملة، والاعتماد على النفس في معترك الحياة، والنزوع إلى المزيد من القوة والعلم والثروة، وحب الحرية، والصدق في العمل والقول، والبعد عن المداهنة والرياء، خصوصاً للقادة والزعماء، وغير(3/22)
ذلك من الأخلاق العالية التي أصبحت سياجاً للمدنية الغربية يقيها سرعة السقوط فيما سقطت فيه المدنية الشرقية من الضعف والفساد.
ورب قائل يقول إن من المحال إذن تخلص الشرقيين من حبائل الانحطاط في الأخلاق واستئصالهم لمرض الضعف الذي نما فيهم بمرور الأجيال، نمو المرض القتال. والجواب عن هذا أن المحال، في الممكنات محال. وإذا نهض أهل المشرق لملافاة ما فات، والنظر فيما هو آت، وانتهجوا سبيل الأناة والتعقل، وكان لهم من القادة ما كان لإخوانهم اليابانيين فليس من المحال حصولهم على مدنية فاضلة تضاهي مدنية المغرب لهذا العهد. ولنا بهذا الصدد كلام آخر نرجئه لفرصة أخرى إن شاء الله.
القاهرة
رفيق العظم(3/23)
الكتب والجراثيم
العاقل يأخذ من كل كلامه أطيبه ومن كل نصيحة أنفعها فلو أراد مثلاً أن يعمل بجميع ما يشير به علماء البكتريولوجيا ويعتقد بفعل الجراثيم اعتقادهم بها لانقطعت يده عن العمل ولسانه عن الأكل وأنفه عن الشم وجسمه عن الحركة ولكن الحكيم يأخذ الكلام ويزنه بميزان الإنصاف ويقلبه على محك البصيرة فلا يقبله أو يقبل منه إلا بعد عرضه على فيصل العقل ومحكم التجارب.
ارتأى أحد نطس أطباء الفرنسيين مؤخراً أن أحسن واقٍ للمرء من الجراثيم أن يطالع من الكتب ما صدر من المطابع حديثاً ويقطع أوراقها بمقطع من العاج إذ قد ثبت بالفحص البكتريولوجي أن في الكتاب الحديث قليلاً من الجراثيم التي لا تضر ولكن في دفات الكتب وتحت مغابن أوراقها التي تتداولها الأيدي كثيراً كأسفار المكاتب وغرف القراءة ألوفاً من الجراثيم القتالة يتجلى ذلك بالعين المجردة لمن يحدق فيها وفي كل سطح مربع من أمثال هذه الكتب 43 جرثومة فيتكون من كتاب مؤلف من ثلاثمائة إلى أربعمائة صفحة عدد مدهش من الجراثيم. وليست كل هذه الجراثيم مما يضر ويؤذي على رأي علماء البكتريولوجيا بل أن معظمها من النوع الذي يكثر وجوده على سطح جلدنا ورأس أصابعنا وفي غبار الجو. ولكن الخطر كل الخطر آت من أولئك المسلولين أو الناقهين من الحمى الحصبية من ينظرون في تلك الكتب المعدة لقراءة الخاصة والعامة ويودعونها من سموم أمراضهم ما لا يشفى صاحبه. الخطر آت من أولئك المرضى الذين يسعلون ويعطسون ويمرون أصابعهم وهي مبتلة بلعابهم على صفحات تلك الكتب. فإن ما يتركه المسلول أثناء مرضه أو الناقه من الحمى في ثلاثين أو أربعين يوماً من نقاهته أو المصاب بالدفتيريا من الباشلس والجراثيم بين تضاعيف الأوراق لا يقدر مضرته إلا الباحث.
وليست الحوادث التي تدل على انتقال الأمراض المعدية بواسطة الكتب والرسائل والأوراق العتيقة بنادرة فقد أورد بعضها الدكتور لوب الفرنسي في تقريره إلى المجمع الطبي الباريسي ومن أعظم ما قصه من هذا القبيل ما شهدته بلدية خاركوف من أعمال روسيا من فتك السل في مستخدميها فتكاً ذريعاً وبعد البحث ظهر لها أن هذا المرض كان يفتك فيمن كان عهد إليهم العمل في سجلات الإدارة خاصة فسلمت أوراق تلك السجلات للبحث البكتريولوجي فثبت بعد الاستقراء أن أحد موظفي تلك الإدارة وكانت مهمته(3/24)
الرجوع إلى تلك السجلات أصيب بالسل وكان من عادته أن يبل رأس إبهامه ليقلب أوراق دفاتره فأبقى بين أوراقها كمية وافرة من جراثيم مرضه نمت على الزمن حتى جاء من بعده وأخذت تسري إليهم.
ومن الأمثلة أيضاً أن امرأة وضعت طفلاً فكان الطبيب يطبها ويطبه على أحدث الطرق في منع الفساد فمات الطفل في اليوم الثالث عشر من يوم ولادته بعد أن خرجت له بثور متعددة ثم تناولت هذه البثور والدته فماتت بعد مدة أيضاً وكان سبب ذلك كتاب عتيق استعارته الأم من إحدى غرف المطالعة كانت تقرؤه وهي ترضع طفلها فنزع الطبيب جلد الكتاب وبعض ورقات منه فشهد فيه جراثيم ذاك المرض الذي قضى على النفساء وابنها.
وما برحت مسألة العدوى بالكتب شاغلة بال الباحثين من علماء الصحة. ويقولون أن الخطر في الكتب المدرسية عظيم جداً لأنها تنتقل من يد إلى أخرى حتى تتمزق وتسود ويحشر فيها من ضروب الجراثيم أشكال إلا أن بعضهم يقول إن الجراثيم لا يطول عمرها على صفحات الكتب كثيراً فباشلس السل يعيش مائة وثلاثة أيام وجرثومة الهواء الأصفر 48 ساعة وجرثومة الخناق 28 يوماً وباشلس الحمى التيفوئيدية يعيش من أربعين إلى خمسين يوماً. ويقول قوم أنه لا ينبغي أن يوثق بهذه الأرقام لأنه ثبت أن سم الخناق يعيش كثيراً في الثياب وأن أحسن الطرق أن تطهر الكتب وليس من طريقة لتطهيرها إلا بإمرارها على بخار فورمول إلا أنها إذا مرت عليه تهرأ الورق وتمزق بعد حين ولابد أن يمر الكتاب على هذا البخار صفحة صفحة. وحدث ما شئت أن تحدث عن العناء الذي يلقاه من يعهد إليه تطهير ألوف من الأسفار. وكيفما دارت الحال فإن النظافة مطلوبة شرعاً وعقلاً والوقاية لازمة واختيار الكتب النظيفة خير من القذرة. وعسى أن يكون فيما تقدم عظة لمن اعتادوا أن يعيروا الكتب والمجلات وينقلوها إلى أيدي كثيرين حتى ممن لا يعرفونهم فيقللون بذلك من عدد مبتاعيها ويجلبون بها جراثيم مضرة بهم.(3/25)
قوة الجنس اللطيف
نظمتها للمقتبس وهي من باب النسائيات من الجزء الثالث من الديوان
هي للنعيم وإن شقينا موعدُ ... في كل يوم مخلف ومجددُ
لعب الزمان بنا على آمالها ... ما إن يحققها ولا هي تنفدُ
وأشد ما لقي امرؤٌ من نفسه ... أملٌ إذا اقتربت إليه يبعدُ
قالوا النسا خدُّ الزمان فهل ترى ... بسوي دماء العاشقين يوَرَّدُ
قالوا بنات الشمس في الدنيا وقد ... صدقوا لأن لظى الهوى لا تخمدُ
قالوا وأمثال النجوم لأنها ... ما حولها إلا ظلام أسودُ
إن النساء هي الوجود أما يرى ... كل الرجال لأجلها ما يُوجَدُ
هي في القلوب وكل شيء راجعٌ ... للقلب فهي لكل شيء موردُ
والقلب في نسج الطبيعة عقدة ... بين الهوى والرأي لم تلها يدُ
فإذا نظرت إلى العظائم لم تجد ... إلا إرادات النسا تتجسدُ
وإذا بحثت وجدت كل عظيمة ... في طيها نظرات أنثى تشهدُ
يدعونه الجنس اللطيف لضعفه ... فسل البخار بلطفه كم يجهدُ
ما الشأن في صغر الأمور وضعفها ... أين الرصاص إذا دَوَى والجلمد
السيف يقطع والردى ذو سطوة ... والنار تحرق والنسا تتودد
وإذا تقلدت الحليَّ فإنما ... مفتاح باب القلب ما تتقلد
ما البحر ملتطماً تضارب موجه ... كالغيظ في صدر امرئ يتردَّد
متواثباً كالشيخ يحرج صدره ... فتقوم (هامته) لذاك وتقعد
متنفساً نفس القتال إذا دَوَى ... وقع المهند يلتقيه مهند
متغيظاً حرداً فلولا أنه ... ماءٌ لسال أشعةً تتوقد
تثب العواصف فوقه وثب الجنو ... ن يظل يبرق إذ يهيج ويرعد
بأشدَّ من أنثى تكلفت الهوى ... وأتت بحيلة ضعفها تتنهد
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(3/26)
روح جديدة
أخذت الأمة تنصبغ بصبغة الغربيين منذ أنشأت تأخذ العلوم عنهم وتختلط بالخاصة والعامة منهم. ومن ذلك إجلال رجال العلم والأدب أحياء كانوا أو أمواتاً. فقد بدأت في الشتاء الماضي بتأبين المرحوم فقيد الأدب محمود سامي البارودي وتلاوة القصائد والخطب على ضريحه يوم دفنه وأربعينه وثنت بتأبين حكيم الشرق الشيخ محمد عبده تأبيناً لم يسبق له نظير كما احتفلت في الصيف المنقضي بمترجم الإلياذة العالم سليمان أفندي البستاني. كل ذلك جرى في هذه العاصمة وهي مبعث العلم من بلاد الشرق العربي وثمال الأدباء وعصمة العلماء.
ولقد شهدت في النصف الأخير من ذي القعدة حفلة ثانية من تكريم الأحياء للأحياء أقامها جماعة من السوريين في نزل كونتننتال احتفاء بشكري أفندي غانم ناقل رواية عنترة إلى الفرنسية والشاعر المجيد بلغة الفرنسيين. وهو من أهل سورية غادر بلاده منذ 25 سنة وصرف معظمها في الديار الفرنسية. فحضر الاحتفال نحو ثلاثمائة رجل من علية المصريين والسوريين والفرنسيين وغيرهم وتليت خطب وقصائد بالعربية والفرنسية فاض منها معين بلاغة العرب والعجم فتكلم بالعربية سليمان أفندي البستاني ومصطفى باشا كامل وخليل أفندي مطران وعبد الفتاح أفندي بيهم وأسعد أفندي داغر وبالإفرنجية يوسف باشا شكور والمسيو البان ديروجا وأيوب أفندي كميد وداود بك عمون وصاحب الحفلة.
احتفلوا بأديب خدم الأدب الإفرنجي. ولما كانت الأمة لم تبرح بعد في طفوليتها من حيث نهضتها العلمية فلا يزال احترامها مقصوراً على الأدباء في الغالب. وقد اذكرني هذا الاحتفال بما كان يجري من أمثاله في عصر الحضارة الإسلامية أيام كانت الأمة مدة العباسيين تكرم العلماء والأدباء كيف كانت نحلتهم ولغتهم. وكان هؤلاء يتحابون ويتآلفون كالأخوة من غير حرج ولا نكير. ومن قرأ كتاب المقابسات لأبي حيان التوحيدي يتجلى له أن العلم يجمع بين المتباعدين وإن كل من خمره العقل وعجنه التهذيب وخبزه العلم يتمسك بالجوهر ويطرح العرض وينظر من الأشياء إلى مقاصدها ومغازيها.(3/28)
التعليم والتربية
السعي والعمل
نشر هذه الأيام رئيس نظار فرنسا المسيو دومر كتاباً سماه كتاب لا بنائي فاقتبسنا منه الفصل الآتي وهاك تعريبه قال: إن في العمل حياة والفكر والإرادة لا يعدان شيئاً إذا لم يكونا سلماً للعمل. إلا وأن العمل والنشاط والسعي من لوازم التوازن الأدبي والطبيعي في الإنسان وهي من شروط كيانه وفيها بقاء المجتمعات البشرية. ولقد فضت الفطرة أن يكون العمل فرضاً مادياً وجعله قانون الأدب واجباً. رجل العمل هو الرجل النافع لنفسه ولغيره ولبلاده. وتحتاج فرنسا أكثر من قبل إلى رجال عمل من أبنائها فرجال القول فيها كثير. وقد مدح أجدادنا بفصاحتهم منذ عشرين قرناً وينهال عليهم هذا المديح المضحك أيام السقوط والانحطاط خاصة. ولقد كان قيصر يذبح خطباء الغلوا ويجرهم دامية أجسادهم إلى مركبة ظفره ولطالما خطبوا وأجادوا وظلت بلاد الغول مستعبدة.
ومن السعادة أن نرى أهل جنسنا قد أظهروا في تاريخهم الطويل المجيد من القادرين على العمل أكثر من غيرهم تشهد بذلك ألفا سنة قضاها في العمل والحرب والمجد فمن الواجب أن نجد في أبنائنا اليوم ذاك الشعور بالعمل والإرادة فمستقبلنا وحياتنا مناطان بذلك.
فبالعمل المتواصل الفعال يظفر المرء بالنجاح في جهاد الحياة وميدان العالم فالعمل لازم للدلالة على أننا مطبوعون عليه متطالون إليه وذلك بدون وناء دون أن نعرف العنت والتعب. فبالعمل تستحكم قوى جسدنا وعقلنا ونحفظ صحتنا الطبيعية والأدبية. فالعمل هو الحركة والنشاط وإن شئت فقل هو الحياة بعينها. والجمود والبلادة في قلة الحركة وفي قلة الحركة الموت. وإن في العمل على اختلاف أشكاله عقلياً كان أو أدبياً أو طبيعياً لإشارة على الحياة الشديدة. تلك الحياة التي هي أليق بأن تكون شعار النفوس الكبيرة والتي يجدر بالمرء أن يحيا بها. هب يا هذا للعمل أحسن ما في حياتك فليس كل عمل سعياً والسعي هو العمل المستمر القانوني والعمل يوجد ويغير وينتج. ولا يكفى الانصراف إلى العمل جملة واحدة بل لابد لنا من السعي في العمل المنتج للخيرات العقلية والطبيعية. فالسعي هو أول قانون إنساني أبدي يقضي على الجميع أن يتوفروا عليه فبه تكبر النفوس وتشرف الأرواح وهو ضروري للسواد الأعظم وفرض على الجميع.(3/29)
متع طرفك قليلاً في سير الإنسانية تجد أن السعي كان في كل دور من أدوارها شرطاً في حياتها وأداة في نجاحها فالبسعي والذكاء والنشاط تغلب الإنسان على الحيوان واستعبد قوى الطبيعة فالتمدن عامة وخصوصاً التمدن الأوربي العظيم هو ابن سعي الإنسان ففي السعي الحرية كما جاء في بعض الأناشيد. السعي يضمن لمن ينصرف إليه استقلالاً ووقاراً يتعذر نيلهما على العطل ولا يطمح إليهما. فهو للمعوز ضرورة مطلقة وفرض مادي مشروع كما هو فرض اجتماعي وللغني نافع له من حيث أنه ينتفع من مال حصل عليه غيره وأورثوه إياه والواجب عليه في هذا المعنى كالواجب على الفقير.
وليس عندي من النعوت ما يوصف به من لا يعمل ولا يسعى. أي فضل في الحياة وإعجاب بها عند من لا يود أن يساعد المجتمع بعمله أقل مساعدة وأن يجاري في العمل الاجتماعي والوطني. والغني في سعة من أن يسعى ولا يجب عليه السعي أكثر من غيره لأن الأسباب لديه على العمل أعظم ولأنه غني عما يكتسب به ضرورياته فينصرف إلى المطالب العالية ويسهر على المصلحة العامة. إلا وأن السعي رب الفضيلة والبطالة أم كل الرذائل كما جاء في المثل. ومن ألف الفراغ يصبح وجوده عدماً ضاراً بالمجتمع وبنفسه ولا يمكن الامتناع عن كل عمل فمن لا يعمل الخير يعمل الشر لا محالة فبالسعي الحياة وبالبطالة تفلج الأعضاء وتموت. حديد لا يستعمل يصدأ ودماغ وأعضاء تعفى من العمل تضعف وتسقم. فمن يشغلهم السعي ويعيشون عيش العاملين يسعدون بحفظ قواهم وصحتهم ولا يتأثرون بالمظاهر الخارجية والمناظر التي تدهم الكسل العطل. لا يأتون كل صباح إلى ميزان الحرارة تفكهة ولا ينظرون أحوال الجو ولا يحدقون في المرآة إلى لون ألسنتهم بل يعيشون ويعملون ويبددون ويحرقون الجراثيم المضنية التي تسطو على أجسادهم وعقولهم فهم سالمون طبيعة وأدباً لأنهم عاملون.
السعي يدعو إلى تحمل أعباء الحياة وشقائها القليل بنشاط ويمنح حسن الخلق والسرور وعلى العكس في البطالة فإنها تدعو إلى الافتكار في أقل ما يصادفه المرء من العوائق وتعظمها كما تعظم الآلام والأوجاع فتولد الحزن وسوء الخلق والسويداء وهذا المرض من أمراض النفس وهو مبعث أمراض الجسد.(3/30)
صحف منسية
شعر فقيه
الشائع على الألسن أن شعر الفقهاء منحط عن شعر الأدباء ولكن هذا الحكم لا يصح على إطلاقه إذ ما كل فقيه جامد القول تافه الأساليب، وليس كل الناس المهذب والأديب. نعم وليس كل الشعراء منحلة قيود تربيتهم، معتلة عهود حميتهم وحماستهم. ومن المذكورين بالرحمة القاضي علي بن عبد العزيز (366) الذي وصفه صاحب اليتيمة بأنه: فرد الزمان، نادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، وقبة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، ومجمع خط ابن مقلة، إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري، وقد كان في صباه خلف الخضر في قطع الأرض وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرهما واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلوم علماً وفي الكمال عالماً، وله من أبيات
وقالوا توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال شيئان حرما ... عليَّ الغنى نفسي الأبية والدهر
إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر
وله:
وقالوا اضطرب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت ولكن موضع الرزق ضيق
إذا لم يكن في الأرض حر يعينني ... ولم يك لي كسب فمن أين أرزق
وله:
ما تطعمت لذة العيش حتى ... صرت للبيت والكتاب جليساً
ليس شيء أعز عندي من العلم ... فما أبتغي سواه أنيساً
إنما الذل في مخالطة النا ... س فدعهم وعش عزيزاً رئيساً
وقال وهو مما هو يجدر بكل عالم أن يجعله نصب عينه ورهن أذهنه:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس إكراما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيرته لي سلما
وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل من لاقيت أرضاه منعما(3/31)
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
انهنهها عن بعض ما لا يشينها ... مخافة أقوال العدا فيمَ أولما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لا خدم من لاقيت لكن لا خدما
أأشقى به غرساً واجنيه ذلة ... إذاً فاتباع الجهل قد كان احزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما(3/32)
مطبوعات ومخطوطات
كتاب الأم
تنبه شعور رجال الأمة لهذا العهد بأن من أعظم أسباب النهوض الإهابة بالناس إلى العمل بما ألف من الكتب في القرون الأولى للإسلام لمحض خدمة المجتمع ونفعه الخالص بدون تقية ولا غرض. ولو رجع أهل كل مذهب من مذاهب أهل السنة إلى أصول مذاهبهم وطرحت كتب المتأخرين واختلافاتهم لضاق مجال الخلاف ولم يجد المماحكون سبيلاً لقول يقولونه. وقد عني حضرة العالم الأصولي ذي المعزة السيد أحمد بك الحسيني من أعاظم أهل العلم والعمل في مصر بأن طبع على نفقته كتاب الأم للإمام الشافعي رضي الله عنه. طبعه بالمطبعة الأميرية ببولاق بعد أن كادت تعبث به أيدي الضياع شأن كثير من كتبنا. فأتى من الشام ومصر والحجاز واليمن وألمانيا وغيرها بنسخ من أجزاء هذا الكتاب صار بها الطبع أصح ما ينبغي أن يكون بالطبع. وهو عمل عظيم لو حذا عشرة من رجالنا حذو السيد الحسيني لما بقي لأسلافنا بعد حين كتاب مهم تتوق إلى طلعته نفوس الخاصة والعامة فجزاه الله أحسن جزاء.
ولعل نفوس بعض القراء راغبة في أن تعرف من هو الشافعي وما هو كتاب الأم. فالشافعي لا مجال لترجمته الآن بعد ألفت الكتب الضخمة في ترجمته وتعداد مناقبه ويكفي أن يقال في وصفه أنه كان إماماً قرأ عليه الأئمة في عصر قام فيه أعاظم رجال الإسلام وأنه ألف ما ألف من كتب الفقه والخلاف وغيرها قاصداً به وجه الله فكان أهل مذهبه اليوم ربع أهل الإسلام أو يزيدون. جاء في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ذكر من صنف في مناقب الإمام الشافعي: داود بن علي الأصفهاني الظاهري وزكريا بن يحيى الساجي وعبد الرحمن بن أبي حاتم وأبو الحسين الآبري والحاكم أبو عبد الله بن البيع وفي عصره أبو علي الحسن بن الحسين بن حكمان الأصبهاني وأبو عبد الله بن شاكر القطان والإمام إسماعيل السرخسي والأستاذ أبو مسعود عبد القاهر بن طاهر البغدادي كتابين والحافظ أبو بكر البيهقي والحافظ الخطيب والإمام فخر الدين الرازي والحافظ أبو عبد الله الأصبهاني المعروف بابن المقري والحافظ البيهقي وإمام الحرمين أبو المعاني الجويني.
هؤلاء الأئمة صنفوا في مناقب الشافعي ولو شاء الباحث استقصاء من شهدوا له بالعلم(3/33)
والإخلاص في عصره ومن بعده لاستغرق ذلك أسفاراً برأسها. وقد اعتذر شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني في كتابه توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس بأن من يتكلف التأليف في هذا يقع في تعب من غير أرب وكتاب الأم كما قال ابن حجر نقلاً عن البيهقي بنصه: أولها الطهارات، ثم الصلوات، وذكر فيها الجمعة، ثم الخوف، ثم العيد ثم الكسوف، ثم الاستقساء، ثم التطوع، ثم حكم تارك الصلاة، الجنائز، الزكاة، قسم الصدقات، الصيام، الاعتكاف، المناسك، البيوع، الصرف، السلم، الرهن الكبير، والرهن الصغير، والحجر والتفليس وسائر المعاملات ثم الوصايا، والفرائض، ثم إحياء الموات، والوديعة، واللقطة، واللقيط، ثم كتاب النكاح ومتعلقاته، ثم الجنايات ثم كتاب قتال أهل البغي، ثم الجهاد، وسير الأوزاعي، وسير الواقدي، وكتاب الطعام والشراب والضحايا والصيد والذبائح، والقضاء باليمين والشاهد والدعوى والبينات والأقضية، والإيمان والنذوز، والعتق بأنواعه وكتاب الشروط وعدة كتب الأم مائة ونيف وأربعون كتاباً. هذا هو كتاب الأم بل مجموع الشريعة الغراء في صفحات، وقد طبع منه الآن أربعة مجلدات وبقي ثلاثة وجعل الطابع في هامش ما طبع مختصر المزني للإمام الشافعي أيضاً وسيكون على هامش ما سيطبع من الأجزاء مسند هذا الإمام وكتاب اختلاف الحديث له أيضاً وبعد فإن الأمة تتشرف بصدور هذا الكتاب وتنشد ما قاله ابن دريد في مدح الشافعي رحمه الله
ألم تر آثار ابن إدريس بعده ... دلائلها في المشكلات لوامع
معالم يفنى الدهر وهي خوالد ... وتنخفض الأعلام وهي روافع
مناهج فيها للهدى متصرف ... موارد فيها للرشاد شوارع
ظواهرها حكم ومستنبطاتها ... لما حكم التفريق منه جوامع
جواهر البلاغة
هو كتاب يدخل في 326 صحيفة من قطع الوسط في علوم المعاني والبيان والبديع والعروض والقوافي وفنون الشعر والسرقات والمحاضرات الشعرية لمؤلفه الأستاذ الجهبذ الفاضل الشيخ أحمد الهاشمي أحد العاملين من المؤلفين في هذه العاصمة. سلك فيه مسلك الإيضاح والتقريب على طلاب الأدب ونحا فيه منحى التآليف العصرية في التنسيق ولطف الأداء. ولولا بعض اصطلاحات يتوقف فهمها على شرح معلم لا محالة لقلنا أن جواهر(3/34)
البلاغة مما يقرؤه المطالع لنفسه، ويفهم لباب هذه الفنون بدرسه، وقد كانت فيما مضى صعبة المتناول إلا على من صرفوا في تحصيلها أعمارهم، ووقفوا على تدبرها ليلهم ونهارهم.
المفرد العلم
كتاب المفرد العلم في رسم القلم من تأليف الأستاذ الهاشمي المشار إليه أهداه إلينا فيما أهدى من تآليفه. سفر جليل لا يستغني عنه العامي فضلاً عن الخاصي لأن فيه بيان لكتابة الحروف العربية وقواعدها وضوابطها وقد عقب عليها بتمارين وأمالي وزاد عليها هذه المرة تمرينات وأمالي لم تكن في الطبعات الماضية وشرح الألفاظ الغريبة فصار الكتاب مفيداً للإملاء والمطالعة والإنشاء نافعاً في الدروس التي قررتها نظارة المعارف المصرية في مدارسها. ويكفي في بيان مزيته أنه طبع الآن للمرة الخامسة ولو لم يكن اقتناؤه من الضروريات لما وجد كتاب في التعاليم من يبتاع منه الطبعة الأولى. فنثني على اجتهاد المؤلف العامل أطيب الثناء لأنه يتوخى فيما يكتب سهولة التعبير، وجودة التصوير، أثابه الله.
الضياء وابن سراج
كراسة نشرها سعادة العالم اللغوي الأمير شكيب أرسلان دفع فيها ما خطأه به حضرة العالم اللغوي الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء الغراء من وقوع بعض ألفاظ في روايته آخر بني سراج كان انتقدها الشيخ في جملة ما انتقده على كتاب الجرائد من الألفاظ والتراكيب. ومن رأي الأمير أن اللغة العربية يقع فيها الثقل لأدنى ملابسة وقد أورد نصوصاً من اللغة على ذلك كقوله أن الناقوس والشباك والبيت والجريدة لم تطلق عند من دونوا المائة على تلك المسميات التي يعرفها أهل زماننا بل عرفت في كتب اللغة بأن الناقوس خشبة كبيرة تقرع بخشبة صغيرة ويقال لها الوبيل والشباك ما وضع من القصب ونحوه من صنعة الواري والبيت كان يقال لبيت الشعر والجريدة سعفة طويلة رطبة. وعلى الجملة فإنا نشكر للشيخ والأمير عنايتهما باللغة وغيرتهما عليها ونتقدم إليهما باسم العلم وهما من أعز أنصاره أن يقصرا من الجدال على النحو الذي جريا عليه فكلاهما فرد في شأنه أوحد في صحة بيانه والتهكم لا محل له في الأبحاث العلمية وتقرير الحقائق الأدبية(3/35)
واللغوية.
مجلة الشتاء
اسم مجلة أصدرها بالقاهرة حضرة الشاعر الناثر ذي المعزة سليم بك عنجوري الدمشقي صاحب الدواوين الشعرية والروايات النثرية وهي أدبية علمية تاريخية فكاهية شعرية تظهر شتاء وتحتجب صيفاً وقيمة اشتراكها أربعون قرشاً أميرياً. وقد تصفحنا العدد الأول منها فرأيناه طافحاً بالمقالات والمقاطيع المنظومة والخطوات المنثورة من بنات أفكار صاحبها فنشكر له همته ونشاطه في خدمة الآداب ونسأل له حسن التوفيق كما يحب ويحب له كل مشتغل بالأدب غيور عليه.
كتاب الخير والشر
انصرفت وجوه بعض المتعلمين والمستشيرين من العامة إلى قراءة الروايات على اختلاف مناحيها فانصرف إلى كتابة أمثال هذه القصص جماعة من الأدباء ومنهم الأديبان البارعان محمد أفندي وجيه وحسين أفندي الجمل ترجما في العهد الأخير رواية كاترينا بلوم لاسكندر دوماس القصصي الفرنسي المشهور فنثني على اجتهادهما أجمل ثناء ونتمنى أن يكثر أمثالهما من الكاتبين العارفين فجامعتنا تحتاج كل ضرب من ضروب البضائع العلمية. وثمن النسخة ستة قروش صحيحة.(3/36)
تدبير المنزل
آفات الغبار
من يدرس كتب الصحة لابد أن يعرف ما يحدث عن الغبار من الآفات والمضنيات. كتب أحدهم يقول أن ليس في السنتمتر المكعب من الهواء الخارجي غير مائة وثلاثين ألف ذرة من ذرات الغبار على حين أثبت الامتحان أن في السنتمتر مليوناً وثمانمائة ألف ذرة وإذا أحصي الغبار بعد الكنس فيكون في كل سنتمتر مكعب خمسة ملايين وأربعمائة وعشرون ألف ذرة. وفي هذه الذرات من أنواع المؤذيات ما لا يطلب غير مستو بل نديّ لتنمو فيه وتتكاثر ولو لم تخل منافذ مشامنا دون دخول هذا الغبار كله إلى الرئتين وتمنع في دخول الذرات الكبيرة لكان تأثيرها في أجسامنا ما كان.
يتنفس الإنسان في الدقيقة من 12 إلى 15 مرة نحو نصف لتر من الهواء كل مرة أو أربعمائة لتر في الساعة أو من تسعة إلى عشرة آلاف لتر في الأربع وعشرين ساعة. ويعرف علماء التشريح إذا عرضت على أنظارهم رئة الحضري من رئة الريفي لما في الأولى من الجراثيم المختلفة المؤذية ولولا الغبار ما حملت الجراثيم إلى جسم الإنسان ولبقيت في الزوايا. فالغبار يحمل الحمى القرمزية والحميرة والسل والخناق وغيرها من الأمراض. واختلفت العلماء في كون هذه الجراثيم تدخل الجسم من طريق التنفس أم من طريق البلع ومهما يكن من اختلافهم فإن الغبار من أشد أعداء الأجسام وافتكها بها. فحبذا لو عنيت مجالس البلديات في البلاد التي تدعي أنها سائرة على مناهج المتحضرين في شؤونها البيتية والأهلية والمعاشية بأمر الكناسين أن لا يكنسوا الشوارع إلا في الليل بعد انصراف الناس إلى منازلهم ولا ينفض الخدم البسط والطنافس والأثاث والحصر والباري والكلل (ناموسيات) والدثارات من أعلى الشرفات والطنف فينزل الغبار على أبناء السبيل ويكون لهم أسوأ دليل والغبار من أعداء الإنسان إلا في مغزى المثل العربي القائل غبار العمل خير من زعفران العطلة.(3/37)
تدبير الصحة
الحمامات الشمسية
يوجد نقص تتمة الصفحة 158 والصفحة 159 والصفحة 160 حتى فقرة تغميز القلب.
تغميز القلب
للتغميز (التمسيد) فوائد جزيلة ظهر بعضها مؤخراً في إحدى مستشفيات إنكلترا ذلك أن شيخاً مريضاً تناول جرعة عظيمة من الكلوروفورم فأصيب بإغماء ووقف تنفسه ونبضه فعمد للحال طبيبان من أطباء المستشفى وشرط أثر المحل الذي يسهل أن يتأثر به القلب وشرعا يغمزانه فلم يمر ستون ثانية حتى أفاق المغمى عليه وأخذ القلب يضرب على عادته فعندها أوقفا التنفس الصناعي ولأما الجرح باحتياط عظيم فشفي المصاب تماماً. ويقول هذان النطاسيان أن التغميز ينفع في الإغماء لا محالة.
وشي القنب
تفنن اليابان في الصناعات حتى استبدلوا وشي القنب في العهد الأخير بوشي الحرير لأنه طبيعي أكثر من القنب وقد عرضوا منه في كيوتو صورة أسد ولبوة. اخترع هذا لوشي رجل اسمه سوكافارا معروف بتفنيه وأعماله الصناعية. ومتى انتقلت هذه الصناعية إلى الغرب وجد القنب الذي ينبت في غوطة دمشق مصرفاً عظيماً.
هوام الغابات
في الصحف العلمية أن هامة من الهوام المضرة أخذت تأتي على الغابات الغبياء في آكام داكوتا السوداء. ودا كاتوتا إحدى مقاطعات أميركا الشمالية. فهي تحمل على الأشجار بسرعة حتى أنه يخشى أن يتناول الخراب تلك البقعة برمتها. وقد بذل أصحاب الأملاك ملايين من الدولارات بدون فائدة وقد جعلت إحدى الأندية العلمية جائزة كبرى لمن يدلها على علاج شاف من حملات هذا العدو الهائل.
خازنة الكهربائية
اخترع أديسون خازنة للقوة الكهربائية أكومولاتور جديدة معمولة من صندوق حديد يحتوي صفائح تتبدل من معدن النيكل والحديد عوضاً عن الرصاص الذي كان يستعمل في الآلة(3/38)
السابقة. ويقدر أن هذه الآلة يقتصد بها 58 في المائة عن الآلة القديمة ويمكن للاتوموبيل أن يسير بهذه الخزانة نحو سبع ساعات أي نحو مائتي كيلومتر دون أن يضطر إلى الإملاء وبقوة دائمة.
مدارس الأزياء
أنشأ الغربيون مدارس لكل ما يتصوره المرء من الأعمال والصناعات وقد قامت هذه الآونة آنسة من أوانس الأمريكان الشهيرات تهرأ بطريقة القصصين في وصفهم أزياء النساء في قصصهم. قالت أن المرأة لو كانت خارجة الآن من مستشفى المجاذيب أو المجذوبات لما لبست الثياب التي يصفها فيها هؤلاء الكتاب ولذلك ارتأت أن يضاف إلى الصفوف الكثيرة في كلية كولومبيا الخاصة بدارسة فن الصحافة صف يدرس فيه علم الأزياء. والولايات المتحدة تحب أن تفوق الأمم في كل حال وشأن.
مثال المدارس
كتب أحد أساتذة العلم في أميركا بحثاً في إحدى المجلات العلمية في نيويورك قال فيه أن من أدل الدلائل على ارتقاء التعليم العام في الولايات المتحدة ارتقاء حالة مدرسة تكساس الجامعة التي أسست سنة 1858 ولم يكن فيها عشرين سنة إلا 199 طالباً وفيها الآن ألفا طالب ولها دخل يربو على 1. 750. 000 فرنك.
حاضر اليهود
كتب أحد كتاب الأمريكان بحثاً تحت هذا العنوان استند فيه إلى أحدث الإحصائيات فكان عدد بني إسرائيل في العالم 224، 118، 11 نصفهم في روسيا والباقون موزعون بين النمسا وألمانيا ورومانيا وإنكلترا وهولندا وتركيا وفرنسا وإيطاليا وبلغاريا ورومللي الشرقية وسويسرا وبلجيكا واليونان والولايات المتحدة وكندا والأرجنتين وغيرها من جمهوريات أميركا الجنوبية وبعض ممالك آسيا وشمالي إفريقية مثل مراكش والجزائر ومصر وفي هذه منهم 100، 21 فقط ولم تعاملهم دولة معاملة رسمية كسائر رعاياها غير النمسا وألمانيا والبلجيك والدانمارك وفرنسا وبريطانيا العظمى ومستعمراتها وإيطاليا وسويسرا والولايات المتحدة أي 41 في المائة من مجموعهم. من هذا العدد عشرة في المائة أغنياء و30 في المائة فقراء وهؤلاء على فقرهم المدقع لا تراهم يسجلون أسماءهم في سائر محاويج(3/39)
الطوائف لأن أولئك الأغنياء يكفونهم مؤونة التكفف على غيرهم.(3/40)
المجلات الإفرنجية والعربية
الخط الياباني
أنشأ بعض اليابانيين مجلة تعنى خاصة باستبدال الخط الروماني بالخط الياباني وبعبارة ثانية تدعو إلى طرح الحروف الشرقية القديمة والاستعاضة عنها بالحروف الغربية الحديثة. وفي هذا من الثورة العلمية ما قامت له الأندية العلمية في يابان وقعدت. وأصبح لهذا الفكر أشياع ولكنهم قلائل الآن. تقول المجلة أن استعمال صور الحروف الصينية لا يعتبر إلا بأنه من حب الاتصال مع الماضي كما هو الحال في امتيازات قديمة لم يتوصل بعد إلى نزعها والتخلص منها. وبهذا ترى اليابان أقسمت أو كادت تقسم أن لا تبقي أثراً للتقاليد القديمة التي تعوق سير حضارتها.
تبادل العلم
ذكر أحدهم في مجلة المجلات الأميركية الصورة التي سيجري عليها في مبادلة العلم العالي بين كل من أميركا وألمانيا على الطريقة التي عزم على الاعتماد عليها الإمبراطور غليوم الثاني بالاتفاق مع مدرسة كولومبيا الجامعة. قالت أن أساتذة من هذه المدرسة يذهبون إلى كلية برلين ويشغلون منابر أنشئت لهم خاصة ويأتي أساتذة ألمان من كلية برلين يعهد إليهم بالتدريس في صفوف كثيرة من الكليات الأميركية. وغاية هذه الطريقة في مبادلة الأساتذة أن تتبادل ناشئة الأمة الأفكار والغايات ويتذاكروا في المبادئ والمقاصد. والمظنون أن كلاً من إنكلترا وفرنسا لا يلبثان أن ينحوا هذا النحو فتشترك كليات اكسفورد وكامبردج ولندن مع كلية باريس وهناك بشر العلم بالارتقاء الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشر.
التكافل في الأمراض
نشرت إحدى الصحف الباريسية مقالاً في فائدة التكافل الاجتماعي لإيقاف سير السل ومجاهدته قالت أن المسلول أحد منكوبي الوسط الاجتماعي وأن مرضه ينتشر باجتماع الجرثومة مع الأرض فالجرثومة تأتي من المحيط أو الوسط والأرض هي جسم الإنسان وصحته من أصل تركيبه أو أسباب ولادته وارثه وتربيته وسكنه. ولما هدمت في إنكلترا أحياء برمتها وكانت قذرة موبوءة انخفض عدد الوفيات بالسل إلى 45 في المائة على حين يرتفع معدل الوفيات بهذا الداء في فرنسا.(3/41)
الآلات المنغمة
المشرق - عني حضرة الباحث العالم صاحب هذه المجلة بنشر ثلاث مقالات عربية في الآلات المنغمة انتقاها من مجموع عثر عليه في خزانة كتب مدرسة ثلاثة أقمار في بيروت وفيه رسائل في الهندسة والفلك وتحريك الأثقال والموسيقى وغير ذلك من الآثار العلمية من وضع علماء الإسلام أو من تعريبهم وتعريب طائفة المعربين في عهد الحضارة الإسلامية ويرتقي هذا المجموع بحسب رأي الباحث المشار إليه إلى القرن الثاني عشر للمسيح. وهذه الرسائل في معنى واحد لقدماء اليونان استحق كتبة العرب شكر العلماء إذ حفظوها لهم من أيدي الضياع بنقلها إلى لغتهم.
أما الرسائل فإحداها عمل الآلة التي اتخذها مورسطس يذهب صوتها ستين ميلاً وكانت هذه الآلة تحمل معهم في الحروب لأن بلادهم كانت كثيرة الأعداء فكانوا إذا احتاجوا أن ينذروا أصحابهم أو يسألوا المدد في الحروب لتأتيهم الخيل والمدد أو ينذروا أهل مدينة الملك وأي النواحي أرادوا نفخوا في هذه الآلة وهي الأرغنن الكبير الملقب بالواسع الفم الجهير الصوت وذلك أن صوته يذهب ستين ميلاً. والثاني صنعة الأرغن الجامع لجميع الأصوات وهو أن يسمعك صوتاً عجيباً يبكي بكاء شديداً ويسمعك صوتاً مرقداً ينيم صاحبه على المكان ويسمعك صوتاً يشجي ويلهي ويسمعك صوتاً يطرب ويرقص ويسمعك صوتاً يسحر ويذهب بالعقل. والثالث صنعة الجلجل الذي إذا حرك خرجت منه أصوات مختلفة شجية غنجة وزعم الحكماء أن هذه الآلة عملها ساطس (كذا) القديم في بلاد مصر العتيقة فلما ضرب بها هرب من ذلك الموضع كل سبع وكل هوام وكل طير حتى هربت مواشيهم ودوابهم وكاد أكثرهم أن يجن فاستعفوا من ذلك. فنصبها على موضع مشرف بعيد من المدينة جداً. وبنى في ذلك الموضع هيكلاً وهو يسمى هيكل زواس أي (المشتري) ذي الحسن واتخذوا له عيداً فكانوا يحركون الجلجل في يوم عيدهم ثم يذبحون ويتقربون.
المجتمع وعلومه
المنار - ذكر أن أكمل الجنسيات وأنفعها للبشر ما كانت أعم وأشمل للطوائف والجمعيات المختلفة في النسب والوطن واللغة والدين والحكومة وأن هذه الجنسية هي نهاية ما يمكن وضعه لسعادة البشر كلهم ولكن الناس لما يستعدوا لها تمام الاستعداد وقد وجدت في الجملة(3/42)
على عهد الخلفاء الراشدين وأن جنسية النسب مزقت الشمل ولولا جنسية اللغة والوطن ما ترفق المسلمون إلى ممالك وقد حاول الإسلام القضاء على عصبية الجنس واللغة والوطن فغيرت بعد. ومن رأيه أن يكون العمل الواجب دائراً على أقطاب هذه المسائل الكلية (1) كون تعليم الدين مؤيداً للعقائد دافعاً للشبهات الرائجة في هذا العصر (2) كون تعليم التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق والآداب مؤلفاً للرابطة الملية بين شعوب المسلمين وعناصرهم المختلفة (3) تعليم العبادات مع بيان حكمها وفوائدها في تزكية النفس وتعليم أحكام المعاملات مع بيان انطباقها على مصالح البشر ومنافعهم في هذا الزمان (4) تعليم العلوم الرياضية والطبيعية بقصد ترقية النفوس ومجموع الأمة بالأعمال الصناعية (5) إحياء اللغة العربية بإلزام المتعلمين التحاور بها استبدالها لها باللغة العامية وبتعليمهم البلاغة في القول والكتابة ليكونوا كتاباً بارعين وخطباء مؤثرين (6) تعليم الصنائع التي يمكن العمل بها في البلاد وفنون التجارة (7) الجمع بين التعليم وبين التربية العملية في المدارس (8) جعل مدار التعليم والتربية على استقلال الفكر واستقلال الإرادة والاستقلال في العمل الذي يعبرون عنه بالاعتماد على النفس.(3/43)
طبيب وأديب
فقدت مصر في العهد الأخير رجلين حري بتاريخ العلم والأدب أن يدون ترجمتيهما في صفحاته وأعني بهما الدكتور حسن باشا محمود وإبراهيم بك المويلحي. الأول عالم والثاني كاتب أو طبيب وأديب. ولد الأول في مصر سنة 1847م على ما نقل أحد أنجاله ووالده من العرب النازلين في جوار الأهرام ولما ترعرع ظهرت عليه آثار النجابة فدخل القصر العيني ونال شهادته الطبية ثم بعثت به الحكومة المصرية إلى ألمانيا فقضى فيها سنتين ثم انتقل إلى باريس وأحكم الطب علماً وعملاً حتى إذا عاد إلى القطر عين في وظائف مهمة مثل نظارة القصر العيني وطبيب الأمير طوسون باشا وطبيب الخديوي إسماعيل وابنه توفيق ومفتش الصحة العامة. وانتدبته الحكومة في عدة مهمات نائباً عنها في المؤتمرات الطبية الدولية ورأس الجمعيات الطبية في مصر مرات وكان عضواً في عدة جمعيات طبية وعضواً في المجمع العلمي بمصر.
وكان على وفرة مشاغله كبير العناية بالتأليف والتعريب حريصاً على الاستفادة والإفادة أميل في أعماله إلى الجد على ما يظهر من تآليفه محبباً إلى الناس. كتب رسائل وكتباً طبية كثيرة نشر بعضها على حدة وبعضها في المجلات. وأهم كتبه الخلاصة الطبية في الأمراض الباطنية وهو كتاب لطيف الأسلوب والوضع سهل المأخذ ومنها رسالة في الهيضة وأخرى نبذة في مدرسة الطب المصرية ورسالة في خلع المعصم وكتاب في داء الفقاع وكتاب في الاستكشاف العصري في الرمد المصري وكتاب الفوائد الطبية في الأمراض الجلدية ورسالة في منافع مياه حلون ومختصر في البواسير ومعالجتها وطريقة التمدد ورسالة في حمى الدنج ورسالة في داء الطاعون البقري الساري ورسالة في وباء الهيضة وغير ذلك وظل يكتب إلى آخر أيامه ولا يستنكف من نشر ما يكتبه في المجلات تعميماً للفائدة.
أما إبراهيم بك المويلحي فقد ولد في أوائل سنة 1262هـ وهو من بيت معروف بالغنى والوجاهة اضطرته الأحوال بعد أن خسر ماله في المضاربات أن يستخدم في الوظائف على عهد الخديوي إسماعيل وكان يحبه ويأتمنه ويحسن إليه وقد قضى معه عشر سنين في نابولي كاتماً لأسراره وقضى نحو هذا الزمن في الأستانة. والذي يهمنا من أمره أنه كان من أعظم النوابغ في الإنشاء. وقد أكد لنا من نثق بذوقه في البلاغة وعلو الكعب في(3/44)
الاطلاع على أسرار العربية وآدابها أن المويلحي في عصره كالجاحظ في عصره. ولا غرو فقد تأدب الفقيد بكتبه وكان يحرص على دراستها والاستئثار بدررها ليله ونهاره. كتب المترجم به عن الأمراء كتباً كثيرة ومقالات بحسب الحاجة والدواعي وتلون السياسة ومذاهبها كما كتب عدة جرائد منذ أول نشأته وآخرها مصباح الشرق ولو دام المصباح على لطافة أسلوبه وجودة ألفاظه وتراكيبه سنين كثيرة لكان من أهم البواعث على ارتقاء ملكة البيان العربي ولصار العامة ممن يتوفرون على مطالعته اليوم أرقى لهجات من الخاصة منذ قرون.
وبهذا عرفت أن طريقة المويلحي في الإنشاء طريقة السهل الممتنع ساعده على الإجادة فيها أنه لم يكن يكتب إلا في المسائل التي له وقوف على أطرافها ليكون رأساً في معانيه كما هو رأس في مبانيه. وكان مطلعاً كل الاطلاع على أحوال مصر والأستانة رعافاً تاريخ رجالهما بحيث كانت هذه المواد له على خفة روحه ورشاقة قلمه مادة واسعة ليكتب على الطريقة الهزلية المعروفة عند الإفرنج بالاوميريستيك على أن معظم ما كان يكتبه يمتزج فيه الهزل بالجد. كان مجلسه عامراً بالفوائد الأدبية والتاريخية والاجتماعية نادرة النوادر في نكاته آية في الاطلاع على الدخائل. استفاد أشياعه من لسانه أكثر من استفادتهم من قلمه. ولو وجد مجالاً للعمل النافع وقدر أمراء هذه الديار وكبارها أن يحسنوا الانتفاع بمواهبه كما ينتفع الملوك والأمراء بنوابغ بلادهم في العادة لأشبه المويلحي بسمرك وكرسبي وغيرهما من رجال السياسة في هذا القرن ولما رغب في صرف الوقت في الجزيئات ولانصرف عنها إلى الكليات لا محالة.(3/45)
انتقاد المقتبس
تتابعت كتب التقريظ والانتقاد علينا وها نحن نلخصها فيما يلي مكتفين بما ورد فيها من ضروب النقد. وفي مأمولنا أن نصلح ما يمكن إصلاحه من وضع هذه الصحيفة وموضوعاتها على الزمن حتى يجيء منها ما يفيد ويروق بعون الله وتسديده. ورجاؤنا إلى من يأتوا العلم الرجيح ورزقوا ملكة النقد الصحيح أن يقبسوا المقتبس من أنوارهم كلما عن لهم ذلك. ورحم الله من أهدى إلى عيوبي.
ولقد اختلفت آراء المفكرين والعالمين فمن قائل باختصار مقالات المقتبس ومن قائل بإشباعها وتوفية كل مبحث حقه من الشرح. كما اختلفت المذاهب في أسلوب إنشائه فمن قائل أنه يصعب فهمه على غير المتعلمين أو دون الرجوع إلى المعاجم كما قال بعضهم ومن مصرح أن لغة المجلات ينبغي لها على كل حال أن تكون أرقى من لغة الجرائد لأن قراءها من الخاصة أو ممن يدانيهم ويرى الفريق الأول أنه لا بأس باستعمال ما استعمله العرب من التراكيب أيضاً ويرده بعضهم ويفنده. واعترض بعضهم على استعمال الإشارات الجديدة مثل،؟. وغيرها قائلين أن ذلك لا يجدر إلا بكتب الأطفال والنساء واستحسنها بعضهم وأراد الإكثار منها للإفهام. ورأى بعض العلماء ضبط الكلمات المبهمة. وآخذنا أحد العلماء على كوننا لم ننسب ارتقاء الصحافة العربية للشيخ محمد عبده أيام كان يحرر الوقائع المصرية ويدير المطبوعات ويحتم على الصحف أن تلتزم تصحيح عباراتها أو توقف. كما عاتبنا بعضهم على أننا لم نذكر المعلم بطرس البستاني في عداد من نهضوا بالصحافة. واستنسب بعضهم نشر رواية في كل جزء لأنه يتوقف عليها لفت أنظار أكثر القراء وصرح عالم بأن الروايات لا يليق نشرها في المجلات العلمية التي تتوخى الجد والفائدة.
وانتقدت مجلة الشتاء الغراء اطراد المقتبس في أسلوبه الإنشائي الجد البحت وإرادته على استعمال الهزل الأدبي وقالت أن نكات الوهراني والتعاويذي لا تقوم مقام النكتة الخفيفة وآخذته على تجاوزه الحد في الإيجاز في تلخيص مقالات الجرائد العربية وعلى ما سرى إليه من الغلط من أن سليم النقاش عم مارون النقاش هو الذي أتى بالتمثيل إلى مصر. ولم تر مجلة الشتاء حكم ابن حزم جديرة بالإيثار قالت ولو كانت من مأثور الكلام لأبقاها ناموس بقاء الأنسب في ذاكرة أهل العلم. ونقدت على المقتبس إهماله ذكر العادات الذميمة(3/46)
ونقائص المجتمع صراحة أو تعريضاً وإطلاقه العنان لأمثال التناسل الغريب الخ.
وكتب إلينا أحد علماء دمشق يقول: استغرب المحققون ذكرك قصة المتنبي في باب التناسل الغريب إذ لم يعلم أن للمتنبي أكثر من ولد أو ولدين على شهرة أحواله فإما بيان المأخذ وإما إصلاح الغلط. وإذا قرأت ترجمته إلى آخرها في ابن خلكان يتضح لك ذلك بأجلى برهان. ثم أن مجلتك لا يليق بها أن تعدل عن جادة الجد وخلو الغرض وقتاً من الأوقات فاستعمالك لألفاظ يستشم من خلالها ريح التعريض والاستهزاء غير جائز مثل الفقاقيع الفارغة وما ذكرته في وصف الشعراء المحدثين عند بحثك عن دواء الأرق. ويا حبذا لو ضربت صفحاً عن نفاضة الجراب وإن راقت الأكثرين لأن الغاية تعليم وتهذيب وترقية عقل. قيل للإمام علي كرم الله وجهه لو غيرت شيبك يا أمير المؤمنين فقال: الخضاب زينة ونحن قوم في مصيبة. وكذلك نحن الآن في دور جد وعمل لا دور هزل وفكاهة. . .
وصحح لنا عالم اجتماعي ف بدمشق بعض أغلاط فقال: جاء في الصحيفة 74 أمطرت رماداً فانكشفت للحال مدينتان رومانيتان كانت مدفونتين والصواب أن يقال فتغطت للحال مدينتان رومانيتان كانتا مكشوفتين لأن البركان غطى حينئذ المدينتين بالحمم والرماد ولم تكشفا إلا من عهد قريب. ومنها ما جاء في الصحيفة 80 خلقوا أولادكم بغير أخلاقكم والصواب لا تكرهوا أولادكم على التخلق بأخلاقكم الخ. ومنها في صحيفة 78 الإنجيل والمكاتبات والنصارى يقولون الإنجيل والرسائل. ومنها في صحيفة 110 التحبيز والصواب التمييز.
ونختم هذا الفصل بقطعة من رسالة لصديقنا الأمير شكيب أرسلان قصد فيها الدعابة الأدبية واعدين أن تلم في فرصة أخرى بما تجود به قرائح المفكرين من نقد هفواتنا قال الأمير سامحه الله: وآنست في نفسك انشراحاً ونشاطاً، وقلة في كمية السوداء وانحطاطاً، يدل على ذلك في مجلتك فكاهات رويتها، ومداعبات أثرتها، وأسجاع ملت إليها، متى كنت يا محمد مولعاً بالسجع عهدي بك لا تطيقه وإذا مررت بالجناس ولو تمثل لك واقفاً رفسته برجلك وأكببته لوجهه. وطالما نقمت علينا التسجيع، وأقمت علينا من النكير بعدد أنواع البديع، وعددت سجع الحمام، من قبل فجع الحمام، واعتبرت نفائس الجناس، من وساوس الخناس، فها أنا ذا أسجع الآن ولا حرج علي منك ولا تثريب، وأجنس وأنت ساكت ساكن(3/47)
وهذا أمر غريب، فهل هداك الله إلى الصواب الآن حتى صرت في مذاهب المذاهب وطرق الطرق أو هل نزغت بك نزغات جداد، وجدت بك أهواء لم تكن تعتاد، أو لعلك حصرت السجع والجناس في فاتحة المجلة لأنها من المجلة كقاعة الاستقبال من البيت فلا يد فيها من مراعاة الأمور الرسمية والسجع رسمي في المقدمات. . ولا عيب في هذه المقدمة إلا هذا السعدان الذي في آخرها. لا تؤاخذني بالله عليك لي عندك ثارات، وبصدري من حماطة الجلجلان حزازات، وأنت منصف فلا ينبغي أن يثقل عليك الحق كما يثقل على غيرك. . . أما ما استعظمت من روايات التناسل حتى تجاوزت الحد في الاحتراز في نقله فليس بتلك الدرجة فإن الأمثال كثيرة والمرحوم الحاج حسن عبد الله من خيام مرجعيون وعسى أن لا أكون شرقياً في كثرة الأرقام كان له من الولد وولد الولد ما يربو على التسعين وهو والد محمد أفندي الحاج حسن الشاعر الأديب. أما نصائح ابن حزم فقد ذكرتني بحكم ابن المقفع وإن كان لا ينكر أن هذا أعلى طبقة في الكتابة وأما نكات الوهراني فلا بأس بها لكن يا أخي سألت الله لمجلتك أن يدفع عنها آفات التطويل والتكرار، وأنت لم تقصر في تكرار ذكر الشعير مع الأشعار، ففي كتاب الوهراني الذي يخشى من وهر لسانه طلب للشعير مطول برسم البغلة وفي قصيدة التعاويذي أعاذنا الله من مثله كلام عن الشعير لأجل الفرس فهذا كثير على الشعير. . .(3/48)
العدد 4 - بتاريخ: 24 - 5 - 1906(/)
صدور المشارقة والمغاربة
جونسون
ولد سنة 1709 وتوفي سنة 1784
أحد مشاهير كتاب الإنكليز وعلماء الأخلاق قاسى في طفوليته أنواع العذاب من سوء صحته وأصيب بالسويداء. ولد من أبوين فقيرين فتهيأ له رجل محسن علمه على نفقته في كلية اكسفورد لكن بشاعة صورته وفقره وسويداءه جلبت الشكوى منه فاضطر أن يترك دروسه قبل إتمامها وعاش زمناً في مكتبة والده وكان كتبياً ثم عين في إحدى المدارس الخاصة بوظيفة بسيطة وسنة 1735 تزوج أيماً أكبر منه بعشرين سنة وكان يحبها على بشاعتها حباً لا يصدق. ففتح له معها مدرسة للشبان في ضواحي لينسفيلد بلده لكن قبح صورته وصورة زوجه كانت تخفيف الأطفال ووالديهم فلا يضعون أبناءهم في تلك المدرسة حتى أنه لم يكن عندهما غير ثلاثة أولاد فاضطر إلى ترك التعليم وجاء لندن يفتش على ما يقوم بأوده فاستخدم في إدارة إحدى المجلات الإنكليزية فكان يأتيها بأخبار مناقشات دار الندوة وفي غضون ذلك نشر تأليفاً له فنبه به قدره وشاع بين الكتاب والقراء ذكره وألف معجماً في ثماني سنين وهو أول معجم بالإنكليزية وكان في خلال تأليفه وضع بعض المصنفات فحازت استحسان بيرون وسكوت العالمين الكاتبين المشهورين وتأفقت شهرته بهذا المعجم كل التأفق على أنه لم يكن من قبل خاملاً بل صار بما صنف الكاتب غير مدافع، وحاول أن ينشئ مجلة إلا أنه لم يفلح فيها فسقطت ثم أنشأ أخرى فسقطت. وكان ينفق على الصدقات كل ما يحصله من المال القليل تقريباً حتى أنه آوى إليه ثلاث نساء عاجزات بعد وفاة والدته مع طبيب يطبهن.
وفي سنة 1672 منحته الحكومة ثلاثمائة جنيه مساناة ابيضت بها لياليه السود واستعان بها على شقاء الأيام ولم يقبلها إلا بعد التردد وكافأ الحكومة عليها من باب مقابلة الجميل بمثله بأن كتب بضع كراريس في السياسة خدمها بها ولم يقل إلا ما ينطبق على آرائه فيها وكان أكبر همه تأسيس أندية (كلوب) تجمع كبار الرجال من ممثل إلى مؤرخ إلى خطيب إلى اقتصادي إلى مبشر وكان الملك يتطلب سماع حديثه وكذلك كانت طبقة الأشراف في الأمة الإنكليزية.(4/1)
وفي خلال تلك المدة تعرف إلى رجل من الأغنياء فاعجب به كل الإعجاب وأكرم مثواه وأحله منه المكان الذي ينبغي أن يحله أمثاله وقام له في داره في لندن بل في مصايفه في ضاحيتها بوسائط العيش ورفاهية الحياة وكانت تلك الأعوام هي غاية سعادته ومجده ومازال على تلك الحال يكتب وينشر ويشتهر أمره حتى توفي صديقه بل حاميه بعد ست سنين من صحبة أتته بفوائد جزيلة أقلها أنه استطاع أن يتجول في البلاد على نفقته فتأخرت صحته لهذا الخطب الجلل وكان ذلك سنة 1781.
ولما فقد الكاتب حاميه عاد إلى ميله السابق من تأسيس الأندية فأسس له ناديين كانا أشبه بنادي المهووسين السوداويين. ودفن في مقبرة وستمنستر مدفن العظماء من الإنكليز وأقيم له تمثال.
وقد وصف تين العالم الفرنسي صاحب الترجمة فمما قاله فيه بعد أن ذكر قبح صورته وإهمال هندامه وسوء نظامه أنه كان شرهاً أكولاً يجلس إلى المائدة فيخضم ويقضم ولا يستمع لحديث مخاطبه بل يستغرق بما بين يديه من الصحاف والألوان حتى لقد كانت تنتفخ عروق جبهته وتتصبب عرقاً لكثرة إدخال الطعام بسرعة على معدته وبعد أن يستوفي طعامه على هذا النحو حتى يكاد يختنق يأخذ في تعاطي الشاي فيتناول لا أقل من اثني عشر قدحاً. قال الذي عربنا عنه هذا الفصل: وأنت ترى أنه من العجيب فيمن كانت له هذه الأخلاق والعادات كيف كان تمثال مجتمع بأسره مجتمع كان من اللطف على جانب هذا إذا لم يعلم أن صاحبنا كان ذا صفات نادرة فقد كان بين جنبيه على تلك الخشونة في الطباع قلب مليء فضلاً ولطفاً وحناناً على الضعاف والأولاد والفقراء والحيوانات وكان أصحابه وهم كثار يحبونه حباً مازج سويداء قلوبهم ولم تكن خشونته لتحول دون ملاطفة النساء بل كان معهن آية الظرف واللطف يتأدب معهن ويسليهن بأطيب ما في العالم من حديث شهي.
إلا وأن ما اختلط بأجزاء نفس هذا الرجل من قول الحق والتفاني فيه وحياته الشريفة التي قضاها وإعجابه باستقلال أخلاقه وحريتها كل هذا كان له مادة اعتبار لأدبه وإعجاب بمقدرته العقلية وكان لسناً مفوهاً ولم يعد في أرقى طبقات الكتاب ولا في أرقى المفكرين وكان إنشاؤه مستثقلاً فظاً حتى قال له أحدهم يوماً: إنك يا صاح لو نشأت حكاية أسماك(4/2)
صغيرة لجعلتها تتكلم كلام الحيتان. وبالجملة فلم يكن من الخوارق والنوابغ في علمه وأدبه بل كان من الخوارق في أخلاقه ولذلك يعد في الأخلاقيين أكثر منه في الكاتبين.(4/3)
مجلة المقتطف
قلما قام في هذه البلاد عمل مادي أو علمي أو غير ذلك أعواماً طويلة إلا وأصابه من خور عزيمة أربابه وتشتت أهوائهم أو قلة بضاعتهم ومناصبة الأحوال لهم ما تتداعى به أركانه وينحل كيانه. قال بعض العلماء أن حياة الإنسان ثلاثون سنة أي أنه يندر أن يعمل عملاً نافعاً طول حياته أكثر من هذه المدة أو ما يقرب منها وبعد ذلك إما أن يضعف أو يعوقه عائق. بيد أن مجلة المقتطف بلغت هذا السن في هذه الآونة والهمة في تحسينها تتجدد والفائدة الناتجة منها تعظم.
قلَّ في المشاريع ولاسيما العلمية منها ما سار به صاحبه على سنة الارتقاء الطبيعي ولذلك قلَّ في أربابها المفلحون. أما صاحب المقتطف فعملاً أولاً تحت نظارة أستاذ لهما عظيم الدكتور كرنيليوس فانديك الأمريكي ولم يخرجا عن حد الخطة التي رسمها لهما فكانت صفحاتهما بادئ بدء قليلة وكتابتهما لا تخلو من ضعف وموضوعاتهما بسيطة تتناولها أذهان الصبيان لأدنى نظر وعلى ما قام من المنشطين لعملهما في ذاك العهد من رجال البلاد لم يبلغ المقتطف الغاية التي كانت ترجى له من الانتشار وكثرة الانتصار.
ولقد خيف عليه السقوط أولاً خصوصاً عندما قام بعضهم في مناصبته. ومن العادة أن ينتقد بل أن يعادي كل من يكتب في الأبحاث الجديدة ويدعو إليها ولاسيما ما كان منها فيما لم تألفه عقول القوم من الفلسفة الطبيعية والمعارف المادية. فثارت مثارات النفوس لأول وهلة واستعظم بعضهم إقدام صاحبيه ولو لم يمزجا عملهما بشيء من التقية والمداراة ويهضما النفس في الأحايين لكانت أقل صعوبة يلقاها مثل هذا المشروع تكفي في إخفاق المسعى وانفضاض الناس من حوله. ولو ظل المقتطف يقبل المناقشة فيما يكتبه وينشره لانصرفت وجهته من الكليات إلى الجزئيات وضاع المقصود من إنشائه فقد نصح لهما أستاذهما بالعدول عن خطة المماحكات على ما أثبتا نصيحته في السنة الثامنة فلم يضيعا بعد الوقت في الجدال سدى. ومذ ذاك أخذت كتابة المقتطف وأبحاثه ترتقي مع الزمن بكثرة مران القائمين به.
وبعد فليس هذا ما هيأ الأسباب لقيام المقتطف بل هي الدروس التي أحسن صاحباه تلقيها في أول أمرهما ومرنا على الكتابة فيها والخبرة التي توفرت لهما بكثرة المعاناة والدرس وذاك النور الذي ما فتئا يقتبسانه من أستاذهما إلى آخر عمره. وقد عرف المقتطف بحسن(4/4)
التنسيق ولطف الأداء. . . وقلَّ في العهد الأخير من يدانيه في إجادة الترجمة والتعريب في العلميات المجردة وله بذلك ملكة خاصة لم يسم إليها غير أفراد من أهل العلم الكاتبين كما أنه عرف بحسن الاختيار وانتقاء الموضوعات المفيدة حتى يكاد يكون ذلك مزية خاصة به وجرى في توقع المناسبات على قدم المجلات الأميركية والإنكليزية من إعداد مقالات للنشر كل آن ومقالات لا تنشر إلا في أوقات خاصة. فقد نشر لي مقالة بعد ثلاث سنين من إرسالها إليه ونشر أخرى بالمناسبة بعد سنتين.
ويقول منشئ المقتطف أنه يؤلفه من مجلات كثيرة لأهل الأخصاء من علماء السكسونيين وما كل مطلب من مطالبه إلا وهو نتيجة أبحاث عقول كبيرة درسته حق دراسته. دع عنك ما في مكتبته من دوائر المعارف أو الموسوعات (الانسيكلوبيديات) والكتب العلمية الإفرنجية وخل عنك خبرة صاحبيه في معظم الفنون التي يكتبان فيها على ما صرحا بذلك في آخر السنة العشرين.
ومع أن للمقتطف مشرباً يصعب أن تقبله كل النفوس وأشياعاً يغالون في محبته وإجلال ما يصدر عنه نراه إلى اليوم يراعي أكثر الأذواق استحساناً. ومن مزج خدمة العلم بخدمة نفسه في الماديات فاتخذ العلم تجارة والتجارة باباً للعلم قد ينجح في الأعم من حالاته. من أجل هذا اضطر المقتطف في الربع الأخير من عمره أن يجاري بعض المجلات في نشر الأبحاث الأدبية فأجاد في بعض رواياته المترجمة ولم يجد في المختارات الأدبية فجاء من المقتطف صحيفة عامة تبحث في أمور كثيرة يصح أن يقتنيها أهل كل جيل وقبيل ولا مسحة عليها من صحف الاختصاصيين من الغربيين تلك الصحف التي تنصرف إلى علم أو عدة علوم لا تتعداها فتطيل فيها وتتوسع ما شاءت وشاء غرضها. وللمقتطف عذر في ذلك مادام أهل الأخصاء في الشرق لا يعيشون من أقلامهم وما عم العلم بيننا حتى يخص. ولكن كان الأجدر به أن يخص بعض من تفردوا بالآداب وذاقوها كل الذوق ليكتبوا فيه أمثال هذه الموضوعات ويحكموا على ما يرد منها من أقلام المراسلين.
وأقل ما تم على يد المقتطف من الحسنات أن أناساً ممن أعرفهم في مصر والشام علت بالمواظبة على الأخذ منه أفكارهم وأزال عنهم أدران الغباوة وفتح لهم باب البحث وإعمال الفكرة وغرس فيهم الميل إلى المطالعة والتأليف وأوقفهم على إجماليات من العلوم الحديثة(4/5)
فكانت هذه المجلة لهم أشبه بدائرة المعارف التي نشرها الخاصة من رجال الفرنسيين في القرن الثامن عشر فجعل الناس يختارون ما يروقهم من العلوم بعد أن ينظروا في معظمها نظرة عامة.
بقي أن أقول أن للمقتطف مغامز لا بأس بعرضها عليه ألا وهي ظهور الغرض أحياناً في مطاوي ما يكتب مدفوعاً إلى ذلك بعامل التربية والمنشأ أو بداعي قلة اختبار في أحوال المجتمع أو مراعاة لغرض تستدعيه المصلحة وما كان الأحرى به وهو يدعو إلى العلوم المادية أن يتجرد عن النزعات السياسية والدينية بتة. فالعلم مشاع لا مشرب له ولا دين. ولو خلا من التعريض ببعض الفرق لنجا من طعن الطاعنين عليه من مثل من أوغر صدورهم مثلاً بشرح مذهب داروين في النشوء والارتقاء وكان عليه أن يلخص في مثل هذه الموضوعات حقائقها من غير تحزب إلى ما قد يكون الجمهور على خلافه.
وقد يقع لهذه المجلة في بعض الأعداد أن تطرق موضوعاً تافهاً فيكون ذلك على غير قصد منها في الغالب خصوصاً ومنشئها يعني كل العناية أن لا يكرر ما سبقت له الكتابة فيه والناقل قد يسهو عما نقل وشتان بين الناقل والواضع.
ومن كان غرضه إرضاء قرائه كافة لابد أن يسقط ولو قليلاً فيما يدعوه الخاصة لغواً أو حشواً. ولعل ذلك هو السبب الذي دعا منشئه أن قال يوماً لأحد كتاب المجلات أنك يا هذا تملأ صحيفتك بالدسم فوق اللازم فالأشبه بك أن تضمنها ما تتحمض به النفوس ليشتد بها القرم إلى العلم.
وقد عتب فريق على هذه الصحيفة لتساهلها بنقل تراجم المشارقة وذكر نبذ من أعمالهم الخيرية وأرى لها بعض العذر في ذلك لأن المرء حر أن يسكت عمن لا يعلم عنه ما يكفي للحكم فيه أو لا تروقه حالته ولا يسف أن يكيله المديح كيلاً. فإن أغفلت مثلاً ترجمة جمال الدين الأفغاني وحسن الطويل وحسن توفيق وأمثالهم فقد ترجمت محمداً عبده وعبد الرحمن الكواكبي وبطرس البستاني ومن ضارعهم.
هذا وإني استحسن طبعه ووضعه ونسقه وحسبي حجة على أدب صاحبيه وإنهما أميل إلى الإنصاف من كثيرين من حملة الأقلام أن أذكر ما اقترحه علي أحدهما منذ سنين من انتقاد مجلتهما وبعد الاعتذار أشرت بالعدول عن بعض الموضوعات المطولة المملة مثل مقالات(4/6)
فتح المكسيك وأن تتوفر العناية بتصحيح المسودات من الأغلاط اللغوية والمطبعية لتكون صحيفتهما حجة في الأدب كما هي حجة في العلم المادي فطرحا ذاك الموضوع لقلة غنائه وأنشآ يعنيان بإصلاح الأغلاط وأقاما معهما كاتباً على إنشائه.
وهناك مسألة طالما خالجت فكري وذاكرت أحد صاحبيه بها ألا وهي أن منشئيه لم يربيا على منهجهما العلمي ناساً يخلفانهما وما أخال ذلك إلا ميسوراً لهما لو صحت عزيمتهما عليه لأن المدرسة التي تعلما فيها لا تزال تخرج كل سنة من لو ساعدتهم الأحوال وأخذ أرباب البصر بأيديهم لكانوا مثلهما. وما أدري لم لم تصف للمقتطف طبقة ممن ساعدوه من أول نشأته فساروا معه إلى آخر دور من أدواره فقد اتصل بعض مساعديه بأعمال أخرى فزهدوا في المثابرة على مساعدته أو سئموا ولم يثبتوا في حين أخذ المقتطف منذ بضع سنين يؤدي جوائز للكتاب كما كان يفعل صاحب الجوائب قديماً.
ومع أن للمقتطف أعواماً طويلة في خدمة القلم يحق له كما قال لي أحد رجال الأدب ممن خبروا المجلات الأميركية والإنكليزية أن ينشر ولو في الأحايين موضوعات هي من بنات أفكار كاتبيه ومن ثمرات مباحثهما الخاصة شأن غيره من المجلات الكبرى في بلاد الغرب ولكن المقتطف لا يرى إلا الأخذ عن الغربيين وعنده معظم ما هو من أصل شرقي مظنة للظن والريبة لا يعتد به في الغالب.
وفي الختام أثني على هذا الكتاب العلمي الدوري بما هو أهله لأنه كان خير واسطة علمية بين أفكار المغاربة والمشارقة وأرجو أن تطول أيام صاحبيه ليظلا يودعانه ما ينفع طلاب الحقائق على الدهر وآمل أن يكون في اشتراك كاتبيه هذه الأعوام الطويلة أحسن معلم للمشارقة وداع لهما إلى الاجتماع تذرعاً إلى إصلاح السعادتين.(4/7)
ديانة المصريين
يقول هيرودتس أن المصريين من أشد البشر تديناً ولا يعرف شعب بلغ في التقوى درجتهم فيها فإن صورهم بجملتها تمثل ناساً يصلون أمام رب وكتبهم على الجملة أسفار عبادة وتنساك.
الأرباب المصرية - رب الشمس رأس الأرباب (الآلهة) عندهم وهو الخالق المحسن العليم الكائن منذ البدء له امرأة وابن عريقان مثله في الربوبية وكان المصريون يتعبدون بهذا التثليث الذي تختلف أسماؤه وإن اتحدت مسمياته فكان أهل كل إقليم يسمي كلاً من هذه الأسماء الثلاثة باسم يختلف عن الآخر. ففي منفيس سمي الأب فتاح والأم سيخت والابن ايموتس وفي أبيدوس سموها أوزيريس، ايزيس، وهوروس، وفي ثيبة عمون، وموت، وشونس. ثم اختار أهل كل إقليم أرباب الأقاليم الأخرى وقد يشتقون من كل رب تثليث أرباب أخرى وهكذا تعددت الأرباب وتشوش الدين.
اوزريس - لهذه الأرباب تاريخ وهو تاريخ الشمس فكان هذا الكوكب يتراءى للمصريين كما يتراءى لغالب الشعوب الأصلية أنه أقدم المخلوقات وبعبارة أخرى أنه من الأرباب فاوزيريس أي الشمس قتلها سيت رب الليل وايزيس القمر امرأته تبكيه وتدفنه وهوروس ابنه الشمس الساطعة يأخذ ثأره قاتلاً قاتله.
عمون را - هو رب ثيبة صور عندهم مجتازاً السماء كل يوم في قارب وأرواح الموتى تقذف به بمجاديف طويلة فالرب يقف في المقدم مستعداً لضرب العدو برمحه. وهاك النشيد الذي كان يتغنى به تعظيماً له. السلام عليك أنت تهب محسناً أنت تهب صادقاً يا مولى الأفقين أنت تطوف السماء من عل وأعداؤك هالكون. السماء في أنس والأرض في فرح والأرباب والناس في عيد وكلها اجتمعت لتمجد را يشاهدونه في قاربه وقد كسر العدى. يا را هب فرعون حياة طيبة وامنحه ما يقوته من خبز ويرويه من ماء وطيب شعره وعطر أردانه.
أرباب رأسها رأس حيوان - مثل المصريون أربابهم في صورة آدمية تارة وعلى مثال البهيمة أخرى. ولكل رب حيوانه فيتجسد فتاح في الجعل. وهوروس في الباشق. وازوريس في الثور. وتختلط الصورتان طوراً في إنسان رأسه رأس حيوان أو في حيوان رأسه رأس إنسان. وللرب عندهم أن يكون ذا أربع صور وأشكال فيكون هوروس مثلاً(4/8)
باشقاً أو إنساناً برأس باشق أو باشقاً برأس إنسان.
حيوانات مقدسة - لا يعلم لماذا كان يعنى المصريون بهذه الإشارة من اتخاذ الحيوانات التي تشبه الأرباب مقدسة مباركة مثل الثور والجعل وايبس (طائر طويل الرجل) والباشق والقط والتمساح فيتوفرون على إطعامهم وحمايتهم. فقد قتل أحد الرومانيين في القرن الأول قبل الميلاد قطاً في الإسكندرية فثار الشعب وقبض عليه فذبحوه رغم إرادة الملك وشفاعته فيه فعلوا ذلك علي حين يرهب المصريون بأس الرومانيين كثيراً. وكان للمصريين رب يعبدونه في كل معبد. وقد قص سترابون كيفية زيارته تمساحاً مقدساً في ثيبة فقال: كان هذا الحيوان رابضاً على شط غدير فاقترب منه الكهنة وتقدم اثنان منهم ففتحا فمه وجاء ثالث وحشاه حلويات وسمكاً مشوياً وشراباً من عسل مصفى.
الثورابيس - أجلُّ هذه الحيوانات المربوبة أو المؤلهة الثورابيس فإنه كان يمثل اوزيريس وفتاح معاً ويعيش في منفيس في مصلى له يخدمه الكهنة فيه حتى إذا مات هذا الثور يكون حاله حال اوزيريس (رب الشمس) فيحنط وتجعل مومياؤه في ناووس أما قبر أوسارهابي فهو من المعاهد الهائلة وقد فتح ماريت الفرنسي مقبرة السرابيوم عام 1851.
عبادة الموتى - عبد المصريون أيضاً أرواح الموتى ويظهر أنهم كانوا يعتقدون أولاً أن لكل إنسان قريناً (كا) فإذا مات يخلفه قرينه في حياته وهو اعتقاد اعتقده كثير من الشعوب المتوحشة وكان القبر المصري يدعى قديماً بيت القرين وهو عبارة عن مكان منخفض مظلم كالغرفة يزين من أجل القرين بضروب الآثار من كراسي ومناضد وسرر وصناديق وأصونة وأغشية وأقمشة وألبسة وأدوات زينة وأسلحة ويضعون تارة مركبة حربية وما شاء للذته من تماثيل وصور وكتب ولطعامه من بر وكل ما حلا بالعين وحلي بالفم ويضعون فيه طوراً قرين الميت وهو تمثال من خشب أو حجر صنع على صورته ومثاله ثم يسور مدخل الناووس فيبقى فيه القرين ويعنى الأحياء بأمره فيجلبون له طعاماً أو يتوسلون إلى أحد الأرباب أن يرزقه طعاماً على نحو ما تراه في هذا الرسم المزبور على الحجر: (قربان لازوريس ليعطي زاداً من خبز وشراب وثيران وإوز ولبن وخمر وجعة ولباس وعطور وكل كا طاب وصفاً إلى المتوفى فلان).
حشر الأرواح - أنشأ المصريون منذ السلالة الحادية عشرة يعتقدون أن الروح تنفصل عن(4/9)
الجسد وتلحق باوزيريس تحت الأرض حيث تغيب الشمس كل يوم فيما يظهر. هناك يتصدر اوزيريس في محكمته وقد أحاط به أربعة وعشرون محكماً فيؤتى بالروح أمامهم فتحاسب عما قدمته بين يدي نجواها في الحياة فتوزن أعمالها بميزان الحق وتطلب شهادة القلب. فيهتف الميت قائلاً: يا قلب إني ورثتك عن أمي منذ درجت على الأرض فلا تقم علي شاهداً تتجنى عليّ أمام الرب المتعال فالنفس الشريرة تعذب قروناً ثم تهلك والنفس الطيبة تطير أحقاباً وبعد محن كثيرة تنضم إلى زمرة الأرباب وتفنى فيهم.
الموميات - تستطيع الروح في خلال هذه الزيارة الدخول في الجسد لتستريح ولذا اقتضى أن يظل الجسد سليماً. ومن أجل ذلك تعلم المصريون طريقة تحنيط الجثث فيملؤون الجثة عنبراً ويغطسونها في مستحم من النطرون ويعصبونها بعصيبات فتصير مومياء. هكذا توضع المومياء في تابوت من خشب أو جبس وتودع في القبر مصحوبة بما يقتضي لها من ضروريات الحياة.
كتاب الأموات - كان يوضع بجانب المومياء كتاب صغير اسمه كتاب الموتى يذكر فيه ما ينبغي للنفس أن تقوله في العالم الثاني دفاعاً عن نفسها أمام محكمة أوزيريس وهو: ما ارتكبت خيانة وما عذبت أيماً وما ارتكبت محرماً ولا ألفت البطالة ولا وشيت بالعبد إلى مولاه ولا حبست الخبز عن المعابد ولا سرقت عصيبات الموتى ولا طعامهم ولا طففت مكاييل الحبوب ولا صدت الحيوانات المقدسة ولا قبضت الأسماك المقدسة. أطعمت الجوعان وأسقيت العطشان وكسوت العريان وقدمت الضحايا للأرباب وصنعت الوضائم للموتى وهنا تستبان حكمة المصريين وهي الاحتفاظ بالرسوم والتكاليف واحترام ما له علاقة بالأرباب وأن يكون المرء مخلصاً محتشماً محسناً.
الصنائع
الصناعة - المصريون أول من مارس الصنائع التي تمس حاجة الشعب المتحضر إليها فكانت الصور في القبور من عهد السلائل الأولى أي من نحو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد تمثل ناساً يحرثون ويزرعون ويحصدون ويدرسون ويذرون الحبوب وقطعاناً من ثيران وخرافاً وإوزاً وخنازير وأعياناً حسنة ثيابهم واحتفالات وأعياداً يحتفل فيها بضرب العيدان أي كما كانت حياة هذه الأمة بعد ثلاثة آلاف سنة حذو القذة بالقذة. وقد عرف المصريون(4/10)
لذاك العهد صنع الذهب والفضة والقلز والأسلحة والحلي والزجاج والخزف والمينا ونسج الثياب من صوف وكتان وأنسجة شفافة أو موشاة بالذهب.
عقود الأبنية - كان المصريون أقدر البنائين القدماء في العالم أقاموا المعاهد العظيمة حتى صارت كأنها خالدة بحيث لم يقو الزمن لعهدنا على تقويضها وتبديدها ولم يبنوا مثلنا بيوتاً لسكن الأحياء بل كانت مبانيهم خاصة بالأرباب والموتى فيبنون لهذا الغرض المعابد والمقابر. ولم يبق من مساكنهم إلا رسوم محيلة أما قصور الملوك فلم تكن على قول اليونان غير خانات بالنسبة للقبور. ذلك لأن المسكن يبنى ليأوي إليه الإنسان في حياته والقبر يبقى خالداً على الدهر.
القبور - أصل الهرم الكبير قبر ملوكي والقبور القديمة هي من هذا النوع. وترى في مصر السفلى إلى اليوم أهراماً مصطفة كالشوارع أو مبددة هنا وهناك تختلف في الكبر والصغر. ثم صارت تقام القبور تحت الأرض يعمر بعضها تحت التراب وينحت الآخر من حجر الصوان الكرانيت في الجبال ولكل جبل قبور جديدة. وكانت مدينة الموتى أي مدافنهم على مقربة من مساكن الأحياء ولكنها أزهى وأوسع.
المعابد - يتطلب الأرباب كذلك مساكن طيبة خالدة وتتألف معابدهم من هيكل جميل وهو مأوى الرب تكتنفه القصور والحدائق وغرف الكهنة وحاشيتهم ودروج جواهرهم وأدواتهم وملابسهم وقد صنع مجموع هذه الأبنية المسورة في عصور كثيرة. فاشترك ملوك من جماع السلائل المصرية في تشييد معبد عمون في ثيبة من السلالة الحادية عشرة إلى السلالة الأخيرة ومن العادة أن يفتح في أول المعبد باب عظيم محني الجوانب وتقام على طرفيه مسلتان مبنيتان بشعاف الصخر مذهبة الأطراف أو تمثالان من الحجر على مثال جبار جالس. وقد يوصل إلى المعبد من طريق طويل نصبت في جوانبه تماثيل أبي الهول مصنوعاً من الحجر على صفين. هذه الأهرام والمنحنيات والتماثيل وأبو الهول والمسلات تنبئ بما بلغه المصريون من العناية بعقود الأبنية وكلها ثخينة قصيرة عميقة بحيث تبدو هذه المعاهد ضخمة لا يبليها الدهر ولا تفنيها الغير.
صناعة النحت - حاكى النحاتون من المصريين الطبيعة بنقوشهم. وإن الناظر ليدهش من أقدم التماثيل لما فيها من الحياة والبساطة ولاشك أنها كانت صور الموتى. ومن هذا الجنس(4/11)
صورة ذاك العامل الجاثي المحفوظة في متحف اللوفر بفرنسا. وعلى عهد السلالة الحادية عشرة تقيد النحات بقاعدة مقررة دينية فلم يعد يمكنه تمثيل الجسم الإنساني على حسب ما يظهر له وأخذت التماثيل منذ ذاك العهد تتشاكل وغدت السوق متآزية والأرجل ملتفة والأذرع مشتبكة على الصدور والهيئة غير متحركة لكنها مهيبة وأبداً ذات جلال ومتحدة في المنوال فانقطعت هذه الصناعة عن محاكاة الطبيعة وغدت رمزاً متفقاً عليه.
الرسم - استعمل المصريون أصباغاً لا تنصل بقيت باهية زاهرة بعد مضي خمسة آلاف سنة عليها. على أنهم لم يعرفوا غير تلوين الرسم وظلوا ولا خبرة لهم بتنويع الألوان ولا رسم الظلال والأشباح البعيدة. وكان للرسم كما للنقش قواعد دينية مطردة فإذا عرض على صانع أن يرسم خمسين شخصاً يصورهم على هندام واحد ونظام واحد.
الآداب - للمصريين آداب خاصة بهم فقد عثر في النواويس على كتب طب وسحر وزهد كما عثر على قصائد ورسائل ورحلات وروايات.
مصير التمدن المصري - احتفظ المصريون بأربابهم ودينهم وصنائعهم إلى ما بعد سقوط مملكتهم فخضعوا للفرس ثم لليونان ثم للرومان ولم يطرحوا شيئاً من عاداتهم القديمة ولا نسوا خطهم ومومياءهم وحيواناتهم ثم دثر التمدن المصري ببطء بين القرن الثالث والثاني ب م.(4/12)
النهضة الأميركية
ملخصة عن إحدى المجلات الأوربية
ما برحت الأفكار حيرى في تكييف حالة الولايات المتحدة الأميركية وارتقائها في سلم الحضارة والعمران فقد مضت القرون ومواد ثروتها لا تنضب وأسباب عمرانها متوفرة وانقضت الأجيال والناس ينسلون إليها من كل حدب. ومع ما فيها من الاختلاط والحركة لا يزال أهلها عجائب في أطوارهم كما أن بلادهم أم العجائب. بلاد حوت الأضداد في الأجناس والأديان فمن ألمان إلى هولنديين إلى أيرلنديين إلى بافاريين ومن كالفانيين إلى كواكوز إلى برسبتاريين إلى بوريتانيين من شيع البروتستانت. ومنهم يتألف على اختلاف الأجناس اللاتينية والسكسونية والإنكليز السكسونية هذا الشعب العجيب المتناسل في تلك الأصقاع بين هاتيك الآجام والغابات الكبيرة والمروج الواسعة.
وأهل هذه البلاد من سكان العالم القديم نثروا في عالمهم الجديد جراثيم الترقي وأتوا تلك الديار كما قال كارلايل المؤرخ الإنكليزي حاملين على قواربهم الثخينة من الرجال أمثال شكسبير وكرومفل ممن كانوا أبطال إنكلترا الجديدة والغوغاء الوضيع في أسبابه الرفيع بآدابه. ومن أعظم ما امتاز به هذا المزيج من الناس فكر الإبداع ولم يعق تلك الأمة ما عرفت به هي وأصولها من حب التقليد. ففي أميركا الشمالية كل شيء ونقيضه. ففيها التمدن والتوحش. وفيها حب الفتح والتبسط في مناحي السلطة والدعوة إلى السلام والاحتفاظ به. وفيها الشجاعة المفرطة والاحتيال مع الحذر. وفيها الإعجاب بالعظمة والتمدح. والميل إلى العمل والعزوف عن السفاسف. وفيها التعبد بالتوراة وحرية الفكر. وترى فيها بجانب الأهوال والفظائع من صلب وضرب بالسياط جمعيات اعتدال عجيبة وأوضاعاً بديعة لتعليم العامة. وفي جانب المضنيات الاقتصادية الهائلة عطايا تمنح لمساكين الفقراء حوت في مطاويها الأبهة والتمجد. بل ترى فوق ما هناك من أعمال قاسية جافية إجراء يلتمسون من مواليهم زيادة أجورهم وأولاد أغنياء يملك آباؤهم الملايين والمليارات واللكوك والربوات ثم يروحون ويغدون في بيع الجرائد وينادون عليها بأعلى أصواتهم في الشوارع ويمتهنون أنفسهم بإصلاح الأمواق (بوياجية جزم) وبينا ترى فيها التشديد للمحافظة على الأيام المخصصة رسمياً لتمجيد المولى تعالى وتقديسه على نعمائه(4/13)
ترى التسامح مع المجتمعات الكافرة الشيطانية بأجمعها والترخيص لها بما تريد.
ومن أعظم ما امتاز به أهل هذه البلاد الجفاء والكبرياء وحب البيضاء والصفراء فيقصد كل فرد من أهلها إلى أن يكون حاكماً على غيره وظالماً متسلطاً لا يحيك فيه نصح الناصح، ولا يقنعه غير مدح المادح. قال توكفيل يظهر الأميركيون في صلاتهم مع الأجانب أنهم لا يحتملون أدنى انتقاد وينهمون للمديح فيستحسنون أقل مديح دقيق وفي النادر أن يرضيهم المديح العظيم وقال ستوارت ميل في معنى حبهم للمال: أن الأميركيين صنفان صنف يعنى بصيد الدولارات (الريالات الأميركية) وصنف يربي صيادين للدولارات. وقل في الأمم من يعبد الدينار ويتعبد به مثل هؤلاء الأميركيين وإذا رأيتهم حسبتهم لا يفكرون في غير الثروة والتبجح باختزان الدرهم.
ومعلوم أن المال لا يحصل إلا بالاكتساب والاكتساب لا يكون إلا بالحركة ولذلك عرف الأميركيون بالمضاء والحركة حتى قال فيلسوفهم أمرسون ونعم القول قوله: الإنكليزي أثبت الناس وقوفاً على قدميه وليس هذا النوع من الرزانة في السكون غاية ما يجب على المرء فإذا زاد هذا السكون في إنسان فسجل بأنه أميركي وأنك متى سألت أميركياً عن صحته يجبك بأنها في حركة عوضاً عن أن يقول لك إنها جيدة أو أنا في راحة. وقد خصت كل بلد من بلدانهم بمزية لا يضارعها فيها غيرها فامتازت شيكاغو بالصناعات وفيلادلفيا بالعلميات ونيويورك بالماليات وبيتسبورغ بالمعدنيات وهناك ترى ثروات لا تحصى تجتمع وتتفرق وأمجاداً تعلو وتسفل وكلها سائرة نحو التقدم آخذة في سنن النماء الذي ينسب الفضل في التوفر عليه أول مرة لرجل أميركا جورج واشنطون.
ولد واشنطون في مقاطعة فرجينيا سنة 1732 ومات فيها سنة 1799 وقد لقبه اللورد بايرون الشاعر الإنكليزي بسينسيناتوس المغرب لكثرة فضائله الشخصية. فقد كان بما خص به من قوة العقل واستقامة الإرادة حكيماً أكثر منه جندياً. فهو على التحقيق مؤلف قلوب أمة وقائد جماعة وزعيم عصابة. قال شاتوبريان الكاتب الفرنسي في كتابه الرحلة إلى أميركا ما نصه: ألق رائد الطرف في الغابات الغبياء التي لمع فيها سيف واشنطون تجد قبوراً بل تجد عالماً. فقد ترك واشنطون بلاد الولايات المتحدة غنيمة في ساحة قتاله. وكان على الجملة زعيم الحاجات والأفكار والمعارف والآراء في عصره قام بنصرة العقول(4/14)
ولم يضادها وتوخى ما يقتضي أن يراد وعمل بما وسد إليه. ومن هنا جاء عمله متماسك الأجزاء ثابت الدعائم على الدهر.
فواشنطون هو الذي أوجد الاتحاد ومثل النهضة الأميركية الأولى فكان الجندي النشيط الباسل والسياسي الذي أعلى شأن بلاده في الحكم الجمهوري والتقاليد الدستورية النافعة على حين كان تزبد كتيار يرغي بمياه جديدة تجري إليه. وبينا كانت تلك الأمواج المزبدة على وشك الفيضان وأنشأ واشنطون يجمع شمل المروءات المختلفة ويوجه الإرادات صوب النفع ويحسن بث الأخلاق التي تسفر عن تغلب الحرية والمدنية. فقد أثبت حقوق المرء المقدسة ورغب في الأخذ بزمام مستقبل ذاك الجنس المحتفظ بالتقاليد السائر مع الزمن في تعديلها واستبدالها بأحسن منها مخافة أن يكون من وراء نشوئها السريع اضطراب هائل يستحيل غالباً إلى نزع فوفاة.
وهكذا أسس واشنطون مدينته الجديدة على العدل والآداب العامة قال لما سلم القائد قورنفاليس الإنكليزي: رجائي أن تعلم هذه الحوادث إنكلترا بل تعلم الظالمين قاطبة في العالم أن أحسن طريق يقود على التحقيق إلى الشرف والمجد والفضل الحقيقي هو طريق العدل ومذهب الإنصاف ولذا كان الصراط السوي الذي سلكته الولايات المتحدة في ارتقائها أن لا تتساهل بمبادئ العقل والحكمة وهما نتيجة مادة جديدة سعياً وراء مطامع هي من الجنون المطبق فالولايات المتحدة على ما ذكر حرة مطلقة تفيض بالحماسة البطيئة وتتفي الفتوحات ولا ترضى لنفسها أن تكون مملكة على قدم الجهاد أبداً كمملكة قيصر أغطس.
هذا هو مبدأ واشنطون الذي سنه لأمته فلذلك جعلت الولايات المتحدة شعارها أن لا تتداخل أصلاً في شؤون غيرها وأن تضرب صفحاً عن الذهاب إلى أوربا. ولكن جاء بعد واشنطون وبنيامين فرنكلين جايمس مونرو السياسي العظيم خامس رئيس لجمهورية الولايات المتحدة وجعل شعاره أميركا للأميركيين فيقتضي إبعاد الأوربيين عن أميركا وهكذا كانت مقاصد زعماء السياسة في تلك البلاد امتناع أميركا عن التداخل في شؤون أوربا حتى لا تحمل هذه بأن تجعل أميركا مستعمرة لها. وهي القاعدة التي يجب أن يجري عليها كل شعب فتي أمام الشعوب القديمة يود أن ينمو حراً على ما تقتضيه قواه ومصالحه ولم تفكر الولايات المتحدة إلا في الاحتفاظ بحقوقها ومصالحها ولو أدى بها ذلك إلى سلب(4/15)
حقوق الجمهوريات الصغيرة بالقوة أحياناً. وبالجملة فإن معنى ما كان الأمريكان يتطالون إليه كان محصوراً في قولهم أنا وأود أن أكون.(4/16)
التفاضل بالبلاد
ألف الناس التمجد بالبلاد، والآباء والأجداد، والمال والبنين، عادة في البشر تكثر فيهم بكثرة الجهل وتقل بانتشار العلم، ولقد كان لأهل هذه البلاد من هذا التمجد الباطل قسط وافر، ساعد على إنمائه في النفوس جهل بعض ولاة الأمر السالفين، واتخاذ هذه الأضاليل حجة على من يريدون مناوأته وإرجاعه إلى الطاعة. ولطالما خطب الحجاج في أهل العراق ووصفهم بقوله أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق وأطلق عليهم من قبله ومن بعده من أمراء ذاك القطر مثل تلك الصفات وما كانت هذه المعاملة لأهل العراق إلا سياسية ولو كانت أخلاقهم كذلك وكان فيمن ولي رقابهم علم وشفقة لسعى السعي الحثيث إلى نزعها منهم بحكم العادة والأسوة والقدوة ولعل هذه الدعوة كانت جملة فلسفة أولئك الحكام وبيت قصيد حملهم على رقاب الناس وكان من أهل الشام إن وسمهم أعداؤهم بكل كبيرة وألصقوا فيهم باطل التهمات. وهكذا الحال بين الشام والحجاز والشام والعراق فإن معظم المؤرخين والمؤلفين نبغوا في العراق فأكثروا في مصنفاتهم من الأحاديث الموضوعة على أهل الشام لقلة من كتب من هؤلاء ودافع عنهم. ومثل ذلك قل في المغرب مع مصر ومصر مع الشام وفارس مع الهند وكلها في الحقيقة سفاسف لا تساوي درهماً عند المحققين. وما البلاد في أمر الأفضلية إلا سواء لا يفضل شرق عن غرب ولا جنوب عن شمال إلا بالعلم النافع والأدب الرافع والعمران والسعادة. ولذا ضل رأي من وضعوا من المتأخرين كتباً خاصة في فضائل بلد أو قطر. وأضل منهم من وضعوا أحاديث مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم في تفضيل مدينة أو بلد كما ضل من وضعوا الموضوعات طعناً على فئة خالفت ما هم عليه.
وبعد فالأرض كلها سواء في هوائها ومائها دحاها الله ليعيش فيها البشر ويتنقلوا في أقطارها وقد لا تختلف الأقطار المتنائية في قوة الإنبات إلا قليلاً فليس من العقل أن تمدح بلد لجبل فيها، أو سهل فسيح حواليها، أو نهر كبير يمر في وسطها. ولا أن تذم أخرى لحرارتها، أو لضيق حاراتها وجاداتها، فكانت مصر ولا تزال مثلاً منذ ألوف من السنين طريدة من الأرض عرفت بخصبها وغناها الطبيعي وكانت الشام ولا تزال منذ ألوف من الأعوام مشهورة باختلاف أهويتها. ورقة نسيمها، وتنوع جبالها وأوديتها، فما عد ذلك فضيلة للأولى على الثانية ولا للثانية على الأولى. بل حسب لهما ذلك خاصية يمتاز بها(4/17)
كلا القطرين بعضهما عن بعض. وقد أنصفهما في الوصف أحد عمال الدولة وقد سئل عنهما فقال: مصر مزرعة ممرعة والشام مصيف بهيج.
إن كان ما تفاخر به البلاد بعضها بعضاً هذا إذا سوغنا التفاخر فبالعلم والتربية وغلبة الفضيلة والخير على طبقات الناس كلها لا بالماء والهواء والواحات والجبال والأودية والأشجار والأثمار وكل ما وزعته الطبيعة بين بلدان العالم فنال كل منها بحسب حالته. دخل أبو الحكم المغربي الأندلسي الحكيم المرسي مدينة دمشق فلما حلَّ ظاهرها سير غلاماً له يبتاع لهما ما يأكلانه في يومهما وأصحبه نزراً يكفي رجلين فعاد الغلام ومعه شواء، وفاكهة وحلواء، وفقاع وثلج، فنظر أبو الحكم إلى ما جاء به وقال له عند استكثاره أوجدت أحداً من معارفنا فقال لا وإنما ابتعت هذا بما كان معي وبقيت منه هذه البقية فقال أبو الحكم هذا بلد لا يحل لذي عقل أن يتعداه ودخل وارتاد منزلاً وسكنه وفتح دكان عطار يبيع به العطر ويطب وأقام على ذلك إلى أن وافاه أجله.
ومثل ذلك ما وقع للملك المعظم شمس الدين توران شاه أخو السلطان صلاح الدين يوسف لما تمهدت له بلاد اليمن واستقامت أمورها ملَّ المقام بها وحن إلى الشام وفيها نشأ واشتاق إلى خيراتها والتمتع بثمراتها إذ أن اليمن مجدبة من ذلك. قال ابن خلكان فكتب إلى أخيه صلاح الدين يستقيل منها ويسأله الإذن له في العود إلى الشام ويشكو حاله وما يقاسيه من عدم المرافق التي يحتاج إليها فأرسل إليه صلاح الدين رسولاً مضمون رسالته ترغيبه في الإقامة وأنها كثيرة الأموال ومملكة كبيرة فلما سمع الرسالة قال لمتولي خزانته: احضر لنا ألف دينار فأحضرها فقال لأستاذ داره والرسول حاضر عنده: أرسل هذا الكيس إلى السوق يشترون لنا بما فيه قطعة ثلج فقال أستاذ الدار يا مولانا هذه بلاد اليمن من أين يكون فيها ثلج. فقال: دعهم يشترون بها طبق مشمش لوزي. فقال: من أين يوجد هذا النوع هنا فجعل يعد عليه جميع أنواع فواكه دمشق وأستاذ الدار يظهر تعجبه من كلامه ولكما قال له عن نوع يقول له: يا مولانا من أين يوجد هذا هنا فلما استوفى الكلام إلى آخره قال للرسول: ليت شعري ماذا أصنع بهذه الأموال إذا لم أنتفع بها في ملاذي وشهواتي فإن المال لا يؤكل بعينه بل الفائدة فيه أنه يتوصل به الإنسان إلى بلوغ أغراضه.
ولعمري هل يصح أن تجعل أمثال هذه القصص حجة في أفضلية دمشق على غيرها من(4/18)
أمهات المدن حيث المعيشة غالية وهل هذا الرخص مما ينبغي أن يفاخر به أهل الاقتصاد في عصرنا يجعلونه إذا استحكم من بلد شؤماً عليه ويعدون البلد كل البلد الذي غلت فيه أسعار الحاجيات والكماليات وارتفعت الأجور والارتفاعات على نسبتها. والأمثلة على ذلك كثيرة فإنه يبلغنا لهذا العهد عن بلاد الأناضول وهبوط أسعار المأكولات فيها لقلة ما يصدر عنها ما لا يكاد يصدق لولا تواتره على السن الطارئين على ذاك الصقع فهل تفضل السكنى فيه على الروم ايلى المرتفعة أسعار الأرزاق فيه. وبعد فإن كان لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى فلا فضل لبلد على أخرى إلا بالعلم والعمل والسعادة الحقيقية.(4/19)
الاقتصاد
لبول لروابوليو الاقتصادي الفرنسي
في الإنسان كما في سائر أنواع الحيوان سائق طبيعي يدعوه أبداً إلى السعي وراء ما يحفظ حياته ويطيل حبل أجله. فحب الحياة أمر فطري ولذلك احتاج الإنسان حرصاً على بقائه إلى طعام يقوته ولباس يدفع عنه عوادي الحر والقر ومسكن يأوي إليه وغير ذلك.
كان الإنسان أول أمره قليل الحاجات جداً وذلك أيام كان يهيم في الغابات والآجام ويقتات من الثمار الطبيعية أو مما يصيده من الحيوانات والطيور والأسماك ويكتسي من جلود هذه الحيوانات ويأوي إلى المغاور والكهوف وأصول الأشجار الضخمة والأدواح الباسقة.
أما الآن فما أكثر حاجات الإنسان فإن تقدم المدنية ونمو العمران أحدثا أشياء كثيرة أصبحت اليوم من ضروريات الحياة. فبعد أن كان الإنسان في أدواره الأولى لا يعاني كبير أمر في سد حاجاته غداً الآن مقيداً ينوء تحت أعباء الحياة ومطالبها وليس في حاجاته ما يسهل نيله سوى استنشاق الهواء وشرب الماء وما خلا ذلك فمحتاج إلى فرط كد وعناء. تنوعت المآكل والملابس وتغيرت المساكن وتزايد حب الزينة والظهور في مظاهر الأبهة والتفخل وعظم الميل إلى التلذذ بأمور مادية ومعنوية وأدبية على ضروب شتى لا يحصرها حد ولا يحصيها عد.
وبديهي أن الرجل في المجتمع الإنساني لا يستطيع نيل مطالبه العديدة إلا بسعي خاص لحصولها أو بدفع ما يقابلها من المال الذي هو ثمرة عمله أو ثمرة عمل سابق أتى به من قبله. وكيف كان الحال فالحصول على المطالب لا يمكن إلا من طريق السعي والعمل. ومهما اختلفت أعمال البشر وتنوعت فإنها ترمي إلى غاية واحدة وهي سد مطالب الحياة. وقد حقق أهل الأخصاء في هذا الشأن أن الأعمال المشار إليها خاضعة لقوانين عامة. فكما أن الأجسام وقوانين الأجسام تابعة لقوانين عامة مقررة في العلم الطبيعي فكذلك مساعي الإنسان المصروفة في تقاضي الأشياء النافعة له خاضعة لقوانين عامة. وهذه القوانين هي موضوع علم الاقتصاد ولذا يقال في تعريف هذا العلم أنه علم تعرف به القوانين العامة التي تبين مبلغ تأثير مساعي الإنسان في الحصول على المواد المختلفة والانتفاع بها مما لم تمنحه الطبيعة عفواً. ويمكن إرجاع هذه القوانين إلى أصل واحد وهو أن كل إنسان يجتهد(4/20)
لنيل قدر وافر من المنافع مقابل قليل من السعي وسر ذلك أن الإنسان ميال بالطبع إلى الراحة والكسل ولولا دافع حب الحياة وطول البقاء لما أجهد نفسه في شيء من أمر معاشه وعندما يبتغي شيئاً من المواد النافعة للقيام بحاجاته مباشرة أو بالواسطة فإنه يبحث عن الطرق التي تقلل من تعبه وتوفر له النفع والفائدة.
وإذا أمعنا النظر في هذا الأصل نراه منبعثاً من عاطفة حب الذات المنطوية في جوانح كل إنسان. وهذه العاطفة هي ولا جرم أعظم العواطف عملاً وأشدها تأثيراً. فهي المحرك الأكبر في غالب الأعمال، والباعث الأقوى في أكثر المشاريع، والمؤثر الأعظم في جل الأمور إن لم نقل في كلها. ولهذه العاطفة المكانة العليا في الاقتصاد والإثراء وتوفر الرفاهية وتقدم الحضارة.
ظن بعضهم أن عاطفة النفع الذاتي هي الأنانية بعينها المضادة لحب خير الغير فحكموا بوجوب عدم الالتفات لتلك العاطفة جرياً على ما تقتضيه قواعد الأخلاق. ولاشك أن الأنانية من الرذائل التي يجب على كل حال اجتنابها ولكن عاطفة حب الذات والنفع الشخصي هما غير الأنانية وبينهما بون شاسع.
فالأنانية أن يضع الإنسان نفسه مكاناً علياً وينزل غيره في دركات الانحطاط فيرى احتقار الغير والازدراء به أمراً طبيعياً ويرى نفسه خليقة بالتجلة والتعظيم دون سواها. فينشد المنافع والملاذ من أي طريقة كانت مشروعة أو غير مشروعة أضرت بغيره أو لم تضر. ومن تستحكم فيه هذه الخصلة يكون قلبه كالحجارة أو أشد قسوة وطبعه شر الطباع لا تثنيه شفقة، ولا تعطفه رحمة، ولا تستميله مروءة ولا نخوة.
أما عاطفة النفع الشخصي فهي شعور يدفع الإنسان إلى استجلاب النفع لذاته من طرقه المشروعة بدون أن يلحق ضرراً بغيره ويرق لمصاب سائر الناس في غالب الأحيان ويتصدق من ثمرة مساعيه بما تهديه إليه نفسه. ولا يتجرد امرؤ في العالم عن هذه العاطفة لأنها من نتائج حب الحياة الطبيعية. غير أن تقدير النفع الشخصي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمزجة والمحيط والفكر والتربية وغير ذلك. ومن زهدوا في الدنيا واختاروا عيش التقشف في صوامع التعبد فإنهم لم يريدوا بذلك إلا تحصيل نفع أعظم ونيل لذة أسمى من منافع الدنيا وملاذها. وما صلاتهم وصيامهم إلا رجاء الخلاص من العذاب(4/21)
الأليم وأمل الحصول على لذة النعيم الأبدي الذي وعد به المتقون. ولا ينافي حب النفع الذاتي حب الخير للغير وقد يشترك الاثنين في معظم الأحيان. ودليل ذلك أن الإنسان أكثر ما يفكر في مصالح عياله ورفاهيتهم وضمان مستقبلهم. والأسرة منشأ القومية فمن أحب نفسه حباً خالصاً أحب عياله وأسرته ومن أحب عياله حباً شريفاً أحب مواطنيه وقومه. ولذلك كان حب الذات عاطفة شريفة تنافي الأنانية بتاتاً.
والإنسان مدفوع بهذا العامل لتقاضي حاجياته. والحاجيات من أهم المباحث التي يدور عليها علم الاقتصاد. وهي كما هو معلوم كثيرة متنوعة جداً تزداد بارتقاء الحضارة وتقدم العمران حتى أن بعضهم حدَّ الحضارة ببلوغ الحاجات درجة الكمال ولعل كثيراً من الناس يتساءلون: هل تقليل الحاجات أنفع للمجتمع الإنساني أم تكثيرها؟
قال أحد الفلاسفة القدماء: إذا أردت أن تكون ذا ثروة وغنى فقلل من حاجاتك ومطالبك بدلاً من أن تسعى في تزييد أموالك. وقال أرسطو: ما أقل القدر الذي يكفي لعيش الإنسان عيشة راضية. وقامت طائفة من الحكماء في هذا العصر بإحياء معالم الحكمة القديمة فاتخذت هذه الأقوال دليلاً مهماً وصارت تحث على الزهد والقناعة وجعلت تبدي أفكاراً كلها خيال في خيال وإليك جملة من أقوالها:
ما كانت حياة العظام الذين قاموا بأمر الإنسانية والفضيلة مثل المسيح وبوذا وزردشت وسبينوزا حياة سعيدة إلا لأنهم كانوا زاهدين قنوعين يحيون حياة روحية فهؤلاء ولأمراء خلقاء بأن يتخذوا مثالاً حقيقياً للاقتصاد.
يقول بوليو:
إنني لا أخشى من التصريح بأن هذه الأفكار الخيالية ليست على شيء من الأهمية في نظر العلم والمدنية. نعم إن من مقتضى قواعد الأخلاق أن نجعل نصب أعيننا مثال المسيح وبوذا وغيرهما من الزهاد المتقشفين كي يعدل فينا حب الثروة المفرط ويعرف الفقراء الذين خانتهم الحيل وأعوزتهم الوسائل أن سعادة الدنيا لا تتوقف على الثروة والمال بل قد يمكن للمرء أن يعيش مع الفقر عيشة طيبة إذا رضي وقنع. بيد أنه لا يتأتى للبشر كافة أن يعيشوا مثل المسيح وبوذا ولو فعلوا ذلك لما تيسر الوصول إلى هذه الدرجة السامية من الرقي والحضارة - انتهى بتصرف يسير.(4/22)
دمشق
عبد الوهاب(4/23)
أدعياء العرفان
ما ساءني من زماني ... إلا بنوه وأهله
فلا ترى من بنيه ... إلا الذي ساء فعله
ومدعي العلم إفكاً ... كأنما العلم جهله
وقائل إن فضلي ... وفرٌ ولم يبد فضله
وزاعم إن موت ال ... عافين لاشاه بذله
وحاكم وهو يتلو ... أنا الذي عمَّ عدله
وفاخر في مزايا ... يمتاز فيهن أصله
وقائل إن شعري ... حزن الكلام وسهله
وذو اليراع ينادي ... أنا الذي ليس مثله
إذا هززت يراعي ... ريع الشآم وأهله
وذو التنفج يهذي ... أن السماكين نعله
حيبات قوم مناهم ... غدر الجواد وحمله
ودأبهم في البرايا ... غش اللبيب وختله
فما أشد افتئات الإ ... نسان أن ضل عقله
وما أضر افتخار ال ... مرء الذي ساء فعله
القاهرة
حسين وصفي رضا(4/24)
ريح سموم
وبربك القيوم، ما الذي تظنه يدوم، صوت سمعته في الكروم، وقد مرت عليها ريح سموم، فجفت الأرض وعادت جزرة كثيرة الكلوم، وسقطت الجفان عن فسائلها، وفزعت أوراقها إلى الغيوم، صوت صاروخ من وراء النجوم، ما الذي تظنه يدوم؟
من صروح زاهية فخيمة، من رياض زاهرة كريمة، من بروج شاهقة عظيمة، من معامل حديثة أو قديمة، ما الذي تظنه يدوم.
من أسراب منورة تحت الأنهار، من أرتال فيها تدفعها الكهربائية أو يجرها البخار، من بوارج ماخرات في البحار، من أساطيل تنذر بالدمار، من معالم في الأمصار والأقطار، ما الذي تظنه يدوم.
من أنفاق تحت الأديم ملؤها عجاجة، تنفثها وتثيرها القطر الولاجة، من قباب بين السحاب وهاجة، من جسور فوق المياه جسيمة، من متاحف في عواصم العالم فخيمة، ما الذي تظنه يدوم.
من سدود محكمة منيعة، من خلج كونتها الطبيعة، من ترع تؤلف بين البحار، وتجمع بين بعيد المطارح وشاسع الديار، من خطوط حديدية تطوق الأرض، من أسلاك برقية تطوي المسافة في الطول والعرض، ما الذي تظنه يدوم.
من أبنية ذات الطبقات العشرين، من أحياء في المدن الكبرى يأوي إليها المساكين، من معابد وبيع لا أثر فيها للدين، من أصقاع لا صوت فيها للصالحين، ما الذي تظنه يدوم.
من قصور مكتنفة برياض خضراء، من صروح الكبراء والأمراء، من بيوت الرؤساء والأغنياء، من أكواخ البؤساء والفقراء، ما الذي تظنه يدوم.
من شرائع ودساتير ونظامات، من تقاليد وعوائد وخرافات، من أديان وعقائد وخزعبلات، من دول وممالك وحكومات، من أحزاب وطوائف وجماعات، ما الذي تظنه يدوم.
صوت صارخ من وراء الغيوم، صوت ريح سموم، أي شيء يدوم.
مهلاً مهلاً أن هذه كلها لصالحة في ذاتها، إن هذه كلها لحسنة في وقتها، لكل شيء من العز والمجد أركان، لكل شيء من أبناء البطر والأشر أعوان، لكل برهة من دهره الوسنان، ساعة أو عام أو حين من الزمان، الطويل من الدهر والقصير سيان، ولكن قل لي بربك القيوم مبدع الشمس والنجوم، أتظنها إلى الأبد تدوم.(4/25)
إلى حين يا أخي إلى حين، إي ورب العالمين إلى حين، وبعد فقل لي هل أنت من الممترين، أم أنت من المفندين السائلين.
أما في زمانك تأملت المغاور في الصخور، فاذكر أن الأمطار والرياح تكونها، والأمطار والرياح تهدمها، إن كل صالح مقبول حتى يظهر على ميدان العالم قائم على المظالم البشرية، أو مناضل عن الحقيقة الأخوية، أو باذل مهجته في سبيل الإنسانية، إن كل شيء في مركزه حريز حصين، إلى أن يزلزله رجل حصيف رشيد، أو امرأة صالحة ذات رأي سديد، فيعلو إذ ذاك صوت المطالب بحقوق المستضعفين المستذلين، ويلحق الجبارون بالأخسرين، أبد الآبدين ودهر الداهرين.
وبعد أن تلاشت ريح السموم فوق الجبال، تلاها نسيم لطيف الاعتلال، فدخلت معه غابة من الصنوبر كثيفة الظلال وسمعت من خلال الأغصان، صوت المحبة والمعروف والحنان، سمعت صوتاً يقول ورب الأكوان، لا يدوم إلا بالإحسان والعرفان، لا يدوم إلا السجايا الروحية الفريدة، سجايا النفس البشرية الخالدة، لا تدوم إلا آثار النهضات الجليلة، ومآثر الأنفس السامية النبيلة، وما أسخف الجدل الوهمي أمام مشروع جليل، وما أوهن التعاليم الوضعية في وجه خطب جسيم، وما أوهى الأقوال والآراء إذا قوبلت بنظرة من رجل عظيم، أو صادفت نفحة من نفحات حكيم، وعندما يرفع مثل هذا رأسه وصوته ولا فرق عندي رجلاً كان أو امرأة يقف دولاب الأعمال، ولا يبقى شيء على حال، عندئذ يبطل الجدال، وتنكسر شوكة المال، وتحشر الرجال، وتكبر الآمال، يومئذ تنقلب المجتمعات، وترتعد فرائص الطغاة الجفاة، عندئذ تتغير العادات وتهب على الأرض الذاريات السافيات، فيسأل السائل من وراء النجوم أين مالكم ونفوذكم، أين تقاليدكم وعقائدكم، أين شرائعكم ودساتيركم، أين حصونكم وصروحكم، أين مصانعكم ومعاهدكم، أين زخرفكم وسفاسفكم. فقل أن هي الأبرهة من الدهر الوسنان، ساعة أو عام أو قرن من الزمان، قل وبرب الأكوان، لا بقاء لما سوى آثار الجد والعرفان، والمعروف والحب والإحسان، فهي هي الجبال الراسيات، وهي هي الحصون الواقيات، وهي هي الباقيات الصالحات، بلى ورب السماء والنجوم، لن تدوم إلا آثار النفوس الطاهرة ووجه ربك الحي القيوم.(4/26)
لبنان
أمين ريحاني(4/27)
ظلم مصر
ماذا جنيت وما جناه بنوك ... أظلمتهم يا مصر أم ظلموك
وبسمت للغرب العبوس وأهله ... ومنحتهم فوق الذي منحوك
وعبست في وجه الشآم وإنما ... قطر الشآم وإن عبست أخوك
كم وارث غض الشباب رميته ... بغرام راقصة وحب هلوك
ألبسته الثوبين في حاليهما ... تيه الغني وذلة المفلوك
القاهرة
حافظ إبراهيم(4/28)
مصر ومستقبل إفريقية
مقتضب من كتاب تحرير مصر
لا ينكر أحد أن أتعاب المرسلين المسيحيين في إفريقية قد ذهبت أدراج الرياح وأن أهل إفريقية لا يزالون كلهم وثنيين عباد أصنام. وإنا لا نرى في أواسط إفريقية وشمالها ديناً مستحكماً غير الدين المحمدي. فكأن الإسلام فاز حيث خابت النصرانية لأن في الإسلام ما يجذب الإفريقي مما لا يوجد في النصرانية. وهنا نذكر أوربا وهي التي لم تر نور النصرانية إلا بعد أن اقتبست المدنية اليونانية الرومانية.
نقول ذلك ولعل الإفريقي لا يزال عاجزاً عن الأخذ بالمسيحية لأنه لم يستعد لها كل الاستعداد. وبعد فلا يخفى أنه لم تسكن إفريقية أمة أوربية سوى البوير فهي الأمة الوحيدة التي تمكنت من العيش في جو إفريقية وهوائها ولكنها على قدرتها وذكائها لم تفلح في مصادمة الوطنيين ولم تخضع منهم أحداً لدينها ولا لمدنيتها ذاك لأن المدنية الغربية لا تدخل إلا في مكان دخلته المسيحية. ولا حاجة أن نقول هنا بأن شعوب إفريقية لم تتعلم من أوربا شيئاً استفادت به أو ساعدها على التقدم في طريق المدنية على أن البيض لم يشدوا رحلهم إلى إفريقية إلا ليغنموا أو يربحوا فهم إذا نزحوا عن مستعمراتهم تركوها خالية خاوية وغادروا الدار تنعي من بناها.
وما ذلك إلا لأن بين الوطني والأجنبي حاجزاً منيعاً لا يمكن جوازه. ولاشك في أن هذا البغض والنفور السائدين بين الوطنيين والأجانب يؤديان أخيراً إلى انقراض سكان إفريقية الأصليين واستئصال شأفتهم لا محالة.
وإن الإنسانية في أوربا لترجو أن لا تعيد في إفريقية تمثيل الرواية المحزنة التي مثلتها في أميركا. فإن تاريخ استعمار العالم الجديد يحرج صدر الحليم ويسيل مدامع أجمد الناس عيناً ويلين فؤاد أقسى البشر قلباً. ولقد فشلت أوربا في أميركا فشلها في إفريقية لأنها لم تستطع الوقوف على أخلاق شعب الهنود الحمر وعاداته وديانته وصفاته. أضف إلى ذلك أن الأوربيين لم يحاولوا تغيير دين أهل أميركا الأصليين أو إدخال أقل إصلاح على حالهم. ولا ندري إذا كانوا ينجحون لو حاولوا إدخال النصرانية أم لا. ولكن ما نعلمه هو أنهم لم يحاولوا ذلك بل جاء الرجل الأبيض وأزاح بيده القوية كل ما يتمثل أمامه وتناول سيفه(4/29)
وذبح هنود الشمال والجنوب والشرق والغرب حتى أصبحت قارة أميركا بحراً من الدم الطاهر البريء. فكأن الرجل الأبيض يفرح لرؤية الدم ويطرب لإزهاق النفوس. ولما كان هؤلاء الوطنيون المساكين يخضعون للذل ويستسلمون للأوربيين كانت تصيبهم أمراض أوربا فيموتون كأنهم فروا من الموت إلى الردى.
رفع المستعمرون أو الطوارئ الأوربيون علماً كتبوا عليه لا رحمة عندنا ومن يقف في طريقنا فليس له إلا الموت الأحمر وأسفي لقد نجحت أوربا في إبادة ذلك الشعب الهندي الكريم فلا ترى منه الآن إلا أفراداً قلائل يراها الناس كما يرون النوادر والغرائب. وقد شمل الخوف وتمكن الجبن من بعض القبائل المنحطة ففرت إلى جنوب أميركا لاجئة إلى حراجها وغاباتها كما يلجأ الوحش الطريد. وإن قلبنا ليخفق عندما يخطر ببالنا أن ما تم في أميركا يتم في إفريقية سيما ونحن نرى ما نرى بين البيض والسود في تلك القارة من البغض والنفور. وما الداعي إليهما إلا أن المستعمر الأبيض عاجز عن فهم طبيعة الوطني الأسود فيعوقه جهله بطبيعته عن منحه نعمة المسيحية والمدنية. وأي دليل أصدق من قولنا أن نصف سكان جنوبي إفريقية فنوا أو نزحوا عن أرضهم. ويليق بأوربا المتمدنة أن يصبغ الخجل وجهها ألف مرة كلما سمعت الأخبار المعيبة والقصص الشائنة التي ينقلها البريد في كل يوم من أوساط إفريقية.
عندما يصل الأوربي إلى تلك البلاد ينسى نفسه ويسقط سقوطاً معيباً. فيحيا الحيوان القذر الساكن في جسمه وتموت عواطف العفة والشرف فيه كلها فلا ينظر إلى الوطنيين إلا نظراً شهوانياً محضاً ولا يعتبرهم إلا وسائل لتنفيذ أغراضه السافلة وإطفاء نار شهوته الحيوانية. إن أمثال تلك الأخبار لا تنقطع عن أوربا أسبوعاً واحداً وكثيراً ما تزيد ذنوب أحد هؤلاء المتمدنين المتوحشين فيسأل عن أمره ويحاكم ولا تحمل الصحف وصف الجرائم التي ارتكبها والذنوب التي اقترفها إلا وترتجف أوربا كلها من ذلك.
على أن لدينا في شمال إفريقية مثالاً واضحاً كل الوضوح يدل على عجز الأوربي عن ابتلاع الوطني أو جلبه إلى حظيرة المدنية الأوربية فإن الفرنسيين على ما هم عليه من الصفات التي تفردوا بها دون غيرهم خابوا في الجزائر كما خاب غيرهم في غيرها. وانقضت ثماني عشرة سنة والفرنسيون يجردون الحملات ويعبئون الجنود ويحشدون(4/30)
الجيوش حتى انتصروا على عرب الجزائر وقد مضى عليهم سبعون ستة في البلاد ولا يزال العرب يكرهونهم وينتظرون فرصة تمكنهم من خلع نير فرنسا عن بلادهم. ولطالما حاولت فرنسا بث النصرانية ففشلت فشلاً قبيحاً. فإذا أصر العرب على البقاء على دينهم ورفضوا المدنية المسيحية فإنهم لا محالة يبيدون.
وحيث نظرنا في إفريقية فإنا نرى مستقبل أهليها أسود قاتم إذ لا نرى في أوربا لإفريقية أملاً. وليس أمامنا إلا وسيلة واحدة وهي أن تهب قوة إسلامية وتختلط بتلك الشعوب فتستطيع بدينها أن تصل إلى أعماق قلوب الوطنيين وبذلك يمكن منحهم مدنية إن لم تكن أحسن مدنية فإنها بلا ريب يجهزهم إلى ما هو أرقى منها من المدنيات ولا نرى مدنية قادرة على القيام بذلك العمل الجليل إلا مصر بعد تحريرها.(4/31)
عمران سيلان
جزيرة سيلان معروفة في هذا القطر كثيراً وهي في جنوب الهند وسكانها نحو ثلاثة ملايين وقد بحث أحد علماء الفرنسيين فيما بلغته من الارتقاء في العهد الأخير فقال: لم يكد يتم فتح الجزيرة حتى أخذ الإنكليز يدخلون إليها نظاماً استعمارياً جزيل الفائدة فمن أهم الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي قامت على عهدهم أبطال التعذيب والعقوبات البربرية وإقامة مجالس الشيوخ وإلغاء الرقيق والأعمال الشاقة وإلغاء التمييز بين طبقات المذاهب في الشؤون القضائية وإقامة مجلس تشريعي مؤلف من أعضاء رسميين ونشر حرية المطبوعات وإلغاء احتكار زراعة القرفة وتأسيس صندوق للتوفير والعناية بأعمال من شأنها تسهيل سقيا الأراضي وإقامة الطرق والسكك الحديدية وإنشاء بريد منظم وإدارة برق وإدارات عامة أخرى وتعديل القوانين المتعلقة بزواج الوطنيات وتحسين أحوال البيوت والأسر ونشر صحف باللغتين السنغالية والتالمية.
وقد ضوعفت الطرق والجسور وأنشئت السكك الحديدية التي تسهل المواصلات وتعود على السكان برفاهية العيش وتحمل التمدن إلى شعوب داخلية البلاد وتقلل عدد الهالكين بالقحط وتقضي على أوهام طبقات الأمة. قال والسكك الحديدية من الأدوات النافعة في إنجاح الشعوب الشرقية. ولقد تنقل سكك سيلان كل سنة نحو مليون ونصف من المسافرين من أبناء البلاد أي أكثر من العدد التي كانت تستطيع عجلات البقر القديمة أن تنقله في قرن واحد. وكانت طرق المواصلات من قبل مقصورة على بعض قنوات بناها الهولنديين أيام استيلائهم على تلك الجزيرة في العمارات البحرية من الشط الغربي في الجزيرة. ولما حل الإنكليز فيها لم يكن بها طرق معبدة مطروقة في أنحاء الجزيرة كلها أما اليوم فإنها غاصة بخطوط الطرق العجيبة. ومن أعجب ما في العالم السكة الحديدية التي تربط الساحل بجبال الداخلية.
وقد ارتقت سيلان منذ سنة 1865 ارتقاء كان من نتائجه أن استطاعت القيام بجميع نفقاتها العسكرية بذاتها ولم تعد عبئاً ثقيلاً على مركز إدارة البلاد وهي تؤدي اليوم للحكومة 160 ألف جنيه مساناة للإنفاق على الحامية. أما انتشار المعارف في سيلان فيفوق انتشاره في سائر أصقاع الهند فقد أقامت الحكومة مدارس وطنية في كل بلد وقرية وعدد التلامذة اليوم واحد من عشرة من الصبيان الذين بلغوا سن الدراسة على أنك تكاد لا تحصي تلميذاً واحداً(4/32)
في كل مائة ولد في الهند. قلت ومن العجيب أن تكون سيلان جزءاً من الهند ويكون نصيبها من تعميم التعليم أكثر من نصيب الهند وحبذا لو صرف الإنكليز والحكومة المصرية العناية بتعميم التعليم في مصر كما هو في سيلان.(4/33)
الذهب والفضة
بلغ البحث والاستقراء بأرباب الإحصاءات إن صاروا يقدرون في بلاد الغرب كل دقيق وجليل من أحوال الاجتماع حتى أنك لو سألت بعضهم كم بيضة تأكل المملكة الفلانية في السنة لأجابك على سؤالك ولذلك لا نعجب إذا رأيناهم يحصون ما استخرج من الذهب والفضة. يقولون أنه لما نفد الذهب من أوربا في القرن السادس قام القوم يفتشون في مطاوي الأرض على الأفلاذ وفي معادنها على الركاز وهذا القول مما لا يعتد به كثيراً عند أرباب التحقيق والذي تبين لديهم أن الخمسين سنة الأخيرة كان لها النصيب الأوفر من استخراج هذين الحجرين وخصوصاً السنين الخمس المتأخرة فقد استخرج من سنة 1900 إلى سنة 1904 زهاء 13 مليار فرنك من فضة وذهب سبعة منها ذهب والباقي فضة. وقد زاد استخراج الذهب في الأربع عشرة سنة الأخيرة فبعد أن كان سنة 1870 ستمائة مليون ارتقى في السنة الماضية إلى مليار وثمانمائة وثلاثة عشر مليوناً من الفرنكات.
أما الفضة فعلى رخص أسعارها لم ينزل المستخرج منها كثيراً فقد كان سنة 1890، 671 مليوناً فصار سنة 904، 523 مليوناً هذا مع أن الريال مثلاً قد نزلت قيمته الحقيقية وهو معدن ومازال يساوي أكثر في العرف. وهكذا القول في معدني النيكل والنحاس فإن الناس يثقون بالحكومة بأخذها على علاتها وقلما ينظرون إلى المعدن وحقيقة قيمته.
هذا ما كان من أمر المستخرجات أما المضروبات فالخطب في إحصائها أسهل من ذلك فقد ضرب سنة 1890، 773 مليون فرنك ذهباً فبلغ المضروب سنة 904، 2095000000 فرنك أي أنه تضاعف وزاد على ما استخرج وذلك كل ما يضرب من النقود على اختلاف معادنها يضرب بعضه من سبائك أذيبت وحلي بطلت. وكما أخذت سبائك ودفعت إلى دور الضرب لتجعل سكة يتعامل بها فقد أخذ من الذهب سنة 1903 للاستعمال والزينة 395 مليوناً ومن الفضة 345 مليون فرنك وكان للولايات المتحدة القسم الأعظم من استعمال هذين المعدنين ثم إنكلترا ثم فرنسا ثم سائر الممالك وسببه الغنى والترف وكلما غنيت أمة زاد ميلها إلى اقتناء الأواني الذهبية والفضية والحلي وضروب الزينة. هذا ما تبين للإحصائيين وهو أصح إحصاء حديث عندهم وهو يعطي فكراً إجمالياً للمطالع لا قضية ثابتة وعدداً محدداً لا يزاد فيه ولا ينقص منه.(4/34)
أصل الآريين
بينما كنت أطالع مقالة البشر والشعوب في مقتبس الجزء الثاني وصلت إلى ذكر أصل الآريين صفحة 70 وهو قولكم (معرباً عن الفرنسية) وآريهم من وراء جبال حملايا فخطر في بالي كلام بشأن الآريين ومنشأ لسانهم كنت سمعته في السنة الماضية من الأستاذ فرنكلن جدنغ أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولمبيا في مدينة نيويورك وأحد الثقات في هذا العلم. وهو الرأي الأخير في منشأ الآرية على ما قرره علماء الاجتماع وهاأنذا ذاكره لكم.
قال الأستاذ المذكور في عرض خطابه عن الآريين: أنه لا يحق للأمم الآرية أن تفتخر على غيرها وتباهي بأصلها وفصلها زاعمة أن أصلها ممتاز على غيره إذ ليس ثم على التحقيق من شعوب آرية يرجعون في أصلهم إلى جنس واحد (على حد ما جاء في المقتبس صفحة 71) وكل ما هنالك من آرية الذين نعدهم في مصاف الآريين إنما هو اشتراكهم في بعض الأمور العقلية ورجوع لغاتهم إلى أصل واحد. فالآرية مطلقاً ليست جنسية إنما هي نوع من التهذيب اقتبسه هؤلاء الشعوب بعضهم من بعض.
ومنشأ هذه الآرية مختلف فيه فقد قال بعضهم أنه في الهند لرجوع اللغات الآرية إلى السنكريت (لغة الهنود القدماء) وقال آخرون أنه في لثوانية (الجنوب الغربي من روسيا) لأن أقدم أصول اللغة الآرية هي أقرب للغة اللثوانية منها للسنسكريت. على أنهم بعد ما بالغوا في التنقيب وغربلوا الدلائل قالوا أن غور الدانيوب هو منشأ التهذيب الآري ومنه تشعب إلى الجهات الأربع فامتد جنوباً إلى بلاد اليونان فآسيا الصغرى ثم غرباً إلى إيطاليا وإسبانيا وغاليا وغيرها وشمالاً إلى جنوبي روسيا وشمالي جبال القوقاس ثم عبر فرع بحر الخزر قزيين إلى أعالي بلاد فارس إلى الهند. وكل من أحكم درس فنون الهنود وآدابهم يرد كثيراً من مبادئها إلى مصادر فارسية. هذا هو الرأي الأخير في منشأ الآرية وله مقدمات ومستندات طويلة لا محل لبسطها الآن وهو أفضل رأي يعلل به نشوء الآرية وكيفية انتشارها على ما قيل والله أعلم.
عن المدرسة الكلية في بيروت
بولس الخولي(4/35)
مطبوعات ومخطوطات
تحرير مصر
أحسن ما يقال في تقريظ هذا الكتاب الذي عربه عن الإنكليزية الكاتب البارع محمد لطفي أفندي جمعة أحد منشئي الظاهر ما قالته جريدة الطان الفرنسية في وصف مؤلفه من أنه هو المؤلف الذي خلص من أوهام محيطه وجنسه وما الخلاص منهما بالأمر السهل في الغالب. وقد بحث فيه بحث المتجرد عن الغرض في تاريخ مصر وأعمال فرنسا بريطانيا فيها وما تم علي يد رجالهما من أعمال العمران ورأى أن تنجلي بريطانيا عن القطر لأنه أصبح من المماليك الحية. وقد جاء التعريب رشيق الأسلوب فصيح التعابير على نحو ما ينتظر من أديب مجتهد متفانٍ في خدمة أمته. فنثني على الكاتب حريته وعلى الناقل غيرته. ونتمنى أن يكثر أمثال هذا في الكاتبين المجتهدين والمعربين المجيدين. وقيمة الكتاب عشرة قروش أميرية وهي زهيدة في جانب جودة طبعه ووضعه.
آفات المدنية الحاضرة
للكاتب المجيد جرجي أفندي نقولا باز من ناشئة بيروت ولع شديد بخدمة الآداب وتحسين ملكات الأخلاق والمجتمعات عرف له ذلك مما وازر به الصحف والمجلات العربية. وقد أتحفنا هذه المرة بكتابه الأخير آفات المدنية الحاضرة تكلم فيه على ما عهد فيه كلام من برئت نفسه من الأغراض ولم يحرص إلا على الدعوة إلى الفضائل ورفع الستار عما موه به وجه هذه المدنية من الشر الباطل والطلاء الزائل فأفصح كل الإفصاح في كلامه على المقامرة والمعاقرة والمخاصرة وعلى غيرها من الرذائل وعساه يزيدنا من البحث في هذا الموضوع المفيد في رسائل خاصة أو في الصحف فإنه ابن بجدته وأبو عذرته.
عين بعين
امتاز الأديب البارع نقولا أفندي حداد بأنه يتشبع من الموضوعات التي يجول فيها ولذلك كتبت له الإجادة في اكثر ما كتب من الرسائل والمقالات. وأمامنا الآن روايته الأخيرة عين بعين زبدتها تغلب الخير على الشر ولو في الآخر وفيها عبرة للأشرار وسلوة للأخيار فنحث على اقتنائها.
مجلة جمعية الملاجئ العباسية(4/36)
ومكارم الأخلاق الإسلامية. وهي مجلة دينية علمية أدبية تهذيبية صدرت هذا الشهر بالإسكندرية لسنتها السادسة وقد غيرت شكلها واسمها وعهدت إلى نخبة من العلماء والكتاب بإنشائها فجاءت في مطاويها عدة مقالات منها مقالة مفيدة في الإنسان والحياة دل كاتبها على أنه واقف على روح الإسلام وأن الإسلام وسط لا يأمر بالزهادة المضرة كما هو عند الهنود وغيرهم من الفرق التي دخلت الإسلام ولا بالاسترسال في الشهوات على ما هو مذهب ابيكورس الفيلسوف اليوناني وقال أن المسلمين اليوم استبدلوا الانغماس في الشهوات بزهد تلك الفئات وفيها مقالة في العادات المستهجنة وغير ذلك وقيمة اشتراك المجلة 30 قرشاً أميرياً في القطر و10 فرنكات في الخارج يسقط نصفها لتلامذة المدارس وطلبة العلم ولاشك أن القائمين بأعبائها يستحقون من الله المثوبة والأجر ومن الناس الثناء والشكر.
المصوَّر
اسم جريدة أدبية فكاهية إخبارية مصورة يصدرها مرة في الأسبوع الكاتب البارع خليل أفندي زينية وهو صاحب كتاب التربية وممن عانوا صناعة الإنشاء زمناً وذاقوا من الصحافة حلوها ومرها وعرفوا خلها وخمرها وهي على مثال جريدة البتي جرنال الفرنسية بل نسخة من نسخها في أوضاع عربية وأساليب باعثة على المطالعة وقد كان أصدرها مدة منذ أربع سنين ثم عاود إصدارها الآن في الإسكندرية فنرجو لها الإقبال الذي تستحقه وقيمة اشتراكها 65 قرشاً ولمشتركي الأهرام الأغر 40 قرشاً.
الرسائل الفاتحية
هي مختارات من رسائل فاتح أفندي الهبراوي الحلبي إلى مراد أفندي الشطي الدمشقي جمعها الأديب محمد جميل أفندي الشطي فجاءت في زهاء أربعين صحيفة. وطريقة الكاتبين في النثر طريقة التسجيع وفي الرسائل شعر كثير. فنثني على الجامع لها ونرجو له الثبات في خطته الأدبية ونستمطر الرحمة على الكاتبين المفننين اللذين قصفت المنية غصني شبابهما وكان يرجى أن يكونا بدرين كاملين.(4/37)
سير العلم
حمام الزاجل
هو الحمام الذي طالما استعمل في الحروب وإرسال الأخبار آونة الحصار وغيره وقد كان رائجاً أيام لم يكن أسلاك برقية ولا تلغراف بلا سلك أما اليوم فيستعمل في أوربا وأميركا كما يستعمل في الصين واليابان. وكانت حكومات العرب مولعة بتعهده وتربيته وحصلت منه على فوائد في الحروب كثيرة ولاسيما في حروب الأندلس وحروب الصليبيين. وما برح العلماء من الإفرنج يبحثون في سبب اتجاه هذا الحمام نحو الوجهة التي يراد على الاتجاه إليها وقد قدم في هذا الشهر أحد علماء فينا إلى المجمع العلمي النمسوي بحثاً ارتأى فيه أن الحمام يقود بعضه بعضاً لمعرفة الطرق بحدة حاسة النظر واستحضار الذهن وحفظ الأماكن التي طافها من قبل فالنظر والذاكرة هما اللذان ينفعان الحمام في غدوه ورواحه وسينفع هذا الرأي في الحكم على حيوانات أخرى.
القيام والقعود
اختلفت الآراء في كيفية تعاطي الأعمال ولاسيما الكتابية منها فقال قوم بأن المراوحة في العمل والاستراحة في الأحايين يعوض الجسم ما يخسره من القعود والانكباب على ما يتعاطاه وقال فريق غير ذلك وارتأى بعضهم أن الكتابة والمرء واقف خير من الكتابة وهو جالس وقد قدم أحد علماء فرنسا إلى مجمع علم الحياة الباريسي رأيه الخاص في هذا المعنى فقال: إذا انتصب المرء قائماً يجيد عمله بحضور ذهن ولكن ذلك لا يدوم كثيراً حتى يناله التعب بسرعة أما العمل والمرء جالس فيوفر على المرء الإجهاد والتعب ويود مجموع النتيجة.
الأنباء بالزلازل
هذا من العلوم التي وضعت حديثاً واسمها بالإفرنجية (سيسموميتري) وقد أدخل عليه في العهد الأخير من الإصلاحات ما يستطاع به بعد الآن الوقوف على الهزات الأرضية. ثبت ذلك بالبرهان في العام الماضي في زلزال الشمال الغربي من الهند وكذلك في مرصد الزلازل الياباني حيث تمكن العلماء هناك من متابعة المجرى الذي انبعث من الهند واجتاز المحيط الباسيفيكي وأميركا وأوربا بعد أن جاز الخافقين من أطراف الكرة في ساعتين(4/38)
وثلاث دقائق وخمس وثلاثين ثانية.
اكتشاف أثر
اكتشفت أحد علماء الآثار من الطليان في القرنة بالأقصر من صعيد مصر لحد. خ. رئيس المهندسين وزوجه من السلالة العشرين في تابوت مموه بالذهب ومعهما كتاب وآنية نبيذ وطول الناووس 14 متراً وطول اللحد 20 وعثر في اللحد على أدوات كتابية في صندوق من موسى ودواة وقدوم ومقطع وغيرها وأثاث بيت من مثل سريرين وفراش وفنارات وصوان فيه حلي وسوط وغير ذلك.(4/39)
المجلات الإفرنجية والعربية
الأبحاث العلمية
في مجلة إنكليزية بحث في أن أميركا هي التي ينبغي لها أن تعنى بمسألة تبادل الأبحاث العلمية من دعوة أساتذة الكليات وجميع المجدين في البحث والتجارب العلمية على أنحائها وبذلك تفتح طرقاً جديدة للارتقاء وتخدم الإنسانية أجل خدمة. ولم يقصر الكاتب بحثه على الأمور النظرية بل تعداها إلى العملية فقال: أن ذلك يتأتى بتوحيد الإدارة ولا تأتي نتيجة ذلك في يوم بل يقتضي لها زمن والذي يهم أن لا يرأس كل فرع من الأبحاث رجل مقتدر بل أن يرأسه أقدر رجل شاباً كان أو شيخاً ويمده بأسباب أي بالأدوات وبخزانة كتب.
الحسر
في مجلة ألمانية مقال في الحسر أو قصر البصر ذكر فيها كاتبها تأثير الدرس وسني الدراسة في الحسر فقال أن في مدرسة فيها من التلامذة 702 يكون معدل الحسر بين الكسالى 27 في المائة وبين المجتهدين 31 في المائة وفي أولاد القرى 21 في المائة حسر وفي أولاد العملة 26 وفي المتعلمين بعض تعليم 51 في المائة وأن الحسر آخذ في الازدياد بين البشر وقد ارتقى في بعض المدارس منذ بضع سنين من 27 إلى 91 في المائة بين الصبيان ومن 38 إلى 91 في المائة بين البنات و56 في المائة وبحساب آخر 51 في المائة من الحسر يكون آباؤهم حسراً. أما الحسر فليس فيه تأثير كبير وقد ينفع في الكبر ويأتي صاحبه بنتائج حسنة.
اليابان والإنكليز واليهود
في مجلة فرنسية مقالة بأن بعض سكان الأمة اليابانية القدماء يشبهون سكان الإنكليز وأن أصل بعض سكان يابان من جزائر ماليزيا جاءوها طوارئ وأن اليابانيين يشبهون في صورهم وسحناتهم الإسرائيليين كما أن الإنكليز من نسل الإسرائيليين أيضاً. وقد قال نخبة من رجال اليابان المنورين بأن اليهود الذين خرجوا من الباب الشرقي من بابل انتهى بهم السير إلى يابان ومثل الكاتب صور اليهود في سيرهم إلى تلك البلاد القاسية فكانت مظلاتهم وعصيهم وراياتهم تشبه ما عند اليابان اليوم منها وإن أبناء إسرائيل ساروا في بلوغهم أرض يابان طريق البحر والبر واستخدموا المركبات وأن في بلاد يابان أثراً(4/40)
عظيماً للوصايا العشر وبعض القوانين الدينية المعروفة عند إسرائيل وأن قصة ملكة سبأ التي أغوت سليمان على ما في التوراة مشهورة جداً بين بعض طوائفهم وأن فيها آثار الحية النحاس التي شاهدها موسى في مصر فإن اتحد اليابان والإنكليز فاتحادهم اتحاد بين إسرائيل ويهوذا.
المسكرات
في إحدى المجلات العلمية بحث مستفيض في صحة النفس جاء فيه أن تكوين الأخلاق مهم كالعناية بصحة الجسد وأن المسكرات من أعظم ما يحول دون تربية الإرادة وإنشاء الملكات الحسنة في الأعمال.
فرعون جديد
كتب المسيو ماسبرو شيخ علماء الآثار المصرية مقالة تحت هذا العنوان في مجلة مصر والشرق الفرنسية جاء فيها: أن الفراعنة كثيرون كلما سجلت أسماؤهم بالدستات والعشرات ظهر إلى عالم الوجود غيرها وهذا الفرعون الجديد من السلائل الأخيرة التي حكمت مصر أخيراً وهي ممن نقرأ تاريخها فيما كتبه اليونان المعاصرون واسمه يساميتيك بن نايث ظهر في الصعيد بين خرائب صفون وقد قام إزاء منارة هذه القرية بقايا بناء بارز من الأرض وسافان من حجر رملي طولهما نحو متر وطول هذا البناء من الشرق إلى الغرب أربعة أمتار وقد تهدم طرفاه ولكن وجه حجر البناء باق بحاله وهناك صورة ملك يعبد جالساً أمام رب ووراءه الاهة واقفة وقد تهدمت رؤوس هذه الهياكل وما أحاط بها من الخطوط ولم يقرأ منها إلا خط هيروغليفي واحد ذكر فيه أن الملك يساميتيك بن نايث ماناخابراي هو الذي شاد هذا المعبد بحجر أبيض جيد متين ليبقى على الدهر. وحجارة هذا المعبد كانت بحائط مصلى أشبه بالمعابد التي أقامتها كاهنات عمون في ثيبة. ويظن أن هذا الملك من البطالسة المتأخرين وربما رد عهده إلى أربعمائة سنة أو إلى مائتي سنة أو مائة سنة ق. م وكان هو الرابع المدعو بهذا الاسم والذي اغتنم انتقاص الفتى كورش صاحب فارس ليكون مستقلاً بالفرس والظاهر أن يساميتيك اسمه العلم وماناخابراي اسمه الحقيقي ويغلب على الظن أنه من السلالة الحادية والعشرين.
النيل الأزرق(4/41)
المشرق - في مقالة اكتشاف اليسوعيين للنيل الأزرق أن القدماء منذ قرون عديدة يبحثون عن منشأ النيل وعن مخرج ينابيعه وانجلى ذلك كل الجلاء باكتشاف أصل النيل المعروف بالأبيض من بحيرتي فكتوريا نيانزا والبار عند خط الاستواء وفي هذا النيل الأبيض يصب قرب الخرطوم النيل الأزرق المدعو ببحر الغزال وكان أصله مجهولاً فوفق إلى اكتشافه أحد الآباء اليسوعيين الأب دايز الذي أرسل إلى الحبشة ليدعو أهلها إلى الكثلكة وكان ذلك في القرن السابع عشر وبعد وفاته بنحو 150 سنة قدم الحبشة جمس بروس من أعيان الإنكليز وادعى أنه هو الذي اكتشف ينابيع النيل الأزرق الذي دعاه سفر التكوين بنهر جيجون ويدعوه الحبشان اباوي أي النهر الكبير. ومما قاله ذاك اليسوعي أن النيل عند خروجه من بحيرة باد أغزر منه عند انصبابه فيها وهو مع كثرة مياهه يتسع اتساعاً بالغاً حتى أن المشاة في فصل الصيف يمكنهم قطعه وقال أنه أتيح له أن يشاهدها ما تاق إلى كبار الرجال والفاتحين ككورش وكمبيس واسكندر ذي القرنين ويوليوس قيصر.
مالية مصر
المقتطف - زادت واردات القطر المصري أكثر من مليون جنيه سنة 1905 عن التي قبلها فكانت 21. 564. 076 جنيهاً وبلغت قيمة الصادرات 20. 360. 285 وكانت في السنة التي قبلها 20. 811. 040 فنقصت نحو نصف مليون جنيه. وقدر ديون الأهالي بأربعين مليون جنيه أي أنها زادت كثيراً ولا يخرج من رباها إلى خارج القطر أكثر من مليون ونصف في السنة. وينفق السياح في القطر مساناة نحو مليون جنيه. فنقصت من ثم ثروة مصر في العام الماضي أكثر من ثلاثة ملايين من الجنيهات عما كانت عليه سنة 1904. ورد ما يعترض به بعضهم ويستدلون به على غنى القطر من أن ثمن الفدان كان منذ بضع سنين نحو عشرين جنيهاً وهو يساوي الآن ستين جنيهاً على الأقل أي أن ثمن أطيان القطر المصري كان مائة مليون جنيه فصار الآن ثلاثمائة مليون جنيه فقال أن دخل أطيان القطر كان يطعم ويكسو عشرة ملايين من النفوس من غير أن يستدينوا قرشاً من الخارج فهل يطعم ويكسو الآن ثلاثين مليوناً من النفوس من غير دين؟ وكانت الواردات في العام الماضي في ثمن الحبوب والدقيق والنقص في أثمان القطن ولا يتلافى ذلك إلا بتعميم الري الصيفي وإحياء الأرض الموات حتى يزرع القطن في مليوني فدان على الأقل(4/42)
بدلاً من زرعه في مليون ونصف وأن يعنى بتسميده وخدمته حتى ينبت القطر من عشرة ملايين إلى اثني عشر مليون قنطار. ورأى أن لا يستند القطر إلى زراعته فقط وأن يعنى ولاة الأمر فيه بإيجاد موارد صناعية له حفظاً لثروته.
النوم
المقتطف - عرب عن مجلة العلم العام الأميركية مقالة في النوم جاء فيها: أن أفضل ضجعة للنوم أقلها مساساً بعمل الأعضاء الرئيسية كالقلب والرئتين والكبد والمعدة والشرايين الكبيرة وهي ما مال الجسم فيها على البطن قليلاً كما تفعل ذوات الأربع. وليكن الرأس على مساواة القدمين في الارتفاع ما أمكن والذراعان والساقان بحيث لا تضغط الأعصاب والأوعية الدموية. أما النوم على الظهر فلا يستصوب لكي لا يقع الضغط مدة طويلة على الأنسجة المجاورة للعمود الفقري التي تستمد أعصابها منه فيوقع الخلل والاضطراب في الأعصاب التي تحرك الأوعية الدموية. ثم أن البطن يضغط الأوعية الدموية الكبيرة فيختل سير الدم فيه أيضاً. وعليه فلا يجوز الاستلقاء على الظهر مدة قصيرة. ويجب أن تكون حرارة الأطراف مثل حرارة سائر الجسم عند النوم لأنه إذا كانت القدمان باردتين تأخر النوم وكان خفيفاً. ومن الجهل أن تملأ المعدة طعاماً قبل النوم فإن ذلك يقلق النائم ويؤرقه مثل الجوع ولكن أكل شيء قليل قبيل النوم ليس مضراً بل مفيد على الغالب.
وأفضل النوم ما كان ليلاً وما كان منتظماً ومتواصلاً غير متقطع على أن من الناس من ينام نوماً متقطعاً غير منتظم سواء في الليل أو في النهار ولا يناله أذى من ذلك كالمرضعات والممرضات والبحارة وكذلك من يشتغلون أشغالاً عقلية تقتضي حصر انتباههم في موضوع واحد كالأطباء والمحامين وغيرهم. واتفق الناس على أن النوم الباكر والنهوض الباكر من دعائم الصحة وأن الجسم أحوج إلى النوم شتاءً منه إليه صيفاً ولكن الاختلاف كثير على فتح النوافذ أو إغلاقها مدة النوم في المدن الكبيرة ولقرى الحقيرة وبين الأغنياء والفقراء على السواء على أن مما لا ريب فيه أن النوم والشبابيك مفتوحة بحيث لا يتعرض النائم لمجرى الهواء أفضل للصحة واحفظ وإذا زادت حموضة المعدة قبل النوم أو تأرق النائم فعليه باستعمال قليل من كربونات الصودا أو مسحوق فحم الحطب.(4/43)
إطالة القامة
طبيب العائلة - الألعاب الرياضية كلعب الكرة والتمرين العضلي على أشكاله مفيدة ونافعة جداً ومن نشأ على تلك الألعاب لابد أن يكون أطول قامة متى صار رجلاً. ذكر الأستاذ مكلرن أن الرياضة ليست نافعة لإطالة القامة فقط بل مفيدة جداً في تناسب الأعضاء ولولاها لزال الجمال والرونق. ويزداد النمو بازدياد الصحة ويقل بسبب المرض والسكنى في الأرياف أصح منها في المدن وعلى جودة الصحة يتوقف النمو وطول القامة والشغل المعتدل يزيد القامة والعمل الشاق يقلل نموها والنمو في الصيف يكون على أتمه.
كيف نأكل
طبيب العائلة - بحث في تفضيل البقول وغيرها من الأطعمة على اللحوم والفول والفاصوليا والعدس والحمص وفيها من الآزوت والكربون ما يفوق كثيراً الكمية الموجودة في أحسن أصناف اللحوم ولا ينبغي أن تغلى الخضر الطرية بالماء الكثير لئلا تفقد ما فيها من الأملاح والمواد الآزوتية ويسلق البيض سلقاً خفيفاً وصفار البيض والنخاع والمحار تحتوي عناصر فسفاتية تفيد كثيراً في أحوال التعب الدماغي أو التعب العصبي والسلق والهليون يفيدان المصابين بفقر الدم والأنيميا والتدبير الغذائي النباتي يمتاز على التدبير الغذائي الحيواني بكمية الآزوت اللازمة لقوام الأنسجة وبالكربون الذي يحفظ الحرارة الحيوانية وهو يوافق جميع الأمزجة ويلطف الأخلاق.(4/44)
نصيحة حكيم
كتب إلينا شيخ من شيوخ العلم وحكماء الإسلام بالنصائح الثلاث الآتية:
الأولى - أن لا تلتفت إلى شغب المشاغبين ولا تكترث بهم وإن جلوا فإن الحكيم من يسعى إلى إتمام المقصد وأقل ما يستفيد المشاغبون إضاعة وقت من اكترث بهم وإن قل فالوقت ثمين. بل أقبل على شأنك واعرف مقتضى زمانك.
الثانية - لا يمنعك تنكيت المنكتين والمبكتين من تنبيهك على غلط فرط منك فيما سلف فكلما عثرت على شيء من ذلك في عدد فنبه عليه فيما يلي فإن ذلك أقرب إلى الاعتماد على ما تكتب وأكثر العلماء الذين انتفع الناس بكتبهم كانوا على هذه الطريقة ولم يتنكبها إلا الحشوية ومن نحا نحوهم.
الثالثة - اعرض عمن يبحث عن تفضيل بلدة على بلدة ونحو ذلك فإن مثل هذا من مباحث الحشوية وقد سألني منذ أيام أحد السياح عن حد المصري والسوري فقلت له المصري من ينفع مصر والسوري من ينفع سورية وكل من نفع بلدة فهو منها طبعاً فالمصري الذي ينفع سورية مصري سوري والسوري الذي ينفع مصر سوري مصري ومن لا نفع لديه لكلتيهما فهو ليس بمصري ولا سوري وقد انتبهت أمريكا لهذه الحكمة الكبرى فجعلت كل من نفع أمريكا نفعاً ما أمريكياً فنجحت.(4/45)
العدد 5 - بتاريخ: 22 - 6 - 1906(/)
صدور المشارقة والمغاربة
القاضي الفاضل
ولد سنة 529 وتوفي سنة 596
هذا هو الرجل الذي قال فيه عبد اللطيف البغدادي أحد فلاسفة الإسلام: دخلنا عليه فرأيت شيخاً ضئيلاً كله رأس وقلب وهو يكتب ويملي على اثنين ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوة حرصه في إخراج الكلام وكأنه يكتب بجملة أعضائه. . . وسألني مسائل كثيرة ومع هذا فلا يقطع الكتابة والإملاء.
هو عبد الرحيم بن علي البيساني نسبة لبيسان إحدى بلاد فلسطين الملقب بالقاضي الفاضل. قيل أن سبب تعلمه الإنشاء ما روي له من أنه قال: كان فن الكتابة بقصر في زمن الدولة العلوية غضاً طرياً وكان لا يخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكاناً وبياناً، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطاناً، وكان من العادة أن كلاً من أرباب الدواوين إذا نشأ له ولد وشدا شيئاً من علم الأدب أحضره إلى ديوان المكاتبات ليتعلم فن الكتابة ويتدرب ويرى ويسمع أشياء من علم الأدب. قال: فأرسلني والدي وكان ذا ذاك قاضياً بثغر عسقلان إلى الديار المصرية في أيام الحافظ وهو أحد خلفائها وأمرني بالمصير إلى ديوان المكاتبات وكان الذي ترأس به في تلك الأيام رجل يقال له ابن الخلال. فلما حضرت إلى الديوان ومثلت بين يديه وعرفته من أنا وما طلبتي رحب بي وسهل. ثم قال لي: ما الذي أعددت لفن الكتابة من الآلات فقلت ليس عندي شيء سوى أني أحفظ القرآن الكريم وكتاب الحماسة. فقال: في هذا بلاغ. ثم أمرني بملازمته فلما ترددت إليه، وتدربت بين يديه أمرني: بعد ذلك أن أحل شعر الحماسة فحللته من أوله إلى آخره ثم أمرني أن أحله مرة ثانية فحللته.
وصف العماد الكاتب من كتاب الدولة الصلاحية المترجم به على طريقته في الكتابة فقال: رب القلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة: والفضل الذي ما سمع في الأوائل، ممن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره، فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار، وهو ضابط(5/1)
الملك بآرائه، رابط السلك بلألائه، إن شاء أنشأ في يوم واحد بل في ساعة واحدة ما لو دون لكان لأهل الصنعة، خير بضاعة، أين قس عند فصاحته، وابن قيس في مقام حصانته، ومن حاتم وعمرو في سماحته، وحماسته.
طريقة القاضي الفاضل هي كطريقة العماد الكاتب في الأسجاع المنمقة المحبرة ولقد استحكمت هذه الطريقة في القاضي حتى صار يكتب فيها كأنها فيه طبع لا مسحة عليها من التكلف والتعمل. وهي الطريقة التي نقلها العماد الكاتب الأصفهاني عن الفارسية في الغالب ولم تكن شائعة بالعربية في بلاد الشرق وقد برز فيها صاحب الترجمة حتى فاق المتقدمين. قال ابن خلكان: أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد وهو مجيد في أكثرها.
وكثيراً ما يقع للفاضل عبارات تكاد تكون من دلائل الإعجاز على بيانه، ومن أسرار البلاغة التي يسمو بها على أقرانه. مثل قوله في صفة قلعة شاهقة ويقال أنها قلعة كوكب: وهذه القلعة عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة لها الغمامة، عمامة، وانملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة.
ولقد نال القاضي الفاضل الحظوة من صلاح الدين يوسف بن أيوب بإنشائه حتى أنه لم يكن وزير الإنشاء عنده بل مدبر أمور مملكته وله من الدالة ما للولد على الوالد أو الوالد على الولد حتى استشاره السلطان يوماً في الحج فلم يسمح له وقال له أن رفع مظلمة عن أهل وادي الزبداني أفضل من الحج إلى بيت الحرام على ما جاء في كتاب الروضتين في تاريخ الدولتين النورية والصلاحية. وفي هذا التاريخ من أحواله وانموذجات من إنشائه تدل على ماله من المنزلة السامية في قلب السلطان صلاح الدين والمكانة من تدبير أمور مملكته ودولته.
وكان القاضي يعمل الخيرات ولم تشغله مصالح الدولة عن النظر فيها وإقامة معالمها وحبس الأوقاف على وجوهها النافعة وإكرام العلماء والأدباء قصاده من أقطار البلاد الإسلامية في عصره. كل هذا وكان في وقته متسع لطلب العلم ومذاكرة أهله وخطب ودهم وقربهم. وناهيك بأشغال تقتضيها أمور الدولة على ذاك العهد المحفوف بالمخاوف والفتن.(5/2)
واستمرت حال القاضي على ما كانت عليه زمن الملك الناصر صلاح الدين عند ولده الملك العزيز وكان يميل إليه في حياة أبيه. ولما توفي العزيز قام ولده الملك المنصور بالملك بتدبير عمه الملك الأفضل نور الدين وتوفي أول دخول الملك العادل أبو بكر بن أيوب إلى الديار المصرية وقد نال بصناعة الإنشاء ما عز نيله على المحدثين والقدماء ولسان حاله ينشد لابن مكنسة الإسكندري وكثيراً ما كان يرددهما.
وإذا السعادتك لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان(5/3)
النهضة الأميركية
قال أحدهم إن مبدأ حماية التجارة الحديث أي حصر المباراة الأجنبية وتنشيط التجارة الداخلية وجعلها حرة ما أمكن كان صفة من الصفات اللازمة لسياسة الرجال الذين قاموا في عصر مونرو بتأسيس الممالك. وهذه الحماية الحديثة هي في الأكثر من عمل الأميركيين فأراد زعماء الأمة عملاً بمبدأ مونرو أن يدفعوا عن أميركا فساد المفسدين كما هو الحال في حماية ولد قاصر تنثني قدماه لأقل صلابة تلقيانها في الأرض ويطبق أجفانه بما يخطف بصره من نور الشمس المشرقة. وإذ رأى مونرو بلاده قاصرة وذات منعة وقوة طمح إلى ضمان هذه القوة فيها ليكون لسان حال كل أميركي بعد يخاطب به الأوربي: إني ذاهب إلى بلادك لأنك في حاجة إليّ ولكن لا تجيء إليَّ إذ ليست حاجتي ماسة إليك.
وجاء بعد مونرو من دعم مبدأه في حماية التجارة ومن قال بحريتها المطلقة مثل الاقتصادي هنري كاري. بيد أنهم عادوا جملة إلى رأي مونرو ووجدوا فيه سلامة تلك الأمة وقالوا أن الحماية معقولة وهي القاعدة العامة التي تقوم عليها الممالك المتمدنة ثم جرت حرب من أجل حماية التجارة بين سكان الشمال والجنوب كان داعيها وضع الضرائب على القطن والتبغ وهما من المواد الأساسية في الصادرات. والتقى الحزبان بالسلاح فغلب أهل الشمال أهل الجنوب فقوي عندئذ مبدأ حماية التجارة وصارت من العناصر الحيوية للأمة إذا كانت سنة 1890 صدر منشور ماكنلي في هذا المعنى والدعوة إلى الاحتفاظ به ولم يعف في منشوره من الضرائب الباهظة إلا واردات بعض المواد الأولية والغلات مثل السكر وأرهق بالضرائب الصوف الخشن وأنواع الحرير والحديد والفولاذ وغزل القطن والقطنية والمنسوجات المختلفة والخمور والكحول والأعمال الصناعية. فتضررت من ذلك كل من ألمانيا وإنكلترا وفرنسا. ثم جعلت الحماية سنة 1897 من 55 إلى 60 في المائة من ثمر الحاصلات وعقدوا بعض معاهدات تجارية مع بعض الدول ظل فيها حق حماية تجارة الأمريكان سالماً لم يمس بسوء واحتفظ الأميركي بالدفاع عن حماه من انهيال الواردات الأجنبية عليه كما خاف على سلامة بلاده من غارة الجماعات المهاجرة إلى بلاده.
ومذ ثبتت قدم الحرية في أميركا سنة 1820 قذفت أوربا إلى العالم الجديد بسيل من البشر من طليان وألمان وسلافيين وبولونيين وبوهيميين وإنكليز واسكندنافيين وفرنسيين وصينيين. فهاجر إلى بلاد الدولار منذ سنة 1820 إلى سنة 1870 زهاء سبعة ملايين(5/4)
ونصف من الخلق. وكان الصيني أكثر المهاجرين امتصاصاً لمادة البلاد. والصينيون يهاجرون وتبقى قلوبهم معلقة ببلادهم ومساقط رؤوسهم ولا تزال تحدثهم نفوسهم في غربتهم بالعودة إلى ربوعهم حتى أنهم ليضنون بجثث موتاهم عن أن تدفن في أرض الغربة فهم أشبه بطيور تمر بناحية وهي مفترسة شرسة فلا تعتم أن ترجع أدراجها وتروح إلى أوكارها القديمة حاملة في مخالبها فريسة وقنيصة. فقد قدر أن ما بعث به الصينيون المقيمون في الولايات المتحدة منذ سنة 1853 إلى سنة 1878 بلغ مائة وثمانين مليون دولار كانت معظمها من ولاية كاليفورنيا وبلغ من إعناتهم أهل تلك البلاد أن قامت الفتنة عليهم سنة 1879. ومع هذا دامت مهاجرة الصينيين متواصلة. وسنة 1888 حظرت الولايات المتحدة دخول الصينيين البلاد إلى مدة عشرين سنة ولم ينفذ هذا القانون حق التنفيذ رغم العناية بتأكيده.
وما برحت الولايات المتحدة نشدد في نزول فقراء المهاجرين بلادها حتى قضت في العهد الأخير أن لا تقبل الفقير المعوز ولا المريض العاجز ما لم يقدم الداخل ضمانة مالية أو يؤكد بأن لديه مبلغاً من المال ويفحص فحصاً طبياً دقيقاً. فمن ثم باتت البلاد في مأمن من حيث الأمور الاقتصادية لا تضاهيها في ذلك مملكة في الأرض. قال باتان أحد أساتذة مدرسة فيلادلفيا الجامعة: تحتاج الأمم القوية أن تدفع عنها عوادي الأمم الضعيفة كما تحتاج الأمم الضعيفة أن تدفع عنها عوادي الأمم القوية. وقد خصت الولايات المتحدة بأن كان لها على أوربا التقدم الطبيعي فملكت سطحاً من الأرض لم تعمل فيه أيدي العاملين ولم تستخرج خزائنه وخيراته. وفي أوربا يثقل كاهل الناس بضرائب باهظة لأن ثروة الأرضين قد احتكرها أفراد معلومون. حتى لقد تضطر الحكومات أن تضرب ضرائب على أجور العمال. وهي ضريبة لا أثر لها في أميركا. ولذا قضت الحال على هذه البلاد أن تحتفظ بمبدأ حماية تجارتها سواء كان في الحاصلات الزراعية أو في النواتج الصناعية وإذا خفضت حكومة الولايات المتحدة الرسوم الجمركية ونزعت ما يحول دون تلك الحواجز من مطامع الأمم تنهال غلات الأمم الزراعية أي انهيال ويحدث لها نفوذ في الأسواق الداخلية وتق أثمان وارداتها بحيث تجاري الغلات الأميركية وتباع أسهل بيع بحيث تصبح أميركا وهي تؤدي دخلها العقاري لتلك الأمم المزارعة فتتضرر الأجور للحال(5/5)
ويهدد نجاح صناعة الأمة من هذا الوجه فتجارة الولايات المتحدة لا تحمى لكونها في حالة الطفولية بل حباً بالاحتفاظ بعلو مرتبتها الحاضرة المحققة في أوربا.
ولقد عظمت النتائج الاقتصادية بهذا الفكر فتضاعف عدد الأماكن في ثلاثة أرباع قرن كما تضاعفت القوة الصناعية وارتقى عدد الغلات من 15 ملياراً إلى 65 ملياراً. ويظهر من تقرير نشره مكتب الإحصاء في واشنطون منذ سنتين في معنى تجارة أميركا مع العالم أجمع أن الولايات المتحدة أول قوة اقتصادية في الكرة الأرضية ولإنكلترا المقام الثاني. ففي الولايات المتحدة ينبت 75 في المائة من مجموع غلات القطن في العالم وهي تحرص على إبقائها لمعاملها الخاصة. من أجل ذلك ما فتئت تبني المعمل إثر المعمل حتى زادت الآلات في معاملها 22 في المائة على حين لم تزد في معامل أوربا على عشرة في المائة. ومن جملة ما بني معمل فيه خمسمائة ألف آلة ومغزل و12 ألف نول في ضواح سان لويس. تلك المدينة التي قام فيها معرض أميركا سنة 1904 في بقعة مساحتها خمسمائة هكتار من الأرض وكلف من النفقات 250 مليوناً وهو ضعفا معرض شيكاغو سنة 1893 وأربعة أضعاف معرض باريس سنة 1900. معرض دهش له عالم الصناعة والتجارة.
ولا غرو في هذا فإنك تعرف مقدار ارتقاء هذه الأمة من أرقام وارداتها وصادراتها فقد كانت وارداتها سنة 1897_98، 30. 080. 248. 270 فرنكاً وصادراتها 6. 157. 411. 650 فرنكاً ومجموع تجارتها 9. 237. 659. 920 فرنكاً وارتقت وارداتها سنة 1902_903 إلى 5. 128. 757. 640 وصادراتها إلى 7. 400. 690. 070 ومجموع تجارتها إلى 12. 229. 447. 710 ومن ذلك يدرك القارئ ولاشك ما تم من النجاح في تلك البلاد بفضل مبدأ مونرو وهو كما وصفه أحد علماء الألمان الإنجيل السياسي الذي تراه معلقاً في شوارع الولايات المتحدة لعهدنا وبفضله كفت عنها غارة الأوروبيين ووقيت سوء المغبة في شؤونها المالية.
6
الآشوريون والبابليون
بلاد الكلدان(5/6)
وصفها - ينبجس من قمم جبال أرمينية المغطاة بالثلوج نهران سريع جريهما بعيد غورهما وهما الرافدان دجلة والفرات الأول من الشرق والثاني من الغرب. يتقاربان أولاً ثم يتباعدان عند بلوغهما السهل فيستقيم دجلة في جريته وينعطف الفرات في صحاري الرمال ثم يجتمع النهران قبل أن يصلا إلى البحر. فالبلاد التي يجتازها هذان النهران هي بلاد الكلدان. وهي سبسب من صلصال تمطره السماء قليلاً وتشتد فيه الحرارة والقيظ بيد أن الأنهار تسقي بجداولها هذه الأرض الصلصالية فتصيرها من أخصب بقاع الأرض وأنبت قيعانها. وأن حبة القمح والشعير لتأتي مائتين وفي أعوام الرخاء ثلاثمائة. والنخيل في تلك البلاد غابات غبياء يستخرج منه الخمر العسل والطحين.
الأمة الكلدانية - باكرت الحضارة بلاد الكلدان في العهد الذي باكرت فيه مصر فسكنتها شعوب متمدنة. وقد هاجر إليها عدد من الأجناس من أصقاع كثيرة فاجتمعوا وامتزجوا في هذه السهول الفسيحة الأرجاء. جاءها من الشمال الشرقي ناس من التورانيين أهل اللون الأصفر وهم يشبهون الصينيين وأتاها من الشرق طائفة من الكوشيين ولونهم أسمر قاتم وهم أنسباء المصريين ونزل إليها من الشمال فئة من الساميين وألوانهم صافية وهم أقرباء العرب فتألف الشعب الكلداني من هذا المزيج.
مدنها - زعم كهنة الكلدان أن ملوكهم تبسطوا في مناحي السلطة منذ مائة وخمسين ألف عام وهو زعم خرافي يعذرون عليه لأن الحامل لهم عليه توغل مملكة الكلدانيين في القدم. هذه الأرض تتخللها هضاب وآكام كلها كومة أنقاض من بقايا بلد عفته طوارق الدهر. وقد فتح كثير منها وأخرجت منه عدة دفائن مثل أور ولارسام وبال ايلو وظفر الباحثون بعدة آثار. وما برح أمر هذه الشعوب مستوراً عن الأنظار مجهولة حقيقتهم على أرباب الأفكار على أنه من المأمول أن يظفروا بكتابات جديدة في الأماكن الكثيرة التي لم تتناولها الأيدي بالحفر واستخراج الدفائن. وبعد فقد دعت هذه الأمم نفسها بالسوميريين والاكاديين وانقرض ملكهم حوالي سنة 2300 قبل المسيح وربما كانت إذ ذاك في إبان قدمها فيرد عهدها إذاً إلى ثلاثين قرناً قبل الميلاد على الأقل.
الآشوريون
أشور - هذه البلاد واقعة وراء بلاد الكلدان على شاطئ دجلة وهي مخصبة التربة قائمة(5/7)
على تلعات كثيرة فيها وأحادير. تخترقها هضاب وتتخللها صخور. تثلج فيها السماء في الشتاء لقربها من الجبال وتهب عليها الأعاصير في الصيف.
أصولهم - زخر بحر العمران في بلاد الكلدان فكان فيها أمصار عاش فيها الآشوريون خاملين في جبالهم وقد أغار ملوكهم بجيوشهم الجرارة في القرن الثالث عشر على السباسب والفدافد فأسسوا مملكة ضخمة عاصمتها نينوى.
أساطير قديمة - لم نكد نعرف عن الآشوريين منذ أربعين سنة إلا قصة ذكرها ديودورس الرومي من أهل جزيرة صقلية وقيل إن نينوس بنى مدينة نينوى وافتتح آسيا الصغرى جملة واستخضعت امرأته سميرا ميس بلاد مصر وكانت من الأرباب فاستحالت بعد حمامة فخلفها ملوك خاملون مدة 1300 سنة. حوصر آخرهم في عاصمته واسمه ساردانابال فحرق نفسه ونساءه إلى ما شاكل ذلك من الأقاصيص التي قل فيها الصدق وأعوزت كلمة الحق.
نينوى - هذا ما عرف عن مملكة أشور القديمة إلى أن اكتشف المسيو بوثا قنصل فرنسا في الموصل سنة 1842 أطلال قصر عظيم بالقرب من قرية خراساباد الحقيرة وقد غشيتها رمال صيرتها رابية. وهذه هي المرة الأولى التي شوهدت فيها الصناعة الآشورية بمظهرها ووجدت الثيران المجنحة بالأحجار سالمة مائلة على باب القصر. وقد جيء بها إلى باريس فجعلت في متحف اللوفر. ولقد استلفت بوثا بحفرياته أنظار أوربا فأنفذت بعثات كثيرة وخصوصاً الإنكليز. توفر بالاس وليارد على الحفر في آكام أخرى فاكتشفت قصور غير هذه. سلمت هذه الخرائب لجفاف الهواء في تلك الأرجاء وبما غشيها من طبقات التراب. ثم أنه عثر على جدران مغشاة بنقوش بارزة وصور وتماثيل وكتابات كثيرة فتسنى درس حال تلك العمارات في أماكنها وأخذت عنها صور المعاهد والنقوش. وأول ما اكتشف قصر خراساباد وهو الذي بناه الملك سراغون مكان نينوى عاصمة ملوك أشور وهي قائمة على عدة هضاب يحيط بها سور ذو أبراج مربع الأضلاع ذرعه 260 غلوة (نحو 43 كيلومتراً) وقد بني خارج الجدران بالقرمد وداخله تراب مهيل. أما دور المدينة فقد دثرت ولم يبق منها أثر ضئيل ولا رسم محيل بيد أنه ظهرت عدة قصور شادها غير واحد من ملوك أشور. وقد ظلت نينوى عاصمة الملوك إلى أن أوغل الماديون(5/8)
والكلدانيون في أحشاء مملكة أشور ومزقوها شذر مذر.
كتابات القرمد - يتألف كل حرف في الكتابات الآشورية من مجموع علامات على شكل سهم أو زاوية ولذلك دعي هذا الخط بالخط المسماري وكانوا يستعملونه خنجراً مثلث النصل في آخره حد مثلث الأضلاع لرسم هذه العلامات يبلونه في صحيفة من الخرف الرطب ثم يدخلونه التنور فيصير صلداً لا ينمحي أثره. وقد كشفت في قصر اسوربانيال مكتبة تامة من الصفائح قام فيها القرمد مقام الورق.
الخط المسماري - غالى جملة من رجال العلم في حل هذا الخط أعواماً كثيرة فتعذرت عليهم قراءته إذ كان لأول عهده يستعمل في كتابة خمس لغات متباينة وهي الآشورية والسوسية والمادية والكلدانية والأرمنية. دع عنك الفارسية القديمة. وكانت تلك اللغات مجهولة فدامت اللغة التي نتكلم عليها الآن مشوشة كل التشويش لأسباب عديدة أهمها تكبها من خطوط رمزية ينوب كل منها مناب كلمة مثل شمس رب سمك ومن خطوط ذات مقاطع. ولأن لهذه اللغة نحو مائتي خط ذي مقاطع يتشاكل بعضها مع بعض ويسهل التباسها وإشكالها ولأن الخط الواحد كثيراً ما ينوب عن كلمة وعن مقطع ولأن الخط الواحد يقوم مقام مقاطع مختلفة بمعنى أن خطاً واحداً يقرأ ايلو تارة وآن طوراً وهو أصعب هذه الصور وأشكلها.
كان هذا الخط عسراً حتى على من يكتبونه. ونصف ما لدينا من الآثار المسمارية هو كتب إرشادات من نحو ولغة وصور مما ساعد على حل النصف الآخر فتأتى الرجوع إليها في حل المشكلات على ما كان عليه شأن المتعلمين في مملكة أشور منذ 2500 سنة وقد أفلح العلماء في حل الكتابات الآشورية كما أفلحوا في حل الكتابات المصرية. فكانت لهم كتابة مستطيلة في لغات ثلاث آشورية ومادية وفارسية ونفعت الفارسية ف حل غيرها.
الشعب الآشوري - فطر الآشوريون على حب الصيد والحرب وأن نقوشهم لتمثلهم مدججين بالأقواس والرماح راكبين صهوات الخيول بحيث ساغ أن يوصفوا بأنهم كماة مجال وأبطال يحسنون الكر والفر. وأن استوى في أعينهم رواحهم إلى مناوشة ومغداهم في حرب زبون. ولقد عرفوا بالخيانة وسفك الدماء فوطئوا آسيا ستة قرون وخرجوا من جبالهم يغيرون على جيرانهم. ولطالما آبوا من غزواتهم وقد أسروا شعوباً بأجمعها والظاهر أنهم(5/9)
يناشبون غيرهم القتال لمحض حب السفك والتدمير والنهب فإنهم أشد خلق الله بأساً وأقساهم قلوباً.
الملك - رأى الآشوريون لملكهم الخلافة عن الله في الأرض جرياً على العادة الآسياوية فأطاعوه طاعة عمياء وبذلوا في حبه مهجهم. فكان الملك عندهم سيداً مطلقاً في حكمه رعاياه مهما اختلفت طبقاتهم يدعوهم إلى حمل السلاح تحت لوائه فيقاتل بهم شعوب آسيا حتى إذا قفل منصوراً يصور مآثره على جدران قصره ذاكراً انتصاراته وما ناله من الغنائم وحرقه من المدن وذبحه من الأسرى وسلخه من أحيائهم.
الحملات - إليك بعض فقرات من نشرات الحروب قال اسورنازير هابال عام 882: إنني عمرت جداراً أمام أبواب المدينة العظمى وسلخت جلود زعماء الثورة وغطيت هذا الجدار بجلودهم وقد دفن بعضهم أحياء في أسا البناء وصلب فريق آخر وجعلوا على أوتاد في الحائط وسلخت جلود كثيرين في وكسوت الحائط بها وجمعت رؤوسهم على هيئة التيجان وضممت جثثهم إلى أشكال الأكاليل.
وكتب توكلابالازار عام 745 ما نصه: حبست الملك في عاصمته ورفعت كوماً من الجثث أمام الأبواب. هدمت مدنها كلها ودمرتها وأحرقتها وأقفرت البلاد وصيرتها آكاماً وقاعاً صفصفاً ينعق فيها بوم الخراب. وقال سنحاريب في القرن السابع: انطلقت كالعاصفة المدمرة فسبحت السروج والأسلحة في دماء الأعداء كلها في نهر والتراب مبلل وجمعت جثث جندهم كما تجمع الغنائم وبترت أطرافهم وقضقضت عظام من أخذتهم أحياء على نحو ما تقصف التبنة وقطعت أيديهم عقاباً لهم بما جنت أيديهم هذا وقد صورت في إحدى النقوش التي تمثل مدينة سوس وهي ترد إلى عهد اسوربانيبال وشوهدت فيها رؤوس المغلوبين يعذبهم الآشوريون وقد صلمت آذان بعضهم وسملت أعين آخرين ونتفت لحاهم. وهناك رجل يسلخ جلده وهو حي مما دل على أن أولئك الملوك كانوا يرتاحون إلي ما يتم على أيديهم من الحرائق والمذابح والعذاب.
خراب المملكة الآشورية - بدأت هذه الطريقة في الحكم في القرن الثالث عشر زمن الاستيلاء على بابل وذلك نحو عام 1270 وظل الآشوريون منذ القرن التاسع يسرحون الحملات ويشنون الغارات حتى أخضعوا وإن شئت فقل خربوا بلاد بابل وسورية(5/10)
وفلسطين ومصر وكان المغلوبون يثورون في غضون تلك المدة بلا انقطاع والمذابح قائمة على ساق وقدم. ثم ضعفت قوى الآشوريين واتحد
البابليون والماديون فقلبوا عرش مملكتهم نينوى عاصمة بلادهم سنة 625 وهي المدينة التي سماها أنبياء بني إسرائيل عرين الأسد ومدينة الدم والغنيمة فتيسر الاستيلاء عليها وخربت فلم تقم لها قائمة بعد. قال النبي ناحوم (خربت نينوى فمن يشفق عليها يا ترى؟).(5/11)
مقاصد المؤلفين
الانتقاد في البشر خلة يجيدون فيه بحسب ما رزقوا من القوى العقلية واستنبطوا من الأسرار العلمية والمرء في الغالب لا يرى عيوب نفسه ويحتاج أن يدله دال معتدل عاقل عليها. وكلك المؤلف وما تأليفه إلا بضعة من نفسه وحسنة من حسناتها أو سيئة من سيئاتها. ولكن ما يسوغ للقرين أن يقوله لقرينه لا يسوغ للعامي أن يقوله للخاصي ولا للغائب أن يعرضه على الحاضر.
ومن الأسف أن سرعة الحكم فاشية في المشرق مستحكمة من نفوس أهله فنرى أحد المتعلمين من أبنائه إذا ألقي إليه كتاب ينظر فيه أسطراً ويحكم على المؤلف حكمه المسمط الذي لا يقبل النقض ولا الرد دون أن يعرف مقصده أو يقرأ كتابه برمته أو مقدمته على الأقل. ولطالما كتب بعضهم تقريظاً على بعض الكتب بمجرد تلاوة صفحة من كتاب وسلق كاتبه بالسن حداد لجملة رآها فيه وربما فاته تدبر السياق والسباق وكان ما انتقده منبهاً عليه فصار الناقد ومقصد المؤلف على طرفي نقيض ينتقد عليه ما لو كان قرأ مقدمته على الأقل لما ألقى القول على عواهنه وحكم ابتساراً وافتئاتاً.
وبعد فإن كتب العلم كالبضائع تعرض في السوق فتتناولها الأيدي بحسب الرغبات فكما أنه لا يحق لمن نزل السوق لابتياع ثوب أن يعترض على قماش لا يوافق ذوقه وحالته إذ أن الناس من لا يرغب في غير هذا الضرب من النسيج فإنه لا يسوغ لمن يعد نفسه من طبقة العالمين أو المعلمين أو المتعلمين أن يزيف قولاً لقائل دون النظر في المبدأ والغاية والأصل والفرع. لابد لكل مؤلف من غاية يرمي إليها في تأليفه يفهم ذلك في الغالب مما رتبوا كما قال ابن ساعد في صدر كل كتاب من تراجم تعرب عنها سموها الرؤوس وهي ثمانية: الغرض والمنفعة والسمة والواضع ونوع العلم ومرتبة ذلك الكتاب وتربيته ونحو التعليم المستعمل فيه. قال وكتب العلوم لا تحصى كثرة ككثرة العلوم وتفننها واختلاف أغراض العلماء في الوضع والتأليف ولكن تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف: مختصر لفظها أوجز من معناها وهذه تجعل تذكرة لرؤوس المسائل ينتفع بها المنتهي للاستحضار وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء لسرعة هجومهم على المعاني والعبارات الدقيقة ومبسوطة تقابل المختصرة وينتفع بها للمطالعة ومتوسطة لفظها بإزاء معناها ونفعها عام.(5/12)
فالناظر في كتاب يقتضي عليه بادئ بدء أن يطالعه كله حتى إذا أتى على آخره ورأى المؤلف خالف شرطاً أخذ على نفسه أن يجري عليه كأن يطيل وهو يريد الاختصار أو يختصر وهو يتوخى الإطالة أو يدخل علماً في علم أو يخبط في العبارة ويخلط في الإشارة أو يركب مركباً لا يسوغ ركوبه في التأليف كأن يكون كتابه في الأدب ويودعه صنوفاً من الخلاعة والرقاعة - إذا فعل المؤلف هذا يسوغ للمطالع بعد أن يتلو كلامه حق تلاوته أن يصدر رأيه فيما طالع ويعتدل في حكمه على كل حال.
كنت مرة أطالع تاريخ ابن جرير الطبري وهو في عشرين مجلداً فلم أكد أقرأ جزأين أو ثلاثة حتى كاد يعروني الملل لكثرة ما قرأته من الأسانيد ولقيته من الحوادث قبل البعثة وأكثرها مأخوذ عن الإسرائيليات معدود في نظر المحققين من الأخبار الضعيفة. فشكوت أمري لأحد الأدباء وأشرت إلى ما ألقاه من العنت والتعب فعذلني على تطلبي لمثل هذه الأسفار المطولة وعجب من توفري على دراستها والأخذ منها فما أجبته بغير السكوت إلا أنه لحظ بالحال أنني وإياه على طرفي نقيض في هذا التصور. ثم ذكرت مثل ذلك أمام إمام من أئمة العلم فأغضى عن خطابي وتلهى عن جوابي إلا أنه قال حبذا لو ظفرنا له بمختصر فإن بعض العلماء اختصروه قديماً. وما كدت أتصفح الجزء الرابع من كتابي حتى ارتاحت نفسي إليه بعد انقباضها ولانت بعد شموسها وأخذت أطالع فيه الساعات الطويلة واستفيد منه ما لم أره غيره من قبل. وأنشأت أقيم الأعذار للمؤلف رحمه الله في إطالته لأنه جعله مأخذاً للمؤرخين والمطالعين فعدَّ كتابه من الأمهات كما أنه هو من الإثبات الثقات.
مضت على ذلك أيام فذاكرت الإمام المشار إليه فيما وقع في نفسي فاندفق يهدر بما جاش به صدره وأفاض في هذا الموضوع إفاضة أبانت عن ضعف المتسرعين في الأحكام على المؤلفين بما تمنيت لو كنت كلي أقلاماً تكتب ما أملاه في ساعة فمما قاله: هذا كتاب الحيوان للجاحظ ضمنه ما يلزم الطبيب والأديب فجاء عبد اللطيف البغدادي فاختصره مقتصراً فيه على ما هو أمسُّ بحاجة الطبيب وأعلق بغرضه وربما يجيء غيره فيكتفي من كتاب الحيوان بما يروق الأديب. ولما ذكرت له ما نقله الدميري من ذكر ملوك الإسلام في كتاب حياة الحيوان قال: الحق معك في ذلك لكن لا يفوتك أن الدميري ليس من علماء(5/13)
الحيوان ولذلك كان كحاطب ليل جمع بين النافع والضار وما كان أحراه لو كان من أهل التحقيق أن يجرب بنفسه خواص الحيوانات التي ذكرها فقد كان يتيسر له هذا وإن لم يكن ذا إلمام بهذا الفن فيخفف من عناء قراء كتابه ويضمنه فوائد حسنة نافعة على أن كتابه على ما فيه قد وقع في أيدي فئة من المطالعين فاستفادوا منه واشتهر بينهم.
قال وليس من الصواب الأخذ على المقري صاحب نفح الطيب لأنه لم يذكر في كتابه تاريخ الأندلس وما توالى عليها ولو أنعم الناقد نظره في مقدمة الكتاب بل في اسمه وأكثر أسماء الكتب تدل على مسمياتها لما حكم هذا الحكم وما كان نفح الطيب إلا كتاب أدب خص فيه بالذكر الوزير لسان الدين بن الخطيب وأورد بحسب ما اقترح عليه بعض أهل الأدب في الشام طرفاً صالحاً من نثره ونظمه واستطرد إلى ذكر بعض رجال الأندلس إلى عهده وجملة من أخبارها بالعرض.
ثم قال وكذلك الحال في قلائد العقيان للفتح بن خاقان فإنه كتاب توخى فيه مصنفه إظهار الصناعة اللفظية وأن المترجمين هم من أهل حرفته فاقتصر من ترجمتهم على إيراد طرف من منثورهم ومنظومهم وليس كتابه كالذخيرة لابن بسام فإن هذا ترجم حقائقهم وقصد بذخيرته أن تكون نافعة في الوقوف على أحوال الأندلسيين وتصوير صفاتهم فإن تأفف بعض من تصفحوا قلائد العقيان وعابوا عليه خلوه من تاريخ مواليد المترجم بهم ووفياتهم فإن من الناس من لا يرتضون من مثل هذه الكتب إلا بهذه الطريقة الأدبية. ولكل فئة من المطالعين طائفة من الكتب تروقها ويستهجنها غيرها.
هذا مثال في النقد السليم وقد كتب في القديم محمد بن ساعد الأنصاري كتاباً في أنواع العلوم وذكر النافع من كتبها كما كتب عبد اللطيف البغدادي مقالة في إحصاء مقاصد واضعي الكتب في كتبهم وما يتبع ذلك من المنافع والمضار وكتب الفارابي في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها واليوم علينا أن نتدارس ما انتهى إلينا من علم أسلافنا الأقدمين ونضيف إليه ما وصل إليه العلم عند أهله من المتأخرين ونتعلم عن الغربيين صحة النقد والحكم كما نأخذ عنهم العلم والفهم فليس العيب في الحركة وإنما العيب في الجمود والله يسددنا حتى لا ننطق عن هوى.(5/14)
أمثال إنكليزية
إذا نهيأ الإنسان للشر فكثيراً ما يغلبه.
اختر الزوج بما تسمعه بأذنك أكثر مما تراه بعينك.
لا تتسلق علواً مفرطاً لئلا يكون سقوطك عظيماً.
الحديث العادي خير مرآة لعقل الرجل وصفاته.
لا تعد فراخك قبل أن تخرج من البيض.
الحسود يعيش عيشة العناء ويموت موت الأشقياء.
الحيلة تحتاج إلى اللباس وأما الحق فيذهب عرياناً.
ذاكرة الدائن أحد من ذاكرة المدين.
الأعوج بالطبع لا يستقيم بالتربية (الطبع غلب التطبع).
أجسر على عمل الخير ولو هزأ الناس بك.
الازدراء بالعدو يهيجه.
تبصر ملياً ثم أجر حالاً.
اليأس يصير الجبان شجاعاً.
البراعة تأتي من الخبرة.
اختلاف القروح يوجب اختلاف المراهم.
أحسن إلى من يسيء إليك فتغلبه.
اعمل ما عليك وليأت ما يأتي.
ما السكر إلا جنون اختياري.
السكر يخرج الإنسان من نفسه ويتركه بهيمة في مكانه.
التهذيب يجلي الطبائع الصالحة ويصلح الطبائع الشريرة.
ليس كل اثنين زوجاً.
خير ما يتعلمه الإنسان بالاقتداء وأحسن الأعمال يأتي بأحسن الأصدقاء.
لكل نهار ليل ولكل مسرة حزن.
لكل مد جزر.
لا يصلح كل عالم للتعليم.(5/15)
كل امرئ يحب العدل في بيت غيره ولا يبالي به في بيته.
كل إنسان ينسب ذنوبه للدهر.
ليكنس كل واحد قدام بيته.
كل خطأٍ حامل قصاص نفسه.
لكل أمر زمان يجب رصده.
الخبرة أم المعارف.
الجبان لا يربح أبداً.
المدح الضعيف تبخيس.
لا تخاصم صديقاً لأمر طفيف.
الصديق الكاذب شر من العدو الظاهر.
الشهرة كالنهر ضيقة عند المصدر واسعة عند البعد.
النار المشتعلة بالمنفاخ والحب المغصوب لا ينفعان.
لا تخش إلا العار واقتحم كل أمر إلا الضرر بالناس.
الولائم حصاد الطبيب.
دبدب أولاً ثم امش.
استحق أولاً ثم تمنى.
التمليق يجلس في صدر المكان وقول الحق يطرد إلى الخارج.
آثر متابعة العقلاء القليلين على متابعة الجهلة الكثيرين.
الجهال يفتحون آذانهم للتدليس ويغمضون عيونهم عن الحق.
الجهال يعقدون العقد والحكماء يفكونها.
القوة قد تغلب ولكن المحبة هي التي تربح فمن سامح أولاً نال الفوز.
الحظ السعيد يقرع باب المرء ولو مرة واحدة.
إذا لم يصل الثعلب إلى العنب قال أنه غير ناضج.
الصداقة هي الوردة الوحيدة التي لا شوك لها.
كلما صادقت الصداقة تمكنت.(5/16)
الصداقة تزيد الأفراح وتشطر الأحزان.
من لا شيء لا يأتي شيء.
من أسلافنا يأتينا الاسم ومن أعمالنا تأتينا الكرامة.
ربح المال أهون من حسن التصرف به.
اربح عادلاً وأنفق رضيناً واعط بشوشاً وعش راضياً.
إذا هيأت المغزل أرسل الله لك الغزل.
إذا أعطيت اللئيم إصبعك أخذ يدك كلها.
أبطئ في الذهاب إلى ولائم أصدقائك وأسرع إليهم في مصائبهم.
بيروت
يوحنا ورتبات(5/17)
كتاب مادي
بعث إلينا حضرة العالم الألمعي رفيق بك العظم بما يأتي:
جاءني كتاب من ذي قرابة لي سائح في أميركا بلاد العجائب توخى فيه وصف الأشياء المادية التي لها مساس بترقي البلاد المادي دون المعنوي أي الشؤون الاقتصادية التي تفيد المهاجرين إلى تلك البلاد الشاسعة والبعيدين عنها أيضاً فرأيت أن أبعث به إليك حتى إذا رأيته نافعاً لقراء المقتبس تتكرم بنشره فيها ليرى الناس كيف يعيش ذلك الشعب الراقي في بحبوحة السعادة والراحة والغنى وكيف يحاول ذلك العالم الجديد أن يبتلع في جوفه قسماً كبيراً من العالم القديم بما يمتُّ به إليه من وسائل الكسب بالطرق العلمية النافعة وبما يشمل به النازحين إلى تلك البلاد من حقوق الوطنية الأميركية بعد مضي خمس سنين على المقيم فيها من الأجانب وكيف يعلم الشعوب دروس الآداب العالية والعلم الصحيح والاقتصاد النافع. ففله در ذلك الشعب ما أعظم همته، وأبعد في الأمور نظره، فإنه ولا نكران للحق حقيقي بالثناء، حري باقتداء الأمم به، والله أعلم بما يكون له من الشأن، ما في مستقبل الزمان، وإليك نص ذلك الكتاب:
يأتي الولايات المتحدة كل سنة عدد عظيم من مهاجري أوربا وقد بلغ عدد المهاجرين في السنة الماضية نحو مليون نسمة فيهم قليل من الأرمن والروم والسوريين. ومعظم هؤلاء النازحين عبارة عن أخلاط همج من الناس لا يعرف أكثرهم الكتابة والقراءة، ولا يفقهون معنى للتربية، ولا يقيمون وزناً للأدب، وفقرهم مدقع، وعيشتهم ضنكى. تراهم بعد وصولهم إلى هذه البلاد بقليل في حال حسنة من السعادة والرفاهية. وأن بعضهم ليجني ثروة جسيمة وما ذلك إلا لانتظام الأحوال وكثرة الأعمال. ولقد زادت ثروة الأمة الأميركية وتوفرت الأشغال حتى أنك لتجدها في حاجة شديدة إلى عملة أبداً فكل فرد ينزل بينهم رجلاً كان أو امرأة يجد ما يشغله ويقوم بمعاشه وزيادة.
فيأخذ العامل الغريب خمسين ريالاً مشاهرة على الأقل. وأقل أجرة يتناولها العامل الأميركي خمسة وسبعون ريالاً في الشهر (وقيمة الريال الأميركي كقيمة الريال المصري) وهذا جدول أجرة العامل هنا وهو أقل راتب شهري يناله: فمشاهرة العامل الغريب 50 ريالاً والحوذي 60 والطاهي (الطباخ) البسيط 50 والطاهي المرتقي 150 وأجير الحلاق 60 والنجار البسيط 80 والدهان 100 والبناء 100 والكاتب البسيط 50 والشرطي(5/18)
(بوليس) 90 وسائق الترامواي 60 وأدنى مستخدم في السكة الحديدية 75.
وأسباب المعاش سهلة ورخيصة للغاية فالعامل الغريب يعيش بإنفاق ربع ريال إلى نصف ريال يومياً عيشاً طيباً إذ التسهيلات الموجودة هنا لراحة العيش لا أثر لها في بلادنا ولا في مصر ومن ذلك يتضح لك أنه ليس في الأمة الأميركية فقير. وأفقرهم أحسن حالاً من بك في بلادنا.
ويجب أن يكون سن الغريب الذي يود الهجرة إلى هذه البلاد دون الستين وأن يكون قوي الجسم سليماً من الأمراض وإلا فلا يباح له الدخول وأن يكون معه يوم خروجه إلى البر من النقد نحو 50 ريالاً أو يكون له قريب أو صديق في البلاد يقبله ويكفله وعلى كل حال ينبغي له أن يفيدهم أنه جاء ليعمل.
وعلى من أراد أن يفلح من المهاجرين أن يكون سنه الثلاثين وذا إلمام قليل بالإنكليزية وأن يدخل إحدى المدارس الصناعية لدن وصوله إلى نيويورك يختار ما يشاء من الصنائع. وهنا مدارس للصنائع على أنواعها وأقل مدة للتخرج بصناعة الحلاقة فإنه يمكن إتقانها في شهرين وأكثر مدة تصرف لتعلم صناعة الهندسة ثلاث سنين فينال المهندس سوم خروجه من المدرسة مائتي ريال راتباً شهرياً على الأقل. ومدة تعلم الصنائع الأخرى بين سنة وسنتين من مثل دهان وحداد ونجار وكاتب تجارة ومستخدم في إدارة الأسلاك البرقية وكاتب أداة كتابية وغير ذلك ومنها أشغال يدوية وأشغال عقلية. وزبدة القول أن البلاد بلاد عمل ومضاء لا بلاد كسل ووناء.
يعتبر المرء من البلاد عندما يدوس أرضها ويصبح مساوياً لغيره في الحقوق. والأمة هنا متساوية في حقوقها لا فرق بين كبير وصغير ولا تمييز بين العناصر والنحل فيصير بائع الفحم أو تاجر المسكرات رئيساً للولايات ولا عيب عندهم سوى أمور معلومة أولها البطالة. فكل فرد رجلاً كان أو امرأة يعمل ويجد حتى أنك لا تجد هنا محال للقهوة كما هو الحال في بلادنا إذ ليس هناك عاطلون عن العمل يجلسون فيها - وثانيها السرقة والمتاجرة بالعرض وما عدا ذلك فكل صنعة شريفة بدون استثناء. وبعد أن يقضي الغريب في البلاد خمس سنين ينال حق التابعية الأميركية ويكون كذلك هو وأحفاده. في أي بلد كان وأما إذا غادر البلاد قبل قضاء هذه المدة فيعود إلى تابعيه.(5/19)
يقضى هنا على كل ولد ذكراً كان أو أنثى أن يختلف إلى مدرسة حية إلى السنة الثامنة عشرة من عمره والمدارس كلها مجانية حتى أن الأولاد يعطون فيها الكتب والأوراق بلا عوض فلا عذر إذاً للوالدين في عدم إرسال الولد. ويجازى وليه إذا لم يبعث به إلى المدرسة. والتعليم خال من كل نزعة دينية وقد طالعت كتبهم المدرسية للسنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة فلم أجد فيها ذكراً للأديان حتى ولا اسم الدين المسيحي أو عيسى أو الكنيسة أو العبادة وكتبهم عبارة عن حض الولد وبعثه على العمل والرغبة عن البطالة وعمل الخير للإنسان والحيوان والصدق والاستقامة. والحق يقال أن أصول هذه التربية ناجحة عياناً لأن الكذب والنفاق والتدليس والسرقة لا وجود لها في الجنس الأميركي على العكس من ذلك في بلادنا. والنساء الأميركيات أعفُّ من نساء مصر والأستانة على جمال فيهن وحسن بزة وشارة. ولكنه هو الجمال الذي زانه الكمال والحسن الموصوف بالاعتدال. ولاشك عندي أن هذه الأمة أرقى الأمم خَلقاً وخُلقاً. أما التعليم الديني فأمره راجع للأسرة يتعلم الولد دينه من أبيه وأمه خارج المدرسة. والدين الغالب هنا بعض مذاهب البروتستانت.
زرت كثيراً من مدارس الفقراء فوجدتها أحسن بكثير من مدارس نيشان طاش وبشكطاش أعني محال الأكابر في الأستانة ولا نسبة بينها. وشاهدت مدرسة لتعليم صب الرصاص مدة التعليم فيها من سنة إلى سنتين وينال المتعلم 150 ريالاً راتباً شهرياً بعد إتمام تعلمه ومدرسة فن إصلاح الساعات.
ومما شاهدته هنا وعددته من غرائب العقل الأميركي أن ابنة فرنسية حضرت معنا في الباخرة من فرنسا هاربة مع رجل فرنسي تود الاقتران به خلافاً لرضا والده وبعبارة أوضح هرب الرجل معها لأنه لا يجوز للرجل في فرنسا الزواج قبل بلوغه السادسة والعشرين من غير رضا وليه وإذ كان سن الولد دون ذلك اضطر أن يحضر مع خطيبته إلى أميركا ولما خرجنا إلى البر منعت الحكومة خروج الابنة وطلبوا إليها أن تعين ولياً يكفلها لان خروج النساء بدون ولي ممنوع لئلا يدخل الفاسدات فاضطر الشاب أن يخبرهم بجلية الأمر فقالوا أنهم يريدون عقد النكاح في الحال فما هو إلا أن أتى محرر المقاولات وعقد له عليها في خمس دقائق وأخذوا نفقة على ذلك ربع ريال. فانظر إلى هذه التسهيلات(5/20)
في نظام الزواج هنا. وكل أنثى بعد سن الثامنة عشرة وكل ذكر بعد سن العشرين يحق لهما الزواج ولو بدون رضا وليهما ولا تسأل الحكومة من جنسية ولا عن دين ولقد قرأت منذ أيام إعلاناً وأظن ناشره غنياً بأنه يدفع سبعة وثلاثين ألف ريال لكل حرمة توفق إلى الهرب من إحدى قصور العظماء في الشرق وترضى بزواج أحد التبعة الأميركية.
ومما شهدته هنا من العادات المستحسنة عند الأمريكان النظافة فإنه يوجد في كل بيت عادةً حتى في بيوت أفقر الفقراء حمام بالماء الساخن والبارد وأنك لترى أولاد العملة في هذه الديار أجمل منظراً وأحسن ملبساً وأنظف جسماً من أولاد أكابر بلادنا بمعنى أن أولاد العملة هنا يعادلون أولاد أكابر الأستانة ومترفيها وأما أولاد أكابر سورية فهم أدنى بكثير من أولاد أفقر الفقراء.
ومن عاداتهم المستحسنة في معظم البلاد هنا أن الحانات تقفل أيام الآحاد لئلا يتمكن العملة من الانهماك في شرب المسكرات وهم مشغولون بأعمالهم سائر أيام الأسبوع ولا يوجد الأحد حانة للسكر. ويحظر بيع النبيذ والجعة (البيرة) يوم الأحد والبائع الذي يخالف ذلك يعاقب وهم يعتبرون النبيذ والجعة من المشروبات المضرة. أما محال لتمثيل فإنها مرتقية أكثر من أوربا وأرخص أجوراً حتى أنك لترى في بعض الملاعب مائة فتاة يرقصن معاً وأجور الفرجة رخيصة للغاية.
صدر عن مدينة سنت لوي في ولاية ميسوري(5/21)
تخميس قصيدة الوزير أحمد بن زيدون وهي التي
كتب بها إلى ولادة بنت المستكفي بالله في قرطبة
كانت أشعتكم تجلو دياجينا ... وقربكم عن شؤون الدهر يسلينا
فبعد ما لعبت خمر الهوى فينا ... أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
أمسى لنا الغم إلفاً لا يبارحنا ... والأنس صار عدواً لا يصالحنا
يا من خبت في تنائيهم مصابحنا ... بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
لئن تكن حجبت عنكم نواظرنا ... فما خلت ساعة منكم سرائرنا
وإذ تحن إلى النجوى خواطرنا ... يكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حب قديم به أرواحنا اتحدت ... وجمرة للتلاقي طالما اتقدت
حتى إذا باللقا نار الجوى بردت ... حالت لبعدكم أيامنا فغدت
سوداً وكانت بكم بيضا ليالينا
لم ندر يوم سعدنا في تعرفنا ... أن الشقاء وراء السعد قد دفنا
آها على زمن بالحظ مسعفنا ... إذ جانب العيش طلق من تألفنا
ومورد اللهو صافٍ من تصافينا
هل نرتجي زورة للنفس شافيةً ... وهل تعود لنا الأيام صافية
قد كان إذ كانت الأقدار راضية ... وإذ هصرنا غصون الأنس دانية
قطوفها فجنينا منه ماشينا
لله ساعات أنس عندما التأم ... شمل الهناء بكم والوجد مانأما
سقيتمونا بماء اللطف ريَّ ظما ... ليسق عهدكم عهد السرور فما
كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
الدهر جرَّ علينا في رواحهم ... ذيول ذل فهل هم بانشراحهم
لم يعلموا ما دهانا من براحهم ... من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم(5/22)
حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا
نفرُّ من نكد الدنيا فيدركنا ... يخني على صفونا حيناً ويتركنا
بالوصل والفصل يحيينا ويهلكنا ... إن الزمان الذي مازال يضحكنا
أنساً بقربهم قد عاد يبكينا
كم مرة جاءنا حسادنا ونعوا ... لنا الوفاء وفي قطع الصلات سعوا
وإذ تبين أن العاشقين رعوا ... غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نغص فقال الدهر آمينا
دعوا لدى الدهر في تنكيس أرؤسنا ... وحرَّضوه على تفريق مجلسنا
حتى تصدى إلى تكدير أكؤسنا ... فانحل ما كان معقوداً بأنفسنا
وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا
ما كان يهجعنا أضحى يؤرقنا ... والمزدري صار بالإزراء يرمقنا
فالدهر يومان مروينا ومحرقنا ... وقد نكون وما يخشى تفرقنا
فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
كل الورى لم نجد فيهم شمائلكم ... وهب وجدنا فما كنا لنبدلكم
إنا وإن أقصت الأيام منزلكم ... لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم
رأياً ولم نتقلد غيره دينا
لو أن أيامنا فيكم تخيرنا ... لاختار قرَّتهُ بالقرب نيرنا
لكنما حادث الدنيا يسيرنا ... لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا
إن طال ما غير النأيُ المحبينا
طنَّ الوشاة إذا ما شملنا انفصلا ... أن يدركوا من تراخي حبنا أملا
خابوا فلو أدركت أجسادنا الأجلا ... والله ما طلبت أرواحنا بدلا
منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
قصر سهرنا على أنوار كوكبه ... وفيه ورد الهوى فزنا بأعذبه
دعنا على الوجد نقلى في تلهبه ... يا ساري البرق غادِ القصرَ فاهق به
من كان صرف الهوى والود يسقينا(5/23)
إن كان أحبابنا اُّنسوا محبتنا ... وحتفنا عندهم يجري مودتنا
فيا عذاب النوى عجل منيتنا ... ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا
من لو على البعد حياً كان يحيينا
يا ظبية لم تذقنا طعم نفرتها ... حرصاً على عيننا من فقد قرتها
يا كرمة كم تمتعنا بخمرتها ... ويا حياة تملينا بزهرتها
منىً ضروباً ولذات أفانينا
هل يرجع القمر الزاهي لدارته ... فتنجلي ظلمات باستنارته
عد يا صفاءً رتعنا في نضارته ... ويا نعيماً رفلنا من غضارته
في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
كانت بطلعتك الأرواح منعمة ... ومنك كانت كؤوس الصفو مفعمة
يا من هوانا بها أضحى لنا سمة ... لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة
وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا
أوصافك الغر ما مرَّت على شفةٍ ... إلا غنيت بها عن كل معرفةٍ
بقامة في تثنيها مهفهفةٍ ... إذا انفردت وما شوركت في صفةٍ
فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا
الشعر يروي منِ الهجرانُ أظمأهُ ... وأن تلاه عليل القلب أبرأه
قريض شوق نظمناه ليقرأهُ ... ربيب لطف كأن الله أنشأه
مسكاً وقدر إنشاء الورى طينا
صبابة في النوى ناءت بكلكلها ... وأين آخرها من طيب أولها
يا رشفة عهدنا نابٍ بمنهلها ... يا جنة الخلد أبدلنا بسلسلها
والكوثر العذب زقوماً وغسلينا
على الصفا سحبت ذيلا كوارثنا ... فزال عاقدنا واختال ناكثنا
مرت كقبسة عجلان حوادثنا ... كأننا لم نبت والوصل ثالثنا
والسعد قد غضّ من أجفان واشينا
في خلوة ما بها إلا تتيمنا ... نارٌ ولا نأمة إلا تكلمنا(5/24)
كأننا وعفاف القلب يعصمنا ... سران في خاطر الظلماء يكتمنا
حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
أفكارنا مع خيالات الغرام لهت ... وبعدكم لسواكم قط ما انتبهت
بالحزن والذكر والأشجان قد ولهت ... لا غروَ أنا ذكرنا الحزن حين نهت
عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا
الطيفُ في النوم يرضينا إذا عبرا ... إذ عزت العين صرنا نطلب الأثرا
لا تعجبوا إن صبرنا نحمل القدرا ... إنا قرأنا الأسى يوم النوى سورا
مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
نرضى الهوان بديل العز أكملهِ ... والجسم ينحل سقماً من تحملهِ
ونرتضي وشلاً عن فيض جدولهِ ... أما هواك فلم نعدل بمنهلهِ
شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
لذنا من البعد في ما ليس نرغبه ... حين اللقاء علينا عزَّ مطلبه
فؤادنا أنت دون الخلق مأربه ... لم نجف أفق جمال أنت كوكبه
سالين عنه ولم نهجره قالينا
أعرضتِ عنا وأعرضنا على وصبِ ... نكتم الناس ما في القلب من لهبٍ
فما اتخذت تجافينا بلا سببٍ ... ولا اختياراً تجنبناك عن كثبٍ
لكن عدتنا على كره عوادينا
ضاقت على رحبها الدنيا فلا سعةً ... تحوي فؤاداً وأحشاء مقطعة
نأسى إذا الشمس جازتنا مودعة ... نأسى عليك إذا حثت مشعشعة
فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا شيء يسكن شيئاً من بلابلنا ... ولا نرجي عزاءً من وسائلنا
ظعائن الأُنس شالت عن منازلنا ... لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا
سيما ارتياح ولا الأوتار تسلينا
عين السعود لنا كانت ملاحظةً ... عند اللقاءِ وعين الضدّ جاحظةً
لئن تدم برحاء البعد باهظة ... دومي على العهد مادمنا محافظةً(5/25)
فالحرُّ من دان إنصافاً كما دينا
لا نغمة العود والقانون تطربنا ... ولا وجوه عذارى الحي تعجبنا
نرضى بوحدتنا والغم يصحبنا ... فما ابتغينا خليلاً منك يحسبنا
ولا استفدنا حبيباً عنك يغنينا
نصبو إلى موطن في ظل أربعهِ ... لنا حبيب كواه حرُّ أدمعه
فالقلب عندك أضحى جلُّ مطمعهِ ... ولو صبا نحونا من علوِ مطلعهِ
بدر الدجى لم يكن حاشاك يصيبنا
دموعنا عندما تجري مسلسلةً ... تتلو عليكِ أحاديثاً مفصلةً
إن لم تكن ساعة اللقيا مؤملةً ... أو لي وفاء وإن لم تبذلي صلةً
فالذكر يقنعنا والطيف يكفينا
هذا الكتاب سفير عن مرتبهِ ... في طيه شرح شيء من تعذبه
فرددي درسه ترديد منتبه ... وفي الجواب قناع لو شفعت به
بيض الأيادي التي مازلت تولينا
قولي السلام على روح بنا لقيت ... رياً ومن سلسبيل الغير ما سقيت
تحية منك تحيي مهجة شقيت ... منا عليك سلام الله ما بقيت
صبابة منك نخفيها وتخفينا
دمشق
فارس الخوري(5/26)
الفقراء والأغنياء
يأسف الإنسان وتأخذه الحيرة والدهشة عندما يرى أبناء جنسه بين فقير يكاد يموت من جوعه وعريه وغني أغرق في الترف والسرف فصار لا يعرف كيف ينفق ماله ويتزين بألوف الجنيهات. ربُّ عيال عاجز عن كسب القوت الضروري فقير وقير يسعى وراء الرزق فلا يصل إلى ما يتبلغ به إلا بشق الأنفس وقد ترافقه زوجه فتعاني أنواع العذاب. يعللان النفس بالأماني ويقضيان الحياة وسعادتهما أن يجدا الخبز القفار أو البصل أو البطاطا. يسكنان مع أولادهما في غرفة تريد أن تنقض من دار متداعية تملؤها القذارة والعفن يلتفتون بلحاف واحد لم يمسسه صابون وهو على أشكال غريبة ورائحة تستكره مرقع ممزق. وينامون على فراش أخشن من الأرض حشي بقطع الخروق البالية الرثة هذا إذا لم أقل أنهم يضطجعون على الأرض ويصطلون نار عيدان جمعوها من الأزقة والبساتين يستضيئون بلهيبها أو بسراج لا زجاجة له وربما لا يجرؤون على إطلاق الفتيل مخافة أن ينفذ الزيت فإذا مرض الأب أو الأم أمست العيلة بلا طعام ولا إدام - هذه هي حالة الفقير وبينا ترى الأبوين باكيين شاكيين من ألم الفقر تجدهما يقبلان أبناءهما بحنان من وراء الغاية فيفرحان لضحكهم ويحزنان لبكائهم ويضمانهم إليهم ليدفعا عنهم ألم البرد.
هذا حال الفقير وهو يكاد لا يتخلف في قطر عن غيره إلا قليلاً. والفقر في الغرب أسوأ حالاً منه في الشرق على حين ترى الغني هناك يبذر من المال ما لو جمع لكفى ألوفاً من المعوزين. ولقد قرأت في إحدى المجلات أن الغنية إذا دعيت في الغرب إلى مرقص تلبس فستاناً من أجود الحرير خاطته أشهر الخياطات لا يقل ثمنه عن مائة وخمسين جنيهاً وتلبس تحت هذا الفستان شعاراً (خراطة) قيمته سبعة جنيهات ومشداً بجنيهين وقميصاً ولباساً بسبعة جنيهات ونصف وجوارب بجنيه ونصف وحذاء بثلاثة جنيهات ونصف وقفازين بجنيه بحيث يبلغ مجموع ذلك 172 جنيهاً وزيادة. فإذا ذهبت العقيلة أو الآنسة إلى المرقص بهذه البزة الجديدة والشارة الحسنة تضع على عنقها فروة تساوي ثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه وقد تضع على رأسها تخاريم (دانتيله) من عمل قدماء البنادقة. وشأن هذه التخاريم الانتقال من عقيلة إلى أخرى يتساومن عليها ويتبارين في اقتنائها. دع عنك ما تكمل به زينتها من وضع طوق من اللؤلؤ في عنقها يساوي سبعة آلاف جنيه ووضع تاج من الماس ثمنه خمسة آلاف جنيه وخواتم تلبسها في أصابعها لا يقل ثمن الواحد منها عن(5/27)
خمسة آلاف جنيه ولا تسل عن الإبر والأمشاط والأقراط. وبالجملة فإن الغنية في أوربا تتجمل بما لا يقل عن خمسمائة ألف فرنك.
وجاء في مجلة فيمنيا أن عقيلة ماكاي الغنية الأميركية في نيويورك دعت صويحباتها إلى مرقص شرطت على المدعوين والمدعوات أن يلبسن أزياء القرن الثامن عشر وكانت تلبس فستاناً محلى بالأحجار الكريمة يساوي خمسين ألف دولار أو مليونين ونصف من الفرنكات لتفوقهن بزينتها وحسن بزتها وقرأت في مجلة فرنسية أن كايكوار بارودا لما استقبل حاكم الهند اللورد مينتو كان متوشحاً بلباس عليه من الأحجار الثمينة ما يساوي 250 ألف فرنك وكان في الحضور المهراجا كافاليور ذاك الفتى الغني الذي لا يعلم مبلغ ثروته وعلى رأسه تاج مزدان بالماس واللؤلؤ والزمرد يساوي ثلاثة ملايين فرنك. ولا تسل عن بذخ الأغنياء في نيويورك وما يصرفونه في تزيين قصورهم وحسن خدمتها.
وهكذا تجد أولئك الأغنياء يتحلون بالملايين ويصرفون الألوف من الجنيهات ليفاخروا ذلك البائس الفقير ويشولوا بشعرات أنوفهم ويزيدوا قعس صدورهم. ومن العجب العجاب أنك ترى أولئك الأغنياء متألمين شاكين من حالتهم على أنك تجد ذلك الفقير حامداً شاكراً لا هم له سوى كسب ما يسد به رمقه. وهنا مجال ليقال إن الهيئة الاجتماعية كلما ارتقت في مضامير الحضارة زادت مصائب الفقراء وخطت فراسخ وأميالاً واشتدت تباريحهم وأوصابهم. فسبحان المسعد المشقي.
دمشق
شكري العسلي(5/28)
صحف منسية
كتب القاضي الفاضل إلى العماد الكاتب
وردت مكاتبات كنّ من المجلس العمادي أعزه الله وأكرمه حسنة استفيدت من أثر منقول، وخبر مقول، فأثيب راويه وناسخه، وشكر سارقه ومنتحله وسالخه، وعلى هذا الذكر فإن كان سيدنا تمم التاريخ الناصري فيصل ما عندي منه، ويكمل ما أنعم به، وتركته في دمشق انتظاراً لكماله، وغيرة على تلك المحاسن، أن يتناولها البلاغ، قبل أن تبلغ الفراغ. العدل (كذا) وصل حفظه الله وثقل ثم منَّ الله بعافيته ووهبها، وأتى بلطيفة من لطائف صنعه ما حسبها، وعلى ذكر المرض فالخواطر مشغولة بأمر سيدنا في هذا الإقدام الذي أقدم فيه على نفسه، وحكم الحديد في جلده، ومتى صارت له هذه الجسارة بعدي، وفديته وفدته أحباؤه فإن أشفقوا مما أقول فبي وحدي، وقد كان الصبر على تطاول المرض، أولى من هذا الهجم على هذا المضض، وما أخشى إلا أن يعسر التحامه، وتتمادى أيامه، فإما العاقبة فغير مخشية ولله الحمد، فيعرفني سيدنا ما استأنف من التدبير فيما بعد.
وكتب إليه: وصل كتاب المجلس أدام الله أنس السعادة بأيامه، والملك بأقلامه، ولا حرم الإخوان منه منة اعتزامه، ومؤونة التزامه، ولا برح التوفيق مجزلاً بسهامه، ومسدداً لسهامه، ومساعداً لمراميه، ومساعفاً لراميه، (كذا) وهذا الكتاب المؤرخ بيوم السبت مستهل ذي القعدة أحسن الله فاتحته ومنصرفه، وكشف الضر الذي نؤمل من رحمته أن يكشفه، وكتبه مضمار الأوصاف المرتكضة، وكنوز الخواطر المقترضة، ولما كانت الصدور منشرحة، والنفوس مروحة، كنا نأخذ منها أوصافها، ونعيد إلى كرمتها سلافها، فإما والخطرات معتقلة، والنفوس على همومها مشتملة، فقد ضاق فتر عن مسير، وكاد ينقلب البصر خاسئاً وهو حسير. وعرف ما شرحه المجلس فلو أن ما نحن فيه من الجرح يدمله غير العافية لكان شرحه يدمله، أو لو أن ما بالقلوب من الأسى يرحل بغير بشرى الصحة لكانت ألفاظه ترحله، وعلى ذلك فلو كان الدهر يقاتل بسلاح لقوتل بسلاحها، أو لو كانت جبال الهموم تذرى برياح، لكانت تذرى برياحها، والنفس واثقة بلطف الله تعالى وبما عود، وأن البشارة إن لم تكن في اليوم كانت في الغد. وكانت الألفاظ العمادية كأياديها، وقد جاءت مجيء مسبل الغمام العام، وأضاءت بوارقها فأخجلت ما شام الشام، وتجلت ليالي الهموم(5/29)
منها بأنفذ أمر عليها من أنوار الأيام، ولكن إلى أن تأتي هذه الكتب قد عفت العيون فكيف منامها، وطلقت العرائس التي تزفها أحلامها. وبالجملة فكل خبر وإن أزعج والعياذ بالله فهو دون ما نظن إذا تأخرت الكتب فتداركونا بها ولله أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، والله تعالى يجعل الخير فيهما، ويعيذنا من جوالب أعمالنا، ونواقص آمالنا، وقد اكتنف بي همان أحدهما أمر العلة، والآخر تأخري عن الخدمة، فأعذاري وإن اتسعت فقد ضيقتها على الحقوق الواجبة، وأخرست لساني عن المحبة الغالبة، وبالله أقسمت أن المشاهدة للآثار وإن كانت رائعة، أروح من التوقع للأخبار وإن جاءت سارة، فأنتم فيما هو أروح، وإن كانت لكم المنة، ونحن فيما هو أبرح، وإن كانت علينا الحجة. وأنا أستحسن قول الشاعر.
لولا تمتع مقلتي بلقائه ... لوهبتها لمبشري بإيابه
لو علمت أن الحياة مع الحركة تحملني إلى أول نظرة لشريتها وما غلت، وسرت وما بعدت، وتجشمت وما شقت، ولكن لست واثقاً والله بالتماسك. ولعل المسألة تقرب، والوقت يطيب، والثلج يرتفع، والطريق يسلك، والأرجاف ينقطع، والضعف الذي أنا عليه يقف، والله المستعان إن شاء الله تعالى.(5/30)
مطبوعات ومخطوطات
الجواب الصحيح
شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني أعظم عالم بالسنة وهو في الإسلام كلوثيروس في النصرانية من التوفر على الدعوة إلى الإصلاح إلا أن الأول أعلم والثاني أحكم. ولقد توفر ابن تيمية على الإصلاح الديني ببث الدعوة من طريق التأليف والرد على المبتدعة والمخالفين فعدت تآليفه ورسائله بالمئات وكلها آية في انسجامها غاية في نفعها وفيها تقرأ بعض ما خص به هذا الإمام من المواهب التي قل أن يطمح إليها فرد فذ في أمم كبيرة وقورن كثيرة. وكانت تآليفه رحمه الله بحسب الحاجة والدواعي. ومعظم المخلصين من المؤلفين يضعون تآليفهم على هذا النحو مدفوعين بتلك العوامل.
ولما ورد من قبرص على عهد المؤلف - وكان يتنقل من دمشق إلى مصر - كتاب فيه الحجج السمعية والعقلية لدين النصرانية ألف كتابه هذا الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح جعله فصل الخطاب في هذا الباب. وظل هذا المصنف منذ القرن الثامن للهجرة إلى يوم الناس هذا مطوياً في الخزائن لا يتداوله غير خاصة أهل العلم حتى استرسل دعاة البروتستانت مؤخراً في بث دعوتهم ولاسيما في هذا القطر فانتدب حضرة الفاضل الشيخ مصطفى القباني إلى طبع هذا الكتاب الجليل يقابل به تلك المؤلفات الضخمة والرسائل الكثيرة التي وضعها المرسلون.
وبهذا رأيت أن تأليف الكتاب كان لباعث قوي ونشره بين الخاصة والعامة كان لباعث أقوى. ومن يرجع إليه يعلم مبلغ علم المؤلف واطلاعه على الديانات والنحل ووقوفه على السنة وتاريخها وتأدبه مع مخالفيه ولا عجب فهو هو نسيج وحده وغرة جنسه. أما الطابع فمن الرجال المولعين بإحياء مآثر السلف والعاملين على نشر أعمالهم فقد طبع إلى اليوم من الكتب الممتعة من تآليف أئمة الأمة ما يبيض الوجوه. ومما طبعه من كتب حجة الإسلام الغزالي محك النظر، والاقتصاد في الاعتقاد، والقسطاس المستقيم، وفيصل التفرقة، والحكمة في مخلوقات الله. ونشر أيضاً آراء المدينة الفاضلة للفارابي. وما بعد الطبيعة لابن رشد. وتأسيس النظر للدبوسي. والكلم الروحانية لابن هندو وغيرها.
فنشكر له تحفته الأخيرة ونثني على عنايته بتبويب الجواب الصحيح وتصحيحه وهو في(5/31)
أربع مجلدات تتجاوز صفحاتها 1300 صحيفة من قطع الوسط وبحرف صغير ومطبوع طبعاً جيداً على ورق صقيل كسائر مطبوعاته وقد جعل ثمنه عشرين قرشاً أميرياً ويطلب من محله بخان الخليلي بمصر ومن سائر المكاتب الشهيرة.
رسائل القاضي الفاضل
عرف القارئ من ترجمة القاضي أن رسائله بلغت مائة مجلد بعضها خاص وأكثرها كتب عن صلاح الدين يوسف ولم أظفر له إلا برسائل قليلة مفرقة في كتب التاريخ والأدب وكان من حقها أن تشتهر بين العالمين والمتأدبين كما اشتهرت رسائل أبي بكر الخوارزمي وأبي الفضل بديع الزمان الهمذاني وأبي اسحق الصابي وغيرهم من كتاب الرسائل أيام ارتقاء ملكة البيان العربي.
ولقد ظفرت في خزانة كتب المدرسة الكلية السورية في بيروت بمجلد ضخم من القطع الوسط من رسائل الكاتب المشار إليه كتب في القدس سنة 683 فيه جانب من رسائله ومعظمها مما كتبه لعماد الدين الكاتب الأصفهاني صديقه بل صنيعته. وعلمت أن أحد الأدباء في بيروت سيطبعه على نفقته وعساه يوفق إلى ذلك ويعنى بطبعه وتصحيحه وتعليق حواشي عليه إن أمكن على نحو ما يصنع الغربيون عندما يريدون أن يطبعوا لنا كتاباً.
صناعة إنشاء العرب
للعالم اللوذعي الأستاذ الشيخ أحمد الهاشمي نفس طويل في خدمة الأدب واللغة اشتهرت مؤلفاته بين ناشئة هذا القطر لما اشتهر عنه من معاناة هذا الفن علماً وعملاً. وقد أتحفنا الآن بالطبعة الرابعة من كتابه جواهر الأدب في صناعة إنشاء العرب جمع فيه كل شاردة نافعة وحكمة رافعة وأبيات ومقامات وروايات ومكاتبات ممتعة لقدماء الكتاب والشعراء ومحدثيهم مما يفيد طالب هذه الصناعة الشريفة في النسج على منوال أهلها. أجاد في الاختيار ما شاء وشاء ذوقه فجاء كتابه نافعاً في بابه لاسيما وفيه نموذج من إنشاء بعض المعاصرين وخصوصاً من المصريين أمثال عبد الله فكري وتوفيق البكري وعبد الله نديم ومحمد عبده وحفني ناصف وحمزة فتح الله وإبراهيم اليازجي وشكيب أرسلان ومحمود أبو النصر وحسن توفيق وأحمد سمير وسلطان محمد وأحمد مفتاح وطه محمود ومحمد دياب(5/32)
ووفا محمد ومصطفى نجيب وعبد الكريم سلمان وعبد العزيز جاويش وحافظ إبراهيم واحمد شوقي وعلي الليثي وطنطاوي جوهري وغيرهم. وعدد صفحات الكتاب 655 صحيفة مطبوع طبعاً نظيفاً ومشكول بعض محال الأشكال منه ومعلق عليه شرح لغوي ينتفع به الطالب فلجامعه منا أعظم ثناء.
مقامات الحريري
أهدى إلينا حضرة الفاضل الشيخ محمود عبد القادر سعيد الرافعي صاحب المكتبة المعروفة في السكة الجديدة نسخة من الطبعة السابعة التي طبعها من مقامات الحريري في المطبعة الأميرية الكبرى وقد جعل شرح ألفاظها اللغوية في أسفل كل صحيفة فجاءت في زهاء سبعمائة صحيفة منصفة الحجم وقد ألحقها بفهرس في مفردات الألفاظ اللغوية المشروحة والأمثال العربية والأعلام المشهورة على حروف الهجاء فزاد إلى خدمة هذه المقامات خدمة وماذا عسانا نقول في الحريري وليس من المتأدبين والعالمين إلا من قرأه وانتفع به.
ديوان الحماسة
وأتحفنا حضرة الشيخ الرافعي الموما إليه بنسخة من ديوان الحماسة وهو ما اختاره أبو تمام من شعر العرب ذاك الديوان الذي لا مندوحة لطالب الأدب والشعر عن الأخذ منه لأنه زبدة ما بقي لنا من آثار الشعراء الأقدمين وناهيك بديوان ينتخبه مثل أبي تمام الذي شهد له بالإجادة في جمعه كما شهد له بالإجادة في شعره. وانتخاب المرء دليل عقله. وقد علق عليه شرحاً موجزاً وطبع الأصل بالشكل الكامل فجاء من الكتب المفرحة الممتعة وعسى أن يظل الطابع الفاضل يتجنب الأدب والعلم بأمهات كتب القوم على هذا الطبع اللطيف والشكل البديع فقد سئمت النفوس تلاوة تلك الكتب السقيمة الحرف والورق. والكتاب في جزئين يقع في زهاء 650 صحيفة متوسطة فنثني على صاحب هذه التحف أطيب الثناء.
رواية شرف الاسم
مسامرات الشعب مجلة قصصية تاريخية فكاهية لناشرها الأديب عزت خليل بك صادق صاحب مكتبة الشعب ومطبعتها بالقاهرة وهي تصدر مرة في الشهر رواية مستقلة برأسها بقلم كاتبٍ من كتاب مصر وقد كانت هذه المرة رواية شرف الاسم من قلم الأديب أحمد أفندي فخري وهي كسائر ما ينشره صاحب مسامرات الشعب لطيفة الأسلوب وتقع في(5/33)
164 صحيفة.
الفلاكة والمفلوكون
كتاب جم الفوائد جزل الألفاظ والمعاني طبعته مطبعة الشعب ومكتبتها الآنف بيانها وهو تأليف أحمد بن علي الدلجي من أهل القرن التاسع للهجرة وهو في الفقر والفقراء وقد قدم له مؤلفه مقدمة هي مثال من أمثلة البلاغة في التوكل وخلق الأعمال وغيرها ثم أتى على تراجم علماء تقلصت عنهم دنياهم ولم يحظوا منها بطائل والكتاب كله درر وغرر يليق به أن تراه العيون كل ساعة لما فيه من الأدب الغض والعبرة البالغة وقد طبع أجود طبع فجاء في 145 صحيفة كبيرة على ورق جيد فنثني على صاحب مطبعة الشعب الأديب على هذه الذخيرة وعساه لا يضن أيضاً بنشر أمثال هذه الكتب النافعة في جملة ما ينشره.
تقويم المؤيد
قلما رأينا لأبناء هذه البلاد عملاً سار به صاحبه على سنة الارتقاء الطبيعي وصبر عليه زمناً لينضج مثل هذا التقويم الذي أخذ ينشره كل سنة الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود أحد منشئي المؤيد الأغر وأمامنا الآن تقويمه لسنة 1324هـ وهي السنة التاسعة وفيه من الفوائد السياسية والاجتماعية والتاريخية والصحية والحيوية ما لا يعثر عليه إلا في المظان المشتتة ولا يستغني عن الرجوع إليه كل فرد من أفراد المجتمع وهو في زهاء أربعمائة صحيفة ومطبوع أجمل طبع على أجود ورق وقيمته خمسة قروش. وإن إقبال القوم على اقتنائه لأكبر دليل على وفرة حسناته فنثني على صاحبه العامل أطيب ثناء.
ترجمة الرافعي
آل الرافعي من الأسرات العريقة في العلم والعمل في مصر والشام تولى أفرادها المناصب العلمية والإدارية القضائية في القطرين وقد انتهى مؤخراً كتاب في ترجمة الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير مفتي مصر السابق جمعها بحله الأستاذ الشيخ محمد رشيد وقدم لها مقدمة في ترجمة المرحوم ثم أورد أقوال الصحف فيه ومراثي العلماء والأدباء في الأقطار العربية بحيث أصبح هذا الكتاب مرجعاً في التعريف بهذا الفقيد العظيم ووزعه مجاناً على أحبابه وكل طالب جزاه الله خيراً.
أسرار ديوان التفتيش(5/34)
أهدى إلينا حضرة النشيط إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية في مصر نسخة من هذه الرواية وهي من سلسلة روايات حديقة الفكاهة التي يصدرها كل شهر وهي غرامية تاريخية فيها تفصيل ما كان يجري في تلك الدواوين الدينية من الأعمال الغريبة على ما يعلم من قرأ تاريخ أوربا في القرون الوسطى وهي أجزاء وثمن الجزء قرشان فنشكر له هديته ونثني على نشاطه.
عاقبة الأمانة
هي رواية أدبية علمية غرامية تاريخية لمؤلفيها الأدبيين علي أفندي توفيق ومحمد أفندي ربيع من مدرسي الإنكليزية في هذه العاصمة وفيها كأكثر الروايات ما يرمض ويسر وهي في زهاء خمسين صحيفة صغيرة فنثني على اجتهادهما.(5/35)
سير العلم
مساكين المحترفين
ليس الفقر مختصاً بطبقة خاصة من الناس من سوقة وباعة ومزارعين وصناع بل قد عض ناب الفقر في الغرب أيضاً طبقة ممن يتعاطون المحاماة والتعليم والكتابة فقد بحث أحد الأمريكان فرأى أن أحسن طريقة لتلافي هذا الخطب النازل تغيير أساليب التربية فيدخل الأولاد أولاً مدارس ابتدائية إجبارية في السن التي يحظر عليهم فيها دخول المعامل ثم يدخلون المدارس الصناعية ولا تكون إجبارية ويبدأ التعليم بالحال بعد الخروج من المدرسة الابتدائية ويكون موجزاً. أما من يريدون التخرج في المحاماة والطب والهندسة فيبدأون بالدراسة ويداومون العمل طويلاً وتجد الدروس العالية لها مكاناً بين المدرسة الابتدائية والمدارس التجهيزية إلى اتخاذ الصنائع الحرة وتخف بذلك النفقات التي تنفقها الحكومات الآن ويكون التعليم خاصاً ويقضي التعليم الصناعي على الفقر والحاجة.
مدفع للبرد
معلوم أن البرد يضر كثيراً من المزروعات بنزوله عليها ناهيك بأن واحدتها قد تكون بحجم الجوزة. وقد فكر أحدهم في إيجاد مدفع يبدد شمل البرد إذا تجمع الجو ويدفع عاديته عن المزروعات والمغروسات ومازال مخترعه واسمه سيتجر يتوفر على إكمال مدفعه حتى وفق في العهد الأخير إلى وضع حلقة في داخل المدفع قطرها من 12 إلى 13 سنتيمتراً وبهذه الواسطة تمكن من قذف الهواء المضغوط بواسطة انفجار البارود بسرعة على أطراف الحلقة بقوة غريبة في القذف العلوي فيضطرب الجو بشدة في الطبقة التي يكون فيها البرد.
كتب الدنيا
أحصى أحد العارفين الكتب التي طبعت منذ اختراع الطباعة فقال أنه طبع منذ سنة 1450 إلى سنة 1536، 42 ألف مؤلف وطبع من سنة 1536 إلى 1636 قرابة 275 ألفاً ومن سنة 1636 إلى 1736، 1. 225. 000 ومن سنة 1736 إلى 1836، 1. 839. 960 فكان مجموع ما طبع إلى سنة 1836، 3. 681. 960 مصنفاً فلو فرض أنه طبع من كل كتاب ثلاثمائة نسخة فيكون مجموع ما طبعته مطابع العالم إلى سنة 1836، 3. 313.(5/36)
764. 000
وأحصى أحد الأمريكان كتب الولايات المتحدة فقال أن في بيوتها 42. 000. 000 مجلد وعند علمائها وكتابها ومخترعيها 150. 000. 000 وعند كتبيها وطابعيها 60 مليوناً وفي خزائن كتبها العمومية 50 مليوناً وعند تلامذتها ثمانية ملايين وعلى تلك النسبة حسب ما في العالم من أسفار فكانت 3. 200. 000. 000
كليات الشعب بإسبانيا
نجحت الكليات التي أنشئت لعامة الشعب ممن لم تساعدهم الأيام على الدراسة في الكليات العالية في إسبانيا وهي تفتح مرتين في الأسبوع وتعلم علماً واحداً وليس التدريس فيها خاصاً بالأساتذة بل إن جماعة من أهل الأخصاء من طبيب ومهندس ومحام بل وتلميذ يلقون فيها على المستمعين من طلاب الاستفادة كل ما شاق وراق من الموضوعات.
كلية النساء في اليابان
أسس اليابان كلية جامعة في طوكيو سنة 1896 خصت بالنساء دون الرجال وغايتها تعليم اليابانيات ما يؤهلهن للعمل على ترقية الوطن ومدة الدراسة ثلاث سنين تنال الطالبة بعدها شهادة تنطق باقتدارها وكان عدد الطالبات سنة 1901 ثمانمائة طالبة وتقسم الدروس إلى ثلاثة فروع وهي الآداب اليابانية والآداب الإنكليزية والعلم والأدب وهذان العلمان يقسمان إلى فروع أهمها الاقتصاد السياسي والقانون المدني والفيسيولوجيا وتدبير المنزل والصحة. والمعلمات بأجمعهن من نساء يابان أو إنكلترا ويشترط أن لا يقل عمر الطالبة عن 17 سنة وتعيش هذه الكلية بالإعانات الخاصة ولا تدفع لها الحكومة في السنة غير ألفي يان (ريال ياباني).
أعظم شلال
كان الباحثون موقنين بأن أعظم شلال في العالم هو شلال نيكاراغا في أميركا أو شلال فكتوريا على نهر الزمبيز في إفريقية وقد اكتشفت الآن شلال ثالث يفوق الشلالين السابقين في كثرة ارتفاع مائه وهو شلال اينياسو القائم على نهر صغير المتدفق من نهر بارانا في البرازيل من جنوبي أميركا سعته 4734 متراً أي أنه بالقياس إلى شلال نيكاراغا ضعفان ونصف ويدفع في الساعة 940 مليون طن (الطن ألف كيلو غرام) من علو سبعين متراً(5/37)
وهو في غابة غبياء لم ينزلها بشر ولا رفع منها حجر ولا مدر ومساحتها لا تقل عن ألف وخمسمائة كيلومتر مأهولة من جهاتها الأربع.
باطية عجيبة
اخترع أحدهم باطية أو زجاجة تحفظ السوائل التي تملأ بها حارة كانت أو باردة وهي عبارة عن غطائين من الزجاج بينهما فراغ يطلى داخلهما فيمتنع الإشعاع وينفع هذا الاختراع الأطباء والجنود والصيادين والسائحين كما ينفع المرضى ممن يضطرون أن يتناولوا اللبن المغلي في أوقات معينة ومن يريدون تناول الأشربة حارة فيجد المرء متى أراد شيئاً من الشوكولاتا الحارة أو الشاي الساخن أو القهوة الحارة ويتيسر للمريض أخذ الماء المغلي متى أراد.
مخيم قديم
عثر منذ سنين في ضواحي مرفأ فارامبول من أعمال مقاطعة فكتوريا في أستراليا على آثار أقدام بشرية قديمة جداً وذلك في قطعة من الحجر الرملي فأخذت قطعة منه ودفعت لكلاتش أحد علماء الحيوانات والنباتات الأرضية (بالونتولوجست) ومن أساتذة كلية هايدلبرغ الألمانية فقال أنها آثار وجدت قبل التاريخ. ثم رحل بالذات إلى تلك البلاد ليحقق قوله بالبرهان. وقد نشر الآن خلاصة أبحاثه ويؤخذ منها أنه في عهد يرتقي إلى ألوف من السنين ما تألف به ذاك الحجر الرملي فقام عليه هذا المخيم وحوى أجناساً من البشر قبل التاريخ في أستراليا وأن هذه القارة وتاسمانية كانت جزءاً من القارة الجنوبية التي كانت تمتد إلى المحيط الهندي وتصل أستراليا بآسيا وإفريقية. فدل ذلك على أن الإنسان على الأرض أقدم بكثير مما يتوهمه بعضهم وربما رد عهده إلى مئات الألوف من السنين على ما يحققه العلم والبحث.
اختفاء بحيرة
الظاهر أن إفريقية الوسطى أخذت تنشف بطائحها وتجف مياهها بالتدريج والعناية وقد غابت عن الأنظار هذه الأيام بحيرة شيروا في الجنوب الشرقي من نياسا في إفريقية الوسطى وطولها 45 كيلومتراً وعمقها عشرون اكتشفت سنة 1869 وخفيت هذه السنة.
تلفون جديد(5/38)
التلفون وعربه بعضهم بالمقول معروف في هذه البلاد وقد توصل العلماء إلى اختراع نوه منه لا سلك له يستخدم إذا حدثت حوادث في الخطوط الحديدية أثناء سيرها وسينتقل من أميركا محل اختراعه إلى أوربا وغيرها فتوصل آلته بأي سلك كان.
السل البقري
قر الرأي أو كاد على أن السل قد ينقل بواسطة لبن حليب البقر إلى السليمين ممن يشربونه وقد كان ادعى الأستاذ بهرنغ لما نال منذ أربع سنين جائزة نوبل في استكهولم عاصمة الدانمارك جزاء اكتشافه مصلاً للخناق - أنه اكتشف طريقة أكيدة لتلقيح المصابة من البقر بالسل فثبت الآن دعواه وصحت. وطريقته هذه أن يحقن كل حيوان في الأعصاب مرتين في بضعة أسابيع وبمقادير معلومة من باشلس السل المأخوذ من المرضى من البشر.
حالة العلم الحاضر
هو كتاب ألفه اميل بيكارد أحد أعضاء المجمع العلمي في فرنسا ذكر فيه فصولاً في الجبر والرياضيات والفلك وعلم جر الأثقال والطبيعيات والكيمياء وعلم طبقات الأرض ومنافع الأعضاء والنبات والطب بقلم يشف عن سلاسة وتحقيق ولا يستقل به الأكبار أهل الأخصاء المحققين فكأن المؤلف وضع دائرة معارف يصعب على كثيرين أن يقوموا ببعض ما قام به هذا الفرد إذ أن الإجادة في هذه الموضوعات لا تتأتى إلا لمن وقفوا على الاشتغال أعمارهم وصرفوا في البحث ليلهم ونهارهم قام بهذا العمل العظيم وهو من مشاهير الرياضيين وجعل بين تلك العلوم المختلفة صلة تتجلى منها حالتها اليوم.
ومما قال أن العلوم الطبيعية آخذة لهذا العهد أن تتكيف بصورة رياضية وليست الطبيعيات والكيمياء فقط بل العلوم الطبيعية بأجمعها وإن تكن هذه مختلفة عن تلك من هذه الوجهة فعلم الحياة (بيولوجيا) الحاضر مثلاً آخذ بوضع مبدأ مسلم به من أن الحادثات الحيوية تؤول إلى الحادثات الطبيعية والكيماوية. وكل مباحثه تدل على ما ينبغي للعالم أن يعده عما قريب للمستقبل من عدد العلم ليتأتى له أن يحسن البحث العلمي. والحياة العلمية كالحياة الاجتماعية كلما تعاقبت القرون يكثر فيها تعاور الأيدي والاشتراك.(5/39)
مقالات المجلات
الجولان في النوم
الضياء - مازال أمر الرؤى الليلية من الأمور الغامضة التي لم يتوصل الحكماء إلى حلها بما يكشف عن شرها ويعلل كيفية حدوثها. ومن أغرب أطوارها ما يعرض لبعض الناس أن ينهض من فراشه وهو نائم ويسعى من موضع إلى آخر ويفعل أفعالاً شتى قد لا يصدر مثلها إلا عن إرادة وتعقل وشعور تام حتى لا يشك من يشاهده في تلك الحالة أنه مستيقظ. أما ما ذهبوا إليه في تعليل ذلك فذكر ولتر سكوت أن الحواس تكون حينئذ نائمة نصف نوم بحيث أن صاحب هذه الحال يشعر بمكان وجوده لكنه لا يكون تام الانتباه حتى يستطيع أن يميز ما حوله بجلاء. وقال غيره أنه حتى تكون عيناه مغمضتين يشعر بقوة النور إلى حد لا يشعر به في حال اليقظة وفضلاً عن ذلك يكون حس اللمس فيه على أشد التنبه وبه يتقي ما يتعرض له من الأخطار كالمشي على سطوح المنازل وشواطئ الأنهار وبهذا التنبه الشديد في حسه يتأتى له أن يفعل أفعالاً أعجب مما ذكر فيقرأ ويكتب كتابة في نهاية الضبط من نثر ونظم وقطع موسيقية ويميز أدق الأشياء. قالوا والظاهر أن ما يأتيه النائم من ذلك هو من فعل الذاكرة والعادة بحيث أن حركات الفكر تتألف في النوم على نفس الوجه الذي اعتادت أن تتألف عليه في اليقظة فيكون ما يفعله في النوم تكراراً لما يفعله في اليقظة وأكثر ما تعرض هذه الحال للمصابين بالاضطرابات العصبية كالصدع والهستيريا وما شاكلهما.
فوائد صحية
الأفكار - تدل الطبقة البيضاء على سطح اللسان على خلل في وظيفة الهضم لأسباب أهمها ضعف عمومي في جميع البدن وعدم مناسبة الطعام والإكثار نمن تناول اللبن في الصباح وقد يحدث بياض اللسان عن النوم والفم مفتوح لمرض في الأنفين أو الحنجرة. وعلاجه في تقوية عامة الجسم وأعضاء الهضم خصوصاً كاستعمال الطعام المناسب في الوقت المناسب والالتجاء إلى الرياضة البدنية المعتدلة.
يجب أن يكون حمام الصباح قصير المدة وأن يستمر عليه المرء يومياً حتى في البرد بشرط أن تكون نوافذ غرفة الحمام محكمة القفل وأن يستعمل المستحم الفرك القوي بمنشفة(5/40)
خشنة قبل أن يغطس وبعد التنشيف الأول.
سئل الدكتور كلون في مجلته عن علة القبض المستعصي فأجاب أن أهم الأسباب معيشة العزلة والجلوس الكثير الذي يضعف عضلات البطن والانحناء كما في الكتاب والمعلمين والتجار ومن جاراهم في الأعمال الكتابية وإفراط في الأكل وإهمال الاعتياد على إطلاق الأمعاء كل يوم بأوقات معينة وعدم مناسبة الطعام كالإكثار من اللحوم والنشويات وعدم تناول الخضر والبقول. ويقوم علاج هذا القبض المستعصي الأصلي بتقوية عضلات المعدة والأمعاء خصوصاً وكل عضلات البطن عموماً كما في الألعاب الرياضية واستعمال التغميز (الدلك) والاستحمام واستنشاق الهواء النقي أبداً.
يعالج الزكام (الرشح) المزمن أو المستعصي بوضع مقدار صغير من البولين 30 غراماً و10 نقط من زيت اليوكالبتوس في ماء متبخر ويستنشق البخار بعد أن يكون المزكوم غسل الأنفين جيداً فيشعر براحة حالاً وإذا داوم عليه فمن المرجح بل المؤكد شفاؤه.(5/41)
العدد 6 - بتاريخ: 22 - 7 - 1906(/)
صدور المشارقة والمغاربة
كولريج 1772_1834
الغالب أن الشعراء في كل أمة يتقلبون مع الأهواء فلا يثبتون على حال في مناحيهم ومنازعهم. ومن يعشق الخيال ويهيم بالطبيعة فيخاطب السماك والأسماء، ويهيم بنجوم الأرض كما يهيم بنجوم السماء، لابد أن يقلبه الدهر كل مقلب، وتختلف عليه الأطوار والأدوار، كاختلاف الطبيعة بين صيف وشتاء وليل ونهار. وصاحب الترجمة ما خرج عن هذا الخلق وخروج الشاعر عنه يعدُّ من الغرائب ولا عبرة بالشذوذ. هو من شعراء الإنكليز وفلاسفتهم ربي يتيماً منذ نعومة أظفاره فبعث به أهله إلى مدرسة متوسطة في لندن امتاز فيها بأخلاقه الساكنة وشعوره اللطيف وذوقه العجيب في علوم ما وراء الطبيعة والفلسفة. دخل كلية كامبردج وغادرها بعد سنتين وبعد أن انضم إلى سلك عصابة من سرية الدراغون سعى بعض أصحابه فأخرجوه منه.
سافر إلى مدينة برستول لأول أمره فاتحد وشاعرين شابين مثله (روبرت لوفل وسوتني) وزعموا أنهم يريدون أن ينشئوا في ايلينوا من بلاد أميركا مستعمرة تكون أنموذج المستعمرات تحكمها قاعدة المساواة المطلقة والفضائل الاجتماعية كافة بيد أنهم ما عتموا أن عشقوا ثلاث أخوات فتزوجوا بهن وعدلوا عن أفكارهم الخيالية وجمهوريتهم الكمالية وتفرقوا تحت كل كوكب فراح صاحب الترجمة يؤازر في إحدى الصحف الحرة بلندن موجهاً أبداً كلامه إلى الأمة ولذا حازت مقالاته إقبالاً. ثم كتب رواية وكان نشر من قبل ديواناً من شعره وأنشأ جريدة سياسية أسبوعية لم يصدر منها غير عشرة أعداد فذهب تعبه فيها سدى.
ثم عزفت نفسه عن السياسة واعتزل في إحدى بقاع سويرستهير الجميلة وأخذ ينظم فيها أشعاره ويخلد لهذه المدرة بأقواله ذكراً لا يحمى على الدهر وانكب على العمل والدرس أيما انكباب وهناك ألف أحسن قصائده الموشحات فنجحت كثيراً ولكنها لم تأته بربح يذكر. وزار ألمانيا وتمكن من إحكام آداب الألمانية ثم تقلبت به الأحوال فاعتزل واحد صاحبيه الاثنين المشار إليهما مدة ولم يلبث أن عاود المسائل السياسية والدينية فأصبح ملكياً وداعية إلى التثليث على ما كان يميل إليه من الحرية المفرطة.(6/1)
تخلى عن الشعر منذ ذاك العهد وأنشأ ينشئ في جريدة مورنن بوست مقالات يجادل بها خصومه أشد جدال في معنى الثورة مما دل على فكر متقلقل يذهب مذاهب الخيال بحس بالأحوال. وسعى أحد أصدقائه فأنقذه من تعاطي الأفيون تلك العادة الخبيثة الشائعة في الشرق فخلصه بذلك من الجنون وجاءت المنية على الأثر فاختطفته دون أن يتم أعماله العلمية فعهد إلى زوجه أن تنشرها بعده.
وكان نفوذ هذا الشاعر الحكيم قوياً في إنكلترا لما عرف به من حب الحكمة وأثر عنه من الكتابات الدينية وجاء من حيث شعره مبشراً بالشاعر بيرون ومملياً على قلبه وروحه فقد استظهر بيرون قطعة صالحة من قصائده كانت له عوناً على الرسوخ في ملكة الشعر. يقول كتاب التراجم الناقدون لو كتب لكولريج أن يتخلى عن الدينيات والسياسيات لجاء منه أعظم شعراء عصره وكان أحد الأحدين غير مدافع وذلك لما خض به من الاقتدار العقلي وسعة التعبير ولطف الأداء. قالوا وكان حديثه مطرباً في الغاية حتى أن إحدى الحانات الغنية في لندن كانت تنقده مبلغاً جسيماً من المال ليحضر إليها ويتسامر وبعض المختلفين إليها. وشبهوا أعماله العلمية بقصر ناقص ترى كل ما فيه هائلاً جميلاً فخيماً ولكن لا تشهد فيه شيئاً قد تم على أصله. وسبب ذلك تلونه في مشربه ومذهبه. والثبات على مبدأ من أقوى عوامل الانتفاع بالرجال.(6/2)
النظامية والمستنصرية
بلغت بغداد في الحضارة أعلى درجاتها إبان التمدن الإسلامي وكانت عاصمة العلم ومبعث أشعة الحكمة حتى في عصور تدنيها أيام ضعف سياستها وأصبح حكم العباسيين فيها اسمياً ولم تبرح تنفخ فيها روح النمو والرقي التي بثها فيها خلفاء القرن الثاني والثالث فكان العادة أو قوة الاستمرار حكمت أن لا يكون القرن الرابع والخامس والسادس والسابع دون ذينك القرنين إلا قليلاً. وظلت هذه العاصمة على علاتها أرقى من قرطبة والقيروان ومصر ودمشق وسمرقند وخراسان وغيرها من أمصار الحضارة وقواعد العمل على ما بذل زعماء تلك العواصم من العناية في مضاهاة دار السلام وقبة الإسلام.
ولقد كانت المدارس إحدى العوامل الكبرى في ذاك الترقي ويكاد الفضل يرجع إلى بغداد في إحداثها على هذا الطرز المألوف وإن بقيت الأمة زمناً تتلقى علوم الدنيا والدين في حلقات المساجد والمجامع الخاصة. ولقد استاء علماء ما وراء النهر لما بلغهم توفر الخلفاء على بناء المدارس في بغداد وأقاموا للعلم مأتماً تفادياً من ابتذاله وخشية أن تصبح الغاية من الدراسة دنيوية محضة غايتها جر مغنم واجتلاب ديناً عريضة وأسفوا أن رأوا بعض رجال العلم أخذوا يتناولون رواتب لقاء دروس ينفعون بها الأمة وكانوا وأجدادهم من قبل يلقونها بلا عوض ولا عرض ينالونه.
وكأن الله خص القرن الرابع بأن قامت فيه أعظم كليات المسلمين اليوم إلا وهو الأزهر في القاهرة الذي بناه القائد جوهر كما خص القرن الخامس بأن وفق نظام الملك وزير السلاجقة لتأسيس المدرسة النظامية سنة 459هـ ببغداد ووفق المستنصر بالله العباسي أيضاً أن أسس مدرسته المستنصرية في أوائل القرن السابع ببغداد. ولما كانت النظامية والمستنصرية عامرتين بضروب العلم غاصتين بالطلاب والأساتذة لم يكن الأزهر يذكر في جنبهما. ولكن دالت الأيام ودرست معالم هاتين الكليتين العظيمتين وكتب البقاء لهذه المدرسة المصرية. ولذلك أحصر الكلام فيهما الآن فأقول:
أسس نظام الملك مدرسته النظامية وسط الجانب الشرقي من دجلة وقسمها إلى مقاصير كثيرة خص كل فرع من فروع العلوم الدينية والدنيوية ببعضها وجعل فيها غرفاً كثيرة يأوي إليها الطلبة والأساتذة هذا عدا ما هناك من أبهاء ومنتديات وقاعات وبستان فسيح ومصلى وأماكن للاستراحة وجميع ما يلزم لدار علم مثلها من سائر موافق الحياة كالمطبخ(6/3)
والحمام وغيرهما وكانت فيها خزانة كتب عظيمة كما في غيرها من المدارس الكبرى مسبلة على العالمين والمتعلمين فيها. وبنيت طبقتين وأقيمت في أطرافها أروقة وطاقات وجعلت فيها أنابير ومستودعات فيها كل حاجيات أهلها من طعام ولباس وفراش وكان المعلمون كالمتعلمين يكفون المؤونة فيها فينال كل واحد من أوقافها الدارة ما يسد به عوزه وربما ما يفيض عن حاجته.
وليس فيما لدي من المواد شيء يصح الاستنباط منه لإصدار حكم صحيح على نظام الدروس والمدرسين والدارسين في تلك المدرسة وناهيك بأنه كان لها مفت يفتي أهلها في مصالحها على ما هناك من أساتذة هم فخر الإسلام والمسلمين في أعصارهم فقد كان الشيخ رضي الدين أبو داود سليمان بن المظفر بن غانم بن عبد الكريم الجيلي الشافعي مفتياً فيها. كما درس فيها جلة مثل أبي اسحق الشيرازي وأبي نصر بن الصباغ وحجة الإسلام أبي حامد الغزالي وأخيه أبي الفتوح أحمد وأبي الفتح بن برهان وأبي القاسم الدبوسي وأبي عبد الله الطبري وأبي محمد الشيرازي وضياء الدين السهروردي وأبي القاسم القشيري وأبي منصور الوزان وأبي الفتح أسعد المهيني وأبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله شيخ العراق في وقته وأبو سعيد المتولي وكمال الدين النحوي وفخر الإسلام أبو بكر المستظهري وأبو بكر بن الدهان النحوي الضرير والشرف يوسف بن بندار الدمشقي وعشرات غيرهم ممن تخرج بهم مئات من الفقهاء والمحدثين والأصوليين والمتكلمين والمتأدبين وغيرهم.
وشقيقة هذه المدرسة بل خليفتها المدرسة المستنصرية بناها سنة 631 المستنصر بالله في الرصافة على ضفة دجلة الشرقية وانفق في بنائها ما ينفقه الملوك في بناء إذا أرادوا به تخليد ذكرهم وإحياء مفاخرهم. وجعل فيها خزانة كتب حملت من الآفاق حملها مائة وستون حمالاً وفي رواية بعض المؤرخين أنها كانت مائتين وتسعين حملاً عدا ما أضيف إليها بعد. قال الذهبي وأوقاف هذه المدرسة عظيمة غلت في بعض السنين سبعين ألف دينار قيل أن قيمة ما وقف عليها يساوي ألف ألف دينار. وقد جعلت على المذاهب الأربعة وأقيم فيها مستشفى وأطباء يدرسون الطب كما يدرس فيها علم الحيوان النبات والفلك والرياضيات على اختلاف ضروبها والآداب على أنواعها والجغرافية والتاريخ وعلوم الحديث والقرآن.
وشرط بانيها أن يكون عدد الفقهاء فيها مائتين وثمانية وأربعين فقيهاً يصيب أهل كل(6/4)
مذهب ربع هذا العدد يأخذون رواتب وجرايات كثيرة هذا ما عدا المحدثين والمقرئين ومشاهراتهم وعدا كتاب متصل بالمدرسة خص بثلاثين يتيماً يستظهرون فيه الكتاب العزيز ويكفون المؤونة وعدا المدرسة الطبية والمستشفى والصيدلية التي يدرس فيها الدارسون ويستشفى بها المرضى ويأخذون ما يقتضي لهم من المعاجين والأدوية.
وأول من عهد إليه التدريس في تلك الكلية محي الدين أبو عبد الله ابن فضلان الشافعي ورشيد الدين أبو جعفر الفرغاني الحنفي والنيابة عنهما جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي الحنبلي وأبو الحسن المغربي المالكي واشتهر من مدرسيها جمال الدين العاقولي. ووصف هذه المدرسة العالم محمود شكري الآلوسي في كتابه مساجد بغداد ومدارسها فقال أنه كان فيها مزملة للماء البارد وأن الداخل إليها اليوم من بابها الكبير الجنوبي يرى فسحة طولها نحو مائة متر وعرضها نصف ذلك وفي كل جهة منها إيوان رفيع السمك كأنه أعد كل واحد منها لمدرس من المذاهب الأربعة وأن الموظفين بها كانوا أقل من المشتغلين فإنهم في كل وقت كانوا دون ألفي طالب على اختلاف طبقاتهم واستعدادهم وأما الموظفون فهم دون الألف وكانت التفرقة بين الأصناف والطبقات بألوان الطيالس فذوو الطيالسة الصفر صنف والبيض صنف والحمر صنف وهكذا. وكان في بابها ساعة عجيبة.
هذا ملخص ما كانت عليه النظامية والمستنصرية من الإتقان العجيب ولم يبق للأولى من أثر اليوم غير قاعدة منارتها وهي مطبخ أحد الإسرائيليين وبقيت الثانية محفوظة من أيدي التخريب إلا قليلاً بيد أنها حولت إلى إدارة جمرك منذ بضع سنين وذهبت تلك الحضارة وما يتبعها جملة وراحت النظامية ولم نعد نسمع إلا بأخبارها وربما تتبعها المستنصرية تلك المدرسة التي بلغ من غرام بانيها بها كما قال ابن العبري أنه بنى بجانبها بستاناً خاصاً له وقلما يمضي يوم إلا ويركب في السيارة ويأتي البستان يتنزه فيه ويقرب من شباك مفتح في إيوان المدرسة ينظر إلى البستان وعليه ستر فيجلس وراء الستر وينظر إلى المدرسة ويشاهد أحوالها وأحوال الفقهاء ويشرف عليهم ويتفقد أحوالهم. فليت المستنصر يحيا اليوم فيرى ما فعلت الأيام بما شاده وشاده نظام الملك.(6/5)
البابليون
المملكة الكلدانية - قامت مملكة آشورية جديدة مكان بلاد الكلدان القديمة الداثرة دعيت مملكة البابليين أو المملكة الكلدانية الثانية. وقد تكلم أحد أنبياء إسرائيل على لسان الرب فقال: أنا أحيي الكلدان تلك الأمة الظالمة وسرعان ما تطوف الأرض للاستيلاء على مساكن غيرها وأن خيولها لأخف سيراً من النمر وفرسانها لينشرون في الأطراف ويطيرون كالنسر ينقض على قنيصته وبالجملة فقد ألف الكلدانيون الفروسية والحرب والفتح وهم يماثلون الآشوريين كل المماثلة فاستولوا على بلاد الفرس والجزيرة وبلاد اليهود وسورية وكانت مدة حكمهم قصيرة فقد أنشئت المملكة البابلية سنة 625 وأبادها الفرس سنة 538 ق. م.
بابل - كان بختنصر (604_561) من أقدر ملوكها وهو الذي خرب بيت المقدس وساق اليهود أسرى وأسس في بابل عاصمة بلاده كثيراً من المعابد والقصور. أقيمت هذه المعاهد بالآجر لقلة الحجر في سهل الفرات. ولما كتب عليها الدثور والعفاء لم يبق منها إلا كوم من التراب والأنقاض وقد عثر في المكان الذي كانت فيه بابل على بعض كتابات فعرفت هيئة المدينة. بيد أن هيرودتس اليوناني وصف مدينة بابل وصفاً مسهباً وكان زارها في القرن الخامس ق. م فإذا هي محاطة بسور مربع يشقه الفرات وكانت المدينة تشغل حيزاً من الأرض مساحته 513 كيلومتراً مربعاً (أي سبعة أضعاف مدينة باريس) ولم تكن كل هذه البقعة الفسيحة الأرجاء عامرة بالدور والمساكن بل كان يتخللها حقول مزروعة تقوم بأود السكان آونة الحصار. فكانت بابل من ثم أشبه بمعسكر حصين منها بمدينة. وفي جدرانها أبراج ولها مائة باب من النحاس الأصفر وكان سمكها صالحاً لمرور مركبة عليها وفي حيال السور خندق عريض عميق مليء ماء وسترت حافاته بالقرمد. وكانت دورها ذات ثلاث طبقات أو أربع والشوارع وسطها زوايا قائمة. وما أعجب بناء جسر الفرات وأرصفته والقصر الحصين والجنان المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع. وهذه الجنان سطوح مغروسة بالأشجار قائمة على عمد وقباب مصفوفة طبقات الأولى بعد الثانية.
برج بابل - بنى بختنصر في طرف المدينة برج بابل وقال في إحدى كتاباته لقد جددت أعجوبة بورسيبا (من ضواحي بابل) ليعجب الناس منها وهو معبد السيارات السبع في الدنيا فأعدت تأسيسه على النحو الذي كان عليه في الأزمان السالفة. وهذا المعبد على شكل(6/6)
مربع مؤلف من سبعة أبراج بعضها على بعض وخص كل برج بإحدى السيارات السبع وصور باللون الذي أختاره الدين لتلك السيارة. وهذه الألوان إذا بدئ بها من أسفل فهي: زحل (سواد) والزهرة (بياض) والمشتري (أرجوان) وعطارد (أزرق) والمريخ (قرمزي) والقمر (فضي) والشمس (ذهبي). وكان في أعلى الأبراج مصلى ومنضدة من ذهب وفراش وثير تسكن إليه كاهنة.
أخلاقهم وديانتهم
أخلاقهم - لا نعرف هذه الشعوب إلا بمعاهدها ومعاهدها تكاد لا تتعدى أعمال ملوكها فلا ترى الآشوريين أبداً إلا وهم مصورون في حرب أو في صيد أو في احتفالات وما صور نساؤهم قط إذ كن حلس بيوتهن لا يخرجن للناس. وعلى العكس في الكلدان فإنهم كانوا أهل حراثة وتجارة ولكننا لا نعرف شيئاً عن حياتهم. يقول هيرودتس أن هذه الأمة كانت تجمع البنات في مدنها مرة واحدة في العام لتزويجهن فيبيعون الجميلات منهن ويؤخذ ثمنهن ليعطى جهازاً إلى مشوهات الخلقة. قال وعندي أن هذا القانون من أحكم ما وضع من القوانين والشرائع.
ديانتهم - دين هاتين الأمتين واحد فالآشوريين تمذهبوا بمذهب الكلدانيين وقد التبس علينا هذا الدين لأنه نشأ كدين الشعب الكلداني من مزيج ديانات متباينة مشوشة كلها. فكان التورانيون يعتقدون على نحو ما تتوهمه قبائل سبيريا الصفر أن العالم غاص بالشياطين (مثل الطاعون والحمى والأشباح والعفاريت) دأبها تربص البشر بالشر والأخذ بمخنقهم ولذلك تراهم لا يلجأون إلى السحرة ليطردوا عنهم هاته الشياطين برقياتهم. وكان الكوشيون يعبدون ربين ذوي اقنومين الذكر وكان القوة بزعمهم والأنثى وهي المادة وكان الكهنة الكلدان وهم مجموع طوائف قوية من المنعة بحيث ساغ لهم أن يعنوا بتوحيد الدينين.
الأرباب - الرب المتعال هو ايلو في بابل واسور في أشور وقلما يقيمون له معبداً ومنع يشتق ثلاثة أرباب وهم آنوا رب الظلمة وصورته صورة رجل وذنب نسر معصب رأسه برأس سمكة. وبعل ملك الأرواح مصور كالملك على عرشه. ونواح وهو العالم المنظور هيئته هيئة جبار ذي أربعة أجنحة منتشرة. ولكل من هذه الأرباب ربة أنثى إشارة إلى كثرة الأولاد والذراري. ثم ترد من أسفل صور القمر والشمس والسيارات الخمس(6/7)
والكواكب وفي هواء بلاد الكلدان الشفاف يضيء سناها إضاءة لم نعهدها فتتلألأ كالأرباب. وقد أقام الكلدانيون معابدهم باسم هذه الأرباب وما هي في الحقيقة إلا مراصد يتمكن منها المتعبد من مراقبة سير الأفلاك.
علم التنجيم - ذهب الكهنة إلى أن هذه الكواكب أرباب عظيمة تعمل عملها في حياة الإنسان. فكل امرئ يولد في الدنيا في طالع كوكب من الكواكب فيتأتى التنبؤ بسعده إذا علم الكوكب الذي ولد في طالعه. ومن هنا نشأ علم التنجيم والفأل فما يحدث في السماء علامة على ما سيحدث على الأرض. فالنجمة المذنبة مثلاً تنبئ بحدوث ثورة. ويعتقد كهنة الكلدانيين أنهم إذا رصدوا القبة الزرقاء وسياراتها يتنبأون بالحوادث وهذا أصل التنجيم.
علم السحر - للكلدان ضرب من الرقى والطلسمات يدمدمون بها لطرد الأرواح أو استحضارها. وهذه العادة من بقايا ديانة التورانيين وهي أصل السحر. نشأ علم السحر والتنجيم في بلاد الكلدانيين وانتشر في أفق المملكة الرومانية ثم تعداها إلى بلاد أوربا. عرف ذلك من تتبع القوانين السحرية في القرن السادس عشر وكان فيها إذ ذاك كلمات آشورية محرفة.
العلوم - نشأت علوم النجوم في بلاد الكلدان فمنها عرفنا منطقة البروج وتألف الأسبوع من سبعة أيام إكراماً للسيارات السبع وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً واليوم إلى أربعة وعشرين ساعة والساعة إلى ستين دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية. وعنهم أخذنا طريقة الأوزان والمكاييل محسوبة على مقياس الطول مما ألف بالاستعمال عند الشعوب القديمة كافة.
الصنائع
علم عقود الأبنية - لا نعرف صنائع الكلدانيين حق معرفتها إذ قد سجل العفاء على معاهدهم. وقد حذا أهل الصنائع من الآشوريين ممن رأينا صنائعهم حذو الكلدانيين فصح الحكم على المملكتين جملة واحدة. كان الآشوريون يبنون كالكلدانيين بآجر مجفف بالشمس ويغشون ظواهر الأبنية بالأحجار.
القصور - أقام الكلدانيون قصورهم على آكام صناعية جعلوها واطئة مسطحة تشبه سطوحاً كبيرة واقتضى جعل العلالي والغرف ضيقة واطئة واكتفى بتطويلها كثيراً لأن(6/8)
الآجر لم يكن لينفع في بناء القباب المنبسطة العالية. فالقصر الآشوري يشبه سلسلة أروقة ودهاليز. والسقوف سطوح ممتدة ذات شرفات وفي الباب ثيران ضخمة مجنحة على هيئة الإنسان. والجدران مغشاة من الداخل تارة بروافد من الخشب النفيس وطوراً من الآجر المزين بالمينا وأخرى بصفائح من الرخام الأبيض المنقوش وآنات تزدان الغرف بالصور ويحلى الأثاث بالترصيع البديع.
النقش - يعجب المرء من نقوش الصور الآشورية خاصة ومن المحقق أن التماثيل نادرة ولا إتقان فيها لان النحاتين يؤثرون نحت صفائح كبيرة من الرخام ونقوش ناتئة تشبه الصور ويرسمون مشاهد لا نظام فيها أحياناً وحروباً وصيوداً وحصارات مدن واحتفالات يخرج الملك بها في موكب حفل وهناك تتجلى التفاصيل الدقيقة. فترى بنات الخدام الموكلين بطعام الملك وزمر العملة يبنون له بلاطه والحدائق والحقول والغدران والأسماك في الماء والطيور ترفرف على وكناتها أو تتطاير من شجرة إلى أخرى. وترى صور الكبراء من جوانب وجوههم لان أهل الصناعة ما عرفوا تصويرها من الأمام. ولكنك تقرأ في سحناتهم الحياة والشرف. وتظهر الحيوانات في الأحايين وخصوصاً في الرسوم البارزة في الصيد وفي العادة أن تنقل نقلاً حقيقياً مدهشاً. وكان الآشوريون يتأملون الطبيعة ويرسمونها أصح رسم وبهذا تعرف قيمة صنائعهم حتى أن اليونان اقتدوا بمذهبهم في الصنائع بأن قلدوا النقوش الآشورية ففاقوا مقلديهم وليس في الأمم حتى ولا اليونان أنفسهم من أحسنوا تصوير الحيوانات كالآشوريين.(6/9)
حسنات القرن الماضي وسيئاته
معربة عن الفرنسية
من المعلوم أن حب البذخ قد وجد في كل عصر من عصور العالم وتواريخ الأمم القديمة طافحة بالأمثلة الكثيرة من ذلك ولكنه كان أبداً سبب الشقاء العام والخاص وتأثيره في هذه القرون الحديثة أدهى وأمر. فقد كان البذخ في القرون السالفة من شأن طبقات الأشراف الكبراء أما في القرن التاسع عشر فأصاب الطبقة الوسطى من الناس تلك الطبقة التي نالت ما نالت بفضل ما خولت من الامتيازات. وهذه الطبقة على كثرة عددها من أشد الطبقات قرباً من الطبقة السافلة وأكثرها بها اختلاطاً ولذلك أصاب هذه أيضاً من ذاك المرض شدة، وبرحت بها تباريح التفخل والتبرج. ومن الأسف أن آفة التظاهر باليسار مازالت يتفاقم شرها ويعظم ضرها من حين إلى آخر وهي من الجراحات الاجتماعية التي هاجمت الطبقات الميسورة والطبقات المعسورة معاً. فقد اعتدنا أن نتخذ من الظل نوراً ومن الظواهر حقائق حتى تضطر الحقيقة أن تكتسي بين أظهرنا في الأحايين رداءاً مموهاً من الكذب للوصول إلى الغاية تنشدها.
وما دام العلم لم يعم سواد الشعوب وطبقة العملة لا تهديها المعارف إلى وجه مصالحها الحقيقية فالميدان رحب لأهل المطامع ممن يستخدمون البذخ آلة لإضلال الرأي العام فيعمدون إلى طرق غريبة في الكسب والانتفاع ومنها أشغال البورصة والمضاربات. وسرها قائم بالتأثير في أفكار الرجال بإيجاد الثقة وعدمها في بعض الأحوال على حسب أغراضهم وهم يسيئون استعمال الثقة العامة بإشاعات كاذبة يلفقونها ليغتنوا فيكونوا عالة على ما اقتصده ألوف من البيوت المسكينة وأنت عارف بنتائج أشغال البورصة في الآداب العامة فإن زيادة المالية على هذا النحو تضعف الإحساس وتصد الذكاء عن سننه وغايته الحقيقية وتقتل النشاط على العمل. ويسود أعظم نجاح باهر في الصناعات العادية في عيون أصحابها في جانب الوعود الخلابة التي يعدهم بها القائمون على هذه التجارة. ثم أن أمثال هذه الثروات السريعة الحصول تنبه طمع من كانوا يقنعون من قبل بثمرات أعمالهم أو أملاكهم فيأخذهم دوار الربح فيتدهورون في هذه المضاربة المخطرة فيؤدي ذلك إلى خراب ثروات عديدة وتجلب المصائب على أسرات كثيرة. وما ننس لا ننس الأزمات(6/10)
المالية التي وقعت منذ ثلاثين سنة في فينا وبرلين ولندرا وحدث عنها إفلاس عظيم في الطبقات العالية والوسطى مما يثبت نتائج البورصة السيئة وما هي إلا بنت البذخ والزهو الجنوني في عصرنا.
ولقد حدت الحال بالأمم أن ترقي درجة التعليم العام بداعي الجهاد المستمر العظيم في معترك الحياة الحاضرة فأخذوا يملأون رؤوس التلامذة الذين يتأهلون للصناعات العلمية والأدبية بأنواع المعارف فتضيق عن استيعابها ولا تقوى أجسادهم على تحمل ما ينهال عليها ويصرف من دقائقها فيصابون بأمراض طبيعية وعقلية وتضعف تراكيبهم عن تتميم وظائفها وتضطرب تغذيتهم والمساعدات على تراكيبهم النامية.
والأمم التي تزعم أنها في مقدمة الحضارة والقيمة على أسبابها هي التي تجتهد كل الجهاد في هذا المعنى فتنفق النفقات الطائلة لتزيد في ترقية الشبان وإنارة عقولهم وزيادة عدد المدارس وتحسين مواد التعليم العالي والوسط والابتدائي. ولا يفوتنا النظر زيادة على ما ذكر من القوانين الفيسيولوجية (المختصة بوظائف الأعضاء) أن نفوذ القوى العقلية متوقف على كمية الأكسجين التي يحملها الدم إلى الدماغ وعلى الهواء الصافي الذي توفرت فيه مادة الأكسجين يشاركهما على تحسين مجرى الرئة وهو السبب الضروري لسلامة الوظائف العقلية. فإذا بطل هذا الشرط وأضيف إليه تهييج القوى العصبية الناتج من شغل عقلي طويل وخصوصاً في بعض التراكيب والأعمار يضعف مجرى الدم ويؤدي بالتدريج إلى الفقر الدموي الدماغي وإلى إنهاك القوة الفكرية ويبدأ ذلك بضعف الذاكرة وعدم الإمكان في تحديق النظر في الموضوعات المهمة والشبان الذين يتعاطون العلم يصابون غالباً بسوس الأسنان وقد ثبت لأحد أطباء برلين من إحصاء خمس سنين أن ثمانين في المائة ممن تقدموا ليكونوا متطوعين في الجيش مدة سنة لم يكونوا صالحين للخدمة.
والفتيات اللاتي ينصرفن إلى الأشغال العقلية يصبن أيضاً بما يصاب به الفتيان من ضعف الدم والأمراض العصبية المختلفة وخصوصاً في سن البلوغ لان حالة المجتمع الحديث أصبحت تقضي على الفتيات أن ينصرفن جملة إلى الكد وإنهاك القوى للتغلب على رنق الحياة ومنهن من لا يجتهدن على هذا النحو إلا مجاراة لرغائب والداتهن أو عملاً بما يقتضيه التقليد. وإذا كان معظمهن عائشات غالباً في المحال المزدحمة ولا تسمح لهن(6/11)
أحوالهن المالية بالعيش أبداً في أحياء معرضة للهواء وبيوت توفرت فيها شرط الصحة على بابها فقد أسفر ذلك عن انقطاع الحواس التنفسية عن بلوغ حدها الأعلى من الانبعاث لقلة التمرين الوظائفي مما يؤدي إلى بشاعة كثيرة ويفسد الأوضاع الجسدية ويفضي إلى الحسر (ضعف البصر) وانحراف العمود الفقري الشائعين بين الفتيان والفتيات في خلا سن البلوغ.
وقصارى القول فقد أحدث القرن التاسع عشر تأثيراً في إصلاح الخيرات المادية والأدبية والعقلية في جميع طبقات المجتمع عامة وفي طبقات العملة خاصة فقلت قيمة ما أحدث وكلفت فوائده أهل الأجيال الحاضرة والمستقبلة كثيراً إذ لم يترك في الوجود غير كثير من المسائل الاجتماعية دون أن يحلها. وسيبقى الجهاد أبداً قائماً على ساق وقدم بين نصراء الطريقة القديمة والمجاهدين لتحقيق نياتهم في الارتقاء الحديث. بين رأس المال والعلم. بين حقوق المجموع وحقوق الأفراد.
ومن الأسف أنا لا نزال في دور التجارب وإنا لنتطال إلى بلوغ عقل الإنسان مرتبة الكمال وهذا لا يتأتى إلا بالإنفاق من سائر التركيب النامي الذي يضعف فيعمل على الدماغ فتختلف الاضطرابات باختلاف القوى العصبية والأشغال العقلية والجنس والسن. وإفراط الشبان في الأشغال العقلية مضافاً إلى الاستكثار من ضروب الشهوات في سن الرجولية هو الداعي عند بعضهم إلى استنزاف مادة القوى ونفوذها العقلي ويؤثر في بعضهم من الجهاد في الحياة ومن مختلف ضروب الأطماع في نيل المراتب والمناصب الاجتماعية ويكون سببها عند بعضهم بذل قوى الأفراد الطبيعية والأدبية بأضعاف التركيب النامي بالاضطرابات والهيجان من كل ضرب.
والحق يقال أن الإنسان قد تعلم بفضل ارتقاء الحضارة الحديثة طرق الوقاية من كثير من الأمراض بالعمل بالقوانين الفيسيولوجية أي بواسطة الأسباب الصحية في أعمال الحياة الخاصة والعامة. ولا يفوتنا أن تلك القواعد كانت في الأزمان الغابرة مجهولة فكان الضعفاء عرضة للهلاك بداعي قلة أسباب مدافعة العناصر العادية التي تتربص بهم الدوائر على حين فاز الأقوياء بما أرادوا من المنعة والوقاية وحيوا حياة طيبة عمروا فيها إلى أن تمتعوا بأولاد وبنين. هذا وقد توفرت اليوم دور الصحة للفقراء ومستشفيات السل والمصاح(6/12)
والملاجئ والبيمارستانات لليتامى والعميان والصم البكم والمعتوهين والبله. وبالجملة فإن المجتمع يؤوي في حجره الفقراء والمرضى والبله والضعفاء وكل من أعوزتهم القوة وخانتهم أسباب الجهاد. وقد صار من لم يعيشوا من قبل إلا أياماً في حالة حسنة يعيشون معها ويكبرون ويتبسطون في هذه البيئة الصناعية كالنبات يعيش في بيت من الزجاج بمأمن من الأحداث الجوية وربما ولدوا أولاداً ضعافاً مثلهم وإن كانوا على جانب من الذكاء ولكنهم حرموا من الحدة الطبيعية واحتاجوا للوسائط الصناعية لينجحوا وقد ورثوا الأجيال اللاحقة تلك المفسدات العضوية التي لا تؤهلهم لبلوغ الأجل الأوسط من الحياة البشرية أو تعدهم للأمراض المهلكة التي تشتد وطأتها على الجنس الإنساني وخصوصاً في مراكز السكان الكبرى.
وغير خاف أن نماء التجارة والصناعة في النصف الأخير من هذا القرن لم ينشأ عنه فساد هواء المدن بازدحام الناس في أنحائها وبما ينبعث من قاذوراتهم وعفنهم بل قد نتج منه شقاء الطبقة النازلة وانتشار الفجور والفساد والجرائم. وما من أحد يجهل أن السوقه في المدن الكبرى يحتالون أبداً للانتفاع من المفاسد البشرية وأماكن اللهو مثل محال القهوة والمجتمعات ودور اللعب والحانات والمواخير حيث ينفق بعضهم في اللعب ما اقتصده وآخرون ينفقونه في معاقرة المشروبات الروحية وفريق منهم يأتون في ناديهم المنكر وهم لا يتناهون. وأنت ترى بهذا أن حياة العيال المحبوبة آخذة بالضعف من حين إلى آخر كما أن التعلق بالبؤرة (المسكن) الأهلية آخذ بالفتور والانحلال. ولم تحدث محال القهوة والمجتمعات العامة إلا لضرورة اجتماعية ولتكون معهداً يختلف إليه التاجر والأديب في الأحايين وينتابه العامل في آونة عطلته. وقد استعيض عن الأخلاق والصلات البسيطة التي عهدت في الأزمان السالفة بغيرها من الأخلاق والعادات ولكنها نكدة مخالفة للطبيعة وأجدر بها أن تكون مكسوة بالطلاء اللامع من الظواهر من أن تكون لها حقيقة لا شائبة فيها.(6/13)
حكم منتخبة من روايات شكسبير
بارك الله في من يجعلون خيراً من الشرّ وأصدقاء من الأعداء
الفاضلُ جسور والصالحُ لا يكون جباناً البتة
كثيراً ما ننقض ما نصمم عليه فما القصد إلا عبد الذاكرة
في مصائب الزمان امتحان ثابت للرجال
لا يمكن أن نكون كلنا سادة ولا يمكن أن يطاع كل السادات طاعةً صادقة (إذا أردت أن تطاع فسل ما يستطاع)
أنقى كنزٍ يأتي به هذا الدهر الزائل هو الصيت النقيُّ فإذا فقد لا يكون الإنسان إلا تراباً مطلياً بالذهب أو طيناً مصبوغاً
الجبان يموت مرات كثيرة قبل أن يأتيه الموت وأما الباسل فلا يذوق الموت إلا مرة واحدة
(وإذا لم يكن من الموت بدٌّ ... فمن العجز أن تموت جبانا)
مما أوقن به أنه ليس للإنسان أن يقنط بتة بل عليه أن يجد وراء خير الأمور رغم ما يعارضه من أصعب الصعاب
ما الحياة حتى نئن ولم هذا الضجيج
هل أصابني جنون حتى أربي في نفسي ما ليس له من الثمر إلا المر وأني لأقلعنه من صدري ولو تأصل في قلبي
الرجل الشريف يوثق به ثقةً تامة
قيل أن الحبّ طفل لأنه كثيراً ما يخدع في ما ينتخبهُ
لا يحتاج الحق إلى التلوين لان لونه ثابت ولا يحتاج الجمال إلى زينة الطلاء فإن الأحسن هو الأحسن بلا مزج أصلاً
كن عظيماً في الإيمان وقوياً في الصبر على صروف الزمان
إذا كنت أميناً يقاومك الأراذل بأجمعهم
إذا كانت الأكذوبة محضة فمقابلتها ومقاومتها أمر سهل ولكن إذا كان فيها شيء من الصدق فقتالها عسر
للذة والنقمة آذان صماء لا تسمع الحكم الصحيح
الغلبة غلبتان إذا رجع الغالب وعدد جيشه وافر(6/14)
الموت أمر حقير ولكنه يفني ويل الحياة
ما الخير والشر إلا ما يظنه الإنسان خيراً أو شراً
إذا لم نستفد من مجرى الزمان ذهبت مساعينا ضياعاً
يفوقنا أولادنا بحذقهم كما تجاوزنا نحن حذق آبائنا فإننا عرفنا شيئاً وغابت عنا أشياء
الناس لا يعتقدون بتوبة أحدٍ وهذا الحكم مصيبٌ غالباً
لا فرق إن كانت أكياسنا ملآنة أو أثوابنا حقيرة فإنما العقل هو الذي يغني (لا شيء عظيم في الدنيا إلا الإنسان ولا شيء أعظم في الإنسان إلا العقل)
الرجاء الصحيح سريع الجري يطير بجناحي الخطاف ويصير الملوك آلهة وما دونهم من الناس ملوكاً
إذا وثق الإنسان بنفسه ثقة كاملة وكانت النفس كفءً فذلك من الأعمال العظيمة
الرجل يحب في شبابه من الطعام ما لا يطيقه في شيخوخته
إن نفس الكتاب الذي كتبت فيه خطاياي هو نفسي
يخسر الرجال شهرتهم إذا لم يراعوها على نحو ما تخسر الجواهر مجدها إذا أهملت
أَعنِ الفقير وأعضد المسكين وكلما تقدمت الحياة زد إقداماً وإحساناً
إذا عبس الجو توعد بهياج قريب
الرجل الشريف مفطور على الصلاح والكرم والفضل والصفات الحسنة
لا يعلم المرء ماذا تأتي به كلمةُ السوء من تسميم الحب
الزهور الجميلة بطيئة الظهور والعشب البري سريع
ما الجمال الأخير باطل مشتبه وضياء لامع سريع الزوال وزهرة تذبل وتموت
أوصيك أن تطرح عنك حب الرياسة فقد سقط الملائكة بهذه الخطيئة
مادامت الأمور مجهولة وجب أن نحسب حساً بالأفظع ما يمكن أن يصيبنا
عارٌ على من يضرب ويقتل لذنوب هو يحبها ويفعلها
(لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيمُ)
كثيراً ما يقنع صمت البراءة النقية حيث يخيب الكلام
أدعُ الله فإنهُ السميع المجيب وهو أقرب إليك من حبل الوريد(6/15)
الرجل الحكيم لا يجلس ويندب خسارته أبداً ولكنه يجدُّ بسرور في إصلاح ما ناله من الضرر
الضربات الكثيرة ولو بفأس صغيرة تقطع أعظم الأشجار وتطرحها إلى الأرض
إن نفس عيوننا كأحكامنا عمياء أحياناً
قيمة العطايا برمتها تابعة لمقام المعطي
من موجبات السرور أن يعمل الإنسان ما يجب متى سار في طريق مظلمة
من الحكمة أن يعلم أشر الواقع
إذا كنت معنياً بحياتك فاطرد الغفلة عنك وكن حذراً متيقظاً
مهما كانت حالة الإنسان حسنة إذا لم يكن راضياً فحياته صائرة إلى غاية الشقاء
(لكل شيء مدة وتنقضي ... ما غلب الأيام إلا من رضي)
بادر إلى ما يتيسر من الوسائل ولا تهملها
(ولا أوفر شغل اليوم عن كسل ... إلى غدٍ إن يوم العاجزين غد)
شر الرياح ما لا خير فيه لأحد (مصائب قوم عند قوم فوائد)
بيروت
يوحنا ورتبات(6/16)
شبيبة عظيمين
ملخصة عن الإنكليزية
كان غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا في صباه كما هو الآن خطيباً مصقعاً ولسنا مفوهاً لا تسنح له فرصة كلام إلا وتجد لسانه في النطق يسابق الكهرباء في السريان ولم يتخذ لمران قوة بيانه وفصاحة لسانه إلا أعقد المسائل السياسية وأهمها فلم يسمع منه في شبيبته سوى قراع الكتائب والسيف والمدفع وطبل الحرب وميدان الوغى. زادت حميته وقويت حجته وشكيمته في عهد أبيه المسكين الذي قضى أيام ملكه على فراش المرض وبين أيدي الطبيب والجراح ولقد نسي الابن إذ ذاك أباه ولم تأخذه عاطفة من عواطف حب الابن والده وتغلبت عليه شهوة الملك فكنت تراه في خلال مرض أبيه - وكان يقضي عليه أن يختفي عن الأنظار ويلازم فراشه في ساعاته الأخيرة ليخفف آلامه قبل أن يتجرع حمامه - لابساً ثياب الحرب ممتطياً صهوة جواده يطوف الطرق ويتنقل من بلد إلى آخر ويخطب القوم حتى قال فيه بعض كبار الساسة على ذاك العهد أن هذا الأمير كبعض الممثلين له شغف باللباس والكلام ولو كان من أبناء فرنسا لعذرناه على الطيش والحمق.
ومن حسن حظ ألمانيا أن قيصرها لم يكن رجل قول بل كان الفعل أقرب إلى قلبه والعمل أسهل لديه من تحريك اللسان فلما تولى الملك استبدل الفتيان والصبيان بالشيوخ والكهول فجدد بذلك حياة الإمبراطورية وقيد اسمها في سجل الدول الكبرى التي يدير دفتها الشباب وتدبر أمورها الفتوة فكأنه قدَّ من حديد أو صيغ من فولاذ لا يستقر على حال يتجول في الأرض فكأنه ملك من ملوك القرون الوسطى تقمصت نفسه في نفس غليوم.
أشتهر عن غليوم بأنه من رجال العمل ولكن شتان بين عمله وعمل غيره من الملوك وحسبنا على صدق هذا القول ما تكتبه الصحف عنه كقولها غليوم السائح وغليوم الخطيب وغليوم ينادي بأنه ملك ملوك الأرض وغليوم يؤنب أشراف مملكته ويمتدح جندها وإمبراطور ألمانيا يغير ثياب الجند وملابس رجال البلاط والقيصر غليوم يطرد بسمارك ويتفرد بالملك والسياسة وإمبراطور ألمانيا يضرب الأرض بأعدائه وإمبراطور ألمانيا الشاعر المصور المستعمر.
وقد يعجز القلم عن ذكر ما للإمبراطور من الصفات الكريمة والسجايا الفاضلة التي تميز(6/17)
الملوك عن غيرهم ومن تلك الصفات شجاعة الإمبراطور وأمانته وإصلاحه ويحكى عنه في صباه أن معلماً أراد أن يتقرب إليه في شبابه ليقربه الأمير أيام ملكه فدنا منه وأسرَّ إليه بأن الفحص سيكون في باب كذا من كتاب كذا. هذا ليجدَّ الأمير الصغير في التحصيل ويفوز على أقرانه في حلبة الامتحان ولكن شجاعة غليوم وإخلاصه عكستا آمال المعلم المتملق فإن الفتى صبر حتى جاء وقت الامتحان وتقدم بقدم ثابتة وجأش ساكن إلى لوحة الكتابة وكتب عليها يكون الامتحان في كذا كما أسرَّ إليَّ المعلم.
وكان روزفلت رئيس الولايات المتحدة في شبابه يحتقر أكثر المشتغلين معه في السياسة لعلمه بأنهم ثرثارون لا يؤثر عنهم عمل يذكروهم فئة تقول ما لا تفعل وتخاف التصريح بآرائها وأفكارها ولقد كتب في صباه كثيراً وكان أغلب ما كتبه في المسائل السياسية والحربية التي عرضت له في حياته وله بعض الكتب في التاريخ وفنون الصيد والرياضة البدنية وغيرها يصف فيها الحياة في غرب أميركا.
وكتب زهاء عشرين كتاباً في أقل من عشرين سنة. وقد ظهر أول كتاب من قلمه سنة 1882 ثم كمنت قوته الأدبية ست سنوات وأخرج بعدها في سنة 1888 رسالة كبيرة مزج فيها العلم بالسياسة وحلل فيها نظام الحكومة الجمهورية تحليلاً دقيقاً وباح بآراء مهمة جعلت له مركزاً سامياً بين أقرانه سيما وقد أفرغ في تلك الرسالة كل ما مر عليه من تجارب في ثماني سنين قضاها في وظائف الحكومة السامية ومن كتبه كتاب سير الأبطال وحياة الفكر والعمل وحياة أوليفر كرومويل وتاريخ نيويورك وقد جمعت وطبعت كلها في خمسة عشر مجلداً وله غير هذه الكتب مقالات كثيرة نشرت في المجلات الإنكليزية والأميركية.
وقد صرح روزفلت بجميع أفكاره الحرة في كتاب كبير اسمه منتهى الكمال ضمنه ما استطاع من الآراء السياسية والاجتماعية وحلَّ فيه كثيراً من المشكلات التي عرضت له في صباه وقد أظهر روزفلت بهذا الكتاب للملأ أنه هو الرجل الوحيد الذي يمكن لأمة كبيرة قوية أن تضع ثقتها فيه. ومن آرائه في هذا الكتاب أنه ليس المجرم الحقيقي هو الذي يسلب ويقتل ويكون هدفاً لسهام العقاب والقصاص إنما المجرم الحقيقي هو السياسي أو الصحافي الكبير الذي يثق به الناس وهو غادر منافق يسعى لمنفعته الخاصة والمجرم(6/18)
الحقيقي هو الغني الكبير الذي يلعب بالعدل ويعبث بالقانون ليموت ويترك بعده القناطير المقنطرة من الذهب للورثة الفاسدين. إن المجرمين الحقيقيين هم أرباب المال الذين يظلمون العمال الفقراء حقوقهم ويشربون دماءهم ويبذلون كل مرتخص وغال في سبيل الذهب ويسيرون إلى الأمام ولو فوق الجثث البشرية. وهاك شذرة من قلم الرئيس روزفلت يصف بها أرباب الملايين في أميركا قال: ليس في العالم أقبح خلقاً وإغراقاً في الدناءة وقلة الشرف من أرباب الملايين الذين ليس لهم عمل ولا غرض في الحياة يسعون إليه سوى جمع المال وحبسه عن المحتاجين والفقراء. ومن الأسف أنهم يجمعون تلك الأموال الطائلة ويحرزون ألوف الألوف من الذهب ليستعملوها في أغراض وغايات دنيئة فإن أحدهم يلعب بالأسهم المالية والشركات ويملك في يده زمام المضاربات فيفقر قوماً ويغني آخرين لمحض لذته وسروره أو يهب ابنه الجاهل مقداراً عظيماً من المال فيعيش الولد عيشة الكسل والخمول والفساد والفجور ويندفع في طلب الملاذ السافلة ويجري وراء شهواته الدنيئة أو يشتري لابنته زوجاً شريفاً فقيراً يلقب (بلورد) أو (دوق) لتكون (ليدي) أو (دوقة) وفي بعض الأحيان يؤسس مدرسة أو يجري رزقاً على كنيسة فينسى الناس ذنوبه الكبيرة بتلك الحسنة الصغيرة ويغضون الطرف عن عيوبه ويغفرون له خطاياه ويحسبون أن هذا العمل الحقير الخيري الذي تم على يده يبرر أعماله السابقة واللاحقة بأسرها. هذا الرجل هو الذي لا يحفل بالعمال الذين يموتون من أجله ويقتلون أنفسهم في معامله ومناجمه وهو يسلب حقوقهم ويهددهم بالطرد إذا شكوا إليه بثهم وهمهم وكلما أمكنه نقص من أجورهم وزاد ساعات عملهم وإذا سألته الحكومة في ذلك هزأ بها وسخر منها ومن دستورها وقوانينها. هذا الرجل خطر دائم على الحكومة والأمة لأنه يرى بعينه الفساد ولا يمد يده للإصلاح ويسمع بأذنه أخبار الرشوة المنتشرة بين الحكام والقضاة ولا يحرك لسانه بكلمة تعود بالنفع على وطنه الذي ينتمي إليه والجمهورية التي تحميه بل يجلس ويضحك كأنه من الدنيا في ملعب ولا يحس بأنه فرد من هيئة حية نامية عن الواجب الذي عليه نحوها قبل نفسه هذا هو المثري الأميركي الذي يحترمه الناس ويبجلونه ويشيرون إليه بأطراف البنان ويثنون عليه قائلين أنه من أرباب المال والأعمال.
وإنك لترى في أميركا غير تلك العجول الذهبية وهم أكثر عدداً ولكنهم أقل خطراً وأعني(6/19)
بهم أصحاب الأفكار المادية المحضة الذين لا يمدون يدهم إلى عمل إلا إذا علموا أنهم ينالون منه كسباً ولا يستحسنون شيئاً إلا إذا عرفوا أنه مال ومن المال وإلى المال. ولا يعرفون أن شاعراً واحداً يفيد الأمة بعرائس أفكاره أكثر ألف مرة من صاحب معمل لسبك الفولاذ في الولايات المتحدة ولا يعرفون أنه مهما زادت التجارة وكثرت الأرزاق ولت الواردات عن الصادرات لا تعوقنا تلك الأمور شيئاً عن الفضيلة الضائعة ولا يمكننا بها أن نحل المسائل الاجتماعية الهائلة التي تشغل الآن جميع الأمم المتمدنة ويقولون بأن التجارة والأملاك أقدس جانباً وأغلى ثمناً من الحياة والشرف والمجد بما لا يقدر على أن هؤلاء معذورون لأنهم لا يحسون بعاطفة كبيرة ولا ينبض في جسمهم العرق الذي ينبض في أجسام أهل الفضل.
القاهرة
محمد لطفي جمعة(6/20)
تحية حبيب
حي بلاد الشمال ... خلاق تلك المناظرْ
يا ميُّ أين العهودُ ... هلا ولاك يعودُ=قد طال منكِ الصدودُ
إني أسيرُ الغرام ... صريعُ لطف الحرائرْ
بالله رقي لضعفي ... يا خيرُ محبوبَ واشفي=سقام مضنىً بطرفِ
يخافُ وقعَ النبالِ ... ممن تفوق الجآذرْ
إن جال يوماً بفكركْ ... خيالُ مضنىً بذكركْ=اسقيه من مسك سؤركْ
نفسي أتتْ في خيالي ... زارتْ وعقلك فاكرْ
إن كنتِ تمشين صبحاً ... بالروض والزهر أوحى=إليك معنى ونفحا
فذا شعوري وحالي ... بدا بزي الأزاهرْ
كمْ بتُّ أبكي لبعدي ... وما البكاء ليجدي=وكلما هاج وجدي
من لطف أهل الدلال ... خشيت فضح السرائر
كنا وكان اللقاء ... والشام فيها الدواء=حتى دهانا القضاء
أيام صفو الليالي ... بالبين والكل ناكر
لكن بعد الحبائب ... يهيج ما في الترائب=فالقلب يغدو يخاطب
قلب المحب الموالي ... على ربوع الخواطر
رودي مهب الجنوب ... فيه سلام الحبيب=ولن يخف نحيبي
حتى أرى للوصال ... من الشمال البشائر
بيروت
عبد الرحمن شهبندر(6/21)
عود الشباب
كانت العقول في أوربا قبل انتشار العلوم والفنون بين خاصتها وعامتها أشبه بالعقول الآن في معظم البلاد العربية تستهويها الخرافات والخيالات، وتستغويها الأباطيل والترهات، فيتلقى المرء فكره عن أمه ومرضعته، أو عن خادمه وخادمته، أو عن محيطه وبيئته، وكلها عوامل جهل مركب، وأدوات إضلال وانحلال. ومن ذلك ما كان القوم يذهبون إليه من المذاهب في إطالة الأعمار ويتناولون من أجله الأشربة والمعاجين، ويعمدون إلى اتخاذه من أساليب تنتهي بالموت لا بالحياة. ولا يزال فينا قسم عظيم من أهل التخريف، يعتقدون هذا الاعتقاد السخيف، ويعملون بوصفات وردت في بعض كتب الطب القديم التي ما كانت قط عند الثقات معمولاً بها أو يذكرها العجائز والشيوخ وينقلونها خلفاً عن سلف.
وقد بحث هذا الشهر أحد علماء الإفرنج في أسرار الشبيبة فقال ما تعريبه: غصت الأجيال القديمة بالأساليب الغريبة لحفظ الشبيبة وكان المفكرون يصرفون من ذكائهم وأعمالهم شطراً كبيراً إرادة تمديد حدود الحياة البشرية. وما من حكيم إلا واهتدى إلى مذاهب في هذا الباب. وقد حوى علم التنجيم والكيمياء والطب وما يتصرف عليها من أنواع هذه الأدوية ألواناً وضروباً.
نشر أحد أطباء الألمان في القرن الثامن عشر كتاباً رأى فيه أن خير ما يبعد الهرم ويبقي على الشباب ما استعمله النبي داود في شيخوخته قائلاً أن الجسم المثقل بالأيام يستفيد من الاحتكاك بالجسم القريب العهد بالولادة أي الجسم الهرم البالي من الجسم الفتي الشديد. وقد عمد إلى استعمال هذا الدواء كثير من أهل الحكمة والفلسفة ومنهم غاليين في القديم وهو عالم التشريح اليوناني المناقض لأبقراط في مبادئه الطبية وممن قال به في العهد الحديث روجر باكون الراهب العالم الإنكليزي الكبير المتوفى سنة 1294. ذلك لأنهم زعموا أن ريح الشباب تعدي الشيوخ والأجسام السليمة الجيدة التركيب ولاسيما الغضة الإهاب تزيد الشيوخ والضعفاء قوة لما ينبعث منهم من الروائح الطيبة والأبخرة السليمة الشهية ولما فيهم من المزايا والقوة.
وعندما بلغ داود على ما في الكتاب الأول من سفر الملوك السبعين من عمره اقترح عليه خدمته أن يتزوج فتاة فانتفع بذلك. وارتأى كثير من الأطباء ومنهم كوهزن أن نفس الفتاة من أنفع الأمور للشيخ الهمّ قائلاً أن نفس القوي يقوّي كما أن نفس المسلول يؤذي. وما(6/22)
على من شك في هذا إلا أن يذكر أن رائحة الزهور البلسمية تنعش منا الجسد وتحفنا بالصحة والبهجة. وتوسع كوهزن فذكر أمثلة كثيرة من رجال أوشكوا أن يقضوا نحبهم فأعيدوا إلى الحياة بما نفخ فيهم حاشيتهم من روحهم. وأورد بوريللي الفسيولوجي الطلياني المتوفى سنة 1679 وتاكيوس وغيرهم أسماء من أشرفوا على الموت وردت إليهم قواهم بما نفخ أصحابهم الصحاح الأجسام في أفواههم. وكذلك الشأن في استنشاق عرق الفتاة.
قال كوهزن حدث أن فتى تزوج بعجوزة فعاد إليها شبابها ورجعت إليها قوتها وصحتها على حين كان زوجها يذبل كل يوم كالزهرة ويقترب من الشيخوخة فتراً وشبراً. وهكذا بلغ كورجياس دي ليونتيوم المائة والثماني سنين واناف ايزوكراتس الفيلسوف الآثيني على المائة سنة. دع عنك الفيلسوف زينون وتيوفراست وغيرهما ممن أعجب معاصروهم بقوتهم ونضرة وجوههم وقد نسب لويز كورنارو الطبيب البندقي المشهور جودة صحته في شيخوخته إلى بطانته بيد أن الباحثين لم يهتدوا إلى ضرر أنفاس الناس شباباً كان أصحابها أو شيباً إلا بعد أن ثبت ذلك لطبيبين نطاسيين سنة 1887 وأكدا أن الأنفاس سم ناقع وأن هناك طرقاً ثانية لعود الصحة الذاهبة والنشاط الضائع.
ولقد كان لأطباء اليهود والرومانيين كافة طرق خاصة لإطالة الأعمار وكانت أدويتهم في هذا الشأن تختلف باختلاف الزمان والمكان كأن يحتوي بعضها على دهن الأسد وجلد الحرباء ودم الأطفال والبالغين ولكن هذه الأدوية لم يكن لها عمل في الأجسام غير إلقاء الحرارة فيها وبقي العمل بهذه الأدوية إلى القرن السابع عشر والثامن عشر أيام أخذ الطب والعلم يرتقيان وانقلب الطب ظهراً لبطن ولم يعد يقبل النسبة بين ماضيه وحاضره.
وهناك أنواع كثيرة من المقويات والمنعشات وتكثير الحياة الذي كان يستعمله القدماء كالا كير الذي استعمله أحد أطباء السويد وبلغ به المائة والسبع سنين من عمره فأعتقد بنفعه كثيرون. والوسواس والإغراء ينفعان في مثل هذه الأحوال ولطالما أعانا أصحابهما على ما يريدون.
نشر الكتاب في الغرب منذ تسعة قرون كتباً ورسائل في معنى إطالة الحياة وعددوا من انتفع بمقوياتهم ووصفاتهم من كبار الرجال ولم يعرف اليوم كيفية تحضير تلك المقويات وبقيت أخبار معظمهما مجردة لا مستند لها.(6/23)
ولقد مضى على تأصل هذه الأوهام عشرون قرناً ولا يزال إلى يوم الناس هذا من يعتقد بأن العود إلى الشباب ميسور وأن لتلك الأدوية أثراً في النفع وما برحت أندية العلم تشتغل وتبحث وكل سنة نسمع باختراع جديد لطول الحياة قد ينجع بعضها بعض الشيء وقد تكون فائدتها أقصر من عمر الكرام. وما ننس لا ننس تجارب المجمع العلمي في لندن واللائحة التي تلاها الدكتور فبير وأعمال الأستاذ متشنكوف التي نشرها مؤخراً وأعمال كثير من الفسيولوجيين والأطباء والبيولوجيين وكلها ترمي إلى إلغاء الشيخوخة من سجل الوجود. وقد نشر منذ حين أستاذان من شيكاغو بحثاً ادعيا فيه أنهما يعيدان الشباب بالحقن بمصل عجلة ولم يثق الناس بأقوالهما.
وهنا نغفل الأسباب التي تنهك صحة الشباب وتسارع بالهرم إلى الجسم ويقف على الذرائع التي تنتج النتائج السيئة فنقول: حاول كثير من علماء منافع الأعضاء أن يعينوا المقدار الضروري من الغذاء للإنسان في أدوار حياته واختلفت مناحيهم في ذلك إلا أن معظمهم في الغالب قد قدروا ما يلزمه زيادة عن الحاجة. ومن رأي التواتير أنه يكفي البالغ أن يتناول كل يوم 123 غراماً من الزلال (البومين) و125 من الدهن و400 من الهدروكربون (المواد التي تولد الحرارة). وقال رايك أنه يكفيه 100 و100 و240. وقال مولشخوت 130 و40 و340. وقال فوستر 631 و68 و494. وقال ارمند غوتيه أنه يكفيه 100 غرام من الزلال مضافة إلى 65 من الدهن و410 غرامات من الهدروكربون.
واللحم يحتوي على 20 في المائة من الزلال فيكفي الإنسان أقل من رطل (مصري) من اللحم في اليوم لإيجاد الزلال اللازم ولا ينبغي أن يستعمل مع اللحم شيء آخر من المغذيات كالبيض والجبن وغيرهما. وأنت ترى فيما تقدم غلواً وإسرافاً. وفي الأبحاث الأخيرة أنه لا يكفي الجسم 40 غراماً من الزلال. وقال غيرهم من أكابر الأطباء المعاصرين أن 5 إلى 7 غرامات من الآزوت وهي توجد في 30 إلى 45 غراماً من الزلال تحفظ قوام الصحة وتقوم بحاجة أقوى الأجسام وهذه الكمية تتيسر بتناول بعض الأغذية النباتية وقد جرب أحد الأطباء فتناول كمية من الآزوت من 6 إلى 7 فكان من ذلك أن تحسنت صحته كثيراً وشفي من داء المفاصل الذي كان أصيب به منذ سنين كما ثبت نفع ذلك لغيره من أصدقائه بالفعل. وخفف ثمانية من طلبة كلية يال الجامعة في أميركا(6/24)
طعامهم فانتهت بهم الحال أن اقتصروا على 50 غراماً من الزلال وهم ممن اعتادوا الرياضة البدنية العنيفة مثل ركوب الخيل والبحر والصيد وغيرها فجادت صحتهم أيما جودة.
وارتأى أحد المتطببين في باريس أن إملاء المعدة بالطعام وهو مما عمت به البلوى بين الناس كلهم إجمالاً لا ينتج إلا الضرر فاختار لمن يطبهم الصيام - عملاً بالمأثور صوموا تصحوا - وقد جرب بنفسه فعل الامتناع عن الطعام مرات كثيرة فأسفر عن نجاح بين وثبتت لمرضاه فائدة الإقلال من الطعام بل الامتناع عنه في الأحيان.
وكذلك كان مذهب الدكتور باردت في رأيه الذي عرضه على جمعية مداواة الأمراض الباريسية وأثبت خطأ قدماء الأطباء في كمية الغذاء المقتضي بزعمهم وقال بأن حواسنا تسمم بالإكثار من الغذاء ذاك الإكثار الذي يجلب لا محالة أمراضاً عضالة وأوصاباً كثيرة.
ألا وإن الإفراط في تعاطي المشروبات والغذاء ليسبب عدة أمراض يكون من مجموعها سرعة الشيخوخة والهرم. ويا ما أشد هول الشره على الأجسام فهو خطيئة أصلية ينبغي تطهير الأرض منها وقلما نفكر معاشر البشر فيه على أن الطبيعة تعاقبنا من أجله عقوبات شديدة وتكافئنا فيه فلا نرعوي. متى جاء اليوم الذي يقتنع فيه الناس ببلغة من العيش وسداد من عوز ويقتصرون من الطعام على ما ينفع ولا يثقل المعد بشر الصحة والشباب بالقوة.
ولقد أبان كثير من نطس الأطباء في كلية باريس الطبية أمثال هذه الملاحظات وأبان بعضهم الأضرار التي تنبعث من إكراه الأطفال على إطعامهم كثيراً. وحال الجسم في إثقاله بالأطعمة والزلال كحال آلة تجعل فيها كمتة من الزيت تفيض عن حاجتها فإنها تنتهي بالوقوف عن الجري على قانونها المعتاد وكذلك جسم الإنسان إذا أفضت عليه ما لا يحتمله ويكفيه أقل منه.
وبعد فقد أصيبت اليوم الطبقة النازلة من الناس بنقمة الأشربة الروحية بحيث يموت عشرهم منها كما أصيب أهل الطبقة العالية بالنهم والشره والإكثار من المواد الزلالية وكلتا الطبقتين الغنية والشقية تلتقيان في طريق الآلام والأوصاب ومهما يكن من الأمر فإن الحرمان من الطعام أقل ضرراً من الإفراط فيه والجوع خير من الشبع. وإني لأرى أن يكف المكثرون من الأطعمة عن تناول أكثر من اللازم ويتركوا الفائض عن حاجتهم لأولئك(6/25)
المعوزين المحاويج فيحفظون بذلك سلامتهم فينتفع بذلك الأغنياء والفقراء معاً. فإن التكافل نافع على كل حال وقد أبان علم إطالة الأعمار فوائد الغيرية الاجتماعية وبعبارة ثانية الإيثار على النفس وفائدة الإقلال والاعتدال والامتناع عن الإكثار والإقلاع عن المضار.(6/26)
من ملاهي الأندلسيين
ذكر الشقندي في رسالته تفضيل الأندلس على بر العدوة في آثارها وحضارتها وفيما خصت به كل بلد من المزايا الطبيعية والصناعية مما يشبه فرنسا لهذا العهد أنه سمع ما في اشبيلية من أصناف أدوات الطرب كالخيال والكريج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والكثيرة والفنار والزلامي والشقرة والنورة وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه والبوق وإن كان جميع هذا موجوداً في غيرها من بلاد الأندلس فإنه فيها أكثر وأوجد قال وبابدة من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة فإنهن أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدك وإخراج القرى والمرابط والمتوجه. (كذا).(6/27)
صحف منسية
شذرات حكمية
سئل أبو سليمان المنطقي لِمَ لم يصف التوحيد في الشريعة من شوائب الظنون وأمثلة الألفاظ كما صفا ذلك في الفلسفة فقال: إنا لا نظن أن كل من كان في زمان الفلاسفة بلغ غاية أفاضلهم، وعرف حقيقة أقوال متقدميهم، بل كان في القوم من رأى رأي العامة وحط إلى ما حطت إليه ولم يبن منهم كثير شيء مع قدم الزمان ولقاء المحققين الفاضلين وهذا إذا حل لا يكون قادحاً فيما نصصناه من القول في حقائق التوحيد الذي ظفر به خلصان الحكمة، وفرسان الصناعة، على أن الترجمة من لغة يونان إلى العبرانية ومن العبرانية إلى السريانية ومن السريانية إلى العربية قد أخلت بخواص المعاني في أبدان الحقائق إخلالاً لا يخفى على أحد ولو كانت معاني يونان تهجس في أنفس العرب مع بيانها الرائع، وتصرفها الواسع، وافتنانها المعجز، وسعتها المشهورة، لكانت الحكمة تصل إلينا صافية بلا شوب، وكاملة بلا نقص، ولو كنا نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم كان ذلك أيضاً ناقعاً للغليل وناهجاً للسبيل ومبلغاً إلى الحد المطلوب ولكن لابد في كل علم وعمل من بقايا لا يقدر الإنسان عليها وخفايا لا يهتدي أحد من البشر إليها وذلك للعجز الموروث عن الهيولى، والضعف الثابت في الطينة الأولى، وهذا لكي يكون الله تعالى ملاذاً للخلق ومعاذاً للعالم.
قال أبو حيان لأبي سليمان ما الفرق بين طريقة المتكلمين وبين طريقة الفلاسفة فقال ما هو ظاهر لكل ذي تمييز وعقل وفهم طريقتهم مؤسسة على مكايل اللفظ باللفظ وموازنة الشيء بالشيء إما بشهادة من العقل مدخولة وإما بغير شهادة منه البتة والاعتماد على الجدل وعلى ما يسبق إلى الحس أو يحكم به العيان أو على ما يسنح به الخاطر المركب من الحس والوهم والتخيل مع الألف والعادة والمنشأ وسائر الأعراض الذي يطول إحصاؤها ويشق الإتيان عليها وكل ذلك يتعلق بالمغالطة والتدافع وإسكات الخصم بما اتفق وإتمام القول الذي لا محصول فيه ولا مرجوع له مع بوادر لا تليق بالعلم ومع سوء أدب كثير نعم ومع قلة تأله، وسوء ديانة، وفساد دخلة، ورفض الورع بتحمله، والفلسفة أدام الله توفيقك محدودة بحدود ستة كلها تدلك على أنها بحث عن جميعها في العالم من ظهر للعين وباطن للعقل ومركب بينهما ومائل إلى حد طرفيهما على ما هو عليه واستفادة اعتبار الحق من جملته(6/28)
وتفصيله ومسموعه ومرئيه وموجوده ومعدومه من غير هوى يمال به على العقل ولا ألف تغتفر معه جناية التقليد مع أحكام العقل الاختياري وترتيب العقل الطبيعي وتحصيل ما ندَّ وانقلب من غير أن يكون أوائل ذلك موجودة حساً وعياناً وكانت محققة عقلاً وبياناً ومع أخلاق الهيئة واختيارات علوية وسياسات عقلية ومع أشياء كثيرة يطول ذكرها وتعدادها ولا تبلغ أقصى ما لها من حقها في شرفها.
ثم قال وكان شيخنا يحيى بن عدي يقول أني لأعجب كثيراً من قول أصحابنا إذا ضمنا وإياهم مجلس نحن المتكلمون ونحن أرباب الكلام والكلام لنا بنا كثر وانتشر، وصح وظهر، كأن سائر الناس لا يتكلمون أو ليسوا أهل الكلام لعلهم عند المتكلمين خرس وسكوت. أما يتكلم يا قوم الفقيه والنحوي والطبيب والمهندس والمنطقي والمنجم والطبيعي والإلهي والحديثي والصوفي قال وكان يلهج بهذا وكان يعلم أن القوم قد أحدثوا لأنفسهم أصولاً، وجعلوا ما يدعونه محمولاً عليها ومسؤولاً من عرفها وإن كانت المغالطات تجري عليهم ومن جهتهم بقصدهم مرة وبغير قصدهم أخرى قال وكان يصل هذا كثيراً بقوله والدليل على أن النحو والشعر واللغة ليس بعلم أنك لو لقيت في البادية شيخاً بدوياً قحاً محرماً لم ير حضرياً، ولا جاور أعجمياً، ولم يفارق رعية الإبل، وانتياب المناهل، وهو على قبح هيئته التي لا يشق غباره فيها أحد منا وإن كلف (كذا) فقلت له هل عندك علم قال لا: هذا وهو يسير المثل، ويقرض الشعر، ويسجع السجع البديع، ويأتي بما لو سمعه واحد من الحاضرة وعاه واتخذه أدباً، ورواه وجعله حجة، وكان يقول هذه الآداب والعلوم هي قشور الحكمة وما انتثر منها على فائت الزمان لأن القياس المقصود في هذه المواضع والدليل المدعى في هذه الأبواب معها ظل يسير من البرهان المنطقي والرمز الإلهي والإقناع الفلسفي.
قال أبو حيان رويت لأبي سليمان كلاماً لبعض المتصوفة فلم يفكه ولم يهش عنده وقال لو قلت أنا في هذه الطريقة شيئاً لقلت: الحواس مهالك، والأوهام مسالك، والعقول ممالك، فمن خلص نفسه من المهالك، قوي على المسالك، ومن قوي على المسالك، أشرف على المهالك، شرفاً يوصله المالك، قال أبو الخطاب الكاتب الشيخ هذا والله أحسن من كل ما سمع منهم فلو زدتنا منه فقال: الحواس مضلة، والأوهام مزلة، والعقل مدلة، فمن اهتدى في الأول(6/29)
وثبت في الثاني أدرك في الثالث ومن أدرك في الثالث فقد أفلح ومن ضل في الأول وزل في الثاني خاف ومن خاف في الثالث فهو من الهمج واستزاده مظهر الكاتب البغدادي فاستعفى قال: هذا حديث قوم أباعد منا على بعض المشاكهة. قلنا وما قلناه كاف فيما قصدنا فإن استتب خفت العار، واستحليت الغار، (كذا) ولكل أفق يقطفون منه، ولولا هذه اللطائف التي هي شعلة النفوس الوافرة والناقصة، لكانت الصدور تتقرح بأساً، والعقول تتحير يأساً، والأرواح تزهق كمداً، والأكباد تتفتت صمداً، فسبحان من له القدرة وهذه الخليقة، وهذه الأسرار في هذه الطريقة.(6/30)
مطبوعات ومخطوطات
المقابسات
في المؤلفين ناس رزقوا الحظ في مؤلفاتهم فانتشرت في حياتهم وبعد مماتهم انتشاراً وأي انتشار ومن هؤلاء الغزالي والماوردي وابن جرير وابن تميمية ومنهم من بقيت تواليفهم مستورة عن الأعين أحياء وأمواتاً ولم ينالوا الحظوة فيها كأن يكون من تلامذتهم أو أولادهم أو أصدقائهم من يحتفظ بما كتبوه وينشره في كل أفق على نحو ما فعل ابن الرومية ونشر في المشرق كتب ابن حزم ولولاه لما أبقى منها التعصب باقية. والغالب أن أبا حيان التوحيدي صاحب كتاب المقابسات هو من أهل الفئة الثانية إذ لم أر واحداً في العشرة من الخاصة من سمع باسمه دع عنك من قرأ له رسالة أو فصلاً مع أنه من أمراء الإنشاء وجهابذة الحكماء والعلماء.
نشأ المؤلف في زمن خدمه السعد وحف بالبركة بفضل قوة الاستمرار وما كان في العصرين الزاهرين قبله من علية العلماء وجلتهم والعلم لا يذكو إلا بالأمن والراحة ولا يغني غناءه إلا إذا تسلسل في أجيال عدة حتى صار لهم ملكة راسخة وسنة متبعة. والتوحيدي علي بن محمد نسبة لنوع من التمر ببغداد يقال له التوحيد قال ابن قاضي شهبة وإنما قيل له التوحيدي لأن أباه كان يبيع التوحيد ببغداد وعليه حمل بعض من شرح ديوان المتنبي قوله:
يترشفن من فمي رشفت ... هنَّ فيه أحلى من التوحيد
قال ابن خلكان إن أبا حيان كان قد وضع كتاباً سماه مثالب الوزيرين ضمنه معايب أبي الفضل ابن العميد والصاحب بن عباد وتحامل عليهما وعدد نقائصهما وسلبهما ما اشتهر عنهما من الفضائل والأفضال وبالغ في التعصب عليهما وما أنصفهما قال وكان أبو حيان فاضلاً مصنفاً له من الكتب المشهورة الإمتاع والمؤنسة في مجلدين وكتاب البصائر والذخائر وكتاب الصديق والصداقة. وتوفي أبو حيان على رأس الأربعمائة. وكلام المرء أحفل ترجمة تعرب عن صفاته ومناقبه.
ولأبي حيان من الكتب كتاب المقابسات وهو صغير الجرم كبير الفائدة ذكر فيه وأكثره من محفوظه بعض ما وقع له من مفاوضات علماء عصره في بغداد وكانوا يجتمعون في دار(6/31)
أبي سليمان المنطقي وعنه أكثر مروياته فيتذاكرون في موضوعات شتى في الفلسفة والأدب. وأكثرها على طريق السؤال والجواب لرجال جمعت بينهم كلمة العلم والحكمة وهذبت نفوسهم الآداب الحقيقية ولم يفرق بينهم اختلاف نحلهم ومذاهبهم. والعلم أعظم دين جامع بين عباد الله.
المقابسات اقتبسها أبو حيان من مساجلات إخوانه في الحكمة مثل أبي سليمان المنطقي وهو محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني وأبي زكريا الصيمرى وأبي الفتح البوشجاني وأبي محمد المقدسي العروضي وأبي بكر القومسي ويحيى بن عدي وعيسى بن ثقيف الرومي وابن مقداد وأبي القاسم الانطاكي وكان يعرف بالمجتبى وأبي محمد الأندلسي النحوي وأبي اسحق الصابي والخوارزمي الكاتب ووهب بن يعيش الرقي وابن سوار وماني المجوسي وأبي الحسن محمد بن يوسف العامري وعبيد الكاتب والبديهي وأبي اسحق النصيبي وأبي علي عيسى بن زرعة المنطقي ومظهر الكاتب وأبي الخطاب الكاتب وغيرهم من كل من هو واحد في شأنه وفرد في صناعته.
والغالب أن مذهبهم في الفلسفة كان مذهب أرسطاطاليس شأن معظم المتأخرين من فلاسفة الإسلام كما قال الشهرستاني في الملل والنحل مثل يعقوب بن اسحق وحنين بن اسحق ويحيى النحوي وأبي الفرج المفسر وأبي سليمان السنجري وأبي سليمان محمد المقدسي وأبي بكر ثابت بن قرة وأبي تمام يوسف بن محمد النيسابوري وأبي زيد أحمد بن سهل البلخي وأبي محارب الحسن بن سهل بن محارب القمي وأحمد بن الطيب السرخسي وطلحة ابن محمد النسفي وابن حامد أحمد بن محمد الاسفزاري وعيسى بن علي الوزير وأبي علي أحمد بن مسكويه وأبي زكريا يحيى بن عدي الصيمري وأبي الحسن العامري وأبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي وغيرهم وإنما علامة القوم أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا قد سلكوا كلهم طريقة أرسطاطاليس في جميع ما ذهب إليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطن والمتقدمين.
وقد عرف أهل الهند فائدة هذا الكتاب فطبعوه فيما أعلم مرتين والغالب أن النسخة الأصلية يغلب التحريف عليها كثيراً حتى يكاد المعنى لا يفهم. وقد نقلنا منه شذرات في باب الصحف المنسية. وفي الكتاب دليل على حرية ذاك العصر وانطلاق الأفكار فيه ولطالما(6/32)
كان العلماء الذين أخذ عنهم أبو حيان يقولون في مجالسهم عند احتكاك الأفكار وظهور بوارق الحق: يا حسرة الطبيب والمهندس والمنجم والموسيقار والمنطقي والكلامي وجميع أصحاب النظر والقياس على أنهم ما عرفوا التشنيع على علم لا يعلمونه بل كانوا يجلون أقدار أصحاب الصناعات والأفكار على اختلاف طبقاتهم وجمعية أصحاب المقابسات كانت من الجمعيات المرتقية في الإسلام وكان لها أمثال وكل أفرادها من أهل الأخصاء. وللمؤلف كتاب اسمه الإشارات الإلهية في التصوف أطلعت على الجزء الأول منه في خزانة الكتب الظاهرية بدمشق.
طبقات الشافعية الكبرى
شرع حضرة الشريف مولاي أحمد القادري المغربي بطبع هذا الكتاب بمصر لمؤلفه تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب ابن تقي الدين السبكي وهو في ستة مجلدات جاء الأول منه في ثلاثمائة صحيفة وليس هو مقصوراً على تراجم رجال المذهب بل هو كما قال مؤلفه كتاب حديث وفقه وتاريخ وأدب. وقد قسم حفاظ الشريعة لعهده إلى عشرين طبقة وترجم أصحابها على طريقة الفقهاء لا طريقة المؤرخين. واستفدنا منه أن أول من صنف في الطبقات أبو حفص عمر بن علي المطوعي المحدث الأديب صنف لأبي الطيب سهل الصعلوكي كتاباً سماه المذهب في ذكر شيوخ المذهب ثم القاضي أبي الطيب الطبري وأبي عاصم البغدادي وأبي اسحق الشيرازي وأبي محمد الجرجاني وأبي محمد عبد الوهاب الشيرازي وأبي حسن البيهقي المعروف بفندق وأبي النجيب السهروردي وابن الصالح وأبي زكريا النووي والحافظ المزي وعماد الدين بن باطيش. وقد جعله الطابع بالاشتراك فجعل من يدفع الاشتراك دفعة واحدة خمسين قرشاً ومن يدفعه بعد تمام الطبع ثمانين مع أجرة البريد. يخابر بذلك محل الحاج محمد ساسي بالقاهرة. وسنتكلم على هذا الكتاب بعد مطولاً. فنشكر للطابع عنايته ونرجو له حسن التوفيق إلى إنجازه.
آراء المدينة الفاضلة
أهدانا الأديب الفاضل الشيخ مصطفى القباني نسخة من هذا الكتاب تأليف المعلم الثاني أبي نصر الفارابي من فلاسفة الإسلام وقد قدم له ترجمة لطيفة للمؤلف. والكتاب على أسلوب متدين عاقل ومما طربنا له القول في خصال رئيس المدينة الفاضلة ومضادات المدينة(6/33)
الفاضلة وآراء أهل المدن الجاهلة والضالة. وهذا الكتاب مما يقرأوه المطالع ويعيد مطالعته لجمعه بين الفائدة واللذة وجودة تنسيقه وتأليفه. فنثني على ناشره أجمل ثناء وهو يباع في محله بخان الخليلي بمصر.
البيان
وافانا العدد الأول من السنة الخامسة لهذه المجلة النافعة وهي تصدر بالعربية والأوردية في مدينة لكنأو من بلاد الهند لمنشئها الفاضل المولى عبد الله العمادي وتحت إدارة الفاضل الشيخ عبد العلي المدراسي وقد أخذت تصدر مرتين في الشهر بعد أن كانت تصدر مرة ساعية في تهذيب حال الأمة الإسلامية في عوائدها وأخلاقها متوخية إظهار الحقائق العلمية وإبداء الآراء الحكمية والإلمام بسيرة رجل عظيم أثر بعض الأثر في المجتمع الإنساني وأندية العلم وحلقات الأدب وقيمة اشتراكها 15 شليناً خارج بلاد الهند فنرجو لها الإقبال الذي تستحقه ويستحقه منشئها الأديب.(6/34)
تدبير الصحة
أوان المسكرات
نشر الدكتور شارل دانا أستاذ النرولوجيا في كلية كورنل من ايتاكا في أميركا نتيجة أبحاثه في المشروبات الروحية فثبت لديه من حوادث كثيرة أن أوان إدمان المسكرات يبتدئ قبل سن العشرين وأن قليلاً من الناس يتعاطونها بعد سن الأربعين. ومن رأيه إذا أرادت الحكومات أن تفلح في مقاومة المسكرات أن تحظر مبيع الكحول إلى كل ولد أو شاب قاصر بعقوبات شديدة تجري أحكامها على من يخالف ذلك من المتجرين بها وهذه أنجع واسطة لإقلال عدد من اعتادوا هذه العادة السيئة في إدمان الخمور. قال أن جمعيات الامتناع عن المسكرات في إنكلترا وخصوصاً في ايرلندا تمنح جوائز من المال لمن يمتنعون كل الامتناع عن تناول الكحول إلى الخامسة والعشرين من سنهم وهذه الطريقة جيدة لأن كثيراً من الشبان لا ينقضون يميناً أقسموه في هذا المعنى خيفة أن لا يقبضوا ما وعدوا به من الدراهم ولو جرت بعض البلاد التي تضعف أبنائها إرادة النفوس على قانون تضعه في عقاب بائعي المسكرات من تغريمهم وحبسهم مثلاً لأتى ذلك بفوائد جمة. ويظن هذا العالم أن هذه الطريقة تؤثر في سير المسكرات تأثيراً محسوساً في بضع سنين بمعنى أنها لا تزيل أثرها بل تقلل من عدد من يتعاطونها ويقل سواد من تضر بهم. وقد عمدت إنكلترا إلى اتخاذ مثل هذا التدبير ولكن المسكرات ما برحت في بلادها تخرب الأجسام وتزيد الأسقام. وقد جاء في إحصاء أخير إن عدد الممتنعين عن المسكرات في إنكلترا ثلاثة ملايين وعدد الأولاد ممن سنهم دون الخامسة عشرة أربعة عشر مليوناً فبذلك كان عدد من يتعاطون المسكرات في إنكلترا أربعة وعشرين مليوناً يصرف كل منهم في السنة ما قيمته 135 فرنكاً من المشروبات الروحية. ويقدرون أن كثيراً من أسرات العملة في إنكلترا تنفق سدس ما لها على المسكرات وأن ما ينفق على المسكرات في إنكلترا كل سنة يعادل ما أنفقته حكومتها على حرب البوير. هكذا يبحث علماء أمم لا حظر في أديانها على المشروبات الروحية فما هو حال شعوب أصبحت تتعاطاها من غير حرج ولا نكير من دون ما حاجة إليها إلا تقليد الغربيين على أن ديانتهم تحظرها وعاداتهم تنكرها وأصقاعهم لا تحتملها.(6/35)
السياحة والصحة
كان البشر منذ عرف التاريخ يسيحون في الأرض إلا أن سياحاتهم الأولى كانت للغارة والفتح فلما ارتقوا قليلاً في سلم التمدن صارت السياحات للعلم والاتجار ولما أوغلوا في المدنية صارت أكثر الرحلات لحفظ الصحة. ومنذ تسلط الإنسان على المملكة الحيوانية بعد أن كان في عهده الأول يألف البحيرات ويسكن المغاور والغابات مازال معروفاً بميله إلى الرحلة ونزوعه إلى التنقل فطرة فيه يتنقل كما تتنقل بعض الحيوانات والطيور ثم تعود أدراجها إلى كهوفها وأوكارها محافظة على طريقها الأول. ولم تكن السياحة في هذا القطر مثلاً ضرورية لأبنائه ونزلائه قبل ثلاثين سنة كما هي اليوم وقد زادت مرافق الحياة واتخذت أسباب تحسين الهواء وأقيمت المعالم النافعة لأن مشاغل الحياة ومتاعب المجتمع كانت أقل من الآن وأطعمة تلك الأيام وأشربتها كانت إلى البساطة أقرب وطرق العيش كانت إلى السلامة. فالعيش اليوم في مصر أشبه بالعيش في لندن وباريس مع أن الطريقة القديمة كانت ملائمة لهواء البلاد أكثر. وشتان بين طبيعة غربي أوربا وشرقي إفريقية.
وقد ارتأى أحد أطباء الإفرنج في هذه العاصمة أن خير طريقة يلجأ إليها من لا يستطيعون مغادرة هذه البلاد في الصيف أن لا يفرطوا في شيء أصلاً ويعيشوا هادئين ويخففوا من العمل ومن الطعام فيتناول المرء في الصباح والمساء طعاماً لطيفاً ولا يأكل عند الظهر ما تتعب المعدة بهضمه بل يتناول قدحاً من الشاي وشيئاً مما يقال له التملق (عصرونية) وأن يعتدل جداً في تناول الأشربة الروحية أو يمتنع عنها كل الامتناع وهو الأسلم ويستحم في النهار والليل بالماء البارد مرتين أو ثلاثة ولاسيما في منتصف الليل ليستريح الجسم من وعثاء التعب وبرحاء القيظ والحر. قال والسياحة ضرورية لمن لم يولد في هذه البلاد ريثما يكون من أبناء أبنائه من يألفون إقليم البلاد أما المصري فإن السياحة تكسبه صحة وتجعل فيه قوة ومضاء وتفيد من حيث الاطلاع على معالم الحضارة وآثار العلم والتهذيب.
طول الأعمار
شغل هذا الموضوع بال الباحثين من العلماء ومن رأي أحد حذاق الأطباء العارفين بعلم الحياة أن العمر يطول مدة تبلغ ست أو سبع مرات من المدة التي يقضيها الحيوان ليستكمل نموه ويبلغ أشده فالقط ينمو في 18 شهراً ولذلك كان معدل حياته من 10 إلى 12 سنة(6/36)
والكلب يكبر في سنتين فيعيش من 13 إلى 14 سنة والخيل تنمو في خمس سنين فمعدل حياتها من 15 إلى 30 سنة فنتج من ذلك أن الإنسان لما كان ينمو في عشرين سنة فمعدل عمره من 120 إلى 140 سنة وقد أورد على ذلك برهاناً أن هنري جانكين الإنكليزي عاش 169 سنة وانه مات في بلاد المجر في العهد الأخير بطرس سكورتان وعمره 185 سنة وانه كان في مستشفى بروسيا رجل بلغ المائتي سنة وبيده جواز أعطيه سنة 1763 وكان في سن الستين وهو أيم منذ 123 سنة ومات ابنه سنة 1824 في التسعين من عمره. وقد ارتأى أن اللبن والملح والخبز الجيد والإقلاع عن المشروبات الروحية أعظم باعث على طول الأعمار.(6/37)
سير العلم
خطوط الناس
في الغرب فريق كبير يقولون بمعرفة الرجال من النظر إلى خطوطهم ويدعى هذا العلم بالغرافولوجيا فيدعون أن خط المرء صورة منعكسة عن روحه كما أن كتابته تشعر بصفاته. وقد ارتأى أحد الأطباء مؤخراً أن هذا العلم ينفع في تشخيص الأمراض فلا يسأل الطبيب مريضه عن حاله وما أتاه من الأعمال ويسمع من فيه ما تلقيه عليه المخيلة أو توحي إليه به السوداء بل يتقدم إلى مريضه ويستكتبه أسطراً يتعرف بها لأول وهلة حالة صحته فإذا حروفه مائلة بعض الميل ثابتة الأواخر دلت على ظرف صاحبها وإذا كانت على العكس من ذلك رخوة لا إشباع فيها دلت على قلة إحساسه وهكذا جعل لكل خط صورة تنبئ عن كاتبه وربما يعرف بها مزاجه وكرازة يديه وبسطها في دفع أجرة الطبيب. قالت الصحيفة التي ننقل عنها ولاشك أن أشياع هذا المذهب يتكاثرون بعد.
سبر الأغوار
هي آلة اخترعها مخترع نروجي وسماها (بانيمتر) يتأتى بواسطتها سبر غور البحار بالضبط وهي كما جاء في إحدى المجلات العلمية مصنوعة على مبدأ رجوع الأمواج الداوية التي تعود إذا انبعثت إلى النقطة التي خرجت منها بعد أن تلطم أسفل المحيط وبعبارة ثانية هذه الآلة قائمة على مبدأ الصدى وهي كناية عن آلة ناقلة وآخذة ومقيدة.
ضباب البحار
اخترع أحد الألمان آلة يهتدي بها ربان السفينة في الضباب الكثيف إلى السفينة القريبة منه ويعرف المسافة التي بقي عليه أن يجتازها ليكون منها قاب قوسين أو أدنى وذلك فيما إذا حال الضباب فلم تنتبه تلك السفينة إلى رفع الإشارة البحرية المتعارفة اليوم وبذلك لا تصطدم باخرة مع أخرى.
عشرون سنة على أميركا
زار أحد أعضاء دار الندوة الإنكليزية بلاد الولايات المتحدة سنة 1885 وعاد فزارها هذه السنة فدهش من ارتقاء تلك البلاد بمادياتها في العشرين سنة الأخيرة قال ويظهر أن كل طبقة من طبقات المجتمع هناك أغنى من الطبقة التي تقابلها في أوربا. ومما وقع في نفسه(6/38)
موقع الاستغراب ارتقاء التعليم العالي إذ ترى اليوم في تلك البلاد من 15 إلى 20 كلية جامعة تجاري أشهر كليات أوربا وكل سنة يتضاعف عدد طلبتها ففي كلية يال من التلامذة ما يربو عددهم على طلبة كلية اكسفورد الإنكليزية وفي خمس كليات في شرقي أميركا من الطلبة ما يزيد على عدد طلاب الكليات في إنكلترا بأسرها. قال أن الذوق العام والشعور الأدبي قد بلغا عند الأمريكان اليوم مبلغ الكمال وعيش الطبقة العالية منهم خير من عيش الطبقة التي تقابلها في إنكلترا وأحسن سبيلاً وقد بقي في أميركا الآن ثلاثة أمور لم يدخلها قلب ولا إبدال ألا وهي الحياة السياسية والإدارات البلدية ومسألة العبيد وهذه المسالة لا تزال على ما كانت عليه منذ عشرين سنة.
الانتقاد الأدبي
رأى أحد علماء فرنسا أن يجعل للنقد طريقة أنجع من طريقته المتبعة الآن وذلك بأن لا تنقد إلا الكتب أو الروايات التي وافقت على استحسانها جمعية مطالعة مؤلفة من طبقة عالية من الصحافيين والمؤلفين ويرى أن هذه الطريقة مما يزيد به انتشار الكتاب ويبعث القراء والمبتاعين على مطالعته وابتياعه.(6/39)
مقالات المجلات
طبقات الناس
في مجلة فرنسية بحث في أنه من المتعذر علمياً جعل الناس في طبقة واحدة من المسؤولية وعدمها وانه ليس من العدل تقسيمهم إلى طبقتين غير مسؤولة وهي المجانين ومسؤولة وهي العقلاء بل ينبغي تقسيمهم إلى ثلاث العقلاء المسؤولون والمجانين غير المسؤولين ونصف المجانين نصف مسؤولين.
التعليم في يابان
تناقلت المجلات العلمية ما هو موضوع البحث بين المجلات اليابانية اليوم من إنشاء مدارس جديدة وقد اختلفت آراء اليابانيين في طريقة التعليم فبعضهم يريدون أن تتعدد الدروس والفنون في المدارس وبعضهم يودون الإقلال منها لئلا تشغلهم النظريات عن العمليات. ورأى بعضهم أن التعليم على ما هو عليه عندهم الآن في معظم المدارس ناقص الجهاز عقيم الأسلوب إذ أن التلامذة يتعلمون اللغات الأجنبية ولا يتقنونها ولا يكتبون فيها ولا يقرأون فيجيدون وقد حسدوا أهل الغرب على أنهم يكثرون من مواد التعليم في مدارسهم الابتدائية والوسطى والعالية ليعدوا عقول التلامذة للاكتشاف والاختراع.
مناجاة الأرواح
المقتطف - إن انخداع الناس بما يرونه ويسمعونه أكثر مما يظن لأول وهلة فقد اتفق مراراً أن شاهدنا بعض المدعين مناجاة الأرواح نحن وجماعة من الأدباء فخيل لهم أنهم رأوا وسمعوا ما لم نره نحن ولا سمعناه وزاد الفرق بيننا وبينهم حينما تكلم كل منا عما رآه وسمعه فإن الوهم صور لهم الأمور على غير حقيقتها حتى صرنا نرتاب في كل ما نسمعه من غرائب التنويم ومناجاة الأرواح. فإن كانت روح الميت تبقى في هذه الدنيا حول الأحياء تناجيهم وتؤثر فيهم وتسمع كلامهم وتجيب طلبهم فعلى ما لا تفعل أهم شيء يزول به الأشكال وهو أن تقول للأحياء أنا روح العالم فلان جئتكم لأثبت لكم ما كنت أنكره. إن أشهر من ادعوا مناجاة الأرواح اعترفوا أخيراً أنهم كانوا يستعملون الحيل لخداع الناس. إن الأرواح التي يزعم مستحضروها إنها أرواح الموتى لا تفعل إلا أسخف الأعمال وأحقرها فلا تكشف سراً في كشفه فائدة لأحد ولا تسيء بأمر من الأنباء به نفع ما مع أن(6/40)
مستحضريها يدعون أنها تفعل ما هو أقرب من ذلك ومن يصدقون بمناجاة الأرواح ويمارسون ذلك تضعف قواهم العصبية رويداً رويداً وينتهي أمرهم إلى الجنون ومن كانت أعصابه كذلك لا يركن إلى أحكامه وتصوراته. ثم إن مدعي استحضار الأرواح مشعوذون كلهم ماهرون في تحويل انتباه الذين أمامهم عن الأمور الجوهرية في حيلهم أي ما لا علاقة له بها. والمكان والزمان لا يصلحان للبحث والتنقيب فيتعذر على الرائي أن يكتشف الحيل لاسيما وهو غير معتاد على ذلك.
الطوتمية
الهلال - الطوتم لفظ دخل اللغات الإفرنجية في أواخر القرن الثامن عشر من لغة أوجيبي من هنود أميركا ويراد به كائنات تحترمها بعض القبائل المتوحشة ويعتقد كل فرد من أفراد القبيلة بعلاقة نسب بينه وبين واحد منها يسميه طوتمه وقد يكون الطوتم حيواناً أو نباتاً أو غير ذلك وهو يحمي صاحبه وصاحبه يحترمه ويقدسه أو يعبده وإذا كان حيواناً لا يقدم على قتله أو نباتاً فلا يقطعه أو يأكله وتختلف الطوتمية عن عبادة الحيوانات والنباتات الشائعة عند بعض القبائل المعبر عنها بالديانة الفتشيه أن هذه عبادة صنم بصورة حيوان وتلك تقديس نوع من أنواع الحيوان أو النبات أو عبادته. والطوتمية الآن منتشرة في العالم المتوحش فهي عامة بين قبائل أوستراليا وكثيرة الانتشار في شمالي أميركا وفي بناما. والطوتم الشائع هناك الببغاء ولا تخلو أميركا الجنوبية من آثار الطوتمية على حدود كولومبيا وفنزويلا وفي جيانا وبسيرو. وللطوتمية شأن كبير في إفريقية فإنها شائعة في سينغمبيا وبين قبائل البقالي على خط الاستواء وعلى شاطئ الذهب والاشانتي وبين الدامارية والبكوانية في جنوبي إفريقية وفي أماكن كثيرة من تلك القارة المظلمة ولها آثار في مدغسكر وبعض جزر ملقا أما في آسيا فلها أثر في أواسط الهند بين بعض قبائل البنغال غير الآريين وفي سبيريا وبعض جهات الصين وجزائر المحيط.(6/41)
لا جديد تحت الشمس
مما رواه صاحب نفح الطيب من ذكاء أهل الأندلس في استخراج العلوم واستنباطها أن أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس هو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وأول من فك بها كتاب العروض للخليل وأول من فك الموسيقى وصنع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال واحتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في مؤخره ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنباً وفيه قال مؤمن بن سعيد الشاعر من أبيات:
يطم على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كسا جثمانه ريح قشعم
وصنع في بيته هيئة السماء وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود.(6/42)
العدد 7 - بتاريخ: 20 - 8 - 1906(/)
صدور المشارقة والمغاربة
ابن الحناط الكفيف
كلما نظرنا في تراجم رجال الإسلام نظر الناقد المستبصر يتجلى لنا أن من نفعوا الأمة نفعاً حقيقياً هم في الأكثر ممن كانت لهم ولو مشاركة قليلة في العلوم الطبيعية والرياضية والتاريخية لأن هذه الفنون تلقح فكراً جديداً وتكبر دائرة تصور المشتغل بها ولو نظر فيها نظرة إجمالية فما الحال به إذا أحكمها كل الإحكام. وذاقها كما يذوقها أرباب الأحلام.
خذ لك مثالاً من ترجمة الرازي وابن تميمية والغزالي وغيرهم فقد كانوا من المتمكنين من علوم الأوائل وتواريخهم لذلك كتبت لهم الإجادة في كل ما أثر عنهم من المصنفات الدينية وغيرها. وصاحب الترجمة أبو عبد الله ابن الحناط الأندلسي هو أحد الأمثلة في هذا الباب إلا أنه انصرف بكليته إلى علوم الدنيا فأفاد واستفاد ولم يصده فقد البصر عن توفر البصيرة في العلم والأدب. ولا غرو فقد كان عصره وقطره مبعث النور ومنبثق الفضائل.
قال في الذخيرة: هذا زعيم من زعماء العصر كان ورئيس من رؤساء النظم والنثر في ذلك الأوان. وجمرة فهم لفحت وجوه الأيام. وغمرة علم سالت بأعلام الأنام فكم له من وقذة لا يبرأ أميمها. ونكزة لا يسلم سليمها. وكانت بينه وبين أبي عامر بن شهيد بعد تمسكه بأسبابه. وانحياش كان إلى جنابه. مناقضات في عدة رسائل وقصائد أشرقت أبا عامر بالماء. وأخذت عليه بفروج الهواء. وقد أوردت من ذلك ما يكون انطق لسان بنباهة ذكره وأعدل شاهد على براعة قدره.
وقد ذكره ابن حيان في فصل من كتابه فقال: وفي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة نعي إلينا أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط الشاعر الضرير القرطبي بقية الأدباء النحارير في الشعر. هلك في الجزيرة الخضراء في كنف الأمير محمد بن القاسم. وهلك أثره ابنه الذي لم يكن له سواه بمالقة فاجتث أصله. وكان من أوسع الناس علماً بعلوم الجاهلية والإسلام بصيراً بالآثار العلوية. عالماً بالأفلاك والهيئة حاذقاً بالطب والفلسفة. ماهراً في العربية واللغة والآداب الإسلامية وسائر التعاليم الأوائلية.
من رجل مرهق في دينه مضطرب في تدبيره سيئ الظن بمعارفه شديد الحذر على نفسه فاسد التوهم في ذاته. عجيب الشأن في تفاوت أحواله. وولد أعشى ضعيف البصر متوقد(7/1)
الخاطر فقرأ كثيراً في حال عشاه ثم طفئ نور عينيه بالكلية فازداد براعة. ونظر في الطب بعد ذلك فانجح علاجاً. وكان ابنه يصف له مياه الناس المستفتين عنده فيهتدي منها إلى ما لا يهتدي إليه البصير ولا يخطئ الصواب في فتواه ببراعة الاستنباط وتطبب عنده الأعيان والملوك والخاصة فاعترف له بمنافع جسيمة وله مع ذلك أخبار كثيرة مأثورة.(7/2)
عميان يؤلفون
تكاد تكون قاعدة لا تتخلف أن من فقد إحدى حواسه تقوى فيه غيرها فمن فقد بصره مثلاً تقوى ذاكرته ومن فقد سمعه يشتد إدراكه. ولما قرأت ترجمة هوميروس الشاعر اليوناني وعلمت أنه كان ضريراً وقرأت ترجمة ملتون الشاعر الإنكليزي وعلمت أنه كان كذلك وقرأت ترجمة أبي العلاء المعري الشاعر العربي وقلت أنه كان مثلهما وقرأت ترجمة ابن الحناط وقع في نفسي أن أكتب مقالاً في عميان صنفوا وأجادوا أيام كان العرب يؤلفون ويجيدون.
فمنهم قتادة بن دعامة كان اكمه وكان يقول لقائده سعيد بن أبي عروبة تجنب بي الحلق التي فيها الخطأ فإنه ما وصل إلى سمعي شيء قاداه إلى قلبي فنسيه. وكذلك كان بشار بن برد رأس طبقة شعراء المولدين اكمه وغاية في ذكائه وتوقد خاطره. وكان ابن الثمانيني نحوياً ألف فيه وانتفع بالاشتغال عليه جمع كثير توفي سنة 442 هجرية وكان شمس الدين بن جابر الأندلسي ضريراً وهو صاحب بديعية العميان وله أمداح نبوية كثيرة وتآليف منها شرح ألفية بن مالك وغير ذلك وله ديوان شعر جيد توفي سنة 780. وكان أبو بكر بن هذيل الكفيف عالم أدباء الأندلس أخذ عنه صناعة الأدب جماعة منهم الرمادي الشاعر القرطبي المشهور. وكان أبو عبد الله محمد بن الصفار القرطبي حافظاً للآداب إماماً في علم الحساب مع أنه كان أعمى مقعداً مشوه الخلقة ولكنه إذا نطق عرف كل منصف حقه.
وكان العلامة أبو القاسم الشاطبي صاحب حرز الأماني والعقيلة وغيرهما المقري الفقيه الحافظ من كبار أئمة الإسلام مكفوف البصر قوي الحفظ وكان يقول عند دخوله إلى مصر أنه يحفظ وقر بعير من العلوم وكان عالماً بكتاب الله قراءة وتفسيراً وبحديث رسوله مبرزاً فيه وكان إذا قرأ عليه صحيحا البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها وهو أوحد في النحو واللغة. وكان أبو البقاء العكبري شارح ديوان المتنبي وغيره من الكتب الجيدة مكفوف البصر حاسباً فرضياً نحوياً ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه وكان الغالب عليه علم النحو توفي سنة 616.
وكان ابن سيده المرسي الحافظ إماماً في اللغة والعربية جمع في ذلك جموعاً منها كتاب المحكم في اللغة وكتاب المخصص الذي طبع حديثاً وله غيره من الكتب الممتعة التي لم يؤلف في فنها مثلها وكان ضريراً وأبوه ضريراً أيضاً وكان أبوه قيماً بعلم اللغة وعليه(7/3)
اشتغل ولده في أول أمره توفي ابن سيده سنة 458 وكان يحفظ عشرات من أمهات كتب اللغة. وكان أبو الحسن علي ابن عبد الغني الفهري المقري الشاعر عالماً بالقراآت له عدة تآليف توفي سنة 488. ومن مشايخ عبد اللطيف البغدادي الفيلسوف المشهور الوجيه الواسطي كان تلميذه يحفظه ويحفظ معه ثم يذهبان إلى كمال الدين عبد الرحمن الأنباري فيقرأ درسه.
وكان أبو الحزم الماكسيني الموصلي المقري النحوي المتوفى سنة 603 جامع فنون الأدب وحجة كلام العرب أخذ الناس عنه وانتشر ذكره في البلاد وله رواية واسعة. وكان خليفة أبي العلاء المعري في عماه وأدبه وهو ينحو منحاه. وكان أبو عبد الله هشام بن معاوية النحوي الكوفي ضريراً وله عدة تصانيف في النحو ومن جملة من أخذ عنه الخليفة المأمون. وكان أبو العز مظفر ابن إبراهيم العيلاني المصري الأعمى شاعراً مجيداً صنف في العروض وله ديوان توفي سنة 623 وكان أبو القاسم بن الخطيب الأندلسي صاحب الأشعار الكثيرة والتصانيف الممتعة المتوفى سنة 581 مكفوفاً ضريراً.
وكان أبو عيسى ابن الضحاك السلمي الحافظ المشهور أحد الأئمة المصنفين في الحديث ضريراً. وكان أبو العيناء صاحب النوادر والشعر والأدب مكفوفاً كف بصره وقد بلغ الأربعين. وكان أبو بكر ابن الدهان النحوي الواسطي ضريراً وهو من مدرسي النظامية. وهكذا لو تقصيت أسماء الرجال لقرأت العجب من أحوال أولئك العميان ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(7/4)
الحق مشاع
لعل بعض الناظرين في هذا العنوان يعده خروجاً عن القصد وخطلاً في القول وضلة عن سبيل السلامة وما حكم من يبادر إلى التنديد بادئ الرأي إلا حكم من استغواه الهوى واستهواه الغرض فإن الحق كان ولا يزال مشاعاً بين الأمم والبلدان والمذاهب وما قط كان وقفاً على أمة معينة ولا على بلد خاص ولا على مذهب معلوم. الحق كنز ثمين يأخذ كل منه بحسب استعداده وأسبابه بل نور يعم العالمين على قدر خلاصهم من العوائق وبصرهم بالاستنارة به.
يخطئ كل الخطأ من يذهب إلى أن كل ما يعتقده أهل المذاهب والنحل لا ضل له من الحق وأن أهل النحل المتعددة في الإسلام مثلاً كالاباضية والسنية والمعتزلة والشيعة قد ضلوا إلا قليلاً والحقيقة التي يقتضي اعتبارها أن الحق تقسم بين أهل هذه المذاهب والنحل ومن أراد أن ينشده فلا يتأتى له ذلك إلا بالنظر فيما كتبه أئمة هذه المذاهب ثم ينخل ما يقرأه وينتحل ما يراه الحق المطلق وهكذا الحال في العلم الذي هو من الأوضاع البشرية فإنه ما خص بقبيل ولا بجيل بل هو موزع على القدماء والمحدثين والشرقيين والغربيين.
توخيت أن أصرح هنا بهذا الفكر على جلبته حباً بتقرير جملة تقطع السن من يشاغبون في كل ما لم تألفه أسماعهم ويعتقدون أن ما لم يعرفوه ولا آباؤهم ليس من الحق في شيء. فلا يعظمن على بعضهم إذا قرأوا في طريد هذه الصحيفة ما لا ينطبق مع رغباتهم فالعلم كالحق كثير الأفنان والفنون لا دين له ولا نحلة وناشره معه خازن أمين يجمعه ليصرفه عند مسيس الحاجة. وربما كان فيما يجمعه كخاطب ليل يجمع بين الجيد والرديء ولا يكاد يشعر ولذلك كان على من أوتي نوراً من الحق أكثر من غيره أن يقبسه صاحبه ويدله على عوراته.
فقد خالف ابن عباس عمر وعلياً وزيد بن ثابت وكان أخذ عنهم وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة وإنما اخذوا العلم عنهم وخالف مالك كثيراً من أشياخه وخالف الشافعي وابن القاسم وأشهب مالكاً في كثير من المسائل قال ابن الأزرق وكان مالك أكبر أساتيذ الشافعي وقال لا أحد أمن عليَّ من مالك وكاد كل من أخذ العلم عنه أن يخالفه بعض تلامذته في عدة مسائل وما عد ذلك من سوء أدب التلميذ مع شيخه ولا من الخروج عن مراجعة الحق الذي توزعته عقول الناس ونال كل منهم قسطاً منه.(7/5)
روى ابن جرير عن أبي مخنف عن الصقعب بن زهير عن الحسن قال أربع خصال كنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهنَّ إلا واحدة لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله (ص) الولد للفراش وللعاهر الحجر وقتله حجراً ويلاً له من حجر وأصحاب حجر مرتين - روى ابن جرير هذا وما عدَّ من الشيعة.
ورأى المنذر بن سعيد أرجوزة لابن عبد ربه يذكر فيها الخلفاء ويجعل معاوية رابعهم ولم يذكر علياً فيهم ثم وصل ذلك بذكر الخلفاء من بني مروان إلى عبد الرحمن بن محمد فلما رأى ذلك منذر غضب وسب ابن عبد ربه وكتب في حاشية الكتاب
أو ما عليّ لا برحت ملعناً ... يا ابن الخنيثة عندكم بإمام
رب الكساء وخير آل محمد ... داني الولاء مقدم الإسلام
قال هذا منذر بن سعيد قاضي الجماعة بالأندلس وما عدَّ شيعياً. وكم في تاريخ السلف من أمثال هذه الأنباء التي تدلنا على مبلغ حرية القوم وأن الحق مشاع ليس وقفاً على فئة وأن التقيد برأي واحد أو عدة آراء ولاسيما في المسائل العلمية ليس من السداد في شيء بل هو سبب عظيم من أسباب انحطاط العلم في الشرق.(7/6)
الفينيقيون
منقولة عن الإفرنجية
صور وقرطاجنة
وصفها - فينيقية من بقاع الأرض الضيقة طولها خمسون فرسخاً وعرضها من ثمانية فراسخ إلى عشرة وهي بين بحر سورية وأعلى سلسلة في جبل لبنان. بل هي على التحقيق عبارة عن سلاسل أودية ضيقة ومجارٍ حرجة متخللة بين هضاب وعرة ممتدة إلى البحر ومسايل من الثلوج. تعبث بها العواصف إلى آخر الربيع أما في الصيف فينضب ماؤها إلا ما خزن منه في الآبار والصهاريج. ولقد كسيت جبال هذه الناحية بالأشجار فكان في القمم أرز لبنان المشهور وفي المنحدرات الصنوبر والسرو وفي السفوح أشجار النخيل بالغة شاطئ البحر وفي الأودية ينمو الزيتون والكرم والتين والرمان.
مدنها - تتألف عن بعد على طول الشاطئ الصخري رؤوس من البحر أو جزر منه تكون منها مرافئ طبيعية ففي هذه المواني أقام الفينيقيون مدنهم. فقامت صور وارواد في جزيرة يزدحم فيها السكان في المنازل وكانت ذات طبقات ست وسبع وثمان ويجلبون الماء لشفاههم في القوارب. أما مدينة جبيل وبيروت وصيدا فكانت في اليبس. ولم تكن أرض هذه البلاد لتقوم بأود هذا العدد الدثر من الناس ولذلك ما الفينيقيون إلى الملاحة والتجارة.
الخرائب الفينيقية - لم يحفظ عن الفينيقيين كتاب فقد ضاعت حتى كتبهم المقدسة. ولقد جرى الحفر في مواضع مدنهم ولكن الخرائب على ما قال العالم المندوب إلى ذلك لم تسلم إلا في البلاد المهملة المتروكة. على أن السوريين عنوا كثيراً بالخرائب فانتهكوا حرمة القبور وأخذوا حلي الموتى وهدموا العمارات ليستعينوا بأحجارها على البناء وحطموا النقوش وذلك لكراهة المسلم الصور المنحوتة بحيث لم يبق اليوم سوى شقيف من الرخام المحطم وأحواض ومعاصر نحتت في الصخر وبضعة نواويس من الحجر. أطلال قلما تجدي نفعاً وتأتي العلم بفوائد وليس ما عرف عن الفينيقيين إلا ما علمناه كتاب اليونان وأنبياء إسرائيل.
حكومة الفينيقيين - لم تكن فينيقية مملكة قائمة برأسها بل كان لكل مدينة ناحية صغيرة تستقل بها ولها مجالس وملك تحكم نفسها بنفسها وتبعث بمندوبيها إلى أعظم مدينة فينيقية(7/7)
لفض المصالح المشتركة وكانت صور محط رحال المندوبين منذ القرن الثالث عشر. وإذ لم يكن الفينيقيون أمة حربية خضعوا لسطوة جماع الفاتحين من مصريين وآشوريين وبابليين وفرس وأدوا لهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
صور - كانت هذه المدينة منذ القرن الثالث عشر من أهم المدن الفينيقية ضاقت على أهلها فأقيمت إذ ذاك مدينة جديدة قبالتها. ولقد أسس تجار صور مستعمرات في البحر الأبيض كله يصيبون الفضة من مناجم إسبانيا وسلع العالم القديم أجمع. دعاهم أشعيا النبي الأمراء ووصف حزقيال النبي تلك القوافل التي كانت تأتيهم من كل صوب وأوب وطلب سليمان النبي إلى هيرام أحد ملوك صور عملة يشغلهم في بناء القصر والمعبد في بيت المقدس.
قرطاجنة - كانت هذه المدينة مستعمرة صور ففاقت هذه بالعظمة وذلك أن الصوربين نبذتهم إحدى الثورات فأسسوا مدينة قرطاجنة على شاطئ إفريقية بالقرب من تونس بعثتهم على ذلك امرأة اسمها ايليسا ونحن ندعوها ديدون (الفارة) ويحكى أن سكان البلاد أبوا أن يبيعوها إلا مسافة تكفي لتغطية جلد ثور ففصلت جلد الثور سيوراً رقيقة بحيث اقتضت مكاناً واسعاً يستوعبها فبنت القلعة إذ ذاك. ولقد اتسعت قرطاجنة لموقعها في منتصف البحر الرومي ولأن فيها مرفأين فأقامت هي أيضاً مستعمرات وفتحت فتوحاً حتى آل أمرها إلى أن حكمت شاطئ إفريقية بأجمعه وإسبانيا وسردينيا وكان لها في كل مكان مكاتب لتجارتها ورعايا يؤدون لها الجزية.
الجيش القرطاجني - اقتضى لقرطاجنة أن تدرب لها جيشاً لتصون مكاتبها التجارية من حيف الوطنيين وتربأ برعاياها عن الانتقاض. ومن ثم كانت حياة القرطاجني ثمينة لا يخاطر بها إلا عند الضرورة. آثرت قرطاجنة اكتراء الجند فجندت لها جنداً من البربر سكان بلادها ومن متشردي كل صقع وناحية فصارت صبغة جيشها مبرقشة ملونة يتكلم اللغات كلها ويدين بالأديان كافة. ولكل جندي بزته وأسلحته الخاصة به تخالف بزة رصيفه وأسلحته. فترى فيهم النوميديين يلبسون جلد الأسد يتخذونه وطاء كما يتخذونه غطاء يركبون خيلاً سريعة صغيرة بدون نظام ويطلقون القوس وخيولهم تعدو عدواً. كما كنت ترى فيهم الليبيين وجلودهم سوداء مسلحين بحراب. وطائفة من الايبيريين في إسبانيا لباسهم بياض مزين بحمرة وسلاحهم سيف طويل محدد. وغاليين عراة إلى الزنار يحملون(7/8)
تروساً كبيرة وسيفاً محدباً يمسكونه بكلتا يديهم. وجماعة من البالياربين مدربين من طفوليتهم على رمي الحجارة أو كرات الرصاص بالمقاليع. أما القواد فكانوا قرطاجنيين تخافهم الحكومة فترقبهم عن أمم وربما صلبتهم إذا غلبوا ولم يحرزوا نصراً مؤزراً.
القرطاجنيون - كان في قرطاجنة ملكان والأمر والنهي لمجلس الشيوخ وهو مؤلف من أغنى تجار المدينة ولذلك كانت كل قضية ينهى بها إلى الحكومة مسألة تجارية. كره الناس القرطاجنيين لقسوتهم وطمعهم وغدرهم ولما كان لهم أسطول منظم وعندهم مال يستأجرون به جنداً وحكومة باطشة تهيأ لهم توطيد دعائم ملكهم في غرب البحر المتوسط مدة ثلاثة قرون (من القرن السادس إلى الثالث) بين ظهراني شعوب بربرية منشقة على نفسها مختلفة كلمتها.
الديانة الفينيقية - للفينيقيين والقرطاجنيين دين يشبه الديانة الكلدانية فالرب الذكر ويسمى عندهم بعل هو الشمس والربة الأنثى وتدعى بعلت هي القمر. والشمس والقمر في نظر الفينيقيين قوى هائلة تحيي وتميت. ولكل من المدائن الفينيقية ربان. فلصيدا بعل صيدون (الشمس) وعشتروت (القمر) ولقرطاجنة بعل عمون وتانيت ولجبيل بعل تموز وباليت. ويختلف اسم الأرباب في الاعتبارات إيجاداً وعدماً وهكذا يعبد بعل مثلاً في قرطاجنة باسم مولوش ويعتبر عدماً. وقد تنوب عن هذه الأرباب أصنام ولها معابد ومذابح وكهنة يعظمون من شأنهم ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة باعتبار كونهم موجدين ويقدمون لهم ضحايا بشرية باعتبار كونهم مخربين وتعبد عشتروت ربة الصيد العظيمة في الغابات المقدسة ويصورونها على شكل هلال القمر والحمامة ويرسم بعل مولوش في قرطاجنة تمثالاً عظيماً من القلز باسطاً ذراعيه ومدليهما وإذا أرادوا تسكين غضبه يرفعون على يديه أطفالاً تسقط للحال في هاوية من نار. وقد \ قدم أعيان مدينة قرطاجنة مائتي طفل من أولادهم ضحايا للربة مولوش في خلال حصار أغاتوكل لقرطاجنة.
هذا وإن تلك الديانة على ما نشأت عليه من الشهوات وسفك الدماء لترهب الشعوب الأخرى ولكنهم يحاكونها ويأتمون بها فكان يذبح اليهود لبعل على الجبال ويعبد اليونان استارتيه وصيدون باسم افروديت وبعل ملخارت من صور تحت اسم هيراكليس.
التجارة الفينيقية(7/9)
أشغال الفينيقيين - عاش الفينيقيون بالتجارة لازدحام أقدامهم في بقعة ضيقة من الأرض. ولم يكن لسائر شعوب الشرق من مصريين وكلدانيين وآشوريين ولا قبائل الغرب البربرية (الأسبان والغاليين والطليان) عهد بركوب البحار وشق العباب والفينيقيون وحدهم جرأوا في تلك الأيام على تجشم البحر فصح أن يدعوا من أجل هذا عملاء تجارة العالم القديم وقادة البيع والشراء يبتاعون من كل شعب سلعه ويتقايضون معه على غلات البلاد الأخرى تجارة كانت مستحكمة الصلات مع الشرق براً والغرب بحراً.
القوافل - اعتاد الفينيقيون أن يرسلوا في البر قوافل تتجه وجهات ثلاث إحداها إلى بلاد العرب لتأتي منها بالذهب والعقيق اليماني والبخور والصبر وعطور بلاد العرب واللؤلؤ والأباريز والعاج والأبنوس وريش النعام وقرود الهند. والقافلة الثانية ترحل إلى بلاد أشور لتعود منها بأنسجة القطن والكتان والحمر والأحجار الكريمة والماء المعطر وحرير الصين. وتقصد القافلة الثالثة أنحاء البحر الأسود لتستجلب منها الخيل والرقيق والأواني النحاسية من مصنوعات سكان جبال قافقاسيا القوقاز.
بحريتهم - بنى الفينيقيون بخشب أرز لبنان المتين قوارب بأشرعة ومجاذيف حملوا عليها متاجرهم البحرية وما مست حاجتهم أن يكونوا أبداً على مقربة من الشواطئ في ركوبهم البحر إذ كانوا يتجهون حيثما أرادوا بجعل نجمة القطب قيد نواظرهم وكانوا يستدلون بها على الشمال. ولقد فطر الفينيقيون على الاستخفاف بركوب اليم فألفوا بأنفسهم في مراكب صغيرة تغدو بهم وتروح في أطراف البحر الرومي بل جرأوا على اجتياز مضيق جبل طارق أو كما دعاه القدماء أعمدة هيركول فيجتازون البحر المحيط إلى شواطئ إنكلترا وربما بلغوا بلاد النروج. سافرت عصابة منهم في خدمة أحد ملوك مصر في القرن السابع وجازت البحر الرومي لتطوف حوالي إفريقية ثم رجعت على ما قيل بعد ثلاث سنين من البحر الأحمر وغادرت قرطاجنة حملة ضربت نحو شاطئ إفريقية إلى خليج غينة. وقد كتب القائد حانون قصة في هذه الرحلة.
البضائع - كان الفينيقيون يبتاعون محاصيل صناعات الشعوب المتمدنة ويبحثون في البلاد المتوحشة عما يقل الظفر به في المشرق من المحاصيل. يصطادون الصدف من شاطئ بلاد اليونان ومنه يستخرجون صباغاً أحمر وهو الأرجوان. وكانت الأنسجة(7/10)
الأرجوانية تستعمل عند الأقدمين كافة ملابس للملوك والأمراء ويجلبون الفضة التي يستخرجها أهل إسبانيا وسردينا من مناجمهم وكان القصدير من ضرورياتهم يستعملونه في صنع النحاس الأصفر وهو مركب من نحاس وقصدير لا أثر له في بلاد الشرق ولذا كان الفينيقيون يرحلون في طلبه وينشدونه حتى في شواطئ إنكلترا في جزائر القصدير المعروفة بجزائر كاسيتريد. وحيثما حلوا يتخذون الرقيق يبتاعونه تارة كما كان يبتاع النحاس العبيد في ساحل إفريقية. إذ الشعوب القديمة كلها كانت تتجر بالرقيق. وينزلون طوراً في إحدى السواحل فجأة فيختطفون النساء والأطفال وينقلبون بهم إلى بلادهم أو يبيعونهم في القاصية. وإذا واتتهم الحال ينقلبون قرصاناً ولا يتحامون إطالة يد التعدي على الأغيار.
سر اختص به الفينيقيون - لم يقلق الفينيقيون إلا من قيام بحارة الأمم الأخرى إلى منازعتهم السلطة على البحار ومجاراتهم في الملاحة والاتجار فمن ثم كانوا يكتمون الطريق التي يسلكونها إبان عودتهم من الأقطار النائية ولذا لم يعرف أحد في القديم جهة جزائر الكاسيتريد المشهورة التي جلبوا منها القصدير. وقد رأت إحدى المراكب بلاد إسبانيا التي كانت لها صلات تجارية مع فينيقية منذ قرون عرضاً بدون تعمل. وكانت قرطاجنة تغرق من تصادفهم من التجار الأجانب في سردينيا أو في ناحية جبل طارق. حتى أن ربان إحدى المراكب أغرق سفينته ذات يوم عندما رأى سفينة غريبة تطارده مخافة أن تطلع على خطة سيره.
مستعمراتها - أنشأ الفينيقيون مكاتب تجارية في البلاد التي اتجروا فيها وهي مراكز للبرد حصينة واقعة على شاطئ بحر على مرفأ طبيعي يخرجون إليها بضائعهم وهي في العادة أنسجة وفخار وحلي وأصنام فيأتي أهل تلك البلاد بغلاتهم فيقايضونهم عليها كما يقايض اليوم تجار الأوربيين زنوج إفريقية. تقام أمثال هذه الأسواق في قبرص ومصر وجميع بلاد البحر الرومي التي كانت على همجيتها مثل اقريطش (كريت) وبلاد اليونان وصقلية وإفريقية ومالطة وسردينيا وشواطئ إسبانيا (مالقة وقادس) وربما أقاموها في بلاد الغول (موناكو) وكان أهل البلاد يبنون أكواخهم حول بنايات الفينيقيين فيصبح السوق مدينة ويقتبس السكان أرباب الفينيقيين وقد دامت عبادة ربة على صورة الحمامة حتى بعد أن(7/11)
صارت المدينة يونانية كما في سيتير والرب ملخارت كما في كورنت ورب ذو جبهة ثور يفترس الضحايا البشرية كما في اقريطش.
نفوذ الفينيقيين - لم يكن يخطر للفينيقيين شيء على بال لما أسسوا مكاتبهم التجارية إلا الاحتفاظ بمصلحتهم الخاصة ولكن حدث أن نفعت مستعمراتهم التمدن فإن برابرة الغرب أخذوا عن أمم الشرق وكانت أكثر منها تمدناً كيفية صنع الأنسجة والحلي والماعون وتعلموا محاكاتها. مضى حين من الدهر واليونان لم يعرفوا غير الأواني والحلي والأصنام التي يأتيهم بها الفينيقيون وعلى منوال هذه البضائع نسجوا بعد فإن الفينيقيين حملوا من مصر وأشور الصناعة والبضائع معاً.
الأبجدية - حمل الفينيقيون أيضاً إلى البلاد التي نزلوها أبجديتهم وحروف الهجاء ولم يخترعوا الخط إذ كان المصريون يعرفون الكتابة قبلهم بقرون وقد استعملوا حروفاً تدل كل منها على صوت كما هو الحال في حروف الإفرنج. على أن خطهم كان مشوشاً بعلامات قديمة يدل بعضها على مقطع وآخر على كلمة برمتها. لا جرم أنه اقتضى للفينيقيين إذ ذاك طريقة أبسط لكتابة رسائلهم التجارية فاطرحوا العلامات كلها من مقاطع وصور ولم يبقوا سوى اثنين وعشرين حرفاً يدل كل منها على صوت أو على لفظ باللسان فاقتبست الشعوب الأخرى هذه الأبجدية المؤلفة من اثنين وعشرين حرفاً. فقد كتب اليهود من اليمين إلى الشمال كما كتب الفينيقيون وكتب غيرهم كاليونان من الشمال إلى اليمين وكلهم بدلوا شكل الحروف إلا قليلاً. والخط الفينيقي على التحقيق أصل الأبجديات كلها من يهودي وليسي ويوناني وايتاليكي وابتروسكي وايبيرسكي وربما كان الخط النروجي أيضاً فالفينيقيون هم الذين علموا العالم الكتابة.(7/12)
حسنات القرن الماضي وسيئاته
لقد تناول الانقلاب الذي طرأ على الأخلاق العامة أسلوب الطعام أيضاً فإن سرعة المواصلات وسهولتها وميل الحواس الظاهرة وارتقاءها قد أبدل ضرورة الطعام بضرورة الحس الظاهر بمعنى أن الإنسان رجاء إرضاء شهواته الذوقية قد تعدى حدود القناعة بأن آثار الشهوات الصناعية بالتوابل الخاصة والمنبهات الداعية إلى النهم حباً بالإكثار من ضروب الأطعمة والملاذ فقد انتشر فن الطبخ وإجادة الألوان في الأقطار على اختلافها من حيث الحرارة والبرودة وما اختلفت كمياته وكيفياته. كل ذلك لتحقيق شهوات النفوس وأذواق السكان في أنواع الطعام دون النظر إلى ما يحول دون ذلك من عدم الملاءمات الشخصية والمكانية مع هذه الطريقة في التغذية المختلفة الألوان والأشكال. وما أصدق ما قاله أحدهم من أن ما نتناوله اليوم من الأطعمة ينقسم إلى ثلاث درجات أحدها لضرورة الغذاء وثانيها لضرورة الذوق وثالثها توقعاً للأمراض التي تصيبنا في المستقبل. وقال شيشرون الخطيب الروماني: لقد أحدث الشره من المصائب أكثر مما أحدث الحرب فإنه مصدر كثير من الأوصاب والأدواء. فأرباب الشره مستسلمون لعاداتهم في طعامهم وشرابهم بحكم الذوق لا بحكم الضرورة ولذلك تراهم عرضة لكثير من الأمراض ومنهم من يغتر بما يكرعه من المياه المعدنية في فرنسا والنمسا (في فيشي وكارلسباد) وسائر البلاد التي تنبجس فيها أمثال تلك المياه فترى في كل سنة يزور كلاً من تينك البلادين زهاء خمسين ألف زائر ويغرهم تسهيلها الهضم معهم حتى إذا رجعوا إلى أهلهم قريرة أعينهم بما شاهدوه من التحسين في صحتهم يعودون إلى سالف عاداتهم من النهم والبطنة والبطنة كما قيل تأفن الفطنة فيندمون على ما فرطوا في جنب معدهم ولكن بعد أن يسبق السيف العذل.
وإن السواد الأعظم من العاملين الذين يتألف منهم جيش المجاهدين في الحياة ليقضون النهار في أماكن محصورة بعضهم في مصنع وآخر في غرفة عمله وفريق في مكتب وغيره في مخزن وكلهم يعملون بلا انقطاع بأيديهم أو بعقولهم فيصرفون جميعاً جزءاً عظيماً من قواهم الطبيعية والعقلية ولا يتناولون أطعمتهم في أوقاتها ولا يرتاحون بعد غذائهم راحة كافية لتعمل الأعضاء الهاضمة عملها ولا يألفون من أنواع المسليات غير أماكن القهوة ودور التمثيل فيستنشقون هواءً ملوثاً بأكسيد الكربون وحامض الكربون وغيره(7/13)
من الهواء المنبعث من تضايق مئات من الأنفاس المجتمعة في أماكن مغلقة يعوزها الترويح والهواء النقي المستنشق مما يؤدي بمن يختلفون إلى تلك المحال إلى اختلال أحوال الهضم والبنية والقوة وتكون أبدانهم مرتعاً خصيباً لجراثيم الأمراض وفي مقدمتها السل.
وما جاء به هذا القرن من الأعمال العلمية والعقلية والطبيعية قد أثر في محيط الناس كل التأثير وخصوصاً في الغذاء والمجموع العصبي. وما أحلى ما قاله أرسطو من أن الإنسان يريد إمتاع حواسه ويبحث عن أسبابه إذ من الملذ للباصرة أن تنظر وللسامعة أن تسمع وللجلد أن يمس وللسان أن يذوق وللشامة أن تستنشق.
وجملة الأمر أن نشوء المجتمع الإنساني في القرن التاسع عشر قد جرى بقوة الجهاد المتواصل الذي أودى بحياة مئات الألوف من الضحايا البشرية وقد نبه في المجاهدين وفي أخلافهم حب الارتقاء والتهذيب العقلي بحيث دخل الفكر الإنساني في دائرة من الحركة المعجلة تسير أبداً إلى غاية لا حد لها وأهلها أبداً في قلق حرصاً على كشف أسرار الطبيعة والانتفاع بقواها المكنونة والوقوف على القوانين القائمة بها. ولئن عني الإنسان بقمع جماح الطبيعة وفتح الترع وحفر القنوات وابتناء الطرق الحديدية في القفار والسهول الواسعة المتجمدة حباً بربط القارات بعضها ببعض فإنه لم يعمل كل هذا رغبة في توسيع ميدان جهاده وزيادة في مصادر الثروة العامة والخاصة بإيجاد مصارف لمصنوعاته بل هناك شيءٌ من سائق الفطرة دعاه أن ينقل بذور التمدن إلى البلاد الشاسعة في آسيا وإفريقية لأنها ظلت مباينة لأفكار الارتقاء والشعور الإنساني وهما من خير ما أنتجه القرن من صالح الأعمال ولكن هذا الجهاد العظيم الذي اضطرت الإنسانية أن تتحمله مدة قرن كامل قد أحدث أمراضاً مختلفة كما أنه زاد الشقاء الاجتماعي واشتدت حرب الحياة بما لم يعهد له نظير. نعم وقف ولاة الأمر على فساد النظام الاجتماعي الحاضر وأيقنوا بالحاجة الماسة إلى مداواته بيد أنهم تضاءلوا عن الإقدام عليه بداعي قلة ما لديهم من الأسباب في تخفيف نتائج حركة الارتقاء وضعف الأساس الذي يقوم عليه بناء المجتمع الحديث. على أن الفطرة هدتهم إلى الأخذ من معارف حملة العلم في فروع المعارف الاجتماعية المختلفة والاهتداء بهديهم وخصوصاً فيما من شأنه أن يكون فيه النظافة العامة وإصلاح حال الطبقة(7/14)
النازلة من العملة وكانت البلجيك أول الدولات التي دعت الدول إلى مؤتمر صحي دولي سنة1851 و1852 ثم حذت فرنسا حذوها ومذ ذاك أصبحت المؤتمرات الصحية الدولية تجتمع كل سنتين في عواصم أوربا. وتنقسم هذه المؤتمرات بحسب معارف من تتألف منهم فيعنى بعضها بالمباحث المتعلقة بالأمم وبإحصاء حركة الشعوب العامة في كل قطر وبأسباب موت الأولاد في سن الطفولية وبحفر القنوات في المدن وإروائها بماء طاهر عذب. ويعنى البعض الآخر بالأمراض السارية وطرق الوقاية منها. ويدرس بعضها الإنسان من حيث صنعته أو حفظ صحته في صناعته من تغيير هواء المعامل والمصانع حيث يقيم العامل ويمس بيده مواد مضرة أو تركيبات كيماوية تفعل فعل السموم أو مواد نباتية أو معدنية تخرج منها غبرة تسبب أمراضاً رئوية. ويعنى بعضهم ببناء بيوت للعملة ومساكن رخيصة. ويبسط بعضهم جناح حمايته على الأطفال في المد الكبرى ويقوم على حفظ الصحة في المدارس. ويهتم بعضهم بوقاية الناس من السل والأمراض الزهرية. ويبحث بعضهم في الطرق التي تحول دون انتشار تعاطي الكحول. وبالجملة فكلهم يد واحدة يسيرون نحو غاية واحدة ألا وهي درس كثير من المشكلات الصحية وتدبير الصحة العامة ليوفروا لكل مملكة سكانها ويكثروا سوادها ولينقبوا عن أسباب من شأنها أن تؤدي بالجنس البشري إلى الكمال بإصلاح ملكات الطبقة النازلة وتحسين غذائهم وتطهير الأرض والهواء والماء استبقاءً لصحة سكان المدن العظمى وتقوية للمقاومات الحيوية في الأفراد ومقاومة لغارة جراثيم الأمراض السارية.
وبالنظر لارتفاع كلمة الاشتراكية في أوربا اضطرت حكوماتها والطبقة العالية من علماء الاقتصاد فيها إلى القيام بأعمال تضمن سلامة العملة ومستقبلهم وبعنايتهم تألفت عدة جمعيات تتوخى بذل الإحسان للبائس والفقير وجمعيات متعاضدة على حب الخير. ووافقت دور الندوة والأندية السياسية في ممالك كثيرة على قوانين تقي الشيوخ والزمنى مصارع السوء وموارد الهلكة وتقوم بأودهم في أوقات مرضهم ومصائبهم. ومتى عرف الناس كافة قيمة الهواء النقي والماء الجيد السائغ وما يفعلانه في الصحة والخطر الذي تتعرض له الحياة البشرية من فساد الأرض بالمواد الأولية العفنة متى عرف الناس هذا يقدرون الانطباع على الاعتدال حق قدره في إطالة الأعمار. ولا مندوحة للبشر إذا توفروا على(7/15)
أسباب النظافة والاعتدال أن يعنوا بتطهير الأخلاق العامة والخاصة من الشوائب وترقية الشعور الأدبي في الأفراد ومن مجموع هذه الصفات تتحقق نيات زعماء التمدن الحديث والداعين إلى البلوغ به أوج الكمال. وإذا لقيت رائد الطرف على ما تم في الأعوام الأخيرة أدركت أن ما انبعث في النفوس من المضاء يقوي الملك في أن يتمم القرن العشرون ما فات شقيقه الأكبر.
وإن ما ساعد الإنسان على بلوغ درجة من الترقي فاق بها أسلافه في القرون الماضية هو التعاضد والتكافؤ فهو العمل الذي كلل هامة التمدن في هذا القرن. ورمز هذا النظام: أن من الاتحاد قوة وغاية هذا التكافؤ تقوية صلات الأسرات بالمعارف الاجتماعية ومساعدة المرء العاجز عن العمل من مرض وحادث أو عطلة أو شيخوخة أو هرم فتألفت جمعيات حديثة غايتها أن تعطي رواتب ضماناً للحياة أو في حال الوفاة وقامت بعضها بأعمال خيرية وتهذيبية صناعية وبذل بعضها مجهود لنشر المعارف العلمية في مدارس عملية وتأسيس خزائن كتب وحدائق العملة وبعضها أخذت على نفسها القيام بالأعمال الصحية وتطهير المساكن وتحسين الشروط الحيوية في العملة وتعاهد بعضهم على مقاومة السل وذلك أولاً بالبحث عن أسباب الشقاء الاجتماعي ثم بإحداث ملاجئ ومصاح. وتألفت بعض جمعيات للقيام بحماية الأمومة والطفولة. ناهيك بأن مبدأ التكافل الاجتماعي قد أشربت النفوس حبه في البلاد الإفرنجية حتى أن فرنسا بعد أن كان فيها عام 1891، 9144 جمعية وأعضاؤها 1. 472. 285 ورأس مالها 183. 587. 450 فرنكاً قد صارت سنة 1904 18500 جمعية وأعضاؤها 3. 700. 000 ورأس مالها 380 مليوناً ودخلها 54 مليوناً. وكفى بأنه تألف في شهر أبريل فقط سنة 1904 في فرنسا 117 جمعية جديدة.
هذا ولا ريب أنه ستعظم صلات التكافؤ بين صالح الأفراد ومصالح الأسرة البشرية العظمى بكثرة تلك الجمعيات الراقية وتأصل ملكة التكافل الإنساني فتزيد تلك الصلات في كل يوم عن امسه توطيداً. وكيفما دارت الحال فإن هذا يعد من الارتقاء العظيم في السلم الاجتماعي على حين كان معدوداً من قبل من الخيالات الباطلة ولابد أن يأتي يوم يعد فيه من الضرورات للسلامة العامة. فإن افتخر القرن التاسع عشر بأن بسط المشاكل الاجتماعية ومثلها على بساط الوجود فمن الفروض المحتمة على القرن العشرين أن يأتي(7/16)
على حلها إلى عالم الشهود.(7/17)
تعليم العميان
اهتم العالم المتمدن في الأيام الأخيرة بتعليم العميان إذ رأى علماء الاجتماع أنهم يصلحون لأعمال كثيرة لا يصلح لها أغلب المبصرين وذلك مثل التوقيع على آلات الموسيقى والغناء وغيرهما من الفنون الجميلة. وليس تعليم العميان في الغرب بعيد العهد كثيراً بل يرد عهده إلى النصف الأخير من القرن الثامن عشر. فقد أسست سنة 1784 في باريس أول مدرسة للعميان وكانت قراءة التلامذة في هذه المدرسة باستعمال الحروف البارزة. وفي سنة 1786 عرض فالانتين هاي الذي اشتهر بحب الإنسانية في خدمة بني جنسه تلامذته على الملك لويس السادس عشر وحاشيته في بلاط فرسايل. وفي تلك السنة نفسها نشر مقالة في تعليم العميان شرح فيها طريقته. ولكن هاي لم يكن غنياً وحدث أن نضب نبع عطاء الكرام فعجز هاي عن إتمام عمله فقررت الحكومة الفرنسية أن تأخذ المدرسة تحت حمايتها لتنفق عليها من ماليتها وكان ذلك في سنة 1791.
وقد أخذت بلاد الإنكليز من فرنسا تلك الطريقة الشريفة فأسست في إنكلترا مدرسة العميان بليفربول وملجأ العميان في ادنبرج ومدرسة العميان في لندن وغير هذه في بلفاست ودوبلين ويورك. وفي سنة 1868 أسس الدكتور ارمتياج جمعية معاونة العميان وكان غرض هذه الجمعية ترقية تعليمهم فأسست المدرسة الملوكية لتعليم الموسيقى وكان الغرض من تأسيس هذه المدرسة ترقية تعليم فن الموسيقى لأنه كان الفن الوحيد الذي برع فيه العميان لسهولة تعليمهم إياه وقد نجح في هذه المدرسة 89 في المائة وكلهم اليوم في مكنة من الكسب والتعيش بصنعتهم. وقد رأى القائمون أمر هذه المدرسة أن أهم شيءٍ في تعليم العميان هو تقوية أجسامهم وتربيتهم تربية بدنية عقلية وذهب بعضهم إلى أن العمى ليس هو السبب الوحيد في خيبة المصابين به بل السبب في خيبتهم إنما هو خمولهم وضعف الإرادة والعزم فيهم فأدخل في هذه المدرسة كثيراً من الألعاب الرياضية كالمشي والعدو والطعن والسباق وركوب الدراجة والتجديف والانزلاج على الثلج. وكان التهذيب العقلي يشمل تقوية الفكر وتنمية قوة الملاحظة والذاكرة وتنبيه الميل إلى الدرس والمطالعة والتمرين على النطق بالتأني مع قلة الكلام. وفرض على كل طفل أعمى أن يتعلم فن الكتابة على آلة الكتابة المسماة تيبرايتر ويختص البنات بتعلم الخياطة والحياكة وصنع الحلل.(7/18)
وأول من اخترع حروفاً لقراءة العميان إسباني اسمه فرنسيسكو لوكاس اخترع طريقة حفر الحروف على ألواح الخشب وقدم هذه الطريقة إلى الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا ثم اخترعت طريقة للقراءة غريبة وهي استعمال الدبابيس والوسائد بدل الحروف والطروس. واخترع ألماني طريقة القراءة بتجويف الورق الغليظ. وعلم بهذه الطريقة الآنسة بارديس التي نبغت في فن الموسيقى نبوغاً عظيماً.
وتدل الإحصائيات العلمية على أن عدد العميان قد أخذ ينقص شيئاً فشيئاً فقد كان في إنكلترا وويلس في سنة 1851 أعمى واحد من كل 979 وفي 1861 كان فيهما أعمى في كل 1138 وفي 1891 كان فيهما أعمى واحد في 1235 وينسب هذا النقص إلى ترقي فن الجراحة البصرية واهتمام الأطباء بدرس أمراض العين واعتناء الأهلين بعيون أبنائهم عند ولادتهم. وفي إنكلترا وويلس 25 مدرسة للعمي و33 معملاً لتعليم الحرف و46 جمعية تختص بفحص أحوال العمي وتدبير أمورهم. والصنائع الشائعة التي تعلم في هذه المدارس هي عمل السلال والفرش والحصر والأكياس والحبال والمكابس والبسط والسلك والكراسي للذكور والخياطة والغزل والنسيج للإناث وقد أفاض الأغنياء على هذه المدارس وهاتيك الجمعيات والمعامل ضروب العطاء وجاد كثير منهم بأرزاق واسعة بعد موتهم وقفوها على تعليم العميان وإصلاح حالهم.
وبعد فلا يسعني بعد أن أتيت على ما أتيت عليه من أخبار العمي وتعليمهم إلا أن أحيي الغرب وبنيه الذين أحسنوا الانتفاع بكل شيء وعلموا حتى العميان وأؤنب الشرق وأهله الذين أساؤوا استعمال كل شيءٍ وأهملوا حتى تعليم المبصرين. فلله در أرض يبصر فيها المكفوفون ولا در أرض يعمى فيها الناظرون وسقيا لجدث شاعرنا الذي قال:
أن يأخذ الله من عينيَّ نورهما ... ففي فؤادي وقلبي منهما نور
القاهرة
محمد لطفي جمعة(7/19)
جيوش المستقبل
جاء في العدد الأخير من مجلة البابيروس التي ينشئها صديقي ميخائيل مونان الكاتب الأمريكي البليغ مقالة من قلمه تحت عنوان صورتان يقابل فيها بين كلام لكاريل في الحرب وكلام لكارل مركس فاستحسنت نقلها إلى المقتبس لإرجاء نشر محاسن مجلة صديقي الصغيرة النفيسة التي لا تنفعها الشهرة العربية بل حرصاً على بث رأي الفيلسوف الألماني الجميل وحباً بالسلم العام الذي لا يستتب كل الاستتباب إلا إذا تأصلت جرثومة بغض الحرب في قلب كل إنسان. لكاريل فصل مشهور يصف فيه جيشين متعاديين واقفين في ساحة القتال ينتظران أوامر قوادهما على حين ليس من عداوة بين رجال الجيشين ولا ثأر ولا تراث ولا يحملهم على القتال شيء من الضغائن الشخصية ولا دعاهم إلى ساحة الحرب داع من دواعي الأمة والوطنية التي يحسبها بعضهم شريفة جليلة فهم هناك امتثالاً لإرادة حكامهم المطلقة وطوعاً لأوامرهم العالية. هم ثمت لا لأسباب لها مساس بشؤونهم العالمية ولا لدواع تستلزمها مصالحهم الخصوصية ولا لأغراض ينفعهم تعزيزها وتنفيذها ولا لمبادئ يهمهم نشرها ومعرفتها وتراهم مع هذا هجروا نساءهم وأولادهم وبيوتهم وآباءهم وأمهاتهم وكل ما يرغبهم في الحياة ليريقوا دماءهم الطاهرة ودماء غيرهم من الأبرياء من أجل أهواء حكامهم الخبيثة أو مطامعهم الباطلة. وفي كلا الجيشين كهنة يحرضون الرجال على القتال ويزينون لهم الجهاد في سبيل الأمة والوطن. يزينون لهم سفك الدماء الذي يؤهلهم إلى الخلاص بالمسيح كما يزعمون. ويبرهنون لهم أحسن برهان بأن عملهم هذا مطابق للإرادة الإلهية التي يمثلها في حكامه المختارين المباركين ولما كان الكهنة يعزون مثل هذا الجهاد إلى إرادة إلهية شأنهم في كل حرب منذ بدأت القبائل والشعوب تغزو بعضها بعضاً للقتل والسلب والنهب فينتج عن ذلك أن الله عز وجل هو المسؤول وحده عن الحرب وأهواله. وهكذا يهجم المتحاربون بعضهم على بعض هجوم الوحوش الضارية وقد فعلت هذه المنبهات الدينية في الرؤوس فيذبحون إخوانهم ويفادون بأنفسهم للذبح راضين قانعين لأن حكامهم أمروا بذلك وكهنتهم آذنوا به بل حرضوا عليه. على أنهم يسيرون إلى ساحة الحرب بادئ بدءٍ بفتور همة وتردد حتى إذا تقابل الجيشان تتغير الوجوه وتلعب في القلوب روح الهمجية ونهمة القتال. فينقلبون سريعاً وأي انقلاب. ولم يكونوا من قبل ليفكروا في غير بيوتهم وعيالهم المهجورة وفي النول والمحراث(7/20)
والمعمل وأدوات الصنائع المتروكة. وأما الآن فلا يهزهم سوى نهمة وحشية واحدة فتراهم قد فقدوا كل عاطفة بشرية تراهم يفرحون ويتهللون بسفك الدماء فيصرخون وقد ملأت رائحة الدم خياشيمهم اقتلوا اقتلوا اقتلوا. هذه هي الصورة الهائلة التي صورها كارليل.
وهناك صورة أخرى تمثل الجيشين المتعاديين صورها كارل مركس بقلمه. وليست الصورة هذه مشهورة كالأولى ولكن ستصبح عزيزة فريدة في المستقبل فتفوق صورة كارليل شهرة وتستمطر على موحيها ومؤلفها رضوان الله وثناء العباد. وليست هي في الحقيقة صورة بل هي نبوة قد يشاهد أحفادنا تحقيقها عياناً. وصف كارل مركس اجتماع الجيشين يقتتلان كما وصفهما كارليل فهما أيضاً مؤلفان من عامة الناس الذين يقدمهم الحكام طعمة للحرب قال: ها قد دعوا الآن إلى ساحة القتال ولا مصلحة تبعثهم عليه ولا غرض ولا ثأر ولا مبدأ ولا داع البتة ولا سبب يتعلق بشؤونهم الخصوصية ولا واجباً حقيقياً نحو الأمة والوطن يوجب عليهم سفك الدماء الزكية ومع هذا كله ترى الكهنة بينهم يحرضون على عادتهم عملاً بتقاليد تجارتهم وبعد أن يبثوا في الجيشين روح الدين - بعد أن يشحذوا في قلوب الرجال نهمة القتال يتقهقرون ساكنين ويتخذون لهم مراكز آمنة في مؤخرة العسكر. وكأنك بالجيشين قد تقابلا وصدرت أوامر القواد ولكن بدل أن يهجم الرجال بعضهم على بعض هذه المرة هجوم الأعداء تراهم قد رموا بسلاحهم إلى الأرض وتصافحوا مصافحة الإخوان. وعندئذ يختفي إلى الأبد شبح الحرب الهائل. ويهجر الكهنة والعقبان ساحة القتال آسفين. ويتنازل الحكام عن عروشهم ويتعزز الإخاء الحقيقي ويبتدئ عصر الإنسانية.
ومن لا يفضل صورة كارل مركس هذه على صورة كارليل: من لا يعمل استطاعته ليقرب اليوم الذي فيه تتحقق هذه النبوة؟ ومن لا يبذل ما في وسعه في سبيل هذه الأمنية الجميلة؟ فسقيا لليوم الذي فيه يبتدئ عصر الإنسانية والمحبة البشرية.
لبنان
أمين ريحاني(7/21)
النهضة الأميركية
معربة عن الفرنسية
انتشر مذهب مونرو وقوي في نفوس الأميركيين الأدلال بأميركيتهم فتوسعت أحوال الولايات المتحدة وزادت بسطة في الجاه والثروة. وحذا خلفاء مونرو حذوه في التمسك بمبدأ الإكثار من الضرائب على الواردات مع ميل بعضهم إلى حب التوسع وتوفير الصلات مع البلاد الأجنبية وخفف جاكسون أحد رؤسائهم مكوس الجمارك فنقص الدين العام وكان بلغ 127 مليون دولار بتخفيف الضرائب ووفي كله. ثم جاء بعد هذا من الرؤساء من حافظوا حق المحافظة على مبدأ مونرو ورفعوا سدود الجمارك من وجوه السلع الأجنبية وأنذروا العالم أن مبدئهم السياسي القويم في المستقبل الضرب على يد كل دولة أوربية تطمح إلى أن تنشئ لها مستعمرة أو تستحل لها أرضاً في أميركا الشمالية وأن الولايات المتحدة هي الحاكمة المتحكمة التي لا تسأل عما تفعل في تلك الأصقاع وسعوا السعي الحثيث حتى ضموا إلى بلادهم يوكاتان وأريغون وجزيرة سان دومينيك. وصرح كرانت أحد رؤساء الجمهورية أن الوقت ربما لا يطول وأن مجرى الحوادث الطبيعية والصلات السياسية الأوربية مع أميركا قد انقضت أيامها وأن الولايات المتحدة تعمل يداً واحدة مع الممالك الإسبانية الأميركية على إحراز خصل السبق والذهاب بفضل العمل على الأوربيين للاستمتاع بمبدأ سنه مونرو وأدامس وكلاري. وبعد خمس وعشرين سنة قام الرئيس كليفلند وصرح لإنكلترا بأن لجنة أميركية عهد إليها النظر في مسألة فنزويلا فإذا عبثت بريطانيا بما تقرره تلك اللجنة يكون في ذلك الحرب ويعني بذلك أن الولايات المتحدة اشتد ساعدها بحيث صارت في غنية عن الاستمداد من غيرها وأنها حامية أميركا الشمالية والجنوبية معاً وكان لهذا النبأ في العالم القديم (أوربا) دوي كدوي الرعد تحت سماءٍ من الرصاص وظهر مبدأ مونرو هذه المرة سيفاً لامعاً في ظلمات الماضي وبه نهضت نهضة الشمير البصير.
وبعد فإن المراد من النهضة الأميركية مذهب الأمريكان الداعي إلى التفاف أميركا برمتها حول الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً وذلك حرصاً على مصلحة عالية أخذ مصدرها الأساسي عن مبدأ مونرو. ذاك المبدأ الذي سنه هذا الرئيس وجرى عليه العمل في أزمان(7/22)
رؤساء كثيرين وفيه بقاء الولايات المتحدة وضمان توسعها وتبسطها في مناحي السلطة والثروة والبقاء وليس غير هذا المبدأ دافعاً عن مصلحة البلاد غارة الأوربيين لاسيما وهم يأتونها زرافات ووحداناً.
ولم يكن الرؤساء بولك وكرانت وكليفلند وأولنيه إلا مؤيدين لمونرو وعاملين على نشر مبدأه الاقتصادي. وقد أبان أحد علماء تلك البلاد بأن مبدأ مونرو لم يعمل به هو ولا أشياعه من بعده وأن أميركا لم تنهض حق نهضتها وذكر إثباتاً لرأيه أمثلة طفيفة من تداخل الأوربيين في شؤون أميركا بالفعل دون أن تقيم الولايات المتحدة الحجة على ذلك. فحصار إنكلترا سنة 1842 لسان جان دي نيكاراغا ولمرافئ السان سلفادور سنة 1851 وقبض السفن البرازيلية سنة 1862 انتقاماً من التعدي الذي وقع على البرنس أوف فالس كلها من الأمثلة في هذا الباب. قال هذا الناقد أن مبدأ مونرو لم يسن لمعاضدة حقوق الممالك الأميركية ومصالحها بل للاحتفاظ بحقوق الولايات المتحدة ومصالحها فقط.
ثم أن مبدأ التكافل الأميركي من أدنى إقليم الألاسكا في الشمال من أميركا إلى أقصى أرض النار من أميركا الجنوبية هو من الأوهام التي يصعب تحقيقها وقد حملت زمناً بهذا التكافل جمهوريات الجنوب الصغرى إلى أن ظهرت الولايات المتحدة في مؤتمر باناما سنة 1826 بمظهر الأثرة وحب الذات. فإن كان مبدأ مونرو هو الصلة الأساسية التي تضم شتات الأمريكيين بعضهم إلى بعض فإن أوربا لا تعد من الأمريكان غير أهل الشمال أي سكان الولايات المتحدة. وما عداهم من سكان الجنوب فحجة يتوكأون عليها وذريعة يتشبثون بأهداب الدفاع عنهم في الأحايين وما معنى النهضة الأميركية إلا انضواء الأمم الأميركية الضعيفة تحت علم الأمة القديمة ملتفة حول لواء المسكنة ملتحفة ثوب الصغار والذل.
ومازال الحق بجانب القوة أي أن الأمريكيين يهددون بسيف قوتهم كل أمة أوربية تريد أن تستبيح حماهم فيدافعون بذلك عن حقيقتهم ومصلحتهم. فقد قيل أن الأمريكي تحيط به تمائم ثلاث التوراة والدستور ومذهب مونرو هذه هي عدته الاجتماعية وسلاحه الذي يستعمله في جهاد هذه الدار. ولئن أسيء استعمالها فليس من داع لملام الأمريكان إذ يقضي على كل أمة أن تقضي أربها وتنال حظها ويحق لكل أمة هددت مصالحها بمصالح أمة متغلبة أن تقاوم جهد قوتها وتدافع عن بيضتها وأن تغير غارة شعواء على من يتربص بها الدوائر فلا(7/23)
تتسامح مع الأنانية الوطنية إلا بقدر ما لا يضر هذا التسامح بالرغبات الخاصة المحترمة عند الشعوب الأخرى. نعم كل يجر النار إلى قرصه وكل امرئ في شأنه ساع ولكن يقتضي على القوي القادر أن لا يروح مدفوعاً بعوامل حب منفعته قائلاً للضعاف أو المستضعفين جهاراً أو رئاءً: إني أعمل لمصلحتي لا لمصلحتكم ولكنكم اعملوا لي كما لو كنت أنا اعمل لكم.
بيد أن هذه الجمهورية الكبرى في أميركا الشمالية لم تسلك مسلكاً آخر أمام جمهوريات الجنوب الصغرى فإن الأولى عالمة علم يقين بأن ليس بينها وبين جاراتها من تكافل المصالح إلا ما يفيد الولايات المتحدة في مادياتها أي أن طريقة حماية التجارة تؤدي إلى الإفلاس والشقاء في البرازيل والأرجنتين فإن هاتين المملكتين خصيبتان ولكنهما ضعيفتان من حيث الارتقاء الصناعي ولذلك اضطرتا بحكم الحاجة إلى أن تفتحا أسواقهما للواردات الشمالية بدلاً من أن تغلقاها. وهاتان المملكتان مضطرتان إلى تحسين صلاتهما مع الكافة لأن معنى اعتزالهما تحت برقع النهضة الأميركية وابتعادهما عن الأوربيين حباً بأن تكونا من حروف الزوائد مع سكان الشمال أنهما كسلانتان جاهلتان محافظتان على القديم مضادتان للأهواء المعادية للتمدن راغبتان في الفناء الطبيعي الذي يلحق الأجناس ويدب فيها سوس الفساد الأدبي.
هذا ولم تتمالك إحدى المجلات الأميركية الشهيرة من التصريح بأن الولايات المتحدة تلجأ إلى القوة إذا جرى في الجنوب ما يخالف هواها. ولذا لم يستغرب أحجام إنكلترا سنة 1895 في مسألة فنزويلا وكيف طرد الإسبانيول من جزيرة كوبا سنة 1898 وكيف فتحت بورتوريكو وكيف كادت تباع جزائر الأرخبيل الدنمركية وكيف يطوف الأسطول الأميركي أبداً محافظاً أو قاهراً البحر المتوسط الأميركي حيث تمتد أصقاع سان دومينيك أو فنزويلا أو باناما وكيف يتبجحون عند أقل فرصة ولو في حدوث مسألة خاصة إن مبدأ مونرو يأمرهم بأن يحموا جمهوريات برازيل أو الأرجنتين أو بيرو أو شيلي أي أن يقوموا بشؤون تلك البلاد قيام الوصي والمعلم.
وإذ كانت النهضة الأميركية الاقتصادية مرتبطة بالنهضة السياسية ولا تتحقق النهضة الاقتصادية لما هناك من اختلاف المصالح التجارية بين سكان الشمال والجنوب وبعبارة(7/24)
ثانية بين أميركا البروتستانتية السكسونية وأميركا اللاتينية الإسبانيولية - رأت الجمهوريات الصغرى أن تحتفظ بحقوقها فقاومت ما تدعو إليه الولايات المتحدة من النهضة الاقتصادية خشية أن يلحق سلامتها نقصان. فعقدت مؤتمرات حضرها مندوبو الحكومات الأوربية ومن جملة ما عقد من المعاهدات معاهدة بين أميركا الشمالية والمكسيك سنة 1883 تدخل بموجبها سلع الشمال إلى بلاد المكسيك حرة بلا جمرك كما أن الشمال يقبل حاصلات المكسيك الطبيعية كذلك. ومع هذا لم يظفر سكان الشمال بطلبتهم فقد باع سكان الولايات المتحدة سنة 1894 لسكان الجنوب بضائع بمبلغ 135 مليون دولار وابتاعوا منهم غلات بمائتين وستة وأربعين مليوناً.
قال الكاتب وكل ما قامت به أميركا الشمالية من الأعمال من حرب وضم أرض وفتح بلاد من أرض الجنوب إن هو إلا للتفادي من أن ينال مذهب مونرو بعض ضعف وما هذه الأعمال إلا دالة أصرح دلالة على ما تحوي ضلوعها من فكر الاعتداء والفتح المنطوي تحت اسم نهضة أميركا.
لا يعدم الحق أنصاراً وإن من الاتحاد قوة. فقد قام بوليفار من رجال السياسة وأبطال الحرية الملقب بواشنطون أميركا الجنوبية فحرر كولومبيا وفنزويلا وبيرو وخط الاستواء وبوليفيا ثم أراد أن يجمع هذه الأمم الحرة كلها في ظل العلم الدستوري ويجعلها مملكة قائمة برأسها ففشل في دعوته ثم عاد فدعاهم باسم المحافظة على مبدأ مونرو فأجابت بعض البلاد الجنوبية دعوته. وتلكأت الولايات المتحدة كثيراً كأنها قالت بلسان الحال أن هذا المبدأ سن لحماية مصالح الشمال لا لمصالح الجنوب وأشارت إلى مندوبيها بأن لا يصغيا إلى ما يقرر إلا بأذن صماء فعرفت جمهوريات الجنوب الصغرى أن جمهورية الشمال الكبرى ليست أختهنَّ. ذلك لأن بوليفار لم يتصف كواشنطون بإرادة ثابتة منظمة بل كان من شدة الحمية بحيث يستهين بروحه ويريق دمه حباً بمصلحة العالم ويرى الأمم كلها أخوة والناس أحراراً سواءً ولذلك لم يحسن إدارة ما افتتحه من البلاد وغنمه من الطارف والتلاد.
وظلت الولايات المتحدة سائرة تلتهم كل ما تصادفه في طريقها من المغانم والفرائس ومنها ضم جمهورية التكساس إليها وهي ضعفا مساحة فرنسا. ضمٌّ لم يخل من المخاطر إذ أن الولايات المتحدة تحظر الرقيق ولا تقول هذه الجمهورية بمنعه. وبعد جدال طويل الأذيال(7/25)
مع المكسيك بل بعد الأخذ بالتلابيب وإشهار المكسيك الحرب على أميركا ضمت التكساس إلى هذه وصارت الولايات المتحدة صاحبة القول الفصل في الشمال بالقوة ومن ذلك تداخلها في جزيرة سان دومينيك وقد انقسمت قسمين مستقلين وثارت بينهما ثائرات العداء ولكنها تلطفت في هذا التداخل. وكانت تود إلحاقهما ببلادها لو لم تكن خارجة منهوكة من حرب الرقيق. ولا يزال لسان الثورات يندلع في تلك الجزيرة وكثيراً ما هددت أميركا من أجلها ولعلها تلتهمها بعد لأنها واقعة بين جزيرتي كوبا وبورتوريكو اللتين بسط النسر الأمريكي مخالبه عليهما. ومرفأ هذه الجزيرة سان نيقولا هو بمثابة جبل طارق لأميركا. وفاوضت الولايات المتحدة حكومة الدانمارك عام 1902 في أن تبيعها جزائرها في الأرخبيل الانتيل بمبلغ خمسة ملايين دولار وهي ثلاث جزائر مساحتها السطحية 310 كيلومترات مربعة وسكانها 32786. فاكتشفت في خلال هذه المدة حبال نصبها أحد أعضاء مجلس البلاد الدنمركية وتبين أنه ارتشى لتحقيق رغبات الأمريكان. فتأخر النظر في أمر الجزائر الآن ريثما تجيء الفرصة المناسبة (والأمريكان كالإنكليز لا يضيعون الفرص ولا يخترعونها) ولئن لم تسقط هذه الأجاصة في أرض الأمريكان فذلك لأنها الآن آخذة بالنضج وما نضجها على الصابرين ببعيد.(7/26)
انحطاط المشرق بانحطاط الأخلاق
بسطنا الكلام في فصل سابق عن انحطاط المشرق وأبنا ثمة أن سببه انحطاط الأخلاق وعراقة الشرقيين في الحضارة وبلوغهم منها غاية قضت بتمكن الضعف منهم منذ زمان مديد ووعدنا بالعود إلى هذا البحث وإتمام الكلام عليه ووفاءً بالوعد نقول:
أشرنا في ذلك الفصل إلى أن الأخلاق السافلة التي تقضي بانحطاط الأمم وضعفها كثيرة وأن ما نراه منها مظنة انحطاط المشرق وأهله لا ينحصر بالملاذ البدنية بل هو أعم من ذلك وأن عامة الأخلاق الفاضلة في المشرق قد تطرق إليها الضعف فأضعف قوى الشرقيين ونفوسهم عن النهوض مع الناهضين والتسابق مع السابقين من أمم المغرب والخطر من هذا على المشرق عظيم يتهدد أهله بناموس الانتخاب الطبيعي القاضي ببقاء الأنسب. وحسبك دليلاً على ذلك هذا السكون المطلق الذي يخيم بسحبه المظلمة على آفاق المشرق بينا المغرب في حركة مستمرة يخترق صداها حجب الفضاء وتهتز لها جوانب الغبراء. فلو هبط الآن على الأرض هابط من عالم النجوم لخيل له أن المشرق وأهله عالم آخر لا اتصال له بالمغرب لما بينهما من التباين الذي يكاد يكون مستحيلاً في نظر العقل في عصر وصلت فيه الكهربائية والبخار بين جوانب الأرض وأصبح فيه العلم مشاعاً بين الأمم لا يقصر عنه نظر المتطاول. ولا يد المتناول. وما هذا التباين إلا أثر من آثار الأخلاق في رقيها وتدليها والإنسان إنما دعي إنساناً مميزاً بنفسه لا بجثمانه فالنفس هي التي تعلو بهذا الإنسان الضعيف حتى تبلغ به عنان السماء وتهبط به إلى الحضيض حتى يلتصق خده بأديم الأرض.
فكل ما في المشرق من وهن في العزائم. وفتور في الهمم. وإخلاد إلى السكون. وعجز عن النهوض. وتخاذل يفرق المجتمعات. ويأكل القوميات. ونفور من العمل. واسترسال في الجهل والخمول. ورضا بالضيم واستسلام للفاتحين والمستعبدين من الغربيين.
إنما هو نتيجة ضعف في النفوس تأصل فيها بضعف الأخلاق ويوشك أن يرجع بهذه النفوس البشرية إلى الجبلة البهيمية لو لم يقابله حكم هو أقرب لسنن الوجود وأشد أنحاءً على الشرقيين ألا وهو: فناء الضعيف في وجود القوي. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا.
إذن فداء المشرق كما تبين لك عضال ومرضه خطر قتال. وهو فساد الأخلاق وضعف(7/27)
ملكات العلم بلوازم الحياة. ولابد لتقويم الأخلاق من حسن المعالجة بمزاولة التربية الصحيحة وإحياء موات النفوس بالفضائل التي يرشد إليها العلم. والوصول إلى ذلك إنما يكون بأحد أمرين: إما بالشعوب أو بالحكومات: وفي كلا الحالتين فإن نهوض المشرق وقصد أهله هذا القصد يتوقف على وجود قادة في أممه وشعوبه يحسنون بهم السير ويأخذون بهم إلى سبيل الرشاد. على أنا نرى أن وجود القادة من زعماء الإصلاح الاجتماعي في المشرق لا يوصل إلى منتهى الغرض إلا إذا وجد أولئك القادة عضداً من الحكومات وناصراً من زعماء الرياسة والسياسة الذين أصبح في أيديهم قياد الأمم الشرقية. ذلك لما ثبت لنا من تناهي ضعف النفوس في المشرق وفقدها الشعور بالحاجة إلى الإصلاح النفسي والتربية العقلية.
ولنضرب لك مثلاً على ذلك بمن قاموا من قادة الأفكار في المشرق في عصر واحد وهو عصرنا هذا فقد سعى المركيز ايتو الياباني لإنهاض قومه في أقصى الشرق فأنجح سعيه ونهض باليابانيين إلى أفق السعادة لما أخذ بيده إمبراطور اليابان كما هو معروف. وسعى غيره كثيرون في أدنى الشرق فأخفق سعيهم لما لم يجدوا من زعماء الرياسة على الشعوب من يأخذ بأيديهم ويعضد سعيهم. ذلك لأن شعوب المشرق كما قدمنا قد مرنوا على الخمول لما تأصل فيهم من مرض الضعف وفساد الأخلاق الفاضلة التي تنهض بالنفوس إلى ذرى الاستقلال الذاتي فأصبحوا اتكاليين لا يسعون إلى عمل نافع إلا إذا سيقوا إليه سوقاً. واقتدوا برؤسائهم إذا كانوا لهم عوناً يضاف إلى هذا غرور الشرقيين ببقايا مدنيتهم الدارسة غروراً يقعد بالهمم عن تطلب غايات الكمال على أن إخفاق المخفقين إنما كان في الحصول على الثمرة العاجلة التي جناها ايتو اليابان وأما الآجلة فلم يكونوا يائسين من نيلها إذا ثابر الخلف من محبي خير الشعوب ومصلحي النفوس والمخلصين في النية والعمل لأقوامهم على إرشاد أمم الشرق إلى سبيل النجاة واستنهاض همم ذوي المروآت من زعماء الحكومات الشرقية إلى بسط جناح الرحمة على الرعية ومعونتها في القيام على أصول العلم النافع وتلمس وجوه الخلاص من براثن الفناء الذي يتهدد أمم المشرق في كل آن ولا يعدم المشرق أفذاذاً من المصلحين في كل عصر توافق دعوتهم من بعض الزعماء آذاناً واعية وقلوباً رقيقة ونفوساً سامية نقية من شوائب الفساد تنطبع عليها صورة الخير وتنزع(7/28)
إلى النهوض بالشعوب الشرقية من وهدة الذل والخمود.
ورب معترض يقول أن نهوض زعماء الحكومات بالأمم أمر غير متوقع الحصول لاسيما في المشرق ومادام الشرقيون قد بلغوا من الضعف ذلك المبلغ فأحر بزعمائهم أن يكونوا كذلك فالأولى أن تحث الأمم على النهوض بنفسها وترك الاعتماد على حكوماتها فالجواب عن هذا أن ذاك الاعتراض وجيه لا يقبل النقض بل هو القاعدة الأساسية في حياة الأمم لكن ذلك يجوز على أهل المغرب وأما أهل المشرق فقد أقعدهم عن العمل بهذه القاعدة طول عهدهم بالجمود والخمول الناشئين عن الإغراق في الحضارة كما قدمنا وتماديهم أجيالاً كثيرة في الاعتقاد بألوهية زعمائهم وما يتبعها من تسليم النفوس إليهم والتعويل في كل الشؤون عليهم وهي عقيدة وإن محتها الشرائع الإلهية من أكثر أرجاء المشرق إلا أن إدمان الأمم عليها غادر في نفوس الشرقيين من آثارها القبيحة اعتماد الشرقيين على حكوماتهم في كل شأن من شؤونهم العامة.
وهل تظن أيها القارئ أن الأمة اليابانية كانت تتجول عن مثل هذا الاعتقاد بميكادها (إمبراطورها) لو لم يتنازل هو نفسه عن ألوهيته بمحض إرادته وحب الخير لأمته ويفهم شعبه أنه بشر مثلهم لا قوة له ولا حول إلا بهم ولاحظ لهم سعادة الحياة ومسابقة الأمم إلا بجدهم وهل تظن الصينيين يبلغون من الرقي مبلغ اليابانيين إذا لم يفهمهم إمبراطورهم ابن السماء أنه ابن الأرض ويهدم مختاراً ذلك السور الهائل القائم بينه وبين أمته فيقودهم إلى الطريقة التي سلكها ميكادو اليابان بقومه ورفع لهم فيها بنيان الفضيلة والعلم بإخلاصه وعلو نفسه. وبالإجمال فالشرق يحتاج في نهوضه إلى حكوماته إذا أريد التعجيل في الحصول على الثمرة المبتغاة من دعوة المصلحين في كل قبيل منه وعند تعذر الحصول على هذه الثمرة يعدل فيه إلى الرأي الآخر ولابد في هذه الحال من قيام طائفة من كل قوم على تربية النفوس وبيان الفضائل التي تسمو بها النفس إلى أفقها الأعلى حق البيان والله بحسن العاقبة كفيل.
حلوان
رفيق العظم(7/29)
الاحتفاء بالأحياء والأموات
قرأت في الجزء الثالث من المقتبس ص147 مقالاً تحت عنوان روح جديدة جاء فيه أن الأمة أخذت تنصبغ بصبغة الغربيين منذ أنشأت تأخذ العلوم عنهم ومن ذلك إجلال رجال العلم والأدب أحياءً وأمواتاً. وقد رأيت دعوى أن ذلك روح جديدة وأن ذلك من أخذ الشرقيين عنهم منظور فيها إذ قد دون التاريخ من أمثال هذه الاحتفالات ما لا يحصى. وما ذنبنا إلا القصور بعدم التنقيب.
إن الفقهاء بأجمعهم على تنوع مذاهبهم عدوا من البدع تأبين الميت وذكر محاسنه ورثاءه قبل الدفن وبعده واستدلوا على ذلك بما روي من الآثار المعروفة في دواوين السنة أليس هذا لأن القرون المتقدمة كان فيها شيءٌ من ذلك: إنشاد مراث وتعديد مناقب وبث خطب. بلى ولولاه لما كان لتنبيههم معنى. ولم يزل ذلك معروفاً في عواصم البلاد فلا يموت عالم إلا وتتلى قبل الصلاة عليه عدة قصائد وذلك قبل نفخ هذه الروح الجديدة في صور الشرق.
وأما تكريم الأحياء للأحياء فلم يزل يحتفل بختم دروس الكتب المهمة كالصحيحين والموطئ في دور مشايخ الحديث أو أحد أصحابهم احتفالاً يحضره كثير من أهل الفضل والأدب وإن أعوزهم مدح العلم والكتاب نظماً فلم يفتهم ذلك مذاكرة أو لسان حال هذا أثر من آثار ما كان. ما الذي كان. كان إذا ختم عالم كتاباً مهماً من مؤلفاته يحتفل به أفاضل العصر احتفالاً يذيع في كل قطر.
أذكر من ذلك ما جرى عام 842 لما ختم الحافظ ابن حجر كتابه الباري شرح البخاري بالتاج والسبع وجوه بين كوم الريش ومنية الشيرج خارج القاهرة حضره من العلماء الذين حفظ التاريخ أسماءهم ثمانون بل نيفوا على ذلك وأما من كان من الطبقة الوسطى فما دونها فأولئك لا يبلغهم الحصر ونظم من أدبائهم ومشاهيرهم في التنويه بهذا المشروع عدة قصائد فمن ذلك قول الصلاح الأسيوطي من قصيدة
كم للبخاري من شرح وليس كما ... قد جاَء شرحك في فضل وتتميم
وقول الشهاب المتوفى مطلع قصيدة أبياتها 75:
تمنعت بدموع الصب في حجب ... فانظر لشمس الضحى في حلة السحب
ومنها
شرحت صدر البخاري مثل جامعه ... فراح ينشد هذا منتهى الطلب(7/30)
ومنها
هذا وحقك عام الفتح حج به ... لبيت فضلك وفد العلم عن رغب
وقول البرهان البقاعي صاحب التفسير المعروف من قصيدة:
بأبي الخدود نواضراً حسناتها ... كنواظر الغزلان في الدينار
قصدت يكون المسك حسن ختامها ... فتعلمت من ختم فتح الباري
وقصيدة لشمس الدجوي وقصيدة للخطيب برهان الدين المليجي وقصيدة المحب الدين البكري أولها
حديثك لي أحلى من المن والسلوى ... إذا حل سمعي حرم اللوم والسلوى
ومنها
وكم من شروح للبخاري عدة ... طواها بفتح البارئ أعجب لما يطوى
كساهُ جمالاً من عذوبة لفظهِ ... ففازت بهِ الدنيا وسلمت الدعوى
وله قصيدتان أخريان وقصيدة لشرف الدين الطنوبي ولشمس الدين النواجي قصيدة كبرى منها
وكم طوى نشره كتاباً ... على ممر الدهور سرمد
ومن يكن علمهُ عطاءً ... من فتح باريهُ كيف ينفد
ولما فرق مؤلفه صرر فضة ومجامع حلوى أنشد الدجوي
بفتح البارئ انشرح البخاري ... وأحمد ختمهُ بالفضل جامع
أدار دراهماً صرراً فأنشئ ... وحلوى فيهِ تأخذ بالمجامع
واذكر أيضاً أن في سنة 1188 أكمل اللغوي الشهير السيد مرتضى الزبيدي عليه الرحمة شرحه تاج العروس على القاموس واحتفل في داره بالتنويه بهذا المصنف البديع احتفالاً حضره شيوخ الوقت وكبار الأدباء كان منهم شيخ الجماعة الشيخ علي الصعيدي والدردير والسيد العيدروس والأمير الكبير وعطية الأجهوري وعبادة العدوي وأبو الأنوار السادات ومن في طبقتهم والطبقة الوسطى وما بعدها كما فصله الجبرتي. ومن المشاهير في التنويه بذوي الأدب والاحتفال بهم في القرن الغابر الأمير المجاهد السيد عبد القادر الحسني الجزائري ثم الدمشقي الشهير فإنه كان إذا قدمت إليه مقامة أدبية يدعو للتنويه بمنشئها(7/31)
شيوخ الشام ويولم له أنفس الولائم شتاءً في البلدة وصيفاً في منتزهه بدمر وقد خدم لأجله الصناعتين عدد ليس بالقليل فلكل عصر أفراد وكل وقت له صبغة خاصة ومهما تباينت الأنواع فالجنس واحد. وأما الاحتفالات القديمة التي أشرتم إليها آخر المقالة فاذكرني منها ما شرطه المعظم بن العادل الأيوبي لكل من يحفظ المفصل للزمخشري - وذلك مائة دينار وخلعة قال في وفيات الأعيان: فحفظه لهذا السبب جماعة ولم أسمع بمثل هذه المنقبة لغيره.
دمشق
ج. ق(7/32)
منتخبات من كتاب النبراس
في فلك الاقتباس لأحد شعراء الشام
لا تجهدنَّ النفس في تدبير ما ... حاولت في الشدة من رخاء
وهو الذي تلطفاً بخلقهِ ... (يدبر الأمر من السماءِ)
بدنياك التي دسمت فسمت ... وليس لها على حرٍّ بقاءُ
عليك إذ انكسرت لجيش هم ... (بنصر الله ينصر من يشاءُ)
قيسوا قضاياكم على من مضى ... (إذ أنتم بالعدوة الدنيا)
واستكثروا الزاد لكي تلتقوا ... فيهم (وهم بالعدوة القصوى)
عباد الله ملا جاهدوا في ... نفائسهم جهادهم الغريبا
(فأنزل) من سكينته (عليهم) ... سناً (وأثابهم فتحاً قريبا)
تجليات ربك هل ... أحاط بكنهها لب
وهل كشف الغطا إلا ... (لمن كان لهُ قلب)
لمن أشاعوا سلوتي ... عنكم أقول ما يجب
(يا ويلكم لا تفتروا) ... جهلاً (على الله كذب)
يا من بنظم الشعر دعواهم غدت ... تستوجب التنكيت والتبكيتا
أبياتكم منها الحجارة فصلت ... (أم تنحتون من الجبال بيوتا)
إذا دعيت لكأسٍ ... صهباؤُها قد تراَءت
قل حيث حلت بحرم ... (بئس الشراب وساَءت)
أقاصيص الفرنجة كم تؤدي ... تلاوتها إلى معنى خبيث
فدعها لا تكن في العلم ممن ... بلهوٍ (يشتري لهو الحديث)
قالوا وداد الكريم صفه ... وود من لؤْمهُ مزاج
فقلت (هذا عذب فرات) ... يحيي (وهذا ملح أُجاج)(7/33)
التعليم والتربية
الإرادة والعزم
اهتم الفرنسيين للكتاب الذي وضعه المسيو دومر والي الهند الصينية السابق ورئيس مجلس النواب في فرنسا واحتفوا به لما وجدوا فيه من أدوية أدوائهم الاجتماعية وطرق تربية النشءِ تربية تقيهم آفات العصر التي ضجَّ منها العقلاء وحار في معالجتها الحكماء. وهناك سبب آخر لتلقي القوم هذا الكتاب بأيدي الاعتبار وهو غير ما يتبادر للذهن من بهرج الألقاب التي تحف باسم مؤلفه. بل هو ما عرفوه من مبادئ نشأته ووسائل رفعته حتى كانت سيرته مثالاً يحتذى في الشهامة والإقدام وأخلاقه خير وسيلة لاستكشاف أسرار النجاح. وقد تسابقت جرائدهم ومجلاتهم إلى شرحه وتقريظه ونقلت حسب عادتها فصولاً منه توضيحاً للدلالة عليه والتعريف به. فآثرت تعريب هذا الفصل لشمول فائدته كل قارئ من أي قوم كان قال في الإرادة والعزم:
تعلم الإرادة واعمل ما ينبغي. بذلك يمكن أن تلخص النصوص العديدة التي تتخذ قواعد للحياة. أدّ الواجب وكن في الجملة رجل حق أبداً. هذه هي الوصية السامية والفريضة الأدبية التي تسود في سيرة الإنسان. ولا ينبغي لامتثالها أن نرغب فيها فقط بل يجب أن نكون أهلاً للعمل بها أو لي إرادة وقوة تحكم على أنفسنا. هذا هو المهم وهذا هو الصعب. من أجل ذلك كان أول ما يجب على الفتى المتقدم لاحتمال أعباء الحياة وتبعاتها أن يتأهل لامتلاك قياد نفسه فتكون له السلطة المطلقة على هواه وخطرات قلبه كما لها على جسمه وأعمال جوارحه. فإذا كان المرء كذلك أوشك أن يكون امرأ خير وأن يقبض في الغالب على زمام حياته وقياد سعادته.
كيف السبيل إلى تأمين سيطرة مستمرة مثل هذه على النفس وهي تظهر متعسرة بادي بدءٍ وأن تكن تهونها المزاولة حتى لقد تصير آلية؟ أنى لنا الصبر على الانفعالات الجاهلية وعلى الجواذب والفواتن التي تحيط بالإنسان؟ كيف نغلب الميل إلى البلادة والاستسلام إلى الأميال الطبيعية التي يحلو الاسترسال معها ما لم تقدر عواقبها؟ كل ذلك ينال بتعلم الإرادة والتمرن عليها.
نظم الفلاسفة الإرادة في سلك القوى الإنسانية الأولى فلا نظير لها في الأهمية إلا العقل(7/34)
الذي يضبط الفكر والواجب والحكم. ثم الإحساس الذي هو مبدأ الحواس والعواطف والشهوات. وأن الذوق السليم ليتفق مع الفلسفة على وضع الإرادة في الموضع الأول بين القوى البشرية وصفات الإنسان الكامل. فإن الإرادة القوية الثابتة لتمكن من كل أمر من حيث الشؤون المعنوية وكثير من الأمور المادية.
رجل الإرادة هو وحده الحر في الحقيقة فهو رب أحكامه وأفعاله. يقود أفكاره وعواطفه بل وخياله ويخضع كل شيء لسلطة العقل. فهو يسير بمقتضى أحكام عقله ويأتمر بأوامر وجدانه مع قابليته للسلوك وفق قواعد الحياة التي دعته الحكمة إلى اتخاذها.
وفي الإمكان أن يتغلب الإنسان بالإرادة الثابتة على الشهوات الضارة متطرفة أو مهلكة وأن لا يدع سلطة على نفسه لغير العواطف الكريمة والخواطر النبيلة. ولا يصغي إلى العواطف إلا إذا لم تقتض شيئاً ينافي الواجب. فلابدَّ إذاً من إرادة حديثة ليكون المرء امرأ خير فاضلاً حقيقة. وكلٌّ بمثل تلك الإرادة يستطيع الكمال مهما كان مزاجه ومعايبه وكيف كانت مشاربه ومذاهبه.
ويحسن في المزاولات الحيوية والأعمال اليومية العديدة التي تهمنا جداً إذ منها يتكون نسيج وجودنا أن لا نضطر إلى التحاور في الفكر عند كل أمر لنتبين أفي العمل به تكون الفائدة أم في الامتناع عنه. ولكن يجب أن يكون لنا قواعد ثابتة وأن تكفي أدنى حركة من إرادتنا المتنبهة لتوعز إلينا بالجزم.
فإذا كنت تعرف قيمة العفة وكان من قاعدتك أن لا تفرط في الطعام وأيقنت بمضرة المسكر والدخان مثلاً ثم تعددت المثيرات وتوالت الدواعي إلى ما يخالف ذلك فينبغي أن تتقيها الإرادة بالعزم. وتمرن الإرادة يومياً على مغالبة مثل هذه الصغائر يجعلها نافذة السلطان في غيرها من الأمور المهمة.
لا ينال الخير في الشؤون الخصوصية والعمومية إلا بالإرادة. نعم ليست هي المادة الوحيدة للنجاح إلا أنها شرط أولي لا أثر لغيره من الشروط بدونه. فإن كنا نجد لهذه القوة الحيوية أعني الإرادة تأثيراً محتماً في كل أمر لو نظر فيه على حدة فماذا نجد من تأثيرها في حياة يتوالى عملها فيها؟ لا جرم أن الرجل الذي عرف أن يتملك القوة يصير إليه في الغالب تعيين حظه حتى لا يدع للمصادفات والطوالع السيئة إلا أدنى ما لها من التأثير في حياته(7/35)
بحي يكون هو الكاسب لفلاحه والباني لسعادته.
وأما الرجل الذي لا إرادة له فلا يكون له من التأثير في حظه إلا القليل ولو كان ذا عقل كبير فيظل ألعوبة بيد الحدثان وأمره إلى الاتفاق. يجري في الحياة كما جرت فلك لا دفة لها فوق بحر هائج فهي تبحر من غير ما إدارة تتجاذبها الأرياح وتتدافعها المجاري إلى أن تصير إلى لجة تبتلعها.
والجامدون من الرجال الذين فقدوا الإرادة بتة هم شواذ كأولي الإرادة الثابتة المطبوعين على العزم والعمل. أما السواد الأعظم فمؤلف من ضعفاء الإرادة وذوي العقول المترددة ولقد كان في إمكان هؤلاء أن يكونوا أحسن حالاً مما هم عليه بثبات عزيمة وسداد رأي لو تعلموا الإرادة. فالتردد والحيرة اللتان تفترسانهم هما مرضان يؤولان بمرور الزمن إلى شلل الإرادة بالفعل. وقد تكون الحيرة والتردد في بعض الأحوال أشد النواقص خطراً وتؤديان إلى الرزايا إذا كان صاحبهما رئيساً ما لأن العزم هو الصفة الأصلية للقواد والحكام والأمراء هكذا تقتضي كلتا الحياتين العمومية والخصوصية أن يعرف المرء أن يعتزم ويريد.
فالإرادة التي يقودها العقل إذا ما عملت في الإنسان بصورة مستمرة حتى تبلغ الغاية من نشاطها ويتم لها الكمال تصير عزماً وذو العزم هو رجل إرادة وثبات وإقدام وذلك خير ما يوجد في المجتمع وأفيد ما فيه وأندر. إلا وأن كل ما يقال عن مآثر الإرادة فهو حق وإن شئت فقل ما يقال عن مآثر العزم. العزم يحتاجه الإنسان ليكون فاضلاً يصنع الخير كما يحتاجه لإنشاء حظه وسعادته. وبه يربي شخصيته الأدبية والعقلية ويكون حياته جمعاء. وحكم العزم نافذ في هذين الأمرين الحسي والمعنوي على السواء. فذو العزم ينمو عقله وهو يتحسن ويتكمل أبداً.
الطريقان المفتوحان أمامنا طريق الخير وطريق الشر بينهما فرق أما طريق الشر فسهلة وهي على منحدر يستدرج فيكفي من الإنسان أن يميل ميلاً حتى يتردى إلى الحضيض. وأما طريق الخير أكثر عناءً إذ ينبغي لسلوكها جهد مستمر وإرادة ثابتة وبالجملة ينبغي لها عزم.
والعمل في إصلاح النفس وتكميلها عمل يومي وشغل لا ينقضي من مثابرة المكارم(7/36)
والفضائل لاكتسابها والتنقيب عن النقائص والمعايب لمكافحتها وإزالتها وعن المبادئ التي تستدعي الحذر والشهوات التي يجب أن تقهر. هنالك الخير خيرٌ يفعله الإنسان لذاته وثمة خير آخر لا يقل فائدة عن ذاك وهو ما يفعله الإنسان مع غيره أدبياً كان أو مادياً بالنصيحة والأسوة الحسنة قولاً وفعلاً.
صاحب العزم الثابت لا يتحول البتة عن هذا العمل النبيل والصنع الجميل يقوم به بأمانة ودقة مستضيئاً بمصباح العقل معتمداً على جزم الإرادة. وانه ليمكنه بل يجب عليه أن يفحص كل يوم ضميره وأعماله فيعتبر اليوم الذي لم يتيسر له أن ينفع فيه أحداً يوماً مضيعاً ثم يتفكر ويتدبر ويستمد من تفكيره حياة جديدة لعزمه وقوى غضة لحرب الحياة فإن ذا الإرادة القوية ليفلح أكثر من غيره فيما لا محيص عنه من الجهاد في سبيل الحياة إذ يكون مجهزاً للعمل فيما ينفعه وينفع ذويه وفيما ينميه ويرفعه ويحقق أمانيه. العزم يفيد في تحصيل الرفاهية والسعادة ما لا يفيده العقل أو الحظ فعلى من أراد النجاح في حياة تليق به أن يلتمس عزماً عريقاً في الثبات وبعد فبقية أسباب النجاح تأتي زائدة.
أرى في الناس عموماً والفرنسي خصوصاً - لأني إليه أنظر - جرثومة الإرادة الثابتة وأرى فيه قوة ومتانة ظلت مهملة حتى جمدت وصارت كأن لم تكن لعدم العناية بها والالتفات إلى تهذيبها. أرأيت الرجل يسترخي عضله ويضعف جثمانه إذا هو أهمل الرياضة وترك العمل؟ فكذلك الشأن في القوى الأدبية.
إذا كنا نهذب العقل في إبان الشبيبة فمتى نربي العزم؟ لقد آن للشباب الذين أوجه إليهم هذا الخطاب أن يشرعوا في هذه التربية والتنمية الأدبية بأنفسهم ويجب أن يكون هذا أكبر همهم. وعليهم لكي يتعلموا الإرادة ويحصلوا منها على نتيجة أن يعزموا عليها ويمارسوها من غير انقطاع ولا استراحة فيستعملونها في تكميل أنفسهم وكل شأن من شؤون وجودهم إذ الغاية أن يجعل الإنسان ذاته رجلاً ذا عزم يملك هواه ويقتدر على إدارة حياته وتدبير أعماله وأن يكون هو المنشئ لسعادته وسعادة الآخرين من بني جنسه وأن يشرف بلاده وينفعها بخدمته. فيا أيها الشاب الذي تقرأ كلامي إن كنت عازماً على بلوغ هذه الغاية فاذكر الكلمة الأولى من هذا الفصل وهي تعلم الإرادة. يقول معربه وأضف إليها هذا البيت العربي(7/37)
إذا لم تك الحاجات من همة الفتى ... فليس بمغن عنك عقد الرتائم
بيروت
عبد المعين خلوصي(7/38)
صحف منسية
جملة من نثر ابن الحناط
فصل له من رقعة: الإسهاب كلفه. والإيجاز حكمه. وخواطر الألباب سهام يصاب بها أغراض الكلام. وأخونا أبو عامر يسهب نثراً ويطيل نظماً شامخاً بأنه. ثانياً من عطفه. متخيلاً أنه قد أحرز السباق في الآداب. وأوتي فصل الخطاب. فهو يستقصر أساتيذه الأدباء ويستجهل شيوخ العلماء
وابن اللبون إذا ما لزَّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
وهذه قصيدة أنشأتها في ليلة سماؤها روضة تفتحت النجوم وسطها زهراً. وتفجرت المجرة خلالها نهراً وادٍ يسيل بعسجد. على رضراض زبرجد. فلما أصبت الغرة. واقصدت الثغرة تقلبت مراراً. وتناومت غراراً. حتى نبهني الفجر ببرده. وسربلني الصباح ببرده. وهببت من النومة وصحوت من النشوة. زففتها إليك بنت ليلتها عذراء. وجلوتها عليك كريمة فكرها حسناء. تتلفع بحبرة حبر. وتتبخر في شعار. مؤتلف بين رفها ومدادها. ومجتمع في بياضها وسوادها. الليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس. رقعتها كافور نمنم بمسك. وختامها ياقوت نظم في سلك. تحسب خطها تيم لفظها فشكا. وتخال القلم رقَّ لما به فبكى. فأنشدها أخاك الشهيدي وكلفه على العروض والقافية معارضتها. واحمله على اللين والشدة قارضتها. فستوقد بقلبه قبسا. وتضرب في أذنه جرسا. فستتبين به حظه وتتعرف فضله. وختم الرقعة بأبيات
اقصر عن لومي اللائم ... لما درى أنني هائم
مازلت في حبه منصفاً ... من لم يزل وهولي ظالم
أسهر ليلي غراماً به ... وهو أخو سلوة نائم
ومن شعره في قصيدة في ابن حمود
ولم أرَ مثلي كيف صار بقلبه ... من الوجد بركان وفي الجفن طوفان
ولا مثل هذا العدل كيف أعاده ... عليٌّ وقد مرَّت على الظلم أزمان(7/39)
شعر البلفيقي
كان أبو البركات محمد البلفيقي أحد أساطين العلم والأدب في القرن الثامن ببلاد الأندلس معروفاً بالصلاح موسوماً بالعلم. قال لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة ومن مقطوعاته التي هي آيات العجائب وطور حلل البدائع في أسنى الأغراض والمقاصد قوله يعرض لبعض الطلبة وقد استدركته ببعض حلق العلم بسبتة
إن كنت أبصرتك لا أبصرت ... بصيرتي في الحق برهانها
لا غرو أني لم أشاهدكم ... فالعين لا تبصر إنسانها
ومنها قوله وهو من الغريب البديع
ومصفرة الخدين مطوية الحشا ... على الجبن والمصفر يؤذن بالخوف
لها هيئة كالشمس عند طلوعها ... ولكنها في الحين تغرب في الجوف
ومنها قوله في النصح وله حكاية تقتضي ذلك
لا تبذلن نصيحة إلا لمن ... تلقى لبذل النصح منه قبولاً
فالنصح إن وجد القبول فضيلة ... ويكون إن عدم القبول فضولا
ومنها في الحكم
ما رأيت الهموم تدخل إلا ... من دروب العيون والآذان
غض طرفاً وسد سمعاً ومهما ... تلق هماً فلا تثق بضمان
ومنها قوله وهو من المعاني المبتكرات
حزنت عليك العين يا مغنى الهوى ... فالدمع منها بعد بعدك مارقا
ولذاك قد صبغت بلون أزرق ... أو ما ترى ثوب المآتم ازرفا
ومنها قوله في المعاني الغريبة في التفكير في المعاني
أبحث فيما أنا حصلته ... عند انغماص العين في جفنها
احسبني كالشاة مجترة ... تمضغ ما يخرج من بطنها
ومنها وقال ومما نظمته بين الدرش وبرجة عام أربعة وأربعين وأنا راكب مسافر وهو مما يعجبني إذ ليس كل ما يصدر عني يعجبني قال لسان الدين ويحق له أن يعجبه
تطالبني نفسي بما ليس لي به ... يدان فأعطيها الأمان فتقبل
عجبت لخصم لجَّ في طلباته ... يصالح عنهُ بالمحال فيفصل(7/40)
ومنها
رعى الله أخوان الخيانة أنهم ... كفونا مؤنات البقاءِ على العهد
فلو قد وفوا كنا أسارى حقوقهم ... نراوح ما بين النسيئة والنقد(7/41)
مطبوعات ومخطوطات
المدونة الكبرى
الإمام مالك بن أنس عالم المدينة وإمام دار الهجرة والمحدث الأعظم المتوفى سنة 179 أخذ العلم عن تسعمائة شيخ فأكثر وما أفتى حتى شهد له سبعون إماماً أنه أهل لذلك وكتب بيده مائة ألف حديث وجلس للدرس وهو ابن سبعة عشر عاماً قال الشافعي إذا جاء الأثر فمالك النجم وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب ولم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم لحفظه وإتقانه وصيانته وما أحد أمن عليَّ في الله من مالك وجعلت مالكاً حجة بيني وبين الله تعالى. وقال الشافعي قال لي محمد بن الحسن أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم يعني أبا حنيفة ومالكاً رضي الله عنهما قال قلت على الإنصاف قال نعم. قال: قلت ناشدتك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم قال اللهم صاحبكم قال قلت ناشدتك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم قال اللهم صاحبكم قال الشافعي فلم يبق إلا القياس والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء نقيس.
هذا هو الإمام مالك وهو غنيٌّ عن التعريف بعد أن قال ابن عبد البر أن الناس ألفوا في فضائله كتباً عديدة. وناهيك بمن يشهد له الشافعي مثل تلك الشهادة وهو صاحب الموطئ المشهور أحد الكتب الستة في الحديث النبوي وعنه روي الإمام سجنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم العنقي كتاب المدونة الكبرى في فقه مالك. وهذا السفر الجليل عند المالكية ككتاب الأم عند الشافعية وقد ظل قروناً في خزائن الكتب مخطوطاً لا ينتفع به إلا أفراد حتى قيض له الفاضل الحاج محمد الساسي المغربي فبذل ما بذل للحصول على نسخة قديمة منه كتبت بعد المائة الرابعة على رقٍّ صقيل وخط جميل فكانت النسخة الأصلية ملوكية كما يقولون بل أكثر من ملوكية خصوصاً وعليها حواش مطرزة بأقلام الثقات من أهل المذهب كالقاضي عياض وأضرابه.
وماذا عسانا نقول في الإشادة بهذا العمل الشريف ولو عني المشتغلون بالطباعة منذ قرن بطبع الكتب الدينية واللسانية والعلمية على هذا الوضع والنحو واختاروا الأمهات الممتعة وجعلوها مقدمة بين يدي نجواهم لربحوا أكثر مما ربحوا وأفادوا أكثر مما أفادوا. وقد أتحفنا الطابع المنوه به بالأجزاء التسعة التي صدرت من الكتاب في هذه العاصمة ولا(7/42)
يزال يواصل إكمال السبعة الباقية منه فكانت لجودة طبعها وجلاء ورقها ورونق حرفها تضطرنا إلى الاستغراق في تلاوتها الساعات وقد استفدنا أموراً ما كنا نظن أحداً من الفقهاء حرك فيها بناناً ولا غرو ففي مذهب مالك من التوسع في العبادات والمعاملات ما لا تراه في غيره ولذلك كتب الله أن ينتشر في شمال إفريقية حيث كثر اختلاط الناس بالإفرنج قديماً وحديثاً ولا يسعهم في الأغلب إلا مجاراتهم في شؤون معاشهم. فنثني على الطابع بما هو أهله ونتمنى أن يحذو حذوه كل طابع في اختيار أجود الورق والحروف وانتقاء خيرة المصححين لنقول أنا جارينا المرتقين في طباعتهم وماثلناهم في تفانيهم بنشر الأمهات من كتب أمتهم.
مجلة عرفات
لصاحبها العالم العامل محمود بك سالم من رجال الإصلاح في هذه الديار وهو ممن جمعوا إلى العلوم الحديثة العلوم القديمة وضموا إلى المدينة تديناً. نشر في العام الماضي جريدة باللغة الفرنسية بهذا الاسم لتبحث فيما تمس حاجة الإسلام إلى التعريف به عند من يجهله وحاجة المسلمين إلى ما ينفعهم ويعلي كلمتهم وقد جعل جريدته منذ مدة في قالب مجلة ليتيسر جمعها وحفظها ويتسع الوقت لانتقاء موضوعاتها. أتحفنا بما صدر من عرفات جريدة ومجلة فطالعنا منه طرفاً صالحاً لم تزدنا بالرجل تعريفاً ولم تكن على غيرته وإخلاصه دليلاً جديداً وكفى في الإشادة بذكر صاحب المجلة بأنه يبذل وقته وعمله ودرهمه في خدمة أمته فأكرم بأبوين يهذيان مثله وببلاد تخرج النوابغ إذا علم أبناؤها العلم الصحيح والآداب الطاهرة. وفي هذا المقام نقترح على العالم المشار إليه أن يتفضل ولو بنشر ملحق صغير مع كل جزءٍ يلخص فيه إلى العربية ما ينبغي لقرائها أن يطلعوا عليه. والمجلة ترسل مجاناً لمن يطلبها.
لأمية العجم ولأمية ابن الوردي
شرح الكاتب الأديب حكمت بك شريف لأمية العجم للطغرائي الكاتب الشاعر المشهور المتوفى سنة 515 ولأمية ابن الوردي الفقيه الأديب المتوفى سنة 749 شرحاً موجزاً ينتفع به طلاب الأدب ويعين على فهم ما أتيهم من ألفاظهما وتراكيبهما.
السل الرئوي(7/43)
أفرد أجدادنا أيام كانوا يشتغلون بالعلم على أنواعه بعض الأدواء بالتأليف لأهميتها وانتشارها كما فعل الرئيس ابن سينا وأبو مروان بن زهر وأبو الوليد بن رشد وحنين بن اسحق ويوحنا بن ماسويه ويعقوب بن اسحق الكندي وثابت بن قرة الحراني وأبو بكر الرازي وغيرهم. وكلما ارتقت العلوم أفرد كل فرع منها بكتب وانصرف إليها ناس بحسب الحاجة. وأمامنا الآن كتاب في الوقاية من السل الرئوي وطرق علاجه من تأليف العالم النطاسي الدكتور خليل بك سعادة من المتميزين في الطب والعلم والمشهود لهم بالإجادة في إحكام العربية والإنكليزية على ما علم ذلك من تآليفه باللغتين ورسائله في بعض جرائدهما ومجلاتهما.
والكتاب موضوع على أسلوب غربي في قالب عربي يعزو فيه معظم المواد لقائليها قسمه أبواباً تدعو المطالع إلى مطالعته لما حوى من الفوائد الصحية والعلمية وقد قدم له مقدمة تدل على علو كعبه ونبالة غايته قال: يفتك السل الرئوي كل عام بستة ملايين من البشر فيربو عدد قتلاه في بضع سنين على سائر مجموع القتلى الذين سقطوا في ميادين الوغى أيام معارك الاسكندر وهنبال وقيصر وبونابرت والحرب الأهلية الأميركية وحرب السبعين والحرب اليابانية الروسية وبعد فيحق للعربية أن ترحب بهذا الكتاب الجليل وهو في 225 صحيفة جيدة الطبع والورق ويطلب من مكتبة المعارف وثمن النسخة عشرة قروش صحيحة.
وقاية الأسنان
لما ألقيت إلينا هذه الرسالة ظنناها مبتكرة ولكن عدنا فذكرنا أن لابن ماسويه كتاباً في السواك والسنونات ولحنين بن اسحق كتاباً في حفظ الأسنان واللثة ألفت بالعربية منذ نحو ألف سنة وما يدرينا إن كان السلف ألف في هذا الموضوع أيضاً كما ألفوا في موضوعات لا يكاد ابن هذه العصور يظن أنها خطرت لهم على بال. وهذه الرسالة هي للفاضل الدكتور علي بك بقلي الطبيب. الاختصاصي بأمراض الفم والأسنان تكلم فيها على كل ما له علاقة بالأسنان والأضراس والأنياب وصحتها وسقمها وهي نافعة في بابها وثمنها خمسة قروش صحيحة. فنشكر له همته.
نيل المراد(7/44)
رسالة في تشطير الهمزية والبردة وبانت سعاد للشاعر الأديب الشيخ عبد القادر سعيد الرافعي علق عليها شرحاً يفسر كلماتها اللغوية فجاءت لطيفة الأسلوب مقبولة عند طلاب هذا الفن وهي تطلب من مكتبة نجل المؤلف في السكة الحديدية.
تبيان التعليم
لحضرة العالم الأصولي ذي المعزة السيد أحمد بك الحسيني من رجال الفضل والنبل في هذه العاصمة يد طولي في وضع المصنفات الأصولية والفقهية النافعة فبالأمس نشر كتاب دليل المسافر ونهاية الأحكام والقول الوضاح والقول الفصل واليوم نشر رسالة سماها تبيان التعليم في حكم غير المبدوء بسم الله الرحمن الرحيم وما أصدق ما قاله في مقدمتها: والمسؤول ممن وقف على ما كتبته أن يدع الهوى والتقليد ولا يسترسل في مدح القديم وذم الجديد بل ينظر إلى المقال بعين الإنصاف والاعتدال ولا ينظر إلى من قال فالرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال.
الدليل إلى البرازيل
كتاب أدبي اجتماعي انتقادي لمؤلفه الأديب جرجي أفندي توما الخوري ضمنه وصف المشاهد والآثار التي رآها منذ غادر سورية إلى أن وصل برازيل وذكر ما يلقاه المسافر والمهاجر مازجاً الجد بالهزل أحياناً. وقد قدر عدد السوريين في برازيل وحدها بخمسين ألفاً وامتدح من صحفهم العربية وأربابها إلا أنه تمنى لو أبطلت عادة نشر الرسائل المأجورة في الجرائد وفي الكتاب فوائد لا يستغني عنها المقيم والمسافر.
الدين في نظر العقل الصحيح
هي مقالات كان نشرها في مجلة المنار الغراء الدكتور النطاسي الفاضل محمد توفيق صدقي في العقيدة الإسلامية وإثبات صدق النبوة المحمدية على وجه أقرب إلى عقول المتعلمين وقبول المدنيين وفي آخرها مقالة في حكمة نجاسة الكلب والخنزير وتحريم لحمهما فجاءت في 160 صحيفة صغيرة وافية بالغرض تدل على بعد غور كاتبها. وثمن النسخة قرشان ونصف تطلب من مكتبة المنار بشارع درب الجماميز.
الأجوبة المسكتة(7/45)
تأليف الأديب الأريب أحمد أفندي صابر جمع فيه ما شاق وراق من الأجوبة اللطيفة التي فتح بها على كبار العرب والفلاسفة قديماً على نمط توخى فيه الإيجاز والاقتضاب فجاء كتابه في 180 صحيفة صغيرة مطبوعة طبعاً نظيفاً على ورق جيد. وعساه يضيف إليه في الطبعة الثانية ما أخره بالقصد من المواد التي لها علاقة بالكتاب ويردفه بما هو شائع اليوم على ألسن القوم من هذه الأجوبة الأدبية اللطيفة التي قد تقع لأحد العامة فيستفيد منها الخاصة والعامة معاً. والكتاب يطلب من مؤلفه بديوان الأوقاف وثمنه خمسة قروش.
الحقيقة الباهرة
في أسرار الشريعة الطاهرة من تأليف سماحة الأستاذ الشيخ محمد أبو الهدى أفندي الصيادي الرفاعي بنى أبوابه على عدد شعب حديث الإيمان بضعة وسبعون شعبة وقد طبع في القاهرة على ورق جيد وطبع نقي.
ذكرى فريد
نشرت جمعية تهذيب الشبيبة السورية في بيروت المراثي وأقوال الجرائد وبعض آثار فريد عوض وترجمته وكان من أذكياء الشبان في المدرسة الكلية الأميركية فتوفي منذ ثلاث سنين فرأى أصحابه أن ينشروا له كراسة يخلدون بها ذكره مخافة أن يضيع كما ضاع كبار رجالنا بإهمال فنثني على غيرة من تولوا ذلك.
روايات جديدة
رواية البعث - معربة عن الإنكليزية بقلم الأديب رشيد أفندي حداد وهي من وضع الفيلسوف الروسي ليون تولستوي تطلب من المكتبة الشرقية.
عشيقات الملك - تعريب الكاتب الأديب إبراهيم أفندي سليم نجار تطلب من صاحبها وقيمتها فرنك واحد.
رواية سرولاسر - للعقيلة استير مويال تطلب من مسامرات الشعب.
الساحر الخالد - معربة عن الإنكليزية بقلم الكاتب الأديب محمد لطفي أفندي جمعة وهي إحدى روايات مسامرات الشعب.
هدية الابن(7/46)
كراسة كتبها الأديب بشارة أفندي الياس عيد الحاج بطرس من جالية السوريين في البرازيل أهداها إلى ولده ووصف له فيها حال البرازيل ومن رأيه أن البرتغاليين لما اكتشفوا البرازيل سنة 1500م كان في جملة من بعثتهم الحكومة البرتغالية إليها عال كثيرة من بقايا السلالة العربية في الأندلس لتطهير بلادها من النسل العربي ولذلك كان في الأمة البرازيلية نقطة دم عربي. فلكاتبها منا الثناء.
الاقتصاد لبلوغ المراد
رسالة في النحو لمؤلفها الشيخ أحمد مصطفى بن محمود أبي النصر من طلبة الأزهر.(7/47)
تدبير الصحة
الخبز الأبيض
مازال علماء الصحة يوصون بالاعتماد على الخبز الأسمر الأبيض وقد أنذر أحد رجال الأمريكان الآن أن من يعتمد في طعامه على الخبز الناصع البياض يصاب بالهزال وفقر الدم إذ أن البياض لا يكون إلا بوسائط صناعية تستلب من الخبز صفاته المغذية.
اللحوم والبقول
أثبت أحدهم أن الإنسان خلق ليتغذى باللحوم - خلافاً لرأي القائلين بأن البقول هي خير ما يعتمد عليه المرء في تغذيته - قال ومما لا ينكر ما يحدث تناولها من اضطراب في المعد عند كثير من الناس لكن ذلك ينشأ من طريقة الأكل لا من الطعام نفسه وقلة المضغ في الغالب تضر الهضم وتجعل فيه عسراً.
جمع الحواس
طلبت إحدى المجلات اليابانية من الكتاب أن يوافوها بما يرونه من أنجع الأسباب وأحسن الطرق وأبرك الساعات لجودة التصور فقال بعضهم أن الفكر لا يجري بدون تأمل وهو محتاج لجمع الحواس. وقال بعضهم أن أحسن الساعات للافتكار هي عند الانتباه من النوم صباحاً إذ يكون الدماغ مستريحاً ولذلك كان من أحسن الأمور إلقاء الدروس على التلامذة صباحاً. وآثر آخر أن يبدأ المرء بعمله بعد التنزه ومن ذلك تعظم فوائد الدروس التي يتلقاها الطالب في صفوف تقام بعد الرياضة البدينة. وارتأى آخر أن البدء بالعمل العقلي ينبغي أن يستعد لها بالقراءة وأوصى الأساتذة أن يعمدوا إلى هذه الطريقة.
القيلولة
هي نوم الظهر والراحة فيه لا غنية لسكان البلاد الحارة عنها وقد يستغني عنها في البلاد الباردة. وقد أخذ أهل العلم في إنكلترا يتناقشون هذه الأيام في فائدتها وخصوصاً لطلبة المدارس لأن هؤلاء يصرفون من دقائق الدماغ كل يوم جانباً كبيراً في استخدام القوى المفكرة والباحثة والمدققة والمشبهة والحاكمة فحالتهم والأمر على ما ذكر تستدعي راحة أعظم بالنظر لما يبذلونه من الإجهاد العقلي والقيلولة تنفعهم في صحتهم أكثر من الرياضات المألوفة في المدارس وما هي إلا عناءٌ آخر عضلي بعد ذاك العناء العقلي وخير(7/48)
للتلميذ أن ينام في فراشه ويريح عقله وجسمه من أن يسير في الهواء الطلق ويصرف وقت راحته في ترويض جسمه رياضة طبيعية مستمرة عنيفة. وارتأى القائلون باستعمال هذه الطريقة أن يفحص التلامذة كل يوم فحصاً طبياً بمعرفة أطباء من أهل الأخصاء يعهد إليهم فحص تراكيب التلامذة الفسيولوجية وينظرون في قواهم العقلية.(7/49)
سير العلم
التعليم في مصر والسودان
لا تزال مصر في مؤخرة الأمم بعدد متعلميها وكثرة أمييها والسودان في مؤخرة المؤخرة. فحيا الله يوماً نرى أهل هذين القطرين يقبلون على تعليم أولادهم إقبال الممالك الصغرى في الغرب على تعليم بنيهم. فترى سويسرا والبلجيك وهولندا والدنمرك والسويد ونروج واليونان ورومانيا وبلغاريا والصرب وكل منها هي دون مصر والسودان بعدد سكانها وغناها الطبيعي أرقى من هذين القطرين في التعليم بل الفرق بين التعليم وعدد المتعلمين هنا وبين التعليم والمتعلمين هناك كالفرق بين الشرق والغرب.
ويؤخذ من تقرير اللورد كرومر عن مصر سنة 1905م أن عدد التلامذة الذين حضروا مدارس الحكومة سنة 1905 هم 7410 في الكتاتيب و1478 في دار تخريج المعلمين للكتاتيب و7175 في المدارس الابتدائية العالية و561 في المدارس الصناعية و1345 في المدارس الثانوية و743 في المدارس الفنية ومجموعهم 18182 أنفقت معارف مصر عليهم 276 ألف جنيه مصري.
أما في السودان فكان عدد المتعلمين في مدارس الحكومة آخر السنة الماضية 1533 صبياً منهم 392 في كلية غوردون و299 في المدارس الابتدائية العليا و29 في كليتي المعلمين في أم درمان وسواكن و723 في المدارس الابتدائية الأهلية.
وقال في كلامه على التعليم الثانوي بمصر أن عدد الناجحين 177 تلميذاً أو 40 في المائة ممن تقدموا للامتحان - والامتحان بالإنكليزية أو الفرنسية - منهم 117 من المسلمين و60 من المسيحيين فيظهر من ذلك أن 66 في المائة كانوا مسلمين أي اقل قليلاً مما كانوا عليه سنة 1904 وقل عدد الناجحين من المسلمين في امتحان الشهادة الابتدائية فإن عدد الناجحين في هذا الامتحان بلغ 1173 تلميذاً منهم 717 أو 61 في المائة من المسلمين يقابلهم 66 في المائة سنة 1904 قال وهذه النسبة ليست مما يوجب الرضى والسرور لاسيما إذا تذكرنا أن المسلمين 93 في المائة من مجموع سكان القطر.
وكان عدد المدارس الخصوصية التي تقدم منها تلامذة للامتحان 99 مدرسة منها 50 يديرها المسلمون و27 الأقباط و21 يديرها المرسلون و1 اليهود. قال فلوان ما يبذل من(7/50)
المال والهمة على المدارس الخصوصية التي على الطراز الأوربي يوجه إلى التعليم الأهلي باللغة العربية وهو على غاية الانحطاط لنتج عن ذلك فائدة عظيمة للبلاد عموماً.
وتكلم على الكتاتيب التي قامت بهمة الأفراد في إحدى عشرة مديرية من مديريات مصر فقال أنها أنشأت حتى الآن 758 كتاباً جديداً وهي تبني 187 كتاباً آخر ورممت 366 كتاباً وبلغ عدد الكتاتيب التي هي تحت مراقبة الحكومة 4859 كتاباً منها 2565 كتاباً منحتها الحكومة إعانات قدرها 13164 ج م وقد بلغ عدد المتعلمين فيها 136083 و9611 بنتاً وعدد المعلمين 6295 والمعلمات 32 وتحت إدارة نظارة المعارف 109 كتاتيب أخرى يتعلم فيها 5777 صبياً و833 بنتاً وبلغ عدد كتاتيب البنات وفي جملتها الكتاتيب التي تحت مراقبة الحكومة 2053 وعدد تلميذاتها 12006.
وفي بولاق مصر مدرسة للصناعة فيها 423 تلميذاً منهم 285 مسلماً وفي المنصورة مدرسة صناعية فيها 68 تلميذاً. ولا يزال عدد من يدخلون دار المعلمين الناصرية يزداد - وفيها يتعلم المعلمون العلوم باللغة العربية - فقد بلغوا 210 في السنة الماضية وفي المدرسة السنية لمعلمات المدارس الابتدائية 18 معلمة وفي مدرسة بولاق لمعلمات الكتاتيب 39 وفي مدرسة عبد العزيز لمعلمي الكتاتيب 106 وفي مدرسة الفيوم 62 ودار التعليم في درب الجماميز 69 معلماً.
وفي مدرسة الزراعة الآن 70 تلميذاً منهم 39 من المصريين والباقون من أمم مختلفة. قال اللورد ومما يسوءني ذكره أن 22 تلميذاً من التلامذة المصريين مسلمون وفي مدرسة الهندسة 57 تلميذاً ومجموع تلامذة مدرسة الحقوق 273 منهم من يدرسها بالفرنسية ومنهم بالإنكليزية وفي مدرسة الطب 116 تلميذاً اثنان منهم في القسم الصيدلي وفي مدرسة البيطرة 32 تلميذاً وعدد تلامذة مدرسة العميان بمصر 27 وتلامذة العميان بالإسكندرية 17 وفي كلية فكتوريا في الإسكندرية 175 تلميذاً المسيحيون منهم 78 واليهود 61 والمسلمون 36.
الاختراعات في أميركا
تكاد تكون الولايات المتحدة مستأثرة بالاختراعات والاكتشافات في الغرب لهذا العهد فإن ما يخترعه أبناؤها ويكتشفونه يدل على أن قوة الإبداع والإيجاد وقف عليهم ومه أن حكومة(7/51)
تلك البلاد تتصعب كألمانيا في إعطاء البراءات للمخترعين المكتشفين ما لم يثبت لديها ثبوت الشمس أن صاحب البراءة ابتدع ما لم يسبق إليه حقيقة فقد أحصيت البراءات التي منحتها الحكومة الأميركية سنة 1855 فكانت 2000 براءة ولم تبرح ترتقي سنة عن سنة حتى كانت سنة 1903 - 31700 براءة.
النساء العالمات
ألفت في لندن إحدى بنات أحد الماليين مجمعاً للنساء العالمات في العالم ونشرت هذه الآونة تأليفاً سيصبح فيما بعد مجلة تصدر في أوقات تعين لها جاء فيه اثنان وثلاثون خبراً ومبحثاً وقطعة شعرية موقعاً عليها من نساء عالمات من إنكلترا وأميركا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا ورومانيا وكل منهن تكتب بلغتها فكان للإنكليزية الحظ الأوفر وتلتها الفرنسية فالإيطالية ولا يقصر هذا المجمع النسائي أعماله على نشر مقالات الجنس اللطيف في الغرب وأشعارهن بل يتخذ له مركز في عواصم العالم المهمة يكون فيها ما يلزم للمشتركات من أنواع الراحة وضروب المسليات المباحة وخزائن كتب وقاعات اجتماع وقاعات طعام وقد دعون في لندن وبرلين كبار رجال السياسة فلبوا دعوتهم وكان في تلك الاجتماعات غناءٌ ومعارض صناعية من أشغالهن يبعنها بواسطة مكتب تجاري أقمنه لهذا الغرض وكلما تزايدت أعمال هذا المجمع زادت فائدته للمشتغلات بالعلم والصناعة من بنات العقول في الغرب. فمتى يكون للشرق يا ترى مجتمعات كهذه للرجال ثم للنساء.
البنات اليابانيات
نالت شهادة الطب من الدرجة الأولى من كلية ماربورغ الألمانية الآنسة ايادا ماتا من مدينة كوموتو اليابانية. وليست هذه هي المرة الأولى التي نال فيها اليابانيات أرقى شهادات العلم وأثبتن ذكاءهن وبعد نظرهن في المطالب العالية فإن كليات نيويورك وشيكاغو وسان فرنسيسكو غاصة باليابانيات ممن يدهشن العالم بفهمهن وعلمهن. وإمبراطورة اليابان هارو كوف هي من أشد أنصار النساء وتعليمهن لتحريرهن من رق الجهل فقد بعثت منذ جلست على عرش الإمبراطورية بكثير من البنات على نفقتها إلى كليات أوربا وأميركا. بدأت بذلك سنة 1871 ولا تزال ترسل كل سنة طائفة من البنات تطلبهن إلى حضرتها قبل ذهابهن وتلقي عليهن المواعظ الحسنة وتحثهن على أن يكتبن لها كل ثلاثة أشهر على(7/52)
الأقل بما تلقينه من أساتذتهن ويطلعنها على نتائج دروسهن وأبحاثهن ويشرحن لها ما أحدث في نفوسهن اختلاطهن بالحياة الأميركية. وليت شعري متى يكون للشرق الأدنى بعض ما للشرق الأقصى من العناية بتعليم البنات وتهذيبهن.
مكتبة نفيسة
حزن العلم لضياع مكتبة المثري الأميركي الشهير المستر سوترو في زلزال سان فرنسيسكو الأخير فلم يكن فيها أقل من 225 ألف مجلد ومعظمها من كتب العلم والصنائع والأدب القديمة ونسخ مخطوطة بخط مؤلفيها ولاسيما كتب من طبع غوتنبرغ مخترع الطباعة وهذه الخزانة هي أنفس مكتبة في أميركا الشمالية فلا عجب إذا تأسف العلماء لفقدها ولا تأسفهم على ما ضاع في ذلك الزلزال من المكاتب الخاصة والعامة والعروض والأموال.
مكاتب فرنسا
وضعت إحدى الصحف اليومية الباريسية مقالة افتتاحية في خزائن كتب فرنسا وما تم فيها من الارتقاء في مائة سنة فقالت كان عددها سنة 1873، 733 مكتبة فيها 838000 تأليف فصارت في السنين الأخيرة 2911 مكتبة فيها 4166417 مصنفاً وذلك عدا مكاتب المدارس وعددها أربعون ألف خزانة كتب. قالت أن رغبة الناس انصرفت في العهد الأخير إلى مطالعة الصحف وبعض المجلات حتى عد فريق من أرباب النظر تلك المطبوعات الدورية أعداء الكتب والرسائل. وقال آخر أن المجلات والجرائد تعين على انتشار الكتب والرغبة فيها والصحف أكبر مساعد على خدمة العلم بما امتازت به من الأساليب فإنها تكتب بحسب الأحوال والدواعي فتبعث المطالع على النظر فيها رغم أنفه. ثم ذكرت أن فرنسا متخلفة عن ألمانيا من حيث انتظام مكاتبها ووفرة عددها كما أن هذه متخلفة عن إنكلترا وأوربا كلها متخلفة عن الولايات المتحدة وما مكاتبها إذا نسبت لمكاتب العالم الجديد إلا أكواخ. ومن لأوربا بكريم يشبه كارنجي المثري الشهير الذي يبذل من ماله كل سنة خمسة أو ستة ملايين ريال أميركي لإصلاح خزائن الكتب في بلاده وهو يقول أن المكتبة مدرسة في الحقيقة وقيمتها مؤدب ومرشد.
نفقات الجيوش(7/53)
قدر أحد الصحافيين في أميركا ما أنفقته الدول منذ خمس وثلاثين سنة على تسليح جيوشها فكان معدله السنوي ثمانية عشر ملياراً منت الفرنكات ذهب أكثرها هباءً منثوراً وأن ميزانية الدول جمعاء تضاعفت منذ ذاك العهد.
اعتصابات العملة
كثر إضراب العملة عن العمل في السنين الأخيرة فقدرت إحدى المجلات الاشتراكية ما حدث من الاعتصابات منذ ست سنين فكانت 4270 اعتصاباً والمعتصبون 1119050 عاملاً منهم من نالوا مطالبهم ومنهم لم ينالوا سوى جزءٍ منها ومنهم من أخفقوا.
السخاء الأميركي
رأى أحد علماء الألمان أن ما لفت أنظاره في أميركا هو سخاء أفرادها فهم ينفقون الملايين على إنشاء الكتاتيب والمدارس والكليات حتى أن أحدهم وهب أربعة ملايين ريال لإنشاء كلية شيكاغو وحدها.
نقل الأبنية
في أميركا ينقلون البناء الهائل من أساسه ويجعلونه في مكان آخر دون أن يطرأ عليه ما يخربه ويكون ذلك في الأبنية غير الشامخة وقد نقل الألمان هذه الآونة منارة مدينة ويتمبرغ بالقرب من همبورغ وكان وزنها نحو ستين طناً وعلوها 38 متراً ودامت النقلة 32 دقيقة وكلفت عدا ثمن الأخشاب 8350 فرنكاً فتأخرت المنارة عن محلها عشرة أمتار وكبر بذلك مدخل السفن في الميناء.(7/54)
مقالات المجلات
سقوط الكتب
تكلم أحدهم في إحدى المجلات الفرنسية عن سقوط الكتب فقال أن طريقة الإعلانات قد أحدثت تدجيلاً تجارياً هائلاً فإن بعض المؤلفين ينشرون عن مصنفاتهم إعلانات ويبذلون في هذا السبيل من الأموال ما لا يوفي ما ينفقونه إلا طبع عشرين إلى ثلاثين ألف نسخة فتراهم يبتاعون العمود الأول في بعض الجرائد ينشرون فيها صورهم وشيئاً من تراجمهم ويودعونها مفاوضات العلماء بشأنهم ويشغلون الصحف بمناقبهم كل هذا لترويج سلعتهم.
الآلام البشرية
رأى المستر ستيد صاحب مجلة المجلات الإنكليزية أن يأسو جراحات الإنسانية بخمس مواد وضعها وأيقن أن فيها خلاص البشر في هذه الدار فدعا الأغنياء والفقراء وأرباب السلطة والضعفاء أن يعملوا وإياه يداً واحدة في تحقيق هذه المشروعات الخمسة الخيالية. وهي (1) إخاءٌ عام أساه العدل والحرية مع بث روح الوئام بين النام واتفاق كلمة الإنكليز والأمريكان وألفة الدول والعطف على الأجناس المحكوم عليها وتحكيم دولي (2) اجتماع الأديان كلها وأهل المباحث العلمية الشرعية في عالمي المادة والروح (3) الاعتراف بحقوق المرأة في المجتمع وإعطاؤها حقها من الامتيازات الوطنية (4) إصلاح حال الشعوب (5) تحسين قوى الشعوب طبيعية كانت أو عقلية وذلك ببعثها على المطالعة واللعب في الهواء الطلق والموسيقى والتمثيل.
اتحاد أوربا
كتب أحد نبلاء الإنكليز في مجلة القرن التاسع عشر رسالة قال فيها أنه موقن بأن الدول لا يعملن بإخلاص على الوفاق الودي الإجماعي بينهن وانه لابد من نشوب ثورة يكون شؤمها مما لم يره الراءون ولا رواه الراوون ولكنه رجا أن يتم بفضل رئيس الوزارة الإنكليزية الحالية تأليف اتحاد عظيم يرمي إلى السلم ويقي العالم هذا الخطر المحدق وقال أن كثرة المعدات الحربية اضطرت الحكومات إلى إنفاق نفقات طائلة ولا غاية منها إلا تقوية عددها وعديدها استعداداً لما عساه يطرأ من التعادي فهن يتحملن نفقات فاحشة في ميزانياتهن وكان عليهن أن يعرفن مصالحهن المشتركة ويفضضنها على أهون الأسباب. وقد أراد(7/55)
إلغاء الجمارك كلها لأن مبدأ حماية التجارة برأيه لا يتأتى عنه إلا خراب البلاد الاقتصادي.
التعليم الابتدائي
ارتأى أحدهم في إحدى المجلات البريطانية أنه ينبغي أن تصرف عناية كل أمة إلى تقليل عدد التلامذة في جميع الصفوف وأن تجزأ هذه وتقسم إلى أقسام وأن يلقن الأولاد كيفية التعليم بأنفسهم إذ قد دلت التجارب على أن الدروس التي يتعلمها المرء من تلقاء ذاته هي أحسن ما يتلقنه من ضروب العلم في حياته.
عدد الصينيين
ظهر لأحد الباحثين من الإنكليز أن في سكان الصين وهم أربعمائة مليون 378 مليوناً ينتحلون ديانة كونفوشيوس وبوذا وتاواست و20 مليوناً يدينون بالإسلام ومليونين يدينون بالنصرانية.
السل البقري
جاء في مقالة لأحد علماء الألمان أن السل البقري يزداد في أوربا فتكاً فإن فرنسا تخسر به ثلاثين مليون فرنك وألمانيا خمسة وعشرين مليون مارك وأن لبن الأمهات ينقص كلما أكثر عدد سكان المدن كما هو المشاهد في ألمانيا فإن ثلث أطفال برلين محرومون من ثدي أمهاتهم لنضوب درهم وارتأى أن أحسن طريقة للبقر أن تحقن حتى يكثر نوعها ودرها ولا تصاب بالسل.
رسوم اللغات
المحيط - في الأرض نحو ثلاثة آلاف لغة مختلفة لهجتها كلها بعضها عن بعض ولكن بينها لغات كثيرة متشابهة كالتركية والعربية أو الفرنسية والإنكليزية وبينها ما يكثر فيه الاختلاف رسماً وكتابة ومطالعة فبعضها يقرأ ويكتب من اليمين إلى اليسار وبعضها من اليسار إلى اليمين والبعض من أعلى إلى أسفل كلغات الصين واليابان وما جاورها. اطلع على كتيب جمعت فيه أمثلة من 296 لغة وقد كانت الجمعيات الدينية السبب الأكبر في رسم لغات كثيرة منها لم تكن من اللغات المكتوبة من قبل وذلك توصلاً إلى إتمام ما قصدته من نشر التوراة والإنجيل بين جميع الشعوب.(7/56)
ديانة الكالا
المشرق - كالا بكاف ثقيلة تركية وإن شئت فبجيم مصرية ولام مشددة كلمة ينعت بها الأحباش النصارى الأمحريون من سكان الحبشة الأميين الذين لا يدينون بإحدى الديانتين الشائعتين في شرق إفريقية وهما الإسلام والنصرانية. ومعنى اللفظة من لا كتاب له ثم عم استعمال هذه الكلمة فاشتهر بها اسم هذه الأمة التي تدعو نفسها أورومو والكلمتان اليوم مشهورتان ودونهما شهرة كلمتا أركتا وكوتو اللتان يعرف بهما هذا الشعب. فالكالا اسم لأمة كبيرة تعد من أكبر شعوب إفريقية عدداً تقطن في شرق هذه القارة بلاداً فسيحة متسعة تعم بلاد منليك كلها وسهولاً معظمها مجهول تمتد بين المملكة الحبشية وما وراء بحر الغزال غرباً وبلاد الكنغو جنوباً. ويقدر عدد الكالا الخاضعين فقط لسلطة النجاشي بضعف عدد الأمحريين أي باثني عشر مليوناً ويقسمون من حيث أديانهم إلى ثلاث طوائف أولها الكالا المسلمون وهم طائفة لا يتجاوز عددها الثمانين ألفاً تقطن في المقاطعة الهررية فقط وقد دانت بالإسلام على يد الهرريين ومن يجاورهم من المسلمين. وثانيها الكالا النصارى وهم طائفة قليلة لا يتجاوز عددها مائة ألف نفس تسكن بين الأمحريين نصفهم كاثوليك والنصف الآخر يعاقبة. وثالثها الكالا الأمم وهم الطائفة العظيمة وهي ليست وثنية بل تعبد إلهاً واحداً وتحرم السرقة والقتل وكل ما يدل العقل على أنه منكر وتأمر باحترام الشيوخ والوالدين وبالتضرع إلى واكا وهو الله جل جلاله وتنهى عن أكل اللحم البشري.
تطور الأمم
المنار - أفاض في أطوار الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً من حيث سياستها وأخلاقها وعلمها ومما قاله: ثبت بالتجربة والاختبار أن المتعلمين للعلوم الكونية هم الذين يسودون أمتهم كما أن الأمم السابقة في مضمار هذه العلوم تسود المتخلفة فيه فالناس تبع لهؤلاء المتعلمين صلحوا أم فسدوا فهم التيار الجديد الذي يحول الأمة من حال إلى حال وعقول هؤلاء المتعلمين وقلوبهم بين أيدي الأجانب فهم الذين يودعون فيها وينقشون في ألواحها المستعدة ما يريدون على علم منهم بغايته وأثره. ومما نشاهد من أثره أن أكثر المتعلمين لا قيمة للدين الذي هو الرابطة العامة للمسلمين في نفوس أكثرهم فهم لا يصلون ولا يصومون ولا يحللون ولا يحرمون وإنما همُّ أكثرهم التمتع باللذات الحسية ولو بذلوا في سبيلها جميع(7/57)
المصالح العامة. ثم هم مع هذا مغرورون بأنفسهم يحسبون أنهم أرقى من سلفهم الصالح عقولاً وأرجح أحلاماً وأوسع علوماً وأفضل آداباً وأقدر على الأعمال الاجتماعية فلا الدين عرفوا ولا حب الأمة أشربوا وكيف وهم على جهلهم بشريعتها يجهلون تاريخها الذي لم يتفضل عليهم ساداتهم الأجانب بشيءٍ حقيقي منه إلا بعض المسائل المنتقدة التي صوروها بغير صورتها.
الأطباء ومدارس الطب
الحكمة - كان من يتعاطون الطب في عهد الفراعنة ثلاثة أقسام وهم الحكيم العادي والراقي والمشعوذ الساحر كما وجد في رسالة مكتوبة في عدة صفحات من ورق البردي. كتب هيرودتس أن الطب كان موزعاً في مصر توزيعاً علمياً دقيقاً بحيث كان الحكيم يشتغل بفرع واحد لا بعدة فروع منه. بعضهم يطب الرمد وبعضهم أوجاع الرأس وآخرون المعدة وغيرهم الأمراض الباطنية. وكان الرمديون أكثرهم عدداً ومهارة حتى اشتهروا خارج مصر لأن المصريين كانوا عرضة لرمد موضعي لم يزل شائعاً. ومن الأطباء عدد ليس بقليل كان مشتغلاً بمرض الأسنان لأن المصريين كانوا أيضاً عرضة لهذا المرض لرطوبة البلاد ولحسن سمعتهم في البلاد وخارجها استحضر قورش ودار (من ملوك الفرس) أطباء منهم لمعالجة الأمراض التي كانا مصابين بها وكذلك نجد في مراسلات دارت بين بلين وتراجان (وكلاهما روماني) يهنئ فيها الأول نفسه لنجاته على يد طبيب مصري يدعى أبو قراط وكان أطباء مصر يسيرون في المعالجة حسب قواعد وأصول مكتوبة ويصفها عدد كبير من قدماء الأطباء وكذلك المهندسون المعماريون كانوا يتبعون تصميماً واحداً في بناء معابدهم والنقاشون يرسمون العظماء من الرجال على طريقة واحدة ثابتة.(7/58)
نفاضة الجراب
منام الوهراني
للوهراني صورة منام رآه أو تخيله أتى فيه بكل حلاوة اعتذر ابن خلكان بطوله عن ذكره في ترجمة الرجل. رأى كأن القيامة قامت والناس يعرضون على الديان بأعمالهم فوصف حال فريق الجنة وفريق السعير بألفاظ لو عرت عن البذيء لساغ نشرها على رؤوس الملأ فسأل عن بعض من يدعون التصوف وهم بعيدون منه فقيل له هؤلاء قوم غلب عليهم العجز والكسل في الدنيا فهربوا من كد الصنائع والأعمال إلى زوايا المساجد والمشاهد بحجة العبادة والانقطاع فلا يزال أحدهم يأكل وينام حتى يموت. قال: فبأي شيءٍ كانوا ينفعون الناس ويعينون بني آدم فقيل له: والله بلا شيءٍ البتة ولا كانوا إلا كمثل شجر الخروع في البستان يشربون الماء ويضيقون الطريق وليس لهم ثمرة.
ثم قال: ومشينا معه (في المحشر) مقدار أربعة فراسخ وإذا بجمع عظيم يحتوي على مشايخ وشبان وكهول قد حف مجلسهم السكينة والوقار وجلالة الملك والرياسة تلوح على وجوههم فسألنا عنهم فقيل هؤلاء السادة والقادة من بني شمس فدخل قسيم الأعور حتى وقف بين يدي عظيمهم فقال: يا خال (كذا) المؤمنين يا كاتب وحي رب العالمين نحن قوم من محبيكم وقد طردنا عن الحوض لأجلكم ونحن هالكون من شدة العطش بسببكم فقال: لك بينة تشهد بما تقول فقال: نعم جماعة من شيعتكم ومحبيكم الأكراد فقال: أحضرهم فقال: ابعث معي رجلاً شامياً فتخلل الناس ونادى بأعلى صوته: يا عبد الملك بن درياش (؟) قاضي قضاة مصر في أيام الملك الناصر صلاح الدين فلم يجبه أحد. فوقع ابن بدر مغشياً عليه من شدة الأوام فقعدنا عند رأسه وسألنا هل عندكم قطرة ماء نبل بها حلقه. فقالوا: لا والله لو تقدمتم قليلاً لما احتجتم إلى هذا كله. فقلنا له: وكيف ذلك. فقال: لأن أم حبيبة زوجة النبي (ص) تبعث إلى أخيها معاوية كل يوم خمس ثلجيات مزملات كل ثلجية مثل جبل الثلج عشرين كرة فيها الماء الخاص من عين التسنيم. يدفع واحدة منها إلى عمرو بن العاص والأخرى إلى زياد بن أبي سفيان وذويه والأخرى إلى مروان بن الحكم وذويه والأخرى إلى سعيد ابن العاص وذويه ويقسم الواحدة في آل أبي سفيان.
وما كان أسرع من أن حضرة القاضي في جماعة من الأكراد فتقدموا إلى معاوية فسلموا(7/59)
عليه ثم التفتوا إلى ابنه يزيد فقالوا: السلام عليك يا إمام العدل السلام عليك يا خليفة الله في الأرض السلام عليك يا ابن عم رسول الله السلام عليك يا سيدي ورحمة الله وبركاته نفعنا الله بطاعتك وأدخلنا في شفاعتك ورفع درجتك في الجنة كما رفعها في الدنيا فرداً عليهم رداً خفيفاً وقال للقاضي صدر الدين: الحمد لله الذي جعل في أصحابي وشيعتي من يصلح أن يكون قاضي قضاة المسلمين. فقال له القاضي: كل ذلك ببركة الفقيه عيسى ضياء الدين. فقال له أوصيك بأصحابك الأكراد خيراً فإنهم أولى بحسن تدبيرك من سائر الناس فقال: نعم يا أمير المؤمنين ما أحتاج فيهم وصية هذا أنا قد وليت القضاء لجماعة منهم أنا أعرفهم في بلادنا لا يعيشون إلا من لصوصية البقر في الليل وسرقة الحمير بالنهار ولم أفعل ذلك إلا لأني ألزمت باستقضاء قوم أنحس منهم بكثير.(7/60)
الانتقاد على المقتبس
تفضل كثير من رجال العلم والأدب بنقد هذه المجلة فقال حافظ أفندي إبراهيم أن المقتبس مصبوغ بصبغة شرقية قديمة فينبغي له نبذ القديم من الموضوعات واتخاذ لباس قشيب ينضيه كلما جد غيره. وقال إبراهيم أفندي الجمال كلاماً يقرب من هذا وأن للتفنن في إيراد الأبحاث الجديدة الحاضرة طلاوة ووقعاً في النفوس وقال محمد لطفي أفندي جمعة كلما عمدت إلى النظر في المقتبس تعاظمت أبحاثه وتجافت نفسي عن عباراته لأني أجدني بين مادة صرفة وجد بحت ولاشك أن معظم القراء يشعرون شعوري فلابد لمن أراد أن يعلم غيره أن يتنزل في عباراته وموضوعاته ويحتال عليه ليطالع شاء أم أبى. وقال أحمد بك زكي أرى في بعض الأبحاث اقتضاباً يكاد يكون مخلاً فعليك بإشباعها وعندي أن الأجدر أن تترك قال أحدهم وروى بعض العلماء أو أحد الأساتذة وتنسب القول إلى قائله مباشرة فإن هذا الباب فتح قديماً باب التلاعب في كثير من العلوم وكذلك اليوم. فلا غنية لمن يريد أن يخدم العلم عن التصريح بأسماء المنقول عنهم.
وكتب من بغداد الأب انستاس ماري الكرملي يقول: عربتم فصلاً عن إحدى المجلات العلمية ص9 ولم تذكروا اسم المجلة وهو أمر مهم في مثل هذا المقام. وكذلك لم تنوهوا باسم الكاتب الأصلي. وقد تكرر فعل ذلك عدة مرات فأظن أن الأحسن ذكر كل جريدة باسمها وكل مؤلف باسمه. ثم حاولتم بعض الأحيان ذكر لفظة بلفظة أخرى طلباً للجلاء من ذلك ذكرتم في ص56 العكرش فقلتم. . . وبزر كالجاورس - وهو حب يؤكل مثل الدهن (وهو من خطأ الطبع وتريدون الدخن) ولعله الدخن. قلنا ليس العكرش بالدخن بل هو نبات آخر مشهور عند جميع أعراب البادية في العراق ولا يشبه الدخن إلا في الحب فقط. وقلتم ص108 التوابل (السلطات) والصحيح أن هذه غير تلك. وذكرتم ص136 اسم الفنطبيل بمعنى البرميل. ولا مشابهة بين الاثنين وكلاهما معروف عندنا باسمه وبمميزاته. وذكرتم النيرات (ولعلها النيترات) باسم (البورق) وليس الأمر كذلك وبينهما بونٌ بين.
وقد وقع في أجزاء المقتبس أغلاط طبع كثيرة فالأمل أنها تصلح في ما يلي أو يمنع وقوعها. وحسناً عملتم وتعملون عند خفاء معنى لفظة أن تكتبوها على علاتها ثم تضعون وراءها علامة الاستفهام أو كلمة (كذا). فإن ما لا يفهمه ذاك. مثلاً كلمة ويبة فهي مستعملة في العراق وقد جاءت في ص31 وهي من المكاييل سعتها 24 مدّاً.(7/61)
وأما المقالات العلمية فإنها لا تخلو من المغامز ولعل السبب أنكم أردتم أن تجمعوا فوائد جزيلة في حجم صغير. فجاءت الفوائد مبتورة غير مشبعة بالتحقيق. وقد ذكرتم في مستهل المقتبس أن مجلتكم تتمحض للعلم المحض فلا يتحرج من تلاوتها الموافق والمخالف والحال قد ورد في العدد الثالث مقالة عن حرق مكتبة الإسكندرية يستشف من خلال سطورها أن المقتبس لم يتمسك بما وعد فقول الكاتب التركي أن نسبة الحريق لعمر أو لعمرو أكذوبة لفقها أبو الفرج. . . إلى آخر ما هناك واستحسانكم إياه يخالف الحق. فقد ذكر كتبة المسلمين ومؤرخوهم ما يزل الشبهة في هذا الصدد منهم ابن القفطي في تاريخه وموفق الدين عبد اللطيف البغدادي في الفصل الرابع من كتاب الإفادة والاعتبار ومنهم المقريزي الخ الخ فيجدر بالإنسان أن يذكر الأمور التاريخية على صورتها بدون أن يوقع الإهانة بقوم أو بجماعة ولاسيما في مسألة كثر فيها الخلاف والنزاع.
حبوتك ألقاب العلا فادعني باسمي ... فما تخفض الألقاب حراً ولا تسمي
يقولون محمود ويا ليت أنني ... كما زعموا يا ليت لي طالعاً كاسمي
محمود سامي البارودي(7/62)
العدد 8 - بتاريخ: 19 - 9 - 1906(/)
صدور المشارقة والمغاربة
كيتي
1749_1832
ليس الغنى أبداً مفسدة لصاحبه معواناً على الشر والأشر كما أن الفقر لا يهذب النفوس ويربي الملكات. فابن الغني إذا حسنت تربيته وجاد تعليمه يجيء منه رجل قلما يجيء مثله من أبناء الزعانف والسوقة. وليست هذه القاعدة على إطلاقها في البلاد الراقية والبلاد المنحطة ففي الشرق اليوم لا يتعلم ويتهذب سوى ابن الفقير ويندر أن يشيع العلم والتهذيب بين أبناء الأغنياء كما تشيع الفاحشة وسوء السلوك. والحال في الغرب على العكس من ذلك إذ ترى هناك لأولاد الأغنياء حظاً من العلم وسهماً من التهذيب. شاع ذلك بين أهله منذ نهضوا نهضة الشمير الخبير لتلمس أسباب الحضارة وكثر ذلك بين أظهرهم في هذا القرن والذي قبله فبات الغني موقناً بأنه لا يستوفي الظرف ويذهب بفضل الشهرة وتنهال عليه ضروب المحمدة إلا إذا تهذب التهذيب الحقيقي وتعلم التعليم العالي وهما داعية مجده وفخاره لا واسع عقاره ووافر نضاره.
وكيفما تقلبت الدنيا بأهلها فإن الموسر خير من المعسر على نحو ما سيرد عليك في ترجمة كيتي أحد أعاظم شعراء ألمانيا ورجال نهضتها العلمية والأدبية. فقد قيل في ترجمته أنه كان من أسعد السعداء خدمه الحظ وهيأ له عامة الأسباب وتمكن من الانتفاع بالمواهب العالية التي وهبته الطبيعة إياها. ولم يكن كصاحبه شيلر مضطراً معوزاً بل كان السعد يبسم له والرفاهية طوع أمره وهو من أسرة شريفة كان والده مستشاراً للمملكة وفقيهاً مشهوراً ورجلاً فاضلاً مهذباً أما والدته فكانت سليمة الصدر جيدة الفطرة توفرت على تربيته وتثقيف عقله ولطالما كانت تلقنه في طفوليته قصصاً ثم تقطع عليه سلسلتها ليتصور ماذا يكون تاليها.
ولقد استحكم الجمال من شعور هذا الشاعر حتى لم يكن يطيق أن يرى ولداً بشع الصورة أمامه فكيتي والحالة هذه جمع إلى الغنى مالاً مثل اللورد ليتلتون الإنكليزي وفيكتور دروي الفرنسي وهو من بيت غني ومجد يضاف إليهما حسن تربية والدته فقد كانت والدته تدربه على الأخلاق الفاضلة وتسوقه إلى المنازع الشريفة أما والده فكان يعلمه ويلقي عليه ويكلمه(8/1)
منذ صغره بالطليانية والفرنسية وكان يحسنهما ولاسيما الطليانية لأن طول مقامه في إيطاليا حبب إليه لغتها وفنونها فشغف بها. ولما ترعرع كيتي أحكم هاتين اللغتين مع لغته وظهرت عليه إمارات الميل إلى الشعر كما عرف بحب النقد والولوع بالعلوم فمال بادئ بدء وهو في الحادية عشرة إلى شعر راسين من شعراء الفرنسيين ثم أنشأ يرتاح إلى شعراء الرومان واليونان. وفي سنة 1763 دخل مدرسة الحقوق في ليبزيك وكان يأوي إلى دار عجوز لها فتاة فشغفته حباً فنظم فيها رواية هزلية واعتاد مذ ذاك العهد على نحو ما قال عن نفسه أن يصيغ في قوالب الشعر كل ما كان في الواقع يوليه فرحاً أو ألماً ويروض العقل ويربي النفس وعاد إلى بيت أبيه من المدرسة سنة 1768 بعد أن فارقه ثلاث سنين وقد أيقن أن الآداب الألمانية ضعيفة متأخرة ثم رجع بعد مرض اعتراه إلى ستراسبورغ سنة 1770 وأقام فيها حولاً كاملاً كان نافعاً له في تهذيب عقله وتخطيط خطة يجري عليها في حياته. قالت الدائرة تعلم كيتي في ليبزيك ما ينبغي اجتنابه وعرف في ستراسبورغ ما ينبغي عمله. وفي سنة 1771 أتم دروس الحقوق. وكان في خلال الدراسة يضرب في فنون الشعر ويهيم في أوديته وشجونه.
وبينما كان شاعرنا ينشر طرف أقواله أو يعدها للنشر كان يتقرب من كبار رجال عصره ويستميل قلوبهم إليه ويحرص على عقد الصلات الأدبية معهم فطاف كثيراً من بلاد ألمانيا وسويسرا وإيطاليا وتعرف إلى رجالها وفلاسفتها وعظمائها ثم تولى منصباً سياسياً في الحكومة. ولم تكن مشاغله لتحول دون أعماله العلمية. فكنت إذا رأيته حسبته منقطعاً عن كل عمل ليس لقلمه في ميدان التأليف جولة وأن المتاعب العالمية صرفته عن وجهته العلمية على حين كان عقله يفكر ولسانه يحبر ويعبر.
ولقد ثبت أن وظيفته ما كانت إلا باعثة له على الاستزادة من المعارف. ولو كان يريد أن ينحو منحى قدماء الشعراء لانقطع في غرفته واعتزل الناس ومخالطتهم ولكن كان يطمح إلى أن يجمع في شعره مثال القدماء إلى ما يتأثر به ويتعرف به بذاته من أحوال المجتمع.
وفي سنة 1788 تزوج الشاعر بفتاة اسمها كرستيان فولبيوس شقيقة أحد الكتاب فنظم في التقائه معها قصيدة من الشعر قال فيها ما ترجمته:
كنت أتنزه في الغابة سائراً في طريقي ولا شيء يعنيني ولا فكر ينازعني(8/2)
فرأيت في الظل وهرة مطلة تلمع كالنجم الثاقب وهي كالنظرة جمالاً
أردت أن أقطفها فتقدمت إليَّ بلطف تقول هل يكون ذلك منك ليقضي عليَّ أن أذبل وأنت تجنيني وتقطفني
فعندها أخذتها من أصولها وحملتها إلى الحديقة التي هي زينة داري
وما هو إلا أن أعدت غرسها في مكان ساكن وها هي الآن مخضرة مخضلة تزهر على الدوام.
ولقد عيب على زوجته أنها لم تكن في الدرجة المطلوبة من العلم تساوي بها درجة بعلها بيد أنها كانت كما وصفها الشاعر تعني بمصالح زوجها وبنتها وأولادها وهذا مما كان يزيد اغتباط كيتي بها لأنها كانت امرأة حقيقية تنظر في شؤونها البيتية.
وفي سنة 1794 بدأت صلات الحب بين كيتي وشيلر وما كان اجتماع الشاعرين بادئ بدء دالاً على الصدقة التي تتأكد بينهما بعد بل كان اجتماعهما لأول وهلة اجتماع تكلف وكره. فتعارفا سنة 1788 ولم يتأت تآلفهما حقيقة إلا سنة 1704 عندما أسس شيلر مجلة سماها الساعات وكان يطمع أن تشترك الطبقة العالية من كتاب ألمانيا بها فأبى أكثرهم أن يؤازروه فوعده كيتي بالمساعدة وكتبا سوية كتاباً فيه قصائد هجائية كان كيتي هو الذي اقترح موضوعه فألفاه معاً. وكان ذلك واسطة لاتحادهما فتناولا فيه التنديد بالتقاليد القديمة والنقد على أرباب الأذواق السمجة التي كانت تحول دون تقدم الأدب فكان ذلك منهما بمثابة إعلان للطريقة الجديدة التي أسساها في القريض وأخذ خيال الشعر والأدب من ذاك العهد يوحي إليهما كل طريف وتليد فيتطارحان الأفكار ويتناشدان الأشعار وكل منهما محب لصاحبه يبوح له بذات نفسه ويراقب أعمال صديقه مراقبة الود. دامت هذه الصداقة محكمة العرى إلى أن توفي شيلر سنة 1805.
ولقد حاول كيتي في تآليفه - وكانت أولاً منضمة غير منتشرة كتآليفه بعد - أن يعرف القارئ حال المتفنن وما يشغله في العالم من الأعمال. وبعد أن فقد كيتي صديقه شيلر كما تقدم لم يبق في حياته ما يستحق الذكر وامتاز بنقد من كانوا يستحسنون الثورة الفرنسية الأولى وأبان عن أفكاره قائلاً: إني أكرر بأنني أكره كل ما فيه شدة وتهور لأنه مخالف للطبيعة. وفي سنة 1813 تنحى الشاعر في خلال الحركة الوطنية وترك المجال لشعراء(8/3)
أصغر منه سناً يؤلفون الأغاني الحربية ويحثون الجمهور. وحاول وهو في السبعين أن ينسج على منوال ديوان حافظ الشيرازي شعراً ألمانياً في أفكار شرقية وأناس شرقيين فنظم ديواناً سماه ديوان الشرق والغرب. وهو سفر أغان وإن تكن ألمانية الصبغة فإن تنوع أوزانها واختلاف أسمائها واستبدال الأسماء الشرقية بالغربية جعلها غريبة في بابها تصدر من شيخ شاب.
وبعد أن فقد والدته وولده وصديقه الحميم بعد شيلر ضعف سنة 1832 فوافاه أجله وقضى عند الظهر جالساً على كرسيه وكان آخر كلامه ليدخل النور بكمية أكثر.
وقد كتب كيتي كثيراً من الأسفار في كل موضوع وكان كثيراً ما يعاشر أهل الأخصاء في كل فن فيوحون إليه بأفكارهم ويبوحون له بأسرارهم وأن المرء ليعجب بما خلفه كيتي من التآليف الممتعة المنوعة التي يستغرق وصفها صفحات من مثل هذه.
جاز كيتي كسائر الكتاب ثلاثة أدوار وهي دور التكون ودور النضوج ودور الانحطاط إلا أن دور نضوجه كان طويلاً ودور انحطاطه لم يخل من قوة. وقسم بعض مترجميه أدوار حياته الشعرية إلى ثلاثة أدوار الدور الأول الحبي والطبيعي الثاني المدرسي الثالث التعليمي. ولم يستنكف كيتي من الأخذ عن كبار شعراء الأرض كشكسبير وروسو وهوميروس وكتاب الفاجعات من اليونان والأماديح من اللاتين. وقال في بعض تآليفه: وهل أحسن فينا من القوة وحسن الذوق في امتلاك عناصر العالم الخارجي واستعمالها في مقصد سام. ولذلك امتاز بقوته التقليدية في الشعر والأدب وقوته في التحويل وقوته في التجديد مع مزج ذلك بالنقد وقوته على الإبداع ولم يشغله الأدب والشعر عن معاطاة العلوم الأخرى كعلم النبات والحيوان والجيولوجيا والمنيرولوجيا والطبيعيات ووفق إلى اكتشافات مهمة في التشريح والفسيولوجيا النباتية.
هذا هو الرجل العظيم الذي ربي في قصور النعيم وما أفسده الترف والرفاهية جمع في شخصه مزايا كثيرة وعلوماً كبيرة قلما يكتب نيلها إلا لكبار العقول في الأمم والقرون العديدة ولا غرو فإن قيام أمثاله في القرن الماضي والذي قبله هو الذي فتح على ألمانيا أن تكون اليوم في مقدمة الخليقة بعلومها وأعمالها. فسبحان من أسعدها برجالها وأسعدهم بها وأشقى رجالاً في الشرق وأشقى الشرق بهم.(8/4)
المكاءُ
(1 تمهيد) كل من زاول الكتابة في بحث عربي موضوعه علم المواليد يلاقي من العناء ما لا يعرف مقداره إلا من يجاريه في هذا الموضوع من أبناء نفس هذه اللغة الشريفة. وعندي أن ليس من خدمة مجردة الغاية تضاهي خدمة من يأخذ على نفسه تخليص اللغة من مثل هذه الألفاظ المبهمة المعاني التي لم يحكم تعريفها أصحاب المتون اللغوية أو أصحاب الفنون الخصوصية فبقيت في دواوينهم وأسفارهم مثل الطلسمات يعاني فكها من لا غاية له إلا الغيرة على لسانه إذ ربما يطوي عدة ليال في جانب حلها وهو مع ذلك لا يرجع إلا بما رجع به حنين وإذ قد كنت ممن عني بمثل هذا الفرع من العلم وتفرغت له أحببت أن أطرف قراء المقتبس بما وفقت إلى معرفته من حقيقة أمر الطائر المعروف باسم المكاء.
(2 تعريفه على ما جاء به كتاب العرب) إذا استشرنا كتبة العرب لمعرفة هذا الطائر فلا نسمع منهم إلا تحديدات وتعريفات مجملة لا يتحصل منها ما يصور لنا الطائر بصورته التي يتميز بها بل يوردون لنا ما ربما يصدق أو ينطبق على عدة طيور. فقد قالوا في تعريف المكاء ما هذا حرفه: المكاء بالضم والتشديد: طائر في طرف القنبرة إلا أن في جناحيه بلقاً سمي بذلك لأنه يجمع يديه (كذا) ثم يصفر فيهما صفيراً حسناً قال:
إذا غرَّد المكاء في غير روضة ... فويل لأهل الشاء والحمرات
التهذيب: والمكاء طائر يألف الريف وجمعه المكاكي. وهو فعال من مكا إذا صفر. اه (عن اللسان) وقال السيد المرتضى: المكاء: كزنار طائر صغير يزقو في الرياض. قال الأزهري: يألف الريف وقيل: سمي بذلك لأنه يجمع يديه (كذا) ثم يصفر. . . الخ كما في اللسان وقال في حياة الحيوان الكبرى: طائر يصوت في الرياض يسمى مكاء لأنه يمكو أي يصفر كثيراً ووزنه فعال كخطاف. اه. وقال القزويني: المكاء من طير البادية يتخذ أفحوصاً عجيباً وبينه وبين الحية عداوة. فإن الحية تأكل بيضه وفراخه. وحدث هشام ابن سالم أن حية أكلت بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر أي يرفرف على رأسها ويدنو منها حتى إذا فتحت فاها ألقى في فيها حسكة فأخذت بحلق الحية فماتت اه.
هذا مجمل ما جاء في كتب العرب. ويتحصل منها: أن هذا الطائر يصفر وأن أغلب وجوده في الرياض بين الشاء والحمير وأن في جناحيه بلقاً. قلت ولذا سماه العرب(8/6)
بالأخرج أيضاً. فإذا تأملنا حق التأمل هذه الإفادات لا يمكننا أن نسلم لحضرة الدكتور جورج بوست (في كتابه نظام الحلقات في سلسلة ذوات الفقرات. الجزء الثاني. الطيور ص27) إن المكاء هو نوع من الببغاء ولاسيما أنه يقول: أما المكاكي فأكثرها تستوطن أميركا الجنوبية وهي أكبر من سائر هذه العائلة (عائلة الببغاءات) وأذنابها طويلة جداً وألوانها بهجة جداً وتمتاز بكبر منسرها والحيز الخالي من الريش حول العينين وهي تطير إلى علو شاهق فهذا كله لا ينطبق على ما نطق به العرب حتى ولا على بعض منه فضلاً عن قوله أن وطن المكاكي هو أميركا الجنوبية فكيف ساغ للعرب أن يسموا طيوراً لم يروها ولم يعرفوها ولم تكن بلادها معروفة في أيامهم. فلا جرم أن الدكتور واهم في زعمه هذا.
(3 حقيقة المكاء) أما المكاء فعندنا هو ما سماه صاحب الأوقيانوس باللغة التركية جوبان الدانقجي أي المحتال على الرعاة وسماه صاحب كتاب فرانسز جه دن تركجه يه جيب لغتي وهو وزنظال أفندي: مكاء وخاطف الرياح وجوبان الدادن وهو أحسن المؤلفين الذين ضموا إلى حقائق الألفاظ صحيح المصطلحات.
(4 اسمه عند الإفرنج والعرب ومعناه في لسانهم ولساننا) يسمى الإفرنج المكاء ومعناه بالع الريح أو خاطف الريح وبعضهم يطلق عليه اسم أي الضفدع السام الطيار وآخرون يسمونه أي مصاص المعز وبمعنى هذا اللفظ يسميه العلماء أي وكذلك الإنكليز وكذلك أيضاً في لغات سائر الأعاجم ولا غرو فإن هناك سبباً حمل الناس على تسميته بهذا الاسم وهو وجود هذا الطائر في المواطن التي يكثر فيها الماعز والغنم والبقر توهماً بأن هذا الطائر يأتي الدواب ليمتص لبنها وهذا وهم قديم نظنه هو الذي حمل العرب أيضاً على تسميته بالمكاء فإن اللغويين قالوا في سبب تسميته بذلك أنه مأخوذ من المكواو المكاء بمعنى الصفير. وهو محتمل. على أنه قد يكون مأخوذاً من المك وهو المص وأصله المكاك أي المصاص إشارة إلى مصه اللبن. ثم قيل في مك: مكا كما كان ذلك معروفاً عند قوم من العرب أي جعل المضاعف ناقصاً كالمسبي في المسبب (التاج في مستدرك س ب ب) وتقضي في تقضض والتمطي في التمطط. قال أبو عبيدة: العرب تقلب حروف المضاعف إلى الياء ومنه قوله تعالى: وقد خاب من دساها وزهو من دسست. وقوله. ولم يتسنه من(8/7)
مسنون وقولهم: سرية من تسررت. وتلعيت من اللعاعة (عن المزهر 225: 1).
وقد يحتمل أن يكون أصل المكاء: المكان بتشديد الكاف ونون في الآخر ثم قلبوا النون ياء كما قلبوها في ألفاظ كثيرة مثل قولهم التزييد في التزنيد (الصحاح) والميشار في المنشار (عن التهذيب للتبريزي) والصيدلاني في الصندلاني (الصحاح) وفي ليلة طلمسانة قالوا: ليل طلمساية (التاج في طلمس) ومثل ذلك كثير عندهم. ومعنى المكام المصان أو الملجان: وهو الذي يرضع الغنم من لؤمه ولا يحلب (التاج) فيكون هذا موافقاً للمكاء لما اشتهر عنه من أمر مصه أو رضعه للغنم.
وهذا الطائر هو الذي سماه الدكتور جورج بوست (في كتابه المذكور آنفاً ص51) ماص المعز وسنذكر عن قريب وصفه وهو مما يوافق كل الموافقة لوصف المكاء من كل وجه.
(5 تعريف الطائر بموجب العلم الحديث) المكاكي جنس من الطير من رتبة العصافير المشقوفة المنقار وهي قريبة من الخطاطيف وتتميز بمنقار كثير التفلطح معقوف الطرف بشعر عند قاعدته كثير الانفتاح عند الحاجة وريشها أغبر أصدأ بخطط سوداء وسيقانها مسرولة.
(6 وصفه) أصل هذا الجنس مكاء الحجاز ويسميه العلماء بمكاء أوربية قال الدكتور جورج بوست في وصفه: ظن القدماء أن هذا الطير (أي الطائر) يمص بزاز المعز (أي أخلافها) إلا أن ذلك وهم لا طائل تحته. وإنما يقتات الفسافس والفراش والعث والناموس والبعوض والزيز وغير ذلك من ذات التفاصيل التي تظهر في الليل. ومما يعين على لقط هذه الحشرات وجود سائل لزج داخل الفم وهلب خارجه. أما ألوان ماص المعز (المكاء) فعير ناصعة إلا أنها جميلة فإن الريش ذو نمش وخطوط ونقط سمر وسود وسنجابية وصدائية والمنقار صغير مسطح معقوف الطرف وعيناه كبيرتان سوداوان وساقاه خشتنان حرشفيتان قصيرتان وعليهما ريش أسفل الركبة والأصابع متحدة بغشاء إلى نهاية المفصل الأول والإصبع الوسطى أطول من غيرها والمخلب مسنن على جانب واحد ولم يتفق الطبيعيون على فائدة هذا العضو فظن بعضهم أن الطائر يستعمله لنزع قطع الفسافس من هلب فيه والبعض الآخر أنه يمسك فريسته بواسطته. ويستوطن هذا الطير المواضع البعيدة من مساكن الناس ولا يعشش بل تبيض على الأرض (أي تتخذ لها أفحوصاً) قيل إذا رأت(8/8)
عدواً مقبلاً دحرجت بيضها إلى موضع أمان أه كلام الدكتور قلنا: ولهذا الجنس أنواع مختلفة أغلبها غريب عن هذه البلاد لا حاجة إلى ذكرها.
بغداد
أحد قراء المقتبس(8/9)
الإسرائيليون
(معربة عن كتاب تاريخ الحضارة)
العبرانيون
التوراة - جمع اليهود أسفارهم المقدسة بأسرها في سفر واحد دعوه التوراة وهو اسم يوناني معناه الكتاب. هذا هو سفر اليهود الجليل وقد صار لأعل النصرانية أيضاً كتاباً مقدساً. وفي التوراة أيضاً تاريخ الأمة اليهودية ولقد استفدنا من كل ما اتصل بنا عن الشعب المقدس من الكتب المقدسة.
العبرانيون - لما نزل الساميون من جبال أرمينية إلى سهول الفرات أخذ أحد أسباطهم على عهد مملكة الكلدان الأولى يضرب نحو الغرب فجاز الفرات فالقفر فسورية وبلغ بلاد الأردن وراء فينيقية وتعرف هذه الأسباط بالعبرانيين يعني أهل ما وراء النهر وهم كمعظم الساميين شعب من الرعاة الرحالة لم يحرثوا الأرض ولا سكنوا الدور والمنازل بل كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر في قطعان بقرهم وغنمهم وجمالهم منتجعين المراعي آوين إلى الخيام على نحو ما يعيش العرب في البادية اليوم. وفي سفر التكوين وصف هذه العيشة البدوية.
البطاركة - كان السبط منهم أسرة كبيرة مؤلفة من الرئيس ونسائه وأولاده ومواليه وكان للرئيس على الجميع سلطة مطلقة فكان بهذا السبط أباً وكاهناً وقاضياً وملكاً. من أجل هذا دعونا هؤلاء الرؤساء البطاركة وأعظمهم إبراهيم ويعقوب فالأول أب العبرانيين والآخر والد الإسرائيليين أظهرتهما التوراة في مظهر رجلين أرسلهما الله ليرأسا شعباً مقدساً وقد أعطى إبراهيم ربه ميثاقاً ووعده الطاعة هو ومن يأتي بعده من قومه فبشر الله إبراهيم بذرية تفوق نجوم السماء عدداً واطمأنت نفس يعقوب بأن تكون منه أمة عظيمة وشعب جم.
الإسرائيليون - سمي يعقوب باسم إسرائيل أي مدافع عن الله لرؤيا رآها ودعي سبطه بني إسرائيل أو الإسرائيليون. وذكرت التوراة أن القحط حدا يعقوب أن يغادر بلاد الأردن ليسكن وأهل بيته صغارهم وكبارهم على التخوم الشرقية من مصر وهي البلاد التي دعاه يوسف أحد أبنائه إلى هبوطها وقد صار وزيراً لعزيزها أحد الفراعنة. وظل بنو إسرائيل(8/10)
في تلك الأرجاء قروناً كثيرة فجاءوا وعددهم سبعون نسمة ونموا على قول التوراة حتى صار عددهم ستمائة ألف رجل. خل عنك النساء والأولاد.
نزول الوحي على موسى - افتتح عزيز مصر يسوم الإسرائيليين ضروب المظالم ويضطرهم إلى صنع الملاط والقرمد لابتناء مدن حصينة فقام من بينهم إذ ذاك موسى أحد أبنائهم وقد أوحى إليه ربه وعهد إليه أن ينقذهم من الجور والعسف. وكان يرعى غنمه ذات يوم على الجبل فظهر له ملك وسط عليقة تتلظى ثم سمع هذه الكلمات: أنا رب إبراهيم واسحق ويعقوب رأيت ما دهم شعبي في مصر من الحزن وسمعت شكواه ممن يظلمونه وعرفت ما يناله من العذاب ولذا نزلت لخلاصه مما ينتابه من المصريين لأنزله بلاداً من أرض كنعان تفيض لبناً وعسلاً فتعال إذاً أرسلك إلى فرعون تخلص شعبي أبناء إسرائيل وتخرج بهم من مصر فقاد موسى الإسرائيليين وهاجروا من مصر وهذا ما يدعى بالخروج أو سفر الخروج واجتازوا بسفح جبل طور سيناء وهناك تلقوا شريعة الرب وأخذوا يتيهون جيلاً كاملاً في القفار جنوبي سورية.
إسرائيل في القفر - وكثيراً ما كان الإسرائيليون يودون الرجوع إلى البلاد التي تركوها فيقولون: أنا لنذكر ما كنا نطعمه في مصر من السمك والقثاء والبطيخ والكراث والبصل فخليق بنا أن نؤمر علينا زعيماً يقودنا إلى بلادنا وكان موسى يدعوهم إلى الطاعة ثم بلغوا الأرض التي وعد الله ذراريهم.
الأرض الموعودة - دعيت أرض كنعان أو فلسطين فدعاها اليهود بلاد إسرائيل ثم دعيت بعد بلاد اليهودية ودعاها أهل النصرانية الأرض المقدسة وهي بلاد جافة قاحلة في الصيف ولكن فيها جبال وآكام وصفتها التوراة بما يلي: لقد ساقك ربك القيوم إلى بلد طيب ذات أنهار وينابيع في الأرض تنبجس من الوادي وعلى الجبل بلد البر والشعير والكرم والتين والرمان والزيتون والزيت والعسل بلاد تأكل فيها خبزك آمناً من القحط لا ترزأ في مال ولا ينقصك شيء من رفاهية الحال. وبلغ عدد الإسرائيليين بعد الإحصاء عندئذ 601700 رجل يحمل السلاح منقسمين إلى اثني عشر سبطاً عشر منها من نسل يعقوب واثنان من نسل يوسف هذا عدا عن اللاويين أو الكهنة وعددهم 23 ألف رجل. وكانت تسكن البلاد التي نزلوها عدة شعوب صغيرة تدعى الكنعانيين فأبادهم الإسرائيليون واستولوا على(8/11)
بلادهم.
ديانة الإسرائيليين
الله الفرد - عبد سائر الشعوب القديمة أرباباً كثيرة أما الإسرائيليون فاعتقدوا بوجود إلهٍ منزه عن الهيولى برأ العالم ودبره. ففي سفر التكوين أن الله خلق في البدء السموات والأرض وقد خلق النبات والحيوان وخلق الإنسان على صورته ومثاله فالبشر كلهم صنعة الله.
شعب الله - بيد أن الله أختار من بين الناس جميعاً أبناء بني إسرائيل ليجعلهم شعبه وأمته فدعا إبراهيم وقال له سأجعل بيني وبينك وبين ذريتك عهداً لأكون ربك ورب ذريتك من بعدك. وقد تمثل الله ليعقوب قائلاً له: أنا الله القادر إله آبائك فلا تتحام نزول مصر فسأجعلك فيها أمة عظيمة. ولما سأل موسى ربه عن اسمه أجابه: تقول لأبناء إسرائيل أنني أنا الله السرمد إله إبراهيم واسحق ويعقوب أرسلني ربي إليكم هذا هو اسمي على الدهر.
العهد - فبين الإسرائيليين والمولى تعالى إذاً اتحاد أو عهد فالقيوم جلَّ جلاله يحب الإسرائيليين ويدفع عنهم البوائق فهم والحالة هذه أمة مقدسة وأعلى الشعوب كافة في نظره وقد وعد أن يجعلهم سعداء أقوياء وتعهد الإسرائيليون أن يقابلوه على ذلك بان يعبدوه ويخدموه ويطيعوه فيما يريدهم عليه كما يطاع المشرع والقاضي والمعلم.
الوصايا العشر - أوحى القيوم الصمد عز شأنه مشرع بني إسرائيل بوصاياه إلى موسى على جبل طور سيناء بين البرق والرعد وهي مسطورة في لوحين وهما اللوحان اللذان كتب الله عليهما وصاياه العشر بما نصه: لا يكن لك آلهة أخرى أمامي لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي وأصنع إحساناً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في(8/12)
اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تقتل لا تزن لا تسرق لا تشهد على قريبك شهادة زور لا تشته بيت قريبك لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما قريبك.
الشريعة - على الإسرائيليين ما خلا هذه الوصايا العشر أن يعملوا بكثير من الأوامر الإلهية مما ذكر في أسفاره التوراة الخمسة الأولى وهي التي تتألف منها شريعة إسرائيل. فالشريعة تنظم عندهم احتفالات العبادة وتعين الأعياد (السبت كل سبعة أيام والفصح ذكرى خروجهم من مصر وجمعة الحصاد وعيد المظال في موسم قطف العنب) والشريعة هي التي ترتب الزواج والأسرة والتملك والحكومة وتعين العقوبات على الجرائم وتحدد الأطعمة والأدوية فالشريعة عندهم والأمر على ما ذكر مجلة الأحكام الدينية والسياسية والمدنية والجزائية ولمولى الإسرائيليين تعالى أن ينظم أعمال حياتهم جميعها.
(الديانة ألفت الشعب اليهودي) لم يقبل الإسرائيليون بحكم الله قبول من خضع وخنع فقد قال موسى للاويين وهو على فراش الموت دافعاً إليهم كتاب الشريعة خذوا هذا الكتاب ليكون شهادة عليكم يا إسرائيل لأني عارف بما أنتم عليه من شكاسة الخلق وقساوة القلب ولم تبرحوا طول حياتي تبدون نواجذ العصيان على المولى القيوم فليت شعري ماذا يكون من شأنكم بعد مماتي. وقد حدث أن مرت قرون ومن العبرانيين من يعبد الأصنام وربما كانت هذه الفئة هي السواد الأعظم من الأمة على أنهم أصبحوا أشبه بسائر الساميين في سورية وظل الإسرائيليون وحدهم على قدم الإخلاص للمولى جل شأنه فتألف منهم الشعب اليهودي وخرج الشعب المبارك بدين الله المتعال من قبيلة مجهولة على التدريج. نعم إنها لأمة قليلة الحصا والعدد ولكنها من الأمم التي لها الشأن الأعظم في تاريخ العالم.
مملكة القدس
القضاة - نزل العبرانيون أرض فلسطين ولكنهم ظلوا منشقين قروناً كثيرة فلم يكن لذاك العهد كما تقول التوراة ملك لإسرائيل بتة بل كان يعمل على شاكلته ويحكم بما يوحي إليه رأيه. وكثيراً ما كان الإسرائيليون ينسون ربهم ويعبدون أرباب القبائل المجاورة فاستشاط ربهم عندئذ غضباً من سيئات أعمالهم وأسلمهم إلى أيدي أعدائهم يفعلون بهم الأفاعيل حتى(8/13)
إذا ندموا على ما فرطوا في جنب الله وأصبحوا خاضعين خانعين يرسل ربهم إليهم قضاة يسعون في خلاصهم من أعدائهم المباغتين وربما مات القاضي وعاد دبيب الفساد يدب في نفوس الإسرائيليين فيسجدون لمعبودات أخرى. وكان هؤلاء القضاة مثل جدعون ويفتاح وشمشون من الغزاة يحررون القبائل باسم القيوم الأبدي ثم لا يلبث الشعب أن يعود إلى عبادة الأوثان والتلطخ بحمأة العبودية.
الملوك - سئم الإسرائيليون آخر الأمر وطلبوا إلى شمويل (سمو أل) الكاهن العظيم أن يجعل لهم ملكاً فملك عليهم شاول على رغم إرادته وكان على هذا الملك أن يكون منفذاً خاضعاً لإرادة الرب لكنه حاول الخروج عن الطاعة وشق عصا الجماعة فراح الكاهن العظيم يقول له: لقد نبذت كلام الله ظهرياً فسيبعدك ربك عن الحكومة وينزع السلطة من يدك. ثم أن داود وكان زعيماً جندياً خلفه وحمل على أعداء إسرائيل كافة واسترجع لهم جبل صهيون ونقل إليه عاصمته وهي القدس.
بيت المقدس - كانت القدس بالنسبة إلى بابل وثيبة عاصمة بلاد فقيرة. وما كان العبرانيون يتعاطون البناء ويميلون إلى العمران بل كانت ديانتهم تحظر عليهم إقامة المعابد وكان يقضى على مساكن الخاصة أن تشبه تلك المكعبات من الحجر التي لا تزال تشاهد إلى اليوم في شواطئ لبنان وقد غشيتها الكروم والتين ولكن كانت القدس بلد اليهود المقدسة وكان فيها للملك قصر يسكنه ألا وهو قصر سليمان الذي دهش العبرانيون بعرشه المصنوع من العاج وهناك أقيم بيت الرب وهو أول معبد عبراني.
المعبد - كان المعبد الذي أقيم على عهد سليمان كبيت القربان المقدس عند النصارى مقسوماً إلى ثلاثة أقسام ففي داخله يقوم قديس القديسين حيث كان تابوت العهد ولم يكن يسمح لغير الكاهن العظيم أن يدخله مرة في السنة وفي وسطه المكان المقدس وكان فيه مذبح البخور ومسرجة ذات أغصان سبعة ومائدة الخبز يدخل إليه الكهنة لحرق الغالية ووضع القرابين وفي المقدمة ساحة البيعة مفتحة أبوابها للناس تنذر فيها الضحايا على المذبح الكبير. وعليه فقد صار معبد القدس بعد واسطة عقد الأمة يقصدونه من أقاصي فلسطين لحضور الاحتفالات وكان الكاهن الكبير الذي يرجع إليه أمر العبادة من أعاظم الرجال ورما كان في الأحايين أكبر سلطة من الملك.(8/14)
الأنبياء
نكبات إسرائيل - إن سليمان آخر ملك عرف بالحول والطول وانفصل بعده عشرة أسباط ألفوا مملكة إسرائيل تلك المملكة التي عبد سكانها عجول الذهب وأرباب الفينيقيين ولم يخلص منها الدين لله وحده أو لملك بيت المقدس سوى سبطين ومنهما قامت مملكة يهوذا (977) ولقد انتهكت قوى تينك المملكتين بما اضطرا إلى دخوله من المعارك حتى إذا جاءتهما جيوش الفاتحين من الشرق خربت مملكة إسرائيل بأيدي بختنصر ملك الكلدان (586).
إحساس الإسرائيليين - رأى المؤمنون من الإسرائيليين هذه المصائب عقوبة لهم وأن الله عذب شعبه لخروجه عن طاعته على نحو ما جرى قديماً على عهد القضاة وأسلمه للفاتحين يمزقونه كل ممزق. وركب أبناء إسرائيل هواهم واجترحوا الآثام في جانب مولاهم فبنوا علالي وقصوراً في المدن كافة وحذوا حذو الأمم المحيطة بهم فخالفوا بذلك أمر ربهم وما حرمه عليهم فصنعوا صوراً مسبوكة وسجدوا للكواكب وعبدوا الصنم بعل ولذا نبذ الله تعالى أصل إسرائيل وعاقبهم فجعلهم طعمة لمن يكتسح بلادهم ويسلب طارفهم وتلادهم.
الأنبياء - على ذاك العهد ظهر الأنبياء وهم إلياس وأرميا وأشيعيا وحزقيل وفي العادة أن يخرجوا من القفر بعد أن نقضوا زماناً في الصيام والصلاة والاعتبار والتدبر يأتون باسم الله لا غزاة مثل القضاة بل منذرين ومبشرين يدعون الإسرائيليين إلى الإنابة وقلب الأصنام والتوبة إلى بارئ النسم وينذرونهم بالخطوب التي يبعثها الله عليهم بعد إذا لم ينيبوا إليه فكانوا من ثم يدعون ويتنبأون.
التعليم الجديد - رأى هؤلاء الرجال المستمسكون بالأمر الإلهي أن العبادة الرسمية في القدس غثة باردة. وليت شعري لم يذبحون البقر ويحرقون البخور إجلالاً لله على نحو ما يفعل الوثنيون. يقول عيسى: أصيخوا إليَّ بأسماعكم وعوا ما يقوله تعالى: ماذا أعمل بجموع قرابينكم فقد شبعت من ضحايا الغنم ومن دهن الحيوانات السمينة وما عاد يلذ لي دم الثيران ولا الخرفان ولا التيوس فكفوا إذاً عن أن تقدموا لي ضحايا هي من العبث فإن نفسي عزفت عن استنشاق بخوركم ومتى ترفعون أيديكم أحول نظري عنكم لأن أيديكم ملأى بالدم المهراق فقوموا وطهروا أنفسكم عن سيئات أعمالكم عودوا أنفسكم عمل(8/15)
الصالحات وخذوها بتوخي طريق الرشاد وحماية المظلومين وأقسطوا اليتيم ودافعوا عن الأيم وعندما تصير خطاياكم كالقرمزي حمراء تبيض كالثلج وبهذا رأيت أن الأنبياء أرادوا الاستعاضة عن القيام بالنذور والضحايا بالعدل وصالح الأعمال.
المسيح - استحق بنو إسرائيل ما دهمهم من المصائب ولكن لكل قصاص حد ينتهي إليه وغاية يقف عندها فقد قال عيسى باسم الحي القيوم أيها الشعب لا تخشى الآشوري أبداً فإنه سينالك من عصاه مثل ما كان ينالك من المصري في الزمن الغابر ولكن ستفثأ سورة غضبي قريباً ويرفع عن كاهلك ذاك العبء الثقيل. وعليه فقد علم الأنبياء الشعب اليهودي أن ينتظروا بعثة من يخلصهم وهيأوا السبل للمسيح.
الشعب اليهودي
الرجوع إلى بيت المقدس - جاء أبناء يهوذا من سهل الفرات ولم ينسوا وطنهم ولطالما احتفلوا به وتذكروه في أناشيدهم يقولون جلسنا على شاطئ أنهار بابل وبكينا وقد ذكرنا صهيون. فعيداننا كانت معلقة في أشجار الصفصاف على ضفة النهر وكان يقول لنا من أتوا بنا: تغنوا ببضع أناشيد من جبل صهيون ولكن أنى لنا أن نتغنى بنشيد للرب في أرض غريبةٍ وبعد سبعين سنة في العبودية أذن سيروس فاتح بلاد بابل أن يعودوا إلى فلسطين فجددوا بناء البيت المقدس والمعبد وعادوا إلى أحياء الأعياد والاحتفاظ بالكتب المقدسة وجددوا العهد مع ربهم علامة على أنهم عادوا إلى طاعته وعدوا من شعبه وهذا العهد عبارة عن ميثاق على الأصول كتبه أعيان الشعب ووقعوا عليه.
اليهود - دامت مملكة القدس الصغرى مدة سبعة قرون يحكمها ملك تارةً وكاهن كبيرٌ أخرى وفي كلتا الحالتين كانت تؤدي الجزية إلى زعماء سورية فجبى جزاها الفرس أولاً ثم المقدونيون ثم السوريون ثم الرومانيون. وإذ صدق اليهود (دعوا كذلك لدن رجوعهم) مع ربهم ظلوا على عهدهم الأول من العمل بشريعة موسى والاحتفال بالأعياد وتقديم النذور في القدس وكان الكاهن الأكبر يحفظ الشريعة بمظاهرة مجمع الأعيان والكتبة ينقلونها والعلماء يفسرونها للشعب وجمهور المؤمنين يرون من واجباتهم الجري عليها والعمل بدقيقها وجليلها واشتهر الفريسيون خاصة بغيرتهم وتفانيهم في القيام بضروب الأعمال الصالحة.(8/16)
المدارس (الكنائس) - ومع هذا فقد كان اليهود يرحلون في التجارة وينتشرون خارج بلادهم في مصر وسوريا وآسيا الصغرى وإيطاليا وكانت طائفة من أهل مذهبهم في المدن الكبرى جميعاً كالإسكندرية ودمشق وإنطاكية وأفيس وكورنت ورومية وكانوا أبداً يجتمعون في صعيد واحدٍ ليحفظوا كيانهم ويجمعوا شملهم المشتت بين الوثنيين ولم يقيموا المعابد لأن الشريعة كانت تحظر عليهم ذلك وليس لهم أن يبنوا سوى معبد يهودي واحدٍ ألا وهو معبد القدس حيث كان يحتفل بالأعياد وتقام المواسم والشعائر بيد أنهم كانوا يجتمعون ليشرحوا كلام الله ويتلوه ودعيت هذه الأماكن باسم يوناني (الكنيس) ومعناه المجالس.
خراب المعبد - ظهر المسيح في خلال تلك المدة فصلبه اليهود واضطهدوا حوارييه سواءٌ كان في بلادهم أو في المدن الكبرى التي حلَّ فيها الجم الغفير منهم. ولقد شقت القدس عصا الطاعة عام 70 على الرومانيين فأخذت عنوة وذبح سكانها كافة أو بيعوا بيع الإماء والعبيد فألقى الرومانيون النار في المعبد وقد حفل وطابهم بالأعلاق المقدسة. ومن يومئذ لم يعهد لليهود مجمع لدينهم.
ما كتب على اليهود بعد تفرقهم - عاشت الأمة اليهودية بعد خراب عاصمتها ولما تشتت شملها تحت كل كوكب في العالم أنشأت تستغني عن المعبد وأبقت كتبها المقدسة مكتوبة بالعبرية. والعبرية لغة بني إسرائيل الأصلية لم يتكلم بها اليهود منذ رجوعهم من بابل بل اقتبسوا لغات الشعوب المجاورة كالسريانية والكلدانية وخصوصاً اليونانية. على أن المنوَّرين في الدين من الربانيين ظلوا يعرفون العبرية وهم يشرحون التوراة ويفسرونها وهكذا حفظت الديانة اليهودية وبفضل اللغة العبرية أيضاً بقي الشعب اليهودي وكثر أشياع هذا الدين في الأغيار فكان في المملكة الرومانية أناس كثيرون ممن يدينون باليهودية وليسوا من العنصر اليهودي في شيءٍ.
قويت شوكة الكنيسة المسيحية في القرن الرابع فطفقت تضطهد اليهود اضطهاداً دام إلى يوم الناس هذا في البلاد المسيحية جمعاء. ومن العادة أن يتسامح مع اليهود في إجراء مراسيم ديانتهم لغناهم واستئثارهم بفروع الأعمال المالية ولكنهم ينحونهم عن ممارسة الوظائف الإدارية ولقد أكرهوا في معظم المدن أن يلبسوا ثياباً خاصة وينزلوا في حي خاص مظلم وخيم وبيل وأن يبعثوا أحياناً بأحدهم يصفع في عيد الفصح والناس يرمونهم(8/17)
بأنهم يسممون الينابيع ويقتلون الأطفال ويدنسون القربان المقدس وربما يثورون بهم في الأحايين فيقتلونهم ويغنمون ما في دورهم ويسقيهم قضاة البلاد السمَّ أو يعذبونهم أو يحرقون لأقل حجة تافهة ولطالما تفتهم الحكومات زرافات من بلادها وصادرت أموالهم ولقد أجتث دابر اليهود من فرنسا وإسبانيا وإنكلترا وإيطاليا ولم تبق منهم بقية إلا في بلاد البرتغال وألمانيا وبولونيا وفي البلاد الإسلامية ومن هذه الممالك رجعوا إلى سائر قارة أوربا منذ انتهت أيام اضطهاداتهم وكفَّ الناس عن إرهاقهم وإعناتهم.(8/18)
حكم الإعدام
أكثر معاني هذه القصيدة منقول عن فيلسوف فرنسا وشاعرها فيكتور هوكو من مقدمة كتاب له عنوانه أواخر أيام المحكوم عليه بالقتل
بين القضاة وآلة الإعدامِ ... حكم يشين عدالة الحكامِ
حسب القضاةُ القتل اردعَ رادع ... يثني محللَ أفظعِ الآثامِ
وهمَ القضاة فليس يعدلُ حاكمٌ ... إلا بقتل مفاسد الأيامِ
هي أوجبت سفكَ الدماءِ ومهدت ... الأشقياءِ سبيلَ كلِّ حرامِ
هي خالفت ما بين أخلاق الورى ... فتفرقوا فرقاً بغير نظامِ
هي علمتهم كيفَ يفتك بعضهم ... بالبعض فتكَ الذئب بالأغنامِ
كم مذنبٍ يأتي الذنوب وجهلهُ ... أو فقرهُ يقتادُهُ بزمامِ
يا للقضاءِ أما تهابُ حكومةٌ ... أن تزهق الأرواحَ في الأجسام
هلْ قلَّ في الأرضِ الهواءُ فلا غنىً ... عن حكم موتٍ للشقي زؤَام
أيضيقُ جوفُ السجنِ عن أمثالهِ ... والقبرُ أضيق منهُ عند زحام
لا تستقيمُ حكومةٌ إلا إذا ... قامت معالجةً لكلّ سقام
تغني أخا البؤْسِ اليتيمَ بفضلها ... حتى تكون كفيلةَ الأيتام
وتزيلُ أسبابَ الخصام فيغتدي ... أبناؤُهُ أعداَء كلّ خصام
ما للعقوبة أن تعلم جاهلاً ... لا يذهب الإعدام بالإعدامِ
القاهرة
نقولا رزق الله(8/19)
مكتبة الإسكندرية
(نشر المقتبس في الجزء الثالث مقالة ملخصة من كتاب تركي في نفي تهمة حريق مكتبة الإسكندرية عن عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب بالأدلة التاريخية ولما اطلع عليها العلامة المتفنن الشيخ شبلي النعماني أحد كبار دعاة الإصلاح في البلاد الهندية بعث لنا برسالة له كان كتبها بالإنكليزية في معنى حريق المكتبة الإسكندرية فدفعناها إلى صديقنا محمد لطفي جمعة فعربها ملخصة على ما ننشرها. وفي مأمولنا أن لا يحمل القراء هذا الموضوع إلا على إرادة تصحيح خطاءٍ تاريخي إذ ليس في نسبتها لأحد رجال الإسلام ما يدعو إلى الطعن في الدين نفسه كما أنه ليس في نسبتها لبعض رجال النصرانية طعن عليها بالذات والمجلة علمية أدبية اجتماعية وهذه الأبحاث هي موضوع اهتمامها أبداً). قال العالم الهندي:
إن ما يوجهه الغربيون عامة من اللوم إلى المسلمين ويتهمونهم به من إحراق مكتبة الإسكندرية ليس سوى أحد أمور كثيرة ظلم فيها الغرب الشرق ووجه الأغيار إلى المسلمين سهام اللوم بغير حق وقد سرى هذا الاعتقاد إلى جميع المشتغلين بالعلم والأدب من الإفرنج بحيث لا تجد كتاب علم أو قصة أو تاريخاً أو خرافة أو مثلاً سائراً إلا وفيه ذكر لإحراق مكتبة الإسكندرية وتقريع للمسلمين الذين أحرقوها وقد دخلت مكتبة الإسكندرية حتى في القضايا المنطقية وهي من العلم الصراح الذي لا ينبغي أن يشاب بالأغراض والأهواء وهاك سؤالاً منطقياً وضعه الممتحنون في سنة 1882 في مدرسة كلكتا الجامعة ورد فيه ذكر المكتبة:
بين خطأ القضية الآتية: إن الكتب التي تتفق مع القرآن في شيءٍ لا فائدة منها لوجوده والكتب التي تخالفه يجب إتلافها.
لم يكتب تاريخ كبير في حوادث العالم إلا وورد فيه ذكر مكتبة الإسكندرية. وكثيراً ما كان كبار المؤلفين يشفعون الحادثة التاريخية برأيهم الخاص في هذا الموضوع مظهرين خطأ التهمة أو صوابها ويحسن بنا في مثل هذا المقام أن نأتي على الكتب التي استند عليها المؤلف في المراجعة قبل كتابة هذه الرسالة فأول هذه الأسفار تاريخ رومية تأليف العلامة جيبون ونحن نوجه الأنظار إلى ما كتب في هذا الكتاب عن فتوح الإسكندرية وثانيها كتاب اجيبتكا أو ملاحظات فلسفية على بعض الحوادث التاريخية تأليف الأستاذ هويت مدرس(8/20)
اللغة العربية في مدرسة اكسفورد الجامعة وفي هذا الكتاب ناصر المؤلف القائلين بإنهاء المسلمين بإحراق المكتبة.
ثم كتاب الخلفاء الراشدين تأليف وشنجتون ارفنج صحيفة 113 ثم كتاب تاريخ العرب صحيفة 254 ثم تاريخ بلاد العرب قديماً وحديثاً تأليف العلامة اندريو كريستون صحيفة 393 ثم تاريخ نزاع العلم والدين تأليف العلامة درابر الشهير صحيفتا 103 و104 ثم مقالة دائرة المعارف الإنكليزية الكبرى عن الإسكندرية ثم تاريخ العرب العام تأليف العلامة سدليو. ثم شرح العلامة دي ساسي على تاريخ عبد اللطيف البغدادي وفيه كلام مطول وبحث ممل عن إحراق المكتبة ثم رسالة الهير كريل العالم الألماني التي تليت في مؤتمر المشرقيات في جلسته الرابعة في فلورنسا سنة 1878.
وأغلب كتاب هذه الكتب سيما من يثبتون هذه الإشاعة يبرئون أنفسهم بقولهم أنهم لم يأتوا بها من عند أنفسهم بل هم يستندون في تقرير هذه الحقيقة إلى ما كتبه العرب أنفسهم في كتبهم وما دونوه في تواريخهم.
وأول من أشاع هذه الإشاعة في أوربا رجل اسمه أبو الفرج وهو ابن رجل من بني إسرائيل اسمه هرون الطبيب. وقد ولد أبو الفرج هذا في ملاطية سنة 1226م. وانتحل أبوه المسيحية فنشأ الولد عليها وتفرغ في صباه لدرس فقهها وتمحيص حقاق تلك العقيدة وكان يحسن العربية والسريانية ولما ظهر علمه وبان فضله عين أسقفاً لجوبا وهو حينئذ في الحادية والعشرين من عمره ومازال يرتقي درجات الكهنوت حتى صار رئيس طائفة اليعاقبة ولم يكن فوقه سوى البطريرك وكتب أبو الفرج تاريخاً جمعه من مصادر شتى عربية وفارسية وسريانية ويونانية واختصره في سفر صغير كتبه بالعربية وسماه مختصر الدول وكان هو أول من ذكر خبر إحراق مكتبة الإسكندرية فلما نقل الكتاب إلى اللاتينية سنة 1664 بدأت الإشاعة تتفشى في أوربا بأسرها. وإليك ما ذكره جيبون في تاريخه بالحرف: وقد ذكر ارفنح وكريستون وفلين وغيرهم أن ما أشيع عن الإسلام والمسلمين من المساوئ لم يكن له ذكر قبل نقل هذا الكتاب مختصر الدول إلى اللاتينية ومن ذلك الحين ابتدأ الغربيون يبغضون المسلمين ويحتقرونهم وهاك ما جاء في مختصر الدول بهذا الشأن:
ولما أحب عمرو يوحنا فيلوبونوس لعلمه وأدبه وقرَّبه من مجلسه وأدناه من نفسه وصارت(8/21)
ليوحنا دالة على عمرو لقيه يوماً وقال له: لقد ملكتم كل شيء في هذا البلد (الإسكندرية) بعد فتحه. فنحن لا نعارض في امتلاككم ما ينفعكم كما أنني لا أرى مانعاً من أن ننتفع بما لا تريدون فسأله عمرو عن غرضه فقال أريد ما في المكاتب الملكية من الكتب والمؤلفات الفلسفية.
فقال عمرو لابد لي أن أسأل الخليفة في ذلك وكتب إليه يشاوره في الأمر فاتاه من عمر هذا الجواب.
إذا كانت الكتب التي تشير إليها تتفق مع كتاب الله فلا حاجة لنا بها وإذا كانت تخالفه فإتلافها خير وأولى.
فوزع عمرو الكتب على حمامات الإسكندرية وأمر بإحراقها لإحمائها فاستمرت النار ستة أشهر تأكل الكتب. فاقرأ وتعجب ما جاء في مختصر الدول.
وقد انتشرت الإشاعة في أوربا على هذه الصورة وكان العلامة جيبون أول من نبه الناس إلى خطئها فإنه قال في كتابه إنني لا أعتقد بصحة هذه الرواية لأسباب قوية منها أن أبا الفرج بن هرون ولد بعد فتوح الإسكندرية بخمسة قرون وجاء قبله كثيرون من المؤلفين والمؤرخين ونحن لم نجد لهذه الإشاعة فيما كتبوه عن مصر ذكراً فكيف نعتمد على قوله ونحله من الصدق غير محله.
وقد نبه جيبون بذلك أذهان علماء الغرب فانقسموا قسمين قسم نهض لمناصرة جيبون وقسم قام لمعارضته ومناهضته ومن هؤلاء المستر كريستون الذي كتب تاريخاً للإسلام فإنه قال:
لو فرضنا أن أبا الفرج كاذب فيما قال واستنسينا عن روايته فإننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن غيره من كتاب المسلمين أنفسهم أمثال عبد اللطيف البغدادي والمقريزي وكلاهما ذكر القصة في تاريخه بالتطويل. وكذلك قال الهير كيريل وهو يقول أن عبد اللطيف أول من ذكر هذه الحادثة وهو أيضاً ولد بعدها بخمسة قرون.
وإذ أن منبع هذه الإشاعة هو ما كتبه مؤرخو العرب فنحن أعلم بما كتبه هؤلاء من غيرنا والمثل العربي يقول وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
ونحن نعلم أن الإفرنج الذي أيدوا الإشاعة اعتمدوا في كتبهم على ما كتبه عبد اللطيف والمقريزي وحاجي خليفة وقد سرت عدوى التقليد إلى بعض جهال المؤلفين فنقل أحدهم(8/22)
الخبر وعزاه إلى ابن خلدون مما دل على أنه لا يعرف من العربية وكتبها شيئاً. ومن العجيب أنه ينقل ما نقل عما كتبه ابن خلدون عن عمر هذا على شهرة الكتاب بين قراء العربية وعلمهم بأنه لم يحدث لهذه القصة الكاذبة ذكراً.
أما كتاب المقريزي فها هو بين أيدينا ففي الجزء الأول من ص151 وصف المؤلف عمود السواري وهو أحد الأعمدة الشهيرة بالإسكندرية نقلاً عن عبد اللطيف البغدادي حرفاً بحرف. أما مكتبة الإسكندرية فقد ورد ذكرها عرضاً في تاريخ المقريزي ولذا يرى الموسيو لانجل أن ما كتبه المقريزي عن المكتبة لم يجيء في كتاب المقريزي إلا عرضاً أيضاً.
ومن الغريب أن المؤلفين من الإفرنج ممن لم يروا تاريخ المقريزي مرة في حياتهم ويشيرون إليه في كتبهم وإلى سابقه تاريخ عبد اللطيف. أما الموسيو لانجل فقد قرأ تاريخ المقريزي في لغته بالحرف ونقل منه تاريخ فتوح الإسكندرية نقلاً وافق فيه الأصل فلم يرد لمكتبة الإسكندرية في خلال ما كتب ذكر أو شبه ذكر.
وعليه فلا يبقى لدينا إلا مؤرخان هما عبد اللطيف وحاجي خليفة وكثيراً ما يشير مؤرخو الإفرنج إلى الأخير ولكنهم لا يقتبسون منه حرفاً. وقد أراحنا دي ساسي من عناء بحث طويل في هذا الموضوع بأن نقل ما كتبه حاجي خليفة بهذا الشأن وهو:
اهتمَّ الناس في صدر الإسلام بدرس فروع الشريعة وفنون الطب لاحتياجهم إلى الأمرين وضربوا صفحاً عما سواهما. ولما كانت العقيدة لم تثبت بعد ولا تزال مقلقة في قلوب الكثيرين ممن انتحلوا هذا الدين رأى أولو الأمر أن يحرقوا ما وجدوه من كتب العلم والحكمة في مكاتب البلدان المغلوبة لئلا يجد الشك سبيلاً إلى قلوب المسلمين.
ويرى القارئ أن حاجي خليفة نفسه لم يذكر الإسكندرية أو مكتبتها بحرف إنما ذكر أمر احتراق الكتب عامة ولم يعين مكاناً وهذا نوع من التعمية والنقص في التاريخ لا ينبغي الركون إليه أو الاعتماد عليه فلم يبق بعد إلا عبد اللطيف البغدادي وهو الذي كتب كتاباً فيما شهده في مصر وقد فرغ من تصنيفه في العاشر من شهر شعبان سنة 603 للهجرة. وقد جاء فيه من الأغلاط والأكاذيب في وصف منارة سافاري ونسبتها إلى أرسطو والاسكندر وغيرهما ما يزعزع الثقة فيما كتبه هذا الثقة. وقد ذكر هذا الهير كيريل في(8/23)
رسالته التي قرأها على أعضاء مؤتمر علماء المشرقيات.
على أن لدينا دليلاً آخر لهدم ما بناه عبد اللطيف لو فرضنا صدقه. وهو أن عبد اللطيف البغدادي على سعة عمله وفضله لم يكن مؤرخاً بل كان طبيباً حاذقاً ومن يقرأ كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء يعرف فضل عبد اللطيف في الطب وفروعه ولا يخفى أن من يطلب من الطبيب أن يكون مؤرخاً كمن يطلب من المؤرخ أن يكون طبيباً ولو أن ابن سينا والفارابي أو أحدهما كتب لنا حادثة تاريخية هل يجب علينا أن نثق بها ونعول على صدقها مع علمنا بأنهما اختصا بفرع من العلم غير فن التاريخ؟
أضف إلى ذلك أن عبد اللطيف لم يكن مؤرخاً بل كان كتابه عبارة عن مجموعة حوادث رآها في عصره وأحب أن يدونها بدون إمعان نظر أو أعمال فكرة.
وبعد فإن الواقف على حقيقة التاريخ يعلم حق العلم أن مكتبة الإسكندرية أحرقت قبل دخول الإسلام إلى مصر إذ لا يخفى أن ملوك الوثنيين هم الذين أسسوها فلما جاءت المسيحية إلى مصر وكانت في نشأتها متعصبة لدينها وعلومها بتحريض القسيسين والكهنة سعى أهلها في إحراق الإسكندرية وقد سلم بذلك كثيرون من كبار العلماء في الغرب ومنهم العلامة ارنست رينان الذي ألقى خطاباً اسمه الإسلام والعلم في المجمع العلمي الفرنسي وذكر فيه أن العلم والدين الإسلامي يجتمعان ولكنه عندما وصل إلى ذكر مسألة مكتبة الإسكندرية قال أنه لا يعتقد بأن عمراً هو الذي أحرقها لأنها أحرقت قبله بزمن طويل.
وكذلك ذكر العلامة درابر في كتابه أن يوليوس قيصر عند قدومه إلى مصر لنجدة كلوبطرة أحرق نصف المكتبة وقلده بطارقة الإسكندرية فأحرقوا البقية وذكر اورسيوس أنه رأى بعينه أماكن الكتب خالية منها بعد أن صدر أمر الإمبراطور ثوديوس بإحراقها.
أما وقد انتهى ما لدينا من الأدلة بطريق النقل فنحن نعمد الآن إلى العقل فقد جاء من الرواية التي أثبتنا كذبها أن الكتب وزعت على حمامات الإسكندرية وبقيت تشتعل ستة أشهر وكتاب الإفرنج يقولون أن حمامات الإسكندرية كانت في ذلك الحين تزيد على أربعة آلاف فما مقدار تلك الكتب التي تحرق في ستة أشهر في أربعة آلاف حمام؟ ثم لننظر في مسألة أخرى تحتاج إلى تحكيم العقل: وهي هل يعقل أن عمراً وهو الذي اشتهر بحب العلم وأهله وتقريبهم من مجلسه واكبر دليل على ذلك تقريبه ليوحنا منليوبوس أن يعمد إلى(8/24)
إحراق كتب ثمينة امتدحها له صديقه ولو قيل لنا أن عمراً لم يكن حر التصرف نقول لابد أن يكتب على الأقل كلمة في نفاسة المكتبة في كتاب إلى عمر ولا نظن أن الخليفة كان يخذله في أمر كهذا لما للفاتح عنده من المقام والمكانة. مثال ذلك أن الخليفة لم يكن يريد فتح مصر ولكن عمراً أخذ ذلك على نفسه فأطاعه الخليفة في فتح مملكة فكيف لا يرضى له إبقاء مكتبة.
ومما يدل على أن المكتبة لم يكن لها وجود في عهد عمرو أنه لما كتب تقريره المطول إلى الخليفة بعد فتح الإسكندرية جاء فيه: وفي هذه المدينة أربعة آلاف حمام وأربعة آلاف دار لها شرفات وأربعون ألف إسرائيلي يدفعون الضرائب وأربعمائة مكان للرياضة والتنزه واثنا عشر ألف حديقة تخرج الأثمار فهل يعقل أن الرجل الذي لا يغفل في تقريره الحدائق والديار أن يهمل ذكر مكتبة الإسكندرية لو كانت موجودة في عهده على ما لها من الأهمية ونحن نختم هذه الرسالة ببيت من الشعر الإنكليزي: إننا نوجه إليهم سهام اللوم وليس جديراً باللوم سوانا.(8/25)
الأمة الشرقية
وذكرى المستنصرية والنظامية
أيُّ خطب دها وأي بلية ... قد أحاطت بالأمة الشرقية
قد وكلنا أحوالنا للأماني ... والأماني مضلة للبرية
بعد أن كان علمنا شائعاً تأْ ... خذ عنا الطوائف الغربية
قد غدونا نتيه في مهمة الجه ... ل ونرضى بحالنا المخزية
نرفض العلم قائلين حرام ... حرَّمته الأوامر الدينية
مثل هذي الدعوى تشوه وجه الد (م) ين والدين كاللآلي المضية
أين منا الحزم المذلل للصع ... ب وأين الحمية العربية
أين منا الشعور يا قوم والنج ... دة بل أين تلكم الأريحية
عيشنا كله سبات عميق ... إن بعض السبات صنوا لمنية
أنسيتم دارَ السلام وعارٌ ... إن قولوا لقد غدت منسية
ولكم ضمَّ قطرها من ربوع ال ... علم بلدَ المراصد الفلكية
فطلول المستنصرية لم تم ... ح ولكن هناك منها بقية
تلك كانت مأوى لكل مريد ... راغب في العلوم والمدنية
كم أفاضت على أناس علوماً ... فأبادوا مناشئ الهمجية
ونظامية النظام ألم تت ... ل عليكم أخبارها المروية
أخرجت من أئمة قوماً ... ناطحوا (اورانوس) في العلوية
كان عيش التلميذ فيها رخاءً ... فيض رزق وحكمة فلسفية
فخليق بنا أباة الضـ (م) ـيم أن ننبذ الشؤون الدينية
وبأن نقتدي بأسلافنا من ... رفعوا أصرح الفخار العلية
فمن العار أن نكون بعصر ال ... علم ما عندنا ولا كلية
أترى حالنا تبدَّل أم نب ... قى مدى الدهر أمَّة جاهلية
ليت قومي يذَّكرون عساهم ... يتلافون خطبنا بروية
ومن العجز أن ننام عن السع ... ي ونرجو سعادة مرضية(8/26)
القاهرة
حسين وصفي رضا(8/27)
سدوم القديمة وسدوم الجديدة
اختلف علماء الآثار ورجال البحث والاستقصاء في موقع سدوم اختلافهم في سواها من المسائل العلمية العويصة والمشاكل التاريخية الغامضة والمباحث الأثرية الدارسة فذهب فريق منهم إلى أن موقع سدوم كان في الجنوب الغربي من بحيرة لوط في جانب الجبل المعروف بسدوم. وذهب آخرون إلى أن هذه المدينة القديمة كانت ممتدة من جنوبي بحيرة لوط إلى غربي شاطئ نهر الأردن. وزعم غيرهم أن موقع سدوم وعمورة وأدمة وصبوئيم كان على شاطئ بحيرة لوط ثم عمرت بعد أن خربت. وصرح فريق آخر بأن موقع هذه المدن هو بحر الميت نفسه أو بحيرة لوط عينها وقد استدل أصحاب هذا المذهب على ذلك بأقوال التوراة. فسكان موقع سدوم إذا صحَّ مذهبهم تحت مياه الجانب الغربي من البحيرة. ومهما تكن تلك الآراء متباينة فقد أجمع أولئك الباحثون على أن موقع تلك المدن كان في أنحاء بحر الميت في القسم الغربي من قارة آسيا.
يظهر للمطلع على الإصحاحين الـ 18 و19 من سفر التكوين - السفر الأول من الأسفار الخمسة لموسى الكليم - أن سدوم وعمورة وأدمة وصبوئيم المتقدم ذكرها قد انحطت آداب سكانها بحيث لا تطيقها شريعة إلهية كانت أو أدبية أو اجتماعية فقضى الله جلَّ جلاله بأن يعاقب سكانها واطلع إبراهيم الخليل يومئذ على ما سيحل بأهل سدوم فسأل واحداً من أهل الله ممن زاروه من قبل لخلاصها والرفق بأهلها. فذهب اثنان منهما إلى سدوم ولما لم يجدا فيها إلا فشو الفاحشة والشر الفاضح أخرجا لوط ابن أخي إبراهيم مع امرأته وابنتيه إلى بلدة مجاورة اسمها صوغر. ثم هطلت نار من السماء فأحرقت سدوم وعمورة وأدمة وصبوئيم ومزقت شمل أهلها كل ممزق.
ولقد صادق كثير من العلماء القدماء على رواية موسى بشأن إحراق سدوم وخراب سائر المدائن المذكورة وتناولها شعراء اليونان ودونوها في قصائدهم بيد أنهم مزجوها بخرافاتهم الفاسدة. ومن أولئك المقرين على تلك الرواية استرابون الجغرافي الشهير المولود في نحو 200 سنة ق. م ويوسيفوس المؤرخ العبراني الذي ولد سنة 37 ق. م وإذ أن آراء أهل التنقيب والعلم تباينت في موقع سدوم فقد اختلفت أيضاً آراء المفسرين من علماء الدين في كيفية إحراق سدوم وسائر المدائن السابقة الذكر.
ذهب فريق من العلماء إلى أن الله أنزل الكبريت والنار على تلك المدن حقيقة فأحرقتها(8/28)
ودمرتها ودكتها إلى الحضيض. ودليلهم على مذهبهم أن التوراة المنزلة صرحت بالأمر بحيث لم تبق شكاً فيه. وارتأى غيرهم من رجال الدين إلى أن بركاناً نارياً انفجر في بطن الأرض فأحرق تلك المدن ودليل أرباب هذا المذهب هو أن إبراهيم الخليل تطلع على تلك البقعة فرأى إذ ذاك دخاناً كثيفاً متصاعداً من قلب الأرض.
وبعد فقد عنيت بعض الجمعيات الأوربية بالبحث عن سدوم وسواها إفادة للعلم بأثر يجدونه في أرجائها. ورجال العلم الحقيقي في هذا العصر - عصر التحقيق والبحث - باذلون ما في وسعهم لكشف النقاب عن كل مسألة غامضة تفيد العلم والمجتمع.
وقرأت أن أحد السياح الباحثين وجد تمثالاً من ملح في جانب جبل سدوم في جنوبي بحيرة لوط ولعلَّ هذا التمثال هو نصب امرأة لوط التي تقول التوراة عنها بأنها عوقبت بذلك من أجل مخالفتها لأمر رجلي الله فالتفتت إلى ورائها لترى ما حلَّ بسدوم.
أما تاريخ إحراق سدوم ودمارها فيرجع إلى أيام إبراهيم الخليل جد اليهود. وتاريخ إبراهيم يرد إلى زهاء أربعة آلاف سنة. ولما كانت التوراة أهم مستند لدرس العلماء الملاحدة على رغم إلحادهم لأنها أقدم تاريخ من حيث المادة التاريخية يرجعون إليها في كثير من المسائل القديمة. ولما كانت موضوع بحث الباحثين من أئمة الدين وعلمائه من شرقيين وغربيين لم أر بدّاً من الرجوع إلى التوراة في بعض وصف مدينة سدوم وعمورة وتوغلهما في القدم والعمران.
فقد سمى موسى الكليم تلك البقعة مدن دائرة الأردن ووصفها بقوله أنها جنة وأن أراضيها تسقى بمياه نهر الأردن ولا غرو فقد هام الشعراء في هذا العصر بجمال بقاع بحر الميت فنظموا فيها القصائد. وأمها السياح من كل حدب وكانت كتاباتهم مجمعة على جمال موقع تلك البقعة وخصب أراضيها وطيب هوائها وعذوبة مائها. ولم يرد في التوراة شيءٌ عن عدد سكان تلك المدن الأربع غير أن كثيرة فساد الآداب في سدوم وعمورة خصوصاً على ذلك العهد تدل على أن تينك المدينتين كانتا مأهولتين بالسكان. والفاحشة في الغالب لا تتفشى بكثرة إلا في المدن الكبيرة وحيث يكثر الزحام وينمو السكان.
وصرح موسى الكليم بأنه كان لكل مدينة من مدن الدائرة ملك. فكان بارع ملك سدوم وبرشاع ملك عمورة وشنئآب ملك أدمة وشئمبير ملك صبوئيم وانه قد حدثت لهؤلاء الملوك(8/29)
مع ملوك شنعار والإسار وعيلام وجوبيم وأن إبراهيم الخليل استرجع من هؤلاء الملوك مدن الدائرة والأسلاب بعد أن تغلبوا على ملوك مدن الدائرة وأن إبراهيم تتبعهم إلى حوبه قرب دمشق شمالاً هو ورجاله الثلاثمائة والثمانية عشر حيث استظهر عليهم.
هذا بعض ما لخصته واستنتجته من أبحاث رجال العلم والدين التي طالعتها. وقد اذكرني بالكتابة في الموضوع حادث سان فرنسيسكو التي سماها رجال الدين في أميركا سدوم العالم الجديد لما أصابها في 18 نيسان سنة 1906 من البلايا التي تشبه بلايا سدوم العالم القديم.
أكبر ولاية في الولايات المتحدة بمساحتها هي تكساس وثاني ولاية كاليفورنيا وأكبر مدينة وأشهرها في كاليفورنيا سان فرنسيسكو أو هي أكبر مدينة في غربي الجبال الصخرية في الولايات المتحدة تقع على شاطئ الأوقيانوس الباسيفيكي من الجهة الشرقية منه وهي مفتاح ولاية كاليفورنيا وميناها أمين جداً. والحاجة العمرانية تستلزم وجودها في تلك البقعة دع عنك أهمية موقعها التجاري والبحري. ولقد دعاها الأميركيون باريس المدن الغربية في الولايات المتحدة وعروس الباسيفيك. ولا غرو فإن مركزها من أجمل مراكز الدنيا وهي كعبة السياح وأصحاب البذخ والترف ومتنزه أرباب المال والجاه ففيها الملاهي على تباين أنواعها والمقاصف على اختلاف أسمائها والحانات وما يتبعها ويتصرف عليها. وكما أن أهل العالم الجديد سموا مدينتهم الغربية باريس كاليفورنيا هكذا دعوها رتاج الذهب لكثرة النضارة في ولاية كاليفورنيا فإن هذه الولاية أغنى الولايات في البلاد المتحدة بمعادنها الثمينة لا بلجينها فقط بل بنضارها وسائر معادنها.
ولم تكن شهرة قصورها الفخيمة ودورها الجميلة وأبنيتها الشاهقة ومحالها البديعة بأقل شهرة من قصور سائر مدائن الولايات المتحدة الكبرى كنيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا وسواها ففيها أبنية عظيمة وجميلة مؤلفة من ست طبقات إلى سبع عشرة طبقة وهي الثالثة من نوعها في العالم الجديد. أما نزلها الشهير المعروف بالبالاس الذي كلف بناؤه سبعة ملايين دولار (ريال) فهو أجمل نزل في العالم الجديد بل في سائر أطراف المعمور. وما قيل في نزل عروس الباسيفيك من حيث الجمال والإتقان والشهرة يقال في دار الحكومة التي أنفق في سبل بنائها تسعة ملايين دولار أميركي واشتغل مئات العملة في بنائها ربع قرن. ويرجع تاريخ هذه المدينة إلى أكثر من مائة سنة أيام كانت فرضة تجارية ليس فيها(8/30)
من العمران إلا اليسير على أنها أخذت بالتقدم والنماء منذ ثلاثة أرباع قرن شأن المدن الراقية حتى بلغت ما بلغته وناهز سكانها أربعمائة ألف نسمة.
هذا بعض وصف مدينة سدوم العالم الجديد قبل الحادثة الأليمة التي ألمت بها. أما اليوم فقد صارت قصورها البديعة رماداً ودورها الجميلة خراباً وسائر أبنيتها الثمينة قفراً يباباً حتى ابتلعت الأرض كثيراً من رياضها الغناء وحدائقها الزهراء وأصبح معظمها أطلالاً دوارس وآثاراً طوامس.
تناول شعراء الأمريكان فاجعة غادة الباسيفيك ونظموا فيها القصائد المؤثرة فرثوها بما يذيب سماعه قلب الجماد. واشتغلت الأسلاك البرقية في كارثتها العظيمة في كل أنحاء البلاد وبلغ نبأها أرجاء العالم المتمدن وانقضت أسابيع على المصيبة والجرائد الأميركية بالإجمال تصف هذا الخطب الجلل.
حدث زلزال شديد الساعة الخامسة والدقيقة الثانية عشرة من صباح 18 نيسان (إبريل) الماضي في مدينة سان فرنسيسكو دام دقيقتين فانشقت الأرض وابتلعت شطراً من المدينة بما فيها ومادت الأبنية وسقطت الدور ودمرت القصور وفاضت مياه الأوقيانوس على المدينة وأخذ البركان في جوف الأرض ينذرها بالويل والشقاء والدمار. حدث هذا الزلزال بينما كان الناس نياماً فزعزع أركان المدينة وأشد ما كانت وطأته على أهم بيوت التجارة والأعمال فيها ثم توالت الزلازل فأتت على البنايات المتزعزعة ودمرتها وثبتت الأبنية المتينة المشيدة هياكلها بالحديد بادئ بدءٍ.
ثم تصدعت أنابيب الغاز من الزلازل التي توالت بشدة فشبت النار في المدينة والتهمت ما بقي من الدور الفخيمة والأبنية العظيمة وحاول رجال المطافئ إخماد النيران ولكن مساعيهم ذهبت أدراج الرياح ثم عادوا بالديناميت لنسف الأبنية المجاورة لألسنة اللهيب الهائلة فلم يستطيعوا إيقافها وما انقضى بضع ساعات على شبوب النيران في الحي التجاري حتى اتصلت بأحياء السكن فالتهمتها فأصبحت المدينة كطود من نار.
وإذا رأى الفرنسيسكيون أن عروسهم الجميلة قد دكت إلى الحضيض ودفنت طيَّ اللحود فرَّ منهم نحو مائة ألف نفس إلى أوكلاند كليفرنيا وفرَّ الثلاثمائة ألف الباقون إلى الجهات المجاورة للمدينة والمطلة عليها يتوسدون الغبراء ويلتحفون السماء ويقاسون آلام الطوى(8/31)
أشكالاً ويذوقون البلوى ألواناً حتى بيع رغيف الخبز بدولار. ولم تنحصر الفاجعة الأليمة في عروس الباسيفيك بل قد امتد خطبها الفادح إلى غيرها من البلاد المجاورة فألحقت بها أضراراً فاحشة ولما حلت هذه الكارثة واتصلت أنباؤها المشؤومة بالشعب الأميركي الغيور قامت البلاد بأسرها تجمع الأموال وتبعث بها وبالمآكل والملابس إلى المنكوبين فخففوا عنهم وطأة الخطب وبرهنوا لهم بمروءتهم وغيرتهم أنهم شركاؤهم بالضراء وأن الأموال التي جمعت ترجع مجد مدينة المغرب وأن الشعب النشيط الذي أصبح في مدة قرن في مقدمة شعوب الأرض بالنفوذ والثروة والتمدن والذي عمر القفار وأقام المدن والأمصار يستطيع أن يبني على أنقاض سدوم العالم الجديد مدينة من أجمل مدن العالم.
ولقد بلغت الإعانات التي قدمت إلى منكوبي سان فرنسيسكو حتى الآن ثلاثمائة مليون دولار وتبرع كثير من كبار المتمولين الأميركيين كل منهم بمائة ألف دولار وتبرع مجلس الأمة في العاصمة (واشنطن) بمليون دولار وكثير من أفراد الأمريكان الموسرين تبرع كل منهم بالمبالغ الكثيرة. ومما يذكر أن محسناً دفع إلى حاكم مدينة نيويورك خمسة وعشرين ألف دولار لمنكوبي سان فرنسيسكو ولم يذكر اسمه.
وقد قررت خسائر سان فرنسيسكو بـ 350 مليون دولار. وكانت أشدها وطأة على 17 غنياً وغنية من الفرنسيسكيين فخسروا وحدهم 97 مليون دولار. وكانت خسارة السوريين في الكارثة 32 ألف دولار ولم يفقد منهم أحد وقدر الهالكون من الأميركيين بألفي نفس. وأما قيمة الأرزاق المضمونة في سان فرنسيسكو فهي 268 مليون دولار إذا رفعت شركات الحريق المبلغ برمته تضطر خمس عشرة شركة منها إلى إشهار إفلاسها.
هذا وأن حريق سان فرنسيسكو أعظم ما حدث من نوعه حتى الآن في الولايات المتحدة باعتبار خسارة المال والأنفس. فحريق شيكاغو الذي حدث في يومي الأحد والاثنين الواقعين في 8 و9 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1871 أتلف من الأرزاق ما قيمته مائتا مليون دولار. على حين كان عدد البنايات التي أكلتها النار 7. 450 بناية. ومساحة البقعة التي جرى فيها الحريق 73 ميلاً. أما مساحة البقعة التي حدث فيها الحريق في سان فرنسيسكو فهي 26 ميلاً وكذلك حريق بالتمور وبوسطن وكالفستن لا يحسب شيئاً بالنسبة إلى حريق سان فرنسيسكو. أما الزلازل التي حدثت في سان فرنسيسكو في 18 نيسان سنة(8/32)
1906 فقد حدث مثلها في نفس المدينة في تشرين الأول سنة 1865 وسنة 1868. على أن الخسائر التي سببتها إذ ذاك على فداحتها لا تذكر في جنب الخسائر الفاحشة التي نجمت عنها في العهد الأخير.
وفي سنة 1811 حدثت زلازل في الولايات المتحدة هي أعظم ما جرى من نوعها حتى يومنا هذا فانفتحت كوات الأرض من شدتها على مسافة ثلاثمائة ميل من حدود ولاية أوهايو إلى حدود سانت فرانس وانخفضت الأرض مئات أقدام في بعض الأنحاء وارتفعت في سواها ودمرت البلاد الكثيرة وسببت الخسائر الفادحة. وقد ابتدأ حدوث هذه الزلازل في 16 كانون الأول (يناير) سنة 1811 وظلت تتراجع بكل طولها وحولها حتى أوائل شهر شباط (فبراير) 1812. وروى الهنود - سكان أميركا الأصليون - أنهم شاهدوا في القرن السابع عشر بركاناً نارياً في بقعة سان فرنسيسكو يقذف المواد الهائلة من جوف الأرض إلى مئات الأقدام علواً في الجو. ولقد عرف العلماء الباحثون أن موقع سان فرنسيسكو هو على نفس خط بركان فزوف في إيطاليا الذي لا تزال ويلاته متوالية على العباد هناك.
ومن المحتمل إعادة مجد سدوم العالم الجديد لأن الهمم العلية المبذولة في عمران المدينة تخترق جبال المصاعب الصعبة المرتقى ولا تقيم مدينة بل مدائن تكون من أقوى وأجمل وأبدع مدائن العالم. وقد باشر المهتمون للأمر باستجلاب الكميات الطائلة من الحديد لأنهم عزموا على ابتناء القصور والدور والبنايات الكبيرة من الحديد ورأوا أن الأبنية القائمة بالحديد قلما تؤثر فيها الزلازل ولعله يتأتى للمعمرين في المستقبل اختراع طريقة للعمران لا تقوى عليها قوات الطبيعة. ولا عجب فالعصر عصر عجائب وغرائب. وما متاعب هذه الحياة إلا عقاب لما يجنيه الإنسان فسبحان الفعال لما يريد.
اوماها نبراسكا (الولايات المتحدة)
يوسف جرجس زخم(8/33)
في قلبي
خواطرُ في قلبي يضيءُ بها الفكرُ ... أشعتها في كلّ منبثقٍ فجرُ
لها رونقٌ من حكمةِ العبرِ التي ... تسامت بها الدنيا أو انحدرَ الدهرُ
كما من شعاعِ الشمس والريحِ والندى ... تناولَ سرَّ الحسنِ في أرضهِ الزهرُ
جلوتُ على الأيام أسرارَ وحيها ... بوصفٍ يقولُ الناسُ أنَّ اسمهُ الشعرُ
تجسمَ فيهم لفظهُ وتحكمت ... معانيه حتى ذاك درٌّ وذي سحرُ
إذا قلبوا في شطرِ بيتٍ عيونهم ... تنزَّلَ منْ وحيِ القلوبِ لهم شطرُ
وما عرفوا من خدعة السحر عندها ... أقطرٌ على زهر هنالكَ أمْ سطرُ
كأنَّ يراعي من أشعة رنتج ... يري من وراءِ الحبرِ ما سترَ الحبرُ
بلفظٍ ترى معناهُ من قبلِ لمحه ... كما فاحَ منْ زهرٍ على غصنهِ العطرُ
تهاداهُ أهواءُ النفوسِ كأنه ... من الدهرِ للنفسِ التي ساءها عذرُ
وما كلماتي غبرُ نبضِ العلى وما ... لسانيَ إلا قلبها وهيَ الصدرُ
أعدتُ نشاطَ الدهرِ بعدَ مشيبهِ ... فقد باتَ مختالاً وطرَّتهُ البدرُ
فقولوا لحسادي على بعدِ بيننا ... تظنونَ أنَّ السحب فوقَ السما جسرُ
فإن كانَ في هذي العصافيرِ طائرٌ ... هجفٌّ فما شاؤوا سوى اسمك يا نسرُ
ولي كلماتٌ لو يطيرونَ مرَّةً ... لأمست ومنها كلُّ قافيةٍ وكرُ
ولكنهم إن يصمدوا يتسفلوا ... دواليكَ ذا شبرٌ وذلكمُ شبرُ
صغارٌ على كبرٍ وشرُّ فضيحةٍ ... وسخريةٍ طفلٌ صغيرٌ بهِ كبرُ
على أنها من سنةِ الكونِ لم يزلْ ... يضايقُ من خلطِ الترابِ بهِ التبرُ
وفي القلب مني لوعةٌ لو تخلصت ... من الصبرِ يوماً واحداً قتلَ الصبرُ
وفيهِ كمْ فيهِ من الحبِ والجوى ... فذاكَ لهُ أمرٌ وهذا لهُ أمرُ
وفيهِ من الآمالِ ما العمرُ دونهُ ... فلا سعدَ إلا أن يزاد لنا عمرُ
وفيهِ منَ الأيامِ مكفنٌ ... بدمعي عليهِ من طفولتهِ قبرُ
وفيهِ وما فيهِ وذا الدهرُ لم يزل ... يعدُّ علينا موجةً وهي البحرُ
على أنني لم أفرغ الهممَّ كلهُ ... ولكنهُ نزرٌ وقلَّ لهُ النزرُ
تعلمتُ لطفَ الوصفِ من لغة الهوى ... ففيها جنونُ القلبِ قيلَ لهُ الهجرُ(8/34)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي(8/35)
السكك الحديدية في آسيا الصغرى
عن مجلة الطبيعة الفرنسية
استفاض في الناس أمر السكة الحديدية البغدادية التي تجتاز آسيا الصغرى من أقصاها إلى أدناها وتقرب بلاد فارس والخليج الفارسي من أوربا. وسيبلغ بالقطار الحديدي عما قريب إلى بغداد وكانت معدودة من قبل من مدن ألف ليلة وليلة. فترن صفارة البخار وتجاوبها أصداء بلاد الكلدان والفرات ويحرك التمدن الحاضر بما خص به من الصفات قبور أخلاف بختنصر. وليس الخط البغدادي أول سكة امتدت في ذاك الرجا فقد وجدت منذ عهد بعيد في غربية خطوط حديدية أخرى نال امتيازها ماليون مختلفة أجناسهم والدولة تمدَّ معظمها بالمال وتعطيها ضمانات عن كل كيلومتر تختلف من عشرة إلى تسعة عشر ألف فرنك. أنشئ أول خط حديدي سنة 1856 وهو من أزمير إلى آيدين واحتفل بافتتاحه سنة 1866 ثم اتصل بدينار وامتدت منه ناشطة أو فرع إلى تيره وسوكه وجوريل وبوجه وسيدي كوي ودكزلي. وطول هذه الخطوط خمسمائة كيلومتر. وسنة 1866 أيضاً افتتحت سكة حديد أزمير - قصبة التي امتدت بعد أفيون قره حصار وأخذت منها ناشطة إلى صوما وطول هذا الخط بأجمعه خمسمائة كيلومتر أيضاً.
وفي نحو سنة 1871 شرع بإنشاء خط مدانيا - بورصة. وفي نحو ذلك العهد أنشأت الحكومة خطاً يكون متمماً لخط عظيم يصل إلى الخليج الفارسي بادئاً من اسكدار أو حيدر باشا ومنتهياً بأزميد. وسنة 1889 نالت شركة ألمانية امتيازاً بمد خط حديدي من أزميد إلى أنقرة ماراً باسكي شهر وطوله 576 كيلومتراً ولم يتسن إيصال الخط إلى بغداد ماراً بسيواس. وفي غضون ذلك أنشئ الخط الحديدي من مرسين إلى آذنة ماراً بطرسوس وهو الخط الذي سيصبح من فروع السكة البغدادية. وكل هذه الخطوط تربط المدن الساحلية ببعض الداخلية إلا قليلاً.
أما خط أنقرة وقيصرية فأخذ امتيازه لكنه لم يجر تخطيطه. وفي سنة 1888 مدَّ خط من يافا إلى القدس وسنة 1890 شرع بمد خط حديدي من بيروت إلى دمشق ماراً برياق ثم دمشق - مزيريب ثم فرع رياق - حماه. دع الخط الحديدي الذي أنشئ من دمشق وسيتصل بالمدينة ومكة ماراً بعمان فإنه ليس من الخطوط المعدودة من آسيا الصغرى.(8/36)
ولا بأس من التصريح هنا بأن من تتمة الخط الحديدي البغدادي إنشاء الخط الذي كان بدأ به سنة 1895 من حيدر باشا إلى قونية ماراً بأفيون قره حصار فهو يصح أن يسمى من متممات خط أزمير فمن مدينة قونية إذاً تسير سكة حديد الخليج الفارسي مقتربة من خليج مرسينا. ويتحدث الإنكليز منذ نحو نصف قرن بهذا الخط لأنه يسهل المواصلات مع الهند حتى أنهم وضعوا سنة 1851 مشروع خط حديدي يمتد من السويدية في جنوبي إسكندرونة من أعمال سورية ماراً بإنطاكية وحلب والموصل فبغداد فالبصرة فالكويت. وفكر بعضهم في إنشاء خط حديدي من البوسفور إلى الموصل ماراً بسيواس وديار بكر كما اقترح الروس أن يجعلوا طرابلس مبدأ الخط. وكان ينوي أصحاب امتياز خط أنقرة - قيصرية أن يصلوه بدجلة والخليج الفارسي لكن شركة ألمانية فيها بعض الفرنسيين نالت الامتياز إلى 99 سنة بإنشاء خط حديدي من قونية إلى الخليج الفارسي يكون خط حيدر باشا قبالة الأستانة رأساً له فإذا اجتاز الخط اركلي يصل إلى سهل ثم يصعب تمديد الخطوط الحديدية لأنه يضطر إلى قطع سلسلة من جبال طوروس وفي شمالي الإسكندرونة يجتاز سلسلة أخرى من سلاسل جبال سورية ومن هناك ينشأ فرع صغير لتسهيل نقل الأدوات وتتصل حلب مع الخط الأصلي بفرع آخر يصل بينها وبين خط سورية ويستقيم سير الخط من أذنة إلى الموصل ومن هنا يتبع الخط مجرى دجلة إلى بغداد.
وفي مأمول القائمين بتمديد خط الخليج الفارسي أن ينجزوه سنة 1910 وهو مما يستبعد. وكيف دارت الحال فسيأتي هذا الخط بفوائد جزيلة أقلها تقريب المسافة بين أوربا والهند فإن معدل البريد الآن من لندن إلى بومباي في 14 يوماً و16 ساعة ومتى نجز خط بغداد يرسل البريد عن طريق آسيا الصغرى إلى ما بين النهرين في ثلاثة أيام و15 ساعة. لا جرم أن عدد الذاهبين إلى الهند والشرق الأقصى ممن يسافرون في البحر الأحمر وهو قرابة ربع مليون نسمة في السنة سيزيد كثيراً. وإذا صح ما يتحدثون به الآن من إنشاء جسر على البوسفور فسيجيء يوم تختصر فيه المسافة كثيراً فتسافر القطارات من كالى في فرنسا أو من لندن بدون أن تفرغ شحنها حتى تبلغ مصب شط العرب.(8/37)
تأثير العلم في ألمانيا
من مقالة لأحد علماء الفرنسيين
ارتقى التعليم العام وانتشر كثيراً في ألمانيا منذ نحو قرن وأصبح التعليم الابتدائي إجبارياً وإن كان ناقصاً وفيه نظر. وبالتعليم فنحن العقول واستعدت لقبول الأفكار الحديثة فرقَّ شعور الأفراد ومرنت قواهم واحتد ذكاؤهم وقويت عقولهم وقلَّ الاختلاف بين الطبقة العالية والطبقات النازلة في المجتمع وذلك في الأمور الذهنية على الأقل.
قامت منذ خمس عشرة سنة معاهد التعليم وتهذيب الأمة على أمتن الدعائم وانتشرت في الآفاق الألمانية أيما انتشار. وأنك لترى في كل ناحية أو عمالة لها بعض الأهمية صفوفاً ومدارس يتلقى فيها الكبار العلم ومارس ليلية ومؤتمرات تعليمية إجبارية في كثير من النواحي للشبان ممن سنهم بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة ولكل مدينة بل لكل إقليم مكتبة موقوفة على سكانها عامة تحبب إليهم المطالعة متى أرادوا بل تضطرهم إلى الاختلاف إليها. دع ما هناك من تمثيل الروايات العامية التي تطلعهم على أسرار الفنون وتحسن أذواقهم وخل عنك أندية المطالعة وأندية التمثيل وجمعيات الغناء والموسيقى التي تتكاثر الحين بعد الآخر.
وهكذا تجد العامي من الألمان قد خرج من غفلته وتغفله وصقل ذكاؤه ورق إحساسه وبدأ يفكر في غير الضروريات المادية في حياته اليومية واتسع أمامه ميدان النظر وامتد أفق الغايات السامية وراح يود الاطلاع على ما يحدث في العالم وعلم أن ليس لكل الشعوب ملوك وليسوا دونه في السعادة وأن بعض الشعوب تتألم لأنها محرومة من الحقوق السياسية وأخذ الألماني يفكر في قوانين حكومته وأوامرها ويبحث فيها ناظراً ما يتعلق منها بمصالحه واحترامه الشخصي ورأى من الظلم أن تكون الشؤون السياسية بيد طبقة خاصة من الأمة فينال النعم غيره على حين لم يكن دونه في المدارك وهو لا يرضيه الشقاء الذي قاساه حتى اليوم بل يتطلب الظهور ونيل حظه من اللذائذ.
ولما استحكم أساس الوحدة الألمانية تقدمت الديمقراطية بين أهلها كثيراً وسهل ذلك في سبيلهم ارتقاء الصناعات والتجارات ارتقاءً لا مثيل له. فصارت ألمانيا مملكة صناعية بعد أن كانت إلى سنة 1870 زراعية فكان يستخرج منها إذ ذاك 897. 000 طن من الفولاذ(8/38)
فبلغ ما استخرج من هذا المعدن سنة 1899، 6. 317. 000 وكان المستخرج من الحديد المسبوك سنة 1889، 3. 381. 000 فصار سنة 1900، 8. 520. 000 وكان قدر أنوال المنسوجات سنة 1887، 5. 381. 000 فأصبح بعد إحدى عشرة سنة 7. 884. 000 ونجحت الصناعات الكيماوية والكهربائية نجاحاً باهراً. ولألمانيا المقام الأول بين الأمم في استخراج السكر.
كانت نفوس ألمانيا سنة 1871، 39. 360. 000 نسمة تقريباً فبلغت سنة 1890، 47 مليوناً وسنة 1905، 60 مليوناً أي أن الشعب الألماني يزيد في السنة 805. 000 نسمة وكل مولود جديد يحتاج إلى مرتزق جديد له وقلما يجده في الزراعة إذا لم يجده في الصناعة والتجارة لأن مواد الزراعة ضيقة النطاق في تلك البلاد بحكم الطبيعة ولا يتأتى أن يعيش بها إلا عدد محدود من السكان فلم يبق من ثم إلا الصناعة يقيمون لها كل يوم أنواع المعامل الجديدة والمشاريع الصناعية والتجارية الحديثة وسينتهي الحال بأن تغدو ألمانيا بحكم الطبيعة في مقدمة الأمم بصناعتها.
ولقد كان لهذا التقدم الاقتصادي نتائج اجتماعية وسياسية كثيرة ذلك لأن هذا الارتقاء زاد في رفاهية الأمة وحسن الأخلاق وسعدت الحياة في ألمانيا وأصبحت داخلية المدن إلى اللطف والذوق يتوفر فيها الزخرف والبهرج والنظافة المفرطة. وإنك لترى في كل مكان خطوط الترامواي والإنارة بالكهربائية مألوفة في البلاد كلها وواجهات الدكاكين مزدانة وإمارات الغنى تتجلى في جميع الأعمال وترى أحياء العملة في المدن الكبرى كهمبورغ وبرلين وكولون لا تشبه غيرها من المدن الفرنسية مثلاً إذ ترى في تلك البلاد دلائل الحضارة ماثلة والناس يظهرون في أجمل بزة وزي وشارة. وللوالدين مطامع يرجونها لأبنائهم ويبحثون عن إيجاد أعمال أحسن من أعمالهم. وبالجملة فإن الشعب الألماني يرفع أسبابه المادية والأدبية عن معدلها السابق في المدن على الأقل.
ومعلوم أن كل نجاح مادي لا يقوم إلا ببذل النفس والنفيس في سبيله فالعامل والسوقة من الألمان يدفعون أجور منازلهم أغلى من ذي قبل وهي جديدة البنيان وإذ أصبحوا ينفقون على معيشتهم أكثر اضطروا أن يسعوا في زيادة أجورهم ومداخيلهم وهذا هو السر في قيام الاعتصابات واتحاد الطبقة النازلة مع أهل حزب الشمال الذي يعنى أهله بتحسين حالة(8/39)
الشعب وإعطائه من النفوذ السياسي أكثر مما كان له.
زاد نماء الشعب وانتشار الصناعة عنصر سكان المدن في ألمانيا. فكان سكان برلين سنة 1871، 800 ألف فأنافوا اليوم على مليونين وصار سكان همبورغ زهاء 800 ألف وارتقى عدد سكان كولون من 200 إلى 440 ألف فزاد عدد سكان المدن الكبرى ثلاثة أضعاف بعد الحرب السبعينية وهو يزيد على معدل 15 في المائة كل خمس سنين وليس في الأرياف غير 43 في المائة من مجموع سكان البلاد. وانتشرت الديمقراطية في المدن أسرع منها في الضواحي والقرى حيث يعتزل الأصاغر فيضعف أمرهم ولا يلتفت الناس إلا إلى القيام على الزراعة وتربية الماشية أما ساكن المدن فهو أكثر علماً وحركة وحضارة. ويسهل بث الدعوة الديمقراطية في عقول عملة المدن فإن اجتماعهم في صعيد واحد من الأرض يزيدهم قوة ومضاءً. وقد كان الصناع في كل زمن أسرع إلى النشوء في الديمقراطية من سكان الريف المزارعين إذ الفلاح في العادة من المحافظين وعامل المدن من الديمقراطيين. هكذا هو الحال الآن وهكذا كان الشأن في قديم الزمان. فقد ظلت إسبارطة منصرفة إلى الزراعة وحكمها أرستقراطياً عدة قرون وأصبحت أثينا ديمقراطية منذ انتشرت فيها الصنائع وراجت أسواق التجارة.(8/40)
نوع من نقد الشعر
(قل في رجال الأدب قديماً وحديثاً من تكتب لهم الإجادة في النظم والنثر وقد عرف مصطفى صادق أفندي الرافعي بين قراء العربية بأنه من أفراد الشعراء البلغاء ولو أنصفوه لوصفوه بالكتابة كما وصفوه بالشعر. والنبذة التالية مقتبسة من مقدمة الجزء الثالث من ديوانه وهو تحت الطبع وفيها نموذج من نثره).
الشعر تصوير عالمٍ من المعاني والألفاظ فالمجيد من جعله مختصراً من صورة العالم كله. ولابدَّ فيه من شعاع من الروح إذا تجردت له النفس امتزجت لطافتها بلطافته. وربما أخذ المرء بلذة التصوير فظنها في مكان نفسه وحسب نفسه في مكانه.
ونحن ناظرون إلى نقد الشعر من هذه الجهة التي يتمثل فيها حياً من الأحياء. تتنازع أنواعه البقاء. فقد أفاض المتقدمون في الأسباب التي يحسن بها ما يحسن من ظاهره وبقبح منه ما يقبح. وجردوا الكتب في طبقات الألفاظ ومخارج الأشعار وسقطات الكلام وألطفوا النظر في وجوه المعاني ومواضعها. وأصابوا منها صفة التمكن في مبادئها ومقاطعها. وإنك لتجد فيما وضعوه من علوم البلاغة البحر الزاخر بهذه الأمواج. والفلك الدائر بتلك الأبراج.
يرتقي المبتدئ في الشعر من مطلق النظم الذي هو النمط المصطلح عليه في إقامة الوزن إلى الفكر فيما يجيء به. فإذا صارت له هذه المنزلة أدته إلى الخيال. فإذا ارتفع شيئاً بعد ذلك فهو في جو الروح الذي يسمونه التصور وهناك حدُّ الطبيعة القائم. وحجاب الغيب القاتم. فيكون في منزلة بين الوحي والإلهام ويمر هناك خاطره على النفوس كما ينتقل على الأرض ظل الغمام.
وتلك هي أطوار الشعر من طفولته التي يعبث فيها بكل شيءٍ ولا يفقه شيئاً. إلى شبيبته التي يتماسك فيها وقاراً ويندفع إلى شدته التي تعتصم بها الحكمة وتمتنع. إلى مشيبه الذي هو نور الجمال. والحظ المقسوم له من الكمال.
والشاعر في الطور الأول كالصبي في يده القوس يغرق في نزعها ما يغرق ثم لا يكون إلا أن يسمع لها أرناناً ضعيفاً فلا هو غلب وهمه. ولا رمى سهمه. فإذا اشتد ساعده وانتقل إلى الطور الثاني كان في منزلة بين الخطأ والصواب. فإذا بلغ إلى الثالث أحكم التسديد. واستوى عنده في الإصابة ما كان من قريب وما كان من بعيد. ومتى صار إلى الطور(8/41)
الرابع وهو منتهى كماله حسب توزع الطير في الجو لمخافته. وتفرق الوحش في البر لمهابته. وصارت هي السهم لأنه في أثرها. ولفظته عن القنيصة هي القضاء لأنه في خبرها.
وما يكن من عيب في الشاعر فلن تجد فيه كتسلط فكره عليه وعبثه بقوافيه فتراه ينظم الكلمة أبياتاً لا معرفة بين أولها وآخرها ثم يجيء بعد جفاف الريق وتخلخل اللسان وانقطاع النفس فيمضي فيها اختياره ويأخذ في التوفيق بينها وهي متنافرة. ويعمل على التعريف وهي لا تزال متناكرة. فمثل الكثير من هذا الشعر مثل الكلمة المفردة إذا نطقت بجملتها أدت إليك معناها على أتم ما يكون فإذا فككت أحرفها ولفظتها حرفاً حرفاً انقلبت إلى قول هراء. ولم تزد على أن تكون أصواتاً ذاهبة في الهواء. وأولئك هم الذين قال في شعرهم ابن ميادة أنه كلفة وتملح.
فإذا لم يكن فكر الشاعر عند إرادته ولم تكن إرادته عند اتجاه عواطفه أخذت عليه منافذ القول فاختل. واضطربت جهات رأيه فانحل. وصار من نضوب المادة في أخره أمره كمن يكتب بقلم ليس عليه إلا مسحة من ردع المداد فكلما كدَّه جمد. وكلما هزَّه ركد. فإذا كتب مع ذلك جاء الحرف مفرق الجهات لئيماً في الحروف فلا هو كتابة ولا هو محو.
ولقد يحار المرء إذا نظر في شعر العرب ورأى الكثير منه لا يتعدى الوزن والتقفية ولكن أكبر حظ القوم من شعرهم أن ينقلوا الكلام إلى نمط يتفق مع النغم كما ترى في غناء هذه الأيام فهو لا يزيد عن سائر الكلام إلا النمط والإيقاع بحيث أنك لو سمعته وقد جرد من ألحانه لخرجت منه على حساب ما دخلت فيه لا طرب ولا عجب.
والغناء على أي وجوهه ينقل النفس من تنقيبها بين الألفاظ عما هو حسن وغير حسن إلى تحركها على الألفاظ نفسها. وإنما النظم العربي أوزان موسيقية. فكل من جاء بعد العرب من الشعراء لا ينظر إلا في أعطاف اللفظ وتلاحم الكلمات وانتظام تلك المعاني القديمة فهو من الجاهلية الثانية وإن كان الأولون قد سموا جاهلية لعبادة الأوثان. فهؤلاء لعبادة الأوزان.
ويكاد شعر العرب ينحصر في غرضين الشاهد والمثل فقد كانوا لا يطلبون من الشعر غيرهما كما لا يطلبون من الخبر إلا الأيام والمقامات. وكان أبدع ما يروج عنهم من أجل ذلك مساق الخبر ومضرب المثل ومقطع الحكمة. والحكيم فيهم يومئذ نبي.(8/42)
ومن هنا تجد مثار الخلاف بينهم في قولهم هذا أشعر الناس في كذا وذلك أشعر الشعراء وغيرهما أشعر الإنس والجن. وهلم جرا
وما عدا ذلك ففي شعرهم من الطرف المستنكرة ما بغلط على الطبع ويثقل على الذوق فمنهم من يشبه وجه الحسناء ببيضة النعام. ومنهم من يشبه جسمه الناحل بأشلاء اللجام. . . إلى غير هذا مما تهجنه الحضارة ولهم مع ذلك وجه عذر فيه ومنفسخ للوم عنه. وإنما ذكرناه مأخذاً أكثرها صدأ الركاكة وغبار القدم. . . فتراجع الشعر بينهم وتعطلت قرائحهم حتى أصبحوا في اتصالهم بمتن أولئك الشعراء كما شبه أبو هفان شعر آل أبي حفصة الذين كان آخر شعرائهم متوج وكان رجلاً ساقطاً وذلك في قوله: (شعر آل أبي حفصة بمنزلة الماء الحار ابتداؤه في نهاية الحرارة ثم تلين حرارته ثم يفتر ثم يبرد. وكذا كانت أشعارهم إلا أن ذلك الماء لما انتهى إلى متوج جمد. . .).
وأعجب شيءٍ رأيته في تاريخ الشعر أنه كان عصرٌ يسمون فيه المولد (بالرقيق) ثم صار هذا الاسم علماً بالغلبة وأطلق على الغزل السبط والرثاء السائل ثم عدوا منه أنواعاً عرفوها (بالألفاظ الملوكية) وأجروها في بعض التشبيهات والأوصاف وما إليها. كأن الشعر كان مقضياً عليه أن يبقى في الموتى حتى يموت الأحياء. وأن يكون أهله نصباً على جانبي تلك البطحاء التي كان فيها شعراء الجاهلية. . . وحسبك أن أعداء ابن المعتز لم يزروا على غير نحته وسبكه ولم يحاولوا إسقاطه إلا من بينهما وهو بالإجماع في السطح من طبقات الشعراء.
ومنتهى الحمق أن يتخذ مولد ذلك النمط الجاهلي فإن السر في بقاء شعر الجاهلية والمخضرمين بعد أهله حاجة الرواة والعلماء إلى الشاهد منه فلما أسقطوا الاستشهاد بكلام المولدين لما يدخل عليهم من الغلط ولضعف الثقة بلغتهم سقطت هذه الطبقة بعلة طبيعية وهي سنة (بقاء الأنسب).
والعرب إنما ابتدأت الشعر بما كان عندها من جزالة اللفظ وإتقان بنية القريض وأحكام عرض القافية ونحوها مما هو طبيعة فيهم فكان على من يخلفهم أن يأخذ في زخرف البناء وزينته بعد أن يكون قد تم منه ما لم يتم وهو الذي فعله أبو تمام والمتنبي ومن في طبقتهما من أهل القوة والكفاية ثم كان على من يجيء بعد هؤلاء أن يزيدوا من تحف عصورهم(8/43)
ومدنيتها طبقة بعد طبقة حتى يكون ذلك المرضع ديواناً للتاريخ ترتب فيه العصور. وتقف على أبوابه الدهور. ولكنا نجد إلى عهدنا طوائف تنقض ذلك البناء وتقيم على أساه فلا يلبث أن يقع الاثنان معاً.
والشعر أقسام كانت محدودة على ما نوعها أبو تمام في حماسته ثم جاء من تفنن فيها وذهب كل مذهب كابن أبي الإصبع وغيره. وقرأت أن البديع الأسطر لأبي رتب ديوان ابن حجاج على مائة وأربعين باباً وواحد. ثم قفي كل باب وجعله في فن من فنون شعر الرجل.
ولكن الذي قطع بالشعر العربي دونه إنما هو النوع الذي يسميه الإفرنج بالشعر القصصي ومنه الملاحم الكبرى عندهم كالإلياذة وغيرها. والبسيط منه نادر في العربية بل هو في بسطتها كالظل شيء كلا شيء.
ذلك لأن الشعر العربي روح هذه اللغة وهو من اللطافة بحيث لا يضيء فيه المعنى إلا بشعاع من الخيال. فإذا أردت أن تقيم منه حديثاً سويَّ التركيب. كامل الترتيب. زوت عليك القافية وتقطع الشعر فلا تدري من أين تأخذ ولا من أين تدع. كالنور اللطيف تحاول أن تلقي عليه كثافة الغطاء فإذا هو منبسط فوق ما تلقي فمهما تأت من ذلك لا تكون قد صنعت شيئاً.
ورأس هذا الأمر عندنا على ما يقول شبيب بن شبة حظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة أرفع من حظ سائر البيت فلا بد لهذا النوع في لغتنا من وضع جديد يكون وسطاً بين النثر والنظم حتى يحمل الألفاظ والمعاني معاً فيتعلق فيه الشعر بالنفس ويمتد السباق على النفس كما فعل الأندلسيون في وضع الموشحات لحاجتهم التي بعثتهم عليها والعصر يومئذ لهو وترف. والأدب مجد وشرف.
وأساس هذا الشعر سلامة الذوق فهي الحاسة التي تتجه بها النفس إلى المعاني وتنقلب عنها. بل هي العين المركبة في الروح تجمع جمال الطبيعة في نظرة واحدة فتنقله إلى الإحساس كما تمد العين الباصرة بمرئياتها وهي المخيلة. ومن الشعراء من يكون سقيم الذوق فهو في نظره إلى الشعر مع فساد ذوقه كاللص في نظرته إلى الحسناء إذا وسوس حليها في وسمعه. يغفل منها عما ينتبه إليه الناس وينتبه لما يغفلون عنه.
ومن هؤلاء طائفة الشعراء المصنعين وهم الذين لاحظ لهم إلا في (الصنعة الشعرية)(8/44)
وفنونها لا تعد فيجيئون بالقصيدة كلها رقع ثم يتنافسون في هذا التصدير ولا يدرون أن الثوب الساذج من قطعة واحدة خير من هذه الرقع كلها وإن كانت من أنفس الخز والديباج وانظر ما يكون موقع هذا الثقل من الأدباء فقد أراد ديك الجن الشاعر مرة أن يهول على دعبل ويقرع سمعه فأنشده بيتاً مضطرباً. . . فقال له دعبل اسكت فو الله ما ظننتك تتم البيت إلا وقد غشي عليك أو تشكيت دماغك. ولكأني بك في جهنم تخاطب الزبانية أو تخبطك الشيطان من المس.
والعلة الطبيعية في بؤس الشعراء هي ذلك الإحساس المتصل بالنفس فكلما غمزته المؤثرات تحول منه بمقدار الضغط بخار روحاني ينتشر حولها وذلك هو الشعر. وقد ترى النفس فيه ضوءً كأنه تبسم القلب الحزين الذي تشابه جلال الطبيعة بجلاله. لأنها مخلوقة في رأي النفس على مثاله.
وقد يكون للشاعر متسع في غلوه وكبريائه على هذه الطبيعة إلا في العواطف التي هي روابط القلوب بالقلوب. وموضع الصلة بين ما في الوجود وما وراء الغيوب. فقد يضرب في كلامه بسيف لم يطبع. ويرمي بقذيفة لم تصنع. ويقطع من خيوط الحياة ما لم يقطع ولكنه فيما دون ذلك لا يقدر أن يذكر الحب من قلب لم يحب. ويثبت للشيء الذي لم يجر عليه حكم الوجوب شيئاً مما يجب. فإذا هو فعل أطفأت الطبيعة من روائه. وقامت عواطف الناس شاهدة على كذبه في ادعائه. وقد ذكروا أن كسرى سمع الأعشى يتغنى ذات يوم بقوله:
أرقتُ وما هذا السهادُ المؤرقُ ... وما بيَ منْ سقمٍ وما بيَ معشقُ
فقال ما يقول هذا العربي؟ قالوا يتغنى بالعربية فأمر أن يفسروا قوله فقالوا زعم أنه سهر من غير مرضٍ ولا عشق. فقال هذا إذا لص. . .؟
وللشعر أساليب تنتجها القرائح ولكن جماع القول فيها أنها تمثيل للطبيعة فكأن الشاعر ينقل مناظر الأرض إلى الروح العالية التي ترسل إلى الجسم شعاع الحياة فتزيد تلك المناظر في قوة الشعاع الإلهي فلا يتصل بالجسم حتى تفيض هذه القوة على القلب فتهزه الهزة التي نعزف منها الطرب.
فأي امرئ اجتمعت له قوة التمثيل وسلامة الذوق وهما يكونان عند سعة العقل وسمو الطبع(8/45)
فذلك الذي هو في معناه بين الملك والإنسان وهو الشاعر.(8/46)
مطبوعات ومخطوطات
الموسيقى الشرقية
فن الموسيقى من الصنائع الجميلة التي تضعف في كل أمة بضعفها وتقوى بقوتها. ولقد كان العرب أيام حضارتهم يعنون بها كما يعنون بالشعر والأدب والتاريخ والفلسفة وعلوم الطبيعة وكان بعض العلماء في أمهات المدن لا يتحرجون من الغناء ولا يرون الضرب على العيدان والأوتار وسائر آلات الطرب حطة في قدرهم وثلماً لشرف وقارهم. ولما رغبت الأمة عن العلم أياً كان نوعه وزهدت في الضروري من المعارف دع عنك الكمالي أخذ معظم الناس يحتقرون الغناء والموسيقى ومن يتعاطاهما ولا ذنب بعد الجهل.
ولقد ألف الموسيقار الفاضل كامل أفندي الخلعي من مشاهير أرباب هذا الفن في مصر كتاب الموسيقى الشرقي فعرف القوم فائدة هذا الفن ومركزه من المجتمع وما إلى ذلك من وصف الألحان وآلات الطرب ورسومها ومشاهير المطربين والموسيقيين في مصر هذا العصر مشفوعة بصورهم فجاء كتابه غاية ما يكتب لمؤلف في فنه من الإجادة بحيث أصبح المرجع في كل شاردة ونادرة في هذه الصناعة الجميلة الشريفة.
أجاد المؤلف أثابه الله في وضع تأليفه كما أجاد في طبعه وإتقان صنعه فجاء في زهاء مائتي صحيفة كبيرة القطع على أجود ورق وألطف حرف وهو يباع بعشرين قرشاً مصرياً ويطلب من جميع المكاتب الشهيرة بالقطر فنثني على المؤلف لما عاناه من التعب في وضع مصنفه ونحث كل أديب على مقتناه فهو زينة المكاتب والقماطر ومن كتب العلم الحقيقي النافع.
نظام العالم والأمم
للعالم الأديب الشيخ طنطاوي جوهري طريقة تكاد تكون خاصة به من مزج العلوم الحديثة بالعلوم القديمة وتطبيق المعقولات على المنقولات وقد وضع فيها عدة كتب ومنها هذا الكتاب الذي جعله على خمسة أبواب الأول في الرياضيات وما يتبعها والثاني في الفلك وما يتصرف عليه والثالث في نظام الأرض وما إليه والرابع في عجائب النبات والخامس في نظام الحيوان. وفي جميع ذلك تقريب لهذه العلوم من أذهان القارئ ومزجها بما ورد في الكتاب الكريم وروي عن سلف الأمة العاملين. والكتاب في 426 صحيفة منصفة القطع(8/47)
مطبوع طبعاً نظيفاً فنحث القراء على اقتنائه ونثني على همة مؤلفه.
أبدع ما نظم
جمع الفاضل الأديب يوسف أفندي سنو ديواناً في الأخلاق والحكم مما أثر من لطيف الشعر عن القدماء وضم إليه ما يناسبه من منظوماته ولاسيما ما اشتمل على اقتباس من القرآن وتحرى مع ذكر القصيدة اسم ناظمها وعصره وأجداده وبلاده نابذاً منها ما خالف الشرائع فجاء الكتاب في 235 صحيفة تشهد للناظم الجامع بالبراعة في الأدب والشعر والكتاب يطلب من مكتبته في شارع محمد علي بالقاهرة وثمنه أربعة قروش فنحث على مقتناه.
أسلوب الحكيم
في منهج الإنشاء القويم - للفاضل الشيخ أحمد الهاشمي وفيه موضوعات إنشائية شرعية أدبية وعظية علمية تاريخية اقتصادية طبية طبيعية سياسية زراعية صناعية تجارية جغرافية عمرانية قال في مقدمته: شرحت فيه مواضع الإنشاء العصرية مستنداً في شرحي إلى الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية وضمنته الجم الغفير من أمثال الحكماء وآداب البلغاء فوقع في 188 صحيفة صغيرة جيد الطبع.
كتب ورسائل وروايات
أهدانا العالم الأستاذ مرجليوث المستشرق الإنكليزي المشهور كراسة في المناظرة التي جرت بين متى بن يونس القنائي الفيلسوف وبين أبي سعيد السيرافي مشفوعة بترجمتيهما إلى الإنكليزية معلقاً عليها حواش تدل على بعد غور ناشرها في علوم العرب وآدابهم.
وأهدى إلينا العالم الفقيه الشيخ محمد بخيت المطيعي رسالة إزاحة الوهم وإزالة الاشتباه عن رسالتي الفونوغراف والسوكورتاه.
والكاتب المجيد سليم أفندي سركيس رواية تحت رايتين.
والأديب البارع نقولا أفندي حداد رواية أسرار مصر.
والأديب إبراهيم أفندي شحادة فرح مكسيم غوركي وثلاث من رواياته.
والأديب الشيخ محمد خالد حسن العمادي الصباغ رسالة تنبيه الغافلات من النساء المتبرجات.
والأديب أحمد أفندي شاكر رسالة مسامرة الوحيد.(8/48)
والتقرير الثالث السنوي لجمعية تهذيب الشبيبة السورية في بيروت وكان الباقي في صندوقها لغاية يونيو الماضي 14. 258 قرشاً صحيحاً.
وأهدانا الأديب السيد إبراهيم الحسيني كتاب (لسان البيان ومنهل العرفان) وهو في أحوال المتصوفة.
وأهدانا الأديب محمد أفندي محمود الرافعي نسخة من مقامات بديع الزمان الهمذاني التي شرحها وصححها وطبعها على نفقته بالشكل الكامل وقد رخص ثمنها فجعله أربعة قروش.
وطبعت المطبعة اليمنية لأصحابها الأدباء مصطفى أفندي البابي الحلبي وأخويه بكري أفندي وعيسى أفندي كتاب (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) وبهامشه (الأساليب البديعة في فضل الصحابة وإقناع الشيعة) ورسالة (سبيل النجاة) ورسالة (جامع كرامات الأولياء) من تأليف صاحب الفضيلة الشيخ يوسف النبهاني.
وأهدينا (حواء الجديدة أو أيفون مونار) وهي موضوع اجتماعي في قصة غرامية للأديب البارع نقولا أفندي الحداد تطلب من المكاتب الكبرى بمصر وثمنها خمسة قروش.
الأقلام
مجلة عمومية تبحث في كل فن ومطلب لمنشئيها الكاتبين البارعين جورج أفندي طنوس ومحمود أفندي أبي حسين وهي تصدر مرة في الشهر ويشترك في تحريرها خيرة الشعراء والمنشئين وقد تصفحنا الأعداد الثلاثة التي صدرت منها فقرأنا فيها من الآداب المنثورة والمنظومة ما يستفاد منه ويستملح وقيمة اشتراكها 40 قرشاً صحيحاً في القطر و15 فرنكاً في الخارج فنرجو لها الثبات والنجاح.
المنهل الصافي
مجلة أدبية علمية تهذيبية لصاحبها ومحررها الكاتب البارع محمد أفندي نجيب الحارتي قسمها إلى أربعة أبواب باب الأدبيات وباب المقالات وباب تاريخ الشهر وباب المنتقيات تصفحنا الأعداد الثلاثة الصادرة منها فرأيناها تبحث في الأغراض المشار إليها وقيمة اشتراكها 30 قرشاً في مصر و10 فرنكات خارجها وهي شهرية تصدر في 32 صحيفة فنتمنى لها الفلاح والنجاح.
المنبر(8/49)
كلما زادت المنافسة بين أهل بلد أو قطر أو مملكة نجم عن ذلك فوائد كثيرة وكلما نافس أهل مملكة مملكة أخرى أو جنس جنساً آخر عاد من ذلك الخير على المنافِس والمنافَس. مثال ذلك الجرائد في هذا القطر فقد كان يصدر فيه منذ عشرين سنة جريدتان أو ثلاث وإداراتها لا تكاد تقوم بالضروري من نفقاتها فلما أنشئت جرائد أخرى قال الناس أن الجديد منها يسقط القديم ولكن لم يلبث الجديد أن خدم القديم بعد أن مهد السابق للاحق السبيل.
ومنذ ربع قرن لم يكن في مصر سوى جريدة يومية واحدة وهي الأهرام وكان قراؤها لا يتجاوزون الألفين فأصبح اليوم فيها اثنتا عشرة جريدة يومية وقراؤها يعدون بالألوف وهي الأهرام والمؤيد والمقطم واللواء والظاهر ومصر والوطن والجوائب المصرية والأمة والبصير والشرق والمنبر. صدر هذا المنبر في الشهر الماضي بالقاهرة لصاحبيه الكاتبين الفاضلين محمد أفندي مسعود وأحمد حافظ أفندي عوض وهما مشهوران بتحرير المؤيد أعواماً طويلة فجاء منبرهما في موضوعه وتنسيقه دليلاً على سلامة ذوقهما وبعد نظرهما في الأبحاث الاجتماعية والسياسية فنرحب به ونتمنى له انتشار الكلمة والتأثير الحسن في نفوس قرائه.(8/50)
تدبير الصحة
طعام العامل
انتشر السل هذه الأيام انتشاراً غريباً وصرفت المبالغ لصد غاراته فلم تأت بنتيجة وإن خففت وطأته بعض التخفيف وأكثر الأسباب التي تدعو إليه الإدمان على تعاطي الكحول والعدوى والسكن في بيوت فسد هواؤها لعد وصول الشمس إليها. ومن جملتها الغذاء فإن الغذاء الناقص هو واسطة لانتشار السل وأكثر ما يقع ذلك لأرباب الفاقة والعملة. فإنك ترى الواحد منهم يصرف قسماً وافراً من أجرته في غذاءٍ ناقص وقد يتأتى له بالقيمة نفسها أو بأقل منها أن ينال غذاءً كاملاً فترى الرجل الذي يصف كمية وافرة من قوته العضلية يأكل كثيراً من اللحم ويشرب الأشربة الروحية فيخصص الشاب الذي دخله في النهار أربعة أو خمسة فرنكات نصفها للشراب وإذا دققنا نرى كثيراً من المآكل الباهظة الثمن ليس فيها كمية وافرة من الكالوري.
ففي لتر من اللبن 616 من الكالوري وفي 100 غرام خبز 235 وفي 100 غرام لحم 117 وفي 100 غرام بقول 315. فيتبين من هذا أن البقول مع كونها أرخص من اللحم تعطي حرارة أكثر منه بثلاث مرات. وأن كيلو غراماً واحداً من المعجنات (طحين وسكر) ليعطي 420 من الكالوري أربع مرات أكثر من اللحم. وفي عشر قطع من السكر قيمتها خمسة سنتيمات من الكالوري أكثر من نصف لتر من الخمر الذي تساوي قيمته من 25 إلى 30 سنتيماً. ويحتاج الرجل الذي يشتغل بقوة جسمه إذا كان وزنه 75 كيلو غراماً لصرف 3600 من الكالوري بمعدل 48 كالوري بالكيلو غرام فإذا أنفق العامل نفقة معتدلة وجرى على الجدول الآتي في كل منها - حفظ صحته وطال عمره:
غرام سنتيم
خبز 520 18
لبن 300 9
سكر 80 6
زبدة 40 12
جبن 40 10(8/51)
لحم 200 50
بطاطس500 100
(أو غيرها من البقول اليابسة) 150 8
أرز 30 2
أثمار 200 10
قهوة قدح واحد 8
خمر لتر واحد 40
1. 73 فرنك
هذا ما قرأته في إحدى المجلات الأوربية وهو يختلف في كل قطر بحسبه
آثار الغبار
توصي المجلات العلمية بالتوقي من الغبار ما أمكن وتقول أن غبار الشوارع والسكك الحديدية والبيع والمساكن كلها ضارة تدخل الرئة فتلقيها في خطر مبين على دون انتباه منا وانه قلما ينجو من شرها أحد كل النجاة. وقد علم من تشريح الجثث أن تسعين في المائة من الرئات تكون مرتعاً للسل وإن لم يحدث عن ذلك الموت فإن نصف السكان في مدينة نيويورك مثلاً مصابون بمرض الأنسجة الرئوية يختلف شدة وخفة. وبذلك ثبت للباحثين أن جراثيم داء السل الوبيلة لا تنفذ إلى الرئة إلا بواسطة الغبار على الأغلب. وأن هذه الجراثيم يبتلعها أبناء السبيل عندما يجتازون بدار تهدم وبناية تهد وبمسكن ينفضون من نافذته أو أمام بابه البسط والطنافس بل يلتقطها الناس في كل مكان تنتشر فيه الجراثيم المعدية في الهواء المستنشق فينتج منها السعال والتهاب الشعب وذات الرئة ومرض الصدر. ولقد شوهد أن كثيرين ماتوا فجأة بينما كانوا مسافرين في الحوافل (الأومنيبوس) أو في القطارات إذ قضوا أمداً طويلاً في وسط طافح بحامض الكربون وبالجراثيم القتالة. وقد ألفت في إنكلترا عصابة تدعو إلى تطهير الهواء من الجراثيم وأخذت على نفسها مطالبة الحكومة بسن قوانين لحل مسالة الغبار وذلك بإكراه الناس والتشديد عليهم في الحرص على نظافة الشوارع وداخل البيوت ورمز هذه العصابة (حفظ الصحة سلامة الإنسان).(8/52)
سم الطوابع
رأى بعض كبار الأطباء أن في تندية صمغ طوابع البريد باللسان ضرراً لا يقل عن التسمم بحال وأنه ثبت بتتبع حوادث كثيرة أن أناساً أصيبوا بأمراض وانحراف في صحتهم لأنهم يبلون الطوابع بريقهم ويقال أن أسباباً كيماوية حملت ذاك الطبيب على القطع بسم الطوابع ولاسيما الإنكليز منها لأنها معمولة بصفار (الكروم) (معدن يتكون منه اللون اللامع) أو كرومات الرصاص ومن رأي الطبيب أن لا تلقى الطوابع في أيدي الأطفال لأن وجهها أيضاً يحتوي على مادة سامة فإذا وضعوها على ألسنتهم تسمموا بها.(8/53)
سير العلم
نشوء الرسائل
انتدبت بعثة علمية من كلية مدينة شيكاغو للبحث في خرائب بابل فوفقت إلى اكتشاف ألفي لوح كتبت بالخط المسند البابلي يرد تاريخ معظمها إلى خمسة آلاف سنة قبل المسيح. وقد جعلت هذه الألواح على أشكال شتى من الطول والعرض فكانت صورة أقدمها عهداً كصورة البرتقالة رسم عليها الكاتب بخط غليظ حروف الكتابة ثم حفظها في الشمس ولم يلبث هذا الشكل السمج أن استبدل به غيره وجعلت الرسائل تكتب على أطرٍ مسطحة مستديرة. وفي نحو سنة أربعة آلاف ق. م توصل البابليون إلى استخدام الرسائل المسطحة القائمة الزوايا أو المربعة ولم يتحولوا عنها بعد. ومن الغريب أن شكل القرميد في الهندسة أيضاً جرى في نشوئه على مثال الرسائل فكان جانب القرميد بادئ بدءٍ مسطحاً محدباً ثم بدا للقدماء أن جعلوها مسطحة من جميع جوانبها.
وهنا مجال ليقال أن ما نراه من آثار الارتقاء فنتخيله قد تم في نصف ساعة قد أتت عليه القرون حتى شهدناه على ما هو عليه وقد وجد أولئك العلماء في جانب تلك الألواح القائمة الزوايا التي كانت تستعمل في الكتابة بضعة الألواح جعلت لأغراض أخرى مثل الألواح التي يكتب عليها الأطفال لعهدنا وكانت مدورة. ومن أغرب أشكال هذه الألواح ما استعمل منها للمراسلة بين المتباعدين منذ سنة 2400 ق. م فقد كانت من الخزف يكتب عليها ما يراد تسطيره على العادة حتى إذا نقشت كلها تغطي بغطاءٍ رقيق من الخزف أيضاً بحيث يكون المكتوب في مأمن من اطلاع أحد عليه ثم يختم المرسل رسالته بخاتمه أو يكتب عليها بعض الكلمات تكون عليها عنواناً ثم يجففها في الشمس أو في تنور. وأنت خبير بما يقتضي هذا العمل من النصب والزمن بحيث لم يكن لأحد أن يبعث رسالته إلا في أحوال اضطرارية وبواعث قوية - قالته مجلة الطبيعة.
الاشتراكية في العالمين
بحث عالم في مجلة المجلات الأميركية في امتداد الاشتراكية في أميركا كما انتشرت في أوربا فقال أنها اليوم في العالم الجديد قليلة الأنصار والدعاة ولكنها انتشرت انتشاراً هائلاً في النمسا وإيطاليا وسويسرا وألمانيا وإسبانيا ففي ألمانيا 3. 008. 000 اشتراكي وفي(8/54)
فرنسا 1. 120. 000 اشتراكي وفي النمسا 780. 000 اشتراكي وفي البلجيك 500. 000 اشتراكي وفي الولايات المتحدة 442. 440 اشتراكي وفي استراليا 441. 270 ويبلغ عدد الاشتراكيين في العالمين القديم والجديد (أوربا وأميركا) 7. 601. 384 اشتراكياً يصدرون 638 جريدة منها 77 يومية.
القوة الكهربائية
قالت المجلة الفرنسية: أخذ انتقال القوة الكهربائية يدعو إلى قلب كيان الصناعة من حين إلى آخر وخصوصاً في البلاد التي يتأتى لها الحصول على قوة محركة عظيمة بفضل انحدار المياه فيها. وهذا من شأن بلاد السويد ونروج فإن لهما من ذلك الحظ الوافر ولذا لم يغفل أهل تينك البلدين عن استخدام ما خصتهم به الطبيعة من الشلالات فرأت مدينة لوند أن تستخدم بعض شلالاتها من نهر لاكا لتجهيز الكهربائية لعدة بلاد في جنوب السويد كما تجهزها لمدينة لوند نفسها وتألفت نقابة دنمركية لابتياع هذه الشلالات واستثمارها. أما نهر لاكا فينبع من جبال سامالاند ويجتاز هالاند فينتهي إلى لاهولم ويتألف منه في مجراه شلالان عظيمان أحدهما واسمه ماجفوس علوه زهاء ثمانية أمتار وثانيهما اسمه كاتفوس ينحدر من علو عشرة أمتار. وستقيم تلك النقابة محطات كهربائية بالقرب من ذينك الشلالين فتنقل الكهربائية بالسلك البحري إلى مدينة هلسنكبورغ على الشاطئ الجنوبي من السويد ومن هناك تنتقل بالسلك من تحت البحر وتمر بأورسند إلى بلاد الدنمرك وهذه الطريقة في نقل القوة الكهربائية بالسلك البحري من مملكة إلى أخرى سيكون منها وسيلة جديدة لانتشار الصناعة الكهربائية لجمعها بين أطراف بلاد السكاندينافيا من حيث الشؤون الاقتصادية.
الخطوط الحديدية
كان طول السكك الحديدية في العالم في نهاية سنة 1903، 859. 355 كيلومتراً منها 432. 618 في أميركا أو 334. 634 في الولايات المتحدة وحدها وفي أوربا 330. 429 وفي آسيا 74. 546 وفي استراليا 26. 723 وفي إفريقية 25. 039. وطول خطوط ألمانيا 54. 426 وروسيا في أوربا 53. 258 وفرنسا 45. 226 والإمبراطورية الهندية 43. 382 وأوستربا والمجر 38. 818 وبريطانيا العظمى وايرلندا 36. 148(8/55)
وكندا 30. 696 ولبلجيكا المقام الأول في كثرة الخطوط الحديدية بالنسبة لمساحة أرضها ففيها 231 كيلومتر في كل مائة كيلو متر ثم تجيء حكومة ساكس ودوقية باد والألزاس لورين وبريطانيا وايرلندا وروسيا ونروج.
سرعة المناطيد
نشرت إحدى الجرائد البلجيكية المنصرفة إلى البحث في المناطيد (البالونات) جدولاً قالت فيه أن العارفين بتسيير المناطيد في الأجواء لا يشكون في المسافة المعينة التي تقطعها على نسبة قوة الهواء وسرعة المنطاد وإليك الجدول في سيرها:
في الثانية في الساعة
متركيلومتر
ريح خفيف 0. 51. 800
نسيم ساكن 1. 03. 600
ريح معتدلة 2. 07. 200
ريح متوسطة 5. 519. 800
ريح شديدة 10. 036. 000
ريح شديدة جداً20. 072. 000
عاصفة22. 581. 000
عاصفة كبيرة 27. 597. 000
إعصار 36. 0119. 000
إعصار شديد 45. 0162. 000
الطول والثقل
عرض على جمعية علم الحياة الفرنسية بحث في طول الأولاد وثقلهم تبين منه أن الذكور والإناث ليسوا على معدل واحد في أجسامهم بالنسبة لأعمارهم فالبنات إلى التاسعة من عمرهن أصغر جرماً من الأولاد ووزنهن أقل ومن التاسعة إلى الثانية عشرة يتقدمن على الأولاد في الطول والوزن ومن الثانية عشرة يفقنهم في الطول وفي الخامسة عشرة ينحططن عنهم في الثقل وعند ذلك يبدو بين الجنسين فرق محسوس.(8/56)
الصحة في ألمانيا
بلاد ألمانيا من أحرص الأمم الغربية على مداراة الصحة والنظر في المواليد والوفيات ويؤخذ من الإحصاءات التي قدمت إلى مؤتمر السل الدولي ف يتلك البلاد أن الوفيات بهذا المرض قلت 38 في المائة منذ سنة 1875 فإن المصاح التي أنشئت لهذا الغرض ولجأ إليها المسلولون قد شفي فيها 34 في المائة فقد مرض في خلال سنة 1905 زهاء 26. 600 مريض أغلبهم من العملة وبذلت شركات ضمان الحياة الألمانية من سنة 901 إلى سنة 905 نحو 48 مليون فرنك لمقاومة هذا المرض الخبيث وأسست هذه الشركات 36 مستشفى فيها 2. 111 سريراً للنساء و541 سريراً للأطفال وأسست هذه الدور الصحية تحت رعاية إمبراطورة ألمانيا.
المجهر الجديد
المجهر لفظة وضعها بعض المعاصرين للمكرسكوب تلك النظارة التي ترى بها الأشياء التي لا ترى بالعين المجردة وقد اخترع اثنان من أهل العلم مجهراً يرى فيه ما لم يكن يرى من قبل بأعظم المجاهر وأقواها وسماه اولترا مكرسكوب ومعنى اولترا المتجاوز الحد إذ يرى بهذا المجهر الذرات التي هي ديامتر من أربعة ملايين من الميليمتر على أن المجاهر القديمة لا يتمكن بها من رؤية ما هو ثلاثة من عشر الألف من الميليمتر.
تقليد اليابانيين
ذكرت إحدى مجلاتهم أن الأمة اليابانية غدت في نشوئها الاجتماعي تقلد الأوربيين حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل ولم تقتصر في تقليدها أهل الغرب في أفكارهم ومناحيهم فقط بل قلدتهم في كل فرع من فروع العادات والأخلاق حتى أصبح القوم يستعملون في المدن الكبرى كطوكيو واوزاكا بطاقات البريد وأفرطوا في استعمالها في مراسلاتهم حتى نفذت من المخازن وأيدي الباعة وتناول التقليد نزوع اليابانيين في العهد الأخير إلى لبس أزياء الأوربيين وألبستهم حتى أن من كانوا منذ سنين يحرصون على ألبستهم اليابانية القديمة غدوا اليوم يلبسون اللباس الإنكليزي والفرنسي بل والروسي وتعدى التقليد سكان المدن إلى سكان الريف والقرى وأخذ أبناء الشمس المشرقة يعتاضون عن أعيادهم القديمة بالاحتفالات الغربية ويستخدمون (البيانو) بدل (الكمنجة) وسائر أدوات الطرب القديمة وقد(8/57)
بدأ هذا التقليد قبل حرب اليابان والروس الأخيرة بيد أنه أصبح على أتمه بعد أن وضعت الحرب أوزارها وهكذا تأخذ يابان عن الغرب وتعطيه سنة الله في خلقه.
القطن الصناعي
اخترع في إيطاليا قطن يستخرج من ألياف شجر الصنوبر بعد أن يقلع عن الخشب لحاؤه ويجهز تجهيزاً كيماوياً ميكانيكياً.
الدوار
كثرت اختراعات الأدوية الواقية من دوار البحر ورأى أحد الألمان أخيراً أن الجلوس على كرسي يكون مقعده معرضاً لاهتزازات سريعة عمودية منحرفة تنشأ عن محرك موضوع تحت الآلة ومناط بالمجرى الكهربائي في السفينة مما يدفع عن الإنسان عواقب الدوار ومبدأ هذا الاختراع أن الدوار ألم عصبي يقل ثم يزول باهتزازات المقعد.
أداة الصياد
كانت الأشرعة وحبائل الصيد وحبال المراكب معرضة للتلف بسرعة فاخترع في نروج طريقة لطول بقائها ومتانتها وهي أن تغطس في ماءٍ ممزوج بخلاصة البلوط الأميركي الذي يستعمل للصباغ وتبقى 48 ساعة ثم تنشف وتغطس في محلول آخر مؤلف من ماءٍ وبيكورمات البوتاس وملح النحاس وتبقى ساعتين أو ثلاثاً فتقوى بذلك على أنواع الصدمات وتظل متينة.
مستشفى نباتي
أقيم في بروملي على مقربة من لندن منذ نحو ثلاث سنين مستشفى يطبب فيه المرضى على اختلاف أدوائهم وتعمل فيه أهم العمليات الجراحية وهو بإدارة الدكتور أولدفلد وثلاثة من معاونيه ومما امتاز به هذا المستشفى على سواه أن تدبير الطعام يجري فيه على الطريقة النباتية أي طريقة الاقتصار على النباتات والبقول دون اللحوم والشحوم ويعتمد في المداواة على أصناف منوعة ولكنها لا تخرج عن حد الثمار من مثل التفاح والكمثرى والتوت الإفرنجي والبلح والخوخ وغيرها والدقيق والحمص والعدس والخس والبطاطس والسمن واللبن والجبن والبيض والعسل وهذا المستشفى بناءٌ عظيم عبارة عن عدة قاعات(8/58)
فسيحة ومكان خاص بلعب الكرة تحيط به حديقة غناء يتنزه المرضى فيها سحابة النهار وزلفاً من الليل إذا كان الهواء موافقاً. وإذا لم يحب المريض أن يتعرض للهواء كل التعرض يأوي إلى الرواق حيث يجد الريح بليلةً بما يحيط به من الخضرة. ومن خصائص المداواة بالهواء أن يعمد المرضى بحسب طبيعة المرض إلى الاستظلال بشجرة يختارونها من كمثرى أو تفاحة أو غيرهما مما يلائم حالة المرض. قالت المجلة التي ننقل عنها ولم يمت في هذا المستشفى إلى اليوم سوى مريضين أحدهما طفل دخله وهو مدنف وثانيهما شيخ مسن جداً.
ورق الأريقي
الأريقي نبات ويسمى بالفرنسية لابرويير وقد صنع منه في ألمانيا ورق يرجى أن ينافس الورق المعمول من الخشب عما قريب والأريقي ينبت بكثرة في إقليم لونبورغ من بلاد ألمانيا وسوف يحل الورق الجديد محل القديم وسيستعمل أيضاً في صنع الألبسة والأحذية الصحية والصدر الشتوية التي يستعاض بها عن الأنسجة الصوفية.
اكتشاف زحاف
اكتشفت على عمق عشرين متراً في أرض صلصالية من معمل للقرميد بجوار بتربورغ من أعمال إنكلترا اكتشاف يهم المشتغلين بعلم مطمورات الأرض من النبات وغيره (باليونتولوجيا) وهو عبارة عن بقايا أعظم الزحافات المدفونة حتى الآن واستدل من هيكل عظامها على أنه لا يقل طول هذه الزحافة عن خمسة أمتار وجسمها أشبه بالتمساح ولكن له ذنب طوله متر أو يزيد. والمظنون أنه لم يكن لهذا الحيوان أرجل وأنه كان له أعضاءٌ تشبهها ولو لم تكن تلك الزحافة بلا رأس لعرفت في الحال حقيقتها والعلماء يبحثون للوصول إليها.(8/59)
مقالات المجلات
طول البقاء
بحث الأستاذ رومبرغ في المجلة الألمانية عما ينبغي للإنسان أن يقوم به حتى يطول عمره فقال أن النوم أحسن الوسائط لتسكين الأعصاب فقد كان العالم فيرشو الألماني يشتغل إلى الساعة الثالثة أو الرابعة بعد منتصف الليل وفي الساعة التاسعة يبدأ دروسه فلا ينام إلا غراراً ولكن هذا لا يقاس عليه لأنه من الشذوذ. قال أن موت الأولاد في الطفولة والأمراض المعدية والسل هي من الأسباب الرئيسة في قلة السكان وضعف نسل الإنسان وإن الإرادة أجدى الطرق في إطالة حبل الحياة.
الشرقيات وكيتي
نقلت المجلة الفرنسية عن مجلة لاكونتا مبوراري رفيو الإنكليزية خلاصة مبحث مهم لكاتبه يوسف علي نقد فيه حياة كيتي ووصف اشتغاله بلغات الشرق وعلومه فقال أن هذا الشاعر الألماني الكبير لم يكتف بالتوفر على دراسة الآداب الشرقية دراسة المولع بالموسيقى مثلاً بل درسها درس متبحر فدقق في تاريخ الشرق وأساطيره وأخلاقه وتقاليده على ما يفهم من الشروح التي علقها على ديوانه وكان منذ صباه مغرماً بقراءة أسفار أنبياء إسرائيل ثم أولع بتلاوة ديوان حافظ والقرآن تلاوة مستفيد لا تلاوة متفكه.
المرأة في الأجيال القديمة
نشرت المجلة الآسيوية بحثاً للمسيو رفيلو ابتدأه بقوله ينبغي أن يقسم تاريخ الإنسانية إلى دورين أحدهما قامت فيه الأخلاق بتأليف الشرائع وثانيهما غيرت فيه الشرائع الأخلاق ومثل للدور الثاني بشريعة حمورابي في بلاد الكلدان وبرعمسيس الثاني وبوخوريس وأماسيس في مصر وبيلكورك وصولون في يونان وبالمشرعين العشرة في الرومان. فبين المؤلف حال المرأة في زواجها وإرثها وحقوقها على عهد كل مشرع من هؤلاء المشرعين المدنيين كل ذلك بالاستناد إلى نصوص مقبولة وألفاظ من لغات أولئك الأقوام بنى عليها حكمه واستنتاجه.
ترويض الجسم بالتنفس
المقتطف - إذا أراد الإنسان أن يتمرن على التنفس بالحجاب الحاجز (الصدر مسيج(8/60)
بالأضلاع ومسدود من أسفله بعضلة مصفحة هي الحجاب الحاجز وهو على شكل قبة) فليضطجع على الأرض وليحرك بطنه ما استطاع عند التنفس وليمنع صدره عن الحركة ما استطاع بضغط أضلاعه بيديه وبعد أن يتمرن على ذلك مدة ليضع على بطنه كيساً من الرمل لا يزيد ثقله على أربعة أرطال مصرية وليعد التجربة. والتمرن على التنفس بأسفل الصدر يكون والإنسان واقف أو مضطجع أو جالس على كرسي ووجهه نحو ظهر الكرسي فإذا كان واقفاً أو مضطجعاً فليضع يديه على أضلاعه السفلى بحيث تتماس أطراف الأصابع وليتنفس طويلاً وليمنع بطنه وترقوتيه من الحركة ما أمكن. والتنفس بأعلى الصدر يكون بإطالة النفس وإجهاد الأضلاع العليا وإبقاء البطن ساكناً على قدر الإمكان مع عقد اليدين على الرأس. ويمكن التنفس برئة واحدة فإذا أردت التنفس بالرئة اليمنى مثلاً فارفع اليد اليمنى فوق رأسك وضع اليد اليسرى في إبطها وانحن عليها ثم تنفس وافعل عكس ذلك إذا أردت التنفس بالرئة اليسرى فقط.
ومن الطرق التي أوصى بها الدكتور هري كمبل لتمرين الجسم بالتنفس قوله (1) قف منتصباً وتنفس تنفساً طويلاً عميقاً ثم اخرج النفس ببطءٍ وسهولة وحاول ما استطعت أن لا تحرك بطنك (2) اخرج النفس من صدرك وأنت تنحني إلى الأمام ثم تنفس تنفساً بطيئاً (3) تنفس تنفساً طويلاً ثم اخرج النفس وأنت تنحني إلى الأمام (4) قف مفرشخاً وخذ نفساً طويلاً حرك به بطنك ما استطعت من غير أن تحرك صدرك ثم اتبع ذلك بزفير سهل بطيءٍ (5) اجلس على الأرض وضع يديك في حضنك وانحن إلى الأمام ما وسعك ذلك وخذ نفساً عميقاً من بطنك وفمك مطبق ثم ارفع رأسك رويداً رويداً وضع يديك فوق رأسك وخذ نفساً عميقاً من صدرك ولا تتجاوز مدة ذلك كله ست ثوان ثم اخرج نفسك متنهداً في ثانية واحدة. وينبغي أن يكون الهواء نقياً والجسم مجرداً من كل ما يعوق سير الدورة الدموية مثل القبات الضيقة والزنانير والمشدات وسار الأربطة وأن يكون الفم مطبقاً فيمر الهواء في الأنف منقى من الغبار مسخناً.
أغلاط المولدين
الضياء - فيه بحث مطول جليل في أن المجمع على صحته من اللغة هو كلام أهل الجاهلية ومن تلاهم من المخضرين ممن نشأ قبل عهد الإسلام وهو الذي جمعه أصحاب(8/61)
المعجمات العربية من القرآن والشعر وأثبتوه في مصاحفهم ويلحق به ما تلقوه عمن بقي لعهدهم من العرب الخلص أي الذين لم يختلطوا بالأعجام وهم أهل البادية وأما ما سوى ذلك من كلام المولدين وهم أهل الأمصار فالمقبول منه ما كان قائله من علماء العربية فإذا أتى باللفظة المحدثة جاء بها على أسلوب العرب وطريقتها. وبعد أن أورد ما وقع لبعض المولدين من أصحاب المعاجم والدواوين والأدباء من الأغلاط في الشعر غالباً مما لا يكاد يخلو منه ديوان من دواوين المولدين ليوجب بذلك التثبت عند النقل عنهم قال أنهم لم يكونوا أبعد من أهل هذا العصر عن الخطأ واللحن وإن تقدم زمانهم قال ومما ذكرنا في هذا الفصل تعلم مرادنا بما طالما حثثنا عليه من التزام طريقة العرب في الوضع والقصد من ذلك إنما هو الحرص على وحدة أسلوب اللغة وتواطؤ قديمها وحديثها على وجوه من الوضع لا تنافر بينها ولا تباين وهذا إنما يكون بمتابعة سنة الواضع في صوغ القوالب اللفظية وتفريع بعض المعاني من بعض بحيث تتوفر المجانسة بينها ويتهيأ رد كل فرع إلى أصله وهو ما يشف عنه صنيع الواضعين الأولين فيما نقل إلينا من ألفاظهم إلا ما شذ من ذلك.
تأديب الأحداث
المشرق - نشر الوصية المعزوة إلى أفلاطون وهي مترجمة بقلم إسحاق بن حنين الناقل المشهور على عهد الخلفاء العباسيين جاء فيها: أيها الأخوة المحبون للعلم اسمعوا واحفظوا وصاتي فإني كأحدكم كنت لما أحببت العلم فإني كاتب لكم مقالة سهلة أبين لكم المدخل إلى العلم بكل صناعة نظيفة التي يتنعم بها ويلذها كل محب متعلم فأول ذلك أن تكونوا طاهرين لا عيب فيكم قبل أن تشرعوا في هذا العلم فإنه لا يجب أن تتقرب الأشياء الطاهرة إلى الأشياء الدنسة ولا الأشياء الدنسة إلى الأشياء الطاهرة ولا تعلموا الذين ليسوا طاهرين بل الذين هم أطهار أبرار طهارة حسنة ولا يقرب ذو العيب الدنس من المبرئ من الدنس وليعلم أنه لا يستطيع مكيال من ماءٍ عذب صاف لطيف يقاوم جب حمأة منتنة ولا تقوى العين الرمدة على خرق شعاع الشمس. لا يكون أدب النفس في بدن قد استجنَّ فيه الجهل والشره لأقبح أقبح بالعاقل من أن يوسم نفسه عند الناس بالعقل ويأمرهم به وهو خلو منه صفر الأدب مرتكب للمآثم. قال وينبغي للأحداث أن يأخذوا طرفاً من الأسباب التي يحتاج(8/62)
إليها في تدبير الحروب وترتيب الصفوف وتعلم المثاقفة والرمي والمصارعة والطلب والهرب من غير استهانة ولا إنهاك فيه وليتعودوا ركوب الخيل وجريها والعمل بالسلاح. وينبغي أن ينظروا في الموسيقى فإنه من التعاليم الأربعة (وهي التصوير ونحت التماثيل والموسيقى والرقص) حتى يقفوا على المناسبات وتأليف اللحون وأصناف ما ينسب إليها من العود والمعرفة بسائر آلات الموسيقى وأفضلها الأرغن التي عليها ثمانون وتراً مهيأة على الطبائع الأربع.(8/63)
العدد 9 - بتاريخ: 18 - 10 - 1906(/)
صدور المشارقة والمغاربة
جول سيمون
1814_1896
كان سيمون مثل كثير من رجال الإدارة في الإسلام جامعاً بين العلم والسياسة يشبه بعلمه وعقله يحيى بن خالد وزير الرشيد ويحيى بن أكثم وزير المأمون ولسان الدين بن الخطيب وزير بني الأحمر ويعقوب بن كلس وزير العزيز بالله الفاطمي والصاحب بن عباد وزير بني بويه وأبي بكر بن زهر الأندلسي وزير المصامدة وابن سينا وزير شمس الدولة صاحب همذان وعبد الملك بن سعيد وزير يحيى بن غانية الملثم ملك الأندلس وأبو القاسم الحسين بن المغربي وزير العبيديين وصاحب ديار بكر وميافارقين والقاضي الفاضل وزير صلاح الدين يوسف وغيرهم من الأفراد في العلم والرئاسة على اختلاف في الطباع والبقاع. لكن هؤلاء الأعاظم تمكنوا من العلم ونشأوا على معاطاة الأعمال بفضل عقولهم وقوة ولوعهم ومترجمنا هذا نشأ وسط أمة منورة ترغب في التعليم والتهذيب وتنشط القائمين بأمرهما فكان له من جودة طريقة العلم أعظم سبب يوصله إلى غاية الفضل والفضيلة.
ولد صاحب الترجمة من أبوين فقيرين في إحدى قرى مقاطعة لوريان إحدى العمالات الفرنسية فلما ترعرع دخل المدرسة وناهيك بما يقاسيه أبناء المعوزين في المدارس للقيام بحاجاتهم المدرسية وأداء أجور الدراسة. بيد أن فقره لم يثن من عزمه ودرس في مدرستي لوريان وفان اللتين درّس فيهما بعد. ولما أتم الدراسة عين أستاذاً في مدرسة رين عام 1832 ومازال يتقلب في التعليم من دار علم إلى دار علم حتى انتهى إلى مدرسة السوريون الباريسية الكبرى وعهد إليه تدريس الفروع الحكمية العالية وظل طول هذا الدهر حليف فاقة اضطرته أن يشغل أوقات فراغه من التدريس في مؤازرة الصحف وتأليف الكتب فقضى في ذلك تسع سنين أتته بأجزل الفوائد. وقد بدأ أولاً يؤازر في مجلة بريتان ثم في مجلة العالمين ومازال يؤازر في الجرائد والمجلات طول حياته فقد ذكروا أنه ساعد في كتابة جريدة البريس والسيكل وكان مديراً لهذه من سنة 1875 إلى سنة 1877 وأدار شؤون الغولوا من سنة 1878 إلى سنة 1881 والماتين والفيغارو والطان(9/1)
والديبا وغيرها من الجرائد والمجلات ومنها مجلة البيوت.
قالوا أن الأحوال توجد الرجال وهو قول يصدق على سيمون كما يصدق على غيره فلو لم تطرأ على فرنسا طوارئ سياسية هائلة لظل سيمون يعلم في المدارس ويكتب في الصحف وينشر الكتب ولكن حب بلاده دعاه إلى الدخول في غمار السياسة فخطب في قاعة السوربون بعد سقوط الحكومة الملكية سنة 1851 داعياً إلى الحكم الجمهوري فقال وهو مما اشتهر به كثيراً: ما جئت لألقي عليكم درساً في الأخلاق بل جئت وعامل الواجب يدفعني أن أكون لكم مثالاً تجرون عليه لا أن ألقنكم درساً تحفظونه. جئت لأقول لكم أن غداً تجتمع فرنسا وتلتئم منتدياتها لتندد بما أحدثته الحكومة أو لتقر عليه. أما أنا فأصرح على رؤوس الأشهاد بأنه إذا لم ير الراؤون غير رأي واحد يناقض الآراء ويكون إلى التنديد فأنا أكون صاحب هذا الرأي لا غيري.
فكانت هذه الجملة المأثورة سبباً في تنحيته عن التدريس في السوربون واضطر إلى الاعتزال في نانت زمناً انقطع فيه إلى الأبحاث التاريخية. وبعد فإن الثورة الفرنسية الثانية (1848) هي مبدأ دخول سيمون في السياسة فعين بعدها بقليل وزيراً للمعارف والأديان والفنون الجميلة وكان أكبر همه إصلاح التعليم فوضع مشروع التعليم الابتدائي الإجباري ثم استقال ولما كان في مجلس الشيوخ عني أيضاً بمسائل العلم وحاول أن يحول دون نشوب الحرب بين فرنسا وبروسيا فلم يفلح ولما انتخب سنة 1863 عضواً في المجلس التشريعي استمال بما رزقه من شدة العارضة وقوة البيان قلوب من كانوا عليه إلباً حتى صاروا من أعز أنصاره فعرفه قومه بأنه من أشد أعوان الفقيرات من النساء وداعية الحرية الدينية ومصلح حال العملة والعلم والتعليم. وعين أيضاً عضواً في المجمع العلمي الباريسي وهو المجمع المؤلف من أربعين عالماً من كبار علماء الفرنسيين وسنة 1876 تولى رئاسة الوزارة كما تولى رئاسة عدة جمعيات وحفلات سياسية وعلمية وأدبية.
هذا هو الرجل العظيم الذي جمع في جنبيه العلم والعمل فكان العلم والتهذيب أكبر دافع له إلى مقاومة أنصار الباطل والصبر على المكاره فيما يلقاه من فقر وقلة ولم يتنازل عن مبدأه الذي ثبت عليه طول حياته. وأنت ترى بهذا النظر أن لسيمون من حيث السياسة والعلم شركاء ونظراء ليسوا بقلائل في كل أمة مرتقية لهذا العهد وإنما سمت منزلته من(9/2)
عداه بالأخلاق الفاضلة والتفاني في خدمة الإنسانية والمدنية. عاش من شق القلم وظل كذلك طول حياته بعد أن خطبته المناصب ورقي درجات العلى ولو أسف قليلاً للتنازل عن مذهبه في الأخلاق لأصبح في رئاسة الجمهورية وعد من كبار ساسة الأرض كما هو من أكبرهم في العلم والعمل ولقضى حياة طيبة خصوصاً في أخريات أيامه فقد ذكروا أنه كان يكتب في الصحف ليعيش بما يكتب حتى أن إحدى الصحف الكبرى نشرت مقالة من قلمه كان بعث بها في خلال مرضه ليأخذ أجرتها فصدرت يوم وفاته.
يعد سيمون من مؤسسي الجمهورية الثالثة الحالية ومن أشد أنصار التكافل الاجتماعي كما يعد رأساً في الكتابة والخطابة. وكتبه ومقالاته وخطبه ومقاماته تعد بالمئات وأول كتاب نشره الواجب والدين الطبيعي والحرية الدينية والحرية السياسية والحرية المدنية وهذه الكتب الثلاثة الأخيرة موضوع واحد قسمه ثلاثة أقسام وأراد بها تعليم الجمهوريين وتنشئتهم على حب الجمهورية واشرابها قلوب الأمة. ونشر أيضاً عدة كتب مثل كتاب الفلسفة والطبقة العاملة والمدرسة وإصلاح التعليم الثانوي والوطني الصغير وموت سقراط والفلسفة الإسكندرية والمرأة في القرن العشرين والتعليم المجاني الإجباري وغير ذلك من الأعمال العلمية النافعة وكلها دالة على روح فاضلة ونفس شريفة طاهرة تألم للظلم وتطمع في الإهابة بالإنسانية إلى حظيرة التعاضد والتكافل وتنزع إلى إصلاح حال البائسين اليائسين.
والناظر في كتبه يقرأ فيها أحسن ترجمة لحياته فقد كان على ما يظهر منها متديناً تديناً معقولاً مازجته الحكمة والاعتدال فصح أن يدعى فيلسوفاً إلهياً وهو ممن نحتاج إلى أمثالهم في مثل هذا القرن الذي قل الاعتدال في أهله فمن متدين غر جاهل لا يدري من أحوال العالم شيئاً ومن متعلم ينكر كل ما يقره المتدينون ويعد حطة عليه أن يتنزل إلى ما لا يفيد بزعمه.
ألا أكرم برجل كسيمون بل أكرم ببلاد رفعته من حضيض قرية حقيرة كان فيها فلاحاً خاملاً إلى منصة العلم والوزارة فصار عضواً عاملاً في أمته بل أكرم بمبادئ صالحة وعلم صحيح سار على منهاجها فعف عن مالها وعاش عيشة حرية بمن يكتب في الحرية الحقيقية ويدعو الناس إليها عاش عيشة من وافق علمه عمله فكان العالم العامل والسياسي(9/3)
المحنك والغيور الصادق والنزيه المستقيم والحكيم العاقل. وقد كافأته أمته بأن نصبت له تحت رعاية الجمهورية تمثالاً في باريس خطب في الاحتفال به عظماؤهم في يونيو سنة 1903 ورددوا أعماله وتأثيراته في عالم السياسة والعلم وأثنوا خصوصاً على طيب أخلاقه وفضيلته العملية.(9/4)
ملكة العربية
اللغات من أحكم الصلات بين البشر ومن أقوى عوامل النهوض والارتقاء وعلى نسبة انتشار لغة الأمة يكون نفوذها في سياستها وآدابها وصناعاتها وكل أمة زهدت في لغتها أو تخلت عنها ولم تجر في ترقيتها مع الزمن تغلب على أمرها ويفنى كيانها. يقول أحد العارفين إذا استعبدت أمة ففي يدها مفتاح حبسها ما احتفظت بلغتها. وكان نابليون يقول علموا الفرنسية ففي تعليمها خدمة الوطن. وباللغة قامت الوحدة الأميركية والإيطالية واليونانية والألمانية والصربية والرومانية والبلغارية فنجت هذه الأمم بلغاتها من استعباد عداتها.
جاء القرآن على ما فيه من قواعد التشريع والاعتبار بالأمم الخالية حاوياً قاعدة من أهم قواعد العمران وأعني بها الدعوة إلى توحيد اللغة فقضى على كل مسلم على اختلاف الأجناس أن يتعبد بالقرآن ويتلوه بلغته الأصلية فانتشرت بذلك العربية في القاصية والدانية وأخذ ابن الصين يتفاهم مع ابن مراكش بالعربية على بعد الديار.
ولقد قامت الحكومات الإسلامية على اختلاف لغاتها بهذه اللغة وجعلتها لغة دواوينها وكتبت بها رسائلها وخطبها ومراسيمها. فجعلت حكومات الفرس والديلم والترك والبربر والكرد والجركس لغة العرب لغتها ولم تتخلف عن هذه القاعدة في العصور المتأخرة إلا بعض الحكومات جعلت كل منها لغة أسرتها المالكة لغة رسمية لبلادها فاستغرب هذا منها حتى خاصة أهلها.
كان يرجى لمصر أن تكون كعبة العربية في العهد الأخير يحج إليها الطلاب من أقطار العالم لو جاء بعد محمد علي رأس الأسرة الخديوية من أنجز العمل الذي كان وضع أساه وتوفر على تعهد النبتة التي غرسها وأعوانه من الإفرنج في بث ملكة العربية ونقل العلوم الضرورية إليها من لغات الأعاجم ولو دامت تلك النهضة سائرة سيرها الأول لكان لمصر حضارة عربية صرفة لم تمازجها عجمة الإفرنج.
نعم إن تعلم لغة قوم تحببهم إلى نفس المتعلم في الغالب فمن تعلم الفرنسية كان محباً للفرنسيين ومن أحكم الإنكليزية شغف بالإنكليز ومن شدا الألمانية أعز الألمان ولكم رأينا أوربياً تعلم العربية فأصبح يكرم العرب ويغار على مصلحتهم وآدابهم وبلادهم ولا غيرة ابنها العربي البحت.(9/5)
أقول هذا وأنا على يقين من أن لغة القرآن قد خدمها علماء المشرقيات من الغربيين أكثر من خدمة خاصتها ورؤساء حكوماتها لها فطبعوا لها من نفائس الكتب وأمهاتها وأقاموا لها محافل ودروساً وسافروا في تعلمها وبذلوا في سبيلها البذول منذ وجهوا وجهتهم قبل المدنية الإسلامية حتى أن أول الكتب التي طبعت بعد اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر للميلاد كانت كتباً عربية من مؤلفات ابن شينا والرازي وابن رشد وغيرهم من فلاسفة الإسلام. ودامت تلك الروح تسري في جسم الحضارة الغربية حتى صار اليوم من علمائهم المختصين بدراسة لغتنا من يحسنون التكلم والتأليف فيها إحسان خاصتنا لها رأيت منهم الأميركي والإنكليزي والألماني والفرنسي والنمساوي والأسوجي والهولندي والروسي وكلهم محل الدهشة والاستغراب وشهدت من حميتهم وغيرتهم على لغة القرآن ما لا أجد بعضه عند كثيرين من خاصتنا.
وليس في أهل الإسلام اليوم مثل أهل فارس عناية بالعربية وآدابها لأنهم لم ينسوا فيما احسب أن تعلمها من الدين وأن من ناهضها ووضع السدود في سبيل سيرها فكأنما ناهض الدين وعاق دعوته عن الانبعاث ولذلك كان تعلمها عندهم على حصة موفورة. وقد يجيد متعلمهم فهمها وكتابتها إجادة العربي القح. ولا عجب فللفرس في تاريخ النهضة الإسلامية القديمة أثر مشكور على غابر الدهور.
ومع أن التعليم في مصر غداً إنكليزياً والأساس الذي قامت عليه نهضة العربية في أوائل القرن الماضي ترك وبني على غيره لا تزال العربية بالنظر لوحدة اللغة في القطر ولما وقر في النفوس من أن الأزهر أعظم مدارس الإسلام في الأرض وأن فيه جهابذة علماء ولما ينفخه فيها نوابغ البلاد المهاجرين إليها - مع كل هذا لا تزال مصر موطن العربية من هذا الشرق العربي وفيها تصدر أهم المطبوعات والصحف العربية. لا يبعد أن يكون لها شأن غير شأنها الحاضر في المستقبل القريب وإن قل تخرج النوابغ من أبنائها وإحكامهم ملكة اللسان العربي الإحكام الذي يسهل عليهم التأليف والإنشاء والخطابة وقرض الشعر والتمييز بين صحيح الكلام وفاسده.
وكانت قويت ملكة العربية في سورية بما قام في بيروت من المدارس الكبرى منذ أربعين سنة ولما استبدلت تلك المدارس اللغات الإفرنجية باللغة العربية وجعلوها لغة التدريس(9/6)
والخطاب عاد حب لغات الأعاجم فاستحكم من النفوس خصوصاً بعد أن أيقن كثيرون من أهل الفئة التي هي أجرأ السوريين على الهجرة للاتجار والكسب أن العربية لا يأتي تعلمها بمال يعود على صاحبه بالرفاهية فلا تنفع في الماديات نفع اللغات الأوربية لهم في ذلك. اللهم إلا تلك الفئة الفاضلة من كتاب السوريين في أميركا ممن أنشأوا الصحف وأخذوا يسعون جهدهم في بث ملكة اللسان العربي بين المهاجرين في مهاجره كما يعنى مهاجرة الألمان في الاحتفاظ بلغتهم في وسط بلاد الولايات المتحدة. قلت أن ملكة العربية ضعفت في بلاد الشام ويكفي أنك تجتاز البلد والبلدين ولا تجد من يحسن الكتابة والقراءة بلا غلط بل أنك لتستقرئ حال المائة ألف نسمة في حواضر مدن الشام ولا تجد فيها خمسة يكتبون على وجه الصحة. وهكذا الحال في العراق ونجد والحجاز واليمن. وللشعر في هذه الأقطار الأخيرة أثر من الآثار القديمة أكثر من النثر ولا عبرة بالأفراد فهم لا يتجاوزون عدد الأنامل في هاتيك الديار التي كان يعد رجالها بالمئات في العصور السالفة. والأفراد ليسوا معياراً في هذا الباب.
ومن أهل الأقطار التي يعنى أهلها بالعربية على عجمتهم مسلمو قافقاسيا والهند فإن تدريس العربية في مدارسهم وكتاتيبهم شائع كل الشيوع وهم معتقدون أن في تعلمها تعلم الدين. من أجل هذا رأينا كثيرين من أهل النهضة فيهم في العهد الأخير طافوا بلاد الشرق العربي للبحث عن طريقة سهلة تمكن ناشئتهم من إحكام العربية في أقرب مدة ومن أيسر السبل ولما يئس بعضهم من وجود بعض أفراد توفرت فيهم هذه الشروط من أبناء جامعتهم ليغنوا الغناء المطلوب عمدوا إلى اختيار أساتذة هم في الأصل أعاجم على نحو ما فعلت كلية عليكدة في الهند وأقامت إنكليزياً يعلم العربية على طريقة اللغات الأوربية تسهيلاً على المتعلمين من أبنائها.
وحال القطر التونسي فيما أرى من إحكام ملكة العربية حال سورية حذو القذة بالقذة ولعل الناشئة المتمكنة من آداب القوم يكثر عددها فيعملون وجرائدهم ومجلاتهم وجمعياتهم على النظر في ترقيتها بينهم أما الجزائر ومراكش فما أخالهما يعرفان من العربية إلا بقدر ما يعرف منها أهل مالطة أو أكثر بقليل. دع أهالي شنقيط فإنهم أعظم أهل الأرض عناية بالعربية وحفظاً لدواوين شعرائها وخطبائها فقد تجد الطفلة تحفظ من أسفار الأدب ما لا(9/7)
عهد للخاصي به عندنا ولكن نظرهم في الأدب والشعر نظر مجرد لا محل للعمل فيه. وهناك بلا إسلامية كزنجبار ورأس الرجاء وجاوه وبعض مدن الصين وأفغانستان وبخاري فإنها ضعيفة في عربيتها ضعف الترك فيها.
وبعد فإن من رأى توفر الغربيين على دراسة العربية يكاد يوقن بأن هذه اللغة لا تحيا إلا على أيدي هؤلاء الإفرنج فقد جعلوا لها المقام الأول بين اللغات الشرقية ولم يحسبوها من اللغات الميتة وأحيوا من مآثر الأسلاف ما يبيض الوجوه وينعي على الإخلاف وناءهم وتقاعسهم.
وأقدر الأمم الغربية على تلقف العربية فيما أحسب الشعب الجرماني فإن فيه رجالاً يلفظون ويكتبون على مثال كتاب العرب أنفسهم ويليهم في باب العناية بها على ما أرى الإنكليز والأمريكان والنمساويون والفرنسيون والهولنديون والروسيون والطليان والأسبان. وكان الفرنسيين فيما مضى في مقدمة الأمم بالاشتغال بالعربية ولاسيما في عصر العالمين دي ساسي وكاترمير فأصبحوا اليوم في وسطها.
ولا يبعد إذا دام الفرنجة على تعهد هذا اللسان بطبع كتبه ودراسة أصوله وفروعه أن يهاجر أبناؤنا إلى بلادهم بعد ليتلقوه عنهم إذا دمنا على خمولنا وتخلفنا. ولولا بعض كتب قديمة تحيا بالطبع اليوم لقلنا بالنظر لما نراه من ندرة المطبوعات العربية العلمية أنه سيجيء يوم نأخذ فيه عن الإفرنج حتى أصول ديننا. ومن الأسف أن جماع ما ينشر من تآليفنا منذ سنين لا يتعدى الروايات والهزليات أما كتب الجد كالفلسفة والتاريخ والرياضة والطبيعة والاقتصاد والاجتماع فلا محل لها من الإعراب في جملة أعمالنا.
ولعل العربية في هذه الديار لا تمنى بما منيت به في سائر الأقطار فيكثر في أبنائها المتأدبون بآدابها وإن قل عدد النوابغ أي يعم تعلمها أكثر مما يخص. وعندي أن الرجاء معقود على الأكثر بالمجلات والجرائد إذا صرفت العناية بإنشائها واختيار موضوعاتها فهي هي المدرسة الكبرى للأمة وتأثيراتها متصلة باتصال صدورها وهي تبعث على المطالعة أكثر من الكتب. ومادام القرآن يتلى بلسان العرب فسيبقى أثر له في البلاد الإسلامية كافة وتضعف ملكته الحقيقية بضعف العمل به من دراسة آدابه.(9/8)
الملاهي وأدوات الطرب
عند الأندلسيين من العرب
ذكر المقتبس في الصفحة 298 من هذه السنة نصاً للشقندي في أدوات الطرب التي كانت معروفة في عهد المؤلف في اشبيلية. إلا أن بعض أسماء تلك الملاهي لا توجد في دواوين لغتنا ولا ذكر لها في كتب أهل الفن. ولما كنت قد كتبت رسالة في هذا الموضوع وكنت قد أصلحت فيها نص الشقندي إجابة لطلب أحد الأدباء إذ أن النساخ قد أفسدوا بقلمهم ما غمض من تلك الألفاظ رأيت الآن أن أدرج هذا الإصلاح وأشرح تلك الكلمات العويصة لتعم الفائدة. فأقول:
أما الخيال وهو أول أدوات الطرب التي ذكرها الشقندي فهو تمثال معضَّى يتخذه أهل اللهو في ألعابهم ويحركونه حركات مختلفة مضحكة بخيط أو بزنبرك خفي وهو الذي يسميه البعض بالكركوز أو العيواظ وبالفرنسية قال في شفاء الغليل في مادة بابه ص 50 وبابه إحدى بابات الخيال أما الخيال جعفر الراقص وأما لخيال الأزاد وجعفر اسم الذي اخترع الخيال الراقص.
والكريج (وصحيح روايته والكرج) وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكررن ويفررن ويثاقفن وهي من آلات الرقص (عن ابن خلدون في المقدمة ص374 من طبعة بيروت الأولى) وبالفرنسية يسمى الكرج ;
أما العود فمعروف فلا حاجة إلى زيادة تعريفه وبالفرنسية
أما الروطة فلا ذكر لها في كتب اللغة وهي معربة عن الأندلسية أو وهي ضرب من الرباب كان يتخذها الشعراء المتجولون ليوقعوا عليها ألحانهم وأغانيهم وأول من اتخذها الغلطيون. وهي بالفرنسية أو
والرباب مذكورة في معاجم اللغة فلتراجع وبالفرنسية
وكذلك القانون فهو أشهر من أن يذكر وبالفرنسية
أما المؤنس فهو قربة يركب فيها مزمار يتخذها أهل البادية في ملاهيهم وأغلب ما تكون في مزمارين. ولعل اللفظة من أصل إسباني يقابلها بالفرنسية أو وهذه اللفظة العربية لا(9/9)
توجد في كتب اللغة إلا أنها اليوم مشهورة في بلاد العرب بهذا المعنى.
والكثيرة مصفحة عن كيثرة وهي في القديم نوع من الرباب ويراد بها اليوم ضرب من السنطور تنقر أوتارها بالإصبع.
والفنار (وصحيح روايتها القثار) هي بالفرنسية ويراد بها آلة ذات ستة أوتار ولها يد مقسومة إلى أنصاف ألحان مركب عليها دساتين.
والزلامي: نوع من المزمار وهو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفردتين كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النفخ بواسطتها إليها وتصوت بنغمة حادة يجري فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبابة (عن ابن خلدون بحرفه في ص370 من الكتاب المذكور) والزلامي تصحيف الزنامي نسبة إلى زنام وهو زمار مشهور كان هند هارون الرشيد يضرب به المثل في حسن صناعته. قال الشريشي: زنام هو الذي استنبط الناي وهو المزمار الذي تدعوه عامتنا في المغرب الزلامي صحفوه بإبدال نونه لاماً وإنما هو زنامي.
أما الشقرة والنورة فقد عرفهما المؤلف نفسه بقوله: وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه.
والبوق أيضاً معروف. وقد ذكره ابن خلدون في المقدمة ص370 بقوله: وهو بوق من نحاس أجوف في مقدار الذراع يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دون الكف في شكل بري القلم وينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدي الريح من الفم إليه فيخرج الصوت ثخيناً دوياً وفيه أبخاش أيضاً معدودة وتقطع نغمة منها كذلك بالأصابع على التناسب فيكون ملذوذاً.
ثم تطرق الشقندي إلى ذكر أصناف الملاهي والرواقص وحسن انطباعهن وصنعتهن وإنهن أحذق خلق الله باللعب. ومن أنواع ألعابهن اللعب بالسيوف وهو معروف.
والدك (وصحيح الرواية الدكر بذال مهملة مكسورة بعدها كاف ساكنة) هو نوع من الرقص أو اللعب يعرفه الزنج والحبش ولا يزال الزنج في البصرة يلعبونه في عهدنا هذا وهو النوع المسمى بالفرنسية(9/10)
وإخراج القرى. (وصحيح الرواية وإخراج القزى بزاي في الوسط جمع قزة كعزى جمع عزة. والقزة الحية) هو نوع من اللعب يعمد المشعوذ أو اللاعب إلى كيس أو جراب ويريه للحاضرين أنه فارغ وبعد أن يتلو عليه بعض الآيات يخرج منه حيات أو قزى أو حبالاً أو خيوطاً وغير ذلك.
وكل هذا من أعمال المشعوذين يستلزم خفة عجيبة ومهارة غريبة في اللاعب وربما أخرج من الكيس محابس وخواتم وحلقاً ونحو ذلك.
والمرابط. يعني وإخراج المرابط وهو جمع مربط وهو ما يربط به الدابة. والمعنى واضح مما تقدم شرحه.
والمتوجه. والأصح الفتوخة وهي جمع فتْخة أو فتخة وهي خاتم كبير يكون في أصابع اليد والرجل أو حلقة من فضة كالخاتم لا فص فيها فإذا كان فيها فص فهو الخاتم. ومن ثم فيكون إخراج الفتوخ من قبل إخراج القزى والمرابط.
هذا ما أردنا إيضاحه في هذا الباب حرصاً على كلام المؤلف من التصحيف والتحريف وربك فوق كل علم عليم.
بغداد
أحد قراء المقتبس(9/11)
الفرس
معربة عن كتاب تاريخ الحضارة
دين زردشت
إيران - بين نهري دجلة والسند وبحر الخزر والخليج الفارسي صقع عظيم يعرف ببلاد إيران تبلغ مساحته خمسة أضعاف مساحة فرنسا أو تزيد ولكن معظمه مجدب قاحل فهو يتألف من صحارى رمال محرقة ومن أنجاد باردة قارسة تشقها أودية عميقة شجراء وتحيط بها جبال شاهقة. وإذ حيل بين الأنهار وجريها فهي لا تسير إلا ريثما تضيع في الرمال أو في بحيرات مالحة. ويشتد هواء هذه البلاد ويتقلب فيكون حراً في الصيف وقراً في الشتاء وقد يجتاز من يهبط هذه البلاد من منطقة تبلغ درجة حرارتها نحو 32 تحت الصفر إلى منطقة حرارتها 45 سنتغراداً بمعنى أن تلك البلاد جمعت إلى برد سيبيريا حرارة السنغال. وهناك تعصف الرياح الزعازع فتفعل في الأجسام فعل الحسام. بيد أن الأودية وضفاف الأنهار مخصبة منبتة. وهذه البلاد هي ولا جرم مصدر الدراق وشجر الكرز ومستنبت الثمار والمراعي.
الإيرانيون - سكنت بلاد إيران قبائل من الآريين (القاطنين ببلخ أي بكتريا وهي الوطن الأصلي للجنس الآري) كانوا كسائر أبناء هذه البلاد جنساً من الرعاة المسلمين المحاربين. ولقد كان الإيرانيون يقاتلون على ظهور الخيل ويطلقون السهام ويلبسون ألبسة من الجلد يجعلونها وقاية على أبدانهم من هواء بلادهم الشديد.
زردشت - عبد الإيرانيون أولاً ما عبده قدماء الآريين من قوى الطبيعة وخصوصاً الشمس ميترا وقام بين أظهرهم حكيم اسمه زردشت (مه أباد وله كتب كثيرة منها ما له علاقة بالشريعة ثم ظهر زردشت وأصلح هذا الدين) ويدعوه الإفرنج زرواستر فأصلح ديانة الإيرانيين بين القرن العاشر والسابع قبل الميلاد ولم يبلغنا من أخباره غير اسمه. الزاندافستا (الزندو بازندوافستا) - لم يبق شيءٌ مكتوب يؤثر عن زردشت ولكن تعاليمه المؤلفة بعده بزمن طويل قد حفظت في الزاندافستا أي الشريعة والإصلاح وهو كتاب الفرس المقدس. وقد كتب هذا السفر بلغة قديمة لم يفهمها اتباع هذا المذهب أنفسهم ودعوناها أي الإفرنج بازند وكانت تنقسم على ما ورد في أساطيرهم إلى إحدى وعشرين(9/12)
نسخة كتبت على اثني عشر ألف جلد ثور ضم بعضها إلى بعض بأسلاك من الذهب وأبادها المسلمون لما فتحوا بلاد فارس واحتفظت بعض أسرات إيرانية بتعاليم زردشت وأخلصوا دينهم له فلجأوا إلى بلاد الهند فحفظ فيها أخلافهم المدعوون بارسيس تلك الديانة القديمة. وقد وجد عندهم سفر تام من الزاندافستا وقطع من الكتابين الآخرين.
أورمزد هرمز وهرمس واهريمن رمز إلى العقل والنفس وعند العامة إله الخير والشر هذه ديانة زردشت على نحو ما ورد في تلك الكتب إلا أن هرمز الذي يدعوه الإفرنج أورمزد وهو الديان الذي لا يخفى عليه شيءٌ خلق العالم والقوم يصلون له بهذه الألفاظ: أدعو الخالق هرمز واحتفل بشعائره فإنه النور والضياء عظيم رحيم كامل شبهم ذكي جميل سامٍ طاهر يعرف العلم الصحيح مصدر اللذة وهو الذي برأنا وصورنا وأطعمنا وإذ كان على جانب من الصلاح لم يخلق إلا ما هو كذلك وما يرى في العالم من شر فقد برأه رب الشر الكرامانيو أي روح العذاب وندعوه أهريمن (وديو أي شيطان).
الملائكة والشياطين - يقف أهريمن الشقي المخرب قبالة هرمز البارئ الحليم ولكل منهما طائفة من الأرواح فجنود هرمز هم الملائكة المطهرون يازاستا وجنود أهريمن شياطين خبثاء (ديو) ويسكن الملائكة في الشرق في ضوء المشرق والشياطين في الغرب في ظلمات الشفق وكلا الجيشين لا يزالان في حرب دائمة والعالم ساحة قتالهما لأن كليهما حاضر في كل مكان فيسعى هرمز وملائكته إلى الاحتفاظ بالخلق وإسعادهم وصلاحهم ويطوف أهريمن وشياطينه حولهم لإهلاكهم وسوء طالعهم وطلاحهم.
خلائق هرمز وأهريمن - كل حسنة في الأرض هي من صنع هرمز وتستخدم للخبر فالشمس والضياء اللذان يطردان الليل والكواكب والشراب المخمر الذي يتراءى كأنه صوءٌ سيال والماء المروي للإنسان والحقول المزروعة التي تغذيه والأشجار التي يستظل بها والحيوانات الأهلية والكلب والطيور منها خصوصاً ما يعيش منها في الضوء ولاسيما الديك لأنه يبشر بالنهار هذه كلها برأها هرمز. وعلى العكس ينبعث كل ما يضر من أهريمن فيكون شراً مثل الليل والجفاف والبرد والقفر والنباتات السامة والشوك والحيوانات الكاسرة والأفاعي والحلمات الطفيلية (كالبعوض والبراغيث والبق) والحشرات التي تعيش في الجحور المظلمة كالضبان والعقارب والضفادع والجرذان والنمل - وهكذا تنبعث الحياة(9/13)
والطهارة والحقيقة والعمل وكل ما حسن في عالم الأخلاق من هرمز. والموت والقذارة والكذب والكسل وكل ما خبث وساء ينبعث من أهريمن.
العبادة - مصدر العبادة والأخلاق من هذا الاعتقاد فعلى المرء أن يعبد رب الخير ويناضل عنه. يقول هيرودتس: أن من عادة الفرس أن لا يقيموا هياكل ومعابد ومذابح للأرباب ويعدُّ من أتى ذلك كافراً بالنعمة لأن هذه الأمة لا تعتقد اعتقاد اليونان من أن للأرباب صورة على نحو صورة البشر. وأن هرمز ليبدو بهيئة النار أو الشمس ولذا يحتفل الفرس بعبادتهم في الخلاء على الجبال أمام موقد مشتعل فينشدون الأناشيد تمجيداً لهرمز ويذبحون له الحيوانات (كذا) دليلاً على عبادته.
الأخلاق - ناضل الإنسان عن هرمز محسناً لعمله مقبحاً لعمل أهريمن فيجاهد في الظلمات وهو يمد النار بالحطب الجاف والعطور ويجاهد في القفر بحرث الأرض وابتناء البيوت ويجاهد حيوانات أهريمن بقتل الحيات والضباب والحلمات الطفيلية والحيوانات الكاسرة ويجاهد الدنس وذلك أنه يتطهر ويدفع عنه كل ما مات وخصوصاً الأظافر والشعور وحيثما وجدت الشعور والأظافر المقصوصة فهناك يجتمع الشياطين والحيوانات القذرة. ويجاهد الكذب جارياً على قدم الصدق. قال هيرودتس أن الفرس يستقبحون الكذب وهو عندهم عار وسبة كما أنهم يكرهون الاستدانة لأن المديون يكذب بالضرورة. ويجاهد الموت وذلك بالزواج والاستكثار من الولد. جاء في الزاندافستا ما أقبح البيوت التي حرمت من النسل والذراري.
الجنائز - متى مات الإنسان تعود جثته إلى رب الشر ولذلك يقتضي إنقاذ الدار منها لا بإحراقها فإنها تنجس الدار ولا بدفنها فإنها تنجس الأرض ولا بإغراقها فإنها تنجس الماء ومن فعل ذلك فيكون قد تلطخ بحمأة القذارة أبد الدهر. وطريقة الفرس في دفن موتاهم تختلف عن غيرهم من الأمم فيجعلون الجثة في مكان عال مكشوفة جبهتها نحو السماء مثقلة بأحجار ثم يركنون إلى الفرار خشية من الشياطين لأنها تجتمع بزعمهم في أماكن الدفن حيث مأوى المرض والحمى والقذارة والرعب والشعور القديمة وعندها تجيء الكلاب والطيور وهي من الحيوانات الطاهرة فتطهر الجثة بافتراسها.
مصير الأرواح - تنفصل روح الميت عن جسده وفي اليوم الثالث من موتها يؤتى بالروح(9/14)
على الصراط (شنيواد) المؤدي إلى الجنة ماراً فوق هاوية جهنم فيسأل هرمز الروح عندئذ عن حياتها السالفة فإن كانت محسنة تعضدها الأرواح الطاهرة وأرواح الكلاب وتأخذ بيدها لاجتياز الصراط ويدخل بها إلى مقام السعداء (برودس أي فردوس) فيهرب الشياطين لأنها تتجافى عن روح الأرواح التقية أما روح الشرير فتصل على العكس من ذلك إلى الصراط ضعيفة لا يأخذ أحد بيدها ويلقي بها الشياطين في الهاوية ويتناولها روح الشر ويقيدها في قعر الظلمات.
طبيعة الديانة الهرمزية أو الهرمسية المزدية - نشأت هذه الديانة في بلد يشتد فيه الاختلاف والتناقض ففيها الأودية الباسمة بزرعها والأراضي البائرة المحزنة والواحات الرطبة والقفار المحرقة والحقول والسهول الرملية بحيث تتراءى قوى الطبيعة فيها كأنها في حرب عوان أبداً. وهذا الجهاد الذي يمثل للفارسي فيما يحيط به قد اتخذه شريعة العالم. وهكذا تألفت ديانة خالصة من الشوائب تدفع بالإنسان إلى العمل والفضيلة على حين قد انتشر هذا الاعتقاد بالشيطان والجن في الغرب وشغل شعوب أوربا كافة بالأوهام.
المملكة الفارسية
الماديون - سكنت بلاد إيران عدة قبائل ولم يشتهر من بينها سوى الماديين والفرس خيم الماديون في غرب بلاد فارس وهم أقرب إلى الآشوريين ولذلك كان على أيديهم خراب نينوى وبلادها 625 ولكن لم يلبثوا أن استغرقوا في الترف وأنشأوا يتخذون ثياباً مسدولة ويألفون البطالة ويعتقدون اعتقادات خرافية شأن الآشوريين بين الساقطين ومازالوا على ذلك حتى امتزجوا معهم أي امتزاج.
الفرس - أما الفرس فكانوا في الأنحاء الشرقية (والجنوبية) واحتفظوا بأخلاقهم وديانتهم وشدتهم. يقول هيرودتس: أن الفرس لا يعلمون أولادهم إلى سن العشرين غير ركوب الخيل ورمي النشاب وقول الصدق.
قورش اوسيروس اوكيخسرو - قام رئيسهم قورش حوالي سنة 560 وخلع ملك الماديين (الذي هو جده لأمه) وجمع تحت لوائه شعوب إيران كافة ففتح بهم ليديا وبابل وجميع بلاد آسيا الصغرى. ويروى لهذا الملك قصة فصلها هيرودتس في تاريخه تفصيلاً شافياً قال أنه دعا نفسه في بعض ما زبره على الأحجار بقوله أنا قورش ملك الكتائب والعظمة والاقتدار(9/15)
أنا ملك بابل وسومير وأكاد ملك الأقاليم الأربعة وابن كمبيز (كيكاوس) وسلطان سوزيان.
رسوم بيستون - أهلك كمبيز بكر أولاد قورش أخاه سمرديس وفتح مصر (على قول اليونان) علمنا ذلك مما اتصل بنا من الرسم الذي مثل فيه ذلك ولا تزال ترى إلى اليوم في تخوم الفرس وسط سهل أفيح صخرة هائلة نحتت نحتاً عمودياً علوها 450 متراً وهي صخرة بيستون وهناك حروف ناتئة على الحجر تمثل ملكاً متوجاً ويده اليسرى على قوس وهو يدوس أسيراً وتسعة أسرى آخرون واقفون أمامه وقد قيدهم بنفسه. وكتبت ترجمة حياة الملك في رسم بثلاث لغات فقد أعلن الملك داريوس دارا ذلك فقال: هذا ما قمت به قبل أن أغدو ملكاً فقد كان كمبيز بن قورش من بني جنسنا يحكم هنا قبلي وكان له أخ لأبيه وأمه واسمه سمرديس فقتل ذات يوم كمبيز أخاه سمرديس ولا علم للقوم بما جنته يداه. ثم وجه كمبيز وجهته نحو مصر وبينما هو نازل فيها ثار به الشعب وكان قد أصبح الكذب مألوفاً إذ ذاك في تلك البلاد وفي بلاد مادي وسائر العمالات فقام موبذان كان حاضراً إذ ذاك اسمه غوماتا وخدع الأمة بقوله: أنا سمرديس بن قورش وعندئذ انتفض الشعب اجمع وانصرفوا نحوه متخلين عن كمبيز. ثم قضى كمبيز نحبه بجراح جرح نفسه به وبعد أن أتى غوماتا ما أتى من هذه الحيلة واستلب من كمبيز بلاد الفرس ومادي وسائر الأقطار جرى في الخطة التي شاءها فصار ملكاً على هذه البلاد وحاكماً متحكماً في أهلها. فخافه الشعب لظلمه وكان لا يستنكف من قتل الأمة عن بكرة أبيها لئلا تنكشف حيلته ويعرف القوم أنه لصيق بسمرديس بن قورش ودعي في نسبه وقد أظهر للملك داريوس هذه الخديعة ولم يكن أحد في بلاد الفرس ومادي يجرأ على استرجاع تاج الملك من هذا الموبذان غوماتا. قال دارا بعد أن قدم ما سلف وعندئذ تقدمت ودعوت الرب هرمز فأعانني بالتوسل به وكان في صحبتي ناس ذوو إخلاص وصدق فأعانوني على قتل غوماتا وخاصة رجاله فأصبحت ملكاً بمشيئة هرمز واستعدت الملك الذي كان بنو قومنا سلبوه وأرجعته إلى حوزتي وأخذت أعيد المذابح التي طوى بساطها الموبذان غوماتا وذلك لأني كنت مخلصاً للأمة وأعدت الأناشيد والاحتفالات المقدسة إلى سابق عهدها. واضطر دارا بعد أن ضرب ذاك الدخيل غوماتا ضربة قاضية أن يقاتل عدة زعماء ثائرين فقال لقد قاتلت تسع عشرة مرة وغلبت تسعة ملوك.(9/16)
المملكة الفارسية - علم بما مضى أن دارا أخضع المملكة المختلسة وأعاد مملكة الفرس وقد وسع نطاقها بفتح تراس تراثياً وهي اليوم بلاد البلغار والروملي وولاية من الهند. وكان ينضم تحت لوائه شعوب الشرق أجمع من ماذيين وفرس وآشوريين وكلدانيين ويهود وفينيقيين وسوريين وليديين ومصريين وهنديين فكان سيف سطوته يحمي الأصقاع الواقعة بين نهر الدانوب الطونة غرباً ونهر الأندوس (السند) شرقاً وبين بحر الخزر شمالاً إلى شلالات النيل جنوباً. مملكة لم يعهد لها مثيل في الضخامة (120 مملكة) بيد أن قبيلة جاءت بعد واستولت على تركة الممالك الآسيوية بأجمعها.
أقيال الفرس - قلما يعنى ملوك الشرق بأمر رعاياهم إلا ليستنزفوا أموالهم ويمتهنوا في سبيل سلطانهم أبناءهم وينالوا مديحهم وثناءهم وما قط أخذوا أنفسهم بالنظر في شؤون من يحكمونهم. وكان شأن دارا في هذا المعنى شأن سائر ملوك الشرق ترك كل قبيل في بلاده يحكم نفسه على ما يشاء ويشاء هواه محتفظاً بلغته ودينه وشرائعه وأحياناً برؤسائه وسادته من قبل. على أنه كان يعنى بتنظيم دخل المملكة الذي يتقاضاه من رعاياه فقسم بلاده إلى عشرين حكومة سماها إمارة. وكان في كل حكومة شعوب مختلفة كل الاختلاف سواء كان بلغتها أو بعاداتها ومعتقداتها وكان على كل حكومة أن تؤدي مسانهة خراجاً معيناً بعضه نقد ذهب وفضة وبعضه غلات ونواتج قمح وخيل وعاج فيتقاضى حاكم كل مقاطعة أو قيلها ممن وسد إليه أمرها الخراج ويبعث به إلى مولاه الملك.
دخل المملكة - بلغ مجموع دخل الملك ثمانين مليوناً بسكة زماننا ما عدا خراج الغلات. وإذا اعتبرنا قيمة النقود في ذاك العصر فإنها تعادل ستمائة مليون جنيه في أيامنا. وكان الملك ينفق هذا على حكومته وجيشه وخاصته وبذخ قصره ويبقي عنده كل سنة سبائك عظيمة من العين يدخرها في صناديقه وكان ملك الفرس مثل سائر المشارقة يرى امتلاك الكنوز العظيمة من دواعي الأبهة والتمجد.
السلطان الأعظم - لم يكن في العالم أغنى ولا أقدر من ملك الفرس فقد كان اليونان يدعونه السلطان الأعظم. (ملك الملوك شاهنشاه) وكان له كسائر ملوك الشرق سلطة مطلقة على رعاياه كافة فرساً كانوا أم غيرهم من سائر الشعوب الخاضعة لعرشه. وأنت ترى فيما ذكره هيرودتس كيف كان كمبيز يعامل أعظم سادات قصره: سأل يوماً بريكستاسب (بري(9/17)
كشتاسب أي روح العظمة) وكان ابنه يسقيه ماذا تقول الأمة في أمري؟ فأجابه: مولاي أنهم يثنون على محامدك أطيب الثناء ولكنهم يذهبون إلى أن لك ميلاً قليلاً للخمر قال كمبيز وقد استشاط غضباً من هذا: اعلم إذا كان الفرس يقولون حقاً وصدقاً. فإذا أنا رميت بسهمي قلب ابنك الذي تراه واقفاً أمامك في هذا البهو فذلك أن الفرس لا يعرفون ما يقولون. وما هو إلا أن أعد قوسه وضرب ابن بريكستاسب فخر الفتى صريعاً فجاءه الملك ينظر أين أصابه سهمه فرآه قد أصماه ومزق حشاه. فاستفز السرور الملك وقال لوالد الغلام وهو ضاحك: لقد رأيت بهذا أن الفرس قد أضاعوا رشدهم فقل لي هل عهدت أحداً يطلق السهم إطلاقي له فيصيب الغاية على ما رأيت من الرشاقة. فقال بريكستاسب لا أعتقد أيها المولى أنه في وسع الرب نفسه أن يرمي النبال مثلك في الدقة والاعتدال.
أعمال الفرس - أدى شعوب آسيا في كل دور من أدوارهم جزية للفاتحين وخضعوا للظالمين والغاشمين فنفعهم الفرس كثيراً بأن كفوا بعضهم عن مقاتلة بعض وأزالوا من بينهم أسباب الشجناء وذلك لأنهم أخضعوا كل الشعوب لرئيس واحد. وكان عهدهم عهد سلام لم تعهد فيه مدن تحرق ولا ديار تخرب ولا سكان تذبح أو تؤخذ زرافات وأفواجاً لتستعبد.
مدينتا سوس وبرسوبوليس - عني ملوك الماديين والفرس بإقامة القصور على نحو ما كان يقيم ملوك أشور. وأحسن ما اتصل بنا خبره من تلك القصور قصور دارا في سوس وبرسوبوليس وقد حفر المسيو ديولافوا الفرنسي خرابات سوس فعثر فيها على نقوش وقرامد مزينة بالمينا تبين ارتقاء الصنائع إذ ذاك وقد بقيت من قصر البرسوبوليس خرائب عظيمة وقد نحت في صخر الجبل سطح عظيم قام عليه القصر وهو يوصل إليه بسلم واسع بانحدار قليل بحيث كان يتأتى لعشرة فرسان أن يصعدوه معاً.
النقش الفارسي - حذا نقاشو الفرس حذو الآشوريين في إقامة قصورهم فتجدها في برسوبوليس كما تجدها في بلاد أشور سقوفاً متسعة السطوح يحرسها أسود من الحجر والنقوش الناتئة تمثل صيوداً واحتفالات. وقد أحسن الفرس في إتمام نموذجاتهم في ثلاثة أشياء وذلك بأن استعملوا الرخام عوضاً عن القرميد وجعلوا في الردهات سقفاً بالخشب المصور وأنشأوا أعمدة خفيفة على شكل جذوع الأشجار في أقصى ما يعلم من الحذاقة(9/18)
واللطف وهي من أعلى من محيطها باثنتي عشرة مرة. ولذلك جاءت نقوشهم أجمل أثراً وأوقع في النفوس من نقوش بلاد أشور. وقلما نجح الفرس في الصنائع ويظهر أنهم كانوا أحشم شعوب ذاك العصر وأطهرهم وأشجعهم وكانت وطأة حكمهم في آسيا مدة قرنين أقل جوراً مما عرف من ضروب الحكومات وكانوا أميل إلى الرفق بمن يحكمون.(9/19)
خواطر سائح
لا نخال أحداً من الناطقين بالضاد يجهل مكانة الأستاذ العالم الشيخ عبد المحسن الكاظمي البغدادي نزيل القاهرة ورسوخ قدمه في الشعر بعد أن حمل المؤيد والمنار قصيدته العينية الشهيرة إلى الأقطار التي يتكلم أهلها بالعربية ولقد أتحفنا حفظه الله بالقصيدة الآتية أرسلها إلى صديق له جواباً عن قصيدة وقد ضمنها ما رآه واختبره في رحلته من - أبو شهر - أحد الثغور الفارسية إلى القاهرة وهي كما يراها قراء المقتبس تصورات عصرية بأسلوب بدوي متين وسبك محكم رصين وهذه هي:
جوىً أودى بقلبك أم وجيبُ ... غداة حدا بك الحادي الطروبُ
بعدت عن الديار وصرتَ تدعو ... على البعد الديارَ ولا مجيب
رحلت وأنت للعلياءِ صاد ... تحوم على الموارد أو تلوبُ
وخلفت المنازل آنساتٍ ... سروب الغيد تتبعها سروب
تشق حشاك من كلف عليها ... وتأنفُ أن تشقَّ لك الجيوب
وتسحب كالأنيس فضول برد ... وفي برديك ذو شجن كئيب
تشدُّ الرحل من بلد لأخرى ... وما لمناك من بلد تصيب
وتبلو الناس فرداً بعد فرد ... وما في الناس إلا ما يريب
كأنك ترود مرعى كل أنس ... ومرعى الإنس في الزورا خصيب
وفي مصر أراك وأنت لاهٍ ... وقلبك في العراق جوىً يذوب
فكم والى مَ تنجب ثم تبكي ... ولا يجدي البكاء ولا النحيب
وتشرب ماَء جفنك وهو ملح ... ووردك بالحمى عذب شروب
كأن الدمع بنطف وهو قان ... عصارةُ كرمة والجفن كوب
دع الأنفاس تصعد محرقات ... وخل الدمع من علقٍ يصوب
لقد بان الخليط فلا خليط ... وقد بعد الحبيب فلا حبيب
فلا تتكلفنَّ لي التصابي ... ولا تسم الحشا ما لا يثيبُ
فلا حلوان في عينيَّ تحلو ... ولا طيب الجنينة لي يطيب
وما في ذا الحمى لي من حميم ... بصحبته ألذُّ واستطيب
ورب أخ رماه البين عني ... بعيداً وهو من قلبي قريب(9/20)
أناديه ولم أرَ من أنادي ... وأسأله النوال فلا يجيب
أقول له وقد أحصى ذنوبي ... من الحسنات أن تحصى الذنوب
يعاتبني وقلب الحرّ أدرى ... بما تطوي الأضالع والجنوب
ويزعم أنني ثمل طروب ... وما أنا ذلك الثمل الطروب
أخيّ أعر مناديك ابن سمع ... يصيخ إلى الدعاء ويستجيب
عساك ترد من ذا العتب عني ... لنفسك أو إلى العتبى تثوب
أراك أرتبت من حالات نفسي ... وما في النفس من حال يريب
أعد نظراً تجد عذري صريحاً ... وعذر المرءِ آونة مشوب
فما كانت قطيعتنا جفاءً ... فيوهم ظنك الحلمُ الكذوب
فكن مني على ثقة وحول ... ظنونك أن بارقها خلوب
فما أنا من تغيره الليالي ... وتثنيه الحوادث والخطوب
ينوب بهاك لي عن كل حسن ... وما عن حسن وجهك من ينوب
إذا ما عنَّ ذكرك لي تنزت ... له كبدي وطار بها الوجيب
أعيذك من جوى شبت لظاه ... ببينك واستمرَّ لها الشبوب
وأشفق أن أبثك بعض ما بي ... وبعض الغيب يعلمه اللبيب
أؤمل أوبة مما تقضى ... واعلم ما تقضى لا يؤوب
فمن عبثت بنا نطف التصابي ... ومالت للقبول بنا الجنوب
فبينا تجمع الشملَ الأغاني ... إذا بالشمل فرقه نعيب
بنفسي ما بنفسك يوم شطت ... (أبو شهر) وسرت ولا صحيب
أقمنا برهة والفجر طفل ... بطلعته قرون الليل شيب
وسرنا والهموم لها انسياب ... علينا والظلام له دبيب
وعجنا راكبين اليم فلكاً ... وهل أغني الفوارس ذا الركوب
بواخر من بنات الماء شماً ... على هام السحاب لها سحوب
تحلق كالعقاب بنا وتهوي ... هويّ الطود أوهته الخطوب
ولم يرعِ الحشا منا ومنها ... صعود بالعواصف أو صبوب(9/21)
تكفُّ الموجَ وهو بها محيط ... نزاع النفس لاقتها شعوب
ومن عجب على الأمواه تطفو ... وبين ضلوعها أبداً وجيب
بلغت بها قرارة كل لج ... بعيد القعر لؤلؤهُ رطيب
هنالك شمت لألاَء اللآلي ... ولم تعبث برونقها الثقوب
وجزت به أقاصي كل ثغر ... تسيب به المخاوف ما تسيب
وظلت أجزّ لمة كل ليل ... له الولدان من هول تشيب
وأرضِ جزتها من بعد أرض ... سباسبها المريعة والسهوب
أعوج بحارها طوراً وطوراً ... أجوب من الموامي ما أجوب
إلى أن قادني أملي لمصر ... قياد الجامحات وهنّ لوب
وجاذبني إليها الشوق حتى ... سلست وراض مصعبي الجذيب
إذا بالنيل رقراق الحواشي ... قريب النيل جارفه عزيب
إذا ما سال سال بكل شعب ... وسالت في أباطحه الشعوب
كأن عليه من ذهب مذاب ... مزيج باللجين ولا مذيب
وما أحلى الجزيرة من محل ... ترفّ على جوانبه القلوب
تحفّ بها رياض طيبات ... يطيب بنشرها الأرج المطيب
عليها تصدح الورق ارتياحاً ... ويشدو في رباها العندليب
وألفيت البلاد طغت خمولاً ... ودب بأهلها الكسل الدبوب
وأسواق البطالة عامرات ... ووادي الموبقات بها عشيب
وفيها من سمات الخصب لفظ ... يفاه به ومعناه جدوب
وماءُ العز أدركه نضوب ... بها أو كاد يدركه النضوب
بقاصمة الفقار رمى قراها ... ولما يخطها الرامي المصيب
وهل أبقى لها إلا بقايا ... حشاً بليت كما بلي الشعيب
فلا ينفك ينهبها وكل ... بها من حيث لا يدري نهيب
فقمت مغاضباً شعباً فشعباً ... وكل جوارحي منها شعوب
أيا أهل الحمية كيف أضحى ... حماكم وهو من عزّ حريب(9/22)
أليس الشرق بالإشراق أحرى ... وأجدر منه بالغرب الغروب
فما لطنوبكم قصرت وطالت ... من الغربي فوقكم طنوب
تطول جبالكم منها الروابي ... وتعلو هامكم منها العجوب
رضيتم بالقعود على الدنايا ... ومنهجكم إلى العليا لحيب
ترومون الفخار على الأعادي ... وعن خطط الفخار لكم نكوب
وترجون الخلاص من احتلال ... وعار الاحتلال بكم لصيب
كما يرجو الفريس خلاص نفس ... وقد علقت من الأسد النيوب
أتيت لأستطب فزاد سقمي ... وقد يفضي إلى الداءِ الطبيب
لها بقية(9/23)
النشوء العقلي والاجتماعي
في مصر
أخذ التقدم يرتقي في مصر بعد أن كانت مثل جميع البلاد الإسلامية لقلة العلم والزهد في معاناة الحياة التجارية تقول أن الحياة الدينية والمدنية شيءٌ واحد وأن في القرآن والسنة أحكام الحياتين وفي مضامينهما جميع القوانين. أما الأديان السماوية الأخرى فقد رأت من الضرورة الفصل بين السلطة الزمنية والروحية ولم يتسن للإسلام أن يشذ عن هذا القانون. ومن تأمل ما جرى في مصر منذ خمسين سنة فقط وقاس ما نتج من دخول التمدن إلى هذا القطر خلال هذه المدة يدرك بأن النشوء يكون على أتمه بعد قليل وأن هذا التغيير يجري تحت طي السكون جارياً في مجراه الطبيعي من دون إكراه ولا إعنات. ومع هذا ظنَّ كثير من المفكرين بأن البلاد الإسلامية تبقى بعيدة عن التمدن. حملهم على هذا الظن ما رأوه من شدة تحمس المسلمين لدينهم وخضوعهم لما أمر به القرآن خضوعاً أعمى.
وحجة أهل الإسلام في هذا الباب أن التمدن الإسلامي لما كان منشراً أكثر من غيره كانت العقائد سالمة لم تمس وراسخة لم تزعزع إلا أنه يقال لهم أن علماء العرب في تلك العصور لم يكونوا يدرسون سوى علوم مقررة قام بها تمدن الشعوب الأخرى ولم يقتربوا من الكتب التي حوت علوماً غيرها أو من المصنفات الأدبية والصناعية التي تفتح على العقل باباً جديداً.
على أن التمدن العربي لم تعهد له طفولية إذ ولد كاملاً وبلغ رشده في قرنين فكان من الإسلام كما كان من سائر الأديان أن عدل من امتداد تأثيرات الذكاء وتقهقره في آن واحد وذلك مما لا يتأتى أن يجدد اليوم عهده. لأن تحاكك البلاد الإسلامية بالعنصر الأوربي وانتشار العلم وضروريات الحياة الجديدة ستؤدي ولا جرم إلى تحرير العقول من قيودها وتنتهي بفصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية لا محالة على نحو ما نرى من سرعة النشوء الذي بدأ الآن يظهر في مصر آخذاً نحو المدنية الحديثة.
ومما لا شك فيه أن الإسلام بعيد أن يضمحل الآن بل أنه على العكس ينتشر ويزداد أشياعه ويتجدد له أنصار حتى في أوربا وأميركا حيث تجد له الآن طوائف من المسلمين ولكن هذا السير سيكون أبطأ من ذي قبل ويقوم المسلم بفروضه الدينية سراً. نعم يكون للمسلم كما(9/24)
للمسيحي لعهدنا حياتان إحداهما ظاهرة والثانية باطنة ولا تكون الثانية سبباً في التشويش على الأولى. يقول المسيو هوداس من علماء المشرقيات من الفرنسيين إن المتعلمين يحبون أن يريحوا عقولهم بعض الراحة وذلك بأن يتناسوا أن لهم عقولاً. ولذلك تبقى الأديان الرئيسة في أوربا سنين كثيرة بعد على حالة ملائمة بعض الملائمة.
فنشوء الجنس الإسلامي لا مناص من وقوعه لأنه يجري بطبيعة الحال والدين لا يكون عائقاً له في بادئ الأمر لأن جميع الديانات في الأصل تعمل كأنها أعنة تحول دون كل تقدم على أن اليهودية والنصرانية اللتين لهما تعاليم ضيقة وهما أقل حرية من الدين الإسلامي لم يحولا دون نشوء الأجناس الأوربية.
يمثل الإسلام صورة مجتمع ديمقراطي فلا يعوقه عائق من سلطة الأشراف ولا عائق من سلطة رجال الدين ولا عائق من البابوية أي ليس فيه رئاسة دينية. وهذه العوائق هي من الأسباب المؤخرة فلا يخشى منها أن تؤثر في نشوء العنصر الإسلامي.
ومنذ سقوط الدولة العباسية أصبح الخلفاء لا يجمعون في شخصهم وحدهم بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية الدينية والسياسية وأخذت الشعوب الإسلامية تنمو وتنتشر في أطراف العالم بأسره ولا تخضع لسلطان واحد.
ولقد عرف التعصب في جميع الأديان وأعني بالتعصب ذاك الإحساس الذي يحمل صاحبه على الجهاد دفاعاً عن دينه وحفظ التاريخ حوادث هائلة من هذا القبيل لكل طائفة من طوائف أهل الأديان وردد ما سكرت به من حب الغلبة وبسطة السلطان أما الإسلام فعلى العكس من ذلك ظهرت فيه مظاهر التسامح أكثر من غيره مما يرجع الفضل فيه أسباب خاصة بالإقليم الذي قامت في وسطه تلك الديانة أو هو خاصة من خواص العنصر الذي دان بها.
وكان الداعي إلى المذابح التي أهرقت فيها الدماء في هذا الدور الجديد من الهجرة بواعث سياسية لا بواعث دينية. والدليل على ذلك أنك تجد في الشرق عناصر مسيحية كما فيه عناصر إسلامية وترى فيه الجامع مجاوراً للكنيسة والمسلم يعيش مع المسيحي وصلاتهما حسنة ومنافعهما متبادلة. وليس في الشرق ما يعد خطراً على نشوء الأمة الإسلامية السريع سوى جهل السواد الأعظم ممن لم يرزقوا حظاً من الذكاء يكفي لتكبير عقولهم فيراقبون(9/25)
أعمال رؤسائهم مراقبة فعالة ويعارضون إذا دعت الحال إلى معارضة سوء استعمال الأحكام.
ونذكر من الأسباب التي تؤخر سير التقدم إلى الأمام قلة الاتفاق بين المصري المسلم والمصري غير المسلم. فإن الأول لا يعترف للثاني بأن يقول عن نفسه أنه مصري ويزعم أن مصر له دون غيره. نهم إن المسلمين أكثر عدداً ولكن المسلمين مع غير المسلمين في مصر من حيث التهذيب العقلي ومن حيث وجود طبقة عالية يكادون يتعادلون ويتوازون وكذلك نفوذ الطائفتين وتأثيراتهما. وأقول هذا وأنا على يقين من أن التعصب الإسلامي غير ممتد الرواق في مصر بحيث يحول دون سير المسلمين نحو الارتقاء وإذا فرض وجوده بقوة التقاليد فالتربية تكفي لإزالته.
قلت أن الإسلام بعيد عن أن ينافي التمدن بل هو على العكس دين يسمح لمنتحله أن يقصد إلى الارتقاء مطلق الحرية والتصرف. ومن المعلوم أن المسلمين ليسوا تابعين لإمام واحد وأنه ليس من ضرورة في الدين أن يتبعوا خليفة واحداً يتولى السلطة السياسية والسلطة الدينية فتوسيد الأمر إلى رجل يجمع بين السلطتين متعذر في الإسلام. وإني لأعرف من الإنكليز والأمريكان من دانوا بالإسلام فما عاقتهم وطنيتهم الإنكليزية والأميركية عن التفاني في نصرة دينهم الجديد فتراهم خاضعين لحكوماتهم ونظامات أمتهم عاملين بشعائر الدين الذي انتحلوه.
كان للعلم مقام جليل بين المسلمين بحيث كان من يعرف القراءة والكتابة يعد من الطبقة الراقية ويحترمه الناس ويبجلونه. وليس لرجال الدين عند المسلمين وأعني بهم العلماء والأئمة ما لأمثالهم عند أهل النصرانية. بل تؤلف تلك الفئة في الإسلام من جميع الناس على السواء مهما كانت طبقتهم. فإذا أحرزوا قسطاً من العلم يخضع لهم الناس وإن لم يكن في أيديهم شهادات تؤذن بأن لهم حق التسلط عليها.
والباعث الثاني على نشر التمدن بين المسلمين اختلاطهم بأوربا فإن كل من رأوا انتشار التمدن المصري وقدروا تأثير السياحات إلى أوربا حق قدرها وعرفوا ما ينتج من اختلاط المسلم بغيره في هذه السياحات يتجلى له الشوط البعيد الذي قطعته الأمة المصرية والتقدم الذي سعى إليه هؤلاء السائحون فصح أن يدعوا من الممهدين لسبيل الحضارة والتمدن.(9/26)
والفرق في الحقيقة بين هؤلاء السائحين وبين المقيمين في البلاد جوهري محسوس إذ أن السياح سواء كانت رحلتهم للنزهة أو التجارة قد غيروا شكل البلاد وكان منهم أن جعلوا مصر اليوم تخالف مصر منذ ستين سنة وبين هذين الدورين بون شاسع كما لا يخفى على الناظر البصير. ومن يجرأ أن يشبه بلاد الجزائر اليوم بالجزائر قبل أن يفتتحها الفرنسيين؟ ومثل ذلك يلاحظ في جميع البلاد الإسلامية حتى أن مراكش لتمس بإصبعها المدنية الرافعة في جوارها أعلامها. وساكن الشاطئ أسمى عقلاً ومدنية من ساكن الداخلية لأنه يختلط على الدوام بالعناصر الراقية وينال بذلك علماً لا يناله سكان الوسط.
اعتبر ذلك في أوربي يتوغل في داخلية مراكش فإن المسلمين يسبونه ويشتمونه. وإذا كان الأوربي في صحبة مراكشي تهذبت نفسه بالاختلاط بالأجانب فإن هذا يحاول أن يشرح للأوربي خطأ ابن دينه مستدلاً على دعواه بجهل مواطنه وأنه مازال على الفطرة متعصباً ومتشبعاً بأفكار أمته القديمة.
وبعد فإن تهذيب المرأة سيكون من أعظم العوامل في المدنية الإسلامية. ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نعترف بأن ما تم من الارتقاء لبعض الطبقات المنورة في المسلمين كان الباعث الأكبر عليه تأثير تربية المرأة. لأن الشريعة المحمدية خولتها من الشعور ما تعرف به كرامتها لتكون مستقلة ولأن محمداً صلوات الله عليه أراد إنهاض المرأة من سقوطها الذي كانت فيه قبل الإسلام فتسامح بتعدد الزوجات. ومن المحقق أن أسباباً شديدة كانت تقضي بنيلهن هذا الامتياز. ذلك أن في تعدد الزوجات مضاعفة الأمة ونموها وتكثير سواد الموحدين مما حسن أثره في هذه الأمة. نعم كان تعدد الزوجات من الدواعي إلى تجنب الفسق فاستطاعت بذلك المرأة التي تحدثها نفسها بمن في خارج بيت زوجها أن تجد لها من الشرع نصيراً يجعلها في حل من التزوج ممن تحب. وبهذا لم يعهد بين المسلمين الزواج غير الشرعي ورفع عنهم عار التسري واضطروا إلى احترام الأبكار في بيوت غير بيوتهم.
والدليل على هذا بأنه منذ قل تعدد الزوجات في البلاد التي نال أهلها نصيباً من التعلم أصبحت بيوت الفجور مملوءة بالوطنيات المسلمات بعد أن كان أهلها من غير بنات البلاد وقامت بيوت العهر الوطنية تجاري مواخير الدخلاء وتتغلب عليها.(9/27)
ظلت المرأة المسلمة راضية بما قسم لها من مال زوجها بعد وفاته إلى أن استنارت بقيس من المعرفة فأنشأت تدرك بأن حظها هذا يسجل عليها بأنها دون الرجل في المنزلة. وإنا لنلاحظ اليوم أن الرجل المسلم في البلاد المتحضرة لا يتزوج بغير زوج واحدة وقلما كانت الزوج فيما مضى تقضي أوقاتها مع زوجها بل تبقى في خدرها ولا تخرج منه إلا محجبة مبرقعة ولا تزور غير النساء إذ لا يزورها غيرهن فتخلصت المرأة اليوم من هذه العادات وهذا الزوج مهما بلغ من تدينه يتسامح مع زوجه لتخرج لمقابلة الناس على الطريقة الأوربية.
وهذا مما أحدث في الرجل أيضاً أحسن تأثير لأنه بالاختلاط المتواصل مع المرأة في البيت أخذت أخلاقه تتدمث وعواطفه تلطف وترق واقتبست المرأة المسلمة بما عرفت به من الرقة المعهودة عن المرأة الأوربية - لما نزلت هذه بلاد الشرق مع زوجها الموظف - أساليب الانبساط والبهجة اللذين ما كان زوجها يجدهما من قبل إلا في البيوت الأوربية.
ومن الغريب أن تعدد الزوجات الذي كان في القديم خاصاً بالغني أصبح لعهدنا عادة من عادات الفقير لأن هذا يستخدمهن آلات ينتفع بها في أموره المعاشية فإذا كان له عدة زوجات يكن له بمثابة أجيرات يحرثن أرضه ويزرعن زرعه ويوفرن عليه ماله فلا يحتاج بهن إلى أيدي العامل والزارع.
لا جرم أن تعليم المرأة المسلمة سيكون من الدواعي الرئيسة في نشوء العنصر الإسلامي ويساعدها على ذلك فقدان الرئاسة الدينية عند المسلمين وخلاص المسلمة من التأثيرات السيئة التي ترجع بها القهقرى إذا تولى بعض أمرها أحد خدمة الدين.
وهنا نلم بالارتقاء الاقتصادي في المسلمين لأنه أحدث تغييراً في حالتهم. فقد ظلوا قروناً كثيرة بعيدين عن الحركة الاقتصادية محتفظين بتقاليدهم في متاجرهم فكان منهم لما رأوا تكاثر الأعمال المالية أن عقدوا الصلات التجارية مع غيرهم من الشعوب. وأي واسطة أحسن في قلب العادات القديمة من المراباة. فقد كان المسلمون لا يقولون بجمع رؤوس أموالهم وقلما كانوا يستدينون بالربا فأنشأوا اليوم يستدينون بالربا ولكنهم لا يدينونه فنجحت بذلك أعمالهم وأخذوا يملكون أموالاً طائلة اضطرتهم إلى استثمارها والمسلمون اليوم يتعاطون جميع أعمال المصارف والخصم. وإنك لترى الآن في مصر شركات عظيمة(9/28)
ورؤوس أموالها من أهل الإسلام خاصة.
وجملة القول ليس الإسلام كما رأيت جامداً لا يتحرك بل أنه يجري في نشوئه بحسب الحاجات والضرورات الحالية وأنا موقن بأنه يضرب الآن نحو المدنية ويسعى لها سعيها بطبيعة الحال.(9/29)
نظام الطبيعة والإنسان والحيوان
نظام الأرض أن تدور دورة من الغرب إلى الشرق في كل أربع وعشرين ساعة فيكون الليل والنهار. ودورة في كل ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً من الغرب إلى الشرق فتتأتى عنها فصول السنة وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء.
أتى على هذا النظام الذي سنه الخالق العظيم لحفظ الكون نحو ستة آلاف سنة عند علماء الدين وتسعة أو عشرة آلاف عام على رأي علماء طبقات الأرض. وما برحت الطبيعة محافظة على نظامها لأنه من لزومياتها. ومتى تشوش اختلت الأرض وقضي على من فيها بالتقهقر الملازم والخراب الدائم.
وما يقال في الأرض من حيث محافظتها على نظامها الطبيعي يقال في كل ما دب عليها من إنسان وحيوان وكل ما ينبت فيها من أعشاب ونباتات ومزروعات وغياض ورياض وغيرها.
فالبشر سن عقلاؤهم والمتمدنون منهم نظامات لهم لحفظ حقوقهم ومصالحهم المدنية والعمرانية والعمومية والخصوصية وغير ذلك. وللحيوانات على تباينها نظامات تمشي بموجبها وإن لم يدركها أكثر البشر.
هذه طائفة الذئاب من الوحوش الكاسرة يظنها معظم الناس لا ترتيب لديها ولا نظام على أن لها نظامات يجهلها الإنسان. وهذه طائفة النمل التي ينظر إليها المرء نظرة الازدراء والاحتقار حازت من النشاط والترتيب والنظام ما يذهل العقول ويحير الأفكار.
راقب سرباً من الذئاب يسير في البرية ترى له قائداً يقوده. وكل ذئب منه يسير بترتيب وراء رفيقه وكأنها كلها جنود مدربة يقودها قائد محنك. وتأمل طائفة من النمل في جدار تلق ما لقيته في سرب الذئاب من القيادة أو الزعامة والترتيب والنظام.
وما يقال في الذئاب والنمل يقال في سائر الحيوانات كاسرة كانت أو داجنة وطائرة أو سابحة. ويلحق كل من يخالف النظام من تلك الحيوانات قصاص بقدر جرمه. فالذئب الذي لا يسير على سنن النظام أو يخالفه إذ يمشي سربه يرتد عليه قائد السرب ثم سائر الذئاب فتمزقه تمزيقاً. وبديهي أن هذا القصاص عند طائفة الذئاب من الحيوانات بمثابة قتل القاتل عند البشر. وكل ما يقال في الذئاب بهذا الشأن يقال في غيرها من الحيوانات.
خلق الله الإنسان الأول آدم وسن له شريعة ونظاماً كما برأ تعالى الخليقة وسن لها نظامات(9/30)
تمشي عليها منذ البدء فقال له من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها وهذه الشريعة أو النظام أساس شرائع الجنس البشري وقوانينه فهي أولها. وكان لجماع الآباء الأولين والشعوب القديمة شرائع ونظامات وما فتئت نظامات هؤلاء الموسويين وشرائعهم مدونة في أسفار موسى كليم الله. وتلك الشعوب والأمم التي عاصرت الموسويين وجاءت بعدهم كالكلدانيين والآشوريين والفينيقيين والحثيين والمصريين والأدوميين والكنعانيين والعرب واليونان والرومان وغيرهم كان لهم شرائع ونظامات نقلها إلينا المؤرخون القدماء كهيرودتس اليوناني الذي ولد عام 484 ق. م وزنفو الروماني الذي ولد نحو 380 ق. م ويوسيفوس العبراني الذي ولد عام 37 ق. م وغيرهم.
ولقد عني اليونانيون في أيامهم بالنظامات المدنية والشرائع الدولية. على أن الرومانيين نظموها وأتقنوها. ثم أخذت شعوب الأرض مبادئ نظامات الرومانيين وشرائعهم وفي مقدمتهم الأمة النابليونية. وزادوا عليها كثيراً وشرحوها شروحاً حسب مقتضيات المكان ومطالب الزمان.
ولا يزال معظم دول المعمور ساعياً إلى سن نظامات جديدة وشرائع مفيدة ومهتماً بتحسين قوانين بلاده وحكوماته. حتى أن الصين التي استولى الانحطاط عليها قروناً أفاقت من رقادها وبدأت بضبط نظاماتها وتحسين شرائعها وسنها على مثال شرائع العالم المتمدن.
وإرسال الصين البعثة المؤلفة من اثني عشر عضواً من كبار رجال الأمة الصينية ومتهذبيها في هذه الشهور الأخيرة إلى العالم الجديد وأوربا لدرس شرائع القارتين ونظاماتهما العصرية أكبر شاهد على نهضة هذه الأمة وأشهر دليل على شدة اهتمامها بنظامات بلادها وشرائع دولتها. فالنظامات المدنية والشرائع الدولية والقوانين العمرانية رافقت الإنسان منذ وجد الإنسان الأول إلى الآن. وهي ضرورية للدول ضرورة الهواء للإنسان. ولازمة للأمم والبلاد لزوم الماء للإنسان والحيوان والنبات.
وليست هذه النظامات من حاجات البشر ولا هي محصورة فيهم فقط بل هي من ضروريات كل ما نراه أمامنا ووراءنا وفوقنا وتحتنا من هذه الخليقة العجيبة أو هذا الوجود الذي لا يزال موضوع بحث الباحثين من علماء غربيين وشرقيين.
فلتلك الأمطار التي تهطل وتحيي الزرع والضرع والإنسان والحيوان والنبات نظامات وما(9/31)
تحويلها أحياناً في البلاد الباردة إلى الثلج إلا من برودة الجو. وما المضار التي تأتي منها إلا منبعثة من تلك الطوارئ الخارجية التي هي سبب من أسباب تشويش نظامها الطبيعي.
لولا تلك الأهوية والرياح التي نظنها مضرة ما نمت الزروع والأشجار النمو المطلوب وما أتت بالأثمار والفوائد المنتظرة منها. فالرياح المعتدلة تقوي جذوع المغروسات والمزروعات ومتى تقوت جذوعها كثر نموها. والرياح تسبب اللقاح المعروف بلقاح المغروسات ومتى تم هذا الازدواج أو اللقاح أثمرت المغروسات. أما المضار الناشئة من الرياح الشديدة فهي من عوامل الطبيعة الخارجية. فاعتدال الرياح نظامها واختلال الرياح طوارئ خارجية تطرأ عليها فتشوش نظامها ويكون بذلك تشويش نظامها واختلاله.
وتلك الأشجار الزهراء التي تتضام بعضها إلى بعض عند تموجات الهواء وتلك الزروع الخضراء الني نشاهدها تتمايس وتتعانق وتلك الرياحين الجميلة التي تنفح عبيرها وتلك الأزاهير العطرية التي يعبق شذاها هي كلها ذات نظامات طبيعية وفي نموها وجمالها ورائحتها وثمرها وقائدتها أدلة على نظاماتها التي دونت في كتاب الطبيعة العظيم.
بل هذه القبة الزرقاء ونجومها وسياراتها وكواكبها كالشمس والقمر والثوابت وغيرها فإن لها نواميس طبيعية ونظامات سطرتها لها أنامل الطبيعة. ونواميس النور معروفة وهي أن النور ينبعث بالتساوي من الجسم المنير إلى الجهات كلها وأنه يسير في خطوط مستقيمة إذا اخترق وسطاً متجانس الأجزاء. وأن كثافته تنقص بقدر ما يزيد مربع بعده.
أما التشويش النظامي الذي يحدث للطبيعة بسبب الطوارئ الخارجية التي تطرأ عليها فهو بمقام الاختلال النظامي الذي يعرو الشعوب والدول فيفسدها ويلحق بها أضراراً فاحشة بل يسقطها من ذروة مجدها وقمة سعدها إلى حضيض الشقاء والدمار.
هذه بلاد السودان من إفريقية قد كانت قبل أن احتلتها بريطانيا العظمى مسرح الجهل ومجزر سفك الدماء وفي أقصى دركات التأخر والانحطاط والتوحش لأن النظام فيها كان معدوماً. أما اليوم فقد سنت الدولة الإنكليزية نظاماً للقطر السوداني على حسب مقتضيات العصر فساد الأمن في ربوعه وافتتحت مدارس التهذيب فأخذت تبدد غياهب الجهل من بلاده.
ولا يسع الواقف على تواريخ القدماء إلا التصريح بأن كل أمة حافظت على نظامها وكل(9/32)
دولة سارت على سنن قوانينها وكل قبيلة اتبعت شرائع بلادها حازت مقاماً من المجد والعز والرقي وإن كل من خالف تلك النظامات من تلك الأمم والدول انقلب عزها ذلاً وهناؤها شقاءً وارتفاعها سقوطاً وتقدمها تأخراً.
ولا حاجة إلى القول أن الأمة الإسرائيلية لما خالفت شرائعها ونظامها المدنية والدينية دبت في مجتمعها روح الموت الأدبي والمدني وعبث بجامعتها عابث فمزق شملها وانفصل حبلها وما المصائب والاضطهادات التي لقيتها هذه الأمة في جميع قارات العالم بل ما المذابح التي جرت على شعبها المتفرق بل ما السيف الذي عمل في رقاب كثيرين من هذا الشعب العريق في القدم أينما كان وحيثما حل في خلال القرون الخالية وفي كل قرن من القرون المتوسطة والحديثة ما خلا القرن الثامن عشر للميلاد بل ما الداعي إلى انفصام عروة اليهود على وجه البسيطة إلا بسبب مخالفتهم للنظام والشريعة. وهكذا يقال في البابليين الذين بلغت أسوار مدينتهم العظيمة 300 قدم ارتفاعاً و87 قدماً عرضاً وبلغ محيط دائرتها 48 ميلاً. فقد سقطت بيد الماديين والفرس سنة 644 ق. م. لأنهم سكروا في عيدهم السنوي فغفلوا عن واجباتهم نحو الشريعة الدولية والنظام الأدبي فهبطوا ذلك الهبوط المريع وخسروا تلك المدينة العظيمة التي أجمع المؤرخون القدماء على أنها كانت سيدة الممالك ودرة تاج فخار الأمصار.
خسر البابليون على ذاك العهد بخسارة بابلهم مائة باب مصفحة بالنحاس وخسروا هيكل بابل الذي كان ارتفاعه 600 قدم والبحيرة الصناعية التي بلغ محيطها مائة ميل وعمقها زهاء 35 قدماً. وفقدوا أيضاً الجنائن الصناعية التي جعلت طبقات بعضها فوق بعض وبلغ علوها علو البرج. دع الدور الفخيمة والقصور الشاهقة والأبنية الجميلة.
والواقف على تاريخ اليونان القدماء وامتداد سلطتهم وما بلغوه من قوة السعد وعلى تاريخ الرومان وما وصلوا إليه من مناعة العز والمجد لا يرى بداً من التصريح بأن تشويش نظامهم الدولي واختلال شرائعهم المدنية كانا قاضيين على تلك السلطة وذلك المجد والسعد بالتلاشي والزوال.
فحري والحالة هذه بحكام البلاد الذين تشوش نظامهم وأخذ سوس الفساد بنخر جسم مدنيتهم وعمرانهم وحقيق بالآخذين بنواصي العباد ممن استولى عليهم الرقاد أن يستيقظوا ويعتبروا(9/33)
في مصير تلك الدول القديمة التي درست آثارها ويتأملوا في ما فعل التشويش النظامي بالشعوب الماضية التي طمست أخبارها. وأن يتمثلوا بالدول الراقية والأمم الناهضة ويقوموا بمطالب التمدن ويلبوا نداء هذا العصر. بل جدير بكل فرد يحب شعبه ويغار على وطنه أن يحافظ على قوانين بلاده ويساعد في تأييد نظام دولته وحكامه. فمتى تحسنت شؤون الأفراد تحسنت شؤون العيال فالجماعات فالشعوب.
وإذا كان الإنسان ملكاً أو مملوكاً وجيهاً أو صعلوكاً رئيساً أو مرؤوساً غنياً أو فقيراً عالماً أو جاهلاً لا يجد من نفسه دافعاً يدفعه إلى المحافظة على نظام البلاد والدول والمشاريع المدنية والعمرانية فله أمثلة مما يراه في الجهات الست من جماد ومياه وحيوانات ونباتات وأجرام ما يجعله ينادي على رؤوس الأشهاد بوجود النظام ووجوب المحافظة عليه ووجوب ضرورته للبشر ضرورة الهواء والماء والشمس والطعام للإنسان.
اوماهانبراسكا (الولايات المتحدة)
يوسف جرجس زخم(9/34)
أيتها السماء
إليك تتوق أيتها السماءُ ... نفوسٌ قد أضرَّ بها الشقاءُ
ومضتها على الأرض الرزايا ... واسأمها بمحبسها الثواءُ
أحقيّ يا سماء مني نفوسٍ ... إليكِ لها إليك لها التجاءُ
ترجى فيكِ بعد الموت عيشاً ... فوا أسفاه إن خاب الرجاءُ
عدينا ثمَّ إن شئت امطلينا ... فإنا بالوعود لنا اكتفاءُ
وإنا نحن قومٌ قد أهنا ... وإنا نحنُ قومٌ أبرياءُ
وإنا قد عشقنا الموت لما ... سمعنا ذكره فمتى اللقاءُ
إذا أمست حياة المرءِ داءً ... فليس سوى الحمام لها دواءُ
يساء المرء أن يحيا سليماً ... ولكنَّ الحوادث لا تشاءُ
وما حبّ المعيشة في ديارٍ ... لأحرار النفوس بها جفاءُ
فلا سقياً ولا رعياً لأرضٍ ... تراقُ على جوانبها الدماءُ
وما سلمت عليها قبل هذا ... من الأرزاءِ حتى الأنبياءُ
انفسي إن جزعتِ من المنايا ... فإني منكِ يا نفسي براءُ
عبدتِ الأدنياَء رجاَء دنيا ... حوتها بالخداع الأدنياءُ
وأوردتِ الهوانَ فلم تعافي ... فأين تحدثي أين الإباءُ
أبيني يا سماء وخبرينا ... بما لم ندرِ دامَ لكِ العلاءُ
ولا زالت على مرّ الليالي ... نجومكِ يستضيءُ بها الفضاءُ
هل الأرواح بعد الموت منا ... لها في جوك السامي بقاءُ
أم الأرواح تابعةٌ جسوماً ... لنا تبلي فيلحقها الفناءُ
فضاؤكِ هل يصيرُ إلى انتهاءٍ ... أم الأبعاد ليس لها انتهاءُ
وحقٌّ أنَّ للأجرام حداً ... أم الحد الذي يعزى افتراءُ
وبعد نهاية الأجرام قولي ... خلاءٌ في الطبيعة أم ملاءُ
يحيرني امتدادك في الأعالي ... ويبهجني بزرقتك الصفاءُ
أحبّ ضياَء أنجمك الزواهي ... فأحسن ما بأنجمك الضياءُ
نجومكِ في دوائر سابحات ... يحفّ بها المهابة والبهاءُ(9/35)
تراءى في تحركها بطاءً ... وما هي في تحركها بطاءُ
ولا هي في الجسامة لو علمنا ... ولا في بعدها عنا سواءُ
أبيني يا سماءُ وخبريني ... وإلا دام في قلبي امتراءُ
أيبقى المكثرون من الخطايا ... إذا ماتوا وليس لهم جزاءُ
لعمرك لا تريد النفسُ هذا ... فما أجاني وذو التقوى بواءُ
رأيت البعض يخشع للمنايا ... فيذكرها ويغلبهُ البكاءُ
مخافة أن يلمّ الموتُ يوماً ... ببنيتهِ فينهدمَ البناءُ
ويضرب عن وراءِ الموت صفحاً ... كأنَّ الموت ليس له وراءُ
فإن تسأل يقل ما الموت إلا ... نهاية كلّ من لهم ابتداءُ
إضاءتك الحياة وكنت قبلاً ... بليل حشو ظلمته العماءُ
وجودك بعد ذاك الليل صبحٌ ... وهذا الصبح يعقبه المساءُ
رقيت من الجماد فصرت حياً ... تميزهُ الدراية والذكاءُ
أقول كذا ولم أزدد يقيناً ... بما في الأمر لو كشفَ الغطاءُ
فقلت لهُ وبعض القول حقٌّ ... صريحٌ لم يجز فيهِ المراءُ
أليسَ مركبَ الإحياءِ طراً ... عناصرُ أوضحتها الكيمياءُ
فقال بلى فقلت لهُ أليس ال ... عناصر لا تحسّ ولا تشاءُ
فقال بلى فقلت إذن فماذا ... جرى حتى استتبّ لها انتماءُ
وصارت بعد في الإنسان جسماً ... يفكرُ عاقلاً ولهُ دهاءُ
فقال السرُّ في التركيب أنَّ ال ... مركب قد يقوم بهِ ارتقاءُ
إذا اتحدت عناصرُ في بناءٍ ... تغير وصفه ذاك البناءُ
وجدّ لهُ خصائصُ ذات شأنٍ ... عناصرُ جسمهُ منها خلاءُ
وإنَّ حياتنا والموت فالعم ... أجيجٌ في العناصر وانطفاءُ
ولكنَّ التعصب في أناسٍ ... أضلهم الهوى داءٌ عياءُ
وإفهامُ الجهول الحقَ مرّاً ... عناءٌ ليس يشبهه عناءُ
وفي الأصل الجواهر لو علمنا ... قوىً منها الأثيرُ له امتلاءُ(9/36)
تلاقى بينها فتكون منها ... جواهرُ في النفار لها ولاءُ
صغيرات الحجوم محقراتٌ ... ومنها الكائناتُ لها ابتناءُ
تضمن قوتي جذبٍ ودفعٍ ... كما يبديهِ هذا الكهرباءُ
وإنَّ الشمس والأجرام طرَّاً ... من الحركات ولدها السماءُ
لكلّ مقولة منها إليها ... على الدور ابتداءٌ وانتهاء
فإن برزت فذاك لها وجودٌ ... وإن خفيت فذاك له فناءُ
سماؤك هذهِ تحوي نجوماً ... لأكثرها عن البصر اختفاءُ
فتحسب ما يريك الليل منها ... شموعاً في الصباح لها انطفاءُ
وما هي لو تعي إلا شموسٌ ... بها ليدي منوّرها اعتناءُ
شموس قد أضاَء الجوّ منها ... وزال بها عن الكون العماءُ
يصغرها بعينك حين ترنو ... لها بعدٌ هنالك واعتلاءُ
أهمّ بأن أعد الأرض منها ... كواحدة فيمنعني الحياءُ
فإنَّ الأرض تابعة لشمس ... إلى أمّ النجوم لها انتماءُ
فتيهي يا سماءُ فليس شيءٌ ... تكونَ فيكِ عنك لهُ غناءُ
فأنتِ لكلّ موجودٍ وجودٌ ... وأنتِ لكلّ موجودٍ وعاءُ
وهذا الجوّ أنتِ لهُ امتدادٌ ... وهذي الأرض أنتِ لها غطاءُ
وإنَّ وجود ما في الكون طراً ... عليكِ إذا تأملنا ثناءُ
يليق يليق (ما استعليت كبراً) ... بشأنكِ يا سماء الكبرياءُ
فقبل القبل كنت كذا سماءً ... ولا شمسٌ هناكَ ولا ضياءُ
ستفنى الكائنات وليس إلا ... لوجهِ الله ثمَّ لكِ البقاءُ
فقلت لهُ رعاكَ الله هذا ... على ما جاَء في العلم اعتداءُ
فإن حقائق الأشياءِ سرٌّ ... خفيٌّ ما لغامضهُ انجلاءُ
وأبدت قبلنا الحكماء فيها ... أقاويلاً فما برح الخفاءُ
العراق
ج. ص(9/37)
تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين
كل فن من الفنون المعروفة اليوم نشأ نشوءً تدريجياً وانتقل ينمو من البسائط إلى المركبات وقد كانت مبادئ العلوم جميعها موجودة في عقول البشر وهم بعد في طور الهمجية ثم أخذت تلك المبادئ تنمو وتزيد بالاستدلال والاستقراء إلى أن انتهت في طريق تكاملها إلى الحالة التي نجدها عليها في هذا الزمان. وقد كانت الحاجة أماً للاختراع والاكتشاف وكثرة مطالب الناس في مجتمعاتهم ومقتضيات عمرانهم كانت تدعوهم إلى التوسع في ما لديهم من المعرفة وتحملهم على التجربة والقياس فوطدوا أساس العلم الذي وضعه لهم العقل ورفعوا عليه البناء الذي أنشأه لهم الاختبار حتى شخص إلى عنان السماء وأصبح اليوم يغيب البصر في بعد مداه وترامي أطرافه وقسمه القائمون به إلى فروع كثيرة اختص بكل فرع منها فريق من العلماء الأعلام وأخذوا على أنفسهم الاحتفاظ به والزيادة فيه فكان ما نراه اليوم من المعلومات في كل فن خلاصة عصور كثيرة مر بها الإنسان وعمل عقول جمة تعاقبت عليه الواحد بعد الواحد. من ذلك علم الهندسة الذي نحن في صدده في هذه المقالة التي كتبناها لقراء المقتبس ونحن على ثقة أننا لم نأت إلا على نزر من غزر ووشل من بحر من أسماء الجهابذة الأعلام الذين أنشأوا هذا الفن وتعاونوا على إبلاغه حده في هذا العصر.
الهندسة علم يبحث في أوضاع الخطوط المستقيمة والمنحنية وفي الزوايا والسطوح والأجسام مع النسب التي بين المقادير وهي أقسام منها الهندسة البسيطة للسطوح والمجسمات وهي تبحث في صفات الخطوط القياسية والسطوح المستوية مع ما تحيط به من الأجسام وينطوي فيها أبحاث الخطوط والزوايا والمثلثات والمضلعات والدائرة والكرة مع الأجسام المحاطة بسطوح قياسية مثل المكعبات والأهرام وغيرها. والهندسة العالية وهي التي تبحث في المنحنيات الحاصلة من قطع المخروط والأشكال الشلجمية والذهلولية. ومنذ عهد غير بعيد ارتقت الهندسة العالية ارتقاءً باهراً وتفنن العلماء في إدخال الطرق الجبرية لحل القضايا الهندسية وتوسيع ما يعرف عندهم اليوم بالهندسة الحلية أو التحليلية. ومن أقسام هذا الفن الهندسة الوصفية أو الرسمية وهي عبارة عن توسع في معالجة الأظلال العمودية أو المرتسمات الهندسية ورسم أشكال الأجسام على السطوح المستوية وهذا القسم من الهندسة يحتاج إليه كثيراً في صناعة البناء وإقامة القباب والجسور(9/39)
وغيرها.
قال الحكيم فانديك في أحد كتبه الهندسة قسم من التعليميات موضوعة المقدار وهو كمٌّ ذو امتداد أي كل ما له واحد من ثلاثة أشياء وهي الطول والعرض والعمق ويقال لها الأبعاد الثلاثة. ولذلك يكون كل من الخط والسطح والمجسم مقداراً دون الحركة فإنها وإن كانت كماً لا تعد مقداراً إذ ليس لها شيءٌ من الأبعاد المذكورة وهو تعريف محكم لهذا الفن اخترنا إلحاقهُ إلماماً بأطراف البحث.
قلنا أن الهندسة مثل غيرها من العلوم بدأت بالبسائط وتدرجت إلى المركبات ومدارها أوليات بسيطة وحقائق مدركة بالبداهة مثل قولهم الكل أعظم من جزئه والأشياء المساوية لشيءٍ واحد هي متساوية والكل يساوي مجموع أجزائه وأمثال هذه من الحقائق المفهومة بدون برهان وغير المفتقرة إلى إقامة الدليل. وهذه الأوليات هي أساس فن الهندسة وعليها مداره وهي قد أدركها الإنسان منذ ظهوره وانسلاخه عن العهد الحيواني. وأول رجل استعان بشبره أو بقدمه أو بإصبعه أو بذراعه أو بباعه أو بقامته أو بخطوته أو بسهمه أو بنشابة تناولها من الأرض وقاس بها طول طريقه أو عرض كهفه أو محيط جذع شجرته أو ارتفاع جداره يكون هو المهندس الأول الذي ظهر بين الناس. وكما يستحيل علينا اليوم أن نعرف البادئ بعلم الحساب وواضع الأعداد وقواعدها الأولى كذلك يستحيل أن نعرف البادئ بالقواعد الهندسية ونكتفي بالقول أنها وجدت منذ وجد العقل ونمت معه مصاحبة لنمو العمران وارتقاء تمدن الإنسان. ويرجح الباحثون أن المصريين هم أول قوم دققوا في المقاييس وعينوا بعض الأشكال الهندسية مثل المربع والمثلث والدائرة ومسحوا الأرض ودونوا في أطوالها وعروضها جداول وسجلات حفظت في دار الملك ورجع الناس إليها عند الحاجة. وذلك أنهم كانوا في أول أمرهم يقسمون الحقول بينهم ويقيمون عليها تخوماً من الطين فيعدو عليها النيل عند فيضانه ويذهب بها فتضيع الحدود والفواصل ويضل الفلاحون أرضهم فدعا رعمسيس الثاني في القرن الرابع عشر قبل الميلاد جماعة العلماء وأمرهم بالتفتيش عن طريقة يخلصون معها من هذا الارتباك وتكفيهم شر المنازعة على التخوم كل سنة فمسحوا الحقول المستثمرة ووضعوا قواعد مسح المربع والمستطيل من السطوح واستخدموا الزوايا والأقواس في تعيين الحدود وإقامة الفواصل وألفوا كتباً وقسموا(9/40)
الأرض على موجبها وفرضوا الجزية بحسبها وجرت دولة المصريين على ترتيبهم عهداً طويلاً. وقبل عهد رعمسيس كان المصريون قد عمروا الأهرام وشيدوا الهياكل والأبنية الضخمة على أصول هندسية أدركوها بالتجربة والعقل وجروا عليها في الأعمال غير أنهم لم يجعلوها فناً ولا كتبوا فيها شيئاً انتهى إلى المنقبين في هذا العصر. وعلى هذا النمط جرى الكلدان بين النهرين في بناء القصور وإقامة الآثار التي مازال بعضها ماثلاً إلى هذا اليوم.
قال هيرودتس أن منشأ علم الهندسة كان في مصر وذلك يوم جعل سيزوستريس أو رعمسيس الثاني المزارعة دورية بين الفلاحين فاضطر الناس في مثل هذه الحالة إلى مساحة السطوح المستطيلة والمثلثة والمستديرة لأجل تعيين الحدود بين الحصص في أرض لا يوجد فيها شيءٌ من التخوم والفواصل الطبيعية كالصخور والمسايل والرجم والسدود وغيرها وأكد أرسطوطاليس هذا القول بأن العلوم الرياضية نشأت في مصر.
هذا وإن كان المصريون والكلدان بدأوا بوضع القواعد الهندسية إلا أنهم لم يتجاوزا فيها القدر الذي دعتهم إليه أحوال معيشتهم في مسح الأرض وتشييد الهياكل ومراقبة النجوم لمعرفة الأوقات مما له دخل في زراعتهم وعبادتهم وبقوا واقفين عند هذا الحد حتى ظهر اليونان ومدوا يدهم إلى كل جرثومة من جراثيم التمدن والعلم في الشرق فأخذوها ونمت على أيديهم نمواً عجيباً فوسعوا أطراف الهندسة ورفعوها إلى منزلة جديرة بالاعتبار وبسطوا قواعدها واكتشفوا فيها الأسرار العميقة وألفوا الكتب المطولة بالأقسام والأبواب حتى صار فن الهندسة يصف بين أرفع العلوم شأناً وأجلها قدراً. وأبعد مهندسي اليونان عهداً ممن انتهى إلينا خبرهم طاليس الفيلسوف أحد الحكماء السبعة (639_548 ق. م) نزل مصر ودرس المعروف عند علمائها وكهنتها من مبادئ الهندسة وقاس ارتفاع الأهرام بواسطة أظلالها وحمل العلم إلى اليونان حيث رجع وأسس المدرسة الأيونية جاعلاً الهندسة أحد الفنون القانونية فيها فقرأه عليه عدد كبير من طلاب الحكمة ومحبيها ونبغ فيه بعضهم وهو الذي اكتشف أكثر القضايا في المثلث متساوي الساقين وخواص الزوايا المحيطية في الدائرة وقضايا المثلثات المتشابهة فكان أول من جعل لهذا الفن حلقة تدريس خاصة به وجمع الأشتات المعروفة منه ولقنها الطلبة وفتح باباً لمن بعده إلى الاكتشاف(9/41)
والزيادة.
أوسع تلاميذه فضلاً وأسيرهم شهرة فيثاغورس الفيلسوف الذي ولد سنة 570 قبل الميلاد ورحل إلى مصر متشبهاً بأستاذه بعد أن طاف أكثر بلدان الشرق ثم رجع إلى جنوبي إيطاليا وأسس مدرسة صار لها شأن عظيم في تاريخ التمدن. وهو الذي أثبت عدم التناهي في قياس قطر المربع بالنسبة إلى ضلعه وأثبت القضية المشهورة في أن مربع وتر المثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مربعي القاعدة والعمود ويذهب بعضهم إلى أن هذه القضية كانت معروفة عند المصريين قبل زمن فيثاغورس والصحيح أنه أول من أقام عليها البرهان الهندسي. واكتشفت عدة قضايا في الأشكال والأجسام القياسية والمضلعات التي محيطاتها متساوية وهو أول من جعل الهندسة فناً استقرائياً.
وقام بعد فيثاغورس عدد عديد من علمائهم صرفوا اهتمامهم في كشف القضايا وإقامة البرهان عليها منهم اناكساغورس المتوفى سنة 430 ق. م وهو أول مهندس جر على من بعده ويلاً كبيراً وحملهم عبثاً ثقيلاً بتفطنه إلى تربيع الدائرة وصرف القسم الأعظم من وقته في حل هذه المشكلة التي تعاصت عليه وعلى من أتى بعده إلى يومنا هذا والغرض من تربيع الدائرة هو رسم مربع بطريقة هندسية تساوي مساحته مساحة دائرة مفروضة فمات رحمه الله وأوصى من يعقبه في علم الهندسة بإكمال العمل الذي بدأ به فصرفت الأيام والشهور والسنون والمعضلة في مكانها كلما زادوها احتفاءً زادتهم إبهاماً وخفاءً حتى أدركوا في العصور الأخيرة أنهم يطلبون الأبلق العقوق كما أدرك كيميو الأقدمين أن حجر الفلاسفة لا ينال. قال الحوراني في رثاء أستاذه الرياضي الشهير المرحوم ميخائيل مشاقة:
والصبرُ عزَّ على الجميع كأنه ... تربيعُ دائرةِ ورسمُ مسبع
ومنهم اينوبيدس مكتشف طريقة رسم العمود ورسم زاوية مساوية لزاوية مفروضة ومنهم هبوقراط الرياضي المولود سنة 450 ق. م الذي تقبل مثال صاحبه في الاشتغال بتربيع الدائرة. وهو أول من اشتغل بالبحث في مسح السطوح المحاطة بخطوط منحنية فاكتشف طريقته لتربيع الأهلة المعروفة عند المهندسين بأهلة هبوقراط والتي جعلت أساساً لمسح السطوح المنحنية وهي أنك إذا رسمت على كل من الوتر والضلعين في المثلث قائم الزاوية نصف محيط إلى جهة رأس القائمة فمساحة الهلالين الحادثين من تقاطع المحيطات(9/42)
ناؤه 2/ 3 ... 1. 259921 وإذا كان ضلع الصغير أربع أقدام كان ضلع الكبير 3 /
تساوي مساحة المثلث. ومسح أيضاً أهلة أخرى بطرق متعددة جميعها قاصرة على انطباقها على الأهلة دون سائر السطوح المكتنفة بالخطوط المنحنية. وعرضت عليه قضية تضعيف المكعب التي كانت شغل الرياضيين الشاغل في ذلك العصر. ذلك أن الطاعون تفشى في جزيرة ديلوس وثقلت وطأته حتى أعيت به حيلة السكان ولم يطيقوا معه مقاماً فلجأوا إلى هاتف أبولون في تلك الجزيرة وسألوه عن الوسيلة لانكشاف الوباء عنهم فأشار عليهم بأن يجعلوا المذبح المكعب الذي في هيكله مضاعفاً في حجمه ففعلوا في الحال بأن زادوا على المذبح ما يساويه مقداراً وأقاموا ينتظرون انفراج الأزمة فما ازداد الوباء إلا فتكاً ولم يجدهم التوسل نفعاً فعادوا إلى الهاتف فأجابهم أن أبولون يريد أن يبقي المذبح مكعباً في شكله مع إضافة مقدار جرمه إليه. فوقع القوم في ارتباك وحاروا في حل هذه القضية ثم عرضوها على العلماء الراسخين في ذلك الزمان فلم يوفقوا إلى معرفة طول ضلع المكعب المطلوب ليكون حجمه مساوياً لضعفي حجم المذبح وأربكتهم المسألة كما أربكت كثيرين بعدهم من الرياضيين أصحاب الشهرة وطول الباع وقد عرضت على أفلاطون فعجز عنها ولجأ إلى المغالطة والسفسطة في إثباتها. ولم يقم رياضي بعد ذلك العهد إلا ضرب رأسه بها وحاول حلها فأعجزت جميعهم حتى أفضى أمرها أخيراً إلى ديكارت في القرن السابع عشر فمثلها بالشكل الشلجمي من قطع المخروط وبالدائرة متقاطعين وأثبت أن حلها بالخطوط والدوائر مستحيل. أما بالأعداد فهي من أبسط المسائل التي يعرفها المبتدئون لا تزيد عن استخراج الجذر الكعبي فإذا كان ضلع المذبح الصغير قدماً وجب أن يكون ضلع المذبح المطلوب 128.
ثم ظهر أفلاطون (430_347 ق. م) وبعد أن أقام في مصر زماناً وأخذ العلم عن كهنتها عاد فوقف على المذاهب الفيثاغورية وأعلن اهتمامه وعنايته بعلم الهندسة فكتب على باب مدرسته لا يدخلها إلا من كان محباً للهندسة وكان يدعو الله سبحانه المهندس الأزلي. وهو أول من بحث في القطوع المخروطية وهو صاحب الرأي المتعلق بالنقط والأوضاع الهندسية وأتلف جزءً كبيراً من وقته في الاشتغال بقضية تضعيف المكعب فعجز عن حلها بالإثبات الهندسي ولكنه اهتدى إلى طريقة عملية وأصر على أنها إخراج صحيح للمسألة(9/43)
وهي ليست كذلك. هذه القضية جرها هاتف أبولون على العلم والعلماء فذهبت بأثمن الساعات وأرفعها قدراً بدون أن تأتي بفائدة لأصحابها غير أنهم اهتدوا وهم يعالجونها إلى حل عدة قضايا هندسية واكتشاف عدد كبير من القواعد والحقائق الرياضية حتى أن أفلاطون تدرج منها إلى وضع أساس الهندسة التحليلية لأنها هي التي جرته إلى استخدام الجبر والحساب في الهندسة كما جرت غيره إلى وضع مقدمات مسهبة وتأليف رسائل مطولة تمهيداً لحلها وتذرعاً إلى بابها. ولا يخطر لي الآن أن علم الهندسة استفاد من الدين في غير هذه المرة.
(البقية تأتي)
دمشق
فارس الخوري(9/44)
الحياة
كم ساعة آلمني مسها ... وأزعجتني يدها القاسية
فتشت فيها جاهداً لم أجد ... هنيهة واحدة صافية
وكم سقتني المرّ أخت لها ... فرحت أشكوها إلى التالية
فأسلمتني هذه عنوة ... لساعة أخرى وبي ما بيه
ويحك يا مسكين هل تشتكي ... جارحة الظفر إلى ضارية
حاذر من الساعات ويل لمن ... يأمن تلك الفئة الطاغية
وإن تجد من بينها ساعة ... جعبتها من غصص خالية
فالهُ بها لهو الحكيم الذي ... لم ينسه حاضره ماضيه
وامرح كما يمرح ذو نشوة ... في قلةٍ من تحتها الهاوية
فهي وإن بشت وإن داعبت ... ختالة قتالة عادية
عناقها خنق وتقبيلها ... كما تعض الحية الباغية
هذا هو العيش فقل للذي ... تجرحه الساعة والثانية
يا شاكي الساعات اسمع عسى ... تنجيك منها الساعة التالية
المعنى مأخوذ من المثل الفرنسي المشهور وترجمته آه لو يعلم الشباب وآه لو يقدر المشيب.
لم يدر طعم العيش شبا ... ن ولم يدركه شيب
جهل يضلُّ قوي الفتى ... فتطيش والمرمى قريب
وقوى تخور إذا تشبث ... بالقوي الشيخ الأريب
بينا يقال كبا المغفل ... إذ يقال كبا اللبيب
أوّاه لو عقل الشباب ... وآه لو قدر المشيب
القاهرة
إسماعيل صبري(9/45)
صحف منسية
حكم ابن المقفع
ظفرت في دار الكتب الخديوية بالقاهرة برسالة في الحكم من تأليف ابن المقفع ولعلها رسالته المشهورة في الأدب كتبها علي بن أحمد الحلبي سنة 844هـ وقال في آخرها أنها كتاب الأدب الصغير وذكر في أولها أنها كتبت برسم خزانة المقر الأشرف الكريم العالي الجمالي ناظر الخواص الشريفة بالممالك الإسلامية عظم الله شأنه وصانه عما شأنه. ومعلوم أنه لم يطبع حتى الآن لابن المقفع سوى كتاب كليلة ودمنة ورسالة الدرة اليتيمة.
قال القفطي في ترجمة ابن المقفع ما نصه: كان فاضلاً كاملاً وهو أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور وهو فارسي المنسب ألفاظه حكمية ومقاصده من الخلل سليمة ترجم كتب أرسطوطاليس المنطقية الثلاثة وهو كتاب قاطيغورياس وكتاب باري ارمينياس وكتاب انالوطيقا وذكر أنه ترجم اسياغوجي تأليف فرفوريوس الصوري وغيره وترجم ذلك بعبارة سهلة وترجم مع ذلك الكتاب الهندي المعروف بكليلة ودمنة وله تواليف حسنة منها رسالته في الأدب والسياسة ورسالته المعروفة باليتيمة في طاعة السلطان.
وإليك الرسالة كما هي في الأصل:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال عبد الله بن المقفع رحمه الله تعالى:
عمل البر خير صاحب. أحق ما صان الرجل أمر دينه. الآلف للدنيا مغتر. من ألزم نفسه ذكر الآخرة اشتغل بالعمل. المغبون من طلب ثواب الآخرة في الدنيا. القلب أسرع تقلباً من الطرف. أحسن العفو ما كان عن عظيم الحرم. الاعتراف يؤدي إلى التوبة. الإصرار وعاءٌ للذنوب. الجواد من بذل ما يضنُّ به. المتكلف لما لا يعنيه متعرض لما يكره. الفكر مفتاح القلب. الاستماع أسلم من القول. كمون الحقود ككمون النار في العود. أكرم الأخلاق التواضع. التواضع يورث المحبة. الكبر مقرون به سوء الظن. من عذب لسانه كثر إخوانه. من استبعد الآخرة ركن إلى الدنيا. سرور الدنيا كأحلام النائم. المغبون من طلب الدنيا بعمل الآخرة. المصيبة العظمى الرزية في الدين. سرور الدنيا مخوف المغبة. من(9/46)
أهلك نفسه في مرضاة غيره عظمت جنايته. أنفع الكنوز العمل الصالح. أحقُّ الناس بالبر أعلمهم بالعاقبة. من أبصر العاقبة فآثرها أمن الندامة. الوالي من وزرائه بمنزلة الرأس في أعضائه. من عرف ثمار الأعمال كان حقيقاً أن لا يغرس مراً. أهن دنيا بائدة تستكمل كرامة. أبقي الجروح مضضاً جرح الآثام. ائت إلى الناس ما تحب أن يؤتى إليك. استصغر المشقة إذا أدت إلى منفعة. رأس البر الورع. اطلب الرحمة بالرحمة. خير الأعمال ما دبر بالتقوى. بالحزم يتم الظفر. من أحب التزكية تعرض للضحكة. الدنيا نوم نائم والدولة حلم حالم. من سالم الناس ربح السلامة ومن تعدى عليهم كسب الندامة. بادر لعمل الخير إذا أمكنك. من حصن سره أمن ضرر ذلك. الدنيا قد تدرك بأجهل كما تدرك بالعقل. أحسن العمل الصالح ما كان بصدق النية. خسر من أنفق حياته في غير حقها. طوبى لمن ترك دنياه لآخرته. من الحق على السلطان رفع ذي الفضيلة وأن يسد فاقته. لا تحمد نفسك على ما تركت من الذنوب عجزاً. والرسول يعرف قدر المرسل. رفق الرسول يلين القلب الصعب. لا رأي لمن انفرد برأيه. من ترك رأي ذي النصيحة اتباعاً لما يهوى استوخم العاقبة. المشاورة أوثق ظهير. المستشار مؤتمن. اعتبر عقل الوالي بإصابته موضع أصحابه. من صحب السلطان لم يزل مروعاً. كثرة أعوان السوء مضرة بالعمل. بالحزم يتم الظفر. بأصالة الرأي تظفر بالحزم. استوجب الطاعة من ذوي الرأي بالمودة الصنيعة عند الملك. (كذا) الحازم من استمسك برأي الحزمة من ذوي الرأي. لا صلاح لرعية واليها فاسد. خير مستفاد الهدى. أكثر محادثة من يصدقك عن عيوبك. حلية الملوك وزراءهم. أكمل النصحاء من لم يكتم صاحبه نصيحة وإن استقلها. فساد الوالي أضر بالرعية من جدب الزمان. استعن بالصمت على إطفاء الغضب. لا تجنين على نفسك عداوة وبغضة اتكالاً على ما عندك من العمل والقوة والمنعة. كن في الحرص على معرفة عيبك بمنزلة عدوك في معرفة ذلك. البصير من عرف ضره من نفعه. (التواضع يورث المحبة. أكرم الأخلاق التواضع. الكبر مقرون به سوء الظن) ربما تحولت البغضاء مودة والمودة بغضاء. قرب الصالحين داع للصلاح. أحسن العفو ما كان عن عظيم الجرم. المال عون قويٌ على المروءة وإنفاقه مهلكة للمروءة. من عدم ماله أنكره أهله. خير الملوك من يرى أنه لا يضبط ملكه إلا بالعدل بين رعيته وأضيعهم الفظُّ المتهاون. لا تغتر الأقوياء(9/47)
بفضل قوتهم على الضعفاء. الضعيف المحترس من العداوة أقرب إلى السلامة من القوي المغتر. أخوف الأحقاد أحقاد الملوك. أبصر الوزراء من بصر صاحبه عيبه بالأمثال. من قلَّ كلامه حمد عقله. من عرف قدره قلَّ إفراطه. احسن والدولة لك يحسن إليك والدولة عليك. (كمون الحقود ككمون النار في العود) من حرم العقل رزئ دنياه وآخرته. آفة العقل العجب. الهمُّ مرض العقل. احذر صولة اللئيم إذا شبع. احسن المدح أصدقه. الإحسان يقطع اللسان.(9/48)
مطبوعات ومخطوطات
كتاب المعجب
في الناس من يحكمون على الأشياء بظواهرها وعلى كليات الأمور بجزئياتها فيأخذون من الغلط صواباً ومن الباطل حقيقة ويا ليتهم ما استنتجوا ولا استنبطوا. عادة يكفي في وصف قبحها بأنها تخلط بين الحق والباطل والصدق والكذب. ولقد كنت استحلي من بعض أهل العلم تأففه من سماع الاستنباط في الأخبار علماً منه بأن صحة البرهان تكاد تكون مفقودة في الأمة فكان شأنه إذا قصَّ عليه أحد قصة أن يشير إليه بترك الاستنباط وأن يكتفي بذكر نبأه مجرداً عن الشروح والحواشي وحواشي الحواشي.
ومن سوء الاستنتاج أو الاستنباط دعوى بعضهم أن سوق الشعر لما راجت في الأندلس كانت السبب في زوالها وتبديد شمل أهلها لتشاغل القوم به عن الذود عن حياضهم. والظاهر أن القائل بهذا القول طالع بعض كتب التراجم وفيها شيءٌ من الشعر للمترجم بهم فظنَّ أن هذه العناية بالقريض سلبت من النفوس الاستقلال ونزعت منها قوة الإرادة وأغرقتها في بحور الترف والسرف وفاته أن الشعب في تلك البلاد كان في أخلاقه وعلمه وقت زوال ملكه أحسن من كثير من الشعوب الباقية اليوم وأن ملوكهم هم الذين يبوءون بالتبعة وأحق باللوم والتعنيف.
نعم كان للقوم غرام أيامئذ بالشعر والأدب لأنهما وسيلة إلى العلوم كافة حتى قيل عن المعتمد بالله بن عباد الأندلسي أنه كان لا يستوزر وزيراً إلا أن يكون أديباً شاعراً حسن الأدوات فاجتمع له من الوزراء الشعراء ما لم يجتمع لأحد قبله ولم يكن الشعر هو القاضي على تلك المملكة وإنما هو اختلاف كلمة المتغلبين ووجودهم وسط أعداء أشداء يسعون كل يوم إلى تأييد سلطانهم والنيل من عداتهم والأخذ بالقديم من ثاراتهم على حين كان أمراء الطوائف بالأندلس لاهين ساهين همة أحدهم كأس يشربها وقينة تسمعه ولهو يقطع به أيامه وبلغ من تخاذل ملوك الأندلس وتواكلهم إن كان ملوك النصارى يأخذون الإتاوة من ملوكها قاطبة يدفعونها إليهم في حين ضعفهم عن يد وهم صاغرون. ولما تمكن حب الأثرة من جوانحهم أخذ أحدهم يلتجئ إلى عدوه الإفرنجي ليعينه على أخيه وأبيه.
ولذا كان العقلاء يتنبأون بذهاب الأندلس عن حكم المسلمين قبل سقوطها بزهاء قرنين ومن(9/49)
هؤلاء الرجال عبد الرحمن بن خلدون شيخ فلاسفة العمران. على أن فتح الأندلس كان من الغلطات التي جرت على الأمة وبالاً كان في الوسع تحاميه. بيد أن الغلط في فتح هذه البلاد كان باعثاً على ظهور إبداع العرب وفضل ذكائهم في الغرب فحمل ذاك الشعب المبذعر البائد لجيرانه من الأوربيين نموذجاً من الحضارة والعلم.
وإني لأحمد الله على أن أرانا دوراً سقطت فيه كلمة الممخرقين والسفسطائيين فطبع من كتب الأسلاف ما سهل الوقوف على حقائقهم وأخبارهم ومن جملتها كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب لمحيي الدين أبي محمد عبد الواحد بن علي المراكشي طبعه في ليدن أحد علماء المشرقيات العلامة دوزي الهولندي صاحب كتاب المسلمون في إسبانيا المكتوب باللغة الفرنسية وناشر كثير من مؤلفات الأندلسيين كما طبعه طبعة ثانية غيره من علماء المشرقيات.
لم أعثر لمؤلف المعجب على ترجمة وإنما قال عن نفسه في كلامه على مراكش وبهذه المدينة أعني مراكش مسقط رأسي وهي أول أرض مس جلدي ترابها وكان مولدي بها لسبع خلون من ربيع الآخر سنة 581 في أول أيام أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ابن علي ثم فصلت عنها وأنا ابن تسعة أعوام إلى مدينة فاس فلم أزل بها إلى أن قرأت القرآن وجودته ورويته عن جماعة كانوا هناك مبرزين في علم القرآن والنحو ثم عدت إلى مراكش فلم أزل متردداً بين هاتين المدينتين ثم عبرت إلى جزيرة الأندلس في أول سنة 603 فأدركت بها جماعة من الفضلاء من أهل كل شأن فلم أحصل بحمد الله من ذلك كله إلا معرفة أسمائهم وموالدهم ووفياتهم وعلومهم وانفردوا دوني بكل فضيلة ولا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع يختص برحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
وهذا الكتاب هو كما وصفه مؤلفه: أوراق تشتمل على بعض أخبار المغرب وهيئته وحدود أقطاره وشيءٍ من سير ملوكه وخصوصاً ملوك المصامدة بني عبد المؤمن من لدن ابتداء دولتهم إلى سنة 621 ينضاف إلى ذلك نبذة من ذكر من لقيه المؤلف أو لقي من لقيه أو روى عنه بوجه ما من وجوه الرواية والشعر والعلماء وأنواع أهل الفضل ومن الوجوه التي ذكرها لمن قدم له كتابه عذر في غاية اللطف وإن كان في غنية عنه إلا وهو قوله ضعف عبارة المملوك وغلبة العي على طباعه فمهما وقع في هذا الإملاء من فتور لفظ أو(9/50)
إخلال بسرد فهو خليق بذلك على أن عبارة الكتاب في الغاية جزالة وبلاغة شأن معظم ما أثر عن الأندلسيين.
حدد المؤلف أولاً جزيرة الأندلس أجمل تحديد مندمج واضح وذكر خبر فتحها وأتى بأجمع تفصيل لأخبارها وسير ملوكها ومن كان فيها من الفضلاء وذكر هناك حديثاً ضعيفاً في فضل الأندلس وهو في معنى الأحاديث التي يرويها أهل كل بلد من بلاد الإسلام في فضل بلدهم وقال أن معظم ما يروى من هذا القبيل فيه نظر. وأحسن بأن عدَّ من جملة فضائل الأندلس أنه لم يذكر قط أحد على منابرها من السلف إلا بخير إشارة إلى أن بني مروان وإن استولوا على تلك البلاد بعد سقوط دولتهم في المشرق بأيدي العباسيين لم يعمدوا ثمت إلى لعن أحد على منابرها كما جروا مع الخليفة الرابع نحو ألف شهر.
أوجز المؤرخ في ذكر الأمويين لأنه لم يضع كتابه لذكر أخبارهم وإنما أورد طرفاً مجملاً منها حباً بتسلسل الحوادث وعني بذكر دولة المصامدة خاصة فلم يصف عبد الرحمن الداخل بأكثر من قوله: (فلم يزل مستتراً يتنقل في بلاد المرغب حتى دخل الأندلس ودخلها حين دخلها طريداً وحيداً لا أهل له ولا مال فلم يزل يصرف حيلته ويسمو بهمته والقدر مع ذلك يوافقه إلى أن احتوى على ملكها وملك بعض بلاد العدوة وكان أبو جعفر المنصور إذا ذكر عنده قال ذاك صقر قريش وكان عبد الرحمن بن معاوية من أهل العلم وعلى سيرة جميلة من العدل.
وبعد فلو اعتدل المترجمون في ذكر مترجميهم إلى هذا الحد لما احتاج المطالع في تمحيص الحقائق إلى روية زائدة ولسقط كثير ممن تلتمس بركاتهم ويترضى عنهم كلما ذكروا. وقال في هشام بن عبد الرحمن أنه كان حسن السيرة متحرياً للعدل يعود المرضى ويشهد الجنائز ويتصدق بالصدقات الكثيرة وربما كان يخرج في الليالي المظلمة الشديدة المطر ومعه صرر الدراهم يتحرى بها المساتير وذوي البيوتات من الضعفاء ولم يزل هذا مشهوراً من أمره وذكر ولده الحكم بن هشام الملقب بالمرضي بأنه طاغ مسرف وله آثار سوءٍ قبيحة قال (وفي أيامه أحدث الفقهاء إنشاد أشعار الزهد والحض على قيام الليل في الصوامع أعني صوامع المساجد وأمروا أن يخلطوا مع ذلك شيئاً من التعريض به مثل أن يقولوا يا أيها المسرف المتمادي في طغيانه المصر على كبره المتهاون بأمر ربه أفق من سكرتك(9/51)
وتنبه من غفلتك وما نحا هذا النحو فكان هذا من جملة ما هاجه وأوغر صدره عليهم وكان أشد الناس عليه في أمر هذه الفتنة الفقهاء وهم الذين كانوا يحرضون العامة ويشجعونهم إلى أن كان من أمرهم ما كان).
يقسم المعجب إلى قسمين طبيعيين ينتهي الأول بقيام محمد بن تومرت صاحب دولة الموحدين وينتهي القسم الثاني بسنة 621 ففي القسم الأول خلا التاريخ السياسي تراجم كثير من أهل السياسة والعلم والأدب. وتراجم المشاهير هي في الحقيقة تاريخ السياسة. فممن ذكرهم من أهل العلم أبو محمد بن حزم وأورد له قطعة من شعره ومما قاله في رجل تمام
أتمُّ من المرآة في كل ما درى ... وأقطع بين الناس من قضب الهند
كأن المنايا والزمان تعلماً ... تحيله في القطع بين ذوي الود
وذكر ابن عبدون وابن وهبون القائل
قلَّ الوفاءُ فما تلقاهُ في أحد ... ولا يمر لمخلوق على بال
وصار عندهم عنقاءُ مغربة ... أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال
وترجم ابن زيدون وابن عمار وقد أورد له من قصيدة بيتاً لم يسمع لمتقدم ولا لمتأخر بمثله وهو
السيف أفصح من زياد خطبة ... في الحرب إن كانت يمينك منبراً
وألمَّ بذكر ابن اللبانة الذي أكثر من رثاء المعتمد على الله وقد حبسه صاحب مراكش باغمات واستلب منه ملكه وقتل ولده
ومما قاله ابن اللبانة في المعتمد
والدهر في صبغة الحرباء منغمس ... ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشطرنج في يده ... وربما قمرت بالبيدق الشاة
وأطال المؤلف في ترجمة ابن عمار وأجاد لأنها دالة على حالة سياسية وقد يورد من الأشعار أرقها وأعذبها ويعتذر بأنه خالف الغرض الذي فرضه على نفسه من الاختصار كل مرة بأسلوب. ولابن عمار لما حبسه المعتمد (قصائد لو توسل بها إلى الدهر لنزع عن جوره أو إلى الفلك لكف عن دوره فكانت رقىً لم تنجع ودعوات لم تسمع وتمائم لم تنفق)(9/52)
فمنها قوله:
سجاياك إن عافيت أندى وأسجح ... وعذرك إن عاقبت أجلى وأوضح
وإن كان بين الخطتين مزية ... فأنت إلى الأدنى من الله تجنح
حنانيك في أخذي برأيك لا تطع ... عداي ولو أثنوا عليك وأفصحوا
إلى أن يقول:
وماذا عسى الواشون أن يتزيدوا ... سوى أن ذنبي واضح متصحح
نعم لي ذنبٌ غير أن لحمله ... صفاة يزلُّ الذنب عنها فيسفح
عليك سلام كيف دار به الهوى ... إليّ فيدنو أو عليَّ فينزح
ويهنئه إن مت السلو فإنني ... أموتُ ولي شوق إليه مبرح
وبين ضلوعي من هواه تميمة ... ستنفع لو أن الحمام يجلحُ
وأطال صاحب المعجب أيضاً في نقل رسائل ابن عبدون وهي في الغاية جزالة ورشاقة وشعره الجيد المنسجم وهو صاحب القصيدة التي يقول في أولها
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاءُ على الأشباح والصور
وكان ابن عبدون (أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الآداب) ومن شعره
لاح المشيب على رأسي فقلت لهُ ... الشيب والعيب لا والله ما اجتمعا
يا ساقي الكأس لا تعدل إلي بها ... فقد هجرت الحميا والحميم معا
ومنه
إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
رأيت فيها شييخاً لست أعرفه ... وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى
ومن لطيف الشعر ما رواه لأبي عمر القسطلي من شعراء الطبقة الثالثة في الأندلس - قال أبو منصور الثعالبي في اليتيمة القسطلي عندهم كأبي الطيب بصقع الشام - يمدح بها أبا علي القالي:
من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والعويل عويلي
أقصر فما دين الهوى كفر ولا ... اعتد لومك لي من التنزيل
عجباً لقوم لم تكن أذهانهم ... لهوى ولا أجسادهم لنحول(9/53)
دقت معاني الحب عن إفهامهم ... فتأولوه أقبح التأويل
في أي حاجة أصون معذبي ... سلمت من التعذيب والتنكيل
إن قلت في عيني فثم مدامعي ... أو قلت في قلبي فثم غليلي
ومما ارتجله أبو عمر في بعض مجالسه
أجد الكلام إذا نطقت فإنما ... عقلُ الفتى في لفظه المسموع
كالمرءِ يختبر الإناَء بصوته ... فيرى الصحيح به من المصدوع
ولما ملك أمير المسلمين يوسف جزيرة الأندلس وكان صاحب المغرب الأقصى وضخم سلطانه واستحق اسم السلطنة وتسمى هو وأصحابه بالمرابطين وانقطع إليه (من الجزيرة من أهل كل علم فحوله حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار فممن كتب لأمير المسلمين كاتب المعتمد على الله أبو بكر المعروف بابن القصيرة) (كان على طريقة قدماء الكتاب من إتيان جزل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى الأسجاع التي أخذها متأخر والكتاب اللهم إلا ما جاء في رسائله من ذلك عفواً من غير استدعاء) وذكر غيره مثل ابن عبدون وأورد له بعض رسائله التي كتبها عنه وهي مسجعة منمقة كما كان أورد له طرفاً صالحاً من شعره. قال ولم يزل حال أمير المسلمين من أول إمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس وصرف عنايته إلى ذلك حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك كأبي القاسم بن الجد المعروف بأن القبطرنة وأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال وأخيه أبي مروان وأبي محمد عبد المجيد بن عبدون المذكور آنفاً في جماعة يكثر ذكرهم وكان من أنبههم عنده وأكبرهم مكانة لديه أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال) وهنا نقل المؤلف شيئاً من رسائل هذا وبها انتهى القسم الأول باختلال أحوال المرابطين واستبدادهم بالأمر حتى خرج عنهم.
يبتدئ القسم الثاني من هذا الكتاب بقيام محمد بن تومرت الذي قام بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سنة 515 وادعى المهدوية ولحقه جماعة في بلاد المغرب وأسس دولة المصامدة في الأندلس بممالأة عبد المؤمن بن علي. أفاض المؤلف في ترجمة هذا المهدي فكشف الغطاء عن حقيقته ولا عجب فإن ابن تومرت من أعاجيب الخلق ورجال العلم ثم(9/54)
ذكر خليفته من بعده عبد المؤمن وأولاده وأحفاده ووزراءهم وكتابهم وقضاتهم وأخلاقهم وصفاتهم وأخبارهم. ولما دانت أكثر بلاد الأندلس لعبد المؤمن وتشوفت إليه أعيانها سار حتى نزل سبتسة فعبر البحر ونزل الجبل المعروف بجبل طارق وسماه هو جبل الفتح فقام به أشهراً وابتنى به قصوراً عظيمة واجتمع له في مجلسه فيه من وجوه البلاد ورؤسائها وأعيانها وملوكها من العدوة والأندلس ما لم يجتمع لملك قبله واستدعى الشعراء في هذا اليوم ابتداءً ولم يكن يستدعيهم قبل ذلك إنما كانوا يستأذنونه فيؤذن لهم وكان على بابه منهم طائفة مجيدون فدخلوا فكان أول من أنشد أبو عبد الله محمد بن حبوس من أهل مدينة فاس وكانت طريقته في الشعر على نحو طريقة محمد بن هاني الأندلسي في قصد الألفاظ الرائعة والقعاقع المهولة وإيثار التقعير.
كرر المؤلف الثناء على عبد المؤمن ومما قاله فيه وقد كرر هذا المعنى مراراً (وكان محباً في الآداب مؤثراً لأهلها يهتز للشعر ويثيب عليه اجتمع له من وجوه الشعراء وأعيان الكتاب عصابة ما علمتها اجتمعت لملك منهم بعده) وأفاض ما شاء وشاء بيانه في وصف أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن وكان عالماً مفنناً مكرماً للعلماء والشعراء كثيراً ولم يزل (يبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر إلى أن اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك قبله ممن ملك المغرب وكان ممن صحبه من العلماء والمتفننين أبو بكر محمد بن طفيل أحد فلاسفة المسلمين كان متحققاً بجميع أجزاء الفلسفة) (يأخذ الجامكية مع عدة أصناف من الخدمة من الأطباء والمهندسين والكتاب والشعراء والرماة والأجناد إلى غير هؤلاء من الطوائف وكان يقول لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عمدهم وكان أمير المؤمنين أبو يعقوب شديد الشغف به والحب له بلغني أنه كان يقيم في القصر عنده أياماً ليلاً ونهاراً لا يظهر وكان أبو بكر هذا أحد حسنات الأندلس في ذاته وأدواته) (ولم يزل أبو بكر هذا يجلب إليه العلماء من جميع الأقطار وينبهه عليهم ويحضه على إكرامهم والتنويه بهم وهو الذي نبهه على أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد فمن حينئذ عرفوه ونبه قدره عندهم).
وابن الطفيل هو الذي استدعى ابن رشد يوماً وقال له: سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه ويذكر غموض أغراضه ويقول لو(9/55)
وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على الناس فأن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبر سني واشتغالي بالخدمة وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه قال أبو الوليد فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس وابن الطفيل هو صاحب رسالة حي بن يقظان في أسرار الحكمة المشرقية التي استخلصها من كلام الرئيس أبي علي بن سينا.
وختم المؤلف ترجمة أبي يعقوب بقوله وهو شاهد على انطلاق في الفكر: (وفي الجملة لم يكن في بني عبد المؤمن في من تقدم منهم وتأخر ملك بالحقيقة غير أبي يعقوب هذا) ومما دل على حرية خاطره ما وقع له مع أستاذه أبي جعفر الحميري علم الأندلس في الآداب والعلم وقد نظم بيتين استحسنها وقال لابنه هذا والله الشعر لا ما تصدعني به طول نهارك فما كان من ابن أستاذه إلا أن عمل بيتين أخذ معنى بيتي المؤلف وأعدمهما رونقهما ومسخهما جملة قلما تلاها الحميري على تلميذه استحسنهما فقال: هذا والله أحسن من شعري فتغير له وقال: (يا بني دع عنك هذه العادة فإن أسوأ ما تخلق به الإنسان الملق وتزيين الباطل سيما إذا أصاف إلى ذلك الحلف الكاذب والله إنك لتعلم أن هذا ليس بشيءٍ وإلا فقد اختل ميزك وساء اختيارك وما أظن هذا هكذا).
وكتب المؤلف ثلاثاً وثلاثين صفحة في ترجمة أمير المؤمنين أبي يوسف وكان يخالف من تقدمه في مشربه تداخل في عقائد الناس وألزمهم بعقيدته وطلق الحرية بتاتاً واضطر اليهود أن يلبسوا ثياباً غير ثيابهم تمييزاً لهم وإهانة والغالب أن سوق الشعر لم ترج في أيامه كل الرواج كما كانت في أيام غيره من الملوك وكانت كلها حروباً وفتناً وسفكاً وبطشاً وعمارة قصر وأحياء مدينة.
ومما رواه حيلة لطيفة احتالها ابن عمار رجل الجزيرة على ملك الاسبانيول الأدفنش عندما خرج في جيوش ضخمة يقصد بلاد المعتمد طامعاً فيها (وذلك أنه أقام سفرة شطرنج في غاية الإتقان والإبداع لم يكن عند ملك مثلها جعل صورها في غاية الإتقان أظهرها بحيث بلغ أمرها ملك الأسبان وكان مولعاً بالشطرنج وكان ابن عمار طبقة عالية فيه فأراده الملك(9/56)
على أن يلعبا معاً فما كان إلا كلا ولا حتى غلب ابن عمار ملك الإفرنج غلبة ظاهرة لجميع الحاضرين لم يكن له فيها مطعن فقال له ابن عمار هل صح أن لي حكمي قال نعم. فما هو قال أن ترجع من هاهنا إلى بلادك فأسود وجه الملك وقام مقعد ورجع عن قصد الفتنة بعد أن أخذ إتاوة عامين بفضل ابن عمار. ومن نكت الكتاب ما رواه من أن أبا العلاء صاعد بن الحسن الربعي دخل على المنصور أبي عامر يوماً في مجلس أنسه وقد كان تقدم له أن اتخذ قميصاً من رقاع الخرائط التي كانت تصل إليه فيها الأموال منه فلبسه تحت ثيابه فلما خلا المجلس ووجد فرصة لما أراد تجرد وبقي في القميص المتخذ من الخرائط فقال له ما هذا يا أبا العلاء فقال هذه الخرائط التي وصلت إليّ منها صلات مولانا اتخذتها شعاراً وبكى واتبع ذلك من الشكر فصلاً كان رواه فاعجب ذلك المنصور وقال له لك عندي مزيد وكان كما قال.
وألف له أبو العلاء هذا كتباً فمنها كتاب سماه كتاب الفصوص على نحو كتاب النوادر لأبي علي القالي واتفق لهذا الكتاب من عجائب الاتفاق أن أبا العلاء دفعه حين كمل لغلام له يحمله بين يديه وعبر النهر نهر قرطبة فخانت الغلام رجله فسقط في النهر هو والكتاب فقال في ذلك بعض الشعراء وهو ابن عبد الله محمد بن يحيى المعروف بابن العريف بيتاً مطبوعاً بحضرة المنصور وهو
قد غاص في البحر كتاب الفصوص ... وهكذا كل ثقيل يغوص
فضحك المنصور والحاضرون فلم يرع ذلك صاعداً ولا هاله وقال مرتجلاً مجيباً لابن العريف
عاد إلى معدنه إنما ... توجد في قعر البحار الفصوص
ومما يستفاد من هذا الكتاب وهو حريٌّ بأهل هذا العصر أن يتدبروه ما ذكره لبعض الأولاد ممن لا يتجاوزون الخامسة عشرة من الشعر والنثر فمن ذلك قصيدة للرصافي الشاعر قالها في حضرة الخليفة في يوم الحفل ولم تكمل له عشرون سنة ورسالة أوردها لصبي بعث بها للمؤلف من مدينة سوس يخبره بفتح عظيم تم على يد السلطان وقطع دابر من كان نازعاً إلى الفتنة وهي من اللطافة بحيث يتعذر على كثير ممن يسمون العلماء الأفاضل لعهدنا أن يكتبوا مثلها أو دونها بدرجات.(9/57)
وألم المؤلف في سير المصامدة وأخبارهم وقبائلهم وأحوالهم في ظعنهم وإقامتهم وذكر صفة إقامة الجمعة عندهم وذكر خطبتهم وكيفية دعائهم لملكهم وهو عندهم الإمام المعصوم والمهدي المعلوم. وهكذا تجد الكتاب من أوله إلى آخره على نسق واحد يتنقل فيه المطالع بين السياسة والتاريخ وتراجم الرجال وذكر العلماء ومفاوضاتهم والشعراء وشعرهم والوزراء وأخبارهم والكتاب ورسائلهم والفلاسفة وما جرى لهم. كل ذلك لم يخرج فيه عما قصده من التلخيص وذكر أقاليم المغرب وعين مدنه وحدد ما بينها من المراحل عدداً من لدن برقة إلى سوس الأقصى وذكر جزيرة الأندلس وما يملكه المسلمون من مدنها. عمل ذلك عملاً بإرادة الملك الذي صنف الكتاب باسمه وقال في الاعتذار عن ذلك وما أحلاه من اعتذار: فلم ير المملوك بداً من الجري على العادة في سرعة الإجابة وامتثال مرسوم الخدمة لوجوب ذلك عليه شرعاً وعرفاً هذا مع أن هذا الباب خارج عن مقصود هذا التصنيف وداخل في المسالك والممالك.
فجاء الكتاب كما ترى سفر جغرافية المغرب فيه ذكر معادنها وأنهارها ومدنها وتاريخ مختصر لها بل تاريخ للآداب والعلم والاجتماع فيها يطالعه المستفيد فيكاد لا يترك القلم من يده يقيد من شوارده وفوائده مع أن صفحات الكتاب لا تتجاوز 273 من القطع الوسط وهو على اختصاره يغني عن مطالعة المطولات لقلة الظفر بها. وما أخال عالماً في هذا القرن على جودة طرق التعليم في بلاد الإفرنج ووفرة أسباب العلم عندهم لو أراد أن يؤلف في موضوع هذا الكتاب أن يكتب أصغر منه جرماً وأكثر منه فائدة وإمتاعاً. وقد قيل أن الأسماء تدل على مسمياتها ولكل شيء من اسمه نصيب. وكتاب المعجب هو في الحقيقة مما وافق اسمه مسماه وطابق لفظه معناه لا يقرأه مستفيد إلا ويعجب به كل الإعجاب وقد أجاد طابعه في اتباعه بفهرست للأسماء الواردة في الكتاب وأسماء الكتب المذكورة فيه وذلك على عادة الغربيين في كل ما طبعوه من الكتب العربية جزاهم الله خيراً.
تاريخ التمدن الإسلامي
من الكتب النافعة التي عني بتأليفها تاريخ التمدن الإسلامي لرصيفنا المؤرخ الفاضل جرجي أفندي زيدان صاحب الهلال الأغر وهو يبحث في نشوء الدولة الإسلامية وتاريخ مصالحها الإدارية والسياسية والجندية وبيان ثروتها وتاريخ العلم والأدب والتجارة(9/58)
والصناعة فيها ونظام الهيئة الاجتماعية وآدابها والعادات والأخلاق. وقد تفرع عن كل مبحث مباحث وعن كل باب فصول تدل على مبلغ علم المؤلف فتم له هذه السنة الجزء الخامس منه وهو آخر الكتاب. وكان كل سنة يصدر جزءاً فيتحفنا بنسخة منه نطالعها بروية واستبصار. ومن يطالع فهرس الكتب العربية والإفرنجية التي رجع إليها أثابه الله في وضع مصنفه يتجلى له قدر التعب والمعاناة. أما وقد وضع الآن صديقنا المؤلف الخطوط المهمة من رسم هذا الموضوع الواسع فسيجيء يوم يستوفيه هو بنفسه فيزيد فيه أو ينقص منه أو يجيء غيره من متعاطي هذا الفن فيصلحون بعض ما وقع له منها مما لا نسميه هفوات بل اضطراريات لا مناص للواضع في فرع من فروع العلم من الوقوع فيها. والكتاب مطبوع طبعاً جيداً وهو يطلب من مكتبة الهلال بالفجالة بمصر فنهنئ المؤلف على هذا العمل النافع الذي جعله خلاصة علمه وزبدة ما وصل إليه اطلاعه على الفن الذي يمت به ونسأل الله أن يكثر فينا من أمثاله العاقلين الفضلاء.
المدونة الكبرى
صدر الجزء العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من هذا الكتاب الجليل رواية الإمام سحنون عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك وبقي منه جزءان فيقع الكتاب بذلك في ستة عشر مجلداً وقد تبين لنا من تصفح هذه الأجزاء الأخيرة أن في بعض الأحكام المنقولة عن محدث المدينة أحكام وافقه فيها القانون الفرنسي ولذلك أصبح من الجدير بكل مشتغل بالحقوق المدنية كما هو حري بطالب العلوم الشرعية أن يقتني هذا الكتاب الممتع ليقابل بين القديم والحديث وليعلم أن الفقه الإسلامي لم ينقل عن الفقه الروماني بل أن مأخذه الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وإنا نثني في هذا المقام أطيب الثناء على طابعه الغيور الحاج محمد أفندي الساسي المغربي كما لا نزال نشكر له ما بذله من العناية في سبيل الحصول على النسخة الأصلية المقروءة على رجال هذا الشأن ليخرج للأمة هذا الكتاب المعدود من أمهات كتبها التي يرجع إليها ويعول في هذا الباب عليها.
منتخبات المؤيد
جمع سعادة الصحافي الفاضل الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الأغر وجريدته أقدم جريدة(9/59)
إسلامية كبرى تصدر في هذا القطر منذ ست عشرة سنة - منتخبات سنة جريدته الأولى جمعها في كتاب وقع في زهاء خمسمائة صفحة وقد أتحفنا بنسخة منه فقرأنا فيه لباب تاريخ تلك السنة السياسي والإداري والعلمي وكل ما يتصرف على ذلك من الأوامر والمنشورات والحوادث المهمة الخاصة بمصر والسودان والدولة العلية فجاء سفراً حافلاً بما يلذ ويفيد نرجو له التوفيق إلى إنجاز سائر السنين في أقرب وقت فإن في بعض الصحف اليومية من الأبحاث التي تقع لها في الغالب ما يجدر بأربابها أن يحرصوا على تخليدها لتنقل خلفاً عن سلف وتكون في القماطر يرجع إليها عند اللزوم. وحبذا لو جرى على مثال صاحب المؤيد الأغر غيره من أرباب الجرائد اليومية ممن يكتبون اليوم ويفقد ما تعبوا بإنشائه غداً. وهذه المنتخبات جيدة الطبع وثمن الجزء عشرون قرشاً مصرياً فنحض كل محب للاطلاع على اقتناء نسخة منها.
روح التسامح من القرآن
هو كتاب وضعه بالفرنسية حضرات الأفاضل قيصر أفندي ابن العطار والهادي أفندي السبعي وصديقنا السيد عبد العزيز الثعالبي التونسي ترجموا فيه الآيات والأحاديث النبوية الآمرة بالتسامح واحترام المخالفين وأفاضوا في حرية الاعتقاد في الإسلام ورفع شأن المرأة وبينوا فيه أن الإسلام دين عام لا خاص جاء للعرب فقط وأنه يأمر بتعليم الرجل كما يأمر بتعليم المرأة ويقضي باحترام كل صالح من أي نخلة كان وبينوا فيه ما كان من شأن الإسلام في خدمة الحضارة والمدنية ونعوا على المسلمين إغفالهم أصول دينهم والتمسك بخرافات وأضاليل من مثل تقديس الأئمة ومشايخ الطرق وغير ذلك وهو كتاب إصلاحي مفيد قدموه إلى المسيو فالي أحد أعضاء مجلس الشيوخ في فرنسا وناظر حقانيتها سابقاً فشكرهم على غيرتهم ونشاطهم. والكتاب طبع في باريس أحسن طبع ويطلب من مؤلفيه في تونس.
امالي الزجاجي
لبعض العلماء في القديم طريقة كانوا يملون فيها مسائل من علمهم يسمونها الامالي وممن اشتهروا بذلك ابن الشجري إمام الأدب والشعر وأيام العرب ألف اماليه فكان أحسن كتبه ومنهم أبو العباس ثعلب النحوي له امالٍ ولأبي علي القالي كتاب في الامالي عرف به(9/60)
ولأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري امالٍ ولأبي القاسم الزجاجي النحوي المتوفى سنة 337هـ امالٍ أيضاً وقد طبعت هذه الأيام امالي الزجاجي بمصر وشرحها الفاضل الأديب الشيخ أحمد ابن الأمين الشنقيطي فجاءت في نحو 140 صفحة جيدة الورق والطبع فنثني على طابعيها الألباء أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي الكتبي وأخيه وهي تطلب من مكتبة أمين أفندي المومأ إليه بالحلوجي وفيها فوائد لغوية وأدبية وتاريخية لا يستغني عنها متعاطي هذه الصناعة فنشكرهم على هذه التحفة.
سقوط نابليون الثالث
قلما ينشر بيننا من الروايات المفيد التصحيح الأسلوب والتراكيب النابي عن طور الخلاعة والرقاعة ولكن رواية سقوط نابليون التاريخية الاجتماعية الأدبية الغرامية العصرية جاءت وافية ببعض الغرض فهي بلا مراء من أحسن ما عرب لنا. ألفها الكاتب الفرنسي اميل جابوريو وعربها الشاعر الكاتب المجيد نقولا أفندي رزق الله ولم يقع المعرب في مثل ما وقع فيه غيره من كتاب الروايات من التراكيب الإفرنجية والألفاظ المبتذلة العامية والتراكيب الركيكة بل أنها على طولها نسق واحد في جودة عبارتها وتعبيرها مع انطباقها على الأصل في الغالب بحيث جاءت في ثلاث مجلدات تقرب من ألف صفحة. ويقيننا أنه لو رجع المعرب الفاضل على ما كتب لحذف بعض ما جاء على رأس قلمه عفواً من التجاوزات وبعض الألفاظ التي لا يكاد يسلم منها كاتب عربي في هذا العصر على أن ما كتبه غاية ما يمكن لكتاب الروايات أن يجيدوا فيه الآن فنثني على همته وأدبه كما نثني على طابعها الأديب عزتلو خليل بك صادق صاحب مجلة مسامرات الشعب وصاحب مكتبة الشعب ومطبعتها بمصر وهي تطلب من مكتبته وثمنها ثلاثون قرشاً صحيحاً.
ديوان الرافعي
صدر الجزء الثالث من هذا الديوان لناظمه الفاضل الأديب مصطفى أفندي صادق الرافعي وهو تمام ديوانه وقد صدره بباب التهذيب فالحكمة فالنسائيات فالوصف فالغزل والنسيب فالمديح والتقريظ فالأغراض والمقاطيع فالمراثي ويدخل في كل باب ضروب من الحكمة والدب تدخل السرور على قلب الكئيب وتحمل النور إلى عقل الأديب الأريب من ذلك قوله:(9/61)
قومي (ولا فخر) على حالة ... لا يعرف الإنسان إنسانا
فكلهم مأربه واحدٌ ... فيما أرى شيباً وشبانا
(وظيفة) تكتب تحت اسمه ... أو (رتبة) تذكر عنوانا
وقال في الطبيعة والناس
ضلت الناس لا الفقير ممنى ... بثراءٍ ولا الغني يبالي
خفض الدهر ثم أعلى فأمسى ... بعضهم سادة وبعض موالي
أخوة كالغصون ينبتها الجذ ... ع قصار تكون تحت طوال
أيهذي النفوس ملت عن الفط ... رة حتى بليت بالإذلال
الثرى ينبت الحبوب جزافاً ... والورى يقسمون بالمكيال
والشاعر على ما يعرفه القراء مطبوع في شعره مجيد في نثره فله منا الشكر على همته ونشاطه وقد وقع هذا الجزء في 150 صفحة جيدة الطبع والورق وهو يطلب من المكتبة الأزهرية في السكة الجديدة وثمنه خمسة قروش وأجرة البريد قرش واحد فنحث المتأدبين على مقتناه.
الرحلة الحجازية
هو كتاب في 228 صفحة من جمع الأديب الشيخ عبد الله القدومي فيه حوادث ومسائل علمية أثرت عن الشيخ عيسى القدومي النابلسي من علماء القرن الماضي وفيها مطالب دينية وبعضها مما لا يقره أهل التحقيق الراجعين إلى هدى الكتاب والسنة من أقوم طريق ممن ردوا مفتريات الحشوية وأهل التلفيق. وإنا إذا عذرنا المؤلف على ما وقع فيه لما عمت به البلوى من السخافات في عصره عصر التقهقر والجهالة فإنا لا نعذر الطابع اليوم وعصره عصر الارتقاء والعلم.
روايتان جديدتان
أهدانا الأديب إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية نسخة من رواية القبطان بول تعريب الأديب حبيب أفندي فهمي ونسخة من رواية حورية الفلك تعريب الأديبين توفيق أفندي حبيب وقسطنطين أفندي نوفل وهما تطلبان من مكتبته.
مجلات جديدة(9/62)
(الجامعة) هي المجلة التي اشتهرت بأبحاثها الأدبية والاجتماعية المعربة عن علماء الإفرنج وكتابهم وبعد أن صدرت أربع سنين في الثغر الإسكندري انتقلت منذ مدة إلى ثغر نيويورك فأصبحت تصدر هناك مرتين في الشهر وقد انتهت إلينا أعدادها الخمسة من سنتها الخامسة فألفيناها سارت سيرتها الماضية من التوسع في المطالب المشار إليها فنثني على منشئها الفاضل فرح أفندي أنطون ونحث الأدباء على مقتناها وقيمة الاشتراك بها ثلاثة ريالات في القطر المصري.
(الحياة) هي المجلة الإسلامية العمرانية الفلسفية التي أصدرها الفاضل محمد فريد بك وجدي ثمانية عشر شهراً ثم انقطع عن إصدارها وقد بدا له هذه الآونة إعادتها فصدرت شهرية جاعلة مذهبها في الإصلاح مواجهة أنصار القديم وزعماء الجديد وطائفة المعتدلين والسعي في إحداث حركة فكرية بينهم في أبواب قسم عليها أبواب المجلة فنثني على نشاط منشئها الفاضل ونتمنى له التوفيق إلى ما يقصد إليه وقيمة اشتراك المجلة 20 قرشاً في مصر وريال ونصف في البلاد العثمانية.
(النبراس) مجلة علمية أدبية تاريخية فكاهية تصدر في كل شهر مرة لصاحبها الأديب أحمد أفندي شاكر وهي في 16 صفحة وقيمة اشتراكها 15 قرشاً أميرياً وخمسة فرنكات ونصف في الخارج فنتمنى لها الثبات والبقاء.
(فتاة الشرق) صدر العدد الأول من هذه المجلة الأدبية التاريخية الروائية لصاحبتها الأديبة العقيلة لبيبة هاشم وهي مشهورة بإنشاء بعض الروايات والمقالات في الصحف سابقاً ولذلك يرجى أن تحسن الاضطلاع بأعباء هذا العمل ولا تتكل على أقلام الرجال في كتابة مجلة لربات الحجال وقيمة الاشتراك 50 قرشاً في القطر و13 فرنكاً و50 سنتيماً في الخارج.
أهديت إلينا بعض كتب كبيرة لم نتمكن بعد من النظر فيها فمعذرة إلى مرسليها وموعدنا الأجزاء التالية.(9/63)
سير العلم
صحافة مصر
يؤخذ من تقرير البريد المصري عن سنة 1905 أنه يصدر في القطر المصري 33 جريدة سياسية وتجارية عربية و8 جرائد شرقية غير عربية و53 إفرنجية وجريدتان عربيتان هزليتان وثلاث جرائد إفرنجية وعشرون مجلة أدبية وعلمية وصناعية عربية ومجلة واحدة شرقية ومجلتان إفرنجيتان و11 مجلة عربية ومجلتان دينيتان عربيتان و4 مجلات طبية عربية ومجلة واحدة نسائية إفرنجية ومجلة عربية ماسونية. فمجموع ما يصدر في القطر بين صحف ومجلات عربية وإفرنجية 146 منها 61 إفرنجية و9 شرقية غير عربية و76 عربية.
تطهير الهواء
هواء المدن في العادة فاسد مضر رديء فالأبخرة والغازات والغبار المتراكم والدخان والروائح القذرة العفنة التي تتكاثف في الجو بلا انقطاع تفسد المناخ ولاسيما إذا زاد سكان المدينة عن المليون يحيط بهم مليارات من الأمتار المكعبة من الهواء الذي تنمو فيه الجراثيم القتالة. وقد عرض طبيبان من أطباء غلوستر في مقاطعة الماساشوست في أميركا الشمالية طريقة ادعيا أنهما وفقا إليها وأنها تطهر الأهوية وذلك بأن تقام مئات من الآلات المفرغات تنقي كل منها عشرة آلاف متر مكعب من الهواء كل دقيقة. واقترحا أن تجرب طريقتهما تحت القبة الأرضية من السكة الحديدية الجديدة التي أنشئت منذ بضعة أشهر تحت مدينة نيويورك. ويكلف إقامة مائة آلة مفرغة مليون جنيه فتتجمع المواد الحيوانية والنباتية والمعدنية المعلقة في الفضاء بعد إجراء التطهير في حفر ذات بواليع (مجارير) فيستخدم ما يجمع في بعض الأعمال الزراعية والصناعية فيكون من ذلك أرباح توفي النفقات وتزيد.
نفق المانش
أقيم منذ أشهر نفق (تونيل) بين إيطاليا وسويسرا واليوم يراد إقامة نفق ثان تحت بحر المانش بين إنكلترا وفرنسا ويكون طول هذا النفق ثلاثين ميلاً أو ثمانية وأربعين كيلومتراً على عمق 45 متراً عن قاع البحر فتستفيد الأمتان من اتصال بلادهما مباشرة بدون ركوب(9/64)
اليم ويصبح ثغر دوفر أعظم الثغور فينافس ثغر همبورغ وانفرس وتتصل لندن بباريس ومجريط مدريد ولشبونة وبروسل وفينا ورومية والأستانة وأثينا وبطرسبرج.
القهوة (البن) الخالصة
تصعب معرفة جيد القهوة الناعمة من رديئها وقد نشر مكتب الزراعة في الولايات المتحدة كراسة لإحاطة القوم علماً بالقهوة الرديئة جاء فيها إذا كانت القهوة المسحوقة ذات شكل واحد تفحص بالعين المجردة أو بالعدسية وإذا لم تكن على شكل واحد فتكون القهوة مخلوطة بفول أو حمص أو هندباء أو غيرها من المواد وللوقوف على سلامة القهوة ضع قليلاً من مسحوقها في زجاجة مليء نصفها ماءً وحركها حتى يبتل كل جزءٍ من أجوائها فيكون في القهوة الخالصة بعض مادة زيتية وبها تطفو على وجه الماء أما ما كان من غير مادة البن فيرسب في أسفل الزجاجة. أما الهندباء فتترك عندما تذاب في الماء أثراً مائلاً إلى السمرة تخدع النظر.
الفقراء والأغنياء
ارتأى بعض الأمريكيين أن اختلاف كثير من فتيان الأغنياء إلى المدارس الكلية يجلب على فكر الشبيبة ضرراً وخطراً. وقد وافق رئيس كلية يال على هذا التغيير ومن رأيه أن معايب الطلبة الأغنياء كمعايب الطلبة الفقراء ولكلا الفريقين صفات يمتاز بها وفي العادة أن يكون الفقراء أصحاب أنانية وأن يكون الأغنياء ضعافاً في الغالب قال وليس الفقر منقذاً من الأهواء والنزغات.
اللغة الجديدة
قيل لما رأى تيمورلنك التتري في القرن الثامن لهجرة جيشه مزيجاً من أجناس مختلفة ذات السنة متبلبلة أوعز إلى بعض خاصته بإنشاء لغة يتفاهمون بها على تباين لهجاتهم فأنشؤوا لغة اردو أي الجيش فانتشرت حتى أصبحت الآن لغة الهند الرسمية يتكلم فيها الهنود على اختلاف ولاياتهم ومناحيهم. وأن هذه اللغة الاردية أو الهندستانية كانت من جملة الأمور التي حملت في العهد الأخير أحد أهل العلم في روسيا فأنشأ لغة سماها الاسبرانتو ألفها من لغات أوربا وسهل مفرداتها وتراكيبها ونحوها وبيانها حتى شاعت في مدة قصيرة بين الإفرنج على تنوع لغاتهم وأخذت تصدر فيها الكتب والصحف ويتعرف بها الإيطالي إلى(9/65)
الروسي والألماني إلى الإسباني والصربي إلى الإنكليزي والبلغاري إلى الفرنسي. وقام في أذهان العلماء أن يسعوا لجعل هذه اللغة لغة دولية كما كانت الفرنسية من قبل فأخذت بعض الجمعيات الساعية في نشر ألوية السلام بين الأنام تبذل الجهد لتكون هذه اللغة التي ألفها البشر عمدة لكل المتمدنين وإنقاذهم من عناء تعلم لغات جمة ليتآلفوا مع بقية الأمم. ويؤخذ من لهجة الصحف الغربية أن عدد المتكلمين بهذه اللغة يزيد كل يوم مئات وأن مجموعهم أربى على مئات الألوف.
فلز جديد
يتألف هذا الفلز (برونز) اللدن السهل التطريق من النحاس المعروف والقصدير وغيرهما من المعادن الصلبة دعاه مخترعه فورميتال (المعدن القوي) وأنه للينه الخاص به ليصنع كما يصنع الحديد والفولاذ والنحاس فيتأتى سبكه صفائح متجانسة ويصنع على نحو ما تصنع هذه المعادن فيدق محمىً وبارداً ويطرق ويصفح ويطبع ويحدب ويجعل أسلاكاً وقطعاً. وهذا المعدن لا يصدأ ويقاوم فعل ماء البحر فلا يتآكل كما يتآكل الحديد وغيره ويصبر على رطوبة الأرض والحوامض المحلولة. وكل هذا مزايا خاصة به يفضل بها الحديد والفولاذ وليس هو أغلى قيمة من أجود أنواع النحاس ويستعمل للمضخات والاسطوانات المائية والكراسي الميكانيكية واللوالب التي تقذف المواد المدمرة وعدادات توزيع المياه والدواليب المسننة وغيرها.
المشي على الماء
اخترع ضابط في أميركا قبقاباً إذا وضع الإنسان فيه رجله يسير به على سطح الماء فيعوم ولا يغرق وسمى هذا القبقاب أيضاً زورق الرجل أو حذاء الماء وهو من خشب على شكل زورق صغير تدخل فيه الرجل بسهولة وينحني اللابس إلى الأمام على نحو ما يفعل من يريد التزحلق على الجليد ثم يحرك الرجل اليسرى فيسير الماشي على النحو الذي يسير به الهندي من السهولة إذا ركب زورقه المعمول من القش. وليس هذا الحذاء ثقيلاً وقد كانت الأحذية التي جرب بها الضابط اختراعه بادئ بدء طويلة ثم صغر مقياسها فأصبح الماشي يلبسها ويسير بالسرعة التي يتطلبها ويتجه به حيثما شاء. ويحتاج لبس القبقاب المائي إلى قليل من المعرفة ليتوازن جسمه معها ومتى تعلمها يسير بها كما يسير راكب الدراجة(9/66)
(بسيكلت) ومتى مشى هذه المشية ثلاث مرات يمهر فيها مهارة تبعده عن الخطر. وإذا حدث أن سير القبقاب انكسر فلا يغرق لابسه لأن القبقاب المائي يستعمل عند الحاجة كما تستعمل الأطواف (الكلخات المشدودة) وهذا السير يكون على وجه الترع والأنهار لا في تيار البحار. قالت المجلة الإفرنجية التي نقلت عنها هذا النبأ ولقد كان بعضهم حاول اختراع شيء يماثل هذا الحذاء الغريب في القرن الماضي وجربه في نهر السين في باريس فلم يفلح أما اختراع الضابط الأميركي اليوم فواف بالغرض المقصود. قلنا وقريباً نرى السائرين على سطح الماء يعبرون النيل والفرات ودجلة وبردى والأعوج والعاصي ونهر إبراهيم ونهر أبي علي وسيحان وجيحان وغيرها من الأنهار والترع ويصدق ما كان يزعمه بعضهم من أنهم كانوا يمشون على الماء ولكن دعواهم كانت بلا علم ولم يقم برهان واحد على صحتها تقبله العقول السلمية ودعوى المخترع الجديد يدعمها العلم والبرهان.
الري
الشائع أن الأراضي التي تروى على نظام واحد تأتي ثلاثة أضعاف الغلات والثمرات التي تأتي من أرض من مثلها بالتعهد بالسقيا وقد بحث عالمان من علماء الفلاحة من الإفرنج في هذا الأمر فأثبتا أن عدة أسباب تدعو إلى عدم كفاية الري وأن حاجة الأرض إلى الماء ليست على معدل واحد في كل مكان على أنك تجد أكثر الفلاحين في معظم الأقطار يسقون زروعهم على طريقة واحدة وبكمية واحدة ويشحون بالماء على الأرض التي تتطلب مزيد ري على حين كان عليهم أن ينظروا في كل أرض إلى حالة رشحها ويعطوها من الماء ما تقتضيه طبيعتها. وذلك بأن لا تسقى التربة القليلة الرشح سوى كميات كثيرة فيكون ما ينفق على الري متعادلاً مع الغلات التي تأتي منها. ويعنى هذا العالمان بوضع رسم على ما يقتضي لكل أرض صرفه من الماء يتوازى مع غلاتها وعلى حسب طبيعة كل تربة.
مستقبل الشمس
قال كثيرون من علماء الفلك أن الشمس آخذة بالهبوط وأنها ستظلم بعد أن كانت ضياء العالمين وتوشك أن تنطفئ شعلتها وتبطل حرارتها. وقد أثبت اللورد كيفن ونوكمب وبل من رجال هذا الفن أنه سيكون لعمل الشمس حداً وأنه انقضى زهاء نصف عمرها ولم يبق لها إلا أقله. وخالفهم الأستاذ سي من المرصد البحري في كاليفورنيا بأميركا قائلاً أن(9/67)
الشمس لم تبلغ حتى الآن سوى ربع عمرها وأن المستقبل كفيل بما سيكون من حالها بعد بانياً حكمه هذا على أعمال رياضية قام بها قيام الأبطال وصبر حتى تناول النتيجة صبر المتخاصمين يوم النزال فبان له أن ما مضى من ملايين السنين على ما ارتآه داروين في النظام الشمسي هو من الاستقراء الناقص في حالتها لأن الجاذبية هي التي تشعل في الشمس وأن حظ معظم السيارات الثابتة كحظ الشمس أي أنه مازال فيها نصف حرارتها وزيادة. وقد اهتم بعض أرباب هذا الشأن باستقراء الأستاذ سي وأخذوا يبحثون في أمره وعلى كل فإن كلامه يبعث على الاطمئنان من ناحية الشمس وأنها ستبقى أيضاً بضعة ملايين من السنين.
مركبات القطارات
كل من ركب القطارات يعلم ما ينالها من الغبار خصوصاً عندما تصل إلى آخر الخط بعد أن تسير ساعات متواليات وأن السكك الحديدية تستعمل في الغالب المكانس لإزالة الأوساخ التي تعلق في المركبات وقد استعملت بعض البلاد مؤخراً أداة ميكانيكية لكنها لم تأت بنتيجة نافعة لأن الغبار كان يزول عن ظاهر المقاعد ويعلق في الثنايا والطيات التي لا تصل إليها تلك الآلة وجربت الشركات الفرنسية منظفات متحركة ذات مضخات فارغة من المواد تدار بمحرك كهربائي وتنقلها عجلات فأسفرت عن نتيجة حسنة وسرعة مطلوبة. وجربت بعض الخطوط الألمانية هذا الاختراع في ضاحية برلين فظهر لها نفعه.
الطماطم البندورة
كان يحظر على المصابين بداء المفاصل وآلام العضلات أن يتناولوا الطماطم لما فيها من حامض ملح الحماض الذي يزيد في ألم المصابين بهذين الداءين وقد أقام العالم الفرنسي ارمند غوتيه الحجة على هذا الخطر إذ استبان له أن في الطماطم كمية وافرة من الحامض الليموني وحامض الماليك مما يصفه الأطباء للمصابين بآلام العضلات.
كتاب فرنسا
قدرت إحدى المجلات أن لفرنسا في هذا القرن مائة ألف كاتب أو دعي في الكتابة منهم 64. 750 لا صفة لهم أي ليس لهم حسنات ولا سيئات و31. 100 كاتب هم وما تخطه أناملهم سخرية وهزوءٌ و135 رجلاً يكتبون أموراً مهمة بإنشاء وسط و28 هم كتاب(9/68)
حقيقيون مما دل على أن المجيدين قلائل في كل أمة.
الصنائع العربية
قال أحد الباحثين في المجلة التونسية أن جودة الصناعة العربية تتمثل لك في التحف منها وفي المصنوعات العادية وأن العرب أخذوا عن الروم والفرس أولاً كيفية إقامة دورهم وأن صناعة تطريق المعادن ارتقت عندهم كما فاقوا غيرهم في صنع الفسيفساء ويقال أن الفينيقيين أخذوا صناعة الزجاج عن زجاجي العرب.
مدرسة الكتاب
في ميلان إحدى المدن الإيطالية مدرسة أسست سنة 1888 على يد جمعيات الطباعة في تلك المدينة دعوها مدرسة الكتاب أي صنع الكتاب وما يتوقف عليه من طبع ووضع وقد كانت الحكومة الإيطالية تساعدها مسانهة بألف وخمسمائة فرنك وظلت حقيرة حتى سنة 1900 وهي السنة التي وهبها بعضهم ملايين من الفرنكات وقفها عليها وقفاً شرعياً تنتفع تلك المدرسة بمغله مادامت الأرض والسماء. فعندها أقامت عمدة المدرسة لها بناءً فخيماً كلف ثلاثمائة ألف فرنك وجعلت فيها صفوفاً لتعليم تنضيد الحروف وصفها باليد وعلى الأداة وصفوفاً للطبع والتصحيح والقطع والحفر على الخشب وطبع الحجر والتذهيب والتنحيس وصفوفاً لدرس طريقة التصوير الميكانيكي والتجليد والرسم وتعلم اللغة الإيطالية وغيرها ومدرسة لتعليم المستخدمين في حوانيت الكتبية. ويتعلم التلاميذ في هذه المدرسة ما يروقهم من هذه الصناعات مجاناً لا يدفعون شيئاً.
بحيرة زئبق
اكتشفت في الجبال المجاورة لفراكروز في المكسيك بحيرة من الزئبق سطحها نحو 125 فداناً وعمقها خمسة أمتار ويساوي الزئبق الذي فيها عدة ملايين من الفرنكات وكانت هذه البحيرة معروفة عند أهل الجوار منذ أجيال ولكن يصعب الوصول إليها لما في طريقها من الصخور والتلعات حتى إذا فعلت الحوادث البركانية فعلها سهلت السبيل إليها وسيقام نفق في الجبل ليصل إليها الناس آمنين.
هواء المدن والأرياف(9/69)
ثبت لأحد الباحثين في هواء المدن العظمى أن ميزان الحرارة الترمومتر يعلو علواً متوسطاً في المحال التي تجتمع فيها البنايات بكثرة وقد أخذ معدل الحرارة في لندن وبرلين وباريس وقاسه بحرارة ضواحي تلك المدن فكانت في الغالب أنقص في الأرياف منها في المدن درجتين أو ثلاث درجات. وأكد الشيوخ من الإنكليز أن البرد في إنكلترا لا يقرس الآن كما كان يقرس منذ خمسين سنة وعلل ذلك أصحاب الشأن بأنه كان هناك مستنقعات جففت فانقطعت الرطوبة وكان الشتاء قديماً يبدأ في إنكلترا في شهر ديسمبر (كانون الأول) بل وفي نوفمبر (تشرين الثاني) أما الآن فتصل إلى يناير (شباط) وقد خلصت من البرد. إذا عرفت هذا فإنه يسوغ لك أن تقول بأن هواء سيبيريا الجليدي سينقلب عما قريب. ومعلوم أن درجة الحرارة في فرخويانسك وهو أبرد مكان في الأرض من ولاية اياكوستك يبلغ معدل الحرارة فيه في الشتاء 61. 9 تحت الصفر ثم أن لقطع الغابات دخلاً في تغيير الهواء فإن قطع الأشجار من الغابات التي لم تقطع منها من قبل شجرة قد أحدث في أميركا أسوأ التأثير في الزراعة التي كانت تلك الأشجار في الحقيقة بمثابة واق لها من بوائق الجو.
قوى الأمم
كتب أحدهم في المجلة الاستعمارية النيابية مقالاً جاء فيه أن ما يتنبأ به العالم من ظفر أمة على أمة يكون تخرصاً فلا يصدق فأل المتفائل ولا حدس الحادس من ذلك أن اليابان وكانت سنة 1894 أربعين مليوناً قد دحرت جيش ابن السماء وكان عدد الصينيين إذ ذاك 360 مليوناً وها أن جمهوريتي الأورانج والترانسفال ولم يكن فيهما أربعمائة ألف نسمة ولا جيش دائم قد تغلبا على الجيش الإنكليزي وقهرا إنكلترا ذات الحول والطول وضخامة الملك والسلطان وكان من اليابان أن غلبت الجيش الروسي وهو جيش القياصرة الجرار. قال الكاتب وإنا لنجهل مع هذا تقدير قوى الممالك الجندية على وجه التقريب وكل أمة لا تكون قوية بدون تنمية الشهامة الطبيعية وتعويد أفرادها النظام في العمل واقباسها قبس التهذيب والتعليم والتثقيف هيهات أن تعد من القوة في شيءٍ فقد كان لروسيا مورد عظيم للرجال ولكن كان ينقصها التمدن ويكفي أن العمل بين سكانها كان غير مكرم على الجملة وأن الأمة في روسيا لتضطر أن تنقطع عن العمل في السنة 135 يوماً في أعياد بطالة.(9/70)
قانون الوراثة
نشرت مجلة أميركا الشمالية بحثاً في كيفية انتقال الصفات والعيوب الطبيعية والعقلية بالوراثة من الآباء للأبناء ومن جيل إلى آخر ظهر منه كيف خلطت الوراثة بغيرها من المؤثرات الكسبية أو الناشئة من المولد والموطن فاستنتج الباحث بأن الأمراض الظاهرة أو الكسبية لا تنتقل أصلاً وأن الاستعداد للأمراض هو الذي ينتقل لا المرض نفسه. مثال ذلك السل فقد تبين اليوم أن المسلول لا تنتقل إليه من آبائه جراثيم العلة بل ينتقل إليه الاستعداد لهذا الداء ولولا ذلك ما تيسر الشفاء منه. واستنتج بأن عيوب التراكيب الظاهرة لا تنتقل في العادة وأنه من الممكن أن ينتقل الخلل الباثولوجي في الحواس الداخلية.
وقع خطأ في ص425 س8 وأبي بكر بن زهير والصواب وأبا بكر وس 10 أبو القاسم والصواب أبا القاسم وفي ص459 س5 فما اجاني والصواب فما الجاني.(9/71)
العدد 10 - بتاريخ: 17 - 11 - 1906(/)
صدور المشارقة والمغاربة
ياقوت الحموي
554_626هـ
لا يستقر بأرض أو يسير إلى ... أخرى كشخص قريب عزمه نائي
يوماً بحزوى ويوماً بالعقيق ويو ... ماً بالعزيب ويوماً بالخليصاءِ
وتارة ينتحي نجداً وآونة ... شعب الحزون وحيناً قصر تيماءِ
هذا ما استشهد به ياقوت على تنقله في الرباع والبقاع وما كان تنقله سوى تنقل عاقل يرحل في اقتناص شوارد العلم ولقاء الرجال واستنفاض البلاد فهو أشبه بعالم غربي لهذا العهد يقطع المساوف ويركب البحار ويجوب القفار متنقلاً من قارة إلى قارة يدرس ويشاهد ويعتبر. ولكن شتان بين عالم اليوم وعالم الأمس. فالأول يقله البخار والكهرباء والثاني يركب الخيل والبغال والجمال. الأول يضرب في مناكب الأرض ووراءه دولة تحميه وأمة يعتز بها وجمعيات تنفق عليه وناس. . . . . . عمله قدره والثاني يخذله سلطانه وتسلمه أمته يعيش بكده ويعتمد في كل شأن على إرادته. وغايته من دنياه في عمله الشاق أن يخلص مما تنتج قريحته رأساً برأس غير متوقع خيراً من مستحسن ولا شراً من مستهجن. وبهذا ساغ لنا أن نقول أن السائح العالم في القرون الوسطى أعظم من السائح العالم في القرون الحديثة وأن الناظر في التاريخ ليستعظم أكثر ما يأثره من نور المعرفة للقدماء وقلما يستكثر ما يتم على أيدي طبقات المحدثين فما وفق إليه الجغرافي الفرنسي الشهير اليزه ركلو مثلاً في القرن التاسع عشر من التآليف والإجادة بعد صفاء الزمن وانتظام الحال لا يستعظم كما يستعظم صنيع ياقوت الحموي الجغرافي العربي في القرون الوسطى.
نشأ ياقوت أسيراً ذليلاً أسر من الروم فقيل له الرومي وبيع في بغداد فاشتراه تاجر يعرف بعسكر الحموي وإليه نسب فقيل له ياقوت الحموي ولما صار ملكه جعله في الكتاب ليتعلم ما يستفيد هو منه في ضبط متاجره (تجائره) وكان مولاه أقرب إلى الأمية لا معرفة له بغير الكسب. ويؤخذ مما قاله صاحب وفيات الأعيان أن ياقوتاً قرأ شيئاً من النحو واللغة وشغله مولاه بالأسفار في متاجره فكان يتردد إلى كيش وعمان وتلك النواحي ويعود إلى الشام ثم جرت بينه وبين مولاه نبوة أوجبت عتقه فأبعده عنه وذلك في سنة ست وتسعين(10/1)
وخمسمائة فاشتغل بالنسخ بالأجرة وحصل بالمطالعة فوائد ثم أن مولاه ألوى عليه وأعطاه شيئاً وسفره إلى كيش ولما عاد كان مولاه قد مات فحصل شيئاً مما كان في يده وأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً.
وبهذا سهل على ياقوت أن يطوف الشام والعراق والجزيرة وخراسان واستوطن مرو ثم دخل خوارزم وغيرها ولقي من الشدائد والمصائب ما يلقاه في العادة أرباب الأفكار. منها أنه ذاكر يوماً أحدهم في بعض أسواق دمشق وذكر له رأيه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكان منحرفاً عنه بما علق في ذهنه من مطالعة كتب الخوارج فثار الناس عليه وكادوا يقتلونه وبلغ أمره الوالي فطلبه فلم ير بداً من الفرار ولسان حاله ينشد قول الوزير ابن زيدون وقد فرَّ من قرطبة
فررت فإن قالوا الفرار أرابه ... فقد فرَّ موسى حين همّ به القبط
غادر دمشق سنة 613 كما غادر خوارزم يوم أتاها التتر لا سبد له ولا لبد متخلياً عن كل ما ملكت يمينه. خرج من بلد ذكر فيه رأيه وربما كان إيراده له بالاعتدال لأنا لم نر ما قاله هو أو بعض المنصفين في هذه الكائنة. فاعجب لأمة يلعن على منبرها الخليفة الرابع نحو ألف شهر من دون حرج ولا نكبر ويجيء بعد قرون من يذكره بالأدب من الوجهة التاريخية في تلك العاصمة نفسها فتقوم عليه القيامة فما أسرع تبدل الأخلاق والأحوال في القرون والأجيال. من النصب إلى التشيع ومنه إلى غيره من المنازع والنحل.
كان الأدب والتاريخ وتقويم البلدان أو الجغرافيا هي العلوم الغالبة على ياقوت وفي الجغرافيا برّز وبذَّ لأنها تتوقف على كثرة الاطلاع والرحلة وهما كانا ديدنه ودينه وما ألفه من الكتب هو من أرقى ما جادت به القرائح في عصره وبعده وإن جاء عرضاً في بعضها ما يعده علماء العصر من قبيل الخرافات مثلاً فإنه كان من لوازم عصره. والعلم والمعتقدات في عهدنا لا تشبه العلم والمعتقدات في عهده. على أن ما صنفه لا يزال إلى اليوم معتمداً ومعدوداً من الأمهات الطيبات وكتابه الذي اشتهر به لعهدنا خصوصاً معجم البلدان كما أن له كتاب معجم الشعراء ومعجم الأدباء - وهذا يطبع الآن في مصر كما طبع معجم البلدان فيها ثانية - وله كتاب المشترك وضعاً والمختلف صقعاً وكتاب المبدأ والمآل(10/2)
في التاريخ وإرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء وكتاب الدول ومجموع كلام أبي علي الفارسي وعنوان كتاب الأغاني والمقتضب في النسب وأخبار المتنبي وغيره.
هذا هو الرجل الذي رباه عاميٌ من عامة التجار فبلغ بحدة ذهنه وتوفره على الدرس مبالغ الأعاظم الكبار وكانت حياته حياة جهد وعمل لاقى من الدهر الألاقي واضطهده قومه وحسده معاصروه إلا أنه عرف قدره في علمه على ما كان هناك من الصعوبة في معرفة الرجل في تلك القرون في حياته. قال ابن خلكان وكان الناس عقيب موته يثنون عليه ويذكرون فضله وأدبه. وياقوت الرومي في ولوعه بالعلم والرحلة كمعاصره ابن سعيد المغربي ذاك كان في الشرق وهذا في الغرب فحيا الله زماناً ينبغ فيه أمثالهما.(10/3)
العلم الصحيح
نشرتها بجريدة الظاهر أولاً
قالوا العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان أو دنيوي وديني فالدنيوي علم ما فيه صلاح المعاش وحفظ النظام في عالم الكون والفساد والديني كل ما له مساس بالمعاد وتهذيب النفس والابتعاد عن المنكرات في هذه الفانية للظفر بالباقيات الصالحات في تلك الدار الباقية.
كان العلم الديني لأول أمره موجزاً مندمجاً لم يتعد قواعد مقررة وأصولاً نافعة فكان العربي يقصد الرسول عليه السلام يعلمه الدين في ساعة ثم يحيله على القرآن ويقول له اذهب راشداً وبشر عشيرتك وأهلك فقد عرفت من الدين جوهره وسره وما ينبغي له. فمن ثم دام الإسلام إلى السذاجة حتى قامت قائمة العصبيات من أجل التنازع على الملك وتجاذب حبل السلطة فمزج الدين بالسياسة ودخل في الإسلام من لا يهمه منه غير المغانم وراح بعضهم يدسون ما لم يقل فيما قيل وكثر المنافقون ممن سعوا بالدين في سرهم وهم من اتباعه في جهرهم وأنشؤوا يلبسوا ثياب الأصدقاء وهم له أعداء ماكرون.
دسوا عوامل إفسادهم وفي القوم يومئذٍ صفوة من الأخيار توفروا على محاربة البدع والموضوعات بكل لسان وبنان بل بكل سيف وسنان وكانوا على إخلاصهم وتأثيرهم كلما استأصلوا شأفة فاسد نبض من الأفسد نابض ورجال السياسة وأكثرهم لا يرجع في الغالب إلى رأي ومذهب يدهنون من وراء ذلك لحملة الدين ويبذلون لهم ما يستغوونهم به لينطقوا بألسنتهم ولا يفسدوا عليهم أمرهم إذا رفعوا أصواتهم ونعوا عليهم تبديلهم لما أنزل وإلصاقهم به ما ليس منه. ولما رأى العقلاء عائث الفساد يدب دبيبه في علوم المعاد خافوا أن يتدرج من العبث بالأعراض إلى العبث بالجواهر فلم يروا بداً من التدوين والتقييد والدلالة على مواضع الضعف والسخف ليبدو السليم لا شائبة فيه. وأنت خبير بما يقتضي ذلك من التطويل دع عنك ما يتخلله بالطبع لأن في القائمين به العالم العامل وفيهم صاحب البدعة والمقالة.
مضى على هذه الحال ردح من الزمن وعلوم الدين لم تمتزج بشيءٍ من علوم الدنيا إلى أن دخلت علوم الحضارة في الملة وسموها علوم الأوائل ورأت من بعض خلفائنا من أخذ(10/4)
بيدها وهيأ لها أسباب انتشارها فعندها كثرت المذاهب والآراء ونشأ العراك الأول بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية أي بين الدين القائم بالتسليم وبين الفلسفة المبنية على البرهان.
وظلت حال العلم الديني تابعة لمجرى السياسة إن جاء عاقل من الأمراء والملوك يكل أمره لجهابذة من المحققين ينظرون فيه وهم مؤتمنون مأمونون وإذا ولي رقاب الناس جاهل ينزل نفسه في كل المنازل فيتولى من الخلق أمور دنياهم ودينهم ويقرب إليه كل من يتابعه على أهوائه ولا ينكر عليه فعلاته والعقلاء بمعزل لا ينطقون إلا كارهين وربما تدرعوا الخمول وآثروا الانقطاع على الدخول في المجتمع لامحاضه النصح وتخليصه من المفاسد الطارئة عليه. نعم أن التاريخ لم يخل من وجود عقلاء في كل دور من أدواره ولكن قوتهم ضئيلة لا تنفع وصوتهم خريد لا يسمع إذا نسبتهم لأولئك المنافقين في خدمة الآمرين والناهين وقد قل عددهم كثيراً في هذه الديار خصوصاً بعد الدولتين النورية والصلاحية وصار العلم أشبه بتقاليد ورسوم منه بعلم وعمل ومناطق ومفاهيم.
وما فتئت العادات يتخيلها بعضهم من الدين ويدسونها فيه وللجهل الكلمة النافذة في الهيئة الاجتماعية إلى أن كان القرن التاسع والعاشر وما يليهما من قرون الهجرة وهي من العصور المظلمة في تاريخ الإسلام حقيقة فعندئذ قل المميز والمفكر وبطلت علوم الحكمة جملة واحدة وصار من يتعاطاها في نفسه وبين خاصته كمن يأتي أمراً إداً ويخون دينه وأمته وبطل النظر في الأصول وتحتم على كل عقل أن لا ينظر في غير الفروع مما أملته خواطر المتأخرين. فأصبح بذلك يعد العالم كل العالم من يحفظ من هذه الفروع أكثر. اعتبر ذلك بما تتلوه في تراجم أعيان العلماء في هذه القرون فإنك لا تراها تتعدى الأقوال والآراء وأهل كل جيل يقدسون قول من سلفهم ولو ببضع سنين نعم إنك لو أنصفت لا تكاد ترى لهم تأليفاً تقرأ فيه نور العقل والخلاص من التقليد البحت ولقد أتت أيام في معظم الأصقاع الإسلامية حرم النظر فيها حتى في الكتاب والسنة وعد الناظر فيهما محاولاً للخروج عن سنن الجماعة فإذا خالف فرد ما ألفوه أهانوه ومن قاوم بفكره سجنوه أو نفوه وشردوه وذا خافوا بأسه قتلوه وجعلوه عبرة ومثلاً للآخرين.
تأصلت الأوهام فعدت من أقدس القربات وسار الناس مع تيار الجهل وتقديس أقوال أدعياء(10/5)
العلم والتقوى وصدرت الأحكام بعوامل الأوهام وغدت هذه البلاد كبرج بابل في التبلبل والتشويش اتخذت كل منها لها أئمة وأولياء وأنشأت تكبر أمرهم وتدعي لهم مقاماً ما ادعوه لأنفسهم وراح الفقيه يكفر الصوفي والصوفي ينقم على الحديثي والأصولي يحمل على الفروعي واشتغل أهل كل قطر بل أهل كل مصر بتقديس من تواطؤوا على تقديسهم والطعن فيمن عداهم ممن لم يصوروا لهم بالصورة المناسبة لما وقر في نفوسهم وركز في طبائعهم وعشش في مخيلاتهم. وهكذا امتزجت علوم الدين بالمشاغبات والمماحكات لو بعث الشارع وأصحابه لرأوا الاختلاف بين ما ورد وما صار إليه مستحكماً بعيد الأطراف يصعب الجمع بينهما كما يصعب الجمع بين النقيضين. ماذا أصف من تسرب الجهل إلى العبث بالعقول في تلك القرون وأنك لترى أثراً من آثاره لهذا العهد عند بعض من فطموا أنفسهم عن النظر في المعقولات منا فترى كلمات التضليل والتكفير والتبديع والتفسيق أسرع إلى أفواههم من الماء إلى الحدور وتشهد الغر الغمر يتحكم بالجنة فيعطيها لمن يشاء ويحرمها من يشاء فوا رحمتاه على أناس أضاعوا فضل عقولهم في الجدل ولكم كان الخير يأتي من جهتها لو اشتغلت بالمفيد ونبذت الأهواء ظهرياً ولكن إذا أراد الله بقوم سوءً رزقهم الجدل ومنعهم العمل.
قلت فيما سلف أن علوم الدنيا دخلت في الملة لما رأت من يعضدها من رجال السياسة وكان ذلك في القرن الثاني. بيد أنها لم تنتشر الانتشار المطلوب إلا في القرن الثالث. شاعت قرنين ثم أخذت تضعف إلى أواخر القرن السابع أيام قل المشتغلون بها ولو على طريقة نظرية بعلوم العقل التي لا قائمة لأمة بدونها مهما أخلصت في دينها. وإذا استفتيت تواريخهم تجد المتلبسين بشعار العلماء لا يعدون في جملتهم ذاك الرياضي والجغرافي وربما فضلوا عليهما المعمار والثرثار. من أجل هذا نرى المدارس على تفنن القوم في إنشائها بعد القرون الوسطى فنازلاً خاصة بالفقيه والمحدث والقارئ والرباطات للمجذومين والمعدمين والكسالى ولم نجد مدرسة اللهم إلا بعض مدارس الطب موقوفة على الرياضيين والطبيعيين والفلكيين والمؤرخين كأن علومهم هذه أباطيل لا تصح الإعانة عليها وحسب الرياضي أن يغضي الفقيه عنه مادامت الحال بين هبوط وصعود والأجدر بها أن تدعى سقوطاً إلى منتصف القرن الماضي أيام أخذ السلطان عبد المجيد في البلاد العثمانية ومحمد(10/6)
علي باشا في هذا القطر يسهلان السبل لهذه العلوم ويعد أن أهلها في مصاف العلماء وأنشئت المدارس لتعليمها وغدا المشتغلون بالعلوم الدنيوية حزباً والمتوفرون على تعليم العلوم الدينية حزباً آخر على أنه لم تحمد عودة تلك العلوم الدنيوية التي سماها بعضهم عصرية وبعضهم دعاها حديثة لما نتج عنها من حركة كانت أشبه برد فعل ماثلت الأمة معها صائماً أخذ منه الجوع فلم يجد ما يطعمه حتى ساقته الأقدار إلى مائدة مترف موسر وقد حوت ما طاب وحلا من صنوف الأطعمة والحلواء فأخذ يلتهم ما وصلت يده إليه بدون ترو ويزدرده بلا مضغ ويمزج بارده بحاره وحلوه بحامضه ويؤخر ما يقتضي تقديمه ويقدم ما يحسن تأخيره. ونشأت ناشئة لم تدر من العلم الحقيقي غير قشوره شربت مصة من مورده ظنتها غاية ما يرتوي به المرتوون وراحت تعد المروق غاية النور والإزراء على النبوات من آيات الحكماء والطعن بالشرائع من عمل الجهابذة النحارير وإنكار القديم مهما كان نفعه والتعلق بالحديث مهما ضؤل قائله من دواعي النهوض والاستنارة. وعلى الجملة ينبذون كل ما ليس لهم به علم من تراث أجدادهم حاسبين الصحيح منه والسقيم في مقام واحد مما حكين ولو بان لهم الراجح من المرجوح.
يقول فتية اليوم أنه لا نجاح للأمة إلا بنبذ ذاك القديم مباشرة والأخذ بهذا الحديث على علاته وفاتهم أن ما يسوغ في الغرب لا يتم في الشرق وأن لكل أمة طبيعة ومنازع لا مناص من مراعاتها وأن إقامة مدينة جديدة في بادية أسهل من إصلاح مدينة قديمة لا غنية عن البناء فيها وأن من العقل أن لا ينبذ ذاك القديم بل يرجع فيه إلى الأصل القليل ويؤخذ النافع منه ويترك ما عدا ذلك من تخريف المخرفين وضلالات المبتدعين والأخذ من هذا الحديث بالعلم الصحيح الذي تمس إليه الحاجة وإطلاق الحكم للعقل يعمل معمله في طريقه.
العلم الصحيح هو الذي يبعث صاحبه على عمل النافع ولو كان في ذلك ضياع مصلحته الشخصية فلا يبالي حامله بغضب الرؤساء والزعماء ولا يستغويه رضى الغوغاء والدهماء. يتجشم المخاطر في نشر خاطر. ويركب كل صعب وذلول لإنارة مظلمات العقول.
العلم الصحيح هو الذي خلص من ضغط الأهواء السياسية والمذهبية وسلم من التأثيرات والغايات فلقنه صاحبه بريئاً من شوائب النزعات والنزغات وأثر في نفسه تأثيراً مجرداً(10/7)
فإذا نطق بعده فلا ينطق إلا بما يوحي إليه هاتف الفهم السليم والعقل الحكيم فلا يتعصب للآباء والجدود ومألوفات المحيط وعادات الأهل والإقليم ويتحزب لشيخه وأستاذه ولو تجلى له أنهما عن طريق الحق ناكبون.
العلم الصحيح هو الذي يحترم صاحبه به آراء غيره ولو كانت مباينة لأفكاره كل المباينة ولا يعدها سخافات وترهات فينكر كل ما لا يعلم ويستكثر ما وعى.
ولا يعد حطة عليه أن يتسقط الحكمة إن وجدها وفي أي المظاهر ظهرت فيأخذ نفسه بالتعلم ولو شاب وجاوز الثمانين.
العلم الصحيح هو الذي تكون نتائجه أكثر من مقدماته وفروعه خيراً من أصوله يأخذ له حامله من نفسه فلا يتكبر عن إفادة ولا يستنكف من استفادة ويسعى إلى بث ما يعرف في كل أفق ويعد البشر أخوة فلا يقصر في تعليمهم مما علم يقين أن إصلاح الأفراد سلم للوصول إلى إصلاح الجماعة والمصلحة العامة هي أبداً موضوع نظر من رزق حظاً من هذا العلم.
العلم الصحيح هو الذي يربي الملكات ويهذب النفوس فلا يستخدم صاحبه علمه أداة للغلبة بالباطل والإدلال على الأقران والذهاب بفضل الشهرة والمحمدة الزائلة والتبجح والتنطس فامنح اللهم بفضلك هذه الديار شيئاً من هذا العلم وكثر فيها سواد أهله بمنك وحسن تسديدك.(10/8)
صفحة من تاريخ مصر
معربة عن مجلة الاكونومبست أوربيين الفرنسية للمسيو ادمون تيري
يبتدئ تاريخ مصر الحديث من عهد محمد علي مؤسس الإمارة الخديوية الحاضرة ومحمد علي هذا ولد في الروم أيلي وهو رجل شجاعة وفرط ذكاءٍ سعى فوفق إلى أن ينصب والياً على القاهرة وحاكماً على القطر المصري سنة 1805 وذلك بمساعدة المماليك الذين أبادهم بعد ست سنين من استلامه أزمة الحكم عندما طمح هؤلاء النبلاء بعد أن كانوا عبيداً وأجناداً موصوفين بحب السلب والنزوع إلى الفتنة في تهديد قوته.
بلغت مصر على عهد قدماء ملوك المماليك التركمان والجراكسة (1254_1517) أرقى درجات الحضارة الشرقية ولكن كان الشعب يؤدي المغارم بطريقة وحشية قاسية ولم يكن حكمهم الذي دام 263 سنة سوى سلسلة طويلة من الحروب الأهلية والمؤامرات وانقلاب في أحوال القصور وجرائم وجنايات يباع فيها الدم بيع السماح. حتى أن السلطان سليم الأول العثماني لما استولى على مصر سنة 1517 رآها وقد استحكمت فيها الفوضى المطلقة فجعلتها خراباً يباباً.
ولم تكن البلاد على عهد الفتح العثماني (1798_1517) أسعد منها على عهد المماليك الذين عادوا بعد قليل واسترجعوا نفوذهم القديم وإليك ما قاله نابليون الأول في وصف هذا الدور الذي دام 281 سنة وذلك نقلاً عن مفكراته على الحملة المصرية:
أبقى السلطان سليم أربعين ألف جندي حامية تحفظ البلاد التي افتتحها وقسمهم إلى سبعة فيالق وكان الستة منها مؤلفة من العثمانيين والسابعة مؤلفة من المماليك. وجمع لذلك كل من سلم من أيدي هؤلاء. وعهد بإدارة البلاد لباشا وأربعة وعشرين بيكاً ولجماعة من الأفندية وإلى ديوانين وكان أحد هؤلاء البكوات الأربع والعشرين قائم مقام الباشا ونائبه ولقد كثر عدد فيلق المماليك وهو مؤلف من أجمل الرجال وأشجعهم وأخذت الفيالق الستة بالضعف ونزل عددهم بعد قليل إلى سبعة آلاف جندي على حين بلغ المماليك وحدهم زهاء ستة آلاف. وفي سنة 1666 أخذت الفوضى يدب دبيبها في كل رجا وزحزح العثمانيون عن القلاع والمعاقل فاستولى المماليك على كل شيء ودعي رئيسهم شيخ البلد. ثم أخذ القوم ينفرون من الباشا ويحتقرونه فنادى علي بك شيخ البلد سنة 1767 بالاستقلال والاستئثار(10/9)
بالسلطة وضرب السكة باسمه واستولى على مكة وحارب سورية واتحد مع الروس وغدا البكوات كلهم عندئذٍ من المماليك. وفي سنة 1798 أصبح لكل بك من هؤلاء البكوات الأربع والعشرين قصره الخاص به وفيه من الحاشية والغاشية ما يختلف قلة وكثرة وكان عند أضعفهم بأساً مائتا مملوك وكان لمراد بك ألف ومائتا مملوك بحيث كان هؤلاء الأربع والعشرون بيكاً يؤلفون جمهورية تخضع لأعظمهم نفوذاً فيهم ويتقاسمون بينهم الأموال ويتوزعون المعاقل. وقد قدر عدد المماليك نساءً ورجالاً وأطفالاً سنة 1798 بخمسين ألف نسمة يخرجون منهم اثني عشر ألف فارس.
أهلك الجيش الفرنسي في حرب الأهرام في يوليو سنة 1798 سبعة آلاف مملوك وأباد محمد علي سنة 1811 ما بقي منهم. ثم أن الباب العالي صدق على ولاية محمد علي على مصر لقاء سبعة ملايين من الفرنكات يدفعها خراجاً في السنة فحاول أن يعيد إلى القطر ما فقد من بهائه القديم فوطد أسباب الأمن في البلاد ونظم له جيشاً قوي الشكيمة.
وبينما كان ولدا محمد علي طوسون وإبراهيم يستأصلان شاقة الوهابيين سنة 1818 ويستوليان على النوبة وسنار وكردوفان التي كانت أضيفت إلى إمارة مصر باسم السودان المصري وخرطوم عاصمتها سنتي 1821 و1822 وينجدان السلطان محمود العثماني في قتال اليونان المتمردين سنتي 1824 و1829 ثم يغيران بعد ذلك بسنتين على سورية والأناضول انتقاماً من السلطان على عدم اعترافه بالجميل بينما كان أبناء محمد علي يقومان بهذه الأعمال كان محمد علي والدهما يتقدم إلى فرنسا وكان يحبها كثيراً أن تبعث إليه بمهندسين وكيماويين ومعماريين وميكانيكيين وغيرهم يحفرون له الترع ويصلحون سدود النيل القديمة ويقيمون قناطر حديثة ويعمرون الأطيان القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد ويدخل إليها المزروعات الجديدة وينشئ المعامل لينجح في توفير الغلات والتجارة الوطنية.
ولكن محمد علي لم يحسب حساب العمل وما يقتضي له في هذا التبديل الاقتصادي الذي كان يرغب فيه فأباد الفلاحين على نحو ما صنع المماليك بما حملهم إياه من السخرة والضرائب وسبهم أراضيهم التي جعلها إلا قليلاً ملكاً خاصاً له وترك للخزانة الاستئثار بالتجارة الخارجية.(10/10)
على أن ما بذله هذا الوالي لم يكن متناسباً مع قوة البلاد المساعدة ولم يحدث عنها لسوء الطالع النتائج التي كان يتوقعها فلم تلبث تلك المصانع ومعامل القطن والسكر التي أنشئت بالأموال الطائلة في جميع أمهات مدن القطر أن تداعت أركانها عقيب ما قام بنيانها وذلك لسوء إدارتها ولقلة استكمالها أسباب الجودة بحيث أن محمد علي لما أصيب بمرض في عقله وتخلى عن الإدارة لبكر أولاده إبراهيم (1848) كان الشعب المصري في بؤسه وشقائه على نحو ما كان في آخر حكم المماليك.
خلف إبراهيم أباه بموجب وفاق تم عقده بين محمد علي والباب العالي وصادقت عليه الدول العظمى (1841) اللائي ضمن لعزيز مصر أن تكون له ولأحفاده الذكور من بعده ملكاً أبدياً يتوارثها بكر الأولاد مع حفظ سيادة الباب العالي على القطر. ولكن لم تطل مدة حكم إبراهيم أكثر من بضعة أشهر وخلفه ابن أخيه عباس باشا (10 نوفمبر سنة 1848) وكانت إدارته للبلاد إلى الضعف.
تولى عباس باشا سنة 1854 فخلفه سعيد باشا رابع أولاد محمد علي. يقول المسيو رافيس في بحث له جليل في مصر أنه كان ذا حظ من الذكاء الباعث على العمل والحامل على حمل أسباب الحضارة على نحو ما كان لوالده مع ما امتاز به من التهذيب الأوربي الذي لقنه أحسن تلقين فاتسعت مداركه ولذلك أتم إصلاحات والده وتوسع فيها. فألغى بعد سنتين النخاسة والجمارك الداخلية والاحتكار وأطلق للفلاح حريته الشخصية وحرية التملك ووفى ديون القطر القديمة وهو الذي أنجز قناطر النيل ورخص للمسيو دي لسبس صديق صباه أن يخرق ترعة السويس وهو أول من جعل للأمير راتباً وأقام خزينة خاصة.
مات سعيد باشا سنة 1863 وخلفه إسماعيل بن إبراهيم فنال هذا من الباب العالي (1866) حق الإرث في الإمارة لأولاده وإلغاء حق بكر الأولاد فيها في فروع القرابة غير الفرعية ونال لقب خديوي فجاء ذكره في مجموعة القوانين العثمانية بعد ذكر اسم السلطان مباشرة. ولقد حرص إسماعيل على إدخال التنظيمات الجديدة ولكنه كان منفاقاً متلافاً للمال فساق البلاد المصرية بإدارته المحزنة إلى الإفلاس وإضعاف الاستقلال الوطني الذي كان حلم باسترجاعه.
قال ادمون أبو في كتابه العجيب المسمى الفلاح الذي نشره قبيل الاحتفال بافتتاح ترعة(10/11)
السويس بعد أن وصف جمال الصنعة في مساجد القاهرة ووصف عجائب الهندسة الدقيقة التي دعوها بدون مسوغ قبور الخلفاء وقام القوم بصنعها بحيث تعجز جميع الأيدي العاملة في مصر عن مضاهاتها ما نصه:
عهد جميع هذه المصانع الصالحة الجميلة كعهد أمثالها عندنا تقرأ فيه الكآبة والتشويش ولعمري كيف تأتى لأولئك القدماء أن ينشئوا أعاجيب من المصانع والمعاهد يتعذر على مصر الحديثة إصلاحها؟ يتداعى كل شيء ويبيد فيذهب غير مأسوف عليه هباءً منثوراً ولا يحاول الأحياء اليوم أن يدعموا ما وهى من تلك الخرائب الفخيمة. هم أهل إخلاص في أعمالهم لم تضعف نفوسهم كما ضعفت نفوسنا منذ أقمنا بناء بيعنا الكبرى على الطرز الغوطي. ولعمري كيف جوز أولئك المؤمنون أن يتركوا تلك المصانع الدينية تتداعى أركانها على حين نحن بذلنا كل مرتخص وغال لصيانتها على الحادفينا.
أنشئت المصانع العامة في جميع الممالك بفضل المعاونة الحقيقية والشخصية وقامت بفضلات ما تنفقه الأمة في سبيل حاجياتها. نرى المصريين الماثلين أمامنا يصرفون أقل ما يمكن صرفه ويقومون على ما يظهر لي بأعظم الأعمال الجسدية وإن لم يكادوا يقومون بالإنفاق على أنفسهم وتأدية الخراج للحكومة. ليت شعري هل فسدت الأرض أم سكانها أم حكومتها أم يتحتم علينا أن نعتقد بأن استبداد المماليك فتح هوة يتعذر ردمها.
كتبت هذه السطور منذ زهاء نصف قرن بعد إبادة المماليك المتأخرين فثبت بها أن محمداً علياً وأخلافه قلما عنوا بتحسين حالة هذا الشعب الخاضع العامل الذي لم يعمل قط إلا للغرباء ولم ينله نفع من كده وإليك ما قاله الآن اليزه ركلو بعد ادمون أبو بعشرين سنة:
إن النقوش الناتئة في المصانع المصرية تمثل هذا الشعب بأنه كان منذ ثلاثة آلاف سنة كما هو اليوم يحني رأسه تحت ضربات السياط. ولقد كان الفلاح المصري أبداً مظلوماً مرهقاً لا قدرة له على الانتقال كما ينتقل البدوي الرحالة وليس في سهل الدلتا العظيم المنبسط ولا في وادي النيل الضيق المضطرب مكان يسعه أن يحاول الالتجاء إليه ليكون فيه بمأمن ولذلك كان عرضة للشقاء لا مستقبل له ولا أمل يرجو نيله ومع هذا تراه يحب مسقط رأسه حباً جماً وإذا طرحته النوى مطارحها وأبعدته عن ضفاف نهره المحبوب تعروه الكآبة ويموت معذباً بالإب أي مرض فرقة الأوطان.(10/12)
عود إلى موضوعنا - فقد فتحت ترعة السويس في نوفمبر سنة 1867 ثم اتخذ إسماعيل سياسة التغلب التي افلح فيها جده ووسع حدود مصر إلى البحيرات العظمى في إفريقية الوسطى سنتي 1870 و1876 وصادق له السلطان على نصف استقلال الخديوية فيما يتعلق بالباب العالي ولكن إسماعيل أنشأ في خلال عشر سنين من حكمه يسرف ويتلف فعد عهده عهد إسراف مالي شرع يستدين من فرنسا وإنكلترا حتى اقترض 2500 مليون فرنك بشروط كانت من الفداحة بحيث أصبح الإفلاس لا مناص من الوقوع فيه.
نعم حدث ذلك بالفعل فرضي إسماعيل سنة 1876 بقبول المراقبة الأجنبية على المالية المصرية وبعد انقضاء ثلاث سنين على هذا ومحاولة إعادة النظام الإداري إلى نصابه الأول عين في الوزارة المصرية اثنان من المراقبين أحدهما إنكليزي المستر ريفرس ويلسون والآخر فرنسي المسيو دي بلنيير سنة 1879 وعندها نشأ عن ذلك ما هو معلوم من المشاكل بين الإدارة المصرية ووكلاء الدائنين وإن وقع الاستحسان على المراقبة الإنكليزية الفرنسية في جميع ما يختص بالمالية المصرية.
جاء في كتاب المسألة المصرية الذي نشر حديثاً كلام للمسيو فريسنيه (أحد وزراء فرنسا) حكم فيه الحكم التالي على عزل إسماعيل وحلل مؤلف هذا الكتاب الممتع التقلبات المنوعة في السياسة الفرنسية بمصر منذ حملة بونابرت إلى أيامنا قال الوزير:
وهكذا انتهت أيام أمير كان في مكنته أن يكون حظه غير ما تم له فقد كانت له على نقائصه الكبيرة صفات محمودة فلئن كان محتالاً موسوساً مهووساً مفرطاً في العجب مسرفاً محباً للعظمة فقد كان أيضاً صاحب سلطة وذكاء في تعاطي الأعمال يحسن التمييز بين مصالحه المختلفة وتظهر كفاءته في حسن خدمتها. وقد دل إصلاحه القضائي وما بذله من مد يد المعونة في مشروع ترعة السويس وما توفر عليه من القيام بكثير من الأعمال النافعة على أنه أهل للعمل بالأفكار السامية. ولو كان لفرنسا في مصر إذ ذاك معتمد حازم حاذق وثابت لنالت بواسطته نفوذاً كبيراً وكان يتأتى بمعونة الدول وفي الأحوال الحرجة التي وقعت البلاد فيها أن يؤخذ بيد إسماعيل في طريق يكون إلى السلامة أكثر من الطريق الذي سلكه.
فقام على عرش الإمارة المصرية بقيام توفيق أمير مهذب سليم الطوية تام الأخلاق مقتصد(10/13)
ولكنه ضعيف الرأي لا نفوذ له متوسط الذكاء تتقاذفه التأثيرات المتناقضة بحيث يعجز عن التغلب على مركز حرج. ولذلك رأيت مصر في خلال ذلك عرضة للاضطراب وعدم التماسك ثم للاختلال وانتشار الحوادث.
وعلى الجملة فقد كان من أثر الحوادث التي تلت إعادة المراقبة المالية أن راح أشياع إسماعيل يستثمرون المغانم منها فنشأ عن ذلك اضطراب شديد بين المسلمين من المصريين انتهى بثورة السودان وقيام المهدي محمد أحمد يدعو إلى الجهاد (أغسطس 1881) وأدى إلى الفتنة المشهورة في القاهرة (9 سبتمبر 1881) التي أثار ثائرها الحزب الذي سمى نفسه الحزب الوطني وكان الأميرالاي عرابي زعيمه المعروف.(10/14)
شيءٌ من تاريخ الكائنات والإنسان
خلق الله النور ثم الجلد ثم النبات والأشجار والأعشاب والمياه. ثم الشمس والقمر والكواكب ثم الأسماك والطيور ثم الدبابات والبهائم ثم الإنسان.
لا يعلم العلماء مقدار المدة التي كانت بين خلق النور وبين الجلد وبين سائر المخلوقات المتقدم ذكرها. فقد يمكن أن المراد في الأيام التي ذكرها موسى أول مؤرخ ظهر على وجه الأرض عصر أو مدة طويلة. فإنه لا يوجد كلمات في اللغة العبرانية التي كتب فيها موسى تاريخه أو الأسفار الخمسة في التوراة تدل كل منها على يوم ومدة وعصر على حدتها. ولقد دل كل من علم طبقات الأرض وعلم الفلك على أن المراد بتلك الأعصر ألوف عديدة من الأعوام.
بيد أن قسماً كبيراً من البشر يعلم حق العلم بأن الله جل جلاله سلط الإنسان على الكائنات وعلى هذه الطبيعة العجيبة أو أنه أقامه سيداً على كل ما نراه أمامنا ووراءنا وفوقنا وتحتنا وحولنا من جمال هذا الكيان وبدائع هذه الخليقة التي حار في فهم أسرارها القدماء والمحدثون.
آدم جد الأسرة البشرية كلمة عبرانية معناها التراب الأحمر. وحواء جدة الجنس البشري كلمة معناها أم كل حي. ولقد دلت الآثار القديمة في جميع قارات العالم - في آسيا وفي إفريقية وفي أوربا وفي أميركا على خلق آدم وحواء. فوجدت صور منقوشة على الصخور تدل على رجل وامرأة وبيد هذه ثمر.
أما موقع الفردوس الأرضي الذي وجد فيه الأبوان الأولان فقد اختلف فيه الأثريون ورجال البحث. فقال فريق أنه كان في ما بين النهرين أو في أرمينية بدليل ذكر موسى الكليم للنهرين دجلة والفرات. وقال آخر أنه كان في بابل أو في بلاد الكلدانيين.
كانت كل أمة في هذا الوجود تنسب خلق الأبوين الأولين إلى وطنها أو بلادها فجاء العلم يفسد هذه الدعوى حتى صار من المرجح في هذا العصر أن خلق آدم وحواء كان في جهات أرمينية أو فيما بين النهرين.
على أن هذا الاختلاف في هذه المسائل التاريخية والمشاكل العلمية لم يكن باعثاً على الاختلاف في أن الأبوين الأولين قد سقطا حسب مذهب أهل الإيمان وأن الله طردهما من جنة عدن وأنه قال لهما: بعرق وجهكما تأكلان خبزكما.(10/15)
ولد للأبوين الأولين قابيل وهابيل إلا أن الأول قام على الثاني فقتله حسداً. فكان قابيل أول من حسد وأول من أوجد المطامع البشرية التي لا تزال تئن منها البشرية والإنسانية.
ثم ولد سائر الآباء الأولين فكان عددهم كلهم عشرة. وهم آدم وشيث وانوش وقينان ومهللئيل ويارد واخنوخ ومتوشالح ولامك ونوح. ولقد أطال الله حياة كل منهم فبلغ بعضهم من العمر نيفاً وتسعمائة سنة لمقاصد جليلة منها إنماء النوع الإنساني.
قال موسى الكليم ما ملخصه: لما كثر الجنس البشري على وجه البسيطة وكثرت شرور الإنسان أهلكه الله بالطوفان. واختلف العلماء فيما إذا كان الطوفان عاماً أم خاصاً وأخذ كل من الفريقين المختلفين يؤيد مدعاه. فمن براهين علماء الدين أن الطوفان كان عاماً لا خاصاً لأن التوراة صرحت بأن المياه غطت جميع الجبال التي تحت السماء وإنها أهلكت كل جسد يدب على وجه الأرض وأن آثار الأمم القديمة تدل على كونه كان عاماً لا خاصاً.
ومن براهين الفريق الثاني من علماء الآثار وعلماء الجيولوجيا أن قبائل المغول في الصين وبلاد الأحباش والسودان من أصل قبل الطوفان. وقد أثبت علم طبقات الأرض أن الطبقة الثالثة من الأرض طبقة طوفانية. على أن علماء هذا الفن يقولون بأن تلك الطبقة ناشئة من طوفانات عديدة فطوفان سنة واحدة كطوفان نوح لا يمكن أن يكونها.
اختلف العلماء فيما إذا كان الطوفان عاماً أم خاصاً كما اختلفوا في مستقر السفينة النوحية ومهد الجنس البشري بعد الطوفان فقد ذهب جماعة من أهل البحث والتنقيب والعلم إلى أن الفلك النوحية استقرت على جهة من سلسلة جبال الهند وبلاد كوش بدليل أن تقليدات الفرس والهنود تدل على ذلك. وذهب غيرهم من الباحثين إلى أن مهد البشر ومقر سفينة نوح كانا في أرمينية ويقول موسى الكليم أن فلك نوح استقر على جبال اراراط وهو أصح قول إذا اعتقدنا بصحة ما كتبه موسى. وكيف لا نعتقد بصحة الأسفار الخمسة وقد برهنت على صحتها الخطوط الهيروغليفية المصرية والمسمارية والكلدانية التي كان أول من اكتشف أسرارها فقيد العلم يوحنا فرنسيس شامبوليون المتوفى سنة 1832م.
قال الكتاب الشريف أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضاً بالطوفان ولا يكون أيضاً طوفان ليخرب الأرض وقال وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض وقال وكانوا بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساماً وحاماً ويافث تكوين ص9(10/16)
عدد 11 و13 و18 و19.
إذا لم نتبع مذهب الذاهبين إلى أن أهل الصين والسودان وهنود أميركا من أصل قبل الطوفان فيكون سام وحام ويافث أصولاً لجميع الجنس البشري بعد الطوفان. فقد أقام سام في آسيا وأقام حام في إفريقية وأقام يافث في أوربا فالآسيويون القدماء من ذرية سام والإفريقيون الأصليون من أصل حام والأوربيون من أصل يافث. وأما نوح فهو جد الآسيويون والإفريقيون والأوربيون بعد الطوفان.
ذهب عدد كبير من العلماء إلى أن موسى الكليم اقتصر على ذكر أنساب النوع الأبيض من البشر. وأما أنساب النوع الأصفر والنوع الأسود والنوع الأحمر فلم يتعرض لها. ولعله أراد بهذا التخصيص أو الاقتصار ذكر الشعوب التي كان يعرفها العبرانيون في أيامه. غير أن العلماء اهتدوا إلى حل هذه المسألة فقالوا أن نوحاً عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فلا يبعد أن يكون ولد له أبناء أو أولاد في أثناء تلك المدة فكانوا أصولاً لشعوب أخرى.
فالشعوب القديمة التي ظهرت بعد الطوفان وذكرها موسى الكليم والمؤرخون القدماء كالآشوريين والعبرانيين والعيلاميين والعرب والآراميين هم من أصل سام. والإيرانيون والتتر والجومريون والأتراك واليونان والسلافيون والايبارييون من أصل يافث. والمصريون والغوطيون والكنعانيون والكوشيون من أصل حام.
واختلف أهل البحث في لغة الإنسان الأولى اختلافهم في غيرها من المسائل الغامضة فمنهم من قال بأنها كانت عبرانية ومنهم من قال بأنها كانت إحدى اللغات السامية كالسريانية والكلدانية والعربية. وقد تكون اللغة الأولى نوعاً من اللغات السامية ثم طرأ عليها تغييرات وإصلاحات وتحسينات. على أن هذه جميعها لم تغير شيئاً من جوهرها الأصلي. ولما كان نوح وذووه هم الذين بقوا بعد الطوفان كانوا بلا مراء يستعملون أو يتكلمون لغة الإنسان الأولى. ظل نسل نوح يتكلم هذه اللغة مدة أربعة قرون حسب الترجمة السبعينية. أما الذين اخترعوا الحروف الهجائية فهم الفينيقيون الذين فضلوا على العالم بأسره بمصنوعاتهم وآدابهم التي منها اختراع الحروف الهجائية. ثم كثرت اللغات وتنوعت إلى أن بلغت ما بلغته في هذا العصر.(10/17)
ذهب عدد كبير من علماء الدين إلى أن المدة التي كانت بين الخليقة والطوفان بحسب النسخة العبرانية هي 1656 سنة وبحسب الترجمة السبعينية 2242 سنة فإذا صح هذا المذهب فهذه الأعوام العديدة تكفي لإكثار نسل آدم وجعل سورية والعراق مأهولة بالسكان في تلك الحقبة التي بين الخليقة والطوفان. قال المطران يوسف الدبس في تاريخ سورية إن الحجة القاطعة على أن سورية كانت مأهولة بولد آدم قبل الطوفان هي موقع سورية الطبيعي وحيث أن المرجح عند العلماء أن مهد الجنس البشري كان أولاً فيما بين النهرين أو في أرمينية وكانت هذه البلاد متاخمة لسورية وكان لا يوجد بين البلادين جبال وبحار يستعصي مسلكها بل سهول خصيبة طيبة الهواء جيدة المرعى فقد كانت سورية بلا مشاحة مأهولة بالسكان.
هذه خلاصة ما قال المطران العلامة بهذا الشأن. أما أحوال البشر قبل الطوفان من زراعية وصناعية وتجارية واجتماعية ومدنية فلم يتوصل إليها الباحثون بعد. وكل ما ذكره موسى بهذا الصدد هو أن يابال كان أباً لساكني الخيام ورعاة المواشي وأن يوبال كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار وأن قوبال قايين كان الضارب كل آلة من نحاس وحديد.
إن أشهر الشعوب التي قامت قائمتها في سورية بعد الطوفان إلى عهد إسكندر الأول هم الآراميون والكنعانيون والعبرانيون والمؤابيون والإسماعيليون والمدنيون والعمونيون والأدوميون والفلسطينيون والسامريون والعناقيون. وأشهر هذه الأمم جميعها الحثيون والفينيقيون والعبرانيون.
هذا ولي سلسلة كتابات في هذا الموضوع سأقتبسها من مباحث أشهر علماء الشرق والغرب كما اقتبست هذه المقالة خدمة لمجلة أجلها ولأمة أحبها.
اوماهانبراسكا - الولايات المتحدة
يوسف جرجس زخم(10/18)
إحدى نقائص الاجتماع
واقعة حال
وقفت بأشيبين إلى ... مرام لي اصاديه
يديران الحديث على ... زمان ربيا فيه
فقلت مضى زمانكما ... فما تذكار ماضيه
فقالا يا له زمناً ... وتذكاراً نواليه
رأينا قبلكم ما لم ... تروا شيئاً يحاكيه
فقلت نعم وسوف نرى ... من الآتي وخافيه
أموراً لن يراها الش ... يخ فالموت ملاقيه
فنابهما لذكر الموت ... غيظ خيف باديه
وقالا هل رأيت الغي ... ب لا لست برائيه
لعلك أن تلاقي المو ... ت تعدونا عواديه
فقلت لعل تمر كما ... يقر العين غاليه
فقالا لا غلاء ولن ... ترى ثمراً يضاهيه
فلم أبخل به ثمناً ... يهيج البخل رابيه
ورحت يكاد يفضحني ... لعاب لج جاريه
فلما أن أتيت البي ... ت في جهد أعانيه
إذا بالتمر قد أربت ... فما تحصى مساويه
العظة
عجبت لمن دعاه إلى ... لقاءِ الله داعيه
فتاق إلى الحياة ولم ... تحل عنها أمانيه
وحارب ربه شرهاً ... إلى فلس يواتيه
أما للشيخ مزدجر ... فينزع عن معاصيه
أما يوقن أن المو ... ت قد شمر حاديه
وإن قد أوشك المنز ... ل أن يبلغ قاصيه(10/19)
أحمد محرم(10/20)
المدارس والأخلاق
لا تقوم واجبات المدارس بتعليم العلوم فقط بل إن بث روح الفضيلة والإقدام من أخص واجباتها.
جول سيمون
تنبه الناس حديثاً لإنشاء المدارس في الشرق ورغب بعضهم فيها بعد أن ذاقوا لذة العلم ورأوا عظم تأثيره في الغرب فعملوا على تأسيسها جهدهم ولم يمض زمن حتى كثرت معاهد العلم وتعددت لاسيما في اليابان مملكة الشمس المشرقة مدهشة العالم بسرعة ترقيها. أتى على بلادنا أزمان عفت فيها آثار المدارس أو كادت إلا ما كان هناك من كتاتيب قليلة ضئيلة فعادت تنفض عنها غبار الإهمال وتزهو بما أنشئ فيها من بيوت العلم حتى أوشكت تضاهي بعض بلاد الإفرنج العامل أهلها على توطيد أركان العمران فيها وإخلاص من مستو بل المفاسد بالتهافت على العلم والرغبة في التهذيب توصلاً إلى بلوغ الكمالات الإنسانية والتمتع بما يجعل الحياة على الأرض هنيئة صافية لا شر فيها ولا شقاء وهو مما يسر ولا جرم المحبين المنصفين ويحقق آمال العاملين المخلصين وينبئ بمستقبل باهر وارتقاء أكيد ينهض بالشرق من كبوته ويعيده إلى سابق عظمته.
ولقد مرت على مدارسنا أعوام وهي إلى يومنا هذا لم تعن بتحسين الأخلاق وإصلاح الملكات والعادات اعتناءها بقواعد اللغات والرياضيات والطبيعيات على حين نرى الحاجة ماسة إلى تقويم أود الأخلاق وعجن النفوس في مركن الوطنية وحب الخير والإحسان وتنظيفها من أقذار ما توالى على البلاد من النوائب والإحن وعوامل الجهل والانحطاط وتنشئتها على الجرأة والعزم والحزم والإقدام والتساهل والمسالمة والتعاضد والاتفاق وتدريبها على الصدق والإخاء والاجتهاد والترتيب والاقتصاد وتقويتها على احتمال أثقال الحياة ومتاعب العمر وتذليل العقبات ومقاومة التجارب بالعفة والنزاهة والمكاره بالصبر والترفع عن الصغائر والتمسك بأهداب الفضائل والنهوض إلى معالي المجد والجهر بالحق وعدم الاعتداد بالقيل والقال والتشبث بأهداب المحال وتربيتها على احترام حق الضعيف وإكرام المستحق ومعاونة القاصر وتنشيط المستعد وطلب النافع ونبذ المضر إلى غير ذلك مما يؤهل المرء ليحسن القيام بواجباته والتمتع بحقوقه ويؤدي به إلى ما يتمناه له(10/21)
المصلحون. وهذه كما رأيت أمور أولية ينبغي إيثارها على كل شيء.
وقلما نظرت مدارسنا مع ما فيها من العلماء والأدباء وما لها من الفضل في إنارة الأذهان وترقية العقول وتوسيع المدارك إلى تلك المقومات نظر حكيم مخلص يعرف كيف يداوي الإعلاء وتقاوم أدواء الأمم ولم تقصر جل اهتمامها إلا على حشو الأدمغة بقواعد اللغات والرياضيات والطبيعيات على ما مر بنا آنفاً غير مفسحة للأدبيات والاجتماعيات إلا القليل من أوقات الدراسة فيها كأنها تجهل قيمة النفس وتأثير الأخلاق في الوجود. والأنكى أن ما تعلمه الواحدة وتذهب إليه تشجيه الأخرى وتبعد عنه وما تحض عليه هذه تقاومه تلك إذ ندر وجود مدرسة عندنا لا غاية لها في العلم ولا مأرب خاص على أن العالم لا مشرب له ولا دين كما قال المقتبس الأغر في عدد أسبق.
ولا تنحصر واجبات المدارس فيما تجري عليه مدارسنا الحاضرة التي تفقد الأولاد كثيراً من الأمور الطاهرة الآتية معهم إليها وتضعف فيهم أميالاً سامية فطروا عليها مذ تكونوا في أحشاء أمهاتهم وتلاشي منهم نزعات شريفة ورغائب عظيمة مقدسة وتبث فيهم مبادئ تافهة ونعودهم عادات سيئة وتمكن منهم أخلاقاً فاسدة وتنشئهم على التعصب والإدعاء والكبرياء والضعف والجبن والكذب والرياء وما أشبه ذلك من النقائص التي أكلت من لحومنا وشربت من دمائنا مئين من السنين حرمنا فيها الهناء والارتقاء. ولولا إعداد المدارس طلبتها للاستنارة بنفوسهم لنفوسهم وتأهيلها لهم بالعلم لدرس الآداب والعمل على تحسين الأخلاق لما بالغنا إذا قلنا أن مدارسنا أضرت قدر ما نفعت. ومن راقبها بنزاهة وإخلاص وبحث في طرائق التربية فيها بحثاً دقيقاً إذا جاز لنا أن نقول أن فيها تربية تتضح له الحقيقة بأجلى بيان. . . وإصلاح المدارس خير أساس يجب أن يقوم عليه الإصلاح.
الضغط على العقول وإرهاق الوجدانات وخنق الأفكار ومعاكسة النوابغ ومعاملة التلاميذ بالقسوة والجور والشراسة والاستبداد والشتم والضرب وقلة الأدب على نحو ما بينت ذلك في فصل من كتابي الإنسان ابن التربية وإيثار أهواء المعلمين على القوانين ومآرب الوالدين على مصالح البنين وعدم الاعتداد بالغرائز وعدم تنشيط العزائم وتعزيز الصدق والجرأة والإقدام وعدم جعل المعلمين أنفسهم قدوة حسنة للتلاميذ وتطبيق أفعالهم الخاصة والعامة على أقوالهم وما شاكل ذلك مما يأتي به كل معلم غير مؤهل للتعليم بأخلاقه وآدابه(10/22)
على ما نشاهد في كثير من مدارسنا مما لا حاجة إلى إعادة ذكره الآن وإثارة الأشجان بتعداده - كل هذا أساس فساد الأخلاق في المدارس.
راقبت مرة طلبة إحدى المدارس في وقت الراحة فرابني أمر تلميذ منهم كان كمن يبحث عن ضائع وعرفت بعد البحث أن يحمل (السنيال) وقد رأيته يأتي من ضروب الرياء والتجسس ما أحزنني على مستقبله ومستقبل أبناء مدارس من مثل هذه تدرب بنيها على عادات سيئة وأعمال دنيئة. وهل أسوأ وأدنى من جاسوس يغتاب الناس وينم بهم. ولو اعترض أحد على مثل هذه الأمور لاحتجت المدارس على إتيانها بحجج وبراهين لا تخرج عن حد (الغاية تبرر الواسطة) وعندي أن شرف الأخلاق وإباء النفس مع العلم القليل خير من الصغار والدناءة مع إتقان التكلم بعدة لغات.
من المسؤول عن فساد أخلاق شبان العصر وسوء أحوالهم الأدبية يا ترى غير البيوت والمدارس؟ وإذا كان الوالدون على ما يعهدهم الجميع لا يعرفون من شؤون التربية غير اسمها ولا من الأخلاق إلا ما شبوا عليه ولا من العادات سوى ما تأصل فيهم أفلا يجدر بالمعلمين المتعلمين المهذبين أن يعوضوا عن هذا النقص جهدهم ويسدوا من الخلل ما يستطيعون؟ نعم لا أنكر أن المعلمين اليوم هم أبناء هذه المدارس أيضاً وما يتقاضونه من الرواتب لا يرغب في المهنة المهرة البارعين ولا يدني منها غير الكسالى العاجزين في أغلب الأحوال ولكن أين تأثير الإدارة والرئاسة ورواتب المديرين والرؤساء لا تحول دون انتخاب المستعدين والمستعدون على ازدياد؟
يقولون اكثروا من المدارس واستكثروا. ولا نجاح لنا بلا مدارس ولا ارتقاء. ولكن فاتهم أن ما عندنا منها لو عرفت كيف تربي أخلاق بنيها على ما يعوزنا لكان الأغنياء منهم ينشئون المدارس من تلقاء أنفسهم دون أن يحوجونا إلى النداء والمطالبة والحكماء يديرونها حسب الأصول دون استبداد بالأولاد وتلاعب بالحاسات والمعلمون يهذبون النفوس ويكفوننا مؤونة الكلام في هذا الموضوع الخطير. وقد كثرت مدارسنا وحسبنا من أنواعها ما عندنا وخير من زيادتها أيضاً العناية بتحسين طرق تربية الأخلاق فيها وهذا الركن العظيم الذي يتوقف عليه نجاح الأمة.
لا ريب أن المدارس تكيف الأمم وبواسطتها تستطيع كل أمة تغيير ما تريد من عاداتها(10/23)
ومبادئها وأخلاقها إذا توحدت فيها غاية التربية والتعليم ووافق كلاهما حاجات الأمة لاسيما وأبناء المدارس وبناتها سيصبحون يوماً آباء وأمهات يتولون تربية الأولاد الأولى الأساسية التي تدوم آثارها بدوام العمر ولا يلاشيها إلا القبر. فعلى المدارس فقط يمكننا أن نعتمد الآن في تهذيب الأخلاق وإصلاحها هذا إذا عرفت كيف تتوصل إلى ذلك بالتربية الصحيحة والتعليم القويم. وقد أكثر العلماء والفلاسفة الغابرون والحاضرون من إيضاح أصول التربية والتعليم وما على من يتعاطى صناعة التدريس ويتولى شيئاً من أمور المدارس إلا مراجعة ذلك في أماكنه ودرسه حق دراسته وانتخاب ما يلائم حالة السكان ويوافق حاجاتهم وإتقانه تمام الإتقان وإلا فسدت أعمالهم وساءت نتائجها كما هو الواقع لعهدنا.
وبعد فكيف نرجو إيجاد أمهات مدركات وأباء عاقلين نعتمد عليهم في تنشئة أبناء الغد على المبادئ السامية والإهابة بهم إلى أسمى قمم الاجتماع وإدراك مراتب التمدن الرفيع ومدارسنا الحاضرة لا عناية لها بالأخلاق كما ينبغي؟ كيف نتمنى بلوغ المجد والأخذ بحظ وافر من الإنسانية وحفظ الثروة وإحسان التمتع بالحقوق والقيام بالواجبات وأخلاقنا على ما هي من الفساد والالتواء؟
الأخلاق الأخلاق خير ما تطالب به المدارس وإصلاحها من الأوليات الضروريات التي يجب أن تنحوها مقاصدها وتسدد إليها خطى المسعى. وعلى كل معلم أن يضع هذه الغاية الشريفة نصب عينيه ويلهج بذكرها في الليل والنهار كيفما حل وسار. ولا يغني المرء عن شريف الخصال مال ولا جاه ولا عز ولا بنون ولا ينيله حب الناس واحترامهم ونفعهم له إلا ما فطر عليه من كريم السجايا وما اعتاده من حميد العادات. وما الأخلاق في عرف الناس إلا مجموع عادات والعادة نتيجة ممارسة.
فإذا قام الوالدون والمعلمون بالوسائل الفعالة على منع الأولاد من ممارسة كل ما لا يحسن بهم أن يعتادوا عليه يحفظوا لهم مستقبلهم من ثقل وطأة تلك العادات ويخلصوهم من شرها وإذا فات ذلك الآباء والأمهات لجهل وغباوة لا يجب أن يفوت الأساتذة الذين يدعون العلم والمعرفة ويتنصلون من وصمة الجهل والغباوة.
بيروت(10/24)
جرجي نقولا باز(10/25)
ميت الأحياء وحي الأموات
تيقظ فما أنت بالخالد ... ولا صرف دهرك بالراقد
فخلد بسعيك مجداً يدوم ... دوام النجوم بلا جاحد
وابق لك الذكر بالصالحات ... وخل النزوع إلى الفاسد
ورد ما يناديك عنه الصدور ... إلا در درك من وارد
وسر بين قومك في سيرة ... تميت الحقود من الحاقد
فإن فتى الدهر من يدعي ... فتأتي أعاديه بالشاهد
ولا تك مرمى بداء السكون ... فتصبح كالحجر الجامد
وكن رجلاً في العلى حولاً ... تفنن في سيرة الراشد
إذا اطردت حركات الحياة ... وجاءت علي نسق واحد
ولم تتنوع أفانينها ... ودامت بوجه لها بارد
ولم تتجدد لها شملة ... من السعي للشرف الخالد
فما هي إلا حياة السوام ... تجول من العيش في ناقد
وما يرتجى من حياة امرء ... كماءٍ على سبخة راكد
وليس له في غضون الحياة ... سوى النفس النازل الصاعد
يغض على الجهل أجفانه ... ويرضى من العيش بالكاسد
كأكل الطعام ولبس الثياب ... وامرار وقت بلا عائد
فذاك هو الميت في قومه ... وإن كان في المجلس الحاشد
وما المرء إلا فتى يفتدى ... إلى العلم في شرك صائد
سعى للمعارف فاحتازها ... وصاد الأنيس مع الآبد
وطالع أوجه أقمارها ... بعين بصير لها ناقد
فأبدى الحقائق من طيها ... وألقى القيود على الشارد
إذا هو أصبح نادى البدار ... وشمر للسعي عن ساعد
فكان المجلي في شأوه ... بعزم يشق على الحاسد
وإن بات بات على يقظة ... بطرف لنجم العلى راصد
وأحدث مجداً طريفاً له ... واضرب عن مجده التالد(10/26)
وما الحمق إلا هو الاتكال ... على شرف جاء من والد
فذاك هو الحي حي الفخار ... وإن لحدته يد اللاحد
بغداد
معروف الرصافي(10/27)
تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين
انتهينا بكلامنا في الجزء السابق إلى آخر ما جاء به أفلاطون من الأبحاث الهندسية وها نحن الآن نسرد أسماء الكبراء في هذا الفن الذين قاموا بعده إلى هذا العهد.
في أواخر عصر أفلاطون اشتهر اخيتاس الذي أصاف شيئاً مذكوراً إلى المعلوم من خواص المنحنيات والقضايا المتعلقة بها واستغل كثيراً في قضية تضعيف المكعب التي فصلناها في مقالتنا السابقة ووضع أساساً للمكتشفات التي قام بها أرخميدس في الميكانيكيات واصطناعها على الأصول الهندسية.
ثم قام دينوكراط خريج أفلاطون وقسم الزاوية إلى ثلث زوايا متساوية مستعيناً عليها بالقوس التي سماها الرباعية. وجاء برسيوس فبحث في خواص اللولبيات وهو أول من اشتغل بالخطوط والسطوح اللولبية ووضع لها معادلات لاستخراج نصف قطرها ومعرفة زاوية الهبوط فيها.
وفي هذا العهد طلع كوكب الهندسة الشارق وبدرها الآفق نعني به المهندس إقليدس الشهير (315_255 ق. م) ولعله أعظم من اشتغل بفن الهندسة منذ ظهورها إلى هذا اليوم. وليس هو منشئها أو مكتشف مبادئها كما يزعم الكثيرون من غير العارفين لأن أكثر قضاياها الخطيرة كانت معروفة قبل عهده ولا اشتغل بمسائلها الصعبة ولا أضاع زمانه للتوصل إلى حل قضية غير ممكنة ولا كشف كثيراً من خفاياها ولكنه خدمها أكثر من جميع العلماء الذين سبقوه أو تأخروا عنه فهو جمع كل القضايا التي كانت معروفة إلى عهده والتي حلها كبراء الفن قبله ورتبها في سلسلة محكمة الوضع مرتبة الحلقات جاعلاً برهان كل قضية مستنداً إلى ما قبلها وأدخل البرهان الخلفي في إثبات كثير من القضايا الهندسية وذلك عبارة عن رد الوجوه المطلوب نفيها إلى عدم الإمكان فلا يبقى إلا وجه واحد ممكن كقولهم إذا فرض تفاوت زاويتي مثلث وجب تفاوت وتريهما والزاوية الكبرى يقابلها الضلع الأطول فهو يثبت هذه الدعوى بأن الضلعين لا يمكن أن يكونا متساويين لأن ذلك يقضي بكون المثلث متساوي الساقين ويفضي إلى تساوي الزاويتين وهذا مخالف للغرض القائل بتفاوتهما ولا يمكن أن يكون الضلع المقابل للزاوية الصغرى هو الأطول لأن ذلك يقضي لزاويته بالزيادة وهو مخالف للغرض أيضاً فلم يبق إذن إلا أن يكون وتر الزاوية الكبرى أطول من وتر الزاوية الصغرى وهذا هو المطلوب إثباته. وقد استخدم إقليدس هذا(10/28)
الأسلوب من البرهان في إثبات كثير من القضايا التي لم يجد لها مخرجاً غيره. وجعل جملة القضايا التي تمكن من جمعها واستخراجها في ثلاثة عشر كتاباً وقف الستة الأولى منها هندسة الخطوط والزوايا والسطوح البسيطة والأربعة التي بعدها على الهندسة الحسابية من خواص الأعداد ونسبتها لبعضها وعلاقتها بالأشكال الهندسية والثلاثة الأخيرة على المستويات المتقاطعة والمجسمات وإلى هذه الثلاثة أضاف هيبسكل مهندس الإسكندرية الذي ظهر بعد إقليدس بنحو قرن ونصف قرن كتابين أكمل بهما الناقص من كتب إقليدس في تلك الأبواب. ومازالت الستة الأولى مع الحادي عشر والثاني عشر من كتب إقليدس معولاً عليها في أكثر المدارس لتلقين فن الهندسة وإلى اليوم لم يستطع المشتغلون بهذا العلم أن يأتوا بتبويب يفضل تبويب إقليدس ويختار عليه لسهولة التحصيل. وينقل أيضاً أنه وضع كتاباً في المقاريض وبعض مقالات في قطوع المخروط وثلاثة كتب في قضايا المسائل السيالة التي يفضي حلها إلى نتائج متعددة غير أنه لم يحفظ للخلف شيءٌ من هذه الكتب. وبعد إقليدس أصبح علم الهندسة سهل المأخذ قريب التحصيل وصار لابد للراغبين فيه من درس كتبه قبل كل شيءٍ. ولم يعد يحسب من فطاحل الفن والمكتشفين فيه إلا من زاد شيئاً خطيراً على ما في تلك الكتب أو أدخل أسلوباً جديداً أو اكتشف قضايا مجهولة لها شأن يذكر وهذا راجع إلى أن علم الهندسة مثل غيره من العلوم الرياضية لا تخلق جدته ولا تنقصه الأيام بمرورها أو العصور بكرورها. وكان بطليموس ملك مصر يقرأ الهندسة على إقليدس فوجد صعوبة في حفظها وتعاصى عليه فهمها لأنه كان يتوقع أنها تهون لديه كما هانت عقبات الملك وصعوبات السلطان ويكره أن يعنت فكره وينهك قواه في إدراكها فالتفت إلى معلمه وقال له ألا يوجد إلى الهندسة طريق أسهل من هذه؟ فأجابه إقليدس بقوله ليس إلى العلم سكة سلطانية وعنى بها أن السلاطين والعامة سواءٌ في اعتبار العلم وتحصيله فذهب قوله مثلاً عند اليونان وأخذه عنهم الغربيون في هذا الزمان وجروا عليه بالعمل فوضع الملوك أولادهم في المدارس الكبرى والصغرى يتلقون العلوم مع رعاياهم ويأخذون الفنون عن الأساتذة كما يأخذها غيرهم ويحتملون القصاص ويأخذون الجوائز التي يستحقونها بجدهم ونشاطهم وآدابهم بدون أقل مزية على الفقراء الخاملين من الطلبة.(10/29)
بعد انصراف إقليدس برز أرخميدس الصقلي وهو يعد من أكبر الرياضيين القدماء إن لم يكن أكبرهم (287_212 ق. م) فقد أضاف إلى الفن قضايا كثيرة جديدة لم تكن معروفة قبله وتعمق في مباحث المجسمات إلى أن كشف حقائق جمة وأعد لعلماء المتأخرين قواعد نفيسة جعلوها أساساً لطرائقهم في قياس السطوح المنحنية والمجسمات. نعم إن إقليدس وضع في كتبه شيئاً من الأبحاث في الأشكال المنحنية غير أنه اقتصر منها على القليل ولم يتعرض لتمثيلها وقياسها بالآحاد المربعة من السطوح المستوية والمكعبة من الحجوم أما أرخميدس فقد وضع القواعد التي يقتضيها هذا التمثيل في مقالاته النفيسة التي ألفها في الكرة والاسطوانة وفي المقاطيع الكروية والمخروطة وفي قياس الدائرة وقضيته التي أثبتها في أن مساحة قطعة من سطح ثلجي تساوي ثلثي مساحة شكل متوازي الأضلاع محيط بها هي بالحقيقة أول القضايا التي وضعت في تربيع سطح محاط بخط منحنٍ. ومباحثه في اللولبيات بالغة من التدقيق والتعمق درجة عالية بحيث يعسر فهمها حتى على العلماء الراسخين في هذا الزمان. وتوسع في تفصيل الأشكال الإهليلجية المعروفة بالقطع الناقص وهو الذي أثبت النسبة بين محيط الدائرة وقطرها وأحسن استخدام الحقائق التي اتصلت إليه ممن قبله كما أنه أجاد في بسط أفكاره وآرائه وصبها في أسلوب قريب المنال على من بعده. واستخدم الهندسة في الميكانيكيات وكشف كثيراً من القواعد الأساسية اللازمة لهذا الاستخدام واكتشف ناموس الثقل النوعي واستعان به على ترويض القوى الطبيعية وهكذا صرف عمره في العلم والعمل إلى أن قتل وهو لاهٍ في الأشكال الهندسية التي رسمها على الرمل المنبسط أمامه في غرفته قتله الرومان يوم فتحهم مدينة سرقوسة في جملة من قتلوا غيره من العلماء والفلاسفة والخطباء في كل فتح فتحوه وبلادٍ دوخوها.
قلت عندما وصلت إلى هذا الموضع من مقالتي وذكرت مقتل أرخميدس على يد الجند الروماني ألقيت القلم من يدي ووقفت برهة أجيل في خاطري تاريخ الدولة الرومانية التي يطنب الإفرنج بها ويفخرون بعرض جاهها وسعة سلطانها فما مررت للرومان على عمل جليل خدموا به الإنسانية ومهدوا فيه سبيل العلم. نقول عملاً جليلاً ونريد به عملاً يليق بمثل دولتهم ويذكر معهم فيعرف الإنسان حقهم عليه مادام ودامت الأرض بسكانها. ولم أعثر لهم إلا على جيوش متألبة وقوادٍ متنازعة وسيوف مخضبة بالدماء ومدن تركوها(10/30)
خراباً ودول اسكتوا نأمتها آخر الدهر وعلم أجهزوا على بقية القائمين فيه بدون أن يرثوه عنهم. فهم محقوا التمدن الفينيقي في قرطجنة وقوضوا عمران البطالسة في مصر واستأصلوا جرثومة العبرانيين من فلسطين وأجهزوا على الدولة السلوقية في سورية والعراق وحالوا دون ترقي العمران الساساني في بلاد فارس وأخمدوا شرارة التمدن الذي بدأ يظهر في آسيا الصغرى ونقضوا معاهد العلم والفلسفة والصناعة والسياسة في بلاد اليونان وما تفرع عنها في جزائر البحر المتوسط وبسطوا ظلهم الكثيف على أنقاض هذه الأمم والدول وملؤوها بملاعبهم ومراقصهم وساحاتهم التي شغلوها بصراع الأسود والثيران ومواقف الجنود والفرسان. ولولا أن قام العرب في أواخر دولتهم وأخذوا العلم اليونان واحتفظوا به إلى الخلف في العصور المتأخرة لما كان وصل إلينا من علوم المتقدمين شيءٌ ينقع الغلة. وأغرب من هذا أن كتاب الإفرنج في هذا العصر يغضون الطرف عن الأضرار التي ألحقها الرومان بالتمدن الإنساني ولا يعدونهم من المخربين الأشرار ولو كان الرومان دولة شرقية لأسرع كل كاتب فيهم إلى نعتها بالتخريب والتدمير والإضرار والفساد كما ينعتون دولة التتر التي رفعها جنكيزخان وتيمورلنك هذه جملة معترضة مرت في خاطري وأنا أكتب هذه المقالة فأثبتها وأنا أعلم أن ليس هذا موضعها ولكنه خاطرٌ عنَّ فأثبتناه وفكرٌ ألم فقيدناه.
وبعد أرخميدس اشتهر أبولونيوس المولود حوالي سنة 240 قبل الميلاد بما كشفه من أعمال الهندسة الوضعية وهي تعيين محال النقط والخطوط المجهولة وله مقالات في قطع المخروط جاءت في ثمانية كتب انتهى إلينا سبعة منها واستخرج الثامن هالي الفلكي في القرن السابع عشر للميلاد مستعيناً على استخراجه بما نقله بابوس من مكتشفات أبولونيوس منثوراً في فقر شتى. وهذه المقالات كان لها شأن باهر بين علماء الهندسة بعده حتى لقبوه بالمهندس الأكبر فقد أوضح فيها خصائص البؤر والمحترقات ووضع مبادئ المباحث في القطبيات والناميات والحدين الأعظم والأقل. والذي بقي إلى هذا العصر من مؤلفاته كان أكثره محفوظاً في الكتب اليونانية وكان قسم منه منقولاً إلى العربية فأخذ عنها.
بعد ما تركه أرخميدس وأبولونيوس من الآثار في الهندسة صار يصعب على من يأتي بعدهما أن ينال نصيباً من الشهرة في هذا الفن فإنهما لم يتركا للخلف باباً مغلقاً إلا ما كان(10/31)
بالغاً حد الإعجاز فمر أكثر من قرن قبل أن ظهر نيفوميدس في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد واشتهر بأبحاثه في المنحنيات وقياسها مستعيناً عليها بالطرق الميكانيكية وفي قضايا النسبة ذات الوسط المشترك وفي تثليث الزاوية.
وظهر معه هبار كوس الذي هو أول علماء الفلك المعروفين ومخترع الإسطرلاب ومكتشف الاعتدالين وواضع التقاويم للنجوم بأطوالها وعروضها السماوية والذي هو مرجع بطليموس في علم الهيئة. أما في الهندسة فقد اكتشف عدة حقائق في المثلث الكروي والمرتسمات والأظلال وغيرها مما له تعلق في علم الهيئة وهو آخر من بقي له ذكر من علماء الهندسة قبل الميلاد.
وفي آخر القرن الأول بعد الميلاد ظهر منالاوس فوضع مؤلفاً في الكرويات كشف فيه كثيراً من خواص المثلث الكروي وهو أقام القضية الأساسية في أبحاث القاطع وصفاته.
وفي أوائل القرن الثاني بعد الميلاد قام بطليموس الذائع الصيت في فني الهيئة والجغرافيا ووضع عدة تآليف أهمها كتابه الذي سماه العرب المجسطي وعنوا بها الأعظم وعنهم أخذ الإفرنج الكتاب واسمه وفي النقول التي عثرت عليها رأيتهم يقولون أن العرب وضعوا له هذا الاسم ولعلهم أخذوه من اليونانية ثم أدخلوا عليه أداة التعريف. وهذا الكتاب يبحث في علم الفلك إنما فيه كثير من مباحث المثلثات المستوية والكروية وفيه حقائق كثيرة في خواص الكرة منها ما هو من مكشوفات بطليموس ومنها ما هو مأخوذ عن هبار كوس الفلكي.
بعد بطليموس لم يشتهر أحد في فن الهندسة حتى أواخر القرن الرابع للميلاد حين ظهر بابوس ونشر كتابه الذي سماه المجموعة الرياضية وأثبت فيه كل القضايا والاكتشافات التي كانت في أيامه منقولة عن أشهر الرياضيين ونسب كل واحدة إلى صاحبها وأضاف إليها كثيراً من الحواشي تسهيلاً لفهمها وهو أول من ذكر التناسب غير الموسيقي. وفي القرن الماضي عثروا له على عدة قضايا في مسح السطح المتعرج الممتد الواقع بين خطين متعرجين مؤلفين من أقواس كثيرة مثل مجاري الأنهار والطرق غير المستقيمة وكان الأب غولدن اليسوعي قد نشر هذه القضايا في أوائل القرن السابع عشر وادعاها لنفسه وعبرت دعواه هذه على العلماء نحو قرنين حتى ظهرت الحقيقة عند العثور على(10/32)
كتب بابوس ووجود قضايا غولدن فيها قبل أن يولد هذا الأب اليسوعي بأكثر من اثني عشر قرناً.
البقية تأتي
فارس الخوري(10/33)
النهضة الأميركية
معربة من مبحث لأحد علماء فرنسا
يقول بعض الباحثين أنه لم يعهد أن تحسنت الصلات السياسية بين الإسبانيين والأمريكيين في دور من أدوار التاريخ وأنه ما كانت صداقة بين الأمتين قط. حالة متسلسلة من عهد خريستوف كولمبس فاتح أميركا الأول فإنه اعتبر هذه القارة أرضاً مفتوحة فراح الاسبانيول من سهول قشتالة الوعرة والعجب أخذ من نفوسهم ينقضون على تلك الأراضي البكر ويسخرونها لأمرهم. فلم يحترموا معابد الشمس في بلاد الانكاس وربطوا خيولهم في قاعات القصور في المكسيك وراحوا يسفكون الدماء ويملؤون جيوبهم بالمال نهمين إلى أخذه وبذلك أصبحوا ملوكاً في العالم الجديد وأخضعوا أميركا الجنوبية إلا أقلها لسلطان قهرهم بالسيف والنار وأطاعتهم جزائر الأرخبيل الانتيل وجزءٌ عظيم من أميركا الشمالية حتى ساغ لشارلكان ملك إسبانيا أن يقول أن الشمس لا تغرب عن ممالكي ولكن لكل فجر شفق ولكل علو نزول. فقد تألفت في حجر البلاد المفتوحة على توالي القرون أجناس جديدة تنبه فيها فكر الاستقلال.
وبينما كان ملوك إسبانيا في قصر الأسكوريال غارقين في فسادهم (كما كان أسلافهم ملوك الأندلس لما طردهم الإسبانيون منها) غافلين عما يدبر في تلك الأصقاع النائية من بلاد أميركا كانت حركة الأفكار على أتمها في هذه البلاد. ولم يكد يجتاز نابليون جبال البرينيه الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا حتى قامت بلاد أميركا الجنوبية على ساق وقدم وحذت المكسيك حذوها فانسلخت عن إسبانيا تلك الزهرات واحدة بعد أخرى. وفي غضون ذلك كانت تنمو مملكة الشمال من أميركا قد تجسد فيها فكر التبسط والتوسع داعية إسبانيا عدوتها القديمة للقتال مستندة إلى طالع قوتها وكان نجماً ساطعاً على حين كان نجم إسبانيا قد خوى وهوى.
وكان غير مذهب مونرو كيان تلك البلاد كما حرر سيف بوليفار أرض الجنوب من رق العبودية للدول الغربية. ولم يبق للإسبانيين من تلك الأصقاع المتنائية الأطراف بأسرها غير جزيرة كوبا فكانت لهم بمثابة جوهرة بديعة من بين تلك الحلي التي أضاعتها. فكوبا لؤلؤة الأرخبيل بلاد الأحلام والخيالات التي يمتد فيها سماط من الذهب الأخضر من حقول(10/34)
قصب السكر وتختلط بنجوم الأرض وسهوبها المعشبة وبحقول التبغ التي يعبث بهال النسيم وترنحها نسمات الغدو والآصال وبالغابات الغلباء الغبياء حيث يدوي الجراد الوردي الحاد ويطير وهناك بحيرات صافية تضطجع فيها التماسيح مستلقاة على فرش من النيلوفر المزهر.
ظل العلم الأوربي خافقاً على تلك الجزيرة التي طالما تسكعت في العبودية ولم تبد نواجذ الشر وسكان الولايات المتحدة من وراء ذلك يحرقون الأرم غيظاً من ذلك. وما فتئ سكان الشمال منذ انتشر مذهب مونرو إلى أن انتشرت مذكرة ماكنلي سنة 1898 يتربصون الدوائر بالاسبانيول ولا يكتمونهم العداء وقد دارت سياستهم في تلك الجزيرة على منع أية دولة أوربية مهما كانت قوتها من الاستيلاء على كوبا. واغتنمت الولايات المتحدة فرصة ضعف إسبانيا لتأخذ منها كوبا بالمال مباشرة أو بمعاضدة الثوار أو إشهار الحرب بالواسطة ودامت إسبانيا سنين طويلة ترقب وقوع هذه القنيصة في كفها. وما أشبه أميركا في مراقبتها إسبانيا إلا بنسر بالغ أشده ممتع بقواه ينقض على باز هرم لا منقار له ولا مخلب.
وفي غضون ذلك تبايع الماسونيون في تلك الجزيرة على الموت أو الاستقلال وقامت من بعد ومن قبل ثورات طفيفة كان القائمون بأمرها يخافون لأول أمكرهم البوادر حتى إذا كان عام 1860 قام ثلاثة رجال ممن أشربت قلوبهم حب الحرية الحقيقية يحاولون استقلال بلادهم وقد خص كل منهم بمزية لا يشاركه فيها صاحبه وكان ثالثهم قائد جموع الزنوج وهم ثلث سكان الجزيرة فاشتعلت بهم جذوة الفتنة وكانوا النافخين في ضرامها من أقصى البلاد إلى أدناها. وبيعت الأسلحة للثائرين ودامت الحرب بين الثائرين والإسبانيين والولايات المتحدة ترقب من طرف خفي ما يحل بالجزيرة وتشهد إسبانيا تنفق أموالها وتمزق رجالها. ثم فسدت أحوال الموظفين والإسبانيين في كوبا وصاروا ينالون وظائفهم بالرشى والمحاباة فضج السكان وراحوا يتألفون عصابات تحت راية القائم هناك وأتتهم النجدات من كل الجهات. واتفق أن أرسلت إسبانيا عليهم أحد قوادها فأجرى من الفظائع والفضائح ما أسود له وجه إسبانيا أمام العالم المتمدن فزادت نفوس الكوبيين شموساً واشمئزازاً وقويت شكيمتهم على دفع صائل الإسبانيين وخلع نير سلطتهم.
وفي 12 أبريل (نيسان) سنة 1898 أصدر رئيس جمهورية الولايات المتحدة بلاغاً أخيراً(10/35)
إلى إسبانيا أعلن فيه الحرب عليها وحجته أن انتشار الفوضى في الجزيرة وطول أمدها وحب الإنسانية والأضرار التي لحقت بمصالح حكومته التجارية دعته أن يضع حداً لهذه الفتن لئلا يكدر صفاء الجزيرة. وقد عرف الكوبيون ما انطوت عليه صدور الأمريكان من الرغائب فخاطبهم أحد رجال السياسة بقوله: أنتم الدولة التي فسحت للأيرلنديين والبولونيين مجال الرجاء في الاستقلال وظهرت هذه المرة حكومة أميركا بمظهر العظمة وأن القول قولها فيما تريد لا تنازعها دولة أوربية فيما تنويه من حماية حقوقها. وكانت حرب الأمريكان مع الاسبانيول ذات بال وهي في الحقيقة لا خطر فيها عليهم ولم تمض أيام حتى حطم أسطولهم أسطول الإسبانيين في سانتياغو وعقدت عهدة الصلح في باريس فتخلت إسبانيا عن جزائر الفليبين لقاء عشرين مليون دولار وعن بورتوريكو وكوبا بدون أن تتعهد الولايات المتحدة بدين كوبا.
دخلت كوبا تحت حكم الولايات المتحدة سنة 1898 وخرجت منها سنة 1902 على وجه قل في الدول من يروقه العلم به. ذلك أنها لم ترغب في أن تحيد عن سنن الإنسانية فعملت بالحكمة المأثورة عن واشنطون مؤسسها الأول من أن المستقبل مضمون لأحسن الناس أخلاقاً فرأت أميركا أن ليس من الإنصاف أن يقاتل الأمريكان عن جزيرة تريد نزع السلطة الأجنبية ويأخذوها غنيمة باردة وهم أنصار الحرية الأقدمون ورجال السياسة المحنكون ولمستقبلهم باسمون وبعظمته مستبشرون. فمن ثم حافظوا على مصالحهم في الجزيرة وجعلوا لها حكومة جمهورية. ورفع تمثال إيزابيلا الكاثوليكية من المتنزه العام وكان قائماً فيه منذ مائتي سنة ونصب تمثال الحرية وغادر الحاكم الأميركي أرض الجزيرة بين الهتاف والدعاء لدولته بالنصر ولكوبا باشتداد الأزر (في الشهر الماضي اضطرت الولايات المتحدة أن تعود فتجهز جيشاً على كوبا لقمع ثائرة الثائرين).
دخلت الولايات المتحدة في مسألة فنزويلا سنة 1881 رغم إنكلترا ولم ترهب أساطيل هذه وعظمتها البحرية بل دفعها إلى ما تريد آمالها في النهضة الأميركية وما ترى لنفسها الحق فيه والاحتفاظ به من مثل مبدأ مونرو عدم مداخلة الأوربيين في أميركا تلك القارة التي لها حق التصدر فيها وأفضلية الحكم على سائر أقطارها وأهلها وأنها هي هي المرجع في كل المسائل الاجتماعية التي تعرض لأميركا والأمريكان يهددون إنكلترا ضمناً في المفاوضات(10/36)
السياسية الطويلة حتى ساغ لهم بها أن يجروا ما أرادوا في فنزويلا مشيعين أن المخترع أديسون الشهير قد اكتشف مدافع تطلق قنابل من الديناميت وسلاسل مهلكة وأدوات كهربائية تبيد جيوشاً. بمعنى أن أميركا إذا أعلنت حرباً على أية دولة من دول أوربا لابد أن ترجع مكللة بأكاليل النصر وتكون إنكلترا أو غيرها مثلاً في يد الولايات المتحدة كما كانت إسبانيا في يدها كالفارة بيد القط. ثم فضت المسائل وانتهت بدوي مدافع الأمريكان في كوبا على ما أرادت الولايات المتحدة وتخلصت إنكلترا من هذه الورطة أحسن تخلص خائفة أن يصيب مستعمرتها كندا ما أصاب مستعمرات غيرها في أميركا من قبل.
ثم قامت الفتن بين الأحرار والمحافظين في كولومبيا دامت إلى سنة 1900 فتداخلت الولايات المتحدة بواسطة أحد رجالها وكفت عوادي الشر فصار لها بذلك نفوذ أدبي متزايد وعلت مصلحتها فوق المصالح وكان لها الفضل في حقن الدماء وإغماد سيف الفتنة والعداء. وبينما كان الأمن يعود إلى نصابه في كولومبيا كانت حكومة فنزويلا تسيل دماً نجيعاً لاختلاف الكلمة على رئيسين لها يتنازعان السلطة. حرب قتل فيها نحو ثلاثين ألف رجل ومع هذا هونت بعض الجرائد أمر هذه الفتنة ودعتها بحرب الرواية الهزلية. وقد ساعدت الولايات المتحدة كولومبيا على فنزويلا في الباطن في مسألة التخوم بين تينك المملكتين وقامت أميركا الشمالية تدفع عادية من يريد كولومبيا بسوءٍ وحجتها أنها لا ترضى إلا باستتباب أسباب التجارة في برزخ باناما وأنها ما لجأت إلى القوة في هذا المعنى إلا لما عجزت كولومبيا عن ذلك.
قضت الفتن الأهلية وتجييش الجيوش والتعويضات والنهب أن تكون خزانة حكومة فنزويلا أفرغ من فؤاد أم موسى وماليتها أضعف من جسم العليل بعلة قديمة حتى تضرر من ذلك أرباب الأموال من الأجانب النازلين فيها ولاسيما الإنكليز والألمان والطليان بل تضررت ثروة الغرباء من الأوربيين كلهم ورعايا الولايات المتحدة أيضاً وأنذرت ألمانيا حكومة الولايات المتحدة بسوء المصير. وسنة 1901 أعلن سفير جرمانيا الولايات المتحدة أن دولته تضطر إلى استعمال القوة في فنزويلا إذا لم تجب هذه مطالب الماليين الأجانب ثم عادت تلك الدول الثلاث والغضب آخذ منها مأخذه لسلب حقوق رعاياها حتى اضطرت السفن الألمانية أن تغرق سفينتين فنزويليتين وعندها قامت الولايات المتحدة تقول أنها(10/37)
ترضى بتحصيل المطاليب من فنزويلا ولكنها لا ترضى بأن تضم دولة أوربية إلى حكمها أرضاً أميركية تغنمها في حرب تشهرها على فنزويلا. وأصبحت هذا البلاغ وعززته بثلاث وخمسين بارجة حربية وأربعة عشر ألف جندي لإيقانها بأن غاية تلك الدول وألمانيا في المقدمة أن يحصرن مرافئ فنزويلا ويحكمن فيها بعد بما أردن. ثم قر رأي كل من ألمانيا وإنكلترا وإيطاليا على أن يحكمن المستر روزفلت رئيس الولايات المتحدة في هذه المهمة فأبى إباء تلطف ثم عهد إلى أحد رجاله فحل الأشكال سنة 1903 وأرضى دول أوربا الثلاث الكبرى حتى اعترفن للولايات المتحدة بأنها صاحبة الشمال كما هي المسيطرة على الجنوب وأن بيدها تطبيق مفاصل مبدأ مونرو في كل ناحية من أنحاء القارة الأمريكية وأنها وإن كان منها الغيم والمطر في هذه الزعازع فقد أوردت الأشكال وجرى على يدها حله فحق لمونرو وأشياعه من بعده أن يهتزوا في قبورهم طرباً بهذا الظفر وبنجاح مبدأهم رغم أنف المعاند والحسود.(10/38)
التفاسير والمفسرون
من كتاب التعليم والإرشاد
التفسير من العلوم التي قارنت ظهور الإسلام ونزول القرآن على النبي (ص) إذ كان ما من آية تنزل على النبي (ص) إلا ويفسرها لأصحابه إلا أنه تأخر تدوينه إلى عصر تابعي التابعين استغناءً بالحفظ عن الكتابة ولندرة الكتاب فيهم مع اشتغالهم كافة بالحروب لنشر الدعوة الإسلامية ثم دون على ما ستراه بعد هذا.
فالمفسرون من الصحابة الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير وابن عمر وأنس بن مالك وأبو هريرة وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص.
وأكثر من نروي عنه في التفسير من الخلفاء الأربعة علي رضي الله عنه لتأخر وفاته وابن مسعود روي عنه أكثر مما روي عن علي لاشتغال علي بالخلافة ومحاربة الخوارج وغير ذلك وأما ابن عباس حبر الأمة وعالمها وترجمان القرآن فقد روي عنه في تفسير كتاب الله ما لا يحصى كثرة وأحسن الطرق عنه طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة وعليها اعتمد البخاري في صحيحه وطريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة عشرين ومائة عن عطاء بن السائب وطريق اسحق صاحب السيرة وأوهى طرقة طريقة الكلبي عن أبي صالح والكلبي هو أبو النصر محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة ست وأربعين ومائة فإن انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير فذلك سلسلة الكذب. ومن الطرق الواهية عنه طريق مقاتل بن سليمان الأزدي المتوفى سنة خمسين ومائة إلا أن الكلبي يفضله لما في مقاتل من المذاهب الرديئة وطريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس منقطعة فإن الضحاك لم يلقه فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة فضعيفة لضعف بشر وإن أخرج له ابن جرير وابن أبي حاتم وإن كان من رواية جرير عن الضحاك فأشد ضعفاً لأن جريراً شديد الضعف متروك الحديث ولذلك لم يخرج له ابن جرير في تفسيره.
هذه طرق تفسير ابن عباس جيدها ورديئها نقلناها برمتها وميزنا غثها من ثمينها لئلا يغتر كل أحد بنسبتها إلى ابن عباس فإن لابن عباس منزلة في تفسير القرآن لا تضارع وليس(10/39)
كل من روى عنه شيئاً محقاً في روايته بل فيهم الضعيف والكذاب فينبغي لمن نقل له شيءٌ عن ابن عباس في التفسير أن يتبين الطريق التي روي له منها فإن كانت من الطرق الجيدة اعتمدها وإلا ردها.
وأما أبي بن كعب المتوفى سنة عشرين فعنه في التفسير نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عنه وهذا الإسناد صحيح ولا أعلم لها وجود إلى يومنا هذا. وأما مفسرو التابعين فمنهم مجاهد بن جبر المكي المتوفى سنة ثلاث ومائة قال عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة وعلى تفسيره اعتمد الشافعي والبخاري ومنهم سعيد بن جبير المتوفى سنة أربع وتسعين وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة خمس ومائة وعطاء بن أبي رباح المتوفى سنة أربع عشرة ومائة وطاوس بن كيسان المتوفى سنة خمس ومائة وهؤلاء كلهم أصحاب ابن عباس والآخذون عنه.
ومنهم علقمة بن قيس المتوفى سنة اثنتين ومائة والأسود بن يزيد المتوفى سنة خمس وسبعين وإبراهيم النخعي المتوفى سنة خمس وتسعين والشعبي المتوفى سنة خمس ومائة وهؤلاء أصحاب ابن مسعود ومنهم عبد الرحمن بن يزيد ومالك بن أنس والحسن البصري وعطاء الخرساني ومحمد بن كعب القرظي المتوفى سنة سبعة عشر ومائة وأبو العالية رفيع بن مهران المتوفى سنة تسعين والضحاك بن مزاحم وعطية بن سعيد المتوفى سنة إحدى عشرة ومائة وقتادة والسري الكبير والربيع بن أنس.
ثم جاء بعد هؤلاء طبقة دونوا التفاسير وجمعوا فيها بين أقوال الصحابة والتابعين كسفيان بن عيينة ووكيع ابن الجراح وشعبة ابن الحجاج ويزيد بن هرون وعبد الرزاق وآدم بن أبي إياس واسحق بن راهوبه وروح بن عبادة وعبد الله بن مجيد وأبو بكر بن أبي شيبة.
ثم جاء بعد هذه الطبقة طبقة أخرى حذت حذو التي قبلها إلا أنها اتسعت في الرواية والطرق التي جاءت الرواية منها كابن جرير وعلي بن أبي طلحة وابن أبي حاتم وابن ماجة والحاكم وابن مردويه وابن المنذر وغيرهم.
ثم انتصب من بعد هذه الطبقة طبقة أخرى فألفوا تفاسير مشحونة بالفوائد وأقاويل الصحابة والتابعين إلا أنها محذوفة الأسانيد كأبي اسحق الزجاج وأبي علي الفارسي وعلي بن أبي طلحة وأبي العباس المهدوي وحذا حذوهم أبو جعفر النحاس وأبو بكر النقاش إلا أنهما(10/40)
اقتصرا فاستدرك الناس عليهما.
ثم ألف في التفسير طائفة من المتأخرين عن هؤلاء فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بتراً فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل ثم صار كل من نسخ له قول يورده ومن خطر بباله شيءٌ يعتمده ثم تناقل المؤلفون ذلك خلفاً عن سلف واعتمدها الناس واندرست كتب الأئمة لعدم الباحث عنها فاندرست كتب التفسير وعلم التفسير ولم يبق في أيدي الناس شيءٌ مما يصح الوقوف به والاعتماد عليه. قال السيوطي رأيت في تفسير قوله تعالى غير المغضوب عليهم نحو عشرة أقوال مع أن الوارد عن النبي (ص) والصحابة والتابعين ليس غير اليهود والنصارى حتى قال ابن أبي حاتم لا أعلم لذلك خلافاً لأحد.
ثم نبغ بعد هؤلاء قوم نبغوا في بعض العلوم فكل واحد منهم ملأ تفسيره بما غلب على طبعه من الفنون واقتصر على ما تمهر فيه كأن القرآن أنزل لأجل هذا العلم فقط فالنحوي ليس له إلا تكثير وجوه الإعراب وإن كان بعضها بعيداً ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته كالزجاج والواحدي في البسيط وأبي حيان في البحر والنهر والأخباري ليس له إلا القصص والأخبار عمن سلف من الأمم حقاً كان ذلك أو باطلاً كالخازن والبقلي. والفقيه يورد الأحكام الفقهية وربما استطرد إلى ذكر أدلتها ورد كلام المخالفين فيها إلى غير مما لا ارتباط له بعلم التفسير بوجه من الوجوه كما فعل القرطبي في تفسيره وصاحب العلوم العقلية يشحن كتابه بأقوال العلماء والفلاسفة ومناظراتهم والرد عليهم كما فعل فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير.
وصاحب البدعة من أهل كل مذهب يملأ كتابه ببدعه ويؤول كل ما يمكنه تأويله من آي القرآن للاستدلال به على بدعته فإن عرض له من الآيات ما يخالف بدعته عمد لصرفها عن ظاهرها واختلق لها معنى لا يعارض بدعته ولا يبطلها وإن لم يكن بيده حجة على تأويل القرآن وصرفه عن ظاهره الذي كلف الناس بالعمل به غير مخالفته لبدعته التي يرى أنها الحق الصراح وأن نصوص الشرع وإن خالفتها يجب أن ترد بالتأويل إليها.
وهذه طريقة عامة المفسرين من أهل الكلام كل واحد منهم يستدل بالآية على ضد ما يستدل بها مخالفه عليه ومن قرأ تفاسيرهم رأى كيف يغلب حب النفس على الإنسان فيخرج به إلى نقض أساس دينه وتشويه محاسنه ويرحم الله أبا العلاء حيث يقول(10/41)
وكم من فقيه خابط في ضلالة ... وحجته فيها الكتاب النزل
والملحد يشحن كتابه بالكفر والخرافات وأنواع الإلحاد ويجعل القرآن حجة على كفره ويؤول النصوص القرآنية للوصول إلى هذا الغرض كما فعل أهل التفسير من المتصوفة ومن قرأ تفاسيرهم لم يصدق أن القرآن أنزل بلسان عربي مبين. وأكثر الناس يقرؤون كل ما يبصرون ويعتقدون كل ما يقرؤون لا يفرقون في الأقوال بين حق وباطل ولا في الرجال بين مسلم ومبتدع وملحد والأمر لله العلي الكبير.
ومجمل القول في علم التفسير أنه مهجور بين الطلاب طلاب العلوم الشرعية في الممالك الإسلامية كلها وأن من نظر منهم في كتاب من كتبه نظرة من غير قصد أو بقصد لا يصحبه شيء من الاعتناء والاهتمام وعنايتهم بالدواوين الشعرية على أنهم لا يتعاطون نظمه ولا يحسنون لو تكلفوه فوق اعتنائهم بعلم التفسير أضعافاً مضاعفة. والذي يقرؤون شيئاً من كتب التفسير يشتغلون بكل شيءٍ سوى التفسير فيضيع المقصود من الفن فيما بين تلك المباحث التي لها أول وليس لها آخر.
والذي ينظر فيما طبع من نحو قرن في مصر وهي محط رجال العلوم الدينية وكعبة العلوم التي يفد إليها الحجاج من جميع الآفاق والقدوة لجميع أهل الأمصار يرى العجب العجاب. يرى أن الذي طبع منها إلى الآن تفسير الجلالين بحاشية الصاوي وبحاشية الجمل. البيضاوي بحاشية الشهاب. الكشاف بقطعة من حاشية السيد. تفسير فخر الدين الرازي. تفسير أبي السعود. النسفي. تاج التفاسير. ابن جرير الطبري طبع من نحو سنتين فقط. الدر المنثور للسيوطي. تفسير ابن عباس وبعض تفاسير ضئيلة.
هذه هي كتب التفاسير التي تتداولها أيدي الناس اليوم وهي التي يعتمد عليها طلاب العلوم الشرعية في تفسير كتاب الله جل شأنه والوقوف على المراد منه.
فأما تفسير الخازن وهو أكثر كتب التفاسير تداولاً وأعظمها انتشاراً بين عامة المسلمين وطلبة العلوم الشرعية فهو الكتاب الذي يقف القلم حائراً عند وصفه لا يدري ما يقول فيه وما الذي يحذر به المسلمين منه وخير ما يقال فيه أنه مجموعة الأكاذيب ولا أرى إلا أن الإنسان لو جرد ما فيه من الأكاذيب الموضوعة على لسان رسول الله (ص) والأقاصيص الكاذبة التي وضعها اليهود كقصة بابل والغرانيق وارم ذات العماد وغيرها لكانت فوق(10/42)
نصف الكتاب وبعد ذلك فأشياءٌ إن لم تضر لم تنفع.
وهو على اشتماله على هذين الوصفين اللذين هما من أقبح أوصاف المؤلفات فهو العمدة لعامة المسلمين وأكثر طلبة العلوم الشرعية وأكثر انتشاراً بينهم. ولقد أرى أن نسخه التي نشرت في مصر لا تقل عن مائة ألف نسخة فسد بواسطتها عشرة أضعاف هذا العدد من المسلمين ودخل عليهم في دينهم ما ليس منه من حديث موضوع وتفسير مفترى. ومن العجيب أنه لا يوجد في علماء الإسلام من ينهى الناس عن نشر مثل هذه الكتب المفيدة للعلوم والشرائع المضرة بالأخلاق والعقائد وقد لا يخلو بلد من بلاد الإسلام عن قوم من أهل العلم ولو قليلين يعرفون ما في هذه الكتب من المفاسد ولا يحظرون على الناس استعمال هذه الكتب لاتقاء شرها بل ربما سئلوا عنها فأثنوا عليها خيراً مسايرة لأميال الناس عامة ومصانعة لهم فيما هو من أهم مهمات الدين.
وأما تفسير الجلالين بحاشيتيه الجمل والصاوي فهما يساويان تفسير الخازن انتشاراً وكثرة تداول إلا أن انتشار الخازن بين العوام أكثر وانتشار هذين بين الخاصة نعني طلاب العلوم الشرعية أكثر. فأما الشرح فهو غاية في الاختصار لا يمكن الاستقلال به في فهم كتاب الله تعالى مع علل فيه أخر يعلمها من جمع بينه وبين بعض تفاسير المتقدمين الموثوق بها وبمؤلفيها وأما حاشيتاه الضخمتان فهما من مؤلفات متأخري أهل العلم بمصر وحسبك هذا في معرفة منزلتيهما بين المؤلفات. . .
وأما الكشاف ومختصره للقاضي البيضاوي فهما المشكلة التي لا تحل إجمالاً وإغلاقاً وغموضاً ولشدة عراقتهما في ذلك أكثر المتأخرون من تعليق الحواشي والشروح عليهما لبيان عباراتهما وتوضيح مقاصدهما حتى لو جمعت الحواشي والشروح التي عليهما لا ربت على ألف مجلدة وما ذكره صاحب كشف الظنون مما كتب عليهما قليل من كثير ولولا أنهما بحيث يخفيان إلا على من ألف حل الرموز والطلاسم واستخراج المخبآت لم يعتن من جاء بعدهما بالتوسع في الكتابة عليهما والمبالغة في توضيح غوامضهما. وفوق هذا كله اشتمالها على مسائل كثيرة خارجة عن التفسير بالمرة لا ترتبط فيه بوجه من الوجوه كالمسائل الكلامية التي حشيا به كتابيهما وهي ليست من فن التفسير ولا من متعلقاته وإنما كان الغرض من ذكرها بيان معتقديهما والاستشهاد له بكتاب الله.(10/43)
ويلحق تفسير أبي السعود بهذين التفسيرين فإنه صورة أخرى لهما مع بعض تغييرات قليلة جداً ويلحق تاج التفاسير بتفسير الجلالين ونسبته إليه كنسبة تفسير أبي السعود إلى تفسيري الكشاف والبيضاوي وإن اختلف عنه فيسيراً.
وأما تفسير فخر الدين الرازي وهو كتاب العامة والخاصة وعمدة الناس في هذا الموضوع فأبو حيان المفسر يقول في تفسيره تفسير الإمام فخر الدين فيه كل شيءٍ إلا التفسير. وما أحسن ما ترجم به أبو حيان هذا التفسير الكبير بل البحر العميق ولقد يفتح الإنسان جزءاً من أجزاء هذا التفسير للمراجعة والكشف فيه عن آية من آي كتاب الله فلا يشعر إلا وقد توسط بحراً لجياً لا يخلص الإنسان منه إلى ساحل. ويظهر مما كتبه الإمام فخر الدين في مقدمة كتابه أنه قد أودع كتابه كثيراً مما لا تعلق له بعلم تفسير كتاب الله ولا ارتباط له.
ولقد رأينا لمتأخر من متأخري المصريين يدعى السحيمي حاشية على شرح عبد السلام على جوهرة التوحيد تقع في أربع مجلدات ضخام على أن الأمير وهو أطول باعاً منه في علم الكلام وأدق نظراً استوعب الكلام على شرح عبد السلام في مجلد صغير وكان في قدرة السحيمي أن يضيف إلى مجلداته الأربع أربعة أخر ولكن رأى أن الاقتصار على هذا المقدار كاف في البلاغ إلى ما قصده من البرهان على سعة اطلاعه.
وجاء الألوسي من متأخري أهل العراق فأخذ تفسيره من تفسير الإمام فخر الدين إلا أنه حذف منه كثيراً من الزوائد وأضاف إليه وأحسن غاية الإحسان شيئاً من أقوال سلف المفسرين ومتقدميهم وإن لم يميز بين ما قوي سنده من هذه الأقاويل وما وهي فبقي في الأمر بعض لبس وإشكال وأضاف إليه أيضاً جملة كبيرة من تفاسير المتصوفة.
وأما تفسير الدر المنثور للجلال السيوطي فقد زعم أنه اختصر به على حسب عادته تفسير ابن جرير الذي جمع فيه صحاح الأحاديث المتعلقة بتفسير كتاب الله تعالى وبيان أسباب النزول وأضاف السيوطي في مختصره أحاديث واهية الإسناد في هذا الموضوع نفسه ومزجها بتلك الأحاديث أحاديث الأصل فاختلطت بها حتى لا يمكن التمييز بينها وقلت الثقة في الجميع.
وأما تفسير محيي الدين فهو مسخ للقرآن ونقض للدين من أساسه ويرى بعض الباحثين أنه ليس من مؤلفات محيي الدين وإنما هو من مؤلفات القاشاني أحد الملاحدة الباطنية نسبه(10/44)
لمحيي الدين لبروجه بين عوام المسلمين ومن يستميتون إلى ما يقوله محيي الدين مهما كان حاله. والظن بمحيي الدين أنه لا يضع مثل هذا الكتاب ولا يذهب هذه المذاهب الفاسدة في تفسير كتاب الله تعالى. وسواءٌ كان من مؤلفات محيي الدين أو غيره فإن انتشاره بين المسلمين بحت ضرر سيما ولا موقف يوقف الناس على الصحيح والفاسد من هذه الكتب.
وأما تفسير ابن عباس فهو من مؤلفات مجد الدين الفيروز آبادي صاحب القاموس جمع فيه رواية محمد بن السائب الكلبي عن ابن عباس وقد علمت مما ذكرناه في المقدمة حال ابن السائب الكلبي وضعفه وقلة ثقة العلماء بمروياته.
هذه كتب التفسير التي نقرأها اليوم وإن كان قد فاتنا ذكر شيءٍ منها فإنه لا يخرج عن مضارعة واحد من هذه الكتب التي ذكرناها فلم يبق بيدنا ما يصح الاعتماد عليه والثقة به غير تفسير ابن جرير وهو الحسنة الوحيدة للمطابع الإسلامية بعد قرن وأكثر من ظهور المطابع في الممالك الإسلامية ولوال أن بعض أمراء الأعراب من سكان الجزيرة العربية راسل بعض تجار الكتب بمصر في شأنه وأعانه على ذلك بمساعدات جليلة لم يظهر له ظل في عالم المطبوعات اكتفاءً عنه بالخازن والجمل.(10/45)
الاستشفاء بالموسيقى
ملخصة من مقالة في المجلة الباريسية
قال أفلاطون: لم يبعث الأرباب فن الموسيقى لإدخال السرور على البشر واللذة على حواسهم بل لتسطين اضطرابات نفوسهم وتهدئة تلك الحركات المشوشة التي لا مندوحة لجسد مليء بالنقص عن الشعور بها. فجعل الأطباء قديماً وحديثاً هذه الكلمات نصب أعينهم عرف ذلك من ثباتهم على المحاولة في شفاء مرضاهم بالأنغام فاستعملوا الموسيقى لشفاء أو تخفيف الصرع والسويداء والإب (النزاع إلى الوطن) والخبل وضيق الصدر والهوس والجنون والبلادة والسير والتكلم في حال النوم والخدر والنقطة والهستريا والسكتة والفالج والسرسام وداء الأعصاب والحميات والنقرس وعرق النسا والرثية روماتيزم والطاعون والحميراء والكلب وغيرها كما استعملوها لشفاء الجروح والقرصات السامة ولتقوية الهضم والتنفس وترشيح الأخلاط فللموسيقى أهمية في الطب وتستخدم للتمريض.
كانت تتم في القديم معرفة فنون الشعر والموسيقى والطب لشخص واحد. يقول ألين (الكاتب اليوناني من أهل القرن الثالث) أن ترباندر وتاليت وترتي كانوا أطباء موسيقيين وأوصى كسينوكرات وأبقراط واسكلبيادس وكاليين وأرتي وسليوس اورليانوس وتيوفراست باستخدام الموسيقى في عدة أمراض عندما تنقطع الحيلة من العلاج في بعض الأدواء. وكان الأحياء والأموات يسمعون أدوات الطرب. قال مونارك أن القدماء كانوا يسمعون المحتضرين بعض الألحان وربما اسمعوها من قضوا نحبهم لعلهم تعود الحياة إليهم. وقال سليوس اورليانوس أن فيثاغورس كان أول من استعمل الموسيقى في شفاء الأمراض وأنه جرب ذلك في بلاد اليونان. وقال بورهاف (1668_1738) لا بأس بنسبة جميع الخوارق التي رويت عن الرقيات والأشعار في شفاء الأمراض إلى الموسيقى التي كان قدماء الأطباء يجيدونها.
استعملت الموسيقى في عصرنا لمعالجة عامة الأمراض فأصدر بونابرت أمره إلى أجواق موسيقى كتائب جيش الشرق أن تصدح كل يوم تحت نوافذ المستشفيات ولا تزال أجواق الموسيقى العسكرية إلى اليوم في كثير من الحاميات في الولايات تذهب مرة أو مرتين في الأسبوع لتنغم بأبواقها أما مرضى الجند.(10/46)
ولقد عزمت إحدى جمعيات الإحسان في إنكلترا على تحقق تأثير الموسيقى في تسكين الآلام الطبيعية والأدبية في كثير من الأسقام فألفت من مرضى الموسيقيين عصابة تقوم في مكان خاص بها تتناوب العمل فيه ليل نهار لنقل الأنغام الموسيقية بواسطة أسلاك التلفون إلى قاعات مخصوصة من كل مستشفى كبير في لندرا. فأسفر ما جرى من التجارب في هذا الشأن حتى الآن عن نتائج مهمة. وأقل ما نجم من الفوائد أن أخذ المضطربون من المرضى ينامون ملء جفونهم واستراحوا من التشويش والتبلبل.
وتألفت في سهالنبورغ جمعية من النساء المريضات لتصدح كل يوم بالقرب ممن أجريت لهم العمليات بالأنغام الموسيقية صوتية كانت أو آلية فثبت أن درجة حرارتهم كانت تنزل وأن آلامهم تخف. ومثل ذلك جرب في مستشفى بلتون بإنكلترا. والكمنجة هي الآلة المستعملة في الأكثر. وأحسن الآلات استعمالاً في حال الأرق علبة موسيقية بسيطة تدور بحركة ساعة دقاق أو بمحرك كهربائي. بيد أن تأثير الموسيقى في المرضى يحتاج إلى درس طويل إذا أخذ بمجموعه لا على التعيين.
نشر أحد أطباء الألمان كراسة في فعل الموسيقى في النفوس فقال أنها إذا أضعفت الأصحاء فهي تسكن حواس المرضى وأنها لتنفع في أوجاع الرأس والدوار والإغماء واستشهد على ذلك بامرأة كان صوت الأرغن يضيع رشدها فيعروها جذب وكانت تلك الآلة بعينها تحدث نفس التأثير في فتى طلياني كان مصاباً بالدودة الوحيدة. ذكر روسو الفيلسوف أن كاهناً كان إذا سمع صوت الأرغن يتأثر حتى ليضطر إلى مغادرة الهيكل وعلى العكس في رجل من قومه كان يستولي عليه وهو في حالة السماع ضحك عصبي يستلزم إخراجه من الكنسية.
لاحظ الطبيب المشار إليه أن الموسيقى تعدل سير الدم وتحسن حالة التنفس فإذا كانت الأنغام الموسيقية حادة بهجة تبرق العين وتزيد حمرة الوجه ويسرع النبض وتنمو حرارة الجسد ويضرب القلب ويسعل الهضم وإذا كانت الأنغام الموسيقية كئيبة وبطيئة تحدث للعين غشاوة ويصفر الوجه وتقل رطوبة الجلد ويزداد تواتر الدم إلى القلب ويضعف ضرب النبض ويقل التنفس ويطول.
قال وتفعل الموسيقى في المجموع العضلي فبها يتحمل الجنود الشدائد والمتاعب فتتضاعف(10/47)
قوتهم عندما يباشرون القتال وتؤثر أيضاً في التهييج العضلي فإنك ترى أناساً يرقصون من الليل ويطيلون الرقص وما كانوا ليقوموا بهذه الرياضة لولا سماع الأنغام. فالمرأة مهما بلغ من لطف مزاجها وتأثرها من أقل تعب ينالها يهون عليها الرقص ساعات على صوت آلات الطرب. ثم أن الملاح والمعدن والبحري يتغنون عندما يقومون بأعمالهم الصعبة.
يحب صاحب المزاج الدموي من الموسيقى ما أفرح وجاز على السمع وكان طبيعياً في الوضع. ويفضل السوداوي من الموسيقى الشديد القاسي العالي. ولا يحب البلغمي شيئاً من أنواع الموسيقى. أما أهل الدعة والسكون والعلماء فلا يجيدون الشعر ولا يحسنون صنعة الغناء. على أن في هذا القول نظراً لأن القول بأن المزاج الفلاني لا يقبل النغم الفلاني هو ناشئ لا من المزاج فقط بل من الوراثة والمحيط والتربية ولقد عرف علماء لا يرتاحون للموسيقى ورأيت من لا يفضلون شيئاً عليها وشهدت من يتوفرون عليها ويعتدلون في سماعها.
وضع الطبيب المنوه به ست قواعد لاستعمال الموسيقى في شفاء الأمراض أولها أنه كلما كانت الموسيقى طبيعية وأعربت عن اللغة الطبيعية في الفكر تؤثر في النفوس كثيراً ولاسيما في نفوس من لم يتعلموا التعليم الكافي. ثانيها لما كان لكل بلاد أنغامها الخاصة بها فإن الموسيقى تؤثر في الروح كلما قربت من هذه الأنغام. ثالثها ينبغي أن تكون الموسيقى متناسبة مع درجة تأثير الموضوع. رابعها ينبغي أن يحدث تأثير الموسيقى ببطءٍ فيبدأ مع السوداويين باستعمال ألحان يتدرج فيها من الخفيف إلى القوي ويستعمل من الألحان الشديد أمام أصحاب النفوس الغضبية. خامسها اختيار الآلات المستعلمة للغاية التي تطلب فصاحب المزاج السوداوي يرتاح لسماع الطبل والبوق ذي الأنبوبتين وكذلك المزمار والعود يناسبان مزاجه. سادسها تطرب الموسيقى الطبقات العالية أكثر مما تؤثر في الطبقات النازلة.
ومن رأي هذا الطبيب أن الموسيقى تشفي صاحب السويداء كما تزول بها الكآبة والحزن وتبعد الخوف. ولقد أجمع الفلاسفة على أن شيئين إذا عادلا ثالثاً يكونان هما متعادلين فإذا كانت الموسيقى نافعة في إزالة الكدر والسويداء هما في الحقيقة شيءٌ واحد. فإن أبقراط حدد السويداء بأنها الكدر والخوف.(10/48)
وهنا أورد صاحب المقالة حوادث من التاريخ في أوربا ولاسيما في فرنسا تدل على ما نفع من الأنغام في مداواة بعض الأسقام ولاسيما الجنون والاختلال وداء النقطة مما دل على أنه أحاط بالموضوع من جميع أطرافه وقتله درساً واطلاعاً. ثم قال أن الإسلام انتفع من تأثير الموسيقى لتحريض أشياع الحسين الشهيد على الجذب والتهيج وذلك بقرع الطبول المتواتر على إيقاع متساوق سريع فيردد الشيعة على نغم الطنبور ألحاناً مقفاة حتى ينتهي الحضور بأن لا يعودوا يتأثرون للضرب ولا للجرح. وكذلك الحال في دراويش الهند فإنهم يستعملون كلمة واحدة ويكثرون من ترديدها فتؤدي بهم إلى الجذب مصحوباً بقلة التأثر.
وبعد أن أفاض في إيراد حوادث القدماء وأخبار عنايتهم بالموسيقى في شفاء بعض الأمراض قال أن مراد الرابع (1623) أثرت فيه الموسيقى فعقد النية على أن يبقي على أخوته الذين كان ينوي اهراق دمهم وأن فرنسيس الأول بعث إلى سليمان الثاني بجوق من الموسيقى فلاحظ هذا أن شراسة خلقه لطفت بسماع ألحانهم فأسف من جراء ذلك كثيراً ولم يلبث أن طرد للحال جميع الموسيقيين من حضرته.
وجملة القول أن الموسيقى تؤثر في الدورة الدموية في الإنسان والحيوان ويزيد بها ضغط الدم وينقص وتتبع هذه التقلبات تأثير تهييج الأعصاب السمعية. وأن آلات الطرب والصفير ليظهر فعلها بتحسن في تشنج القلب خاصة. وتغيير الدم الناتج من تأثير الموسيقى يناسب تحول التنفس وإن كان يتجلى ذلك مستقلاً عن تحول التنفس. يزيد الستركنين في تأثير التهييج السمعي في الدورة الدموية والكورار على العكس يضعفه.
والكلورال (نوع من المخدرات) والكحول والأفيون تضعف أيضاً تأثير التهييج السمعي في الدورة الدموية وتغيير الدورة الدموية تابع لارتفاع الصوت وشدته بل لارتفاع الجرس ونزوله. ولتغير الدورة الدموية دخل كبير في ذاتية الحيوان والإنسان ولاسيما في جنسية الإنسان وتابعيته.
وعلى من أراد الوقوف على تأثير الموسيقى في أحد أعضاء الجسم سليماً كان أو سقيماً أن يفرق بين العناصر التي ينبعث منها ذاك التأثير. فالهزج واللحن والإيقاع تؤثر تأثيرات مختلفة بحسب تركيبها وتلحينها. وفي الختام نقول أن الاستشفاء بالموسيقى قديم العهد وقد ظل محتفظاً بأهميته العلمية والعملية على حالة واحدة رغم اختلاف العصور.(10/49)
مطبوعات ومخطوطات
كتاب التعليم والإرشاد
ينقضي الشهر والشهران بل السنة والسنتان ومصر لا يكاد يصدر فيها كتاب ترجح حسناته على سيئاته ونفعه على ضره ولذلك ترانا عند نشر كتاب نافع في موضوع جدي نهلل له كثيراً ونبتهج به أيما ابتهاج. والكتاب الذي أمامنا لمؤلفه الكاتب الفاضل السيد محمد بدر الدين الحلبي هو من الكتب النافعة في الإصلاح الإسلامي. وأي إصلاح أجدى على مجتمعنا من إصلاح طرق التعليم بعد أن أجمع عقلاؤنا منذ قرون أنه مختل معتل ولا نهوض للأمة إلا برده إلى أصوله والسلوك به في مبيع السداد.
تصفحنا الكتاب برمته فرأيناه يدور على ثلاثة أقطاب الأول في العلوم التي يشتغل طلاب العلوم الشرعية اليوم بها وبيان ما تمس حاجة المسلمين إلى الاشتغال به وما لا تمس وفي الإسلام غنية عنه لأنه دون لا لخدمة الدين بل لمصلحة دينية وقد مضى زمن تلك المصلحة ولم يبق من حاجة إلى النظر فيه. الثاني بيان حقيقة المؤلفات التي يشتغل بها طلاب العلوم الشرعية وذكر النافع منها من غيره والإشارة إلى ما يجب الاشتغال به من الكتب الجيدة النافعة والكتاب أحد الأستاذين. الثالث النظر في طرق التعليم وكيفيته في المدارس الإسلامية عامة في مصر والغرب والشام والهند وغيرها وبيان جيدها من رديئها وذكر طرق التعليم النافعة التي كان يجري عليها التعليم في القرون الأولى ليعمل به في أيامنا هذه.
ولقد رأينا المؤلف تلطف في ما كتبه وغلب على ذهنه صحته فوصف عقم طريقة التعليم التي هي أحرى أن تسمى أزهرية لأنها منه نشأت وصف من ذاق فعرف ومما قاله في قلة الناجحين فيها: ولو أردنا أن نحصي عدد الناجحين من أولئك المستعدين لتعلم العلوم الدينية نجاحاً نسبياً لم يكونوا أكثر من واحد في كل مائة ولو طلبنا الناجحين حقيقة الذين يمكنهم القيام بوظيفة التعليم لم يكونوا أكثر من واحد في الألف إن كثر عددهم. وجاء في مكان آخر وأثبت بالإحصاء أنه لم ينجح في امتحان الفقه الحنفي سوى اثنين في المائة أو في المائتين.
تكلم المصنف بدون مصانعة على فساد الكتب التي تدرس والطريقة المتبعة في التدريس(10/51)
وذكر علم المنطق وأبطل قول القائلين وجوب الاشتغال به وبين أنه لا جدوى منه في المطالب العقلية وتكلم على علم الأصول والفقه والتوحيد ومن رأيه في الاجتهاد أنه ليس بمحظور على أحد من الناس وليس بضربة لازب على كل إنسان بل أن من رأى منه ما يؤهله للقيام بأعباء هذه الخطة العظيمة فله أن يجتهد ويعمل بما أداه إليه اجتهاده قال وإنا لا نجيز لأحد يرى في نفسه صلاحية للاجتهاد أن يدعو الناس إلى العمل بقوله والأخذ بما أداه إليه اجتهاده لا لشيء سوى أننا نرى أن في ذلك توسيعاً لباب الخلاف بين المسلمين ونحن في حاجة إلى تضييقه إلى أن يقول وخير من الاشتغال بهذا وأجدى للمسلمين اختيار ما يوافق أهل كل عصر ومصر من أقوال الأئمة المجتهدين والعمل بها وترك التقيد بمذهب أمام واحد من الأئمة وفي هذا من التوسيع على المسلمين والنظر إليهم ما لا ينكر وقعه. وأطال في علم الكلام وسماه العلم المشئوم ودعا إلى وجوب تركه على نحو ما دعا إلى ذلك كبار رجال الإسلام في القديم قائلاً أن ليس من فائدة فيه سوى زعزعة أركان الدين ونقض أساسه. وتكلم على علوم البلاغة وأثبت أن لا حظ لأرباب المدارس الدينية منها وأفاض في أنه لا عذر للناس اليوم في استعمال كتب المتأخرين مع وجود كتب المتقدمين وقال أنه من أقبح آثار هذه الكتب أنها تضعف الفكر.
وختم كتابه وهو في 290 صفحة بالكلام على الأزهر وسوء حالته متعلقاً بأهداب الأدب الذي يشكر عليه وقد اقتبسنا منه في غير هذا الوضع فصلاً في التفسير والمفسرين دلالة على أسلوب المؤلف في الانتقاد وأخذنا عليه أنحاءه على المدارس النظامية وطرق تعليمها وإنكاره إدخال بعض العلوم كالتاريخ والجغرافيا إلى الأزهر مع أنه لا يتم علم العالم إلا بمعرفة تاريخ أمته وتقويم بلادها على الأقل كما رأيناه لم يصب المرمى في كلامه على علم الأصول ومهما يكن فإن الكتاب من جيد المصنفات النافعة وعساه يوفق إلى نشر الجزء الثاني المتعلق بالإرشاد في أقرب وقت جزاه الله عن العلم خير الجزاء.
المدونة الكبرى
انتهى طبع الجزأين الخامس عشر والسادس عشر من هذا الكتاب الذي نوهنا به في بعض الأجزاء السالفة وبطبعهما تم طبع المدونة لإمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي وقد أورد طابعها الفاضل الحاج محمد الساسي المغربي في آخر الجزء سماع هذه المدونة عن(10/52)
أعلام من العلماء آخرهم عبد العزيز بن عامر وذلك في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وأربعمائة من الهجرة بالقيروان وقد كان على النسخة الأصلية النفيسة تقارير وفوائد لأكابر علماء المالكية كالقاضي عياض وابن رشد وغيرهما وهي مكتوبة بقلم عبد الملك بن مسرة بن خلف اليحصبي في أجزاءٍ كثيرة جداً وتاريخ كتابتها سنة 476. فنهنئ الطابع الذي ربح من هذا الكتاب مادة ومعنى ونأمل أن يطبع غيره من الأمهات النافعة ليستفيد بذلك ويفيد.
الأخلاق والسير
هو كتاب مداواة النفوس لابن حزم الأندلسي عني بطبعه الفاضل الأديب الشيخ أحمد عمر المحمصاني الأزهري طبعه على نسخة قديمة ظفر بها فجاء به بعض زيادات عن الطبعة الأولى التي طبعت منه منها قوله كانت في عيوب فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وفي آداب النفس أعاني مداواتها حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه. وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها ليتعظ بذلك متعظ يوماً إن شاء الله. فمنها كنف في الرضاء وإفراط في الغضب فلم أزل أداوي ذلك حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام والفعل والتخبط وامتنعت مما لا يحل من الانتصار وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً وصبرت على مضض مؤلم كان ربما أمرضني وأعجزني ذلك في الرضى وكأني سامحت نفسي في ذلك لأنها تمثلت أن ترك ذلك لؤمٍ ومنها دعابة غالبة فالذي قدرت عليه فيها إمساكي عما يغضب الممازح وسامحت نفسي فيها إذ رأيت تركها من الانغلاق ومضاهياً للكبر حتى ذهب كله ولم يبق له والحمد لله أثر بل كلفت احتقار قدرها جملة واستعمال التواضع ومنها حركات كانت تولدها غرارة الصبا وضعف الإغضاء فقصرت نفسي على تركها فذهبت ومنها محبة في بعد الصيت والغلبة فالذي وقفت عليه من معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحل في الديانة الخ وهو في زهاء مائة صفحة صغيرة ويطلب من المكاتب الشهيرة في مصر والشام. وحبذا لو اعتمدته نظارة المعارف المصرية لتدريس الأخلاق.
تذكار ديوان راغب وصبري(10/53)
هو آخر ما طبع الشاعر الأديب الشيخ رشيد مصوبع اللبناني من شعره اللطيف أهداه لعطوفة إدريس بك راغب وسعادة إسماعيل باشا صبري من أعيان مصر ومن شعره في وصف غني كبير توفي عن امرأة حسناء ولم يأت حسنة في عمره.
ليس بدعاً إن لم يشيعك قوم ... في الحمى من خيارهم والعيون
من يعش في الحياة غير ثمين ... يتولى للقبر غير ثمين
لا تلم حاملي اليراع إذا ما ... فزت منهم بالندب والتأبين
ليس بدع بأن يلاقى ضنين ... من أكف الكرام كف ضنين
وقال في انقلاب الزمان:
يعبس الدهر ثم يبسم حينا ... هكذا هكذا نقضي السنينا
وتمر الخطوب تعدو غنيَّ النا ... س لكن ما فاتت المسكينا
ويعيش الغني دوماً بشوشاً ... ويعيش الفقير دوماً حزينا
كل دار يحلها المرءُ إن كا ... ن غنياً إنساً يرى وحدينا
لا جمال ولا جلال ولا علم ... سوى درهم يرن رنينا
وقال:
وتأوي إلى أوكارها طير أيكةٍ ... وجنب فقير لا يلامس مرقدا
ترى في وجوه البائسين تضاؤلاً ... وفي وجنات الموسرين توردا
وهذا الجزء 96 صفحة جيدة الطبع فنثني على همة الناظم الأديب ونحث الأدباء على اقتناء شعره.
مجموع رسائل في أصول الفقه
الأولى من أصول الشافعية للإمام ابن فورك الأصبهاني المتوفى سنة 406هـ والثانية من أصول الظاهرية للشيخ محيي الدين بن عربي الأندلسي المتوفى سنة 638 والثالثة من أصول المالكية لنجم الدين الطوفي البغدادي المتوفى سنة 716 والرابعة للجلال الأسيوطي المتوفى سنة 911 جمعها الأستاذ الفاضل الدراكة الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي وعلق على بعضها شروحاً نافعة لطلابها في بابها وطبعت طبعاً جيداً فوقعت في 80 صفحة منصفة القطع فنحث على اقتنائها.(10/54)
تاريخ أساس الشريعة الإنكليزية
أو سنة الارتقاء في نظام الحكومة الإنكليزية ومصدر القوانين الأساسية للحكومات الدستور كلها تأليف دافد وطسن وتعريب الكاتب البارع نقولا أفندي حداد وهو كتاب أجاد مؤلفه في وضعه ومعربه في نقله وطابعه في طبعه جاء فيه من الفوائد التاريخية الاجتماعية الموجزة ما لا يستغني عن الاطلاع عليه كل محب للاطلاع على تاريخ هذه الأمة العظيمة وقد وقع في 190 صفحة متوسطة فنحث الأدباء على مقتناه وهو يطلب من طابعه حضرة إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية بمصر وثمنه عشرة قروش أميرية.
كتاب معجم البلدان
كادت تعد كتب الأسلاف التي طبعها الأوربيون في مطابعهم وصححوها بمعرفتهم على المواد التي لديهم في مقام المخطوطات النادرة لغلاء أسعارها وقلة الظفر بها ولذلك يشكر من أعاد طبعها وأجاده منا كالذي أحيا كتاباً مخطوطاً لم يكن معروفاً من قبل إلا عند الخاصة. ومعجم البلدان هو من أمهات الكتب الممتعة في الجغرافيا القديمة بل من أهم الكتب الأدبية والتاريخية وهو أشبه بقاموس بوليه الفرنسي في الجغرافيا والتاريخ إلا أن هذا كتاب حديث ومعجم البلدان قديم يمتاز على بوليه بالآداب والأشعار وذكر أبناء هذه البلاد الشرقية وأصقاعهم خاصة.
طبع أحد علماء ألمانيا منذ عهد طويل هذا الكتاب فكادت تنفد نسخه وعز الظفر بها حتى على الغني وجعله في أربعة أجزاءٍ ضخمة ما خلا الفهرس البديع الذي كان ألحقه به وقد عني هذه السنة حضرة الأديب محمد أمين أفندي الخانجي بطبعه في القاهرة فأنجز منه حتى الآن سبعة أجزاءٍ ولم يبق سوى جزءٍ ثامن من الكتاب الأصلي وهو تحت الطبع وسيجعل له ذيلاً في مجلدين آخرين سماه منجم العمران فيما فات ياقوت من أسماء البلدان فيتم بذلك عشرة مجلدات في نحو خمسة آلاف صفحة لا يستغني عنه أديب ولا مؤرخ ولا جغرافي وفي يقيني أن هذا المعجم تنفد نسخه عما قريب بالنظر لما اشتهر عن ياقوت الحموي من العلم الزاخر والتحقيق الباهر بالنسبة لعصره. وقد تولى تصحيح الكتاب الأستاذ الفاضل الأديب الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي فنثني على مصححه وطابعه أطيب ثناءٍ والكتاب يطلب من هذا في القاهرة بثمانين قرشاً مصرياً قبل تمام الطبع وبمائة(10/55)
قرش بعده وعساه يوفق إلى طبع غيره من الكتب النافعة المهمة.
رواية موريس
أو ابن الغريب عربها عن الإنكليزية بتصرف الأديب كامل أفندي بطرس وأهداها لصديقه الشاعر الكاتب البليغ محمد أفندي أمام العبد قال المعرب: فارتاحت نفسي إلى ترجمتها ترجمة لا تغضب اللغة ولا تسيء إلى الأسلوب العربي بقلم كالمرآة لا يخدع الناظر إليه وما أقدمت على ما أقدمت عليه إلا بعد ما ألفيتها كالبكر في خدرها لا تعيب ولا تعاب فكانت في معزل عن كثير من الروايات التي كتبت فكادت تغير من أخلاق البشر بقدر ما غيرته من الحقائق.
النهضة الشرقية
وهي مقالات نشرها سعادة الوجيه عطا بك حسني من أعيان القاهرة في بعض الجرائد السيارة وعني بجمعها الكاتب الأديب ذي المعزة عبد المسيح بك انطاكي صاحب جريدة العمران الغراء فجاءت في زهاء 280 صفحة صغيرة ووصف فيها رحلته إلى الأستانة وذكر أراءً له خصوصية بشأن حكومات الإسلام وثمن النسخة الواحدة عشرة قروش وهي تطلب من طابعها وجامعها في القاهرة.
وقائع الحرب
عرف فارس أفندي الخوري في مصر بأنه عالم كاتب باحث ولم يشتهر عنه ما اشتهر به في الشام بأنه شاعر مجيد أيضاً وقد طبع له هذه الآونة صديقه الدكتور الفاضل حسين أفندي حيدر أربع قصائد في تاريخ حرب الروس اليابانية التي نشبت في 8 فبراير (شباط) ووضعت أوزارها في 5 سبتمبر (أيلول) 1905 كان نظمها على ذاك العهد وألم فيها بالأسباب التي دعت إلى إشهار الحرب وذكر المعارك البحرية والبرية المهمة التي دارت بين الصفر والبيض وأتى على أسماء القواد والوزراء فصبها في قالب الشعر مع المحافظة على كيفية التلفظ بها في لغاتها الأصلية بدون تكلف وفسح للانفعالات النفسانية والتخيلات في الوصف مجالاً رحباً في تضاعيف الأبيات ومزج التقرير التاريخي مع الخيالات الشعرية بحيث لم تعد منظوماته تاريخاً مجرداً ولا وصفاً شعرياً مفرداً بل جمعت بين الاثنين ولقد كان من المتواتر على ألسن الناس في وصف الشعر بأن أعذبه أكذبه فلما تأملنا(10/56)
ملياً ما نظمه الناظم المشار إليه قلنا إن أعذب الشعر أصدقه لأنه لم يخرج عن الصدق فيما قال عن الحرب أو روى. وهذه المنظومات أجمل تاريخ يحفظ لأعظم حرب نشبت منذ عرف التاريخ إلى الآن.
قال في وعيد الروس لليابانيين
وعيد جله صوت جهور ... ومن ذا يرهب الصوت الجهورا
ذوات الناب ليس تضر شيئاً ... إذا صخبت وأكثرت الهريرا
وقال عند غرق الأميرال مكروف على الدارعة بتروبالسك
مضى يجتاز فوق فخاخ طوغو ... كملاح يحاذر أن يجورا
إلى أن شقت الغمرات فاها ... وأصعدت البلايا والسعيرا
فشاهد تحت أخمصه جحيما ... وقد فتحت قذائفه حفيرا
كأن جهنماً وجدت سبيلاً ... ومطوياتها لقيت نشورا
كأن هناك بركاناً تلظى ... وأطلق في الفضا ناراً ونورا
كأن البحر غضبان عليهم ... لما جروا على الدنيا شرورا
طوى بضميره حنقاً فلما ... دنا مكروف كاشفه الضميرا
هوت فيه السفينة في خليج ... وكانت قبل تخترق البحورا
ومن وصفه اليابانيين في وقعة يالو
أقام الروس في يالو قلاعاً ... على تحصينها صرفوا شهورا
مسيل النهر دونهم فظنوا ال ... سعدى لا يستطيعون العبورا
ومن خاض البحور إلى الأعادي ... أيأبى أن يخوض لهم نهورا
مشى اليابان لا يخشون بؤساً ... وماء النهر يكتنف الصدورا
بجيش كل من فيه جريءٌ ... تمنى للأعادي أن يطيرا
إلى أن يقول
ولا عجب لمختال مدل ... إذا أخلى الحواضر والثغورا
إذا غفل الرعاة عن المواشي ... فمن ذا يدرأ الأسد الهصورا
وأن الخاشع اليقظان يكوي ... بحد حسامه البطل الفخورا(10/57)
كذلك من توخي البغي متناً ... تراه بدون معثرة عثورا
وقال في إعجاب الروس بقوتهم واحتقارهم خصومهم لقماءتهم
لقد شمخوا على اليابان لما ... رأوا جنديهم قزماً زميرا
وقالوا سوف نطحنهم فتغدو ... قبورهم الضواري والنسورا
ولكنا على يالو وكنشو ... وجدنا القول بهتاناً وزورا
فعرض الجسم لا يغني فتيلاً ... وطول القد لا يجدي نقيرا
الست ترى الوليد وفيه حزمٌ ... يسوم الفيل خسفاً والبعيرا
رهام الطير تنخلع ارتياعاً ... إذا رأت البواشق والصقورا
وقال في انتصار اليابان في معركة شاهو
ترى للعين من حنق شرارا ... وللأسنان من ألم صريرا
وللأرواح من جزع غياباً ... وللأشلاء من عجز حضورا
تمنى الجيش لو كانوا خشاشاً ... إذن ولجوا المخافر والوكورا
ولو كان الخيار لهم بمتن ... ضمين للنجا اختاروا الطيورا
تمنى الروس لو خلقوا إناثاً ... وسبوا اليوم إذ ولدوا ذكورا
إذن ولي الرجال النضج عنهم ... وهم لزموا المنازل والخدورا
وقد حسدوا الشيوخ على مشيب ... كما حسدوا المشوه والصغيرا
وقد لعنوا الحروب وخائضيها ... ومن أضحى لجمرتها مثيرا
وقالوا ليتنا كنا اتحدنا ... وقاتلنا المسبب والمشيرا
إلا رحم امرؤٌ حر شجاع ... يجاهد ملكه أو يستشيرا
وقدس سر سلطان تنحى ... تفرده وقال الأمر شورى
ومما قاله في وصف وقعة مكدن
ملائكة السلام خلت وأضحى ... شياطين الشرور مشمرينا
كأن رذائل القتل استحالت ... فضائل فاعلوها يفخرونا
كأن قذائف النيران رسل ... أتت توحي التهور والجنونا
تجيء من السماء بمعجزات ... تؤيد ما ادعتهُ فيؤمنونا(10/58)
فما صعقات موسى فوق هذا ال ... هزيم يضعضع الجبل المتينا
على ورع تمجس آل عيسى ... كأن النار نار جبال سينا
كأن الهم فيها تجلى ... إذا ما استقبلوها يسجدونا
وقال في هزيمة الروس
عجب الأنام لشدة الغلب الذي ... ذاقوا ولو غلبوا فذلك أعجب
فتغلب اليابان فيه غرابة ... لكن جهل الروس أمر غريب
هجموا ولا علم لهم بخصومهم ... ماذا أعدوا للدفاع وألبوا
من ذا يغول الليث وسط عرينه ... إلا الشقي الغمر من لا يحسب
نصبوا حبائلهم وقد وقعوا بها ... إن الظلوم يصاد في ما ينصب
إلى أن يقول
ركبوا من البغي الوخيم حقائباً ... فرس البغاة حقيقة لا تنجب
ما كان في الأسطول إلا غرة ... وخيانة وظلامة وتعصب
فهوى والاستبداد كان رفيقه ... وفساد روسيا كذلك يصحب
عرفوا بأن الظلم ليس بغالب ... عدلا ول اصدع التعسف يشعب
والمستبد المستجيش عبيده ... إن نازل الأحرار لا يتغلب
أيفوز مهضوم الحقوق بمن لهم ... حرية بصدورهم تتلهب
ظفر الذي اعتاده جهل بمن ... اعتاده علم رجاءٌ مجدب
فالعلم منصور اللواء مؤيد ... والجهل مشقوق الجبين مخيب
والعدل ليث عاصم لجواره ... والظلم خصم أن تعرض ثعلب
وقال في هذا المعنى
كثرت شكاويهم وقالوا خانهم ... قدرٌ وغالبهم قضاءٌ أغلب
ذو الحزم يتخذ النتائج راضياً ... والغمر يتهم الزمان ويعتب
وقال في مولد ولي عهد روسيا أثناء الحرب مخاطباً أهل البلاط الروسي:
طمحت إلى أرض السوى أبصارهم ... ولسلبها حشدوا الجيوش وجندوا
أمروا بقتل النفس وهي بريئة ... وعصوا وصايا ربهم وتمردوا(10/59)
إلى أن يقول مخاطباً الطفل
ها أنت تنمو في عناية والد ... حانٍ يذود السوء عنك ويطرد
والبعض من أبناء جيلك لا ابٌ ... يحنو عليهم إن بكوا وتنهدوا
آباؤهم سقطوا بساحات الوغى ... ليوسعوا لك دولة ويمهدوا
فإذا نموا وملكت فارفق ذاكراً ... حق الذين على ولاك استشهدوا
وعساك تنشأ عادلاً لا تدعي ... إن الجميع لأجل عرشك أوجدوا
فالملك جسم والعدالة درعه ... درع بمجبوك الحديد مسرد
والملك بستان أعز سياجه ... عدل به ريح المخاوف تركد
يتوقع الإصلاح منك وليتنا ... نحيا لنعرف ما يجيء به الغد
وقد ألحق الطابع بهذه القصائد كتاباً كان بعث به الفيلسوف تولستوي الروسي إلى القيصر الحالي يعظه وينصح له ويذكره بحال رعيته معربة بقلم الناظم أيضاً فجاءت هذه الرسالة حاوية من النثر والنظم وأرقه وأنفعه فنثني على الناظم والطابع بما هما أهله والرسالة تطلب من المكاتب الشهيرة في مصر وثمنها ثلاثة قروش صحيحة وهي جيدة الطبع والورق في 68 صفحة منصفة القطع.(10/60)
سير العلم
آثار مصرية
اكتشفت بالقرب من أهرام أونياس ضريح يرد عهده إلى خمسمائة سنة قبل الميلاد وعثر فيه على جثة الكاهن هو كمنساف وعليه آثار كثيرة من الآنية الخزفية وغيرها وعثر في تل بالزقازيق على حلي أكثرها مرصع بالأحجار الكريمة مثل اسورة وأقراط وعقود وكؤوس ومشربيات من الفضة والذهب وكلها حسنة في صنعها ووضعها فنقلت إلى المتحف المصري.
طلاب الشريعة
يؤخذ من إحصاءٍ وضعه العالم ذي المعزة أمين بك سامي ناظر مدرسة الناصرية والمعلمين أنه كان عدد طلبة العلم في الأزهر هذه السنة 9758 وعدد المدرسين 317 وعدد طلبة الإسكندرية 440 و39 مدرساً وعدد طلبة الجامع الأحمدي 5161 ومدرسيهم 70 وأن مجموع طلاب الشريعة في القطر 21352 والعلماء المدرسين 1025 وأن في الأزهر 661 من الطلبة غير المصريين.
الخدام
يشكو أهل أوربا من تناقص عدد الخدام سنة بعد أخرى على توفر أسباب الرفاهية وما تقتضيه من الحاشية والغاشية وقد أفاض أحد الباحثين في هذا الموضوع فظهر له أنه كان في فرنسا 892759 خادماً و1311471 خادمة سنة 1866 فنزل عددهم سنة 1896 إلى 160183 رجلاً و703148 امرأة وإذا دامت الحال على ذلك تضطر أكثر حكومات الغرب إلى تأسيس مدارس للخدمة بعد قليل من السنين.
الخطوط الحديدية في أميركا
ذكرت مجلة المجلات النيويوركية بحثاً في الخطوط الحديدية التي أنشئت وتنشأ في خلال هذه السنة في الولايات المتحدة وكندا فكان مجموع طولها 35 ألف كيلومتر تقتضي من ثلاثة إلى أربعة مليارات فرنك ومن جملة تلك الخطوط خط طوله 1600 كيلومتر يجتاز غابات يستخدم خشبها للبناء ولصنع ورق الكتابة ومن جملة ما يستفيد بهذا الخط صقع مضيق هودسون فإنه لم يكن يسلكه قبل عشر سنين إلا بعض تجار يعطون الدراهم(10/61)
فيبتاعوا بها فراء. وبالسكة اليوم تفتح أبواب هذا المضيق للتجارة العامة.
التربية العملية
رأى أحد علماء الطليان أن بني قومه مقصرون في تربية أطفالهم ولاسيما الطبقة الوسطى منهم فارتأى أن يغرب الأطفال عن إيطاليا ويبعث بهم إلى إنكلترا أو ألمانيا أو أميركا ليتمكنوا من تغيير محيطهم وبيئتهم ويكون لهم من التنقل ما يساعدهم على تعلم الصناعات والتجارة بين تلك الشعوب الراقية. وكانت فرنسا منذ نحو أربعين سنة جرت مع أبنائها على هذه الطريقة لأجل تعليمهم اللغات الأجنبية فكانت تغر بهم لهذا الغرض إلا أنها عادت فضعفت عندها هذه الطريقة في التعليم وأصبحت عندها نظرية على حين أصبحت عند أميركا عملية. ويرى الأمريكان من متممات العلم والعمل أن يبعثوا بأولادهم إلى أشهر عواصم العالم ليطلعوا عليها ويصرفوا فيها زمناً لتطبيق العلم على العمل.
شلالات نروج
نروج من أكثر بلاد أوربا شلالات فقد قدروا قوتها بمليون وربع حصان بيع منها إلى شركات ونقابات أجنبية بما قوته نصف مليون وخمسون ألف حصان واقتضى للإنفاق على جر هذه القوة خمسمائة مليون كورون.
المهندسون في ألمانيا وفرنسا
أورد رئيس جمعية مهندسي الملكية في فرنسا إحصاءً مهماً بخصوص تأسيس مدرسة جديدة في باريس للصنائع والفنون فقال أن في فرنسا 16000 مهندس تخرجوا في مدارس مختلفة و138000 محل في حاجة إلى مهندسين وعلى العكس في ألمانيا فإنك تجد فيها 76000 مهندس ولا تجد فيها غير 55000 مركز لهم ولذلك رأى أن تعنى فرنسا بإحداث مدارس عملية ينتدب للتدريس فيها أساتذة تمكنت الصنائع العملية من نفوسهم.
التصعيد في حملايا
جبال حملايا سلسلة من الجبال في آسيا تفصل بين بلاد الهند وتبت وقممها أعلى قمم في العالم فيبلغ ارتفاعها في كاوريزانكار 8839 متراً وفي كنشنجا 8581 متراً وطولها 2250 كيلومتراً. وقد نشر لونكستاف سياحة سماها نزهة ستة أشهر في حملايا قام بها في(10/62)
العام الفارط فقال أنه توصل إلى صعود 7300 متر في صخور ناندا ديفي في غربي نبال فلفت بسياحته أنظار العالم إلى دعوى السائح غراهام الذي ادعى أنه بلغ في تصعيده سنة 1883، 6863 متراً في جبل مونال و7300 متر في كابروا وقد قضى السائح لونكستاف ليلة بطولها مع دليله وارتفع 7019 متراً عن سطح البحر أي 23 ألف قدم بعد أن سقط نحو ألف متر في الثلج ونجا بقضاءٍ وقدر من الموت. ثم قاسى من ألوان العذاب لقلة الطعام والمنام ما جرأه من الغد على اقتحام المصاعب والتصعيد إلى 7300 متر وبالجملة فقد أثبت هذا السائح ما كان ادعاه غراهام وكان العلماء في شك من دعواه بأنه بلغ 7726 متراً في هذا الجبل الشاهق.
السلك البحري
أنشأت أعظم شركة للأسلاك البحرية في العام الماضي أكبر سلك بحري بين أوربا وأميركا أنفقت عليه 700 ألف كيلو من النحاس و350 ألف كيلو من الطبرخى الغوتابرشا و700 ألف كيلو من أسلاك الحديد والنحاس والقنب والمواد الواقية واقتصدت الشركة 15 في المائة من السرعة بالنسبة لبقية الأسلاك الأخرى فتمت به الأسلاك البحرية التي تربط أميركا بأوربا إلى خمسة خطوط وهي اليوم تنشئ خطين آخرين أحدهما من جزيرة مانيلا إلى الصين والآخر من غوام إلى اليابان ويتمان هذه السنة.
مدارس التجارة في أوربا
دهش أحد الأمريكان ممن زاروا أوربا مؤخراً من كثرة ما شاهد من المدارس التجارية في سويسرا قال أن مدنها الحقيرة لا تخلو من مدارس تجارية فإن لمدينة نوشاتل وسكانها ثمانية عشر ألف نسمة مدرسة تجارية يتعلم فيها سبعمائة صبي بينهم خمسة وعشرون من أبناء الأمريكان. وفي مدينة فينا 19 مدرسة للتجارة ولألمانيا المقام الأول في هذه المدارس والمدارس التجارية قليلة في إنكلترا ولذلك ترى الأجانب منهالين عليها من كل صوب يتقلدون الأعمال الحسابية في الغالب.
البيض والسود
أفاضت إحدى المجلات الإنكليزية في أفضلية الجنس الأبيض على الجنس الأسود وقالت أن هذه الفكرة المغلطة هي نتيجة كراهية طالما أثرت تأثيراً سيئاً في تاريخ الإنسانية وأن(10/63)
هذا التمييز لا يكون على أتمه إلا عند الشعوب القصيرة النظر فما يذهب إليه بعض الشعوب من تفضيل البيض على الزنوج والصفر والحمر هو من الأوهام التي لا تبرر إلا إذا كانت هذه الميزة من حيث العقل. وليس للأبيض أن يزعم أرجحيته على المتوحش وغير التمدن إلا إذا كان هو متمدناً بعقله واقتداره وبذلك تهيأت له القوة الاجتماعية وإذا حاد عن ذلك يرجع القهقرى ولا يمكن مما أراد إلا بالظلم وإبادة من فتح بلادهم وغلبهم على أمرهم. فليس في الواقع غير جنس واحد من البشر وهو الجنس البشري عامة ولا يكون اشتراك سياسي واجتماعي بين السود والبيض إلا إذا عدل هؤلاء عن اتخاذ قاعدة واهية في أعمالهم تشعر بأن قوى الأجناس أفعل من الوحدة البشرية.
مكاتب الأطفال
لا تزال الولايات المتحدة تكثر من تأسيس المكاتب ليختلف إليها الأطفال خاصة وقد جربوا في نيويورك بأن جعلوا في سقوف إحدى خزائن الكتب غرفاً للمطالعة فصرت عند ما تزور هذه السقوف بعد الظهر ترى فيها نحو 40 أو 50 طفلاً يطالعون الكتب والصحف في الهواء الطلق ولذلك ستكون سقوف المكاتب الثلاثة التي تنشأ الآن في نيويورك على أحسن وضع بحيث لا يضيع فراغ منها إلا فيما يفيد.
سرعة التأثر والانفعال
الايستزيومتريا آلة توضع على الرأس لمعرفة سرعة التأثر والانفعال وطرقه المختلفة اخترعها فبير أحد علماء ألمانيا في القرن الماضي وهي كالبركار في شكلها أنيطت بها دائرة ذات درجات وطرفاها رقيقان جداً فتجعل أطرافها على الجلد ريثما يشعر المصاب بألم ويختلف ابتعاد أطراف هذه الآلة بحسب الحالة العصبية وتكون الداء في عضو من الأعضاء. وبهذه الآلة يعرف مقدار التعب العقلي. وقد جرب الآن الأستاذ بينه من كلية السوربون في باريس بمعونة لجنة مؤلفة من عشرين عضواً فعل التأثر بواسطة هذه الآلة في عدة من مدارس باريس فتبين له أن التعب العقلي ناتج من طبيعة العمل ومدته والساعة التي يجري فيها فيبلغ تعب عقول التلاميذ في صفوف المساء أرقى درجاته وذلك لقلة الدم في الدماغ بعد الطعام وإن اشتغال التلميذ مساءً في منزله يحدث تعباً كثيراً كما يتعب في أثناء الامتحانات. وقد نشر الأستاذ غريسباش الألماني في هذه الآونة أيضاً بحثه في هذا(10/64)
الموضوع المهم فكان من نتائج تجاربه في أولاد من أبناء الرابعة عشرة اختبر حالتهم بواسطة آلة الايستزيومتريا فكانت حركتها الوسطى على جبهة الولد 3. 5 مليمتر و5 قبل ابتداء الدروس في الصباح و13 بعد قضاء أربع ساعات في الدرس ورجع مقياسها إلى 10 بعد الانصراف من المدرسة مساءً ويرتقي مقاسها إلى 22 درجة بعد درس المساء في المنزل ومن رأي العالم الألماني أنه لا يقتضي مداومة اشتغال التلميذ بعد انصرافه من المدرسة فقد يحدث أن التلميذ عند منصرفه من المدرسة يعطى وظيفة (فرضاً) يعملها أو درساً يستظهره في بيته بعد أن تعب في النهار فيسقط من الإعياء فما هو إلا أن يغلبه النعاس وتتعرض صحته للخطر. وقد نصح هذا العالم أن يلغى الاستعداد للامتحان مرة واحدة وأن يستعاض عنه بأسئلة شهرية تجري بملاحظة مفتشي المدارس ونصح لآباء التلاميذ أن يعنوا بصحة أبنائهم العقلية وأن يطلبوا إلى المدارس أن تصحب شهادات الدروس والسلوك المألوف إرسالها إليهم من المدارس كل مدة بشهادات تؤذن بمقاس إجهادهم العقلي.
الأديان والقضاء والقدر
ذكر أحدهم في المجلة الكبرى الفرنسية حالة الأديان في العالم وقدرها بنحو خمسة آلاف دين وقال أن المرء يولد على دين آبائه وليس هو الذي يختار دينه وإن من ضعف عقول البشر ما يذهبون إليه من أن الدين يحل مسألة القضاء والقدر ولو كان لأحد الأديان أن يحل هذه المشكلة لأوضح غامضها على طريقة محسوسة جلية لا تختلف ولا تتناقض وتوافق العقل وقال أن كل ما يبت في أمور العالم إنما يبت بتأثير العلم لا الدين.
طريقة ارتقاء الألمان
ذكرت إحدى المجلات الألمانية أن الطريقة التي جرت عليها ألمانيا فكانت سبباً في نهوضها لم تكن كما يزعم بعضهم محصورة في ارتقاء التعليم فيها بل أنه أتى مما أتيح لها من النمو في صنائعها وتجارتها ذاك النمو الذي قضى بتغيير صورة المدارس لتصبح متناسبة مع ما تستلزمه دواعي هذه الأعمال وكثرت هذه التغييرات منذ نحو عشرين سنة وكانت إمارة ساكس في مقدمة المقاطعات الألمانية عملاً بهذا القلب والإبدال.
مرض الحضارة(10/65)
هو المدعو بالفرنسية يتخوف المبتلى به من النظر إلى الناس عند اجتيازه ساحة عامة أو شارعاً كبيراً أو جسراً طويلاً ويصاب به في الأكثر أرباب الأمراض العصبية والهستريا والماليخوليا فلا يجرأ المصاب على المرور من تلك الأماكن ولو لم يكن في ذلك خطر عليه. يخاف المصابون بهذا المرض أن يتنقلوا من رصيف إلى آخر ولا يزالون يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى حتى إذا كان هناك خطر حقيقي من الاجتياز يقدمون على المرور ويذهلون فيركضون فيوشكون أن يسقطوا فيما حاذروه من الخطر. ولهذا المرض حوادث تجري كل يوم في باريس وغيرها من العواصم الكبرى. ولذلك دعوناه مرض الحضارة وإن لم تنطبق التسمية على المعنى الأصلي لأنه يكثر حيث يستبحر العمران وتزدحم أقدام السكان. قال أحد كبار الأطباء أن هذا المرض عقام عضال. وأشار غيره على المصابين به أن لا يسكنوا الحواضر الكبرى في هذا القرن قرن الحركة الدائمة. وارتأت إحدى المجلات الطبية أن هذا المرض قديم وربما عرف قبل أن يعرف التاريخ وصاحبه يخاف من الحصان والعربة السائرة في وسط الطريق. وأحسن ذريعة يعمد إليها في معاملة المصاب به أن يؤخذ من الطريق بيده كما يؤخذ الأعمى إلى مكان لا خطر عليه فيه وأن يعود النظر إلى أبناء السبيل وهم سائرون وعن الأخطار بعيدون.
التعليم التجاري
نشر أحدهم في مجلة العالمين الفرنسية مقالاً جاء فيه أن الشبان المستعدين في فرنسا للاستخدام أو لإدارة بيوت تجارية هم على جانب من الكثرة ولا ينبغي أن يصرف الفرنسيين عنايتهم إلا إلى المحال التي يعدونها ليشغلها أبناؤهم فقد كانت تجارة فرنسا الخارجية سنة 1890 ثمانية مليارات و190 مليون فرنك فبلغت سنة 1905 تسعة مليارات و436 مليوناً ولكن تجارة ألمانيا الخارجية ارتقت في خلال السنين من تسعة مليارات و436 مليوناً إلى خمسة عشر ملياراً و924 مليوناً وارتقت تجارة إنكلترا الخارجية من 17 ملياراً إلى 22 ملياراً و300 مليون وفي خلال هذه الخمس عشرة سنة تضاعفت صادرات الولايات المتحدة وزادت صادرات إيطاليا 26 في المائة ولم تزد صادرات فرنسا سوى 27 في المائة.
بعد المدرسة(10/66)
كتب كاتب في مجلة المجلات الأميركية يقول أن المدارس كثيرة لمن يريد إتقان فن بعد خروجه من المدرسة الأولى في أميركا وهي المدارس الليلية المنتشرة في جميع أصقاع الولايات المتحدة وفيها تجري المذاكرات العلمية ويستعاض عن الشروح الشفهية باستعمال الطرق العملية مثل مدرسة الكهربائية في توبكا (كانساس) ومدرسة الصيدلية في بوستون ومدرسة المعادن في لوس أنجلوس (كاليفورنيا) ومدرسة الرسم في بورتلاند (أوريغون) ومدرسة الاوتوموبيل في نيويورك ومدرسة الحسابات وغيرها من المدارس العملية ومما تمتاز به جميع هذه المدارس على غيرها أنك ترى فيها ابن المثري الكبير في جانب ابن العامل والأجير لا تمييز بينهما في حال من الأحوال.
تهزيل الإنسان
قال ابن سينا في القانون فصل في التهزيل أن تدبير الهزال هو ضد تدبير التسمين وهو تقليل الغذاء وتعقيبه الحمام والرياضة الشديدة إلى أن يقول وليكن طعامهم (من يراد تهزيلهم) وجبة وليحمل عليهم بالرياضيات العنيفة والاستفراغات ووصف لذلك أدوية وأفاض في الكلام فيه بحسب ما ارتآه في عصره. ومن رأي الدكتور كارل بورنستين الذي عرضه أمام الجمعية الطبية في ليبزيك هذا الشهر أنه على من أراد تهزيل نفسه أن يقلل ما يتناوله يومياً من الهدروكربون والأغذية الدسمة فتخف بذلك حرارة الجسم وأن يزيد في استعمال آح (زلال) البيض أو المادة التي تشبهه وأن يكثر من العمل الدماغي والإقلال من اللحوم ويغتذي باللبن والبقول التي تطبخ بلا دسم والفواكه المطبوخة وأن يختار في المشي الصعود وارتقاء العقاب وأن يستعمل التغميز والألعاب الرياضية وأن يستحم بماءٍ حار على معدل 45 من الحرارة مدة نصف ساعة وأن يستعمل كميات قليلة من الكينا والأدوية الحديدية. قال صاحب هذا الرأي أنه لا يتوقع أن ينتج للحال نتيجة لهذه الطريقة بل أنه ثبت له بأن من يستعمل هذه الضروب من الأطعمة والرياضة ينتهي جسمه بالنحول والنحافة ولابد مع ذلك من الرجوع إلى رأي الطبيب فإن من أحب أن يداوي نفسه بدون أخذ رأي المتطببين يضر في الغالب نفسه أكثر مما ينفعها.
أبناء المحاويج
ذكرت إحدى المجلات العلمية بحثاً في الجمعيات التي تستوكف أكف المحسنين لتستعين بما(10/67)
تجمع من الأموال للإنفاق على أبناء المحاويج المعوزين تخرج بهم للنزهة في الضواحي أياماً معلومة في الصيف لتبعث النشاط في صحتهم مما ينالها من الهواء الفاسد في المدن الكبرى. قال الكاتب أن إحدى الجمعيات في لندن بعثت إلى الضاحية سنة 1901 بـ 34259 طفلاً ليتنزهوا على نفقتها. وقد أحدثت الدنمرك منذ تسع وعشرين سنة مستعمرات لها في الخلاء خاصة بترويض الفقراء وهناك يفتح أصحاب الأملاك بيوتهم لقبول من ينزل عليهم من أبناء تلك الطبقة والسكك الحديدية تقلهم مجاناً. وقد قدم لهم إمبراطور النمسا أحد قصوره في الأرباض ينزلونها على الرحب والسعة. وبعثت جمعية واحدة من مثل هذه في برلين سنة 1900 بـ طفلاً إلى الفلاة وزعتهم على 183 مصيفاً وأنفقت عليهم 1. 216. 435 فرنكاً. وحذت هذا الحذو في تنزيه أبناء الفقراء كل من البلجيك وإيطاليا وروسيا والسويد ونروج وهولندا وإسبانيا وسرت هذه العادة الحسنة من ملبورن إلى كاما كورا فالولايات المتحدة. ولفرنسا المقام السادس بجمعياتها بين الحكومات التي ينفق أبناؤها على نزهة فقرائهم أما في هذه البلاد فلا قدرة للفقراء على الارتحال للنزهة والأغنياء عندنا إذا رحلوا فتكون في الغالب رحلتهم لارتكاب الموبقات التي لا تتيسر لهم على ما تشتهي أهواؤهم في مساقط رؤوسهم.(10/68)
احتفال بعالم
كلية عليكرة الإسلامية هي أعظم كلية في الهند للمسلمين ينبغ منها تلاميذ أفاضل كل سنة ومن جملة رجالها الأستاذ الفاضل الدكتور السيد ضياء الدين أحمد. ذهب بعد إنجاز الدراسة إلى إنكلترا وألمانيا وفرنسا وقضى سنين في كلية كمبردج الإنكليزية وغوتنغن الألمانية والسوربون الفرنسية ولما حفل وطابه بالعلم عاد إلى بلاده لينفعها بفضل علمه واختباره فمن بهذا القطر لدراسة أحواله والاطلاع على سياسة التعليم فيه وربط صلات التعارف بين المصريين والهنود ولما عزم على الرحيل قام بعض أصدقائه وفي طليعتهم سعادة الأستاذ الفاضل الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الأغر فاحتفلوا بوداعه في نزل كونتننتال بحضور نحو ثمانين رجلاً أكثرهم من رجال العلم والأدب فألقى صاحب المؤيد خطبة عرفه بها إلى الحضور ثم قام المحتفل به وألقى خطبة بالإنكليزية قال فيها:
في بلاد الهند أكثر من مائة مدرسة مثل كلية عليكرة لكن ما يجعل لكليتنا امتيازاً حقيقياً على غيرها أنها الشرقية الوحيدة التي يوجد فيها نظام خاص بإقامة الطلبة وسكناهم فيها إلى الطريقة الإنكليزية فيتولون شؤونهم بأنفسهم في السير والإدارة. ومن حسن حظنا في عليكرة أننا لا نعرف ولا نتبع الطريقة الفرنسية في ضبط الطلبة ونظامهم بواسطة ضباط فإنها طريقة عقيمة ولها مضار كثيرة ظاهرة في مصر. ومن أسرار نجاحنا أننا نتمسك كثيراً بالتربية الدينية والتربية الوطنية إذ يجبر الطلبة على تأدية الواجبات الدينية كلها وينشطون على الاهتمام والاشتغال بأحوال المسلمين في أنحاء العالم كافة.
والكلية الآن تتبع خطة التعليم في الحكومة وتعد الطلبة لامتحان المدارس الجامعة الكبرى على أن الغاية من مبدأ الأمر أن تكون عليكرة مدرسة جامعة إسلامية مستقلة. وقد قال المرحوم السيد أحمد خان (مؤسس الكلية) منذ زمن طويل في خطبة ألقاها إن نجاتنا لا تكون إلا في الوقت الذي يصبح فيه أمر تعلمنا بيدنا ولا تسترقنا مدارس الحكومة الجامعة فنأخذ إذ ذاك العلوم بيميننا والفلسفة بشمالنا ونحمل تاج لا إله إلا الله محمد رسول الله فوق رؤوسنا.
ثم قال أنه تم الاتفاق على تأسيس كلية عربية لا يقصد منها أن يتعلم الطلبة فيها اللغة العربية لتأدية امتحان مخصوص ولكن الغرض منها أن يتلقى الطلبة تاريخ الإسلام بتدقيق وإمعان للبحث في أسباب رقيه وانحطاطه. وإننا نؤمل أن تظهر هذه المدرسة الجواهر(10/69)
المختبئة في آداب اللغة العربية وتنشر الكتب النادرة بتفاسير وإيضاحات. وفي عزمنا أن نخصص بعض الطلبة بهذه الكلية العربية ونجعل لهم مرتبات لكي يستريح بالهم من جهة المعاش وليتفرغوا للدرس والبحث. ونحن الآن أيضاً ننشئ إزاء تلك الكلية العربية كلية أخرى للعلوم الطبيعية.
ولطالما سألنا بعض الناس - لماذا يضيق بنا الفكر وحب الذات فننشئ مدرسة جامعة إسلامية ولا يبعثنا سمو النفس ومكارم الأخلاق والتسامح في الدين على جعل جامعتنا عامة مشتركة - ونحن نقول: لا نقصد منع غير المسلمين من الوجود في جامعتنا الإسلامية. فإن أبوابها مفتوحة كما هي الحال الآن في عليكرة لغير المسلمين وكل محب للعلم بلا تمييز بين الجنس والدين. وفيها الآن طلبة من اليهود والمسيحيين والوثنيين ولن نسعى مطلقاً في إخراجهم منها ولا نسميها جامعة إسلامية إلا بالمعنى الذي تنسب إليه اكسفورد وكمبردج إلى كنيسة إنكلترا الرسمية.
وبعد أن قال أن تعليم الدين إجباري في عليكرة وقابل بينها وبين المدارس الثانوية في مصر وحث القوم على إرسال زمرة من الطلبة لتلقي العلوم فيها إلى غير ذلك من الأغراض الشريفة قام حضرة الفاضل حافظ أفندي عوض أحد صاحبي المنبر الأغر وترجم خطبته إلى العربية ثم نهض سعادة صاحب المؤيد وألقى خطبة موخزة نافعة قال فيها: ويقيني أن مصر لو رزقت مدرسة جامعة ذات مبادئ قويمة مثل كلية عليكرة وتناسب في عظمتها حالة مصر الحاضرة لكانت مصدر حياة أقوى وأعم نفعاً لا للمصريين فقط ولكن لمسلمي العالم كله الذين هم في حاجة كبرى للترقي الصحيح المبني على دعائم العلم والفلسفة. وإنني أتمنى من صميم فؤادي أن يقصد هذه الكلية بعض الطلاب المصريين لأنهم يستفيدون مع العلوم التي يكتسبونها مزيجاً من آداب التربية الإسلامية العالية ومن الأخلاق الإنكليزية التي تطابقها في كل ما هو شريف وعال ما لا يستفيدون مثله من كليات أوربا مهما ارتقت مبادئها.
ثم ختم مقاله بالتعريف بالعالم الهندي وقال أنه أعظم نابغ شرقي في العلوم الرياضية والفلكية التي تلقاها في كمبردج وكان من مزايا نبوغه أنه سبق جميع مناظريه من أرجاء إنكلترا كلها ممن تقدموا للامتحان لنيل جائزة اسحق نيوتن العالم الفلكي الشهير وهي مائتا(10/70)
جنيه إلى أن قال: ولعلكم ترون مثلي أن السيد ضياء الدين أحمد هو رجل مخلص في مباحثه وآرائه قد وقف نفسه على العلم حتى كاد يفنى فيه وكل من يفنى في العلم يحيا به. وأنه لا يوجد مظهر حياة في الدنيا أقوى من مظهر الحياة العلمية للذين يتجلون بها للعالم.
ثم ختمت الحفلة بتناول الحلواء والشاي وأبدى الحضور شكرهم للمحتفلين والمحتفل به فلما رأينا كل هذا وابتهاج الحضور بمقدم العالم الهندي بعد مقامه الطويل في بلاد الغرب ذكرت ما كان من انتشار العلم في بلاد الأندلس ولا سيما عندما ورد في الخطبة قول أحد حكام الهند أن كلية عليكرة ستكون قرطبة الشرق الحديث ذكرت هذا وانحطاط المسلمين الآن وأنهم تحت ظل حكوماتهم في الغالب أذلة وأن عقلاءهم وهم أندر من الكبريت الأحمر يذهبون في طلب العلم لنقله من مصادره إلى أهلهم ومواطنيهم كما فعل الأستاذ ضياء الدين وكما كان يفعل يهود أوربا فيأخذون العلم عن علماء المسلمين في الأندلس حتى إذا تشبعوا بآرائهم ومذاهبهم وقضوا زمناً في حلقاتهم واهتدوا بهديهم يغادرونهم لينشروا ما تلقوه في إيطاليا وفرنسا وغيرها من البلاد المجاورة فتأمل كيف دالت الدول وصار الغربيون يعطوننا ما كانوا يأخذونه عنا مع الزيادات التي زادوها عليه. ويا ليت شعري هل تكون عليكرة قرطبة الشرق حقيقة كما قالوا.(10/71)
وفاة عالم
فجع العلم هذا الشهر بفقد أحد أساطينه الحجة الثبت الشيخ أحمد أبو خطوة رجل العلم الراجح والفضل الجم. ولد طاب ثراه في بلدة كفر ربيع من أعمال المنوفية وكان والده من أوساط الناس وحفظة الكتاب العزيز فلما ترعرع تعلم ما أمكنه تعلمه في بلده وحفظ القرآن ثم أتى إلى القاهرة سنة 1279 وعمره قرابة خمس عشرة سنة لتلقي العلم في أزهرها فأخذ الفقه الحنفي عن الشيخ عبد الرحمن البحراوي والشيخ عبد الله الدرستاوي وحضر لأول أمره في مذهب المالكية على الشيخ الشعبوني وأخذ المعقولات عن الشيخ محمد البسيوني البيباني والشيخ أحمد الرفاعي الفيومي والشيخ حسن الطويل ولازم الأخير ملازمة متصلة فقرأ عليه المنطق والتوحيد والهندسة والأخلاق والتصوف والحكمة العالية القديمة وغيرها من العلوم التي لم تعهد قراءتها في الأزهر. واستمر على الاتصال بالشيخ الطويل وهو من أعظم فلاسفة المسلمين في هذا القرن بمصر حتى مضى هذا لسبيله كما استمر ملازماً الشيخ الدرستاوي حتى أتم عليه دراسة مذهب بأجمعه. هؤلاء هم مشايخ الفقيد الذين تخرج بهم ومنهم الشيخ الشربيني أيضاً.
وفي سنة 92 جاز الامتحان لنيل شهادة العالمية من الأزهر فحاز الدرجة الأولى وعد من نوابغ الأزهريين المتمكنين من الفروع والأصول الجامعين إلى المنقول والمعقول. ولقد أسعده الحظ بملازمة الشيخ الطويل فجاء منه رجل لم يجمد جمود الفقهاء ولم يطش طيش السفسطائيين من المتفلسفين. وكان متضلعاً من علمي الفقه والأصول يمزجهما معاً في درسه. وأكد لي عليم بأحواله أنه كان كنزاً مخفياً في هذين العلمين لم يعهد له فيهما قرين في علماء زمانه. درس زمناً طويلاً في الأزهر فانتفع الطلاب بعلمه وسعة مداركه وكثرة تحقيقه وكان مفتياً لديوان الأوقاف زمناً ثم عين قاضياً في المحكمة الشرعية في هذه العاصمة.
حدثني صديق له أنشأ معه وراقب سيره وسيرته أنه كان سريع الفهم سريع القراءة سريع الكتابة قوي العارضة متين الحجة بليغ القول حاد الذاكرة بيد أنه لم يكتب إلا نادراً لاشتغاله بمهام القضاء لما نضج علمه واشتد ساعده ولأنه كان بعيداً عن الظهور ولعل ذلك كان منه لحكمة اقتضتها التقية التي يضطر أكثر الموظفين في الحكومات الشرقية إلى اتخاذها شعارهم. ومن الأسف أن 99 في المائة من النوابغ في الشرق ينصرفون جملة واحدة إلى(10/72)
التوظف فلا يعود في وسعهم خدمة أمتهم وبلادهم الخدمة المتوقعة منهم وهم في إبان قوتهم وشرخ شبابهم ودور كهولتهم. والموظفون في معظم الأمم كالآلات بيد رؤسائهم لا يهمهم إلا رضاهم ويعدون ما وراء ذلك من الواجبات الاجتماعية.
كان يعد المرحوم من أخلص أصدقاء فقيد الإسلام الشيخ محمد عبده ونصيره في آرائه الإصلاحية سراً لا جهراً. ولما لغط بعضهم في مسألة الفتوى التي أفتى بها مفتي الديار المصرية المشار إليه جواباً على سؤال ورد إليه من الترنسفال في جواز لبس المسلم القبعات وضرب البقر بالبلط والذبح بدون تسمية وجواز صلاة الشافعية خلف الحنفية كان الفقيد في مقدمة من أيدوا الشيخ المفتي في فتواه وألف رسالة (إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية) التي جمع بها من نصوص كتب المذاهب الأربعة ما دحض به آراء المخالفين المشاغبين فكانت من الأدلة على بعد غوره في الاطلاع على المذاهب وقد عرض ما جمعه على غير واحد من علماء كل مذهب فأجازوها فعزيت إلى جماعة مبهمين. وقيل أنه كتب في بعض الصحف اليومية مقالات لم تعز إليه لغرض اقتضى ذلك.
وعلى الجملة فقد كان الفقيد على شرط العلماء الأقدمين من الإلمام بأحوال زمانه فهو علمَ علم وحجة حكم وفهم ولو أتيح له أن يهتم بالعموميات لواد الانتفاع به. ومن أخلاقه أنه كان رزيناً وقوراً لين الجانب فكان إذا اجتمع بأكبر أعدائه يحسن لقاءه والتأدب معه ولم يجد له المنتقدون ما يتطرقون منه إلى انتقاده بما يشينه إلا ما كان من قبوله شفاعات أصدقائه مدفوعاً إلى قضاء حوائجهم بعامل المروءة العظيمة الناشئة عن شدة ثقته بهم واعتقاده الصدق في أقوالهم وما يقصدون إليه. فلا عجب بعد هذا إذا عد فقده خسارة كبرى على القضاء والعلم في هذه الديار. رحمه الله.(10/73)
العدد 11 - بتاريخ: 16 - 12 - 1906(/)
صدور المشارقة والمغاربة
الجاحظ
لم يأت على الشرق العربي أيام كانت رياض الأزمنة وعهد السعود حقيقة كأوائل الدولة العباسية ولاسيما زمن المأمون والرشيد - علم زاهر وحرية مطلقة وسعة عيش وسيادة تامة ونصر مؤزر وسلام شامل والقول الفصل لأرباب العقل في كل حال وشأن. ولذلك لا يستغرب أن ينشأ أيام تلك الدولة مثل الجاحظ رجل العلم الراسخ والنظر السديد والأدب الناضج والبلاغة التي لم يكتب لمتقدم ولا لمتأخر في هذه الأمة العربية أن داناها على نحو ما أجمع كبار أرباب هذه الصناعة.
ولد الجاحظ وطير اليمن يغرد في الأصقاع الإسلامية وناهيك بالعراق في قرنه الثاني والثالث. فكانت هذه الأسباب على ما خص به من جودة الفطرة أكبر معين له للقبض على قيادة العلم النافع وتحكيم العقل السليم في المنقول ولقد تخرج بالنظام صاحب المذهب المعروف في علم الكلام ولكنه لم يجمد على علمه وحده وإن كان رأساً في علم الكلام وله مقالة معروفة بع في أصول الدين وفرقة تعزى إليه من فرق المعتزلة أعقل أرباب المذاهب في الإسلام دعيت الجاحظية.
الجاحظ وعاءٌ من أوسع أوعية العلم في الأمة لم يحو إلا لبابه خالصاً من القشور كلها كان وقفاً على الخير المحض لكل متناول فكأنه وكأن مصنفاته الممتعة التي يتجلى فيها بعد نظره وغوره وإخلاصه وأخلاقه دائرة المعارف أو موسوعات العلوم بلغة غربية منتشرة لعهدنا حوت كثيراً من علوم البشر أو النافع الراجح منها وهي مسبلة على المطالعة في خزانة كتب إذا قلبت أي صفحة من صفحاتها تعود من تحديقك فيها وقد حفل وطابك بما طاب من ثمرات معارف الناس.
فهو ولا مراء أحد أفراد في هذه الأمة ما أظنهم يتجاوزون عدد الأنامل. هو ممن إذا ذكروا في مصاف رجال الأمم رفعنا بما كتبوا رؤوسنا وابتهجت بذكراهم نفوسنا. ناهيك برجل قال في وصف كتبه الأستاذ أبو الفضل ابن العميد الوزير العالم المشهور وقد جرى ذكر الجاحظ في مجلسه فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به فسكت الوزير عنه فلما خرج الرجل قال أبو القاسم السيرافي وكان حاضراً: سكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله(11/1)
مع عادتك في الرد على أمثاله فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله ولو وافقته وبينت له لنظر في كتبه وصار بذلك إنساناً يا أبا القاسم فكتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً ولم استصلحه لذلك.
نعم إن كتب الجاحظ على ما قال ابن العميد تعلم العقل والأدب وإن حسده معاصروه فما هو أول ذي نعمة محسود. بيد أنه كان عارفاً بشغب المشاغبين وحسد الكارهين وإليك ما قاله فيهم في كتاب المحاسن والأضداد: إني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدين والفقه والرسائل والسيرة والخطب والخراج والأحكام وسائر فنون الحكمة وأنسبه إلى نفسي فيتواطأ على الطعن فيه جماعة من أهل العلم بالحسد المركب فيهم وهم يعرفون براعته ونصاحته وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفاً لملك معه القدرة على التقديم والتأخير والحط والرفع والترهيب والترغيب فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلمة فإن أمكنتهم الحيلة في إسقاط ذلك الكتاب عند السيد الذي ألف له فهو الذي قصدوه وأرادوه وإن كان السيد المؤلف فيه الكتاب نحريراً نقاباً ونقريساً بليغاً وحاذقاً فطناً وأعجزتهم الحيلة سرقوا معاني ذلك الكتاب وألفوا من أعراضه وحواشيه كتاباً وأهدوه إلى ملك آخر ومنوا إليه به وهم قد ذموه وثلبوه لما رأوه منسوباً إلي وموسوماُ بي.
وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه فأترجمه باسم غيري وأحيله على من تقدمني عصره مثل ابن المقفع والخليل وسلم صاحب بيت الحكمة ويحيى بن خالد والعتابي ومن أشبه هؤلاء من مؤلفي الكتب فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب لاستنساخ هذا الكتاب وقراءته علي ويكتبونه بخطوطهم ويصيرونه إماماً يقتدون به ويتدارسونه بينهم ويتأدبون به ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم ويروونه عني لغيرهم من طلاب ذلك الجنس فتثبت لهم به رئاسة يأتم بهم قوم فيه لأنه لم يترجم باسمي ولم ينسب إلى تأليفي.
هكذا كانت الحال بين الجاحظ ومعاصريه والمعاصرة حرمان في كل زمان. ولكن كان له من القبول عند الخلفاء والأمراء والأغنياء في دهره ما يقل وقوع مثله لغيره في عصر من الأعصار. فإن استبشع المتوكل منظره لما ذكر له لتأديب بعض ولده وصرفه بعد إكرامه - وكان الجاحظ مشوه الخلق قيل له الجاحظ لأن عينيه كانتا جاحظتين والجحوظ النتوء وكان(11/2)
يقال له الحدقي لذلك - فقد اختاره المأمون معلماتً لنفسه وكفى بمنزلة المأمون بين خلفاء الإسلام فهو أعقل خليفة في الإسلام بلا مدافع وأعلم رجال بني العباس. وعمر مترجمنا عمراً طويلاً فنيف على ما قيل عنه على تسعين سنة وكانت وفاته سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة بلده التي نشأ فيها. قال ابن خلكان وقد أصيب بالفالج في أواخر عمره فكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته والنصف الأيسر لو قرض بالمقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده وكان يقول في مرضه اصطلحت علي الأضداد إن أكلت بارداً أخذ برجلي وإن أكلت حاراً أخذ برأسي وكان يقول أنا من جانبي الأيسر مفلوج فلو قرض بالمقاريض ما علمت به ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مر به الذباب لألمت وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها وأشد ما علي ست وتسعون سنة وكان ينشد
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب
وحكى بعض البرامكة قال كنت تقلدت السند فأقمت بها ما شاء الله تعالى ثم اتصل بي أني صرفت عنها وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار فخشيت أن يفاجئني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه فصغته عشرة آلاف إهليلجة في كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل ولم يمكث الصارف أن أتى فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة فخبرت أن الجاحظ بها وأنه عليل بالفالج فأحببت أن أراه قبل وفاته فصرت إليه فأفضيت إلى باب دار لطيف فقرعته فخرجت إلي خادم صفراء فقالت: من أنت؟ قلت: رجل غريب وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ فبلغته الخادم ما قلت فسمعته يقول: قولي له: وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل فقلت للجارية: لابد من الوصول إليه. فلما بلغته قال: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة وسمع بعلتي فقال: أحب أن أراه قبل موته فأقول قد رأيت الجاحظ ثم أذن لي فدخلت وسلمت عليه فرد رداً جميلاً وقال: من تكون أعزك الله. فانتسبت له فقال: رحم الله تعالى أسلافك وآبائك السمحاء الأجواد فلقد كانت أيامهم رياض الأزمنة ولقد انجبر بهم خلق كثير فسقياً لهم ورعياً. فدعوت له وقلت: أنا أسألك أن تنشدني شيئاً من شعرك فأنشدني.
لئن قدمت قبلي رجال فطالما ... مشيت على رسلي فكنت المقدما(11/3)
ولكن هذا الدهر تأتي صروفه ... فتبرم منقوضاً وتنقض مبرما
ثم نهضت فلما قاربت الدهليز قال: يا فتى أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج قلت: لا. قال: فإن الإهليلج الذي معك ينفعني فابعث لي منه فقلت: نعم وخرجت متعجباً من وقوعه على خبري مع كتماني له وبعثت له مائة إهليلجة.
قلنا ولو وقعت حكاية الإهليلج لرجل من المتأخرين لعدها للقائل كرامة وراح يدعي أن صاحبه يعلم الغيب ويكشف مخبآت القلوب ويتصرف في الكون وأهله إلى آخر ما يلغط به المهووسون في هذه القرون وقد بلغ من ضعف العلم والعقول أن لو أنكر منكر ذلك لرموه بكل كبيرة ولكن ذاك الأمير البرمكي عد بفطرته السليمة ما صدر عن الجاحظ قوة فراسة ونسبه إلى اتفاق صادف واقعاً. ولو أتيح لنا الاطلاع على ترجمة مفصلة للمترجم به لعرفنا الجاحظ ونشأته وما وقع له في عصره وما أثر عنه من المصنفات التي تعد بالعشرات أكثر مما عرفنا منه وما علينا للوقوف على ذلك إلا أن نعمد إلى النظر إلى تآليفه ففيها أعظم ترجمة حافلة له وكلام الرجل أصدق ما ينبئ عنه.(11/4)
التعريب والترجمة
لا أصعب من تقييد الإنسان بأقوال غيره وأفعاله خصوصاً إذا كانت تخالف ما لقنه وألفه. وهذا مما يصح إطلاقه في الترجمة والنقل كما يصح في غيره. وذلك جاء في المثل الطلياني المترجم خائن لأنه لا يخلو في الجملة من الحياد عن الأصل وترك معان ربما كانت المقصودة بالذات من كاتبها الأول. ولقد انقسمت طرق التراجمة في الإسلام إلى قسمين فارتأى فريق أن التعريب وهو نقل المعاني المرادة بقالب عربي بحسب ما يقضي به ذوق الكاتب ويساعد عليه اللسان ولهجته خيرٌ من الترجمة أي النقل بالحرف والتزام ما قاله الكاتب الأصلي ولو لم ينطبق كل الانطباق مع ذوق اللغة المنقول إليها. والطريقة الأولى ألطف وأعذب والثانية أصدق وأمتن.
فالأولى طريقة يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما والطريقة الثانية في التعريب طريقة حنين بن اسحق والجوهري وغيرهما وأقل ما في الأولى من الجهد أن بعض الألفاظ ليس لها ما يرادفها في لغة ثانية وأقل ما في الثانية من الراحة أنها لا تقيد الكاتب بالألفاظ. قال الصفدي وهذا الطريق أي الثاني أجود ولهذا لم تحتج كتب حنين بن اسحق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيماً بها بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى إصلاح.
ولقد رأيت معربات كثيرة ومترجمات نقل بعضها قديماً عن السريانية والرومية والفارسية والهندية والنبطية واللاتينية وحديثاً عن الإنكليزية والفرنسية والألمانية والتركية والروسية فاستنتجت منها أن بني لغتنا يستفيدون من التعريب بالمعنى والتحصيل أكثر من النقل بالحرف. وانتفع الناس بما لخصه الحكيم ابن رشد من كتب فلاسفة اليونان أكثر من انتفاعهم من الأصل وقد اعتمد الإفرنج نقله ولم يحاولوا تطبيق ما لخصه على الأصل حتى بعد أن ظفروا بالكتب المنقول عنها بحسب ما انتهى إليه عملنا. ولا يعفى معاني هذين الطريقتين في النقل من أن يكون ضليعاً من العلم الذي يكتب فيه آخذاً بقياد اللغة المنقول عنها وإليها.
وكلما تباينت آداب أمة عن أخرى وانفسح ما بينهما مجال الاختلاف في العادات والاجتماع صعب نقل شيءٍ من لغة إلى لغة ثانية. والفرق بين لغة شرقية ولغة غربية أكثر من الفرق بين لغتين شرقيتين أو لغتين غربيتين لما في تحكك المتجاورين من المجانسة في الأفكار(11/5)
والمناحي. وعندي أنه لا غنية للناقل من لغة أوربية عن التلخيص مهما حاول أن يطبق مفاصل اللغة العربية على لغته فإن للغربية اصطلاحات قلما توافق ذوق لغتنا ولهم معان لا يفهمها من عرف أولئك الأقوام وتاريخهم ومجتمعهم. وهذا غير ميسور لكل الناس.
وبعد فقد ضعف القائمون بأمر الكتابة والتعريب ودامت الأمة العربية زهاء خمسة قرون وقد انقطعت منها الترجمة والنقل بانقطاع العلوم وضعف أهل العربية وارتقت اللغات الأخرى ونمت ألفاظها العلمية ومعانيها المدنية حتى أدت الحال بالكاتب العربي اليوم إذا أراد وصف منضدة عمله وردهة مجلسه وما يقع نظره عليه كل حين من أنواع الآنية والماعون وكليات الأمور وجزئياتها أن لا يجد في حافظته من الألفاظ ما يسد هذه الثلمة اللهم إلا كليات ألفاظ لا تتعدى الأغراض اليومية الشائعة من المؤاكلة والمعاشرة حتى بين أبعد الناس عن مذاهب الحضارة وما ذلك لقصر اللغة عن بلوغ هذه الغاية ففيها لو تصفحنا ما انتهى إلينا من كتب القوم مادة تكفينا ولو بعض الكفاية دون أن نلجأ في التعريب إلى اللفظ العامي أو المبتذل أو الأعجمي أما الألفاظ العلمية فالأحرى بنا أن ننحتها أو ننقلها على أصلها إذا لم تخالف الأوضاع العربية أو نجد لها ما ينطبق عليها من اللغة ولو ببعض تكلف كما فعل المترجمون في القديم.
فسر ابن جلجل الأندلسي أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس العين زربى وكان ترجم ببغداد في أيام جعفر المتوكل ترجمه اصطفن بن بسيل من اليوناني إلى العربي وتصفح ذلك حنين بن اسحق فصحح الترجمة وأجازها فما علم اصطفن من تلك الأسماء اليونانية في وقته له اسماً في اللسان العربي فسره بالعربية وما لم يعلم له اسماً تركه على اسمه اليوناني اتكالاً منه على أن يبعث الله بعده من يعرف ذلك ويفسره باللسان العربي إذ التسمية لا تكون بالتواطؤ من أهل كل بلد على أعيان الأدوية بما رأوا أن يسموا ذلك إما باشتقاق وإما بغير ذلك من تواطئهم على التسمية وبقي الكتاب على الترجمة البغدادية بالأندلس إلى أيام الناصر عبد الرحمن بن محمد فكاتبه أرمانيوس ملك القسطنطينية وهاداه بهدايا منها كتاب ديسقوريدس مصور الحشائش بالتصوير الرومي العجيب وكان الكتاب مكتوباً بالإغريقي الذي هو اليوناني وبعث معه كتاب هروسيس (؟ هيرودتس) صاحب القصص وهو تاريخ للروم عجيب فيه أخبار الدهور وقصص الملوك الأول وفوائد(11/6)
عظيمة.
ثم بعث ملك الروم براهب اسمه نقولا فوصل إلى قرطبة سنة 340 وكان بها جماعة من الأطباء يبحثون عن تصحيح أسماء عقاقير الكتاب وتعيين أشخاصه فأنشؤوا يبحثون عنها بحيث زال الشك فيها عن القلوب وأوجب المعرفة بها بالوقوف على أشخاصها وتصحيح النطق بأسمائها بلا تصحيف إلا القليل منها الذي لا بال به ولا خطر له وذلك يكون في مثل عشرة أدوية.
هكذا عربوا الألفاظ الطبية بالأندلس وهكذا كان تعريب غيرها من المصطلحات اليونانية وغيرها في بغداد وهكذا يجري علماء الإنكليز في ضم ما يحدث من الألفاظ العلمية إلى لغتهم كلما ست الحاجة إلى ذلك ووكل الفرنسيين وضع الكلمات اللازمة إلى مجمعهم العلمي. ولو أن نفراً من أهل الأخصاء في اللغة العربية عنوا كل على حدته بإيجاد بعض ألفاظ لتناولتها أقلام الكتاب ولسرت على الألسن وانتشرت في الكتب والأوراق ويبقى منها الأنسب بطبيعة الزمن وينسى ما لا غناء فيه. فقد وضع بعض أرباب الجرائد والمجلات ألفاظاً لبعض المستحدثات العصرية فكادت تكون كالألفاظ المألوفة لنا ولو وفقنا إلى تكثير سوادها إذاً لسهلت الترجمة والتعريب على من تمحضوا لهما ووقفوا نفوسهم على إغناء لغتنا بكنوز عظيمة مباحة لمن يحسن تناولها وفيها قيام جامعتنا وكفاء نهضتنا.(11/7)
صفحة تاريخية في سورية
انقضى من الخليقة إلى الطوفان 2243 سنة حسب الترجمة السبعينية و1656 سنة حسب النسخة العبرانية. وأقدم مؤرخ يلم بتاريخ الجنس البشري في هذه المدة الطويلة هو موسى الكليم. ولم يذكر موسى بمكانة البشر من الحضارة والعمران في تلك الحقبة التي كانت بين الخليقة والطوفان. فقد دون موسى الخمسة الفصول الأولى من سفر التكوين - أحد أسفاره الخمسة - وهي لا تبحث إلا عن الخليقة وعن آدم وحواء وعن قابيل وهابيل وعن الآباء العشرة وعن كثرة شرور الإنسان التي أدت إلى الطوفان.
ولد الإنسان الأول - آدم - في ما بين النهرين أو في أرمينية على ما يرجح علماء هذا العصر وعاش 930 سنة. وولد شيث لسنة 130 آدم حسب النسخة العبرانية وعاش 912. وولد انوش سنة 235 وعاش 965. وولد قينان سنة 325 وعاش 910. وولد مهللئيل سنة 395 وعاش 895 سنة. وولد يارد سنة 460 وعاش 962 سنة. وولد اخنوخ سنة 622 وعاش 365 سنة. وولد متوشالج سنة 687 وعاش 969 سنة. وولد لامك سنة 874 وعاش 777 سنة. وولد نوح سنة 1056 وعاش 950 سنة.
هؤلاء هم الآباء الأولون العشرة من الخليقة إلى الطوفان. ولم يذكر موسى عنهم سوى سني حياتهم وأن لامك كان أول من تزوج أكثر من امرأة وأن ابنه يابال كان أباً لساكني الخيام ورعاة المواشي وأن أخاه يوبال كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار وأن توبال قايين كان الضارب كل آلة من نحاس وحديد. قال ابن الأثير المتوفى سنة 1233م أن مهللئيل كان أول من استخرج المعادن وشاد الأبنية في العالم. وقال غيره من مؤرخي العرب كابن خلدون المتوفى سنة 1405م وكأبي الفدا المتوفى سنة 1331 أن الأب الثالث انوش كان أول من أوجد المحاكم وأوصى بالإحسان بين البشر.
أما ما وجده المتأخرون محفوراً على القبور والصخور وجدران الأبنية من الخطوط المصرية المعروفة بالهيروغليفية والخطوط المسمارية فكان بعد الطوفان.
لا مشاحة في أن سورية كانت مأهولة بولد آدم قبل الطوفان. والحجة على ذلك لا الظنون التي جعلها بعضهم حقائق ودونت في بطون الأوراق ولا الأوهام والتقاليد التي تناقلها الخلف عن السلف وجعلها بعض الباحثين ذات أهمية كبرى هي أن سورية متاخمة لما بين النهرين والفاصل بين البلادين سهول واسعة ومروج خصيبة وأن تلك المدة الطويلة التي(11/8)
كانت بين الخليقة والطوفان تستدعي تفرق بني آدم في القطر السوري.
ولد لنوح جد الأسرة البشرية بعد الطوفان سام وحام ويافث فأقام الأول أو نسله في آسيا. وأقام الثاني أو نسله في إفريقية. وأقام الثالث أو نسله في أوربا ولقد كثر نسل نوح بعد الطوفان فظهر الآراميون في دمشق والجيدور والجولان والبقاع وحمص ولبنان والبترون وجبيل وبيروت. ثم توطن سورية بعض قبائل الجبابرة وأقام العمونيون في البلاد التي لا تزال معروفة بهم والموآبيون في بلاد موآب والإسماعيليون في العربية الصخرية وما جاورها والأدوميون في بلاد أدوم والفينيقيون في صور وصيدا وجبيل. وتفرعت من هذه القبائل فروع كثيرة في قرون مختلفة. أما الحثيون فكانت بلادهم شمالي سورية.
افتتح سزوستريس المصري فينيقية نحو سنة 1500 ق. م وتغلب بنو إسرائيل على أرض كنعان نحو سنة 1450 ق. م وقال بعض الباحثين لا بل سنة 1540 ثم استحوذ على قسم من سورية تجلت فلا صر الأول سنة 1120 ق. م ثم افتتح الآشوريون فينيقية عام 756 ق. م وتغلب بختنصر الثاني مبك بابل على كل سورية سنة 600 ق. م ودخل الإسكندر الكبير إلى سورية سنة 333 ق. م وحاصر صور في شباط فبراير وافتتحها في آب أغسطس سنة 232 ق. م. ثم افتتح صيدا وجبيل وبيروت والسامرة والجليل وغزو وسواها وملك البلاد التي اكتسحها عشر سنوات ثم انقسمت مملكته بعد وفاته بين قواده كما سيجيء. ثم استولى السلوقيون على شمالي سورية سنة 311 ق. م وكانت هذه البلاد قبل ذلك العهد بقرون تحت حكم الحثيين.
هذه أشهر القبائل والدول التي استولت على سورية منذ عهد نوح إلى بدء حكم قياصرة الرومان فيها فإذا أطلعنا على تاريخ فينيقية ألفينا أنه كان لكل مدينة من مدنها ملك وأن الفينيقيين رجال البحار وقادة الأسفار وزعماء التجارة والصناعة وأهل العلوم في أيامهم لم يكن تعدد ملوكهم على بقعتهم الصغيرة إلا دليلاً على انقسامهم.
وما يقال في أمة البحار ذلك العهد يقال في بني إسرائيل. فقد كان تاريخ هذه الأمة المختارة في مدة نحو 994 سنة عبارة عن مشاغبات وانقسامات في عهد القضاة وفي عهد الملوك. وكانت الأخطار والصعاب محيطة بهم من شعوب سورية المعروفة في أيامهم.
وهكذا قل في سائر الأمم السورية التي عاصرت الإسرائيليين في عهد قضاتهم وملوكهم.(11/9)
فحروب تلك الشعوب القديمة وغزواتها المتواصلة وحروبها الساحقة كانت برهاناً قاطعاً على انفصام عرى الجامعة السورية إذ ذاك. وقد دام حكم ملوك الآشوريين في سورية نحو 150 سنة لم يتمتع السوريون في أثنائها براحة ولم يصف لهم كأس الهناء بل كانت تلك المدة الطويلة سلسلة متاعب وحلقات مصاعب ولدت الشقاء والذل والهوان.
أما الاثنان والثلاثون ملكاً من اليونانيين فقد حكموا سورية نحو 269 سنة وكان تاريخ سورية في أيامهم مملوءاً بأخبار الانقسام الذي حصل بعد وفاة الإسكندر وبالحروب المظلمة التي جرت في عهدهم وبالمطامع اليونانية التي ظهرت بكل مظهرها وقتئذٍ وكانت من أشد الويلات وأشأم النكبات على الأمة السورية.
اختلف المؤرخون من العرب والفرنجة في تعيين السنة التي استولى فيها الرومان على سورية اختلافهم في غيرها من المسائل التاريخية ولاسيما العريقة في القدم. فقال بعضهم أن بدء حكم الرومان في سورية كان سنة 64 ق. م وقال غيرهم أنه كان سنة 65 ق. م ومهما يكن الاختلاف عند أرباب البحث والتنقيب من أهل العلم والسير فقد كان استيلاء الرومان على سورية في سنة 64 ق. م أو في السنة التي بعدها.
بلغت مدة حكم الرومان في سورية سبعمائة وسنتين. وكانت ستمائة وثماني وثلاثين سنة من أغسطس قيصر إلى هرقل. وكان بمبايوس افتتحها بنحو 64 سنة قبل أن تولاها أغسطس قيصر. ولقد بدأ حكم الرومان في القطر السوري وبدأ معه النزاع والشقاق والخصام والاستبداد والأنانية. فقد كان الخصام سائداً بين أفراد عائلة هيرودس الملك المشهور بالأوصاف الشريرة. وذلك من أول عهد استيلاء الرومان على سورية إلى أوائل القرن الأول للميلاد. فقتل هيرودوس أرسطوبولس من أسرة المكابيين ثم قتل مريما زوجته وإسكندره أمها وابنة إسكندره وأرسطوبولس المقدم الذكر وحارب العرب وكانت البلاد متضعضعة في أيامه.
ومن يطالع تاريخ عائلة الهيرودسيين ولا يرميها بالظلم والعار والشنار؟ ومن يعلم أن هيرودس الملك قتل جميع الصبيان في بيت لحم وكل تخومها من ابن سنتين فما دون ولا يقول أن هذا شقيق لنيرون الظالم الشهير في الشر والمجازر الهائلة التي لا يزال صداها يرن في مشارق الأرض ومغاربها.(11/10)
ومن الحوادث التي جرت في القرن الأول للميلاد في سورية اختلاف أرشيلاوس خليفة هيرودس مع اليهود في اليهودية إحدى أقسام الأرض المقدسة وقتله منهم في يوم واحد ثلاثة آلاف رجل وحدوث انشقاقات كثيرة وتحزبات متنوعة بين الأهلين وهياج الشعب وقتل كثيرين من اليهود ونهب هيكل أورشليم وإحراق الرومان رواقه. ولم يقتصر النزاع في ذلك العهد على اليهود بل كان له نصيب كبير مع اليهود والمجاورين لهم من الأمم.
وفي 16 أيار مايو سنة 66 للميلاد أضرم فلورس الوالي الروماني نيران الحرب مع اليهود فأكثر من السلب والنهب في أورشليم وقتل يومئذ ثلاثة آلاف وستمائة نفس وصلب عدداً من وجوه اليهود. ثم تغلب اليهود في أورشليم على الرومانيين وفتكوا بكثير منهم وتمكنوا من إخراجهم من المدينة في 17 أيلول سبتمبر سنة 66 للميلاد. ولما اتصلت بالسوريين أخبار قتل اليهود جنود الرومان يومئذ قاموا بإيعاز من ولاة الرومانيين على اختلاف طبقاتهم ونزعاتهم في كل مدينة ينكلون بالأمة اليهودية فقتلوا منها في بيسان 13 ألفاً وفي عسقلان ألفين وفي عكا ألفين وفي قيصرية ثمانية آلاف وأربعمائة نفس. ولقد جرى في كثير من مدن سورية وبلدنها نفس ما جرى في أورشليم فاشتد الخصام وكثر القتل والسلب وقل الأمان في ذلك الأوان.
ثم انقسم اليهود أقساماً في عهد ولاية يوسيفوس اليهودي على الجليل وهو المؤرخ الشهير المولود سنة 37 ق. م. وبداعي أحزاب اليهود الثلاثة وكثرة الاختلاف بينهم أحرقوا من مؤونتهم في أورشليم إذ كان الرومان يحاصرونها وفي عيد الفصح سنة 70 للميلاد حاصر طيطوس الروماني أورشليم وبعد أن أذاق اليهود داخل المدينة - أورشليم - أنواع العذاب والجوع والاضطهاد ألواناً فتح الرومان المدينة في 10 آب أغسطس سنة 70 للميلاد. ولقد أحرق الرومان أورشليم إذ ذاك ودمروا مدن اليهود وجعلوها خراباً إباباً وسبوا اليهود وأعملوا السيف في رقابهم. وكانت سورية في ذلك العهد قائمة من كثرة الانقسامات والفظائع التي جرت في ديارها التعسة. فقاسى السوريون في ذلك العهد ألوان العذاب من أجل النفوس الطاهرة التي ذهبت فريسة الأنانية والاستبداد والاعتساف والحيف والخصام والشقاق.
وفي القرن الثاني حارب اليوس ادريانوس الحاكم الروماني في سورية يومئذ الشعب(11/11)
اليهودي وابتنى على أنقاض هيكل أورشليم العظيم هيكلاً لعبادة الأوثان وكان ذلك سنة 128 للميلاد. وفي تموز (يوليو) سنة 132 أعاد اليهود إضرام نيران الثورة فكانت النتيجة أن لينيوس روفوس والي اليهودية أعمل الحسام في أعناق رجالهم ونسائهم وأولادهم. ولما كانت قوات لينيوس روفوس وقواده وجنوده قد زادت من اليهود عتواً وتهجماً وتهيجاً وافى اليهودية حاكم آخر من حكام الرمانيين وقتل من اليهود 580 ألفاً وأحرق ودمر نحو 900 قرية وأخرب كثيراً من الحصون وأسر كثيرين من اليهود وسباهم وأسرهم إلى رومية. وفي هذا القرن اضطهد الرومانيون المسيحيين في كل أنحاء سورية وحمل البريتنون على الرومان وتغلبوا عليهم في أول الأمر ثم عادوا على أعقابهم خاسرين. وعند خاتمة هذا القرن حدثت حرب شديدة بين اليهود والسامريين. وفي القرن الثالث حارب سابور ملك الفرس الرومان وتغلب على سورية سنة 262 للميلاد ثم تغلب عليه التدمريون بهمة أذينة وأرجعوه إلى بلاده. وفي القرن الرابع اشتد الاضطهاد على المسيحيين في سورية وكثر الظلم والجور في تلك البلاد وذلك بفضل غلوس أخي قسطنطين ملك المشرق وفضل هذا الملك العاتي نفسه وكان ذلك سنة 351 للميلاد. وفي سنة 363 للميلاد توالى الاضطهاد على النصارى في سورية وكثرت المظالم بين جميع أمم القطر حتى أن يوليانوس الروماني الحاكم يومئذ كان عازماً على التنكيل بجميع المسيحيين في مملكته لو لم تختطف المنون أنفاسه في 27 حزيران يونيو سنة 363 للميلاد إذ كان يحارب الفرس في بلادهم.
وفي القرن الخامس حدثت حرب في سورية بين الملك الأسود أحد ملوك الحيرة وبني غسان أحد ملوك الشام الذين كانوا تحت أمرة القياصرة الرومانيين ونشبت حرب ثانية بين ابن ملوبة وملوك غسان. وفي القرن السادس حدث أن كسرى ملك الفرس حمل على سورية في أيام وستيانس الملك الروماني وحدثت ثورة السامريين وخرب كثير من مدن سورية بالزلازل الهائلة. وفي القرن السابع أضرم اليهود نيران الثورة أيضاً وذاق الرومانيون واليهود والسوريون بسببها متاعب كثيرة وحمل الفرس في هذا القرن لمحاربة اليونان.
استولى العرب الفاتحون على سورية سنة 634 ب. م وفي سنة 1095 حمل الصليبيون على سورية فبلغوها سنة 1098 ففتحوا أورشليم سنة 1099 وعكا سنة 1104 وطرابلس(11/12)
وجبيل وبيروت سنة 1110 وصيدا سنة 1111 وعسقلان سنة 1154 وصور سنة 1125 ويافا سنة 1192 وحاصروا دمشق سنة 1148 فلم يتغلبوا عليها. وبعد سبع حملات للصليبيين على سورية وقعت في الثلاثة قرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر طردهم منها صلاح الدين الأيوبي في أواخر القرن الثاني عشر ثم طردهم ملوك الجراكسة في الربع الثالث من القرن الثالث عشر وغزا الخوارزمية سورية سنة 1241 للميلاد ونكلوا بسكان عدة مدن منها وأذاقوهم المتاعب أشكالاً والويلات ألواناً وحذا حذو الخوارزمية التتر فغزوا سورية سنة 1260 وأعملوا السيف بالسوريين وعملوا ما عمله الخوارزمية قبلهم. وسنة 1517 استولى على القطر السوري السلطان سليم ولم تبرح سورية إلى يومنا هذا تحت حكم سلاطيننا العظام.
اوماهانبراسكا (الولايات المتحدة)
يوسف جرجس زخم(11/13)
كلية المستنصر بالله
جئت في أوائل هذا الرمضان إلى كلية المستنصر بالله القائمة في الضفة الشرقية من دجلة زائراً لها بعد مضي سبعة قرون على بنائها فألفيت بابها الشرقي الشمالي الكبير مسدوداً فدخلتها من باب مفتوح إليها حديثاً من الجانب الجنوبي المتصل بدجلة أفضى بي إلى ساحة وسيعة طولها سبعون متراً تقريباً في عرض أقل من نصف ذلك قليلاً قد سقف إدارة الجمرك التي امتلكتها مقدار ثلثيها بحصر مرفوعة على عمد من خشب وقاية لما تحطه فيها ابتغاء رسومه من رزم الأمتعة التجارية المجلوبة من أوروبا والهند ومشيت في خط أعوج بين تلول وكثبان من الرزم والحمول وضجيج الحمالين يكاد يصم أذني فقلت في قلبي هذا بدل من أصوات الأساتذة الذين كانوا يلقون الدروس العالية في هذه الكلية على مسامع ألوف من طلاب العلم. وطفت حول الساحة وأسراب الدجاج السارحة هناك تتطاير فارة من أمامي. وسرحت طرفي فيما يحيط بها من البناء الضخم ذي الطبقتين المشيد بالآجر وارتفاعه مع ما دفن منه إلى اليوم في الأرض خمسة عشر متراً تقريباً فوجدت كثيراً من الغرف مسدوداً أبوابها وغالب الأبنية واقعاً في طرفي الساحة طولاً فإن هناك عدداً من المنتديات والقاعات الفسيحة ذا طبقة واحدة يساوي ارتفاعها ذات الطبقتين كانت في قديم عمرانها مختصة بالدرس العام والبحث والمذاكرة فخرب بعضها اليوم وألم به البلى وفصل مدخل كثير منها عن الساحة الأصلية الكبرى إما بسد بابها القديم أو ببنائه وحول القسم الأكبر إلى إدارة الجمرك وبعضها من الطرف الغربي إلى إدارة النهر السنية وأنبار للفحم المختص بالوابورات السلطانية وبعضها إلى ملاهي قهوات وبعضها إلى مخازن للأمتعة وحوانيت.
خرجت من الساحة ودخلت من الطرف الجنوبي إلى ناد منها عظيم طوله خمسون متراً في عرض سبعة عشر تقريباً هو بعض ما ذكرت أن مدخله فصل عن الساحة الأصلية فألفيته كذلك مستودعاً للرزم التجارية. وفي الجانب الغربي الجنوبي وما يقابله من الجانب الشرقي الشمالي نظير ذلك إلا أنه أقل طولاً وعرضاً أما الذي في الجانب الشرقي الشمالي فهو اليوم ملك لبعض أغنياء اليهود وقد كتب له قضاة المسلمين حججاً شرعية بذلك وسلمته إدارة الطابو أوراقاً رسمية بملكيته فحول إلى مغازات جسيمة.
أما القسم الفوقي من المدرسة فكثير من غرفه متداع بادي الشقوق مائل الجوانب خاضع(11/14)
لحكم الدهر المبدل لعزها القديم بالهوان فتألم قلبي لمشاهدة ذلك وفاضت دموعي أسفاً عليه. وسألت أحد الحمالين أن يدلني على السلم الذي يفضي إليه فأجاب أن السلالم منهدمة فلا طريق إلى الصعود إلا ما كان في أعلى الجانب الغربي الجنوبي فإنه تحفظ فيه الحمول الخفيفة المجلوبة من الخارج. فانصرفت وقلبي يكاد ينفطر مثل جدرانه حزناً على ما شاهدته من خراب هذه المدرسة التي كانت في سالف عهدها ملجأً كريماً للعلم وكعبة يطوف بها طالبو الحكمة ودار الفخر للأمة العربية.
وطفت بها من الخارج وقست بخطواتي طولها فوجدته 120متراً في عرض ستين تقريباً هذا إذا لم نحسب الحمام الجسيم الذي هو في الجنوب الشرقي منها وقد ألحق بالجمرك حديثاً وكذلك الجامع الذي هو في الشمال الغربي منها قد فصلته اليوم عنها سوق تقضي إلى الجسر فإذا أضفنا ذلك والمظنون أنهما كانا في القديم ملحقين بها زادت جسامة هذا البناء الفخيم.
أما النظامية فلا يرى لها اليوم أثر في بغداد والذي يشاهد من قاعدة المنارة غير مختص بها فيما اعتقد إذ لا يناسب ثخنه ما نسمعه عن فخامة ذلك البناء بل هو فيما أظن بقية جامع صغير قد بني على أنقاض تلك واندرس. ثم عدت إلى داري فنظمت قصيدتي هذه:
وقفت على المستنصرية باكياً ... ربوعاً بها للعلم أمست خواليا
وقفت بها أبكي قديم حياتها ... وأبكي بها الحسنى وأبكي المعاليا
وقفت بها أبكي بشعري بناتها ... وأنعي سجاياهم وأنعي المساعيا
بكيت بها عهداً مضى في عراصها ... كريماً فليت العهد لم يك ماضيا
بكيت بها المدفون في حجراتها ... من العلم حتى بل دمعي ردائيا
أكفكف بالأيدي بوادر أدمعي ... ويأبين إلا أن يفضن جواريا
وطأطأت رأسي في ذراها تواضعاً ... وحييت بالتسليم منها المغانيا
وسرحت أنظاري بها فوجدتها ... بناء لتشييد المعارف عاليا
بناءً فخيماً عز للعلم مثله ... فقلت كذا فليبن من كان بانيا
وألفيت قسماً قد تداعى جداره ... وقسماً على ما كان من قبل باقيا
تهب رياح الصيف في حجراتها ... فتلبسها ثوباً من النقع هاييا(11/15)
وتسعى على الجدران منها عناكب ... تجد لها فيما تداعى مبانيا
فألممت فيها بالروم دوارساً ... وسئلت منهن الطلول بواليا
وقلت لدار البحث عظمت محفلاً ... وقلت لنادي الدرس حييت ناديا
أكلية العلم الذي كان روضه ... نظيراً كما شاء التقدم ناميا
بأية ريحٍ فيك هبت زعازع ... تصوح ذاك الروض فاجتث زاويا
بقد كنت فيما قد مضى دار حكمةٍ ... بها الناس يعلم الحقائق ماهيا
فكنت بأفق الشرق شمساً مضيئةً ... تشعين نوراً للمعارف زاهيا
وكانت بلاد الغرب إذ ذاك في عمى ... تقاسي من الجهل الكثيف الدياجيا
فأين رجالٌ فيك كانوا مشائخاً ... إليهم يحث الطالبون النواجيا
وكانوا بحاراً للعلوم عميقةً ... وكانوا جبالاً للحلوم رواسيا
وكانوا مصابيح الهدى ونجومها ... بهم يهتدي من كان في الليل ساريا
يميتون في نشر العلوم نهارهم ... ويحيون في حل العويص اللياليا
نواحيك من طلابها اليوم اقفرت ... وكانوا الوفا يملئون النواحيا
فقالت وقاك الله لا تسألنني ... فمالك نفع في السؤال ولا ليا
فقلت أجيبيني كما كنت سابقاً ... تجيبين من قد جاء للعلم راجيا
فقالت ألمت حادثاتٌ عظيمةٌ ... وجرت على هذي البلاد واهيا
هناك استبد الدهر بالناس مبدلا ... فرفع مخفوضاً وسفل عاليا
هناك اضمحلت دولةٌ عربيةٌ ... بها كانت الأيام ترفع شانيا
وعوض عنها دولةٌ ثم دولةٌ ... تسر بكون الجهل في الناس فاشيا
وذاك لأن العلم للمرء مرشدٌ ... يعلمه عن حقه أن يحاميا
عرت نكبات الدهر بغداد بعدما ... بها ردحا ألقى السلام المراسيا
فاذهب ما للعلم من رونق الصبا ... تتابع أحداث يشبن النواصيا
وأدنى الذي قد نابها من نوائب ... خرابي ولولاها لما كان دانيا
فكابدت منهن الصروف نوازلاً ... وقاسيت منهن الخطوب عواديا
وأبدي على عزي القديم إهانتي ... رجال لشخص العلم كانوا أعاديا(11/16)
وأهملت حتى انهد مني كما ترى ... مبان لنشر العلم عزت مبانيا
وصرت على حكم الذين تحرزوا ... من العلم يا هذا إلى ما ترانيا
فقد ذوي الغصن الذي كان ناضراً ... وقد عطل الجيد الذي كان حاليا
أضاءت قرون بي هي اليوم قد خلت ... فسل إن تشأ عني القرون الخواليا
وكنت أرجي أن تعود عمارتي ... إذا بعث الرحمن للعلم راعيا
فأملت عمراً ذلك العود باطلاً ... وعشت له دهراً أمني الأمانيا
أرجي بها أني ألاقي شبيبتي ... فأيقنت هذا اليوم أن لا تلاقيا
لقد نقض الأيام بالعجم مرتي ... ومر الليالي يتبعن اللياليا
ورنق عدوان الزمان معيشتي ... فمن لي بأن ألقى الزمان مصافيا
ومزقني الباغون كل ممزق ... ولا أحدٌ عن فعل ذلك ناهيا
فقد صيروا للفحم بعضي مخزناً ... وبعضي حوانيتاً وبعضي ملاهيا
وحطت بساحاتي ابتغاء رسومها ... بضائع للتجار تشقي الأهاليا
ولاقيت منهم كل خسف وجفوة ... فماذا عسى من بعد ذا أن ألاقيا
أغل فلا أسقى من الماء شربة ... ودجلة تجري بالنمير أماميا
فيا ليتني كنت اسمحوت باجمعي ... ولا كان في حالي كذا الذل باديا
كما أنه أختي النظامية اسمحت ... ولم يبق من آثارها الدهر باقيا
وكل جديد سوف يرجع للبلى ... إذا لم يكن منه له الله واقيا
بغداد(11/17)
العالمون والعاملون
اطلعت في المقتبس على ترجمتكم للأستاذ جول سيمون الفرنسي من فلاسفة هذا القرن فأعجبني تشبيهكم إياه ببعض رجال السياسة في الإسلام ممن أجمعوا بين العلم والعمل أو ممن ترقوا إلى الوزارة من طريق القلم. وقد ذكرتم من هذه الطبقة طائفة صالحة مثل ابن سينا والصاحب بن عباد والقاضي الفاضل ولسان الدين بن الخطيب وغيرهم ولو استقصيتم لذكرتم في هذه الجملة ابن الأثير وابن العميد بالمشرق وابن خلدون وأبا بكر بن عمار وابن زمرك في المغرب وكثيراً من الرؤساء وإذا وصل الدور إلى زماننا هذا فجودت باشا وأحمد وفيق باشا بل كوجك سعيد باشا الذي تولى رئاسة الوزراء مراراً وهو من مخرجي صناعة القلم بل من مخرجي كتابة الجرائد السيارة. وشاء مترجم إفراد هذه الطبقة بالترجمة لملأت تراجمها المجلدات الكبار من القديم والحديث وهي طبقة تمتاز على غيرها بكونها جمعت بين الإدارة والعلم وقرنت بين الحكم والحكم وإن سياستها في الأغلب مبنية على قواعد العلم مستنيرة بضياء الحكمة ومن سعادة العمران أن يكون الحاكم حكيماً. ولا أريد بذلك تعطيل فضيلة من لم يعرجوا إلى المناصب العالية من طرق الأقلام فإن لهم فضائلهم وإن إدارة الرجال مواهب والعلم علمان غريزي ومكتسب وقد يغني المكتسب عن الغريزي في هذه الأمور لأن الإدارة ترجع إلى العمل والتجربة أكثر مما ترجع إلى العلم والحفظ كما أنه ليس كل من درس وتعلم وركض طرف القلم صالحاً لأن يتولى سياسة الملك وإدارة الجمهور ويخوض غمرات المشاكل لما ذكرنا من كون الإدارة موهبة فطرية تزداد بالتجربة وتزكو بالعمل وإن كل امرئ ميسرٌ لما خلق له. على أنه لو تبارى العالم العامل المجرب والعامل المجرب بدون علم في مضمار إدارة لكان أولهما هو السابق وكان مذهبه هو الأسلم لأنه يضم إلى نور عقله نتائج قرائح الناس ويبني في عمله على أساس ويضيف إلى منطقه المخلوق معه المنطق المدون الذي حفظه عن الكتب فيجمع بين موهبتي النفس والدرس وينظم بين حاشيتي المطبوع والمسموع فيكون طريقه آمن من الخطر وأقرب إلى الهدى ويبقى مكانه في صدور الناس أهيب من مكان المجرب بدون علم ولا أستاذ. وشأن هذين الصنفين أحدهما مع الآخر شأن الطبيب القانوني حائز الشهادة مع المجرب الذي اختبر بعض المسائل بنفسه فربما كان المجرب أنفع علاجاً من القانوني ولكن لا يحمل ذلك على ثقة ولا يبعث على طمأنينة وتكون مهارته محصورة في الأمور(11/18)
التي جربها بنفسه فقط ويبقى المتطبب على حذر من طبه وقد يلام من يسلم نفسه إليه ولو أصاب ولا يلم من سلم نفسه إلى القانوني ولو أخطأ وهذا كله من مقتضى مقام العلم.
كذلك خروج رجال السياسة من رواق طلبة الحكمة وصف حملة الأقلام في الأعم الأغلب أقرب إلى لسلامة من خروجهم من طبقة أخرى انحصر فضلها في التجارب الشخصية ولزم أن يخرج صاحبها خارق العادة في الذكاء وبيضة عصره إدراكاً ومضاءً حتى يكون له من عقله مغن عن الدرس فإن طبقة أهل النظر والعمل معاً هي التي جمعت نوراً على نور وضمت بين وحي الصدور ووحي السطور.
وإن ملكة الصين التي فرطت إلى حوض المدنية منذ الآلاف من السنين قد جعلت نظامها من القديم الترقي إلى الإدارة بمعراج الدرس وإن أهم أوضاع مملكتهم هو الامتحان وهو عندهم درجات كلما اجتاز منه الدارس عقبة اعترضته أخرى حتى يجتازها كلها ويكون نيله من مناصب الدولة على قر مضائه في الامتحان ومن كان عندهم أعلى حكمة كان أعلى حكم وإنما سلكت حكومات أوروبا في تعليم رجال الإدارة عل أثرهم وإن كانت طريقة هذا التعليم في أوروبا قد تهذبت وترقت وصارت أقرب إلى الفائدة. فإن الأوروبيين قد جعلوا العلوم فروعاً وأفناناً ورشحوا لكل فن منها طلاباً ليكونوا أقوم عليها من غيرهم وأرسخ فيها من سواهم ومع هذا فلا تزال ترى لرجال القلم المزية الكبرى على غيرهم لأن العلم بلا قلم أشبه بطائر أخص الجناح صاحبه عاجز عن الرقي وإن القلم في كف العالم هو أداة التقدم وجناح النجاح ولهذا تجد أكثر رجال السياسة والإدارة في أوربا ولاسيما في فرنسا هم من حملة الأقلام وكتاب الصحف ورقاة المنابر ويندران يوجد فيهم نابغة أو رجل مشهور إلا وقد سبق له كتابة أو مؤازرة في إحدى الجرائد وذلك أن ثمرات العلم لا تعرف إلا على أسلات الأقلام فمن ظهرت له بينهم آثار فائقة انتخبوه للندوة ثم إن امتاز فيها بين الأقران رفعوه إلى الوزارة سمعاً في إفادة البلاد من معارفه إذ كان العلم على الغالب بالعمل والنظر طريقاً إلى الأثر.
أول سيمون مترجمكم في الشهر الماضي فقد عرفته في باريس سنة 1892 وكان ساكناً في ساحة المادلين وقد ذرف على الثمانين وهو يكتب ويحبر ويؤازر في جملة جرائد وكلماته تشترى بالذهب وكم حبر أغلى من تبر والى الآن لا أنسى لذة فصوله القصار في جريدة(11/19)
الطان فإن كتابته آية في الطلاوة والرقة ومثال في سلامة الذوق وسداد الحكم ولقد كانت الحكمة تتفجر من خلال كلماته وقد يعيد القارئ مطالعة كتاباته المرة على المرة ولا يملها من العذوبة والأدب والعلم والعقل وسبحان من خص من شاء بما شاء. وقد جرت بيني وبينه مباحثات ومراسلات هي عندي من أنفس ذخائر حياتي وكنت أناقشه على بعض أقوال له تتعلق بشريعتنا فإذا أوضحت له الوجه فيها أذعن إلى الحق ولم يكبر ذلك عليه شأن كل عالم كبير لأن العلم إذا خالط النفس صار هو ضالتها وطرد من جواره كل دعوى وصفت تلك النفس لقبول الحقائق وجدير بالبلاد التي يسوس أمورها علماؤها العاملون أن ترقى أعراف الفلاح لأن من أعظم أسباب السعادة أن يكون الفيلسوف والياً أو الوالي فيلسوفاً.
بيروت
شكيب أرسلان(11/20)
الْخَلَنْجُ وَالْخُلَيْنِجُ
(1 تمهيد) طالع بعض القراء الأماثل من البغاددة ما جاء في المقتبس عن فوائد ورق النبات الذي ذكر هناك (ص421) باسم الاريقي. وسألوني هل له اسم في العربية وما هو وهل ذكره شعراء العرب في شعرهم وما هذا النبات وطلبوا مني أن أعرفه تعريفاً مولاً كافياً شافياً على ما جاء به العرب سابقاً والإفرنج في عهدنا هذا فلبيت طلبهم بكتابة السطور التالية
(2 تعريف الخلنج على ما نطق به العرب) اسم الاريقي بالعربية هو الخلنج. أما الاريقي فكلمة يونانية قال ابن البيطار في تعريفه: قال أبو عبيد البكري: هذا الاسم يقع عندنا بالأندلس على الشجرة التي يصنع من أصلها فحم الحدادين ويسمى باليونانية اريقي (وبالأصل المطبوع ارتقي وهو من غلط الطبع) لها أغصان طوال مقدار قامة الإنسان ذات هدب أصفر من هدب الطرفاء بين اللدونة والخشونة وزهره صغير إلى الحمرة وفيها غبرة وهي لطيفة في شكل المحجمة في جوفها شعيرات من لوانها في رأس كل شعيرة حبة هينة لطيفة ألطف من حب الخردل فرفيرية اللون قد فرعها واحدة حتى خرجت في وسطها من كمام الزهرة (قلت أنا: وهذا النوع يسمى بالفرنسية أو
ومنه صنف آخر أبيض النور إلا أنه ألطف من نور الأول مقداراً والشكل واحد. (زدت أنا: وهذا الذي يصح أن نطلق عليه اسم الخلينج مصغر خلنج تمييزاً له عن الخلنج الأول ويقابله باليونانية لفظة موريقي وهو الذي يطلق عليه بالفرنسية اسم بدون تقييد وبلسان النبات أو
وقال في تعريفه داود الحكيم في تذكرته: خلنج شجرة بين صفرة وحمرة يكون بأطراف الهند والصين ورقة كالطرفاء وزهره أحمر وأصفر وأبيض وحبه كالخردل. وقال المجد الفيوز أبادي: الخلنج كسمد: شجر معرب. وزاد في التاج: شجر فارسي معرب (خلنك) يتخذ من خشبه الأواني.
وأما صاحب دائرة المعارف فإنه من بعد أن أورد كلام داود الحكيم من تحديد ووصف قال: وقد ذكروا (أي العرب) أنه يصنع من خشبه قصاع قال الشاعر:
يطعم الشهد في الجفان ويسقي ... لبن البخت في قصاع الخلنج
وهذا يدل على أنه شجر كبير. وقولهم يكون بأطراف الهند والصين يدل على أنه غير(11/21)
الذي اصطلح على تسميته مؤخراً بهذا الاسم لأنه معروف في غربي آسيا وفي أوربا كثيراً أنه شجيرات أو نجوم.
قلنا أن ابن منظور عند ذكره البيت الآنف إيراده قال:. . . وقيل هو كل جفنة وصحفة وآنية صنعت من خشب ذي طرائق وأساريع موشاة. قلنا: وحينئذ يسقط اعتراض الدائرة على أن كلامها صادق إذا كان من الخلينج لا عن الخلنج لأنني رأيت في بلاد الهند ما يمكن أن يخرط من سوقه أنواع الآنية بدون أدنى مانع. لأن هذا النبات يكون أنجماً وشجيرات تكاد تكون أشجاراً ويبلغ جنسها 400 نوع وموطن أغلبها إفريقية وليس منها في أوربا إلا عشرون وفي آسيا الغربية ثلاثة أو أربعة وفي الهند والصين وفارس نوعان فقط منهما الخلنج الكبير.
(3 تعريف الخلنج على ما ذكره العلماء المحدثون وأنواعه) هو جن أصلي لفصيلة الخلنجية أي أنها النبتة ثنائية الفلقة وحيدة أهداب التويج ذكورها سفلية الاندغام وأغلب نباتاتها شجيرات ونجوم جميلة المنظر وأهدابها (وهي أوراقها) متعاقبة في الأغلب ويندر كونها متقابلة أو احاطية وهي بسيطة خالية من الأذينات ونورها مختلف وأجاسها أربعة أشهرها الجنس الأساسي ثم الاندروميدة ثم الاربوتس فالرودندرون. الخ. وأما أثمارها فتكون في خل كثير البزر.
وأغلب منابت الخلنج الأرضون الرملية ومن خاصيته النبتية أنه يزيد تراب الأرض التي يجيء فيها ويعلي خصبها ويجعل ذلك التراب من أحسن الأتربة لخفته وقوته ولذلك يعرف بالتراب الخلنجي.
أما اختلاف أنواعه فيأتي في العموم من هيئته الخارجية ونظام أنواره وألوانه التي لا تقف عند حد. إلا أن جميع هذه الأنواع تعرف بدوام خضرة أهدابها وطول بقاء أزهارها وخلانج إفريقية هي أجمل وأبهى وأزهى هذه الأنواع وأشدها رغبة للناس وتطلباً لها منهم إلا أنها ألطف قواماً وبقاء وهي تتكاثر بالبزر أو العكيس.
(حاشية. العكيس بلسان النباتيين: القضيب من الحبلة يعكس تحت الأرض إلى موضع آخر وقد يطلق على كل قضيب يعكس ولو لم يكن من قضبان الحبلة. قلت وهو المعروف في بعض البلاد بالدرخة عند العوام وبالفرنسية أو التعزيز (حاشية: التعزيز عند علماء النبات(11/22)
ما يحول من فسيل النخل وغيره قال القتيبي: وسمي بذلك لأنه يحول من موضع إلى موضع فيغرز قلت وهو المعروف في بعض البلاد بالقلم عند العوام. وعند الفرنسيين بكلمة أما أشهر الأنواع المعروفة في هذه البلاد الشرقية فهو الخلنج الأرمد ويعرف بلسان علماء النبات باسم وينبت بكثرة في الحراج ولوفرة أزهاره فهو ينشر بين خضرة تلك الدكادك والألوية أعلاماً وردية ضاربة إلى البنفسجية وهو الذي قال عنه ابن البيطار أن النحل تعمل من زهراتها عسلاً ليس بمحمود. - والخلنج الصادق وهو رأس النوع المسمى بالكلونة ومشهور بتويجه المشقوق. - وخلنج المكانس وهو الذي تتخذ من أغصانه الناعمة المكانس والمنافض الخشنة (المنافض جمع منفض أو منفضة وهي المسماة بالفرشاة أو الفرشة عند البعض والمكانس الاسلامبولية والشامية تسوى من هذا النوع. وفي عدة بلاد تتخذ تلك الأغصان مع الجذور خشباً للوقود وفحمه من أحسن الفحم.
ومن أنواعه الأجنبية الخلنج ذو الأزهار الكبيرة وهو يكثر في البلاد الرأس من إفريقية ويبلغ علوه متراً ونصف متر ونوره أحمر برتقالي أو أحمر سقلاطوني. ومن تلك الأنواع الخلنج القاروري وتكون أزهاره على هيئة قوارير ولونها على بياض مؤطرة بحمرة.
(4خواصه الطبية) قال داود الحكيم: هو حار يابس في الثانية قد جرب دهنه لإزالة الإعياء والضربان والنقرس عن برد. ونشارته إذا غسل بها البدن فعلت ذلك ومثقال من بزره بالعسل يحفظ القلب من السم والأكل في أوانيه ينفع الخفقان. وقال ابن البيطار: إذا تضمد بزهرتها أو ورقها أبرأت نهش الهوام. وقال جالينوس في 6وقوة هذا النبات قابضة محللة لا لذع معها وأكثر ما يستعمل منه ورده وورقه فقط. وقال الشريف: زهره له قوة حارة يابسة في الثانية وإذا جمع زهره ووضع في الدهن وشمس ثلاثة أسابيع ودهن به نفع من الإعياء ومن أوجاع المفاصل ومن النقرس البارد السبب. وفي دائرة المعارف: اشتهر بتفتيت الحصا وشفاء القولنجات واستعمل منقوع أزهاره في شفاء القوباء وقيل إذا تكمد بالأزهار نفعت من النقرس. وقد تستعمل في الحمامات البخارية كذلك وقيل أيضاً أنها تنفع من حمى الربع.
(5وروده في أشعار العرب) جاء في الأغاني 17: 167 قال الزبير: حدثني عمي مصعب أن عبيد الله بن قيس كان عند عبد الملك فأقبل غلمان له معهم عساس خلنج فيها لبن البخت(11/23)
فقال عبد الملك: يا ابن قيس أين هذا من عساس مصعب التي تقول فيها:
ملكُ يطعم الطعام ويسقي ... لبن البخت في عساس الخلنج
فقال لا. أين يا أمير المؤمنين لو طرحت عساسك هذه في عس من عساس مصعب لوسعها وتغلغلت في جوفه فضحك عبد الملك. ثم قال: قاتلك الله يا ابن قيس فإنك تأبى إلا كرماً ووفاءً.
قلت وقد اختلفت الروايات في إيراد البيت المذكور ففي الأغاني هذه الرواية. وفي دائرة المعارف الرواية التي ذكرناها في صدر هذه المقالة. وكذلك جاء في محيط المحيط.
وأما رواية التاج فهي:
تلبس الجيش بالجيوش وتسقي ... لبن البخت في عساس الخلنج
وإليك الآن رواية اللسان:
يلبس الجيش بالجيوش ويسقي ... لبن البخت في عساس الخلنج
وفي مادة ب خ ت من التاج:
إن يعش مصعب فإنا بخير ... قد أتانا من عيشنا ما نرجي
يهب الألف والخيول ويسقي ... لبن البخت في قصاع الخلنج
وممن ذكر الخلنج من الشعراء هميان ابن قحافة. فقد قال:
حتى إذا ما قضت الحوائجا ... وملأت ساحلاً بها الخلانجا
منها وثموا الأوطب النواشجا (عن اللسان)
فهذا بحث علمي أدبي لغوي طبي من قديم وحديث عساه يكون كنزاً للطالب والله الموفق إلى السداد بغدادأحد قراء المقتبس(11/24)
الضبط
جاء في تاج العروس أن الأضبط هو الذي يعمل بيديه جميعاً ويقال ضبط الرجل بالكسر يضبط وهي ضبطاء. وفي الحديث سئل النبي (ص) عن الأضبط فقال الذي يعمل بيساره كما يعمل بيمينه وكذلك كل عامل بعمل بيديه جميعاً وهو الذي يقال له أعسر يسر فإن عمل بالشمال خاصة فهو أعسر بين العسر وهي عسراء وقد عسرت بالفتح عسراً بالتحريك ويقال رجل أعسر وامرأة عسراء إذا كانت قوتهما في أشملهما ويعمل كل واحد منهما بشماله ما يعمله غيره بيمينه. ويقال للمرأة عسراء يسرة إذا كانت تعمل بيديها جميعاً ولا يقال أعسر أيسر ولا عسراء يسراء للأنثى وعلى هذا كلام العرب. والعسران جمع أعسر يقال ليس شيءٌ أشد رمياً من الأعسر ومنه حديث الزهري كان يدعم على عسرائه العسراء تأنيث الأعسر اليد العسراء ويحتمل أنه كان أعسر. وبعد فقد قرأنا في مجلة الطبيعة فصلاً تحت هذا العنوان فآثرنا تحصيله قالت: أنشئت في لندرا منذ مدة جمعية لنشر عادة العسر واليسر يقضي على أعضائها أن يدعوا الأولاد والبالغين إلى استعمال كلتا اليدين يعلمونهم ذلك بالمثل ويدربونهم عليه بالقدوة والعادة. ونحن لا نعلم لم لا ينتفع باليد اليمنى كالانتفاع باليد اليسرى على حد سواء على حين ليس هناك عائق يعوق عن ذلك فترى الرجل أو المرأة في عدة صنائع يستعملان باختيارهما إحدى اليدين من دون مشقة. وترى الضاربين بالأرغن يحذقون الضرب باليمنى واليسرى على غرار واحد. وإن كانت اليمنى تترجم عن الجزء المبهم من أنغام هذه الآلة. وضارب الكمنجة يمر أصابع يده اليسرى على درجة من السرعة لا تصدق فيمسك الآلة باليسرى ويستعمل قوس الكمنجة باليمنى.
ويتوصل من يستعملون آلة الداكتيلوغراف أن يضعوا على مصفهم حروفاً باليدين متى مهروا في عملهم. ويقال مثل ذلك في صنائع وأعمال أخرى تكون فيها اليد اليسرى بالضرورة أقدر على العمل من اليد اليمنى وينتفع بكليهما معاً على حد سواء.
الناس في الغالب أياسر بمعنى أنك تجد في المائة أعسرين أو ثلاثة عسران وتجد 97 أو 98 أيسر وتكاد تجد فيهم الأضبط على الندر. واستعمال اليمنى قديم العهد جداً ولا يستعمل المرء كلتا يديه بالطبع بل قد سبق إليه بالدريج ولبعض أسباب. وإنا إذا فحصنا هياكل عظام القدماء نرى بالبحث فيها فروقاً في الطول والثخانة بين الذراعين واليدين مما يستدل منه على أن الناس كانوا في أوائل عهد الإنسانية يستعملون الذراع اليمنى أكثر من اليسرى(11/25)
فزادت كثرة استعمالها في قوتها ومقاومتها للمصاعب ونمتها نمواً.
وسواءٌ ورثنا عن أجدادنا أو بالتطبع عادة استعمال اليمنى إيثاراً لها على اليسرى فإن هذا الأمر طبيعي. وإذا سألت عن السبب الذي من أجله كان الإنسان في أوائل العهد الأول أيسر فالجواب عليه أنه نشأ على ذلك بحكم الوراثة فقد عرفت أسرة كان أبوها أعسر ولم تكن الأم كذلك وربما كانت تستعمل يسراها متابعة له فجاء ابنها أعسر.
ويرى السير جايمس ساويرا أحد كبار دعاة الجمعية المشار إليها أن الإنسان لا يستعمل كلتا يديه بقطرته وإن استعمال اليمنى من القديم نشأ من عادة استعمال السلاح ونشأ في العهد الحديث من عادة الكتابة. ومن يعلم كيف كان الرجل الأول الذي رسم خطوطاً على الحجر أو على ورق البردي بإحدى يديه. ومن الواضح أن المرء بالتمرين توصل إلى استعمال اليمنى كما يستعمل اليسرى. ومجذوموا الذراع اليمنى من الأدلة في هذا الباب. ولكن إذا نظر المرء إلى الكتابة باليسرى يتجلى له بأنه قريب من كتابة المرآة.
عرفت أضبط وكان جراحاً مشهوراً في باريس وهو الدكتور كوسكو كان يجري العمليات باليسرى واليمنى معاً ولا يهمه حال المريض من هذه الوجهة وهو على منضدة العملية. فيخرج بياضة العين (كتاراكت) بكلتا يديه على حد سواء من المهارة. وكان حاذقاً في جراحته حذقه في الموسيقى والنقش والرسم ومع هذا لم أره يكتب وصفة بيده اليسرى.
وقد حاول الأستاذ مركيل الألماني أن يجلو هذا الأشكال ومن رأيه أن ليس في انتخاب إحدى اليدين صدفة وإلا لكنت ترى عند بعض الشعوب جيوشاً من العسران بدلاً من الأياسر وليس هما غير العادة والتعليم اللذين جعلا عادة استعمال اليمنى وسلسلاها فينا حتى انتهت إلينا على هذا النحو.(11/26)
النهضة الأميركية
من مبحث في المجلة الجديدة الفرنسية
بورتوريكو هي الجزيرة الرابعة من جزائر الأرخبيل بمساحتها السطحية والأولى بكثرة السكان فإن فيها 85 ساكناً في كل كيلو متر مربع على حين لا يبلغ معدل السكان في سائر جزائر الأرخبيل 18 نسمة في كل كيلو متر مربع وهذه الجزيرة من الخصب والأمراع بحيث يجود فيها السكر والتبغ والقهوة وتأتي بغلات وافرة. وهي على خلاف جزيرة كوبا التي لها طرق لا تسلكها الخطا ولا تهتدي إليها القطا. وتقفط بورتوريكو على قطري أسباب الحياة وهي أنموذجات الجزائر ومثال العمران في البلدان إذ لها كثير من الطرق المرصوفة الموصلة بين أمهات مدنها كما تجمع السلسلة فرائد العقد.
كل هذه الصفات في كوبا وما خصت به من المرافئ الأمينة اللائقة لإجراء التمرينات البحرية قد أهابت بمطامع الأمريكان أن يستولوا عليها ويطردوا منها الإسبانيين وحجتهم أن ثمانية أعشار مقايضات الجزيرة وتجارتها هي مع الولايات المتحدة. ولما غلبت إسبانيا سنة 1898 كان من نتائج معاهدة باريس أن ضمنت للولايات المتحدة الأخذ بمخنق تلك الجزيرة الغناء ولم ينتطح عنزان في استيلائها عليها لأنه لم يكن في سكانها من يطالب بالحرية والاستقلال بل قد انصرفوا جملة إلى الأعمال الزراعية وتخلوا عما وراء ذلك من مطالب الحياة الاجتماعية فراحت الولايات المتحدة تنظمها بنظامها وتؤدبها بآدابها أكثر من تنظيم جزائر الفليبين حيث كان سكان هذه يقاومون لنيل الاستقلال النوعي فتحول هذه المطالبة دون إجراء ما تريد أميركا عمله في هذه الجزر. وظهرت في كوبا قوة أميركا الاستعمارية وإبداعها في طريقة الفتح والاغتناء وقد منحتها بعد شيئاً من الحكم حفظت فيه حقوقها فكانت كما قالت جريدة الطان الباريسية أشبه بأثينا أيام معاهدتها البحرية الأولى في القرن الخامس أو رومية بفتوحاتها - نواة من الحرية يحيط بها موكب من الرعايا والعبيد.
وسنة 1903 ثار سكان برزخ بنما مطالبين بالاستقلال فإن الثلاث والخمسين ثورة وفتنة ومذبحة التي حدثت في البلاد منذ سبع وخمسين سنة كانت دون تلك الثورة بأهميتها في نظر العالم فساعدتها الولايات المتحدة في الانفصال عن كولومبيا. وقد عني رئيس الجمهورية بأمر هذا الاستقلال ليتسنى لأمته أن تشيد برزخاً يجمع بين البحرين المحيطين(11/27)
وتكون فيه صاحبة النفوذ الأول فأبانت الولايات المتحدة هذه المرة بأنها تدوس الحق بأقدامها إذا كان فيه إسقاط نفوذها. ومن ألقى رائد الطرف في أحوال الولايات المتحدة في القرن الماضي لا يعتم أن يسجل بأن هذه الحكومة سارت كل هذه المدة ولم تفشل لها راية ولم تسقط لها كلمة بل كانت بفضل المحافظة على مبدأ مونرو صاحبة الراية العليا والكلمة الفاصلة من الأرجنتين إلى البرازيل وشيلي ومن بيرو إلى كولومبيا وفنزويلا ومن سان دومينيك إلى المكسيك مارة بكوبا فتداخلت في شؤون تلك الحكومات كافة مباشرة أو بالواسطة وإرادتها على العمل بإرادتها حتى حق أن يقال أنه لم تطر ذبابة لم تشعر بها حكومة واشنطون في أنحاء تلك القارة.
ولقد هدد ألمانيا القائد ديوي أحد رجال الولايات المتحدة بالحرب لأن بعض سفنها قامت بتمرينات في جزيرة مارغريتا على شاطئ فنزويلا سنة 1901 وكان أملها أن تقيم لها فيها محطة للفحم وزاد في استيلاء الولايات المتحدة مهاجرة ربع مليون من الجنس التوتوني الجرماني إلى جنوبي بلاد برازيل. وقد كادت الحرب تنتشب بين إنكلترا وأميركا على مسائل فنزويلا ثم انحل الأشكال صلحاً بعد أن توعد رجال أميركا إنكلترا بانفصال كندا عن نفوذها إذا هي ظلت على عنادها كما سقطت إسبانيا وهي العدوة القديمة لأميركا من حالة مجدها واضطرت إلى الإذعان للقوة. أما روسيا فتخلت عن آخر ما لها في تلك القارة الأميركية لقاء بضعة ملايين من الدولارات وقد اقترح على فرنسا أن تتخلى عن جزائر المارتينيك والكوادولوب وتبيعها بيع الرضى لا بيع غبن. أما إنكلترا وألمانيا وإيطاليا فقد عاد لهن بعض نفوذهن في فنزويلا. وهكذا تجد القارة الأمريكية وفيها نحو عشرين أمة صغيرة كلها طوع أمر الولايات المتحدة. فقد كانت المكسيك ولا تزال تحمى بمبدأ مونرو وأخذت منها التكساس. وكندا مؤتلفة مع الأميركان وهؤلاء يركنون إليها. وبورتوريكو أضيفت إليهم وانتيل الدانمرك وسان دومينيك كادا يباعان لها وكوبا أصبحت أميركية وبنما وكولومبيا وفنزويلا وكل أواسط أميركا لا تعمل إلا بالروح التي تبعثها فيها دار ندوة واشنطون. وقد سكتت برازيل في مسألة آكر المهمة وشيلي والأرجنتين وبيرو وجمهورية خط الاستواء يعترفن بمبدأ مونرو على درجات مختلفة.
ولطالما أدى الحسد المتأصل بين برازيل والأرجنتين وشيلي إلى إهراق الدماء ولذلك كان(11/28)
بعضهم يقول أن النهضة الأميركية غير ثابتة الأساس والخطر محيق بها وأن نتائج تلك النهضة مجهولة وأن الحوادث أثبتت أن الولايات المتحدة لم تنظر في كل أحوالها إلا لمصلحتها الخاصة وأن نهضتها قامت بالقوة والحرب ومع هذا فلا يخطر ببال أن أميركا تود أن تضم إليها العالم الجديد برمته بل تريد المحافظة على الحالة الحاضرة عاملة في كل شؤونها بمبدأ مونرو الشريف المبني على قاعدة فسيولوجية.
ومن نتائج هذه النهضة أر رقيت الولايات المتحدة أرقى درجات العمران فكانت صادراتها سنة 1871 خمسمائة مليون فرنك فبلغت سنة 1900 - 2300 مليون هذا مع أن جانباً كبيراً من غلاتها يصرف في البلاد. وكانت معاملها سنة 1900 - 415ر490 معملاً تصنع ما قيمته 65 ملياراً من المصنوعات. وللولايات المتحدة المقام الأول بحاصلاتها الزراعية فإنها بلغت خمسة عشر ملياراً ونصف مليار من الفرنكات. وتحتاج أوربا مسانهة إلى 480 مليون هكتو لتر من الحنطة تستغل أكثرها وتبقى محتاجة إلى 134 مليون من الخارج تقدم أميركا منها 25 إلى 60 مليون هكتو لتر بعد أن تقوم غلات البلاد بحاجات سكانها. وقد زاد عدد سكان المدن الكبرى على نسبة غريبة فكان سكان فرنسيسكو سنة 1850 - 800ر34 فبلغوا في أيامنا 000ر350 وكان سكان بنتيمور 169 ألفاً فصاروا 625 ألفاً وسكان فلادلفيا 340 ألفاً فبلغوا مليوناً وربع مليون. وزادت نفوس شيكاغو من 963ر129 إلى 000ر008ر1.
وكان لهذا الارتقاء الاقتصادي الذي لم يسمع بمثله يدٌ كبرى لأصحاب المليارات من رجال الأموال والغنى الواسع في تلك البلاد ممن أوجدوا فيها ضرباً من ضروب الملك في الأعمال والأموال إلا وهم قادة الاحتكار من التجار مثل كارنجي وفندربلت ومورغان فكانوا ملوك الأرض حقاً وقياصرة الناس بلا مراء من أجل هذا لما رحل مورغان إلى جزيرة كوبا عنيت الحكومة بأمر الطرق التي مر قطاره الخاص فيها عناية فائقة وقد قابله إمبراطور ألمانيا أحسن مقابلة وخافت بورصة مدينة نيويورك وأزعجت لزكام دماغي طفيف أصابه عرضاً منذ بضع سنين.
ضاقت أميركا بما رحبت بهؤلاء الأغنياء فلم يجدوا لأموالهم مصارف في بلادهم حتى قام في أفكارهم أن يبعثوا البعوث من مواليهم وخدامهم يلتمسون في عرض البحور والبرور(11/29)
مناهل يردونها وخزائن يوزعون فيها كنوز أموالهم. وأنت ترى بهذا أن النهضة الأميركية كالنهضة الإنكليزية قائمة على أساس اقتصادي مغموس بحب المصلحة حتى قال أحدهم: أن سياسة التوسع الأميركية ليست في الحقيقة إلا مثالاً من أمثلة الأنانية المتوحشة التي تمليها المطامع والآمال المستحكمة في عقول شعب وجه جميع قواه الحية نحو تنمية الثروة والعروض المادية أحسن تنمية والأخذ بضبع الراحة والتبسط في مناحي الرفاهية والسعادة.
ومعلوم أن التجارة تابعة للعلم فحيثما خفق علم دولة تتحسن تجارة أبنائها. والروح الأميركية معجونة بالكبرياء طامعة بالغلبة والاستيلاء مطبوعة على الحماس والإدلال بالقوة التي تنبهت وسلكت مسلكها الطبيعي العادي بفضل مبدأ مونرو. قال الفيلسوف اميرسون الأمريكي أن الروح العامة حاضرة في كل شيء لا تعمل فيه إلا للخير والحسن ويكفي أن يقوم كل منا على قدم الصدق بما خلق له حتى تسود الألفة في العالم. وقد اتخذ هذا الحكيم المرء صورة رمزية وأكد عليه أن يعتقد بفكره ويثق بقوته ويعجب بنفسه. وهذه هي القاعدة المطردة التي انصبغ بها أبناء الأميركان وطبعوا نفوسهم عليها. ولذا أصبح كل تغلب عند الأميركان جهاداً مقدساً كما كان قديماً عند المسلمين ونفذت النهضة في عظم الأمة وجبل عليا لحمها.
زادت حركة الأفكار في العالم أواخر القرن التاسع عشر فأنشأت الأمم تجتهد في اظبان ملكاتها وما انطوت عليه من الرغبات والآراء. ويقال أنهم يحاذرن ارتباطاً هائلاً ينبغي لكل منها أن تتوقاه. فكانت نتيجة ذلك عند الأمم القوية اتخاذ سياسة عدائية في توطيد السلطة ونشر الكلمة وهذا هو معنى النهضة التي تجد أثراً من آثارها في روسيا وألمانيا وتراها على أشدها في إنكلترا والولايات المتحدة أما الأمم الضعيفة فكانت النتيجة عندها أن دافعت عن حوزتها بحد المرهفات ووقفت أبداً على رد الغارات والهجمات وهذه هي الوطنية. فإيطاليا وفرنسا خصوصاً قد أحستا بهذا النفوذ والمبدأ الذي جمعت فيه الولايات المتحدة بين الهجوم والدفاع وعاشت في ظله طامحة أن تجمع في البيت الأبيض (قصر رئيس جمهوريتها) زمام حكم العالم على نحو ما كانت رومية قديماً تجمع في قصر قياصرتها. هو مبدأ مونرو القائل أميركا للأميركيين بل أميركا لكان الشمال من أهلها فصح والأمر على ما ذكر أن تقول بعده العالم للولايات المتحدة كلمة رددتها صحفهم في الحرب(11/30)
الإسبانية منذ بضع سنين وجهروا بأن نابليون على ما اشتهر عنه من القوة والمضاء قد جبن عن اكتساح أميركا وإدارة دفة مطامعه نحوها. ومن العبث أن يقال أن أمة ولو كان زعيمها قيصراً أو الاسكندر تفتح العالم اليوم بعد أن بلغ الثمانية أو العشرة شعوب في الأرض ما بلغوه من التمدن والتبسط في مناحي الارتقاء وأن ينقسم العالم كما كان على عهد الرومانيين إلى ولايات وقنصليات. ولو وقف الأمر عند هذه الحال لكان الخطر على العالم قليلاً من النهضة الأميركية لكن الولايات المتحدة لا تفتأ عند مسيس الحاجة أن تطيل يد التعدي على خصيماتها من الأمم وتستلب منها ما تريده من مرافئ ومراقب وقلاع ترصد بها طرق تجارة العالم. وأخذ مانيلا هو أول خطوة في هذا السبيل الطويل.
أما فتحت إنكلترا على هذا النحو جبل طارق ومالطة والسويس وكلكتا وملبورن ورأس الرجاء الصالح؟ أما أميركا فتطمح إلى أن تجعل لها مقاماً في شؤون سياسة العالم لاعتقادها بعلو كعبها وفضل تقدمها على نحو ما فعلت النمسا قديماً في أوربا وكما كان شأن فرنسا عندما نجحت سياسة ريشيليو ومازارين. وبعد أن صرح الرئيس روزفلت عام 1903 بأن للولايات المتحدة حق التقدم الاقتصادي على البحر المحيط ومنه على العالم عاد يقول في السنة التالية من الخطأ أن يعتقد معتقد بأن أمته ظامئة إلى الفتح والاستعمار فإنه ما من أمة تخشى بأس الولايات المتحدة إذا حافظت على الراحة وقامت بوظائفها وأبانت أنها تحسن العمل في المواد السياسية والصناعية ولكن سوء الاستعمال البربري الدائم والضعف الناتج من التراخي في عامة صلات مجمع متمدن هو مما يؤدي إلى تداخل أمة متمدنة. قال هذا وهو الدليل على ما تكنه صدور تلك الأمة من المرامي البعيدة. وتداخل أميركا في شؤون يهود رومانيا ونصارى أرمينية ويهود كيشنيف بحجة الإنسانية أثر من آثار التجارب الأولى التي تريد القيام بها لتجس نبض العالم وتقدر مبلغ قوتها. وهذا تحين للفرص ما جرى مثله لألمانيا القديمة والنمسا وإسبانيا وفرنسا أيام العزة والقوة.
جرت إنكلترا على حرية المقايضة في التجارة فكان لها التقدم في أسواق التجارة في العالم أما فرنسا فقد مشت على طريقة التعريفتين في تقاضي المكوس والجمارك منذ سنة 1892 وفي تلك السنة مشت ألمانيا على طريقة حماية التجارة على نسق أشد من نسق فرنسا وسنة 1899 رفعت إيطاليا تعرفة جماركها وسنة 1899 عملت إسبانيا كذلك وسنة 1898(11/31)
قامت بمثل ذلك نروج وروسيا وفعلت السويد مثل هذا الفعل سنة 1892 والبلجيك سنة 1900 وبرازيل والمكسيك وكندا سنة 1897 والأرجنتين واليابان سنة 1899 والهند الإنكليزية سنة 1896. وكذلك كان شأن إنكلترا فإنها أخفت مقاصدها من حماية تجارتها بحجة تقاضي رسوم أميرية من الجعة والخمور. أما الولايات المتحدة فإنها تتطلب كسائر الشعوب بل أكثر من كل الشعوب امتداد سلطتها مع حماية تجارتها والحماية فيها أبداً على أمتنها بفضل مبدأ مونرو حتى فاقت في هذه الطريقة أمم العالم قاطبة.
الباقي للآتي(11/32)
جوائز نوبل
يردد كل سنة اسم نوبل في الصحف ولعل كثيراً من القراء لا يعرفون من هو وما هي جوائزه فنوبل رجل أسوجي عظيم من أهل القرن الماضي خدم الإنسانية في حياته وبعد مماته خدمة يدونها له التاريخ ولم يكن من كبار العلماء ولكنه كان من كبار العاملين والمخترعين من أرباب الصنائع. هو الفرد نوبل الكيماوي ولد في استوكهلم عاصمة السويد سنة 1833 ومات سنة 1896. ذهب مع والده وكان مهندساً إلى بلاد الروس لإقامة معمل للنسافات في ثغر كرونستاد واشترك مع أخيه في استثمار مناجم البترول في باكو ولئن أخفق والده في الأولى فقد أفلح أخوه في الثانية. ولكن الفرد لم يرقه هذا فعاد إلى عاصمة بلاده يدرس الكيمياء فدرسها في ثلاث سنين. وقد حاول إدخال النيتروغليسيرين في المواد المنفجرة فانفجر معمله كما انفجرت معامل أخرى عملت مثل عمله في ألمانيا وأميركا حتى إذا ارتأت الحكومات أن تمنع استعمال هذه المادة وقع في نفسه سنة 1867 أن يخفف من تأثيرها فمزجها بمادة أخرى السيليس أمورف أو الصوان المنتثر فتم له بذلك اختراع الديناميت وهي المادة المعروفة في نسف الصخور والمقالع وغيرها وحل الديناميت محل معظم المواد المنفجرة واستعيض به عن غيره في المناجم وإملاء القذائف وغيرها ولم يلبث أن صار للديناميت نحو عشرين معملاً في بلاد أوربا وأميركا الشمالية وله فيها اليوم مئات. واخترع الفرد نوبل البارود بلا دخان وأقام له عدة معامل في أوربا وقام بأعمال صناعية مهمة وأبحاث عملية نفعت العلم والصناعة.
هذا هو نوبل ونشأته على وجه الإيجاز ومن هنا جاءه المال ودرت عليه أخلاف السعادة وإذا كان سمحاً جواداً للغاية ولاسيما على ما فيه إنهاض شأن العلم العملي النافع دفع من ماله نصف ما اقتضى لحملة اندرى الرحالة الذي ذهب لاكتشاف القطب الشمالي. ولما حانت منيته أوصى بالقسم الأعظم من ثروته وقدرها خمسون مليون فرنك أن تجعل منها كل سنة خمس جوائز توزع على أهل العلم والصناعة وقدر كل جائزة ثلاثمائة ألف فرنك الثلاث الأولى لثلاثة رجال من أي الملل والنحل إحداهما لمن يكتشف أو يصلح أهم مسألة في الطبيعيات والثانية لمن يكتشف أحسن اكتشاف في الكيمياء والثالثة لمن يوفق لأحسن عمل أو اختراع في علم النفس أو فن الطب والرابعة تعطى لمن يؤلف أحسن كتاب في الآداب والخامسة لمن يعمل عملاً نافعاً لإلقاء بذور الإخاء بين أبناء البشر من مثل تنقيص(11/33)
عدد الجيوش العاملة أو فضها إن أمكن أو تأليف مؤتمرات للسلم. وقد عهد أن تتولى المجامع العلمية في بلاده توزيع الجوائز الأربع الأولى ووكل أمر الخامسة لمجلس نواب السويد لأنها سياسية أكثر منها علمية.
وقد نال هذه الجوائز حتى الآن كثيرون من رجال العلم والاختراع والآداب والسياسة من أمم الغرب وكانت هذه السنة من حظ المسيو هنري مواسان الفرنسي فإنه نال جائزة الكيمياء لأنه مخترع الأفران الكهربائية المستعملة في تسييح المعادن. ونال جائزة الطبيعيات المستر جون طومسون الإنكليزي المتوفر على درس الكهربائية التحليلية والحسابية والمكتشف لأسرار عظيمة فيها. ونال جائزة الطب كل من المسيو سانتياغورامون الإسباني والمسيو كاميل كولجي الإيطالي وهما من أعظم المشتغلين بالأمراض العصبية وقد ظهرت لهما حقائق كانت من قبل غير معروفة. ونال جائزة الآداب المسيو جاردوسي الإيطالي المتفاني في خدمة أمته من طريق التآلف الأدبية والقصصية. ونال جائزة السلام المستر روزفلت رئيس جمهورية الولايات المتحدة لأنه سعى فعقد الصلح بين الروس واليابانيين في السنة الماضية. فليتأمل أغنياؤنا ومن اعتادوا أن يوصلوا بعد موتهم في عمل نوبل ولينظر علماؤنا أن صح أن يسموا علماء.(11/34)
إمارة الأفغان
نشر الدكتور هاميلتون طبيب أمير الأفغان سابقاً مقالة في مجلة المجلات الإنكليزية وصف فيها حال هذه الإمارة قال فيها: مركز أفغانستان خطير من حيث علاقتها بالهند فهي في أواسط آسيا واقعة بين أملاك إنكلترا وروسيا يحدها من الشمال نهر الأكسوس وتركستان الروسية ومن الجنوب بلاد الهند ومن الغرب إيران ومن الشرق جبال البامير مستقلة في شؤونها استقلالاً تاماً وهي خمس أميالات كبرى كابل وهرات وقندهار وأفغان تركستان وبادكشان ومقاطعتان وهما كفرستان وآخان وتبلغ مساحتها السطحية ثلاثمائة ألف ميل مربع وسكانها زهاء ستة ملايين نسمة ويختلف دخل حكومتها من مليون جنيه إلى مليونين. وجيشها أيام السلم مائة وخمسون ألفاً.
ولما شاع سنة 1809 أن نابليون الأول والإمبراطور إسكندر الأول أزمعا أن يهاجما الهند بادرت إنكلترا إلى إنفاذ سفير إلى حاكم كابل فعقد محالفة مع حاكمها شان شوجاء ولما دفعت روسيا حكومة إيران سنة 1836 إلى الاستيلاء على هرات رأت بريطانيا أن الحكمة تقضي بتجديد المحالفة مع حاكم الأفغان وكان إذ ذاك دوست محمد في دست الإمارة وذلك لتكون الأفغان حاجزاً في الشمال الغربي من الهند يحول دون المطامع الروسية وإذ كان نفوذ روسيا يزداد استحكاماً في كابل انفصمت عرى تلك المحالفة فسيرت إنكلترا حملة على كابل سنة 1838 لتقليص ظل روسيا من تلك الحاضرة ودامت الحرب الأفغانية الأولى من هذه السنة إلى سنة 1842 واحتلت كابل وقندهار وأعاد الإنكليز إلى سرير الإمارة شاه شوجاء ثم خلعوه ونصبوا دوست محمد وبعد ذلك انجلى الجيش الإنكليزي.
وفي سنة 1855 عقدت محالفة بين بريطانيا وأفغانستان وفرضت الأولى للثانية مليون روبية إتاوة سنوية وأن تقيم لها سفيراً في كابل. وتوفي دوست محمد سنة 1863 فحدث بين أخلافه فتن أهلية على الإمارة دامت خمس سنين ثم تمت الغلبة لشير علي فبعث إنكلترا إليه بالذخائر الحربية ولما طلب إليها أن تعترف لأبنه عبد الله بولاية العهد أبت عليه ذلك فنادى به خليفته من بعده على الرغم منها واذرأت إنكلترا جفاء منه احتلت كويتا سنة 1876 فلم يسعه إلا أن يلجأ إلى روسيا وبقي معاهدها ومشاكساً لإنكلترا.
فسيرت عليه هذه حملة ثانية احتلت قندهار وهرب شير علي وقضى نحبه عقيب ذلك وتولى بعده يعقوب خان الإمارة أربعة أشهر فحدثت الحرب الأفغانية الثالثة سنة 1879.(11/35)
وانتخب أمراء القبائل الأمير عبد الرحمن سنة 1880 حاكماً لأفغان واشتغل لأول أمره بإطفاء الفتن الداخلية ثلاث سنين. ولما تفرغ لتنظيم الجيش أمدته إنكلترا بستين ألف جنيه لتعزيز الحدود من جهة روسيا وبعشرين ألف بندقية من الطراز الحديث وبكثير من المدافع والذخائر فتعهد لها بأن يكون أبداً وقفاً على كل خدمة تطلبها إليه.
ثم أخذ ينظم الجيش على الطريقة الجديدة فزادت إنكلترا أتاوته إلى نحو مائة ألف جنيه فأنشأ المعامل ودور الصناعة وأخذ يصنع العدد ويحشد العدد وكان ينوي أن يجيش حين الحاجة مليون جندي. والتفت إلى الإدارة فنظمها ومع أنه وضع القوانين الإدارية وعمل بها لم يدخل تعديلاً في قانون الجنايات ولم يبطل الفظائع التي يعامل بها الجناة وغيرهم من مثل وضع الجاني في فوهة المدفع وإطلاقه عليه ووضع اللصوص أو غيرهم في مكان عال منعزل عن الناس حتى يموتوا صبراً كما فعل الأمير عبد الرحمن بأحد الموظفين لما قال أن روسيا ستزحف على أفغانستان فأنفذه الأمير إلى جبل شاهق قائلاً ستمكث هناك ريثما يزحف الروس.
وكاد يخشى من تكدير صفو العلائق بين الأمير عبد الرحمن وحكومة إنكلترا لو لم يعالجه الموت فخلفه ابنه حبيب الله وكان تمرن في زمن والده على تولي الشؤون وحافظ على تقاليد أبيه ومنازعه السياسية مع الهند والاحتفاظ باستقلاله فارتأت أن تدفع إليه حكومة الهند المتأخر من الإتاوة وهي أربعمائة ألف جنيه وأن تهيئ له السبل لاستجلاب السلاح من الخارج ولإنكلترا مطالب تريد الآن نيلها من الأمير مثل إنشاء خطوط حديدية وأسلاك برقية تربط عاصمة الإمارة الأفغانية ببلاد الهند. أما الأمير الحالي فلا يماثل والده في الذكاء ونفوذ البصيرة ومن أخلاقه أنه رأى ذات يوم عقرباً في حذائه فأمر حافظ ثيابه أن يلبسه لأنه ضيق ليتسع فلبسه فلدغته العقرب فعاقبه بذلك على إهماله.
ومن الإصلاحات التي أتاها الأمير الحالي إلغاء بعض الضرائب وتحسين طريقة الجباية وقد أذن للتجار أن يقترضوا من الحكومة مالاً ينتفعون به في متاجرهم بدلاً من أن يقترضوا من المرابين بربا فاحش. وأذن لجميع رؤساء القبائل وكانوا نزحوا من البلاد خوفاً من أبيه أن يرجعوا إلى بلادهم وألف مجلساً من أعاظم الموظفين وجمعية تبحث في القوانين الملكية أعضاؤها ينتخبون من قواد الأسرة المالكة ومن الخانات نواب الأمة ومن(11/36)
الموالي أي العلماء وينظر الأمير في أمور الإدارة والقضاء جميع أيام الأسبوع ويقضي الجمعة في العبادة والراحة والأحد في التفتيش. والسلطة في يد العلماء وأكثر سكان البلاد من أهل السنة.(11/37)
صحف منسية
رأي الجاحظ في التعريب
قال بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له أن الترجمان لا يؤدي أبداً ما قال الحكيم على خصائص معانيه وحقائق مذاهبه ودقائق اختصاراته وخفيات حدوده ولا يقدر أن يوفيها حقوقها ويؤدي الأمانة فيها ويقوم بما يلزم الوكيل ويجب على المجرى وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها والإخبار عنها على حقها وصدقها إلا أن يكون في العلم بمعانيها واستعمال تصاريف ألفاظها وتأويلات مخارجها مثل مؤلف الكتاب وواضعه. فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق وابن ناعمة وأبو قرة وابن فهر وابن وهيلي وابن المقفع مثل ارسطا طاليس ومتى كان خالد مثل أفلاطون ولابد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها حتى يكون فيها سواء وغاية. ومتى وجدناه أيضاً قد تكلم بلسانين علمنا أنه قد أدخل الضيم عليها لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه كتمكنه إذا انفرد بالواحدة وإنما له قوة واحدة فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليها وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق والعلماء به أقل كان أشد على المترجم وأجدر أن يخطئ فيه ولن تجد مترجماً يفي بواحد من هؤلاء العلماء هذا قولنا في كتب الهندسة والتنجيم والحساب واللحون فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله عز وجل.
نصيحة الجاحظ للمؤلف
ينبغي لمن كتب كتاباً أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء وكلهم عالم بالأمور وكلهم متفرغ له ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتبه غفلاً ولا يرضى بالرأي الفطير فإن لابتداء الكتاب فتنة وعجباً فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة وتراجعت الأخلاط وعادت النفس وافرة أعاد النظر فيه فتوقف عد فصوله توقف من يكون وزن طبعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب ويتفهم معنى قول الشاعر
إن الحديث تغر القوم خلوته ... حتى يلج بهم عيٌ وإكثار(11/38)
ويقف عند قولهم في المثل كل مجر في الخلاء يسر فيخاف أن يعتريه ما اعترى من أجرى فرسه وحده أو خلا بعمله عند فقد خصومه وأهل المنزلة من أهل صناعته ليعلم أن صاحب القلم يعتريه ما يعتري المؤدب عند ضربه وعقابه فما أكثر من يعزم على خمسة أسواط فيضرب مائة لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع فأراه السكون أن الصواب في الإقلال فلما ضرب تحرك دمه فأشاع فيه الحرارة فزاد في غضبه فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار. وكذلك صاحب القلم فما أكثر من يبتدي الكتاب وهو يريد مقدار سطرين ويكتب عشرة والحفظ مع الإقلال أمكن وهو مع الإكثار أبعد.
واعلم أن العاقل إن لم يكن بالمتتبع فكثيراً ما يعتريه من ولده أن يحسن في عينه منه المقبح في عين غيره فليعلم أن لفظه أقرب نسباً منه من ابنه وحركته أمس به رحماً من ولده لأن حركته شيءٌ أحدثه من نفسه وبداءته من عين جوهره فصلت ومن نفسه كانت وإنما الولد كالمخطة يتمخطها والنخامة يقذفها. ولا سواء إحراجك من جزئك شيئاً لم يكن منك وإظهارك حركة لم تكن حتى كانت منك. ولذلك تجد فتنة الرجل بشعره وفتنة بكلامه وكتبه فوق فتنته بجميع نعمته. وليس الكتاب إلى شيء أحوج منه إلى إفهام معانيه حتى لا يحتاج السامع لما فيه من الروية ويحتاج من اللفظ إلى مقدار يرتفع به ن ألفاظ السفلة والحشوة ويحطه من غريب الأعراب ووحشي الكلام وليس له أن يهذبه جداً وينقحه ويصفيه ويروقه حتى لا ينطق إلا بلب اللب وباللفظ الذي قد حذف فصوله وتعرفه وأسقط زوائده حتى عاد خالصاً لا شوب فيه فإنه إن فعل ذلك لم يفهم عنه إلا بأن يجدد لهم إفهاماً مراراً وتكراراً لأن الناس كلهم قد تعودوا المبسوط من الكلام وصارت أفهامهم لا تزيد عن عاداتهم إلا بأن يعكس عليها ويؤخذ بها ألا ترى أن كتاب المنطق الذي قد وسم بهذا الاسم لو قرأته على جميع خطباء الأمصار وبلغاء الأعراب لما فهموا أكثره وفي كتاب اقليدس كلام يدور وهو عربي وقد صفي ولو سمعه بعض الخطباء لما فهمه ولا يمكن أن يفهمه من يريد تعليمه لأنه يحتاج إلى أن يكون قد عرف جهة الأمر وتعود للفظ المنطقي الذي استخرج من جميع الكلام.(11/39)
التربية والتعليم
انتظام الأوقات
من مقالة للدكتور تولوز نشرت في الجورنال
من بورك له بساعات عمره لا يقضيها إلا في النافع ولا يبارك له فيها إلا إذا عرف فيمتها ولم يؤخر عمل اليوم للغد. فإن التسويف والإرجاء من الآفات التي تضيع فيها الأعمار سدى. وكم ارجأ ناس عملاً اقتضى عليهم أن يقوموا بأعبائه لساعته فضاعت الشهور بل السنون ولم يتمكنوا من معاودته. ومن الفتيان الأغمار من يذهبون إلى أن تمام الحرية الخلاص من كل قيد وسلطة ونزع كل ربقة من الرقبة يعدون ذلك غاية الغايات في السعادة وما أضمن الطرق لسعادة المرء ونجاحه إلا أن يلزم نفسه قاعدة لا يتعداها في عمله مهما جاءت قاسية عليه بادئ الرأي.
والتوقيت في المدارس وساعات الصفوف والدروس هو من أحسن القواعد التي تنشئ التلميذ على حب النظام وإلا لرغب عما لا يحبه من الدروس إلى ما يحبه وفي ذلك يضيع عليه فوائد من اعلم. كما تقدم الطالب في سني الدراسة قلت عنايته بتحديد معلوماته فيقل حفظه ويكثر فكره وبهذا ترى الطالب لا يستقر في ذهنه إلا ما استظهره في سنيه الأولى من الكتاب أو المدرسة الابتدائية. وسببه ما كان يقضى عليه مراعاته من التوقيت والتحديد ودوران اليد العليا فوق رأسه. ولكل صناعة قواعد خاصة بها. وهيهات أن تستقيم أعمال إدارة إلا إذا روعيت فيها هذه القواعد كل المراعاة. فإن أحب الناس المخازن الكبرى فذلك لأن كل من فيها من المستخدمين يدققون في تعاطي وظائفهم. ولقد أجمع العالم على الاعتراف بأن مشروعاً تجارياً هو أرقى في شؤونه من إدارة عامة إذ يحاول القائمون بأعباء ذاك المشروع أن يرضوا زبنهم ما أمكن ففي البيوت التجارية يجيبون على الرسائل يوم وصولها والبريد هو المهيمن على الرؤساء والموظفين. أما في الإدارات فإن الرسائل تطرح جانباً وتظل أياماً طويلة في قماطر الكتاب دون أن يجاب عليها ولا يسأل أحدهم عنها مسؤولية فعلية.
ولا يكفي اعتراف النفس بالواجب ليحسن المرء القيام به بل أن التصديق على عمل العامل ضروري في كل فرع من فروع الأعمال وإذا ترك العامل في أي شركة أو إدارة كانت ولم(11/40)
تراقب أعماله بعمل في عشر سنين ما كانت الشركة تعمله في سنة. ومن اللازم اللازب تمشية القواعد على الكبار قبل الصغار وإلا ساءت الحال. وبحق ما يذهب إليه العقلاء من أنه يعد من سيئات النظام الاجتماعي أن يعفى الكبراء من كل قيد ويرهق الصغار بأثقال القيود والقواعد فلقد حدث عن ذلك كثير من الأدواء الحاضرة.
ومما يصاب به ضعاف القلوب والإرادة أن يكونوا أحراراً في أعمالهم. ولقد عرفت موظفاً كان مثال الغيرة والمواظبة على العمل أيام كان في وظائف صغيرة فلما تدرج في المناسب وعد في مصاف الرؤساء أصيب بالانحلال في كل أعماله وصار يمشي مع هواه غير مراقب لأمس واليوم حساباً. ولعل بعضهم يعترض على كلامي هذا ويقول أن هذا الموظف كان منحطاً في أخلاقه أما أنا فلا أجيب من يلومونه إلا بأنهم كانوا يسيرون كما سار لو صاروا إلى مثل ما صار إليه. وإني لأرثي لحال من يقول أن منصبي حسن وعملي سهل وأنا حر لا يراقبني مراقب فلا يد فوق يدي ولا إرادة تحول دون إرادتي إذ القائل ذلك هو حقاً عبد نفسه وأهوائه ورذائله. ومما طوح بإمبراطرة الرومان فأفرطوا في الشهوات واسترسلوا في الموبقات أنهم كانوا يتمتعون بسلطة كبرى ولو حرم نيرون الظالم ما كان حصل له من السلطة لعاش ولا جرم عيش الأشراف بلا دبدبة بعيداً عن المفاسد والشرور.
وإني لموقن بأن القواعد التي تصد من يعمل بها عن الوفاء هي التي تسهل أمامه عقبات الأشغال وتجعلها في عينه هينة لينة. ومتى يا هذا حتمت على نفسك أن تنام كل ليلة الساعة العاشرة تشعر من نفسك بعد اعتيادك ذلك بغاية الانبساط الحقيقي.
لا يتأتى بلا قاعدة لأسرع الناس على العمل أن يقوم بأسباب حياته على ما ينبغي فيتعب أبداً في تنكبه العمل الذي لا يروقه إلى ما يروقه. من أجل هذا رأينا العاملين من الناس يبطئون في الجواب على الرسائل الواردة إليهم ونرى بعضهم لا يتسع لهم الوقت للمطالعة اللازمة وآخرين لا يعبئون بالأمور الخارجية. وكل ذلك فيه ما فيه من الأسباب المضرة في المجتمع. فالقاعدة النافعة هي التي تنادي العامل بها: ها قد آن وقت المراسلات. ها قد آن لك أن تكتسب معارف جديدة. ها قد حق عليك أن تزور أصحابك وتغشى خاصتك. وأرى أن السير على مقياس الزمن (كرونومتر) يصعب على المتفننين وعلى كل من يستهويهم الشعور ويسيرون بحسب الإحساس ولكني على يقين من أنه لا شيء أجدى نفعاً(11/41)
في العلم والسياسة من التوقيت والانتظام.
هذه القاعدة واجبة حتماً على كل امرئ في العالم ولكنها أشد جواباً على ضعاف الإرادة والمترددين في نياتهم وأعمالهم ممن يقتضي أن يكون لهم أبداً وصي أو مسيطر ينفخ فيهم الروح التي بها يعملون. ولقد عالجت أحدهم بلغ به الضيق أن انقطع عن كل عمل فصرت أصف له كل يوم كيف يسير وكيف يقطع النهر ويصعد الشارع المؤدي إلى ساحة المريخ ويدخل المخزن الفلاني ويبتاع ربطة لرقبته ويذهب إلى محل التمثيل يشهد رواية ويبقى في مكانه إلى انتهاء المشهد فنجح علاجي وانتهى ضعفه وصار بعد يؤقت لنفسه ولا يجري على هوى إرادته.(11/42)
مطبوعات ومخطوطات
كتاب الحيوان
تقدم لنا في صدر هذا الجزء أن للجاحظ كتاباً كثيرة في معظم العلوم. وكتابه الحيوان هو أم كتبه ومن أحسن ما خط بنانه بدليل أن كثيراً من العلماء فيما مضى خدموه وعنوا به فالأديب منهم اقتصر على ما ورد فيه من الفوائد الأدبية واللغوية والعالم جرده من الأدبيات واقتصر فيه على العمليات وممن اختصره عبد اللطيف البغدادي العالم الحكيم المشهور والقاضي السعيد بن سناء الملك الشاعر المصري المشهور وسمى المختصر روح الحيوان وقد قال فيه صاحب وفيات الأعيان: ومن أحسن تصانيفه وأمتعها كتاب الحيوان فلقد جمع فيه كل غريب وكذلك كتاب البيان والتبيين ضبع البيان والتبيين منذ بضع سنين إلا أن نفوس العالمين والمتأدبين ما برحت مشتاقة للانتفاع أيضاً من كتاب الحيوان الذي ورد ذكره على كل لسان واشتهر أمره على كر الدهور والأزمان.
وقد أحياه بالطبع هذه الآونة الفاضل محمد أفندي السامي المغربي فطبع منه إلى الآن أربعة أجزاء وبقي منه ثلاثة وذلك على نسخة مخطوطة في دار الكتب الخديوية مقابلاً على نسخة في مكتبة الأزهر وذلك بحرف واضح وشكل بديع وورق جيد مثل جميع ما طبع حتى الآن.
وأنا لا تحضرنا عبارة في بيان فضل هذا الكتاب فإن ما صدر منه لم نتمكن من مطالعته كله ولو طالعناه مرة ما اكتفينا به لأن كلام الجاحظ كلما كرر حلا وحسن به النفع. الكتاب تتمثل في كل صفحة من صفحاته عقل الجاحظ وفضل علمه وسعة مداركه واطلاعه في فنون الأدب والشعر ولو اعتمدته المدارس في دهرنا لتدريس فن الأدب لجاء من قارئيه ومتدارسيه كتاب يعيدون العربية إلى سابق حياتها والأدب إلى نضرته المعروف بها في عصور الحضارة الإسلامية الأولى. وكنا نود لابتهاجنا بإحياء كتب الجاحظ اليوم أن نخص هذا الجزء برمته بالكلام على الجاحظ ومصنفاته بالتفصيل لولا أن رأينا أننا لو وقفنا على ذلك مجلد سنة ما وفيناه ووفيناها ما يجب من الإفاضة ولذلك فإنا نتقدم إلى كل أديب ومحب للمطالعة أن لا يخلي خزانة كتبه من كتاب للجاحظ وإن كتبه إذا جمعت كلها لتغني عن عشرات من المجلدات في الأدب والتاريخ والشعر والعلم.(11/43)
ويا حبذا لو وفق الطابع الموما إليه إلى تصحيح الأصل على عدة نسخ فإن منه نسخاً مخطوطة في بعض مكاتب الأستانة. ولو صرفت العناية إلى ضبط بعض حركاته وشرح العويص من معانيه ومفرداته لزاد النفع بالكتاب. وكيفما كانت الحال فإنه يحمد قصد الطابع مادام يبذل المجهود وسيجيء يوم يعيد طبعه على هذا الوضع والطبع ولكن ببعض الشكل والتدقيق في التصحيح.
كتاب البخلاء
أهدانا الطابع المنوه به هذا الكتاب النفيس من مؤلفات الجاحظ أيضاً وهو السفر الذي جمع فيه من قصص البخلاء ونوادرهم واستقصى في ذلك بحيث لم يترك لهم شاردة إلا ألم بها وإن تردادها ليمكن الفصاحة من النفس ويسري عنها همومها فقد نقرأ بعض نوادرهم وتستغرب في الضحك أي استغراب ولا تكاد تأتي على آخر الكتاب حتى يقنعك الجاحظ ببلاغته بأن البخل من أحسن الأخلاق فلله ما يفعل البيان. وهو في مائتي صفحة منصفة الحجم.
مجموع رسائل الجاحظ
هي أيضاً من مطبوعات حضرة السامي أفندي الموما إليه الأولى في الحاسد والمحسود والثانية في مناقب الترك وعامة جند الخلافة والثالثة في فخر السودان على البيضان والرابعة في التربيع والتدوير والخامسة في تفضيل النطق على الصمت والسادسة في مدح التجار وذم عمل السلطان والسابعة في العشق والنساء والثامنة في الوكلاء والتاسعة في استنجاز الوعد والعاشرة في بيان مذاهب الشيعة والحادية عشرة طبقات المغنين. وقد وقعت كلها في 190 صفحة منصفة القطع جيدة الطبع وتطلب من طابعها بمصر.
المحاسن والأضداد
طبع الأديب محمد أمين أفندي الخانجي وشركاؤه هذا الكتاب النافع للجاحظ أيضاً على أجمل شكل وأحسن طبع. وقد عني بتصحيحه وقراءته على الأستاذ اللغوي الشيخ أحمد ابن الأمين الشنقيطي وحرر جميع الأبيات الواردة في الكتاب بالشكل الكامل وهو في 256 صفحة. وموضوع الكتاب يعرف من اسمه فإن الجاحظ يصف لك محاسن الدهاء والحيل حتى تكاد تذعن ثم يأتيك بضد ذلك ويصف لك محاسن وفاء النساء وضده ومحاسن مكرهن(11/44)
ومساوئ مكرهن وهكذا كلما قرأت الشيء يخيل لك أن الأمر تم ولم يبق كلام لقائل فيجئك الجاحظ بأسلوبه المدهش ومادته الغزيرة بضد الفصل الذي سبق لك ويتلاعب بالألفاظ والمعاني. والكتاب يطلب من طابعه بمصر.
ترجمة المستظرف
أهدانا حضرة المسيو را من علماء المشرقيات من الفرنسيين نسخة من ترجمته الفرنسية لكتاب المستظرف في كل فن مستطرف لمؤلفه شهاب الدين أحمد الابشيهي من أهل القرن التاسع للهجرة وكان من المعلمين في مصر. والمستظرف من الكتب المعتمدة كثيراً عند أهل العلم من المشارفة ولذلك فلما تجد لمؤلفه ترجمة تدل على فضله ولكن المترجم المشار إليه نقله إلى لغته حباً بإحياء فوائده بين أهلها فجاء في مجلدين وقعا في زهاء ألف وستمائة صفحة كبيرة يكاد لا يخرج عن الأصل في ترجمتها ولو أدى به ذلك إلى بعض تحريف لا يذكر في جنب الحسنات التي أتاها في ترجمته وهو يطلب من مؤلفه الفاضل في طولون. وقد بعث إلينا العالم المنوه به كراسة في نقد الترجمات الفرنسية والطبعات التي ظهرت بالعربية من كتاب ألف ليلة وليلة يقول فيها أنه شرع في نقلها إلى الفرنسية طبق الأصل الصحيح فنثني على غيرته وثباته وفضله بما هو أهله.
مجلة العالم الإسلامي
28
انتهى إلينا العدد الأول من هذه المجلة الحديثة التي تصدرها باللغة الفرنسية في باريس البعثة العلمية المراكشية وبعبارة أوضح جماعة من علماء المشرقيات من الفرنسيين. والغرض الذي ترمي إليه هذه المجلة البحث في تاريخ النظام الاجتماعي في العالم الإسلامي وحاله الحاضرة أي تنتقل أبداً من الكلام على ماضي الإسلام إلى حاضره وتلم بحركة الحوادث والأفكار وتبين الوجهة للمستقبل. وهي لا تدخل في غمار السياسة فلا تخدم سياسة خاصة بل تجعل وكدها في خدمة ذاك التمدن الإسلامي الذي هب من رقدته وأخذ ينادي من عليكرة إلى فازان ومن زنجبار إلى خربين بالدعوة إلى العلم والمعارف(11/45)
والتهذيب والتعليم والتربية والمدارس. قالت أن تأسيس جامع في خربين لا يحتقر أمره كما لا يحتقر إنشاء مدرسة إسلامية للبنات في جوهانسبورغ. وقالت أنه يسهل ائتلاف الأمم بعضها مع بعض متى زالت الأوهام من بينهم فإنها سبب سوء التفاهم وإنه يسهل التئام الشرق مع الغرب أو الإفرنج مع المسلمين إذا تعارفوا حق المعرفة. وقد تلونا فيها عدة أبحاث ممتعة منها تعليم المسلمين الابتدائي في الجزائر والحركة السياسية في الهند ومفكرات على الإسلام في الهند الصينية الفرنسية ومنها مقالة علي آغا خان في الهند فأخرى على العجم والدستور فثانية في اليابان والإسلام ثم أخبار متفرقة عن جميع البلاد الإسلامية وباباً خاصاً بما كتب عن الإسلام والمسلمين من الأسفار والرسائل. وإنا لنرحب بهذه المجلة النافعة ونود أن تظل على الخطة التي رسمتها لنفسها فلا يكون للسياسة إلى أبحاثها سبيل. والسياسة ما دخلت في أمر إلا وأفسدته. ونحث كل من يفهم الفرنسية في هذه الديار أن يبادر إلى الاشتراك بها فهي من أنفع ما يكتب عن أهل الإسلام في تلك الديار وقيمة اشتراكها خارج فرنسا 35 فرنكاً. فنثني على القائمين بهذا المشروع النافع أجمل الثناء ونسأل لهم التوفيق إلى ما يقصدون إليه من خير البشر والسعي في النافع العلمية العامة جزاهم الله خيراً.
نادي اللغات الشرقية البلجيكي
بعث إلينا العالم المستشرق المسيو راول بوانتو في بروكسل رئيس مجمع اللغات الشرقية في البلجيك كراسين ذكر فيهما مادار من الخطب بين أعضاء المجمع في السنتين الماضيتين الأولى لتأسيس مدرسة في البلجيك لتعليم اللغة الصينية حباً بنشر تجارتها في مملكة ابن السماء والثانية لتأسيس مدرسة لتعليم اللغة الفارسية وقد أسست أيضاً فمما قاله الرئيس المشار إليه إن ما قامت به البلجيك اليوم من تأسيس مدارس لتعليم اللغات الآسيوية ليس بالأمر الجديد فإن الدول الغربية التي كان لها صلات مع الشرق شعرت بوجوب تعلم لغاته منذ القديم ولذلك أسست لها مدارس خاصة فأقامت النمسا سنة 1753 على عهد ماري تريز مدرسة للغات الشرقية في فينا وما كانت الغاية منها تخريج القناصل والوكلاء السياسيين بل تخريج التجار العارفين فعاد ذلك عليها بمنافع عظيمة. وكذلك فعلت فرنسا(11/46)
فأسست مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس سنة 1795 افتتحت منها فوائد سياسية وتجارية وأنشأ بسمارك في برلين مدرسة لمثل هذا الغرض سنة 1887 وكذلك روسيا أنشأت مدرسة عالية لتعليم اللغات الشرقية في بطرسبرج وذلك ما عدا المجامع العلمية الشرقية في موسكو وفلاديفوستك. وحذت البلجيك هذا الحذو وهي تنشئ هذه السنة مدرسة لتعليم اللغة العربية. بارك الله بكل من يخدم العلم تحت أي ستار ولأي غرض كان.
خمس رسائل نادرة
طبع الأديب النشيط الشيخ عبد المجيد زكريا على نفقته خمس رسائل لأربعة من كبار رجال العلم الأقدمين وحملة لواء الشريعة والدين. اثنتان منها لشيخ الإسلام ابن تيمية إحداهما في شرح حديث أبي ذر والأخرى فتواه في قول النبي صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف وما المراد بهذه السبعة وهاتان الرسالتان هما كسائر ما كتبه شيخ الإسلام من الكتب والرسائل والفتاوى النافعة. والثالثة كتاب الأدب الصغير لابن المقفع منقولة عن المقتبس. والرابعة في الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم للحافظ الذهبي وهي مفيدة جداً في بابها فما قاله فيها: وقد كتبت في مصنفي الميزان عدداً كبيراً من الثقات الذين احتج البخاري أو مسلم أو غيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك ومازال يمر بي الرجل التبت وفيه مقال من لا يعبأ به ولو فتحنا هذا الباث على نفوسنا لدخل فيه عدة من الصحابة والتابعين والأئمة فبعض الصحابة كفر بعضهم بتأويل ما والله يرضى عن الكل ويغفر لهم فما هم بمعصومين. قال وهكذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى ويطرح ولا يجعل طعناً ويعامل الرجل بالعدل والقسط. فأما الصحابة فبساطهم مطويٌ وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات فما يكاد يسلم أحد من الغلط لكنه غلط نادر لا يضر أبداً إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل وبه ندين الله تعالى. وأما التابعون فيكاد يعدم فيهم من يكذب عمداً ولكن لهم غلط وأوها فمن ندر غلطه في جنب ما قد حمل احتمل ومن تعدد غلطه وكان من أوعية العلم اغتفر له أيضاً ونقلا حديثه وعمل به على تردد بين الأئمة الإثبات في الاحتجاج عمن هذا نعته. . . ومن فحش خطأه وكثر تفرده لم يحتج بحديثه ولا يكاد يقع ذلك في التابعين الأولين ويوجد ذلك(11/47)
في صغار التابعين فمن بعدهم. وأما أصحاب التابعين فعلى المراتب المذكورة ووجد في عصرهم من يتعمد الكذب أو من كثر غلطه وغلظ تخبيطه فترك حديثه. وهكذا أورد مشاهير المحدثين وذكر عن كل فرد منهم بإيجاز ما قيل فيه. وحبذا لو صرفت العناية إلى إحياء كتب الجاحظ الذهبي في هذه الديار فإنها كلها عقود منظومة نافعة ولا نذكر أنه طبع له سوى ثلاثة كتب جليلة الأول تذكرة الحفاظ طبع في حيدر آباد الدكن من الأصقاع الهندية والثاني كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرجال طبع في الهند أيضاً والثالث المشتبه في أسماء الرجال طبع في ليدن. وحبذا يوم يطبع كتابه تاريخ الإسلام.
والرسالة الخامسة رسالة في حكمة الله تبارك وتعالى في خلق العالم وخصوصاً الإنسان وتكليف الناس للعبادات وهي لحجة الحق عمر الخيام. وهذه الرسالة فيما نحسب أول ما طبع بالعربية لهذا الفيلسوف الشرقي الكبير الذي ترجم ديوانه الفارسي إلى الإنكليزية فأقامت معانيه أدباء الإفرنج وأقعدتهم وأحلوا محل الاعتبار العظيم لعلو فلسفته ما أحلوا شعر حافظ الشيرازي وأبي العلاء المعري عندما ترجم إلى لغاتهم. ولما لم يشتهر الخيام بين قراء العربية رأينا أن ننقل الترجمة الموجزة التي ذكرها له صاحب تراجم الحكماء وما لا يدرك كله لا يترك كله. قال القفطي في الخيام: أمام خراسان. وعلامة الزمان. يعلم علم يونان. ويحث على طلب الديان. بتطهير الحركات البدنية: لتنزيه النفس الإنسانية. ويأمر بالتزام السياسة المدنية. حسب القواعد اليونانية. وقد وقف متأخرو المتصوفة مع شيء من ظواهر شعره فنقلوه إلى طريقتهم. وتحاضروا بها في مجالساتهم وخلوتهم. وبواطنها حيات للشريعة لواسع (في الأصل لوامع) ومجامع للأغلال (لعله الإصلاح) جوامع. ولما قدح أهل زمانه في دينه. وأظهروا ما أسره من مكنونة. خشي على دمه. وأمسك من عنان لسانه وقلمه. وحج متأقاة لا تقية. وأبدى أسراراً من السرائر غير نقية. ولما حصل ببغداد سعى إليه أهل طريقته في العلم القديم. فسد دونهم الباب سد النادم لا سد النديم. ورجع من جده. إلى بلده يروح إلى محل العبادة ويغدو ويكتم أسراره ولابد أن تبدو. وكان عديم القرين في علم النجوم والحكمة. وبه يضرب المثل في هذه الأنواع لو رزق العصمة. وله شعر طائر تظهر خفياته على خوافيه. ويكدر عرف قصده كدر خافية فمنه:
إذا رضيت نفسي بميسور بلغة ... يحصلها بالكاد كفي وساعدي(11/48)
أمنت تصاريف الحوادث كلها ... فكن يا زماني موعدي أو مواعدي
أليس قضى الأفلاك في دورها بأن ... تعيد إلى نحس جميع المساعد
فيا نفس صبراً في مقيلك إنما ... تخر ذراه بأنقاض القواعد
والرسالة جيدة الطبع والورق وتطلب من مؤلفها في دمشق ومن المكاتب الشهيرة في القاهرة بثلاثة قروش أميرية فنحث على اقتنائها.(11/49)
سير العلم
مالية القطر المصري
نشرت الحكومة المصرية ميزانيتها الجديدة عن سنة 1907 المقبلة فكانت الإيرادات 14. 740. 000 جنيه مصري والمصروفات العادية والخصوصية 14. 240. 000 ج. م ومما جاء فيها أن القطر المصري بلاد زراعية محضة تابعة لأحوال النيل والنيل نفسه تابع للأحوال الجوية التي لا يمكن معرفتها قبل وقوعها ثم أن أسعار محصولات القطر المهمة تتوقف على الأخذ والعطاء في أسواق العالم وأن حاجة مصر ماسة أبداً إلى صرف مبالغ عظيمة على المشاريع ذات الإيراد كالري والسكك الحديد وأعمال المواني ففي كل البلاد الأخرى تقوم الحكومة بهذه المصاريف بقروض تعقدها ولكن هذه الطريقة تصادف صعوبات كبيرة إذا أريد اتباعها في القطر المصري بالنظر إلى الأحوال الخصوصية الموجودة فيها هذه البلاد. ولقد تم بناء خزان أسوان بمبلغ جسيم جداً ورغم هذه الصعوبات لم يتيسر صرف أموال أخرى على المشاريع المفيدة إلا بتكوين مال احتياطي جمع بصعوبة من سنة إلى أخرى من زيادة الإيرادات عن المصروفات ومع أن مقدار هذا المال يبلغ اسماً نحو تسعة ملايين ج. م في الوقت الحاضر إلا أن معظمه مخصص لأعمال ضرورية سيتم إجراؤها في السنين المقبلة.
وكان الوارد من البضائع سنة 1906_23. 700. 000 ج. م ومن النقود 8. 200. 000 ج. م والصادر في نفس هذه السنة 23. 800. 000 ج. م من البضائع و2. 100. 000 ج. م من النقود وكان الوارد سنة 1900_14. 112. 370 ج. م من البضائع و4. 114. 612 من النقود والصادر من البضائع 17. 12. 370 ج. م ومن النقود 2. 602. 790 ج. م ولجودة محصول القطن زادت قيمة الواردات هذه السنة بمعدل 10 في المائة تقريباً عن واردات سنة 1905 وكان لجميع فروع تجارة الوارد تقريباً نصيب من هذا التقدم الحسن ولكن التقدم الأهم كان في نوع المعادن والآلات وكان ارتفاع أسعار الأقطان مع زيادة المحصول سبباً في ربح القطر خمسة أو ستة ملايين زيادة عن السنة السالفة. وكان موسم القطن سنة 1906_67. 500. 000 قنطار على حين كان سنة 1897_6. 543. 128 على وجه التقريب.(11/50)
وقدرت مصروفات نظارة المعارف العمومية لسنة 1907_457. 351 ج. م منهم المصروفات الاعتيادية 374. 000 ج. م يقابلها 169. 300 ج. م سنة 1906 فتكون الزيادة الظاهرية 204700 ج. م منها 160. 000 ج. م ناشئة عن درج مصروفات المدارس الأهلية والكتاتيب لأول مرة في ميزانية المعارف و11200 ج. م ناشئة عن إلحاق (الورش) الصناعية بنظارة المعارف فتكون الزيادة الحقيقية 32. 500 ومنحت نظارة المعارف اعتمادات خصوصية بمبلغ 83. 350 ج. م لإتمام إنشاء بعض المدارس في العاصمة وبعض مدن الأقاليم وتقرر من سنة 1907 فصاعداً أن تضاف جميع إيرادات المعارف العمومية إلى إيرادات الحكومة العمومية وتقوم الحكومة في نظير ذلك بجميع مصروفات المدارس. والكتاتيب الموضوعة تحت مراقبتها. وبقي الخراج الذي يدفع للدولة العليا وقدره 665041 ج. م كما كان عليه وكذلك الإعانة السنوية التي تصرف للسودان وقدرها 379. 763 ج. م وقد بقي من المال الاحتياطي الذي تحت تصرف الحكومة 10. 800. 000 ج. م.
هجرة الأوربيين
ألف المسيو ريني كونار من علماء فرنسا كتاباً في الهجرة عند الأوربيين في القرن التاسع عشر بحث فيه فيما إذا كانت الهجرة دليل صحة الأمة أو سقمها ومما استنتجه أن الأقطار التي يخفق عليها العلم البريطاني لا تبقى كلها على شكل واحد إرثاً لإنكلترا أو أبنائها إن لم يكن من الوجهة السياسية فمن الوجهة الاستعمارية. ذلك لأن عدد المواليد يقل في الجنس الإنكليزي السكسوني ولأن سائر الأمم الأوربية أخذت ترغب في الهجرة كثيراً وتنازع هذا الجنس فيها. . قال إن هجرة الألمان خفت عن ذي قبل وأن التولد قل في ألمانيا أو أوشك أن يقل وأنها ستصبح بعد أن كانت بلاداً زراعية زمناً طويلاً يتناسل أبناؤها كثيراً ويكثرون من المهاجرة بلاداً كثيفة السكان ضعيفة الهجرة وإن إيطاليا وهي فقيرة بما لها غنية بكثرة مواليدها سيكون لها فضل التقدم على جميع الأمم الأوربية بكثرة النازحين منها والمتولدين فيها فتؤسس لذلك ممالك ومستعمرات وتحكمها ولكن بدون أن يخفق عليها العلم الإيطالي.
الخطوط الحديدية تحت الأرض(11/51)
رأت حكومة نيويورك أن تؤلف لجنة للبحث في تركيب الهواء في الأنفاق التي تسير فيها الخطوط الحديدية تحت الأرض وتنظر في درجة الحرارة والرطوبة والروائح المنبعثة منها والجراثيم الخاصة بها لأنه ثبت أنه ينال بعض الركاب أخطار صحية من السير تحت الأرض وقد تبين لهذه اللجنة أن الحرارة مرتفعة تحت الأرض أكثر من سطحها وربما كانت فاحشة الارتفاع وأن ما يتخلل تلك الأنفاق من الهواء بواسطة الدهاليز والأدراج لا يكفي لدفع الأخطار ويضر بصحة الركاب وأنه من اللازم إقامة منافذ للهواء تحت الأرض ليتخللها بواسطة آلات تستعمل للتروح وقد عددت مضار الأنفاق وعللتها ورأت أن تطهر الخطوط وما يحيط بها في الأنفاق وأن تزال منها كل مادة تلقى فيها ويرفع منها الغبار وأن يغمس بالملاط جزءٌ عظيم منها إن أمكن.
مقاومة البعوض
هجمت جيوش البعوض على جزيرة ستاتين ايلاد على مقربة من نيويورك فأذاقت السكان أنواع العذاب والأمراض وبعد أن نظر رجال الصحة في الأمر رأوا أنه متولد من بطائح كثيرة كانت هناك فأخذوا في تجفيفها وشرعت الحكومة تنفق عليها فخفت وطأته ثم حذت هذا الحذو كثير من ولايات أمريكا الشمالية فأسفر تجفيف البطائح وردمها عن نتائج حسنة قال الدكتور دوتي إذا توفرت جميع الولايات المتحدة على مثل هذا العمل يصبح البعوض لا أثر له في أميركا إلا إذا ورد في بعض الكتب على سبيل الحكاية والرواية.
العصر الجليدي
تخوفت بعض الصحف العلمية مما يؤكده بعضهم من أن العصر الجليدي قد آن وقته بحيث تصبح بعض البقاع الصالحة الآن لسكنى البشر غير صالحة لذلك دفعة واحدة. إذ ثبت في النصف الأول من القرن التاسع عشر أن أصقاعاً من الأرض كان ينحسر الثلج عنها مدة من السنة فأصبحت اليوم في نفس تلك المدة تعمم بالثلج من يناير إلى ديسمبر ويعلو بضعة أقدام فغدت المناطق الباردة تتقدم وتضم إليها أرضاً من المناطق الحارة فما هو إلا بضعة قرون حتى ينقص سطح الأرض الصالحة لسكنى البشر فيقضي على الولايات المتحدة أن تجد لها ملجأً في أمريكا الجنوبية كما يقضي مثل ذلك على كثير من الممالك الباردة. وقد ادعى العلماء القائلون بذلك أن دعواهم مبنية على حسابات مدققة لا مرية فيها.(11/52)
تطبيب النباتات
أسسوا في ظاهر مدينة واشنطن مستشفى لمداواة الأشجار وتخليصها مما يطرأ عليها من الأدواء والعاهات مثل الكرمة والبطاطا والدردار والصفصاف والزهور كالقرنفل ونحوه. ذلك لأن عند القوم مستشفيات للإنسان والحيوان فليس من الإنصاف أن يحرم النبات من مستشفيات أيضاً وسيعنى القائمون بأمر المستشفى الجديد بدراسة أحسن طرق الوقاية وأنفع الأدوية في هذا الباب. ورجال العلم يعلقون على ما سيجري فيه من التجارب آمالاً كبيرة.
اكتشاف مدينة
ابتاع المسيو وهيتاكر نزيل جزيرة صقلية جزيرة سان بانتاليون وهي موضع مدينة فينيقية قديمة غابت عن الأنظار منذ إعصار ولم يعد يظهر منها غير رؤوس أبراجها وقد بدءوا يحفرونها وعلماء الآثار تتلمظ شفاههم مذ الآن ويؤكدون أنهم سيعثرون فيها على عاديات نافعة لهم.
التصوير عن بعد
أثبت المسيو كورن أنه وفق إلى أخذ الصور الشمسية عن بعد وذلك عقيب أن صرف أربع سنين في البحث عن ذلك فاخترع آلات تنقل في عشرين دقيقة إلى أي مسافة كانت زجاجة الصورة الشمسية بواسطة الأسلاك البرقية والتلفونية.
الجنون والعمل
رأى أحد علماء الروس أن أحسن طريقة للتخلص من الجنون إذا وجد في أحد من الأسرة فكان في المرء استعداد له أن يعمد إلى العمل ولا ينقطع عنه بتة وبذلك يحفظ صحته ولا يأخذه قانون الوراثة فيصاب بما أصيب به أحد آبائه أو أمهاته قال أن من عادتهم البطالة لا يصابون بالجنون بل أن الجنون يعرو العقول إذا كان أربابها يألفون البطالة فينمو بذلك فيهم كسل القوى ويكون منه الجنون لا محالة.
الأسلاك البحرية
بلغ طول الأسلاك البحرية في العالم أجمع 45 ألف كيلو متر منها ستون في المائة لإنكلترا و18 في المائة للولايات المتحدة وتسعة في المائة لفرنسا وستة ونصف في المائة لألمانيا(11/53)
وما زالت تكثر هذه الأسلاك كما تكثر الخطوط البرقية.
الجامعات
تكلم أحد علماء الأمريكان على الجامعات في الأرض مثل الجامعة الأمريكية والجرمانية والجامعة السلافية والجامعة الإسلامية والجامعة البوذية والجامعة اليونانية وغيرها ونظر في كل جامعة على حدتها ودل على طريقة قيامها وانتقدها وأشار إلى ما ترمي إليه وإلى إمكان نجاحها وقال أن الجامعة بين أمة هي كالشجرة تنبت فيها على الدوام أغصان جديدة فلا يبعد بعد هذا إذا قامت جامعة لاتينية وجامعة مسيحية وجامعة أوربية.
نبات يتنبأ
مازال علم الطوارئ الجوية قاصراً عن الإحاطة بتقلباتها على كثرة ما أحدث من المراصد في أنحاء العالم. فمن المتعذر اليوم أن نقول متى تطرأ وكيف تطرأ الظواهر الفلانية على أرضنا ولا يمكن معرفتها قبل وقوعها. وقد اكتشف عرضاً أحد علماء الأحداث الجوية في النمسا المسيو نوفاك اكتشافاً مهماً ينحل به هذا الإشكال بعض الحل. ذلك أنه بينا كان منذ عشرين سنة يسيح في الهند الغربية وقع نظره على الشجرة المعروفة عند علماء النبات باسم التي تنبت في مصر وغابون من إفريقيا وغيرها من البلاد الحارة وهي شجرة دقيقة الساق صغيرة الأوراق الوردية أو البيضاء. فشاهد أوراق هذا النبات تذبل في بعض الساعات ثم تعود إلى حالتها السابقة. والغريب أن هذه الظاهرة لم تنشأ من تبدل النور ولا من رطوبة الهواء بل أنها دلت على وقوع عاصفة شديدة وقعت بعد ثلاثة أيام. فأخذ العالم المشار إليه منذ ذاك يجرب هذا النبات في عدة حائق وأصقاع ولاسيما في كيف فرأى أن وريقاتها تنخفض إذا ارتفع ميزان الحرارة وتعود فتنتصب متى نزل وإن حركات هذا النبات إذا نظر إليها نظراً بليغاً تدل على قوة الأحداث الجوية وطبيعتها ودقتها واتجاهها قبل حدوث شيءٍ من ذلك بيومين أو ثلاثة في محيط يختلف من 75 إلى 100 كيلو متر وربما تنبأت بالمطر عن بعد ثلاثة آلاف كيلو متر. ويعرف من حركات أضلاع وريقاتها وتغير شكلها فيما إذا كان سيحدث زلزال أرضي أو انفجار بركاني أو انفجار مواد مدمرة في المناجم قبل وقوعها بأربع وعشرين ساعة إلى بعد سبعة آلاف كيلو متر فإذا اتخذت برلين مثلاً مقراً لرصد الأحداث الجوية والطوارئ الأرضية يتيسر لك أن تقف على ما(11/54)
يجري من ذلك في أوربا كلها وربما بلغت إفريقية. هذا ما نعربه بالحرف عن بعض المجلات العلمية فإذا صح فيكون هذا النبات من أغرب ما تم من الاكتشافات في المواليد الثلاثة حتى الآن.
آلة تنفس جديدة
اخترع عالمان من سان فرنسيسكو آلة للتنفس تفوق ما اخترع من نوعها حتى الآن إذ تمكن بواسطتها كل إنسان أن يدخل آمناً إلى وسط الدخان مهما كان كثيفاً والغاز مهما بلغ من خطره وقد جرب اختراعهما أمام لجنة خاصة في لندن فأسفر عن نتائج حسنة. وإذا حمل الإنسان هذه الآلة وهي عبارة عن ثلاثة اسطوانات يستطيع أن يمكث ساعة في محل فسد هواؤه بالدخان أو الغاز أو غيره.
حائق العملة
كتب أحدهم في إحدى المجلات الفرنسية فصلاً في الحدائق التي أنشئت لفائدة العملة وإعانتهم فقال أنها لم تكن معروفة قبل سنة 1897 وإن يكن أول ما أسس من نوعها كان في القرن السادس عشر أيام أنشئت 23 حديقة في كرافلين في فرنسا وأنه بلغ عدد تلك الحدائق اليوم في فرنسا وحدها 11. 543 حديقة مساحتها السطحية 350 هكتاراً يربح منها نحو 72 ألف نسمة.
مدرسة الأيامى
وصف أحدهم مدرسة الأيامى التي أنشأتها في الهند امرأة اسمها رامباي من دعاة الإصلاح في بلادها فعلمت بعض الأيامى من النساء التعليم اللازم وأشربتهن كره الزواج على صغر فبذلك تمكنت من تزويج مئات من بنات جنسها وجعلهن بحيث يحصلن ما يقوم بنفقاتهن.
الراحة والفكر
ذكر بعض الباحثين أن الحياة مقدسة وأن ما يهم منها خصوصاً حفظ العقل ولا يحفظ العقل إلا بالراحة فعلى كل امرئٍ أن ينام متى أراد ويطيل نومه ما شاء لأن الرقاد يعد في الحقيقة اقتصاداً لا تضييعاً وأحسن المحسنين لبني جنسه من يتمكن من إيجاد السبل لإنامة المرضى والموجوعين.(11/55)
موت الأطفال
رأى الدكتور هرمان لكران أن معدل من يموت من الأطفال في القاهرة من ابن يوم إلى ابن خمس سنين 145 في الألف وفي الإسكندرية 130 في الألف ومن ابن خمس سنين إلى عشر ينزل هذا العدد إلى عشرة في الألف.
مادة للتطهير
اخترع أحدهم مادة جديدة لاتقاء خطر الغبار في الشوارع والحارث وقد كتم مخترعه سر اختراعه إلا أنه فهم أنه عبارة عن رواسب زيت معدني وقطران ومطهرات من الفساد. ويستعمل في تطهير الطرق غير المبلطة ويكلف تطهير كيلو مترين من الأرض سبعة جنيهات وجنيهاً واحداً أجرة عجلة يمكن اقتصادها من نفقات الرش وقد سماه الباهنيت.
المطالعة في أميركا
بحث بعضهم في الولايات المتحدة منذ ثلاث سنين ليقف على أكثر أصقاعها ولوعاً بالمطالعة فرأى لبلوغ هذه الغاية أن يقسم في كل ولاية عدد الكتب المستعملة في المكاتب والمدارس والجمعيات العمومية على مجموع عدد السكان واستثنى من ذلك الكتب الموقوفة على المراجعة في الخزائن العامة. فأسفر بحثه عن نتائج غريبة ورأى أن القطرين اللذين تكثر فيهما المطالعة هما الواقعان على شاطئي الأتلانتيك والباسيفيك من الولايات المتحدة. ففي ولاية نيوانكلاند يستعمل كل مائة نسمة 243 كتاباً وفي كليفرنيا 207 وفي ولاية نيويورك 155.
العمل والحياة
أفاض أحد كتاب الإنكليز في العلاقة الكائنة بين العمل والحياة فقال أنه تنبغي العناية بالبالغين من الأولاد وأن يحسن تلقينهم من أساليب العلم والعمل ما يستطيعون معه أن يتعلموا بعد لأنفسهم بأنفسهم فينجزون ما تعلموه بالقراءة والتأمل. فإن العلوم الابتدائية في إنكلترا ناقصة والبلاد تدفع من النفقات على التعليم ما لا تأخذ ثمرة تقابله فلا يعلم الأطفال الإنكليز ما يجب عليهم أن يمارسوه في الحياة من الشرف والعدل والعمل النافع للمرء بذاته وللمجتمع بأسره ولا يعرفون قيمة الثروة العامة ومعناها الحقيقي.(11/56)
إغاثة المرضى
بحث أحد علماء الألمان في المعاهد التي تساعد المرضى في فرنسا وألمانيا فقال أن بافيرا تنفق في السنة 9. 892. 444 ماركاً في هذا السبيل وسكانها ستة ملايين وأن لبرلين 1200 معهد وجمعية وشركة لإغاثة المرضى وأن في باريس 16000 مكتب للإحسان تغيث مليوناً وأربعمائة ألف مريض فقير وأن ثروة هذه الإدارات تبلغ 446 مليون فرتك.
هجرة الأوربيين إلى أميركا
في مقالة في إحدى المجلات الألمانية إن هجرة الأوربيين إلى أميركا ما بحرت على حالها وقد هاجر منذ سنة 1800_22 مليوناً من الأوربيين على الأقل نزلوا في الولايات المتحدة. ومن سنة 1900 إلى 1903 هاجر من أوربا 5. 300. 000 ألف نسمة منها 30. 000 من الألمان و31700 من الأيرلنديين و14000 من الإنكليز و181700 من الطليان و109600 روس وبولونيين و163700 نمساويين ومجريين.
الأولاد العاملون
يؤخذ من إحصاء جرى في ألمانيا سنة 1898 أن فيها 532283 طفلاً مستخدماً في التجارة والصناعة وأن للنمسا من كل 80. 589 طفلاً 23016 طفلاً أي زهاء 28 في المائة من مجموعهم يعملون بأيديهم وأن في سويسرا 53 في المائة من الأطفال يعملون بأيديهم لاكتساب قوتهم ومنهم 42 بالزراعة.
الكتب في إنكلترا
قسم أحد مشاهير الكتبية في لندن القراء ومن يبتاعون الكتب إلى ثلاث طبقات الأولى طبقة رجال العلم ممن يؤلفون ويضطرون إلى الوقوف على ما ينشر من الكتب في العلوم التي تمحضوا لها وهذه الطبقة قليلة العدد. وطبقة المتعلمين وهي تقدر الكتب الجديدة قدرها. وطبقة الشعب عامة ممن لا يتناولون إلا ما يهمهم ويروقهم ويسليهم من الأسفار المتوسطة الاعتبار. قال ويندر أن يطبع من رواية مهما بلغ من الإقبال عليها عشرة آلاف نسخة ومتوسط ما يطبع من رواية ألف أو ألفا نسخة ونفقات الطبع غالية فألف نسخة من مجلد تكلف 2125 فرنكاً أجرة صف حروفها وطبعها وثمن ورقها وتجليدها وتغليفها يضاف إليها(11/57)
1250 فرنكاً أجرة إعلانات فيأخذ المؤلف عشرة في المائة من المبيع وهي أجرة زهيدة لا تقابل تعبه ولا يتأتى الربح إلا إذا جاوز المبيع ألفي نسخة وكثيراً ما ينتهي الأمر بخسارة فيضطر الكتبي أن يبيع الكاسد من الرواية في المزاد. وبالجملة فإن صناعة الكتبية في إنكلترا كما هي في فرنسا معرضة للأخطار لأنه لا يتيسر أن يعرف ما يناله الكتاب من القبول عند صدوره.
فنادق شاهقة
روى اللواء الأغر أن الحكومة المصرية أذنت ببناء بعض الفنادق حوالي الأهرام وأبي الهول على الطريقة الأميركية. والبناء الذي يشاد على تلك الطريقة يبلغ ثلاثين أو أربعين طبقة وكلها من الفولاذ الصلب الذي لا تحرقه النار ولا تهزه الزلازل ويسمي الإنكليز تلك المباني ماسة السماء لعلوها وارتفاعها. ولا يخفى أن الواقف بأعلاها يستطيع أن يشاهد وادي النيل ممتداً تحت أقدامه كما يراه الناظر في خريطة ولعل الأميركان أرادوا أن يسلموا بتلك المباني الفاخرة ما بناه خوفو وخفرع ومنقرع في القرون الغابرة.
أثر عربي
ازدانت هذه المرة خزانة كلية هيدلبرغ الألمانية بزهاء 200 أثر تاريخي بينها لوحة من الخشب كتب عليها جزءٌ من سورة الأعراف وكتاب كتب على عظم غنم يرد عهده إلى 239 للهجرة وهو من أقدم الكتابات العربية القديمة المعروفة ودرج ذكرت فيه صحيفة من ابن لحية وعدد كبير من أوراق تتعلق بجباية الأموال كتبت بأجمل خط بقلم قرة بن شريك عامل مصر في النصف الثاني للقرن الأول للهجرة وقد نشر العالم الدكتور بكير صورها واستخرج بعض نموذجات منها طبق الأصل وقدم لها مقدمة مع تفسير الكلمات العربية فمتى نرى في الشرق بعض رجالنا ينقطعون للبحث في آثارنا العربية فإننا أحق بمعرفة بيوتنا من غيرنا. \(11/58)
وفاة رياضي
فقدت المدرسة الكلية الأميركية في بيروت هذا الشهر أستاذاً من أكبر أساتذتها وعالماً من جهابذة العلماء القيمين عليها نفع البلاد بفضل علمه وفنه ونعني به الأستاذ روبرت وست الأمريكي فعز نعيه على تلاميذه وأحبابه وقد ترجمته النشرة الأسبوعية بما يأتي ملخصاً.
ولد في ولاية بنسلفانيا سنة 1862 وهو ابن قسيس فاضل أحكم العلوم والفنون في كلية برنستن أم كثيرين من أساتذة المدرسة الكلية السورية وهي من أشهر كليات أميركا. ونال شهادتها سنة 1882 ثم شغل بدرس دروس خاصة في علم الفلك والرياضيات العالية حتى اشتهر بعد قليل بأنه من كبراء الرياضيين. وأتى إلى بيروت سنة 1883 فكان من معلمي مدرستها وكان أولاً من أساتذة اللغة الإنكليزية فيها ثم صار أستاذ الرياضيات والفلك.
ومما قاله الدكتور بورتر في وصفه كان الأستاذ وست عالماً محققاً كثير التدقيق في العلوم يبذل الجهد في إدراك كنه الحقائق وكان يعلم بإحكام وإيضاح فيبلغ المسائل العويصة بعبارات بسيطة حتى يبلغ ذهن الطلبة اليقين ولهذا كانوا يثقون بعلمه كل الثقة.
وقال الأستاذ بولس الخولي أن الفقيد كان أستاذاً مقتدراً ومن أدلق اقتداره ثلاثة (1) أنه كان يعلم ما يعلمه حق العلم و (2) أن تعليمه كان على أحسن أسلوب فكان يرغب تلاميذه في البحث عن الحقائق لأنفسهم وكان في مقدمتهم في الدرس والاجتهاد والصبر و (3) أن سجاياه كانت تؤثر في أفئدة الطلبة فإنه عرف شؤونهم وأحبهم واهتم بهم فلا بدع إذا كان الأسف عليه عظيماً.(11/59)
العدد 12 - بتاريخ: 15 - 1 - 1907(/)
صدور المشارقة والمغاربة
شيلر
1759_1805
المؤثرات في أخلاق الرجال كثيرة وأهمها التربية والمحيط فكلما حسن هذان العاملان جاءت منهما نفوس مجردة عن الشرور نازعة إلى خير الأمور وأكثر العلماء على أن من الأخلاق ما هو طبيعي ومنها ما هو كسبي يستفاد بالعادة والتدرب وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر عليه أولاً فأولاً حتى يصير ملكة وخلقاً. قال بعضهم ليس شيءٌ من الأخلاق طبيعياً للإنسان ولا نقول أنه غير طبيعي وذلك أنا مطبوعون على قبول الخلق بل ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعاً أو بطيئاً. وهذا الرأي الأخير هو الذي اختاره العلماء المتأخرون وأكثر فلاسفة الإسلام ومنهم ابن مسكويه وأحسن ما جاء في تربية النفس والأخلاق قوله تعالى ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
هذه القاعدة الكلية في التربية لا تكاد تتخلف ويشتد ظهورها في كبار رجال الخليقة مثل مترجمنا اليوم شيلر الألماني رافع علم الحرية والنهضة الأدبية في أمته والساعي إلى إعلاء شأنها وإبلاغها درجات الكمال فقد أثرت في التربية الأولى التي ينشأ عليها كل سليم الفطرة في الغالب من حب الخير المحض وكره الشر فاشمأز من أعمال البشر وسيئات الحياة ثم لما قذفت به أدوار الحياة إلى المدرسة الحقيقية وأعني بها مدرسة العالم وأخذ في مثافنة كبار أرباب العقول وحملة العلم المقرون بالعمل تحلى له الراجح من المرجوح وصرح له الحق عن محضه وكشف له أصحابه وجه الحقيقة في أمور كثيرة. وكل قرين بالمقارن يقتدي.
لم يكن شيلر كصاحبه كيتي رجلاً خدمه السعد وحالفه الرغد بل كان من شقاء الحياة وقلة ذات اليد المثل المضروب والرجل المحروب المحزوب. عزم والده أن يعلمه اللاهوت من أول أمره ليكون له مورد رزق في حياته ويعيش عيش الواعظين والمرشدين وإن شئت فقل عيش الزاهدين والمزهدين إلا أن الدوق شارل وجين دي ورتمبرغ أشار على والديه أن يبعثا به إلى مدرسة شارل لتي أسسها في استوتكارت وفيها درس الحقوق والطب(12/1)
وانصرف مدة الدراسة إلى مطالعة الكتب المحظور تلاوتها على التلاميذ سراً وقراءة جانب من أسفار الأدب من سنة 1773 إلى سنة 1780.
ولما خرج من المدرسة عين جراحا في الجيش براتب 18 فلوريني في الشهر فضاقت به الدنيا بما رحبت إذ كان يقضي عليه أن يخضع لنظام الجندية وينثني صاغراً لأوامر أمير نكاد مستبد ولعة بكشف رعاياه عن أسرارهم الخالصة ومراقبة سيرهم عن أمم. فلم تمض عليه سنتان في خدمة الدوق دي ورتمبرغ حتى ضاق صدره بما يلقاه من جور القوانين النابية في الأغلب عن طور العقل فخاصمه لأنه كان يمنعه من نشر شيء من قلمه في الأدب وحبسه مرة خمسة عشر يوماً لأنه ذهب لحضور رواية تمثيلية بدون إذن فاضطر شيلر أن يفر بنفسه ليتمتع بحريته فتوارى مدة عن الأنظار مخافة أن يقبض عليه ويسلم للدوق في ورتمبرغ وظل سنتين بعد ترك الخدمة يقاسي صروف الحدثان لا ملجأ ولا مورد ولا مال ولا فراغ بال. أجول من قطرب وأفلس من ابن المذلق وأهون من قعيس على عمته يقذف به نجد إلى سهل وسهل إلى حزن وبؤسه متصل كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها إن راح ذات اليمين تطوح به الطوائح ذات الشمال وإن اتجه نحو الشرق صاح به صائح عليه بالغرب وكأن الطبيعة عاندته في جسمه وصحته كما عاندته في وفره وماله. فقد كان نحيفاً ضئيلاً يمشي كاللقلق حرم الذوق حتى يكاد يضحك منه من يراه ولطالما سخر منه أصحابه عند تمثيل رواياته إذ لم يكن يعتني بهندامه ولا بملابسه فكنت تراه رث الهيئة والسربال وبيل المسكن تنبعث من غرفته رائحة الدخان الذي يدخنه وتراها غاية في التشويش فمن سخ من مصنفاته مطروحة في كل ناحية ومن بطاطا ملقاة مبعثرة في الزوايا ومن صحاف فارغة وزجاجات وأوان وغيرها تجدها هنا وهناك. وكثيراً ما كان صديقه كيتي يضجر من مجالسته في غرفته على عهد صداقته الأولى ولما بحث عن سر النتانة تبين له أن شيلر يحفظ التفاح العفن في جرار مائدته.
وهكذا كانت فاتحة حياة شيلر بؤساً وشقاءً وعناءً. روح ملتهبة متحمسة محصورة في جسم سريع العطب لها اتصال بالعالم الخارجي ولكن على أردأ الوجوه والصور وحالته الداخلية مقيدة بأمور خارجية لا ترضيك بوادرها فكادت تكون تربيته وحشية تقتل فيه روح الاستقلال وذلك لما يعانيه من الشقاء الذي يكرهه على الجهاد المتواصل لتحصيل رزقه كل(12/2)
يوم وكاد ما يلقاه من الألاقي في صباه يقضي عليه بالتأخر في سبيل العلم وهو أبداً يتقاذفه عاملان أفكاره الفلسفية الخيالية وميله إلى الآراء الثورية.
وبالجملة فقد كان على فقره وضعفه لا يرضيك ظاهره لأنه لم يخلق ليعجب الناس ويذهب بفضل الشهرة بينهم مثل كيتي صديقه ولا ليعيش في العالم عيش السعداء ويستمتع بطيبات الحياة الاجتماعية ولذلك تخلى شيلر وهو في سن الفتوة عن العالم الخارجي وعمد إلى الغوص في عالم الفكر والخيال وقد ذكر أحد واصفيه الأدوار التي تغلبت عليه فقال: إنه كان لأول عهده بعيداً كل البعد عن العالم الحقيقي يشتعل ذكاءً ممزوجاً بالعجب وقد أثرت فيه كتابات جان جاك روسوا الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي وغيره من شعراء ألمانيا فأصبح عدو المجتمع اللدود وخصيم التمدن الحديث والقديم. عرف بالاشمئزاز من أحوال البشر وبسوء النظر في مستقبل العالم وبسلامة النية في دعوة الخلق إلى الكمال على ما تجلى ذلك في كتاباته التي نشرها في صباه ثم بدلته التربية وأثر فيه صحابه وعشراؤه فأخذ يحسن ظنه بالمدنية الحاضرة وارتأى أن يخرج الإنسان من طور الطبيعة أولاً ويدخل في ميدان الجهاد بعمله مقاماً أدبياً محموداً فيكون من ذلك سعادة الإنسانية.
وقالوا في وصف شيلر أيضاً إنه لم يكن يعشق الطبيعة مثل صاحبه كيتي وما كان ينظر للعالم والناس مثل هذا نظر الصبور الذي لا غرض له ولا هوى بل كان يهتم بحالته الداخلية أولاً ثم بأفكاره وما شعر بأنه كان يتخمر في نفسه ويغلو في صدره من الإحساس والشعور فما ذكره في شعره وألم به في نثره من أحوال العالم هو ما وقع في قلبه وقاسى منه بذاته واقتنع به اقتناع فيلسوف وأخلاقي. ومن أهم ما شعر به ميله إلى الحرية ولكنه كان ميلاً مجرداً ليس فيه أثر للعمل إذ1 لم تخلق مع شيلر تلك الخاصية من إثارة النفوس وإهاجة العواطف وقد منحته فرنسا عام 1792حق الوطنية الفرنسية لحريته وتحمسه. ولقد أشرب قلبه حب الحرية فيه من فطرة سليمة تأبى الظلم ولا تميل إلى الصغار. وكان هذا الاستعداد فيه رد فعل طبيعي لما قاساه من الضغط منذ دخل المدرسة بل إنه حجة له لنقض أساس الاستبداد الذي عرف به صغار أمراء ألمانيا ممن لقي منهم الشدائد. جاء في موسوعات العلوم الفرنسية: وفي سنة 1787 ذهب شيلر إلى مدينة ويمار رجاء نيل الزلفى من ثلاثة كتاب وهم ويلاند الشاعر الأديب وهردير الكاتب الفيلسوف وكبتي العالم(12/3)
الفيلسوف وكان الدوق شارل أغست قد استدعاهم إلى حماه وجعلهم من رجال قصره فأراد شيلر من تقربه منهم أن يسلك سبيلهم في تقوية جميع قواه مطلقة حرة بدون أن يهتم لغير ذلك من أسباب النجاح فخاب سعيه أولاً مكن الانضمام إليهم وتكثير سوادهم ولكنه بقي مقيماً في ويمار وإن كان بعيداً عنهم رغم إخفاق ما قصد له وانتهت به الحال بعد بضع سنين قضاها في أشق أنواع الصبر المحزن إن نال مرتبة ثابتة فعين أستاذاً في كلية اينا سنة 1789 وفي السنة التالية تزوج بشارلوت دي لانجلفلد فرأى منها رفيقة تفهم مغازيه ومراميه وتحبه وتعنى بأمره وتخلص في خدمته خصوصاً في أوقات مرضه.
فساعده حب زوجته له وإعجاب تلاميذه وأصحابه بمواهبه واحترامهم له على التفرغ للعمل براحة بال أكثر من ذي قبل فأخذ يتغير شيئاً فشيئاً وأخذت تهدأ أفكاره من اضطرابها وتلين نفسه بعد شموسها وتجلت له الغاية التي يرمي إليها ويقضي عليه بعد ذلك أن يقتحمها بعزم ومضاءٍ. فراح يبذل أقصى مجهوده في التأليف وكثيراً ما كان يفرط في النظر ويعمل في الكتابة عملاً يجاوز الطوق ثم دعته الحال أن يتوفر على دراسة التاريخ دراسة الخبير البصير ليزيد به خبرة ويلقح به شعره. وكان يكتب في صغره كيفما اتفق فرأى من الضروري أن يستكثر من المعارف التاريخية الثابتة المحسوسة وأيقن أن مادته لا تغزر وأفكاره لا تنضج إلا بالتخلي عن الشعر زمناً والانقطاع إلى درس التاريخ وأن يتعلم كما قال عن نفسه أموراً كثيراً هو في حاجة إليها ويزرع قبل أن يحصد. ثم درس العلم الإلهي وأمور الآخرة أي درس الفلسفة في كتب فلاسفة اليونان الأقدمين ويتحر في فلسفة كانت الحكيم الألماني الشهير فاستفاد من دراسته فلاسفة اليونان لطف الأداء وجلاء المعاني ووضوحها وسهولة المأخذ مما لم يكن له أثر في منظومه ومنثوره ورأى في كانت أعظم ممثل للأفكار الحديثة وراقه منه حكمه السامية التي ذهب بها مذهب زينون الفيلسوف اليوناني كما راقه بأفكاره في الجمال والفنون. وقد دفع المترجم به إلى درس كتب الفلسفة اليونانية ويلاند المشار إليه كما دفعه إلى التبحر في مصنفات كانت رينهولد الفيلسوف حتى أصبحت تآليفه التي صدرت عنه في تلك الحقبة من حياته كأنها توفيق من الفلسفة اليونانية والكانتية أي بين الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة.
وفي سنة 1794 استحكمت صلات الود بين شيلر وكيتي وكانا تعارفا سنة 1788 تعارفاً(12/4)
لم يؤد إلى إحكام علاقات القلوب فانتفع المترجم من صاحبه كثيراً وأقل ما استفاد منه أنه أراده على الرجوع إلى حظيرة الشعر وكان زهد فيه زمناً على ما تقدم وانصرف إلى التاريخ والفلسفة. عاد إليه بنشاط غريب بعد انقطاعه عنه ست سنين. ثم مرض سنة 1791 مرضاً كاد يودي بحياته فلما ابل آلى أن يغتنم الساعات الباقية من حياته ليبقي له آثاراً تنفع الناس فألف في مدة عشر سنين وهي المدة التي قضاها في عشرة كيتي تآليف كثيرة كأنه كان يسارق بها المنون وأكثرها في الشعر والأدب والنقل عن اللغات.
وقصارى القول فإن شيلر الأديب الشاعر المؤرخ الحكيم المفكر هو بعد كيتي أكبر رجل من أهل الأدب في ألمانيا وربما كان مشتهراً لدى الخاصة والعامة أكثر من صديقه. وقد حسده معاصروه ولم يعترفوا به حتى أن المحدثين من أهل الأدب الساعين إلى نزع قيود الإنشاء القديم ومنهم الفيلسوف نيتتش الألماني حمل عليه حملات منكرة ولعل حملات هذا الفيلسوف كانت على شيلر في الزمن الذي جن فيه وهو لا يقل عن عشر سنين وهذي بالفلسفة هذيان المحموم. وامتاز شعر كيتي على شعر شيلر بأنك تقرأ في الأول النبالة والترف وشعر الثاني يطرب به الشعب فكأن الأول لزعماء الأمة والثاني للأمة نفسها وإن شئت فسمهما شاعر الأغنياء وشاعر الفقراء.
وقد وصفت صاحب هذه الترجمة العقيلة دي ستايل الكاتبة الفرنسية في كتابها ألمانيا بما يأتي معرباً بقلم أحد أصدقائنا:
كان شيلر عظيم الذكاء ثابت الاعتقاد وهما خلتان قل أن يجتمعا في رجال الأدب. تقرأ بين عينيه ما يسري بين جنبيه وترى شخصه مصوراً في كتابته يوحي إليك ذلك الأدب الوافر والعلم والفضيلة النادرة. وما كان شيلر ممن يغيرون اعتقادهم تمويهاً وتضليلاً لغيرهم. بلى كان يحب الشرف ويشغف بالمجد فيسعى إليهما من كل سبيل. وما أجمل الذكاء الذي سرى في أعطافه الشرف وقوة النفس إذا امتزجت بصفاء السريرة. فقد كان شيلر صديقاً وفياً وأباً رحيماً وزوجاً باراً يحترم النساء ويعجب بالفنون الجميلة ويعبد البارئ تعالى على ما وهبه من ذكاءٍ نادر على ما ترى ذلك ماثلاً في مصنفاته لو قلبت تضاعيفها وحدقت في سطورها.
ولقد لقيت شيلر لأول مرة في قصر الدوق دي ويمار في مجلس حافل بأهل العلم فإذا هو(12/5)
يتوقد ذكاءً وبعد نظر. وكان يجيد قراءة الفرنسية وإن لم يتكلم بها وقد ناظرته في أفضلية طريقة التمثيل عندنا فقام يعارضني على ما يجد في لسانه من حبسة وعجز عن التكلم بالفرنسية وإبان عن فضل جم وعلم واسع فانقلبت من المجلس وأنا احترمه وأبجله.(12/6)
النقل والنقلة
ليس العلم وقفاً على أمة معينة ولا على أهل دين خاص ولغة خاصة بل العلم مشاع بين سكان الأرض يقتبسه الراغبون فيه ممن عرفوا غناءه لهم وفائدته لقيام جامعتهم وإعلاء كلمتهم كما أن الحضارة تنتقل من يد إلى يد وتأخذها الأمة المتحضرة عن جارتها أو ترثها عن أختها الذاهبة. ولذلك لم تستغن أمة في النقل عن غيرها ما يعوزها من علوم البشر على اختلاف أنواعها نقلاً ينتفع به أهل جيلها وقبيلها ويؤثر الأثر المطلوب في العقول. فقد نقل الفرس علومهم عن جيرانهم الهنود ونقل الرومان عن اليونان ونقل اليونان عن المصريين ونقل العرب عن اليونان والفرس ونقل الإفرنج عن العرب واليونان والرومان وغيرهم من أمم الخليقة. وقد مست الحاجة في هذا النقل إلى ترجمة أهم كتب أولئك الأقوام في الصناعات والديانات وعلوم الحكمة والطب والرياضيات والشرائع والتاريخ والأدب.
هذا الكثير من العلوم التي نراها لعهدنا وكتبها التي لا تحصى في كل ضرب من ضروب المعرفة النافعة لسعادة الخلق هي ولا جرم من عمل القرون المتطاولة هي زبدة تجارب صفوة بني آدم وأغض ثمرات عقولهم منذ ألوف من السنين تكونت فيها أمم كثيرة ثم بادت وقامت مدنيات تذكر ثم سقطت منها ما نقل إلينا ومنها ما لم ينقل. فكما أن اللغات والشعوب ترجع إلى أصول قليلة تفرع عنها هذا العدد الدثر من الأجيال المعروفة في قارات الكرة الأرضية الخمس فكذلك كانت العلوم قليلة وما برحت تنمو بنمو الأيام والأزمان. وحال النقل من حيث القلة والكثرة حال العلوم والأمم حذو القذة بالقذة.
ولما تم للعرب النصر وتبسطوا في مناحي الملك والسلطان وانتشرت لغتهم في معظم الأصقاع التي افتتحوها انصرفت عنايتهم إلى تنظيم بلادهم بنظام الأمم التي سلفتهم إذ أيقنوا أن ليس كالعلم كفيلاً ببقاء أمة وضامناً لها سعادتها والعلم لا يتم إلا بالنقل عن أمة أخرى. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه بتعلم لغة اليهود كما تعلم بعض الصحابة لغة الحبشة لما هاجروا إليها في بدء الدعوة الإسلامية. دع عنك من دخلوا في الإسلام من الفرس ومن تعلم من العرب لغة فارس. وهذا كان مبدأ النقل والتعريب وإن لم يؤثر عن هذا الدور كتاب ولا رسالة لأن الأمة كانت أمية ولم تكن دونت بعد أهم علم عندها إلا وهو علم الدين فأحر بها أن لا تنقل عن غيرها علوماً هي بالنسبة إليها ثانوية.
وأول كتاب نقل إلى العربية كتاب أهرن بن أعين وجده عمر بن عبد العزيز في خزائن(12/7)
الكتب فأمر بإخراجه ووضعه في مصلاه واستخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به فلما تم له في ذلك أربعون صباحاً أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم وكان المنصور أول من عني من العباسيين بنقل شيءٍ من علوم الأوائل ثم مشى على أثره جعفر البرمكي وجماعة من صنائع الدولة إلا أن غرام المأمون بذلك كان من وراء الغاية.
قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي أن العرب في صدر الإسلام لم تعن بشيءٍ من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طراً إليها فهذه كانت حال العرب في الدولة الأموية فلما أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك إليهم ثبت الهمم من غفلتها وهبت الفطن من ميتتها وكان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور وكان مع براعته في الفقه كلفاً في علم الفلسفة وخاصة في علم النجوم.
قال ولما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هرون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم في مواضعه وداخل ملك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة فبعثوا إليه منها ما حضرهم فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم أحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن ثم حرض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها فكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرتهم ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأن أهل العلم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده.
نعم بلغت عناية المأمون بالعلم والنقل التي لا فوقها وقد ادعى بعضهم أن عدد المترجمين والناقلين والمصححين الذين حشرهم إليه من أطراف مملكته كانوا ثلاثمائة رجل من مختلف الأديان والمذاهب أمرهم أن لا يجعلوا للتعصب عليهم سبيلاً وإن ينبذوا الجدالات الدينية ظهرياً لتكون اجتماعاتهم علمية صرفة. وقيل أنهم كانوا يجتمعون مرة في الأسبوع فتعرض المترجمات على أناس من أهل العلم والبصر بالعربية فيقرون سليمها وينبذون سقيمها. وعلى عهده كثر الاعتماد على النحت والاشتقاق والوضع لترجمة المصطلحات الطبية وغيرها من العلوم المادية وكان المأمون ينفق على المترجمين أكثر مما يصرفه غيره على ملاذه في بضع عشرات من السنين.
وبعد فإن الناس من لا يعدون من المؤلفين غير من يأتون بشيءٍ من عندهم ولو غثاً تافهاً(12/8)
أو ينقلون كلاماً لغيرهم وينسقونه ويضيفون إليه ما يشاءون على أن من عنوا بإجادة النقل والترجمة من لغات الأعاجم إلى لغتهم هم في الأكثر ليسوا في فضلهم وأفضالهم دون أولئك المؤلفين بل أن من ينقل علماً لا عهد لأمته به أفضل من أكثر أرباب التواليف والمصنفات.
ولذلك تقاضانا عرفان الجميل لبيض أيادي أولئك التراجمة في الإسلام أن نذكر أسماء من عثرنا عليهم منهم وندل على الجهابذة المهرة فيهم. ولابد من الإشارة إلى أن معظم التراجمة قديماً وحديثاً كانوا من غير أهل الإسلام لحكمة ربما كان فيها معنى من معاني ما قبل من أن العلم لو نزل من السماء لتلقاه قوم من أهل فارس. ولعل تقسيم الأعمال قضى على المسلمين أن ينقطع علماؤهم إلى تدوين العلوم الدينية واللسانية وتركوا غيرها من الأشغال العلمية لمن يحسنها أو يخلق وقد لقنها من صغره من أهل ذمتهم أو غير أرباب نحلتهم.
نقل اصطفان القديم الكيمياء لخالد بن يزيد الأموي في القرن الأول كما تعلمها هذا من مريانوس الراهب الرومي فكان هذا أول كتاب نقل. ونقل ماسر جويه السرياني كتاب أهرن بن أعين بأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وكان البطريق في أيام المنصور وأمره بنقل أشياء من الكتب القديمة وابنه أبو زكريا يحيى ابن البطريق وكان في جملة الحسن بن سهل. وكان حنين بن اسحق أول من نقل شيئاً من علوم الروم إلى السرياني ثم إلى العربي وكان هذا الرجل يحسن السريانية والعربية والرومية والفارسية بل يعرف غريبها ومستعملها وهو الذي اختار له المتوكل لما أتمنه على الترجمة كتاباً نحارير وكانوا يترجمون ويتصفح ما ترجموا كاصطفين بن بسيل وموسى بن خالد الترجمان وقيضا الرهاوي وسيرجس الراسي. وما أنا بمبالغ لو قلت أن حنيناً نقل ربع ما ترجم إلى العربية من علوم الأوائل أيام التمدن الإسلامي وكان ربعه الجيد الذي لا غبار عليه وذلك لأنه كان زيادة على إحكامه لتلك اللغات الأربع عالماً بالعلوم التي ينقلها من طبها وفلسفتها. ولحنين ولدان داود واسحق صنف لهما كتباً طبية في المبادئ والتعليم ونقل لهما كتباً كثيرة من كتب جالينوس واشتهر اسحق وتميز في صناعة الطب وله تصانيف كثيرة إلا أن جل عنايته كانت مصروفة إلى نقل الكتب الحكمية وكان اسحق يحسن اللغات التي يحسنها أبوه وقلد هارون الرشيد يوحنا بن ماسويه ترجمة الكتب القديمة مما وجد بأنقرة وعمورية(12/9)
وسائر بلاد الروم ووضعه أميناً على الترجمة. وكان جرجس ابن جبرائيل أول من ابتدأ في نقل الكتب الطبية إلى العربية عندما استدعاه المنصور. وحبيش الأعسم بن أخت حنين بن اسحق وتلميذه ناقل مجود يلحق بحنين واسحق. وعيسى بن يحيى بن إبراهيم كان أيضاً تلميذاً لحنين بن اسحق وكان فاضلاً أثنى عليه حنين ورضي نقله وقلده فيه. وقسطا بن لوقا البعلبكي كان ناقلاً خبيراً باللغات فاضلاً في العلوم الحكمية وغيرها. وما نقله أيوب المعروف بالأبرش في آخر عمره يضاهي نقل حنين. وسلام الأبرش من النقلة القدماء في أيام البرامكة ويوجد بنقله السماع الطبيعي. وأبو النصر بداري بن أيوب وابن رابطة وتيوفبلي وشملي وعيسى بن نوح وقويري وداريع الراهب وهيابثيون وصليبا وثابت بن قمع وأيوب وسمعان فسرازيج بطليموس لمحمد بن برمك. وأبو عمرو يوحنا بن يوسف الكاتب. وترجم آل نوبخت إلى الفارسية وترجموا منها ولابن نوبخت الفضل بن نوبخت نقل حنين في النجوم ومنهم موسى ويوسف ابنا خالد. ومن النقلة من الفارسي إلى العربي علي بن زياد التميمي ويكنى أبا الحسن وسهل بن هارون والبلاذري أحمد بن يحيى وجبلة بن سالم كاتب هشام واسحق بن يزيد ومحمد بن بهرام بن ميطار الأصفهاني والفتح بن علي البنداري وعبد الله بن علي وأبو حاتم البلخي ومحمد بن الجهم وهشام بن القاسم وموسى بن عيسى الكردي وزادوية ابن شاهويه الأصفهاني وبهرام بن مرداشان وعمر بن الفرخان. وابن الفرخان هذا هو أحد حذاق التراجمة في الإسلام وهم كما قال أبو معشر في كتاب المذاكرات حنين بن اسحق ويعقوب بن اسحق الكندي وثابت بن قرة الحراني وعمر بن الفرخان الطبري.
ونقل من السريانية الحديثي الكاتب والحسن بن البهلول الأواني الطبرهاني وأبو البشر متى والتفليسي ومرلاحي نقل بين يدي علي بن إبراهيم الدهكي وداريشوع كان يفسر لاسحق بن سليمان بن علي الهاشمي وكذلك إبراهيم بن بكسن وعلي بن إبراهيم بن بكسن وأيوب بن قاسم الرقي ومن نقله كتاب الايساغوجي. ونقل من الهندية أو السنسكريتية إلى العربية منكة الهندي وأبو الريحان البيروني وابن دهن ومن الكلدانية أو النبطية ابن وحشية ونقل سعيد الفيومي عن العبرانية. وكان أبو علي عيسى بن زرعة اليعقوبي المنطقي أحد النقلة المجودين وله تصانيف مذكورة. ونقل من السرياني إلى العربي ونقل عيسى الرقي من(12/10)
أطباء سيف الدولة ابن حمدان من السريانية أيضاً ونقل منها أيضاً ماسرجيس الطبيب وعيسى بن ماسرجيس كان يلحق بأبيه وكذلك شهدي الكرخي وابن شهدي وكانا متوسطين وفاق الابن أباه في آخره عمره ومن المعروفين بالترجمة ابن جلجل وأبو عبد الله الصقلي.
ونقل الحجاج بن مطر للمأمون كتباً منها كتاب إقليدس والمجسطي ثم أصلح نقله فيما بعد ثابت بن قرة الحراني ونقل للمأمون أيضاً عدة كتب حبيب بن بهريز مطران الموصل وممن نقل عن السريانية كثيراً أبو الخير الحسن بن سوار المعروف وابن الخمار وأبو الفرج الملطي ويحيى بن عدي اليعقوبي. ونقل عن الفارسية عبد الله بن علي الفارسي وعبد بن المقفع نقل عن البهلولية أي الفارسية واليونانية كثيراً من كتب الحكمة وممن أجاد النقل من السريانية وغيرها الحسن بن ثابت بن قرة الصابئ ومن تلاميذه عيسى بن أسيد وكان يقدمه ويفضله. ونقل من اليونانية نظيف القس الرومي.
وكان عبد المسيح بن عبد الله الناعمي الحمصي المعروف بابن ناعمة متوسط النقل وهو إلى الجودة أميل وفي درجته زروبابن مانحوه (ماجوه) الناعمي الحمصي. وكان هلال بن أبي هلال الحمصي صحيح النقل ولفظه مبتذل وكذلك كان فثيون الترجمان يلحن ولا علم له بالعربية وكان أبو نصر بن ناري بن أيوب قليل النقل لا يعتد بما نقل ويفوقه بسيل المطران وكان إلى الجودة أميل. ومن المتوسطين في نقلهم أسطاث وحيرون بن رابطة وإبراهيم بن الصلت وثابت الناقل ويوسف الناقل تلميذ عيسى بن صهربخت وأيوب الرهاوي وأبو يوسف الكاتب ويحيى بن البطريق وتدرس السنقل وأبو سعيد عثمان الدمشقي ومصور بن باناس وعبد يشوع بن بهريز وإبراهيم بن بكس. هؤلاء التراجمة الذين عرفناهم في الإسلام وأكثرهم كانوا يرزقون من نقلهم ويعملون مدفوعين بتنشيط الملوك والأمراء والحريصين على خدمة العلم إلا يعقوب بن اسحق الكندي فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها فإنه كان ينقل لنفسه ولم يرتزق بما كتب. وليس فضل من نشطوا التراجمة دون فضل من ذكرنا من المترجمين كما أن الأفراد الذين نشطوا النقل ورزقوا أناساً عليه يذكرون بالرحمة كما يذكر عمر بن عبد العزيز وخالد الأموي والمنصور والرشيد والمأمون والمتوكل.
فقد كان جعفر البرمكي وجماعة من أهل بيته يعنون بأمر النقل والتعريب. وكان منكة(12/11)
الهندي في جملة اسحق بن سليمان بن علي الهاشمي وكان ينقل من اللغة الهندية إلى اللغة الفارسية وكان شير شوع بن قطرب من أهل جندي سابوريبر النقلة ويهاديهم ويتقرب إلى تحصيل الكتب منهم بما يمكنه من المال. ومنهم محمد بن موسى المنجم وهو أحد بني موسى بن شاكر الحساب المشهورين والرياضيين المذكورين وكان محمد هذا أبر الناس بحنين بن اسحق نقل له هذا كثيراً من الكتب الطبية. قال أبو سليمان المنطقي السجستاني أن بني شاكر وهم محمد وأحمد والحسن كانوا يرزقون جماعة من النقلة منهم حنين بن اسحق وحبيش بن الحسن وثابت بن قرة وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار.
ومنهم علي بن يحيى المعروف بأن المنجم أحد كتاب المأمون وكان نديماً له وعنده فضل ومال إلى الطب فنقلوا له منه كتباً كثيرة ومنهم تادرس الأسقف كان أسقفاً في الكرخ وكان حريصاً على طلب الكتب متقرباً إلى قلوب نقلتها فحصل منها شيئاً كثيراً وصنف له قوم من الأطباء كتباً لها قدر وجعلوها باسمه. ومنهم محمد بن موسى بن عبد الملك نقلت له كتب طبية وكان من جملة العلماء الفضلاء يلخص الكتب ويعتبر جيد الكلام فيها من رديئه. ومنهم عيسى بن يونس الكاتب الحاسب من جملة الفضلاء بالعراق وكان كثير العناية بتحصيل الكتب القديمة والعلوم اليونانية.
ومنهم علي المعروف بالفيوم اشتهر باسم المدينة التي كان عاملها وكان النقلة يحصلون من جانبه ويمتازون من فضله. ومنهم أحمد بن محمد المعروف بابن المدبر الكاتب وكان يصل إلى النقلة من ماله وأفضاله شيءٌ كثير. ومنهم إبراهيم بن محمد ابن موسى الكاتب وكان حريصاً على نقل كتب اليونان ومشتملاً على أهل العلم والفضل وعلى النقلة خاصة. ومنهم عبد الله بن اسحق وكان أيضاً حريصاً على نقل الكتب وتحصيلها. ومنهم محمد بن عبد الملك الزيات وكان يقارب عطاؤه للنقلة والنساخ في كل شهر ألفي دينار ونقل باسمه كتب عدة وكان أيضاً ممن نقلت له الكتب اليونانية وترجمت باسم جماعة من أكابر الأطباء مثل يوحنا بن ماسويه وجبرائيل بن بختيشوع بن جبرائيل بن بختيشوع وداود بن سرابيون وسلمويه بن بنان واليسع وإسرائيل بن زكريا بن الطيفوري وحبيش بن الحسن.
هذا ما وقفت عليه من حال المتوفرين على النقل والمرغبين فيه قديماً وقد فقدت ملكته من الأمة مدة تربو على خمسة قرون حتى إذا كان أواسط القرن الثالث عشر للهجرة عادت إلى(12/12)
الترجمة بعض حياتها السالفة بفضل النابغين من مدارس الإفرنج في البلاد العربية أو بالمتخرجين على أساتذة بعض المدارس الوطنية ممن تشبعوا بآداب الأمم الراقية وقلدوهم في ممارسة الأعمال العلمية فنقلوا وما برحوا ينقلون أثابهم الله بعض ما تمس إليه الحاجة من علوم الأمم الغربية على قلة نصيرهم وفقدان البواعث والدواعي مدفوعين إلى ذلك بعاملين ألا وهما إحياء لغة عذبة وخدمة العلم الصحيح ولا أمة إذا فقدت لغتها ولا مدنية إذا لم يأخذ الخلف عن السلف والمتأخر عن المتقدم والجاهل عن العالم.(12/13)
المجرة
ماذا برقراق السحائب ... ضمن المجرة من كواكب
ليست كمزعم بعضهم ... نهراً يفيض على الجوانب
كلا ولا هي لو تعي ... زبدٌ بوجه السيل ذائب
كلا ولا وادٍ على ... طرفيه قد صفت كتائب
حيث الأسنة داخل الم ... هبوات تضحك والقواضب
أهناك جيشٌ لا أبا ... لك حذوه جيشٌ محارب
فلننتظر حتى نرى ... من ذا من الجيشين غالب
كلا ولا سدمٌ حوت ... غازاً فهذا الظن كاذب
لكن شموسٌ جاريا ... تٌ ضمن هاتيك السحائب
بل أن هاتيك السحا ... ئب ذات أنجمها الثولقب
أجرامها يسبحن في ... بحر الأثير لكل جانب
الكل يذهب في الفضا ... ء على اختلاف في المذاهب
وعلى ارتباطٍ بينها ... بقوى جواهرها الجواذب
يا أيهذا العالم الن ... جمي كم بك من عجائب
كم زار منك مظامنا ... جرمٌ يجد السير دائب
جرم بديعٌ شكله ... جرم يعد من الغرائب
فله نواة ذات نو ... ر مشرقٍ وله ذوائب
ويضيء حتى تستض ... يء به المشارق والمغارب
ويزيد إشراقاً على ... إشراقه مهما يقارب
حتى إذا ما دار حو ... ل الشمس سافر وهو آيب
فكأنه متحملٌ ... في زوره كتباً لغائب
أمخبرٌ أحد النج ... وم لشمسنا بعض المطالب
يا عالماً يحوي عوا ... لم سائرات في مواكب
كم من شموس فيك أك ... ثرها عن الأبصار عازب
شسعت فأسفر بعدها ... عن مثل أنوار الحباحب(12/14)
وهناك لولا أبعد الأ ... بعاد نيران لواهب
تجلو أشعتها المني ... رة ما هناك من الغياهب
وتوازنت أجرامها ... فالكل مجذوب وجاذب
ولها توابع في تنق ... لها السريع لها تصاحب
تحكي توابع شمسنا ... فتطوف منها في الجوانب
وعلى توابعها تدو ... ر توابعٌ أخرى صواحب
العلم هذا رأيه ... فيها ورأي العلم صائب
يرضى به من كان ذا ... نظر بعين العقل ثاقب
لكن من جهل الحقا ... ئق من سماعته مغاضب
ومن المصائب أن تخا ... طب جاهلاً ومن المصائب
أما الحياة فإن ظ ... ن العقل فيها غير خائب
أيجوز أن الأرض تس ... كن وحدها بين الكواكب
وتكون غير الأرض خا ... لية كأمثال الخرائب
هذا لعمري أن يصح ... فإنه لمن العجائب
إن الحياة تبين حي ... ث ترى لها وسطاً يناسب
ما أوحش الأجرام لم ... تمرح بها بيض كواكب
وترق كأحسنها العيو ... ن النجل فيها والحواجب
يا ساكني تلك النجو ... م على اختلافٍ في المراتب
إني مخاطبكم فلا ... تلووا الوجوه عن المخاطب
بالله قولوا لي أأن ... تم مثلنا غرض النوائب
إنا نعاتبكم إذا ... لم تفحصوا إنا نعاتب
أحياتكم كحياتنا ... لا تكتموا عنا متاعب
أم هل هناك حياتكم ... صفو فليس بها شوائب
إنا لنفزع من مصا ... ئب لاجئين إلى مصائب
إنا بظاهر أرضنا ... قسمان مغصوب وغاصب(12/15)
الظلم ضيق في وجو ... هـ رجائنا طرق المكاسب
والعلم مغلوبٌ فلا ... يعلى به والجهل غالب
إنا بحالٍ لو علمتم ... غير محمود العواقب
نسعى لنفع الآخري ... ن من الذين لهم مناصب
ونعيش في حال التعا ... سة بالأماني الكواذب
لهفي على الشبان قد ... سلكوا سبيلاً للمعاطب
غيلوا بكل قساوة ... فبكتهمو حتى الأجانب
ويلي على بيض نشر ... ن من الأسى سود الذوائب
يخمشن حر وجوهه ... ن ويلتمن على الترائب
يبكين فقد أعزةٍ ... ماتوا فهن لهم نوادب
بغداد ج. . .(12/16)
القسوة في المدارس
أسست المدارس لإنماء القوة العاقلة في الإنسان ولتوسيع المدارك وتنوير العقول وتهذيب النفوس وتدميث الأخلاق وترقية الأفكار ولبث الألفة والإخاء والحب وحقائق الحرية والمساواة ونشر مبادئ الحق والخير والجمال والشرف والشهامة والجرأة ونزاهة القلب. ومن أخص واجباتها أيضاً الاعتناء بالصحة من وراء الغاية وتقوية الجسم تقوية للعقل وكبح جماح الأهواء وإنهاض الهمم ونقض كل وهم وضلال وتمويه وخرافة وتقويم كل اعوجاج وغرس صفات الإنسانية الصرفة وما طاب من العلوم الضرورية للمرء ضرورة الطعام والشراب واللباس. وبالجملة فقد أنشئت المدارس لتقود الإنسان وتدفعه في سبيل الكمال الإنساني.
قال كانت الفيلسوف الألماني: سرار تقاء الإنسانية في المدارس. وقال جول سيمون فيلسوف الفرنسيين ليس من واجبات المدارس تعليم العلوم فقط فإن من أخص واجباتها بث الفضيلة والإقدام. وقد اتفق العلماء على الإقرار بوجوب تهذيب النفوس قبل تعليم الرؤوس وتفضيل المبادئ الأدبية على الأصول العلمية ونزع كل غلظة وفظاظة وسيئة باللين والرفق والإقناع.
فليست الغاية إذن من إنشاء المدارس اعتقال الأولاد وإملاء الذاكرة فيهم من قواعد الكتب اللغوية والعلمية والرياضية والطبيعية وتحقيرهم وإرهابهم وإهانة نفوسهم وجرح عواطفهم وإيجاعهم بقسوة الشتم والضرب كما يخيل للمعلمين الذين يتوهمون أنهم لا يستطيعون أن يعلموا ويهذبوا إلا بالشتم والضرب.
الشتم والضرب في المدارس أثران من آثار الهمجية والتوحش يمثلان كل التمثيل في مدارس القرن العشرين على ما فيه من دلائل التقدم العلمي وعلائم الارتقاء الأدبي. فيعيدان ذكرى أقبح صفحات العصور الغابرة أيام سادت الخشونة والقسوة ولم يكن حد اعتبار الحيوان الناطق فيها يتعدى حد اعتبار رفيقه الحيوان الأبكم إلا بشيء لا يذكر. وهما من أكبر العوامل الحائلة دون إقبال الأولاد على المدارس برغبة داخلية وشوق طبيعي كما أنها من أهم البواعث التي تمثل لهم المدارس سجوناً مظلمة ومحال أسر ومطابق عذاب وشقاء.
نحن في زمن لا غنى لنا فيه عن العلم وقد أصبحت المدارس من حاجاتنا الأولية ومن الضروريات التي يجب الاعتماد عليها بعد اعتماد الأمهات والآباء في إعداد رجال(12/17)
المستقبل فنحن إذاً في أشد حاجة إلى ترغيب أحداثنا في المعارف وتحبيب المدارس إلى نفوسهم وجعلها في عيونهم أماكن سرور مقدسة تترفع عن كل ما يمثل الحيوانية ودور استفادة تتعالى عما يشين الإنسانية.
ومن الأسف أن القسوة مازالت شعار المدارس والشتم ما انفك لسان حال المعلم والضرب سلاحه وعدته ومع كل ما وصف من أضرار هذين الأثرين القبيحين وقيل في لزوم إبادتهما ومع كل ما صدر من نواهي ذوي النفوذ وأوامر الحكومات في وجوب منعهما ما برح المعلمون قساة القلوب يشتمون الطلبة لأقل الأسباب وينهالون عليهم بالضرب لأدنى الهفوات.
مضت قرون كثيرة والقسوة ساعد المربي وعضد المعلم المتين والشتم والضرب رائجان في المدارس حتى أن سليمان الحكيم قد أشار باستعمال القضيب في تهذيب البنين. وكان الاسبرطيون يتركون الأولاد في المدرسة جياعاً ويضربونهم كثيراً تشجيعاً لهم على مشاق الحياة وعندما يعجز الولد عن التجلد ويرفع صوته من الألم تتلطخ حياته بالعار. وكان قدماء المصريين يعاقبون التلاميذ بالضرب بالعصي متمثلين بقول القائل_إن آذان التلاميذ في ظهورهم فهم لا يسمعون إلا إذا ضربوا. ولقد بلغ من اعتقاد الناس قبلاً بفائدة القسوة في المدارس أن صار العامة يمازحون التلاميذ بقولهم راح العيد وفرحاته وجاء المعلم وقتلاته وأمسى الوالدون يخوفون الأطفال من المعلمين كما يخوفونهم من المارد والجن والغول. وكان الرجل يقتاد ابنه إلى المدرسة ويقول للمعلم لك اللحم ولي الجلد والعظم فلا تبخل بالفلق أو تتوانى بالضرب. وخير هدية كانت تسر المعلم هي حزمة قضبان وخصوصاً إن كانت أغصان رمان. وجل وصية كان يوصي بها هي الشتم بفظاظة والضرب بقسوة وكان يلام إذا تبسم وبش في وجه الأولاد وتهاون بالعقوبات الشديدة ولم يستعمل وظيفة المنتقم لا وظيفة المهذب.
هكذا كانت المدارس سابقاً بؤرة القسوة والجور ومستوبل الشتم والضرب على أن تلك الأيام لم يتجاوز فيها العلم حد الظنون ولم تكن المعارف غير قواعد لغات ولم يكن المعلمون أفضل من رعاة المواشي. وعلماء الأخلاق والنفوس كانوا قلائل نادرين والغرور والتقليد واتباع الأهواء والادعاء والتمويه والتظاهر أمور كانت من أخص صفات(12/18)
المدرسين.
أما الآن فما عذرنا وقد تغيرت الأحوال وتبدلت المدارس بفضل العلم الصحيح المؤيد بالتجربة والبرهان والاستقراء والإحصاء وظهرت لدى الناس أضرار التربية القاسية المذلة الموجعة فعمل الفضلاء على استبدال التربية اللطيفة المعزة المقنعة وبها سعوا جهدهم حتى استتب لهم الأمر في أكثر البلدان. وأول من سعى في ذلك في بلاد المشرق علي باشا مبارك أحد وزراء المعارف في مصر والدكتور دانيال بلس رئيس الكلية السورية السابق في بيروت. جعلا التعليم مقروناً بكرامة النفس وأبطلا الشتم والضرب بتاتاً واكتفيا بالقول والقدوة. ومنذ ثلاث سنين صدر أمر نظارة المعارف العثمانية بمعاقبة المعلم الذي يضرب تلاميذه وبمنعه من التعليم إذا عاد لضربهم مرة أخرى وقد حظرت جمعية فلسطين الروسية على معلمي مدارسها ضرب التلاميذ وجعلت من أهم قوانينها طرد كل معلم يقسو ويتصلف.
إلا وأن صفات الإنسانية ترتقي في الكون العاقل بواسطة التربية الحسنة والتعليم الجيد. وأهم مقتضيات التربية والتعليم الضرورية جداً هي أن يكون المربي والمعلم قادراً على إقناع التلميذ بأن ما ينهاه عنه مضر حقاً وما يدفعه إليه نافع لا محالة وأن ما يلقنه إياه من الآداب والعلوم ليس إلا مصابيح بين طريق حياته وعوامل تقوده في سبيل الكمال الإنساني دون أن يتعدى حد العقل والضمير فيضغط على الأول ويضعف الثاني أو بالحري يميته وكذلك إقناع التلميذ بحسن نيات المعلم بما يبديه نحوه من الرقة واللطف ودلائل الحب والإكرام. فالمعلم الذي يقسو على التلاميذ ويعاملهم بالشتم والضرب بحجة أنه يروم نفعهم يضر من حيث يقصد الإفادة وبدلاً من نزع السيئات من أخلاقهم نزعاً باتاً كما يخال يزيدها تمكيناً فيهم. لأن الولد الذي يحسن سلوكه خشية الشتم لا حباً بالآداب ويتقن دروسه رهبة الضرب لا رغبة في النجاح يقيم في أعماق نفسه أماكن حصينة للسيئات حتى إذا لاحت لها الفرص وخلت من الرقباء وأمنت العقاب تظهر من مكانها بادية للعيان وهكذا يتعلم الكذب والخداع والرياء ويشب على الجبن واللؤم والحقد وغير ذلك من نتائج القسوة والضغط وتتأصل فيه كراهة المعلم ويخاله عدواً لدوداً. هذا عدا ما يقتبسه من قسوته ويعيه في دماغه من كلماته الفظة الغليظة الدنيئة وعدا ما يتشربه من شراسته وعناده واستبداده.(12/19)
فالقسوة في المدارس من أكبر آفاتها ومن أسوأ سباتها لأنها تخمل عقول الأحداث وتحط نفوسهم وتفقدهم الشعور الأدبي وقوة الإرادة والاعتماد على النفس وصحة الحكم على الأمور والتمييز بين الحسن والقبيح إذ يستسلمون للمعلمين بعقولهم وقلوبهم وينقادون إلى أهوائهم (أي أهواء المعلمين) انقياداً أعمى يصدهم عن إطلاق مجاري العقل والابتكار والاستنباط والاستنتاج ويزيدهم شراً على شر والفرق بين آداب تلاميذ المعلم المستبد القاسي الفظ المهين الضراب ونجاحهم وبين آداب تلاميذ المعلم اللطيف المحب المكرم المقنع بين ظاهر.
قال الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده: جعل التعليم مقروناً بكرامة النفس هو قوام التربية فإن المعاقبة على الذنب بالإهانة والقسوة لا تؤدب النفس لأنها تخفي الأخلاق الذميمة ولكنها لا تمحوها بل تزيدها وتقويها فتكون كامنة حتى إذا تسنى لها الظهور تظهر في أقبح الصور. وأما الذي يمحو الأخلاق الذميمة فهو الإقناع بقبحها وضررها وحسن المعاملة وتكريم النفس حتى تتكرم من الشوائن وتأنف من كل ما ينافي الشرف.
وقال ابن خلدون أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم ذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالاً على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف. واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة لكافلة له رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراءً وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى أنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قلناه فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب. ومن كلام عمر من لم يؤدبه الشرع لا(12/20)
أدبه الله حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلماً بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال: يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة وكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة.
هذان رأيان لحكيمين كبيرين من آراء الحكماء التي لا تحصى في هذا الشأن دلهم عليها العلم والاختبار والاستقراء والزمان ويضيق بنا المقام إذا أردنا إحصاء الحوادث المحزنة التي جرت وتجري في المدارس المعروفة بالقسوة. كم من أمهات ثكلن بنيهن لشراسة المعلمين ولكم غض آباءٌ الطرف عن قسوة المدرسين ففقدوا أحداثهم وكم من أولاد ضاع مستقبلهم من غلظة المعلمين. سلوا المستشفيات والبيمارسانات سلوا الكهنة والمشايخ والمشعوذين والأطباء والإحصائيين علهم ينبئونكم صريخاً عن شهداء القسوة في المدارس. ولرب معترض من مزاولي حرفة التعليم الجالسين على كراسي أفلاطون وجول سيمون ومكس ملر وابن رشد المنتحلين لقب السيد المسيح ينتقد بعض كلامي ويرشقني بأسهم من ملام ويتخذ وصية حكيم الإسرائيليين حجة علي وما جوابي إلا أن القسوة في المدارس لا تفيد إلا في البلاد المتوحشة فقط حيث لا أم تهذب الأطفال ولا أب يحسن القدوة ولا هيئة مرتقية تساعد المعلم في نياته ولا قدوة خير تمنع الشر. ومع ذلك فيقتضي حينئذ لمستعمل العصا (في التربية والتعليم) حكمة سليمان وصبر أيوب ورقة السيد المسيح وبحث دروين واستقراء سبينوزا وإلا فالقسوة في المدارس مضرة على كل حال.
بيروت
جرجي نقولا باز(12/21)
النهضة الأميركية
خاتمة بحث معرب عن المجلة الجديدة
زادت الهجرة إلى الولايات المتحدة منذ سنة 1870 وكانت ألمانيا وإنكلترا من البلاد التي هاجر منها الناس زرافات وبعثت كل من النمسا والنروج والسويد وإيطاليا وفرنسا والصين واليابان عصابات من المهاجرين يغشون البلاد الجديدة ويحملون إليها برؤوس أموال كبيرة وأسست ألمانيا وغيرها مراكز للاستعمار في أميركا الجنوبية. ونظمت إنكلترا لها مملكة استعمارية يبلغ عدد رجالها من مائتي مليون إلى ثلاثمائة منتشرين في أصقاع الأرض ومدت روسيا سلطتها على سيبيريا والأقاليم التي وراء بلاد القوقاز وحلت فرنسا في الهند الصينية ومدغسكر وألمانيا في بحار المحيط وأميركا الجنوبية ونثرت إيطاليا أرجاء بلاد الحبشة بأشلاء أبنائها واليابان تحارب روسيا للاستيلاء على كوريا. أما الولايات المتحدة فلم تنو اتخاذ مثال الأمم المتحدة إلا سنة 1898 فدخلت إلى جزائر الهافاي وساموا والفيلبين وكوبا وبورتوريكو وباناما وأخذت تضع العقبات فس سبيل المهاجرين من أوربا والشرق الأقصى وراحت تبعث بجمهور من مهاجرة أبنائها مع رؤوس أموال ضخمة إلى المحال التي بسطت ظل نفوذها عليها. وعقدت المعاهدات التجارية الخاصة مع جمهوريات الجنوب وبعض الممالك الأوربية جاعلة لحماية تجارتها القول والفصل.
ومما يدل على بسط سلطة الأميركيين وتوفيقاتهم الاستعمارية استشارهم بجزائر الهافاي سنة 1900 تلك الجزائر التي تأخذ منها الولايات المتحدة سبعين ألف طن من السكر وفيها من ضروب الثمار والزهور ما تحار له الألباب وجميع أهلها يقرؤون ويكتبون وقد نالوا الجائزة الأولى في انتشار التعليم الابتدائي بينهم في معرض باريس سنة 1878 والعيش فيها من حيث الرغد والرفاهية لا يشبهه إلا المقام في جزائر كناريا. وقد نالت أميركا سنة 99 معظم جزائر ساموا ثم حولت وجهتها نحو استراليا واليابان والصين لما في البلاد الأولى من الخصب والغنى وفي الثانية من الطموح إلى الترقي وفي الثالثة من الضعف والاستسلام.
جعل الأميركان قبلتهم تلك الممالك والتجارة مقصدهم الأول نعم بعثوا بدعاة الدين ولكن دعاتهم لم يشبهوا دعاة الكثلكة بحال فهم يبتعدون عن المشاغب والمتاعب ويجعلون التجارة(12/22)
أخص آمالهم ولذلك كان لهم في الصين المقام الأعلى فاستفادت منه أميركا فائدة مذكورة وساعدهم على ذلك مضاهاتهم للأوربيين في متاجرهم في أقصى آسيا كون مدينتهم سان فرنسيسكو أقرب إلى شنغاي وهوكنغ ويوكوها من هامبورغ والهافر ومرسيليا إليها. وقد كان للأمريكان اليد الطولى في إطفاء فتنة البوكسر في الصين سنة 1900 وإنقاذ السفارات الأجنبية من الحصار وفتح أبواب الصين للتجارة العامة على قدم المساواة بين الدول. وسياسة الباب المفتوح أمرضتهن كافة ولم تتألم أميركا بمحالفة اليابان وإنكلترا سنة 1902 تلك المعاهدة التي أدت في الأحايين إلى خرق سياج هذا الباب في بعض أحوال مخصوصة.
ولم يكتف أرباب الأموال من الأميركان أمثال فندربلت وجاي كود وركفلر بتأليف شركات كبيرة للاتجار في الصين بل قامت زمرة من أصحاب الملايين منهم ترى احتكار المشاريع الإفرادية في إحدى الصناعات غاية في البساطة فاحتكر المثري كارنجي الحديد ثم تألفت شركة من كل من كارنجي ومور ومورغان احتكرت الفولاذ في بلاد أميركا وهو من الاحتكارات التي لم يسمع لها مثيل وقد ساعد هؤلاء المحتكرين الثلاثة على احتكار الفولاذ إن كانت لهم الخطوط الحديدية. وبعد أن تم لهم ذلك أنشئوا شركة بحرية تمخر سفنها عباب البحر المحيط ليتمكنوا بواسطة سفنها من الاستيلاء على تجارة الأسواق الخارجية كما تمكنوا من الأخذ بناصية الأسواق الداخلية. ثم أسس المثري مورغان دار صناعة يصنع فيها أرخص السفن وأجودها حتى لا يتيسر لشركة في العالم مهما بلغت من القوة بأن تضاهيه وشركاءه في احتكارهم.
غلبت أميركا حكومة إسبانيا منذ سبع سنين فرغب كثير من الدول الأوربية في مسالمة أميركا وأصبحت كل من إنكلترا وألمانيا لا تخاف على نهضتيها إلا من سطوات الأميركان. وحاولت ألمانيا القرب من الولايات المتحدة ولكن هذه لا ترضى عن تلك وهي ترى أبناءها ينزلون في أميركا ويستنزفون أموالها بالإتجار وغيره من الأعمال. أما إنكلترا فحالها مع الولايات المتحدة تختلف عن حال غيرها ذللت لأنها غذت أميركا بأجود لبنها فلما انفصلت عنها عرفت قدر حماية التجارة وتمكنت بهذا المبدأ من التغلب وإحراز قصب السبق لأن تينك الأمتين على طرفي نقيض في صلاتهما التجارية. فأميركا تقول بحماية(12/23)
التجارة وإنكلترا تقول بحريتها.
ولقد خيف على مستقبل التجارة الإنكليزية حتى قال غلادستون: مهما كان من سرعة سيرنا معاشر الإنكليز فإن سير الولايات المتحدة قد جعلنا وراءها بمراحل وستكسف تلك البنت أمها وتشل المقام الأول الذي نشغله اليوم فلا نستطيع إذ ذاك أن نصدها عنه إلا كما صدت البندقية وجنوة وهولندا عظمتنا المأثورة. قال الكاتب هذا القول سنة 1870 ولم يكد يتم القرن التاسع عشر حتى صارت إنكلترا من هذه الوجهة دولة ثانوية ولأميركا المقام المحمود وحق التصدر والأولية وأمست إنكلترا لا يهمها سبق أميركا وحدها بل قام لها من دول الأرض من حذون حذو الأميركان في مباراتهم التجارية مثل الألمان واليابان والروس.
وغير خاف أن العنصر السكسوني من أعظم العناصر إدلالاً بعظمته حتى لقد صرح يوماً سسل رودس الغني المشهور الملقب بنابليون الكاب بأن الله اختار العنصر الذي يتكلم الإنكليزية ليكون أداة يقام بها مجتمع أسس على العدل والحرية والسلام ولطالما صرح نبلاء الأمة الإنكليزية بمثل هذه الأفكار وأظهروا من الفرح بنهضة الأميركيين وأن نجاحهم كيف كان يعد نعمة على البريطانيين لا نقمة. قال بعضهم سئل إسكندر دوماس القصصي الفرنسي ذات يوم أي تأليفه أحب إليه وكان ابنه جالساً بالقرب منه فأشار بيده إلى ابنه وقال هذا. ولذلك أقول أي حسنة تعد لإنكلترا الولايات المتحدة رأس حسناتها أهلها أهل العزائم وهم أجدر منا بالقيام بالعظائم.
ومن جملة ما أوصى به سسل رودس من الأعمال الخيرية أن يصرف من ماله على الدهر أجرة تعليم تلميذين من كل ولاية من الولايات المتحدة يجيئون مدرسة اكسفورد الجامعة في بلاده ليتعلموا فيها على نفقته ويعودوا إلى أميركا لتنتفع بهم أمته. قالت إحدى الجرائد ولو كان عكس الأمر بأن أوصى أن يعلم بعض أبناء بلاده في أميركا للوقوف على أحوال الأميركان لعمل خيراً كبيراً. حتى أن القاعدة الشائعة في مدرسة هارفرد الجامعة الأميركية التي سنها الفيلسوف أميرسون الأمريكي هي: أن السكسونيين كانوا وعليهم أن يكونوا العنصر الحاكم المتسلط وما يطمحون إليه هو أبسط النفوذ والقدرة على الاضطلاع بالأعمال.(12/24)
وبعد فإن النهضة الأميركية أحدث من النهضة الإنكليزية وأقوى من النهضة الألمانية والروسية وأحسن انتظاماً من النهضة اليابانية ومنها الخوف القريب على مستقبل العالم. وأن مبدأ مونرو مضافاً إلى نهضتها الزراعية والصناعية والتجارية هو ما يطوي الأحشاء منها وجل أبداً من حيث الأمور السياسية. ولقد كان للنساء اليد الطولى في هذا الارتقاء فإنك ترى للمرأة في الولايات المتحدة من الاعتبار والمقام مالا تراه لها في بلاد أخرى من ممالك الأرض. فالمرأة هناك تؤسس البيوت على التقوى والحب لا على المصلحة والمنفعة وتنفخ في ذويها النشاط الذي يعلى منزلة الإنسان وتحببه إلى النفوس. فمن أجل المرأة قام الأميركان بأعمال عظيمة في حروب الرقيق المدعوة بحروب الانشقاق ومن أجل المرأة ترى الأميركي معجباً بنهضته وساهراً أبداً على دفعها إلى أقصى غايات الكمال على أن في الولايات المتحدة من المسائل السياسية الداخلية ما لم توفق بعد إلى حله مثل مسألة الرقيق والمسألة المالية ومسألة الجيش ومسألة البحرية ولا ينبغي لمن يرغب في العمل من الدول أن ينتظر ريثما تنحل هذه المشاكل لئلا تفوته الفرصة وتنادي محبة المباراة منهن الصيف ضيعت اللبن.
أما المسائل العسكرية والبحرية فالولايات المتحدة تحلها أي حل ناهيك بأمة لم يكن لها سنة 1891 من السفن الحربية ما يستحق الذكر وصار لها اليوم المقام الثاني بين الدول البحرية وتطمح إلى إحراز المقام الأول مما يتأتى لها في القريب العاجل. وإني لآمل أن لا يذهب كلامي في الهواء إذ أن نهضة الأميركان تستحق أن تستدعي أنظار الأوروبيين ما دامت تسوي كل مسائلهم ويمتلئ الفراغ وتصلح النواقص ولم يبق في الولايات المتحدة في الحقيقة غير مسألة السود التي تنحل بطبعها يوماً عن آخر.
وما برح إخلاف عبيد إفريقية ينمون منذ حرب الرقيق وكانوا إذ ذاك أربعة ملايين فغدوا اليوم من اثني عشر إلى ثلاثة عشر مليوناً على أن السواد الأعظم منهم ما برحوا في ذهول وخمول وما فتئ الأميركيون يكرهونهم كثيراً وإن حرروا من رقهم فقد لا تجد فتاة أميركية تزوجت بزنجي ولطالما عوقب بعض الزنوج على إن أطالوا يد تعديهم على النساء البيض ومزقوهن إرباً إربا وهذا ناتج عن البغض القديم المتأصل بين العنصرين ويزيد فيه الصفات السيئة التي اختص بها الزنوج بيد أن العقول ما برحت تفكر في تلك البلاد بإيجاد(12/25)
حل لهذا الإشكال ووضع دواء لهذا الداء وذلك من طريق العلم والتربية.
قام العمراني الأسود كوكر واشنطون وأنشأ مدرسة جامعة عظمى للسود في مدينة توسكيكو وأسست فيها مدارس خاصة بالزنوج تكون تحت مناظرة العقلاء من الأميركيين. وقد عني رجال الأميركان ومنهم الرئيس روزفلت اليوم بتحرير الجنس الأسود من رقه الأدبي فدعا إلى تناول الطعام على مائدته كوكر واشنطون المشار إليه ولم تخش الآنسة ابنته على سواد بشرتها من التنزه مع النساء البيض. ولا يلبث السود أن يتعلموا لترتفع مداركهم عن التسفل والفظاظة وليفنوا في كيان الأميركيين كما يفنى غيرهم من المهاجرين.
وإني أعود فأقول أن نهضة الأميركيين جديرة أن تدرس حق دراستها وإلا ساءت مغبة أوروبا وباءت بالخسران العظيم وخصوصاً إذا تمت الأمنية بعقد تحالف إنكليزي أميركي. وليعلم الدول كلهن مع هذه القوة الهائلة أن للجميع_كما قال الفيلسوف سبينوزا_محل من بيت الرب أي مجال لكل الرجال في هذه لحياة الدنيا ليعلموا والله يعلم السر وأخفى.(12/26)
أكلة التراب
معربة عن مجلة الطبيعة الفرنسية
أكلة التراب من العادات المشاهدة في جميع أطراف العالم فلا يتناوله المتناولون أجزاءً صغيرة كما تؤخذ التوابل بل يكثرون من تناوله بكميات وافرة. وقد قال بلين أن بعض الرومانيين كانوا يمزجون الحنطة بالطباشير المستخرج من ضواحي بوزليس إحدى مدن إيطاليا اليوم. وكان التراب المختوم المجلوب من جزيرة لمنوس وأرمينية يستعمل في الطب. ويأكل بعضهم الطين في أميركا الجنوبية في خلال الفيضانات كما يتخذون التراب إداماً في المعجنات في بورتو والهند والصين ويقوم الصلصال الأبيض مقام صحفة من الحلواء في شاطئ الذهب بإفريقية.
ويتخذ من الحجر الرخص الأبيض طعمٌ لقنص الثعالب والوعول وغيرهم من الحيوانات الكاسرة. وسمن الحجر معروف عند العملة الألمان. وقد شاع استعمال تراب صالح في بلاد فارس. وأهل السنغال يمزجون تراب المغرة (طين أحمر) بالأرز فيأكلونه. وثبت في الهند خاصة منذ عهد طويل أن أكل التراب ينتهي بصاحبه إلى الموت. ويظهر أن القوم في أمريكا الجنوبية يضعون في الليل على عيون الأطفال أوجهاً مستعارة لمنعهم من قلع الجبس عن الحيطان وأكله.
وكثيراً ما شوهد أن أناساً في بعض الأصقاع يتناولون كمية من التراب أو الخزف المكرر فقد ثبت أن العثماني (كذا) يتناول نصف رطل مصري في النهار وأن الفرد في إقليم البنغال من بلاد الهند يتناول ستة أواق. ويجعل التراب أو الخزف بعض الأحيان تماثيل صغيرة وغيرها كما نجعل السكر والحلويات وأقراص الطحين والعسل والتوابل. فيستخدمون في البنغال وبوليفيا صور قديسين من الطين والخزف كما يتخذون منها في جاوة صور آدميين وحيوانات. والتراب أكثر شيوعاً من الخزف.
ولقد أدى البحث عن أسباب مرض آكل التراب ليوم إلى أنه ينبغي التمييز بين ما استعمله بعض الشعوب في كل زمن من مزج طعامهم بمواد حديدية مختلفة وبين المرض الذي يصاب به بعضهم في الأصقاع معينة وهو عبارة عن ابتلاع كمية عظيمة من التراب. فإن من الأمراض ما ينشأ عنه ميل إلى تناول التراب مثل بعض أمراض الهستريا والجنون(12/27)