نظرتك عميقة ولا فكر فيها وفي ذلك العمق الواضح المستبين فراغ.
كذلك في حقول الجنة ومزارعها تتحرك الظلال اللطائف على الأنغام الموقرة المصبوبة بلا حزن ولا سرور.
غداً غداً
كل يوم نعيشه ونقضيه يكاد يكون فارغاً مملاً قليل المنفعة والجدوى وليس يترك وراءه سوى القليل من الآثار وأن الساعات القليلة عندما تمر الواحدة تخطف في ذيل الأخرى لجنونية مفقود المعنى.
ولكن بعد ذلك يرتضي الإنسان الوجود ويغالي بالحياة ويعلق عليها الآمال وعلى نفسه وعلى المستقبل، وأي عميم من الخبر ومستفيض من اليمن ينتظره من المستقبل ويرجّيه من ورائه.
ولكن لماذا يخيل له أن الأيام المقبلة سوف لا تكون مثل هذا اليوم الذي عاشه.
ولكنه لا يتصور حتى ذلك وهو لا يحب التفكير وهو يحس بذلك صنعاً.
آه الغد الغد؟ وهو يرفه عن نفسه بذلك حتى يطوح به ذلك الغد في القبر وفي القبر لا اختيار ولا تفكير.
رجلان مثريان
عندما أسمع إطراء الرجل التمول روتشلد الذي يوقف من ريعه الضخم وثروته الطائلة الآلاف لتربية الأطفال والعناية بالمرضى والآخذ بيد العجائز والمقعدين أستحسن منه ذلك ويصيب مني مواقع الرقة والتأثير.
ولكني وأنا في غمرة ذلك التأثير الحسن لا أتناسى مزارعاً آوى إلى كوخه ابنة أخ له يتيمة.
قالت له امرأته: إذا نحنح أوينا كانكا فنصرف من أجلها كل نقودنا ونبددها ونصبح لا نملك ما يكفي لاستحضار ملح نتناوله طعاماً مع قطعة من الخبز.
فقال زوجها الزراع حسن - نستغني عن الملح!
إن روتشلد جِدُّ متأخر عن ذلك المزارع.
الطبيعة(55/29)
أريت فيما يُرى النائم أني جئت معبداً ضخماً تحت الأرض ذا سقف عال مقوس وقد كان غاصاً بأنوار أرضية متشابهة وفي وسط المعبد كانت تجلس امرأة وقور فخمة عليها ثوب أخضر فضفاض وكانت قد أسندت رأسها إلى يدها وكان يلوح عليها أنها مسترسلة في تفكير عميق.
علمت في الفور أن هذه المرأة هي الطبيعة نفسها فسرت في نفسي رجفة احترام ممزوج بخوف صاعد من قرارة روحي.
وأتيت تلك الصورة الجالسة وانحنيت بإكبار وقلت يا أمنا وأم الجميع فيم تفكرين؟ أتفكرين في مستقبل الإنسانية وكيف ينال الإنسان أسمى ما في دائرة الامكان من الكمال والسعادة.
فحركت المرأة عينيها السوداوين الرهيبتين في بكاء وتراخ وتمتمت شفتيها فسمعت صوتاً رناناً صليل الحديد يقول أني أفكر في كيف أمنح قوة أوفر لساق البرغوث ليتسنى له الفرار من أعدائه على أحسن وجه فإن ميزان الهجوم والدفاع مختل غير متزن فيه ويجب أن يراعى ويحفظ.
فتلجلجت في الجواب وقلت ماذا؟ وما الذي تفكرين فيه؟ أولسنا نحن بني الإنسان أولادك الأعزاء؟ فتململت ثم قالت كل المخلوقات أبنائي وإن عنايتي ترفرف فوق الجميع وأنا كذلك أفني الجميع وأبيدهم.
فأجبتها متلجلجاً، ولكن الحق والعقل والعدل.
فقالت بصوتها الحديدي: هذه كلمات الإنسان! وإني لا أعرف الحق من غيره وإن العقل قانون الإنسان وماذا يعنيني من العدل؟
لقد وهبتك الحياة وسأستردها وأهبها لغيرك أديداناً كانوا أم رجالا - أنا لا أبالي.
فانظر في خلال ذلك لنفسك ولا تقف في سبيلي - وكنت أود مراجعتها ولكن ألأرض اهتزت وتنهدت فاستيقظت.(55/30)
سلطان مضحك
مولاي الحفيظ ومضحكاته
يعرف الشرقيون مولاي الحفيظ سلطان مراكش السابق، وما كان من تنازله عن الملك، وتركه السلطان لفرنسا، ونحن نذكر القراء بما نشرناه عنه من قبل يوم ضرب الموعد لاستلامه المبلغ المتفق عليه وقدره أربعون ألفاً من الجنيهات من القائد ليوتي: المعتمد السامي في مراكش. على أن يسلمه عهد التنازل. فقد وقف السلطان أمام القائد يحمل عهد التنازل في يد ويمد الأخرى إلى الجنرال لتناول المال. وجعل يمد يده بعهد التنازل ثم يراخيها. ويبسطها ثم يقبضها. خوفاً من أن تكون ثمت خديعة يراد منها أن سيحب منه التنازل ولا يقبض المال المتفق عليه.
ولقد كان منظراً مضحكاً. ومشهداً آية في الغرابة. إذ وقف الحفيظ هكذا كالأطفال. لا يريد أن يتنازل عن القرش حتى يعطى قطعة الحلوى.
وقد كان ذلك على ظهر سفينة من سفائن الفرنسيس وكانت النية في ذلك أن يسافر الحفيظ إلى جبل طارق ومنها على صدر المحيط إلى فرنسا تنزهاً وترويجاً عن نفسه وأبعاداً له عن مقر ملكه الذي باعه في سبيل مال قليل لا تباع به العروش.
وقد وصف أحد كتاب الإنجليز ما كان من الحفيظ في رحلته من عجائب خلقه. ومضحكات أطواره. وكان ذلك الكاتب مسافراً في السفينة يعنيها إلى باريس. وكان قد أقام ردحاً من الزمن في مراكش وعرف الحفيظ واختلط به. وقد نشر تلك. المذكرات عنه في مجلة كبري من مجلات الإنكليز. ولغرابة موضوعها. واحتوائها الكثير من الفكاهة والمجون. آثرنا أن نطوف بها قراء البيان.
* * *
قال الكاتب: وصلت بنا الباخرة في اليوم التالي وعلى صدرها السلطان. إلى جبل طارق. وقد اتفق لكاتب هذه السطور أن ان عائداً من مراكش إلى موطنه في إنجلتره عن طريق فرنسا. وكان يريد أن يرحل في سفينة أخرى. ولكنه أراد أن يودع صحابة له من حاشية السلطان والموظفين الفرنسيين المسافرين في حراسته على ظهر السفينة قبل ارتحالها. وكانت الرغبة أن يتجنب رؤية الحفيظ ويتحاشى لقاءه لأن السلطان كان منه مغضباً. ووقع(55/31)
بينه وبين الكاتب شجار طويل في فاس قلب السفر بنحو خمسة أشهر إذ جعل الحفيظ يصب جام غضبه الملوكي على الكاتب لنشره المقالات الضافية عن الفظائع التي كان الحفيظ يرتكبها في مراكش قبل اعتزاله. ولذلك نزل السفينة وهي بالساحل راسية ليودع أصحابه وهو متحرش أن يرى السلطان مخافة أن يصب عليه غضبه مرة أخرى. ولكن السلطان ما كاد يلمحه وهو يخطو إلى السفينة حتى أسرع إليه فعانقه أحر عناق بين صديقين ودودين وقال لمن حوله أنه إذا لم يوافق كاتب هذه السطور على السفر معه في حاشيته. فليس على الحفيظ إلا أن يعلن أنه في منطقة المياه البريطانية ويرفض التقدم خطوة واحدة.
كان المركز حرجاً، والمأزق صعباً، فتشاور الموظفون الفرنسيون فيما بينهم، وعرضوا عليّ الفكرة فأينت لهم أن خطتي قد وضعت، ولا أستطيع تغييرها، ولكن السلطان ظل على إصراره، فوقع المندوبون الفرنسيون في حيص بيص وجعلوا يرجون إليّ أن تنازل عن فكرتي وأسافر معهم فلما رأيت الأمر ازداد حرجاً، لم يسعني إلا القبول، فبدأت ثرثرة السلطان، وفرح بالأمر، وارتضى السفر وما كاد النهار ينتصف حتى كنا مغذين السير إلى مرسيليا وقد أدركت السبب الذب من أجله أبى السلطان إلا أن أكون معه، على الرغم من شدة كراهيته لي، ذلك أنه كان مضطرباً منزعج الأعصاب، متوهماً أنه كان معتقلاً، وإن النية فيه أن يؤخذ إلى فرنسا فيزج في غيابات السجن، ولهذا أراد أن يكون من بين حاشيته رجل إنكليزي أو رجلان، ليكونا شاهدين على ما يكون من الفرنسيين معه، على أنه لم تخطر هذه الفكرة بأذهان الفرنسيين البتة، ولم تكن على بال الحكومة الفرنسية.
وبعد يومين وصلت الباخرة مارسيليا فاستقبل السلطان استقبالاً رسمياً إذ علقت الأعلام. فوق الميناء وخفقت الرايات. واصطف حرس من الفرسان وصدحت الموسيقى العسكرية بالتحية. وعلى أن مولاي الحفيظ لم يكن معروفة في فرنسا. فقد لفتت رحلته أنظار الشعب الفرنسي واهتم القوم به وبتحليل شخصيته. وكان إذ ذاك النجم المتألق. وظهرت صورته في الصحف ونشرت سياحته وبرنامج زيارته في الجرائد واجترأ مصنع من مصانع الأساور فملاً حيطان الحانوت بصور الحفيظ وهو يلبس تلك الأساور.
وكان مولاي الحفيظ على الرغم من عدم اكتراثه بسرعة السيارات التي نركبها شديد(55/32)
الجزع من سرعة القطار وكان من الصعب إقناعه بوجوب ركوب القطار إلى مدينة فيشي للاستحمام بمياهها المعدنية المشهورة فإن المسافة شاسعة والسفر مع حاشيته الكبيرة والضباط الفرنسيين الكثيرين شاق بالسيارات. فبعد أيام ثلاثة من مقامه بمارسيليا ركب المركبة الخاصة به في القطار الذي أعد له ولحاشيته وحرسه ليقله إلى ذلك المصطاف الجميل فما كاد القطار يترك إلافريز وينهب الأرض نهباً. حتى جزع السلطان واضطربت أعصابه واشتد قلقه ولم يستطع أن يكتم خوفه ويسر جزعه فلما زاد القطار سرعته. صاح السلطان طالباً إيقاف القطار وقال أنه يؤثر أن يصل إلى فيشي سعياً على القدم من أن يظل دقيقة واحدة في ذلك القطار اللعين. وبلغ جزعه الحد الأقصى. وتناهت مخاوفه. إذ بلغ القطار فسرب فيه وما لبث أن جري في ظلمة طخياء وحلكة شديدة وكان منظر السلطان يستثير الشفقة فقد جعل يتشبث بذراع الضابط الفرنسي الذي كان بجانبه والرعب في عينيه وهب لا ينفك يصيح. قل لهم أن يوقفوا القطار. لماذا لا تأمرهم بإيقاف القطار: وكان رعب حاشيته من المراكشيين أشد ظهوراً. إذ جعلوا يصرخون ويتماسكون ويتشبثون بعضهم ببعض خوفاً وهولاً ثم ما لبث القطار أن نفذ من النفق فعاد يجري في أرض سهلة وضياء منبسط فاستوى السلطان في مجلسه وسرى عنه. وذهب الروع، وراح يقول في لهجة عظيمة جريحة متألمة تكرم بكفهم عن هذا العمل!
قال الضابط: أخشي أن لا يكون ذلك ممكناً.
فقال السلطان: ولماذا
قال الضابط: لأن القطار لا بد من أن يجري في سفح الجبل
فنهض السلطان من مجلسه وراح يقول: إذن فيجب أن يقف القطار عن المسير وسأمشي فوق الجبال حتى الحق به عند تركه هذه الجهة.
فصاح الضابط مقاطعاً مبيناً للسلطان مقدار المسافة: فلم يكن من السلطان إلا أن قال لا اتهمني المسافة أصلاً: فإنني أفضل أي شيء غير هذه الالآم التي يحدثها لي القطار.
فبعد لأي استطاع القوم الذين حوله أن يقنعوه بالرضي بالسفر فأذعن صابراً: ولكنه لم ينفك طول المساء يلعن مخترع القطارات وبناة السكك الحديدية ويشتم مخترعي الفق خاصة وبفردهم بذمه ولعناته. وحدث عن الأشياء الكثيرة التي جعل يشتريها الحفيظ ولا حرج ففي(55/33)
ذات يوم ونحن في فيشى معه انطلق السلطان فزار ضيعة قريبة من الموضع وأصر على أن يطوف خلالها ويجوس بين ديارها وأرباضها حتى جاء إلى مكان اجتمع فيه قطيع كبير من الماشية فقرر السلطان ابتياع القطيع برمته ودفع إلى صاحب النعم بطاقته (كرته) وقال: لترسل الأغنام بهذ العنوان الليلة وكان العنوان الذي ذكره في البطاقة، فندق ماجستيك وهو أبدع قصور فيشى وفنادقها الفخمة، فما كادت تؤذن الساعة الحادية عشرة من تلك الليلة بعينها. وهي الساعة التي يكون الفندق فيها في أشد حركته، والنازلون به في أشد سمرهم، وأعز حوارهم وطوفاتهم حتى جاء صاحب الفندق إلى وأخبرني بأنه قد وصلت إلى الفندق سبع وعشرون بقرة بيضاء على غير انتظار وقد ادخلت رحبة الفندق وهي إذ ذاك به، فرأيت ثم أبقاراً بيضاً غلاظاً، تجري مصطدمة متدفعة في وسط عشرات من السيارات وهي في خوار وصياح، والخدم حولها مزدحمون بفصلون بعضها عن بعض، تلك كانت صفقة السلطان، ولا أعلم أين كان مبيت تلك الأبقار في تلك الليلة، ولكن اضطر صاحب الفندق في اليوم الثاني أن يجد لها مكاناً صالحاً.
وكان السلطان يتناول العشاء في حجرة الطعام الكبرى في الفندق، وقد أعدت له مائدة متعالية حتى يكون على مستشرف من الآكلين جميعاً - وهم صفوة أهل باريس، وخيرة النجوم المتألقة في الحياة، وأعمدة المجتمع التسامية، ففي ذات مساء، والقوم صافون حول الموائد والسلطان إلى المائدة جالس، إذ جعل ينظر نظرات ذهول وشرود ذهن إلى الجلاس وبرتو إليهم رجل مشفق عليهم. راث لحالهم، وكان قليل الكلام، ملازم الصوت وأخيراً استدعي صاحب الفندق فهرع إليه الرجل في أدب وشدة إجلال فلما وقف أمامه راح الحفيظ يقول وهو يشير إلى جمع الجالسين في المائدة: إن هذا الجمع موزع اسوأ توزيع، وكثيرون منهم لهذا الترتيب السيء متألمون، يبدو عليهم الحزن، وتتجلى شيماء الكآبة على معارفهم، فلنعمل على ترتيبهم كما يجب فإن هذا الرجل العجوز ذا اللحية الشهباء المستطيلة لا حق له في الجلوس بجانب تلك السيدة الشابة الحسناء ذات القبعة الطويلة الجميلة والعقد اللؤلؤى المتلألئ - فإن ثمت فارقاً فظيعاً بين عمريهما، فيجب أن تجاس بجانب ذلك الضابط الفتى الجالس هناك: وأشار إلى مائدة أخرى - لأن السيدة العجوز التي تجلس بثيابه - وكأنها أمه وخالته - هي التي ينبغي أن تكون جلية ذلك العجوز ذي اللحية(55/34)
البيضاء. ألا ينبغي لك أن تمهد السعادة لضيوف فندقك، وتعمل على راحة النازلين بدارك وهنا أشار إلى جهة أخرى من الحجرة، والآن ألا ترى تلك السيدة الجالسة هناك تبدو حزينة متألمة، وقد جعلت تضرب الصحفة التي أمامها بطرف شوكتها دون أن تمس طعاماً، ويلوح لي أنها كارهة الجلوس بجانب الرجل الذي بجانبها ولعله زوجها. أنني مراقب حركاتها طول هذه المدة وقد رأيتها تنظر إلى الفتى الجميل الذي يجلس هناك وحيداً بفتل شاربه فاذهب وقم بواجب تعريفها بعضهما فإن زوجها لم يخاطبها بكلمة واحدة كل هذا المساء فاذهب وافعل كا أشرت عليك، وبذلك تجعل من مخلوقين محزونين إنسانين سعيدين فرحين فإذا ساء الزوج ذلك، واسوحش العزلة فادع إلى الجلوس بجانبه تلك السيدة ذات الفروع الحمراء التي تخالسه النظرات. وإذ ذاك تستطيع أن تشغله عن زوجته.
هذا التقسيم جميل بلا شك ولطيف الغاية، ولكن للأسف لم يكن في إلا مكان إنفاذه وكانت الأيام التي قضاها السلطان في فيشى غائمة سوداء لا تطالعها شمس، ولكن لم تلبث الشمس أن أعلنت نفسها فكان صباح جميل ناضر، فرأى السلطان أن يغير المكان الذي اعتاد المكث والمبيت، فوجد في الناحية المقابلة حجرة ذات شرفة ازدانت بالأزاهر، فدخلها وفي أثره غلمانه وخدمه، ولما رأى الشرير فيها أمر الغلمان بأزاحته إلى جانب الناقدة المؤدية إلى الشرفة، وجلس هو على الزرابي في الشرفة جلسة القرفصاء وراح يطل على الشارع. على أن تلك كانت السيدة نبيلة من الروس وكانت قد ذهبت إلى الحمام لتبترد، فلما انتهت من الاستحمام دخلت الحجرة متفصلة من ثيابها ليس عليها إلا ثوب الحمام فإذا بها أما رجل شرقي أسمر المعارف، وحوله غلمان سود، وخدم في القفاطين، فذعرت السيدة، ولكن السلطان قابلها بأشد الاحتشام، وألطف عبارات التأدب، ودليل الأدب أنه عزم عليها إلا ما جلست بجانبه على الزرابي. فقابلت السيدة ذلك بالتلطف ولولا ذلك لازداد الأمر حرجاً، ودعى كاتب هذه السطور في الحال لفض المشكل، فانفض على خير وجاء زوج السيدة فجعل الزوجان يضحكان من هذه المباغتة المسرحية.
ومثلت ليلة في الأوبرا تحت رعاية السلطان وكانت الرواية غنائية، وأنتم تعلمون أن الغناء في مراكش أو قل في الشرق عامة يختلف والغناء الفرنجي أشد الاختلاف، وكان المغنى في تلك الرواية رجلاً جهيراً ذا صوت كالرعد، غما كادت الأوركسترا تعزف وتعينه على(55/35)
القطعة الثانية، حتى انفجر صوته فملأ قاعة الملهى وجوها كله. فاضطرب السلطان الحفيظ إذ لم تفعل فيه الموسيقى الأثر الذي فعلته في الجمهور. ولم يقهم من كل هذه الصيحات الغنائية والإشارات التي جعل الرجل يصحبها بالغناء إلا أن الممثل كان مريضاً يحس آلاماً شديدة ولا سيما أنه كلما رفع بالغناء عقيرته. راح يلوح بذراعيه في الهواء، ثم يدنيهما حتى يمسا معدته. فلما رأى السلطان الرجل مسترسلاً في الصياح. لم يلبث أن نهض من مجلسه مذعوراً وصاح. أين الطبيب، أين الطبيب، ليذهب لاستدعائه رجل منكم فلعله مستطيع أن ينقذ حياة هذا الرجل المسكين: وما كاد ينتهي من عبارته حتى أرسل عينيه تدوران في الملهى تبحث عن الطبيب وهو في أشيد الجزع على المغني ولكن بعد أشد الجهد استطعنا أن نقنع السلطان بأن الرجل ليس مريضاً بل كان يغني لتسلية الجمهور. ولكنه لم يصدق بتة وجلس برهةً ثم سئم الغناء وسماعه فترك المكان قبل أن تنتهي الرواية، فلما كان اليوم التالي سألني عما حدث في الفصل الأخير فلما نبيء بالختام المحزن الذي وقع لجميع أشخاص الرواية. لم يكن منه إلا أن قال أنني آسفت على تركي الملهى قبل النهاية ولو كنت مكثت لاستدعيت صاحب دار التمثيل في الحال وأصررت على أن يكون ختام الرواية ساراً مفرحاً فإن ذلك الجندي في الرواية كان يجب أن يتزوج السيدة ذات الثوب الأبيض. وتلك المرأة العمياء كان ينبغي أن يبحث لها عن طبيب يرد عليها بصرها: وكنت قديراً على أن أنقذ الرواية من كل هذه المصائب. . .(55/36)
الملوك ورؤساء الجمهوريات
موازنة
وضع أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية السابقين - المستر روزفلت - وهو من أكبر رجال السياسة. وقدر كتاب العالم الجديد. مذكرات لرحلة من رحلاته طاف فيها بلاد الغرب وعاج فيها على الشرق. وقد وصف في تلك المذكرات ما كان منن لقائه الملوك. وزيارته قصور الإمارة. وآداب الحكام الذين نزل عليهم ضيفاً. وهي من أبدع ما كتب رجال السياسة. لذلك آثرنا أن نقتطف منها القطعة الآنية لغرابة موضوعها وطلاوة بحثها. وهي الموازنة بين الملك ورئيس الجمهورية والفروق التي بينهما في الحقوق والامتيازات.
* * *
وقد أضحكني عند وصولي رومه أن وجدت سفير أمريكا بها على خلاف حاد وشجار مستطيل ورئيس تشريفات الملك. وقد أدار الأول أن يكره الآخر على لأن يستقبلني عند وصولي الحاضرة الكبرى بما يجب لي من الحفاوة الخليقة بملك. وأصر على رأيه من أنني لست إلا زائراً عمومياً. ورجلاً من عامة الناس لا حق لي في استقبال ملكي ولا يصح استقبالي كما يستقبل الملوك وأهل الألقاب الموروثة كابرا عن كابر فلما وصلت ورأيت ذلك الشجار الحاد تداخلت بسرعة في الأمر وأخبرت السفير أنني مشارك رئيس التشريفات كل المشاركة في رأيه. وطلبت إليه أن يعدني كما عدني رئيس التشريفات. رجلاً عمومياً لا أكثر ولا أقل. وأن ينبئ جميع عماله بأن يكون لهم في شأني هذا الرأي بعينه. وكاشفته برغبتي في أن أترك في كل حركة من حركاتي. أرسمية كانت أم غير رسمية افعل كما أشاء. وأمشي وأجلس وأتنقل كما أريد وأن أنزل على حكم أهل المدينة وحكامها. فأظهر في المجالس إذا أرادوا. واختفي إذا شاؤا. وقد أردفت كلماتي تلك بأنبائه أنني لم أقل ذلك تواضعاً مني وتنزلاً. بل عزة وإدلالا وفخراً. فأنني علم الله أشعر باحترام صادق للملك الذي يؤدي واجبه خير الأداء وأسر بإظهار الاحترام الخليق به وإبداء الإجلال الواجب لمكانته ولكني أكره ما أكون للرجل العادئ الناشئ نشأة العامة والذي وثب من الصفوف فكان القائد الديموقراطي. وما أبغض شيئاً من شؤونه قدر ما أبغض افتخاره بأنه الديموقراطي الواثب من عرض الجماهير ث إلحاحه في طلب حقوق وإكراهه الإنسانية(55/37)
على منعه امتيازات ورسوماً وفرائض ليست منه إلا حجة تناقض ادعاءه الديموقراطية. وافتخاره بها، وإذلاله على الناس من ناجيتها. ولعمري ما أبدع رأى الأمريكان. وما أجمل نظريتهم. وهي أن الرجل من عامة الناس قد يثب من غمار الجماهير فيشغل من سمع الدنيا وبصرها مكاناً قد يساوي فقي عظمته مكانة أكبر ملوك الأرض. ويكون له من السلطان ما بين سلطان القياصرة والعواهل العظم والباباوات الكبار. فإذا أتم دوره ترك المكان لسواه. ومضي لا عطاء يتناوله. ولا معاش يتقاضاه. ولا وظيفة تجري عليه. وعاد إلى صفوف الناس موفور الكرامة. لا يطالب الدنيا من الاحترام إلا على قدر كفاءته الشخصية. ومواهبه واستعداده ومقدار عمله. وأسخف شيء وأحمقه. أن ترى رئيس الجمهورية. أو الرجل الذي كان يوماً رئيس للجمهورية بريد الناس على الاعتقاد بأنه أشبه بتقليد ملك. أو ملك (نصلبه) أو إمبراطور (ترسو) ولو فعل لكان أشبه بالقائد الروماني الذي أراد أن يعامل في الناس معاملة ملم من ملوك آسية الأقدمين. إذ ينبغي أن يعلم الناس أن يعلم الناس أن مكان الملك جد مخالف لمكان الرئيس درجة ومرتبة وشكلاً وصورة. ومن الحماقة نسيان هذه الحقيقة أو تناسيها. ونحن لا يهمنا أن تتقبل الشعوب الأخرى مبدأ الأمريكان ويرتضوه مبدأ طيباً لهم. وإنما أكرب همنا أن لا يحيد أمريكي يصعد مكان الرآسة، ويتربع في دست الولاية، عن ذلكم المبدأ، أو ينجرف عن هذا الرأي الجميل.
على أن الملك إيطاليا تلقاني بأكبر الحفاوة، وأنزلني أكبر منزل. فلما أعدت حفلة العشاء في القصر، والشيء يذكر بالشيء. اضطرتني الحال إلى أتن أستغل آداباً لم أستعملها في بلاط ملك آخر من الملوك الذين نزلت عليهم، وقد اجتهدت أن أترك قبعتي وأمشي إلى المائدة حاسر الرأس، عند ما تركت معطفي في الحجرة المجاورة لحجرة المائدة، ولكن لم ألبث أن وجدت قبعتي مردودة إلى. وقد تولي القوم الدهشة وأنكروا تلك الغفلة مني واستفظعوها ولم أدرك شيئاً نم ذلك. حتى رأيت الضيوف الآخرين قد أبقوا قبعاتهم فوق رؤوسهم، ففعلت فعلهم، ومشيت إلى المائدة بالقبعة فلما أقبل الملك والملكة، وقدمت إلى الملكة لآخذ بذراعها إلى المائدة، ظننت أنه يصح إذ ذاك أن تخلى عن القبعة، ولكن القوم أفهموني أنه ينبغي أن أمسك ذراع الملكة بذراعي، وأمسك في يدي الأخرى قبعتي، ولم أكن رأيت هذه الآداب من قبل إلا في حفلات اليهود في نيويورك وأعراسهم.(55/38)
وقد أذكر حال أولئك الملوك بوجه شبه بينهم وبين ضباط جيشنا الأمريكي القديم في القرون الماضية، وإن كان هذا الشبه يلوح غريباً شاذاً مؤلم الوقع، وذلك من ناحية علاقاتهم بعضهم بعض، يوم كان أولئك الضباط وأزواجهم محتبسين في بقعة بعيدة عن الحضر ضاربين خيامهم في أرض قفز قصية عن المدينة، وكان بينهم وبين من دونهم نم الجند والكشافين والقابضة والصيادين البلدين بتلك الأرض، وإن كانوا متربطين برابطة واحدة، وعقد متينة، على شيء كثير من الغيرة والتنافس والمشاحنات والكراهية والمنازعات تفرق بينهم وتقطع حبل الصلة بين بعضهم والبعض وشبيه بهذا ما يقع هؤلاء الملوك والأمراء وما يحدث بين الملكات والأميرات، وما يكون بين الملك الصغير والإمبراطور العظيم إذا أراد هذا أن يغيظه ويحنقه عليه ويضرق عليه أشبه شيء بما يقع يبن زوجة السكابتن وابنة الكولونيل.
وكنت أتصور قبل رؤيتي هؤلاء الملوك أن حياتهم لا بد نم أن تكون محدودة ضيقة الجوانب مقيدة فزادتني هذه الرحلة التي أديتها ثقة بصحة ظني وإيماناً بعقيدتي وأنا أستطيع أن أفهم رغبة المرأة في أن تكون ملكة وأقدر اعتزازها بهذا اللقب العظيم ولكني لا أستطيع أن أدرك لم يبتهج الرجال بأن ينادوا في الدنيا ملوكاً، وأنا لا أنكر أن لذة الملك والسلطان عظيمة فاتنة ساحرة إذا كان الرجل منا ملكاً وحاكماً مسيطراً، كان له من القوة والنفوذ ما يجعل منه فردريكاً كبيراً، أو على الأقل أشبه بالإمبراطور ويليم الأول. وهو وإن لم يكن رجلاً عظيماً، وملكاً بطلاً. كانت له الصفات والسجايا والأخلاق التي مكنته من استخدام أمثال بسمارك ومولتكي وفون رون، والنزول على إرادتهم كذلك واستخدامهم له وأما الملك العادي البسيط فلا سلطان له على شيء سوى الأزياء والمودات فإن كان فاضلاً مستقيماً شريفاً استطاع أن يكون لامته الأسوة الحسنة، فإن لم يكن على شيء من ذلك اضطرت حاشيته وعلماء الدين حوله وأهل بلاطه وصنائعه أن يكونوا عمي البصائر فيقولوا له أن الفاضل والمستقيم والشريف ويخلقوا له فضائل ومقدوا عليه مدائح ليس هو منها في شيء، وأمثال هؤلاء الملوك العاديين لا يؤدون في الحياة عمل قواد الإنسانية الذين يبثون من صفوف الشعب فيقودوا الناس والحياة طوعاً أو كرهاً، وهذا العجز ينطبق على ملوك الحكومات الملكية الدستورية.(55/39)
وهنا أسأل القراء أن يفهموني ويضعوا بألهم معي عند هذه النقطة من البحث. أنني لا أريد بقولي هذا أن الملك الحكومة الدستورية لا يستطيع أن يؤدي عملاماً، أوان لا تكون منه قائدة: بل أنه لأشبه بالراية الأهلية والمعنى الذي يدور حولها. والفكرة الاجتماعية التي تخفق مع خفقة قماشها، ولكن الرجل المجنون الأحمق لا يري الراية الوطنية إلا قطعة مصبوغة من القماش وخرقة بالية، على حين أنها في الحقيقة رمز عظيم الأثر في حياة الشعب وتفكيره وآدابه الاجتماعية وكذلك لا يكون الملك إلا رمزاً كرمز الراية ولا أريد أن أبحث قولهم أنه قد يكون من سوء الحظ في بعض الشعوب أن يروا على رأسهم مثل هذا الرمز وهذه التصويرة الخيالية الغريبة. فإنني لا أريد أتن أتكلم عن فائدة الملك لشعبه. فذلكم ما اعتقد، وإنما أريد أن أقول أنه إذا كان الملك عظيماً في نفسه، وثاب النشاط، عظيماً في سلطانه وقوته، فلا يمكن أن يحتمل ولا يرضى لنفسه أن يرى كل ماله في الدنيا وفي أمته أن يبقى رمزاً مقرراً وصورة خيالية لا بد منها.(55/40)
عالم الأدب
دول العرب
أمير الشعراء أحمد شوقي بك
كنا وكان الناس جميعاً على أن أمير الشعراء، وسيد الشعر العربي دون امتراء، حضرة صاحب السعادة أحمد شوقي بك، لا بد محدث حدثاً كبيراً لم يسبق إليه في عالم الأدب أثناء تلك الفترة التي قضاها في أسبانيا - واليوم وقد آب سيد الشعراء إلى وطنه، وعاد بلبلنا الغرد الصداح إلى وكنه، ظهران قد حقق الله آمالنا فيه وكان عمد حسن ظننا به وبشاعريته، فقد وضع في دول العرب مذ جاهليتها إلى أن أدال الله منها في الإسلام ملحمة بل ملاحم شعرية كبرى سد بها ثلمة في الأدب العربي ما كانت لتسد لولا سيد الشعراء.
وهذه الملاحم بين قصيد وأراجيز وموشحات تلاقى فيها التاريخ بالشعر والحقيقة بالخيال والمعاني السرية، بالأساليب الملوكية، والنقد التاريخي الصريح، بالأدب العالي الصحيح، وهلم مما لا يبقي معه موضع لأن يستطيل علينا الأدب الغربي بمثل اليذة هوميروس مما يسمونه العشر القصصي وأزروا على العشر العربي عطله منه، وقد أهدى إلينا شاعرنا العظيم حلقة من حلقات تلكم الملحمة خاصة بالدولة الفاطمية وناط بنا شكلها وشرحها وسطاً ثم نشرها بعد ذلك في البيان.
نسأل الله جل شأنه أن يجعلنا عند ظن شاعرنا العظيم بنا، وأن نوفق إلى نشر هذه الملحمة الفاطمية في العدد المقبل إن شاء الله.
في سبيل التاج
هي تلكم الرواية البديعة التي نقلها عن الفرنسية إلى العربية الروائي الكاتب المبدع السيد مصطفى لطفي المنفلوطي المشهور بشخصيته الأدبية الممتازة وأسلوبه الجميل الذي يستهوي النفوس وينحدر إلى القلوب انحدار الماء في الكثيب وإنا لنعرف عن عشاق الأدب والجمال تهافتهم على كل ما يدبجه السيد المنفلوطي دون حاجة إلى تفريط صحيفة أو مجلة وإن كل ما يكتبه السيد حفظه الله لخليق بذلك لإقبال وبأكثر منه - والكتاب يباع في جميع المكاتب وثمنه 10 قروش صحيحة.
كتاب الأخلاق(55/41)
للأستاذ العالم المهذب الكاتب الشيخ أحمد أمين خريج مدرسة القضاء الشرعي والمعلم بها اليوم. والكتاب حسنة من حسنات العصر لغة وتنسيقاً وموضوعاً فنحث جميع المولعين بالإطلاع على النافع المفيد أن يبادروا بقراءة هذا الكتاب وهو يطلب من حضرة صاحبه الفاضل بمدرسة القضاء الشرعي.(55/42)
العدد 56 - بتاريخ: 1 - 6 - 1920(/)
اعترافات دى موسيه
الفصل السادس
وبينا أنا مغمور في لجة هذا الحزن الفياض واليأس العميق دفعتني حدة الشباب على مساعفة من الفرص المؤاتية إلي إتيان عمل كان فيه الحكم الفاصل في مستقبل أمري وحالتي لقد كنت كتبت قبل ذلك إلى حبيبتي أني لا أشتهي البتة أن أرى وجهها، وقد أمضيت هذا العزم ولكني بقيت مع ذلك أقضى الليالي العديدة تحت نافذتها على عتبة دارها. وكنت أرقب شعاع المصباح نم وراء زجاج النوافذ وأنصت إلي النغمات لمنبعثة من معزفها. وكنت أحياناً ألمح شخصيتها نم خلل السجوف والستائر.
فبينا أنا ذات ليلة جالس هذه الجلسة قد جهدني الحزن وبلغ مني الأسى بصرت بعامل يسعى وهو أثناء سعيه يتغنى بألحان متقطعة تشوبها صيحات نم الطرب. وكأنه كان قد أفرط في السكر فكان يتمايل في مشيته ويتخبط لا تكاد تحمله رجلاه. ثم أن هذا الرجل قعد على دكة إزائي فلبث برهة جاعلاً يديه تحت ذقنه ثم أخذه السكرى فغط غطيطاً.
وكان الشارع خلواً من الأنيس وقد وهبت ريح جافة أثارت التراب وأسفر القمر يترقرق غديره في روض سماء تطفو على نهر مجرتها أزاهير نجومها. فنظرت إلى وجه ذلك النائم تستضيء ملامحه في سنا القمر الباهر. وكان لم يشعر بوجودي. وقد خيل إلى أنه كان فوق ذلك الحجر أهأ هجعة. وأوطأ ضجعة. مما لو كان على فراشه بمنزله.
لقد أذهلني منظر ذلك الرجل عما كنت فيه من الحزن والكمد على الرغم مني. فنهضت لمغادرة هذا المكان ولكني ما لبثت أن عاودت مجلسي. والواقع أنه لم يكن في طاقتي الانصراف عن ذلك الباب وإن ظلت نفسي تأبى أن أطرقه ولو أن لي الدنيا بحذافيرها. وأخيراً قمت فتمشيت قليلاً ثم عرجت نحو ذلك النائم فوفقت أمامه.
وقلت في نفسي (ما أعمق نومه؟ ما أشك والله في أن مثل هذه الرقدة العميقة خيالية من الرؤى والأحلام. هذه ثيابه بالية. وعظامه بادية. ويداه مقرورتان. وذراعاه معروفتان. ووجته ذابلة. وجثته ناحلة. لا غرو أنه أحد أولئك البائسين الذين لا يملكون قوت يومهم. ينامون على غصص الكروب الفادحة. ويستيقظون على مضض الخطوب القادحة. وأكبر ظني أنه أصاب الليلة دربهمات فاشترى بها من بعض الحانات جرعة نم جرع النسيان(56/1)
أذهلته بالنوم عن آلامه. وكذلك قد أصاب في أجرة الأسبوع ما استجلب به رقاد ليلة - ولعل ما دفعه في ذلك إنما هو نفقة قوت عليه. والآن وقد ترك داره في مثل هذه الساعة فلا يبعد أن زوجته تغشه وتخدعه وتفتح باب حجرته لأنداده. وتبذل فراشه لخصومه وأضداده. ما أعمق نومه! ووالله لو أني ضربت بيدي على عاتقه وصحت به انتبه فلقد هجم عليك من بهم أو قلت له قم فلقد والله شبت النار في بيتك لما زاد على أن يتحول عن جنب إلى جنب ثم يعاود نومه.
وهنا انصرفت عن الرجل أسير في الطريق بخطوات فسيحة ثم استرسلت في مناجاة نفسي فقلت (هذه حال ذلك الرجل وعكسها حالي. فأنا الذي أملك من المال ما يمكنني من إدامة النوم عامين أو ثلاثة وتراني مع ذلك لا أكاد أحصل على ساعة من النوم إلا بشق الأنفس. وإني لفرط كبريائي لا أستطيع غشيان الحانات لاستجلاب النوم بالكأس كما فعل هذا الرجل. ولا أكاد أصدق أن كأساً نم الراح تذهب عن المرء آلامه وأوجاعه. ولا أدري كيف يتأني أن عنقوداً من العنب ينسحق تحت أقدام أناس عديدين مستطيع أن يبدد أوجع الأحزان. وأبرح الأشجان. وكيف ونحن من فرط الألم نبكي بكاء النساء ونتوجع توجع الشهداء ويخيل إلينا في وحشة اليأس والقنوط أن عالمه قد سقط على رؤوسنا فتصدع وتحطم وارفض حولنا بددا وتمزق أرباً أرباً. فنحن نبكي وننتحب كما كان يفعل آدم مطروداً على أبواب الجنة. أرشفة من المدام.؟؟؟؟ للغليل والأوام. تشفي آلام الإنسان. وتأسو جراح الأحزان؟ إذن فما أيسر خطبنا. وما أهون كربنا. إذا كان في حسوة نم المدام وشك شفائه. وفي نهلة من الشمول ذهاب دائه. ولقد يدهشنا أن عين العناية المطلعة على كل آلامنا وأوجاعنا. وعلى شهواتنا ورغباتنا. وأغراضنا وأوطارنا. وعلى عزائمنا وهممنا. وخيبتنا وفشلنا. وعلى لجج الشرور والآفات المحدقة ينا. المصطدمة حولنا. لا تكلؤنا ولا تحوطنا ولا ترعانا ولا ترسل إلينا ملائكتها الكرام ليقضوا حاجاتنا ويجيبوا مطالبنا فمالي لا أصنع صنيع هذا الرجل. ومالي لا أنام على هذا المقعد كما ينام على مقعده. لعل خصمي يخلو الآن بحبيبتي وسيفارقها مطلع الفجر إذ تشيعه إلى الباب وعساهما يرياني وإني لمستغرق في نومي. فإذا وقع ذلك فما أحسب أن صوت لثماتهما المتبادلة يستطيع أن يوقظني من رقدتي. فيضطران إلى إيقاظي بلكزة من كفيهما. فإذا فعلا(56/2)
فلن أنتبه ولم أزد على أن أتحول إلى جنب ثم أعاود النوم.
فامتلأت سروراً لهذه الفكرة ومضيت ألتمس حانة الشرب. ولما كان الوقت قرب السحر كان معظم الحانات مغلقاً فغاظني ذلك وأضرم نار غضبي فقلت في نفسي (ويحي ثم ويحي! أأحرم حق هذا المتاع القليل والعزاء اليسير. فعدوت مسرعاً في كل ناحية وجعلت أدق على أبواب الحانات وأصبح (خمراً! خمراً)
وأخيراً وجدت حانة مفتوحة فطلبت زجاجة من النبيذ وطفقت احتسي رضابها علاّ على نهل حتى أتيت ثم دعوت بثانية فثالثة وكنت أثناء ذلك أكره نفسي على الشرب إكراهاً كما يتوجر جرع الدواء مكرهاً. مضطراً يقاسي مرارته. ويعاني بشاعته. إذ كان يعلم في تعاطيه حياته. وفي تركه مماته.
وما لبثت أبخرة الشراب أن اشتملت على ذهني وقد أسرعت إلى النشرة بقدر إسراعي إلى الشرب. فأحسست في أفكاري تكدرا ثم صفاء ثم تكدرا. ولما فقدت ملكة التدبر والتروى رفعت إلى السماء بصري كالذي يودع نفسه واتكأت على المائدة. ويف هذه اللحظة ظهر لي أني لم أكن وحيداً في الحانة إذ أبصرت في طرفها الأقصى طائفة من أناس غلاظ الأصوات تخاف الوجوه شاجي الألوان: وكانت أزيائهم تدل على أنهم ليسوا من الشعب ولكن من تلك الطبقة الملتبسة المشتبهة التي هي أخبث الطبقات وأرذلها والتي لا أخلاق لها ولا منصب ولا ثراء ولا صناعة ولا حرفة إلا أن تكون حرفة سافلة مرذولة وهي طبقة لا إلى لأغنياء ولا إلى الفقراء قد أخذت من الأولى برذائلها وخسائسها. ومن الثانية بمتاعسها ومبائسها.
وكان أولئك القوم قد حمى بينهم ولميس الجدل على مائدة المقامرة. وكان بينهم فتاة صغيرة جداً رشيقة مليحة أنيقة الملبس بديعة الزي لا نشيه سائر الجماعة في أدنى شيء سوى صوتها وكان كأصواتهم خشناً مبحوحاً متقطعاً. وكان وجهها لفرط احمراره يوهمك أن الفتاة ما برحت منذ نعومة أظفارها تعالج مهنة منادي في شوارع البلدة. أقول لما نظرت إلى هذه الفتاة ألفيتها تحدد إلى طرفها كمن به حيرة ودهشة ولا جرم فلقد راعها وأدهشها أن يغشى مثل هذا المكان الحقير شاب في أفخر ملبس وأجمل شارة وأكمل زخرف وأبهج زينة. والحقيقة أن تأنقي كان مفرطاً خارقاً للعادة.(56/3)
قامت هذه الغادة نم مجلسها فدنت مني في لين وخفة ثم رفعت الثلاث الزجاجات من أمامي وابتسمت حينما رأتها جميعاً فارغة. فراعني ثغرها الوضاح إذ رأيت ملثمها الحلو الرضاب
يفتر عن لؤلؤ رطب وعن حبب ... وعن إقاح وعن طلع وعن برد
ثم أني يدها وسألتها أن تجلس إلى جانبي ففعلت بلا احتشام ولا كلفة ودعت للعشاء على نفقتها. فرنوت إليها دون أن أنبس بكلمة واغرورقت عيناي فراعها مني ذلك وسألتني السبب ولكني وجمت فلم أحر جواباً سوى أني هززت رأسي كأني أبغي بذلك إطلاق العنان لمدامعي فأدركت الفتاة أن بي حزناً مضمراً وكمداً مستسرأ. ولكنها لم تحول استخراج دفائنه. ولا أراغت استثارة كوانمه. ببد أنها أخرجت منديلاً وجعلت أثناء تناول الطعام كلما فيض الدموع على وجنتي تمسح سيلها المنحدر. ودفاعها المتفجر فآنست في طبع الفترة مزيجاً من الغلظة والرقة ولالين والخشونة. وودجت في خلقها خليطاً نم القحة والرحمة والجرأة والحنان حتى جرت في أمرها وتعذر على أن أقف على حقيقة كنهها وماهيتها. فلو أن هذه الفتاة لقيتني صدفة في الطريق فتناولت بدب بمثل ما أبدت من الوقاحة وقلة الحياء لاستبشعت عملها واستبشعت صنعها. ولكن أدهشني جداً أن فتاة لم ترها عيني قط قبل الساعة تأتي فتجلس إلي ثم تؤاكلني وتمسح بمنديلها دمعي بلا أذني معرفة ولا مقدمة - حتى بقيت من الدهش صامتاً لا أفوه بكلمة أشعر بتقزز واشمئزاز يشوبه من الميل إلى الفتاة والافتتان بها. وهنا سمعت صاحب الحان يسألها هل تعرفني فأجابته نعم وسألته أن يتركني وشأني، وبعد برهة انصرف المنقامرون، وأغلق الخمار الباب الخارجي ومضى إلى خلف المكان وتركني والفتاة في خلوة. وكان هذا قد حدث بغاية السرعة حتى حسبتني في حلم وكأن خواطري وأفكاري تتعسف في متائه وأغماض وتتخبط في الغاز وأنفاق، وقد خيل إلى أني خولطت في عقلي أو أني أأتمر بوحي قوة آلهية وشيطانية.
فصحت بالفتاة فجأة (من أنت؟ وماذا تريدين؟ ومن أين تعرفينني؟ ومن أمرك أن تمسحي مدامعي؟ أهذه وظيفتك التي تؤدينها في الدنيا؟ وهل حسبت ني في حاجة إليك؟ ألا فاعلمي أني لن أمسك بأطراف أناملي؟ فخبرني ماذا تصنعين وماذا تبغين؟ هل المال تريدين؟ وهل بإظهار العطف والحنان لأبناء السبيل تحترفين؟ وبإبداء الرأفة والرحمة للمحزونين(56/4)
تتجرين؟ فإن كان ذلك فخبريني ما ثمن عطفك ورأفتك؟ وماذا تطلبين نظير ما تبذلن من حنانك ورحمتك؟
ثم أني نهضت من مجلسي وحاولت مغادرة المكان ولكنني وجدت رجلي تصطكان وتتعثران وأني أميد وأترتح وقد أظلمت عيني وتفترت أوصالي وتفككت مفاصلي وأن عرى قوتي تنحل وتنفصم، ودعائم بنيتي تنهار وتصدم، ثم مادت بي الأرض ودار الكون في ناظري وسقطت على أحد المقاعد صريعاً.
فأخذت الفتاة بيدي وقالت (أنك لفي ألم وعناء. لقد شربت شرب الأطفال وما أنت في الحقيقة سوى طفل وما نظرت إلى عاقبة ما أتن صانع، فاجلس الآن ههنا وانتظر حتى تمر مركبة وحينذاك تخبرني أين دار أمك وإلى هنا لك تحملك المركبة ولن أصحبك إذ كنت قد صرحت لي بأنك تستقبح صورتي ولا تراني إلا بغيضة المنظر كريهة الطلعة. وقد شفعت الجملة الأخيرة بضحكة طويلة.
وبينا هي تتكلم رفعت عيني إلى وجهها فليت شعري أكان حقاً ما رأيت إذ ذاك أم كان باطلا مما خيلته الخمرة، ووهماً مما زورته لنشوة - ولكني على أية حال أبصرت بوجه الفتاة في تلك اللحظة مشابهة مشؤومة لوجه حبيبتي. فحينما آنست هذا الشبه المنحوس تثلج الدم في عروقي وجمد مجراه، وقف شعر رأسي، ويزعم جهال الناس أن هذه الرعشة التي تصيب شعر الرأس إنما هي الموت يمر من فوق رأسي. ولكنه كان داء العصر ومرض الجيل، بل أن الفتاة نفسها هي كانت مرض الجيل ودار العصر، وقد جاءتني وجهها الأصفر الساخر المتهكم وصوتها الخشن الأبح وجلست إزائي في مؤخرة الحانة.(56/5)
عجز الذهن البشري
عن إدراك خفايا الأشياء
للبروفيسر وليم جمس
أجل إن من الخطأ سر اللذة في شؤون الحياة فقد أخطأ كل شيء هذه هي الحقيقة التي لا ريب فيها ولا مراء، بيد أننا محدودون قد انحصر نظرنا في لذة خصوصية لا نكاد ندرك سواها وقد عميت أبصارنا عن كل ما عداها، وكأن كل ما نستجمعه من مجهود لننفقه في نيل وطرنا الخاص لا يتم لنا إلا بالانصراف عن كل ما عداه نم أوطار الدنيا وبتقسية قلوبنا وتحصينها ضد ما خالفه من أغراض الحياة وشهوات العيش، هكذا خلق الناس وعلى هذا جبلوا وطبعوا، ولا يستثنى من سوادهم في هذا الصدد إلا أفراد قلائل بين شاعر أو قصصي أو فيلسوف في أودية الخيال قد هام، وأسلم ذهنه لأفانين الأحلام والأوهام ففي أمثال هؤلاء وأشباههم نم رجل اعتيادي عملي يصيب العشق حبه وفؤاده فيدرجه في سلكهم ويدخله في زمرتهم أقول في أمثال هؤلاء تنصدع هذه القيود وتنهار جدران هذا الجمود، وتتقوض تلك الأسوار الخارجية، وتنتهك هاتيك الحجب الظاهرية، فتبدو للعيان أسرار الحياة الباطنة، وتتجلى للإنسان مكنونات العواطف الكامنة، ويعود هذا العالم الخفي الوجداني المستسر النفساني، قد أضاء الذهن بأنوار حقائقه الزاهرة، وأنار نواحي الروح بأشعة سرائره الباهرة، فحينئذ يدرك المرد من أكناه الأمور وماهيات المسائل ما لم يكن يعلم،، وعندئذ يعرف أن ما قد وضعه لأشياء هذه الحياة وشؤون هذه الدنيا وأغراض هذا الوجود وأوطار العيش من أقدار، ومن قيم وأخطاء، كان كله خطأ وزوراً ومكذوباً، فيلتبس عليه نظام هذه القيم ويتشوش، ويختل ميزان هذه الأقدار والأخطار، وعندئذ تضمحل في نظرنا أوطار الشخصية السخيفة، وتتلاشى في أبصارنا مآربنا الذاتية الضيئلة الضعيفة، وعندئذ تبدو لنا الحياة في صورة مغايرة وهيئة مخالفة مباينة.
وهذا التغير والاختلاف قد أجاد وصفه واحكم بيانه زمبلي جوسيارويس حيث قال في إحدى رسائله الكلمة الآتية:
(ماذا تبصر أيها الرجل في جارك؟ أنت ترى في أفكاه وخواطره وفي مشاعره شيئاً مخالفاً لما يضمره جنانك، وينطوي عليه وجدانك أتن تقول لنفسك أن آلامه وأشجانه ليست كآلامك(56/6)
وأشجانك ولكنها شيء أسهل وألطف، وعبء أهون وأخف. هو يظهر لك كأن نصيبه نم الحياة وحظه من الوجود أقل نم حظك ونصيبك - كأنه مخلوق أبتر ناقص. فعنصر الحياة فيه أبرد وأجمد. وكوكب الحياة فيه أكسف وأخمد. ونار الحياة فيه أخبى ضراماً. وأبوخ احتداماً، فهي رماد بالقياس إلى شعلتك المتأججة، وجذوتك الملتهبة المتوهجة، وشهوته ضعيفة فاترة، بالنسبة إلى شهوتك المضرمة المستعرة، وكذلك قد عاشرت جارك الأعوام الطويلة في غفلة من حقيقة أمره، وعلى جهالة نم مكتوم حاله ومضمر شره، فأنت حين تزايله أجهل الناس به وأعماهم عن ماهيته وكنهه فأتن معه على حد قول القائل:
يا شاهداً يرنو بعيني غائب ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد
لقد رأيت في جارك جماداً لا بشراً، ولم تر فيه ولا قلباً بل جحراً، فدع عنك هذا الغرور، وهذا الباطل والزور، وحاول أن تعرف الخلق، وتدرك الصدق، أن الألم حيثما كان ألم، واللذة أينما وجدت لذة، شأنهما ذلك سواء أكانا فيك أم في غيرك. إلا فاعلمن أنه في جميع أغاريد الطير وأساجيع الورق وأهاتيف القمارى بكل خميلة وروضة، وكل أجمة وغيضة، وفي جميع صيحات المتألم والمتوجع والمحتضر والمعاني سكرة الموت من الإنسان والحيوان وفي الزاخر الإقيانوس العديم النهاية الغاص بالملايين من الخلائق المائية المتنازعة على الحياة المتسابقة إلى الملمات، وفي الجماهير المكاثفة والجماعات المحتشدة نم الجوارح والسباع والضواري ومن القبائل العديدة والفضائل الجمة نم الهمج والمتوخشين. وفي كل بالأرض من الأمراض والأدواء والأحزان والأشجان ومن الفوز والانتصار والزهو والفخار. والهزيمة والاندحار. والزلل والعثار وفي جميع الخلائق من الذرة إلى المجرة. ومن سطور النمال إلى مواكب الأبطال. ومن أخس الأشياء وأوضعها. إلى شرفها وأرفعها. - في كل ما سردت وأوردت يبصر اللبيب المتبصر. والأريب المتدرب. عين ما يجيش بقلبه من تلك الحياة القوية. الجادة الذكية. المضربة الخفاقة، المنسكية الدفاقة. المحتدمة. المضطرمة. المأججة المتوهجة. البادية في عدد الرمل من الأشكال والمظاهر. المترائية في عدد الفطر من الصور والمناظر. التي لا تطفأ ولا تخمد أو تخبو نيران الشموس والأقمار. ولا تني ولا تخسر أو يقف الفلك المدار. فياليها الغافل أو المتغافل أدر في أنحاء الكون نظرك وقلب في أرجاء الوجود بصرك. فانظر قوة الحياة(56/7)
الهائلة ثم اصرف نظرك وحوّل بصرك وحاول إن استطعت أن تنساها أو تتناساها. فإذا عرفت هذه القوة الهائلة وأدركت في كل ذرة نم ذرات الكون معناها فلقد بدأت أن تعرف الواجب
أن تجلى أسرار الحياة بعد طول غموض واحتجاب قد يحدث لبعض الناس فجأة وبغتة ولكنه متى حدثت كان فاتحة عهد جديد في تاريخ حياته. ولقد قبل الكاتب الكبير إمرسون في هذا الصدد ما فحواه أن الحوادث التي تكشف لنا الحجاب عن أسرار الحياة يكون لها نم العمق ما ليس لغيرها من الحادثة وهذا العمق يقذف لنا من الحقيقة أضعاف ما تلقي به إلينا الحوادث العادية السطحية. ومن هذه الأحداث العميقة حادث الحب فالحب يعتري أحدنا فيزلزله زلزالاً ويصدع حجب روحه كأنما قد انفجر في أعماقها بركان. وقد تبدر من الإنسان فعلة يأسف على إتيانها تستثير في نفسه ندامة تظل سحابتها السوداء ناشرة ظلال الأسى فوق رأسه طول حياته ولكن لهذه السحابة بروق تريه شيئاً كثيراً من الحقيقة وإن كانت بروق صواعق.
ودقائق معاني الأسرار الغامضة ربما غتتنا نم ثنايا الجمادات وتضاعيف الكائنات الطبيعية. واستشهاداً على ذلك أسرد ههنا الفقرة الآتية من رواية. أو برمان، وهي قصة فرنسية كان لها في زمنها7 شأن. وها هي الفقرة. باريز في 7 مارس. كان الجو مظلماً بارداً وكنت أشعر بكآبة وانقباض فجعلت أطوف في الطرقات إذ لم أجد لي شغلاً سوى ذلك. فجزت أثناء جولتي ببضع أزاهير مدلاة على جدار. وكان بين هذه الأزاهير جلنارة قانية زاهية وكانت هذه الجلنارة أسطع عنوان على الشهوة الملتهبة والشوق المشتعل. وكانت باكورة رياحين الربيع فلما تنسمت عبقها. وتوسمت رونقها. أحسست كأن كل ما قدره الله من سعادة لبني الإنسان قد شاع في جوانحي واستفاض في ضميري. أجل أن خيال الحياة الملائكية الوهمية. وشبح السعادة الأبدية الحلمية. قد تمثل في صفحة ضميري تاماً مستكملاً. وإني أشهد الله أني ما شعرت قط بشيء يداني ذلك المعنى أو ذلك الشكل أو تلك المشابهة الخفية التي جعلتني أبصر في تلك الزهرة جمالاً غير محدود وجلالاً غير محصور. . . . . وليس في مقدوري ولا في مقدور أي إنسان أن يعبر بالألفاظ عن كنه تلك القوة وماهية تلك العظمة! التي لا ينهض بنعتها شيء في عالم السموات والأرض.(56/8)
ومن ذا الذي يستطيع أن يصف بالكلام ذلك المعنى الذي لا شيء يسعه ويحتويه أو يشرح بالألفاظ ذلك المثل الأعلى من الحياة المثلى الذي يحسه المرء في أعماق قلبه ولكنه يشعر مع ذلك أتن الطبيعة لم تخلقه.
وكذلك الشاعران العظيمان وردذورث وشلى كانا مفعمين بمعنى ذلك السر الباهر المتجلى من وراء ظواهر الكائنات الطبيعية. فأما وردذورث فقد كان هذا السر يبدو لعينه هائلاً ذا معنى أخلاقي عظيم أو كما قال ذلك الشعار في بعض قصائده كان يبدو له كصوت مرحب منفرد في خلوة الطبيعية المنعزلة انظر إلى قوله:
لقد رأيت في كل كائن من كائنات الطبيعة - في كل صخرة وثمة وزهرة بل في كل حجر مفكك مما يكسو ظاهر الثرى - حياة وروحاً. لقد أعرت كل هذه شعوراً ووجداناً - لقد رأيت كل هذه تحس وتشعر وإن تشأ فقل أني ألحقتها بما له شعور وإحساس. أجل يا صاحبي أن كتلة الكون العظيمة لتبدو لي كأنها مغمورة في أثناء الروح مائجة خفاقة وكأن كل ما وقع عليه نظر يتنفس عن معان باطنة. ويبوح بأسرار كامنة.
وقد سمي وردزورث في قصيدة أخرى هذا السر الخفي الأنباء الصحيحة الواردة من قدسي المصادر عن خفايا الوجود هذا السر الخفي - هذا المعنى المستتر هذه القوة الرهيبة والحضرة المهيبة، التي تظهرها الطبيعة وتخفيها. وتنشرها صحيفة الوجود وتطويها، هذا الروح الخفي، والسر الجلي، لم يكن وردزورث الشاعر يدرك حقيقة ماهيته، أو يتجلى معالم صورته، أو يستطيع شرحه بالبرهان، أو يطيق وصفه بالقلم واللسان، بيد أن الذي قد=من عليه الله سبحانه وتعالى بوميض من ذلك النور المقدس ولمحة من ذلك السر الروحاني يطرب لا مثل شعر وردزورث الآنف الذكر ويرتاح لخفي معناه. وغامض مغزاه. ويبتهج بكل ما شابهه وجانسه من شعر ذلك الشاعر العميق - كالقطعة الآتية:
أسفر الصباح كالملك ذي السلطان يحتال في حاشية نم النساء، وموكب من الأنوار والأضواء، وكالبحر الجياش منفسح إزاءه مشرق الغرة، ضاحك الأسرة، وعلى كثب من ذلك تسمو الجبال الشماء، إلى عنان السماء، مصقولة الجوانب كأنها السحب الغراء، قد غمرت في نهر من الضياء، أما المروج الخضر والسهول والوديان فكانت ترفل في أبهى حلل الفجر الأرجواني. والصباح المتورد القاني، قد حليت نم الندى إجيادها بأمثال نظم(56/9)
الجمان وسحبت عليها الشمائل مطارفها عفية الذيول ممسكة الأردان، والدوح نم رحيق الجداول مرنح الأعطاف نشوان، والطير من طرب يرجع الهديل ويردد التحنان.
أفبعد هذا كله يعجب الناس أن رأوني أبدي غاية الفرح والسرور. وأعلن أقصى غاية الجذل والحبور. وهل أنا في حاجة أن أقول أن قلبي كان بالسعادة فياضا وأني تسربات من أنس هذا الصباح ثوب ملذة فضفاضا. في تلك اللحظة المانوسة عاهدتني الطبيعة على أن أكون في معبدها المقدس حد خدمته: وفي محرابها المطهر بعض سدنته. في هذه اللحظة السعيدة بايعتني الطبيعة على أن أظل روحاً من أرواحها الطاهرة. وملكاً من ملائكتها البارة: وبهذه البيعة الشريفة تمسكت وبهذا السبب المتين تعلقت: وها أنا ذا سير في ساحة الطبيعة الرحيبة: وأمرح في مراتعها الخصيبة: مباركاً مبروراً ممتعاً مسروراً:
ولكن خبرني أيها القارئ ماذا كان يرى جيران وردزورث من القرويين السخفاء: والفلاحين الأغنياء: ماذا كان يرى منهم حينما كانوا يرونه يسير - على حد قوله - في ساحة الطبيعة الرحيبة: ويمرح في مراتعها الخصيبة: عاشقاً لبديع الكائنات مستهاماً: مشغفاً بروائع الآيات صبوة وغراماً: بالسر الجليّ مولعاً مفتوناً وبالروح المقدس الخفي مولها مجنوناً؟ ماذا كان أغنياء المزارعين من عادى الناس يرون في شاعر بريطانيا الأكبر. وهو هائم على وجهه في السهول والأوعار. والحزون والأغوار: والبراري والقفار: كالصيد النافر والوحش الضاري. أو كالظبية التي قد تاه رشأها وطلاها: مولهة قد ضل بالقاع خشفاها: ينهب الأرض نهباً: ويستعف الفضاء تمهلاً أرخبباً: شارد الذهن فيما يظهر لبصائرهم العمياء عازب اللب شارد العقل - ماذا كان أولئك الغوغاء - وإن كان فيهم السري والوجيه والغني - يرون في شاعر بريطانيا بل في شاعر العالم أجمع - شاعر الإنسانية في كل زمان ومكان - سوي شخص أحمق معتوه أبله قد مسه الخيال - وما ذلك إلا لأنه قد خالف سيرتهم: وتنكب طريقتهم فلم يجعل غرضه الأبعد وهمّه الأوحد من الحياة زراعة الأرض مثلهم وبذر البذرة وسقى الأغراس والعزق والجني والحصاد وتربية الماشية والدجن وهلم جراً: وما أحسب أن أحد هؤلاء المزارعين القصار الأبصار الكلال البصائر خطر بباله قط أن يسائل نفسه - إذ ينظر إلى شخص وردزوروث غارقاً في بحار تأملاته - في أي شيء يفكر مثل هذا المخلوق وماذا يدور بخلده وماذا عسى أن تكون تلك(56/10)
الخواطر التي شغلته عمايمهم الناس من شؤون هذه الحياة وأغراضها ومآربها وأوطارها - وهل لا يجوز أن ما يملأ ذهنه من الأفكار والخواطر ربما كان ذا قيمة ونفسة؟ كلا ما أحسب أن أحد أولئك الأقوام عني بشيء لا قيمة له وصورة متحركة وكائن عدمه خير من وجوده على أننا نعلم بالرغم من ذلك أن فكرة ذلك الشاعر كانت مادة طالما استمدت منها أذهان الأجيال المتتابعة والقرون المتوالية ومنهلاً طالما استقت منه قلوب البشر على اختلاف أنواعهم وأجاسهم وتباين مللهم ونحلهم: ومن معادن وجدانه المفعم تقتبس الضمائر أنفس كنوز المكنون: ومن صهاريج روحه الجياش تستعير الألباب أثمن ودائع اللؤلؤ المصون:
وقد ألف الكاتب المشهور ريتشارد جيفريز: كتاباً جليلاً سماه قصة وجداني وحديث جناني ضمنها شيئاً كثيراً من وصف ما يجيش به قلب الشباب نم الطرب إلى مباهج الطبيعة والابتهاج ببدائع أسرار الكائنات: ومن ذلك فصل في شرح ما جلا بنفسه خواطر الفرح والسرور حينما كان واقفاً مرة على رأس جبل:
كنت منفرداً في خلوة مع الشمس والأرض لا رابع بيننا: فاستلقيت على مهاد العشب الوثير وجعلت أناجي الأرض والشمس من أعماق روحي والهواء والجو والبحر القصي وراء مدى البصر: لقد امتلأ قليب بحلاوة ذلك الشعور اللذيذ حتى فاض فأقبلت أسبح ببدائع صنع الله من شمس وأفق: وأرض وسموات طباق: وأمزج روحي بهذه المصنوعات الألهية وأصلي شافعاً صلواتي بما استثيره من النغمات الصامتة: والألحان الخافية: المنبعثة عن هذه الكائنات - كما يشفع المتعبد صلواته بأنغام الأرغن - على أن وجداناتي إذ ذاك هي مما يعني بشرحه البيان: ويعجز عن نعته اللسان أجل يا صاح إن الشمس الهائلة ضياء والأرض الراسية - الحنون الرؤوم - والجو الدافئ والهواء النقي أفعمت قلبي مسرة وعجباً: ملذة وطرباً: وبهذا الطرب مزجت صلواتي وبذلك التيه والعجب شفعت تعبداتي ولم أكن قصد بهذه الصلاة ولا بذلك الوجدان الروحاني والانفعال النفساني إلى شيء معين ولمنه كان مجرد انفعال ووجدان وعاطفة مطلقة وكان شوقاً وصبابة وغراماً وهياماً - لقد دفنت وجهي بين الأعشاب وقد تراخت أوصالي وتفترت مفاصلي وانحل عقد قوتي. وأنبت سلك مني وضممت الأرض حتى كدت أفني في هذه الضمة واعتنقت العشب حتى أوشكت(56/11)
أن أتلاشى في ذلك العناق وكأنما قد ضعت من شدة التأثر ضياعاً وكأن نفسي من فرط الطرب قد طاحت جباراً: ولو أن فلاحاً أو راعياً مربي عرضاً وأنا على هذه الحال لم يشكك في أن كل ما بي هو مجرد استلقاء على العشب التماس الراحة بضع دقائق ولم يكن ظاهر حالي يدل على أكثر من ذلك. ومن ذا الذي كان يدك ما ظل يجيش بفؤادي نم طوفان ذلك الطرب وما طفق يثور بضميري من عواصف ذاك الوجد والهياج وظاهر أمري لا ينم على أدنى شيء من باطنه.
ولا مشاحة في أن مثل هذه الساعة من الحياة تبدو حقيرة قليلة القيمة إذا قيست بالمقاييس التجارية الاعتيادية التي تجعل قيمة كل ساعة حسب ما يستفاد فيها نم المادة. ولكن خبرني أيها القارئ هل للقيمة التجارية المادية أدنى قدر إذا قيست بالقيمة الوجدانية الروحانية المعزوة لأمثال ما وصفنا من تلك الساعة الخطيرة التي تتفتح فيها صفحات زهرة القلب لاستيعاب الأنوار الملكوتية والنفحات القدسية فتزهو وتنضر. وتسقى بالفيوض الإلهية فتزكو وتثمر. وهل ما يستفاد في مثل تلك الساعة من كنوز العلم والحكمة يصح أن يقاس به ما يكتسب من خسيس المعدن الأصفر والأبيض في الساعات التجارية المادية؟
ومع ذلك فنحن نرى أن لمصالحنا المادية وشؤوننا العملية من فرط الضجة والصخب ومن شدة الجلبة واللجب. ما يصمنا ويعمينا عن كل ما عداها من الشؤون والمسائل. حتى لقد نستنتج من ذلك أنه ليس ثمت سيبل إلى الوقوف على شيء من أسرار الحياة ولا إلى استجلاء الغامض من محاسن الطبيعة إلا بانصراف الإنسان عن المطالب المادية وصيروته كمية مهملة وشيئاً عديم القيمة من الوجهة العملية في نظر المجتمع. وعلى ذلك ترى أن هذه الوظيفة السامية - وظيفة الانصراف عن الماديات إلى الروحانيات وترك عيشة الجمود والنحجر إلى حياة الإحساس اللطيف الرقيق. والشعور الحاد الدقيق وما يقتضيه ذلك من الامتزاج بروح الله المتفجرة نم كل ذرات الكون وجزئيات الوجود حتى يصبح الإنسان كأنه شعبة نم شجرة الوجود العظمى ولبنة نم لبنات هيكل الكون إلا كبر ووتراً حساساً من الأوتار المؤلف منها قانون الطبيعة إلا كمل - أقول وعلى ذلك نرى أن هذه الوظيفة السامية وظيفة لا يستطيع تعاطيها وتأديتها إلا الرجل المطلق الدنيا الهائم وراء الخيالات والأحلام أو الرجل المتصوف المجذوب ممن يسمونهم أهلا لباطن أو الرجل(56/12)
العاطل البطال المتشرد الرافس بقدمه الحرف والمهن والصناعات والمعايش وأساليب الارتزاق النستهام في حب الله الطارح نفسه تحت مهاب أدق المؤثرات وألطفها تحرك أوتار قلبه كما تنبعث أنفاس النسيم بأوتار المعزف. فتبعث أنغامها - فأمثال هؤلاء من متخيل حال. أو متصوف مدله أو متشرد عاطل هم القادرون على تعاطي تلك الوظيفة الروحانية السامية التي تغير اصطلاحات الدنيا في أسرع نم لمح على الجد والمجون على الوقار والحمق على العقل والطيش على الرزانة والبله على الدهاء والفقر على الغني والمسكنة على الجاه والصعلكة على الإمارة وتمحو في لمحة كل ما أحرزه لنفسه الرجل الدنيوي المادي من الامتيازات والمناقب والمفاخر طول عمره بالكد الناصب. والجهد الحازب. والسعي الدائب. وتعزو كل محمدة ومفخرة للمتشرد البطال. والنؤوم المضيع المكسال. فأتن أيها القارئ إذا استطعت تعاطي هذه الوظيفة والقيام بأدائها حق قيام أمكنك أن تصبر نبياً ولكنك لن تنال في المطالب الدنيوية نجاحاً.
يرى الكثيرون منا في شاعر أمريكا والت ويتمان نبياً عظيماً ورسولاً كريماً بما قد ألغى من الامتيازات البشرية المألوفة. والإصلاحات الاجتماعية المقررة المعروفة ولأنه لم يجد ولم ينظم من الصفات الإنسانية سوى تلك الخصال البسيطة الأولية العامة المشتركة بين كافة أفراد البشر. ومن ثم أصبح يعده الناس الأعلى للعاطلين، والنموذج الأسمى للضائعين المضيعين، إذ كان رجلاً جل عمله وصناعته التفرج بمشاهدة خلق الله في موكبهم المتواصل المستمر الأبدي ينظر إليه تارة من نافذة غرفته وأخرى من سطح مركبة. الأمنوبيس وآنا من طاقة القاطرة وآونة من قارب المعدية وهلم جرا، ويرى فيه طائفة أهل العمل وطلاب الدنيا وأيضاً الدنيا رجال العم وأعضاء المجمع العلمي الأكاديمي شخصاً حقيراً قليل الغناء عديم الفائدة والقيمة عدمه خبر من وجوده، ولا يبصرون في شعره أكثر من مجموعة صيحات وصرخات - وجمل مفككة خال معظمها من الفعل أو الفاعل - وأكثر ألفاظها تعجب وأحرف استغاثة وندبة، والحقيقة أن هذا الرجل كان يتحرك ودجانه، ويهب إحساسه ويجيش صدره وجنانه لرؤية جمهور الخلق ومحتشد الجماعات الإنسانية كما كان يجيش روح وردزورث الشاعر الإنكليزي لآنف الذكر لرؤية الطبيعة واجتلاء منظر الأرض والسماء. والجبل والماء. أجل لقد كن يرى في منظر المجتمع الإنساني قوة(56/13)
باهرة. وحضرة جليلة للشعور غامرة. جديرة أن تستغرق الذهن فتصرفه عما به هو أحق وأولى نم المصالح الدنيوية. والشؤون المادية مما هو أكثر من أن تسعه مرحلة العمر عند الرجل الجاد المجتهد الرابئ بعمره أن يضيعه في أمثال تلك الترهات والخزعبلات والسفاسف.
وإذا شاء القارئ أن يعرف رأي هذا الشيخ المتشرد الذي شاب فؤاده في العطلة ولاكسل والبطالة في الطريقة المثلى لانتهاز فرص الحياة السانحة من قبل الملكوت الأعلى إلى المختارين نم صفوة عباده وصرفها في اكتساب أفضل نعم الحياة وأكرم ثمرات العيش فليقل كلمته الآتية من أحد رسائله إلى صديق كان سواقاً لبعض المركبات العمومية. وهي:
نيويورك 9 أكتوبر 1868
عزيزي بيت - إن الجو ههنا غاية في الصفاء والجمال. ونهاية في الطيب والاعتدال فهو سجسج لا قرّ ولا حرور. مصقول الأديم لا غيم ولا صبير. ولقد بكرت الغداة إلى ضفاف النهر فسرت فرسخاً أو اثنين. وبعد فهل لك أن تعرف كيف أمضي ساعات النهار؟ فاعلم أني أصرف الشطر الأول إلى الظهيرة في حجرتي أقرأ أو اكتب ثم أذهب إلى الحمام ثم ألبس ثيابي وأترك الدار فألقي حبلي على غاربي وألقي زمامي بيد الأهواء تذهب بي حيث تشاء. لا أتقيد في تصرفاتي نم الأغراض المادية بحاد ولا دليل ولا أوثر في تقلباتي سبيلاً على سبيل. وتراني مع ذلك لا أشعر بطول الوقت ولا ثقله ولا أحس منه بفراغ بل أجد لدي من الأعمال والأشغال ومن المآرب والأوطار ما يملأ ساعات اليوم ويزيد. فأنا إذا ركبت إحدى المركبات العمومية بعد ظهر يوم فاندفعت بي في شوارع والطرقات كان لي فيما أمر به من مختلف المناظر والمشاهد خير مسلاة. ومبهجة وملهاة. ومستراد للعين ناضر بهيّ. ومستمتع للنفس. مستملح شهيّ. كيف لا توان المركبة لتعرض على البصر في ممرها من مناظر المجتمع صورة حية متجددة سرمدية - دوراً. وحوانيت وقصوراً. وأرصفة للسفن وحياضاً. وخمائل وجنات ورياضا. ومخارف. ومصايف. ومعارض ومتاحف. ومرابع ومعامل ومصانع. وعلى جوانب الطرق يتدفق تيار المارة بين رجال في المجاسد والمعاطف. والملاحف والمطارف. وأوانس حسان. يبن حاليات وعاطلات لكنهن من حلى الملاحة غوان. وأتراب كواعب. بأفئدة الرجل عائبات لواعب. بيض السوالف(56/14)
مصقولة الترائب. ذلك إلى المركبات في إسراعها. والعجلات في اندفاعها. والدراجات في انسيابها. والسيارات في انصبابها. وما يتخلل كل ذاك من هرج. ومرج. ومن ضجيج. وعجيج. ومن صخب. ولجب ومن فرح. ومن مرح. ومن نداء. وضوضاء. وكأني بك أيها الصديق لا تكاد تدرك فرط ما لكل هذا من الأثر في نفس متشرد مثلى ولا عظم ماله من الوقع في فؤاد صاحبك الذي لا ألذ في قلبه ولا أحلى في نفسه من منظر المتجمع الهائج المائج يمر به عارضاً شتى صوره وأفانين مشاهده لا بهاجه وإمتاعه وهو واقف ينظر إليه نظرة وادع متمهل طويل النؤدة بعيد الأناة ليس يعنيه من أمر هذا المشهد العظيم سوى أنه ينظر فيتدبر. ويشهد فيتفكر. ويرمق فيتبصر. ويرنو فيتذكر.
انتهت رسالة شاعر أمريكا الأكبر إلى صديقه السوّاق.
وما أشك أن الكثيرين من القراء سيعدون مثل هذا الصنيع شرّ طريقة لصرف الوقت وأسوأ مضيعة لفرصة الثمينة وعملاً لا يصح أن يصدر نم رجل قد جاوز مرحلتي الشباب والرجولة وأشرف على الكهولة مثل الشارع والت ويتمان ولكن خبرني أيها القارئ إذا نظرنا إلى لباب الحقيقة أي الرجلين أنفذ بصيرة إلى أسرار الحياة وصميم الحق - الشاعر والت ويتمان ينظر إلى الدنيا من مظاهر مركبة الأومنوبيس يستطلع خبايا النفوس وخفايا القلوب نم أسارير الوجوه مملوءاً فرحاً بتلاوة آيات الخلق مسطورة على صفحة الوجود تجيش روحه طرباً باستجلاء هذه الأسرار المكنونة أم أنت أيها القارئ منصرفاً عن هذه الآيات الروائع والآثار البدائع ممتلئاً نقمة واحتقاراً. ومقتاً واستصغارا. لذلك الشاعر الذي تراه في رأيك ونظرك الأسمى عاطلاً متشرداً مضياعاً للوقت النفيس في الصغائر والحقائر.
أرأيت إذا امتطى ظهر تلك المركبة رجل نم الأغنياء الموسرين بين المتقلبين في أحضان النعيم المضجعين في أمهدة الترف أو رجل من التجار أو المزارعين المهتمين بشؤونهم الشخصية ومسائلهم الذاتية أكان خياله الراكد الضعيف مستطيعاً أن يطمح إلى عنان السماء فيحلق إلى ذهب الأصيل وبديع وشى الغروب بألوانه البهيجة وأصباغه العجيبة كما يفعل خيال ويتمان أم كان بفطن في أعماق قلبه إلى هذه الحقيقة المؤكدة وهي أن الدنيا في أزمانها المتوالية المختلفة وعصورها المنوعة المتتابعة لم تكن تشتمل قط معان أقدس ولا(56/15)
على أغراض أجل وأسمى مما كانت تشتمل عليه ساعة كان ينظر إليها من ظهر مركبته. هذه هي الحياة أمامه وعلة نحو شبر منها الموت. هذا الجمال الذي يراه الساعة في الدنيا هو ذاك الذي قد كان لها منذ القدم - هذه حرب الحياة العوان ومعركتها الدائمة مشفوعة بثمراتها وفؤادها ولكن العين الجامدة البليدة لا ترى في ذلك المشهد سوى شيء سوقي اعتيادي غث سخيف ممقوت. قال الفيلسوف المتشائم توماس كارليل ذات يوم لصديق كان يسايره تحت سرادق السماء المزدان بمصابيح الفلك وفد لفته ذاك الصديق إلى جمال روعة النجوم مه! إنه لمنظر يبعث على الحزن والأسى واذكر أيضاً أن تجدد منظر المجتمع على مرسح الحياة على أعين متتابع القرون والأجيلا وتكرر نظام الوجود العادي الأبدي الذي يملأ قلب ويتمان وأمثاله بذلك الفرح الباطن والطرب الدخيل كان يراه شيخ المتشائمين شوبنهور فيسوف ألمانيا العظيم المصاب بأعضل الأدواء وحشة القلب المظلمة وفراغ النفس الأليم الذي كان ينظر إلى الوجود من خلاله فيعيره وحشته وفراغه - مصدر الملل ومبعث الألم والسآمة. أليس هو القائل ما هي الحياة؟ أن هي ألا تجدد سخافات وتفاهات وتكرار أوهام وأباطيل وأصغار - وعين ما لم يزل نسمع ونرى منذ القدم من الصراخ والعواء ونبح الكلاب. وطنين الذباب! ولكنا على الرغم من مقالة كارليل ومقال شوينهور هذا نرى من صنف الخيوط التي تتكون منها هذه التفاهات والأباطيل والأصغار يصنع الوشى المنسوج منه كل ما كان ويكون وسوف يكون في هذه الدنيا من الشهوات والعواطف والنزعات والأهواء والأميال والمخاوف والآمال والأحزان والأفراح وسائر معاني الحياة!(56/16)
فصول مختارة من كتاب الحكمة والقدر
للشاعر الكاتب البلجيكي مترلنك
مترلنك من أكبر شعراء أوروبا الحديثة وكتابها، وقد اشتهر بطائفة من الروايات التمثيلية وجملة نم المقالات الأدبية، وإن كتابه الموسوم بالحكمة والقدر لكاف في أن يجعل اسمه في عداد الكتاب الثابتين على الدهر القلب، الخالدين على الزمن الفاني.
وهذا الكتاب تتخلله روح التفاؤل المهذب المستنير الذي يدل على سعة الذهن وانفراج ما بين أطراف الخيال، ويتغشاه ضوء الرضى الناشئ نم قوة الدراية بحقائق الحياة والمنبعث عن استفاضة العلم بدخائل الروح، فهو جدير بأن ينبط في النفس مشارع الأمل ويبجس فيها عيون الرجاء وينضر أمانيها الذابلة ويروّض تعلاتها المصوحة، وأن هناك ضرباً من التفؤل يستفز فينا الغضب ويبتعث السخط لأنه يدل على رقدة العقل وجموده وبلادة الحس وركوده وينم عن إدراك مواطن الروعة وجوانب العظمة في الحياة، فإن الناظر في الحياة قد تهوله عظمة الخير فتسبب له القلق والخضوع وقد ترهبه صولة الشر فتحدث في نفسه الحزن وتولد فيها الألم، وأن عقيدة الأمل لتسفل في النفوس التي ينشأ فيها الأمل من عدم الفطنة لما يحفهم من أسرار الكون الخفية ودخائله المستترة وفتور شعورهم بالحيرة الضاربة بأرواقها حول الإنسان والتي هي من أكبر البواعث للفكر على التفكير، والقارئ قمين أن يعلم من أمل مترلنك أن فضل العقيدة وأثرها في الحياة - سواسية عقيدة الأمل وعقيدة اليأس - لا يتوقف عليها في ذاتها ولكن على كيفية اعتقادها وطريقة اعتناقها، والعقائد في الحياة الفردية مثل الأديان في الحياة العامة تسمو وتنحط تبعاً لحالة معتقديها فإن الدين إذا ولج إلى عقول الهمج المستوحشين تحول في أذهانهم إلى خرافات مشوشة وأباطيل فارغة وتعصب ضيق ممقوت ولكنه في الأذهان الصافية المتفتحة للمعرفة تفتح الزهرة لقطرات الندى يتحول إلى منافذ من خلالها الكمال والخير، وطاقات ترى بها الجمال والحق، وينشأ من ذلك أن العقيدة التي تنهض بأمة وتسمو بها في مدراج السيادة والعظمة قد تكون هي نفسها التي تحدو بأمة أخرى في ركاب الفناء والزوال وقد لاحظ أحد الكتاب أن فلسفة شوبنهور النافية للحياة الزاهدة في الوجود كانت من بواعث الهاض الشعوب السلافية لأنها كشفت لهم أن الحياة لا تستحق الحرص عليها فحببت إليهم الأقدام(56/17)
على المخاطر وعدم المبالاة بالصعاب وهو نت عليهم ملافاة الموت بصبر لا ينتكث وعزم لا يفل فزادت الحيوية المتحيرة في نفوسهم جيشاناً، وقد تكون فلسفة شبوبنهور نفسها من بواعث الخمول والسقوط لامة أخرى.
وتفاؤل مترلنك تفاؤل رجل أطل على الهاويات البعيدة الغور التي نتثاءب لابتلاعنا وأشرف على الجبال السامية الأعلام الشامخة الذرى التي تحاول تسلقها فيعجزنا، فرأى أنه من الميسور تجنب تلك الهاويات وأنه ليس من وراء الإمكان صعود تلك الجبال - جبال الكمال التي يشم منها أزاهير الحكمة ونسائم السعادة وليس المنشأ الوحيد لتفاؤله إطراحه المذهب الجبريين فقد يكون الإنسان من القائلين بحرية الإرادة وهو عليل الظن بالإنسانية من ناحية انتفاعها بتلك الحرية ولكنه يرى ان دائرة حكم القدر ضيقة الرقعة محصورة التخوم وأن الإنسانية في يدها تهذيب نفسها، وهو واسع السعادة مشردة عن رياض النعيم وأن الفكرة الابدالتي تترك نفساً مثل نفس كارليل أو شوبنهور مثل الصدفة تسمع منها أنين لج الأبد الزاخر قد استحالت على يده إلى فكرة لماعة الجنبات مشرفة النواحي نستمد منها القوة في ساعات الكلال والفتور إذ يري أن أعمالنا الفكر في عظمة الأبد مما يزيدنا قوة على قوة لأننا في تأملنا تلك العظمة إنما نملح ظلال عظمة نفوسنا وقد لا يكون مترلنك أصاب من الحق الكلي والمفاصل في الكثير نم أفكاره ولكنه مما لا سبيل إلى دفعه أنه قد أتى بأفكار سامية تندى على الكبد الحرى وأعاد في الأذان في هذه الأوقات المادية العصيبة النغمات الحسان والأناشيد العذاب التي سمعها القدماء من أمثال مرقس أورلياس وسنكا وغيرهما من الفلاسفة والأسطوانيين و؟؟؟؟ الصول التي وقع عليها الاختبار.
* * *
أنا لا أزعم أن القدر عادل وأنه يكافئ الصالح ويعاقب الشرير، وأي روح واثقة من المكافأة مطمئنة إلى طيب الجزاء يمكن أن تدعى الصلاح وصحة الضمير وسلامة دواعي الصدر، وأننا عند ما نحكم على القدر لأقل منه عدلاً وأشد مغاراً في الظلم، وأن عيوننا لا تنظر سوى المصائب التي تقرع مروة الحليم ولا تبصر غير سحب الهم المركوة التي تمطره، ولكننا لا نري سعادته ونعيمه لأنه من شرائط تفهم سعادة العاقل الحكيم ووسائل إدراكها أن يكون في نفوسنا من الحكمة والعدل بقدر ما في نفسه، وأن الر=جل ذا النفس الأرضية(56/18)
الوضيعة والقلب المغلف الجاف إذا حاول تقدير حكيم جليل وزنته ألفيت سعادة الحكيم تنساب من بين أنامله انسياب الماء، ولكنها في زنة الذهب ولمعانه ولألأئه وتوهجه في يد ضريبة الحكيم وصنوه العادل لأن كليهما قد منح ثقوب الرأي ونفاذ البصيرة وأن يرى أبعد من مرمى الأبصار وأسمى من تحليق الأفكار، وأن المصيبة التي تنزل بالحكيم قد تكون قريبة الشبه موجودة النظير في الملمات التي تحل ركابها بساحات غيره من الناس ولكن سعادته ليس لها أدنى علاقة ولا أقل صلة بتلك السعادة التي يتوهمها من لم يكن حكيماً، وأن في السعادة لأقاليم مجهولة أكثر مما في الشقاء، وأن صوت الشقاء واحداً بداً ولكن السعادة كلما نفذت إلى الأعماق كانت أخفت صوتاً وأكثر صمتاً، وإذا نحن وضعنا في كفة الميزان الأحزان والهموم ومناكر الأيام وعيوبها ووازناها في الكفة الأخرى بما يحسبه كل منا سعادة رأينا المستوحش يضع في كفة السعادة مقداراً من الريش وكمية من البارود ويضع الذهب المتحضر بعض الذهب وعدة أيام الأحلام وليالي الصبوات وذكر النشوات، ولكن الحكيم يضع آلاف الأشياء التي لا تستطيع عيوننا أن تستشفها يضع كل روحه وحتى الشقاء الذي كابده فهذبه والألم الذي مارسه فنقاه.
إذا تلفظت بكلمة القدر انطبعت في صفحات أذهان الناس مجللة بالسواد مكسوة بالمخاوف فإن الذي يدور بخلدهم بالغريزة والجلبة هو أن الشعب الذي يؤدي بسالكه إلى القبر - وهو في أكثر الأوقات الاسم الذي يطلقونه على الموت عندما تكون يده خافية عن الأبصار - هو عندهم الموت الذي يحوك سداره ولحمته من المستقبل ليمد ظلال الموت على الحياة، ونحن نسمع بالموت يتربص الدوائر بالمسافر في منعطف الطريق وحنيته نقول أنه لا محيد لأحد عن ملاقاة المقدور ولكن لو لاقى المسافر بديلاً فنحن لا ننيط ذلك بالمقدور ولو أنا فعلنا ذلك لكانت له صورة أخرى في القلوب وشأن مختلف في النفوس ولكن بين كل ذلك ألا يوجد أفراح ومسرات نلتقي بها في طريق الحياة ورحلتها أكبر وأجل من أية كارثة وأفدح نزلة، بل أضخم وأفخم من الموت نفسه؟ أما يمكن أن نلتقي بسعادة سامية على منال العيون قصية على مرامي الأبصار؟ أو ليس من طبائع السعادة أنها أقل ظهوراً وأخفى مدباً من الشقاء، وأن الطرف يتقاصر عن إدراكها كلما تسامت وتوقلت في النواحي العالية؟ ولكن هذه الأنعيرة التفافاً ولا نكلف به خاطراً، وأن كل القرية قد تحتشد جموعها وتلتف(56/19)
حول مشهد محزن ولكن قل بين الناس من يتمهل ملياً ويوكل ألحاظه بقبلة عذبة ندية أو برؤية جمال مشرق زاهر يبهج الروح ويسرها أو بتأمل أشعة نم الحب تنير نواحي القلب وتشرق في دياجيه، ولقد تكون تلك القبلة منتجة لسرور ليس بأقل من الألم الذي يتولد من الجرح. إننا نظلم القدر ونحن لا نؤلف أبداً بين القدر والسعادة، وإذا نحن اعتبرنا القدر منفصلاً عن الموت فإنما نفعل ذلك لنحكم الأواخي ونقوى الروابط بينه وبين مصائب أفدح من الموت وآلم وقعاً.
* * *
من الشطط أن نفكر دائماً في القدر موصولاً بالموت مرتبطاً بالدواهي والنكبات، فمتى يحين الوقت الذي يبطل فيه اعتقادنا أن الموت خير نم الحياة وأكثر أهمية وأن الشقاء أعظم من السعادة؟ ولماذا عند ما نحاول أن نستحضر مصير رجل من الرجال نحصر نظرتنا في الدموع التي تصوبت من جفونه والزفرات التي تصعدت من صدره لا في الابتسامات التي علت صفحة وجهه في أوقات المسرات ومصابيح الطلاقة والبشر التي توقدت عليه في ساعات الابتهاج والإطراب؟ ولأين تعلمنا أن قيمة الحياة مرتهنة بالموت لأن الموت موقوف على الحياة؟ ولماذا مصرع رج كسقراط وغيره ممن كانت حياتهم مستنبلة سامية يترك منا بكي العيون هاملاً ويخلف فينا الهم مقيداً ومرسلاً لأن خاتمتهم كانت فجاءة وكانت مريرة مؤلمة، ونستريح إلى أن الشقاء يتغشى الحكمة والفضيلة وأنه سواء عنده الباز الأشهب والغراب الأبفع وأنا ليفصلنا عن العدل نفنف متباعد إذا كنا لا نريد أن نري ف الحكمة واعدل ونواحيهما غير الحكمة والعجل فحسب ولماذا نحصر وجوداً بأكمله وحياة تامة في ساعة الموت، ولماذا نظن أن حكمة سقراط وفضيلته وقد ساقتا إليه رسل الشقاء وأوفدتا عليه طوائف المصائب وهل الموت يحوي منتدحاً أكثر امتداداً من الميلاد؟ أو لسنا نفكر في مولد الحكيم عندما نفكر في مصيره؟ أن السعادة أو الشقاء تنشأ عن الأعمال التي تصدر عنا في الفترة الممتدة بين ساعة المولد وساعة الموت وبذلك لا تقدر سعادة الرجل عند الموت ولكن يفتش عنها في الأعوام الطوال التي تتقدمه، ويخيل إلى أننا دائماً نتوهم أن الحكيم الذي سطر لنا التاريخ ميتته الرهيبة كان يطوي الأيام في تنبئ مظلم مخيف بالحادثة التي أضمرتها له الأيام وخبأتها له حكمته؟ وأننا لنخطئ في ذلك(56/20)
فإن الموت يخيف الشرير اكثر مما يخيف الحكيم، ومهما كانت خاتمة الحكيم مؤلمة فإنها لم ترسل ظلالاً سوداء فوق حياته لأنه لم يصرف أوقاته في ميتات أولية ولكنه من أصعب الأمور علينا أن لا نظن أن جرحاً ينضج بالدم يحيل إلى لا شيء كل سكون الحياة وهدوئها.
* * *
لنذكر دائماً أنه لا شيء يصيبنا إلا وهو من طبيعة روحنا ومعدنها، وأن كل الأخطار التي تقدم علينا تلبس لأرواحنا أزياء الأفكار التي تمر بإخلادنا كل يوم وأن أعمال الشجاعة وأحداث البطولة لا تمنح إلا لهؤلاء الذين عاشوا السنين الطويلة أبطالاً في زوايا النسيان وأكنان الخفاء، وسواء هبطت الوادي أو رقيت الجبل سواء شرقت حتى لم تجد ذكر مشرق وغربت حتى لم تجد ذكر مغرب أو اقتصرت على الطواف بمنزلك فإنك ملاق نفسك في طرق القدر، وأن مخاطراتنا لتتطاير حولنا تطاير النحل حول خلاياه عند ما يكون على نية الاحتشاد، وهذه المخاطرات تترقب ظهور الفكرة الرئيسية من أرواحنا فإذا لاحت تلك الفكرة تدفعت نحوها والتفت حولها، فكن كاذباً يسرع إليك الكذب وكن نباض القلب بالحب نزاعاً إلى البطولة يترادف إليك الحب وتتلاحق إليك أحداث البطولة، فإن كل ذلك يقبل إليك إذا أشار إليه طرف القلب، وإن الروح إذا صارت عند إقبال المساء أوفر عقلاً وأصفى حكمة صار الحزن الذي كاثرها في الصباح أحكم وأصفى وأطهر وأنقى.
* * *
حول الرجل الصالح دائرة متسعة من السلام والأمن من داخلها. تزول سهام الشر وتفنى وليس في طاقة زملائه أن يقذفوه بالمكائد ويهيجوا به الألم، ومن الحقائق الجلية أننا إذا كنا نرسل العبرات من حنث أعدائنا ومكائدهم فما ذلك إلا أننا نسر ونبهّج إذا نحن أبكيناهم وحشونا قلوبهم حرفاً وإذا كانت سهام الحسد في وسعها أن تصل إلى جلودنا وتسيل من دمنا فإن ذلك لأن في نفوسنا سهاماً نريد أن نطلقها، وإذا كانت الخيانة تستثير الزفرات من حنايا ضلوعنا وتستوقد الغضب بين جوانحنا فإنه لا بد من أن نكون غير مخلصين لأنفسنا، فإن كل تلك الأسلحة لا تجرح إلا الروح التي لم تقدمها قرباناً على مذبح الحب.
* * *(56/21)
إذا نحن تعمقنا في الحياة وضح لنا الكثير مما خفى علينا من أسرار الأحزان الكبيرة وأسباب اليأس العظيم ورأينا أرواحاً كثيرة حولنا تحيا حياة خمول وإن النفوس قد أقفرت فلم تتفتح لها نفس لأنها على يقين من خلوها من كل ما يحفز على الإعجاب ويثير الإجلال ولكن الحكيم ترتاده الساعة التي تدعى فيها كل روح يقظته وانتباهه وحبه وحنانه ولو لم يكن ذلك إلا لأنها تملك هبة الوجود الخفية المقدسة والتي فيها ينظر الكذب والضعف والرذيلة كلها متجمعة على السطح حيث ينفذ عينه من خلالها وتستشف من ورائها القوة والصدق والفضيلة في الأعماق، وإنها لساعة مباركة سعيدة حيث يقف الشر وقد تجلى خيراً لم يجد هادياً وتظهر الخيانة كأمانة كانت مضللة مصدوده عن سبيل الرشد مبعدة عن ورد السعادة وحيث يصير الكره حباً واليأس قوة.
لنذهب حيث شئنا فإن نهر الحياة الجياش العباب يتدفق تحت قبة السماء ويسير بين حيطان السجون وأسوارها حيث لا تضاحك الشمس غوارب أمواجه بينما هو يتدفق بين درجات القصور حيث السرور والابتهاج، وليس يعنينا عمق ذلك النهر أو اتساعه أو قوة تياره الدائم التدفع والوثوب ولكننا نروم معرفة حجم وصفاء الكاس التي نغمرها في مائه الجاري لأن كل ما نحمله ونستهلكه من أمواهه يأخذ شكل تلك اتلكاس لأنها قد استعارت شكل أفكارنا وصورة إحساساتنا وإن لكل إنسان كاساً من صنع أمانيه وأحلامه وصياغة نوازعه ورغباته، فإذا نحن تذمرنا من القدر وتسخطنا أحكامه فإن ما يحزنن ويسبب شكوانا هو أن القدر لم يوقظ في نفوسنا إلا رغبة في كأس أفتن صنعاً وأبهر لألأ، والحقيقة التي قد تغيب عن أذهاننا هو أن فكرة عدم المساواة محصورة في الرغبة، وعدم المساواة هذه نزول في اللحظة التي ندركها فيها، وأن النزوع إلى رغبة أشرف كفيل أن يأتي لنا بها، فإن صدر المقدور لينبض بهذا الطموح الجديد فيزيد كأسنا جمالاً وإشراقاً وعمقاً واتساعاً لأن معدن تلك الكأس قابل للالتواء حتى في ساعة الموت العابسة الجافة، وليس هناك من سبيل لشكوى هذا الذي علم أن مشاعره ينقصها الحماس الرفيع أو للآخر الذي يصعد في أفق نفسه الأمل سعادة أوسع نطاقاً وإني إذا كنت أحسد حسداً شريفاً هؤلاء الذين استطاعوا أن يملؤا كؤوسهم أكثر فتنة وأمهر ائتلاقاً من كأسي حيث مجرى النهر سلسال صاف فإن عندي - وإن كنت أجهل ذلك - نصيباً وافراً من كل ما يستقون من النهر بل أن شفي(56/22)
لتجاور شفاههم على حافة تلك الكأس اللماعة.
* * *
لنترك الشكوى من عدم اكتراث الطبيعة بالحكيم، وإن هذا الاكتراث يبدو لنا غربياً لأننا نتوغل في أقاليم الحكمة، فإن أول واجبات الحكمة أن نطرح في الضوء ضآلة الفراغ الذي يملؤه الإنسان في ذلك الوجود، وفي هذا الصراع يظهر الإنسان خطير الشأن مثل النحل في خلاياه، وإن النحل ليحمل نفسه عناء إذا أظن أن زهرة واحدة تكون في الروض أكثر ازدهاراً وإشراقاً لأن ملكة النحل قد ثبت أنها شجاعة باسلة جديرة بالسطوة والنفوذ في الخلايا، وأن لا ينبغي أن نظن أننا نحط من قيمة أنفسنا ونهضم من جانبها عند ما نعلي قدر الكون ونفخمه، وسواء أنطنا العظمة بنفوسنا أو بالكون فإن هذا يسوق إلى أرواحنا حلسة اللانهائي التي هي دم الفضيلة وقوتها ولا ينبغي أن نتطلب من وراء الفضيلة جزاء ضخماً، فإن جزاء الفضيلة داخل نفوسنا لا خارجها، والذين يرفعون أصواتهم في طلب مكافأة هم أبعد الناس وأقصاهم عنها، ولا ينبغي أن يعزب عن بالنا أن عمل الخير نفسه هو زهرة لحياة داخلية طويلة من السرور والقناعة والبشاشة والرضي، وهو يحدث عن ساعات الهدوء والسلام في أشرق أعالي الروح واسحق نواحيها، وأنه لا مكافأة تأتي بعد عمل الخير تعادل أو تقارن بذلك الجزاء العذب الجميل الذي ذهب معه وأن هؤلاء الذين يفعلون الخير غير منتظرين لجزاء هم الذين يعرفون سرور الروح، وأننا نفعل الشر لأسباب واضحة معلومة لنا ولكن أفعال الخير تصيرا كثر صفاء ونقاوة كلما جهلنا الدافع لها والحافز عليها، ولو أدنا أن نقدر فضيلة رجل فلنسأله عن بواعث الفضيلة في نفسه وإن أقل الناس علماً بالجواب هو أصدقهم فضيلة، وقد تظن أن العقل إذا اتسع وترامت حدوده تزول من الروح الشجاعة وهذا نقيض الحق فإن العقل الأكثر اتساعاً يستصحب مثلاً أعلى للشجاعة أسمى وأبعد عن الغرض، وإن هذا الذي يذهب إلى أن الفضيلة في حاجة إلى تأييد ومساعدة من القدر أو نم العوالم الأخرى ليس في نفسه حاسة الفضيلة المبجلة المحترمة، وإذا أردنا أن نخلص في عمل الخير فإنه يلزم أن نعمل الخير لتلهفنا إلى الخير نفسه ولتلفتنا إلى معرفة أدنى وأعرق بالخير. وإن هناك فرقاً لا يخفي على العين البصيرة بين روح الرجل الذي يعتقد أن أشعة عمل الخير ستترامى إلى مسافات بعيدة وتنير في(56/23)
نواح قاصية وبين هذا الذي يعتقد أنها لا تنير سوى روحه ولقد توجد قوة وقتية في الحق الطموح المتطلع ولكن القوة التي تأتي من ناحية الحق المتواضع المتخشع أكثر دواماً وأبقى على الزمن، ولخير لنا أن نكون مثل الجندي الذي يغرف صغر قدره وتفاهة تأثيره في المعركة ولكنه يظل يجاهد بقوة وعزيمة مشدودة نم أن نكون مثل الجندي الآخر الذي يخيل له أن كل ضربة من ضرباته تقرب النصر وأن الرجل المهذب المستقيم ليحقر أن يخدح جاره ويزيل له المحال ولكنه شديد الميل إلى أن يعتبر أن مقداراً من خداع النفس لا يمكننا فصله عن المثل الأعلى وإذا كان في الفضيلة مكسب وربح فإن أنبل الناس نفساً يرغم على أن يفتش عن السعادة في مظان أخرى.
لماذا لا نعتقد أنه ليس من واجبنا أن نرسل العبرات مع كل الباكين ولأن نشاطر الأحزان كل موجع كسير القلب وأن نعرض قلبنا لكل طارق فيلاطفه ويسليه أو يطعنه ويدميه؟ إنا لا نجد من الدموع والجروح والآلام أعواناً إلا إذا كانت لا تحل منا عرى العزمات ولا تقدح منا في معاقد القوة والثبات، ولا يغيبن عن بالنا أنه مهما متن رسالتنا في الدنيا ومهما كان الغرض من مساعينا وآمالنا ومن نتيجة أفراحنا ومسراتنا فنحن قبل كل شيء حراس للحياة وإن هذا لا صدق الحقائق وأثبتها بل هو الأساس الذي تشاد عليه أخلاق البشر وآدابهم، وإن الحياة منحت لنا السبب نجهله فليس من شأننا أن نصغر من قيمتها وأن نقذف بها في زوايا الإهمال وأننا نمثل في هذا الكوكب الأرضي حياة الشعور والفكر ولذا فإن كل الميول التي من شأنها ان تطفئ حماس الإحساس وتفت قوة الروح هي في مصدرها غير تهذيبية، وواجبنا هو أن نتعهد ذلك الحماس وأن نزيد في قيمته ونعلي من أمره ولنحاول دائماً أن نتهدى إلى يقين أعمق في عظمة الإنسان وفي قوته وفي مصيره ومآله أوفى شعفه وشقائه وبؤسه ومرارته لأن الشفاء النبيل السامي ليس بأقل إنهاضاً للروح نم السعادة النبيلة السامية من أشعتها إلى ميولنا وأفكارنا وتبعث من ضيائها إلى شجاعتنا وأقدامنا وإن كل جمال تأخذه العين ويستمكن منه البصر فيما حولنا لجميل أيضاً في نفوسنا وإن كل ما نجده في نفوسنا عظيماً مستحقاً للإجلال والتوقير نجده أيضاً في نفوس الآخرين واني لا أستطيع أن أجعلك نبيل النفس ما لم أكن نبيلها ولست أمنحك إعجاباً ما لم يكن في روحي شيء يستوجب الإعجاب.(56/24)
* * *
إن السمو لا يأتي إلى الروح من طريق تضحية النفس وإن النفس كلما صارت أسمى أخذت التضحية تختفي عن الإبصار كما تختفي أزهار الوادي عن ناظر الصاعد الجبل وإن التضحية لعلامة جميلة على قلق الروح ولكن القلق لا ينبغي أن يعيش وأن يتغذى في نفوسنا من أجل نفسه والروح التي على طريق اليقظة ترى في كل شيء سبباً للتضحية ولكن أشياء قليلة تظهر كذلك للروح التي صارت لا ترى في أنكار النفس والرحمة والتطوع جذوراً لا يستغنى عنها بل فيها أزهاراً خفية، وكثيرون من يهدمون قصور سعادتهم ويطفئون أنوار مآلهم المتألقة ليصلوا إلى رؤية أوضح للنفس في اللهب المتهالك الفاني وكأنهم يمسكون في يدهم مصباحاً يجهلون طريقة استعماله فإذا انتظم سلك الليل وتشوقوا للأنوار بددوا مادته في نار غيرهم ولنحذر أن تعمل عمل الرجال في الخرافة الذي وقف يحرس المنارة ثم تصدق بزيتها الذي كان يضيء فيملأ البحر نوراً، وإن كل روح في فضائها منار تتفاوت حاجتها إليه وإن القوة اللامدية التي تغير في أرواحنا ينبغي أن تضيء أولاً لنفسها لأنها بهذا الشرط فقط ستضيء للآخرين أيضاً.
* * *
إن أصغر فكرة مسلية فيها من القوة في ذاتها ما ليس موجوداً في أبلغ شكوى وأفصح تعبير عن ألم وحزن، وإن الفكرة العامة المتسعة العميقة التي لا تجلب سوى الحزن لقوة تحرق أجنحتها في الظلام لترمي أشعة حول جدران سجنها وإن أبسط فكرة أمل أو خضوع بارتياح لقانون لا مندوحة عنه لقوة في نفسها.
علي أدهم(56/25)
محاورة
بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد
للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوبنهور
تابع لما نشر في العدد الثالث من هذه السنة
الفقيه - إذا كانت نتيجة تعاليم المسيحية لم تجيء متفقة مع هذه الملة الغراء في الطهر والنقاء فلعل السبب في ذلك أرجع إلى أن شرف المسيحية وقداستها هي أعلى وأرفع من أن ترتقي إليها الإنسانية مع ما قد ركب فيها من غرائز السفال وما جبلت عليه من نحائز اللؤم والضعة - وإن أغراضها أسمى من أن تنالها همة البشر الضعيفة الواهنة الكليلة الوانية مع ما يقعد بها من دواعي السقوط والضعة والإسفاف. ولا مراء عندي في أنه أهون على بني البشر وأيسر أن يتبعوا شريعة الوثنية أو اليهودية. ولا مشاحة في أن أسمى ما في المسيحية وأسناه. وأشرفه وأعلاه. هو أقربه أن يجعل ذريعة إلى الشرور والإضرار. أفلا ترى كيف عمد ذوو المآرب والغايات إلى أقدس عقائد المسيحية فاتخذوه سلّماً إلى إتيان أشنع المآثم. واقترف أفظع الجنايات والجرائم. ونحن قد أسلفنا أن انقراض النظامات الأوروبية القديمة واضمحلال الفنون والعلوم اليونانية والرومانية معزوّ إلى غزوات الشعوب البربرية أثناء القرون الوسطى. فلا غزو للحالة هذه إذا رأينا الجهالة والهمجية قد تسيطرت وتسلطت ونهضت دولة العنف والاعتساف. وقام سلطان البغي والإجحاف. وأصبحت فئة الإشراف وطائفة القسوس على كاهل الإنسانية كلاّ. وعلى عاتق الجماعات عالة وحملا. وبعض السبب في هذا راجع إلى أن المسيحية جعلت تحث على ترك المصالح الدنيوية والأخذ بالمصالح الدينية وتعلم الناس أن اتقاء السريرة وسلامة الطوية مفضلة على العلوم العقلية والمعارف الذهنية، وتحض على إطراح اللذات والملاهي التي هي في الحقيقة ثمرات العلوم ونتائج الصناعات والفنون. على أن المسيحية لم تحث على ترك العلوم والفنون فيما يعود على الدين بالفائدة بترويح شرائعه ونشر مبادئه وتعاليمه وعلى ذلك فقد استبقى للفنون والعلوم رواجها وانتشارها في هذه الناحية وهذا المجال.
الفيلسوف - مجال لعمر أبيك ضنك ضيّق - لقد صادف رجال الدين في العلم رفيقاً متهماً(56/26)
ظنيناً. وصاحباً لا موثوقاً به ولا مأموناً. فشددوا عليه الرقابة والتضييق وشدوا عله كل غل محكم وقيد وثيق. بينما الجهل وهو ذاك العنصر الضروري لنفاق مذاهب الدين قد بدل أقصى العناية في حفه، ورفه. وفي تأييده. وتعضيده.
الفقيه - ومع قولك هذا فنحن نرى أن الذين استنقذوا ودائع العلوم الأولين نم هاوية الفناء. وتلافوا نفائس فنون الأقدمين من شفا جرف الهلاك والتواء. إنما هم قسوس النصرانية من جلة الرجال. ولا سيما من سكن منهم الهضاب والجبال. فماذا كانت إليه تنتهي الحال لو أن المسيحية لم تظهر في العالم قبل غزوات الشعوب الهمجية وغارات الأمم المتوحشة البربرية؟
الفيلسوف - هذا لعمري مبحث عظيم جليل الفائدة لا مريء حر نزيه شريف الغاية نبيل المقصد. يتحرى سبيل العدالة والإنصاف ويتنكب طريق الجور والإجحاف. يوازن بأحكم قسطاس. ويوضح بأسطع نبراس. بين ما للمسيحية من مزايا وحسنات. ومخازي وعورات. ويبن ما نجم عنها من فائدة وخير وكارثة وشرّ.
ولكن الذي يتصدى لمثل لهذا هذا البحث يجب أن يكون لديه من المعلومات التاريخية والبسيكولوجية ذخيرة أوفر مما لديّ أو لديك. فهو عمل أحق بالقيام به المجامع العلمية (الأكاديمية). ولكن حسبنا الآن رجل إحصائي يبين كم عدد الجرائم التي تحول البواعث الدينية دون وقوعها وكم عدد الجرائم التي تحول دون وقوعها بواعث أخرى. فاعتقادي أن الرجل إذا أحس في نفسه ميلاً إلى اقتراف جريمة فلا مشاحة في أن أول ما يخطر بباله هو الخوف من عقوبة القانون التي لا بد سيلقاها - ثم يتلو ذلك مسألة تعريضه سمعته للتشويه. ولا عندي في أنه سيفكر الساعة تلو الساعة في هذين الأمرين قبل أن يخطر بباله أدنى شيء من الاعتبارات الدينية وإني لعلى يقين من أنه إذا استطاع أن يأمن شرّ هذين الخطرين - خطر القانون وخطر تشويه سمعته فقلما تقف في سبيله دون الجريمة الموانع والعوائق من قبل الدين وزواجره.
الفقيه - إلى لعلى خلاف رأيك في ذلك، اعتقد أن زواجر الدين كثيراً ما تقوم عقبة دون ارتكاب الجرائم ولا سيما إذا كانت المؤثرات الدينية تحدث أثرها من طريق العادة فتزجر الإنسان عن مقارفة الجريمة لأول وهلة وذلك لتشبث المرء بما جبل عليه ولأن اعلق(56/27)
المؤثرات بالنفس أقدمها عهداً. وإذا طلبت مثلاً على ذلك فإذا كركم من رجل - ولا سيما الكريم العنصر الشريف المحتد - يضحي الضحايا العظيمة من ذات ماله وجاهه ونفسه ليفي بموعد أو يبر بقسم ولا باعث له على ذلك سوى ما كان أبوه لا يزال يوصيه به في الصغر من أن الرجل الشريف الكريم البعيد الهمة لا يمنعه من الوفاء بالعهد مانع مهما عظم
الفيلسوف - لقد غابت عنك أن هذه لن تنجع حتى تصادف المؤثرات من المرء نفساً شريفة وغريزة كرم ونبل فهي كالبذور ولا يزكو لها غرس وتينع ثمرة حتى يصيب تربة خصبة كريمة. فلا تعز إلى الدين خطأ من حسن الأثر ما هو في الحقيقة نتيجة الغريزة الطيبة والخلق الشريف الفاضل الذي يعز على صاحبه أن برى الشخص المقصود بالإساءة يقاسي الألم والعذاب فيمنعه ذلك من إتيان الجريمة - فالزاجر إذن عن الجريمة هي الرحمة الغريزية الفطرية التي لا صلة لها بأن تعاليم الدين البتة.
الفقيه - ولكن هذا الباعث الغريزي من الرحمة والمروءة لا يكون له تأثير في الجماعات حتى يمزج بزاجر من الدين يظل له بمثابة مؤيد ومعضد. على أن البواعث الدينية وحدها بلا أساس ولا معين من الغرائز الفاضلة قد تمنع من ارتكاب الجرائم. وما هذا بمستغرب في أمر الجماعات إذا ذكرنا أن طوائف المتعلمين المستنيرين ربما تأثروا في كثير من الأحايبن بالعوامل الدينية بل بأسخف الخرافات والترهات يسترشدون بها ويستهدون في كثير من شؤونهم طول أعمارهم - كأن يمتنعوا مثلاً من مباشرة الأعمال أيام الجمعة ويأبو الجلوس على المائدة ثلاثة عشر نفساً ويؤمنون بالعرافة والقيافة يتشاءمون بالبوارح. ويتفاءلون بالسوانح - وإذا كان هذا شأن المتعلمين المستنيرين فكيف بالجهال من الغوغاء والدهماء. وإنك يا صديقي لن تستطيع أن تتصور شدة ما نشأت عليه أذهان العامة من الضيق وعقولهم من الكثافة والبلادة فإنها وأيم الله مفعمة بالظلمات ولا سيما إذا كان ينبوع مادتها القلوب الخبيثة والنفوس الخسيسة. فأمثال هؤلاء وهم السواد الأعظم من البشر ينبغي أن يسيروا ويقادوا جهد الطاقة بالبواعث الخرافية حتى يرتقوا بفضل التأديب والتهذيب إلى مستوى إدراك ما وهو أقرب إلى الحقيقة وأبعد من الخرافة وحسبنا دليلاً على قوة سلطان الأديان. وبليغ أثره في النفوس والأذهان. ما يزوى عن الثقات من أن(56/28)
لصاً طاب نفساً عن متاع نفيس غالي القيمة مما سرقه فرده إلى حيث كان قد سلبه وذلك بفضل تأثير قسيسه المقرر إذ افهمه أن نجاته من النار متوقفة على رد ذلك المسروق. ثم انظر إلى مسألة القسم وتحليف ومالسلطة الأديان من قوة الأثر والمفعول في هذا الصدد. وخبرني ما الذي يحمل الرجل من العوام والكثيرين من غير العوام على توخي الصدق في موقف التخليف - أهو لأن المحلف قد وضع نفسه في مصاف النبلاء المتروكين إلى طهارة ذممهم وصحة ضمائرهم الناظرين إلى شرف منزلتهم الأدبية وسمو مرتبنهم الاجتماعية - كما هي الحال في فرنسا حيث ينحصر القسم في قول المحلف. بشرفي أو كما هي الحالة عند بعض المذاهب في إنكلترا حيث يقتنع بقول الرجل نعم أو بلا أدنى قسم - أم هو لمحض اعتقاد المحلف أن اليمين الكاذبة معطية ومرداة ومدرجة إلى سقر وبئس المصير؟ وعلى أية حلا فالبواعث الدينية ليست سوى وسائل لا يقاظ الشعور الأخلاقي واستثارة الإحساس الأدبي. وأتن ترى الرجل رما أجاب إلى حلف القسم الكاذب بادئ ذي بدئ حتى إذا طلب إليه تنفي ذلك رفض فجأة - وبذلك يظفر الحق على الباطل وتفوز الفضيلة على الرذيلة - وما ذلك تأصثير الدين في نفسه.
الفيلسوف - ومع ذلك فنحن لا نزل نبصر الجرأة على القسم الكاذب نزداد استفاضة وانتشاراً ونبصر نتيجة ذلك من هزيمة الحق واندحار الفضيلة بمرأى ومسمع من الشهود الوافقين على الحقيقة. فالواجب والحال هذه أنن لا يجعل اليمين في المحاكم إلا بمثابة الملجأ الأخير للقضاء وعلى هذا لا ينبغي إلا كثار منه ولا تصح الاستعانة به إلا في الضرورة القصوى وفي هذه الحالة الحرجة يجب أن يرفرف جلال الوقار على مقام التحليف ويكون ذلك بحضرة القسوس ورجال الدين والأليق أن لا يجري هذا العمل إل بين جدران كنيسة بجوار الحكمة. على أنك محق في اختيارك مسألة التحليف شاهداً على نفوذ الديانات العملي وتأثيرها الفعلي. وأني مع كل ما ذكرت وسردت لأشك في أن نفوذ الدين يمتد إلى آمد بعيد وراء مسألة التحليف.
وأني أناشدك أن تصور لنفسك ماذا تكون الحال إذا أعلن على رؤوس الملا أن الحكومة قد أصدرت قراراً بإلغاء قانون العقوبات بحذافيره وأناشدك أيضاً لو أنه حدث ذلك أكنت تجرؤ على الذهاب وحدك من ههنا إلى دارك تحت حماية البواعث الدينية. ولكن لاشك هنالك(56/29)
مطلقاً في أنه إذا أعلن على رؤوس الملا كافة بطلان الديانات وكذبها فانمحى من النفوس أثرها. ومن القلوب ذكرها. فإنا لا نفتأ بعد ذلك ننعم من العيش بمثل ما كنا به ننعم أيام عز الدين في سلطانه. وشباب الدين في عنفوانه. فنحيا بفضل حماية القوانين وحدها حياة لا تزيد فيها مخاوفنا ولا محاذرنا ولا تكثر فيها وسائل تحفظنا واحتراسنا وتقوانا من أذى المجرمين وشر المعتدين عما كانت عليه من قبل. على أني أذهب في رأيي إلى أبعد من ذلك فأقول أن الدين هو في الأحابين الكثيرة مفسدة للأخلاق. وبيان ذلك أن واجباتنا نحو الله تكون في مذهب الدين في الأحابين الكثيرة عكس واجباتنا نحو أخينا الإإنسان، وأن من السهل أن يكفر الإنسان عن إساءته للبشر بتضرعاته إلى الله. ومن ثم لا نزال نرى السواد الأعظم نم الخلق في كل زمان ومكان يجدون الصلوات والعبادات أسهل في التماس ثواب الآخرة واجتناب عقابها من حسن معاملة الناس وإتباع سبل الخير والإحسان حتى يصبح المذهب الشائع في كل دين إذ رضى الله وغفرانه ومثوبته وإحسانه، لتنال برسوخ العقيدة وعمق الإيمان وبإقامة الشعائر والمناسك والمراسم والمواسم بأكثر مما تنال بمكارم الخلال، ومحامد الفعال وبإتباع منهج الفضل القويم، وصراط الخير المستقيم. وإذا كانت إقامة الشعائر الدينية والمراسم والمناسك تدر على معشر القسوس ورجال الكنيسة بالخيرات. وتفيض عليهم بالغنائم والثمرات. كانت ولا شك أخصر طريق إلى الجنة وأمنع وقاية من النار. وها نحن نرى تضحية القرابين من صنوف الحيوان وتلاوة الأدعية والأوراد ونصب الصوامع والصلبان على جوانب السبل والطرقات تعد في آراء الناس من أعظم ما يتقرب به إلى الله لمحو الذنوب وتكفير السيئات حتى أشنع المآثم وأفظع الجرائم كما يتوسل أيضا إلى العفو والغفران بالتوبة والندامة وبإنابة والاستغفار وبالخضوع إلى أحكام القساوسة ورجال الكنيسة وبالاعتراف والحج إلى مقامات الأولياء ومزارات القديسين وبالهبات والعطايا والتبرعات للكنيسة وتسوسها. وتشييد إلهياً كل والأديرة والمعابد حتى أصبحت طائفة القسوس وكأنما لا وظيفة لها إلا الوساطة يبن المخلوق والخالق وجمل الرشوة من المذنبين إلى خزينة الآلهة. وإذا كان الأمر لا يصل إلى هذا الحد فقل لي جعلت فداك أين القساوسة الذين لا يرون الصلوات والأدعية وأناشيد الحمد والاستغفار وغير ذلك من ضروب الشعائر والمناسك كفارة للذنوب وعوضاً وبديلاً من مكارم الأخلاق ومن البر(56/30)
والتقى والصلاح؟ انظر إلى قساوسة إنكلترا الوقحاء المتبجحين كيف سوّغوا لأنفسهم المطابقة بين يوم الأحد المسيحي ويوم السبت اليهودي وجعلوا هذ هو ذاك بعينه بالرغم مما قضاه القيصر قسطنطين من جعل الأحد ضداً للسبت، وكرّس الأول على الفرح والابتهاج واللهو والتلذذ إذا كان معنى الأحد هو يوم الشمس وتألقها بالنور والسرور. فكان من نتيجة تزوير القسوس وتموبههم هذا بأن حرموا على الناس أدنى اشتغال بالأمور الدنيوية من لذة أو منفعة كمباشرة أي صنف من الألعاب أو الملاهي الطيبة الحلال وتعاطي الغناء والعزف بالآلات والغزل والنسيج والحياكة وقراءة الكتب منزلين كل هذا منزلة الذنوب والخطايا واقفين يوم الأحد على التعبد والتسنك وقضاء الساعات الطوال في الكنسية واستماع إلى خطبة مملولة مسؤومة. وتريد سخافات غير معقولة ولا مفهومة.
عد عن ذكر هذا وانظر رعاك الله إلى زمرة أرباب العبيد وتجار العبيد في الولايات الحرة بأمريكا (حقها أن تسمى ولايات العبيد) هل تراهم إلا من صفوة المتدينين ونخبة الأتقياء الصالحين من تبعة الكنيسة الإنكليزية وهم مع ذلك أبالسة في صور آدميين. وأجساد بشر على أنفس شياطين. ترى حياتهم سلسلة آثام، ومتوالية إجرام. ويبلغ من فرط تظاهرهم بصحة الدين. وتكلفهم لقوة العقيدة واليقين. أنهم يتنزهون عن تعاطي الأعمال في الآحاد. ويكرسونها على عبارة رب العباد. ويحسبون أنهم يخدعون الله بهذه الأباطيل ويدخلون الجنة بهذه الأكاذيب والأباطيل.
إن من حمق الحمق وأسخف السخف أن يحسب الناس من أمثال هذه الأضاحي والقرابين والمواسم والشعائر والمراسم فيها كفارة عن مآثم الأديان وشنائعها وفظائعها كالاضطهادات والحروب والمذابح الدينية مما برأ الله أهل المدنيات القديمة عن ارتكاب مثله - كالحرب الصليبية - تلك المذبحة التي دامت نيفاً ومائتي عاماً وبرر فيها إزهاق الأرواح باسم الله ظلماً وجوراً. وكل ذلك من أجل الاستيلاء على قبر إنسان كان يوصي بالسلام والتآلف والوئام - وكجريمة طرد المسلمين واليهود من الأندلس وكالمذابح ومحاكم التفتيش وغيرها من المحاكم الملية وغزوات المسلمين الدموية الرهيبة في جميع أنحاء العالم وغزوات المسيحيين في أمريكا حيث استأصل الغزاة أهلها الوطنيين ولا سيما في جزيرة كوبيا فقد قال المؤرخ لا كازاز أن عدد من أفناه الأوروبيون في أمريكا بلغ اثني عشر مليوناً في(56/31)
ظرف أربعين عاماً باسم الدين طبعاً ونشر الإنجيل ولأن كل ما خالف المسيحية كان يعد في آرائهم الفاسدة خارجاً عن دائرة الإنسانية فهو بالإعدام خليق. وبالإبادة حقيق، ولا أنكر أني قد شرت إلى هذا آنفاً. ولكن المقام ههنا يأبى إلا تكرار ما تقدم. ثم لا تنس ما ارتكب أهل الدين في أقدس بلاد الله أعنى الهند الإنسانية ومنيت البشرية أو على الأقل منبت النوع الذي منه تسللنا وإليه نعزي وننتسب وما كان من جناية أؤلئك المجرمين أهل الدين على ديانة الهنود أصل الديانات ومنبع العقائد بتدميرها كلها البديعة ومعابدها العجيبة وما حوته من روائع الدمى والتماثيل والصور. وأفظع تلك الجرائم ما؟؟؟؟ الملكان المسلمان مرمود وأورنزيب قاتل أخاه، وما ارتكبه بعد ذلك البرتغاليون تقليداً لفظائع هذين الملكين واقتداء بسوء آثارهما. ولا تنس أيضاً شعوب اليهود ذلك الشعب المصطفى المختار الذي تقول على الله أن أمرهم بسرقة الأوعية والأواني الذهبية من أصحابهم وآباء مثواهم المصريين وكان أقرضوهم إياها ثم فروا بما سرقوا وسلبوا الوادي المقدس طوى بطور سينا يقودهم زعيم العصابة موسى كما ينتزعوا تلك المسروقات من أيدي أربابها الشرعيين ظلماً وعدواناً وذلك أيضاً بأمر ربهم فيما يزعمون ويدعون. وما في قلوبهم إزاء كل ذلك من رحمة ولا رأفة يتلون الرجال ويذبحون النساء والأطفال وما أن لهم من ذنب سوى أنهم غير مختونين وغير مؤمنين برب موسى وهرون وكفى بهذا مبرراً لسومهم الخسف والعذاب. ونكبتهم بكل رذيلة ومصاب. ومن أجل هذا السبب عينه أنزل النبي يعقوب وشيعته بملك شالم المسمى هامور الكارثة العظيمة المخزية والنكبة الجسيمة الوارد حديثها في التوراة. ولا مبرر لهذه الإساءة سوى أن القوم لم يؤمنوا برب يعقوب. لا مشاحة في أن أسوأ سوءات أي دين ما هو إلا أن أهله يبررون لأنفسهم إلحاق أي أذى ونكبة بإتباع غيره من الأديان. ولعلى مبالغ إذا عزوت هذه الرذيلة لي جميع الديانات بلا استثناء والحقيقة أنها منصورة على الديانات التوحيدية أعني اليهودية بفرعيها النصرانية والإسلام فإنا ما سمعنا قط بمثل هذا عن الهنود والبوذيين بالرغم مما نعلم من قيام البراهمة بطرد البوذية من مهدها الأصلي بأقصى جنوب الهند وما كان بعد ذلك من اتنشارها في كافة آسيا ولكنا بالرغم من ذلك لم يدل إلينا التريخ بأخبار صحيحة الأسانيد قاطعة البراهين تقيد أن البراهمة تذرعوا إلى عملهم هذا بأي شيء من وسائل العنف والعسف من حروب أو مذابح(56/32)
أو تنكيل أو تمثيل. ولهل هذا يرجع إلى ما يغشي تلك العصور الغابرة من ظلمات الخفاء وغياهب الإبهام بيد أن ما اشتهر به دين البراهمة من فرط التسامح واللين والدماثة الدالة على أن القوم كانوا أشفق وأبرّ بمخلوقات الله نم أن يتعمدوا إلحاق الضرر حتى بالنملة والبعوضة يؤكد لنا أن أهل تلك الملة لم يعولوا قط بسفك الدماء وتمزيق الأشلاء. وأنهم كانوا بلا شك أحقن الطوائف لدم العباد. وأزهدهم في الحرب والجلاد. وقد أورد المؤرخ الجليل سنبس هادري في كتابه البديع المعنون الرهبنة في الشرق فصلاً صافياً في مدح البوذيين ووصفهم بأقصى غاية اللين والتسامح واحتج بقوله هذا بأن تاريخ البوذية أقل التواريخ الدينية حوادث قتل وذبح وكوارث ظلم وضيم. والحقيقة هي كما قدمنا أن أقل الملل تسامحاً وأشدها عنفاً وقسوة هي الأديان التوحيدية. ولا بدع في ذلك فإن الإله المفرد يكون بطبيعته إلهاً غيوراً لا يسمح بوجود أدنى شريك ولا يقبل أي منافس ولا مزاحم. وعلى العكس من ذلك ديانات الشرك التي يتولى رئاسة الكون فيها آلهة عدة تكون بطبيعتها متسامحة متساهلة. فهم يأخذون بالمذهب القائل عش ودع غيرك يعيش. فهم يحتملون زملائهم المشاركيهم في سياسة الدين هم أربابه هذا التسامح يسرى منهم فيما بعد إلى أرباب الديانات الأخرى. حتى لتراهم يرحبون بآلهة الأديان المغايرة لدينهم يتلقونهم بأعظم البشر والاحتفال والحفاوة ولا يمنعوهم من التمتع بمثل مالهم من الحقوق والسلطات والامتيازات. وأصدق دليل على ذلك ما كان من أمة الرومان إذ رحبوا بآلهة اليونان والمصريين وغيرهم نم الآلهة الأجنبية. ومن ثم ترى أن الأديان التوحيدية هي وحدها التي سوّدت صفحات التاريخ بشنيع الفظائع من حروب التعصب والاضطهادات الملية ومحاكم التفتيش وما إلى ذلك من الشنائع كتحطيم الصور والتماثيل وإتلاف أصنام الآلهة وتخريب آلهياً كل الهندية والمعابد المصرية التي حيت بشرفاتها العالية طلعة الشمس ثلاثة آلاف عام. وكل ذلك السفك والسفح. والقتل والذبح. والتخريب والتحطيم. والتدمير والتهديم. لأن إلهاً غيوراً ظهر فقال لا إله غيري. حطموا الأوثان لا أوثان معي! الخ. الخ
والخلاصة أنك محق في قولك أن العامة تحتاج إلى الدين تفسيراً للغز الحياة والموت والواجبات والفرائض، ولكن أري الدين لا يسد هذه الحاجة وإن أضراره على العموم أكثر نم فوائده. وقد رأينا أن منافعه من حيث ترقية الآداب مشكوك في صحتها. ولكن مضاره(56/33)
ولا سيما ما ارتكب باسمه في سيبله من الفظائع الآنفة الذكر محققة مؤكدة. على أن لا أنكر منفعة الدين لأرباب العروش من الملوك والسلاطين والقياصرة فإن الدين قوام دولهم وعماد أرائكهم وروح سلطانهم. وذلك أنه لما كانت العقيدة السائدة في الممالك المطلقة والدول الاستبدادية أن العرش هو هبة الله أصبحت الصلة بين العرش والكنيسة متينة مؤكدة. ولذلك ترى الملك الشديد التعلق بعرشه يأبى إلا التظاهر لرعيته بمظهر الورع التقي المتدين. ولقد رأينا كتاب السياسة يوصون الملوك بالتعبد والتدين حتى الكاتب الشهير ماكيافيلي أوصى بمثل ذلك في الباب الثامن نم كتابه الأمير فحث الملوك على الصلاح والتقوى والإكثار نم التعبد، والله والناس يعلمون أنه كان أخبث خلق الله نية. وأفسدهم طوية. وأضعفهم ديناً وأمرضهم يقيناً. أضف إلى ذلك أن الديانات المنزلة تنزل من الفلسفة منزلة سلطة الملوك الإلهية الصدر من سلطة الأمة. فلا غرور إذا رأيت تناسباً وملائمة بين الشطرين الأوليين من الموازنة أعني بين الأديان وبين سلطة الملوك.
الفقيه - لا تضرب على هذا الوتر يا صديقي واذكر أنك بتصريحك هذا إنما تزين الفتنة وتروج الفوضى وتحاول هدم الأصول والشرائع والنظم والقوانين بل هدم المدنية الإنسانية.
الفيلسوف - أنت محق في هذا. لم تكن هذه مني إلا ضرباً من المغالطة والسفسطة - أو ما يميه معلم السيف - حيلة وخدعة. وإني وحقك لساحبها ولكن أرأيت كيف تفسد المجادلة على الرجل عدله وإنصافه وتتركه حائراً متعصباً خبيثاً. فلنكف الآن عن المناظرة والمنازعة.
الفقيه - يسوءني والله أن أرى تعبي ومجهودي قد ضاع عليك عبثاً وإني لم أستطع مع كل ما بذلت وحاولت أن أغير في الدين في رأيك فلتعلم أنت أيضاً أنك لم تستطع أن تغير في الدين رأيي.
الفيلسوف - لا أشك في ذلك ولا عجب، فلقد قال هو ديبراس من وافق على الشيء مضطراً، فما تحول عن رأيه فترا. ولكن لي بعد عزاء عما يبدو لي الآن من ضياع تعبي في المثل القائل إن متعاطي المناظرة كمتعاطي المياه المعدنية كلاهما لا يظهر فيه أثر ما تعاطاه إلا بعد حين(56/34)
الفقيه - أرجو أن يكون هذا المثل عليك لا على منطبقاً
الفيلسوف - قد يكون ذلك لو أني أستطيع هضم مثل معروف من الأمثال الإسبانيولية.
الفقيه - وما هو هذا المثل؟
الفيلسوف - هو القائل إن وراء الصليب يكمن الشيطان
الفقيه - حسبك يا صديقي ولا تجعل ختام حديثنا السخرية والتهكم. واعترف معي أن الدين شبه إله الموت عند البراهمة نم حيث أنه ذو وجهين وجه مشرق وآخر مظلم. وإن كلينا إنما ينظر إلى وجه دون الآخر.
الفيلسوف - الحق معك يا صاحبي: - تمت هذه المحاورة -
أصغر لتعظم كم تجمع واثب ... ثم استعز نعز بعد صغار
وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهم ... لما رأيت بني الإعدام شاكينا
أهدى بعض الأمراء فرساً لشاعر فمات ليلة وصوله، فكتب إليه الشاعر يقول أن لا شيء أسرع من الفرس الذي أهديته إلى، فقد وصل من الدنيا إلى الآخرة في ليلة واحدة.
هوى بعض الشعراء إحدى الغواني الحسان ومضى على هذا الحب المضمر دون أن يعلمها بذلك وإنما كان يذكر لها أنه يهوي حسناء صفتها كيت وكيت وينعتها بكل نعت جميل ووصف نبيل فسألته ذات يوم أن يريها محبوبته تلك التي يصف فأبى عليها ذلك فقالت فأرني صورتها إذن فقال أما صورتها فأرسلها إليك غد ثم أرسل إليها في الغد مرآة. . .(56/35)
عالم الأدب
دول العرب
لأمير الشعراء أحمد شوقي بك
لفتنا الأنظار في العدد الماضي إلى ذلك االفتح العظيم الذي أجاءه إلى عالم الأدب العربي أمير الشعراء أحمد شوقي بك بتلك الملحة التاريخية الخالدة الني وضعها وهو في أسبانيا وألم فيها بالدول الإسلامية العربية جمعاء ومن بينها الأندلس - وقنا ثمت أنا أخذنا من سعادته النبذة الخاصة بالدولة الفاطمية وأنه ناط بنا شكلها وشرحها ووعدنا القراء بنشرها في هذين العددين، بيد أن سعادته كان قد أعطانا نبدة أخرى قبل ذلك تتعلق بتلك الأحداث التي نشبت بين سيدنا علي وسيدنا معاوية رضي الله عنهما، وبالكلام على كل منهما وخصائصه منفرداً، وكنا بدأنا بشرحها قبل شرح الفاطمية ومن هنا نقدمها عليها في النشر وهذه النبذة العلوية المعاوية هي من بحر الرجز وسائر هذه الملحمة إنما هو من بحر الرجز ما عد المقصورة الفاطمية وموشحات في الأندلس، وقد التزم فيها كلها مالا يلزم - وهذا لزوم ما يلزم هو من المحسنات البديعية التي تجمل الكلام أن منظوماً وان منثوراً مسجعا - جاء في شرح التلخيص الذي وضعناه قديماً وطبع سنة 1904 ما يأتي. ان هذا التنوع من أشق هذه الصناعة وأبعدها مسلكاً وذلك لأن صاحبه يلزم ما يلزم وهو ان تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفاً واحداً وهو في الشعر أن تتساوى الحروف التي قبل روي الأبيات، ومن هذا النوع نثراً ماروي أن لقيط بن زرارة تزوج بنت قيس بنت خالد فحظيت عنده وحظى عندها ثم قتل فآمت بعده وتزوجت زوجاً غيره فكانت كثيراً ما تذكر لقيطاً فلامها زوجها على ذلك فقالت أنه خرج في يوم دجن وقد تطيب وشرب فطرد البقر فصرع منها ثم أتاني وبه نضح دم فضمني ضمة وشمني شمة فليتني مت ثمة فلم أر منظراً كان أحسن من لقيط. فقولها ضمني ضمة وشمني شمة فليتني مت ثمة من الكلام الحلو في باب اللزوم ولا كلفة عليه، وهكذا فليكن، ومن ذلك قول الحماسي
ان التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدق - ها وأجلها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وٌلها(56/36)
وإذا وجدت لها وساوس ساوة ... شفيع الضمير إلى الفؤاد فسلها
وهذا من اللطافة على ما يشهد لنفسه. وممن قصد من العرب قصيده كله على اللزوم كثير عزة وهي القصيدة التي أولها:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... فلوصيكما ثم حللا حيث حلت
وهذه القصيدة تزيد على عشرين بيتاً وهي مع ذلك سهلة لينة تكاد تترقرق من لينها وسهولتها. وبعد فإن ما يقع من هذا النوع لمتقدم فهو غير مقصود منه ولذلك لا يرى عليه من أثر الكلفة شيء أما المتأخرون فقصدوا عمله وأكثروا منه حتى أن أبا العلاء المعري عمل من ذلك ديواناً كاملاً سماه ديوان اللزوم فأتى فيه بالجيد الذي يحمد والردىء الذي يذم - انتهى. أما لزوميات شوقي فهي كلها آيات فقد تنزهت عن شوائب الغموض، وخلصت من أكدار الحشو والتعقيد وهي بعد ذلك لا ترد على السمع فتصدر إلا عن استحسان - فكأنه التزم ما يلزم لا ما يلزم. . . وذلك عنوانه الشاعرية الحقة، والعبقرية الصادقة، وآية من آيات خصوبة الذهن وصفاء الروح والقريحة السمحة الحافلة، فضلاً عن غزارة المادة، وسعة الاطلاع والبسطة في العلم وامتلاك ناصيتي البيان، وهكذا فليكن الشعراء - وهكذا شوقي - ومن هنا كانت هذه الملحمة خليقة بأن تكتب على جبين الدهر، وأن يستظهرها الناشئون في جميع الأقطار العربية بعد أن يستظهروا كتاب الله. وهنا نطلب إلى كل قارئ أن يفتح ذهنه تفتيحاً حتى يفطن - مستعذباً جذلاً - بتلك الأسرار وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز التي ينطوي عليها شعر شوقي، والتي تطالع الذهن الثاقب من خلال كل بيت بل كل كلمة فتعبث باللب كما تعبث الشمول - قال حفظه الله تحت هذا العنوان:
الخصمان
يا فطِناً بسير الكبارِ ... مُفتتناً بغرر الأخبارِ
وطالبَ الجوهر في التراجم ... مُلتمسَ التِبرِ من المناجم
جئتك بالبرجاس والمريّخ ... خَصمَين بين يدي التاريخ
فرنْتُ خيرها تقىَ وعلماً=بخيرها سياسة وحلما
بل قرنْتُ بينهما أيدي الغِيْر ... وافترقا على التلافي في السير
أبو الشهابين وهل يخفى القمر ... والثاقبُ الرأي اللعوب بالزُمر(56/37)
أو قيمُ الدين ولا أحابي ... وقيم الدنيا من الصِحاب
ان ذُكر الآباء جاآ القمر ... جَدّا تمناه العتيق وعمر
تحدرا مُزْنَين من غمامِ ... ولاقيا الدِيمة في الاعمامِ
قُربى على تفاوت المنسوب=كالمُومِ والشهد من اليَعسوب
* * *
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
أما الإمام فالأغرّ الهادي ... حامي عرين الحق والجهاد
العمران يأخذان عنه ... والقمران نسختان منه
أصل النبي المجتبى وفرعُهُ ... ودينه من بعده وشرعهُ
وَصفحتاه مقبلاً ومدبراً ... وفي الوغي وحين يرقى المنبرا
يدنو إلى ينبوعِه بيانا ... ويلتقي بحراهما أحيانا
الحجرُ الأول في البناء ... وأقربُ الصحَب بلا استثناء
وأوهدُ الناس وفي الدنيا يدُه ... وأخشع العالم وهو سيدهُ
وجامع الآيات وهي شتّى ... وسُدّة القضاء باب الأفتا
والسُّهدُ الآوِى إلى أشواقِه ... إذا الظلامُ مَدّ من رُواقِه
بَحْرُ الهوى والقومُ رَكْبُ السفن ... كم من شِراع دون
يا ليتَ شِعْري والأمورُ تخفى ... والفِكْرُ في هذا الطريق يحفَى
ما ساَء هذا الناسَ من عليّ ... وحاد بالناصر والوليِّ
وغَرَّ بالليث الذّئابَ العَاويهْ ... وسهَّل الغابَ على معاويهْ
قيلَ دَمُ الشيخ الضعيفِ المسلم ... يَطْلُبُه اللهُ وكلُّ مُسلِم
تركُ الإمام قاتلَ الإمامِ ... أخلَّ بالهيبة للزمام
وقيلَ بلْ أدَلّ بالمكانَهْ ... ولو تَصوَّر الخشوعُ كأنهْ
والزَّهوُ أحياناً من المعاني ... أن سال من معاطِف الشجعان
وقيل في سياسة الطباع ... وفي المدارة قصيرُ الباع
لو صانعَ الإمامُ أو تأنى ... مابلغ الشاميُّ ما تمنى(56/38)
وقيلَ علمٌ مالَه انتهاءُ ... لم يَجْرِ فيه الرأيُ والدهاء
في ثقةٍ بمن به لا يوثَقُ ... ولا يدوم عهدُه والمْوثِِق
ونبذُ رأي الناصح المماحِض ... في قُحَم الأمر وفي المداحض
وقيل أخفىَ للثلاثةِ الحسَدْ ... وكادت الجيفة تأكل الأسَد
لا بل هو المنازِعُ التوَّاق ... طِلْبتُه الأعباء والأطواق
سما إليها بعيون الفضل ... وحنّت الحسناء تحت العَضْلِ
من كان في منزلة الرفيع ... يَدر مكان مِنْبر الشفيع
وطالما استأخر غيرَ قاحِم ... ولاذ بالحياء لم يزاحم
ياجبلا تأتي الجبال ما حمل ... ماذا رمت عليك ربة الجمل
أثارُ عثمانَ الذي شجاها ... أم غصَّة لم يُنتزع شجاها(56/39)
صور مضحكة
الحلاقون
للكاتب الهزلي الأمريكي الطائر الصيت مارك توين
كل شيء في الوجود عرضة للتغيير والتبديل إلا الحلاقين وأساليب الحلاقين ومتعلقات الحلاقين. فإنها ثابتة لا تتحول. سرمدية لا تتغير ولا تتبدل. فإن ما يكابده الإنسان عند دخوله دكانة حلاق أول مرة هو عين ما يكابده كلما دخل أشباهها ونظائرها حتى يوافيه أجله.
ذهبت للحلاقة اليوم كالعادة. فلما دنوت من دكان الحلاق بصرت برجل يدنو إليها من الجهة المقابلة، وهذا هو ما يزال يقع ويحدث. فأسرعت نحو الباب وأسرع الرجل وأردت أن أسبقه إليه فسبقني. وهذا أيضاً هو لا زال يقع ويحد. وكذلك دخلها الرجل قبلي بخطوة واحدة واني لا أطأ على عقبه ورأيته وعيني تدمع. وقلبي يبجع. يتبوأ كرسي الحلاقة الوحيد الخالي الواقف عليه أحذق حلاقي الدكان وأمهرهم. وهذا أيضاً هو لا يزال ويقع ويحدث. وكان في الدكان غير ذلك الحلاق الأمهر الأحذق صانعان آخران أحدهما لا بأس به واسميه هنا الحلاق نمرة (1) والثاني طائش اليدين. ثقيل الراحتين. ذو أصبع هوجاء. وانملة خرقاء. وهو فوق ذلك ثرثار مهذار فظ غليظ بارد سمج ثقيل واسميه هنا الحلاق نمرة (2) فقعدت عل أحد المقاعد الخالية وجعلت اتضرع إلى الله أن يورثني الكرسي القائم عليه خير هذين الحلاقين وأن يجنبني شرهما وادعوا على هذا الأخير في سري متمثلاً قول القائل فشركما لخيركما الفداء واكد أملي بلوغ المراد اني رأيت نمرة (1) أقرب إلى الفراغ من زميله المنحوس إذا كان قد شرع يمشط شعره محلوقه على حين أن زميله كان لم يفرغ بعد من مرسه خصل محلوقه ودلكها بالزيت. فلبثت أرقب السباق بينهما بمهجة قلقة ونفس مشفقة. فلما رأيت نمرة (2) المشؤوم الطلعة قد لحق بنمرة (1) وهم أن يسبقه صار اشفاقي لهفاً وفزعاً. ثم لما رأيت نمرة (1) قد وقف في عمله لإصلاح بعض شأنه تحول لهفي وفزعي كرباً وجذعاً. فلما استأنف نمرة (1) عمله ورأيت الزميلين ينتزع كلاهما الفوطة ويمسحان البودرة عن وجهي محلوقيهما وقد أصبحا في التعادل والتكافؤ كفرسي رهان. وقد استوت كفتا الميزان. بهرت واحتبست أنفاسي من شدة القلق والاشفاق.(56/40)
فلما رأيت نمرة (1) قد وقف في هذه الأزمة الحرجة ليمر مشطه على حاجبي زبونه دفعتين علمت أنه خسر السباق فحينذاك زال الشك وبرح الحفاء.
رجع اليقين مطامعي يأساكما ... رجع اليقين مطامع الملتمس
فانطلقت إذ ذاك من الدكان هارباً من وقوعي في مخالب نمرة (2) ورأيت أن أجول جولة في الطريق ثم أرجع علّ الله يحدث من بعد ذلك أمرا وعسى أن يكون النحس قد أدبر والسعد قد أقبل وقلت إلا ان في كل حركة بركة. ودوام الحال من المحال. وكذلك جعلت اتعلل بهذا وبمثله من الحكم والأمثال. وقد آثرت الفرار من الدكان والعودة بعد فترة على أن اجبه الحلاق نمرة (2) وقد دعاني إلى كرسيه - بالرفض وقولي له أني منتظر زميله. فأنى وربك شديد الخجل مفرط الحياء لا أستطيع أن أخجل إنساناً ولو كان الحلاق نمرة (2). ولو كنت سأذوق على يديه الأمرين.
ثم إني عدت بعد ربع ساعة فألقيت كراسي الحلاقة الثلاثة مشغولة جمعاء. ووجدت بالمكان أربعة رجال في الانتظار صامتين واجمين كأن على رؤسهم الطير تبدو عليهم إمارات القلق والضيق شأن كل من قضى عليه أن ينظر نوبته في دكان حلاق. فرأيت أن أزجي الوقت بإجالة النظر في دواليب المكان وما احتوته من أمتعة وآلات وبتلاوة ما على الجدران من الاعلانات عن كافة أنواع الأدوية والتراكيب والأدهنة والروائح والزيوت وما على الزجاجات من الأسماء الدهنية. وعلى القناني من السطور الزيتية، ثم انتقلت إلي الصور الرخيصة المعلقة على الجدران أنظر ما بها من تصاوير الحروب والمدافع والأساطيل ورجال السياسة والملوك والبرلمانات والسلاطين. ثم أخذت بعد ذلك أتعلل بغناء الكروان وثرثرة الببغاء اللذين لا تكاد تخلو منهما دكانة حلاق. ثم عمدت من بعد ذلك أتعلل بتلاوة ما بها من الأكاذيب والاختلافات.
وبعد أن فنى صبري. وضاق الكون في بصري. سمعت منادياً ينادي باسمي فالتفت فإذا هو نمرة (2) فاستسلمت للأقدار، وأذعنت لحكمة المنتقم الجبار. وهذا هو لا يزال بقع ويحدث. ثم أخذت مجلسي تحت سلطانه، وسألته مبتهلاً متضرعاً أن يسرع إذ كان لدي من الحاجات ما يعجلني ويرهقني. فضاعت عليه تضرعاتي ضياعها على الحجر الأصم. وعلى الوثن والصنم. ثم أنه دفع رأسي يجمع كفه ووضع فوطة من الأمام. وبعد ذلك عاث بمخالبه في(56/41)
شعري وقال انه يحتاج إلى شيء من القص فقلت له إني لا أحتاج إلى شيء من ذلك. فعاث فيه بمخالبه مرة ثانية ثم قال انه أطول مما يلائم ذوق العصر وان الواجب قصه - ولا سيما من الخلف حيث يعاب بقلة الاستواء والانتظام. ثم جعل يتأمل مؤخر رأسي بنظرو ازراء وازدراء وقال وهو يهز رأسه سخطاًُ من الذي قص لك الشعر آخر مرة؟ فقلت مسرعاً أنت الذي فعلت وكذلك أفحمته فخرس ولم يفه بكلمة. ثم انه شرع يقلب الرغوة ويتأمل به في المرآة. وجعل يقطع سير عمله من حين إلى آخر لينعم النظر إلى شخصه يدنو إلى المرآة فيتأمل ذقنه بدقة أو يعاين اثر بثرة. وبعد ذلك رغّى من وجهي وهم بأن يرغى الثانية وإذا بمضاربه من مضاربات الكلاب في فتركني وأسرع إلى نافذة الدكان حيث استمر واقفاً يتفرج على المضاربة وأدوارها إلى النهاية وخر ثلاث شلنات في رهان علي نتيجة مع زملائه فكانت خسارته أسر الأشياء لخاطري وأورحها لنفسي. ثم عاد إلى بعد الفرحة فأكمل الترغية وشرع يدلك صفحتي وجهي يعنف وقوة وبعد ذلك أخذ يشخذ موسى على مسن معلق وقد أبطأ وتوانى في العملية ما شاء إذ جعل يحاور زميله بشأن مرقص متنكر كان شهده ليلة الأمس في زي راعي غنم يحمل عوداً أخضر من النبات وقد بذ الاقران بحسن ورشاقة حركاته ثم بلغ من فرط سروره عند تعريض زميله بما كان بينه وبين الفتيات إذ ذاك من المغازلات والمداعبات وما كان منها من ابدائها الافتتان بمحاسنه وملاحات ما حمله على الاستزادة من الحديث واستطالة المحاورة بإظهاره من تعريضات زميليه والتأفف من تلميحاتهما وتصريحاتهما. ثم كان من هذه المحاورة أنه ألقى الموسى جانباً وأقبل على المرآة يستزيد من النظر إلى والتفرس في خلقته وتبريم شاربيه وإصلاح حاجبيه. وتمشيط لمته. . وتصفيف طرته. وتنضيد فوديه. وتجعيد سالفتيه. وهذا كله الأحكام ونهاية الدقة والنظام. ومن خلال ذلك كانت الرغوة تجف على ديباجتي أكل جلدتي.
وأخيراً تناول الموسي وأخذ يحلق. وقد أقبلي بغرز أصابعه في وجهي ليشد ويمطه ويدفع رأسي ذات اليمين وذات الشمال حسبما يقتضيه أسلوب الحلاقة أثناء ذلك يتنخم ويتنخع فرحاً ومسروراً غير مكترث ولا حافل. وكان قد من موساه محراثاً ومن وجهي حقلاً وأقبل يشق بمحراثه في شفتيه. في خديه. فلم اكترث لذلك عظيم اكتراث ما دام يجر آلته الزراعية البقاع الصلبة الغليظة في وجهي. فلما انتهى إلى المواضع الرقيقة اللينة وأخذ(56/42)
فيها ويمزق في أديمها عضضت على نواجذي من سوء سلوكه. وتحدر الدمع من عيني تحدر الدر من سلوكه. وبعد ذلك اتخذ من أنفي يداً أو مقبضاً مستعيناً بذلك على حلق الشفة العليا. فاستنتجت من ذلك أن الرجل قبل اشتغاله حلاقاً يزاول مهنة (عرقسوسي) أو (حملي) لكثرة ما اعتاد القبض على أيدي الأباريق والأواني.
في هذه الآونة كنت أرجم الظنون فيما عسى أن يكون الضربة التالية وأين من وجهي سيكون موقعها ولكن الحلاق الحاذق سبق الظن بالواقع وأكد الشك باليقين إذ جرحني في طرف ذقني قبل أن يستقر تخميني على شيء دون آخر. وحينذاك أدرك خطأه فأقبل يشحذ الموسى. أبعدك الله وأخزاك يا شر الحلاقين. وعار المزيين. هلا فطنت إلى ذلك من قبل احداث الجراح. واتيانك جرائم السافك السفاح؟ ثم اني حاولت أيها القارئ الشقيق أن أصرفه عن إعادة الكرة معتذراً إليه بأني لا أحب التفريط وأن وجها (اووشا - في اصطلاح المزيين واحداً فيه الكفاية ولكنه أبى واستكبر وقال لا بد من إعطاء الصنعة حقها وأنه ما كان ليخاطر بسمعته في الكار. إجابة لرجاء واعتذار. وكان في جانب ذقني بثرة أخشى عليها مرّ السلاح فيبنما أنا في منتهى الحيرة والكرب والاشفاق إذا بالفارس الكرار. والبطل المغوار. قد استباح من ذقني تلك البقعة المحرمة. وأجال فيها حسامه القاطع بلا رأفة ولا مرحمة وهنا نبع الدم المحقون. وكان الذي خفت أن يكون.
ثم انه نقع فوطته في زجاجة من الروم ثم ضرب بها وجهيي بلا رفق ولا أناة. كأنه ظن أنه قد رؤي أو سمع بإنسان أو حيوان غسل له وجهه هكذا ثم نشف وجهي بضربه اياه بالجزء اليابس من الفوطة كأنه ظن أنه قد رؤي أو سمع بإنسان أو حيوان نشف له وجهه هكذا. ولكن الحلاق قلما يشبه خلق الله في أي شيء. وبعد ذلك حشا الجرح (بالروم) بطرف فوطته ثم بالغراء المسحوق ثم بالروم ثم بالغراء المسحوق ولا شك أنه كان مستمراً في عمله هذا إلى يوم القيامة لولا معارضتي واحتجاجي. والحاحي ولجاجي. ثم أنه طلا وجهي بالبودرة ونصب صلبي وعدل رأسي وأسرع يرتع أنامله في شعري وهو أثناء ذلك ساهي الطرف شاخص البصر كالذاهل والمتذاهل. ثم اقترح أن يبيعني نوعاً من الدهان زعم أنه يطري الشعر ويلينه فخبرته أن لدي من هذا الدهان كمّا وافراً. فاقترح ضرباً من الزيت زعم أنه يصقل الشعر ويلمعه فأبيت.؟؟؟؟؟ يقرظ لي صنفاً جديداًُ من الغالية. قائلاً(56/43)
أنه ذكي من نفح الطيب وأرج الحبيب.؟؟؟؟؟ أيضاً: فعرض علي مصيبة من (غسول أسنان) من اختراعه وإبداعه فلما أبيت؟؟؟؟ أن يتاجر معي في المقصات والسكاكين.
فلما فشل في مشروعه الأخير استأنف العمل فرشني بالماء الممسك من فرعي إلى؟؟؟؟ ولم يدع فيّ ذرة ولا جزئياً. بالرغم من معارضتي ودفاعي ثم دهن رأسي وأقبل؟؟؟؟؟؟ ويدلكه بعنف وقسوة حتى تطاير منه شيء كثير انتزعه من جذوره اقتلاع أعاصير النبات والشجر ثم فرقه وثنى على الجبين تلك الخصلة السرمدية المعروفة. ثم؟؟؟؟؟ يمشط حاجبي النزر الخفيف بمنتهى البطء والكسل وجعل خلال ذلك بسرد قصة طوية عن بعض أجداده وأسلافه نمت واستيقظت أثناءها ولما انتبهت النومة الثالثة سمعت صفارة الظهر وعلمت أن القطار قد فاتني بخمس دقائق. ثم اجتذب الفوطة ونفضها على وجهي بخفة وأمر مشطه على حاجبي كرة أخرى وصاح؟؟؟؟ (الذي بعده).
بعد هذا الحادث بساعتين أصيب الحلاق المذكور بسكتة قلبية أخمدت حسه.؟؟؟؟؟ رمسه - وقد أجلت السفر لا فوز بلذة الشماتة والانتقام وسأشيع بمعونة الله؟؟؟؟؟ غداً الساعة الثالة بعد الظهر. . .
محمد السباعي(56/44)
اليوجنيون
والعلم الحديث الذي يريد خلق إنسانية جديدة
يوجد بين رجالات العلم وأساطينه اليوم قوم يسمون اليوجنين؟؟؟؟ أن روح كل تحسين في العالم هو تحسين الروح، وأنه لما كان الناس محكوماً عليهم بالموت والفناء كانت درجة الأبوة العامل الأكبر في تأسيس بناء مستقبل الإنسانية تهذيب هي خير صناعات العالم وواجب عمل تؤديه الدنيا لحفظ؟؟؟؟ وأن كل طفل يثب إلى الدنيا من أحشاء الكون ينبغي أن توضع لتربيته الخطة ويرغب في مجيئه قبل خروجه وبحب قبل وثوبه، وإن واجبات الحكومة هي انتاج الكفاءة الإنسانية وإبادة الضعف والفسولة والعجز بين الناس، وإنه في سبيل تحقيق جميع هذه الأغراض التي من أجلها خلق العالم ينبغي أن تذلل جميع قوى الإنسان والطبيعة وجميع القوى المادية والروحانية على السواء.
ومن بين هؤلاء العلماء ينهض صفوة جبابرة الأذهان أو أكبر فلاسفة العصر ومفكري العالم. وجميع أولئك الذين جاهدوا وفكروا وعملوا وكدوا وسعوا لأجلنا ونحن ورائهم وحفدتهم، فقد كان أفلاطون يوجينا ولم يكن أقل من غالتون في هذا العالم الجديد اليوم شاؤا بل لقد كان أكبر شعراء الإنسانية يوجنيين كذلك وكانوا جميعاً يدركون كلمات الكاتب المخلد ويثمان إذ يقول: أنتخبوا أناساً أقوياء ثم لا تهتموا بعد ذلك بالباقي وليس ثمت ريب في أن هذه الفكرة ليست طريقة بل هي الفكرة الكمالية الكبرى التي جعل يسعى في سبيل تحقيقها أنبل رجال الإنسانية الماضية ونسائها. وإنما اتخذت شكلاً حديثاً وراحت في صيغة جديدة. وأكبر خاصيتها اليوم انها أضحت علماً. وان كان رجال هذا العلم المنادون إليه إنما يودون ما كان يوده المصلحون من قبل أعني ظهور إنسانية قوية صحيحة. وأن يوجد في العالم رجال أبدع من رجال اليوم ونساء أصح وأنبل روحاً وأقوى جثماناً. وأن تختفي من العالم جميع مظاهر المرض والقبح والدمامة والشقاء والبؤس والشرور والمناقص. وأن نؤسس عالماً أفضل من هذا العالم ونبني إنسانية أمتن من هذه الإنسانية حتى ينبثق فجر العصر الذهبي الذي طالما تغنى شعراء الماضي به وتخيلوه وأرسلوا القصيد تلو القصيد في تصويره.
على أن اليوجنيين يقولون أنه إذا كنا نريد حقاً أن ننفذ هذا المبدأ الجميل فلا ينبغي لنا أن(56/45)
نقصر عملنا على ترداد هذه الكلمات العذبة والتلفظ بها والتنغم بحلاوة مخارجها وأنه لا يكفي لنا الصلاة والتضرع والابتهال والدموع والعبرات والإيمان والاستسلام والتمني والتعلل بل ينبغي أن يكون شعارنا العبادة هي الكد والدأب واكبر حاجة الإنسانية اليوم ومطلبها الإيمان العامل القوي الفعال، لا المستسلم القوام الصوام. وهذا واجب العصر الحاضر، وفريضة أبنائه، لأننا لسنا إلا أعواناً للطبيعة على عملها وشركاء في خلق خلقها. وكيف لا يكون هذا واجبنا ونحن ننشيء الجيل، وكان حتماً علينا أن نهذب نشأته ونقوي أصوله ومتونه. وليس تاريخ الإنسانية الماضية إلا اكبر دليل على امكان انقاذ هذه المبادئ السامية إذا نحن تذكرنا من أية وهدة وثبنا، ومن أي منشأ خرجنا. وفي تاريخ الماضي لنا ألف مرشد ودليل، وإذا كان الماضي يعلمنا بفتح بصائرنا ويهبنا مبادئ وطرائق فإنه يوحي إلينا أننا مدينون له بدين عظيم وأن لا سبيل إلى الوفاء بهذا الدين إلا إذا اختصصنا بالمستقبل، وإن كان غرضنا أن نبني جنساً أرقى من هذا الجنس - وأنه لعمل عظيم من بناء المدائن وإنشاء الحواضر - فليكن أساس ذلك البناء تعظيم الطبيعة نفسها ومبادئها القوية المتينة.
وإذا كان يخيل للناس أن اليوجنية ليست إلا ديناً أو عقيدة فلا تزال كذلك علماً ولا بد للدين من عون العلم. ثم لا ينبغي أن لا ننسى أن هناك علوماً كثيرة لا تجد مرشداً لها إلا اليوجينة ولا تزال تستمد وحيها وأصولها ومقاصدها من تعاليم هؤلاء اليوجيين.
وقد آن الأوان الذي يطلب فيه إلى هؤلاء العلماء أن يبسطوا الطرق التي نستطيع بها أن نخرج عقيدتهم هذه إلى حيز الفعل فقد تقبلت الإنسانية فكرتهم، وارتضت مبادئهم ولم تجد لهذه المبادئ الأولية هذه لها من جميع أبناء الإنسانية الحاضرة إلا التحييذ والقبول والإجماع. ولكن ليس المقصد هو قبول الفكرة وهي معلقة لا تنفيذ لها. فإن لكل إنسان أن يصيح اليوم. إذا كانت هي اليوجنية فنحن كلنا يوجنيون، كما قال السير ويليام هاركور إذا كانت هذه الاشتراكية فنحن جميعاً اشتراكيون ولكن الاشتراكيين جعلوا يردون على هذه الفكرة فيقولون أنها وإن كانت من بعض الوجوه صحيحة لا يزالون هو قوماً منفصلين وطبقة خاصة من الإنسانية. وليس ذلك لأن لهم غرضاً معيناً مخصوصاً لأننا جميعاً نبتغي السعادة كما يبتغيها الاشتراكيون. وإنما لأن لهم نظرية خاصة معينة في كيفية الوصول إلى(56/46)
تحقيق هذه الأغراض. وعلى هذا النحو يقول اليوجنيون انه وإن كانت الإنسانية جميعها تود ما يودون وتبغي ما يبغون، لا يزالون طبقة خاصة لأن له نظرية خاصة في وجوه السعي إلى تحقيق هذه المبادئ السامية.
ونحن الآن باسطون شيئاً من المبادئ العملية التي يقول بها علماء اليوجنية فنقول أننا إذا سلمنا جدلاً أن غرضنا هو تحسين الجنس الإنساني وتهذيبه فأول سؤال ينبغي أن نسأله هو: ما هب العوامل التي نجعل من الناس قوماً أصحاء وقوماً مرضى وأفراداً أقوياء الروح، وأفراد أضعافها أحقارها مهدميها، وأناساً أقزاماً قصاراً، وأناساً طوالاً مشذبين كباراً. وتجعل من الناس حمقى أغبياء، وألمعيين أذكياء، وقساة غلاظ الأكباد وحِداباً رقيقي العاطفة رحماء. والجواب سهل للغاية. وهو أن كل مزية في الإنسان، وسجية وخليقة ليست إلا نتاج عاملين كبيرين الطبيعة والتغذية وقد استمد السير فرنسيس غالتون البطل الأول الذي ظهر في ساحة هذا العلم الجديد هاتين اللفظتين من كلمة للشاعر شكسبير. فمما يدخل تحت كلمة الطبيعة الوارثة وما يتلقاه الإنسان عند نشوءه وتكوينه وإن لم يكن شبيهاً لما في الوالدين والآباء. وأما التغذية فتلك التي تشمل جميع وسائل الغذاء التي يتلقاها الطفل من بدء تكوينه وتأثير الوسط النفاتي والاجتماعي والجثماني. وكذلك نرى أن تحت هاتين اللفظتين تختفي جميع القوى التي تنشئنا والتي تنشىء كل مخلوق في هذه الحياة. ونحن ندرك أنه لا تقوم واحدة دون الأخرى. ولا عمل لعامل منهما دون عون صاحبه، فإذا لم تكن الطبيعة فلا أثر للتغذية. وحيث لا تكون التغذية تتهدم الطبيعة، ولا تكون شيئاً مذكوراً.
فإذا سلمنا بهذا واعترفنا به فقد أدركنا المبادئ الأولية لهذا العلم. وكذلك نرى أن اليوجيين وإن كانوا ينادون الإنسانية إلى عقيدة جديدة لا يزالون ينشرون عقيدة قديمة. ويجب أن يعترفوا بفضل التغذية بجميع وجوهها، وليس غرضنا في الحياة إخراج خليات لقاح قوية وإنما أفراد أصحاء أقوياء وما كان طلبنا الخليات القوية إلا لأنها تنمو فتكون أفراداً طيبين. ولهذا كان واجبنا أن نعمل على تغذية هذه الخليات من المبدأ إلى النهاية. في كل دور من أدوار التكوين والنمو. وهذا يؤدي بنا إلى فكرة وجوب العناية بالأمومة. قبل حصولها ولكن كثيرين من هؤلاء العلماء يقفون إزاء هذه الفكرة معارضين محتجين ويعدون طلب العناية(56/47)
بالطفل قبل ولادته وهو في دور الجنين اشتراكية استخفافاً وسخرية. ويسمون عنايتنا بالأطفال في مستشفيات الأطفال واللقطاء والتعويض عن إهمالنا قبل ولادة الطفل تصدقاً. والتصدق مادة غير موجودة في قوانين العلم الحديث.
وهناك فكرة أخرى يعارض فيها اليوجييون. إذ يقولون أننا نجاهر بقولنا الناس جميعاً أحرار بالفطرة متساوون إنما نعلن حقيقة سياسية فقط. ولكنها من الناحية البيولوجية أي من الوجهة الحيوية: ليست إلا اكذوبة صريحة. وهم لا ينكرون أن هذه الحقيقة السياسة خليقة بالتحبيذ والقبول والاحترام. ولا ينبغي مقاومتها أو العمل على هدمها ولكن ينبغي أن لا تخلط بالحقيقة الحيوية وهي أن الناس لم يخلقوا أحراراً ولم يثبوا إلى العالم متساوين وإنما لا يزالون مختلفين وأن فريقاً منهم قد حكمت عليه الطبيعة بالعبودية والوقوف في الصفوف الخلفية من الإنسانية وفريقاً آخر خصته الطبيعة بالحرية والمكانة العليا فإذا كانت هذه الاختلافات بين الناس رجالاً ونساء تحور إلى قوة التغذية أو ضعفها فنحن نقول أن في ذلك إنكاراً لعمل الطبيعة واستخفافاً بقوتها ولكننا إذا ذهبنا إلى أن هذه الاختلافات ليست طارئة عارضة وإنما هي تمشي على قانون ثابت وتجري مع سنة مقررة وتعمّ الإنسانية كلها من أبله مجنون في الحياة إلى أعقل عاقل ومن الغبي إلى الذكي ومن المرض إلى الصحيح فإنما نعترف بأن لقوة الطبيعة العامل الأول في تكوين الناس وهذه الفكرة الأخيرة تنطبق على ما اختبره العلم في العهود الحديثة.
وقد أنفذت الإنسانية المتحضرة في القرن الماضي أو نصفه الأخير شيئاً كثيراً من الإصلاح الاجتماعي. وقد تحسنت الحياة من بعض فروعها. ومن ناحية التربية على أن هذه اللفظة الأخيرة يجب أن تبقى كما هي الآن بين قوسين. حتى تدل على أنه لا يزال يوجد نوع منها أفضل من حالها اليوم وأجدى على الإنسانية. ولكننا على رغم الاصلاحات التي أدخلناها على الحياة لم نتناول بعد الموضوعات الخطيرة التي هي أحق بالإصلاح من سواها فقد عني أهل الغرب بوسائل الصحة فقط الظاهرة السطحية، ولكن العامل الآخر وهو عنصر الطبيعة لم يمسح لأحد بالإصلاح ولم تعمل الإنسانية بعد على تنظيم سيره وضبط قوانينه واحترامه نواميسه. فلا يزال قانون الوراثة مقفلاً لا يؤبه به: ونحن اليوم نخرج للإنسانية أطفالاً عجزة مرضى وندع الأمهات عرضة للأمراض والعلل: ثم لا يكون(56/48)
منا إلا أن نحاول إصلاح ما أفسدنا بالاجتهاد في تحسين هؤلاء العجزة بإيجاد المستشفيات وتشييد الملاجئ ودور الشفاء.
وإذا كان للطبيعة في خلق الناس وتكوينهم كل هذه الأهمية التي بسطناها. وإذا كانت الاختبارات التي ينشرها العلم في كل يوم ويؤيدها الذين يتوفرون على تربية الماشية والأنعام والسوام وتلقيح الخيول والأزهار والنباتات. فقد حق علينا أن نحشد جميع وسائل العلم لتربية الناس بعين الطريقة التي تحسن بها نوع خيولنا وماشيتنا.
هذا هو واجب هؤلاء العلماء قهم يقولون أنه على الرغم من جميع المصاعب التي ستعترض انفاذ هذا الواجب - من جهل وجمود على المبادئ القديمة واستمساك بالأفكار البالية العتيقة يجب أن ينفذ هذا الواجب - وقد آن الأوان لانفاذه وسيتغلب الإنسان على جميع تلك المصاعب يوماً من الأيام. وستذهب سخريات الحمقى والمجانين والهزائين، وضحكات المتشائمين والساخرين - في طخية الظلام. وسيرى العالم أن تلك القوى التي رقت الإنسان من الحيوان ومن الدودة الحقيرة لا نزال مستسرة فيه كامنة في طبيعته، لأنها عمل الكون كله وقدره الذي لا حد لقدرته.
لهذا السبب وحده يقول علماء اليوجنية بان لتنظيم فعل الطبيعة - المكان الأول - ولتنظيم عمل التغذية المكان الثاني. وأكبر سعي اليوجنيين مقصور على العنصر الأول. والمبدأ الأول هو انتخاب البذور القوية لأخراج أناس أقوياء. وإذا كان هناك انتخاب فمعنى ذلك أنه لا بد كذلك من رفض واطراح. فإذا كنا سنأخذ بانتخاب الأقوياء والصالحين فلا غنى عن اطراح الضعفاء والفاسدين. ومن هذا نقسم اليوجنية الطبيعية إلى يوجنية إيجابية، ويوجنية سلبية. فالغرض الأكبر من اليوجنية الأولى الايجابية هو تشجيع الأبوة الصالحة - والغاية من السلبية - منع الأبوة الضعيفة المتأدوة المريضة. وهناك فكرة أخرى، وهي أنه إذا كان ثمت عوامل قد تستطيع أن تجعل من الأفراد الأقوياء الأصحاء الصالحين أبوة فاسدة ضعيفة. فلا بد لليوجنيين من العمل على محاربتها ومقاومتها: وقد شاهد علماء الوراثة أن الرجل إذا فقد عضواً من أعضاء جثمانه. أو أصيب بفقد الباصرة أو تشوه وجهه من أثر الجدري لا يمنعه ذلك من الزواج. ولا يقتضي ذلك أن تكون منه إذا تزوج أبوة غير صالحة إذ لا ينتظر أن يخلف له خلف ناقص البدن. ولا يكون نسله فاقد العضو(56/49)
الذي فقده من بدنه، ولا يثب أبناؤه إلى الحياة عمياً مشوهي الوجوه. وهناك أمثلة كثيرة نستطيع إيرادها للدلالة على أن كثيراً من الخسائر أو الأضرار الصحية التي تقع للآباء لا تؤثر في حالة نسلهم وذراريهم - على أن الذين درسوا قوانين الوارثة يدركون أن هناك عوامل تؤثر في صلاحية الأبوة. ولهذا ينبغي مقاومة هذه العوامل الضارة، ومن بينها الكحول والعقاقير وسائر تلك السموم.
إذا أدركنا هذا كله أمكننا أن نقسم اليوجينة إلى الأقسام الآتية:
اليوجنية الطبيعية
1 - إيجابية - تشجيع تحسين الأبوة بالزواج الصالح
2 - سلبية - منع الأبوة الفاسدة غير الصالحة
3 - منعية - مقاومة السموم الجنسية الضارة
بوجينة التهذيب والتغذية
1 - بدنية. التغذية من المبدأ الأول إلى النهاية. بل من المهد إلى اللحد.
2 - نفسانية. التربية وما إليها
3 - اجتماعية وأخلاقية. في المنزل والمدرسة والأمة.
نلك أصول هذا العلم. وهي واضحة بينة. لكن ستستعرض انفاذ هذه المبادئ حماية من العواطف الإنسانية والغرائز الآدمية والأحوال الاجتماعية. كالزهو والأثرة والأنانية والسياسة والعادات. واهم أولئك عامل الحب. فقد يهدم اليوجنيه ويقلبها رأساً على عقب.
وسأعود إلى تفصيل جميع مبادئ هذا العلم الهام مذ العدد القادم إن شاء الله
عباس الحافظ(56/50)
فتاوى الأطباء في التقبيل
أنُقَبِل أم لا نُقَبِل؟
وضعت إحدى المجلات الغربية المشهورة هذا السؤال على بساط البحث واستفتت فيه صفوة الأطباء في الغرب فجاءت من نواحيهم جملة من الفتاوي الطبية الشائعة، وها نحن أولاء ناقولها لقراء البيان حتى يدركوا لذة التقبيل وآلامه وأخطاره.
فتوى الطبيب روبرت بل
نائب رئيس جمعية الأبحاث الدولية في السرطان
لا مراء في أن التقبيل جائز مقبول إذا أريد منه أن يكون دليلاً على الحب. وكان الشخص المقبل وصاحبه الذي تطبع على وجنته القبلة يعرفان بعضهما البعض المعرفة الأكيدة ويعرف عنهما أنهما صحيحان سليمان من الأمراض، نقيان من العلل. أما التقبيل الذي يأتي عفو الخاطر ويرمي على خدود الناس بلا تمييز ولا احتراز ولا معرفة فلا بد من اجتنابه اجتناب السم الزعاف والوباء المجتاح. لأنه قد ينقل سما ليس في خطورته أقل من مركبات السموم. فهو وسيلة من وسائل العدوى، ولهذا كان واجب الأمهات والمرضعات أن لا يسمحن لأحد من الغرباء بتقبيل أطفالهن وتدليلهن، بل ينبغي لهن أن لا يأذن لأحد من الأصدقاء، وأعز الصواحب بأن يقبلن الأطفال إذا كانت ثمت خالجة من الشك في أفئتهم من صحة اولئك الصحاب والخلطاء وسلامتهم من الأمراض إذ لا ريب في أن التقبيل ينقل العدوى إلى الأطفال وإن كان الهدف إظهار الحب وإبداء ما تكنه العواطف من المودة والاعزاز للولد والصبيان المساكين.
أما تقبيل القطط والسنانير والكلاب الصغيرة فالخطر كل الخطر حتى وإن لم يكن في ذلك شيء من الأذى. وقد تسلم هاتيكم الحيوانات منه إذ المعروف عنها أنها تحمل جراثيم المرض في فروها وشعرها وأوبارها. ونحن خلقاء أن لا ننسى أن تلك الديدان التي تعم جسوم تلك الحيوانات والقراض الذ يجري مكاسر جلودها وثنايا بشرتها لا تزال وسائط لنقل المرض وسريان العدوى. ولذلك كان من الواجب أن يحذر الأطفال المستهترون بملاطفة الكلاب والقطط من حملها في أحضانهم وتقبيل أفواهها ووجوهها.
وإني أعضد الطبيب الفرنسي الذائع الذكر مسيو روم في آرائه المتعلقة بمضار التقبيل(56/51)
وتقبيل الكلاب والقطط خاصة، ولثم الغرباء وجنات الأطفال والوليدات الصغيرات.
* * *
فتوى الطبيب روبرتسون ولَس
على الرغم من أننا لا نستطيع اليوم أن نستأصل عادة تغلغات منذ أقدم عهود الإنسانية في أعماق الطبيعة الآدمية. وذاعت في كل بلاد الحضارة. نقول أنه يجب أن نجتنب التقبيل الطائش. واللثم النزق. الذي لا نضن به على أي فم، ولا نمسكه عن أي شفة وثغر، إذ لا ريب في أن الخطر الأكبر أن يقبل الإنسان مريضاً لا يزال تاريخه المرضي مشكوكاً فيه. وأشد الناس تعرضاً لهذا الخطر، واستهدافاً لهذه الآفة، الأطفال والصبيان الصغار والبنات القاصرات لأنهم يعدون حلية في الدار لا يستطيع أولئك الأشخاص الوثابة عواطفهم الذين لا يجلدون عن إمساك شعورهم، وضبط إرادتهم فيهرعون إلى تقبيل أي إنسان، أن يزجروا هذه الحاسة ويعينهم على ذلك عجز الاصبية عن المقاومة ورفض هذا الوابل الواكف من اللثمات. فهؤلاء الناس، بل أولئك الموزعون أمراض الدنيا على الناس. أولئك أعوان الجراثيم وحملتها ونقلة ألمراض وحفظتها. لا يترددون في تقبيل الكلاب والقطط والأطيار والكنار، ويجدون في ذلك لذة كبرى، وفرصة عظمى لا يجدونها في شيء آخر أبعث على الفرح والسرور في تقبيل كلب لاهث أو قطة كسلى. وقد يكون هؤلاء الناس أقوياء الجسوم في مأمن من العدوى. وحرز حريز من الجرائيم فلا يحلمون يوماً أنهم قد يروحون على الرغم من سلامتهم من فعل الجرائيم، أشد الوسائط في نقلها إلى الناس. بل قد يجرون على غيرهم العلة المعضال وق يسوقون إليهم المنون ويجلبون أشد الأخطار لأولئك المساكين الذين يظهرون لهم دلائل الحب بالتقبيل. فيودعون كل مكروبات الأمراض فوق خدودهم ووجناتهم.
وليس ثمت بلد أدرك قانون الصحة من ناحية التقبيل وتبع تلك الرسوم والتعاليم الصحية. كبلاد الأمريكان. فقد درسوا قانون التقبيل الواجب أشد درس. وهناك يرون أن التحية التي يرد القاؤها من الشفاه يجب أن تكون في شكل طاهر نقي من الجراثيم. وقد اخترع أحد علمائهم برقعاً يسمى برقع التقبيل وهو أشبه بحاجز يوضع الشفتين والشفتين. حتى يكون العاشقان في مأمن من كل مرض وعدوى. وهذا الحاجز قد يستعمل عندما لا توجد شفاه(56/52)
تقبل، وثغور تلثم، مضرباً صغيراً للعبةالتينس المنزلي. وهذه الأداة الجديدة عبارة عن شبكة مدهونة بمادة مطهرة تقتل الجراثيم قبل أن تصل من الفم إلى الفم. وما أعجب أن يرى الناس روميو وجولييت هذا الزمان واقفين وفم كل ممتد إلى صاحبه من وراء مصفى أشبه بمصفى الشاي. ولكن الأمريكان لا يزالون أمريكان في كل شيء. وعندهم ان قانون الصحة قبل قانون الحب. على أن العشاق في بلادنا هذه وفي جميع بلاد الله الأخرى سيستمرون على مص الشفاه ولثم الأفواه بالطريقة الطبيعية الفرحة. محتجين على تداخل الطرق العلمية والمواد الكيماوية في غرامهم وأكبر لذاذات حبهم. قانعين من جميع الأخطار بخطر واحد وهو ارتباطهم برابطة الزواج.
* * *
فتوى الطبيب هنري روبرتسن
أستاذ التحاليل الكيماوية في جامعة لندن
لاخفاء في اننا لو حرمنا التقبيل وجعلنا اللثم سنة ملغاة ومحظوراً لا يجوز ارتكابه رفعنا من قيمة القبلة وزدنا في حب الناس لها، وأولع بها العشاق واستهتر بها الناس عامة. وارتفعت قيمتها ألف مرة عما هي عليه اليوم. على أننا نقول آمنين النقد أن ليس في كل ألف قبلة قبلة واحدة تجد لها مبرراً بيولوجياً.
على أن التقبيل بين المحبين أمر طبيعي جداً. ولذة محبوبه الحب كله. ثم يأتي بعد ذلك قبلة الأم طفلها. ولثمة الطفل وجنة أمه. وما بعد هذا من القبل يجب أن في عرف العقل ومبادئ الأخلاق أن يعد جريمة عظمى. وأما القبلات الباردة العادية التي تقع بين شفاه الممثلات ومن أفواه العمات والخالات والعجائز والقواعد من النساء والدردبيسات والخيزبونات. فمن الطيش والسخف والرذالة بحيث لا نستطيع أن نصف. إذ لا لذة فيها البتة ولا فرح ولا معنى. ثم لا يزال تقبيل الطفل الصغير على كره منه وضد إرادته جريمة يحل لها العقاب.
أما القول بأن للتقبيل أضراراً صحية. ومحاولة منعه وحشد جملة من المعارضات الطبية لمقاومته فكلام في فارغ، فإنني رجل خبرت الطب دهري. ولي عهد طويل في هذه الصناعة. وقد مضي عليّ اليوم عشرون حولاً وأنا أرى في كل يوم مائة مريض في عيادتي - وهو معدل مضبوط لزواري م طلاب العافية - فلم أرى في حياتي حادثة مرض(56/53)
كان السبب الأكبر فيها قبلة من الشفة، أو لثمة منة فم. ولكن بالطبع لا يجترئ أحد إلا الأبله العبيط على تقبيل شخص مريض بتلك الأمراض الخبيثة المعروفة. ولكن أمثال هذه الحوادث نادرة فلا تعبأ بتخويفات أؤلئك المخوفين الذين يريدوننا على الاعتقاد بأن التقبيل على وجه العموم خطر مخيف.
وقد اخترعت أمريكا للتقبيل مضرباً شبكياً. وقد تفيد هذه الأداء الحديثة بعض الناس. ويمكن حملها في الجيب كالمنظار. لاستعمالها وقت اللزوم. عندما تعرض خدود للقبل. ويراد بالطبع لثمات على الوجنات. ولا أظن منظر المتحابين وهما يخالسان بعضهما البعض تلك القبل الجميلة من وراء هذا المصفي العجيب يخلو من الفكاهة والتسلية.
وأنا شخصياً متأكد أنه إذا وقع التقبيل فقط بين المتحابين اللذين يجدان إليه روحاً ويفرحان به وينعمان. فلا ضرر البتة منه ولا اذاة. من الوجهة الطبية ولا من الوجهة الأخلاقية. اللهم إلا في أدمغة الفلاسفة الاجتماعيين الذين يتهرسون بالاصلاح والتهدذيب.
* * *
فتوى السير مالكولم موريس
وهو الحجة الكبرى في محاولة استئصال أمراض السل والأمراض الجلدية.
أول ما أقول يجب أن لا نفزع من التقبيل ونفرق. وينبغي أن لا نخوف الناس من ناحية عادة اتفقت عليها الإنسانية جمعاء.
والأمر الثاني يجب تحذير الناس أخطار التقبيل الطائش المتسرع قبل الخبرة والائتلاف. أما القبلة المنزلية بين الأهل والأهل في الصباح عند الخروج من لمضاجع. وفي الليل عند الانزواء في الفراش. فلا ضرر منها البتة. ولا خوف على أهل الدار منها. إلا بالطبع حيث تقع علة البرد والانفلونزا لأحد من أفراد الأسرة. إذ يجب إيقاف ذاك التقبيل حتى تنقشع العلة.
ولا يمكن أن يقال أن هناك ضرر من القبلة المنزلية الاعتيادية تلك اللمسة فوق الجبين أو الخد. أما القبلة المفعمة (المليانة) فوق الشفتين فتلك قبلة خطر ينبغي للإنسان اجتنابها إذا لم يكن مستوثقاً بسلامة الفم الذي ييريد أن يقبله من كل مرض.
* * *(56/54)
فتوى الطبيب س. و. صليبي
(العالم اليوجني الطائر الصيت)
أظهرا الاحصائيات ولا سيما في مستشفى اللقطاء بموسكو. أن لوفيات في الأطفال الذين تقوم أمهاتهم على حضانتهم وبأمر تربيتهم. بمعدل نصف الوفيات في الأطفال الذين يلقون رعاية من المرضعات. وقد شرح الأستاذ بيريتشارد في جلسة من جلسات مجمع الأبحاث الطبية في درجة المواليد سر هذه الحقيقة العلمية. فقال أن الطفل وهو لا يزال جنيناً يتلقى من أمه نصيباً من مقاومتها للجراثيم التي تجتمع في أنفها وفمها وحلقها ولهذا لا خطر على الطفل من عناق أمه وتقبيلها وتدليلها إياه وأنا أقول انه لا ينبغي كقاعدة عامة أن يقبل الطفل أحد غير أمه.
فتوى اللورد دوسون
(طبيب الملك جورج)
القبلة هي فرصة من الفرص الكبرى في الحياة لا أراني متردداً في المجازفة والاجتراء على التقاطها مهما كلفني ذلك.
هذه فتاوى الاطباء في القبل ولو نحن سألنا رأي أهل الحب فيها لهزأوا بالطب والأطباء. وسخروا من العلل والأدواء. وأثاروا حرباً شعواء على المجتمع لا ينتهي أمرها إلا بأن يكون التقبيل عاماً. يؤدى في الطرق. وتسمع وسوسته من كل ناحية. . . . . .(56/55)
الشعر والمدينة
للكاتب المؤرخ الكبير اللورد ما كولي
إني أعتقد أن ارتقاء المدينة وتقدم الحضارة يتبعها في الغالب الأرجح تأخر الشعر وانحطاطه. فمع إعجابنا الحار الشديد بأعمال الخيال العظيمة التي أخرجتها العصور المظلمة فإن هذا الإعجاب لا يعظم ولا يزداد لأن هذه الأعمال ظهرت في عصور الظلام، بل على العكس من ذلك أرى أن أعظم دلائل العبقرية وأجلها هو نظم قصيدة كبيرة في عصر حضري متمدن. ولا أستطيع أن أفهم كيف أن أولئك الذين يؤمنون بهذا المبدأ الأدبي الصحيح وهو أن أحسن الشعر على العموم هو الشعر القديم يعجبون من تلك القاعدة التي ذكرناها كأنما هي أمر مستثنى. لا ريب أن وحدة الظاهرة دليل على وحدة السبب.
وفي الواقع نرى النقدة العاديين يستدلون بتقدم العلوم البحثية على تقدم العلوم النقلية. ولكن تقدم الأولى يسير سيراً تدريجياً بطيئاً. فعصور تنقضي في جميع المعلومات والمواد وعصور أخرى تنقضي في تعيين تلك المواد وفصلها ومزجها. فإذا ما انتهى البحث إلى تكوين عمل معين لم نعدم أن نجد شيئاً نضيفه إليه أو نغيره فيه أو نطرحه منه. وكذلك يغنم كل جيل كنزاً عظيماً أهدته له العصور التي قبله، ثم يهديه إلى الأجيال المستقبلة بعده بعد أن يكون قد زاد أيضاً في ذخائره واعلاقه. وبذلك يكون أوائل المفكرين والباحثين غير متمتعين بتك الميزة التي يغنهما من بعدهم تلاميذهم وهم أقل مواهب وعظمة ذهن ويبرزون عليهم في معلوماتهم وأبحاثهم. إن كل فتاة قرأت كتاب المحاورات الاقتصادية الصغيرة تأليف مستر مارست تستطيع أن تعلم مونتاجي أو والبول دروساً عديدة في العلوم المالية. وأن أي إنسان ذكي الفهم يستطيع الآن في سنوات قليلة، إذا انكمش في دراسة الرياضيات بهمة، أن يحرز من المعلومات أكثر مما عرفه نيوتن العظيم بعد التأمل والدرس زمناً أكثر من نصف قرن.
ولكن ليست الحال على شيء من ذلك في الموسيقى أو التصوير أو النقش، بل وأقل من ذاك في الشعر. إن التقدم في المدينة وتحسين مرافق الحياة قلما يمد تلك الفنون بموضوعات أفضل تصوغ منها معانيها. نعم قد يكون هذا التقدم سبباً في تحسين الأدوات التي تلزم الموسيقى أو النقاش أو المصور للقيام بأعماله الآلية فحسب، ولكن اللغة التي هي(56/56)
أداة الشاعر إنما تصلح أحسن ما تصلح له وهي في حالتها من البداوة والفطرة. إن الأمم كالأفراد تحس ثم تفكر. إنها تبتدئ بالصور المعينة ومنها إلى الحدود العامة. ولذلك نرى الأمة الراقية المستنيرة ترى كلماتها فلسفية علمية بينما الأمة البعيدة من التمدين نرى كلماتها شعرية.
وأن هذا التغيير في لغات الناس بعضه سبب وبعضه أثر لتغيير يقابله في طبيعة الأعمال الذهنية، ذلك التغيير الذي يستفيد منه العلم ويخسر الشعر. إن التعميم ضروري لتقدم العلوم ولكنه لازم لاغنى عنه لمبتكرات الخيال. وبقدر ما يزداد علم الناس وتفكيرهم يقل اهتمامهم بالنظر إلى الجزئيات ويعظم بالنسبة إلى الكليات. وبذلك يخرجون إلينا نظريات حسنة وأشعاراً رديئة. ويقدمون إلينا معاني مهمة بدل صور معينة وصفات شخصية للإنسان بدل الإنسان ذاته. قد يكونون أقدر على تحليل الطبائع البشرية من آبائهم وأجدادهم، ولكن التحليل ليس من عمل الشاعر، لأن عمله يقتصر على التصوير ولا شأن له بالتقسيم والتحليل. قد يكون الشاعر من أنصار المبدأ الأخلاقي كشافتسبوري، وقد يكون ممن يرجعون أعمال الإنسان كلها إلى حب المصلحة كما يقول بذلك هلفشياس، وقد لا يكون فكر في شيء من هذا اصلاً. وعلى العموم فإن رأيه في هذه الموضوعات كلها لن يكون له تأثير في شعره الحقيقي أكثر من تأثير المعلومات التي يحرزها المصور عن الغدد الدمعية أو عن الدورة الدموية في تصويره دموع نيوب أو تورد أورورا. ولو أن شاكسبير كتب كتاباً في الدوافع النفسية للإنسان لما كان ولا ريب كتاباً قيماً جليلاً، بل لما كان فيه من القوة والإثبات نصف ما في كتاب أساطير النحل. ولكن هل يستطيع مؤلفه ماندفيل أن يخلق أياجو؟ نعم إنه أحسن تحليل الطباع وردها إلى عناصرها ولكن هل يستطيع أن يحسن ضم تل العناصر بعضها إلى بعض بطريقة يخلق بها شخصاً حياً حقيقياً؟. .؟
ربما لم يكن هناك إنسان يستطيع أن يكون شاعراً، أو على الأقل يستمتع بالشعر ويطرب به. إن لم يكن في ذهنه شيء من النقص - إن صح أن نسمي نقصاً ما يورثنا أعظم اللذة والطرب. ولا نعني بالشعر كل ما هو مقصد، بل ولا كل قصيد حسن وبذلك يخرج من اعتبارنا كثير من القصائد التي قد تكون لأسباب أخرى جديرة بلإعجاب والثناء، ولكننا نعني بالشعر هنا تلك القدرة الغنية على استعمال الكلمات استعمالاً يجسمها في الذهن، أو(56/57)
هو القدرة على أن يستعمل الإنسان الكلمات استعمال المصور للألوان وكذلك وصف الشعر أكبر شعرائنا في أبيات استحقت الإعجاب العام لقوتها وسلاسة تصويرها، وأكثر من ذلك لما فيها من الرأي الصائب السديد عن الفن الذي تفوق هو فيه: - كما أن الخيال يخلق الأشياء من عوالم المجهولات، فكذلك قلم الشاعر يصبها في قوالب الصور، ويعطي لصورة أخرجها شكلاً واسماً.
وهذه ثمرة من ثمرات التهيج الظريف الذي وصف به الشاعر هو أيضاً تهيج ظريف ولا ريب ولكنه بعد يهيج. إن الحقيقة ضرورية في الشعر ولكنها حقيقة المجانين. ان النتائج صحيحة ولكن المقدمات خطأ. لقد كان ينبغي بعد كتابة القضايا الأولى أن يكون التعليلي صحيحاً غير متضارب ولا متعارض، ولكن الحقيقة هي أن هذه القضايا ذاتها بحاجة إلى تساهل شديد لتصديقها يكاد يصل إلى اختلال جزئي مؤقت في الذهن. لذلك كان الأطفال أكثر الناس خيالاً لأنهم يطلقون العنان لأنفسهم في قبول كل الأوهام والأباطيل، وكل صورة مرت بأذهانهم تؤثر فيهم تأثير الحقيقة الواقعة. إن ما من إنسان مهما بلغت عقليته بمتأثر من رواية هاملت أولمير بمقدار ما تتأثر فتاة صغيرة من حكاية القبعة الحمراء. فمع أنها تعلم أن شيئاً من ذلك لم يكن وأن الذئاب لا تتكلم وأنه لا يوجد ذئاب في انجلترا بالمرة - مع هذا كله فإنها تصدق وتبكي وترتعد فرقاً ولا تجسر على أن تدخل غرفة مظلمة مخافة أن ينشب الوحش أسنانه في عنقها!! وهذا مبلغ تأثير الخيال في العقول الجاهلة غير المستنيرة.
ففي المجتمعات التي لم تزل على حالتها من الداوة والفطرة يكون رجالها أطفالاً صغاراً ذوي آراء أكثر أشد تنوعاً. وفي مثل هذه المجتمعات يمكننا أن نتوقع وجود العاطفة الشعرية في أسمى درجاتها. أما في المجتمعات المتمدنية المستنيرة فإننا نجد مواهب أعظم، وعلوماً وفلسفة أكثر، ووفراً من التقسيم الصحيح والتحليل الدقيق، والفصاحة والفكاهة، بل والقصيد البديع الكثير، ولكننا لا نجد إلا الشعر القليل. سيكون أهل هذا المجتمع أقدر على النقد والحكم والمقارنة ولكنهم أعجز عن الابتكار والخلق والإبداع. سيتكلمون عن الشعراء الأقدمين وسيشرحونهم وسيطربون بهم إلى حد معين، ولكنهم لن يستطيعوا أن يدركوا التأثير الذي كان يؤثره الشعر في نفوس آبائهم وأجدادهم من ألم وجذل وقوة إيمان. يقول(56/58)
أفلاطون أن رابسودست اليوناني كان لا يقرأ شعر هومر إلا تشنج وصرع. وأن رجلاً من رجال الموهاك لتنزع السكين من جلد رأسه وهو لا يشعر ولا يتألم ما دام يغني أنشودة الموت وأن السلطة العظيمة التي كانت للشعراء الأقدمين في الفال وألمانيا على الجماهير التي تسمع إنشادهم لما تدعو إلى الدهشة وعدم التصديق في هذا العصر الحديث. هذه الإحساسات وأمثالها قلما تراها في الجماعات المتحضرة، وهيهات تراها بين أولئك الذين ينعمون بمرافق تلك الحضارة ومزايا هذا التمدين. ولكنها تدوم زمناً أطول بين القرى ومزارع الريف.
إن الشعر يجسم الخيال للذهن كما يجسم المصباح السحري الأشباح أمام العين وكما أن المصباح السحري لا يخرج أحسن صورة إلا في غرفة مظلمة فكذلك الشعر لا تسمو درجته ولا يبلغ منزلته الحقيقية إلا في العصور المظلمة، فإن ضوء العلم إذا انتشر على صوره وضحت معالم الأشياء واستبانت ظلال اشك الاحتمالات، إذ ذاك تتلاشى تلك الألوان وتنطفئ تلك الملامح التي رسمتها يد الشاعر لأشباحه وخيالاته. لأننا لا نستطيع أن نظفر بتلك المزية العظيمة مزية الجمع بين الحقيقة والخيال، بين رؤية الواقع الواضح والاستمتاع اللذيذ بالتصورات. . . .
وإن الذي يريد أن يكون شاعراً عظيماً في مجتمع متعلم متمدن عليه أن يصبح أولاً طفلاً صغيراً. ينبغي له أن ينفض رأسه نفضاً مما يحتشد فيه وأن يجهل كثيراً من العلوم التي تلقاها والتي ربما كانت إلى الآن سبب نبوغه وشهرته. إن ملكاته ومواهبه ستكون هي العقبات التي تعترض طريقه. وسوف تكون المصاعب التي يغالبها بمقدار مجاراته وتعلقه بمرافق المدينة التي تحيط به، كما أن اندماجه هذا في الحياة التي حوله سيكون بمقدار ما عليه ذهنه من قوة ونشاط وعساه بعد هذه التضحيات والمتاعب أن يقول شيئاً غير شبيه بالرجل الألثغ أو الطلل الحديث. فلقد رأينا في عصرنا هذا مواهب كبيرة ومجهودات عظيمة وتأملات طويلة تصرف جميعها في مكافحة روح العصر ثم ترجع - لا نقول بالفشل التام - ولكن بنجاح مشكوك فيه وشهرة خافتة ضئيلة.
ط. ر.(56/59)
شهداؤنا الاثنا عشر
ألا في سبيل الله ذاك الدم الغالي ... وللمجد ما أبقى من المثل العالي
وبعض المنايا همة من ورئها ... حياة لأقوام ودنيا لأجيال
أعيني جودا بالدمع على دم ... كريم المصفى من شباب وآمال
تتاهت به الأحداث من غربة النوى ... إلى حادث من غربة الدهر قتال
جرى ارجوانياً كميتاً مشعشعاً ... بأبيض من غسل الملائك سلسال
ولاذ بقضبان الحديد شهيده ... فعادت رفيقاً من عيون واظلال
سلام عليه في الحياة وهامدا ... وفي العصر الخالي وفي العالم التالي
خليلى قوماً في ربى الغرب واسقيا ... رياحين هام في التراب وأوصال
من الناعمات الراويات من الصبا ... ذوت بين حل في البلاد وترحال
نعاها لنا الناعي فمال على أب ... هلوع وأم (بالكنانة) مثقال
طوى الغرب نحو الشرق يعدو سليكه ... بمضطرب في البر والبحر مرقال
يسر إلى النفس الأسى غير هامس ... ويلقى على القلب الشجا غير قوال
سرى فنعاهم للديار أهلة ... فمن هالة عطل ومن منزل خال
سماء الحمي بالشاطئين وأرضه ... مناحة أقمار ومأنم أشبال
وأدهام تدرى الريح أن قد أعادها ... بسافاً ولكن بحديد وأثقال
يريك جياد السبق في الحضر كلما ... رمى بذراعيه وبالمرجل الغالي
يقل من الفتيان أشبال غابة ... غداة على الأخطار ركاب أهوال
ثنته العوادي دون (اودين) فانثنى ... بآخر من دهم المقادير ذيال
قد اعتنقا تحت الدخان كما التقى ... كميان في داج من النقع منجال
فسبحان من يرمي الحديد وبأسه ... على ناعم غض من الزهر منجال
ومن يأخذ لسارين بالفجر ... طالعاً=طلوع المنايا من ثنيات آجال
ومن يجعل السفار للناس همة ... إلى سفر ينوونه غير قفال
فيا ناقليهم لو تركتم رفاتهم ... أقام يتيماً في وصاية لآل
وبين غريباً لدي وكافور مضجع ... لنزاع أمصار على الحق نزال
فهل عطفتم رنة الأهل والحمى ... وضجة أتراب عليهم وأمثال(56/60)
لئن فات مصراً أن يموتوا بأرضها ... لقد ظفروا بالبعث من تربها الغالي
وما شغلتهم عن هواها قيامة ... إذا عتل رهن المحبسين بأشغال
حملتم من الغرب الشموس لمشرق ... تلقى شفاها مظلماً كاسف البال
عواثر لم تبلغ صباها ولم تنل ... مداها ولم توصل ضحاها بآصال
يطاف بهم نعشاً فنعشاً كأنهم ... مصاحف لم يعل المصلى علي التالي
توابيت في الأعناق تترى زكية ... كتابوت موسى في مناكب أسراله
ملففة في حلة شفقيه ... هلالية من راية النيل تمثال
أظل جلال العلم والموت وفدها ... فلم تلق إلا في خشوع وإجلال
تفارق داراً من غرور وباطل ... إلى منزل من جيرة الحق محلال
فيا حلبة رقت على البحر حلية ... وهزت بها (حلوان) أعطاف مختال
جرت بين أيماض العواصم بالضحى ... وبين ابتسام الثغر بالموكب الحالي
كثيرة باغي السبق لم ير مثلها ... على عهد اسماعيل ذي الطول والنال
لك الله هذا الخطب في الوهم لم يقع ... وتلك المنايا لم يكن على بال
بلى كل ذي نفس أخو الموت وابنه ... وإن جر أذيال الحداثة والخال
وليس عجيباً أن يموت أخو الصبا ... ولكن عجيب عيشة عيشة السالي
وكل شباب أو مشيب رهينة ... بمعترض من حادث الدهر مغتال
وما الشيب من خيل العلي فاركب الصبا ... إلى المجد تركب متن أقدر جوال
يسن الشباب البأس والجود للفتى ... إذا الشيب سن البخل بالنفس والمال
ويا نشأ النيل الكريم عزاءكم ... ولا تذكروا الأقدار إلا بإجمال
فهذا هو الحق الذي لا يرده ... تأفف قال أو تلطف محتال
عليكم لواء العلم فالفوز تحته ... وليس إذا الأعلام خانت بخذَّال
إذا مال فاخلفوه بآخر ... وصول مساع ولا ملول ولا آل
ولا يصلح الفتيان لا علم عندهم ... ولا يحرزون السبق أنصاف جهال
وليس لهم زاد إذا ما تزودوا ... بياناً جزاف الكيل كالحشف البالي
إذا جزع الفتيان من وقع حادث ... فمن لجليل الأمر أو معضل الحال(56/61)
ولولا معان في الفدي لم تعانه ... نفوس الحواريين أو مهج الآل
بهاتيك المصارع بينكم ... ترنم أبطال بأيام أبطال
ألستم بني القوم الذين تكبروا ... على الضربات السبع في الأبد الخالي
رددتم إلى فرعون جداً وربما ... رجعتم لعم في القبائل أو خال
شوقي(56/62)
رأيي في الزواج
من أكبر معضلات الحياة التي لا يفتأ الناس يديرون فيها وجوه الرأي. ويتحدثون يها في الندى والسامر، والمجلس، والمسجد والسوق. مسألة الزواج. فهي اليوم مشغلة الإنسانية الحاضرة، وهي الموضوع المودة الذي لا يزال يحاول كل إنسان أن يصل إلى اختراع لون منه واكتشاف هيئة ظريفة له. ولا تنى الصحف تعادوه من الحين إلى الحين. ولا تزال الكتب تخرج عنه. وقد أدمجه الروائيون في قصصهم. واستخدمه فريق من السياسيين الاجتماعيين في التدليل على الاضطراب الاجتماعي الواقع اليوم في أكثر بلاد الحضارة.
إن الوظيفة الطبيعية الأولى للزواج. والغرض الغريزي منه. هو بلا ريب الاحتفاظ بالنوع. وبقاء الجنس. وعمران الدنيا. ولكن الأدب العصري يتنازع والعلم الحديث عند هذه اليقظة من البحث. ومذ اليوم الذي افتتح فيه الروائي هنريك اييسن. بروايته الكوميدية بيت العروسة المناقشة في مسائل الزواج. والكتاب جارون في الكلام عنه. والروائيون عاقدون عليه القصص. ومنشئون الفصول والأبواب. وقد تضافر الجميع على أن للرجال والنساء الحق أن يقيسوا الزواج بمقدار ما يجلب لهم ارتباطهم به من الهناء واللذة. وقد ذهب اييسن إلى أن الزوجة التي ترى زوجها لا يستطيع أن يقدر عواطفها من ناحية اللذة - ويشبع رغبتها في الهناء ينبغي لها أن تغلق الباب في وجه زوجها وأطفالها. وتحرر من هذا القيد الثقيل. وتخرج من هذا الغل اللعين - وتلتمس لها عيشاً من وراء أية صناعة. وقد عمد روئي اسكندناوي آخر من كبار روائي الإنسانية الحاضرة في الدفاع عن الزوج من هذه الوجهة نفسها فجعل يقول أن الزواج يعطل رقي المزايا الرجولية في الرجل وأن المرأة تستعبده وتستأثر به وتضطره إلى كثير من التضحيات في سبيل لذتها وهنائها ولا يزال الروائي العظيم برناردتشو يقول هبذا الرأي. وينحو في البحث هذا النحو. وقد أبدى كل ذلك في روايته المشهورة (الإنسان والبرمان) وقد اعترف الشاعر رديارد كبلنغ بإيثاره العزبة على الزواج إذ قال في شبيته الأولى. يم كان حدثاً غفلاً لم ينضج بعد (أشد السفر سرعة وإيفاضاً، المسافر وحده، غير متخذ رفيقاً).
فترى أيها القارئ أن امثال اييسن وسترندبرج وأولئك الطائفة التي تقول بهذه الآراء تراهم يمثلون الوجهة الأنانية من البحث. وقد لا يبعد أن يكون في ما يقولون نصيب ضئيل من الحق.(56/63)
ونحن قد نظن أننا إذا استطعنا أن ننشئ في المجتمع الإنساني الحاضر طائفة كبيرة من وسائل التحصين ومقاومة قوى الطبيعة الخشنة. قد تمكننا من الفرار من قوانبن الحياة، فنحن نميل عند النظر إلى الزواج إلى اعتبار الواجب الأول في الزواج. والقصد الأكبر منه سعادة الزوجين وهناؤهما الشخصي. ونحن لا ننكر أن الزواج الإنساني في أبدع أدواره. مصدر لذة نقية عظيمة ممتعة. ولكن الهناء أنما يأتي بطريقة غير مباشرة ولا ينبغي أن يكون هو الغرض الأول المباشر. لإننا إذا عددنا سعادة الزوجين بين الناس المقياس الأكبر لنجاح الزواج فكأنما وضعنا المركبة أمام الجواد. لا الجواد أما المركبة. وكأنما قد أغفلنا الغرض. ولم نعتد إلا بالواسطة. وإذا أخذنا بهذا المبدأ. فثمت خطر كبير. وبلاء أعظم. وهو وقوفنا في منتصف الطريق الذي أرادتنا الطبيعة على أن نسير فيه حتى نبلغ نهايته. وما كانت السعادة في الزواج إلا أشبه شيء بسياج من أشجار الورد ومختلفات الأزاهر قد امتد على طريق الحياة. ليرسل أنفاس الشذى العطر ويثير الأرج الندى. فيخفف من وعثاء السفر وشقة الطريق. ولكن لا ينبغي أن نضل الطريق ونقف عند كل زهرة فنقتطفها. وندفع إلى كل وردة زهية ننتزعها من شجرها. وليست السعادة في الزواج كذلك إلا أشبه بالجزاء الطيب الذي يناله العامل الحاذق على واجب شاق يؤديه وعمل مستصعب ينفذه، ولكن في سبيل بقاء النوع ينبغي أن نحتمل الآلام والمتاعب والنفقة في سبيل إيجاد الذراري. وإن لم نصب هذا الجزاء الذي لقيه العامل الكادح. لأن السعادة ليست أمراً ضرورياً. ولا شأناً في الحياة لازماً. وقد أثبت ذلك كثيرات من الأمهات الرؤوفات. إذ ربين أطفالهن فأحسن تربيتهن. على حين كانت معيشتهن الزوجية سيئة أليمة. ولم يكن اييسن وسترندبرج وأشياعهما على شيء من حسن النية إذ وضعوا للزواج قيوداً وحدوداً. فإن تلك المبادئ الكلبية إنما تقوم على حب اللذة. والرغبة عن واجبات عن واجبات الزوج. ولكنها على الرغم من ذلك قد أعانتنا على أن نرى هذه لمسألة الاجتماعية الكبرى بنور اليقين. ونستوضح بها الشبهات.
وإذا نحن نظرنا إلى الزواج في الإنسانية الحاضرة فلا يسعنا إلا الاعتراف بأن الزواج العصري مريض ضعيف لا نجاح منه ولاصلاح. فإن عدد الأنانيين من الشباب والمحبين أنفسهم من الفتية وأطفال الإنسانية الكبار الذين ينعمون بالعزوبة. ويرونها خيراً متاعاً من(56/64)
الزواج. لا يزال آخذا في الازدياد. مربيا على عدد الذين يؤدون أكبر الواجبات الإنسانية المحتمة على الجنس في سبيل بقائه. فإن هؤلاء متناقصون في كل يوم. منزوون. آخذون في القلة والاضمحلال.
هذه هي الحقيقة الواقعة في العالم المتحضر كله في السنين لأخيرة، فإن الرفاهية وتكاثر أنواع النعمة. وازدياد ألوان الترف. وحشد المصانع ألوفاً من ضروب البهجة واللذة، قد أفسد على الإنسانية عملها الأول. وبث في شباب العالم روح الأنانية اللئيمة القذرة الثوارة المستبدة. وجاء الكتاب الأدعياء. والشعراء الأخساء، ضعاف القلوب والأبصار فراحوا يعلمون الناس أن الزواج يحول بين الرجل والمرأة وبين تنمية شخصيتهما. وتهذيب قواهما السامية. وآخرون أشد من أولئك كلبية وأنانية يقولون أنه يحول بينهما وبين النجاح في الحياة. ولا يكون مآل ذلك إلا أن الفرد يصيب اللذة. ولا يصيب المجموع إلا الفناء والانقراض. والفتى الحدث يعلم انه مدين بوجوده في الحياة لآبائه وأجداده. ولكنه من الأنانية وحب ذاته بحيث لا يرد أن يحمل مصباح الحياة فيمشي به إلى الأجيال القادمة كما حمله آباؤه من قبل.
ونحن قد رأينا من خلال صحائف التاريخ أن جملة من أكبر المدنيات التي ظهرت في العالم تهدمت ودالت دوائها وبادت. لأن العمل على بقاء النسل، والاحتفاظ بالجنس، ضعف في قلوب أهلها وغلبت عليه أميال أخرى. وقهرته رغبات ونزعات متباينة. ولم يقتل مدينة الإغريق. ويحطم حضارة الرومان. إلا قلة الزواج في أخريات أيامها. وولوع الناس من العاهل إلى أحقر رجل في الصفوف الرومانية، بجميع وسائل الحيوانية. واشباع الشهوات. وكثرة ألوان الرفاهية والترف.
وهذه النكبة التي وقعت لتلك المدنيات القديمة تكاد تحف اليوم بحياة العالم المتحضر. ولا تزال الإنسانية سائرة في الطريق التي سارت فيها اليونان ورومة القديمة. فقد جن جنون الناس رجالاً ونساءاً اليوم بحب المال. والتهالك على كسبه. والتنعم بلذته. وإيجاد ألوف من وسائل الترف واللذاذات. حتى أصبح سواد شباب الإنسانية يؤثرون العيش في ظلال العروبة طوال حياتهم.
ونرى كبار الشعراء والروائيين يمجدون الحب الذ يؤول الحب الزواج، وبتمجيدهم الزواج(56/65)
من ناحية العاطفة إنما يتفقون المفكرين والعلماء الذين ينادون الناس إليه من ناحية الغريزة ويقاء النوع. لأن هؤلاء يرون أن الفرد يجب أن يخضع لمطلب المجموع. ولو درسنا الزواج من الناحية العلمية. لم نجده ضرراً للإنسانية أو أذى. وليس فيه ما يحول بين الفرد وتنمية قواه وذاتيته. وليس عائقاً دون النجاح في الحياة. لأن أوفا من المتزوجين استمدوا من الزواج ومطالب الأسرة والعناية بابنين. وتربية الأطفال قوة كبرى وكدحاً أعظم. وأنك لترى الذئب الوحيد أشد الوحوش شدة وحولا إذا عضه الجوع بنابه. ولكنك ترى كذلك الذئب ذا الجراء والصغار يطلب غذاء أشد منه وحشية إذا استنفره. وتلك حال الناس حذوك مثلاً بمثل. فهم أشد كدحاً وأدأب على العمل. وأجلد على العناء إذا كانوا يعملون لأنفسهم وأطفال لهم وزوجات في ذمتهم منهم إذا كانوا طليقين أعزاباً منفردين بذاتهم.
ولم تقل الطبيعة بأنه لا بد لارتباط الجنسين، المرأة والرجل، والذكر والأنثى، من وجود مصدر لذة كبرى للأبوين بل أرادت أن تكون الغاية من إنشاء الذرية أسمى من ذك وأعظم. بل في كثير من طبقات الحيوانات الدنيا نرى الطبيعة تضحى لأب أو الأم في سبيل الطفل، ولبقاء النوع، فإن الحشرة المسماة دودة القز لا تلبث أن تموت إذ توشك أن تضع أفراخها، وتترك عند موتها غطاء جمها ليكون غلافاً واقياً لنسلها، ومن هذا ندرك أنه إذا كانت مصلحة النوع تتوقف على مصلحة الفرد من ناحيته، لا تزال مصلحة النوع تتطلب من الوجهة الأخرى بعض التضحية من الفرد، على أن النصيب الأكبر من المتاعب في عالم الحيوانات الدنيا لا يزال واقعاً على الصغار، وهذه تبيد في أغلب الأحيان ألوفاً ألوفاً، فإن الحوت قد ينتج أكثر من مليون بويضة ولكن لا يعيش من هذا المقدار العظيم إلا الألف أو أقل من ذلك قدراً، وقد أرادت الطبيعة أن يكون أكثر طبقات الحيوانات الدنيا أشد حناناً على صغارها من فريق كبير من أهل المدينة الذين يعتزون بأنهم أصابوا المكانة العليا على الحيوان، فإن عدد اللقطاء الذين يلقون على قوارع الطريق، من وراء الارتباط الأثيم، وإغواء العذارى العفل، وخديعة النساء المتزوجات، لا يزال معرة إنسانية كلها، ومن أقسى الحقائق التي اهتدى إليها الاحصائيون أن موالي الأطفال المزنمين غير الشرعيين أقل من الأقاليم الجاهلة التي جادت فيها الأمية، وفشى الجهل، وضعف مستوى الحضارة، عنها في البلاد المتناهية في المدينة، التي أدركت أوج التهذيب، فإن عدد أولئك المواليد في بلاد مثل(56/66)
الروسيا وإيرلندة ومقاطعة بريتانيا لا يكاد يذكر بالنسبة لعددهم في البلاد المتحضرة المجاورة لهم، وإليك
إحصائية عن نسبة المواليد المزنمين غي الشرعيين في كل ألف طفل يولد
الدانمارك 101
السويد 113
النرويج 74
النمسا 141
ألمانيا 84
فرنسا 88
اسكوتلندة - ايقوسيا 64
انجلترة 40
ايرلنده 26
روسيا 27
من هذه الأرقام تدرك أن التعليم والتمدن والحضارة والرفاهية أسباب كبرى لتكاثر الزنا والارتباط الأثيم والولادة غير الشرعية.
وإذا كنا الآن على أبواب انتقال جديد في الحياة وتطور اجتماعي طريف، فما أخلقنا بأن ننمي فكرة الزواج والاقبال عليه بين الشباب والرجال، وبين العذارى والفتيات لأننا تابعنا تيار المدينة، ورضينا بأمراضها تعمل في كياننا، وعللها تسري في مجموعنا، فلا يكون من ذلك إلا أنقع في نكبة اجتماعية أليمة، ولا نستطيع أن نستفيد شيئاً من هذه الحياة الجديدة التي نحن اليوم مقتحمون أبوابها، قاصدون إلى حيث نعيش أمة محترمة متينة البنيان. (ع. ح)(56/67)
غراميات ديزرائيلى
بنيامين ديزرائيلى - ايرل لوف بيكونسفيلد
حامل لواء الأدب والسياسة، ورئيس الوزارة الانكليزية
والروائي الأعظم في أواخر القرن الماضي
فصل من حوادثه الغرامية السرية
من ماثور كلمات بنيامين ديزرائيلى قوله: أنى مدين في كل شيء للمرأة، وإلى تأثيرها فيّ وسلطانها علي يعزى كل ما أوتيت من الفخار والمجد والذكر وكل ما صادفت من النجاح والفوز. وإذا كنت لا أزال في هرمي أحمل قلباً فنيا. ووجداناً ضرماً ذكياً ولا أبرح تحت وقار الشيب وجلال الشيخوخة أقلب لسان شاعر متخيل، وعاشق منعزل. وأقول مع القائل:
يا هند ما شابرفتى ... وإنما شاب الشعر
فذلك أيضاً راجع إلى تأثير المرأة.
في هذا الاقرار الصادر عن إمام البلاغة والسياسة تعليل شاف لما امتازت به شيخوخة البطل العظيم من حوادث الحب العجيبة، وروايات الغرام المدهشة الغربية.
كان ديزرائيلى في كل أدوار حياته سريع الافتتان بجمال المرأ مفرط الولوع بملاجائها فكان لا ينفك من شغف بالنساء، وحنين إليهن وطرب إلى محادثتهن ومغازلتهن بل هيام في اثرهن، واقتناص وشواردهن. وكل ذلك كان بعلم من زوجته التي كانت تطيب نفساً عن ذلك وتتسع به صدراً. وكانت صنع الله لها وله أر قلباً واكرم شيمة من أن تكدر على زوجها العبقري صفوه في أمر ليس فيه عليها كبير شقوة ولا بلاء. ولا جرم فلقد كانت تنطوي على شيء من البطولة، فكانت لغرائب خصائص الأبطال أفهم من طبقة العاديات من النساء. ولشواذ نزعات العظماء أفطن وأخبر. وهي بما أوتيت من طبيعة البطولة مليئة أن تجل النابغة العبقري - زوجها - وتقدسه واهبة له تلك الهفوات (إن صح أن نسميها هفوات) التي هي أبداً من مستلزمات البطولة والعظمة - بل التي هي أس البطولة ومادتها وبها غذاؤها ونماؤها وعليها مدارها وقوامها. وكانت زوجة ديزرائيلى هذه أرملة أحد أحد زملائه السياسيين أورثها مالاً جماً، وعقاراً كثيراً فاقترن بها ديزرائيلى وهو ابن أربعة وثلاثين. وكان يقول لها ممازحاً إنما أغراه بزواجها مالها وثروتها.(56/68)
ولكن اللادي بيكونسفيلد (زوجة ديزرائيلى) صرحت مرة في بعد أحاديثها لاتراب لها كلا والله ما كان اقتران بنيامين بي لطمع في ثروتي. وكيف، ولقد كان يبدي شوقه لي وغرامه في حياة زوجي الأول. لقد عاش ديزرائيلى وزوجته ثلاثة وثلاثين عاماً في صفاء ورخاء. وكان قد بلغ من فرط حبها إياه أن جعلت تدخر قصاصات شعره طول مدة حياتها الزوجية وكانت تقص شعره بيديها كل أسبوعين أو ثلاث.
والرسالة الآنية وهي ما كتبه ديزرائيلى إلى زوجته أثناء تأليفه مأساته المشهورة الاوربوس تنم عما كان يجد لها في أعماق قلبه من شدة الغرام والوجد. وهاهي لقد أدمنت أمس الكتابة اسحّ بها سحاً، وأهضب بها هضبا. ولقد والله جعلت أصب في فصول قصتي الخيالية وجداناتي الشخصية، ومشاعري الذاتية. فجاءت وكأنها قطعة من حياتي الماضية، وشعبة من عيشتي الخالية. يوم أطارحك الغرام. وأجاذبك أسباب الهوى. فإذا نظرت في تلك الصحف وجدتها مرآة ماضيك وصدى ذكرياته. وإذا تلوتها تلوتها بمهجة واقدة، وأنفاس صاعدة، وبحشاً خافقة، ومقلة مغرورقة. وكيف وقد كنت أكتبها وشخصك مرتسم على صفحة جناني، واسمك يرفرف على أسلة لساني. ولا غرو فمن غيرك ملهمي - إذا تناولت البراعة - ومصدر وحيي وشيطاني.
لم يكد يمضي على وفاة هذه الزوجة نصف عام حتى رأينا صاحب الرئاسة وداهية الحكام والساسة، يحرر الرسائل الغرامية لامرأتين كانتا في تلك الآونة جدتين لهما أولاد وأحفاد. وكان في ذلك الحين قد أربي على الثامنة والتسين، ولكن رسائله كان بها من حرارة الوجد وسعير الجوي ما أدهش معشوقتيه واستثار أقصى عجبهما. وكانتا أختين: اللادي شترفيلد والكونتيس سبلبنا اوف برادفورد. وكانت الأولى قد أنافت على السبعين ولكن التي شغف بها ديزرائيلى وهام، وراح فيها نهب الوساوس والأوهام هي اللادي برادفورد التي كانت متزوجة وقد ناهزت الخامسة والخمسين. وكقد كان من فرط وجده بها أنه بعث إليها بمائة وألف رسالة. وكان يبعث لها في سحابة نهار بالخمس والست من الرسائل على أيدي رسل مختارة كان يقول عنهم في كتبه إلى السيدة المذكورة وإن رسلي لعبيدك ورق بين يديك لا فرق بينهم وبين سيدهم صبك المنيم، وهم تحت أمرك واقفون ببابك من الشروق إلى الغروب.(56/69)
ويدلك على فرط لوعته في الغرام. وشدة التهاب غلته في الهيام الرسالة الآنية وهي ما كتبه السياسي الداهية إلى اللادي برادفورد عقب تقلده منصب رئاسة الوزارة للمرة الثانية بثلاثة اسابيع، وكانت السيدة المذكورة قد أزمعت مغداة لندن مع أختها لمدة لا تتجاوز الاسبوعين فوجد لو شك هذا البين من شدة الكرب وفرط الجزع ما أجري براعة بالكلمة الآتية:
أتعلمين يا فتنة العالم وزينة الدنيا إنك ما كنت قط أجمل ولا أملح منك مساء هذا اليوم. وأما لو استطعت وساعدني القدر لجلست إلى يوم القيامة ألتهم بعيني بدائع جمالك، وذني روائع مقالك. ولكن كان ينغص علي لذتي، ويكدر صفاء نعمتي علمي. إن هذا اللقاء إنما كان لوداع. وإن الفراق كان رهيناً بذلك الاجتماع
حجبوها حتى بدت لفراق ... كان داء العاشق ودواء
أضحك البين يوم وذاك أبكى ... كل ذي لوعة وسرّ ساء
فجعلنا السلام فيه وداعاً ... وجعلنا الفراق فيه لقاء
والظاهر أن اللادي برادفورد احتجت على طغيان صبابته، وأنكرت منه غلواء هيامه وسورته، حتى كتب إليها ديزرائيلى رداً على إنكارها واجتجاجها الرسالة الآتية:
ما أحسب أني كنت في مكاشفتي إياك الهوى ومصارحتي ما شفني من الجوى بمتجاوز قدرى، ومعتد حدى وطورى. وكيف ولم أبغ منك قط أكثر من مجالسة الأصحاب. ومؤانسة الأحباب. ولا حاولت أزيد من الماس القائل:
أتأذنون لصب في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر
فإذا بلغت هذا كل غاية ما أريد. فلم أطمح إلى ما دونه ولم أقل هل من مزيد. فجنبيني يا قرة العين وعيدك بالحرمان. ولا تروعيني بنذر الصد والهجران، فما أراني أهلاً لذلك، ولا مستوجباً مساءتك وأذاك، وعلى كل فلن يكون مني بعد اليوم أدني ما يسخطك ويسؤوك.
ثم مشى بالصلح بينهما وجاءته رسالة من معشوقته سلينا لادي برادفورد تنبئ عن العفو والرضا. فكتب إليها:
قرأت كتابك فأبرأ علتي، وشفى غلتي
وكان ألذ في نفسي وأندى ... على كبدي من الزهر الجنى
وضمن صدره ما لم تضمن ... صدور الغانيات من الحلى(56/70)
وأقاما حقبة من الدهر بين صلح وخصام، ونفار ووئام، وان شأنهما في الحب لعلى حد قول القائل:
لا خير في الحب وقفا لا تحركه ... عوامل اليأس أو يرتاحه الطمع
وقول الآخر:
إذا لم يكن في الحب عتب ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
ومن أعجب العجائب له أنه بينما كانت أعباء السياسة تتراكم على كاهل السياسي الريب، وجو الحوادث مظلم مكفهر كنت تراه في هذا المأزق الصنك واليوم العصبصب يوالي الرسائل إلى اللادي برادفورد كأمثال الرسالة الآتية:
لا أكذبك يا مولاتي أنه لا حياة لي إلى برؤيتك. ولا بقاء لي إلا بسماع صوتك ونغمتك. أو تلاوة كتابك ورسالتك.
أحمد الله الذي مد في أجلي حتى نعمت بفجر الحب وضحاه، وبيكرته وممساه. وبسحره وأصيله. ومغداه ومقليه.
ألا ان رؤيتي إياك في المجلس الحافل للذة متميزة عن سواها علي أن خلوتي بك ممتعة مغايرة لتلك لست على ممر الدهور أنسها. ولكلتيهما بعد مذهبها الخاص من الروح ومجراها كنور القمر وكالشمس في ضحاها. . .
وأعجب ما في غراميات ديزرائيلى أنه لما يئس من رضا اللادي برادفورد خطب أختها الكبرى اللادي شترفيلد محتجاً لذلك بقوله سأعتنق إحداهما كزوجة لي وأعتنق الأخرى كشقيقة.
ولكن اللادي شيستر فيلد أبت ذلك لاعتقادها أنها لم تكن تشغل من قلبه المكان الأعلى.
أما رسائل السيدتين إلى ديزرائيلى وحقيقة شعورهما نحوه فهذا لم ينتشر تحقيقه وتثبيته. ولن يتيسر. وذلك لأن رسائلهما إليه أحرقت عقب وفاته طبقاً لمرادهما ورغبتهما الصريحة. على أن نعلم أن اللادي برادفورد كانت لا تغالي بشيء مغالاتها بفوتوغراف صغير لديزرائيلي كانت أهدته إليها الملكة فيكتوريا التي كانت يسمسه ديزرائيلي الحورية.
ولم يفتر شغف الرجل بالنساء حتى في أخريات عمره بل بقي إلى ذلك الحين طلابا للغواني وحريصاً على مجالستهن حتى آل الآمر أخيراً إلى أنه ألف نادياً منة صويحباته(56/71)
كان له اللذة الكبرى والنعمة العظمى. . . .(56/72)
باب الزراعة
حقائق في سقى القطن
حينما كان الري الصيفي أكثر بالروافع (الآلات) وكان من لا روافع عندهم يسقون أقطانهم على روافع جيرانهم بأجر كان اكثر ما يكون ذلك مسانهة وعلى أن يسقى القطن منذ زراعة البكيرة إلى مجيئ الفيضان تسع ريات تعطى في المواعيد الآتية بالتقريب
السقية الأولى في 20 فبراير وهي سقية الزراعة سقياً خفيفاً
السقية الثانية في 20 مارس وهي سقية المحاياة سقيا أشفاقاً أي خفيفاً جداً
السقية الثالثة في 15 إبريل سقيا خفيفاً
السقية الرابعة في 10 مايو سقيا متوسطاً
السقية الخامسة في أول يونيو يميل إلى الإشباع
وفي اثناء هذه الريات الخمس يعزق خمس عزقات الأولى بعد الزراعة وقد تعزق الثانية أيضاً بعدها وقبل المحاكاة وكلاهما عزقا خفيفاً والثانية منهما نسمى (ردة) - ثم عزقة بعد المحاياة عزقة متوسطة ثم عزقة بعد السقية الثالثة ثم عزقة بعد السقية الرابعة وهي العزقة الأخيرة.
السقية السادسة في 15 يونيو سقياً متوسطاً يميل إلى الإشباع
السقية السابعة في اول يوليو سقياً اشباعاً
السقية الثامنة في 15 يوليو سقيا اشباعا
السقية التاسعة في أول أغسطس سقيا اشباعاً
وقد تحرث خطوطه قبل السقية التاسعة حراثة تسمى تكتينا وفائدتها فتح التربة (بعد أن تكون بلطت من كثرة السقي) لقبول السقي الغزير.
وبعد السقية التاسعة يكون جاء شهر مسرى والفيضان فيمكن السقي سجا بالراحة ولكن لأن القطن يكون حينئذٍ قد استوفى حياته الزهرية فيمنع عنه السقي إلى أن يحنى أول جنيه ثم يسقى بعدها سقية غزيزة بحيث يرصد الماء فوق التربة نحو 24 ساعة فيتلو ذلك تناثر ورق القطن وتخصيب لوزه وإسراع انضاجه.
وكان البعض يسقيه أكثر من تسع سقيات بأن يقلل الفترة بين السقيات في شهري يونيو(56/73)
ويوليو - بؤنه وابيب - سيما في الأخير منهما فيجعلها 10 أيام خصوصاً في الأرض العلو وبالأخص إذا كانت صفراء خفيفة.
وكان أصحاب السواقي المعين يسقون أقطانهم سبما في الغيطان الصغيرة منذ نزول النقطة إلى قبيل الفيضان كل 8 أيام مرة ويتحرون اجراءها طرفي النهار وعامة الليل أي من بعد العصر فقبيل الضحى ويمتنعون عن سقيه أيام الحرارة الجافة وخصوصاً إذا كانت ظهرت عليه إمارات العطش لأن سقيه حينئذٍ يكون مفاجأة مضرة به فيتناثر وسواسه وزهره.
والخلاصة أن القطن بدء نموه يجب أن يكون سقيه خفيفاً وفي فترات متباعدة ثم لعد تنشئته وترسيخ جذوره يزاد سقيه زيادة تتناسب مع زيادة نموه وزيادة حرارة الجو إلى أن تتم حياته الزهرية.
والمعروف في العرف الزراعي أنه كلما كثر ري القطن في الصيف تطبيقاً للقواعد السابقة سيما في شهري بؤنه وابيب (يونيو ويوليو) كان ذلك أفعل في تكثير طرحه وتكبيره وتجويده وقد ألبدت التجارب الحديثة ذلك.
وفي الجهات البحرية التي تصرف صرفاً جيداً قد لا يمنع السقي أوائل الفيضان سيما في الغيطان التي لم يكن استوفي نباتها حياته الزهرية استيفاء مناسباً لإعطائه محصولاً كافياً سواء كان ذلك من تأخير زرعه وأضعف تربته وفلاحته وإذن يلزم سقيه مرة او مرتين سقياً خفيفاً متقارباً وفي اوقات الطراوة بشرط أن لا تزيد المدة بين السقية السابقة واللاحقة عن 10 - 12 يوماً وكذلك يعمل للقطن في الجهات الجنوبية وما صاقيها إذا لم يكن استوفى حياته الزهرية تماماً كما يحصل في الغيطان المتأخرة زراعتها أو التي ظمئت في الصيف ويجب أن يكون هذا الري النيلي والتربة سخية من أثر الرية السابقة وأن يحصل في اوقات الطراوة
أحمد الألفي(56/74)
تفاريق
تناسل اللؤلؤ
هل للؤلؤ أطفال
يتساءل الناس هل اللؤلؤ حيوان حي، وهل تأكل وتتوالد؟ - تلك هي الأسئلة التي كثيراً ما خطرت على أذهان كثيرين من الناس. ولكنهم لم يجدوا لها جواباً حتى نشر رجل من كبار رجال المغرب غرائب عدة عن طائفة اللالئ. كانت في حوزة زوجته. فأدرك البعض منها ما يسكن من حدة حيرتهم.
أما الرجل فهو السير ارنست بيرس وهم من الحكام الذين ولوا على الهند وما جاورها. وقد أكد أن هذه اللالئ منذ استحوذ عليها لم تزدد فقط في الحجم بل ظلت كذلك تتناسل وتتوالد وتتكاثر. وقد قال في ذلك:
عندما كنت حاكم يورينو عام 1891 خرجت يوماُ لركوب البحر. وإني لجالس في زورقي إذ دنت من الزوارق امرأة تحمل في يدها كيساً مفعماً باللؤلؤ تريد بيعه فنزلت لها عن ست جنيهات وابتعت اللالئ بها. وكانت تلك اللالئ صغيرة، لا تزيد كبراها حجماً عن راس الدبوس.
فلم أعبأ باللالئ كثيراً يومذاك بل طرحتها في مكان ونسيت ما كان منها بتة ومضت خمسة اعوام فإذا بزوجتي قد وجدتها في مكانها المخبؤة فيه. ولشد ما كان عجبنا إذ رأيناها كبرت حجماً وتكاثرت عدداً!!
قال السير ارنت برس - فأخذتها إلى رجل جوهري أسأله الخبر فلم يستطيع أن يحل هذا السر ويفك إغلاق هذا السر العجيب، فأعدتها إلى زوجتي فصنعت من بعضها حلياً وأبقيت البعض الاخر - كان الصائغ أخبرنا انها ليست بذات قيمة - وانصرمت عشرون عاماً. ومن العجب أن أصبحت بعد ذلك من لكثرة بحيث تكفي لصوغ عقد ذي مائتي لؤلؤة! وما بقي من تلك اللالئ كان من صغر الحجم بحيث لا يصلح لشيء من الحلي. فما كان منة زوجتي إلا أن أخذت تلك الصغار فوضعتها في كيس صغير. ووضعت معها قليلاً من حبات الأرز فلما مضت خمسة أعوام فتحنا الكيس فإذا بها قد زادت كذلك وكبرت ونمت. وأعجب من ذلك أن السير ببرس قد جمع اليوم من تلك اللالئ القليلة التي ابتاعها يومذاك(56/75)
أكثر من أربعة آلاف لؤلؤة. . . .
عجائب الطبيعة
وحيرة الإنسان في حل أسرارها
الطبيعة ملآي بالأسرار وهي تضع رموزاً يحار الإنسان في حلها. ولها ألف عجيبة وعجيبة يظل أمامها شارد اللب لا يدرك لها حكمة أو سبباً.
أليس من عجائب الطبيعة أن نري الغربان وهي ترف فوق الأفنان. أو تستريح فوق السرحان. أو في الحقول. فتق الأرض والنبات - لا تزال تندب من صفوفها حارثاً يقف عن كثب ديدبانا يرقب أي خطر. فإذا رأى ثمت ما يخشى على الجمع منه نبه اخوانه إليه فطار السرب جميعاً. فكيف أدركت الغربان وجوب الحراسة وندب الديدبانات هذا ما نحار في إدراك كنهه.
ولا يتنس ما يكون في الحدأة، فإنك إذ تطلق أول طلقة من قذيفتك ترى الحدآت أسرع ما يكن إلى الطير في الفضاء رعباً وهولاً. على أنها تصل إلى مكان بعيد في الهواء تدرك منه أن رصاصتك لا تصل إليها تقف حينئذٍ في مكانها ولا تبرحه! وإن استرسلنا نطلق الرصاصات تلو الرصاصات. . . . فكيف علمت تلك الطيور أنها في نجوة من الخطر ومأمن؟
ونحن نعلم أن الديك الرومي أشد مخلوقات الله نفساً مغرورة، وعطفاً تياها، ونفخة مزهوة. وهو طائر قوي متكبر جارح عداء، إن لم يجد شجاراً خلق شجاراً. وإن لم يقع له التنافر أبي إلا أن يكون متنافراً. على أنه أول طائر يجري إذا استحر القتال وحمى وطيس الشجار. فكيف إذا أتيحت له هذه الطبائع المتناقضة وكيف ركبت فيه الطبيعة تلك الخصال المتعارضة؟ هذا ما لا نستطيع أن نفهمه.(56/76)
حول حفلات البيان
التمثيل - وليس يدافع في ذلك اثنان - فن من فنون الآداب الرفيعة، بل هو القمة الباسقة التي انتهى إليها الأدب في هذه العصور، لأنه أعم الآداب شيوعاً وأقربها مثالاً وأخابها لنفوس الجماهير وأصدقها بعد ذلك أثراً، ومن هنا كان واجباً حتماً على كل من يستطيع إلى ذلك سبيلاً، أن يأخذ بناصره، وأن يسمو به نحو الكمال والغرض الأسمى الذي وضع لأجله.
وان من يلقي نظرة على حالة التمثيل عندنا اليوم يرى أن التمثيل الجدي النافع قد اختنق اختناقاً وتضاءل ثم تضاءل حتى ذهبت به وبرجالاته روح العصر وكشكشيانه، وشردت أهليه في البلاد تشريداً، فكان ذلك مما حدانا - لتلك الصلة التي تواخي بين عمل البيان وبين التمثيل - على التفكير في انتقاء روايات تمثيلية يتساوق مع روح العصر، بديعة المنحنى بدعة نبيلة المغزى - أخاذ بالنفوس، طيبة الأثر في الأرواح - ثم اغرار الجمهور الذي تهافت على هاتيك الكشكشيات تهافتاً شديداً حتى استبدت به وملكت عليه أمره وأورثته هذا الفساد المقيت الذي نضج منه ضجيجاً - بالإقبال على مشاهدة هذه الراويات النافعة والاستفادة منها ومن المعاني السامية التي تنطوي عليها وتطلع النظارة من تضاعيفها، فنقلنا من الفرنسية إلى العربية رواية نبي الوطنية أو الرسول ثم راوية القناع الممزق، وكلاهما من الروايات الخالدة التي أصابت من الجميع أقصى غايات الاستحسان، ثم مثلنهما - الأول في دار التمثيل العربي بواسطة حمعية أنصار التمثيل تحت رئاسة حضرة صاحب المعالي أحمد حشمت باشا وزير المعارف الأسبق، والثانية في تياتروبرنتانيا بواسطة النجم الأبيض تحت رئاسة أمير الشعراء أحمد شوقي بك، وكل من وزيرنا الجليل وامير الشعراء قبل هذه الرئاسة عن طيبة خاطر واستحساناً منهما بهذا العمل وغيرة منهما بعد ذلك على البيان، وتقديراً للجهاد الأدبي الأكبر الذي جاهده ويجاهده صاحبه. فكان ذلك - وأقيمت هذه الحفلات على النحو الذي لم يسبق إليه، وتلاقى فيها الجمال بالجلال، وما يروع الخاصة بما يستوهي الكافة إذ بينما تشاهد تمثيلاً تراجيدياً آية في الروعة والسمو إذ يُنتقل بك إلى قطعة كوميدية مضحكة تروح عن النفس ثم إلى أنشودة موسيقية مبتكرة من أنبغ موسيقى الدهر، وهلم مما أصفق جميع من حضر هذه الحفلات على أنها تضطر الناس على اختلاف نزعاتهم وامبالهم إلى مشاهدتها اضطراراً.(56/77)
وبعد فهذا ما نقصد إليه قبل كل شيء من حفلات البيان - نهوض بالفن وترغيب للناس في التمثيل الجدي النافع ومران للنوادي والجمعيات التي رصدت نفسها لأحياء الفنون الجميلة، ومساعدة لأرباب المراسح والممثلات ومن إليهم - كل إولئك هو الجنى الطيب والأثر الصالح الذي تثمره حفلات البيان. . . . . على أنا إذا كنا نبغي بعد ذلك ربحاً مادياً للبيان - وإن كنا يعلم الله لم نجن من وراء هذه الحفلات شيئاً مذكوراً إذ أن أجور المراسح والممثلات وأدوات التمثيل ونفقات الإعلانات وما إلى ذلك مما لا يستهان به - فمن الذي يعيينا أو ينتقصنا ويصغى أناءنا بذلك - وهل كان يعاب شكسبير وهو الشاعر المخلد عند تلك الأمة على انجازه بالتمثيل وهو القائل: - إننا نكتب ونكدح لنعيش - أظن لا يوجد من يعيينا على ذلك إلا أولئك الزعانف الذين أكلت صدورهم من الحقد. أولئكم الحيوانات الصخابة الجائعة التي تدعي أن بها نعرة صحفية والحقيقة بها نعرة معوية. . . والتي لا تطيب لها الحياة إلا بامتصاص الدماء الفاسدة ولا يحلو لها العيش إلا بتمرير عيش الناس والقدح في أعراضهم وإنما هي صرخات معدهم وصواعق بطونهم - تلكم الحشرات الخبيثة السامة التي أبت الأقدار إلا أن تغريها بكل شيء طيب نافع لسر من الأسرار التي عند الله علمها. ولكن لا. لا. لا عتب على الشرير. لا مبالاة بالضيل الحقير، لا اكتراث بالجائع الذي يدور مع الدينار، أينا دار، كعباد الشمس فيمدح من لا يستاهل المدح كما يُمدح الله ويهجو أهل الفضل كما يهجى شر خلق الله، قل كيف شئت أبهذا المخلوق الدنيء
قل كيف شئت وأن تشأ ... وأبرق يميناً وأرعد شمالا
نجا بك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقادذيره أن ينالا
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولقرائنا الكرام(56/78)
مطبوعات جديدة
باحثة البادية
لقب على فقيدة النهضة الفكرية الحديثة في مصر المرحومة ملك هانم كريمة فقيد اللغة والأدب المرحوم حفني ناصف بك وقرينه حضرة صاحب العزة السري المفضال عبد الستار الباسل بك، وصاحبة كتاب النسائيات. والموضوعات الاجتماعية المفتنة المنوعة التي كانت تنشر بإمضاء (باحثة البادية) في الجرائد اليومية والمجلات المصرية. وقد كتبنا في السنة السادسة لمناسبة انتقال الباحثة إلى جوار ربها نبذة صالحة أبنا فيها عن مكانة المرحومة من الأدب والتفكير المهذب المستنير. وعددنا وفاتها أكبر رزء اصاب (الكلتور) المصري. وكنا نود وقتذاك ان ينهض من بينا زعيم من زعماء الحركة الفكرية فيكتب عن باحثة البادية كتباً فياضاً يحلل فيه شخصية الباحثة وكفاءتها ومواهبها والمركز الأدبي الذي كانت تشغله بيننا. وها هو اليوم قد حقق الله آمالنا واكثر من آمالنا بظهور كتاب عن الباحثة يكاد يكون منقط النظير، ذلك هو كتاب (باحثة البادية) بقلم الآنسة (مي) الواقع في زهاء مائتي صفحة، المطبوع على ورق ناعم جبد أطيب طبع وأنقاه - أما الآنسة مي فهي الآنسة ماري زيادة كريمة الياس زيادة بك صاحب جريدة المحروسة التي توقع ما تكتبه عادة بتوقيع (مي). والآنسة لا تخفي على أحد من قراء العربية، وليس بهم حاجة فيما نرى إلى تعريفهم بها وبفضلها وأنها من النبوغ والألمعية والذكاء المتوقد والشخصية الممتازة وقوة الملاحظة والتفكير الحي المبتكر المتوثب بحيث لجميع الناطقين بالضاد أن يدلوا بها ويرفعوا رؤسهم عالية فخاراً بوجود مثلها بينهم، وتفاؤلاً بالخير العميم الذي سنناله من وراء وثبة الشرقيات - وآية ذلك ما نراه اليوم في هذا الكتاب الذي بين أيدينا - كتاب الآنسة مي عن باحثة البادية - وليتصور القارئ الكريم ماذا تكون قيمة ما تكتبه عن كاتبة كاتبة مثلها، هاتيك منزلتها. ونحن لو طاوعنا القلم واسترسلنا مع ما يجيش في الصدر نحو هذا الكتاب القيم لاستوعبنا صفحات عدة من صفحات البيان بيد أن نجتزئ بهذه الكلمة الصغيرة اليوم على أن نعود ونكتب كلمة كبيرة عن هذا الكتاب الكبير وكاتبته الكبيرة الآنسة مي في فرصة أخرى - والكتاب يباع في جميع المكاتب وثمنه 12 قرشاً صحيحا
النشرة الاقتصادية المصرية(56/79)
لا يوجد عندنا مع السف مجلات أسبوعية على نحو مجلات الغرب الأسبوعية وكأنا بالرجل الفاضل ألهام منصور صدقي بك وقد فطن إلى هذا الفراغ العظيم فأبت عليه همامته إلا أن يملأه بحق بتلك المجلة الاقتصادية الأدبية الأخلاقية المصورة التي لم يسبق إلى مثلها فيما نعلم، وفاجأنا بها مفاجأة بهرت الأنظار، وأصابت منا أقصى غايات الإعجاب والإكبار - مجلة كبيرة في حجم كبير تقع في نحو أربعين صفحة ويكتب فيها كتاب أفاضل كبار يقوم فيها بتصوير الصور الهزلية البديعة مصور مصري نابغة هو الاستاذ أهاب. وتنشر احصائيات اقتصادية لا بد من معرفتها والالمام بها، وكل أولئك لقاء قيمة لا تفي في ظننا بثمن الورق أبيض عاريا، الجديرة بالاستحسان كل الاستحسان ثم بالاقبال كل الاقبال.
مؤلفان جليلان
للكاتب النابغة الأشهر أمين ريحاني
أهداهما إلينا حضرته من امريكا - وقد كتبهما باللغة الانكليزية، وهما كتاب عن أبي العلاء المعري ومختارات من لزومياته وكتاب عن البولشفية أتى فيه على أصل البولشفية وتاريخها وتطورها إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم - والكتابان يطلبان من مجلة الفنون بنيويورك.(56/80)
العدد 57 - بتاريخ: 31 - 10 - 1920(/)
إلى قرائنا
نلفت نظر قرائنا الأفاضل إلى شيء طالما لفتناهم إليه بالقول والفعل. ذلك هو أن سنة البيان إنما هي عشرة أعداد لاغير، وإن البيان يستريح في شهري أغسطس وسبتمبر من كل عام. على هذه السّنة سار البيان منذ نشأته إلى اليوم، غير أنه كان بودنا أن نعوض على قرائنا من هذين العددين كتاباُ قيما يغني غناءهما، ولكن ما حيلتنا وأمر الورق وغير الورق من الغلاء، على ما يعرف القراء. وهذا وقد كان لدينا من الموضوعات التي أعدت لهذه السنة مواد مدخرة موفورة كان من حقها أن تنشر في الأعداد الماضية، لذلك اضطررنا لأن نؤثرها على المواد الأخرى الجديدة بنشرها في هذا العدد، ومن بين هذه الموضوعات الجديدة التي أرجأنا الشروع في نشرها تلك الرسائل التي ألمعت إليها صحفنا اليومية والتي عنونت بهذا العنوان سياحة في الآخرة أو صوت من الموتى وهذه الرسائل الغربية كتبها روح شهيد الوطنية المصرية المرحوم محمد فريد بك وقد استزار أحد كبار الروحانيين الأدباء اللذين عنوا في عصرنا هذا باستحضار الأرواح، وأصابوا في هذا الأمر الخطير أقصى غايات النجاح، هذا الروح الكريم فزاره زورات عدة في ليالي متتابعة، وكتب له هذه الرسائل التي وصف فيها سياحة له في الفردوس قابل فيها كثيراً من عظماء المشرق ورجالاته من أنبياء وعلماء وفلاسفة وأدباء وشعراء ممن ظهروا تحت أديم سمائه قديماًً وحديثاً، وجرى بينه وبينهم أحاديث شتى في موضوعات مختلفة هامة، فنظرة قراءنا الأفاضل إلى الأعداد القادمة.
مزايا الترجمة
الترجمة منبع من المنابع التي تندفق منها الوطنية الصادقة النقية لأنها ضرب شريف من أسمق ضروب التضحية وأسماها، وهي من أشد مسلزمات الأمم ومتطلباتها، ومن قوى حوائجها ومفتقداتها. ولعل الأمة في إبان نهضتها أحوج إلى الترجمة والنقل منها عند ازدهار النهضة ونضوجها، فإن الأمة لا تتحرك ولا تتقدم ما لم تضرب امواجَ حياتها رياح الأفكار القوية، فإنه كلما كان الفكر في امة أبعد مدى وأوسع دائرة كانت آمالها أبعد وطموحاتها أسمى وكان المثل الأعلى في نفوس أفرادها أجل وأفخم واكثر صفاء وتهذيباً فلا نقعد بهم العزيمة عن العمل لبلوغه ولا يأتلون سعياً وراء تحقيقه، والترجمة من أفضل(57/1)
الوسائل وأمثل الطرق لتنوير العقول وتوسيع نطاق المعرفة ومن ذلك مشحذة للذهن ومثار للتفكير، ولقد كانت الأمم في العصور القديمة المنصرمة تغامر في معترك الحياة بالقوة البدنية ولكن الفكر الآن هو أمضى سلاح وأقوى مجن في التنازع على الحياء، وان النهضات الصادقة الحقة هي التي تستند على أساس متين راسخ من المبادئ الكبيرة والأفكار الخطيرة والمذاهب الحية المتوقدة، وقد آن الآن لنا أن نقذف من حالق بكل فكرة ميتة هامدة وكل مبدأ خامد هاجع حتى لا يعتاق سبيلنا ويعترض تيار تقدمنا ولقد سئمنا تلك الأفكار الفجة النيئة والآراء السقيمة البالية، وانه لما يحزننا ويحز في نفوسنا أن نعلم أننا كنا نعيش محفوفين بأفكار قديمة قد ترشفت منها الأيام قطرات الحياة وخرافات فارغة لبس فيها من متعة للخيال ولا مسلاة للذهن بينما بيرون يصدح بأناشيد الحرية فيهتز لها قلب أوروبا ويخفق، وجبتي يلقي حكمته في ويمار فيستقبلها العلم بلهف والتياع وترى بها الفوش الظماء والقلوب الصوادي وبينما العالم في بحر مزيد بتيارات الأفكار الجديدة وبركان مورا بالآمال المضطربة الحديثة، وان مما يهون علينا ذكرى تلك الحال المكمدة ان نرى الأمة الآن وقد أخذت تصوغ حياتها الفكرية على أوضاع مؤتقة جديدة وسنن طريفة حديثة تلمح من جنباتها دلائل الحياة ويطالعك من نواحيها آثار التماسك والقوة، وان روح السخط والمال والتذمر والنقمة بادية في نفوسنا متفشية في أقوالنا، وان في نفوسنا الرياح الثائرة الهوجاء والزوابع العاصفة الهزجة، ولكن ليس لهذا السخط والتذمر من كبير قيمة وعظيم شأن ما لم يكن دافعنا إلى النهوض بالأعمال الكبيرة وحافزنا إلى الاضطلاع بالأعمال الجسيمة وإلا كان دليلاً على ضعف نفوسنا وخور عزيمتنا، وان الملل ليشرف النفس ويعليها إذا أصلحت عواصفه وأمطاره ثرى النفس وهيأتها لزرع الجليل الصالح بعد اقتلاع الحقير الفاسد وابادته.
واننا بالترجمة نتجاوز الحدود التي تفصلنا عن الطوائف الأخرى من الانسانية وتمزج حياتهم الفكرية بحياتنا، وان الفرد منا يقف في الحياة في خوف بين ماض ناء سحيق ومستقبل غامض مريب ولكنه إذا عرف أنه يفكر بذهن الانسانية جمعاء وبرمق السكون بلواحظها وإذ أحس ان قلبه ينبض بآمالها وان نفسه تهتز لمخاوفها سرى عنه ذلك ألم الوحشة وسكب على قلبه شآيبب العزاء ورد عليه الامن المفقود والسكون المسلوب وصار(57/2)
يشعر بقوته وعظمته أمام قوة اللانهاية وعظمتها.
ان الترجمة تزيد التيارات الفكرية قوة وتدفعاً وان العظمة لا تظهر مستكملة بصورتها مستوفية لشرائطها إلا حيث التيارات الفكرية القوية، والعظمة التي تظهر في غير ذلك تكون ناقصة بتراء، ولا تستسر العلاقة بين نهضة الشعوب وبين الدب القوي الحافل بالأفكار إلا على ذوي النظر الحسير والفكر الكليل فإن الأدب القوي يحرك الطبائع ويهز النفوس ويرسل نوره وحرارته في كل مناحي الحياة ووجوهها وان الأمة إذا ثملت برحيق فكرة كبيرة رأيت آثار تلك الفكرة متوثبة في كل نفس من نفوس أفرادها ظاهرة في أعماله مستجلية في أحاديثه وأقواه وإن كان يختلف مقدار فهم كل فرد لجوانب الفكرة المتعددة.
إن كل فرد منا يرقد في أعماق نفسه تاريخ الإنسانية بأسرها، وتقيم في ذهنه كل فكرة أمّت الكون ولكنها تروح في النفس غامضة خفية، وكلما كانت النفس شاعرة بذلك مستيقظة له كانت تواقة إلى المطالعة نزاعة إلى البحث والتفكير وصارت ترى في كل دور من أدوار التاريخ صفحات من نفسها وترى في كل فكرة خيالاً للفكرة التي كانت تختلج بنفسها ومثل هذه النفس تنسى نفسها وتنكرها لتتعرف ما حولها في مختلف الأمكنة والأزمنة وهي لهذا الانكار والتناسي تلتقي بذاتها الكبرى ونسها العظمى وما يصدق على الفرد في تناسبه نفسه لعرفاتها يصدق على الأمة ولذا فإن الأمة عند يقظتها تكثر من النظر فيما حولها، ولعل هذا ما يدعو فريقاً منا للترجمة فإنها من وسائل النظر إلى ما حولنا، واننا بالترجمة نستثير في نفوسنا كل ألأحلام والآمال والافكار والخواطر التي واجهت الانسانية في رحلة حياتها وتخرج الدرر الكامنة في بحر النفوس وتطلق الانغام العذبة الشجية المحبوسة في الصدور وتهدم الاسوار والحواجز التي تمنع شخصيتنا من الاتساع وتجعل آمالنا ضيقة غير مترامية وعزائمنا محصورة وليست بعيدة نائية وتمنعنا من أن نعيش في الدائرة الشاملة لكل الدوائر والتي لا ينبغي لأمة كبيرة أن تعيش في غيرها - دائرة اللانهاية. . . . . .(57/3)
اعترافات
الشاعر الفرنسي الخالد الفرد دي موسيه
الفصل العاشر
فلما أبصرت وجه الشبه بين هذه المرأة وبين حبيبتي ثارت في ذهني المضطرب فكرة مخيفة شرعت أنفذها للتو واللحظة.
في الدور الأول من رواية غرامنا كانت حبيبتي تزورني سراً من حين لآخر وكانت أوقات زيارتها هذه أعياداً تحل بغرفتي الصغيرة فكنت أنثر الأزاهير في جوانب الحجرة وأوقد نار المدفأة حتى تتأجج وتتوهج وأصنع طعاماً طيباً ثم أنصب الخوان. أنصب عليه الألوان. فأنها قطع البساتين وأفانين الرياحين.
وزخرف البيت كما زخرفت ... روضة حزن جادها هاضب
إذا ما بساط اللهو مد وقربت ... على عجل أنماطه ونمارقه
وكم من برهة قضيتها جالساً على وسادتي تحت المرآة أمتع نظري الساعات الطوال برونق محياها الجميل وقلبي قلبها يتجاوبان بنجوى الغرام وأسرار الصبابة وأنظر إلى حجرتي الحقيرة وقد بدلتها تلك الساحرة الحسناء بنفثات سحرها المبين فأصارتها مقصورة من جنة رضوان وحولت تلك الغرفة التي طالما بللت جنباتها بدموع الجوي فردوسا مشرق الجو ضاحك الأرجاء، الا فأجمل بها وأحسن من غادة ورد الشباب قد قامت كالدمية الغالية النفسية الجمال بين المرتخص المذال من اسمال ثيابي ورثات كتبي وأسفاري وقديم أثاثي وأدواتي. وما كان أبهي سناها أشرق ضياها وسط ذلك الجو الموحش المظلم. وما كان أذكى سراجها الوهاج وأثقب نجمها الوقاد في دياجير ذلك الفقر المدلهم وحنادس ذلك البؤس الحالك!
وأني والله منذ فقدت عشيقتي ما برحت هذه الذكريات تنتابني. وما فتئت هذه الهواجس تعتادني حتى سلبتني القرار نهاراً والمنام ليلاً وكأنما جدران غرفتي كانت تحدثني عنها بأوضح عبارة والات بيتي تنث عليَّ حديثها سراً وجهاراً. وكنت لا أطيق إلى هذه المناجاة اصغاء. وكذلك كلما دنوت من فراشي حدثني عنها فراشي ففررت منه إلى الشارع وكنت أرتاع لرؤية الفراش الا ساعة يشغلني عن الخوف البكاء فتحول دون مرآة دموعي.(57/4)
وسرت بالفتاة الآنفة الذكر إلى غرفتي وسألتها أن تقعد ثمت وظهرها إلي وأن تنضر ثيابها عن شطرها الأعلى ثم نضددت متاع الغرفة من حولها وصففته كما كنت أصنع في حضرة حبيبتي ووضعت الوسائد والمضاجع بحيث كانت في ذات ليلة بعينها من ليالي وصالها قد تذكرتها إذ ذاك. والواقع أن المرء لا يزال يتذكر من بين خواطر مسراته الغابرة في حادثة بعينها قد غلبت على غيرها من الخواطر وضحت في عالم الذكرى على سائر ما يلوح به من المعالم - كمثل برهة أو ساعة قد تفوقت على كل ما عداها وسادت فكانت نموذجاً ومثالاً
فهذه لعمرك لحظة يزفها إليك وسط القدر وسط ملايين اللحظات العديدة لا كمثلها لحظة فتهفت بك ملائكة السعادة.
ابشر يا فتى وطوبى لك! لقد ألقت يد الحظ في جعبتك سهماً من النار وركبت في عجلتك ضلعاً من النضار.
وبعد استيفاء الترتيب والتنضيد أشعاث بالمدفئة نارا طار لهبها واحتدم شواظها ثم قعدت فأطرقت وأرسلت عنان فكري في واد سحيق من الخواطر الحزينة والهواجس السوداء أو أغرقت احساسي في أعمق لجة من اليأس والقنوط وأقبلت على قلبي فأهويت إلي أوهد أعماقه وجعلت أتلمس ما هنالك فإذا بي لا أجد ثمت إلا الكمد القارح والألم المبرح والجرق الكاوية والحسرات المضاضة وإذا بصميم قلبي يتفتت ويتفرى. ثم أخذت أتغنى بأخفت صوت لحناً كانت حبيبتي لا تزال أيام وصالنا.
أتغنى بهذا اللحن وأنصت إلى صدى شجاه في صحارى قلبي المقفر، ثم قلت لنفسي الحمد لله على ما قد صرت إليه اليوم. وربك أقضى سعادة الإنسان في هذه الدنيا! هذه الغرفة جنتي وهذه الفتاة ابنة الشوارع وطريدة الانسانية حوريتي! ولا جرم! أو ليست في منزلة حبيبتي ودرجتها قد صيغت على مثالها وطبعت على غرارها. وبما أصلحك الله تفضلها معشوقتي وبأي شيء تفوقها. هذا هو الذي يفضي إليه العاشق في النهاية من المرأة الذي يهوى. هذا هو الشمع الذي تنتهي إليه بعد أن تجرد قرص الخلية من العسل. هذه عكارة الكاس بعد أن ترشف رحيقها! هذه هي أقذاء القدح الذي تديره علك الآلهة بعد أن تشرب مابه من المن والسلوى! هذه جيفة الحب القذرة.(57/5)
فلما سمعت الفتاة المسكينة غنائي شرعت تغني هي أيضاً. فاصفر وجهي وارتعدت فرائضي حين رأيت ذلك الصوت الخبيث الممقوت ينبعث من مخلوقه هي أشبه الناس بحبيبتي فكأنه كان عنواناً على ما كنت أحسه إذ ذاك واكابده وما كان ذاك الصوت المنبعث غليظاً أجش من حنجرة الفتاة إلا صوت الدعارة والفجور ذاته. وخيل إلي أن صوت حبيبتي قد آض كذلك الصوت منذ خانتني وحفرت ذمتي. وتذكرت البطل الروائي الخرافي (فوست) الذي حينما شرع يرقص مع الساحرة الجميلة ابصر فأرة حمراء تثب من حلقها.
فناديتها صه لا ابالك ثم نهضت فدنوت منها فقعدت على فراشي مبتسماً ثم انطراحت بجانبها كأني تمثال نفسي ملقى على قبري: فناشدتكم الله يا أهل هذا الجيل! يا من تلهون بالمراقص والنلاعب ثم تذهبون إلى المضاجع فتمترون النوم من صفحات كفرية من كفريات فولتير أمام الملحدين أو هزلية من هزليا بول لويز كوريير - ناشدتكم الله يا أهل هذا الجيل يا من هذا بأدبهم وذاك ديدنهم - إذا وقع هذا الكتاب الخامل المغمور في أيديكم صدفة لا تسخروا منه ولا تهزؤا ولا تتهموني بأني أشتكي آفة موهومة ونكبة خيالية محتجين بأن العواطف من كواذب الاحساسات وأن آلام الحب أوهام وأحلام وأن التعقل والتروي خير ملكات النفس وأصح وظائفها وأنه لا حقائق في هذه الحياة إلا البورصة والبنك والاسهم ومائدة الطعام ومائدة القمار وصحة البدن وقوة العضلات والانانية والاستهانة باحساسات الغير وقلة المواساة واسترخاء المفاصل ليلاً على الفراش تحت لبشرة المضمخة بالملاب والعبير.
* * *
لما انتبهت في الصباح شعرت بوخز الضمير ولذعة الندم ورأيتني قد سقطت في عيني إلى الحضيض الأوهد من السفال والدناءة فوثبت من الفراش وأمرت الفتاة أن تلبس ثيابها وتترك البيت بأسرع ما يمكن، ثم اني لبثت ساكناً ساكتاً أتلفت حوالي بنظرات الساخط الآسف ثم استقرت نظراتي على ركن الغرفة المشتمل على مسدساتي وخناجري.
وبينما كنت أحس نفسي كأنها فريسة في براثن اليأس الحازب والبث الكارب كانت الفتاة لا تزال باقية في الغرفة قد وقفت أمام المرآة وأخذ تصلح هيئتها وترجل شعرها وهي تبتسم ولبثت كذلك ربع ساعة كدت أثناءها أن أنسي كل ما جرى بيني وبينها حتى لكأنها لم تكن(57/6)
وكأني لم أرها ولم ألقها، غير اني لم ألبث بعد تلك البرهة أن أحسست بها فزجرتها وأمرتها بالخروج بأشد لهجة واعتقها فتهيأت للانصراف في الحال وتأهبت ولوت اكرة الباب للذهاب بعد أن أومأت بقبلة.
في هذه اللحظة دق الباب فنهضت مسرعاً وفتحت باب خزانة دولاب فخبأت فيها الفتاة ثم فتحت الباب فدخل صاحبي ديزينيه بصحبة فتيان من جيراني.
كان ديزينيه مشرق الوجه متهلل الجبين فشرع يداعبني قائلاً إن وجهي يدل على طول السهاد والأرق ليلة أمس ولما لم أكن بحال من الانشراح تسهل علي احتمال أمازيحه سألته بالله أن يكف عني غرب لسانه.
فلم يكترث لرجائي ولكنه أخذ بلجهة تهكمه المعهودة يشرح لي سبب مجيئه وهو ان حبيبتي لم تقتصر على عشيقين حتى عززتهما بثالث وأنها أساءت إلى خصمي بمثل ما أساءت إلي. وان هذا الخصم لما تبين الأمر ثارت ثائرته وأحدث هياجاً رنت له أنحاء باريز حتى أصبحت المسكينة بعد هذه الفضيحة مضطرة إلى مغادرة المدينة ما لم تكن قد أصرت على تعريض نفسها لفضيحة أعظم.
كل هذه التصريحات لم تزدني إلا كآبة إذ كانت ترمي إلي اتهامي بالغفلة والغرور والحماقة. فلم انبسط لصديقي ديزينيه ولم أهش لحديثه ولم ازد على افاضته في النصح الا تجافياً وانقباضاً وتجهما وعبوسا. ولكنه لم يحفل بحالتي ولم يكترث وتمادى في إيلامي وإيجاعي إذ كان قد عاهد نفسه على أن يتولى علاج دائي ليشفيني من علة الحب. ورأى أن ما له علي من حرمة الإخاء والصداقة قد اكتسبته هذا الحق بلا مراء.
ولم يكشف ديزينيه بتلك المعالجة القاسية المستديمة ولكنه حينما أبصر كربتي وخجلي طفق يضاعفهما جهد طاقته. ولكن شواهد الجزع تزايدت على صفحة وجهي بما زجره عن التمادي في قوارصه والوافحه حتى تبين خطأه فأمسك عن الخوض في هذا الحديث وكف عني قوارعه - وأخذ يلعب دوراً صامتاً ولكن هذا كان أسوأ لي وآذى.
فأقبلت أوجه له بضعة أسئلة واني لا تمشي في الغرفة جيئة وذهاباً والله يعلم أن هذ القصص الذي أداه لي عن حبيبتي كان من أوجع ما جرح مسمعي وامضه ولكني كنت مولعاً بإعادته وترديده. ولقد حاولت جهدي أن أكسو ديباجة وجهي قناعاً من الانشراح(57/7)
والطمأنينة ولكن عبثاً أحاول. وألحفت ديزينيه بالسؤال فإذا به قد عاد أخرس من صنم وتمثال. وأصمت من رسم محيل وطلل بال. فجعلت أجول في الغرفة وأهدر بالسؤال أثر السؤال. وأرغي وأزيد وهو صامت وادع رخى البال. وأفور كالتنور وهو أجمد من الثلج وأبرد من الزلال.
وهنا يعجز لساني عن شرح ما كابدت إذ ذاك من الكرب والقلق. والوجد والحرد والحنق. وكيف وأيسر ما في الأمر أن أرى المرأة التي ملكتها زمامي قلبي. وأسلمتها مقاليد حبي. وأرعيتها بأرض الهوى. وأمطرتها وسمي مدامع الجوي والتي منذ فقدتها لم أذق نوماً. ولم أجد للحياة طعما. وما أراني إلا باكيا عليها ما بكي المزن بدموع الغمائم.
وتفجعت لفقد الأليف ثاكلات الحمام - أن أرى المرأة التي هذه منزلتها قد صبحت من الملوثات الاعراض المجرحات الأديم بمقاريض الثلب والقدح في المجالس والأندية والمحافل، المعرضات لسخرية كل ساخر وتهزئ كل هازئ، لقد أحسست إذ ذلك كأن شيطاناً من المردة الا الأبالسة قد تناول من أعماق الجحيم مكواة من الذع شواظها ونحاسها فأقبل يبصم بها على عاتقي أشنع من العار وأبشع وصمة من الخزي والفضيحةّ!.
وكلما ازددت تفكراً وتدبراً ازدادت الدنيا في وجهي ظلاماً. وكلما التفت إلى ديزينيه أبصرت على وجهه ابتسامة ثلجية ونظرة منكرة غير مألوفة.
وأخيراًُ قال لي أسرك الحديث. إلا أن أطيب ما فيه خاتمته. لقد جرت تلك الحادثة يا صديقي اوكتاف في ليلة قمراء. . . فبينما الخصمان يتشاجران في غرفة المعشوقة ويهدد أحدهما الآخر بالذبح والقتل كان يتمشى بالشارع تحت النافذة شبح وكان يشبهك إلى حد أن اعتقد الجيران أنه أنت لا مراء، ولا محالة. فأجبته قائلاً: من قال ذاك من رغم أني كنت أطوف الشارع ومن ذا الذي بصرني هنالك؟ ٍ
حبيبتك بالذات. انها لتقص ذلك الحديث على كل من أبدى رغبة في سماعه. . ونقصه بمثل ما نقصه نحن من الابتهاج والمرح والدعابة وتصرح بأنك لا تزال تهواها وإنك تقوم االيل الطويل على بابها ديدبانا، إلى غير ذلك من امثال هذه النكت والأمازيح على أنه حسبك من كل هذا أنها لا تزال تتحدث بمثل هذه الأقوال علانية على رؤوس الملأ.
وليعرف القارئ اني ما كنت قط في وقت ما من الحاذقين في فن الكذب وتلفيق الأحاديث(57/8)
فكنت كلما حاولت اخفاء الحقيقة خانني صوتي وخذلني وجهي فبدا على هذا وذاك آيات الاضطراب وإمارات الارتباك. ولكني جعلت مع ذلك احتفاظاً بكرامتي أحاول الانكار والجحود بتكلف الكذب والتمويه بيد أني ارتبكت أثناء ذلك واحمر وجهي بما كشف للحاضرين من حقيقة حالي وثم عن مكنون صدري. فعند ذلك ابتسم يزينيه.
فقلت له احترس يا صديقي. احترس وخذ حذرك ولا تتعد حدودك!
وطفقت أدور في الغرفة كالمجنون لا ادري ماذا أصنع. وكان بودي لو قدرت أن أضحك ولكن كان ذلك محالاً. وأخيراً قلت له، وكيف كان في استطاعتي أن أعرف تلك الحقيقة - كيف كان في طاقتي أن أعرف أن تلك الشقية -.
وهنا عض ديزينيه على شفته كأنه يريد أن يقول لقد كنت تعلم ذلك حق اليقين.
فأمسكت عن الكلام وجعلت من لحظة إلى أخرى ألفظ كلمة سخيفة مضحكة. وجعل دمي - وكان ما برح منذ نصف ساعة يفور في أوعيته ويغلي - ينبض في صدغي أشد نبض وآلمه. ثم أستأنفت الكلام فقلت:
أجل يا ديزينيه. لقد كنت أجوب الشارع تحت نوافذ غرفتها باكياً منتحباً بعبراتي شرقا. وفي طوفان مدامعي غرقا. ومع ذلك كله فقد كانت المعركة بين النظيرين تجري في غرفة تلك الغادرة الخائنة. لا حول ولا قوة إلا بالله! أفي مثل تلك الليلة وطعنات غدرها في صميم قلبي لم تبرج غضة جديدة تفور بدم حياتي وتغلي وجراح مهجتي دامية وهامية. وكبدي على جمرات الجوى تنضجها نار الأسى الحامية أفي مثل تلك الليلة ومثل هاتيك الحال تتمادى الغادرة في سخرها مني واستهزائها بي لا يزعها وازع ولا يردعها رادع؟
أحقاً ديزينيه إن ما تذكره من هذا ألمر قد جرى وكان؟ ألا يجوز أن تكون في ما تحدثني به واهماً أو حالماً؟
أيمكن أن يكون ذلك حقاً أو محتملاً أو جائز؟ وكيف تدري؟
وهنا شرد لي وعزب حلمي وبلغ الحنق والحرد مني أقصاه فتهافت قاعداً على كرسي ويداي ترعشان.
قال ديزينيه هون عليك يا صديقي فالخطب أيسر. إن حياة العزلة التي عشتها منذ شهرين قد أضرت بك كثيراً كما تشهد بذلك حالك. فأراك يا اوكتاف أحوج ما تكون إلى شيء من(57/9)
اللهو والرياضة فزرنا تلك الليلة لتنازعنا العشاء واخرج غداً إلى بعض المنتزهات فتناول به غذاؤك.
فكانت اللهجة التي برزت فيها هذه الألفاظ أوجع لي وآلم من كل ما نطق به ديزينيه إذا كنت تنم على معنى الرثاء والرحمة وأنه كان يعاملني كما لو كنت طفلاً.
وكنت جالساً ناحية منهم بمعزل وقد نفر جاشي ووهي جلدي وانهارت دعائم ثباتي وعزمي فبذلت كل جهد في استرداد حلمي واستثابة رشدي فقلت في نفسي لقد نكبت بالخيانة من حبيبتي وبسوء النصيحة من صديقي إذ يشير علي أن أتداوى من دار يأسي بالفسق والفجور والدعارة على أني معرض بعد للوقوع في هاوية هذه المنكرات إذ كا لا عاصم لي منها سوى ما يغشاني من حزني الرهيب المقدس الطاهر! ولكن شر المصاب وأشد البلية أن هذه الدرع الوحيدة التي أتحصن بها من الوقوع في حبائل الفساد - هذا الحزن العميق المطهر الذي أراه أثراً مقدساً لما فقدته من نعمة الحب - أقدس نعم الحياة وأطهر لذات الدنيا. . . .
هذا الحزن الرهيب المقدس - وقايتي من الانغماس قي بيئة منكرات العصر وعصمني من لتورط في حمأة مفاسد الجيل.
هذا الحزن - هذه الوقاية - هذه العصمة والدرع والجنة - قد تحطمت في يدي وتصدعت تحت صدمة هذا النبأ الفظيع الذي سمعته الآن من تلك الغادرة التي لم يكفها أن تسخر من حبي حتى هزأت كذلك بحزني وبثي وضحكت من قنوطي وبأسي.
لقد جعلت تهزأ بي وتسخر واني لواقف على اعتاب دارها أنتحب وأبكي! لقد جعلت ذكريات الماضي تنبعث من لجة ضميري فتطفو على يمه عندما فكرت في ذلك وخيل إلي أن خيالات الوصال أخذت تثور من مكامنها واحدة نلو أخرى وكأنها قد قامت تشرف على أعماق هاوية سحيقة موحشة سوداء حالكة ومن فوق هذه الهاوية كان يدوي صدى ضحكات صفراء ساخرة معناها هذا جزاؤك!.
لو أن العالم أجمع هزأ بي وضحك مني ما باليت قط. ولكن الذي مضني وأرمضني وادمى فؤادي هو أن الساخر والهازئ كان تلك المرأة التي لم أهو غيرها ولم أعشق سواها - تلك المرأة وذلك الوجه وتأنك الشفتان اللتان امتزجتا بشفتي مليون مرة وذلك البدن وتلك الروح(57/10)
- روح حياتي - ومن ثم كان بلائي ومصيبتي وشقائي.
أجل. تلك محنتي ونكبتي - أن نبصق السخرية القاسية في وجه الحب المنكوب والحزن البائس.
وكنت كلما انغمست في لجة أفكاري شعرت بازدياد غضبي على أني لا ادري هل يصح لي أن أسميه غضباً إذا كنت في الحقيقة لم أعرف ماذا أسمى ذلك القلق الذي كان معتريني إذ ذاك. على أني موقن اني كنت أجد دافعاً جنونياً إلى الثأر والانتقام. ولكن كيف السبيل إلى الانتقام من أمرأة. وعلم الله أني ما كنت أضن بأغلى ثمن أبذله في استحضار السلاح الكفيل لي بإيلامها وإيجاعها. ولكن أي السلاح كفيل بذلك.
لقد كنت أعزل من كل سلاح حتى من مثل ذلك الذي حاربتني وطعنتني وبحده ادمت جراحي. وأعلت صباحي. وإني لمنغمس في عباب هذه الهواجس إذ لمحت خيالاً وراء ستارة باب الخزانة الزجاجي وكان ذلك شبح الفتاة قائمة تنتظر بحيث أودعتها وكنت قد نسيتها. فعند ذلك صحت مسروراً طرباً أنصت إلى ديزينيه لقد عشقت كما يعشق الأحمق والمجنون وجنيت على نفسي بحق كل هزء وسخرية ولكني سأريك اللحظة شيئاً يدلك على أني لست ذلك الأحمق الغبي الذي تخاله اني دفعت الباب الزجاجي بقدمي فاندفع وظهرت الفتاة جائمة بزاوية.
قلت لديزينيه هلم يا ديزينيه سل الفتاة هل حقاً بت ساهراً تحت نافذة أية امرأة؟ تقول إنك ذاهب الليلة إلى وليمة لتناول العشاء وغدا خارج الأرياف للنزهة. فاعلم اني مصاحبك الليلة وغدا. فالبثوا معي حتى المساء ولا تفارقوني وسآتيكم بكل ما تبتغون من آلات الشراب والميسر وغير ذلك ثم لا تذهبون.
لقد كنت أردت أن أجعل قلبي ضريحاً أدفن فيه رفات حبي ولكنني سأقبر حبي الميت ف ضريح آخر ولو آل بي إلى أن أحفر ذلك الضريح الآخر في قلبي. . . يا الله. . . . . يا الله.
وهنا قعدت ودخل ضيوفي الخزانة وأحسست إذ ذاك كيف ينجم شعور الفرح أحياناً من إحساس الغضب المخفف. والحنق المكفف. وإني لقائل لكل من يعجب لما حدث منذ تلك الساعة من الانقلاب الهائل العظيم في سيرتي وتاريخ حياتي. أنلك لست بصيراً بخفايا(57/11)
سريرة الإنسان وخبايا ضميره وانك لا تعرف أن المرء ربما لبث عشرين يتردد في أمره لا يجرأ أن يخطو خطوة حتى إذا ما أخطاها مضى قدماً في وجهتها مندفعاً بقوة السيل الجارف ثم لم يطق بعد ذلك رجوعاً. . . .(57/12)
مختارات
من حديقة اببقور
للكاتب الروائي الفرنسي الخالد أناتول فرانس
القراءة والتمثيل
لا أظن من الحتم اللازم الذي ليس عنه معدل أن انتظام سمط اثني عشر مائة شخص لسماع رواية يكوّن جماعة ملهمة بالحكمة التي لا يتسور عليها الخطأ ولا يمس أنحاءها النقص - بيد أن الجمهور - كما يبدو لي - يحمل معه إلى المرسح بساطة القلب واخلاص العقل وهذان يمنحان قيمة خاصة للمشاعر التي نعالجها هناك وكثيرون ممن لا يستطيعون أن يكوّنوا لأنفسهم فكرة أو يصدروا لها حكماً عما قرأوه؟ في وسعهم أن يذكروا ملخصاً حسناً دقيقاً لما عرض على نواظرهم في المسرح، وإنك قد تمر الكتاب مراً عند قراءته وقد تقرأه إذا شئت بإمعان وروية وترجع فيه الفكر وتقلب النظر وإن الكتاب يترك كل شيء للخيال ولذا فإن العقول المجدبة والأذهان العادية لا تجد إلا لذة ضعيفة فاترة قليلة الآثر في الكتب، والمرسح على خلاف ذلك فهو يضع كل شيء إزاء العين فهو غني بنفسه عن كل مساعدة وتعضيد من الخيال ولهذا السلبب لا يكلف بد ذووا العقول المفكرة والخواطر الخطارة المتأملة لأن هؤلاء يقدرون الفكرة ويزنون الموقف بما يمده في نفوسهم من آفاق التفكير وما يفسحه من أطراف التأمل وبقدر ما يثيره من أصداء الانغام التي تطن في عقولهم وتتجاوب في أذهانهم، وأما في المسرح فإن قوة خيالهم تظل معطلة مقيدة وهم يجدون فيه سرورا منفعلاً يؤثرون عليه سرور القراءة الفعال - وما هو الكتاب؟ أليس هو سلاسل متصلة من علامات صغيرة مطبوعة؟ أليس هو كذلك في الأصل والجوهر؟ وإنه على القارئ أن يجلب لنفسه الصور ويلتقيها ويتخير الألوان والاحساسات والعواطف التي تناسب هذه العلامات وسيتوقف عليه إن كان الكتاب فاتراً كليلاً أو بارعاً حاراً متوقداً بحرارة النوازع والوجدانات أو هامداً بارد كالثلج أو إذا فضلت أن أذكر ذلك في صورة أخرى - كل كلمة من كلمات الكتاب بنان مسحور يحرك في ألياف ذهننا ويهزها ويرعشها كما تهتز وتر المزهر وهو يثير النغم في تجويفه أرواحنا، وليست مادة الأمر وأكبر ما فيه متوقفة على مهارة الفني ومكانة من الاستاذية ومقدرته على استنزال الوحي فإن الصوت(57/13)
الذي يوقظه يترتب على طبيعة الاوتار داخل نفوسنا وليس هذا شأن المسرح فإن هناك بدلاً من العلامات الصغيرة السوداء في الكتب ترى صوراً وأشباحاً حية وعوضاً عن الحروف الدقيقة المطبوعة التي تترك مجالاً واسعاً للحدس والتخمين ترى رجالاً ونساء لا تميد فوقهم ظلال الغموض ولا تحجبهم أستار اللبس والإبهام وترى كل شيء مقيداً في مكانه ثابتاً في موضعه. ولذا فإن ما يحدث في نفوس الحاضرين من التأثيرات يختلف ويتباين في دائرة محدودة ومجال ضيق تابع للاختلافات التي أركزها القدر في الطبيعة البشرية من ناحية مواجهة الأشياء والنظر إليه ولذا نشاهد دائماً دور التمثيل - إذا لم تتداخل فيه الخلافات السياسية أو الأدبية - كيف يؤسس بين الحاضرين تبادلاً في الشعور واشتراكاً في الاحساس صادقاً نقياً وإذا فكرنا أبعد من ذلك وتذكرنا أن فن التمثيل هو ألصق الفنون الأخرى بالحياة ينبغي لنا أن نفطن إلى أنه أقرب إلى الفهم والتقدير وينتج من ذلك أنه هو الوحيد من بين سائر الفنون الأكثر التئاماً بأرواح الجمهور، وثقتهم بآرائهم فيه أوفر من ثقتهم في غيره.
إلى جيريال سياليز
لا أستطيع أن أقول أن دنيانا هذه هي أردأ دنيا ممكنة، وأني لأعتقد اعتقاداً ل كفاء له بأن من أشد المداهنة والافراط في الملق المعيب أن نمنحها الأسبقية والتفوق على غيرها ولو كان هذا التفوق في الشر والخبث، وإن ما يمكننا، أن نتصوره عل الدنى الأخرى لقليل جداً والفلك الطبيعي لا يقدم إلينا معلومات دقيقة صحيحة وافية خاصة بأحوال الحياة حتى على سطح تلك السيارات الأقرب إلينا والأدنى منا، وكلنا نعلم أن الزهرة والمريخ فيهما مشابه كثيرة من الأرض وهذه المشابه نفسها ضمانة كافية وحجة بالغة لاعتقادنا أن الشر هنا كما هو في السموات العلى، وإن دنيانا هذه هي إحدى مقاطعات دولته العظيمة المترامية الأطراف المبسوطة الظل، وليس هناك من سبب يدعو إلى افتراض أن الحياة أجمل على سطح تلك العالم الضخام الكبيرة نظائر المشتري وزحل وأورانوس ونبتون التي تمرق في سكون في أقطار السماوات وتنزلق بهدوء في منحرقات الفضاء حيث الشمس قد أخذت تفقد قسماً من حرارتها وضوئها ومن يستطيع أن يخبرنا أي نوع من المخلوقات تسكن هذه العوالم المتلفعة في أبخرة كثيفة سريعة التحول. وإذا قضينا من ناحية المشابهة لا يمكننا إلا(57/14)
أن نظن أن كل نظامنا الشمس شبيه بمذبح متسع بعد النواحي قاصي الأطراف تولد فيه الحياة الحيوانية لتشقى حتى يطيح بها الموت وليس هناك من عزاء ولا تأس في توهم أن النجوم الثوابت قد ترسل أضواءها إلى سيارات أسعد حالاً وأحسن شأناً من أرضنا فإن النجوم الثوابت قريبة الشبه لشمسنا من هذه الناحية وقد حلل العلم تلك الأشعة الضئيلة التي يكلفها نقلها إلينا السنين والأجيال وتحليل هذا الضوء يثبت أن المواد التي تحترق على سطوحها هي نفسها المواد المنتشرة المتماوجة حول الشمس التي لا تزال منذ خلق الإنسان وظهوره تبعث الحرارة في حياته الشقية المؤلمة السخيفة وأن تلك المشابهة كافية وحدها لتملأ جوانجي بالكره الممض الأليم للعالم.
وأن التجانس في التركيب الكيماوي يقوي في نفسي فكرة أنه ليس هناك اختلاف في احوال الروح والجسد بالعوالم الأخرى الممتدة إلى مسافات لا يتصور أبعادها ولا نتوهم حدودها وأكبر ظني أن كل المخلوقات المفكرة في عالم سيريوس أو في غيره تحيا حياة وبؤس وشقاء كخلائق هذه الأرض ولكنكم قد تقولون أن كل ذلك لا يكون الكون! نعم إن عندي شبهة قوية في أنكم في جانب الصواب وأني أشعر أن هذه العوالم الضخام العظام الرائعات ليست شيئاً والحقيقة التي أخفيها اني واثق من انه إذا كان هناك شيء فإن ذلك الشيء محتجب عن أبصارنا خاف على عيوننا واني لأشعر بأننا نعيش محفوفين بمجرد خيالات وتصورات وإن نظرتنا للكون هي نتيجة الكابوس الذي يتخلل ذلك النوم الهادئ العميق نوم حياتنا وأن ذلك لأشد الضربات وأفتكها لأنه من الواضح أننا لا ندري شيئاً وان كل الأشياء تعمل على خداعنا وان الطبيعة لتتهافت بجهلنا وعجزنا تهافتاً قاسياً مراً.
لذة المجهول
أشد اللذاذات تأثيراً في أرواحنا واهتياجاً لأشواقنا لذة المبهم الخفي وأن الجمال الغير المغطى بالسجوف والأستار ليس جمالاً وان أشد ما نهواه هو المجهول وأن الوجود ليصبح غير محتمل إذا منعنا لذة الأوهام وروقة الأحلام وان خير جزاء وأحسن هدية تقدمها لنا الحياة هي اشعارها إيانا بشيء لا يدركه التعبير ليس جزاءاً منها وأن الحقيقي يساعدنا بقدر ما في رسم وتصوير ناحية من نواحي الخيالي وقد يطون هذا أكبر مزاياه وأسمى فوائده.
الطفلة الصغيرة(57/15)
هناك طفلة صغيرة عمرها تسع سنوات ا، اواثق من أنها أرجح عقلاً من كل الحكماء وقد قالت لي في التو واللحظة ان الإنسان يرى في الكتب ما لا يراه في الحقيقة لأنها جد بعيدة عن عنها أو لانها قد انفرط زمانها ومضى عهدها ولكن ما نراه في الكتب نراه رديئاً ممسوخاً أو محزناً مكمدا واني أظن أنه ينبغي للأطفال الابتعاد عن قراءة الكتب وانه يوجد في الدنيا آلاف الأشياء الصالحة للنظر والمشاهدة ولا نراها في الكتب مثل البحيرات والجبال والأنهار والمدن والحقول والبحر والسفن والسماء والنجوم.
اني أشايعها على فكرها وأن لنا ساعة نعيشها فلماذا نتعب رؤوسنا ونذيبها من أجل أشياء كثيرة؟ ولماذا نحاول أن نعرف كل شيء ما دمنا نعلم أننا سوف لا نعلم شيئاً أننا نعيش في الكتب أككثر مما نعيش في الطبيعة وأننا لنشبه ذلك الأبله الذي استمر مسترسلاً في قراءة إحدى مؤلفات الإغريق وإزاء عينيه كان بركان فيزوف الثائر يواري خمسة مدن تحت رماده.
الاستسلام
ليس عندنا من شيء نعمله في هذه الدنيا سوى الاستسلام للظروف وان الطبائع الأنبل تعرف كيف تخلع على الاستسلام ذلك الاسم الجميل - الاقتناع - وأن الأرواح السامية تستسلم وتلقى مقادتها إلى الأيام رفرح مقدس وهي لا تزال تجاهد بين الشك المؤلم المكمد وبين الحزن الشامل الغالب وتحت السماء الخاوية المقفرة لتحفظ الفضائل القديمة السالفة نقية الصفحة مطهرة الأديم وهي تؤمن بأنها مرغمة على الإيمان وحب الإنسانية يملأ نفوسها حرارة وحمساً بل هي تفعل أكثر من ذلك. إنها تنقب باهتمام نقي طاهر عن تلك الفضيلة التي تضعها المسيحية في لذروة العليا والمستقر الاسمي لانها تستصحب الفضائل وتحل محلها فضيلة الأمل، فلنشعر نفوسنا حلاوة الأمل لا في انسانية فإن بكل مجهوداتها العظيمة ومساعيها الجسيمة لم تستط إخماد جذور الشر المشبوبة ونيرانه المتأججة، ولكن لنعقد الآمال وننيط الرجاء بالمخلوقات التي لا يمكن لعقولنا أن نتصورها والتي يوماً ما ستترقي من الإنسان كما ترقى الإنسان من الحيوانات الوضيعة ودعنا نحيّي باحترام وإجلال هذه المخلوقات الأسمى من الإنسان أهل الأزمنة المقبلة ولنجعل أملنا مرتكزاً على اللم العام وعلى العمل فإن قانونهما التحول والتبدل وان لنشعر بوقع ذلك الألم الواهب(57/16)
للحياة في نفوسنا وأنه هو الحادي بالإنسانية في مسيرها إلى الكمال الإلهي الذي لا محيد عنه.
الحزن الفلسفي
لقد طالما عبر عن الحزن الفلسفي في كلمات محزنة المعنى، وكما أن المؤمنين السالكين الذين ترقوا إلى الدرجات العالية في الكمال الأخلاقي يذوقون مطارب الاستسلام ومباهج الزهد فكذلك العالم العارف يغريه كون كل ما حوله مظهراً فارغاً وادعاء باطلاً على أن يستقى من حياض ذلك الحزن الفلسفي وأن ينسى نفسه من ملذات اليأس الساكن الوديع، وهذا الحزن الصامت الجليل من مرة لا يرغب إبداله بكل عبث الحياة ولهوها وزينتها وبهائها ولا يود بيعه بكل الآمال الفارغة التي تستهوي جماعة الجهال وترضي فريق العامة، وإن المعترضين الذين يتناسون الجمال الفني لهذه الأفكار ويرون فيها سما للمجتمع وفناء للأمم قد يخفقون من حدة كرههم إذا علموا أن عقيدة الوهم العام وأن كل الأشياء في فيض وتتابع فلا قرار لها قد انتشرت واستفاض أمرها في العصر الذهبي للفلسفة اليونانية مع زيفون وانها كانت يسكن إليها ويطمئن لها في أكثر عصور الحضارة تهذيباً وتمدينا أصفى العقول وأهداها وأشدها إحساساً وتنبهاً أمثال ديموقريتس وابيقور وجاسندي.
طيران الزمن
الزمن وهو يطير يجرح أو يقتل أحمى وأحد عواطفنا وأرق وأحلى مشاعرنا وهو يسكت الإعجاب ويخرسه ويجرده من عنصريه الرئيسين وهما الدهشة والعجب وهو يهدم صروح الحب ويذهب بسخافاته اللذائذ وهو يهز قواعد اليقين ويميل برواسي الأمل ويعري كل نمو بريء من وروده واوراقه ويا ليته يترك لنا الشفقة فلا نرمي من الشيخوخة في سجن ضيق مسود الأرجاء شبيه بالقبر وان من طريق الرحمة أن أبقينا على رجولتنا ودعنا لا نتحول إلى أحجار مثل الذين حابوا الآلهة في لأساطير القديمة ولنشعر قلوبنا الرأفة بالضعيف ونأخذ من أحزانه بنصيب لا يقاسي الاضطهاد وبالمنعَّم المسعود لأنه مكتوب واهاً لمن يضحك ولنأخذ الجانب الصالح وهو أن نشارك المتألمين في آلامهم ولنقل من أطراف الشفاه وأطراف القلب لصرعى الدهر وضحاياه قول المسيحي الصالح لمريم دعيني أقاسمك الهموم دعيني(57/17)
علي أدهم
كم من مؤخر غاية قد أمكنت ... لغد وليس غد له بموات
حتى إذا فاتت وفات طلابها ... ذهبت عليها نفسه حسرات
تأتي المكاره حين تأتي جملة ... وأرى السرور يجبى في الفلتات
خير أيام الفتى يوم نفع ... واصطناع الخير أبقى ما صنع
ما ينال الخير وبالشر ولا ... يحصد الزراع إلا ما زرع
خذ من الدنيا الذي درت به ... واسل عما بان منها وانقطع
وأرض للناس بما ترضى به ... واتبع الحق فنعم المتبع
وابغ ما استطعت عن الناس الغنى ... فمن احتاج إلى الناس جزع
قد بلونا الناس في أخلاقهم ... فرأيناهم لذي المال تبع
أبو العتاهية(57/18)
دول العرب
لأمير الشعراء أحمد شوقي بك
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
تابع لما نشر في العددين السادس والسابع
يا جلاً تأبى الجبالُ ما حمل ... ماذا رَمت عليك ربة الجمل
أثار عثمان الذي شجاها ... أم غُصة لم يُنتزع شَجَاها
قضيةٌ من دمه تبنيها ... هبت لها واستنفرت بنيها
ذلك فتق لم يكن بالبال ... كيد النساء مُوهن الجبال
وإن أم المؤمنين لأمرأة ... وإن تك الطاهرة المبرأة
أخرجها من كِنها وسنها ... ما لم يُزل طول المدى من ضِغْنها
وشر من عاداك من تقيه ... ومَلقى السلاح تنتقيه
جهزها طلحة والزبير ... ثلاثة فيهم هدى وخير
صاحبة الهدى وصاحباه ... فكيف يَمضون لما يا أباه
ياليت شعري هل تعدوَّوا وبغَوا ... أم دمَذي النورينبالحق بغوا
جاءت إلى العراق بالبنينا ... قاضين حق الأم محسنينا
فانصدعت طائفتين البصرة ... فريق خِذلان وفريق نَصرة
أو ذادت البيعة والذمام ... وقادة الفتنة والزمامِ
وانتهك الحي دماء الحيّ ... من أجل ميْت غابر وحيّ
وجاء في الأُسد أبو تواب ... على متون الضُمَّر العِراب
يرجو لِصَدع المؤمنين رأياً ... وأمهم تدفعه وتأبى
وعَجز الرأي وأعيا الحِلمُ ... وخُطبت بالمرهَفات السِلم
من كل يوم سافك الدماء ... تعوذ منه الأرض بالسماء
تجر ذات الطُهر فيه عسكراً ... وتَذْمُرالخيل وتغرى العسكرا
ظل الخطام من يد إلى يد ... كالتاج للأصيد بعد الأصيد
مستَلما توهى الغيوث دونه ... وبالدماء أنهراًً يَفدونه(57/19)
حتى أراد الله إمساك الدم ... في كرم لسيفه المقدم
وظفرت ألوية الإمام ... وألقت البصرة بالزمام
فردت الأم إلى مقرها ... مبالَغاً في نقلها وبِرها
وظللت مَن حل أرض الملحمة ... من الفريقين سماء المرحمه
هلكي بكى البيت عليهم والحرم ... والموت دون العهد غاية الكرم
* * *
يا يوم صِفِّين بمن قضاكا ... هل أنصف الجمعان إذ خاضاكا
فيك انتهى بالفتنة التراقي ... واصطدم الشآم بالعراق
ونفِدت بقية من صخب ... تلقت الطعن بصدر رحب
بنو الظُبىَ أُبوَةُ الاسنة ... آل الكتاب أولياء السنة
لقد وفَى بدر لهم أهله ... وخنَهم مشيخةً اجله
لو في بناء المجد ذلك الدم ... بل عمدوا لما بَنَوا فهدموا
فيما مجالا قصر الاعنة ... ومد في اشتجارها الاسنة
ترجرجت بالفئتين أرضُه ... وضاق عنهم طوله وعَرضه
ووقع الانجاد بالانجاد ... وخر (عمار) من النجاد
ما كان ضر نصراَء البيعة ... لو صبروا على الوغى سويعه
بينا بنودهم هي العوالي ... والنصر حول البِيض والعوالي
غادرهم بسحره معاوية ... كأنهم اعجاز نَخل خاوية
ألقى القنا شرع المصاحفا ... ينشد بالله الخميس الزاحفا
فلا تسل عن فشل العزائم ... ولم يزل طليعة الهزائم
انقطع النَظم والانقياد ... وَحَمكت في الشُكُم الجياد
وافتيت في الرأي على الأعيان ... وهدد الإمام بالعصيان
ما كان في قبوله التحكيما ... على علو رأيه حكيما
لا يُرفع المصحف كالدفوف ... والسلم لا تذكر في الصفوف
وراية في الأشعريَ أعجب ... لله فيه فدَر محجب(57/20)
أين أبو موسى وأينْ عَمْرو ... لا يستوي مجرِّب وغَمرُ
أمن دها قيصر والمقوقسا ... كمن على مصحفه تقوسا
قام فرد الرجلين ونزل ... وقام عمرو فأقر وعزل
أبى عليا وارتضى معاوية ... ونقض المِنبرُ عَقد الزاويه
* * *
يا زيد كلِّ مُسرَج وملجم ... كيف علا غُرتك ابن ملجم
أصاب قِرنا لا ترام شمسه ... أعيا على الاقران دهر ألمسه
بالمرهف المسموم فيما قد ذكر ... وكل شيء قتل الماضي الذكر
يا شؤمَ سيف قطع الصلاة ... واغتر ليث الغابة المِصلانا
ولم يك ابن ملجم صُعلوكاً ... بل غالياً يقتحم الملوكا
وضارياً في دمه العدوان ... لم يخل من امثاله أوان
جبلة بين السباع والبشر ... يطوي الدم اضرابها إذا انتشر
وقال قوم ذلك مسلم نقم ... حكومة القرآن فهو منتقم
قولٌ غدا عند النهى مرفوضاً ... لو صَحْ راحَ العالَمون فُوضَى
الرأي للأمة في الولاة ... وليس للغِضابِ والغُلاة
وقتلكَ الإنسانَ غيلةً شَنِعْ ... ألجبن أن تَقْتُلَ منْ لا يمتنِعْ
النَفس لله وَللنظامِ ... والدّمُ إِحدَى الحُرَمِ العِظامِ
فكيف بالبغي على عليّ ... الراشد المقرّب الوليّ
* * *
مالك والناسَ أبا ترابٍ ... ليس الذئابُ لك بالاترابِ
هم طردوا الكليم كل مَطْردٍ ... وأتعبوا عصاه بالتمرد
وزُين العجل لهم لما ذهب ... وافتتنوا بالسامريّ والذهب
وبأبن مريمٍ وشَموا ونموُّا ... واحتشدوا لصلبه وهموا
وأخرجوا محمداً من ارضه ... وسرحت السنهم في عِرضه
وغيبوا المسوىَ الفاروقما ... وخَيرَ شمسيَهم لهم شروقا(57/21)
وذبحوا الشيخ على الفرقان ... حتى بكى الذكر بدمع قان
وهبّ منهم لحقك اختلس ... وفجعوا لك الصلاة في الغلس
وأشرقوا الحسين بالدماء ... مَلوّحاً بين عيون الماء
قاسم سمو الزاهد الحواري ... في درجات القرب والجوار
إن زال ملك الأرض عنك مِن ملَك ... يا طول ملك في السماء تم لك(57/22)
موضوعات صغيرة
كيف يحكم لينين روسيا
سأل كثيرون كيف يدير البولشفيك حكومة روسيا!! وقد أجاب المستر هادن جست أحد كتمة أسرار وفد العمال الانجليزي الذي ذهب إلى روسيا لتعهد أحوالها فقال:
ال - 200000000 روسي تحكمهم أقلية عددها 600000 وهذه الأقلية تملي ارادتها على ال - 200000000 بواسطة حكومة نادرة المثال في تاريخ الثورة.
تنتخب القرى المذكورة سوفيتات وبعبارة أخرة مجالس. ولهذه المجالس في دورها تنتخب مندوبيها المتعددين في مؤتمر السوفيت السنوي الذي يعين اللجنة التنفيذية التي يختار من وسط أعضائها سوفيت وكلاء الشعب المفوضين وبعبارة أخرى الوزراء.
والحقيقة أن الذي يدير حركة الحكومة الروسية هو الحزب البولشفي الذي يضحى أعضاؤه في سبيله كل مرتخص وغال وهو أشبه بأخاء حربية تديره اللجنة المركزية لحزب الكومون المعتبر القوة الأصلية للبولشفية وهو الذي يدير الحركة بأسرها.
وتتألف اللجنة المركزية من ثلاثين عضواً بينهم خمسة من الصحافيين واثنان من الثوريين ومحاميان وأربعة من العمال. وهذه الهيئة هي التي تقرر أعضاء سوفتيات (مجالس) القرى والمصانع وكذلك أعضاء المؤتمر السنوي وأعضاء اللجنة التنفيذية ووكلاء الشعب المفوضين (الوزراء) وجملة القول أن جميع هذه الهيئات هي مخلوقات اللجنة المركزية.
وتؤلف الوزارة من ستة وزراء كل وزير منهم في الحقيقة قيصر وذلك لنفوذه الكبير وهم لينيين. وترونسكي. وسفرلدوف. وريكوف. وستالين. وتزبروبا.
والوزارة الكاملة مؤلفة من خمسة عشر وزيراً ثلاثة محامين. وثلاثة أطباء. وصحافيين ومهندسين وثوريين وأستاذ. وارستوقراطي واحد. ورجل واحد من العمال. والوزراء الثوريون صميمون أصقلت عقولهم الفظائع التي كانت ترتكب في عهد النظام القيصري السالف.
والبولشفيك لا يؤمنون أحياناً بالخطابة الحرة كذلك؟؟؟؟؟ في هذا أن الحكومة تصنع ما تراه في مصلحة الشعب فلا داعي إذن للمعارضة.
وقد طاف المستر جست الانجليزي في الفلجا مع الوزير سفردلوف الذي يملك باخرة(57/23)
خاصة تقل سيارة ويختاً شراعياً صغيراً. ولسفردلوف بجانب ذلك قطار خاص.
وقد صرح الوزير سفردلوف اما المستر جست بأنه يعتقد اعتقاداً راسخاً في النظام القاسي بمعنى انه يبرر قتل الرجل السكران المعربد.
وزار جست لينيين فوجده محوطاً بالجنود وقد تحادث معه فرآه شديداً في مسألة الخطابة الحرة. ومما قاله لينين لماذا تسمح الحكومة للشعب بانتقادها مع أنها ترى نفسها مستريحة الضمير من جهة المحافظة على مصالحه؟؟ إذا كانت الحكومة ستقتل كل من يشهر السلاح في وجهها فلماذا لا تقتل كل ذي رأي معارض لأن الآراء في نظري أمضى من الأسلحة؟؟ ولماذا تترك الشعب يذيع الآراء التي تدخل في سياسة الحكومة؟؟.(57/24)
جميس رول
أو دك وتنجتون القرن العشرين
يؤمن كثيرون بالحظوظ ويغالي بعضهم فيقول أن مستقبل الإنسان مرتبط بحظه لا بجده واجتهاده. ونحن لا نوافق على هذا الرأي ونعتقد أن اجتهاد الإنسان وحسن تصرفه وحزمه هي الصفات التي تضمن له الوصول إلى المرتبة التي تطمح بها نفسه إليها. وحسنا إذا أردنا أن نضرب مثلاً لذلك أن نشير إلى تواريخ الأبطال الذين رقوا المراتب العالية بعد أن كانوا في الحضيض. ومنهم المستر جميس رول محافظ لندن الحالي الذي نسوق إلى القراء شيئاً من نرجمة حياته نقلاً عنه.
يقول كثيرون إن الإنسان يصل إلى الدرجة التي تطمح نفسه إليها بحظه أكثر من اجتهاده ومثابرته. وأنا مع اعتقادي بالحظوظ لا أوافق هؤلاء فيما ذهبوا إليه بل أقول أن الجهد الذي يبذله الإنسان في سبيل الوصول إلى غايته هو أضمن طريق للنجاح وأحسن وسيلة للاحتفاظ بما ربحه. وأنا معتقد أنني ما كنت أتوصل إلى الدرجة التي أغبط نفسي عليها ألان وهي درجة محافظ لندن لولا اجتهادي ومثابرتي.
رباني والدي وأنا صغير في إحدى مدارس القرى الصغيرة في مدرسة ايست برست نيوفوريك. وكان في ذلك العهد مزارعاً بسيطاً فلم أحصل من التعليم إلا على النذر اليسير. ثم خرجت من هذه المدرسة ودخلت مدرسة أخرى صغيرة فلم أستفد فائدة تذكر. ولم يبتدئ تعليمي الحقيقي إلا بعد أن غادرت المدرسة.
ذهبت إلى لوندره في سن الرابعة عشرة ولم يخطر على بالي ذلك العهد أن أمتع نفسي برؤية مناظر شوارع لوندره كما كان يفعل سلفى دك وتنجتون بل كان فكري منصرفاً إلى الاستمرار في العمل بقدر ما وهبني الله من قوة وجلد وصبر على الشدائد. وقد فتح الله أمامي السبل فتوظفت في إحدى شركات التأمين براتب اسبوعي قدره ستة شلنات ومع أنني كنت أشعر بضجر وملل من هذه الوظيفة فقد عاهدت الله أن أذلل جميع العقبات التي كانت تعترضني في طريقي حتى أصل إلى القصد التي تطمح نفسي إليه وهو وظيفة وكيل لإحدى شركات التأمين.
كنت أذهب إلى محل عملي في الساعة الخامسة والنصف صباحاً وأعود إلى بيتي في(57/25)
الساعة الحادية عشرة أي قبل منتصف الليل بساعة. وقد واظبت على هذا أسابيع وسنين. . بيد أن آمالي لم تقف عند هذا الحد فقد كان يجول في خاطري أن أصبح رئيساً في يوم من الأيام ولكنني كنت أعلم أن الإنسان لا يصل إلى مثل هذا المركز إلا إذا كان حائزاً لدرجة كبرى من الكفاءة فسعيت ولم ألبث بعد ذلك قليلاً حتى وصلت إلى أمنيتي المنشودة.
وإذا جيء إلي الآن بشاب يطلب إلى أن أدله على الخطة التي سيسير عليها في أمر مستقبله. سألته أن يجعل نصب عينه الغرض الذي يرمي إليه. فإذا قال لي أنه يتوق أن يكون مهندساً مثلاً قلت له أن هذا لا يكفي إذ هناك مهندسون مجيدون ومهندسون لا يفهمون شيئاً.
والواجب فعله أن يفكر جيداً في نوع المركز الذي تصبو نفسه إليه فإذا استقر رأيه سار في سبيل الحصول عليه.
وكم أسر الآن إذا تذكرت اليوم الذي دعيته فيه لأكون مديراً للشركة ولا شك في أنني ما وصلت إلى هذه الغاية إلا بعد أن صممت في بادئ الأمر على أن أكون أحسن وكيل للشركة ثم بعد ذلك أحسن رئيس لها. وقد كانت سياستي في كل ادوار حياتي أن أجعل نصب عيني الغرض الذي أرمي إليه فلا عجب إذا تحقق هذه السياسة.(57/26)
متفرقات
بعض طبائع الحيوان
يعد الثعلب أجرأ حيوان على تخليص حياته من الموت والخروج من المآزق الحرجة. ومع أنع لا يعد من الحيوانات المتسلقة فقد تراه أحياناً مختبئاً بين أغصان شجرة من ألشجار على أثر مطاردة الصيادين له وضيق سبل الفرار أمامه.
وإذا قبض الفخ على الثعلب حاول الخلاص فإذا لم يتمكن من ذلك عض قدمه وابتلعه رجاء التخلص من الفخ.
وللأرانب طبيعة خاصة في الهروب من الفخ فإذا أحس الأرنب وقوع قدمه في الفخ جذب نفسه بشدة بحيث يترك القدم فيه وينجو هو بنفسه.
أما الهرة فعلى خلاف ذلك فهي إذا وقعت في الفخ استسلمت لقضاء الله وظلت سجينة من غير أن تكلف نفسها عناء النجاة.
من عامل إلى مليونير
قال كثيرون أن أصل المستر جميس دليث ملك الألعاب والأشغال أنه كان فاعلاً. وهو معدود الآن من ضمن مليونيرات لوندن مع أن عمره لم يتجاوز الثانية والأربعين وهو أعضاء الفريق الذي اشترى معامل قطن المستر هوردكس كرودسن بمباخ 5 ملايين جنيه.
وقد تفاوض المستر جميس في بيع ضيعة بدفورد كوفنت جاردن بمبلغ ثمانية ملايين من الجنيهات! ويقال أنه كسب00ر100 جنيه في سيزارويتس!
الرجل في نظر النساء
ذكر المستر ماكردي مراقب الطعام في انكلترا أنه استلم خطاباً من ناظرة مدرسة للبنات يحتوي على موضوع إنشاء كتبته إحدى التلميذات عن الرجل وقد جاء في هذا الموضوع النبذة الآتية:
الرجل هو ما تتزوجه المرأة! وهو الذي يدخن ويتعاطى المسكرات ولا يذهب إلى الكنيسة على الإطلاق.
نبوغ النساء
فاقت المسز سسي كوبر جميع الرجال في مدرسة مستشفي كروس وكانت طالبة بها(57/27)
وحازت المدالية الذهبية وهذه أول مرة حازت فيها امرأة هذه المدالية. وقد تخصصت لمسز سسي في فن الجراحة والطب الباطني.
أقبح امرأة في العالم
المسز بيفان أقبح امرأة في العالم بشهادة الجميع وهي تعجب من بقبح خلقها وتقول أنها مرد رزق لأسرتها، وقد اختبرت من بين كثيرات أجبن دعوة الإعلانات الت نشرت في الصحف عن اقبح امرأة في العالم. وعادت إلى لوندره أخيراً بعد أن عرضت في أمريكا ولها حكمة مأثورة تقولها في بعض الأحيان وهي أنني لم أكن أتوقع أن تصبح خلقتي الدميمة في يوم من الأيام مصدر سعادة!!.
وكم أشعر بالغبة والسرور عندما أرى أني أصبحت مورد رزق لي ولأولادي الأربعة!.
أم منجبة
المسز هارمسورث من أعجب الأمهات الشهيرات في التاريخ البريطاني فقد تزوجت بشاب إيرلندي نشيط كان يحترف حرفة وكيل قضايا وقد قضي وهو في شرخ الشباب واثنان من أولادها وهما اللورد نور ثكليف واللورد روثرمور بلغا رتبة الأشراف قبل أن يبلغا سن الخمسين ولها ابن بارون آخر هو السير روبرت ليسترهارمسورث ورابع هو المستر هارمسورث المشهور في وزارة الخارجية الانجليزية فيالها من أم منجبة.
الاضراب عن الطعام
ليس في العالم الآن من يجهل المستر ماك سويني محافظ مينة كورك الذي استشهد أخيراً بعد أن امتنع عن الطعام مدة (74 يوما) والذي عده العالم نموذجاً من نماذج حب الوطن ومثلاً أعلا لصدق العزيمة وقوة الإرادة.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر نورد ههنا أن اول من اتخذ الإضراب عن الطعام مظراً للاحتجاج على السجن هو رجل ليقوس يدعى جون اسكوت عاش في القرن السادس عشر للميلاد.
وقصة هذا الرجل أنه حكم عليه مرة بغرامة كبرى ولما نس من نفسه العجز عن السداد لا بكنيسة (هولي رود هاوس) حيث لبث زاهداً في المأكل والمشرب زهر ألربعين يوماً. فطار صيته حتى اتصل بالملك فتاق إلى أن يقف على حقيقة أمره فاحتبسه في غرفة وشدد(57/28)
مراقبته ولم يدع لأحد سبيلاً للدخول عليه. وعد مضي اثنين وثلاثين يوماً اقتنع الملك وأطلق سراحه.
دورة الزمن
يالتصرفات الزمن وتقلباته! فإنه لا يني يضع رفيعاً ويرفع وضيعاً. ويقذف بمن يشاء إلا أعلى درجات العلا ويهوي بمن يشاء إلى أسفل دركات الهوان ولقد كانت الحرب العالمية الكبرى من أكبر الفرص التي جرى الدهر فيها بيده العسراء فعبث بحظوظ الناس وسخر من آمالهم وأحلامهم. وهل أدل على ذلك مما سمعناه عن قيصر الروسيا (النصف آلة) يعزل فيبقى ثم يقتل ويتسم ذروة عرشه بعض عامة شعبه.
وهل أعجب مما نسمعه الآن من أن مئات من أمراء روسيا يمتهنون الآن في فرنسا حرفاً عدة؟ فمنهم سائق لعربة وخادم لحانة وها هو الكونت (بول اجناتيف) الذي قبل الحرب من أعوان القيصر وألصقهم به يبيع الآن اللبن في (جارشيه) وزوجه التي كانت أجمل امرأة في (بتروجراد) تقوم فتحلب البقر كل مطلع شمس. بينما يشتغل ابنه بالفلاحة في حي سان جرمان كما أن الكلونيل اسكورانوف أشهر فرسان روسيا وأعظمهم جرأة قد استعاض عن السيف المعول وهو الآن خبير زراعي هنالك. وأضحى الجنرال نيكولاجيفقائد الحملة الروسية في فرنسا يسوق سيارة نقل لاحدى شركات الجملة في باريس. . . .!!!
آلة لصنع السكائر
000، 750، 4 سيكارة في اليوم
اخترعت آلة لصنع السكائر هي الآن موضع إعجاب القوم في لندن. وهذه الآلة تستعمل الآن لصنع سكائر شركة القطة السوداء
يوضع التبغ في وعاء مخروطي الشكل ثم يمر ما بين اسطوانتين يسقط من بينهما إلى يدين متحركتين تحمل الدخان المفرى (المفروم) كمية من ورق السكائر لا نهاية لها. وبمجرد الانزلاق في هذا الورق في الآله يطبع عليه اسم الشركة من الوجهين ثم ينتهي إلى مكان مستدير يلف فيه فيأخذ شكله المعروف. ولا يلبث المشاهد بعد ذلك حتى يرى السكائر تخرج من الآلة بسرعة لم تر عين مثلها إذ أنها تخرج 4 مليون سيكارة في اليوم.
احساس الساعات(57/29)
يقولون إن ساعات الجيب إذا كانت دقيقة الصنع مركزة على أحجار كريمة لأنها تتأثر بحالات حامليها النفسية فإذا ما عانى أحدهم انفعالات قوية اضطربت الساعة وقتئذٍ، بل ربما وقفت تماما.
وللأحجار الكريمة أيضاً ميزة الاحساس فأحوالها تتغير تبعاً لأحوال أصحابها إلى حد أنه لو عكفت امرأة مثلاً على استعمال جواهرها أثناء اعتلالها ذهب عن الجواهر رواؤها وانطفأ لمعانها. . وقد لاحظ الكثيرون أن الأحجار عين القط وحجر النجوم مع الذكي المتوقد الذهن أكثر تألقاً واستطع نوراً منه مع الغبي البليد.
لا تدع طفلك ينام على ظهره، فذلك مضربه وأصح أن ينام على جنبه الأيمن على رأسه على وسادة واطئة قليلاً ويداه أمام صدره.
تميز العين بين 000، 30 لون وظل وصبغ 0000 كما أن الأذن - على حد قول العلماء - تميز بين 000، 11 نغمة مختلفة.
لا يمكن الوصول إلى قمم الجبال العالية جداً لأن الهواء في هذه الأجواء يكون خفيف الضغط، قليل الاوكسجين (العنصر الحيوي في الهواء) ولهذا السبب لم يستطيع المستكشفون أن يتجاوزوا الثمانية آلاف متر من ارتفاع (افرست) - أعلا قمة في (الهملايا) والتي يبلغ ارتفاعها نحو 000، 10 مترأً أما ارتفاع أمثال هذه القمم الشامخة فتعرف بطرق علمية.
اخترع التليسكوب المنظار ككثير من الاستكشافات العظيمة بطريق الصدفة ذلك أن أولاد أحد صناع الساعات كانوا يوماً يلعبون بالعدسات فرتبوها بكيفية خاصة فرأوا بوسطتها منارة بعيدة جداً كأنما هي على مقربة منهم. فأعلموا أباهم بذلك، فاهتم بالأمر ومازال يعمل حتى اخترع أول تلسكوب.(57/30)
أحداث الشهر
النشيد الوطني المصري
تألفت في هذا العام تحت رآسة حضرة صاحب المعالي الوزير العالم الشاب جعفر والي باشا لجنة رسمت نفسها بلجنة ترقية الأغاني القومية واقترحت على شعرائنا وضع نشيد وطني مصري نتناشده في مواطنه الملائمة على نحو الأناشيد التي للأمم الأخرى فقدم لها نحو من ستة وخمسين نشيداً وبعد فترة من الزمن اجتمعت اللجنة بدار الجامعة المصرية يوم الجمعة 19 نوفمبر سنة 1920 ومعها المحكمون في اختيار النشيد بعد أن وزعت على أعضائها هذه الأناشيد مطبوعة مغفلة من أسماء واضعيها ثم انتهت اللجنة في مناقشاتها إلى أن أكفاها كلها وأوفاها بالغرض وأجمعها للمزايا التي ينبغي أن تنسق لنشيد قومي مصري هو النشيد الذي نظمه حضرة صاحب السعادة أحمد شوقي بك فاختارته وقررت نشره وطرحه على أهل الفن لتلحينه وضبطه بالعلامات الموسيقية ليبقي لحركة هذه الأمة شعاراً، ويتخذ للحوادث الوطنية على وجه الزمان مساراً وقد اجتمع رأي اللجنة كذلك على أن ثاني الأناشيد هو النشيد الذي قدمه حضرة الشاعر الأديب محدم أفندي الهراوي الموظف بدار الكتب السلطانية، ويلي هذين النشيدين ثلاثة أناشيد تتبارى في ميدان الاجادة والاحسان وتسبق سائر ما عداها بشوط بعيد. هذا هو ما بلغتنا اللجنة إياه - وقبل أن تذيع اللجنة هذا البلاغ علمنا أن حضرة الأديب الكبير السيد مصطفى صادق الرافعي كان قد قدم فيمن قدم إلى اللجنة نشيداً له ثم استقل بنشيده ولم ينتظر رأي اللجنة وأذاعه بالطبع. ونحن هنا نثبت هذه النشيدين دون أن نتعرش لشيء من النقد والتجريح والموازنة أو لايذاء رأي خاص بنا إذ أن ذلك مما يوسع دائرة الخلف الذي أصبحنا نمقته المقت كله ولا نوده لامتنا المحبوبة في أي شأن من شؤنها ولكن الذي نستجيزه لأنفسنا هو كلمة على الأناشيد وكيف تشأت وترجمة بعض الأنشيد الأمم الأخرى مثل المرسببز وخلافه وموعدنا العدد القادم إن شاء الله.
* * *
النشيد الوطني المختار
عمل سعادة أمير الشعراء أحمد بك شوقي(57/31)
بني مصر مكانكمو تهيا ... فهيا مهدوا للملك هيا
خذوا شمس النهار له حليا ... ألم تك تاج أولكم مليا
* * *
على الأخلاق خطوا الملك وبنوا ... فليس واءها للعز ركن
أليس لكم بوادي النيل عدن ... وكوثرها الذي يجري شهبا
لنا وطن بأنفسنا نفيه ... وبالدنيا العرسضة نفتديه
إذا ما سيلت الأرواح فيه ... بذلناها كأن لم نمط شيا
* * *
لنا الهرم الذي صحب الزمانا ... ومن حدثانه أخذ الأمانا
ونحن بنو السنا العالي نمانا ... أوائا علموا الأمم الرقيا
* * *
تطاول عهدهم عزاً وفخراً ... فلما آل للتاريخ ذخرا
نشأنا نشأة في المجد أخرى ... جعلنا الحق مظهرنا العليا
* * *
جعلنا مصر ملة ذي الجلال ... ألفنا الصليب على الهلال
وأقبلنا كصف من عوال ... يشد السمهري السمهريا
* * *
نروم لمصر عزاً لا يرام ... يرف على جوانبه السلام
وينعم فيه جبران كرام ... فلن تجد التنزيل به شقيا
* * *
نقوم على البناية محسنينا ... ونعهد بالتمام إلى بنينا
نقوم فداك مصر كما حيينا ... ويبقى وجهك المفدى حيا
نشيد مصر القومي عمل محمد الهراوي
دعت مصر فلبينا كراماً ... لنا مصر فلا ندع الزمان
قياماً تحت رايتها قياما ... أمامكم العلى فامضوا أماما(57/32)
* * *
هناك المجد يدعوكم فهبوا ... وليس يروعكم في الجد خطب
لعمر المجد ما في المجد صعب ... تردى الذل من يخشى الحماما
* * *
فنحن أولو المآثر في العصور ... وبين يدي أبو الهول الممصوز
وفي الأهرام أو فوق الصخور ... ترى آثار أيدنا جساما
* * *
لنا مجد على الدنيا تعالي ... (بناه الله يوم بنى الجيالا)
وسمناه برايتنا هلالا ... وننشرها على الدنيا سلاما
* * *
لنا التاريخ فياض المعاني ... لنا الأسرار معجزة البيان
لنا علم الأوائل في الزمان ... لنا الأخلاق نرعاها ذماما
* * *
لنا ذكر مع الماضي مجيد ... لنا أمل يجد بنا بعيد
كذلك مثلما سدنا نسود ... ونرفع فوق هام النجم هاما
* * *
فيا وادي الكنانة لن تزولا ... وفيك النيل يجري سلسبيلا
يطوف بمائه عرضاً وطولا ... ويبسط فيضه عاماً فعاما
* * *
بساطك السندس، وثراك تبر ... وجوك مشرق، وشذاك عطر
ونهرك كوثر، وبنوك غر ... أبوا في الله والوطن انقساما
* * *
فيا ابن النيل هز لواء مصرا ... وهيء في النجوم له مقرا
وأطلع بالهلال عليه فجرا ... وعش في ظله العالي إماما(57/33)
العدد 58 - بتاريخ: 30 - 11 - 1920(/)
ما وراء الساحل المجهول
الدليل القاطع
هذا هو المقال الثاني للسركونان دويل الذي يعد اليوم في طليعة بلاد الغرب الذين يعنون بمسألة الحياة بعد الموت وهي المسألة التي أصبحت شغلاً شاغلاً للعلماء.
قد عثرنا في آخر مؤلف من مؤلفات الاستاذ هيستون - أستاذ المنطق في جامعة كاليفورنيا سابقاً وأمام الحجة الثقة في علم الفلسفة النفسية في القارة الأمريكية الذي عليه المعتمد وإليه المرجع في كل ما ينجم من المسائل السيكولوجية من معضلاتها وملغزاتها - أعني تصنيفه المعنون الحياة يعد الموت على جملة لا يكاد يحتملها السامع أو تسيغها ألذن وهي: كل من لا يسلم بوجود الأرواح المجردة من الأجسام ويصدق بالبرهان على ذلك فهو إما جاهل أو مصاب بآفة الجبن الأدبي. هذا قول حق ولكن ما يتضمنه من همز ولمز قد يفل من حده ويخفف من وخزه ما يقوم للمنبوذ به من العذر الواضح في جهله بهذه الأسرار إذ أن الدليل القاطع على صحة هذه المسائل الروحانية لا يزال بعد جديداً حديث العهد وهو مطوي في تضاعيف مصنفات لم تنقل إلى الانكليزية فضلاً عن غلاء أثمانها وصعوبة الحصول عليها. ولا أنكر أن بين أيدينا ذلك المؤلف الفذ البديع تصنيف العلامة كروفورد وكتاب مباحث كروكر ولكن كليهما كان في حاجة إلى احراز المصادقة والتأييد والشرح ولتفسير من مباحث علماء القارة الأوربية لكي تظهر أسرار معانيه في أجلى مظهر. وبين يدي الآن كل هذه التصانيف وسأحاول في هذه المقالة أن أثبت لكل من لا يكابر في الحقيقة الساطعة أن هذه الاكتشافات الحديثة قد أصبحت اليوم لا موضع فيها للجدال والمشاحنة ولكن قد فصل فيها وتبين صدقها إلى نقطة معينة محدودة يصح أن تجعل أساساً متيناً لأبحاث المستقبل ولا نزاع في أن جميع المستكشفات الحديثة سواء أكانت من مبتدعات الطيران أو التلغراف اللاسلكي أو غيرهما من المبتكرات_كلها جدير أن بتضاءل قدره وتضمحل قيمته إزاء ذلك الاختراع الذي قد أبرز إلى عالم الحس نوعاً جديداً من المادوة محلى بخواص لم يسمع به قط ولم تخطر على بال ثم هو (أي هذا النوع الجديد من المادة) لعله كامن مخبوء في كيان كل واحد منا. وإنه لمن أدهش الغرائب وأعجب المناقضات أن الباحثين وراء الروح قد استكشفوا في سبيل أبحاثهم الروحانية من أسرار المادة ومن غرائب خواصها(58/1)
ومدهشات قواها وتأثيراتها أثر مما وصل إليه الماديون أنفسهم.
وجدير بنا أن نذكر مبدئياً أن تقدم المظاهر الروحانية لم يكن إلا تدريجياً وأن تمقص الأرواح في المادة (ظهورها على أشكال مادية) إنما هو أمر حديث العهد. ثم أنه أخذ يزداد ويتفشى في العقد السابع والثامن من القرن التاسع عشر إذ تطرقت إليه أساليب التزوير والتدليس والتمويه بسبب ضعف العالم إذ ذاك في علم الانتقاد والتمحيص فكانت ظلمات الجهل المخيمة حينذاك مما ساعد كثيراً على انتشار ذلك واستفاضته. بيد أن بقطع النظر عما كان يشوب نلك المسائل الروحانية من مظاهر الغش والتزوير لقد كان يوجد بينها ما هو حق صرح وصدق بين. ولقد أثبت العلماء الراسخون في ذلك الباب والثقاة الجهابذة أثناء مشاهداتهم العديدة لتلك المظاهر الروحانية أنه يوجد بعض أشخاص ممن يسمونهم الوسائط المجسمة (أي المستطيعة إبراز الأرواح في ثرب من المادة) قد امتازوا بخاصة أو موهبة مادية غريبة وهي أنهم يستطيعون أن ينفثوا من أبدانهم مادة غروية لزجة مخالفة في كنهها لكل ما قد عرف حتى الآن من جميع أشكال المادة وصورها من كونها يمكن تصلبها (أي صيروتها مادة صلبة) واستعمالها في أغراض مادية وهي مع ذلك يمكن استيرادها إلى داخل الجسم من حيث أتت دون أن تترك أدنى أثر البتة ولا على الثياب التي اخترقتها عند انبعاثها من الجسم. ولقد تمكن بعض البحاثين فعلاً من لمس هذه المادة فخبروا أنها مادة مرنة مطاطة وفيما يظهر حساسة كما لو كانت إفراز عضوياً من جسم الواسطة. ولقد استقل رجال العلم هذه الآراء بالهزء والسخرية طبعاً. ثم انبروا إلى دحضها ونقضها بالبراهين التشريحية وبالحجج الطبيعية العامة غير أن الأبحاث الحديثة العهد قد أثبتت كما سأبين ههنا أن الروحانيين المنقدمين كانوا في هذه المسألة وفي غيرها رواد الحق المبين وأنهم قد عثروا على أغرب وأعجب ما بدا في الكون من مظاهر المادة.
وفي عام 1909قامت المدام اسكندربيسون_وهي سيدة فرنسية من المولعات بالعلوم الطبيعية - بدراسة هذه لظاهرة وجعلت واسطتها في ذلك امرأة تدعى حواء كانت قد أوتيت القدرة على تكوين هذه المادة التي سماها شارل ريشيه الفسيولوجي الفرنسي الشهير الابكتو بلازم وقد أيدها في هذه المباحث دكتور الماني لسمه شرنكتو تزنجإذ جمع مذكرات الجلسات فيما بعد فنشرها بالفرنسية في كتاب عليه اسم المدام بيسون بعنوان ظواهر(58/2)
المادية والجملة الآتية من مقدمة الكتاب تدل دلالة بينة على فحوى الكتاب ومرماه. وهي لقد استطعنا مرات عديدة إذ نقدر أنه قد يخرج من جسم الواسطة بسبب عملية بيولوجية مجهولة مادة تكون في أول أمرها نصف سيالة وتتضمن بعض خصائص المواد الحية التي أهمها القدرة على التغير والحركة واتخاذ أشكال محدودة ثم أضاف إلى ذلك قوله وقد كان للإنسان أن يكذب هذه الحقائق لو لم تقم على صحتها الأدلة الدامغة مئات المرات أثناء التجارب الدقيقة تحت شروط مختلفة متنوعة محكمة مضبوطة فهل بعد ذلك مصداق على صحة دعاوى أولئك الروحانيين المتقدمين الذين لبثوا جيلين عرضة لاستهزاء العالم صابرين متجلدين لسهام ضحكهم وسخريتهم؟ وقد ختم شرنكتوتزنج مقدمته الجليلة بتشجيع زميلته واستنهاض همتها حيث قال: لا تنكلي ولا تنكصي عما قد نهجته لنفسك من تلك السبيل الوعرة المعتاصة المؤدية إلى فتح جديد في معترك الجهاد العلمي المفضية إلى مملكة مستحدثة في عالم العلوم بأن تجعلي سبيلاً عليك إلى تثبيط الحمقى المعاندين ومطاعن الجبناء المشاغبين ومغالطات المقسطين المكابرين ولكن امعني في منهاجك الذي افترعته وأوغلي في سبيلك الذي شققته ولا تزالي ذاكرة؟؟؟ العلامة فارادي حيث قال: لا يصح أن يقال عن شئ مهما بلغ من غرابته: هذا أغرب من أن يكون حقاً.
أما طريقة إجراء هذه التجارب المدهشة فقد كانت كما يأتي: كانت تؤخذ كل الاحتياطات الممكنة ضد التزوير والتدليس. فكانت المدام بيسون تحفظ مفتاح غرفة الحفلة في جيبها وكانت حواء الواسطة تضطر إلى تبديل ثيابها بثياب أخرى حينما تكون، وجودة في هذه الغرفة ثم تعود إلى ثيابها الأصلية بعد خروجها منها.
وكان يجري عليها الفحص الطبي على أيدي جماعة من مهرة ألأطباء. وبعد ذلك كان الضوء الذي بالغرفة يأخذ بالازدياد تدريجياً حتى يستكمل بها ستة مصابيح قوية حمراء والأحمر هو - كشأنه في الفوتوغرافيا_اللون الوحيد الصالح لتلك التجارب. وأهم ما في هذه الاحتياطات أنه كان يوجه إلى حواء المذكورة من جميع اتجاهات الغرفة عدة آلات مصورة (فوتوغرافيات) - وقد بلغ هذا العدد ثمانية في المرة الأخيرة فتسلط عليها بحيث أنها لا تغفل أدنى حركة من حركات الوسيطة حواء إلا سجلتها وقيدتها. وقد بلغ عدد ما تجمع من هذه الصور وظهر في الكتاب الآنف الذكر 200 فوتوغرافاً. وقد استمرت هذه(58/3)
الحفلات المسلسلة أربعة اعوام وقد شهدها خلاف المدام بيسون والدكتور الألماني جملة من رجال العلم قد بينت أسماؤهم بالكتاب المذكور.
أما نتائج هذه التجارب فهي فيما أرى لأهم وأشهر مما يؤثر على نتائج أي أبحاث أخرى فلقد شهدت الشهود وبينت الفوتوغرافيا أنه كان يترشح من عيني الواسطة (حواء) وفمها وأذنيها وجلدها هذه المادة الغروية الخارقة للعادة. وأن الفوتوغرافياا لمبينة لهذه الظواهر لبشعة كريهو منكرة شنيعة ولكتن البشاعة والكراهية والشناعة هي من الصفات التي يتجلى فيها لأعيينا الكيثر من عوارض الطبيعة وحوادثها وإنك إذا تأملت الصورة الفوتوغرافية الخاصة بهذه الأبحاث لرأيت هذه المادة الغروية اللزجة تتدلى من الذقن كنتف الثلج المتساقطة فتتقاطر فوق الجسم مكونة عليه شبه المبذلة أو بارزة من نوافذ الوجه وثقوبه (أعني الخياشيم والفم والعينين والاذنين) على هيئة كتل منتشرة مشوشة عديمة النظام والشكل. وهذه المادة إذا لمست أو سقط عليها لون من النور غير ملائم (غير الأحمر الآنف الذكر) تكمشت وتقبضت مرتدة إلى داخل الجسم من حيث أتت. وإذا قبض عليها وقرصت أرسل ذلك صيحة ألم وتوجع من الواسطة وهذه المادة تبرز من الثياب ثم تعود فتختفي دون أن تترك عليها أدنى أثر. وقد اقتطعت فلذة من المادة بأذن من الواسطة فذابت هذه الفلذة في الصندوق الذي وضعت به كما يذوب الثلج تاركة شيئاً من البلل والرطوبة وبضع خلايا كبيرة كالتي تنبعث عن الطفيليات الفطرية.
ولا يغيبن عن الذهن أنه قد اتبع في هذه التجارب تلك الطريقة العادية ةهي وضع الوسيط في فرغ محصور محجوب بأستار وهذا ما يسمونه الخلوة فهنالك جلست الوسيطة على كرسي ولكن يديها كانت ابا بارزتين للعيان احتياطاً إضافياً من حدوث الغش والتمويه. والغرض من إيجاد هذه الخلوة هو أن تكون الاكتوبلازم يتوقف أولاً على نوع من تكاثف المادة شبيه بالبخار الثقيل.
وكأني بالقارئيقول في نفسه ولكن ماذا عسى تكون علاقة كل هذه الاشياء بالأرواح؟ وما لتلك المظاهر الغريبة ونظرية الروحانيين؟ فلتعلم إذن أن كل ذلك مما يفوت الوهم والتصور ولا يدخل في نطاق المعقول ان هذه المادة الاكتوبلازم قد تتجمد وتخثر عند بعض الوسطاء بعد تكونها فتأخذ أشكالاً محدودة وصوراً معينة وهذه الأشكال هي أرجل(58/4)
بشرية ووجوه بشرية ترى في أول الأمر منفصلة منعزلة ثم تلتم وتتحد فتسكتمل منها صور إنسانية. وأن كثيراً من الفوتوغرافات تمثل لنا هذه الأشباح الغريبة في أحجام أصغر من حجم الإنسان الحي كما يرى من الفوتوغرافات المأخوذة عن حواء الآنفة الذكر. وبعض هذه الوجوه المترائية تمثل صوراً ذهنية كانت تقوم في ذهن حواء وقت التجربة ثم تقمصت تلك المادة فتراءت بارزة عن ضمير نفسها للعيان في الهواء الجوي وقد وجد بعض الشبه بين تلك الأشباح المترائية وبين صور كانت حواء قد نظرتها من قبل وخزنتها في وعاء ذاكرتها. فمن ذلك شبح كان يشبه المسيو بوانكاريه عبوس الوجه متنمر مكفر. ومن هذه الأشباح شبح يمثل لفظة المرآة مكتوبة بحروف الطباعة فوق رأس الوسيطة وقد قال بعض النقاد أن هذا يدل على أن الوسيطة كانت قد أخذت في ذاكرتها إذ ذاك تلك الجريدة المسماة هكذا المرآة وإن كان أعياهم تعليل هذه المسألة وإبداء السبب الباعث لها على التفكير في جريدة المرآة ساعة استحضارها صورتي هذين السياسيين في ذاكرتها وأي علاقة بين الرجلين العظيمين وبين جريدة المرأة. أما الوسيطة نفسها فقد عللت هذا باحتمال أن القوات المتحركة ربما أوردت فكرة المرآة هذا لتدل على أن ما عرض إذ ذاك من صورتي الرجلين لم يكن طبق الأصل (أي صورتيهما الحقيقيتين) وكان كما يشاهد في المرآة منعكساً.
ولعل القارئ لم ير حتى لآن علاقة ظاهرة بين هذا ونظرية استحضار الأرواح. فليعلم إذن أن حواء عندما تكون في أحسن حالاتها قد يتكون امامها شبح كامل. على أن هذا لا يكون إلا في الندرة ويصحبه عاددة تأثير في حالتها الصحية وهذا الشبح يمثل شخصاً ميتاً ثم ينفصل انفصالاً تاماً عن جسم الوسيطة. ثم يهبط على هذا الشبح شخصية تدعى أنها شخصية إنسان ميت أو لعلها في الحقيقة شخصية ذلك الميت فتتقمص الشبح المذكور فتهب فيه روح الحياة وتتنفس فيه فيتحرك ويتكلم ويعبر عن عواطف الروح المتقمصة فيه. ولقد جاء في خاتمة تقرير بيسون الآنف الذكر الكلمة الآتية: أنه منذ انعقاد هذه الجلسات وبعد ذلك قو شوهد أن الشبح يتراءى برمته ويبرز بحذافيره من الخلوة وينطلق لسانه بالكلام ولقد سار وتحرك حتى وصل إلى المدام بيسون فاعتنقها وطوق ذراعيها قربتها ثم قبلها. وقد سمع في المكان صورة القبلة. فهل رؤى قط مثل ذلك ختاماً لبحث علمي؟ إلا أن في(58/5)
ذلك لعبرة لمن اعتبر ودليلاً قاطعاً على عجز العلماء المحققين والفحاص المدققين وضعف أحلامهم وانحسار أوهامهم على سر أعماق الطبيعة وإدراك أسرارها الخفية وبرهاناً ساطعاً على أنه قد يستحيل البتة على أمهر فلاسفة الماديين أن يهتدوا إلى تعليل أمثال هذه الحقائق الثابتة بما يطابق نظرياتهم المادية. وقوانينهم الفسيولوجية والكيماوية. وأن أقصى ما وصل إليه جهد العلماء في هذا السبيل وآخر ما اهتدوا إليه من تعليل هذه الحقيقة الثابتة هو ما قاله المستر جوزيف كراب في مباحثته العلنية التي جرت بيني وبينه حديثاً من أن المادة اللزجة المنبعثة من أجزاء جسم الوسيط المسماة الاوكتوبلازم ما هي إلا حالة من حالات رشحان المواد الغذائية غير المهضومة من نوافذ الجسم ومسامه! ولقد نسي - حفظه الله_أن وجه الوسيطة وجسدها وسائر أعضائها كانت في بعض التجارب تلف لفاً محكماً في زرد حصيف من الحديد جيد الحبك لا ينفذ منه الماء وقد كان الاكتوبلازم يمر منه وينفذ. فلو كانت هذه المادة هي من محتويات المعدة والامعاء الت يقيئها الجوف ويرشحها سوء الهضم فكيف كانت تستطيع النفاذ من هذا الحجاب الكثيف والغطاء المحكم الحصيف!
هذه الحقائق قد أيدها وأكدها الدكتور شرنكتوتزنج الألماني بما أجراه من التجارب على وسيطة أخرى من نساء بولونيا ممن امتازوا لقوة نفث مادة الاكتوبلازم فإن هذا الدكتور لما اجرى تجاربه على الوسيطة البولاندية وصل إلى عين النتائج التي كان أفضى إليها عندما أجري تجاربه الأولى على الوسيطة حواء. وقد شهد تجاربه الثانية نفر عديد من فطاحل علماء الألمان المدققين قأقروا بصحتها وخلوها من أساليب التدليس والتمويه ولقد أمعن الدكتور شرنكتوتزنج - بفضل ما امتاز به أهل جلدته الألمان من فرط التحقيق - في اعماق الموضوع وتغلغل في صميم لبه إلى أبعد وأعمق مما أفضى إليه سلفه (أعني المدام بيسون) وذلك بقصه بضع شعرات من شعر الأشباح المكونة من مادة الاكتوبلازم فقارن بواسطة المكروسكوب بينها وبين شعر الوسيطة (وكانت الوسيطة هي حواء. وقد جرت هذه المقارنة في بعض التجارب التي جرت في فرنسا) ثم أثبت بعدة اختبارات كيمياوية أن هنالك خلافاً بينا بين عتيي الشعر وأن شعر الشبح لا يمكن أن يكون مصدره من شخص الوسيطة بل هو أجنبي غريب عنها وصادر من شيء غيرها. ثم أخذ قطعة من الاكتوبلازم فأحرقها في جهاز كيماوي فاحترقت مستحيلة إلى رماد ينبعث عنه رائحة كرائحة القرن(58/6)
وأصيب أيضاً بين متخلفات الحريق الكيماوي مادة كلورور الصوديوم (الملح العادي أي ملح الطعام) وفوسفات الكلسيوم. وختم الدكتور اختباراته بأخذه سلسلة صور سيناموتوغرافية عن الاوكتوبلازم في حالة انصبابه من فم الوسيطة. وقد أورد في كتابه جانباً من هذه الصور السيناماتوغرافية.
وجدير بالذكر أنه بينما كانت الوسيطة في غيبوبة أثناء هذه التجارب فإنها لم تكن فاقدة الشعور بل كان يرى عليها كأنما ق تقمصت فيها شخصية أخرى خلاف شخصيتها ويكن تفسير هذه الشخصية الثانية بأنها إحدى شخصياتها أو ذاتيتها المتعددة (لأن الإنسان يكون له عادة شخصيات أو ذاتيات متعددة) أو بأنها روح حقيقية خارجية أجنبية قد تقمصتها واستحوذت عليها. وقد كانت هذه الشخصية الجديدة المتلبسة بالوسيطة تتكلم عن الوسيطة وتتحدث في شؤونها بشيء من العنف والحدة إذ جعلت تخاطب المدام بيسون قائلة عن الوسيطة إنها تحتاج إلى شيء كثير من التمرين والرياضة والتعويد على النظام والضبط وإلى الحث والتحريض على الاهتمام بأداء أعمالها وواجباتها وفي كثير من الأحايين كانت هذه الشخصية الجديدة تبدي مزية الكشف (اعني الاطلاع على المغيبات) كدلالته على عيوبها واختلالات غامضة خفية في الآلات والأجهزة الكهربائية مما كان يخفي على أبصار الفنيين القائمين على تلك الآلات ويغيب عن أذهانهم ويدق على أبصارهم. وفي ذلك كان ينبعث من جسم الوسيطة سلسلة متوالية متصلة من التأرهات والأنات والاعتراضات والاحتجاجات كانت فيما يظهر منفصلة انفصالاً تاماً عن تلك الشخصية وعن عقليتها ولم تكن في حدذاتها سوى ضجة حيوانية محضة.
ومما ساقه العالم الألماني في سرد ملاحظاته ما ذكره من أن الوسيطة حواء بدت في بعض تلك التجارب مغشاة من قدمها إلى رأسها بملاءة من مادة الاكتوبلازم ثم نهضت واقفة في مقعدها. ولهذه الظاهرة أهمية كبرى من حيث أن فيها بياناً وإيضاحاً لتلك الحالة التي يسميها الروحانيون تغير الشكل أو التمقص ويعنون بها أن الوسيطة تمثل دور الروح المستحضر إذ كانت تكتسي مادة الاكتوبلازم وتحاول تقليد شخصية الروح الوافدة. وقد روى تاريخ علم الأرواح عدة من امثال هذه الحالة كانت الوسائط فيها تمثل أدوار الأرواح كالوسيطة باستيان امام ولي العهد رودلف والمس كوك وسيطة كروكر والمدام اسبيرنس(58/7)
وغيرها. وقد كان المتفرجون في جمع هذه الحالات يمدون أيديهم فيمسكون الوسيط ولكن المادة المكون منها تلك الثياب والأزياء المتنكرة كانت تتلاشي توا فتختفي ثم لا يوقف لها على أثر.
ووما يؤيد هذه الأقوال ما ذكره الدكتور جيلي أعد علماء باريز بعد إجرائه عدة تجارب من هذا القبيل على حواء الآنفة الذكر واستدعاء جماعة من قادة العلماء لمشاهدة بعض هذه التجارب. قاللقد أجريت تجاربي على نحو ما أجراها أسلافي من أساطين هذا العلم فانتهيت إلى هذه النتيجة وهي أن تجاربهم كانت بريئة من أدنى أثر للغش لا ذرة عليها البتة لغبار الخديعة والتمويه. فلقد سلكت تلك الطرق القديمة بعينها فأفضت بي إلى عين تلك النتائج المأثورة حذو القذَّة بالقذة لا خلاف البتة سوى أن الخيالات كانت في تجاربي خيالات وجوه نسائية كانت تبدو في كثير من الأحايين مليحة جميلة وهي مع ذلك غريبة على عيني مجهولة عندي. وربما كانت هذه الوجوه صور أفكار مما يجول في ذهن حواء لأني لم أحصل قط في تجاربي على الروح الحية مستوفاة كاملة مطلقة. وخلاصة القول أن هذا الذي شاهدناه خلال هذه التجارب ما يهدم مذهب المادية هدماً تاماً ويمحو أثره محواً باتاً، لقد أصبحت المادية مع وضوح هذه الحقائق لا موضع لها في الحياة ولا مكان لها في العالم وهو بلا شك يريد بالمادية ههنا تلك المادية القديمة - (المذهب الذي ساد في العهد الفكتوري. عهد الملكة فكتوريا) - القائلة بأن الفكر إنما هو نتيجة المادة، فأما الشواهد الجديدة والأدلة الحديثة فتثبت عكس ذلك وهو أن المادة نتيجة الفكر. على؟؟؟ إذا شرعت تخوض في هذه المسألة قائلاً إذا صح أن المادة (أعني الكون) نتيجة الفكر فما هو هذا الفكر أو أي فكر هو أو فكر من هو؟ إذن لولجت باب الشكوك والريب ودخلت في معضلة مستعصية ومشكلة عويصة.
والآن بعد ما أدركنا أنه قد يتأتى لإنسان أن يولد من ذات نفسه مادة نادرة غريبة تستطيع أن تتشكل بأشكال أجسام آدمية تحتلها أرواح لمدة من الزمن فدعنا نطبق هذه الحقيقة العجيبة المدهشة على ظواهر غريبة قد وقعت وأثبتت في الأجيال السالفة ولكنها لم تعلل إذ ذاك ولم تفهم أسبابها إلى أن ظهرت لتجارب الحديثة التي بيناها آنفاً. فمن بين تلك الظواهر أذكر ما كان في عام 1873 من امر العالم كروكس ووسيطته فلرو كوكس هذا(58/8)
الكيماوي الشهير لبث ثلاثة أعوام يجري تجاربه على وسيطته الفتية الصغيرة التي جعلت نفسها تحت تصرفه المطلق وملكته عنانها ابتغاء التخلص من تهمة وجهت إليها. وقد أسفرت تجارب العلامة كروكر عن تبرئتها تماماً من التهمة. أما وصف هذه التجارب فهو أن كروكس كان يحبسها في الظلام في غرفته الصغيرة. فإذا مرت ساعة أو نحوها نفذ إلي الغرفة المجاورة امرأة مخالفة لها تمام المخالفة وهذه المرأة كانت تتحرك وتتكلم وتسمي نفسها كيتي كينج قائلة انها روح كانت تعيش في عهد الملك الأول شارل الثاني (ملك انكلترا فيما بين 1661 و 1685) وأنه قد سمح لها أن تهبط فتسكن لمدة قصيرة الجسم الذي قد تكون من المس كوك وفي خلال ذلك كانت المس كوك المذكورة يسمع صوتهاوفي بعض الأحايين يبصر شخصه في الغرفة المجاورة. وقد قيل عن هذه المسألة في إبان حصولها إنها لم تكن بطبيعة الحال إلا المس كول نفسها قد تنكرت في غير زيها وهيئها واكتست شكل عفريتة أو جنية أو روح (سمها كما شئت) ولكن أول ما يحتج به بطلان هذا التأويل هو أن يترك العلامة كروكس بين حكمين: أما انه مجنون أو كذاب متعمد للكذب إذ لا مشاحة من غير أن ينخدع بمث هذه الظواهر لا يكون إلا مجنوناً كما أن لا يكون كذاباً أشراً من يقول أن المرأة المنبعثة من الغرفة المجاورة المحبوس فيها الوسيطة كوك كانت أطول من المس كوك بأربع بوصات ونصف وكان شعرها ضارباً إلى السواد وقد قصت منه خصلة بالفعل (وكان شعر الوسيطة ذهبي اللون) أضف إلى ذلك أن سرعة النبض كانت مختلفة في الشخصين هذا وأن سيرة العلامة كروكس كانت نثبت تماماً أنه لم يكون بالمجنون ولا بالكذاب فإزاء كل هذا لا يسع المنصف المتعقل إلا الاعتقاد بأن هذه المعجزة التي يؤيدها أربعون فوتوغرافاً لا بد أن تكون حقاً لا ريب فيه ولكنها لا علاقة لها البتة بأية حقيقة من حقائق الكون.
أما الآن فقد أخذ الأمر مظهراً آخر. فقد استطعنا بفضل الأبحاث الحديثة أن ندخل تلك الغرفة المظلمة ففنظر ما يحل بالوسيطة فلوري كوك فماذا نرى؟ نراها مستلقية على المتكأ (الكنبة) ترسل أنة عميقة من آن لآخر ومادة الاكتوبلازم الحيوية تنبعث من بدنها مكونة من سحابة من مادة لزجة وهذه السحابة لا تلبث أن تأخذ شكل جسم آدمي وهذا الجسم لا يلبث أن ينعزل من جسم الوسيطة وتنصرم بينهما سباب الصلة وأواصر الارتباط. وعندئذٍ(58/9)
ترسل المرأة المسماة كيني كنج روحها في ذلك التكوين الذي لعله صورة من جسمها الأصلي يوم كانت على قيد الحياة ثم تسع على قدميها لتقضى ساعتها القصيرة على وجه الأرض متحدثة إلى العلامة كروكس ملاعبة أطفاله قاصة عليهم السير والأنياء عن العصر الغابر حتى تنتهي ساعتها فتخاطبهم قائلة لقد حان لي ان أنطلق إذ قد انهيت مأموريتي وبلغت رسالتي ثم تتلاشى. أما رسالتها فتلك كانت إبلاغ الناس مع البرهان الدامغ أن الروح قد تبقى بعد فناء الجسد أزماناً طوالاً. ولقد كانت هذه الرسالة تفلح لو أنها أيدت بالشجاعة الأدبية من القوم الذين شاهدوا المعجزة عياناً ولم يحل دون انتشارها غبارة وبلادة ومادية هذا العالم الصحافي العلمي الكيماوي البيولوجي الخ الخ. والآن بعد مضي الأيام العديدة قد بدأنا نفهم ببطء هذه الرسالة العظيمة.
وهناك حلقة تجارب أخرى قام بها الدكتور كروفورمن علماء بلفاست بايرلندة وقد أجراها على وسيطته جوليجير وأبرزها في كتاب سماه (الظواهر النفسانية وتجارب في علم النفسانيات) أما الوسيطة المس (جوليجير) فهن كما يظهر من صورتها الفوتوغرافية سيدة فتية السن قويمة الأخلاق مستنيرة العقل على جانب عظيم من التهذيب والرقي سلالة أسرة كريمة من أهالي (بلفاست) لكنها فقيرة وقد اتخذ هذا ألأمر - أعني فقر أسرتها - جماعة المضادين لمذهب الروحانيات ذريعة إلى اتهامها بالغش والتدليس. ووما يؤسف له أن نرى أمثال هذه المطاعن توجه إلى سيدة كريمة نزيهة تبذل مجهودها وتهب نفسها لتجارب العلماء. مدفوعة إلى ذلك بأشرف الأغراض وأنبل الغايات إذ كان في أمثال هذه المطاعن ما ينفر أمثال هذه السيدة ممن قد أوتين تلك الموهبة النقية النادرة من التعرض لهذه التجارب وبذلك تقوم العقبات في سبيل هذه الأبحاث العظيمة.
وأهم ما يستنتج من تجارب الدكتور كروفور هو أن الاكتوبلازم مادة يمكن استخدامها في أغراض شتى بفضل ما يمكن وراءها من القوى والمزايا. فقد رأينا في الأمثلة المتقدمة إمكان استخدامها في تكوين الأشكال من صورة الإنسان. أما في تجارب بلفاستفقد امكن استخدام هذا الاكتوبلازم بعينه في عمل قضبان أعمدان من القوة ذات ثقل ولكنها مع غير ذلك غير مادية (لا يمكن لمسها) وكانت هذه العمدان والقضبان تنبعث من جسم (من الأطراف غالباً) الفتاة الفاقدة الشعور ثم تحدث ضربات ولطمات أو تحرك أمتعة وأشياء(58/10)
وقعة على مسافة منها. وكان يمكن استخدام مثل هذا العمود المكون من القوة في رفع الأثقال وذلك بتوصيله بآلة رافعة توضع تحت مائدة مثلاً فتكون نتيجة ذلك هي أن هذا العمود يسلط قوته على الآلة الرافعة المتصلة به فيرفع المائدة في الهواء وعند ذلك ينضاف ثقل المائدة إلى ثقل الوسيطة كما لو كانت الوسيطة المذكورة قد أحدثت عملية الرفع هذه بواسطة قضيب من الحديد متصل بجسمها ومستعمل كآلة رافعة. وقد أمكن أيضاً وضع قضيب القوة المذكور (المكون من مادة الاكتوبلازم) يضغط على المائدة فيلاحظ أن مقدار القوة التي يصرفها القضيب المذكور في احداث هذا الضغط يستمد من مقدار وزن الوسيطة فينقص بذلك وزنها بمقدار ثلاثين أو أربعين أو خمسين رطلا كما يشهد بذلك أن ميزان الثقل المركب في الكرسي الجالس عليه الوسيطة. وفي هذه الحالة تصبح الوسيطة مجرد بقية إذ يكون قد انسحب من مجموع مادتها مدقا الثلث أو اكثر ولأصبح منفصلاً منها خارجاً عن كيانها. وهذا المادي يظهر على الجسم بمظهر صفاء وتهذيب في جوهره وليس بمظهر خسارة محسوسة في مادته. وقد كنا نلاحظ إذ ذاك أن كل عمل كان يعمل في هذه الظروف الخارقة بقصد تعويق هذا الجزء المفصل الخارجي عن سرعة العودة إلى الجسم كان يحدث ألماً بدنياً للوسيطة.
ومن التجارب التي أجراها الدكتور كروفور انه جاء بنسيج فصبغه بصبغة حمراء رطبة ثم نصبه أما جسم الوسيطة أثناء انبعاث مادة الاكتوبلازم. فلم يلبث أن رأى جدران الغرفة قد تلطخت ببقع من الحمرة المذكورة - دليل على أن عمود القوة المندفع قد كان من الصلابة بحيث استطاع ان يحمل معه أجزاء من تلك الصبغة. وفي هذا من قوة الاقناع ما لا يخفى على غير المتحيز.
ولعل معترضنا يقول هذه الظاهرة لا تعدو كونها ظاهرة لقوة مادية غير مفهومة ولكنها ليست روحاً أو عقلاً منفصلاً عن أرواح أو عقول الحاضرين المشاهدين تلك التجارب على أن مثل هذا المعترض إذا طلع على كتاب الدكتور كروفور الآنف الذكر علم أن في كل دور من أدوار التجربة كانت ثمة روح أو عقل مهيمن يرشد وينصح ويشير ويقترح بواسطة إشارات وعلامات منظمة محكمة. ولكن روح من؟ وأي عقل؟ فأجابة على هذا السؤال قد قرر الدكتور (كروفور) في كتابه الآنف الذكر أنه مقتنع تماماً أن هذه الأرواح(58/11)
المهيمنة هي أرواح آدميين مجردة من أجسامها.
فناشدتك الله ايها القارئ هل بقي بعد ذلك مجال للتكذيب بصحة هذه البراهين الناصعة. وصدق هذه الحقائق الرائعة، ومن ذا الذي يطلع على هذه الآيات البينات آيات العلماء الأعلام والجهابذ المحققين (بيسون) و (شرنك نوتزنج) وجيلي و (كروكس) و (كروفور) ثم يرتاب في أننا واجدون في هذه الغيوم والضبابات المنسدلة حوالي (الساحل المجهول) كمكا وصفت آنفاً صخرة وا حدة من الحقيقة الناصعة قد برزت من الظلمات والدياجير في جو اليقين الواضح المشمس! ولا اكر بعد أن وراء هذه الحقيقة الضاحية يمتد أقليم الخفاء والابهام وتنفسح مجاهل الشكوك والأوهام. وتبقى على مدى العصور والأجيال مطمع استطلاع الرواد. ومطمح استكشاف الطلاب والقصاد.(58/12)
محاوره بين الطبيعة وإحدى النفوس
للشاعر الإيطالي الخالد ليوباردي
الطبيعة: اذهبي الآن يا ابنتي المحبوبة إلى الحياة وكوني عظيمة بائسة
النفس: ألم تقدري التعاسة والشقاء
الطبيعة: لأني جعلت العظمة من نصيبك ولا يمكن أن تكوني عظيمة دون أن تكوني شقية، ومما يزيد الأمر تعقيداً أو إشكالاً أنه قد قضى عليك بأن تسكني جسماً بشرياً وكل البشر بالضرورة في الشقاء من ساعة يولدون.
النفس: وبدلاً من أن يكون ذلك كذلك أما كان الأفضل في الرأي والأرجح في العقل أن تحتاطي وتهيئ لهم وسائل السعادة وأسباب الرفاهة وإذا كان ذلك من وراء قوتك فإنه كان يحمل بك أن تكفي عن وضعهم في الدنيا.
الطبيعة: كلا الطريقين ليس في قدرتي لأني أنا نفسي عبدة الأقدار التي سيرت الأمور وأدارت الأحوال على خلاف ذلك ومهما كانت العلة في ذلك فإنه ليس في وسعك ولا في وسعي أن نسبر غورها ونستكشف دخائلها والآن وقد عرفت انك خلقت وقدر عليك أن تحتلي جسماً بشرياً فإنه ليس بي ولا بأي مخلوق آخر من راسخ القوة وصادق القدرة ما نستطيع أن نرد به عنك عوادي الشقاء وطوائح المحن وفوق ذلك فإنه بسبب نلك وسبقك وتبريزك سيكون نصيبك من الشقاء أكبر من نصيب غيرك.
النفس: لحداثة مجيئي إلى الأرض فإن أمامي أشياء كثيرة لاحفظها ومن أجل ذلك لا أستطيع أن أفهمك الآن كل الفهم وكلن اخبريني هل الشرف الشقاء المتزايد هما واحد في المادة والعنصر وإذا لم تكونا كذلك أليس في وسعك أن تفرقي بينهما.
الطبيعة: في أحوال أفنسان والحقيقة إلى حد خاص في سائر صنوف الحيوانات يمكننا أن نقول بأن هذين الشيئين - النبل والشقاء_هما في التجربة والواقع شيء واحد لأنه كلما سمت المواهب وحفلت القرائح وأرهفت الخواطر سهل إدراك أحوال الحياة وشوؤنها ووضح الشقاء المرتبط بالوجود وبذلك يضير ذلك الشقاء نفسه واضحاً مجسماً وفي الوقت نفسه فإن تلك الحدة في الإدراك تقضي إلى توسيع نطاق حب النفس ونزيد التوقان إلى ظل السعادة الرطيب ونواحيه المصقولة المخضلة ذلك التوقان الذي ينتهي باضرام الأسف(58/13)
وإيقاظ الألم في نفوسنا لعجزنا عن إدراكها ولعدم تحملنا مثالب الحياة وشرورها التي لا تدفع ولا مرد لها وكل ذلك قد أركز من الأولية والبدء في تركيب الأشياء المخلوقة الأبدي الذي من فوق قوتي تعديله وتبديله. ط
، اكثر من ذلك فإن مضاء عقلك باقترانه إلى خيالك المتوثب يقلصان من ظل سلطتك على عواطفك، وأن الحيوانات الوضيعة إنما تستعمل مواهبها وقواتها إلى الوصول إلى الغايات التي تجعلها نصب عيونها ولكن الإنسان يترك ملكاته طليقة مرخية العنان وقوته العملية بقدر ما معطلة مشلولة بتأثير الفكر والخيال اللذين يحشدان على تفكيره الشكوك الكثيرة ويقيمان عقبات عدة في سبيل تنفيذ مقاصدهم وبلوغ مآربهم وإن أقلهم مقدرة في رنة الأفكار وتحليل الأغراض وأبعدهم من الانكاب على هذه العادة هم الأكثر مضاء في عزائمهم والأكثر توجهاً إلى أغراضهم ومطالبهم بينما الأفراد نظراؤك النازعون في التفكير في نفوسهم والذين قوتهم معرقلة موقوفة بسبب ضخامتها هم في الغالب عاجزون عن إدراك الغايات العملية مقصرون عن شأوها وهم هدف لتكسر العزم وتضعضعه سواء في الفكر أو في العمل وهذا من أبلغ أسباب فشلهم وخيبتهم.
زد على ذلك أنه لسمو مداركك يسهل لديك أن تبزي رفقاءك في عمق المعرفة وفسحة الخطوة في العلم وأن تفهمي ما تجسر دونه افهامهم وتكل عن إدراكه أفكارهم ولكن على رغم كل ذلك فإنك ستجدين أنه من الصعب المستحيل عليك أن تخرجي إلى ميدان العمل أشياء كثيرة ضئيلة في المظهر قميئة في الصورة ولكنها أشد لوازم شؤون الحياة وفي الوقت نفسه ترين هذه الأشياء نفسها وقد أتقنتها بغير عناء وإجهاد قوم أقل منك في مراتب العقل والملكات إن لم يكن في أخلاقهم ما يبعث على الاحتقار ولازدراء وهذه العوائق والعثرات وأمثالها تحدق بالارواح الكبيرة وتول بينها وبين النجاح وجزاء هذه الأرواح على تحمل كل هذه النكبات والدروس القاسية هو الشهرة الواسعة والاشادة بالذكر وما تناله من لشرف لعظمتها وبقاء ذكرها مخلد الرونق دائم الريعان.
النفس: ولكن من الذي يصوغ لي عقود الثناء ويكيل لي التمداح ويخلع على حلل الشرف الذي تتحدثين وهل كل ذلك سيأتي إلي من السماوات العلى أو منك أو ممن؟
الطبيعة: سيقوم بذلك البشر إذ لا أحد غيرهم يستطيعه.(58/14)
النفس: ولكني اتوسل إليك أبتهل في أن تتبصري وتفكري معي وقد سنح بخاطري أنه من حيث أتى سأعجز عن القيام بأعمال لازمة لأحوال البشر وشؤونهم وهذه الأعمال نفسها يستطيع - كما تزعمين_أن ينهض بها أفقر الناس ذهناً وأضاء لهم عقلاً وأسخفهم فكراً فإن نتيجة ذلك هي أني بدلاً من أن تنظم لي الأماديح ويحاز على بالشرف والتبجيل أكون رديئة للذام والسباب والتجريح والطعن أو على الأقل يتجنبونني ويفرون مني كإنسان غير صالح للحياة بينهم.
الطبيعة: لم أوت علم الغيوب وقراءة المستقبل بدقة مطلقة فليس في مقدروي أن أتنبأ بصدق بكل ما يمكن أن يجول في ظنون الناس ويطوف بخواطرهم من ناحيتك أثناء إقامتك في الأرض ولكن من طريق القياس على تجاربي الماضية يمكنني أن أحكم أنه من المتوقع والمحتمل أن نفوسهم ستغتلى بالحسد لكِ وتتلظي بالحقد عليك فإن ذلك نصيب النفوس النبيلة المنازع الشريفة الغايات أو يدرون صفاءك ويغيمون جوك بالسخرية والاستهزاء أو بالاطراح والاهمال وان الحظ نفسه سيتهضمك وتخونك الصدف فيما تخون.
وعلى رغم كل ذلك فإنه بعد موتك - كما حدث لكاميونز أو كما حدث من أعوام قلائل لآخر يسمى ملتون - يثني عليك وينوه بذكرك ويحلق به إلى السماوات لا أقول من كل الناس وإنما من الفرق القليل الذي يملك هبة الفهم والقدرة على التمييز والحكم - وربما تجاليد الإنسان الذي كنت تسكنينه عى الأرض تنزل في قبره وتحفظ ملامح وجهه منقوشة على بعض المواد النفسية ليستعز بها الناس ويصف كثير من الكتاب حوادث حياته وتحفظ ذكراها حتى يصير لواء شهرته منشوراً في الآفاق وكل هذا محتمل الوقوع إلا إذا حيل بينك وبين إظهار مواهبك وإبداء أي برهان كاف على قيمتك بسبب لؤم القدر أو بسبب إفراط مواهبك في الاعتلاء والسمو كما حدث في حالات كثيرة أعرفها أنا والقدر.
النفس: انى - يا أمي - وإن كنت عاطلة عن المعرفة مجردة من العلم لأعرف حق المعرفة أن أقوي رغبة قد رميت بذورها في نفسي بل الرغبة التي أبدأ بها شاعرة ولها منتبهة متيقظة هي الرغبة في السعادة واني وإن كنت أجاريك في أني قد أكون طامعة في المجد وصعب العلى جديرة بالطموح إلى احتبار المفاخر واقتناء المآثر سواء كان ذلك خيراً أو شراً فإنه من الثابت الذي لا يدفع والأكيد الذي لا ينقض أني لا أتطلع إلى ذلك ولا(58/15)
أرغب فيه إذا كان لا يورثني السعادة أو على الأقل إذا يقذني إلى طريقها ويهديني سبيلها والآن طباقاً لما قلت فإن بوارع الصفات التي جدت على بها ونوادر المواهب التي منحتني إياها يجوز أن يكونا. . . . لأدراك الؤدد وبناء العلى ولكن من الواضح الجلي أنهما لا يسوقان إلى السعادة بل على عكس ذلك يقضيان إلى الشقاء وفوق كل ذلك فإنه يبدو لي أن تلك الصفات لا لتنليني الفخر إلا بعد موتي وإذ مت وطواني القبر فأي مغنم أصيبه من ذلك وأي هزة فرح تعروني من وراء ما تقدمه لي الأرض من المزايا والفوائد. وفي الختام فأنت نفسك تعترفين أن ذلك الخيال الموهوم من الفخر الذي يشترى بهذا الثمن الغالي من الشقاء والبأساء قد لا يتاح لي نواله أبدا ولو بعد الموت، وكون كل هذه الأشياء بهذا الوضع ومما ومما تبيتنه من معاريض كلامك أرى تفسي مضطرة إلى أن أعتقد أنك لا تضمرين لي الحب والولاء كما زعمت في مفتتح خطابك بل أنك في الحقيقة تحنين ضلوعك على مقتي وكرهي وإن كرهك لأشد وأبلغ من الكره الذي قد تضمره لي البشر والحظ أثناء إقامتي في الأرض وذلك لأنك لم تتريثي في أن تقدمي إلي هذه الهدية المشؤومةرمثل هذا النبل في الأخلاق الذي إنما نظرت عند إهدائه إلى مصلحتك الخاصة والذي قد أثبت أنه هو نفسه الحاجز المنبع القائم بيني وبين أعظم رغبات نفسي - الرغبة في السعادة.
الطبيعة: يا طفلتي إن نفوس البشر مقدر عليها التعس والبؤس وذلك على الرغم من مني ولكني بين ذلك الشقاء الطامي الذي هو نصيب كل مخلوق ولا عاصم منه وبين كل المسرات الفانية الزائلة فإن المجد هو أشد ما يستهوي نفوسهم وهو أعظم الخيرات التي يمكن أن تغدق عليهم وأنه أحق شيء بمجهوداتهم ومساعيهم ولذلك قد حبوتك بكل الصفات التي في استطاعتي منحها لتجتني ثمار هذا المجد وتهتصري أغصان ذلك الفخر وليس ذلك لكرهي لك وإنما من رغبة طيبة صادقة صريحة غير مؤتشبة في منفعتك.
النفس: حدثيني هل بين مخلوقاتك العديدة الوضيعة واحدة أقل مني حيوية واستعداد وقابلية للشعور.
الطبيعة: هذا مؤكد وأن تلك السلسلة من الأحياء التي تبدأ بالنبات إلى ما فوقه لتوجد مخلوقات بقدر ما أقل من الإنسان إحساساً وحيوية فإني قد أفردت الإنسان بغزارة الحياة(58/16)
ووفرة الشعور وذلك لأنه أكمل المخلوقات الأرضية.
النفس: ومن ثم - إذا كنت تضمرين لي صادق الحب فدعيني أسكن في أقل المخلوقات كمالاً وإذا عجزت عن ذلك فجرديني من تلك المواهب القاتلة التي تخالينها تشرفني واجعليني جديرة بسكني أضأل البشر عقلاً وأشدهم رقدة احساس.
الطبيعة: هذا في استطاعتي القيام به ومن حيث أنك تردين هبة الخلود التي قدرتها لك فأنا أميل إلى فعل ذلك معك.
النفس: عوضاً عن ذلك الخلود اصنعي معي معروفاً واجعلي لك على يدا وارسلي لي الموت العاجل.
الطبيعة: سأشاور القدر في ذلك. . . . .(58/17)
وطنية الشعراء
على ذكر
وطنية الشاعر الألماني هايتي
إذا صح أن الشعراء هم أحر خلق الله احساساً وأرق بني الدنيا وجدانا وأكبرهم قلوباً وأعذبهم نفوساً، وصح أن الوطنية هي أحر مشاعر الإنسان وأكبر منازع الفؤاد وأعظم عاطفة في الدنيا، ورأس كل المشاعر الاجتماعية في العالم. فقد صح على هذا القياس أن الشعراء هم أنبياء الوطنية ورسلها، وقادتها وزعماؤها. ولعل هذا ما وقع بعينه في تاريخ الشعر الإنساني من يوم مشى جدهم الأكبر. ذلك الحسير المكفوف متأبطا قيثارته، يغني الياذته في طرق أثينا، مسترزقاً طالب القوت من شعره، وعجيب إن كان الشعر في فم ذلك الزعيم الأول مادة للشحاذة، وبضاعة للتسول، ثم يكون بعده والعالم عالم ثلاث عروش وبناء أمم ومسقط ممالك ومكسب انتصارات، ومفقر أجواد وسروات.
الوطنية بلا ريب حاسة متينة عميقة في الإنسان، والشعر عاطفة غريزية تتغلغل في طيات الجنان، والناس الذين يسخرون من الشعر ويقولون بأن الشعر لا لزوم له في العالم، وما دام الناس يستطيعون أن يمضوا سحابة يومهم ولا تثور فيهم نزعة إلى معرفة تسعيرة الشعر، ومادام الشعر لا أثر له في قوانين الانمان، وتعريفه المواد، ولوائح البلديات والمحافظات فما نفع الشعر وما جدوى الشعراء - هرلاء الناس الماديون الذين يريدون أن تكون الحياة كلها بالماكينات والكهرباء، إنما يستخفون بالحياة تفسها ويريدون لها الفساد والهدم، فلو أننا استطعنا أن نقتل الشعر ونمحوه من صفحة الدنيا ونضع العقوبات الصارمة للذين يحاولون طبع القديم منه، أو نشر جديد عليه إذن لقتلنا شيئاً كثيراً من القوة المحركة للحياة ولهدمها عناصر الفضيلة - واعتدينا على الوطنية فسلبناها أعز مصدر نستمد منه قوتها وعصارتها النامية.
إذا صح هذا وجب أن يكون الشعراء جميعاً وطنيين، يجب أن تكون الوطنية فيهم مشتعلة، مستعرة محتدمة، وينبغي أن يكون نصف الديوان شعر الدنيا وطنياً، والنصف الآخر في تلك الشؤون هي التي مهوى نفوس الشعراء، ولكن وا أسفاه لا يزال الشعراء في مقدمة الوطنية فيهم مختلفين، وذلك على مقدار اختلاف أمزجتهم وسرعة تقلب أهوائهم، وحضور(58/18)
خيالهم، على أنك وإن رأيت الشاعر الجزل الفحل منهم لم يضع في كل أجزاء ديوانه قصيدة واحدة عن وطنيته ولم يحشد في شعره من تلك الروح الحماسية المشتعلة التي تضرم الأفئدة، لا تزال ترى لديه أثراً زاهياً منها في إعلائه من شأن اللغة، ولغة الشعر هي أسمى أساليب اللغة، والعمل على تمجيد اللغة ورفع مستواها، والنهوض بها، وخلق أدب جديد لها، كل أولئك وطنية بينة ظاهرة وإن لم تحو بيتاً واحداً فيها.
واكبر مظاهر الشاعر الصحيح الذي يتلقى الوحي من العاطفة، ولا يعمد إلى لأفاعيل والأعاريض يصب فيها كلاماً مرصوصاً تحس أن كل كلمة منها عند قراءتك إياها تكاد تثور وتخرج من الطابور الذي صفت فيه مع غير أخواتها بلا مناسبة ولا موافقة ولا لزوم - إن أكبر مظاهر ذلك الشاعر الحقيقي الاعتزاز بوطنه والافتخار بأرضه الزهو بأهله وممتلكاته، وكم من شعراء خرجوا من ديارهم من جراء عسف أو ظلم حاق بهم، أو طلباً للرزق في غير أراضيهم إذ ضاق عليهم وعز مطلبه في وسط أهلهم فلم يكن ذلك ليكرههم في البلاد، أو يثير الحقد في نفوسهم على وطنهم بل ظلوا يحبون وطنهم وإن لم يحسن إليهم حتى حتى رحلوا إلى مضاجع الآخرة.
ساقني إلى هذا حديث الشاعر هايتي - الشاعر هنريخ هايني المتهكم السخار بالدنيا وما فيها - ذلك الشاعر الخفيف البديع الذي ظل حياته نهب أمراض أليمة وأحزان جمة حتى لقد قال يوماً عن نفسه، إذا قدر لي أن الفالج - تلك اليد الحدبدبة القابضة على صدري، سيخف يوماً، ويقل أثره، فلا ألبث أن أجد نشاطي القديم متحركاً مهتاجاً عائداً إلى بحرارته وقوته الذاهبة. نعم. أنا مريض إلى حد الموت ولكن روحي لم يصبها أذى قاتل فإنها لاتزا ل كالزهرة العطشى المطرقة برأسها الناحلة ولكنها لم تذبل بعد ولم تسقط عن أغصانها ولا تزال جذورها متينة في أرض الحق والحب، على أنه لم يكد يمضي شهر على ذلك حتى كتب الوصية الأولى من وصاياه الثلاث. وفيها ختم الوصية بوداع حار لأرضه وبلده الذي اختاره مقاماً له ومنزلاً فقال: وداعاً ألمانيا أراضي قومي ومهبط آبائي بلد الأسرار الغامضة والأحزان، بلد الغرائب والأشجان، لتهنأ أيها البلد ولتسعد، وداعاً أيها الشعب الفرنسي الكريم الذي طالما أحببت وإليه أخلصت، شكراً لكرمكم وضيافتكم وحسن مثواي بينكم.
إن هذا الشاعر الذي يحب الإنسانية كلها ويرسل شعره في مهب الرياح كلها والذي مال(58/19)
بعاطفته إلى فرنسا واتخذها وطناً ثانياً له لم يزل يخص وطنه الأول وأرض آبائه على البأساء والنعماء وحياة طويلة قطعها مبتثاً محزوناً بحب ظل في فؤاده فتياً قوياً لا يخفت ولا يموت.
ولقد كتب في وصيته الأخيرة إن كل ما كان يرمي إليه في مختتم حياته لم يكن إلا سعياً متواصلاً في تحبيب الشعبين الألماني والفرنسي والمشي بينهما بالمودة والوئام وقد أقام في باريس زهاء خمس وعشرين سنة ووظفت عليه في السنوات الأخيرة من حياته وظيفة من الحكومة الافرنسية ومنح منها عطاء يتقاضاه عاماً فعاما فجر عليه قبوله ذلك العطاء نقداً حاداً أليماً من أعدائه وخصومه وكارهيه إذ رأوا الفرصة سائحة للتشهير به والأزراء عليه بالخروج عن حب ألمانيا بلده والتجنس بالجنسية الفرنسية ولو كان هيني شاعراً من أولئك الشعراء الذين رصدهم الشيطان رسلا لاقتناص الأموال والذين تسمع من خلال بيوتهم وقصيدهم وسوسة النقود التي يطلبونها من وراء شعرهم ولو كان هايني باع وطنه الذي أساء بثمن بخس ساومته فيه فرنسا، إذن لسكت على الإهانة ولم يستطع صراخاً في وجه تلك التهمة الأليمة بل لقد ثارت ثورته وجن جنونه إذ قرأ قول لأعدائه فكتب في الحال إلى صحيفة من صحف ألمانيا يقول:
كلا، كلا. إن تلك الدريهمات التي تلقيتها من جيزو الوزير لم تكن ثمناً لوطنية بعتها وجنسية خلعتها ولم تكن ضريبة ولا صنيعة ولا رشوة بل إن ذلك المعاش لم يكن إلا على سبيل المعونة. لقد كانت - واسمحوا لي يا قوم أن أسميها باسمهاوان لا أخجل من ذكر حقيقتها - لقد كانت نفحة من تلك الصدقة العظيمة التي تتصدق بها فرنسا على الواغلين فيها. على المشرذين والمنفيين. على الطريدين من أرضهم. على الطريدين من أهلم المنبوذين منهم أولئك الين استهدفوا لعداء حكوماتهم بما نقدوها به وعابوها عليه وجاؤا إلى كنفها فاستظلوا بظلها واحتموا بها.
إنني ما سألتهم تلك المعونة المالية إلا بعد ظهور تلك الأحكام القاسية في ألمانيا التي تريد أن تهدم امري وتسلمني إلى المتربة والعيش الضنك بمصادرة تواليفي الحاضرة بل مصادرة كل ما يخرج في المستقبل من قلمي وكل بنت حسناء بلدها فكري. بعد ظهور تلك الأوامر العنيفة التي أريد بها أن أجرد من كل شيء يلاحق ولا محاكمة ولا سماع دفاع.(58/20)
وقد عاد فكتب بعد ذلك مقالاً مسهبا فيصحف المانيا عن هذه التهمة التي ألصقت به باطلاً، حوى ذلكم المقال دعابة مرة شأن دعابات هايني المتهكم المستهزيء بمظالم الدنيا ونحن نفتطف شذرة من ذلك المقال وقطعة تصور للقارئ. صورة الشاعر على حقيقته.
قال هايني لدى اعتراف أريد أن أنزل عنه وذات صدر أريد أن أنفثها وإن كان الحزم يتطلب السكوت عليها وكتمان أمرها ولكن لقد قضى العهد الذي كان ينبغي فيه الحرص وقد أصبحت اليوم وبي رغبة شديدة في أن أؤكد للناس أنني لم أكن يوماً متجنساً بجنسية الفرنسيين ولم أكن في فرانسا فرنسياً وإن تجنسي لم يكن إلا محض وهم ألماني قام في أذهان نفر من أهل وطني ولا أدري أي عقل بليد خبيث مسف دنيء اخترع تلك الأكذوبة ومشى بتلك السخرية ولقد ادعي كثيرون من مواطني أنهم أقتفوا أثر هذه الاشاعة حتى أدركوا لها مصدراً حقيقياً لا غبار عليه من الباطل ويعنون بذبك تلك الأقوال التي امتلأت بها أنهار الصحف الالمانية وغرهم بي سكوتي فتبينوا حقاً ما ليس بالحق ولقد خدع كذلك كثيرون من أعدائي السياسيين وخصومي في الأدب في برلين وباريس فرموني بتلك التهمة مع الرامين وتجنوا علي مع المتجنين واعتقدوا أن أرتدائي ثوب الجنسية الفرنسية قد حماني من كيد الكائدين ورد عني دسيسة الدساسين على أنني أحمد لأعدائي هذا الجهل وأشكر لهم سوء الفهم فقد أنقذني ضعف بصائرهم من كثير من السوء وعصمني من الكدر ومن شر أولئك الفضوليين المتداخلين الحاشرين أنفسهم في أمر المادين أعينهم الواضعين أنوفهم في كل شأن لكي يحرموا الناس ما يكسبونه لأنفسهم فإن الغريب الذي لم يشتمل ببردة الجنسية الفرنسية في باريس لا يستطيع أن يظفر من أهلها برضي أو حب لا يجد رخصاً في النفقة ولا يصيب إلا غبنا في الشراء وظلماً في الثمن ولا يستطيع أن يعيش إلا إذا خرج عن المال الكثير فهو نهب مقسم بين الخداع والارهاق ولا يصيب كل أولئك إلا على يد الغرباء الذين ارتضوا أن ينزعوا وطنيتهم ويدخلوا في شملة الجنسية الفرنسية فأجمعت النية ذات يوم أن أضع إمضائي في ذيل تلك الصبغات وقاء من كل ذلك الشر ومنجاة من كل تلك المتعبة على أن تلك الصبغات لم تقيدني بأي قيد ولم تربطني إلى شيء وإنما ذللت لي عند الضرورة الظفر بالحق المدني كأي فرد فرنسي يسكن با ريس العظيمة على أنني طالما انزويت رعباً وانكارا من فعلة كتلك ومن قيد كهذا ولقد وضعتني تلك(58/21)
الترددات التي قامت بصدري وذلك الاشمئزاز العميق في فؤادي من ترك جنسيتي الأولى في مركز حرج وموقف غريب هو السبب الأكبر في كل ما نالني من نصب وألم وحزن في مدى الأعوام التي قضيتها في باريس وقد أدى بي ذلك إلى الظفر بمكان في الحكومة كان مغلقاً في وجهي وقد كنت موضوع الغيرة في كثيرين من الفرنسيين أنفسهم لأنه لم يصب الماني قبلي في هذا البلد ما أصبت من حب الشعب في فرانسا في العالم الأدبي وفي المجتمع والاسمار والندى حيث جعل كثيرون من أهل الخطر والألقاب العظيمة والأسامي النبيلة يلتمسون التعرف بي التماسا وينشدون صداقتي نشدانا لا كما يرعي الأمير الاديب ولا كما يبتسم الخطير للصغير ولا لأكون تحت الرعاية ومتعهد شعر لأصحاب الدولة بل كرفقاء وحلفاء وأهل ود وصحب أعزاء.
فالأمير الفارس القريب على العرش الذي قرأ شيئاً من كتبي في الأصل الألماني راح يظن أنه الموفور المسعد إذا أنا قبلت عليه ورغبت في الدخول في خدمة الحكومة وأن أنسى فما أنا بناس ذلك اللطف وتلك الرقة التي لقيتني بها ذات يوم في حديقة صديق خطير الشأن ذلكم الرجل العظيم واضع تاريخ الثورة الفرنسية ومؤرخ الامبراطورية البونابرتية. ذلك الرجل العظيم جيزو الذي كان في فرنسا يومذاك السلطان والكل في الكل. إذ أخذ بذراعي وجعل يماشيني وهو يلح علي الا ما نفضت له عن صدري وكاشفته بحاجتي. واعداً إياي أن ينليني ما أطلب. ويحقق ما أشتهي. إلا أن نغمات صوته. تلك النغمات المالقة، العذبة الكريمة لا تزال ترن في مسمعي، ولا أزل أتنفس عبير تلك الأزاهر التي كانت تحف بنا ونحن نتسابر متمشيين بين منافس البستان. لك الله تلك الأزاهر التي كنا نخطر أمامها. تلك المانوليا. الجميلة بأكمامها المتفتحة المرمرية اللون. التي ترسل أنفاسها العبقة المتأرجة في الأفق كأبهى وأفخم وأعز ما يكون قلب هذا الشاعر الألماني في أيام نعماه.
نعم. لقد قلت حقاً ما عليه ظل باطل. لقد كانت تلك العزة المتشامخة الرافعة الرأس التي هي دأب الشاعر الألماني هي التي منعتني حتى من قبول الصبغة الظاهرية أن أكون فرنسياً. لقد كان ذلك وحياً كمالياً سماوياً لم أكن لي على الخلاص منه؟؟؟ وإذا قيست عاطفتي نحو وطني بما اصطلح الناس على تسميته الوطنية فلقد كنت مرتداً منشقا خارجيا. ولكن ذلك لم يمنعني أن أثور وأتألم وأتمرد من أي أمر ولو خفيا يراد منه يتم الطلاق بيني(58/22)
وبين أمتي. هذا هو الاحساس العميق المتغلغل في نفوس الشعراء والمهذبين الذي لا تمحوه قوة الأرض. نعم قلما يتكلم الشعراء عن وطنيتهم وقلما يتغنون بحبهم أرضهم، ولكن الوطنية عميقة في حبات أفئدتهم. لقد كان زواجي بألمانيتي الجميلة. ألمانيتنا العزيزة. ذلك الملاك الحارس - وأسفاه - زواجاً غير رغد ولا سعيد. نعم إنني لا أذكر ليالي قمراء زاهرة نعمت فيها بأحضانها. يوم كانت تضمني إلى صدرها الرحيب. ذلك الصدر النقي. الطاهر. ولكن تلك الليالي الحلوة كانت معدودة. وكم أعقبتها أيام هي ظلمات بعضها فوق بعض فقصمنا عرى تلك الزيجة بالانفصال والفراق. ولكنه لم يكن إلا طلاقاً صورياً غير حقيقي. لأنني لم أفكر يوماً أن أفارق خادمي الأمين. نعم لطالما كنت أكره الناس في الارتداد. ولطالما كان المروق من الدين والخروج على العقيدة بغيضين إلى قلبي كريهين. وما كنت أرضى أن أهجر حتى ولا قطة ألمانية. بل ولا كلباً من كلاب بلدي العزيز وغن كان لايطاق.
كلا. لم أفقد شرياناً واحداً من ألمانيتي. ولم ينزف من دمي عرق واحد من جنسيتي. كلا. لم أعرض نفسي لخيانة كتلك. إن التجنس بغير الجنسية الأولى أمر يليق بأناس غيري. قد يعقل أن يفعل ذلك محام سكير ملح على الشراب. ومغفل نحاسي الرأس والأنف يريد أن يصيب وظيفة ناظر مدرسة. أو معلم في كتاب. نعم هذا الرجل وأمثاله قد يبرأون من أممهم التي لا تعرف شيئاً عنهم ولم تسمع بهم ولن تسمع بذكرهم ولا يضيرها خروجهم، ولكن لا هذا يصدر عن شاعر أزجى إلى ألمانيا أجمل أشعارها وأبدع قصيدها الغنائي. بل انها لتروح لدي فكرة لعينة شنعاء. بل فكرة مجنونة تذهب باللب وتفقد الرشد. لو أنني قلت عن نفسي ها أنذ شاعر ألماني وفي الوقت نفسه فرنسي متجنس بجنسية الفرنسيس، بل ليخيل إلي لو أنني فعلت ذلك أني قد أصبحت أشبه بتلك المخلوقات الشنعاء ذات الرأسين التي يقدمونها في الأسواق والمعارض. أعيش برأس فرنسي وبالرأس الآخر أبدي عاطفتي ومشاعري في أوزان اللغة الألمانية. وا أسفاه - الشعر الفرنسي!؟ ما أبغضه على نفسي وما أشنأه لدي أنني قلما أستطيع هضم أشعر شعرائهم الذين لا رائحة لهم البتة. أنني كلما ذكرت الشعر الفرنسي الذي يسمى مجازاً شعراً غنائياً تبين لي جلال الشعر لالماني وروعة جماله واعتقدت إذ ذاك أنني جمعت منه لنفسي إكليل الغار. كلا. أنني أتنازل عن ورقة(58/23)
واحدة من ذلك الاكليل. وصانع القبور الذي سينحت قبري عند ضجعتي الأخيرة لن يجد أحد من الناس مجترئاً على أن يمنعه من حفر هذه الكلمات على صفحة القبر هنا يرقد شاعر ألماني!.
هذا صوت شاعر عميق العاطفة - شفاف الاحساس - يعبر عن مبلغ حبه بلاده على حين ابتأس فيها ولقى الشر من ناحيتها. وتشرد في الآفاق من سوء ما ناله على يدها فظل الحياة يفخر بوطنيته ويزهى بحمل اسم بلده لأن الشعراء الحقيقيين هم الذين يحملون لواء الوطنية في طليعة صفوف الأمم والشعوب. . .(58/24)
الأميرة الصغيرة
بقلم الكاتب الروائي ولاند برتوي
عربها عباس حافظ
قال ملك تيرانوفا - مملكة الأرض الجديدة في جنوب أمريكا - لفتاه وولي عهده: أي بني وددت لو أنك تركت فرق فروع شعرك وإرسالها تتدلى على أذنيك. فإن هذا لا يجمل بك وليست هذه زينة الأمراء وولاة العهد.
فرد عليه الفتى بهزة من كنفيه وراح يقول: أما عن الاحتفاظ بزينة الإمارة وتجمل الأمراء فذلك أمر لا رغبة لي فيه وشأن ولا أحبه.
فسقطت لفافة التبغ من يد الملك عجباً ودهشة ومضي يقول: يحزنني أن أرى أولياء العهد وفتية الإمارة وأبناء الملوك اليوم قد طلعوا مودة جديدة وهب التلون بلون الاشتراكية والظهور في أردية الاشتراكيين وأصبحوا يميلون إلى الفرار من الواجبات التي فرضتها عليهم منابتهم ووراثتهم وأعراقهم والبيوت التي منها نشأوا.
فاحتد الفتى ايفولت وقال: ان واجب الأمير. . . . .
فقاطعه الملك قائلاً: أن يكون بمظهر الإمارة كما أن واجب حمال الفحم أن يحمل فحماً.
فأجاب الفتى خائفاً: أني لأود أن أكون حمال فحم من أكون أميراً وولي عهد الملك.
فبتسم الملك وقال: اني لأذكر أنك حاولت أن تكون يوماً فحاماً عندما كنت تزور مقاطعة المناجم وقد نشرت تلك الحادثة في الصحف السيارة على أنني ووالدتك الملكة لم تكن تظن أنك لم تظهر أي براعة يومذاك في حمل الفحم كما برع فيه حمالوه.
فتوردت وجنة الفتى خجلاً وقال: إنني أريد أن أقول أن الملوك والأمراء ليسوا إلا لعباً أشبه بلعب ألف صنف وليسوا أناساً من لحم ودم لأن حركاتهم وسكناتهم وغداوتهم وروحاتهم بالأمر والنظام. فهم لا يخطون إلا بقيد ولا يسيرون إلا والحراس حولهم حافون والعسكر حاشدون مزدحمون والكواكب قريبون محتاطون بل أنهم لا يستطيعون كذلك أن يعيشوا في المنازل التي يحبون أن يختاروا الدور التي يسكنون والصحب الذي يعاشرون. فلم ذلك؟ لم ذلك.
قال الملك بكل رفق وأدب: انني منتظر منك أن تخبرني عن السبب.؟ فإذا أتممت الشرخ(58/25)
أنبأتك بالسر وبسطت لك الباعث.
فأجاب الفتى اسمع إلي يا أبتا - لنتكلم بصراحة تامة ولندع طريقة المعاجم في البحث ونترك جانباً شأن العلماء في المحاجة والجدل. إنني متألم متبر مملول. هذا كل شيء.
فأجاب الملك - إذا كنت يا بني تتألم من اسلوبي الفلسفي في الحديث. وطرقيتي المدرسية في المناقشة فلنتحدث بلا تكليف ولنتكلم بلا تحشم شأن أهل القربى ولعلني خشِن الحديث غير مصقول الكلم. ولكني محاول جهدي أن ألين حديثاً وأنعم لهجة فما بك. نبئني ماذا يؤلمك.
قال الفتى - إنني أكره هذه الفكرة العفنة والطريقة الصدئة السقيمة في الزيجات المرتبة المقررة والمقيدة، إني أراها سيئة شريرة. غير طبيعية.
قال الملك مترفقاً في كلامه - نعم قد يلوح عليها ظاهراً أنها عقيمة صدئة_وهنا تمهل الملك وأمسك بلحيته مفكراً ثم عاد يقول - ولكنني أعلم انها ليست كذلك في حقيقتها ولبها - إنني محدثك حديثا لا أظن هذا الشعب الذي يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا مستطيعاً أن يعتقد صحته ويؤمن بحقيقته ذلك انني ما زلت حياتي كلها ولا أزال في حب شديد وأمك الملكة ولو أنني كنت رجلاً من عامة الناس لما وجدت ولا أظنني واجداً رفيقة غيرها تستطيع أن تجعل أيامي في الحياة هانئة رغيدة هذا حديث يجب أن لا يتعدى غيرنا نحن الاثنين فإنني رجل شيح ولا أحب أن أتراءى مضحكاً متخلعاً متظرفاً أمام الناس.
فأجاب ولي العهد: هذا حظ جميل، ولكن لعل غيرك من الأمراء وأهل بيت الملك غير مصيبيه. ألا أسمع إلى يا أبي. ان مبدئي في الحب. . . .
وإذ ذاك قاطعه الملك فقال: أن لا يكون مقيد بالمراتب والألقاب وأن يتنزل إلى العامة ويساوي بين الكبير والحقير.
قال الفتى - ولم لا؟
فاجاب الملك الشيخ ليس ثمت خطأ أكبر من الذهاب إلى الحب لالذة فيه إلا حيث يكون ممنوعاً أو صعب الوصول إليه فإنك لو قلت ذلك فكأنك تريد أن تقول أن الإنسان لم يصل إلى قمة جبل مونت بلانكالجبل الأبيض لأنه صعد إليها بقطار النفق - ولم يبلغها سعياً على القدم.(58/26)
فقال الفتى - ولقد لمعت عيناه كأنما تخيل حلماً معسولاً ذهبياً: إنني أريد أن أعيش عيشة طليقة حرة على هواي ومبتغاي.
فأجاب الملك في رفق. أعرف ذلك. وهذا ما سيكون لك يا بني العزيز وأنت تعلم يا ايفولت أنني أحبك الحب كله. ولكنني أود لو أنك تركت فرق جدائلك بحيث تتدلى على أذنيك.
فقال ولي العهد: إنك يا ابتا رجل خير حنون. ولكنني لا أعرف. . . .
فرد عليه الملك قائلاً: كلنا لا نعرف في المبدأ ولكننا جميعاً نحن بني آدم ننهى بالمعرفة، والآن لنعد إلى أحاديث المملكة وشؤون السياسية. هل أعددت العدة لهذا المساء؟ فأطرق لفتى برأسه يأساً وتبرماً وأنشأ يقول: نعم فسأكون في المحطة في لباس الكولونيل وسأخطو في اللحظة المعينة فألثم يد الأميرة وهي تنزل من القطار.
قال الملك: بديع للغاية. ولكن لا حاجة بك إلى التحدث معها حتى حفلة المساء فأجاب الفتى. يلوح لي إذن أنه سيكون زواجاً أخرس صامتاً وسأمشي بها إلى الهيكل كما تساق الشاة إلى المذبح.
قال الملك. هذه هي آداب الأعراس الملوكية. ومع ذلك سنرى. . . . . وهنا ابتسم ومشى منصرفاً من الحجرة.
هناك في حجرة الزهر وجد الملكة.
قال الملك. ألم تعلمي يا عزيزتي الخبر - أن فتانا قد أصبح متمرداً. فنظرت إليه الملكة نظرة جزع وقالت - واها للفتى المسكين. ولكنها فتاة بارعة الجمال ولو لم تكن كذلك لما اخترته له عروساً. ولكن لا تنزعج ولا تتألم.
قال الملك: يالك من زوجة كريمة. وهنا طوق خصرها بذراعه كما لو كان مثلك أو مثلي.
وكان سلوك الأمير في المحطة بديعاً للغاية إذ خطا في اللحظة الواجبة فلثم يد الفتاة العروس ومشى بها إلى مركبة الإمارة وركب هو جواده وجعل يعدو به جانب المركبة وجعل الشعب في الطريق والجماهير الحاشدة على الأفاريز يهتفون ويلوحون بمناديلهم في الهواء. ولم يبق منهم أحد إلا وافق على أن هذه الزيجة ليست إلا زواج حب من النظرة الأولى.
فلما بلغت المركبة بالعروس القصر. تلفت الملكة العروس وأخذتها إلى مائدة أعدت لتناول(58/27)
الشاي لتحتسي العروس قدحاً قبل أن تخلع عنها أثوابها.
أما الأمير ايفولت فما كاد يفرغ من توصيل الأميرة حتى صعد سلم القصر وانزوى في مخدعه وطح جسمه على فراشه وجعل يتململ ويتلوى - وقد برقت في عينيه لمعة ذكرى قديمة وراء أفق بعيد وراح يقول: لماذا لم أولد فتى من عامة الناس؟ لم لم أكن من السوقة والصعاليك؟. . . . . ولبث كذلك في سريره ثم نهض فصاح بغلام من غلمة القصر فجاء الغلام فخلع عنه نعليه وقال ماذا يرتدي صاحب السمو؟
قال الأمير - الثوب المزركش
فابتسم الوصيف وقال - هذا هو الثوب الذي أعددته لسموكم من قبل
فنظر الأمير في أنحاء الحجرة فأبصر الثوب يلمع في صندوقه فقال:
أتراني أبدو جميلاً في هذا الثوب؟
قال الغلام: إنك لتبدو. . . . . ولكنه لم يستطع أن يتم قوله إذ ابتدره الأمير. إنني أريد جواباً أميناً صادقاً لا رياء فيه. . . . فتمهل الغلام ثم قال. . . . إنك في لباس تود لو أنك لم نشتمل به. . . . قال الأمير أصبت؟
* * *
فلما انتهى المدعوون من العشاء، لبث الفتى يرتقب العروس، في حجرة أعدت لخلوتهما. وإذ ذاك أقبلت والدته تتقدم الأميرة.
وهي تقول. . . لتسمرا هنا بعض السمر حتى يحين وقت الحفلة والمرقص ولمست آنذاك براحتها خد الفتى ووجنة الفتاة وفي ذلك معنى لا يدركه إلا الأمهات. وابتسمت وانطلقت تمشي إلى الحفل.
فأمسى العروسان في خلوة
نظر كل إلى صاحبه، فأطرقت هي حياء، ووضع هو يده على مكان فؤاده
وبدأ الفتى الحديث فقال. . . . إنك أيتها الأميرة جئت كغريبة لتسودي كملكة في قلوبنا وقلوب. . . . . .
فقاطعته العروس قائلة. . . أعرف ذلك. فقد قرأته في الصحف. . . إلا إذا كنت تريد أن تسترسل في مبادئك.(58/28)
فأجاب الأمير شاكراً كلا لا أريد.
قالت العروس. . . . ماذا ترى في زواجنا هذا.
فأجاب الأمير يبعث الإنسان على السرور
قالت العروس كلا إنني لست مسرورة
وإذ ذاك أشرق وجه الأمير، وقال. أحقا
فأجابت. وكيف به أسر، ألسنا في القرن العشرين
ولم تكد تتم قولها حتى ارتفع صوت جرس البهو معلنا ابتداء الرقص
ولما صدحت الموسيقى وأقبل الراقصون يريدون رقصاً قال الأمير لعروسه هلمي بنا فنحن مضطرون لفتح الرقص
فوضعت يدها فوق ذراعه وانطلقا إلى قاعة الرقص
قال الأمير للعروس. مالك مترددة
فابتسمت قائلة، إن هذا أمر فوق الطاقة.
فأجاب الفتى بتنهدة طويلة. ما أفسد كل هذه الرسوم. فأومأت العروس إيماءة الإيجاب وعاد وهو يقول. لماذا نكره على الرقص. ألسنا بني آدم لحماً ودماً، ولماذا يريد القوم منا أن نهتز وندور كلعب الأطفال.
فنظرت إليه طويلاً. وقالت: إنني أشد الناس لهذا الرقص كرهاً
فأجاب الأمير: اجل تكرهينه بلا ريب ليس كل هذا إلا أكذوبة ظاهرة أيكون في الدهر ليلة ألعن من هذا العشاء والاحتفاء. ثم آخر الأمر هذا ارقص الطائش المجنون؟ يالله. ما أجمله لو أنه كان على بساط سندسي في حقل بعيد عن هذه المدينة. وأرض خضراء في قرية من قرى الريف. وسط الفلاحين والقرويات أما هذا الرقص فما معناه عمرك الله. لا شيء مطلقاً. أكذوبة وحق السماء!
أطرقت قائلة: هو ذلك. ب هو أقل من لا شيء إذا أردت الحق!
قال الأمير: هذا ما أشعر به. ثم تمهل واستطرد يقول: إنك لم تحسني هذه الخطوة. إن ضربة الرجل يجب أن تكون مماثلة والموسيقى.
فأجابت الأميرة: أخطأت لك الحق.(58/29)
قال: الآن قد أجدت الخطوة. هذه هي المشية الامريكية كما يسمونها.
وهنا وقفت الموسيقى عن الصياح.
قال الأمير: الحمد لله. هيا بنا إذن إلى الحديقة.
قالت العروس: أتحب أن نذهب؟
فأجاب الفتى: أظن ذلك فنحن مكرهون بحكم الرسميات على الذهاب.
قالت الفتاة: إذن فدعنا نذهب.
قال الأمير: إننا نستطيع هناك أن نخلو إلى حديث طويل.
قالت العروس: إذن هلم بنا
فلما بلغا الحديقة وجدا عندها رجلاً وسيدة من المدعوين، فلما شهدا العروسين انحنيا انحناءة بأدب، وانطلقا مبتعدين وهنا جلست العروس في مقعد طويل وراحت تقر عينيها عليه.
وبدأت الأميرة بالحديث.
قالت: بخت سيء. كم عمرك؟
قال - اثنان وعشرون
قالت_وأنا في التاسعة عشر.
قال_ونحن مكرهان على أن يزوج بعضنا بعضاً. سواء أردنا أم لم نرد.
فنظرت إليه نظرة سريعة وقالت: إذن لا تريد أن تتزوج بي.
فأجاب - أنني أريد أن أشرح لك أمري ولكن يلوح لي أنك مدركة الغرض نعم. لا أريد.
قالت: هل تحب أحداً؟
قال: نعم. عشيقتي الحرية.
قالت: متسائلة_الحرية فقط؟
فأطرق رأسه شأن التلميذ في المدرسة عندما يكره على الاعتراف بذنبه.
قال: بل لقد أحببت منذ كنت في الربيع السادس عشر، فهل تحبين أن تسمعي قصة حبي.
فأجابت نعم
قال - اتفق أنني مرضت ذات يوم فنصح لي الأطباء بالنقلة إلى الريف أمضي فيه صيفاً كاملاً فسافرت أنا ومعلمي فقط ولم يكن في خدمتنا إلا خادمان وبضعة وصائف وساسة(58/30)
خيل وطاهيان، وكانت سفرة غاية في البساطة، لا زهو فيها. ولا أبهة. ولا إمارة. فوقع لي إذ ذاك أول بوادر الحب.
قالت الأميرة_وكبف كان ذلك.
قال الأمير_نزلنا بضيعة بعيدة عن مدائن الحضارة. وكان هناك دجول يجري في الحديقة منسربا في منافسها متلألي. الصفحة. بالله لقد كان مصطافاً يانعم ذاك المصطاف. وكنت أتلقى الدرس في الصباح ساعة أو ساعتين ثم أقضي بقية النهار طائفاً الغابة متجولا في الأجمة تارة طالباً صيدا - وطوراً مطالعاً في كتاب على حافة النهي. وكان معلمي وهو رجل إنكليزي بل لعله اسكوتلندي يدعى مستر جرين لا يفارقني في تلك الطوفات، ولعل ذلك كان من تعليمات شديدة، تلقاها من الملك أبي وكان رجلاً أعمى أصم في انفاذ الأوامر. نعم لقد كان رجلً طيباً وكنت أحبه، ولكن كان يحدوني الشوق دائماً إلى أن أكون وحيداً منطلقاً إلى حيث أنطلق وحدي دون صحبته.
فأطرقت الفتاة قائلة: أعرف ذلك
فعاد الفتى إلى قصته فقال: ووجدت بعد مدة أنه ولوع بالاغفاء بعد الظهيرة فأردت أن أنتهز إغفائه فرصة للنزهة وحدي ولكنه جعل يتألم ويرغي ويزيد عند رجوعي على أنني لم ألبث أن جعلته يرى ذلك مني صابراً لا لائماً ولا عاتباً ففي ذات يوم أجمعت النية على نزهة بعيدة على مسافة أميال خمسة من الضيعة وكان الجو جميلاً والنسيم سجسجاً فلم أشعر بتعب المسير حتى بلغت جدولاً ذا خرير ونغم جميل فلما أشرفت على عدوته ألقيت ببصري فيما حولي من الأشجار وفارع السرح فوجدت هناك بين الدوح. . . . .
فأكملت الأميرة قوله فقلت: فتاة: أليس كذلك. فأجاب. أجل. فتاة. فكيف عرفت ذلك، قالت العروس، لا بد أن يكون كذلك.
ثم ماذا
قال: وكانت جالسة القرفصاء. أمام ذلك الجدول تغسل ثوباً لها، تلقيه في الموج ثم ترفعه وكان الثوب الذي تغسله ولا ريب قميصها، لأنها كانت عارية الذراعين ليس على بدنها إلا غلالة رقيقة وحل عنقها شبيكة مما تلبسه القرويات، وكانت صغيرة الدن قليلة اللحم بالنسبة إلى سنها، وكانت في الربع الرابع عشر، ولها جدائل صفر كالذهب، مرسلة على ظهرها(58/31)
مطلقة، أما وجهها، كلا. كلا. إنني غير مستطيع أن أصف تلك المحاسن، لقد كانت كلها جمالاً حياً حتى إنني لم أشعر كيف اجترأت فمسيت حتى جلست بجانبها فوق العشب - قالت: يالله، من أنت؟
قلت: أنا لست إنساناً مذكوراً، بل وجدتني بحاجة إلى إنسان أحادثه فجئت وجلست.
قالت: ماذا أحدثك عنه؟ إنني أغسل ثوبي كما ترى.
فاستأذنها في المكث بجانبها لأرقب كيف تغسل ثوبها فأذنت لي ولا أذكر فيم جعلنا نتكلم وإنما كل ما أذكر أنني علمت منها أن لها خالاً يحرث أرضاً قريبة وقد علاني الخجل عندما سألتني عن صناعتي ولم أجد ما أجيب غير أنني لا أعرف إلا الكتب وكانت في حياتها لا ترى للرجال ولا للفتيان عملاً إلا الكدح بأيدهم لاكتساب خبزهم.
وهنا أشعل الأمير لفافة تبغ ورمى بعود الثقاب مشتعلاً على الأرض ومضى يقول:
وكنت أرى انها على حق.
وقالت الأميرة ثم ماذا
قال: ثم علقت الثوب الأزرق فوق غصن شجرة ومكثنا ننتظر أن يجف على حرارة الشمس فسألتني على اسمي فأجبته: برنس: فضحكت للاسم فرأيت ثم أسنان صغيرة بيضاء كالعاج ولا اعلم كيف قلت لها أنني أحبها واضطررت إلى زيادة الشرح ولكنها لم تفهم.
قالت الأميرة: وكيف شرحت ذلك
قال الأمير بقبلة
فراحت العروس تسأله. وعند ذلك فهمت أليس كذلك؟
قال أجل
فقالت الأميرة: وماذا كان بعد ذلك؟
فعاد البرنس يقول: وقلت لها أنني غير تاركها وأمسكت بيدها وأمسكت براحتي حتى هجمت جيوش الظلام ولا أذكر الآن الكلمات التي دارت بيننا وإنما لا أزال أذكر أنني أنبأتها أنني سأرى خالها اليوم التالي وأطلب إليه عملاً في حقله وكنت أشعر إذ ذاك بسعادة لا توصف أما العقل فقد عاد في طي تلك السعادة ونمت تلك الليلة مختبئاً في مخزن التبن(58/32)
في بيتها فلما هدأت الرجل فيدارهم تسللت في جنح الظلام فجاءت إلي ولبثنا ساعات نتهامس والفيران حولنا تجري هاربة وقد اجتمعت نيتنا على أن أكون زوجاً وتكون هي زوجتي فلما طلع الصبح جاءت تحمل لبناً وبيضاً وقبلتني ووقفت تنظر إلي ولكن لم نلبث أن سمعنا صوت خالها في فناء الدار ممتزجاً بصوت معلمي مسترجرين وكانت الأصوات حادة كأنما كانا في غضب ومناقشة حارة.
وسمعت معلمي يقول لصاحبه وهو يحاوره لا بد أن يكون هنا لقد دلنا كلبه على هذا المكان.
وفي الحال أبصرت بالكلب قد وثب فكان على مقربة منا وجعل ينبح نباحاً طويلاً وصاح المستر جرين لقد كنت واثقاً من ذلك وصعد يريد مكمنناً ولكن خال الفتاة كان أسبق إليه وهو يقول: إذا لم تصدقني فسنجد المكان خالياً.
ولكنهما وجدانا مشتبكين متعانقين تحت ظل تعريشة في الركن.
قال معلمي ببرود: ما شاء الله
ودنا خالها مني فألقي يده على كتفي كأنها من حديد وقال أيها الكلب الصغير سأعلمك كيف تختبئ مع العذارى الساذجات ورفع عصاه يريد أن يهوي بها على رأسي.
فصاح به مستر جرين مستوقفاً وألقى في ذاته بضع كلمات فتراجع فتراجع الرجل مذعوراً وقال:
ماذا تقول: الأمير. . . وجعل يكررها وقد رفع قبعته عن رأسه وقال للفتاة وصوته يرعش رعباً ودهشة أيتها الحمقاء حيي التحية الملوكية.
وإذ ذاك رأيت الفتاة ترفع مئزرها وفي عينيها نظرة ذهول كأنما لم تدرك شيئاً وأدت التحية.
وقال المستر جرين تفضل يا صاحب السمو فمشيت في أثره وخرجنا من البيت.
وهنا قالت الأميرة: ثم لم ترها بعد ذلك اليوم.
قال الأمير بل إنني لأراها كلما أردت. ليس عليَّ الآن إلا أن أغلق عيني فأراها ولا ريب في أنها أصبحت الآن فتاة جميلة ولكن قدر علي أن لا أكون رجلاً.
وهنا التفتت العروس وقد شعر بالدهشة من جرأته على قول ما قال. وراح مستطرداً يقول.(58/33)
لم يعرف أحد هذه القصة إلا أنت فقط. ولم يفه معلمي بكلمة عنها. أنني متخيل إليًَّ أنه لم يكن ينبغي أن أخبرك بهذه القصة.
فأجابت الأميرة. يلوح لي ذلك. إلا إذا. . . وأمسكت عن الكلام. فقال الأمير إلا ماذا؟
قالت: إلا إذا سمحت لي أن أخبرك بسري كذلك. .
قال ايفولت - ليس أبدع من ذلك تكلمي. فبدأت الفتاة حديثها. فقالت - لقد كان أشجع رجل رأيته في حياتي.
قال - عمن تتكلمين
قالت عنه. .
فأجاب. آه. لقد فهمت. ثم ماذا.
قالت - رأيته لأول مرة وهو يروض جواداً من خيل أبي المعدَة للسباق لقد كان الجواد شكا شامسا جموحاً وقد وقف على ساقيه المؤخرتين وساقاه الأخريان في الهواء. وكانت عيناه حمراوين وأنفه قانياً.
قال البرنس وكان قد عمي عنه الغرض. تمهلي لحظة عمن تتكلمين الآن.
قالت الفتاة عن الحصان وقد علاه وامتطى صهوته وجعل يبتسم وقد وقفت أرقبه عند باب الاسطبل - وأنا في اشد الخوف ولبث القتال بين الجواد وبين الرجل مدة وكان هو المنتصر على الحيوان، إذ ترجل عنه وأمسك بعنانه ومشى به إلى سائس هناك فأسلمه زمامه. ثم دنا مني فقدمت يدي أصافحه ورحت أقول. إنني لا أعرف من أنت ولكني أراك أروع رجل رأيته في حياتي. .
وهنا سألها الأمير. متى وقع هذا؟
فأجابت الأميرة منذ ثلاث سنين
قال أيفولت - انهي الحديث.
قالت - فابتسم وقال أتظنين ذلك يا آنسة. . . وسألته عما إذا كان يعرفني فهز رأسه نفياً فخلعت عليه جميع؟؟؟ وقلت له: أتخاف من ذلك قال لست أخاف شيئاً.
قال الأمير مضطرباً مندهشاً - ومن هو ذلك الرجل؟
قالت الأميرة: سائس في الاسطبل. وأخطر رجل رأيته. ولعل اكبر ما أجللت منه إنه كان(58/34)
لا يحفل أكنت مليكة أم صعلوكة متكففة. وإنما كان يبتسم ويطرق برأسه ولقد خلتني سأذهب إليه فأرمي بنفسي عند قدميه صاغرة مذعنة له.
قال الأمير - كلا. لم أفعل. لقد كنت لا أزال تياهة العطف. بل كنت أريد أن يعترف بي. أردت أن أملكه وأهزمه. فقلت له أخشى أن تكون خائفاً مني. ورحت أنظر إلى عينيه فأخرج القش من فمه ونظر حوله كأنما أراد أن يستوثق مما حوله وقال: هل إذا قبلتك ترفضينيي. قلت لك أن تفعل، ولكن لا ينبغي أن يكون هنا. لنتواعد الليلة إلى الغابة في منتصف العاشرة. إذا كان لديك شيء من الشجاعة. فقال. إني فاعل ذلك. وانطلقت خافقة الفؤاد.
قال الأمير: وهل توافيما إلى الموعد المضروب.
قالت الأميرة - لقد حاولت ولكني لم أنجح. فقد تعقبتني سيدة من وصائف والدتي الملكة، وجاءت إلى حيث كنا واقفين، وهو يهم بتقبيل يدي وكذلك لم يقبلني الرجل الذي كنت أحب. ولن يستطيع ذلك.
قال الأمير. وهل علم أحد بأمركما
فاجابت - نعم. لقد علم أبي وكان أمراً شنيعاً.
لقد طردوه. لقد طردوه
قال الأمير: ولم تنظريه بعد ذلك اليوم؟
قالت الأميرة كلا. بل لقد علمت بعد ذلك أين يسكن ولكني لم أتمكن من لقائه: وها نحن غريبان يراد بنا أن نكون زوجين. أي ايفولت انه لا يشعر أحدنا نحو الآخر بعاطفة الحب: أليس كذلك. تكلم.
قال الأمير. هذا ما أتبينه الآن.
قالت - إنني لا أريد أن أكون ملكة وأنت لا تود أن تكون ملكاً
فقال الأمير بحدة البتة
فعادت تقول. وإنما نريد أن نكون ناساً عاديين كخلق الله
قال. هذا ما نبغي.
قالت_وماذا يمنعنا أن نكون كذلك(58/35)
فنظر إليها متحيراً وقال. الحكومة والدولة.
قالت الأميرة وقد أدنت مقعدها منه قليلاً. استمع إلي. . . . وراحت تصب في مسمعيه كلمات في همس ورفق. وجعل هو يطرق أولا برأسه علامة الشك ثم لم يلبث أن لمع ذلك البريق في عينيه. وما كادت تتم همسها حتى أخذ يدها متأثراً وقال. إنك لفتاة قوية الإرادة. شهمة جريئة.
وإذ ذاك كان الملك مقبلاً نحوها.
وأقبل الملك فجلس يقعد ومضى يقول. . . . أرى أن تتكلم كلمة او كلمتين في برنامج حفل الغد.
فتردد الأمير ونظر إلى العروس ليسألها نجدته واسعافه على القول ثم عاد يقول إن الأميرة تشعر بالتعب. ونرى أن الأفضل أن نلغي حفلة الغد إذا كان ذلك ميسوراً.
قال الملك. ونقصر همنا على مرقص الليلة. ليكن ذلك. فأجاب الأمير، أخشى أن يكون المرقص متعب لنا. إذ سنضطر إلى التسليم على ألفي إنسان وتخلق عند التحية لكل إنسان كلمة أو كلمتين تناسبان المقام.
وإذ ذاك نهض فقدم ذراعه للملكة العروس. ورأى الشيخ ذلك منهما فقال في صوت رقيق يحدث نفسه. انه لفتى طيب جميل ولكن يميل إلى ترك فروع شعره متدلية على أذنيه.
* * *
في الساعة الرابعة من السحر. وقد هدأت الرجل في القصر. وقام أهلوه. كان الأمير أيفولت يمشي على أطراف أصابعه متسللاً في ردهة القصر حتى وقف باب الأميرة فلم يكد يمكث بالباب لحظة حتى فتح الباب وطلعت الفتاة من خدرها مشتملة بمعطف طويل وقد غطت رأسها بقبعة من الفرو وتقنعت بقناع كثيف فاشتبكت أيديهما في الظلام اشتباكة تأثر وعزيمة غريبة فمشيا حتى بلغا نافذة صغيرة تشرف على حديقة القصر والأرض منها تبعد بنحو أقدام قلائل.
قال إيفولت إنها لمخاطرة كبيرة ولكننا إذا حاولنا الخروج من أبواب القصر اعترضنا الحراس والحفاظ ولا بد لهم من السؤال فنظرت الأميرة من النافذة وقالت اغمض عينيك إذا كنت تشعر بالاضطراب.(58/36)
فلم تكد تمضي لحظة حتى وثب من النافذة. فإذا هو في أرض الحديقة واقفاً.
قالت الأميرة. هل أثب؟
قال_نعم
ووثبت. . . . .
وجعلا يمشيان حتى بلغا سوراً غير متعال فقال الأمير: ليس لنا سبيل إلى الخروج إلا بالوثوب على هذا السور خمسة أقدام.
قالت الأميرة. مستضحكة. ومن ذا الذي لا يلبث خمسة أقدام في سبيل الحرية!.
قال الأمير إنك لمدهشة.
قلت - هلم
فقال هلمي
ووثب وطفرت بعده فتلقاها إيفولت باليمين. والتقيا خارج السور وأحسا قلبيهما ينبضان أشد النبض.
قال. لا تبعد السيارة عنا إلا مسافة دقيقتين!
فانطلقا يعدوان حتى بلغا السيارة
فطارت بهما في جنح الظلام
قال الملك الشيخ لكاتم سره صبيحة اليوم التالي، أرجو أن تبلغ تهنئتي للأمير وتقول له أنني أريد أن أراه.
فمضى كاتم السر ولكنه لم يلبث أن عاد وهو يقول. أي صاحب الجلالة إن الأمير غير موجود في القصر كله.
فرفع الملك رأسه وقطب جبينه وقال. ادع لي وصيف الأمير ودعه ينتظر أمري لدى الباب.
وإذ ذاك دق التليفون. وكان المتكلم الملكة فالتقط الملك السماعة في اللحظة التي خرج فيها كاتم السر من الحجرة.
قالت الملكة في التليفون. لقد ذهبت الأميرة. يلوح لي أنها لا بد من أنها تركت الحجرة حوالي الساعة الرابعة فجراً وقد عثرت إحدى وصيفاتها على ساعة معصم ملقاة على(58/37)
الأرض في الردهة محطمة وقد وقف عقرباها على الرابعة.
قال الملك لا تنزعجي. سأكون لديك في الحال فوضع السماعة وفتح الباب وإذ ذاك دخل وصيف الأميرة فابتدره الملك قائلاً. أي الأثواب ارتدى لأمير في هذا الصباح؟
قال الرجل - لباس السيارات يا صاحب الجلالة فأمسك الملك بلحيته مفكراً ثم قال. أغلق أبواب حجرات الأمير. وصندوق هذا الحديث الذي جرى الآن. ولا تقل لأحد شيئاً.
وأشاح عنه بوجهه فدق الجرس وفي الحال كان كاتم سره في حضرته. انشر في صحائف الملكة كلها خبراً مؤداه انه يخشى أن يكون الأمير وعروسه قد أصيبا بوعكة البرد وقد وصى طبيب القصر بأن يبقى العروسان في حجرتهما لا يخرجان منها حتى يتماثلا للعافية، قال كاتم السر، وماذا نصنع بالمرقص الذي سيقام يا صاحب الجلالة.
قال الملك بلهجة العزيمة الصارمة سيقامن، وانطلق الملك يريد حجرة الملكة.
قال: لقد هربا معاً.
قالت الملكة - مبهوتة - ايقولت كذلك؟
قال: نعم - لقد ذهبا هما الاثنين.
قالت. ولكن لماذا؟
فأجاب الملك - وقد سقط في مقعد متعباً - ومن أين لي أن أعلم؟
وظلت السيارة تعدو بالعروسين الهاربين حتى قطعت مائتي ميل. وإن ذاك لاحت لهما عن بعد قباب قرية ذات سوق ومتاجر.
قال الأمير - بالطبع سنجد سيارة هناك للأجرة فهل تستطيعين سوق السيارات.
قالت الأميرة. أي نعم. أستطيع أي شيء
قال الأمير. ولكني أخشى أن يستوقفوك عند الحدود.
فأجابت الفتاة. لمن أحاول اجتيازها. بل سأترك السيارة في وسط الغابة وأتسلل بين الدوح حتى أصل إلى الطريق العامة.
فسألها الأمير. هل المكان بعيد.
قالت الأميرة. كلا. . . . بل الاسطبلات في الناحية الأخرى من الغابة.
فوقف الفتى حائراً لا يدري ماذا يقول على أنه ما؟؟؟؟؟ أن قال. ألا تشعرين بأي تردد.(58/38)
قالت - كلا
قال أتظنين أنه سيحسن لقاءك ويتلقك بأحسن من يتلقى حبيب حبيبا
فأجابت وهي باسمة. أجل. إنه لرجل خطير إنه لآية الإبداع
قال ليكن ذلك. ولعلي. موفض بالسيارة نحو سبعين ميلاً حتى أدرك المكان
قالت الملكة - نعم. وأرجو أن تجدها كما تراها بعين الحلم والخيال الآن وتلقيها كعهدك آخر لقاء بها وأتمنى لك السعادة والهناء.
فقال ايفولت. أتمنى ذلك وكان صوته أثر من نغمة الشك.
وساد السكون بينهما برهة ومرا بالسيارة ينفذان في أرباض القرية. وأوقف الأمير المركبة بباب. . . . ورشة. . . . . الأوتومبيلات
وصاح بالقوم. أريد سيارة!
قال صاحب المصنع. للأجرة تريدها أم للشراء
قال للأجرة فرد عليه الرجل قائلاً. ولكن ليس لدي سائق يسوقها
فاجب الأمير. إن السيدة تجيد سوق السيارات
قال الرجل. متردداً_نعم - ولكن
فعاجله البرنس بالقول. لا حاجة إلا ولكن هذه أنني أبتاعها ابتياعاً إذ أردت
قال الرجل. لا مانع لدي من بيعها ولكنها قديمة وأنا على أحسن حال.
وذكر الثمن ودفع الأمير إليه به ثم قال_هي الآن على استعداد للسفر.
قال الرجل وهو يعد الأوراق المالية بل ستكون كذلك في لحظات.
ولم تكد تمضي لحظات قليلة حتى كانت السيارة واقفة على استعداد، وهنا مد الفتى يده إلى صاحبته. وقال. . . الآن. . . . وداعاً فمدت إليه يدها.
قال مستطرداً حديثه. إنك أبدع فتاة لقيتها في حياتي. إنك لفتاة مدهشة. ولا أدري كيف تطاوعني نفسي أن أقول لك. وداعاًً. وداعاً ولكن من يدري لعلنا مجتمعان بعد الآن عندما تتزوجين به وأتزوج بها. فسنلتقي ونعيش جميعاً عيشة واحدة.
فأجابت الأميرة. هو ذلك. هو ذلك. إذن فلا تدعنا نقول وداعاً حتى يقدر الله لنا اللقاء الثاني.(58/39)
فعقب هو على كلامها فقال. عجل الله بذالك اللقاء ليباركك الرحمن. فقالت هي. وليباركك كذلك.
فرفعها إلى السيارة بكل أدب واحترام ووقف يرقبها حتى اختفت السيارة بها عن الأنظار وإذ ذاك هز نفسه فرحاً معتزاً وقال لنفسه. الآن قد أصبحت حراً متخلصاً من قيود المجتمع.
وفي لحظة عدت السيارة مطلقة للريح عجلاتها واختفى.
* * *
قال الملك يحادث زوجته الملكة. ما علينا إلا التعلل والصبر.
قالت الملكة. ولكن لنفرض أنهما لن يعودوأ أصلاً.
فأجاب الملك الشيخ. إن هناك يا عزيزتي مثلاً سائراً يقول لا تثقوا بالامراء ولكن شعاري وديدني يخالفان هذا المثلإذ أن من عادتي أن أثق بالأمراء ماعشت. ولهذا أقول لك ان الأمير ولا ريب راجع إلينا. ألا تحبين أن نخرج للنزهة. ونشرف على الشعب.
قالت الملكة إذا أحببت.
وانطلقا.
* * *
ونزل الأمير ايفولت عن السيارة وراح يمشي مخترقاً للغابة وترك الأمير الفتى السيارة وراح ينفذ في منفس الغابة وأحس أنه في اضطراب ذهني وقلق واختفت عن عينيه أشباح تلك الأحلام الجميلة التي كانت تتراءى له. ولم يعد يشعر بتلك اللذة الساحرة التي كان يتخيل أنه سيشعر بها إذا انطلق من قصر أبيه - ولم ير تلك الفتنة التي كان يظن أن ظفر بالحربة في طيات فؤاده. وكان قد مضت عليه ساعات لم يذق طعاماً. ولا غرو إذا لم يجد فيما حوله فرحة. ولم ير ابتهاجاً لأن المعدة الخالية لا تنبه في الجائع شيئاً من السرور إذا كان السرور حوله. وهناك رأى الحقول والاجم كما كان يتصورها في ذاكرته. وهناك كانت تجري من تحتها الجداول. . . . . متغنية أغانيها المائية. مترنمة للصخور التي تحف بعدوتها ولكن أين ذل ك الابتهاج الخفاق في قلب الشباب الغض الناضر الذي كان يسوقه عاري القدمين منذ سنين إلى ذلك الموضع. وأين ذاك الباعث الذي كان يثيره إلى(58/40)
غشيان تلك العهود والروحات الحسناء الناعمة. وهناك من خلال طائفة من السرح المتطاول الافرع. رأى دخاناً متكاثفاً في الجو متصاعداً. تلك هي المزرعة. هناك تخيل بأنه سيراها بتلك الفروع الحمراء والعين الرانية. وجلال البساتين يحف بها ويكسو بدنها الغض اللدن الجميل.
هنا تنفس طويلاً وانطلق يجد السير إلى الموضع فلما بلغه وجد عنده رجلاً جالساً لدى باب منزل هناك يدخن في قصبة طويلة له. وينظر فيما حول هـ نظرة فارغة مذهولة وهو في سكون تام. فتبينه الأمير فإذا هو خال الفتاة وإنما علته الستون وأثرت في معالم وجهه كرة الأعوام.
فدنا من الأمير وحياه تحية القرويين وقال_انني ضللت الطريق وبي جوع شديد فهل لك أن تطعمني؟
فأخرج الرجل القصبة من فمه وأجاب. إذا دفعت ثمن ما تطعم. قال الفتى؟ هذا ما لا شك فيه.
ومشى الرجل بالأمير فاخترقا فناء البيت حتى بلغا حجرة أشبه شيء بالمطبخ وترك الرجل الأمير وهو يقول. سأخبر ها أن تهيء لك الطعام.
وانطلق من باب آخر مكث ألأمير يرتقب الطعام أمام مائدة مهشمة بالية وشعر ذاك أن يديه ترتجفان وقد جف ريقه وقد سرت في نفسه حاسة الانتظار والتلهف والخوف من أن يفسد عليه ذلك الحلم المعسول الذي كان يتخيله في صحوه ومنامه، فبعد مدة قصيرة حسبها أجيلاً وأدهاراً فتح الباب بدفعة صينية تحملها يد فتاة قروية الملامح وتقدمت فوصعت الصينية أمامه فوق المائدة وقالت هذا كل ما نستطيع أن نطعكمه، فسكت الأمير وتنفس طويلاً وراح يجيل فيها البصر.
كان شعرها معقوصاً في غير نظام. مجدولا في غير نسق أو إبداع. مهملاً أشعث مغفلاً. وحاجبها مجعداً وقد بدت الغصون والمكاسر في جلدة خديها وصفحة وجهها. وكانت شفتاها. تلك الشفتان اللتان كان يتخيلها كآخر عهده بهما قطعة من الارجوا، ولهيباً. من لهب النيران. راحتا متدليتين متراخيتين في ذبول ودمامة. وعيناها. يالله لقد كانت عينين فعولين بالألباب فعل الخمر في النفس. أما الآن فقد ذهب عنهما ذلك الصفاء الذي كان أكبر(58/41)
جمالها. وتولت نلك الطهارة التي كان تطل منهما. وكأنها لم تعرف ماذا تصنع بيديها ها فقد تركتهما بقذارتهما فوق بذلتها.
قال الأمير. إنني لموفور الحظ إن وجدت هذا الكرم منكم. فاستضحكت ومشت تريد الباب فاستوقفها الفتى متوسلاً وهو يقول. ألا تتحملين المكث بجانبي ريثما أنتهي من الطعام.
فأجابت. لا. لا أستطيع
قال الفتى معيداً الرجاء. ولكن تلك منة كبرى تصنعينها لي. فنظرت إليه نظرة حادة وضحكت ضحكة بغاء وقالت. نعم إنها لمنة وصنيع كبير.
ولم تشمئز نفس الفتى أشد مما اشمأزت من تلك النظرة المتكلفة. ومن علمها بحقيقته وتجاهلها له. وذلك المظهر الخداع الذي ظهرت به.
فانحنى على الرغيف الذي أمامه وراح يقضم قطعة الجبن التي قدمت له وشاح بصره عنها. فلما رفعه بعد فترة رآها قد وقفت بجانب الحائط وهي تنظر إليه نظرات خبيثة ماكرة شهوانية.
قال الأمير. إنك لتذكرينني بفتاة عرفتها منذ دهر بعيد فهل تحزرين من تكون تلك الفتاة.
فلم تجب
وأعاد الأمير السؤال. لقد كانت فتاة أحبها وأهيم بذلك الحب.
فانطلقت الفتاة في نوبة من الضحكات العصبية وأطالت بوجهها وقالت - إنك لفظيع. . . .
وفي تلك اللحظة. وما كادت هذه الكلمات تخرج من فم الفتاة حتى تولى الأمير اشمئزاز شديد فأخرج قطعاً فضية من النقود وطرحها على المائدة ورفع قبعته إلى رأسه وفر من البيت عاديا.
وسمع وراءه صوت الشيخ يصيح به. . . أنت يا هذا هل دفعت ثمن ما طعمت!.
فأجابه بايماءة الايجاب ومضى نافذاً في الحقول.
ومضت ساعة وهو يمشي لا يلوي على شيء. ثم وقف تحت ظل سرحة عظيمة هناك مفكراً سارحاً في بيداء الفكر وما عنم أن قال لنفسه إذ ذاك. ولكن لا تزال لي ذلك حريتي، وكأنما سمع إذ ذاك كل ما حوله يصيح به صيحة هازئة ساخرة قائلة. كلا. كلا أين حريتك يا أبله.(58/42)
فجلس ثمت وأخفى عينيه في راحتيه وراح يئن ويبكي ويقول لنفسه. . لقد طرحت كل شيء. لقد نبذت الواجب. ورميت الشرف. وبذلت كل شيء ضحية وفدى ولن أستطيع بعد ما أصبحت هزؤة وسخرية في أعين الشعب والأمة أن أحاول رجوعاً إلى القصر.
وأخرج ساعة ونظر فيها فإذا الساعة الثالثة وعلم أنه يبعد عن العاصمة بمائتين وخمسين ميلاً وسيفتح المقصف والمرقص في الساعة التاسعة. ورأى أنه لو قطع أربعين من الأميال في الساعة - استطاع أن يكون على أبواب القصر في ذلك الميعاد، فلم تكد تجول في نفسه الخواطر حتى نهض واثباً من مجلسه. وعدا يجري بحمية هائلة إلى الوادي، ولكنه ما عتم أن فكر في ألأميرة فوقف في مكانه وتصور أنه قد يصل فلا يراها. وتقع إذ ذاك الفضيحة ولكن شعبه وواجبه نحو شعبه وأمته. وجعل يقول لنفسه أنهم على مر الزمن سينسون نبأ الأميرة التي هربت. وسيتزوج أميرة أخرى غيرها. ثم أبواه. أبواه. الملك الشيخ والملكة فصاح بنفسه. ما كان أحمقني وأضلني. كيف قبلت ذلك وكيف رضيت لها أيضاً أن تفعل ذلك.
ووجد نفسه بعد هذا يجري مطلقاً للريح ساقيه. واثباً لجداول الصغيرة عادياً فوق مياهاهها الضاحكة. متخطياً الجذوع المحطمة - وفروع الشجر المتساقطة.
أما الأميرة الفتاه فبلغت الاسطبلات وقد دقت الساعة واحدة وأرت عندها غلاماً يملأ وعاء من بئر هناك فنادته وسألته على رجلها المنشود فأجب الصبي أنه يعرف مكانه وانطلق يعدو ليناديه وفي الحال أقبل الرجل يمشي وراء الغلام فلما أشرف عليها تولاها شيء من الرعب إذ لاح الرجل في عينها كأنه مخيف الطلعة عن كثب وأشار الغلام بأنملته صوب الفتاة والتقط وعاءه ومضى منصرفاً وتقدم الرجل فإذا وجهه أحمر مجعد قذر.
قالت الفتاة تخاطبه. آه. هاأنت قد جئت. .
فرد الرجل قائلاً. . . هل من خدمة يا آنسة؟.
فاجابت - ألا تعرفني. . .
فهز رأسه وكشفت هي اللئام عن وجهها فنظر وحدق البصر للحال أجفل وتراجع.
قالت. . ما رأيك الآن.
فلعق شفتيه مضطرباً وقال متلعثماً ماذا تريدين يا صاحبة السمو.(58/43)
فعجبت الفتاة وقالت. هل أخفتك. ولم الخوف. لقد قطعت كل هذه الشقة لكي. . .
فقاطعها الرجل بقوله. حسبك يا مولاتي. لا تنبئيني بذلك أتوسل إليك. لا تنبئيني. لقد تكون منك دعاية وأمراً بسيطاً للغاية ولكنه عندي أمر عظيم وخطب كبير. .
قالت الأميرة. بل هو عندي كذلك. أنني أجد ولا أمزح.
فهز رأسه هزة أخرى وقال بسرعة. لقد كنت أحمق مغفلاً. لقد سلكت مسالك الحمقى الأغرار ولكني اعتبرت بالدرس الذي تعلمت فلا ينبغي للإنسان أن يتعالى إلى مصاف الذين هم فوق مرتبته.
فنظرت إليه الأميرة مندهشة ومضى هو يقول. نعم. لقد اعتبرت يوم طردوني فكدحت في ذلك العهد ورأيت المرين في الغيش. . . . وقد كلفتني تلك الدقائق الثلاث من عمري أعواناً ثلاثة. ولا نفع الآن في ذلك ولا فائدة. فإن علي مسئولية كبرى اليوم. ولا علم لم جئت الآن وأي باعث ساقك إلي. فهلا أسديت إلي يا صاحبة السمو يا مولاتي الأميرة. أكبر الصنيع. بذهابك فإنني أخشى وأفرق من مقدمك.
فصمتت الأميرة هنيهة ثم قالت وهي تعيد اللئام إلى وجهها. . . أي مسئولية تعني؟
قال الرجل. أجل مولاتي. إنني الآن رجل متزوج ثم. . . . . فوجمت الأميرة وانبرت تقول. أعرف ذلك ولكني لا أدري باعث اضطرابك. إنني إنما جئت لأهنك بالزواج. . . .
وتولت عنه دون كلام وانطلقت.
فلما ابتعدت راحت تبكي قائلة لنفسها. كان ينبغي أن لا يدعني أحضر. أين أذهب الآن. لا أستطيع العودة إلى القصر. أين الذهاب. أين الذهاب. أين الذهاب.
وأنت أيها القارئ تعلم أن المشكلة التي تشغل ذهن الرجل منا ساعات طوالاً في سبيل حلها والتخلص منها لا تأخذ في ذهن المرأة أطول من دقائق قلائل ولحظات ولهذا لم تلبث الفتاة أن نفذت من العوسج فبلغت سيارتها التي تركنها على الطريق وفي لحظات كانت تنهب الأرض بها نهباً تريد العاصمة.
* * *
وما كادت تدق الرابعة حتى كان إيفولت قد أدرك القرية التي ودع عندها الأميرة وجعل الناس يفرون من طريق سيارته على اليمين وعلى الشمال عزين. والسيارة منطلقة تطوي(58/44)
الطريق طياً. وقد جعل لفتى يقول لنفسه. الآن. ليبس شيء أمامي سأصل في الموعد المضروب للمرقص.
ولكن هناك على مسافة غير بعيدة منه كانت الأميرة كذلك تسير بمركبتها بسرعة هائلة.
وما عتمت الشمس أن اختفت وراء الجبال وعم الظلام الأرض فقالت الفتاة لنفسها. لا أستطيع نظراً في هذه الظلمة ولكن لم يبق علي إلا ستون ميلاً. وهي ليست بالمسافة الكبرى وينبغي أن لا أحدث بغيابي فضيحة ما.
وانطلقت ولكن لم يلبث أن وقفت السيارة وقد تحطمت عجلاتها الأمامية فأرادت أن تعالج دفع السيارة فمضت العجلة حتى سقطت في حفرة صغيرة على جانب الطريق. فتولى الأميرة البأس وجلست في مقعد السيارة تبكي وتنتحب وحجبها الظلام بستارة واختفت دموعها في حلكته وللحال اخترق الجو صوت مهمهم أشبه شيء بصةت سيارة تعدو الأرض وجعل الصوت يزداد ويعلو فصرخت. . . . هذه سيارة!. . فنهضت من مجلسها ورفعت ذراعيها وقد دنت المركبة قليلاً وإذ ذاك تبينت السيارة فصاخت لنفسها هذا ايفولت. هذا ايفولت!. ولكن الأمير لم ير إلا لمحة من شبح الظلام وظل سيارة مرتطمة في الحفرة فانفلت سريعاً في الطريق وانطلق بآخر سرعة العجلة إذ كان يريد أن يبلغ القصر على جناح البرق. ولم يحتاج الأمر إلى الوقوف إلى إنقاذ هذا الراكب وسيارته المحطمة.
فوقفت الأميرة وهي في أشد حالات البأس لا تدري ماذا تصنع.
وإذ ذاك مر رجل على دراجة بخارية موتوسيكل وهو ينهب الأرض نهباً حتى كاد يصطدم بها ويدهمها وهي واقفة على الطريق مذهولة اللب، وكان اجتناب لاصطدام بها ليس في مكنته فأخذها في طريقه وجعلت تتحرج أمام الدراجة حتى استطاع أن يوقفها.
ونزل الرجل وقد تولاه الجزع وقال للفتاة - وهو ينهضها من سقطها. . . . لم يكن ينبغي أن تقفي في وسط الطريق والظلام حالك. هل جرحت؟
ولكن الأميرة لم تحفل بألم العثرة إذ رأت وسيلة الخلاص قد تمهدت لها. وعاجلته بقولها. كلا. لم يصبني شيء. بل أريد أن أبلغ العاصمة. أنك ستأخذني إلى العاصمة فهز الرجل رأسه وقال. آسف يا آنسة. فإنني على رهان اليوم، وقد كدت أكسب مائة جنيه فإذا أخذتك فأنا ولا ريب خاسرها.(58/45)
فقالت الأميرة وهي مصرة. ولكنك ستأخذني إليها. . يجب أن تفعل. يجب أن تفعل.
قال الرجل ببرود. . لا أرى سبباً موجباً على ذلك فتلك صفقة طيبة وأنا رجل أعيش من أمثال هذه المراهنات. .
فقالت الأميرة. أنا السبب الذي يوجب عليك ذلك. . . ألا تنظر إليّ لتعرف من أكون؟.
وحسرت قناعها ووقفت أمام مصباح دراجتة فما كاد الرجل يبصر وجهها حتى تلعثم واضطرب وصاح. يا إله السموات. ولكن ماذا جاء بك إلى هذا المكان يا صاحبة السمو.
قالت الفتاة. أعرف أنني كنت فيما ارتكبته حمقاء. . طائشة. لقدر أردت فراراً والآن أريد عوداً مسرعاً. وها أنت رجل مهذب وعليك أن تعينني على بلوغ العاصمة.
قال الرجل. لست رجلاً مهذباً يا مولاتي. وإنما أنا صانع عادي لا أقل ولا أكثر ولكني فاعل ذلك دون سؤال. هلمي واصعدي ورائي.
وواصلت الفتاة الملوكية مسيرها خلف الرجل ورديفة فوق العجلة وقد أمسكت بذراعيه وطوقت خصره بيديها.
* * *
وكانت قاعة الاستقبال في القصر في الموعد المضروب وخاصة بالاضياف والمدعوين وعلا القوم الدهشة إذ رأوا الأمير ايفولت يدخل القاعة وحده بلا عروسه. ولم تظهر على الملكة والملك علائم الدهشة إذ دنا فتاهما منهما وانحنى انحاءة الملوك للملوك ولكن الملك الشيخ همس له في أذنه - لقد قطعت المسافة بنجاح تام. ولكن أين الأميرة؟
فهز ايفولت رأسه وقال. إنها لن تعود.
فنظر الملك إلى الملكة وألقت هي ببصرها إليه.
قال إيفولت هل أنبئ المدعوين؟.
قال الملك نعم. ولكن برفق. لنقل إن الأميرة لم يرق له المقام في أرضنا الجديدة.
فأرسل الأمير نفساً صاعداً وبدأ خطبته فقال:
سيداتي. سادتي!
وللحل انفتح الباب وبدت الأميرة في ثوب أبيض فضفاض مزركش وهي تقول. هل تأخرت، وأردفت كلمتها المتواضعة الظريفة بابتسامة ملكت بها قلوب الحاضرين. . . . .(58/46)
* * *
ووجد الأمير نفسه في خلوة وعروسه بعد ساعات فهمس لها في أذنها. . . لن نعود إلى الفرار من بعضنا بعد اليوم. . . . .(58/47)
الحاوى
كل قارئ. ولا ريب يعرف الحلوى. ولطالما أعجبته أما به يوم كان طفلاً. ولطالما استوقفته الزحمة التي حوله وهو راجع من (الكتّاب) يجمل اللوح تحت ابطه وألهته الألعاب التي كان يشاهدها من الحلوى عند العودة إلى المنزل حتى أشفق أهله من غيابه. فأرسلوا في أثره المنادي ينادي يا عدوي.
هذا ولا ريب أمر معلوم لأطفال الدنيا الكبار منهم والصغار وقد اخترنا هذا العنوان لباب من أبواب البيان يفتح على طائفة كبيرة من الفكاهات الفلسفية والمقالات المفرحة المبهجة والخواطر المليحة النادرة إذ تجتمع الحكمة والفكاهة في إطار واحد.
وقد آثرنا أن نفتح هذا الباب بنشر المقالات عدة لكاتب من كبار كتاب الغرب يعد في الصفوف الأولى من الفلاسفة المضحكين. والكتاب المتهكمين. بما انما زعن الكتاب الآخرين، براعة أسلوب. ولطف منحى، وسعة روح، وتهكم حلو في حدود الحق. وهو الكاتب المشهور، المستر شسترتون.
وهو من الكتاب المعاصرين ألحياء. ويعد من كتاب الطبقة الأولى.
سر النجاح
في عصرنا هذا ظهر نوع خاص من الكتب والمقالات أشهد حقاً لا حانثاً ولا كاذباً أنها أسخف ما اخرج الناس في الدنيا كلها. فهي أكثر غرابة من اغرب روايات الحب والفروسية وأثقل ظلاً من الكتب الدينية وفضلاً عن ذلك فإن روايات الحب والفروسية هي كتب تدور حول الحب والفروسية. والكتب الدينية هي عن الدين ولكن هذه الكتب التي أتكلم عنها هي عن لا شيء أو هي عما يسمونه النجاح ففي جميع رفوف المكاتب. وفي كل مجلة ترى أيها القارئ كتباً ومصنفات وأبحاثاً تبين للناس سبيل النجاح. وتبصرهم وترشدهم كيف ينجحون في الدنيا ويفوزون وهذه المصنفات والكتب وضعها كتاب ومؤلفون لم ينجحوا في أي شيء في الدنيا حتى ولا في كتابة الكتب. لأنه قبل كل شيء يجب أن تعرف أيها القارئ. أنه بالطبع لا يوجد بالعالم شيء كهذا يسمى النجاح أو إن شئت تعبيراً آخر فاعلم أن لا شيء في العالم إلا وهو ناجح. وأن تقول عن شيء أنه ناجح لا تزيد شيئاً عليه. فالناجح ناجح. والمليونير الناجح أي صاحب الملايين الناجح ناجح في(58/48)
انه مليونير. والحمار الناجح ناجح في انه حمار. والإنسان الحي قد نجح في انه عائش والميت كان يكون ناجحاً لو أنه انتحر.
إن هؤلاء الناس يريدون بكتبهم تلك أن يقولوا للإنسان العادي عن الطريقة التي يستطيع بها أن يبلغ النجاح في صناعته أو حرفته أو آماله أو أطماعه وكيف ينجح في العمارات والبناية إذا كان بناء أو (معمارياً) وفي السمسرة إذا كان سمساراً ويريدون بمؤلفاتهم هذه أن يشرحوا للصحافي (الترسو) و (الجيونالجي) الغلبان، كيف يصير في الصف الأول من أصحاب الصحف الكبرى. أو كيف يصبح عضواً في الجمعية التشريعية ويبينوا لليهودي الألماني كيف يصبر (من الأنكليز السكسون) وهذا بالحق مشروع لطيف، هذه شغلة تجارية جميلة. وأفتكر أن للناس الذين يشترون تلك الكتب إن كانت ثمت احد يبتاع كتباً مثل هذه حقاً أبيا - إن لم يكن حقاً قانونيا - في طلب فلوسهم واستراد أثمان تلك الكتب، إذ لا يجترئ مخلوق في الدنيا أن ينشر على الناس كتاباً في (الكهرباء) لم يحو شيئاً البتة عن الكهرباء، ولا يجسر إنسان على نشر مقال في علم النباتات يدل على أن الكاتب لا يعرف إذا كانت (الفجلة) تختفي في الأرض أو تظهر قبل الذيل على الأرض. ومع ذلك لا تزال دنيانا الحاضرة مخنوقة بالكتب الدائرة حول النجاح والناجحين. وهي لا تحتوي أية فكرة على الإطلاق ولا معنى لها ولا قيمة.
ومما لا شك فيه أن لا توجد في كل صناعة شريفة كضرب الطوب أو كتابة الكتب إلا وسيلتان للنجاح، إما أن يؤدي صاحب الصنعة عملاً جيداً وإما أن يغش، وكلا الوسيلتين من السهولة والبساطة بحيث لا حاجة إلى شرح أو تفسير. فإذا كنت حاذقاً في الوثب العالي في الألعاب الرياضية فإما أن تثب أعلى من أي واثب آخر، إما أن تحال على الإدعاء بأنك وثبت كذلك. وإذا أردت النجاح في لعبة الويست - الميسر - فإما أن تكون من مهرة اللاعبين إما أن تغش الورق وتلعب بأوراق معلمة أو منقطة وأنا لا أنكر أنك قد تحتاج إلى كتاب ف يطرق الوثب والنط أو قد تحتاج إلى كتاب في النجاح كتلك الكتب التي تراها اليوم منثورة بالمئات في الكتبية وسوق الكتب، نعم قد تريد الوثب أو تطلب اللعب بالورق ولكنك لا تحتاج إلى قراءة صفحات عديدة لا تخرج منها إلا بأن بالوثب وثب والقفز قفز وأن الألعاب يكسبها الناجحون، على أنه لو أراد هؤلاء الكتاب أن يقولوا شيئاً ذا معنى في(58/49)
موضوع الوثب والنجاح فيه. ينبغي للواثب أن يضع غرضاً معيناً معيناً نصب عينيه ويجب أن تكون رغبته موجهة بكليتها إلى الوثب أعلى من المبارين والمتسابقين جميعاً. ويجب أن لا يدع لأية عاطفة من عواطف الشقفة سبيلاً إلى منعه من بذل قصارى جهده بل لا يجب أن لا يبرح عن باله أن المباراة في الوثب هي مباراة. . . بحق وحقيق. وإن الضعفاء، كما قال دارون، يجب أن يتلهوا، على أعينهم فلو كان كاتباً منهم كتب هذه كلها أو بعضها لكان منه خير ولكانت منه فائدة لو قرئ على فتى يانع قبل أن يدخل في مسابقة الوثب العالي أو لو وضع هذا الكاتب واشباهه مؤلفاً في لعب الورق فأولى به أن يقول في تأليفه. . . لا بد في لعب الورق من الحذر في الوقوع في الخطر الشائع بين الإنسانيين والكماليين من اهل الدنيا والقائلين بحرية التجارة. وهو أن تسمح لمزاحمك وقرتك في المباراة بأن يكسب الرهان. بل ينبغي أن تضع كل همك في الفوز فإن أيام المذاهب الكمالية والتسامح والعواطف قد زالت ودالت ولتها. واننا نعيش في عصر العلم، وعصر العقل وإذا لم يكسب أحد القرنين السباق. فسيكسبه من غير كلام قرنه الآخر.
كان كل هذا يكون صالحاً لو عمد إليه كتاب. . . النجاح. ولكنني اعترف بأنني إذا أحببت اللعب فإنني أفضل على كل هذا كتاباً صغيراًً يشرح لي قواعد اللعب وطرقه. وبعد القواعد والطرق لا أريد شيئاً. فإن الموضوع بقى بعد ذلك موضوع ذكاء أو موضوع غش، وعلي أنا أن ألجأ إلى الأول أو أختار الثاني.
وقد وقعت في يدي يوماً مجلة من المجلات فوجدت مثالاً غريباً استشهد الآن به، إذ في المجلة مقال بعنوان الغريزة التي تجعل الناس أغنياء، وقد صار ذلك المقال بصورة ضخمة للورد روتشيلد، ونحن نعرف أن هناك وسائل عديدة. بين وسائل شريفة، ووسائل سافلة خادعة دنيئة، تجعل من الناس أغنياء وثراة. أما أن تكون هناك غريزة تجعل القوم أغنياء فلا نعرف فلا أعرف شيئاً عن ذلك إلا ما يسميه رجال الدين، رذيلة البخل والشح، وأنا أريد أن أختطف الشذرة الآتية من ذلك المقال الموضوع ل تفهيم الناس سبل النجاح في الحياة. . .
إن اسم فندربلت (1) وكلمة ثراء لفظتان مترادفتان لمعنى واحد وهو الثراء الذي اكتسب بفضل المشاريع والأعمال الخطيرة. ولكن ذلك الرجل العظيم إنما أنشأ أول مرة نشأة(58/50)
صغيرة. أعني ابن فلاح فقير فانتهى أمره بأن أصبح مليونير بل قل أكبر من مليونير بعشرين مرة وما ذلك إلا لأنه كان يملك غريزة تكثير المال وتنميته ولأنه كان ينتهز الفرص السوانح التي تعرض له - الرفص التي مهد لها استخدام الآلة البخارية في تسيير السفن على صدر الاوقيانوس. وبفضل كل أولئك استطاع أن يجمع ثروة كبرى.
ولكن مما لا ريب فيه أننا لا نستطيع جميعاً أن نقتفي أثر ذلك الملك العظيم ملك السكة الحديد لأن الفرص التي وقعت له لا تقع لنا بحذافيرها. ولأن الظروف تغيرت، وإنما نستطيع على الرغم من كل هذا أن نتبع طرقه العامة بأن ننتهز الفرص التي تمهد لنا ونحتال بكل ما نستطيع على بلوغ الثراء.
من كل هذه النعمة نستطيع الآن أن ندرك ما وراء كل هذه المقالات وأشباهها وتلك الكتب وإضرابها، فليس المقصود العمل والاجتهاد، والدأب والسعي وإنما هو جلال المال وغموض مسألة الثروة وجمعها وهذا المقال يدا دلالة واضحة على أن الكاتب لا يدري شيئاً قط عن الطريقة التي جمع بها فندربلت ماله وثراءه ولا عن الطريقة التي يجمع بها أي إنسان آخر المال. ولا أنكر أنه رسم خطة في هذه الأسطر ولكنها ليست الطريقة التي اتبعها فندربلت أصلاً. وإنما أراد من كل هذا أن يسجد للغز المال وجمعه وتنميته ووفرته، لأننا عند ما نعيد شيئاً من الأشياء لا نولع إلا بالناحية الغامضة الرهيبة منه فمثلاً عندما يعشق رجلاً امرأة لا يلذه منها ولا يروق في عينيه من خصالها إلا غرابة أطوارها وتدللها وطفولة عقلها، وكذلك الشاعر المتدين المؤمن الذي يحب دائماً أن يصور الخالق في صورة غامضة جد الغموض ولكن الكاتب الذي بسطنا كلامه ليس أمام إله أو خالق ولا هو متعشق امرأة وإنما الشيء الذي يعشقه ويعبده هو فندربلت فهو ينظر إلى نظر المؤمن إلى الله وهو لا يكتم سروره وفرحه بأن إلهه فندربلت يخفي عنه سراً له مكتوماً بل أن روحه لتمتلئ ابتهاجاً ولذة ومكراً وخبثاً أشبه بخبث القساوسة ومكرهم إذ يريد أن يكشف للناس اللئام عن هذا السر الذي لا يدري منه حرفاً.
وقد انتقل الكاتب إلى الكلام عن الغريزة التي تجعل الناس أغنياء فقال: (في العصور الغابرة كانت هذه الغريزة مفهومة على حقيقتها وقد عبدها اليونان القدماء باختراع قصة الملك ميداس الذي كلما لمس شيئاً استحال في يده ذهباً وكثيرون أمثال ميداس في هذا(58/51)
العصر والنجاح رائدهم في كل عمل لهم فهم لا يخيبون قط ولا يبوؤون بالفشل.
ولكن لسوء الحظ قد خاب ميداس لأنه جاع ومات من الجوع لأن كل شيء لمسه استحال ذهباً وكلما أمسك قطعة من البسكويت أو السندوتش انقلبت ذهباً في يده!. . .
نعم إن قصة ميداس هذه قصة خرافية فيها شيء من الحكمة ولكن لا يصح أن نطبقها على الأغنياء مثل فندربلت لأنه خاب ولم ينجح وطق من الجوع ثم لا تنسى أنه كان له أذنا حمار. وأنه أيضاً مثل بقية الأغنياء وسائر المثرين في العالم كان يجتهد في إخفائهما وكتم حقيقتهما عن الناس ولم يكن يعرف ذلك السر إلا حلاقه الذي أنزله منزلة الصديق ولكن هذا الحلاق الجنتلمان لم يقم بأدب الصداقة فأفشى السر.
إنني أنظر باحترام وتوقير وإكبار إلى صورة اللورد روتشيلد وأقرأ باحترام وإكبار ما يكتب عن فعال المستر فندربلت. وأعرف أنني لا أستطيع أن أقلب كل شيء ألمسه ذهباً ولكننني اعلم أيضاً أنني لم أحاول ذلك قط لأنني أفضل مواد أخرى مثل الحشيش أو النبيذ الجيد.
إنني أعلم أن هؤلاء الناس نجحوا في شيء من الأشياء وأنهم ملوك الأسواق، وكلنني مع ذلك أعرف أن هناك سراً دقيقاً في بيوت الأغنياء يحاولون دائماً أن يخفوه ولكنني لست حلاقهم حتى أكشف هذا السر!!
وجمالة القول دعنا نتوقع أن نعيش لنري تلك الكتب الطائشة قد علاها التراب وغبر عليها النسيان والاحتقار والاطراح، فإنها لا تعلم الناس كيف ينجحون، وإنما تعلهم كيف يروحون رقعاء أنطاعا، وهي تنشر بين الناس شعراً شريراً يتغنى بالدينونة والماديات.(58/52)
محاربة التدخين
وهل تنجح
بالأمس صاح بالعالم صائح أن أبطلوا شرب الخمر وأكسروا اقداحها، وقامت جمعيات عدة أسمت نفسها جمعيات الاعتدال ومقاومة المسكرات. وخطت أمريكا الخطوة الأولى في هذا السبيل فمنعت شرب الخمور منعاً ينص عليه القانون. وطاردت الخمر مطاردة نخشى أن تكون رفعت من قيمة الخمر في نظر الذين حرموا كؤوسها. ومنعوا تعاطيها. إذ ألذ شيء للإنسان ما منع. واليوم أهاب بالإنسانية صوت آخر يحذر الإنسانية من خطر التدخين. ويوصي الدنيا بمقاطعة التبغ والتنباك والسيجار، إذ قام في أمريكا مؤتمر جديد. ليس على غرار عصبة الأمم. ولا مؤتمر فيننا. ولا أشباه تلك المؤتمرات السياسية التي تلعب بمستقبل الإنسانية. ولطالما لعبت به. ولكنه مؤتمر غريب في ذاته وفي مسماه. وهو ذلك الذي أسموه في الولايات المتحدة الأمريكية مؤتمر مقاومة الصالونات وإليه يرجع الفضل في مقاومة شرب المسكرات في تلك البلاد. وبعد أن أتم تلك الخدمة الجلى لصالح أمريكا انطلق يبحث عن شيء آخر يمنعه. فجاء دور للتدخين. فأعدت لحرية العدة. وأفرغت جميع مجهوداتها لمقاومته. وقد وجدت الطريق ممهدة لها منذ سنين. لأن موضوع إبطال التدخين لم يكن جديداً في أمريكا. لأن بدئ منذ سنوات عدة. وكان آخر ما كتب فيه رسالة صغيرة عنوانها النيكوتين بعد ذلك أي حال دون إبطال التبغ. أو المادة السامة التي يحتوي عليها التبغ. ونعني بها هذا النيكوتين اللعين. وقد ظهرت تلك الرسالة عام 1918. وقد قامت جمعية اليوم بنشره وتوزيعه على كافة الناس. وهي جمعية نسوية بالطبع لأن رائحة التبغ تؤلم النساء قبل كل إنسان أسمت نفسها جمعية الاتحاد على مقامة المسكرات والمنبهات. وليس هذا الكتيب وحده كل ما أخرجته تلك الجمعية من رسائل التحذير. بل لا تزال تخرج كتيباً ورسائل عدة. تشرح فيها للناس أن خطر التدخين ليس أهون على الدنيا من خطر الشراب وتبين لهم أن كثيرين من كبار أهل الدنيا وعظمائها وقوادها لم يكونوا مدخنين في حياتهم.
وقد قصرت تلك الجمعية وأخوات لها أكبر همها على منع الفتيان والشبان والأحداث من الوقوع في عادة التدخين المضرة فقالت: إن البراهين العلمية على ضرر التبغ للشبان(58/53)
والأحداث كثيرة لا يحصى لها عد. ولما كانت الأمهات لا تحب أن ترى أولادها وشبابها يدخنون. كان لا بد من أن تستمد المقاومة عون الأمهات. ولا ضرورة لنداخل التشريع في منع الشبان وغيرهم من التدخين. ولا حاجة إلى سن القوانين. ونص النصوص. وتحديد العقوبات. لإبطاله. بل ينبغي أن يقوم أمر إبطاله على احتفاظ الناس بأمر صحتهم وبصرهم بعواقب هذه العادات الضارة المؤذية.
وقد قفت علي آثار تلك الجمعية جمعية أخرى وهي معهد إطالة العمر في أمريكا. وهذا المعهد يقوم بعمل خطير لتهذيب الحياة. وحفظ صحة الشعب الأمريكي. وطريقتها في المراسلة. والبريد. فهي تقدم للناس المستنصحين النصائح الغالية بطريق البريد في مقابل أجور زهيدة. وتقوم بفحص المرضى المستشفين. وتبعث التقارير الصحية للجمعيات والأندية ولأصحاب المتاجر ولحوانيت لحفظ عمالها ورجالها. وقد جعلت في هذه الأيام الأخيرة تنشر رسالات صغيرة تحت هذا العنواناحفظ صحتك ومن هذه الكتيبات كتاب جديد كتبت فيه مسألة التدخين وأظهرت مضاره ووجوده وأذاه. من الوجهتين الصحية والمادية وهي ترجع معظم الأمراض والمتاعب البدنية إلى علة التدخين وقد قالت في أحد كتبها. في مدي الستة الأشهر المنصرمة كتب الكتاب نحواً من ثلثمائة ألف سطر ظهرت في نحو أربعمائة كتاب في موضوع ضرر التدخين وتصوير الخطر الذي ينجم عنه فمن شاء أن يقتنع بصحة ذلك فليقرأ تلك الكتب وليعلم أن التدخين ويل عظيم لا يقل عن الويل الذي تعانيه الإنسانية من الخمور.
على أن عدة ولايات من الجمهورية الأمريكية قد عمدت إلى سن القوانين التي تحرم التدخين تحريماً. ومن تلك لقوانين عدة نصوص على منع بيع التبغ للأشخاص الذين دون الثامنة عشر. ففي ولاية كانساس ينص القانون على ما يأتي يحظر بيع السجائر والسيجار أو تهريبها أو خزنه في مخزن عمومي يقصد التجارة. أو الإعلان عنها في المجلات أو نشر الإعلانات عنها في محطات السكة الحديد أو بيع المجلات التي تحوي إعلانات من هذا القبيل. ويحظر بيع أية مادة مدخنة للأشخاص الذين لا تتجاوز أعمارهم الحول الواحد والعشرين. وكذلك محظور على أصحاب المحلات التجارية أو على مصلحة السكة الحديد أو الترامواي أو غيرها من المصالح أن تبيع لعمالها الأحداث التدخين بأي شكل. ومن(58/54)
يخالف هذه القواعد يعاقب بغرامة من 25 جنيهاً إلى مائة جنيه عن إحدى هذه المخالفات.
ولكن لا ينبغي أن ننسى أن في هذه الناحية الأخرى فوائد كبرى لثروة البلاد من التبغ والدخان. وإذا بطل التدخين نقصت ثروة البلاد بنسب ما كان يرد إليها من الضرائب وأشباهها. ثم ل ينبغي أن ننسى كذلك ولوع الكثيرين من الكييفة الذين لا يستطيع أي عقوبة في الدنيا. ولا أية قوانين صارمة. أن تغريهم بترك التدخين.
فهل تنجح هذه الحرب التي أثيرت في وجه لفائف التبغ. هذا ما سيتمخض عنه المستقبل.(58/55)
الانسانية المجنونة
وخصومة القضاء والطب عليها
يعلم الناس أن القوانين الجنائية في العالم قد نصت على أن الفرد الذي اختل شعوره وارتكب جرماً يقع تحت طائلة القانون. لا ينبغي أن تلقي عليه أية عقوبة. بل ينبغي أن يدفع إلى عناية المستشفى. ويلقى في ذمة الأطباء لمعالجته. ذلك نص لا يقل دحضً في النظام الحاضر. ما دمنا نعلم أن القانون بالقائه العقوبة وتقرير القصاص لا يريد إلا إزالة أسباب الجرائم. وردع الناس عن ارتكاب الجنايات. ولكن موضوع رأي القضاة في المجانين ومبدأ القوانين الجنائية في معاملتهم قد أثاروا في هذه الأيام ضجة كبرى بين العلماء. وجدلاً وحواراً شديدين ولعل الناس يتساءلون ما السبب. ويقولون ما الباعث.
ونحن ننشر لهم ملخصاً مما كتبه المستر بوين رولاندس تحت هذا العنوان قانون الجنايات والمجانين وأجاب فيه عن هذا السؤال. ومجمل الباعث هو اختلاف الآراء بين رجال القضاء وبين الأطباء وبين عامة الناس.
وقد قال الكاتب من أين نشأ هذا الجدل. وجواب ذلك ما قاله احد المحامين الكبار وهو يقول القانون أن ليس في الدنيا أحد مجنون ويقول الطب. ليس في الدنيا أحد عاقل. ويقول الإنسان العادي أن خمسة وثلاثين في المائة على وجه التقريب من سكان أي بلد مجانين صرف.
هذا كل ما في المسألة لأن الناس ك لهم في اعتبار القانون عقلاء. ولا يستطيع أحد أن يفلت من العقوبة إلا إذا ثبت أنه في الحقيقة ونفس الأمر مجنون من غير شك. ولكن الأطباء في رأيهم أن كل الناس مجنون. والعالم بأجمعه مجانين. وأن كل إنسان يريد أن يثبت أنه ليس على شاكلة من هذه الوجهة يجب أن يقنع الأطباء الأخصائيين في الأمراض العقلية. لا القضاة والمحلفين. ويقول الإنسان العادي، أو هو كما قال أحد الكتاب. الإنسان الذي في الشارع. إذ يرى جريمة وحشية ترتكب - أن الرجل الذي ارتكبها لا بد من أن يكون مجنوناً ذهب لبه.
فبصرف النظر عن رأي الإنسان العادي. ينحصر الخلاف بين القضاة وبين الطب. إذ يقول الأطباء أن المجرم يجب أن يترك لمحكمة مؤلفة من بعض الخصائيين في الأمراض(58/56)
العقلية. حتى تبت جنونه أو تقر سلامة عقله. ويؤيدون مطلبهم بقولهم أن درجة جنون أي شخص موضوع ينبغي أن يترك كلية للذين يصح لهم أن يدلوا برأيهم بفضل درسهم وعلمهم وهم يشكون من أن الطبيب الأخصائي في النظام الحاضر يعد كمية مهملة في محاكم الجنايات. فإذا نحن نظرنا إلى شكواهم فلا شك في أن شهادة الطبيب قد لا تحدث أي أثر في رأي القاضي أو المحلفين، وقد لا يقام لها بينهم وزن وليس ذلك لأن رأيه لا يقيد به. وإنما لأنه قد يدحض بشهادة أخصائي آخر. كما وقع أخيراً في المحكمة العليا إذ قال رجل من كبار الأخصائيين في لأمراض العقلية أن المجرم الذي طلبت شهادته عنه ضعيف العقل، ثم جاء أخصائي آخر لا يقل عنه شهرة فقال أن المجرم عاقل في تمام عقله. وإنما كل ما فيه أنه تحت تأثير نسائية شديدة فيه راسخة في تركيبه عواطفه ثم إذا نحن نظرنا إلى مطلبهم القائل بوجوب تقرير جنون المجرمين المشكوك في صحة عقولهم بمعرفة أخصائي أو أخصائيين عديدين، وجدنا أن الأخذ برأي طلب واحد مضر بمصالح العدل. وإذا تركنا جمعاً من الأطباء يدلون بآرائهم الفنية، ألفينا كثيراً من الاختلاف بين الآراء وبعضها البعض، ولا ينبغي أن نأخذ في العدل والقضاء بين الناس على طريقته القرعة والتصويت لأنه لا بد من القطع والجزم. ولكن إذا نحن فرضنا أننا وجدنا طبيبين قد اتفقا على رأي واحد، فهل نظن أن اتفاقهما يبنى على أسباب واحدة، وعلل متشابهة؟ وقلم يحدث ذلك، وأقرب حادثة لأثبات ذلك ما وقع في أحدى القضايا إذ قال أحد الأطباء عن الجاني أنه مجنون لأن طبيعته النفور من الناس ولأن له نظرات زجاجية ثم جاء طبيب آخر فقال بجنونه وإنما ذهب إلى أن جنونه ثبت من استغراقه زمناً طويلاً في لعبة البروج!
من كل هذا الجدل والحوار يخشى أن يخسر الأطباء القضية ويكسبها القضاء بالطبع.(58/57)
النشيد المصري الوطني
الاستاذ السيد مصطفى صادق الرافعي أشهر من أن ينبه عليه أو يدل على مكانته في الأدب العربي وبخاصة في أسلوبه المنفرد الذي يكاد يكون صورة من نفسه. فهو في أخلاقه أسلوب وحده من أين جئته رأيته مندمجاً متماسكاً جزلاً إلى الجد والدقة في كل شيء يعالجه حتى ليسرف على نفسه من حيث يكتفي غيره بأيسر النصب والتعب ولذا فهو قلما يخرج عملاً من أعماله إلا ظهر كل ذلك فيه واضحاً صريحاً وجاء به على الغاية.
وقد وفق توفيقاً تاماً في النشيد المصري الذي نحن بصدده والذي قدمه إلى لجنة الأغاني ثم استقل به وأذاعه وقدمته إلى الأمة جريدة الأخبار الغراء فكان له دوي بعيد وكتب عنه مالم يكتب عن كتب من الكتب ثم طبع على حدة في كراسة طارت نسخها ألوفاً ألوفاً ولم يكد يمضي على هذه الطبعة شهران حتى بدأت الطبعة الثانية التي ظهرت هذا الشهر.
ولقد ظفر هذا النشيد فوق ذلك كله بعدة ملحنين تناولوه وأذاعوه ثم كان لحنه الأخير الذي يعد وحده توفيقاً نادراً - هذا اللحن الذي وضعه نابغة الموسيقى الشرقية الاستاذ منصور عوض رئيس الجنة الفنية لنادي الموسيقى الشرقي. وهذه الطبعة الذانية ذات فاتحة تتلوها كلمة ثم مقدمة الطبعة الأولى ثم مقالة لرصيفنا الأستاذ أمين الرافعي بك ثم النشيد ثم مقالة للأستاذ الأديب حافظ عامر المحامي ثم مقالة للأستاذ الفاضل محمد صادق عنبر ثم كلمة بعنوان خير لجنة الأغاني وهو فصل مسهب لذاع يجدر بالأديب أن يتأمله ويعطيه حقه من النظر ثم فصل آخر في نقد نشيد أمير الشعراء أحمد شوقي بك الذي اختارته اللجنة ونشرناه في العدد الماضي من البيان.
وهذا النقد حاد جداً ولا يتسع المقام الآن لتفصيل الكلام في هذا النقد ولعلنا نفصله ونكتب رأينا في الأناشيد ظهرت ونخرج بذلك عما الترمناه مما لم يرض جانباً من القراء لا يزالون يتطلعون إلى غير ذلك منا غير أن الرافعي لم يترك لشوقي بك شيئاً من نشيده وكان يجمل به غير هذه الخطة ولعله كان يعدل بعد ذلك لولا لجنة ترقية الأغاني وسلوكها معه. وهذا هو نشيد الرافعي.
* * *
إلى العلا إلى العلا بني الوطن ... إلى العلا فتاة وفتي
إلى العلا في كل جيل وزمن ... فلن يموت مجدنا كلا ولن(58/58)
إلى الأمام للأمام للأمام ... يا مصر والهمة تدفع الهمام
لمصرنا عهد لمصرنا ذمام ... لمصرنا على بني الدنيا المنن
مصر العلوم والفنون من قدم ... أيام لم تثبت الدولة قدم
أيام علم غيرنا دمع ودم ... وما سوي توحش العالم فن
رسا أبو الهول ركبنا ... ربضة جبار على الأرض قبض
فالهول كل الهول منه لو نبض ... فهم فاستعدي فزلزل الزمن
إلى الأمام الخ
بعزم مصر غالب الدهر الهرم ... وشمس مصر تضرم الذكاضرم
ونبل مصر يملأ النفس كرم ... وخصب مصر ينبت الخلق الحسن
والصبر في المصرى صبر وجلد ... خلت خصوم أرضه وهو خلد
وما كمصر في البلاد من بلد ... ثراء للطاغي وللباغي كفن
إلى الأمام الخ
هيا اذن هيا اذن إلى العلا ... يا مصر لا نفسي ولا مالي ولا
أهلي ولكن أنت أنت أولا ... وأنت أنت كل سري والعلن
يا مصر كلنا لمجدك الفدا ... تقتلع الأنجم لو كانت عدى
فلن نراعي يا بلادي أبداً ... لا عاش من يروحه عليك ضن
ٍإلى الأمام الخ
لا الضعف يوهي عزمنا ولا الضجر ... خلق من الحديد أو من الحجر
هيهات ما الأطواد في قيد تجر ... فمن إذن يقيد الأحرار من
حرية البلاد عزة الأمم ... إن لم تنلها أمة عاشت
فدا النفوس حرة فدا الذمم ... فدا بلادي أنا روحاً وبدن
إلى الأمام الخ
إيماننا كنيسة ومسجداً ... دين اتحاد للبلاد وهدى
وكل ما في العمر يوماً وغداً ... وكل ما نملك للمجد ثمن
فلنحي في أعمالنا أجدادنا ... ولنحي في آمالنا أولادنا(58/59)
ولنحي مصريين مهما اعتادنا=ولنحي مصريين وليحى الوطن
* * *
نوتة النشيد الوطني المصري
هذه النوتة هي كما قلنا لحن شيخ الموسيقيين في مصر الأستاذ منصور عوض وقد لحن النشيد (مارشاً) على وزن موسيقى من أبدع الأوزان وأقواها وأدعاها للحماسة وربط لحنه بالنوتة الافرنجية وطبعت هذه النوتة على ورق فاخر وثمنها عشرون قرشاً وهي تطلب من مكتبة الهلال ومكتبة التأليف.(58/60)
حوال دول العرب
لأمير الشعراء أحمد شوقي بك
نشرت إحدى الجرائد الاسبوعية لشيخوخ متنطع سقسم الذوق ليس من الأدب ولا قلامة ظفر نقدا لما ذهبنا إليه في شرح هذا البيت
يا زيدَ كل مسرَج وملجَم ... كيف علا غرتك ابن ملجم
إذ قلنا ما ملخصه: زيد هـ زيد الخيل الصحابي الذي وفد على رسول الله في وفد طيء وسماه النبي زيد الخبر - وشاعرنا يخاطب عليا بذلك أي يا رجل الخيل أي يا أشجع الشجعان الح فجاء هذا الشيخوخ وأبي عليه ذهنه السقيم ألا تخطئا في ذلك وإلا أن يفهم أن زيد مصدر بمعنى زائد ومسرج وملجم. بكسر الراء والجيم بصيغة اسم الفاعل أي يا زائدا على كل مسرج وملجم الخ. . . مرحى مرحى. وحسن جداً يا مولانا. لقد عثرت بحماقتك عثرة أنت بها خليق فلليدين وللفم. أليس بين كل مسرج وملجم ساسة الخيل المبتذلون لخدمتها وهل هناك أبلغ من تفضيل الامام والابانة عن أناقته وتفوقه من أنه زاند على ساسة الخيل الذين يسرجونها ويلجمونها رحم الله من قال:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الطبع السقيم
ما هكذا يا قوم يفهم الشعر! على أن شاعرنا العظيم أطال الله لنا حياته لا يزال بيننا حيا يرزق. وهو منا حيث يسهل الرجوع إليه في فهم أغراضه فعلام الخلاف على شيء بين ظهرانينا حاسمه؟ اللهم إلا إذا كان حاديكم على مثل هذا أحقاد تأكل الصدور. يمدها غباء مستو على العقول إن كانت ثمة عقول ونستغفر الله لنا ولكم. . . .(58/61)
العدد 59 - بتاريخ: 31 - 12 - 1920(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
وسلام على عباده الذين اصطفى
(أما بعد) فهذا هو العدد الأول من السنة التاسعة لهذه المجلة التي عزم الله لنا أن نخرجها كل خمسة عشر يوماً في طراز إن شاء الله بديع نُرجَى أن يعجب قراءنا في جميع الأقطار على اختلاف نزعاتهم وأميالهم، إذ سنعنى العناية كلها - بعد موضوعات البيان - بالتصوير، غير مدخرين في ذلك وسعاً فلا إقصار بعون الله ولا تقصير.
وخطة البيان هي خطته التي عرف بها وحافظ عليها منذ نشأته إلى اليوم - أن يكتب ويترجم كل ما هو مجد علينا راد في أي باب من أبواب العلم والأدب والتاريخ والأخلاق والاجتماع وما إلى ذلك من كل ما هو خارج عن دائرة السياسة والدين اللهم إلا من ناحيتهما العلمية السامية الجميلة.
ولقد تضاعفت حاجتنا في هذه الآونة إلى الموضوعات القوية الفعالة ذات الأثر الصالح فينا بعد أن آضت صحفنا - واأسفاً على ذلك - سجلات سياسية بحتة فلا أثر فيها لعلم أو أدب حتى كادت بذلك تبغض الناس في العلم والأدب وكل ما من شأنه أن يسمو بأخلاقنا وأذهاننا وأرواحنا، إذ جعلت السياسة - قبحها الله - وكدها وشغلها فألهت الناس بها عن النظر في كل ما يرد عليهم ويجدي، فاللهم حوالينا ولا علينا.(59/1)
مستقبل العالم
وهل تبطل الحرب من الدنيا
تحت هذا العنوان وضع كاتب من كبار الكتاب الاشتراكيين وطلاب المثل الأعلى الساخطين على النظام الحاضر في العالم - وهو المستر ويلزـ المبحث الأول من عدة مباحث مسلسلة، وهو موضوع طالما كتب فيه الكتاب وتناوله العلماء والمفكرون بالتفكير والتحليل. ولكن المستر ويلز انتحى فيه منحى غريباً وبسطه بسطاً جميلاً بتلك الطريقة الشيقة التي ألفها قراؤه منه. ونحن ننشر هنا هذا البحث الأول. ثم نتبعه في الأعداد القادمة بالمباحث الأخرى التي تليه.
نحن الآن أمام مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني هي أغرب ما قطعته الإنسانية. وأول ما شهده التاريخ في نوعه. فقد عدت على الدنيا طائفة من الويلات والأحداث الخطيرة فبددت هدوء الإنسانية التي ظلت أجيالاً تتطلب تقدماً مطرداً واجباً، تقدماً في سبيل إحراز قوى كبرى، وسعادة عامة كبرى. وتوسيع نطاق الحياة ورفاهيتها، قد أوقف تياره بعنف، وحيل بين الإنسانية وبينه بصرامة. وقد كشفت فاجعة الحرب اللثام عن وجود قوى مخربة هدامة اجتمعت فاختفت في أضعاف مجتمعنا الإنساني الذي بنم ظاهره على الرفاهية والسعادة. ولم يكن أحد منا يحلم بتلك القوى أو يظن أن الإنسانية بالغتها. وقد أظهرت الإنسانية عجزاً تاماً عن مقاومة تلك القوى الهادمة الناقضة لبنيان العالم، ولقد بدا لكثيرين من أهل الأذهان اليقظى، أن العامين الذين انصرما بعد عقد الهدنة، ووضع الحرب أوزارها، بما كان فيها من مجاعة وفقر، وفوضى واضطراب، في المغرب والمشرق، بل في أمريكا التي لم تسهم في الحرب بما أسهم فيه أهل الغرب. كانا شراً على المجتمع الإنساني من تلك الحرب نفسها التي سبقتهما. فالناس راحوا يتساءلون ترى ماذا يحدث للإنسانية. وما مصير العالم. وما مآل كل تلك الويلات. وهل كانت تلك الآمال الوثيقة؟ والأماني الوطيدة التي افتتحنا بها القرن العشرين إلا حلم حالم وخيال متخيل وهل دارت دائرة النعمة والتقدم فلا دورة لها إلا إلى الرجعة والنكوص، وإلى أين تحدو بنا هذه الضلات التي نحن فيها والتعثر الذي نحن نراه وتلك العداوة والبغضاء التي يحملها كل منا لصاحبه في العصر الحاضر وهل العالم مقبل على قرون عدة مفعمة بالفوضى والخراب. فلا يكون منها إلا كما انتهت الدولة(59/2)
الرومانية الغربية في المغرب. ودولة الصين في المشرق. وإذا حم هذا ووقع. فهل تراه سيمتد فينال من العالم الجديد. ويبلغ أمريكا القوية أم لأمريكا من نظامها وكيانها ووحدتها ما يبقيها سائرة إلى الأمام إذا تحطم العالم القديم وانهار تلك هي الأسئلة الواسعة العويصة المشكلة. التي يجب على كل رجل منا أن يتساءلها ويحتال على الجواب عنها.
فالناس يعدون أبطال الحرب عامة من الدنيا والتعفية على آثارها، ومحوها من تاريخ المستقبل، محور كل هذه المسائل، ولكن الحرب ليست شيئاً جديداً في العالم وقد حاولت الإنسانية طول تلك القرون الماضية أن تسير في سبيلها على الرغم من تكرار الحروب ورجوعها. بل السواد الأعظم من الدول والممالك ظل طول عهده وفي سبيل تطوره في حروب لا يخبو لها ضرام ولا يبرد وطيس، فلا أثرت تلك الحروب في كيانها، ولا أنقصت من هنائها ورغدها. على أن تلك الحروب الماضية لم تكن على شاكلة حروب اليوم وليست الحروب القديمة هي التي عدت على سير النمو الذي كان مطرداً منذ قرن ونصف. وليست الحروب القديمة المألوفة هي التي أوقفت التيار المندفع إلى الأمام بل هي هذه الحروب الجديدة بما دخل عليها من التغيير وما أوسع من جوانبها ومد في نطاقها من الوسائل المستحدثة والمخترعات المستطرفة، بل هو هذا التغيير بعينه، وهذا التوسع في الحرب بذاته، وليست الحرب في نفسها بخيلها ورجلها هو ما ينبغي لنا أن نأخذه بالتحليل والشرح والبحث.
في عام 1914 عمدت دول المغرب إلى الحرب. كما عمدت إليها قبل ذلك في مناسبات ماضية. وظروف سابقة. للفصل في أمور خطيرة ثارت الثائرة عليها فيما بينهم. فلم يكد ناقوس الحرب يدق. وتنطلق القذيفة الأولى في الفضاء. حتى اندلع لسان الحرب بسرعة لم نشاهد مثلها من قبل، واندمج العالم كله فيها واشترك في نارها. فأحدثت الحرب شناعة. ووسائل مخيفة من وسائل التخريب والتدمير. لم نشهد نظائرها في الحروب المتقدمة. فهذا الاختلاف في طور الحرب هو لب البحث وجوهر الموضوع. وقد تبين أهل الأذهان المفكرة أن الحرب مهما وجدت لها من الشفائع في الماضي والمعاذير المبررة للالتجاء إليها عند احتدام الاختلاف بين الأمم والأمم. لم تعد الطريقة التي يصبح اتخاذها الآن في الخلافات الدولية. وكان من ذلك فكرة عصبة الأمم. وإنشاء محكمة عالية كبرى يرجع إليها(59/3)
عند الخصومات الاجتماعية.
والآن ما هي هذه التغييرات التي ألزمت الإنسانية بأن تفكر في ضرورة إبطال الحروب دفعة واحدة. فقد كانت الحرب قدماً قي جميع البيئات الإنسانية فكرة مهذبة بانية مقررة منظمة. وهذا ما لا يشك فيه إلا القليلون. والفضل في إصلاح السنن السياسية وتنظيم العلاقات الدولية راجع إلى الحرب. ومن الحرب وثب. وقد قام كيان كل أمة في العالم على أمرين وحيدين هما الدفاع والهجوم. كما قام التعاون في التجارة والصناعة على الاحتكار والضغط والإجبار. فإذا أجمعت الإنسانية الآن فجأة نيتها على إبطال الحرب - فستجد أن هذه النية ستؤدي إلى تنقيح القواعد والمبادئ الاجتماعية والسياسية في العالم كله.
هذا هو المبحث الذي سنفرد له هذه الأبحاث التباع، ولب البحث في هذا السؤال. ماذا يكون حال العالم إذا انمحت الحرب من الدنيا كلها، وماذا يجب أن نصنع إذا هي نفيت ومنعت إلى الأبد من النشوب بين الناس والناس إذ يجب أن لا ننسى هذه الحقيقة وهي أن إبطال الحرب بتة ليس أمراً سهلاً ولا خطوة طبيعية ذلولاً. بل إن إبطال الحرب إذا نحن استطعنا أن نحققه وننفذه. سيكون رجعة وانقلاباً في الحياة الإنسانية العامة. ونقضاً لقوانين الطبيعة نفسها - قوانين تنازع البقاء. بل سيغير وجه الحياة بأجمعها. والتاريخ الإنساني كله. وسنحاول في هذه الأبحاث شرح العبء الذي سيلقى على عاتق العالم إذا ألغيت الحرب حقاً وأبطلت. وتفهيم الناس أن محاولة إبطال الحرب بتلك المحاكم والمجالس التي يسمونها عصبة الأمم ومؤتمر الشعوب وهلم. هو في ذاته أشبه بمحاولة إبطال الظمأ والجوع والموت من الدنيا بإصدار قانون من البرلمان وليس النجاح في الأمرين والتوفيق في المحاولتين إلا واحداً.
دعنا أولاً نفحص التغيير الذي طرأ في شؤون الحياة الإنسانية فحول الحرب من طورها العادي وهو تنازع الجماعات الإنسانية على البقاء فأصارها شناعة وهولا ونذير الخراب للجنس الإنساني بأسره فنقول: إن هذا التغيير في جوهره لم يكن إلا تغييراُ في مقدار القوة المهيأة لأغراض الناس ومصالحهم ومقاصدهم. ولا سيما مقدار القوة المادية التي يستطيع الفرد الواحد أن يديرها فقد كانت القوة الإنسانية منذ قرنين فقط أحد أمرين فقط. قوة العامل: وقوة الحصان فضلاً عن مقدار معين من القوة المائية والقوة الهوائية. وقد ظهرت(59/4)
البوادر الأولى لهذا التغيير الذي أدى إلى هذه الحرب منذ سبعة قرون. أي منذ اختراع البارود إذ استخدم المغول في القرن الثالث عشر للقتال الاكتشاف الذي اكتشفه أهل الصين. وهو البارود. فاستفادوا به فائدة حربية كبرى. إذ أغاروا على الممالك المعروفة إذ ذاك وفتحوا البلدان. ولم يلبث بارودهم أن طاحَ بالقصور وهدم الحصون. وهزأ بالقلاع والأسوار. وأبطل الفروسية. وبروز القرن للقرن. ووثوب المغوار على المغوار. وخرب أرض ما بين النهرين. وأفسد نظام ريها. على حين كانت تلك الأرض آهلة متحضرة قبل عهد الدنيا بهذا التاريخ المعروف، ولكن كعرفة ذلك العصر بعلم المعادن وصهرها وما يجري مجرى ذلك كانت محدودة ضيقة المضطرب فلم يتجاوز حجم ما اخترع يومذاك من المدافع والبنادق ومدى مرمى القذائف حداً محدوداًّ، ولكن لم يكد يقبل القرن التاسع عشر حتى اتسع نطاق المخترعات من جراء نمو العلوم الكمية والمخترعات الحديدية وإنما بدأ اتساع نطاق القوة الإنسانية في القرن الثامن عشر باستخدام الفحم والبخار ففاضت المخترعات فيضها. وألقت في أيدي الناس مقادير عظمى من القوة والنشاط لم يبلغ نهايته حتى اليوم ونحن لسنا بحاجة إلى تكرار القصة من أولها فذلك أمر معلوم للناس قاطبة. كيف أن التلغراف والراديوجرام جعلا كل حادثة خطيرة تسير سير البرق فتبلغ كل ذهن من أذهان الدنيا في لحظة واحدة. وكيف كانت الأسفار تستغرق الأشهر فراحت لا تأخذ من المسافر أياماً وهلم وهلم مما تعرفونه ولا حاجة على التغني بذكره أو بسط تأثيره في فنون الحرب وإنما ما نقصد إليه هو أن الجماعات الإنسانية قبل عصر المخترعات طالما تناحرت وتناجزت وتلاكمت أشبه بشجار الصبيان في (الكتّاب) أو المدرسة الابتدائية في دائرة قوتهم النسبية وقد آذت كل أمة صاحبتها ولكنها لم يعدم بعضها البعض كلية ولهذا يصح لنا أن نعد تلك الحروب القديمة مقوية صالحة مروضة مهذبة. ولكن دخل هذه المدرسة الابتدائية العلم فدفع في أيدي هؤلاء الأطفال السكاكين والمواسى مسمومة الأطراف والسنان والقنابل والمفرقعات والسوائل والغازات الخانقة اللعينة. فانقلب شجار هؤلاء الأطفال في الحال فكان منه ويل وشناعة أي ويل وأية شناعة. وما لبث صحن الكتاب أن تغطى بأكداس الجثث ورميم الأشلاء وقد يكون تداخل (عريف) الكتاب حائلاً بين الأطفال وهذا الشجار المقيت. ولكن الإنسانية واأسفاً ليس لها عريف إلا حكمتها الفقيرة(59/5)
المسكينة. والمشكلة الكبرى التي تشغل أذهان الإنسانية في العصر الحاضر هي هل تستطيع هذه الحكمة المسكينة أن تحدث أثراً فعالاً وتداخلاً متيناً يمنع هذه الحروب الموحشة المخيفة.
بيد أن هذه الأسلحة المميتة المهلكة لا تزال تنمو وتزداد ولقد اطردت زيادتها من سنة 1914 إلى أوائل سنة 1918 إذ حيل بينها وبين الاندفاع والتكاثر - من أثر النقص في المواد والفتور في النشاط، ومنذ عقد الهدنة والعلم الحربي لا يزال يدأب على النمو والازدياد. ولقد أكد لنا علماء الحرب أن الحرب القادمة - إن هي وقعت - ستكون أثر من تلك الدابرة سرعة واتساعاً في نطاق التدمير والحصد. إذ لم تعد الجيوش بعد اليوم تتقدم على طرق دروب بل ستنتشر في مركبات كبرى تحرث الأرض التي تجري فوقها حرثاً. وتقلب أديمها قلباً. وستكون القذيفة ترمى من قباب السماء كافية لحصد مدينة بأسرها على مسافة ألف ميل وراء خط النار وسينسف ما على ظهر البحر من سفائن وعمائر ولن يكون ثمة تمييز بين المحاربين وغير المحاربين من العجزة والشيوخ والأطفال والنساء. فسيحصدون حصداً. لأن الكل مستهلك طعاماً. والطعام أبقى للقوي وأجدي عليه. والحرب حرب. وديدنها الهول والنكر. ويجب أن يضرب المحارب بكل ما استطاع من قوة. ولكن يكون انتصار المنتصر إلا فوز الرجل المتعب المنهوك القوي المضمحل المحتضر على الرجل الميت الخامد الأنفاس.
ولقد قيل وذهب الرأي إلى أن لا حرب كحربنا الماضية (1914 - 1918) واقعة إلا بعد ردح طويل من الدهر. من جراء ما هزت تلك من كيان المجتمع. ولكن ليس في هذا الرأي ما نفرح له وبه نبتهج. لأن معناه أن ما دامت الإنسانية ضعيفة مريضة فقيرة فلا حرب ولا قتال فإذا نقهت وأبلت عادت إلى الحرب وآضت إلى القتال. بأهول مما بدت الأولى وأشنع. بفضل ما اخترعت الإنسانية منذ ذلك العهد واستحدثت. وأنه ما دامت الانقسامات والاختلافات باقية فلا بد من رجعة الحرب رجعة شنيعة رهيبة. تهدم البناء من قواعده إذن ليس هناك حل لهذه المشكلة. وشفاء من هذه الآفة إلا أمراً واحداً. وهو إعادة بناء المجتمع الإنساني على نظام وطريقة وطراز يكره الناس في الحرب كراهية التحريم. فقد أصبح العالم مجموعة واحدة متصلة بعضها ببعض كالحلقة المفرغة وقد تستطيع الإنسانية أن(59/6)
تعيش على هذه الوتيرة بمرور الزمن. وقد ينجح الناس كجنس بشري مجتمع في الرغبة عن الحرب والزهد فيها والحيد عن الصراع والقتال. وللسعي في الوصول إلى تعاون جامع شامل وتسامح متبادل وقد تستطيع أن تترك محاولتها القديمة على أن تعيش في ممالك منفصلة وتأخذ في كل طرح كراهياتها القديمة وأضغانها الأولى والعيش تحت ظل قانون واحد وسلام واحد. فلا يكون من ذلك إلا أن هذه القوى العظيمة التي كانت معاول في أيديها للهدم والتخريب تعود فتستخدم في وجوه صالحة ترد السعادة على بني الدنيا في صورة لم تصل إليها من قبل.
ولكن هذا الجنس الإنساني قدير على الشروع في هذا السعي الذي سيكون في ذاته انقلاباً للمشاعر الغريزية والتقاليد الاجتماعية التي رسخت في فؤاده إلى اليوم وهل نتوسم خيراً في حياتنا الحاضرة السياسية والعقلية، وإلى أي حد نعمل أنا وأنت أيها القارئ مثلاً للوصول إلى هذه الغاية. بل هل نحن واعوها في الأذهان جاعلوها نصب الأعين. وهل الناس الذين حولنا كذلك، أم لسنا أنا وأنت والجميع مندفعين في نفس التيار كما كنا قبل عام 1914، فّإذا لم يقم منا قائم، ولم يسع ساع. ولم يبد اجتهاد، فسيؤدي بنا ذلك التيار إلى الحرب فالجوع والفقر ونقص في الأموال والثمرات وينتهي أمرنا إما بالانقراض التام أو بانحطاط لا تتصوره الأذهان.
(انتظروا المبحث الثاني)(59/7)
روح الشعب الانكليزي
في هذا العصر
منذ بدء هذا العام تولي رئاسة مجلة المجلات الانجليزية التي أسهها ذلكم الكاتب الغريب المعروف بأبحاثه النفسانية وعجائب الوحي الروحاني والذي استشهد غريقاً في سفينة التايتنك، وليام ت ستيد. كاتب آخر من سادة الصحفيين الانكليز وكبرائهم وهو السير فيليب جيبس. فدخل على المجلة بدخوله مظاهر التحسين والإبداع. وأقبل الكتاب الأعلام في الشعب الانكليزي على المجلة يسهمون في تحريرها ويخصونها بمقالات خطيرة وقد صدر العدد الأخير من المجلة بمقال لرئيس التحرير بهذا العنوان الذي وضعناه في رأس هذا البحث فآثرنا نقله للقراء لما فيه من الحقائق الغريبة والمعاني السامية.
كل ما أقصده ببحثي هذا الكلام على الشعب الانكليزي عامة. لا عن الاسكوتلنديين فحسب أو أهل الغال (ويلس) فحسب. والسؤال الذي أريد أن أجيب عليه وأتحيل على حله واستكناه حقائقه هو سؤال ليس بالسهل ولا بالذلول. وأعني به هذا (ماذا بقي لنا من خلقنا الانكليزي القديم المتأصل فينا وروح شعبنا ومزاجه وغرائزه القوية، بعد ما أفنت الحرب الكبرى أبدع رجولتنا، وقتلت أعز شبيبتنا، وطاحت بأنضر فتيتنا، ولا سيما في هذا العصر الذي أصبح نظام المجتمع الإنساني فيه مهدداً بالأخطار يريد أن ينقض، لا شك عندي البتة في أنه لو سقطت انجلترة إلى هوة الفوضى أو لو تداعى بنيانها الاجتماعي فجأة. فلا يكون من ذلك إلا أن تجفل أوروبا بأجمعها من أثر هذه الصدمة وتتزعزع أركان العالم كله ويرتج صرحه. بل لا يكون من ذلك إلا الضربة القاضية على جميع الآمال والأماني الكبرى في شفاء الإنسانية من جراحات هذه الحرب الأخيرة وتأسيس مجتمع سامي عام يشتمل الأمم كلها ويمشي إلى مدينة منتظمة متخلصة من هذه المقاذر التي تلوث المدينة الحاضرة وذلك لأن انجلترة ما فتئت منذ أبعد العصور ساحلاً آمناً في وسط زوابع التاريخ وعواصفه. وعاملاً من العوامل المؤثرة في نظام العالم وقوته. ولئن كان أكثر أمم العالم ينظرون إلينا بعين الكراهية ويبغضوننا البغض كله فلا يزالون ينظرون إلى انجلترة نظرهم إلى صخرة مكينة ثابتة. وهم يتهموننا - ويتهموننا بحق - بأن ترنمنا بالمبادئ العالمية التي نخفي بها في غالب الأحايين أطماعنا ونياتنا ومقاصدنا الذاتية ينطوي على(59/8)
شيء كثير من النفاق والرياء. وهم يروننا - وما أظنهم مخطئين - بالغباوة المدهشة. والحماقة والجهل الفاضح الذي لا سبب له إلا موقعنا الجغرافي وانفصالنا بمكاننا من هذه الجزيرة عن بقية القارة الأوروبية. ولكنهم على رغم هذه التهم كلها لم يستطيعوا يوماً أن يخفوا اعتقادهم في حكمتنا الغريزية وسداد رأينا الذي أعاننا على أن نسير دفة سفينتنا وسطاً بين التطرف في القول والعمل وأن نوازن بين الحرية والنظام ونلائم بين الأمانة والسياسة. ولا زالت طرق المعاملة الانجليزية ومظاهر الشجاعة الانجليزية واللياقة الانجليزية والأخلاق الصخرية في المتانة الحكومية الانجليزية ذات تأثير عميق في الحياة الأوروبية وهي إلى الآن الدعامة التي يعتمد عليها القوم في أوروبا في إنقاذ العالم من الخراب والاضطراب اللذين أرسلتهما الحرب في الدنيا جمعاء.
فما هي الروح السارية اليوم في الشعب الانجليزية وهل ماتت فينا فضيلتنا القديمة. وهل زال عنا خلقنا المعروف قدماً. وهل قدر لنا أن تكون الأمراض والجراح التي أحدثتها الحرب لنا عاملة على أضغاننا وزوال متانة خلقنا وهل نحن من جراء الويلات التي أعقبت الحرب وخمود الحمية وهذا الفساد والظلم النازلين بالعالم ومخالفة الفقر المتوقع المنتظر، والمرض العام والسآمة المتفشية في نفوس الجماعات، فاقدون تلك الحكمة الغريزية التي امتزنا بها كشعب بين الشعوب على رغم الحماقات والسخافات التي نرتكبها والجهل الفاضح الذي نعاب به. وما هو ذلك العامل النفساني الذي يسري الآن في روح الأمة الانجليزية.
هذه هي الأسئلة التي يتساءلها أكثر الناس في هذا العصر إذ تهتاج نفوسهم من أثر شكوك وريب كثيرة، ومخاوف مقلقة. إذ لا يمكننا أن نتجاهل ما نرى من مظاهر الوحشية التي نرتكبها والشراهية التي نبدو بها وهذه النزوات والسورات النفسانية التي تتجلى فينا، والأميال الهدامة المخربة التي يجنح إليها كثيرون من أفراد هذه الأمة من كبيرهم إلى أحقر حقير فيهم. ثم يلوح لنا أيضاً أننا مقبلون على أزمة اقتصادية يريد فيها أصحاب رؤوس الأموال أن ينجوا بأنفسهم على حساب العمال والعاطلين، ويود العمال أن ينقذوا أنفسهم، مستيئسين من شرة الحاجة وآلام الفاقة، بإسقاط أصحاب رؤوس الأموال ودك حصونهم دكاً.(59/9)
وإنني لا أنكر أنني كلما مررت بشوارع لندن يخيل إليّ أن هذه الجماهير التي تتكون منها الأمة الانجليزية لم تتعلم شيئاً من هذا الدرس الأليم الذي لقنته الحرب أهل الدنيا، وأن هذه الجموع العظيمة لا تحفل البتة بهذه العلة الفاشية في أوروبا وتريد أن تمس أرضنا وتنزل بسوحنا، فلا شاغل لهم إلا همامات أنفسهم ومطالب عيشهم وأطماعهم وشهواتهم وملاذهم أنهم صاروا من الانحطاط الذهني والخلقي بحيث لا أثر في نفوسهم البتة من هذه المعرة التي تلصق بنا من المأساة القائمة اليوم في إيرلندة، ولا من احتضار أمة كبيرة كالنمسا ولا من الحالة السوأى التي وصلت إليها جنودنا الذين سرحناهم بعد الحرب، ولا من هذا الفالج الذي أصاب متاجر العالم وأسواقها الاقتصادية، ولا من هذه المبادئ السامية التي بدأت تبذر بذورها في العالم كعصبة الأمم، ولا شيء من هذا أصلاً.
إن الإنسان ليشهد اليوم أن أشد ما يجتذب نفوس هذه الأمة رواية تافهة أو حادثة مقتل، أو طلاق، وهي أكثر اهتماماً بأمثال هذه السفاسف من قصة أمم بأكملها تنتابها المجاعات أو نبأ نذير يهدد حريتها ويذهب بشرفها ولا تقل أنانية الأغنياء وأصحاب الأموال عن غباوة الطبقات العامة والفقيرة وضيق عقولهم، وإني لأشهد جموعاً عظيمة تموج كلجج البحر دافعة إلي مشاهدة لعَب الكرة، فيأخذني العجب ولا أدري هل ذهب عن هؤلاء الجموع صوابهم وتولت عنهم حكمتهم، وأرى أن هؤلاء الحمقى هم نتاج مدينة لا تستحق الإنقاذ، وإني لأجد الشباب - وهم آمال العالم - مسرعين جماعات حاشدة إلى قاعات الرقص، ودور السينما، للفرجة على روايات كاذبة لا تصور الحياة على حقيقة واحدة من حقائقها، روايات خالية من الخيال الرائع، غير محتوية شيء من السمو وبراعة التصوير، فيخيل إلي كما يخيل للكثيرين في ساعات اليأس أن روح انجلترة قد ماتت وأننا قد فسدنا وضعفنا وحمقنا وصرنا إلى البلاهة والطيش، وأننا لا نجد منا زعماء يتصدون للقيادة، لأننا لا نرى جماهير تتبع الزعيم أو تمشي في أثر الصائح. ليس لدينا مثل أعلى لأن الصدق زال من قلوب أفراد هذه الأمة.
إن انجلترة قد انحطت وتدهورت وانتهت إلى الحقارة والعبث ونحن بعد أن أنهكنا أنفسنا في هذه الحرب التي سقط في ميدانها أعز رجالنا وأفضل شبابنا منحدرون الآن في طريق السقوط حيث يزول من أيدينا ما كان من قبل لنا وطوع بناننا.(59/10)
ولكن دعونا لا ننكر بل نعترف صراحة بأن هذا الحلم المظلم الذي يعتم أرائي هذه كما يسوّد أفكار كثيرين منا يريدون أن يروا قومنا ناهضين على وقدة حمية جديدة بعد متعبة هذه الحرب، لا يزال رأياً ظالماً لا حقيقة فيه، وإن الشعب أعقل مما يلوح في الجماعات. وإنهم لا يخدعون بما يقدم لهم لأجل خديعتهم وإنهم أقوى وأصح أرواحاً من الذين يتصدون لقيادتهم والترأس عليهم.
نعم ولا نكذب إذا نحن قلنا أنهم يؤثرون قراءة رواية تبسط حوادث القتل أو تصور شنائع الطلاق على قراءة الأبحاث العامة التي تبسط أمام أعينهم الحالة الدولية السيئة وتصور لهم مشكلات الحياة وأمهات مسائلها، ولكنهم إنما يفعلون ذلك لأنهم أكثر انشغالاً بحوادثهم الشخصية ومشاكل حياتهم الخاصة عن التفكير في المسائل العامة المطلقة البعيدة عن مواقع حسهم ومما لا شك فيه أنهم لا يزالون (جزائريين) معتزلين لا هم لهم إلا مصالحهم الشخصية، على الرغم من هذه الحرب التي التحمت فيها القارة الأوروبية كلها وأنهم لا ينظرون إلى أبعد من مطالب العيش وحاجيات الحياة وملاذها التي تجري في وسطهم.
نعم إن الازدحام على رؤية لعب الكرة، أو مشاهدة أسراب من النساء في رواية هزلية أو قراءة شذرات من الكلام الفارغ وسقط المتاع الذي تمتلئ به الصحائف المصورة لا توحي إلى الإنسان شيئاً من الذكاء أو الحكمة التي وصفتها بالحكمة الغريزية. وإنه ليلوح لي أن وبع الجماهير وطبقات العامة بلعب الكرة الذي اتخذوه اليوم صنعة وحرفة تحترف، لا يزال ضرباً من الجنون والحماقة الكبرى، ولكنا إذا نظرنا إلى هذا الولوع دون تحيز لرأينا أن هذا الضرب من الرياضة البدنية هو أقرب سبيل للعمال والعامة إلى التمتع بشيء من هذه الرياضة، وهي تقوي أبدانهم وفي الوقت عينه ترد عليهم عقولهم صحيحة سليمة قوية منعشة، على ما فيها من عدم المبالاة بمستقبل الحياة وبشؤونها وإن الشباب لعلى حق إذا هم لم يبالوا بالمستقبل لأنهم يطلبون من الحياة مراحاً ويبتغون أبدع ما فيها من ملهاة وترويح.
ولا يزال كثيرون منا يفكرون ويتلمسون بلوغ الحقائق، ولا تزال في أعماق نفوسهم عواطف ومشاعر وأمثلة عليا. ولئن كان يلوح لنا في أغلب الأحيان أن الحرب لم يبق لها أثر في نفسية الشعب الانكليزي ولم تترك شيئاً، فالناس كما كانوا، يغضبون لما يفقدون، ويقنعون بما يعانون، ولا يحفلون بالمخاطر تقف في طريقهم، وتعترض سبيلهم، ولا(59/11)
يغضبون إذ يحاولون الانتقام من زعمائهم الذين وهموا وغلطوا شنع الأغلاط. ولا يجن جنونهم ولا يثورون طلباً لتجديد الحياة وتغيير أنظمتها الحاضرة، ولكنك إذا تحدثت إلى جمع من الجنود الذين سرحوا بعد الحرب، والعمال الذين أسهموا في ميادينها، وجدت لهم آراء وخواطر لا يمكن أن تكون وليدة عقول فارغة وأدمغة مجوفة سخيفة فإنهم لم ينسوا بعد شنائع الحرب، وهم يتطلعون إلى حياة جديدة غير هذه التي جلبت هذه الحرب المجنونة المعتوهة وإنك لتلمح منهم اشمئزازاً واستنكاراً للحرب ورغبة في إبطالها والحذر من وقوع مثلها ثانية لهم أو لأولادهم.
وعلى ذلك ترى روح المزاح والمجون والاستهتار آخذة بنفوسهم، مانعة لهم من التحمس لشيء من الإصلاح بتة، أو الغضب من شيء أو التمرد عليه، والشعب الانكليزي ينزوي من طلب الأمثلة الخيالية والمبادئ الاجتماعية الكمالية.
وهم أعداء كل شيء متطرف، شراً كان أم خيراً، وهذا ما يجعلهم غير مكترثين بما يقع في إيرلندة، إذ يقولون لأنفسهم: ما لنا ولهؤلاء الناس. لأنهم لا يفهمون ولا يحبون أن يفهموا هذا الولوع الجنوني الذي أخذ بلب الايرلنديين وراء الاستقلال وحكم أنفسهم بأنفسهم ولا يدركون هذا الأسلوب الجديد في الاستشهاد الذي اخترعه ماكس ويني المحافظ. ولا يعرفون هذا الطراز السن فيني في القتال والنضال، إذ يبدو كل هذا في أعينهم عملاً هستيرياً مهووساً غير لائق.
على أن الأخلاق الانجليزية القديمة أكثر ما تتجلى في الريف فسكان الريف على الرغم من جهلهم بالشؤون الخطابية والفنون الكلامية، ورغم بطء تفكيرهم وضيق بصائرهم، وحسر نظرهم إلى الحقائق، لا يزالون مستمسكين بالأخلاق القديمة، ولا تزال حكمة الشعب الانكليزي التالدة متأصلة في نفوسهم، وبفضل المؤثرات التي تبدو فيها قوانين الوراثة لا تكاد ترى عليهم شيئاً من الانحراف عن أسلافهم الانكليز الأولين.
ولئن كان قد استشهد في هذه الحرب شبان كثيرون، فقد رجع منها مجموعة طيبة كذلك لم تمت، وهؤلاء اليوم بيننا، وهؤلاء لم يفقدوا سجيتهم وخالقهم المتين، وإني لا أعتقد أن غرائز الشعب الانكليزي لم تطلق بتة من آدابها الأولى وإن قلب انجلترة على رغم ما ينتابه من المرض والضعف والتسمم لا يزال قوياً رفيقاً وإن الجماهير الانجليزية أفضل(59/12)
من زعمائها، وإن الشعب بمجموعه أرقى من قادته.(59/13)
العادة
بحث فلسفي سيكولوجي أخلاقي بديع
للكاتب الفيلسوف العظيم البروفسور جيمس
مما يؤثر عن القائد العظيم الدوق أوف ولنجتون أنه صاح يوماً وقد جاء ذكر العادة وقوة سلطانها فقال (أوكل ما يقوله الناس عن العادة أنها طبع ثان؟ كلا لعمرك إنها الطبع مضاعفاً إلى عشرة أمثاله!) وإن أولى الناس بأن يتخذ قوله حجة في مثل هذا الموضوع من كان أخبر الناس به وأشدهم مزاولة له ومعالجة أعني الجندي الذي حصر مجرى حياته وحياة جنوده داخل قيود حرجة من العادات وحواجز شديدة من أقسى القواعد والنظامات فاتضح له من ذلك أن تأثير العادة لا يزال بالإنسان حتى يبدل شخصيته تبديلاً ويخلقه خلقاً جديداً فيما يتعلق بمعظم طبيعته وأخلاقه.
وقد ذكر البروفسور هسكل على سبيل الفكاهة وإن كان ذلك من الجائز المحتمل (إن ماجنا بصر بجندي مستودع ذاهباً بطعامه إلى مأواه فصاح به بغتةحازدور! فأرخى الرجل ذراعيه تواً وسقطت منه الشريحة والثريدة في بالوعة الطريق. وعلة ذلك أن عادة التمرينات العسكرية قد كانت تسلطت عليه إلى درجة أصبحت معها قد اندمجت في جهازه العصبي وصارت قطعة من كيانه).
وكثيراً ما شوهد في ميادين القتال أن الجياد وحدها عارية من فرسانها كانت تجتمع على نداء البوق وتجول جولاتها المعتادة من تلقاء ذاتها بلا مدبر ولا مصرف، وهذه الحيوانات المنزلية تراها كأنها آلات ومكنات مضبوطة الأجهزة مطردة السير والنظام تقوم من لحظة إلى أخرى بأداء ما قد علمتها من الأعمال والحركات ولا يبدو عليها البتة أنه من المحتمل أن تشذ يوماً عن هذا المنهج أو تنحرف عن هذه الخطة. ومما يؤثر عن أهل السجون أن كثيراً منهم ممن يغادرون السجن بعد قضاء أعوام عدة ربما تمنوا العودة إليه بعد الخلاص فطرقوا بابه ثانياً وبهم من الحنين إليه ما بالآيب إلى وطنه بعد طول الهجرة والفراق. ويحكى أن نمراً انكسر قفصه أثناء حادثة من حوادث القطارات فأفلت من القفص ولكنه ما لبث أن أصابته حيرة ودهشة من هذا الوسط الجديد الذي أفضى إليه بعد طول المقام في قفصه واعتياده العيشة بين قضبانه ثم بلغ من شدة ارتباكه وحيرته ان انقلب عائداً من تلقاء(59/14)
ذاته إلى القفص فأخذ فيه مجثمه كعادته ودأبه.
فالعادة هي الشكيمة التي تكبح جماح المجتمع الإنساني إذا همّ أن يعدو أطواره ويتجاوز حدوده. وهي التي تبقي كل امرئ في دائرته وقيوده. وتحمي أبناء النعمة والسعادة من ذوي الثروة واليسار من أن يثور بهم ويطغى عليهم حسادهم من الفقراء والوضعاء. وهي العادة ليس غيرها يمنع أوعر سبل الحياة وأصعب مسالك العيش وأمقتها وأخبثها وأفظعها من أن يهجرها أهلوها الذين خلقوا لها وخلقت لهم. فهي التي تهون على العدّان القيام في ظلمات المناجم والغواص في زمهرير العباب والنوتى في ثورة العواصف والفلاح في حقله المنقطع الفريد يقاسي لذعات الفقر خلال أشهر الثلوج. والعادة هي التي تحمينا من غزوات أهل الصحاري والمناطق المتجمدة. وهي تمنع الطبقات الاجتماعية المختلفة أن يختلط بعضها ببعض. وأنت إذا تأملت أرباب الحرف والصناعات المختلفة وجدت أن أحد هؤلاء متى بلغ الخامسة والعشرين من عمره أي بعد قضاء بضعة أعوام قليلة في حرفته لم يلبث أن تنطبع صحيفة شخصيته بطابع هذه الحرفة وترتسم عليها بل على سحنته وشمائله وصوته ولهجته سمات حرفيته وأماراتها ومميزاتها وخصائصها من أفكار وعقائد وآراء ومذاهب وأميال ومحاب ومكاره ثم لا يستطيع الرجل أن يتخلص من هذه إلا إذا استطاع وجهه أن يتخذ سحنة أخرى أو بشرته أن تتبدل صبغة جديدة.
إذا كانت المدة ما بين عشرين وثلاثين من العمر هي مدة تكوّن العادات الذهنية والفنية أي الحرفية (الخاصة بالحرفة التي يحترفها الإنسان) فإن المدة التي دون العشرين هي مدة تكون العادات الشخصية مثل كيفية نطق الألفاظ وحركات الإشارة والإيماء وأساليب المواجهة والخطاب وهلم جرا. ومن ثم ترى أن الرجل إذا تعلم لغة أجنبية بعد العشرين من عمره استحال عليه أن يبرئ لسانه فيها من اللكنة وكذلك الصبي الذي نشأ في بيئة سافلة ثم ارتفع بإحدى فلتات الحظ إلى مستوى طبقة عالية فعاشر أهلها من ذوي الفضل والعرفان أعواماً طوالاً - يتعذر عليه أن ينقي منطقه ويبرئ لفظه من تلك الخنة وما يجري مجراها من معايب النطق مما كان قد اكتسبه أثناء طفولته وشبيبته. وكذلك شأن هذا الإنسان فيما يتعلق بملابسه وأزيائه - فمهما غص جيبه بالدرهم والدينار كان من المتعذر عليه أن يحاكي في نظام الزي والهندام أهل الطبقة العالية العريقين فيها. فإن تجار الأنسجة(59/15)
والملابس وباعة الحلي والزخارف ليتهافتون على مثل هذا الدخيل بشتى سلعهم وفنون بضائعهم ولكنه لا يوفق في اختياره ولا يعرف ماذا يأخذ وماذا يدع. ولا يزال يتسلط عليه ويتحكم فيه سلطان ناموس الطبقة السافلة التي لم يفارقها إلا بعد أن تكونت حسب قوانينها وأصولها عاداته الشخصية ومنها عادة الملبس وقلما يقوم لهذا الناموس الأولي أو يقوى عليه قانون الطبيعة العالية التي اندس فيها على كبر. ثم يقضي أيامه تعجباً من كيفية اهتداء أقرانه الجدد من ذوي الأحساب والأنساب إلى حسن اختيار الملابس ويرى أن توفقهم إلى إيجاد هذه الأزياء فوق أجسادهم واستطاعتهم أن يجدوا هذه الألوان المختلفة والأشكال المتنوعة من مهاب الريح الأربع وتأليفها وفقاً لهذا النظام العجيب على أكتافهم وصدورهم - يرى هذا عجيبة العجائب ومعجزة المعجزات والسر الذي لا يناله الفهم ولا يدركه الوهم.
فرأس الحكمة إذن وأساس الصواب والسداد هو أن نجعل جهازنا العصبي حليفنا لا عدونا ولنا لا علينا. أعني أن ندخر من صالح العادات أكبر رأس مال نتمتع بقية عمرنا بأرباحه في هينة ودعة. وابتغاء هذه الغاية يلزمنا أن نبادر في باكورة الصبا باستشعار أكثر ما يستطاع من نافع الخصال والخلال استشعاراً يجعل إتيانها كلما دعت الحال أمراً محتماً يجري من تلقاء ذاته كحركات الجسم الاضطرارية - وفي الوقت ذاته يلزمنا اتقاء سيء الخصال وضارها كما يتقى الوباء وكلما كثر عدد العادات التافهة والأعمال الحقيرة الاعتيادية التي نكلف الجهاز العصبي بتأديتها عفواً من تلقاء ذاته دون استشارة أذهاننا - كاشتراء غذائنا أو ذهابنا للحلاق أو مساح الأحذية أو خروجنا لنزهة العصر أو ابتياعنا شخشيخة لطفلنا إلى غير ذلك من الصغائر والحقائر من تفاصيل الحياة اليومية وجزيئاتها.
اتسع بذلك لعقولنا مجال التفكير والتأمل في هام الشؤون وعظيم المسائل مما هو أليق به وأشبه. وما إن رأيت قط إنساناً هو أحمق وأغبى وأسخف وأحقر من الذي لم يتخذ لنفسه عادة سوى عدم العادة - الذي لا يزال يتوقف ويتردد كلما همّ بشأن له ولو كان من أدنى شؤونه كإشعاله (سيجارة) أو شربه كأساً أو ذهابه إلى المرقد ليلاً أو قيامه منه صباحاً أو شروعه في أي عمل من أضأل اليوميات المعتادة. هذا الرجل مرزوء في حياته منكوب في عمره فإن نصف أوقاته يضيع سدى بين التردد والتوقف والتحير وإبرام العزم وعقد النية(59/16)
على إتيان أعمال هي من الدقة والضؤولة وصغر القيمة كان الواجب أن تكون مندمجة في حركات أعصابه الاضطرارية تحصل من تلقاء ذاتها فلا يكاد يحسها أو يشعر بجريانها. فإذا كان بين قرائي الذين يتلون الآن هذا المقال إنسان مصاب بمثل هذه العلة فليبدأ لتوه ولحظته بمعالجتها ولمس الخلاص منها.
جاء في رسالة (العادات الأخلاقية) للبروفيسور (بين) بضع نصائح عملية عظيمة الفائدة أخص منها اثنتين بالذكر وهما (1) عند استشعارك عادة جديدة أو تخليك عن عادة قديمة اجتهد أن يكون ابتداؤك مشفوعاً بأقوى وأمضى ما يستطاع من الدوافع. وذلك بأن تهيئ حواليك من الظروف وترشح من الأسباب وتخلق من الأحوال كل ما هو جدير أن يستحث العزيمة ويستثير الهمة أجل يا فتي! ولتضع نفسك عنوة في تلك الظروف التي تعرف أنها مليئة أن تحدوا بك إلى الخطة الجديدة وتحملك عليها. كأن تجدد عقوداً ومعاهدات منافية للقديمة وكأن تشهد الأمة والجمهور على نفسك علناً. وقصارى القول يجب عليك أن تؤيد عزيمتك بكل مل تستطيعه من وسائل التنفيذ والإمضاء. وأعلم أن هذا يعير فاتحة عزمك من المضاء والنفاذ والقوة ما هو خليق أن يجتاح ما لابد أن يعرض لك في طريقك من دواعي الشهوات فيؤجل ساعة انتكاصك وانتكاسك وكل برهة تأجيل لتلك الساعة المشؤومة تبعد احتمال وقوعها وتقل من فرص عودتها.
أما النصيحة الثانية فهي. لا تسمح بأي شذوذ عن عادتك الجديدة حتى تتأكد أنها قد تأصلت في حياتك الجديدة ورسخت. فإنك إن فعلت ذلك فإن مثلك كمثل رجل قد تناول خيطاً طويلاً وأخذ يطويه على هيئة كرة فكلما أفلتت الكرة من يده فسقطت انحل بالسقطة الواحدة من الخيط ما لا يتأتى طيه ثانياً إلا بخمسين لفة أو أكثر. والحقيقة أن مواصلة التمرين وإدامة التدريب هي خير وسيلة لحمل الجهاز العصبي على أداء حركاته بضبط ودقة دون أدنى شذوذ أو إخلال. وبلا أقل تقصير أو إهمال.
لا يستطيع امرؤ أن يبدأ بإصلاح أمره أو تعديل خطته حتى يكون قد بدأ أولاً بإرغام نفسه على ركوب المسلك الوعر المستقيم وعرف كيف يروض نفسه على المضاء فيه مندفعاً منصلتاً مشمراًّ منجرداً غير ناظر حواليه لا يمنة ولا يسرة أما الذي لا يزال يجدد لنفسه كل يوم عزماً فمثله كمثل من يريد أن يطفر من فوق حفرة فهو كلما أوفى على حافتها وقف(59/17)
ثم ارتد وتراجع كيما يتحفز للوثوب من جديد - ذلك شأنه ودأبه لا هو بواثب فماض ولا هو بمقلع فمريح نفسه. والواقع أنه ليس بغير العزمة الثاقبة والهمة الماضية والصرامة النافذة التي لا يعوقها عائق ولا تقف في سبيلها عقبة يستطيع المرء أن يحشد لنفسه من القوى الأخلاقية ما يحرز به النضر الباهر والفتح المبين في معترك الحق والباطل أحسن الوسائل وأضمنها لتكوين مثل هذه العزيمة الماضية والإرادة النافذة المؤدية إلى هذه الغاية البعيدة والأمنية السعيدة - هي المثابرة والمواظبة على أداء العمل باطراد واستمرار وبلا انقطاع ولا شذوذ.
وثمة وصية ثالثة نردف بها الوصيتين السابقتين وهي: انتهز أول فرصة سانحة لإمضاء ما قد أبرمته من العزم لتنفيذ ما يوحي به ضميرك في سبيل اتباع ما قد اخترته لنفسك من العادة الجديدة. واعلم أن الساعة التي يكون فيها للنوايا والعزائم الجديدة التأثير الأقوى في الذهن ليست هي ساعة تكوينها وعقدها ولكن ساعة تحركها وجيشانها وتبجسها عن قوة محركة فعالة.
إن سنوح الفرصة العملية لهو القاعدة الوحيدة التي عليها ترتكز الإرادة الأخلاقية في تأييد نفسها ومضاعفة قواها وفي النهضة والسمو إلى أعلى. أما من حرم سنوح هذه الفرصة العملية فقد حرم القاعدة التي يرتكز عليها ويعتمد فمثل هذا لا يصنع أكثر من الكلام واللفظ والدعاوى والوعود ولا يتخطى مجال الأقوال إلى مجال الأفعال.
إنه مهما امتلأ وعاؤك من الحكم والأمثال والمواعظ والوصايا ومهما حسنت نواياك واشتد ميلك للهدي والصلاح فاعلم أنك لست بمصلح من خلقك ولا مهذب من نفسك مثقال ذرة ما لم تنتهز سانح الفرص وتنتفع بها في إبراز نيتك من حيز الفكر والشعور إلى حيز العمل. فأما مجرد النوايا والأميال والعزائم فهذه لعمرك خدع الشيطان عن الهدى وحداة الغاوين إلى النار وقد قيل في الأمثال (ألا إن بالنوايا الحسنة مجردة يمهد السبيل إلى جهنم).
قال (ستوارت ميل) الخلق هو الإرادة التامة التكوين والإرادة هي مجموعة أميال تدفع المرء إلى العمل لدى جميع مقتضيات الحياة وضرورياتها بأسلوب محدد ومضاء وشدة وثبات، على أن الميل إلى العمل إنما يكون انغراسه في طبائعنا وتأصله في غرائزنا ورسوخه في أعصابنا على قدر تكرار حصول الأعمال وقلة العوائق دونه (وبالتالي) على(59/18)
قدر اعتياد الذهن وتمرنه على تلك الأعمال. لتعلمن أنك إذا تركت جذوة عزمك تخمد أو جمرة شعورك الحي الشريف تنطفئ فتهمد قبل أن تنتج طيب ثمراتها الفعلية فذاك وأبيك شر من إضاعة الفرصة إذ يبلغ من سوء أثر ذلك في نفسك أنه يمنع عزماتك ونواياك المستقبلة من الاندفاع في مجراها الطبيعي إلى غاية الإنتاج الحسن والإثمار الطيب. ولست أعرف في أصناف الناس من هو شر وأخبث من الرجل الخيالي الخائر العزيمة الذي يظهر الرحمة والرثاء لبني الإنسانية والأسى والأسف لمصائبهم وشدة الغبة في إصلاح شأنهم ولا يتعدى ذلك منه مجرد الأمل والأمنية ولا يتخطى مجرد الكلام والهتاف أو العويل والبكاء - تراه دائماً أبداً في بحر من الأحزان والأشجان والحرق والأشواك والحسرات واللهفات يتخبط في لجه ويتقلب في موجه ثم لا تجده بعد ذلك يحرك إصبعاً في سبيل أدنى عمل يدل على الهمة والنخوة والرجولة فإذا أردت مثلاً على هذا الصنف من المخلوقات فلن تجد أصدق من الكاتب الأشهر جان جاك روسو فإنه بينما كان يشعل ببلاغته أفئدة الأمهات في فرنسا ويستعمل سحر بيانه في إغراءهن بإتباع سنن الطبيعة ونواميسها في تربية أطفالهن إذ هو يبعث بأطفاله وأفلاذ كبده إلى ملاجئ اللقطاء لتتولى تربيتهم على أننا كلنا ذلك الرجل أي كلنا (روسو) حينما ترانا نتحرق لهفاً ونتأجج ولوعاً وشغفاً ونتلهب غيرة وحمية وتحمساً لمذهب من المذاهب أو مبدأ من المبادئ ولكننا في الوقت ذاته نناقض أنفسنا بإنكار حقيقة واقعية تدخل في حدود هذا المبدأ وتعد إحدى جزيئات ذلك المبدأ الكلي: كأن ننادي بمذهب الاشتراكية ولا نخرج زكاة أموالنا أو ننادي بمبدأ العدالة ونأكل حقوق الجار وأموال اليتامى وهلم جرا - ونحتج لأنفسنا عن عملنا هذا بأن هذا الشيء الذي نؤاخذ عليه ليس في شيء من المذهب الذي ننادي به بل هو شيء آخر البتة إذ هو شيء ناقص مشوه ملوث بينما المذهب هو شيء كامل طاهر نقي وقد يكون في دعواه هذه شيء من الحق ولكنه إذا أنعم النظر وتأمل الأمر بلا تحيز ولا غرض وجد أن هذه المسألة الجزئية بالرغم من تلوثها وتشوهها باحتكاكها بالشؤون اليومية العادية الحقيرة الخسيسة لا تزال هي جزأ من ذلك المذهب العام السامي المقدس فالويل كله للرجل القصير النظر المظلم البصيرة الذي لا يستطيع أن يعرف الحق ويميز الصواب إلا وهو في صورته المعنوية وشكله البحت المجرد - فإذا ما بدا له متنكراً في هيئة الشؤون العادية ممزوجاً(59/19)
بشوائب ما يجاوره أو يخالطه مما عداه من الأشياء أنكره وجهله!
وقد ظهر أن الإفراط في قراءة القصص ومشاهدة التمثيل مدعاة إلى تفشي هذه الرذيلة في طبقات الأمم، فإذا طلبت دليلاً على ذلك فانظر إلى السيدة الروسية في مركبتها الفخمة تجرها الجياد الضخمة وهي تتلو بعض الروايات التراجيدية ودموعها على الصفحات تنحدر حزناً على شخص بائس من أشخاص الرواية وقد غاب عنها أنه أبأس من ذلك البائس وأسوأ حالاً ذلك السائق المسكين الجالس خارج زجاج المركبة معرضاً لغوائل الجو وجوائحه وسياط الزمهرير تمزق جلده وكلب الشتاء يكاد يسلب روحه. بل إن الإفراط في استماع الموسيقى إذا لم يكن لأغراض فنية وعلى سبيل الرياضة الذهنية بل كان لمجرد الاسترسال في الشهوة الحسية كان جديراً أن يحدث فتوراً وخوراً في القوة الأخلاقية لأن الألحان تبث في فؤاد السامع من الإحساسات والانفعالات والعواطف ما لا يستطيع أن يخرجه من حيز الشعور إلى حيز الفعل فيبرزه في صورة أعمال جليلة ومآثر نبيلة ومن ثم ينشأ في المرء ذلك الخلق الممقوت الجامع بين اهتياج الشعور وجيشان القلب بالعواطف الكريمة وبين الخور والفتور والعجز وسقوط الهمة - فترى أمامك قلباً يتأجج غيرة وحمية ويدين مغلولتين عن الخير والبر وأماني وآمالاً تسمو إلى السماء وتقاعداً وتبلداً وتثاقلاً تهبط وترسب إلى الحضيض. فالعلاج الوحيد لذلك هو أن الواجب على المفرط في سماع الموسيقى أن لا يدع قلبه يمتلئ بعاطفة أو انفعال إلا إذا كان قد عزم على إبراز هذا الشعور بعد قليل في صورة فعلة كريمة أو مأثرة حميدة - ولو لم تكن إلا الشيء القليل الضئيل، كإهداء الكلمة الطيبة أو اللفظة اللينة لأحد الأقارب أو الأباعد أو كإيثار أحد الجلساء بمجلس ألين وأوثر، أو وقاية بعض الزملاء من الحر أو المطر بمظلتك وهلم جرا. هذا وأمثاله من تافه الفعال وضئيلها هو ما يجب عليك أن تصنعه تعبيراً عن شعورك وإبرازاً لإحساسك وضناً بالعاطفة الشريفة أن تذهب سدى وتفني بخاراً ولا عار عليك في ضؤولة مثل هذه الفعال وتفاهتها إذ لم تستطع غيرها ولم تسنح لك الفرصة بما هو أجل منها وأعظم.
وكما أننا إذا تركنا إحساساتنا وعواطفنا تتبخر دون أن نطلقها من مكامنها على هيئة أعمال فاضلة فإنها تعتاد هذا التبخر ويصبح لها ديدناً ودأباً فكذلك إذا نحن أحجمنا عن بذل(59/20)
المجهود ضعفت فينا قوة بذل المجهود واضمحلت وماتت ومن ثم نسوق لك الحكمة الآتية قاعدة مطردة وركناً من أركان الأدب وهي: أحي في نفسك ملكة (بذل المجهود) وجدد نشاطها برياضة نفسك على ذلك بما تيسر من أعمال الخير والمروءة تأتيه على سبيل التمرين ليس إلا أو بعبارة أخرى ألزم نفسك خطة الزهد أو خطة البطولة في صغائر الأشياء غير الضرورية أعني اصنع كل يوم فعلة أو اثنتين وإن لم يكن ثمت باعث على ذلك سوى عدم ضرورتها يكن ذلك رياضة لنفسك على أعمال المروءة وتدريباً لها على مواقف الجلد والصبر والبطولة حتى إذا وقع المكروه وأزفت الآزفة وجدتك جلداً متيناً راسخ القدم رابط الجأش ثاقب العزم وثاب الهمة. فمثل هذه الرياضة والتمرين على الصبر والزهد والخشونة تعد بمثابة الضمانة التي يدفعها المرء لشركات التأمين على المال والحياة. فإن الضريبة المدفوعة لذلك قد لا تعود بالفائدة العاجلة وربما ينقضي العمر ولا تعود بعاجلة ولا آجلة. ولكنة إذا وقع البلاء وشبت النار فعلاً في دارك كان فيما دفعته من تلك الضريبة النجاة من النار والفرار من الدمار. وكذلك الرجل الذي ما برح يروض نفسه كل يوم على الجد والنشاط والهعمة والزهد والقشف في صغائر الأمور ودقائق الشؤون. فإنه إذا أزفت الآزفة وعصفت العاصفة وعاد كل شيء حوله يموج ويضطرب ويميد ويتزلزل رأيته تحت هذه المحن الطائرة والخطوب الثائرة كالبرج المشيد والطود الشامخ.
هنالك تتجلى عنه الغماء. وتنجاب الأواء والعزاء. وتنكشف الظلمة الطخياء. أثبت ما يكون وأرسى. وأصلب ما يكون وأقسى. بينما غيره منت الضغنة العجزة الرعاعيد يتبددون هباء. ويذهبون جفاء.
إلا أن جهنم التي يتوعد بها العصاة في الآخرة ليست شراء من جهنم التي نشعلها لأنفسنا في الحياة الدنيا بصوغ أخلاقنا وتصويرها على صورة كاذبة وصبها في قالب مشوه. فلو أن الصبي أدرك أن لن يكون في مستقبل عمره سوى مجموعة أو حزمة من العادات تسعى على قدم وساق إذن لزاد عنايته بسلوكه وسيرته وهو في دور التكوين إذ عوده رطب الملامس غض المكاسر يلين تحت الثقاف المقوم ويطاول أنامل الطابع المهذب. والواقع أن المرء خالق نفسه وواهب حظه وممهد سبيله ونهجه وحائك لنفسه ثوب العيشة مسعوداً أو منحوساً حوكاً باقياً على الدهر لا طاقة للمقادير بنقضه ولا حلة فما من حركة خير أو شر(59/21)
يأتيها إلا تاركة بجوهر نفسه أثراً لا يزول ما بقي فيه عرق ينبض. لقد جاء في قصة الروائي (جيفرسون) أن السكير (فانوينكيل) يعتذر لنفسه عن كل خطيئة يأتيها بقوله (هذه المرة لا تحسب). سبحان الله! ما هكذا تكون التوبة والأنابة. فهبك أيها المغرور أنك لا تحسب هذه المرة وهب الملك القدوس الغفور الرحيم قد وهبك زلتك وأقال عثرتك فلم يحسب أيضاً هذه المرة فهل ذلك بحائل دون حسابها وتسجيلها؟ كلا! فإن في خلايا أعصابك وأنسجتها ستحسبها عليك الذرات بالعمليات الكيمياوية وستعدها وتحصبها وتسجلها وتخزلها لتقوم ضدك وتتألب عليك متى عاودتك أسباب الغواية والإغراء ثانياً. فما من شيء تأتيه إلا تسجله عليك وتغرزه فيك يد لا ماجى الدهر لأثرها. فعليك من نفسك عين يقظة لا تنام ولا تغفل، ورقيب عتيد يحصي عليك ويسجل. على أن لهذا التسجيل ناحية نفع كما له ناحية ضرر فكما أن تكرار الدفع المتعددة من السكر يؤول بنا إلى رذيلة الإدمان فكذلك تكرار المبرات يرفعنا إلى منزلة الأتقياء الأبرار ومواصلة ساعات الدرس والكد والتمرين تسمو بنا إلى مرتبة المهرة الحذاق الراسخي القدم في العلوم والمعارف والفنون. فلا يشغلن الفتيان بالهم ولا يتعبن أنفسهم تفكيراً فيما عساهم بالغين من درجات العلم ومراتب الحذق والنبوغ في صناعاتهم وفنونهم أياًَ كانت فإن الشاب الذي ينفق كل ساعات دراسته في الكد والاجتهاد مليء بأن يثق بحسن النتيجة وبلوغ الغاية. فاعمل ما عليك ودع النتيجة وشأنها فستعمل أيضاً ما عليها إذ تنتبه يوماً ما من منامك فتجدك معدوداً ضمن الفحول والنوابغ والفطاحل مهما كانت صناعتك وحرفتك. واعلم أن ملكة التمييز والبصيرة والحنكة والخبرة لا تبرح تنمو فيك وتتكون وسط كل ما تعاني وتعالج من تفاصيل الصناعة وجزيئاتها وتافهاتها وحقائرها حتى تنضج لك هذه الملكة وتستتم وتصبح لك ملكاً ثابتاً (أبقى على الزمن الباقي من الزمن).
غموض الحق حين تذب عنه ... يقلل ناصر الخصم الحق
تجل عن الدقيق عقول قوم ... فتحكم للمجل عن المدق
إذا غمر المال البخيل وجدته ... يزيد به يبساً وأن ظن يرطب
وليس عجيباً ذاك منه فإنه ... إذا غمر الماء الحجارة تصلب
إذا طرف من حبلك انحل عقده ... تداعت وشيكاً بانتقاض مرائره(59/22)
فلا تغفلن أمراً وهي منه جانبه ... فيتبعه في الوهي لا شك سائره(59/23)
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الثانية
من المرية إلى قرطبة
(تابع)
وبعد أن أقمنا في الورية ثلاثة أيام بلياليها تحمنا منها في ركب فخم نبيل موف على الغاية، في الأبهة والروعة والجلال، قاصدين إلى قرطبة حضرة هذه البلاد، وكان في طليعة الركب أمير البحر عبد الحمن بن رماحس، إذ أمره الحكم بن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده كما أسلفنا أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين ويجيء معنا إلى قرطبة مبالغة من الأمير حفظه الله في الاحتفاء بنا وبأبي علي القالي البغدادي وبأبي عبد الله الصقلي الفيلسوف الذي وصل إلى المرية قبل انفصالنا عنها، وكان في المركب من الأندلسيين الرمادي الشاعر وأبو بكر بن القوطبة وأبو بكر الزبيدي وكثير من أدباء الأندلس وأعيانها.
وقد بهرنا وسحر أعيننا وملك علينا ألبابنا ما رأيناه في طريقنا من استبحار العمران في هذا القطر الأندلسي، فقد كنا نمر في اليوم الواحد بثلاث مدن وأربع، وفي حيثما سرنا نرى الحوانيت - في الأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة. وكنا نتعثر تعثراً بالجداول والأنهار، تحفها البساتين وصنوف الزرع والنجوم والأشجار، حتى لظننا أنه ليس في هذه البلاد صحراء مقفرة أو أرض غامرة.
يا أهل أندلس لله دركم ... ماء وظل وأنهار وأشجار
ما جنة الخالد إلا في دياركم ... ولو تخيرت هذا كنت أختار
أما القرى والمعاقل والحصون فإنها لا تحصى كثرة، وقراها جميلة لتأنق أهلها في أوضاعها وتبييضها لئلا تنبو العين عنها.
لاحت قراها بين خضرة أيكها ... كالدربين زبرجد مكنون بي عبد اأبي عبد الله أ
وأكثر مدنها مسور من أجل الاستعداد للعدو، وفي مدنها لذلك ما يبقى في محاربة العدو ما يربى على عشرين سنة، لامتناع معاقلها ودربة أهلها على الحرب.(59/24)
وكنا في طريقنا نتذاكر الأدب ونتناشد الأشعار ونخوض في ضروب من الحديث لا علينا إذا نحن أوردنا شيئاً منها في هذه الرسالة، فمن ذلك أن أبا علي قال من كلمة له (لما مررت بالقيروان - وأنا أعتبر من أمر به من أهل الأمصار فأجدهم درجات في العبارات وقلة الفهم بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد كأن منازلهم من العلم محاصة ومقايسة فقلت أن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم، فسأحتاج إلى ترجمان في هذه الأوطان، ولكن لما جئت إلى هنا قضيت عجباً من أهل هذا الأفق الأندلسي في ذكائهم) ومن ثم كنا نراه يتغطى عن الأندلسيين عند المباحثة والمناظرة ويقول لهم (إن علمي علم رواية وليس علم دراية فخذوا عني ما نقلت فلم آل لكم إن صححت) ثم فرط منه قول ذهب فيه إلى تفضيل شعراء المشرق على شعراء المغرب فانتدب له أحد الأدباء ممن كانوا في هذا الركب وقال إن أهل الأندلس أشعر الناس فيما كنزه الله تعالى في بلادهم وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكؤوس، لا ينازعهم أحد في هذا الشأن - أما إذا هب نسيم، ودار كأس في كف ظبي رخيم، ورجع بم وزير وصفق للماء خرير، أورقت العشية، وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهبية، أو تبسم عن شعاع ثغر نهر، أو ترقرق بطل جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طيف طارق، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح وبات مع من يهواه كالماء والروح، إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها، أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها، فأولئك هم السابقون السابقون. الذين لا يجارون ولا يلحقون، وليسوا بالمقصر ينفي الوصف إذا تقعقعت السلاح، وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح، وبنت الحرب من العجاج سماء، واطلعت شبه النجوم أسنة وأجرت شبه الشفق دماء، وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة، فقال أبو علي: (نعم وفي الحق ما تقول بيد أن شعراء المشرق فضلاً أن شعرهم أصفى ديباجة، وأكثر ماء وطلاوة، وأسد مسلكاً وأوضح منهجاً، وأشكل في مبناه بالشعر القديم حتى لا يكاد يشذ عنه قيد شعرة، وفضلاً أنه في الأعم الأغلب رصين متماسك جزل قوي غير مهلهل النسج، تراهم مع ذلك ذهبوا به كل مذهب من القول، وافتنوا في مناحيه أيما افتتان، وغاصوا على المعاني(59/25)
غوصاً حتى بلغوا في ذلك المبالغ، ووصلوا إلى الغاية التي لا وراءها، وإني لا أظن أن لعلي بن العباس الرومي أو بشار بن برد أو أبي نواس أشباهاً ونظائر في هذه البلاد، على أني مع ذلك لست أنكر على الأندلسيين ذكاءهم وتوقدهم وأنهم - كما رأيت وكما وصفوا إلى - (عرب في العزة والأنفة وعلو الهمة وفصاحة اللسان وإباء الضيم والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع والاستخذاء - هنديون في فرط عنايتهم بالعلوم ورغبتهم فيها وضبطهم لها - بغداديون في نظافتهم وظرفهم ورقة أخلاقهم وذكائهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم ونفوذ خواطرهم - يونانيون في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الغراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر - صينيون في إتقان الصنائع العملية وأحكام المهن الصورية - تركيون في معاناة الحروب والحذق بالفروسية والبصر بالطعن والضرب)
كبرت حول دياركم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق
ولو أبصروا ليلى أقروا بحسنها ... وقالوا بأني في الثناء مقصر
وهنا انبعث أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وقال ما تلخيصه، الذي أراه أن شعراء كل قطر من الأقطار أو جيل من الأجيال لابد من أن يتأثروا بالمحيط الذي يحيط بهم، وأن يصطبغ شعرهم بصبغة ما يرون ويحسون من حولهم، فالشاعر الجاهلي أو المبتدي في الجاهلية والإسلام الذي لا تقع عينه إلا على صحراء مقفرة، أو سماء ماطرة، أو وحش كاسر أو غزال نافر، لم ير ريفاً، ولم تغذه رقة الحضر، ولم يشبع من طعام، قد خالط الغيلان، وأنس بالجان، وأوى القفر واليرابيع والظباء، فإنه حري أن لا يقول إلا في جنس ما هو بسبيله من وصف البيد والمها والظبي والظليم والناقة والجمل وما إلى ذلك، في قول مؤنق مشرق واضح الطريقة لا تعمل فيه ولا كلفة، يوائم أمزجتهم وطبائعهم، ويلائم المحيط الذي فيه عاشوا والجو الذي فيه درجوا والفطرة الأولى التي فطروا عليها، والسذاجة التي هي من خاص صفاتهم، وقد يكون لهم مع ذلك الحكمة البارعة والكلمة الرائعة والمثل السائر والموعظة الحسنة، مما يبهر أعرق المتحضرين ويصيب منهم أقصى غايات الإعجاب والإكبار، ولكنه الوحي والإلهام الذي تلهمه الفطرة القوية النقية البريئة، ويؤتى الطبيعة الكريمة ما يؤتى سهوا رهوا، وليس هو بنتاج العقل المسموع ولا بثمار الملكات المكتسبة.(59/26)
(وبعد) فأما المولدون وهم الذين تصح المفاضلة بينهم وبين شعراء المفرب لأنهم جميعاً تحضروا وعاشوا في رونق النعيم واعتركوا بالدنيا واعتركت بهم فالرأي عندي أن يقال إن الشعر لفظ ومعنى وأما اللفظ فإن شعراء المشرق لأن أكثرهم جاروا الأعراب وأهل البادية ولقنوا اللغة منهم والتصقوا بهم ونشؤوا في أحضانهم وغذوا بلبانهم ترى لهم الألفاظ المتخيرة، والديباجة الكريمة والطبع المتمكن والسبك الجيد وكل كلام له ماء ورونق، وترى شعرهم رصيناً متسقاً على استواء واحد لا يتدافع من جهاته ولا يتعارض من جوانبه ولا يجمع ولا يشتط ولا يأتيه الضعف والهلهلة والاسترخاء من أية ناحية من نواحيه. وأما المعنى فإن فحولة وشعراء المشرق الذين افتنوا في المعاني فتناناً وغاصوا عليها وأمعنوا حتى ظفروا بكل معنى عجيب يعمر الصدر ويزكي الروح ويشع في دنى العقل فتنجاب له ظلمته وتنير نواحيه وتنفتح مغالقه مثل بشار بن برد وأبى نواس وابن الرومي وهذه الطبقة فهم إنما بلغوا هذه الدرجة لأنهم من الموالي أبناء تلك الأمم الحمراء الذين امترسوا بالحضارة قبل العرب امتراساً وعالجوها وعالجتهم وداوروا صنوفها من الصناعات والعلوم وما إليها وصرفوا فيها أعنة الفكر وافتدحوا لها زناد الرأي وهلم حتى أن ذلك على كر الغداة ومر العشي عقولهم، وشحذ أذهانهم وأذكى أرواحهم وأكسبهم ملكات عبقرية عجيبة، فورث ذلك منهم أبناءهم وانحدر مع دمائهم وكان منهم هذا النبوغ الذي نرى آثاره في الإسلام.
وما كاد أبو عبد الله يتم قولته تلك حتى صاح أبو بكر بن القوطية وقال أشيخنا شعوبى؟ فقال أبو عبد الله إني وإن كنت لا أرى لعربي فضلاً على عجمي إلا بالتقوى وإن تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم وشرف أنفسهم وبعد هممهم، فمن كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، ومن قيس في أشرف بطن منها، ومن ثم يقول الله جل شأنه إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ويقول رسول الله في خطبة الوداع، أيها الناس إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى - فإني مع هذا أقول ما قاله ابن المقفع - وقد سأل جماعة من أشراف العرب - أي الأمم أعقل فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا لعله أراد أصله من فارس فقالوا فارس، فقال(59/27)
ليسوا بذلك، إنهم ملكوا كثيراً من الأرض ووجدوا عظيماً من الملك وغلبوا على كثير من الخلق ولبث فيهم عقد الأمر فما استنبطوا شيئاً بعقولهم ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم، قالوا فالروم. قال: أصحاب صنعة. قالوا فالصين. قال: أصحاب طرفة. قالوا الهند. قال: أصحاب فلسفة. قالوا السودان. قال: شر خلق الله. قالوا الخزر. قال: بقر سائمة. قالوا فقل. قال العرب. فضحكوا - قال أما إني ما أردت موافقتكم ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلن يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثلها، ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وادم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما يشاء فيحسن، ويقبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم نفوسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حباء الله فيهم وحباؤهم في أنفسهم. حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر، على الخير فيهم ولهم فقال إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم حسر، ودفع الحق باللسان أكبت للجنان.
بيد أن العرب لم يكن لهم بادئ ذي بدء دراية بالحرف والصناعات وبالعلوم وتعلمها الذي هو في عداد الصناعات وذلك لمكانهم من البداوة ورسوخ أقدامهم فيها ومن ثم كانت الشريعة الإسلامية - إذ كان القوم أكثرهم أميين - تتناقل في صدورهم - وجرى الأمر على ذلك أزمان الصحابة والتابعين - فلما بعد النقل من دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية وتقييد الحديث مخافة ضياعه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية وصارت العلوم الإسلامية ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع، وهو معلوم أن الصنائع من منتحل الحضر والعرب أبعد الناس عنها والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي فكان صاحب صناعة النحو سيباويه ثم الفارسي من بعده ثم الزجاج وكلهم عجم في أنسابهم وكذا حملة الحديث وعلماء أصول الفقه وعلماء الكلام والمفسرون وأكثر فقهاء الأمصار مثل الحسن بن أبي الحسن ومحمد من سيرين فقيهي البصرة وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار فقهاء مكة وزيد بن أسلم ومحمد(59/28)
ابن المنكدر ونافع بن أبي نجيح فقهاء المدينة وربيعة الرأي وابن أبي الزناد فقهاء قباء وطاوس وابن منبه فقيهي اليمن وعطاء بن عبد الله فقيه خراسان ومكحول فقيه الشام والحكم ابن عتيبة وعمار بن أبي سليمان فقيهي الكوفة وهلم، وبالجملة لم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس، وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فقد شغلتهم الرئاسة في الدولة وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه فإنهم أهل الدولة وحاميتها وأولو سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم بما صار من جملة الصنائع، والرؤساء أبداً يستنكفون من الصنائع والمهن وما يجر إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين - فكان امتراس العجم من القديم القديم في الحضارة وما تستتبعه من العلوم والصنائع سبباً في كيسهم وفطنتهم ونماء عقولهم ورجحان أحلامهم وميران ملكاتهم على الاستنباط والتخريج والتماس الحيل وتوليد المعاني ومن ثم كان شعر الموالي منمازاً عن شعر العرب الأقحاح باستفتاح إغلاق المعاني الدقيقة العبقريات والافتتان فيها وتلوينها بكل لون، وهاك شعر بشار وأبي نواس ومروان بن أبي حفصة وابن الرومي ومن إليهم من الشعراء الموالي، ترى الشاهد الصدق لما أقول، وعرب الأندلس منذ فتحهم هذه البلاد إلى وقتنا هذا لا تزل نزعتهم عربية في كل شيء حتى في شعرهم إلا ما أكسبتهم إياه طبيعة بلادهم وخصوبتها فمن ثم كان فرق ما بين شعرهم وشعر المشارقة في الجملة. .
وبعد أن أتم أبو عبد الله كلامه أفضى بنا الحديث إلى ذكر الغزال الشاعر الأندلسي الظريف - وملحه ونوادره، وهذا الغزال كما أخبرنا ابن القوطية، هو يحيى بن حكم البكري الجياني الملقب بالغزال لجماله وقد كان في الثالثة من بني بكر بن وائل وكان حكيماً شاعراً عرافاً وكان آية في الظرف وخفة الروح، وجهه الأمير عبد الله ابن الحكم المرواني إلى ملك الروم فأعجبه حديثه وخف على قلبه وطلب منه أن ينادمه فتأبى ذلك واعتذر عنه بتحريم الخمر، وكان يوماً جالساً معه وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها وهي كالشمس الطالعة حسناً فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها وجعل الملك يحدثه وهو لاه عن حديثه، فأنكر ذلك عليه وأمر الترجمان بسؤاله، فقال له عرفه أني قد بهرني(59/29)
من حسن الملكة ما قطعني عن حديثه فإني لم أر قط مثلها وأخذ في وصفها والتعجب من جمالها وأنها شوقته إلى الحور العين فلما ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده وسرت الملكة بقوله، وأمر الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان وتجشم المكروه فيه مع خلوه من الفائدة فقال للترجمان عرفها أن فيه أكبر فائدة وذلك أن الغصن إذا زبر قوي واشتد وغلظ وما دام لا يفعل به ذلك فإنه يبقى رقيقاً ضعيفاً فضحكت واستظرفته، ومن نوادره أنه أرسل مرة سفيراً إلى بلاد المجوس (أسوج ونروج) وقد قارب الخمسين وقد وخطه الشيب ولكنه كان مجتمع الأشد، فسألته زوجة الملك يوماً عن سنه فقال مداعباً لها، عشرون، فقالت وما هذا الشيب، فقال وما تنكرين من هذا ألم تري قط مهراً ينتج وهو أشهب؟ فأعجبت بقوله فقال في ذلك - واسم الملكة تود -
كلفت يا قلبي هوى متعباً ... غالبت منه الضيغم الأغلبا
إني تعلقت مجوسية ... تأبى لشمس الحسن أن تغربا
أقصى بلاد الله في حيث لا ... يلفى إليه ذاهب مذهبا
يا تود ورد الشباب الذي ... تطلع من أزرارها الكوكبا
يا بأبي الشخص الذي لا أرى ... أحلى على قلبي ولا أعذبا
إن قلت يوماًص إن عيني رأت ... مشبهه لم أعد أن أكذبا
قلت أرى فوديه قد نورا ... دعابة توجب أن أدعبا
قلت له ماباله أنه ... قد ينتج المهر كذا أشهبا
فاستضحكت عجاباً ولي لها ... وإنما قلت لكي تعجبا
ولما فهمها الترجمان شعر الغزال ضحكت وأمرته بالخضاب فغدا عليها وقد اختضب وقال:
بكرت تحسن لي سواد خضابي ... فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشيب عندي والخضاب لواصف ... إلا كشمس جالت بضبابي
تخفى قليلاً ثم يقشعها الصبا ... وطلاوة الأخلاق والآداب(59/30)
البولشفية
(هل عرفت حقيقة البولشفية؟)
لعل الجواب على ذلك لا يكون ميسوراً. إن نظاماً يتهمه أعداؤه بكل ألوان التهم، ويعيش ثلاث سنوات وصحافة العالم كلها تكتب عنه كتابات متناقضة متضاربة، نقول إن نظاماً هذا شأنه أن ينطوي على حقائق أكبر مما يقدر للصحف وكتابها أن ينشروا للناس.
إننا نعيش في عصر مضطرب مجنون. وآية ذلك تلك الصرخة العنيفة التي انطلقت ضد البولشفية، وذلك الصوت الذي تألب ضدها، يقذفها بإنكار التهم وأقذرها. إنها نظام إباحي يجعل المرأة شركة عامة!!
ولسنا هنا بسبيل الدفاع عن البولشفية أو نقدها. فهذا أمر لا نتصدى له في هذه المجلة. ولكنا نسوق للقراء شيئاً مما يقال عن أكبر نظام علمي اجتماعي والكلام هنا منقول عن أدق المصادر وأوثقها. والكاتب هو المستر بريسفرد كاتب انجليزي قدير محترم في بلاده زار روسيا وتجول فيها واختلط بأهلها ووقف على أنظمتها فهو يكتب عن خبرة وتدقيق. وقد كتب ما نحن ناقلوه في مجلة (الكونتمبري رفيو) التي يعرف قراء الانجليزية أنها من أكبر المجلات وأوثقها.
قال الكاتب: لقد شهد العالم أنظمة وحكومات تستمد قوتها من قوة العصبية أو الثروة أو الجنس أو التعليم أو المقدرة الشخصية. وفي روسيا اليوم أحزاب تستطيع أن تبز البولشفيك في بعض هذه المزايا أو فيها جميعاً ولكن البولشفيك يحتفظون بميزتين خاصتين بهم هما:
التدريب والنظام.
القدرة على العمل وفرط الإيمان بمذهبهم وشجاعتهم إلى حد التهوس.
وتاريخ هذا الحزب ينتهي إلى زمن الحكومة القيصرية وهذا تعليل ما هم متصفون به من قسوة التدريب وحب النظام. فلقد كانوا وهم محكومون بالحكومة المطلقة يعدون حياتهم مؤامرة مستمرة، فتعلموا التدقيق والحذر وكتمان السر والطاعة المطلقة، وتعلموا أن يقاتلوا الجاسوسية بجاسوسية أشد منها، وهكذا جعلتهم المحنة صنفاً خاصاً، فراحوا يكرهون الترف والدعة، ويكرهون الشراب واللهو وتعلموا أن يعملوا ويطيعوا وأن يعيشوا في حالة حذر مستمر ومن هنا كانوا أقدر من أعدائهم الذين ما انفكوا أهل لهو وخمول.
والحزب البولشفيكي لا يربى على أكثر من 600 ألف رجل وامرأة. فهو أقل الأحزاب(59/31)
الروسيى عدداً. ولعل في ذلك ما يبعث الدهشة ويثير الاستغراب إذ كيف تستطيع أقلية كهذه أن تحكم امبراطورية تنيف على 120 مليوناً من الناس. وتعليل ذلك أن البولشفيك يعملون على أن يحتفظوا بمكانتهم بين الأحزاب بأن يكونوا أقلية. وهم أزهد الناس في الكثرة، ومن أصعب الصعوبات أن يقبل الروسي في عداد هذا الحزب ولاا بد له إذا أراد ذلك من أن يكون رجلاً معروفاً قادراً على أن يأتي بكثيرين يشهدون له شهادة طيبة فإذا استطاع طان عليه أن يؤدي امتحاناً علمياً في مبادئ البولشفيك فإذا نجح عد (طالباً) فقط وعليه أن يبرهن على مقدرة وأهلية حتى يعد (عضواً).
والبولشفيك أقرب إلى أن يكونوا نظاماً دينياً منهم إلى حزب سياسي كسائر الأحزاب التي نعرفها في أوروبا. وللخلق المقام الأول عندهم.
فطالب الانضمام إليهم موطن نفسه لا محالة على امتحانات شديدة قاسية. فلا بد له من أن يكون شديد المواظبة على الاجتماعات الحزبية وأن لا يهمل قط في أعماله وأن يطيع رؤساءه طاعة مطلقة. فإذا قبل عضواً كانت الرقابة على سلوكه أشد واقسى فإن الميسر وشرب الخمر والإهمال والفتور والتمرد جرائم يحاكم عليها بالموت وهم يكرهون الرقص ويمقتون التدخين وأكبر جرم في نظامهم الأدبي هو طالب الربح المادي.
والأسباب التي يتجعلهم أقلية صغيرة واضحة. ذلك أن الثورة التي أقاموها لا تزال تقاتل لتعيش فهم أقلية مختارة تعيش للفكرة والمبدأ. فإذا هزم جزء من الجيش الروسي يؤتى بالآليات البولشفية لتقذف في أحر القتال وأشده وإذا أبطا المعمل في مقدار ما ينتجه من العمل فلا بد من إرسال طائفة من العمال البولشفيك إليه. فإذا انتقضت قرية أو ثارت عليهم يؤتى بعضو أو اثنين من الحزب ليعيشا فيها. وإنهم يحيون حياة جهاد مستمر وهم مصدر القوة والنشاط في كل روسيا فإذا انتقصت غيرتهم للعمل أو تهاونوا أو أهملوا فإن نظامهم لا محالة مقضي عليه بالخذلان؟
ولكن هل نجحوا؟ وإلى أي حد بلغ نجاحهم؟
لقد ألقيت على واحد منهم هذا السؤال! فأجاب: نحن البولشفيك نؤدي الواجب ولا ننتظر الفائدة. إننا نعيش لحياة الحزب. فحياتنا رهينة القيادة العليا للحزب، وإن أحدنا ليتلقى الأمر فينطلق ويترك وراءه أولاده وزوجه ولعله لا يعود إليهم قط. والأعمال التي تلقى إلينا تنفذ(59/32)
بدون بحث فقد تكون تنظيماً أو حرباً أو نشر دعوة. وأهونها جميعاً القتال في الجيش وإننا لنعد أنفسنا في راحة وبطالة إذا تلقينا الأوامر بالانضمام إلى الجيش. إننا نخضع لأنظمة من السلوك والآداب رفيعة لا يحتملها غيرنا. يدلك على هذا أن الضابط البولشفي يعاقب بالقتل إذا أمسك في شراب ويقتل الموظف البولشفي إذا سرق أو تقبل رشوة. أما غير البولشفي فيعاقب بالسجن على هذه الجرائم نفسها، فليس ثمة ما يبعث الناس إلى الانضمام إلينا إلا شعور سام بالفكرة التي ندين بها.)
ونقاد البولشفيين وأقسى خصومهم يقرفونهم عادة بأنهم يستبيحون لأنفسهم من الترف والنعمة ما لا يتوفر لخصومهم. والتهمة باطلة بطلاناً تاماًًَ ولقد أتيح لي أن أراقب البولشفيين عن كثب واختلطت بهم (في مؤتمر الصلح في منسك) فرأيت أكبر موظفيهم يعيشون عيشة أبسط عمالهم ومسترزقيهم. ومقر الوزارة في قصر الكرملين في موسكو لم تكن قبلاً إلا بيوت ضباط حرس القصر. والحق في هذه التهمة - إذا كان لا بد من تقرير الحق - هو أن الموظف البلشفي أو غير البلشفي يتمتع بشيء من الراحة والميزة في أسفاره إذا كان موفداً في عمل رسمي للحكومة. وإن الذين يعملون في أعمال خطيرة كرجال الجيش والتعليم وصناع الذخائر يعطون من المؤن أكثر مما يعطى غيرهم وهذه الميزة متمتع بها البولشفي وغير البولشفي وهي مطلوبة للضرورة الباعثة عليها إذا أريد جعل الكفاءات الفنية موفورة الكرامة.
ويذاع مما يؤاخذ به البولشفيين أيضاً أن توزيع الطعام والملبس تراعى فيه المحسوبية والتحزب ومصداقاً لهذا أقول انه اكتشفت في الأقاليم حادثة من هذا النوع ولكن مما يقال دفاعاً عن البولشفيين أن مفتشيهم هم الذين فضحوا الجريمة وأبرزوها للتحقيق مما يدل على أنهم يكرهون مثل هذه الجرائم ولا يشجعونها والرشوة والمحاباة داآن معروفان في روسيا وقد تكون هناك جرائم أكبر مما اكتشف الآن السبيل إلى إذاعتها قط ولكن الحق يقضي إنصافاً للنظام البلشفي أن نقول أنهم يعاقبون المجرم المتهم بالرشة أو المحسوبية بالموت وهم من صرامة العقاب يزيدون الجرائم ولا يقللونها ذلك أن الناس يكرهون أن يدل بعضهم على بعض ويقودوهم للموت.
وتأليف هذا الحزب مثير للدهشة باعث على العجب. ذلك أن حزب الشباب. وأنا أسوق(59/33)
هنا إحصاء كنموذج لذلك. والإحصاء مأخوذ عن سنة 1919 في بلدة سامارا -
من سن 16 إلى 18 عدد الأعضاء 67
من سن 19 إلى 30 عدد الأعضاء 1353
من سن 31 إلى 40 عدد الأعضاء 607
فوق الأربعين عدد الأعضاء 205
وعدد الرجال 1912 والنساء 247. والمهن كما يأتي: -
صناع يدويون 1293 عضواً
كتبة وموظفون 498 عضواً
فلاحون 156 عضواً
أطباء ومعلمون 154 عضواً
ومثال آخر يدل على أن الشباب هو الذي يمد هذا الحزب بالنصيب الأوفر من القوة والنفوذ هو ما يدل عليه الإحصاء في جامعة سفرلدوف في موسكو وهي جامعة خاصة بتدريب رجال البولشفية على النظام والإدارة. وعدد طلا بها نيف وألف شاب وشابة هم صفوة الطبقة العاملة وأحسن مفكريها يدرسون العلوم السياسية كما يفسرها البلشفيك وكما تتساوى مع أنظمتهم. ومدة الدرس ستة أشهر. يأخذون فيها دروساً في الاقتصاد السياسي وتاريخ الحضارة وتاريخ روسيا وتاريخ المذاهب الاشتراكية كما ارتآها كارل ماركس الزعيم الأكبر. وبعد الستة أشهر ينقطع الطلاب لدرس أساليب الإدارة والنظام في الوزارة التي يستخدمونها (الزراعة أو التعليم أو الطعام الخ) ويجمعون فيها بين الدرس والعمل. ولما كانت الستة أشهر غير كافية لتخريج أخصائيين أكفاء فقد جعلوها سنتين وهذه الجامعة واحدة من عدد عظيم مثلها قائم في سائر أنحاء روسيا.
وطلاب الخدمة المدنية يقترعون لهذا التدريب العلمي بواسطة المجالس السوفيتية والنقابات والجمعيات البلشفية. وهم في الجملة يمثلون 25 شعباً من شعوب روسيا حتى الآسيوية منها ولكن للروس الأصليين الأغلبية إذ يبلغون 73 في المائة من المجموع ويأتي بعدهم اليهود ولهم سبعة ونصف في المائة فقط.
والحزب البلشفي ينتقي رجاله اليوم من الشباب - رجالاً ونساء - الذين شهدوا الثورة(59/34)
وعاشوا في ظل حكومتها. ولهم هيئات منظمة يسمونها (الحزب الكوموبي الفتي) يضم 400 عضو وهو يكاد يتساوى مع الحزب الأصيل في قوته ونظامه.
زارني أربعة فتيان من هذا الحزب في إقليم فلدمير وهم متحمسون غلاة في عقيدتهم لهم جرأة وإقدام نادران. جاؤوا إلي يسألونني أسئلة عن حزب العمال الانجليزي ويصفون نظام حزبهم. وقد علمت منهم أن إقليمهم يضم 9000 عضو ثلثهم فتيات وهم ينشرون فكرتهم بواسطة الخطابة والاجتماعات. مثال ذلك أنهم يعقدون اجتماعات عامة يحضرها أنصارهم وغير أنصارهم ثم يثيرون مسألة خلافية كفكرة كارل ماركس مثلاً ويتركون للخطباء الدفاع عن آرائهم ومن هنا يذيعون عن المبادئ الاشتراكية دعوة ناجحة. ولهم في التربية والتعليم غايات محدودة واضحة المعالم ولقد قيل لي رداً على سؤال مني عن هذه الغايات هذا القول: إننا نذهب إلى خلق نفسية جديدة في الشبان ونعدهم أعداداً خاصة للعمل الاجتماعي نريد أن نجعل الذين تمتعوا بحظ من التعليم العالي أن يؤدوا بعض هذه النعمة في شكل عمل اجتماعي منظم لا أن يكتفوا بأداء عمل حكومي تافه. وقد علمت منهم أنهم يبذلون مساعدتهم في ملاجئ الأيتام ومدارس الأطفال وينظمون عمال المعامل الكبرى لزيادة المزارع وهكذا مع الزراع لزيادة المعامل.
وأسوق هنا بعض ما يعمله الشباب منقولاً عن جريدة الحزب الأسبوعية.
أقام الحزب في قرية معملاً للصابون يوزعونه مجاناً على الفلاحين توخياً للنظافة بينهم.
وفي قرية أخرى أقاموا محلاً لإصلاح الأحذية القديمة مساعدة لعائلات الجنود المحاربين.
وفي أخرى نظموا طوائف من السكان لمحاربة الأمراض الوافدة.
وفي أخرى أحصوا الأميين من السكان الذين تزيد سنهم عن الست عشرة سنة وافتتحوا مدرسته لتعليمهم.
وفي إقليم خزان افتتحوا 35 مكتبة ضمت بين أعضائها 1500 مسلم منهم 250 مسلمة.
وفي بلدة أخرى جمعوا الحديد القديم البالي ودقوه محاريث للفلاحين.
وفي بلدة سوزدال (قرب فلدمير) وبخوا سكرتير الحزب لارتياده المراقص الليلية.
وفي التركستان جمعوا إحسانات لإعانة الأطفال في موسكو وبترغراد.
قال الكاتب بعد كلام عن (اللجنة الخاصة) وهي التي لا تحاكي خصوم البلشفية: (وأنا ولا(59/35)
شك معط فكرة غير صحيحة عن البلشفيين إذ قلت أنهم يستخدمون القوة وحدها لتأييد نظامهم. والحق يدعوني أن أقول أنهم لا يستندون على القوة إنهم يأخذون أقرب طريق لتحقيق سياستهم وهذا مثال من ذلك.
كانت الأكاديمية العلمية في بترغراد قد قررت قبل شبوب الثورة الأولى العدول عن طريقة الكتابة بالحرف الروسي القديم (البيان: يكتب الروس لغتهم بحروف تختلف عن الحروف اللاتينية وهي أقرب إلى اللغة الأرمنية منها إلى اللغة اللاتينية) فلما حلت حكومة كرنسكي محل الحكومة القيصرية نشرت أمراً عالياً لتنفيذ توصيات الأكاديمية ولكن شيئاً من ذلك لم يقع وظلت المطابع تستخدم الحروف القديمة. فلما جاء البلشفيون عمدوا إلى وسيلة عملية ناجحة ذلك أنهم أرسلوا رجال الجيش إلى المطابع كافة ليرفعوا الحروف القديمة ويحلوا الجديدة محلها وهكذا نجحت الفكرة الإصلاحية بواسطة القوة.
إن البلشفيين رجال عمل ونشاط. وعملهم لا يستند على القوة وحدها لإنجاحه بل لعله لا توجد في العالم حكومة تفوق البلشفيين في استخدام الإقناع ونشر الدعوة وبث التعليم. البندقية دائماً معدة في أيديهم ولكنهم لا يعمدون إلى استخدامها إلا إذا فشلت المطبعة ولهم في نشر دعوتهم طرق منوعة. فهم يكثرون الإعلانات الملونة التي تلصق على الجدران ففي كل طارئ من طوارئ السياسة العامة يتلقى الناس درساً في الاقتصاد أو الجغرافيا عن طريق الإعلانات فإذا حرم الناس السكر أو الزيت فإن الحكومة تعمد إلى تبيان الأسباب التي أدت إلى ذلك مثال ذلك أنهم ينشرون خريطة للبلاد الروسية ويلونون كل جزء منها بلون لإظهار ميزته من الوجهة الاقتصادية فالمقاطعات التي تنتج السكر بلون والتي تصنع الزيت بلون آخر وهلم جرا. فالرجل العامي لأول مرة في تاريخ روسيا بدأ يعرف شيئاً عن حدود بلاده بعد أن كان لا يدري أكثر من حدود قريته.
وهذه الطريقة نفسها طريقة نشر الخرائط الملونة متبعة في إظهار مقدار ما أصلح من الخطوط الحديدية وما خرب منها وبها يذيعون أخبار انتصارات الجيش أو الثورات الداخلية، وهكذا جعلوا للعامل فكرة عن نفسه أدخلوا إليه روح الاعتداد بعمله.
فمن الإعلانات الملونة التي رأيتها إعلان منها يدل على مقدار الحرية التي تتمتع بها المرأة في ظل الثورة ونقد الأمثال الروسية القديمة عن المرأة وآخر ينطوي على تهكم مر على(59/36)
خصوم الثورة وهم أصحاب المال والارستقراطيون وكهنة الدين.
وفي كل بلدة أو محطة غرفة للمطالعة تقوم فوق جدرانها هذه الإعلانات المصورة وفيها تجد الكراسات التي تنشر فكرة خاصة عن موضوع خاص ولهم أيضاً قطر السكك الحديدية المعدة لنشر الدعوة - وعددها ستة - وهي مسلحة بكل وسيلة للإعلان والنشر. ففي كل قطار تياترو وسينماتوغراف ومطبعة وجوقة موسيقية وهكذا يزخرف البلشفيون الحياة ويبعثون فيها لذة وفتنة.
وهم يجمعون بين استخدام القوة واستخدام الإقناع والجدل. مثال ذلك الطريقة التي يتبعونها في جمع الغلال من الفلاحين وهي التي يأخونها بديلاً من الضرائب. وقد صور تولستوي وسائل الإرهاب والجلد التي كانت تتبعها الحكومة القيصرية في جمع الضرائب أما البلشفيون فيتبعون وسائل أخرى، ذلك أنهم نظموا شرطة خصيصين لجمع الغلال وهؤلاء لا يتقاضون ما للحكومة قبل أن يعقدوا اجتماعات عامة للفلاحين ينبري فيها الخطباء للتأثير على السامعين بالكلام عن حاجة المدن وبؤس أهلها فإذا انتهوا من البلاغة وإقامة الحجة خلع الشرطة أرديتهم وأخذوا المناجل وانحنوا على الأرض للحصد والجمع، وهكذا يجمعون إلى قوة البيان قوة البندقية.
وقد صرفت في فلدمير وقتاً استمعت فيه خطباء البلشفيين وهم معروفون بلقب (الدعاة) (ولعل ألطفهم وأفتنهم النساء) وعمل هؤلاء الدعاة شاق فإنه ليس ما يستهان به إقناع القرويات الروسيات بنظريات البلشفية وحملهن على تسليم أولادهن إلى المدارس التي أقاموها ولهم في هذا السبيل وسائل ممتعة جميلة، ذلك أنهم ينظمون حفلات (بساتين الأطفال) ويدعون الأمهات إليها فتأتي الأمهات ويبتهجن بهذا النوع من التعليم ويطلبن إلا كثار منه.
ولعل أكبر الصعوبات في سبيل البلشفية هي مسألة الدين، والبلشفيون أهل تسامح ولكنهم معادون لرجال الدين عداء قاسياً لأن الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا أشد العالم كله تأخراً وأكثرها تشبثاً بالخرافات السخيفة والبلشفيون معدودون عند الكبار وأهل الجيل الماضي كغرة ملحدين ولكنهم ليتخذون من انحطاط رجال الدين وسيلة للاستظهار عليهم والظفر بهم فالخرافات التي يروجها القساوسة هي التي يستخدمها البلشفيون وسيلة لنقد الكنيسة،(59/37)
فالروس يعتقدون إن صلاة الكهنة تجلب لهم المطر إذا أجدبت أرضهم وقد وقع مثل هذا الجدب وهم يتخذون عقيدة الناس في أهل التقوى والصلاح الذين تكثر مزاراتهم والمقامات التي يقدسها العامة وسيلة لهدم هذا التقديس. فالروس يعتقد أن جثة القديس محفوظة في الجدث حتى يوم البعث وإن البلى لا يجد إليها سبيلاً. وقد فتح البلشفيون قبور أهل التقوى فإذا هم عظام نخرة وأكوام تراب. هذا وأمثاله مما يفعل فعله في هدم الكنيسة وتقويض دعائمها.
وأهل الكنيسة مبغوضون لتلك الحياة التي يحيونها والناس لا يعدونهم إلا عمال جمارك على حدود هذه الدنيا والدنيا الأخرى. وهذا ما يجعل للدعوة التي يبثها أعداؤهم (البولشفيك) قوة ونفوذاً.(59/38)
بطل مصر العظيم
سعد زغلول
لعل قراءنا لا يزالون على ذكر مما كتبه البيان باستفاضة أوائل سنة 1914 عن بطلنا العظيم، ورسول هذه الأمة القوي المتين الأمين - سعد زغلول - لمناسبة اختياره وكيلاً عن الأمة في الجمعية التشريعية - وكأنا بما كتبنا إذ ذاك كنا نتنبأ بما سيكون من سعد، ونقرأ بظهر الغيب تلك الآيات التي خبأها القدر مسطورة في صحيفة بطل مصر - وإن كل من عرف سعد قبل اليوم وخالطه كما خالطناه، وكان ثاقب البصر نافذ البصيرة نيرها، لا بد متنبئ نبوءتنا، قاض بأن سيكون لسعد هذا الشأن أو مثل هذا الشأن. وهكذا نبأنا التاريخ بأن عظماء الدنيا وأبطال العالم من أنبياء ومصلحي أديان وفاتحين ومحرري أوطان ومن إليهم قد عرفهم وتنبأ بما سيكون منهم - قبل أن يكون - كثير ممن رآهم.
واليوم - وقد تحققت نبوءتنا وأصبحنا نرى البطولة تغدو وتروح بين ظهرانينا ونري حتماً لزاماً علينا أن ننبه الغافلين إلى هذه البطولة الخالدة وإلى وجوب تقديسها وحبها واحترامها والاغتباط بها والتملي بجمالها وجلالها، إذ يعد جحودها أو عدم تقديرها سبة العصر ووصمة الجيل وعنوان الكفر والإلحاد وفساد القلوب وخبث الأرواح وموت الضمائر - نعيد الكرة ونأخذ في الكلام على البطولة وخصائصها ومزاياها وآثارها الصالحة في العالم، وإنها كلها الآن بحمد الله ماثلة بمصر، في شخص سعد. وإننا نفتتح الكلام في ذلك بكلمات لصاحب هذه المجلة حول بطولة سعد هي بنت الساعة وعفو الخاطر، خرجت من القلب عسى أن تقع في قلب من له قلب، ثم نردفها بمقالين وضعا خصيصاً للبيان في هذا الشأن، أحدهما تام في هذا العدد للكاتب علي أدهم والآخر طوال مسلسل ننشر بعضه على أن ننشر باقيه في الأعداد القادمة - للكاتب محمد السباعي.
(1)
كل خصائص البطولة من الرجولة الحقة القوية المتينة، ولا صراحة التامة الخالصة النقية، والإخلاص الحار العميق والإيمان القوي الراسخ والصدق، واليقين والثقة بالنفس والمضاء والجرأة والإقدام وقوة العارضة ونصوع الحجة، ووضوح المحجة. كل أولئك موفور في بطل مصر العظيم سعد زغلول باشا، فهو بلا شك بطل من أبطال الدنيا وعظماء العالم(59/39)
الذين ترسلهم السماء إلى هذه الأرض في الوقت المناسب. ومن الحين إلى الحين رحمة للعالمين.
لا يعرف البطل ولا يقدره حق قدره ولا يحبه ويحترمه ويؤمن به ويشد أزره ويهتدي بهديه وينقاد إليه إلا كل من كان فيه عنصر البطولة،. فكل من يفطن إلى بطولة سعد فيقدسه ويؤمن به إيماناً تاماً مطلقاً لا شوب فيه ولا حد له، فذلك لأنه هو الآخر رجل بطل صادق مخلص طيب العنصر كريم المنبت كبير القلب عظيم الروح إلهي النزعة وقد ما قيل (إنما يعرف الفضل من الناس ذووه) وكل من لا يؤمن بسعد كبطل من إبطال الدنيا فلا يستشعر حبه واحترامه وتقديسه والتفاني فيه والاستماتة في ذلك إلى حد التهوس والجنون فهو إما رجل جبان مروع منخوب القلب، أو رجل حقود حسود رانا على قلبه القوة الغضبية، وهوت بها إلى ما هو دون مستوى الإنسانية العالية، أو رجل خاوي النفس فاتر الروح بليد القلب، أو رجل ماكر خبيث ملحد ناضب معينت الإيمان فلا قلب ولا صدق ولا إخلاص، وبالتالي لا خير فيه لنفسه ولا لأهله ولا لدينه ولا لوطنه.
من أكبر خصائص البطل أن يكون أشياعه ومريدوه من ذويي الأرواح الطاهرة النقية البريئة أو القلوب الحارة المتأججة المضطرمة، ومن ثم نرى أول من يؤمن به وببطولته هم أولئك الذين لم تلوث فطرهم، ولم تدنس من اللؤم أعراضهم، من الشباب والنساء والأطفال والعامة والمصطفين الأخيار من الخاصة. وترى أشد الناس عداوة له ومناوأة، أو المتثاقلين في أمر الإيمان به، هم أولئك الذين يعبر عنهم في هذا العصر الغريب بأرباب المصالح أو المعتدلين أو المفكرين، لأن هؤلاء لأنهم ماديون أرباب غايات دنيوية عاجلة، أو لأنهم فاتروا الأرواح خائروا النفوس ومتبلدوا القلوب، أو لأنهم لؤماء ماكرون، يظنون أن البطولة تقف عثرة في سبيل غاياتهم، أو هي حجة قائمة على بلادتهم وفتور أرواحهم، أو هي إعلان عن ضآلتهم وحقارة نفوسهم.
ليس انفضاض الناس من حول البطل مما يعيبه أو يتنقصه أو يصح اتخاذه سبيلاً لغمره أو غمط بطولته - وفي الحق، أن ذلك من أحمق الحمق، لأن انفضاض الناس من حول البطل إنما هو على العكس آية على انحطاط الجيل، إذ تنوء البطولة بأهله ولا يطيقون لها احتمالاً فيدركهم الإعياء والكلال ولا يستطيعون مضياً في سبيل البطولة فيتراجعون(59/40)
متخاذلين. وهذ1انابليون العظيم أنبأنا التاريخ أن أشياعه ومريديه لما دب إليهم الضعف والوهن صاحوا قائلين ما معناه (كفى نابليون - لقد شبعنا نابليونية).
ليس منت مستلزمات البطولة أن يحالفها النجاح فيما تنهض به وترمي إليه من الغايات والمقاصد. وكل ما على البطل أن يسعى إلى الخير جهده وليس عليه كما يقولون أن يساعده الدهر، وهل أزرى ببطولة نابليون أن انهزمت جيوشه في واقعة واترلو؟ ألم يبق نابليون بعد ذلك هو نابليون؟
يعيب البطال في نظر الحمقى أن يغيروا ويبدلوا في أنظارهم، وأن ينقضوا اليوم ما أقروا بالأمس، وأن لا يستقروا على حال من القلق، بينما هم يبررون أفاعيل الساسة وتلونهم بكل لون ولبوسهم لكل حال لبوسها بأنها السياسة. وأن السياسة تكذب وأمثال ذلك - أو ليس الأنبياء المرسلون أنفسهم كانوا يعمدون الحين بعد الحين إلى نسخ ما اشترعوا من الأحكام، واستبدال بعض ببعض مراعاة للظروف وتبدل الأحوال كانوا يعمدون إلى ذلك ويعمدون إليه كثيراً وما عليهم به إلا السفهاء من الناس.
من المعروف لدى كل من تتبع حركة الإصلاحات الفكرية أو الانقلابات الاجتماعية أن رجال الدين دائماً أعداء لهذه الحركات وأعداء لزعمائها والقائمين بها. لأن رجال الدين في الأعم الأغلب جامدون يأبون إلا بقاء القديم على قدمه. فهم يخشون أن يكون من وراء هذه الحركات قضاء على نفوذهم الديني وما يجر إليه هذا النفوذ من المصالح والنافع وإذا كنا نرى من بينهم من يخرج على هذه القاعدة فإنما يكون ذلك لأسباب راجحة غلابة، كأن تكون هناك روح حارة وثابة، أو مصلحة آجلة، ترجح بالمصلحة العاجلة، أو تشبع بالروح الدينية البريئة الصحيحة، أو المبادئ القويمة السامية الصريحة.
جرت سنة الله في خلقه أن الناس لا يرون العظماء والأبطال بالغين الحقيقة فيقدرونهم حق قدرهم ويقدسونهم التقديس الواجب ويتعلقون بهم التعلق التام إلا إذا حيل بينهم وبين الأبطال بأي حائل كان: وتكرم أوصال الفتى بعد موته، وعلى ذلك فكلما كانوا لاصقين بهم قريبين منهم رأوهم أقل مما هم عليه، وفترت قوة الإيمان بهم وضعف إجلالهم في نفوسهم، والأبطال في ذلك كالشمس لا تستطيع العين المجردة أن تجتليها اجتلاء صحيحاً تاماً أتم ما تكون ساطعة مشعة متلألئة، أما إذا كان هناك حائل كثيف من غيم أو منظار أمكن العين إذ(59/41)
ذاك أن ترى الشمس أدنى ما تكون إلى سنخ نفسها، ورحم الله من قال:
والنجم تستصغر الأبصار صورته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
كنت كلما سمعت أو قرأت لأحدهم أمثال هذه الكلمات. نحن إنما نجل سعد لأنه رمز أمانينا - لسنا عباد أشخاص وهلم جرا - يعروني لذلك امتعاض أليم، لأني لا أدري لماذا لا نجل سعد لذات سعد؟ وأي ضير علينا في ذلك؟ بل على العكس كل الضرر والسوء في عدم تقديس الأبطال لتلك البطولة التي هي ضرب من النبوة، والتي اختص الله بها هؤلاء الأبطال. ولكنها روح الإلحاد السائدة في هذا الجيل الكافر، والروح الارستقراطية المنكوسة الآخذة بنفوس الشرقيين، والتي هي سر ما نرى من معاني التخاذل والخلاف والشقاق - أقول أنه كان يعروني لذلك امتعاض شديد لم أجد له متنفساً إلا عندما قرأت كلمة الأستاذ وليم مكرم عبيد التي ألقاها في حفلة الموظفين التي أقاموها لإكرام بطلنا العظيم وقال فيها ما معناه على ما أذكر: إنا إنما نكرم سعد لا لأنه رمز أمانينا القومية كما يقولون بل لتلك الشخصية البارزة المتفوقة التي خص بها سعد: عندما قرأت هذه الكلمة ونظيراتها من بعدها سرّى عني وروّح، وأكبرت هذا الفاضل كل الإكبار، وقلت هكذا فلتحلل البطولة، وهكذا فليجل البطل البطل ولا جرم إن كان وليم مكرم عبيد نابغة من نوابغ مصر وبطلاً من أبطالها وذا عقل كبير وقلب أكبر ومثلاً أعلى يؤتى به، وجديراً أن يجعل حبه واحترامه لذلك شعاراً لنا ودثاراً. . تحيا مصر - ويحيا بطلنا العظيم - ويحيا كل من يحبه ويجله ويقدسه. . .
(2)
التاريخ هو هو قصيدة الحياة الطويلة المطربة المشجية، وإلياذتها الحماسية المسلية وسفر أناشيدها المؤثرات، وتراتيلها المبكيات، وهو الرواية التمثيلية الكبيرة التي افتن في خلق أشخاصها فن السماء المبدع الفائق الذي يرسل لنا من وقت لآخر شخصيات من صنع الحقيقة أوفر بطولة وأعمق حكمة من كل مبتكرات الخيال وتلفيقات الأوهام ترتسم، في طبائعهم القوية الصافية ظلال تلك القوة الرهوبة الجانب المسيطرة على الكون - ويحيى هؤلاء الأبطال لتمثيل أدوار متعاقبة مختلفة الصورة متحدة المغزى فوق مسرح الحياة الكبير المخيف ذلك المسرح المشيد من الزمان والمكان والممتد بين الأزل العتيق والأبد(59/42)
السحيق، والذي تنيره مصابيح النجوم السرمدية وتشرق من سقوفه أضواء الشمس الخالدة.
وأجل ما في التاريخ نهضاته فإن كل نهضة مهما كانت الفكرة التي قامت عليها ومهما كان نصيبها من الحق والجمال جديرة بالنظر وأعمال الروية لما يظهر فيها من نفائس النفس وكنوز الروح، فإن من شأن النهضات أنها ترفع الأستار عن حياة الشعب الداخلية فتظهر خصائصه ومزاياه في شكل أخاذ ورونق خلاب.
وإذا كان من أجل ما في التاريخ نهضاته وكانت كل نهضة أدبية كانت أو سياسية أو دينية تنما. برجل كبير يسمها بميسمه ويكون منها بمثابة محور الدوران فإنه يصح لنا أن نستخلص من ذلك أن العظماء هم عصارة التاريخ ولبابه وسره وجوهره، ومن يقلب الصحف المطوية في بطون التواريخ لا يمكنه مهما كان منكراً لعقيدة البطولة هادماً لمذهب الشخصيات التاريخية أن ينكر ما لهؤلاء الأفذاذ النوادر من خطارة الشأن في إقامة موازين الحضارات وتأثيل مجد الشعوب، وهم أشبه بالآلات الرافعة توجدهم الطبيعة عندما يسئمها سير التطور التدريجي لأحداث الطفرة فلا عجب إن هي حبتهم بتلك القوة العادية اللازمة لتلك الفعلة الكبيرة - وليس العامل الفرد في خلق أمثال هؤلاء الأفراد الظروف والوسط فإن رجالاً مثلهم لا ترفعهم الظروف وإنما هم الذين يرفعونها ولا يخلع عليهم الزمن أبراد المجد وإنما بهم تكتسي الأزمان جمالاً قشيباً وجلالاً مهيباً والوسط هو الذي يستمد من صادق وحيهم ويستنير يثواقب آرائهم ويستند على مواضي عزماتهم ويستقي من ينابيع قواتهم الروحية والأخلاقية، ومن الغبن والتوهين من أمر تلك الشخصيات الكبيرة أن نعتقد أنها من صنع الظروف وأنها جاءت محمولة على تيار النهضة.
وإنما سبب بطولة البطل ترتد إلى أسباب وراثية بعيدة الأعراق من فوق منال المفكر الاجتماعي لأن بارقات أفكاره لا تنير في غياهبها المتكاثفة ونافذات نظراته لا تتغلغل إلى أغوارها المتقاصية والبطل يحمل في دمه جرثومة عظمته وبين جوانحه سر بطولته وإنما فضيلة الظروف هي في أنها تجلو الحياة الداخلية وتهيئ له الفرص وتعد له المعدات وتفسح له المجالات والعظيم أشبه بالزهرة تستتم نموها وتتفتح كمائمها ويتفاوح أرجها إذا هي أصابت جواً صالحاً تتغذى منه عناصرها الكريمة.
من أولئك الرجال الذين تزخر في عروقهم دماء البطولة والذين يرسلهم القدر مزودين(59/43)
بالقوة الخفية، ومن تلك الشخصيات الغلابة الجاذبة التي تطالبك في كل وقت أن تفكر فيها وتقتادك نحوها - سعد زغلول بطل مصر في نهضتها الأخيرة والذي في وجوده بيننا معنى سام يملأ نفوسنا ثقة ويقيناً فإن الأرض التي تنبت الدوحة الباسقة - الوطن الذي ينجب مثل سعد جدير أن يحمل ثراه أدواحاً فارعات نظائر سعد - وظهور بطل كسعد يدل على سلامة عضوية الأمة وقوتها صلبها لأن الأمم الواهنة الدارجة إلى الاضمحلال يندر فيها ظهور العظماء والقوة المكتنة في سعد دليل قوة الأمة وعنوان حيويتها وهذا مما يغمر نفوسنا بنور الأمل الوضاء، إن الرجل الكبير لا يبتكر أفكار عصره ولا يبتدع مبادئه ولا يخلق أمانيه ومنازعه، لأنها كلها مجموعة عضوية مكونة لذهنية الشعب، وهي أكبر وأكثر تعقيداً من أن يوجدها فرد ولكن العظيم ينفخ فيها كلها روحاً من أنفاسه فتتحول الفكرة إلى إحساس دافق والمبدأ إلى عاطفة مستفيضة ويجعل للأمل المتردد الحائر والنزوع القلق الثائر وجهة يتخيلها وتنصب إليها متزاخر تياراتهما وهذا يزيدهما قوة وتدفقاً. وإنه من جانب سعد هبت تلك النسمة المتأرجة التي أحيت القلوب وشدت العزائم، وفي معبد فؤاده الكبير كانت تجول الأفكار البركانية الحارة حتى أصابت من الظروف مخرجاً. وسعد هو ذلك الكاهن الإلهي الذي أوقد النار المقدسة بين أضالعنا وهو الذي جدد أمامنا نواظرنا صوراً شتى من أفاعيل الأبطال، وهو الذي نقل الشعب من التفكير في سفاسف الأمور ومحاقرها إلى التفكير في الغايات العامة الكبيرة ومطالب الحياة السامية النبيلة والعظيم هو الناطق عن الذات العامة لشعبه والناشر لمطوى خوالجه، فآلاف النفوس الصامتة تجد من سعد أصدق معبر عن أمانيها ومطالبها وأفصح ناطق عن آلامها وشكواها وآلاف من الأبطال الراقدين في ظلمة الدهر يتاح لهم منه مجدد لبطولتهم باعث لمجدهم الملحود، وليس العظيم هو أكبر الناس عقلاً فحسب بل هو أسماهم مقصداً وأشرفهم غاية وأقدرهم على التحليق في الأجواء العالية. والعقل أشبه بالضوء ليست له غاية أخلاقية ولكن الإخلاص هو الذي يجعل للعقل الكبير قيمة ولذا فإن عظمة سعد قائمة على صخر مرضم لا تؤثر فيه معاول الهادمين لأن أساسها العقل الكبير والإخلاص العميق، وما دامت نوادر صفاته باقية لا يعتريها التبديل فعبثاً يحاول الأفاكون النيل منها، وليس يكربنا إن غابت وجوه عظمته عن الأغمار الأغبياء من كل خاو النفس فاتر الروح ولئن كانوا يقومون عليه(59/44)
صلابته ويجيلون الألسنة في تشدده ومتانته فإن هذا لمما يزيدنا يقيناً ببطولته، فما كانت الصلابة يوماً مما لا يوصف به زعماء الأحزاب العظماء، ولئن كان قد انفض من حوله كل موصوم الوطنية متهم المأرب فإن هذا مما يزيد عرش ملكه استقراراً في القلوب ويجمع حوله العناصر القوية المخلصة خالية من الأخلاط والشوائب، ولئن تخونه الأتباع ونال منهم الكلالة والإعيار ورأوا أن الطريق طويل والغاية بعيدة فإنه سيمضي وحده، فهو من نفسه الكبيرة في جيش لهام وجمع ضخم، ومن تأبيه وعزته في معقل أشب متعاسر، وقديماً كان البطل أشد الناس إقداماً على المكروه واقتحاماً للمخاطر بل هو الذي يتقدم وحيداً إلى الهاوية التي تكمن فيها أهول المخاوف لإنقاذ وطنه.
إن تلك الوفود التي تتسايل من حواضر القطر ومدنه وقراه وكفوره هي دليل حياة مشرقة ستنجلي عنها أحلك الحوادث ولا يصغر من شأنها إلا من كان يود لبلاده الخراب والاستعباد الأبدي، ويوجد فارق كبير بين الإيحاء الطبيعي للبطل إلى أذهان الشعب الذي تنطبع على قلوب أفراده صور منازع البطل وأمانيه فيلقي إليه المقادة طائعاً مختاراً مقراً بنبله وفضله، وبين إرغام الشعب على قبول فكرة خاصة - ذلك الإرغام الذي يجيء من جانب الحكومات، ولئن كان الأول من أجمل مظاهر تقديس الشعوب لرجالها العاملين المخلصين فإن المظهر الثاني مما يبعث على الحزن والقلق لأنه يشل قوة الشعب ذلك الشلل الذي يسمونه تداهياً بالنظام ويسبب الجمود الذي يخلع عليه اسم الحكمة ويدعو إلى التفريط في الحقوق المقدسة الذي يعرف بالاعتدال وهو ينضب موارد التفكير الحر ويطعن الأمة في صميم رجولتها وأنفتها وإن وراء عواطف الجماهير السريعة التأثر والانفعال عقلاً أعمق من عقل ذوي الفتور والنظرة المقرورة، ومن يتعمق في تفهم نفسية الجماهير يمكنه أن يصل إلى المعنى الجدي الكامن وراء لجاجهم وانفعالاتهم، ومن الخطأ أن نقيس حركات التاريخ بمقياس العقل المدرك ونهمل جانب الخوالج والخياليات وتأثيرها في أرواح الجماهير، وأسمى مزية لرجال التاريخ هي استجاشتهم للعزائم وإثارتهم لرواقد الإحساسات ولذا كان تأثر روسو أوسع مدى وأرمى أطرافاً من تأثير فولتير وإن في قولهم أن صوت الجماهير من صوت الله لمعنى مستدقاً أعمق من أن يدركه الزارون بالجماهير والدين يجهلون أن مشاعر الجماهير الصافية البريئة من الغايات أسمى من كل منطق(59/45)
خسيس مسف، وما دام لا يمكن لكل إنسان أن يكون ذا رأي خاص ومذهب مبتكر وعقيدة مختلقة، ومادام هناك رجل كبير العقل مخلص جاد وآخر كاذب مستخف فإن المساواة مفقودة، وليس هناك من عار في أن يقودنا أكبرنا روحاً وأخلصنا سعياً، وإذا أصبح لكل إنسان من نفسه دليل وقائد فإن هذا مما يرخي أواصر أي مجتمع مهما كانت قوية متماسكة ويسوقه إلى أشنع حالات الفوضى. وأليست الحياة معركة أبدية كبيرة ونحن كلنا جنود نحارب بقولب ملؤها الحزن أو بقلوب مفعمة بالبشر وإن كنا نجهل الغاية البعيدة لهذا التقاتل والتلاحم، فلماذا لا نسلم قيادتنا إلى أكفأ قوادنا وأوفرهم إخلاصاً ونسير تحت لوائه الخفاق؟
قال شاعر خالد (إننا نحيا بالحب والإعجاب والاحترام) وأمامنا الآن عظمة خالية من الشوائب ستتبدد السحب المحتشدة في جونا المتردي بالغيوم فتظهر في نصوعها وجلائها. فلنثبت للعالم أننا خلقاء بالحياة الجليلة بحبنا وإعجابنا واحترامنا لتلك العظمة. عظمة سعد زغلول.
(3)
مما يؤثر عن الذين لاقوا كبار المصلحين وأرباب المذاهب الجديدة وزعماء الثورات الفكرية والانقلابات الاجتماعية أمثال نابليون بونابرت وميرابو والسيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وأمثالهم من الزعماء والقادة أن المنصتين إلى أحد هؤلاء العظماء كانوا يحسون أن وراء ألفاظه معنى خفياً هو أروع وأجمل من أعظم ما ينطق به من الصواب والحكمة، وخلف إشاراته وكلماته قوة كامنة وسراً عجيباً لا يعرف كنهه وماهيته ولكنه يحس أثره ومفعوله، فهو في ذلك ضرب من الكهرباء والمغناطيسية وكذلك لما ألف النابغة كارليل (تاريخ الثورة الفرنسية) الذي شهد العالم أنه أدق وأبرع ما أخرج للناس في وصف ذلك العهد فتناول سيرة (ميرابو) فصورها للناس صورة حية تتفزز تكاد تلمس باليد وتوشك أن تثب من الصحيفة فتمشي على وجه الأرض إنساناً حياً ناطقاً - صاح النقاد صيحة واحدة (أين هذا من ميرابو الحقيق!) لقد عجز كارليل - وما هو إلا بشر - عن تصوير ذلك المعنى الخفي - ذلك السر العجيب - تلك الفكرة الكامنة - تلك المغناطيسية والكهرباء - التي يصح لنا الآن أن نسميها (الشخصية).(59/46)
هذه الشخصية التي هي قوة مستكنة كامنة تؤثر في قلوب من حولها تأثيراً مباشراً بلا واسطة بمجرد وجودها - هذه القوة المتعذرة الوصف والتكييف والتي يمكن تقريبها إلى الإفهام بأنها أشبه شيء بروح أو طيف يكمن في فؤاد البطل يوحي إليه ويلهمه ويحثه ويدفعه ويجعله غنياً بنفسه عن المؤازر والمعاون ويتركه وكأنه قبيلة في فرد وأمة في شخص - هذه القوة الهائلة والنار المقدسة التي نزلت من السماء على أفئدة أعاظم الأبطال ممن ذكرنا آنفاً فرفعتهم بقوة لهيبها إلى مقام القديسين والملائكة - هي أيضاً مما أراد الله أن يمتاز به زعيم الأمة المصرية وبطل النهضة العصرية سعد زغلول.
إن صاحب مثل هذه الشخصية ينال انتصاراته بغريزة تفوقه وسبقه وبفضل تغلبه وسيطرته وليس بحد الحسام ولا بقذائف المدفع بل السر في في انتصاره هو أن مجرد ظهوره على مسرح الدنيا يبدل صورة الأحوال ويقلب نظام الأمور والمسائل. لقد جاء في أساطير اليونان أنه لما سئلت (ايولي) كيف عرفت يا ايولي أن هرقلاً اله أجابت (لأني عندما وقع عليه بصري انشرح صدري واطمأن قلبي. وهذا ما لم أحسه حينما أبصرت (ثيسيوس) ولذلك طلبت أن أراه يصارع الأبطال في حومة الوغى أو على الأقل يركض أفراسه في المضمار، أما هرقل فلم ينتظر فرصة الصراع والجلاد ليثبت تفوقه وغلبته كلا. ولكنه نال الظفر والنصر سواء أكان واقفاً أم سائراً أم قاعداً أم على أية حال غير ذلك).
هذه الشخصية هي قوة طبيعية كالحرارة والضوء. فإذا هي عملت فإنما الطبيعة بأكملها معها تعمل وتشترك وإياها، تساعد وتساند. وإذا كان الرجل الاعتيادي الضعيف يكون دائماً مفكك الصلة بالعالم الذي يعيش فيه فإن البطل القوي صاحب هذه الشخصية يرى كأنه يحيا بنفس الروح التي تحيا بها الكائنات وينبض فؤاده على نبضات قلب العالم وكأنك تبصر فيه أحد القوانين والنواميس التي تضبط مسرى النجوم والأفلاك وحركة المد والجزر. ولست أرى في مسألة تأثيرنا وخضوعنا لشخصية هذا الإنسان دون غيره إلا أمراً بسيطاً جداً لا يختلف عن نظرية الجاذبية التي تشمل العوالم والأكوان جميعاً - أعني انجذاب الأصغر إلى الأكبر. بيد أن مقياس الصغر والكبر والضؤولة والعظمة في الإنسان هو مقدار ما فيه من عنصر الصدق والحق. فالرجل الطاهر النقي المفعم بروح الحق والنزاهة(59/47)
والإخلاص والإيمان يتسلط على من هم أحط منه وأدنى فيخضع أرواحهم بما هو أشبه بالتنويم المغناطيسي إذ تخشع أمامه هذه الأرواح وتطأطئ وتفقد قوة الدفاع إلا ما كان منها ينطوي على قسط من العظمة غير زهيد فهذا ينهض بجاذبية الشخصية العظيمة نحوها ويسمو إليها. وهذا هو ناموس الطبيعة العام فإن الأرواح العليا إذا عجزت عن أن ترفع إلى مقامها الأرواح السفلى شلت حركتها وخدرتها وأخمدت قواها كما يصنع الإنسان بالحيوانات السفلى. وكم رأينا من شخصية عظيمة كان لنا في قوة نفوذها وسلطانها مصداق ما لم نزل نسمع من حكايات السحر والسحرة. ولا غرو فإنك لا تبصر صاحب الشخصية الكبيرة كأنما يتدفق من عينيه تلقاء من حوله تيار نفوذ وسلطان - سيل من الضياء الثاقب يسري إلى الجماعة فيفشي فيهم مبادئه وأفكاره ويصبغ جميع الأحوال والحوادث بصبغة روحه وذهنه. ولما سئل مرة أحد الساسة (بأية حيلة استطعت أن تستميل خصمك وتحمله على ما قد أردت؟) أجاب (لم أستعمل حيلة سوى تأثير الذهن الأقوى على الأضعف) أوليس في طاقة يوليوس قيصر مكبلاً بالأغلال والسلاسل أن يتملص منها فينقلها إلى السجان؟
إن البطل ينفث روحه في كل من حوله وكل ما هو واقع في متناوله من الحوادث والأحوال هو كالمطر الغزير يحيي موات الأرض وكالعين النرة تترك الصحراء بستاناً. وإن روحه المتدفقة الفياضة تنفسح حتى تشمل أوطانه من أقصاها إلى أقصاها وتحدق بها إحداق السوار بالمعصم فتصبح هذه الأوطان له كأساس تقوم عليه شخصيته الهائلة وكميدان تجول فيه فيالق عزيمته وكتائب نفوذه وهمته.
هذا البطل إذا صادف ظهوره أوقات التطورات الاجتماعية والانقلابات السياسية كان له الأثر الأقوى في تعجيلها والإسراع بها إلى النضج والتكون فظهوره في هذا الوقت الحرج هو كتوافر الدفء المنعش والجو الموافق الملائم واصطلاح هذا وذاك على إنضاج الغرس وإزكائه وإيصاله إلى أقصى غاية الإنتاج والإثمار - فهذا الجو الملائم هو الواسطة الوحيدة لتحقيق هذا الغرض، ولن يقوم مقامه ولن يؤدي وظيفته كل ما يخترع الزارعون من وسائل الإنتاج الصناعية.
لقد جاء بطل النهضة الحالية - سعد زغلول - في عهد تطور وانقلاب ما زالت الأسباب(59/48)
الطبيعية والعوامل الكونية ترشح له وتهيئ وتمهد حتى بلغ الدرجة التي كان عليها ساعة ظهر ذلك البطل العظيم وبرز من مكمنه إلى ميدان العمل ولم يك بعد قبل بلغ تمام اختماره ونضجه. فلما برز ذلك البطل بجلال شخصيته الكبرى وروح بطولته العظمى أرسل شعاعاً من نوره المقدس على تلك القوى البطيئة المتلكئة فإذا هي احتدمت وتوقدت - وسلط على تلك العناصر المصطدمة المتنافرة شعبة من روح ذلك النظام والوحدة الذي يملأ كيانه فإذا هي قد تآلفت وانتظمت وعادت قوة هائلة عظيمة جديرة أن تنفض عن أعطافها غبار الكسل والتبلد وتقوم في الحق قومتها وتثور في وجه البغي والعدوان والعتو والطغيان. فلا غرو إن قلنا أن سعد زغلول هو - على هذا الاعتبار - صاحب هذه الحركة ومؤسس هذه النهضة بما أنه هو القادح لهيبها من زناد الحوادث والمستثير ثروة تبرها من مناجم المقادير والمرسل جنينها من بطون الليالي ولولاه ما قامت النهضة حين قامت، وهب أن لديك أكواماً مكدسة من الحطب فهل تراها تشتعل من تلقاء ذاتها؟ كلا ولو بقيت مليون عام. فأما إذا أرسل الله عليها شرارة من ملكوته في صورة بطل عظيم كسعد فغنها لا محالة مشتعلة فمتأججة حتى يستطير لهبها ويستفيض سناها ويسمو إلى عنان السماء شعاعها ويطبق على الأرجاء نورها. فالرجل العظيم شهاب يسقط من السماء. والناس في انتظاره كالحطب في انتظار الشعلة فما هو إلا أن يسقط عليهم من السماء حتى يلتهبوا ويضطرموا.
إن العظيم شهاب يستضاء به ... وصارم من سيوف الله مسلول
وكذلك الصدق والإخلاص والإيمان هو أكبر قوة في العالم وهو مبعث الحياة ومنبع الرفعة وما زال للأمة رقي في درج الفضل وتعاريج إلى ذرى المجد ما دام مذهبها اليقين ومبدؤها الإيمان.
الرجل العظيم ضروري لنهضة الأمة من الضعة إلى المجد ولخروجها من الظلمات إلى النور ومن العبودية إلى الحرية. فالأمة لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا بمعونة البطل الذي يسد مسده كما أسلفنا أية واسطة أخرى من محاسن الصدف والظروف أو المزايا الجغرافية والمناخية والجوية، نضرب لك مثلاً على ذلك جزيرتي (ساردينيا) و (كورسيكا) بالبحر الأبيض المتوسط - فقد آثرتهما الطبيعة بأحسن المواقع الجغرافية وأغزر منابع الثروة المعدنية والزراعية وقد لبثتا برغم ذلك مجهولتين مهملتين على مدى الحقب مسافة ثلاثين(59/49)
قرناً من تاريخ أوروبا. هاتان الجزيرتان لهما عادات ولا قوانين، ولهجات شتى ولا لغة، وروايات حروب وغارات ولا تاريخ، واحتياجات وثروة ولا تجارة، وأخشاب وموانئ ولا أساطيل، وأساطير ولا شعر. وثارات وأوتار ولا قضاء، وجمال مناظر ولا تصوير، وأغاريد بلابل ولا موسيقى. هاتان الجزيرتان تقعان في بؤرة مدنيات الشعوب الأوروبية بأكرم بقعة وأحقها دون غيرها بأحسن الرقي المادي والعقلي والتجاري والسياسي، وهما بالرغم من ذلك قد نامتا أطول نومة فوق معزف التاريخ الموسيقي الرنان، فإلى ماذا ينسب ذلك السبات التاريخي؟ يقول العلماء سببه عدم الاستقلال والرسوف في قيد العبودية إذ ما برحتا تابعتين لبعض الدول الأوروبية. أنا لا أعارض في ذلك ولا أناقش. ولكني أقول لماذا بقينا في الرق والعبودية؟ لماذا لم تنالا الاستقلال وتظفرا بالحرية. وأجيب على الفور، ذلك لأنه لم يظهر بهما ذلك البطل العظيم الهائل الشخصية المملوء نجدة وهمة وإيماناً وإخلاصاً - القادر على إشعال قلوب مواطنيه بلهيب الوطنية والغيرة والحمية والطموح إلى الاستقلال والتعطش إلى الحرية. ما أظن أهالي (ساردينيا) و (كورسيكا) قد خلقوا من طينة أخبث وأردأ مما خلق منه سائر الشعوب الأوروبية، أو أنهم الأم عنصراً من تلك الشعوب أو أخس جوهراً - ولكن أجود كومة من الحطب لا يمكن أن تشتعل - كما قلت - من تلقاء ذاتها. بل لابد أن تسلط عليها ثقاباً أو شعلة، ولا مشاحة في أن الطبيعة قد ضنت على هاتين الجزيرتين طول هذه الحق المديدة بالشعل الوطنية اللازمة لها الأساسية لنهضتها وقيامها.
إن البطل يكون له من قوة التفكير ونفاذ البصيرة ما يسبر به أغوار الأحوال الاجتماعية والسياسية في وطنه حتى يمس موضع الحاجة ويلمس مكان الألم ويدرك من الشؤون والمسائل ما قد اختمر ونضج وأصبحت تتمخض عنه أحشاء العصر فيرى أن هذا وحده - لا سواه - هو لباب الحق بالنسبة لجيله وهو أمس حاجات أمته وشعبه، فليس غير البطل الذي يبعثه الله لشعبه يستطيع أن ينفذ ببصره إلى هذه الحقيقة الكامنة المخبوءة الآخذة في دور النشوء والتكون في ضمير الغيب وفي طي المستقبل العاجل - ليس غير البطل يستطيع أن يتبين هذه الخطوة الضرورية التي تهم بها الأمة ويتحفز لها الشعب ويشمر. هذه في نظر البطل هي مسألة المسائل وحقيقة الحقائق، هذه هي همه الوحيد وغايته(59/50)
وغرضه وبغيته، وفي سبيلها يبذل أقصى جهده ومن أجلها يطلق دنياه ويهجر شهواته وينسى نفسه وينكر ذاته. فواجب على الجماهير إذن أن يعرفوا في بطل النهضة أمام العصر وقائد الجيل النافذ البصيرة الصادق النبوة، وإن قوله الصدق واعتقاده الحق ومنهاجه الرشد وسيرته الصلاح وسراطه الهدى. وسخف من بعض الأفراد وحماقة وغباء وعماية أن يحملوا بطل النهضة على اتباع آراء الغير ممن يخالفونه ويعارضونه وما كان البطل قط ليتنزل إلى ذلك، وما كان له ومعه عقله وحزمه أن يحيد عن الحق إلى الباطل وعن الهداية إلى الضلال، وما كان للشمس أن تشرق من المغرب ولا للسيل أن يتدفق من أسفل إلى أعلى ولا للقمر أن يعطل طوافه حول الأرض ولا للعذب الفرات أن يملح ولا للملح الأجاج أن يعذب ولا للذهب أن يحور رساساً ولا للسكر أن يصير ملحاً وقد قلنا أن بطل النهضة هو في كيانه وجوهره وفي حركته وسيره كبعض نواميس الكون وقوانين الطبيعة لا يغير نهجه ولا ينكب عن سراطه إلا بعد أن يفسد الكون ويتبدد نظام العالم وتنشق السموات والأرض وتخر الجبال هدا. فالبطل نبي العصر يأمر فيطاع ويسير فيتبع وخليق بالشعب أن يؤمه إذ كان يبصر فيه علم وطنيته ورمز حريته وإذ كان في صورته وشخصه تتمثل تلك النزعة الجديدة التي نبعت في نفوس الشعب عامة وتتجسد تلك الروح الناشئة التي نجمت في ضمائر الأمة كافة - فهم إذا انجذبوا إليه فإلى أرواحهم ينجذبون، وإذا لبوا نداءه فنداء أرواحهم يلبون، ووحي قلوبهم يجيبون وإذا آمنوا به فبحقيقة النفس البشرية وبسر الروح الإنسانية يؤمنون، وإذا عرفوه فالحق والله يعرفون.
هذه النزعة الجديدة - هذه الروح الناشئة - روح العصر تتقمص البطل فتستولي عليه وتستحوذ على لبه وشعوره وكيانه فيظل وليس فيه إلا هي فكأنه مطية لها شاءت أن تمتطيها إلى غايتها المقصودة، وكأنه سفينة لها اتخذتها مركباً تمخر بها عباب الحوادث جريئة على الأنواء والعواصف جلدة على الأهوال والمصائب صبوراً على اصطدام العناصر وثورة الزوابع - تندفع بها في بحر ثائر من الخلاف والشقاق والعناد والخصام. والنزاع والصدام. تعاني البلاء وتقاسي المحنة والشقاء. حتى تصل إلى ساحل الأمن والسلام والفوز والظفر.
بسم الله مجراها ومرساها - هذه سفينة الأمل تسير بنا في موج كالجبال قد حفتها عواصف(59/51)
الخلاف وزوابع الفتنة وكمنت لها تحت جبين المياه الطلق الوضاح صخور الغدر والخيانة ورمال المكر والدهاء وداهمتها شياطين الكفر والجحود تساورها من بين يديها ومن خلفها ولكن لا بأس عليها ولا ضير والله وليها وحارسها والمبدأ دقلها والإخلاص شراعها ولهيب الوطنية الصادقة مرجلها وقوة الإيمان والغيرة والعزم والحمية ريحها وأربعة عشر مليوناً من الأيدي الجادة الكادة مجاذيفها وشعب مخلص النية صادق العزم ركبانها - ستسير بقوة الحق إلى ساحل الحرية والفوز والنجاة وهنالك تطمئن نواها. وتستقر عصاها. (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوا آمنين.)
عقدنا النية على أن نخصص في البيان صفحات عدة لنشر صور مختلفة لبلدان وأقطار واختراعات وملوك وعظماء ونوابغ وما إلى ذلك لمناسبات تبدو لنا وليس من الضروري أن يكون هناك كلام أو مقال يتعلق بالصورة لأن الصور كأنها عمل قائم بنفسه. وهنا نشرح الأسباب التي حدت بنا على نشر بعض صور هذا العدد.
السير طالب النقيب باشا
جاء في الأنباء البرقية أن السيد طالب النقيب عظيم العراق والذي كان رئيس حكومة هاتيك البلاد، وقف في وجه الانكليز وهددهم بإهاجة العراقيين عليهم أن هم لم ينزلوا على ما يريدون، فكان ذلك سبباً في إبعاد السيد طالب عن البلاد. ولسنا ندري هل أطلق سراحه أم لا يزال في منفاه. .
أما السيد طالب النقيب فهو من رجالات الشرق العظام وأكبر زعماء العراق ومن سلالة بيت النبوة، وعريق في المجد والسؤدد، وقد أقام في مصر نحواً من ثلاث سنين أيام الحرب العالمية الكبرى.
وكان من حسن حظنا أن تعرفنا بالسيد وخالطناه وأنسنا به وأنس بنا ومال إلى عشرتنا ميلاً صادقاً ينم عن طيب عنصره ونبل إحساسه وسمة أخلاقه. فأصبنا منه رجلاً عظيماً كبير الروح كبير القلب عظيم الإباء والشمم وكان عضواً في مجلس المبعوثان ويحسن عدة لغات من التركية الفارسية والفرنسية والألمانية والانكليزية، وهو جريء مقدام صريح قوي والحق لا يخشى في سبيله شيء ولعلنا نعود إلى الكلام عليه بأوفى من هذا في فرصة(59/52)
أخرى.
محمود بك نصير
جميل جداً أن يكون أعيان البلاد من المتعلمين المهذبين المستنيرين، وأجمل من ذلك أن يظفر الإنسان من بينهم برجل عالم فاضل واسع الاطلاع لا يلهيه ماله وبنوه ونعيم هذي الدنيا عن النظر في شؤون قومه ومشاركة مفكريها في تلمس النافع لها الناهض بها إلى مستوى الكمال مثل صديقنا محمود بك نصير أحد أعيان المنصورة وعضو المجلس البلدي فيها والذي عرفناه أخيراً بعد أن عرفنا آثاره الطيبة قديماً والذي أصبنا منه مؤخراً فاضلاً واسع مدى الاطلاع له مشاركة في كثير من العلوم، عاملاً مخلصاً غيوراً على دينه ووطنه وقد أهدى إلينا مقالات له تناول فيها وصف تلك البلدان والأقطان التي تقطنها الشعوب التركية التترية المسلمة ووصف أهلها وزعمائها في هذا العصر وسننشر هذه المقالات في الأعداد القادمة تحت باب العالم الإسلامي الذي سنعنى بها العناية كلها.
إبراهيم بك الزهيري
نشرت الجرائد أخيراً أن إبراهيم بك الزهيري أحد أعيان الدقهلية أوقف150 فداناً للإنفاق منها على مستشفى ومدرسة. وإبراهيم بك الزهيري الذي نعرفه حق المعرفة من أعياننا الذين تفخر بهم مصر فقد عرفنا منه رجلاً ذكياً ألمعياً مهذباً مستنيراً صادقاً مخلصاً أريحياً يجمع إلى ذلك الجد والنشاط كأنه الحركة الدائمة، هذا إلى استقامته التي لم نر لها نظيراً بين نظائره أكثر الله من أمثاله النافعين من أعيان البلاد.(59/53)
الصورة المشؤومة
للروائي الروسي الأشهر نيقولايف جوجول
(الفصل الأول)
ما ازدحم المتفرجون قط على شيء ازدحامهم أمام دكان الصور الصغير بشارع (تشو كينيو دفور) بمدينة (بتروغراد) إذ الواقع أن هذه الدكانة الصغيرة كانت تتضمن أعجب خليط منوع من نوادر الصور المختلفة، وكان معظم هذه الصور من الرسومات الزيتية مطلية بصقال قاتم تحفها إطارات ملوثة قذرة عتيقة وكان من بينها المناظر الشتوية بأشجارها المثلجة البيضاء، والأصائل الذهبية والمغارب الشفقية القرمزية كأنها الحرائق المشتعلة. وصورة تاجر هولندي نفاج منتفخ هو أشبه بالديك الرومي منه بالآدمي. وعدة من صور الضباط والجنرالات يعرفون بسيماهم وأنوفهم المقوسة وقلانسهم المثلثة.
قليل جداً من يتقدم لاشتراء هذه الصور ولكن ما أكثر النظارة والمتفرجين. فمن خادم بطيء متلبد يتثاءب أمام تلك الصور وقد بردت في يده صحون الطعام قد جاء بها من المطبخ يحملها إلى مكتب سيده الذي قضى الله أن لا يأكلها إلا مثلجة. ومن بين المتفرجين أيضاً الجندي الملتف في عباءته وبائع الأمتعة القديمة يعرض للمبيع مديتين ودلالة تحمل عيبة أنسجة، وكان كل يظهر سروره بتلك الصور وإعجابه حسب أسلوبه الخاص، فالجندي يلمسها بيده وبائع القديم يتأملها بجد واهتمام والغلمان الخدام وصبيان المصانع يتضاحكون ويتعابثون وكبار الخدام يجعلونها ملهاة ومضيعة لأوقاتهم بالتثاؤب أمامها. والدلالات يقفن حيالها بالغريزة ليلتقطن ما يدور بين الجماعة من الأحاديث ويتسقطن الأخبار والأسرار - وتلك غريزة فطرية.
في فاتحة عهد قصتنا هذه كان الفتى المصور شاركتوف قد وقف بدافع نفساني قهري أمام تلك الدكانة أثناء مروره. وكانت عباءته القديمة وثيابه البسيطة الحقيرة تدل على شدة عكوفه على الفن وانهماكه فيه وتفانيه في إتقانه وصرفه البتة عن التفكير في شأن نفسه والعناية بأمرها من ملبس ومطعم ومنعم. وقف هذا الشاب المصور هنيهة أمام الدكانة الصغيرة وأمتع نفسه بضحكة خفية على تلك الفظائع المتنكرة في هيئة صور.
أطرق الفتى ملياً يفكر في تلك الصور ويسائل نفسه من عسى يشتري أمثال هذه الحثالة(59/54)
والنفاية. إن أرباب هذه القاذورات لم يبلغوا درجة غلام قد أخذ بشدو من الفن وألم بطرف من الصناعة. ما هذه والله إلا مظاهر جهل وضعف وغباوة تغتصب لنفسها في متاحف الفن ومعارض الصناعة مكاناً مدلساً مكذوباً وأحق بها وأولى أن تدرج في جملة مصنوعات الورش وحاصلات الآلات والمكينات.
وكذلك لبث واقفاً حيال الصور الرديئة برهة تحولت أفكاره أثناءها إلى أمور أخرى.
وفي خلال ذلك كان صاحب الدكان قائماً إلى جانبه يستحثه بكل أساليب الإغراء على اشتراء صورة، يذكر له الأسعار دون أن يكون قد عرف ما أعجب الفتى وما لم يعجبه. وكان الرجل أشيب ضاوياً ضئيل الجرم، فمما قال للفتى (ها يا سيدي إني أقنع بعشرة دراهم في هؤلاء الفلاحين وهذا المنظر القروي الجميل، لله هذا الرسم ما أبدع وما أروع! انظر إلى بهجته وبهائه. وإلى بريقه ولألأته. ورونقه ومائه. إنه ليثير الإعجاب ويفتن الألباب.
يستطير الألباب كالقبس المش ... عل لا تستقر فيه العيون
لقد جاءنا الساعة من الورشة ولا يزال طلاؤه رطباً ولما يجف دهانه. وهاك منظراً شتوياً بديعاً - فلا يفتك هذا المنظر البديع ولا تحرم طريف محاسنه. هذا بخمسة عشر درهماً. وهذه قليلة وأبيك في الإطار وحده! ما أبدع هذا المنظر الشتوي!) وهنا أمسك التاجر الصورة وهزها هزة كأنما يحاول أن يجلو ما ضمنته من طرائف وعجائب. وفضائل ومناقب. (تفضل يا سيدي بإصدار أمرك في حزم هذه الصور وإرسالها إلى دارك. أين تسكن يا سيدي. يا غلام هات لفافة من الخيط.)
فقال الفتى المصور - وقد ثاب إلى نفسه بعد شرود عقله وعزوب ذهنه (على رسلك يا هذا على رسلك) لقد أبصر صاحب الدكان قد هم فعلاً أن يحزم بعض الصور فرأى أن يرده عن قصده. على أنه كان يخامره شيء من الخجل لعدم اشترائه شيئاً ما من الرجل بعد طول وقوفه على دكانته. فالتفت إلى الشيخ وقال له: (انظر ههنا. سأبحث في هذه الصور المبعثرة لعلي أجد بينها شيئاً) ثم انحنى فوق كومة مكدسة من الصور على أديم الأرض وقد علاها الغبار ونال منها البلى، وكان من بينها طائفة من صور أشخاص من ذوي البيوتات العتيقة ربما تكون ذرياتهم قد فنيت من الدنيا وبادت وكانت تلك الصور بحالة(59/55)
سيئة من القدم والبلى والرثاثة فكانت من سقط المتاع ونفاية السلع. ولكن الشاب المصور مضى في بحثه قائلاً في نفسه لعلي عاثر على شيء من النفائس المهملة والطرائف المنبوذة، وكان قد سمع حكايات جمة عن أناس أصابوا أنفس بدائع الفن وأثمن تحف الصناعة بين الحثالات والنفايات الملقاة بزوايا الإهمال في أمثال تلك الحوانيت العتيقة.
فلما رأى صاحب الحانوت منه ذلك تركه في بحثه وعاود موقفه بباب الدكان ينادي المارة بأمثال قوله (هلم إلي أيها الأخوان فهنا أحس الصور. تعالوا أيها الإخوان ادخلوا. هذه صور جديدة قد وردت الساعة من أربابها.) بهذا الكلام وأمثاله جعل الرجل يصيح بملء فيه وبلا أدنى فائدة أو ثمرة وبعد أن كل من الصياح ومل أقبل على جار له أمامه دلال فأخذ يحادثه طويلاً. ثم تذكر أخيراً ذلك الفتى الذي قد تركه داخل حانوته يبحث ويفتش فانتقل إليه وأقبل عليه فقال (أي صاحبي، هل وقع اختيارك على شيء؟) ولكنه وجد الفتى المصور واقفاً لا حراك به أمام صورة في إطار كبير فاخر لكنه قديم بال قد أكل عليه الدهر وشرب.
هذه الصورة كانت تمثل شيخاً هرماً نحيف الوجه أسمر اللون بارز الوجنتين والظاهر أن الصورة كانت قد أخذت في لحظة اضطراب تشنجي وكان هذا الشخص يلبس ثوباً شرقياً فضفاضاً. وبالرغم من قذارة الصورة انطماس بعض أجزائها أدرك الفتى شارتكوف في ثناياها وتضاعيفها شواهد من براعة رسام قدير ومصور صناع لما تمكن من تنظيفها وتنقية الوجه من الأقذار والأفذاء. وكانت الصورة غير تامة ولكن براعة الفن فيها كانت رائعة مدهشة وأدهش ما في الصورة العينان، إذ كان يخيل إلى الناظر كأن جميع ما ضمنته ريشة المصور من قوة وإبداع قد سلط على العينين لا غير. فكانتا تطلان من الصورة ذاهبتين بالتوازن الفني فيها لفرط حياتهما وتوقدهما. ولما ذهب بالصورة إلى باب الدكان حيث الضوء أشد وأوفر ازداد إشراق العينين حدة وثقوباً فأثرتا في جمهور المتفرجين الساذج البسيط شبه تأثيرهما بالشاب المصور الفني العليم بأسرار الصناعة فصاحت امرأة كانت واقفة وراءه (إنه ليحملق. إنه ليحملق) وأجفلت نافرة فأحس شارتكوف إحساساً أليماً لم يفهم له معنى ولا علة ووضع الصورة على الأرض.
قال التاجر (أتريد الصورة؟)(59/56)
فأجاب المصور (كم ثمنها؟)
قال التاجر (علام التساوم والتقاول في شيء زهيد تافه كهذا. أعطني سبعين قرشاً.)
قال المصور (كلا)
قال التاجر (إذاً فكم تدفع؟)
قال المصور وقد هم بالانصراف (عشرين قرشاً)
قال التاجر (ما أبخس هذا الثمن. إن الإطار وحده ليساوي أكثر من ذلك. شاور عقلك وجئني غداً. تمهل يا سيدي. ارجع. التفت إلي. زدني عشرة قروش. بل خذها! هات العشرين قرشاً. الواقع أنك أول زبون اليوم، وهذا والله استفتاحي. ولولا ذلك لما طلبت نفساً عنها بهذا الثمن البخس)
على هذه الصورة الفجائية غير المنتظرة أصبح شارتكوف رب تلك الصورة العتيقة فقال في نفسه (فيما اشترائي هذه الصورة وأي خير لي فيها. ولكن لات حين مناص ولابد من الرضوخ للقدر.) ثم أخرج من جيبه قطعة ذات عشرين فأعطاها التاجر وتأبط الصورة ومضى بها إلى بيته. وفي أثناء مسيره تذكر أن قطعة النقود التي أسلمها إلى التاجر كانت آخر ما يملك فأطرق حزيناً واجماً. وكان ضوء الغروب الأرجواني لا يزال يتريث في الأفق ويتلوم. والمنازل المتجهة شطر المغرب ما برحت تتألق ذراها بنضار الشفق الأحمر يتوهج على شرفاتها ويتموج. وكان ضوء القمر الأزرق الرطيب يزداد أثناء ذلك لمعة وبريقاً وكان يتساقط على الأرض إذ ذاك طوائف وأفواج من ظلال رقيقة نصف شفافة وبدأ المصور ينظر إلى السماء المتوهجة بنور شفاف وقال (لله ما ألطف وما أشف وما أرق وما أدق (يريد منظر السماء) وما أعظم هذه البلية (يريد الصورة التي اشتراها)). ثم ثبت الصورة تحت إبطه وكانت لا تزال تزل عن موضعها وتفلت، وأسرع إلى داره.
دخل غرفته ومنها إلى متحفه ومصنعه (أي محل تصويره وصوره) وكانت ملأى بآثار الفن وأدواته ومواده ومصنوعاته فنضا عنه عباءته ووضع الصورة بين لوحتين صغيرتين وألقى بنفسه على مقعد ضيق، وبعد أن مد رجليه وتمطى نادى خادمه أن يأتيه بالنور.
فدخل غلام صغير في رداء أزرق اسمه نيكيتا وكان يؤدي عنده وظيفة خادم ومحضر ألوان (يطحن الألوان ليصيرها مسحوقة) ونموذجاً (أي يجلس أمام سيده المصور ليأخذ عنه(59/57)
صور شتى طبقاً لمختلف الأوضاع والهيئات والأشكال التي يتخذها لهذا الغرض) - هذا الصبي كان يقضي كل أوقاته في الشوارع أثناء غياب سيده.
قال نيكيتا لسيده (ليس عندنا شمع)
قال المصور (عجباً عجباً! لا شمع مطلقاً؟)
قال (ولا كان عندنا ليلة أمس ولا أول من أمس)
فتذكر الرسام حقيقة ذلك وأطرق واجماً.
قال نيكيتا (لقد جاء هنا رجل)
قال المصور (نعم لقد جاء يطلب ديناً)
قال نيكيتا (لم يكن وحده)
قال المصور (من كان يصحبه؟)
قال الخادم (أحسبه أحد ضباط البوليس أو نحو ذلك)
قال المصور (ولكن لماذا ضابط بوليس؟)
قال الغلام (لا أدري ماذا ولكنه يقول أنك لم تدفع أجرة المنزل)
قال المصور (وماذا يتوقع من ذلك؟)
قال الصبي (لا أدري ماذا يحدث بعد هذا ولكن الرجل قال إذا كان لن يدفع الأجرة فليبرح الدار. وقد قالا أنهما عائدان غداً)
قال شارتكوف من غير اكتراث (إذاً فليجيئوا) ثم نكس هامته واستولى عليه الهم والكآبة).
كان الفتى شارتكوف مصوراً مطبوعاً قد وهبه الله سر العبقرية وكانت مصنوعاته تدل على أنه سيكون له شأن عظيم في عالم التصوير وأن ريشته ستجود يوماً ما بالعجائب والغرائب إذ كان في مصنوعاته شواهد على دقة الملاحظة والتفكير والميل الشديد إلى زيادة الاقتراب من الطبيعة في كل ما يصنع وكان في الغالب إذا تناول الريشة نسي الدنيا بما فيها حتى نفسه، وأكب على عمله من الصباح إلى المساء إذ ينتزع نفسه منها بكرهه وبرغمه كأنما ينتزعها من حلم لذيذ وكان كثيراً ما يسؤه ويؤلمه أن يرى أدعياء الفن من الجهلة الضعاف يفلحون في غش الجمهور وخديعته فيروجون من بضاعتهم كاسداً ومن عملهم زوراً مزيفاً وينالون الشهرة والمجد وتامتا بلا أدنى فضل وميزة ولا قدرة. على ـن(59/58)
مثل هذه الخواطر لم تكن لتعرض له أثناء اشتغاله بعمله إذ يكون في غيبوبة عن العالم بأسره حتى يذهل عن طعامه وشرابه ولكن إذا كربه العسر وبرج به البؤس فاعوزه من الدريهمات حتى ما يشتري الصبغ والأوان وألح عليه صاحب البيت يطالبه بالأجرة عشرين مرة في اليوم - حينئذ كانت ذكرى محظوظي الرسامين تعاود قلبه الملوع المكلوم. وتنتاب خياله المجوع المنهوم وحينئذ كانت تعرض له عوارض اليأس وتخطر على باله خواطر النكوص والنكول فيحدث نفسه بالقعود عب اقتحام ذلك المسلك الوعر المؤدي إلى أوج العلاء الفني وذروة الكمال الصناعي ثم بالإسفاف والتسفل إلى مداق المسالك ومخابث الطرئق مجاراة للفريق الأعظم من مزاولي مهنة التصوير - أولئك الأدعياء الأغبياء الذين لا هم لهم إلا كسب المال بتبضيع الفن إلى الصناعة. في تلك اللحظة كان الفتى شارتكوف في مثل هذه الحالة النفسانية المخيفة.
قال في نفسه (يقولون صبراً صبراً. ما أسهل هذه الكلمة على لسان قائلها! ولكن أليس للصبر نهاية. ماذا يفعل البائس المسكين إذا عيل صبره ووهي جلده. صبراً صبراً سامحهم الله، أينبلني الصبر مهما طال اجرة الدار وثمن اللحم والخضار ودين الزيات والعطار. ثم لا أرى حولي من يهبني أو يقرضني، وإذا حاولت ان ابيع هذه الصور نتيجة كدي وثمرة قريحتي فمن ذا الذي يحفل بها أو يفهم أسرارها وهي منافية لذوق الجيل السقيم السخيف وما أراني أعطي في جميعها أكثر من عشرين قرشاً على أني ما أحسب ان في القوم من يفكر قط في اشترائها ومن ذا الذي يشتري مصنوعات شخص خامل الذكر مغمور مجهول ومن ذا الذي يحفل بالقطع المدرسية العتيقة والرسوم الأثرية والموضوعات الفنية الجافة غير المألوفة. من ذا الذي يهمه أن يشتري صورة تمثل غرفتي القذرة الحقيرة البائسة أو صورة خادمي الملعون نيكيتا أو صورة (امرأة عارية) وإن كانت في الحقيقة أجود صنعاً من كل ما يخرجه أدعياء الصناعة الغشاشون من ذوي الشهرة والفعة في هذا العصر الكاذب الجاهل، لماذا أسوم نفسي كل هذا الكد والنصب وأجشمها المصاعب والمشاق احتفاظاً بقواعد الفن وتأييداً لأركانه فأذوق في سبيل ذلك الجوع والعطش وأعاني البلاء والكرب على حين يمكنني أن أنال المال والصيط والرغد والرفاهية من أرقب طريق وبأيسر مجهود كسائر أرباب الحرفة من ذوي التساهل والاستخفاف)(59/59)
ما كاد الفتى يصل إلى هذه النقطة من نجواه حتى أحس رعدة فجائية أرعشت أوصاله فانتقع لونه وسبب ذلك أنه أبصر أمامه وجهاً مشنجاً ملتوياً يحدق إليه بعينين مخيفتين، وكما أنما قد كتب على الشفتين أمر تهديدي ينذر الناظرين بالصمت والسكوت فانذعر الفتى وهم أن يصيح بغلامه نيكيتا استغاثة به. ولكنه ما لبث أن هدأ روعه وضحك حينما تبين أن هذا الشبح المخوف لم يكن إلا تلك الصورة التي اشتراها اليوم وقد نسي ما كان من أمرها. لقد سقط عليها ضياء القمر المستفيض في الغرفة فأعارها شبه حياة وروح غريبة.
هنا قام الفتى إلى الصورة فشرع يبحثها بحثاً دقيقاً فتناول إسفنجة فبلها ثم أمرها فوق الصورة مراراً عدة حتى أزال عنها جميع ما كان قد تراكم فوقها من طبقات الغبار والقذى ثم علقها على الحائط أمامه واخذ إعجابه يزداد من دقة الصناعة وإتقانها. وكان الوجه قد استفاض بفضل المسح والتنظيف حياة جديدة وبرقت له العينان حتى أرعدت فرائسه وأحفزت أحشائه فارتد نافراً وصاح (إنها والله لتنظر إلي بعينين آدميتين) وهنا تذكر بغتة حكاية كان قد سمعها قديماً من أستاذه عن صورة مشهورة من ريشة المصور الأعظم (ليوناردو دافنشي) بذل فيها ذلك العبقري الأجل جهده ونفث عليها آيات سحرية أعواماً عدة وراى بعد كل ذلك أنها لم تكمل وإن جعل أساتذة الفن من بعده يعدونها أكبر ثمرات إبداعه. وأكمل ما في تلك الصورة عيناها اللتان راعتا وأدهشتا جميع معاصريه وخلفهم. وذلك أن أدق وأخفى العروق فيهما استطاع العبقري العظيم أن يبرزه على اللوحة.
بيد أن الصورة التي اشتراها شارتكوف كان شأنها أعجب من صورة ذلك العبقري وأغرب. وذلك أن الأمر لم يكن مسألة صناعة أو فن بل لقد فات حدود الفن وخرج من دائرة الصناعة بما أفسد نظام الفن في الصورة. لقد كان يخيل إلى كل من رآها أن تينك العينين قد قصتا بمقص من وجه إنسان حي ثم دستا في الصورة. فالناظر إليهما لا يجد تلك اللذة العظيمة التي تستحوذ على المشاعر لدى رؤية ملحة فنية مهما بلغ من هول موضوعها ورعبه ومن عظم مخافته وروعته - بل كان الألم المحض هو ما يعتري الناظر إلى هاتين العينين إذ كان إنما ينظر إلى حقيقة لا خيال وإلى الحياة المؤلمة الرهيبة لا إلى توليدة من تواليد الوهم والصناعة. والحياة في ذاتها (في مشاهدها الرهيبة كمثل هاتين العينين) لا تؤثر إلا إرعاباً وإزعاجاً. ولكن تمثيلها بوسائل الفنون المختلفة - كالشعر(59/60)
والتصوير والموسيقى والتشخيص المرسحي - هو الذي يولد من الألم لذة ومن الرعب إمتاعاً.
لذلك نقول أن الألم المحض والذعر البحت كان إحساس الفتى شارتكوف تلك الصورة العجيبة. ودنا ثانياً من الصورة ليتأمل تينك العينين المدهشتين فرأى مع الفزع الشديد أنهما تحلقان إليه. ما هذا والله رسم رسام ولا تصوير عن الطبيعة ولا تقليد للحياة بل الحياة بعينها - الحياة العجيبة التي قد تشرق في وجه ميت نشر من لحده. فأحس الفتى بنوع من الرعب أعجزه عن الجلوس وحده في الغرفة. فتحول عن الصورة وانتبذ ناحية منها وجعل يروض نفسه على عدم النظر إليها ولكن عينه استمرت من تلقاء ذاتها وعلى الرغم منه تنظر من طرف خفي إلى الصورة. وأخيراً ألصقه الرعب بموضعه وقيده عن السير في أنحاء الغرفة. وأحس كأن شخصاً ما سيطلع عليه من ورائه فجعل يتلفت حواليه وخلفه فزعاً مذعوراً. لم يكن شارتكوف جباناً ولا رعديداً ولكنه كان حساس الأعصاب والمخيلة ولم يستطع في تلك الليلة أن يفسر لنفسه ما اعتراه من الرعب والفزع ولا أن يتبين علته ومصدرها ثم إنه ذهب إلى ركن من الغرفة فجلس فيه ولكن خيل إليه بعد ذلك أن شخصاً ما كان يطل عليه من فوق كتفه وينظر في وجهه وكان نيكيتا خادمه نائماً في الغرفة المجاورة يغط في نومه، فلم يكن في تشخيره العالي ما يطرد مخاوف سيده أو يطمئن قلبه. وأخيراً نهض الفتى من مجلسه فسار منكس الرأس مغضي الطرف نحو سريره فدخل الكلة واستلقى على الفراش وأبصر من فروج الكلة فضاء الغرفة مستنيراً بضياء القمر والصورة معلقة على الحائط. فرأى العينين لا تزالان مصوبتين نحوه بنظرة أجد وأمضى وأرعب وكأنهما قد أصرتا على إدامة النظر نحوه وأبتا أن ترنوا إلا إليه. فلما كربه ذلك وغصه وضيق خناقه قام من فراشه وتناول ملاءة ثم تقدم إلى الصورة فغطاها من رأسها إلى قدمها.
ولما فعل هذا عاد إلى سريره فاستلقى على الفراش وقد سرى عنه نوعاً ما ونفس من كربه فأخذ يفكر في عيشة أهل الفن والصناعة البائسة المنكودة وفيما يقاسون من العوز والفاقة وفي منهج حياتهم الوعر الصخري الشائك المملوء بالآفات والمكاره وإنه لفي ذلك إذ حانت منه التفاتة من خلال الستارة نحو الصورة فرأى ضوء القمر قد ضاعف بياض الملاءة(59/61)
الملقاة عليها. وخيل إليه أن العينين المخيفتين تتوقدان وقد شفت عنهما الملاءة فثبت نظره في تلك البقعة فزعاً مذعوراً كأنما يحاول أن يقنع نفسه أن هذا وهم كذب ولكنه ما لبث أن رأى الملاءة قد زالت والصورة قد سفرت وأنها تحدق إليه تحديقاً كما لو كانت تريد أن تنفذ ألحاظها إلى صميم قلبه. عند ذلك مشى قلبه في صدره وارتعدت فرائصه وأخذ يتأمل هذا المنظر قلقاً جزوعاً. وإذ الشيخ الهرم قد تحرك ثم اعتمد بذراعيه على قائمتي الإطار (إطار الصورة) فأنهض نفسه بيدي ومد قدميه ووثب من الصورة وترك الإطار خالياً فارغاً. وسمع الفتى وقع قدمين في الغرفة وصدى خطوات تدنو منه وتقترب فاشتد خفقان قلبه وجعل يتوقع من لحظة إلى أخرى - وقد انقطعت من الرعب أنفاسه - أن الشيخ الهرم سيطل عليه بعينيه الشنعاوين من خلف ستارة فراشه. ويا للبلاء - لقد حدث ذلك فعلاً وأطل عليه الشيخ الهرم من خلف الستارة بعينيه الشنعاوين.
فحاول شارتكوف أن يصرخ ولكن خانته حنجرته ولم يجد صوته. ثم حاول أن يتحرك فأبت ذلك مفاصله. فلبث فاغراً فاه مبهورة أنفاسه ينظر إلى الشيخ الطويل المزمل في ثوب شرقي سابغ فضفاض ينتظر ما عسى أن يكون منه بعد ذلك. فقعد الرجل على أرض الغرفة وأخرج شيئاً من طيات ثوبه الفضفاض - فإذا هو كيس - وشرع الشيخ الهرم يحله ثم أمسكه من طرفه ورجه فتساقطت منه أكداس مكدسة من النقود دوى لها صلصل على أرض الغرفة وكان كل كدس منها ملفوفاً في قرطاس أزرق مكتوباً عليه 1000 ليرة ثم إن الشيخ المسن أخرج يده المعروقة الصفراء من كمه الواسع وشرع يفض القراطيس الملفوفة وهنالك أشرق الذهب الإبريز وتلألأ. وبالرغم من شدة ما كان يعرو الفتى المصور من الرعب والفزع توجه بكل قلبه إلى ذلك المنظر الفتان وحصر جميع مشاعره ومداركه في منظر الذهب الوهاج منحدراً من تلك الأصابع المهزولة رناناً على بلاط الغرفة مردوداً بأنامل الشيخ إلى قراطيسه. وأبصر الفتى أحد هذه القراطيس الملفوفة قد تدحرجت حتى وقف عند قائمة سريره بقرب وسادته. فانقض عليها كالعقاب فأنشب فيها مخالبه وأخذ ينظر خائفاً حذراً نحو الشيخ الهرم لينظر هل فطن إليه.
ولكن الشيخ كان عن ذلك مشغولاً. فجعل يجمع قراطيسه فيعيدها إلى كيسه ثم خرج من الكلة دون أن ينظر إلى الفتى فوثب قلب المصور طرباً لما سمع وقع خطوات الشيخ(59/62)
متراجعاً في الغرفة فشد قبضته على قرطاس الذهب وأوصاله ترتعد ارتعاداً ثم سمع خطوات الشيخ تدنو منه ثانياً. فقال في نفسه لعله قد فطن إلى القرطاس المفقود. ويا للبلاء لقد أطل الشيخ برأسه ثانياً من وراء الستارة على الفتى فشد يده على قرطاس الذهب بكل ما فيه من قوة مستيئساً مستميتاً ثم حاول أن ينهض من مضجعه ثم صرخ صرخة شديدة - واستيقظ.
لقد ألفى جسده يتفضج عرقاً وقلبه يضرب ضرباناً وصدره مكتظاً وأنفاسه مبهورة وكأنه يعاني سكرة الموت (أكان ذلك حلماً؟) كذا ساءل نفسه وأمسك رأسه بيديه ثم بدا له أن حقيقة ذلك الشيخ الفظيعة لم تك من قبيل الأحلام والرؤى. وفي أثناء استيقاظه أبصر الشيخ يخطو داخل الإطار (إطار الصورة) وأبصر كذلك ذيل ثوبه الشرقي يخفق ويرفرف وأحس أن يده (يد نفسه) كانت تقبض آنفاً على شيء ثقيل. ثم أدرك فجأة أنه ليس راقداً في فراشه بل واقفاً أمام الصورة فحار في ذلك وجعل يسائل نفسه كيف انتقل من فراشه وماذا أوقفه أمام الصورة فلم يدر البتة كيف كان ذلك وأعجب من ذلك أنه وجد الصورة مكشوفة قد زال عنها غطاؤها. فوقف مبهوتاً مسلوب الحركة ينظر إليها وإذا العينان الحيتان الآدميتان تحدقان إليه لا تتحولان عنه البتة، فتفضج جبينه عراقاً بارداً وهم أن يتحرك ولكنه أحس قدميه قد ساختا في الأرض فرسختا. وقام بذهنه أن ذلك ليس بحلم. ثم أبصر وجه الشيخ يتحرك وأنه يمط شفتيه نحوه كأنه يهم أن يلتهمه. فارتد إلى الوراء مجفلاً وصاح صيحة منكرة - واستيقظ.
أكان ذلك حلماً! لقد جعل الفتى يعبث بيده ويتلمس، وقلبه من شدة الخفقان يكاد يثب من بين أضلاعه. الحقيقة أنه كان راقداً في الفراش بنفس الموضع الذي أغفت فيه عينيه. وكانت الستارة مسدلة أمامه ونور القمر مستفيضاً في الغرفة. وكانت الصورة بادية من فروج الستارة مغطاة بالملاءة على نحو ما كان غطاها. وهكذا اتضح له أن هذا كان حلماً أيضاً. غير أنه بالرغو من ذلك ما زالت يده المقبوضة تحس كأنها كانت تنطوي على شيء. وكان خفقان قلبه شديداً عنيفاً. بل مرعباً مخيفاً. وكان على أحشائه عبئاً فادحاً لا يطاق. فصوب بصره نحو الفرجة التي في الستارة وأخذ يحدق في الملاءة الملقاة فوق الصورة. ويا الله! ويا للعجب! ماذا يبصر أنه ليبصر الملاءة ترتفع وتنحسر كأن يدين ترفعانها من ورائها(59/63)
تحاولان طرحها فصاح مذعوراً (يا الله! ما هذا!) وصلب فوق صدره - ثم استيقظ.
فهل كان ذلك أيضاً حلماً؟ هنا وثب الفتى من فراشه وقد كاد يجن جنونه ولبث حائراً لا يدري ما أصابه، أوطأة كابوس أم نوبة حمى أو طيف من الجن حقيقة؟ وهنا حاول الفتى أن يسكن جهد الطاقة ثائرة ذهنه ويكفكف بعض الشيء تدفع الدم المنهمر في عروقه الضارب بأقصى شدة في كل نابضة من جوارحه. فعمد إلى النافذة ففتحها فهبت عليه نسمات السحر البليلة فأبردت عظامه وأطفأت ضرامه وأنعشته ورفهت عنه. وكان ضوء القمر منبثاً على سطوح المنازل وجدرانها بالرغم مما كان يتطارد في ساحة السماء من قطع الغمام. وكان السكون سائداً. ومن آن لآن كان يقرع المسامع صرير عجلة سائرة. فأطل الفتى من النافذة ملياً. وكانت تباشير الصباح قد أخذت تبدو على الأفق وأخيراً هومت رأسه للنعاس فأغلق النافذة وعاد إلى سريره فتهالك على الفراش نضواً طليحاً وما لبث أن غط في نومه غطيطاً. .
استيقظ متأخراً وهو يشعر بأليم ما يحسه وقد أوشك أن يختنق بغاز الاستصباح وكان في رأسه دوار شديد.
كانت الغرفة قليلة الضياء وقد فشت في الهواء رطوبة خبيثة نفذت من فروج النوافذ فأحس الفتى بكآبة انقباش وجلس على مقعده الرث الممزق لا يدري ماذا يصنع. وأخيراً تذكر كل ما تراءى له في الحلم. ولما أخذ يتذكر ذلك تمثل الحلم لعين خياله وبدا في صورة الحقيقة المؤكدة حتى بدأ يشك في كونه حلماً وجعل يسائل نفسه لا يحتمل أن يكون الذي رآه هو طائف جن لا ريب في صحته ولا مراء. وهنا قام إلى الصورة فأماط عنها الغطاء وتأمل الصورة الشنعاء في ضوء النهار. لقد وجد العينين في غاية الروعة والاندهاش لفرط توقدهما الخارق للعادة ولكنه لم يجد فيهما شيئاً مزعجاً مرعباً بوجه خاص وإن كان لم يبرح بذهنه أثر إحساس أليم مما قاساه بالأمس. وكان بعد ذلك كله لا يستطيع إقناع نفسه أنه كان حلماً محضاً. بل جعل يشعر في أعماق ضميره أن هذه الرؤية كانت تنطوي على شعبة هائلة من الحقيقة وكأنما كان يلمح في لحظ الشيخ وفي مخايل وجهه آية ناطقة بأنه قد طرقه وصحبه ليلة الأمس. كما أن يده لا تزال تشعر بذلك الثقل الذي حوته كما لو أن شخصاً ما قد انتزعه من قبضتها منذ لحظة وخيل إليه أنه لو كان ضاعف قبضته على(59/64)
قرطاس الذهب لما أفلت من يده ولبقي بها حتى بعد انتباهه من هجعته.
قال في نفسه وهو يزفر زفرة المجهود (لا حول ولا قوة إلا بالله، أما لو كان لي بعض هذا المال!)
وهنا تمثلت القراطيس لعين خياله منقوشاً عليها تلك الجملة الخلابة (1000 ليرة) تنصب من كيسه الضخم الممتلئ. ثم انفتحت القراطيس وبرق الذهب ثم احتجب عن عين خياله ثانياً ولبث جامد الحركة ملجم الفم شاخص البصر يحدق في الفراغ كأنما قد عجز عن انتزاع نفسه من ذلك الحجر الساحر - مثله في ذلك كمثل الطفل الجالس أمام طبق من الحلوى يرنو إليه صب القلب سائل اللعاب وسواه يلتهمه مفزعاً.
وأخيراً دق الباب فثاب الفتى إلى رشده ثم دخل رب الدار بصحبة ضابط البوليس.
صاح رب الدار للضابط يخاطبه (انظر يا سيدي بنفسك. هذا الرجل لا يدفع أجرة مسكنه. لا يدفع الأجرة)
قال شارتكوف: (كيف أدفعها ولا مال عندي؟ أمهلني رويداً أوفك حقك. . .)
قال رب البيت حنقاً مغضباً وهز سلسلة مفاتيحه بشدة (لقد عيل صبري. لا أستطيع بعد ذلك صبراً، اسمع يا فتى، هذا ليس بملجأ ولا بمستشفى. ادفع أجرتك وإلا فارحل)
قال ضابط البوليس (أجل. ما دمت قد استأجرت هذا المكان فلابد لك من دفع أجرته) وصحب هذا القول بهز رأسه وإمرار يده على أزرار بذلته الرسمية)
قال الفتى (من أين أدفع. وأي شيء عندي أدفع. هذا هو المشكل. إني لا أملك الساعة درهماً واحداً)
قال الضابط (ادفع من ثمرة أعمالك. دع المسيو إيفان إيفانوفيتش يقبض حقه صوراً من صنع يدك - هذا إن قبل)
قال صاحب المنزل: (أنا لا أقبل ذلك يا سيدي - كلا لا أقبض صوراً. وأي صور هذه. لقد كان يصح أن آخذ صوراً لو كان لها قيمة. ولكن هذه حثالات لا قيمة لها. انظر هناك تجد صورة القرد الخبيث - خادمه نيكيتا. هل خطر قط ببال إنسان أن مصوراً يبلغ من حماقته وجنونه أن يصور مثل هذا العفريت بثيابه الممزقة ووجه الملوث، لهفي على هراوة أهوي بها على أم رأسه فأفلق دماغه. تباً لهذا الصبي، لقد خلع أبواب البيت وحطم زجاجه)(59/65)
في خلال ذلك كان الفتى المصور يصغي إلى هذه الشتائم على مضض. وكان الضابط يتأمل الصور المعلقة على الجدران فضرب يده على إحداها - صورة امرأة عارية - هذا حسن! ولكن ما هذا الشواد الكثيف تحت الأنف؟ هل كانت السيدة تتنشق؟)
قال شارتكوف بغلظة وجفاء (ليس هذا نشوقاً ولكنه ظل من ضروريات الفن)
قال الضابط (كان الأولى أن تضعه في موضع آخر غير هذا. إنه ليس بجميل تحت الأنف) ثم إنه التفت إلى صورة الشيخ الهرم فقال (صورة من هذه؟ إنها والله لمزعجة. أحقاً كان هذا الإنسان فظيعاً إلى هذا الحد؟ عجباً له! إنه لينظر إلى فعلاً، ما هذه البلية؟ عمن أخذت هذه الصورة)
أجاب الفتى (هذه الصورة ـ) ولكنه لم يكمل الجملة، ذلك أنه سمع انصداع والظاهر أن الضابط كان قد ضغط بيديه الثقيلتين على إطار الصورة ضغطاً شديداً فتصدع فانفلق من جانبه وسقط منه لوح صغير وهوى معه إلى الأرض قرطاس أزرق كان لوقعه صليل على أرض الغرفة ولمح شارتكوف على القرطاس هذه الجملة مكتوبة (1000 ليرة) فانقض كمن أصابته جنة على القرطاس فاختطفه وشد عليه قبضته شدة الغرق على عود من الخشب ورسبت يده لثقل ما حملت.
سمع الضابط صليل نقود ولكنه لم ير شيئاً لفرط سرعة شارتكوف إلى التقاطها فقال (أولم أسمع صوت نقود ههنا؟)
فأجاب شارتكوف (مالك وللأصوات التي تسمع في غرفتي، أي شيء لك في ذلك؟)
قال الضابط (هذا من شأني لأني أريد أن تدفع لهذا الرجل أجرة داره. هذا من شأني لأني أراك ذا مال ثم تأبى أن تؤدي إلى الرجل حقه)
قال شارتكوف (سأؤديه إليه اليوم)
قال الضابط (ولم لم تدفع ما عليك من قبل فتريح صاحب الملك والحكومة؟)
قال الفتى (لأني لم أك أود أن ألمس هذا المبلغ، سأوفيه حقة هذا المساء ثم أترك الدار غداً. فما كان لمثلي أن يعامل مثل هذا الإنسان)
قال الضابط متلفتاً إلى صاحب الملك (اسمع يا مسيو إيفان إيفانوفيتش، سيدفع لك الأجرة، فإذا لم تبلغ رضاك من كل وجهة فالجأ إلي - ثم اعذرني بعد ذلك يا حضرة المصور عن(59/66)
كل ما أصنعه معك.)
قال هذا وتناول قبعته فلبسها وخرج إلى الردهة يتبعه صاحب الدار مطرقاً يتفكر.
ولما تأكد شارتكوف أنهما قد برحا المنزل سري عنه وتنفس مستريحاً ولقد قال في نفسه (الحمد لله لقد ذهبا، لا أراني الله وجهيهما!) ثم نادى نيكيتا فأرسله في حاجة إقصاء له عن الدار ليخلو له الجو في تلك الساعة. وأغلق الباب وراءه وعاد إلى غرفته فتناول القرطاس الملفوف بكف راجفة وإجشاء واجفة وعقل شارد ولب عازب وبدأ ينشر مطويه.
ولما فتحه ألفى به مقداراً عظيماً من قطع ذهبية براقة وهاجة تتألق كأنها ألاهيب نيران مؤججة وهنا طار عقلة وضاع رشده من فرط الحبور والجذل وجلس إلى الكثيب الذهبي وساءل نفسه أليس هذا أيضاً حلماً.
لقد كان في القرطاس ألف ليرة ذهباً وهاجاً مثلما شاهد في الرؤيا، وجعل يقلبها في يديه وينظر إليها ملياً. وهنا ثار من أعماق مخيلته كل ما كان قد سمعه من حكايات الكنوز المدفونة والخزانات ذات الأدراج السرية التي كان يتركها الآباء المتبصرون إلى أحفادهم المبذرين لاعتقادهم ما سوف يكون من إسرافهم وتضييعهم. فجعل يناجي نفسه بمثل هذه الأقوال (ما أظن لا أن أحد الأجداد قد ادخر هبة لبعض أحفاده في إطار إحدى الصور العائلية) وكذلك ازدحم في ذهنه أعجب التصورات وأغرب التخيلات فخطر في باله أن هذه الصورة المدهشة يحتمل أن يكون لها علاقة سرية بحظه ومصيره. وأن وجودها مرتبط بوجوده وأن عثوره عليها وإحرازه إياها يحتمل أن يكون مما جرت به الأقدار وسجل في لوح الفضاء.
وهنا تناول الإطار ليمتحنه دهشاً متعجباً. فألفى في أحد جانبيه تجويفة قد أخفيت عن الإبصار أدق إخفاء وألطفه بواسطة لوح صغير، فلو لم يتصدع هذا اللوح من ضغط تلك اليد الثقيلة - يد الضابط السابق الذكر - لجاز أن تبقى النقود الذهبية مخبوءة بذلك المكمن الخفي آخر الأبد، ثم امتحن الصورة أيضاً فعاوده العجب والدهشة من إتقانها ومن دقة صنع العينين. وكان قد زال عنهما - بعد حادثة القرطاس - ما كان لهما من موقع الرهبة والرعب في قلبه. ولكنه مع ذلك كلما نظر إليهما أحس في نفسه شيئاً من الضيق والغم.
ثم قال في نفسه يخاطب الصورة (سواء أكنت جدي أم جد سواي لأصوننك بأنفس الزجاج(59/67)
ولأحوطنك بأغلى إطار ذهبي) ثم وضع يده على الصرة الذهبية وكاد قلبه يطير خفقاناً من شدة الفرح.
ثم قال وهو ينظر إلى المال (ماذا أصنع بهذا؟ هذا المال يهبني الغنى ويضمن لي الاستقلال مدة عشرين سنة على الأقل. الآن يمكنني أن أحبس نفسي في غرفتي فأستمر في عملي. فعندي ما أشتري به الألوان والأدوات والطعام واللباس والمسكن فأكون في مأمن من شر كل مزعج ومكدر ومنغص. فإذا سلكت هذه الطريقة، طريقة الانقطاع إلى الفن لبلوغ أقصى ما أستطيع من البراعة والنبوغ فيه منكباً عن سبيل الإتجار به والارتزاق منه وما في ذلك من دواعي الاستخفاف بأصوله وقواعده مما لا يؤدي إلا إلى الجهل بأسراره والتخلف فيه عن النابغين النابهين والإسفاف إلى مساقط الأغبياء الضعفاء - إذا سلكت طريقة الجد والاجتهاد والإجادة والإتقان والإخلاص والتفاني والتضحية فلن يمضي علي خمسة أعوام حتى أبلغ في الصناعة مكاناً محموداً ومقاماً محسوداً.(59/68)
بطل مصر العظيم
سعد زغلول
وكذلك لبثنا أجيالاً كأكوام الحطب المكدسة الجامدة الهادمة الميتة ننتظر تلك الشعلة المستعرة بلهيب العبقرية المقدسة، نرتقب نزولها من السماء لتوقظ غفلتنا وتنبه رقدتنا - وها هي قد نزلت أخيراً وقد اشتعل بشواظها الجانب الأعظم من أكداس الحطب الهامدة - فما بال فئة تتذمر وتتسخط؟ وما لها تتعتب وتتغضب؟ وتنتقد وتتعقب؟ وما هذا العمى او التعامي؟ وما هذه الحماقة أو التحامق؟ وما هذا الجحود والنكران وما هذه الصدور الحرجة والأعطان الضيقة؟ وما لقومي يريدون أن ينظروا إلى البطولة نظرتهم إلى الشخصيات اليومية العادية ويستعملون في قياسها وسبر أغوارها تلك المقاييس والميابير الت ييختبرون بها الذهنيات المألوفة الشائعة والنفسيات المعروفة المنتشرة. وكان حقاً عليهم أن يعرفوا أن البطولة لا تقاس مقاييسها العادية بل لا تقاس البتة لأنها أعظم من ذلك وأهول بل لأنها لا تحد ولا تحصر. وما زال البطل العظيم إذا ظهر في شعب أو أمة كان موضع الدهشة والحيرة، فيهابه أقوم ويذعر منه آخرون ويبغضه جماعة ويراه البعض شراً وآفة والبعض آية وعيد وتهديد ويراه الجميع لغزاً وأحجية وقد قال هيجل في هذا المعنى. (الرجل العيم يجثم الدنيا مشقة القيام بشرحه وتفسيره لأنه لغز من أصعب الألغاز) وبعد هذا كله وبعد حكمة هيجيل البالغة يأيى حماقة المتعاقلين المتحذلقين إلا أنت يحملوا شخصية البطل العظيم إلى معملهم العلمي فيضعونها على المشرحة ثم يشرحوها كما تشرح الجثث وبعد ذلك يحللون موادها تحليلاً كيماوياً ويزنون عناصرها وزناً كيماوياً ويقدمون غليك بعد ذلك حساباً كيماوياً عن نتيجة تجربتهم والجرام والملليجرام. مرحى مرحى؟ ما هكذا يا سادة تقاس العظمة ولا هكذا توزن العبقرية ولا قال أحد ما أن أعاظم الأبطال يقاسون بالمسطرة والبرجل ويوزنون بالمثقال والدرهم - البطولة شيء عظيم هائل، لا يستطيع امرؤ أن يتلقاه إلا بالهيبة والاحترام والخشوعه والإجلال، والبطولة سر رهيب كالحياة ذاتها ترغم كل إنسان على مخافتها والخضوع لها، ولا يجرؤ على انتقادها إلا المعتوه والأبله والمغرور والسفيه والأحمق، ومن أصر على تخنتطها وانتقادها فلن يجد مكاناً أصلح لذلك من مستشفى المجاذيب. وما نقوله لناقد الحياة نقوله أيضاً لناقد البطولة.(59/69)
قل للذي يأخذ على الرجل العظيم عناده واستبداده وخشونته وغلظته وقسوته ما بالك لا تذم في نظام الكائنات البركان والإعصار والصاعقة والزلزال والعاصفة والطوفان - فكما أن هذه من عناصر المون اللمتتمة له وهي لازمة له لزوم أضدادها مما تراه أنت من حسنات ومنافع - وكلاهما سواء في الفضل لتساويهما في اللزوم - فكذلك مل تراه أنت رذائل في البطل وآفات هو لازم لكيانه وقوامه لزوم فضائله وحسناته إذ من النقيضين معاً وليس من واحد دون الثاني تتكون البطولة. وماذا أدل على صدق هذا القول مما لا يزال يشهد به التاريخ من اتخاذ الطبيعة وسائل القسوة والغلظة لبلوغ ما تريده من غايات الصلاح والخير وأوضح مثال على ذلك الثورة الفرنسية التي بالرغم من أنها كانت سلسلة فظائع وشنائع فقد كانت هبة الأمم الوسنى من رقاد كاد يخنقها أثناء كابوس الظلم والاستعباد وصيحة الشعوب ثارت من هجعة شبيهة بالموت فبدأت تشعر بأن هذه الحياة الدنيا ليست بأكذوبة ولا أبطولة، وأن عالم الله ليس بمكينة تساس بالمكر والدهاء.
قال كارليل (إنا لنرحب بالثورة الفرنسية ترحاب الغريق بالصخرة العبوس - فهي على عبوسها ووحشتها وإفقارها معاذ من الهلاك وعصمة من التلف. وهل كانت الثورة الفرنسية إلا وحياً حقاً من الله ورسالة صادقة وإن راعت القلوب وأزعجت الخواطر - أجل - بالثورة الفرنسية انتهى التصنع والزور والغش والخداع والباطل الأجوف الفارغ - انتهى شر كبير وفساد عظيم. فالثورة الفرنسية ثمرة حرة من ثمار هذا العالم وهي حق وإن كان حقاً متلفعاً في شواظ جهنم، - بيد أنها على كل حال حق لا باطل - وهي رسالة الله إلى الأرض صدع بها صوت من الرعد القاصف أو دوت بها نفخة اسرافيل في الصور.
انظر بعد ذلك غلى ما قاله نابليون بونابرت ممثل الديمقراطية وزعيم الشعب وبطل الحرية (إنما أدركت غايتي وبلغت مرادي بقوة النفوذ) ثم انظر إلى نظريته في النفوذ. ماذا قال في ذلك (لا أعرف لا قوتين لتحريك الرجال: الرغبة والرهبة. أما الحب فهذا سفه وحماقة وبله وجنون. وأما الصداقة فهذا اسم بلا مسمى. هذا وإني شخصياً لا أحب إنساناً بل لا أحب أخوتي. ولعلي أميل قليلاً إلى يوسف أخي بحكم العادة ولأنه ليس مني وقد أحب (ديروك) ولكن لماذا؟ لأني معجب بصرامة حده. ومرارة جده: وفي اعتقادي انه ما ذرف قط من عينه دمعة. هذا وإني واثق أنه ليس في الدنيا من يحبني أو يخلص لي - فما دامت أي(59/70)
دولة والسلطان فليس أكثر ممن يدعون مودتي تزلفاً وملقاً. فإن ركدت ريحي انفضوا من حولي. ألا فلتدعن الرأفة والرقة واللين للنساء أما الرجال فلا بد لهم من الصلابة والقسوة والصرامة إذا تعرضوا للحرب أو السياسة.
فكيف بعد هذا كله يعينون على بطل النهضة المصرية صلابة خلقه وصرامة طبعه؟ ومتى كانت الملاينة والمحاسنة والملاطفة والمجاملة والتسامح والتساهل والاعتدال من شيمة أبطال الجهاد ومحرري الشعوب من ربقة الاستعباد وفرسان ميادين السياسة المغامسين حومة الطعان الجلاد.
البطل لا يسأل عما يفعل فإن أساس بطولته وقوامها وسرها هو ذلك الاعتزاز بالنفس والاستبداد بالرأي الذي به يدوس على كافة الاعتبارات والتقاليد اندفاعاً وراء غرضه وبغيته - مبتذلاً في سبيل ذلك الأمن والراحة والسلامة، لا ترده عقبة ولا يثنيه مانع - ولكنه يسير إلى غايته على عزفات موسيقى روحه الجياشة الصداحة ولو ثارت حوله الزوابع وطارت العواصف وزمجرت القواصف وأوشك الكون أن يتحطم ويتهدم. ولذلك قد يكون في البطولة أحياناً ما ينافي اللياقة ويخالف الآداب ويعارض الحكمة والفلسفة ولكن البطولة لا تعبأ بالياقو ولا تحفل بالآداب ولا تأبه للفلسفة. لأنها قبل كل شيء متكبرة مختالة تياهة جبارة. وعلى الغم من كل هذا فالواجب علينا جميعاً إكبارها وإجلالها وذلك لأنها محفوفة من جلال العظمة والروعة بما يجب أن يغض من أبصارنا وينكس من رؤوسنا أمامها، وما زال في كل عمل من أعمال البطل ما يملأ صدورنا هيبة ويقعدنا عن تعقبه واقتفاء أثره وانتقاده وبحثه. ففعلة البطل هي فعلة الله يأتيها على يد البطل وما كان لبشر ما مهما ظن نفسه عظيماً أن ينالها بذم أو انتقاص أو نقد - وليس في صنع الإله لعبيده مغمز أو مطعن. والبطل متى اندفع بقوة الله وبإلهامه ووحيه إلى إيتان فعلته لم يبال بصحة ولا حياة ولا أخطار ولا بذم ولا تأنيب ولا بعداوة ولا ببغضاء ولا بوعيد ولا تهديد ولا تراه موقناً أن إرادته أعلى واجل وأشرف وأفضل من جميع من يتبرى ومن سوف ينبري له من أهل المعارضة والمناوأة.
البطولة هي انقياد وإذعان لدافع باطني في ضمير فرد من الأفراد فليس إذن يتأتى أنم تظهر حكمة هذا الدافع وصوابه لسائر الناس مثلما تظهر لهذا الفرد إذ كان كل امرئ أنفذ(59/71)
بصراً وأبعد نظراً في منهاجه المختص به دون غيره. فإذا سخط أقوام على البطل فإنما هو سخط مؤقت لا يلبث أن يزول متى انجابت سحب الشك والريبة عن أعمال البطل فتجلت حقائقها مشرقة بلجاء. ناصعة بيضاء. وحينئذ يعلم الناس أن فعلة البطل كانت مجردة من الأغراض والأهواء بريئة من كل أثر للشهوة والأنانية بل هادمة للشهوة والأنانية مملوءة بالإيثار والتضحية. ولكن في ذلك لذتها وهو سبيل نجاحها.
الاعتزاز بالنفس والاستبداد بالرأي عنصر البطولة وجوهرها. والاعتماد على النفس هو شيمة النفس الثائرة على الأكاذيب والأباطيل. المتمردة على الظلم والطغيان وشيمتها القدرة على احتمال كل ما في طاقة الظلم والطغيان أن يرسله عليها من ضروب عذابه ومصابه. وشيمتها أيضاً ترفعها عن الاهتمام بالصغائر والحقائر واحتقارها احتقار الناس إياها. وشيمتها المثابرة والثبات والجرأة والإقدام وصبر لا ينفذ وجلد لا يهن وشيمتها الاستهزاء بغرور الحياة وحقارة الدنيا وما زالت تجد في اهتمام الناس بصيانة الصحة والمال وشدة المحافظة على الأرواح وعلى مصادر الللذات والأفراح أوسع مجال للضحك والتهكم والسخرية.
ولكن حساد البطل من ذوي الحقد والضغينة ينكرون هذه الحقيقة الظاهرة إذ يعزون كل أعمال البطل إلى حاجة في النفس وهوى في الفؤاد وباعث شخصي ربما كان دنساً خبيثاً. ومن ثم يحكمون على البطل باللؤم والفجور والخسة. أمثال هؤلاء السخفاء الأغبياء ممن أكل الحقد قلوبهم ونحب الحسد أفئدتهم لا يرون في أبطال العالم الذين هم بناة المجد والعلاء ومشيدو المدينة والحضارة وأعلام التاريخ المؤلفة منهم سلسلته الذهبية إلا أشراراً فجاراً بغاة طغاة لا فضل لهم ولا خير فيهم وإنهم لم يخدموا سوى أغراضهم الذاتية وأهوائهم الشخصية ولم يبلغوا ما بلغوا إلا بالكذب والغدر وبالظلم والجريمة. والواقع أن هؤلاء الأفاكين لم يسلم من ألسنتهم بطل ما حتى ولا أساطين العالم وقادته وأعلامه - فلقد قالوا عن الاسكندر الأكبر أنه مصاب بجنون الغزو والفتح لأنه دوخ بلاد اليونان وفتح آسيا - وزعموا أن الولوع بالشهرة كان باعثه الوحيد بدليل أن أعماله أدت إلى الشهرة ومثل هذا قاله أولئك السخفاء في يوليوس قيصر وهانيبال والسفاح وتيمورلنك وصلاح الدين وشارل مان ونابليون فأثبتوا بحججهم الواهية السخيفة أن أثمة العالم أشرار فجار مجرمون(59/72)
فينتج ضمناً من هذا أنهم هم (أعني أولئك السخفاء) أفضل وأشرف من أثمة العالم وقادته لبراءتهم من تلك الجرائم ولنقاوة قلوبهم من تلك الأهواء اللئيمة والشهوات الأثيمة - والدليل على ذلك أنهم لم يغزوا آسيا كالاسكندر ولم يسقطوا روما كهانيبال ولم بدوخوا أوروبا كنابليون. ولكنهم يعيشون ويتركون غيرهم يعيش وينعمون بالحياة ويتركون غيرهم ينعم. ومن حماقة أولئك السخفاء أنهم إذا حاولوا انتقاد البطل كانت عنايتهم بتأمل الجانب العبقري وخلال البطولة أقل من عنايتهم بتأمل الخصال الشخصية التافهة العادية التي يشارك البطل فيها جميع خلق الله بل حيواناته. وما دام البطل لابد له من أن يأكل ويشرب وينام ويعبس ويبتسم ويضحك ويبكي ويواصل ويقاطع ويحب ويكره وتتعاقب على مزاجه الأهواء والعواطف والنزعات المختلفة التي منها تتكون الطبيعة البشرية وبدونها يكون المخلوق إما ملكاً أو شيطاناً - أقول ما دام البطل شأنه في هذا شأن سائر الخلائق فيجد الناقد السخيف في صفحة عرضه ألف مأخذ ومطعن ومن ثم قيل أن المرء لا يكون البتة بطلاً في عين خادمه لأن الخادم لا يكاد يبصر مولاه إلا في الحالات الاعتيادية التي يشبه فيها سائر الناس ويشبه فيها الخادم ذاته ولكن لا عار على السيد في ذلك فما سببه أن السيد ليس ببطل بل الخادم ليس إلا خادماً. وما دام رجال التاريخ يتولى نقدهم أولئك الخدام الانتقاديون فسيخرجون من سوق النقد بأخسر الصفقات وتشييل كفتهم في الميزان أو يبوؤون بالخزي والعار ويهبطون إلى أدنى من مستوى أولئك النقاد أنفسهم. فلا ينسى القارئ أن ثرسيثس الوارد ذكره في إلياذة هوميروس كان مولعاً بسب الملوك وشتم الأمراء - لم يكن مقصوراً على ذلك العهد الخرافي القديم بل موجوداً في كل عصر لم يخلو منه جيل من الأجيال ولكنه - مع الأسف الشديد - لا يلقى في كل جيل ما لقيه أيام هوميروس من عقوبة الضرب بالعصا والسياط على أن آفة حسده وحقده هي الشوكة الدامية التي كتب عليه أن يحملها في جلده. والجمرة الحامية التي قيض له أن يدفنها في كبده. وحسبه بعد ذلك غيظاً وكمداً أن آراءه السديدة وانتقاداته الوجيهة ستذهب بعد كل مجهوداته العظيمة هباء منثوراً.(59/73)
العلاقة بين الفرد والمجموع
وأثرها في النهضات الاجتماعية
(التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة المجموع - إلى أي حد يجب أن يرتبط الفرد بالمجموع - النظرية الصحيحة - استقلال الفرد الألماني - الفرد شعب وحده - الانكليزي في زمن الحرب - الأثرة غريزة والةاجب فضيلة - الفرق بين أمة بأفرادها وأمة بتعدادها)
يظهر أن مسألة التوفيق بين مصلحة الفرد وسعادة المجموع والعلاقات التي بينهما أصبحت من المسائل الدقيقة التي قلما يعثر الإنسان فيها على الوجع الصحيح ويظهر أن الرأي القائل بان الفرد يجب أن يكون للمجموع رأي فائل كنظيره القائل بأن على الفرد أن يعمل ولا شك في أن النتيجة سعادة المجموع، فالحقيقة أن استقلال عن المجموع أو المجموع عن الفرد يؤدي إلى تصادم كثير بينهما. إن اندماج الفرد اندماجاً كلياً في كتلة المجموع خطر عظيم كما ان استقلال الفرد إلى حد كبير خطر أيضاً عظيم. ينبغي أن يكون هناك قصد واعتدال. فإن الامة التي يندمج أفرادها في المجموع تصبح أمة مجموع لا وجود للأفراد فيها ولا أمارة عليها إلا تعدادها. وتصبح شخصية الفرد على حدة ضعيفة لا تثبت ولا تقاوم. والمجموع ليس مستعداً في كل لحظة أن يلبي استصراخ الفرد إزاء كل مأزق أو مشكلة يجب أن يكون الفرد قوياً في ذاته إلى الحد الذي يجود فيه على قوة المجموع كما أن المجموع يجب أن يكون قوياً في ذاته إلى الحد الذي لا يطفئ معه شخصية الفرد. ولعل أبلغ ما عرفنا من ذلك اجتهاد الألمان في أن يكون كل فرد في ذاته شعباً وحده فيهيئون له من تربيته وتعليمه وسائل تمده يقول في مستقبل أيامه (أنا الأمة). وكثيرون يعتقدون خطأ هذه النظرية ويظنونها منافية لارتباط الفرد بالمجموع، على أن التأمل القليل يثبت فساد هذا الظن. إن الأمة التي يعتبر أفرادها كل منهم نفسه أمة قائمة بذاتها لا شك في أنها الأمة السعيدة القوية، لأن كل فرد فيها يعد نفسه لحياة عاملة مجدة ويؤدي جميع واجباته الاجتماعية وهو يعتقد أنه الوحيد المكلف بأدائها والمتمتع بنتائجها. فلو أنه لم يبق غيره لظل كيان الأمة قائماً. هذا مع الاحتفاظ بأمة الفرد غيره أعني مع الاحتفاظ بالأمة كلها المكمونة من أمم أولئك الأفراد. وأخيراً تلتقي في مثل هذا الفرد الصفات العامة للمجموع(59/74)
من قوة وغنى وعزة نفس وشجاعة قلب وحب للبلاد وغيرة على الوطن.
ويظهر أثر ذلك المبدأ جلياً في أوقات الأزمات الحرجة التي يحتاج فيها المجموع إلى قرار سريع حاسم. فبينما ترى الأمة التي لا تمثل إلا مجموعاُ أشبه شيء بقطعان الغنم دهشة ذاهلة مترددة في أمرها يتربص كل فرد فيها عمل أخيه ويلقي عليه تبعة التقصير والتأخير، إذا بالأمة الاخرى قد اشتمل كل منهم درعه ولأمته ينادي (بيدي لا بيد عمرو). لقد خرج كل فرد انكليزي من بيته في الحرب الكبرى يبحث عن عمل له. فغني يدفع الاموال وقوي يجر المدفع وعامل يشتغل في المصنع وامرأة تخدم في المستشفى. وحق كل منهم أن يقول: لقد كسبت الحرب بساعدي!؟
من هذا كله يمكننا أن ندرك السر العظيم في متانة البناء الذي يقام على هذه القاعدة قاعدة استقلال الأفراد إلى الحد الذي لا يعبثون فيه بالحقوق العامة أو الصلات المدنية التي تربطها بالمجتمع نفسه ويقتضيها تمتعهم ببقائه.
إن الفرد الوطني الغيور إنسان على كل حال لا يمكنه أن يتنازل بالمرة عن استقلاله الشخصي أو يفطن دائماً إلى سبيل الحق والواجب. وعلى ذلك فإذا ما اعتقد أنه وحده الأمة فكأنه اعتبر مرافق الأمة ومصالحها مقومات لمرافقه الشخصية ومصالحه. ولا عجب بعد ذلك إذا رأينا نجاحه وثباته وإخلاصه لاننا إذا قلنا أنه ذو غيرة على وطنه وشديد الحب والإعجاب بأمته فإنما نعني في الحقيقة من طرف آخر أنه شديد الحب والإعجاب بنفسه غيور على شخصه وما يتعلق بشخصه من المصالح والأعمال. وإن سعيه فس سبيل ترقية نفسه ونجاح أعماله ليكون أثبت وأقوى إذا ما اعتبر أنه يؤديه إلى نفسه بصفته أمة وحده لا بصفته يهدي إلى المجتمع مصلحة أو يضحي له بمنفعة. إن فكرة الإهداء إلى المجتمع فكرة خطرة تسوق إلى الاضمحلال، وإن العزاء الذي تسمعه من أفراد كثيرين بأنه يعمل هذا لنفع المجتمع دون نفعه لعزاء مخيف يجب أن لا يشكر عليه صاحبه، لأنه يكون عمل الكليل البليد الذي يلمح الفشل في طيات الافق البعيد. والذي لا يبالي أن يبادر إلى ترك العمل واثقاً أن حبوطه فيه لا يسوق عليه اللوم ما دامت كانت وجهته وجهة النفع العام.
ليكن كل فرد في امته شعباً بمفرده ولا أريد بهذا أن يحارب وحدات الشعوب الأخرى من بقية الأفراد. بل إن الشخص الذي يحارب بقية الأفراد في مثا هذه الامة أو يعبث(59/75)
بأواصرها المدنية يكون فشله وهلاكه محققاً سريعاً لأن كل فرد من الآخرين سوف يتاقدم دون انتظار نجدة من المجموع ليقوم بالواجب الذي يعتقد أنه موكل به من بقية الأمة بصفته شعباً بمفرده يدفع عن نفسه عوادي الزمن. وعلى النقيض من ذلك ترى حالاً غريبة في الأمة التي وصفناها بأنها أمة بتعدادها. فالذين قد يعملون فيها على تفيل مصالحهم على مصالح المجموع ليسوا قليلين. والغالب أن الذين قد يعملون بهؤلاء ليسوا كثيرين وإذ كانوا لا يعدون أنفسهم أمة مستقلة داخل أمة المجموع فإنهم سوف يحجمون عن أداء ذلك الواجب. وإذا بدرت منهم همة وحمية فلا يتجاوز ذلك أن يستصرخوا المجموع وينادوا فيه وينبهوه إلى وجود تلك الجراثيم منتظرين حتى يصحو المجموع كله ويتحد على مقاومتها ودرئها. وتلك طريقة إن نجحت أحياناً فإنها تحتاج إلى زمن طويل. والغالب أنها تموت في الطريق كما تموت أصوات السفينة الغرقى وهي تستنجد بالشاطئ.
(2)
(استقلال الأمة نتيجة كلية لاستقلال الفرد - مثال للأمة المستقلة المستعبدة - خلاق الفرد محور استقلال المجموع - استقلال المجتمع وسط طسابي - الاتحادج لاتحاد مصيره للزوال)
وعلى القاعدة السابقة ينبغي أن يشاد أيضاً الاستقلال القومي. ليكن كل فرد مستقلاً أولاً وعند ذلك يتكون المجموع المستقل. أما إذا كان المجموع مستقلاً وليست عند الأفراد روح الاستقلال ولانزعته فلا شك في أن مثل هذا الاستقلال لا يعتمد عليه كثيراً.
إن الفرد الانكليزي مثلاً يفخر بأنه مستقل أولاً بصفة كونه فرداً. ويشعر أن استقلال المجتمع نتيجة كلية لاستقلاله الجزئي. ويعلم أيضاً ان ذلك الجزء من الاستقلال الذي يقوم به إذا قصر فيه أو أهمله وةاتبعه في ذلك غيره فسوف يعدم في الحال استقلال المجموع.
وهذا غير الفكرةالتي لا يعتقد فيها الأفراد أن استقلالهم عنصر حيوي من عناصر استقلال المجموع. بل هم يعتبرون استقلال المجموع أمراً لا دخل له في استقلالهم الشخصي، وأن الواحد منهم غير مؤثر بشكل حاسم في أمر الاستقلال غاب عنهم أنه ربما وجد المجموع المستقل بينما الأفراد غير مستقلين. فصعف الخلاق والاتكال والاعتماد على الغير وخوفه والخضوع له. كل هذه قد تفقد الأفراد استقلالهم على حين يظهر للناظر أن المجموع مستقل(59/76)
- والخطر الأكبر أن نكتفي باستقلال المجموع مستخفين بمسألة استقلال الأفراد - بل بالله أية أمة تستطيع أن تتصورها مستقلة إذا كنت ترى كل فرد من أفرادها يرتعد أمام الأجنبي، وغذا كانت نفوس أهلها على وجه عام نفوساً ذليلة وأخلاقاً ضعيفة وهي في الواقع فانية في غيرها من الأمم أو مسوقة وراء أمة متعلقة بأذيالها. ليست المسألة مسألة التخوم والحدود ووجود الجيوش. بل غن هذا الايتعباد الخفي الظاهر في الأفراد المختفي في المجموع لأشد نكاية وأعظم وبالاً. إذ أن كل فرد يحمل على عاتقه نير العبودية ولا يستنطيع أن يشكو لأنه يعلم ويرى أن المجموع مستقل.
لا أعد الأمة التي تفني شخصيتها أو قوميتها في أمة أخرى أو في أمم متعددة أمة ذات استقلال وإن كانت من الوجهة الفعلية غير محكومة أو خاضعة لغيرها وهذه النظرية بسيطة وتظهر واضحة جلية في الأمة التي تنال استقلالها السياسي بتوفيق الظروف أو الحظوظ فإنك بينما تراها مستقلة سياسياً إذ تراها تظل سنوات عديدة خاضعة في الواقع لغيرها متأثرة بحكم أجنبي عنها. إلى أن يتعلم كل فرد من أفرادها معنى الاستقلال ويشربه روحه. عند ذلك ينقلب الاستقلال السياسي إلى استقلال حق صحيح لأنه ناشئ عن استقلال كل فرد. نحن لا نطلب الاستقلال السياسي فقط. ولكن نطلب الاستقلال الأخلاقي. نطلب التحرير من القيود والأثقال التي تحملها أعناقنا لا أرضنا. إن اليوم الذي تتحرر فيه النفوس هو اليوم الذي تتحرر فيه الأرض. وإن يوم شعور كل فرد بأنه مستقل وأخذه نفسه بهذا المبدأ لهو اليوم الذي تتحقق فيه حريتنا لأن الأمة التي يرفض كل فرد من أفرادها أي نوع من أنواع العبودية والخضوع لا تلبث أن تتحرر وتستقل.
إن مبدأ استقلال كل فرد استقلالاً ذاتياً يؤدي إلى شيء آخر. إذا كان كل فرد مستقلاً فإنه يرى من التمتع بذلك والاستفادة ما يحمله على صون ذلك الاستقلال. وإن تجمع هذه الوحدات على صون استقلالها هو صون لاستقلال المجتمع الذي هو عائد عليهم ومتمم لاسشتقلالهم على النقيض من الآخرين الذين إذا سألتهم لماذا تريدون استقلال المجموع؟ أجابوك لأنه مفيد للمجموعوأخذوا بيسطون ويشرحون ما تتمتع به الأمة المستقلة! ولكن هل يتمتع في الوقت نفسه الأفراد؟
ولنوضح ما تقدم نقول بعبارة أخرى أن الفرد المستقل يدافع عن استقلاله لأنه يعود إليه(59/77)
عن طريق المجموع لأنه يتمتع به بعد أن يكون قد حفظ استقلال المجموع. أي أن هناك ثلاث خطوات تبتدئ وتنتهي بنفسه ويتوسط بينها المجموعز على النقيض من الآخرين الذين يدافعون عن استقلال المجتمع ليتمتعوا بذلك الاستقلال أفراداً. أرى أن هناك خطوتين إحداهما المجموع. وهذا خطأ، ففي الحالة الأولى لا يتخذون من المجموع غرضاً ولا غاية. وفي الحالة الثانية يتخذونه كل الغرض والغاية. إن الذي يبدأ بالفاع عن استقلال المجموعليجني وهو فرد ثمرة ذلك الاستقلاليعكس القضية ويدبر عن الغاية لانه قد تمر السنون الطوال قبل أنيءشعر بذهاب استقلال المجموع الذي يكون قد مضى عليه دهر وهو ينحدر نحو الهاوية. فإذ أفاق كل فرد أخيراً وجد من الثيود المثقلة لكاهل المجموع ما يحمله على التراخي واليأس، وليس أصعب ولا أشق من أن تجمع الأفراد للمدافعة عن المجموع إذ قد لا يشعرون بالحطر في وقت واحد وإذا شعروا فمنهم الغبي والبليد.
أما إذا كانت المسألة مسألة الفرد المستقل فإنه إذا أشعر بأقل حركة للتعدي عليه أو إذا راى سلكاً شائكاً ينصب أمامه فسيقدم في الحال دون تريث لرفع ذلك الحائل من طريقه معتمداً على نفسه واستقلاله الشخصي، معتقداً أن رفع ذلك الحائل فرض واجب عليه إذا أراد أن يحفظ استقلاله. فهلا تلمح في طي هذا العمل الوسط الحسابي لاستقلال المجموع؟ إن كل فرد يرفع قطعة من السلك الذي يوضع أمام بيته هو في الحقيقة يهد حلقة من حلقات الاستعباد التي تريد أن تحدق بالمدينة. ولكنه يفعل ذلك من غير انتظار المجموع ومن غير أن يتسرب إليه أنه يفعلى ذلك كواجب للمجموع عليه بل واجب على نفسه لنفسه. إن القيد الذي يعتقد أنه رفعه عن نفسه قد رفعه في الواقع عن جاره أيضاً. وإلا فلو ترك السلك يحدق بالجميع لكان ضرره هو وجاره على السواء.
هذه هي خلاصة الفكرة التي أرى فيها المجموع يختفي إزاء فكرة الفرد إلى الحد الذي لا يجور فيه على قوة المجموع. لأنك مهما صفيت الخلق الإنسانهي ومهما رقيته وهذبته فلن تستطيع أن تنزع منه حب نفسه وتفضيلها وأثرته. كما أن الاتحاد مهما طال عليه الزمن في ظل التعليم والرقي مصيره إلى الانهيار والتدابر إذا كان قائماً على فكرة الاتحاد فقط. إنك لا يمكنك أن تحفظ أمة متحدة على مر الزمن بفكرة أن هذا الاتحاد يحفظ المجموع وينفع كيان الأمة. إن صروف الدهر تغير كل شيء. ولكن إذا اعتقد كل إنسان أن لاتحاد(59/78)
مطلوب منه لا ليحفظ به قومه وعشيرته وصحبه ولكن ليحفظه هو نفسه قبل كل شيء، فلا شك ان شعوره ذلك يجعله أكثر رعياً له وإبقاء عليه.
(3)
(الاتحاد المأزوم والاتحاد المركز - الثورة الفرنسية - هياجها وخمودها - اتحاد المجموع غير طبيعي ولا دائم - شبه استثناء لذلك - شواهد من الحركة المصريو - انتهاء الحركة ليس معناه انتهاء العمل - تطور العالم في مدة الحرب - نهضة أبناء الفراعنة جديرة بتاريخهم ومدنيتهم)
كثيراً مكا تصادف المجموع حوادث وظروف تضمهى إلى بعضه وتوحده توحيداً تبهرك قوته وثباته، ولكنه إذا اجتاز هذه الأزمة التي قام من أجلها أو تنحت من طرقه بأي شكل من الأشكال، فمن الصعب أن يستمر على هذا الاتحاد الوطيد والاتجاه إلىجهة واحدة، ولا يلبث أن ينحل إلى مجتمع هادئ عامل، ولا أريد بهذا أنه يكون مجتمعاً متفرقاً متدابراً، ولكنه يعود إلى حالته الطبيعية وتتغلب عليه فطرة الأفراد الإنسانية التي هبة واحدة لنصرة المجموع فإذا انقضت مهمتها فلا يجوز عقلاً أن تطلب منها أن تظل دائماً على حالتها من التيقظ والانضمام والوحدة، لأن ذلك يستدعي مجهودات خاصة تقوم بها حركة استثنائية متجهة بالجميع وجهة واحدة، وهي شغلهم الشاغل طول ليلهم ونهارهم وهي عماد تفكيرهم وأحاديثهم، ثم لا تلبث أن تخمد هذه الجذوة، ولا سيما إذا كان اتقاد هذا المجموع ناتجاً عن مصادمة طارئة أو أزمة مفاجئة أو حادثة مثيرة أو غير ذلك مما لم يسبقه التفكير والروية والبحث ولم يهمد له بالتدبر والتامل ومبادلة الآراء وتوطيد المبدأ وتأسيس الخطط وغير ذلك.
وكثيراُ ما شاهدنا أن قومة المجموع قومة واحدة إذا اتنهت فمن النادر أن تستفزه إلى مثلها ظروف أخرى - ولو كانت أشد وأفظع من التي قام لاجلها أول مرة. وهذه الثورة الفرنسية الكبرى مثلاً قامت نتيجة لهياج النفوس من سوء الحكومة والإدارة - قامت دفعة واحدة وهي تظن أنها ستقلب أنظمة العالم وتنال السعادة التي ترجوها. ثم سكنت فما كان منها؟ أعقبها حكم من أحكام الإرهاب والفأئع والمنكرات وحكومة لم تكن الحكومات السابقة بجانبها شيئاً في الاستبداد والظلم والقوة والغشوم. ومع ذلك لم يستطع هذا الشعب المتشبع(59/79)
بروح الثورة المنطلق من كل القيود النظامية أن يجتمع مرة أخرى وبثل عرش الإرهاب والظلم الجديد لولا أن تادركه رجل عظيم.
نضرب هذا المثل لنقول أن للمجموع قومة واحدة يهدم بها السد الذي يقوم في وجهه ثم ينثني إلى المعامل والمزارع، ويندر أن يعود إلى المصادمة والكفاح إلا في حالة واحدة سنشرحها بعد ذلك. وذلك لأن إنضمام المجموع واندفاعه نحو أمر ما هو بمثابة هياج فكري وثوران نفسي شامل، ولا يمكن أن تطلب من المجتمع أن يظل على حالة من التهيج وثورة الأعصاب وغليان الدم وحمية القلب والفكر واتجاه الروح والنفس لأن هذه الفترات في حياة الأمم هي بمثابة السهر في حياة الفرد ولن تستطيع أن تطلب من الأمة أن تظل ساهرة أرقة متهيجة الأعصاب إلى حد غير محدود. إن النفوس تتوق دائما آبداً إلى السلام والراحة والهدوء. وإن فترة ذلك الصحو أو السهر لا تستمر طويلا بل لا بد من العود إلى الحالة الطبيعية.
قلنا أن ثورة المجموع هيهات أن تتلوها ثورة أخرى مهما حاق بالمجموع بعد ذلك من ظروف أشد واستثنينا حالة واحدة، وحتى في هذه الحالة لا تشتعل الثورة كما كانت ولكن تنحل إلى ثورة سلمية وقد تكون غير عامة ولا شاملة لكل الطبقات وإنما يقوم بها أفراد عديدون من ذوي التأثير والنفوذ فلا يلبثون أن ينالوا ما تريده الأمة. هذه الحالة الواحدة تكون عندما يسبق الانقلاب الذي تحدثه الأمة المتمدينة زمن طويل من التفكير والتمهيد وإنعام النظر، حتى إذا ما قامت الحركة كانت منظمة متينة ثابتة وصارت الأمة إلى بغيتها أو الإصلاح الذي تنشده سيراً ثابتاً قد يكون بطيئاً ولكنه لا يقف ولا يرتد. تتقدم كالجبل الراسخ متكاتفة متعاونة متفاهمة مشتركة في العواطف والآمال غير مندفعة اندفاعاً أعمى أو مستسلمة لكل قائد. فمثل هذه الحركة القائمة على ذلك الأساس المتين لا تنعدم قوت المجموع منها إذا هدأ أمرها، بل إنه لمن السهل العثور على ذلك المجموع وإيجاد تلك القوة في أي وقت تقع حوادث أو تجد ظروف.
نخرج من هذا إلى شيئ آخر، ونلقي نظرة إلى أنفسنا. انتهت الثورة القومية وكان لا بدلها أن تنتهي. وقد شاهدنا جميعاً مع الفوز الذي أصبناه مناحي كثيرة من الضعف الأخلاقي في حياتنا الاجتماعية. وأمثلة عديدة على انحطاط النفوس وسوء الطباع.(59/80)
لم يكن الانحطاط الأخلاقي الذي لاحظناهجديداً في حياتنا المصرية، ولكن ننتهز فرصة هذا الانتباه الشامل لكل الطبقات وفرصةهذا الصحو الذي عم جميع النفوس لنفهم الناس أن الحركة انتهت، وأن ليس المقصود هو الحركة ثم نعود فننام. إن ماعملناه ليس إلا تمهيداً بسيطاً للغرض الذي نسعى إليه. إن الغرض الأكبر ما يزال أمامنا. ولنفهم الشعب وطبقات العامة التي ظنت أنها انتهت من مهمتها وانصرفت إلى حالتها الطبيعية إنها لم تقم بعد بشيئ وإن المهمة الكبرى لم تأت بعد وإن على عاتقها واجباً هو أعظم من كل ما قامت به. نريد أن ننزع من الأفكار أن هذه الحركة كانت لنا غاية: كلا: لم تكن الحركة لنا غاية وإنما كانت وسيلة بسيطة. كانت أداة من أدوات العمل نحو الغاية الكبرى.
لا ننكر أن الأمة المصرية كانت متأخرة كل التأخر (ولو من باب المقارنة فقط) في جميع فروع العمل والمدنية. وكان التقدم الذي طرأ على أمم العالم وشعوبه في هذه الخمس سنوات والانقلاب الذي أحدثته الحرب في أفكار الجماعات عظيماً جداً. لقد استيقظتالأفكار وانتبهة الأذهان وابتدأت تتجه وجهات جديدة وتفكر أفكار جديدة ونحن غافلون. لقد تطورة العلوم وتغيرت نظريات الشعوب وأنتجت هذه الحرب حرباً فكرية هائلة كانت تدور رحاها ونحن غافلون وقد عم ذلك العالم كله وابتدأ كل من الفكر والعمل الإنساني يسير في طريق جديدة ونحن هنا في معزل عن كل أمر. حتى هبت هذه الحركة.
لا شك في أن هذه الحركة أعظم ما عرف في تاريخ مصر. وإنها فاتحة عهد جديد وأننا قطعنا شوطاً بعيداًَ واستيقظنا من جمودنا الذي خيم عيلنا هذه السنوات ووثبنا وثبة أدركنا بها كثيراً مما فاتنا. نعم استيقظت الأمة بعد أن كان من المستحيل لأمة حية أن تظل نائمة وضجة العالم وصلت إلى الأفلاك ولكن وثبنا نحو المستقبل وثبة جديرة بمجد ماضينا وتاريخنا وقطعنا شوطاً بعيداً نحو العالم المتقدم أمامنا وكذلك كانت هذه الحركة ضرورية لإثارة هذه اليقظة وكان الاستيقاظ الهادئ الرفيق فشلاً تاماً يغري بالنوم مرة أخرى، نعم كان من الضروري القيام بهذه الحركة لنثب هذه الوثبة وندرك بعض ما فاتنا.
(4)(59/81)
بالثورات - حاجتنا إلى التفكير - حاجة العامة المنارة >>.
لننظر نظرة إلى الكلام الذي مضى. لفد هب المجموع دفعة واحدة إلى غاية واحدة. هب على أثر نوم طويل فلم يكن بين أفرادخ سابقة ارتباط وتفاهم واتحاد ولم يكن هناك أساس من التفكير والبحث والنظر ولكننا انطلقنا جميعاً متكاتفين إلى غاية واحدة قمنا لها وأدركناها. وانتهت الحركة. وهنا الخطر الأكبر في أن نعود إلى الحالة التي كنا فيها بعودة الأحوال الطبيعية إلى مجاريها. لأنه لم يكن ثمة رابطة من التفكير أو مبدأ نجتمع حوله أو منارة نهتدي بها. هذه وإن لم نعد إلى ما كنا فيه فإننا نعود مجموعاً مفككاً يصعب ربطه وتوجيهه كما حصل ذلك أي إنه يصعب أن تجمع الأمة على السير في طريق واحد وتوحيدها وربطها كما تم لنا ذلك. لأن هذه اول تجربة لنا ولأنها كانت على إثر نوم عميق. نعم كانت الدفعة عظيمة لان الجمهور كان عظيماً ولكن الذي نخشى منه أن جذور هنا الجمود لم تصتأصل وإنها ربما تلتف شيئاً فشيئاً حولنا ثانية فتعود النفوس إلى الانحلال والتراخي.
لقد كنا كالجبار الذي نام نومة طويلة فلما افاق قام إلى الحائط فضربه بيديه فتهدمت فهو بعد ذلك بين حالين أما أن يعود إلى النوم لتسكين تلك الأعصاب التي تنبهة فجأة وقامت بذلك العمل الهائل. وأما أن يأخذ في تمرين ساقيه وذراعيه ورياضتها حتى يعود إلى سابق قوته ونشاطه. ونحن إذا اعتقدنا ان عملنا انتهى وأن بلغنا غايتنا وان الأمة استيقظت وأصبحت في خير حال فأننا لا بد سائرون إلى النوم والتخدير وأما إذا لم نعتقد أن هذه الحركة انتهت وإنها لم تكن إلا بثابة مقدمة لليقظة وإنه يتحتم علينا بعد ذلك أن نأخذ انفسنا بالرياضة والمران وأن ننظر إلى عيوبنا الاجتماعية لنصلحها وأن نعالج ما ظهر لنا من المساوئ الأخلاقية والنفسية وأن نتظافر ونجتمع ونعين لنا مبدأ نجري عليه ووجهة نسلكها وغاية يسعى كل إنسان منا اليها. نعم يتحتم علينا أن نتدارك أنفسنا ونجتمع لنتباحث ونفكر في أمرنا ولا نفرح باتحاد المجموع الذي أمامنا فإنه وقتي أن لم يأخذ كل إنسان نفسه بمبدأ يجري عليه وإن لم توحد العواطف والأفكار والأعمال. إن اتحاد المجموع غير دائم ولا ثابت ما لم يبن على أساس من تفكير الأفراد وإيمانهم.
وإذا نظرت إلى حقيقة حالنا وجدتنا نطلب كلنا طلباً واحداً، ولكن ذلك نتيجة تلك الحركة،(59/82)
وهذا الشعب الكبير يردد ألفاظاً ويتبع أفراداً. بل إن المتعلمين منا والزعماء لا يعملون عملاً ولا يفكرون تفكيراً. لا يكفي أن نقتنع بطلب وأن نجمع عليه وأن نبيت ليلنا ونهارنا نفكر فيه ونتحدث به. يجب أن نعمل جميعاً لتحقيقه. كل من الناحية التي يخدم بها نفسه ووطنه.
انتهت الثورة القومية فيجب أن تعقبها ثورة فكرية لتظل الروح واحدة والنفوس مرتبطة والحمية موجودة. لقد نلنا بالأولى انتباه الأمة واتحادها فيجب أن نقوم بالثانية لإصلاح عيوبنا الإجتماعية والأخلاقية. ولا أقول أن نبدأ بإصلاح المجتمع. كلا. ابدأ بإصلاح نفسك. انظر إلى العيوب التي تشملك واعمل على إبادتها. اتبع لك مبدأ لا تحيد عنه. فإنك إن فعلت ذلك فسوف تتطهر الأمة من عيوبها الإجتماعية وليست عيوب الأمة إلا عيوبك أنت. لا تناد بكثرة الإقتراحات والمشروعات. ابتدأ بإصلاح نفسك يتم كل مشروع وكل إصلاح. إعمل وحدك ولا تنتظرغيرك وبث هذه الفكرة لكل إنسان وأنشرها في كل مكان.
إن الأمة تريد أن ترتقي ورقي الأمة هو السبيل الحق المحتم لبلوغ كل شيئ والأمة لا ترتقي بالثورات لأن الثورات ليست أعمال كل ساعة ولأنها إنما تحدث في ساعات الإنتقال فقط. تحدث عندما تنتقل الأمة من طور إلى طور. وإنما رقي الأمة يكون بالتفكير. وقد قلنا أن أمتنا محتاجة الآن عقب حركتها إلى ثورة فكرية ولم نقل إلى مجرد تفكير. لأن الحقيقة المحزنة أن الأمة المصرية طالما فكرت كثيراً. وهناك شيئ آخر وهو أنه لا ينفعنا الآن في بركان هذه الحوادث والحركات غير الثورات الفكرية. نريد أن ننتهز الفرصة ونحدث انقلاباً في الأفكار نستطيع بعده أن نفكر التفكير الهادئ المطمئن دون أن نخشى التقهقر والفشل. نريد أن نحدث تطوراً في الأفكار نقيمه على أساسات وطيدة من الإخلاص والإيمان وو عرفان الواجب والتمسك بالمبدأ إلى النهاية وعند ذلك يجري التيار الفكري في مجراه الطبيعي. نريد أن نهز الأفكار هزة قوية تتجه على أثرها إلى غرض واحد كما توجهت بحركتها الإجتماعية إلى غرض واحد. نريد أن يكون بين أفكارنا وعواطفنا ذلك الاتحاد والتحمس اللذان رأيناهما في حركتنا. نريد أن تكون ثورة في الرأس والأذهان لا تصيبها طلقات البنادق ولا يضيرها وجود الجنود في الأقسام. هي(59/83)
حركة دائبة كالفوران الذي في قاع البحر. حركة عملية سلمية لا تنالها أقسى الأحكام العرفية.
نريد أن تتجه الأمة جميعها إلى وجهة واحدة واصلاح كل عيب يبدو لها ولا ضير عليها في أن يكون اصلاحه بطيئاً وتدريجياً ولكن الضير كل الضير أن ننتبه إليه ولا نشرع في اصلاحه. ولكن لابد للوصول إلى ذلك من تجمع الأمة كلمتها وتوحد مطالبها إلى الغاية التي يضعها كل فرد نصب عينيه. لأن الشعب يحتاج دائماً إلى منارة. فلنجتمع ولنبين للشعب هذه المنارة ولنقل له هذه هي فتوجه إليها ولا يمكن أن ننال ذلك بالتفكير العادي المألوف لأنه مرت بنا أوقات كثيرة وظروف عديدة التجأنا فيها إلى مثل هذا التفكير فلم نلبث إلا قليلاً إنما نريد التفكير الذي ينتج العمل.
فإذا ما تهيأت النفوس وأعدت جميع الأذهان وتشبعت كل العقول بمبادئ هذه الثورة الفكرية وكان الإيمان واحداً وعميقاً ومخلصاً في نفس كل فرد. في هذه الحالة يكون الإنتقال إلى أي مطلب من مطالب الحياة سهلاً ميسوراً ويكون بلا صدام واحتكاك كبير. نعم إذا نبت الإيمان التفكيري في نفوس الشعب فإنه يكون من السهل الإنتقال إلى أي تطور اجتماعي دون أي تضحية أو مقابلة قوة. بل لا يمكن لأعظم القوى في مثل هذه الحالة أن تعارض هذا التيار الفكري العام الذي يكتسح كل ما في طريقه.
إذن فالواجب علينا أن نحدد أعمالنا وأن نضع لنا غاية نسعى إليها وأن نربط جميع أفراد الأمة برباط من صلة تفكيرية تؤم بنا جميعاً إلى غاية واحدة وأن يقوم كل فرد منا بأعماله على مقتضى هذا المنهاج من التفكير المتبادل.(59/84)
أفكار بليدة
لمفكر بليد في أوقات بليدة
للكاتب الفكاهي البديع جروم. ك. جروم
ضيق الصدر
لا بأس على امرئ من الكآبة والأسى بل ربما وجد الأنسان شفاء غلته وبرئ علته في الاسترسال في الحزن والاستسلام إلى الشجى، وقد ما قال الشاعر:
وان شفائي عبرة مهراقة
وقال الآخر:
لعل انسجام الدمع يعقب فرجة
وطالما لذني وطاب لي أن أهجر عمداً مجالس الطرب ومحافل الأُنس وأنتبذ المكان المنعزل القصى لأخلو إلى أحزاني وأشجاني أستجيها من مكامن الخيال أو استثيرها من مدافن الذكرى طرباً إلى ذلك مرتاحاً.
فأما ضيق الصدر - ذلك الذي يعتري الإنسان فجاة بلا سبب ظاهرة ولا علة مفهومة - فذلك هو الداء العياء والبلاء الأعظم. بيد إنه الداء يسلم منه أحد ولا يفلت منه إنسان. وأعجب ما فيه أنك لا تعلم أصله ولا فصله ولا سببه ولا مصدره، فأنت خليق أن تصاب به عقب استيلائك على ميراث هائل أو عقب فقدانك (علبة سجائرك) في القهوة أو نسيانك (شمسيتك) في القطار وتأثير هذا الداء (أعني ضيق الصدر) فيك شديد فتاك أشبه شئ بمجموعة تأثيرات أوجاع الضرس والمغص والصداع - إذ تصير قلقاً مهتاجاً فظاً مع الأجانب خطراً على الصحب والأقارب شرساً شكساً صخوباً غضوباً - بلاء على نفسك وعلى كل من حولك.
وأنت ما دمت واقعاً تحت تأثيره فلا قبل لك بمحاولة أي عمل أو تفكير في أي شيئ، وإن أحسست أثناء ذلك بضرورة القيام بعمل ما لا تدري ما هو ولكن تشعر بضرورته وإذ كنت بناءً على هذا لا تستطيع أن تظل ساكناً ساكتاً فإنك لا تلبث أن تلبس قلنسوتك وتأخذ عصاك فتبرح المزل للفسحة. ولكنك لا تكاد تسير بضع خطوات حتى تندم على ما كان من خروجك وتعود إلى غرفتك. وهناك تحاول تفريج همك بالقراءة فتنظر في (شاكسبير)(59/85)
فإذا هو غث تافه فاتر. ثم تنتقل إلى (دكنز) فإذا هو سخيف بارد. ثم إلى (ثكرى) فإذا جاف عقيم ثم إلى (كارليل) فأذا أعقم الجميع وأجفهم وأسخفهم وهنا ترمي عرض الحائط بالكتاب وتنبذ المؤلف بأشنع الألقاب. وبعد ذلك تحول تيار غضبك على القطة فتطاردها في أنحاء الغرفة حتى تخرجها وتغلق الباب خلفها. وهنا تفكر في أن تكتب (جواباتك، فتأخذ القلم والقرطاس ولكنك بعد كتابتك لفظة (عزيزتي ها قد تناولت القلم لأبثك ما عندي) ترى أنه ليس عندك شيئ فيرتج عليك ولا يفتح الله عليك بكلمة وبعد استمرارك على هذه الحالة السيئة ربع ساعة أو أكثر تلقي القرطاس في الدرج وتقذف القلم على المكتب وتنهض من مكانك عازماً على المضي لزيارة أصدقائك الأسة الفلانية وفبما أنت تلبس حذاءك يخطر ببالك أن الأسرة الذكورة قوم أغبياء سخفاء وإنهم لا يصنعون طعاماً البتة وإنهم يكلفونك حمل وليدهم وإرقاص طفلهم فتسب القوم سباً وتلعنهم لعناً وتنقض ما كنت اعتزمته من الذهاب إليهم.
وهنا يكون قد استفحل بك الداء وبلغت الروح التراقي فتدفن وجهك في يديك وتتمنى لو جاءك الأجل فصعدت إلى جوار ربك. وحينئذ يثور في خاطرك ذكر الموت فتصور لنفسك منظر مماتك وأنت على سرير المنية تعاني سكرة الموت وتجود بأنفاسك الأخيرة والأهل والأقارب والإخوان حولك وقوف على رأسك تسيل مهجهم عبرات وتذهب نفوسهم حسرات. وأنت تبارك فيهم وعليهم ولا سيما الفتيان والفتيات والصبيان والصبيات. وتعلل نفسك عن مصابك بأنهم سيعرفون قيمتك بعد ذهابك. إذ يتبين لهن خطورة نكبتهم وجسامة خسارتهم. وهنا يحلو لك أن تقارن بين ما تتوهم أن يكون من شدة احترامهم لك بعد موتك وشدة احتقارهم لك أثناء حياتك.
هذه الخواطر وأمثالها تهوّن عليك وتنفس عنك ولكن لمدة قصيرة جداً. إذ لا تلبث أن تتهم نفسك بالحمق والسفه وبالبلاهة والعته إذ يخطر ببالك أو يخيل إليك أن أي إنسان كائناً من كان يحفل بك أو يكترث لك أو يهتم لأيما يعرض لك ويجري عليك من خيرٍ أو شرٍّ أو ربح أو خسارة. ومن ذا الذي يا مغرور ويت أحمق ويا أبله ويا غبي يعنى بك مثقال ذرة أو يبالي ما يصيبك سواء قصم ظهرك أو حشّ وسطك أو قطع رأسك واخمدت أنفاسك أو بعج بطنك أو حلق ذقنك أو رفع لك تمثال أو مشنقة أو أقيم عرسك أو شيعت(59/86)
جنازتك الحقيقة أن الناس ما عرفوا قط قدرك ولا حاولوا أن يعرفوا ذلك ولا همّهم وهنا تستعرض ماضي حياتك فيتبين لك بلا أدنى ريبة أنك مازلت منذ خرجت إلى هذا العالم الملعون مهضوماً مظلوماً مغتصب الحقوق مبلياً بالإساءة والعقوق.
وما هي إلا برهة تقضيها في مثل هذه الهواجس الأليمة حتى تثور شياطين الغضب في دماغك فتقوم قيامتك على أهل السماء والأرض ولا سيما على نفسك فتهم أن تقذف نفسك من النافذة ولكن النافذة مغلقة. وأخيراً تحين ساعة النوم وتلك هي التي تنجيك من خطر الانتحار. قتنضو ثيابك وتبعثرها في جميع أنحاء الغرفة وتطفئ المصباح وتثب إلى الفراش كالهارب من طوفان أو بركان. وهنالك تقضي ساعتين أو نحوهما بالتقلب والتململ منوعاً هذه الحركة الدائمة بقذفك الغطاء برجليك ثم قيامك على الفور لإعادته مكانه. وأخيراً تغشاك هجمة مؤرقة مضطربة منغصة بالأحلام الكريهة.
هذا ما يصيبنا نحن معشر العزاب. أما المتزوجون فغير هذا حالهم وخلاف هذا شأنهم ودأبهم - انظر هؤلاء يسطون على زوجاتهم ويتسخطون على طعامهم ويصولون على أولادهم وهذا كله يحدث في البيت هرجاً ومرجاً وصخباً ولجباً وفي ذلك وحده تخفيف ما بهم وتنفيس كربهم. ولا بدع فإن المشاحنات هي الدواء الوحيد لداء (ضيق الصدر) وهي المسلاة والملهاة والمتعة الوحيدة التي يستطيع صاحب هذا الداء أن يجد فيها مستراحه ومستلذه.
بيد إن ضيق الصدر هذا قلما ينتابه إلا مساء، إذ في أثناء ضوء الشمس والعالم يتدفق تياره جياشاً بالحياة شدّ ما يصعب علينا أن نقف لنسترسل في زفراتنا وعبراتنا وفي شكوانا ونجوانا. ولا عجب فإن جلجلة مكينة الحياة العملية جديرة أن تغمر همسات شياطين الهموم المسوسة في آذاننا. فنحن في أثناء النهار نكون عرضة لأن نغضب ونثور ولكن لا يكون (لضيق الصدر) على نحو ما وصفنا آنفاً - سبيل علينا - كما أننا نكون أيضاً بمنجاة من لوعة الحزن والآسى ورقة الشجن والشجى. ومن ثم ترانا إذا غاظنا شيئ أثناء النهار رفعنا أصواتنا بالسب وأيدينا بالضرب. فإذا أصابتنا السيئة ليلاً في الساعة العاشرة مثلاً عالجناها بقراءة الشعر المحزن والمأساة أو بالجلوس في الضلام والأمل في حقارة الدنيا وبؤس العيش وغرور الحياة.(59/87)
هنا ننتقل إلى موضوع الاسترسال في الأسى والخلوة إلى الذكريات الحزينة فنقول أن هذا الإحساس الذي بنا أن نسميه رقة القلب من الحزن أو ذوبان النفس من الشجى أو على سبيل الإختصار (حنين الشجى) لا يكون مصحوباً بالكرب والألم الحقيقي الإيجابي فإن الكرب الواقع والألم الحاصل فعلاً يكون عادة أشد عذاباً من أن يترك مجالاً لمثل هذه العاطفة اللينة الرقيقة أعني (حنين الشجى) ومصداق ذلك أنك إذا عرضت على عينك صورة حادث آليم أمكنك أن تجيل بصرك في أنحاء الصورة طويلاً وتتأمل أوصافها مالياً وتبكي عليها بزفرة الحنين وآنة الذكرة ودمعة العاطفة الرقيقة الذائبة وهذا ما لا تستطيع أن تصنعه إذا علاض على عينك الحادث الآليم بالذات إذ تنفر منه أشد النفور وتهرب منه هرباً والواقع إن الألم الفعلي وحنين العاطفة لا تجمعهما قط جامعة، وكربة الحزن الحقيقي لا يمكن أن يصحبها لذة الاسترستل في أحزان الذاكرة الخيالية وليس من شأننا أن نلعب بالنيران ولا بالصارم والسنان. ولا أن نعتنق الذئاب والسباع والآفاعي طوعاً وإختياراً. فإذا رأيت الرجل يلذه أن يسترسل في الذكرة الأليمة ويصونها في وعاء ذاكرته ويتعهدها بالري والسقيا كي لا تزال غضة ندية خضراء فأيقن أنه قد زالت عنها خاصة الألم وقد أصبحت غير جارحة له ولا قادحة ولا فادحة ولا لائعة ولا لاذعة ولا فاجعة ولا موجعة. ومهما تكن قد آلمته ومضته في أول أمرها فلقد عادت اليوم وهي له مصدر لذة وفي ذكراها غبطة ومتعة. وكأي من سيدة كريمة ما أن تزال على مدى الأيام تذرف الدموع على مخلفات ثياب طفلها المفقودتخزن ما بقي من آثارها العزيزة في وعاء مضمخ بالمسك والعبير وتتنفس الصعداء إذ تذكر تلك الأعضاء الغضة اللطيفة التي كانت تزين تلك الثياب - وكأي من غادة حسناء تخبأ كل ليلة في ثنايا وسادتها خصلة جعدة كانت حين ما تتهدل على جبين أبلج قد لثمته شفاه الأموج لما لحدت له أيدي العواصف في سواء اليم قبراً، فمثل هذه السيدة ومثل هذه الغادة كلتاهما خليقة حين تقرأ ما ذكرت آنفاً من لذة الأحزان ومتعة الأشجان أن تتهمني بالقسوة والجفاء وبالفظاظة وغلظة الشعور وبالكذب والبهتان ولكني أعتقد مع ذلك أن أمثال هؤلاء إذا سألن أنفسهن هل يجدن غصة ومضضاً في تماديهن في حزنهن وادمانهن ذكرى مصابهن فلن يرين بداً من الإجابة على هذا السؤال بلفظة (كلا) ولا بدع فإن للدموع عند بعض الناس حلاوة(59/88)
الضحك وقد قيل في الأمثال أن الإنكليزي الأصلي إذا باشر لذته باشرها بهيئة الحزن وأن المرأة الإنكليزية تزداد في ذلك غلواً فهي تستمد لذتها من الحزن ذاته.
أنا لا أتهكم ولا أسخر. وما كنت لأسخر قط من أي شيئ يرقق القلوب في هذه الدنيا الجافية القاسية. ونحن معشر الرجال مع ما بنا من قسوة فؤاد وغلظة أكباد ما كان لنا أن نريد النساء على أن يكن مثلنا قسوة وشدة، كلا أيها النساء فلتكن أبداً رقيقات لينات ولتكن ندى الحياة وطلها المرطب ويبسها المطفئ حرارتها ولتكن عسل الحياة المحلي خبزها اليابس الخشن. هذا وإن البكاء للنساء يشبه الضحك للرجال وعاطفة الحزن فيهن كعاطفة الهزل فينا! ومن يدرينا أنا أحسن منهن مذهباً في ذلك وأفضل سبيلاً. ومن ذا يقول أن الضحك ويحدثه من إمالة الأعناق وشق الأشداق وتعويج الأبدان وإغماض الأجفان - ادل على السرور النقب والفرح المهذب من رقة الأسى وما من رأس مطرق وجيد منكس وبصر شاخص وطرف ساه وجفن مغرورق ينظر من فجأة الزمن القاتمة الأعماق غلى شبح الماضي المتضائل.
وإذا رأيت المرء يسايره الاحزن جنباً لجنب ويصافحه يداً بيد فاعلمن أن الحزن قد عاد سهلاً خفيفاً هيناً ليناً حتى أصبح يطاق ويحتمل بل أصبح تستلذ صحبته وتستحلى خلطته وأصبحت الملوحة قد زالت عن دموعه فآضت عذبة والشوكة قد نزعت من زهرته فلا ضير على المستروح أن يدنيها من أنفه ووجنة الحزن الأسيلة الصقيلة قد سلت منها الابرة الجارحة حتى أمكننا أن نلصقها بوجناتنا ونلمس شفتها بشفاهنا. ونحن إذا استطعنا أن ننظر بعين الذكرى إلى الفاجعة الأليمة التي رزخنا مرة تحت فادح عبئها وأغمي علينا لشدة جهدها وبلائها - إذا استطعنا أن نعيد إليها كرة الطرف بناظر الذكرى ثم لم تثر في قلوبنا ثتئرة اللوعة والحرقة واليأس والقنوط فاعمن أن يد الزمان الآسية وكفه المداوية قد لا شك مست مكان الطعنة الحمراء فضمدت جرحها ودملت قرحها.
هذا الحزن اللذيذ والشجن العذب أكثر ما يكون انبعاثه في النفس ساعة الغروب التي وصفها الشاعر ورد ذورث بقوله:
هاتيك ساعة رقة وصبابة ... وتخشع لله واستعبار
ووصفتها الروائية (جورج اليوت) بقولها (شجى الأصائل الصيفية) وما أصدق(59/89)
الوصفين. وما أعجب كل ما فاض من هذين القلمين وأين الذي لم يشعر بفتنة هذه الأصائل الحزينة المتوانية. وسحر تلك المغارب المكتئبة المتباطية. حينئذ يظل الكون في قبضة الآسى وفي أسر الشجى، ولا غرور فألهة الآسى تتبوأ في دولة الغروب عرشها وعروس الشجى تتخذ من قصر الشفق خدرها وهناك تلقانا وتستقبلنا. ولدى بابها الشفقي تأخذ بأيدينا وتسايرنا خلال عوالمها الخيالية. فأما شخصها وشبحها فلا نراه ولكن يخيل إلينا أنّا نسمع تصفيق أجنحتها بل إن طيفها ليغشانا حتى في أرجاء المدينة الجياشة باللجب والضوضاء إذ نحس روحنا حزينة ترفرف في كل طرقاتها الجافة المستطيلة ونبصر النهر المظلم الأمواج ينساب كخيال الروح الشريدة كأنما يحمل سراً خفياً تحت أمواجه الكثيفة وفي خلوات الريف الساكنة حينما تتساقط ظلال المساء على الأشجار والأعشاب فتضائل من أشخاصها وتغض من أشباحها وتسمع أجنحة الخفاش وصوت القنبرة حينئذ يزداد سحر المنظر الحزين رسوباً في قلوبنا ونفاذاً إلى ضمائرنا إذ يخيل إلينا أنّا قائمون حول فراش ميت وإنّا نسمع في حفيف الدوح حشرجة النهار المحتضر حينئذ ترى الحزن العميق مخيماً والسلام الشامل مستفيضاً وفي صفاء هذا الهدوء تتضائل هموم العيش وأكدار الحياة اليومية وتضمحل إذ يبدو لنا أن هناك أشياء أخرى جديرة بالسعي والجهاد خلاف الخبز واللحم بل خلاف العناق واللثم - وأعني بهذه الأشياء أسرار محاسن الطبيعة وما تستثيره من أسرار محاسن الروح. في هذه الساعة الرائعة الجميلة ينثال علينا من الخواطر ما نسمع وحيه ولا نكاد ننطق به فترانا ونحن قائمون في سكينة المساء تحت قبة الفلك المضمحلة الضياء. نشعر أننا أجل وأعظم من عيشتنا الحقيرة وحياتنا التافهة الضئيلة وإذا تراءت لك الدنيا حينذاك حولها سجوف العشى المرسلة وسدول السدفة مسبلة. علمت أنها ليست بذلك المصنع القذر الذي تعهد ولكنها الهيكل الفخم الجليل يؤدي فيه الإنسان مناسك عبادته وتلمس يداه أحياناً في زواياه المعتمة يد الإله الأعظم جل شأنه.
إذا ما كساك الله سربال صحة ... ولم يخل من قوت يحل ويعذب
فلا تعبطن المترفين فإنهم ... على حسب ما يكسوهم الدهر يسلب
أبت نفسي الهلال لزرء نفسي ... كفى شجواً لنفسي زرء نفسي(59/90)
أتهلع وحشةٌ لفراق ألف ... وقد وطنتها لحلول رمس(59/91)
كتاب الصور
للكاتب الأمريكي الأشهر واشنجتون ارفنج
(وهو مجموعة مقالات وروايات أدبية وأخلاقية ممتعة)
حديث المؤلف عن نفسه
ما زلت مولعاً بمشاهدة المناظر الجديدة، وملاحظة الطباع والأخلاق الغريبة ولما كنت طفلاً صغيراً بدأت سياحتي ورحلاتي الاستكشافية في أنحاء بلدتي ومسقط رأسي، إذ كنت أهيم على وجهي في أنحائها فأضل الطريق وأتيه في جهات منها مجهولة لي غير معروفة ولا مألوفة، وكان في عملي هذا ىأفجع المصاب والذعر لوالدي وأجزل الربح والفائدة لمنادي البلدة، ولم شببت وترعرعت أفسحت لنفسي مجال النظر والتأمل فجعلت أقضي العشيات والأصائل من أيام العطلة بالتجوال في ضواحي الريف المجاورة حتى درست جميع الأماكن المشهورة في عالمي التاريخ والخرافة، فلم تخف عليّ بقعة جرت فيها حادثة قتل أو سرقة أو ظهر بها عفريت وكذلك زرت جميع القرى المجاورة وضاعفت ذخيرة معلوماتي بملاحظة عاداتها وتقاليدها ومحادثة حكمائها وعظمائها. بل لقد طوحت بي يد السفر في بعض أيام الصيف الطوال إلى قمة أقصى تل حتى إذا تسنمت تلك الذروة أبعدت مرمى البصر أسرح الطرف في بقاع مجهولة وأناجي النفس حائراً دهشاً (ما أعظم هذا العالم الذي أسكنه!).
هذه النزعة الطوافية والشهوة التجوالية نمت معي وازدادت على كر السنين فأصبحت أشد ما أكون ولوعاً وشغفاً بكتب الرحلات وأسفار الاسفار ألتهم محتوياتها التهاماً وقد أهملت دروس المدرسة كل الاهمال. وكم كنت أدور وأطوف حول رصيف الميناء في أوقات الصحو والصفاء أرنو - ساجي الطرف شاخص البصر - إلى السفن الراحلة الميممة أقاصي البلدان. وكم كان لي إلتفاتة لهفى مولهة في أثر المراكب الذاهبة أصوب إلى شرعها المتضائلة المضمحلة الحاظ الواجد المشتاق وأقذف بنفسي على أجنحة الوهم والخيال إلى أقصى أطراف المعمورة!.
ولقد كان بعد ذلك في ادماني القراءة والتفكير ما كبح من جماح هذه الشهوة ووقفها عند حد معقول ولكنه جعلها مع ذلك أشد مضاء وتصميماً فزرت عدة من نواحي بلادي. ولو(59/92)
أني ممن وقفت رغبتهم عند مجرد التلذذ بالمناظر الطبيعية الحسناء لكان لي فيما حوته بلادي من تلك المناظر مندوحة عن التطلع إلى أية بلاد أخرى، ولا غرور فإن الطبيعة لم تكن في بلد ما أسخى يداً ببديع المناظر وروائع المشاهد منها في أوطاني العزيزة. وناهيك ببحيراتها العظيمة كأنها مجارٍ من ذوب اللجين وجبالها الرافلة في وشي ألوانها الزاهية الشفافة ووديانها المفعمة نعمةً وخصباً وشلالاتها القاصفة في خلوات قيفارها. وسهولها المترامية الأطراف مواجةً بدوائب أغراسها الغامرة المتكاثفة وأنهارها العريضة العميقة منحدرةً في صمتها العميق إلى المحيط، وآجامها الوعرة المسلك غير المذللة ولا المطروقة مختالةً من نباتها الوحف الأثيث في مثل الوشى اليمانى. والديباج الخسرواني. رافلة في أقشب حلة وطيلسان. مزدانة بأجمل الحلي والتيجان. وسمائها الوهاجة بصقال السحب الصيفية ورونقها المعجب الفتان. وبنور الشمس المتبلج الأضحيان، ولا يزال الأمريكي غنياً بناظر بلاده عما سواها لا حاجة به إلى أن يلتمس في غير أوطانه جمال الطبيعة وجلالها:
ولكن ميزة آوروبا هي في اشتمالها على كنوز القصص والشعر والرواية فهنالك بدائع التصور ومحاسن آداب الطبقات العالية المهذبة وعجيب خصائص العادات القديمة والمحلية. فأوطاني ملأى بما يبشر بالمستقبل الحسن وآوروبا ملأى بذخائر العصور الخالية وودائع الدهور الغابرة فأطلالها البالية ورسومها العثية تحكي قصة الأزمان الماضية وكل حجر دائر إنما هو سجل أخبار. وصحيفة آثار. وشاهد عبرة وتذكار، ودليل موعظة وإنذار. ولذا تاقت نفسي إلى غشيان مشهد المآثر الجليلة والمساعي النبيلة. والمناقب الغراء والآلاء البيضاء والمفاخر المشهورة. والمكارم المشكورة. والمحامد المأثورة. وحن قلبي إلى أن أقفو آثار شبح الماضي واتتبع أصداء صوت القدم. لفد أحببت أن أجوس خلال القصور الخربة والرسوم التبة. واعتبر بسقوط الأبراج النشيدة. والقلاع الحصينة الموصدة. فاتجرد بذلك برهة عن الأحوال العادية الحالية وانطلق مخلوع العذار جامخ العنان في أودية الغابر الخيالية وشعاب الماضي المبهمة.
وكنت فوق ذلك مشغوفاً بأن أبصر أعاظم رجال الدنيا. لا أنكر أن لدينا عظمائنا بالقارة الأمريكية ولا بلدة إلا قد أوتيت نصيبها من العظماء. ولقد خالطهم حيناً ما فبهرتني(59/93)
أنوارهم وكسفتني شموسهم وأحرقتني لفحات شهبهم. إذ ليس أمحق للرجل الصغير من ظل العظمة الذي يسقط عليه من شخصية الرجل العظيم فيكاد يمحوه محواً، ولكني على الرغم من ذلك شغفت بأن أرى عظماء آوروبا إذ كنت قرأت في بعض مؤلافات الفلاسفة أن جميع الحيوانات ينحط نوعها وتفسد طبائعها في أمريكا وفي جملتها الإنسان، ينتج من ذلك أن العظيم الآوروبي يكون أسمى من العظيم الأمريكي بمقدار سمو جبل ألبى على ربوة من ربى هدسون ومصداق ذلك ما نراه من العظمة والأبهة النسبية لكثير من السياح الإنكليز بيننا بعد انحطاط مكانتهم وصغر أقدارهم في بلادهم الأصلية. لذلك قلت في نفسي لأزورن هذه القارة الآوربية معرض العجائب والغرائب فأُبصر ذلك الجنس القوي العظيمالذي أنا أحد ذريته الضعيفة المنحطة.
وكان من حسن حظي أو منم سوء حظي أن قضيت وطرى وحاجتي من ذلك التجوال والطواف. فلقد طوفت في آفاق شتى وشاهدت كثيراً من مناظر الحياة المتنقلة وصورها التحركة، ولا أقول أني درست هذه المناظر دراسة فيلسوف ولكن مثلي وإياها كمثل عاشق المناظر الغريبة إذ يتلوم على معارض الصور المختلفة بحوانيت المصورين ينتقل من واحد إلى آخر فتارة تستهويه صورة غادة حسناء وتارة مقابح صورة شوهاء، وآناً محاسن منظر طبيعي، وكما من عادة السياح اليوم أن يحملوا ريشة التصوير أثناء رحلاتهم فيعودون إلى أوطانهم مملوءة حقائبهم بالصور والرسومات فلقد عزمت أن أصنع بضع صور اتحف بها صحبى وخلاني، بيد أني اذا أملت ما قد أعددت لهذا الغرض من الخطرات والمذكرات ساءني وأحزنني أن تكون أميالي وأهوائي العابثة قد صرفتني عما يعمد إليه السائح الرشيد من شريف المقاصد والأغراض حينما يريد أن يؤلف كتاباً. وإني لأخشى أن يبوء كتابي من الخيبة والخسران بمثل ما يبوء به تصوير المصور الذي يسيح في القارة الأوربية فلا تحدوه أمياله الشاذة وأهواؤه الشاردة إلا إلى تصوير الأركان الخفية والزوايا المستترة والأماكن الغامضة، فمصوره يجيئ بناء على ذلك غاصاً بالأكواخ والمناظر الخلوية والدمن والأطلال المجهولة الخفية ولكنه خلو من صورة كنيسة القديس بطرس أو تياترو الكولوسيوم أو شلال (ترنى) أو خليج نابلي ولا يرى به واحدة من نهر ثلجي أو بركان.(59/94)
ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل
مقالة السوء إلى أهله ... أسرع من منحدر سائل
لم أجد كثرة الأخلاء إلا ... تعب النفس في قضاء الحقوق
فاصرف الناس عن كثير من الن ... اس فما كل من ترى صديق
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه(59/95)
رواية تاجر البندقية فينسيا
تأليف وليم شاكسبير
أشخاص الرواية
دوق البندقية
برنس مراكش: من خطاب بورشيا
برنس آرجون: من خطاب بورشيا
أنتونيو: تاجر من تجار البندقية
باسانيو: صديقه وأحد خطاب (بورشيا)
سالانيو: من أصدقاء أنتونيو وباسانيو
سالارينو: من أصدقاء أنتونيو وباسانيو
جراشيانو: من أصدقاء أنتونيو وباسانيو
ساليريو: من أصدقاء أنتونيو وباسانيو
لورنزو: عاشق (ياسيكا) بورشيا: وارثة غنية
شيلوك: يهودي غني نيريسا: وصيفتها
تيوبال: يهودي صديق شيلوك ياسيكا: إبنة شيلوك
لانسيلو جوبو: مضحك وخادم شيلوك
جوبو الكبير: والد لانسيلو
ليوناردو: خادم باسانيو
بالساذار: خادم لبورشيا
ستيفانو: خادم لبورشيا
وجهاء البندقية: قضاة المحكمة، سجان، خدام بورشيا، خدام وأتباع
الفصل الأول
المنظر الأول - فينسيا. شارع
(يدخل أنتونيو وسالارينو وسالانيو)
انتونيو - حقاً يا خليليّ لا أدري ما هذا الكمد الذي يمضني ويكربني. ولا أعرف له من(59/96)
سبب ولا علة. ولا أدري كيف صادفته وكيف لقيته، وإني عثرت به وأصبته. كما لا أدري مما تألف وتكون، ولا من أي شىء نشأ وتولد.
ولقد شرد الحزن من لبي وأضاع من صوابي حتى أصبحت لا أكاد أتعرف نفسي وأتبين حقيقة حالي وأمري إلا بالتعب الشديد والجهد الجهيد.
سالارينو - إن ذهنك على لج البحر يطفو به الموج ويرسب. ويموج به العياب ويتقلب. هناك سفنك الضخمة ذات الشراع الفخمة تختال على الماء كالسراة والاعيان. ونتيه كذوى اليسار من التجار على غوارب الطوفان. وتبدو لروعة جمالها ولبهة جلالها وكأنها أعلاق آليم ونفائسة. وأعراس البحر وعرائسه، فهى تعلوه المراكب الصغيرة وتشرف على السفن الحقيرة التى تنحني لها تجلة وتركع لها إكبارا بينما سفائنك الجسام تمر بها مر السحاب طيارة بأجنحتها المنسوجة.
سالانيو - لامراء يا سيدي - والله لو كنت خاطرت في التحلر بمثل ثروتك لهف قلبي على أجنحة آمالي في اثر أموالي تلهفا وحنينا، ولطارت عواطف نفسي ترفرف على صدر المحيط حول سفائني المشحونة - اذن لما برحت اقتلع الاعشاب انصبها بمخترق الرياح لأعرف من أين مهبها - وانظر في المصورات الجغرافية استقري مواقع الثغور والمواني والمراسي. ولكل شيئ خشيت من ناحيته العطب على بضاعتي كان بلا شك جديرا ان يثير حزني ويبعث لوعتي وشجني.
سالارينو - أنا والله لو أصبحت بمثل حالك لرحت حليف القلق والرعب أليف الخوف والذعر خليقا أن أفزع وأرتاع لكل ما يشبه ثورة البحار وزخرة التيار. فتنفسي في حسائي لتبريد سخونته حري أن يصيبني برغدة النافض كلما ذكرت عظم ما تحدثه الأعاصير في البحر من الشر والبلاء. وكلما رأيت الساعة الرملية تجري بمقدار. ذكرت الرواسب الرملية في لج البحار. وخيل إلي أن سفينتي المثرية قد نشبت في الرمال وقد طامنت دقلها وطأطأت من أشرافه حتى انخفض عن جانبيها وهوى ليلثم مصرعه. وكلما ذهبت إلى الكنيسة فرأيت بنائها الفخم المشيد ذكرت الصخور الوعرة الخطرة وأوجست خيفة أن تحطم سفينتي الهشة الملامس، الغضة المكاسر، الضعيفة الأسر الواهية القوة، إن هي مستها وأشفقت والله على بضاعتي الثمينة من التوابل أن تذروها كف النكباء. على بساط(59/97)
الماء. وعلى حرائري النفيسة أن توشح بها أيدي العواصف. اعطاف الأمواج القواصف. فبينا انا الغني الموسور إذا بي الفقير المعسر وبيننا تراني رب القناطير. ثم لا يعرضلي الحزن والأسى؟ فلا تعدون الحقيقة ولا تخطئن وجه الصواب، وذرني من المزاعم الباطلة فأنا أعلم يقينا أنه لا علة لاكتئاب انتونيو سوى تفكيره في أمر تجارته.
انتونيو: كلا يا خليلي. فأني والمحمد لله ليست بضائعي وقفا على سفينة واحدة ولا مقصورة على مكان واحد وليس مدار ثروتي على تجرة هذاالعام ولا قوام مالي ونظام حالي رهنا بصفقة هذا الموسم. ولذلك لا يأتني الحزن من ناحية تجارتي البتة
سالارينو - فلعلك إذن عاشق
انتونيو ـويحك!
سالارينو ـو لا عاشق؟ فلنقل إذن أنت حزين لأنك لست فرحا. وقد كان من السهل عليك أيضاً لو أنك طفقت تضحك وتثب وتقول أنك فرح لأنك لست حزينا. أما والاله جانوس ذي الهامتين لقد أبدعت الطبيعة في تصوير هذا العالم وأغربت فجاءت بخلق عجيب مدهش، فمن أناس لا يزالون يضيقون أعينهم ضحكا تنظر إليك أحداقهم من خلال أجفانهم المزرورة ولا ينفكون يضحكون حتى لرؤية زمار حماقة وسخفا، كما يضحك الببغاء من كل شئ وأي شيئ. ومن أناس في طباعهم مرارة وفي أخلاقهم حموضة وحرافة لا يبدون النواجذ ابتساما لسماع الملحة النادرة والفكاهة الغريبة ولو أقسمنستور شيخ الوقار والجد أنها مضحكة.
سالانيو - ها هو ذا باسانيو قريبك الا مجد وهاك جراشيانو ولورنزو. فسلام عليك، سندعك الآن إلى من هو أمتع منا أنسا وأعذب حديثا وألذ مجلسا سالارينو - لقد كان بودي أن أبقى معك حتى أدخل عليك السرور والفرح لو لم يسبقني إلى ذلك من هم أعز وأكرم.
أنتونيو - انك لتنزل من نفسي بأخص مكانة وأكرم منزلة ولكن الذي أراه أن دواعي عملك تدعوك إلى الانصراف وقد رأيت الفرصة سنحت فلم تشأ أن تضيعها.
يدخل باساني وولورنزو وجراشيانو.
سالارينو - أسعد الله صباحكم يا سادتي.(59/98)
باسانيو - أيها السيدان متى نضحك وننعم بحسن المؤانسة والمجالسة. خبراني متى. لقد أصبحتما لبعد العهد بكما كأنكما غريبان. أفلا بد من هذا؟
سالارينو - سنجعل أوقات فراغنا تحت تصرفك.
ينصرف سالارينو وسالانيو.
لورنزو - سيدي باسانيو أما ولقد لقيت انتونيو فسندعك الآن. ولكن لا تنسى موعد لقائنا وقت الغداء
باسانيو - سأوافيكما هنالك.
جراشيانو - مالي أراك سيئ الحال. كاسف البال. انك لتعظم من أمر الدنيا حقيرا. وتجسم من شأنها صغيرا. إلا أن من بذل في طلب الدنيا الشيء الكثير من راحته وطمأنينته قلقا واهتماما كان جديرا أن يفقد طيب العيش فيبوء بالخيبة والخسران. لشد ما تغيرت يا سيدي.
انتونيو - لا أرى في الدنيا أكثر من قيمتها. وخلاف كنهها وماهيتها. يا جراشيانو - لا أرى سوى ملعب يمثل عليه كل فرد دورا ودوري هنالك جدي خطير.
جراشيانو - دعني ألعب دور الهزل والمجون - أنفق عمرك في اللهو، واقض باللعب أيامك وأركض أفراس الصبا في ميادين الباطل حتى تبلغ مدى الهرم على سوابق المزاح وحتى تشيب شواتك وتقوس قناتك وتتخذ كدنتك وتتجمد أسرتك في الضحك والطرب. ولخير لي أن تستعر حميا الشراب في هامتي من أن تخمد الزفرات القتالة جمرة الحياة في مهجتي. ومالي أرى الرجل الذي يغلى في جوفه ماء الشباب يقرر رزينا ثقيلا ويطرق واجما لا حراك به كأنه تمثال جده صيغ من جبس. أوكأنه صنم قدّ من صخرة جلس. ينام إذا استيقظ ويضني نفسه كمداً حتى تأخذه الصفراء من فرط شجنه. أي انتونيو - أنى أحبك وان حبي هو الذي يتكلم فاعلم إن هنالك صنفا من الناس يكسون وجوههم نقابا من الجد والوقار ثابتا لا يتحول كالطحلب الذي يعلو صدر الماء الآسن فأولئك يلزمون الصمت والرزانة تصنعا ورياء ليخدعوا الناس عن حقيقة أمرهم ويوهموهم أنهم على جانب عظيم من العقل والحجا والدهاء والأناة والحلم والوقار كمن يحاول أن يقول للناس (ها أنا ذا كم البصير الحكيم علام الغيوب. المطلع على سرائر القلوب. فإذا نطقت فالألسنة كلها مفحمة.(59/99)
وإذا خطبت فالأفواه من هيبة وإعظام ملجمة. أجل يا انتونيو إني أعرف من الناس من اشتهروا العقل والحكمة لغير سبب سوى التزامهم الصمت في المجالس. وفي اعتقادي أنهم لو تكلموا لأصموا الآذان بسخافة أقوالهم حتى يضطر سامعوهم إلى رميهم بالسفه والحماقة. وسأحادثك في هذا الشأن مرة أخرى. ولكن حذار أن تتلمس هذه الشهرة الباطلة - شهرة الحكمة والحجى - بتلك الوسيلة الكاذبة - وسيلة الصمت والإطراق فإنها شر واسطة إلى شر غاية وأخس شرك ينصب لأخس صيد هلم بنا يا لورنزو وسلام عليكم إلى حين. وسأكمل نصيحتي بعد الغداء.
لورنزو - فلندعك إذن إلى ما بعد الغداء. لأكونن أحد هؤلاء العقلاء البكم، ولا غرو فإن جراشيانو لا يدعني أنطق البتة.
جراشيانو - لازمني عامين منذ اليوم فإنك تصبح لطول صمتك لا تكاد تعرف صوت لسانك.
أنتونيو - سلام عليك. سأروض نفسي مذ الآن على الإفاضة في الكلام.
جراشيانو - شكرا لك فالصمت لا يحمد إلا في لسان ثور قديد.
(ينصرف جراشيانو ولورنزو)
أنتونيو - ناشدتك الله هل تجدن لهذا الكلام معنى؟
باسانيو - إن جراشيانو أكثر أهل فينيسيا لغوا وهراء وهذرا فكلامه كحبتين من القمح مخبوءتين في مكيالين من نخالة تبحث عنهما طوال اليوم حتى تصيبهما فإذا أصبتهما وجدتهما لا تستحقان بحثك وتنقيبك.
أنتونيو - دعنا من هذا ونبئني من تلك السيدة التي عزمت أن ترحل إليها سرا في أمر وعدتني شرحه وبيانه.
باسانيو - لا يخفى عليك يا أنتونيو أني طالما أسرفت في النفقة تحيفا من ثروتي لأكتسي من أبهة الترف ومظاهر النعمة ما تقعد بي رقة حالي عن التمادي فيه والاستمرار عليه، وما أنا اليوم بآسف أن تلجئني الضرورة إلى أن أحذف من عيشة التبذير التي أعيشها كل هذه الفضول والحواشي. إنما همي الوحيد هو التماس أشرف وسيلة للتخلص مما ورطني فيه السرف والتبذير من ديوني الفادحة. وإنك يا أنتونيو ما زلت أجود الناس علي بالحب(59/100)
والوداد. وبالطارف من المال والثلاد. وكفى بحبك إياي باعثا لي على أن أسر إليك كل ما قد دبرته من الحيل والوسائل ابتغاء الخلاص مما قد ركبني من الدين.
أنتونيو - ناشدتك الله يا صديقي باسانيو إلا ما خبرتني بتلك الحيل والوسائل ولعمري لئن كانت تنزل من الشرف والنزاهة بمثل منزلتك التي لا تزال تحلها لأجعان خزائني وشخصي وآخر ما أملك وأدخر وقفا على أدنى حاجتك وأيسر بغيتك.
باسانيو - لقد كنت أيام التلمذة إذا أخطأ مني سهم أتبعته بنظيره قوة ونفاذا في وجه السهم الأول مبالغا في تسديده لأصيب به ما أخطأ الأول. وكذلك كنت بأخطار السهمين أرمي الهدفين وأصمي الغرضين وأحرز الصيد ين. ولقد ضربت لك هذا المثل من بين حوادث طفولتي لأن ما يتبعه من المقال هومحض حماقة طفولية وسخافة صبيانية. فأنا مدين لك بالجم الكثير وإني لشدة خرقي وفرط جهالتي وسفهي قد أضعت كل ما أقرضتنيه. ولكن إذا قضت مشيئتك الآن أن تصوب سهما ثانيا حيث كنت صوبت الأول فأنا الضمين لك بحسن حيطتي وعنايتي أن أصيبك الغرضين وأنيلك الوطرين أو أرد لك قرضك الأخير موفورا صحيحا وأبقى شاكرا لك صنيعك الأول.
أنتونيو - ما بالك وأنت تعرف فرط حبي وإخلاصي تتحايل كل هذا التحايل وتسلك كل هذه المسالك الملتوية المتعرجة في سبيل طلبك إلى ما تريده مني فأنت بارتيابك في سرعة إسعافي إياك وظني أني استطيع أن أدخر عنك أقصى طاقتي ومجهودي تلحق بي من الظلم والإساءة أضعاف ما كنت تنالني به لو أنك بددت كل ثروتي، فمرني ماذا أفعل يكن ذلك علي حتما مقضيا. نبئني بما عندك.
باسانيو - إن في بلدة (بلمون) سيدة غنية ذات ميراث عظيم وهي جميلة وفوق الجميلة لما ازدانت به من حلية الأدب والعقل. وتاج الكمال والفضل. وربما خالستني ألحاظها برسائل حب صامتة. وكتب أشواق خافتة. واسمها (بورشيا) ولا أراها تقل درجة عن بورشيا ابنة (كاتو) وزوجة (بروتاس) وما أمرها بخاف على أهل المشرق والمغرب، فالخطاب من مشاهير العظماء يأتونها من مهاب الرياح الأربع وغدائرها الذهبية تتهدل على سالفتيها (كالجزة الذهبية) مما صير بلدها (بلمون) في منزلة (كولكوس) الأثرية، وأغرى بالتزلف إليها والتماس ودها الأبطال المغاوير أمثال (أيسون) في غابر الأساطير، فلوكان لي من(59/101)
المال يا صديقي أنتونيو ما يمكنني من مناظرتهم ومنافستهم لوثقت بالنجاح والظفر - هكذا يحدثني قلبي وينبئني ضميري.
أنتونيو - أنت تعرف أن أموالي كلها في البحار فلا أملك اليوم من النقد ولا من المتاع ما يمكنني من اقتراض المال. فامض لتوك وساعتك فانظر ماذا تستطيع أن تصل إليه بفضل ما لي من ثقة في مدينة فينسيا فلا تستنفذن أقصى هذه الثقة في اقتراض ما أزودك به إلى بلمون لزيارة الحسناء بورشيا. فاذهب الآن فابحث عن مظنة المال ومكانه فلن أتردد البتة في إحرازه لك سواء بواسطة مركزي ومكانتي أم بفضل حرمتي وكرامتي. ينصرفان -
لا يستخفن الفتى بعدوه ... أبدا وإن كان العدو ضئيلا
إن القذى يؤذي العيون قليله ... ولرب ما جرح البعوض الفيلا
إذا ازدرى ساقط كريم ... فلا يطولن ضيق صدره
فأكثر الناس منذ كانوا ... ما قدروا الله حق قدره(59/102)
اللورد كرزون
للمستر جاردنر مدير (الديلي نيوز) كلمات في وصف رجالات الانكليز وتصويرهم تصويرا دقيقا بريئا من أبدع ما وصف الواصفون ونحن هنا ننتقل لقرائنا ما كتبه على اللورد كرزون وزير خارجية انكلترا - قال الكاتب.
كان يمكن أن يكون اللورد كرزون من عظماء الرجال لو أنه استطاع أن ينسى أحيانا قليلة اللورد كرزون! أن الصحة لا تشعر بنفسها. ولا يلتفت الإنسان إلى جسمه إلا إذا أحس بالمرض. وكذلك الذهن القوي السليم ينسى نفسه. ولكن اللورد كرزون لم يتذوق قط هذه الصحة. بل هو يعيش في بيت من مرايا. وأين ما تلفت أو تنقل وجد أمامه خياله الوضاح البراق. أفما كانت أكسفورد إلا مشرقا لطلعة سحرية واحدة. وما كان البرلمان إلا مسرحا للمثل واحد لا يجارى. وما كانت الهند إلا ملعبا لأرستقراطي باذخ المقام عظيم الأبهة جليل الخطر.
يقول المستر تشسترتون في إحدى حكمه الظريفة أنه يجب على الإنسان أن يكون قادرا على الضحك من نفسه والسخرية بها والتسلي بسخافاته. ولا ريب أن هذا معيار بديع لقوة الذهن. فلا ينبغي أن يرى الإنسان نفسه بطلا ولكن رجلا عاديا ذا فضائل غريبة تحمل على الإعجاب وحماقات أغرب تحمل على الضحك والاستهزاء. ولكن اللورد كرزون لم يضحك من نفسه قط ولكنه دائم الإعجاب بها. ومن هذه الناحية الجافة من الرجل الخالية من النقد والسخرية بالعيوب صدرت جميع الغلطات التي تخللت حياته.
وكذلك كانت قيصريته المزهوة هذه سببا في جميع غلطاته وهو حاكم الهند فهي السبب في تلك المجازفة في سهول التبت بلا داع ولا نتيجة سوى حب الظهور والإعلان عن النفس وإسالة الدماء البريئة المسالمة وإرهاق الفلاح الهندي المسكين بالضرائب الجديدة. وهي السبب في تقسيم البنغال على النحو الذي حدث والذي أشعل في الهند ناراً لن تخبو. لقد كانت سياسة التحدي غلتي اتبعها هناك هي موقد الحركة الوطنية. فاللورد كرزون هو خالق (الهند الجديدة)
وما يؤثر عن غلطاته الشنيعة في الهند أنه ذهب يوماً ليلقي خطاباً على طلبة جامعة كنكتا. أي على خلاصة الشبيبة الهندية المتعلمة الراقية. فلم يمنعه ذلك من أن يقول أن الصدق فضيلة الأمم الغربية وأما الشرقيون فكذابون متملقون! وارتجت الهند لهذه الإهانة. وكادت(59/103)
تسوء العاقبة أولا أن هنديا قوى الذاكرة اقتطف قطعة من كتاب للورد كرزون عنوانه (مسائل الشرق الأقصى) ونشرها بجانب الخطبة المهينة. وهذه هي القطعة التي يحدث فيها اللورد عن نفسه.
(قبل أن أتشرف بالمثول بين يدي جلالة ملك كوريا أوصيت بأتن لا أذكر له عمري الحقيقي وهو ثلاثة وثلاثون فقط لأن ذلك يؤدي إلى عدم احترامي عنده. فلماذا ذهبت وسألني أول ما سألني أول ما سأل كعادة الشرقيين كم عمرك؟ أجبته بلا تردد: أربعون. فدهش وأجابني: ولكن يظهر عليك أنك أصغر من ذلك: فأجبته: لأنه قد مضى على شهر وأنا أتمتع بالسياحة في هواء مملكتكم البديعة!!
وما كادت الهند تقرأ هذا حتى اهتزت ضحكاً وكادت تنسى الإهانة في سبيل الفكاهة!(59/104)
دي فاليرا والمفاوضات الإرلندية
تدور الآن بين المستر لويد جورج ورئيس الجمهورية الايرلندية مستر دي فاليرا أكبر مفاوضات في تاريخ الإمبراطورية البريطانية بعد أن وقع كلا الفريقين عقد الهدنة فسافر الضباط الانجليز بالإجازة من أرلندا وكف جيش الجمهورية وأعوان الشن فين عن مهاجمة الوحدات الانجليزية وقد اشتغلت الجرائد الانجليزية بل وجرائد العالم اجمع بالكتابة في هذه المفاوضات وما ينتظر منها وقد رأينا أن ننشر صورة الزعيم الإرلندي بعد أن سبق أن نشرنا في أعداد البيان الماضية كلمات كثيرة عن الحركة الإرلندية وحزب الشن فين
ونحن وإن كنا لا نجاري معظم الجرائد الإنجليزية في تفاؤلها بنتيجة المفاوضات إلا أنه لا يسعنا إلا الإعجاب بحسن سياسة الإنجليز الذين قدموا الآن أيديهم لمصافحة (سفاكي الدماء) الذين طالما صرح رئيس الوزراء ومعه الشعب البريطاني أنه لن يضع يده في أيديهم.
ومما قالته مجلة النيشن أخيراً أنه ما دام الجنرال سمطس قد وضع يده في المحراث فهولن يتركه إلا إذا تعذر الاتفاق تعذراً تاماً من جانب الإرلنديين أو ظهر سوء النية من جانب الإنجليز. والمعروف الآن أن المستر لويد جورج أصبح يعتقد بضرورة السلم بل أنه لشديد الحماسة في الوصول إليه. أما مسيو دي فاليرا فيصفونه بالدقة وحسن التصرف. ومما يمتاز به من الصفات النادرة في أخلاق الزعماء. الشجاعة والأمانة، ويقول المطلعون على المفاوضات أنه يديرها بحنكة وتعقب ويشعر بثقل المسؤولية في الفشل.
يقول النظام الذهب لئيم، لأن الشيء ينجذب إلى شكله، والذهب عند اللثام أكثر منه عند الكرام. ومن كلامهم: المسيء لا يظن بالناس الأسوأ لأنه يراهم بعين طبعه: ز في هذا المعنى يقول المتنبي
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
ومن كلامهم: من دلائل العجز كثرة الإحالة على المقادير ومنه: استصلاح العدو أحزم من استهلاكه لأن استهلاكه ربما هيج أعظم من العداوة التي تستريح منها. ومنه: من طباع الملوك إنكارهم القبيح من غيرهم واحتماله إياه من أنفسهم. ومنه: لا تثق بمودة الملوك فإنهم يوحشونك من أنفسهم آنس ما كنت منهم. ومنه: انحطاط ألف من العلية أحمد عاقبة من ارتفاع واحد من السفلة. ومنه: من عمل ما يجب لقي ما يكره. . .(59/105)
أمير كتسنه في ضيافة لندن
يقيم الآن في إحدى فنادق لندن أمير إفريقي مسلم من نيجيريا ومعه زوجتاه وأولاده وخدمه، ويقال أنه سيمر بمصر قريبا قاصدا إلى مكة المكرمة. وقد كان لزيارة هذا الأمير وقع غريب في لندن لمحافظته على عادات بلاده واحتجاب زوجتيه في غرف الفندق وسذاجة وصفه وحاشيته وللأشياء التي يرونها. وقد تقاطر ألوف لمشاهدة هذا الأمير وحاشيته وكتبت عنه الجرائد الإنجليزية كثيرا فرأينا أن تقتطف شيئاً من أقوالها ولاسيما لما يتوقع من زيارته لنا ولصلته الإفريقية بنا. (مما يؤثران الأمير وحاشيته يرون لندن شديدة البرد (في يوليه) حتى اضطر بعضهم أن يشتري معاطف صوف. وقد راقهم مناخ منشستر، ولاحظ الأمير أن النهار هناك طويل بهيج. ومما أدهشه شرطة الشوارع في منشستر قال (إن إيقاف حركة شارع بأجمعه بإشارة من يدي شرطي أمر مدهش خارق، ولا شك أن شرطيكم له أربعة عيون) وقد شملهم الخوف جميعا عندما زاروا مخازن كروسلى للسيارات وتكلم أحد أولاد الأمير مع أبيه من غرفة أخرى بواسطة جهاز مخصوص. ولم يفهم بعض رجال الحاشية كيف أن السيارات تمر ببعضها وهي مسرعة في السير دون أن تصطدم!
ولم تشترك زوجتا الأمير معه في نزهاته وزياراته بل احتجبتا في غرف الفندق ولم يكن يراهما أحد سوى الأمير. وقد احتالت محررة في الديلي إكسبريس حتى تمكنت من مقابلتهما فقالت: دخلت فوجدت زوجتي الأمير منكمشتين في ركن بعيد في غرفة واسعة وقد وقفت أمامهما خادمة سمينة ضخمة الجسم قوية العضلات تكاد تحجبهما بجسمها عن الأنظار. وقد ظهر القلق والارتباك على زوجتي الأمير من هذه الزيارة الطارئة غير المألوفة لها. فأخذتا تنكمشان وتقتربان من بعضهما والخادمة ترمقني بعينين سوداوين براقتين. وكانت الأميرة معينة - أصغر الزوجين وأحبهما إلى الأمير - جالسة على أرض الغرفة متشحة بعباءة زرقاء كثيفة وعلى رأسها عمامة مختلفة الألوان. وعند اقترابي منها التصقت أكثر من قبل بزوجة الأمير الثانية ملكة، وكانت تلبس مثل ثيابها وجالسة على مقعد بشكل يدل تماما على أنها لم تتعود الجلوس عليه من قبل!
ولما عرفتهما بنفسي وسب بزيارتي هزت الخادمة أقراطها وحليها وأوسعت لي الطريق إلى رؤية وديعتيها. وكانت معينة في الثانية والعشرين من عمرها ذات وجه أسمر مستدير وعينين سوداوين كبيرتين وهي من أجمل بنات القبيلة. أما ملكة فكانت تبلغ السادسة(59/106)
والعشرين وفي عينيها الساجيتين الناعستين أحلام. وقد لفتتها قبعتي الحمراء وحقيبتي. ولكنهما على ما قالا يفضلان عمامتيهما ويعدان أزياءنا غريبة غبر متسقة. وهما يقضيان نهارهما منكمشتين في ركن الغرفة ولا عمل لهما سوى الحديث عن القبيلة. ويصليان الأوقات الخمسة. ولما سألتهما عما إذا كانا يعملان عملا آخر أجابتني معينة أنهما يجدان غاية السرور في تأمل وجهيهما في المرآة ووضع الخطوط والكحل. وقد حدثتني ملكة عن الفرق العظيم بين أثاث الفندق الفخم وبين أكواخهما. وكيف أنها فزعت مرة من ضوضاء الحركة في الشارع إذ نظرت خلال الشباك. وكان دهشهما عظيما عند حضورهما التمثيل في إحدى المقصورات!(59/107)
شيء عن الوهابيين
كتبت جريدة الإجبشيان ميل ما يأتي: ذكر المستر تشرشل أخيرا في مجلس العموم أنهم يدفعون إعانة قدرها 60000 جنيه إلى قبيلة عربية قوية هي قبيلة الوهابيين وذلك خوفا من أن تهاجم الأمير فيصل أوغيره من العرب المحالفين.
وكتبت أيضاً تقول: إن بعض العارفين بالوهابين لا يرى أن مبلغ 60000 جنيه كثير في سبيل اكتساب صداقة مثل هؤلاء القوم المشهرين بالعنف والصرامة ومما يروى عن تأديب هؤلاء الوهابيين لزوجاتهم أنهم يضعونهن في غرائر يحكمون ربطها يضربونهن ضربا مبرحا أليما أليما، ويتزوج كل وهابي ثلاث نسوة ويحق له أن يقتل كل من تخطو منهن خطوة واحدة خارج عتبة الدار. ويعد الوهابيون جريمة لبس الثياب الغالية أو الأحجار الكريمة أو المعادن النفيسة. لأنهم يعدون هذا إسرافا وخروجا عن التقى. أما عقاب من يدخن سيجارة واحدة فالقتل. وإذا خرج أحد الوهابيين من قريته وصادف أو رأى في طريقه غرباء وجب عليه عند رجوعه أن يغتسل ويغير ثيابه قبل أن قريته أو بيته. والوهابيون قوم متصفون بالرجولة والصرامة بقدر ما هم عليه من الشجاعة وحب القتال.(59/108)
اعتصاب غلمان القهاوى في اليوجوسلاف
من ظريف الحوادث التي وقعنا على أنباءها في الصحف والمجلات. نبأ ذلك الإعتصاب الذي حدث في مدينة زغرب من مدائن ولاية (اليوجوسلافيا) التي استقلت بعد هذه الحرب وهو اعتصاب (الجرسونات) وغلمان الحانات عن العمل. رافضين الرجوع إلى أماكنهم في القهوات ومشارب الحانات إلا إذا أجابهم أصحابها إلى مطالبهم. وذلك أن الجرسونات في تلك المحال لا تتقاضى أجوراً البتة. بل ترتكن على ما تتناوله من الزبائن والمترددين عليها من (البخشيش) كما هي العادة في كثير من مدائن الغرب كباريس وغيرها. وقد ظلوا مصرين على مطالبهم. لا يزحزحهم عنها شيء. حتى نالوا بغيتهم. واتفق أصحاب الحانات على إعطائهم أجوراً طيبة. وقدروا للغلام أو الخادم الواحد أربعة آلاف كرونة (في الشهر) وذلك مقابل إلغاء النفحات أو (أعطية الجمهور) ويرتقب أصحاب الحانات أن يسدوا هذه النفقات ويستعيضوها مما يزيدوه على أثمان المشروبات والمرطبات التي ينعم بها الزبائن. والفضل في انتصار الجرسونات على سادات القهوات يرجع إلى حيلة خبيثة احتالها أصدقاء الجرسونات وأشياعهم من الاشتراكيين، إذ يجتمعون فرقا عظيمة، ويحتشدون حشدا كبيرا ويؤمون القهوات فيشغلون أكثر مقاعد المكان ويشعلن لفائفهم ويضحكون ويمزحون وينادونا على صاحب المحل، فيطلبون أقداحا من الماء القراح فقط وهؤلاء الجموع تتألف من الفتيان والأحداث الذين يقبلون على كل عمل فرح يتخلله الطيش والمزاح وقد وجدوا في هذه الطريقة نوعاً من اللهو، ومزجة من الأمازيج التي تروقهم ولكن فيهم رؤساء لا يريدون بها لهوا. ولا يقصدون مزاحا. وإنما يريدون أن يحاربوا بهذه الوسيلة أصحاب المحال الجشعين أهل الأطماع الدنيئة. ومنهم كثيرون يقفون فوق المقاعد ويخطبون في فضل الاشتراكية ورذيلة الامتلاك وجشع أصحاب رؤوس الأموال. والجمهور لا يفزع من هذه الحوادث بل يرى فيها لهوا له لا بأس عليه منه. ولكن تصور غضب أصحاب الحانات وسخطهم وآلامهم من هذه الآفة التي أفسدت عليهم أرباحهم. وقد انتهى الأمر بهم إلى أن سلموا للجرسونات. فعاد الجرسونات إلى أعمالهم راضين فرحين بالنصر والفوز. .(59/109)
الصور المشؤومة
للروائي الروسي نيقولايف جوجول
كذلك ناجى نفسه في خلوته وعقله رائده وسديد رأيه حاديه وقائده.
ولكن صاح من أعماق نفسه صوتا آخر أشد وأعلى - هو صوت الشباب الملتهب، ولا عجب إذا قلنا أن نار شبابه المحتدم وسنه الصغير التي لم تتجاوز اثنتين وعشرين أوحيتا إليه وحيا آخر مخالفا لما أوحى به عقله وحكمته، وسلكتا طريقة مغايرة من البرهان والحجة. أجل فقد أصبح الآن يملك مفتاح ألف باب من اللذة كانت قبل ساعة مغلقة كلها في وجهه. لقد أصبح بمتناول كفه ألف ملحة وتحفة وألف مطربة ومنعمة وألف ملهاة ومسلاة، كان قبل الآن يتطلع إليها لهفا وتتساقط عليها نفسه حسرة وكمدا ويحن إليها شوقا. ويذوب تمنيا وتوقا. لقد أوتي قوة هائلة وسلطانا عظيما. وكلما تذكر هذا خفق قلبه طربا! أي لذة ومتاع في لبس حلة قشيبة من آخر طراز! أي لذة ومتاع في إشباع نهمته من أطيب المطاعم وري غلته من أرطب المشارب بعد طول الجوع والعطش أي لذة ومتاع في استئجار منزل أنيق وفي الذهاب إلى المسارح والمراقص والمغاني وسائر المطارب والملاهي. أي لذة في غشيان دكان الحلواني والفكهاني والكنفاني والزلباني وهلم جرا - وهنا اختطف الفتى قرطاسه الذهبي ووثب إلى الشارع.
وكان أول ما ذهب إلى الخياط فاكتسى جديدا من رأسه إلى قدمه وشرع يتأمل نفسه كما يفعل الطفل ثم مشى مختالا في برذيه نظارا في عطفيه. وبعد ذلك ذهب إلى العطار فاشترى طيبا ومسكا وغالية. ثم مضى إلى الدلال فاستأجر منزلا بديعا مونقا مزدانا بالمرايا والنوافذ البلورية والأسقف المنقوشة بأعجب النقش والغرف المفروشة بأحسن الفرش - دون مساومة بالأجرة ولا مشادة ولا منازعة. ثم اشترى للتو واللحظة (نظارة أوبرا) بأغلى ثمن واشترى مائة (بمباغ) من كل شكل ولون ثم مضى إلى المزين فرجل له شعره ثم كواه ولواه. ثم استأجر مركبة فركبها وأمر السائق أن يجري به في شوارع المدينة بلا قصد ولا غاية كما يشاء ويهوى قائلا له لما سأله (أين يصد سيدي؟) (على كيفك) وبعد ذلك دخل دكان (فطاطر) فأكل هائلا. ثم دخل مطعما فرنسيا كان يسمع عنه أيام فقره روايات أشبه بالخرافات اليونانية القديمة وإشاعات غامضة مبهمة كالتي تروى عن بلاط إمبراطور(59/110)
الصين. فهناك تناول غداءه متبوئا أشرف منزلة في مكان ناثرا نظرات العظمة والكبرياء على كل من حوله ملتفتا إلى المرآة من حين لآخر يصلح فيها من هيئته وينضد من طرته وسوالفه. وهنالك شرب زجاجة من (الشمبانيا) - تلك التي يسمع عنها بالرواية فقط ولما خالطت رأسه الخندريس خرج من المكان ثملا يترنح مملوءا جذلا ومرحا. فسار في أنحاء المدينة مختالا يتبختر يصوب (نظارته) إلى كل من صادفه. وفي أثناء مسيره لقي أستاذه القديم فتعامى عنه زوايا وجهه وراغ منه فرارا حتى لقد حار الأستاذ في ذلك وبهت دهشة وجمد في مكانه برهة طويلة وقد ارتسمت على وجهه أمارة التعجب وعلامة الاستفهام.
وفي تلك الليلة ذاتها نقل إلى مسكنه الجديد كلما لديه من الأثاث ة الأمتعة والآلات والأدوات والصور والنقوش والألواح والريش والألوان. فصفى أحاسن ما عنده من الصور في مواضع ظاهرة بارزة ونبذ الأردأ الأخس في زوايا المكان ومخابئه وشرع يجول في أنحاء غرفه المؤنقة الجميلة جيئة وذهابا وإقبالا وإدبارا. دائم التأمل في المرايا. لقد ثارت في نفسه شهوة الظهور والإشهار وتوقدت فيه غلة إلى الصيت والذكر والفخار وطنت في أذنه صيحات تقول هذا شارتكوف! ألم تبصروا شارتكوف؟ هل يوجد في العالم من لم يسمع بصيت شارتكوف؟ ما أبرع شارتكوف! ما أسرع شارتكوف ما أروع شارتكوف أي مصور يبلغ عشر معشار شارتكوف) لقد جعل - وهذه الصيحات المفرحة تدوي في أذنيه - يجول أنحاء غرفه الجديدة بأقصى حالة من ذهول الفرح.
وفي اليوم التالي أخذ خمس ليرات ومضى إلى دار جريدة سيارة فقابل صاحبها وسأله الإعلان عنه فاحتفى به الصحفي أشد احتفاء وخاطبه (سيدي الأستاذ الأجل الأعظم!) واستفهم عن اسمه ومولده ومسكنه. وفي غد ذلك اليوم ظهر الإعلان الآتي عن المصور شارتكوف تحت إعلان عن (أجود صنف من زيوت لوكا والشمع الإسكندراني (والعسل النحل) وهذا نص الإعلان.(59/111)
العبقري العظيم شارتكوف
(نزف إلى عشاق الفن من علية القوم وصفوة المهذبين وأحسن البشر وذلك هوظهور نابغة عظيم في فن التصوير كلنا يعرف أن بيننا وجوها حسانا فتانة ولكن لي بيننا من المصورين من هوكفيل بفضل عبقريته ونبوغه أن يخلد جمال هذه الوجوه على ألواح التصوير ليمتع بها أحفادنا وذريتنا على مدى الأزمان كما نتمتع بها نحن الآن. ولقد شاء الله أن يجبر هذا الفقر ويسد هذه الحاجة فأرسل إلينا مصورا نابغة قد اكتملت فيه مزايا المصور البارع وصفاته فلتفرح اليوم كل غانية مليحة ولينعم بالها ولينشرح صدرها ولتأمن على محاسنها من الزوال وعلى ملاحاتها من الفناء ولتعلم أنه يوجد اليوم من هوقادر على نقلها إلى اللوحة بحذافيرها وجملتها غير مشوهة ولا مبتورة ولا منقوصة ولا مسلوبا منها أدنى ذرة من حسن وحلاوتها - بل ستبدوعلى اللوحة رافلة في أبهج حلل ملاحتها وبهجتها فتانة الشكل مأنوسة الظرف معشوقة الدل خلابة الأنس رشيقة القد وثابة كاليعسوب بين أزاهر الربيع.
وكذلك رب الأسرة يستطيع بفضل هذا النابغة أن يرى نفسه محفوفا بأسرته وأولاده. فيا أيها الناس على اختلاف درجاتكم وطبقاتكم وحرفكم ومهنكم اهرعوا جميعا كيفما وأينما كنتم إلى أمير الصناعة وسلطان الفن! اهرعوا إلى (متحفه البديع بشارع. . . عطفة. . . نمرة. .) تجدوا هنالك من ثمرة ريشته ما يزري بنفائس الفحلين (تيتان) و (فانديك) ولا يقل عن بدائع الساحرين (روفائيل) و (ليونارد) و (أفنسي) فوالله لقد أصبحنا لا ندري أي محاسن الأستاذ شارتكوف أحق بإعجابنا وأولى! دقة الصنع والمطابقة للأصل أوبهاء الرونق ووضاءة الطلاوة والمائية وإشراق الديباج أوبهجة الصبغة وحسن التلوين. رعاك الله أيها النابغة وحرسك وحماك. لقد ربحت صفقتك وفاز سهمك وقد هبت ريحك وثقب نجمك. فليعش شارتكوف!)
ولما قرأ المصور ذلك المقال في الجريدة امتلأ طربا وانتفخ زهوا وعجبا وبرقت أسرته. وأشرقت صفحته. لقد ذكره على صفحات الجرائد السيارة وهذا أمر جديد عليه. لقد تلا تلك الأسطر مرارا وتكرارا وأمتع ما في الأمر مقارنته بفحول الصناعة: (تيتان وفانديك وليونارد ودافنسي وروفائيل) فلقد هز ذلك من عطفه وزاد من تيهه وصلفه فانبرى يجوب أرجاء الغرفة جذلان مرحا فآنا يجلس على كرسي وآن يثب من مقعده فيدور كالنشوان في(59/112)
أكناف المكان وآنا ينطرح على أريكة وآنا على وسادة - وأثناء هذا كله يدبر في نفسه كيف يستقبل الزوار ويعامل الزبائن ذكورا وإناثا. ثم عمد إلى لوح التصوير وتناول الريشة فجر بها جرة سريعة على اللوح ليمرن يده على الخفة والرشاقة.
في غد ذلك اليوم دق عليه الباب. فأسرع إلى فتحه. ودخلت سيدة تصحبها فتاة في الثامنة عشر من العمر وهي ابنتها يتبعهما خادم في زي خدام الأمراء وقالت السيدة (أنت المصور شارتكوف؟)
فانحنى الفتى إجابة
قالت السيدة (لقد كتب عنك شيء كثير في الجرائد اليومية ويزعمون أن صورك هي الغاية القصوى في الصناعة وبأسمى درجة الكمال) ثم رفعت نظارتها إلى عينيها وأسرعت كرة الطرف في جدران المكان ولم يكن عليها البتة فقالت (ولكن أين الصور؟)
قال المصور بلهجة المرتبك المتحير (الصور آتية في الطريق لأني انتقلت بالأمس إلى هذا المكان. ولم أتمكن بعد من نقل جميع أمتعتي)
فصوبت السيدة نحونظارتها لما لم تجد شيئا سواه تحدق إليه وقالت (أظنك كنت في إيطاليا مهد الفن وكعبة الصناعة؟)
قال المصور (كلا لم أذهب إلى هنالك ولكني عازم على الذهاب يوما ما. هاك كرسيا يا سيدتي فتفضلي بالجلوس لأني أخالك متعبة)
قالت السيدة (شكرا لك! لست بمتعبة فلقد جلست طويلا بالمركبة ها هوتصويرك! لقد أبصرته أخيرا
وهنا أسرعت السيدة إلى الحائط المقابل وصوبت نظارتها إلى صوره ورسومه ومناظره ونقوشه وكانت كلها قائمة على أرض الغرفة مسندة إلى الجدار (يا الله ما أعجب وما أغرب وما أفتن وما أخلب! هلمي إلى هنا يا ليزا. تعالي يا ليزا. انظري هذا رسم غرف على طريقة المصور القديم الخالد الذكر (تينيرز). انظري يا ليزا. انظري؟ ألا ترين كيف أجاد المصور تمثيل الرثاثة والبلى والقدم وهيئة التشوش والاضطراب والتناثر والتبعثر - وكيف أتقن تصوير الغبار. انظري إلى الغبار يا ليزة. ما هذه الإجادة والإحسان! ثم انظري ها هنا - هذه صورة امرأة تغسل وجهها ما أحلى وجهها وانظري هنا أيضا. هذه صورة(59/113)
غلام صغير خادم في كساء أزرق. وهكذا أنت لا تقتصر على تصوير الأشخاص الذين يطلبون إليك تصويرهم بل تتناول كل شيء وتذهب في مناحي الصناعة كل مذهب حسب ما يوحي به خاطرك ويلهمك شيطانك - هذه والله هي العبقرية الصادقة)
قال الفتى ما هذه وحقك إلا حثالة من سقط المتاع لا قيمة لها ولا خير فيها وإنما جل ما فيها إنها تمرينات وتجارب)
قالت السيدة خبرني عن رأيك في مصوري هذا العصر. أليس الحق أنه لا يوجد بينهم أمثال الفحول الأقدمين والنوابغ الغابرين أمثال تيتان وليونارد ودافنسي)
أجل أنت لا ترى في أعمال العصريين ما امتاز به القدماء من قوة اللون ومن ذلك - ذلك الشيء المسمى - قبح الله هذه اللغة الروسية الجافة اليابسة الفقيرة لغة الهمج المتوحشين أنا لا أستطيع أن أعبر عن خواطري بهذه اللغة البربرية) الحقيقة إن السيدة كان أكثر كلامها بالفرنسية شأن غيرها من أفراد الطبقة الارستقراطية وكانت من عشاق التصوير المولعين بالفن قد طافت بنظاراتها جميع أنحاء إيطاليا وزارت جميع ما بها من متاحف الصور - واستأنفت الحديث فقالت ولكن خبرني عن المسيونول المصور العصري الشهير ما رأيك فيه وما حكمك عليه؟ لله دره! ما أدق صناعته وما أعظم براعته! أظن أن وجوه صوره أملأ بالمعاني حتى من وجوه المصور الكبير (تيتان) ألا تعرف المسيونول؟)
قال شارتكوف ومن هونول؟)
قالت السيدة (المسيونول لله هوأي نابغة عظيم! لقد صور ابنتي هذه إذ كان سنها اثنى عشر عاما. لا بد لك من أن تزورنا في دارنا وأنت يا ليزا إذا شرفنا الأستاذ فلا تنسي أن تطلعيه على محفظة صورك. وبعد فلتعرف يا سيدي أن مجيئنا هنا الآن هومن أجل أن تشرع في أخذ صورتها للتوواللحظة)
قال الفتى (وإني لعلى تمام الاستعداد) ثم أقام منصة كان قد هيأ بها لوحة من قبل ذلك استعدادا لمثل هذه الطوارئ وتناول صحن الألوان وأثبت بصره في وجه الفتاة الجميلة. ولوكان شارتكوف ثاقب النظر صادق الفراسة عليما بحركات النفس البشرية ونزعات الروح الآدمية لقرأ في صفحة ذلك الوجه أمارات افتتان وشغف طفولي بالمراقص والملاهي وأمارات ملل وسآمة من الاشتغال المضجر الكريه بعدة فنون قد فرضتها عليها(59/114)
أمها ابتغاء تهذيبها وترقية مداركها ولكن شارتكوف لم ير أدنى شيء من هذا كله. بل كل ما رآه هوذلك الوجه الحلوالجميل الذي هوأجذب الأشياء لريشته. وهنا عرته الفرح وهزت الطرب لسنوح هذه الفرصة المعينة على إظهار ما قد كمن من أسرار الحذق والمهارة في ريشته التي لم يتح لها حتى الساعة من الوجوه إلا كل خشن غليظ مقبوح السحنة فرأى بعين خياله ما توه ما سوف تحويه الصورة التي يهم برسمها من محاسن الإتقان والإبداع.
وقالت السيدة (إني أريدها أن ترسم في ثوب ساذج بسيط وبين الظلال الخضر مثل الرياض والخمائل وعلى مسافة منها قطيع من الأنعام حتى لا يرى أنها ممن يغشين حفلات المراقص والمآدب. فإني أعلم يقينا أن مراقصنا ومآدبنا تقتل الملكات الذهنية وتميت كل أثر باق من أثار الإحساس الرقيق والشعور الحي فوا حزنا وولهفا على ما باد واندثر من عيشة التبسط وحياة السذاجة!) يا للأسف لقد كان وجه السيدة ووجه ابنتها ينمان عن إدمانهما غشيان المراقص والمآدب إلى حد أنهما أصبحتا تشبهان تمثالين من الشمع.
شرع شارتكوف في العم فأجلس الفتاة الجلسة المطابقة لأصول الفن ثم تدبر مليا حتى أوضح لنفسه الفكرة الأساسية وحددها وأخذ يهز فرشته ويحركها في الهواء يجدد بذلك النقط الجوهرية في ذهنه. وبعد ذلك ابتدأ فأتم رسم الهيكل في ساعة. ولم اطمئن إلى ذلك وسر به شرع في التصوير. وحين إذ افتتن بالعمل افتتانا وسحر به سحرا حتى نسي كل شيء - نسي وجود السيدتين ذاتهما - إلى حد أنه صار يبدومنه تلك الخصائص الصناعية التي لا يحب رجال الفن أن يطلع عليها الناس كتلك الحركات الجثمانية وتلك الأصوات الغريبة وتلك الهمهمة والغمغمة والطنين والصفير الذي يأتيه الفنيون حالة أنهما كهم في العمل بكلياتهم وجزئياتهم. بل لقد نسي مركزه إلى حد أنه أمسك رأس الفتاة الارستقراطية فرفعها بيديه وكانت قد نكست من التعب:
قالت السيدة (حسبنا اليوم هذا) قال المصور ناسيا نفسه (كلا. بل نستمر برهة أخرى) قالت السيدة مخرجة من جيبها ساعة ذهبية صغيرة (كلا لقد آن أن تقف. ليزا! الساعة الثالثة! لقد تأخرنا كثيرا)
قال شارتكوف بسذاجة وسلامة نية وبلهجة الطفل المتضرع المتذلل: دقيقة دقيقة - فقط لحظة لحظة أخرى)(59/115)
ولكن السيدة لم تكن ميالة هذه المرة إلى الإذعان لرغباته الفنية. على أنها وعدته إطالة المكث المرة التالية.
قال الفتى في نفسه (هذا شيء يغيظني جدا لقد بدأ العمل أن يستقيم وينتظم وبدأت أن أشعر بحلاوته ولذته) وهنا أحس بكمد وحرقة وتذكر أنه لما كان يعيش عيشته الفقيرة بمحله القديم لم يكن ثمة من يقطع عليه سلة عمله ولذته أو يقفه من شغله. ألم يكن صبيه نيكيتا يجلس كالصنم لا يتحرك ولوبقي ألف عام لقد كان يسمح لك أن تستمر في تصويره كما تشاء وتهوى بل لقد كان يغط في نومه على الهيئة التي تجلسه عليها. وهكذا طرح الفتى الفرشة وصحن الألوان على مقعد وهوساخط متبرم. ووقف أمام الصورة حنقاً مغتاظاً.
ولكن استمرار السيدة واقفة في الغرفة أيقظته من غفلته فاعتذر لها عن شرود ذهنه ثم شيعا إلى الباب وعند انصرافها وابنتها دعته إلى تناول الغداء في دارها الأسبوع التالي، فانقلب إلى غرفته فرحا مستبشراً. لقد فتنته السيدة الارسطوقراطية وابنتها إذ كان لم يزل حتى تلك الساعة يخال أمثالها من أهل هذه الطبقات أبعد منالا من الكواكب وإن الله لم يخلقهن إلا لامتطاء فاخر المركبات يشرفن منها على الصعاليك أمثاله إشرافه الكبر والخيلاء. والآن قد شاهد بعينيه إحدى العجائب بل المعجزات إذ تدلت إليه من ذلك الفلك الأعلى بعض تلك الكواكب وهبطت عليه من ذلك الملكوت الأسمى بعض تلك الملائكة فسلمتا عليه وكلمتاه وها هويرسم صورة إحداهما وقد دعتاه للغداء في قصرها الفاخر الارسطقراطي. لقد تملكه نوعا غريب من السرور وراح من فرط الطرب نشوان يترنح ولقد وكأن نفسه بأكلة شهية فوق العادة في ذلك اليوم وبجلسة في دار التمثيل ونزهة في مركبة لا داعي لها مطلقا.
وفي اليم التالي عادت السيدة الارسطوقراطية بابنتها فأجلسهما ثم نشر اللوحة بمهارة وشرع يرسم. وكان صحوالهواء وإشراق الجومما أعانه وساعده على إتقان عمله. فرأى في جلسته المليحة من عديد المحاسن ما لوأثبته في اللوحة لأكسب الصورة أنفس قيمة. ورأى أنه إذا نقل إلى اللوحة بغاية الدقة كلما عرضته الطبيعة على عينيه الآن من مظاهر الحسن والملاحة إذن لأخرج للناس ملحة بديعة وحسنة رائعة وآية ومعجزة عند ذلك وثب قلبه طربا إذ رأى أنه قد شرع يبرز على اللوحة من كامل المحاسن ما قد خفي على الأبصار(59/116)
ودق عن الأنظار. استحوذ العمل على جميع مشاعره ومداركه وجعل يبصر صورة الفتاة تتكون على اللوحة ويرى محاسن وجهها البديع وبشرتها الصافية الشفافة تنموتحت ريشته. ولم يفته أدنى لمحة أوظل مما اشتملت عليه صورة الفتاة حتى ولوصفرة خفيفة كانت تشوب بياضها ولا زرقة شفافة تحت الجفنين ولما هم أن يثبت على اللوحة خالا أسود كان على جبين الفتاة صاحت الأم قائلة (مهلا مهلا! لماذا ترسم هذا؟ لا حاجة بنا والله إلى ذلك. ثم خبرني عن هذه الصفرة ما أغراك بإظهارها في الصورة؟ وما هذه الزرقة تحت الجفن؟ وأي ثمرة فيها وما الفائدة منها؟
وهنا شرع المصور يبين للسيدة أن هذا تقتضيه أصول الصناعة وأن ما تستهجنه الآن من هذه الهنات الصفراء والزرقاء ستحمده فيما بعد عند كمال الرسم إذ تراه ضروريا لإظهار محاسن الصورة وأبراز ما تطوى عليه من معني الرقة والحلاوة ولكن السيدة عارضته وناقضته وكذبت أقواله. وقالت بئس والله ما حاولت أن تكدر به صفاء الصورة من هناتك الصفراء والزرقاء لقد شوهت حسنها وأذهبت رونقها. إن غرك ما رأيت اليوم على محيا ابنتي من آثار السهر والتعب فحسبت هذه الصفرة خلقة وما علمت أنه طارئ لا يلبث أن يزول فتنجاب سحابته عن أبهى لون وأصفى بشرة، ثم أمرته أن يسرع إلى محوما أثبتت يداه من تلك الجريمة.
فبدأ والحزن ملء قلبه أن يمحوذلك فسرت السيدة بذلك واستمر شارتكوف في التصوير على الطريقة المتبعة العادية الخالية من روعة الإبداع والإتقان والتخيل والافتتان المجردة من كل أثر للحذق واللوزعية والبراعة والعبقرية. فسرت السيدة بذلك. بنقطة طول ما استغرقت من الزمن. فقالت له لقد بلغها سريع اليد وأنه ربما أكمل الصورة في جلستين فكيف أنفق فيها كل هذا الوقت. ولم ينتهي منها بعد فوجم الفتى حائرا لا يدري كيف يجيبها على هذا الاعتراض ثم نهضت السيدتان وهمتا بالانصراف وألقى المصور فرشته جانبا وشيعهما إلى الباب ولبث بعد ذهابهما كئيبا مغتما ينظر إلى الصورة بمقلة ملؤها الأسف برهة طويلة.
نقول أدمن المصور كرة الطرف إلى تلك الصورة ثم تمثل لعين خياله ما كان أثبته أولا في الصورة ثم محاه من تلك الملامح الجميلة والمخايل الأنيقة والشمائل الرقيقة والمعاني(59/117)
الدقيقة وتلك الألوان اللطيفة والظلال الخفيفة. ولما أن شغلت ذهنه واستغرقت لبه هذه الخيالات نحى الصورة جانبا وأحضر مكانها صورة ثرية تمثل الآلهة سايكي وكان قد رسمها من قبل رسما تحضيريا أوليا. وكانت صورة وجه مليح حسن التلوين ذي ملامح منتظمة دقيقة ولكنها باردة لم تستضيء بنور الحياة. فشرع الفتى يكسو ذلك الوجه بهجة الحياة ويبعث في صفحتيه شعاع رونقها بإعارته إياه ما كان يموج في ذهنه من أشباح تلك البدائع والمحاسن والروائع والمحاسن والملاحات التي كانت أخذتها عينه من وجه الفتاة الارسطوقراطية وجمعتها ألحاظه من حديقة جمالها الناضر. وخميلة حسنها الزاهر. فلم يبقى من تلك الملامح والمخايل والمعاني والشمايل والألوان والظلال إلا ما أخذ يظهر في تلك الصورة الجديدة (صورة سايكي الأثرية) في أبهى منظر وأجمل مظهر.
كذلك دبت الروح في (سايكي) فبدأت تحيى. وأخذت أفكار المصور تتقمص صورة ظاهرة. وانتقل وجه الفتاة الأرسطوقراطية إلى (سايكي) وبقي في الصورة مع ذلك الآلهة مما جعل للصورة معنى فذا وفتنة خاصة. وانهمك شارتكوف في عمله ولبث أياما عدة مستغرق الجهد في إتقانه فلما عادت السيدتان إليه فاجأتاه عاكفاً عليه منهمكا فيه فلم يتمكن من إزاحة الصورة وإخفائها. ولما أبصرتا الصورة هللتا وكبرتا وصاحتا دهشة وعجبا. وصفقتا بأيديهن إعجابا وطربا.
وقالت الأم (ليزة انظري! ما أقرب الشبه! يا للروعة ويا للجلال! لقد والله أحسنت إذ أبزتها في حالة يونانية! هذا والله غاية الإحسان والإبداع!) فحار المصور في أمره ولم يدر كيف يصحح خطأ السيدتين ويزيل غرورهما فقال وهومطرق الرأس خجلا (هذه يا سيدتي ليست صورة ابنتك بل صورة (سايكي) فقالت السيدة وقد فتنتها الصورة ابنتي قي هيئة (سايكي) حسن بديع والله آية في الإجادة والإتقان!)
ثم تهلل وجهها وأشرق وجه الفتاة أيضاً وأشرق
واسترسلت الأم قائلة (لا تنكري يا ليزة أن هيئة (سايكي) أحب الهيئات إليك أن ترسمي فيها وحلية (سايكي) أحب الحليات إليك أن تظهر صورتك يها ما أصوب هذا الرأي وما أصح هذه الفكرة! ثم ما أبدع الرسم وما أروعه! ولكإنه والله من ريشة (كوريجيو) ذاته. وما شأنه عندي أنه ليس من صنعة (تيتان) أو (فانديك) فأنا وإن كنت قرأت عنك في(59/118)
الصحف وسمعت بك في المحافل لم أك أحسب أنك قد بلغت في الفن هذه الغاية ولن أدعك والله حتى تصورني أيضا).
والظاهر أن الشيخة العجوز مالت إلى أن ترسم أيضاً في هيئة (سايكي) أوشبه ذلك).
فقال المصور في نفسه (ماذا أصنع معهما؟ إذا كانتا تأبيان إلا تأويل الصورة على هذا المعنى وقد أصرتا على ذلك إصرارا فلأجعلن الأمر كما تساءان) ثم قال بصوت مسموع (تفضلي بالجلوس يا سيدتي الصغيرة كيما أصلح من الرسم ههنا وههنا).
قالت السيدة (ويحي! إني أخشى أن تصنع الآن كما صنعت من قبل. حذار من تحسيناتك وتهذيباتك!).
ولكن المصور أدرك أن السيدة تشير إلى مسألة الصفرة فطمأن قلبها من هذه الناحية وأكد لها أن كل ما يريده هومضاعفة ما في العينين من بريق ولألاء ومن فتنة وحلاوة، والحقيقة أن الفتى كان خجلاً مما قد أضطر إليه من الاعتراف بأن صورة (سايكي) هي صورة الفتاة فأراد أن يقرب الشبه بينها وبين الفتة قدر الإمكان لئلا يتهمه أحد بالتملق المجرد من الخجل المملوء بالوقاحة وقلة الحياء.
فأعمل ريشته في اللوحة وبعد برهة بدأت ملامح الفتاة المصغرة تزداد وضوحاً في الصورة.
وصاحت الأم وقد دب الرعب إلى فؤادها وخشيت أن يشتد الشبه جداً (حسبك وكفى!) فأمسك المصور مضطراً. وأخذت الأم الصورة. وأجزلت له الجزاء فأوسعته جنيهات وابتسامات وضحكات ومصافحات وتقريضات وتملقات وهلم جرا.
أحدثت الصورة ضجة في المدينة. وجعلت السيدة تعرضها على معارفها وجاراتها وزوارها فكان الجميع يفتنون بها ويعجبون بقدرة المصور الذي مع احتفاظه بالشبه ضاعف جمال الأصل. وهذه الملاحظة الأخيرة كانت مدفوعة بباعث من الحسد.
وتكاثرت عقب ذلك الأشغال على شارتكوف وتراكمت وازدحمت. وكأن أهل المدينة كلهم قد أحبوا أن يرسمهم هذا المصور النابغة فكان لا يغبه الزائرون ولا يبرحون يقرعون بابه. وبما عد هذا نافعا من بعض الوجوه إذ كان يمنحه فرصة الإطلاع على عدد جم من وجوه شتى. ولكنهم كانوا جميعا - ويا للأسف - أناسا صعاب المراس إذ لم يعدوأن كانوا إما(59/119)
رجلا مشغولا مستعجلا أوسيدا أرسطوقراطيا من أهل اللهووالترف والبطالة وهذا أكثر الناس شغلا وأشدهم عجلا وأقلهم لذلك صبرا. فكان الجميع بلسان واحد يطلبون أن تكون الصورة جيدة سريعة الإنجاز فرأي شارتكوف أنه من المستحيل عليه إنجاز أعماله وأنه لا بد من الاعتياض عن الإجادة والإتقان والإبداع والإحسان بالخفة والعجلة وذلك بأخذ الملامح الإجمالية وقلة بذل العناية وإضاعة المجهودات في التفاصيل الجزئية والدقائق الفنية.
أضف إلى ذلك ما ضايقه وأعياه من كثرت مطالب الزبائن ومختلف شروطهم فأما السيدات فكنا يحتمن عليه أن يتجلى الذكاء والفضيلة في صورهن. وأن تمحى كل الحروف والزوايا فتجعل مواضعها مستديرة، وأن تسوى الغضون وتملس الخشونات بل تزال البتة، وخلاصة القول أن تجعل وجوههن من فرط الجمال والحسن بحيث يبهت لها كل راء عجبا. ويستهام بها كل ناظر حبا. وكن إذا جلسن أمامه للتصوير تكلفن من النظرات وتصنعن من الهيئات وكسون وجوههن من غرائب المعاني وأعاجيب الآيات ما ملأه دهشة وعجبا. فواحدة تتكلف إظهار الحزن والكآبة وأخرى تتصنع إبداء الإطراق والتفكير وثالثة تحاول تصغير فمها مهما كلفها ذلك فهي تبالغ في ضمه وجمعه حتى يبدوأخيرا في حجم رأس الدبوس. وهن بالرغم من ذلك يكلفنه الاحتفاظ بالشبه والتزام سنن الطبيعية. ولم يكن الرجال أحسن خطة من النساء ولا أفضل سيرة. إذ كان أحدهم يطلب أن يعار وجهه جلال القياصرة. وشمم الجبابرة. وآخر يريد أن تعار عينيه نظرة الفلاسفة أولحظة الأساقفة. واقترح عليه مرة ضابط من فرقة الحرس الملوكي أن يجعل عينيه في الصورة أريكة لإله الحرب (المريخ) أوعرينة لأسد الوغى (أخيل) وجاء مرة قاض بالمحاكم فسأله أن يرقم آية العدل على جبينه وأن يضع يده في الصورة فوق كتاب مكتوب على غلافه بالقلم العريض (العدل أساس الملك).
هذه الطلبات العاجلة والاشتراطات الصعبة كانت في أول الأمر تربك المصور وتلقيه في أضيق ورطة وحيرة ولكنه بعد شيء من الدربة والمران عرف كيف يعالجها ويحتال لها حتى صار لا يحفل بها ولا يعبأ. فإذا التقى برجل من عشاق الشهرة الحربية لم يكن أسهل عليه من أن يشعل في عينيه بركانا. ويصبغ شفتيه دما أرجوانا. وإذا عبر بامرئ من(59/120)
عشاق العبقرية الشعرية. لم يتردد في أن يكسوأعطافه شمائل بيرونية وإذا صادف من السيدات من يطمحن إلى مشابهة نموذجات الحسن (اسبازيا) و (كورين) و (أندين) أجابهن إلى ذلك على الفور فلقى في الصورة من خزانة خياله مقدارا وافرا من الملاحات مم لا بأس فيه ولا ضير منه ويغتفر من أجله ما قد يقترفه من إفساد الشبه.
وكذلك أصبح شارتكوف مصور (الطبقات العليا) منغمسا في حومة النعيم والترف. يحضر الولائم والمآدب ويتأنق في اللباس وينادي علنا بأن المصور لا تنبغي له حياة العزلة والخلوة بل يجب عليه أن يخالط الطبقة الأرسطوقراطية احتفاظا بكرامة حرفته فليس له أن يحط من شأن الصناعة بالحط من شأن نفسه كأن يظهر أمام الناس في الهيئة البذة والثياب الرثة أويكون خشن الجانب وعر الناحية فضا غليظ الطبع.
هذا ولقد حف منزله بمظاهر الأبهة والفخامة فاتخذ الغلمان والحجاب واتخذ تلاميذ من أبناء علية القوم وجعل يغير ثيابه ويبدل زيه عشر مرات في اليوم ويكوي ضفائره ويلوي غدائره ويجمل شخصه بكل صنوف الحلي والزينة ليعجب النساء ويبهرهن. وخلاصة القول أنه قد أصبح من المستحيل على كل إنسان أن يتبين فيه ذلك المصور المتواضع الخشوع الذي كان يعمل ويكد خاملا مغمورا في حجرته الحقيرة بشارع (أوستروف).
والآن أصبح ينتقد الفن وأهله ويصدر أحكامه عليهم فكان يصرح أن الأساتذة الأقدمين كانت حظوظهم أكثر من أقداركم. وأنهم نالوا من الشهرة فوق قيمتهم وأخطارهم. وأن رفائيل نفسه لم يجد التلوين في جميع صوره. وأن تصاويره لم تنل شهرتها العظيمة إلا من طريق النقل والرواية وأن ميخائيل أنجلوكان نفاجا فخورا إذ كان خلوا من الرقة والحلاوة. وأن من أراد البهجة والرونق ودقة الشكل والتلوين فليطلبها في تصاوير العصريين أهل الجبل الحاضر. وفي هذا أشارة وتلميح بالبداهة إلى نفسه. وكان يقول أيضاً في موضوع السرعة - التي أصبح هومن طليعة المبرزين فيها - ما أكثر عجبي من المصور الذي يكد نفسه ويجهدها ويحملها في التصوير عنتا ونصبا وينفق الجم الكثير من مجهوده وزمنه.
مثل هذا وربك لا يكون إلا دعيا ضعيفا. عاجزا متخلفة سخيفا. وما هومن الفن في شيء ولا أراه قد أوتي أدنى شيء من العبقرية. وأين هوـ لادردره من العبقرية. تلك والله حليفة السرعة قرينة الجرأة والعجلة. العبقرية تتدفق تدفقا وتندفع اندفاعا. هاك صورة من صنعي(59/121)
أكملتها في يومين وهذا لوجه أتممته في بضع ساعات وهذا في ساعة أونحوها. وليس الفن في مذهبي إضافة نقطة إلى نقطة وجمع خط إلى خط. ليس هذا بفن المصورين ولكنها (مهنة المبيضين والنقاشين) على هذا النحوكان يخطب في زواره ووافدوا داره. وكان هؤلاء يعجبون بسرعة يده وجرأتها ويصيحون (يا للحذق ويا للبراعة؟ هكذا هكذا النبوغ هكذا فلتكن العبقرية! انظروا كيف يتحدث؟ انظروا كيف من فمه تفيض الحكمة وكيف في عينه يتألق بريق الذكاء والألمعية. حقا إنا لنبصر في وجهه معنى غريبا خارقا).
لقد سر المصور أن يسمع عن نفسه أمثال هذا الكلم. وكان إذا نشرت الجرائد عنه تقريظا أبدى فرحة الصغار. بالطبل والمزمار. وإن كان هونفسه الذي اشترى ذلك التقريظ بالدرهم والدينار. وكان يقص من أوراق تلك الجرائد القطعة المسطرة بتقاريظه فيحملها في جيبه أينما حل وارتحل فيحتال لعرضها على أبصار خلاته وأخدانه كما لوكان ذلك قد جاء صدفة واتفاقا.
وازدادت شهرة شارتكوف وتكاثرت عليه الطلبات والأعمال فاشتد ملله من تشابهها وتمثله وكان قد كاد يحفظ أشكالها عن ظهر قلبه. فكان يرسم الآن زبائنه بلا أدنى جهد ولا مشقة فيضع على اللوحة الخطوط والتعاريج الأولية ويلقي بها إلى تلاميذه ليكملوها. وكان ما يعرض عليه الآن من وجوه موظفي الحكومة والضباط ورجال السياسة ليس فيها مجالا فسيحا لريشته فنالها الوهن والعجز وكلال الحد وفقدت الحذق والمهارة والبراعة وأصبحت عاجزة عن تصوير الأشكال الرائعة وإبراز العواطف الشديدة والشهوات العنيفة وكذلك فقد لذة تصوير المناظر التمثيلية وعلاقاتها الفنية الرائعة. ولم يبق أمامه سوى الملابس الرسمية والأزياء العسكرية التي تنطفئ إزاءها جذوة الفن في صدر المصور وتبريد حرارته ويفر الخيال منها فرارا. وكذلك انعدمت منها كل مزية فنية من صوره حتى مزاياه الخاصة الشخصية وإن بقي لتلك الصور رواجها وشهرتها لدى أهل المدينة جميعا اللهم ما عدا ذوي الخبرة والدراية فهؤلاء كانوا إذا عرضت عليهم أحدث مصنوعات شارتكوف هزوا أكتافهم تسخطا واشمئزازا أما من كان قد عرف المصور في عهد صباه فهذا كان يحار في أمره ويعجب
أين ذهبت تلك العبقرية التي كانت تبدوشواهدها وتظهر مخايلها في عنفوان شبابه وأول(59/122)
أمره وكيف يتفق أن يطفأ لهيب العبقرية في الرجل عندما يبلغ أشده وتستتم فحولته.
ولكن شارتكوف السادر في غوايته، الممعن في ضلالته الثمل من خمرة زهوه وخيلائه المخال في بردة كبره وغلوائه كان في غفلة عن الحق الأبلج الصراح أصم عن كل عايب وقداح فبلغ في غروره سن الكهولة والحكمة والنهي والوقار وأصبح شديد الكدنة حاظي البضع شحيما لحيما، وكان لا يزال يقرأ في الجرائد نابغتنا العظيم أندريه شارتكوف فخر بلادنا وبديع زماننا أندريه شارتكوف وأصبح يعرض عليه المناصب العالية في جامعات الحكومة وتندل عليه الدعوات لرئاسة الامتحانات واللجان وأخذ في هذا الدور ينادي بعكس آرائه الأولى في قدماء المصورين فبدل أن كان يمتقص منهم جعل الآن يزكيهم ويقرظهم لا عن تمام اقتناع وعقيدة بل ليحط بذلك من أقدار الناشئين من مصوري العصر ويغض من أبصارهم ويكسر من شوكاتهم امتقاصا منهم وازدراء بهم.
وأخيرا دنت حياته من السن التي يضمحل فيها كل بواعث الهمة والمضاء والحدة والتي فيها يضعف سلطان الحسن على الفؤاد فلا تشمل فتنه حميا الشباب ضراما ولا يؤجج سحره فتوة الصبا صبوة وغراما. والتي تصبح فيه بقايا الشهوات الخامدة لا تتأثر بشيء ولا تتحرك لشيء سوى موسيقى الذهب الرنان ورخيم جرسه الفتان. ولما كانت الشهرة لا يمكن أن تكون مصدر لذة وسرور الذي نغتصبها اغتصابا ويستلبها استلابا بلا حق ولا جدارة لذلك اتجهت عواطف الرجل وأمياله إلى المال فأصبح الذهب بغيته وشهوته وأمنيته ومقصوده ومعبوده ومصدر آماله وآلامه وأفراحه وأتراحه فتكاثرت بدرات النقود وصرر البنكنوت في خزائنه، وأصبح كجميع من يبتليهم الله بتلك النعمة الفظيعة مجردا من كل إحساس وعاطفة إلا حب الذهب ولكن في هذه النقطة من تاريخه وسيرته حدث حادث كدر صفاء عيشته وقلب نظام حياته.
في ذات يوم وجد شارتكوف على مائدة رقعة من (المجمع التصويري) يسأله فيها المجمع باعتباره عضوا فاضلا من أعضائه أن يحضر ليبدي رأيه بشأن صورة أرسلها من إيطالية مصور روسي يقطن تلك البلاد إتقانا للفن واستيفاء لقواعده وأصوله. وهذا المصور قد كان أحد زملاء شارتكوف في عهد الحداثة والصبا ومازال مولعا بالفن منذ نعومة أظفاره وقد انقطع إليه طول عمره ووهب في سبيله النفس والنفيس واحتمل من أجله هجرة الأوطان.(59/123)
وفرقة الأهل والإخوان وأسرع إلى مدينة روما - تلك التي يثب فؤاد عاشق الفن طربا لدى ذكر اسمها.(59/124)
العدد 60 - بتاريخ: 15 - 8 - 1921(/)
الحكومة كهادمة للأخلاق
من مبحث للكاتب الألماني الدكتور ماكس نوردوا
لخصه للبيان الكاتب علي أدهم
مئات المرات جعلت الضجة التي يقيمها الألمان حول الألقاب والرتب مقصدا للهزأ والزراية. وإن ما صب عليا من السخرية في منثور القول ومنظومه ليملأ مكتبة بحذافيرها. والأمر مع ذلك لم يفرغ منه ولم تجف عيون البحث فيه بل أنه من بعض الوجوه لم يلمس ولم يتعرض له. من ذلك أنه لم يعلق مقدار كاف من الخطورة على ذلك الخطر الداهم الذي يتربص للترقي من جراء التغالي في قيمة الرتب والمناصب والنظر إليها كأمثلة عليا هي مرقى همة الفرد ومسمى آماله في حياته العامة والخاصة.
اذهب إلى أي مجتمع في ألمانية وأدر الطرف فيما حولك تبصر مفتشين ومساعديهم ووكلاء ومستشارين من كل الطبقات والأوساط من الموظف الصغير المتواضع لله لا يزهوولا يتكبر. إلى الرئيس الكبير الموفور الجلال والهيبة. وعبثا تحاول أن تعثر بين هؤلاء برجل بريء من التصنع يرضى أن يقنع باسمه حتى إذا ذهبت حاملا مصباح دياجونيز على آخر طرز من المصابيح الكهربائية.
فإذا قدم إليك رجل وذكر لك أن هذا مستشار كذا فإنك قمين أن تعرف من ذلك كل ما تريد معرفته عنه. ولست في حاجة إلى كد الذهن لتعرف شخصيته وإنك في غنى عن توسم وجهه وملاحظة اسمه لأن هذه كلها أشياء ثانوية تافهة وإنما مركز الأهمية هووظيفة الاستشارية فهذه هي التي تملي عليك التعريف التام للشخص ويمكنك أن تقف من لقبه على نفسيته وما تعلمه وما يحبه وما يجتويه وكيف وأين يقضي أيامه ولياليه وكيف يفكر في مختلف الموضوعات من مسألة التجارة الحرة إلى مسألة خلود النفس. وفي أحوال كثيرة يمكنك أن تعرف المرتب الذي يتقاضاه وإنه ليستولي عليك شعور فخم جليل من الثقة والتثبت في حضرة شخص ملقب كهذا إذ لا يوجد أستار تحجب عنك سره ولا غيمة من الشكوك تظل رأيك فيه فحقيقته سافرة للنظر لا تترك لك براحا للبحث والتظني.
وإني لأعجب بعد ذلك من أنه لماذا يترك لهؤلاء السادة حملت الألقاب أسماء إن الاسم في تلك الحالة لا يزال يشعر النفس بشخصية رواءه بينما إن أكبر انتصار فاز به هؤلاء السادة(60/1)
الأمجاد هوفقدان الشخصية وفناؤها وإنما الرتبة والمركز واللقب في نظرهم هوالصميم الخالص والصريح والمهذب. والرجل والشخصية هما الملحق والحاجة الزائدة.
ألا يحسن بتر الاسم كله والاكتفاء بالدلالة على كل حامل لقب بنمرة الصفحة والسطر في سجلات الحكومة أوفي قائمة الجيش التي تندرج فيها وإذا كان غير لائق ولا مناسب فدعنا نمنح كل حامل لقب اسما سهل الحفظ ويكون هذا السم وقفا على كل من يشغل منصبا خاصا ويقترن هذا الاسم في آن واحد باللقب وبذلك يصير الشخص مغموساً كل الانغماس في لجة اللقب والرتبة ولقد كان النبلاء في فرنسا في القرن الثامن عشر يعرفون كيف يعيشون كان عندهم اسم لكل خادم يطلق على كل شاب ينخرط في سلك خدمتهم فمثلا الخادم الخصوصي كان يسمى جينس (الشبوبية) وسائق المركبة كان يدعى (فيكتور) وكان كل خادم يتسلم اسمه والكسوة الخصوصية من سابقه ويسلمه لمن يجيء بعده. فكان السادة لا يتكلفون إتعاب الذاكرة في قاعة الخدم.
ولقد كنا نستهين بذلك ونهمله لوأن هذا السرور الخالي من الحكمة الذي تستشعره هذه الفئة في ألقابها ومراكزها والتي تعطي كساويها شأنا أكبر من شأن شخصياتها كان مقصورا عليها ولكن هذا الشعور نفسه سائد في كل أطراف الأمة متحكم حتى في الأشخاص ألبعيدي الاتصال بالحاكم الألماني حتى في عاداته الخصوصية يجتهد في اكتساب بعض التقرب والزلفى من الحاكم ويسعى وراء نيل الأوسمة التي تدل على أنه من ذلك الفريق المنتخب ولا يثق بوجود نفسه إلا إذ تفضلت الحكومة فجادت عليه بلقب وبدون ذلك المميز لا يستطيع أن يشعر بنفسه كرجل كامل فكل عمل يزاوله هوفي اعتباره أس للقب والمصير الطبيعي لصدره هوأن يتقلد وساما وهكذا هؤلاء الذين ولدوا أحرارا مستقلين عوضا عن الاعتماد عن النفس والاعتداد بالشخصية يتنازلون عن استقلالهم ويضربون بحريتهم عرض الحائط ليشتروا باستقلالهم الكثير ثمنا من الرتب والنياشين؟.
لما انتشر نظام الإقطاعيات كان على الرجال الأحرار أن يضعوا ممتلكاتهم تحت تصرف الأشراف وأن يستردوها منهم ثانية في شكل التزام كهبة وسخاء والآن يعيد ذلك نفسه بدون قسر ولا إرغام ولقد كانت شعوب الأزمنة السابقة الأبية لا تفعله إلا بعد مقاومة عنيفة.
وتيمي تلك المرقاة - التي درجاتها أدوار الحياة الحكومية - في روسيا (بانتشين) وعلى كل(60/2)
روسي أن يقف على درجة من درجاتها إذا أراد أن يكون له شأن في الدنيا والتشين على أي حال لم يبقى نظاما خاصا بروسيا فقد تخطاها إلى غيرها. فقد نصبت تلك المرقاة في ألمانيا ورأى العالم إذ ذاك منظرا عجبا - رأى أرقى أمم الحضارة وأقوى شعب على سطح الغبراء يمضي حياته كضفدع الأشجار في تسلق جدي رزين لدرجة تلك المرقاة وأصبح نموالفرد لا من الداخل للخارج كما يحدث في الجسم العضوي الممتلئ بالحياة ولكن بإضافة خارجية كما في الأحجار الجامدة العديمة الحركة والحكومة هي التي تزيد بعض القراريط الجديدة للطول الطبيعي للفرد وهي لا تزيد هذا الطول من ناحية رفع المستوى الأخلاقي وإنما تزيده من ناحية اللقب بتمديده ومطه وكلما فقدت الشخصية صفة اكتسب اللقب نعتاً وكلما ازداد الطبع انتكاسا والفطرة تلويثا أخذت الأوسمة تزداد في الصدر تألقاً ولمعاناً.
وويل لمن يحاول أن يستجر نفسه ويفر بها من تلك العبودية التي يقاد إليها بالرغبة فإن هذا يعتبر كالذئب بين الكلاب أولا اعتبار له على الإطلاق ويحكى في الخرافات عن عش عصفور من يحمله يصبح خافيا على الأنظار وتأثير اللقب يناقض تأثير هذا العش فإن الشخص لا يصير مرموقا بالأبصار إلا إذا حمل لقبا وما دام لا يحمله فهومهمل وخيال لا يحس به في المجتمع وفي حال كهذه ترى الرجل الذي لخضوعه لقانون النموالداخلي قد نما إلى فردية بارزة ينبغي أن تقدر وتوزن بمعيار خاص بها ولا تفهم أصوليتها ويدرك سر جمالها إلا وهي طليقة من تلك الزيادات الخارجية المصطنعة التي من شأنها طمس معالمها وتشويه منظرها - رجل كذلك يختفي وراء كومة تلك الألاعيب الكركوزية حملة الكساوي والرتب والنياشين والتي تشغل المناصب الكبرى في دور الحكومة.
جاء في بعض النوادر أن طفلا قال أنه لم يعلم إن كان الأطفال الذين رآهم يستحمون صبية أوبناتاً لأن ملابسهم لم تكن عليهم وأرى أن المجتمعات تنظر بنظرة ذلك الطفل وتفكر تفكيره فهي لا تعرف الرجل إلا إذا ظهر لها في كسوته التامة مع الألقاب والرتب وهذه الفكرة ترغم كل إنسان له رغبة في أن يرتفع شأنه بين مواطنيه على أن يهجر طريقه الطبيعي للنموويلتحق بتلك الجماعة التي تزحف إلى الأمام بخطوات بليدة متوانية في ذلك الدرب الذي مهدته لها الحكومة وأحاطته بالحرس من شماله ويمينه وهذا يدخل في رأس الفرد أن حياته الأصلية التي منحتها له الطبيعة لا تعد شيء وإنه لكي ينال وجوده الحقيقي(60/3)
ينبغي له أن يولد مرة ثانية على يد الحكومة.
أي تقهقر معيب محزن إلى مرحلة من مراحل التقدم قد جاوزتها البشرية من أزمان تصرمت وآماد بعيدة؟ أي تناقض لكل الأفكار الأساسية وكل القوات المؤثرة العاملة في أزماننا الحديثة؟.
كلما كان المجموع العضوي أكثر حضارة وتمدينا كان أكثر أصولية وأعم اختلافا وتنوعا وأخذ الشعب بنصيب محدود من الفرد وكل المجتمعات خاضعة لهذا القانون وفي العصور القديمة والعصور الوسطى كان المجتمع ملتئما التئاما كليا راسخا وكان ينظر إلى الفرد كوحدة من ذلك الكل فلم يكن إذ ذاك مجال للفرد تمتد فيه شخصيته ليكون أصوليا بل كان لزاما عليه أن يصب نفسه في قوالب ذلك المجتمع ويصوغها على أوضاعه ومن لم تكن تضمه الجماعة إلى هيئتها كان يعد ضالا شاردا لا يتفيأ ظلال القانون وحمايته وهذه المرتبة من مراتب التقدم البشري تشبه الجذر الكثير السيقان قد نبتت فيه الأفراد المختلفة معا فهم ينمون نموا ناقصا في دائرة محدودة ولكن في الأيام الحديثة جاوزنا ذلك فليس ثمة من تكوين مرجاني وكل فرد منا له وجود قائم بنفسه وإن كان هناك أعمال متوقفة على التساند والتعاضد. ورابطة المسئولية التي تنظمنا كلنا في عقد واحد تترك لنا فسحة رحيبة من الاستقلال وهذه الفردية هي نتاج الأزمنة الحديثة وهي التي تضحي الآن برغبة من أخل إحياء ذلك الطراز القديم من الهيئة الاجتماعية التي يعد الفرد فيها خلية لا قيمة لها ولا تأثير.
إن المعنى الفكري لكلمة حكومة يشملنا جميعا ولكن المعنى العملي لها يشمل الفريق الذي بيده مقاليد الحكم أوفئة قليلة مخصوصة أوفرد واحد فإذا أكبرنا اعتبار الحكومة وأحللناها فوق كل شيء فإن هذا معناه الرغبة في إرضاء فريق خاص أوفئة قليلة أوشخص واحد وطريق ذلك أن يهمل الإنسان أعمق دخائله وأصفى سرائره وأن يعدل ميوله ورغباته وينشأ من ذلك أن فريق المتهذبين يصبح أشبه بالنظام الجزويتي الذي قدم أعضاؤه العقل ذبيحة للتضحية وتنازلوا عن التفكير بأدمغتهم فإذا سئل أحدهم رأيه في مبحث ما فإنه لا يدري ما يقوله فورا بل لا معدل له عن العودة إلى استماع آراء غيره وكثيرون يتركون حقهم ويضعون كل أفكارهم وأعمالهم تحت وصاية استبدادية لا يلبثون أن يفقدوا الشعور(60/4)
بضغطها.
وقد يعترض عليّ بأن الأمور لا تنتظم إلا بهذه الطريقة وأني ذهبت في موضع آخر إلى أن الجماهير عاجزة عن التفكير المبتكر المستقل وإن هذا إنما يأتي من الأقلية الشاذة وينتقل بطريق الإيحاء الطبيعي من الأقلية الصغيرة إلى الأكثرية الكبرى ولكنه يوجد فرق ضخم بين الأفراد أوالفئة التي تلج أفكارها إلى رؤوس الجماهير من طريق الإيحاء الطبيعي وبين ترسيخ الحكومة للأفكار في أذهان الشعب بكل إجبار وقسر إذ في الحالة الأولى لا ينجم أي إخلال بالقوة العضوية ولا يقع تحت تأثير العقل الأسمى إلا فريق من الناس لا يستطيعون إلى التفكير سبيلا ولا يملكون أداته بينما في الحالة الثانية تهن قوة العقول الكبيرة الجديرة بالابتكار وتشل قوتها.
وللحكومة مصلحة في إدامة تلك الحالة ولذا فهي تبطل وتخمد كل معارضة من الرأي العام وتضع مملكة كبيرة واسعة تحت أقدام وزير وزملائه يصرف عنان الأمور كيف يشاء وتدخل على الشعب إن كل معارضة لساسة الحكومة تنافي أخلاق الشرف والنزاهة.
وليس في تلك الحال مفسدة للأخلاق فحسب بل هي ضارة بالمستقبل ولقد قرأت فيما قرأت عن ميشيل انجيلوأنه بعد أن أمضى اثنين وعشرين شهرا في نقش سقف كنيسة سيستين اعتادت عيناه النظر إلى فوق حتى صار عاجزا عن النظر باستقامة أمامه أوإلى الشمال أوإلى اليمين كما يعمل الإنسان بلا مشقة بل كان يمسك بالكتابة التي يريد قرأتها ويرفعها فوق عينيه وهذا ما يصيب أولئك الذين ألفوا الحول إلى رؤوس الحكومات فهم يفقدون حرية النظر واستقلال الفكر ولا يستطيعون النظر بسهولة إلى الأخطار التي تحتشد عليهم من النواحي الجانبية والأطراف وهم لا يكترثون لبلادهم وليس غرضهم نفعها وإنما جل غرضهم ومطاف أملهم هوأن يتنازل أحد من بيدهم القوة من شاهق عليائه إلى مصافحتهم باليد أوأن يظفروا منه بابتسامة.
ولقد يقولون فيما يهرفون به عن صلاح تلك الأحوال إنها مليئة بحصر قوة الشعب وضم منتشره وجمع متناثر قوته عند مواجهة الشدائد ولكن هذا مغالطة لأن قوة الهيئة المتجمعة تتوقف على قوة منة الأفراد ونشاطها وهي منفصلة فإذا كانت مدخولة واهية فإن أي مقدار من النظام والتوجيه لغرض واحد لا يخلق لها قوة وإنك لتستطيع أن تدرب ألف شاة وتلقنها(60/5)
النظام ولكن مهما حاولت فلن يصبح في وسعها الثبات أمام أسد واحد ولا في مقدورها أن توحي إليه بالخوف.
وفي الأوقات التي يستتب فيها السلم لا يشعر الناس بخطر تلك الحالة ولا يعلمون بالهاوية التي ينساقون إليها وقد يكون من حسن الحظ أن يتاح لهم حاكم متين العقل مستنيره يجري وراء أمثلة عليا ويقوم بأعمال جسام وفي تلك الحال تسير الأمور في نظام ويفوز ذوالأمل والطموح المشرئب ويظهر للناس أن حصر السلطة في يد ذلك الحاكم مثمر عائد باليمن والإسعاد ولكن العبقريين لا يخلدون وليس كل عصر يتمخض عنهم وأعظم الأمم وأكملها لا يمكن أن تثق وتطمئن إلى أنه سيكون في كل حين على رأس حكومتهم أحد نوادر الفلك وغرائب الطبيعة وماذا يكون من الأمر إذا أزري بهم الحظ وأصبح مصيرهم مرتهنا بيد جماعة من أشباه العامة أو ذوي العقول الضيقة والأحلام الطائشة أوالأنانيين عباد المصالح الذاتية والمآرب المدخولة والمتسلفين المتدلين إلى هوة الفجور والرذيلة؟
سيبقى الشعب آخذا بزمام عاداته القديمة مرتسما لأمر الحكومة تاركا لها حق التفكير والرأي متخشعا لهيئة آرائها واثقا بها كأنها منزل الوحي ناظرا إلى فريق الحكام كأنهم شموس طلعت من مشرق الرئاسة وبدور منيرة التاحت في آفاق الوظائف فهيهات أن ترقى إليهم العيوب والنقائص وتقابل الحكومة ذلك بتقريب كل من شغفه حبها وملأ جأشه إجلالها فبات يصفق لها في كل عمل ويسبح بحمدها في كل وقت وهي تلجم فم كل من يستطيل عليها بالمعارضة ويقتحم على سدتها بالنقد وهكذا بين أعمال حكومة راضية عن نفسها فرحة بقوتها وبين طاعة عمياء متغابية من ناحية المكتهفين بركنها تطرق ليلا بدون ارتفاع أي صوت بالتحذير والإنذار أفدح النكبات وأسوأ الخطوب ويظهر إذ ذاك بوضوح الشر المستطير والبلاء المستفحل الناجم من الإفراط والمغالاة في عبادة الحكام ويكون الناس قد نسوا طريق التفكير في المصلحة العامة والتفتيش في أفهامهم وخوالجهم عن النافع لهم ولكثرة تفكيرهم في الحكومة يخلطون بينها وبين الوطن والأمة ويؤثرون العمل تحت إشراف الغير في تنظر المكافأة على أكبار النفس والقناعة بالإخلاص لها وترد منهم تلك الداهية الطارقة على قوم غير متأهبين ولا مسلحين وسيحل بالشعب البوار ما لم يكن في أعماقه عوامل صحيحة نقية لم تلحقها أرجاس الرتب والنياشين وهذه القوة هي سنلد(60/6)
الشعب في أشد ساعات الخطر وهي التي تصلح أخطاء حكومة حمقاء سخيفة وتعفي على ذنوب الفريق المنتخب المصفق لها. . .(60/7)
مساوئ العقاب
في مصر
(إن السجن لم ينشأ لعذاب المجرمين ولكن لإصلاح حالهم)
كليمانس الحادي عشر
تعرف العلم الحديث أسباب الإجرام وبحث العوامل التي تدعوإليه، وهي على الإجمال عاملان. فطري يرجع إلى مزاج المجرم وأعصابه وخلقه وتأثير الوراثة فيه وتكوين عقليته المختلة أوالصحيحة، وعامل آخر اجتماعي كالعامل الطبيعي في طقس البلاد وجوها وفي تأثير البيئة على الأخلاق وفي الحالة الاقتصادية والاجتماعية للبلد. ولا يزيد في مقالتنا هذه أن تبحث في كل هذه العوامل ونطبقها على مصر، فإن ذلك لم يكن من غرضنا عند كتابة المقال، ولكن اطراد الجرائم في السنوات الأخيرة دعانا إلى البحث عن العلة الحقيقية التي أوجبت ذلك وإرجاعها إلى مصادرها في مساوئ العقوبات الحالية وفساد أنظمة السجون مما لا يلائم الغرض المقصود من توقيع العقاب على المجرمين. وبعبارة أخرى نريد أن نعرف ونحن في القرن العشرين إلى أي حد بلغت بيننا تلك الكلمة الخالدة التي نطق بها البابا كليمانس الحادي عشر منذ ثلاثة قرون واتخذها عنوانا لمقالتنا. نريد أن نبحث في الأغراض التي يرمي إليها المجتمع من وضع العقاب ومعرفة خير الوسائل التي تلائم هذه الأغراض وترد الجرم إلى الإصلاح والهداية. ليس الغرض ان نقبض على الجناة ونعاقبهم، إنما نرومه لهو أعلى وأسمى من ذلك! إننا لا نريد أن تمتلئ السجون بالمجرمين وأن تقوم الحاجة إلى بناء سجن بعد سجن كما حدث في المنصورة أخيراً، ولكن نروم علاج الحالة الحاضرة وتلمس الدواء لهذا الداء الوبيل.
مضى الزمن الذي كان المجتمع يثأر فيه من المجرمين لا لشيء سوى جرائمهم، ومضى الزمن الذي كانوا ينظرون فيه إلى المجرم كأنه جرثومة يجب أن تستأصل ووباء فتاك يجب أن يضرب حواليه الحصار، وأصبح ينظر إلى المجرم كأنه طفل صغير جدير بالشفقة والعناية. لقد عرف العلم الحديث أن أهل للرعاية والشفقة وأنه ليس إلا آلة تسيرها عوامل مختلفة نحوالإجرام. إن ظروفه هي التي تدفعه إلى ارتكاب الجرائم، إنها أعصابه ووراثته والمجتمع الذي نشأ فيه وليس تفكيره وإرادته. ومن قرأ رواية الجريمة والعقاب(60/8)
لكبير روائي الروس (دستوفسكي) أمكنه أن يرى شواهد ذلك. يقول الأستاذ بروكنر (إن ذلك الاندفاع الميكانيكي نحوالجريمة ليس إلا كالذي يقترب من آلة متحركة فيشتبك طرف ثيابه بعجلاتها فتجذبه إليها وتطحنه بين أسنانها). فلنباعد ما استطعنا بينه وبين تلك الآلة المشئومة!
عرف العلم الحديث كل هذا وعرف أن المجرم مريض ينبغي أن يطبب بالعقاقير والأدوية وأن يعطف عليه كما يعطف على المرضى والمصابين، وأن يدخل المستشفيات بدل السجون، وأن تخدمه (أخوات الرحمة) بدل أن يقرعه صوت السجان ويساق سوق البهائم إلى العمل في الجبال والمناجم والسكك الحديدية ولكن للتشريع خشونة غلبت فضيلة العلم وأصبحت الشجون دوراً موبوءة تعدى السليم وتزيد الخبيث شراً، وتخرج إلينا في كل عام عدداً من المعتوهين واليائسين والمرضى. لم يجدوا في السجن رحمة فيئسوا ولم يلق إصلاحا فضلوا.
إن نظرية السجون أصبحت ثابتة الخطأ في القرن العشرين ظاهرة العجز عن أن تداوي داء الإجرام في النفوس. إن العلم الحديث عرف أن شفاء المجرم ليس في سجنه في غرفة ضيقة وتكبيله بالسلاسل والقيود ولكن في تحريره من قيود نفسه المريضة وإطلاقه من سجن أعصابه المنهوكة. إننا نريد أن نطهر النفوس ونكبح من النزعات ولن نصل إلى ذلك مهما شددنا في قانون العقوبات واستنبطنا في السجن من أنواع العذاب. وقد أخطأ أحد قضاة الإنجليز إذ يقول (أن معتادي الإجرام يجب معاقبتهم بالسجن الطويل أوالأشغال الشاقة حرصاً على مصلحة الجمهور وليس من قبيل التشفي والانتقام وإن ذلك ضروري والعدل يقضي به). وهل هناك شيء أكثر تشفيا وانتقاما من القضاء على شخص بعزلة مؤبدة؟ وهل من مصلحة الجمهور أن يفقد أفراده على هذا الشكل؟ وهل هذا هوتطبيق العدل الذي وصل إليه العلم بتقريره أن اعتياد الإجرام ليس غريزة طبيعية في نفس المجرم ولكن نزعة مكتسبة كان للمجتمع يد في تكوينها لديه؟ وأخيرا أليس اعتياد الإجرام هوإخفاق المجتمع في إصلاح المجرم أول مرة؟ ألا أن فكرة الزجر بتشديد العقاب والصرامة في معاملة المسجونين ليس لها من أثر في منع الناس من ارتكاب الجرائم. وأن الذين يقولون إن القانون مانع من الإجرام وإن رؤية السجون شامخة أمام أعيننا تنتظر عن ارتكاب(60/9)
الجرائم - إن الذين يقولون مثل هذا القول يخطئون الحكم وينظرون إلى الجانب الأضعف في الإنسان. القوانين موجودة من عهد الرومان وأنواع العقوبات تكثر وتتعدد في القوانين الحديثة وكلها على شدتها وصرامتها لم تستأصل شرة الإجرام بل لم تعمل على تحقيقها وإقلالها وها نحن أولاء نرى الجرائم في كل عام في ازدياد وكأنها والمدينة صنوان كلتهما في اطراد.
أن فكرة الردع العام لا تمنع الإجرام بقدر ما تحفظ الناس من تكرر وقوعه، وبين الأمرين بعيد. ما كان القانون في دور من أدواره طبيبا يداوي علة الإجرام ولكنه كان دائما جلاداً يوقع الجزاء! إن الناس لا يحملون في جيوبهم كتاب العقوبات لينظروا بين السرقة بالإكراه والسرقة العادية فيختاروا أهونها عقابا. بل ما كان الناس ليتأثروا بأمثلة المجرمين ليس إلا عملية بسيطة يراد منها إضعاف عددهم في الخارج! وكذلك تدور عجلة الإجرام في مجراها كما تدور عجلة التناسل البشري، ففريق داخل جدران السجن وفريق آخر خارجه!
نروم إصلاح المجرم بعقابه فنحكم على القاتل بالإعدام! نفقد شخصين بدل شخص واحد! أما الذين يقوون أن ذلك رادع لغيره من ارتكاب الجرائم فلا أستطيع أن أفهم الفرق بين الردع بالتهديد به. إن الردع العام لا يقوم به عقاب شديد بقدر ما يقوم به تشريع عادل، وإن الذين يمتنعون عن ارتكاب الجرائم لا يمتنعون لأنهم رأوا توقيع العقاب على غيرهم ولكن لأن القانون يهددهم بتوقيعه عليهم.
إن جميع العقوبات في مصر لا ترمي إلا إلى غرض واحد وهوالانتفاع من ذلك القطيع البشري الذي يدخل السجن (دور الإصلاح) في كل عام. فهملا يفرقون في السجن بين الضعفاء والأقوياء ولا بين المرضى والأصحاء ولا بين الكهول والشبان ولكنهم يرومون أن يشتغل الجميع أشغالا مختلفة تعود فائدتها على السجن وأربابه دون أجر ولا غذاء صالح: المجرمون هم الذين يغسلون غرف السجن ونوافذه وأبوابه، وهم الذين يصنعون طعامهم وثيابهم، وهم الذين يرصفون الطرق ويقطعون الصخور من الجبال. فإن لم يجدوا لهم عملا أمروهم بنقل تراب من مكان إلى آخر أوإدارة طاحونة فارغة أوملئ حوض ثم تفريغه! وكذلك يشتغل هؤلاء الرجال المنكودوا الحظ عشر ساعات في كل يوم كما تشتغل الدواب، ثم يعودون إلى غرفهم في آخر النهار فينامون على (برش) صغيرة فوق البلاط(60/10)
الصقيع! ولا أستطيع أن أفهم العلاقة بين العقاب وبين إهداء الأمة في كل عام عددا من أبنائها مسلولين ومرضى من جراء هذه المعيشة في السجون.
أليس غريبا أن نروم إصلاح المجرم فنعامل السجين السياسي كما نعامل المجرم العادي، ولا نفرق بين أرباب السوابق في الإجرام أوبين حديثي العهد به، ونجمع في سجن واحد بين شرار المجرمين وبين من ساقتهم إلى الجريمة ظروف طارئة أونزوة عارضة أوأعصاب مختلة.
إن الذين يشكون من ازدياد الجرائم وتمادي المجرمين لا يجب عليهم أن يطلبوا إصلاح ذلك في قانون العقوبات ولكن في النظام السيئ لتنفيذ تلك العقوبات. وما دام في السجن سوط (وزنزانة) وقيود وسلاسل فلن يصلوا إلى قلب المجرم فينتزعوا منه حمئة الإجرام، ولن تتهذب روحه ولوقضى في السجن ألف عام! سيقول قوم لقد غإلى في القول وأين هوذلك النظام المنشود الذي سيجعل المجرمين ملائكة أخيار؟! وأقول لهم إنه نظام بسيط، إنه لن يجعل المجرمين ملائكة أخيار ولكنه سيمنع هذه التجربة التي نراها كل يوم بأعيننا في الشوارع. أطفال صغار يساقون إلى دور الشرطة لأنهم متسولون أولأنهم متشردون، فإذا كبروا وكبرت معهم جرائمهم نسي القانون والناس من المجرم الحقيقي، وقالوا كما يقول ذلك القاضي الإنجليزي الذي أشرنا إليه (إن معتادي الإجرام يجب معاقبتهم بالسجن أوالأشغال الشاقة) إن أولئك المعتادي الإجرام ليسوا إلا أولئك الأربعة الصبية الذين عثر بهم قسم محرم بك في الإسكندرية ومكثوا أياما والحكومة في حيرة من أمرهم لا تجد عائلا يؤويهم ولا كريم يعولهم ولا قاضيا يأمر بمعاقبتهم بالسجن الطويل أوالأشغال الشاقة!.
إذا صح أن المجرم مريض قابل للشفاء وأن ليس هناك مجرم بالطبع لا ينجح معه العلاج، وإذا صح أن الإنسانية تتألم لهؤلاء البؤساء وتبغي أن تطبق عليهم حكمة كليمانس الحادي عشر، فما معنى أن نرى السجون شامخة أمامنا وهي دور عذاب، ونرى الحبس الانفرادي باقيا وهواقرب طريق إلى الجنون، ونرى طعام أهل السجن تعافه حتى الوحوش.
لا نظام غير (الإصلاحيات) يمحوعن الإنسانية عار هذه الوصمة في القرن العشرين. ينبغي أن تستبدل السجون والحبوس بإصلاحيات زراعية أوصناعية يدخلها الزجال والأحداث والنساء على السواء. ينبغي أن يكون الغرض من معاقبة المجرم ليس الانتفاع(60/11)
بمدته في السجن ولكن إصلاحه وتهذيبه وتعليمه حرفة أومهنة ما يحترفها بعد خروجه. وليس في مصر ما يمكن أن يقال أنه يشبه بهذا النظام سوى إصلاحية الأحداث في الجيزة. أما إصلاحية الرجال في الدلتا فلا تختلف في شيء عن سجون الأشغال الشاقة.
بقي علينا أن ننظر الآن في الأثر غير المباشر الذي ينتجه سوء النظام الحالي للعقاب، دع الحالة التي يخرج عليها السجين بعد سجنه فهي أدعى إلى الإشفاق مما كان فيه. وانظر إلى الجريمة التي يرتكبها العقاب بحرمان أطفال صغار من عائلهم أوترك زوجة ضعيفة بلا ولي ولا ناصر. فيتخبط الجميع في الفاقة والبؤس والشقاء وينحدرون إلى الجريمة. وكذلك تدور عجلة الإجرام في مجراها كما تدور عجلة التناسل البشري. ففريق داخل جدران السجون وفريق آخر لاحقه.
وقد سمعنا أخيرا أن القاضي الإنكليزي هوريدج أدخل عقوبة جديدة إلى بلاده وهي عقوبة الجلد بالسياط - سيقول قوم عقوبة من عقوبات القرون الوسطى. ولكنا نسائلهم أين هي العقوبة التي لا ترجع بالمدينة مئات السنين إلى الوراء؟ أليست عقوبة الضرب للأحداث أردع وأفضل من أن يدخلوا السجن فتسوء أخلاقهم؟
وأخيرا نقول كلمة صغيرة عن العقوبات المالية. لم لا يفتح باب الغرامة على مصراعيه لمعاقبة المجرمين الذين حسنت نياتهم أوبعدت نفوسهم عن معاودة الشر والأذى. إن الحرمان من بعض المال كثر أوقل عقاب رادع كاف ووقاية في الوقت نفسه تحفظ للمجتمع أفراده منه ارتكبوا فعلتهم عن خطأ أوبجهالة وليست نفوسهم متأثرة بعامل من عوامل الإجرام. هذه هي عقوبة التغريم التي لووضعت بجانب كل عقاب لأعنت الناس عن أن تقول (الرحمة فوق القانون)(60/12)
خرج الحجاج يوماً متصيداً بالمدينة فوقف على إعرابي يرعى إبلا له فقال له يا إعرابي كيف رأيت سيرة أميركم الحجاج، فقال له الإعرابي غشوم ظلوم وأغشم فبينما هوكذلك إذا أحاطت به الخيل فأومأ الحجاج إلى الإعرابي فأخذ وحمل فلما صار معه قال من هذا: قالوا له الحجاج. فحرك دابته حتى صار بالقرب منه. ثم ناداه يا حجاج قال: ما تشاء يا إعرابي. قال السر الذي بيني وبينك أحب أن يكون مكتوما.
ونظر إعرابي إلى رجل سمين فقال أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك:(60/13)
اكتساب الاحترام
في القهوات والفنادق
مقال فكيه بديع لكاتب نقادة هزلي كبير
من بين الملذات الإنسانية التي نتطلع إليها نحن جميعا ونعمل على اجتنائها، هذا الاحترام الذي نراه في عيون الناس ونشهده مكيلا لنا مغدقا علينا. والناس واهمون في قولهم أن الاحترام مزية مقصودة على السروات والمثرين، وحق من حقوق الأغنياء، غير منازعين فيه أومعارضين وإني لأعرف رجلا مسكيناً فقيراً اضطر إلى تزوير صك (شيك) وتعريض نفسه إلى عذاب السجن وغيابة المحابس، كل ذلك لكي يظهر لصاحب الفندق الذي نزل به أنه غني وأنه يستحق الاحترام. ولقد كان هذا المسكين مخطئاً خطأ كثيرين منا نحن الفقراء. لأن الأغنياء كذلك مشتركون معنا أيضاً في هذا الشأن، وليس في العالم ثروة مهما كانت طائلة تستطيع أن تكتسب احترام الغلمان والجرسونات وأصحاب البارات وخدم الفنادق ومساحي الأحذية، وإنما قد نشهد من هؤلاء العامة احتراماً كاذبا لا أثر له في الحقيقة.
ولكن هناك وسائل يستطيع الإنسان أن (يبلف) بها غلمان القهاوي ويكسب احترامهم وإجلالهم شأنه، وهي لا تحتاج إلى نفقة كثيرة، ولا تتطلب مالا طائلا.
فالطريقة الأولى منها هي أنك إذا بلغت القهوة أوالفندق فسر توا إلى القاعة الكبرى أوالردهة الواسعة وانطلق في الحال في الكلام عن مسابقات الخيل، وأندية البليارد، ومجامع الألعاب الراقية. وحذار أن تتكلم بتواضع أوهيبة كما يفعل الكثيرون ولكن ليكن كلامك بصوت جهوري متطاول قوي كأنك من النقاة فيما تحدث الناس حولك، وعليك أن تقوكلمتك وتصر عليها كأنما أصدرت بها قانونا لا حول عنه ولا مرد. واخرج عن طورك واغضب وقم حانقا من مكانك وعد إليه، إذا عرضك أحدهم فيما قلت أوتصدى لك من أراد مناقشتك في رأيك.
ورب معترض يقول لك إذا كنت تجهل هذه الفنون فلن تفلح حيلتك في كسب الاحترام من الغلمان والخدم في الحان الذي أنت فيه ولكن هذا الاعتراض قائم على السخف والبلاهة والخطأ، إذ هل تتصور أن الناس الجلوس حولك قد أصابوا منها أكثر من علمك. وإذا صح(60/14)
أنهم كذلك فهل تظن أنهم عارفون بجهلك بها. بل يجب ألا يبرح من بالك أنهم قرؤوا أقل منك، وعرفوا أقل من معرفتك، وإن الجرأة في هذا السبيل كفيلة بأن توجد لك حجرة في أكبر فنادق العالم، ومكانا متعاليا في أفخم قهوة في المدينة.
وإني لأذكر ذات يوم أن دخل رجل علينا ونحن جلوس في أحد الفنادق الكبرى، رجل أكبر ظني أنه من الصحفيين، وقد تبينت ذلك لأول وهلة، رجل لا يدري كيف يسوق الجاموسة، أويقود البقرة من حبلها بله الخيل والجياد الصافنات، رجل من الاشتراكيين لم يخرج إلى أرباض المدينة يوما إلا على (البسكليت) ولكنه إذا كان دوننا في كثير فقد كان أعظم منا وأكبر وأجل في شيء واحد وهوحذقه فن اكتساب الاحترام في القهوات والفنادق، لأنه جلس في مقعده وما كاد يشرب شرابه حتى انطلق يحدثنا عن قصة قنص له يوم طارد ثعلبا ماكراً خبيثاً. وهي حادثة لم تحصل مطلقا ولم تكتب له في اللوح المحفوظ البتة، وكنا خمسة عشر رجلا في الحجرة ولم يكن فينا رجل من الغنى بحيث يقدر على قنص كهذا. ولذلك ما عتم حديثه أن نفذ فيهم نفوذ السهم إلى الهدف، وأخذ بجماع قلوبهم على ما في قصته من أكاذيب ومفارقات تدل على جهله بفنون الصيد. ولكن القوم هم أجهل منه به لم يدركوا من هذا شيئا، بل عدوه إلها وحاولوا أن يوقفوا تيار حديثه ولكنه أبى إلا الإفاضة في أكاذيب ألعن من الأولى، فلم ينصرف إلا والناس محترموه وخدم الفندق ينظرون إليه نظرة الإعظام والإكبار.
ولك أن تغير المنظر وتبدل الفن بفن آخر إذا اختلجت بفؤادك خالجة شك في صلاحية ما ادعيت من الفنون ولكن اجتنب الخوض في فن صيد السمك، فإن ذلك في خطر لا يفيدك فتيلا إدعاؤه، لأن كل إنسان يعرف صيد الأسماك حتى الفقراء المساكين، ثم هناك خطر آخر وهوأنك لم تلم بأسماء أنواع الأسماك التي تسبح في البحار. فقد تدعي أنك اصطدت (قرموطا) عظيما من نهر (التايمز) مع أنه لا يوجد في نهر التايمز قرموطا واحد.
والطريقة الثانية في اكتساب الاحترام من غلمان الفنادق إذا كنت رجلا صموتاً قليل الكلام بطبعك وسجيتك، هي أن تعمد قبل الذهاب إلى النوم في حجرتك إلى كتابة عدة رسائل وغلف (مظاريف) تسمها بعنوانات طائفة من الوزراء وأعضاء الأسرة المالكة وأمراء الأمة وكبار الجواهرجية وعظماء السروات وأرباب الأموال وتضع كل تلك الغلف فوق المائدة(60/15)
في حجرتك، ولا تظن أنك واجد عناء في هذه المهمة، فحسبك أن تكتب ظروف الخطابات. وأما عما تضعه في داخلها فلا أسهل عليك من جمع الإعلانات التي تجدها ملقاة على الموائد في القهاوي والحانات ووضع كل إعلان منها في غلاف من تلك الغلف التي عنونتها بأسماء الطبقات العالية، فإذا أصبح الصباح جمعت الظروف كلها وطلبت الخادم فسألته عن مكان مكتب البريد ولكن لا حاجة بك إلى إرسالها حقيقة إلى البريد ورميها في صندوقه لأن غرضك قد تحقق. وقد وقف الخادم يرقب هذه العنوانات وهوفي أشد الذهول استعظاما لشأنك. ولا تخشى من هذه الناحية على قائمة الحساب ولا تخف ارتفاع الأثمان. بعد أن تم لك ما أردت من الهيبة والاحترام.
وهناك طريقة ثالثة وهي الالتجاء إلى التليفون والانتفاع بهذا المخترع الحديث. أطلب من (الكومبانية) أية نمرة تجدها في قائمة المشتركين تدل على اسم عظيم، وتخير أكبر رأس في البلد فاطلبه في التليفون دون خشية شيء، فإن القانون لا يمنع ذلك ولا يحظره فإذا أعطيت النمرة واتصل الطريق بالقصر الذي أردت أن الوسيلة لتحقيق غايتك من (بلف) الخدم الوقوف حولك، وصاحب الحان الجالس على منصته يرتقب الطالع والداخل، والمتكلم والصامت، إذن فاسأل مخاطبك في الجهة الأخرى هل القصر هوخاصة الأمير الفلاني. بعد أن تكون قد تخيرت اسما أجمد من الاسم الذي طلبته، ولا شك في أن الخادم سيجيب سلبا. ولكن مقامك في القهوة أوالفندق أصبح بذلك محفوظا معظما مبجلا.
الرابعة في مجموعة الطرق هي أنك إذا نزلت بفندق للمكث أياما معدودة، فمر الخدم دائما قبل ذهابك إلى مضجعك بأن يوقظوك في بكرة الصبح التالي، ولا تستيقظ إذ ذاك إلا في الضحى العالية ولعلك تسألني عن السبب الذي جعل لهذه كل هذا التأثير الذي نشاهده فأنا أعترف لك بجهلي ذلك السبب ولكن أظن أن السبب هوالجمع بين النشاط الذي تظهره بالتفكير في اليقظة أومحاولتها. وبين الترف الذي تبديه بالتأخير في الخروج من السرير. والنشاط والترف هما الصفتان اللتان تظفر من الأصاغر والعامة والسوقة بأشد الإعجاب إذا شهدوهما في الطبقة الحاكمة التي تدعي أنك من أهلها. ثم لا تنسى التأثير الذي يحدث في نفوس الخدم من طلبك الشيء ثم الرجوع إلى محوه وإلغائه.
والطريق الخامسة هي أن تكون قوياً عظيما في نفسك. خلقت للرئاسة والزعامة والقيادة.(60/16)
وأن تكون من موجدي هذه الدنيا وبناة حضارتها، وأن تكون ذا إرادة صارمة عنيفة عانية، وأن تنير في نفوس الذين حولك بفضل قوتك وقوة شخصيتك إحساسا يكرهم على الطاعة. ويريدهم على الامتثال ولكن لا أعرف الوسيلة لتحقيق ذلك، فإن علمه عند الله وهووجى خصه الخالق بالقليلين.(60/17)
أنواع الجمال والزينة
لدى النساء في مختلف الشعوب
من عادة النساء في اليابان أن يطلين أسنانهن بطبقة من الذهب. بينما تراهن في جزر الهند الشرقية يصبغن بالحمرة. وفي بلاد (جوزورات) لا تعد الثغور جميلة إلا بإطفاء لألأتها بشبه المداد. وإخفاء لآلئها في مثل ثوب الحداد. وفي جرينلندة يصبغ النساء وجوههن بزرقة وصفرة. والمرأة المسكوفية مهما بلغ من زهاء لونها وبهاء رونقها لا تعد نفسها لا تعد نفسها جميلة إلا إذا كاثفت على وجهها طبقات الدهان. والصينيات لا تسترح قلوبهن حتى تصير أقدامهن من فرط الصغر والدقة في حجم ظلف العنزة. ولكي يتم لهن هذا تراهن يقضين عصر الطفولة والحداثة في أنكى تباريح العذاب والألم. وقد ما كان أهل فارس يرون الأنف الأفتى من أمارات الإمارة والرياسة والوسائل الحرية أن يطلب بها الملك والإمامة فكان إذا تنازع التاج أميران من بيت المملكة حكم لصاحب الأنف الأفتى على قرنه ونظيره.
والأمهات في بعض البلدان يشدخن آناف أطفالهن تحسينا للخلقة. وفي بلاد أخرى يكبسن رؤوسهم بين لوحين من الخشب لتصير مربعة بدل الاستدارة والفرس العصريون يمقتون الشعر الأحمر أشد المقت وعلى ضد من ذلك الأتراك فأنهم مولعون بحمرة الشعر إلى الغاية القصوى ومن عادة (الهوتنتوت) (صنف من الزنوج) إن العاشق إذا أراد أن يتحف معشوقته بالحلة القشيبة لم يهدها خزاً ولا ديباجا ولا عطرا ولا زهرا ولكن كرشا وأمعاء من المسمط حارة يتصاعد بخارها لتختال المليحة السوداء منها في أعجب حلة وأطرب حلية.
وفي الصين تشتهى العيون الصغيرة المدورة. ولا تزال الصبيات هنالك ينتفن الحواجب لكي تدق وتستطيل. ونساء الأتراك يغمسن فرشة ذهبية في صيبغة مستحضرة من مادة سوداء فيمررنها على حواجبهن فتكون أثناء النهار واضحة جلية ولكنها تصير بالليل مشرقة وضاءة وهن أيضاً يخضبن الأظافر بصبغة وردية. ومن شرائط الجمال في الزنجية أن تكون صغيرة العينين غليظة الشفتين فطساء الأنف حالكة السواد. ولما عرضت على الإمبراطور مونوموتابا (أحد ملوك الزنج) غادة أوربية من نساء العالمين واقترح عليه أن(60/18)
يتخذها بدلا من محظيته السوداء رفض وأبى.
ونحن لا نرى ضرورة تزيين الأنف بحلية ولكن نساء (بيرو) يرين غير ذلك فهن يعلقن في أرنبة الأنف حلقة صغيرة ثقيلة تكون ثخانتها على قدر لقب الزوج وحسب رتبته ومقامه. وعادة خرم الأنف شائعة في كثير من الشعوب والقبائل. أما ما يعلق في ثقب الأنف من الحلي فضروب شتى، كالبلور الأخضر والذهب وكرائم الحجارة. وربما علق فيه عدد كثير من الحلقات الذهبية. ولعل هذا يقوم عقبة في سبيل التنخم والتمخط والواقع أن نساء الهنود الحمر (بأمريكا) لا يعملون البتة هذه العملية النافعة المفيدة،
أما قناع الرأس النسائي فهذا قد يبالغ فيه لدى بعض الشعوب إلى درجة خارقة. فالحسناء الصينية تحمل على رأسها تمثال طائر مصوغ من النحاس أوالذهب حسب مقام صاحبته. وأجنحة هذا الطائر المنشورة تنسدل فوق مقدم القناع وتستر الصدغين. أما ذيل الطائر فسابغ ضاف منتشر الخصل منتفش الريش. وأما منقار الطائر فذلك يغطي قصبة الأنف من الحسناء.
هذا وجيد الطائر منوط إلى جسده بلولب لكي يكون أسرع اهتزازا وأكثر خفقانا واضطرابا لدى أدنى حركة.(60/19)
بؤس العلماء
قلما ترى الحظ يتنزل لأن يكون أليف العلم وحليف العبقرية. وإن خلاف العلماء والأدباء ليجدون ألف مسلك وسبيل إلى بحبوحة الحظ، وليس لنوابغ الأدب إلا سبيل واحد وهذا يؤدي إلى الشقاء والبؤس. ولوأننا أنشأنا ملجأ للعبقرية مثلما نصنع للضعاف والعجزة لكان أحق ما يكتب على بابه (ملجأ ذوي الداء العضال الذي لا شفاء منه ولا دواء له - داء الأدب والعلم) ولا عار على النبوغ أن تنشأ له ملاجئ ولا سبة. فإنه إذا عجزت الشهرة والصيت عن إنقاذ العبقري من القحط كان من واجب البر والإحسان أن يفعل ذلك. ثم لا تعد هذه الصدقة يدا في عنق البائس العبقري ولا دينا على كاهل ولكنها فريضة لازمة نؤديها في شخصه إلى العبقرية ذاتها.
وإن لمن شر البلية أن نبصر حتى في هذه العصور المستنيرة أناسا قد نبذت أشخاصهم في زوايا الإهمال والنسيان بينما ذكرهم قد ملأ الآفاق. ثم هلكوا بعد ذلك جوعا بينما مصنفاتهم تدر على باعة الكتب بواسع الأرزاق.
وأحاديث أبطال الأدب الحديث في هذا الصدد جمة بقدر ما هي محزنة.
لقد باع العلامة زيلاندر مذكراته الثمينة عن (كاسيوس) بأكله. ومن مأثور قوله (لقد كنت أؤلف وأنا في الثامنة عشرة ابتغاء المجد وها أنا ذا أكتب في الخامسة والثلاثين ابتغاء القوت).
وقد روي عن (سرفانتيس) نابغة إسبانيا وعبقريها المخلد أنه افتقر حتى لم يجد قوت يومه. وروي عن (كاموينز) نابغة البرتغال الأعظم وباقعة دهره المفرد العلم أنه أعوزه القوت فهلك حرمانا في بعض مستشفيات (ليشبونة) وقد شهد مصرعه الرهيب رجل قسيس فسجل هذه الذكرى الأليمة على هامش نسخة من ديوان ذلك النابغة الشاعر محفوظة للآن في مكتبة لندن وها هي: من أكبر دواعي الأسف أن ينال مثل هذا العبقري الأجل هذا الجزاء الأسوأ. لقد رأيته يجود بروحه في بعض مستشفيات ليشبونة وليس يملك ذراعين من كفن يستر جثته. ألا فليتعظ بهذا كل مغرور غافل يقطع دهره وينفق عمره ويفني بصره ويهدم بناء جسده. ويذيب شحمة كبده. بالكد والنصب في الدرس والبحث والمذاكرة) وماذا فعل البرتغاليون بشاعرهم بعد أن قتلوه جوعا وأعدموه بؤسا! وهبوه لقب (عظيم) ومنحوه نعت (عبقري).(60/20)
نكر أيضاً الشاعر (فونديل) شاكسبير هولندة فهذا بعد أن ألف طائفة من أبدع الروايات عاش في أسوء حال من الفقر حتى بلغ أقصى العمر وأقصى الضر معا ونال غاية الهرم وغاية العدم في قرن، ولما مات في التسعين من عمره حمل نعشه أربعة عشر شاعر لهم فاقته وأملاقه. ولبس لهم فحولته وأفلافه.
والشاعر الأعظم (تاسو) الروماني ألح عليه العسر والعوز حتى اضطره إلى اقتراض (ريال) يعيش به أسبوعا. وقد أومأ إلى ذلك في أبيات رقيقة له يخاطب بها هرته حيث يستغيث بها (يستعينها على الظلام ويستعيرها شعاعا من ضوء ناظرتيها. ووميضا من برق لاحظتيها. ليجوب من الحلك صفيق جلبابه. ويمزق سدول الليل عن سطور كتابه. ولا بدع فقد صفر من الشمع جرابه. وأقفر من الزيت شهابه.)
والكاردينال (بنتيفوجليو) الطائر الصيت فخر إيطاليا وحلية تاج الأدب رزخ في شيخوخته تحت أفدح أعباء الأعسار. حسير لبانات طليح هموم وأكدار نضوأسفار. في حزون من الجدب وأوعار. وكان قد باع داره لقضاء دينه فلما مات لم يترك من تراث سوى شهرته وصيته.
والنابغة قوجيلاس أسلس كتاب الفرنس بيانا وأرقهم انسجاما قضى ثلاثين حجة من عمره في ترجمة المؤلف الجليل (كوينتاس كيورتياس) ثم مات لا يملك سوى مسودات سفره القيم، ولما أحس دنوالأجل باع جثته للمشرحة لقضاء دينه بعد وفاته.
وقد كان الملك لويز الرابع عشر يشرف الشاعرين (راسين) و (بوالو) بمقابلة خاصة مرة في كل شهر. ففي ذات مرة سأل الملك قائلا (ماذا من الأنباء في عالم الأدب؟) فأجاب راسين أنه رأى اليوم منظرا محزنا وذلك أن الشاعر كورنيل يلفظ آخر أنفاسه وليس في بيته حسوة مرق يبرد بها عظامه البالية) فأطرق الملك مليا وفكر طويلا ثم بعث إلى الشاعر المحتضر بمبلغ من المال.
والنابغة العظيم (برشاس) الذي عاش في عهد جيمس الاول ملك الإنكليز قضى عمره في السياحات والأسفار. ودراسة الكتب والأسفار - كل ذلك ليؤلف كتابه المعنون (علاقات العالم) فلما أبرزه للناس كان جزاءه على ذلك أن زج في أعماق السجون بناء على طلب طابع كتابه الذي دعى عليه دينا فادحا من جراء طبع الكتاب مع أن هذا الكتاب هوذلك(60/21)
الذي كان الملك جيمس يعكف على صفحاته مستغرق اللب في ثنايا سطوره فكان من بين الكتب والمصنفات وسلوته ومرتع نظره. ومسرح خاطره.
وفي عهد شارل الثاني ملك الإنكليز رفع العالم التحرير (المركيز أوف ورستر) التماسا إلى البرلمان يطلب فيه المعونة على طبع مخترعاته بقضاء ما قد احتمله من الديون في سبيل مباحثه وتجاربه وتحقيقاته. فلم يصادف هذا الطلب من البرلمان اهتماما ولا التفاتا فضاع معظم هذه الاختراعات المفيدة ومن بينها (التلغراف والآلة البخارية) - (هذان اكتشفا مرة أخرى بعد ذلك واستطاع المكتشفان أن ينشرا اختراعيهما على الملأ).
والشاعر سبنسر معاصر شكسبير ونظيره قضى أيامه في الضيق والبؤس. ولما عطفت عليه الملكة اليصابات وأرادت أن تهبه مائة دينار حال دون ذلك اللورد بيرلي وكان يعتقد أن أحقر كاتب في ديوانه أعلى قدرا وأغلى قيمة من الشاعر سبنسر وأحق منه بتلك المنحة.(60/22)
ولى يوسف بن عمر صاحب العراق أعرابيا على عمل له فأصاب عليه خيانة فعزله فلما قدم عليه قال له يا عدوالله أكلت مال الله قال الإعرابي فمال من آكل إذا لم آكل مال الله - لقد راودت إبليس أن يعطيني فلسا واحدا فما فعل فضحك منه وخلى سبيله.(60/23)
رواية تاجر البندقية فينسيا
تأليف وليم شاكسبير
(المنظر الثاني)
بلدة بلمون: غرفة في قصر بورشيا
تدخل بورشيا ووصيفتها نيريسا
بورشيا - يمين الله نيريسا أن شخصي النحيل الضئيل. قد سئم هذا العالم الجسيم الجليل.
نيريسا - هذا يكون يا سيدتي الحسناء لوكانت أحزانك وأتراحك من الكثرة بقدر مسراتك وأفراحك. على أنه من اكتظ شبعا وامتلأ بطنه أصابه من الجهد والعذاب ما يصيب الطاوي سغبا، الهالك جوعا. والسرف في الترف أوخم عاقبة من القحط في الشظف. وخير الامور الوسط. وما زال الإفراط مجلبة للهرم والمشيب قبل الأوان. كما أن الكفاف والقصد كفيل بفسحة الأعمار في صحة الأبدان. بورشيا - كلام صحيح. في منطق فصيح.
نيريسا - حبذا لو يتبع إذ خبر الكلام متبوعه.
بورشيا - لو سهل العمل على الناس سهولة العلم مما يحسن عمله لأصبحت الديور كنائس وأكواخ الفقر قصورا للعظماء. وما أفضل القسيس الذي يفعل ما يقول ولأهون على والله أن أعلم عشرين نفسا من أكون بعض أولئك العشرين المتبعين نصحي. ونحن ربما وجدنا العقل يسن القوانين لقرع الأنفس وقمع الشهوات ولكن المزاج الحار والطبع الملتهب سرعان ما يخرق سياج القوانين الصادرة عن الروية الهادئة ة الأناة الباردة. والشباب هوذلك الأرنب السريع يزوغ من شرك الحكمة العرجاء ويفلت من أحبولة النصح الضالع الحسر. ولكن هذا التفلسف لا يمهد لي السبيل إلى اختيار زوج لي. فيا ويلي كيف أذكر لفظة (اختيار) وما إلى الاختيار من سبيل. فأنا لا أملك اختيار من أحب ولا رفض من أكره كذلك قضى الله أن تخضع إرادة ابنة في الأحياء لا إرادة أب في الأموات أليس من البلية يا نيريسا أن أغلب على أمري فلا أطيق اختيارا ولا رفضا.
نيريسا - لقد كان أبوك مدة حياته براً تقيا، وما زال الأبرار إذا جاء أجلهم ينزل عليهم الوحي الصادق ولذلك أعتقد أن القرعة التي ابتدعها أبوك في تلك الصناديق الثلاثة: الذهبي والفضي والرصاصي. وقضى بأن من اختار الصندوق الذي عناه هووقصده فإنما(60/24)
يختارك أنت - هذه القرعة لا يصيبها إلا من يحبك ويكون أهلا لحبك. ولكن خبريني عن درجة ميلك إلى أولئك الأمراء الذين أتوك يخبطونك.
بورشيا - سميهم لي أصفهم لك واحدا إثر واحد واجعلي وصفي مقياسا لميلي.
نيريسا: نبدأ بالأمير النابوليتاني.
بورشيا: هذا حصان لا شك لأنه لا يصنع شيئا سوى التحدث عن حصانه وترينه يعد ضمن مفاخره ومناقبه قدرته على حذوحوافره بنفسه.
نيريسا: ويجيء من بعد هذا الكونت الألماني أمير (البلاتينات).
بورشيا: - هذا ليس عنده سوى تقطيب جبينه وتعبيس وجهه كمن يحاول أن يقول (إذا كنت لا تريدينني فدعيني منك واطلبي غبري فأنا لا أحفل ولا أبالي وستعلمين إذا أبينيني ورفضتني أيانا أخسر صفقة وأخيب سهما) وترينه يسمع الملح والفكاهات ولا يبتسم. وأخشى أن يصير في شيخوخته (الفيلسوف الباكي) إذ كان في حداثته وصباه شديد العبوس مفرط الوقار والرزانة فلأن أزوج من رأس ميت في فمه عظم أهون علي وأحب إلي من تزويجي أحد هذين، كفاني الله شرهما).
نيريسا - وما قولك في اللورد الفرنسي المسيولي بون؟
بورشيا - لقد خلقه الله فاحسبيه إنسانا: أنا أعلم والله أن الهزأ والسخرية خطيئة. ولكني مضطرة إليها في وصف ذلك الفرنسي. إنه أشد ثرثرة من النابوليتاني عن حصانه وأشد عبوسا أحيانا من الكونت الألماني. فهوكل إنسان ولا إنسان: فإذا غرد طير انبرى يرقص، وإنه والله ليطاعن ظله ويجالد خياله. فإن تزوجته فقد تزوجت عشرين بعلا. فإدا احتقرني بعد الزواج فما له عندي سوى الصفح عنه وذلك لأنه إذا أحبني جن بحبي فأعياني جزاؤه.
نيريسا - وما قولك في (فالكونبردج) البارون الصغير الإنكليزي؟
بورشيا - لا أقول فيه شيئا لأنه لا يفهمني ولا أفهمه. فهولا يعر اللاتينية ولا الفرنسية ولا الإيطالية. وإنك لا تكذبين إذا أقسمت في دار القضاء أن مبلغ معلوماتي في الإنكليزية لا تساوي فلسا. بيد أن الفتى آية في الجمال. ولكن من ذا الذي يستطيع أن يحادث تمثال أخرس. ثم ما أغرب ثيابه فما أظن إلا أنه اشترى رداءه من إيطالي وسراويله من فرنسا وقلنسوته من ألماني وسلوكه من كل بقعة.(60/25)
نيريسا - وما رأيك في جاره اللورد الأسكوتلندي؟
بورشيا - رجل كريم الجوار. لقد أقرضه البارون الإنكليزي لكمة على أذنه فلم يسرع إلى رد قرضه بل أقسم أن يفعل ذلك متى استطاع. ولقد ضمنه الفرنسي فيما أعلم وختم على ضمانته.
نيريسا - وما رأيك في الألماني الصغير ابن أخي الدوق أوف ساكسونيا.
بورشيا - مرذول جدا في الغداة وهوصاح. وأرذل خلق الله في العشى وهوسكران. وهوفي أحسن حالاته يكون دون الإنسان وفي شر حالاته يكون فوق البهيم فإذا وقع من الأمر أسوأه فأصاب سهمه الهدف فلأبذلن جهدي في الخلاص من هذا الرجل.
نيريسا - أرأيت إذا تعرض إلى الاختيار فساقه الحظ إلى اختيار الصندوق الصادق أفكنت ممتنعة من تنفيذ إرادة أبيك برفضك الفتى.
بورشيا - إذن فاتقاء للتي هي أسوء أرجوك أن تضعي على الصندوق الكاذب قدحا كبيرا من خمر الرين. فإنه إذا اتفق أن كان الشيطان داخل جوف الرجل إذ ذاك مع وجود هذا الباعث المحرض خارجه فلا بد أن يختاره، فأنا أحتمل كل شيء يا نيريسا إلا التزوج من إسفنج.
نيريسا - لا تخاف يا سيدتي الوقوع في حوزة أي واحد من هؤلاء فلقد أعلموني مقاصدهم وهوعودتهم إلى أوطانهم وانصرافهم عن خطبتك إلا إذا وجدوا إليك سبيلا خلاف ما نهجه أبوك من طريقة الصناديق الثلاثة
بورشيا - لوعمرت عمر (سيبيلا) لانقطعت عن الأزواج طول حياتي حتى أموت عذراء بتولا مثل (ديانا) اللهم إلا إذا أحرزت بالطريقة التي سنها أبي.
ولقد يسرني والله ما أبدى أولئك الخطاب من الحزم والحكمة في انصرافهم عني فعسى الله يرزقهم سلامة الأوبة إلى ديارهم.
نيريسا - ألا تذكرين يا سيدتي فتى فينسيا شجاعا أديبا صاحب سيف ويراع جاءنا ههنا في عهد أبيك صحبة المركيز مونفيرات.
بورشيا - نعم نعم. هذا باسانيوـ أظن أنه كان يدعى هكذا.
نيريسا - حقا يا سيدتي. إن عيني البلهاء ما رأت قط في جميع من وقعت عليه نظرتها(60/26)
الحمقاء. إنسانا هوأحق بغانية حسناء من باسانيوهذا.
بورشيا - إني أذكره جيدا وأذكر أنه أهل لثنائك وإطرائك.
يدخل خادم
ما خطبك وماذا لديك من الأنباء؟
الخادم - إن الأربعة الأجانب يلتمسون لقائك ليستأذنوا في الانصراف. وها قد أتى رسول من ضيف خامس أعني أن أمير مراكش يقول أن مولاه قادم الليلة.
بورشيا - لوكان هذا الخامس يستحق من فرط حفاوتي وترحيبي مثل ما استحق الأربعة الآخرون من وشك توديعي وتشييعي إذن لفرحت بقدومه وفي مذهبي إنه لوكان له شيمة قديس تحت سحنة إبليس لكان أولى لي به أن يكون معرفي (اعترف على يديه) من أن يكون زوجي.
هلمي بنا يا نيريسا. امض أمامنا يا هذا. لا نكاد نغلق الباب وراء خاطب مردود. حتى يقرعه علينا خاطب جديد.
(تنصرفان)(60/27)
البطولة ثمرة المحنة
إن الهموم والأشجان إذا وقعت على القلب الرقيق وكانت على فرط شدتها محتملة مطاقة بعثت من أعماق الضمير أفكاراً نبيلة وعواطف شريفة ما كانت قط منبعثة لولم تستثرها من مكامن النفس تلك الأشجان والهموم. والواقع أن المحن والكوارث هي بواعث الخير في نفوسنا. وكما أن البلاء إذا ألح على المسجون في ظلمات سجنه أوجدت فيه القدرة على إبداع المصنوعات الدقيقة والتحف العجيبة بالآلة الكليلة والأداة العاجزة واليد الخرقاء ومكنته من إتيان معجزات الفعال ومشاق الأعمال واقتحام مصاعب الأخطار والأهوال كاختراق الجدران وفل السلاسل والقضبان. بكف مغلولة. وآلة مفلولة. فكذلك ترى المصيبة إذا تسلطت على نفس الحر فتحت في لبه أبواب الحيلة وأحيت فضيلة الصبر والجلد وأرهفت حد الذكاء والفطنة في ضمير ما كانت تجيش فيه هذه الواهب لولا ضغط البلاء ووطأة المصيبة.
والناس إذا رأوا ظهور هذه المحامد والفضائل من إنسان لم تعهد فيه من قبل ذلك ظنوا أن صدمة الفاجعة وسورة الحزن قد غيرت طباعه وبدلت صفاته كما تبدل نار الكيمياء من طبيعة الأجسام. ولكن الحقيقة هي أن أحاث الدهر حسنة كانت أم سيئة لا تغير الخصال ولا تبدل الخلال وإنما تثيرها من مكامنها. وتنبشها من مدافنها. في أعماق الروح وخبايا الضمير. وتفسح لها المجال وتخلي لها السبيل. وكما أن ضمير الإنسان يشتمل على ألف فكرة مجهولة لديه لم يعرف مواطنها من نفسه ولم يهتد إلى موضعها من لبه. فإذا ما تناول القلم للتحرير تفجرت هذه الأفكار الخفية والخواطر المستترة على أسلة قلمه وتبجست من لسان يراعه فتحدرت على جوانب طرسه سيلا يدفق. ولجأ يفهق. فكذلك قلب المرء هوسر مضمر وصندوق مقفل لا يعرف صاحبه كنهه ولا مكنوناته حتى تبرزه الحوادث وتفض أغلاله الشدائد والكوارث ومن ذا الذي لم ينتبه يوما من منامه فيجد نفسه مندفعا فجأة بعامل خير أوسر في خطة انتقام أوغرام أوغير ذلك - على أن هذه النهضات والثبات وإن تكن فجائية في الظاهر فهي في الحقيقة غير فجائية بل هي ثمرات غرس قد بذرت بذوره في قرارة النفس منذ حين وبقيت ثمت كامنة مستترة راسية مستقرة غير مشعور بها ولا مفطون لها فلما توافرت له الأسباب وتهيأت الدواعي وحانت فرصة الظهور برزت وظهرت سنة الطبيعة التي لا تبدل ولا تحول.(60/28)
وإعجابا للإنسان لا يعرف فضله من نقصه ولا كيسه من حمقه ولا حذقه من خرقه ولا قوته من ضعفه إلا بعد أن تكشف له أحداث الدهر عن سر ذلك. ولئن وجدت بعض الناس يطرق خجلا وخزيا إذ يذكر بعض سالفات معايبه وسيئاته فاعلم أن سجل مستقبله ربما كان منطويا على مناقب وفضائل سوف يبيض لها فخارا ويترنح لها عطفه زهوا وتيها.(60/29)
الناس عباد ما عشقوا
المرء إذا هام قلبه بشيء لم يزده العذل إلا هياما ولا اللوم والتفنيد إلا صبابة وغراما. فإذا أحب امرأة أعرض عن مقالة الغير فيها وأبى إلا إصغاء لوحي ضميره وإملاء فكره. ومالي ولاستماع ما يقوله صاحبي عن معشوقتي فليس هوالهائم الولهان إنما الهائم الولهان قلبي. أنا الذي أقدر قيمة ما هويت وأحببت وأنا الذي أحدد ثمنه ومهره. ولقد يكون عديم القيمة في نظرك وهومع ذلك يرجح عندي بالعالم أجمع. فلوكنت أملك تاج الأكاسرة والقياصرة وخزائن قارون وحازت يدي ما حوت من اللؤلؤ صهاريج عمان ومن الماس والياقوت مناجم الهند وسيلان لجدت بها جميعا لأظفر بنظرة من معشوقتي. فإذا قلت أني غر أحمق فماذا تقول في الملك الذي يدفع نصف ولاية من ولايات ملكه ثمنا لبلورة صغيرة في حجم بيضة اليمامة يسميها الناس (ماسة) وماذا تقول في السري الشريف إذ يتجشم الأهوال العظام ويستهدف للموت الزؤام. ويضحي شطر حياته وجل راحته من أجل إحرازه شريطا أزرق يسميه الناس (وساما) وماذا تقول للتاجر الهولندي الذي زعموا أنه دفع عشرة آلاف من الجنيهات في زهرة من أزهار الزنبق. هؤلاء لا شك أسفه أحلاما. وأخيب سهاما.
كل له غرض يسعى لإدراكه فراغب في العلم وطالب للشهرة ومولع بالتزيين والتجمل والتأنق افتتانا للناس يحسن بزته وجمال حليته وطامح إلى التفوق في بعض الفنون والصناعات واكتساب خالد الذكر لإخراجه للملأ أثرا خالدا من بدائع الشعر أوالتصوير أوغير ذلك ولا أكثر ولا أقل من هؤلاء عاشق الجنس اللطيف الذي قد جعل همه من الحياة الحصول على امرأة قد هويها فانحصرت في شخصها أمانيه ومآربه.
فيا أيهذا المعيري بإضاعة أوقاتي ومجهوداتي في سبيل امرأة تفخر عليَّ بأنك من أساطين السياسة وأهل البلاط وذوي الحظوة والقربة عند أولي الأمر وذوي الحل والعقد. ألست أحمق مني وأغبى وأفسد رأيا وأسخف ذهنا. ألا تزال مثلي معني الجسم والقلب متيم الروح واللب استهام وراء أمنية لا تفضل أمنيتي وابتغاء بغية ليست أرجح قيمة من بغيتي لقب أجوف طنان كالطبلة يخال شيئاً وما هوبشيء. فتجاوز لي عن حماقتي أتجاوز لك عن حماقتك. قل لي بربك كم تعاني من غضاضة التملق وكم تقاسي من مرارة التزلف والتقرب. وكم من ليلة هرقت فيها كأس الكرى. ورضاب اللمى. وهجرت فيها ريق(60/30)
العنقود. وبريق مصقول منضود. وكل هذا تفرغا لتحرير مقال سياسي تحوك لحمته من الكذب والتلفيق وتنسج رقعته من المداهنة والتمليق ثم تغشيه زبرجدا من التمويه والتزويق. وكم من ساعة تقفها على قدميك العليلة الواهنة انتظار ولي نعمتك وبأي خشوع وتذلل وخنوع تركع تحت قدميه إذ ترفع إليه كتابا أورسالة - هذا على شدة إنفتك وإبائك. وعزتك وكبريائك. وإنك أعز جانبا وأحمى أنفا من أن تركع لأحد كائن من كان حتى ولوللمولى جل شأنه. حقا يا سيدي لئن كانت بغيت ومنيتي (أعني المرأة) هي خدعة وألعوبة لا تستحق الكد والعناء فليست بأفضل منها ولا أنفس بغيتك ومنيتك - اللقب الفارغ الأجوف. بيد أني على كل حال أعلم أن بغيتي لا تقل عن بغيتك زورا وغرورا فكلتاهما أبطولة وأضلولة. فلا تعب على غوايتي ما دمت أتغاضى عن غوايتك. وأولى بنا وأليق أن يضحك كلانا من نفسه ومن صاحبه ثم من غرور نفسه وغرور صاحبه سواء بسواء.(60/31)
حضارة العرب في الأندلس
(الرسالة الثانية)
من المرية إلى قرطبة
تابع
ومن شعر الغزال الهين اللين الذي يرتفع له حجاب السمع، ويوطأ له مهاد الطبع كما يقولون قوله.
قالت أحبك قلت كاذبة ... غر بذا من ليس ينتقد
هذا كلام لست أقبله ... الشيخ ليس يحبه أحد
سيان قولك ذا وقولك أن ... الريح نعقدها فتنعقد
أوأن تقولي النار باردة ... أوأن تقولي الماء يتقد
وقوله:
لا ومن أعمل المطايا إليه ... كلُّ من يرتجى إليه نصيبا
وما أرى ها هنا من الناس إلا ... ثعلبا يطلب الدجاجة وذيبا
أوشبيها بالقط ألقى بعين ... يه إلى فارة يريد الوثوبا
وحدثنا أبوبكر بن القوطية قال كان عباس بن ناصح الثقفي قاضي الجزيرة الخضراء يفد على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها فمرت بهم يوما قصيدته التي أولها.
لعمرك ما البلوى بعار ولا العدم ... إذا المرء لم يعدم تقي الله والكرم
حتى مر بهم قوله:
تجاف عن الدنيا فما لمعجز ... ولا عاجز إلا الذي خط بالقلم
وكان الغزال إذ ذاك في الحلقة وكان حدثا نظاما متأدبا متوقد القريحة فقال: أيها الشيخ وما الذي يصنع مفعل مع فاعل فقال كيف تقول فقال كنت أقول فليس لعاجز ولا حازم فقال له عباس والله يا بني لقد طلبها عمك فما وجدها.
(تمت هذه الرسالة الثانية)
الرسالة الثالثة
مقامي في قرطبة(60/32)
(كتبت هذه الرسالة في قرطبة سنة ست وأربعين وثلاثمائة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بدار كتب سيدي الحكم بن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين حفظه الله وأعز به العلم والدين) (وسأستوعب لك في هذه الرسالة جميع ما رأيت وشاهدت وسمعت وأخذته عيني ولقفته أذني مدى الأيام التي قضيتها ي حضرة بلاد الأندلس منذ قدومي إليها سنة خمس وأربعين وثلاثمائة إلى اليوم الذي وضعت فيه هذه الرسالة من سنة ست وأربعين وثلاثمائة الموافقة سنة سبع وخمسين وتسعمائة من ميلاد السيد المسيح صلوات الله عليه)
قدومي إلى قرطبة
كان وصولنا إلى قرطبة في ذلك الموكب الفخم النبيل الذي قام بنا من المرية وفيه أبوعلي القالي البغدادي وأبوعبد الله الصقلي الفيلسوف وأمير البحر الأكبر عبد الرحمن بن رماحس الذي أمره - كان - سيدي الحكم بأن يتلقانا في المرية ويجيء معنا إلى قرطبة في جماعة من أعيان الأندلس وأدبائها وقوادها - عصر يوم الخميس السادس والعشرين من رمضان فكانت الليلة ليلة القدر، ومن ثم حثثنا السير، ودخلنا قرطبة من بابها القبلي مما يلي ضفة نهر الوادي الكبير، وقصدنا تواً إلى أحد قصور الإمارة، وهوالقصر الذي أمر سيدي ولي العهد بإعداده لنا، فنزلنا به وألقينا عصا التسيار وما كدنا نضع أمتعتنا حتى شخصنا إلى الجامع الأعظم - جامع قرطبة.
ليلة القدر في جامع قرطبة
قصدنا إلى الجامع الأعظم منشرحي الصدر، لحضور ليلة القدر. والجامع قدس الله بقعته ومكانه، وثبت أساسه وأركانه، قد كسي ببردة الإزدهاء، وحل في معرض البهاء، كأن شرفاته فلول من سنان، أوأشر من أسنان، وكأنما ضربت على سمائه كلل، أوخلعت على أرجائه حلل، وكأن الشمس خلفت فيه ضيائها، ونسجت على أقطاره أفياءها، فترى نهارا قد أحدق به ليل، كما أحدق بربوة سيل، ليل دامس، ونهار شامس، وللذبال تألق كنضنضة الحيات، أوإشارة السبابات في التحيات، قد أترعت من السليط كؤوسها، ووصلت بمحاجم الحديد رؤوسها، ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة، أوكالثعابين العائمة، عصبت بها أتفاح من الصفر، كاللقاح الصفر، بولغ في صقلها وجلائها، حتى بهرت بحسنها ولألائها، كأنها جليت باللهب وأشربت ماء الذهب، إذ سمتها طولا رأيت منها سبائك عسجد، أوقلائد(60/33)
زبرجد، وإن أتيتها عرضا رأيت منها أفلاكا ولكنها غير دائرة، ونجوما ولكنها ليست بسائرة، تتعلق تعلق القرط من الذفرى، وتبسط شعاعها بسط الأديم حين يفرى. والشمع قد رفعت على المنار رفع البنود، وعرضت عليها عرض الجنود، ليجتلي طلاقة روائها القريب والبعيد، ويستوي في هدايا ضيائها الشقي والسعيد، وقد قوبل منها مبيض بمحمر، وعورض مخضر بمصفر، تضحك ببكائها وتبكي بضحكها: وتهلك بحياتها وتحيا بهلكها، والطيب تفغم أفواحه، وتتنسم أرواحه، وقتام الألنجوج والند، يسترجع من روح الحياة ما ند، وكلما تصاعد وهومحاصر، أطال من العمر ما كان تقاصر، في صفوف مجامر، ككعوب مقامر، وظهور القباب مؤللة، وبطونها مهللة، كأنها تيجان، رصع فيها ياقوت ومرجان قد قوس محرابها أحكم تقويس، ووشم بمثل ريش الطواويس، حتى كأنه بالمجرة مقرطق، وبقوس قزح ممنطق، وكأن اللازورد حول وشومه، وبين رسومه، نتف من قوادم الحمام، أوكسف من ظلال الغمام، والناس أخياف في دواعيهم، وأوزاعهم في أغراضهم ومراميهم، بين ركع وسجد، وأيقاظ وهجد، ومزدحم على الرقاب يتخطاها، ومقتحم على الظهور يتمطاها، كأنهم برد خلال قطر، أوحروف في عرض سطر، حتى إذا قرعت أسمائهم روعة التسليم، تبادلوا بالتكليم، وتجاذبوا بالأثواب، وتساقوا بالأكواب، وكأنهم حضور طال عليهم غياب. أوسفر أتيح لهم إياب. وصفيك مع إخوان صدق، تنسكب العلوم بينهم انسكاب الودق، في مكان كور العصفور، استغفر الله أوككناس اليعفور، كأن إقليدس قد قسم بيننا مساحته بالموازين، وارتبطنا فيه ارتباط البيادق بالفرازين، حتى صار عقدنا لا يحل، وحدنا لا يفل، بحيث تسمع سور التنزيل كيف تتلى وتتطلع سور التفصيل كيف تجلى، والقومة حوالينا يجهدون في دفع الضرر ويعمدون إلى قرع العمد بالدرر، فإذا سمع بها الصبيان قد طبقت الخافقين وسرت نحوهم سرى القي، توهموا أنها إلى أعظامهم واصلة، وفي أتحافهم حاصلة، ففروا بين الأساطين، كما تفر من النجوم الشياطين كأنما ضربهم أبوجهم بعصاه، أوحصيهم عين بن صاف بحصاه، فأكرم بها من مساع تسوق إلى جنة الخلد. وتهون في السعي إليها الطوارف والتلد، تعظيما لشعائر لله، وتنبيها لكل ساه ولاه، حكمة تشهد لله تعإلى بالربوبية، وطاعة تذل بها كل نفس أبية، فلم أرى أدام الله سبحانه عزك منظرا منها أبهى، ولا مخبر أشهى. . .(60/34)
اللورد نورثكليف
لوسئل أي قارئ هل تعرف شخصا يدعى الفرد هارمسورث لأجاب بالنفي القاطع، ولكن ما أشد دهشته إذ يعلم أن هارمسورث هذا الذي جهله هواللورد تورثكليف الذي يعرفهحق المعرفة أكبر صحفي في العالم وصاحب التيمس وأكثر من نصف الجرائد والمجلات الإنجليزية التي تتداولها الأيدي. وبالإجمال هونابليون الصحافة وأكثر رجل له نفوذ في العالم. ولعل القراء أشوق ما يكون إلى التساءل كيف تم له هذا وأي رجل هو؟
ولقد أجاب على هذين السؤالين كاتب قدير وصحفي كبير هومستر جاردنر مدير جريدة (الديلي نيوز) الذي اشتهر بوصف مشهوري الرجال والكتابة عنهم ولا شك أن أقواله ستعطى نصيبا أكبر من الثقة والاعتبار بصفته صحفيا يكتب عن زميل له ولا سيما وأنه يروي عن نفسه أنه ربما كان الصحفي الوحيد الذي لم يعرف اللورد تورثكليف ولم يقع تحت نفوذه ولم يكتب له قط بل ولا رآه إلا في رواق مجلس اللوردات. فليس هناك من التعصب أوالمحاباة ما يحمله على التغالي في القول. وسيرى الراء من وصف المستر جاردنر أن الصحافة الإنجليزية الراقية لا تقترف كثيرا في أساليبها وأغراضها عن صحافتنا المصرية! قال:
أن اللورد تورثكليف هومثال (رجل الشوارع) فليست له نفسية محجبة بالأسرار نود الكشف عنها ولا عقلية عميقة المدى نرغب في الوصول إليها. بل هورجل عادي بسيط واضح، لا يفهم شيئا غير النجاح المادي ولا مقياس لديه يقيس به الحياة غير هذا. لقد كان نابليون يسأل عن النجاح لنفسه فقط ولكنه يعجب به لدى الآخرين. وهذا هوالشيء الوحيد الذي يفهمه والذي يقدر به الأشخاص. وإنك لتنال التفاهة في اللحظة التي تنجح فيها.
ذهب مرة إلى جلاسجوليحضر اجتماعا عقده مستر تشامبرلين ليدافع فيه عن خطة الحكومة إزاء الضرائب، فما كاد يرى عظمة الإجتماع وحماسة الجماهير البالغة حتى أيقن أن النجاح هنا وأنه سيبقى وحيدا مع الفشل. فعمد إلى تغير خطته في ليلة واحدة. وقد كانت جرائده من قبل تنعي على هذه الضرائب وتكتب قي ذمها والسخر بها. لقد حدث شيء لا يتوقعه فوثب من فوق السور في الحاللأنه يعتقد كما يعتقد المستر بيجلو (أن العناية الإلهية الرحيمة قد خلقتنا على هذا الشكل الأجوف لنستطيع أن نبتلع مبادئنا). والمبدأ الوحيد الذي يحتفظ به ولا يبتلعه هوالوقوف بجانب الفريق الغالب دائما.(60/36)
واعتياده هذا على سرعة تقرير الأمور دون مراعاة لمبدأ أواحتفاظ برأي هوسر نجاحه، فليس له مبدأ أخلاقي أوفكري يقف عقبة في سبيله ولا علة تتغلب عليه، ولا نظرية يخضع لها، ولا رأي في الحياة يذود عنه. ولا هم له إلا أن يسأل ببساطة (أي شيء أربح؟) ثم يقذف بنفسه في تلك الجهة.
كان اللورد تورثكليف يزيد شعلة الحرب التهابا في جنوب إفريقيا، ولم يفعل ذلك عن شعور حقيقي بالكراهة للبوير. لأنه كما أظن ليس من الذين يحملون في صدورهم ضغناء أوعداوة، لأن العداوة تفيد التعلق بمبدأ في الحياة وتدل على خلق ثابت صحيح. ولوأن البوير فازوا في الحرب لخشيت أن يكتب لهم جواب تهنئة! ولكن الرأي العام كان إذ ذاك تغلي مراجله حماسة وكرها. ز كانت خطته الصحفية أن يقدم إلى الجمهور الطعام الذي يرغب فيه. فإذا كان يرغب في الحرب فإن واجبه يقضي عليه بتصويره الأعداء في أبشع الصور وأشنعها. وإذا كان يتوق إلى التحمس أمده به. فإن كانت حماسة الجماهير تتطلب سحق فرنسا فإنه يصبح أشد المناوئين لها ويكتب في سنة 1899 قائلا (إذا كان الفرنسيون لا يقلعون عن أهانتهم فإن مستعمراتهم تؤخذ منهم وتعطى لألمانيا وإيطاليا. إن الفرنسيين قد أقنعوا جون بول (الإنكليز) لأنهم أعدائه الألداء. لقد ترددت إنجلترا كثيرا في الاختيار بين فرنسا وإنجلترا. إننا نحترم دائما الأخلاق الألمانية ولكن بدأنا نشعر باحتقار فرنسا، لا شيء يقوم مقام اتفاق ودي بين إنجلترا وبين أقرب جاراتها إليها) فإذا تغير تيار الرأي العام وابتدأ يسيء الظن بنوايا ألمانيا كان هوأول من يلقي الحطب في النار قائلا سنة 1903 (نعم نحن نكره الألمانيين ونكرههم من أعماق قلوبنا. إن أعمالهم قد بغضتهم إلى أوروبا كلها. إني لا أسمح لأي إنسان أن يخط اليوم حرفا في جريدتي يمس به فرنسا كما أني لا أحب أن يكتب أحد سطراً واحداً يرضي به ألمانيا)
فهويحذف من قاموسه تلك الكلمة الخرقاء (الثبات على الخطة). ويغاير يومه أمسه غير خائف من النقد والتقريع. إنه يعلم أن الجماهير تنسى كل شيء ولا يطلب إلا التأثير الحاضر والغذاء اليومي. فهولا يعتبر نفسه في الحقيقة إلا مورداً لبضاعة عامة. فإذا تغير ذوق الجمهور كان أسرع الناس إلى التغيير معه. والحقيقة أن اللورد نورثكليف معدود من ذوي العقول الوضيعة الضئيلة. فليست آراءه ذات قيمة كبيرة وهولذلك لا يحجم عن(60/37)
استبدالها بآراء غيره بشرط أن تكون هذه آراء الأغلبية. ففي سنة 1904 كان يؤيد حزب التقدم إذ كان النصر في جانبه ولما تحقق سقوطه في سنة 1907 أخذ يملأ جرائده بالمطاعن والحكايات الخيالية في سوء أعماله. وليس كل هذا لأنه اختلف معهم - لأن الاختلاف على شيء يدل على التمسك بمبدأ أوعقيدة - ولكنه يتبع الجماهير.
هذه الفكرة التجارية المحضة عن الصحافة هي فكرة اللورد نورثكليف التي أهداها لعصره. لقد كانت الصحافة مهنة فأصبحت تجارة. لقد كان لها غرض أخلاقي فأصبحت بين يديه ولا غرض أخلاقي لها أكثر من الغرض الذي ترمي إليه صناعة الصابون، لقد كانوا يقولون قديما عن الجرائد أنها مرشدة الرأي العام. أول واجباتها أن تنقل الأخبار دون تحيز شخصي أوعمومي. وثانيها أن تدافع عن خطة سياسية تعتقد أنها في مصلحة الأمة والدولة. تحترم الحقائق وتعتقد أن هناك قانونا أخلاقيا جامعا تخضع له الأشياء.
ولكن اللورد نورثكليف غير كل هذا. لقد بدأ عهده بالصحافة وهوخال من المبادئ والعقائد. كانت الصحافة قديما تخاطب عقول الرأي العام المسؤول فأصبح هويخاطب أهواء غير المسؤولين. كانت الجرائد تمد الناس بالأخبار فأصبح هويمدها بالحماسيات والمشوقات، كانت الجرائد قديما تكتب ما تمليه الآراء المعقولة فأصبح هويكتب ما تمليه العواطف المنفعلة.
لقد قلت أن اللورد نورثكليف هورجل الشوارع وأعني بذلك أن عقله لا يرقى عما يتطلبه تيار الجماهير. فترى في كل أعماله طابع العقل العادي بدرجة غير عادية، ومظهر الخلومن الأفكار والجري وراء كل تافه والإعجاب بكل ضجة جوفاء والنفور من كل شيء قوي نافع سليم في الحياة.(60/38)
أحدث مدهشات التلغراف اللاسلكي
من ذا الذي لا يدهش حينما يسمع أنه أصبح من الممكن استعمال التلغراف اللاسلكي في الطباعة؟! ومن ذا الذي لا يأخذ منه العجب كلما مأخذ وقت ما يصل إليه أنه غدا لجهاز (مركوني) قدرة على تكوين السحب وإنزال المطر؟! وأنه صار من الميسور أن تؤخذ به الصور الفوتوغرافية، وتنقل به الأصوات بل وترسل بواسطة أنغام فرقة موسيقية برمتها من مكان إلى أخر، مهما عظم بعده وترامت مسافته؟!.
حقا إن ذلك لمن أعجب العجب، وقد يخيل لكثير أن هذه أخبار تسرد لمجرد التفكه والتسلية. وإنها أشياء لا يقبلها العقل ولا تقرها الحقيقة. . ولكن الفنيين يؤمنون بها ولا يرون فيها مستحيلا، علما منهم بأنه لا حد لما يحدثه وسيحدثه التلغراف اللاسلكي من المدهشات والعجائب.
أما استخدام التلغراف اللاسلكي في الطباعة فيعزى فضله إلى (المستر ف. ج كريد) الذي اخترع آلة يمكن بواسطتها أن يكتب المرء - بكيفية خاصة طبعا الرسالة التي يود إبراقها. فتلقى عند محطة الاستلام مطبوعة بحروف المعتادة. ذلك إلى السرعة الفائقة في الكتابة فقد استطاعوا الآن أن يتراسلوا بسرعة.
أعجوبة تكون الأمطار
هذه حقيقة، هي أعجوبة من أعاجيب الاختراع ومدهشة من مدهشات الاستنباط والابتكار. . . . كانت فكرة تكون الأمطار الشغل الشاغل لخبير من الخبراء بأسرار اللاسلكية في أستراليا اسمه (المستر بالسيلي) وبعد درس طويل وبحث دقيق وتجارب عديدة أعلن أخيرا أنه تمكن من إنزال المطر في وقت كانت في السماء صافية تمام الصفاء. . . وقد أجرى المستر بالسيلي هذا تجربة استعمل فيها أجهزته الخاصة. وما هي إلا ست ساعات تمضي على ابتداء العمل حتى ترى السحاب أخذ يتكون شيئا فشيئا ثم يتساقط بعد ذلك مطراً.
أما التصوير اللاسلكي. فأول من استنبطه عالم من كيار العلماء الالمان يدعى (بيلين) ولما كانت الألعاب الأولمبية، ذهب فشاهدها ثم أرسل صورها بجهاز له من مدينة إنثورب إلى باريس.
والصور الفوتوغرافية ترسل كذلك بواسطة التلغراف المعتاد. وللمستر (بيلين) جهاز لذلك(60/39)
الغرض أيضا. وسيستعمل للقريب العاجل في المسائل القضائية. فإذا فر منه مثلا أحد المتهمين أوالمحكوم عليهم أمكن إرسال (بصمة) إصبعه إلى جميع الأنحاء التي يظن أنمه لجأ إليها. وبذلك يسهل القبض عليه.
إرشاد السفن في الضباب
وكذلك أصبح التلغراف اللاسلكي يستخدم في إرشاد البواخر في عرض البحار، وإن (المحطة الكبرى) الموجودة الآن في (برج إيفل تلعب الآن دورا هاما في ذلك اصدد. فهي ترسل إشارات خاصة يتسنى للربان بواسطتها أن يضبط (الكرونومتر) الذي أمامه إلى درجة عظيمة من الدقة وضبط (الكرونومتر) هومن الأهمية في تسيير البواخر إلى حد أنه إذا فسد يقع الربان في حيرة وارتباك.
وإذا تكاثف الضباب، وضلت في ظلامه سفينة من السفن أمكنها أيضاً أن تعرف مكانها بالتحقيق وذلك بمواصلات لاسلكية بينها وبين محطات أنشئت خاصة لتعين اتجاهات السفن ويوجد الآن منها كثير على شواطئ انجلتره وغيرها من الممالك.
ومن ناحية نقل الأصوات وإبراق الأنغام فحسبنا أن نعرف أن الحفلات اللاسلكية أضحت من الأشياء مألوفة في كثير من الممالك الراقية!!
حقا كل هذا عجيب غريب وإن الإنسان ليسأل نفسه (وماذا بعد ذلك؟) ولكن المستقبل وحده الكفيل بالإجابة.(60/40)
العدد 61 - بتاريخ: 1 - 10 - 1921(/)
قانون الحب
حب الوطن
هذا بحث جديد نقتطفه من كتاب ممتع شعري النزعة رائع الأسلوب. هوكتاب (قانون الحب) وضعه كاتب من مشهوري كتاب فرنسا المعاصرين. وهومسيوجافير، قصر الجزء الخامس منه على (حب الوطن) وأفاض في هذا الموضوع وتناول الوطنية من جميع نواحيها. فخرج كتابه سفرا جديدا في موضوع لم يسبق لكاتب أن جمع شتاته بين جلدتي كتاب.
الوطن - هوتلك الشخصية الإنسانية السامية الثابتة المستكملة التي أرسلتها القوة الإلهية لتكون رادعا للنزعة الأنانية مطهرة لمساويها. ذهابة بدناآتها.
إن الفرد منا مدين بكل شيء للبان أمه. والإنسان الاجتماعي مدين بكل ما ملك لسلطان وطنه. وليس البون الذي يفصل بين الهمجي وبين المتحضر إلا دليلا بيناً على فضل أمنا الأولى - وطننا المقدس - على كل فرد منا. فكل ما لدينا من الخيرات المادية والاجتماعية والخلقية والذهنية إنما استمددناه من سلسلة مستطيلة من حقب الحياة الاجتماعية، من تلك الأجيال التي كدت وناضلت وتألمت وانتصرت، لتخلف لنا أثرا أهليا وتنفي عن سلالتها والأجيال المنحدرة بعدها ذلك التخبط الذي عانته هي وأحست آلامه. بل إن حريتنا ليست إلا نسيجا من آلام الملايين من المخلوقات التي ناضلت لتحبونا به قويا متينا كاملا. بل إن الدعة التي ننعم اليوم بها لم تقم إلا على أكداس من أولئك الشهداء الذين سالت دمائهم في سبيل الظفر بها لأجلنا. وإن فنوننا وعلومنا وخيرنا ليست إلا ثمار تلك المتاعب ونتاج تلك المجهودات التي بذلها أولئك الأسلاف العاملون الذين يضطجعون اليوم في مساكن الآخرة. أولئك الذين ارتضوا الموت معذبين متألمين في سبيل إسعادنا بثمرات أعمالهم.
فأي رجل من الحمق والبلاهة بحيث يجرؤ أن يقول أنه غير مدين بفضل ما لوطنه. إن أمنا الأولى تتخلى عن العناية بنا منذ اليوم الذي يوحي فيه إلينا شعورنا بالحياة أننا قد صرنا أقوياء، وأن أسرتنا لتكف عن عوننا منذ اليوم الذي نبح فيه قادرين على أن نخلق نحن أسرة مثلها. وننشئ عشيرة على غرارها: ولكن ليس في العالم كله رجل متحضر يستطيع في أي مرحلة من مراحل العمر أن يجد غناء عن وطنه.(61/1)
إن روح الوطن لتنفذ في جميع هذه العناصر التي تحوطنا والتي نعيش عليها فالأرض التي تطؤها نعالنا ليست إلا دقيق عظام الموتى. والهواء الذي ننشقه يحمل إلى شواطئ أرواحنا عبق فيض الوطن. بل إن شمس وطننا وسرحاته وأوديته وجباله وأنهاره وسهوله ليست إلا دروسا ومعاهد وابتسامات ومباهج لا نجدها في أفق غير أفقنا وأرض سوى أرضنا.
إن تلك المناظر التي نجلوبها أعيننا واللغة التي تصب في أسماعنا والمشاعر التي نستسر في نفوسنا. كل أولئك هو (الوطن) الذي بذل نفسه لنا ويوحي إلينا أننا لا نستطيع بذرة واحدة من ذرات أرواحنا أن نستكفي عن حنانه ونستغني عن عاطفته وعناقاته الجميلة الناعمة.
ليس في العالم شعب لم يرجف ولم يثب إحساسه على ذكر كلمة (الوطن) ولم.(61/2)
بطل مصر العظيم
سعد زغلول
إنما ألهم الناس أن يعينوا هذا البطل نائبا عنهم لأن الله سبحانه وتعإلى كان قبل ذلك قد اجتباه واختاره وعينه ناصرا ومؤيدا لحقيقة من الحقائق الكبرى وتاجرا مروجا لها عن تمام اعتقاد لها في أعماق نفسه بحيث يتجلى لأشد معارضيه وألد خصومه إنهم إنما يطاولون الطود الشامخ الباذخ ويساجلون التيار الدافق الزاخر وأنهم وإياه.
كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
أجل يتجلى لأهل المراء والمعاندة أن أمامهم صخرة تتفتت عليها بددا وترفض دونها هباء هجمات القحة وحملات الاعتداء من أحزاب المروق والفسوق، فلا جرم أن تصبح هذه الصخرة الصلدة محل ثقتنا واعتمادنا، وأن يكون بذروة هذا الجبل الأشم اللائم بذؤابته أشعة كوكب الحرية مناط أمانينا وآمالنا، وأن تكون ثقتنا به بعد ذلك عمياء فلا يسأل عما يفعل إذا كانت روحه خلاصة أرواحنا ونفسه صورة مؤلفة من مجموع نفوسنا، وكان هوذاته الوطن الذي يمثله وهوعنوان آرائنا ومبادئنا ونزعاتنا وعواطفنا يمثلها في صفحته الناصعة النقية أبين تمثيل وأصدقه وأبرأه من شوائب الأغراض والغايات وغبار التهم والشكوك والشبهات. فلا يعد عجيبا أن يجعله الشعب مقياس شعوره والمرآة التي يستبين في صفحتها صورة المثل الأعلى من الهمة والواجب فيتخذها القدوة يصلح من نفسه احتذاء لمثالها وطبعا على غرارها ليشبهها ويحكيها. وهنيئا لهذا الشعب الذي اختار من ذلك البطل رجلا جزلا شديدا. صلبا جليدا. وليس كبعض الناس خيالا أجوف وشبحا فارغا تنفذ فيه اليد ولا تراه العين.
إن من أبين الأدلة على بطولة سعد استغناءه بنفسه واستقلاله بذاته. وتلك شيمة الرجولة وآية البطولة. إن سعدا لهوالكنز الثمين والذخر العتيد والغنى الواسع والثراء العريض حتى لقد يستحيل على الذهن أن يتصوره بحالة ضعف أووهن أوعجز أوخور أواستكانة أواستخذاء أوذلة أومسكنة أواحتياج إلى معونة ناصر أومساعدة عضد مؤازر أوافتقار إلى أنس أنيس. أومسامرة جليس. ومحال أن يتمثل للوهم وكأنه وحيد أومستوحش أوفقير أومعسر أوشقي بائس. أوقانط يائس. أوحزين مغموم. أومطرق مهموم. بل إن الذهن(61/3)
البشري لا يستطيع أن يتخيله فخما ضخما جليلا جبارا متكبرا عزيز الجانب حمي الأنف متحفزا طماحا مستعليا على الأقران غلابا للخصوم مفراحا ممراحا جذلان مستبشرا طروبا. طلق الجبين تخاله كوكبا مشبوبا ثم تراه فوق ذلك كله راسي الأساس راسخ القواعد موطد الأركان ثابت الدعائم لا تزعزعه الكوارب الكوارث، ولا تزلزل منه مفظعات الخطوط والحوادث.
وأي قوة في الأرض تستطيع أن تهز من ذلك الرجل العظيم وقد تشبع بأقدس فكرة وجاش قلبه بأكبر أمنية، بل أي غطرسة من جبابرة الأرض تستطيع أن تكف من غربه أوتفل من حده بعد ما تمطر منه في حلبة الجهاد أعتق جواد سباح. وحلق منه في سماء النهضة الشماء أجرأ نسر طماح. وماذا تبتغي فئة المعارضة والمعاندة وطائفة الهزيمة والخذلان والذل والعار - ماذا تبتغي الفئة الضالة الآثمة من رفع أصواتهم بسخف القول وهذيانه. أيحسبون أن صرير الجنادب سيبلغ مسامع من قد استحوذت على مشاعره نشوة ملائكية من رحيق الحرية المقدس، لقد ارتفع البطل العظيم فوق منال تلك الأصوات الخبيثة منذ تناول الكأس الإلهية المصنوعة من ندى أجنحة الملائكة فانتهج في مراقي العلياء ذلك المنهج الذي سلكه من قبله محرروالشعوب ومخلصوالأمم وبات ينتعل الفرقدين ويطأ بأخمصيه المجرة والسهى.
لا غروأن يصبح سعد بعدما أفعم صدره بفكرة الاستقلال الملتهبة ولعبت برأسه سورة الكأس المقدسة ورنحت نشوتها أعطافه قد اقتحم كل عقبة واستسهل كل صعوبة في سبيل الحرية.
فمضى يعسف النجاء كما زل ... ل من المنجنيق مردى رجام
أوكما انقض كوكب أوكما ط ... ارت من البرق شقة في غمام
واضعا نصب عينيه الغرض الأشرف الأسمى يدوس بنعليه كلما يعترضه في سبيله المجيد من كيد أودسيسة أوتخويف أوتهديد بل لا يبالي نفيا ولا حرمانا ولا تجريدا ولا سجنا ولا جوعا ولا ظمأ ولا عريا ولا جميع آلات التعذيب والتمثيل مما هوشر مساوئ عهود الإرهاب والعصور المظلمة - كل ذلك جدير أن يتلقاه سعد ساكن الجأش منشرح الصدر باسم الثغر لأن روحه العالية الكبيرة تأبى إلا أن تستخف بهذه العقوبات إزاء غرضها(61/4)
الشريف الأنبل فتنعدم في نظرها هذه الآفات كما تنهزم جحافل الظلماء أمام أسنة الأشعة المشرقة بل ما أجدر روحه العظيمة أن تستلذ آلام تلك الفظائع في سبيل الواجب المقدس ومازال أبطال الحرية من أقدم الأزمان إذا نزل أحدهم من بطن أمه أخذ أخصر طريق إلى موقف مناوأة الظلمة الجبابرة الطغاة ثم أخذ أقصر طريق من هذا الموقف إلى المشنقة أوالمقصلة أوسيف الجلاد ثم تراه يتهافت على الموت كأنه ألذ متعة النفس وأشهى أمنية الروح، ولا بدع أن يفرح الأبطال بالموت إذا وجدوا الحياة شرا من الموت.
أبوأن يذوقوا العيش والذم واقع ... عليه فماتوا ميتة لم تذم
دعاها الردى بعد الردى فتتابع ... تتابع منبت الفريد المنظم
ومن كانت هذه درجته من البطولة كان حريا أن لا يقشعر جلده الرقيق من أفظع آلات التعذيب وأن لا تروعه النار المحرقة، واللجة المغرقة. والعقدة المزهقة ولا السيف المشهور. والكفن المنشور. واللحد المحفور. وقد روي عن القس المتورع (أنتوني بارسونر) من أفراد الملة البيوريتانية الإنكليزية أنه لما قدمه جبابرة الكاثوليك للنيران فدنا منه لهيبا تناول قشا من بين يديه فوضعه على رأسه ليكون أسرع لسريان النار ثم قال (هذه قلنسوة الله).
وكذلك ترى إن أس البطولة هوالثبات على المبدأ وما رأينا ولا سمعنا بمن بذ سعدا في هذه الفضيلة. لقد رأينا من كان حوله يتلونون كل ساعة لونا ويتشكلون كل برهة شكلا تأثرا بالأهواء والمطامع وحرصا على إرضاء بعض الأفراد أومتابعة الجماهير. والحرص على إرضاء الأفراد ومتابعة الجماهير مناف للبطولة بل هوعكس البطولة ونقيضها إذ هوالخور والضعف المبين بينما البطولة هي القوة العظمى. هذا ومتابعتك الغيرة دليل على فرط حاجتك إلى تأييدهم إياك ومساندتهم لك عطفهم عليك. واحتياجك إلى مثل هذا من الغير دليل على ضعفك وعجزك عن القيام على قاعدتك وأساسك. والرجل العظيم متى اقتنع بصحة رأيه وصلاح فكرته نفذها بلا أدنى اهتمام بآراء الغير بل نفذها على اعتبار أنه هووحده الحي العائش على ظهر المعمور وإن كل من حوله من أناس ليسوا سوى أحلام وأوهام. فإن شئت أن تكون رجلا وتكتب في سجل البطولة فنفذ فكرتك وامض عزمتك والزم مذهبك واثبت على مبدئك وإذا حمل ذلك الناس على الضجيج من حولك استنكارا لك(61/5)
واغتياظا منك فزدهم غيظا وكربا باستمرارك على خطتك وتماديك في منهاجك. وهنأ نفسك أعظم التهنئة على أنك أتيت شيئا عجابا وأمرا مستغربا مخالفا للمتبع والمألوف خارقا للعادة لأنك قد ارتفعت بهذا عن مستوى جيلك السخيف البليد المغفل الأعمى المرين على بصره المطبوع على قلبه الراسف في أغلال المذاهب السخيفة الغبية. وقيود المبادئ القديمة الرجعية. ولقد روي أن فتى جاء مرة شيخه يستنصحه في أمر قد هم به ولكنه يخشى عاقبته فقال له الشيخ نصيحتي إليك يا بني أن تفعل أبدا كل ما تخشاه وتخاف عاقبته.
وكذلك يتضح أن البطل لا يتزعزع ولا يتزحزح ولا يستمال ولا يستدرج ولا يرشى ولا يباع ولا يشترى. أجل إن الروح العظيمة لا تبيع استقلالها وعظمتها وشرفها فهي لا يهمها طعام هنيء. ولا شراب شهي. ولا لباس بهي. ولا مهاد وطي. ولا وثار طري. إذ كان سر العظمة ولبابها هوفي الافتنلع بأن الفضيلة حسبها والمجد غايتها.
ما سرها اللؤم والغضارة في العي ... ش بديلا بالمجد والقشف
وقد ما عرف عن العظمة أن الفقر حليتها والزهد تاجها. وأنها ما سرتها قط المكاسب والمغانم. ولا ساءتها الخسائر والمغارم.
ولست بمفراح إذ الدهر سرني ... ولا جزع من صرفه المتقلب
كلا بلوت فلا النعماء تبصرني ... ولا تخشعت من لأوائه جزعا
ونحن لا نزال نرى البطولة تستحي أن تباشر اللذات الجثمانية والشهوات المادية حتى لتود لوتجردت من حواسها وتخلصت من بدنها. فهي من باب أولى حرية أن تحتقر مظاهر التنعم والترف. والبذخ والسرف. وهل رأيت أوسمعت قط ببطل يعنى بقيافته وهندامه، أوبحليته ووسامه. أويعلق أدنى أهمية على ألوان خوانه. أوألوان ردائه وطيلسانه. أويكاد يختنق غما إذا أتاه طباخه بالمسلوقة بدل القلية. أويهم أن ينتحر هما إذا حرم علاوة أودرجة في الميزانية. أويجعل همه من الدنيا محظية أو (أبعدية)، أو (بسكويتا)، أو (بنكنوتا) أوشهادة رئيس كذوب. أوابتسامة مومس خلوب. كلا ما كان ذلك قط من شيمة الأبطال ولا من شيمة سعد وحاشى لسعد وهو البطل العظيم أن يسف لأمثال هذه الحقائر مثلما يسف إليها أقوام تحككوا فيه كذبا وبهتانا، وانضموا إليه زورا وعدوانا فحسبوا وهم الأصفار النوكى. والأحراض الهلكي. إنهم بفضل ما انعكس عليهم من سنا نوره الوضاء(61/6)
سيخدعون الناس عن حقائقهم فيوهمونهم أنهم المشرقون الييرون - وأنهم للمضلمون المعتمون. أجل إنا لا ننسى ما قد تسفل إليه أولئك الأصفار من حقائر الأغراض يوم كانوا مع سعد اثقالا على عنقه وأعباء على عاتقه وأغلالا وآفات ومصائب وهم يوهمون الناس أنهم أنصاره وأعوانه. وإخوانه وخلانه.
ولكن البطل سعدا لا يحفل بأولئك الأصفار فإنهم كالأصفار عن شمال كميته الإيجابية لا قيمة لهم معه ولا يحدثون في مقداره الهائل العديم الحد زيادة ولا نقصانا وإن كنت شخصيا أميل إلى الاعتقاد بأنه بعد انفصالهم عنه قد صار أعظم وأكبر. وأصبحت كميته أوفر وأكثر.
ومن كان يحسب أن خبائث أولئك الغادرين وسخائف غيرهم من الخونة المارقين وعواء سواهم من الحمقى المأفونين تثير غضبة سعد أوتكدر صفاءه فلينفينا هذا الوهم من خاطره وليعلمن أن بطولة سعد تأبى عليه أن يقابل هذه الحماقات والسخافات وهذه النذالة والسفالة إلا بمنتهى الاستخفاف والهزء والضحك. وقد ما كان الضحك والميل إلى المزاح والمعابثة من أروع سجايا البطولة. ومازالت صحف التاريخ تعرض عليك الأبطال في ساعة الروع وأزمة الهول والبلاء أشرح ما يكونون صدرا. وأرخى بالا وأبسم ثغرا. والأدلة التاريخية على ذلك أكثر من أن تحصى. نورد لك من بينها موقف سقراط ساعة إعدامه وأمازيح سير توماس مور وهوعلى المشنقة. وقول حلحلة الفزاري وسعيد بن أبان الفزاري. فإن عهد الملك بن مروان لما أحضرهما ليقيد منهما قال لحلحلة (صبرا) فقال حلحلة أي والله.
أصبر من ذي ضاغط عركرك ... ألقى بواني صدره للمبرك
ثم التفت للجلاد (وكان صاحب الثار) فقال له أحد الضرب فإني والله ضربت أباك ضرب أسلحته فعددت النجوم في سلحته. ثم نظر عبد الملك إلى سعيد بن أبان فقال له (صبرا سعيد) فقال إي والله.
اصبر من عود بجنبيه الجلب ... قد أثر البطان فيه والحقب
ونذكر أيضاً من هذا القبيل قول وكيع بن أبي الأسود فإنه لما يأس منه خرج الطبيب من عنده فقال لابنه محمد إنه لا يصلى الظهر فقال له أبوه ما قال المعلوج فقال وعد أنك تبرأ فقال وكيع أسألك بحقي عليك إلا ما خبرتني بالحقيقة. فقال ذكر أنك لا تصلى الظهر قال(61/7)
ويلي على ابن الخبيثة والله لوكانت في شدقي للكتها إلى العصر.
ومن هذا الباب أيضاً ما جاء في مأساة (السياحة البحرية) للشاعرين الجليلين الإنكليزيين (بومون) و (فلتشر) على لسان (جوليتا) والقبطان البطل وزمرته الشجعان.
جوليتا: ويحكم أيهم المتمردون. أما علمتم أن في استطاعتنا إعدامكم؟
القبطان: بلى. وأنت أما علمت أن في استطاعتنا أن ننعدم ونهزأ بك ونحتقرك.
هذه - وأبيك - أجوبة محكمة. صادرة عن أفئدة مضرمة. وكلمات مأثورة نقطة فائضة من أرواح كبيرة. قد أصبحت لفرط عظمتها تستهين بالعروش والتيجان. والسطوة والسلطان. وتلهو بالمحن العظام. والكرب الجسام. وتلعب والخطب مشمر من ثيابه. وتضحك والموت كاشر عن نابه. وقد ما كان الضحك زهرة الفطرة السليمة. واللعب ثمرة الشيمة القويمة. ولا بدع فأجسم حوادث الدهر وكوارث الزمن أحقر في عين البطل وأضأل من تثير خاطره وتكدر صفو باله. فالحق عنده والواجب أن تكون الحياة كلها عيدا وعرسا وأن تصدر منه أعماله الكبار. وكأنها النغم الرخيم منبعثا عن الأوتار. أو كأغاريد البلابل والقمارى. حتى ولو كانت هذه الأعمال هي تقويض دولة الأشرار. وثل عروش الجبروت والفجار. وتطهير أديم الأرض مما قد لوثه من خبائث الطغاة. وإنقاذ العالم مما قد جثم على متنفسه وشد خناقه من جرائم الظلمة والعتاة. ونحن ما زلنا نرى العظيم في كل زمان أومكان ينبذ النواميس المتبعة والتقاليد المألوفة ظهريا منتهج سبيل غريزته. ممثلا دوره المجهول عليه بفطرته. أصم عن العازلين معرضا عن المعارضين جاعلا تحت قدمه ودبر أذنه صيحة الساخطين. وصرخة الناقمين. فلو استطعت أن تجمع في مخيلتك أبطال العالم وعظماء الدهر منذ بدأ الخليقة فتستشف ثمت حقائقهم وأكناههم إذن لبدوا لعين بصيرتك كأنهم صبية يلعبون وغلمة يمرحون ويعبثون. وإن بدوا لأعين الجماهير متلفعين أردية الجد والتوقير. متسربلين حلل الأبهة والنفوذ والتدبير.
قد تصادف في كل مليون إنسان واحدا تستبيك منه شيم أحلى من المدام. وأشجى من الأنغام. وأشهى من المنى والأحلام. وتستصبيك منه شمائل. أرق من الأصباء والشمائل: في أريحية كما اهتز الجسم. ولوذعية مثلما ائتج الضرام فإذا بحثت عن سر هذا التفوق والنبوغ ألفيته الشذوذ عن مألوف العادات. ومحترم السخافات. وما يعظمه الجمهور من(61/8)
مشروع الأضاليل. ومقدس الأكاذيب والأباطيل.
وكذلك شيمة البطل العظيم سعد وهذه شمائله وتلك أخلاقه وهوذلك الفذ الأوحد الفريد النادر المثال المنقطع القرين الذي لا ترى في الملايين نده ونظيره ولا يجود لك كل جيل بمثله. وهواللغز الدقيق لا تدرك منه الأفكار إلا القشور والكوكب النائي القصي لا تنظر الأبصار منه غير النور، وسائره محجوب مغيب عن الأفهام والأوهام مختبأ في ثنايا عظمته المهيبة. وغضون بطولته الوعرة الرهيبة. ومتى البطل للجماهير مفهوما. وللجماعات مدركا معلوما. ومع خضوع أوروبا لنابليون وانقيادهم لأدنى لفظة من لسانه وإشارة من بنانه هل كانت تدرك حقيقة سره. أم استطاعت أن تحل لغزا وتكشف مكنون أمره؟ وهل استطاع الناس أن يفهموا قيصر وهانيبال وتيمورلينك وكولومبس ولوثر وغاليلوإلا بعد أن نفض لهم التاريخ من كل جعبته. ومحض حقيقته. وكذلك شأن سعد بطلنا العظيم. فقل للناقد المدقق. والمتنطع المتحذلق، الذي يحاول قح وغفل وغرورا أن يضع البطل الرهيب تحت مجهر نقد الأعمى. ألا فلتلقين مقياسك ولتطرحن نبراسك ولتكسرن معيارك. ولتحطمن مخبارك ولتخسأن هيبة ولتطرقن رهبة. ثم لتنكصن على عقبيك ولتنجون بنفسك الضئيلة ولا تحاولن مرة أخرى أن تتعرض للطوفان فتغرق. وللبركان فتحرق. وابغ لك يل صاحبي بدل ذلك حلة أنيقة. أوزوجة رشيقة. وابذل جهدك بعد ذاك في نيل وظيفة عالية ودرجة سامية وماهية تشفي الغليل. وتهبك الفيتون والأتوموبيل. واتخذ يا قرة العين قصرا وإيوانا. وجنة وبستانا. وأمتعة وأثاثا. ثم خلف كما تشتهي ذكورا وإناثا. واقض يا منية القلب أيامك الهنية بين البيت والديوان. والقهوة والحلواني. واشتم مرؤوسك وارتعش أمام رؤسائك وجمل هندامك. ورنح قوامك. وسمن أردافك. ونجد لحافك. واضحك واطرب وارقص والعب وحب واكره وغش واخدع ونافق وداهن وحاسن وخاشن. واسلك سبيلك الوضيعة الخسيسة الدنسة القذرة التربة الوحلة الملتوية العوجاء. الخبيثة النكراء، وبعد ذلك مت كما تحب وتهوى وتغسل بماء الورد وتكفن بالحرير واذهب إلى دار الآخرة في أفخم موكب بين صراخ الأحباب ولطم الكواعب الأتراب ونشيد أولاد الكتاب واندفن كما تتمنى في قبر من المرمر المسنون، تحت أفياء النخل والزيتون، وكذلك تفز بالسعادة والنعيم في حياتك ومماتك ويرحمك الله. ولكن لا تتعرض إلى الأبطال ولا تطأ حرم العظماء من(61/9)
الرجال ولا تلج على الليث عريسته. ولا تستفز الأفعوان من أطراقته. وتمثل قول القائل.
حداك إلى الحين حتى استثرتني ... عليك وإني في عريني لمخدر
وإياك ومناوأت الجلة الكبار. فإنها مشوار كثير العثار. ولقد رامها من هوأجل منك وأعظم ومن لا تصلح أن تصلح حذائه. وتمسح ردائه. فباء بالخذلان وعاد بالخسران. وكان مثله - وهوالأريب الداهية - كمثل الفراش ساور المصباح. فاحترق منه الجناح. ثم التهمته النيران فكأنه ما كان.(61/10)
قانون الحب
حب الوطن
تابع
يره دينا ويعده عقيدة تعتنق. ولقد شهدنا ما فعله في عهد الثورة الفرنسية أولئك الفتيان الشباب في سبيل شرف الوطنية المقدسة إذ كانوا هم هياكلها ومعابدها وذبائحها وضحاياها.
وكما أن مجموعة العواطف والفرائض التي تربطنا بأصل الحياة وعنصرها الأول قد اصطلحنا على تسميتها (الدين. . .) كذلك أسمينا مجموعة العواطف والمشاعر والواجبات التي ندين بها لوطننا (الوطنية!)
فالوطنية - أودين الوطن - هذه العقيدة الطبيعية العميقة في حبة القلب الإنساني قد بلغت من الرهبة والقوة بحيث لا نستطيع أن نطلق عليها اسم (الفضيلة) لأن الفضيلة إنما تعيش على محض اختيار الإنسانية وما هي إلا انتصار هذه الحرية في الاختيار على ما يعترض سبيلها من العقبات والموانع وليس أدل على غريزية هذه الحاسة من أنها قد تغلغلت في طبيعتنا حتى لتتراءى كأنها جزء من كيانها. وإحساس مطلق غير متكلف. لا نتعب فيه عاطفتنا. ولا نحمل على إحساسنا لخلقه.
إن الشجرة الفارعة لتوغل بكل قوى جذورها وعصارة جذعها في بطن الأرض التي تحملها وتمد أعناقها نحو السماء التي تساقط عليها خبأها وتسقيها بمائها والطائر يعاود غيره ولا مخطأ العش الذي أظل. وكذلك الإنسان مولع بالأرض التي فتح عينيه الوليدتين أول أمره عليها. مؤثرها على أرض الدنيا ونحن قد رأينا الشعر يرسل ألوانا. وينفث آلاما. ويثير أشجانا. ليصور لنا يصور لنا أحزان الإنسان إذ ينفى عن وطنه وحنينه إلى أرضه. ومن كل ذلك نرى أن الوطنية حاسة نقية غير مفتعلة وغريزة لا فضيلة ووثبة مادية. وليست مجهودا أدبيا.
على أن كثيرين من الناس أرادوا أن يطفئوا نور هذه الحاسة بحاسة أخرى عارضوها بها فقد عرف فولتير الوطنية فقال (إن حب الإنسان لوطنه ليس إلا كراهية أوطان الآخرين!).
وقد حمل طغيان هذه الغريزة والتمادي فيها إلى حد التطرف طائفة الكتاب على أن يروها على غير حقيقتها فد صور الوطنية الكاتب (أوكتاف ميربو) فقال (في هذا العصر الفلسفي(61/11)
الذي نعيش فيه لا تبعث لدي فكرة الوطن لا صورة شنعاء من القسوة والوحشية والجبروت وتثير في ذاكرتي صور الكراهية والقتل والدماء، إن الوطنية عاطفة جميلة الصورة. ولكنها لا تزال بعد عاطفة مجرمة مجنونة، إذ يتراءى لي الرجل الوطني متوحشا مريش الرأس متمنطقا بسلسلة من الجماجم الآدمية. وقد يرى الناس فيه البطل العظيم ولكنه في الحقيقة ليس إلا قاتلا سفاك دماء!).
ولكن تصوير العاطفة الوطنية وما يصدر عنها من الفعال الجسام بهذه الصورة الهزلية المعيبة إنما هو الخلط بين الحب - وهو الموحي بكل ما هو جميل في الحياة الباعث على التضحية والإيثار - وبين عاطفة الغيرة المجنونة التي لا فرق بينها وبين أشنع ما جاء في سجلات الجرائم وما كان الكاتب الذي ينطلق في مجموعة خرقاء من أمثال هذا الكلام. وينبعث وراء هذا التصوير المذعور إلا رجلا مصروعا متشنجا خبيثا. ونحن لا ننكر أن الوطنية لا تلبث أن تروح ظالمة ناقصة شوهاء شريرة طاغية إذا هي قامت يوما على أساس أنانية أهلية تعلم أصحابها كراهية الأجانب عنها. ونحن نعلم أن حب الذات لدى الفرد لا ينأى يصبح شرا وإحساسا مرذولا إذا هو اتخذ يوما مظهر الأنانية الباغية فاعتدى على حقوق الأفراد الآخرين. وكذلك الحب الغريزي الذي يحسه كل رجل منا بوطنه لا يلبث أن ينقلب إلى حاسة وحشية ثائرة وخطرا مستفحلا إذا هو امتزج بلون من ألوان الأثرة الاجتماعية. ولهذا ينبغي أن تتخلص الوطنية من هذه النوعات وتسير على وحي عقل منتظم وإرادة راجحة مطلقة وتحمي نفسها من أن تكون خارجة عن حدودها ضيقة السرب هوجاء. وقد أصبحت كل أمة اليوم جزءا لا ينفصل عن كيان الإنسانية العامة بما اشتبك في العالم من المصالح التجارية والعلاقات الاجتماعية. والروابط السياسية ونحن نشاهد في كل فرع من فروع الحياة ارتباطا دقيقا بين الأمم والأمم. فأي تقدم وقع لأمة منها ولم يحدث أثره السريع في الأمة المجاورة لها. وأي مخترع استحدثه عالم من العلماء ولم يدع وينطلق طائفا الأمم كلها، وما مصيرنا ومصير سوانا إذا امتنعت الممالك البعيدة عن إمدادنا بالمواد الأولى التي نحتاج إليها في صناعاتنا وماذا يكون مآل السواد الأعظم من الشعوب إذا حمت الممالك مخترعاتها ومبتكرات أذهان أهلها عن جاراتها؟.
ولو أن كل أمة احتكرت آدابها ونتاج عقولها وقصرتها على نفسها. فما كان العالم كله(61/12)
مدركا يوما نبأ ستيفنسن ونيوتن وجنر وفولتون وشكسبير ودانتي وميشال أنجلو وروفائيل وبيتهوفن وشوبان وفاجنر وأضرابهم أهل العبقريات التي أرسلت روح الوحي الإلهي في أنحاء الإنسانية جمعاء. ولو كان ذلك أيضاً لحرمت الشعوب الأخرى من الانتفاع بآداب شعرائنا ومنتجات علمائنا وخطبائنا وأهل الفنون فينا.
ولقد الرئيس روزفلت يوما تدعي طائفة من الكتاب والمصلحين أن الوطنية ستصير على مدى الأجيال القادمة فضيلة عتيقة بالية ملغاة عقيمة الجدوى أشبه (بالفردية) في الزواج ولو أن الإنسان الحاضر الذي يحب الممالك الأخرى مثلما يحب وطنه ليس إلا عضوا شريرا في المجتمع مؤذيا خبيثا لا يقل في شره وأذاه عن الرجل الذي يحب نساء الأزواج الآخرين بجانب امرأته.
إن حب الوطن فضيلة أساسية كحب عائلة - والأمة الصالحة هي التي تشبعت بالفكرة الأهلية وأدركت حقوقها كأمة ين أمم الأرض وتبينت واجباتها المفروضة عليها قبالة أفرادها النافعين. دون أن يحول ذلك بينها وبين استشعار الاحترام، لحقوق الأمم الأخرى والرغبة في تخفيف ويلات الشعب الضعيفة والأمم المعانية المتألمة الأسوانة المحزونة).
على أنه خليق بعد كل هذا بتلك القلوب العظيمة التي تريد أن تعانق أهل الدنيا جميعا وتثب إلى أحضانهم وتحبهم كما تحب بلادها أن تذكر تلك الكلمة الحلوة التي فاه يوما بها رجلا من المستهزئين بحب أوطانهم (ما أسهل أن تصبح الشعوب جميعا رفاق وأخوة. ولكن أخي الأول هو. . . ابن وطني!. . . ثم تلك الكلمة الفاتنة التي قالها الشاعر فرانسوا كوبيه صاحب رواية. في سبيل التاج فأحاط بكل ما نريد التدليل عليه إذ راح يقول لجمع من الناس اسمحوا يا سادة لرجل أشيب متهدم السن أن يؤثر وطنه على العالم أجمع. غير راغب له شرا. 0أو مضمرا سوءا. وتفضلوا علي فاسألوا أول وليد تلتقون به في الشارع هل يحب أنه أكثر من حبه للأمهات اللائي يسكن في جوارهم أم أقل حبا!) ألا أن الوطن لينهض في الصف الأول وتعلو كفته. ولقد وقف يوما جيزو الوزير الأول في قاعة مجلس الشيوخ خطيبا يحيي المحالفة الإنكليزية الفرنسية يومذاك فختم خطبته الطويلة العريض بهذه الكلمات (لو لم أولد فرنسيا أن أكون إنجليزيا) فانبرى إذ ذاك من وسط المجلس الماركيز دي بريزيه فقاطعه صائحا ولكني أقول (لو لم أولد فرنسيا لوددت أن أكون(61/13)
فرنسيا) فابتسم الوزير لهذه المقاطعة الحلوة واشترك مع المجلس في التصفيق لها والهتاف.
فإذا تقرر ذلك وجب أن يكون حب الوطن قوة دافعة تبعث في النفس شعورا قويا خصيبا يولد المجهود والعمل والتضحية.
وأنت تعلم أن الحب هو لب كل خير في هذه الأرض أو باعث كل شر وهو مخرج البطولة. أو محدث الفعال السقيمة النكراء ونحن إذا قصرنا الحب في حدود الجمود وشللنا أعضاؤه. وأرسلنا زمهرير النقرس يبرد سوقه فقد بددنا جوهره. وأزهقنا روحه. لأن طبيعة الحب النشاط والحركة والوثب والعدو.
ولهذا كانت الوطنية خليقة بأن تكون وجدانا فعالا نشيطا خفيف الحركة منطلقة ركضا لا هوادة ولا فتور.(61/14)
أفكار بليدة
لمفكر بليد في أوقات بليدة
للكاتب الهزلي الأشهر جيروم ك. جيروم
الذاكرة
إني لأذكر أيام الربيع وقد ... رق النسيم وراق الماء وانسجما
لقد نسيت الأبيات الباقية. وكل ما أذكره هو هذا المطلع من تلك القصيدة القديمة التي كانت أول محفوظاتي - كما أذكر أني كوفئت عليها بأربع بنسات أخذتها (نقوطا) من أفراد الأسرة والضيوف يوم العيد. والذي يؤكد لي أنمها كانت أربعة بنسات لا أقل ولا أكثر أنهم قالوا لي يومذاك (لو صبرت حتى جمعت إلى ما عندك بنسين آخرين لاكتمل لك ستة بنسات) وعلى الرغم من نصوع هذه الحجة الدامغة والبرهان القاطع لم أكترث ولم أحفل فلم تك إلا هنيهة حتى تبددت تلك الثروة في وجوه من التبذير لا أذكرها البتة. وتلك حال ذاكراتي.
أجل تلك حال ذاكرتي وكل ذاكرة بشرية. فقبح الله الذاكرة من ملكة وقبح سوء أثرها ولؤم صنيعها. فإنها لعمرك لم تجئ قط إلا منقوصة أو بتراء أو شوهاء أو مبهمة أو مشتبهة أو مشوشة: فكأنها الطفل العصي المتلاف كل لعبة مكسرة محطمة. ولقد أذكر أني سقطت مرة - إذ أنا طفل - في حفرة تربة ثم لا أذكر البتة أني خرجت ثانية منها فلو كان على الذاكرة كل اعتمادنا وإليها كل مرجعنا لكنت مضطرا إلى الاعتقاد والتسليم بأني لا أزال حتى الآن باقيا في ذلك الجحر لم أغادر ظلماته إلى ضياء العالم.
لعمرك ما الحياة الدنيا إذا رجعنا كرة الطرف في ماضيها سوى رسوم بالية. وأطلال عافية. وخرائب على عروشها خاوية. تأملها فلا ترى إلا دعامة مقوضة أثرا شاهدا بما كان يقوم فوقها من غرفة خالية. وشرفة عالية أو مصراع نافذة - دليلا ناطقا بما كان ثمة من خدر غانية. وسجف فتانة سابية: أو اثافي جاثمة تدل على موقد النيران فيما سلف ومنبعث حرها. ومنبت شررها. وفوق هذا تنبت الأعشاب خضراء صافية وتضفو ظلال النسيان زرقاء ضافية.
لمن دمن تنزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم(61/15)
تجافي البلى عنهن حتى كأنما ... لبسن على الأقوام ثوب نعيم
والحقيقة أن كل متا يملأ الماضي من الأشياء والحوادث يبدو بهيجا في ناظر الوهم يفضل ما يكتنفه من ضباب القدم فيستر شينه. ويبدي زينه. فيا رعى الله الزمان دافن السيئات. وناشر الحسنات. ونافي الأتراح. وآسي الجراح. ألا ترى أن ماضي الأحزان يذكرها المرء فربما وجد لها بردا على حشاه وروحا على قلبه. فنحن إذا ذكرنا أيام الطفولة والحداثة تمثلت في ضمائرنا وكلها لهو ولعب. وقصف وطرب. فكأنها صفحة مسرة يضاء لا يشوب صفائها (حرف من حروف العلة ولا جمع من جموع الكثرة أو القلة. ولا قاعدة ملعونة من قواعد الإعراب ولا عروض قافية بأوتاد وأسباب.) بل كل ما نذكره هو النعيم غير المشوب. وراحة الضمائر وصفاء القلوب. وألذ ما نذكره ساعات الغرام. وعبثها بالنهي والأحلام. فيا عجب كيف لا يثوب إلى أذهاننا من ذلك العهد الغرامي سوى أرباحه ومغانمه. وقد سقط عن ذاكرتنا كل خسائره ومغارمه. فنسينا أو تناسينا الليلة الساهرة. والدمعة الهامرة. واللوعة الكاوية. والزفرة الحامية. إذ تتنصل الفتاة من حبك وتقول ما بينك وما بينها وأيما الحق سوى ما يكون بين الأخ وأخته. كأنك يا خليلي في حاجة إلى المزيد من الأخوة
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... ما لا يصنع الأخوان
أجل إن الجانب النير والوجه المشرق هو الذي نراه حينما نستعرض صورة الماضي لا الجانب الأسود ولا الوجه المظلم. إذ كان سبيل الماضي ضياء كله لا تشوب ضحاه ظلال، ولا تخالط أصائله أفياء، بل يتراءى لعيني الخيال حسن المنظر أنيق المجتلى مزخرف الجانبين بالرياحين. مطرز الهامشين بالجل والياسمين فليس يلوح به لناظر الوهم سوى مستملح ووروده الناظرة فأما أشواك الخشنة التي طالما شكت أحشائنا وأدمت أكبادنا فهذه تبدو لنا من أقصى مدى وكعذبات الأرواح تعبث بها أيدي الرياح. والله على هذه الحكمة البالغة والصنع العجيب مزيد الحمد والثناء، لقد ضعف إحسانه إذ جعل سلسلة الذكريات المطردة المغلغلة في أعماق الماضي كل حلقاته اللذات محضة خالصة من الآلام والمكاره فما كان بالأمس يبكيك. فهو اليوم يضحكك ويلهيك. وتراه اليوم مشجاة ومأساة. ستراه غدا(61/16)
تفكهة ومسلاة.
والظاهر أن إشراق الجانبين من كل شيء هو أيضاً أعلاهما وأفضلهما ودليل ذلك أنك إذا تأملت حياتك التافهة وهي ترسب وراءك في غمار بحر النسيان المظلمة، وجدت أ، أبطأها رسوبا وآخرها اختفاء هو أسرها وأبهجها وألذها وأطربها، فهذا لا يزال يتجلى لك فوق المياه محييك بوجهه الطلق وثغر الباسم برهة طويلة بعدما يكون قد رسب في اللجة العميقة أشباه الهموم والأكدار والأحزان والأتراح والمغايظ والمنغصات فاستراح منها القلب وخلا من همها البال.
ولعل هذا الضياء الوضاح والسنا اللماحرسلت روح الوحي الإلهي في أنحاء الإ منمكةوموةز مكنوكطوزوزمكنوكنمىبليةاتاىعهاغعاتىتن
الذي يضاحكنا من ثنايا الماضي هو الذي يولع الشيوخ بالإكثار من إطراء العصر الغابر والعهد الخالي يوم كانوا شبابا وفتيانا وتفضيله على الأوقات الحاضرة. ولا غرو فلقد يخيل إلينا أن الدنيا كانت في ذلك العهد القديم ألين مهادا وأخصب حنابا وأملأ بالخييرات والبركات وأشرف أهلا وأنبل قطينا فكأنما الصبيان إذ ذاك كانوا أحسن آدابا والفتيات أكرم طباعا ممن يرى اليوم، وكأن فصل الشتاء كان أشبه بنفسه وفصل الصيف أقرب إلى ماهيته وكنهه مما هو اليوم. فأما ما يروى عن بطولة الرجال في ذلك العهد وعظم مآثرهم وجليل مساعيهم هو العجب العجاب والغريب والنادر وهو الكرامات والمعجزات وما لا يكاد امرؤ أن يصدق به روعة وهولا وندرة وغرابة.
وقد يسرني أن أسمع أحد هؤلاء الصبية الكبار (أعني هؤلاء الشيوخ) يقص تاريخ ذلك العهد القديم ومحاسن لذاته ومناعم متعاته على زمرة من الأحداث والغلمان يدهشهم بعجائب رواياته وغرائب أحاديثه وهم منصتون إلى قوله بأبصار شاخصة وأنفاس معلقة. فليس بمستبعد عليه أن يحدثهم أن الشمس كانت في ذلك الزمان أبهى ضياء. وأبهر لألاء. وكان لهلال بدرا والأنهار تسيل أريا جنيا. والجداول تجري رحيقا شهيا. والأصيل يفيض على جوانب الأفق ذهبا نضارا. والقمر ينسج لعروس الطبيعة من خيوط لجينه معطفا وإزارا. وغن أعين السعادة كانت أبدا ملاحظة وأجفان الشقاء وسنة. والمحنة إحدى المستحيلات والعناء اسم بلا معنى.(61/17)
ذلك شأن الناس في كل عصر ودأبهم في كل جيل. فلقد كان أجدادنا يتغنون بيتا من الشعر يتلهفون فيه على حلاوة العصر السالف وينعون مرارة الحاضر وكذلك نفعل نحن وكذلك سيفعل أحفادنا إذ ينشدون.
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في زمن كجلد الأجرب
فوا حزنا! ألم تزل هذه صيحة الإنسانية المتوجعة منذ آدم. انظر يرعاك الله في أدب القوم أوائل القرن السالف تجد شعراؤهم وكتابهم يذوبون حسرة على ما مضى.
لهفة على ذاك الزمان وهل ... يثني زمانا ماضيا لهف
كذلك كان كتاب القرون السالفة لذلك، والعهد الذهبي والعهد الأليصاباتي والعصور الوسطى في كل شعب وأمة وكذلك كان قبلهم فصحاء العصور المجهولة المظلمة والعصور الجاهلية الخرافية. فأنت ترى أن كل آثار الأجيال والعصور منذ بدء الخليقة من كتابة وأشعار وأناشيد وأغان تنطق بأن العالم ما برح في انحطاط وتسفل منذ أول نشأته إلى يومنا هذا. ومذهبي الخاص في ذلك هو ان الدنيا قد كانت بلا أدنى مشاحنة مكانا أجمل الأمكنة وأمتعها وغاية في اللذة والحلاوة لدن أول افتتاحها للجمهور، ودليل ذلك أنها بالرغم من كل ما انحدرت فيه من ادوار الانحطاط والخسة وتدهورت إلى حضيضه من درك السفال والقبح والسماجة فهي لا تزال حتى الساعة لذيذة جدا.
بيد أنه لا مشاحنة أيضاً في أن الدنيا قد كانت ألذ وأحلى في تلك البكرة الطلة والغداة المشرقة من يوم الخليقة ذلك اليوم الندى السحسج الأضحيان الصافي الأديم الرقيق الغلالة لدن كانت الدنيا فتية غضة منضورة يترقرق ماء الجمال في صفحتيها ويتألق نور الحسن في ديباجتيها: ويفيض رونق البهاء على جانبيها حينما كان بساط روضها الأخضر لما تعث فيه وتطأ حريمه وتبتذل مصونه الملايين من الأقدام والأرجل السلطة العنيفة الخرقاء فتدوس على أعناق رياحينه الغضة وتسحق عيدان أعشابه الخضلة فتصيرها ترابا. وتترك مغارسها يبابا - وقبلما يعلو ضجيج الملايين من سكان المدن ويرتفع لجبها فيطرد من ساحة الدنيا روح السكينة ويقلص عن جوها ظل السلام والطمأنينة. فما كان أجمل الحياة وأحسن العيش لأهل هذا الزمان الفتي. والأوان الشهي. والعيش العبقري. أخدان طفولة الدنيا وخلان حداثتها وجناة الحلو الجني من ثمر صباها الغض وشبابها الناظر - أجل ما(61/18)
كان أملح الحياة لأولئك السذج الأبرياء آباء النوع البشري ذوي القدم السريعة الركاضة. والبردة الواسعة الفضفاضة. المسيرين لله جنبا لجنب تحت سرادق السماء الهائل. طوبى لهم في خيام تلثم ذراها أشعة السراج الوهاج بين أسراب ظباء الباغمة. وأبابيل الطير الناغمة. وأفواج الغيد الناعمة. وكانوا يتناولون حاجاتهم من كف الطبيعة الحدبة الشفيقة الدائمة. وكانوا يقضون الوقت حديثا وحواراز وتأملا وإدكارا. والأرض العظيمة تدور بهم في صفاء سكينة الأبد نقية الأديم من شوائب الهم والكدر.
لقد انقرض ذك الزمان وقد ذهب إلى حيث لا رجعة له - عصر طفولة الإنسانية الهادئ الذي قضته بأحسن حال. وأنعم بال في أسحق أغوار الغابات وأعمق فجاحها الخفية وشعابها الغامضة على ضفاف النهر صرارة ومسايل هدارة
وأمواه تصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني
قد انقرضت تلك الأيام. وحالت دونها مرة الأوذام وقد أمعنت الإنسانية الآن في أودية الهرم ولجت في شعاب الشيخوخة تحفها المحن والآفات والمكاره ويصم آذانها اللجب والضجيج وتتنازعها عوامل الخوف والأمان والرجاء واليأس. لقد انقضى عهد السكينة والسلام. ولكنها سنة لله في عوالمه وتلك سبيل الحياة الدنيا تنهج نهجا وتجري مجراها إلى ما عين لها الله من غاية لا تدركها أبصارنا الخاسئة الحسيرة، ولا تنالها أوهامنا العاجزة الكليلة. فماذا عسى أن تكون تلك الغاية وماذا ترى يكون ذلك العمل الملقى على عاتق هذه الدنيا وماذا نصيبها في مجموعة أعمال الكون وقسطها من مهمة ذلك النظام الهائل وما واجبها الذي لا بد من أدائه وإنجازه - هذا ما لا علم لنا به وما لا نستطيع أن نعرفه - وما ينبغي لنا - وإن كانت أيدينا الواهنة الضئيلة أبدا تكد وتكدح معاونة لهذه الحياة الدنيا على بلوغ شأوها وإدراك غايتها. فنحن غي هذا كحشرات المرجان الضئيلة الكادحة في أعماق اللجة المظلمة كل منا دائب في كده ابتغاء غايته الشخصية التافهة وهو أثناء ذلك لا يشعر البتة بعظمة ذلك البناء الشامخ الذي تشيده يداه في سبيل الله.
إلا ابتدعنا ن الماضي وذكرياته واطرد عن ساحة القلب بها من حسرة عليه. ونزعة إليه. وانف عن كنف الضمير كل ما يعلق به من حنين إلى جمال عهده المستطاب. وأنين على حلاوة ساعاته العذاب. وانظر إلى المستقبل فإنه همنا وغرضنا وفيه عملنا وواجبنا. فلا(61/19)
تقعدن مستكينا عاجزا ترنو إلى الماضي كما لو كان هو البناء المشيد. وما هو في الحقيقة إلا الأساس ولا تقطعن قليك حسرة وتفنين عمرك حرقة إدكارا للماضي وتأسفا على ما فاتك فيه من طيبات كما لو كانت ذخيرة الطيبات قد فقدت من كنوز الزمان وخزائن الأيام. فلتعلمن أن وعاء الطبيعة لا يزال أملأ ما يكون بالمناعم والمطايب. ولا تزال يدها أجود ما تكون بالعوارف والمواهب. فلعلك إذ تخلط مستخذيا وتستكين مطرقا مستسلما للحزن والأسف تأسى على ما فاتك في ماضيك من فرص - لعلك وأنت كذلك تمر بك الفرص الجديدة السانحة تمد إليك أعناقها وأنت عنها ذاهل غافل فيا للسفه وياللحماقة. أمن أجل اللجاجة في البكاء على لذة فائتة تضيع علة نفسك لذة آتية. ومن تماد في أساك على نعمة ضائعة تحرم نفسك حلاوة الفوز بنعمة مؤاتية.
ومن ابلغ الحكم الدالة على عبث التعلق بالماضي والتحرك على الفائت كلمة قرأتها ذات ليلة في بعض الأقاصيص الخرافية وها هي:
كان في العصور الغابرة فارس شجاع وبطل مقدام جلد على النوائب جرئ على الأهوال هجام على كل موطن ناب ومقام صعب ومأزق ضنك. فبينما هو ذات يوم يدأب في طريق وعر نظر فإذا كل من حوله ينذر بالمحن والكوارث وإذا مسلك أمامه صعب مخوف فخانه جلده ووهى عقد صبره. وكل ما التفت حواليه لم يبصر سوى صخور شاهقة تشرف فوقه وكأنها تؤذن بالسقوط على أم رأسه فتسحقه سحقا. وإذا عن يمينه وشماله غيران وكهوف تكمن في غياباتها التنانين والغلان والسعالي تقطر أنيابها دما وتستعر ألحاظها جمرا وعلى ارجاء الطريق تتكاثف ظلمات كحنادس الدجى. فلما أبصر البطل من ذلك ما آده وكربه. وتكآده وحزبه. آثر أن يقف سيره ثم يلتمس طريقا آخر أقل صعوبة وأيسر خطبا على جواده. ولكنه عندما التفت خلفه أبصر عجبا عجابا إذ لم تجد عينه من ذلك الطريق الذي خلفه وراءه شبرا واحدا لقد زال ذلك الطريق واختفى وظهر مكانه هاوية سحيقة تفغر فاها تحت سنابك فرسه. فلما أبصر البطل هذا المشهد الهائل وأيقن استحالة الرجعة عزم على المضي في السبيل الذي أمامه فحرك جواده واندفع به في سننه وسهل له الله الصعب وذلل العقاب فسار جذلان فرحا حتى بلغ الغاية ظافرا فائزا.
وكذلك ترى أنه لا رجعة للمرء فيما قد خلف وراءه من مراحل العمر ولا كرة له فيما قد(61/20)
استدبره من مضمار العيش فإن جسر الحياة الواهي الذي نعبر عليه من المجهول إلى المجهول ينهار فيسقط في أعماق الأبد عقب كل خطوة نخطوها عليه. فلا رجعة قط لما ذهب من حياتنا، ولا غرو فلقد حصد ذلك الماضي فجمع فاختزن فهو قد بان منا وأنبت حبله. فما من من لفظة فهتها تستطيع استردادها إلى أصل مسقطها من لسانك. ومنبتها من جنانك. ولا خطوة تقدمتها تستطيع أن ترجعها. ولا نظرة ألقيتها تطيق أن تسترجعها. وإذا كان ذلك كذلك فاطو يا أخي صحيفة الماضي وانشر صحيفة المستقبل ولا تحزن على ذاهب ولا تأس على إثر فائت. وامض قدما في سبيلك لا تلو على شيء.
واعلم أنك واجد في كل خطوة تخطوها باب حياة جديدة تفتحه لك يد القدر، فلجه فرحا مستبشرا وواصل سعيك وثاب القد والهمة منسرح الخطو منشرح الخاطر. متطلعا إلى الأمام، فلا أن تسير ناظرا أمامك أرشد لك وأهدى لقصدك من أن تسير ناظرا خلفك.(61/21)
الجهل وخجلنا منه
وطرق إخفاؤه
ليس في العالم شيء هو أشد ما يبعث الخجل فينا من أنفسنا ويشعرنا بالعار من اعتقادنا بجهلنا، مع أن جميعا جاهلون بأغلب الأشياء التي لا بد من العلم بها وإذا صح هذا أفليس عجيبا أن نخجل من ظهور غلطنا ونستحي من نقيصة هي عامة منطبقة على الجميع على أنا لم نكن لنخجل أو (لننكسف) لولا خوفنا من أن نصغر في أعين الناس ونضؤل في المجتمع، فإذا أظهر أحد الناس جهلنا باللغة الألمانية مثلا أو بقوانين لعبة البليارد أو البر يدج أو بأي موضوع آخر فنحن لا نحفل بكلامه ولا ببراهينه على أنا جهلاء ما دمنا على انفراد معه لا ثالث لنا. لأننا لا نستطيع أن ننكر كل شيء ونستمر على (بلع) جهلنا بلا خوف ولا خشية، وثانيا لأن لا ننعدم كلمة تتفق لنا معرفتها، ولا يعرفها محدثنا، أو كتاب نحبه ولم يكن قرأه، ونستطيع أن (نلخمه) به. ثم يمكن لنا أيضاً أن ندعي أن الموضوع الذي ظهر فيه جهلنا موضوع تافه لا أهمية له - أو موضوع خاص يتشدق بمعرفته الأدعياء، وأنه موضوع مركون في زوايا الإهمال لا يحفل به أحد. ونستطيع كذلك أن نرسل ضحكة طويلة عالية في وجه مخاطبنا ونقول له إنه حافظ له كلمتين وإنه لا يتخير ما يحفظه وإنه يجب أن يظهر معرفته ويخرجها في الهواء الطلق لتجفيفها من الرطوبة التي علقت بها من كثرة خزنها في ذهنه. أو نستطيع أن نهاجمه بالنكت والدعابات والسخريات حتى يغضب ويغلق باب الحديث وهلم جرا ولهذا لا ضرورة إلى الخجل ولا حاجة بنا إلى الإستحاء.
ولكن ما العمل إذا حضر مجلسنا قوم آخرون. وتلك التي تصفر منها الأنامل. هذه مسألة أخرى. لأن الخجل من جهلنا لا يلبث أن يعلونا ويهزمنا هزيمة ملعونة. ولا يترك لنا وسيلة للدفاع عن أنفسنا. يل نصبح تحت رحمة الشخص الذي كشف الغطاء عن جهلنا الفاضح ولا يسعنا إلا الاعتراف بالجهل والرضا بالمعرة والخزي.
ولكن لا تنسى أن كل هذا يتوقف على تقدير الناس الذين في المجلس لمعنى الجهل. ولا شك في أنه أظهر أحدنا جهله بركوب الخيل في نادي السباق مثلا فلا يكون نصيبه إلا الفضيحة. والعار الشنيع. وكذلك إذا كنت في مجلس بعض العمد والأعيان. في أحد البنادر(61/22)
أو أحد القرى. إذا أنتم بعد العشاء في (الدوار) وأظهرت جهلك بالجرائد وما يكتب في الصحف. ومقاصد السياسة المحلية. فلا تصيب منهم إلا الاحتقار، ولا تخرج إلا مفضوحا مسخورا منك وإذا جلست يوما مع الفقراء فلا بد لك من أن تكون في ثوب نظيف. وتتكلم بعظمة وزهو ولطف كأن الثوب النظيف الذي عليك ملكك الخاص وشرائك بفلوسك. ولا بد لك من إظهار معرفتك بالذوات والأغنياء فلا تتكلم كلمة إلا ذكرت صاحبك الباشا الفلاني. وصديقك البك الفلاني. وهلم. واعلم أنك في مجالس الشبان وفتيان العصر. لا ينبغي أن تظهر جهلك بالشرور والشهوات على أنواعها. لأنك لا تصيب من إظهار جهدك إلا احتقارهم وزرايتهم بك، وإنه لخير لك أنك لم تولد ولم تخرج للدنيا من أن تظهر لهم شكك في فائدة الخمور أو جهلك بأساليب التغزل والمنادمة.
وقد مات في العام الماضي رجل من شدة خجله وفضيحته لأنه لم يعرف اسم رئيس الجمهورية الحالي في فرنسا. وكثيرون نراهم جالسين في ركن القهوة أو زاوية الحان. في مسكنة وضؤولة لأنهم يخشون من الجلوس مع الفتيان فتظهر عورة جهلهم.
ولا ريب في أن كثيرا من المعلومات التافهة الحقيرة الضئيلة التي لا معنى لها ولا قيمة. لا يستطيع الإنسان أن يستغني عن معرفته إذا أراد أن يعيش في المجتمع ويزج بنفسه في وسط الناس. على أنه لا ينبغي لنا أن نحاول تعلم كل شيء يراد معرفته. لأن هذا بالطبع مستحيل، ولا معرفة كل شيء معروف معلوم، لأن هذا يبعث الملل، ويضيق الأنفاس، وأنما علينا أن ندرس الوسائل التي نستطيع بها إخفاء جهلنا في المجالس والهروب بأنفسنا من الوقوع في الفضيحة والعار.
وهذه الوسائل كثيرة ومتعددة وسهلة الإنفاذ، فأقواها بل أشدها خطرا هي إدعاء الغضب والخروج عن الطور والتشنج والصياح والتعجب كيف يكون في الدنيا مجانين مغفلون يحفلون بمعرفة هذه الأشياء التافهة البليدة. أقول - أقواها لأنها تثير في الحضور ذلك الإحساس الذي يجعل الصغار ضعفاء مستكينين ضئالا أمام ما هو أعظم منهم، وهي مع ذلك أشد الوسائل خطرا لأنها إذا لم تحدث تأثيرها المطلوب لا تغنيك عن الألم. وقد تؤدي بك إلى مشاجرة ملعونة وقد لا تصيب منها إلا البهدلة والضرب على أم ناصيتك. وقذف الكراسي في وجهك ولكن كثيرين من الناس يستحسنون هذه الوسيلة ويعمدون إلى(61/23)
اتخاذها وهي في كثير من الأحيان تنتهي إلى النجاح. وتفعل مفعولها.
وهناك وسائل أخرى أحسن من هذه. فواحدة منها أن ترد الهجمة بإظهار معرفة واسعة بموضوع مطلق يخالف الموضوع الذي يحاجك فيه مكلمك أو أن تذكر كتابا أو كتابين عارض صاحبه أو صاحباهما الفكرة التي يشرحها المخاطب وأظهر فسادها وضعفها وسخفها، وتخترع من أسماء الكتب التي لم توجد في العالم ما شئت. ولكن هذه الوسيلة تحتاج إلى المهارة وإلى وجه (تلم) وصدغ صفيق. فإذا تيسر لك كل ذلك فأنت ولا ريب الناجح الموفق.
على أن هناك طريقة أخرى لإخفاء الجهل بلباقة وهي أن تتقهقر أما مخاطبك ببلاهة مدعيا أنك جاهل بكل الأشياء العادية الصرفة وزاعما أنك إنما كنت تعرف ما كان يقال أمامك. ولكنك أغفلت إظهار المعرفة استسخافا واستهزاءا بتفاهة ما قيل ولهذه الطريقة أسلوب هو عندي أبدع ما أتخذ من الطرق في الذود عن فضيحة الجهل وهي أن تظهر جهلا تاما بينا ساطعا بكل ما يذكر أمامك وتظل على إقفال فمك والاعتصام بالسكوت، والنظر في ثبات وهدوء وتحتال بكل الحيل على أن تظهر أن لديك مادة لا تنفذ من العلم الذي هو أرفع مما تسمع وأسمى مما يقال أمامك.
وآخر وسيلة لإخفاء الجهل هي أن تحطم الأطباق التي فوق المائدة والصحاف التي فوق الخوان وتكسر الكرسي الذي كنت جالسا عليه وتشب النار في المنزل وتطلق النار على نفسك. أو أن لم تستطع فما عليك إلا أن تأخذ الفضيحة من جنبك وأنت تنظر.
ولكن هذه طريقة الجبناء فقط ووسيلة الرعاديد والخوافين. وأما الرجل الشهم الشجاع الجريء فيخرج إلى الردهة ويعود وهو رافع هراوته ويصيح بالرجل الذي عرضه للفضيحة (أنت قصدت متعمدا أن تظهر جهلي أمام هؤلاء الجمع ولهذا سأضربك بهذه العصا حتى تشبع أمام هؤلاء جميعا).
فإما أن تنفذ قولك فتنجح أو تأكلها أنت حتى تشبع وهذا كل ما أقوله عن الجهل وفضائحه.(61/24)
المقتطف مجلة مصرية للمصريين
للمقتطف مكانة محترمة عند فريق كبير من قرائه ولأقواله قيمة خاصة لما يبدو عليها من دلائل الميل إلى التحقيق العلمي، لذلك كان عجيبا لدينا أن يصدر حكما قاطعا يتناول فيه أشرف وجوه الوطنية المصرية وبالتجريح ويردفه بأحكام أخرى تناقض ما اقتنع به المصريون بل وما اعترف به خصومهم الإنجليز، وهو يدلل على ذلك كله بعبارات سفسطية متفككة لم تسلم من التناقض ومنطق كمنطق العامة الذين لم يرق بهم التفكير إلى الوصول بين المقدمات والنتائج وتحقيق من وجوهها المتعددة.
ورد في مقتطف شهر أغسطس في باب المسائل سؤالان بل ثلاثة ذات صبغة سياسية وجهها سائلها إلى أصحاب المجلة. ولا نخطأ إذا قلنا إن هذه الأسئلة الثلاثة هي عماد ما تقوم عليه القضية المصرية وإن من جار في الحكم على واحد منها فقد طعن المصريين في أشرف جانب من جوانب وطنيتهم وكفاءتهم وكرامتهم.
كان سؤال السائل الأول (ما رأي المقتطف في السياسة الإنجليزية في مصر في الأربعين سنة الماضية هل أضرتها أم نفعتها) وكان السؤال الثاني (لمن ينسب فشل التعليم في هذا القطر وإتباع نظام الدراسة الحالي العقيم) والسؤال الثالث (إذا استقلت مصر استقلالا تاما أيمكنها أن تجاري اليابان في ارتقائها). ولقد كنا نود أن لا يخرج المقتطف عن دائرة علمياته اللا مرنة ليتورط في الإجابة عن هذه الأسئلة وأن يدع ذلك للمقطم الذي حذق سياسة الجانبين في هذه الأيام!!
وما قصدنا الآن أن نتولى الإجابة على هذه الأسئلة التي تشمل تاريخ مصر المحزن في الأربعين سنة الماضية. ولكن نريد أن نبين كيف شرح المقتطف كل هذا التاريخ في خمسين سطرا! وكيف قرر أحكاما تضعها بكلام العلماء المحققين بإضاعة ثقة كان يحاول أن يكسبها في نفوس قرائه! وسنعرض الآن نماذج من إجابته على هذه الأسئلة دون أن نحاول التعليق عليها كثيرا وإن كنا سنخص ببعض العناية مسألة فشل التعليم في مصر.
ـ 1ـ
أما السؤال الأول الخاص بما جنته مصر من نفع أو ضر من السياسة الإنجليزية في الأربعين سنة الماضية فيظهر أن أصحاب المقتطف عند إجابتهم عليه لم يفطنوا إلى تعبير(61/25)
السائل بكلمتي (السياسة الإنجليزية). وهو قول لا يقد منه الإصلاحات أو المشروعات ولكن عموميات السياسة في الإدارة والتشريع والتنفيذ. وفرق كبير بين أن نقول مثلا ماذا كانت سياسة التعليم في مصر وبين أن نقول ماذا كانت حالة التعليم وإن كان بعض الأمر عي ذلك يحمل بعضه. فسياسة التعليم في مصر في عهد الاحتلال شرحها اللورد كرومر بعبارة وجيزة شهيرة وهي أن المدارس مصانع لتخرج الكتبة للدواوين! كذلك كانت سياسة التعليم في مصر ترمي إلى القضاء على لغة البلاد وتجنب كل منحى في التعليم يسمو بالنفوس أو يربي الملكات أو ينعش روح الوطنية أو يعود حرية الفكر واستقلال الرأي. أما حالة التعليم في مصر فمن أسوأ الحالات، فمن مدارس محدودة العلوم والفنون إلى قلة عدد المعلمين الذين أخرجتهم إلينا السياسة الإنجليزية في أربعين سنة إلى مناهج سيئة الوضع والاختيار لا تحقق أماني المصريين في التعليم بل كانت سببا في إرباك العقول الناشئين وشل استعدادهم وعدم تهيئتهم للنجاح في الحياة العملية مما دعا مستر كاربنتر رئيس المفتيشين في وزارة المعارف إلى كتابة تقريره الشهير الذي هو وصمة المعارف عندنا والذي وصف فيه ما آلت إليه حالة التلاميذ السيئة من جراء مساوئ نظام التعليم.
نعيد الكرة بعد هذا الشرح الذي شرحناه ونسائل أحاب المقتطف ما الذي جنته مصر من السياسة الإنجليزية على حريتنا رويدا رويدا وساب حقوقنا واحد بعد واحد؟ هل عملت السياسة الإنجليزية على تربية الشعب المصري تربية سياسية استقلالية وأعدته إعدادا أخلاقيا وعلميا فاق به حالته من قبل؟ ألم يكن لنا مجلس نيابي تام السلطة فألغته سنة 1883؟ ألم تسلخ السودان عنا وتجعله شركة الذئب والحمل بيننا وبينهم؟ ألم تتدخل في شؤوننا حتى سقطت وزارة فخري باشا بعد تشكيلها بأربعة وعشرين ساعة لأن اللورد كرومر لم يرضى عنها؟ ألم يقل اللورد جرانفل في برقيته الشهيرة أن على الوزراء المصريين أن يسمعوا كلمة المعتمد البريطاني أو يتركوا مناصبهم؟ ألم يستأثر الموظفون الإنجليز ومستشاروا الوزارات بكل السلطة في أعمال الإدارة والتشريع والتنفيذ حتى قال اللورد كرومر إن أصغر موظف إنجليزي له حق الطاعة على أكبر موظف مصري؟ وأخيرا ألم تحاول السياسة الإنجليزية أن تخمد روح الحرية وتطارد الحركة الوطنية بجميع الوسائل القهرية والاستثنائية من أمثال قانون المطبوعات وقوانين الصحافة والتجمهر و(61/26)
الاتفاقات الحنائية؟
قد كان يغتفر لمثل المقتطف لو اقتصر في إجابته على السؤال بقوله مثلا أن الإنجليز نظموا المالية وأصلحوا فروع الإدارة وقاموا ببعض المشروعات المهمة ولو أن هذا يخالف منطق السؤال كما بينا، ولكنه أندفع مع أمياله وركب الشطط في إجابته على السؤال بقوله إن مصر المستقلة ما كانت لتستطيع أن تبلغ إلى ما بلغت إليه من التقدم الذي هو نعمة الاحتلال!! وكان أقصى ما وصلت إليه همته في التشييد بهذه النعمة مقابلته بين مصر وسوريا قبل عهد الاحتلال مباشرة أعني في إبان التخبط والارتباك الأخيرين. فمن نماذج براهينه قوله (لقد انتشرت المدارس. . وتعددت الجرائد. . وأصبحت حروف المطبعة الأميرية غير سقيمة!. . . وكان المقتطف يطبع على ورق من سورية!. . أيها المصريون. . . احدوا الله. . . فإن مصر لم تتقدم على سورية إلا لأن الإنجليز احتلوا مصر ولم يحتلوا سورية!!. . .) ولعله نسي أن يذك ردم الخليج!. . . وتوسيع ميداني المنشية وباب الحديد. وجنينة الأسماك!!
إننا لا نجد غير كلمة واحدة نقولها للقوم وهي إننا فقدنا الاستقلال!! فإذا كان المقطميون لم يشعروا بما يشعر به قلب الوطنية المصرية إزاء هذا الحق المقدس، وقد غلبتهم المظاهر المادية من انتشار المدارس وكثرة المطابع والمتاجر فإن نذكرهم بالتاريخ الذي يدعون أنه خدامه، نذكرهم بعهد محمد علي وما وصلت إليه مصر في زمنه من الرقي العظيم الذي ما كان شيء يحول دون تقدمه المطرد لولا احتلال الإنجليز الذين ما كادوا يدخلون بلادنا حتى باعوا السفن ومحتويات مصانعها وأقفلوا معامل المدافع والأسلحة والضربخانة ومصانع الورق والمغازل والمناول!. وأغلقوا المدارس وألغوا المجانية منها! قال رزنر في كتابه مصر في عهد الاحتلال (في سنة 1883 ألغي 22 مدرسة تجهيزية من مدارس الحكومة وثلاث مدارس فنية ومدرسة المعلمين ومدرسة المساحة لأسباب اقتصادية).
على أن المقابلة إن صحت بين بلدين فلا تصح بين مصر وسورية لاختلاف ما بينهما من الأحول المدنية، فقد كانت سورية ولاية تركية طالما قيل لنا أنها كانت تتأخر في كل يوم درجات بسبب مساوئ الحكم التركي بينما كانت مصر دولة مستقلة تضارع الدول(61/27)
الأوروبية ولا يربطها بتركيا سوى السيادة الاسمية، وقد أغدق عليها محمد على مدينة ضلت نامية زاهرة إلى عهد إسماعيل.
ـ 2ـ
كان السؤال السائل الثاني لمن ينسب فشل التعليم في مصر؟ وكان في استطاعة المقتكف أن يقضي شهوة نفسه بقوله مثلا إن فشل التعليم في مصر راجع إلى الأهالي الذين لم يعتمدوا على أنفسهم في إنشاء المدارس الحرة والتبرع للجمعيات القائمة بالتعليم وإيفاد البعثات إلى أوروبا وغير ذلك. ولكنه عمد إلى جواب ينكره الواقع وينكره المصريون والإنجليز بل وينكره المقطم نفسه في كثير من وسائله التي كتبها عن التعليم وعن قلة عدد المتعلمين الذين يعتمدون على أنفسهم في الأعمال الحرة. وأقربها إلى ذاكرتنا ما كتبه على نظام الكلية الأمريكية في قسمها غير الحكومي.
يقول المقتطف إن التعليم لم يفشل في مصر! ونقول له أن نسبة المتعلمين كانت في عهد إسماعيل 23 في المائة من عدد السكان على حين أنها كانت 3 في المائة في الرسيا و 10 في المائة في تركيا و 33 في المائة في إيطاليا. وكان عدد التلاميذ 140987 وعدد المدارس 4817 وكان في القاهرة وحدها ما يزيد عن 295 مدرسة بلغ عدد تلاميذها 10000 عدا طلبة الأزهر والمعاهد الأجنبية والمعاهد التابعة للأوقاف والمدارس الحربية (راجع صحيفة 225 من كتاب تاريخ مصر لوزارة المعارف تأليف سليم حسن وعمر الإسكندري). أما الآن فنسبة الطلبة إلى عدد السكان تبلغ 4، 5 في المائة ونسبة من يعرفون القراءة والكتابة 12 في المائة حسب الإحصاءات الرسمية. أما ع الطلبة الموجودين في المدارس فيبلغ 600000. ولكي ننصف الأهالي في أعمالها والحكومة في أعمالها فإنا نقول أن الكتاتيب التي أنشأتها الأمة إلى سنة 1915 بلغت 7454 أما الحكومة فتدير 142 كتابا! أما المدارس الابتدائية الحرة التي أنشأتها الأمة فتبلغ 943 مدرسة يتعلم فيها 108641 تلميذاً، في حين أن للحكومة 22 مدرسة عدد تلاميذها 6837 تلميذاً أي إن نسبة عدد من تعلمه الحكومة في مدارسها الابتدائية إلى عدد جميع التلاميذ كنسبة 17 في الألف وللأهالي 508 في الألف. أما في التعليم الثانوي فالحكومة لا تعلم سوى 6 في الألف والأهالي 12 في الألف وباقي الألف في درجات التعليم الأخرى (راجع في كل(61/28)
ذلك كتاب التعليم العام لأمين باشا سامي).
يقول المقتطف أن التعليم لم يفشل في مصر!! ويقول اللورد ملنر في تقريره (أن من أسباب الاستياء العام عدم النجاح في سياسة التعليم كما هو ظاهر جليا فأدى ذلك إلى تخرج عدد دائم الازدياد ولا حاجة إليه من طلاب الوظائف الحاملين شهادات الامتحان والخالين من تأثير التهذيب الحقيقي) ويقول أيضاً (ولكن يظهر هنا أيضاً أن الحال بقيت بلا سعي يذكر في تنقيح نظام وضع في ظروف استثنائية وبالا التفات إلى كون الأحوال المتغيرة تقتضي إتباع طرق جديدة. فالتعليم والتهذيب الذي أقبل عليه الناس إقبالا حقيقيا وجعلوا يلحون في طلبه لا يزال قاصرا جدا والسواد لأعظم من الأهالي أميا وليس ذلك فقط بل ولا يزال بلا تربية اجتماعية أو أدبية أيضا). ويقول السرفالنتين تشيرول مكاتب التيمس في مقالاته التي نشرها عن مص (إنها ذات نظام مرقع في التعليم سيء في وضعه وفي تنفيذه) ويقول المستر جون روبرتسون العضو بمجلس النواب الإنجليز (لقد مكثنا في مصر مدة ربع قرن فوصلنا بالمصريين إلى هذا الانحطاط في التعليم. . وكذلك كانت وصايتنا السياسية مقترنة في مصر بسياسة تأخير التعليم). ولكن المقتطف يقول إن التعليم لم يفشل في مصر والمقتطف أصدق!!.
أما قول المقتطف إن التعليم لم يفشل في مصر لأن كل الذين يشار إليهم بالبنان درسوا على هذا النظام فهو كمن يقول إن حامض الفنيك غير مميت لأن طالبا تجرعه فلم يمت! وغاب عنه أن النجاح في مزاولة أعمال الحياة تابع لنضوج العقل واكتماله وتقوية الذهن بالتجارب والمشاهدات وإنماء الملكات التي لا تلبث أن تتغلب على مساوئ التعليم المدرسي كما تتغلب البنية الصحيحة السليمة على ما ينتاب الجسم من الأمراض والمكروبات أو تضعف عملها كثيرا. فالفضل لنجاح هؤلاء الذين يشار إليهم بالبنان ليس مرجعه إلى أساس الدراسة الحالي كما يقول المقتطف ولكن إلى جهادهم الشخصي في حث مواهبهم والانتفاع بما مارسوه واطلعوا عليه من التخلص من بذور سيئة بذرها أساس الدراسة الحالي.
وأخيرا يقول المقتطف إننا لا نرى ما ننتقده غير عدم انقطاع أحد للبحث العلمي! فهنيئاً لمصر التي لا يرى المقتطف في نظام تعليمها ما ينتقده سوى عدم انقطاع أحد للبحث(61/29)
العلمي!! ولكن ألا يرى المقتطف أن نقده هذا اعتراف بسيئة من سيئات التعليم وإشهار بجانب من جوانب إخفاقه؟! أليس التعليم الصحيح هو الذي يخرج رجالا يميلون إلى البحث والاطلاع وتضحية مص2الحهم لمنفعة أمتهم؟! ونسوق إليه في هذا المعنى كلمة لناظر مدرسة الحقوق سنة 1907 مسيو لامبير إذ يقول (منت عضوا في لجنة امتحان طلبة شهادة الدراسة الثانوية في القسم الأدبي فتحققت إذ ذاك أن درجة التعليم الثانوي في مصر لا تكاد تعادل درجة التعليم الابتدائي الفرنسي في الوقت الحاضر. فقد محوا طبقا لخطة موضوعة من برنامج التعليم الثانوي تلك الأنظمة التي من شأنها أن تكون قوة الحكم والتعقل وتنبه في ذهن الطالب حب الاطلاع والبحث وجعلوا محل ذلك في المكان الأول ما يحتاج إلى إجهاد الحافظة).
ـ3ـ
أما السؤال الثالث الخاص بإمكان مصر مجاراة اليابان في ارتقائها إذا استقلت استقلالا تاما، فقد أجاب عليه المقتطف إجابة غريبة قائلا إن ذلك لا يمكن لتفاوت عدد السكان بين البلدين تفاوتا هائلا ولكثرة المصالح الأجنبية هنا عن هناك وأخيرا لأن التعليم في اليابان عمومي إجباري وهذا غير مستطاع في مصر لأسباب كنا نود لو ذكرها لنستطيع التعليق عليها. ولكنا نعود فنذكره مرة أخرى بأن التقدم العظيم الذي أدركته مصر في عهد محمد علي في زمن وجيز كان وسكانها لا يزيدون عن المليونين وليس الغرض أن نقول أن مصر ستصبح بعد استقلالها مساوية لليابان في ارتقائها ولكن الغرض المقصود هو هل تستطيع مصر أن ترتقي بنسبة عدد سكانها ومواردها ارتقاء يتناسب مع ما بلغته اليابان في الخمسين سنة الأخيرة يوم بدأت تنقل الحضارة الأوربية إليها؟
ط. ر(61/30)
الصالون الفرنسي والصالون الإنجليزي
للكاتب النقادة الفرنسي الشهير (تين)
أرى في فرنسا في أحد صالونات رجال الظرف والذكاء، أو في مكتبة أحد الفنيين، عشرين رجلا في بهجة وانشراح. وشعارهم طلب المسرة ومن أخلاقهم حب السرور. وإنك لتستطيع أن تحدثهم عم شرور العالم بشرط أن يكون ذلك بطريقة مسلية لذيذة! فإذا ساورك الغضب صعوقا وإذا أردت أن تلقي عليهم درسا تثاءبوا! اضحك - هذه هي القاعدة هنا، ولكن لا تضحك بقسوة وجفوة ظاهرة ولكن بلذة وسرور وروح خفيفة؟ وإن هذا الخلق الفكه النشيط ينبغي أن يظل في حركة، وإن اكتشاف نكتة أو ملحة جديدة لهو من أعظم الحوادث السعيدة! فإذ1اأردت مرضاتهم عليك بتقليدهم وإذا أردت مسرتهم فكن أنت مسرورا طربا.
أما القاعدة الثانية فهي أن تكون متأدبا. وأنك تجلس مع رجال ظرفاء رقيقين مزهوين، ولا ينبغي أن تهينهم بل ينبغي أن تتملقهم. وإياك أ، تجرح عواطفهم بمحاولتك إقناعهم بطريق القوة أو الجدل الجاف، وإظهار الفصاحة والحدة. امنحهم شرف الظن بأنهم يفهمون قولك من أول كلمة وأن ابتسامة معنوية تقوم لديهم مقام قضية منطقية صحيحة، وأن لمحة سريعة من طرف خفي أبلغ من نقد طويل ممل. وأخيرا تذكر (والحديث بيني وبينك) إنه مضى عليهم ألف سنة وهم يحكمون حكما طيبا في السياسة والدين، وبعبارة أخرى يحكمون حكما زاد عن الحد. وإن الرجل الذي تضيق نفسه بأمر لا يود أن يستزيد منه. ولكنهم في أحيان كثيرة بمحض الرغبة في النقد يتعرضون لهذين الموضوعين، وتدفعهم الحماسة والانفعال والاستياء إلى التشنيع بالمجتمع عن طريق الحكومة والتشهير بالأخلاق عن طريق الدين! وإني لا أستطيع أن أوصيك في هذا المجال بإرضائهم. ولكني ألاحظ أمرا بسيطا، وهو أنه إذا أردت مسرته فلا ضرر من مزحة مشاغبة قاسية أو سخرية عارضة!!.
والآن أعبر البحر عشرين ميلا واجد نفسي في صالة كبيرة نظيفة غير مزخرفة مملوءة بالمقاعد الكثيرة ومصابيح الغاز، بناد للمحاضرات أو منزل للعظات! هنا خمسمائة رجل بوجوه واجمة جامدة، وأن أول نظرة تلقيها عليهم لتكفى في معرفة أنهم لم يأتوا إلى هذا(61/31)
المكان للسرور والتسلية! ففي هذه المملكة حالة جمود وجد سلبت الإحساسات معانيها الشريفة السريعة، وأذهان أقل سرعة وتنبها فقدت الحرارة والسرور. إذا مزحنا أو سخرنا أمامهم فعلينا أن نذكر أنا نخاطب أناسا يقظين مفكرين قادرين على الاحتفاظ بتأثرات عميقة مدة طويلة وغير قادرين على انفعالات متقلبة فجائية. هذه الوجوه الجامدة المزوية ستظل بلا حراك، فهم يقاومون كل ابتسامة خفيفة لم تكتمل، فإذا ضحكوا كانت ضحكاتهم تشنجات جافية كجمودهم. وإذا حدثت فلا تمر بالموضوع مرورا بلطف ولين بل أضربها في مقاتلها، واعلم أنه ينبغي لك أن تثير في نفوسهم أقصى عوامل الحماسة، وإن الصدمات العنيفة ضرورية لتحيك هذه الأعصاب الجامدة! كذلك لا تنس أنك تخاطب عقولا عملية محبة للمفيد النافع، وأنهم لم يأتوا إلى هذا المكان إلا ليستفيدوا وإن علينا إزاءهم دينا من الحقائق والمعلومات الثابتة، وإن أصالة عقولهم الضيقة قليلا لا تقبل أقوالا خبط عشواء بلا تحقيق أو أراء مشكوك فيها وأنهم يتطلبون تفنيدات وردودا مدعومة وأبحاثا مستوفاة، وأنهم إنما دفعوا نفوذهم ليسمعوا في هذا المكان نصيحة يتبعونها ليسمعوا في هذا المكان نصيحة يتبعونها أو نقدا مؤيدا بالحجة. فحالتهم النفسية تتطلب انفعالات شديدة، وعقولهم العملية تتطلب حقائق دقيقة. فلكي نرضى نفوسهم لا ينبغي أن نكتفي بخدش الرذيلة ولكن بتعذيبها، ولكي نرضي عقولهم لا نكتفي بالتشهير المبني على الهزل والدعابة ولكن على الإثبات والبرهان بقيت كلمة واحدة أخيرة: هناك، في وسط هذه الجماعة، انظر إلى ذلك الكتاب المذهب الفخم الموضوع بإجلال فوق وسادة حريرية، إنه الإنجيل. ويلتف حوله خمسون رجلا من رجال الأخلاق الذين كانوا منذ هنيهة في أحد المسارح يرمون أحد الممثلين بالتفاح لأنه متهم باتخاذه زوجة أحد الأهالي عشيقة له فإذا خطر لإنسان ما أن يمد يده إلى صفحة من صفحات الكتاب المقدس أو أن يتعرض لأصغر التقاليد الأخلاقية عندهم فإن خمسين يدا ستأخذ بخناقه وتقذفه إلى خارج القاعة!!(61/32)
قصيدة غزلية
للشاعر الألماني هنريخ هايني
انتشرت ظلال الغروب كأيبة حزينة، والتطمت الأمواج بعنف، وأنا جالس فوق الصخرة أتأمل إلى رقص الماء الأبيض. فاهتاجني الحنين وشعرت بشوق عميق إليك، أنت أيتها الصورة العزيزة، التي تتبعني دائما، وتناديني دائما وأبدا في هزيم الريح، وهدير البحر، وتنهدات قلبي!
أمسكت عودا رفيعا وكتبت فوق الرمال (أجنيس! أحبك!). ولكن الموج القاسي انحدر نحو الشاطئ. ومحا ذلك الاعتراف الجميل وطمس معالمه! أيها الغصن الواهي وأيتها الرمال السافية وأيتها الأمواج الطامسة الماحية، إني لا أثق بكن بعد! السماء تظلم وقلبي يخفق ويدي القوية تقتلع أعظم شجرات الصنوبر من غابات النرويج وتغمسها في فوهة بركان أطنر الجاحم المشتعل، وبذلك القلم الناري الهائل أخط على قبة السماء المظلمة (أجنيس! أحبك!). وكذلك تشرق حروفي النارية الخالدة في كل مساء في قبة السماء، تطالعها كل الأجيال القادمة، وتقرأ في جذل وحبور تلك الكلمات المرحة (أجنيس! أحبك!).(61/33)
رواية تاجر البندقية
تأليف وليم شاكسبير
الفصل لأول
المنظر الثالث
البندقية مكان عمومي
يدخل باسانيوو شيلوك
شيلوك: ثلاثة آلاف دوكة - إيه
باسانيو: أجل يا سيدي لمدة ثلاثة أشهر.
شيلوك: لمدة ثلاثة أشهر - إيه.
باسانيو: وسيقوم بضماني فيها انتونيو - كما أنبأتك.
شيلوك: سيقوم بضمانتك انتونيو - إيه.
باسانيو: فهل لك في إنجادي. وإسعافي وإسعادي. بإسداء هذه النعمة وإهداء هاتيك المكرمة؟ خبرني أأنت مجيب سؤالي وقاض حاجتي؟
شيلوك: ثلاثة آلاف دوكة لمدة ثلاثة أشهر والضامن انتونيو.
باسانيو: جوابك على هذا.
شيلوك: وانتونيو رجل ثقة.
باسانيو: أسمعت عنه قط خلاف ذلك.
شيلوك: لا، لا لا. إنما بقولي ثقة المركز المالي أعني هل عنده كفاء ما قد ضمنه، على أني أعلم أن ثروته مزعومة. وأمواله موهومة. فإحدى سفائنه تؤم طرابلس وأخرى تقصد جزر الهند وقد علمت من الغرفة التجارية أن له ثالثة بالمكسيك ورابعة تنتحي إنكلترا وكم له غير ذلك من بضائع قد بعثرها في أنحاء البحار. واستودعها صدر الجائش الزخار. واستحملها ذرى موجة وتيار. ولكن هل ترى السفائن إلا الواحا وهل النوتية إلا أجساما وأرواحا وإن هنالك لجرذانا برية وجرذانا بحرية ولصوصا بحرية ولصوصا برية - أعني قراصنة. ويجيء من بعد هذا أخطار الأمواه والرياح والصخور. على أن أرى الرجل مع هذا كله كفؤا لضمانة هذا القرض. ثلاثة آلاف دوكة، لا مانع عندي من قبول(61/34)
ضمانته.
باسانيو - ثق إنه لا مانع البتة.
شيلوك - سأتوثق من ذلك. ولكي أستوثق منه سأتدبر الأمر مليا.
أيمكنني مفاوضة انتونيو؟
باسانيو - أفلا تفضلت علينا بتناول الغداء معنا.
شيلوك: ويحي! أشم لحم الخنزير وآكل من الحيوان الذي جعل نبيكم النصراني مسكنا للشيطان أحله فيه، لا بأس على أن أساومكم وأبايعكم وأحادثكم وأسايركم وهلم جرا. ولكني لن أواكلكم لا أشاربكم ولا أشهد الصلاة معكم ما أنباء الغرفة التجارية؟ من القادم؟
يدخل انتونيو
باسانيو - هذا هو السنيور انتونيو
شيلوك - (على انفراد) ما أشبه بحياة الخراج ذلة وانكسار إني لأمقته لأنه نصرانيا. ويزيدني مقتالة وحردا عليه أنه من بله وحماقة يقرض المال بلا فائدة فبهبط بذلك قيمة الأرباح في فينسيا. فلو أبدى لي القدر من مقاتله فأمكنني فيه الفرصة إذن لشقيت منه عليلا قديما. وأطفأت بالقصاص منه جمرة حقد أوقدت على كبدي حميما. تباله لشدة ما يمقت شعبنا المقدس: وكم تراه في أحشد مجامع التجار وأحفل نواديهم يهزأ بي ويسخر من مساوماتي ومن حلال مكسبي الذي يسميه ربا. فلعنة الله على أمتي وناسي إن غفرت له وعفوت عن.
باسانيو - شيلوك أأنت منصت لي؟
شيلوك - إني أقدر ما لدى الآن من النقد واحسب أني لا أستطيع توا تقديم جملة الثلاثة الآلاف دوكة. ولكن لا بأس علينا من ذلك. فهذا (توبال) أحد أغنياء الطائفة يمدني بالمال. خبرني كم شهرا تريد القرض؟ (مخاطبا انتونيو) أسعد الله أوقاتك أيها السنيور إنك أخر من أجرينا ذكره على شفاهنا.
انتونيو - شيلوك؟ إني وإن كنت لا أرابي أخذا ولا إعطاء لأخالفن مذهبي، قضاء حاجات لصاحبي قد نضجت وأدركت. (إلى باسانيو) ألم يعرف مقدار ما تبتغي؟.
شيلوك - بلى بلى ثلاثة آلاف دوكة.(61/35)
انتونيو - ولمدة ثلاثة أشهر.
شيلوك - لقد نسيت هذا ثلاث أشهر كذلك خبرتني. هلم بنا لتحرير العقد ولكن خبرني عن أمر. ألم تقل أنك لا ترابي في معاملاتك لا أخذا ولا إعطاء.
انتونيو - بلى. لا أصنع ذلك البتة.
شيلوك - لما رعى يعقوب أغنام عمه لابان - وكان يعقوب هذا بفضل مساعي أمه الوارث الثالث من بعد أبينا المقدس إبراهيم - أجل كان الوارث الثالث ـ.
انتونيو - وماذا كان من أمره هل كان يستحل الربا؟.
شيلوك - لا لا. لم يستحل الربا. ليس ما كان يأخذه ربا بالضبط. انظر ماذا كان يعقوب يصنع حينما تعاقد مع عمه لابان. لقد تواطأ على أن يكون أجر إبراهيم كل ما كان من أولاد هذه الأغنام منقطا أرقط. وقد كان هذا سبيلا إلى النجح فبورك له وأفلح. وما أربح إلا خيرا وبركة إذا ناله الناس من حله لا من طريق السرقة.
انتونيو - أن الذي بذل بذل فيه يعقوب جهده وكده كان من المخاطرات المعلقة على المقادير مما لاحيلة له فيه ولا هو في وسعه ومقدوره ولكن لله التدبير والتيسير. ولكنفيم ضربك هذا المثل وما غرضك من إيراده ههنا؟ وهل أجريت ذهبك وفضتك مجرى النعاج والخراف؟
شيلوك - لا أدري. غير أني استثمرها بأسرع مما تستثمر هذه الأنعم. ولكنالق بالك إلى أيها السنيور.
انتونيو - أصغ يا باسانيو. لهذا الشيطان كيف يتمثل آيات الكتاب المقدس تأييدا لحجته. ولعمرك إن الشهادة المقدسة صادرة عن الروح الخبيثة لا من وميض الابتسام يتألق في صفحة الوغد الفاجر. وهو كالتفاحة ظاهرها حسن. وباطنها عفن. فسحقا للخداع ما أجمل مرآه. وأسوأ منطواه.
شيلوك - ثلاثة آلاف دوكة. إنه لمبلغ جسيم. ثلاثة أشهر من إثنى عشر. ثم مسألة الأرباح.
انتونيو - أي شيلوك. أتحسبنا ضمن غرمائك المدينين لك؟
شيلوك - أيها السنيور انتونيو. كم من مرة بالغرفة أوسعتني شتما من جراء أموالي واستثمارها فاحتملتها منك على مضض وصبرت على أذاها وكان احتمال الأذى شعار(61/36)
أمتنا جمعاء. إنك لتنبذني بالألقاب تسميني كافرا وكلبا سفاحا سفاكا للدماء وتبصق على عباءتي وهي زي الملة الإسرائلية وكل ذلك من أجل تصرفي في مالي وملك يدي. والآن أصبحت بحاجة إلى معونتي ومددي. فأنت تجيئني فتقول (شيلوك. أنا بحاجة إلى المال) تقول هذا أنت الذي كنت تبصق على لحيتي وتركلني برجلك كما تركل الكلب الشارد على عتبة دارك. الآن أصبح المال حاجتك. والذهب بغيتك. فماذا ينبغي أن أقول لك الساعة؟ أما ينبغي أن أجيبك بقولي (أيكون للكلب مال؟ أيستطيع الكلب أن يقرض ثلاثة آلاف دوكة؟ أم أجثو لك خاضعا. وأركع خاشعا. وبلهجة العبد الرقيق وهمسة الأسير الذليل أقول لك بصوت غضيض ونفس قطيع).
(سيدي الكريم. لقد بصقت علي يوم الأربعاء وركلتني يوم كذا. ودعوتني كلبا مرة أخرى ومن أجل هذه الحفاوات أقرضك هذا القدر من المال).
انتونيو - وما أجدرني أن أعيد عليك الكرة الآن فأبصق عليك ثانية وأرفسك بقدمي أيضا، إلا فاعلمن إن كنت مقرضي هذا المال إنك لن تقرضه إلى صديق ومتى كان من شيمة الصديق أن يأخذ من صديقه ثمرة ونتيجة على المعدن الذي هو في ذاته عقيم غير منتج ولكن أقرضنيه على أني عدوك الذي إن أخلف معك ميعاده كنت حريا أن تنفذ عليه الجزاء بجراءة.
شيلوك - رويدك. وسكن ثائرة غضبك فتالله ما أبغي سوى مصافاتك ونيل ودادك وإني لصافح عما لوثت به صحيفتي من المطاعن وقاض كل حاجاتك ثم لا آخذ منك فلسا واحدا على ما أقرضك: أفلا يرضيك هذا وما أخاله إلا دليلا على المودة والمبرة.
باسانيو - ما أبر ذلك لو تم.
شيلوك - لأصنعن هذه المبرة.
اذهب معي إلى كاتب عقود فوقع لديه على صك القرض. ولنحرر به - على سبيل المزاح والفكاهة - صيغة العقد الآتية وهي أنك إذا عجزت أن تدفع لي في يوم كذا بمكان كذا مبلغ كذا المنصوص عنه في العقد كان جزاؤك أن أقتطع من صميم لحمك رطلا أنتقيه من أي موضع في جسدك.
انتونيو - قد رضيت ذلك. فأنا أوقع على مثل هذا العقد وأشهد أن اليهودي على جانب(61/37)
عظيم من البر والمروءة.
باسانيو - لن توقع على مثل هذا العقد من أجلي. فلخير لي من ذلك أن أصبر على عوزي وضائقتي.
انتونيو - عجبا لك! ماذا تخشى أيها الرجل! ما احسب الأمر واصلا بي إلى أن أخسر هذا القدر من لحمي في ظرف شهرين أي قبل حلول ميعاد العقد بشهر أنتظر أن يرد على تسعة أمثال هذا القرض.
شيلوك - يالأبناء إبراهيم من هؤلاء النصارى الذين قد أصبحوا لشدة قسوتهم يتهمون الغير بسوء النية! فبالله عليك خبرني إذا خلف السيد ميعاده ماذا يجدي على تقاضي هذه الغرامة! وإن رطلا من لحم آدمي لأقل طيبا وارخص قيمة من رطل من لحم الضأن أو العجول أو الماعز. إني أبذل له صداقتي ابتغاء مرضاته فإن قبلها فذلك ما نبتغي وإلا فسلام عليكما. وعساه مقلعا عن إساءتي جزاء ما عرضت عليه الآن من صداقتي.
انتونيو - أجل يا شيلوك سأوقع لك على هذا العقد.
شيلوك - لاقني إذن لدى كاتب العقود واشرح له أمر هذا العقد الفكاهي وسأذهب لاستحضار المبلغ توا وأتفقد داري التي تركتها في عهدة حارس غير مأمون وفاجر مبذر. وسأوافيك بعد قليل.
انتونيو - اذهب أيها اليهودي الكريم.
يخرج شيلوك
كأني باليهودي يهم أن يتنصر: ألا تراه قد رقى ولان؟
باسانيو - لا أرتضي الشوط الهينة تصدر عن ضمير غادر فاجر.
انتونيو - هلم بنا فلا ضير علينا في ذلك الشأن. فسترد سفائني لشهر قبل حلول الأوان.
(يخرجان)
الفصل الثاني
النظر الأول
بلدة بلمون. غرفة في قصر بورشيا
صدح أبواق. يدخل أمير مراكش وحاشيته.(61/38)
ثم بورشيا ونيريسا وغيرها من أتباع بورشيا.
أمير مراكش: لا تصدنك عني سمرتي فما هي إلا الحلة الدكناء. خلعتها عليّ الشمس المشرقة التي في جوارها نشئت وفي كنفها ربيت. إلا فأحضري من ترينه أنصع الفتيان بياضاً من أهل الشمال حيث لا تكاد الشمس تصهر حبات البرد ودعي كلاً منا يطعن نفسه في حبك ليبين لك أينا أفتى دماً وأشد احمراراً. فلتعلمن أيها السيدة أن طلعتي هذه كم أفزعت من فارس باسل. وأقسم بحياتي أن هذه الطلعة قد أعجبت - مع ذلك - الخرد الغيد من عذارى بلادنا. وتالله ما كنت لأستبدل بلوني هذا خلافه إلا إذا جعلت ذلك سبيلا إلى استمالتك يا مليكتي الحسناء.
بورشيا - أنا في أمر الاختيار لا أتابع دليل ناظر الفتاة المميز المتبصر. ولا أطاوع نصيح فكرها المتأمل المتدبر. ولكن ما تقيد به مستقبلي من أغلال تلك القرعة قد حرمني حرية الاختيار فلو أن أبي لم يدبر لي من أمر هذه القرعة ما قد شل إرادتي. وغل مشيئتي. وقضى أن لا أهب نفسي زوجة إلا لمن ينالني بتلك الطريقة التي أنبأتك - إذن لكان نصيبك من مودتي أيها الأمير الجليل كنصيب كل من سبقك من خطابي. وأملك في حيازتي كآمال جميع من تقدمك من طلابي.
أمير مراكش - إني لأشكرك حتى على هذا. فسيري بي إلى الجون لأجرب حظي عناك وأقسم بهذا الصارم الذي ذبح شاه العجم وأميراً فارسياً وهزم الملك سليمان في ثلاث مواقع لأبهن بلهيب ألحاظي المتقدة أقسى العيون نظرات. وألفحها جمرات. ولقهرن ببسالتي أشد القلوب إقداماً. وأذكاها ضراماً. ولأختطفن جراء الدب الراضعة من أحضان أمهاتها بل لأسخرن من الليث حين يزأر قرماً إلى الفريسة - لأفعلن كل هذا تزلفاً إليك والتماساً لودادك. ولكن ما أسوأ الظروف؟ فوالله لو تلاعب هرقل (أقوى الأقوياء) وخادمه ليكاس بفصوص النرد لينظرا حسب حكمهما أيهما خير من صاحبه لربما انحاز الظفر إلى جانب أضعف الاثنين. وصدر السهم الفائز عن يد أوهن الرجلين كذلك غلب السيد يس خادمه. وكذلك يحتمل أن يكون مآلي إذا أسلم الحظ الأعمى مقادتي فأخطئ ما قد يصيبه من هو دوني فأموت كمداً.
بورشيا - لابد أن تتبصر في أمرك وتتروى فإنك في هذا الشأن بالخيار فإما أن تدع هذه(61/39)
البتة أو تحلف لي قبل الاقتراع أنك إذا أخطأت المرمى لن تفاتح بعدها امرأة في شأن الزواج آخر الأبد، وها قد نصحتك فلنتصح.
أمير مراكش - سأفعل. هلم بي أنظر حظي.
بورشيا - امض بنا قبل ذلك إلى المعبد. أما القرعة فستكون بعد الغداء.
أمير مراكش - فليسعد الطالع. ولينعش الجد. فعلى حظي اليوم مدار شأني ومآل أمري فإما أن أغدو أسعد العالمين. أو أشقى الناس أجمعين.
صدح أبواق. يخرجون.(61/40)
الفتنة في الهند
غاندي والثورة السلبية
يطالع القراء في الجريدة اليومية أخبار القلاقل التي حدثت في إقليم ملابار الذي تقطنه قبائل الوبلاه. ولعل قليلا من القراء من يعرف شيئاً عن حقيقة هذه القلائل وعن أعمال الزعيم غاندي الذي ينسبون إليه كل حركة في الهند، وقد رأينا أن نفصل ذلك مبتدئين بوصف قبائل الموبلاه نقلا عن نبذة كتبها في جريدة التيمس السر ريس العضو في مجلس النواب:
(الموبلاه قوم مسلمون من نسل تجار العرب الذين نزحوا إلى ساحل ملابار وتزوجوا من الهندوس وأشربوا عاداتهم، ويبلغ عددهم مليوناً ونصف مليون يشتغل أكثرهم بالزراعة ولهم رئيس ديني يقيم في بلدة تيرو انجادى، وهم سنيون شديدو التعصب، يحرمون شرب الخمر تحريماً قاطعاً، وقد أثاروا منذ سنة 1858 نحو 38 اضطراباً، وكان أغلبها بسبب الأمور الزراعية).
أما الفتنة الأخيرة فقد تضاربت الأنباء البرقية في نقل أسبابها عند أول حدوثها، فقالوا أنها بسبب محاكمة زعماء الهنود، ثم نسبوها إلى حركة المقاطعة والتحدي التي يقوم بها غاندي وأنصاره، ثم قالوا إنها ضد الحكم الإجليزي ومطالبة بالحرية، وأخيراً استقر بهم الأمر عند نسبتها إلى هياج خواطر الهنود من جراء القلق على مصير الخلافة ونيت بريطانيا نحو تركيا ومساعدتها لليونان في حرب الأناضول، وقالوا إن الثائرين حملوا الأعلام الخضر!! وعندها إن السياسة الإنجليزية استحسنت الوقوف عند هذا السبب الأخير وجعله هو الباعث الوحيد على قلاقل الهنود، مفضلة أن تكون الفتنة موصوفة بأنها حركة دينية للعطف على تركيا أكثر منها حركة سياسية موجهة إلى الحكم الإنجليزي. والمطالبة بالحقوق القومية. وأمامنا مثل من تاريخنا القريب أيم كان الإنجليز يحاولون عبثاً أن يغيروا من صبغة حركتنا الوطنية سنة 1919 فقالوا إنها هياج ديني من العامة الذين أقلقهم انكسار تركيا ومصير الخلافة. . .
ثم زعموا أنها حركة مدبرة من جمعية الإتحاد الترقي وأن للألمان والبلشفيين أصبعا فيها. . . . ثم قالوا بل هي حركة ضد الحماية الإنجليزية ومطالبة بالحكم الذاتي!. . . .(61/41)
ولكن الإنكليز لم يفلحوا في تشويه الغرض الحقيقي من حركتنا في المطالبة بالاستقلال كما أفلحوا الآن في حمل الناس على الاعتقاد بأن حركة الموبلاه حركة دينية فحسب!.
والآن ننتهي إلى وصف الزعيم غاندي وشرح مذهبه ليتبين مبلغ تأثير هذا الزعيم ومذهبه في حدوث الفتنة الحالية. لا حاجة بنا إلى القول أن غاندي أكبر الزعماء الآن في الهند وأن شخصيته العظيمة تجبر كل من أقترب منه على الاعتراف بها. وكفى تأيداً لمكانة هذا الزعيم ما ورد في البرقيات من دعوته محمد علي لزيارة ملابار الموبلاه، وقد قابله حاكم الهند العام وطلب منه أن ينصح زعماء الثورة بالهدوء وإلا عرضوا أنفسهم للمحكمة. وبلغ غاندي مكانته هذه في الهند بقوة خلقه ومتانة عقيدته وإيمانه بأن القوة الروحية تقهر القوة المادية إذا اشتبكتا معا. وقد سجن مراراً واحتمل شظف العيش وضنكه دون أن يفل ذلك من عزيمته. وهو يقول إن احتمال الألم والصبر على المكاره وقهر النفس هي التي ستنقذ الهند من الحكم الأجنبي وهو ينادي بأن المقاومة السلبية قوة لا تغلب وإنها صائرة بالإنجليز إلى الخروج من الهند. ونتج من هذه الدعوة إلى المقومة السلبية حركة مقاطعة لكل ما هو إنكليزي، حتى لقد اجتمعت الآلاف من الهنود في مدينة بومباي تحت زعامة غاندي وأخذوا يحرقون أكواما هائلة من الثياب المصنوعة في إنجلترا إعلانا عن عزمهم على مقاطعة المنسوجات الإنجليزية التي تبلغ ما تستورده الهند منها سنويا نحو 400 مليون جنيه كما تقول التيمس كذلك أخرج الهنود أولادهم من مدارس الحكومة وأدخلوهم مدارس أهلية أنشأها أنصار غاندي لنشر العلم الخالي من مساوئ المدنية الغربية. ويعرف أنصار غاندي في الهند بتقشفهم وقلنسوتهم المخصوصة وثيابهم الخشنة المصنوعة في مغازل بلادهم أو بواسطة الأنوال اليدوية. ولا ريب أن فكرة المقاطعة هذه لكل ما هو إنجليزي أنبتت في نفس الهندي شيئا من الإزدراء بالإنجليز والاستخفاف بهم، حتى قال الحاكم العام في تقريره (إن الهنود أصبحوا يحتقرون السلطة الشرعية). وقد كتب أحد الصحفيين الهنود نبذة عن غاندي ومذهبه في صحيفته التي تصدر في بوماي قال فيها:
(يوجد في هذا العصر ثلاثة رجال قد أضافوا رواء جديدا لعبقريتنا، وأروا العالم مقياسا من البنية التي يمكن أن تصل إليها الرجولة الهندية. هؤلاء ثلاثة هم تاجور في الأدب، وبوز في العلوم، وغاندي في الأعمال العامة. يقول بيرك (إن مبادئ السياسة هي مبادئ(61/42)
الأخلاق بشكل أكبر) وهذا عينه مبدأ غاندي إذ يقول (إن السياسة ليس لعبة، إن هي إلا نشر الفضائل المنزلية ووسيلة لتجديد الروح). ويرى غاندي أنكل شيء ترخص تضحيته لنصرة الحق وإن الانحياز إلى الخطأ إثم وشر. وليس في الهند داع يمثل القوة الروحية أكبر من غاندي. وقد هز غاندي بلاد الهند هزة عنيفة وأيقظها من سبات الغفلة والتخدير التي كانت فيه. ولكن ألا يخشى أن يكون غاندي قد أخطأ الطريق؟ وإن جهودنا هذه تصرف عبثا وتضيع سدى؟ ولكن لا فإن حركة التقدم هي روح للجهاد ولست بيائس لأني أعتقد أن روح غاندي الكبيرة أعظم من مذهبه، وإن شخصيته أكبر من عقيدته، قد يكون مذهبه الجديد جافا، فاترا، خائبا، وقد تكون فلسفته غامضة غير مؤسسة، وقد تكون سياسته خطيرة، ولكن أخلاقه صريحة وأقواله متوافقة مع أعماله).
وقد كتبت مجلة النيشن فصلا في هذا الموضوع نلخص منه مايلي: (إن بعد الهند عنا وعن مدينتنا لم يمنع من ظهور رجل عظيم كغاندي، فهو في الهند بمثابة تولستوي في الروسيا، شخصية يتجسم فيها الإلهام الروحاني الخاص بأبناء جنسه. ولعل هناك شبها في الظاهر بين الاساليب التي يتخذها غاندي للحصول على السوارج (الاستقلال) وبين ما كان بفعله الشن فين قديما، فهو يعلن مقاطعة الإنجليز وعدم معاملة جميع عمال الحكومة وعلى الأخص يمتنع هو وأنصاره عن الانتخاب. . . . وهناك وجه لآخر مزعج في الحركة الهندية وهو انضمام رابندراناث تاجور إليها بعد أن رد رتبة الفروسية التي منحتها له حكومة إنجلتلرا احتجاجا منه على فظائعنا في البنجاب. وتاجور هو الشاعر الهندي العظيم الذي كشف للغرب عن أفكار الشرق وصور إبداع تصوير روحانية الهنود وآلامهم وأمالهم في التحرير وتوجههم بقلوبهم إلى اللنهاية! ولا يرى تاجور رأى غاندي في سياسة المقاطعة وعدم التعاون بل هو يريد أن يستعين الشرق بالعلم الغربي والمدنية الغربية لإدراك اللانهاية باقوة الروحانية دون أن يغمر نفسه في الماديات التي تفقده بصيرة الإلهام الشرقية).(61/43)
متفرقات
في عالم السينما
الألوان الطبيعية
ما من شعب راق إلا ويقدر السينما حق قدره ويعرف أنه من أهم العوامل في تقدم المدنية وانتشارها. فترى مموليهم يكونون له الشركات الهائلة وينفقون في سبيله الأموال الطائلة. ونلاحظ أن مفكريهم ومخترعيهم لا يألون جهدا في ترقيته وادخال التحسينات عليه ما وجدوا إلى ذلك سبيلا حتى بلغوا به درجة عظمو من الإتقان والإحكام.
وأكبر دليل على أنهم لا يزالون يعملون على إبلاغه حد الكمال إن أمكنهم بعد طول البحث ودقة التجارب أن يخترعوا آلة مصورة تنقل المناظر والأشخاص بألوانها الطبيعية بلا مسخ ولا تشويه وعما قليل يتم هذا الاختراع العجيب وتنشر أشرطته (الفلم) في أرجاء المعمورة.
لقد دلت الصورة التي أخذت بواسطة الآلة الجديدة على أن هذه الطريقة كفيلة بإخراج الروايات التمثيلية في منتهى الإتقان. وقد أخذت كثيرات من هذه الصور باستخدام الضوء الكهربائي فكان ذلك خطوة واسع في سبيل التقدم المنشود إذ لم يكن بالمستطاع إلى وقتنا هذا أن تؤخذ صورة ملونة مرضية بغير الضوء الطبيعي. .
فإذا تم لأولئك المخترعين ما يطلبون. وبلغوا ما يرمون إليه وظهرت الأشخاص والأشياء بألوانها الطبيعية فسيحدث ذلك ولا شك انقلابا كليا في عالم السينما.
الطب والسينما
ومن ناحية أخرى. تمكن ألماني من اختراع جهاز سينما توغرافي خاص. وصرح أثناء عرضه له بأنه ذو فائدة كبرى للجراحين وطلاب الطب. وهو جهاز كروي الشكل يعلق في سقف المكان ويدار من الأسفل فيصور دقائق العمليات كبير كانت أم صغيرة. وأخذت بواسطة (أفلام) بتر وقطع الزائدة الدودية وفتح الخراريج وخياطة الجلد، وغير ذلك. ولقد صادفت هذه الفكرة من القبول إلى حد أن الحكومة الألمانية تفكر الآن في عمل دار سينما توغرافية في برلين وإدخال هذه الطريقة في مدرسة شارلو تنبرج العليا.(61/44)
الألمان والطيران
ما كاد يصرح للألمان بحرية الانتقال والعمل حتى شرعوا على الفور ويظهرون للعالم همتهم المعروفة وكفاءتهم المعهودة. وضمن مشروعات الهامة التي يقومون بها الآن، إنشاء طريق هوائي ما بين برلين ولندن مارا بهامبرج. وبهذه الطريقة يتسنى لأصحاب الأعمال أن يغادروا برلين في الساعة السابعة وربع صباحا، فيصلوا لندن في مساء اليوم ذاته.
أطول الأعمار
أثبتت لنا الأيام أن كثيرا من الناس يبلغون القرن والقرن. والنصف قرن. ولا يزال بين ظهر أنينا ذلك الشيخ الذي يقطن (ببركة الفيل) ويبيع الفجل فقد نيف على المائة والعشرين.
وقد توفي منذ عهد قريب وطني بلغ المائة والثلاثين. وكان تاجرا. وقد تعهد شؤون متجره في نجاح مستمر وتقدم مطرد إلى ما قبل وفاته بعامين أو ثلاث على الأكثر. وقد كان حاضر الذهن كامل الإدراك إلى آخر سنة من حياته. وكنت إذا ذكرت له الثورة العرابية مثلا يلقبها (بحادثة البارحة) لقرب عهدها بالنسبة لما مر به من الحوادث.
وقد يكون أمر هذين الرجلين أقل عجبا من أمر رجل إنجليزي اسمه توماس بار ولد عام 1483 وكان يشتغل بالفلاحة وزراعة الأرض. وزاول هذه المهنة إلى أن نيف على المائة والثلاثين.
ولما كان عمره 120 سنة تزوج للمرة الثانية. وأنتج ذرية وهو في سنه هذه وكان يقوم بأعباء عائلته خير قيام. فلما بلغ 152 عاما أدخله إيرل أرندل بلاط شارل الأول ليرى الملك ذلك الرجل العجيب. ولكن الهواء المحدد ونمط العيشة الذي لم يألفه أثر على صحته فقضى نحبه.
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته، ومن تخطأ يعمر فيهرم
المستشفى الطائر
اخترعت منذ أيام قلائل فرنسا طائفة من هذه المستشفيات المحلقة في الفضاء لاستخدامها في المستعمرات. وقد جارت فرنسا الحكومة الإنجليزية فتقبلت وزارة الطيران في لندن(61/45)
طيارة جديدة هي أشبه شيء بمستشفى يحلق في الجواء. وهي من نوع (البيبلان) طراز فيكرز فيمي تسير بمحركين اثنين وتجري بقوة أربعمائة وخمسين حصانا وتستطيع أن تحمل قبطانها ومهندسها وطبيبا وثمانية جرحى وممرضا ويبلغ عرضها ما بين الأجنحة عشرين مترا ونصف متر وطولها ثلاثة عشر من الأمتار. وقد حوت الطيارة جميع مستلزمات الراحة للجرحى. وفي داخل الطيارة حجرة لا تكاد تفترق في شيء عن الحجرات المعدة للجراحة في أكبر مستشفيات الأرض، وجرحى ينامون فوق أسرة مرتبة على نسق السيارات ولما كانت هذه الطيارات ستستخدم في المستعمرات لحمل الجرحى إلى جهات بعيدة فقد عنوا العناية الكبرى بأمر تهوية الطائرة وحجز الهواء الصالح لها. وقد أعدوا فيها من الآلات الجراحية ومستلزمات التطبيب ومطالبه. ما سهل على الطبيب أمر العناية بجرحاه. وقد وضعوا على سطح الطيارة خزانا للمياه ليكون محتجزا لحوض المغسل لأجل مطالب النظافة والاستحمام ولم يغفلوا وضع عدة للتلغراف اللاسلكي وهذه الطيارات تطير بسرعة 175 مترا في الساعة.
شيء عن الحيوانات
قرون االوعل
لا تزل قرون الوعل من غوامض أسرار الطبيعة. فكل تلك الكتلة العظيمة الهائلة التي هي في كثير من الأحوال أثقل وزنا من هيكل الإنسان العظمي، تبلغ كما نمائها في مدى شهرين أو ثلاثة أشهر ثم لا تلبث أن تنكسر في فصل الربيع حيث يكثر تناطح الوعول لتنافسهم في السعي وراء الإناث منها.
وإن أنت رأيت في فصل الربيع وعلا بالغا، فإنك لا تجد قرنيه الكبيرين المتشعبين. بل تلقى مكانهما جزأين بارزين قد غطاهما الشعر. وبعد أسابيع قلائل ينبت له قرنان قصيران يكونان في بادئ أمرهما مكسوين بشعر ناعم وما هو إلا شهران أو ما يقرب من ذلك حتى يعلو رأس الوعل تاجه الضخم. ولا يزال على رأسه طوال الصيف وأوائل الخريف ثم ينكسر كما أسلفنا.
فنماء هذه الكتلة العظمية الجسيمة بهذه السرعة المدهشة لا يزال من ألغاز الطبيعة وأسرارها.(61/46)
لا يمكنك أن تخدع نملة
قد أوتيت الحشرات وبعض الحيوانات أعضاء خاصة يلقبها الناس بالحساسات وإنها لحاسة سادسة غريبة تعوزنا نحن معشر البشر - فلا هي بالسمع ولا بالبصر ولا بالشم ولو أنها تقرب بعض الشيء من حاسة اللمس. فبهذه الحاسة يمكن للنملة أن تميز بين أصدقائها وأعدائها فإذا أنت صبغت مثلا أو دهنتها بمادة فغيرت رائحتها فعبثا تحاول أن تخدع نملة أخرى من إدراك حقيقة بنت جنسها.
معلومات صغيرة
يبلغ وزن أحجار الهرم الأكبر 7000، 000 طن وهي تكفي لبناء مدينة بها 22000 منزل معتاد.
أذا أردت أن تمحو أثر العرق من الملابس، فضع عليه قليلا من عصير الليمون والملح قبل أن تغمرها بالماء والصابون.
لا تغسل الأوعية الزجاجية من أثر اللبن، بالماء الساخن مباشرة بل استعمل الماء البارد أولا. لأن الحرارة تسبب عشاوة يصعب إزالتها.
في اليابان تباع الملابس بالوزن لا بالقطع كما هو المعتاد.
يصب في بحر البلطيق نحو مائتي نهر.
لأهل فارس اسم خاص لكل يوم من أيام الشهر.(61/47)
البلشفيك وتربية الأطفال
يهتم البلشفيك بتربية أطفالهم كل الاهتمام ويتخذون لذلك أرقى الأنماط وأقوم المناهج. يرمون بذلك إلى أن يخرجوا جيلا من الرجال في المستقبل يكون خير ما أخرج للناس. فللأطفال عندهم المدارس الخاصة، والحدائق الخاصة، والمسارح الخاصة، يتعهدهم فيها أساتذة ذوو دربة ومران، ومربون أفذاذ محنكون.
ومما يذر لهم بهذا الصدد، ويدل بوضوح وجلاء على أنهم قوم دقيقوا الملاحظة، ومعشر يعنون بصغائر الأمور قبل عظائمه، أنهم حرموا بتاتا طبع الكتب الخرافية التي تكثر فيها قصص (أمنا الغولة) وأتباعها جان ومردة وعفاريت، علما منهم بأن قراءة مثل هذه الأساطير تفسد عقول النشئ وتضعف نفوسهم، ويكون لها عليهم في قادم الأيام تأثير - كبيراً كان أم صغيراً.
وقد استعاضوا عن هذه الكتب السقيمة العقيمة التي نرى المئات منها بكل لغة، وفي كل دولة، لأخرى تجمع بين بساطة الموضوعات التي تقبلها عقول الصغار وبين المبادئ السامية. وبذلك يغرسون في عقول الأطفال منذ نعومة أظفارهم، بذور الشهامة والإقدام وحب الإخاء والمساواة.
هكذا يصنع البلشفيك في تربية صغارهم ذكوراً كانوا أم إناثا. وهذا ولا شك من أدق الاحتياطات وأعظمها تأثيراً.
فأين هؤلاء من - رضي الله عنا - وأولادنا يكون الواحد منهم (اسم الله عليه طويل طويل) ولا يجسر أن يصعد السلم بالليل أو يدخل غرفة مظلمة خوفا من (المزيرة وشمهورش وأبو رجل مسلوخة) وما إلى ذلك من صنوف الأوهام وضروب الخزعبلات. والأم الغبية الجاهلة المأفونة تساعد ابنها على ذلك فتذهب (تنوسه) ولا تزال (تسمي عليه وتحفظه بالأنبياء والأولياء الصلاح) حتى يذهب عنه الرعب.
أين هذا من شاباتنا اللاتي ينشأن وقد تشبعت أفكارهن (بالزار) وما فيه من (مما، وسفينة، والولاج، وأولاد الحبش. . . . رضاكم علينا يا أسيادي) فإذا تزوج امرؤ بأحدهن لا يلبث أن يلقى شريكة حياته (مريوحة وراكبها ستون عفريت) ولا تهتم بأمر بناتها وأولادها عشر معشار ما تهتم بشأن (الكوديه وأبو السعود ونصبة الكرسي والجدي الأسود اللي من غير إشارة. . .)(61/48)
ألا فانظروا يا قوم ماذا تصنع الأمم اليقظة الحريصة التي تريد أن تنهض وتسود. واعملوا على شاكلتهم فكل من سار على الدرب وصل.
محمود طاهر(61/49)
فكاهات وملح
أشعار المجانين
حدث أديب قال كان رجل من أهل الأدب قد ذهب عقله من جراء الحب فقلت له يا أبا فلان ما حالك وأين النعمة قال تغير قلبي بالحب فتغيرت النعمة وأنشأ يقول:
أرى التجمل شيأ لست أحسنه ... وكيف أخفي الهوى والدمع يعلنه
أم كيف صبر محب قلبه دنف ... الشوق ينحله والهجر يحزنه
وإنه حين لا وصل يساعفه ... يهوى السلو ولكن ليس يمكنه
وكيف ينسى الهوى من أنت فتنته ... وفتنة اللحظ من عينيك تفتنه
فقلت أحسنت والله فقال قف قليلا فوالله لأطرحن في أذنيك أدبا أثقل من الرصاص وأخف على الفؤاد من ريش النعام فوقفت وأنشد.
للحب نار على قلبي مضرجة ... لم تبلغ النار منها عشر معشار
الماء ينبع منها في محاجرنا ... ياللرجال لماء فاض من نار
ثم أنشد.
أعاد الصدود فأحيا العليل ... وأبدى الجفاء فصبرا جميلا
وأحسب نفسي على ما أرى ... ستلقى من الهجر غما طويلا
وأحسب قلبي على ما بدا ... سيذهب مني قليلا قليلا
وحدث أبو تمام قال كنت في غرفة لي على شاطئ دجلة في وقت الخريف فإذا بغلام كنت أعرفه بجمال قد تجرد من ثيابه وألقى نفسه في دجلة يسبح فيه وقد احمر جلده من برد الماء وإذا مانى الموسوس يرمقه ببصره فلما خرج من الماء قال:
خمش الماء جلده الرطب حتى ... خلته لابسا غلالة خمر
قلت له لعنك الله يا ماني أبعد الجهاد والغزو تحسن غلاما قد بات مؤاجرا في الحانات فقال لي ليس مثلك يخاطب يا أحمق وإنما يخاطب هذا - وأشار إلى السماء - وقال:
يكفيك تقليب القلوب وإنني ... لفي ترح مما ألاقي فما ذنبي
خلقت وجوها كالمصابيح فتنة ... وقلت اهجروها عز ذلك من خطب
فأما أبحت الصب ما قد خلقته ... وأما زجرت القلب عن لوعة الحب(61/50)
فليت شعري هل قال العقلاء أبدع من هذا؟
خطب وكيع بن أبي الأسود وهو والي خرسان فقال في خطبته إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أشهر فقالوا له بل في ستة أيام فقال والله لقد قلتها وأنا استقلها. . . . وخطب على بن زياد الأيادي فقال في خطبته لا أقول لكم إلا ما قال العبد الصالح لقومه ما أراكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فقالوا له إن هذا ليس من قول العبد الصالح إنما هو من قول فرعون فقال من قاله فقد أحسن. وارتفع رجلان إلى أبي ضمضم فقال أحدهم أبقاك الله إن هذا قتل ابني قال هل لابنك أم قال نعم قال ادفعها إليه حتى يولدها لك ولدا مثل ولدك ويربيه حتى يبلغ مثل ولدك ويبرأ به إليك.
فكاهات غربية
التلميذ - أفندي! إذا قلنا (إن السياسة) فما تكون علامتها؟
المدرس - السياسة علامتها النصب يا ولدي!
صديق أظن يا أخي أن الناس الذين تذهب إليهم يكرهونك.
محصل العواميد - بالعكس! فكل واحد أذهب إليه يرجوني أن آتيه مرة أخرى!!
السيد - هل أنت بواب طيب.
البواب - نعم يا سيدي، فأنا أصلي الأوقات الخمسة في الجامع دائما.
مدرس الكيمياء - (لتلميذ أنيق لاه عن الدرس بلابسه) الآن اذكر لي اسم ثلاثة فيها مادة النشا.
التلميذ - الياقة وكمى القميص.
الأفندي - أريد خادمة لها دراية تامة بالطبخ والغسيل والكي وتدبير شؤون المنزل، وتكون بنت حلال وعمرها أقل من ثلاثين سنة.
المخدم - مع الأسف يا سيدي - يمكنك أن توصي عليها (الخاطبة)
القاضي - يا رجل: امرأتك تشكو من أنك تستمر أسبوعا كاملا لا تكلمها فيه مرة!
الزوج - لأني يا سعادة القاضي الحديث.
الفتى - أنا رأيت من ضحكتك هذه أنه ليس لك قلب بالمرة.
الفتاة - يا سلام! وهل أنا فتحت فمي لهذه الدرجة!!(61/51)
غباوة الخدامين
(أتحفنا صديقي حضرة صاحب العزة الفاضل النبيل محمود صادق بك بهذه الملح الواقعية المستطرفة فآثر بنا أن نتحف بها قراء البيان)
أذكر هنا وقائع وقعت لي من الخدامين وأنا واحد من ملايين المخدومين وقد توخيت في أكثرها التعبير العامي تقريبا للافهام العامة وسآتي في الأعداد القادمة بما أتذكره من هذا النوع
أعطيت خادما قرشا لشراء فول مدمس صباحا وأنا ساكن في خط الحنفي فذهب بالقرش بالقرش والطاسة إلى المخدم بشارع محمد علي على يسأله هل يشتري الفول بزيت أم بسمن. . . .
دخلت في الناموسية لأنام فوجدت فيها ناموسا فدعوت الخدام لاحضار المنة فوقف ينش من خارج الناموسية وهي مسدولة.
أمرت خادما بإحضار معلقة فذهب معه زميله ليحضرها معه.
كان في يد خادم خمس بيضات فوقعت منه واحدة فانكسرت فأشرت برميها في الجردل فأخذ يكسر باقي البيض ويرمي في الجردل.
سألت خداما أحضره مخدم: أنت خدمت عند مين فقال عند واحد فقلت وكم شهر مكثت عنده قال ثلاثة أشهر فقلت اسمه إيه فقال أنا عارف؟ اسأل المخدم.
سألت خداما هل في منزله ولما قمت من النوم قبيل الظهر وجدته قد حضر فقلت لزميله انزل اسأل البواب عن الساعة التي جاء فيها هذا الخادم فنزل وسأل البواب ورجع فقال (كان في السيدة).
عندي طربوشان فقلت للخدام نظف الطربوش وهاته فقال أنظف الاثنين أم أترك أحدهما بترابه.
قلت لخدام يلزم أن يكون كل شيء مغسولا بالصابون قبل وضعه على السفرة فغسل العيش بالصابون.
قلت لخدام املأ إبريق الطشت فملأ الإبريق والطشت أيضا.
كنت منتظرا صاحبا لي بالمنزل لأمر مهم فقلت للخدام إذا حضر فلان أخبرني فبعد ساعة(61/52)
جاءني وقال فلان حضر ووزعته فغضبت فقال أنت قلت فأخبرني ولم تقل دعه يدخل.
سألت الخدام ألم يحضر أحد أمس وأنا غائب فقال حضر فلان أفندي وترك هذا الكرت فقلت ولماذا لم تخبرني إلى الآن فقال لأنك ما سألتنيش.
جلست إلى السفرة للغداء فلم أجد الخبز فقلت للخدام هل نسيت أن الطبيخ يؤكل بالعيش فقال موش لما تأمر.
قلت لخدام وكان أخطأ في العمل (متعملش حاجة من نفسك تاني مرة) فترك القلل فارغة وأواني السفرة بغير غسيل.
شكوت خداما سرق فدافع عن نفسه بأنه لم يسرق غير الفوطة فحكموا عليه واستغنوا عن شهادتي.
جاءني خدام جديد فسألته هل صنعتك سفرجي فقال لا أنا صنعتي كاتب ومرمطون.
قلت للخدام هات الساعة فسألني الصغيرة أم الكبيرة (يريد ساعة الحائط) طلبت من الخدام الدواة والقلم وأحضر الدواة وقلم الرصاص.
عربجي جديد مدعي الأدب لما جلس غلى كرسيه في العربة التفت وقال لي (ما تؤاخذنيش كوني معطيك ظهري).(61/53)
رأس العائلة
للروائي الكبير أنطون تشيخوف
جرت العادة بأن ستيبان ستيبانتش زيخلين إذا خسر كثيرا في لعب الورق أو سكر سكرة طافحة وابتدأ ينتابه سوء الهضم - أن يصحوا من نومه وهو في أشد حالات الضيق والغم. فتراه منقلب السحنة ضيق الصدر منفوش الشعر وعلى وجهه الأكلح أمارة السخط كأنما أبرمه شيء أو أغضبه أمر فيرتدي ثيابه متمهلا ويجرع (ماء فيشي) متأدا ثم يبدأ يجول في غرف البيت.
ـ (أريد أن أرف من الحيوان الذي دخل هنا ولم يغلق الباب!) يقول ذلك وهو يبرطل غضبا ويحبك ثوبه على نفسه ويبصق بصاقا عاليا (خذوا هذه الورقة الملقاة! لماذا ترمي هنا؟ عندنا أكثر من عشرين خادمة والبيت أقذر من حانة. من هذا الذي يدق الجرس؟ أي شيطان هو؟).
ـ فتجيبه زوجته قائلة (هذه أنفيسة القابلة التي أتت بابننا فيديا إلى الدنيا).
ـ دائما داخلة خارجة. . . هؤلاء الشباحين المتملقين!.
ـ لا أحد يستطيع أن يفهمك ياستيبان ستيبانتش. أنك أنت الذي طلبت حضورها والآن تغضب وتصخب.
ـ أنا لست غاضبا بل أنا أتكلم. وأنت يا عزيزتي ألا يمكنك أن تجدي عملا تعملينه بدل أن تجلسي هكذا ويداك في حجرك تتربصين مشاكسة وشجارا. لعمري إن النساء فهمهن فوق عقلي! فوق عقلي! كيف يستطعن أن يقضين أياما طوالا لا يعملون شيأ؟ إن الرجل يشتغل كالثور. . . كالحيوان. . . بينما زوجته وشريكة حياته تجلس كالعروس الحلوة، لا تعمل عملا سوى أن ترقب فرصة للمشاكسة مع زوجها من باب التسلية! لقد آن أن تتركي هذه الأعمال الصبيانية المدرسية يا عزيزتي. إنك لست تلميذة الآن بل ولا سيدة غضة الشباب، أنت زوجة وأم؟ تولينني ظهرك؟ آه! إن سماع الحقائق المرة لا يساغ!.
ـ من الغريب أنك لا تتكلم عن هذه الحقائق المرة إلا عندما تشعر بألم في كبدك.
ـ حسنا إنك تثيرين شجارا.
ـ هل سهرت الليلة البارحة؟ أم لعبة الورق؟(61/54)
ـ وماذا علي إذا فعلت؟ هل هذا من شأن أحد غيري؟ أيجب علي أن أقدم حسابا عن أعمالي لأحد؟ إن ما أخسره هي أموالي أنا على ما أظن إن ما أصرفه وما يصرف في هذا البيت جميعه إنما هو مالي أنا - أنا. أسامع ما أقول؟ مالي أنا) وهكذا على هذه النغمة. ولكن ستيبان ستبانيتش لا يتجلى عدله وفضله ووقاره وحلمه إلا في وقت الغداء. ويبتدئ الفصل عادة بالحساء. فيتناول زيخلين أول جرعة منها ثم يقطب وجهه فجأة ويضع الملعقة مدمدما: تبا لهذا! لم يبق إلا أن آكل في المطعم!.
ـ فتبادر زوجته بسؤال جازعةماذا هل هناك شيء؟ أليست المرقة طيبة؟
يجب أن يكون للإنسان ذوق خنزير يستطيع أن يأكل مثل هذه الحثالة أنها ممتلئة ملحا، ورائحتها مثل رائحة الخرقالقذرة. . . رائحة حشرات لا بصل. . . أن هذا الشيء محزن ومهيج يا أنفيسا أفانوفنا مخاطبا بذلك القابلةكل يوم أدفع مبالغ طائلة. . . . وأحرم نفسي كل شيء. . . وهذا ما يقدمونه طعاما لغدائي لعلهم يريدون مني أن أترك الوظيفة وأطبخ الطعام!.
ـ فتجيبه القابلة خجلة مترددةإن الحساء لذيذة جدا اليوم.
فيرد عليها زيخلين ناظرة إليها بطرف عينه نظرة غضبأتظنين ذلك؟ كل إنسان وذوقه طبعا. والظاهر أنني وإياك مختلفان جدا في أذوقنا فأنت مثلا راضية عن أخلاق هذا الصبي. ويشير إشارة منفعلة إلى ولده فيديا. إنك مسرورة به. أما أنا. . . فشديدة الاستياء منه؟.
فيديا هذا صبي عمره سبع سنوات بوجه أصفر سقيم ناحل. فما يطرق سمعه هذا حتى يكف عن الأكل ويرخي بصره إلى الأرض ووجه يزداد اصفرارا.
ـ نعكم إنك مسرورة به أمات أنا فصاحت عليه. ولا أعرف أينا المخطئ أو المصيب، ولكني أستطيع أن أقول بصفتي أبا له أني أعرف ولدي أكثر منك. انظري إليه كيف يجلس. أهذه جلسة الولد المتربي تربية حسنة! اجلس معتدلا فيرفع فيديا ذقنه ويميل برقبته حاسبا أنه قد اعتدل في هيئته. وتزدحم الدموع في عينه.
تناول غداؤك! امسك ملعقتك جيدا انظر إلي. سأريك كيف تأكل أيها الولد الملعون؟ إياك أن تجهش؟ انظر إلي جيدا.(61/55)
ويجتهد فيديا أن ينظر إليه ولكن وجهه يرتعد وعيناه مغرورقتان بالدموع.
آه. . . أنت تبكي؟ أمع خبثك هذا تبكي اذهب وقف في ركن الغرفة يا حيوان؟
فتتدخل زوجت قائلةولكن. . . دعه يتمم أولا غداؤه
لا غداء له؟ مثل هذا الشرير لا يستحق طعاما!
فيترك فيديا كرسيه ويذهب إلى ركن الغرفة وهوز ينتحب ويرتعد.
ـ ويستمر أبوه قائلاأتظن أنك تنجو من يدي بمثل هذا؟ وإذا كان لا أحد يهتم بتربيتك، حسنا فسوف أبدأ أنا. . . وسوف لا أدعك تبكي مرة أخرى على المائدة! أيها المجنون! يجب عليك أن تؤدي واجباتك؟ أتفهم ما أقول؟ قم بواجبك؟ إن أباك يشتغل فعليك أن تشتغل أيض1ا؟ لا أحد يأكل خبز الكسل والبطالة؟ كن رجلا؟ رجلا.
ـ فتكلمه زوجته بالفرنسية قائلةأستحلفك بالله أن تدعه الآن. كف قليلا عن شجارك الدائم معنا ولو أمام الغرباء. . . إن القابلة كلها آذان إليك وسوف يعرف أهل القرية بشأنها.
ـ فيرد زيخلين بالروسية قائلاأنا لست خائفا من الغرباء. أن إن إنفيسا أفانوفنا ترى أني أتكلم الحق. ماذا، هل تريدون مني أم أكون مسرورا بهذا الصبي؟ أتدرون كم يكلفني؟ أتدري أيه الولد الشقي كم أنفق عليك؟ أم هل تحسب أني أصك النقود عندي أو أتقاضها بلا مقابل! كفى عويلا؟ اخرس! ألا تسمع ما أقول؟ أتريد أن أجلدك بالسوط أيها الولد الشرير؟ نا ـ أنا. .
ويعول فيديا عويلا عاليا ويبتدئ في النشيج.
وهنا ترمي زوجته المنشفة وتقوم عن المائدة قائلة (غن هذا شيء لا يطاق لا تدعنا نتناول غداؤنا أبدا بسلام! عن الأكل يقف في زوري.) وتضع منديلها على عينيها وتغادر الغرفة.
ـ فيفتر زيخلين عن ابتسامة مغتصبة (إنها غضبت الآن. . . من أقل شيء. . . دائما هكذا يا إنفيسا أفانوفنا. لا أحد يروقه سماع الحق في هذه الأيام وكل هذا ذنبي على ما يظهر.).
ويعقب ذلك سكوت بضع دقائق. وينظر زيخلين حوله فيجد أن الطعام باق لم يمسه أحد، حتى الحساء على حاله. فيتنهد تنهدا عميقا فيحدق في وجه القابلة المتورد الحائر.
ـ (لماذ1الا تأكلين يا إنفيسا؟ أغاضبة أنت أيضا؟. . . لقد فهمت. . . أنتم لا تحبون قول(61/56)
الحق. ولكن صفحا، فهذه طبيعتي، لا أستطيع أن أكون مرائيا، غني أقذف دائما بالحقيقة الجافة) ويتنهد (ولكني أرى أن وجودي بينكم يضايقكم. لا أحد ياكل أو يتكلم ما دمت هنا، حسنا، كان يجب أن تخبروني بذلك وأنا أترككم. . . سأترككم الآن.).
وينهض عن كرسيه ويمشي نحو الباب بتؤدة، وعندما يمر يفيديا وهو واقف يبكي يقول له (لقد عفوت عنك بعد كل الذي فعلته) ويرفع رأسع بعظمة ويقول (سوف لا أتدخل في امر تربيتك مرة أخرى. لقد نفضت يدي منك! إني اعتذر بصفتي أبا يريد من قلبه مصلحتك الحقيقية على ما سببته لك ولهم من الكدر. وأخبركم في الوقت نفسه أني أخلي نفسي من كل مسؤولية نحو مستقبلك. . . .).
ويعول فيديا بصوت أعلى من قبل. فيغادره زيخلين سائرا بجلال إلى غرفة نومه فإذا صحا من نومه بعد الغداء بدا يحس تأنيب ضمير، ويخجل من مقابلة زوجته وولده وإنفيسا، ويشتد كدره وغمه كل ما تذكر ما حدث في وقت الغداء، ولكنه يستكبر أن يعترف بخطاه، وليست عند الرجولة الكافية ليكون صريحا، فيستمر على عبوسته وصخبه.
فإذا صحا في اليوم التالي عاوده سروره وابتهاجه وأخذ يصفر بفمه وهو يغسل وجهه، ثم يذهب إلى غرفة المائدة للفطور فيجد هناك ابنه فيديا الذي يقف جازعا يائسا ناظرا إلى وجه ابيه.
فيحيه زيخلين بانشراح ويجلس إلى المائدة قائلا (كيف أنت أيها الرجل الصغير، ما عندك من الحكايات لتقصها علينا؟ تعال أيها الولد السمين أقبل أباك قبلة).
فيمشي فيديا بوجه هادئ ممتقع حتى يصل إلى أبيه فيلمس خده بشفتين مرتعشتين، ثم يقفل راجعا ويجلس في كرسيه دون أن ينبس بكلمة.(61/57)
العدد 62 - بتاريخ: 1 - 11 - 1921(/)
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الثالثة
مقامي في قرطبة
عظمة الإسلام
ملوك العالم تزدلف إلى الناصر - وفود ملوك الروم إلى قرطبة
بلغ ملك أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر لعهدنا هذا ما لا يبلغه ملك مليك في الأرض، من اتساع الرقعة ومنعة الجانب واستبحار العمران وتعدد الجند وضخامة الأساطير وتكاثر الذخيرة والسلاح وانبثاق نور العلم والعرفان في بلاده وما إلى ذلك مما طال به ملوك الأرض واستبد دونهم بالمجد والسؤدد وحدا سائر الدول على أن تملقه وتهاديه وتزدلف إليه وتتوسل بالهدايا والتحف وعظم الذخائر والطرف، وتفد غليه بنفسها تارة وتوفد إليه رسلها طورا، تخطب مودته، وتسترفد رضاه ومحبته. وأول وتد وفد بعد وصولنا إلى قرطبة بأيام قلائل رسل قسطنطين بن ليون ملك الروم ثم رسل الألمان والصقالبة والإفرنج وصاحب روما والكثير غيرهم ت وقد كان يوم وفود هؤلاء الرسل والاحتفاء بهم يوما مشهودا يجمل بنا أن نؤتي لك على وصفه:
لما جاء الخبر بقرب قدوم هؤلاء الرسل أمر أمير المؤمنين بأن يتلقوا أعظم تلقي وأفخمه، وأحسن قبول وأكرمه، وأخرج إلى لقائهم ببجاية يحيى بن محمد بن ليث وغيره لخدمة أسباب الطريق، فلما صاروا بأقرب المحلات من قرطبة خرج إلى لقائهم القواد في العدد والعدة والتعبية فتلقوهم قائدا بعد قائد، وكمل اختصاصهم بعد ذلك بأن أخرج إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسرا وتماما إبلاغا في الاحتفال بهم فلقياهم بعد القواد فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وأكرمه لأن الفتيان من عظماء الدولة لأنهم أصحاب الخلوة مع الناصر وحرمه، وبيدهم القصر السلطاني. وأنزلوا بمنية ولي العهد الحكم المنسوبة إلى نصير بعدوة قرطبة في الربض، ومنعوا من لقاء الخاصة والعامة جملة ومن ملابسة الناس طرة ورتب لحجابتهم رجال تخيروا من الموالي ووجه الحشم فصيروا على باب القصر هذه المنية ستة عشر رجلا لأربع دول لكل دولة أربعة نهم ورحل الناصر لدين الله من صر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه فقعد لهم في بهو(62/1)
المجلس الزاهر قعودا حسنا نبيلا وقعد عن يمينه ولي العهد من بنيه الحكم ثم عبد الله ثم عبد العزيز ثم الأصبغ ثم مروان وقعد عن يساره المنذر ثم عبد الجبار ثم سليمان وتخلف عبد الملك لأنه كان عليلا لم يطق الحضور وحضر الوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا ووقف الحجاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهمن وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم الدارنك وظللت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور، فوصل رسل ملوك الروم حائرين مما رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان ودفعوا كتاب ملكهم صاحب قسطنطينية العظمة قسطنطين بن ليون وهو في رق مصبوغ لونا سماويا مكتوبا بالذهب بالخط الإغريقي وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة أيضاً مكتوبة بفضة بخط إغريقي أيضاً فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل على الوجه الواحد منه صورة المسيح صلوات الله عليه وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده وكان الكتاب بداخل درج فضة منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطسن الملك معمولة من الزجاج الملون البديع وكان الدرج داخل جعبة ملبسة بالديباج. وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه (قسطنطين ورمانيين المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم) وفي سطر آخر (العظيم الاستحقاق الفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس أطال الله بقاؤه) ولما احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه لتذكر جلالة مقعده وعظيم سلطانه وتصف ما تهيأ من توطيد الخلافة في دولته وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه وولي عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء ويقدمه أمام نشيد الشعراء فأمر الحكم صنيعه الفقيه محمد بن عبد البر الكسيباني بالتأهب لذلك وإعداد خطة بليغة يقوم بها بين يدي الخليفة وكان يدعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره وحضر المجلس السلطاني فلما قام يحاول التكلم بما رأى هاله وبهره هول المقام وأبهة الخلافة فلم يهتد إلى لفظة بل غشي عليه وسقط على الأرض فقيل لأبي علي البغدادي قم فارقع هذا الوهي فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم انقطع القول بالقالي فوقف ساكتا مفكرا في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه.(62/2)
فلما رأى ذلك منذر بن سعيد - وكان ممن حضر في زمرة الفقهاء - قام من ذاته بدرجة من مرقاته فوصل افتتاح أبي علي لأ ول خطبته بكلام عجيب، ونادى من الإحسان في ذلك المقام كل مجيب، يسحه سحا كأنما كان يحفظه قبل ذلك بمدة وبدا من المكان الذي انتهى إليه أبو علي البغدادي فقال أما بعد حمد الله والثناء عليه والتعداد لآلائه والشكر لنعمائه والصلاة والسلام على محمد صفيه وخاتم أنبياءه فإن لكل حادثة مقام ولكل مقام مقال وليس بعد الحق إلا الظلال وإني قد قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم فاصغوا إلى معشر الملأ بأسماعكم وألقنوا أعني بأفئدتكم، إن من الحق أن يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت وإن الجليل تعالى في سماءه وتقدس بصفاته وأسماءه أمر كليمه موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء وأن يذكر قومه بأيام الله جل وعز عندهم، وفيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وإني أذكركم بأيام الله عندكم وتلا فيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمت شعثكم وأمنت سربكم ورفعت قوتكم بعد أن كنتم قليلا فكثركم ومستضعفين فقواكم ومستذلين فنصركم ولاه الله رعايتكم وأسند إليه إمامتكم أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق وأحاطت بكم شعل النفاق حتى صرتم في مثل حدقة البعير من ضيق الحال ونكد العيش والتغيير فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخا وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيطان البلاء، أنشدكم بالله مع معاشر الملأ ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها والسبل مخوفة فأمنها والأموال منتهبة فأحرزها وحصنها ألم تكن البلاد خرابا فعمرها وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها. فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته وتلا فيه جمع كلمتكم بعد افتراقها بأمامته حتى أذهب الله عنكم غيضكم وشفى صدوركم وصرتم يدا على عدوكم بعد أن كان بأسكم بينكم فأنشدكم الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكن ذلك إلى القواد والأجناد حتى باشره بالقوة والمهجة والأولاد واعتزل النسوان وهجر الأوطان ورفض الدعة وهي محبوبة وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة بطوية صحيحة وعزيمة صريحة وبصيرة ثابتة نافذة ثاقبة وريح هابة غالبة ونصرة من الله واقعة واجبة وسلطان قاهر وجد ظاهر وسيف منصور تحت عدل مشهور متحملا للنصب مستقلا لما ناه في جانب الله من التعب حتى لانت الأحوال بعد شدتها وانكسرت شوكة الفتنة عند حدتها(62/3)
ولم يبق لها غارب إلا جبه ولا نجع لأهلها قرن إلا جده وأصبحتم بنعمة الله إخوانا وبلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا حتى تواترت لديكم الفتوحات وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات وصارت وفود الروم وافدة عليه ووعليكم وآمال الأقصين والأدنيين مستخدمة إليه وإليكم يأتون من كل فج عميق وبلد سحيق لأخذ حبل بينه وبينكم جملة وتفصيلا ليقضي الله أمرا كان مفعولا ولن يخلف الله وعده ولهذا الأمر ما بعده وتلك أسباب ظاهرة بادية تدل على أمور باطنة خافية دليلها قائم وجفنها غير نائم وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم الآية وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب ولكل نبأ مستقر ولكل أجل كتاب فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه واسألوه المزيد من نعمائه فقد أصبحتم بعد خلافة أمير المؤمنين أيده الله بالعصمة والسداد والهمة والهمه خالص التوفيق إلى سبيل الرشاد أحسن الناس حالا وأنعمهم بالا وأعزهم قرارا وأمنعهم دارا وأكثفهم جمعا وأجملهم صنعا لا تهاجون ولا تذادون وأنتم بحمد الله على أعداكم ظاهرون فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لإمامكم والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم فإن من نزع يدا من الطاعة وسعى في تفريق الجماعة ومرق من الدين فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين وقد علمتم أن في التعلق بعصمتها والتمسك بعروتها حظ الأموال وحقن الدماء وصلاح الخاصة والدهماء وأن بقوام الطاعة تقام الحدود وتوفى العهود وبها وصلت الأرحام ووضحت الأحكام وبها سد الله الخلل وأمن السبل ووطأ الأكناف ورفع الاختلاف وبها طاب لكم القرار واطمأنت بكم الدار.
فاعتصموا بما أمركم الله الاعتصام به فإنه تبارك وتعالى يقول أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم الآية وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين وصنوف الملحدين الساعين في شق عصاكم وتفريق ملاكم الآخذين في مخاذلة دينكم وهتك حريمكم وتوهين دعوة نبيكم صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع النبيين والمرسلين أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله رب العالمين مستغفرا لله الغفور الرحيم فهو خير الغافرين. .
فبهت الروم وغلي على قلوبهم وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقام المنذر وثبات جنانه وكان الناصر أشدهم تعجبا منه وأقبل على ابنه الحكم ولم يكن يثبت معرفته فسأله عنه قال(62/4)
له هو منذر بن سعيد البلوطي فقال والله لقد أحسن ما شاء فلئن كان حبر خطبته هذه وأعدها مخافة أن يدور ما دار فيتلافى الوهي فإنه لبديع من قدرته واحتياطه ولئن كان أتى بها على البديهة بوقته فإنه لا عجب وأغرب ولئن لأخرني الله بعد لأرفع من ذكره فضع يدك يا حكم عليه واستخلصه وذكرني بشأنه فما للصنيعة مذهب عنه ثم ولاه الصلاة والخطابة في المسجد الجامع بالزهراء ثم ولاه بعد ذلك قضاء الجماعة بقرطبة واقره على الصلاة بالزهراء.(62/5)
روح الإسلام
لأكبر نصير للإسلام اليوم سيد أمير علي الهندي
مركز المرأة في الإسلام
وبعد فإنه على تقدم الفكر وارتقائه وتقلبات هذا العالم المستمرة وتطورات أحواله المتعاقبة تنمحي ضرورة الحاجة إلى تعدد الزوجات وتبطل هذه العادة من تلقاء نفسها أو تبطلها القوانين والشرائع. ومن ثم نرى أنه في البلاد الإسلامية التي قد أخذت تنمحي فيها تلك الأسباب التي كانت قد استلزمت تعدد الزوجات في بادئ الأمر - قد أصبحت هذه العادة تتعد شرا ونكرا ونظاما منافيا لتعاليم الرسول، بينما في البلاد التي أحوال المجتمع فيها خلاف ذلك والتي ينعدم فيها من وسائل معاونة المرأة نفسها بنفسها ما هو متوفر في البلاد الأعظم رقيا والأرقى تمدينا نرى أن مذهب تعدد الزوجات هو مما لابد منه ولا مناص عنه.
ولما كانت حرية التفسير تترك مجالا واسعا لاختلافات أرباب الفتاوى فسيكون من الصعب جدا إبطال المذهب التعددي إبطالا تاما. ونحن لا ننكر ما لهذا الاعتراض من قوة الحجة وصرامة البرهان مما هو جدير بالتفات من كل من المسلمين يبغي خلاص التعاليم الإسلامية مما لحقها من الانتقاص والعيب ويريد التماشي مع روح العصر والمدنية الحديثة، على أنه لا يفوتنا أن مرونة القوانين والشرائع هي أنصع دليل على نفعها وفائدتها وهذه المرونة هي أعظم مزايا الشريعة الإسلامية، فهذه الشريعة ملائمة على السواء لمطالب أرقى الشعوب وأشدها تهذبا ولاحتياجات أوضعها وأحطها مدنيا. الشريعة الإسلامية لا تتجاهل مطالب ألإنسانية المتطورة المتدرجة كما أنها لا تتجاهل أيضاً أن في الدنيا شعوبا قد يصبح بينهم مذهب توحيد المرأة آفة وشرا. بيد أن محاولة إلغاء (تعدد الزوجات) ليس من الصعوبة كما يتوهم ولا خفاء من أن شر ما نكب به الشعوب الإسلامية من الآفات والمصائب إنما أتاه من المذهب التقليدي (الوقوف عند المذاهب الربعة) الذي حرم الاستقلال بالرأي الفردي (الاجتهاد). وليس ببعيد ذلك اليوم الذي فيه يرجع إلى نص القرآن ذاته للفصل فيما إذا كان الواجب على المسلم أن يأخذ بصريح آيات الكتاب الحكيم حقيق معانيها أو بتأويلات الأئمة الذين توسلوا باسم النبي إلى إرضاء أهوائهم الذاتية أو(62/6)
إلى تأييد أوامر الملوك والسلاطين الذين كان أولئك الأئمة بعض خدمهم وصنائعهم. ولقد كابدت أوروبا عين هذه الصعوبات والمشاق واقتحمت عين هاتيك العقبات والحوائل فكان أولى بها من قذف الإسلام بهذه المطاعن والمثالب أن ترقب بعين العطف والرفق وتلحظ بناظر التمهل والتأني ما تبذله الشعوب الإسلامية الناهضة المتحفزة من المجهودات الجسيمة في سبيل التخلص من رق المذهب التقليدي ومتى تم للإسلام هذا فهب وانتعش ونفض عنه غبار الأفكار العتيقة وصدع قيود العقائد القديمة أصبح من السهل على مشرعي كل أمة إسلامية أن تلغي بأمر حكومتها مذهب تعد الزوجات في بلادها. ولكن هذا الحد من الكمال لا يمكن أن ينتج إلا عن رقي عام في اكتناه حقائق الحياة وأمهات المسائل وتفهم أسرار معاني الكتاب المقدس. ولا أراني مبالغا إذا قلت أن مذهب تعدد الزوجات آخذ في الاضمحلال أو سيضمحل سريعا تحت أشعة ضياء التأويل الحديث الذي أصبحت تأول به آيات الكتاب المنزل.
وكذلك يتبين لنا أن ملائمة الشريعة الإسلامية لكل دور من أدوار التمدين وكل طزر من أطوار الرقي تشهد بما أوتي صاحبها (محمد) من السداد والحكمة فنحن نرى أنه في الشعوب الإسلامية غير البالغة درجة مذكورة من التمدين أن القيود والحدود التي وضعها الرسول على مذهب تعدد الزوجات قد حالت دون مصير هذا المذهب آفة وشرا على تلك الشعوب. فإن المذهب المذكور هو بلا شك خير وأفضل من تلك العوائد والتقاليد والأساليب الإباحية الدالة على التجرد التام من كل مسؤولية أدبية والتملص الكامل من كل قيد أخلاقي. وقد شوهد أنه بتقدم العلوم والمعارف يزداد الشعور بسوء موقع الآفات الناجمة عن مذهب تعدد الزوجات وتزداد تلك الآفات وضوحا وتقترب الأذان من إدراك معنى التحريم لذلك المذهب ويدنو على متناول الأفهام ماهية الغرض من إلغاءه ونحن لا يسعنا قط القول بأم مسلمي الهند قد استفادوا كثيرا بالاختلاط بأمم البراهمة الذين قد حلل بينهم مذهب السفاح. فإن هؤلاء الطوائف من الهنود قد تراخت عندهم بسبب ذلك المبادئ الأخلاقية وتلوثت بينهم نقاوة العقيدة في وجوب طهارة ال روحانية البشرية ورفعة الشرف الإنساني. وقد أصبح الفسق والفجور مألوفا لديهم كألفته لدى جيرانهم من الوثنيين. على أن لدينا من الشواهد ما يحملنا على الظن بأن نور الله الذي أضاء بلاد العرب في القرن السابع سوف(62/7)
يهبط على قلوب تلك الطوائف الإسلامية الضالة فيخرجهم من دياجير ما يغشاهم اليوم من تلك الجهالة والعماية. ولا مراء في أن كراهة تعدد الزوجات قد أصبحت اليوم عقيدة راسخة اجتماعية إن لم تكن أخلاقية. وفي البلاد اليوم من الظروف القهرية مع ما بها من تلك الكراهية للمذهب التعددي الآنف الذكر ما يتجه إلى اقتلاع هذا المذهب من أمم الهند الإسلامية فقد أصبح من الشائع بين جميع هذه الأمم أن يدون في عقد الزواج فقرة تنص على أن الزوج يتعهد بالتنازل عن كل حقه المفروض في التزوج من أي امرأة أخرى طوال استمرار الزيجة الأولى. ونحن نرى أن 95 في المائة من مسلمي الهند الآن كلهم على مذهب (توحيد الزوجة) إما عن عقيدة أو ضرورة. أما بين الطبقات المهذبة العليمة بتاريخ أسلافها القادرة على المقارنة بين هذا التاريخ وتاريخ غيرها من الأمم فإن المذهب التعددي مكروه غير مستصوب. وكذلك في بلاد الفرس نرى أن نسبة قليلة جداً من السكان - 2 في المائة - هم الذين يتمتعون بلذة المذهب التعددي المشكوك في صحتها، والذي يرجوه العقلاء من صميم أفئدتهم أنه لن يمضي إلا قليل من الوقت حتى نبصر أئمة الدين قد اجتمعوا فقرروا نهائيا قرارا ساري المفعول نافذ الحكم أن المذهب التعددي هو كالرق مكروه في نظر الشريعة الإسلامية.
والآن إلى مسألة زيجات النبي التي قد جعلوها ذو الجهل بالحقائق المقررة أو ذو الإنكار لها ميلا مع الهوى وقلة نزاهة حجة بتوجيه المطاعن ضد محمد. فقد احتج معترضون من النصارى بأن محمد بكثرة زيجاته قد خص نفسه بما لم تبحه الشريعوة من الملاذ فاظهر بذلك من وهن العزيمة وقلة الحزم ما ينافي واجبات الرسل وسير الأنبياء ولكن من تأمل الأمر ببصية الواسع الإطلاع على الحقائق التاريخية وإنصاف الحكم العادل حكم قطعا أن محمد لما تحمل عبء مساندة السيدة المسنة (السيدة خديجة) بتزوجه إياه حسب النواميس القديمة المتبعة وكان إذ ذاك فقيرا معوزا كان إنما يكلف نفسه تضحية ذاتية لا يستهان بها، ولا مراء في أن من حلل نوايا محمد ومراميه في ذلك الصدد تحليلا تاما في الوجهة الإنسانية المحضة المجردة من الأغراض الشخصية تبين الكذب الصراح وسوء النية فيما يوجه إلى (بطل العرب) من التهم في ذلك الشأن. نقول أن محمدا في الخامسة والعشرين من عمره في زهرة شبابه تزوج خديجة وكانت تتقدم عنه في السن بمراحل وقد لبث معها(62/8)
خمسة وعشرين عاما كان سلوكه معها خلالها مضرب المثل في الصدق والإخلاص والأمانة وفي الرخاء والصفاء والسعادة وما برحت خديجة أثناء ما انهال عليه مطاعن الوثنيين وإساءاتهم ومن مظالمهم واضطهاداتهم عونه الوحيد وعضده وساعده لم تزايله طرفة عين ولم تأل مواساة له ومؤازرة ولما توفيت خديجة كان محمد في الواحدة والخمسين من عمره بل على الرغم منهم يسلمون أن محمدا لبث طول هذه المدة مبرءا من كل سوءة طاهر الذيل من كل مدنسة نقيي الجبيب من كل لوثة ناصع الصحيفة مأمون الغيب وفي حياة خديجة لم يتزوج امرأة قط غيرها بالرغم من أن عادات البلاد وتقاليدها يومذاك كانت تخوله هذا الحق لو أراد.
وبعد وفاة خديجة ببضعة أشهر يوم عاد محمد من الطائف مضطهدا لا عون له ولا نصير تزوج سعدى أرملة رجل من الأعراب كان قد اعتنق الإسلام ثم اضطر للفرار إلى الحبشة هربا من أذى المشركين ثم مات هذا الشريد في ديار الغربة وخلف سعدى أرملة لا عائلة لها ولا ناصر فلم يجد محمد حسب عادات البلاد وتقاليدها سبيلا إلى حماية الأرملة أو صيانتها وإنقاذها غير التزوج بها ولا مراء في أن مبادئ المروءة والشرف والإنسانية وبواعث الرحمة والعطف والرأفة كانت تقضي على الرسول بذلك وكيف لا وإنما في سبيل محمد ومن أجله وتذرعا إلى نصرة دينه وتأييده بدل زوجها روحه وقد لازمته زوجته سعدى في منفاه واغترابه وأيام محنته ومصابه ثم عادت إلى مكة مضيمة منكوبة مهيضة الجناح دامية الجراح وحيدة مستوحشة فريدة فرأى محمد على الرغم من فرط فاقته إذ ذاك وشدة عوزه واحتياجه حتى إلى القوت الضروري أنه لا سبيل لإنقاذ المسكينة إلى التزوج بها. لها بقية(62/9)
التربية العقلية
ملخصة من مبحث ضاف
للكاتب الشهير أرنولد بنت
إذا صح أن للإعلانات أي نفع في الأمة الأمريكية بالغة شأوا بعيدا من القوة البدنية لا نظن العالم قد شهده منذ عهد الإسبارطيين. فإنك لا تفتح صحيفة أو مجلة أمريكية إلا وجدت فيها عددا لا يحصى من الإعلانات المصورة عن (أخصائيين للتربية البدنية) مستعدين أن يجعلوا جميع أعضاء الجسم تشتغل بالدقة التي تشتغل بها سيارة قوتها عشرون حصانا ولا يصيبها ضرر أو عطل! وقد رأيت كتابا لأحد هؤلاء الأخصائيين يشرح فيه كيف للإنسان أن يتمتع بصحة وافية إذا اختص نفسه بربع ساعة في كل يوم يقضيها في لعب تمرينات معينة. والإعلانات التي أشرنا إليها تزيد كل يوم عددا وحجما وتكلف مالا وفيرا ولا ريب إذن في أن أصحابها يجنون منها ربحا وعملا. ولا ريب أيضاً أن عددا كبيرا من الناس يقلقه ما يراه في جسمه من ضعف ويوشك أن يأخذ في أسباب تقويته وتربيته.
وهذه الظاهرة عينها موجودة عندنا نحن الإنجليز ولكن بشكل أبسط. وهي في كل يوم تتقدم وتتقدم معها عضلاتنا. فإنك لا تفاجأ إنجليزيا في غرفة نومه صباحا إلا وجدته مستلقيا على ظهره أو واقفا على رأسه ولاعبا (بالكلبز) كل ذلك في سبيل تمرين عضلاته وتقوية جسمه.
وبعد أليس غريبا أنه لم يدر في خلدي قط أن أخصص ربع ساعة في كل يوم لتمرين القوى العقلية وتقويتها؟
إن العقل العادي أحسن استعداد للتربية من الجسم العادي فما بالنا نأخذ في تمرين عضلاتنا وتقوية أذرعتنا ونتباهى بها. وما خطر لنا قط أن للعقل أيضاً عضلاته وأجهزته الكثيرة وأن هذه الأعضاء الذهنية أقل كفاءة مما يجب أن تكون فبعضها ضعيف هزيل وبعضها بحاجة إلى التغذية وبعضها غير منتظم الشكل الخ. . .
إن رجلا من ذوي الأعمال المريحة إذا قضى يوم عطلة في مشي طويل رجع إلى بيته منهوك القوى غير قادر أن يتناول طعاما، ويصحو في اليوم التالي وهو يعزم عزما خالصا أنه لن يهمل رياضة جسمه إلى مثل هذا الحد ثم يأخذ في احد التمرينات الرياضية. ولكن(62/10)
اطلي من مثل هذا الرجل بعد أن ينهك نفسه في مطالعة الصحف والمجلات والروايات أن يمرن عقله في تسلق موضوع علمي أو فلسفي أو فني. . إنه سينبذ هذا العمل بعد قليل ولا يهتم بأن يشكو بأن عقله ليس في حالة مرضية وأنه يلزمه أن يعنى بتقويته وتمرينه، بل إنه سوف يرضى بالحالة التي هو فيها دون أن يشعر بشيء من الخجل أو الحزن المحض!.
أقول (الحزن المحض) لأن الحقيقة أن الإنسان يشعر بشيء من السف على رؤيته قواه العقلية على غير ما يحب من النشاط والعلم. وكثيرون يأسفون على جهلهم النظريات المهمة. . والسنون تمر. . وهم لا يشتغلون كل أربعة وعشرون ساعة سوى ست أو سبع ساعات. . ولا يحتاجون إلى أكثر من دافع أو مجهود أو نظام لينقذوا الذهن من خموده وركوده وينتفعوا بتمرين عضلاته ويزودوه بمفاخر المعرفة التي تزدهيه. إننا نقضي أيامنا لا نعمل عملا ولا نفكر تفكيرا ولا عذر لدينا من ضيق وقت أو قلة اختبار.
لماذا لا يتقدم إلينا أخصائي لتقوية العقل ويشرح لنا كيف ننتفع بعقولنا في الأعمال المهيأة لها! إذا كان هناك نظام لتربية الجسم فإن هناك نظاما يمكن استنباطه لتربية العقل. وبذلك نحقق بعض مطامعنا في الانتفاع في أوقات الفراغ بتلك الآلة العظيمة التي نتركها تصدا في رؤوسنا إننا لا تعوزنا الرغبة لنيل المعرفة وتقوية الذهن ولكن تنقصنا أولا قوة الإرادة - ولا اقصد قوة الإرادة للبدء في العمل ولكن للاستمرار فيه - وثانيا ينقصنا علاج الحالة السيئة التي صارت إليها أجهزة العقل بسبب إهمالنا. وعلى ذلك يكون العلاج منقسما إلى قسمين: تنمية قوة الإرادة وإصلاح حالة الجهاز العقلي. ويجب أن يسير هذان العلاجان جنبا إلى جنب.
العلاج
إن من السهل أن يعزم الإنسان أمرا في ساعة من ساعات حماسته واهتياجه ولكن تنجيز ما اعتزم صباحا إثر صباح ويوما بعد يوم وطول الشهور والأعوام هو العقبة الكؤود. ولا أظن احد من قارئي يخالفني في هذا. وكثير من الناس يتجاهلون هذه الحقيقة ويتساءلون: ماذا نعمل؟ وبما نشتغل؟ ويظنون أنهم قد أصابوا حل المشكلة إذا هم انحازوا إلى جانب طريقة من طرق تقوية الذاكرة أو تربية الذهن. وفاتهم أن الطريق ليست مهمة وإنما(62/11)
الطريقة الحسنة تتوقف على قوة العزم.
ولنضرب لذلك مثلا سهلا بسيطا بامرأة، أو رجل في الثلاثين من عمره يعيش عيشة مرضية ويشتغل شغلا مناسبا، كم من مرة قد جال في خاطره أن عقله يعوزه شيء من النشاط والعلم فوثب عن كرسيه قائلا في نفسه أن سيعنى اليوم بتمرين عقله تفضل بالرجوع ثانية إلى كرسيك! طالما مرت بك أوقات كهذه اعتزمت فيها أعمالا مجيدة ثم فشلت! فأي المعدات اتخذت لتأمن الفشل هذه المرة؟ لا أظن إرادتك اليوم أقوى منها قديما فاعلم أنه لا جرح ألم لعزم النفس من الرجوع بالفشل وقد تحسب أن هذا الجرح قد اندمل والتئم ولكنه سوف يثور عليك في اللحظة الحرجة وينزف نزيفاً مميتاً.
ليس لي شرف معرفتك ولكني أعرفك لأني أعرف نفسي. لقد كان فشلك القديم راجعا إلى أحد أسباب ثلاثة.
أولها أنك كلفت نفسك عملا كثيرا من بدء الأمر ورسمت برنامجا رائعا! ولكنك لم تتبع ما تتبعه في الرياضية البدنية من الاستعدادات الأولية فلا تتخذ في هذه المرة برنامجا ويكفيك أن تسير خببا، قل لنفسك مثلا (سوف أقرأ كتاب التربية لسبنسر في مدة شهر وسوف أكتب على غلافه الملاحظات المهمة) قد تقول إن هذا عمل سهل بسيط. حسنا اعمله. . فإذا أتممته فإنك على أية حال سترضى على نفسك إذ تراك اعتزمت أمرا وحققته ولا بأس بعد ذلك أن تضع لنفسك نظاما آخر تتبعه ثلاثة أشهر وبذلك تكون قد وفقت إلى عمل برنامج وإن كان أفضل من هذا كله اجتنابك ذلك الجرح الخطر وهو الفشل.
أما السبب الثاني لفشلك القديم فهو تلك الابتسامة الساخرة التي يلقاك بها أصدقاؤك إذ تخبرهم بما تعمله. فأوصيك ألا تذيع في كل مكان أنباء انتصاراتك فإذا كسبت معركة أو اثنتين فلوح بعلمك وسوف ترى أن هذه الابتسامة المشفقة الساخرة تموت قبل أنت تولد.
والسبب الثالث هو أنك لم تنظم أوقاتك تنظيما جديدا. يجب أن تخصص جزءا من يومك لهذا العمل الجديد، لكن لا تنقص ساعات نومك أو تحشر أوقات عملك هذا بين وقتين ضيقين، كلا، أعط نفسك الوقت الكافي. وإذا نويت أن تفكر أو تقرأ نصف ساعة كل يوم فاجعلها في حساب وقتك ساعة، وليس هذا الاحتياط بكثير على المبتدئ. ألا يمكنك أن تقتطع من أوقات رياضتك ولهوك هذا الزمن القصير؟.(62/12)
لقد صعقت أخيراً برؤيتي في أحد الضواحي انتشار الألعاب الرياضية والتمرينات البدنية واهتمام الناس بتقوية عضلاتهم وأجسامهم فقلت في نفسيأيها العقل المسكين المتهافت؟ إن لألعاب الكرة والتجذيف في القوارب والجولف والتنس فصولا مخصوصة وأنت محروم من مثلها.
والآن وقد شرحنا الكيفية التي بها يبدأ الإنسان تمرين قواه العقلية والأسباب التي دعت إلى فشله قديما فإننا ننتقل إلى التمرينات التي يصح أن يأخذ في القيام بها. إن كثيرين يستخفون بالاشتراك في جمعية لتقوية الذاكرة لماذا لا يفعلون ذلك هزوا رؤوسهم وقالوا إن الذاكرة ليست كل شيء! كذلك يتردد كثيرون في حفظ شيء بظهر الغيب والحقيقة أن حفظ النثر أو النظم غيبا لمن أفضل التمرينات العقلية. إن معالجة الذهن ستة أشهر باستظهار عشرين سطرا كل أسبوع لينفي ركوده. وإن أهم ميزة للاستظهار هي القدرة على توجيه الذهن. ولا شك في أن القدرة على توجيه الذهن إلى العمل الذي تشتغل فيه هو أعظم مقدمات تربية النفس. وهناك تمرين عقلي آخر وهو أن تطالع صحيفة من أي كتاب ثم تأخذ في كتابة ما تذكره منها بكلمات من عندك أو بكلمات المؤلف نفسها. إن أمثال هذه التمرينات التي لا تشغلك أكثر من ربع ساعة في كل يوم لتأتي بالنتائج الباهرة.
وعلى ذكر هذا ننتقل إلى ذلك التمرين العقلي العظيم وهو الكتابة. ولا يهمني بلاغة ما تكتب ما دمت تدأب على تركيب الجمل. إن هناك أربعين طريقة لتكتب كتابات خصوصية. فإنك تستطيع أن تتخذ لك مذكرات يومية أو إن شئت عملا أسهل فاتخذ لك دفترا بمثابة جريدة تدون فيه الحوادث المهمة. أو اكتب ملاحظاتك في الكتب التي تقرؤها الخ. . .
ويأتي عقب الكتابة التفكير (وقد يبدو هذا الترتيب غريبا ولكني أصر عليه). إن تربية الذهن وتقويته تكتسبان بتمرينه الدائم على التأمل وإنعام الروية وبعبارة أخرى توجيهه عشر دقائق مثلا في كل يوم إلى التفكير في موضوع من الموضوعات العالية التي يستطيعها. نعم سيفشل الإنسان عدة مرات ولكن لا يجب أن يكترث بذل بل يثابر ويواظب في الطريق التي هو فيها.
وقد طلب مني كثير من القراء أن أعين لهم الكتب التي يقرؤونها: فكأنهم يطلبون مني أن(62/13)
أعين لكل واحد منهم ما يوافق مزاجه ويلائم روحه! ولكني لم أكتب مقالي هذا لأعين الطريق التي تؤدي إلى التربية العقلية ولكني كتبتها لأبين كيفية السير في تلك الطريق. وعساك أن تقول بأني أشغل نفسي بالبحث عن أحسن الطرق للمشي ولكني أرفض أن أعين الجهة التي تذهب إليها. وهذا حق. فإني لا أستطيع أن أعرف الجهة التي يريد غيري الذهاب إليها: ط. ر(62/14)
حديقة أبيقور
لكاتب الروائي الفرنسي الكبير أناتول فرنس
مقتطفات من هذه الحديقة
في الصومعة
وجدت صديقيجان في الدير القديم الذي اتخذ من بوالي رسومه وعوافي أطلاله منزلا في العشر السنوات الأخيرة وقد تلقاني بالبشر الهادئ - بشر رجل ناسك - آثار الآمال البشرية ومخاوفها وساقني إلى حديقته الغير المنسقة حيث تعود أن يشعل غليونه ويدخن في كل صباح بين أشجار البرقوق المغشاة بالطحلب وجلسنا هناك على نقعد أمام مائدة واهنة مرتجفة لا تكاد تتماسك تحت حائط نتهدم قد علته الأزهار من ناضر ومصوح ننتظر طعام الإفطار وكان ضوء السماء الممطرة يرتعش من خلال أوراق أشجار الحور التي كانت يسمع لها همس ووسوسة من جانب الطريق وكانت سحب لؤلؤية تنجاب فوق رؤوسنا وكانت توحي إلى نفوسنا الحزن الناعم الرقيق ولكن الحزن الذي لا يبل من دائه.
مرت به الذكر على حالاته الماضية فسألني عن صحتي وأحوالي ثم بدأ يقول في صوت خفيض وجبين متغضنإني وأن كنت عادة لا أقرأ فإن جهلي ليس موقى من المعرفة فقد علمت وأنا في وحدتي هذه ونسكي الذي كنت تسخر به في أيامك السوالف م الصفحة الثانية من إحدى الجرائد السيارة بظهور نبي عاقل بليغ التعبير حسن الأداة إلى حد أنه يعلم أن العلم وإجهاد الذهن هما المنبع الثر الذي تتدفق منه كل الأحزان والآلام والأوجاع التي يلاقيها الإنسان. وهذا الرائي. إذا كنت لا أزال أذكر الصواب - ذهب إلى أنه من أجل أن نجعل الحياة بريئة ومحبوبة فكل ما نحتاج إليه هو أن نطرح التفكير وننبذ كل تحصيل العلوم وأمن السعادة الوحيدة في الدنيا لا توجد إلا في الرأفة والرحمة الغير السببية المتبادلة وأن الأوامر والنواهي العاقلة والحكم البوالغ التي عيبها الوحيد ونقصها الفذ هو أن مبدعها قد عبر عنها وكان ضعيفا إلى حد أن يضعها في أساليب بديعة ويصبها في قوالب محكمة بدون أن يراعي أن صدم الفن بالفن ودفع العقل بالعقل معناهما أننا نقضي على أنفسنا ونذهب ضحية لأجل أن يكسب العقل مفخرة أية مفخرة ولينال الفن محمدة أية محمدة وأنك يا صديقي الهرم لترى أني لم أقع في هذا التناقض الذي يبعث على الرحمة وإني قد(62/15)
نفضت نفسي كلية من الفكر والكتابة من بدأ اليوم الذي عرفت فيه أن الفكر شر وأن الكتابة لعنة وقد وصلت إلى هذه النتيجة وقوى من نفسي هذا العزم كما تعرف في عام 1882بعد طبع كتيب في الفلسفة كلفني الكثير من الآلام ونقدته الفلاسفة لأنه كان مكتوبا بأسلوب أخاذ ونمط من الإنشاء بديع وفي هذا الكتاب حاولت إثبات أن الكون مغلق السر غير مفهوم وقد كنت مغضبا عندما ذكر لي أني لم أفهمه كحقيقة منزوعة من برود الخيال مجردة من أثواب الأوهام وقد هممت للدفاع عن كتابي لذلك ولكن عند قراءته عجزت أن أتسقط معناه الحقيقي وجدت نفسي غامضا ملتبسا مثل أعظم فلاسفة ما وراء الطبيعة وأن الدنيا قد أساءت إلي وغبنتني لأنه ضنت علي بشيء من الإعجاب الذي تتسخى به عليهم وقد منعني ذلك من التفكير فيما وراء الحس فانصرفت إلى علوم الملاحظة ودرست علم التشريح ومبادئه راسية القواعد راسخة فقد مضى عليها الآن ثلاثون عاما وهي تتركب من تقييد ضفدعة بدقة بالدبابيس على قطعة من الفلين ثم شقها لملاحظة الشرايين والقلب ولكني أدركت بعد مدة قصيرة أننا بهذه الطريقة نحتاج إلى وقت أطول من الحياة التي تهبها لنا الدنيا لكي نصل إلى سر الأحياء العميق الخافي وحقيقتها البعيدة المتوارية وشعرت بغرور العلم الصافي الذي لا يضم بين أطرافه ومنفرجاته سوى جزء لا نهائي الدقة من المظاهر ويشارفه منه عدد محصور من الروابط والصلات ولا تكفي في خلق مذهب متين راسخ وفكرت دقائق في أن أقذف نفسي في مناطق الحرف وميادين الصناعة لكن رقة قلبي منعتني منذلك وليس هناك محاولة مهما اختلفت ضروبها يمكننا أن نقول عنها أنها سيأتي من وراءها من الخير أكثر ما يأتي من الشر وإن (كريستوف كولمبس) الذي كان يحيا حياة القديسين وكان يتشبه بالقديس (فرانسيس) كان بلا مدافع لا يفكر باستكشاف طريق جزائر الهند لو أنه كان يعلم أن استكشافه هذا سيريق الدماء ويكشف عن مذابح أمم عدة برمتها من ذوي الجنود الجمر وهم بلا مرية قوم مستوحشون مقبحوا السريرة فيهم شراسة وشر ولكن كل ذلك بمانعهم من أن يحسوا الألم لو كان يعلم أيضاً أنه سيجلب إلى الدنيا القديمة من ذهب الدنيا الجديدة من الأمراض والأسقام والجرائم ما كان من قبل مجهولا وكنت أظهر الامتعاض وأبدي الاستنكار عندما كان نفر من الأمناء المخلصين أن امضي إلى ممارسة الأسلحة النارية والمفرقعات التي كسبوا من وراءها(62/16)
ثروات طائلة ومبالغ جسيمة أثلت مكانتهم وأعلت مراكزهم وقد صارت شكوكي حقائق من أن الحضارة كما يدعونها ليست إلا بربرية علمية فنحوت بفكري منحى آخر وحاولت ا، أصير مستوحشا
ولم تعترضني صعوبات ولم تقم في وجهي حوائل في إخراج الفكرة وإبرازها من خبز الفكر إلى مجالات العمل في هذا الإقليم الصغير النائي الواقع على مسافة ثلاثين فرسخا من باريس والذي يقل سكانه تدريجيا وأنت رأيت في طرق القرية منازل خاوية قد لعبت بها أيدي العفاء وأكثر أولاد المزارعين ينزحون إلى المدن تاركين قرية قد صارت أملاكها موزعة بدقة إلى حد أنهم لا يستطيعون أن يجدوا بها وسيلة إلى عمل يحصلون به على قوتهم.
ويظهر أنه قد آن اليوم الذي يشتري فيه مفكر ماهر كل هذه النواحي وينشأ فيها الأملاك الواسعة والضياع الفسيحة وسنرى المزارع الصغير يختفي في الريف كما يختفي الآن التاجر الصغير في المدن الكبيرة شيئا فشيئا ولقد دفعت ستة آلاف فرنك واشتريت بقايا ذلك الدير القديم بسلمه الحجري الأنيق والبرج المحدق به وتلك الحديقة التي تركتها نهبا لعبث الزمان وهناك أذهب أوقاتي في مراقبة السحب السائرة في السماء أو في ملاحظة الحشائش وسيقان الجزر المستطيلة وهذا عندي أجمل من تشريح الضفدعة أو من اختراع نوع جديد من النسافات.
وعند ما يكون الليل جميلا ساجيا وأكون مستيقظا أحدق زواراً ولا أفكر في شيء ولست أكد النفس ولا أورى زناد الفكر لأستميلك إلى عزلتي وأجذبك نحوها.
إني لسعيد فرح لأني سأقدم لك عجة البيض ونبيذا وتبغا ولكني أقول لك ورائدي الصراحة إن الأجمل ي والأوثق بنفسي هو لو أني أعطيت كلبي وأرنبي وحمامي قوتها اليومي الذي يجدد نشاطها ويرد عليها قوتها وهي لا تحوله إلى منافع رديئة مفسدة لكتابة رواية تشوش الذهن أو كتاب تشريح يسمم الوجود.
في هذه اللحظة أحضرت لنا بيضا وقنينا من النبيذ الأحمر الزاهي فتاة مليحة المنظر على خديها تورد ولها عينان زرقاوتان مشرقتان ثم سألت صديقي جان هل هو يكره الفنون والآداب من كل قلبه كما يكره العلوم.(62/17)
فأكد لي. لا. إن هناك عنصرا من عناصر الطفولة في الفنون إن هذا العنصر يجرد العداء الشد \ يد من سلاحه وإن النحاتين والمصورين هم ملوثو الصور الجميلة وهم صانعوا العرائس والألاعيب وليس أكثر من ذلك وأي ضرر عظيم في ذلك؟ بل ينبغي لنا أن نقر ونعترف بالفضل والألمعية للشعراء ولو لم يكن ذلك إلا لأنهم يستعملون الألفاظ بعد أن يجردوها من المعنى الجدي الرصين والمغزى الوقور الهام وسنبقى شاكرين لهم إذا كانوا لا يبتغون هذا المطرب بجد وحماسي وإذا هو لم يتركهم يتسكعون في مذاهب الأنانية الوضيعة الممقوتة وإذا هو لم يخلفهم سريعي الغضب خفاف الرأس فتلتهب في صدورهم نيران الحسد وتغلي فيه كراجل الأحفاد خليقين بمستشفى المجاذيب وتعاطي العقاقير الصالحة للعقل وعجيب أنهم يترقبون أن يحصدوا الشهرة وبعد الصيت من وراء هذه الزينة الكاذبة والزخرف الباطل وهذا دليل وضعي على خبلهم وجنونهم وإنه من بين كل أنواع الخط العقلي وأصناف الهوس الفكري الذي يلحق بالرجل المريض المأفون العقل فإن طلب الشهرة وحب الإعلان عن النفس هما أبعث أسباب الهوس والحنون والحماقة والغباء لهزاهز الضحك وأشدها إثارة وتحريكا لبسمات السخرية والاستخفاف كما أنه مستجم أكثر الشرور ومستنقع أكثر البلايا وأنا لا أستطيع إلا أن أرثي لحالهم وأتوجع ويقض مضجعي ما حل بهم وإن العمال هنا يغنون على المحراث الأغاني القديمة التي شدت بها آبائهم والرعاة وهم جالسون على جوانب التلال يحفرون بأطراف سكاكينهم صورا صغيرة من جذور خشب البقس وربات المنازل يصنعون من العجين أرغفة في شكل حمائم وقماري وهذه فنون بريئة لا عيب فيها ولا تتخللها سموم الكبرياء ولا ميكروبات الصرف وهي سهلة هينة وملائمة للضعف البشري وعل نقيضها فنون المدن فإنها تستدعي مجهودا وكل مجهود ينتهي بالألم.
ولكن الذي يلم إخواننا البشر ويحزنهم ويشوههم ويقبحهم هو العلم الذي يوجد لهم علاقات وروابط بأشياء لا تتناسب مع قوتهم وهو يفسد كل شرائط الاتصال الحقيقي للإنسان بالطبيعة وهو يستفزهم إلى الفهم بينما من الجلي الظاهر الغني عن البرهان أن الحيوان خلق ليشعر لا ليفهم والعلم ينمي الذهن - ذلك العضو العديم الفائدة - على نفقة الأعضاء الأخرى التي يشترك فيها مع الحيوانات وهو يقصينا عن التمتع بلذاذات الحياة ويمنعنا من(62/18)
إرخاء أعنة النوازع والشهوات التي نعاني من أجلها شوقا غريزيا وهو يزيد في شقاوتنا ويشعل الخابي من جمرات همومنا بالخيالات المخيفة والصور الرهيبة التي يعرضها علينا وليس لها من وجود إلا في تركيبه وجهازه وهو يؤيد ضعفنا ويزيدنا يقينا به وإيمانا بمقارنتنا إلى الأجرام السماوية وبإظهار قصر حياتنا إلى جانب قدم الدنيا ويظهر عجزنا لأنه يفسح لنا مجالا للتظني فيما لا نستطيع أن نبصر ولا أن نلمس ويكشف عن جهلنا لأنه يبين لنا روعة المجهول ويجلي لنا حقارتنا وتفاهة قدرنا بتكرار الأشياء التي توقظ تلفتنا تستدعي تطلعنا دون أن يجبنا عليها.
وأنا لا أقر الكلام على نتائجه الفكرية فإننا عندما نتخطى إلى التطبيق العملي نرى أن مخترعاتنا ليست إلا وسائل للتعذيب طريفة تدل على المهارة والتبصر وأن ماكيناتنا لتحكم بالموت على أفراد الإنسانية التعسة الأسيفة.
زر أي مدينة صناعية أو انزل إلى أي منجم من المناجم وانظر إن كانت المظاهر التي تراها تختلف كثيرا عن النار الموقدة التي يتصورها أشد رجال الدين تعصبا وتحمسا وإننا لنبدأ نشك عند إمعان النظر وإجالة الفكر في أن ضرر مجلوبات الصناعة للذي يصنعها أقل من الضرر العائد على صاحبها ونبدأ نفكر في الترف وهل هو أفدح أمراض الحياة عاقبة وأشملها ضررا، ولقد عرفت أقواما من كل طبقات المجتمع ولم أقابل في حياتي أحدا وصل من التعاسة إلى ما وصلت إليه سيدة من ذوات المنزلة في باريس وهي امرأة حسناء كانت تنفق على ملابسه خمسين ألف فرنك في العام وإن هذه حالة تفضي بصاحبها إلى إنهاك الأعصاب ومرضها العزيز الشفاء.
ثم صبت لنا القهوة الفتاة القروية الحسنة المظهر ذات العيون الصافية وعليها ظواهر السذاجة القانعة.
فأشار إليها صديقي جان بعنق غليونه وكان ملأه في الوقت نفسه وقالانظر إلى تلك الصبية وأنها تعيش على الخبز ولحم الخنزير المملح وكانت البارحة تحمل حزمة من القش على المذراه وغنك لتبصر الآن قطعا منها على شعرها وهي سعيدة وبريئة في كل ما تفعل لأن العلم والحضارة قد خلقا الخطيئة كما خلقا المرض وإني لأقاربها سعادة وأشابهها في خلو البال لأني أفكر في شيء ولا أقوم بعمل شيء وإني لا أزرع حديقتي بل أتركها تنمو(62/19)
جامحة مطلقة من أن أعمل عملا أجهل عاقبته وبإتباعي لهذه الطريقة وسلوك هذا المسلك تراني مقتنعا بسكون العقل التام وصفاته الخالصة.
فقلت لهلو كنت في موضعك لما أمكنني أن أشعر بنفسي السلام والأمن والهدوء الذي تشعر به وإنك لا تستطيع ولن تستطيع ولا يمكن أن يكون قد تهيأ لك أن تسحق في نفسك كل المعرفة والفكر والعمل وتخمدها لتطعم الراحة النقية الخالصة.
ولا تنس أنه مهما فعلنا فإن الحياة هي العمل وأن نعيش هو أن نعمل وإن نتائج المخترعات العلمية والاستكشافات تخيفك لأنها لاتحد ولا تحصر ولكن اعلم أن أبسط الأفكار وأشد الأعمال الفطرية تتضمن أيضاً نتائج لا ينالها الحصر ولا يحويها العد وإنك لتكون قد أفرطت في مدح العقل وأكثرت من التنويه به وبالصناعة إذا ظننت أنهما هما المتحكمان في مصير الإنسانية وإن كثيرا من أشياء هذا العالم تصنعها القوات الجاهلة الغير الشاعرة بنفسها وهل في وسعنا أن نتنبأ بتأثر اكبر حصى أزيحت من جانب التل! أنها قد تؤثر في مصير الإنسانية تأثيرا ظاهرا فعالا أكثر مما يؤثره طبع كتاب علمي قيم واختراع مثل اختراع الكهرباء.
وإن ظهور الاسكندر ونابليون على ملعب الأيام لا يمكن أن يرد إلى أسباب فكرية مقصودة وليس هو من النوع العلمي ولكن على رغم كل ذلك فإن مصير ملايين البشرية تأثر بظهورهما واشتبك فيه وهل تظن أننا ندري قيمة المعنى الحقيقي لما نعمل وأن في كتاب ألف ليلة حكاية لا يمكنني أن أمسك عن تفسيرها تفسيرا فلسفيا وأقصد بذلك حكاية التاجر العربي الذي جلس وهو عائد من الحج إلى مكة على حافة عين جارية ليأكل بعض الثمر وكان يروي بنواة في الهواء فكان أن واحدة من هذا التمر قد قتلت مخلوقا غير ظاهر - أحد أولاد الجان - ولم يكن ذلك التاجر التعس يحلم أنه سيحدث ذلك من وراء رمي النواة ولما أخبر بهذه الجريمة التي اجترمها أبلس حتى لم يكد يجيب من الخوف والذعر ولم يكن قد أعمل الفكر من قبل في العواقب المحتملة لأي عمل نعمله فهل نستطيع أن نعلم إذا رفعنا ساعدنا أننا سوف لا نصفع جنيا في الهواء كما حدث للتاجر؟ وإني في مكانك لا أستطيع أن أشعر بالراحة والطمأنينة ومن علمك إن إقامتك الهادئة في هذه الصومعة التي زاد فيها نمو اللبلاب وغيره من النباتات الصخرية ليست عملا صادق التأثير نافذ المفعول في(62/20)
الإنسانية وإنه أعمق في الأهمية وأبعد غورا من كل مخترعات العلماء وتواليفهم وأنه ينتج تأثيرات هائلة مخيفة وحوادث رائعة رهيبة في الأيام المقبلة؟؟
هذا غير محتمل ولا مرجح.
ولكنه غير مستحيل وإنك تعيش عيشة غريبة وتتكلم كلمات غريبة يمكن أن تجمع وتطبع وهذا كاف في ظروف خاصة في أن يكون منك بكرهك صاحب ديانة جديدة وملايين الناس قد تعتنقها وقد يضرهم ذلك وينزل بهم إلى مهابط التعس ويرمي بهم مرامي الشقاء وقد يقتلون آلاف البشر وهم لا ينون يرددون اسمك مشفوعا بالشكر والدعاء.
ينبغي للإنسان أن يموت إذن ليصير بريئا ليحوز الهدوء التام.
أعد النظر فيما تقول فإن الموت عمل لا يمكن أن نحصر ما يأتي وراءه من المحتملات والمتمكنات.
علي أدهم(62/21)
مجاعة وقحط في الأزواج
بلغت قلة الرجال في أوروبا الوسطى حدا جعل النساء يتلمسون الزواج تلمسا ويتطلبونه بكل وسيلة. والحق ان الأزمة الرجالية مستحكمة فإن كل عشرة من النساء لا يكاد يقابلها رجل واحد.
والصحافة حافلة بإعلانات الزواج ليس من النساء فقط بل من أمهاتهن وآبائهن وأخواتهن فلا أقل من خمسة أنهر في كل جريدة تخصص في هذا الشأن.
وإليك صورة إعلان من هذه الإعلانات العجيبة نشر في جريدة نمساوية: تطلب ابنتي زوجا وهي، ذكية، مستنيرة، جميلة، بم تتجاوز السادسة والعشرين من العمر، من عائلة عريقة في النسب وديعة. رقيقة الإحساس تملك مليونا من الكرونات النمساوية تود أن تتزوج من رجل من أصل شريف يكون قد فكر في الزواج وأع له العدة ويجب على من يتقدمون لذلك أن يكونوا ناسا ذوي حيثية ومكانة الإمضاء(62/22)
كتاب الصور
تأليف واشنطون إيرفنج
وهو الكتاب المقرر على طلبة الشهادة الثانوية في هذا العام
السياحة
لا جرم أن الوافد على أوروبا من الأمريكان مصيب في سياحته الطويلة أفضل ممهد لوفدته. وأحسن مهيأ لقدمته. وذلك أن فترة انقطاعه عن المناظر والأشغال الدنيوية خليقة أن تترك صحيفة ذهنه على أتم استعداد للتأثر بما سوف تتلقاه من الصور والعاني الجديدة. فإن بطائح المياه المنفسجة الفاصلة بين شطري الكرة الأرضية هي كصحيفة غفل بيضاء في كتاب الحياة فليس قمة انتقال تدريجي كالذي يكون في أوروبا سببا لاندماج مملكة في أخرى من حيث أهليهما ومعالمهما. فمتى اختفى عن بصرك البر الذي تفارق لا ترى إلا فراغا حتى ترسي على الساحل المقابل ثم تزج دفعة واحدة في غمرة ضوضاء عالم جديد وتغمس في حومة طرائفه وغرائبه.
والسياحة البرية تتصل فيها المناظر وتطرد فيها سلسلة نظام الأشخاص والحوادث المؤلفة من حلقاتها قصة الحياة والتي هي جديرة أن تضعف ما ينشأ في النفس من أثر الغيبة والفرقة ولا مشاحة في أننا لا نزال أثناء السياحة البرية نجرسلسلة تتزايد حلقاتها بعد كل مرحلة نقطعها من سفرنا ولكن هذه السلسة متصلة غير منقطعة نستطيع أن نتتبع ما خلفناه منها وراءنا حلقة حلقة ولا نزال نشعر أن آخر هذه الحلقات يربطنا بالوطن أما السياحة البحرية النائية فهذه تصرم الأسباب وتجذم الروابط للتو واللحظة وتشعرنا بأننا قد نبذنا من مرسى الحياة المستقرة وقذفنا من مرفأ العيشة المطمأنة على غارب غباب عالم ظنين متهم تحفه الشكوك والريب. فهي تحول بيننا وبين الأوطان بهوة حقيقية غير وهمية عرضة للعواطف والظنون والمخاوف يظل معها البعاد أمراً محسا ملموسا والأوبة غير مضمونة.
تلك كانت حالتي شخصياً. فلما غاب عن بصري أخر معالم بلادي مضمحل الزرقة أقصى كأنه السحابة المنجابة خيل إلي كأنما قد أقفلت جزء من كتاب الدنيا وشؤونها وأنفسح لي مجال التأمل والاعتبار قبل افتتاح جزء آخر. هذه الديار المتقلصة من ناظري - تلك التي تضم في حضنيها وتجمع بين دفتيها كل كل ما هو محبب إلي في الدنيا - ماذا يحتمل أن(62/23)
يصيبها من صروف المحن. وتقلبات الزمن. وماذا يحتمل أن يصيبني أنا من تبدل وتحول قبل أن تسعدوني المقادير بالإياب! ومن ذا الذي يستطيع حين يهم بالرحيل أن يعلم أيطوح به تيار القدر التعسف. أم متى تكون أوبته إلى وطنه. وهل يتاح له ثانيا أن يشهد معالم طفولته. ومآلف شبيبته.
أم هل يباح الورد ثانية ... ويلذ برد الماء مرتشف
قات أنك لا ترى في البحر إلا فراغا وإني لجدير أن أصحح من هذه الفكرة بقولي بل إن البحر لصحيفة مملوءة بالمعاني الباعثة على التفكير والتأمل ولكن هذه المعاني ليست سوى عجائب البحر والهواء مما هو أجدر أن يصرف الذهن عن شؤون الدنيا ويجرده من شوائب الحياة المدنية ولكم سرني أن أشرف من فوق سياج السفينة في اليوم الساجي منغض الرأس للنعاس أو أعتلي ذؤابة الدقل أقضي الساعات تأملا فيس ساحة صدر اليم الهادئ المشتمل في غلالة المصيف أربو إلى ركام السحب المطرزة بحواشي النور المذهب تشرأب إن تبرز من حجاب الأفق فأخالها مآلف جان ثم أعمرها بخلائق من صنيع خيالي - وأراقب مجرى الأمواج تقلب أجرامها اللجينية كما لو كانت تود أن تضمحل فتموت على تلك السواحل الهنية السعيدة.
لقد كنت أشعر بمزيج من الأمن والخوف والرهبة والطمأنينة لئن كنت أشرف من ذلك المربأ الشاهق على عجائب مخلوقات اليم تلعب ألعابها الخشنة الخرقاء - فمن أسراب درفيل تتنزى حول مقدم السفينة وحوت يرفع جرمه الجسيم فوق الماء في بطأ وتثاقل. وكلب بحر جارح فراس يمرق من خلال اللجة الزرقاء كالطيف السانح. والبرق اللامح. وعند ذاك يستثير خيالي كل ما سمعت أو قرأت من عالم الدأماء الذي أعتليه ـعن ذوات الزعانف الجائبة ووديانه السحيقة الأعماق مما لا يدرك مداه. ولا يبلغ أقصاه. وعن الخلائق المنكرة الهائلة غير ذات الصور والأشكال - الكامنة بين أساس الأرض وقواعدها وعن تلك الخيالات الخارقة مما تفيض به أقاصيص النوتية وصياد البحر.
وأحيانا يبدو لك من أقصى مسافة شراع سفينة تنساب على حافة اليم فيكون مبعثا لخطرات بالك. وسنحات خيالك ويا عجبا لهذه السفينة المنسابة. إنها لعمرك عالم ضئيل ودنيا دقيقة تسرع لتنضم إلى السواد الأعظم في هذا الوجود! هذه آية بارعة من آيات إبداع(62/24)
البشر قد تغلبت بوجه ما على الرياح والأمواج وضمت طرفي العالم. وقامت بين أنحاء الأرض واسطة تبادل للخيرات. وتقايض للبركات تصب في حجر الشمال الممحل الجديد. جملة مناعم الجنوب. وتبث نور العرفان وثمار التربية والتهذيب. فهي بذلك قد ألفت الشمل بين المتفرق المنتشر من أجزاء النوع البشري مما كان يحسب أن الطبيعة قد أقامت بين بعضه والبعض حائلا صعب المرام وسدا منيعا متعذر الاقتحام.
ولقد بصرنا ذات يوم بشبح مبهم الشكل يطفو على مسافة منا. وكل شيء يبدو على ظهر الماء يظل لانفراده وسط ساحة المياه الفيحاء المتماثلة الأرجاء المتشاكلة الأنحاء خليقا أن يلفت النظر. ويجذب البصر. ولما استبن ذلك الشبح ألفيناه دقل سفينة لم نشك في أنها قد غرقت فأهلكت إذا أبصرنا بقايا مناديل كان بعض النوتية قد شدوا بها أنفسهم إلى ذلك العمود حتى لا يحتاجهم الموج ولم يكن ثمة من آثار الفينة ما يستدل بها على اسمها والظاهر أن حطامها كانت الأمواج ما برحت تتقاذفه منذ شهور عدة فهو يذهب على سطح العباب كل مذهب ويضرب في كل مضرب: وكان قد اعتقله ونشبت به قطع متكاثفة من المحار وخففت على جانبيه أوراق بسيطة مسترسلة من عشب الماء. فقلت في نفسي (ترى أين النوتية؟ لقد انقضى كفاحهم العنيف منذ بعيد وقد رسبوا بين زماجر العواصف فعظامهم اليوم بأعماق اليم يضمحل ثاويها. ويبيض باليها. وقد طواهم النسيان (كما صنع بهم العباب) بين غضونه وأثنائه، وغيبهم الصمت والسكون في ضمير أحشائه، فليس من أحد يستطيع أن يدل على آثارهم أو يحدث عن أخبارهم. وهذا المركب الغريق كم من زفرات لدى الرحيل شيعته. وكم من نظرات ودعته. وكم من دعوات بالغنم والسلامة تصاعدت لركبه التعساء من حول مواقد هجروها في ديارهم فأضحت من بعدهم موحشة نابية. وعادت روضة النعيم بهاذاوية. وتعطلت فيها مجالس اللهو وكانت بهم صدورها حالية. وكم من زوجة وحبيبة عكفت على صفحات جريدة لتظفر بين سطورها بشارد نبأ عن تلك السفينة الجوابة للبحار: الوثابة على القحم والأخطار! وكيف استحال القلق إلى ظلمة الخوف واستحال الخوف إلى السواد واليأس. فوا أسفا أن لا يرجع البتة من تلك السفينة تذكار واحد يكون عما مضى عزاء تستريح إليه النفس ويهفوا إليه الضمير بل كل ما عساه أن يعرف هو أنها أبحرت من المرفأ ثم نقطع خبرها أبد الآبدين؟).(62/25)
وقد حرك منظر الحطام بعض القوم - كما هو المعتاد - إلى سرد الكثير من فاجع الروايات وقد جرى ذلك لأخص ساعة الغروب إذ طفق الجو بعد صحوه يكفهر ويربد. وينذر ويهدد. ويؤذن ببعض هاتيك الزوابع المباغتة التي ربما أغارت على صفاء سكينة السياحات الصيفية. فجعل كل منا وقد أخذنا مجالسنا من الطارمة حول شعاع مصباحها الكليل الذي كان لا يزيد ظلمة المكان إلا وحشة ورهبة - يلقي بما عن له من القول عن حوادث الغرق والهلاك. فكان أدهش ما سمعت من هذه الأحاديث موجزة ألقاها القبطان قال:
بينما أنا ذات مرة في مركب رائع ضخم أسيح بين سواحل (نيوفوندلاند) أتيح بعض تلك الضبابات الكثيفة مما يكثر في تلك الأنحاء فقصرت مدى ألحاظنا ومنعتنا رؤية ما تباعد من الأشخاص حتى في ضوء النهار. أما بالليل فقد أفرطت كثافة الغيم بما أبهم علينا صور المرئيات وأخفى أشباحها حتى على مدى ضعف طول المركب. فأشعلت أضواء في ذؤابة الدقل. وأقمت الأرصاد يرقبون ما عسى أن يسوقه القدر من قوارب السمك المعتادة الرسو على السواحل وكانت الريح إذ ذاك تهب نسما نفاحا والمركب يهفو بنا سريعا. فإنا لكذلك إذ صاح الرقيب بغتة (هاكم قارب!) وما كاد يفوه بها حتى هبطنا على القارب وكان زورقا صغيرا وكان زورقا قد ولانا عرضه وكان النوتية كله رقودا وقد فاتهم أن يرفعوا مصباحا فاصطدمنا بالقارب. ثم كان من قوة الصدمة وضخامة مركبنا وثقل أبداننا ما حط ذلك القارب تحت الأمواج وغمره بالأمواه ثم اجتزنا من فوقه ومضينا في طريقنا. وبينما القارب المتحطم يرسب من تحتنا حانت مني التفاتة فلمحت اثنين أو ثلاثة من ركابها البؤساء عارية أنصاف أجسادهم خارجين من الطارمة.
لقد هبوا اللحظة من فرشهم لتبتلعهم ذئاب الموج العاوية. وسباعه الضارية ولقد والله سمعت صرخت غرقهم يخالطها عزيف الريح العاتية. وما لبث الإعصار الذي حمل إلينا تلك الصرخة أن أطاحنا وراء مسمع كل صوت من أصوات تلك المأساة الفاجعة. على أني مهما أعش فلست بناس تلك الصرخة! ولم يك إلا بعد برهة أن استطعنا تعديل سير مركبنا لما كان قد تغلب عليه من سطوة اليم. ثم عدنا مسترشدين برائد الحدس والتخمين إلى حيث كان القارب قد أرسى فسرنا بضع ساعات في ضباب كثيف وأطلقنا طلقات أشارية(62/26)
لعلنا نسمع هتاف من عساهم يكونون قد أفلتوا من مخالب المنون ولكن الصمت كان شاملا، ولم تر أبصارهم ولم تسمع أذاننا من أثر منهم ولا خبر.
ولا أنكر أن هذه الأقاصيص أودت بلذيذ تصوراتي مدة من الزمن. واشتدت العاصفة على امتداد الليل وضربت الزوبعة غوارب الموج بأصوات الرياح فبددت وئامه. وشوشت نظامه.
وكان يسمع بتكسر الموج وتدفع الأذى صوت مخوف موحش. وتجاوبت من اللجج الأعماق. وتراءت الأنواء بالآفاق. وخيل إلينا في الأحايين أن سود السحائب فوقنا كانت تتصدع بصوارم البارقات الخفاقة على رؤوس الموج المزبدة الراغية فتضيء لحظة ثم تترك الظلمة التالية أرهب وأخوف وتداعت زماجر الرعود فوق قفار المياه الموحشة فأجابتها الأصداء من غيران الجبال بما أطال صوت زئيرها ومد في شأو هديرها.
ولما نظرت إلى سفينتنا تترنح وتتعثر بين هذه الحومات المتفجرة وكهوف الماء الضجاجة المزمجرة، خيل إلي أن تماسكها وسط هذه الزعارع وتوازنها بين هذه الزلازل كان حقا أحد المعجزات الخارقة. وكانت ربما انغمست رواجعهاو اندفن مقدمها تحت أطباق الموج وأحيانا كانت تشرمن فوقها اللجة فتهم أن تتلمسها لولا حركة حاذقة من الدفة تقيها الهجمة الهائلة والصدمة الغائلة.
ومازال ذلك المنظر المخوف يتشبه لي ويتراءى حتى بعد ما عدت إلى حجرتي وقد جعل حفيف الريح خلال الجبال يرن في آذاني كعويل المآتم. وما كان أشنع صريع الأدقال وأنين الحواجز وضجيجها إذ المركب يكدح في عباب اليم المتقلب وكان يخيل إلي والموج على جنبات المركب يتمطر وهديره في آذنه يضج ويزأر كأنما الموت ذاته يدور ثائرا حنقا حول ذلك السجن العائم يتلمس فريسته فلو إن مسمار ند عن مغرزه أو انفجر ما بين لوحين من ألواحها الملتئمة لا نفتح بذلك الباب لوافد المنية فأخلى ما بينه وما بين الضجة. ولكن لما طلع علينا الغد بالصحو الجميل ولانت سورة البحر وخيمت عليه السكينة وهبت الريح رخاء مؤاتية بدد هذا الصفاء ما كان قد استحوذ على نفسي من تلك الخواطر الحزينة.
ولا غرو فإن المرء لا يسعه إلا أن يلين رقة ويصبو طربا إلى محاسن الصحو الجميل و(62/27)
النسيم العليل على صدر اليم. ومتى تبرجت السفينة في جل أبرادها وحللها وانتفخ كل شراع ومر يزهى مرحا فوق طرائق الموج المسرد وحبائل الماء الطرد بدت لك وأيم الله أكمل ما تكون أبهة وجلالا وروعة وجمالا وكأن قد أدالها من الخضم الزاخر وأثرها عليه بالعزة والسلطان.
لو سمح لي المجال ها هنا لأفعمت كتابا هائلا بوصف ما يعتاد المرء في الرحلة البحرية من سوانح الخيال فإن هذه السوانح لتطرد عندي إطرادا غير منقطع ولكنه قد آن لنا أن نعمد إلى الساحل.
وفي ذات صباح وضاء وضاح الجبين نودي من قمة الدقل (البر) ليس يتأتى لغير مجرب مكابد أن يدرك لذة ما ينثال على قلب الأمريكان من معسول الخواطر العذبة وشهي الإحساسات لدى أول رؤيته سواحل أوروبا. فإن مايقترن بهذا الاسم من السوانح والمعاني لجدير أن يملأ كتابا كاملا.
هذه هي الأرض الموعودة قد غصت بكل ما كان سمعه السائح الجوال في طفولته وتأمله أثناء دراسته.
وما زال ذهني منذ تلك اللحظة لحين وصولنا مثارا للخواطر الجياشة والعواطف المهتاجة. فكان في مشهد المدرعات الحائمة على الساحل كأنها الحرس من المردة وفي رؤوس إيرلندة الممتدة في الخليج وجبال ولز الشامخة فوق مجرى الغمام - مجال المتبصر. ومسرح المتفكر.
ولما أصعدنا في (مرسى) استطلعت أنحاء السواحل بالمرقب فقر بعيني منظر الأكواخ الأنيقة الحسنة محلاة الأكتاف ببديع البساتين وخضر الرياض وأبصرت إطلالة دير دارسة مندثرة قد نسجت عليها يد البلى حللا قشيبة من الأعشاب ورأيت مستدق ذؤابه البرج من كنيسة قروية مشرفة من جبهة تل مجاور وهذه كلها من معالم انكلترا الخاصة وآياتها المميزة.
كانت حركة المد والجزر إذ ذاك ومهب الريح مؤاتية مساعفة فتسير للسفينة أن تبلغ رصيف المرفأ للتو والساعة. وكان غاصا بالنظارة من اللاهين وبغير هؤلاء من الأحباب الواجدين المتلهفين شوقا إلى لقاء الخلان والأقارب وقد استطعت أن أميز من(62/28)
بين هذه الجموع المحتشدة التاجر المعهود إليه أمر السفينة - عرفته بما كان يبدو عليه من القلق وما ارتسم على جبينه من سيما التقدير والمحاسبة وكان واضعا يديه في جبينه يصفر كالمفكر المتروي رائحا غائدا وسط مجال ضيق كان قد أفسحته له المزدحمون احتراما وإعظاما لأهميته المؤقتة. وكان الهتاف والتحيات تتبادل بين الساحل والمركب كلما تعارفت الأصدقاء. وقد بصرت بامرأة فتية بذة الهيئة لكنها مستملحة الملامح والشمائل وكانت مقبلة بوجهها من بين الجموع وقد جالت ببصرها سريعة اللمحات في أنحاء المركب تلتمس من بين ركابها وجها مؤملا محبوبا وكأنما خاب ظنها فاستولى عليها الإشفاق والقلق. وما لبثت أن سمعت صوتا خافتا يناديها باسمها. وقد انبعث هذا الصوت من نوتي مسكين كان قد مرض أثناء الرحلة حتى رحمه كل من في السفينة وكان قرناؤه لما أقبل الصحو فرشوا له وسادة في مكان ظليل من السفينة ثم ألح عليه المرض في أخريات الرحلة حتى ألجأه إلى حجرته وقد قال لعواده أن أقصى مناه أن يبصر زوجته قبل مماته. فحمله أخوانه إلى ظهر المركب لما أصعدنا في النهر فاتكأ على الشراع وقد بدا من هزال وجهه وفرط صفرته وشحوبه ما ليس يستغرب معه إن أخطأته ألحاظ الشغف والولوع من زوجته المشتاقة. ولكنها ما سمعت صوته حتى انثنت ألحاظها نحو وجهه فقرأت على صحيفته لأول وهلة كتابا مستفيضا من الحزن والأسى فضمت يديها وأرسلت صيحة ضعيفة ووقفت تعصر كفيها المضمومتين في وجد صامت.
وعم بعد ذلك الهرج والمرج - فتقابل الصاحب وتصافح الأحباب. وتآسى التجار وأرباب الأشغال. ووقفت بينهم فريداً ساكتا لا أجد من ألقاه ولا من يلقاني ويهتف لي ويرحب. ثم نزلت بديار آبائي وأجدادي ولكني وجدتني فيها غريبا. .(62/29)
رواية تاجر البندقية
تأليف وليم شاكسبير
الفصل الثاني
المنظر الثاني
شارع بفينسيا
يدخل لانسيلوت
لانسيلوت - حقا إن ضميري لينهاني أن أهرب من هذا اليهودي مولاى ولكن الشيطان يوسوس لي حثا وتحريضا قائلا ليأي جوبو. أي لانسيلوت جوبو. أيها الطيب الكريم لانسيلوت جوبو امتط رجليك وتحفر وفر فرارا ثم يعاودني ضميري بقولهكلا. بل اتئدوترو يا لانسيلوت الصادق الأمين. تبصر وتدبر يا لانسيلوت الأمين الصادق. لا تهرب احتقر الهرب أشد احتقار ثم يراجعني الشيطان الباسل الشجاع فحثني على الرحيل قائلااذهب لا أبالك! حرك عزيمتك وأيقظ همتك واهرب فينثني إلي الضمير مستثيرا بالحض والإغراء عزيمة قلبي مسديا إلي أحكم النصيحة بقولهأي لانسيلوت يا صاحبي الأمين أما أنت سليل رجل ماجد - بل سليل امرأة ماجدة فلا تبرح مكانك ويقول الشيطانابرح مكانك ويعيد الضمير قولتهلا تبرح مكنك فأجيب قائلا أيها الضمير حبذا نصيحتك وأيها الشيطان ما أحسن نصيحتك فإتباعا لضميري يجب علي البقاء مع مولاي اليهودي وهو - حماك الله - صنف من الشياطين. وفي فراري من اليهودي طاعة للشيطان - وقالك الله - إبليس نفسه. ولا مشاحة في أن اليهودي هو إبليس مجسد. وفي اعتقادي وضميري أن ضميري ليقسو علي غلظة وفظاظة إذ ينصح لي بالبقاء مع اليهودي. ولذلك أرى الشيطان أكرم نصحا وأبر إرشادة. فيا أيها الشيطان لأهربن عملا بنصيحتك. فاعلمن أن قدمي رهن إشارتك. نعم سأهرب
(يدخل الشيخ جوبو والد لانسيلوت)
جوبو - سيدي الشاب. أين بالله منزل السيد اليهودي؟ لانسيلوت (جانبا) يا الله! هذا أبي الذي ولدني ونماني! وأراه للذي به من العمى وما فوق العمى لا يعرفني. سأرهقه تحييرا وتضليلا.(62/30)
جوبو - سيدي الشاب أين بالله منزل السيد اليهودي؟
لانسيلوت - عرج يمينا لدى أول منعطف ثم عن يسارك عند تالي منعطف. وعند ثاني منعطف مباشرة لا تعرج لا يمينا ولا يسارا ولكن عرج منحدرا غير مباشر نحو منزل اليهودي.
جوبو - وحق أولياء الله القديسين إنها السبيل أشق من أن يهتدى إليها. أتعرف يا فتى هل ذلك الغلام المدعو لانسيلوت القاطن في دار اليهودي لا يزال يقطن هناك؟
لانسيلوت - أتعني السيد الصغير لا نسيلوت (جانبا) الق إلي بالك الآن. لأثيرن اللحظة زوبعة - أتسألني عن السيد الصغير لانسيلوت.
جوبو - ليس بسيد وإنما ابن رجل صعلوك فأبوه - وإن كان هذا القول صادر مني - رجل على فرط صعلكته أمين وفي كفاف من العيش.
لانسيلوت - دعنا من ذلك وليكن أبوه كما يشاء إنما نتكلم عن السيد الصغير لانسيلوت.
جوبو - لانسيلوت فقط وليس كما تقولالسيد لانسيلوت.
لانسيلوت - ولكني أرجوك لهذا السبب يا أيها الشيخ - ولهذا السبب أرجوك وأتوسل إليك - فقل لي أتسألني عن السيد الصغير لانسيلوت؟
جوبو - عن لانسيلوت إذا مننت وتفضلت يا سيدي.
لانسيلوت - إذن فالسيد لانسيلوت. لا تذكر السيد لانسيلوت يا والدي لأن الفتى بحكم الأقدار والأقضية وما لا تزال تلوكه أفواه المتشاعرين من أمثال قولهم (الأخوات الثلاثة: ملائكة القدر - قد قضى نحبه أو كما تقول أنت باللغة البسيطة قد مات).
جوبو - لا قدر الله. لقد كان الغلام عماد هرمي ودعامة شيخوختي.
لانسيلوت - (على حدة). أفي هيئتي ما يشبه القضيب أو العمود أو العصا أو الدعامة؟ أتعرفني يا والدي؟
جوبو - واأسفاه. أنا لا أعرفك أيها الشاب ولكن ألا تخبرني عن بني - أراح الله قلبك - أميت هو أم حي؟
لانسيلوت - ألا تعرفني يا والدي.
جوبو - واأسفاه يا سيدي. إني لأوشك أن أكون أعمى. كلا لا أعرفك.(62/31)
لانسيلوت - بل لو بقي لك بصرك لأوشكت أن لا تعرفني أيضا. فرحم الله امء عرف ولده وفلذة كبده. مهلا يا والدي سأنبئك الأنباء عن نجلك. باركني (يركع موليا الرجل ظهره) لابد أن يبرح الخفاء ولا يلبث المحجوب طويلا حتى يظهر. وقد يطول احتجاب الولد عن أبيه ولكن لا بد أن تظهر الحقيقة في النهاية.
جوبو - انهض بالله يا سيدي أنا على يقين من أنك لست ابني لانسيلوت.
لانسيلوت - بالله عليك ألا ما تركت هذا الحمق والعبث - ثم باركتني. فأنا غلامك سالفا ونجلك حاضرا ووليدك مستقبلا.
جوبو - ما أحسب أنك ولدي.
لانسيلوت - لا أدري كيف أفهم ذلك ولكني لانسيلوت غلام اليهودي وأعلم يقينا أن زوجتك مارغريت أمي.
جوبو - اسمها حقا مارغريت. أقسم لو كنت لانسيلوت لكنت إذن دمي ولحمي. لله مزيد الحمد والثناء! ما أعظم لحيتك! لذقنك والله أكثف شعرا من ذيل حصاني دوبين.
لانسيلوت - (ينهض) يظهر إذن أن ذيل دوبين ينمو إلى الوراء. أنا واثق أن ذيله كان أغزر شعرا من وجهي حين آخر عهدي به.
جوبوـ يا الله! شد ما تغيرت! كيف حالك مع سيدك؟ لقد جئته بهدية على أية حال من الوفاق أنتما؟
لانسيلوت - بخير. يخير. ولكني إذ كنت قد أقلقت راحتي ابتغاء الفرار فلن أخلد إلى راحتي قد جريت شأوا. إلاأن مولاي يهودي عريق في اليهودية. تقدم إليه هدي! بل قدم إليه حبلا ليشنق نفسه. لقد هلكت جوعا في خدمته حتى لتستطيع أن تعد أضلاعي. لقد سرني قدومك يا أبتاه. هبني هديتك أقدمها إلى سيد يدعى باسانيو لا يزال يمنح الخلع الجديدة النادرة. فإذا لم أوفق إلى الالتحاق بنفره وخدامه فلأذهبن في فضاء الله إلى آخر الدنيا. يا لحسن الحظ لقد جاء الرجل. هلم إليه يا أبت. لفئن أقمت في خدمة اليهودي بعد الآن لحظة لأكونن يهوديا مثله.
(يدخل باسانيو مع ليوناردو)
وأتباع آخرون(62/32)
باسانيو - لك أن تفعل ذلك. وإنما يكون ذلك ممن السرعة بحيث تستطيع أن تهيأ العشاء الساعة الخامسة على الأكثر. ثم ابعث بهذه الرسالة وجهز الأكسية. وسل جراشيانو أن يوافيني في منزلي.
(يخرج أحد الخدم)
لانسيلوت - إليه يا أبي.
جوبوـ بارك الله فيك يا مولاي!
باسانيوـ شكرا لك. ألك إلي من حاجة أقضيها؟
جوبوـ هاك ابني يا موي صبي مسكين -
لانسيلوت - لست بصبي مسكين يا مولاي ولكني غلامي اليهودي الغني. وأود يا سيدي كما سيخبرك أبي ـ
جوبوـ إنه له يا مولاي لشغف شديدا بالخول في خدمة -
لانسيلوت - قصارى الأمر هو أني في خدمة اليهودي وأني راغب كما سينبئك أبي -
جوبو - إنه أصلح الله مولاي ليس على تمام وفاق مع سيده -
لانسيلوت - قصارى الأمر ولباب الحقيقة هو أنه لما كان اليهودي قد ضامني واهتضمني فلقد حملني بعمله هذا كما سينبئك أبي الذي يدفعه إلى إنبائك بذلك كونه شيخا هرما كما أود -
جوبوـ ومعي ها هنا صحن حمام أحب أن أهديه إلى جنابك وبغيتي لديك هي
لانسيلوت - خلاصة القول أن هذه البغية لا شأن لي بها كما ستعلم من هذا الشيخ الهرم الأمين. وهو وإن صرحت بذلك وبالرغم من كونه شيخا هرما - رجل مسكين والدي هذا -
باسانيوـ يتكلم واحدا منكما عن كليكما: ماذا تريدان؟
لانسيلوت - أن اكون خادما لك يا مولاي.
جوبو - هذه آفة الأمر يا سيدي.
باسانيو - إني أعرفك جيدا. لقد أدركت حاجتك. فلقد كلمني سيدي شيلوك في شأنك اليوم فاستصوب لك أن تلحق في خدمتي - إن صح أن يعود استصوابا انصرافك عن خدمة(62/33)
يهودي غني إلى خدمة فقير مثلي.
لانسيلوت - أرى المثل القديم قد صح انقسامه قسمة عادلة بين سيدي شيلوك وبينك يل مولاي. فقد استأثرت من دونه برضوان الله وذهب هو بالثراء.
باسانيو - لقد أعربت وأفصحت. اذهب بغلامك يا والدي. استأذن سيدك القديم ثم استدل على منزلي. (يخاطب أتباعه). أعطوه كسوة بهى وشيا وأبهج طرازا من أكيسة زملائه. وأنجزوا هذا الأمر عاجلا.
لانسيلوت - هلم يا أبي. أنا لا أستطيع أن أحصل على خدمة لي بنفسي لما يعتري لساني من الحصر والحبسة عند محاولة الطلب (ينظر في كفه على سبيل التكهن والعرافة) لو كان في إقليم إيطاليا برمته رجل يستطيع أن يمد - ساعة حلفه اليمين - راح أيمن أسرة من راحتي إذن فقتلني الله. هذا خط الحياة وهذا يدل على بضع من الزوجات؟ إن خمس عشرة امرأة لمقدار حقير جدا لا يكاد يذكر. وإن إحدى عشرة أرملة وتسع أبكار لنصيب الخسيس لرجل واحد وأرى أيضاً أني سأنجو من الغرق ثلاثا. وأن حياتي سيهددها الخطر من حرف ريشة من ريش الفراش. وهذا الخط يدل على انفراج أزمات بسيطة. لو كان الحظ أنثى لم تكن إلا امرأة سمحة كريمة في هذه المرة سأستقيل من خدمة اليهودي في أسرع من لمح البصر. (ينصرفان لانسيلوت وجوبو)
باسانيو - أرجوك يا ليوناردو أن تباشر هذا الأمر بحكمة وأناة. فمتى تم شراء هذه الأشياء وضعها في المركب عد إلي مسرعا لأني سآدب الليلة صفوة إخواني للعشاء. امض الآن قدما.
ليوناردو - سأعير هذا الأمر جل عنايتي ومجهودي.
يدخل جراشيانو
جراشيانو - أين مولاك؟
ليوناردو - إنه يسعى هنالك يا سيدي. (يخرج)
جراشيانو - أيها السنيور باسانيو!
باسانيو - جراشيانو!
جراشيانو - لي إليك حاجة.(62/34)
باسانيو - لقد نلتها.
جراشيانو - لا ترفض طلبي. إني أريد أن أرافقك إلى بلدة بلمون.
باسانيو - فلترافقني إذن. ولكن اسمع مني يا جراشيانو. إنك رجل نزق سليط جهير الصوت. وهي صفات تلاءم طبيعتك وتوافق مذهبك وطريقتك ولا تعد في نظرنا نحن معشر إخوانك وخلانك عيوبا ولا نقائص. ولكن من لا يعرفونك قد يرون فيها ما ينافي الوقار والحشمة. فناشدتك الله ألا ما لطفت من حدة روحك الوثابة المتوقدة بمزاج من الحشمة والتؤدة لئلا يكون من نزقاتك ونزواتك ما يعرضني لسوء الظن في المكان الذي أنا قاصده فتخيب آمالي.
جراشيانو - اصغ أيها السنيور باسانيو. إذا أنا لم أستشعر الوقار وأنطق عن رؤية وتبصر وعن حذر وتحرز ولا أغلط القول إلا في الأحايين القليلة - وفوق ذلك إذن أنا لم استرعيني بقلنسوتي لدن يتلى دعاء المادة ولم أقل آمين متنهدا وإذا أنا لم أراع آداب المجاملة والحفاوة كمن قد مرن على الرزانة وريض على الحشمة كيما يرضي ولي أمره - فلن تثق بي بعدها.
باسانيو - سنرى كيف يكون سلوكك.
جراشيانو - ولكني سأشرب الليلة فلا تحكمن علي بما سيكون منا الليلة.
باسانيو - كلا فلو فعلت لظلمتك. بل إني أسألك أن تلبس أجهر حلل المراح هذه الليلة لأن لدينا إخوانا يريدون أن يمرحوا ولكن سلام عليك الآن. فلدي ما يشغلني من العمل.
جراشيانو - وأنا ذاهب أيضاً إلى لورنزو وسائر الزمرة. ولكنا آتوك ساعة العشاء.
المنظر الثالث
فينيسيا - غرفة في بيت شيلوك
تدخل ياسيكا ولانسلوت
ياسيكا - يسوءني أن تبرح دار أبي على هذه الصورة. إلا أن دارنا هذه هي الجحيم وأنت فيها شيطان مروح تخفف من بلاءها وتهون من شقاءها. ولكن اذهب صحبتك السلامة. هذه دوكة لك خذها. واعلم يا لانسلوت إنك ملاق في دار مولاك الجديد على مائدة العشاء فتى يدعى لورنزو أحد أضيافه اليلة أعطه هذه الرسالة ولكن في خفية وتستر والآن واعا.(62/35)
فلست أحب أن يراني أبي في حديث معك.
لانسلوت - وداعا! أن الدموع لتحبس لساني وتعوق بياني. يا أجمل كافرة وأملح يهودية. إذا أنت لم تمني بنصراني ينصب لك أشراك الإغراء وشباك الإغواء حتى تقعي في فخه وتنشبي في حبالته فما أنا بالصائب الظن الصادق الفراسة. ولكن وداعا إن هذه القطرات السفيهة لتفل من حد عزيمتي. وداعا.
ياسيكا - وداعا أيها الطيب الكريم لانسلوت.
(ينصرف لانسلوت)
واأسفا! ما أفظع خطيئتي وأشنع زلتي إذ أخجل أن أكون ابنة أبي. على أني أكن ابنته تناسلا فلست ابنته شيما وخلقا، إي لورنزو لئن أنجزت لي وعدك لحسمت هذا النزاع باعتناقي المسيحية ثم أكون لك زوجة حبيبة.
(نصرف)
المنظر الرابع
(يدخل جراشيانو ولورنزو وسالارينو وسالانيو)
لورنزو - سوف ننسل من دار باسانيو ساعة العشاء فنلبس ثياب التنكر في منزلي ثم نعود ميعا في ظرف ساعة.
جراشيانو - إنا لم نأخذ للأمر تمام عدته.
سالارينو - ولم نتفق بعد مع حملة المشاعل.
سالانيو - ما أقبح هذا الأمر إذ لم تراع فيه أبدع أساليب التنسيق والتنظيم فأولى لنا أن ندعه.
لورنزو - الساعة الآن الرابعة. فأمامنا ساعتان للتجهيز والتهيئة.
(يدخل لانسلوت حاملا رسالة)
أي صاحبي لانسلوت. ما نبأك؟
لانسلوت - إذا تكرمت بفضل هذه الرسالة فلعلك واجدا فيها فائدة.
لورنزو - إني أعرف اليد التي رقمتها وسطرتها. حقا إنها ليد مليحة أنصع بياضا من الطرس الذي جالت فوقه.(62/36)
جراشيانو - أنباء غرامية بلا شك.
لانسلوت - اسمح لي بالانصراف يا سيدي.
لورنزو - أين تريد أن تذهب؟
لانسلوت - إلى اليهودي سيدي القديم لأسأله أن يذهب لتناول العشاء مع النصراني سيدي الجديد.
لورنزو - ق. خذ هذا (يناوله نقودا) خبر الحسناء ياسيكا أني لن أخذلها ولن أخفر لها عهدا ولا انقض وعدا. ولكن حدثها بذلك في خفية. اذهب
(يخرج لانسلوت)
أيها السادة أتتأهبون لهذا المقصف الليلة؟ لقد هيأت لنفسي حاملا للمشعل.
سالارينو - أجل سأنبري في اتخاذ الأهبة من اللحظة.
سالانيو - وسأحذو حذوه.
لورنزو - قابلاني وجراشيانو في منزل جراشيانو بعد ساعة.
سالارينو - سنفعل.
(ينصرف سالارينو وسالانيو)
جراشيانوـ ألم تك هذه الرسالة من الحسناء ياسيكا؟
لورنزو - لا مندوحة لي عن الإفضاء إليك بجملة الأمر لقد أوضحت لي الطريق إلى اختطافها من بيت أبيها وبينت لي ما قد تزودت به من خزائن أبيها من ذهب وجواهر وأنها قد أعدت حلة مكن حلل الغلامان لتخرج فيها متنكرة. فإذا قدر لليهودي أن يفضي بأية حال إلى رحمة الله فلن يكون ذلك إللا من أجل فتاته الحسناء. وما أحسب أن الشقاء يجرؤ أن يعترض سبيل الفتاة إلا محتجا بأنها سليلة يهودي كافر. هلم بنا واقرأ هذا أثناء سيرك تعرف منه أن ياسيكا الحسناء ستكون الليلة حامل مشعلي.
(ينصرفان)(62/37)
بطل مصر العظيم
سعد زغلول
لمناسبة أوبة معاليه من رحلته النبيلة المباركة
طالع السعد يقدم الآمال ... فاستبينوه كوكبا يتلالا
دار في دورة مع الفلك الأع ... لى وصالت به الحظوظ وصالا
ورمى للمنة وهن بطاء ... فانتاحهن فابتدرن عجالا
رجل تحسب العناصر فيه ... عنصراً عنصراً وحالا فحالا
فيه معنى تراه حيث ترى البح ... ر وتلقاه حيث تلقى الجبال
رجل في صحيفة الحق منه ... وجهة مصر للزمان سؤالا
رجل في فم الحقيقة منه ... وضعت مصر مقولا جوالا
رجل في يديه يستمسك التاري ... خ يبغى على يديه انتقالا
رجل غير أن معناه أمر ... نازل من سما الإله تعالى
قد رأته النجوم يهبط مصراً ... ورأت مصر تنهض استقبالا
فتنادت وراعها البطل الأر ... وع يعتز هيبة وجلالا
إن بين الرجالا قوماً نجوماً ... ليتبين النجوم منهم رجالا
أي قلب ترى بجنبك يا سع ... د به الله روع الأبطالا
فيه نور الهدى وفي كل قلب ... منه حب والنور يقلى ظلالا
لا أراه يمل بل هو عزم ... جد حتى أمل منك الملالا
إن قلب الحكيم روح مع الرو ... إذا أمست الحياة قتالا
والعظيم امرؤ يفصل تفصي ... لا ويحويه قلبه إجمالا
أنت يا سعد حجة النيل إن قي ... ل ضعاف أو قيل قوم كسالا
ثرت في الحق لا تخاف ولا الح ... ق وأقبلت تحطم الأغلالا
واستطرت استطارت البرق لماحاً ... لم يزل في سمائه يتوالى
شعل من فؤادك الحر صارت ... حجج في أكفنا ونصالا
قيل مصر وجوها وبنوها ... كل هذه السهول. . سهل منالا(62/38)
لا تغرنكم طبيعة فيما ... جعلت من سلاحه الاعتدالا
يربض الليث وادعا وهو اللي ... ث ويضنى الدؤوب هدى النمالا
وترى الأرض تقشعر دبيبا ... ويرينا دبيبها الزلزالا
والقوى في الوجود أقوى إذا ما ... نوعت ا، تعددت أشكالا
قدرة الله لم تهب مصر بركا ... ناً وأعطت من مثل سعد رجالا
ما على مصر في الزمان محال ... إن آثاره كذبن المحال
هرماها تجاورا واستقاما ... ليقولا للمستحيلات (لا لا)
أول الدهر دهر مصر وما زا ... ل وزالت وهكذا لن يزالا
كم أتوها ليهدموا فبنوها ... كالذي شذب النبات فطالا
لن يدير الأقدار يوماً يميناً ... من إدارته في يديها شمالا
يا بني مصر إنما هي مصر ... فصيالا حول العرين ضيالا
إن خوف الأهوال أكبر هول ... عند من كان يطلب الأهوالا
كل شعب صاغ الشباب مفاتي ... ح رمى عن بلاده الأقفالا
سألونا عن آية فنريهم ... إننا نستحق الاستقلالا
آية لا يطاق فيها جدال ... إننا لا نطيق فيه جدالا(62/39)
الثورة الهندية
- 1 -
تمهيد
لعل ما يستثير الدهشة أن المستر أرثر جريفث مؤسس الشين فين اتخذ في أول الأمر من برنامج المقاطعة الذي ابتكره غاندي مثالا يحتذى، ذلك لأن القوم عندنا قريب عهدهم بالنظر في التمرد الهندي على أن الواقع أن هذه الحركة بعيدة الأمد فقد انعقد في سنة 1906 مؤتمر هندي عام قرر الموافقة على برنامج المقاطعة الذي كان أقره مؤتمر تقدمه.
وبودنا أن يفطن القارئ إلى أن فكرة المقاطعة سلبية إيجابية معا فهي سلبية من ناحية علاقة الهند بإنجلترا وإيجابية من ناحية المصلحة الهندية البحتة ومعنى ذلك أن المقاطعة ليست سياسية فحسب بل هي محاولة جدية قصد إعادة تشييد أمة وببارة أوضح هي سياسة بناء في صميمها ولبها أكثر مما هي سياسة انفصال.
يقول أرثر جريفث:
أن أساس سياسة الشين فين هي اعتماد الوطن على نفسه. وليس هناك قانون أو سلسلة من القوانين في مقدورها تكوين أمة من شعب لا يثق بنفسه.
ويقول غاندي:
إن حركتنا قوامها الاعتماد على النفس، ولا بد لنا من أن نكشف كل يوم عن مواطن الضعف من أنفسنا لنصلح منها الفاسد السقيم، هذا إلى أن احتمال الأمة العذاب هو مقياس يعرف به درجة تقدمها في سبيل الحرية:
إني أقول مع الكاردينال فيومن: لست أحاول استطلاع حالات مجهولة لم نوجد بعد فيها إن الخطوة التي خطوتها في جعل الاستقلال دينا كافيا لنيله إن من الفرائض على كل رجل يؤمن بالله ويخشاه أن يقوم بواجبه. نحن لا ننتظر نتيجة عاجلة، فمن آمن بالله ووبأنه يريد الخير لعباده أيقن بحسن العاقبة وتلك هي فكرة جيتا في العمل لذات العمل تاركا الأمر لله يدبر المستقبل وهو على كل شيء قدير يتبع المؤمن الحق ولو لاقى في سبيله الموت، ويفضل الاستشهاد على العيش في ظل الشيطان ويشيح بوجهه عن الحكومة ويطوي عنها كشحه فهي من أعمال الشيطان. ومن أوجب الواجبات الانفصال عنها وعدم التعويل عليها.(62/40)
والناظر في تاريخ الثورات يجدها جميعا اعتنقت كدين وكان الزعماء جميعا رسل مذهب اجتماعي جديد وأنبياء دين وطني. الثورة عقيدة توحي بها نظم الطبيعة فقد كان مازيني يرددإن النصر حليف احترام المباد \ ئ، حليف احترام العدالة والحق. حليف التضحية والاستمرار على التضحية.
والأمم المغلوبة على أمرها لا تفتأ تعتقد أن قرون الاستعباد سجل طويت في أعطافه اعتداءات فظيعة علىكلتور الأمة المستعبدة وعلى مدنيتها تبقى حية في مخيلة الأجيال منتعشة يحتويها اللاشعور بتلك القوة المعنوية الإلهية. وفي الحق إن موت المدنية أدعى للحزن والأسى من موت الحرية. من أجل ذلك كانت حركة الهند وهبتها ويقظة الشين فين ووثبته سياسية بنائية قضت بها سنن الطور الاجتماعي العام.
وعندنا إن شخصيات الأمم لا بد مستكملة يوما خلقتها. وإن عبقريتها لتختلف باختلاف طبيعتها. ونرى مع ذلك أن عدوان الأمم وطغيانها خروج لقوانين الوجود وتمرد يجعلها تصطدم بعنف فتتمزق وهذا هو السر في تهشم الإمبراطوريات وبارها. ولا شك عندنا في أن العبقرية تمت بصلة متينة إلى طبيعة البلاد فهي ثمرة الجزر والمد الذي تخضع له الكائنات الحية وغير الحية. وما المدنية إلا جماع جهود العبقريات المختلفة ومظهر الارتقاء والتطور لا مظهر نزاع الإنسان مع الطبيعة لأنه من عمل القوى الخارقة المبدعة التي تخضع لها الكائنات.
بواعث الانقلاب
عاش الهنود أعواما طوالا في جو اضطهدوا فيه وهيض جناحهم وديست كرامتهم واحتقروا وانحطوا إلى مراتب العبيد.
ومستحيل علينا أن ندون الحالات المتعاقبة التي يتراءى بها إحساس فتى في أقوى عهود شعوره وأحر مزاج عواطفه - في السن الملتهب المتدفع حين لا تبهره أو تظله ألحياة بلذاذاتها وآلامها نترك هذا الهندي تجود به الأيام المقبلة يسطر في اعتافاته قصة نفسه المشحونة بالأسى والشجن فياضة بالحقائق الحية الناطقة. إن مثل هذا الكاتب لهو المؤرخ الإحساسي. يقرؤهما الهنود في كل مكان.
محجوز للأوروبيين(62/41)
عبارة جارحة للإباء القومي والغريزة الجنسية ومعناها لا يفيد إلا أنهم خلقوا في الوجود عفوا كبعض النبات والحيوان في جو موبوء بالغطرسة الساخرة المتهكمة.
إن أسباب الثورة قد أوجزها غاندي في قوله:
إن نظام الحكم في الهند قضى على الروح الأخلاقية والحالة الاقتصادية والسياسية فقد استخدم الإنجليز الجندية والشرطة في القضاء على الشعور القومي واستخدم الجندي الهندي في سحق حرية العرب والمصريين والأتراك وبقية الشعوب التي لم تسئ إلى الهند.
ولا متسع هنا إلى الإفاضة في وصف حالة التعليم والزراعة والاقتصاد والصناعة ويكفي أن نقول أن نسبة المتعلمين 4 في المائة وإن الزراعة متأخرة جدا وانطمست معالم الصناعات الوطنية الكبر وقبض الإنجليز على زمام الأسواق المالية وتحكموا في الأراضي التي استولت عليها شركات منهم تستثمرها استثمارا عجيبا.
هذه هي الأسباب الحقيقية لا التي يزعمها المضللون السياسيون.
المطال بالهندية
تشتمل المطالب الهندية الأمور الآتية بوجه الإجمال:
1_السوارج أو الاستقلال.
2_مسائل البنجاب - وفي مقدمتها مسألة الخلافة.
3_حالة الهنود في البلاد الأخرى.
4_مشاكل العمال.
هذه الأربع مطالب هي في الحقيقة مطلب عام واحد هو تخليص البلاد من النير الأجنبي إذ الثلاثة مطالب الأخيرة جزء من الأمنية العامة ويمكننا أن نقول أنها مشاكل فرعية بعضها داخلي وبعضها خارجي.
وقبل أن نخوض في الكلام عليها جميعا نقدم للقارئ حقيقة تاريخية خاصة بالثورات هي أن كل ثورة قامت في وجه غاصب مستعبد كانت ترتكز على دعامتين:
الأولى - الأمة المغلوبة علىأمرها.
الثانية - المعونة الخارجية وتكون من قبل أمة أو أمم معادية للدولة الغاصبة.
إذن فقانون الثورة هو البرنامج الكامل الذي يضعه وينفذه الزعيم الأكبر إلا أن هذا البرنامج(62/42)
كثيرا ما يدخله التحوير ولتبديل عند التطبيق في الشكل لا في الجوهر. وكل ثورة لا يسبقها انفجار في الأفكار وخروج عن المتبع المألوف واحتقار وازدراء بمظاهر الجمود وشعور بالضعف هو بدء الشعور بالقوة - كل ثورة هذا شأنها مقض عليها الفشل.
وقد صنع غاندي برنامج الجزء الإيجابي من الثورة الهندية داعما إياه على اعتقاد راسخ بأن القوة الروحانية تقهر المادة إذا اصطدمت هذه بتلك وإن المقاومة السلبية لا تغلب وإليك البرنامج الذي أقره مؤتمر كليكتا المنعقد في سنة 1920.
1_إنشاء وزارة معارف أهلية.
2_إقامة محاكم وطنية وسن قانون لهذه المحاكم.
3_عدم التطوع أو الدخول في جيش الحكومة الهندية.
4_مقاطعة الانتخابات والوظائف الحكومية وعدم قبول الرتب والنياشين.
5_مقاطعة البضائع الأجنبية وبخاصة البضائع الإنجليزية.
أعلنت هذه الأمور وأخفى المؤتمر شيئين عظيمين هما.
أولا - الالتجاء إلى حرب العصابات وإلى وسائل الشين فين عند اشتداد بريطانيا في التضييق عليهم حالة تنفيذ هذا البرنامج.
ثانيا - إعلان الجمهورية بعد الحصول على الاستقلال.
وقد التجأ الثوار في الملابار إلى حرب العصابات كما سنقرره وصرح محمد علي أثناء محاكمته بما يفيد أن الجمهورية هي نظام الحكم الذي سيسود الهند بعد تخلصها من الحكم الأجنبي وسنفصل ذلك فيما بعد.
تنفيذ برنامج الثورة السلبية
وجهت أول حملة إلى المجالس التشريعية الجديدة التي أنشأها الإنجليز عملا بمبدأالتدرج في الحكم. وأجمع الكل على القضاء على الانتخابات لها. ولقد نجحوا أيما نجاح فأرهبوا الناخبين وشتتوا شمل المجتمعين في دائرة انتخاب كاجول وخرجوا من الهمس بالتهديد إلى تنفيذه جهرا ولم يحجموا عن استخدام أي سلاح من أسلحة الإرهاب فمن المهاجمة والضرب إلى احتقار الجماعة وازدراءها إلى الطرد من المجتمعات. وأخفقت الانتخابات حيث امتنعت 440من965 دائرة من دوائر الانتخابات عن التصويت واستحال في ست(62/43)
دوائر إجراء عملية الانتخابات إلى عدم وجود من يرشح نفسه - واحدة في البنجول وواحدة في الباهار وثلاثة في المديريات الوسطى واثنان في الأوريا.
وكان متوسط نسبة أصوات الناخبين 10 % هذا إلى المساعي الكبيرة والجهود الهائلة التي بذلتها الحكومة وأنصارها من المعتدلين والمترددين المنافقين في سبيل إعداد جو صالح لإجراء عملية انتخابات وترشيح المخلصين لها بعد أن أغدقت عليهم من نضارها وبعد أن منتهم الأماني الجسام.
والواقع أن الذين انتخبوا لم ينتخبهم الشعب بالمعنى الدستوري الصحيح وإنما عينتهم الحكومة تعينا. يستدل على ذلك بأن الذين وقع عليهم الاختيار جماعة لم يعرفوا قبل انتخابهم هذا وليس لهم مكانة أو أثر في الحياة العملية العامة.
أما وزارة المعارف الأهلية فهم جادون في إقامتها يجمعون لها المال ويعدون لها الأماكن والمدرسيين وما إلى ذلك ولقد بلغ من إقبال الطلبة عليها أن 33 % من طلبة مدارس الحكومة انتقلوا إليها حتى أواخر السنة المكتبية الماضية.
أما المحاكم فقد ضعفت فيها الحركة وانسحب منها المحامون الوطنيون. وتعصب الهنود فعلا فأبوا الانضمام إلى الجش الذي وجه إلى العراق ولعل هذا هو السبب في سحب الجيوش البريطانية من شمالي العراق وشمال فارس وكف القتال على حدوود الهند ومصالحة الأفغان.
ولا زالت حتى كتابة هذه السطور تزداد حركة مقاطعة البضائع الأجنبية خصوصا الإنجليزية منذ أن أعلنها غاندي يوم الاحتفال بذكرى وفاة الزعيمطيلاق يثبت ذلك الأرقام الواردة في الصحف وفي إحصائياا لجمارك الهندية وحقا إن غاندي قد ضرب بريطانيا في الصميم لأنه كنا قالت المورننج بوست أساء إلى صناعة القطن وهي أحد عمد الصناعة البريطانية الأربعة. صناعة القطن والصوف والحديد والصلب. وترى ذلك مجسما معكوسا في اضطراب العمال العاطلين وانفعال صحافتهم. وقد تدخلت الحكومة بناء على إلحاح أصحاب المصانع فأرسلت لجنة إلى الهند لدرس الحالة والمشورة عليها بما ترى. وقد بثوا الأنوال في المدن والقرى وأعدوا لها العدة من عمال وأمكنة وقطن مغزول وأخذوا ينشطون الصناعة الوطنية ويؤلفون من العمال اتحادات تعنى بشؤونهم واتخذوا من(62/44)
إضراباتهم - وقد بلغت في عددها 200 إضراب - وسائل للتهديد وطرقا عملية للإضرار بالمشاريع البريطانية. ثم انتبهوا إلى الأراضي ومن يفلحها من المزارعين التعساء الذين يكونون ثلاثة أرباع السكان.
ومتى اعتمدت الثورة على السواد الأعظم - على الشعب، وأحس هذا برنامجها المصلحة ولمس فيه المنفعة الأكيدة وأيقن أن الحالة التي ستؤول إليها البلاد حالة لا تخص بالفائدة أقلية تدير دفة الحكومة وإنما حرية شاملة منتجة تنهض بجميع وجوه الحياة فلا بد ناجحة إن عاجلا وإن آجلا لأن إرادة الشعب من إرادة الله: وإذا استيقظ. مرة فمستحيل تخديره أو بلفه أو إخضاعه. .
لهذا الموضوع بقية(62/45)
مصطفى كمال باشا
وصف كاتب إنجليزي بطل الإسلام مصطفى كمال باشا قالإن محياه مفعم بآيات الشجاعة وصدق العزيمة، ولا شك في كمال استحواذ العواطف الوطنية عليه. وفناءه فيها، ولا يستطيع حتى أعداؤه أن يجدوا فيه أثرا للمطامع الشخصية وهو جندي فني، ويرى أنه لا نجاة لتركيا إلا بالحرب. وهو من أصل أناضولي فهو تركي أرمني، وهذا المزيج بديع ولكنه خطر جدا. وأنور باشا نتاج مثل هذا المزج. فصلابة الفلاح الأناضولي وذكاؤه وشجاعته ممزوجة فيهما بدهاء الأرمني ولا شك في أن اجتماع هذه الصفات ن حظ الجندي الموفق.
تولى مصطفى كمال قيادة الفرقة التركية التاسعة عشر في غالبيولي سنة 915 وكان عمره يومئذ 35 سنة وفرقته هذه هي التي صدت هجوم الأستراليين والنيوزيلنديين - ذلك الهجوم التي علقت عليه القيادة البريطانية كل أمالها ولذلك يسمى مصطفى كمال بحق بطل غاليبولي.
ولما قسمت تركيا بمعاهدة سيفر وقطعت أوصالها رفض مصطفى كمال قبول أحكام هذه المعاهدة. وهنا بدأ فيه الدهاء الأرمني يملي عليه خطة العمل فأخذ ينشر دعوته في طول البلاد وعرضها من مكمنه. أما حركته الثاني فالخطوة التي خطاها إلى أنقرة ودعوته الجمعية الوطنية للانعقاد فيها. ولم يكن مدفوعا في هذا العمل إلا بدافع ذاتي بحت لا لأثر للمؤثرات الخارجية فيه.
ولم يلبث بضعة أسابيع حتى أصبح حاكم تركيا الفعلي.
وكانت أنقرة التي اتخذها مقرا عاصمة غالتيا القديمة والمقاطعة التي تسمى باسمها مقاطعة غنية ذات مزارع واسعة للمائية وذات أبناء شداد هم الذين تتكون منهم نواة الجيش الأناضولي.
ولقد فطن مصطفى كمال من أول لحظة إلى أن بقا أرمينيا وأذربيجان في أيدي الحلفاء خطر عليهم وإنه لا مأمن لهم إلا أن تقعا في أيدي الروسيين فعمل لهذا ونجح ولما أمن على ظهره انبرى لليونانيين. ولكن على الطريقة الأرمينية طريقة الدهاء وبعد النظر وقلة المبالاة إلا بوسائل النجاح مهما ساءت ظواهرها ويعلم كل إنسان كيف انتهى أمر هذه الخطط.(62/46)
ما أحلى
ما أحلى أن تعرف وأنت عائد إلى البيت أن هناك عينا تتطلع إليك وتزداد إشراقا برؤيتك.
ما أحلى مقدم أول مولود على الوالدين.
ما أحلى لثغ الأطفال وسماع كلماتهم الأولى.
ما أحلى أن تنام على صوت خرير الماء وأن تستيقظ على تغريد البلابل.
ما أحلى آلام الحب.
ما أحلى الراحة بعد مجهود شريف.
ما أحلى جمع المال عند البخيل.
وأحلى منه بذله عند الكريم.
ما أحلى تضحية النفس عند الجندي الذي يحب وطنه.
ما أحلى جني ثمر غرست بذوره.
ما أحلى التصاق قلبين خافقين.
ما أحلى ثروة تصل عفوا بعد موت قريب بلغ من العمر أرذله.
ما أحلى الابتعاد عن المجالس الصاخبة والوحدة في مكان هادئ.
ما أحلى أن يتسنم المرء ذروة المجد بالسيف أو بالقلم.
ما أحلى الانتقام ولا سيما عند النساء.
ما أحلى أحيانا مشاجرةالأنطاع ممن تعرفهم.
ما أحلى ذكريات الطفولة.
ما أحلى المر في خدمة الوطن.(62/48)
ما أمر
ما أمر أن يفارق المرء وطنه للمرة الأولى.
ما أمر خيبة الأمل وتأنيب الضمير.
ما أمر الفقر وأكثر منه مرارة - الدين ـ.
ما أمر أن لا يعتد برأيك - أو أمر منه أن يخطئ القوم فهمك.
ما أمر أن ينظر الإنسان إلى أرضه تغتصب.
ما أمر دموع الوالدة وأمر منه لعنة الوالد.
ما أمر أن لا يعتر فلك بقوتك ومركزك.
ما أمر الشهادات التي لا قيمة له.
ما أمر أن يتقاضى المرء نصف مرتبه.
ما أمر كبح جماح النفس وعدم القدرة على الانتقام.
ما أمر أن تماطل فيما تستحق.
ما أمر تخفيض المرتبات وقت غلاء المعيشة.
ما أمر الضرائب التي تقرر اعتباطا.
ما أمر قلة الدخل عن المنصرف.
ما أمر أن تسمع يطنبون في مدح جاهل ويرفعونه مكانا أنت أحق به.
ما أمر الزوابع ولنا سفن في عرض البحر.
ما أمر فصم عرى الصداقة وموت الحب.
ما أمر إذا لم تجد من تفشيه إليه.
ما أمر الزوج الغشوم والمرأة الخائنة.
ما أمر التهامس والتغامز والتلامز.
ما أمر المشيب مع عدم الاحترام والرجولة بلا ثروة والشباب مع الخمول.
ما أمر الموت في غير الوطن.(62/49)
فكاهات
الذهب والبنوك
لحضرة صاحب العزة الفاضل النبيل محمود صادق بك
يوم اجتمع أهيف ذهب ... في الدرج مع أهيف ورق
قال له الذهب يا للعجب ... وصلت يجالسني الشلق
قام قال له يا أصفر يا ثقيل ... هو أنت عندك خفتي
أنا صاحب النقش الجميل ... والكل عاشقسن رقتي
ألوان وأشكال شفتشي ... ورسوم ونقش عليه كلام
أخضر وأصفر مشمشي ... أما أنت لون وجه اللئام
الألف مني ينطوى ... في الجيب خفيف من غير ملل
والمية منك تنكوى ... بالشمع طرد من الثقل
اليوم بتهواني الملوك ... وبقيت في جيب كل العباد
حتى الحكومات والبنوك ... لولاي بيقوا في كساد
أنا اللي في البار بنصرف ... على الحظوظ في دي الزمان
ونت اللي بس بتنحدف ... في الحرب والموت والمحن
أنا في الرفاهة شيء بديع ... والجرح فيّ ملوش دوا
لمعزتي تلقى الجميع ... خايفين علي من الهوى
أما أنت مثلك يندفن ... في الخن أو تحت البلاط
وتعيش في مجرورهم زمن ... تطلع وبرضط في انبساط
فاتنحنح الرنان وقام ... على حد جنزيره ولمغ
وقال بقى دامش كلام ... علشان ما سكت له طمع
تعرفش إيه أصل الورق ... ياللي إنت مغرور بالنقوش
الأصل فيك كهنة وخرق ... ما يجبشي قنطارهم قروش
موتك رهين رهين شخة ربيع ... وتفرتك نقرة غراب
ويمدغك جحش الربيع ... ومن شرارة تروح هباب(62/50)
وظفر سكران يفسخك ... وتبوش إن استفرغ عليك
وكف فحام يمسخك ... والنملة تخرق لك عينك
أما أنا لا أنبدل ... مهما جرى لي يا سفيه
إن مسني الطين أنغسل ... ون مسك الطين دبت فيه
في مصر وأزمير واليمن ... وبريز ولندن لي مقام
ونت إن خرجت من الوطن ... برا متسواش إيد برام
أنا الدهب في كل تاج ... والعقد مني والحق
أما الكنيفات في احتياج ... لك يا خفيف يا بن الورق
راحم لبنكير حكموه ... للفصل بينهم في الجدال
شرحوا القضية وفهموه ... فحكم لهم حكم الاعتدال
قال للورق فضلك جزيل ... انت في غيلبه نفعتنا
لكن ما كناش لك نميل ... لو كان أبو الخيال هنا(62/51)
فوائد
خطر البعوض - إن نوعا معينا من أنواع البعوض ينقل الملاريا والحمى الراجعة. فكل من تلسعه بعوضة من هذا النوع يصبح عرضة لأن يصاب بالحمى.
ويتولد البعوض في الماء وعلى الخص في الأزيار والجداول الراكدة وشواطئ الترع وفي الآبار، والمستنقعات التي على شواطئ الأنهار، وفي المياه الراسبة في الشواطئ الرملية وكذا في الصفائح الفارغة التي فيها قليل من الماء الخ.
فيجب أن تردم كل المستنقعات والبرك الصغيرة وأن تطمر كل الصفائح والزجاجات الفارغة. وإذا وجدت صغار البعوض في الماء فضع شيئا منالكيروسين أي زيت البترول فوقها فإنها تبيدها في التو واللحظة.
ويختبئ البعوض في الأركان المظلمة والغرف المظلمة والخيام وعلى الثياب وفي خزائن الثياب (الدواليب) وتحت الأسرة وعلى المناضد (الترابيزات) الخ.
كيفية التخلص من البعوض المختبئ
أولا - في الغرف والخيام: إذا أحرقت مقدار ملعقة شاي من مسحوق (كتينج) إحراقا بطيئا طرد البعوض وإذا أحرقت مقدار ملعقة شاي من (الكوريزول) وتركته يلتهب إلى أن يتبخر تجد أن لهذا المطهر نفس التأثير. اقتح بابا أو نافذة من الغرفة لكي تتمكن الحشرات من الخروج بعد نصف ساعة ثم أقفله.
ثانيا - الكلل (الناموسيات) وخمر الرأس (وهي أغطية من نسيج رقيق يلف بها الرأس إلى العنق منعا للذباب والبعوض كما تفعل الإفرنجيات): من يريد اجتناب الملاريا يجب أن يدهن جسمه (بدهان البعوض) وأن يضع أطراف الكلة تحت فراشه لكي لا يكون هناك نفذ للحشرات وإذا وجدت فيها خرقا يجب أن تخيطه أو ترقعه في الحال وقبل أن تنام تحقق أنه ليس في الكلة بعوضة واحدة.
ثالثا - شبكات السلك: يجب أن توضع شبكات مصنوعة من السلك الضيق النسيج على أبواب ونوافذ غرف الاستراحة وغرف الطعام والمطابخ ومخازن الأطعمة الخ إذا كان ذلك ممكنا.
النصيحة الذهبية أن لا تدع بعوضة تلسعك فإذا لسعتك واحدة فلا تحك جلدك لأنك إذا فعلت(62/52)
أحدثت قروحا. لا تحك بل ضع (دهانا) مكان اللسعة.
يفيد ملح الطعام إذا وضع على الحروق التي تصيب الجسم أكثر من أي شيء آخر لا سيما وأنه في متناول كل إنسان في أي وقت وبأزهد ثمن.
لا شيء يبيد القمل من الملابس وأغطية الفراش مثل السليماني يوضع في الماء الذي تغلى به الملابس بنسبة 5 % وهو يبيد كذلك بويضاته المعروفة عند العامة باسم (السيبان).
إن أرخص وأحسن شيء يرقق البشرة ويجعلها ناعمة الملمس غضة رخصة هواللبن خصوصا قبل أن تفصل عنه الزبدة تدلك به دلكا متواصلا مدة بضع دقائق ثم يترك دون غسيل كي تتشربه البشرة.
النفتالين يقتل العتة لأنها تختنق برائحته فتموت. ومن أجل ذلك توضع كرات منه في خزائن الملابس وبين طياتها. ويذر مسحوق منه بين أوراق الكتب وجوانب خزائنها.
اتضح أخيرا أن الغاز - زيت البترول - له فائدة كبيرة جدا في تقوية جذور الشعر بشرط أن يستعمل بمقادير معقولة ومخففة كما اتضح أنه يجلو الأسنان ويبعد عنها لعطب بل إنه ليفيد في بعض الأمراض الجلدية الخبيثة إذا استعمل في شكل مرهم.
ينصح الأطباء كثيرا بعدم إضافة أية مواد كيماوية إلى اللبن لحفظه مدة طويلة ويستحسنون الالتجاء إلى الطرق الطبيعية وشرح ذلك أن يغلى اللبن ثم يوضع في زجاجات معقمة يحكم سدها. ويترك في غرفة رطبة إذا لم يتيسر حفظه في الثلج. وليس معنى هذا أن يحفظ لأجل غير مسمى إذ الأفضل أن لا يبقى هكذا أكثر من 48 ساعة. ويراعى أن الزجاجة التي تفتح مرة ويؤخذ بعض ما فيها يفسد ما بقي فيها من اللبن بسرعة أو على الأقل يفسد قبل اللين المحفوظ في باقي الزجاجات.
إذا جرحت جرحا قرب ظفر قرب ظفر من أظفار أصابع اليد فلا تهمل أمره ولا تدنى منه خرقة غير معقمة أو تجتهد في إيقاف الدم السائل منه بأن تضغط عليه باليد الأخرى وإنما سارع إلى صبغة اليود فادهنه بها ولا تربطه قط واذهب توا إلى الطبيب فإن الجرح في هذا الموضع خطر لأنه في غالب الأحوال تتورم منه اليد كلها إلى ما فوق الرسغ - المفصل الذي بين الكف والساعد - وتمتلئ بالصديد وقد يضطر الجراح إلى بترها.
إن مجموعتنا الشمسية (شمسنا وما يدور حولها من السيارات) مع عظمها وهولها ل يست(62/53)
إلا خردلة بالنسبة للكون بأسره. فإن الصور الفوتوغرافية أخذت في مرصد ولسون الشهير تدل على أن للضوء - الذي يقطع 186000 ميلا في الثانية يلزمه 1000000 عاما ليصل منت أحد أطراف الكون إلى الطرف المقابل. وعلى هذا الاعتبارأثبت المستر جون براي العضو في الجمعية الملكية الفرنسية - بعد حسابات دقيقة أجراها بأن المسافة مابين طرفي عالمنا هذا على ضآلته وحقارته هي 58. 697. 1300. 000. 000. 000 من الأميال!!!! وقد أضاف إلى ذلك فراغا يلزم ما لا يقل عن 4. 400 من مثل مجموعتنا الشمسية مرصوصة بعضها إلى(62/54)
صورة مشؤومة
وهنالك انغمس ذلك الفتى في عمله انغماسا لهاه عم كل شيء آخر: وجعل دأبه وديدنه غشيان المتاحف حيث كان ربما وقف الساعات العديدة المتوالية إزاء تصاوير الفحول الأقدمين يستطلع أسرارا الفن ويستجلي غوامضه باقتفاء آثارهم ونقرى أساليبهم وتتبع مذاهبهم. وحبذا الدروس الصامتة والإرشادات الخافتة التي كان يتلقاها عن تلك البدائع الخالدة وكان يأخذ من كل نابغة من أولئك القدماء أحسنه وأطيبه. وينقل عن كل نفيس مكن آثارهم الباقية آنفه وأعجبه. ثم جنحت به طبيعته ومالت به سليقته نحو أمام المصورين قاطبة وسيدهم غير مدافعرافائيل المقدس مثلما ينحاز الشاعر بعد إدمان النظر في دواوين الفحول إلى أسلوب سيد الشعراء هوميروس فيتخذه إمامه وقدوته إذ يرى فيه جماع ما قد تفرق في أشعار سائر الشعراء من المحاسن والمزايا.
لما دخل الغرفة شارتكوف وجد طائفة من الوفود مزدحمين أمام الصورة قد شملهم السكوت كأن على رؤوسهم الطير. فأشعر وجهه سيما الخبرة والدراية من الصورة بكبرياء الحبر العلامة المتضلع ولكن ما أبصر أمامه!.
لقد تجلت الصورة لعينه كالعروس جمالا وفتنة وجلالا. ووقف النقاد أمامها مطرقين حيرة ودهشة قد جمعت فأوعت إذ ضمت أفانين بدائع الفن صنوف ملحه وأعجب من كل ذلك ما نمت عليه من أسمى مراتب الابتكار والإبداع. حيث بدا للناظرين في غضونها وثناياها أن صاحبها كان ممن لا يزال يرتاد كنوز الطبيعة فسيتوعب نفائسها في خزانة خياله فإذا انصب للعمل استماحها ثانية من ذلك المنبع الروحاني العبقري فأفرغها في أعجب قالب من الحسن وصاغها على أغرب مثال من الملاحة ثم وسمها بأفتن ميسمم من الإبداع وطبعها بأسحر طابع من الروعة، لقد هز منظر الصورة من نفوس الجماعة وحرك من أوتار شعورهم حتى شرقت بالدموع أجفانهم. وكأن الجميع قد اشتروا معا في أنشودة صامتة تجلة لتلك الآية المقدسة وإكبارا.
وقف شارتكوف أمام الصورة شاخص البصر فاغرا فاه. ولما استرد الجمع عازب عقولهم واستجمعوا شارد أحلامهم وبدؤوا يتهامسون بآرائهم عن الصورة ويتبادلون الكلام فيها التفتوا إلى شارتكوف فسألوه رأيه فيها فعند ذلك ثاب إلى رشده فحاول أن يتظاهر بقلة الاكتراث والمبالاة واجتهد أن يلفظ بكلمة عادية مبتذلة مما جرت به العادة في وصف(62/55)
الصور التي لا قيمة لها ولا خطر كقولهملا بأس بها. إنها لا تخلومن بشيء من القيمة - نقول لقد اجتهد شارتكوف أن ينطق بشيء كهذا ولكن أرتج عليه فاعتقل لسانه. واحتبس بيانه. ومات المنطق على شفتيه وفاض جفنه عبارات وصدره زفرات وغر هاربا من الغرفة لا يلوي على شيء في طريقه.
وبعد برهة رأى نفسه واقفا في غرفته الفاخرة. لقد كان في غفلة وفي غرور وفي غمرة. فما هي إلا أن أبصرت تلك الصورة حتى انجلت غمرته وانجابت عمايته وانقشعت غوايته، لقد كان الترف والنعيم وما أعقباه من تبلد الملكات واسترخاء القوى وعجز الهمة قد أطفأت فيه جذوة العبقرية وأغاضت معين الحياة وحجبت أشعة الوحي الفني فما هو إلا أن أبصر تلك الصورة حتى ثار ثائره. وكأنما انبعثت روح النبوغ من أعماق روحه وهبت ريح العبقرية من أنحاء نفسه وكأنما انتبه جنانه. واستيقظ وجدانه. للتو واللحظة. وكأنما استعاد صباه. واسترد شرة سبابه وحماياه. وكأنما سقطت عن عينيه الغمامة. وانجلت عن سماء ذهنه الغمامة. يا للداهية ويا للبلية ويا للقصمة الظهر ويا للطامة الكبرى! لقد أضاع زهرة العمر وصفوة الحياة في غير ثمرة ولا طائل. لقد أخمد في قلبه تلك الشرارة التي لو صانها لكانت ربما تأججت حسنا وتلهبت جمالا فأصبحت آثارها فتنة القلوب وزينة الأبصار. ومحل الإعظام والإكبار. واستدرت دموع الفرح والإعجاب كما فعلت تلك الصورة التي شاهدها آنفا ولقد خيل إليه في تلك الساعة كأنما العواطف والنزعات والآمال والوجدانات التي كان يجيش بها صدره في عهد الشباب قد ثارت من مكامنها وهبت من مدافنها في أعماق روحه.
فتناول ريشة وتقدم إلى بعض ألواحه وقد استحوذت عليه فكرة ملكت مشاعره ووجدانه وذلك أنه أراد أن يرسم صورة ملك ساقط قد زل عن مقام الملائكة وهوى إلى وهدة الإثم والخطيئة. وشد ما انطبقت هذه الفكرة على إحساسه إذ ذاك التأمت مع شعوره. فأقبل بريشته على اللوحة يبذل أقصى جهوده وقد تحلب جبينه عرقا ولكن ما فاضت به الريشة من الأشكال والمواقف والأفكار كانت لسوء الحظ تأبى أن تتلاءم وتنتظم وتتناسق وأدرك أن يده قد فقدت مهارتها وحرمت براعتها وسلبت ملكة التصرف والافتتان بطول انحباسها على أسلوب واحد والتزامها طريقة واحدة. وجعل عجزه عن التخلص مما قد ضر به على(62/56)
نفسه من القيود والأغلال يبدو في مظاهر شتى من الخطأ والانحراف والزلل لقد أسف على ما كان منه من احتقاره الطريق الوحيد المؤدي إلى العلم والعرفان أعني الطريق الوعر الطويل المتعب الممل وازدراء الشرط الأول الأساسي لبلوغ النبوغ والمجد والخلود أعني الكد والكدح والدؤوب. أجل لقد أحزنه ذلك وأسفه ولن يتمالك كتمان هذا الحزن والأسف ولا استطاع تهوينا لبرحاء شجنه وغلواء كمده بل أطلق العنان لثائر غضبه ووجدها فأمر بجميع ما لديه مكن رسومه وصوره التي صنعها خلوة من سمات الإتقان والإجادة صفرا من آيات النبوغ والعبقرية فأخرجت من متحفه (أي غرفة تصويره) ثم أحرقت:
وحبس نفسه في متحفه وامتنع عن الطعام والشراب وتفرغ قلبا وقالبا للعمل يعكف عليه كالتلميذ دنى وقت امتحانه. ولكن ما كان أضعف وأسخف وأحقر وأضأل كل ما فاض من ريشته: لقد كان يقوم في سبيل ريشته لدى كل سحابة عائق من الجهل بأبسط قواعد الصنعة. لقد حال هذا الجهل دون كل إلهام من وحي الخاطر وفيض القريحة وقام عقبة كؤودا وسدا منيعا دون وثبات الخيال وطموحاته.
وأخيرا ناجى نفسه قائلاأراني مدفوعا عن أدنى مراتب الإتقان ولا جرم فقد حيل بين العير والنزوان ولكن هل حقا كان لي في عهد الشباب ملكة وسليقة وهل كنت انطوي على سر العبقرية؟ أم كنت في نفسي مغشوشا مخدوعا؟.
وعلى إثر هذه المناجاة قام فتوجه غلى رسوماته القديمة - مأثورات عهد سشبابه البائس الطاهر ثمرات الروح النقية والنفس الزكية وحرية النبوغ وشذوذ العبقرية ثم أقبل على هذه الرسومات ينعم النظر فيها ويدقق ويتأمل ما خفي من حسناتها وما ظهر. ويتدبر ما برز من مزاياها واستتر. فلما استوعبها جميعا وعرف ما هنالك صاح صيحة منكرة ملؤها اليأس.
أجل لقد كان لي ملكة وسليقة وقد اوتيت براعة وعبقرية وهاتي آياتها بادية في كل خط من خطوط تلك الصور - وتلك آثارنا تدل علينا.
وهنا احتبس لسانه وعرته رعشة شملت جميع جسده ووقعت عيناه على عينين آخرين بالغرفة - أعني عيني تلك الصورة المشؤومة التي كانت السبب فيما انتابه اليوم من هذه(62/57)
المصيبة. لقد بقيت أثناء تلك الفترة الطويلة محجوبة عن بصره بما كان يغطيها من طبقات الصور والرسوم المتكاثفة فوقها وقد ندت عن ذاكرتها فكأنها لم تكن. فلما أخرج اليوم ما كان بالمتحف من الصور المألوفة المرغوبة برزت هذه الصورة هي وكل مصنوعاته القديمة من حجبها ومكامنها. ولما تذكر شارتكوف ما اقترن بتلك الصورة المجهولة من عجيب الأحداث والطوارئ - لما تذكر أن هذه الصورة كانت بشك لم سببا في زلاته وعثراته وأن ما أورثته تلك الصورة من بدرة الذهب المخبوء في إطارها هو الذي استثار في نفسه تلك النزعات المنكرة التي أفسدت ملكته وأودت بعبقريته - لما تذكر كل هذا أوشك أن يجن وكاد عقله أن يذهب. فأمر في الحال بالصورة الملعونة أن تزال من المتحف.
ولكن إزالة الصورة لم يسكن من هياج خاطره ولا هدأ من ثائرة نفسه وكيف ولقد كان جذع الحياة فيه كأنما يزلزل من جذوره وإن ركن الحياة فيه كان يزعزع ن أساسه. وعلى أثر ذلك ألم به إحساس فظيع من الحسد لذوي النبوغ من رسامي عصره كاد أن يكون جنونا فكان كلما بصر بطريفة من بدائع الصور احتدم قليه حسدا لصاحبها فجعل يصرف عليه نابه حنقا وحقدا ويلتهم الصورة بعينيه التهاما وما لبث هذا الحسد والحقد القادح في كبده أن حداه إلى تدبير حيلة جهنمية نم أشنع ما دبر مغيظ محنق ثم أسرع بكل ما للجنون من قوة إلى تنفيذ هذه الحيلة فشرع ينفق مكنوز المال ومدخره في شراء كل ما جادت به ملكة التصوير من نفائس ملح معاصريه من الرسامين. وكلما اشترى صورة من تلك الطرائف هرع بها إلى غرفته ثم انقض عليها بسطوة القسور الغضنفر فمزقها إربا إربا وداس على جذاذها بقدمه وعلى شفتيه ابتسامة الظافر المنتصر.
وكان قد سبق في قضاء الله أنه أراد بالفن وأهله وعشاقه خيرا فقدر أن لا تطول حياة مثل هذا الرجل إذ كانت ثورات نفسه الهائجة أشد ما يطيقه جثمانه الضعيف. فجعلت نوبات الجنون تعتاده من حين لآخر وكثر عليه ترددها وتتابع تكرارها حتى انتهت به إلى أسوء حال من المرض فأخذت حمى عنيفة مصحوبة بسل سريع وبلغ من شدة وطأتها عليه أن لم يبق منه بعد ثلاثة أيام إلا خيال. وبدا عليه مع ذلك أعراض الجنون الميؤوس من شفائه. فكان ربما أصابته النوبة فتعجز الفئة من أقوياء الرجال عن كبح جماحه. وجعل يتراءى له(62/58)
وهو في هذه الحال شبح العينين المخوفتين اللتين كانتا أصل بلائه فيورث ذلك المنظر المرعب أشد الألم وألذعه. وإذ ذاك يتناهى جنونه صورة وفظاعة وكان يخيل إليه أن كل من أحاط به من العواد صور منكرة تحملق إليه بأعين شنيعة. لقد تضاعفت الصورة الرهيبة لناظره حتى خيل إليه أن جدران الغرفة قد رصعت بالمئات منها وكأن العيون المخوفة تطل عليه من السقف ومن الأرض وعن يمينه ويساره ومن أمامه ومن خلفه وكأن الحجرة قد استطالت وتعرضت إلى ما لا نهاية له لتفسح المجال للمزيد من تلك العيون الشاخصة الرهيبة. وحاول الطبيب بعد أن عرف ما يعلمه العواد من ماضي حياته أن يدرك سر العلاقة ما بين رؤيا تلك الأشباح المزعجة وحوادث حياته فلم يفلح وذلك أن المريض لم يكن يدرك ولا يحس بسوى مضيض أوجاعه وآلامه ولم يفه سوى صرخات نكراء. ورطانة عجماء. ثم فاضت روحه أخيرا إثر نوبة من أفتك النوبات. ولم يعثر بعد وفاته على شيء ما من ثروته الواسعة. ولكنهم لما أصابوا أنقاض ما حطمت يداه من أروع بدائع الفن وأغرب محاسن الصناعة مما يربو ثمنه على المليون أدركوا ما بددت في سبيله تلك الأموال الجسيمة.
الفصل الثاني
ازدحمت طائفة من المركبات على باب بيت كان معقودا فيه جلسة مزاد علني على مخلفات رجل من عشاق فن التصوير ممن ينفقون ثروة أجدادهم في اقتناء الطرف الأحاسن من آثار هذه الصنعة.
كانت الردهة غاصة بالوفود والزوار من كل صنف وطبقة كأنهم جوارح الصقور والعقبان تحوم على جثث القتلى. وكان من بين هؤلاء فيلق كامل من تجار الصور وباعة الثياب القديمة قد طرحوا على وجوههم ما يلبسونه عادة للزبائن من علامات الملق والخداع والنفاق والمداهنة وسيما التذلل والخضوع والمسكنة وبدت في ألوانها الطبيعية هادئة ثابتة بالرغم من التصاقهم في ذلك المكان بنفوس أولئك الزبائن الأرستقراطيين الذي لو لاقوهم في حوانيتهم لخروا لهم ركعا ولكنسوا التراب المتساقط من نعالهم. لقد أولئك التجار والباعة في تلك الردهة وقفة الوداع المطمأن المطلق من قيود الكلفة والاحتشام لا يبالي ولا يحفل بمن حوله كائنا من كان وطفقوا يقلبون الصور والرسوم ليتأكدوا قيمها وأقدارها. وكان ن(62/59)
بين الجماعات كثير من عشاق المزادات العمومية الذين لا تكاد تفوتهم جلسة من جلساتها أعني غواة الصور من طبقة الأرستقراطيين الذين يرون من أوجب واجباتهم ألا يدعوا فرصة تمر دون أن يزيدوا أعداد ما لديهم من مدخرات الرسوم والتصاوير والذين لا شغل لهم فيما بين الساعة 12و2 إلا حضور هذه الجلسات. يضاف إلى هؤلاء فقراء الأرستقراط الذين يذهبون إلى تلك المزادات في أثوابهم الشريفة البالية لا طمعا في شراء ما يعرض ولكن لمجرد الاطلاع على ما يؤول إليه أمر المزاد.
كان ثمة طائفة من الصور ملقاة بلا نظام ولا ترتيب يخالطها أمتعة من الأثاث وشيء من الكتب عليها أسماء أربابها الذين ما خطر ببالهم قط أن يفضوا أغلفتها وآنية صينية وألواح من رخام المناضد وبسط وأنماط وزرابي ونمارق وكراسي وأرائك وثريات ومصابيح وشتى ضروب من آلات الزخرف والزينة يكدس بعضها فوق بعض أكداس مشوشة مختلطة كأنها كثيب مهيل من الفنون الجميلة.
وكان المزاد قد بلغ أقصى غلوائه.
وكان الجمع المحتشد يتبارك ويتنافس في صورة تأبى إلا لفتا لأنظار أهل الفن واجتذابا لأبصارهم. إذ كانت تبدو في غضونها بلا شك آيات قدرة بديعة وبراعة مدهشة وهذه الصورة التي كان يبدو عليها أثر تكرار التجديد والترميم فكانت تمثل شخص رجل أسيوي في ثياب فضفاضة تنم صفحة وجهه عن معاني رائعة خطيرة. ولكن أغرب ما في الوجه فرط توقد العينين. فكلما أطال إليها المشاهد نظره خيل إليه أن ألحاظها تزداد تغلغلا في أحشائه ونفاذا إلى حبة قلبه هذه الفتنة الغريبة الخداع التي أبدعها المصور بقوة براعته كانت موضع العجب والدهشة من الجميع. وقد بلغوا من ارتفاع ثمن الصورة في المزايدة أن كثيرا من المساومين كفوا أيديهم لعجزهم عما وصلت إليه من الثمن الفاحش الخارق للعادة. ولم يبق غير اثنين من عشاق الصور من طبقة الأرستقراطيين وإنهما قد أصرا على اقتناء الصورة مهما بلغ ثمنها فحمى بينهما وطيس المساومة وقد كانا بلا شك بالغين بالثمن حد الإعجاز والاستحالة لولا ما اعترضهما به أحد النظارة من قولهاسمحا لي أن اقطع تيار المساومة برهة من الوقت فلعلي نم بين سائر الحاضرين أحق الناس بإحراز هذه الصورة.(62/60)
هذه الكلمات لفتت في الحال أنظار الجميع نحوه. فإذا رجل طويل يناهز الثلاثين أسود الشعر منسدله ينم وجهه الطلق عن فرط الاستخفاف بصروف الزمان وفراغ البال من أكدار الحياة وهموم الدنيا. وكانت ثيابه ساذجة غفلا من آثار التجمل والتأنق وكل ما به دليل ناطق على أ، هـ من أهل الصناعة. ولواقع أنه كان المصور المعروفة محاسن آثاره لدى كثير ممن حضر هذه الجلسة.
واستمر الرجل في خطابه فقال مهما أثارت كلماتي هذه في نفوسكم من العجب فلسوف تحقونها وتبررونها متى وعيتم ما أنا ملقيه عليكم الآن من نبأ هذه الصورة فإني على يقين من أن هذه هي عين الصورة التي ما زلت أدأب باحثا عنها سنين عدة. .
هنا سطعت آية العجب على وجوه لسامعين واشرأبت إلى الرجل أعناقهم وسموا إليه بأبصارهم حتى منادي المزاد نفسه وقف فاغرا فاه دهشة رافعا عصاه في الهواء تهيأ للإنصات إلى النبأ الغريب. وفي مقدمة القصة أقبل الجمع ينظر إلى الصورة فلما انحدر القاص في قصيصه وتدفق في شعاب روايته تحولت إليه الأنظار وانصاعت نحوه القلوب وانقادت الأذهان طوع بيانه. وتعلقت الأرواح بأسلة لسانه. حدث الرجل الجماعة قالتعرفون ذلك الحي من المدينة المسماة كولوما هذا الحي يخالف سائر أحياء موسكو فهو ملجأ المتقاعدين من ضباط الجيش ومأوى الأرامل وموائل الفقراء المعسرين وقصارى القول مثوى كل أولئك الأقوام الذين يصح أن ننعتهم بكلمة الطوائف الغبراء (أي التي لونها لون الغبار) من تراهم كأنما نسجت على ثيابهم ووجوههم وشعورهم وعيونهم طبقة من الغبار أو الرماد التي تكسو الجو في يوم لا شمس فيه ولا غيم. وقد يصادف بين هؤلاء القوم متقاعدو الممثلين ومتقاعدو المحامين ومتقاعدو الفرسان والمقاتلة ذوو الشفاه الوارمة والعيون الخربة.
أجل إن الحياة في حي كولوما تمل وتسأم والعيش فيها لا رونق له ولا مذاق. وقلما تجري فيه المركبات إلا مركبة تحمل ممثلا تنحدر به في الطريق وقد أزعجت روح الصمت والسكون بدوي صريرها وصليلها وقد تحصل في دورها على السكن لمرضي بأزهد أجرة - خمسة روبلات في الشهر ضمنها ثمن القهوة وأعرق سكانها ارستقراطية الأرامل ذوات المعاشات والمكافآت وهؤلاء يسرن سيرة مرضية يصن أعراضهن ويكنسن حجراتهن(62/61)
ويحادثن أصحابهن وصويحباتهن عن أسعار الضان والعجل والكرنب والكرنبيت والبطاطس كثيرا ما يكون لإحداهن ابنة فتية قلما تجدها إلا رزينة ركينة خفرة صموتا وقد تكون جميلة وكلب قبيح الخلقة وساعة حائط تدق دقات مؤلمة حزينة. ويجيء من بعد الأرامل طائفة المثليين الذين كسائر أهل الفنون الجميلة يعيشون في الدنيا للهو والمتاع واللذة. أولئك تراهم جلوسا في مباذلهم ينظفون مسدساتهم وسيوفهم ويصنعون كل شيء في الوجود من الورق مع كل من هب ودب وبذلك يقضون صباحهم وعلى هذا النحو يقضون أيضاً مساءهم مضافا إليه النبيذ والبنش.(62/62)