القوة والسلطان والتأثير بحيث يشستطيع التغلب على الذين يعارضون فيها ويصرون على أن لا يروها. وأنا لا يسعني إزاء بعض أولئك غلا أن أشترك معهم في العاطفة وأشفق عليهم لأنني أرى الصعوبات التي تحول دونهم. وأنا لا أدعي القول بأنه من السهل الاقتناع بأن الشخصية والذاكرة يعيشان بعد فناء الذهن. بل كل ما أقوله هو أنه قد وجدا يعيشان. وهذا يمكن أن يشير إلى أن الذهن ليس إلا أداة أو عضوا يستخدمه شيء غير محسوس مطلقاً، شيء يوجد في العالم النفساني لا العالم البدني، شيء لم يكتمل ويصيب النماء إلا باشتراكه مع البدن أو المادة. ومن هذا يصح أن نعرف الذهن بأنه أداة من أدوات البدن، أداة صلة واتصال، لا أداة مفكرة قائمة بذاتها لأن الذهن الذي لا هيئة له والغير مجسم لا بد له من وسيلة إلى إعلان نفسه وإثباتها وإظهار حقيقة وجود ولكن هذا لا يستلزم أن تكون هذه الوسيلة من المادة العادية التي نعرفها أو إذا كان لا بد من ذهن لأجل الاتصال بنا في هذه الأرض فيجوز أن يستخدم جزء من ذهن شخص آخر لهذا الغرض الوقتي، فذهن هذا الشخص هو الذي نسميه - الواسطة - أي واسطة الاتصال والمخابرة.
قال الكاتب: إذن فهل أتعقد أنكم ترون استقلال الذهن عن المادة أمر ثابت؟
قال العالم: أجل إن الذهن أبقى وأثبت من أداته البدنية وهو يعيش ولا ريب بعد هذا البدن الحاضر الملموس ويبقى على حاله قائماً بلا تغيير.
فسأله الكاتب: أيمكن أن تشرح لي كيف أهتدي إلى تقرير هذه الحقيقة؟
فأجاب: من الناحية العامية بما يشهده بعض الأشخاص الذي يفقدون أحبابهم والأعزاء لديهم ومن الناحية العلمية بطريقة التخاطب وضروب أخرى معقدة من الأدلة لا تزال في استمرار.
قال السائل: هل يمكن أن تشرح لي الطرق العامية أو العادية لإثبات هذا الأمر؟
فأجاب: بلا ريب، فإن فريقاً كبيراً من الناس الذين يفقدون أقاربهم يذهبون إلى - واسطة - يوثق به فلا يذكرون له أسماءهم ولا يتطلب الواسطة منهم معلومات أو استفهامات. ولا يقول الأشخاص لهم كذلك شيئاً منها، والواسطة كذلك يفضل أن يكون جاهلاً بزبائنه كل الجهل. وفي بعض الأحيان يصحب شخص آخر ليثبت ما يدور من الكلام، ففي كثير من هذه الأحوال بل أقول في معظم هذه الأحوال، يرى أن الدليل قوي جداًـ قاطع مدهش إذ(45/22)
يتحقق الشخص من شخصية الميت الذي فقده ويرى أنه في لهفة واشتياق إلى مخاطبة أقاربه وإرسال رسائل لهم، وهي رسائل محبة وعطف في الغالب. وتحقيق شخصية وإثبات وجود.
قال السائل هل لك يا سيدي أن تذكر لي طائفة من هذه الأمثلة؟
فأجاب السر أوليفر: خذ مثلاً شاباً قتل في هذه الحرب وتصور أن أبويه استطاعا أن يتخاطبا معه فإنه سيحييهم كعادته يوم كان في هذه الحياة ويدعوهما بامسيهما، أو قد يناديهما بأسماء الدلال التي اعتاد البنون أن ينادوا بها آباءهم وقد يسألهما عن أخوته وأخواته بأسمائهم جميعاً أو بما يشير إليهم من طرف خفي، لأن الأسماء في بعض الأحيان متعبة من ناحية الوصول إليها، وقد يذكر أدلة وتعليقات وغشارات معروفة تميزهم عن أبويهم، وكثيراً ما يذكر ما يدل على أنه يعرف ما يفعلون إذ ذاك والأمر الذي يشتغلون به وقد يبسط معالم هيئته وشكله، وقد يذكر الواسطة علامات وإمارات صغيرة ولكن حقيقية كالبقع في الوجه أو الخدوش أو الحالات أو علامة من العلامات المختلفة.
وأما عن ذكر الحوادث فإنني لأذكر أن في حالة من هذه الحالات قال ميت من الفتيان لأبويه أنه كان قد ضرب موعداً بينه وبين أخيه على اللقاء في فرنسا على كوبري معرفو فلما توافيا إلى الموعد وأقبلا إلى المكان المضروب لم يكت للكوبري أثر بل طار على أثر القذائف وتبدد من القنابل ثم جاء بعد ذلك خطاب من أخيه الذي عاش بعد هذا الحادث، ونجا من القذائف مؤيداً هذا الأمر مؤكداً هذه الحقيقة. وكان الأبوان لا يعرفان من هذا شيئاً عند ما جلسا إلىمخاطبة فقديهما.
وغليك ثملاً آخر: ثلاثة أخوة قتلوا جميعاً، فذكر الواسطة أسماء الثلاثة إلى أبويهم، وكان أحدهم وهو أصغرهم هو المتكلم، فقال على لسان الواسطة، قل لأبي أنني لم أتكلم كل هذه المدة التي غبت عنها! وكان الفتى في الحياة ثرثاراً وكان أبوه كثيراً ما أنبه على ثرثرته وعاقبه على كثرة كلامه.
وفي حالة أخرى كان المتكلم فيها من العالم الآخر صبياً صغيراً فطلب من أبويه أن يعطيا ما في جيب صداره إلى أخيه الصغر، فلما فتشا جيوب الصدار وجدا قطعة من النقود في الجيب الذي وصفه.(45/23)
والوصف الشائع في مثل هذه الأحوال هو وصف المنزل القديم الذي كان يقيم فيه الميت والأثاث والصور المعلقة فوق الجدران، بل كثيراً ما يذكر أسماء الكتب المصفوفة في المكتبة.
قال السائل: وهل يجيب الموتى على أسئلة معينة؟
فأجاب سير أوليفر لودج: إنهم لا يتذكرون دائماً ما يتوقع السائل منهم أن يتذكروا، لأنه من الصعب أن تكره روحاً على أن تعود إلى ذكرى شيء نسيته وتعفى واندثر من لوحتها، ومن الحوادث التي نستشهد بها هو أن شابين صديقين حميمين ماتا من مرض في أثر بعضهما البعض ولكن كان كل منهما في بلد بعدي عن بلد صاحبه، فلما مات أصغرهما وهو هربرت حبس الأصدقاء هذا الخبر عن الصديق الآخر، على أنه عندما مرض هذا وجاءت ساعة المنية، قال وهو يبتسم: أهلاً بك يا هربرت مسرور لرؤيتك!
ومن الأمثلة التي ذكرها السير وليام باريت في كتابه الحادثة التالية: وهي أن ضابطاً من المستشهدين في الحرب قال بعد انتقاله إلى العالم الآخر على لسان الواسطة أنه يريد أن يرسل دبوس ربطة عنقه، الموجود في أمتعته إلى سيدة ذكر اسمها وعنوانها وقال أنه خطبها سراً وأراد الاقتران بها، ولم تكن أسرته تعرف شيئاً عن هذا من قبل، فلم يسعهم إلا أن يكتبوا خطاب استعلام بالعنوان الذي ذكره ولكن الخطاب أعيد إليهم وقد كتب فوق الغلاف (غير معروف) فظن القوم أن الأمر خيال متخيل. ووهم من الأوهام على أنه عندما جاءت أمتعته من ميدان القتال. وجدوا بينها الدبوس الذي أشار إليه ولما اكتشفوا وصيته التي كتبها قبل مماته، رأوا اسم السيدة صحيحاً كما ذكر، وقال عنها في الوصية أنها الوارثة له، فقبلت الخطبة واعترف بزواجه بها. وكذلك كان كل شيء مما قال صحيحاً إلا العنوان، وأنا لا أعرف سبب هذا الخطأ في العنوان، على أن العادة في مثل هذه المخابرات أن يكون جزء منها خطأ، ولعل هذا يرجع إلى الصعوبات التي تعاني في مثل هذا التخاطب، أو على عودة الواسطة فجأة إلى حالته الطبيعية، كما يكون من الإنسان إذ ينتبه بغتة من الحلم ثم إذ تغفى عينه ثانية يعود إلى حلمه فيسترسل فيه.
قال السائل: إن أمثال هذه الأغلاط تجعل م الصعب الاهتداء إلى أدلة مرضية مقنعة.
فأجاب ذلك العالم المشهور: بلا شك فإن هذه الأدوات الإنسانية التي تستخدمها في التوسط(45/24)
بيننا وبين الأرواح مهما كانت مخلصة لا يمكن أن تكن كاملة القوى في جميع الأحوال وليس في الإمكان تجنب هذه العودة الفجائية إلى الحالة الطبيعية، ولكن هناك فرقاً عظيماً بين الواسطة الطيبة والواسطة الرديئة.
قال السائل: إذن أنت مقتنع بأن الحياة غير محدودة بالحياة على الأرض وأن هناك عالماً آخر ننتقل إليه؟
فأجاب: هذا ما لا ريب عندي فيه، ويلوح لي اليوم أن الموت أمر لا يخشى منه بل حادث يؤمل وأمر يبتغى، لأنه ولا شك رحلة لذة طيبة ولا أعتقد أن هذا الانتقال أليم معذب مرير، بل أن الإفاقة من الغشية قد تكون مؤلمة، ولكن الانتقال في العادة ليس فيه ألم أو عذاب.(45/25)
الغازات الخانقة في عالم الحشرات
لا تحسبن أن العلم الحديث، بجميع ما ابتكر واستحدث وابتدع، من هذه المخترعات العديدة التي لا يكاد يحصيها العد، يستطيع أن يبز عظمة الطبيعة أو يغلبها على جلالها أو ينتقص من أطراف روعتها، ولا نظن أن العلماء وأهل الفنون والمبتكرين يدانون الحشرة الصغيرة في فنها، أو سيحاكون النملة في جلائل أعمالها، ولعل خير ما قال الحكماء في عظمة الإنسان والفارق بينها وبين عظمة الطبيعة ما قال المؤرخ جبيون إذ وصف في كتابه سقوط رومة روعة كنيسة أيا صوفيا في مدينة القسطنطينية وما كان من الفنون البيزنطية وبراعتها وسموها حتى لقد استغرق وصفه فيها بضع صفحات ثم ختمها بقوله على أن الكنيسة بجميع ما فيها من آثار الفن الإنساني لا تعادل في جلال صنعها العش الصغير الذي تنشئه حشرة العنكبوت في ركن من أركان قبابها العالية.
ولقد يتوهم القراء أن هذه الغازات الخانقة التي ظهرت على يد العلم في هذه الحرب مخترع عجيب، ومبتدع طريف، لم تشهده الدنيا، ولم تأت بمثله الطبيعة، ولكن هذا هو الخطأ وذلك هو الوهم، فقد وضع أحد العلماء الحشريين المشهورين مقاله في إحدى مجلات العرب التي ظهرت في هذا الشهر يثبت فيها أن فكرة صنع غازات خانقة للفتك بالعدو تحصين النفس من غارة المغير لا تزال فكرة منفذة في عالم الحشرات، ونحن ننشر هذا البحث لفائدته وغرابة ما جاء فيه من تلك الحكمة الطبيعية التي لا تخص القوة الإلهية به عالم الإنس وإنما يشترك فيها الحيوان والإنسان على السواء.
نحن نعلم أن الحشرة لا تفكر ولا تعيش على هدى فكر منظم ولكن أعمالها مع ذلك غريزية محضة فالغريزة هي التي تدفعها في ما استمدته من أدوار تطورها على مدى الزمن لحماية نفسها من شر أعدائها أو مخادعة خصومها أو لجلب كفافها من الغذاء وما تتوارثه عن بعضها البعض وما تهذب فيه من عادات آبائها ولهذا كثيراً ما نلتقي بأمثلة مدهشة فتتوهم لأول وهلة أنها حيل مدبرة وأخاديع منظمة أحدثها عقل كبير، دون أن ندري أنها من صنع الغريزة، وقد دلتني الأبحاث الأخيرة التي قمت بها في فحص بيض ضرب من الدود على أمور مدهشة يحار لها الفكر الإنساني وهذا النوع يسمى لدى الحشريين () وهو حشرات تتغذى بأوراق أشجار التوت والحور، وطريقتها في تغذية نفسها منها طريقة عجيبة خارقة للعادة، وذلك أنها قبل ان تتغذى على الورقة تبتدئ بشمروخها أو ساقها وتنفث فيه بضع(45/26)
قطرات من لعابها، ولكما نفثت نقطة رفعت رأسها لكي يتسنى لها أن تجعل السائل الذي تنفثه من لعابها على خط مستقيم وخيط ضعيف وكذلك تضع عدة خيوط من لعابها كالشعرات فوق ساق الورقة ثم تحرك هذا الساق إلى الجزء الأخضر وتبتدئ في غذائها، وتنطلق من طرفها في طريقها إلى الورقة وكلما أكلت قطعة تحوطها بدوائر من لعابها، من الناحيتين العليا والسفلى من الورقة، حتى إذا تم لها ما أرادته من وضع متاريسها حول الورقة، اطمأنت وأخذت في طعامها ثم تسترسل في وضع دوائر من لعابها كلما تقدمت في الأكل.
ولا شك في أن الغر من ذلك هو لوضع خطوط دفاعية ولإنشاء متاريس تحصينية ولكن رب سائل يسأل وعلام الدفاع، ولم التحصين وإليك الشرح وهاك السر:
يعرف الحشريون أن الحيلة العامة التي تتخذها النباتات من شر الحشرات في أن تضع خطوطاً وشعرات وخيوطاً على سوقها وعيدانها وشماريخها وأوراق أغصانها ولا سيما ما يختص منها بثمارها وأرهارها، وذلك لترد غارة الحشرات الدابة إليها، ومنها النمال وهي أفظع الحشرات شراً على النباتات.
وقد كنت أعرف هذه الظاهرة الطبيعية. ولذلك استحضرت جملة من النمل الأسمر الموجود في حديقتي ووضعت واحدة منها على حافة الورقة التي أنشأت تلك الحشرة الأولى فيها متاريسها وخطوط دفاعها، فكان من اهتياج النملة أن انطلقت بسرعة فوق أديم الورقة واندفعت رأساً على تلك الخيوط السائلة، فتكسر خيط منها وتشبث برأس النملة، فبدأ هذه تتململ وتحاول التخلص وبعد أن عانت مشقة طويلة نجحت في الخلاص من أشراكها على أنه لم يصبها الرعب فقط من هذا الحادث، بل جعلت كذلك تلمس وجهها بمقدمة أرجلها ولاح لي أنها أخذت تعطس بكثرة إذا صح أن النملة تعطس وإذ ذاك وضعت نهاية بطنها تحت أقدامها وأطرقت برأسها وجعلت كذلك تتدحرج كالكرة ويحتمل أنها كانت تخرج إذ ذاك شيئاً من الحامض لتفسد مفعول ما تناولته من ذلك السائل الذي نفثته الحشرة الأولى، لأنها بعد لحظات أخذت تفيق وتنتعش ومضت تتحرك بكل احتراس حول الورقة، وما كادت تداني بقايا تلك الخيوط حتى ارتدت على أعقابها ويلوح لي أنها استطاعت أن تشم رائحة ذلك السائل، ولذلك أصبحت متنبهة يقظة.(45/27)
فأعدت التجربة في نمال أخرى غيرها فوجدت أن هذه النمال في كل مرة تصاب بهذه الغازات الخانقة كلما لمست هذه النقط الدفاعية.(45/28)
روايات البيان
مسألة محتاجة إلى بوكاسيو
لا أظن أنك تستطيع أن ترتضي لنفسك لقب الرجل العادل أو تنسب إلى نفسك الإنصاف إذا أنت اعتدت أن تهب الوليد الذي لا يزال يناهز العامين من العمر في كل ذات صباح، وفي العشي والأصائل، قطعة من الحلوىـ، ثم يدعوك الاقتصاد وينذرك نذير الحرب، ويطالبك مراقب لجنة المواد الغذائية أن تمنع عن ذلك الوليد تلك الحلوى، وتحرمه تلك الهدية، فتقطع عنه هذا الراتب، وتحول بينه وبين ما تعود فإن الطفل ولا ريب لن يدرك إذ ذاك حججك، أو يستمع إلى منطقك، أو يفهم السبب الذي من أجله أنكرت عليه هذه اللذة العذبة التي كان ينعم بها من قبل، بل أنه لا مراء فاتح يديه، باسط ذراعيه، معول في وجهك، مطالبك بالحلوى مستكثر منها، وسيهز قبضته في الهواء، ويعض أصابعه سخطاً متألماً، وينام على وجهه فوق الأرض وينطلق في بكاء مستطيل وصياح، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه ولا نفع من عبراته، فيحتال الحيل، ويريد المخلص وربما اعتزل في مكان قصي واستبدل الذي شر بالذي هو خير، واستعاض عن أكله قطعة الحلوى بقطعة من الفحم.
إن حرباً قلبت الدنيا رأساً على عقب كحربنا هذه لا يكون منها ولا ريب إلا أن تحدث أحداثاً في نظرنا للحياة، وتغير الآداب وتدخل أموراً وعبراً في الخلق والاجتماع.
ومن الصعب أن نتوقع من أبناء آدم أن يتخلوا دفعة واحدة عن طلابهم السعادة ويقفوا عن نشدان الهناء، إذ ينهض في الأفق صوت الطبلة الأولى الداعية إلى السلاح المنادية القوم إلى الأمة والتجالة على ميدان الحياة، على أن سواد الناس مع ذلك استطاعوا أن يحتالوا لذلك حيلهم. ويتخلوا عن سعيهم، وقد حبست السعادة اليوم بعد أن طبقت كالثياب في الدواليب، وأغلق عليها بالقفل، واستعاض عنها الملايين من الناس تلك الأثواب الرهيبة الأليمة - أثواب الأسى والحداد - وبذلك قام السواد الأعظم من الناس بالمستحيل، والأمر الذي لم يكن في الحسبان، إذ صبروا على فقدان السعادة وجلدوا على تبدد العناء،(45/29)
واعتصموا عنه بأجمل العزاء، ولكن هناك قليلين من الخلائق المعذبة الطاهرة الأذهان البريئة النفوس، البلهاء الضعاف القلوب أولئك الذين لا يستطيعون صبراً، ولا يجدون تجملاً بعزاء، أولئك الذين يصرخون في أثر سعادتهم الضائعة وهنائهم الزائل، ويرفعون الأذرع طالبين قطعة الحلوى التي منعت عنهم متوسلين جازعين لهفى على تلك الفاكهة الصغيرة التي حرموا منها.
من هذا الفريق الأخير كانت شيلا سورسيل لها ذهن طفل، وقلب وليد، وكانت تعمل أنها حسناء، وكانت بما تعلم فرحة، وكانت بحسنها جذلى مبتهدة، وكان لهوها أن تقف ساعات أمام المرآة تطيل في وجهها وتقصر، وتبتسم لصورتها، وتقطب، شأن الطفل الصغير، فإذا أغضبها شيء من معارف وجهها أو بزتها، ونفضت خيوط قبعتها، فإنما كان ذلك منها لأنها كانت وهي طفلة غضوب، تعض أناملها، وإذا غنت فرحاً واغتباطاً، على مشرق الشمس ومطلع ذكاء من خدرها، أو إذا مس لج البحر عند الشاطئ بدنها الناعم يوم الاستحمام فكذلك كانت في طفولتها الأولى، حتى لقد أصبحت وهي في التاسعة عشر على طفولتها التي كانت تنم عنها وهي في العاشرة.
فإذا كان هذا أمرها، وتلك خليقتها، فلا عذر ولا شفيع لأبويها أن يفارقا الحياة في مبتكر عام 1914 ويرحلا يداً في يد إلى عالم الأرواح، ويتركاها وحدها بلهاء كأشد ما كانت بلاهتها وهي وليد تدرج في البيت.
ولقد كان الثلاثة ينعمون بالسعادة لا تفوتهم فرصة تستطيع أن تجعل الحياة أسعد وأبهج إلا أدركوها واستقبلوا سوانحها، ولكن لم تلبث فجأة بلا نذير ولا إعلان ولا نبأ، أن نكست أعلام السعادة، ولم يبق للفتاة شيلا إلا قلب معذب ودار قفراء وموقدة لا عشيرة حولها، وحساب ثروة طيبة في المصارف.
ولما كانت تجهل ماذا تصنع بهذا التراث، ولا تدري ماذا تفعل بهذه التركة أوت إلى فندق في مدينة يورتموث، وانطلقت تبحث عن السعادة التي فقدتها.
والأقدار دأبها أن تردف النكبة بأخوات لها، وتجيء بنوائبها متلاصقة متسابقة، إذ ما كادت شيلا تحس أن أحزانها قد بدأت تزول، والأسى يخف، حتى فكرت الأمم أن تعلن الحرب وتنادي بالقتال.(45/30)
فلم تدرك شيلا شيئاً عن الحرب، ولم تفهم المعنى الذي وراء هذه اللفظة، وإنما حسبتها مسألة من مسائل الصحف والجرائد، على أنها أسوة ببقية الإنسانية شعرت بتلك اليد الباردة التي مست قلب أمتها في خريف عام 1914.
وكانت شيلا إلى ذلك العهد لا تدري شيئاً كثيراً من طبائع الإنسان، ولكن الآن جعل هذا المخلوق يبدو لناظريها في منظر جديد ومظهر غريب خطير، وعلمت إذ ذاك أن الشقاء والاضطراب والأحزان قد هاجمت العالم، واحتشدت في الأرض، ولما لم تجد ذراعاً رحيمة رؤماً تفزع إليها وأحضان أم حنون تهبط فيها، جعلت تنظر إلى الأسى الذي حولها صعقة آسية حزينة على أنها لم تلبث أن شعرت بشيء من التسخط وأحست روح التذمر تجول في صدرها، إذ شعرت بأن الحرب قد أساءت إليها ولم تسيء هي إلى احد من أهل الدنيا وأن الحرب قد جارت عليها واعتسفتها بدون ذنب ولا جرم. ورأت أن لا دخل لها في الحرب ولا يد ولا سهم ثم هي قد مست حياتها وجرت عليها ذيولها المظلمة وامتزجت بعيشها وتغلغلت في ثنايا روحها.
وكان في فؤاد شيلا سوريل نبعات عميقة من نبعات الإحساس والشفقة والرحمة، فلما لم تجد أحداً تفيض عليه من أنهار تلك النبعات، وأمواه تلك الإحساسات، أفاضت بها على نفسها وخصت بها ذاتها فأثارت فيها طائفة من الآلام والهموم، فكان تطوف وتهيم وحيدة معتزلة في بستان الفندق ودروب حائطه وتراضي البحر وعينها ندية بالدمع ثرة بالعبرات.
وأنت تعلم أن كثيرات من النساء يقبحن بالدموع، ولا تحسن في عيونهن العبرات ولكن البكاء كان يلوح جميلاً في عين شيلا سوريل، وكانت الدموع تحسن لديها وتروع وتبدو فاتنة جليلة المظهر، وكانت تلك النقط المريرة الأجاج إذ تنحدر فوق وجنتيها المتوردة وتتحير في خدها المستدير الرخص الناعم تجعل منها صورة حسناء تفتن عواطف الإنسان وتثير أجمل وجدانات القلوب. وكان هذا على الأقل رأى الفتى النبيل إزلي وتوكر الضابط برتبة الملازم الثاني في فرقة الهايلندرز، فقد كان هذا الضابط الفتي الحمي الرقيق العاطفة ينسل فوق عشب الحديقة تحت شجيرات الزنبق يحفظ كتاب القوانين العسكرية. فقد كان في ذلك اليوم بعينه قد ألقى تهمة من التهم على جندي من الفرقة، لا أساس لها من القانون، فانتهز قائد جماعته هذه الفرصة لتأنيبه واستحثه على أن يستبدل كتب الأدب التي فتن بها(45/31)
بقراءة كتب القانون العسكري، فلبث لزلي ساعة يستوعب طائفة من الإجراءات العسكرية والبنود والمواد التي حشدها وضّاع تلك الشرائع الحربية في قوانينهم حتى برمت نفسه بالقراءة وإذ ذاك وقع نظره على الفتاة شيل سوريل، وهي تلوح من فرجة بين أغصان الزنبق.
وكانت شيلا وحدها، وقد جلست فوق العشب، وعيناها نديتان رطبتان ويداها غائبتان في الأغصان تقطف الدانيات من أزاهرها، وأنفاسها صاعدة وزفراتها راجعة، تبعث الرحمة والحنان.
فلما أبصر بها الفتى لزلي وهي على هذه الحال، اتقدت عواطف الفروسية بين جنبيه، فنسي دراسة القانون العسكري وواجبه المدرسي من حفظه واستظهاره، فاسترق الخطى وانسل بين العوسج والأفنان والدوالي، يريد التقدم نحوها، حتى إذا داناها قال بلا روية ولا تفكير إني أقول، هل تعرفين ما أقول، أقول أنك تلوحين مروعة حزينة مغمومة متألمة، أتعرفين ذلك!
فكان جواب شيلا إني لكذلك. ولكني لم أكن أعرف أن إنساناً يستطيع أن يشهد مني ذلك.
قال لزلي: إن المرء ليحزن إذ ينظر إلى وجنتك وخدك على أنني لم أستطع أن أتمالك نفسي، وأرجو أن لا يسوءك ما فعلت
فأجابت بعد تمهل وقد رأت أمامها فتى جميلاً: كلا لا يسوءني ذلك مطلقاً لأنه لا يحسن أبداً أن يكون الإنسان حزيناً متألماً وحده بلا أحد يواسيه.
فأجاب لزلي بكل تحمس: لا يحسن أن يكون الإنسان حزيناً مطلقاً إني أعرف ذلك إذ كنت اليوم غير مبتهج.
فكان جواب شيلا دليلاً على أن عواطفها قد تحولت عن نفسها والتفتت إليه إذ قالت: أتكون حقاً كذلك. هل أنت حزين، ولم الحز؟
قال: وقعت في خلاف والقائد، فعسفني واشتد في لومي
يا الله إنه أمر فظيع.
قالت شيلا: يا للعار. ويا للسوء ألم نقل له أنه كان في ذلك قاسياً لعيناً!
فأجاب الفتى: أنت تعلمين أن الإنسان لا يستطيع ذلك، وأن هناك كتاباً كنت أقرؤه الساعة(45/32)
يقول ذلك. قسوة كله وخشونة ووحشية. وبذلك ترين أن النتيجة تقع على رأس الإنسان وحده، وهذا ما يجعل الإنسان حزيناً.
قالت شيلا: ذن حالك كحالي. إن النتيجة تقع على رأس الإنسان وحده.
قال لزلي: إن لك وجهاً جميلاً ولكن نبئني ماذا يحزنك إنك تلوحين كأنك كنت الساعة تبكين؟.
فأجابت شيلا لقد كنت اليوم في بكاء ولكن الدموع صغيرة ولو لم تتحدث إلي لعظمت دموعي، واستهلت صبيباً منهمراً.
قال: وما سبب بكائك؟
فأجابت: لا أعرف كل شيء في الطبيعة حزين الحرب. . . الحرب. . والناس يقولون أنها ستنطلق كذلك أجيالاً وأعماراً واستزادا الأحزان أحزاناً وتصبح الحياة أشقى وأنكد وأظلم، وأنا لا أريد أن أكون محزونة شقية، فإن أشنع الشنائع أن تفلت السعادة من بين راحتي الإنسان بل أكبر مناي أن أكون سعيدة كل السعادة وأن أكون فرحة حسناء جذلى راضية العيشة، وأن أضحك وأبتسم للأمور التافهة التي تبعث الضحكات والابتسامات ولكن هل أنت ترى أن الإنسان لا يستطيع ذلك. ولذلك يبكي؟
ولم يكن للفتى ليزلي دهن عميق يبحث الأمور ويستقصيها ويقلب فيها وجوه رأيه فبدت له الحجج التي قالتها الفتاة حججاً عاقلة لا ظلم فيها ولا فساد فقد أدرك أن الحرب أمر خطير رهيب، ونتائجها محزنة أليمة، وزاد هذه الفكرة لديه أنه أحس العزلة ورأى نفسه وحيداً، وألفى الدنيا أمام ناظريه صحراء جدباء، قضى عليه أن يشق طريقه فيها منفرداً معتزلاً، وكان هناك شعاع واحد من الضياء يستطيع أن ينتشله من مخالب العزلة وينقذه من الأسى، وهو أن يجد إنساناً مثله متألماً يركن إليه ويختصه بذات نفسه وينفض له أسرار وجدانه، ولذلك لا تعجب أن يأخذ الفتى وهو في أشد انفعالات النفس وحرارة العاطفة تلك اليد الصغيرة البضة التي كانت منذ هنيهات تقطف الزنبق وناضر الزهر، فيشدها في صمت أبلع من الكلام، ويصافحها في سكون أروع من التفاهم، فلما أتم هذا أحس بشيء من السكينة تجري في نفسه وشعر بالطمأنينة، وسرى عنه بعض الألم الذي اضطرم في صدره، ولكي يقيم أساساً أمتن من هذه المصافحة الصامتة ويشيد فوقه بناء صداقة متينة(45/33)
وود عميق، راح يتلو عليها تاريخه واسمه وعشيرته وألقاب الشرف التي ورثها عن أبويه النبيلين، والفرقة التي سلك فيها والرتبة التي تقلدها وقال أخيراً، وأما أنت فإنني أعرفك وإن كنت أود أن أسمع ذلك من شفتيك! 3
فأجابت شيلا سوريل. .
قال: أنه لأبدع أسماء فتيات العالم، وأجمل ألقاب عذارى الأرض وأنه ليلائمك ويناسبك أشد المناسبة والملاءمة ولكني لا أعرف هل لك عشيرة أم فقدت الأهل!
قالت شيلا: فقدتهم. فقد مات أبوي العام الماضي.
قال: إذن فأنت هنا وحيدة؟ فأومأت برأسها
قأل: أمر عجيب وكذلك أنا فقدت أهلي في العام الماضي ولكن لا ريب في أن المقام بهذا الفندق محزن أليم لك. إن أهله على خشونة لا تطاق.
فأومأت إيماءة أخرى، واسترسل وهو يقول: وأنا أيضاً ليست لي عشيرة، بضع أعمام وأبناء أعمام، وعمات وخالات، وأولئك لا يعدون عشيرة، أليس كذلك.
قالت: بلى.
فسرح لزلي البصر نحو البحر وراح يقول: إن فتى مثلي ليشعر بالوحدة الأليمة ولا أعلم السبب، ولكطن لعلني أريد أن أكون مفهوماً لدى الناس، وأنا لم يفهمني أحد في حياتي.
قالت شيلا: ولا أنا، لم أكن يوماً مفهومة من أحد.
وتولاهما معاً إذا ذاك الحزن أنهما لم يكونا مفهومين لدى الناس ولم يعرفا الصفات التي جعلت كلاً منهما يطلب أن يكون مفهوماً ولكن السبب ظاهر جلي.
قال لزلي: استمعي إلي فقد فكرت ملياً في هذا الأمر، ولكني لم أهتد إلى شيء.
وكان الفتى صادقاً فيما قال، وقالت شيلا أنها كذلك لم تكتشف السر من ناحيتها.
والعزلة أشد الحالات النفسية اهتياجاً للعواطف وإثارة للوجدان، ولذلك لا غرو أن تقول أن الفتى الذي يلتقي بالفتاة ويقنعان بعضهما البعض بأنهما وحيدان منفردان لا يفهمهما العالم، ولا ينيان يتحاضنان ويقع أحدهما في ذراعي صاحبه للتو والساعة.
وكانت شيلا لم تعرف من قبل الهبوط في أحضان إنسان آخر، اللهم إلا أبويها ولكن كانت الطبيعة تثير إذ ذاك فؤادها عواملها ونزعاتها ولذلك استسلمت وهي لا تكاد تدرك السر إلى(45/34)
وحي نفسها إذ تقول أن الضمة التي لم تبعث عليها القرابة وأواصر الدم والعشيرة لا تستحق أن تطرح، بل خليقة بالنوال والرضا، ولما كانت الفتاة مخلصة الطبيعة، نقية الغريزة، لم تر أية ضرورة للتردد والدلال والنفور إذ كان أمامها فتى عذب جميل كان مثلها يطلب السعادة والمراح فلا يجدهما، فتى وحيد حزين معتزل لا يود لو أن الناس فهموه، ولذلك كانت هذه الفرصة قاطعة والنتيجة بينة ظاهرة.
فما عتمت إذ ذاك أن وضعت في ذلك السكون يدها في يده علامة الود وشارة الصداقة.
وتنهد ليزلي وزفر، وقال: تالله لا أعلم السر ولكنني أعتقد أننا نستطيع أن يفهم كلانا الآخر.
وفي ذلك المساء بعينه التقيا مرة أخرى، ومشيا عن تراض واتفاق إلى الخمائل المعتزلة في بستان الفندق، وهناك اقتعدا مجلسين، مستندين إلى جذع سرحة عظيمة ولأن الحب نفذ إلى قلبيهما أشرق القمر، وبسط أشعته اللؤلؤية فوق أديم البحر وتغنت الرياح بغناء غرامي عذب، في أضعاف الفنان المشرقة فوق رأسيهما.
قال لزلي: وقد أدرك أن الشعراء لم يكونوا قوماً حمقى كما كان يظن. يا للذة والعزوبة الفاتنة. يخيل إلي أنني قد أصبحت مفهوماً آخر الأمر.
وهمست شيلا قائلة: وأنا كذلك تقريباً.
وإذا كانت شيلا رأت في عالم التصور والخيال أن هبوطها في أحضان رجل لذة لا حد لها، فلم تكن مع ذلك تدرك أولاً مقدار تلك اللذة، إذ تنفذ وتحقق، وتخرج إلى حيز الفعل، فما عتمت إذ ذاك أن أغمضت جفنيها الواسعين وتنفست من شدة العذوبة واللذة.
وزفر لزلي كذلك وتبين أن خير دواء للزفرات أن يعيد التجربة فأخذها بين ذراعية مرة أخرى.
وما أوسع المعرفة التي تنال من وراء القبلات، إذ لا يلبث الإنسان أن يدرك أنه لا بد من إعادة التقبيل، ولا يكاد المرء يطبع القبلة فوق الخد الأسيل حتى يشعر بأن لا قبل له بإمساك نفسه عن طبع أخوات لها وصواحب، وكذلك كان الحال مع شيلا ولزلي فقد وجدا من التحاضن والعناق لذة لا يستطيعان على السكوت عنها صبراًُ، لذة لا يمكن أن توصف بألفاظ، بل تكرر بمثلها وتعاد.(45/35)
وصعدت شيلا إلى الفندق على جناح المصعد وتلهف لزلي وقد تركها عند بابه من غيابها، فجعل يأخذ السلالم وثباً ويرمي عدة منها بالوثبات، لكي يلحق بها عند وصولها إلى الطابق ويحلي عينيه منها. قبل أن تأوي إلى المضجع.
قال متوسلاً: متى نتزوج!
قالت: في أقرب وقت من فضلك!
فكانت تلك الألفاظ دليلاً على أنهما صغيران ساذجان مفعمان حباً وحمية وإحساساً.
وكان الزواج عسكرياً والعرس جندياً، وتم بعد أسبوعين من اللقاء الأول، وإن كان كل منهما قد أحس أنه عهد طويل، وفرصة بعيدة، وأنه لا يكاد الإنسان يصل إليه، ولكن أعان لزلي على التسلي والتلهي عن آلام هذا الطول واجباته العسكرية. ووجدت شيلا من الطواف بالحوانيت استعداداً لأثواب الزفاف، ما خفف من عذاب تلك المدة.
، اقيمت بعد حفلة الإكليل مأدبة، واي مأدبة. . إذ كان الجو كله مفعماً بالتهاني، والضحكات، وأصوات فدام الزجاجات، وقناني الشراب، والهتاف والتصفيقات وفي كل مكان وجوه ناضرة مستبشرة، وأيد متصافحة متلازمة، ورقص وغناء.
وحان الموعد، وأزف الوقت، وانطلقت سيارة بالعروسين إلى شهر العسل.
وكان الفندق الذي بلغت إليه السيارة نزلاً سماوياً رائعاً بهيجاً، وجلسا إلى العشاء فوق مائدة صغيرة تطل على ساحل البحر، وجعلا يتساءلان هل أدرك الناس الذين حولهما أنهما عروسان جديدان، وزوجان لم تمض الليلة الأولى على زفافهما، وراحا ينظران إلى بعضهما البعض في أشد الخجل، ممتزجاً بأشد السرور وخانتهما الألفاظ، وتحيرت الكلم في الشفاه فلم يستطيعا من الخجل كلاماً.
فلما فرغا من العشاء تسللا تحت الأشجار اليانعة والأفنان الدانية، وفوق الروابي الشاهقة، ولم يلبثا أن طلعت النجوم ونهض القمر في صفحة السماء وأصبح العالم في ذمة الليل، وتلقى الظلام عهد الأرض، فأعادا الطوفة، وهما لا يشعران وكررا الجولة عن رضا صامت وهما لا يدريان، فما كادا يبلغان النقطة التي ابتدأ التطواف منها، حتى أدركهما التعب وبان في حديثهما، وتجلى في الألفاظ، فضمها إذ ذاك إلى صدره وانزوت في أحضانه، وحيتهما الأضواء الساطعة في النوافذ وتلقتهما الحجرة التي أعدت للعروسين(45/36)
بفرح وزهو.
وفي جلسة الفطور غداة الغد كان وجه شيلا مشرقاً بجمال عجيب لم يكن له من قبل حتى لم يستطع لزلي أن يمتلك جأشه فأمسك بيدها واجتذبها إلى صدره فأسقطت حركته تلك فنجان القهوة فوق الثوب الجميل الذي كان تشتمل به فجرت شيلا إلى الحجرة لتغييره وعدا هو في أثرها لمساعدتها ولم يكن بين العروسين عتاب ولم تحدث ملامة، بل جعل يكرر إنه أمر عجيب، إنه لأمر عجيب.
ولكن هذا العجب لم يذهب يومذاك بل مضى أياماً وظهر سره بعد أيام العسل، وجاءت الأحداث بما كان له شارحاً مبيناً.
واستأجر لزلي بيتاً صغيراً لفتاته فوق الرابية، وجعل على ختام عمله ينطلق إليها مسرعاً متعجلاً، يكاد يصل إليها على جناح البرق.
وفتن فؤاد شيلا أنها أصبحت سيدة بيت وربة أسرة، وحسبا أن الحرب خير ما يبتغى، وحمدا لها الفرصة التي جمعت بينهما ولم يذكرا بلاءها ونكباتها ولم يجدا فيها سوءاً ولا شراً.
ولعل الحرب غضبت إذ رأت منهما هذا الاستخفاف، واستنفرتها هذه السخرية فأرادت أن تعلن لهما عن خطورتها وهولها فأوعزت إلى وزارتها أن تأمر الفرقة التي فيها الضابط لزلي بأن تخف الرحال إلى المشرق.
فذهب لزلي برأس مذهول وذهن مشتت، وقلب واجف، يحمل إلى زوجه هذه أنباء، فبكت من كل أعشار فؤادها، وتشبث الزوجان بنحرهما وأنساهما هذا أحزانهما شأن العشاق والأحباب.
وأعطى لزلي صورته الشمسية إلى شيلا. ووهبته هي صورتها. وكتب هو في ذيل صورته ما أملى عليه الحب، وخطت هي تحت صورتها ما أوحى إليها الفؤاد وفي ليلة ضربت للفراق وكان غداها طالعاً بالبين تعانقا أشد العناق، ولم يتكلما كلمة واحدة، وخرير أمواه البحر يضج عن كثب. والرياح تئن والمطر يعول ويتنفس فوق النافذة.
بين جموع القواد والضباط، وعلى صفير القاطرات، وزحام الأفاريز، اجتذب الفتى لزلي زوجة جذبة الوداع الأخير.(45/37)
وبكى الزوجان وشكرا الله أن أنعم عليهما بنعمة الدموع، وأرسل عيونهما تسح أحزانهما سحاً، وعلى مقربة منهما وقف ذلك القائد المشرف على الفرقة، يودع امرأة دميمة، وكثيرون آخرون وقفوا يخفون وجوههم وراء الصحف وقطع الجرائد وقد علمت الحرب الجميع أمانة الدموع، وإخلاص العبرات.
وقال لزلي وهو يختنق: إلهي. . أواه. . يا عزيزتي.
وقالت شيلا: لا تذهب. .! لا تدعني.
ولكن لم يلبث أن ارتفع صفير القطار. وبدأت القاطرة تتحرك وفي لحظة انطلق وعادت شيلا فارغة الفؤاد مسرعة إلى المحطة. وحيدة مرة أخرى!
وهاهي الطفلة قد أكلت من قطعة الحلوى، ثم قطعت عنها الآن وحرمت من طعامها. .!
وعادت شيلا عن ذلك الفرح العظيم الذي كانت تنعم به إلى عذاب الوحدة وغمة العز، وآلام الاكتئاب، ورأت صواحبها الفتيات في شغل بعواطفهن وآلامهن عن مؤاساتها، فأحست بثقل الألم وحدها.
فلما اضجعت في السرير الذي كان قد وسع بدنين وضم جسمين، أدركت أثر الوحدة، وجعلت تسائل النفس حزينة ماذا كان من القدر ومنها، ولم تجد في تلك الألفاظ التي قيلت لها، وهي دواعي الخدمة وأوامر الحرب، شفيعاً لظلمها ومعاذير للأسى الذي نالها.
كان ليزلي بطبيعته الجندية، رجلاً لا يجيد التراسل، ولا يعتمد على بلاغة البيان في إنشاء الرسائل ولم يكن أديباً ولم تكن صنعته الأدب والبديع، وقد كتب إليها كثيراً، ولم يتأخر ولم يهمل، ولكنه لم يصب شيئاً من فن الإبداع، ولم تكن له مقدرة على أن يرسم شخصيته والعواطف الثائرة في صدره فوق الورق.
وأخذت شيلا الحنين إليه، وتطلعت روحها إلى رؤية روحه في رسائله، فلم تجد أثراً وجعل الحنين يزداد كلما انصرمت الأسابيع وأصبحت أشهراً.
ولم تكن المدة التي لبثاها معاً في جناب الحب وعهد الزواج تزيد عن ستة أسابيع وكانا فيها في أحضان كل منهما وكانا قريبين متلاصقين فلم يستطع كل منهما أن يدرك أسرار نفس صاحبه.
فلم يكد يحول الحول على الفراق، حتى فقد لديها شخصيته، وأصبح ذكرى مرتبكة حلوة(45/38)
معاً، وطيفاً جميلاً تحوطه الحجب، وكان الوحي الذي ظهر في حياتهما الصغيرة.
وهنا تقوم المسألة، وينهض السؤال يطلب البحث، وهو هل العواطف التي نحسها في أعماقنا من ناحية إنسان تحدث من ذاته وشخصيته، أو من التأثيرات التي يحدثها هذا الشخص، رجلاً أم امرأة، فإذا كان الأمر الثاني، أفلا يجوز أن ينهض إنسان آخر من حجب الأقدار يستطيع أن يحدث هذه التأثيرات بعينها يظفر بعواطفنا التي ظفر بها الأول.
على أن شيلا لم تفكر في هذا الأمر، ولم يخطر على بالها ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أنها في ذلك الوقت كانت تحن إلى اللذة والبهجة لا إلى الشخص الذي كان يحدثها ولئن كان الرجل هو الذي وهبها تلك اللذة، فإن اللذة كانت أقوى في نفسها أثراً واشد حيوية من واهبها، وإذا كانت اليوم تبكي ليزلي وتطلب أن يرد إليها فإنما كانت في الحقيقة تبكي سعادتها ولذتها الراحلة عنها.
ولم تظهر دلائل على أن ليزلي سيعود إليها، وكانت أصوات الصحراء تحف به، وقلما يجاز للجندي أن يقضي أياماً في المغرب، وعمله لا يزال يناديه في المشرق.
ولعل أشد مآسي الحرب وفواجعها أنها خنقت الحب وأودت به، وهذا هو الجرم الذي يجب أن تؤخذ الحرب به وتعاقب عليه، ويصلى الذين آثارها ويله وجريرته، ولا نظن أن فتاة غفلاً غريرة كشيلا تلك تستطيع أن تتحمل وقع حزنها بلا اعتراف وتصبر على الآلام بلا طلب المؤاسي، والتماس المخفف، وإذا أنت علمت أن اعترافات المصابين في سعادتهم، الذين يعانون آلام الوحدة ومناكد العزلة، لا تصيب في أغلب الأحيان عاطفة الناس الذين يشاركون المعترف في جنسه، فلا غرو ولا عجب أن تكون شيلا قد نفضت هم نفسها وكشفت غمة فؤادها إلى رجل.
على أن قصر المدة التي لبثتها في ظل ليزلي وعدم مقدرتها على أن تدرك نفسيته فيها، لا تزال شفائع لها على أنها اختارت لذات صدرها رجلاً خطيراً مثل جفري ستايتون ذلك الذي خصته باعترافها، وركنت إليه واعتمدت على مؤاساته.
وفي العالم فكرة شائعة لعلها انتشرت بفضل كتاب الروايات والقصيين وهي أن الرجل الذي يغتصب ظلماً وعدواناً زوجة رجل آخر ليس إلا رجلاً مجرماً شريراً مشهود له بذلك، وهو في الكتب معروف، بتبيينه في التو واللحظة، بلهجته المخادعة وهيئته الخلابة،(45/39)
وملاحة حديثه وحلاوة محضره، وفيض ألفاظه، وقارئ الروايات لا يلبث أن يدرك في لحظة واحدة أنه إزاء رجل ينشر الإثم، ويعيث في الأرض بغياً وفساداً، ولكنه عند كاتب الرواية ليس إلا رجلاً طيباً وشخصيته حلوة في عرض روايته، ولكن واآسفاه، أن هذا الرجل المخادع في الحياة الحقيقية، بعيداً عن الحياة الروائية وعالم القصص، ليس من هذا الضرب، ولا يشبه هذه الصورة، وإلا لو كان ذلك كذلك لاستطاع رجل من دعاة الآداب والمهيمنين على أخلاق الأمم والناصبين أنفسهم حكاماً على الفضيلة وأنصاراً لها، أن يعين رجلاً من رجاله ليمشي أمام هذا الإنسان المخيف بعلم أحمر حتى يحترز العذارى من شره، وتفتح الفتيات والسيدات أعينهن فلا يقعن في أشراكه.
إن هذا الإنسان الذي يخشاه الناس ويختصونه بمقتهم لا يزال كسائر الناس، وهو مثلنا جميعاً وهو رجل خير من أكرم خلق الله، وهو إنسان مقبول محبب نعرفه جميعاً ونحبه ونمد إليه يد الود، وتهتز قلوبنا فرحاً بعناقه وتخفق أفئدتنا ابتهاجاً إذ تلتقي بخفقان فؤاده، وليس له إلا هفوة صغيرة، ولا عيب فيه إلا ضعف واحد، ولكنه لم يحدث ذلك الضعف، ولم يلتمس تلك الهفوة، ولم يبتكرها لنفسه ابتكاراً، ولا يبين سوء القصد في عينيه، ولا تنم معارف وجهه عن فساد نيته بل كل ما يعيبه أنه مفرط العاطفة، بعيد مدى الفتون، مستسلم إلى شهوة نفسه، تارك مقادته إلى وجدانه، فهو يحس آلام الناس، ويألم لها أشد الألم، ويصيب من هموم غيره أحدُّ العذاب، وأشد الأسى، فإذا أراد أن يخفف منها ويؤاسي صاحبها، ويزيل عنه آلامه أغفل كثيراً من الاعتبارات، لا تبلغ في أهميتها خطورة ذلك الأسى الذي يحاول أن يبدده عن ذلك القلب الكبير.
وكان جفري ستايتون هذا مستجمعاً كل صفات الرجل التام، وكان على جميع ما يحب الناس أن يكون عليه الرجل، فقد كان شهماً تضطرم في جوانحه عواطف الفروسية وكان حيياً ناصع صفحة لاقلب وكان رقيق الجانحة لا يبلغ قلب من القلوب الإنسانية حد عطفه ومدى رفقه وحنانه، وكان مؤمناً مستمسكاً بعقائده الدينية وكان مؤدباً ما شئت من حسن أدب، طيب اللقاء ما شئت من كرم عنصر، وكان من فرط أدبه يتلعثم إذا تحدث إلى الغرباء عنه، ويتعثر في النطق إذا جلس إلى رجل لم يلتق به من قبل وكان يحن إلى الحرب والاشتمال ببردة الجندي والرحيل إلى ميدان القتال ولكن الأطباء إذ فحصوه هزوا(45/40)
رؤوسهم وقالوا أنه لا يليق لخوض غمراتها لأن له قلباً ضعيفاً وكانوا في حكمهم على حق.
ففي بعض مجالسه ونزهاته التقى بشيلا سوريل، فوجد كل في صاحبه ناحية يشبهه منها، وألفيا أنهما متماثلان من عدة وجوه.
وأشد ما فتنها منه لأول وهلة تلعثمه وفرط حيائه، ورأت في تعثر منطقه دلائل رجل حيي طيب القلب جبان الفؤاد فلم يلبثا بعد دهر قصير أن مال كل بنفسه إلى صاحبه، ورأت أنها مسارعة إلى الإفضاء بأسرار همومها إليه والتحدث أمامه عن آلامها وأحزانها.
فلم يكن منها إلا أن قال وهو يتلعثم، ليتني أستطيع أن أؤدي لك أمراً ولكن شيلا هزت برأسها. فكانت هزتها المحركة له إلى العمل المهتاجة في نفسه بواعث الاحتيال على تخفيف أساها.
وانطلق ودهما مسرعاً، ومضى الولاء بينهما يعدو ويستبق، حتى أصبحا على ممر الأيام صديقين حميمين، وكان رثاء كل لرفيقه عظيماً، وراج جفري يحدثها عن ليزلي كثيراً ويتكلم أمامها عنه، وهو في أكرم لهجة، وأرفق حديث، بلا نية في إساءته، ولا قصد إلى غيبته أو سعي إلى فساد ولكنه مع ذلك كان يحاول عبثاً أن يقنع نفسه بأن هذا الزوج الغائب خليق بمثل هذه العروس ورأى جلياً أن ليس في الدنيا كلها رجلاً يستطيع أن يسبغ عليها السعادة التي تستحقها والهناء الواجب لها، ولكنه لم يفه بكلمة واحدة عن هذه العقيدة، ولم ينطق ببنت شفة عن ذلك أمامها، إذ تأبت عليه فروسيته أن يدع لشفتيه حق التلفظ بها، وأنكرت عليه الشهامة أن يبوح بما يكنه صدره، فذا عسعس الليل، واضطجع في فراشه، لم تغمض عينيه، وباتت نفسه رهينة عوامل كثيرة، ومضت روحه تستعيد آلام تلك الفتاة وسوء حظها، ولعله في تلك الظلمة قد دعا الله دعوة أو دعوتين، وانطلقت شفته تتمتم ضراعة أو ضراعتين، لأنه كان رجلاً مخلصاً لربه الدين، مؤمناً عميق الإيمان.
وكانت صداقته لها على أتم الحزم، وكانا صديقين، ولا شيء أكثر من ذلك، والطبيعة هي الملوم، والذنب ذنبها، ولا أصر عليهما ولا عتب ولا ذنب، إذا تعدت صداقتهما بعد ذلك حدود المودة فخطت متقدمة إلى عاطفة أخرى هي الحب!
وقد اعتادا أن يطوفا طوفة صغيرة تحت ضياء الأنجم الزهر، إذ يتكلمان عن أمور تافهة وسخافات بذلك الوقار وذلك الجد الذي تقال به عظائم الأمور وأعقل الأحاديث، وقد تخرج(45/41)
من شفتيها على رغم من إرادتها لفظة اسمه بلا تكلف ولا احتشام ولا تسويد، وهي واقفة بباب دارها بعد طوفة المساء، ومادة يدها إليه بتوديعة الليل، فيبتسم ابتسامة صغيرة ممتزجة بالأسى، وينطلق مطرق الرأسي في صمت مفكراً في طريقه إلى داره.
ولكن ذات ليلة أخذ برأسه جنون عظيم، فبدلاً من أن يشد يدها في حرارة التوديع، كما هي عادته في ختام المطاف كل ليلة، همس إليها بلا لفظ مسموع، ولا صوت يصل إلى الأذن، بل بإشارة صامتة وشفة مقفلة، وفم مستطيل، يطلب قبلة. .!
فجرت شيلا إلى البيت وأقفلت وراءها الباب بعجلة مرعبة، ولم يثب إليها رشدها إلا وهي واقفة في بهو الدار مختنقة الأنفاس من غير ما تعب ولا لغو من عدو أو جري ولأنها تذكرت إذ ذاك أنها كانت مصعدة الأنفاس كذلك يوم ألفت نفسها في أحضان ليزلي وبين ذراعيه، عجبت وأخذتها الدهشة وراحت تسائل النفس حيرة أية قوة مجهولة جعلتها إذ ذاك تشعر بما شعرت به من قبل، لقد كانت الزفرات نفسها الزفرات تلك، ولكنها لم تكن واحدة. . فقد أحست اليوم أن السعادة على منال يدها ولكن هيهات أن تصل يدها إليها. .
وأبصرت فوق المتكأ خطاباً من ليزلي وقد كتب إليها على سبيل تخفيف آلامها وإرسال السكينة إلى فؤادها يقول أنه على خير حال لأن الرجل لا يكتب كثيراً عن الآلام التي يسعر بها في الفراق وعلى شط النوى إلا خلال الأشهر الثلاثة الأولى، وبد ذلك يصبح ظلاً فقط أو طيفاً في ذهن قارئ رسالاته، لأنه يأخذ إذ ذاك في تخفيف لهجة الحزن في صحائفه، وقد يكون حينذاك في أشد آلام النفس، وقد يكون رهن عذاب لا يطاق. ولكن تأبى عليه مشاعره إلا أن يرسل برد السكينة إلى حبيبه أو وليه أو أليف نفسه.، فيخطئ في أغلب الأحيان ويحدث هفوة قد يرى مغبتها في المستقبل.
فلما تناولت شيلا ذالك الكتاب بيدها وفي نفسها تلك العوامل التي أثارها ذلك الحادث لم تجده إلا بارداً ولم تر سطوره إلا قسوة وخشونة وإحساساً ميتاً، وقام ذلك أمامها دليلاً على أنه قد نسيها والتمس منها السلوى، واشتف كأس التلهي حتى الثمالة ليخفف ذكراها من فؤاده.
وكانت شيلا لم تدع منذ أيام السبيل لشؤونها وعبراتها، فذا بكت يوماً من أيام البين فقد كانت تمكث الساعات الطوال ودمعها يسح بلا انقطاع ولا حاجز يرده، فجعلت الآن تبكي(45/42)
ثم تكفكف عبراتها المهراقة هوناً، وتحملق البصر في صورة ليزلي وهي بين يديها وتحاول أن تعيد ذكراه في فؤادها، وتجدد الأثر الذي كان له في جوانحها، ولكنها واآسفاه لم تفلح في ما قصدت إليه فإنه بدا لعينيها أثراً تافهاً ضئيلاً في تلك الصورة لا يوحي شيئاً من عهود تلك الأيام التي قضتها في أحضانه.
ومضت شيلا إلى منامتها في حيرة شديدة وأسى بليغ وأمضها النوم ونبا بها المضجع، ولبثت ليلتها على أشد المضض والألم، ونهضت في الصباح مدعوكة مصدعة الرأس مريضة.
وعادها جفري ضحى، فلما نبأته الخادمة نبأ سيدتها، فزع وارتعب وهرع إلى الصيدلية فابتاع عدة من الأشافي الصالحة للصداع، ومر ببائعة الزهر فاقتنى من باقتها أجمل الباقات، وعاج على الفاكهي فاشترى أنضر ما حلا من فاكهته وعذب من ثماره، وجاء من جميع ذلك بما يكفي مائدة حفل عظيم من المدعوين، فدفع به إلى الخادم، لتضعه على عين سيدتها ومستشرف ناظريها، وجعل يعاود الدار مستفسراً عن صحتها ثلاث مرات في وقت وجيز.
على أن شيلا لم تلبث أن شفيت بسرعة عجيبة، وما كاد يقبل المساء حتى رأتهما الرابية يمشيان في دروبها، ويبتنزهان في مجاريها ومنافسها، وبعد أن حمد جفري على مسمعها القوة التي لها الفضل في شفائها، وهي قوة الرحمن في السموات، أفاض يؤنب نفسه ويتلوم ويعتب فؤاده، ويرسل التعنيف أثر التعنيف، ويطلب المغفرة، ويسأل الصفح، وإذا نحن أردنا أن نختصر حديث ساعتين كاملتين فنخرج منه عناصره فقد ولبه وصميمه، فما كنا واجدين إلا عبارات قصيرة لا تزيد عن هذه: إنني لوحش ضارٍ. . يا لحماقتي، لقد كنت قاسياً لعيناً. .
وجواب الفتاة على ذلك: كان ينبغي أن لا تسألني ذاك الذي سألت. إني أعرف أنك لم تستطع أن تتمالك نفسك ولكن لم يكن ينبغي. . ثم العبارة الآتية منه. . . لقد كان ينبغي أن أضرب بالرصاص وأستهدف لقذائف البنادق تكفيراً لهذا الذنب العظيم.
ولكنهما مع ذلك لم يكادا يصلا إلى باب الحديقة حيث التوديع. حتى لبث جفري في مكانه لا يتحرك. . ووقفت هي لا تمد له يدها كعادتها.(45/43)
وقال: عمي مساءً وقالت: عم مساءً ولكنهما مع ذلك ظلا واقفين لا يفترقان.
ولم يشعر بغتة إلا وقد وجد أن ما كان بالأمس يسأله كمنحة وهدية وعطاء قد انتهبه الآن اقتساراً وعنفاً واغتصاباً.
وقالت شيلا وهي تتململ وتلوي رأسها وتتخلص من يديه (كلا، كلا) وسقطت القبلة فوق كتفها وشعرها الجميل، ولم تمس الخد الأسيل.
وإذ ذاك - على ضوء القمر، وهو الذي يحعل الناس أشرارً، كما يجعلهم أخياراً، وقفا ينظر كل إلى صاحبه.
وقال جفري في صوت لم يكن به أثر من صوته العادي، بل في صوت مضطرب جديد، لا نستطيع أن نفترق الآن على هذه الحال.
فهزت شيلا رأسها، ولعلها كانت إطراقة نفي، أو هزة إيجاب، لأنها تحتملها معاً، وهمس الضمير في أذن جفري أن ينثني إلى داره وينهي هذا الموطن بكتابة خطاب مستطيل يشرح قضيته.
فمضى في سبيله ووقفت هي ترقبه ويدها فوق قلبها الخافق.
وكتب جفري رسالته، وللحب منطق على هواه الخاص به لا يمشي مع المنطق الآخر ولئن كانت ذنوب غيرنا تحوزننا أشد الحزن وتفت أكبادنا، فإن ذنوبنا لا تزال تجد من الظروف التي تحوطها مبرراً لها وشفيعاً، فإذا كان جفري قد سألها في رسالته أن تفر معه وتأوي في رفقته إلى فندق في أبعد بلاد الله، فقد كان يحس إذ ذاك أنه لم يرد بذلك أمراً حقاً عدلاً لا جور فيه ولا عسف فقط، بل فعلاً شريفاً نبيلاً سامياً محموداً، وإذا كانت السخرية من شرائع الناس والتغلب على الرسوم المقررة في العالم تتطلب التضحية فقد أعد نفسه لها، وتهيأ لبذلها، لعل في تضحيته جميع أمره رداً للسعادة التي فقدتها، وأقنعها في آخر الأمر في رسالته بأن الله ولا ريب سيبارك ارتباطهما ويشد عراه وأردف الرسالة بالحشية الآتية: وسأطلب إجازة من عملي وأنتظر قدومك إلى فندق. . . وستكون السيارة واقفة ببابك بعد حسوة الشاي في المساء ذ يحسن أن لا نلتقي قبل الرحيل أو نصطحب في السفر. ليباركك الله. نحن نؤدي أمراً حقاً.
وتلقت شيلا الكتاب وهي في شربة الشاي في الصباح فقرأته بعين محملقة وأنفاس مترددة(45/44)
وزفير وأنين وألق به بعد تلاوته تحت الوسادة، وأخفت نفسها وراء أغطية الفراش، وتحت اللحاف كان بصيص من النور من أثر انعكاس ضياء الشمس وعلى البصيص راحت تقرأ الكتاب مرة أخرى، وكلما قرأت سطراً ذرفت فوقه عبرة سخينة، وهمست تقول لنفسها، لن أذهب بلا ريب. لن أذهب. لن يغريني أمر في الدنيا وإن عز وغلا، بالذهاب، وآلمها صوتها إذ فاهت بتلك الكلمات.
وجيء إليها بطعام الإفطار فرفضته وتوقعت أن تسمع من وصيفتها فاني شيئاً من كلمات المواساة على أن الخادمة لم تفعل شيئاً من ذلك ولكنها قدمت إلى سيدتها طلباً أن تعفيها من خدمتها فراع الطلب فؤاد شيلا فاحت في وجهها كلا، كلا إنك لا تجدين في هذا الطلب، فأجابت الخادمة وفي قولها لهجة العزيمة الصارمة: إني منصرفة إلى عمل آخر لأني لا أستطيع احتمال المقام في بيت لا رجل فيه فزادت هذه العهبارة من التثير المضطرن في جوانح شيلا ووجدانها.
ومشت شيلا إلى شاطيء البحر، وكان الربيع في كل مكان يتفتح عن جماله والفتان ويرسل أنفاس الحب في أفئدة الشباب، ويهب بعلائله ونسائمه على القلوب النقية النضرة وكأنما يخيل إلى شيلا أن الريح تعزف قائلة إلى السعادة، إلى السعادة. وتحمل إلى أذنها كلمة الخادمة. . لا أستطيع احتمال العيس في بيت لا رجل فيه. .
وأخرجت كتاب جفري مراراً فأعادت تلاوته، ولكنها في هذه المرة لم تهز رأسها كما هوتها من قبل.
وعادت إلى الدار فإذا السيارة بالباب، ولم تشعر بعد لحظات إلا والسيارة تقلها منحدرة في الطريق موفضة إلى الموعد، فنسيت كل شيء وراحت تقول لنفسها وهي مستندة إلى وسائد السيارة وزرابيها أريد أن أكون سعيدة مرة أخرى، وسأكونها الآن!
ولكن على الرغم من أنها أعادت هذه العبارة عدة مرات لم تحس بأن الألفاظ صادقة في مسمعها.
بلغ جفري الفندق في الساعة السادسة من المساء، ولا تزال على الموعد المضروب ساعة ارتقاب، ولكنه ألفى الارتقاب أليماً لا يطاق وتصبب العرق من جبينه، وجعل يرسل الطمأنينة في فؤاده ويكرر: إنني أؤدي أمراً حقاً عدلاً لا ظلم فيه.(45/45)
ولفت اضطرابه غير واحد من جلساء الفندق فحاول جفري إخفاء انفعالاته وراء صحيفة التيمس وأطلق بصره يجول في أسطرها وأنهارها، وكانت الصفحة التي أمام عينيه تحتوي قائمة بأسماء الذين فقدوا وضلوا من ضباط الجيش ونهض من بين تلك الأسماء اسم فأخذ عينيه فإذا هو يقرأه الليفتننت ل. . . وتووكر من فرقة الهايلندرز قتل في الميدان
فصاح جفي: رباه!
هذا هو الرجل الذي ينتظر هو قدوم زوجته. . . فراح يساءل نفسه هل علمت شيلا بأمر هذا النبأ فإذات لم تكن علمت به وجاءت وهي لا تدري فماذا لعمري هو صانع.
هنا وثبت في فؤاد جفري شهامته وقامت عواطف الفروسية وعوامل الرقة والعطف فوقفت في وجهه، فرأى أن الخطة التي اختطها والنية التي رسمها والحياة التي أعدها يجب أن تلغى وتنسخ وتزول من ذاكرته، فإن سرقته زوجة رجل حي على قيد الحياة، واستلابه من زوج يمشي في مناكب الدنيا امرأته شيء، وسرقته الموتى واستلابهم زوجاتهم شيء آخر، ولئن كان هذا المنطق ضعيفاً غير راجح في بعض نواحيه، إذ كان الموتى قد أصبحوا في نجوة عن شؤون الأرض، بعيدين عن هماهم العاجلة، فلا ريب في أن عواطف المستلب تثور فيه وضميره يأخذ باللائمة، إذا كانت له عاطفة أو أحس بين جوانحه ضميراً.
لذلك أجمع جفري نيته على أن ينزع حبه من فؤاده نزعاً.
ولكنه شعر بغتة بأنه لن تطاوعه قواه ولن يجد له جلداً على أن يخبر شيلا بنباً موت زوجها، وبينا هو على هذه الحال من الحيرة والذهول، وقفت سيارة بالفندق وبانت شيلا على عتبتها حيرى مترددة جازعة.
فنهض جفري ودنا منها وبلا كلمة ولا لفظة مشى بها إلى البهو وصاح بسائق السيارة: انتظر!
ودلف إليها فهمس في أذنها: إذن فقد جئت. .
قالت وهي تتلعثم: أجل. . لقد. . جئت!
قال: إذن فلتعودي أدراجك. . فقد كنا على باطل، وكنا نجري إلى إثم، وكنا قادمين على حماقة وطيش وأنا الملوم وحدي وأنا الذي أستحق التعنيف واسوأتا. . على أين كانت نسيتنا ستسوق بنا. .(45/46)
قالت شيلا: إني أعرف ذلك!
فأجاب: إذن اذهبي واحمدي الله أننا عرفنا قبل أن نقول لات حين معرفة!
وكان الظلام قد هجم إذ وقفت السيارة بالشارع الملم على دار شيلا، وكانت من اضطرابها قد نسيت المفتاح قبل الذهاب فلبثت تدق الجرس ولم تجد جواباً سريعاً على دقاتها، إذ كانت الخادمة قد أوت منذ ساعات إلى فراشها وهوت إلى نوم طيب عميق.
فدقت شيلا مرة أخرى وقد سمعت صثوت سيارة تدنو من الباب وفي الحال سمعت صوتاً يناديها باسمها العادي، وأحست بعد لحظة بيدين تطوقانها، وبقبلات عنيفة متلاصقة فوق خدها، قبلات عظيمة فيها كل حرارة الحب. بل قبلات لا تصدر إلا عن فم واحد عرفته وخبرت تقبيله!!
وفتح إذ ذاك الباب، ودخل الزوجان البهو وورائهما الحوذي يحملالمتاع.
وقالت شيلا تخاطب الخادم وقد نهضت من نومها مذعورة، أنه قد عاد،، إن زوجي قد عاد!
فلما احتوتهما حجرة الاستقبال، هبط كل في أحضان زوجه وتعانقا واستعبرا، وانهلت الدموع من المحاجر وزفر ليزلي يقول: ألا ترين هذا اللقاء الفجائي عظيماً ما كنت وحبك أريد أن أفسد هذه اللذة الكبرى بإنبائك قبل الوصول بقدومي، وكما كنت أرضى بالعالم كله بديلاً عن هذه البغتة الحلوة المعسولة. إني لم أحس من قبل إحساسي اليوم. ولم أشعر بسعادة كهذه في حياتي. أواه يا زوجتي،، هل افتقدتني في هذا العهد المتطاول، وهل استوحشت البين؟
قالت شيلا: كل الوحشة. . وأمسكت ولم تتم إذ علمت الآن الفرق بين قطعة الحلوى وقطعة الفحم.
وكان القضاء الإلهي قد رسم أن يكون القتيل لورنس وتووكر، ابن عم ليزلي، فتشابه الاسم على جفري ستايتون، وتلك قسوة من الأقدار، ولكنها أرادت باستئثار لورنس دون ليزلي، حكمة كبرى وصلاحاً وخيراً.
هنا بقيت نقطة واحدة استعصى حلها، وهي معرفة الشعور الحقيقي الذي وثب في فؤاد جفري إذ علم بنبأ رجعة الميت، وبعث القتيل.
أترى ذلك الشاب المفعم الفؤاد بالرفق والنبل والخير أحس البهجة العظيمة إذ علم أنه(45/47)
بتنازله عن تلك الفتاة الصغيرة المعتزلة المحزونة خشوعاً أمام اسم زوجها في سجل الموتى، إنما ردها إلى سرير العرس مرة أخرى نقية طاهرة الذيل كما كانت من قبل، أم تراه حزن وابتأس وبكى أمر البكاء. .
هذه مسألة تحتاج إلى عقل شاعر عظيم مثل بوكاسيو
فهل لكتابنا وشعرائنا وأهل الوجدان الحساس بيننا من يتناول هذه الفكرة بالتحليل، ويجيء فيها بالقول الفصل؟.(45/48)
مطالعات
شعر الملوك
لكثير من الملوك والأمراء والأشراف ومن إليهم من ذوي الرآسة والسلطان شعر مختار ينماز عن سائر الشعراء برقته وهلهلته وليونته لأن كل ما يحف بهم من الترف والنعيم والرخاء لا يبعثهم على أن ينهجوا مناهج غيرهم من الشعراء وأن يفتنوا في الشعر افتتانهم وأن يحسنوا في سائر ضروبه إحسانهم
ولله صاحب الأغاني إذ يقول عن أمير المؤمنين عبد الله بن المعتز الخليفة العباسي الشاعر المشهور - وهو الشاعر بحق على الإطلاق من بين الملوك الشعراء - وهذه الكلمة - كلمة الأغاني - من أروع كلماته وقد دافع فيها عن ابن المعتز أحسن دفاع، وهي وحدها صفحة من أبدع صفحات الأدب، قال: وشعره أي ابن المعتز وإن كان فيه رقة الملوكية وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين فإن فيه أشياء كثيرة تجري في أسلو بالمجيدين ولا تقصر عن مدى السابقين، وأشياء ظريفة من أشعار الملوك في جنس ما هم بسبيله، ليس عليه أن يتشبه فيها بفحول الجاهلية، فليس يمكن واصفاً لصبوح في مجلس شكل ظريف بين ندامى وقيان وعلى ميادين من النور والبنفسج والنرجس ومنضود من أمثال ذلك وفاخر الفرش ومختار الآلات ورقة الخدم أن يعدل عما يجانس ذلك من السلام السبط الرقيق الذي فهمه كل من حضر إلى جعد الكلام ووحشيه، وإلى وصف البيد والمهامة والظبي والظليم والناقة والجمل والديار والقفار والمنازل الخالية المهجورة، ولبا إذا عدل عن ذلك وأحسن قيل له مسيء، وإلا أن يغمط حقه كله إذا أحسن الكثير وتوسط في البعض وقصر في اليسير، ولكن أقواماً أرادوا أن يرفعوا أنفسهم الوضيعة ويشيدوا بذكرهم الخامل ويعلوا أقدارهم الساقطة بالطعن على أهل الفضل والقدح فيهم فلا يزدادون بذلك إلا ضعة ولا يزداد الآخر إلا ارتفاعاً، ألا ترى إلى ابن المعتز قد قتل أسوأ قتلة ودرج فلم يبق له خلف يفرطه ولا عقب يرفع منه وما يزداد بأدبه وشعره وفضله وحسن أخباره وتصرفه في كل فن من العلوم إلا رفعة وعلواً - إلى أن قال: وكان عبد اله حسن العلم بصناعة الموسيقى والكلام على النغم وعللها وله في ذلك وفي غيره من الآداب كتب مشهورة ومراسلات جرت بينه وبين عبيد الله بن عبد الله بن طاهر تدل على فضله وغزارة علمه وأدبه، ولقد قرأت بخط(45/49)
عبيد الله رقعة إلى ابن المعتز وقد بعث إليه برسالة في أنه يجوز ولا ينكر أن يغير الإنسان بعض نغم الغناء القديم ويعدل بها إلى ما يحسن في خلقه ومذهبه وشاوره في ذلك، فكتب إليه عبيد الله: قرأت أيدك الله الرسالة الفاضلة البارعة الموفقة فأنا والله أقرؤها إلى آخرها ثم أعود إلى أولها مبتهجاً وأتأمل وأدعو مبتهلاً وعين الله التي لا تنام عليك وعلى نعمة عندك فإنها علم الله النعمة المعدومة المثيل. ولقد تمثلت وأنا أكرر نظري فيها قول القائل في سيدنا وابن سيدنا عبد الله بن العباس:
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي أربة في القول جداً ولا هزلا
ولا والله ما رأيت جداً في هزل ولا هزلاًَ في جد يشبه هذا الكلام في بلاغته وفصاحته وبيانه وإنارة برهانه وجزالة ألفاظه، ولقد خيل إلي أن لسان جدك العباسي ينقسم أجزاء، لك أعزك الله نصفها والنصف الآخر مقسوم بين أبي جعفر المنصور والمأمون رحمة الله عليهما، ولو أن هذه الرسالة جبهت الإبراهيمين إبراهيم ابن المهدي وإبراهيم بن الموصلي وابنه إسحاق وهم مجتمعون لبهت منها الناظر وأخرس الناطق ولأقروا لك بالفضل في السبق وظهور حجة الصدق ثم كان قولك لهم فرقاً بين الحق والباطل والخطأ والصواب. ووالله ما تأخذ في فن من الفنون إلا برزت فيه تبريز الجواد الرائع. عضد الله الشرف ببقائك وأحيا الأدب بحياتك وجمل الدنيا وأهلها بطول عمرك أهـ.
وإليك شيئاً من مختارات ابن المعتز - يقول - يصف سحابة ممطرة:
باكيةٌ يضحكُ فيها بَرقُها ... موصولةٌ بالأرض مرخاةُ الطُّنبْ
رأيتُ فيها برقها منذ بدا ... كمثل طرفِ العين أو قلبٍ يجبْ
جرت بها ريح الصبا حتى بدا ... منها إلى البرق كأمثال الشُّهبْ
تحسَبهُ طوراً إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعاً يضطربْ
وتارةً تخاله كأنَّه ... سلاسلٌ مفصولةٌ من الذهب.
ويقول في الخط والشكل:
فدونكهُ موشّى نمنمتهُ ... وحاكتهُ الأناملُ أيّ حوك
بشكلٍ يؤمنُ الأشكال فيه ... كأنَّ سطوره أغصانُ شوكِ
وقال:(45/50)
قد أنكرتْ هندٌ مشيباً ... عمًّ رأس واستعرْ
يا هند ما شابَ فتى ... إنما شاب الشعرْ
وقال:
ضعيفةٌ أجفانه ... والقلبُ منه حجرُ
كأنما ألحاظه ... من فعلهِ تعتذرُ
وقال:
ولقد قضت نفسي مآربها ... وقضت غيّاً مرةً ورشدْ
ونهار شيبِ الرأس يوقظ م ... ن قد كان في ليلِ الشبابِ رقدُ
وقال يصف جدولاً:
يمزّقُ ريِّاً جلودَ الثم ... ار إذا مصَّ الثّمار العطَشْ
وكفيلٌ لأشجارها بالحي ... اة إذا ما جرى خلته يرتعشْ
وقال:
وندمانٍ سقيت الراحِ صرفاً ... وأفقُ الصبح مرتفع السُّجوفِ
صَفَتْ وصفتْ زجاجتها عليها ... كمعنى رقَّ في ذهنٍ لطيف
وقال في الصيد
لمَّا تعرَّى أفُق الضَّياء ... مثلُ ابتسام الشفةِ اللّمياءِ
وشمطت ذوائبُ الظّلماء ... وهمَّ نجمُ الليلِ بالإغفاءِ
قدْنا لعين الوحشِ والظباءِ ... زاهيةً محذورةَ اللقاءِ
شائلةً كالعقربِ السمراءِ ... مرهفةً مطلقةَ الأحشاءِ
كمدِّةٍ منْ قلم سوداءِ ... أو هدبةٍ من طرفِ الرداءِ
تجملها أجنحةُ الهواءِ ... تستلبُ الخطو بلا إبطاءِ
تمشّى الأنكبُ في الرّمضاءِ ... أسرعَ من جفنٍ إلى إغضاءِ
ومخطفاً موثّقَ الأعضاء ... خالفها بجلدةٍ بيضاءِ
كأثر الشهابِ في السماء ... ويعرف الزَّجرَ من الدعاءِ
بإذنٍ ساقطةِ الأرجاءِ ... كوردةِ السوسنة الشهلاءِ(45/51)
ذا بُرثنٍ كمنقبٍِ الحذاءِ ... ومقلةٍ قليلة الأقذاءِ
صافيةِ كقطرةِ من ماءِ ... ينساب بين أكمِ الصحراء
مثل انسياب حيةٍ رقطاءِ ... آنس بين السفحِ والفضاءِ
سربَ ظباءٍ رتع الأطلاءِ ... في عازبٍ منوّرٍ خلاءِ
أحوى كبطنِ الحيّة الخضراءِ ... فيه كنقشِ الحيّة الرقشاءِ
كأنّها ضفائرُ الشّمطاءِ ... يصطاد قبل الأَينِ والعناءِ
خمسين لا تَنْقُصُ في الأحصاء(45/52)
مطبوعات
حديث العمدة
أهدى إلينا حضرة صديقنا الأديب الفاضل عبد العزيز ثبري بك عمدة الخيارية إحدى قرى مديرية الدقهلية - كتابة حديث العمدة الذي وضعه أخيراً واستوعب في صفحاته التي تقارب المائتي صفحة جميع ما يجمل بكل عمدة معرفته - وإذ أن هذا الكتاب يكاد يكون منقطع النظير فسنكتب عنه كلمة إضافية في العدد القادم نشرح فيها موضوع الكتاب وقيمته - وهنا نعجل القول بأن جديراً بوزراة الداخلية أن تبادر بأخذ هذا الكتاب وتوزيعه على جميع عمد البلاد والكتاب يباع بعشرة قروش صاغ ويطلب من إدارة البيان ومن حضرة صاحبه المفضال وعنوانه الخيارية دقهلية.(45/53)
العدد 46 - بتاريخ: 1 - 2 - 1919(/)
الإسلام
أنصار الإسلام من كتاب الفرنجة وفلاسفتهم كثيرون، وآخرون منهم تعمقوا في بحث شرائعه وروحه ومبادئه فجاؤوا بما لم يسبقهم إليه أحد، ولكنا ما علمنا فيلسوفاً وفى البحث في الإسلام حقه، وتناول الشريعة المحمدية من جميع وجوهها، وصدع برأي بديع، وجاء بتحليل فلسفي طريف في هذا الدين المتين، مثل الدكتور لتنر الأستاذ المشهور في جامعات إنجلترة، وإنا لننشر اليوم مقاله عن الإسلام، ونحن سعداء أن ظفرنا برجل من الفرنجة مثله ينتصر للإسلام هذا الانتصار الرائع المدهش: قال:
بدأت خبرتي بالإسلام في معهد ديني بالقسطنطينية عام 1854 إذ قرأت القرآن واستظهرت جزءاً عظيماً منه ثم عاشرت طوائف مختلفة من المسلمين. واختلطت بفرق عديدة منهم، وصنوف كثيرة، في تركية والهند وغيرها من بلاد الله، ودرست العربية، وهي لغة كتابهم، ولسان دينهم، ومن ذلك أدركت أن الإنسان لا يستطيع بدون اللغة العربية أن يجتذب قلوب المسلمين، أو يكون له على أذهانهم سلطان، وإن كان هناك شيء آخر لا غناء عنه، وهو العاطفة فإن العاطفة هي مفتاح العلم، والسبيل إلى قلوب الناس، وهي التي ترسل أنفاس الحياة فيما لولاها لكان جثة هامدة وعظاماً بالية ورفاتاً سحيقاً.
وقد كان من وراء فقدان العاطفة أن أساء كثيرون من أساتذة العلم وأقطاب البحث والنظر الحكم على الإسلام، ومنهم السير ويليام موير فقد أدى به فقدان العاطفة إلى الوقوع في أغلاط خطيرة ضد هذا الدين.
إذن فلنتوقع أن يعين هذا البحث الذي نحن بسبيله على تأسيس تلك العاطفة وشد عراها، وتقوية الأخوية العامة التي يجب أن تسود بين الأديان جميعاً.
وفي هذا يقول هربرت سبنسر: على قدر حبنا الحقيقة وتغليبه على حبنا الانتصار، لكون ولوعنا بمعرفة ما يؤدي بخصومنا إلى أن يروا غير ما نرى ويفكروا غير ما نفكر!.
بل أعمق من هذا المبدأ تلك اليمين التي اعتادت قبائل البوذيين في بلاد التبت أن يقسموا بها وهي أن لا يروا ولا يفكروا ولا يقولوا مطلقاً أن دينهم خير الأديان جميعاً، وأيضاً توصي شرائع الملك أسوكا المنحوتة في الصخر بأن يمدح قومه أديان غيرهم من الناس.
والآن نقول أن دين محمد لم يكن دين ذلك النبي وحده لأنه إنما كان يدعو الناس إلى دين عيسى وموسى، وليست المسيحية والموسوية إلا مرحلتين من مراحل الإسلام وكان في(46/1)
الإسلام الذي جاء به محمد الكمال لهما وحسن الختام. وآية التمام. فإن الإسلام إلى إرادة الله والاعتقاد بأنه يطلع على جميع أمرنا. كل ذلك ندين به ونؤمن بحقه جميعاً، ولكن هذه العقيدة في الإسلام ليست نظرية فقط كما هي الحال لدينا، بل عقيدة عملية منفذة وأساس بناء ذلك الدين.
فالإسلام من ناحية يحكي المسيحية ويشبه الموسوي، وهو من الناحية الأخرى يختلف عنهما ويبين، فإن دعوة الناس إلى التسليم لإرادة الله والاعتقاد بأنه مطلع إلينا في جميع أمورنا. هي نفس الدعوة التي كان ينادي بها عيسى وموسى، ومن هذه الناحية كان هذان النبيان يدينان بدين محمد.
ومن الناحية الأخرى لم يكن دين محمد اقتداء وتقليد فقط كما هي الحال في المسيحية والموسوية. بل كان كذلك وحياً يوحى. إذا صح أن في الدنيا شيئاً يسمى الوحي، ولكني أجترئ وأقول أنه إذا كانت تضحية الذات والأمانة في الغرض والاعتقاد الثابت الذي لا يزحزحه أي أمر من أمور الدنيا والإيمان بأنه على الحق، ونفاذ البصيرة إلى صميم الباطل والعمل على إزهاقه، كل أولئك من بني الظواهر المحسوسة للوحي. فإن رسالة محمد كانت وحياً.
على أن دين موسى الذي كان يعرفه محمد هو الدين الخالص بما دخل عليه من الأوهام، والتأويلات والشروح والتعاليق، وكانت المسيحية التي يريد محمد أن يردها إلى نقائها الأول وطهرها هي تعاليم عيسى الخالصة من غموض القديس بولص وتعاليمه وتعاليم غيره من الطوائف المتعددة.
وكان محمد يعتقد أن اليهود سيرتضون دعوته ويقبلون عليه. ولكن عصبية اليهود تأبت عليهم أن يتقبلوه بقبول حسن. فلم يكن هذا بمزحزحه عن مبدئه. وهو أن يدعوا المؤمنين كافة إلى الاشتراك في تلك الأنعم التي تركها جدهم الأكبر إبراهيم. ولهذا كان الإسلام هو بعينه دين موسى خالصاً من شوائبه مجرداً من مناقصه، والمسيحية خالية من تعاليم بولس.
وكانت هذه الفكرة التي اعتزمها محمد، وهي أن لا يقصر محاسن دين إبراهيم على أمته وحدها، بل يذيعها في الخافقين، وينشرها في مشارق الأرض ومغاربها، هي الوسيلة التي أعانت على أن يدخل في هذا الدين السامي، ويدين بهذه المدنية العالية ملايين من الناس،(46/2)
ولولا ذلك لظلوا في حمأة الهمجية مرتطمين ولم يسموا إلى هذه الأخوة الرفيعة التي ينادي بها الإسلام ويعمل عليها وينفذها إنفاذاً.
وقد أساء المسيحيون الحكم في أمر مؤسس هذا الدين وتكلموا عنه بما هو غير لائق، وقدحوا في حقه، فقالوا عنه مارق، وزنديق، وذكره دانتي في جحيمه فعده كافراً، وآخرون قرفوه بأن دينه مأخوذ من التلمود ولكن يلوح لي أنه لا يوجد ثمت تعريف أوجز أو خير من ذلك التعريف الذي تقدم، وهو أن الإسلام هو الدين الموسوي الحر الخالص من الشوائب والمسيحية المطهرة من تعاليم بولص. وهذا من الناحية النظرية. أما من وجهته العملية فهو ولا ريب أسمى من المسيحية بجميع الحضارة الغربية في هذا العصر.
إن كل مسلم معبد قائم بذاته، ولكل مسلم الحق أن يدلي برأيه في أمور الدين بما يتفق والعقيدة العامة لأهل دينه، ولم يكن المسلمون يوماً عبيداً للقساوسة أو غيرهم من رجالات الدين، وهم يعبدون الله بلا وسيط، ويرفعون إليه الدعوات بلا سمسار، ومكان صلواتهم وعباداتهم أي درب من دروب الأرض وأي فج من فجاج الدنيا يثقفون به إذا آذنت مواقيت الصلاة.
ولعلمائهم كذلك والزعماء الدينيين فيهم أن يشتغلوا بصناعاتهم ويحترفوا الحرف ويسعوا لاكتساب أرزاقهم من وجوه العمل، ولا يوجد شيء بينهم يسمى (بابا) بل يستطيع أي رجل عادي من عرض القوم أن يقول على رؤوس الأشهاد (بإسلامي نفسي إلى إرادة الله أنا ممثل هذا الدين الذي كان محمد نبيه) ولذلك ترى السواد الأعظم من المسلمين في بقاع الدنيا كلها لا هادي لهم ولا مرشد إلا الإيمان العميق في حبات أفئدتهم، وهم السنيون أهل الجماعة، وذلك تمييزاً لهم عن الطائفة الخطيرة الأخرى وهم الشيعة الذي يعتقدون أن محمد وىل بيته وذريته معصومون على أن محمداً نفسه لم يدع العصمة، بل تنزل عليه الوحي يوماً مؤنباً لائماً عاتباً، إذ تولى عن رجل أعمى وكان في مجلس جماعة من سروات القوم، فنشر هذا العتاب بين الملأ وأعلن الوحي، ولو كان محمد أخا خداع كما يسميه الجهلاء من أهل المسيحية لما فعل ذلك ولما أعلن النبأ.
أما من ناحية مظاهر المسلم والفرائض التي يؤديها من صلاة وزكاة وصيام وحج فإن في كتب الدين منها الشيء الكثير وفي الكتاب مبادئها وأصولها، فأما الصلاة فشعارها (النظافة(46/3)
من الإيمان) لأن الوضوء في الإسلام يستبق الصلوات ولكل رسوم وشعائر وواجبات، على أن ليس في قساوسة المسيحية من يستطيع أن يقول ما يقوله عالم من علماء الإسلام للمسلم أن هذه الشعائر تستطيع أن تتعلمها من أي مسلم تلتقي به في الطريق.
أما زكاتهم فتقضي بأن يهب المسلم جزءاً من أربعين من ماله للفقير والمسكين وذوي الحاجات وهذه الأموال التي تجتمع من الزكاة توضع في بيت المال، ومن بين الوجوه التي تصرف فيها فك رقاب الموالي والعبيد، والرق من الأمور التي اتهم بها المسيحيون عن جهالة دين الإسلام وإن كان محمد استطاع بدأبه وجهده أن يخفف من شدة نظام الرق بأن وضع قانوناً يبعث على إبطال الرق على مدى الزمن واستن سنة تؤدي إلى إلغاء امتلاك رقاب العبيد ولكي تكون الزكاة مقبولة عند الله ينبغي للواهب أن يثبت أن الزكاة التي رضخ بها من حر ماله، وله أن يزيد الزكاة عن القدر المحدود، على أنه غير مكلف بزيادة، أو مكره على دفع دون طاقته، ولكن من يعطي عن طواعية أكثر من الجزء المعين من الزكاة، فله عند الله أجر عظيم.
أما الحج إلى مكة فمن أشد فروض الإسلام أهمية وخطورة لأن المسلمين يقبلون من جميع بلاد الله فيلتقون في صعيد واحد، فالحج هو رابطة الاتحاد، ومجتمع الوئام، والحج هو الذي ينشئ من المسلمين معبداً محمدياً زاخراً عظيماً، مما لا تبلغ مثله المسيحية بجميع فرقها ومنازعها وطوائفها. ثم لا يزال الحج وسيلة من وسائل نشر الآداب بفضل اللغة المشتركة العامة، وهي العربية، كما كان من اللاتينية في الغرب إذ كانت اللغة الفذة التي يتعلمها العلماء علاوة على لغاتهم، ومعرفة اللغة العربية هي مفتاح مغاليق الدين الإسلامي، بل السبيل إلى قلب الإنسانية المسلمة جميعاً.
وأما الصوم فليس إلا نظاماً من الأنظمة، ولكن لا يزال له بعد من ناحية قوانين الصحة فضل ونفع أي فضل وأي نفع، وإن أداء فريضة الصوم والوضوء والطهر لا يعد فقد من الحكمة والسداد، وإنما في تأديتها كذلك إنفاذ قوانين الصحة التي ينادي بها الأطباء، وإني في الحقيقة أرى أن هذه القواعد والسنن التي استنها الإسلام من ناحية تحريم الخمر ولحم الخنزير وما لم يذبح من الحيوان على السنة، وما إلى ذلك لم توضع ولم تشترع لإحراج الذين استنت لهم وإرهاقهم، وإنما جعلت صلاحاً لهم ونفعاً وفائدة لجسومهم وعقولهم.(46/4)
أما من الوجوه الاجتماعية ومراتب الناس في الإسلام فإن الغني يعد حامي ذمار الفقير، وحارسه ونصيره، وللفقير أن يجلس إلى موائد الغني، ويشاركه الطعام في مباهج الخوان، ولا تجدن في الجماعة الإسلامية أي فرق أو أي بون بين الفقير والغني يبعث على الكراهية، ويستنفر الحب والولاء، بل ترى العبد الرق في الدار يعد عضواً من أعضائها، والمولى فرداً من هل العشيرة، بل أن للموالي الفرص السانحة للظفر بمراكز في الحكومة أو نيل مكان طيب في الجماعة، قلما يصيب مثله الصعلوك في مدنيات الغرب، والطعام مكفول لمن يحتاج إليه، يوهب لمن يعوزه، بل أن إعطاء الصدقات في الدين الإسلامي، كما هو في دين بوذا يجعل المتصدق الواهب مديناً للفقير الذي أصاب منه تلك الصدقات، لأن التصدق يعين صاحبه على تنمية روح الخير في فؤاده، ويبعث في نفسه ملكة العطف والرفق، فإنك تجد البراهمة يشكرون الفقير الذي يطرق أبواب بيوتهم سائلاً الحسنة، مستجدياً معتراً طالباً القرى والضيافة، لأنه مهد لهم بذلك الفرصة لتأدية الخير وإيتاء الزكاة، والرضوخ بالصدقات. وترى الخدم في الإسلام إن أكلوا بعد مواليهم وجلسوا إلى الطعام بعد أن يرفع خوان سادتهم، لا يزالون يصيبون في المآكل قدر ما يصيب أولئك ويشاركونهم في ألوان الأطعمة وصحاف المائدة، وتجد في المسجد والمصلى المساواة بين العابدين تامة، فلا مقاعد من ناحية تخص السروات، ولا أماكن خاصة مهيأة للأغنياء وأهل المراتب السنية في الحياة، بل الجميع في المسجد سواء يأتمون بالإمام في صلواتهم أو يقفون خلف أي مسلم منهم يندبونه للإمامة، وليس أروع ولا أجل منظراً من رؤية جمع من المسلمين وهم في صلاتهم خاشعون وقوف في صمت وسكون ورفق ونظام، وأنت ترى الشعب الإنكليزي يكره الرسوم والمظاهر الخارجية، والرياء والتصنع في الشرائع والسنن ولكن الإنكليز كثيراً ما يكونون عبدة لألفاظ القوانين، تاركين روحها ومعناها التي يراد منها، وقد يصح أن نقول أن حب الإنكليز للتدقيق والاختصار لا يزال مصدر شر كثير، واصل بلاء عظيم، فإذا كانت الصدقة في معناها الأكبر رأس الفضائل فإن تلك الرسوم التي تحوط أمر جمعها وتوزيعها في هذه الأمة البريطانية تذهب بجمالها وتفقدها الوجه الجليل الرائع منها، ونحن قلما ندرك أن القوانين إنما وضعت لإرشاد الناس جميعاً، وأن نصوص تلك القوانين وألفاظها وظواهرها الخارجية لا ينبغي أن تكون لها سلطان علينا،(46/5)
بل يجب أن لا يذعن إلا إلى روح تلك القوانين ولبها وصميمها. ومن ذلك كانت صدقتنا وعقائدنا وسنننا وشرائعنا الصلبة السريعة الخشنة تباين تلك الشرائع الشخصية الفردية المحسوسة والسنن العملية الكمالية الحليلة التي تمتاز بها العقائد الشرقية، ولو كانت الجماعات في الغرب قد أسست على قواعد الإسلام لما احتاج الأمور في أوروبا إلى وجود عدميين وفوضويين واشتراكيين، لأن الفرد في الإسلام لا يلقن السخط، كما ترى في الغرب إذ تجد غرض حضارتنا وقصدها ونتيجتها وغايتها الكبرى أن تثير السخط في روح الأفراد.
وهنا أنتقل إلى موضوع الزواج في الإسلام فأقول أن عقد الزيجة لا بد فيه من شهادة شاهدين اثنين، وهو قانون ديني ولكن لا تقييد فيه ولا عل ولا إسار كما هي الحال في المسيحية ودين الهنود، بل للزوج أن ينعم بعشرة زوجه ولكنه لا يستطيع أن يكرهها على مرافقته إلى مملكة أخرى غير موطنها، وإن أرادها على ذلك وتأبت، فعليه أن يكفل لها نفقتها وهو عنها بعيد، فإذا وقع بين الزوجين خصام ويبست الثرى بين الرجل وبعله، فإنه يجمل إذ ذاك توسط المصلحين، واختيار حكم من أهله وحكم من أهلا، لعلهم مستطيعون توفيقاً فإذا لم يستطع الزوجان أن يعيشا لبعضهما مع البعض في وئام فلا سبيل إلا الطلاق، ومن هذا ترون أن التشريع الإسلامي في الزواج لا يستحق ذلك النقد الفاضح الذي اعتاد كتاب المسيحية أن يحشدوه على الإسلام، وهذا الاعتقاد الساري في الغرب وهو أنه يوجد بين المسلمين زواج لا حد له ولا قيد وطلاق مثله لا مدى له ولا حائل دونه ولا مانع يقف في سبيله، لا يزال اعتقاداً مخطئاً لا أساس له من الصواب، فإن الطلاق ليس من السهولة في الإسلام بحيث يتوهم المسيحيون، لأنه لا يمكن أن يتحقق إلا بعد تحكيم الوسطاء ورسل السلام والسعاة بالصلح والتوفيق، ثم لا تنس أن هناك صداقاً مؤجلاً لا بد من أن يدفع إلى الزوجة عند الطلاق وكثيرات من النساء يحددن مقداراً باهظاً من المال لمؤخر صداقهن ولا سبيل للزوج إلى دفعه إذا أراد طلاقاً، وهذا لكي يأمن النساء مضرة الطلاق وخطره وبلاءه.
ولا ريب ولا نكران في أن نظر المسيحي أو الهندي إلى الزواج أكثر روحانية من نظر المسلم إليه، على أنما نراه من الممالك المسيحية عامة من معاملة الزواج يدلنا على أن(46/6)
المسيحيين أقل مراعاة لقداسة الرابطة الزوجية وعناية واحتراماً لروحانية الزواج من المسلمين.
فالزواج عند الهنود لا يمكن أن تحل رابطته وتنفصم عراه، لأنهم ينظرون إليه نظراً روحانياً، على حين تجحده بين الكاثوليك الرومان لا يحل إلا بشق النفسي، وبالمشقة الكبرى، على أنه يحزنني أن أقول وأعترف بأنني قد عشت بين ظهراني المسلمين واختلطت سنين طوالاً بهم فلم أشهد على فرط ما يتهمهم به المسيحيون من سهولة الطلاق عندهم وفسحة حدوده، واتساع مداه من حوادث الطلاق عند المسلمين ما يعد أكثر منها بين المسيحيين ثم إنني لا أتردد في القول بأن المسلمين من ناحية صلة أرحامهم والعطف على عشائرهم واحترام علمائهم وشيوخهم وتوقير الكهول والمتقدمين في السن، والغرباء والحيوان الأعجم والبهيمة والنعم الخرساء أسمى بكثير من المسيحيين وهم مثال حسن لهم وقدوة كبرى خليقة بالاحتذاء.
ثم لا أدع هذه الحلقة من البحث دون أن أقول بضع كلمات عن ذلك الموضوع الذي كثر ما أساء فيه أهل الأديان الأخرى، وأعني به موضوع تعدد الزوجات في الإسلام، فأقول أنه بصرف النظر عن أن تعدد الزوجات يكفل العيش للألوف من النسوة اللواتي يزيد عددهن عن الحاجة، في الممالك المكثرة من عدد الإناث فيها، وأنه وقاء من الإثم، وعاصم من الفساد، وحمى من الخنا، وما ينجم عنه من مضاره اللاحقة به، وأذاه الفارع عنه، وحائل دون النغولة وفساد انسابن وصحة المواريث لا نستطيع أن ننكر أن السواد الأعظم من المسلمين قانعون بزوجة واحدة وهذا بفضل مبادئ الإسلام.
وقد نشأ محمد بين قوم كانوا يعدون الرجل الذي يرزقه الله بالإناث امرئ منكود الحط منكوباً، ويرون في البنات سوءات وهوناً لهم، وكانوا يئدون البنات في طفولتهن ويدسونهن في التراب فراراً من انتسابهن لهم واحتفاظاً بشرفهم وأعراضهم، ولم يكن ثمت حد لعدد النسوة التي يستطيع الرجل أن يتزوج بهن، وكن جميعاً متاعاً من أمتعته يقتسمه ورثته بعد موته، فلم يكن من محمد إزاء هذه الزيجات المتعددة التي لا حد لها ولا نظام ولا نهاية إلا أن كبح جماحها، وحال دونها، ووضع الحد المقرر لها، فاستن للناس سنة تبيح للرجل أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع إذا استطاع أن يعدل بينهن ويقسم حبه وعاطفته عليهن(46/7)
بالسواء، فإذا خشي اعتسافاً، وخاف أن لا يعدل، فواحدة وحسب، ولما كان بطبيعة الحال من المستحيل على الإنسان أن يعدل في حبه امرأتين أو ثلاثاً، ويهب كلاً قسطاً عدلاً من جانحته فإن المرء ليأخذ من روح التشريع الإسلامي في الزواج أن محمداً كان في صف فردية الزواج والاكتفاء بزوجة واحدة.
ثم هو كذلك رفع المرأة من حالها الأولى وهي أن تكون متاعاً الرجل وملكاً من ملاكه، فجعلها صاحبة ملك وجعلها شريكاًَ للرجل، ومشاطراًن وعدها الشريك الأول الذي يجب أن تراعى مصلحته ويحتفظ بحقوقه، إذا أراد الزوج أن يأخذ في وجه من وجوه عمله، أو ابتغى شأناً من شؤون حياته.
وقد رمى المسيحيون محمداً بتهمة أنه من ناحية نفسه قد برر تعدد الزواج، ونصب نفسه مثالاً للإكثار من الابتناء بالنساء، فلنفحص هذه التهمة ولنقلب فيها وجوه الرأي، ومن حسن حظنا أننا لسنا إزاء رجل خيالي ولا لقاء شخصية م الشخصيات الخرافية في التاريخ، ولا إنسان مصطنع اخترعته القصص، وابتكرته الروايات، ولكنا أمام رجل من رجالات التاريخ، قد دونت كل كلمة من كلمه، وسجل كل فعل من أفعاله، في أحاديثه، وهي بعد القرآن الشرعة التي ينبغي للمسلمين الأخذ بها، والأدب الذي يجب عليهم التأدب به، وهذه الأحاديث لا يمكن أن تصدق وتصيب الإجماع على صحتها إلا إذا رواها أحد صحابة النبي، واستطاع المسلمون الاستدلال عليها من سجل حياة أنصار محمد وخلطائه، فإذا لم يصب حديث من تلك الأحاديث هذا التحقيق، ولم يحط بهذه الأسانيد، سقط من الاعتبار، ولم يعتد به، ولم يذكر بني الأحاديث، وهذا فضل لم تظفر به المسيحية، إذ ليست لدينا أسانيد صحيحة مثبوتة عن أحاديث المسيح وأفعاله وكلماته وأعماله، والآن لنتساءل على أي داعمة وبأي حجج يقرف الناس محمداً بأنه كان مزواجاً كثير الابتناء بالنساء، وأنا أجيب على هذا بلا أدنى تردد بأننا لو توخينا البحث وتقصينا تاريخ النبي. وأخذنا كل قصة من القصص التي يستند إليها المتهمون المتجنون على ذلك النبي بالتحري والفحص والتشريح والتحليل، لما لبثنا أن ألفينا التهمة قائمة على أساس، ولم نر لها جداراً تستقيم عليه، ولا بناء تنهض فوقه. بل لوجدنا محمداً على نقيض هذه التهمة يستحق الإعجاب ويعد قميناً بالإكبار، إذ احتفظ على فرط ما كان أمامه من غوايات، وما قامت إزاءه من(46/8)
إغراءات، بالعفاف الشديد والاستقامة التامة في وسط مجتمع لم يكن يعرف هذه الفضيلة.
فقد عاش محمد في الجاهلية الأولى فظل عفيفاً على أكمل العفاف حتى ناهز الربيع الخامس والعشرين وغذ ذاك تزوج بامرأة في الربعين (وهي تعدل امرأة في الخمسين من نساء الغرب) وما كان زواجه بها إلا لأنها كنت المحسنة غليه وكانت توليه عطفها وعنايتها، وكانت تعتقد ببعثته وتدين برسالته، كما أعلن بعد ذلك بسنين عدة بعد وفاتها لزوج من أزواجه فتية حسناء فاتنة كانت غيرى من خديجة العجوز وقد سألته كيف تؤثر تلك عليها وهي تقول ألست مثلها طيبة وخيراً إذ أجابها بأنها لست مثلها. لأنها صدقت به يوم كان الناس جميعاً مكذبين، وكانت أم المؤمنين وكانت تكبره وتحميه وترعاه، يوم كان عائلاً مطرحاً لا يرى له نصيراً، وظل على محض الوفاء لها عشرين عاماً كاملة، ونحن لا ننكر أنه عندما أشرف على الخمسين، راح يتزوج بالمرأة أثر المرأة، ويبتني بالنساء مترادفات متلاحقات، ولكن أليس من العدل أن نذهب إلى أن رجلاً قد أظهر ضبط النفس بأكمل معانيه حتى الخمسين وتعفف العفاف كله إلى تلك السن لا بد من أن تكون ثمت أسباب غير تلك التي اختلقها كتاب المسيحية، ولرب سائل يسأل وما تلكم السباب، وأنا أعتقد أن السبب الحقيقي لكثرة زيجاته في شيخوخته هو التفضل والإحسان وذلك لكي يرعى ويظل بعطفه أرامل أنصاره الذين أصابهم العذاب، من جراء إيمانهم وتقطعت بهم الأسباب بفضل توفرهم على كلمة الإسلام.
وقد أصاب أتباع محمد وأنصاره والمؤمنين الحرب والويل من ناحية إيمانهم حتى كان تعذيب الكفار لهم وأعداء الدين أن منعوهم وحرموهم خبأ الأرض يقتاتون به واضطر كثيرون منهم إلى الفرار إلى الحبشة فازعين إلى ملكها المسيحي فتأبت شهامة النجاشي أن يسلمهم إلى أعدائهم، بل أظلهم بحمايته في أرضه، وقضى نحبه فريق منهم في الحبشة، وبقيت أراملهم في بلاد العرب، فأخذهن محمد إليه وابتنى بهن، وأدخلهن في عشيرته، ولولا ذلك لتضورن جوعاً، وهلكن مسغبة وتشريداً وأما الذهاب إلى أن محمداً كانت له في ذلك مآرب أخرى ونيات شهوانية فلا أساس له ولا حجة قائمة ولا سيما ذا علمنا أنه أظهر في عهد شبيبته الحادة، وعنفوان شبابه وغلواء فتوته الأدلة العظيمة القاطعة على عفاف جيبه، ونقاء نزعته، وزجر شهوته، وقد أساء كثيرون كذلك فهم قصة زواجه بزينب التي(46/9)
طلقها من مولاه زيد الذي تبناه ونحن نقول أن العرب في الجاهلة الأولى كانوا يأنفون من أن يتزوج الرجل بامرأة مطلقة كانت قبله تحت متبناه، وإن لم يكونوا يأنفون من التزوج بزوجات أبيهم بعد وفاته، فأراد محمد أن يذهب بفساد هذه السنن، ويطمس على آثار هذه الشرعة الطائشة الحمقى، فعلم الناي أن الابن بالمتبنى ليس ابناً حقيقياً ولذلك كان التزوج بالمرأة التي طلقت منه غير محرم، ولا ممنوع، وتأييداً لهذه الحقيقة، لا تبريراً لعقد زواج جديد، نزل الوحي على محمدـ، فأوله أعداء محمد ودينه بأنه لم يكن إلا شفيعاً ومبرراً لإثم اقتحبه، وعمل جائر ارتكبه، وأنه ليلوح لي أنه لو هذب الناس عاطفة الحنان في أفئدتهم، واشربوا قلوبهم جانحة الكرم والترفق والتسامح لنظروا إلى الأديان التي تخالف دينهم بغير ما ينظرون به إليها الآن، ولاجتهدوا أن يتقصوا البحث عنها من مصادرها الخاصة بها، غير آخذين بقول أعداءها، أو جانحين إلى الاستماع إلى ما قال الخصوم عنها.
والعزوبة نادرة الوجود بين المسلمين وقلما تجد نساء صالحات للزواج يعشن في ظلال العزوبة، بلا أزواج، والزنا يصيب العقوبة الصارمة، إذا ارتكبه رجل، أو ثبت على امرأة، ويجلد الزاني على رؤوس الملأ مائة جلدة جزاء له وعقاباً على إثمه، أما من ناحية الجواري فلم يرض الإسلام أن يصم نسلهن وأولادهن بميسم العار ويطبع على جباههم مخية الإثم، فجعل ابن الجارية الرقيق يرث مع أبناء سيدها ومولاها على حين لا يجد الطفل غير الشرعي في مجتمعاتنا المتحضرة إلا قليلاً من الرعاية ونزراً من الحماية والعطف بل إن نظرنا إلى الزواج من ناحيته الروحانية السماوية لا يكاد يداني نظر الهنود إليه، إذ تضرع الزوجة لخلاص روح زوجها، لأنه لا ينال الخلاص إلا بدعواتها وصلواتها.
وليس للمسلمين حوانيت خمر، ولا أندية ميسر ولا مضارب زنا، ولا مواخير وليس لديهم زناء مشروع ولا بيوت أعدتها الأنظمة الحكومية للفحشاء العمومية، وأما عن محادثاتهم وأسمارهم ولغة كلامهم، فهي أرق حاشية وأكثر تهذيباً من أحاديث عامة الغربيين، وقد رأيت شباباً من المسلمين في المدرسة والجامعة والمعهد أرق حديثاً وأفضل مسلكاً وألين خلقاً وأصفى آداباً من شباب الإنكليز المتعلمين، بل لعل أحاديث هؤلاء قد تكون معاقباً عليها في أحكام الإسلام وشرائعه.(46/10)
ومن وجهة التهمة المنكرة الملقاة على الإسلام وهي أن قد جمد على سننه ولا يريد تقدماً، ولا يماشي الحياة ولا يجاري أجيال الزمن وأحقاب الدهر فإنني أقول أن الحرية التامة في تأويل القرآن وأحكامه والتبسط في شرحها وإطلاق قيودها تجعل الإسلام صالحاً لكل ناس، ملائماً لمل مملكة، متفقاً وطبائع كل أمة، ونحن نضرب لك مثلاً فنقول أن القانون المقرر للتأويل والتفسير وهو أن كل جملة شرطية لا بد من أن تحكم بشرطها، يبعث على اطمئنان الضمير، فإذا جاء في القرآن قاتلوا المشركين فإنها جملة مطلقة ولكن إذا قيدت بهذا الشرط وهو إذا قاتلوكم كانت أكبر حجة على فساد ذلك الزعم الشنيع، وهو أن الإسلام قام بالسيف وأسس على الجهاد والحرب الدينية، بل لا تجد القتال مشروعاً في الإسلام إلا دفاعاً عن النفس إزاء الدين يقاتلون المسلمون ويطردونهم من أرضهم لأنهم يعبدون رباً لا شريك له والتسامح الديني مستمسك به وذائع منفذ بين المسلمين، ولا تجد شيئاً منه في الممالك والشعوب المسيحية. وقد أدخل محمد اليهود والنصارى في صفوف المسلمين لأن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وإنك لترى في سورة الحج في القرآن أن غرض القتال، ومقصد الحرب هو لحماية المساجد والمعابد والكنائس لأن اسم الله يذكر في كل منها على السواء. أفليس هذا أرقى ضروب التسامح والحد الأكبر من الرفق، ونحن لم نبلغ شيئاً منه إلا بعد قرون عديدة وأجيال. وقد عرفت كثيرين من المسلمين يكتتبون ويخرجون عن أموالهم تعضيداً للكنائس فنبوئني كم من المسيحيين اكتتبوا للمساجد - ومع ذلك لا يزال اسم الله يذكر في المسجد والكنيسة معاً!!.
وإذا ذكرني المسيحيون باضطهاد المسلمين لجموع منهم فأقول أن تلك الاضطهادات لا تذكر بجانب المذابح التي قتل فيها المسيحيون الجموع العظيمة من بني الإسلام وقد أقسم عمر بن الخطاب يوماً إلا أن يثأر لدينه من تلك المذبحة التي أقامها المسيحيون في بيت المقدس، بأن يذبح أهلها والمحاربين المدافعين عنها يوم أراد فتحها، على أنه إذ اقتحم أسوارها ودخلها عزيزاً منتصراً أبى ألا أن يحنث بيمينه وقال: لأهون علي الحنث بيميني من أن أقتل مخلوقاً واحداً من مخلوقات الله!.
ولا اجد ما أختم به بحثي هذا خيراً من هذه الحقيقة التي أصر على قولها وتردادها، وهو أن الإسلام والمسيحية والموسوية أقارب وأخوان من مصدر واحد وأصل واحد، وأتمنى(46/11)
على الله أن يقبل ذلك اليوم الذي أرى فيه المسيحيين يوقرون ويعظمون المسيح أكثر من توقيرهم إياه وتعظيمهم له اليوم، وذلك بتوقيرهم محمداً كذلك وتعظيمه لأنه هناك وجوه شبه، ونواحي مشتركة، وعواطف متفقة بين الإسلام والنصرانية، والمسيحي المسيحي من دان بتلك الحقائق التي دعا إليها محمد النبي العربي.(46/12)
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى مرية
(تابع)
مقامي في مسيني
ولقد أقمت في مسيني ثلاثة أيام بلياليها أنساني فيها أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف بأدبه وظرفه ورقة حاشيته ما يعرو الغريب في البلد النازح من الوحشة والانقباض. ثم علمنا في اليوم الرابع لمقامنا أن قد أرست على ميناء هذا البلد سفينة كبيرة قادمة من القسطنطينية العظمى قاصدة إلى بر الأندلس، فاعتزمت أنا وأبو عبد الله أن نسافر فيها، وكان هذا العزم من تمام فضل الله علينا وحسن توفيقه إذ أصبنا في هذا المركب عند نزولنا فيه منية النفس ومطمح الروح فضل المدنية التي ضرب الدهر بيني وبينها أياماً كانت على قلتها كأنها شهور بل أعوام، وكان معها صاحبتاها علم المدنية وقلم الرومية. وهن كما علمت ممن حذقن الغناء ونبغن فيه بعد أن تعلمنه في المدنية المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهذه قلم كما أخبرتني أندلسية الأصل رومية من سبي البشكنس وحملت صغيرة إلى المشرق فوقعت بالمدينة المنورة ولقنت هنالك الغناء، ثم اشترين مع فضل وعلم لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر.
وقد أخبرني فضل أن المراكب الذي كانت فيه لما أرسى على مسيني بعد إرسائه على ريو لشراء ما يحتاج إليه من الميرة والطعام أُلفي في روعها هي ومن معها أن ينزلن في مسيني ويتركن هذا المركب - وهو للأمير عبد الرحمن الناصر - خشية أن يأسره ومن فيه عمال المعز لدين الله الفاطمي لأن بلاد صقلية إحدى ولايات المعز، وقد علمت أن هذا المركب كان قد تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز، فأحفظ المعز هذا الأمر وأخذه منه المقيم المقعد، وحمله على أن يطوي كشحه على الثار من الناصر - ثم أقامت فضل هذه المديدة في فندق من فنادقها، في ربض من أرباضها، فقلت يا عجباً كل العجب:
أليس غريباً أن نكون ببلدة ... كلانا بها ثاو ولا نتكلم
أما نبأ هذه السفينة الرومية فذلك أن قسطنطين بن ليون أنبرور الروم (إمبراطور دولة الرمان الشرقية) كان قد أهدى منذ ثمان حجج إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر هدايا(46/13)
ذات قدر عظيم يتقرب بها إليه ويبصبص بذنبه لديه، واستدفاعاً لمكره وكيه، واستجلاباً لعطفه ووده، واستظهاراً به على آخذ بلاده (بلاد قسطنطين) المعز لدين الله وكان من هذه الهدايا كتاب ديسقوريدس الطبيبي مصور الحشائش العجيب وكتاب هيروسيس (هيرودتس) المؤرخ الرمي العظيم، وكان الكتاب الأول مكتوباً بالإغريقي، وهو اليوناني القديم والكتاب الثاني كان مكتوباً باللسان اللطيني وكتب قسطنطين فيما كتب إذ ذاك للناصر أن كتاب ديسقوريدس لا تجتنى فائدته إلا برجل يحسن العبارة باللسان اليوناني ويعرف أشخاص تلك الأدوية، فإن كان في بلدك من يحسن ذلك فزت أيها الملك بفائدة الكتاب. وأما كتاب هروسيس فعندك في بلدك من اللطينيين من يقرؤه باللسان اللطيني وإن كشفتهم عنه نقلوه إليك من اللطيني إلى اللسان العربي. ولم يكن يومئذ بقرطبة من نصارى الأندلس من يعرف الإغريقي فبقي كتاب ديسقوريدس في خزانة الناصر كما هو لم يترجم إلى العربي، فلما ولى أمر الروم أرمانيوس بن قسطنطين تقدم إليه الناصر بأن يبعث رجلاً يعرف الإغريقي واللطيني ليعلم له عبيداً يكونون مترجمين فأرسل أرمانيوس في هذا المركب راهباً عظيماً يسمى نقولا. وقد أزلفت لك أن أبا عبد الله الصقلي يحسن الإغريقي إحسانه للطب والفلسفة والنجوم. وقد كان أخبرني أن الناصر أرسل إليه يستحثه على الوفود إليه ليكون في خدمته فكان ذلك سبباً في انعقاد الصحبة بيننا وبين هذا الراهب. وقد أصبنا منه رجلاً حديثاً ظريف المحاضرة له مشاركة في كثير من العلوم والآداب.
وقد ألقينا في هذا المركب طبيبين أندلسيين كانا قد رحلا إلى المشرق منذ سنين وأقاما هنالك نيفاً وعشرين سنة ودخلا دار السلام (بغداد) وقرآ فيها على ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة كتب جالينوس ثم قفلا راجعين إلى الأندلس مسقط رأسهما، ونزلا في هذا المركب من أحد الثغور وهما أخوان يسمى أحدهما عمر والثاني أحمد وهما أبناء يونس بن أحمد الحراني الطبيبي المشهور، وقد أخبراني أن كتاب ديسقوريدس هذا كان قد ترجمه بدار السلام أيام جعفر المتوكل الخليفة العباسي اصطفن بن بسيل المترجم - من الإغريقي إلى العربي، وتصفحه حنين بن إسحاق فصحح الترجمة وأجازها - قالا: وقد ورد هذا الكتاب إلى بلادنا (الأندلس) وهو على ترجمة اصطفن، وقد قرأناه وصححنا كثيراً من أسماء العقاقير التي لم يعرف لها اصطفن اسما في العربية، وقد انتفع كثير من أهل المشرق(46/14)
وأهل الأندلس بالمعروف منه - وفي الأندلس اليوم من أخواننا الأطباء نفر توفروا على هذا الكتاب يصححون أسماء عقاقيره ويعينون أشخاصها، ومنهم أخونا البسباسي والشجار وأبو عثمان اليابسة ومحمد بن سعيد الطبيب وكأنا بسيدنا الناصر أدام الله تأييده وقد أبى إلا أن يقر الأمر في نصابه، ويغمد السيف في قرابه، ويتم أمر هذا الكتاب على ما به، فطلب من أرمانيوس ما طلب، وكل ذلك من سيدنا فضل عناية منه بكل ما يجدي على بلاده ويسمو بها صعداً إلى أبعد مراتب العظمة الذهنية كما أبعدت به وبأسلافه في سائر ضروب الحضارة، وذلك لما فطره الله عليه من العزيمة النافذة والهمة الطموح البعيدة المرمى فلا يتعاظمه أمر، ولا تقف همته دون غاية. وحتى لا يحيك في صدر إنسان أن خلفاء بني العباس في المشرق، أو منافسيه الفاطميين في أفريقية قد سبقوه إلى شيء لم يسبقهم هو إليه، وأنت تعلم أن هذه الدول الإسلامية الثلاث هي أعظم دول الأرض اليوم شأناً، وأضخمها سلطاناً والقابضة على أزمة الأمور والمالكة أخصب البلاد من هذا المعمور، والمستبحر عمران بلادها إلى أكثر من المتوقع المنظور. والتي تعد سائر دول الأرض من هذه الأمم الحمراء كأنها تبع لها وعيال عليها، فتراها لذلك تتهالك في كل آونة على الازدلاف إليها، وتستنزل رضاها بالهدايا والتحف، وغريب النفائس والطرف، وتستصرخها بعض على بعض فتكون الحتوف، أسبق إلى المغضوب عليهم من السيوف
أنا إذا ما أتانا صارخٌ فزِعٌ ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
ومن ثم ترى أن هذه الدول العظمى تتسامى في كل ما يكسبها حسن الأثر، وجميل الذكر، ويملأ مسامع الدهر حمداً وثناءً، وينبض له قلب الدنيا فخراً وعلاء، فتراها لذلك آخذ بيد العلم والعلماء، مالئة بأعطياتها أيدي الشعر والشعراء، حتى العلوم الفلسفية بجميع ضروبها من إلهية وطبيعية ورياضية وطبية وفلكية تعضدها وتغري القائمين عليها بالاستزادة منها والتقضي في البحث عن غوامضها، وتظهر الرغبة في الحصول على مآخذها من ملوك الروم الذين حشدت في خزائن كتبهم تواليف فلاسفة اليونان الأقدمين.
ولقد أقلعت بنا السفينة باسم الله مجراها من ميناء مسيني، وبكرت مع البازي عليه سواد، في فجر يوم الجمعة سلخ ربيع الأول، وذلك لثلاث عشر ليلة خلت من شهر جونيو الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة من مولد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام. وكان البحر(46/15)
هادئاً والنسيم فاتراً عليلاً، وكانت قبة فضل ومن معها بمرأى منا ومسمع وكان معنا أديب من أدباء صقلية لم نكن ندري أين وجهته ولكنه نزل بعد ذلك في جزيرة ميورقة، وكان قد ندّ منه عقيب إقلاعنا من مسيني أمر أفضى إلى حديث لا علينا إذا نحن أوردناه في هذه الرسالة تطرية للقول، وذلك أنا بعد أن صلينا الصبح حاضرة وصلى معنا هذا الأديب الصقلي رأيناه وقد انتحى ناحية وأخذ يططبح ويلح على ابنة العنب يشربها صرفاً لا يقتلها بالماء فأنكرت عليه ذلك إنكاراً شديداً وقلت له: ما تصنع الخمر، وإن أولها لمر وإن آخر لسكر، فقال: لا أقول لك إلا ما قال الأخطل لعبد الملك بن مروان إذ قال له عبد الملك مثل قولك هذا فقال الأخطل: ولكن بين هاتين المنزلتين ما ملك أمير المؤمنين فيها إلا كعلقة ماء من الفرات بالإصبع ثم أنشد الأخطل:
إذا ما نديمي علني ثم علني ... ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجر الذيل تيهاً كأنني ... عليك أمير المؤمنين أمير
ولله ذلك الطائر الفردوسي البديع الذي كأنه روح هبط على هذه الغبراء من المحل الأرفع ومعه تلك الهدية التي لا هدية مثلها، تلك البذور الثلاث التي ما أظنه إلا اختلسها من عنب الجنة ليطرفنا بها فنزدرعها ونفزع إلى عصيرها في هذه الحياة المحزونة المفعمة آلاماً ليسرى عنا ويجلو منا صدأ الحس، وينفي الهم عن ساحة النفس.
إن الذي جعل الهموم عقاربا ... جعل المدام حقيقة درياقها
أقتلا همي بصرف عقار ... واتركا الدهر فما شاء كانا
إن للمكروه لذعة هم ... فإذا دام المرء على المرء هانا
فقلت له ولكنها قبحها الله تسيء من المرء أخلاقه، وتخمل النابه، وترفعه كما قيل إلى أسفل، وتهوي بالشرف الرفيق إلى الحضيض الأوهد، ولله ذلك القرشي حين يقول:
من تقرع الكأس اللئيمة سنه ... فلا بد يوماً أن يسيء ويجهلا
ولم أر مطلوباً أخس غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا
فسرعان ما أنشد:
إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني أذاتي ولا بخلي
ولست بفاحش عليه وإن أسا ... وما شكل من آذى نداماه من شكلي(46/16)
ثم قال: والخمر لذلك خليقة أن لا يشربها إلا الملوك وأشباه الملوك أما السوقة والحمقى والغوغاء ومن إليهم فيجب أن يصلبوا أو يقتلوا أو تقطع أيديهم وارجلهم إذا هم شربوها.
والخمر قد يشربها معشر ... ليسوا إذا عدوا بأكفائها
* *
وجدت أقل الناس عقلاً إذا انتشى ... أقلهم عقلاً إذا كان صاحيا
تزيد حمياها السفيه سفاهة ... وتترك أخلاق الكريم كما هيا
فقلك له أما تخشى الله يوم الحساب فقال:
إذا صليت خمساً كل يوم ... فإن الله يغفر لي فسوقي
ولم أشرك برب الناس شيئاً ... فقد أمسكت بالدين الوثيق
فهذا الدين ليس به خفاء ... دعوني من بنيات الطريق
فقال أبو عبد الله الفيلسوف: الشراب ضار ونافع أما أنه نافع فللبدن بإشراقه وتقوية الحرارة الغريزية وإنعاشها وإنضاج الرطوبات وتنقيح المجاري وإزالة سددها وتقوية الهضم وإنارة الدم وإدرار الصفراء وترطيبها - وللنفس بانبساطها وتفتيح آمالها وتشجيعها وقتل الهم والفكر الفاسد ومن ثم كان أنفع الأشياء للماليخوليا ثم هو يؤدم بين القلب والقلب ويبعث الشوق القديم الذي قد ضل في الأحشاء - وكل أولئك إذا استعمل على الوجه الذي ينبغي وإلا استحالت هذه المنافع مضار فترى عوض السرور هماً وغماً وضجراً وسوء خلق، وعوض الصحة مرضاً مزمناً أو موتاً فجائياً وإن إدامة الشراب تبلد الذهن وترخي العصب وتوهن قوى الدماغ وتورث الرعشة والتشنج، وقد أجمع الحكماء قاطبة على أن مدمن الخمر لا ينجب وإن أنجب كان الولد أحمق.
وبعد: فإن أصدق ما جاء في الخمر قول الله جل شأنه: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما: ثم قال سبحانه يصف خمر الجنة: {لا فيها غول ولا عم عنها ينزفون} فكأن السر في تحريمها هو أنها تغتال عقولنا وتشربها وتورثها الخبل والصداع كما قال الأول:
وما زالت الخمر تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول
وما ألطف قول بعض الظرفاء وقد ترك النبيذ فقيل له كيف تتركه وهو رسول السرور إلى(46/17)
القلب فقال نهم ولكنه بئس الرسول يبعث إلى القلب فيذهب إلى الرأس ويشبه ذلك قول المجنون لملك من الملوك وقد استظرفه واختار أن يكون نديماً له وعرض عليه الشراب فقال المجنو: أيها الملك أنت تشرب هذا لتصير مثلي وأنا أشربه لأصير مثل من! وأنا لفي ذلك إذا اندفعت فضل المدينة تغني على عودها هذه الأبيات:
بيد الذي شغف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهم
فاستبقني إن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم
قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم
فاستخف غناؤها أبا عبد الله حتى كاد أن يخرج من جلده فرحاً وتحرك الراهب واهتز كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب، وغمغم كلمات ترجمها لنا أبو عبد الله بما يقارب قول الطائي حبيب بن أوس:
ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت قلبي أجهل شجاها
فصرت كأنني أعمى معنى ... يحب الغانيات ولا يراه
ثم اندفعت تغني:
آها على بغدادها وعراقها ... وظبائها والسحر في أحداقها
ومجالها عند الفرات بأوجه ... تبدو أهلتها على أطواقها
متبخترات في النعيم كأنما ... خلق الهوى العذارى من أخلاقها
نفسي الفداء لها فأي محاسن ... في الدهر تشرق من سنى إشراقها
فأخذ العلج ينشج نشيجاً حاراً ويبكي بكاءً عالياً حتى إذا سكت عنه البكاء قال ما معناه: لقد هاجت لي داء دفيناً. ثم سكت وسكتت فضل وسكتنا ومضت السفينة لطيتها.
قال معاوية بن أبي سفيان: النساء يغلبن الكرام، ويغلبن اللئام. وقال يزيد ابن المهلب بن أبي صفرة: وددت لو أن كأساً بألف دينار، وأن كل منكح في جهة أسد، فلا يشرب الأجواد، ولا ينكح إلا شجاع. وقال عمر بن عبد العزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما. وقال المأمون: النساء شر كلهن ومن شر ما فيهن قلة الاستغناء عنهن. وقال: إن النفس لتمل الراحة كما تمل التعب. وقال: إنما تطلب الدنيا لتملك فإذا ملكت فلتوهب. وقال عبد الله بن طاهر: سمن الكيس ونبل الذكر لا يجتمعان. وقال المنتصر بالله: ما ذل(46/18)
ذو حق وإن أطفق العالم عليه، ولا عز ذو باطل وإن طلع في جبينه القمر.(46/19)
شيخ المتشائمين
آرثر شوبنهور
أو الحياة شقاء
كثير من قراء البيان قد سمعوا بالفيلسوف الألماني الأشهر آرثر شوبنهور المولود سنة 1718 والمتوفى سنة 1860 وهو شيخ الفلاسفة المتشائمين الذي قد برموا بالحياة وبرمت بهم ولم يروا سبيلاً إلى الخلاص من بلاياها إلا الزهد فيها والرغبة عن ملاذها، وتعاليمه تشبه شيئاً كثيراً من الشبه تعاليم متصوفة المسلمين وتعاليم بوذا وبرهمة، ويشبه من فلاسفة العرب حكيم المعرة أبا العلاء - ومحور فلسفة شوبنهور هذه هو أن الكون وما يحتويه (أعني المادة والزمان والمكان) ما هو إلا خيال لا وجود له إلا في الذهن ولكن له أصلاً وجرثومة هي ما يسميها الفيلسوف (كانت) الألماني العظيم - سلف شوبنهور وأستاذه - الشيء في ذاته ويقول أننا لا نعرف ولا نستطيع أن نعرف حقيقتها وكنهها ويرمز لها بحرف س على نحو ما يفعل الرياضيون في الرمز للكميات المجهولة، وشوبنهور يزعم أن جرثومة الكون المذكورة التي حار في كنهها كانت حتى رمز لها بحرف س وما هي إلا الإرادة التي نشعر بها في أعماق كياننا ونحس أنها هي القوة الدافعة فينا التي تدفعنا إلى الحركة تارة عن طريق الذهن أي طريق التعقل والتفكير وتارة من تلقاء نفسها كما يشاهد في حركات الجسم غير الاختيارية، وأهمها وظائف الأجهزة الحيوية، وهكذا نرى أن زبدة فلسفته هي أن الدنيا إرادة - أما حقيقتها وكنهها فمجهول، وأما ظاهرها الذي تتجلى فيها وتتراءى فهو ذلك الكون المشتمل على الزمان والمكان والمادة والجماد والنبات والحيوان والإنسان ولكن هذا الكون هو ظاهرة فقط لتلك الجرثومة، والأصل أي الإرادة هو خيال ليس إلا لا وجود له إلا في الذهن، فالحياة في نظر شوبنهور ليست إلا حلماً ولكنه حلم أليم مزعج. وذلك لأنه لما كانت الحياة إرادة فهي إذن رغبة وحاجة، والحاجة كما لا يخفى لا تزال تتطلب الإسكات والإشباع ومعنى هذا هو الحرمان والتلهف وهذان مشفوعان أبداً بالألم. فهو يستدل بهذا على أن معاناة الألم والكمد هو الغرض الذي ترمي إليه الحياة والغاية التي إليها تقصد. قال: إذ لو لم تكن ومكابدة الأسى هو ما ترمي إليه الحياة لكانت الحياة بلا غرض ولا مقصد. إذ من السخف والحماقة أن نعد ذلك المقدار الهائل من الهموم(46/20)
والأحزان الذي يملأ الحياة وينشأ من حاجاتها وضرورياتها منفصلاً عن الحياة ذاتها وأنه لا يرمي إلى غرض مقصود وأنه نتيجة الصدف ليس إلا.
ولست أعرف أكذوبة هي أسخف مما تؤيده تلك المذاهب الفلسفية القائلة بأن الشر سلبي في ماهيته وكنهه والخير إيجابي. والحقيقة هي العكس فإن الشر هو الإيجابي الذي يقع في الشعور فيجعل نفسه محسوساً ملموساً. والخير هو السلبي. أو بعبارة أخرى أن السعادة والرضا والراحة ما هي إلا سد الحاجة وزوال الألم. وهذا هو السر في أننا إذا أصبنا اللذة وجدناها دون ما كان ينتظر وإذا أصبنا الألم وجدناه فوق ما كان يتوقع.
يزعم الزاعمون أن اللذة في الدنيا ترجح بالألم أو على الأقل تعادله. فإذا أراد القارئ دليلاً قاطعاً على بطلان هذا الرأي فليتصور حيوانين أحدهما يفترس الآخر، وليتوهم لذة الأكل وعذاب المأكول وليوازن بين مقداري هذين الشعورين المتناقضين. هل يجد أدنى نسبة بين مقدار اللذة ومقدار الألم؟
ونحن نرى أن أحسن عزاء في المصيبة هو تدبر المصاب مصائب من هم أسوأ منه حالاً. ولكن أي دليل في مثل هذا العزاء على شقاء العالم وبؤس الحياة.
ومن المصائب التي لا يستهان بها شدة ضغط الوقت علينا ومطاردته إيانا وسوقه لنا سوقاً عنيفاً لا يدعنا نتنفس كأنه السجان يدفعنا إلى العمل بالسياط فإذا ما خفت عنا وطأته هنيهة فإنما يفعل ذلك ليسلمنا إلى الضجر والسآمة.
ولكن المصيبة لا تخلو من النفع والفائدة فكما أنه لولا ضغط الهواء الجوي على جسد الإنسان لانصدع ذلك الجسد وتمزق فكذلك لو رفعت عن الناس كافة الاحتياجات والمشاق والشدائد فأصبحوا الناجحين الفائزين الموفقين في كل ما عالجوا وتعاطوا لانتفخوا خيلاء وغلواء فأصبحوا - وإن لم يتصدعوا ويتمزقوا - غاية في الخرق والسفه والحماقة، ولا يبعد أن ينالهم الخبل والجنون فلا غرو إن كان كل امرئ في حجة إلى قدر محدود من الهم أو العناء أو الألم في جميع أوقاته. فالسفينة بلا صابورة (ثقل من حجارة أو حديد يجعل في قعر المركب لتخفيف فعل العواصف) تكون مزعزعة هوجاء طائشة.
ولا مراء في أن الكد والنصب والعناء هي نصيب السواد العظم من الخليقة مدى أعمارهم ولكن هب أن الأوطار والمآرب نيلت بمجرد حصولها في النفس فكيف يقضي الناس أيامهم(46/21)
وبماذا يسدون فراغ أوقاتهم؟ هب الحياة كانت جنة نعيم وفردوس لذة وأنهارً من لبن وعسل مصفى وخمرة لذة للشاربين حيث كل (كثير) يفوز بعزته وكل جميل يظفر ببثينته بلا تعب ولا مشقة إذن لمات الناس مللاً وسآمة أو لشنقوا أنفسهم ضيقاً وضجراً أو لشبت الحروب والمجازر حتى ترى الناس يلحقون بأنفسهم من البلاء أضعاف ما تنالهم به الطبيعة الآن.
الناس في حداثة السن وريعان الصبا كغلمان بدار تمثيل ينتظرون رفع الستار تراهم فرحين متهللين يتلهفون على ابتداء الرواية فمن نعمة القدر علينا جهلنا بما يسدل عليه الستار وما هو مخبوء وراء المسرح. فنحن إذ ذاك كالمساجين الأبرياء المحكوم عليهم لا بالموت لكن بالحياة غير أنا لا نزال نجهل معنى ذلك الحكم. وكلنا مع ذلك يشتهي امتداد الأجل وبلوغ أرذل العمر - يشتهي بلوغ الحالة التي يقول فيها المرء (اليوم شر وغداً شر من اليوم وهكذا حتى يجيء من الأيام شرها وأسوأها).
وأنت لو حاولت توهم كل ما تشرق عليه الشمس في مسيرها من كدر وغم وعناء وبؤس وعذاب على اختلاف ضروبها وأصنافها لتمنيت لو أن الشمس لم تقدح شرارة الحياة من هذه الكرة الأرضية ولم تستل ظاهرة الحياة من جوفها وأن ظهر الأرض لم يزل كسطح القمر في حالة تبلور.
وأنك لو تأملت الحياة لوجدتها شيئاً عديم النفع والجدوى وحادثاً مكدراً لصفاء سكينة العدم. وهب أنك ظفرت من الوجود بعيشة محتملة لا باس بها مرضية بالنسبة لغيرها لكنت الجدير بعد هذا كله أن تعد حياتك على الإجمال خيبة وفشلاً بل خدعة وغروراً.
لو أن رجلين مما كانوا أصدقاء في حداثة السن تقابلا في الشيخوخة بعد افتراقهما طول العمر لكان أوى ما يخامر نفسيهما من الشعور ذ ذاك هو الإحساس بخيبة الحياة على الإجمال. وذلك لأن خواطرهما تكر راجعة في هذه اللحظة إلى زمن الشبيبة وعصر الصبا إذ غرة السعد ضاحكة متبلجة، وجذوة الأمل ذاكية متأججة.
وماء الندي عذب اللصاب مرقرق ... وعود المنى وحف النبات رطيب
وإذ ساحة العيش منفسحة لأعينهما تتألق في سنا فجرها الأرجواني وتختال في برد نورها القاني فيا طيب ما وعدت وما عللت. ويا خبث ما أعطت وما نولت.
فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل(46/22)
وهذا الشعور بخيبة الحياة الذي يعتري الرجلين عند اللقاء يتسلط على نفسيهما ويتغلب على كل شعور آخر حتى أنه لعظمه وشدته يأبى أن يبرز في صورة التعبير ويأنف أن يفيض على عذبة اللسان. ولكنه يبقى حاضراً في الوجدان وصبح أساساً يبنى عليه كل ما يدور بني الرجلين من القول.
من امتد به الأجل حتى أدرك جيلين من الناس أو ثلاثة كان كمن جلس مدة في خيمة (الحاوي) فشاهد ألاعيبه دفعتين أو ثلاثاً متواليات. فغرابة هذه الألاعيب ودهشتها هي في مشاهدتها مرة واحدة حتى إذا ما فنيت جدتها وانكشفت خدعتها زالت الغرابة عنها والروعة.
ومع أنك لا تجد في طول الأرض وعرضها من هو خليق أن يحسد على حظه وقسمته فإنك لتجد الملايين الذين لا يستوجبون منك غير الرثاء والرحمة.
إنما الحياة تكاليف فرض علينا أداؤها. وحمل قدر لنا أن نسير به في غاية، وإن ساعة الفراغ من هذا العمل الشاق وطرح هذا الثقل الفادح - أعني ساعة الخلاص والراحة المنشودة المشتهاة، إنما هي ساعة الموت.
أرأيت لو أن خروج الجنين إلى هذا العالم كان بمحض إرادته واختياره أكان يجرأ على الخروج إليه مخلوق. أم كنت تجد على ظهرها إنساناً؟ ولو كان واضع النطفة يضعها عن ترو وتدبر وحساب للعواقب - لا عن غريزة عمياء - أكنت تجد في الناس من تبلغ به القسوة وغلظة الكبد أن يتسبب في إيجاد من يعلم أنهم سيحملون عبء الحياة الفادح ويتجرعون غصصها المضاضة؟
أنا أعلم أن الكثيرين سيعترضون على فلسفتي بأنها داعية إلى اليأس والقنوط خالية من دواعي الانشراح والإنس وإن الناس يؤثرون أن يقال لهم أن الخير فيما اختاره الله وكل ما قضاه جميل. ألا فاذهبوا إلى قساوستكم أيها الناس ودعوا الفلاسفة وشأنهم وعلى كل حال لا تكلفونا أن نلائم بين آرائنا وبين ما تعلمتموه في الكنائس. ألا إنا لن نجيبكم إلى هذه الدعوة ما بقي فينا عرق ينبض. ولسان ينضنض ولكن امضوا إلى أدعياء الفلاسفة وغشاشيهم فإنهم لن يبخلوا عليكم بما تطلبون. اذهبوا إلى هيجل وصاحبيه فيشتي وشلنج وشيعتهم فقد أخذوا على عاتقهم ا، يعلموا مذهب (التفاؤل بالخير) ولو علموا أنه مناقض للحق. وما لهم(46/23)
وتأييد الحق وجل همهم الدرهم والوسام ووظيفة الحكومة.
قد ذكرت القارئ أن كل سرور في هذه الدنيا سلبي في كنهه وماهيته أعني أنه خلاص نمن الألم الذي هو العنصر الإيجابي في الحياة ينتج عن هذا أن سعادة أي مخلوق تقاس لا بمسراتها وملاذها بل مقدار خلوها من الألم من الشر الإيجابي. إذا كان ذلك أساس الموضوع فالحيوان إذن أسعد من الإنسان. وهنا نأخذ في هذا المبحث بطريقة أدق وأعمق.
أنه مهما تعددت أشكال السعادة والشقوة البشرية فالأساس الجوهري في جميعها هو اللذة أو الألم البدني. وهذا الأساس محدود جداً: إذ لا يتعدى الصحة والغذاء والوقاية من الحر والبرد والبلل والشهوة الجنسية. أو فقدان كل هذه الشياء. عليه فالإنسان من وجهة اللذة البدنية ليس أحسن حالاً من الحيوان إلا من حيث كونه أشد منه إحساساً وأرهف شعوراً بكافة أصناف اللذة لتفوقه عليه في وظائف الجهاز العصبي وقابلياته - على أنه لعين هذا السب يكون أيضاً أشد من الحيوان شوراً بكافة ضروب الألم. ولكن أي فرق هائل بينه وبين الحيوان من حيث سورة الانفعالات واضطرام نيرانها وبعد أعماقها! ومع ذلك فالنتيجة في كلتا الحالتين واحدة - أعني تحصيل الصحة والغذاء والملبس وهلم جرا.
وأهم مصادر هذه الانفعالات هو اشتغال الذهن بالماضي والمستقبل ولهذا أثر شديد في كل ما يصنعه الإنسان. وهذا أيضاً هو المنبع الحقيقي لهمومه وأكداره ومخاوفه وآماله - تلك الانفعالات التي لها من الأثر في نفسه ما هو أشد وأبلغ مما لحاضر الآلام واللذات في نفس الحيوان الذي لا يعرف غير الحاضر ولا قدرة له على الاشتغال بالماضي والمستقبل. وكذلك نرى أن ملكة التأمل وذكرى الماضي والنظر في المستقبل - هذه الملكة تنزل من الإنسان منزلة آلة وظيفتها حشد الآلام والملاذ وتكثيفها وخزنها في وعاء قلبه. ولكن الحيوان ليس له شيء من هذا القبيل. فكلما لحقه ألم كان كأنما أصابه لأول مرة في حياته وإن كان قد وقع فيه قبل ذلك آلاف المرات. فهو لا قدرة له على استجماع إحساساته. ومن ثم ما يلاحظ فيه من عدم الاكتراث والمبالاة: - نعمة يحسده عليها الإنسان - هنيئاً له!.
ولكي يضاعف الإنسان لذاته عمد بمحض إرادته إلى مضاعفة مطالبه وحاجاته - وكانت في الأصل معادلة لحاجات الحيوان في سهولة الطلب، ومن ثم كان الترف في جميع صوره وأشكاله: من طعمة لينة وحسوة مساغة وما إليهما من مناعم المطاعم ومطارب المشارب(46/24)
كالتبغ والأفيون وصنوف الخمر - دع التأنق في الملبس والمركب والمسكن والتفنن في ضروب الفرش وآلات الزخرف والزينة.
ويجيء بعد ذلك مصدر غريب للسرور وبالتالي للألم - وهذا المصدر قد أوجده الإنسان لنفسه وهو بعض نتائج ملكة التأمل والتخيل الآنفة الذكر وهذا المصدر يجشم الإنسان من المتاعب أضعاف أضعاف قيمته - يجشمه أكثر مما يتكلف في سبيل سائر مشاغله ومهامه برمتها - وأعني بهذا المصدر خلة الطمع والطموح إلى الجاه والمنصب وابتغاء المدح والخوف من الذم - أو بعبارة أوضح اهتمام المرء بآراء الناس فيه.
وهنا نحاول أن نشرح على وجود الشر في الدنيا وكونها مبنية على الآلام مطبوعة على الأكدار والهموم والآفات. ونقارن من هذه الوجهة بين مختلف العقائد والأديان لنرى أيها أشد التئاماً مع الواقع وأكثر انطباقاً على حقيقة الحياة فنقول: يزعم البراهمة أن الإله براهما خلق الدنيا بطريق الخطأ والزلل. وللتكفير عن هذه الحماقة أجبر نفسه على البقاء في الدنيا بنفسه حتى يكفر بذلك عن سيئته فينال العفو والغفران المؤدي إلى الفكاك والخلاص. وهذا في رأيي تعليل حسن بديع لخلق الدنيا وإيجاد العالم. ويزعم البوذيون أن سبب نشوء الدنيا هو حدوث تشويش - مجهول الكنه والعلة - في سكينة صفاء العالم السماوي - نيرفانا - (هو عند البوذيين عالم الخلود والراحة الذي تنتقل إليه أرواح الصالحين باتباع وصايا دينهم ولزوم سننه. وفي هذا العالم تنقذ الأرواح من آفة التناسح أي تكرار العودة إلى الدنيا - دار الردى وقرارة الأكباد - في أجسام جديدة). وأن هذا التشويش الذي طرأ على نيرفانا إنما حدث بطريق النحس والشؤم أي بلا علة. وهذا يشبه نظرية تكوين الدنيا عند علماء الطبيعة إذ يقولون أن الشمس التي هي أصل هذا العالم الأرضي ومنبعه كانت في الأصل (أي قبل ظهورها في صورة شمس) قطعة من غيم لا يعرف كيف تكونت. ثم يزعم البوذيون أنه بعد تكون الدنيا في عالم نيرفانا بواسطة ذلك التشويش الذي حدث في ذلك العالم - لم تزل هذه الدنيا تنتقل من حالة سيئة إلى حالة أسوأ (وهذا مناظر لما ورد في مقال علماء الطبيعة من تطور العالم الأرضي أثناء التكون من نظام إلى نظام) إلى أن وصلت إلى حالة البؤس والشقاء التي هي عليها الآن. وهذا أيضاً تعليل بديع لخلقة الدنيا وحالتها! وذهب اليونان إلى أن وجود الآلهة والدنيا هو أمر أوجدته(46/25)
ضرورة مجهولة لا يدرك سرها. وهذا تعليل مقبول يصح لنا أن نكتفي به حتى نوفق إلى خير منه. ويزعم الفرس أن المسيطرين على الدنيا إلهان - إله خير (هورمز) وإله شر (هرمن) وهذان لا يفتآن في حرب دائمة. وهذا تعليل لا بأس به. أما قولهم أن إلهاً يخلق هذه الدنيا المملوءة بالهموم والكرب والأحزان لمجرد خاطر خطر بباله وهوى نشأ في نفسه ولأنه أراد أن يلهو ويتلذذ بهذا العمل حتى إذا فرغ منه أخذ يصفق بيديه إعجاباً بصنعه وصاح قائلاً أن كل ما صنعته حسن جميل - فهذا لا يصح أن يقال به.
وعندي أن أحسن تعليل يمكن تقديمه في هذا الصدد هو أن نتوهم أن وجودنا في هذه الدنيا هو عقاب يوقع علينا لذنب جنيناه في عالم سابق لهذا. وأنا كذرية الرجل الفاسق نخرج إلى الدنيا مثقلين بجريمة سلفنا. وأن ما نكابده من الآلام ليس إلا تكفيراً لتلك الجريمة وهذا التكفير هو الوسيلة الوحيدة للبراءة والخلاص.
فإذا أردت الراي الصحيح في تقرير حقيقة هذه الدنيا والمنهج السديد للسير فيها فما عليك إلا تعدها كدار للندم والتوبة أعني (كإصلاحية المجرمين) كما ورد في مذاهب البراهمة والبوذيين وآراء فلاسفة اليونان أمثال فيثاغورس وأمبوريكليس وكما قال (شيشرون) وصرح فانيني الذي رأى معاصروه أن إعدامه بالنار أسهل عليه من إبطال برهانه - والذي قال بصريح العبارة (لقد أفعم الإنسان بجميع أصناف البؤس والألم والبلاء فلولا محاذرتي مناقضة الدين المسيحي لقلت أن بني البشر ليسو إلا أبالسة متقمصين أجساماً آدمية يكفرون الآن عن سالف ذنوبهم بمكابدة أصناف العذاب والبؤس.
فإذا عودت نفسك أن ترى في الحياة هذا الرأي لم تجد الدنيا في أحزانها وآفاتها وآلامها إلا جارية على سننها. منتجة لتلك الثمرات التي هي أشبه ببذورها وأليق بجذورها. وأصبح عجيب الزمان غير عجيب. وغريب الحدثان غير غريب. وألفيت أن كل شيء هو كما ينتظر وينبغي أن يكون - في هذه الدنيا التي يعيش فيها كل امرئ ليكفر باحتمال الهموم والمحن عن سالف جريمة البشر في حياة غابرة. وليعلم القارئ أن من أسوأ سيئات إصلاحية المجرمين (كناية عن الدنيا) كما تقدم رداءة الوسط وسوء الخليط. وحسبك أن أفراد مثل هذه الإصلاحية هم قوم مجرمون. فإذا كنت أيها القارئ لسوء حظك أكرم جوهراً وأطيب عنصراً م السواد الأعظم من معاشريك وزملائك في السجن فأنت تحمل بين جنبيك(46/26)
قلباً أكبر وروحاً أطهر من تلك القلوب الحكرة والأرواح القذرة فاعلم أنه لا ملجأ لك سوى الصبر والتجمل، ولا حيلة لك سوى التسامح والإغضاء والعزلة والابتعاد.
قال الحسن بن سهل: عجبت لمن يرجو من فوقه كيف يحرم من دونه. وكان يقول: الشرف في السرف فقيل له لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير. وقال عبد الحميد الكاتب: لو كان الوحي ينزل على أحد بعد الأنبياء فعلى بلغاء الكتاب. وقال أرسطو: ما زلت أشرب ولا أروى فلما عرفت الله رويت من غير شرب. وقال اعص الهوى واطلع من شئت. وقال سقراط استهينوا بالموت فإن مرارته في خوفه. وقال ابن المعتز:
كم من والد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الأبعد
كالعين لا تبصر ما حولها ... ولحظها يدرك ما يبعد(46/27)
الدولة الزائلة
مقتل القيصر ووصف أخلاقه وشرح سيرته
الكاتب روبرت ويلتون مكاتب صحيفة التيمس في بتروغراد من أكبر الكتاب الذين خبروا روسيا أوسع الخبرة وأقاموا فيها أمداً طويلاً، وقد امتزج بعظمائها وعاشر أكابرها، وأسهم في جميع أنديتها السياسية الكبرى، حتى عد من الثقات في الرأي إذ جاء عن الروسيا أو حكامها، أو شعبها، وقد وضع في الأيام الأخيرة بحثاً مستفيضاً في مجلة مشهورة من مجلات الغرب ذهب فيه مذهباً غريباً ودلى برأيه آية في العجب وهو أن قيصر روسيا لم يقتل ولم يذبح، وإنما لعله يعيش الآن وينعم بالحياة وتتردد فيه أنفاسه. ثم انتقل إلى الكلام عن أخلاق الرجل والبواعث التي بعثت على قتله، والحركة الأخيرة في الروسيا التي أدت إلى سقوط دولة القياصرة، وقد آثرنا أن نطرف القراء بهذا المقال الجديد في الأسطر الآتية:
قال الكاتب:
هل قتل نيقولا الثاني أم لم يقتل. .؟ إن الأنباء التي نشرت بعد الحادث الذي زعموا أنه وقع لم يحققها ثقة معترف بصحته، ولم تأت عليها الأدلة القاطعة، بل لم ينهض لإثبات الحادث إلا ما ورد في الصحف الألمانية وإلا إعلان بالتلغراف اللاسلكي من مجلس حكومة البولشفية، وهذه الأنباء قد اتفقت جميعاً من وجهة واحدة وهي أن القيصر قتله العسكر الذين قاموا على حراسته، وقالوا أنه لم يحاكم القتيل قبل القتل، بل أعدم بالرصاص بلا بحث ولا تحكيم مخافة أن ينقذه عساكر السلوفاك الذين كانوا يدنون إذ ذاك من مدينة أكترنبرج عاصمة مقاطعة اليورال، حيث نقل القيصر أسيراً من مدينة طوبولسك قبل الحادث المزعوم بأشهر. وقد قيل أن القتل حدث في اليوم السادس عشر من شهر يوليو، ثم لا يزال هناك اضطراب واختلاف في هذا التاريخ، إذ تقول بعض البلاغات والأنباء أنه وقع في السادس عشر من شهر يونيو. على أن كثيرين من أصدقائي الروس الذين يعدون ثقات، لا يشك أحد في صدق أنبائهم يكذبون هذه الرواية، ويعتقدون أن القيصر لم يقتل وإنما شبه لهم، وإن إنساناً آخر يشبهه أتم الشبه قتل في مكانه، وهذا هو السبب الذي بعث شكوكي وأقام الريب في فؤادي، ولي الحق في هذا الشك ولي الشفائع لهذه الريبة فقد(46/28)
وصفت الصحف منذ زمن كيف جيء بالقائدين المشهورين ألكسيف وكورنيلوف إلى ساحة عمومية في مدينة روستوف على نهر الدون في مبتكر ربيع العام الماضي فأعدما على مرأى من العامة والسابلة، ثم علم القاصي والداني أنهما حيان يرزقان في شهر يوليه.
وكان زعم مقتل القيصر كذلك خطة من الخطط السياسية الألمانية، إذ كانت ألمانيا تطمع في أن تعيد حكومة القيصر إلى عرشها، وتثبت صولجانها في يد قيصرها، فزعموا أنه قتل حتى يثور الكره في قلوب الناس للبولشفية، ويتمنوا لو أن القيصر كان حياً، وتذهب نفوسهم حسرات عليه، حتى إذا حانت الفرصة المناسبة أخرجوه من مكمنه فساقوه إلى عرشه، وقد وقع في التاريخ حوادث من هذا القبيل زعم فيها أن القيصر قتل، ولم يكن قتل ولا صلب، وإنما شبه لهم، فمنذ ثلثمائة عام ادعى كثيرون أنهم قتلوا القيصر بطرس الثالث، مع أن ذلك القيصر الأسبق قد خنق بأمر زوجته التي أصبحت بعده القيصرة كاترين الكبرى، وقد اتفق بعد ذلك أن القيصر ألكسندر الأول الذي زعموا أنه مات فجأة على أثر إعلان حرب القرم، ظهر بعد ذلك أنه كان على قيد الحياة سنين عدة ناسكاً في سيبريا الشاسعة.
وقد حدثني أحد الصدقاء الذين نجوا من مخالب الموت على أيدي زعماء البولشفية في الوقت الذي زعم أن القيصر قتل فيه بأنه لا يستطيع لمقتل القيصر تصديقاً، وراح يقول: أنهم قبضوا علي وحكموا بالإعدام خمس مرات في بضعة اسابيع، وقد عرفت كيف كان من السهل جداً علي أن أنجو من أيديهم، وفي الروسيا خلق كثيرون هم أشبه بالقيصر من الليلة بالبارحة، ولعل الجند الذين كانوا على حراسته أخطأوا ووهموا فيه فظنوا الرجل القيصر، وهو ليس هو، ولعلكم تتذكرون أن الجند الروس في أوائل هذه الحرب كثيراً ما جاؤوا بأسير من الأعداء زاعمين أنه غليوم أو هندنبرج، ولا يكاد يفلت السجين في الروسيا من أيدي السجانين والشرط والحراس حتى يستطيع أن يصيب جوازات سفر مصطنعة بكل سهولة، فمنذ قامت حكومة البولشفية أصبحت إدارات الحكومة تتاجر تجارة عظيمة في كل قرية ومدينة ببيع الأوراق الرسمية أو جوازات السفر بثمن بخس - دراهم معدودات.
وقد رأيت القيصر نيقولا الثاني منذ كان صبياً صغيراً، ثم شهدته فتى يافعاً يمشي إلى(46/29)
جانب زوجه مريم، وهما يلوحان يومذاك زوجين جيدين سعيدين، يضحكان ويبتسمان في وجوه الجميع الذين يحوطونهما، وكان نيقولا يلوح أضعف جثماناً من أخيه جورج الذي قضى نحبه من السل في أنضر مراحل العمر، وقد اجتهد مستر هيث المعلم الإنكليزي الذي ألقي إليه أمر العناية بتأديب الفتى نيقولا في تربيته على الطراز الإنكليزي وقد رأيته بعد ذلك قوي الجثمان صلب العود جهير الصوت إذ جعلت الرياضة والألعاب البدنية التي لقنها على الطراز الإنكليزي رجلاً قوياً من ذلكم الفتى الضعيف النحيف الأعجف القصير القامة، ولكن لسوء الحظ لم تستطع التربية أن تزيل نقائض الخلق ومعائبه، فراح الجثمان قوياً صلباً، ولما يزل جداره الذي يقوم عليه ضعيفاً متأوداً، وكان بطبيعته ذكي الفؤاد، أسوه بأهل جلدته فبقي الرجل ضعيفاً مستليناً مسترخي الإرادة يستمع لكل إنسان، دون أن يحكم فيما يسمع رأياً، أو يدير فكراً، أو بصراً، وأصبح بذلك هدفاً للحاشية، وضحية في أيدي الأدنياء وأهل المآرب السوأى، ولكنه مع ذلك كجميع ضعفاء الإرادة قد ينقلب في بعض الأحيان فيكون أعند خلق الله ولاسيما إذا اعتدى أحد على ما يحبه أو يهواه.
وكانت هذه النقائض الخلقية معروفة عند المقربين منه وأهل البلاط، قبل اعتلائه العرش، فجعلوا يستخدمونها في سبيل مصالحهم وغاياتهم، وكان القيصر من أصحاب الشخصيات المزدوجة، فإن في فؤاده ناحية من الخير، يقابله في الناحية الأخرى الشر كله، وقد قال أحد أقاربه أن الرأي الأول الذي يخطر للقيصر طيب صالح، ولكنه قد ينفذ الرأي الثاني، وهو عند الناس جميعاً أصلح من الأول، وإن كان عند القيصر أسوأ وأدل على الفطرة الشريرة.
ولعل أسوأ ما يقال عن القيصر نيقولا الثاني أنه لم يظهر في حياته شيئاً من الشخصية، بل كانت حياته طوال عمره بلا لون، ولم يكن يبدو في طبيعته شيء من الشر في طفولته أو شبابه، ولم تكن له مخاطرات الشباب وشقاواته ومجازفاته، بل كان ضؤولة من الضوؤلات، وكان هادئاً ساكناً كأتفه الأشياء سكوناً بل كان كل ما يتلذذ به ويتلهى في صباه ورجولته وكهولته هو الجلوس ليلاً على ضباط حرسه القيصري، ومحادثتهم والسمر معهم، واحتساء المقادير الكبيرة من الخمر والمشروبات الكحولية ثم يتلو ذلك الغناء والضحك والرقص والمجون.
ولم تكن له ملذات غير تلك، ولا ملاهي ولا عادات ولا منازع وأميال، وكانت رياضاته(46/30)
منتهى البساطة والهدوء، وكان أحب شيء إليه المشي ولم يكن يميل إلى الصيد والقنص أو ركوب الزوارق، وكانت الغابات التي حفظت لصيده في بولونيا ولثوانيا قلما تراه أو تشهده، وكانت الرسوم الإمبراطورية تقضي عليه أن يمكث دهراً في البحرية والجيش، فاشتغل في كليهما، ولكنه لم يكن مع ذلك جندياً ولا بحرياً، وقد يظن الغربيون أن هذا هو الغباء والبلادة بعينها، ولكن القيصر كان في ذلك كبقية أهل الروسيا، ولا سيما الطبقة الراقية المثرية منهم، فهم أكره الناس للرياضات الخطرة التي تطلب إنهاك البدن، وإتعاب الأعصاب، ولعل السبب في ذلك هو جو الروسيا ومناخها فهو لا يعين الناس على طلب الرياضة بل يعيقهم ويصدهم، وقد كان القيصر يشبه أمته في صفة أخرى، وهي نزعة الأوهام والخرافات.
فقد كان أهل البلاد قبل ظهور الرجل الغريب راسبوتين يعنون أشد العناية بالأمور الروحانية، وكان الدجالون من جميع الأجناس والأشكال والألوان ينزلون بالقصر كأحب الضيوف، وأكرم النازلين، وأعز الزوار، نذكر من هؤلاء الشقي فيلبس والدكتور باباس، فقد طلب أهل القصر حضورهما من باريس خاصة لاستحضار الأرواح في القصر وإلقاء محاضرات في الإسبرايتيواليزم وقد اهتم القيصر والقيصرة بهذا الموضع إذ حضهما عليه أميرتان من أمراء الجبل الأسود كانتا تقيمان في البلاط الروسي وكانت إحداهما الأميرة ميلتزا التي تزوجت بعد ذلك الغراندوق نيقولا قائد الروس المشهور.
وينبغي أن تعلم أن الروس قوم متدينون يضرب بهم المثل في نزعاتهم الدينية واستمساكهم بالخزعبلات والأوهام، والسواد الأعظم من الأهلين فلاحون، يعيشون هدفاً للجهل والخرافة، ولا يشغل أذهانهم إلا أمران، أرضهم والشراب، فهم لا يملون منهما، ولا يبرمون بهما، ولا يشبعون من الأرض ولا يصيبون من الخمر رياً، فهم أعطش الناس إليها، وإن ملأت بها أجوافهم، ولذلك كانت الخمر والخرافة والنزاع إلى تصديق الأوهام كثيراً ما تؤدي بالروس إلى أمور غريبة وطرق عجيبة، وهذا هو منشأت وجود طوائف مختلفة غريبة الأطوار في الروسيا بين متصوفين ونساك ومعذبين لجسومهم في سبيل تطهير أرواحهم، وتشويه أبدانهم، وجذع أنوفهم، وما إلى ذلك من ضروب العذاب، ومنهم خلائق كثيرون يحبسون أنفسهم في دورهم ويطلقون النيران تأكلهم هم وبيوتهم، ومن بين(46/31)
طوائفهم المتعددة طائفة تسمى فلاجلانت يعذبون أنفسهم ويسومونها أشد الخسف، قاصدين بذلك إبادة جنسهم، وانقراض عنصرهم من الأرض بنة، ومنهم طائفة أخرى تسمى محاربي الأرواح، يعملون على إبادة النسل والأملاك والحرث والضرع وقد أدخلت تعاليم المسيحية منذ زمن غير لبعيد ولكن الكنيسة كانت أشد ويلاً وحرباً عليهم من سواها، فبقيت الأوهام على حالها، بل اشتدت وتفاقمت وكره الروس القساوسة والكهنة ورجال الدين حتى أصبح الاعتقاد بينهم سائداً أن الرجل الذي يلقى قسيساً في الطريق يصيبه الشؤم، ويعاجله النحس، طوال نهاره، والفلاحون يبصقون وراءهم إذا التقوا بالقسس في الطرق تفادياً من الشؤم، ولم يكن معشر الدينيين ورجال الكنيسة يصيبون شيئاً من الاحترام في الروسيا، لا من الطبقة العامة والصعاليك ولا من المهذبين ورؤوس القوم وسادات الشعب.
على أن هناك بضعة أفراد من رجال الدين استطاعوا أن يحدثوا تثيراً عظيماً في نفوس القوم، لأنهم كانوا أخوان فضل وقوماً أخياراً، تقاة مخلصين، ومنهم أليادور الذي أثر في قلوب النساء في مقاطعات الفولجا وتبعه منهن ألوف إلى الحج إلى الأماكن المقدسة، وبنى أشياعه كنيسة عظيمة أمنع من الحصن وأمتن جداراً. وهناك جعل يستخف بالسلطات الحكومية والدينية أشد الاستخفاف.
وكان راسبوتين شخصاً آخر من الأشخاص الغامضين ذوي التأثير العجيب السحري الرهيب، ولا سيما أنه كان جاهلاً كأفراد الشعب أمياً لا يقرأ ولا يكتب وفلاحاً شريراً لا خير فيه وقد أشاع عنه الناس قصصاً غريبة، ووضعت عنه حكايات خرافية لا يحصيها العد، ولكن أمر الرجل لا يحتاج إلى كل هذه القصص فإنه لم يكن له تأثير إلا على النسوة، أما الرجال فلم يحدث فيهم حدثاً، وكان راسبوتين هذا اسمه معناه في الروسيا (الخليع الإباحي المتهتك) وفقد كان الرجل في الحقيقة كذلك، وقد كان مولده في قرية صغيرة في سيبريا، واشتغل في أول أمره خادماً في دير فتعلم بضع كلمات من الإنجيل واقتطف منه شذرات كان يسمعها من أفواه سكان الدير وساداته.
وكانت نساء الطبقات العالية والطبقات الدنيا في الروسيا تعتاد بين الحين والحين زيارة الأديرة الواقعة في أنحاء المملكة، وأما النسوة الصغيرات فكن يسعين إليها على القدام، يستجدين في الطريق ويسألن الحسنات، حتى يبلغن الدير فيقدمن تحفاً وهدايا لزعماء الدير(46/32)
وأهله، وأما النسوة الغنيات فكن يركبن القطار أو يسافرن في المركبات وينزلن بأفخم الحجرات من الأديرة، فالتقت يوماً سيدة من الأنجم الزهر في الروسيا براسبوتين في ذلك الدير الذي كان خادماً به، فأعجبت به وراق في عينها فاصطحبته في رجعتها إلى موسكو ولم تكد تحتويه تلك المدينة حتى اصبح يختلف إلى أبهى أبهاء القوم ويزور أفخم أسمارهم، وظل يدنو رويداً رويداً من التعرف بأهل البلاط والتردد على أفواههم.
ولست بحاجة إلى إعادة القصة التي تحكي عنه وكيف أثر في ذهن الإمبراطورة حتى اعتقدت أنه قادر أن يشفي ابنها الصغير من مرضه ويرد غليها حياته، وينقذ أنفاسه وكانت تتردد على شفتيه وكيبف أصبح راسبوتين فمن الخطورة في البلاط جعل له النفوذ الأكبر في حكومة القيصر، وأثار السخط على تلك الحكومة في نفوس الشعب، وجر عليها الويل والحرب، وكيف كان في الجيش إذ طن أنه من صنائع الألمان فعمل على قتله والتخلص من شره، بل اقتصر على ما لم يذكر في الصحف من التفاصيل الحقيقية عن مقتله.
في أواخر سنة 1916 أجمع طائفة من الضباط في بطرغراد على قتل راسبوتين. فجعلوا يقربونه ويتحببون إليه، حتى تمكنوا من دعوته إلى قصر البرنس فيلكس يوزيوف، أحد اقار بالقيصر وأنسبائه من ناحية الزواج، وجاءوا بفتاة من الراقصات تدعى المدموزايل ج. . . لتكون الفخ والطعم للصيد والاحتيال وكان من بين الأضياف الغراندوق ديمتري ابن عم القيصر ونائب مشهور في عالم النواب يدعى بيورشكفتس، فلما اكتمل العقد، وابتدأت المأدبة. راح راسبوتين كعادته يلح على الشراب، ويفرط في احتساء الكؤوس، واشتفاف الأقداح، فلما نتشى وسكر حتى أصبح لا يعي من فرط السكر قدم إليه كأس مسمومة فاجترعها، وانصرفت إذ ذاك الراقصة التي جيء بها لأنها كانت قد أتمت مأموريتها، فلما شربها جعل القوم ينظرون إليه محملقين، منتظرين أنه سيخر ميتاً، فلم يبد عليه شيء من ذلك، ولعل ذلك لأن السم لم يكن فعالاً زعافاً، أو لأنه شرب قبله مقادير كبيرة من الشراب، ولكنه لم يلبث أن اضطرب قدماه، ونهض مترنحاً يريد الباب، فلبث البرنس فليكس وشركاؤه لحظات ينظرون إليه، ثم نهض الأمير بعد ذلك فتبعه وهو معتقد أنه سيراه بعد الباب بخطوات منبسطاً على أرض الحجرة قتيلاً، ولكن لشد ما كانت دهشته إذ رآه واقفاً في الحجرة المداورة تحت أيقونة تمثل صورة المسيح، وهو يكلم أحد خدم القصر، وهو(46/33)
يلوح كأنه يغالب إرادته ويحاول الاستناد والوقوف على رغم قوته، فرفع الأمير إذ ذاك مسدسه وأطلق الرصاص على صدر الرجل، فخر جثة هامدة، وعادة الأمير وقد اطمأن إذا ذاك ووثق أن المسموم قد قتل، فهرع إلى الحجرة الأخرى وأنبأ أصحابه بالخبر، فنهضوا جميعاً وراحوا يشهدون مصرع راسبوتين، فلم يلبثوا أن دهشوا أعظم الدهشة، إذ رأوا الرجل يزحف على الأرض يريد أن يفارق البيت جهد قوته، فأخرج كل مسدسه وأطلق الجميع الرصاص فأجهزوا عليه ثم حملت الجثة بعد ذلك إلى سيارة بالباب ونقلت إلى أحد ارباض المدينة فطرحت في النهر، حيث أخرجت منه غداة الغد.
هذه هي تفاصيل مقتل راسبوتين على حقيقتها كما قصها علي شاهد عيان، ولكن ذيل القصة لا يزال أغرب وأعجب، فقد كان يعتقد براتوبولوف الوزير المجنون الذي أراد أن يجاهد الثورة وكانت تعتقد القيصرة المتهوسة أن موت راسبوتين ولا ريب جالب النحس على الروسيا داك عرشها، ذهاب بريحها، وأما الشعور الذي ثار في أفئدة القتلة فلا يعرف عنه شيئاً، بل أن ما أعرفه هو أنهم في بادئ الأمر ابتهجوا باختفاء هذه الشخصية المفسدة الضالة، ولكن لم تكد تمضي بضعة أشهر حتى بدأ يغلب عليهم الاضطراب وتساروهم الوساوس، ويتلجلج في أذهانهم المريضة أوهام وخرافات، فأما الأميرة الشابة زوجة البرنس فيلكس يوزوبوف فقد قضت أيامها وهي ترسم أشكالاً مبهمة غامضة على الورق وتقول أن يدها تخط على هذى راسبوتين وأنه يمسك بيدها وهي ترسم تلك الأشباح ولم يكن أحد يستطيع أن يزيل من رأسها تلك الفكرة وهي أنها كانت تخط على الورق رسوم أيقونات وصلبان لأن زوجها قتل راسبوتين وكان واقفاً تحت أيقونة بين يدي الله، وتحت حمايته، وكذلك جنت تلك المرأة وتملكتها الاضطرابات العصبية، وأصبحت حزينة حزناً عميقاً لا براءة لها منه ولا شفاء.
أما زوجها البرنس فكذلك أصبح مطرق الرأس حزيناً واجماً إذ جعل يتراءى له شبح راسبوتين واقفاً تحت الأيقونة في اللحظة التي قتله فيها، واعتقد أنه ارتكب أمراً أداً، إذ قتل الرجل وهو واقف بين يدي ربه، واليوم أصبح الأطباء يخافون أن يؤدي هذا الوسواس بالأمير إلى الجنون، ويذهب برشده، والق يقال أن الروس قوم من الغموض وغرابة الأطوار بحيث يختلفون كثيراً عن بقية شعوب الغرب، حتى لا يكاد أحد يستطيع إدراك(46/34)
منه عواطفهم.
ولنعد الآن إلى ما كنا فيه من أمر القيصر نيقولا الثاني فقد عاش ذلك القيصر طوال حياته مهدداً بالموت في كل ساعة على أيدي الفوضويين، ففي أيامه الأولى كان على حافة الموت الزؤام هو وأسرته إذ أراد القوم اغتيالهم بتحطيم القطار الذي كان يقلهم وهم عائدون من القرم، وكانت الشرطة لا تفتأ تكتشف المؤمرات تلو المؤامرات، وكانت القيصرة من جراء ذلك لا تستريح إذا ابتعد القيصر عنها طرفة عين.
وقد شكا إلي الكثيرون من أصدقائي من كبار موظفي الحكومة في الروسيا ووزرائها من تداخل القيصر في الشؤون الحكومية وقلبه كل نظام يحدثونه، وإفساده كل رأي يرونه، لأنه كان أبداً متقلب الرأي، يصدر الرأي ويمحوه، ويتلبث الفكرة ويعدو عليها فيدفعها، ولذلك لم يستطع وزراءه أن يبقوا على سياسة واحدة أو ينفذوا نظاماً مطرداً، ولم يكن القيصر ضعيف الصحة، بليداً مكسالاً، بل كان دؤوباً مجتهداً، فكان يقضي سحابة نهاره وجزءاً من ليله في قراءة الأوراق الرسمية والتأشير عليها والتوقيع بإمضائه وتدوين ملاحظاته في هوامشها، ولكنه كثيراً ما كان يكتب رأياً على الرسالة، ثم لا يلبث في الصحيفة نفسها أن يضع رأياً مناقضاً للرأي الأول معارضاً مهزئاً، وما ذلك إلا لأنه سمع رأيين مختلفين من جلسائه في تلك اللحظة، من أهل البلاد والحاشية قبل أن ينتهي من تلاوة الرسالة كلها، وزاد في خطر فقدان الشخصية لدى ذلك القيصر، حياة النسك التي كان يحياها، وإخلاده إلى بيته ورعاية أسرته، فهو وإن كان الحاكم المطلق على خمس الكرة الأرضية فقد وظل يعيش كرجل من أوساط الناس حول عشيرته، منكباً على دفتر الحساب، لا فكر ولا ابتكار ولا تأمل ولا نجوى، على أنه ليعز على الرجل العبقري ذي العارضة القوية أن يسوس بنفسه ويحسن السياسة في مملكة شاسعة مترامية الأطراف كتلك الدولة العظيمة المساحة، ولم يكن القيصر يرى غير موظفين وعمال حكومة، وكل منهم يمسك بيده معولاً يريد به أن يهدم ركناً من أركان مملكة القيصر، ولذلك لم تكن بين القيصر والعشب صلة ولا اختلاط وهذه البيئة الوبيلة الفاسدة التي عاش فيها القيصر جعلته أقل الناس اكتراثاً بحقائق الحياة وأبعدهم عن الاحتفال بالأحداث التي تجري في جماهير أمته، فلما حدث ذلك الحادث الذي قتل فيه ألوف من الشعب في يوم التتويج بموسكو، لم يكد يعرف القيصر الأمر الذي حدث،(46/35)
أو يتبين هول النكبة التي نزلت بالقوم ولما حملوا إليه الأنباء بالمأساة البحرية التي وقعت في بورت آرثر، أيام نشبت الحرب الروسية اليابانية، لم يبن عليه أي تأثير بل استرسل في لعبة التنس وكان من كراهية القيصرة للشعب الروسي ما زاد في هذا النقص وجعل الشعب لا يشعر بشيء من الحب للأسرة المالكة.(46/36)
روايات البيان
إيزابلا
أو قصرية النعناع
جون كيتس الشاعر الإنكليزي الكبير من شعراء الطبقة الأولى عاش في أوائل القرن التاسع عشر وتوفي في 1821 عن خمس وعشرين سنة وهو في ريعان الشبيبة وشرخ الصبا. ويلقبه نقاد الشعر الأوروبي (شاعر الجمال) لأنه بينما شغل شعراء هذا العصر الثوري - عصر الثوةر الفرنسية واستبداد نابليون الأول - مسائلا الحياة الكبرى: الحرية والإخاء والمساواة: فخفيت في تذليل هذه المذاهب الوعرة أقلام (بيرون) و (شيلي) و (وردذورث) أعرض الشاعر كيتس عن هذهالأغراض العامة وأقبل على عناصر الجمال المؤلفة للحياة والكون فأخذ يبدع تصويرها بأبرع يراع، وأحذق كف صناع يستخرج كوامنها ويستثير دفائنها، ويقتنص شواردها ويطرق مواردها.
كالعين منهومة بالحسن تتبعه ... والأنف يطلب أقصى منتهى الطيب
ون آياته البينات هذه القصة الغرامية المنظومة التي فتت بها الأكباد وأذاب بها كل مهجة فؤاد. والتي اقتبسها من قصة نثرية قديمة للكاتب الطلياني بوكاسيو فأفرغها في أبدع قالب من مبانيه، وزانها بالدرر اليتائم من معانيه فجاءت طرفة الأديب وتحفة اللبيب: وها هي:
في مدينة فلورنسا من أعمال إيطاليا كان يقطن في العصور الوسطى أخوان في قصر فاخر منيف، وكان لهما ضياع وعقار وثروة جمة وتجارة واسعة، وكانا يكفلان أختاً لهما يتيمة تدعى إيزابلا آية من الجمال، فاستخدما فتى يدعى لورنزو وكيلاً وكاتباً وأقاماه معهما في القصر ببعض حجراته، وكان رشيق القد حلو الطلعة. فشب الغرام بين هذا الفتى وبين إيزابلا ولبث مكتوماً في صدر كل منهما أشهراً والحياء يحول بينهما وبين المجاهرة والتكاشف.
لهفي عليكما أيها العاشقان! تبيتان على حسرة الجوى، وتصبحان على حرقة الهوى تجدان في التداني برداً وسلاماً. وفي التباعد بغضة وسقاما، وفي وادي الكرى عناقاً والتزاما، وفي دجى الليل مسيلا للدموع وانسجاما.
كلما بزغت الشمس زاد ذلك الحب شغفاً، وكلما غربت تضاعف صبابة وكلفا. فشخصهما(46/37)
ماثل لعينيه أينما كان، وصوته في أذنها أحلى من صليل الجدول الرنان، وممر النسيم على عذبات الأغصان، ومناغاة الأطيار في الأوكار، وهي إذا عزفت على المزهر فباسمه تنطق الأوتار وتردد، وإذا طرزت على المنسج فباسمه تملأ نسيجها وتفسد.
وإذا طرقت الباب علم من الطارقة قبل أن يجلوها على الباب ناظره الظمآن، ومن خلال نافذتها تعرفها عينه من أقصى مدى بأسرع من لمحة الصقر وأوحى من خواطر الأذهان، ويسهر الليل البطيء الكثير الأتراح، ارتقاب أن يسمع وقع قدمها الوثاب في الصباح.
بهذا الكمد والأسى مضت أشهر الربيع فطلعت نضرة الصيف على نضرة شبابهما ذابلة، وتجلت بهجة الطبيعة على بهجة جمالهما حائلة، وجعل كل منهما يسر غرامه إلى النجمة الساهرة والنسمة الخاطرة. ويقول هو لوسادته بلسان الدمعة الهامية، والزفرة الحامية
لا طلعت عليّ شمس الغداة يا إيزابلا إذا أنا لم أسمع نغمة الغرام من شفتك اللمياء
غداً أفوه لإيزابلا بحديث لوعتي، غداً أفض خاتم الكتمان عن مكنون وجدي وحسرتي
وما زال ذلك شأنهما حتى أبصر لورنزو إيزابلا وقد علاها البهار مكان الشقيق وزال عن عينيها لألآء الماس وعن شفتيها حمرة العقيق. وعراها هزال الأم الصغيرة الساهرة على رضيعها المريض تسكن آلامه. وتخفف أوجاعه وأسقامه، فقال لورنزو في نفسه ما أسوأ حالها، وما أسرع هزالها ليس لي أن أفاتحها على أني خليق أن أفعل فأبثها قصة صبابتي. إذا كان ما تخفيه الصدور يظهر في أسارير الوجوه فإن صحيفة وجهها لتنم عن أعظم الأنباء. وأفدح الأعباء، فلو أتيح لي أن أرقأ عبرتها وأشرب دمعتها، لكشفت كربها، ومحوت خبطها.
كذلك أسر لورنزو في نفسه ذات صباح ولبث سائر يومه قلق الأحشاء خفاق الفؤاد يسأل الله معونة على القول وقدرة على الإفصاح ولكن لسانه بقي أسسيراً في أغلال الهيبة كما بقي قلبه سجيناً في قبضة الطرب. كذلبك أمضى بالأرق والسهاد ليلته كدأبه وديدنه وفطنت إيزابلا إلى سوء حاله فقالت له في اليوم التالي ونار الغرام تضطرم في وجنتيها لورنزو! ثم حبس الحصر لسانها ولكن الفتى قرأ في لمحات لحظها ونبرات لفظها مكنون صدرها.
فقال: إيزابلا! أحسب أنه لا بأس عليّ الآن أن أبثك حزني وشجني إذا كنت تؤمنين بشي في هذا الوجود فأيقني أني أحبك وأن شغفي بك قد أشرف بي على الردى. وأنا لا أجرؤ(46/38)
على لمس يدك الطاهرة مخافة أن تتألم من مس أناملي ولا أكاد أحدق في عينيك خشية أن تنكر ألحاظك ألحاظي تأففاً وضجراً ولكني لا أستطيع البقاء في الدنيا ساعة أخرى ما لم أبح لك بحبي. وهكذا تجرأت شفتاه فامتزجتا بشفتيها في حديث صامت معسول لقد فازا بنعمة الدهر ولذة العمر وشبت بينهما السعادة ناضرة جنية شباب الزهرة الندية في ريعان الربيع.
ثم افترقا إلى حين وكأنهما لفرط السرور يطآن أديم الهواء. وكأنهما وردتان توأمتان فرق بينهما النسيم ولكن إلى وشك انعطاف، وسرعة التئام وائتلاف، فما هي إلا برهة ثم تلتقي الوردتان فتنفث كل في فؤاد أختها عبيرها الفياح. وأريجها النفاح. وهكذا مضت لإيزابلا إلى خدرها المصون فأخذت تشدو بأغاريد الغرام والمنى المشرقة. ومضى لورنزو وثاب القدم إلى ربوة مشرفة فاستقبل الغرب والشمس تجنح للمغيب ثم ودع النور وخلا إلى نفسه في حمرة الشفق يتأمل وجه سعادته الأغر. ويتنشق أريج نعيمه العطر. ويرفل في برد أمله القشيب. ويمرح في روض أنسه العشيب.
فلما أسفر الصباح هرعا إلى مكان خفي في ألفاف الرياض فتقابلا في غرة البكور
من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي في ثغور الأقاح
وما زال شأنهما ذلك يلتقيان في البكرة والأصيل في سرادق من الورد والياسمين مستتر من العيون محتجب عن الظنون بعيد عن ألسن الوشاة والرقباء ألا ليت الحال دامت كذلك فلم يصبح حديثهما مرتع المغتاب وملهى السمار ومتعة الأصحاب.
أفهل كانا إذ ذاك من الأشقياء؟ كلا. إن قطرة من النعيم في حياة العشاق ترجح بمرارة بحر آلامه الجياش وترد ملوحته عذوبة. وكم ينال منا العشاق غير ذلك من نفحات عطف ورحمة ومواهب رثاء ورقة. كم نرسل عليهم من الدموع والزفرات وكم نقرأ لهم من محزون الأقاصيص مما هو أجدر أن ترقم آياته بإبريز النضار. أجل إن آلام الحب لذيذة ومرارة الحب حلوة.
ليس الهوى إلا عذاباً يعذب ... أو ضرباناً في الحشة أو ضرب
ومن ثم نرى طوائف النحل التي هي شحاذة الصدقات من موائد الرياض عارفة لهذه الحقيقة بصيرة بهذا السر فهي تفطن إلى ما يكن في الأزاهر السامة من اللذة والحلاوة.(46/39)
وشاء الله أن علائم الحب وأماراته بدت في وجه الفتى والفتاة لأعين الأخوين صاحبي القصر فأفضى كل منهما بظنونه إلى أخيه فألفى كل في الآخر مصدقاً لتلك الظنون ومحققاً. واستشاطا غضباً أن يكون أجيرهما وخادمهما لأختهما عاشقاً وبودها وحبها ظافراً فائزاً، وهي التي أرادا أن يزوجاها من حسيب نسيب واسع الثروة عريض الجاه. ثم أفضى بهما التشاور والتآمر إلى استدراج لورنزو إلى بعض مغامض الغابات وذبحه هنا.
ففي ذات صبحا صحو منير عمدا إليه وكان متكئاً على سياج الحديقة فقالا: أسعد الله صباحك يا لورنزو. أنا في حاجة إليك الساعة. هلم إلى جوادك فاسرجه واركب قبل أن تحتدم شمس الظهيرة. فقد عزمنا أن نسير ثلاثة فراسخ في ناحية الإبينين أسرع يا رعاك الله قبل أن توقد الهاجرة. فانحنى الفتى تحية للسيدين ومضى مسرعاً ليأخذ أهبة السفر.
وفي أثناء مسيره إلى ساحة القصر جعل يتلفت لدى كل خطوة عل عينه تظفر بشخص حبيبته المحبوب أو أذنه بصوتها العذب اللذيذ فإنه لكذلك إذ سمع رنين ضحكة حلوة النغمة تهبط عليه من عل فرفع بصره فرأى وجهها المليح يطالعه من خلل الأستار تضيء ملامحه ابتسامة الجذل والسرور.
فقال: حبيبتي إيزابلا! كنت أخشى أن أذهب ولا أودعك، ويلي أيتها الحبيبة ماذا يكون من أمري إن فرق الدهر بيننا إذا كانت غيبة ساعة من الزمن تكاد تقتلني حسرة وغماً؟ ولكنا سنأخذ من الليل السخي الكريم أضعاف ما يأخذ منا النهار المجرم الأثيم. وداعاً أيتها الحبيبة وداعاً إلى حين. سأعود بعد بضع ساعات. فردت عليه إيزابلا سلام الوداع ومضى لورنزو وهي تشيعه بلحظها الطماح. وسجعها المطرب الصداح. وكذلك ركب الأخوان وفريستهما وبرحا بلدة فلورنسا إلى حيث نهر الأرنو ينسجم مسيله. ويدوي صليله وتحنو عليه الأدواح وتمسح جبينه الرماح ثم نفذ الثلاثة إلى جوف الغابة وهناك ذبحا الفتى ودفناه وهنالك انقطع تيار حبه الزاخر وخبا كوكب غرامه الزاهر.
ثم عادا وأخبرا إيزابلا أن لورنزو أبحر إلى بلد قاص في بعض شؤونهما التجارية وأنها آثراه بهذه الرحلة على غيره لفرط ثقتهما به وتعويلهما عليه. مسكينة إيزابلا! البسي الحداد، والزمي الأرق والسهاد، واستشعري اليأس واطرحي الرجاء، فلن ترين لورنزو ما أظلت الأرض السماء.(46/40)
كذلك انطلقت إيزابلا إلى حجرتها كاسفة حزينة وظلت تبكي على الأمل الذابل، والنعيم الزائل وتراءى لها شبح لورنزو في الظلماء فأقبلت تناجيه وتعتنق الفضاء وانطرحت على فراشها تنادي واحرباه! أين هو ومن لي بأن أراه!
وهكذا بقيت إيزابلا أشهراً تكابد من برحاء الكمد ما تكابد، فأغفت ذات ليلة فرأت فيما يرى النائم أن لورزو ماثل أمامها يبكي وقد شوه القبر جماله، وأطفأ من حسنه رونقه وصقاله. وسلب من صوته الرخيم مزهراً وعوداً. وخد في خده الأسيل للدمع أخدوداً. ثم أن شبح لورنزو إلى الفتاة بعين لهفى مولهة إنسانها غرق يتجلى الحب في سنا بريقها وينفي سحر حلاوتها عوارض الرعب في قلب الغادة. ثم قص الشبح حديث مصرعه بصوت خافت حزين تحس في نبراته وحشة القبور. وأخبر بما صنع به أخواها في مجاهل الغابة تحت سرادق الورق الكثيف وكيف انقضا عليه فطعناه خلسة وغيلة في صمت وسكوت وشقا له لحداً في الثرى الجعد البليل فدفناه وحثوا عليه ثم قال: واعلمي يا شقيقة الروح أن قبري تنبت عليه الأعشاب وتزخرف حواشيه أفانين الزهر والريحان وثمر التوت الأحمر وعليه حجر من الصوان وقد مدت فوقه يد الطبيعة سرادقاً من السرو والصفصاف وشجر أبي الفرو ينثر ورقه الأخضر وثمره الشائك ويغدو إليه سرب من الأنعام يطوف حوله ويحوم. ألا فاسعي إليه يا إيزابلا فاسكبي على ثراه دمعة حرة تبل ظمأي وتندي على كبدي وتضيء ظلمة ضريحي.
ما أنا اليوم إلا خيال يا إيزابلا أنتبذ من الأحياء مكاناً منعزلاً بعيداً واقيم منفرداً على أطراف حاشية الحياة. وأتلو الصلاة على صدى أصوات الإنسانية المنحدر إليّ من متالع سيلها الجياش، وطنين قبائل النحل هو ناقوس جنازتي، وهديل الحمام في الأصائل والأسحار. وهذه الأصوات الدنيوية لا تزال تزداد غرابة في أذني وتباعداً عن طبعي وذهني كابتعادك عني في عالم الأحياء.
إني أعلم ما كان وما يكون الآن. ولو أن الأرواح يصيبها الجنون لجننت من غوائل الزمان. ومظالم الإنسان. وإني وإن كنت قد نسيت طعم لذات الحياة الأرضية لأشعر الآن بلذة وجودك الهني، وأن صفرة وجهك الحزين تضيء ظلمة قبري الداجية وتدفئ أشلاء رمتي البالية. كأن ملائكة الجنان تزف إلي عروساً من الحور، أجل أن صفرة محياك(46/41)
تسرني وتفرحني وإن روح جمالك تنبث في روحي وتشيع في فضاء نفس وإني لأحس دبيب الغرام ومسرى الصبابة في نواحي كياني ووجداني وداعاً أيتها الحبيبة وداعاً. ثم أملس الخيال واختفى. وذعرت إيزابلا فهبت من مرقدها مطلع الفجر وقالت: ويلي ثم ويلي! ما هكذا ظننت إن غي الأمر جناية لقد سفكت مدية أخوي أزكى دم وأكرمه أيها الروح الطاهر! لقد نبهت غفلتي وأثرت ظلمتي سأزورك وألثم عينيك وأحييك صباح مساء.
ولما مال ميزان النهار خرجت في خفية وخادمة عجوزاً فسارتا حتى بلغتا الغابة وقد سال ذهب الأصيل فولجتا الأجمة وأخذت إيزابلا تجيل بصرها بين الدوح والأعشاب تلتمس علامات القبر كما وصفها لورنزو فلم تك غلا برهة حتى أبصرت حجر الصوان وثمر التوت الأحمر وشجر السرو والصفصاف.
فأقبلت إيزابلا على ثرى القبر وشرعت تنبش التراب وتحفر حتى أزالت سقف الضريح ثم نظرت فأبصرت في قرارته جثة هامدة فحدقت إلى ذلك المشهد الأليم ثابتة مكانها لا تحرك ساكناً كأنها ريحانة نبتت على ذلك الضريح. ثم أكبت على الترب تنبش بمديتها وتحفر، وهي في ذلك أشد حرصاً وأنهما كما من البخيل في تحصيل ديناره وما هي إلا هينهة حتى عثرت بقفازه ملوثة مرقوم عليها نقوش وزخارف من صنع كفها فأهوت عليها تقبلها ثم خبأتها في صدرها حيث وقعت موقع الريح المصوحة والزمهرير على تينك الثمرتين اللتين جعلتهما الطبيعة منهلين لشفاه الطفولة وشفاء غليلها. وإسكات عويلها ثم استأنفت الكد والدؤوب لا تفتر ولا تقف إلا ريثما تحسر ذوائبها المنشورة عن وجهها الحزين.
وأشفقت عليها العجوز وأقبلت تعينها تحفر الأرض بذراعين مهزولتين وقد انتشرت ضفائرها الشمطاء كالثلج في صميم الشتاء دأبهما ذات ثلاث ساعات حتى خلصا إلى لباب القبر. وبدت لأعينهما الدفينة كأبين ما يكون فهل ترى الفتاة هاجت وماجت وثارت وفارت وأرغت وأزبدت وأبرقت وأرعدت؟ كلا لقد هبطت عليها سكينة الحزن الصامت والوجد الثابت الساكت.
وهنا اقتطفت إيزابلا من حديقة الموت تلك الزهرة ال1ذاوية - رأس حبيبها وتالله ما كان ذلك الراس مشوهاً ولا قبيحاً ولكنها هامة راقت حلاوة وشاقت ملاحة في ظلال الموت كما(46/42)
كانت في ضياء الأرض.
وكذلك حملت إيزابلا رأس حبيبها إلى غرفتها حيث أقبلت عليها تهدئ ثائر شعرها بمشط من الذهب. وتبسط ملتوي أهدابها حول مقبرتي عينيها. وتنضح تراب القبر بدموعها الغزيرة. وقضت الساعات الطوال تمشط وتتنهد وتجدد البكاء وتردد.
وجاءت بمنديل من الحرير أشبعته بالطيب والغالية فلفت به الهامة المحبوبة وجعلت قبرها قصرية زهر حيث دفنتها وغطتها بالتراب ووضعت فوقها بذور نعناع وجعلت من غدران دمعها ريها وسقياها. ثم عكفت عليها ونسيت في سبيلها الحياة ومعانيها. والدنيا ومناحيها ونسيت الأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم والروض والنهر والشجر والغدير والصبا والجنوب فلم تدر متى بزغت الشمس ومتى توارت بالحجاب ولكنها أكبت على نعناعتها الحلوة صباح مساء في سكينة وهدوء تمطرها دموعها الغزار وتروحها بأنفاسها الحرار.
وكذلك شبت النعناعة وزكت ملتفة خضراء. ناضرة حسناء وفاح لها نسيم طيب أذكى وأعبق من نفحات نظائرها وأمثالها مما يزين قصور المدينة وخمائلها ولا بدع إذ كان غذائها لوعة القلب الحزين، ومادة الحياة من ذرات الراس الدفين.
كذلك برزت من حجابها روح تلك الجوهرة المكنونة والذخيرة المدفونة فبدت للعيان زاهية خضراء ملتفة الورق عبقة الأريج. ألا قفي برهة على هذا المشهد الأليم يا أسراب الهوام ويا طوائف الأحزان فاطرقي أسفاً وذوبي حسرة ولهفاً. ويا نغمات الموسيقى الرخيم اسجعي جزعاً وكمدا. واهتفي ولوعاً ووجدا! ويا صدى عالم الأرواح ثر من مكامنك الخفية فأرسل زفرات العناء وأنفاس الصعداء ويا ساكني القبور ارفعوا الرؤوس وابتسموا استبشاراً فعما قريب تنزل بينكم إيزابلا إنها لتزوي وتذبل كالغصن الرطيب قصفه الزهار للعطر والطيب.
وراقب الأخوان إدمانها البكاء لا يجف لها جفن ولا ترقأ لها عبرة. وكم من خبيث من بين قومها متطلع متجسس أخذ يعجب لذلتها وانكسارها وكيف ظلت تبدد بيد الحزن كنوز جمالها وتضحي على مذبح الكمد قربان حسنها وأنها لجديرة أن تكون زوجة أشرف سري وأثرى غني.(46/43)
وأعجب ما أدهش الأخوين عكوفها على قصرية النعناع كاسفة البال سيئة الحال. واخضرار تلك الريحانة ورفيف ورقها والتفافه كأنما يمسه ساحر بعصاه. أو يقوم نفر من الجن بريه وسقياه. أجل لقد أفرط عجب الأخوين لهذا الأمر الغريب وتساءلا ماذا عسى أن يكون. وقال أحدهما للآخر: لا والله إن لهذه القصرية لنبأ وشأنا. ولولا أن هذه الريحانة تنطوي على سر كميت لما كان لها كل هذا الأثر في نفس إيزابلا ولا استطاعت أن تصرفها عن شؤون الحياة كلها. وتنسيها الدنيا بأسرها. وتستلها من محاسن جمالها وشبيبتها. وتبتزها من مباهج متاعها ولذتها. بل تنسيها حبيبها وسيرته وعهد غرامه وذكرته.
فأخدا يرصدان غفلة عينها عن ريحانتها ليسجليا غامض شأنها وقصتها وأدمنا الرقبة ولكن دون جدوى. وكيف والفتاة أبداً على الريحانة عاكفة. وغيوث عبرتها لا تنفك وكفة فهي لا تخرج إلى متنزه ولا تسير إلى متنسك ولا تسعى إلى ملهى أو مقصف. ولا تذهب إلى معهد أو متحف. فإذا قامت إلى أمس حاجاتها عادت إلىالريحانة بأسرع مما تنقلب الحمامة إلى صغارها فتلزم جانب القصرية لزوم الدجاجة بيضها ثم لا تزال تبكي على ذخيرتها المدفونة وتسرق الدمع في فروج شعرها.
ولكنهما استطاعا مع ذلك كله أن يسرقا القصرية ويفحصاها في مكان مستور وكذلك بدت لأعينهما الدفينة الشنعاء كأبشع ما لاح لعين مخلوق وبالرغم من عبث البلى بتلك النبيشة وعيث الفساد وعفاء تلك المعالم وانطماس هاتيك المعارف أيقنا أنها رأس لورنزو.
فلما وقع في أيديهما أثر جريمتهما وعنوان جنايتهما غادرا مدينة فلورنسا في طرفة عين إلى حيث لم يعودا آخر الدهر. أجل. فر المجرمان إلى منفاهما وفي عنقيهما دم الجريمة.
أسراب الهموم وطوائف الأحزان! أزوى وجوهك عن هذا المشهد الأليم! ويا نغمات الموسيقى الرخيم اسجعي جزعاً وكمدا واهتفي ولوعاً ووجدا. ويا صدى عالم الأرواح ثر من مكامنك الخفية فأرسل زفرات العناء وأنفاس الصعداء ويا ملائكة الحزن والأسى نوحي واندبي سجناً على إيزابلا. فقد أصبحت هامة اليوم أو غد، ستموت أحزن ميتة وأكمدها إذ سلبها أخواها آخر أرماق الحياة وفصما آخر عروة كانت تربطها بهذا الوجود - قصرية النعناع.(46/44)
لد ظلت الفتاة حيرى مولهة بعد فقدانها الريحانة تسأل عن نعناعتها المحبوبة وربما أخذت تبكي وفي أوتار صوتها المبحوح نغمة حزن رخيم. ويا طالما ساءلت السائح الجوال عن نعناعتها هل رآها في بعض رحلاته. أو سمع عنها في غدواته وروحاته. وتصيح قائلة لماذا أخفوها عني وخبأوها. واحسرتي ووالهفي أن أبحث عن نعناعتي فلا أراها.
كذلك مرضت الفتاة وضنيت وذابت وهي تسائل عن نعناعتها إلى آخر لحظات الحياة. فلم يبق قلب في مدينة فلورنسا إلا تفتت حزناً ولا مقلة إلا سالت عليها رحمة وشجناً. وذاع بين الناس لحن عن هذه القصة الحزينة رددته الألسن والشفاه.
وما برح للآن يتناقله المحدثون والرواة. وما هو إلا كلمة الفتاة إيزابلا تقول: واحسرتي ووالهفي أن أبحث عن نعناعتي فلا أراها!.
الأماني الأربع
قصة فكهة ذات مغزى
من مختارات تواليف القصصية الطائرة الصيت
شارلوت برونتيه
ذات مساء قر في شهر ديسمبر إذ كنت لا أزال عاملاً أشتغل لأظفر بأجر اليوم. وجزاء عمل النهار، وإن لم أكن في ذلك اليوم خلواً من تلك المطامع التي تثور في قلوب الشبان رغباً في المجد وطلاباً للشهرة، ونزوعاً إلى نوال الذورة العالية، ووصولاً إلى ربوة العظمة، جلست وحيداً بقرب موقدتي في كسر عشي الصغير أحلم أحلام المستقبل، واسرح في ملكوت الله. وأتلهى بالخيالات الغريبة، والأوهام الموحشة المسرفة المتغالية، وقد مرت بذهني ألوف من الأماني. وجالت في خواطري مئات من العلالات حتى لا تكاد تذهب أمنية حتى تعقبها أخت لها أغرب منها، ولا تني تترادف الأحلام أثر الأحلام.
وإني لكذلك أشيد قصوراً في الهواء وأبتني مغاني وقلاعاً في الفضاء إذ سمعت بغتة حولي حمحمة صوت غريب فأجفلت مذعوراً ورفعت رأسي أتبين مصدر ذلك الصوت فلم تأخذ عيني شيئاً فظننت أنها وهم اعتراني. فعدت إلى ما كنت فيه من تأمل وحلم ولكني لم ألبث أن سمعت ذلك الصوت ثانية فرفعت رأسي مرة أخرى وإذ ذاك تولاني الرعب الشديد إذ أبصرت في المقعد الذي إزائي بدن رجل صغير ضئيل في أثواب خضر سندسية، تعم(46/45)
جميع بدنه، فتمالكت نفسي واستعدت جأشي واجترأت على أن أسأله كيف جسر على أن يدخل بيتي بلا إذن مني، وكيف كان سبيله إلى مقعده والأمر الذي جاء من أجله.
فأجاب الرجل بصوت ضعيف مرتعش إني من الجان ولكن لا تخف شيئاً فإني لا أردي بك سوءاً. بل بالعكس أردت أن أمنحك أماني أربعاً. على شرط أن تطلبها على فترات من الزمن. وفي أوقات متفرقة مختلفة. فإذا ألفيت الأمنية لا تتفق وما كنت مرتقباً منها. ووجدت أنها ليست كما كنت تبتغي قبل تحقيقها. فلك أن تطرحها جانباً قبل أن تطلب غيرها.
فلما أتم كلامه أعطاني خاتماً وقال لي أن السر الذي في هذا الخاتم كفيل بتحقيق ما أشتهي. فشكرت له منحته وسألته كيف السبيل إلى الاستغناء عن الخاتم إن ظفرت بالأماني الأربع. فأجابني قائلاً: تعال وهو في إصبعك في منتصف الليل إلى الوادي البعيد عن بيتك هذا وسترى أن ستتخلص إذ ذاك منه.
فلما انتهى من هذه الألفاظ اختفى بغتة، وتركني لا أكاد اصدق ما شاهدته بعيني رأسي. على أنني لم ألبث أن تبينت الحقيقة إذ أبصرت الخاتم الأخضر يبرق في إصبعي.
فلما تولى عني الرعب وهذا الروع. جعلت أفكر فيما ينبغي أن تكون الأمنية الأولى. فبعد لأي ولمعان وتفكير وجدت رغبتي في الجمال تسمو على جميع رغباتي الأخرى فأجمعت ذهني على أنني إذا أصبحت الغداة لا بد أن أجد نفسي في أفتن ألوان الجمال. وأبدع مظاهر الحسن والقسامة والوسامة.
فلما هبطت في وادي النوم العميق انطلقت أحلامي الذهبية أتصور مستقبلي وأيامي المقبلة في ظل هذا الجمال الخارق للطبيعة. ولكن صيحة الديك أيقظتني من منامي ونبهتني إلى تنفس الصبح. ومطلع نور النهار. فنهضت فرحاً خفيفاً نشيطاً ووثبت من سريري ونظرت غير مصدق إلى المرآة المعلقة فوق جدار بيتي الصغير لأتبين هل تغير وجهي منذ العشية أم لا يزال على دمامته الأولى. على أنني لن أنسى في حياتي مطلقاً هزة السرور التي هزت أعضائي إذ رأيت وجهي الجديد وملامحي الطريفة. وهناك وقفت أتراءى في المرآة أهيف القد مشذب العود جميل المحيا، كشجرة الصفصاف أو سرحة الجوز. وقد تناسبت أعضائي فكان منها جمال يبهر الناظرين. وبدت عيناي زرقاوين يسطعان فتنة وسحراً(46/46)
تحت حاجبين مقوسين كالنون وفي فمي طراوة شنب وعذوبة متبسم وجمال ميسم. وذوائب شعري الأصفر الجميل متراخية على جبيني أنعم ملمساً من العاج وبالجملة لم أر شيئاً في حياتي ولم أسمع بجمال يداني هذه الروعة التي وهبتها في ذلك اليوم.
فوقفت مدة أنظر إلى وجهي وأنا في ذهول الإعجاب، وقد طفا على قلبي ظل من السعادة لم أشعر به من قبل. وكان ذلك اليوم يوم أحد. فاشتملت بأثوابي وتجملت بأحسنها وأزهاها وخرجت أريد الكنيسة وكانت الصلاة توشك أن تبتدئ. فلما خطرت بين الصفوف ألتمس مقعدي شهدت العيون محدقة بي والأنظار مستقرة علي من كل صوب فاعتراني من الزهو والخيلاء ما جعلني أمشي مشية المتكبر المعجب بنفسه. وزادت المشية في جلالي وروعة منظري. وكان من بين الذين لم يتركوا النظر إلي اللادي بتريس دوسي وكانت هذه السيدة أرملة اللور دوسي صاحب القرية التي أنا فيها ورب الضياع والمزارع والقصور ومورثها بعد مماته أرملته هذه وتارك هذه النعمة لها. وكانت المرأة عاقراً ولم يكن لها منه بنون أو بنات. وكانت لها الحرية التامة في التزوج بمن تشاء ومتى تختار. وكانت على الرغم من أنها نصف ناهزت الحدود الأولى للشباب. بارعة سليمة وكانت فوق ذلك مشهورة بالسحر. فتمنيت لو أنها مالت إلي وأنا في هذا الجمال الفتان، وتزوجت بي حتى ترفعني من وهدة الفقر إلى أعلى مدارج النعمة والأبهة والترف.
تلك كانت خيالات نفسي ومطامح روحي. وأنا أمشي الخطى عائداً على داري.
وفي المساء عدت إلى الكنيسة وهناك عادت الأرملة تخصني بنظراتها وابتساماتها ورنوات الإعجاب من ناظريها وأخيراً زالت شكوكي وتبدلت مخاوفي إذ دنت إلى بعد انتهاء الصلاة، وهمست إلي تقول: تعال إلى منزلي غداً في الساعة الرابعة. فلم أجب إلا بانحناءة من رأسي. وأسرعت قافلاً أدراجي إلى منزلي.
فلما كان الغد وحل الموعد ارتديت بأفخر ما لدي من ثياب ووضعت زهرة جميلة في معطفي وأسرعت أريد دارها في الموعد المضروب.
فلما دخلت بستان ذلك المغنى التقيت عنده بحاجب استوقفني والتمست إلي أن أتبعه فأطعت، ومشينا بين صفوف الأزاهر حتى دانينا خميلة جميلة من الأعراش والأغصان جلست فيها السيدة مفكرة سارحة، وقد ارتدت برداء من أفخر الحرير الأبيض مزركش(46/47)
أنيق فخم راع، وقد غطت كتفيها بشال هندي ثمين، فلما أقلت نحوها نهضت محيية فرددت على التحية بأحسن منها، وجلسنا وذهب الخادم في وجهه وابتدأت المفاوضات فوهبتني يدها وقلبها، فتقبلتهما بأحسن القبول.
وبعد أسابيع ثلاثة تزوجنا وزففنا في الكنيسة بتصريح خصوصي بين التهليل والفرح، وأقيمت الأعراس لبهجة أهل القرية، وأولمت الولائم وظلت الأفراح أياماً.
وكذلك دخلت الآن في دور جديد من الحياة، وكل ما وقع بصري عليه أضحى ينم عن الجمال والثراء والعظمة والفخامة وكل طعام جلست إليه أصبح طعاماً غنياً بهيجاً غالياً، ويطفر من فرح، لأني أصبحت أرى نفسي مالك كل هذه النعمة، وصاحب جميع هذا الخير.
وطفقت أمام الخدم وهم في الحلل الغالية، والمظهر السني وهم حافون من حولي صافون أمامي أعاملهم بكل احترام، إذ راعني منهم أدبهم العالي ومظهرهم الأنيق.
وقد أصبحت حولي جموع كثيرة من الزوار، وفي كل يوم يقبل للتشريف طائفة كبيرة من المقربين والصحب والخلطاء، وقد جعلت أصرف زمني كله في جميع ضروب اللهو، فمن مراقص متألقة، على محافل حافلة، وبين مآدب فخمة تقام في كل يوم في القصر ابتهاجاً بالعرس، واحتفالاً بالزواج، وبين عشي تصدح فيها الموسيقى، ويقام فيها الرقص، وتهتز فيها الأعطاف، وبين نزهات في الخلاء فوق ظهور الصافنات الجياد، إلى مقانص صيد في البراري والغابات.
ولكن على الرغم من كل هذا لم أكن سعيداً، ولم أستشعر الهناء، فقد كانت الحجرات عديدة حتى لقد تهت في بيتي، وضللت طريقي في منزلي، وكثيراً ما عانيت المشقة الكبرى في سبيل العثور على حجرت الخاصة، ومنامتي المعتزلة، وأنشأ زوارنا الأماجد يحتقرونني ويستزرون بي ويستخفون بآدابي المضحكة وهيئتي الغريبة واضطررت إلى احتمال أمر الضحكات وأشنع النكات والدعابات والسخريات من أفواه النبلاء وشفاه الشرفاء، وأصبح خدمي يهينونني بكل قحة، ويعاملونني بكل استخفاف وبذاء، وبدأت أخيراً معاملة زوجتي تظهر بأجلى مظهر في شكل المستهتر المستخف المحتقر، وأصبحت غيرى في أشد حالات الغيرة، ولا تكاد تحتمل أن أفارق نظرها لحظة واحدة، ولا أزيدكم قولاً بل لتعلم أنه لم تكد(46/48)
تمضي أشهر ثلاثة حتى وددت لو أنني انفصلت منها وعدت إلى سيرتي الأولى عاملاً بسيطاً خشناً فقيراً يصيب رزقه يوماً فيوماً.
ولم يلبث أن تحقق ما كنت أتمنى، وتم هذا الانفصال الذي وددت، وغليك الحادثة التي ساقت إلي ذلك: في مأدبة من المآدب التي أقمناها في القصر، كان بين المدعوين سيدة شابة في ربيع العمر تسمى سيسليا، وقد أصابت حظاً وافراً من الجمال في أبدع ملامح، وأوسم وجه رأيته في حياتي، وكانت رقيقة الحاشية، عذبة المحضر، تأسر الفؤاد رقتها، ويسحر الألباب خلقها، طاهرة من تلك الغطرسة وذلك الكبر، وتلك الخيلاء التي كانت تغضبني من غيرها من أصحابنا الشرفاء، فإذا أنا قلت كلمة تافهة، أو خرجت يوماً عن الآداب النبيلة، أو أحدثت أمراً أداً في نظر هؤلاء النبلاء الغطاريف، فلا تظهر أمامي شيء من السخرية أو التضاحك احتقاراً لي، واستخفافاً بأمري، بل تهمس في أذني ما كان ينبغي أن أفعل وتعلمين كيف السبيل إلى اجتناب الشذوذ عن آداب السادة.
فلما انتثر عقد الجميع، وانتهت المأدبة، وغادرت تلك السيدة القصر قلت لزوجتي على سبيل الملاحظة: يا لله ما أرق الآنسة سيسليا وما أعذبها محضراً والينها عريكة. فأجابت زوجتي وقد احمر وجهها وتصاعد الدم إلى محياها: نعم كل امرأة تستطيع أن تعجبك إلا أنا، ولا تحسبن أنك مخادعي أو مراوغي، فقد رأيتك تضحك وتتحدث إليها طول الوقت، أيها المخلوق الوضيع الزري المنبت الذي رفعته من وهدة الخمول إلى منصة المجد والجلال، ثم لم يغرك هذا بأن تحمل لي شيئاً من التقدير الجميل والمعرفة بالصنيع، ولكني سأنتقم منك وأصيل الثأر.
قالت ذلك وغادرتني أفكر فيما عسى أن يكون هذا الثأر فلما أمسى المساء وأويت إلى المضجع، لم يغمض لي جفن، ولم يأخذ النوم لي عيناً، ولم ألبث أن سمعت فجأة وقع أقدام خارج باب الحجرة، فتولاني الرعب وتملكتني الدهشة، فنهضت وفتحت الباب بكل هدوء. وناهيك عن الدهشة الكبرى التي ثارت بفؤادي إذا أبصرت شبح زوجتي وهي تنسل في خفية وخفوت أمامي والمشعل في يدها، فتعجبت وزادت حيرتي ولم أعلم السبب الذي بعثها أن تمشي في حجرات القصر في جنح الليل، فتبعتها في رفق، وأنا أحاذر وأجتهد أن تقع مواقع قدمي منسجمة مع مواقع قدميها.(46/49)
فبعد أن تنقلت بين معاطف ودروب القصر لم أشهدها من قبل هبطت وأنا في آثارها سلماً هاوية حتى بلغت الطابق الذي دون أقبية الخمر ومخازن الفحم في الدار إلى أن دخلت إلى قبة رطبة تحت الأرض، وثمت وقفت ووضعت المشعل جانباً، وانزويت أنا في ركن أتخفى وأتسمع.
وإذ ذاك تذكرت ما كنت أسمع عنها من أنها تتصل بالسحرة وتدرك أفانين السحر، فجمد الدم في عروقي، وذهبت نفسي شعاعاً، ورأيتها في تلك اللحظة قد جثمت فوق أديم الأرض وفتحت ذراعيها وجعلت تتمتم ألفاظاً لم أسمعها بصوت أجش غريب وإذا بلهب من النيران قد انشقت عنها الأرض، وتصاعدت سحب من الدخان كثيفة ولم يلبث أن بدد السكون السائد صوت عظيم هز أساس الدار وللحال رأيت ستة أشباح سود تخرج من الظلمات تحمل محفة من محفات الموتى وأبصرت فوقها كما رأيتها الليلة الماضية في ثوبها الدمقسي الجميل، وفي ريشها الناعم الأشهب، سيسليا بعينها، وكانت مغمضة الجفن، وقد سكنت أهدابها عن الحركة فوق خد ذابل ووجنة صفراء، وهي جامدة لا تحرك ساكناً.
فلم أستطع قبالة هذا المنظر المخيف والمشهد الفاجع أن أمسك نفسي عن الصراخ، ووثبت من مكمني، ورأتني زوجتي فطفرت من جثومها واندفعت صوبي وصرخت في وجهي: أيها الوغد ماذا جاء بك على هذا المكان وأية لعنة ساقتك إليه. وما كادت تتم هذه الكلم حتى همت بعنقي وأرادت خنقي فتململت وأردت الخلاص ومن قبضة يدها، فما أفلحت، وكانت حياتي تندفع من عنقي، وروحي تجري مصعدة إلى نحري، ولكنها لم تلبث فجأة أن تراخت يداها وسقطت إلى الأرض مغشياً عليها.
فلما صحوت من غشيتي رأيت على هدي المشعل قزماً صغيراً في ثوبه السندسي يخطو فوق جثتها وهو يحمل سيفاً يلوح به في الهواء وللحال تبينت من وجهه صاحبي الجني الذي وهبني الخاتم منذ ستة أشهر منصرمة، وعلمت إذ ذاك أنه طعن زوجتي بسيفه وبذلك خلصني من مخالبها في اللحظة التي كانت حياتي معلقة بها.
فبعد أن حمدته أجمل الحمد سألته أن يدلني على السبيل التي نتخلص بها من جثة المرأة.
فأجاب: دع ذلك. والآن وقد كاد الصباح ينبثق من صميم الفجر لا بد لي من الانصراف، نبئني هل تريد أن تعود إلى حياتك الماضية ولون عيشك الأول، وترد إلى الدنيا رجلاً(46/50)
عاملاً أميناً دؤوباً مرتاح البال، هانئ النفس، وتحرم من نعمة الجمال الذي لم تظفر منه إلا بالوبال والآلام، أم هل تريد أن تبقى عليها وتجمد ألا نبئني بالقول الفصل وأوجز، فإنني أريد أن أعجل بالذهاب!.
قلت بلا تردد: بل أعدني إلى مرتبتي الأولى، وحياتي السابقة. ولم تكد تخرج هذه الألفاظ من فمي حتى وجدتني واقفاً وحدي أمام باب كوخي، كما كنت أشعث أغبر، لم تبق في وجهه مسحة من ذلك الجمال الفتان الذي أنعم علبه من قبل.
فألقي نظرة طويلة حرى إلى قصر الأيزو وهو يلوح لناظري عن كثب، فمشيت مطرق الرأس إلى كوخي فدخلته.
ومضى يومان، وإني لجالس إلى طعام الإفطار، إذ دخل علي جار لي من أهل القرية فسألني أين كنت منذ نصف عام، وفي أي أرض الله تقلبت، فلم أجد لي سبيلاً غير المخادعة والكذب، فنبأته أنني كنت في زورة ريب من عشيرتي في بلد بعيد ومنزل قصي، فصدق الرجل الحديث ورحت أسأله عن أحوال القرية وما جرى فيها منذ أن غبت عن أهلها.
قال: اسمع حديثاً عجيباً وقصة فكهة إنك غبت من هنا وتزوجت الأميرة دوسي بأجمل فتيان الدنيا الذين ظهروا في العالم فتى لم يعرف أحد من أي مكان هبط، ولا أي منشأ نشأ، وحسبه القوم رسولاً من عالم الجان هبط في بدن إنسان، ومنذ أربعة أيام فقط، اختفى القوم جميعاً، أي الأميرة دوسي وزوجها وابنة اللورد ستاندرن التي تدعى سيسليا، وأعجب ما في أمرهم أنهم اختفوا في ليلة واحدة، ولم يسمع أحد بنبئهم، ولم ندر ما خطبهم، بعدما اشتدت الشرطة في البحث، وتعقبت الآثار، واستقصت الأثر من جميع وجوهه، وقد جاء ليلة أمس شقيق الأميرة، فاستحوذ على الضيعة وأخذ بضبع الثروة، وهو يحاول اليوم أن يرقد ما استثار من أنباء القوم ويرسل الأستار حول الحادث.
فبعثني هذا الحديث على الاطمئنان، إذ علمت منه أن أهل القرية لم يختلج في قلوبهم الشك من ناحيته، ولم يدروا أنني كنت زوج تلك الأميرة.
على أنني تذكرت بعد ذلك أنه لا تزال لي أماني ثلاث فأخلدت إلى التفكير أياماً، واعتزلت لي مكاناً ألتمس فيه استنزال الوحي أستهديه فيما ينبغي أن أشتهي، ويصح أن أطلب، بعد(46/51)
أن رأيت غرور أمنيتي الأولىـ، وباطل ما ابتغيت من قبل، فقر قراري على (الذكاء الفائق والخارق للعادة) وما كنت أفعل حتى أحسست انبثاق روح جديدة في جميع جثماني، ومهب خواطر آية في الذكاء، وبدأ منذ ذلك اليوم كل شيء يتراءى لي في لون جديد، ومظهر طريف وجال بذهني الخواطر العالية، وتزاحمت الفكر الحسان، وحالت السوانح الروائع بصدري.
وقد حدث ذات يوم، بعد هذه النعمة بأيام قلائل أن أرسلني جار لنا من أهل القرية يدعى تندرتن إلى السوق لأبتاع له عدة أواني من الخزف والزجاج، فلما أتممت الشراء، وانتهيت من الصفقة، ووضعت الأواني في صندوق، ولففتها في القش، واحتقبت الصندوق وعدت أدراجي إلى القرية، ولكني لم أكد ألم على منتصف الطريق، حتى أدركني الليل، وكانت الليلة غائمة، والقمر فيها محاقاً، والظلمة حالكة، والمطر منهمراً، فانطلقت إلى حان ثمت في الطريق لأصطلي من نارهن وأستدفئ من شرابه.
ففتحت باب الحان وزاغ مني البصر على مستهل الأنوار، فلمحت في جوانب الحجرة بضعة أصدقاء ومعارف من أهل قريتنا، فجلست إلى شراب حار، ومصطلى عذب يرد الروح في الجثمان، وبعد أن وضعت صندوق الزجاج جانباً، فوق أديم الحجرة واخترت مقعدي بين القوم، وكانوا يتجاذبون أطراف حديث طويل، ومناقشة حارة في أي الحكومتين خير وأبقى، الملكية أم الجمهورية، وكان الزعيم المفوه الذي كان يدعو إلى الجمهورية ويمتدحها وينسب لها الخير كله دون أختها الملكية، بوب سيلفستر، من سكان قريتنا، حداد يشتغل بصهر المعادن وسبكها، وكان من أبلغ من عرفت لساناً، وأفصح مقولاً وأبرع مذوداً، وكان بهذه الموهبة فخوراً وبنعمة الفصاحة مزهواً، ولكنني لم ألبث بفضل ما أوتيت من الحكمة (والذكاء الخارق للعادة) أن أسكته وألقمته حجراً، وبززته في حججه، وركمت دعاواه، وفزت بالمجلس دونه، حتى دوى لي التصفيق من الجانبين، وعلا الهتاف بين أعضاء الحزبين.
وكان بوب هذا رجلاً، حاد المزاج، سريع الغضب لا يرضى أن يسكن إلى هزيمة أو يؤوب مذعناً إلى اندحار، ولذلك نهض وطلب إلي الملاكمة وسألني أن أنزل إليه في مجالدة، فما وسعني إلا القبول خوفاً من الفضيحة، وبدأ القتال واشتد النزال، فلكمني عدة(46/52)
لكمات واندفع علي كالسهم ورماني بلكمة عظيمة من يده اليسرى، فتعثرت وسقطت لا أعي شيئاً مما حولي بل آخر ما تذكرت من هذا المشهد أنني سمعت صوت زجاج منكسر.
فلما أفقت من الغشية، وجدتني نائماً في فراشي في كوخي، جريحاً مرضوضاً دامياً، وعلمت إذ ذاك أن صندوق الأواني تكسر، وتحطم الزجاج والخزف، وأن الرجل صاحبها وكان من البخلاء الماديين قد رفع علي قضية يطالبني بالثمن والتعويض وكانت تلك مصيبة أشد من الجراح إيلاماً.
فلما استطعت النهوض من الفراش، أجمعت النية على أن أطرح هذا الخاتم اللعين في الوادي الذي وصفه الجني، بعد أن رأيت منه الويل، ولم أظفر منه إلا بسوء المنقلب، وقنعت بأن أعيش عاملاً فقيراً، ليس أهنأ له وأبهج لنفسه من أن يجلس إلى عشاء اكتسب ثمنه بعرق الجبين. .
انتهت(46/53)
العدد 47 - بتاريخ: 1 - 3 - 1919(/)
روح الإسلام
ما كدنا ننشر في العدد الماضي ذلك البحث الممتع الذي وضعه عالم من علماء الغرب فأدلى فيه برأي عدل مكين، في هذا الدين الحنيف المتين، حتى استحثنا القراء على الاسترسال في نشر كثير من هذه الأبحاث. والإفاضة نقل ما كتب في لغاب الفرنجة عن الإسلام والانتصار له والنضح عنه ولذلك قد أخذنا على أنفسنا وأجمعنا النية، ورسمنا الخطة على أن ننقل للناس أمهات الأبحاث الإسلامية ونزهي إلى العالم الإسلامي أبدع ما كتب المنصفون عنه وخير ما نشر الكتاب العدول في فضله وإظهار محاسنه بعد أن رأينا الملاحدة والمستهينيين بالعقيدة، والمستخفين بالإيمان، والكافرين، عمي البصائر، الذين على قلوبهم أكنة، وفي لأفئدتهم مرض، وقد ملأوا هذه الحياة، وراحوا يرسلون أنفاس الكفر بين الشبان، ويظهرون كفرهم واستخفافهم وتخلخل عقائدهم في المجامع والكتب، والأحاديث والمحافل، جهراً وعلانية، ويعيشون عليها سراً وكتماناً، حتى أصبح المؤمنون في خشية من أتن يغلب الكفر الإيمان، في عصر غلبت فيه المادة الروح وسادت مبادئ العقل على مبادئ القلب، وجعل عداد الذين يسلكون أنفسهم في صفوف الملاحدة وأنصار الملاحدة من الزائغين والمستهينين يتكاثر يزداد كل صباح، ويحشد حشده في كل مغيب.
واليوم لم نجد في جميع الأبحاث والتواليف التي أنصف فيها الكتاب ديننا الحنيف ورسالة محمد سيد الدنيا قاطبة، ورسول الله إلى الناس كافة، كتاباً أحق أن نبتدئ به، وأقمن أن نصدره في رأس هذه النية التي انتويناها ونفتتح به هذه العزيمة التي اعتزمناها، من ذلك الكتاب الممتع العجيب الذي وضعه رجل من كبار رجال الدنيا وأعرف الناس بفضل الإسلام، وأشد الكتاب اضطلاعاً بأسرار الأديان جميعاً، على كثرة ألوانها، وتعدد مذاهبها ونحلها، ألا وهو السير سيد أمير علي صاحب كتاب (روح الإسلام) فلعل هذا الكتاب خير ما أخرج للناس في فضل الإسلام والانتصاف له، والدفاع عنه، وقد وضعه ذلك السيد العظيم بالإنكليزية، فتجلى بين دفتيه استمكانه من أدب اللغة، وإلمامه الواسع بأسرارها، ولم نعرف رجلاً مثله كتب في الإنكليزية بتلك البلاغة التي كتب بها وصدع برأي يداني رأيه.
والكتاب قسمان. خص السيد القسم الأول منه بتاريخ الإسلام وظهوره وما كان من غزوات النبي وأعمال صحاب الشريعة، وجعل الثاني وقفاً على الدفاع عن قضية الإسلام بين الأديان، وشرح مبادئه والتبسط في إظهار فضل سننه، وكشف الحجاب عن الأمثلة العليا(47/1)
فيه، والاستفاضة في بيان آدابه وروح تعاليمه والغرض الإلهي منها والمقاصد السامية التي ضمنها كتابه.
وهذا القسم الأخير الذي اعتزمنا أن ننقله بجملته إلى قراء العربية والدانين للإسلام حتى نحارب روح الإلحاد الذي أخذت يتفشى في صفوف المسلمين، ونعده لأمة وسلاحاً نجاهد به الضالين المضلين، وحتى تقوى مشاعر الإيمان، وتتفتح لأسرار سيد الأديان.
الفصل الأول
الإسلام ومعناه في اللغة العربية - آداب الإسلام ومبادئه الأخلاقية، فكرة الله في جميع أديان العالم - عبادة المسيح - المسيحية الكمالية المتحضرة - الغرض الأول في الإسلام.
إن الدين الذي جاء به عيسى يسمى المسيحية، وهذه التسمية مستمدة من تلقيب عيسى بالمسيح، وكذلك دين موسى وبوذا لا يزالات يعرفان باسمي الرجلين اللذين نشراهما في العالم، ووثبا بهما إلى الدنيا، ولكن دين محمد وحده هو الذي استمد من نفسه اسماً خاصاً يعرف به. ولفظ مفرداً ينادي ويدعى في العالم به وهو (الإسلام) ولا تستطيع أن تقدر هذا الدين حق قدره، وتعدل في الحكم له، حتى تفهم الفهم كله المعنى الحقيقي لكلمة (الإسلام) فإن مادة هذا المصدر سلم وما ينفرع عنه تؤدي معان كثيرة، منها سكون النفس وسلامها والوفاء بالواجب وأخيراً الاستسلام والإذعان إلى الله والخضوع له. والاسم منها يؤدي معنى السلام والتحية والأمان والنجاة والخلاص. وليس معناها مقصوراً على الإذعان المطلق لإرادة الله كما وهم الناس، وحسب القوم بل لا تزال تؤدي معنى البحث عن السلام والحق.
والأساس الذي قام عليه دين الإسلام ينفرع عن خمسة مبادئ. أولاها الاعتقاد بوحدانية الله وأنه لا يحيط به مكان، ولا يشغل حيزاً وأنه يتجرد عن المادة والتصديق بقوته ورحمته، وإخلاص المرء وجهه وقلبه لحب الخالق عز وجل، والمبدأ الثاني الإحسان والرفق والأخوة العامة بين الناس أجمعين. والمبدأ الثالث قمع الشهوات وقتل شرة النفسي، وإخماد بهيمية الروح والرابع القنوت لله وشكره خالق كل خير. والخامس التصديق بالحساب في حياة وراء هذه الدنيا، وآخرة بعد الأولى، وآجلة لعاجلة، ولعل المبادئ السامية الشماء التي تضمنها القرآن في بسط قوة الله وحبه وعظمته ورحمته لا مثيل لها ولا ضريب في أي(47/2)
دين آخر من الأديان، ثم لا تزال وحدانيته متجردة عن المادة وجلالة وقدرته ومغفرته ورحمته أنشودة فياضة ثابتة لا نهاية لها ولا ختام ولا حد، تتدفق في آيات وقطع ورسالات من أبلغ آيات البيان وأشدها إثارة للأرواح وهزة للنفوس. ثم لا تزال الروحانية في الحياة وفيضها ونورها مبادئ لا ينتهي الإنسان منها. ولكنك لا تجد في دين الإسلام كله من أوله إلى آخره أثراً من آثار الاستبداد الفكري والسفسطة وتشعب النظريات السفسطائية والمبادئ العقلية، واللجاج والمحاجة والثرثرة، بل لا يزال هذ الدين يمس الروح، وينادي الضمير العميق في الإنسان، ويناجي الفؤاد والوجدان، ويمشي مع الصوت الخارج من حبة القلب، الصادر من سويداء الروح، ولا يسمع إلا لمنطق القلوب معقل الغريزة والفطرة.
ولنأخذ الآن في شرح موجزة ونظرة غير مستطيلة إلى الأفكار الدينية التي كان يدين بها شعوب الدنيا لما بدأ نبي الإسلام يدعو دعوته، ويبث رسالته، فقد كانت فكرة الله عند العربي الجاهلي تختلف تبعاً لآداب الفرد أو القبيلة فمنهم من كانت تبلغ فكرة الله عنده إلى حد الإلوهية وطبيعة الإلهع، وآخرون كان يسفون من هذه الناحية فتتردى عقيدتهم في الإلوهية إلى حد عبادة الأوثان، وتنزيل الإلوهية واعتقادها في قطعة من الصخر، أو العصي أو الأخشاب، وكان قوم منهم يعتقدون في حياة أخرى، على حين كان فريق آخرون لا يعلمون عن ذلك شيئاً البتة، وكان أعراب الجاهلية يدينون ويسلمون أنفسهم إلى سلطان الساحرات، أسوة بالفينيقيين، وكان سكنة الصحراء والضاربون في البيداء والعرب العرباء والعادون في المهمة القفر، ولا ريب خلاء قلوبهم من عبادة الله، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا عمياً عن أن يروا ويتخيلوا يداً خفية وراء هذه الرياح الهوج التي تعصف في الصحراء فتغمر الأرض رمالاً تزجيها وترسلها هوجاء، وإن تشاء تردها شمالاً، أو إن تشاء تعيدها نسيماً سجسجاً، وهي التي ترسم تلك الألوان الجميلة الخداعة التي تنهض لأعين القافلة، تستبيهم لموتهم، وتجتذبهم على حر الأوام ولهب الظمأ إلى حتوفهم، وكذلك تعلم أنه كان يجري في العالم الذي يحيط بالعرب فكرة غير محسوسة، ورأي غير ملموس، ولا محقق أو محدود، في أن فوق هذه الأكوان قوة عالية، هي رب الأرباب.
ولعل اليهود وهم أولئك المحافظون على فكرة الوحدانية كما لقبهم بذلك التاريخ كانوا الذين أعانوا على تكوين هذه المشاعر، على انهم أنفسهم أظهروا الإعراض والعلل التي تنجم عن(47/3)
التطورات والانقلابات في آراء أمة من الأمم عندما يعوزهم في شرائعهم الدينية العنصر التاريخي أو القوة العقلية الصحيحة، فقد دخل اليهود شبه جزيرة العرب في أزمان مختلفة وببواعث متعددة، ووراء ظروف متباينة وأنت تعلم أن آراء المهاجرين والطارئين على البلاد والواغلين على أمة من الأمم، والنازلين بمملكة من الممالك، والنازعين إلى بلد من البلدان، يختلفون كثيراً بطبيعة الحال في نزعاتهم، ويتباينون في آرائهم، ولا ريب في أن أفكار الذين فزعوا إلى بلاد العرب من جراء اضطهاد الآشوريين والبابليين كانت أكثر نزوعاً إلى نسبة الإنسانية للإله، وتشبيهه بالإنسان وإطلاق صفات الآدمية عليه، من أولئك الذين هاجروا إلى بلاد العرب قبل عهد فسباسيان وتراجان وهارديان، ولم تكن تلك الصفات التي أدت ببني إسرائيل مراراً إلى النكوص والرجوع إلى عبادة الأوثان في بلادهم ومسقط رؤوسهم من جراء وجود الكهان بين ظهرانيهم، ومشيهم في صفوفهم، تستطيع أن تحميهم من وثنية أخوانهم العرب الذين فزعوا إلى جوارهم وانحدروا للمقام بينهم، بل جعلوا يخلطون مع رب إبراهيم فكرة مادية في الإله ويصورونه تصويراً ملموساً، ويجردون منه الصفات الإلهية المقدسة، فراحوا يعبدون تمثالاً صنعوه ومثلوا فيه إبراهيم وبجانبه الكبش معداً للتضحية والقربان، ووضعوا تمثالهم ذلك داخل الكعبة.
ثم هبط المجوس بعدهم فجعلوا يعبدون الشرع ويغالون فيه إلى حد الوثنية ومضى كهانهم ورؤوسهم يطالبونهم باحترام يداني العبودية، واعتقدوا أنهم حراس القوم وحماة الناس، وحفاظ القانون، ورعاة الشرع، ونظروا إلى أنفسهم كأنهم صفوة الأمة وزهرة القبيل وخلاصة الإنسانية وكان الناس من ناحيتهم يعدونهم بعد الله ويحسبون أن بينهم وبين الله حجاباً غير مستور وأنهم على التنبؤ قادرون، وبلغ حب اليهود موسى مبلغاً حتى جعلوا يعظمون اسمه كما يعظمون اسم الله العلي العظيم، ثم خلعوا شيئاً من هذا التعظيم الذي هو أشبه شيء بالعبادة على عزرا، منقذ حياتهم وشريعتهم على عهد الأسرة الكنعانية.
فلما أظهر عيسى، لم تجد فكرة وحدانية الله والاعتقاد بأن فوق الكون إرادة عظيمة مسيطرة بقوتها وعظمتها قبولاً وتصديقاً ورضى إلا من شعب واحد وهم عبدة يهوذا بل لم تلبث لديهم كذلك أن ضعفت واختلط جوهرها بما دخل عليها من جراء الامتزاج بالأمم الوثنية، أو ما جاء إليها من الفلاسفة الوثنيين. وكذلك كان الهنود على فرط ما عندهم من آلهة.(47/4)
وعلى كثرة أربابهم ومعبوداتهم، والمجوس وما كان بينهم من تنازع إلهين على السيادة ومصارعة ربين على السلطان والعبادة، واليونان والرومان والمصريون ومتاحفهم مفعمة بصور الآلهة ودمى الأرباب. وإن كانت آداب تلك الآلهة أحط من آداب الذين كانوا يعبدونه، يوم ظهر عيسى عليه السلام، وكذلك حالة الدنيا المتحضرة يوم بدأ المسيح ينشر تعاليمه، ويدعو إلى الله دعوته، ولقد كان ذهنه على فرط أمانيه الجميلة التي كان يريد تحقيقها في هذا الكون الأرضي، وآماله وعلالات نفسه ومقاصده ومبادئه العالية، خلواً مما نسبه إليه أتباعه من تلك الدعوى الكاذبة التي ألصقوها به إلصاقاً فهو لم يدع أنه روح القدس ولم يقل أنه كان لله ولداً، حتى أن المسيحية الكمالية العصرية في هذا الزمن المهذب، والعهد المتحضر، لم تستطع على اليوم التخلص من تلك الوراثة القديمة والعقيدة المنحدرة إليهم من العهود الماضية، والمزاعم التي ورثوها عن أولئك الذين كانوا يشبهون الله بالناس وينسبون إليه الصفات الآدمية، في الحقب السالفة، وقد مضى الجيل بعد الجيل، وتعاقبت القرون أثر القرون، حتى أخرج الناس كل شيء آدمي إنساني، من تاريخ ذلك النبي العظيم ومحوا منه كل صفة إنسانية أرضية، حتى أضحت شخصيته مختفية وراء حجب وسحائب من الأقاصيص والترهات.
وأنت تعلم أن كثيرين من الناس تأبى عليهم أذهانهم القصيرة، وأبصارهم الحسيرة من جراء عجزهم عن الشعور بقرب الله العلي الأسمى، على منال أعينهم ومستشرف أنظارهم، أن يبحثوا عن (محل استراحة) في وسط الطريق بين الله والناس فيخصوا إنساناً بالعبادة، وينادوا به إلهاً، وهذا هو السبب الذي جعل المسيحية الحاضرة تلقب أمراً خيالياً بالألوهية وتكسوه اللحم والعظم وتعبده كأنه إنسان إلهي.
ونحن ننكر إنكاراً باتاً أن عيسى ادعى يوماً من اليام أو مرة من المرات أنه ابن الله بالمعنى الذي أوله زعماء المسيحية ورجالاتها وقد أبان الشاعر الأديب النقادة العظيم ماتيو أرنولد أن كتاب العهد الجديد - الإنجيل - لا يصح من كثير من الوجوه الاعتماد عليه.
ولئن فرضنا أنه قال تلك العبارة التي نسبت إليه فهل يثبت ذلك أنه ادعى حقاً أنه ابن الله، أو لم يسمع أهل المسيحية بنبأ ذلك (الدرويش الشرقي) المشهور باسم الحلاج الذي ادعى أن الله بذاته وجعل يقول (أنا الحق. . .) فما كان من زعماء المسلمين والمتنطعين في(47/5)
الدين إلا أن حكموا عليه بالكفر وأهدروا دمه.
وكذلك أزاحوا من الأرض مخلوقاً مسكيناً التهب قلبه بنار فكرة غامضة ولا يزال البابي يعتقد أن سيده ومولاه الباب إلى الحياة الأبدية، لم يقتل وإنما رفع إلى السماء بمعجزة، فهل يعقل أن أبا مغيث الحلاج والبابي إذا أسميا نفسيهما الحق والباب كانا يقصدان بهذه التسمية إلى أنهما روحان من الله، ولو أنهما كانا حقاً يعنيان ذلك فهل كان ادعاؤهما ذاك دليلاً وبينة، وحجة وإثباتاًَ، ولكنا نقول كما ذكرنا من قبل أن عيسى - على ما علمنا من مبادئه إذا نحن خلصنا بها نجيا من شوائب أتباعه وما أدخلوه عليها - لم يستخدم أي تعبير يبرر الدعوى التي حاول الناس إلصاقها به، بل أإن فكرته من جهة أبوية الله تشمل الإنسانية جمعاء إذ كان بنو آدم كافة أبناء الله وكان عيسى رسول الله إلى أنبائه، ولذلك نقول أنه قد كان نصب عين المسيحي مثلاً صالحاً، واسوة طيبة، وكان أحق بتعاليم بني الناصرة أن تسمو به وترتفع إلى عقيدة أظهر وفكرة أنقى من ناحية الخالق، ولكن مضت ستة قرون فحاطت شخص سيدنا المسيح بهالات وسحائب وغمائم من الغموض والخرافة كانت على نقيض كلمه التي قال، ودعوته التي دعا، وتعاليمه التي علم، حتى جعلته تلك الخرافات مظهراً لله، وحتى اتخذ الرسول مكان سيده في عبادة الدنيا، أما الجماهير والعوام فلعجزهم عن إدراك هذا المزيج من تعاليم المسيح بما دخل عليها من الشوائب راحوا يعبدون عيسى كأنه رب مجسم وإله في صورة إنسان وعادوا إلى العبادة الأولى الوثنية من احترام الآثاؤر واعتبار مريم العذراء إلاهة، وهكذا نرى أن المسيحيين انحرفوا عن بساطة تعاليم الناصري فأضحت عبادة الصور والقديسين والآثار والأيقونات مختلطة بالدين المسيحي اختلاطاً لا انفصال عنه ولا غناء وعادت العبادات الأولى التي جاء لهدمها والمناقص التي سعى إلى حربها، رويداً رويداً فدخلت في دينه وتكونت منها عقيدة قومه.
قبالة هذه الحماقات كلها التي ذكرناها، نهض محمد وجعل نصب عينيه محاربتها وتعفية آثارها، وقام وصوت الحق يتردد في حنايا ضلوعه ووحي الله يملأ شغاف قلبه بين صفين من الناس بين قبائل من العرب عبدة أوثان وصور ودميات، وبين أتباع المسيحية المغشوشة وأهل الموسوية المشوبة، وانبرى سيد البلغاء كما سماه الناس بحق، فلم ينحرف مطلقاً ولم يحد شعرة واحدة عن حدود العقل، فجعلهم جميعاً ندون خجلاً ويستشعرون(47/6)
الخزي من قبح ما هم فيه وسوء ما يعبدون. وكذلك كان محمد رأس الدعاة إلى وحدانية الله، ينهض في التاريخ خير مجاهد في الله. وأكبر محارب لنكوص الإنسانية على أعقابها تريد أن تجعل مع الله شركاء سبحانه وتعالى عما يصفون. وأنت لا تني تجد في كل قطعة أو سورة من القرآن آيات حارة تلتهب التهاباً. نثبت هنا شيئاً منها - جاء في السورة الثانية: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم - إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون. ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله}.
فانظر ما أروع وما أعمق هذه العاطفة التي ينادي بها القرآن أهله إزاء هؤلاء المشركين.
وجاء في السورة الثالثة عشرة: {وهو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينشيء السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم لا يجادلون في الله} الآية: ثم انظر آية الكرسي: ثم انظر آية {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة في مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار - نور على نور - يهدي الله لنوره من يشاء} الآية.
وكذلك تجد هذا الكتاب القيم مفعماً بهذا الآيات البينات. ينادي أنبل ما في الإنسان من عواطف ويتغلغل إلى لبه وصميمه. ولا تكاد سورة تخلو من آيات بينات تدور حول إظهار عظمة الله ورحمته ووحدانيته. وقد أساء كتاب المسيحية فهم عقيدة المسلمين في ربهم فقالوا أن المسلمين مثلوا ربهم مستبداً طاغية لا رحمة لديه. يلعب بالإنسانية لعب اللاعب بحجارة الشطرنج ويجري الحجارة كيف شاء دون أن يحسب لعذابها حساباًُ فلننظر مكان هذه التهمة من الصحة إن إله الإسلام هو العليم العادل رب العالمين خالق السموات والأرض وهو كذلك الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار وهو كذلك الحليم الغفور الشكور. إلى آخر أسماء الله الحسنى بل إن اتصافه بالرحمة لا تزال نغمة من أجمل نغمات القرآن. بل لا تزال كل سورة من الكتاب تفتتح باسم الله الرحمن الرحيم. . .(47/7)
تم الفصل الأول الذي هو كالمقدمة لما يليه من سائر الفصول. .
انتظروا الأعداد القادمة.(47/8)
محمد رسول الله
رأي شاعر من أكبر شعراء الفرنجة
العظيم أعرف الناس بالعظيم. والعظمة متقابلة في العالم متفاهمة. وإن عدا بعضها على بعض. أو مشى بالكراهية عظيم إلى عظيم. أو حقدت عظمة على أخت لها. وقد أدرك كثيرون من أبطال كتاب الفرنجة وفريق من عظمائهم وساداتهم. حق سيد المرسلين - محمد بن عبد الله - من العظمة وجلاله من النبوة. ومكانه من هداة الإنسانية فوثبوا إلى الدنيا بكتب جميلة عنه. وحشدوات الثناء بالخير عليه. ولم يتركوا قطعة من حياته. أو حادثاً من أحداث تاريخه إلا أخذوها بالشرح والتحليل. فانتصفوا له من أولئك الذين عميت بصائرهم فما رأوا جلاله. وأغلقت قلوبهم باكنة فما فقهوا عظمة ولا قدراً. وحسبك ما كان من الفيلسوف توماس كارليل في كتاب الأبطال فقد جاء بالعجب العجاب. وحشد للنبي الثناء المستطاب. وانطلق يفيض بتلك الشاعرية الكارلايلية الثرة الجياشة. ويتبسط في الإنصاف. ويذود عن النبي تهم الجهلاء. ويرفع محمداً صلى الله عليه وسلم إلى منزلته من سادة الكون.
وقد كنا لا نعلم أن وراء كارليل، في ناحية أخرى بعيدة شاعراً آخر. كان أبدع من كارلايل هذا وأورع. وهو شاعر ملأ شعره الأسماع ومصور للقلوب والعواطف صناع. ألا وهو الشاعر لامارتين سيد شعراء الفرنسيس وأكبر روائييهم وساستهم وكان النجم المتألق في دولة الشعر والكوكب المزهر في دولة ذلك العصر. فقد قرأنا له في الأيام الأخيرة تاريخاً وضعه عن عظماء الشرق. وافتتحه بسيد المرسلين فمضى فيه على خير ما يمضي المؤرخ العدل والحكم المنصف. وأنت تعلم أن الشاعر قطعة صغيرة من النبي. وأنه نصير من أنصاره. ومزمار من مزاميره ونغمة من نغمه. والشاعر يناجي القلوب والنبي يمس بنبوته ورسالته الأفئدة. على القلوب الإنسانية يجتمع الشاعر والنبي، وأنا النبي فيسكن ناحية منها فلا يخرج منها إلا مع الأنفاس الأخيرة ومحتضر الموت. والشاعر قد ينزل منزلاً أنيقاً من القلوب. ثم لا يني يخرج منها ليحل بعده شاعر أبلغ منه قصيداً، وأحلى منه شعراً وقريضاً. فلا تعجب أن ترى لامارتين قلباً من أكبر قلوب الدنيا. فتجلى عن عظمة ملأت آثارها الأرض. وذاعت في كل ركن من الحياة.(47/9)
ونحن ننقل القطعة الأخيرة من الكتاب. وهي جماع القول وفصل الخطاب: قال الشاعر لا مارتين:
أترون محمداً كان أخا خداع وتدليس، وصاحب باطل ومين، كلا بعد ما وعينا تاريخه، ودرسنا حياته. فإن الخداع والتدليس والباطل والمين كل أولئك من نفاق العقيدة. وليس للنفاق قوة العقيدة. كما أن ليس للكذب قوة الصدق والحق. وإذا كانت قوة الصعود والمرمى في عالم الطبيعة والحركات الآلية هي المقياس الصحيح لقوة المصدر الذي تنفذ منه الرمية، ويظهر في الأفق من القذيفة. فإن العمل والفعل الذي يحدثه المحدث في علم التاريخ، وسجل الخلود. وكتاب الإنسانية هو المقياس الصحيح لمقدار الوحي. وقوة القلب والوجدان والفكرة السامية العالية التي تنفذ إلى مكان بعيد. وتبقى زمناً طويلاً. وتمشي في الحياة أبداً رخياً. وهي ولا ريب فكرة قوية صدرت من جنان قوي ولكي تكون تلك الفكرة قوية ينبغي أن يكون ظاهرها وباطنها الإخلاص وعلمها الأكبر الحق والصدق. وتروح معقولة يقبلها اللب. ويعتمدها الذهن. ولا ريب أن ذلك ينطبق على محمد ورسالته والوحي الذي تنزل عليه فإن حياته وقوة تأمله وتفكيره وجهاده ووثبته على خرافات أمته، وجاهلية شعبه، وخزعبلات قبيله، وشهامته وجرأته وبأسه في لقاء التعذيب الذي لقيه من عبدة الأوثان. وثباته وبقاءه خمسة عشر عاماً يدعو دعوته وسط أعدائه وبهرة خصومه في قلب مكة وندواتها ومجامع أهلها. وتقبله سخرية الساخرين. وهزؤه بهزؤ الهازئين وحميته في نشر رسالته وثباته وتوفره عليها، وحروبه التي كان صفه فيها أقل نفيراً من عدوه وأصغر عدداً، ووثوقه بالنجاح، وإيمانه بالظفر وإعلاء كلمته، واطمئنانه ورباطة جأشه في الهزائم، وأناته وصبره حتى يحرز النصر، وطماعيته وتطلعه إلى إعلاء الكلمة، وتأسيس العقيدة، لا فتح الدول، وإنشاء الإمبراطورية، وإقامة القيصرية، ونجواه التي لم تنقطع مع الله، وموته وقبض الله إياه إلى جواره، ونجاح دينه بعد موته كل أولئك أدلة على أنه لم يكن يضمر خداعاً أو يعيش على باطل ومين، بل كان وراءها عقيدة صادقة، ويقين مضيء في قلبه، وهذا اليقين الذي ملأ روحه هو الذي وهبه القوة على أن يرد إلى الحياة فكرة عظيمة وحجة قائمة، ومبدأ مزدوجاً، وهو وحدانية الله وتجرد ذاته عن المادة، الأولى تدل عمن هو الله. والثانية تنفي ما ألصق الوثنيون به، والأولى حطمت آلهة كاذبة، ونكست معبودات(47/10)
كاذبة، والأخرى فتحت طريقاً جديداً إلى الفكر، ومهدت سبيلاً طريفة للنظر.
وأما الفيلسوف والخطيب والرسول والمشرع والقائد ومسعر الحرب وفاتح أقطار الفكر، وراد الإنسان إلى العقل، وناشر العقائد المعقولة المتفقة مع الذهن واللب، ومؤسس دين لا وثنية فيه ولا صور ولا رقيات، ومنشئ عشرين دولة في الأرض، وفاتح دولة واحدة في السماء، من ناحية الروح والفؤاد - فذلكم هو محمد. . .! فأي رجل لعمركم قيس بجميع هذه المقاييس التي وضعت لوزن العظمة الإنسانية كان أعظم منه، وأي إنسان صعد هذه المراقي كلها فكان عظيماً في جميعها، غير هذا الرجل.
تلك حسنة من حسنات الشاعر الفرنسي لامارتين، ولعلها ترجح بجميع أشعاره ودواوينه.(47/11)
الحياء
وصف الحيي - الفرق بين الحياء والخجل - تأثير الحياء في الإدراك والإحساس والحركة - تحليل الحياء تحليلاً بسيكولوجياً - الاحتفاظ بالكرامة - دقة الشعور - الحياء ليس بحالة نفسية مستمرة - وصف نوبة الحياء - هل الحياء فضيلة أم رذيلة - حب الحيي للكمال - الشفاء من الحياء
يرى الناظر في أحوال الناس وما يبدو عليهم من آثار الغرائز والملكات امرئ عليه سيماء الجد والوقار ومخايل الاحتشام والانقباض، يميل إلى العزلة وينفر من رؤية الناس فإذا اجتمع بأحد ولو كان من الذين طابت نفوسهم وزكت أرواحهم وتجملوا برقة الحاشية ولطف الجانب ألم به شيء من الوجل والقلق وضرب من الخوف والاضطراب بلا سبب معقول يدعو إلى استثارة هذه الحالات النفسية من مكامنها.
وإذا ضمه مجلس حافل ظل مطرقاً صامتاً لا يستطيع أن يزج بنفسه في غمار الحديث الذي يتجاذب الحضور أطرافه، تتولد الآراء السديدة في ذهنه ولكنه يبقى معقول اللسان لا يستطيع إلى إرسال الكلام سبيلاً. يريد النهوض والانصراف ولكنه لا يبرح قاعداً متململاً كأنما قد سمر إلى كرسيه أو كأن قدميه جمدتا فلا تستطيعان حمله.
فهذا المرء من المصابين بخلق الحياء، فالحياء هو الخوف من الناس وهو غير الخجل الذي هو شعور المرء بعار يلحقه منم جراء إتيانه فعلة ينكرها العرف.
وللحياء أسوأ الآثار على قوى النفس الثلاثة فيعدو عليها ويعرقل سيرها ويعطل وظائفها تعطيلاً، وبيان ذلك أنه يؤثر على إدراك المصاب فيجعله بطيئاً عاجزاً عن التفكير العميق والمضي مع سلسلة طويلة من المقدمات والنتائج. وإذا بوغت بقول تجده قد غص بريقه وتعذر عليه استحضار الجواب السديد في وقته حتى إذا خلا بنفسه تفجرت لديه ينابيع الأفكار وألفى مجال القول والأخذ والرد بعيد المدى متسع الجوانب جم المسالك والمذاهب.
ويؤثر الحياء على إحساس المصاب به فيجعله خليطاً مشوشاً من العواطف والمشاعر والانفعالات المتضاربة المتناقضة فلا يكاد يولد في سويداء نفسه إحساس حتى يزول سراعاً ليحل محله وهيهات أن يستقر على حال من القلق فما أسرع تقلب الحيي بين الحب والبغض والرضا والسخط، وما أقرب نقلته من الرجاء إلى اليأس ومن الفرح إلى الحزن. وإذا لقي في بعض المواقف ما يعد إهانة لم تتحرك في نفسه شهوة الغضب ولا تثور(47/12)
عاطفة الانتقام إلا شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً ولعلها لا تبلغ أقصى مداها إلا بعد زوال البواعث التي اهتاجتها.
وكذلك تأثير الحياء في الحركة فإنه يرميها بالخطل والزلل فلا يحس الحيي الإتيان بأية حركة على وجهه ما دامت عيون الناس ترمقه حتى ولا إيماءة السلام أو قضم الطعام ولا يعمل الشيء إلا بيد عسراء شلاء تنبيء عن دخيلة أمره وتفصح عما انطوت عليه نفسه من الخجل والاضطراب.
وجملة القول أن الحياء يصيب قوى النفس في مقاتلها فيرمي الإدراك بالبله والإحساس بالبلادة والحركة بالخبل.
ولتعليل هذه الأعراض الغريبة نذكر طرفاً من تحليل نفسية الحيي لمعرفة أسرارها فنقول:
إنما يتولد الحياء من شعور المرء بعدم الإلفة بين قلبه وقلوب الناس وبعد ما بينهما من وجوه المشابهة والاتفاق فكأنما قلبه خلق في هذا العالم غريباً لا قرين له ولا أليف ولا أنيس، فكلما اشتد هذا الشعور ازداد الحيي خوفاً ووجلاً من الناس واشتط في طلب الفرار منهم والبعد عن وجوههم حتى إذا أتاحت له الأقدار قلوباً رحيمة مشفقة تشابهت وإياه في أساليب التفكير وخفقت بالعواطف والمشاعر الواحدة ألفها ووثق بها وركن إليها ولم يجد عند اجتماع بهم ذلك المضض والقلق الذين يشعر بهما عند اجتماعه بغيرهم، وهذه الحالة هي التي لمحها الشاعر في ثنايا نفسه فوصفها بقوله:
فيّ انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
فأهل الوفاء والكرم الذين يعنيهم الشاعر إنما هم أهل مودته ومن ارتبط قلبه بقلوبهم برباط من الإلفة والثقة والولاء. فإذا فارقهم وعاشر غيرهم عاد إلى سيرته الأولى من الانقباض والاستحياء.
فأنت ترى مما تقدم أن الحيي امرؤ شديد الخيال يرى نفسه فوق نفوس الناس جميعاً ولذلك لا ترضيه أحوالهم وأطوارهم ومذاهبهم وطرائقهم في الحياة وكيف ترضيه وهو لا يعجبه إلا الكمال المطلق في كل شيء ويصور له يخاله أسلوباً للحياة لن تصل إليه الإنسانية قط. ثم أنه يحب ذاته حباً جماً ويحتفظ بكرامته وكل ما يتعلق بشخصيته أيما احتفاظ ويضن بها(47/13)
أن ينال منها حاسد أو جاهل ويطير لبه شعاعاً وتأخذه نوبة الحياء كلما خشي شيئاً من ذلك. فهذا هو سر نفاره من الناس اللهم إلا من أولئك الذين لا يتناولون أفكاره وأقواله وعواطفه وأعماله بالنقد والتجريح والنعي عليها بالتصريح أو بالتلويح من خاصته وأهل مودته ممن تقدمت الإشارة إليهم.
حكى جان جاك روسو الكاتب والفيلسوف المعروف - وكان من أهل الحياء الشديد - فيما حكاه عن نفسه في كتابه (اعترافات) انه مر ذات يوم بحانوت فطائر وحلوى فاشتهى شيئاً منها وحدثته نفسه بالدخول في ذلك الحانوت لابتياع ما يريد ثم أحجم عن ذلك حياء إذ خيل إليه أن الفتيات البائعات تنظرن إليه بلحظات ملؤها السخرية وخشي أن يرمقنه وهو يقضم من تلك الفطائر بالنهم والتهالك في حب الحلوى، وهي خلة معروفة لدى الصبية والأطفال فأبت نفسه أن يلتاث بهذه اللوثة الشنعاء في نظره ورجع أدراجه ونفسه تكاد تذهب حسرات.
الحيي دقيق الشعور حتى كأن نفسه نفسان نفس تعمل ونفس تراقبه وتحاسبه على ما يأتي وما يذر، وهذا الشعور الملازم هو الذي ينبه لديه الأوهام والخيالات التي أشرنا إليها فتنبعث تبعاً لها العواطف المرتبطة بها من مراقدها بسرعة البرق فتؤثر على أعصابه فيبدو الخطل والاضطراب جلياً في حركاته وسكناته. وما زالت دقة الشعور قضية أهل الأدب والفضل وأرباب الوقار والحشمة فإنهم يحملون بين جوانحهم رقيباً عتيداً يميز بينهم وبين السوقة من ذوي الوجه الوقاح الذين لا يبالون لما يفعلون.
وكثيراً مت يخرج الحيي من حيائه ويخلع من عنقه ربقته ويقصي أحكامه الجائرة فتراه يأنس أحياناً بمن لا عهد له بمعرفتهم ولا مكانه لهم في نفسه فيفضي إليهم ببنات صدره ويبثهم آراءه وأفكاره وأمانيه ويندفع في الحديث فتنفجر المعاني في ذهنه وتجري على لسانه الكلم العذاب المتضمنة لطائف الحكم وروائع الإشارات وبدائع النكت. فإذا رأيته ساعتئذ حسبت أن ليس للحياء عليه من سلطان.
ذلك أن الحياء ليس حالة نفسية مستمرة فكلما غفل الشعور عن صاحبه صار إلى الحالة التي وصفناها فإذا استيقظ لأدنى سبب بدأت نوبة الحياء تدب في نفسه، وتمشي الاستحياء فيها تمشي الحميا في جسم الشارب.(47/14)
ولقد يخرج الحيي من انقباضه وانكماشه ويسترسل في الحديث ويذهب في كل مذهب حتى إذا حانت منه التفاتة فرأى خرقاً في بعض نواحي ثوبه لا تتبينه عين الرائي لتناهيه في الصغر خيل إليه أن عيون الجالسين ترقبه من كل صوب ومتوهم أنهم إنما يهزأون به ويسخرون من رقة حاله وفاقته ورثاته ثوبه فعندئذ تهب نوبة الحياء من غفلتها وتبدو بآثارها ومظاهرها.
وكثيراً ما يتفق لبعض الخطباء أو المحامين أو غيرهم ممن تقضي عليهم مهنتهم بالتكلم على ملأ من الناس أن ينظر إلى تلك النفوس التي ما عرفتها نفسه من قبل وما ألفها فيخشى من نقدها لما سيقول، واستصغارها له وعدم قدره حق قدره فيصعد الدم إلى رأسه ويحتقن في وجنتيه وترتعد فرائصه وتصطك أسنانه وتكاد رجلاه لا تقومان بحمله فتخور عزيمته ويصاب بالحصر، ثم يستعيد سكينته ورباطة جأشه شيئاً فشيئاً إلى أن تزول نوبة الحياء ويعود إلى حالته العادية وتنفتح أمامه أبواب القول.
أما الحكم على خلق الحياء هل هو عيب من العيوب الخلقية أم فضيلة يكرم صاحبها فقد اختلف فيه الكتاب والمفكرون والفلاسفة. ففريق يذهب إلى أنه مرض من الأمراض النفسية وأنه ضرب من ضروب الانحطاط وضعف الإرادة وفريق يرى أنه فضيلة من الفضائل وأنه يجري والعبقرية في مضمار واحد فما الحيي إلا شخص ساخط على حالة الكون ناقم على نظام الاجتماع متطلع إلى الكمال المطلق في كل شيء ففي باب العقليات لا يرضيه إلا العلم الغزير المترامي الأطراف المحيط بكل شيء الذي ينفذ من حجاب المادة الكثيفة إلى ما استتر وراءها من عالم الغيب. ومن وجهة الإحساسات لا يسبعه إلا اللذات الصافية من الشوائب التي لا يعقبها ألم أو تعب. والجمال الذي تعنو له الوجوه والأخلاق الفاضلة التي ليس للكذب والمخاتلة والطمع وما إلى ذلك من الدنايا الفاشية في الناس من سبيل إليها. ومن حيث المادة يشرئب إلى قوة جسدية دونها قوة الجبابرة وثروة طائلة يعد بجانبها قارون فقيراً معدماً. فإذا لم يكن في وسع الحيي أن يحقق تلك الأماني الكريمة التي تهجس في صدره فإن له على الأقل فضل التطلع إليهخا والتطاول نحوها.
وأكثر ما يصيب الحياء الإنسان وهو في مقتبل العمر وغضاضة الإهاب ثم تخف وطأته عنه شيئاً فشيئاً كلما تقدمت السن وازداد علماً بحقيقة الوجود وأمعن في تجاريب الحياة(47/15)
وعجم أعواد الحوادث.
محمد صادق
قال يحيى بن خالد البرمكي: ما رأيت باكياً أحسن تبسماً م القلم. وقال أبو جعفر وزير المستكفي: الأصاغر يهفون والأكابر يعفون. وقال: من عمل ما يحب لقي ما يكره. وقال مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية: كنزنا الكنوز فما وجدنا كنزاً أنفع من كنز معروف في قلب حر. وكتب إلى الخارجي الشيباني: أنا وإياك كالحجر والزجاجة إن وقع عليها رضها وإن وقعت عليه فضها. وعرض بظاهر الحيرة سبعين ألف فارس عربي ثم قال: إذا انقضت المدة لم تنفع العدة. وقال عبد الله بن المعتز: من لم يتعرض للنوائب تعرضت له. وقال: من أحب البقاء فليعد للنوائب قلباً صبوراً.
ومن بديع نوادر الشعراء المستملحة ما قاله الحمدوني في طيلسان بن خرب - وقد قال فيه قرابة أربعين مقطوعة لا تخلو واحدة منها على معنى نادر ومثل سائر فمن أطيبها قوله:
يا بن حرب كستني طيلساناً ... مل من صحبة الزمان وصدا
طال ترداده إلى الرفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدى
وقوله:
كم رفوناه إذ تمزق حتى ... بقي الرفو انقضى الطيلسان(47/16)
مسألة تحتاج إلى رأي الأزواج
عندما يخرج إلى هذا الكوكب الأرضي مخلوق من مخلوقات الله، يخرج كاملاً له بعض المقدرة والاستعداد، فعلى قدر بدنه وذهنه يستطيع أن يؤدي نصيباً معيناً من العمل، وعلى قدر قوة شهوته للطعام، يستطيع هضم جزء نسبي من المآكل ومواد الغذاء، وعلى قدر استعداد عواطفه ومنازعه يستطيع التصرف في قسط محدود من الحب، فأما قوته على زيادة هذا القسط، ومكنته من تعدي هذه الحدود فأمر من الريب والشك والغموض بمكان عظيم، على أنه قد دلت التجاريب وأثبتت المشاهدات من ناحية الناس عامة، وأهل الحب كافة، أن الحب يجنح دائماً إلى الهبوط، ولا يميل أبداً على الصعود، وأكثر ما يأخذ في الخفوق والقلة، وقلما يسترسل في الزيادة والكثرة، ولا يزال اهتياج عاطفة من العواطف في قلب من القلوب، يقابله جزء نسبي من الحب قد انتزع منه في وجهة أخرى، وناحية غير تلك الناحية، كأنما قد خلقنا الله ووهبنا حساباً معيناً وضع لنا في مصرف الحب حتى لا نستطيع أن نتجاوز في السحب المبلغ المحدد لنا في بنك الحب! فإذا صح هذا - وهو المعقول - نهضت مسألة تحتاج إلى النظر والبحث، وهي تدور حول التوزيع الواجب الذي ينبغي أن نقسم على نسبة الحب بين أولئك الذين يطالبوننا بحق الحب ويتوقعون منا نصيباً منها، ومن هذه الناحية نرى كثيرين من الناس صغار الأذهان يظلمون ويجورون بعض أولئك الذين يخصونهم بالحب.
لما اهتدى كل من الفتى نوربرت والفتاة فيولا إلى السحر الحلال الذي أحدث كل في فؤاد صاحبه، واكتشف تحت أشعة القمر وظلال الزيزفون، فتنة الحبيب لحبيبه، وروعة الأليف لأليفه، تنفس كل منهما أنفاساً حرى مستطيلة، من عجب وحيرة، وراحا يتساءلان كيف أمكن أن يحب كل منهما الآخر كل ذلك الحب وقد ذعر نوربرت وأجفل، شأن جميع المحبين إذ يدهشون عند الشعور بأول بوادر الحب الصادق، ولم يكن من قبل يدري أن للحب هذا الطعم وللهوى كل تلك الحاسة والفتنة، وراح حيران مذهولاً يتساءل: ماذا حدث لي، رباه ما الذي جرى فلم يلبث أن همس إله الحب في أذنه هو الحب يا أحمق!!
فقال الفتى لنفسه وهو يتنفس بصعوبة ويكاد يختنق من دهشة وعجب: أحقاً هو الحب؟ يا إله السموات، من أين حاء هذا الحب كله؟ فأجابه صوت في أعماق نفسه: هي التي أيقظته، ولكنه كان قبلها موجوداً بجميع مادته في فؤادك! فمضى يقول لنفسه كذلك،. فإذا(47/17)
كانت هي التي أيقظته فهو ولا ريب ملها خاصة، وحق من حقوقها وحدها.
وعلى ذلك راح يسلم فتاته فيولا مقادة حبه كله، ويهبه بجملته، لا بالقطاعي! ومضى يقول بلغة الشعر ولسان الهوى هاك حبي، وهو جميع ما أملك، أو ينتظر مني أن أملك، خذيه لنفسك، فهو لك ومتاعك وحقك الواجب!.
فأخذته الفتاة منه وتقبلت المنحة، وراحت مزهوة معجبة فخورة بالهبة والمنحة.
وأنت تعلم أن أعمال الرجل وجميع ما يصدر عنه لا مرد له عنها، ولا محيص، ولا يستطيع النزول عنها أو تركها وأما المرأة فقلما تجدها مصرة على عمل، عنيدة إزاء فعل من أفعالها، مستبدة من ناحية أمر من أمورها، ولعل ذلك لأن المرأة خلقت وهي تعرف ثلاثة أضعاف ما يعرفه أكبر الرجال ذكاءً وفهماً وإدراكاً، ولذلك لا ترى امرأة واحدة في الدنيا مسرفة في حبها أو تراها من جنون العاطفة والتبذير فيها بحيث تهب جميع حبها جملة واحدة، وقد تتظاهر بأنها تهبه كله مرة واحدة، ولكنها في الحقيقة لم تفعل شيئاً من ذلك، ولو أن لنا قوة نستطيع بها وصولاً إلى مفتاح الصندوقة التي تختزن فيها المرأة كنوز عاطفتها، إذن لاهتدت الإنسانية إلى أسرار عظيمة وعلمت ما ليس لها إلى علمه سبيلاً.
ومن فرحة العطاء وبهجة المنح، اعتقد نوربرت أنه قد أخذ قدر ما أعطى، ومنح قدر ما وهب، وأن كلاً منهما قد نقل شجرة الحب من فؤاده إلى أعشار قلب صاحبه.
ولكن تلك لم تكن الحقيقة، فإذا كان الفتى قد أعطى فيولا حبه، فإن الفتاة إنما أعارته فقط حبها، وقيدت هذه العارية في سحل من سجلات قلبها، وقد فعلت ذلك وهي لا تدري، وظل به هو جاهلاً، وهذا سبيل السعادة العظيمة المتألقة المشرقة التي نمت بينهما وفرعت أغصانها.
وكانت خطبات الزواج في عصرهما الذي عاشا فيه لا تتم بالسرعة التي تنتهي بها اليوم فأطاعا آداب العصر وتقبلا شرائع الجيل، وظلا سنتين رفيقين يمشيان جنباً لجنب ويداً في يد، وذراعاً مشتبكاً بذراع، وفي خلال العامين ظلا يتكلمان على فيض من البلاغة، وسحر من البيان، عن سلطان الحب.
ومضى يقول هلا: يا لك من فاتنة ساحرة رائعة!
ومضت تقول له: ويا لك من قوي شديد السر، إني أحبك لطول قامتك وقوة ذراعيك!.(47/18)
وكان يجيب: وأنا بك مفتون لصغر بدنك ونحافة جثمانك ولين عودك!.
فتروح ترنو إليه قائلة: أحق ما تقول!.
ثم يبتدئ فيض القبل، ويشتد وابل اللثمات، ثم إذ يسكت عن التقبيل يقول ما قاله الشاعر براوننج هل تراني وقفت وأنا أعتبر الميون من القبلات حداً ضئيلاً وألوف الألوف طفيفة قليلة.
وقد ينطلقان يوماً في البحث عن مقدار حب كل منهما لصاحبه وهو بحث كثيراً ما يدور على أفواه المحبين، فيمضي يقول: كم تحبينني. . وبأي قدر وإلى أي حد؟ فتجيب أحبك حجم القرش التعريفة) فيجيبها ضاحكاً وأنا أحبك حجم القطعة ذات الخمس (وإذ ذاك تزيد الحجم شيئاً فشيئاً حتى تقدر لحبها إياه حج الصحن الموضوع فوق غطاء الخوان فيحاول هو تحسين هذا الحجم وتكبيره فيضع لحبه حجم المنزل الذي يسكنه. وعند ذلك تسرف هي وتبذر في وضع الأحجام فتصف حبها في سعته بحجم البحيرة التي يتنزهان على ضفافها. وإذ ذاك يطرد جميع أوصاف الأرض ويتخذ لحبه مثالاً من الشمس أو القمر أو أي نجم من الأنجم الزهر قرأ شيئاً عنه في كتب الفلك!.
ولا يذهب الظن بك إلى أن تحسب العاشقين ضعيفي الذهن مجنونين ناقصي الإدراك، فإن نوربرت في العمل الذي كان يصيب منه الرزق كان يعد أعقل العقلاء ومن كبار أهل الألباب، وكان صافي الذهن، نشيطاً، وعده صاحب العمل الرجل القدير على الخطوب، الكفؤ لجميع الشؤون والأعباء، ولذلك يجب أن تعلم أن الحب والمنطق لم يكونا يوماً. ولن يكونا أبداً رفيقين متصاحبين. ولا يحب أحدهما أن يلعب أو يمشي مع الآخر، وكانت فيولا فتاة رزينة ذات حصاة ورباطة ووقار ذلك الوقار وتلك الرزانة التي لا تقلل من فتنة المرأة، بل تزيدها جمالاً وتهبها حسناً على حسنها، وكانت تدرك كيف ينبغي أن تؤدي عملها، وتحقق أن تنجزه على تلك الصورة ولكنها لم تكن متكلفة أو متظاهرة بنشاط، والمرأة التي تقوم على مطالب البيت وامتهان نفسها في حاجيات الدار، وتؤدي شؤونالمنزل كما يجب لا ينبغي لزوجها أن يهنئ نفسه بها كثيراً، بل أخلق به أن لا يبتهج ويطرب إلا إذا أدت جميع ذلك بلا مباهاة، ولا تكلف ولا تظاهر أو تفاخر، وإنما الأزواج الفاسد والذوق الجامد والإحساس البله المغفلون هم الذين يبتهجون عند رؤية شؤون البيت مدبرة على أتم(47/19)
ما تكون، وسهود بعولاتهم وهن يعدون في الحجرات متلبيات عن تلكلف، ويظهرن النشاط أمامهم عن مفاخرة واعتزاز.
ولم يكن يرى نوربرت شيئاً من ذلك بل يجد البيت مدبراً على أحسن ما يشاء التدبير، كأنه قد خلق لذلك وبقي كذلك.
وكان نوربرت يود لو يلتقي برجل يستطيع أن يقنعه بأن في السموات مكاناً خيراً من بيته الصغير الذي لا يزيد أجره في العام عن أربعين جنيهاً.
وقد كان هذا بالطبع بعد شهر العسل فقد نسيت أن أذكر أنهما تزوجا وزف الحبيب إلى نعمة عينيه وأليف نفسه وكان ذلك الشهر المعسول مفعماً بألوان عجيبة، كألوان غروب الشمس الزاهية المختلفة المتعددة التي إذا رآها الرائي لا يلبث أن يقول أنه ما كان يصدق أن لها هذا الجمال وتلك الروعة، لو أنه اطلع عليها في صورة صناعية خرجت من يد مصور ماهر.
وكان نوربرت إذا خرج من محل عمله الواقع في ربض من أرباض المدينة انطلق مسرعاً كالبرق، وجرى مستبقاً كالريح، غير متريث ليملك أنفاسه أو وجل خائف على صمامات قلبه، أو مكترث للسابلة الذين يصطدم بهم في طريقه بل يعدو عدواً سريعاً حتى يتهيأ له أن يركب في القطار فيصل إلى عشه الجميل قبل الموعد المضروب لوصوله ببضعة دقائق. فإذا نزل من عجلة الترام عند أقرب محطة من داره، انطلق يغني في هدأة المساء أغاني الحب والوجد.
وأنت تعلم أن المتزوجين لا يجدان تلك الفرص التي يجدها الخطيبان للكلام عن تلك التفاهات التي يكبر من شأنها الحب ولا يسمح لهما زمنهما بالإسراف في الأحاديث الصبيانية التي يبذلها العروسان عن جود وسخاء لمعرفة مقدار حب كل فرد منهما ومبلغ عاطفته بل أن لهما بسبيل ذلك ألف طريقة وطريقة لإظهار عمق حبهما وغور جانحتهما، ومن بين تلك الوسائل الحلوة العذبة اللذة الفاتنة التي كانت تظهر بها فيولا حبها لزوجها نوربرت، كانت هناك وسيلة هي أحبها جميعاً لى فؤاده.
وكان هو أسعد ما يكون من ناحيتها وأشد غبطة وهناء ذلك أن الله وهب ذلك الفتى شعراً ناعماً جميلاً يجري في ذوائب وتعاريج حلوة ونعومة لا قرين لها، ولا مثيل، وكان بهذه(47/20)
المنحة راضياً قرير العين، ولم يكن يأذن لأحد أن يضع يده فوق ذلك الشعر الأفحم الأثيت اللين الحريري إلا يد فيولا فقد راحت تلعب في خيوطه كما شاءت وشاء لها الدلال فاعتادت أن تأخذ في إصبعها أسلاكاً منه فتلفها وتجعدها وتفسد نظامها وتجعلها واقفة مستطيلة كمنقار الصقر ثم إذا تم لها ذلك أدنت فمها من تلك الأسلاك فقبلتها ولثمتها وأعادتها إلى سيرتها الأولى لثماً ودلالاً وحباً وعذوبة.
ولئن كانت هذه اللعبة من التفاهة بحيث نتصور، فما زالت في ذهن نوربرت دليلاً من أكبر أدلة الحب ومظهراً من مظاهر الجانحة التي تضطرب في فؤاد زوجه وأنت تعلم أن أولئك الذين يحبون إلى حد الهيام والشغف، يجعلون من التفاهات والحماقات الصغيرة أموراً كباراً خطيرة، واليوم الذي نفقد فيه النزوع إلى إحداث هذه التفاهات مع أحبابنا هو اليوم بعينه الذي يأخذ منه حبنا في الهبوط والضعف.
ولا حاجة لنا ولا ضرورة إلى ذكر مئات الألاعيب والتدللات والهناءات التي كانت تبعث نوربرت على الإسراع إذا انتهى عمله إلى بلوغ البيت، ولو أن احد الناس سأله شرح السبب وكشف الباعث، لما رغب في الكلام، ولما أقبل على الشرح والتفسير، ولو أن صديقاً من أصدقائه اعترض طريقه وهو في أشد جريه فسأله: علام الجري ولم العجلة يا أخي لما رضي أن يقول له: إنني مسرع إلى البيت لاحتضان زوجتي التي تدعوني دائماً بالغزال.
على أن هذه التسمية لا تتفق ولا تلائم نوربرت من جميع الوجوه، ولكن أين ذلك الرجل الذي لا يرضى بالاسم الذي يخرج من الشفتين اللتين يقطعهما لثماً وتقبيلاً.
ولا تحسبن أن القبل كانت هي وحدها اللذة الدائرة بينهما بل مضيا يتكلمان في أحاديث كثيرة الألوان، ويقرآن الصحف فيعجبان ويفرحان للأخبار أو يحزنان، وراحا يبحثان في أمور المستقبل والمستقبل كما تعلم بحث رحيب الصدر ولذلك لا تعجب إذا سمعت أنهما كانا وهما يتكلمان عن المستقبل يهبطان في أحضان بعضهما البعض ويقع كل في صدر صاحبه.
ولقد اعتاد نوربرت أن يجلس في المقعد الكبير الهزاز وفيولا مستندة إليه ويداها تلعبان في شعره الجميل وأحلامها وأمانيها المعسولة تصب فيضها في أذنيه.(47/21)
تقول: يا غزالي إنني لأود أن يكون الجنين أنثى! فهل تود ذلك أنت ايضاً؟
فيقول: ودي ودك. . ومشتهاي ومشتهاك.
فتعود قائلة: ولكت ألا تظن يا غزالي أنه لو كان ولداً لكان أحسن وأغلى وأعز!.
فيجيب: هو ذلك. بل سيروح آية العجب!.
فتسأله: وأنت فماذا تطلب حقيقة، أيهما تريد؟
فيقول: (أيهما) إني لا أيد أن أختار، كلهما عزيز جميل.
وإذ ذاك تنحني إليه فتقول: إني أحبك أيها الغزال، إني أراك حلواً عذباً فاتناً.!
فيمد يده فيأخذ راحتها فيبلغ بها خده ويروح يلاطفها أشد الملاطفة وهو يهمس في أذنها إذن فلتبقي على هذه الفكرة دائماً. . .!.
عندما يقول الطبيب للزوج المكفهر الوجه الواجم المرتعب أنه قد تم الحال على أحسن منوال وأنه قد أصبح والداً لوليد صحيح سليم. لا يني يردف هذه العبارة بأخرى وهو أن يذهب إلى عيادته فيحضر له الجعبة الفلانية أو الأدوية الفلانية. . وهي عادة قديمة يريد بها الطبيب أن يعد الزوج عن فراش زوجته النفساء، ويهيئ له ما يعمل حتى تتولى عنه الأفكار المزعجة، وهي عادة حمقاء طائشة قد يتبعها أذى، ولهذا ينبغي للأطباء إطراحها وإهمالها.
إذ يحسب الزوج المروع المسكين أن حياة زوجته وقف على إحضار تلك الجعبة الفلانية فيشتد ألم نفسه، ويعظم عذابه وتذهب نفسه شعاعاً وروحه حسرات وخفقات ولهفات.
وكذلك انطلق نوربرت لإحضار تلك الجعبة وأطلق ساقيه للريح فما وقف ولا أراح حتى بلغ عيادة ذلك الطبيب، وما تريث ولا ني وهو يعدو عائداً بالجعبة إلى البيت. وكان وهو يجري يؤدي لله فريضة وهي بين الدعاء والبكاء، والتضرع والنسيج فأما الدعاء فشكر لله وقنوت وحمد وتسبيح، وأما الدموع والعبرات فخوف وخشية وفرق. وسمعه الناس وهو يجري هامساً تتردد على شفتيه هذه الكلمات: الله يا رب يا رب طفل طفل اغنمها السلامة أغنمها السلامة وسمعه آخر، وكان الوقت في بكرة الصبح ومنبثق الفجر يقول: ويلاه لو أن حادثاً حدث، واحر قلباه لو وقع واقع.
ولا ريب أنه حدث حادث، وذلكم هو نزول وليد جديد إلى الدنيا ما كاد يهبط الأرض حتى(47/22)
طلب بصرخته الأولى الحلوة العذبة أن يوهب جزءاً عظيماً من الحب الذي ينعم به أبواه. والعبادة التي تجري في قلب الوالدين.
والحب والعبادة، كما تعلم، لا يزالان يشبهان كل شيء في العالم، فهما لا بد من أن يجيئا من مكان معين، ولا بد من أن يوزع بضائعهما شخص، وعلى شخص آخر أن يدفع ثمن الفاتورة فأما فيولا فقد وزعت هذه البضاعة وجاءت بالمتاع وكان الواجب على نوربرت أن يدفع الثمن فدفعه وهو لا يدري إذ ذاك أنه دفع شيئاً أو خسر شيئاً.
وأنت لا تجد في جميع روابط الخليقة رابطة أشد وآصرة هي أمتن من الطفل المولود للزوجين، ولئن كان هذا الوليد عيياً لا ينطق، أخرس لا يتكلم، ضعيفاً لا يستوي على قدميه، صغيراً عاجزاً مسكيناً، فهو لا يزال قادراً على أن يطفئ شعلة الحب أو يثير نارها، وهو يستطيع أن يحدث بصرخاته الصغيرة، وأعوالاته الضعيفة، ما لا تستطيع البلاغة أو يؤاتي السحر والبيان.
وأنتم ترون أن هذه قصة شخصين من أهل الدنيا يسميان نوربرت وفيولا، ولهذا ينبغي أن لا يأخذ الناس هذه القصة فيعدوها نظرية عامة، تنطبق على الدنيا كافة، فإن المتفق عليه إلى اليوم، والنظرية المسلم بها، والقضية المذعن إليها، هي أن الطفل هو الحلقة التي تربد الزوج وزوجه، والكماشة التي تمسك بالأبوين، فلا يفلتان ولا يتجافيان، وإن كان فريق عظيم من الناس ليسوا بحاجة إلى هذه الحلقة أو تلك الرابطة، لأنهما كانا مرتبطين ممتزجين متماسكين، قبل أن تظهر هذه الحلقة فتفصلهما عن بعضهما البعض، وإنما ينبغي في مثل هذه الشؤون أن تعرف مبلغ الحب الذي في مكنة الروح أن تهبه، والمقدار الذي تستطيع أن تصدره حتى يعم الزوج والطفل على السواء، وقد تجد الروح في بعض الأحيان عاجزة عن أن توزع الحب والعدل بالقسطاس المبين، وإذ ذاك لا يبقى على الروح إلا أن تسرق أحدهما لتعطي الآخر ولهذا نرى ألوفاً من الرجال يخطهم الشيب ويبين بياض الشيخوخة في فحمة رؤوسهم، ويعلو تاج المشيب تفاريق شعورهم، قبل أوان الشيب وعهد الشيخوخة، وترى العزاب والكارهين للزواج والمحتقرين حياة الأسرة، آخر الناس في إدراك المشيب، واشتعال الرأس بجلال ما في الشيخوخة من جلال.
وهكذا سرقت فيولا نوربرت لتهب إبنها ريشارد، وكان ريشارد آية من آيات الجمال(47/23)
فأنساها ابنها أنها سرقت من زوجها حبه فألقت به إلى وليدها.
أضحى ريشارد يسمى أسماء الدلال، وألقاب المناغات والتدليع وأضحى نوربرت الغزال سابقاً ينادى فقط بأبو العيال وهو لقب فرح به بعض الفرح وإن بدا من ناحيته في شيء من الاضطراب والألم.
وفي الأشهر الستة الأولى من مولد الباكورة الأولى للزوجين لا يجد الزوج فرصة تهيئ له معرفة مركزه في قلب زوجته لأنه يرى أن تلك الأشهر هي حق مطلق للطفل لا يشاركه فيه أحد سواه، ولكنه بعد أن تمضي تلك المدة ويعود الأمر إلى نصابه لا يلبث الزوج أن يقيس الفرق بينه زوجاً لا والداً، وبينه الآن زوجاً ووالداً!!.
وعرف نوربرت أن هناك حقيقة شيئاً من الفرق، ولكنه كان من الدقة والخفاء بحيث لا يدرك علانية، ولا يتجلى للأبصار، وأحس من طريق خفي أنه قد أصبح أكثر أهمية وأقل أهمية في آن واحد في وسط أسرته منه قبل مولد طفله.
فبدلاً من أن تلعب فيولا بذوائب شعره الأفحم الأثيث وتلثم خصلاته وأسلاكه وتطبع القبلات الحارة فوق وجنتيه. أصبحت اليوم تسأله رأيه في مسألة تهوية الحجرات والعناية الواجبة للأطفال وشؤون التدبير المنزلي، وفنون الشربة والفطرة والششم، ولئن كانت لا تزال فيولا تقبله وتلثم خديه كأنها تؤدي مأمورية من المأموريات وفريضة من الفرائض، فلقد كان الطفل هو الذي يظفر بالقبلات الحارة المجنونة، ويتنعم وحده بالعناق الشديد، ويتمتع بالأحضان العميقة الجياشة، واحتكر ذلك دون أبيه، وحل منها محله، وهو هو الذي كان يعدو من قبل في الطريق مطلقاً ساقيه للريح حتى يبلغ الدار للتمتع بها على آخر نفس.
ولا ريب في أن حب الأم وحب الأب مختلفان جد الاختلاف متباينان البون الشاسع، فأما الوالد فلديه نوعان من الحب تحت تصرفه، حب لزوجته، وحب لطفله وبنيه، ولا مشابهة بين الحبين، ولا مقابلة ولا مماثلة بين العاطفتين فأما حب المرأة فينبعث كله من معمل واحد وآنية واحدة، فإذا كانت سعة تلك الآنية صغيرة فلا بد أن يحرم أحد الشخصين المحبوبين من شيء من نصيبه وفي أغلب الأحيان الزوج. ويبعد أن يكون يوماً الطفل.
ومن هنا تدرك أن أفكار نوربرت كانت من هذه الوجهة في قلق وجزع فقد وقف حجاب(47/24)
بينه وبني العقل منذ مجيء الطفل إذ راح مبهوتاً يعجب ويتساءل ماذا يستطيع أن يفعل ليعيد مكانه سيرته الأولى ولكنه لم يجد جواباً ولم يهتد إلى حل ورأى وكاد أن يكاشف زوجته بما يكنه فؤاده ويطالبها بأن تعيد عهد تلك الحماقات الجميلة التي كان بها أسعد السعداء وأعز الناس غبطة وبهجة ولكنه إذ هم أن يبوح وقف الكلام متحيراً على شفتيه ولم يجد سبيلاًُ إلى الدخول على الاعتراف فلذلك أضمر حزنه في جوانحه وأخفى أساه في عاطفته ومشى يفكر في الطريق محزوناً مهموماً عند رجعته في العشي والأصائل إلى داره بعد الفراغ من عمله، ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يفكر ويعدو في الطريق في آن واحد فقد أصبح يصل إلى القطار الذي يبلغ به الدار في منتصف السابعة من المساء بعد أن كان يصل البيت من قبل في منتصف السادسة.
بعد عامين من ذلك التاريخ رزق الله فيولا وليداً آخر وكان الوليد في هذه الدفعة بنتاً. ولما كانت لم تطلب مقداراً كبيراً من الحب كالولد وانتهى الحال بأن أصبح نصيب نوربرت من حب زوجته له وكانت من قبل مائة في المائة الربع أو أنقص منه قليلاً ولم يبق له من مظاهر ذلك الحب إلا الجزء الواجب والفرائض المطلوبة من المرأة لزوجها كالعناية بإعداد الطعام في أوانه وغسل أثوابه إذا احتاج إلى تغييرها والمشاطرة في البحث عن أعماله والإدلاء بالنصائح له عن شؤونه إذا استنصح الرجل أو استشار وفي مقابل ذلك أصبح نوربرت يظهر رأيه ويبدي فكره بكل حرية إذا ساءه أمر من أمور البيت فراح ينتقد الطهي يوماً إذا وجد منه ما لا يروقه ويتشفع بالتعب من عناء النهار إذا لم يعجبه الحديث ولم يستطب المناقشة.
ومضت فيولا تحب طفليها ومضى هو يحبهما كذلك أصبحت هي متسامحة تغضي عن هفوات زوجه أو هناته إذ كانت عليمة بأن الأزواج جميعاً هم على هذه الشاكلة وسواسية في هذه الهفوات، والحق يقال لقد كانت تلك الأسرة في منتهى البساطة وعادية ككل أسرة ولها أشباه ونظائر على الجانبين من كل حارة وعلى الصفين من البيوت القائمة في كل طريق.
ولقد اعتادت العمات والخالات والأقارب أن يزوروا البيت وما يفتأون يقولون له ما أجملها من زوجة فاتنة صغيرة، فكان نوربرت يجيب دائماً على هذه الملاحظات وأنا الذي اخترتها(47/25)
وأنا به عليم.
فكانوا يعودون فيقولون: إنها تحب طفليها كل الحب!.
فكان يطرق عند سماعه هذه الكلمات ويقول. . . كل الحب!.
ويعود الأقارب عنه وينصرفون معتقدين أنهم أحسنوا التعبير وأجادوا القول.
راح نوربرت ينظر إلى زوجته وهو جالس إلى مائدة العشاء. فعجب في نفسه إذ يرى أنها لا تزال حسناء فاتنة فقد مضى على عهد زواجهما عشرون عاماً وما زال يتجلى في عينيها بريق الشباب وذلك الضياء الجميل الذي كان يشرق منذ عهد بعيد يوم كان يمشي إلى جانبها وهي فتاة تحت أشعة القمر فاستند نوربرت في مجلسه واهتاجت الذكرى في صميم قلبه واستثار الحاضر ما كان من لذلذات الماضي وحلاوته ولكن لم يلبث أن أعاده صوت فتاته إلى الحاضر إذ مضت تقول عجباً لتصاريف القضاء في أي مكان سأكون في مثل هذا الوقت من الغد!.
فأجابتها أمها ستكونين ولا ريب بعيدة عنا أميالاً عظيمة ومسافة طويلة فمد الفتى ريتشارد ساقته وقد ظهر اليوم في الرداء العسكري وارتدى ثوب الضابط الجديد واستند إلى ظهر مقعده وقال في رنة أسى. وأين أكون أنا؟ ولكن خليق بنا أن لا نظهر شكاة أو نبدي جزعاً وفرقاً فإنه لولا عرس أختي ما استطعت أن أجد سبيلاً إلى طلب الإجازة والحضور من ميدان فرنسا لرؤيتكم.
فساد إذ ذاك سكون وجعت عين الأم تنظر بحب وإعجاب وزهو وخيلاء إلى ابنها الضابط الشاب الذي عاد من ميدان القتال لأجل غير طويل.
وعاد ريتشارد يقول: إنني أميل إلى الأعراس وأحب رؤية الزيجات ولعل باعث ذلك الجندية فهل تستطيع يا أبي أن تجد لي زوجة من الآن إلى الغد أن في طبيعتي مقداراً من الحب لا يحسن أن لا أدع إنسانة من خلق الله تناله.
فأجاب الوالد لا تجزع يا بني ولا تحفل بهذا فلا يلبث أن يتجلى لعينيك الشخص الذي سيأخذه منك وإذ ذاك يذهب الحب، أليس كذلك يا زوجة. .؟
فنظرت إليه زوجته شذراً وهي مندهشة متحيرة وإذ ذاك انبرت فيليس تقول: من أغرب الأمور أن أعيش بعيدة عنكم فهل ستستوحشون في غربتي؟ يا أماه؟ فهمت فيولا بأن تجيب(47/26)
ابنتها ولكن صوتها احتبس بين شفتيها.
فعادت الفتاة تقول: يا الك من والدة محبة محبوبة جميلة كريمة القلب!
فحبذ ريتشارد رأي أخته فقال: هذا حق يا أخية، إنها أم جميلة محبوبة أليست كذلك يا أبتي؟
فقال الوالد وهو في أشد الاضطراب: نهم. . نعم. . بالتأكيد!
فانبرت الفتاة فيليس: إذن فقل ذلك يا أبي وصرح به صراحة، إنك لا تقول جملة في هذا الشأن بقوة وتبيان.
فأجاب مذعناً مستسلماً: إنها أم محبوبة. . محبوبة. . جميلة كريمة القلب ها أنا قد قلتها!
ولا ريب في أن الليلة التي سيروح صبحها طالعاً ببين وافتراق بين فتاة ستفارق العش الذي فيه درجت إلى بيت العروس. وبين فتى سيعود إلى ساحة القتال وحومة الوغى. تمسي كثيرة الأحاديث ساهرة، ويدور فيها الكلام طويلاً. ويستفيض فيها البحث في شجون مختلفة الألوان ولما كانت كل هذه الأحاديث لا يتيسر شرحها والمساهمة فيها على مائدة العشاء فقط ولا في قاعة الاستقبال كذلك. فلا تعجب إذن أن يذهب الجميع إلى حجرات النوم فيجلس كل منهم على سرير ويروح في شعاب طويلة من القول. وأخير انطلق الفتى والفتاة إلى النوم ومشى الأب والأم يريدان منامتهما. وعند رأس السلم وقف نوربرت وقال: سأذهب فأدخن لفافة تبغ!
فنظرت إليه زوجته وقالت: أحقاً تردي ذلك؟ إذن فلك ما تشاء.
وكان في صوتها رنة اضطراب وتردد وحسرة ورأى منها ذلك فنظر إليها في دهشة وعجب.
فقالت وهي تستجمع جأشها لقد كنت الآن في عجب مما قلته في مائدة العشاء إلى ريتشارد وهو أنه سيذهب الحب. أليس كذلك. فهل تذكر؟
فأجاب: أذكر إنني قلت شيئاً أشبه بهذا؟
قالت: وماذا كنت تعني به؟
فأجاب: لا شيء. . كلام في كلام!
فقالت: لقد أدركت المعنى الذي كنت إليه تقصد والآن لتذهب إلى تدخين لفافتك أستودعك(47/27)
الله.
فأجاب متلعثماً: في حراسة الله.
ولثمها باضطراب.
قالت وهي تحتضنه إن ربطة عنقك ليست في مكانها!
ومدت يدها فأصلحت منها وهذبت شكلها وتبسمت عن أسى وحزن. وانطلقت إلى حجرتها فلما اختلى الرجل بنفسه نسي أن يشعل لفافة التبغ بل جلس أمام الموقدة مفكراً يلمس بأنامله ربطة عنقه التي أصلحتها يد زوجته ويذكر ابنه وابنته وهما سيفارقان العش غداة الغد.
ومضى الشهر التالي على أهدأ ما يكون الحال. فراح البيت صامتاً أخرس لا يرتفع فيه صوت. وقد عاش الزوجان وحيدين في خلاله بعيدين عن طفليهما حتى أدرك كلا منهما الحياء من صاحبه. وأضحى حديثهما غامضاً تافهاً لا غرض له ولا مقصد، وجعلا يقرآن الصحف بصوت مرتفع وهي العادة عندما لا يجد الجليسان موضوعاً للبحث أو كلاماً يتداولانه.
ففي ذات يوم وأنه لذاهب إلى محل عمله في الصباح كعادته، إذ تبعته فيولا إلى حجرة الثياب، فجاءت بمعطفه من المشجب وأمسكته له حتى يرتديه، وأعانته على الاشتمال به، وكان هذا ولا ريب عناية تافهة، ولكنها أثارت فيه ذكرى حارة وأحدثت لديه اضطراباً وقلقاً.
قال: لست أريد اليوم معطفاً.
فقالت: كلا. بل ينبغي أن ترتدي فإن الجو اليوم مبترد وينبغي أن تحترس من البرد.
قال: إذن فليكن. وأدخل ذراعيه في المعطف ومشى إلى الباب قائلاً: إلى الملتقى!.
فمشت بجانبه حتى أوصلته إلى باب البيت وراحت تسأله. ألم يعد القطار الذي يصلا المدينة عند منتصف الخامسة مساءً يجري اليوم بين المدينة والضاحية؟
فأجفل مذعوراً وقال: لا أدري ولكن لم هذا السؤال؟
قال: لا شيء إلا أنك اعتدت دهراً طويلاً أن تصل في ذلك القطار.
ألم يكن الأمر كذلك؟(47/28)
فأجاب: نعم. كان كذلك.
فعادت تقول: لقد كنت أظن الآن وقد ذهب الطفلان أنني أصبحت أستوحش غيابك.
فأجاب مرتبكاً: إذن سأجتهد. . إلى اللقاء. . .
وفي ذلك المساء دهش كثيرون من المارة، واستغرب جمع عظيم من السابلة إذ رأوا رجلاً كهلاً في أثواب نظيفة يجري على آخر نفس في الشارع.
وكان هذا الكهل الذي يعدو كأنه قد عاد طفلاً. وآض شاباً واستحال عريساً جديداً، هو نوربرت. فقد نهضت الذكريات البعيدة في صفحة ذهنه وخيل إليه أن العشرين عاماً التي مضت على زواجه لم تكن إلا حلماً في الكرى وإيماضة برق لامع. وكانت فيولا اعتادت في أوائل العهد بالزواج أن تجلس إلى النافذة فتطل منها مرتقبة مطلع زوجها المحبوب من ناصية الشارع وتناديه باسمه الجميل الذي خلعته عليه وهو الغزال. حتى لقد كان الجيران يسخرون منها ويعتبون عليها فيه وينتقدونها من أجله.
والآن جعل نوربرت يجري في الطريق وهو يسائل نفسه هل سيراها الآن بعد عشرين عاماً من جلستها تلك، واقفة بالنافذة تنتظر عودته وإذ ذاك أجابه صوت نفسه بأنها لا ريب لن تكون كذلك، فإن هذه الفكرة مضحكة مجنونة. على أنه ما كاد يلم بناصية الشارع الذي يحوي منزله حتى تطلع إلى النافذة فلم يجد أحداً. وإذ ذاك هدأ من أنفاسه ومشى مطرق الرأس إلى الباب فتحسس جيوبه ليرى مفتاح الباب. ولكنه لم يلبث أن رأى الباب قد انفتح وإذا بفيولا واقفة أمامه، ووجهها تعلوه صفرة الموت. وشفتاها ترتعشان وقالت متلعثمة وقد هجمت الدموع إلى عينيها ريتشارد وإذ ذاك عرف المعنى الذي أرادت أن تفصح عنه، فإن المصائب والأنباء السوء أصبحت تدرك اليوم بالإشارة. لا تحتاج إلى كثرة شروح وإفاضة حديث، وفي هذه المدنية العجيبة التي جاء بها القرن العشرون.
فقرأ التلغراف وهو جاف العين والحلق، ولم يستطع أحد منهما الكلام وجاءت الخادمة بعد برهة تعلنهما بأن العشاء قد تهيأ، فأخذ كل مجلسه من الخوان، ومرت ألوان الطعام أمامهما، فلم تمد إليه يد، ولم تمس صحفة من الصحاف، وعادا إلى حجرة الحديث فجلس هو في مقعد مطرق الرأس وجاءت هي وراءه، فوقفت، وحاولت فيولا الكلام فاحتبس المنطق في صوتها، ولكنها لم تلبث أن استجمعت قواها فقالت بعد جهد. . . لقد كنت خائفة عليه يوم(47/29)
ذهب للقتال.
فقال ولم يزد. . . أجل!
وساد السكون لحظة طويلة.
وقالت أخيراً: لقد كنت أحبه أعظم حب أيها الوالد. . ولكنها إذ تلفظت بهذا الاسم الأخير وجدت أنه قد أصبح خطأ فغيرت الاسم بغيره فقالت لقد كان ابني الوحيد يا غزالي!
هنا مد نوربرت ذراعه إليها فأخذت راحته فوضعتها فوق خدها وقالت: نبئني لماذا تحدث هذه الأحداث، وهل ينبغي أن تحدث؟
قال: علم ذلك عند الله.
وأسند رأسه إلى صدرها وراحت أناملها تلعب في شعره.
وهنا كأنها بمعجزة أو وحي غريب انحنت ليه فطبعت فوق ذوائب شعره الأفحم. . قبلة حارة. . .!
انتهت.(47/30)
الإسبراتيواليزم
أو الاعتقاد بوجود الأرواح وإمكان مناجاتها
منشأ الإسبراتيواليزم
الإسبراتيواليزم ليس شيئاً جديداً في العالم، ولا هو بالأمر الطريف بل أن الاعتقاد بأن الموتى يحيون في عالم آخر، وأن في الإمكان مخاطبتهم ومناجاة أرواحهم، لا تزال عقيدة عامة في الإنسانية من أبعد العصور، ويلوح لنا أنها جاءت عن طريق الأحلام، وكان الباعث عليها الرؤيا في المنام لأن المتوحش الهمجي إذا رأى في الحلم بعض أصدقائه الموتى، أو فريقاً من الأعداء في الرؤيا وهم يحاربون ويعيشون كأنهم لم يوسدوا الثرى، وكأنهم لا يزالون أحياء فلا يتأول من ذلك إلا أنهم ولا ريب أحياء في مكان بعيد من الدنيا، وإلا فما هذا الذي يظهرهم ويجعلهم يتكلمون ويتحدثون إليه، ويخرجون إلى القنص معه، وصيد الوحش في رفقته، ويجب أن نعلم كذلك أن الفرق بين الحياة في النوم والحياة في اليقظة عند المتوحش الهمجي لا يكاد يكون محسوساً لديه. معروفاً منه، بل قد يمتزج أحدهما بالآخر. ويختلطان ويدخل كل في صاحبه، حتى أن الذين يحلمون قد يشكون في أغلب الأحيان وتأخذهم الريبة فيما إذا كانت الحادثة التي رأوها حصلت حقيقة أو إنما رأوها في الرؤيا ليس غير. ولا بد من أنه كان هناك في أدوار التطور الإنساني دور في أبعد عصور التاريخ كان الناس فيه لا يجدون فرقاً ما بين الأحداث التي تقع لهم في النوم وتلك التي تقع في البقظة، وكانت الحوادث التي يراها النائم تلوح له حقيقية كأنما وقعت في عهد اليقظة والصحو.
ويلوح لنا أن رؤية الموتى ومخاطبتهم كانت في العهود القديمة من التاريخ معروفة تحدث بوسائط تنويم مغناطيسي، ومن كتب الفلاسفة الأقدمين أمثال أفلاطون وفلوطرخس يتبين لنا أن عادة مناجاة الأرواح كانت معروفة في أزمانهمـ، وأنه كان يحدث شيء منها في الأعياد والطقوس، ولكننا لم نستطع أن ندرك مما كتب أولئك التفاصيل والحذافير وكان بين اليهود عادة السحر والتنجيم ذائعة متفشية، ووقع في الإمبراطورية الرومانية ما وقع في اليونان فقد دل التاريخ على أنه كان قبل مولد المسيح بنحو مائة عام طائفة من عظماء رومة وأشرافها تحت مراقبة الشرطة إذ اتهموا بأنهم كانوا يستحضرون أرواح الأموات،(47/31)
وقد ابان العلامة تيلور في كتابه (الديانات الأولى للإنسانية) براهين عدة على العقائد والمشاهدات التي تدل على أن فكرة مناجاة الموتى وتنفيذها كانت معروفة في جميع أنحاء العالم قديماً وحديثاً.
وعادة مخاطبة الأرواح عامة في الصين حتى اليوم، وطريقتهم في ذلك أنهم يستخدمون نوعاً من التختة أو الصابورة يلجأون إليها في قراءة المستقبل، والحفلة التي تعد لذلك علنية، تقام أمام هيكل في معبد، وتدفع الرسوم عند الدخول وهي تخص القساوسة، ثم إذا انتظم عقد الحفل سأل السائل ما يريد فيكتب السؤال في ورقة ثم تحرق أمام المذبح قبل ان يتمكن أحد البتة من معرفة ما فيها، ثم يتلقون الجواب من الله إذ يرتفع صوت غريب بألفاظ تخط فوق صينية من الرمل كلمة فكلمة وقد ثبت من التاريخ الصيني أن هذه العادة يرجع منشأها إلى عدة قرون ماضية.
على أن الإسبراتيواليزم في شكله الحاضر، وحركته اليوم في بلاد الغرب، يعود تاريخه إلى عام 1847 وذلك أن في شهر ديسمبر من تلك السنة تقاطر الناس وازدحم القوم على باب رجل يدعى جون فوكس كان يعيش إذ ذاك في ولاية نيويورك، في الولايات المتحدة وكانت أسرة الرجل تتألف منه هو وزوجته وفتاتين أحدهما تناهز الربيع الخامس عشر وأختها في الربيع الثاني عشر، وإذ أذاع الناس عنه أن له اتصالاً بالأرواح، إذ سمع الناس روحاً تتكلم في بيته فقالت الروح أنها كانت تشتغل في هذه الحياة بائعاً من باعة الأسواق الطوافين الجوابين وأن عمره في الواحد والثلاثين وأنه قد ترك أسرة تتألف من ثلاث بنات وولدين وأنه قتل من أجل ماله، فذاع الخبر عن ذلك البيت، وانطلق ألوف الناس ليروا وليسمعوا، حتى انتهى الأمر بأن ظهرت هذه الظاهرة كذلك في عدة بيوت وسرت العدوى إلى الولايات الشرقية، ولبث الخلاف والشكوك بضع سنين في هذا الشأن فمن مصدق ومن مكذب، فوقعت التهمة على ابنتي الرجل فوكس فاعترفت إحداهما بأن الدقات التي كانت تسمع إذ ذاك هي أثر دقات ركبتيها فوق بعضهما، وقد تأيد هذا الاعتراف بأن شهد ثلاثة من الأطباء بأن الدقات التي كانت تسمع لم تعد تسمع عندما أمسكوا بركبتي الفتاة ولم يدعوها تصدمهما إحداهما بالأخرى، ولكن دلت الأبحاث التي قام بها بعد ذلك السير وليام كركس، وهو من أبطال هذا العلم، والأبحاث التي أجراها السير أوليفر لودج بعده، على أن(47/32)
هذه الدقات في الحقيقة جائزة الحصول، في بعض أشخاص أوتوا استعداداً مخصوصاً، وأجسام وأرواح تخالف الأرواح والأجسام المألوفة، وقد ذكر أحد العلماء أن له صديقاً كان يستطيع أن يحدث هذه الدقات بعظمة داخلية من عظام كتفيه، وهذا الرجل لم يكن له أية علاقة بالإسبراتيواليزم وكان يحدث تلك الدقات للمجون فقط والضحك، وأن صديقاً آخر له صحا من نومه مذعوراًً في الساعة التاسعة من الليل على دقات شديدة فوق جدار الباب الخارجي لبيته وكان الجدار منفصلاً عن غيره ولا بيوت ولا منازل بجانبه، فلما أراد التحقق من مصدر هذا الطرق الشديد، لم يجد أحد لدى الباب، ولم يجد سبباً يدعو له من داخل البيت، فبلغ به الذعر مبلغاً جعله محموماً مريضاً، ولكن ظهرت النتيجة بعد ذلك له، وهي أن أخاه المحبوب لديه قتل قضاء وقدراً قبل الشروع في هذه الدقات بعشرين دقيقة فقط.
ولنعد الآن من الكلام على الظاهرة الجسمانية إلى الظواهر النفسية لعلم الإسبراتيواليزم فنقول أنها بدأت منذ عهد بعيد وكان أكبر أبطالها مستر وسويدنبرج، أما فريدريك أنطون مسمر فعاش حتى عام 1815 وكان مولده عام 1734، وهو طبيب نمسوي من مدينة ويانة بدأ عمليات الجديدة الخاصة بهذا العلم في باريس، ونجح نجاحاً باهراً في معالجة الأمراض وشفائها، وافرغ تعليمه في قلوب مئات من أتباعه وأثرت مهارته في أفئدة ألوف من أنصاره، وأخذ بعده كثيرون من الأطباء يؤيدون مبدأه، وهو أن تنويم المريض يمكنه من تشخيص مرضه بنفسه ووصف الدواء الناجع له، فانتقلت هذه التعاليم المسمرية إلى الولايات المتحدة، وذاعت في بلاد الغرب، ومضى كثيرون من الأطباء المسمريين يعالجون الناس بهذه الطريقة وثبت إذ ذاك أن المريض المنوم قد يستطيع أن يشخص علته بنفسه ويصف لها الدواء اللازم، وقد يستطيع أن يحكم بعله غيره ويصف له الدواء، وقد ذهب كثيرون إلى أن هؤلاء الأشخاص المنومين إنما كانوا يتلقون شرح العلل ووصف الأدوية لها من أرواح أطباء الموتى، حتى أن أحد المنومين أكد للقوم في حالة نومه أو هو الطبيب اليوناني القديم غالن بنفسه.
أما عمانويل سويدنبرج فكان مولده عام 1688 ومتوفاه عام 1712 فبعد أن ظل خمسين عاماً في دأبه العلمي وتقلبه في المناصب الكبرى بدأ آخر مرة يتلقى الوحي، وتتراءى له(47/33)
الأشباح وتتبدى له الأرواح إذ جعل يناجي رجالاً كثيرين من عظماء الدنيا الذين ماتوا قبله من قديسين وفلاسفة وملوك وباباوات فخاطب أرواح لوثر وكلفن وشيشرون وموسى وبولص ويوحنا وكثيرين غيرهم، وتلقى كذلك ما يسمونه اليوم بالكتابة المكتوبة بذاتها، إذ جعلت يده تندفع في الكتابة بلا إرادة منه، ولاوعي من لبه، فذهب في ذلك إلى أن الأرواح هي التي كانت تدفع يده إلى الكتابة فتكتب، على أن سودنبرج لم يشجع الناس على أن يخاطبوا الأرواح، ولم يبعث غيره على التكلم معهم، لأنه كان يعتقد أنه هو المختار من الأرواح وحده ولكن كثيرين ولا ريب يأخذون عنه ذلك ويحدثون هذه الجلسات نفسها مع الرواح.
فهذه العوامل واجتماعها بروح تلك العصور المضطربة الثائرة القلقة، كالثورة الفرنسية ونشوء الروح الاشتراكية، ساعدت على تقدم هذه الحركة وشيوع الإسبراتيواليزم، حتى هبط إنجلترا في عام 1855 رجل غريب يعد من أكبر الوسائط التي يلتمسها الناس سبيلاً على مخاطبة الرواح، وهو يدعى هوم، وقد جاء إليها بعد أن طاف كثيراً من بلاد الغرب فاستحضر أرواحاً في حضرة إمبراطور فرنسا لويز وزوجته، وزار قيصر الروس فأجرى جلساته بين يديه، وكان الرجل لا يتقبل مطلقاً أجراً على عمله نقداً أو مالاً، وإن كان ولا ريب يرفض الهدايا، وهي أعز ثمناً وأغلى قدراً. ولم يقبض عليه يوماً وهو يحاول غشاً في محاضراته، ولم يدرك الناس عليه مطلقاً خدعة أو بلفاً على أنه كان الشاعر بروننج الطائر الصيت في ذلك العصر وضع قصيدة عنوانها ليخسأ وسيط الأرواح وكان يقصد بها إلى التهكم على (هوم) فإنما كان الشاعر فيها يتبع هواه وأخذ بالظنة في أمر الرجل، ولم يحكم البرهان ولم يقم الدليل، كما شهد على نفسه بعد ذلك واعترف، ولعل النقطة المشكوك فيها من تاريخ هوم هي ما يختص بقصة المرأة التي تدعى مسز ليون. وكانت أرملة مثرية أهدت إليه أربعةوعشين ألف جنيه وتبنته ثم ندمت على ما فرط منها من هدية ووقفية فزعمت أن الرجل احتال عليها واثر في ذهنها وخدعها وادعى أن الرواح هي التي أوحت إليها أن تمنحه تلك المنحة وتخصه منها بهذا الفضل. وانتهت الخصومة إلى المحكمة فحكم لها برد المبلغ إليها ولكن القاضي أبان بفصيح القول أن لا دليل أو بينة يعتمد عليها من ناحية السيدة، وأنه لم تثبت الإدانة مطلقاً على أن هوم اعتدى عليها في مالها واستلبه(47/34)
استلاباً.
وكانت مقدرة الرجل غريبة فكان يرى أرواح أصدقائه الموتى وأقارب الذين يطلبون إلي استحضارهم، وكان يجيء بأسماء الأرواح، وبينات منهم تثبت حقيقتهم لأقاربهم، ولكنه ولا ريب اختص بالظاهرة الطبيعية من هذه الأبحاث فكانت الموائد في حضرته ترتفع بنفسها إلى الفضاء بدون أن يمسها أحد مطلقاً، وكانت المقاعد تتحرك في جوانب الحجرة، وكانت الكراسي الصغيرة تجري وترقص وتهتز وكانت الأزاهر تخرج من قصرياتها وتوزع نفسها على الحضور، وأعجب ما في أمره أن من الذين كانوا يشاهدونه رجالاً من كبار العلماء وأعضاء المجمع العلمي البريطاني، وقد كتب السير ويليام كروكس كتاباً عنه أثبت فيه صحة محاضراته.
وقد مات هوم عام 1886 وقد أربى على الخمسين وتزوج مرتين وقد اشتهر كثيرون غيره من أبطال هذا العلم، ستقرأ آثارهم في العدد القادم إن شاء الله.(47/35)
قوانين الحياة اليومية
طائفة من الإرشادات العامة
ننشئ هذا الباب خاصة لنشر طائفة من القوانين التي تختص بشؤون الحوادث اليومية، وجملة من الإرشادات التي تتعلق بما يجري بين الناس من بيع وشراء واتفاقات وعقود، ومتجر وارتباطات ومواثيق، وهو بحث طريق مفعم بالمعلومات التي قد تغيب عن أذهان الكثيرين.
الأمتعة المفقودة والتي يعثر أحد الناس بها صدفة
كل فرد يعثر بشيء من المتاع فقده صاحبه في مكان عمومي له الحق فيه قبل غيره بعد صاحبه الحقيقي، فإذا لم يوجد صاحب المتاع، ولم يمكن الاستدلال عليه فإن للعاثر به الحق في ملكيته، ولكن ينبغي على ملتقط المتاع من الطريق أن يجتهد ويبذل قصارى سعيه في العثور على صاحبه الحقيقي، وإلا اتهم بالسرقة، وصحت عليه تهمة الاختلاس، فأماالصكوك والأوراق المالية والأمتعة ذات القيمة فمن السهل الاستدلال على أربابها وأما العملة المسكوكة وغيرها من الأمتعة فمن الصعب معرفة أصحابها، وعلى الشخص الذي يعثر بهذه الأشياء أن يسلمها إلى إدارة الشرطة: فإذا مضى الأجل المضروب الذي تحدده السلطة الإدارية لاسترداد الأمتعة المفقودة فعلى إدارة الشرطة أن تردها إلى الشخص الذي عثر بها إذا لم تكتشف صاحبها الحقيقي، فإذا عثر شخص بسلعة أو متاع في مكان ليس بالعمومي فعليه أن يسلمه إلى صاحب ذلك المكان، والمكان أو المحل العمومي هو المكان الذي يرتاده الجمهور ولا يحول أحد دونه في سبيله إليه كمكان السكة الحديدية، أو القطارات التي تهم بالرحيل، والملهى والتياترو، أي أنه لا يلزم في إطلاق كلمة المحل العمومي أن يكون الدخول إليه بلا مقابل.
ومن القوانين المصطلح عليها في إنجلترة أن سائقي المركبات الذين يسلمون إلى إدارة الشرطة البضائع أو الأمتعة التي يتركها الركاب في مركباتهم لهم الحق في عشرة في المائة من قيمتها فإذا مضت ثلاثة أشهر على تلك الأمتعة، ولم يطالب بها صاحبها أصبحت حقاً من حقوق الحوذي.
الديون الخاصة بشراب الخمور(47/36)
الديون المتعلقة بشرب الجعة أو الخمور لا يمكن تحصيلها أو ردها من المدين بثمنها إذا كانت قد احتسيت أو شربت في المحل الذي بيعت فيه، ولا تدفع ديون الخمر إلا إذا اشتريت في وقت واحد وكان ثمنها يزيد عن جنيه، أو كانت قد وردها الخمار إلى المدين في محل إقامته بكميات لا تقل عن ستة زجاجات.
التعويضات عن الإصابات
إذا جلب شخص إلى أرضه أو أملاكه حيواناً مفترساً بطبيعته أو زرع أعشاباً أو أشجاراً سامة في عصارتها، وتقرر أن من هذه الحيوانات والنباتات خطراً من ناحيتها، فإن صاحبها مسؤول عنها، إذا هي فرت من لدنه أو أحدثت أذى أو خطراً وهذا بصرف النظر عن أنه اعتنى بحفظها أو حبسها أواتخذ الحيطة دونها، أو عرف أو لم يعرف خطرها أو الأذى الذي قد ينجم عنها، وهذا ينطبق على الأفراد الذين يملكون قردة أو نمرات أو فيلة أو كان يتصاعد من مداخن منازلهم أو مصانعهم أو معاملهم شرر يتطاير، ويسري الشرر الذي يتطاير على قطارات السكة الحديدية فيضر بالمحصول، على شرط أن لا يزيد ثمن المحاصيل التي أصابها الضرر عن مائة جنيه فإذا زادت قيمة التلف عن هذا القدر فلا تكون الشركة أو مصلحة السكة الحديد مسؤولة عن التعويض، إلا إذا ثبت أن الإهمال نجم عن أن القطار لم يكن على الطراز الحديث الذي يحتاط به من إحداث هذا الشرر المتطاير، أما فيما يختص بالإصابات التي قد تحدث من الحيوانات فلا يلزم بها صاحبها إذا كانت قضاءً وقدراً، أو من تحرش المصاب بها، أو بجريرته، أو تعرضه لها بأذى أو ضرب أو إحراج، وكذلك إذا حدثت الإصابة من جراء تحرش شخص آخر بالحيوان أو استنفاره، ولا رقابة لصاحب الحيوان على هذا الشخص ولا سبيل له عليه ولا سلطان، أما في الضرر الناجم عن الحيوانات الداجنة المتسبب للأشخاص أو الأمتعة، فلا يعد صاحبها ملزماً إلا إذا ثبت إهماله وكان يعلم أن الحيوان مؤذ أو خطر فإذا عض كلب شخصاً، فلا شأن لصاحبه في ذلك، ولا إلزام عليه، إلا إذا كان يعرف أن كلبه عض من قبل إنساناً سواه، أما الكلب الذي يؤذي الماشية والأنعام فمسؤول صاحبه في جميع الأحوال حتى في العضة الأولى أو الإيذاءة الأولى، أما الأضرار التي تحدث للناس من عيوب أو خلل في المباني أو الدور، فن الساكنين في تلك الأبنية مسؤولين عنها، وعندما تكون الأبنية لا تزال في دور الإقامة(47/37)
والبناء فإن صاحبها مسؤول لو أن حجراً أو لوحاً سقط على إنسان فآذاه، وعلى أصحاب المنازل التي لا تزال في دور الإنشاء والتشييد أن لا يتركوا حفراً أو أخاديد دون أن يسوروا عليها بسياج، وإذا أولم رجل وليمة، أو دعاه إلى مأدبة في بيته، فسقط الجدار عليه أو خر السقف، فأحدث له إصابات، أو تبع الوليمة، من ذلك أذى أصبح ملزماً أمام القانون عن تلك الإصابات، لأنه لم يحذر المدعو لها عندما أدب له تلك المأدبة الملعونة، والأشخاص الذين يعودون الأطباء في عياداتهم، أو يدخلون حوانيت المتجر لابتياع ما يروق لهم، ويصابون من خلل في تلك الأبنية لهم الحق في مقاضاة أولئك الأطباء أو التجار عما وقع لهم من الأذى والضر.
العقود التي تبرم مع المجانين أو السكارى المنزوفين
العقد الذي يبرم مع مجنون، والفريق الثاني لا يعلم بأمر جنونه، ولم تصل إليه دعوة ذهاب عقله، ثم يكون العقد عادلاً لا غبن فيه على المجنون، ولا رهق له ولا عسف، يعد صحيحاً قانونياً منفذ لا حائل دون العمل به.
أما العقود التي تبرم مع السكران الذي لا يدري ماذا فعل فيصح الطعن فيها وإلغاؤها، إذا أفاق من سكرته، واستعاد صوابه، أما إذا ابتاع المنزوف الذي لعبت الخمر برأسه سلعاً من السوق، أو أمتعة من المتاجر، وهو سكران في حالة الغيبوبة، ثم إذا أفاق حفظها لديه، وأبقاها في حوزته، فلا يصح استرجاعها، أو الانفلات من دفع أثمانها إذا لم يكن التاجر قد قبضها إذ ذاك.
ركاب القطارات
شركة السكة الحديدية أو مصلحتها مسؤولة عن الحوادث والإصابات التي تقع للركاب أو أصدقائهم من جراء إهمال عمالها، وهذا ينطبق كذلك على الأفراد القادمين إلى المحطات في عمل من الأعمال المشروعة كاستلام الطرود أو إرسالها أو في سبيل التحريات أو غيرها، أما عن الأشخاص الذين يذهبون إلى المحطات طلباً للنزهة أو التلهي، أو لابتياع صحف الأنباء، فإن مسؤولية السكة الحديد عن إصابتهم التي قد تحدث لهم في تلك المحطات ليست من الأهمية بمكان ولكن على عمال السكة الحديد إذا علموا بأمر خطر أو أذى قد يصيب جمهور الواقفين في تلك المحطات أن يحذروهم من ذلك الخطر، وينذروهم(47/38)
باحتمال وقوعه، وإلا أصبحت المصلحة ملزمة بتعويضهم عن الإصابات التي قد تحدث لهم ولكن السكة الحديد ليست ملزمة بأن تدفع للناس تعويضاً عن أخطار أو إصابات أصيبوا بها من شر أناس مسافرين بلا تذكرة بقصد الغش والتدليس، والأطفال الذين يسافرون في القطارات رفقة أقربائهم بلا تذاكر لصغر أعمارهم يستحقون تعويضات عما قد يصيبهم فيها، وكذلك على المسافرين الذين يسافرون بلا تذاكر ويثبت للقضاة أنهم كانوا عازمين حقيقة على دفع أجورهم.
وليست مصلحة السكة الحديد مسؤولة إلا عن الإصابات التي تحدث من جراء الإهمال، أما إذا اتخذت المصلحة جميع الحيطات، فلا سبيل لأحد عليها في دفع تعويض له عن إصابة تحدث له، فإذا أصيب شخص فعليه أن يتخذ لنفسه الحذر إذا هو تقبل منها تعويضاً عرضته عليه لأنه إذا قبله عن رضى منه فلا يستطيع بعد ذلك أن يقاضي الشركة في سبيل نيل تعويض أكبر منه إذا ظهر أن الإصابة التي وقعت له أشد خطورة مما ظن لأول وهلة.
وفي إنجلترة ينص القانون على أنه قد تحدد له في جدول المواعيد ميعاد معين لقيامه ثم لم يقم في ذلك الميعاد بعينه، إذ قام من المحطة المحدودة ثم تأخر في الطريق من إهمال عماله، فإن كل فرد من الركاب اضطر بحكم هذا التأخير إلى صرف نفقات كثيرة من جيبه يستحق شيئاً من التعويض، أعني أنه يستطيع أن يطالب بأجرة الفندق إذا دعت الحال إلى مبيته في تلك الليلة، ولكن ليس له أن يطالب بنفقة استئجار قطار مخصوص لمواصلة سفره، بل لا يستطيع أن يسترد من النفقات إلا ما دفع من جراء التأخير وعدم المواظبة في المواعيد، على أنه لا يكلف الشركة أن تدفع إليه الفوائد والأرباح التي قد كان يرتقب اغتنامها من الموعد الذي كان بينه وبين أحد الناس، أو مهمة من المهمات كان مسافراً من اجلها.
فإذا تخلف مسافر في إحدى المحطات المتوسطة، فلا يستطيع بالتذكرة نفسها أن يواصل سفرته، فإذا اضطر مسافر إلى السفر إلى محطة بعد المحطة التي تخول تذكرته له السفر إليها، دون قصد إلى غش أو تدليس، فعليه أن يدفع الأجرة الإضافية، فإذا ركب المسافر في درجة أعلى من درجة تذكرته، فإنما يرتكب مخالفة إذا هو أراد من ذلك الغش، ولكن لا(47/39)
غش، ثمت ولا تدليس إذا ألفى راكب الدرجة الثالثة أن مركبات تلك الدرجة مزدحمة ولا مكان فيها له، ثم اضطر إلى الركوب في الدرجة الثانية، لا يصح أن يدفع أجرة هذه الأخيرة على أنه ملزم بأن يعود إلى درجته، إذا خلت المقاعد فيها وتيسر الجلوس، فإذا اضطر المسافر بحكم الزحام إلى السفر في درجة دون الدرجة التي ابتاع التذكرة عنها، فيصح له مطالبة المصلحة بفرق الأجرة ولا يحق له أن يسلم تذكرته، ما لم يسترد هذا الفرق، فإذا سلم تذكرته، فله أن يلفت نظر محصل التذاكر (الكومساري) على هذه الحقيقة، ويأخذ رقم التذكرة ويعطيه اسمه وعنوانه، فإذا رفضت الشركة أن ترد الفرق غليه، فله أن يقاضيها في ساحة المحكمة، وحيث أن كل حجرة أو قمرية تسع مقداراً معيناً من الركاب فإن كل شخص يصر على الدخول فيها بعد أن امتلأت مقاعدها ويجد ممانعة من الجلوس فيها، ثم رفض، يلزم بغرامة، ويجوز للمسافر الذي يمنعه أن يرده ولا يسمح له بالدخول فيها، ولكن لا سلطان عليه في إخراجه إذا هو دخل ووجد فيها مجلساً له، أما المسافر الذي يبتاع تذكرة له في الدرجة الأولى وينزل بها ثم يأتي عمال القطار فيملأون درجته التي هو بركاب من الدرجة الثالثة فلا سبيل له ولا سلطان على المصلحة أن تخرجهم منها.(47/40)
مطالعات
أبو الصلت أمية بن عبد العزيز
من بين شعراء الإسلام الذين ضربوا بسهم صائب في الأدب والشعر فضلاً أنهم ممن حذقوا صناعة الطب وفن الموسيقى والعلم الرياضي أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الداني الأندلسي. قال ابن أبي أصيبعة: بلغ في صناعة الطب مبلغاً لم يصل إليه غيره من الأطباء، وحصل من معرفة الأدب ما لم يدركه كثير من سائر الأدباء، وكان وحيداً في العلم الرياضي متقناً لعلم الموسيقى وعمله، جيد اللعب بالعود، وكان لطيف النادرة، فصيح اللسان، جيد المعاني، ولشعره رونق. قال: وأتى أبو الصلت من الأندلس إلى ديار مصر وأقام بالقاهرة مدة قم عادة بعد ذلك إلى الأندلس وكان دخوله إلى مصر في حدود سنة عشر وخمسمائة في خلافة الآمر بأحكام الله الفاطمي ووزارة الأفضل بن أمير الجيوش. قال: واتفق له وهو في الإسكندرية أن مركباً موقراً نحاساً وصل إليها فغرق قريباً منها ولم تكن لهم حيلة في تخليصه لطول المسافة في عمق البحر ففكر أبو الصلت في أمره وأجال النظر في هذا المعنى حتى تخلص له فيه رأي واجتمع بالأفضل بن أمير الجيوش وأفهمه أنه قادر إن تهيأ له جميع ما يحتاج من آلات أن يرفع المركب من قعر البحر ويجعله على وجه الماء مع ما فيه من الثقل فتعجب من قوله وفرح به وسأله أن يفعل ذلك ثم أعد له جميع ما يطلبه من الآلات وغرم عليها جملة من المال، ولما تهيأت وضعها في مركب عظيم على موازاة المركب الذي غرق وأرس إليه حبالاً مبرومة من الإبريسم وأمر قوماً لهم خبرة بالبحر أن يغوصوا ويوثقوا ربط الحبال بالمركب الغارق، وكان قد صنع آلات بأشكال هندسية لرفع الأثقال من المركب الذي هم فيه، وأمر الجماعة بما يفعلونه في تلك الآلات، ولم يزل شأنهم ذلك والحبال الإبريسم ترتفع إليهم أولاً فأولاً وتنطوي على دواليب بين أيديهم حتى بان لهم المركب الذي كان قد غرق وارتفع إلى قريب من سطح الماء وعند ذلك انقطعت الحبال الإبريسم، وهبط المركب راجعاً إلى قعر البحر. قال: ولقد تلطف أبو الصلت جداً فيما صنعه، وفي التحيل إلى رفع المركب إلا أن القدر لم يساعده، وحنق عليه الأفضل لما غرمه من الآلات وكونها مرت ضائعة وأمر بحبسه، وبقي في الاعتقال مدة إلى شفع فيه بعض الأعيان وأطلق.(47/41)
قال: ومن تواليفه: 1 - كتاب الأدوية المفردة. 2 - رسالة في الموسيقى. 3 - كتاب في الهندسة. 4 - كتاب تقويم منطق الذهن. 5 - الرسالة المصرية. ذكر فيها ما رآه في مصر من هيئتها وآثارها ومن اجتمع بهم فيها من الأطباء والمنجمين والشعراء وغيرهم من أهل الأدب الخ. ومن شعره:
تقريب ذي الأمر لأهل النهى ... أفضل ما ساس به أمره
هذا به أولى وما ضره ... تقريب أهل اللهو في النَّدره
عطارد في جل أوقاته ... أدنى إلى الشمس من الزهره
وقال في موضع المعروف ببركة الحبش بمصر:
لله يومي ببركة الحبش ... والأفق بين الضياء والغبش
والنيل تحت الرياح مضطرب ... والسيف سلته كف مرتعش
ونحن في روضة مفوفة ... دبج بالنور عطفها ووشى
قد نسجتها يد الربيع لنا ... فنحن من نسجها على فرش
وأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الصبا فلم يطش
فعاطني الراح إن تاركها ... من سورة الهم غير منتعش
وسقني بالكبار مترعة ... فتلك أروى لشدة العطش
وقال:
وراغب في العلوم مجتهد ... لكنه في القبول جلمود
فهوى كذى عنة به شبق ... أو مشتهي الأكل وهو ممعود
وقال في البراغيث:
وليلة دائمة الغسوق ... بعيدة الممسى من الشروق
كليلة المتيم المشوق ... أطال في ظلمائها تشريقي
أحب خلق لأذى مخلوق ... يرى دمي أشهى من الرحيق
يغب فيه غير مستفيق ... لا يترك الصبوح للغبوق
لو بت فوق قمة العيوق ... ما عاقه ذلك عن طروقي
كعاشق أسرى إلى معشوق ... أعلم من بقراط بالعروق(47/42)
من أكحل منهما وباسليق ... يفصدها بمبضع دقيق
من خطمه المذرب الذليق ... فصد الطبيب الحاذق الرقيق
وقال:
ساد صغار الناس في عصرنا ... لا دام من عصر ولا كانا
كالدست مهما هم أن ينقضي ... عاد به البيدق فرزانا
وقال يصف هرمي الجيزة
بعيشك هل أبصرت أعجب منظراً ... على طول ما أبصرت من هرمي مصر
أنافاً عناناً للسماء وأشرفا ... على الجو إشراف السماك أو النسر
وقد وفيا نشزاً من الأرض عالياً ... كأنهما نهدان قاما على صدر(47/43)
فضل الشرق على الغرب
وأثر المغرب على المشرق
من أكبر العقائد التي مضى عليها أهل الغرب أن مدنيتهم الحديثة هي مبتكر عقولهم، ووليدة مسعاهم، ونتاج عملهم وافتنانهم، وأن الحضارة وقف على أممهم، واحتكار احتكرته شعوبهم، ولا يزال كتاب منهم وعلماء من أعلام صفوفهم يرمون الشرق بالجمود ويقرفونه بالتأخر، ويتراءى لهم الشرقي رجلاً متبلداً خامد القريحة، مغلول العزيمة، لا ينزل عليه وحي العظمة، ولا تمده الطبيعة بمستلزمات الرقي، ولم تمهد له القوة الإلهية أسباب المجد والرفعة، والسمو والعلاء، وإن الشرق لم يكن يوماً موطن العظماء ومهبط قواد الدنيا الأجلاء، بل قد كانت المدنيات التي أشرقت في جوانبه ووثبت في أنحائه نزوة من النزوات، وفلتة من الفلتات. وأنها لم تكن صالحة لأن تمكث في الأرض وتستقر. حتى أصبح جمع من كتابهم إذا كتبوا شيئاً عن الشرق نعتوه بالشرق الذي لا يتحرك! كأنما خيل لأهل الغرب أن العظمة تجري عليها سنن النباتات. والمواقع الجغرافية، وطبائع الإقليم، فلا تنبت إلا في منطقة معينة من مناطق هذا الكوكب. ولا تنقل أصولها وجذورها فتفرع وتزكو في غيرها من المناطق، وسواها من التخوم والأقاليم. وكأنما العظمة لا توجد إلا في مناطق الثلج والجليد كاللحوم المثلجة التي تنقل منها إلى البلد البعيد. وتستورد من أصقاع البرد والثلج الشديد. وكأن العظمة لا تحتمل وقدة الشمس وسعير القيظ حتى تطلع في مشرق الأرض، بل لا تجمد ولا تتكون إلا في مغيبها. وإن كانت العظمة من أكبر مطالبها الحرارة. وأكبر أعراضها اللهيب والتوقد والاضطرام. فهي خليقة أن تخرج مع الشمس. وتنمو على أشعة ذكاء في مهدها ومنشئها، ولا تصلح باردة ضاردة، تنمو مع مغرب الشمس واصفرارها في أفقها. وقد نسي هؤلاء أن الشرق موطن المدنيات العظيمة. ومسرح الحضارات الكبرى. وأن العظماء قد طلعوا فيه فخلدوا تاريخه. وأنه لا يزال قابلاً للرقي. كلما طلعت الشمس على العالم. وصالحاً للتقدم والعظمة لمتانة نفوس أهله. وقوة جذوة أرواحهم واضطلاعهم بالفضائل وقربهم من مواطن الأديان ومهد النبيين والقديسين.
وإذا نحن أردنا أن نتغلغل في البحث عن الأسباب التي دعت جموعاً عظيمة من أهل الغرب إلى إنكار عظمة أهل الشرق واستكبار الحضارة على بلدانه والجهل بحقه وفضله(47/44)
على الدنيا كلها، وعلى الغرب خاصة، وهم المعتزون بحرية الفكر النافجون باستقلال الرأي، المفاخرون بأن صراحة نفوسهم واستقلال أذهانهم وتحرر عقولهم تجعلهم في عاصم من متابعة الهوى والسكون إلى التحيز الرضا بذبذبة الرأي، فلا نلبث أن نجد أن هذا الاستقلال الفكري الذي به يعتزون ليس في الحقيقة إلا استقلالاً ظاهرياً أكثر منه حقيقة صادقاً، وأن الناس لا يزالون في إسار من ناحية الأذهان إذا هم أرادوا أن يروا أو يحكموا عن أعمال غيرهم وفضل سواهم من سائر أهل الإنسانية، فإنه في كل رجل من أهل الغرب يوجد رجلان ويتألف منه شخصان، الرجل الحديث العصري (آخر طبعة) وليد العلم والوسط الأدبي والذهني الذي نشأن فيه، والرجل القديم العتيق الذي لا يزال سلسلة مركبة تربطه بالماضي البعيد ومن هذا الرجل الذي يطل بين ثنايا الإنسان يستمد كل خص آراؤه في الناس وأحكامه في أخلاقهم وشؤونهم ومكانهم من الحياة والرقي بجانبه ويلوح لنا أنه يعز على أهل الغرب أن يعترفوا بأن الشرق هو الذي رقى الغرب. وأن الشرقيين هم سادات الدنيا في الحضارة. وعنهم أخذ الغربيون هذا الفضل العظيم الذي يزهون اليوم بآثاره في جميع أنحاء الأرض لأنهم يرون حاضر الشرق والنكسة التي انتكسها اليوم. والركود الآسن الذي جرى في أهله. فيشفقون من أن يعترفوا بالماضي ويدينوا للحق. ويصدعوا برأيهم العميق الخفي. في عظمة الشرق. فيكون من ذلك إنهاض لهمم الشرقيين واستثارة لعزائمهم واحتثاث علم على إعادة آثار ذلك الماضي المجيد والدولة التي لهم في عين الشمس.
على أن الشرق وإن أصر الغربيون واستكبروا استكباراً لا يقل اليوم في مادة العظمة عن الفرب وإن تقاوي العظمة وبذورها لا تزال توجد في كثير من بلدانه وأقطاره، وإن لم تتيسر الظروف لزرع تلك البذور وسقيها، ولم تمهد الأرض الصالحة لإنباتها. وإخراج شطئها، ولكن تلك الظروف ولا ريب سانحة في مستقبل الأيام. والأرض عما قليل مخصبة صالحة لثمار تلك الزروع الطيبة.
وإذا كان الغربيون ينكرون اليوم، ويدعون بأن العظمة احتكار من احتكارات شركاتهم وأممهم. فإن التاريخ لم يحرق بعد، ولا يزال كتاب الدنيا مفتوحاً يقرأ الناس فيه ما كان من المشرقين، وما كان من فضل الحضارتين.(47/45)
ونحن نبسط للقراء ما كان من أثر مدنية من أكبر مدنيات الشرق في تهذيب بلاد الغرب. وهي المدنية الإسلامية. ثم نعقب بذكر شيء من آثار الغرب في بلاد الشرق. لنتبين أي الفضلين أعظم، وأي الحضارتين خلعت على الأخرى المآثر والمكرمات والحسنات الكبار.
(2) فضل الشرق على الغرب
من ناحية الأخلاق والآداب
إن هذه الأخلاق التي يعجب بها أهل الغرب ويفخرون بها وتلك الآداب الجميلة التي يعتزون بها ويتسامون من إفساح الطريق للسيدات إذا خطرن وتلقيهن بالحفاوة إذا قدمن وتقديمهن على الرجال في المجالس. وما على تلك الألوان المختلفة التي يظهر فيها أهل الغرب عبادتهم لنسائهم. ومن احترام الشيوخ وإكبار المتقدمين في السن، والعطف على الأطفال والرحمة بالوالدان. وتقديس الإيمان والأقسام والبر بالوعود وكراهية الحنث بالمواثيق وجملة تلك الآداب الطيبة كل أولئك أخذه الغرب عن الحضارة الإسلامية. يوم بثت آدابها في الشرق والغرب. وانحدرت إلى إسبانيا. فكانت تلك الدولة في وحشية وهمجية وانحطاط لا تجد لها اليوم مثيلاً في أواسط إفريقيا، فلما هبط المسلمون تلك البلاد نفض أولئك القوم عنهم بربريتهم واتخذوا آداب الفروسية ومطالبها شعائر لهم ورسوماً.
وفي العصر الذي قامت فيه الحروب الصليبية يشهد التاريخ والغربيون أنفسهم كما ذكر العلامة جوستاف لوبون أن الشرق كان إذ ذاك بفضل مدنية الإسلام ينعم بحضارة مشرقة النور فياضة الحواشي، مفعمة الروح بالآداب وألوان الرقي المختلفة، على حين كان الغرب مرتطماً في حمأة الهمجية.
ونحن ننقل هنا رأي صاحب كتاب حضارة العرب في هذا الموضوع إذ يقول: أما الشرق فلم يستفد أهله من أهل المسيحية في تلك الحروب شيئاً، بل لم يكن منها إلا أن أثارت في قلوب الشرقيين الاستخفاف بالغربيين. ولم يكن منها إلا العصبية الموحشة القاسية للأديان، وهو الأمر الذي ما فتئنا نحا ربه اليوم ونعمل على إطفاء جذوته. حتى هذه الساعة. ولكن الغرب استفاد منها أعظم الفائدة في التجارة والصناعة والعلوم والآداب ومختلف الفنون، وذلك بفضل مدنية الشرق. فالشرقيون هم الذين أخرجوا الغربيين من الهمجية وأنقذوهم من وصمة البربرية وأعانوهم على حضارتهم الحاضرة.(47/46)
ويقول المؤرخ العدل المنصف بارتلمي سانت هيلير: بفضل آداب العرب ومدنيتهم الإسلامية، استطاع سادات القرون الوسطى في بلادنا الغربية أن يخففوا من شر عاداتهم الوحشية. واستمد فرساننا من الاختلاط والمجالدة مع المسلمين جملة من العواطف الرقيقة والمشاعر العظيمة الجليلة والوجدانات الإنسانية التي لم يكن لهم بها عهد من قبل، ونحن في شك وريب من أن المسيحية وحدها هي التي أوحت بتلك الآداب، وارسلت فيهم روح تلك العواطف، لو لم يكن من حضارات الإسلام.
(3) فضل الشرق على الغرب
في الآداب والعلوم والفنون
إن أهمية الأثر العظيم الذي أحدثته المدنية الإسلامية في الغرب لا تتيسر معرفتها وإدراك حدودها ومبلغ ما كان منها إلا إذا بسطنا للقراء حال أوروبا في العصر الذي دخلت فيه تلك المدنية أرض الغرب.
فإذا ألقينا البصر إلى القرنين التاسع والعاشر من التاريخ المسيحي وهو العهد الذي أشرقت فيه مدنية الشرق في إسبانيا فلا نجد شيئاً هو أقرب إلى المدنية في الغرب من تلك القصور العظيمة التي كان يسكنها النبلاء والسادات وهم في الجهالة يعمهون، حتى أن كثيرين منهم كانوا يعتزون بأنهم لا يتنزلون إلى معرفة القراءة والكتابة، وكان أعلم العلماء في ذلك العصر طائفة من القساوسة الفقراء كانوا يصرفون أيامهم في تلاوة كتب العهود القديمة واستظهار آداب العصور الغابرة قبلهم. ولم تنشأ للعلم في الغرب بواكر ولم تبدر له بوادر إلا في أوائل القرن الثاني عشر إذ بدأ أهل الغرب يفطنون إلى وجوب أخذ مبادئ العلم والمدنية عن العرب فكانت إسبانيا وصقلية وإيطاليا الموارد التي ينتجعون إليها لإصابة حظ من المدنية، وكانت هي السبيل التي نفذ منها العلم إلى أوروبا بأسرها.
ومنذ عام 1130 نشأت في قرطبة جامعة لترجمة أسفار العرب وتواليفهم وكان أثر تلك الكتب عظيماً، إذ فتح للغرب مغاليق علم جديد كانوا منه مقفرين وعرفوا منها فلاسفة العصور القديمة من الرومان واليونان وكانوا بهم جاهلين وراحت كتب العرب المنقولة إلى لغات الغرب، هي الموارد الأولى والمراجع الكبرى لجامعات أوروبا ومعاهد العلم في بلادها نحواً من ستمائة عام أو تزيد.(47/47)
وعنها تقدمت العلوم الحديثة التي زهى علينا اليوم بها أهل الغرب، كالطب والعمارة والفلسفة والآداب والكيميا والطبيعة وما إلى تلك العلوم من أخوات لها وأقارب.
ولو أنك اطلعت اليوم إلى إسبانيا لألفيت فيها آثاراً تدل على الإسلام وما كان من حضارته، ولا تحسب أن المدنية الإسلامية ماتت في تلك البلاد وعفت القرون عليها العفاء فلا تزال ثمت مدائن كثيرة ولا سيما إشبيلية غنية اليوم بآثار العرب مفعمة بالذكريات المتعددة عن مدنيات الإسلام فالبيوت لا تزال تبنى على الطراز الإسلامي ولا تختلف عن بيوت الإسلام وقصوره إلا بفقرها من الزينات والزخارف الجميلة ولا يزال الرقص فيا عربياً والموسيقى عربية ولا تزال المدنية الشرقية تدل على نفسها في وجوه الإسبان ومعارف محياهم، ومن هذا تعلم أنك قد تقتل الأمة من الأمم بأسرها وتحرق كتبها وتهدم آثارها، وتعفى على ذكرياتها ولكن لا تستطيع أن تستأصل الجذور استئصالاً وتنزع التأثير القديم نزعاً وليس في مقدرة الإنسانية أن تقتل ذلك الأثر، ولا تستطيع القرون أن تمحو منه إلا الشيء النزر اليسير.
هذه آثار أوجزنا فيها الإيجاز كله على فضل الشرق وابتعاثه على الغرب على التقدم وإغرائه بالرقي وإنشائه هذه الحضارات الزاهية الألوان اليوم، فماذا كان من الغرب في الشرق وماذا ترك الأولون للآخرين.
(2) آثار الغرب في الشرق
ما كاد العرب يخرجون من الأندلس ويتركون غرناطة مهد الإسلام في المغرب حتى أخذ الغربيون يسومون أخلافهم فيها العذاب كله وكان أخلق بهم أن يتعلموا ذلك التسامح الذي نشره المسلمون في تلك البلاد وبثوا بذوره ولكنهم جعلوا يقتلونهم تقتيلاً حتى افنوا منهم خلقاً كثيراً وكان ينتظر إذ ذاك أن تفتح الإسبان بعد ذلك عهداً جديداً. وتخرج حضارة كبرى. ولكن إسبانيا لم تقم لها قائمة منذ خرج عنصر الإسلام منها. وتركتها الحضارة الإسلامية ولا تزال حالها قمينة بالرثاء. وهي في ضجعة لا تصحو منها وفي سبات عميق لا يعرف حده. ولا يدرك متى تستيقظ منه.
وإذا أنت أجلت البصر في الشرق اليوم، وهو لا يزال في إسار الغرب فما أنت واجد شيئاً تستطيع أن تذكره فضلاً من أفضال المغرب على المشرق إلا إذا كانت المضاربات(47/48)
والمقامرات والوسائل التجارية غير المشروعة وتوريد الخمر والبنادق والكتب المقدسة. والتعاليم الفوضوية، والمبادئ الحمقاء. تعد فضلاً وتذكر بالخير والثناء. حتى اشتد الفقر في جميع بلاد الشرق. وعم البؤس. والمجاعة والجدب. ولم تنجح مدنيات الغرب في بلاد الشرق مطلقاً ولم تصب رائد التوفيق لاختلاف مبادئ الشرقيين وأخلاقهم عن مبادئ الغرب وأمثلته العليا. . وتباين نوع الحياة في الشرق عنها في الغرب وتضارب عواطف الشرقيين وعواطف الغربيين. ومن هذا جعل الشرقيون يستشعرون الاستخفاف بالحضارة الغربية. ويجمدون على آدابهم. ويعضون بالنواجذ على كرائم خلقهم. أما مدنية الغرب في البلاد المتوحشة فكانت نتيجتها قاتلة مبيدة بسرعة مدهشة ففي إفريقيا جعل الزنوج يبيدون شعوباً وقبائل. من جراء شيوع الخمر والبنادق في بلادهم.
هذا كل ما فعله الغرب في الشرق استناداً على ذلك الحق الجديد الذي أخرجته الفلسفة الحديثة. وهو حق القوي وتنازع البقاء وبقاء الأصلح.
وها قد راح الغرب اليوم يمني الدنيا بالمنى المعسولة. وهو أن يعيش الناس جميعاً في عصبة واحدة تحت ظلال السلام المقيم. والأخوة العامة. والإنسانية المشتركة. وهي خدعة من الخدع الماضية. ولا يعلم إلا الله ماذا يراد بالضعيف منها. وماذا يبتغي الأقوياء من ورائها. لأن المعنى لا يزال في بطن الشاعر!.(47/49)
عظمة المرأة الشرقية
ومركزها في الإسلام
لمناسبة مظاهرة السيدات المصريات في هذا الشهر
فالمرأة المصرية المسلمة التي كان الناس في بلاد الفرنجة يقرفونها بالجهل ويرمونها بعيشة الحريم وحياة العزلة الصامتة ويضعون التواليف العديدة عن ظلم الرجال لها، وقبرها في خدرها، ولحدها في بيتها، وينشئون الأبحاث المتعددة المترادفة عن المركز الحقير الذي وهموا أن الدين الشرقي العظيم قد أحلها فيه ووضعها عنده، قد نهضت اليوم فما تركت للمرأة الغربية من ناحية الروح الاجتماعية شيئاً تنفج عليها فيه وتعتز به عليها، وتنظر منه ساخرة إليها، وكان من هذا الحادث التاريخي الجليل من ناحية المرأة المسلمة ما يقنع أولئك الذين اتهموا الإسلام بما هو منه بريء ويرد مطاعنهم ويدمغ حججهم في تأخر المرأة الشرقية، على أننا لا نرى من هذه المظاهرات التي أسهمت فيها النساء المصريات أمراً خارقاً للعادة وشيئاً غريباً عن تعاليم هذا الدين الإسلامي العظيم فقد جعل للمرأة مكاناً لم تكن للمرأة الغربية التي يزهى الفرنجة بها اليوم علينا، وكانت المرأة في الإسلام تشرف على جميع الشؤون الاجتماعية والأدبية والأهلية وكانت النصف المتمم للأمة، ومن هذه الوجهة لا نجد خيراً في بسط آراء رجل من كبار فلاسفة الغرب وعلمائها الاجتماعيين الطائري الذكر وهو العلامة جوستاف لوبون في مكانة المرأة في الإسلام ليكون تأييداً لهذه الحركة الجميلة الرائعة.
وهذا هو البحث الذي آثرنا أن نستشهد به في قضيتنا الحاضرة.
لقد كان للإسلام أثر يذكر في تغيير حال نساء الشرق وتقدمهن، والعمل على رقيهن، فهو لم يخفض من شأنهن، كما يقرفه عن جهالة أولئك الناس الذين لم يهدهم الله فضل البصر وبعد النظر، بل رفع من مكانتهن كثيراً، وسما بهن سمواً كبيراً، ونشلهن من وهدتهن الاجتماعية، بل أن القرآن نص عليهن نصوصاً هي خير كثيراً من السواد الأعظم من شرائعنا الغربية، ولقد كانت المرأة قبل عهد النبي محمد تعد من المخلوقات الوسطى بين الحيوان والإنسان لا تصلح لشيء إلا أن تلد أطفالاً وأن تكون خادماً لسيدها وبعلها، وكان مولد البنات يعد كارثة وزرءاً عظيماً، وكان الآباء يئدوهن، ويدسوهن في التراب أحياء(47/50)
تجري فيهن الحياة والروح، ولم يكن هناك قانون يمنع الناس من هذا الأذى والجرم العظيم، كما لا يمنع الإنسان من رمي الكلاب الصغيرة في اللج والماء، وإذا نحن أردنا الآن أن نبحث في التأثير الذي مهد له الإسلام في اعتبار المرأة فعلينا أن نبحث في المكان الذي بلغت إليه المرأة المسلمة إبان حضارة العرب وفي العهد الذي تقدمت فيه مدنية الإسلام، وقد أثبت المؤرخون أن النساء كن يشغلن في الحياة مكاناً لم تبلغ إليه نساء أوروبا العظيمة إلا بعد قرون عديدة، لما انتشرت مبادئ العرب وفروسيتهم وأخلاقهم العظيمة في معاملة النساء عن طريق إسبانيا والأندلس يوم فتحها العرب وبثوا حضارتهم في المشرق والمغرب، فإن سكان أوروبا إنما استفادوا من العرب مبادئ النجدة وأخلاق الفروسية والاحترام العظيم للنساء الذي سنته تلك المبادئ ونصت عليه أخلاق الفرسان وتعاليم الشهامة والنجدة فالإسلام لا المسيحية كما وهم الناس عامة، هو الدين الوحيد الذي رفع المرأة من وهدتها الماضية فبلغ بها إلى المكان الجليل الذي تنعم به اليوم في العالم، فإن سادات أهل القرون الوسطى - وكانوا بالمسيحية مستمسكين - لم يروا للمرأة نصيباً من احترام ولم يعترفوا لها بمكان ولو أنن ألقينا البصر على تواريخنا القديمة لزال كل شك في حقيقة هذا الأمر فقبل أن يتمكن العرب من تعليم المسيحيين معاملة النساء بالحسنى وتلقينهم مبادئ الرفق والإحسان إليهن، والعمل على احترامهن كان الفرسان الغلاظ الأكباد في عهود الإقطاعيات في بلاد الغرب يسيئون إلى النساء أكبر إساءة ويعاملونهن أغلط المعاملة. وقد أظهر لنا التاريخ كيف كان مكان النساء وكيف كان الرجال يعاملونهن في عهد شارلمان، بل وكيف كان شارلمان العظيم نفسه ينظر إليهن إذ ذكر المؤرخ جاران دي لوهران أن شارلمان - ذلك الملك الكبير - في محاورة وقعت بينه وبين أخته نهض متوثباً عليها فأمسك بها من جدائل شعرها وجعل يضربها ضرباً مبرحاً حتى كسر لها ثلاث أسنان بقفازاته الحديدية التي كان يغطي بها يده ولا ننكر أنه تلقى منها الدفاع عن نفسها عدة لكمات طيبة، فإذا كان الملك شارلمان العظيم في عهد غير بعيد من تاريخ الدنيا قد أتى هذا الأمر الإد المنكر الدنيء، فإن الحوذي العصري وسائق المركبة في هذا الزمن يأنف من ذلك ويروح أكثر رفقاً بامرأته وأخواته منه.
وخلف بعد العرب خلف أضاعوا تلك الحضارة المشرقة الجليلة وضعف بذلك مكان المرأة،(47/51)
ولكن على الرغم من كل ذلك لا تزال حال المرأة المسلمة خيراً من حال أختها في بلاد الغرب وأقل أذى وضيراًـ، وأقرب إلى الصلاح والتقوى منها، على أنه وإن كان نصيب المرأة في الرقي قد ضعف ووهن كما بسطت لك من قبل، فلم يكن هذا من أثر القرآن أو عن رضا من الإسلام بل كان على كره منه ولم يكن للإسلام في إحداثه يد أو عامل من العوامل.
وخلاصة ما نقول أن الإسلام هو الدين الذي رفع من قدر المرة، بل هو الدين الأوحد الذي سما بها دون جميع الأديان.(47/52)
باب تدبير المنزل
طلب إلينا كثير من قرائنا الغيورين أن نفتح هذا الباب في البيان - وأن ننشر فيه الإرشادات النافعة والأمثلة العليا الصالحة لملكات البيوت والأسر السيدات في ضروب تربية الطفل - وتدبير الصحة والمنزل وما إلى ذلك.
كيف يربى الطفل
وقد رأينا أن ننشر اليوم خلاصة ما ذهب إليه علماء الدنيا السابقون واللاحقون من المبادئ التي نصحوا للإنسانية بضرورة إنفاذها في أكبر علوم الاجتماع، ونعني به التربية لتكون الفصول التي نعقدها هي جماع الطرائق الطلية ولب النظريات التي لا تحصى ولا تعد في فن التربية.
(1) - التربية ينبغي أن تبتدئ منذ ساعة الميلاد: لو أننا استطعنا أن تحدث جميع التطورات والتغيرات الاجتماعية التي تصبو إليها نفوسنا وأتعب المصلحون وطلاب الأمثلة العليا أنفسهم في سوق الناس إلى الدنو منها، لما عتمنا إذ ذاك أن نخيب في غرضنا، ولعجزنا عن مواتاة هذا التغيير والإصلاح ولانتكسنا نكسة مكروهة وعدنا رجعة سريعة رهيبة، وذلك أن الناس ليسو متساوين أعدالاً من ناحية المطالب الكمالية ولا تلبث الأخلاق والعادات والظروف المحيطة بالأفراد والمنازع النفسية أن تحل ما أنجزنا بالوسائل الآلية، وتفسد علينا ما فعلنا من التغيير الاجتماعي، فإن التربية المهملة في المبدأ لا يستطيع أحد إصلاحها من جميع وجوهها أو علاجها من جميع عللها، وكثيراً ما تؤدي المساعي التي نبذلها في تقويم اعوجاج الكبار وإصلاح نفوس الشبان إلى نتائج متباينة وغايات متباعدة غير متشابهة وهذا المبدأ ينطبق على جميع ما نشاهده من التجاريب فالفرد الذي تهدمت صحته منذ صغره لا يفتأ يعاني نتائج ذلك كوال حياته، ومهما احتاط لنفسه، واجتهد في العناية بصحته، وقد يعنى أكبر العناية بالإفراط في النظافة والتماس الهواء الطلق السليم للنقي، واختيار الطعام الطيب السريع الهضم واتخاذ الرياضات البدنية الصالحة ثم لا يزال يرى نفسه مع أولئك ضعيفاً مريضاً ضاوياً مهزولاً على أنك تجد الرجل القوي الجثمان الصحيح البدن قد يتمادى في إهمال نفسه، وإطراح العناية بصحته، ولا يكترث البتة بقوانين الصحة، ويضحك منها ساخراً، وينظر إلى العاملين على(47/53)
الاستمساك بأهدابها هازئاً ضاحكاً ثم لا نراه مريضاً ولا تلفيه يشكو من صحة أو علة أصابته، اللهم في أندر النادر، ومن ذلك تعلم أن بذل الجهد في العناية بأنفسنا، بلا مبدأ ولا احتفال من الصغر لا يفيد فتيلاً ولا يرد مرداً، وهذا يبعثنا على الاعتقاد بأن الأخلاق تجري هذا المجرى، وتصح عليها هذه الطريقة وهي تتبع السنن التي تنطبق على الطبيعة الإنسانية ومن هذا يتبين لك أن لا بد من البدء بتربية خلق الإنسان وشخصيته من ساعة الميلاد.
(2) - التربية ينبغي أن تسير على نظام معين، فإذا كانت الطبيعة قد هيأت لك وأغنت عنك أمر التطور الطبيعي لطفلك ونمائه الجثماني فقد تركت لك أن تنفذ مقاصدك ومبادئك التي تريد أن يشب عليها طفلك في كل مرحلة من مراحل هذا النماء فعليك أن تكون عليماً بالغرض الذي تريده والوسائل التي تستخدمها في تنفيذ هذا الغرض، فإن أي إنسان أوتي شيئاً من العقل والملاحظة يدرك أن التربية التي لا تجري على نظام، ولا تمشي على شيء معروف لا تحدث إلا اليأس، ولا تنشيء نتيجة طيبة، ولا تجدي أيما جدوى، ومثل ذلك كمثل رجل مصاب بزكام حاد وجعل يأخذ أدوية كثيرة ويحاول علاجاً كثير الألوان ثم يعجب لماذا لم ير للزمام دليلاً على أن سيهم بالرحيل عن أنفه والاختفاء عنه فمهما كانت نظريتك في التربية على جانب عظيم من الحسن والسداد والرجاحة فلا عون لك على الاستفادة منها إلا العناية الشديدة بإنفاذها واستخدام الذكاء واللباقة في اتخاذها، وغلا كانت النظرية الطيبة والنظرية الفاسدة المجنونة سيان من ناحية النتيجة، أما السآمة والضجر والقلق التي يعانيها المربي من جراء اتخاذه طريقة منظمة في تربية أطفاله فهي لا تكاد تذكر بجانب المتاعب التي يعانيها سواه من جراء إهماله إيجاد تربية على نظام معين فإن الأطفال مثلاً قد يصرخون ويصيحون طلباً لشيء من الأشياء أو طمعاً في قطعة من الحلوى أو ما أشبه ذلك، فلا يلبث الآباء أن يبرموا بصراخهم وينزعجوا من صياحهم فينزلوا لهم عن مطالبهم، فلا يؤدي هذا إلا إلى أن الأطفال يعتادون اتخاذ الصياح والبكاء الواسطة الكبرى لغاياتهم ومقاصدهم، ومن هذا كان كثيرون من الآباء بانقيادهم إلى أطفالهم وإذعانهم إلى صياح ولدانهم طلباً للراحة، وإبعاداً للانزعاج لا يصيبون من إذعانهم هذا إلا الألم والاضطراب العصبي ويجد الطفل نفسه أقل سعادة ورضا، إذ يفتقد المرشد والهادئ(47/54)
ويعوزه الحارس والرقيب ولكن كل ذلك يستطيع الناس اجتنابه إذا هم اختطوا لأنفسهم طريقاً صائبة طيبة في التربية تعمل على تهذيب الطفل، وتؤدي إلى الغرض الكمالي المطلوب، ومشوا على تلمك الطريقة، وجمدوا على تلك السنة، فلا يحيدون عنها ولا يعتسفون غيرها.
فإذا أنت اتخذت هذه الطريقة ولم تنزل للصبي أو الولد عن طلبته بصراخه وخوفاً من ضجته وصياحه، ألفيت نفسك في أول الأمر تعاني منها آلاماً شديدة وتجد منها رهقاً كبيراً، ولكن عليك أن تتحمل صابراً جميع تلك الآلام، وتضطلع بهذا الرهق راضياً، فإن الصحة الجيدة في الآباء وسيلة من وسائل تخفيف تلك الآلام، وإذا كان الآباء أقوياء الأعصاب استطاعوا أن يهزأوا بالألم ويتحملوا العناء غير ساخطين ومن هذا تدرك أن عليك في بادئ الأمر أن لا تكون قلقاً جموحاً مضطرب الأعصاب، تقابل صياح الأطفال بالصياح ويستصرخونك فتستصرخهم وعليك أن لا تتململ ولا تجزع من شقاوة أطفالك. بل يجب أن لا تقاوم أو تحاول استئصال النشاط الوثاب الصياح الصارخ المعول الذي تهب الطبيعة الأطفال في طفولتهم الأولى.
(يتبع)(47/55)
العدد 48 - بتاريخ: 1 - 5 - 1919(/)
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية
وكان سيرنا في محاذاة الساحل بحيث نبصره رأي العين، وصرنا نسرح النظر في عمائر وقرى متصلة، وحصون ومعاقل في قلل الجبال مطلة، وقد أرسل إلينا الله ريحاً طيبة رخاء زجت السفينة تزجية طيبة، فكانت تلك الساعة من أطيب ما يظفر به السفر، في هذا البحر، وما زلنا في أنعم حال وأطيبها حتى استقام ميزان النهار وقام قائم الظهيرة وإذ ذاك أبصرنا عن يميننا تسع جزائر متجاورة آنسنا فيها دخاناً يصاعد من جبلين في جزيرتين من هذه الجزائر، فرأيت بعض المسافرين وقد ضربوا بأذقانهم الأرض، لما ألم بهم من الذعر، فقال أبو عبد الله الصقلي لا عليكم أيها الأخوان، ولا تكونن قلوبكم كقلوب الطير تنماث كما ينماث الملح في الماء، إن هذه البراكين مأمونة الناحية، وليست تزفر في النهار إلا هذا الدخان الذي ترون، أما البركان المخوف فهو ذلك الرابض في الجزيرة الكبرى (صقلية) وقد ابتعدنا عنه والحمد لله، وهنا سأله بعض القادمين من المشرق الإفاضة في صوف هذه البراكين وسر تلك الفظائع التي تتوارد أخبارها إلى المشرق، فأخذ أبو عبد الله يفيض في القول على طريقته الفلسفية، ولا بأس إذا نحن أثبتا هنا زبدة قوله إتماماً للفائدة.
البراكين في صقلية
والجزائر المجاورة لها
وما قاله فلاسفة الإسلام في ذلك
قال أبو عبد الله ما ملخصه: من المعلوم الذي لا خفاء به أن هذه الكرة الأرضية السابحة في الفضاء بجملتها وأجزائها ظاهرها وباطنها طبقات، ساف فوق ساف، مختلفة التركيب والخلقة، فمنها صخور وجبال صلبة، وأحجار وجلاميد صلدة، ورمال جريشة، وطين رخو، وتراب لين وسبارخ وشورج، بعضها مختلف ببعض، أو متجاورة كما قال الله جل شأنه {وفي الأرض قطع متجاورات} وهي مختلقة الألوان والطعوم والروائح فمن ترابها وأحجارها وأجبالها حمر وبيض وسود وخضر وزرق وصفر كما قال جل ثناؤه: ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، وهي مع ذلك كثيرة التخلخل والثقب والتجاويف والعروق والجداول والأنهار داخلها وخارجها، كثيرة الأهوية والمغارات(48/1)
والكهوف وفيها من أنواع المعادن السائلة والجامدة ما لا يحصى كثرة، وهذه الأهوية والأواه إذا حمي جوف الأرض بتأثير الشمس فيه كتأثير القمر في مد البحر وجزره سخنت تلك الأمواه ولطفت وتحللت وصارت بخاراً وارتفعت وطلبت مكاناً أوسع، فإن تكن الأرض كثيرة التخلخل تحللت وخرجت تلك البخارات من تلك النوافذ، وإن يكن ظاهر الأرض شديد التكاثف حصيفاً منعها من الخروح وبقيت محتبسة تتموج في تلك الأهوية لطلب الخروج، وربما انشقت الأرض في موضع منها وخرجت تلك الرياح مفاجأة وانخسف مكانها ويسمع لها دوي وهدة وزلزلة، وإن لم تجد لها مخرجاً بقيت هناك محتبسة وتدوم تلك الزلزلة إلى أن يبرد جو تلك المغارات والأهوية ويغلظ وتتكاثف تلك البخارات وتجتمع أجزاؤها وتستحيل إلى ماء وتخر راجعة إلى قاع تلك الكهوف المغارات، وتمكث زماناًـ، وكلما طال وقوفها ازدادت صفاء وغلظاً حتى تصير زئبقاً رجراجاً وتختلط بتربة تلك المعادن وتتحد بها، وقد تستحيل إلى كبريت أو نفط أو غيرهما حسب اختلاف ترب القاغ، فيكون من ذلك ضروب الجواهر المعدنية المختلفة الطبائع - قلنا أن في الجبال جبالاً وفي الرض أرضين يجوفها كهوف ومغارات وأهوية حارة ملتهبة، فهذه الكهوف قد تجري إليها مياه كبريتية أو نفطية دهنية فتكون لها دائماً - فإذا اختنقت هذه المواد بفعل الحرارة ذهبت صعداً تطلب الخلاص - فقد تكون هذه المواد دخاناً صرفاً كما هي حال هذين البركانين في هاتين الجزيرتين، وهذا الدخان يخرج بقوة شديدة حتى لقد يقذف فيه الحجر الكبير فترده رداً قوياً - وقد تكون هذه المواد أحجاراً محترقة ومواد أخرى كبريتية ونفطية نارية تخرج كالسيل العرم فلا تمر بشيء إلا أحرقته كما يكون من جبل النار الذي في الجزيرة نفسها، وترى هذا الجبل يرمي فيما يرمي بجمر كبير كأعدال القطن يقع بعضه في البر فيصير حجراً ابيض خفيفاً يطفو على وجه الماء لخفته، والذي يقع في البحر يصير حجراً أسوداً مثقباً تحك به الأرجل في الحمامات، وهو كذلك لخفته يطفو على الماء، ومن غريب الأمر أنه إذا وقع هذا الحجر على حجر احترق ذلك الحجر واشتعل كما يشتعل القطن حتى يصير ذلك الحجر غباراً كالكحل، أما الحشيش وسائر ضروب النبات فلا تحترق، ولا يحترق إلا الحجارة والحيوان، فكأنها نار جهنم التي وقودها الناس والحجارة.(48/2)
هذا ويسمي الأهالي عندنا أحد البركانين الموجودين في هاتي الجزيرتين (بركاناً) ويسمون الآخر (استنبري) ومعنى بركان واستنبري فيما علمت الرعد والبرق.
وقد لاحظت أن معادن الكبريت الأصفر لا توجد في الأعم الأغلب إلا بجانب البراكين، ففي هاتين الجزيرتين معدن كبريت لا يوجد مثله بموضع آخر، رأيته ورأيت القطاع الذي يقتطعونه - رأيتهم وقد تمرطت شعورهم ونصلت أظفارهم من حره ويبسه وهم يذكرون أنهم يجدونه في بعض الأيام سائلاً متميعاً فيتخذون له في الأرض مواضع يجتمع فيها م يجدونه في غير ذلك قد تحجر فيقطعونه بالمعاويل، وكذلك ترى بجانب جبل النار الذي في الجزيرة نفسها آبار زيت النفط الذي لا يخرج منها إلا في وقت معلوم من السنة - في شهر شباط وشهرين بعده - فتراهم في ذلك الوقت ينزلون في هذه الآبار على درك ويخمر الرجل الذي ينزل فيه رأسه ويسد مسام أنفه - منخريه - وإن تنفس في أسفل البئر هلك لساعته، وما يستخرجونه من هذا الزيت يضعونه في أواني فيعلو الدهن منه وهو المستعمل، وذلك كله مما يدل على طبيعة هذه الأرض الغريبة الشن ولله في خلقه شؤون، سبحانه مالك الملك لا لإله غيره.
مدينة بلرم
حضرة جزيرة صقلية
ولقائي أميرها أبا الحسين أحمد
كان وصولنا إلى مدينة بلرم بعد انفصالنا من مدينة مسيني بيومين كاملين، وكان تعريجنا عليها دون قصد منا إليه، إذ كانت الريح غير موافقة في ذلك اليوم وهو يوم الأحد الخامس عشر من شهر جونيو الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة من مولد السيد المسيح، فاضررنا أن نقيم في هذه المدينة ريث أن تأتي الريح الموافقة، ولقد اهتبلت هذه الفرصة فجلت في المدينة جولة وقفت فيها على أشياء كان لا بد من اجتلائها، وقد أسعدني الحظ فقابلت أميرها من قبل المعز لدين الله الفاطمي أبا الحسين أحمد بن أبي الحسن الكلبي وجرى بيني وبينه حديث مشوق سأذكره لك بعد أن آتي على وصف هذه المدينة إن شاء الله.
مدينة بلرم هي حضرة جزيرة صقلية، ففيها يقيم الوالي الذي يوليه الفاطمي وفيها قاضي(48/3)
القضاة وديوان الحسبة ودار الصناعة، وفي مينائها يربض أسطولها الأعظم، ومنها يغدو ويروح مختالاً في ثبج هذا البحر فيغزو ما شاء أن يغزو من جزائره وعدوته الشمالية - جنوب أوروبا - وهي لذلك كله وبفضل ما أحدثه المسلمون فيها من ضروب العمران تراها من أجمل المدن وأفخمها - فهي بهذه الجزائر أم الحضارة، والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة، فما شئت فيها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر، تتطلع لك بمرأى فتان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السكك والشوارع، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، مبانيها كلها بمنحوت الحجر المعروف بالكذان يشقها نهر ينساب فيها مثل الحية المذعور، أو السيف المشهور، ويطرد في جنباتها أربع عيون زاخرة عليها أرجاء كثيرة لا تحصى.
بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلة ريشه الطاوس
كأنما الأنهار في ساحاتها ... خمر وكأن ساحات الديار كؤس
وهي تنقسم إلى خمسة أقسام محدودة متباينة متجاورة، فقسم هو المدينة الكبرى التي تسمى بلرم، يسكنها التجار، وفيها المسجد الجامع، الذي كان في القديم بيعة للروم، وهو الآن لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المبتكرة من ضروب التصاوير وصنوف التزاويق التي أبدعها المسلمون فيه يعد من أعجب عجائب الدنيا النامة عن حذق العرب ومهارتهم في الصناعة إلى الحد الذي لا وراءه، في هذه المدينة وفي أقسامها الأخرى نيف وثلاثمائة مسجد ولم أر مثل هذا العدد في بلد من البلدان، ومن غريب الأمر أني كنت واقفاً في جوار دار أحد الفقهاء الأعيان في هذه المدينة وهو أبو محمد القفصي الوثا قي فبصرت فريباً من مسجده على مقدار رمية سهم عشرة مساجد، ومنها المسجد تجاه المسجد لا يفصلهما إلا الطريق وأغرب من ذلك أن من بين هذه العشرة المساجد، وغلى نحو عشرين خطوة من مسجد الفقيه القفصي المذكور مسجداً لابنه ابتناه ليتفقه فيه، منعزلاً عن أبيه، وهذا عمرك الله مما يستشف الناظر من ورائه أبهة القوم واعتزازهم بسلطانهم وأنهم سادة هذه البلاد ولا جرم كان ذلك باعثاً لهم على التنافس في المفاخر والمكارم وسائر خلال الخير والكمال، وهو معنى من المعاني التي يستتبعها الملك والغب والسلطان.
أما القسم الثاني من أقسام بلرم فهو المعروف بالخالصة، وهو مقام الوالي وأتباعه، وليس(48/4)
فيه أسواق ولا فنادق، وبه حمامان، وفيه مسجد جامع مقتصر صغير، وفيه حبس الوالي ودار صناعة البحر والديوان. والأقسام الأخرى الثلاثة، فقسم يعرف بحارة الصقالبة، وهذا القسم أعمر من القسمين السابقين وأجل ومرسى البحر به، وآخر يسمى حارة المسجد، وثالث يسميه القوم الحارة الجديدة، وأكثر الأسواق في هذا القسم كسوق الزياتين والصيارفة والصيادلة والخرازين والصياقلة والنحاسين وسوق القمح وسائر الصناع على اختلافهم، وفي هذه الحارة الجديدة نحو من خمسين ومائة حانوت لبيع للحم وهذا مما يدل على استبحار العمران في هذه الجزيرة ورخاء أهليها وكثرة عديدهم، فسبحان المعز لمن يشاء.
ولقد حدثني الفقيه الوثائقي حديثاً يجمل بنا أن نجلوه لك الآن فقال: إن المسلمين لما فتحوا هذه الجزيرة، وبلاد قلورية من بر الأرض الكبيرة واستوثق لهم الأمر، ومدت لهم أمم الفرنجة يد الإذعان أخذوا حسب عادتهم في كل بلاد يفتحونها بنية الإقامة فيها، وإصلاح حال أهليها، في أن يستنقذوا هذه البلاد من تلك الحمأة المنتنة التي كانت مرتطمة فيها أيام حكم الرومان، فنشروا في البلاد ألوية العدل، وعمدوا إلى الزراعة فانتعشت بعد صرعتها، وإلى التجارة فهبت من رقدتها، وإلى الصناعة فانتاشوها من وهدتها، ووثب الأهلون وثبة كأنما أنشطوا من عقال، فكثرت الأموال واغدودقت الخيرات إلى الحد الأقصى، وافتن الناس فاتنانهم في ضروب الترف والنعيم واتساعالعيش والتأنق فيه والتلون بأزهى ألوانه. قال الفقيه: أما عدل المسلمين فإنك لتجد انصارة هذه البلاد لا يكاد المسلمون ينمازون عنهم بشيء، فالجميع يرتعون متبحبحين متحابين، وكل متمتع بعيشه وعقيدته وطقوسه فللنصارى كنائسهم كما أن للمسلمين مساجدهم، وإذا جاء عيد من الأعياد رأيت أعلام النصارى بجانب أعلام المسلمين، أما علم النصارى فقد صور فيه صليب مذهب في بهرة ساحة حمراء، وعلم المسلمين قد رسم فيه حصن أسود في ساحة خضراء، وأما نساؤهم فربما رأيتهن اليوم (الأحد) وهن ذاهبات إلى الكنائس، وقد تشبهن بنساء المسلمين لأن المغلوب كما تعلم مولع دائماً بتقليد الغالب، فانتقبن بالنقب الملونة، وانتعلن الأخفاف المذهبة، ولبسن الحرير الموشى بالذهب، والتحفن اللحف الرائقة، وتزين بكل ما يتزين به المسلمات:
إن من يدخل الكنيسة يوماً ... يلق فيها جآذراً وظباء(48/5)
وليس يطلب من النصارى سوى تلك الأتاوة التافهة المفروضة عليهم لقاء قومة السلطان على الرعية، وهي دينارات يؤديهما غنيهم في كل شهر، ودينار واحد يؤديه صناعهم وأرباب الحرف منهم، أما النساء والأطفال فليس بمفروض عليهم وهم يقرون بأنهم لم يذوقوا طعم هذا العيش الأخضر إلا على عهد المسلمين.
أما الزراعة فقد شققنا الأنهار، واحتفرنا الجداول، وأقمنا عليها القناطر الحاجزة وأحيينا الأرض الغامرة، فأخصبت ودرت وربت، وأخذت زخرفها وازينت، وجلبنا إلى هنا كثيراً من الأشجار والأزهار وضروب النبات التي لم يكن ليعرفها أهل البلاد الأصليون مثل القطن والقصب وشجرة الزيتون والبردي الذي لا يوجد إلا في مصر وكثير غير ذلك.
وأما الصناعة فقد خطت بفضل المسلمين خطوات بعيدة المدى فاستثرنا دفائن الأرض ومعادنها من الفضة والنحاس والرخام والحديد، ومهر المسلمون في ضروب الصناعات الشتى الألوان، فحذقوا صنع الحرير والصباغة وما إليهما وكذلك تراهم قد برعوا وأربوا وتفوقا في سائر العلوم الصناعية بله الأدبية والدينية والفلسفية حتى أن الفرنجة لانبهارهم من براعة المسلمين فيما بلغني يقرفونهم بالسحر، وما هو عمر الله بالسحر، إن هو إلا تسنمهم ذورة الكمال، وهوى هذه الأمم الحمراء إلى الحضري الأوهد والنجم تستصغر الأبصار صورته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر.
وأما التجارة فلعلك فد شاهدت كثرة السلع والبضائع المجلوبة إلى هذه البلاد، والحوانيت والمتاجر المتكاثرة في شوارع البلد، وكذلك عساك قد أبصرت الحركة المباركة في مينائنا وعمار المكوس فيها مما تتحقق منه أن الجزيرة قد شأت شأواً بعيداً في التجارة بفضل نشاط المسلمين وإقدامهم وبعد هممهم، وكل ذلك بما أثر فيهم روح هذا الدين القويم وآدابه الإلهية.
لقائي الأمير أبا الحسين أحمد
ابن أبي الحسن الكلبي
والي جزيرة صقلية
وإني لجالس مع الفقيه الوثائقي في مسجده بعد أن تغدينا وصلينا صلاة الظهر ثم أخذنا بأطراف الحديث بيننا إذ دخل علينا المسجد خادم من قبل الأمير، فذعر الفقيه عندما أخذت(48/6)
عينه هذا الخادم فذعرت لذعره ثم قال الخادم إن الأمير يدعوك الساعة إليه ومعك ضيفك المصري، فقلت للفقيه أثم ما يخاف منه فأفرخ روعي وقال الآن لا أظن ثمت شيئاً أكثر من رغبة الأمير في أن يستطلع منك طلع مصر والمصريين، وأميرنا حفظه الله من خواص أهل الأدب وعليتهم، وإنه لذو حظ عظيم من رجاحة العقل وسجاحة الخلق يحب الأدباء ويقربهم إليه ويتحدث معهم كما يتحدث النظير مع النظير، على أن اليوم في صقلية كأنه عيد من أعياد الأهلين، إذ كان قد ورد من أيام على الأمير كتاب من أمير المؤمنين المعز لدين الله يأمر الأمير فيه بإحصاء أطفال الجزيرة وأن يختتنهم ويكسوهم ويحبوهم بالعطايا في اليوم الذي يختتن فيه ولد أمير المؤمنين، فكتب الأمير خمسة عشر ألف طفل ثم اختتن ولده وأخوته، وقد أمر اليوم باختتان سائر أطفال الجزيرة وخلع عليهم وفرق فيهم مائة ألف درهم وخمسين حملاً من الصلات وردت عليه من أمير المؤمنين فكيف نتوقع شراً من الأمير في مثل هذا اليوم المبارك.
وقد كان مع الخادم بغلتان فارهتان من مطايا الأمير وقد جللتا بالديباج وحليتا بالفضة، فركبت أنا والفقيه وسرنا حتى وصلنا إلى دور الإمارة فوقعت عيني على شيء لم تقع على مثله من قبل:
قصور كالكواكب لامعات ... يكدن يضئن للساري الظلاما
* *
وقبة ملك كأن النجو ... م تفضي إليها بأسرارها
لها شرفات كأن الربيع ... كساها الرياض بأنوارها
* *
كأن جن سليما الذين ولوا ... إبداعها فأدقوا في مغانيها
ولما أن وصلنا إلى دور الإمارة اشار علينا الخادم بالنزول وأسلمنا إلى الحجاب فساروا بنا في ممر مفروش بالصحباء، تتخللها الفسيفساء، ثم سلكوا بنا حدائق فيحاء، مترامية الأنحاء، قد اغلولبت فيها الأشجار، وتعلقت بأغصانها الأطيار، وانسربت فيها الجداول، واعشوشبت فيها النجوم والأزهار.
والجو من أرج الهواء كأنه ... ثوب يعنبر ويمسك(48/7)
وما زلنا إلى انتهينا إلى قصر الأمير، فرجع الحجاب بعد أن أسلمونا إلى الحجاب المقربين، فرقي بنا هؤلاء سلماً من الرخام ينتهي بالراقي عليه إلى بهو عظيم يملأ صدر الناظر إليه مهابة وجلالاً فاجتزناه واجتزنا بعده غرفاً ومقاصير عدة حتى انتهينا إلى مجلس الأمير، وناهيك به ملجساً لم أر ما هو أحق منه بقول من قال:
قصر لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعادة إلى المقام بصيرا
أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم انثنيت بناطري محسورا
فظننت إني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا
تجري الخواطر مطلقات أعنة ... فيه فتكبو عن مداه قصورا
ضحكن محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغورا
وإذا الولائد فتحت أبواه ... جعلت ترحب بالعفاة صريرا
عضت على حلقاتهن ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكبيرا
فكأنما لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخوله مأمورا
ومصفخ الأبواب تبرا نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيرا
وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضاً من السماء نضيرا
وصنعت به صناعها أقلامها ... فارتك كل طريدة تصويرا
وكأنما للشمس فيه ليقة ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا
فلما أقبلنا على المجلس غلبني البهر من جلالة الأمير، فسلم الفقيه الوثائقي ثم سلمت بعده بالإمارة فرد علي السلام باشاً في وجهي وأذن لنا بالجلوس، وقد كان قاضي القضاة جالساً على يسار الأمير، ثم أخذ الأمير في أحاديث شتى يقصد بها لعله أن يؤنسني وينفي الوحشة عن ساحتي، وبعد أن آنس مني الأنس به قال: أي منتوى ينتوي أخونا المصري إن شاء الله، فقلت إني أنتوي يا مولاي القطر الأندلسي، فقال: ومتى زايل مصر؟ فقلت منذ نيف وعشرين يوماً فقال: وكيف فارقتها.؟ فقلت: على أحسن حال يا مولاي الأمير. فقال: وكيف حال الأمير أنوجور وحال كافور معه فقد اتصل بنا أن كاوفراً قد استبد به وغلبه على أمره. فقلت: إذا كان كافور يا مولاي قد استبد بالأمير أنوجور فإن المصريين قد استبدوا بكافوا، فقد أصبح كافور للمصريين لا لنفسه ولا للأمير، فسيرته فينا عادلة رشيدة، وحاله(48/8)
معنا جميلة سديدة لأنه يعلم أن الملوك إنما هم خدام الرعية فكيف يظلمونها ويستجيزون كيدها ولم يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ على أن كافوراً ليس هو وحده الذي ينهض بأعباء الملك، وإنما يشد إزره، ويشاركه أمره، وزيرنا الأعظم، أبو الفضل جعفر بن الفرات وغيره من رجالات الدولة. فقال الأمير: ولكن أليس أليق بكم وأسمى وأنبل أن يلي أمركم ابن بنت رسول الله صلى الله علية وسلم أمير المؤمنين المعز لدين الله، وأنت تعلم أيها الأخ أن العباسيين قد ضعف أمرهم، وتضعضعت حالهم، والتاث عليهم ملكهم، وانتزى الأعاجم والأتراك على البلاد فاقتطعوا الممالك منهم وتفردوا بالأمر دونهم - أما عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس فقد اكتفى بما في يده من الممالك المترامية الأطراف، فلم يبق إلا أن يستظلوا بظل خلفائنا الفاطميين حتى يحموكم ويردوا عنكم طمع الطامعين. وهنا طار طائر الغضب إلى رأسي فلم ألبث أن اندفعت قائلاً: إن مولاي الأمير حفظه الله يعلم أنه إذا عد من أظلم الظلم وأنكر النكر أن ينقض جارح من الجوارح على وكر طائر آمن في سربه فيزعجه في سكنه، وينغص عليه عيشته، ويستلبه سراحه وحريته، ويضطرهإما إلى الظعن إلى جو غير جوه، أو الإقامة بجواره بين مخلبه وظفره، فإن من الظلم الذي لا ظلم وراءه أن تعدو أمة على أخرى وحجتها في ذلك أن تحميها من طمع الطامعين. أليس من السفسطة، وابعد ما يقال في باب المغالطة، أن يعدو قوم على قوم بحجة أن هذا العدوان إنما هو وقاء لهم من عدوان الآخرين؟ ولم لا تبدأ هذه الأمة بنفسها فتريح غيرها من عدائها إن مولاي الأمير ليعلم أن فطرة الإنسان معجونة بحب وطنه، ولذلك يقول بقراط: يداوي كل عليل بعقاقير أرضه، ويقول جالينوس: يتروح العليل بنسيم بلده كما تتروح الأرض الجدبة ببلل القطر، والكريم يا مولاي يحن إلى جنابه، كما يحن الأسد إلى غابه، فلا جرم أن يتغلغل حب مصر والمصريين في السواد من حبة القلب مني، حتى لكأني المعني بقول من يقول:
كأن فؤادي من تذكرة الحمى ... وأهل الحمى يهفو به ريش طائر
وكيف لا أحب بلداً ولدت فيه، وأرضه هي أول أرض مس جلدي ترابها وقد طعمت غذاءها، وشربت ماءها النمير، ماء نيلها المبارك الذي يعذر الأقدمون عن زعمهم أن الجنة منبعه انسرب منها إلى هذه الخضراء:(48/9)
بلد صبحت به الشبيبة والصبى ... ولبست فيه العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أفنية الشبات تميد
* *
ألا يا حبذا وطني وأهلي ... وصحبي حين يذكر الصحاب
وما عسل ببارد ماء مزن ... على ضمأ لشاربه يشاب
بأشهى من لقائكم إلينا ... فكيف لنا به ومتى الإياب
ومولاي الأمير يعلم علماً ليش بالظن أن الحكام الغرباء عن البلاد مهما كانت منزلتهم من العدل لتأبى عليهم سنة الله في خلقه إلا أن يضيموا الرعية التي لا تمت إليهم برحم أو آصرة موطن، أما رهط المرء فرحم الله من قال:
لعمري رهط المرء خيرٌ بقيةً ... عليه وإنا عالوا به كل مركب
إذا كنت في قوم عداً لست منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيب
لذلك كله أقول وأنا آمن الأمير:
ولي وطن آليت أن لا أبيعه ... وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
وهنا أطرق الأمير ثم ابنعث قاضي القضاة قائلاً: أظن أخانا المصري لا يغيب عنه أن الأرض ملئت اليوم جوراً ظلماً وعدواناًَ، وذاع الفساد في البلاد وعم الشر وطم، فلا بد من إمام عادل يملأ الدنيا قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلما، ولا يكون هذا الإمام إلا من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هو ذا قد صدق رسول الله وعده وجاء إلينا إمام المسلمين العادل الرحيم البار برعيته، الداعي إلى الحق والقائم بنصرته مولانا وابن مولانا المعز لدين الله ابن مولانا المنصور ابن مولانا القائم ابن مولانا عبيد الله المهدي أدام الله تأييده، هذا إلى أنه لا يوجد اليوم بين ملوك المسلمين من هو أعز من مولانا نفراً وأكثر مالاً ووفرا، وأقوى سلاحاً وشوكة وأبعد في سياسة الأمم تجربة وحنكة، فكان لذلك من الواجب الحتم على كل مسلم أن يعمل على نشر دعوته، ويستظل برعاتيه، فما كاد قاضي القضاة أن يتم كلامه حتى ابتدرت فقلت: إن المصريين لا ينكرون على أمير المؤمنين المعز لدين الله شيئاً مما قلت بيد أن مولانا حفظه الله يعرف مما عرف من طبائع البشر أن الأمة التي تغلب على أمرها، ويخفق عليها لواء غيرها، وتصبح بالاستعباد آلة(48/10)
لسواها وعالة عليها، يقصر أملها ويبلى رجاؤها وتضوى أرواحها.
واحتمال الأذى وروية جاني ... هـ غذاء تضوى به الأجسام
وذلك لما خضد الغلب عليها من شوطكتها، وكسر من حميتها، فيفضي ذلك على كر الأدهار، وتعاقب الليل والنهار، إلى أن ترأم الذل والاستخذاء، وتشتمل بأردية الكسل والوناء، فيكون من نتاج ذلك ضعف النشاط في القوى الحيوية وهلم حتى يتناقص عمرانهم وتتلاشى مكاسبهم ويعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم، فيصبحوا مغلبين لكل متغلب، طعمة لكل آكل، نهباً مقسماً لكل ناهب، وثمت شيء آخر وهو أن الإنسان يا مولاي رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له، والرئيس إذا غلب على رآسته، كبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه ورى كبده، وهذا سر ركب في غرائز البشر كما أنه يوجد مثله في الحيوانات المفترسة، فإنها لا تسافد كما يقولون إذا كانت في ملكة الآدميين.
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام(48/11)
الإنسان وضميره
مختارات من فلسفة الدكتور رولسون وآرائه
طبع في هذه الأيام الأخيرة كتاب ممتع، غريب المنحى بقلم الرئيس ويلسون اختص بطبعه فرنسا وحدها، ولم ينشر قبل اليوم في غيرها، لا في أميركا ولا في بلاد البريطان، وقد وسمه ذلك السياسي العظيم بعنوان عندما يثوب الإنسان إلى نفسه والناظر في هذا الكتاب يتبين من تضاعيفه أصول هذه النزعات الطريفة التي جعلت من ذلك الرئيس حامل الوحي السياسي، وواضع خريطة الدنيا القادمة. ونحن نقتطف من ذلك الكتاب الجديد الذي وضعه هذا الرجل جملة من الآراء والشذرات الطيبة الصالحة.
أولئك الذين يريدون أن يعيشوا على المثل الأعلى، ويضعوا نصب أعينهم مبدأ سامياً، ويمشوا في العالم على هدي سنة كمالية، إنما يأخذون على عواتقهم مطلباً صعباً، ويلزمون أنفسهم واجباً قاسياً شامساً، ولكنه ولا ريب لا يزال واجباً جميلاً نيراً بهيجاً ممتلئاً حياة ونشاطاً وقوة.
لكي يصل الإنسان إلى ضميره، ويصدر في أعماله عن وجدانه الحقيقي، ينبغي أن لا يفكر في مصالحه الذاتية خاصة، بل كان لزاماً عليه أن يطرح حقائر الأمور، ويدع جانباً صغائر الفعال، ولا يشغل ذهنه باعتقاده أنه المركز من العالم كله، والقطب من رحى الدنيا، بل عليه أن يجيل البصر بعينيه المتفتحتين المحملقتين في الكون. ويكتشف بنظره مجاهل العالم، وأن يتعلم كيف يرى الدنيا على حقائقها حتى يتبين المكان الذي يشغله منها، والدور الذي ينبغي له أن يلعبه فوق مسرحها.
ولا ريب في أن الطريق إلى بغيته هذه محفوفة بالأشواك يتخللها القتاد، ويفرع فيها العوسج، وسيلقى في سبيله الإغراءات، وتفتنه الأوهام، وتخدعه الخدائع، وستهوي تحت مواقع قدميه مدارج السلم وتختفي مصاعد المرقى، ولكنه إذا تعلم كيف يتخلص من الهواجس الإنسانية، وطائشة أفكار الدنيوية وإغراءات العمل وهموم الفعل وتنصبه ومتاعبه، إذن فالهدى هداه والنور مضيء له الشبهات، وهو إلى النجاح موفض مسرع.
وعلى رغم الدموع والعبرات، والآلام والنكبات، لن يفقد ثباته، ولن يرتد عن مطلبه، ما دام قد حشد قوته لبلوغ الغاية، ووضع عينه على إحراز المقصد، بل سيبقى في نجوة من(48/12)
الهواجس والأوهام، بل لا يكون من تلك الأوهام إلا أن ترسل إليه ضياء يهتدي به، ونبراساً يستصبح بنوره نور مطلق فياض، أشبه شيء بأشعة الشمس المخلصة الصريحة الطلعة، يشرق في طريقه ويجعل سبيله فرحة مطمئنة آمنة راضية.
إن الساعة التي يثوب الإنسان فيها إلى ضميره تختلف باختلاف الأشخاص والأفراد، فمن الناس فريق لا يرون أنفسهم بحاجة إلى هذه العملية النفسانية، لأنهم وضعوا أمامهم قدوة واحدة. وهي أولئك الرجال الذين استطاعوا أن يتغلبوا على متاعبهم وآلامهم. وكل إنسان أهل للمكان الذي يشغله بين الناس الذين يعيشون معه في مضطرب واحد. ويشتركون معه في عمل موحد. وإذا كان الإنسان لم يولد ليعيش مقصياً في عزلة. منتبذاً عن الدنيا مكاناً بعيداً وحيداً. فلذلك كانت معيشته مرتبطة بالمصالح التي يشاطرهم إياها والروابط التي تربط الجميع.
على أن الناس يعملون مختلفين متباينين كل في وجهة، وكل إلى غاية ففريق لا يجدون مرشداً، ولا يضعون للحياة خططاً وهادياً، ولا يفكرون ولا تجري في أذهانهم خواطر ولا تسنح لهم آراء، وآخرون لا يرون إلا مصلحتهم الذاتية، والفائدة التي سيجتازونها من عمل معين أو سبيل معروفة وقليل من الناس أولئك الذين يعملون بنفاذ بصيرة في سبيل تحقيق خطة مرسومة ويسعون سعيهم في سبيل غاية سامية. ليكونوا خدام فكرة من الفكر. أو منفذي مبدأ من المبادئ يضحون في سبيل إنجاحه قلوبهم. ويذيبون من أجله أدمغتهم وعقولهم. ويستنفدون مواهبهم أولئك هم الذين اكتشفوا أنفسهم أولئك الذين وصلوا إلى القطب من أرواحهم. أولئك الذين تعلموا كيف يبلغون الناحية السامية من قلوبهم. وتلك مزية لا يصل المرء إليها إلا بعد تجاريب عدة. وسلسلة من المشاهدات والمرهقات. وما أشد التطورات وأكثر العوارض التي تعترض سبيله إلى هذا المختم العجيب. فالتجربة الأولى لا تني تثب إذ يخرج الشاب من الجامعة أو معهد العلم. ويحس الفتى أنه صار رجلاً فجأة. ويعلم أن حياته قبل ذلك كانت سهلة لامعة مشرقة. في ظل صحابة له يشاركونه آراءه وخواطر شبابه وأنه قد قرأ كثيراً وتعلم كثيراً وأحرز إجازات وشهادات ولكن الذي لا يزال منه في جهل ولا بد من أن يتعلمه بنفسه هو ماذا ينتظر العالم منه. ويرى أنه سيركب بحراً مضطرباً عاصفاً معتلج اللج في وسط سحاب ثقال. تحجب عنه(48/13)
المنارة. ولكنه إذا كان من أولئك النفوس العالية ومن الجوهر الإنساني السامي النادر استطاع أن يجعل تلك السحائب سحائب صيف عما قليل تنقشع.
اعتاد مسيو باجشو أن يقول أن الرجل الأعزب ليس إلا من الغواة في الحياة ومن الحق أن الرجل الذي لا يعيش إلا لنفسه لم يبتدئ بعد الحياة. ولا يزال تحت التمرين والاختبار وليس من الضروري أن يتزوج حتى يكتشف نفسه. ولكن عليه أن يعرف ما هو الحب. حب لأب أو أم. يضحي بنفسه في الإخلاص لهما. أو حب لمبدأ يتوفر على خدمته بجميع قوى روحه.
إذن فعليك بتنمية زهرة التضحية في رفق بقلبك. سواء أكانت التضحية لمخلوق أم كانت لمبدأ. فإذا فعلت جعلت للحياة المعنى الأسمى لها. لأن ما تطلبه الروح من السمو هو أن ينسى الإنسان نفسه في سبيل غيره.
كل إنسان في العالم يملك قوتين. وينعم بضربين من المقدرة مقدرة مطلقة ومقدرة نسبية. فأما المطلقة ففي الإنسان قد منح طبيعة ومواهب خاصة به وأما نسبية فإن ذلك فيما يشترك الإنسان فيه مع الجماعات الإنسانية العامة وفيما يجب عليه العمل معها والتضامن والارتباط بها ولا يستطيع الإنسان أن يكتشف نفسه إلا إذا أدرك أنه جزء من هذا الكل وعرف الفريضة التي لزمته من التعاون في سبيل النفع العام وإعطاء مواهبه الحد المتسع لإظهار نفسها.
كان الناس منذ عهد غير بعيد إذا تكلموا عن جماعة السياسيين راحوا يتحدثون أحاديث السوء عنهم ويظهرون الاشمئزاز منهم والاحتقار لهم. وكانوا يعدونهم آفة لا بد منها وضريبة ملعونة. ولكن لا مناص منها ولا مفر. لا بقاء السلطان على الفرد وحكومته والنهي والبت في أمره. وتلك نظرية الأنانيين الذين يستخدمون كل شيء لأجلهم. ولا يعملون إلا لمنفعتهم الخاصة، وهذه النظرية قد أحدثت من السوآت والآثام في العالم السياسي ما لا قبل لنا بإحصائه.(48/14)
روح الإسلام
الفصل الثاني
أصول هذا الدين الحنيف وآدابه
لكي يكون لهذا الدين روح ثابتة محفوظة باقية وضع محمد لمبادئه وتعاليمه بضعة أركان وفرائض أهمها ما يأتي (1) الصلاة، (2) الصيام. (3) الزكاة ورابعتها الحج.
إن إيمان الإنسان بالقوة العالية التي تحيط بكل شيء وعجزه في معركة الكون وتقديره بركة الله ورحمته، كل أولئك تجعله يصب مشاعر نفسه والإحساس المستفيض في حبة قلبه. من ألفاظ وكلم من الشكر والقنوت والحب أو الندامة والإنابة والضراعة والابتهال لربه الرحمن الرحيم وليست الصلاة إلا لغة العواطف التي تملأ شغاف القلب الإنساني على أن هذه العواطف لا تزال ترجع إلى تهذيب عظيم. فإن المتوحش الهمجي إذا لم يجد مجيباً لضراعته، محققاً لابتهالاته لا يلبث أن يعمد إلى تأديب معبوده والانتقام من الرب الذي اتخذه لنفسه وضربه بالسياط. ولكن كل نظام ديني وعقيدة منظمة مهذبة لا تزال تعترف بفضل الصلوات. وإن كان يغلب على الكثير منها روح الخرافة والشعوذة ويضعف فيها المظهر الروحاني الخلقي، ثم تجد بعض الأديان خلواً من العنصر الروحاني بتة.
فقد كان المجوس والصابئة يعيشون متوفرين على الصلوات مخلدين إلى العبادات وكان المجوسي يصلي ويدعو الله إذا عطس وإذا قلم أظافره أو قص شعر رأسه أو هيأ الخوان. أو أعد مائدة الطعام ليل نهار. وعند إشعال المصباح أو المشكاة ولئن كانت الفكرة الروحانية تجري في قلوب القليلين منهم. فلم يكن لها أثر ما في أذهان العامة وسواد القوم. وقد كان للمجوس صيغتان من العبادة صيغة مقصورة على الطبقات الكبيرة من رجال الدين وأخرى لا يشترك فيها إلا العوام وحثالة الناس.
ولم تشتمل الشريعة الموسوية على قوانين خاصة بالصلاة، ولم تنص إلا على أنه عند دفع العشور للقساوسة وتقديم المواليد والأطفال الصغار إلى البركة تؤدى صيغة من صيغ الصلوات إذ كان الوالد أو رب العشيرة يسأل يهوذا أو إسرائيل البركة. ولكن بفضل نشر فكرة أكثر روحانية عن الله بين اليهود وأقطابهم وأساتذتهم لم يلبث اليهود أن أدركوا المعنى الجوهري للصلاة من أنها نجوى بين الله والناس، وكان من فضل الزمن والطقوس(48/15)
والعادات عند خلو الدين الموسوي من قانون معين واضح عن شرائط الصلاة وأركانها أ، اليهود أصبحوا شعباً يحتفظ بتأدية الصلوات، وإذ ذاك ضربت مواقيت للعبادة، وعينت ساعات، وهي ثلاث في اليوم، في التاسعة والثانية عشر والثالثة. على أ، الاحتياج إلى عون القساوسة والكهنة والافتقار إلى نموذج انحدر من صاحب الشريعة نفسه وصيغة أخذت عنه ذاته، لم يلبثا أن جعلا من الصلاة عند السواد لأعظم من اليهود عملاً آلياً لا أكثر ولا أقل.
أما تعاليم المسيح وهي الخطوة الثانية التي خطتها الإنسانية إلى تهذيب الروح الدينية في الإنسان فقد احتوت الروح والجوهر والمعنى الحقيقي للصلاة. وقد جعلها صاحب الشريعة المسيحية فريضة عملية. بأن وضع هو بنفسه لها النموذج ونصب نفسه لها القدوة. وجاء هو بالصيغة. وقد احتذى حواريوه الأولون حذوه فألقوا الأهمية الكبرى حول وجوب عبادة الله وشكرانه ولكن الحاجة إلى قاعدة متينة تسترشد بها الجماهير على مدة الزمن ومر الأجيال وكر الدهور تركت المسيحيين بلا هاد يضيء لهم السبيل إلى الصلاة الصحيحة وجعلتهم خاضعين للقساوسة إذ احتكر هؤلاء الحق في تحديد العدد والمدة والنصوص الواجبة للصلوات ومن هذا نشأت الطقوس الكثيرة والمجالس والمجامع التي تنعقد لحل شؤون الدين. والنظر في اعترافات الضمائر والوجدانات. ومن هنا نشأت عبادة الرهبنة الكسلى البليدة واحتشاد الجموع العظيمة من أهل المسيحية في الكنائس في يوم واحد من أيام الأسبوع لسد العجز الذي حصل لهم من طعام الأرواح في الستة الأيام الباقية. ومن هنا صار القسيس الذي كان معناه في الأصل (الخادم للدين) بمثابة وارث الإمارة الدينية عن المسيح.
وقد انتهت جميع هذه المناقص والضلات إلى الحد البعيد وبلغت أقصاها في القرن السابع من الميلاد إذ ظهر محمد النبي العربي فبدأ ينادي العالم إلى سنة منقحة مهذبة من الأديان فلما سن للصلاة سنناً وقواعد. أدرك نزوع الروح الإنسانية إلى صب حبها لله وشكرها للخالق في عبارات وكلم فجعل تأدية هذه الفريضة على مواقيت محدودة وبذلك وضع النظام لها للمحافظة عليها وحمايتها من الزيغ. ومنع الأفكار من أن تضل فتهيم في وادي المادة والمحسوس.(48/16)
ودق كتب كاتب من كتاب الإنكليز عن الصلاة والعبادة في الإسلام فقال من أكبر مفاخر الإسلام أن معابده لا تقوم ولا تشاد بالأيدي وأن فرائضه وشعائره يصح أن تؤدى في أي مكان من أرض الله أو تحت سمائه كذلك تعلم أن أي مكان يعبد فيه الله بإخلاص وإيمان طاهر مقدس. وأن المسلم إذا كان في داره أو خارج داره وآذنت الساعة بالصلاة لا يني يصب مشاعر نفسه في خطاب موجز رهيب موجه لله عز وجل.
ولا يتعب المسلم الإطالة في الصلاة، لأنها تجري في روح واحدة وهي الخشوع لله، وتمجيد الرحمن والشكر للغفار الوهاب والركون إلى مغفرته، والثقة برحمته ولم تؤت المسيحية من عظمة روح العبادة واضطلاع النفوس بعاطفة التسبيح مثل ما أوتي الإسلام وقد أجمع الرواة وتضافرت الأسانيد وهي المؤرخ الصادق والمحدث الثقة عن الماضي على شرح كيف كان النبي يبكي في الصلاة في حرارة عاصفة واشتعال العبادة في فؤاده وكيف كان ابن عمه الفتى النبيل والسيد العظيم يسترسل في صلاته ويستأنى في عبادته حتى تتخدر أطرافه وتكل قدماه من أثر السجود.
والإسلام بعد ذلك لا يعترف بطوائف من القساوسة ونظام الكهنوت ولا يأذن لقوم باحتكار رعاية الدين. وقصرها على أنفسهم. ولا يسمح لفريق بالتفرد بالبركة الإلهية وحق التوسط بين الله والناس. بل إن كل روح تناجي خالقها بلا وساطة وسيط. ولا سمسرة سمسار ولا حاجة بالمسلمين إلى تقريب القرابين للظفر بالقربى من الله. بل كل فرد هو قسيس نفسه. وليس في إسلام محمد رجل أسمى من رجل. وفرد يفضل فرداً بل الجميع سواء.
وقد شكا كتاب الغرب من العقلاء تعقد الصلوات في الإسلام وتشعبها وكثرتها ولكن الشرعة التي وضعها القرآن هي من السهولة والبساطة والوضوح والجلاء بحيث تشاء فهي تنص النصوص على مطالب الإيمان وأركان الدين. ولكن قلما توضع قواعد وأحكاماً محدودة لطريقة تأديتها. على أن النبي هو الذي استن عدة شعائر للمحافظة على الصلوات.
وإن طريقة التعميد في الديانة المسيحية. وكذلك عادة الدهانات التي كان يتبعها قدماء المصريين واليهود ورجال الدين في نحل الشرق القديمة وأديان الغرب البالية تدل على الأهمية التي كان يعقدها أولئك القوم على التطهر الخارجي والنظافة السطحية. فلما جاء محمد احتفظ بهذه الشعائر. واستمسك بهذه السنة ولكنه لم يرتض الطهارة الخارجية وحدها.(48/17)
بل علم الناس أن النظافة الظاهرية والتطهر البدني لا يقتضيان الإيمان الصادق والعبادة المطمئنة وأنه لا بد من تطهر الروح بجانب طهارة البدن. ولا غناء عن خشوع النفس وغسل أردانها في سبيل القربة من الله.
ولكي يبقى مهد الإسلام حياً باقياً في ذاكرة العالم الإسلامي، علم محمد قولوه أن يولوا وجوههم شطر مكة وجعلها القبلة التي شهدت الضياء الأول من نور الحق الجديد ورأى ببصيرة النبي الآثر العظيم الذي يحدث من تحديد بقعة عامة تجتمع عندها على كر الأدهار عواطف أهل دينه والمؤمنين بعهده فوصى المسلمين أن يولوا وجوههم عند الصلاة صوب الكعبة. وفي هذا يقول ستانلي لين بول:
إن مكة للمسلم بمثابة أورشليم للإسرائيلي فهي تعيد إليه قروناً وأجيالاً من الذكريات. وتحمل المسلم فتعود به إلى مهد إيمانه ودينه ومولد نبيه. وتذكره عهد النضال الذي كان بين الدين القديم والدين الجديد. وتحطيم الأصنام وكسر شوكة الأوثان وتأسيس دين الله الواحد القهار. بل فوق كل هذا تدعوه إلى ا، يذكر أن أخوانه المسلمين جميعاً يعبدون الله موجهين وجوههم صوب المكان الذي ولى هو وجهه نحوه. وأنه ليس إلا فرداً في شركة من المؤمنين. تربطهم جميعاً عقيدة واحدة. وتجري في نفوسهم آمال واحدة. يقدس الفرد منهم ايقدس الجمع. ويجتمعون على عبادة إله واحد. وقد دل محمد باحتفاظه بذكر المهد الأول للإسلام على علمه الواسع. ونفاذ بصيرته وتمكنه من معرفة النزعات الدينية الصحيحة في الإنسان!.
إن فريضة الصوم وجدت بين جميع الأمم ولكن ينبغي أن نقول أن المعنى الذي كان يفهم منها والفكرة التي كانت تلتصق بها في العالم القديم وفي أهل الدين الغابرين جميعاً بلا استثناء هي أدنى إلى التعذيب منها إلى قمع الشهوات. حتى أن فكرة الصوم في الشريعة اليهودية لم تلبث أن نمت حتى أصبح يفهم منها أن الصيام ليس إلا المغالاة في تعذيب النفس وسومها العذاب الشديد والرهق العظيم، ومنهم أخذ المسيح هذه الفكرة كذلك. وقد كان استمساك عيسى بهذه الفريضة الباعث الذي جعل الصوم عند المسيحيين فريضة مقدسة ولكن الفكرة السائدة لدى أهل المسيحية عامة من ناحية الصلاة هي أنها الصوم يقصد به إلى التكفير والاقتداء بالمسيح على أن وسائل تعذيب البدن طواعية واختياراً كانت شائعة(48/18)
في أهل المسيحية شيوعها في كثير من الأديان الأخرى. ولكن تلك العذابات الجثمانية كانت تنتهي في أغلب الأحايين بقتل القوة الذهنية وهدم القوة الجثمانية. والذهاب بالنشاط وإحداث ضرب من البلادة والمرض العقلي والزهد الممقوت. ولكن المقصد من الصوم في الإسلام ليس إلا قمع الشهوات بالاحتماء من إشباع الشهوة مدة معينة من الوقت وحرمان النفس مباهج الحواس، وتوجيه الروح الحيوانية في الإنسان إلى سبيل صحية نقية طاهرة.
أما تعذيب البدن وإرهاقه الإرهاق الذي لا جدوى منه ولا موجب له فمحرم في الإسلام، منهي عنه، وذلك أن الصوم فريضة على أقوياء الجسوم وأهل الجلد والبأس والصحة ليكون وسيلة لهم إلى تطهير الروح بوضع حد لشهوة البدن وبحرمان الجثمان أما الضعفاء والمرضى الذين في سفر أو طلاب العلم ودراس الجهاد الأكبر والنساء في المحيض فقد أغناهم الدين عن الصوم وأعفاهم من فريضته.
فإذا نحن ذكرنا ما كان من نهم اليونان القدماء وشهوانية الرومان والفرس وإغراق عرب الجاهلية الأولى في اللهو وإفراطهم في الشهوات ومباهج البدن، وضروب الحيوانية، والشرور والمناقص، فلا نلبث أن ندرك قيمة هذه الفريضة ونتبين نفعها وصلاحها لقمع شهوات الإنسان، ولا سيما بين الشعوب التي لم تصب حظاً عظيماً من المدنية.
على أ، الصوم في الإسلام كما اقتضت حكمة القرآن مقصور على النهار وللمسلم في الليل أن ينعش جهازه البدني بالاعتدال في تناول الطعام والشراب وتمتيع جثمانه في غير محرم أو إثم وهذه شرعة سهلة لا يراد بها قتل النشاط، وإحداث البلاهة والجنون، وقد قرر علماء الإسلام وأساطينه ومشرعوه بوجوب تطهير الذهن في خلال الصوم من الأفكار الشريرة والخواطر الآثمة. وعدم الاقتصار على تطهير البدن.
لم يسبق الإسلام دين من الأديان سن شرعة للصدقات وإيتاء الأرامل واليتامى والمساكين، ووضع مبادئها من بين أركان الدين وأدمجها في الفرائض وخصها بجزء عظيم من أصوله، ولقد كانت المسيحية الأولى أعياد تسمى أعياد الصدقات، ولكن أمثال هذه الأعياد كانت تتوقف على إرادة الناس، ولذلك كان تأثيرها ضعيفاً عرضياً لا يلبث أن يزول، ود أثبت التاريخ أن تلك الأعياد التي كان يتصدق فيها أهل المسيحية الأولى لم تلبث أن أبطلت بعد زمن قصير من سنها واشتراعها وتقريرها.(48/19)
ولكن كل فرد ملزم شرعاً في الإسلام أن يخص جزءاً معيناً من نشبه ومالة في سبيل إعانة المساكين وأهل الحاجة، وهذا الجزء مقدر بواحد من أربعين من قيمة العقار أو النشب أو الأملاك أو أرباح التجارة وما إلى ذلك جميعاً على أن الصدقات لا تجب إلا إذا بلغت الثروة مقداراً معيناً وكانت ملك صاحبها عاماً كاملاً ولا تستحق الزكاة عن الإبل التي تبتذل في زراعة الأرض، أو في حمل الأثقال وإذا انتهى شهر رمضان وحل يوم عيد الفطر رضخ كل رب عشيرة بصدقات عن نفسه وأفراد بيته والضيف الذي أفطر ونام في بيته خلال شهر الصوم.
وقد عين القرآن أهل الحاجة الذين تجب لهم الزكاة والصدقات، ولعل أحسن ما في الإسلام أنه جاء بمبادئ عيسى من ناحية التصدق والإحسان على الفقير فجعلها في قوانين محدودة وألبسها لباس السنة والتشريع.
والحكمة التي أدخلت على الإسلام ميقاتاً مضروباً للحج كل عام إلى مكة ومقام الكعبة لم يكن منها إلا أن بثت في دين محمد روح الإخاء والائتلاف والود والامتزاج على كثرة اختلافات الفرق الدينية ومنازعات أهل النحل. فإن أعين العالم الإسلامي إذ تستقر على تلك القبلة العامة، إنما تحيي في صدر كل مسلم شعلة من القبس السماوي الذي أنار العالم وذهب بظلمات الجاهلية الأولى، وهنا نرى حكمة ذلك المشرع صاحب الرسالة والوحي تسطع وتشرق علينا في وجوهنا إذا نحن تدبرنا الشروط اللازمة لإنفاذ الحج والقيام بهذه الفريضة وهي بلوغ الرشد والعقل والبصيرة والحرية التامة الكاملة واستطاعة دفع نفقات النقلة والطعام في السفر ومكنة طالب الحج من الإنفاق على بيته في غيابه في الحج وسهولة الطريق إليه وامتناع المشقة والعنت في السفر.
ولما كانت العرب في الجاهلية يستمسكون بتقاليد وشعائر دقيقة تكاد تكون أشبه شيء بالشعائر البراهيمية في شدتها ودقتها، وذلك من ناحية صلاحية ضروب من الأطعمة والأكل وفساد أخرى فقد نصح النبي لأهل ملته أن يعتقدوا بأن كل لحم أو طعام محلل، إلا أشياء حرمها ونهى عن أكلها وورد ذكرها في القرآن وأما الخمر والميسر وهما الآفتان الوبيلتان اللتان طاحتا بالجماعات المسيحية، وكانتا حرباً على كثير من أهل الطبائع الدنيا والنفوس الغثة الضعيفة فقد حرمهما الإسلام تحريماً قاطعاً، ونهى عنهما النهي المطلق،(48/20)
على أن ليس في جميع الشعائر التي وضعت للعالم، والتعاليم التي لقيت لتهذيب أهل الدنيا، تعاليم ولا شعائر هي أسهل منالاً وأحنف مقصداً وأوفق للطبائع وأدعى لتقدم الناس وتزكية نفوسهم من تعاليم النبي العربي لأن القواعد القليلة التي سنها للشعائر الدينية، لم يراع فيها إلا استتباب النظام في الجماعات الإسلامية وتأسيس المساواة والاتحاد والولاء ولكنها لم تكن من الصلابة بحيث لا تقبل مرونة ولا ترتضي ليناً وتهذيباً بل أذن في التجاوز عن نصوصها والتنصل من قيودها في عدة وجوه من مرض أو بواعث أخرى، لأن القرآن يقول يريد الله بكم اليسر لأن الإنسان خلق ضعيفاً وإذا كان محمد قد أحاط تعاليمه بطائفة من السنن والشرائع والتقاليد فإنما كان ذلك منه ليؤدي فكرة محسوسة عن الدين لعامة البشر. وقد وضع عيسى سنتين اثنتين، التعميد والعشاء الرباني، ولو أنه عاش أكثر مما عاش في الأرض لأضاف عليها وحشد لها وحشدها. ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أنه لو كان عاش لرأى أن يضع دينه على قاعدة نظامية أكثر مما هي عليه، ولأقام تعاليمها على جدار متين، وهذا النقص الأساسي في المسيحية هو في الحق السبب الجوهري الذي بعث المسيحيين على إنشاء مجالس الكهنوت، ومجامع أهل الدين، وإنشاء النحل والمذاهب والعقائد المختلفة الألوان والآراء والبنود والنصوص التي تتحطم وتتهدم إذا مسها العقل أو عالجها التفكير المتخلص من القيود وهكذا ترك المسيح عمله غير تام. وأبقى لمصلح آخر غيره واجب تنظيم مبادئ الخلق والآداب الاجتماعية وأنت فتعلم أن علاقتنا مع الله أمر يخص الضمائر وأما علاقتنا بالمخلوق فيجب أن تسن لها آداب عامة وقوانين محدودة، وليس في الدنيا نفوذ أو سلطان هو أدعى إلى ضمان إنفاذ هذه الآداب، وإطاعة تلك القوانين، من سلطان الأديان، وينبغي أن لا نعد الدين مجموعة تعاليم وعظات تنحدر إلى عامة الناس من ذوائب منابر الخطباء والوعاظ ولا أن نرى الدين عقيدة تغذي أهل الأذهان الخيالية التي تعيش على الأحلام وإنما ينبغي أن نعتبر الدين قانون الحياة كلها، وأن نعد الغرض الأكبر منه السمو بالإنسانية إلى الكمال الذي هو الغاية من الوجود، فإذا كان هذا هكذا فإن الدين الذي يضع المبادئ الأساسية للأخلاق ومجموعة الفضائل ووالفرائض الأدبية على قاعدة منظمة، ويسن القوانين للروابط الاجتماعية والفرائض الإنسانية ويقربنا رويداً رويداً باتفاقه والفطرة ومشيه وسمو الذهن وعمله على تهذيب القلب، من الكمال(48/21)
الأعظم - لي إلا ديناً خليقاً بالاحترام والإكبار وقد امتاز الإسلام وتفردت شخصيته بأنه يجمع في صميمه جميع المبادئ العالية والسنن السامية في الأديان القديمة وكل ما يمشي مع العقل ويتابع الغريزة، وترتضيه الفطرة الإنسانية وليس الإسلام فقط شريعة تحتوي طائفة من القواعد الأدبية القائمة على المعرفة الصحيحة لفطرة الإنسان ولكنه كذلك سن طائفة من السنن لتهذيب العقل، والضمير ولهذا كانت موافقة مبادئ الإسلام لجميع العصور ولجميع الأمم والشعوب واتفاقها ونور العقل وهدى اللب وتخلصها من العقائد الغامضة التي ترسل ظلامها على الحقائق الأولى المتأصلة في الصدور الإنسانية ليست إلا دلائل على أن الإسلام هو الخطوة الأخيرة التي خطتها الدنيا في ترقية المشاعر الدينية في الإنسان والذين جهلوا المغزى التاريخي المراد من كل مبدأ من مبادئه قد أدى بهم الجهل إلى أن قالوا بأن خشونة تلك المبادئ ومخالفتها لأساليب الفكر الحديث، ومناقضتها للمدنيات الحاضرة ينبغي أن تحرم الإسلام من أي حق في الانتشار والذيوع في الدنيا عامة، ولكن النظر ملياً إلى المغزى التاريخي الذي يفهم من الشرائع والمبادئ الإسلامية، والتسامح قليلاً في البحث والإنصاف في الدرس والفحص لا يلبثا أن يزيلا هذا الفهم السيئ الممقوت فإن صلاحية الإسلام واتساعه وذيوعه وقبوله جميع الآداب الأخلاقية كثيراً ما أسيء فهمها أو أخذت على غير حقائقها أو أخفاها تعصب الأديان المنافسة له، والإسلام من بين جميع أديان الدنيا التي سيطرت على ضمائر الإنسانية هو الدين الفذ الذي جمع بين تلك الآراء التي أنشأت في عصور مختلفة من حياة البسر مصدر سلوك الناس، وأقامت قانوناً يضبط أفعالهم، وبين الشعور بمكان الإنسان وإدراك الطبيعة الإجرامية فيه، فإن اعتقاد المسلم بأنه سيحاسب على ما اجترح، ويجزى بما فعلته يداه، يبعثه على إنكار ذاته ويوحي إليه عاطفة المحبة العامة، والإحسان إلى الناس جميعاً، واعتقاده في العناية الإلهية وفي رحمة الله وحبه وقدرتنه التي وسعت كل شيء يسوقه إلى التواضع أمام الديان، والاستكانة والخشوع إزاء الخالق، ويغريه بتأدية تلك الفضائل الجبارة العظيمة التي تطالب مؤديها بأصعب الأمور، وتحمله العنت والرهق، كالصبر والاستسلام والثبات أمام البلاء الذي يبتلى به الله الناس، وهذه الفضائل هي التي دعت كثيرين من الكتاب إلى اتهام الإسلام بأن فضائله مرهقة تعذيبية أليمة وتجعل المسلم يسائل ضميره ويلح في الحكم عليه وأخذه بالزجر والنهر(48/22)
ويدرس البواعث التي تغريه ويستريب بمقدرته أمام عظمة الكون، ويركن إلى عناية الله، في المعركة القائمة بين الشر والخير.
وقد كانت الشرائع التي وضعها بعض الأديان وسنت بها فرائض، وأقامت أعمالاً معينة وواجبات، خلواً مما يجعل هذه الشرائع سهلة الإنفاذ ممكنة التأدية، ذلولاً عن الاختبار، وكانت مفتقرة إلى معرفة طبيعة الإنسان تبدو عليها طبيعة الأحلام والأوهام، وتتجلى عليها إمارات الخيال وطلب الكمال من ناحية الوهم والحلم، ولذلك لم تلبث عند تطبيقها في معركة الحياة أن ظهرت بلا جدوى، عقيمة لا نفع منها، وأنت تعلم أن مقدار دين من الأديان من السهولة واللين وإمكان التنفيذ، وسلطانه على العلاقات التي تربط الناس بالناس، في الحياة اليومية، وأثره في الجماهير، وسيطرته على الجماعات، هي الوجوه الحقيقية التي يمكن للناس أن يحكموا على صلاحيته ورجاحة شرائعه، ونحن لا ننظر إلى العقول الشواذ العظيمة والألباب السامية الراقية على مستوى العقول العامة، لنتبين أثر دين من الأديان، بل إنما ننظر ونبحث ونجيل البصر في الجماهير والجماعات لندرك أثره فيهم وموقعه من قلوبهم، ولنرى ما كان من عمق سلطانه عليهم ومقدار السمو الذي يسمو بهم ولنبحث فيما إذا كانت شرائعه قد ألهمتهم معرفة الحق من الباطل، والخير من الشر، ولنتبين هل يصلح هذا الدين سكان أبعد البلاد، وآهلة الأقطار المعتزلة في أركان الدنيا، إذا هو حمل إليهم، وشاع فيهم، أو هل يُسف بهم، ويهوي إلى الدرك الأسفل، ويحط من مكانهم، وهذه هي الأسئلة التي ما نفتأ نسألها إزاء كل دين نريد أن ندرك مكانه من الرجاحة والصلاح.
فإذا أردت أن تطبق جميع ذلك على الإسلام ألفيت هذا الدين يجمع بين مبادئ كمالية من السمو بحيث لا يدرك علاؤه، ومبادئ عقلية حقيقية منطقية تقبل التطبيق وترتضي التنفيذ والعمل بها والاسترشاد. ولم ينكر الإسلام الطبيعة الإنسانية ولم يدخل في دروب بعيدة عن المحسوس والواقع والمعقول. بل كان مبدؤه الأول الارتفاع بالإنسانية إلى حدود الكمال المطلق. وكان سبيله إلى بلوغ ذلك الكمال بإدراك أن طبيعة الإنسان في هذه الحياة ناقصة. فإذا لم تقل مبادئ الإسلام (إذا ضربك أخوك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر) وإذا أدنت بمعاقبة المسيء على قدر إساءته. فقد علمت الناس كذلك فضيلة العفو والمغفرة والصفح(48/23)
والخير والرفق ومقابلة الشر بالخير. ولم تكن هذه المبادئ العالية باعثة عواطف كاذبة، وتصنع باطل، ورياء من رياء العاطفة. بل ما فتئت عند المسلم الحق المؤمن برسالة محمد المنفذ لوصاياه وتعاليمه هي مبادئ الحياة المحققة المنفذة.
ذلك إسلام محمد، فهو ليس عقيدة ورأياً ومذهباً لا غير. بل هو حياة تعاش ودين العمل خير العمل والتفكير خير لتفكير والقول خير القول. دين مؤسس على الحب الإلهي. والحسنة العامة والمساواة التامة بين الناس أمام رب الكون.
ولئن كان أساتذة الإسلام في عهدنا قد أطفأوا شيئاً من مجد ذلك السيد النبي العظيم حتى ليصبح الإنسان كذلك كتاباً من نقائص وعيوب الإسلام في عهده الحاضر فإن ذلكم الدين الذي يقيم منار الحق والعدل، يستحق أن يعترف به محبو الإنسانية وطلاب الخير للعالم الإنساني.(48/24)
أبطال الحرية
الزعيم كوشيوسكو البولوني
ننشر تحت هذا العنوان كلما سنحت الفرصة، وواتانا الزمن، تاريخ أولئكم العظماء الذين وقفوا في طليعة شعوبهم، وسعوا سعيهم للنهوض بأممهم، وأسالوا مهجهم في سبيل إعلاء كلمة بلادهم، ومنحها الحقوق المقدسة التي أراد الله بالناس أن يكونوا في هذا الكوكب الأرضي ناساً بها، وجعلها المزية الأولى، واللازمة الواجبة للحياة، أولئكم البطال الذين إذا ذكرت أسماؤهم على أفواه أهل جلدتهم هزت قلوبهم هزاً، وأرسلت روح الملائكية تشع في حنايا أفئدتهم أولئك الذين يقفون يوم يحشد الله الناس أمام عزته الإلهية صفاً صفاً ويحشرهم جنداً محضرين، في الصفوف الأولى ممن الإنسانية خلف مواقف الأنبياء والمرسلين، وفي المكان السامي الذي أعده الرحمن لهداة الإنسانية ورسله الذين هذبوا من جوانب الحياة، بلا رسالة تنزلت عليهم ولا كتاب جاؤوا به، وإنما قاموا ووحي الله ينهض في جنوبهم، ونور السماء يضيء في أضلاعهم فكانوا أبطال الأرض الذين ظهروا أرجاءها من ذلال الظلم، ومفسدة حكم الإنسان للإنسان.
ولسنا نجد شخصية من تاريخ عظماء الدنيا وثبت في بلد من أغرب بلاد الله، هي أحق أن نبدأ بذكر ما كان منها لبلادها من شخصية الزعيم كوشيوسكو بطل بولونيا العجيب فتلكم أجمل صورة من صور أبطال الشعوب، ظهرت في أروع زمن من أزمان الدنيا، وهو الزمن الذي اجتمعت فيه فرنسا وبولونيا وأمريكا في صعيد واحد للاشتراك في حرب الحرية.
في المدرسة الحربية بفرسوفيا عاصمة البلاد البولونية، حوال عام 1768 كان شاب بولوني يمشي في أفنية الدار ويخطر في رحاب المعهد، يشار إليه بالبنان ويوصف بأن لا مثيل له ولا ضريب في حميته للعمل وتوفره على الدرس والبحث، فبينما كان فتية المدرسة وقرناؤه في المعهد، يلهون ويمرحون، ويرتعون ويجرون في مراكض الشباب، كان يجري من المدرسة إذ ينصرف الطلاب إلى حجرته، فينكب ليالي طوالاً لا يغمض له جفن على دراسة كتب الرياضة والتاريخ وكان إذا عاكسه النوم وأخذ الكرى بمعاقد جفنيه يحاول طرده، ويتحيل الحيل للخلاص منه، فيضع قدميه في صبارة الشتاء في ماء مثلج،(48/25)
ولم يشأ بعد أن استطالت به العادة أن ينقع برنامجه ويهذب من خططه، إلا على أن ينام إذا انتصف الليل، وينهض من نومه في الساعة الثالثة من الصبح.
أما اللهو والتماس الابتسامة النسائية الحلوة في المرقص، وافتقاد النظرات النواعس من عيون الحسان في المقصف، والجلوس حول المائدة الخضراء تحت حمى القمار، فأي عار كان يراه في ذلك وأي معاب وأي ذام بل كانت بولونيا بولونيا المنكودة المعذية التي تعيش إذ ذاك أسوأ العيس، في الدرك الأسفل من الحياة، إذ وقعت فريسة بين ثلاث دول من الدول الجارحة بروسيا والنمسا والروسيا. وكانت تلك المملكة الأسيفة مفتحة معرضة لكل مغير فاتح. لا حول لها في داخليتها ولا قوة. لا تملك إلا ماضيها الفخم الرائع الجليل. والمفخرة الكبرى بأنها كانت قروناً وأجيالاً السور المنيع الناهض حيال أوروبا يمنع الإغارة الشرقية من ناحية تركيا والتي ظلت أبداً جميلة رفيعة فارسية كريمة. أرض الشعر ومملكة الشمس - تلك كانت الرؤيا التي تتراءى لذلك الفتة الملتهب المتوقد الجياش العاطفة، في أحلامه، وبولونيا كانت الحلم الذي يتجلى له في نجواه ومنامه. وجعل يصيح في أعماق فؤاده. ترى من الذي ينقذها وما السبيل إلى خلاصها! فإذا بلغت به النجوى إلى هذا الحد لم يلبث أن يتحمس فيرفع قبضة يده إلى الخريطة المعلقة فوق الجدار، والمصور الجغرافي الذي تلوح منه الدول الثلاث المفترسة بلاده العزيزة مهدداً مغضباً حانقاً. ثم يعود بعد أن تخفت حدة خلقه فيسقط إلى قراءة كتب فلوطرخس ويدفن وجهه في صفحات كتاب العظماء.
ذلطكم الفتى الذي حدثناكم عنه كان يدعى سادي كوشيوسكو، الوطني ذا القلب الحديدي ولد هذا الفتى في اليوم الثاني عشر من شره فبراير عام 1764 في نوفومبرودك وعاش في ذلك الإقليم جميع عهد طفولته في الهواء (الطلق) والجو السجسج العليل والريف القروي الهادئ، بين أبيه وهو رجل من أهل الشرف والجندية، هجر العالمن وغادر عيش الجند، وأسلحة القتال، وأخلد إلى العزلة والحياة الساكنة، وبين أمه وأختين صغيرتين.
وكان له عم شيخ جعل يعود العشيرة الفينة بعد الفينة فيقضي أشهراًُ معهم ويعلم الطفل الرياضة والرسم واللغة الفرنسية، وزار يوماً صديق من أصدقاء أبيه، وهو البرنس آدم زارتوريسكي وكان رفيق الوالد في الجندية - بيت هذه الأسرة فرأى كوشيوسكو وراعه ما(48/26)
قرأ في وجه ذلك الصبي من أسطر القوة والإرادة، وتنبأ بما يضطرم في فؤاده من اللهيب، ويستعر من العاطفة، ولم يكن الصبي كوشيوسكو جميلاً على فتنة جمال، ولم تطن تقاطيع وجهه رائعة متناسبة، ولكن أي قدر عظيم، وقوة هائلة، كانا يتجليان على ذلك الوجه الروماني المعذب، كأنما جميع معارف ذلك الوجه تريد أن تقول (إنا من أولئك الذين يولدون ليكونوا أبطال المبادئ المقدسة، وليضعوا حياتهم في أيديهم، ولا يختموها إلا غزاة عظماء، أو معذبين شهداء).
وبفضل حماية ذلك الأمير زارتوريسكي دخل الفتى المدرسة الحربية فلما كان عام 1770 كان من بين الفتية الأربعة الذين انتخبهم الملك لتأدية سياحة خارج البلاد على نفقته، فسافر إلى باريس ودرس دهراً في الأكاديمية الحربية بفرسايل ثم تلقن في مدينة برست فن الحصون والاستحكامات والفنون البحرية، وهناك في فرنسا يوم كان بها عام 1773 سمع النبأ المخيف الهائل، الذي كان من صحته في ريب أيام نشأته الأولى، وهو نبأ تقسيم وطنه العزيز بين روسيا - وهي التي أصابت نصيب الأسد من الفريسة - وبين النمسا وبروسيا، فعاد إلى فرسوفيا عاصمة بولونيا حزيناً متألماً مجروح الكبد، وانزوى في نفسه، وأخلد إلى العزلة، وراح يمشي وحيداً متوحشاً نافراً مجتوياً العالم، غاضباً من الدنيا، حتى جعل يرفض الدعوات إلى الولائم، والذهاب إلى المآدب، ولا يلقى الناس، ولا يجلس في مجالسهم، بل قصر ساعات يومه على النظر والتفكير في شؤون فرقة الظوبجية التي عهد الملك إليه تقلد مقاليدها، والإخلاء إلى أبحاثه الحربية.
ولا عجب أن يقع هذا الشاب المعتزل الوحيد إذ ذاك فيحب ويحتبل في أشراك الهوة، كان هو الحب الوحيد الذي أدركه في حياته، وذلك أن الكونت زامويسكي أقام سنة 1776 حفلة رقص عظيمة في يوم عيد الملك ودعا جميع ضباط المملكة إليها فلم يستطع كوشيوسكو أن يفر من هذه (السخرة) الدنيوية أو يتنصل من هذه الضريبة الاجتماعية فلم يكد يضع قدميه في بهو البيت المشرق بالأنوار حتى التقى نظره بوجه فتاة بولونية على فتنة عظيمة، وكانت الفتاة ابنة الجنرال العظيم سوستوسكي مارشال ولاية ليثوانيا. فلم يلبث أن وقع في حبها، كما ينتظر من تلك النار التي تحترق في خبايا قلب ملتهب مثل قلبه، فالتقى بها مرة أخرى، وأعاد اللقاء مرات، ورأى في أثناء ذلك أن حبه متبادل بينه وبين الفتاة قم لم يلبث(48/27)
أن تحطم فؤاده إذ سافر الجنرال وابنته عائدين إلى ليثوانيا.
ففي العام التالي: وبعد سنة محزونة قضاها في كاراكوفيا ساقت الأقدار كوشيوسكو إلى الانتقال إلى ليثوانيا مع المعسكر وتعين ياورا للمارشال، وقضى ذلك له بأن يقيم في القصر، وهنا اشتدت وقدة الحب، وحميت نار العاطفة، وتمكنت منه حتى وقع يوماً على قدميه أمام المارشال الوالد يطلب يد ابنته، ويبكي ويتضرع، فلم يلق من الرجل إلا هزة كتف سخرية واستكبار، ورفضاً مؤلماً مهيناً، إذ زعموا أن الفتى من بيت صغير، وأسرة غير عريقة في المحتد والشرف!! ومن ذ ذلك اليوم أقاموا حوله الحراس والحفاظ، فاحتج واستنكر، وفكر أخيراً في خطف الفتاة، ورضيت هي به مختطفاً، بعد أن أبوها عليه زوجاً كريمة، وفي ليلة حالكة عاشقة رومانية ساكنة هرب العاشقان وانطلقا مبتعدين أميالاً، فرحين بالنجاة، محبورين بالسعادة، ولكن لم يلبث أن تقلص ظل هذا الفرح، إذ أحاط الجند بهما بالرصاص والنار فشهر كوشيوسكو سيفه ولقيهم لقاء المستميت، وناهدهم مناهدة الشهم المستأيس وقتل منهم خلقاً كثيراً، وخر مضرجاً بدمه لا يعي ما حوله، فلما أفاق من غشيته، لم يجد الفتاة بجانبه، فقام يتعثر في مشيته، ومشى متسانداً متحاملاً حتى بلغ بيت صديقه الشاعر الجندي نيمسويك فطلب دواة وقلماً وقرطاساً وأرسل في الحال استقالته من الجيش إلى فرسوفيا، فبعد أيام معدودات غادر بولونيا وهو لا يحمل من ذكريات ذلك الحب الأليم إلا منديلاً واحداً ذا رائحة وعبق.
كانت المستعمرات الأمريكية إذ ذاك قد رفعت في وجه إنجلترا علم الاستقلال، ولما كان كوشيوسكو قد ولد للدفاع عن الحرية في أي بلد من بلاد الله، وتحت كل سماء تظل الأرض، وفي سبيل أي شعب من شعوب الدنيا، غادر كوشيوسكو فرنسا قاصداً أميركا فبلغها في اليوم الخامس من شهر يوليو عام 1778 وقدم نفسه إلى البطل العظيم واشنطن، فانبرى ذلك القائد الكبير يسأله ماذا جاء بك أيها الفتى إلينا؟ فلم يكن جواب كوشيوسكو إلا أن قال: جئت لأحارب متطوعاً في سبيل حرية أمريكا!.
فقال واشنطن: فيم تصلح أيها الرجل؟.
فكان جوابه: جربني تر ما تريد
فدفع به واشنطن إلى فرقة من جيوش الأميركان لا مهارة لديها ولا فن فأبلى البلاء الحسن(48/28)
وأظهر البراعة التامة في شؤون الحرب، فلما انتصر في موقعة هائلة راح الزعيم الفرنسي بطل الحرية يسأل: من ذا يكون هذا الرجل الذي أبلى البلاء الحسن في هذه الموقعة!، فأجابه أحد ضباط أركان حرب الجيش ذلكم شاب فتى شهم مغوار بولوني الجنسية، أظنه يدعى، إن لم يخطئني حدسي الفتى كوشيوسكو فأجمع لافاييت على أن يرى هذا الشاب، فلما أمسى المساء راح يتنقل في المضارب، وينطلق من مضرب إلى مضرب، حتى دخل عليه في خيمته فألقاه وقد علاه التراب والدم، يفترش الثرى، ويمتهد الخشن من الأرض، ومنذ ذلك العهد راح الرجلان رسولا الحرية كوشيوسكو ولافاييت صديقين حميمين إلى الأبد.
وانتهى وطيس القتال عام 1783 وظفرت أمريكا بنعمة الحرية والاستقلال بعد أن كان لهذا الزعيم البولوني العظيم فيها شأن يذكر، حتى أن واشنطن قبل أن يعتزل العمل، ويأوي إلى السكون والوحدة في بيته في مونت فرنوف أبي إلا أن يصافح يد ذلك الرجل البطل، وينادي به قائداً من قواد المدفعية، وعرضت عليه الولايات المتحدة لقب الوطني، وأذنت له في الجنسية الأمريكية، واستعدت لأن توظف له وظيفة شهرية مذكورة، وأقطعته أملاكاً واسعة وإيراداً عظيماً فلم يشأ كوشيوسكو أن يبقى في أمريكا، وهزه الحنين إلى وطنه، فسافر إلى ساحل فرنسا، ومن الهافر أسرع إلى بلوغ بولونيا، وقد سبقه إليها مجد مؤثل، وذكر طائر مطير البرق وأشعة الشمسي فاستقبله الجيش أي استقبال، ولكنه لم يطأ بقدميه أرض وطنه، حتى عاد إليه الرثاء لحالها، فأوى إلى عزلته الأولى، ولم يلبث أن أثار إذ ذاك حرباً عواناً على الروسيا التي أبت إلا أن تجعل من أمته شعباً ذليلاً مستكيناً متطامناً وأكره جيوش الروس مرات على التقهقروأوقع بهم القتل والذبح، وانطلقت حميته في قلوب جنده فما تركت قلباً إلا وقعت فيه، ولكن أين لهذا الرجل الوحيد، وجنده القلائل، القبل بتلك الجيوش العظيمة، ولذلك لا غرو أن ينهزم آخر الأمر، وكان من ذلك أن اتفقت الدول الثلاث على تقسيم بولونيا للمرة الثانية.
فلم يكن لكشيوسكو الحزين العاجز المتألم أن يقف يشاهد هذا التقسيم اشنيع في وطنه وهو مشبك الذراعين، ينظر صامتاً لا يحرك يداً، بل لم تشأ عيناه أن تنظر إلى ذلك الغزو البطيء الذي أعده الروس لوطنه ويرى قومه في ذل الإسار ويشهد أبناء وطنه يساقون إلى(48/29)
الخسف، مشردين في رؤوس الجبال، معتصمين بالغاب الكثيفة، هاربين لواذاً من الطغاة، ورأت كاترين قيصرة الروس هذه الحمية في ذلك الرجل، الذي كان الوطنية مجسمة، والشرف ممثلاً، فشاءت أن تغريه بالمال، وظنت أن المفاتن والإغراءات قد تطفئ شعلة الوطنية في فؤاده، وتكسبه إلى صفوفها، وتشتري وطنيته بثمن بخس دراهم معدودات، وحسب أن إنعامها عليه بألقاب الشرف وأسامي النبل قد تحدث فتنتها فيه، وتطمسي على بصيرته فلا يرى، على أن كوشيوسكو لم يكن خلق لأمثال هذا الخزي، ولم ترتض طبيعته هذا العار المشنوء البغيض، فلا غرو إذا رفض مشمئزاً وهاجر أصدقاءه الجند، واعتزلهم وهو يصيح: رباه. . رباه أعني مرة أخرى أشهر سيفي لأجل وطني فتوجه إذ ذاك إلى دريسدن، ثم إلى لينبرج وهناك تلقى شهادة تثبت أنه فرنسوي الأصل، وهذا الإثبات منحته إياه لجنة الدفاع الوطني في مجلسها الذي انعقد في اليوم السادس والعشرين من شهر أغسطس عام 1792. وعند ذلك قضى عاماً فارسياً جواباً أفاقاً فطاف ألمانيا طولها والعرض، وانحدر إلى إيطاليا فراح فيها ضالاً طوافاً هائماً يحمل وطنه في فؤاده ويتحسر على حالة أبناء أرضه، ويرتقب الفرصة التي تمكنه من الدفاع عنها مرة ثانية.
فلم يلبث أن وثب رجل من عرض العامة في بولونيا، وطني من الصفوف الأولى من الوطنيين المتقدمين حمية وإخلاصاً لبلده، صانع حبال يدعى كلينسكي، فجمع عشرين ألف صانع من صناع الحبال والخياطين والنساجين، فلما سمع السفير الروسي ريبنسين بنبأ هذا الثائر، حاول عبثاً أن يهدئ من ثائرته ويطفيء مفيه حميته للقتلا والدفاع عن الوطن، حتى دعاه آخر الأمر فلما مثل هذا الرجل العامي بين يديه، جعل ينظر إلى السفير نظرة اعتيادية ساكنة لا تدل على شيء من الاكتراث أو الخوف بل هي إمارة الاستخفاف والهدوء فلم يكن من هذا السفير الذي كان ملك بولونيا نفسه يرتعب منه ويفرق من خشيته، إلا أن قال مغضباً: أيها الرجل ألا تدري أمام من أنت الآن واقف؟ ولم يكد يتم عبارته حتى فك أزرار معطفه فإذا بسترته مفعمه بالأوسمة العديدة والنياشين!
وراح يصرخ في البولوني: إذن فانظر وارتعب!
ولكن لم يكن من ذلكالعامل البسيط إلا أن قال: لا أرى إلا نجوماً صناعية في صدرك، ولكن أرى مثلها في السماء، يا صاحب الفخامة، ولهذا لا أرتعب ولا أرتعد!.(48/30)
واستثارت وحشية الروس القوم إلى القتال، إذ أصر مندوب القيصرة كاترين على أن يخفض عدد الجيش البولوني من ثلاثين ألف مقاتل إلى سبعة عشر لا أكثر، وكان يعني ذلك الأمر تجريد الوطن من السلاح، أو قل معناه العجز ثم الموت السريع!.
فثار الجيش البولوني واحتدم غيظه، ونهض منكراً هذا النير الثقيل حتى أن قائد فرقة الفرسان رفض في اليوم الثاني عشر من شهر مارس عام 1794 أن يسلم أسلحته وانطلق مفلتاً من فرسوفيا حمي الأنف كبير الإباء، والتحم في موقعة دموية وجند البروسيان إذ أرادوا أن يحموه الطريق، ويمنعوه السبيل، واحتل راوا وانحدر إلى كاركوفيا وكانت الساعة التي كان أهل بولونيا يرقبونها ارتقاب الصديان للماء الزلال، قد دقت إذ ذاك وأذنت، فلما كان الثالث والعشرون من ذلك الشهر، كان كوشيوسكو في بهرة الجند والجيش، وكان قدومه ليلاً فلم ينم أحد من الأهلين ولم يشتمل سرير من السرر على الراقدين فيه، بل لقد كانت ليلة ساهرة ما يغمض فيها جفن، وما يتنزل النوم فيها على محجر أو عين، وقد أشعلت ألوف من المصابيح، ومشى القوم بألوف من المشاعل، وقد تردد في جميع أرجاء المدينة صوت عظيم أجش هائل يقول في واحد ليحيى كوشيوسكو ليحيى منقذ البلاد ليحيى المخلص، مسيح الوطن ولكن الرجل لم تشكره مشمولة ذلك الترحيب الحار البديع، بل أبى أن يضيع دقيقة واحدة وإنما هرع إلى إدارة محافظة المدينة وأقفل جميع أبواب كاركوفيا وجمع كل ما وصل إلى يده من الأسلحة، وأوحى إلى مجلس الشيوخ أن يجتمع بكل سرعة، فاجتمع وقدم إليه عصا القائد العام للجيوش البولونية، وخول له سلطة عرفية تامة، وفي جنح ذلك الليل، أمر بتجنيد شباب الشعب وفتيانه، بلا تمييز قوم دون قوم، أو إعفاء أبناء طبقة دون طبقة، وحدد السن من الثامنة عشرة إلى السابعة والعشرين ولم يكد ينبثق الفجر، وتبدو جيوش النور من المشرق حتى تعاهد القائد كوشيوسكو وجنده على الموت في سبيل الدفاع عن الوطن. فلما طلع النهار ألقى أمر بجمع ما في الخزائن العمومية من الأموال، ومصادرة ما في القصور من الكنوز وجمع الثروات الأهلية، وصادر بعد ذلك أموال الخونة المارقين، فاجتمع له من كل ذلك في بضع ساعات نصف مليار حشدها لقضية الحرية والاستقلال، ولم يلبث قليلاً حتى ترددت أصداء هذه النهضة في جميع أنحاء بولونيا، فهجر الصناع مصانعهم وغادر العمال الأعمال التي فيها(48/31)
يمتهنون أنفسهم ويبتذلون، وهرعوا يطلبون الزعيم كوشيوسكو وفيهم من يحملون الفؤوس، وآخرون يشهرون المطارق والمعاول وأهطع القرويون والمدنيون والحضريون مشهرين سيوفاً، أو متنكبين رماحاً، وهجر الفلاحون في الحقول محارثهم ومناجلهم وتسلحوا بألوان من الأسلحة وكان كوشيوسكو إنما يريد من كل أسرة تتركب من خمسة أفراد فرداً واحداً، ولكنه رأى المتطوعين ينسلون إليه من كل مكان عارضين عليه نفائسهم وحياتهم مسترخصة في سبيل الحرية، وخامت النساء حلاهن، وهرعن يطلبن نصيباً من القتال، فما أروع منظر بولونيا يومذاك، وما أفتن ذلك القبس السماوي الإلهي الذي تجلى في أفقها!! وكذلك انتصر كوشيوسكو في المعارك الأولى، وشق طريقه إلى فرسوفيا ففتحها على صرخات الجيوش (كوشيوسكو والحرية) ولكن أبى القضاء إلا أن تغلب الكثرة، وينتصر الأكثرون نفيراً فسقطت في أيديهم كركوفيا في أيدي الروس، ولم يبق للبولونيين إلا الدفاع عن فرسوفيا، فلما كان اليوم التاسع والعشرين من شهر سبتمبر خرج كوشيوسكو من فرسوفيا في عشرين ألف مقاتل وأرد أن يخطب جيوشه ويلقي إليهم كلمة واحدة هي كلمة (التوديع) إذ راح يصيح في ذلك الحشد العظيم رفاقي الشجعان! وأخوان السلاح الأعزاء، هل تريدون أن تنقذوا معي الوطن، وتحتفظوا بالعهد الذي عاهدنا، وهو الانتصار أو الموت والبوار، فمن كان منكم متردداً، أو ذا قلب هواء، أو مزعزع الحمية، فليخرج من الصفوف ويلقي السلاح جانباً، ونحن آذنون له في أن يعود إلى داره وعشيرته التي تأويه! فلم يخرج من الصف رجل واحد! بل صاح الجميع نحن معك أيها القائد إلى الموت، وعلى مشرق الضياء أقسم كوشيوسكو إلا أن ينقذ الوطن أو ليموتن، وانطلق القوم في أثره يهتفون الأنشودة الأهلية التي مطلعها بولونيا لن تموت.
واستبسل القوم في الدفاع ولكن الجيوش العظيمة التي وقفت حيالهم جعلت تنقص من أعدادهم شيئاً فشيئاً حتى لم يبق لكوشيوسكو من جنده إلا خلق قليل، ولكنه جعل يقاتل ويثب ويناضل، وهو في لباس الجندي البسيط ولكن هل كانت تغني عنه شرذمته القليلة إزاء تلك الغابات الإنسانية المتكاثفة المتحركة، ولهذا لا غرو أن يقع في المعركة الأخيرة جريحاً، إذ طارت قنبلة فالتهمت كتفه، وتلقى ثلاث طعنات من الأسنة في صدره، وكاد القوزاق أن يجهزوا عليه، لو لم يعرفه رجل من جيش العدو فصاح بهم أن لا يقتلوه، فحمل(48/32)
إلى قائد الروس فلما رأى العدو منظره الرائع بكوا واستعبروا، وانحنو خاشعين أمام هذه الوطنية الهائلة الجبارة التي أبت إلا أن تقاتل ملايين من الناس في سبيل إبائها وشرفها.
ماتت بولونيا إذ ذاك بانهزام ذلكم القائد، فأراد أن يعتزمل أرض وطنه فأوى إلى فرنسا، حيث قضى أخريات أيامه، فتلقته باريس عند قدمه باحتفال مهيب. وفي المأدبة التي أدبت تكريماً له، وقد تذاكر المدعون الشقاء الذي حل بأهل بولونيا نديت عينه بالدموع وانفجرت بصبيب العبرات، فلما رفع الكأس ليشرب نخب فرنسا (عاجله القوم فقاطعوه صائحين) بل لنشرب نخب دموع كوشيوسكو العظيمة!
وأرادت الأندية السياسية أن تحتاط به وتلزم رفقته، ولكنه أبى إلا أن يعود إلى عزلته الأولى يوم كان في مطارف الشباب لأن العزلة هي الملجأ الوحيد الذي يستريح فيه الأبطال الذين خانتهم الأقدار، وتنكر لهم الزمن، وأرادت مدام دي ستايل وهي من هي ومكانها معروف في دولة الأدب، أن تتنازل عن كل شيء في الحياة في سبيل أن تجلس إليه وتدنو منه وتتسمع إلى حديثه، ولكنه لما كان يعلم من حبها لألمانيا، وإعجابها بالعظمة البروسية، لم يعجب بها ولم يمكنها من بغيتها، فإذا جلس في مجلس، أو حضر في ندوة، وأعلن الخادم قدوم مدام دي ستايل، لم يكن من ذل الرجل العظيم الجبار إلا أن يأخذ قبعته وعصاه وينطلق من المجلس هارباً.
واجتمع به القيصر ألكسندر في باريس وطلب أن يحادثه، فلما تم له ذلك راح الكسندر يسأله: ماذا ترى من الوسائل الواجبة لسعادة بولونيا فلم يجب كوشيوسكو على سؤاله بل مشى إلى خريطة أوروبا المعلقة فوق الجدار فوضع إصبعه على نهر الدنيبر ثم على نهر الدوينا ولم يفه ببنت شفة، فأدرك القيصر مراده ووعده خيراً.
وفي شهر أكتوبر عام 1817 أصيب كوشيوسكو بمرض خطير، فدعا إليه المسجل ووصى بجميع ممتلكاته إلى فلاحي قريته، وخص شيئاً منها لتربية اللقطاء، فلما اشتدت عليه العلة، صاح قائلاً: الآن قد شفيت وطلب أن يجيئوا له بسيفه الذي كان يقاتل به في معارك الوطن فلما وضع أمام عينيه أخذه إلى فمه فقبله طويلاً ولثمه لثمات حادة، وإذ ذاك اشتدت الحمى، وهو لا يفتأ ثغره مبتسماً.
فلما حل اليوم الخامس عشر من الشهر، أحس أنه اليوم الأخير من حياته فنادى إليه(48/33)
أصحابه فقبلهم جميعاً وودعهم آخر توديع ثم سقطت رأسه على الوسادة، ثم نام نومة الأبد!.
على أننا قبل أن نختم هذا التاريخ المبكي الأسيف، لا بد أن نذكر أنه قبل منيته بأيام، وقع له نبأ مفرح، وذلك أن الفتاة التي اختطفها في شبيبته ثم استلبت منه كتبت إليه تقول، أنها قد أصبحت أرملة وأنها ستطير إليه حتى تلقاه. ولكن لما وصلت الحبيبة القديمة كان الحبيب القديم قد مات.(48/34)
أبهة الملك
ترجمها من الإنكليزية الشاعر محمود عماد
قال شكسبير على لسن الملك هنري الخامس لما أن سمع سخط الشعب عليه في معركة (أجنكورت):
عند الملك نفتقد حياتنا ورفاهتنا. وفي ذمته نودع أرواحنا وأشخاصنا ومن خزانته نطلب وفاء ديوننا، وعلى عاتقه نلقي مسئولية جرائرنا وآثامنا، وليس للملك لقاء ذلك إلا الخضوع والخنوع!!.
فيا لها من شروط باهظة تطالب بها أبهة الملك وحدها، ويالتعاسة هذه الأبهة التي تستهدف للعنات الأنانيين الذين لا يتململون إلا من آلامهم الشخصية.
الأبهة هي الميزة الفذة التي ينماز بها الملك عن شعبه، بينما ينماز الشعب عن ملكه بميزات كثيرة لا يحيط بها العدد.
فما عساك تكونين أيتها الأبهة المحسدة؟ ما كنهك وماهيتك؟ ما دخلك وخرجك؟ ولأي ضرب من ضروب المعبودات تنتمين. فلم نر قبلك معبوداً هو أكثر ألماً من عابديه!!
ولعمري كيف استأهلت هذه العبادة؟ وبأي مرقاة موفقة رقيت إلى مستواها السامق السحيق.
ألست سوى مرتبة مبهرجة من الوهم تشع الفزع في قلوب مبصريها فيهابونها وهي من أحل هذه الهيبة تشقى وتتألم؟.
وهل سقيت يوماً عوضاً عن شراب الإخلاص السائغ الاسم الملق الزعاف.
إمرضي أيتها الأبهة الموقرة آءنة ما، وسلي وقارك أن يهبك الشفاء. ثم انظري أترين نار حماك المتأججة تعود عليك برداً وسلاماً إذا رشت بشيء من ندى التبجيل والتعظيم؟؟.
إلا أن الركوع والسجود لا يشيعان ضراً ولا يستقبلان نفعاً!!
بل انظري. . أكنت معيدة إلى ركبتين تثنيان أمام عظمتك وجلالك شفاءهما إذ دب إليهما السقم؟.
كلا ما أحسبك تصنعين أيتها القوة الوهمية الخبيثة التي تعبث براحة الملك وسعادته. .
إني كل. فأنا أعرفك جد العرفان. وأعرف أن زيت التتويج المقدس، والصولجان، والسيف، والتاج الإمبراطوري، والثوب الموشى بالذهب والجوهر والألقاب المنمقة التي تتدفق أمام(48/35)
الملك، والدست الذي يتربع فيه، وتيار المظهر الضخم الفخم الذي يلتطم بين شواطئ العالم، كل هذه - أيتها الأبهة المتطرفة في العظمة - إذا جمعت في شخص واحد، ونامت في سرير واحد، لا يمكن أن تظفر من النوم الهادئ بمثل ما يظفر به العبد الوادع، الصحيح الجسم، الخالي الروع، إذا قصد فراشه وفقد امتلأت معدته من خبز حصل عليه بكده ونصبه!!.
أجل. ما أراها إلا بليلة مظلمة كأنما تجمعت من دخان الجحيم بينما ذلك السوقي الحقير، الذي يتصبب عرقاً طوال يومه أمام عين فوبس (إله الشمس) يظفر إذا نام بليلة هانئة رخيمة تجمعت من ظلال الجنة!!.
وما هو إلا أن يدركه فجر الغد فينهض من سباته ليعضد هايبريون (سائس مركبة إله الشمس) ويعاونه في تجهزي خيله.
وكذلك يمضي سنيه المطردة المتعاقبة في العمل المنتج إلى أن تسكن نأمته ويسكن رمسه.
فلولا الأبهة وحدها لكان هذا العامل المغمور الذي يسلخ نهاره في العمل المضني، وليله في النوم المريح، أسبغ نعمة، وأسمى مكانة من الملك.
وليته يعلم - وما أراه عالماً وهو فرد من أفراد الشعب الذي يستدر رزقه من أخلاف الأمن العام - كم يتكلف الملك من الجهد عند ما يريد نفسه على توطيد دعائم هذا الأمن.(48/36)
القاتل الرحيم
أوى يقتل الناس مستمكناً ... بعينيه والناس لا تعلم
يخدر أفهامهم بالجمال ... فما تبصر الموت أو تفهم
ويأخذهم بعد تخديرهم ... بما أكبروه وما عظموا
ويزعم أن قد أوتي رحمة ... فيالضلال الذي يزعم
متى كان من يقتل الأبريا ... ء وإن لم يمثل بهم يرحم
مغالطة تترك الحق وهما ... فيا حسن حتى متى توهم
يمن عليهم بتنويمهم ... وتقتيلهم وهمو نوم
وللجرم فيما يمن به ... ولكن يخادعنا المجرم
فلو أنه لم ينومهمو ... لفروا من الموت واستعصموا
ترانا إذا ما هتفنا به ... لعينيك يا مدعي أسهم
يقول افتريتم عليّ وإلا ... فحسبي برهاني المفحم
أطالعكم من وراء الزجا ... ج وأمعن فيكم ولا يحطم
محمود عماد(48/37)
حول نهضة المرأة المصرية
للمرأة أثر بين في حال الجماعة يعترف به الأكثرون، وبقدر رقيها وتهذيبها يكون ذلك الأثر، فإما نزاعاً إلى التقدم في سبيل الكمال، أو مدعاة للتقهقر والهوى.
فعلى الأمة التي تريد نهوضاً يكسبها مكاناً عليناً بين الأمم الأخرى أن تعنى بتهذيب نسائها، وليس أبسط من تلك الحقيقة ولا أسهل منها فهماً، إذ أن تربية المرأة خطوة كبرى في سبيل تهذيب البنين، فالأبناء في طراءة العمر أي في الدور الذي ترسخ في أذهانهم التعاليم التي يتلقونها يقضون أكثر الوقت في رعاية الأمهات ولئن شذ في ذلك بعض الأسر فسلموا أمر الرعاية للمربيات فلا أقل من أن تكون للأم مهمة الرقابة.
وأرى أن النهضة الحالية - وهي التي استفزتني لطرق هذا الموضوع - ليست دليل بدء حياة جديدة كما قال أكثر من كتبوا في هذه الأيام بل هي مظهر عادي من حياة طيبة راقية موجودة فعلاً، وهذه الحياة لا تضن بأن تدلي ببرهان وجودها في كل ظرف تطلب ذلك.
ويلوح لي أن بعض الكاتبين يغالون في وصف شقاء المرأة وتقييدها، وعندي أن هؤلاء يعيشون في عالم الخيال إذ المرأة المصرية مستمتعة في الواقع بكل ما ينعم به الرجل من الحرية ولها حرمة مرعية عند زوجها ورأي محترم في عشيرتها.
خير للأمة أن يعمد قادتها ومرشدوها إلى بيان أسباب النجاح، وطرق الرقي، وأيها أسهل منالاً وأوفق لحالنا من الإكثار في التقبيح والإفراط في الملام.
لأن هذه النغمة - نغمة الندب والعويل - تهيج من غير أن ترشد فمن عرفها ووقف على كنهها أنكرها ومن تنبه بها هاج وتمرد على سنته الأولى فإذا به يجد الطريق الآخر ظلاماً فيخشى إن هو سار فيه أن يعتسف، فيقف حائراً متلدداً، فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
مثل أولئك الغلاة في سلوكهم كمثل رجل يسكن مع أخوته الصغار فإذا بالمنزل يحترق ذات ليلة من إحدى جهاته فبدلاً من أن يأخذ بيدهم إلى منجاة من الناحية الأخرى يقصر نفسه على الصياح النارالنار حتى بعد استيقاظهم فيقف الصغار مذهولين حتى تلتهمهم النار جميعاً.
علينا واجب نؤديه في هذا السبيل. علينا أن نبذل النصح خالصاً لما يجب على لامرأة عمله، علينا أن نشرح كيف ترتقي المرأة.
أعود إلى حال المرأة المصرية متبسطاً مع القراء في شرحه حتى نفهمه جيداً ثم نقرر أي(48/38)
الوسائل أنجع في السير إلى الأمام، وأيها أولى بنا، إذ أن ناجع الدواء متوقف على معرفة الداء.
المرأة المصرية ريفية أم حضرية؟
أما في الأرياف فترى سفوراً لم تشبه حتى اليوم خبائث المدينة، وتتجلى لك مشاركة المرأة للرجل في العمل في أسمى مظاهرها فبينما هي تقدم لزوجها طعام الصباح البسيط إذ بها بعد خروجه تعد له الغذاء ثم تلحقه في حقله تساعده في الأعمال بأكثر أنواعها إذا لزم ذلك، وتجالسه وتبدي آراءها بكل صراحة، ورأيها في الغالب محترم وفي أكثر الأحوال مأخوذ به ولها الحرية التامة في اختيار حاجات المنزل، وكثيرات منهن يأخذن بأسباب التجارة، وكثيراً ما ينجحن وفيهن الماهرات في الأخذ والعطاء.
وهؤلاء يسعدن غالباً في زواجهن من أجل عاملين قويين:
(1) القناعة والصراحة التي يصحبان السذاجة غالباً، فالصفة الأولى تبعد بصاحبتها عن التغالي في النقد، والصفة الثانية تساعدها على رفض من يعرض عليها ولا تراه صالحاً.
(2) تمكنها من رؤية الرجل في أدوار متعددة من أدوار العمر فتستطيع درسه والحكم في أمره.
وأفراح الريف بسيطة لا تبذير فيها، وتلك محمدة حبذا لو عمت فشملت المدن.
ومن عرف أن الريفية تبذل جهدها في تعليم بنتها كل ما تعلم من واجبات الحياة حكم لأول وهلة أن تلك الأم لو تعلمت لكان لها أثر كبير ظاهر في تكميل بناتها وتهذيبهن.
وليس في أخلاق الريفيات ما يؤاخذن عليه إلا ما كان من خروجهن في الجنائز وعادة الندب الممقوتة.
تلك مجموعة من أخلاق الريفيات تبين حال المرأة القروية، فيها الحسن والقبيح شرحتها بقدر ما يصل إليه علمي وبصفتي قروياً يعني على الدوام بدرس ما حوله وها هي نتيجة أبحاثي فيما يختص بأكثرية الريفيات. وهناك أقلية تختلف في حالها اختلافاً بيناً أرجئ بسط حالها وتعيين علاجه إلى مما بعد تقرير علاج الأكثرية.
يتضح لمن قرأ تلك الملاحظات أن أقرب وسيلة للنهوض بالمرأة الريفية أولاً هو تعميم التعليم بعد تنقيح نظمه الحالية التي أثبتت التجارب فسادها وعدم ملاءمتها للعصر الحاضر(48/39)
بشرط أن تكون روح النظام المنشود محببة للعمل حاثة عليه داعية إلى كرم الأخلاق مفهمة للمرأة حقيقة واجبها.
(2) أن يقوم العقلاء وأصحاب النفوذ بمنع النساء من الخروج في الجنائز.
وإني لأذكر لهذه المناسبة ما رأيت في بعض قرى الأرياف فإنهم منعوا خروج السيدات في الجنائز على تلك الحالة المرذولة وأبطلوا التعديد والندب.
(3) أن تفرد أقسام خاصة في المساجد ليسمع النساء الوعظ والإرشاد في أيام الجمع.
هنا أقف قليلاً أسكت دمعة طفرت بالرغم مني لذكرى باحثة البادية رحمها الله، تلك التي كانت تملأ البلاد نصحاً وتعد في سبيل النهوض أكبر قائد فقد سبقتني إلى هذين الاقتراحين في المؤتمر المصري المنعقد سنة 1911.
أما حال الأقلية التي أشرت غليها فهي:
تنقسم تلك الأقلية إلى قسمين القسيم الأول يقضي أغلب الوقت في المدن الكبرى مع أسرهن ويتعلمن كما تتعلم فتيات المدن وهن إن كن أقل سفوراً من القرويات غير أن علمهن ووقوفهن على أسرار كثير من العلوم الحديثة وواجبات الحياة الاجتماعية بديل مما فقد ولهذا أدعهن في صف نساء المدن لأن حالهن واحد.
أما القسم الثاني فهو المظلوم حقاً: وهو الذي يجب الإسراع في تحريره وعلاج أسقامه؟ تلك أقلية من الأسر الريفية أكثر مالاً أو أقوى عصبية من سواها نرى أن عزها في الحجاب الشاق ومنهن من يجبرن على المكث في منازلهن حتى يبقين غير عالمات بشيء مما يحيط بهن ولو اقتصر الحال على ذلك لسكتنا ولكنه يتعداه إلى تحقير التعليم فيرون من العاب الذميم تعليم الفتيات.
من هنا تذهب الفتاة ضحية الجهل والظلم.
وفي المقالة الآتية إن شاء الله تتمة الموضوع
محمد محمود جلال(48/40)
نهضة الأمم
تحت هذا العنوان ننشر أبحاثاً مستفيضة من الحين إلى الحين عن الشعوب الصغيرة التي كانت تعيش في زوايا الخمول، وضحية العزلة والسكون، ثم نهضت اليوم على الصوت الذي تردد في جميع أنحاء الأرض داعياً الدنيا إلى وئام عام، وسلام أبدي مقيم، وتحرير الشعوب الصغيرة، ومنح كل ذي من الأمم حقه غير مغبون فيه، أو مصروف عنه.
ونحن الآن نبدأ بنهضة شعب غريب لم نكن نعرفه من قبل ولم نسمع بخبره وهو شعب اليوجوسلاف، الذي من أجله وقعت المشكلة السياسية الكبرى في مؤتمر السلام على أثر حادثة فيوم والمطالبة بها، ولا يزال الخلاف قائماً.
شعب اليوجوسلاف
أو سلاف الجنوب
يسأل الناس ما تلكم ولايات اليوجوسلاف وأمة اليوجوسلاف التي لا تزال في طور التكوين في أوروبا الوسطى، وما هي الشعوب وما هي المملكة التي تتألف منها، وما مستقبلها في العالم وما مكانها من الدنيا في قادمة السنين وأخيراً ما منشأ هذا الخلاف الذي حمي وطيسه بين هذا الشعب الذي لا يزال في دور الطفولة وبين أمة الطليان حتى أرسل سحابة مظلمة كثيفة على سماء مؤتمر الصلح.
تلك هي الأسئلة التي تدور الآن على الشفاه. ونحن عليها مجيبون ولها شارحون في السطور الآتية:
نبدأ أولاً بشرح معنى لفظة اليوجوسلاف التي ولا ريب أدهشت مسامع القراء لغرابة تركيبها ووقعها في الأذن، فنقول أن هذه اللفظة معناها في اللغات السلافبة سلاف الجنوب أي الشعوب السلافية التي تقطن جنوب أوروبا تمييزاً لها عن سلاف الشمال من أجناس التشيك والسلوفاك والبولونيين والروس.
وسلاف الجنوب يبلغون نحواً من اثني عشر مليون نسمة، وهم منتشرون في الركن الغربي لشبه جزيرة البلقان وفي الحد الشرقي لسلسلة جبال الألب والحد الجنوبي لحوض نهر الدانوب (الطونة) ويحدها من ناحية الغرب بحر الإدرياتيك ومن الجنوب خط يلتقي بتخوم الجبل الأسود مما يلي سالونيك ثم من الشرق بمضيق يلتقي بجبال الفرداو الذي ينسرب فيه(48/41)
نهر الطونة من سهو المجر إلى سهولة مملكة رومانيا ثم أخيراً من الشمال القمم الأخيرة لجبال الألب ونهر الدراف، ذلكم النهر القوي الفضفاض الذي ينصب في نهر الطونة.
هذه هي حدود اليوجسلافيا على وجه التقريب، ونحن إنما نقول على التقريب لأن هذه الأمم والأجناس في أغلب المواقع تتعدى هذه الحدود، كما هي الحال في سفح جبل ترانسلفانيا، إذ يتنازعون ثمت الحق في تمسفار مع أهل رومانيا على حين ترى سواحل الأدرياتيك آهلة بخلق كثير منهم يعيشون تحت نير الطليان، وأنت تعلم أن سكان شبه جزيرة البلقان ما يفتأون على كر الأدهار ممتزحين بعض ببعض متداخلين، حتى لتجد في أغلب الأحايين الولايات متنازعة بين دولتين، بحق الرابطة اللغوية من ناحية، وبحق الرابطة الجنسية من الأخرى، وأحياناً تجد أمماً متعددة تطالب بالأحقية في ولايات آهلة بسكان مختلفي الأجناس والنحل واللغات، وكل يطالب بها، ويؤيد حقه بتقديم إحصاءات يراد به أن يبين أن الأغلبية من أهلها تنتسب له، ومن هذا ندرك أن من الصعب تحديد الحدود التي يقطن فيها جنس من الأجناس البلقانية.
ولم يظفر بالاستقلال من بين سلاف الجنوب قبل نشوب الحرب إلا الشعب الصربي وشعب الجبل الأسود، وظلت الأجناس الباقية تحت نير النمسا والمجر، فلما انحلت الإمبراطورية النمسوية، وتخلصت هذه الشعوب من ذلكم النير، أرادت تلكم الشعوب أن تؤلف منها جميعاً أمة يطلق عليها أمة اليوجسلاف وهذه الأمة ستتصل بأمة التشيل والسلوفاك من ناحية جنوب الطونة، وستتألف وحدتها من جزء من النمسا والمجر ومن ولايات استيريا وكازنتيا وكارمنيول وكرواتيا وسلوفونيا ودلماسيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود.
ولكي يتجلى لك مستقبل الخريطة الأوروبية السياسية من جراء هذا التنقيح الذي يراد أن يتم اليوم ينبغي أن نذلل لك سبيل المقارنة، فنقول أن صربيا في عام 18904 كانت مساحتها ضعف مساحة سويسرا، وكان سكانها يبلغون أربعة ملايين ونصفاً، ولكن اليوجسلافيا ستحتوي نيفاً واثني عشر مليوناً أي نحواً من نصف سكان فرنسا.
وهذا الجنس السلافي يشتمل على ثلاث قبائل، ففي جبال الألب - أي من ناحية الشمال تجد قبائل (السلوفين) وفي السهول - بين نهري الدراف والساف وكذلك في دلماسيا، ترى(48/42)
القبائل الكرواتية ثم الصربيين في الصرب والبوسنة والهرسمك والجبل الأسود، فأما السلوفيين فيتكلمون رطانة خاصة بهم وحدهم، وأما الكرواتيون والصربيون فلهم لسان واحد، ورطانة مشتركة، على حين أن الأولين يكتبون الحروف اللاتينية، وأما الآخرون فيكتبون اللغة الروسية، وأضف إلى هذا أن السلوفيين والكرواتيين يتبعون الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بينا ترى الصرب ينتسبون على الكنيسة الرومية أو (اليونانية) وفي البوسنة والهرسك نحو نصف مليون من المسلمين، وإذا كان هذا هكذا فلا غرو أن تجد هؤلاء الشعوب على انقسام واختلاف وشحناء، ولا عجب أن يتنبأ السياسيون الكبار بالصعوبة الكبرى التي ستعترض توحيد هذه الأجناس وتليف أمة واحدة منها.
واعلم أن مملكة اليوجوسلاف من ناحية الجمال الطبيعي تعد من أجمل ممالك أوروبا، وأنضرها طبيعة وفتنة، ففي كرواتيا شمالاً ترى نهاية جبل الألب العجيبة وقممها المغطاة بالثلوج، وهذه الجبال ليست متناهية في السمو والاستطالة ولكنها متوسطة الارتفاع، تفرع خلالها الغابات الرائعة، والمراعي الفخمة، وتنسرب فيها الجداول النميرة تحت نور الشمس الوسطى المشرقة الساطعة، ثم من ناحية الجنوب ترى تلك الجبال منحدرة متدانية حتى تصبح سهولاً شاسعة، تتخللها الهاويات السحيقة، والوديان البطحاء العميقة، وقد شبه الشعراء تلك القطعة الجميلة البيضاء من الأرض بقطعة من القمر سقطت على الكوكب الأرضي، حتى لقد سماها بعض الناس أرض العرب.
ولا ترى لهؤلاء القوم أية صناعة هامة، ولا تراهم تعملون أو يشتغلون في أية حرف طيبة، ولا أهمية لتلك البلاد غلا من ناحية أنها الصلة بين الدول، والطريق الساربة إلى بلغراد والقسطنطينية وستكون تلك المملكة الطريق العظيم بين أوروبا الغربية وساحل البوسفور، ومن الآن بدلاً من أن ينفذ قطار إكسبريس الشرق من جنوب ألمانيا فالنمسا فالمجر، سينطلق القطار من نفق سمبلون إلى ميلان فالبندقية، ثم يشق تلك الأرض فيبلغ بلغراد ومنها إلى الأستانة.
والآن لنبحث في منشأ الخلاف الذي وقع فيه اليوجسلاف والشعب الطلياني فنقول أن إيطاليا تطالب بولاية استريا وثغر فيوم وجزء من دلماسيا، على حين تريد اليوجسلاف أن تحتفظ بتلك المواقع والولايات، وهذا الخلاف خطير، والمشكلة صعبة ودقيقة، لأن في(48/43)
الظفر بتلك البلدان الظفر بالإشراف على الإدرياتيك، وأنت ترى إذا ألقيت البصر إلى المصور الجغرافي، أن الأدرياتيك أشبه شيء ببحيرة مستطيلة الشكل تفصل إيطاليا عن البلقان ولا مخرج لها إلى البحر الأبيض المتوسط إلا من مضيق صغير، أي من كعب الحذاء الطلياني، (لأن إيطاليا أشبه بحذاء وذلك المضيق الكعب منه) إلى سواحل ألبانيا، حيث قناة أوترونتو، إذ يبلغ اتساعه نحواً من تسعين كيلومتراً، ومن هذا تدرك أن هذا البحر ليس إلا حوضاً مغلقاً، والاحتفاظ به وملكية السلطان عليه قد يسوق إلى نتائج سياسية خطيرة هي اليوم باعث الخلاف ومشكلة المشاكل.
ثم إذا تدبرنا الموضوع من وجهة أخرى، ألفينا السهول التي تمتد إلى تلك السواحل تقوم سوراً منيعاً يحجز الأرض الواقعة وراءها، ولا يوجد بين المملكتين إلا ممرات ومخارج نادرة قليلة، ثم لا تنس أن فينيسيا أو مدينة البندقية منذ القرون الغابرة كانت مركزاً عظيماً، وكانت في القرون الوسطى أول مدينة في التجارة وأهم ثغر في الغرب بأسره وبحكم الطبيعة استطاعت أن تلقي سلطانها على البلاد المقابلة لها في الشاطئ الآخر ففتحت في القرن العاشر من البلاد دلماسيا واستريا وكرواتيا، واستوطن أهلها بها زمناً طويلاً وبقيت جزءاً من الجمهورية الفنيسية حتى معاهدة كامبيو فورميو عام 1797، ومن هذا ترى أن هذه الأودية البحرية ظلت فينيسية الشكل لاتينية الشخصية وأن الزائر لها لا يشعر بانه قد غادر إيطاليا أو انحدر عنها إلى أرض أجنبية، ففي مدينة بولا وفي فيوم وفي إسبالاتو، لا يزال السائح يشهد آثاراً رومانية تدل على النفوذ الذي كان لإيطاليا في تلك البلاد، ونحن بصرف النظر عن تريستا التي لم يقم حولها شيء من الخلاف، نقول أن جميع موانئ أستريا وكرواتيا ودلماسيا لا تزال مستعمرات إيطالية كبرى وإن كانت آهلة باليوجسلاف، ثم لا تنس كذلك أن اللغة الإيطالية هي لغة الإدرياتيك وهي لها الحق في أن تعم جميع سواحل ذلك البحر، على أن إيطاليا لم تطالب إلا ببعض أقسام من السواحل الشرقية للأدرياتيك وأبقت لليوجوسلاف طائفة من المرافئ الخطيرة الطيبة، وأنت تعلم أن الطليان يقيمون مطالبهم على حجج كثيرة لها علاقة بالنظام الحربي وبواعث الحماية الأهلية، التي أظهرت الحرب الحاضرة خطورتها الكبرى، وهذه الحجج تتلخص في أن السواحل الشرقية معرضة لاستخدام الأعداء لها، وفي هذا البلاء على إيطاليا، ولا يزال موقف إيطاليا حيال(48/44)
الساحل الشرقي موقف إنكلترا حيال أنفرس في بلجيكا، إذ يقول فيه نابليون أن من يقبض على ساحل دلماسيا كالقابض على مسدس مصوب إلى قلب إيطاليا.(48/45)
تحية مصر
لحضرة صاحب العزة العالم النابغة الجليل والكاتب الشاعر النبيل، شاعر العربية والتركية الفارسية، سعادة صاحب التوقيع حفظه الله.
بدرت لمصر بوادر الإقبال ... بشرى فتلك براعة استهلال
نجم هوى عن أفق عرش هلالها ... فغدت نجوم تزدهي بهلال
شفق على راياتها الحمراء أم ... راياتها الشرف الرفيع العالي
وعلى جوانبه دم فمسلم ... عن كل شائبة من الإذلال
لبت على أصواتها ملأ العلا ... تالله هذي آية الإجلال
انظر إلى المتظاهرين وسيلهم ... إن لم تشم عرفات في الترحال
إحرامهم حلل التآخي بينهم ... وذبيحهم شهداء الاستقلال
يتهافتون لكعبة الحق التي ... نكست جبابرة من الأقيال
شعب كأن النيل زحزح سده ... والمشرفون كهيئة الشلال
ماضيهم تحت القيود وحالهم ... حر يراقب خير الاستقبال
ناداهم الدستور في أسراهم ... يا أقدم الأمصار في الأفضال
أنتم أساس النور أول شعلة ... لمعت وراء غياهب الإضلال
أنتم أبو المدنية الفيحاء بل ... أنتم منارة صيتها الجوال
فيكم يشير السلم (أخناتون) من ... منه الغزالة أصبحت تمثالي
فيكم (سزوسريس) الذي ملك الملا ... وحمى الفنون ببذل الأموال
أذكر لقدرتهم بحيرة (مورس) ... وبدائع (اللبرنت) بالإبجال
أو ما سمعت النصح من (أمنمهت) ... حتى تقدر كيف كان جثا لي
ماذا جرى عن كفرن وكيوبس ... لأوابد الهرمين من أهوال
لمَ أحرقوا جدثيهما من غيظهم ... وأسميهما لعنوا مدى الأنسال
وحذار من دنس التفرق بينكم ... فلوحدة الآمال شوق وصالي
حرية الأقوام شمس حياتهم ... بزغت لنشر عظائم الأعمال
منها استنار تمدن العصر الأخ ... ير فقام يبدع معجز الأفعال
هي نعمة قدسية أزلية ... هي منبر يرقى لكل الحال(48/46)
هي سلم لولاه ما كانت ترى ... أمم على أوج الرقي الحالي
هي منبع العمران والعرفان بل ... هي مطلع لسعادة الأجيال
هي آية الأفضال بل هي غاية الإ ... جلال بل هي معقد الآمال
يا مرسل العدل المبين على الثرى ... نفدي جلالك بالنفيسالغالي
لبيك ما تدعو فدينك رحمة ... وهداية للناس بعد ضلال
إن الشبيبة قوة لو أرعدت ... تركت جبال الأرض في زلزال
(نور)(48/47)
البولشفية
عثرنا بهذا الموضوع في إحدى المجلات الفرنسية فرأينا أن تحف به قراء البيان.
قال مسيو تيير وهو من أكبر رجال السياسة في فرسنا في القرن المنصرم (احذروا الدب الروسي) وقد خيل إليه ماذا يكون من أثر شعب من مائة وسبعين مليون نفس، وشعب شاب فتي قدير على أن ينتظم تحت سلطن شديد، وقانون صلب متين، في مستقبل العالم بأسره، وماذا سيحدثه في سير الدنيا ونظامها، وماذا يمكن أن يغير من معالمها، أو ينقص من أطرافها، ولكن قد تغيرت الحال اليوم فلم نعد نرى في الروسيا صورة المحارب الشاب الفتي الطموح إلى الغزو والفتوح، بل لقد نهضت اليوم أمام أعيننا صورة شبح مخيف مارد ملوث الفم بالدماء يخطر في ميدان عظيم من الذبح والسفك، والهدم والتخريب، كلما افترس اشتدت به الشهوة للافتراس، وازداد قرمه لأكل لحوم الناس، وكذلك في القرن العشرين أبى العالم الإنساني المتحضر، وهو الذي كان يطارد الآفات والأوبئة، إلا أن يتبع الروسيا ويمشي في آثارها وراء ذلك الوباء العظيم الذي طاح بالعالم كله، ونعني به. . . البولشفية.
على أن وصفنا هذه الحمى الخبيثة التي ظهرت في الدنيا حديثاً بكلمة (الوباء) لا يعد وصفاً كافياً لتصوير ما كان من هذه النهضة التي حلت جميع الروابط الأهلية، وفصمت عرى الروابط الاجتماعية وأحدثت في الروسيا من الشنائع ما لم يسجل التاريخ قبل اليوم ضريباً له، أو ما يمثاله، ولكنا نريد أن نجمل، وصف أثر التخريب الذي أحدثته البولشفية في روسيا، ولكي يزن القراء ما كان منها، يجمل بنا أن نلقي نظرة على ما كانت عليه الروسيا قبل نشوب الحرب الكبرى.
قبل الثورة
إن إمبراطورية القياصرة التي تبلغ مساحتها خمسة ملايين وأربعمائة وخمسة وثمانين ألف كيلومتر مربع، كانت تملك خير مصادر الثراء من زراعة وصناعة ومناجم، ولئن كانت السكك الحديدية فيها غير كافية، فلقد كانت تملك أهم وسائل الملاحة البحرية في أوروبا كلها وكانت الزراعة - وهي أهم الصناعات الأهلية فيها تخرج نحواً من أربعة وسبعين مليون طن من الحبوب المختلفة، وكانت صناعة السكر في خير حال، وكانت المصانع تبلغ نحواً من 39887 مصنعاً يشتغل فيها من الصناع عدد يربو على مليونين ونصف،(48/48)
وتخرج من الثروة ما يزيد على أربعة مليارات وثمانمائة وأربعة وثمانين مليون روبلة. وكان مقدار ما تخرجه روسيا من الذهب يقدر بثمانية في المائة من مجموع ذهب الدنيا كلها، وجملة القول كان ينتظر الروسيا مستقبل باهر في التجارة والاقتصاد.
بعد البولشفية
فلما نهضت البولشفية، لم يكن منها أن ألقت بها في درك الوحشية الأولى، وهدمت آمالها الجميلة، وحطمت أمانيها الأهلية، بل هدمت كذلك تجارتها التي كانت لها قبل الحرب، وذهبت بزراعتها وصناعتها، وعطلت استخدام أي مصدر من مصادر الثروة فيها، لأن الثائرين البولشفيين لم يعبأو بشيء من ذلك، لأنهم إنما يريدون أن يرجعوا الإنسان إلى بساطته الأولى، ويعتقدون بصلاحية الثورات، ويدينون بفضلها، وحسبهم أن ينشئوا حكومة ثورية على أنقاض حكومة مدنية، حتى يتمكن أحط طبقات الناس في أوروبا وأشدهم تأخراً في بلاد الغرب من الصعود، واعتلاء دست الحكومة، والنهوض في رأسي المدنية وإملاء الشريعة الجديدة للعالم كله، إذ لا ننسى أن خمسة وتسعين في المائة من سكان الروسيا أميون يعيشون في ظلمات الجهل، وهم يركنون إلى روح الجماهير ورأيها ويظنون أن الجماهير معصومة عن الخطأ لا يرد لها رأي ولا تخطيء في شيء، وأن الجماهير هي أعرف الطبقات بمطالب الحياة الصحيحة.
وبفضل سلطان لينين وتأثير تروتسكي لم تلبث الثروة الاقتصادية التي تعتمد على أمام الأفراد، وضمان الحقوق، واحترام العقود، أن اختفت فيه وتلاشت من الروسيا، وقد وحدت حكومة السوفييت الثروة كلها، إذ قسمتها على الطريقة الاشتراكية بين الجميع، من سائر الثروة والإنتاج والاستهلاك من مناجم ومصانع ومصارف مالية وسكك حديدية، ومصادر زراعية، إذ نزعتها من أيدي أصحابها الذين كانوا يملكون جميع وسائل الاستثمار، وكانت النتيجة أن اختفت جميع المواد المقرر عليها الضرائب ولم يكن من هذا إلا أن هدم جميع مصادر الحياة المالية، وتعطل العمل بسببه في كل مكان، واقتصرت أشغال الفلاحة على حاجات الأفراد والقرويين فساقت المجاعات إلى المدائن والمراكز الصناعية.
الاضطرابات المالية
الدليل الأكبر، والبرهان الأول، من الاضطراب الأهلي، والنكبة القومية، ظهرت بالطبع(48/49)
في ميزانية الأمة، وليس شيء يخيف أشد مما تخيف الأرقام، وهي وسائل الإقناع القوي المتين الذي لا يمكن لمحاج أن يماري فيه.
في خلال المدة من أكتوبر سنة 1917 أعني مبدأ تاريخ الثورة البلشفية، على نوفمبر سنة 1918 استولت الحكومة البولشفية على 513 مشروعاً من مشاريع النقل والتجارة ولذلك نقص مقدار الضريبة المقررة على الصناعة والتجارة إلى واحد وتسعين مليوناُ من الروبلات على حين كان في العام الذي سبقه قد بلغ 304 مليوناً، وقد تعطلت الإيرادات العمومية بتة واحدة إذ لم ييق ثمت ما تجمع الضريبة المقررة عليه، وقد قدرت حكومة البولشفيك للمصروفات التي يتوقع صرفها عام 1918 مبلع 46 ملياراً ونصف مليار روبل أعني نحو مائة مليار وخمسة مليارات فرنك ولما لم يجد البولشفيون إيراداً داخلياً ولا إيراداً خارجياً، فكروا في إصدار الأوراق المالية فجعلت تطبع في موسكو وبطرغراد ثم لم تلبث جميع مطابع السوفييت أن راحت تطبع هذه الملايين العديدة من تلكم الأوراق فتصور الإفلاس الذي سيجره إصدار جبال من الأوراق المالية.
الاضطرابات الزراعية
وقد وقفت رحى الأعمال الزراعية، وسكنت نأمتها، وارتفع من جانب المدائن هذا الصوت الضاج الصارح، لا تتركونا نموت من الجوع، إنكم إن لم ترسلوا لنا الطعام والميرة، كنتم تؤيدون النظام الأول الذي قامت الثورة لتهدمه.
ولكن الفلاحين ظلوا صامتين لم يأبهوا بهذه الصرخات، وقنعوا بأن يخرجوا الشعير اللازم لحاجتهم والبرسيم المطلوب لحيوانهم. إذ علموا أنهم إن حفظوا شيئاً توقعاً لمحصول سيء في المستقبل، فقد يستدل عليه الحرس الأحمر فيضربونهم بالرصاص هم وعشائرهم كي يستلبوه منهم استلاباً، ففي بطرغراد مثلاً - وهي تلك المدينة التي كانت قبل الحرب مدينة الثراء والنعمة والخير العميم، وكانت مواد البيع فيها رخيصة بخسة لا إرهاق فيها لم يكن يصل في شهر إبرايل عام 1919 إلا مركبتان أو مركبة واحدة من القمح في كل يوم، إذا لم يقدر للمركبة أو المركبتين أن يهاجمها الحرس الأحمر في الطريق فيستلبوها أو يثب إليها سكان المدن التي على الطريق فيحتكروها لأنفسهم ثم في سيبريا وهي الإقليم الذي كان يمد روسيا كلها بالماشية والأغنام، لم تعد ترسل لا بقرة ولا ثوراً، ولا خنزيراً ولا شاة(48/50)
ولاخروفاً، وجعل القوم يأكلون لحوم الخيول، وبيعت الأربعمائة جرام أو أقل من نصف الكيلو بثلاثين روبلة أعني نحو من 72 فرنكاً، وكان من رابع المستحيلات أن يجد الإنسان بيضة واحدة في الروسيا كلها، وكانت البيضة الواحدة في شهر فبراير الماضي تباع بنحو 150 روبلة أي 360 فرنكاً وكذلك لم تعد فنلندا ترسل ألباناً حتى أن بطرغراد التي كانت تتلقى كل يوم 540 ألف رطل من اللبن لم تعد تتلقى أكثر من 4800 رطل فقط. أما الرز والبن والخضر والأقمشة والأحذية فقد اختفى أثرها من روسيا كلية.
وقد استيأس القوم، وضاق ذرعهم بالعذاب، ولكن عمركم الله ماذا يصنعون، وماذا يحدثون، والسجون مختنقة بالمحبوسين، والذين يضربون بالرصاص في كل يوم خلائق كثيرون، وكل ثورة تقوم اللاحتجاج على هذه الفوضى لا تلبث أن تغرق في لجة عظيمة من الدماء.
تعطل الصناعة
وعسيتم تسألون وما حال الصناع في تلك الأرض وهل هم أسعد حالاً وأخف ويلاً من قرنائهم - وجواب ذلك بالنفي - فليس في روسيا من السعداء إلا اللصوص والهاربون والعاطلون والمشردون والمتبطلون الذين لكي ينعموا بالعيشة الراضية سالكون بأنفسهم في سلك الجيش الأحمر، وبذلك أصبح لهم الحق في كل شيء وأول تلك الحقوق النهب والسلب، وكذلك تعطلت المصانع وهجر الصناع صنائعهم وأقفلت معامل الصناعة أبوابها من غلاء المواد وارتفاع الأجور حتى أن قاطرة السكة الحديد التي كانت تصنع في مصنع بونيلوف وهو أكبر مصنع في الروسيا كانت تباع بنحو سبعين ألف روبلة فأصبحت الآن تكلف خمسة ملايين! وقد كان عدد العمال في ذلك المصنع ي أول يناير عام 1917، 52 ألف صانع فبلغ العدد في أول يناير سنة 1918 نحواً من 4798 ليس أكثر، وعلى ذلك قس جميع المصانع الأخرى وقد احتشد جميع العاطلين فآثروا أن يسلكوا في جند الحرس الأحمر إذ رأوا أن طعامهم في تلك الفرقة ميسور مكفول ووجدوا المرتب طيباً يبلغ في الشهر ثلاثة آلاف روبلة ثم فوق كل هذا الحق في النهب وسلب الطبقات الوسطى وتجريدها من جميع ممتلكاتها بل من أثوابها ورياش منازلها ومغانيها أما الذين لم يظفروا بمكان لهم في الجندية فانكفأوا إلى قراهم ومواطنهم الأولى آملين أن يجدوا ما يسد أرماقهم.
غلاء المعيشة(48/51)
وقد غلت حاج الحياة إلى حد شنيع لم يقع في بلد من بلاد الله إذ بلغ رطل اللحم وكان يباع في الماضي بعشرين إلى ثلاثين كوبيك - بخمسة عشر روبلة أي بنسبة فرنك إلى 35 فرنكاً، وثمن رطل الخبز عشر روبلات، بعد أن كان يباع بعشرة كوبيكات، أي بنسبة مائة ضعف، ولما لم يستطع البولشفيون أن يجدوا دواء لعلاج هذا الويل الوبيل فكروا في تجنيد أهل الطبقات الوسطى وإكراهم على العمل في المنافع العمومية وفي الحقول والمصانع لكي يعينوا الفقراء على الحياة ولكن الفقراء لا يزالون أشقى حظاً من سواهم.
الهول عام
فإذا كان الصناع في شقاء تحت نظام هدم جميع أساس المجتمع، محا جميع أصول العائلة والملكية واحترام الحقوق وحرية العمل فما نصيب البقات الأخرى من الشقاء، ونحن نقول أن كل شخص ليس من عامة الشعب يسام العذاب ألواناً وقد أصبح جمع من الأشرار قلائل في يدهم عسف الشعب والطغيان فيه وتعذيبه وهدم سعادته، وقد اتخذ البولشفيون في الطغيان وسائل كثيرة لم يفكر في مثلها نيرون الطاغية العظيم، فإن الطبقات الوسطى (البورجوا) لا نصيب لها في الحياة إلا التقتيل وسلب أموالها والسجن والذبح لأوهى الأسباب، حتى لا يستطيع رجل منهم في المدائن الكبيرة أن يخرج مساء من داره وقد حوصرت منازلهم، ووقف الموت بأبوابهم، ولا تستطيع أن تحصي عدد السفاكين الذباحين، جنوداً وبحارة أو لصوصاً لابسين لبوسي الجنود والبحارة ومسلحين ببنادق أو المسدسات. ولا يفترون عن القتل في المنازل والسجون والمستشفيات وفي الجيش وفي الريف وفي كل مكان لأسباب أوهى من نسيج العنكبوت. وقد ماتت الحرية الشخصية وجن جنون البولشفية، فبعد أن جعلوا الناس شركاء في الاجتماع أبوا تحت تأثير تلك الجنة المرعبة إلا أن يجعلوا النساء حقاً اشتراكياً مباحاً للجميع. وهذه الجريمة هي كبرى الجرائم التي ارتكبها أهل البولشفية.
ولكي تعلم النزعة البلشفية في الآداب والأخلاق فعليك صحف القوم وأوراقهم ورسالاتهم تر الدليل القاطع فإن الصحيفة التي ينشرها البولشفيون تحت عنوان الفقر كتبت في عددها الصادر في 27 ديسمبر عام 1918 ما يأتي: في مدينة نيفل تقرر تجنيد الطبقات الوسطى (البرجوا) في المدن والقرى، وعلى أهل هذه الطبقة أن يشتغلوا بلا أجر وقد قررت اللجنة(48/52)
المركزية لحكومة السوفييت في موسكو أن تسن في جميع المراكز والأقاليم ضرورة الشغل الجبري على كل رجل من الطبقة الوسطى يتراوح سنه ما بين الثامنة عشر والخمسين.
ثم كتبت صحيفة (لسان حال الفلاحين) في عددها المؤرخ في أول أكتوبر الماضي: لقد جندت حكومة السوفييت في إقليم أوديوف جميع أهل الطبقة الوسطى والقساوسة والطفيليات الأخرى لاستخدامهم في الأشغال العمومية من ترميم المراحيض العمومية والأرصفة وتطهير الترع والجسور.
ولو أردنا أن نحصي أمثال هذه النشرات والأوامر والقرارات لما كان في المكنة إحصاؤها وإنما ننشر هنا كذلك أمراً صادراً من رئيس حكومة السوفييت إلى رجل منهم يدعى جريجوار سافليف هذا نصه: (قد أذنا بموجب هذا إلى الزميل سافليف أن يأخذ من إقليم بريانسك ستين امرأة وعذراء من الطبقة الوسطى ويضعهن في الثكنة لخدمة الجند).
وقد قررت اللجنة التنفيذية أن تخرج أهال (البورجوا) من مساكنهم وتسكن الشعب والفقراء فيها وتخص صاحب الدار بركن من المنزل وتأذن لأفراد من الشعب بالتنعم بسكنى طباق المنزل كلها، وقد نشرت صحيفة (بولشفية في 21 سبتمبر عام 1918 قرار حكومة السوفييت في ذلك فقالت: لأجل ملافاة أزمة المساكن قد قرر مجلس سوفييت مدينة موسكو أن تفحص جميع المنازل، وتسكن الطبقة الوسطى في بيوت العمال والصناع وتسكن العمال في قصور البورجوا الشاهقة.
أنهار من الدماء
وحدث عن المذابح البولشفية ولا حرج فإن أقل كلمة طائشة أو أقل تهمة واهية كافية لأن تجر إلى السجن أو الإعدام بالرصاص وليست التهم فقط هي الكفيلة بتلقتيل بل حسب الإنسان أن يكون قاطناً في قرية من القرى فيغير عليها الحرس الأحمر فينشب القتال بين هؤلاء والطبقة الوسطىـ، فيقبض عليك لبلا ذنب ولا جريرة، فترمى بالرصاص مع المقتولين، والفلاحون الذين يرفضون أن يقدموا غلاتهم لا نصيب لهم إلا القتل رمياً بالرصاص ومجلس السوفييت تبررد المذابح بدعوى أنها تريد وضع يدها على القمح والغلات وتنتزعها من أيدي الذين يخزنونها أو يستأثرون بها، والحق الأول في روسيا اليوم هو أن لا حق لإنسان في أن يأكل إذا لم يكن بلشفياً. وهب البولشفيين يستأثرون بكل(48/53)
شيء من ميرة وكساء فلا يصيب الإنسان إلا قدر طبقته من المجتمع الروسي وهناك أربع طبقات: طبقة الحرس الأحمر والعمال. وهؤلاء لهم الحق في رطل من الخبز كل يوم وخمس سمكات، ثم طبقة المستخدمين الأصاغر والخدم وهم يستحقون ربع رطل من الخبز وخمس سمكات في اليوم وطبقة الموظفين السابقين والقدماء وهؤلاء يصرف لهم ثُمن رطل من الخبز وثلاث سمكات وأخيراً طبقة البورجوا والمفكرين وأصحاب المواهب العقلية وهؤلاء لا حق لهم في شيء مطلقاً ولا سبيل لهم إلى الحصول على ما يقتاتون به إلا بشق النفس وبالثمن الباهظ الذي يرهق أشد الإرهاق ولا يتيسر إلا للأغنياء المكثرين من الثراء وأما الخبز فلا يعثرون عليه ولا يقدم إليهم إلا فيما ندر.
هذه هي الحالة التي ظلت عامين في روسيا وهي باقية. وكادت ترسل عدواها الشنيعة فتعم العالم بأسره. . وقانا الله شرها.(48/54)
الإسبراتيواليزم
أو مناجاة الأرواح
(2)
تاريخها في الغرب
ومن بين الذين اشتهروا في هذا العلم خلاف هوم - الذي قضى نحبه عام 1886 وكان له شأن عظيم في نمائه وتقدمه نذكر القس ستانتون موسي في بلاد الطليان فإن تاريخ حياته أكثر إدهاشاً وتحييراً للعقول من حياة هوم هذا، وقد كان مولد هذا الرجل عام 1839 وكان أبوه ناظر مدرسة نحو وآجرومية في لينكولنشير فنشأ على ما نشأ عليه أبوه، وكان له في جامعة أكسفورد شأن يذكر.
ثم دخل الكنيسة فصار قسيساً في غربي إنجلترا وقد أصابته علة في حنجرته فاضطر إلى ترك أعمال القسيس، واشتغل مؤدباً خصوصياً لابن الطبيب ستانهوب سيبر من أشهر أطباء ذلك العهد ففي عام 1872 قرأ كتاباً ظهر في أمريكا عن الإسبراتيواليزم فتأثر فيه تأثراً شديداً حتى أنه جلس إلى وساطات متعددة ومن بينها هوم الذي سبق ذكره وشاهد تجاريب عديدة. ومن هنا بدأت موهبته في هذا العلم تظهر، وأصبح كذلك وسيطاً للأرواح وكانت له اليد الطولى بعد ذلك في تأسيس الجمعية البريطانية الأهلية لعلماء الإسبراتيواليزم. ثم كان عضواً هاماً في جمعية الأبحاث النفسانية حتى استقال منها عام 1886 لأنه لم يرض عن تلك الحيطات التي جعلت الجمعية تتخذها والاضطهادات التي كانت تظهر حيال كثيرين من الوسائط ثم أصبح منذ ذلك العهد رئيس الجمعية الإسبراتيولية في لندن إلى عهد وفاته سنة 1892، وكان عدة سنوات محرراً لمجلة (الضياء النفسانية).
وأعجب ما كان من خلق هذا الرجل أنه كان على مثال هوم لا يتخذ هذا العلم حرفة يكتسب منها بل كان أرقى نفساً من هوم لأنه لم يكن يتقبل عطاء أو أجراً على ما يفعل أو تحفة أو هدية كهوم على عمله، ولم يكن يطلب الشهرة والإعلان عن نفسه وحشد الناس حوله، بل كان يأوي إلى كهف صديقه الدكتور سبير وزوجته وعاش عيشة ساكنة شريفة، محترماً من جميع الذين عرفوه، ولم تدرك عليه ريبة، أو يلحظ القوم عليه ميناً أو خداعاً،(48/55)
بل لم يتهم بأقل تهمة من هذا القبيل أو يقرف بأية ظنة أو شك في سيرته وعمله.
وبعد وفاة هذا الرجلن راس تحرير مجلة الضياء داوسون روجرس، الذي قضى عام 1910 ويقوم الآن على رئاسة تحريرها مستر والس وإليه يعود فضل احتفاظ تلك المجلة بمبدئها الأول، ورقيها وانتعاشها الحاضر، ويعذر علينا أن نحصي عدد العلماء والكتاب الذين يحفلون بالأبحاث الإسبرايتيوالية، ولكنا نقول أنهم لم يؤلفوا بعد جمهوراً عظيماً، على أنه لا تزال هناك جمعيات منتشرة في بلاد كثيرة تقيم يوم الأحد قداساً لها وتنتدي في ذلك اليوم الديني المسيحي فتلقي الأناشيد والخطب، وجلسات عدة لمناجاة الأرواح، حيث يصف الوسيط أرواح الموتى وأشكالهم لأقاربهم أو أصدقائهم الحاضرين في المجلس، وقد يبلغ الوصف في بعض احيان إلى حد الحقيقة والبينة والإثبات المقنع ولا سيما إذا ذكر الوسيط اسم الميت لذوي قرباه. على أننا نقول مع ذلك أن الاجتماعات التي تقيمها تلك الجمعيات لا تجذب فريقاً من الراقين المهذبين حتى لا تجد الجلسات الإسبرايتولية في الأقاليم لا يحضرها إلا الغوغاء والعامة ولكنها ولا ريب توافق حاجات طائفة من الناس، لا تقل مستوى عقولها عن الطبقات التي تدخل الكنائس ودور الصلوات.
على أن هذه الحركة الإسبرايتوالية لا تزال قوية في فرنسا ولكنها تختلف عن الحركة في إنجلترا بميزة وحيدة وهي أن الإسبرايتواليزم في فرنسا ينزع إلى مبدأ تقمص الأرواح، وهذا يرجع إلى كتابة كاتب قديم يدعى آلان كورديك كان يؤمن بصحة تقمص الأرواح، ويلوح لنا أنه حاول إقناع الأرواح بالاعتراف بذلك، ومن ذلك ترى الوسطاء في فرنسا يعلمون الناس وينشرون مبدأ تقمص الأرواح على حين لا يفعل ذلك علماء الإنكليز بل ينكرون هذه الفكرة بتاتاً. وهذا اختلاف يكاد يكون مضحكاً لأنه ضد الفكرتين.
أما في ألمانيا فلم تنتشر الإسبراتيواليزم انتشارها في إنكلترا وفرنسا، وإن كان العالم زولتر والعالم ويبر قد أثرا أثراً شديداً في أذهان الجماهير في زمنهما. ولكن يلوح لنا أن التصوف في ألمانيا قد بز الإسبراتيواليزم واستبقه وعلا عليه وقد أصبح الدكتور رودلف استرنر الخطيب الأكبر والقسيس الأعظم لهذه الطريقة الصوفية في برلين.
وقد كان في إيطاليا أبحاث كثيرة في هذا الشأن ولا سيما إذا نبغت تلك المرأة العجيبة التي اشتهرت بأنها من أكبر الوسائط الروحية، وهي من أهل نابولي وتدعى يوزابيا بلادينو،(48/56)
وقد استطاعت أن تقنع عدة أبطال من علماء هذا المبدأ والعلماء الآخرين، أمثال العالم الطلياني لومبروزو وثقم مروسيلي وريشت، وكذلك السير أوليفر لودج بصحة جلساتها، ومخاطبتها الأرواح، ويوجد في ميلان اليوم مجلة شهرية للإسبراتيواليزم تسمى (ليس أومبر).
أما عن البلدان الأخرى، فنقول أنه توجد جمعية للإسبراتيوليزم في بلاد الأرجنتين في أمريكا الجنوبية، وأخرى في إسبانيا ومركزها لشبونة ثم لا تزال هناك جمعيات منتشرة في هولاندة، والدانمارك وروسيا ولكن هذه الحركة لم تذع ولم تشتهر إلا في البلاد الإنكليزية وفي أرض فرنسا ولا سيما المستعمرات البريطانية وبالأخص في مدينة ملبورن في أوستراليا إذ تصدر هناك مسز أني برايت المجلة المسماة (رسول النور).
وخلاصة هذه الحركة أن الإسبراتيواليزم في شكله الحاضر يعلم الناس أولاً أن المخلوقات الإنسانية تعيش بعد الموت وأن الحياة التي بعد العاجلة تشبه هذه في المشاغل والمصالح، وأن مآلنا تلك يتوقف على عملنا في هذه، وهذا رأي من الوجهة الفلسفية راجح، ومن الوجهة الأخلاقية باعث على الأمل والرجاء والعزاء فإننا إذا كنا لنا أن نفكر أو نتخيل الحياة الأخرى فلا بد من أن نتخيلها على شكل الحياة الوحيدة التي عشناها أي الحياة العاجلة.
وقد يكون ذلك خطأ وخيالاً فاسداً ولكن ذلكم كل ما في مكنتنا، ولا يسعنا أكثر من ذلك، وأما من الناحية الأدبية، فليس أصلح للنفوس وأبعث للآمال، وادعى للعزاء من الاعتقاد بأننا على قد رما نزرع نحصد، ونفعل نجزى، والإسبراتيواليزم كذلك يراد منه كما يراد من اليتوبيا الاعتقاد بأن الموتى مرفرفون حولنا، حافون بنا، وإن كانت عيوننا الحسيرة الآدمية لا تستطيع أن تشق الحجب فترآها عياناً، لأنه (كما يقول كتاب النزعة الإسبراتيولية) يعد من القسوة ولا ريب، لو أنهم طرحوا جانباً الرغبة في زيارة أصدقائهم ورؤية أصحابهم وشهود ذوي قرابتهم، الذين كان يربطهم بهم في هذه الحياة الحب المتبادل، والصداقة المشتركة، والألفة العظيمة، بل كان خليقاً بهذه الصداقة وتلك اللفة أن تزداد في الأخيار وتشتد، لا أن تضعف وتهن، ومن هنا تدرك أن علماء الإسبراتيوالزم يعتقدون أن الموتى حاضرون حياتنا كشهود ومتفرجين لأعمالنا وفعالنا.(48/57)
هذا وسننشر أبحاثاً أخرى عن تاريخ جمعية الأبحاث النفسانية وما يتعلق بالإسبراتيواليزم من جميع الوجوه في الأعداد القادمة.(48/58)
باب تدبير المنزل
تربية الطفل
(2) الغرض من التربية
يجب على الآباء أن يضعوا نصب أعينهم الغرض الذي يريدون أن يحققوه من تربية أبنائهم وأن يبدأوا أمر تلك التربية منذ ساعة الميلاد، على أننا نجد الآباء في كثير من الأحيان لا يعملون لغاية معينة، ولا يربون الطفل لمقصد وضعوه مبدأ لهم، ولهذا يخرج الطفل إلى نور الدنيا فلا يكون ثمت مبدأ من مبادئ التربية يرفرف فوق مهاده، وترى الآباء ينظرون إلى القادم الجديد عجباً وحيرة، ولا يعتمدون في تربيته إلا على ما يلهمون به إلهاماً من الظروف والزمن والعادات، ويجعلون كل أولئك المرشد الأول في تربية هذا الفرد الطارئ على المجتمع.
ولهذا العجب الذي يأخذ الأب والأم إذ يخرج لهم طفل ثلاث ظواهر وحالات.
فأولاً: ترى الأب والأم ينظران إلى الطفل كأنه لعبة تبعث اللهو وطرفة تمدهما بالمرح والابتهاج، وكما أننا نرمي قطعة السكر إلى الدب كي نبتهج برؤيته وهو يلهو بها ويظهر عجائب خلقه، لا نفتأ نفسد الطفل حتى يظهر غرائب طبائعه، على أنه لا خير ثمت ولا أذى من العبث بالطفل في غير فحش أو بذاء، أو مفسدة، إذا نحن لم نكن بالطفل مستخفين، أو كنا عمي البصائر عن أثر هذا العبث بالوليد، ولكن ليس من اللهو ولا من الأدب ولا من الطهر والواجب في شيء إذا جعلنا الطفل فريسة لهذا الضرب من اللهو، ورضينا له العذاب والآلام في سبيل فرحنا وضحكاتنا.
وثانياً: ترى الأبوين ينظران إلى الطفل وكأنه موضوع الرحمة، وشيء خليق بالرثاء، ومخلوق يستحق الشفقة، لأن عجزه عن الحركة، وافتقاره إلى الحول والقوى، يثيران في قلوبنا الرحمة، وكثيراً ما تؤدي هذه العاطفة إلى ترك الطفل يفعل ما يشاء والسعي في التجاوز على كل ما يسيئه وإن كان فيه النفع له، ومهما كان للشفقة من الخير إذا قامت على أساس متين، وكان لها باعث راجح سديد، ومهما كنا نحترم هذه العاطفة والذي بعث عليها، فلا ريب في أن الطفل سيتألم، إذا لم يجد رقيباً عتيداً يرده، أو سلطاناًُ من ابويه ينهره، أو ضابطاً ينظم حركاته وسكناته، أما النتائج التي تنجم عن هذا التساهل والإشفاق(48/59)
العقيم للأخلاق، فحدث عن خطورتها ولا حرج.
وأخيراً: ينبغي للآباء أن يحذروا منم عادة نهر الأطفال ومعاقبتهم وزجرهم وتأديبهم، كلما صرخوا، أو كانوا في قلق واضطراب، بل عليهم أن يبحثوا عن السبب ويتقصوا الباعث.
ولهذا يجب أن يكون غرض الآباء في التربية وخطتهم في التأديب هي:
(أ) أن تكون شفقتهم سديدة راجحة غير حمقاء ولا طائشة.
(ب) أن لا ينظروا يوماً على أطفالهم بشدة أو غلظة وأن لا يخرجوا عن طورهم أمامهم، وهدوءهم ووداعة أخلاقهم.
(ج) أن يسترشدوا في التربية بمبدأ عال اجتماعي مدني.
(د) أن يسعوا إلى تحقيق هذا المبدأ بالثبات والعاطفة الكريمة والوداعة والتهلل والفرح والتهذيب والذكاء ونفاذ البصيرة.
(3) واجبات الآباء والمراضع والمربيات
منذ عدة قرون كانت العادة في بلاد الغرب أن يستخدم الصناع اليدويون في المدارس كمعلمين ومؤدبين، ولكن اليوم وقد تقدمت الحضارة، نرى الجامعات في مدينة بال تصر على أن لا يتعاطى حرفة التدريس إلا كل رجل أمضى إجازته الجامعية مدة معينة، أما من وجهة التربية المنزلية فلا زلنا في شيء كثير منها حيث تركتنا القرون الوسطى، فإن أية فتاة تقبل الآن وتكفي لرعاية أطفالك، ولا بأس عليك من قبول أية امرأة للاهتمام بشؤون أصبيتك، ثم نحن لا نزال نجد السواد الأعظم من الأمهات جاهلات لم يؤتين نصيباً من التعليم الثانوي، ولم يصبن قسطاً من علم التربية بل ما فتئنا نسمع اليوم القوم يقولون أن التعليم العالي للنساء يجعلهن غير صالحات للقيام بوظائف الأمومة، وأن واجب المرأة أن لا تسهم في شؤون السياسة وأن لا تكسب رزقها بنفسها، بل فريضتها أن تجمل المنزل، وتترك من حسنها في المنزل حسناً وتخلع من جمالها على دارها، وترعى لأطفالها، وتقوم على تربية أبنائها، ولكن يجب أن لا ننسى أننا نريد من الأم أن تربي أولئك الأطفال الذين سيقفون يوماً ممثلين على مسرح العالم وأن نظرية الغريزة وترك الأم في عملها تسير على وحي الطبيعة، لا يراد منها إلا أن يجر الطفل في الحياة جراً، لا أن يربى ويهدى إلى الرشد، ونحن لا ننكر أن المعوان الأكبر للأم في التربية هو حبها الغريزي لطفلها، ولكن(48/60)
هذا الحب ولا ريب يروح أقوى وأشد سلطاناً، وأفعل أثراًَ إذا اجتمع معه التهذيب ونور العلم والتجربة.
ولهذا ينبغي أربعة أمور:
(أ) أن يكون الأبوان على علم وتربية كافيين.
(ب) أن يعملا على أخذ نصيب من علم التربية المنزلية.
(ج) أن يكون الأبوان (الأم والأب معاً) على شيء من التجربة العملية.
(د) أن تربى المراضع والمربيات التربية الواجبة.
(4) اتفاق الآباء على نوع واحد من التربية
لو كان معلمو المدارس متعلمين أكمل تعليم فلا خطر إذا خرج من المدرسة مدرس وحل محله معلم آخر، على أننا إذا زرنا فرقاً متعددة من مدرسة يعلم فيها معلمون أكفاء، فإن أي فارق نراه في الأطفال لا يكون باعثه إلا المدرسون أنفسهم، وكذلك لو كان الأبوان والمراضع والمربيات جميعاً على مقدار متساو من علم التربية المنزلية، ولكن للأسف ليس الحال كما نريد، فإنك ترى للأم والأب والمرضع آراء مخالفة جد المخالفة عن صاحبه في المثل الذي يضعه، والقدوة التي ينشأها لطفله، وليس الطفل المسكين إلا أن يذعن لقوانين ثلاثة من الخلق، ويتقبل ثلاثة مبادئ في التربية، ولهذا ينبغي للأبوين أن يكونا على علم تام بالخطر الذي ينجم عن هذا الاختلاف وأن يعملا على استخدام مبادئ واحدة وأن يطلبا إلى المرضع - إذا كانا قد استخدما للطفل مرضعاً - أن تنفذ تلك المبادئ وأن لا تحيد عنها إلى مبادئ لها خاصة وأرى أن يحسن بالأبوين أن يضعا معاً طريقة معينة في التربية أو أن يستعينا بمشد عام فيها، ولو اتبعت هذه النصيحة لتحسنت روابط الزواج بين الزوجين.
(5) أثر الأطفال الكبار في الصغار
قد يحتمل أن يكون لك ابن أو طفل واحد، فإذا كان ذلك فقد نجوت على الأقل من خطر واحد شديد، وإن كان الطفل ولا ريب سيخسر كثيراً، من جراء افتقاره إلى رفاق معه وأخوان. ولكن قد يحتمل كذلك أن يكون لديك أطفال كثر فإذا كان الأمر كذلك، فإنك ولا ريب ستعاني أمراًَ لا مرد عنه وهو أن كل طفل سيقلد أخاه، وهذا التقليد يبين في أول(48/61)
عهود الطفل الأصغر، إذ تراه صارفاً كل وقته إذا كان له أخ أكبر منه بعام أو أكثر من محاولة تقليد كل عمل يعمله وفي الإعجاب بكل ما يفعله أخوه الأكبر واحتذاء حذوه في جميع حركاته وسكناته وكذلك تجد الطفل الأصغر لا ينبعث إلى عمل إلا على هدي أخيه ولا يخف إلى فعل إلا مقلداً شقيقه الأكبر، وكذلك يبقى حتى الربيع الخامس من العمر، إذ تتسع ملكته فتقل رغبة التقليد لديه، ويفكر بعض التفكير في العمل على هواه وسنته.
وأنت تعلم أن القدوة والمثل والأسوة معدية بين الأطفال فإذا أنت أحسنت تأديب أطفالك الكبار خف عنك بعض أعباء تربيتك الصغار إذ تجعل الكبار هم الذين يربون في الحقيقة أخوتهم الصغار ويكونون لهم قدوة تحتذى ومثالاً يترسم ولهذا ينبغي عليك أن تضاعف مجهودك ودأبك في العناية بتأديب صغارك لأن سلوكهم سيحدث تأثيراً بينا في أولادك الذين سيخرجون للحياة بعدهم، وذريتك المستقبلين، وعليك أن تربي أطفالك الكبار ليكونوا قادة للصغار وهداة، وليشعروهم بالمسؤولية اللزام عليهم وبقوتهم على الخير والإحسان فلو نجحت في ذلك استفدت أنت وأطفالك الصغار وأمددت الكبار بباعث يحثهم على النماء الخلقي والذهني، فلا تنس مطلقاً هذا المبدأ وهو أ، يكون بنوك الكبار معلمين ومرشدين وهداة للصغار.
فإذا خابت مساعيك في هذه، فإنك حاصد من خيبتك أذى وضراً إذ لا تلبث أن تجد بنيك الكبار معلمين وهداة وقادة للشر والنقيصة والإثم ولهذا كان خليقاً بك أن تمسك بالزمة من ذوائب شعره ولا تضيع وقتاً في الدأت على تربية طفلك البكر الأول.
وما أعجب ما تؤدي إليه عاطفة التقليد، فإذا وضعت الطفلة إصبعها في فمها أو هزت كتفها وقطعت شعرها بأناملها وأصرت على أن يكون ما تريد، وأن تفعل ما تحب وأن لا تعبأ بما يقال لها، وكانت هي أكبر أخوتها وأخواتها، فلا تلبث أن تجد هؤلاء يفعلون جميع ما فعلت ويقطعون شعرهم بأناملهم، ويبكون مثلها ويصرخون ولا يكون من ذلك إلا أن يصبح المنزل حديقة من حدائق القردة أو الدببة وبدلاً من أن تصلح خلق طفل واحد من أطفالك، ترى أنه ينبغي عليك أن تعالج سلسلة متماثلة من النقائض في جميع أطفالك.
ولهذا عليك أن تكون أبداًُ على مرصد مفتح العين مرتقباً، تعالج كل نقيصة بمجرد ظهورها، وتمنع سريان نقيصة من طفل إلى جميع بنيك.(48/62)
إرشادات طبية
لحضرة النطاسي المفضال الدكتور محمد عبد الحي
الشيب
ليس في الدنيا من لا يكره الشيب، وعبثاً يحاول المرء تسلية نفسه بأساليب الاحتيالعلى عواطفه، وليس بدعاً أن يكون ذلك أمر الناس والشاعر يقول:
والشيب إحدى الموتتين تقدمت ... إحداهما وتأخرت الأخرى
وكأن من حلت به صغراهما ... يوماً فقد حلت به كبراهما
وقوله:
عريت من الشباب وكنت غضا ... كما يعرى من الورق القضيب
ونحت على الشباب بدمع عيني ... فما نفع البكاء ولا النحيب
فياليت الشباب يعود يوماً ... فأخبره بما فعل المشيب
فالشيب مثار أفكار الناس ولا سيما الذين درجوا منهم على الدلال والترف وغشيان مناعم النفس من طرب يلذ، وأي حسرة للشيب أن تتحطم كؤوس الهناء حينما يمنعه عنها الحياء والحرير آجره الله يقول:
نهاني الشيب عما فيه أفراحي ... فكيف أجمع بين الراح والراح
وهل يجوز اصطباحي من معتقة ... وقد أنار مشيب الرأس إصباحي
محا الشيب مراحي حين خط على ... رأسي فأبغض به من كاتب ماحي
ولو لهوت وفودي شائب لخبا ... من المصابيح من غسان مصباحي
قوم سجاياهم توقير ضيفهم ... والشيب ضيف له التوقير ياصاح
هذا هو الصنف الوقور الذي الناس منه ويجهرون ببغضه لا لشيء إلا لأنه نذير الكبر مؤدب النفس غير أن الناس والشعراء شديدو التشاؤم إذ ليس الشيب في العادة دليل التقدم في السن وبالتالي ليس نذير الموت ولإيضاح ذلك أتقدم شارحاً هذا الموضوع وعلاجه الممكن تطميناً لخواطر الشيب وتهدئة لثائرة نفوسهم وتبشيراً لهم بطول العمر.
الشيب أو بياض الشعر ينشأ إما عن فقدان اللون أو امتلاء قصبة الشعرة بالهواء وفي الحالة الأولى يكون لون الشعرة مائلاً إلى الصفرة وفي الثانية يكون ضارباً على بياض(48/64)
كالبرد.
وينقسم الشيب إلى قسمين الخلقي والمكتسب فما نشاهد في الأجهر (عدو الشمس) وعند هذا تكون المادة الملونة معدومة من الجلد أيضاً بل ومن القزحية والشبكة (في العين) والأرنب الأجهر يكون شعره أبيض وعيناه قرنفليتين ويكون في العادة أم ولكن الشائع من النوع الخلقي هو ضغك (حزمة) من العشر الأبيض يظهر في الرأس ويشاهد في الجد والابن أو ابن الابن وقد يخطئ الابن إلى ابن الإبن.
أما المكتسب فيشاهد منه الكثير كل يوم وليس بخاف على نفر من الناس لأأن الشيب قد يكون من فزع أو خوف أو هم مستطير وذلك طبعاً معروف طبياً ومعترف به وهو نتيجة تأثير عصبي خاص على الشعر ومن ذلك الشيب قبل الأوان ويشاهد في عائلات خاصة دون الأخرى.
أما الشيب في الأوان فهو وحده الطبيعي وينجم عن اختفاء اللون الملون وامتلاء الشعرة بالهواء.
أما الشيب الخلقي والشيبب في الأوان فلا سبيل إليهما إلا بالخضاب.
فلو دام لي هذا الخضاب حمدته ... وكان بديلاً من خليل قد انصرم
غير أن الخضاب يجب أن ينتقى حتى لا يجهز على البقية الباقية من سواد العشر وعلى كثير مما بقي من الصحة والعافية ويحسن أن يؤخذ رأي الطبيب في هذا من وقت لآخر.
أما الشيب قبل الأوان فله علاج يفلح في أكثر الأحايين وينحصر ذلك في تمرير الكهرباء عد أسابيع مع بعض تعليمات طبية يراها الطبيب نافعة.
الصوم
نعاجل نحن معشر الأطباء الآن البول السكري بالصوم ونعالج ارتفاع الضغط الدموي بالصوم ونعالج الأملاح بالصوم وكثير من أمراض المعدة فهل في ذلك شيء من العظمة لمن لا يصومون؟.(48/65)
جمعية المواساة الإسلامية بالسويس
أهدى إلينا حضرة الأديب الفاضل علي أفندي عبد السلام سكرتير نادي الآداب بالسويس وجمعية المواساة الإسلامية بها تقرير أعمال هذه الجمعية في العام الماضي فتصفحناه وأثلج صدورنا ما علمناه من أن الجمعية تسير بخطى واسعة في سبيل النجاح والتقدم وأنها موضوع عناية أهل السويس الكرماء الأماجد الذين لا يألون جهداً في الرضوخ لها بأموالهم وصدقاتهم للفقراء وأهل الحاجة. وقد بلغت مصروفاتها في العام الماضي نحواً من ثلاثمائة وخمسين جنيهاً وإيراداته نيفاً خمسمائة وسبعين ولا يزال الأمل كبيراً في نجاحها بفضل إقبال أهل ذلك الثغر الكريم على التبرع والاكتتاب ونحن يجمل بنا أن نشكر لمحافظ السويس حضرة العزة خليل بك رياض الرئيس الفخري للجمعية، وصاحب العزة وكيله الشهم محمد بك غالب كفافي والسراة والأغنياء والتجار الذين خفوا إلى تعضيد تلك الجمعية، هذه المهمة النبيلة وفق الله تلك الجمعية في عملها المشكور.(48/66)
العدد 49 - بتاريخ: 1 - 6 - 1919(/)
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الأولى
من الإسكندرية إلى المرية
وهنا كأن الأمير أراد أن يطوي بساط هذا الموضوع فانتقل فجأة إلى معنى آخر فقال: هل يحفظ أخونا المصري شيئاً مما مدح به المتنبي الشاعر كافوراً، وهل لا يزال هذا الشاعر مقيماً في مصر؟ فقلت: نعم يا مولاي الأمير، لقد فارقت مصر ولما يزل المتنبي في خدمة مولانا أبي المسك كافور ولقد امتدحه بأحسن المدح، وحق له أن يمتدحه، إذ اللُّها يا مولاي تفتح اللَّها كما يقولون، فما يعلق بالذاكرة مما أنشدنيه قوله فيه، بعد أن وصف الحيل التي سرت به إليه:
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحراستقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا
وقوله في قصيدة:
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملى عليَّ فأكتب
إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه ... ويمم كافوراً فما يتغرب
ومن جملة هذه القصيدة:
يضاحك في ذا العيد كل حبيبه ... حذائي وأبكى من أحب وأندب
أحن إلى أهلى وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب
فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هم ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذب
وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب
فقال الأمير: بيد أن لهذا الشاعر في سيف الدولة بن حمدان ما هو أبرع مما مدح به كافوراً، ويعجبني من قصيدة له في هذه الأبيات الحكيمة:
إنما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرة واغتيالا
من أطاق التماس شيء غلاباً ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا
كل غادٍ لحاجةٍ يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا
وهذه الأبيات(49/1)
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء أن العجز عقل ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
ثم قال الأمير: وهل لا يرى أخونا المصري لأبي القاسم ابن هانئ الأندلسي شاعر أمير المؤمنين المعز لدين الله ما يستأهل به أن يلز مع المتنبي في فرن؟ فقلت: إني أخشى يا مولاي أن أصرح برأيي فقال: قل وأنت آمن. فقالت: إني لا أشبهه يا مولاي إلا برحى تطحن قرونا. وني كلما أنشدت شعره فكأني أسمع جعجعة ولا أرى طحناً، فأربد وجه الأمير غضباً ثم تحالم وقال: وهل يقال مثل هذا فيمن يقول:
يا بنت ذي السيف الطويل نجاد ... أكذا يجور الحكم في ناديك
عيناك أم مغناك موعدنا وفي ... وادي الكرى ألقاك أم واديك
منعوك من سنة الكرى وسروا فلو ... عثروا بطيف طارق ظنوك
حسبوا التكحل في جفونك حلية ... تالله ما بأكفهم كحلوك
وجلوك لي إذ نحن غصنا بانة ... حتى إذا احتفل الهوى حجبوك
ويقول في أبيات في وصف الخيل:
تكاد تحس اختلاج الظنو ... ن بين الضلوع وبين الحشى
ومن رفقها أنها لا تحس ... ومن عدوها أنها لا ترى
وتحسب أطراف آذانها ... يراعاً بريد لها بالمدى
جرين إلى السبق في حلبة ... إذا ما جرى البرق فيها كبا
ديار الأعزة لكنها ... مكرمة عن مشيد البنا
وهل لمولانا المعز الذي يقول مثل هذا الشعر
أطلع الحسن من جبينك شمساً ... فوق ورد في وجنتيك أطلا
وكأن الجمال خاف على الور ... د جفافاً فمدّ بالشَعر ظلا
أن يقرب ابن هانئ إليه ويؤثره على غيره ويعتز به ويفاخر لولا أن رآه من الشعر بحيث لا يكاد يتخلف عن المتنبي؟ بلى وإذا كان في المشرق المتنبي ففي المغرب ابن هانئ. وإذا كان فيه عبد الله بن المعتز فعندنا ابن مولانا المعز - الأمير أبو علي تميم الذي يقول:(49/2)
وكما يمل الدهر من إعطائه ... فكذا ملالته من الحرمان
ويقول:
وما أم خشف ظل يوماً وليلة ... ببلقعة بيضائ ظمآن صاديا
تهيم فلا تدري إلى أين تنتهي ... مولهة حيرى تجوب الفيافيا
أضر بها حر الهجير فلم تجد ... لغلتها من بارد الماء شافيا
فلما دنت من خشفها انعطفت له ... فألفته ملهوف الحوائج طاويا
بأوجع مني يوم شدت حمولهم ... ونادى منادي الحي أن لا تلاقيا
ويقول:
أما والذي لا يملك الأمر غيره ... ومن هو بالسر المكتم أعلم ... لأعلانها عندي أشد وآلم
وبي كل ما يبكي العيون أقله ... وإن كنت منه دائماً أبتسم
وبعد ذلك رأيت من الحزامة أن لا أطيل سبب المحاجة، فخرجت بالصمت عن لا ونهم، ثم أمر لي الأمير بعطاء سني، ثم أذن لي في الانصراف من حضرته.
جزائر ميورقة ومنوورقة ويابسة
وقبل أن أختتم هذه الرسالة آتي لك على شيء مما اعترضنا في طريقنا بعد أن انفصلنا من بلرم قاصدين المرية، فمن ذلك أنا ونحن إزاء جزيرة كبيرة تسمى سردانية أبصرنا أسطولاً كبيراً قادماً من ناحيتها، وقد علمنا أن هذا الأسطول هو أسطول المعز لدين الله، غزا هذه الجزيرة، وبلاد جنوة من بر الأرض الكبيرة، وغنم وسبى شيئاً كثيراً يخطئه العد والإحصاء وما خام في سائر غزواته عن اللقاء، على ما في ذلك من الغرر، إذ أن وراء هذه البلاد من أمم إفرنجة عديد الذر، غير أن المعز يفعل ذلك الفينة بعد الفينة، لأنه يعلم أن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبه عنه ألبسه الله الذل وسيما الخسف وديت بالصغار، وأن أمة من الأمم تريد أن تكون عزيزة مهيبة لا بد أن تغزو غيرها قبل أن يغزوها الأغيار، ورضي الله عن علي بن أبي طالب إذ يقول في إحدى خطبه: ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.
وهذه سردانية جزيرة كبيرة في غرب هذا البحر الرومي غزاها المسلمون حوال 92(49/3)
هجرية الموافقة سنة 710 ميلادية في عسكر موسى ابن نصير وملكوها حيناً من الدهر ثم تركوا حبلها على غاربها ثم هم الآن يغزونها من وقت لآخر ويغنمون ويسبون لما علمت.
وقد مررنا فيما مررنا به من جزر هذا البحر بجزائر ثلاث متجاورات تسمى ميورقة ومنورقة ويابسة، وهي جزائر عامرة مأهولة بالمسلمين يرجع أمرها إلى صاحب الأندلس. وعليها وال من قبله. ومن هنا تعلم أن المسلمين قد ملكوا ناصية هذا البحر الرومي بما فيه من الجزائر الكبيرة والصغيرة علاوة على جزائر بحر الظلمات المحيط الأطلسي كما أسلفنا لك فسبحان المعز لمن يشاء، وإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
تمت هذه الرسالة - وقد كتبت على متن البحر وبيننا وبين المرية مسيرة يوم أو بعض يوم وذلك في شهر جونية الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة الموافقة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة هجرية.
أرجأنا الرسالة الثانية إلى العدد القادم.(49/4)
موضوع غريب
أي أصناف الجمال الرجالي أحب إلى النساء
بحث سيكولوجي
فتاوى طائفة من مشهورات السيدات في موضوع من أهم ما تعنى به النساء، وهو - أي الوجوه أحب إلى النساء؟ الوجوه الدالة على القوة البدنية - أم الذكاء الحاد - أم الروح الخيالية؟ وأي هذه الثلاثة تختارين أن يكون رفيقك في الحياة؟ ولماذا؟ وقد عرضت إحدى المجلات الغربية الوارد فيها هذا المقال صور إثني عشر رجلاً مختلفي الصيغة الجمالية ولكن كلهم كان في حياته مشهوراً بالجمال، وطلبت إلى السيدات المذكورات أن تختار كل واحدة منهن صورة من هذه الصور باعتبار أنها أجمل الجميع في نظرها.
(1) رأي البارونيس أوركازي
إن موضوع الجمال في الذكور موضوع عويص معضل، لأن جمال الرجال أمر يتوقف على أشياء كثيرة خلاف الوجه، وإني لأسأل القارئة الكريمة قبل كل شيء ما هي العناصر التي منها يتكون جمال الرجل؟ هل هي حسن أعضاء الوجه وانتظامها وتناسبها؟ كلا إن هذا وحده لا يكاد يكون الجمال المستملح في الرجال. فإن الوجوه التي هذا شأنها تكون في الغالي خالية من معاني القوة والمتانة والمضاء والصرامة. وعلى العكس من ذلك ترى أن الأجسام البادنة المكتنزة بالعضل المجدول والعصب المتين خالية من بريق الذكاء المتوقد في العينين، ثم ترى في أقفائها العريضة المسطحة دليلاً على كثافة الذهن وانحطاطا القوى العقلية. ثم من وجهة أخرى ترى الوجوه الناطقة بالمزايا الذهنية أو النفية تكون غالباً مصحوبة بضعف البدن ووهن أنسجته وبنوع من معاني التأنيث في الهيئة والشكل مما لا يستهوي الفريق الأكبر من النساء.
وعندك أيضاً الوجه القوي: وهو ذو الأعضاء الخشنة الحادة والعينين العميقتين والفك المتين المربع - فهذا ولا شك جذاب جداً - ولكنه لا يكون البتة مستنيراً ببهجة البشاشة ورونق الطلاقة أو مزداناً بوميض حلاوة الظرف والفكاهة التي هي سر الجمال في الرجال وشرطه الأساسي وأهم أركانه.
وإذ قد عرفت ذلك فاطلب هذه المزية الكبرى في وجوه الرجال - ابحث عن أسارير(49/5)
البشاشة وسطور الابتهاج حول شفاه الرجال - ابحث عن بريق الجذل ووميض الظرف والفكاهة في أعينهم - فأينما وجدت ذلك فتشبث بصاحبه واعلم أنك قد ظفرت بما هو خير لك وأفضل من أدونيز وهرقل.
إني أرى بين الاثني عشر رجلاً المختارين صديق صباي المعشوق. ورفيق شبابي المرموق اللورد تيتون. وإني لا أتردد لحظة في تمييزه دون الباقين باختياري. وإفراده من بينهم بإيثاري، فلقد كان وجهه عنوان شخصيته الساحرة وصفاته الباهرة. إذ كان عليه سيماء الفحولة والقوة خالياً من أدنى ظل للعنف والقسوة. وسيما النبوغ الفني خالياً من أدنى معاني الأنوثة والضعف، ودلائل الملكات الذهنية الباهرة خالياً من أدنى شواهد الغرور والزهو. وقد كان مع كل هذا مكللاً بأجمل المزايا البشرية - مزية الطلاقة والبشاشة ورقة الظرف وحلاوة الفكاهة، واحسرتاه لقد عاش ومات أعزب.
رأي المس إيليس جفريز
لا أدعي الخبرة بعلم الفراسة بأية حال. ولذلك فإني أستصعب ما أسند إلي من هذه المهمة، وإني لأسأل القارئ، أيصح لامرأة أن تجعل جمال المنظر وحده أساساً لاختيار رفيقها في الحياة؟ أما أنها لو فعلت لكان أقل ما في الأمر أنها تعرض نفسها لخطر جسيم فلقد جاء في قديم الأمثال (إنما الجمال جمال الفعال) وإني لأرى الاثني عشر رجلاً المختارين ههنا قد أتو من الفعال الجليل والجميل وأتوا كذلك القبيح والدنيء.
إن القوة البدنية لمن الفضائل المحمودة، والمحاسن المحسودة. كما أن الذهن المولع بالمخاطرات والمجازفات البعيد الطمحات المتوقد الحركات لهو من أشرف المزايا وأجل الصفات. ومن أجل ذلك كان موضع اختياري ومحل إيثاري هو اللورد كتشنر. وإني في اختياري هذا مدفوعة بفرط إعجابي بالرجل وعظائم أفعاله. وبدافع أشد من ذلك وأعظم وهو ما يبدو على وجهه من إمارات الرقة والعطف والبر والمروءة - كافة العناصر الإنسانية - وهو عكس ما ينسب إليه من الجمود والجفاء والعبوس والصمت وفقدان العاطفة وقلة المؤاساة للغير. هذا لا ينافي ما قد يبدو عبينه أحياناً من النظرات القارة القارسة. النافذة القارصة. عند مقتضيات الأحوال. ولكني إذا نظرت في الصورة المعروضة خيل إلي أن عين الرجل تلين وتسجو وتخلع عنها نظرة اليأس والقسوة عندما(49/6)
يخلق الرجل لباس الجد والوقار والأعمال الرسمية ويمتزج بالناس امتزاج العشرة والوداد والألفة.
هذا وإني ذلك الشارب لا يخفي ما تحته من معاني الظرف والاستئناس والبشاشة المتألقة حول الفم التي هي في نظري من أفتن محاسن ذلك الوجه النبيل. وإن صورة اللورد كتشنر التي تجلوه على أبصارنا مبتسماً لا تزال في رأيي أحسن عنوان على طيب النفس ورقة الظرف الحقيقية. وما تبتغي النساء بعد ذلك؟ ذهن وقاد وخلق رائع سما إلى أوج العلى وبلغ غاية الفخار بالفتح المبين وباهر الانتصار.
رأي المسز س. ن. وليمسون
إن غرائزنا الفطرية - نحن السيدات - وطبائعنا الوراثية تدفعنا من حيث لا نفهم ولا نشعر إلى اختيار الصنف الحربي من الرجال. فنحن نرتكن إلى هؤلاء لأننا طالما ارتكنا إليهم واعتمدنا عليهم، ألم يكونوا ملاذنا وعصمتنا يوم كانوا يدفعون عنا غوائل المردة والشياطين والغيلان والسعالى والتنانين ومن عصائب لصوص الهمجيين من الشعوب الوحشية والقبائل البربرية - آفات العصور الماضية. وبلايا الحقب الخالية؟ ولكن رأيي بالرغم من ذلك أن نموذج الجمال الرجالي هو ما جمع بين البدن الضليع والذكاء السريع. والخيال البديع. وإن أقرب الناس في نظري من هذا النموذج الكامل هو اللورد كتشنر. فلقد كان ذا خيال بديع وخلق غريب - مفرد فذ منقطع القرين بدليل أنه لم يجد قط في جماعات النساء من هي كفؤ له في غرابة الخلق والروح حتى يتخذها قرينة ورفيقة. أضف إلى ذلك أن حياته كلها كانت سلسلة مخاطرات هائلة. ولقد امتاز بالنظر في لغات سكان القفار والصحاري وفي صفحات قلوبهم وألواح ضمائرهم. وكلنا يعلم أي شجاع باسل كان!.
رأي نورة سكليجل
المصورة المشهورة
إن من أصعب الأمور أن تختار المرأة رفيق حياتها باعتبار جمال المنظر لا غير على أن في رأيي ومذهبي في هذا الصدد اجتناب الشعراء لخلوهم من عنصر المزاح والفكاهة والمراح وتغلب الحزن والكآبة على نفوسهم. والحق يقال أن الضحك أحسن المزايا البشرية. وأعظم مسهل لمصاعب الحياة وأنفع علاج لآلامها وأنجع ترياق لسمومها.(49/7)
فالضحك مطر الحياة ونسيمها ونورها. وإني لأبصره في عين كيرلي بيلو وسيدني باراكلو.
رأي المسز بيلي رينولدز
ما أظن أن امرأة من المتعلمات المستنيرات في هذا العصر تختار رفيقها في الحياة لسواد عينيه أو حمرة وجنتيه وإن كان جمال المنظر يدخل ولا شك ضمن العوامل الباعثة على الاختيار. هذا وإني أستنكر في الصورة المعروضة ههنا معنى أن يشترك فيها إلا اثنين أو ثلاثاً - ذلك المعنى هو شعور كل شخص من هؤلاء الأشخاص بأنه حسن مليح - هو اعتداد كل منهم بمحاسنهم وتيهه وخيلائه بملاحاته ومفاتنه. (ومما شاهدت من أخلاق البشر أن الرجل الجميل أشد شعور بجماله وأكثر اختيالاً بحسنه من المرأة الجميلة) فهذا الزهو بالملاحة والحسن هو ما لا يحتمل ولا يطاق من الرجل.
وإني إذا تأملت هؤلاء الرجال المعروضة صورهم وجدت أن الرجل الوحيد الخالي من هذا العيب هو اللورد كتشنر وإن كنت أشك في صواب إدخاله في رزمة من يستحقون صفة الجمال البارع. وعلى كل حال فلقد كان الرجل بريئاً من وصمة (اتخاذ الجمال حرفة وصناعة) وكان عليه سيما الرجل الخليق أن يأتي من الأمور ما يفيد وينفع.
رأي المسز وينفريد جراهام
إني أخص باختياري كرلي بيلو بشرط أن يحلق شعره! فإن له وجهاً كوجوه كبار المصلحين - ولعله ورث عن أبيه الذي كان من مشاهير الوعاظ وخطباء الكنيسة، وإني لأرى في عيني الصورة آية السحر والفتنة ودليل الإخلاص والفاء كما أن الذقن تدل على قوة العزم والمضاء. وإن كان لا يظهر به تلك النقرة أو النون (ما يسميه العامة طابع الحسن) التي كانت إحدى مزاياه المعروفة. هذا وإن الأنف الدقيق المستوي المحدد والذقن القوي الدال على مضاء العزيمة يوازيان بل يرجحان بما يكسو سائر الوجه من رقة جمال الأنوثة وفي هذا الوجه أيضاً تعرف سيما الخيال والشعر بينما الجبين يشبه جبين بيرون (الشاعر المشهور) - وهذا ما أشار إليه صاحب الوجه في كثير من الأحايين أما العنق فيدل على القوة البدنية. وأما شكل الحاجبين وانفساح ما بينهما فدليل على دماثة الطبع وحلاوة الشمائل والرغبة في فعل الخير.
رأي المسز كلار شريدان(49/8)
النحاتة المشهورة
إن أبدع المعروض من هذه الصور في رأيي ومذهبي هو صورة شيلي (الشاعر المشهور) ولعلي أكون في ذلك محابية لأني ما زلت طول حياتي منغمسة في شيلي (أي في أشعاره ومؤلفاته وما كتب عنه من السير والتراجم). ولقد عشت في مصيفه بإيطاليا والتهمت كل ما ورثه العالم من كتاباته وآثار شخصيته وروايات سيرته. عليه رحمة الله لقد كان ذا شخصية رائعة باهرة هائلة. ولو كان اليوم عائشاً لغرد أغاريده. وشدا أناشيده احتفالاً بانتصار المرأة في ميدان الحياة. ولوددت والله أني كنت زوجة شيلي لأني كنت أفهمه لا محالة وأدرك حقيقة أمره. واستجلي غامض كنهه وسره.
أما بيرون فإني أتنصل عنه، وأنفض يدي منه، فأجمل منوجهه وجه روبيرت بروك وأمتن من خلقه خلق تيتس.
أما باقي الأشخاص المعروضة فما أراني القادرة على الحكم عليهم وإبداء الرأي عنهم وذلك لقلة ما أعرفه من شؤون حياتهم وتفاصيل أحوالهم ودقائق صفاتهم وخلالهم. ورأيي أن الجمال لا ينحصر في أنف ولا عين ولا فم ولا ذقن ولا جبين. ولكن فيما وراء ذلك. وإني لا أضن بالاستحسان والثناء على متانة بنية العوام الشهير الكابتن وب والملاكم الشهير كوربيت ولكن أرى وجهيهما عاديين خاليين من أدنى معاني الفتنة والسحر والغرابة. فهما لا يمتازان عما لا نزال نبصر كل ساعة في غدواتنا وروحاتنا من الآلاف المؤلفة من وجوه جماهير العامة. فالكابتن وب هو أشبه الناس برجال طائفة المعمار وكان الأليق به أن يحمل القادوم والمطمار.
رأي هنريتارا
المصورة المشهورة
لا أتردد في اختيار اللور ليتون. فإن هذا من الأمور البديهية التي لا جدال فيها من وجهة اعتبار من كان مصلي يتعاطى حرفة التصوير. أقول إني أختاره دون الباقين وإن صورته المعروضة ههنا تمثله وهو في دور شيخوخته وهرمه قبل وفاته بقليل ولكني عرفته في نضرة شبابة وزهرة صباه وخالطته سنين عدة فوجدت أن الجمال الذهين المشرق في صحيفة وجهه يشف عن روائع شيمه الباهرة. ةغرائب خلقه الساحرة. وعجائب ملكاته(49/9)
النادرة. مما لا ينكره ممن رآه إنسان. ولا يختلف فيه ممن عرفه اثنان.
رأي المسز ماي أدجنتون
إني لأعلم بيقين أي أصناف الجمال الرجالي هو أجذب للمرأة - المرأة العادية - وأخلب. فإنها إن لم توفق إلى الرجل الجامع لجملة المحاسن البشرية بين بدنية وذهنية وعاطفية فإنها لتفضل - في صميم قلبها وغن حاولت كتمان ذلك ومداراة ومواراة بباعث الاستحياء والترفع - أنها لتفضل الوجه الدال على القوة البدنية والبنية الحديدية. ذلك لأن الرجل ذا القوة البدنية العظيمة خليق دائماً أبداً أن يدخل على حياة المرأة شيئاً كثيراً من دواعي الأنس والمراح والطرب وبواعث اللذة واللهو والشهوة. ما الرجل ذو الذهن الوقاد والذكاء الحاد فخليق أن يكون له من الأناة والتؤدة وفرط الوقار والرزانة وكثرة التدبر والتأمل وطول الإطراق والروية والتفرس في حركات الناس وتصرفاتهم والتفتيش عن سرائرهم والخوض بنظراته الكشافة في أغوار ضمائرهم. وتشريح نفوسهم وأرواحهم على منصة بحثه بمبضع ذهنه المرهف المشحوذ كما يشرح الجراح الحاذق الجثة - يكون له من كل ذلك ما يفسد بينه وبني المرأة من صلات التآلف والامتزاج التي يجب أن يكون سداها الضحك والمرح ولحمتها التساهل والتغافل - فلا غرو إذا ندت عنه وأعرضت ونفرت لأنه يخيفها ويفزعها ويملأ قلبها هيبة ووحشة ولا تجد في جوه ذلك الإشراق والصفاء والدفء التي ليس إلا بها تتفتح زهرة قلبها وتينع ثمار عواطفها.
فنصيحتي إلى المرأة أن تلتقط رجلاً شديد قوة البدن ثم تنفث فيه من ينبوع عواطفها نفثة من روح الأماني العجيبة والخيالات الغريبة - من الروح الروائية الخرافية - فستجدين فيه إذ ذاك النموذج الكامل والمثل الأعلى. فإذا ألفيت بعد ذلك نقصاً في ذكائه وقصوراً في فطنته فلا يسوءك ذلك فإنه لو كان غير ذلك لأحاط علماً بظاهرك وباطنك وليس هذا مما يسرك. وإذا وجدته ساذجاً بسيطاً فاحمدي حسن حظك وسعد طالعك ودعيه يبقى كذلك. أما من وجهة رأيي في الصور المعروضة ههنا فإن أجذبها عندي وأخلبها صورة كوربيت الملاكم.
رأي المسز بيلوك لونديز
إن الفريق الأكبر من النساء يفضل ولا شك بالفطرة والغريزة الرجل القوي البدن المتين(49/10)
البنية - سواء كان جميل الطلعة أو عاديها. وكذلك معظم الرجال - بل كل الرجال ما عدا الفئة النادرة الشاذة - يفضلون المرأة المؤنثة أعني اللينة الناعمة الرقيقة الغريرة. ولا نزاع في أن القوة الخفية المسماة الفتنة النسائية أعني العين الساحرة ذات اللحظ الخلاب أو كما يسميها فريق من الشعراء العين الداعية إلى الصبابة الآمرة بالولوع والاستهامة - لا شك أن هذه من أقوى العوامل في اختيار الرفيق. واشد البواعث على اصطفاء العشيق. ولكنها من المزايا النادرة جداً سواء في الرجال والنساء وقلما يكون فيها ضمان السعادة الدائمة أوالوفاء والأمانة في الحياة الزوجية. ولا أشك في أن الرجال والنساء جميعاً يخضعون لسلطان الحسن والملاحة - ومن ثم كان ذلك النجاح الباهر الذي يظفر به بعض ذوي المحاسن الباهرة من الممثلين والممثلات ولكني أشك في أن هؤلاء الممثلات والممثلين يستطيعون استبقاء هذه المزية النادرة في غضون حياتهم المنزلية.
إن من النساء لفريقاً يستهويه الصيت والشهرة في الرجال. فأمثال هؤلاء النساء لا تحجم إحداهن عن الاقتران بالرجل القبيح الصورة والسيء الخلق الشاذ الطباع بشرط أن يكون شاعراً مذكوراً أو فارساً مشهوراً وأعجب من هذا وأغرب أنها تعيش معه سعيدة.
إذا كنت مختارة واحداً من بين هؤلاء الرجال المعروضة هنا صورهم فإني أختار اللورد كتشنر.(49/11)
كيف يداوى الضجر والقلق
مقال مفعم بالنصائح العملية
من آراء العلماء الفنيين الذين درسوا هذا الموضوع درساً خاصاً
الضجر آفة باطلة وداء كاذب لا ثمرة فيه ولا طائل تحته. وكأني بك تعرف ذلك ولكن الداء الخبيث قد تمكن منك بطريقة ما ويخيل إليك أن غير مفلت من قبضته أو خارج من أزمته.
رويدك لا تقنط! واستعن بنصيحة من وقف قسطاً من وقته ومجهوده على دراسة ذلك الأمر وفحصه. فاقرأ ما كتبوا عن ذلك. وحاول العمل بنصائحهم وثق بأنك ستستفيد صحة في الذهن والبدن، وخلاصاً وبراءة من داء القلق والضجر.
واعلم بادئ الأمر أن التعب هو السبب الخفي الأعظم المؤدي إلى معظم ما ينطوي عليه هذا العالم من قلق وضجر - أجل هو التعب - تعب الذهن أو تعب الجسم أو كليهما - ولا أقصد به ذلك التعب المؤقت الذي لا تلبث ساعة من الراحة أن تزيله ولكني أقصد ذلك التعب الذي لا يزال يتزايد علينا ويتراكم حتى يصير عبأ فادحاً وداء قاداً. وآفة تبتلي جميع وظائف الذهن والبدن.
خذ مثلاً على ذلك الحقيقة الآتية المثبوتة - وهي أنك إذا أدمنت تحريك أصبعك حتى تكل عضلاتك فإن هذه الإصبع تصبح محتاجة إلى استراحة ساعتين لتستعيد من خلالهما قوتها وتجدد نشاطها حتى يصير في إمكانها إعادة عين المقدار السالف من العمل بالضبط، فإذا أنت لم تعط إصبعك من فترة الراحة إلا ساحة فقط فلا تحسبن أنها تصبح قادرة على أداء نصف عملها الأول كما يدلك حسابك واستنتاجك - بل تأكد أن ما تستطيع أن تؤديه إصبعك من العمل بعد ذلك هو ربع المقدار الأول فقط أو بعبارة أخرى - إذا أنت لم تعط نفسك من الراحة إلا نصف حقها فإنها لا تعطيك من العمل إلا ربع ما كنت آخذاً منها لو أنك أعطيتها وافر قسطها من الراحة.
إن التعب البدني يؤثر في إيراد الدم المخصص للدماغ من حيث مقداره ومادته فلذا كان من الحمق والخرق محاولتنا تشغيل الدماغ عندما تكون أجسادنا متعبة منهوكة وأحمق من ذلك محاولتنا إزالة تعب الدماغ وتجديد نشاطه بالإفراط في الرياضة البدنية وممارسة التمرينات(49/12)
الجسدية العنيفة.
وانتهاك القوى الذهنية لا يمكن إزالته بانتهاك القوى البدنية، ولا يعقل أن كد الدماغ ينفيه كد الجسد. ولكن التمرين البدني المعتدل قد يعين على تجديد القوى الذهنية بإصلاح الدورة. أما التمرين العنيف فإنه يزيد الطين بلة.
من العجيب أن ترى الكثيرين من الناس يتحامون الإفراط في الشراب ويتحاشون البطنة والكظة خجلاً واستحياء ثم لا يستحون بعد ذلك من رذيلة الإفراط في العمل وانتهاك أذهانهم وأبدانهم في الكد والكدح. إنهم يأنفون ويستنكفون أن يقتلوا نفوسهم سكراً ول يأنفون أن يقتلوها عملاً وكداً.
وقد كان من الواجب على المرء أن يرى من الخزي والعار أو على الأقل من الإساءة والأذى لأسرته وأصحابه أنه لا يزال يلقاهم بذهن مكدود وبدن منهوك وروح ضجرة ونفس برمة ووجه عابس عليه قترة الهم وظلمة الكدر. ولسان معتقل بأصفاد التعب والضجر. فإن لأخوانه وأهله عليه حق التودد إليهم والضحك في وجوههم والإشراق عليهم بنور الإنس والطلاقة والبشاشة. وإرتاعهم من أخلاقهم مرتعاً معشباً نضيراً. وإيرادهم من سجاياه مورداً عذبا نميراً. وهذا لا يتأتى لرجل متعب مجهود قد نكس الهم رأسه. وصعد القلق أنفاسه. وكيف يجود للناس بأسباب السرور من هو منه مسلوب. ويفيض على الناس بالأنس من هو منه محروم. وكيف يجني من الشوك الثمار أو يجود الجهام بالديمة المدرار.
هذا واجب على كل امرئ لأهله وخلانه فهو دين لهم عليه ينبغي سداده في مواعيده أعني كلما لاقاهم وصادفهم. فإذا كان لا يزال كلما لقيهم عبس وأطرق تسخط وتبرم كان بمنزلة المدين الدائم المماطلة، والغريم المدمن المراوغة والمطاولة.
والآن نأخذ في فحص أهم أسباب الضجر وعلاجه فنقول: من أهم هذه الأسباب شدة اشتغال ذهنك بواجباتك وأمالك فإذا اضطجعت لتنام وأصابك الأرق - وهذا الأرق يلحق بك القلق والضجر، إذ تقول لنفسك أنه لا بد لك من ثماني ساعات من الراحة وأنه قد دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ولم تغمض عينك فلعلك لست نائلاً من الثماني الساعات الضرورية لحفظ صحتك إلا أربعاً أو خمساً وفي الصباح نقول: يا لها من ليلة! لم تذق عيني فيها الغمض إلا بعد الساعة الثانية، ولم يطرف جفني بعد الساعة السادسة. فكل ما(49/13)
نمته هو أربع ساعات، وأنا لا أستطيع الاستمرار على هذا الحال!.
إن وظيفة النوم ومهمته هي أنه يمكن البدن من تجديد أنسجته والذهن من تجديد قوته، والنوم من أصلح الحالات لحدوث ذلك التجدد الذهني والبدني، على أن هذا التجدد يحدث أيضاً - ولكن بحالة أبطأ - أثناء الاستراحة الخالية من النوم.
فأول نصيحة لكم يا أهل الأرق والسهاد هي هذه: لا تضايقوا أنفسكم لنفور النوم وشروده عنكم بل قولوا لأنفسكم لا بأس علينا من هذا السهاد ولا ضير في هذا الأرق. فنحن وإن لم ننم نتمتع بالراحة ولين الضجعة. فأجسامنا في دعة واستراحة. فنحن من حيث الحالة الجسدية وكما لو كنا نياماً. إذ السكون والكسل والظلام هي جل احتياجاتي الجسمية وكلها في ملكي وحوزتي فليس ثمت ما يدعو إلى الضجر والقلق.
فمناجاة نفسك بهذا القول مع صحة اعتقادك إياه - وهو أهم ما نظن لأنك تكون في هذه الحالة كمن أراد ركوب القطار السريع (الإكسبريس) فلما لم يوفق إلى ذلك ركب القطار العادي، فحسبك يقينك بأنك ستبلغ ولا شك غايتك المقصودة وإن أبطأت بك المطية وشطت بك النية.
ولكنك ربما قلت معترضاً ليست راحة البدن هي أهم مطالب المرء. ولكن راحة الذهن هي المقصد الأول. إن أهم أغراضي هو إيقاف حركة الفكر!.
على رسلك أيها المعارض! واعلم أن راحة البدن مؤدية - وإن كان مع البطء - إلى راحة الذهن أيضاً فاعتقادك هذه الحقيقة لا بد أن يحدث نوعاً من اللين والاسترخاء في أوتار الذهن. وهذا وحده يهيئك للنوم ويقرب منك أسبابه.
وسنسرد في موضع آخر من هذا المقال جملة من علاحات الأرق وجوالب النوم أما الآن فنبحث في علاقة الأرق بالضجر والقلق.
فاعلم أنك إذا أرقت بالفعل الليل الطويل كله فأحييت بالسهاد ظلمته، وأشعلت بحر أنفاسك فحمته فلا ضير عليك من ذلك إلا إذا جعلته موضع اهتمامك وكدرك فطفقت تتأفف وتتوجع لأنك لم تنم. على أنه قلما يحدث أنك تحرم النوم ليلك كله إذ في الغالب أنك تنام ولو ساعات قليلة. فحرمانك شطراً من وقت نومك ليس هو السبب فيما يبدو عليك في الغد من الوهن والخور والشحوب والاصفرار والكآبة والكمد - وإنما السبب في ذلك هو توجعك(49/14)
وتعجبك لحرمانك من هذه الساعات القلائل.
وإذا أردت أن تجيد فهم هذه النظرية فادرس قليلاً فيما يسميه (علماء الأمراض العقلية) بالحالة العواطفية للإنسان فهب أنك أرقت ليلة - فبت الساعات الطويلة نابي المضجع قلق الوساد، تتقلب على جمر الغضا وشوك القتاد. تطلب النوم ولا تجده. وتنصب له الحبائل ولا تصيده. فتجزع لذلك وتقلق. وتستشيط وتتحرق، وتعذب نفسك أسفاً. وتقطعها حسرة ولهفاً. فماذا تكون حالتك العواطفية؟ تكون ولا شك التفجع والتحسر والغيظ والجزع والتلهف. فإذا أصبحت فأخلق بك أن تكون هائج سريع الغضب سريع الانفعال - وبالتالي تكون شرساً سيء الخلق ضجراً متبرماً.
فإذا جلست على مائدة الإفطار مع أهلك وأسرتك فما أسرعك إذ ذاك إلى التسخط لأدنى تافهة من الأمر، والغضب من الوهيمات والخيالات مما لا وجود له إلا في ذهنك المضطرب وعقلك المشوش فتحدث المشاحنات بينك وبين أهلك فتغادرهم إلى محل عملك وأنت تعتقد أنهم ألب عليك وحزب ضدك وأنك فريسة ظلمهم وضحية جورهم.
ثم تحاول البدء فكأنما تحاول نسف الجبال. أو عد الرمال، فتذعن لليأس وتستسلم للوسواس.
ثم تغلق مكتبتك وتذهب للغداء وقد تراكمت عليك الأشجان. وامتلكت الهموم والأحزان فلا غرو إذا ظلت في هذا الحالة ولا تستمري مطايب الخوان. وتهيجك وتؤلمك مداعبات الأخوان. فإذا تناولت طعامك على انفراد أقبلت على نفسك تنغصها لما قد نابها من المنغصات. وتعذبها لما قد لحقها من عذاب تلك المكدرات.
وهذا يؤدي ولا شك إلى القبض وسوء الهضم. فتعود على محل أشغالك في المساء أسوأ حالاً مما كنت في الصباح ثم تغادره ليلاً أخيب مما غادرته ظهراً وتمضي على فراشك أخوف ما كنت من معاودة الأرق والسهاد.
ولو كنت تعرف حقيقة آفة الضجر وخفي أسبابها وعللها وطريقة علاجها ومداواتها لما كانت هذه حالك ولم تبت بليلة القائل:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد من نوم العشاء سليمها ... لحلي الغواني في يديه قعاقع(49/15)
أجل لقد كنت توقى كل هذه الغصص والكرب لو أنك أدركت أنه لا ضير عليك من السهاد وأنك واجد عوضاً عن النوم مجرد ضجعتك واستلقائك واستراحة أعصابك واسترخاء أعضائك. تحت ظلال الليلة الندية الساجية. ومشتملاً برداء ظلمتها الفاحمة الداجية.
أما من حيث المشاحنات الأسرية. والمشاجرات المنزلية فقد كان جديراً بك أن لا تجسم من شأنها صغيراً. وتعظم من أمرها حقيراً. وخليق بك أن تدرك أنها زمجرة ليس وراءها صاعقة. ودوي أوتار ليسه معه سهام مارقة. ولو كان غير ذلك شأنها لما بقي على ظهر الأرض أسرة ولأقفر العالم من الدور الآنسة والمنازل العامرة وعاش كل امرئ بمعزل عن سائر الناس محتجباً في بردته. ومستكناً في جلدته. كأنه السلحفاة أو المحارة. ولكن الواقع خلاف ذلك وما هذه المشاجرات المنزلية إلا كسانح طيف أو سحابة صيف. وكم مئات من هذه المشاجرات مرت بك فلم تأخذ منك إلا كما تأخذ الرياح من أطراف الجلاميد. وأنفاس الملاح من مرآة الحديد. وما هي إلا بضعة أيام حتى تصبح المشاجرة في نظرك حديث فكاهة كلما ذكرته ضحكت منه وسخرت.
وإنك إذا نظرت في أسباب معظم هذه المشاجرات المنزلية وجدتها ترجع إلى مصدر واحد - وهو استبدادك على أفراد أسرتك وحكمك عليهم أن يخضعوا لميلك وهواك في كل شيء، فيكونون معك بلا رأي ولا إرادة كاللعب في يديك تحركها كما تشاء ولا شك أنك في هذا لظالم جائر. فإن كان نظرك أصدق من نظرهم فيما تأمرهم به، ورأيك أصح من رأيهم فدعم وشأنهم لا يلبثون أن يهتدوا إلى هذه الحقيق فيأخذون برأيك وينحون منحاك. وإذا لم يفعلوا فحسبك أنك منحتهم نعمة الحرية التي ليس فوقها نعمة، وخليت بينهم وبين لذاتهم وشهواتهم فملأت صدورهم مسرة وطرباً. وهذا وحده خليق أن يولد فيك حالة عواطفية حسنة (أعني أنه يبعث فيك السرور والجذل.
ولا يزال الضجر مصحوباً بنوع ما من العاطفة (أي الانفعال) والعاطفة أي الانفعال النفساني هو قوة كامنة - هو بخار مخزون لا بد له من أيجد منفذاً ومخرجاً فإذا هيء له هذا المخرج بطريق العمل والحركة فلا ضير منه ولا بأس. وإذا لم يفعل ذلك فإن هذا البخار لا بد أن يحدث انفجاراً فينسف شيئاً ما في ناحية ما وبكيفية ما فإذا لم يحدث ذلك الانفجار بالفعل فإن هذه القوة العاطفية الموجهة في غير وجهتها قد تحدث حالة من القلق(49/16)
الذهني لا تزال تعظم وتتزايد حتى تصير داء مزمناً من الضجر.
ومن أشيع الأشكال التي يظهر فيها الضجر ويتراءى - التردد. وهذا التردد ينبعث عن علل ذهنية خبيثة أهمها الخوف الذي لا يزال يملؤك حذراً من إتيان الغلطات وخشية من عواقب أمور هي في ذاتها مأمونة العواقب على حد قول القائل:
ورب أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهن وجيب
وفرط سوء الظن بالناس هو الذي يغريك باتهامهم في كل ما يأتونه حتى تحسب أن كل لفظة أو حركة تصدر منهم هي أذى وإساءة موجهة إليك. فلا عجب إذا شبهنا هذا المرض الخبيث - مرض التردد - بضباب قريب متكاثف يحجب عنا حقائق الأشياء. فإذا لبثت في جوف ذلك الضباب حائراً مرتبكاً لا تدري أين تذهب فأحرى بك أن تبقى واقفاً مكانك فلا تصل إلى أي غرض البتة.
فالمخرج الوحيد من هذه الورطة هي أن تمضي قدماً في أي طريق مهما كان - هي أن تعقد أي نية وتبرم أي عزم. أجل اصنع شيئاً مهما يكن. فإن ذلك يخرجك من الضباب. إنه لا يبعد أن تذهب في طريق جائرة عن القصد حائدة عن الصواب فإذا كان ذلك فلا ضير عليك منه وحسبك أنك قد خرجت من الظلمة الحالكة حيث قد قضي عليك أن لا ترى شيئاً ولا تصنع شيئاً إلى حيث تستطيع أن تبصر وتميز فتعرف أنك في ضلال فتحاول الانصراف إلى الهدى.
مثال ذلك أنك قد تريد كتابة رسالة فتلبث ساعات تفكر ماذا تكتب وأي المذاهب تسلك متردداً بين ألف طريقة وأسلوب. فلقد آذيت نفسك وعذبت ذهنك ثم لم تصنع شيئاً.
ألا فاجلس فوراً إلى المكتب وخذ القلم والقرطاس فاكتب ما حضرك أياً كان فلعلك واجد في هذا الكلام المرتجل والمقال المقتضب ما هو قريب من بغيتك ومرادك ثم اعلم أن مجرد (عقد النية) وإبرام العزيمة - إن مجرد هذه الفعلة يعد ضرباً مفيداً م الرياضة الذهنية - وأسلوباً نافعاً من التمرينات العقلية. وأن قراراً محدداً وعزماً معيناً، إن فكرة إيجابية واضحة واحدة لهي خير من كل ما تنفقه سدى من ساعات التدبير العقيم والتفكير المجدب العديم النتيجة المشفوع بالحيرة والارتباك والقلق ألا فافعلن شيئاً. افعله بعد مقدار مناسب من التأمل والروية - ولكن افعله على كل حال.(49/17)
إن من أكبر أسباب الخيبة في مثل هذه الأحوال من التردد والارتباك هو إحجام المرء عن مواجهة الحقائق، هذه الحقائق، هي أشياء حاصلة ترعاها عيناك. وتلمسها يداك، فإذا كنت تستطيع إزالتها وتغييرها فافعل. وإذا كنت لا تستطيع ذلك فماذا لجاجك وإلحاحك في محاولة تبديل ما لا يبدل وتحويل ما لا يحول. وأحمق من ذلك وأسخف أنك تجلس فتقطع نفسك كمداً وحسرة لأن هذه الحقائق لا تبدل ولا تحول.
ومما هو جدير بالذكر أيضاً أن تسعة أعشار الناس لا يستطيعون (العزلة الذهنية) أعني الانفراد بأذهانهم عن مشاركة الغير في الآراء والأفكار. فالإنسان مدني بالطبع يحتاج إلى تبادل الرأي والفكر مع عشرائه وجلسائه فمشاورة الصديق ومحاورة الرفيق من أوجب الواجبات ومن أهم ضروريات الحياة.
وإن اختزان الأفكار والهموم في الصدر كاختزان الطعام والشراب في المعدة كلاهما يحتاج إلى دواء مسهل، فإذا غص ذهنك بالمكدرات والمنغصات من جراء أمر ما فابغ لها ما يخرجها من بطنك ويلقيها من جوفك! ولن تجد غير المجاورة والمشاورة دواء مسهلاً. وما زالت الصراحة والإفشاء أنفع الملينات الذهنية. وأنجع المسهلات العاطفية فتعاطها تبرأ بها.
وأذيع مظاهر الضجر وأشغلها لبال المصاب بها هو الأرق. والأرق إذا دام أحدث ولا شك أثراً سيئاً في البنية والأجهزة الحيوية.
وإني أكرر هنا أن تضجر الإنسان بسبب الأرق شر علبه من الأرق ذاته. بيد أنك على كل حال محق في حرصك على النوم. وأنت إذا ابتغيته من وجهه فلا بد أن تناله.
اقتصد في طعامك وشرابك وسائر أركان حياتك. ولا تجاوز في عملك ولهوك حد الاعتدال إلى طور الإنهاك والإرهاق. فإذا لم تجد بداً في بعض الأحايين من الإفراط في الكد فابتغ سبيل الموازنة بإنالة نفسك من الراحة مقدار ما حملتها من التعب وخذ بقول القائل إني لأستجم نفس بالشيء من الباطل ليكون أقوى لها على الحق. ويقول الآخر حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور. ولا تحمل يومك عمل الغد فوق عمله فإن ذلك ضرب من الظلم والحيف والطمع الوخيم العواقب.
وإذا لهوت فكن جاداً في لهوك فاله من صميم قلبك ومن أعماق نفسك. ولا تقف متردداً بين(49/18)
مباهج اللهو المتشعبة ومذاهبه المتفرقة بل خذ في أيها بشرط أن تندفع فيه اندفاع الجاد المعتزم الذي وجه كل همه وأقبل بجل روحه على ما قد اختار من الملهى. وأفضل شيء أن تغوي ضرباً بعينه من الملاهي - الموسيقى أو التصوير أو السباحة أو ركوب الخيل أو الصيد أو جمع النوادر من الحشرات أو الصور أو الكتب وهلم جرا.
وتناول من الطعام الساذج المغذي فخذه في أوقات محددة. وثمت من رأي شائع وهو أن الطعام لا ينهضم إلا إذا أكل بشهية حادة. فهذا من الأغلاط الشائعة. إن الطعام بلا شهية قد يبطئ هضمه ولكنه سيهضم في النهاية ولاسيما إذا أعنت عملية الهضم بالاستراحة.
وبعد ذلك فإنك إذا جمعت بين حسن الغذاء وقلة التعب فقد هيأت لنفسك أصلح الحالات لاستجلاب النوم. على أنك تستطيع أن تزيد هذه الحالة صلاحية وذلك باستحمامك قبل الذهاب إلى الفراش في حوض مملوء بالماء الفاتر. ولتكن حرارته أقل من حرارة بدنك بمقدار طفيف. ولكن راع أن تكون طريقتك في هذا هي مجرد وثبة في الماء تتلوها وثبة منه بل يلزمك الاستمرار فيه ما دمت تشعر له بلذة.
هذه كلها علاجات تنفعك في داء الضجر ولكن ماذا عساها تفيدك إذا كان الداء قد بلغ منك أقصى مبلغ. واستأثر بذهنك وروحك أيما استئثار. ألا ترى أنك بعد كل هذه العلاجات تذهب إلى الفراش وأنت أخوف ما تكون من أن كل هذه الوسائل لن تطرد عنك الأرق؟ فتستلقي في فراشك وتشرع في مضايقة نفسك وتنغيصها للسبب الآتي وهو أنك تخاف أن خوفك من الأرق سيجلب عليك الأرق.(49/19)
روح الإسلام
الفصل الثاني
بقية هذا الفصل
الحياة الدنيا في نظر الإسلام هي البذرة التي تخرج منها الحياة الآخرة. والمبدأ الأساسي للإسلام هو السعي والعمل لمصلحة النوع البشري في تواضع وخضوع وخشوع وبذل الجهد للاقتراب من درجة كمال الذات الإلهية الكاملة. والمسلم الصادق هو كذلك مسيحي صادق من حيث قبوله رسالة عيسى واجتهاده في تنفيذ وصاياه وتعاليمه فلما لا نرى المسيحي الصادق يكرم الواعظ والمعلم (أعني محمداً) الذي نقح وهذب ما وضعه الأساتذة الأولون. أو لم يجد المعلم قوى العالم مبددة مشردة فألف شتاتها ولم شعثها وردها جميعاً إلى منهج الرقي وسبل التقدم؟.
ونحن إذا استثنينا فكرة بنوة المسيح لم نجد فرقاً أساسياً بين الإسلام والنصرانية فهما في جوهرهما واحد - كلاهما نتيجة عوامل روحانية واحدة ذات فاعلية وتأثير في الحياة الإنسانية فكان أحدهما (الدين المسيحي) اعتراضاً على ما كان يدين به اليهود والرومان من مذهب المادية التي لا قلب لها، المجردة من الوجدان والشعور والعاطفة وكان الثاني (الإسلام) ثورة ضد ما كان يدين به العرب من الوثنية المزرية بالعزة والكرامة وضد عاداتهم وتقاليدهم الوحشية الفظيعة. وقد كانت الأمة التي نشر بينها الدين المسيحي وضد عاداتهم وتقاليدهم الوحشية الفظيعة. وقد كانت الأمة التي نشر بينها الدين المسيحي خاضعة لحكومة منظمة، وكانت أمثر مدنية استقراراً من الأمة التي نشر بينها الإسلام ومن ثم كانت الشرور والآفات التي قاومتها المسيحية أخف وأهون من التي قاومها الإسلام - الذي ألقى على شعوب متحاربة وقبائل متضاربة فاضطر إلى مكافحة المصالح الشخصية والخرافات العتيقة. ولا يخفى أن المسيحية في بدء انتشارها اتجهت نحو المشرق ولكنها لم تلبث أن صادفت في تلك السبيل عقبة في شخص رجل غزير العلم غريب الأخلاق والصفات إسرائيلي المحتد لكنه يوناني اسكندري من حيث التربية والمبادئ فقام هذا الرجل ينقل المسيحية إلى إغريقيى (اليونان) ورومة - وهناك استحوذت المسيحية على حضارة وثنية القرون العديدة السالفة ثم أخرجت للعالم أفكاراً جديدة وعقائد مستحدثة. ومنذ تنقلت(49/20)
المسيحية من مهدها زالت عنها صفة المسيحية فصارت ديانة بولس لا ديانة المسيح. وفي هذه الآونة كانت صروح الوثنية القديمة تتداعى لانهدام، وقبل ذلك كانت الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسكندرية تهيئان العالم الروماني لقبول فكرة إله غير مكون من المادة - إله اسمه (ديميرجيس) أو (ايون) قد نشأ في قلب الأبدية - وهذه الفكرة اندمجت في مسيحية بولس والمسيحية العقلية (إيديالستيك) الحديثة التي هي أحق أن تسمى مذهباً فلسفياً من أن تدعى ديانة مقررة. إنما هي نتيجة القرون العديدة من المدنية السابقة للمسيح والمدنية التالية لها. أما الإسلام فقد بث في أمة مخالفة وفي ظروف اجتماعية وأخلاقية مخالفة. ولو أن الإسلام استطاع أن يقتحم العقبة التي أقامتها في وجهه مسيحية ذلك العصر الوضيعة المنحطة فتسرب إلى الشعوب الراقية والأمم العليا من سكان الدنيا لاتخذ صبغة أخرى ومذهباً عن الرقي جد مخالف لما يراه المتأمل اليوم بين الشعوب المسلمة الأقل استنارة وعلماً. فمثل هذين الدينين كمثل نهرين ينحدران في بقعتين مختلفتين - كل منهما يحدث من النتائج ما هو ملائم لماهية التربة التي يتدفق فيها. وغير خاف أن المكسيكي الذي يعاقب نفسه ضرباً بورق الصبير وساكن جنوب أمريكا عابد للوثن والطبقات السفلى من الأمم النصرانية لا يصح اعتبارهم نصارى بأي وجه من الوجوه، وما أبعد الفرق بينهم وبين قادة الأفكار المسيحية الحديثة. وقد ثبت أن الإسلام حينما تسرب إلى الشعوب القابلة للاستنارة والرقي وجد على تمام ملاءمة لعوامل الرقي والتقدم فأعان على نشر المدنية وتهذيبها وأكسب العقائد الدينية روحانية وعقلية.
إلا أن ديناً كان من نتائجه وثمراته بطولة علي وإخلاصه ورقة جعفر الصادق ودماثته وطهارة فاطمة وعفافها وقدسية رابعية - إلا أن ديناً أخرج أمثال ابن سينا والبيروني وابن خلدون وجلال الدين الرومي وإبراهيم بن أدهم وكثير غيرهم لدين مشتمل علاى كل عناصر الأمل وأسباب الفوز والفلاح.
يا حسرتا ويا أسفاه على أساتذة الإسلام في العهد الأخير! لقد هبت عاصفة المشاحنات المذهبية على روضة الدين الصحيح والإيمان الصريح فأذبلت زهرتها وأذهبت نضارتها.
وقد شرح أحد وعاظ النصارى في أبلغ بيان وأصدق برهان الفرق بين العقيدة الدينية وعلم الفقه وبين المضار التي حلت بكنيسته بسبب الخلط بين الاثنين وقد أصاب الإسلام من هذه(49/21)
الوجهة عين ما أصاب المسيحية. فجعل الدين حرفة وصناعة بعد أن كان عقيدة يعمل بوصاياها وتعاليمها، وأصبح مراسم ومظاهر بعد أن كان عبادة باعثها الإيمان والإخلاص والتقوى وإتيان ما فيه الخير للناس رغبة في الخير وابتغاء مرضاة الله. قد انطفأت جذوة الغيرة على الدين والاستهامة في حب الله والإيمان به وبرسوله وقد انعدم ذلك الإخلاص الذي لولاه ما انمازت حياة البشر عن حياة البهائم - الإخلاص في صدق العمل وصدق التفكير والنية. إلا أن مسلمي هذا الزمان قد جهلوا الروح وتشبثوا باللفظ فبدلاً من سلوكهم في الحياة المنهج الأرشد الذي أوضحه لهم أستاذهم وبدلاً من نهوضهم إلى الدرجة العليا التي أبانها لهم. وبدلاً من اتباعهم المثل الأسمى والنموذج الأسنى الذي شرح لهم ذلك الأستاذ الجليل - بدلاً من الطموح إلى أشرف الأعمال وأكرم الفعال والأخذ بالصلاح والتقوى ومحبة الله ومحبة الناس من أجله تعالى - بدلاً من كل ذلك جعلوا أنفسهم عبيداً للمصالح الشخصية والأغراض السياسية والمظاهر السطحية الباطلة، ولا غرابة في أن صحابة محمد حين أدهشهم بروائع خصاله وفعاله فملأ قلوبهم عجباً وإجلالاً أخذوا يقدسون أفكاره وأعماله العادية وطريقته في العيشة ودقائق تصرفاته في حياته اليومية ويسجلون كل ذلك ليكون مثالاً للناس ونموذجاً وقدوة فجعلوا ينقشون على صفحات القلوب تلك التعاليم والأوامر والوصايا والقواعد التي كانت تمليها ضرورات الأحوال ومقتضيات الظروف إذ ذاك في أمة صغيرة حديثة النشأة. فأما ما يزعمه الزاعمون من أن أكبر مصلح أخرجته الدنيا وأعظم مؤيد لسلطان الحق والعقل والمنطق - الرجل الذي صرح بأن الكون محكومة ومنظم بقوانين ونواميس وشرائع وأن ناموس الطبيعة إنما يقتضي التطور والارتقاء والتقدم - نقول أن ما يزعمه الزاعمون من أن رجلاً هذه صفاته وأعماله كان يتصور أن تلك التعاليم والوصايا التي أوحت بها مقتضيات الضرورة في أمة شبه همجية يصح أن تبقى على حالها بلا تغيير ولا تبديل إلى آخر الدهر - إنما هو حكم جائر على نبي الإسلام - أو كما قال الشاعر هذا محال في القياس بديع.
كان محمد أدق الناس فطنة وأنفذهم بصراً باحتياجات ومطالب الرقي والتطور في هذا العالم وما تقتضيه تقلبات أحواله الاجتماعية والأخلاقية - وكان أعرف الناس بأن ما نزل عليه من الوحي ربما كان لا يلائم كل ظرف ولا يناسب كل موقف ولا يصلح لمعالجة كل(49/22)
طارئة ومداوة كل حادثة محتملة الحصول. ومصداق ذلك أنه لما ولي معاذ أمر اليمن سأله النبي بأي قاعدة يأخذ في إدارة شؤون ذلك القطر. فقال معاذ أمر اليمن بأحكام القرآن فقال النبي: فإذا لم تصب في الكتاب الحكيم ما تبتغي من الحكم فعلام تعول؟ قال معاذ على سنة النبي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا لم تجد بغيتك في ذلك فإلام تعمد؟ قال معاذ: إلى الرأي والقياس فسر النبي بهذا الجواب واستحسنه وأوصى سائر الولاة باتباعه.
ذلك الأستاذ الكبير الذي كان أعرف الناس باحتياجات وقته ومطالب أمته - أمة منغمسة في حمأة الانحطاط الاجتماعي والأخلاقي الموئس - أدرك بنفاذ بصيرته وبعد رأيه بل بنبوة وجداه أنه سيجيء وقت يفرق بين ما هو مؤقت وخصوصي وما هو دائم وعمومي من النواميس والنظامات. فقد قال عليه السلام ما معناه: أنتم في زمن إذا تركتك عشر ما أمرتم به بؤتم بالخسار والدمار وسيجيء زمن يفوز فيه من عمل بعشر ما يوصى به الآن.
أجل إن البلاء الذي حل بأمم الإسلام لا ترجع أسبابه إلى تعاليم محمد، وكيف يكون ذلك وإن الإسلام لأوفر الأديان نصيباً من عوامل التقدم ووسائل التدرج والتطور وليس في كافة الملل والعقائد ما هو أنقى منه وأطهر وأشد التئاماً مع روح النهضة والرقي في مناحي الإنسانية.
إن معظم السبب في خمود جمرة العالم الإسلامي في هذا العصر وركود ريحه وفي جمود تيار النهضة والرقي فيه راجع ولا شك إلى فكرة كاذبة قد علقت بأذهان السواد الأعظم من المسلمين ورسخت في عقائدهم أيما - وهيب أن حق الاجتهاد وحرية الرأي والتفكير قد محي وقبر مع الأئمة الأقدمين وأن الجرأة على تعاطي هذا الحق في العصور الحديثة يعد وإثماً وأن الرجل لا يصح اعتباره مسلماً صحيح الإسلام إلا إذا كان تابعاً لأحد مذاهب الأئمة الأربعة وكان قد انصرف البتة عن حرية التفكير والاستقلال بالرأي إلى إتباع آراء رجال عاشوا في القرن التاسع. وكانت أذهانهم بطبيعة الحال خالية من أدنى فكرة عن مطلب القرن التاسع عشر واحتياجاته.
إن حياة وسلوك الكثيرين من مسلمي هذا العصر لهما اليوم أقل التئاماً مع تعاليم الأستاذ (النبي) ووصاياه وأكثر التئاماً مع آراء ونظريات المجتهدين والأئمة الذين حاولوا - كل على حسب مذهبه ونظره الخاص - أو يؤولوا كلمات الوحي التي هبطت على الأستاذ(49/23)
الأكبر فكان مثلهم مع ذلك الأستاذ كمثل رجال قائمين وسط زحام يصغون إلى خطبة واعظ قد قام على ذروة عالية ينثر مقاله على جموع محتشدة وهو من مكانه الرفيق يشرف على فضاء فسيح ومتسع رحيب بينما أولئك الرجال لا يبصرون إلا ما جاورهم ولاصقهم ولا يفهمون ما قد كمن في غضون كلمه وتضاعيف ألفاظه في المعاني العميقة. والمغازي الدقيقة. والأغراض الخفية. والمرامي القصية. ولا يدركون ماهية الجمع المصغي إلى خطابه فلا غرو وإذا رأيتهم قد شرعوا يوفقون بين كلمات ذلك الخطيب وبين قاصر علمهم ومحدود رأيهم في موضوع مطالب النوع البشري ورقي العالم الإنساني. أولئك الرجال قد غاب عنهم أن تعاليم الأستاذ عامة شاملة في طبيعتها وكنهها وينقصهم مع ذلك ألمعية النبي وتوقد لوذعيته واتصال روحه بينبوع الوحي الفياض - فلا جرم والحالة هذه إذا رأيتهم قد نسوا أن النبي إنما كان يلقي خطابه في ذروة طود عبقريته على العالم أجمع. وأولئك الرجال قد خلطوا بين المؤقت والدائم ولم يفرقوا بين الخاص والعام. وكما حدث في الكنيسة النصرانية كان كثير من أولئك الأئمة المسلمين خداماً للملوك المستبدين الجبابرة الذي كانت أغراضهم وغاياتهم لا تتفق مع وصايا الأستاذ (النبي) وأوامره. فكان أولئك الملوك يضطرون الأئمة المذكورين إلى استحداث القوانين والنظريات واختراع الأحاديث والروايات المنافية لروح الدين وإلى تأويل كلمات الوحي بما لا ينطبق على مغازيها الحقيقية ومن ثم ما نراه من أن معظم القواعد والنظامات التي تخضع لها عقائد الكثيرين من حضنة الإسلام اليوم لا يكاد يصخ القول بأنه مشتق من تصريحات الكتاب الحكيم (القرآن) بل أغلبه مستمد من كتب الشريعة التي غص بها العالم الإسلامي في القرون الأخيرة كما أن العبرانيين انصرفوا عن توراتهم إلى التلمود فكذلك انصرف المسلمون عن القرآن إلى آراء العلماء ورواياتهم. ولا نعني بهذا أنك إذا سألت مسلماً عن الكتاب المشتمل على أوامر دينه كان جوابه شيئاً خلاف القرآن ولكنا نعني أن القرآن ليس بالفعل مصدر التعليم التي تقوم عليها معتقداته وتصرفاته.
وفي أثناء القرون الوسطى كان المرجع الذي يعمد إليه للفصل والقضاء في مسائل الدين المسيحي ليس هو العهد الجديد (الإنجيل) ولكن كتاب سوماتيولوجيكا تأليف توماس أكويناس وهذا هو الحاصل في هذه الأيام فإنك لا ترى الرجل النصراني الصحيح المذهب(49/24)
يستمد عقيدته من نظره الخاص وبحثه الشخصي في تعاليم المسيح في الإنجيل. وإذا فرض أن مثل هذا الرجل أراد فعلاً أن يطلع بنفسه على شيء من الوحي المقدس لم يزد على قراءة قواعد الإيمان فإذا اتفق أنه كان بطبيعته ميالاً للبحث والتحقيق اقتنع بقراءة قانون إيمان الكنيسة الإنجليزية ولكنه يتبجح مع ذلك فيقول أنه استمد عقيدته ودينه من الإنجيل ولا يرضى أن يعترف بالمصفاة التي من خلال ثقوبها ترشحت عقيدته. وعلى هذا النحو يستمد الدين الإسلامي في هذه العصور ويقتبس وبهذه الطريقة يبنى ويشاد. وإذا تأملت الحقيقة وجدت أن جانباً عظيماً من معتقدات مسلمي هذه العصور وتصرفاتهم لا أساس لها البتة في الكتاب الحكيم (القرآن).
ونحن مع كل ذلك لا ننكر أن كل مذهب من مذاهب الأئمة يشتمل على شيء كثير من بذور الإصلاح وجذور الترقي وإذا كانت أسباب التقدم قد انتقصت اليوم ودولاب الرقي قد تعطل فإنه لا تبعة في ذلك على الأئمة المشرعين ولا حرج. وإنما السبب فيه راجع إلى عجز في إدراك أسرار القرآن وروح تعاليم الأستاذ الأكبر بل تعاليم الأئمة أنفسهم.(49/25)
تاريخ الزواج
إن أول دور للزواج هو دور الإباحة المطلقة والمسافحة الخالية من كل قيد ونظام لا حائل يمنع الرجل من المرأة التي يريدها ولو كانت في حيازة غيره على أن حيازة النساء لم تكن معروفة في هذا الدور بل كن مشاعاً للرجال لا يستأثر أحد بإحداهن بل له أن يعاشر من يريد، ولا يوجد في القوانين والعادات ما يحرم عليه هذه المعاشرة على أن القوانين والعادات الاجتماعية كانت مفقودة في ذاك الوقت لأنها لا تنشأ بين الأفراد والمنعزلين وإنما تنشأ بين الجماعات ولم تكن الجماعات موجودة بعد بل كان الإنسان عائشاً في فئات صغيرة لا تكون اجتماعاً بالمعنى الذي يتولد عنه قيود وروابط اجتماعية. وكانت المعاشرة وقتية تنصرم في الحال ولا تلبث إلا ريثما يقضي الرجل غرضه وفي بعض الأحايين تطول إلى أن يفطم الطفل عن الرضاع ويصبح قادراً عن الأكل. ولم تكن للقرابة حومة تمنع الرجل من التمتع بذويه ولا يلحقه من جراء ذلك عار ومن آثار هذا إباحة قدماء المصريين زواج الأخوة بالأخوات وفي بعض نواحي أفريقيا إلى وقتنا هذا يتزوج الملك بابنته الكبرى والملكة بابنها الأكبر ليبقى الدم الملوكي نقياً لا يشوبه دم آخر.
وكان التبذل غير مستهجن فلا يعيب الرجل أن يسترسل في شهواته ولا يشين المرأة أن تفرط في عرضها أو تتجر بعفافها بل كان العفاف رذيلة تترفع عنه النساء النبيلات ويستعيبن الامتناع عن إجابة رجل إلى طلبه. وكان لا يرغب في العذراء وإنما تحتقر وتزدرى لأن عذارتها دليل على خلوها من الصفات المحبوبة من الرجال. ومن حسن الضيافة أن يمتع الضيف بامرأة من نساء القبيلة وهذه عادات لا تزال موجودة إلى الآن بين قبائل الأسكيمو وكلفورنيا ونيوزيلندة.
ولا يوجد عند القبائل الوحشية الحديثة العهد بنظام الزواج صيغة لفظية له بل ينعقد عادة بأفعال تفيد قبول أحد الزوجين معاشرة الآخر أو إذعانه كرهاً لهذه المعاشرة كأن تشعل نار ويجلس الاثنان حولها أو تقدم المراة لخطيبها قليلاً من التبغ وورقة من الفلفل أو يجلس الاثنان في وعاء من شأنه عادة أن يستعمل في حمل الماء ويوضع فيه بعض المأكولات، وعند الرومانيين يقتسم الزوجان فطيرة ويأكلانها سوية.
والزواج لدى هذه القبائل ضعيف الوثاق سهل الانفكاك يكفي لحل قيوده أن يطرد الرجل زوجته ففي كلفورنيا الجنوبية يجوز للرجل أن يتزوج من النساء بقدر ما يريد ويعاملهن(49/26)
معاملة الرقاء وإذا مل صحبة إحداهن طردها. وإذا أخرج الرجل في نيوزيلند امرأته من داره يعتبر أنه طلقها. وفي تاهيتي ينصرم حبل الزواج متى شاء أحد الزوجين. وفي القبائل التي تسود فيها المرأة على الرجل كسكان نيكارجوا الأقدمين تنفرد المرأة دون الرجل بحق الطلاق وكلما ارتقت القبيلة وازدادت حضارتها وتوثقت عراها الاجتماعية تقلصت تلك الفوضى من الزواج ونشأت حدود ومعالم لم تكن موجودة من قبل وضاقت الدائرة التي يجوز للرجل أن يختار منها امرأته، ومن أقدم أنواع التضييق تحريم الزواج من نساء القبيلة وإباحته من نساء القبائل الأخرى وذلك لا يكون إلا بالسبي والخطف، ومن القبائل ما يعمل العكس فيحرم الزواج من الأجنبيات ويبيحه من نساء القبيلة.
وقد اختلف علماء الاجتماع في معرفة أي النوعين أقدم، الزواج من داخل القبيلة أو الزواج من خارجها، وأي القبائل أرقى في المدنية والحضارة، القبائل التي تحرم الزواج من بني نسائها أو القبائل التي تحرمه من الأجنبيات، والظاهر أن كلا الفريقين في مستوى واحد من الرقي فإنه يوجد على التلال الواقعة في الشمال الشرقي من الهند وفي القوقاس قبائل يلوح عليها أنها من أصل واحد لتشابهها في اللغة والخليقة، وعلى درجة واحدة من المدنية ومع ذلك بعضها يحرم الزواج من الخارج والبعض الآخر يحرمه من الداخل.
إن منشأ تحريم الزواج من بين نساء القبيلة راجع على رأي بعضهم إلى ما غرسته الطبيعة في الإنسان من حب بقاء النوع والمحافظة على النسل من الضعف والتلاشي وذلك أن تعاقب الزواج من الأقارب يورث العقم ويمنع التناسل وهذا الرأي غير وجيه إذ لو كانت الغريزة هي التي دعت إلى تحريم الزواج من بين نساء القبيلة لوجب أن يكون التحريم عاماً لدى جميع القبائل، ولما وجدت قبيلة واحدة تبيحه، أجل إن التزاوج بين الأقارب مضعف للنسل إلا أن هذا ليس العلة الأولى في تحريمه فإن مساويه لم تستكشف إلا حديثاً والتحريم قديم جداً وسابق هذا الاستكشاف الذي يقتضي خبرة طويلة وقدرة على التفكير والتعليل وربط النتائج بالأسباب، ومثل هذه الأمور غير متوفرة حتى الآن بين القبائل الوحشية التي تحرم هذا الزواج.
ويرى بعض العلماء أن العلة في سبي النساء الأجنبيات للزواج بهن راجع إلى قلة نساء القبيلة بسبب عادة وأد البنات أو لسبب من الأسباب الأخرى. ولكن الواقع يكذب ذلك فليس(49/27)
معنى وأد البنات إبادة النساء وإفناؤهن عن آخرهن ولا إنقاص عددهن إلى ما دون عدد الرجال وإنما معناه حفظ التوازن بين الرجال والنساء وكان يقتل منهم العدد العظيم بسبب الحروب المتتابعة التي كانت تنتاب القبائل ولا يقتل من النساء إلا اليسير فعددهن والحالة هذه يزيد على عدد الرجال فاستن وأد البنات للتخلص من هذه الزيادة فقط لا لإبادتهم ولو كانت القبائل التي تخطف نساء القبائل الأخرى تفعل ذلك لقلة نسائها لما أباحت تعدد الزوجات ولكانت تمقته وتحرمه أشد التحريم بيد أن المشاهد أن سبي النساء مقترن دائماً بإباحة تعدد الزوجات وهذا كاف في تفنيد هذا الرأي.
ويرى هربرت سبنسر أن عادة الزواج من خارج القبيلة ناشئة عن الحروب الطويلة التي كانت تضطرم نيرانها من وقت لآخر بين القبائل وذلك أنه في نهاية كل قتال يأخذ المنتصر من الغنائم والأسلاب ما كان سهل الحمل كثير الفائدة كالماشية والحلي والنقود أو يفخر به لدلالته على الشجاعة والاقتدار والتنكيل بالأعداء مثل الجماجم والآذان والشعور.
والسبي الجامع لهاتين المزيتين فإنه يعلي قدر الرجل من حيث دلالته على الظفر بالأعداء ويكسبه زوجات يتمتع بهن وأرقاء يستخدمهن في مرافق حياته. وكلما ازداد عنده عدد هؤلاء النسوة ازداد غنى ورفعة فلا غرو أن تتفانى القبائل الحربية في اقتناء النساء المسبيات وتتيه بهن عجباً وفخراً وتعتبر الزواج بهن غاية المجد والشرف وتأنف رجالها من أن تتزوج من بين نسائها. وإذا عجز الرجل عن أن يقتنص في الحرب امرأة يتزوج بها احتال على خطفها حتى لا يكون مرذولاً عند قبيلته محتقراً بين أخوانه.
ونشأ عن عادة سبي النساء وخطفهن، وعن تفكك روابط الزوجية وعدم الاعتداد بحرمتها انتساب الأطفال إلى أمهاتهم لا إلى آبائهم وذلك لتعذر معرفة الأب في معظم الأحايين ونشأ عن ذلك عادة أخرى وهي اعتبار البنات التي تولد في القبيلة من أمهات أجنبيات كأنهن كذلك أجنبيات يجوز لرجال القبيلة الزواج بهن.
ولكن حينما تخلد القبائل الحربية إلى السكينة والسلام وتأخذ بأسباب التحضر لا تلبث طويلاً حتى تكف عن شن الغارات من أجل سبي النساء وتتهاون في تحتيم الزواج بالأجنبيات وتتلاشى هذه العادة وتزول ولا يبقى منها إلا آثارها فقط، وأول من يتخلى عنها طبقة الأشراف فهي التي تبدأ أولاً بالزواج من نساء القبيلة وتكتفي في ليلة العرس بتمثيل(49/28)
ما كان يقع عادة من السبي من الكر والفر والضرب والامتناع لتأصل هذه الأمور في النفوس وتعذر انتزاعها منها مرة واحدة. ثم تسري العدوى من هذه الطبقات إلى الطبقات الأخرى وهذا شأن كل عادة جديدة فإنها تنشأ أولاً بين الطبقات العليا ثم تنتشر منها حتى تعم الطبقات السفلى.
ولا يزال جيراننا ومواطنونا سكان شبه جزيرة سيناء عالقين بأهداب هذه العادات القديمة فإنهم في ليلة العرس يقوم الرجال ويتظاهرون بالدفاع عن العروس والزود عنها ويضربون العريس ويجلدونه بالسياط مكأنهم يحاولون منعه من خطف العروس وتمتنع هي عن الذهاب معه وتقابله بالضرب واللكم والسب وتساعدها في ذلك أترابها وكلما بالغت في ذلك علا قدرها وازداد إعجاب الناس بها.
أما القبائل التي لا تقوى على قتال جيرانها الأشداء وتخشى بأسهم فإنها تبتعد عن كل ما يستفز غضبهم ولا تجرأ على أن تخطف امرأة منهم بل تحرم ذلك كل التحريم وتمقته كل المقت وذلك لشدة ما كانت تلاقيه من الويلات والمحن كلما قام بعض أفرادها واختطفوا امرأة تنتمي إلى قبيلة قوية - إن لخطف النساء وضعف الروابط الزوجية وإباحة المسافحة أثراً سيئاً جداً فإن المجتمع الذي يزاول هذه الأمور يكون مفكك الروابط مشتت الشمل لا تتآزر أفراده ولا تتعاون إنما تتخاذل وتتشاكس وذلك لأن عاطفة القرابة بينهم ضعيفة جداً تكاد تكون معدومة فإن الأطفال تنتسب إلى الأمهات لا إلى الآباء والانتساب إلى الأم قصير المدى لا يشمل غير الأطفال ومن عداهم فأجانب لا يحبونه ولا يشعرون نحو بعضهم بعاطفة قرابة أو نسب بل كل منهم قائم بنفسه لا يعنيه من شؤون غيره إلا قليل ولا يعرفون من القرابة غير الأمومة والأخوة على أن عاطفة الأخوة نفسها غير تامة بينهم لأن الأخوة عندهم أخوة لأم وليسوا بأخوة أشقاء. والمجتمع الذي بهذا التفكك والانحلال لا يستقر على حال من القلق ولا يهدأ له بال ولا ترتكز له قوة سياسية تجمع كلمته وتدفع عنه أذى أعدائه.
ومن مساوئ هذا النظام إهمال الرجال شؤون الأطفال وعدم الاكتراث بهم والعناية بتربيتهم وترك كل ذلك على عاتق المرأة التي لا تقدر أن تقوم به على أحسن وجه فتضعف الأطفال ويصيبهم الهزال وتتفشى فيهم الأمراض الخبيثة ويحصدهم الموت حصداً ومن ينجو منهم(49/29)
يعيش سقيماً طول حياته ويشيخ منم غير أوان ويدركه الهرم وهو في سن الشباب.
تعدد الأزواج
في وسط هذه الفوضى التي تكاد تكون مطلقة لا يخلو الأمر من أن يستأثر بعض الرجال ببعض النساء ويمنعوهن عن غيرهم ولو بالقوة أو يقصر رجل نفسه على امرأة مخصوصة أو على بضع نساء وبعبارة أخرى كانت جميع أنوا الزواج من تعدد الأزواج والزوجات والاقتصار على زوجة واحدة موجودة ولكن بلا نظام يحول دون التنقل من نوع إلى آخر والتعرض إلى نساء الغير إذا كان هذا الغير ضعيفاً. ولأسباب مخصوصة يضيق المقام عن تبيانها لتشعبها واختلافها بين قبيلة وأخرى يغلب أحد هذه الأنواع على الأنواع الأخرى ففي المناطق الجليدية من الصين حيث الغذاء قليل والطبيعة قاسية تتزوج المرأة بعدة رجال ليتعاونوا جميعاً على العناية بالطفل والاهتمام به وذلك أن رجلاً واحداً غير قادر على القيام بشؤون الطفل بل لذلك لا بد من تآزر رجال عديدين وإلا هلك الطفل وصغر الهيئات الاجتماعية وتشتتها في طلب الرزق أسباب تدعو إلى الزواج بامرأة واحدة وإلى إحكام رابطة الزواج واستمرارها مدى الحياة فالبشمن يبيحون تعدد الزوجات ولكن قل من يتزوج بأكثر من امرأة. ولا يوجد تعدد الزوجات إلا حيث يزيد عدد النساء على عدد الرجال زيادة عظيمة بسبب حرب طاحنة أودت بحياة كثيرين من الذكور أو لأن المواليد الإناث أكثر من المواليد الذكور لأسباب طبيعية غير اعتيادية إذ المعتاد أن الذكور والإناث متقاربون دائماً في نسبة المواليد إلا إذا طرأت ظروف أخلت بهذا التوازن.
إن تعدد الأزواج آخذ في الاضمحلال وذلك لأن الجماعات التي تتبعه تكون حتماً قليلة النسل ضئيلة العدد لا تطيق الدفاع عن نفسها ولا تقوى على مناهضة أخصامها خصوصاً وأن روابط القرابة واهية ضعيفة لضياع الأنساب والجهل بالأسلاف لا يعرف الإنسان جده ولا أباه ولا تمت الأفراد بعضها إلى بعض بحبل القرابة إلا من جهة الأم فقط وقرابة الأم قصيرة المدى لا تمتد إلا إلى جيل أو جيلين على الأكثر ثم تنقطع وتصبح الأقارب أجانب ولا ينتصرون لبعضهم ولا بشد أحدهم إزر الآخر ويتنافس الأزواج فيما بينهم ويتنازعون الرئاسة وهو معروف بين القبائل التي تعيش في الداخل من جزيرة سيلان حيث يجوز للمرأة الغنية أن تتخذ من الأزواج بقدر ما تريد وبين قبائل الأسكيمو حيث يجوز للمرأة أن(49/30)
تتزوج بعدة رجال ولكل رجل من هؤلاء أن يتزوج بعدة نساء. وهو على أربعة أنواع: - النوع الأول أن تتزوج المرأة بعدة رجال لا قرابة بينهم ويتزوج كل رجل من هؤلاء الأزواج بعدة نساء وبعباة أخرى يتكون هذا النوع من مزيج من عائلات تجمع بين تعدد الأزواج وتعدد الزوجات فيكون لكل رجل عدة زوجات ولكل امرأة عدة أزواج مثل قبائل الأسكيمو.
النوع الثاني أن تتزوج المرأة بعدة رجال لا قرابة بينهم أيضاتً ولكن لا يسمح للرجل بأن يتزوج بامرأة أخرى بل يقصر نفسه على امرأة واحدة ولا يتعداها إلى غيرها.
النوع الثالث أن تتزوج المرأة بعدة رجال بعضهم أقارب بعض.
النوع الرابع أن تتزوج المرأة بعدة رجال أخوة.
وأحط هذه الأنواع وأقربها إلى الفوضى النوع الأول وذلك لأن الطفل الذي يولد في هذه البيئة لا يعرف أباً ينتسب إليه ولا يجد عطفاً من أحد. ومن يعطف عليه والرجال لا يعرفون أولادهم بل لا يمكنهم أن يعرفوا أن لهم أولاداً حقيقة ولا في أي فئة من الأطفال الذين يغشون أمهاتهم توجد أولادهم حتى يشملوا هذه الفئة خاصة بالعناية والرعاية حباً بأطفالهم. أما الأنواع الأخرى ففيها مكان للشفقة الأبوية فإن الرجل وإن كان لا يعرف ولده تحقيقاً إلا أنه من مفروض أن هذا الولد إن وجد فهو موجود بين أطفال المرأة المتزوج بها ومن الجائز أن يعرفه بواسطة العرافين أو بأخبار المرأة بذلك، ويمتاز النوعان الثالث والرابع بكون الأزواج أقارب أو أخوة وبذلك لا تكون أطفال المرأة الواحدة أخوة لأم فقط بل يكونون بين أخوة أشقاء أو أولاد أعمام تجمعهم وحدة الدم ورابطة القرابة الأبوية. ولكنهم لا ينتسبون إلى أب واحد بل إلى مجموع الأزواج الذين ينتسبون هم أيضاً إلى مجموعة أجداد وهلم جرا.
تعدد الزوجات
تعدد الزوجات لا يوجد إلا في البلاد التي يزيد فيها عدد النساء على عدد الرجال زيادة عظيمة أما البلاد التي يتساوى فيها العددان أو يكونان قريبين من بعضهما فإنها تحرمه بتة أو تمقته وذلك لأن زواج البعض في هذه الحالة بأكثر من امرأة يحرم البعض الآخر من وجود نساء يتزوج بهن ويقضي عليه بالعزوبة طول حياته. ولهذاالسبب ولأسباب أخرى(49/31)
أهمها زيادة الحاجيات والتغييرات التي طرأت على حياتنا الاقتصادية والاجتماعية أصبح تعدد الزوجات ممقوتاً من الذوق العام بعد ما كان من المفاخر التي يتسابق إليها الأغنياء ويحسدهم عليها الفقراء وأمسى زوج الاثنين يخجل من أن يعلم عنه ذلك ذلك فيخفيه وكان بالأمر يظهره ويتيه به على الأخوان.
إن تعدد الزوجات غير خاص بالشعوب الإسلامية بل شائع بين أمم أخرى كثيرة مختلفة العادات والأديان والأجناس والمناخ فتراه في نيوزيلاندة وصومطرة وفي شمال أمريكا وجنوبها وفي مجاهل أفريقيا وجنوبها وشرقها وفي الكنجو ومدغشقر وفي كثير من نواحي آسيا ومباح أيضاً في بلاد أخرى كثيرة ولكنه غير معمول به فيها لأسباب عديدة أهمها الفقر مثل البشمن فإنهم يجيزون تعدد الزوجات غير أنه نادر بينهم لشدة فقرهم.
وحيثما يوجد تعدد الزوجات يوجد الزواج بامرأة واحدة على نسبة أعظم فلا ترى بلداً انفرد بها تعدد الزوجات أي لا يتزوج الواحد من أهلها إلا باثنتين أو أكثر بل المشاهد في جميع البلاد التي تبيح تعدد الزوجات أن المتزوجين بأكثر من امرأة أقلية صغرى وأن الأكثرية تكتفي بالزواج بامرأة واحدة.
ويرجع تعدد الزوجات في أصل وجوده إلى سببين مختلفين أحدهما تاريخي والثاني اقتصادي فالأول يرجع إلى عهد القبائل الحربية وتعديها على جيرانها لسلب الأموال وسبي النساء وإلى تفوق بعض الأفراد جثمانياً وعقلياً وتفردهم بالسطوة والجاه وأخذهم كل امرأة تعجبهم من القبيلة اقتساراً، والسبب الثاني يرجع إلى استخدام المرأة في الأعمال الشاقة وذلك أن الرجل في بعض البلاد لا يزاول عملاً ما غير الصيد والقتال، والمرأة هي التي تقوم بكل الأعمال الأخرى فيقتني الرجل من الزوجات بقدر طاقته ليستخدمهن في أعماله ويستثمرهن في إنماء ثروته وكلما كثرت نساؤه ازداد غنى وخف بالتالي الحمل الملقى على عاتق كل منهن ولذا لا تجد النساء في هذه البلاد ينكرن على أزواجهن الإكثار من الزواج ولا ينقمن عليهم من أجل ذلك بل على العكس يفرحن له.
سبق أن بينا أن الارتباط العائلي والاجتماعي في الجماعات القائمة على نظام تعدد الأزواج ضعيف واه يكاد يكون في حكم العدم لجهل الإنسان بآبائه وأجداده أما الجماعات القائمة على نظام تعدد الزوجات فالروابط العائلية والاجتماعية فيها أشد وأمتن لوجود صلة الدم(49/32)
والنسب بجانب صلة المصاهرة وعلم الناس بها ومعرفتهم لها واحترامهم إياها.
ولكن لتعدد الزوجات مضار عظيمة، منها فقدان المحبة والإخلاص بين الرجل وزوجاته وتجرد علاقات الزوجين ببعضهما من روح الكمال والجمال واقتصارها على إشباع الرغبات المادية فلا تخلص المرأة لزوجها الود ولا تغار على صالحه كثيراً ولا يعني الرجل بشؤون امرأته ولا يعتد بما تحب وتكره بل يهملها ويهمل أولاده منها ويتركهم لعنايتها من غير أن يرعاهم هو أيضاً ويتدبر أمورهم وما أضر هذا الإهمال على الأطفال، يورثهم أمراضاً كثيرة مادية وأدبية. وقد ذكر بعض السياح أن سود أفريقيا لا يغازلون نساءهم ولا يغارون عليهم ولا يفقهون معنى الحب بل ولا توجد في لغاتهم لفظ يدل عليه.
وأشد من هذا، الكراهية التي يبذرها تعدد الزوجات بين الأخوة لأب فإنهم يشبون على البغضاء الضغينة ويضمرون لبعضهم الحقد لكثرة ما يقع بين أمهاتهم من التحاسد والشقاق وما تلقنه كل أم لأولادها من بغض الآخرين وما أشد ما لاقته الدول الشرقية من جراء تعدد الزوجات فإنه لا يكاد الخليقة أو السلطان يموت حتى تهب الثورة وتتمزق أحشاء الدولة وتنقسم إلى فرق وأحزاب يقود كلاً منها أحد أبناء السلطان المتوفي ليحارب أخاه لأبيه ويغتصب منه الملك ولقد تلافى أحد السلاطين هذه الكارثة بأن ذبح جميع أخوته حين جلوسه على العرش واستأصل شأفتهم ولا تزل بعض العائلات الشرقية تتقلب على أحر من الجمر وتصطلي جذوة الانقسام والشقاق بسبب تعدد الزوجات.
يتوهم البعض أن تعدد الزوجات يفضل الزواج بامرأة واحدة من حيث التناسل وزيادة السكان ونمو العمران وهو وهم لا أساس له من الصحة إلا في حالة واحدة وذلك حينما يفوق عدد النساء عدد الرجال بكثير أما إذا كان العددان متساويين أو متقاربين فالزواج بامرأة واحدة خير وأدعى إلى التكاثر فإن المتزوج بنساء كثيرات لا يسعه أن يلتفت إليهن جميعاً على السواء ويساعدهن على أداء وظيفتهن التناسلية بدون محاباة بل لا بد أن يهمل بعضهم لعيب فيهن ويفقدن وظيفتهن وبقدر عدد هؤلاء النسوة المهملات تقل نسبة المواليد.
إن الاقتصار على زوجة واحدة خير من تعدد الزوجات فإنه يدعو الزوجين إلى التآلف والوداد ويغرس في قلوب الأطفال محبة بعضهم البعض ويجعل من أفراد الأمة كتلة صلبة عمادها التضامن الاجتماعي ولحمتها الارتباط العائلي المتين.(49/33)
عبده البرقوقي(49/34)
حديث المائدة
لعل قراءنا الأفاضل لم ينسوا أنا نشرنا في هذا الكتاب الرائع نحواً من اثني عشرة قطعة مختارة في السنة الثانية والثالثة والرابعة - وقد طلب إلينا اليوم أن نعود إلى هذا الكتاب فنستوعب أطيب ما فيه كما طلب إلينا أن نعود إلى حضارة العرب في الأندلس وإلى دون جوان للشاعر بيرن - وحديث المائدة هذا كما بينا في غير مكان من هذه المجلة يقع في ثلاثة أجزاء فجزء للشاعر وآخر للأستاذ - ونحن الآن نختار من جزء الأستاذ والكتاب للكاتب الأمريكي الأشهر وندل هولمز.
(13)
قال الأستاذ:
أردت أن أجعل أو لظهوري على المائدة محلى بكلمة نبيلة وحكمة جليلة تكون بمثابة قانون عام ووصف دقيق للحياة البشرية. فوجهت نظري إلى رجل فقيه من رجال الكنيسة كان جالساً أمامي لأجاذبه أهداب المحاورة حتى تسنح الفرصة فأقذف بين يديه بالكلمة النبيلة والحكمة الجليلة أعني الغرض الأهم الذي ترمي إليه هذه الحياة فقلت له: تفضل عليّ بقطعة من السكر الذي أمامك يا سيدي. الإنسان حيوان محتاج إلى معونة بني جنسه.
فقال الفقيه: ما أقلّ ما سألتنيه يا سيدي. ثم ناولني السكر.
فقلت: الحياة حزمة كبيرة مؤلفة من أمور صغيرة.
فابتسم الفقيه كإنما ظن أن كلمتي هذه هي خاتمة عبارات الشكر والثناء الموجهة إليه بمناسبة مسالة السكر.
فقلت له: أراك تبتسم، لعل رأيك في الحياة هو أنها حزمة صغيرة مؤلفة من أمور كبيرة.
فقهقه الفقيه ضاحكاً ولكنه كبح جماح ضحكته ثم قال: الرأي عندي أن الحياة حزمة كبيرة مؤلفة من أكور كبيرة.
وهنا رأيت الفرصة قد سنحت لإبراز الحكمة الجليلة فانبريت أقول: الغرض الأعظم من هذه الحياة. . .
في هذه اللحظة قاطعني جاري وكان فتى حديث السن يدعونه جون فقط بلا لقب ولا كنية. فقال لي: صه! أنصت إلى رأس الغول فإنه يريد أن يتكلم.(49/35)
فتلفت حول المائدة أفتش ببصري على رأس الغول الذي أشار إليه جاري جون فأبصرت لدى الطرف الأقصى من المائدة رأساً كبيراً فوق جثة ضئيلة معوجة مشوهة موضوعة فوق كرسي عال قد رفع محموله (أي الجالس عليه) إلى مستوى المائدة وأصاره بمتناول سهل من طعامه. وكان منظر هذا المخلوق من فرط غرابة التشويه وقبح الهيئة بحيث يخيل إلي أو أنه إحدى لعب الأراجوز وأن وراءه محركاً مستتراً قد أبرزه هنيهة تأملاً وعما قريب يسحبه ويبرز لعبة أخرى من تصاوير حرفته وتهاويل مهنته. فأقبلت أنصت إلى مقالة هذا الرجل المشوه فإذا هي كما يأتي:
بلدي بوستون إنه محتدي ومسقط رأسي وفيه أريد أن أموت وأقبر وفي ترابه المحبوب تدفن عظامي ويغيب رفاتي، ولا تعيرونني بضيق مساحة بلدي وتواضع بنيانه وتهدم بعض أركانه واعوجاج طرقاته والتواء مسالكه. فلقد ولدت بأشدها اعوجاجاً وفيه درجت وترعرعت وفي تعاريجه الملتوية رتعت ومرحت.
فقال الفتى جون بصوت خافت لم يسمعه المحدث المشوه الخلقة وسمعته أنا لأني جاره وملاصقة لا عجب أنك لطول جولانك في مسالك بلدك المعوجة خرجت كأنما أفرغت في قوالبها فأتيت أشد الخليقة تلوياً واعوجاجاً.
هذه الكلمة لم تصل إلى أذن الرجل الدميم الضئيل فاستمر في مقاله.
أجل، إن مدينة بوستون مملوءة بالطرق الحرجة المعوجة ولكني أقول واصرح بأنها قد فتحت من الطرق المؤدية إلى حرية التفكير وحرية القول وحرية العمل أكثر مما فتحته أي بلدة أخرى حاضرة أو غابرة - حية أو ميتة - مهما بلغ من سعة سبلها وارتفاع مناراتها!.
وهنا دخل في حلبة الحديث رجل من أصحاب المائدة نبيل الهيئة له سمت وأبهة وكبرياء وروعة أسود الشاربين غزيرهما عليه صدرية ممن القطيفة وسلسلة ضخمة ذهبية ودبوس من الماس قد بلغ من فرط الضخامة ما يدعو إلى ظل خفيف (لا تخطئ غرضي أيها القارئ - فإني لا أعني أكثر من ظل خفيف فقط) من الشك والارتياب بحقيقة جوهره وكنه معدنه. هذا الرجل ينتمي إلى مدينة عظيمة من أعيان مدائن البلاد (الولايات المتحدة) وهو يجلس على المائدة إلى جانب ابنة صاحب الفندق - فنتاة حسناء عظيمة الثقة بصاحبنا المذكور راسخة العقيدة في حوله وقوته وهي أيضاً موضع اهتمامه وعنايته ومطمح أمله(49/36)
ورغبته. قال هذا الرجل: ما مبلغ ارتفاع دار الندوة (مجلس الشورى، مجلس البلد الذي هو أشبه بمجلس المديرية أو البلدية) في بلدتك بوستون؟
قال الرجل المشوه: ما مبلغ ارتفاع دار ندوتنا؟ ارتفاعه يوازي أول درجة في السلم المؤدي إلى ذروة الفكر الحر واستقلال الإرادة والعمل، أليس ذلك كافياً؟
فقلت: أجل إنه لكذلك. وهنا ألقي بالحكمة الجليلة التي قد ضاق بها صدري وصبري فطرحتها على بساط المحاورة دون انتظار الفرصة أو المناسبة فقلت: الغرض الأعظم من الحياة هو التوفيق بين الإنسان وبين ظام الكائنات. وقد قامت الكنيسة بذلك إذ كانت هي الآلة الموسيقية الوزانة التي بفضلها تتم الموازنة والملاءمة بين نظام الإنسان ونظام الكائنات. ولكن هذه الآلة الوزانة (أعني الكنيسة) تحتاج هي ذاتها إلى ضبط وميزان. فمن ذا الذي ترى يقوم بوزنها وضبطها؟
فتقدمت للكلام امرأة حادة الصوت حادة الطرف حادة المفاصل حادة الأخلاق عليها ثوب أسود كأنما كانت لبسته في الأصل للحداد ثم أبقته بعد ذلك على سبيل الاقتصاد فقالت: إذا كنت تطلب من يقوم بضبط هذه الآلة الوزانة (أي الكنيسة) التي وظيفتها التأليف بين نظام الإنسان ونظام الكائنات فعليك بالإنجيل.
فقلت لها: هذا كلام مستحسن ولكن فيه مجالاً لشيء من التعليق والتعقب تقولين اذهب إلى الإنجيل وقد غاب عنك أن الإنسان إنما يستمد من الإنجيل بمقدار ما يحمل إليه - أعني بمقدار ما يحتويه صدره من العلم بالحياة والخبرة بشؤون الدنيا المكتسبة بالنظر والتأمل والتجارب فضلاً عن سلامة الفطرة ونفاذ البصيرة. وأنت إذا قارنت بين نظرة الرجل الساذج في الكتاب المقدس وبين نظرة رجل مثل مارتين لوثر صاحب المذهب البروتستانتي أو قارنت بين اطلاعة تلميذ من طلاب الأدب على بعض صفحات شكسبير وبين اطلاعة مثلها من النقادة الجهبذ (وليم هازليت) أو العلامة الضليع (وليم سكليجل) اللذين فنيا العمر في دراسة نفثات ذلك الشاعر الأكبر فأي فرق بعيد وأي بون شاسع. وإنما مثل الأذهان البشرية المختلفة في انغماسها في كتاب أحد الفحول العظماء واستمدادها العلم من ينابيعه كمثل المواد المختلفة الجوهر تغمسها في سائل بعينه فإنها لا تأخذ كلها من السائل بمقدار واحد بل كل واحدة تتشرب منه على قدر كفاءتها وقوتها أو كما يقول علماء(49/37)
الكيمياء على قدر قابليتها فهي لا تزال تمتص من السائل حتى تتشبع تماماً أي حتى تبلغ أقصى غاية التشبع الت يسميها أولئك الكيماويون نقطة التشبع وعلى هذا الحد فإن قابلية التشبع في ذهن مارتن لوثر وذهن وليم هازلت أو ذهن وليم سكليجل أعظم بمقدار غير محدود منها في ذهن الرجل الساذج أو تلميذ الأدب كما أن نقطة التشبع في تلك الأذهان الهائلة الرهيبة أبعد بمسافة غير محدودة منها في ذهن ذلك التلميذ أو ذلك الساذج. فلا يفوتك أيتها السيدة أن الرجل الذي قد عاشر الناس ولابسهم وخبرهم وجربهم - الذي قد سبر أغوارهم وقاس أعماقهم - الذي قد عامل القساوسة والشمامسة والأساقفة وساومهم وعقد معهم عقود المبايعات والمقارضات بدلاً من مجادلتهم في المسائل الدينية والنقط الفقهية - اتضح له بعد طول الممارسة أن الدنيا تشتمل على عدد عديد من الغدرة الخونة المتنكرين فقي ثياب الأخيار والفجرة المكرة المتظاهرين بهيئة الأتقياء الحاملين شعار القديسين والأبرار - والذي يفضل غوصه على درر الحقائق في أوقيانوس الحياة وبفضل إفضائه وخلوصه إلى لباب الإنسانية وصميمها وجوهرها - أدرك أن جميع ما تنطوي عليه صفحات الكتب المقدسة من روح الله وسره وآياته إذا قورن وقيس بالموجود في السموات والأرضين وكا بينهما وفي غضون لجة الإنسانية المائجة الملتطمة المضطربة وفي أنحاء هذا الشعور (أعني الحياة) الحي المتدفق العديم الحصر والحد ظهر كأنه نقطة في القوس الكهربائي الهائل العظيم الذي يصل ما بين قطبي الأبديتين - (1) قطب الأبدية الماضية (أبدية القدم) السالب و (2) قطب الأبدية المستقبلة (أبدية الخلود) الموجب - أجل إن أمثال هذا المجرب الخبير جدير أن يدرك في النهاية أن كل ما تستطيع الكتب المقدسة أن تحتويه من الروح والسر الإلهي هو بالقياس إلى ما تحتويه بطارية هذا الكون المتحركة الفعالة كذرات التبر المطلية بها صفحات كتاب مؤلف من الأوراق الذهبية الرقيقة إذا قيست بالكامن في أحشاء الأرض من كتل الذهب وأفلاذ العسجد. أجل إن الرجل المتقلب بين الأحياء يسمع كلماتهم ويبصر حركاتهم ويفهم نواياهم ويدرك خباياهم لجدير أن يعلم من الأمور والمسائل ما لم يكن ليجده بين دفات إنجيله. لقد انقرض ذلك العهد الذي كان فيه علماء الدين والفقه والفلسفة يحبسون أنفسهم في حجراتهم ويخندقون حولها. أما إنك لن تستطيعي أن تحبسي الغاز في مثانة ولا العلم في دماغ العالم الفني والأخصائي إذ في(49/38)
الحالة الأولى لا بد أن يتسرب من منافس المثانة فيخرج بعضه من حيث يدخل الهواء فيحل محله نتف متفرقات من المعلومات العامة - فهذا ما لا بد من أن يحدث ولو عصبت دماغ ذلك الأخصائي وحصنته ولففته في خمسين غلاف من دبلوماته العديدة المصنوعة من الجلد السختيان أو المسكوفي. هذا رأيي ومعتقدي وإني لأقسم لك بأغلظ الإيمان أنه ما لم يمزج الطب بشيء من البديهيات والتجارب وما لم تمزج العلوم الدينية بشيء من الأمانة والصدق فلسوف ترانا نحن الأمة نثب ونثور فننقض على ما تحتوي هذه الصروح الثلاثة - الدب والدين والقضاء - من شرفات الهذر والهراء والهذيان بالمعاول والفؤوس والقضب والصوالجة فندمرها تدميراً ونردها أنقاضاً مهدمة كأن لم تغن بالأمس.
إذا أراد المرء أن يكون من مذهب المحافظين (الذين يذهبون إلى وجوب إبقاء القديم من العادات والمذاهب والنواميس والشرائع) فليكن في ذلك معتدلاً أي أنه لا يكون جامداً البتة. فإما أن يترك الإنسان مصارف روحه وبالوعاتها مسدودة ونوافذها مغلقة فيحجب أشعة النور من المغرب وأنفاس النسيم من المشرق - ويترك الفيران مطلقة تعيث وتفسد في مخازن المؤن والذخائر، والديدان والحشرات تملأ بطونها في الحجرات والمقاصير، والعناكب تحيك نسيجها وتضرب خيامها على المرايا حتى يتولد تيفوس الروح بسبب الإهمال فنغط في سبات غشيته. أو نهذي في حميا سوريته، فذلك ما لا يصح لعاقل قط أن يفعله.
لقد أطلت الكلام جداً وأفرطت إطناباً وغسهاباً. ولكن ذلك دأبي وديدني ولا عجب فأنا أستاذ المائدة وماذا عسى تنتظرين من أستاذ ميدانه قاعة التدريس وأفراسه كرائم الكلم المهذب وغاياته دقائق المعنى البديع وقد قضى أيامه يتكلم وغيره ينصت، لا أنكر أن ذلك قد يكون من معايبي ولكن لا حيلة لي وليس في طاقتي تغيير خلقي.
ولقد أذكر كلمة قالها لي صديقي وسلفي في زعامة أصحاب المائدة أعني (المتصرف في نادي المائدة) بهذه المناسبة وفي هذا الصدد إذ قال لي ذات مرة: خبرني أيها الأستاذ، أرأيت إذا كنت تقول ولا تصغي لقائل وتسلب ذهنك حلي الحكمة ولا تكسوه من أسلاب غيره من اللباب الحالية وتستنبط مت ينابيع صدرك ثم لا تمدها بفيوض القرائح الثجاجة، ألا تخشى أن يصاب ذهنك يوماً ما بالجدب والمحل وبالعقر والعقم؟ سأحدثك بحديث لي(49/39)
يشبه عملك هذا عسى أن يكون لك عبرة وموعظة اجتمع عندي مرة مبلغ من النقود فأودعته بعض المصارف وأخذت عنه دفتراً من الشيكات يمكنني من سحبه على دفعات ملائمة لمقتضيات الحاجة. فاستمرت الحالة على أحسن ما يرام مدة من الزمن كلما أردت المال بعثت بواحد من الشيكات إلى البنك فعاد إلي بالضالة المنشودة كعفريت سليمان قبل أن يرتد طرفك وكأنما دفتر شيكاتي هذا قاموس من قواميس الأحكام النافذة والأوامر المطاعة اينما فتحته أصبت منه ما شئت من مترادفات اللذة والسعادة ففي ذات يوم وقد أرسلت شيكاً إلى البنك رد إلى الشيك مكتوباً عليه قد نفذت ذخيرتك - إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد أصبح دفتري كمية من الأوراق المهملة! وهكذا يكون مصيرك أيها الأستاذ إذا بقيت تنفق من بنك معلوماتك بإدمان الحديث دون أن تمده بالذخيرة عن طريق الإصغاء للغير. وسيجيء يوماً تريد أن تسحب من مصارف ذهنك فيرتد إليك الشيك مكتوباً عليه قد نفذت ذخيرتك.
فقلت: هذا كلام لا بأس به ولكني أعلم أن الحياة أسرع إلي ضرب دنانير الأفكار وصوغ نقود الآراء من لساني إلى صرف هذه العملة على شكل ألفاظ ولكمات. أفرأيت أنك لو عمدت إلى أزهار بستانك لتمسح بمنشفتك قطرات الندى من عيون نرجسها وخدود وردها وثغور أقاحها في ريعان بكرة صلة أو في ظلال عشية مطلولة أتظن أن أزاهيرك تبقى بعد ذلك عاطلة من عقود الندى وقلائد الطل أم تصوغ لها يد السماء من جمانها ولؤلؤها حلياً جديدة؟ لا مراء أنك لا تلبث أن تجدها محلاة بل أبهى مما سلبت يداك درراً صغاراً وكباراً. ولآلئ عوناً وأبكاراً.
ها أنا ذا أستاذ المائدة - رجل ما زال يقطف أزهار الحياة حتى بلغ إلى ثمارها فلم يجدها في كل الأحايين مرة شاحبة الصبغة حزينة اللون بل وجدها أحياناً حلوة بهيجة اللون مصقولة الأديم، رجل كان يتعثر وسط الكتب والمؤلفات طفلاً صغيلاراً وإذا مد الله من أجله فلسفو يتعثر بينها شيخاً متهدماً كبيراً - رجل مملوء ذهنه بأفكار وخطرات هي على علاتها جياشة نغازة قد صيرت ذهنه أشبه شيء بالساق النائمة التي إنما سميت نائمة لفرط يقظتها وتنبه أعصابها - فامتلاء ذهنه بالخطرات النغازة هو كامتلاء الساق النائمة بالأبر والأشواك الوخازة. رجل يعرض من لوح قلبه على مؤثرات الحياة وعوامل الكون عوداً(49/40)
رناناً أوتاره المشاعر الحية والعواطف الحساسة - رجل له معرفة بالخيوط الدقيقة والألياف الرقيقة المكون منها ذلك النسيج المهلهل الذي نسكنه نحن معشر الحشرات الآدمية الطنانة الصخابة برهة قصيرة ننتظر ذلك العنكبوت الشاحب الرهيب المسمى الموت - رجل راض مستسلم لحقائق الحياة المرة القاسية وإن كان يحمل في يده مفتاحاً ذهبياً لمارستان خصوصي في أعماق نفسه لا يعلم به سواه ولا يطلع عليه غيره مملوء بالخيالات الخرافية والأوهام الخزعبلية والأحلام الكاذبة والأماني الخداعة الجنونية - رجل هو أميل إلى إرسال ذهنه يرتع في أفانين شتى من رياض الفكر والتأمل من أن يقصره على ينبوع واحد من صنوع الآبار العلمية يغوص فيه حتى يسبر أغواره ويبلغ قراره - رجل يعنى بأدق دقائق الكون وأجل جلائله على حد سواء لا ينصرف عن تأمل ألطف ذرة في تركيب أضأل جراثيم الأرض استصغاراً ولا عن تدبر نظام أروع أبراج الفلك استعظاماً واسكتباراً - رجل هذا مزاياه وخلاله أتظن أنه لن يجد على مائدة الكون - بعد أن التهم سلفه (المتصرف) ما أصاب عليها من العلف والزاد - شيئاً يشبع جوعه ويسكن شغفه بطلب العلم وولوعه!. إن عملية التفاعل أعني التجاذب والتدافع والتآلف والتنافر والتمازج والتزايل بين ذهن الإنسان وجو انسلنية المحيط به لهي عملية دائمة ومستمرة سواء أراد ذلك أم لم يرد فهي كعملية التفاعل بين دمه وبين الهواء الذي يتنفسه في رئتيه. وكما أن لعملية التفاعل الحادثة بين الدم والهواء المتنفس نتيجة أي حاصل أي مادة جديدة ناشئة من اتحاد بعض عناصر المادتين المختلفتين بعد تحلل كل مادة إلى عناصرها المكونة لها - فكذلك عملية التفاعل الحادثة بين الذهن وحو الإنسانية المحيط به لها نتيجة أي حاصل يمكن التعبير عنه باصطلاح الكيماويين بأنه المادة الغازية المتخلفة عن عملية الاحتراق الذهني أو عملية الفكر المحترق - أو باصطلاح الفيسيولوجيين بأنه إفراز عملية التنفس الذهني - هذا الحاصل الناتج عن عملية التفكير لا يمكن إحرازه ونيله أي إخراجه إلى حيز التعبير الصريح الواضح الجلي إلا بشرطين أساسيين وهما (1) موافقة صاحب التفكير المحدث من أذهان سامعيه جواً ذهنياً تكون درجة حرارته ملائمة مناسبة و (2) قابلة (هي في اصطلاح الكيماويين الوعاء الذي تنتهي إليه خلاصة العملية الكيماوية أعني الحاصل الكمياوي وهي هنا كناية عن درجة استعداد السامعين وقابليتهم لفهم مغازي(49/41)
الحديث) صالحة ملائمة. ولذلك كان حسن التعبير عما يجيش بالنفس من أشق المشاق في كثير من الأحايين ولا سيما عندما تحولب دونه عقبات وموانع من كدورات الذهن وارتباكاته أو من علل البدن وآفاته. فلقد حدثني مرة عالم مشهور وأديب مذكور فقال أنه لما أراد أن يلقي أول محاضراه ضاق عليه مجال القول وانحبس به عنان الكلام فأتم محاضرته في ربع ما كان قد حدد لها من الزمن وأحس كأنما قد أنفذ ذخيرة معلوماته ونفض إلى السامعين جملة معارفه ومحفوظاته. وخرج مرة إبراهيم (نبي الله) إلى قومه لينشدهم إحدى أناشيده المعروفة المألوفة فارتج عليه فلم يفه ببنت شفة إذ خانته الذاكرة وطفق يكد القريحة لتجود له بفاتحة الأنشودة وعبثاً حاول فلم يجد مخرجاً من هذه الأزمة إلا شرح الحالة إلى الجموع المحتشدة لسماع أنشودته فأسعفوه فوراً فصاح منهم ألف صوت في نفس واحد بما قد نسيه من فاتحة تلك الأنشودة. وقد كان الشاعر المقدس (جون ملتون) لا يجيد قرض الشعر ولا توحي إليه ملائكته (لا أقول شياطينه) إلا في موسم محدد من العام - من منتصف الخريف إلى منتصف الربيع. وأعرف رجلاً من مشاهير الخياطين من سلالة الشاعر المذكور لعله قد ورث شيئاً من دقة إحساسه ورقة شعوره وفرط تأثره بألطف المؤثرات وأخفى الأسباب والعوامل فمما حدثت عن ذلك الرجل أنه ترك مرة أحد الزبائن يفلت من قبضته دون أن يشتري حلة من بضاعته وكان إلى جنبه إذ ذاك صاحب لي فقال له ذلك الخياط النابغة وضرب بيده على جبينه (تباً لهذا الصداع. أما والله لولاه لألبست هذا الرجل حلة برغم أنفه) عجيب وايم الله! نبضة خفيفة في رأس ذلك الخياط ولكنها عطلت تلك الآلة الدقيقة (الذهن) التي من شأنها استدراج الآدمي الطارئ (س) إلى الدخول في قطعة معلومة من القماش (ص).
مثل الرجل المفكر في أول ظهوره وتسليط أفكاره الحادة على ما يحيط به من العادات والعقائد والتقاليد المرلفة من مزيج من الحق والباطل كمثل الكيماوي الذي يصب أحماضه الحادة على المواد القلوية فيحدث تفاعلاً بين الحامض والقلوي ينتهي باتحاد العناصر المتآلفة من الفريقين وصيرورتها ملحاً متعادلاً لا هو بالحامض ولا هو بالقلوي. فهذا الملح المتعادل هو الرأي النهائي للرجل المفكر عن أي نظرية أو مشكلة من المسائل ومتى وصل إلى هذا الرأي الأخير الناضج ألقى كانونه وبودقته. ومخباره وأنبوبته. ووضع ملحه(49/42)
المستخلص في زجاجة ثم جلس فاستراح وادعاً مغتبطاً. ولهذا السبب تراني إذا دخلت إحدى المكاتب فرمقت المؤلفات والمصنفات في قماطرها خيل إلي أنها دكان كيماوي دهني مملوءة بأصناف الأملاح على اختلاف أشكالها وألوانها مما هو نتيجة اتحاد الفكر الفردي مع الحوادث المحلية والنظريات العامة.(49/43)
نابليون في منفاه
كلمة للشاعر الكبير اللورد بيرون عن نابليون في منفاه مذيلة بنبذة فلسفية في مطامع الملوك والغزاة والفاتحين وأصحاب الثورات الفكرية والانقلابات الدينية - وخواطر في موضوع الوجدانات والعواطف - وهذه الكلمة مختارة من قصة دون جوان.
لقد هوى أعظم الناس - ولا أكذب إن قلت - وأصغرهم - ذلك الذي جمع الضدين، وضم النقيضين، فبينا يحاول من الأمور أجلها، إذا هو يزاول أضألها وأقلها غلو في جميع شأنه وإغراق! ولو توسطت أيها الجبار لبقي لك سلطانك أو لعلك لم تكن لتناله البتة ولا كنت ارتقيت إلى عرش ولبقيت إلى عرش ولبقيت كأصلك في غمار الناس مغموراً. وفي زوايا الخمول والغموض مستوراً. فإن غلوك في الجرأة وتطرفك في الطموح هو الذي سما بك ورفعك. وهو أيضاً الذي هوى بك وخفضك.
ومن عجب أنك لا تزال حتى الساعة تحاول استرداد سلطانك فتتبوأ أريكة العالم ثم تزلزل أركانه وتزعزع بنيانه وتصفق فوقه بأجنحتك الهائلة المخوفة وتصم آذانه بزماجرك العاتية العنيفة كأنك في سمائه المكفهرة إله البرق والرعد.
مالك الأرض أنت وأسيرها. وفاتح الدنيا وسجينها، واراها لا تزال ترتعد وتنتفض لمجرد ذكرك. وإن اسمك المخوف قد أصبح الآن أبشع ما كان إذا أصبحت لا شيء - اللهم إلا سخرة الصيت الشائع، وهزأة الذكر الذائع. وأضحوكة الحظ الذي سجد لك حيناً طوع إشارة بنانك، عبد دولة سلطانك. حتى عددت نفسك إلهاً مرهوباً ورباً مخشياً مهيباً. وكذلك عدك العالم ورأتك دول الأرض المبهوتة الحيرى المقهورة الحسرى.
أيها الرجل الذي فوق الإنسان أو دونه - آنا تعفر خدود القياصرة بين قدميك، وترغم مغاطس الأكاسرة تحت نعليك. وتجعل جباه الجبابرة مداساً. غطرسة وبأساً. وآونة تروح كأصغر جنودك. وأحقر عبيدك. مقهوراً حسيراً مغلوباً أسيراً. ليبت شعري وأنت اللاعب بالدول والممالك. العابث بالعروش والأرائك تهدم الدول ثم تبنيها، وتنشر الممالك وتطويها كيف أعياك أن تقمع أضعف شهواتك، وتقدع أدنى رغباتك ونزعاتك. ليت شعري وأنت النافذ النظرات الثاقب اللمحات المستجلي غوامض السرائر المستشف كوامن الضمائر المحدث بما في القلوب. المستطلع ما وراء الغيوب، كيف حيل بينك وبين النظر في أعماق صدرك واكتناه حقيقة أمرك وقدرك. كيف غاب عنك أن الأقدار مهما سعدت فإنها الخائنة(49/44)
الغادرة. والأقضية مهما أسعفت فهي الخاترة الخافرة. وأن الحظ وإن نهض أحياناً فلا تؤمن عثرته. والجد يتلألأ أزماناً ثم تأفل نجمته.
ولكن يروعني منك ثباتك في اللأواء ورسوخ طودك تحت الزعازع الهوجاء مظهر أقصى حكمة الفيلسوف وما تعلمت فلسفة في مدارس، ولا تلقنت مذاهبها عن عامل في فنه نبراس. وساء نعدها منك حكمة أو قسوة أو جموداً أو ركوداً أو عزة وكبرياء فإنها والله لخلة روعاء فيها كيد الحسود، رغم أنف المبغض اللدود وهي أشد على الأعداء من حصد الجماجم، وأمض للأعداء من حز الغلاصم. لله أنت ومواكب الأعداء محتشدة تنظر إلى هزيمتك وتريد أن تشمت بك وتسخر من تضاؤلك وخشوعك فإذا بك قد كذبت ظنونها وأقذيت عيونها بنظراتك القوية الطامحة المنبعثة عن عيني أجدل أو عقاب يرامق عين الشمس فيبهرها حدة وثقوباً وأذبت شحمة أكبادها باستهانتك بالخطب الجسيم واستهزائك بالكرب العظيم.
أيها الرجل الجليل! لقد رأيتك في بلواك أعظم منك في نعماك. ولكن سكينة المنفى وهدوء العزلة هو جحيم الرجل المتوقد الذهن القلق الجنان، إلا أن في النفس لجمرة تتألق، وعاصفة تثور وتياراً يتدفق، تأبى أن تنحبس بين جدران وعائها الضيق، ولكنها تطمح إلى ما وراء الحد اللائق، ودون غاية الملائم الموافق، فمتى اشتعلت هذه النار ففار بركانها، واندلع لسانها، وطمح دفاعها وطار شعاعها أصبحت ولا وقود لها إلا المخاطرات المهيبة، والمجازفات الرهيبة، ففي هذه تستطير وتمرح وتبتهج وتفرح ثم لا يجيئها الملل والضجر إلا من ناحية الراحة وطريق السكينة إن هي إلا حمى في صميم الفؤاد شؤم على حاملها وعلى كل من صحبه وتبعه.
هذه الحمى هي الأصل في ظهور مجانين العظمة والبطولة الذين تركوا الأمم والشعوب مجنونة بتأثير عدواهم! أولئك هم الغزاة والملوك وأرباب الملل والنحل والمذاهب والسفسطائيون والشعراء والساسة وكل من إليهم من أولي النفوس الثوارة والقلوب الجياشة، من اتخذوا العالم لعبة وأضحوكة، وأضحوا هم أنفسهم ضحكة العالم ولعبته، وخدعوا النوع البشري وسخروا منه وكانوا أثناء ذلك مخدوعيه وسخرته، يحسدهم الناس وهم بالراحة أولى! أي لذعات ولفحات تحز وتأكل في قلوبهم، أما وربك لو فتح لك قلب(49/45)
من هذه القلوب فأبصرت ما به لألفيته مدرسة تعلم من شهد قاعاتها الحزينة كراهة الزعامة والسلطان، وتلهم من قرأ صحائفها السوء إبغاض التاج والصولجان.
أولئك المجانين العظماء - أنفاسهم القلاقل والاضطرابات وحياتهم زوبعة هوجاء على ظهرها يركبون فيعصفون حيناً في ميادين العالم ثم يهبطون فيسكنون ولكن جرثومة القلق والطماح والشرود والجماح لا تزال بعد كامنة في صميم أفئدتهم تلدغ وتلسع كحمة العقرب وناب الفعوان فإذا رأيتهم في دار عزلتهم رأيت الليوث الضراغم في أقفاص الحديد حيرى مولهة تارة تجول من القلق وتصول. ومن فرط التبرم تهمهم وتدمدم وتغمغم. وتارة تخشع فتستكين. وتطرق إطراقة الحزين، دأبها ذلك حتى تموت كالسيف الحسام ينبذ في زوايا الإهمال فيصدأ ويتآكل ويذوب ويضمحل
كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله
من ارتقى إلى قمة الجبل وجد أعلى ذرا ملتفعة بالسحاب. ملتفة في الثلج والضباب، ومن ساد الناس وأخضعهم كان جديراً أن يجد نفسه مبغضاً مكروهاً. فهو وإن أشرقت فوق رأسه شمس المجد والفخار. وانفسحت تحت قدميه الأرضون والبحار يظل في وحدة ووحشة لا يحيط به إلا صخور الثلج وجلامد الجليد ولا يحيي أذنيه سوى دوي العواصف وضجيج الرعود القواصف، حيث تصدم رأسه العاري هوج الأعاصير وتلطم وجهه الحاسر نفحات الزمهرير. وهذا كل جزائه على بلوغه القمة العلياء.
أيها المرددون ذكر الغرام والود، والمجد والسؤدد، خبروني عن معاني هذه السماء؟ هل هي بروق كاذبة ما إن تزال حولنا تومض وتخطف تلمح فوق رؤوسنا وقلما تهبط علينا فتقف. يا رحمتا لنا بني الإنسان نرفع أبصارنا إلى هذه البوارق الخلب ونحن بالتراب لاصقون، وإلى أديم الأرض مغلولون، فتتلألأ لأعيننا المبهورة أنوارها العديدة الألوان والأشكال، وتدهش ألبابنا الحائرة أشبحها الجمة الإبهام والأشكال. ثم تضمحل بغتة فتزول وتتركنا لا نعرف ما نقول.
لو علم الناس حقائق الأمور لبكوا على إني إلى الضحك من هذه الحياة أميل. . ولا حرج علي ولا جناح. إني لأضحك من كل ما في الوجود لأني أعلم أن الوجود بحذافيره ورمته ما هو إلا شبح وخيال.(49/46)
إنهم ليتهمونني: أنا ناظم هذه الأبيات - بأني أميل إلى إنقاص الفضيلة الإنسانية، والاستهزاء بالمقدرة البشرية. . يا لله! هل قلت في ذلك أكثر مما قاله دانتي وديوجانس وسليمان وسيرفانتس وسويفت وما كيافيللي وروشفوكول وفينيلون. ولوثر وأفلاطون وتليتسون ووسلي وروسو. الذين أدركوت أن هذه الحياة لا تساوي فتيلاً ولا قطميراً. فما ذنبي أو ذنب هؤلاء الفلاسفة إذا كانت الدنيا بهذا الحد من الخسة والدناءة! لقد قال سقراط إنما أقصى علمنا أن نعلم أنا لانعلم ولن نستطيع أن نعلم أدنى شيء من هذا الوجود. فيا لها من منزلة رفيعة في العلم تسوي بين الحمار وبين أنبغ حكماء الحاضر. والمستقبل والغابر. وكذلك زعم نيوتون (مضرب الأمثال في العلم والذكاء) إذ قال - بالرغم من عجيب مستكشفاه ونادر مبتدعاته - إني لا أرى نفسي إلا كطفل يلتقط الصدف والمحار على ساحل البحر العظيم - الحقيقة.
وقد قال الأنبياء ومشايخ الأديان في قديم الزمان إن (الحياة كلها غرور) وكذلك قال أحدث الوعاظ وصدقت أقوالهم أفعالهم بما أظهروا من احتقار الدنيا وترك شهواتها وهجران لذاتها. وكذلك كل العقلاء والمفكرين يعلمون ذلك أو سيعلمونه. أفبعد ما اعترف بفناء الوجود ولا شيئية الحياة طوائف الأنبياء والقديسين والحكماء والقسيسين والشعراء والمنطقيين حجم أنا عن القول بغرور الحياة خشية المعارضين النقاد؟.
أيها الناس يا زمرة الكلاب - إني لأعطيكم من المدح فوق ما تستحقون إذ سويتكم بالكلاب لأنها خير منكم وأكرم - سواء عليّ أتقرأون أم لا تقرأون ما أقدم لكم من وصف حقيقتكم وبيان ماهيتكم وسرد مساويكم وعد مخازيكم. وكما أنه لا يضير السحاب نبح الكلاب فسيصب عليكم عارضي الهتان دوافقه وينزل فوق رؤوسكم صواعقه مهما علا صياحكم وكما أن الأقمار لا تحفل بعواء الذئاب فكذلك ملائكة شعري ستشرق في سمائها بالرغم من عوائكم: فاملأوا الدنيا صراخاً فإنكم لن تمنعوا ملائكة القريض أن تضيء سبلكم المظلمة. وترصع بسبائك لجينها جوانب حياتكم المعتمة.(49/47)
الإسبراتيواليزم
(3)
جمعية الأبحاث النفسانية
كان من أثر مسعى أولئك البحاثين الذين بسطنا لك تاريخهم في العددين الماضيين أمثال الوسطاء هوم وستانتون وموسى وغيرهم، ومن جراء تأثير المجلات والعدد العديد من الكتب والأسفار التي خرجت في هذا العلم والأبحاث التي تسوقها الصحف، والشواهد التي تزجيها الجرائد السيارة، أن أصبح موضوع الإسبراتيواليزم مشغلة المشاغل في بلاد البريطان، حتى أن كثيرين من سادة العلم وأبطال الأدب والفكر والفنون الرفيعة راحوا يهتمون به ويعقدون عليه الأهمية الكبرى، وحتى قال العلامة سير جوبك من أكبر أساتذة علم العلم الحديث أن من أكبر الفضيحة للعلم الحديث وأغرب المناقضة له أن يجتمع هذا الفريق العظيم من الثقات وأساطين المفكرين والعلماء على الاعتراف بهذه الظاهرة الروحانية ثم تظل هذه الفكرة باقية لم يعترف بها من الجميع أو لم تدحض دحضاً تاماً لا قائمة له بعدها، ولهذا تبين للقوم أن الحاجة ماسة إلى إنشاء جمعية علمية للبحث في هذا الموضوع وتقصيه وفحص بيناته وشواهده، ومن هنا انتدى جمع من العلماء والأبطال عام 1882 بالذكر منهم السير وليام بارت والعلامة سرجوبك ومستر أدموند جرف وجمعا من الوسطاء الروحانيين فأسسوا جمعية الأبحاث النفسانية، وبدأت تلك الجماعة تضع نصب أعينها البحث في التنويم المغناطيسي ونقل الفكر والظاهرة الطبيعية للإسبراتيواليزم ومحاضرة الأرواح، وقد دونوا نتائج أبحاثهم في خمسة وعشرين مجلداً وخمسة عشر سيفراً من صحيفتهم التي يصدرونها وقد تعاقب على رئاسة تلك الجمعية كثيرون من الأساطين في العلم من أمثال مستر بلفور وهنري برجسون وهو النجم المتألق اليوم في سماء العلم - والسير ويليام كروكس والأستاذ ويليام جيمس والكاتب الطائر الذكر أندرو لانج وللعامل العلم السير أوليفر لودج.
وهذه الجمعية لا دين لها خاص بها ولا عقيدة معينة، إذ لكل عضو من أعضائها دينه وعقيدته، وفيهم العقليون الذين يشكون في كل شيء بجانب المؤمنين الذين يؤمنون بكل شيء، على أننا نقول أن السواد الأعظم من أعضائها يؤمنون بصحة (التليباتي) أو انتقال(49/48)
الأفكار من ذهن إلى ذهن، بل إن فريقاً من أكبر رؤسائها وأبطالها قد مضوا غي عقيدتهم بعيداً وذهبوا إلى القول بأن كثيراً من الظواهر تثبت صحة وجود أذهان وأرواح بلا أجسام تطوف حول الكون. وقد كان الفضل أو السبب في هذا الاعتقاد يعود إلى الوسيطة الأمريكانية الطائرة الصيت مسز بايبر وهي التي ظل أعضاء الجمعية يستخدمونها في أبحاثهم مدة ثلاثين سنة.
ومسز بايبر هذه وسيطة منومة أعني أنها تروح في سبات أو حالة أشبه شيء بالذهول ثم تتكلم أو تكتب وهي على تلك الحال، والمظنون أن روحاً من أرواح الموتى تستخدم لسان تلك الوسيطة أو يدها في ذلك أو إن شئت فلك أن تسميها (امرأة مأخوذة ويصعب علينا أن نتجنب الاستنتاج الذي يدل على أن هناك ضروباً من القوة غي رالطبيعية تستخدم تلك المرأة) فنحن نقول مثلاً أن في أوائل عهد تلك السيدة بهذه الحالة التنويمية جعلت تتكلم على لسان روح محام يسمى مستر بلهام وكان معروفاً في حياته لدى العلامة هودجسون من أكبر أعضاء تلك الجمعية. وقد جلس الأستاذ هودجسون إلى تلك السيدة عدة جلسات وقدم إليها أكثر من مائة وعشرين شخصاً مختلفين ومنهم كثيرون من أصدقاء بلهام وهو على قيد الحياة وذكروا للمسز بايبر بأسماء مختلفة إخفاء لأسمائهم الحقيقية عنها فجعلت الروح تتكلم على لسان مسز بايبر تعين أصدقاءها من هؤلاء الأشخاص وتذكرهم بأسمائهن وتعين ألقابهم وتخاطبهم بلغة الصداقة التي كانت في الحياة تكلمهم بها.
وقد حدثت مسألة غريبة في بابها في هذا الشأن وهي أن تلك الروح عجزت أن تتبين شخصاً من أولئك الأشخاص أول الأمر مع أن الشخص المذكور كان سيدة وهي كانت تعرف بلهام في حياته ولكن ظهر أخيراً أنه كان يعرفها وهي فتاة صغيرة وأنها لم تجلس إلى مسز بايبر إلا بعد موته بخمس سنوات وقد كبرت بالطبع في خلال هذه المدة الطويلة وتغيرت كثيراً واستحالت معارفها ولذلك لم يكن عجز الروح عن معرفتها غريباً ومستحق الدهشة والعجب ولكن لما ذكرها الأستاذ هودجسون بقوله. هل تتذكر مسز وارنر؟ وكانت هذه هي أم السيدة وصديقة من صواحب المحامي المتوفى بلهام. لم تلبث أن قالت الروح. هل أنت ابنتها دعها تتذكر الكتاب الذي أعطيتها إياه لتقرأه ثم ذكر عدة أحداث وبينات أدركتها السيدة وتذكرتها وعلمت صحتها.(49/49)
هذه الحادثة منفردة في نوعها ولها معان ومظاهر كثيرة فإننا لو قلنا بأن هذا نوع من التليباتي أو انتقال الصور الذهنية من ذهن الشخص إلى ذهن الوسيط لاستطاع الوسيط أن يعرف اسم الشخص بكل شسهولة كما عرف أسماء سائر الأشخاص ولو كان هذا مظهراً من مظاهر انتقال الصور الذهنية قلنا أن نسأل وكيف عرفت الشخصية الثانية التي تتكلم بها الوسيطة أي بلسان المحامي بلهام أصدقاءها من بين الجمع، وينبغي أن نقول هنا أن مسز بايبر الوسيطة لم تكن من صواحب المحامي المتوفى، وإنما التقت به بضع دقائق يوم كان على قيد الحياة، ولهذا لا يحتمل أن تكون مسز بايبر عليمة بأصدقاء المحامي وجميع معارفه.
وقد كان الأستاذ هودجسون في أول الأمر إزاء هذه الحادثة شاكاً مستريباً منكراً غير مصدق، وكان أول من أراد أن يبحث عن سر هذه المخادعة لأنه حسبها خدعة يومذاك، ولكن الحقائق جعلت تصدعه وتدهشه، وجعل يجلب للوسيطة غرباء ويسميهم بأسماء مستعارة، بل أدى به الولع بإظهار الحقيقة أو كشف السر إلى أن جاء بقوم مقنعين، وكذلك لبث عدة سنوات يبحث فيها ويستخدم في سبيل بحثه مسز بايبر حتى اقتنع آخر الأمر بصحة المناجاة، وجواز مخاطبة الأرواح.
ومن الوسيطات المشهورات التي شغلت زمناً أذهان العلماء وجلس إليها أمثال سير أوليفر لودج وسير وليام كروكس نذكر سيدة أخرى تدعى تومبسون ولعل خير ما في أمرها أنها لم تكن مأجورة أو تطلب مالاً من المناجاة وكانت النتائج التي ظهرت من ناحيتها مدهشة مقبولة طيبة، فمن بين الرواح التي جعلت تتكلم بواسطتها سيدة تدعى مسز ب فإن هذه الروح مضت تقص تفاصيل عن حياتها في الأرض وتحقق القوم من صحتها وجعلت تبسط قصصاً وأنباء عن حياتها في هذه العاجلة تثبت حقيقتها لأصدقائها ومعارفها، ولم تكن الوسيطة تعرف شيئاً عن هذه الحقائق عن تلك السيدة مطلقاً، فاستطاع العلماء بهذه الحقائق أن يطمئنوا على أن الموضوع ليس من التليباتي أو انتقال صورة ذهن إلى ذهن آخر.
وإذا انتفى التليباتي جاز القول بإمكان مناجاة الأرواح لأهل الأرض.(49/50)
حول نهضة السيدة المصرية
فأنت ترى أن هذه الرفعة الموهومة كانت شؤماً على أربابها فأضعفت فيهم ملكة التمييز حتى احتقروا أثمن حلية فابتعدوا عنها لأن العلم في الواقع سلاح في الحياة يذلل للمرء سبيلاً لا عوج فيه وهو جالب للفضيلة والعفاف ومقو لهما إذا هما وجدا في الفطرة الإنسانية.
فالريفية العادية التي لا تخرج من مثل تلك البيئات الشاذة إذا فاتها حظ العلم المدرسي فلا يفوتها العلم بأساليب العيش التي تأتي من طريق المران والتجربة وقد بينت في مقالي السابق أنها حصلت فعلاً على قسط وافر من النجاح الذي لو قرن يوماً ما بالعلم النقي الصحيح لرفعها إلى مستوى أعلى من زميلاتها الأوروبيات المتحضرات.
أما تلك الفئة الشاذة التي أشرت إليها - وأفكارها والحمد لله سائرة في سبيل نمو الطبيعي - فواجب تفهميها حقيقة الحياة وفرضية العلم، وارى أن أقوم سبيل لذلك أن تكون للجمعيات النسائية مجلات تبحث في أحوال المرأة ورقيها ومنزلتها في الحياة الاجتماعية توزع على النساء والرجال على السواء، وإني لا أشك أن تلك النشرات تأتي بالفائدة المقصودة.
أما في المدن الكبرى حيث توفرت اليوم سبل التعليم فقد كثر عدد المتعلمات ولكنا نتساءل هل هذا التعليم كاف؟ وهل هو موافق لروح العصر الذي نحن فيه وهل يكفل لنا حسن المستقبل والإصابة في تربية أبنائنا فقد أثبتت التجربة أن نظام التعليم في بلادنا فاسد فساداً تاماً وأن مواده قشرية محضة وهو بالاختصار نظام مضطرب رزح تحت عبئه أكثر الناشئين إلا قوماً سدوا ذلك النقص باطلاعهم الخارجي ونظراتهم المصيبة في معنى الحياة.
فمنذ سنين قلت الشكوى من ذلك النظام ومواده بالرغم من اتساع مجال التجربة أمامنا فمن باب أولى أن لا ينفع السيدات وهن ألين طبيعة وأضعف فطرة وأقل احتمالاً.
وإني أرى أن هذا التعليم لا يصقل نفس الفتاة بالقدر اللازم ولا يصبغها الصبغة اللائقة بالحياة الحالية وأرى أنه في مدارس البنات لا تعطى عناية كافية بالجزء العملي وهو تدبير المنزل وقوانين الصحة وأحكام تربية البنين، وإني بلا شك أصفق فوحاً لكل نهضة ولكني لا أغفل لحظة عن المجاهرة بالنقص ما دام واقعاً حقيقة.
وإني أرى الشكوى عامة في تبذير السيدات وإسرافهن في التبرج والمغالاة في الزينة(49/51)
العرضية على قلة فائدتها.
وأما اللواتي يتخرجن من المدارس الأوروبية فهن أحسن حالاً ممن سواهن وأوفر عقلاً وتهذيباً لأن هناك عناية كبرى بأمر التعليم وكنت أفرح بالإكثار ممن يخرجن من هناك لولا خطر داهم يتهدد الحياة القومية ألا وهو التنصل من المصرية والنفور مما هو مصري والاندفاع في تحسين كل ما هو أوروبي على غير علم بالحقيقة بينما نحن أشد الحاجة إلى قوم يفهمون (المصرية) ويقدرونها.
ولا شك أن الجمعيات النسائية تؤدي خدمة كبرى في هذه السبيل وترفرف فوق ذلك روح التضامن وروح التضحية.
عند هذا الحد أريد الوقوف الآن بسيداتنا فلا أطلب لهن غلواً في السفور.
سيقولون كيف حبذت سفور الريفيات وأنكرته على سواهن ولكن هي الحكمة تدعو المرء إلى التمييز بين البيئات المختلفة وما يلائمها فالريف تغلب في جوه السذاجة وها نحن اليوم نراها تتدنس شيئاً فشيئاً أما في المدن فإن مستوى الآداب منحط جداً ولا يطهره إلا تغيير جوهري في التعليم والنظم المدرسية، فاحتفاظنا بعفاف سيداتنا وكرامتهن لا نطلب لهم اليوم المزيد من السفور كما إني لا أبغي لهن حجاباً يثقلهن بل أقول يكفينا التوسط اليوم والالتفات لتربية أبنائنا وتدبير منازلنا ولتكن غايتنا اليوم نساء ورجالاً إصلاح ما فسد في بيوتنا وما جره الإسراف والالتفات إلى العرض دون الجوهر فإذا فرغن من ذلك فالحياة العامة تنتظرهن وهن إذا قمن بهذا الإصلاح يقمن برهاناً على صلاحيتهن في الحياة العامة.
والخلاصة أني أقول: أصلحوا التعليم أحسنوا تربية أبنائكم وتدبير منازلكم وأكثروا من النصيحة العملية في سبيل إنهاض الأمة من عثارها وبذلك تخلقون جواً جديداً في هذا البلد يتصرف في التأثير على عقول أبنائها نساء ورجالاً كما شاء حتى إذا جاءنا السفور أو غيره مما هو ثمرة من ثماره قلنا هذا طبيعي النضج فاحصدوا ثمار ما بذرتم.
(لها بقية)
محمد محمود جلال(49/52)
باب تدبير المنزل
تربية الطفل
(7) البيئة المنزلية - الجزاء والعقاب
يقولون إن الملك لا يستطيع أن يحدث شراً ويجوز لنا أن نردف هذه الكلمة بكلمة أخرى ولو أن السبب مختلف ووجه العلاقة متباين فنقول (ولا الأطفال كذلك) فعليك أن يكون هذا مبدأك في منزلك وإزاء أطفالك وأهل بيتك، وتعلم أن العقاب والتأنيب وما أشبه ذلك لا محل له من التربية ولا وجوب ولا ضرورة، بل ينبغي أن لا تكون في ثنايا روحك أية قطرة من الغضب أو ظل الانتقام، أو ريح العقاب والاقتصاص، وقد يجوز أن يفعل طفلك ما هو مسيء غير محمود، ولكن عليك أن تتذكر أنه لم يفعل ذلك وهو يعلم أنه مسيء وغير محمود، فلو أنك أدركت أن الأطفال أبرياء من الذنب ولم تجعل لهذا المبدأ أي استثناء ووطنت نفسك على أن تعتقد أن الأطفال لا يقصدون حقيقة الإساءة وارتكاب الذنوب، إذن لسهل عليك أمر التربية وذلك لك سبل التأديب.
وقد يخيل إليك على الرغم من أنك تعتقد أن طفلك لا يقصد حقاً الإساءة أن إظهار علائم الغضب أو أخذه بشيء قليل من القصاص أو نهره أو زجره كل أولئك قد يعلمه الفعال الحسن وترك الإساءة والشر، على أن هذا المبدأ لا يعمل إلا على إغراء الطفل بالإساءة وترغيبه في الشر والأذى، وقد دلتنا التجاريب على أن قولنا للناس (نرجو من مروءتكم وكرم عواطفكم) أفعل في نفوس الناس وقولنا (لا تفعلوا هذا وإياكم أن تقربوه أو حذار أن تقتحموه) وقد مررت يوماً بصديق لي بغابة قد كتب عند مكان منها لوحة تحتوي هذه الكلمات (الذين يجتازون هذا السور سيعاقبون) فلم يكن من صديقي إلا أن قال: (إذن فلنجتزه ولنمر على الرغم من هذا التهديد).
ومن هنا ندرك أن الرفق واللين والمعروف أفعل في نفس الصبي والشيخ من كلمة التهديد وألفاظ الوعيد، فإن اللهجة المهددة لا تزال لهجة مستحثة مستثيرة مغرية وإن قولك لإنسان (لا يلزم أن تفعل هذا) لا بد أن يثيره إلى إجابتك بالكلام أو بالفعل. بل سأفعل! لأن الطلب الرقيق المتأدب الكريم يخجل الإنسان ويغريه بإنجازه ويشجعه على تحقيقه، ولهذا يجب أن تكون فكرتك في تربية أطفالك أنك إزاء تلاميذ وأنك منهم مكان المعلم من صبيته ولهذا(49/53)
يلزمك رباطة من الجأش وضبط نفسك وبعد النظر حظ وافر. ومن هذا تعلم أن البيئة المنزلية يجب أن تكون بيئة السعادة والفرح والتهلل والكرم ووداعة الخلق لأن السعادة من الأثر في نماء أطفالك ما للشمس في نماء الزرع وعلم النبات.
وإذا كان ذلك كذلك فعلم أطفالك أن لا يجيبوا إنساناً على سؤال، ولو كنت أنت سائله إذا لم يقل من فضلك أو أرجو أو تكرم علي وإذا نسي أحد الناس أن يقولها إذا طلب شيئاً أو سأل رجاء وجعل يكرر السؤال ويلح في إعادة الرجاء ولا مجيب ولا جواب، كان ذلك باعث اللهو والمزاح حتى يتذكر السائل أنه لم يقلها فيقولها.
واعلم أن فعل السيئ وإحداث الشر والأمر الكريه قد يكون في أكثر الأحايين نتيجة الجهل وعدم إدراك وجه الإساءة، ولهذا كان خليقاً بك أن تعلم طفلك مثلاً كيف يجب أن يمسك الملعقة أو السكين وكيف ينبغي له أن يبلع الطعام، وعليك أن تجتهد جهد المعلم في تعليم الأطفال كل دقيقة وصغيرة وطفيفة، دون أن تفقد الصبر أو تتسخط أو تنوء بجانبك، لأن الطفل لا يعلم ماذا يراد منه، وما هذا إلا لأنه ليس سريع الفهم أو سريع النسيان، ولهذا لا يصح أن تتوقع أن العادة الطيبة الحميدة، قد تنال في أقصر مدة من الزمن لأن خلق عادة من العادات تقتضي في الغالب إزالة أخت لها أو شبيهة بها، فلو أنك استعجلت ولم تأخذ في الأناة في أمر تربية أطفالك على العادات، وكنت قلقاً غير مطواع الإرادة لما لبثت العادات الرديئة ن تجتمع وتحتشد حتى لا تفتأ تؤنب وتحذر وتنهر دون جدوى أو أية فائدة، ولا يكون من ذلك إلا أن أطفالك لا يلبثون أن يكتسبوا خلقاً مضطرباً فوضوياً ثواراً عاصفاً لم تكن تريده لهم.
وعلى العقلاء من الآباء أن يحلوا الصعوبات التي تعترض أمر تربية أطفالهم بالطريقة التي يسوون بها (دفاتر حساباتهم) أي واحدة فواحدة، كلما اعترضت وعلى فترات من الأيام.
وإذا أردت النجاح والتوفيق قصدت فعليك أن تعمل على خلق عادة أو عادات متشابهة في وقت واحد. فإنك إذا أكرهت صبيتك على حسن السلوك في أسبوع أو وصيتهم بعدة عادات في أيام معدودات فإنك غير حاصد من ذلك غلا الخيبة والألم والفشل، إذن فينبغي أن تجمع كل قوتك لخلق عادة أو عادتين في وقت واحد وترك غيرهما بعد إتمامها لوقت آخر.(49/54)
إذا صح هذا فلا تطلب من بنيك شيئاً كثيراً لكي تتم لك طواعيتهم، ويستمعوا إليك جهد أسماعهم، ولا تجعل تعليمك إياهم على عادة واحدة شفيعاً لتعليمهم أشياء أخرى كثيرة ثم عليك أن تدع أطفالك يقدرون العادة المحمود حق قدرها ويعرفون السبب لماذا ينبغي أن يفعلوا الشيء الحسن، ويدركون شيئاً من علم النفس، كالذي حدث به أحد الناس عن طفلة في الخامسة أدركت معنى كلمة (علم النفس) إذ قالت أنه إذا كانت الأم أذعنت إلى صراخ طفلها ونزلت على حكمه خوفاً من استرساله في صياحه عما طلب، فلا يتنازل الطفل عن الصراخ كلما أراد من أمه شيئاً.
واعلم أن كل شيء سيسير في منزلك على نظام، إذا كنت من أهل الطبائع الوديعة، ولم تك ذا خلق ناري حاد ومزاج محتدم مضطرم فإنك لا تلبث إذ ذاك أن تجد العادات سريعة النشوء والاستتباب والتكوين. وتجد أطفالك يحبون تلك العادات واتباعها واللصوق بها لما تدخل على أنفسهم من الفرح وما في الإذعان إليها من الروحانية والراحة، وعلى نقيض ذلك ترى الشراسة والشدة والتقطيب والتجهم والاكفهرار لا تخلق إلا تحللاً ووهناً في الخلق أو طفلاً فاسداً سيئاً شريراً - إذن فعليك أن تكون مفراحاً متهلل الأسارير تر بنيك يتحملون الآلام بصبر في سبيل التخلق بحسن الأدب وتجد الآداب الفاضلة والعادات الطيبة لا تلبث أن تنمو وتزكو كما يزكو النبات في الأقاليم التي يسطع فيها نور الشمس وتهب عليها علائل الأرواح وفي أمثال هذا الجو لا تني تموت جراثيم الأمراض وتتحل من نفسها وتذبل وتتلاشى.(49/55)
قصة عجيبة
للكاتب الروسي الكبير إيفان تيرجينيف
قال هـ: منذ خمسة عشر عاماً اضطرتني واجبات خدمتي المصلحية إلى قضاء أيام قلائل في عاصمة إقليم ت. فنزلت بفندق جميل كان قد أقامه هنالك قبل قدومي بستة أشهر رجل يهودي اغتنى بعد فاقة. ولقد وجدت ذلك الفندق إذ ذاك في أوج بهائه إذ كانت أخشاب أثاثه الجديدة تتصدع أثناء الليل فتحدث انفجارات أشبه بدوي الرصاص. وكانت ملاءات الفرش وأغطية الموائد والمناضد والمناشف (الفوط) تفوح برائحة الصابون، وخشب الأرضية المنقوش يفوح برائحة الزيت الذي كان خادم الفندق - وهو رجل في منتهى التأنق وحسن الذوق ولكنه قليل العناية بمسائل النظافة - يره أحسم دواء لانتشار الحشرات. وقد كان هذا الخادم سابقاً في خدمة البرنس ج وكان مشهوراً بفرط جرأته وصراحته مع الزبائن وبفرط اعتداده بنفسه وعرفانه بعظيم قيمتها. وكان يلبس دائماً ريدنجوتاً (نصف عمر) وشبشباً قد أخذ البلى من نعله ويتأبط منشفة وعلى خديه عدة من الدمامل. وكان يلقي على الزبائن ملحوظاته القسرية الخطيرة مشيراً أثناء ذلك بيديه القاطرتين بالدهن والودك إشارة الخطيب المصقع. وكان يشملني بعين رعايته ويحمد مني فطنتي إلى عظيم مواهبه. وإدراكي خبرته بالحياة وسعة تجاربه. وكان اسمه أرداليون.
وفي أثناء إقامتي بهذه المدينة رأيتني مضطراً إلى زيارة بعض رجال الإدارة فاستحضر لي إرداليون عربة وسائقهاً كلاهما رث مفكك الأوصال ولكن السائق كان يلبس زي خدمة الأشراف وكانت العربة محلاة بشعار الأمراء. فبعد أن أديت زيارات يالرسمية انطلقت في العربة لزيارة رجل من أهل الريف كان من أصدقاء أبي وكان قد استوطن المدينة منذ عهد طويل وكنت لم أره منذ عشرين عاماً كان قد تزوج في خلالها ورزق عدة من البني ثم ماتت زوجته فترمل من بعدها وجمع ثروة وكان عمله يختص باحتكارات الحكومة أعني أنه كان يقرض المقاولين المشتغلين بالاحتكارات مبالغ بأرباح باهظة.
فبينا أنا في الحديث مع هذا الصديق إذ دخل علينا الغرفة فتاة صغيرى تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ولا تكاد قدماها تلمسان الأرض من خفة وطئها. وهي في السابعة عشرة نحيفة القد مهضومة الحشا رقيقة البدن واهنة النبيان. وقال صاحبي (هاك كبرى بناتي - صوفيا.(49/56)
اسمح لي أن أقدمك إليها. إنها تشغل مكان زوجتي المرحومة فهي تسوس البيت وتدبره وتعنى بشؤون أخواتها وأخوتها) فانحنيت مرة أخرى للفتاة (وقد ألقت بنفسها على كرسي دون أن تفوه بكلمة) وقلت في نفسي ما أبعد ما بين منظر هذه الفتاة وبين تدبير المنازل والعناية بشؤون الأخوة والأخوات. تالله ما لأمثال هذه الأمور خلقت هذه الفتاة. فقد كان وجهها مستديراً عليه سيما الطفولة، أعضاؤه صغيرة مستملحة لكنها جامدة الحركة - بعينين زرقاوين تنبعث منهما نظرة حادة دهشة مبهوتة كأنما قد بصرتا شيئاً غير منتظر. وكان فمها الصغير الممتلئ المتقلص الشفة العليا لا يبتسم بل يلوح عليه كأنه لا يعرف الابتسام مطلقاً. وكان صدرها يتنفس تنفساً ناعماً ليناً وذراعاها تستندان إلى خصرها النحيل بضغط شديد وبغير رشاقة وثوبها الأزرق مرسل على قدميها الدقيقتين وهو غفل من زخارف التكسير والتغضين كثياب الأطفال. فكان منظرها على العموم يقع من نفسي موقع الألغاز والمعميات. فرأيت فيها شيئاً أكثر من مجرد فتاة ريفية شديدة الحياء والهيبة - أجل رأيتها صنفاً وحيداً في ذاته، فريداً في صفاته، مغايراً لكل ما رأيت قبلها من صنوف الفتيات. ولكن ما هو هذا الصنف؟ ذلك ما لست أدري ول أستطيع أن أدري ولكن كل ما شعرت به هو أني لم أر في حياتي شخصية أشد وفاء وإخلاص من تلك الشخصية. ولئن سألتني أي عاطفة من عواطفي أثارها منظر الفتاة لقلت لك الرحمة. أحل - الرحمة والحنان هو الذي جاش في أعماق نفسي لرؤية هذه الروح الحية اليقظة المتحفزة الجادة المخلصة! الله وحده يعلم لماذا؟ إن الخواطر والأفكار التي جاشت بصدري لرؤية هذه الفتاة لم تكن من أفكار هذا العالم الأرضي الكثيف - ولكنها في العالم الروحاني وإن كان وجه الغادة خالياً من كل ما يصح أن يسمى معنى روحانياً وقد كان دخولها الغرفة لغير شيء سوى أداء تلك الشؤون المنزلية التي ذكرها أبوها.
شرع الوالد يتكلم عن طريقة العيشة في مدينة ت وملا امتازت به من ضروب الملاهي الاجتماعية والمنافع العظيمة فقال: نحن هنا في أتم سكينة وهدوء فمحافظ المدينة رجل مطراق كئيب ومارشال الإقليم رجل أعزب ولكن ستقام حفلة رقص عظيمة في قاعة الأشراف بعد غد. فيا ليتك تمضي إليها فإني كفيل لك أن تجد بها ما تشتهي من الفتيات الملاح والفتيان الأذكياء.(49/57)
فقلت ملتفتاً إلى فتاة وأردت أن أسمع صوت لفظها أتريدين الذهاب إلى هذه الحفلة؟.
فأجابت: أبي ينوي الذهاب وسأكون معه.
فوجدت صوتها ليناً بيناً ووجدت ألفاظها صحيحة المخارج وهي تنطق الحروف بتأن وإشباع كالحائر في أمره.
قلت لها: إذا كنت ستصحبين أباك إلى هذه الحفلة فاسمحي لي أن ارقص معك الدور الأول فحنت رأسها إجابة قبولاً. ولكنها لم تبتسم حتى في هذه الآونة التي لا يسع المرء فيها إلا الابتسام.
ثم إني خرجت بعد هنيهة وتركتهما ولا أزال أذكر أن النظرة التي رمقتني بها إذ ذاك كانت من فرط الغرابة بحيث أني التفت خلفي لأرى هل هنالك شخص أو شيء تريده بتلك النظرة فلم أر شيئاً.
عدت إلى الفندق وبعد الغداء جلست على المتكأ وأطرقت أكفر، وكان موضوع تفكيري هو صوفيا هذه الفتاة اللغزية الغامضة الشأن ابنة صديقي الشيخ. ولكن إرداليون (خادم الفندق) أول إطراقي وتفكيري تأويلاً آخر حسب نطره الخاص فنسب حالتي هذه إلى الملل والسآمة. ً
فابتدأ القول بتعطفه المعهود وتنازله المعروف وهو في أثناء ذلك ينفض ظهور الكراسي بفوطة أكل قذرة - وهو كما تعلم أسلوب من أساليب التنظيف يمتاز به خدمة الفنادق ذوو التربية العالية (لا عجب ذا عرض لك الضجر والملل فإن بلدنا هذه قليلة الملاهي للزوار نعم قليلة الملاهي جداً - جداً.
ثم استرق نحوي نظرة من مؤخر عينه.
واستمر في كلامه فقال: ولكني أعرف سبيلاً للسرور والتمتع لو أنه يصادف منك قبولاً.
ثم رمقني بنظرة معنوية كالسالفة ولكنها ضاعت عندي كسالفتها ولم تبد على وجهي علامات القبول لما يريد أن يقترح.
ثم أن الخادم الراقي المهذب تقدم نحو الباب وأطرق هنيهة ثم عادة وبعد تحركه حركة قلق وتردد أقبل علي وانحنى على أذني وقال بابتسامة المداعب: ألا تحب أن ترى الموتى؟
فحملقت في وجهه بنظرة الحائر المندهش.(49/58)
فاستمر في حديثه همساً فقال: أجل إن هنا رجلاً كالموتى، وهو صانع بسيط أمي لا يعرف القراءة ولا كتابة ولكنه يأتي بالمعجزات. فإذا ذهبت إليه فسألته أن يريك أي أصحابك الذين ضمتهم المقابر فتأكد أنه يريكه لا محالة.
ويكف يصنع ذلك؟
هذا سره فإنه على الرغم من جهله بل من كونه أمياً واسع العلم هائل المقدرة في المسائل الروحانية، وإن له لمكانة مكينة علينا عند طبقة التجار!.
قلت: وهل كل من بالمدينة يعرف هذا؟
قال: يعرفه من هو بحاجة إلى معرفته. ولكن لا أخفي عليك أنه يجب الاحتراس من البوليس لأن هذه المسائل محظورة محرمة مهما قلت في تبريرها والدفاع عنها وهي من دواعي الغواية للعوام أعني الرعاع وأنت اعلم أن الرعاع سراع إلى الملاطمة والملاكمة.
قلت: وهل أراك الموتى؟
فقال إرداليون وهز رأسه: نعم لقد استحضر أمامي أبي كما لو كان حياً.
فحدقت في وجه إرداليون فضحك وطفق يعبث بفوطته ونظر إلي نظرة تنازل وتعطف ولكن بمنتهى الثبات والصلابة.
قلت: هذا والله العجب العجاب! أما أستطيع التعرف بهذا الصانع.
قال: إنك لا تستطيع الذهاب إليه مباشرة ولكن بواسطة أمه وهي عجوز ذات رزانة ووقار تبيع المخلل على الكوبري فإذا شئت فاتحتها في الأمر من أجلك.
قلت: سألتك بالله أن تفعل.
فسعل إرداليون سعلة من رواء كفه وقال: ولا تنس أن الشيخة تأخذ مقداراً تافهاً من النقود - أي شيء طبعاً - وليس بالكثير - شيئاً لا يذكر. وسأبذل جهدي في تطمينها وتأمينها من جهتك فأعرفها أنك ضيف زائر لا غير. وأنك نبيل مهذب. وعليك بعد أن تعرف أن هذا سر خطير وأنه لا يصح لك بأية حال أن توقع الشيخة في أدنى كربة أو ورطة.
ثم إن إرداليون رفع الصينية بإحدى يديه ثم دورها واستدار معها هو بحركة رشيقة خفيفة وسار نحو الباب.
فصحت من ورائه وهكذا أعتمد عليك في هذا الشأن.(49/59)
فمضى وهو يقول بصوت المغتبط السعيد: ثق بنا واعتمد علينا سنكلم العجوز في شأنك ونأتيك بجوابها.
انتظرت الجواب بفارغ الصبر فلما كان المساء دخل علي إرداليون فخبرني أنه لم يوفق إلى مقابلة العجوز ولكني دفعت بالرغم من ذلك ليرة على سبيل التشجيع فلما كانت صبيحة الغد عاد إلي فرحاً متهللاً وقال أن العجوز سمحت بمقابلتي، ثم صاح إرداليون بغلام صغير فقال:
يا صبي، يا غلام. .
فدخل طفل في السادسة من عمره مطلي كله بالهباب محلوق الرأس عليه رداء واسع ممزق وحذاءان تتيه فيهما قدميه من فرط السعة. وقال له إرداليون: أنت تعرف أين تذهب بالسيد وأشار نحوي. ثم التفت إلي وقال وأنت يا سيدي إذا بلغت المكان فسل عن مستريديا كربوفنا (اسم العجوز).
فهز الغلام رأسه إجابة وانطلقنا.
سرنا مسافة طويلة في طرقات المدينة ت التربة حتى انتهينا إلى أشدها وحشة وإقفاراً فوقف دليلي أمام دار خشبية وشرع يمسح أنفه المهبب في كم ردائه ثم قال (ها هنا اذهب يمينا) فولجت الباب إلى الدهليز الخارجي ثم ذهبت أتعثر نحو اليمين فإذا باب حقير منخفض قد بدأ يصر على مفاصله الصدئة وإذا أمامي شيخة عجوز بادنة ضخمة عليها ثوب أسمر مبطن بفرو الأرنب وعلى رأسها منديل ملون.
قلت مستفهماً: مستريديا كربوفنا
فقالت العجوز: هي هي في خدمتك ادخل يا سيدي، ألا تأخذ كرسياً؟
وكانت الغرفة التي أدخلتني فيها العجوز مزدحمة بكل أصناف الخرق البالية وسقط المتاع والوسائد والفرش والأكياس والركايب حتى لا تكاد تجد فيا مجالاً للحركة. وكانت أشعة الشمس لا تكاد تنفذ من زجاج نافذة صغيرة تربة. وسمعت من إحدى زوايا الغرفة ومن وراء كثيب من الصناديق المركومة فوق بعضها صوت ولولة وأنين ضعيف لم أدر ماذا كان مصدره - لعله طفل عليل أو لعله لعبة من اللعب الخشبية الصياحة. فجلست على كرسي وقامت المرأة بين يدي وكان وجهها مصفراً نصف شفاف كأنه صنع من الشمع.(49/60)
وكانت عيناها الغائرتان الرماديتان تبثان نظرات اليقظة والذكاء والدهاء من تحت جبينها المشرف العظام. وكان أنفها الحاد بارزاً كالمغزل يتنفس هواء الله بنشاط وقوة وكأنه يقول: إني لذو قوة ونشاط. . وكان يفوح منها رائحة النبيذ.
بينت لها القصد من زيارتي فأصغت إلي وهي تطرف بعينها طرفاً متوالياً سريعاً ورفعا أنفها الحاد كأنه تهم أن تنقر.
وثم قالت: أجل أجل لقد حدثني إرداليون كاتسفيتش حديثاً كهذا إنك تريد أن تبصر آيات فاسينكا ولكنا لا نستطيع أن نثق يا سيدي العزيز لا نستطيع أن نثق. .
فقلت معارضاً: ولماذا أما من ناحيتي فاطمئني غاية الاطمئنان فلست مخبراً ولا جاسوساً.
قالت المرأة بسرعة: معاذ الله يا سيدي أستغفر الله ماذا تقول؟ أيدور بخلدك أنا نجرأ على اتهام جنابك بمثل هذه التهمة! وماذا يستطيع المخبر أو الجاسوس أن يبلغ عنا أو يعزو إلينا؟ أترانا نأتي خطيئة أو إثماً. كلا يا سيدي ما كان نجلي ليقترف المنكر قط. . وما هو من السحرة. . معاذ الإله والعذراء والسيد المسيح! وهنا صلبت العجوز مراراً إنه لأتقى الناس وأنقاهم وأقومهم بفرائض الصلاة والصوم ولهذا أفاض الله عليه من نوره ومن وحيه. وما يأتي نجلي من عنده شيئاً إنما هو من عند الله ومن نفحات الملكوت الأعلى.
قلت: وكذلك توافقين إذن خبريني متى ألقى غلامك؟
قالت العجوز وطرفت بعينها كما بينت لك ونقلت منديلها المطوي من كمها الأيمن إلى الأيسر.
هذا يا سيدي ما لا أقدر أن أحدد.
قلت: اسمحي لي يا مسيريديا كربوفنا أن أقدم لك هذا، ثم أعطيتها ليرتين.
فاختطفتها العجوز بأصابعها المسينة المعوجة التي هي أشبه شيء بمخالب البومة ثم دستهما بسرعة في كمها وأطرقت ملياً كأنما قد عزمت وأبرمت قراراً ثم ضربت بيديها على فخذيها وقالت لا بلهجتها السالفة ولكن بصوت أخشع وأخفت.
(ائت هنا الساعة السابعة مساء. ولكن لا إلى هذه الغرفة بل تفضل بالصعود إلى الدور الأعلى تجد باباً على يسارك فافتحه فإنه يفضي بك إلى حجرة خالية فيها كرسي فاجلس فيه وانتظر. ومهما تر وتسمع فلا تحدث أدنى حركة ولا تنبس ببنت شفة. بل لا تكلم ابني(49/61)
نفسه لأنه حديث السن وعرضة للنوبات العصبية. وهو سريع الفزع والهلع. ويروعه أدنى شيء حتى تراه يرتعش وينتفض كالعصفور بلله القطر يا لله يا لله.
فنظرت إلى مستريدا وقلت (تقولين أنه حديث السن، ولكن بما أنه ولدك. . .)
ولدي في الله فقط - في المذهب والطريقة وكم غيره من اليتامى أقوم عليهم وأنشر فوقهم ظلال عنايتي وأجنحة رعايتي. قالت هذا وأومأت برأسها نحو الركن الذي يصدر منه البكاء والأنين واستمرت فقالت يا لله والأم المقدسة العذراء! وهل جنابك فركت قبل المجيء إلى هنا أي أقاربك أو أصحابك المرحومين - لهم الجنة - تريد أن ترى؟ أرجع الفكرة كرة في سجل مرحوميك وعين من تشاء وأبقه في ذاكرتك من الآن حتى تقابل ولدي!.
قلت: أفلا أذكر لولدك اسم من. . .
قالت: لا لا لا تفه بأدنى كلمة. لمحدث بما في سرك مطلع على مكنون صدرك يأخذ من بنات أفكارك ما يحتاج إليه بعلمه الثاقب. وكل ما عليك هو أن تبقي صاحبك المرحوم في ذاكرتك. ولا تنس أن تشرب على الغذاء قطرة من النبيذ كأسين أو ثلاثاً فإن النبيذ لن يعدم نفعه وفائدته. ثم أن العجوز ضحكت وتلمظت بشفتيها وأمرّت يدها على فمها وتنهدت.
قلت لها ونهضت من الكرسي: وكذلك موعدنا الساعة السابعة.
قالت: الساعة السابعة يا سيدي الساعة السابعة.
استأذنت من العجوز وعدت إلى الفندق وما عندي شك في أنهم سيخدعوني ويجعلوني أضحوكة ولكني لم أدر ماذا يكون أسلوبهم في ذلك، وهذا ما أثار حيرتي وعجبي. ولما قابلت إرداليون لم أتبادل معه أكثر من كلمتين أو ثلاثاً إذ سألني وعقد جبينه: هل قابلتها؟ قلت: معم فصاح قائلاً: قاتل الله العجوز إنها كأدهى سياسي!.
ثم إني شرعت في تنفيذ وصية (السياسي) فرجعت الفكرة كرة في سجل أمواتي. وبعد تردد طويل وقع اختياري على شيخ كبير كان قد توفي منذ عهد بعيد وكان معلماً في حين ما وكان فرنسي الجنسية ولم يكن اختياري له دون غيره لجاذبية خاصة بل لأن شكله كان عجيباً نادراً فذاً لا يوجد له مثيل بين أشكال أناس اليوم بحيث يصبح تقليده من المستحيلات. فكان له رأس مفرط الضخامة وشعر أبيض منفوش وحاجبان أسودان كثيفان(49/62)
وأنف مقوس كأنف الصقر في وسط جبهته. وكان يلبس ريدنجوتاً أخضر ذا أزرة نحاسية ملساء وصدرية مخططة بياقة واقفة وكمين مهدبين فقلت في نفسي: أما لو آراني شخص معلمي القديم المسيو ديسير لأشهدن له بالبراعة في السحر!.
وفي أثناء الغذاء نفذت وصية العجوز فشربت من نبيذ لافيت من الطراز الأعلى - كذلك نعتها إرداليون بالرغم من أن مذاقها كطعم الفل المحترق وأنها أرسبت راسباً كثيفاً في قرارة كل كأس.
ولما كانت الساعة السابعة بالضبط كنت واقفاً حيال منزل العجوز وكان مغلق النوافذ موصدة مصاريعها ولكن بابه كان مفتوحاً فدخلت وارتقيت السلم المضطرب متمايلاً حتى بلغت الدور الأعلى ففتحت باباً على اليسار فوجدتني كما قالت العجوز في غرفة خالية واسعة. وكان على صفة النافذة شمعة من الشحم تبعث في المكان شعاعها الضعيف المتضائل، وإلى الجدار المقابل للباب كرسي من القش فأصلحت المشعة وجلست على الكرسي وبدأت أنتظر.
مضت العشر الدقائق الأولى بلا ملل - إنه لم يكن بالغرفة أدنى ما يلفت النظر ولكني جعلت برغم ذلك أنصت لكل صوت حادث وأحملق في الباب المغلق وكان قلبي يخفق وبعد العشر الدقائق الأولى مرت عشر أخرى ثم ثلاثة أرباع الساعة لم آنس حركة فيما حولي فسعلت مراراً لأعلن عن وجودي ثم دب الملل والضجر وهممت أن أترك المكان فمضيت نحو الشمعة لآخذها تضيء لي ظلمة السلم ثم تناولتها وبعد إصلاحها التفت أستقبل الباب للذهاب فما راعني إلا شخص رجل مسند ظهره إلى الباب وكان قد دخل بمنتهى السرعة والخفة فلم أحس بحركته.
كان هذا الرجل في برد أزرق وكان ربعة بادناً وكان واقفاً يداه مضمومتان وراءه ورأسه مطرق وهو يرمقني بحدة، وكان ضوء الشمعة المتضائل لا يمكنني من استجلاء سحنته تماماً، فكل ما بدا لي من شخصه هو خصل مجعدة كثيفة من الشعر مرسلة فوق جبهته وشفتان غليظتان مقلصتان قليلاً وعينان مبيضتان فهممت أن أخاطبه ولكني ذكرت وصية مستريدا وعضضت على شفتي واستمر الرجل ينظر إلي وأعجب شيء أني أحسست في قلبي إذ ذاك شيئاً كالخوف وشرعت في الحال أفكر في معلمي القديم كأني في ذلك مؤتمر(49/63)
بأمر آمر وبقي هو لدى الباب وجعل يتنفس تنفساً عسيراً ثقيلاً كهيئة المبهور من صعود جبل أو رفع ثقل بينما عيناه أخذتا تتسعان وتتمددان كأنهما تدنوان مني فشعرت بكربة وضيق تحت تأثير نظراتهما الحادة الثقيلة اللجوجة المهددة وتارة كنت أرى هاتين العيني تتوهج فيهما نار خبيثة باطنة أشبه شيء بما يتوقد في عيني كلب الصيد عندما يرمق أرنباً - وكذلك ككلب الصيد أيضاً جعل هذا المخلوق يقفو بنظراته نظراتي عندما أحاول تحويلهما عن شخصه.
وعلى هذه الحال مر علينا لا أدري كم من الزمن - لعلها دقيقة أو لعلها ربع ساعة، وأنه لا يزال يحملق إلي وأنا لا أزال أشعر بكربة وضيق ووحشة ولا يزال دهني يذكرني بذلك المعلم الفرنسي المتوفي، وقد حاولت مرتين أن أقول لنفسي ما هذه السخافات والترهات، وحاولت أن أبتسم وأهز كتفي استخفافاً بالأمر واستهزاءً - وحاولت كل ذلك ولكن عبثاً حاولت! لقد تسلطت على نفسي قوة خفية فسدت ينابيعها وجمدت غدرانها - قوة لا أرى ما هي ولا أعرف ماذا أسميها. فإني لكذلك إذ رأيت الرجل قد ترك الباب بغتة وصار بموضع أقرب مما كان فيه بمقدار خطوتين ثم وثب وثبة خفيفة بقدميه معاً فصار أقرب، ثم فعل مرة ثم أخرى، والعينان المهددتان أثناء ذلك مثبتتان في وجهي معقودتان به واليدان لا تزالان مضمومتان إلى خلف والصدر العريض يتنفس ويتنهد بحالة المتألم، فرأيت في هذه الوثبات من السخافة ما هو جدير بالضحك ولكني بقيت برغم ذلك خائفاً وجلاً، وأعجب من ذلك أني أحسست ثقلاً كثقل النعاس قد استولى عليّ بغتة، فاشتبكت أهدابي بعضها ببعض. ثم أن الشبح الأشعث المبيض العينين الأزرق الثوب بدأ أمامي مزدوجاً قم تلاشى البتة فهززت نفسي فإذا هو قد عاد ماثلاً بيني وبني الباب ولكن أقرب إلي من ذي قبل - ثم تلاشى ثانياً - كأنما قد سقط عليه من الضباب ثم ظهر ثانياً ثم تلاشى ثم ظهر وفي كل مرة يتقدم ويقترب وإذ ذاك أحسست أنفاسه العسرة المبهورة تهب علي ثم سقط الضباب ثانياً ومن جوف هذا الضباب أبصرت رأس معلمي القديم الشيخ ديسير يتكون ويأخذ شكلاً واضحاً جلياً - بادئاً بالشعر الأبيض المنفوش! أجل وربك لا مجال للشك فهاك حاجبيه الكثيفين وهاك ثؤلولته وهاك أنفسه المقوس! وهاك ريدنجوته الأخضر النحاسي الأزرار وصدريته المخططة عند ذلك صرخت ونهضت، فتلاشى الشبح من أمايم ورأيت مكانه(49/64)
الرجل ذا الثوب الأزرق ثانياً - فسار متعثراً نحو الجدار فاسند إليه رأسه وذراعيه ثم تنهد كالفرس المكدود المحمل فوق طاقته وقال بصوت أبح (الشاي!) فما راعني إلا شخص العجوز مستريدا وقد طارت إليه سريبعة - لا أدري كيف جاءت بهذه السرعة المدهشة، فأقبلت عليه وهي تقول بصوت المتلهف فاسنكا! فاسنكا ما بالك وماذا تريد؟. ثم أخذت تمسح العرق المتحدر من وجهه وشعره فهممت أن أدنو منهما ولكنها قالت بصوت متوجع يفتت الأكباد: كلا يا سيدي العزيز رحمة من لدنك وحناناً مكانك! اذهب يا سيدي انطلق. فأخذتني الشفقة ورق قلبي لفرط ولهها فأطعتها والتفتت هي إلى ولدها فقالت له بصوت خافت لين: يا ولدي العزيز يا كاسب الرزق ومصدر الخير سيجيئك الشاي في الحال - في التو واللحظة وأنت يا سيدي يحسن بك أن تتعاطى كوبة من الشاي في منزلك.
فلما بلغت منزلي أعني الفندق طلبت كوبة من الشاي عملاً بنصيحة مستريدا وكنت أشعر بتعب بل بضعف ووهن.
وقال لي إرداليون: خيراً هل ذهبت إلى هناك؟ هل رأيت شيئا؟.
قلت له: نعم لقد أراني بالفعل شيئاً لم يكن في الحسبان.
قال إرداليون: إنه لصاحب آيات ومعجزات وله منزلة سامية في نفوس طائفة التجار.
ولما ذهبت إلى الفراش وجعلت أتدبر ما وقع لي بد لي أني قد توصلت إلى حل مقبول لذلك المشكل العويص. وهو أن ذلك الرجل فيه قوة مغناطيسية عظيمة وأنه أثر على أعصابي بوسيلة لا أدري ما هي فأثار في ذهني صورة الشيخ المعلم الذي كنت أفكر فيه ظاهرة في أقصى منتهى الجلاء والوضوح حتى خيل إلي أني أبصره أمام عيني وقد أقر العلم الحديث نظرية هذه التنقلات الحسية. لا أنكر أن هذا حل لا بأس به ولكني لا أزال أرى أن القوة القادرة على إحداث أمثال هذه التأثيرات والنتائج لهي شيء مجهول خفي. معجز لغزي. ومهما قال القائلون في تفسير هذا الحادث وتأويله فإنه لا ينقص من هوله وغرابته. ومهما كثرت التعليلات العلمية والبيانات الفيزيولوجية والبسيكولوجية فلقد رأيت بعيني رأسي معلمي المقبور ماثلاً أمامي كما كان في حياته!.
في غد ذلك اليوم أقيمت حفلة الرقص في قاعة الإشراف. فزارني والد صوفيا وذكرني بموعدي الذي عقدت مع ابنته. فلما كانت الساعة العاشرة مساءً كنت واقفاً إلى جانبها في(49/65)
مرقص مضاء بعدة مصابيح نحاسية أتهيأ لأداء فريضة الرقص على نغمات الموسيقى الحربي. وكانت القاعة غاصة بجمهور من الناس بينهم عدد عديد من الغانيات الحسان. ولقد كانت رفيقتي جديرة أن تفضل وتقدم على سائرهن وتعطى المكان الأول من بينهن لولا ما كان يشاهد في عينيها من تلك النظرة الغريبة المستوحشة المولهة. وقد لاحظت عليها أن عينيها لم تكن تطرف البتة. وأن معاني الإخلاص والوفاء التي كانت تنطق في عينيها لم تستطع أن تمحو سوء أثر تلك النظرات الغريبة الخارقة للعادة. ولكنها كانت مع ذلك رشيقة القد مستملحة الحركات مع شيء من الثقل والتقيد. ولما كانت في أثناء الرقص تستلقي قليلاً إلى الوراء وتميل جيدها الأغيد شطر كتفها الأيمن كأنها تحاول التخلي عن رفيقها لم يكن ثمت في الوجود شيء هو ألذ وطرب وأجلب للهوى. وأدعى إلى الصبا. وكان عليها حلة بيضاء مزدانه بصليب من الفيروذج على شريط أسود.
ثم سألتها دوراً ثانياً من الرقص وحاولت أن أحادثها فكانت أجوبتها ثقيلة تدل على عدم رغبة في الكلام وإن كانت لم تقصر في حسن الإصغاء والالتفات وعلى وجهها أثناء ذلك علامات عزوب الذهن واستغراق الفكر كالذي شاهدت فيها أول ما رأيتها. هذه الفتاة لم يكن يرى عليها أقل دلالة على الغربة في إيناس جليسها وتسلية عشيرها مع غضارة شبابها وجمال منظرها - لقد كان ثغرها لا يعرف السبيل إلى الابتسام والضحك وكانت عيناها مع دوام نظرهما إلى مخاطبها كأنهما تنظران إلى شيء آخر قد شغلتا به عن كل ما عداه. ما أعجب هذه الفتاة! ولما أعيتني الحيل إلى استمالتها واستلانتها فكرت في إخبارها بحادثتي السالفة.
فأصغت إلي باهتمام ولكن الحديث لم يثر في نفسها من الدهش والاستغراب ما كنت أتوقع، فكان كل جوابها هو: أليس اسم هذا الرجل فاسيلي؟ فتذكرت أن العجوز نادته بالأمس فاسينكا فقلت بلى إن اسمه فاسيلي، أعترفينه؟.
قالت: إن بهذه المدينة رجلاً قديساً اسمه فاسيلي فلعله هو.
قلت: لا دخل للتقديس والقداسة في هذا الموضوع فإنه لا يعدو كونه تأثير المغناطيسية وهو موضوع يهم الأطباء وعلماء الفيزيولوجيا والبسيكولوجيا.
ثم شرعت أشرح نظرية القوة المسماة المغناطيسية أعني إمكان تسليط إرادة إنسان على(49/66)
إرادة أخرى وإخضاع الثانية للأولى وهلم جرا، ولكن شروحي وإيضاحاتي - التي كان بها ولا شك شيء من الخلط والتشويش - لم تحدث أدنى تأثير في نفس الفتاة، وجعلت تصغي ويداها المقبوضتان ملقاتان على ركبتيها وفيهما المروحة لا تحركها ولا تعبث بها كعادتها، وشعرت كأن كلماتي كانت تقع عليها فترتد عنها إلي كما لو كانت تمثالاً من الرخام، لقد كانت تسمع هذه الكلمات ولكنها كانت تعتقد اعتقادات أخرى ليس في قوة اللغة والإقناع إبطالها وإزالتها.
قلت لها: ما أراك ممن يعتقد بالمعجزا!.
قالت: بلى أعتقد بها ارسخ اعتقاد وكيف يستطيع الإنسان غير ذلك، ألم ينبئنا الإنجيل أنه من آمن بالله مثقال ذرة استطاع أن يزحزح الجبال عن مواضعها؟ وما على المرء إلا أن يؤمن حتى يستطيع أن يأتي المعجزات!.
قلت لها: الظاهر أن الإيمان في هذا الزمان قليل وعلى كل حال فنحن لا نزال نسمع بحدوث المعجزات.
قالت: ومع ذلك فإن المعجزات تحدث، أفلم تر بعينك، كلا! لم يفن الإيمان بعد من العالم، ورأس الإيمان. . .
فقاطعتها قائلاً: رأي الحكمة مخافة الله.
فاستمرت صوفيا فقالت: رأس الإيمان إذلال النفس وقهرها وامتهانها.
قلت: أو يبلغ الأمر الإذلال والامتهان؟
قال: أجل إن كبرياء الإنسان وغطرسته وغروره وزهوه - هذه هي أحق الأشياء بالإبادة والاستئصال، إنك قد ذكرت الإرادة في كلمتك السالفة - هذه الإرادة هي ما يجب أن يسحق ويمحق.
فتأملت شخص الفتاة الصغيرة التي جعلت تنطق بهذه الكلمات. . فقلت في نفسي: وايم الحق إن هذه الطفلة لتصدر القول عن أعماق نفس جادة صادقة لا تقول إلا ما تعتقد.
ثم نظرت إلى من حولي من الراقصين فخيل إلي أنهم يجدون مسلاة وملهاة فيما يبدو على إذ ذاك من علامات الدهشة والاستغراب بل لقد لمحت أحدهم يبتسم إلي ابتسام من يشاطرني عواطفي ويشاركني مشاعري كأن لسان حاله يقول لي: ليت شعري ما رأيك في(49/67)
فتاتنا الغريبة الأطوار والأحوال ليس في هذا المكان إلا من يعرف نزعاتها وأميالها وأفكارها وآراءها.
والتفت إلى صوفيا فقلت: وهل حاولت سحق إرادتك ومحقها؟.
فقالت بلهجة العنيد المستبد برأيه: كل امرئ ملزم أن يفعل ما يظنه الصواب.
قلت بعد فترة قصيرة من السكوت: اسمحي لي أن أسألك هل تعتقدين بإمكان استحضار الموتى؟.
فهزت صوفيا رأسها وقالت:
ليس هناك أموات.
قلت: ماذا تقولين؟
قالت: ليس هنالك أرواح ميتة. الأرواح لا تموت البتة وهي تستطيع أن تظهر متى شاءت. . وهي أبداً ترفرف علينا وتحوم حولنا.
قلت: عجباً!! أتظنين مثلاً في هذه اللحظة أن يجوز أن تكون إحدى الأرواح الخالدة حائمة حول رأس ذلك الضابط الطويل ذي الأنف الأحمر؟.
قالت: ولم لا؟ إن ضوء الشمس ليسقط عليه وعلى أنفه الأحمر أفليس ضوء الشمس وكل ضوء غيره من الله؟ وماذا تهم المظاهر؟ إن الرجل النقي يرى كل شيء نقياً، وكل ما يحتاج إليه المرء هو الاهتداء إلى معلم - إلى قائد مرشد.
قلت لها: ولا أنكر أن قولي كان يشوبه شيء من الهمز واللمز (معذرة معذرة. . تقولين أنك في حاجة إلى القائد والمرشد. . فما فائدة قسيسك إذن؟.
فنظرت إلي نظرة فتور وجمود ثم قالت: أتريد أن تسخر مني وتضحك؟ إن قسيسي ينبئني بما ينبغي علي أن أفعل، ولكن الذي أحتاجه هو قائد يريني بأفعاله كيف يضحي الإنسان بنفسه!.
وهنا رفعت الفتاة عينيها إلى السقف، فأذكرني وجهها الصبياني وما عليه من دلائل عزوب الذهن واستغراق الفكر وسيما الدهشة والحيرة الخفية المستمرة صورة عذراء روفائيل.
قم استرسلت في حديثها فقالت ولم تلتفت نحوي ولم تكد تحرك شفتيها: لقد قرأت في بعض الكتب حديثاً عن رجل كبير القدر عالي المنزلة أنه أوصى أن يدفن بعد مماته تحت عتبة(49/68)
كنيسة إن كل من دخل الكنيسة يدوس عليه بقدمه - فهذا ما يجب على الإنسان أن يفعله في حياته.
وعنا ارتفعت أصوات الطبول من فرقة الموسيقى (بوم! بوم! ترا - را - را!) ودوي طنينها، ولا اخفي على القارئ أني رأيت ذلك الحديث الذي دار بيني وبين الفتاة أثناء الرقص ضرباً من الشذوذ، على ا، الخواطر التي أثارها في نفسي لم تكن في شيء من العواطف الدينية ففرحت بتقدم أحد الحاضرين إلى رفيقتي لترقص معه إذ كان في ذلك إيقاف للخوض في أمثال هذه الموضوعات.
وبعد ربع ساعة أوصلت الآنسة صوفيا إلى والدها. وبعد يومين غارت مدينة ت. وما هي إلا أيام قلائل حتى سقط على ذاكرتي صورة الفتاة ذات الوجه الصبياني والروح المحصنة المنيعة التي لا تخترق حجبها الظنون ولا تنفذ إلى لبابها الأوهام.
مضى على ذلك عامان ثم اتفق أن هذه الصورة عادت فجأة إلى ذاكرتي وبيان ذلك أني كنت أحادث وميلاً لي كان قد عاد حديثاً من رحلة في جنوبي روسيا قضى أثناءها برهة في مدينة ت فجعل يسرد لي أخباراً عن هذه البلدة وما حولها إلى ان قال: خبرني هل تعرف شيئاً عن ف. ج. ب؟
قلت له: أعرفه بالطبع
قال: وابنته صوفيا، أتعرفها؟
قلت: بلى قد رأيتها مرتين.
قال: أليس من أعجب العجائب أن هذه الفتاة قد فرت من بيت أبيها؟
قلت: وكيف كان ذلك؟
قال: لست أدري وكل ما أعلم أنها اختفت منذ ثلاثة أشهر ولم يسمع عنها شيء حتى الآن. وأعجب ما في الأمر أنه لا يعرف مع من فرت؟ لقد رفضت كل طالب وردت كل خاطب. وكانت في سلوكها مثال الطهر ونموذج العفاف. ويلي ثم ويلي من أولئك الفتيات المتدينات! ومن أكبر البلية أنه قد انتشرت عهنها في أنحاء الإقليم إشاعة سوء وأصبح عرضها هدفاً لسهام القذف والقدح ومخاضاً للألسن الشتامة. والشفاه النمامة. وقد راح أبوها رهينة الكمد واليأس. وإني لأعجب ماذا كان سبب فرارها. لقد كان أبوها لا يضن عليها بشيء وكان(49/69)
حريصاً على إجابة مطالبها وقضاء مآربها. وأعجب من كل ذلك أن جميع ربات الخلاعة والتبرج من فتيات الإقليم باقيات في دور آبائهن لم تهرب منهن واحدة.
قلت: وللآن لم يعثروا عليها؟
قال: يعثرون عليها؟ كلا وما أظنهم يجدونها ولو غاصوا عليها في قرار المحيط! وماذا يهم ضياع مثلها! سينقص عدد الوارثات المثريات واحدة، وهذا أسوأ ما في الأمر.
أدهشني ذلك النبأ غذ كان لا ينطبق على ما بقي في ذاكرتي من صورة صوفيا. ولكن الحادثات تكون. وليس في هذا الحياة مستحيل ولا مستبعد. والدنيا أم العجائب.
بلى أنها الأيام أصبحن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
في خريف هذا العام ذاته ساقني القدر ثانياً بمناسبة الأعمال الرسمية إلى إقليم س المجاور لإقليم ت. وكان الجو مطيراً. والبرد زمهريراً فنزلت أثناء سفري في بعض محطات البريد وكان الوقت قرب المساء وكنت قد بلغت من النصب والإعياء ما عزمت معه على قضاء الليلة في فندق المحطة. فأعطيت فيه غرفة ذات كنبة خشبية مهدمة وأرض منحدرة وجدران مغشاة بورق بال ممزق وكان يفوح في أرجائها خليط من رائحة البصل وحصر القش وزيت النفط. وتزدحم طوائف الذباب على كل ما فيها. ولكني بها على كل حال ملاذاً من الريح العاصفة. ومعاذاً من الديمة الواكفة. فطلبت زجاجة نبيذ واتكأت على الكنبة وأطلقت العنان لخواطري وأوهامي.
فإني لكذلك إذ طرق أدني صوت خبطات ثقيلة في الحجرة العمومية التي كان يفصلها عن غرفتي حاجز من الخشب وكانت هذه الخبطات مشفوعة برنات معدنية متولية كطنين السلاسل ثم فاجأ مسمعي صوت مذكر خشن يقول: بارك اله في كل من يسكن هذا النزل! بارك الله فيهم! بارك الله فيهم آمين. . آمين بدد الله شمل أعدائهم! وكان في الصوت تمتمة وحشية وتقطع مستنكر. . ثم سمعت زفرة شديدة وسقوط جسم ثقيل فوق مقعد مع طنين السلاسل الآنفة الذكر وانبرى الصوت يقول: أكولينا! خادمة الله! تعالي إلى هنا. إني في أطمار رثة وأسمال بالية ولكني مغمور ببركة الله. مشمول برحمته ورضاه. رحماك اللهم يا ارحم الراحمين يا أرحم الراحمين! يا خالق هذا الجسد انظر إلى عجزي وتقصيري أو - هو - هو - ها - ها. . . تفو! اللهم اغمر هذا المنزل بفيض إحسانك وإنعامك.(49/70)
فقلت مستفهماً من ربة الفندق وهي داخلة علي بزجاجة النبيذ: من هذا؟
فقالت بخفوت وسرعة: هذا يا سيدي رجل من الصالحين الأبرار المقدسين وهو حديث العهد في بلدتنا. وقد ومن علينا بالزيارة في مثل هذا الجو العاصف الواكف وإن قطرات البلل لتتحدر من ثيابه كالجدول! وعليه من السلاسل ما لا يطيق حمله مخلوق.
واستأنف الصوت دعواته فقال رحة الله وبركاته! أكولينا رهيبي أكولينا كولينوشكا صديقتي وخليلتي! أين جنتنا وفردوسنا؟ اين جنة نعيمنا وفردوس لذاتنا؟ في القفار الموحشة فردوسنا وجنتنا. . الغبطة والرخاء والسعادة لهذا المنزل. . . أو. . . أو. . . أو) ثم جمجم الصوت بكلام غير مبين وتثاءب تثاؤباً طويلاً ثم ضحك ضحكة خشنة بحاء وبصق بصقة شديدة.
قالت ربة الفندق كأنما تحدث نفسها وكلها إصغاء والتفات عند الباب: وا أسفاه إن الرجل المقدس ينثر الدعوات الصالحات على من حوله وأنا معمزل عنه أحرم من عظيم بركاته وكريم نفحاته تالله لأهرعن إليه.
ثم انطلقت من الغرفة بسرع من لمح البصر.
وكان في الجدار شق فوضعت عيني عليه فرأيت الرجل الموسوس جالساً على مقعد وظهره لي فلم تأخذ عيني منه سوى رأس ضخم أشعث في مثل حجم المرجل الكبير وظهر عريض محني في قميص مرقع. وكانت تركع على الأرض بين يديه امرأة نحيفة رقيقة في مثل رداء طبقة الصانعات وقطرات البلل تتصب من ردائها وعلى رأسها منديل أسود وقد تدلى إلى عينيها. وكانت تحاول انتزاع نعلي الرجل المقدس وأصابعها تزل وتزلق من فوق الجلد الوحلي المبلول. وكانت ربة المنزل واقفة إلى جانبها مضمومة اليدين على صدرها تنظر إلى (ولي الله) بعين ملؤها الخشوع والإجلال والهيبة وهو يجمجم كما أسلفنا بألفاظ معجمة غير واضحة المخارج.
وأخيراً استطاعت المرأة أن تخلع النعلين وكادت من شدة الجذب أن تقع على ظهرها ولكنها تداركت نفسها وشرعت تحل لفائف الخرق البالية المطوية حول ساقي الرجل الشريد. وكان في بطن قدمه جرح بليغ فزويت وجهي تأففاً.
وقالت له ربة المنزل بصوت تذلل وخشوع: ألا تأمرني آتيك بكوبة من الشاي يا عزيزي؟.(49/71)
فأجاب الرجل المقدس بلهجة الهازئ: ما أجمل هذا الرأي! أنت تريدينني على مضاء شهوات الجسد المجرم الأثيم؟ أو - هو - هو! إنما الواجب على المرء أن يحطم عظام جسده الأثيم! ولكني أراها تدكر الشاي! أجل أيتها المرأة البرة الكريمة إن للشيطان علينا لسلطاناً أي سلطان. وأرانا مهما قاتلناه بكل ما لدينا من الوسائل كالجوع والعطش وبالبرد وبالقيظ وبكل هام من القطر سجاج. وكل هاطل من البرد الملحاح - فلن نؤثر فيه شيئاً. ولا يبرح بعد كل ذلك كما كان شدة بأس. وصعوبة مراس، وحولاً وقوة، وصولة وفتوة. فتذكروا يوم تشفع لكم العذراء ستعطون يومذاك كل الخير، وتحمون من كل الشر!.
فلم تملك ربة النزل أن ارسلت زفرة لإعجاب خافتة.
واستمر الشريد فقال: أيها القوم أعيروني أذناً صاغية، وقلوباً واعية! أنفقوا في سبيل الله من كل ما لديكم تصدقوا برؤوسكم تصدقوا بقمصانكم إذا سئلتم فأعطوا وإذا لم تسألوا فأعطوا. لأن الله يبصر كل شيء وليس تخفى عليه خافية. أترون أنه يصعب عليه تهديم سقوفكم. . لقد أعطاكم الخبز من فضله فاخبزوه في أفرانكم. إنه على كل شيء مطلع! مطـ. . . . طـ. . . . . . . لع! من ذا الذي عينه في المثلث؟ من. .؟ من. .؟ خبروني عين من.
فصلبت ربة النزل في خفية تحت مبذلتها وصاح المجنون المتصوف مردداً قوله مراراً وهو يصرف نابه حنقاً وغيظاً: إن العدو القديم (الشيطان) صخرة صماء! صمـ،. . . . . . . ماء!. . . صمـ. . . . . . ماء! تباً للأفعوان الصل! تباً للحية الرقشاء ولكن الله سيثور ويبدد شمل أعدائه. . . . هاـ هاـ تفوه!.
وهنا سمعت صوت آخر خافت يقول همساً: هل عندكم زيت أعطوني قليلاً أصبه على الجرح،. . وعندي خرقة نظيفة. .
فنظرت من الشق فرأيت المرأة التي تصحب الشريد لا تزال تعالج الجرح في قدمه فقلت في نفسي (هذه مجدولين جديدة فيما أرى).
قالت ربة الفندق: سآتيك به سريعاً يا عزيزتي. ثم أنها دخلت غرفتي فأخذت ملعقة زيت من المصباح المشعل أمام صورة العذراء.
قلت لها مستفهماً: من تلك التي تعنى به وتعالج جرحه؟.(49/72)
قالت: لا تعلم يا سيدي أظنها أيضاً تريد التوبة والخلاص والتكفير عن خطاياها وسيئاتها. ولكن أي رجل مقدس هذا الرجل!.
في أثناء ذلك كان المجنون المتصوف يردد الكلمات التاية (أكولينوشكا - ابنتي المحبوبة - طفلتي العزيزة) ثم أجهش بالبكاء.
عند ذلك رأيت المرأة الراكعة تحت قدميه ترفع إليه عينيها. . . يا لله! لقد أذكر أني رأيت هاتين العينين قبل اليوم. . ولكن أين!
وانطلقت ربة الفندق إليها بملعقة الزيت فأخذتها وأكملت علاجها ثم نهضت واقفة وقالت: هل عندكم مصطبة نظيفة وشيء من الحشيش (وهو الكلأ اليابس). . إن فاسيلي نيكاتيتيش بطيب له النوم على الحشيش.
قالت المرأة: أجل عندنا. امض معي. . ثم التفتت إلى الرجل المقدس فقالت: امض معنا يا عزيزي لتجفف ثيابك وتستريح.
فسعل الرجل وقام من مقعده في بطء - وسمعت أنين سلاسله ثانياً - ثم استدار حتى واجهني وجعل يتأمل صورة العذراء ويصلب على صدره.
فعرفته في الحال وعلمت أنه هو عين ذلك الصانع فاسيلي الذي أراني صورة معلمي المتوفى!
وكانت له لحية كثة ملبدة. وكان عليه ثياب رثة بالية وله سحنة وحشية مولهة حائرة. فكانت هيئته أبعث على النفور والاشمئزاز منها على الذعر والرعب وجعل هذا الرجل العجيب يدير عينيه الذاهلتين في أركان المكان وفي أرضه كمن ينتظر شيئاً.
وقالت المرأة الت يمعه: فاسيلي نكتيتش سير معي يا عزيزي.
فرفع الرجل رأسه بغتة والتفت ولكنه عثر فتمايل. . فهرعت إليه رفيقته في الحال وأخذت بعضده. . وكان صوتها وشكلها يدلان على حداثة سنها. أما وجهها فكان لا يكاد يرى.
وقال الرجل الشرير مرة أخرى بصوت رعش مرتجف وفمه مفتوح عن آخره وهو يضرب صدره بقبضة يده (أكولينوشكا صديقتي!) ثم زفر زفرة شديدة خرجت من أعماق صدره.
وغادرت الغرفة ربة المكان ومضى الرجل ورفيقته على أثرها.(49/73)
واضطجعت على الكنبة وفكرت ملياً فيما رأيت. إن الرجل المغناطيسي قد أصبح مجنوناً دينياً (مجذوباً) إلى هذا الحد قد أوصلته القوة العجيبة التي لا يسع الإنسان إلا الاعتراف بها!.
في غد ذلك اليوم قال لي خادم الفندق: هل رأيت يا سيدي أمس الجوالة الموسوس؟
قلت: نعم وماذا في ذلك؟
قال: ورأيت رفيقته أيضاً؟
قلت: نعم رأيتها.
قال: إنها لسيدة صغيرة من أسرة شريفة.
قلت: ماذا تقول؟
قال: إنما الحق يا سيدي لقد نزل هنا اليوم جماعة من التجار وقد عرفوها، وقد خبروني باسمها ولكني نسيته.
فأثارت كلمته هذه في خاطري ذكرى كلمح البرق.
قلت له: أو لا يزال الجوالة هنا.؟
قال: بلى، وما أظنه قد رحل بعد.
قلت: وهل السيدة معه؟
قال: أجل قائمة في خدمته.
ذهبت إلى السلم فصوبت النظر إلى الجوالة المجذوب فوجدته جالساً فوق مقعد على باب الفندق منحنياً ضاغطاً بكلتا يديه على مقعد يهز رأسه المنكس يمنة ويسرة كأنه الوحش البري في قفصه، وكانت خصل شعره الكثيفة تغطي عينيه وتهتز من جانب لآخر وكذلك كانت شفتاه الغليظتان اللتان كان يخرج منهما همهمة مما لا يفوه به آدمي وكانت رفيقته أمامه حاسرة الرأس (كانت قد غسلت رأسها وهي تهم أن تجففه بمنديل، فما هو إلا أن وقعت عيني عليها وهي على هذه الحال حتى رفعت يدي نمحو السماء تعجباً. . ماذا أرى! هذه صوفيا واقفة أمامي.
والتفتت صوفيا بسرعة وشخصت إلي بعينيها الزرقاوين جامدتين لا تطرفان كدأبهما أبد الدهر. وكانت قد هزلت ورق بدنها كثيراً واخشوشنت بشرتها ولوحت الشمس وجهها(49/74)
وأشحبت لونها ولكن جمالها مع ذلك لم ينقص. . غير أن سيما الحيرة والاندهاش الذي لا يفارق وجهها أصبح الآن مشفوعاً بمعنى آخر - معنى اعتزام وجد وجرأة وتسام وترفع - وقد زال عن وجهها كل أثر لمعاني الحداثة والطفولة.
فذهبت إليها وصحت قائلاً: صوفيا فلاديميروفانا! أو يمكن أن تكوني أنتي صوفيا! وفي مثل هذا الثياب. . ومع مثل هذا الرفيق!.
فانتفضت مذعورة وحملقت في وجهي كأنما تريد أن تعرف من ذا الذي يخاطبها ثم استدارت فجأة وأسرعت إلى رفيقها دون أن تنطق بكلمة.
وقال المجذوب بصوت ملجلج ملعثم وزفرة شديدة
أكولينوشكا - خطايانا خطايانا!
قالت صوفيا فاسيلي نكيتتش هيا بنا نرحل في الحال ألا تسمع ما أقول؟ هيا بنا في الحال في الحال ثم جذبت القناع على جبينها بيد وأمسكت عدد الرجل بالأخرى: امض بنا في الحال من ههنا يا فاسيلي إن هنا لخطراً يهددنا.
قال الجوالة الموسوس بطاعة وخضوع: إني آت يا ابنتي المحبوبة إني أت، ثم قال بجملة جسده إلى الأمام ونهض من مقعده اصبري ريثما أربط هذه السلسلة.
وتقدمت إلى صوفيا مرة ثانية فنبأتها اسمي وطفقت أتضرع إليها أن تصغي إلي أو تفوه لي بكلمة واحدة. وكان المطر إذ ذاك يهمي. وينهمر فسألتها بالله أن تشفق على نفسها من صوب شؤبوبه وابتهلت إليها أن ترفق بجسدها الضعيف وتلتفت لأمر صحتها وصحة رفيقها ثم ذكرت لها والدها. . ولكنها كانت بأشد حالات الغيظ والحنق والاهتياج فأعرضت عني إعراضاً وصدت ونفرت أيما نفور وتنفست تنفساً شديداً وسحبت رفيقها وهي تحثه على السير بصوت خفيض ثم مضت به وهي تحرق أنيابها حفيظة موجدة وجعلت في أثناء سيرها تحزمه بنطاقه الحديدي وتعقد عليه سلاسله ثم قنعت رأسه بقبعة طفل مهدمة القمة ووعت عصاه في يده وطرحت على ظهرها حقيبة الزاد وانطلقت به من الفندق إلى الطريق العام. . فرأيت في هذه الحال أنه ليس من حقي أن أحجزها كرهاً وقسراً ولو فعلت لما كان فيه أدنى ثمرة فأرسلت في إثرها آخر صيحة فلم تكترث بي ولم تلتفت إلي ولكنها مضت قدماً تخوض أوحال الطريق والرجل المقدس ولي الله مستند عليها معتمد(49/75)
على ذراعها وما هي إلا لحظات حتى اختفى عني وراء حجب الغيم وسجوف الضباب المرصعة بأسلاك القطر المشتبكة وقلائد لؤلؤ المزن المنحلة المنفرطة شخصا الرفيقين المتلازمين. الجوالة الموسوس وصوفيا. . وكذلك كان آخر عهدي بهما.
عدت إلى غرفتي وأطرقت أفكر وأحاول حل ذلك المشكل المعضل فلم أهتد إلى حلة على أي وجه وبأي اعتبار أجل لم أستطع أتبين بأي علة وأي عذر وحجة يتفق أن فتاة مليحة حسناء قد نشأت في لين العيش ورفاهيته تتفيأ ظلال السعادة وتتقلب في أحجار النعيم يلذ لها أن تهجر الدنيا ولذاتها وتنسلخ من أهلها وأسرتها وقومها ومنزلها ووطنها وخلانها وأصحابها ولداتها وأترابها وتنجرد من عاداتها وسننها ومن لذائذ العيش ومناعمه فلماذا كل ذلك؟ لاتباع الرجل مشرد موسوس مجذوب تلازمه وتقوم في خدمته كأحقر العبيد! لم يكن عندي أدنى شك في أن الباعث لها على ذلك كان شيئاً خلاف الحب والهوى! كلا إن صوفيا ما برحت عفة الإزار طاهرة الذيل. لقد ضحت صوفيا بنفسها في سبيل ما اعتقدت به أنه الحق والواجب الذي من أجله خلقت ولأدائه تعيش وتبقى إنه لم يسعني سوى السف والأسى لما قد أتت صوفيا من اختيار هذا السبيل. . ولكني لم أبخل عليها عليها من ذلك بإعجاب - بل بالاحترام والإجلال. . لقد كانت حدثتني حديث وجد وإخلاص عن تضحية النفس وقهرها وإذلالها ولقد صدقت القول بالفعل وهي التي تحقق أقوالها أعمالها. . لقد كانت تلتمس الدليل والقائد ثم وجدته وأي دليل - والعياذ بالله - وأي قائد!.
أجل لقد طرحت نفسها لتداس بالأقدام. . وقد بلغني على ممر الزمن أن أهلها استطاعوا أخيراً أن يعثروا عليها ويرجعوها إلى دارها، ولكن لم تعش في دارها طويلاً فماتت ميتة صامتة ساكتة دون أن تنبس لأحد ما بكلمة أو لفظة.
سلام الله عليها وريحانه،. ورحمة الله عليها ورضوانه على تلك المخلوقة المسكينة الخفية الأمر المجهولة الشان! لعل صاحبك فاسيلي نكتيتس لا يزال في تجوالاته الجنونية يكدح ويكد. . ألا عجباً لأبدان أمثاله الحديدية، وبنيتهم الصخرية على إني أخشى أنتكون نوباته الشللية قد أسكتت نفسه، وأسكنته رمسه.
كلمة على هذه القصة
هذه القصة العجيبة هي بحث سيكولوجي يراد به إيضاح الفرق الأساسي الذي يميز الشعب(49/76)
الروسي عن الشعوب الغربية، وإن كلمة بطلة الرواية صوفيا وهي أنك تحدثني عن الإرادة - والذي أرى وأعتقد هو أن الإرادة يجب أن تسحق وتمحق. هذه الكلمة تبين بأجلى وضوح وأرسخ عقائد النفس الروسية وأعمق أمانيها وأغراضها فرغبة الروسي في تعريض نفسه لآلام الحياة ومنغصاتها وتوقانه إلى إذلال نفسه وقهرها وطرحها تحت أقدام الغير توطأ وتداس، كل هذا يدل على أن الروسي ذو إرادة ضعيفة ضئيلة، وإنه يجد الاستكانة والاستسلام أسهل عليه من محاولته أن يكون مقتدراً قوياً مظفراً منصوراً رفيع القدر، عالي القيمة، وهذا الاستسلام واللين والرقة التي تميز طبيعة الروسي هي منبع فضائله ومناقبه المميزة له على غيره. ولكن التدين عند الغربي له معنى آخر، وهو الرغبة في أن يكون المرء رفيع المنزلة من حيث الآداب والأخلاق قابضاً بيده على سراج الحق المنير متسنماً ذروة الفضيلة والكمال. وأن يكون لي الله المصطفى وصفية المختار. أما معنى التدين عند الروسي فهو مهانة النفس وإذلالها وبخس قيمتها والحط من قدرها، بل محوها وإعدامها البتة، أعني خضوعها وركوعها وتضعضعها واضمحلالها أمام إرادة العرش الأعلى وأمام محبة المرء لأخيه حباً خالصاًَ في سبيل الله. فالذهن الغربي يرقى إلى العظمة بحصر قوة الإرادة في مجال الكد والعمل وإبراز جملة قواه الكامنة. وكفاآته الباطنة. وبدفعه عن نفسه كافة المؤثرات والعوامل التي من شأنها التسلط عليه أو تشويشه أو إضعافه. أما الذهن الروسي فإنه بفضل حرمانه من قوة الإرادة والصرامة والصلابة فإنه يرقى إلى العظمة بما يمتاز به من خلال التوكل والاستسلام والاستكانة وقبوله الحياة على علاتها ورضاه بالمعيشة على آفاتها ورحمته ورثاؤه للمصاب والمنكوب. وعطفه ومواساته للشقي والمكروب. ولا أنكر أنا إذا اعتبرنا الروسي من حيث الحياة العملية وجدناه فاقداً لكثير مما تمتاز به الشعوب الغربية من الفضائل النافعة وحائزاً لمعظم رذائلهم. ولكن رحمته وسخاءه وعطفه ومواساته لمن هو أباس منه وأشقى، هذه الفضائل إنما تصدر وتنجم عن اعتقاده بضعفه وعجزه وصغر قيمته وحقارة قدره اعتقاد المعترف بسلطان القضاء والقدر وبالعجز عن مغالبته ومقاومته. وكذلك إذا تأملنا سيرة صوفيا بطلة هذه القصة وجدنا أن فرط رغبتها في تضحية نفسها وراسخ عقيدتها في أن الحق والصواب هو تعريض النفس لمكابدة المشاق والآلام هو أشبه بأخلاق الروس وغرائزهم من حيث(49/77)
الاستسلام للأقدار والانقياد صحبة تيارها لا عكسه. ومن ثم مصدر تلك الروح المخيفة - ورح الجيل الحديث الذي ضحى بنفسه في حركة النيهليست فإن باعث تضحية النفس كان يدفع بالشاب الغيور المتوقد على غايته المقصودة على الرغم من كافة المؤثرات والعوامل الحائلة بينه وبين غرضه. وعلى ذلك فإن صوفيا بطلة القصة هي فتاة نهلستية سابقة لأوانها.
قلنا أن فقدان القوة والإرادة من النفس الروسية هو أصل الفضائل والرذائل الروسية وبهذه المناسبة نقول أن من العجائب أن نرى روح كل شعب إنما تنمو وتنبعث من نزعة هذا الشعب إلى طلب الصفات والمميزات التي قد حرمها بالفطرة. مثال ذلك أن الذهن الألماني الذي هو أشد الأذهان تيقظاً وانتباهاً إلى ماديات الحياة وإلى وجوب إحراز الفوائد المحسوسة والمنافع الملموسة تراه مع ذلك، بتأثير قانون الموازنة ورد الفع، يرخي وتر قوسه ويحبس عنان فرسه، وبدلاُ من التشمير في إحراز الماديات والتحفز لانتهاز فرص الحياة ينغمس في بحور التصورات والتخيلات ويمعن في أودية الأوهام والأحلام، ثم انظر الذهن الفرنسي الذي هو أهدأ الأذهان وأبردها واصفاها وأدقها تحليلاً لما في نفسه من بواعث ونزعات تراه مع كل ذلك بتأثير قانون التوازن أيضاً، يعمد إلى تضليل نفسه بين دهاليز المجازات وألغاز الكنايات والاستعارات منصرفاً عن جلاء الأفكار الواضحة إلى غموض العواطف المبهمة. وعلى هذا النحو أرى أن تسخط الذهن الروسي على حركات نفسه وكامن استيائه من نزعاته وتصرفاته هو الذي يثير في ذلك الولوع الشديد بانتقاد كل ما هو باطل ومبالغ فيه حتى نراه يحتقر ما في الأدب الفرنسي من صنوف البديعيات وزخارف الاستعارات وما في الأدب الألماني من الإغراق في التخيلات والأحلام ثم نرى أن فقدان الإرادة م الذهن الروسي تزيد روحه تعمقاً واتساعاً من حيث نظراته وتأملاته في الوجود فهو يستسلم للكون ومؤثراته ولا يمكن ظل حظه الذاتي وظل شخصيته الفردية، مهما أظلم واسود، من الحيلولة بني روحه وبني صحيفة هذا الوجود الهائل كما تفعل إرادة الرجل الغربي، تلك الإرادة المهاجمة المغالبة المنازعة المدافعة التي تحاول أن تعطي شخصيته أوفر نصيب من التصرف والظهور. فمركز الروسي من الكون هو أشبه شيء بالوعاء الذي يحوي ويحفظ كل ما يهبط عليه من آفاق الحياة. في حين أن مركز الرجل(49/78)
الغربي من الكون هو كالوعاء المقلوب يحجب كل ما يسقط عليه من آفاق الحياة.(49/79)
تفاريق
يقول العقلاء
اعف ما استطعت عن غيرك، ولا تعف مرة عن نفسك.
الفرصة تقرع الباب، والمشقة تعالجه حتى تفتحه.
حب المرء العمل ما لا يدل على إتقانه له أو تفوقه فيه.
كلما كبر الرجل العالم رأى مقدار جهله.
سمكة تغرق سفينة
اختفت الباخرة (سيكلوبس) الأميركية في بحر كاريبيان منذ عام تقريباً، وعليها 295 مسافراً دون أن يعلم عن أمرها شيء، فاضطربت الأفكار لذلك وكثرت التآويل ولكن الناس رجحوا أخيراً أن يكون قد اعترضها بعض الأسماك الضخمة فأغرقها.
ولا يعد هذا التأويل خرافياً أو بعيداً عن العقل، ففي هذه البحار تعيش أسماك بل وحوش مائية يتراوح طولها بين التسعة والثمانية عشر قدماً (من 2. 70 إلى 5. 40 من الأمتار) كما يتراوح طول ذراع الواحدة منها بين العشرين والثلاثين قدماًُ (بين 6 - 9 أمتار) ومحيطه بين القدم والقدمين.
وهذه الحيوانات المائية تميل بطبعها إلى الهدوء والسكينة ولكنها إذا اهتيجت كان هنالك الهول والفزع الأكبر. وقد اتفق أن رآها بعض الناسي في حالة غضبها، فهي تعلو إلى سطح الماء وتطوق الدفة بذراعيها ثم تجذب السفينة بقوتها الهائلة فتحطمها شر تحطيم.
ولا يبعد أن يكون هذا ما حدث للباخرة سيكلوبس، أو أن هذه الحيوانات الغريبة اجتمعن حولها وأخذن يلتقطن من عليها الواحد إثر الواحد وتركنها تسير خالية خاوية حتى اصطدمت في صخر أرسل بها إلى قاع المحيط.
الفتاة: يقولون أن القبلات هي لغة الحب.
الفتى: إذن دعينا نتجاذب أطراف الحديث
الرجل: من الغريب أن امرأتي تعرف الطهي ثم تدعي الإنكار. . أفبعد هذا إغاظة ومضايقة؟!.
صاحبه: أجل، وهو أن امرأتي لا تعرف الطهي مطلقاً ثم تضطرني لأن آكل ما تصنع!!(49/80)
الروائح كمشروبات روحية
من مجلة الإجابات الإنجليزية
قبض البوليس في الأيام الأخيرة على سيدة في حالة سكر، وبعد التحري والبحث ثبت أنها مدمنة على شرب (ماء الكولونيا) بدلاً من أنواع الخمور المختلفة، وقد عرف بعض الكيماويين هذه السيدة وقالوا أنها تشتري منهم زجاجات كولونيا كبيرة كل أسبوع.
وليست هذه هي السيدة الوحيدة التي تتعاطى هذا المشروب الغريب، بل هنالك كثيرات من النساء مصابات بهذا الداء العضال، وإن عددهن قد ازداد كثيراً في السنوات الأخيرة، وقد صرح مدير إحدى الشركات الكيماوية الكبرى بهذا الصدد فقال أنه بالرغم من ارتفاع أثمان الروائح العطرية في خمس سنوات الحرب ارتفاعاً باهظاً لم يك ثم نقص في كمية البيع.
على أن هذا المشروب هو بلا شك أبلغ ضرراً وأشد فتكاً بالجسم من أي نوع آخر من المشروبات الروحية المعروفة لوفرة ما فيها من الكحول، ولذا لا تلبث المرأة التي تتعاطاه إلا ردحاً قصيراً من الزمن حتى تضمحل قواها ويفسد عقلها وتنحط آدابها مع أنها ربما ابتدأت ذلك لمجرد اللهو والتسلية.
قال أحد القضاة لمتهم يدعي الإنكار:
- فكر قليلاً فكلنا معرضون للخطأ والنسيان، فإني مثلاً كنت أظن أني أحضرت ساعتي معي، ولكني وجدت أني نسيتها في المنزل.
فلما ذهب القاضي إلى بيته في المساء قالت له زوجته: أرجو أن تكون قد استلمت الساعة سليمة فإني أعطيتها للرجل الذي أرسلته من المحكمة.(49/81)
العدد 50 - بتاريخ: 1 - 9 - 1919(/)
محاورة بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد
للفيلسوف الألماني الكبير آرثر شوبنهور
الفقيه: يسؤوني منك أيها الفيلسوف تهكمك على الدين وسخرك منه جهاراً، وكان خليقاً بك أن تذكر أن دين كل امرئ مقدس في نظره وكذلك يجب أن يكون في نظرك.
الفيلسوف: لا أراني ملزماً باحترام الأباطيل والأضاليل لمجرد أن غيري من الناس غبي أبله. ولا أنكر أني أحترم الحقيقة أينما كانت واحترامي للحقيقة هو الذي يدعوني إلى احتقار كل ما ينافيها.
الفقيه: يجب عليك أن ترى في الدين الدواء العام لأرواح البشر. وأن تذكر أن احتياجات الناس ينبغي أن تعالج حسب قوة مداركهم ومبلغ أفهامهم. وأن الدين هو الوسيلة الوحيدة لجعل العامة والطغام ذوي العقول الضعيفة والأذهان الكثيفة المنغمسة في الحقائر والسفاسف والماديات ومداق المكاسب ومساف الأرباح - أقول أن الدين هو الوسيلة الوحيدة لجعل من هذا شأنهم يشعرون بشريف غرض الحياة وسامي مغزاها. وذلك أن الرجل العادي لا يفكر ولا يهتم إلا بما يقضي حاجاته البدنية وشهواته الحيوانية فيفسح له مجال للهو واللذة. فيظهر مؤسس الأديان والفلاسفة في الدنيا لينفضوا عن مثل هذا الرجل غبار البلادة والاسترخاء ويكشفوا له عن جلال معنى الوجود - فأما الفلاسفة فيؤدون هذه الرسالة للفئة المتنورة القليلة، وأما مؤسسوا الأديان فيؤدونها للأغلبية الغبية - للعامة والدهماء. فالديانة هي فلسفة العامة فلا بد لهم من الاحتفاظ بها. ولذا يجب احترامها لأن إنكارها يؤدي إلى زوالها. وكما أن هنالك شعراً عامياً وحكمة عامية (في الأمثال السائرة) فكذلك يلزم أن يكون ثمت فلسفة عامية. لأن العوام يحتاجون أيضاً إلى شرح لمعاني الوجود وتفسير لألغاز الحياة وهذا الشرح والتفسير ينبغي أن يكون ملائماً لأذهانهم، والأديان في جميع الأزمنة والأمكنة تقدم للناس هذا التفسير في صورة ثوب رمزي للحقيقة - وهذا الثوب الرمزي يؤدي من النفع والفائدة لبني الإنسان فيما يتعلق بحياتهم العملية ووجداناتهم أعني من حيث اعتباره دليلاً مرشداً في معاملاتنا ومعاشراتنا وعزاء وسلوة في الأحزان والمصائب وعند حلول الموت - هذا الثوب الرمزي للحقيقة يؤدي من النفع والفائدة من هاتين الوجهتين مثلما كانت تؤدي الحقيقة ذاتها لو أننا عرفنا فأحرزناها. فلا(50/1)
تستنكر أيها الفيلسوف ما يبدو لك من سخافة هذا التفسير - هذا الثوب الرمزي الذي يقدمه الدين إنارة لأذهان البسطاء وشفاء لغليلهم. ولا تمقت ما يطهر لك من فاحش زخرفته وزبرجه وظاهر باطله ومحاله وغلوائه وإغراقه لأنك مع ما قد أوتيته من فضل وعرفان وعلم واسع لا تستطيع أن تتصور ما يلزم اتخاذه من لمناهج الملتوية والمسالك المتعرجة الملتفة لإيصال الحقيقة إلى أذهان البسطاء السذج. فالأديان المختلفة إنما هي قوالب مختلفة تفرغ فيها الحقيقة ليستطيع الناس إدراكها إذا كانوا يعجزون البتة عن فهمها وهي عارية مجردة - وكان من المستحيل عليهم تصور هذه الحقيقة منعزلة عن الثوب الرمزي. فلا تغضب أيها الصديق إذا قلت لك أن ازدراءك وهزءك بهذه الثواب الرمزية - بهذه الأشكال والصور والقوالب - دليل السخف والظلم.
الفيلسوف: أوليس من السخف والظلم أيضاً أن يطلب الفقهاء بمحو كل فلسفة غير تلك الفلسفة التي تقول أنت من مؤسسي الأديان صاغوها لمعالجة حاجات الجماعات وشفاء غليلهم من حيث المعاملات المادية والأماني الروحانية وجعلوها طبق أذهانهم الضيقة ووفاق أفهامهم السقيمة؟ أيصح أن تجعل تعاليم الدين أقصى حد لطموحات الذهن البشري ومقياساً لكل تأمل وتفكير بحيث تصبح فلسفة الفئة القليلة المتنورة (باعترافك أنت) وجل همها وغايتها مطابقة وتأييد فلسفة العوام وشرحها وتفسيرها؟
وهل يصح أن يصبح التساهل والتسامح دعوة صادرة عن الدين الذي هو مثال التشدد والقسوة؟ وهل تراني في حاجة إلى تذكيرك بمحاكم الزندقة والإلحاد ومحاكم التفتيش والحروب الدينية والصليبية ومصارع سقراط وبرونو وفانيني بالسم والنار. أي عقبة هي أكأد في سبيل الفلسفة الصائبة الحكيمة والبحث الصادق عن مكامن الحقيقة الذي هو أسمى وظيفة لأسمى العقول البشرية من هذا النظام الفلسفي التوطئي (أعني التعاليم الدينية) المؤيد من جانب الحكومات التي يبالغ في غرس مبادئه في كل رأس منذ أوائل الطفولة بكل جد وهمة وتحمس غرساً شديداً عميقاً تصبح معه تلك المبادئ مستحيلة الإزالة إلا من الأذهان التي أوتيت من المرونة درجة خارقة للمعتاد؟ ألا أن نتيجة هذا هو إفساد قاعدة التفكير الحر وأساس التعقل الصحيح إفساداً تاماً أبدياً لا يرتجى إصلاحه حتى ترى مقدرته الضعيفة على حرية التفكير وإصدار الأحكام العادلة فيما يختص بكافة الشؤون والأحوال(50/2)
والأشياء قد أصابها الشلل والتلف الدائم.
الفقيه: وهذا معناه أن الناس قد وصلوا إلى عقيدة لا يرضون أن يبيعوها بعقيدتك؟.
الفيلسوف: لو أنها عقيدة مبنية على النظر الصحيح لقدمنا براهيننا ولاقينا الخصم في ساحة الجدال وميدان المناظرة بمثل سلاحه وعدته. . ولكن الأديان لا تقيم عقيدتها على البرهان ولكن على الوحي والتنزيل. وقابلية الاعتقاد أقوى ما تكون في عهد الطفولة. فإذا ألقيت على الإنسان في هذا العهد طائفة من التعاليم والعقائد بلهجة جد ووقار وحمية وحماسة مع نفي كل ما يعترض من الشكوك والريب في صحة هذه المقولات ومع تهديد المرتاب بالخسران الدائم والنكال الأبدي كان لذلك من شدة الوقع ورسوخ الأثر في نفس الإنسان ما يدفعه إلى اليقين التام بصحة ما يلقى عليه بحيث يصبح الشك في صحتها أصعب عليه من الشك في الوجود نفسه. ومن ثم نرى أنه لا يكاد يوجد فرد واحد في عشرات الألوف يستطيع أن يشذ عن الجماعة فيسائل نفسه هل هذا صحيح؟ فمثل هذا جدير ولا ريب أن يسمى قوي الذهن. أما الذهن العادي فتنغرس فيه أسخف السخافات وأبعد المستحيلات إذا ألقيت فيه بالطريقة الآنفة الذكر. فإذاً أفهم مثلاً أن قتل زنديق أو ملحد وسيلة إلى رضوان الله جعل ذلك جل همه وغايته في الحياة كما كان يفعل أهل إسبانيا. وكما كان يصنع فريق من الهنود كانوا يظهرون تدينهم وطاعتهم للإلهة كالي بقتلهم أخوانهم ورفاقهم كلما سنحت الفرصة للاستيلاء على أموالهم وأملاكهم وكانوا قد أقنعوا أن عملهم هذا محمود مشكور يورثهم غفران الله ورحمته ورضوانه ويكسبهم نعيم الآخرة.
ولا بدع في ذلك ولا غرابة فإن العقيدة الدينية المغروسة في الصغر يكون لها من قوة الأثر ما يفسد الضمير ويمحو الرأفة والحنان والرحمة. ولكن إذا شئت أن ترى بعينك قوة تأثير التعاليم الدينية في الصغر فانظر إلى الأمة الإنكليزية. وانظر إلى هذه الأمة التي ميزتها الطبيعة على سائر الأمم ووفرت حظها من العقل والذكاء وحسن التمييز وأصالة الرأي وصرامة العزيمة وقوة الخلق - وتراها مع كل ذلك منحطة المنزلة بين الأمم ساقطة القدر وسط الشعوب لفرط مت قد أفسدت الخرافة الدينية رأيها وشوهت جمال ذهنها - فلقد يبدو هذا العنصر الخرافي وسط سائر مزاياها العقلية ومحاسنها الأخلاقية كفكرة ثابتة راسخة أو بعبارة أدق كفكرة جنونية.(50/3)
وسبب ذلك راجع إلى القساوسة القائمين بأمر التعليم والتربية إذ يبذلون أقصى الجهد في نقش قواعد الإيمان على صدور الصغار في أيام الطفولة بطريقة تؤدي إلى شلل جانب من الدماغ - هذا الشلل يظهر لنا أثره وتبدو أماراته فيما لا يزال يشاهد فيهم طول أعمارهم من التعصب الممقوت والجمود المستنكر الذي قد يسف والغباوة يصبحون معه لغزاًَ غامضاً وأحجية معماة. وإذ قد ثبت لنا أن التعاليم الدينية لا يمكن غرسها وترسيخها في القلوب إلا في عهد الطفولة اللين الرقيق فإن فكرة البعثات الدينية هي لا شك باطلة ومشروعها ضرب من العبث محكوم عليه بالخيبة والفشل - وهو فرق ذلك نوع من اللجاجة المرذولة والفضول الممقوت والجور والطغيان والحمق والسفه - بدليل أن هذا المشروع لا يقصره أربابه على الأمم التي لا تبرح في طور الطفولة كأمة (الهوتنتوت) و (الكفرة) وأهالي جزائر البحر الجنوبي وإضرابهم ممن قد ظهر فيهم نجاح المشروع بالفعل - بل يحاولون تنفيذه في بعض الأمم ذات المدنيات القديمة والأديان العميقة المهذبة.
فتراهم إذا حاولوا تنصير البراهمة من الهنود فلا يكون من أولئك البراهمة إلا أنهم يقابلون ما يعرض عليهم المبشرون من عقائد المسيحية بابتسامة الساخر الهازئ المتفضل على محدثه بالتنازل إلى استماع حديثه أو يقابلون ذلك الحديث بهزة استهزاء من أكتافهم. فلا يكون نصيب المبشرين من أمثال هؤلاء الأقوام إلا الفشل والخيبة.
وقد جاء في بعض التقارير الموثوق بها بالعدد الحادي والعشرين من مجلة (اشياتيك ريفيو) المجلة الآسيوية لعام 1826 أنه بالرغم من مجهودات المبشرين العظيمة المتوالية مسافة أعوام عدة في كافة بلاد الهند (البالغ فيها عدد المحكومين بالدولة البريطانية مائة وخمسة عشر مليون نفس) لا يربو عدد المتنصرين عن ثلاثمائة وقد اشتهر أولئك المتنصرون فضلاً عن ذلك بمنتهى الفسق والفجور وفساد الأخلاق. أجل هذه الملايين العديدة لا يبلغ فيها عدد المرتشين القليلي الذمة المتجرين بعقائدهم وأرواحهم أكثر من ثلاثمائة ولا أرى أن النصرانية ازدادت رواجاً في الهند منذ ذلك العهد بالرغم مما يبذله المبشرون الآن - ضد المعاهدات والاتفاقات - من التأثير في نفوس الأطفال في مدارس موقوفة على بث تعاليم الكنيسة الإنكليزية بقصد تهريب المسيحية إلى داخل بلاد الهند ولكن الهنود لسوء الحظ واقفون لتلك البضاعة المهربة بالمرصاد فتنصر أولئك الكبار من الهنود والكبار على(50/4)
الإطلاق واستعارتهم ديناً جديداً وعقيدة مستحدثة ما هو إلا قناع يسترون به مصلحة شخصية. وإيقان الناس ذلك دون أدنى شك هو الذي يسقط الرجل المتحول عن دينه إلى دين آخر في عهد رجولته من عيون الناس في كل آن ومكان - وهذا يدل على أن الناس لا يرون الدين نظرية تقبل أو ترفض بالبراهين المبنية على أصول المنطق والمعقول ولكن عقيدة تغرس في الطفولة قبل عرضها على أي مسبار أو ميزان منطقي.
والدليل على أن رأي الناس هذا في الدين صحيح أن التشبث الأعمى بدين الآباء والأسلاف ليس مقصوراً على الجماعات والجماهير الضعاف العقول بل يشمل كذلك طائفة القساوسة من كل ملة ونحلة الذين قد درسوا أصول الأديان وعقائدها وبراهينها وقواعدها وفروقها واختلافاتها. ومن ثم كان من أندر الأمور وأبعدها انتقال أي قسيس من ديانة آبائه إلى أي دين آخر. إلا أن من أفظع الفظائع أنه حيثما يولد امرؤ تغرس فيه تعاليم بعينها في زمن طفولته وحداثته ثم يحمل على الاعتقاد بأنه إذا أبدى أو أضمر أدنى شك في صحة هذه التعاليم كان عقابه الحرمان الأبدي ن نعيم الآخرة. بيد أن هذه التعاليم الدينية لها تأثير شديد على أصول سائر العلوم والمعارف - فإذا كانت صحيحة جعلت قاعدة نظرنا وأسلوب بحثنا في ماهية كافة الأشياء صحية - والعكس بالعكس.
وأيضاً لما كانت التأثيرات المنبعثة عن هذه التعاليم لا تزال تشن الغارات على مجموع نظام العلوم والمعارف فقد أصبح مجموع المعارف البشرية متأثراً بها أشد التأثر في جميع أنحائه وأجزائه وهذا ثابت من مؤلفات كل أمة وجيل ولاسيما مؤلفات القرون الوسطى وأيضاً مؤلفات القرن الخامس عشر والسادس عشر. فمن اطلع على هذه المؤلفات لم يعدم دليلاً قاطعاً على أن أذهان الجلة الفحول من مفكري هذه العصور كانت مشلولة بتأثير تلك الآراء والتعاليم الأساسية فكانت ماهية مادة الكون ونظام حركته ممنوعة محصنة من جميع جهاتها من نظرات البحث العميق والفحص الدقيق. ولا نزاع في أن الاعتقاد بوجود الله مازال طول مدة العصور المسيحية جاثماً كأثقل كابوس على كافة المجهودات العقلية وعلى الأخص المجهود الفلسفي بما قد صد ووقف كل عوامل الرقي والتقدم.
ففي اعتقاد النوابغ من علماء هذه العصور كان الإله والشيطان والملائكة والجان يحجبون الكون والطبيعة بأسرها. فلم يجترأ على الاستمرار في أي مبحث على نهايته ولا على(50/5)
فحص أي موضوع إلى أقصى أعماقه. فكل شيء لا يرون علته ضمن سلسلة العلل الواضحة والأسباب الظاهرة ينسبونه بلا أدنى تردد إلى أحد هؤلاء (إلى الله أو الشيطان أو الجان أو الملائكة) فإذا ظهر في الناس من قد أوتي مرونة الذهن - أعني الخلة الوحيدة التي تمكن الإنسان من صدع القيود التواطئية وتحرير ذهنه من أغلالها - الفى هو وكتاباته في النار - كما وقع للعالمين برونو وفانيني.
أما الذهن العادي فإن مبلغ عجزه وشلله بتأثير التعاليم الدينية في الصغر يبدو لك في أجلة مظاهره وأسخفها وأجدرها بالهزء والسخرية عندما يحاول نقد ديانة أجنبية فكل ما يصنعه الرجل العادي هو محاولته إثبات أن تعليم الدين الأجنبي مخالفة لتعاليم دينه فهو يجهد نفسه ليثبت أن الخلاف بين هذه التعاليم وتلك ليس منحصراً في اللفظ فقط بل يتعدى ذلك إلى المعاني والمقاصد ثم تره لفرط سذاجته وبلهه يتوهم أنه قد أثبت بذلك بطلان الديانة الأخرى. وكأنما لم يخطر بباله البتة أن يسائل نفسه أي الدينين أصح؟.
ولا عجب فإنه يرى في تعاليم دينه قضايا مسلمة ومبادئ مفروضاً فيها الصحة قبل الشروع في البحث والمقارنة. ومن أعجب الأمثلة على هذه الطريقة المضحكة ما أورده القسيس الفقيه المستر موريسون في العدد الثاني والعشرين من المجلة الآسيوية في مقاله المشتمل على نقد ديانة الصينيين وفلسفتهم.
الفقيه: أذلك رأيك أيها الفيلسوف؟ ألا فاعلم أن هنالك رأياً أعلى - ذلك هو أنه لا بد قبل كل شيء من وضع نظام يكبح جماح الجماعات ويصد نزعاتهم السيئة وأميالهم الشريرة حتى لا يأتوا الرذائل والمنكرات والخبائث ولا يرتكبوا الجرائم والفظائع. ونحن إذا تركناهم بدون هذه القيود والموانع حتى يعرفوا الحقيقة ويفهموها كان في ذلك تأخير للمنفعة لا تحمد عقباه. وهب أنهم عثروا على الحقيقة فسيجدونها ولا شك فوق مداركهم ودون منال أفهامهم. وعلى كل حال فإن هؤلاء الجماعات لا يصلح لهم ولا ينفعهم إلا ما كان من قبيل الرموز والاستعارات والخرافات. ولقد قال كانت يجب أن يكون هنالك قاعدة عامة للحق والباطل توطد أركانها وتؤيد دعائمها ويرفع لوائها في كل آن. فمتى كانت النقوش الرمزية الموقومة على هذا اللواء تعبر عما وضعت له من ناموس الحق والباطل فليس من المهم اختلاف أشكالها وتعدد صورها.(50/6)
فمثل هذه الحقيقة الرمزية لا يزال في كل زمان ومكان خير بدل وأحسن عوض لعامة الناس من حقيقة لا يستطاع الوصول إليها أبد الدهر ومن فلسفة لا يتأتى لها فهمها - فضلاً أنها مستمرة التغير والتبدل تتلون كل برهة لوناً وتتشكل كل يوم شكلاً. فلا جدال يا صديقي في أن المقاصد العملية مفضلة من كل الوجوه على المقاصد النظرية.
الفيلسوف: كأني بك تقول لي أنه يجب إرضاء الجماعات والجماهير حتى نكفى شر حملاتهم وهجماتهم ونأمن انحطاط سيل غضبهم علينا ونحن جلوس على مائدتنا نأكل ونشرب هنيئاً. ولكن هذا الرأي باطل بمقدار ما هو مستحسن محمود. ومن ثم إسراعي إلى تفنيده. أجل من الزور والباطل أن تظل الحكومة والعدالة والقانون ولا قوام لها ولا حول ولا قوة إلا بمعونة الدين وتعاليمه وأن المحاكم والبوليس لا تستطيع تنفيذ قوانينها إلا بتداخل الدين. أولم تر القدماء ولاسيما اليونان كيف كانوا يديرون أمورهم أحسن إدارة، ويدبرون شؤونهم أحكم تدبير بدون الاضطرار إلى اتباع هذه الخطة العقيمة. وأولئك اليونان لم يكن عندهم أدنى شيء مما نسميه نحن الدين. فلم يكن لديهم كتب مقدسة ولا تعاليم محتم حفظها ودرسها ونقشها على صحائف القلوب في الصغر.
وكان خدام الدين وسدنته في تلك الأمة لا يلقون الخطب الدينية والمقالات الوعظية ولا يبدون أدنى اهتمام بمسائل الأخلاق والآداب والواجبات والمعاملات أعني بما يأتيه الناس وما يتركونه. أجل لم يعن قساوسة اليونان ولم يحفلوا بأي شيء من هذا القيل. ولكن واجباتهم كانت محصورة في شعائر المعبد ومناسك الهيكل والصلوات والأناشيد والضحايا والمواكب والتطهيرات وما شالك ذلك مما لا علاقة له البتة ولا مساس بإصلاح الفرد وتهذيب أخلاقه. ولم يكن شهود هذه الحفلات محتماً على غير الكهنة القائمين بشعائرها ولم يطالب أحد قط من غير هؤلاء الكهنة بالتصديق بها والاعتقاد بصحتها. ولم يؤثر عن العصور القديمة والدول العتيقة بأسرها ما يدل على أنه كان فيها أدنى إرغام للأفراد أو للجماعات على الاعتقاد بأي مذهب أو ملة.
وكل ما هنالك هو أن العقوبة كان تقصر على من يجاهر بإنكار وجود الآلهة أو الطعن عليها. إذ كان صنيعه هذا يعد بمثابة إهانة وتحقير للحكومة التي تخدم الآلهة المذكورة. ولكل امرئ بعد هذا أن يرى في تلك الآلهة رأيه الخاص.(50/7)
وإذا شاء أي إنسان أن ينال رضا الآلهة في السر والكتمان بواسطة الصلاة أو القربان فله أن يفعل ذلك على حسابه وتحت مسؤوليته. فإذا لم يفعل فليس لأحد ما أن يتناوله بالقدح والمذمة - وابعد الناس من أن يصنع به ذلك الحكومة. وقد كان كل روماني يحرز في داره الآلهة التي يعبدها، وما هي في الحقيقة إلا صور أسلافه الأول. ولم يكن للأقدمين آراء محدودة ثابتة مقررة معتقدة عن مسألة خلود الروح والحياة الأخرى.
ولكن كل فرد كان يذهب في هذا الصدد مذهبه الخاص مكوناً من أفكار متقلبة متجددة مبهمة مشوشة تخمينية، وعلى نحو هذه الحال من التعدد والتنوع والغموض كانت أفكارهم عن الآلهة.
ونتيجة هذا أن القدماء لم يكن لهم دين بالمعنى المعروف لدينا. فهل كان لذلك تأثير سيء على حالة النظام والأمن العام في تلك الدول القديمة؟ أليست هي منشئة القوانين والنواميس التي لا تبرح حتى الآن أساس قوانينا وقواعد شرائعنا؟ الم يكن أهل هذه العصور آمنين على أملاكهم مستوثقين منها مع أن معظمها كان من العبيد الأرقاء؟ ألم تدم هذه الحالة أكثر من ألف عام؟.
إزاء هذه الحقائق أرفض وأحتج على ما تعزوه إلى الأديان الحاضرة من المقاصد العملية، وما تقرره من ضرورة وجودها كأساس لازم تقوم عليه كافة النظامات التشريعية. . لأننا إذا قررنا صحة ذلك أصبح لا حق لطلاب الحق الصراح وأنصاره المولعين بالتماسه والتنقيب عن مواطنه - في اتهام العقيدة الدينية باغتصاب أريكة الحق وإبقائه في حوزتها بالتمادي في الغش والخديعة.
الفقيه: ولكن الدين ليس مناقضاً للحقيقة لأنه هو ذاته يعلم الحقيقة. وكل ما هنالك هو أن الدين لا يبرز الحقيقة مجردة عارية. لأن منطقة نفوذ الحقيقة ودائرة تصرفاتها ليست ضيقة محدودة ولكنها الإنسانية بأسرها والعالم أجمع. ولذا وجب أن تكون الحقيقة مطابقة وملائمة لهذا المجموع العظيم المختلط، فلا يصح للدين والحالة هذه أن يجرع الناس الحقيقة محضة صريحة بل يجب تسهيلاً لتجرعها أن يقدمها لهم في برشامة من الخرافة. ويمكن أيضاً تشبيه الحقيقة من هذا الاعتبار ببعض المواد الكيماوية التي هي في ذاتها غازية ولكن تسهيلاً لاستعمالها وتيسيراً لحفظها في الأوعية أو نقلها من موضع إلى آخر تعقد بمادة(50/8)
أخرى (أو بالتعبير الكيماوي) توصل بقاعدة ثابتة ملموسة منعاً لها من التطاير. مثال ذلك مادة الكلور إذا أريد استخدامها في الأغراض الآنفة الذكر أبرزت في صورة كلورور.
ولما كانت الحقيقة النقية المجردة الخالصة من كل رمز أو خرافة ستبقى أبد الدهر فوق متناول العالم أجمع وضمنه الفلاسفة فيصح تشبيهها بمادة الفلور التي لا يمكن البتة عرضها منفردة بل لا بد من ضمها إلى مواد أخرى. وهاك تشبيهاً آخر وهو أن الحقيقة لا يمكن إبرازها والتعبير عنها إلا بطريق الرمز والخرافة، فهي في ذلك كالماء لا يمكن حمله ونقله إلا بواسطة وعاء. فالفلاسفة الذين يأبون إلا إحرازها خالصة مجردة هم كحاطم الإناء للحصول على الماء منفرد بذاته.
وعل كل حال فالدين هو الحقيقة مبرزة في قالب من الرموز وصيغة من الخرافة حتى يتسنى للناس بهذه الواسطة فهمها وهضمها. لأن الناس لا يستطيعون بحال ما هضمها خالصة غير ممزوجة كما أننا لا نستطيع أن نحيي في الأوكسجين الخالص بل نحتاج إلى إضافة الأوكسجين إلى أربعة أمثاله من الآزوت.
أجل إن مغزى الحياة البعيد ومعناها العميق وغرضها السامي لا يمكن كشفه وإبرازه للعامة إلا بواسطة الرموز لأنهم لا يستطيعون فهم الحياة بمعناها الحقيقي. أما الفلسفة فهي كالأسرار تخص بها الفئة القليلة المختارة.
الفيلسوف: لقد فهمت فحوى كلامك فغاية تفسيرك لهذا المشكل هو أن الحقيقة تبدو في زي الباطل وتلبس ثياب الكذب. ولكنها بصنعها هذا تدخل في محالفة مشؤومة. فأي سلاح خطر فتاك يلقى في أيدي من يخولون استخدام الكذب والباطل كمطية للحقيقة. فإذا كان الأمر كذلك فإني أخشى أن تربو مضار الكذب والباطل على منافع الكذب.
ولو أن الرموز والقصص الخرافية كان يقر ويعترف بأنها كذلك لما قمت معارضاً ومحتجاً ولكن الإقرار والاعتراف بأنها رموز وخرافات يسلبها كل وزن وقيمة ويسقط منزلتها في الأعين فيضيع تأثيرها ونفوذها ولذلك كان حتماً على هذه الرموز والخرافات أن تدعى - وتؤيد دعواها - أنها حق في ذاتها وكنهها لا من الوجهة الرمزية فقط وهنا موضع الداء العضال والشر الدائم. ومن هنا لا يزال الدين ولن يزال في نزاع مستمر وحرب عوان مع المجهود الشريف والسعي الحر إلى التماس الحق الصراح.(50/9)
الفقيه: إن فلسفة المعقول راشناليزم تخطئ كل الخطأ من افتراضها أن الدين يزعم أن رموزه وخرافاته هي حقيقة مطلقة. وبناء على هذا الفرض تشرع الفلسفة المذكورة عند نقدها الدين في محاولة إثبات أن تلك الرموز والخرافات كاذبة عارية عن الصحة أو أنها إذا سلم بصحتها فهي لا تعدو كونها سخافات. وأما الواقع فهو أن الخرافة والرموز عناصر أساسية للدين ولكن بشرط أن تقوم بسد الاحتياجات الروحانية لبنى البشر فتشغل مكان الحقيقة الفلسفية المحضة التي هي غاية في الصعوبة ومستحيلة المنال.
الفيلسوف: نعم تشغل مكان الفلسفة المحضة كما تشغل الرجل الخشبية مكان الرجل المبتورة. أنها لأسوأ عوض عن الرجل الطبيعية ومع ذلك فهي تطلب أن تعد بمثابتها وأن تعطى مكانتها. ومع هذا فهنالك فرق بني المشبه والمشبه به - وذلك أنه بينما ترى أن الرجل الطبيعية أسبق وجوداً من الخشبية فإن الدين لم يزل في كل بقعة أسبق عهداً من الفلسفة.
الفقيه: قد يكون هذا صحيحاً ولكنك لا تنكر أن الرجل الخشبية عظيمة القيمة عند من لا رجل له. ولا تنس أن حاجيات الإنسان الروحانية لا بد من سدها - غذ أنه يجب تحديد نطاق فكره لا أن يترك مبهماً غير محدود والإنسان العادي معدوم ملكة الحكم الصحيح التي تمكنه من وزن الأسباب والعلل والتمييز بين ما هو حق وما هو باطل.
وفضلاً عن ذلك فإن الأعمال والواجبات التي تفرضها عليه الطبيعة واحتياجاتها لا تترك لديه فراغاً لأمثال هذه المباحث ولا فرصة لإحراز العلوم والمعارف التي تمهد السبيل للاشتغال بالمباحث المذكورة. ولذلك فلا موضع البتة لتصورك أن مثل هذا الإنسان يمكن إقناعه بالأسباب والعلل فلم يبق له والحالة هذه إلا الإيمان والتسليم بأقوال الثقات بلا بحث ولا جدال.
وهنا وصلنا إلى مذهب فلسفي صحيح فأحللناه محل الدين فإنك ترى تسعة أعشار الناس يأخذونه قضية مسلمة فيصبح كما كان الدين قبله مسألة إيمان وعقيدة بيد أن الثقة صفة لا تثبن وتتقرر إلا بمرور الزمن وبتأثير ظروف خاصة فليس في طاقتنا أن نلصقها بما لا مزية له سوى الحجة والبرهان.
وعلى ذلك فلا يصح لنا أن نعزوها إلا إلى ما نالها بمضي العصور، ولو لم يكن إلا حقيقة(50/10)
رمزية. فهذا الصنف من الحقيقة المؤيدة بالثقة يلائم المزاج الروحاني للإنسان أشد الملاءمة - أعني ما يلائ \ م احتياجه إلى نظرية تفسر له لغز الكون الذي بدهه ويواجهه في كل آن ولحظة، والذي ينشأ وينجم من شعوره بأن الشيء الطبيعي في الكون لا بد أن يكون خلقه شيء وراء طبيعي - شيء ثابت لا يتغير ولكنه أساس لهذا التغيير الدائم في الوجود. هذا الصنف من الحقيقة المؤيدة بالثقة يلائم أيضاً مخاوف وآمال الإنسان العاجز الضعيف الفاني الدائم الافتقار والاحتياج - فالدين يمده بالآلهة والشياطين التي يستنجد بها ويستصرخ ويأوي ويلجأ ويركن ويسكن ويبتهل ويتضرع وهي (أعني الحقيقة المؤيدة بالثقة) تلائم أيضاً شعوره الأخلاقي (شعوره بالفضيلة الرذيلة وبوجوب إتيان الأولى وترك الثانية) الذي لا شك في وجوده - وتعيره تأييداً وتوثيقاً لولاه لصعب عليه جداً مقاومة الأهواء والشهوات في معترك الحق والباطل.
فالدين من هذه الوجهة مصدر عزاء وسلوة لا ينفد في مرحلة هذه الحياة المملوءة هموماً ومصائب وأحزاناً - عزاء لا يخذل الإنسان ساعة الموت بل يعطي إذ ذاك أكرم فضائله وأنفس مزاياه ويؤثر أحسن أثره.
افلدين في ذلك أشبه شيء بالهادي الذي يأخذ بيد الأعمى فيرشده إذ كان لا يبصر سبيله بنفسه - وكل ما يحتاجه ذلك الأعمى هو بلوغه غاية منهجه لا أن يبصر كل ما يمر به في طريقه.
لهذه المحاورة بقية يبلغ مقدارها مثلي ما نشر منها في هذين العددين نرجو أن نوفق على نشرها كلها في العدد القادم.(50/11)
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الثانية من المرية إلى قرطبة
أظنك يا أخي لا تزال على ذكر من أن الرسالة الأولى من هذه الرسائل كتبت ونحن على متن البحر - قبل أن نصل إلى مرافئ الأندلس، أما هذه الرسالة الثانية فقد وضعناها بعد أن انفصلنا من مرفأ المرية وحططنا رحالنا في قرطبة حضرة هذه البلاد عاصمتها وقد خصصت هذه الرسالة بوصف كل ما مر بنا من حين اقترابنا من ميناء المرية إلى أن وصلنا إلى قرطبة.
أما المرية فهي إحدة مدن الأندلس الكبيرة واقعة في شرقيها، وهي على ساحل البحر الرومي البحر البيض المتوسط وهي مرسى للسفن القادمة إلى هذه البلاد الأندلس - وفي مينائها يربض الجانب الأكبر من أسطول الأندلس الأعظم والجانب الآخر يرسي في بجاية - وسيمر بك قريباً واف على هذين البلدين - المرية وبجاية ـ.
ولما صافح مركبنا أمواه المرية - وكان يسير بحذائنا مركب آخر علمنا أن فيه أبا علي القالي اللغوي وافد العراق وسائر من قاموا معنا من الإسكندرية في مركب أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر - آنسنا من جانب الميناء - ميناء المرية أسطولاً كبيراً قادماً علينا حتى إذا صار منا أدنى ذي ظلم أخذ يحيينا من فيه بالرايات والأعلام - وكان فيه الأمير عبد الرحمن بن رماحس قائد أساطيل الأندلس الأكبر - إذ أمره الحكم بن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين ويجيء معنا إلى قرطبة تكرمة من الأمير لنا ولأبي علي القالي حفظه الله - فكان من رجال ذلك الوفد شاعر الأندلس يوسف بن هارون الرمادي وأبو بكر بن القوطية سيد علماء اللغة في الأندلس وابن رفاعة الألبيري أحد أدباء البيرة وفتى نشأ يتوقد ذكاء ويقطر أدباً وألمعية يسمى أبا بكر الزبيدي وكثير غير أولئك من علماء الأندلس وأعيانها وقوادها - وهذه عمرك الله آية محسة على عناية الأمير بالعلم وأهله - ولا بدع فقد وقفنا من ذلك على الشيء الكثير الذي سما بهذا الأمير في أعيننا. فمن ذلك فيما تحققناه أنه يبعث الحين بعد الحين في شراء الكتب إلى الأقطار، رجالاً من التجار، ويرسل إليهم الأموال لابتياعها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه في ربوعها، وقد بعث في كتاب الأغاني لأبي فرج الصفهاني وأرسل(50/12)
إليه فيه ألف دينار من الذهب العيني، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق وكذلك فعل القاضي أبي بكر الأبهري في شرحه
ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل
وأنشد القالي الكلمة في البيت - أعرافها لأيدينا مناديل - فما كان من الأديب ابن رفاعة الألبيري - وقد لاحظنا في خلقه حرجاً وزعارة إلا أن استعاد أبا علي البيت متثبتاً مرتين في كلتيهما ينشد أعرافها فقام ابن رفاعة وقال: مع هذا يوفد على أمير المؤمنين ويتجشم الرحلة لتعظيمه وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه والله لا تبعته خطوة ثم هم بالانصراف، فندبه الأمير ابن رماحس أن لا يفعل فلم سيجد فيه حيله، فاضطر ابن رماحس إلى أن يكتب إلى الحكم يعرفه ويصف له ما جرى من ابن رفاعة ويشكوه، فجاء جواب الحكم إلى ابن رماحس بما نصه كما أطلعني عليه ابن رماحس:
الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطيء وافد العراق إلينا، وابن رفاعة أولى بالرضا عنه من السخط، فدعه لشأنه وأقدم بالرجل غير منتقص من تكريمه، فسوف يعليه الاختبار إن شاء الله أو يحطه
وفي عصر ذلك اليوم دعانا الأمير ابن رماحس لأن نتفرج برؤية الأساطيل وهي تلعب لعبتها التي تلعب إذا هي همت بحرب أو رجعت من قتال ظافرة وذلك لأن أسطولاً أندلسياً آب من إفريقية في ذلك اليوم مفلجاً مظفراً في معركة نشبت بينه وبين أسطول المعز لدين الله - فذهبنا إلى الميناء وركبنا زورقاً وأخذنا نشاهد حركة الأسطول ونجتلي أنواعه وعدده وآلاته ونحن نأتي لك على شيء مما شاهدنا. . .(50/13)
روح الإسلام
مقدمة هذا الكتاب
إن استمرار الرقي الديني بين البشر لموضوع عظيم الأهمية لدى المولعين بدراسة الحياة البشرية وإن تيقظ الذهن الآدمي إلى إدراك أن هناك شخصية أي إرادة عليا تشرف على الكون، وإن ما عاناه الأفراد والأمم من المجهودات والتطورات حتى وصلوا إلى فكرة أن هناك روحاً عامة تتخلل جميع أجزاء الكون وتدبره وتنظمه - لتفسح المجال لمباحث من أهم وأخطر ما يعنى به الإنسان.
إن تطور العقيدةالدينية من عبادة الأشياء المادية إلى عبادة الله قد صادف من العقبات ما أخره عن حينه المناسب. فلقد انحرف جماعات وأفراد من الناس عن منهج الرقي والتقدم وأطاعوا الأغراض والمطامع وانقادوا لأهواء نفوسهم ومآربها. فارتدوا إلى عبادة شهواتهم ممثلة في معبودات طفولتهم. ولكن صوت الله الخفي لا يزال يرسل دعوة الحق وإن لم تسمعها الآذان - فإذا جاء الأجل قام أولياؤه بإعلان واجبات الإنسان نحو نفسه ونحو الخالق. أولئك رسل الله الصادقون. قد ظهروا بين شعوبهم فلم يزد أمرهم على أن كانوا أبناء عصورهم ونتائج أوقاتهم. فكانوا لذلك يمثلون أماني الروح البشرية وطمحاتها نحو الحقيقة والنزاهة والنقاء والعدل. فكان كل واحد من أولئك الرسل كأنه مجموعة الاحتياجات الروحانية الكامنة في صدر عصره. لذلك جاء كل منهم ليشرف أمة وضيعة. ويرفع من قدرها ويطهرها ويصلحها. فمنهم ن جاء مدلياً إلى الناس بتعاليم محصورة، فهذا لا يتعدى تأثيره منطقة محدودة. ومنهم من جاء برسالة ليملأ بها السماء والأرض وينشرها في أرجاء العالم أجمع - رسالة ليست بمقصورة على شعب واحد أو أمة واحدة بل موجهة إلى الإنسانية بأسرها - كذلك كان محمد. فلم تكن رسالته مقصورة على العرب ولم يبعث لعصر واحد أو إقليم واحد. ولكن للناس كافة إلى آخر الأبد، إن ظهور هذا المعلم الكبير الذي كانت حياته صحيفة نقية بيضاء لم يكن مجرد صدفة واتفاق أو حادث منفصل غير متصل بسلسلة تاريخ العالم فإن عين تلك الأسباب وتلك الآفات وتلك الحاجة الشديدة إلى إيجاد الثقة والاعتقاد في القوة الخفية المنبثة في ذرات الوجود المسيطرة على الكون - تلك الأسباب والدواعي التي أدت إلى ظهور نبي كانت حياته مأساة على شواطئ الجليل في(50/14)
عهد أغسطس قيصر - تلك الأسباب بعينها هي التي تحركت وثارت وأحدثت من النتائج الهائلة ما أحدثت في القرن السابع بعد الميلاد أي قبل ظهور محمد.
كانت فاتحة القرن السابع بعد الميلاد عصر انحلال وطني واجتماعي وديني وكانت ظواهره تتطلب عقيدة جديدة تسترد القوى الشاردة الضالة إلى سبيل الرقي الروحاني المؤدي إلى تطهير العبادة الشخصية. هذه الظواهر كلها كانت تتطلب ديناً أدل على القدرة الإلهية وأظهر للسلطة السماوية من اليهودية والنصرانية. هذا وإن اللهيب المقدس الذي أذكاه زرادشت وموسى وعيسى كان قد انطفأ في دماء البشر إذ لبثت ديانة زرادشت بعد فسادها تكافح المسيحية التي كانت قد أصبحت أفسد منها قروناً عدة - فخمدت أنفاس الإنسانية ما بين معترك الملتين وراحت أسعد أقاليم الدنيا من جراء هذا العراك وهي موارد بلاء ومسايل دماء وما زال استمرار التنازع على السيادة وتمادي الحرب الضروس حتى امتص دماء الحياة من قلوب أمم العالم. وأصبح سكان الأرض تدوسهم القسوسية الجامدة والكهنوتية الميتة تحت أقدامها الحديدية وهم يضجون إلى الله من مظالم زعمائهم، فلا غرو أن أصبحت الحاجة أشد ما كانت إلى منقذة ومخلص.
بناء على ما تقدم أقول أننا إذا أردنا أن ندرك قيمة ما أداه محمد في العالم الأدبي الروحاني فعلينا أولاً أن نلقي نظرة عامة على الحالة الاجتماعية الدينية لأمم الأرض قبيل وحوالي الوقت الذي ظهر فيه الإسلام.
يزعم المؤرخون أن هضبة بكتيريا التي يسميها جغرافيو العرب أم البلاد هي مهد البشر ومنبت الأديان والأمم. ونحن إذا نظرنا إلى هذا الموطن القديم - مهد النوع الإنساني - بمصباح الإثنولوجي (علم أجناس البشر) فتأملناه من خلال نور ذلك المصباح المبهم الضئيل - رأينا طوائف أسرات مجتمعة في هذا المكان العتيق لا تزال تأتلف وتلتئم فتكون فضائل وقبائل ثم يدفعها التكاثر والتزاحم فتندفق وتستفيض أمواجاً تترى متواليات لتعم وجه البسيطة. والظاهر أن الفرع الحامي (نسبة إلى حام) كان أول من انشق عن الجرثومة الصلية وهجر الوطن الأولي. ثم تبعه الطورانيون الذين يقال أنهم شعبة من الأسرة اليافثية. ويظهر أن بعض هؤلاء ضرب شمالاً ثم انتشر في الشرق فأسس الفرع المغولي الحاضر. وقسم سار غرباً فاستوطن أذربيجان وهمذان وغيلان وهي بقاع واقعة في جنوبي(50/15)
بحر قزوين وجنوبه الغربي وكانت تعرف قديماً ببلاد ميديا. ثم انشعب فيما بعد قسم من هؤلاء فانخدر جنوباً إلى سهول بابل الممرعة الخصيبة فأسر الجاليات الحلامية القديمة ثم خالطها وامتزح بها على توالي الأزمان فكون معها الأمة الأكاديين وهم الـ الكوشيون الذين جاء ذكرهم في الإنجيل والتوراة فهذا الشعب الخليط أوجد بابل وأحدث نوعاً من الدين كان من أسمى مجاليه وأرقى أطواره أشبه بمذهب الحلول (مذهب ألوهية العالم أعني الاعتقاد بأن الله حال في كل شيء حتى يصح القول بأن كل شيء هو الله وأن الله هو كل شيء) أما في أسفل أطواره فإن هذا الدين بما فيه من عبادة الشياطين وآلهة الشمس والقمر وتضحية بالأطفال للإلهين بعل ومولوخ وتضحية عذر الأبكار للإلهين بلتيس وأستوريث وتحليل السفاح - فإنه آية على عصر اقترنت فيه المدنية الراقية بأرذل الفسق والفجور والفحشاء والمنكر وأباح الدين فيه استعمال العنف والقسوة.
ثم هاجر بعد ذلك من الوطن الأصلي الفرع السامي (نسبة إلى سام) فاقتفوا آثار الطورانيين ذاهبين غرباً حتى استوطنوا شمالي دلتا الجزيرة ثم قووا وتكاثروا فغزوا الدولة البابلية وقهروها وأسسوا مملكة مترامية الأطراف كانت لها السلطة والسيادة على جميع الولايات المجاورة أولئك هم الآشوريون الذي استتب لهم الملك واستكمل لهم الجبروت والصولة في مقر دولتهم المؤيدة المنصورة بين النهرين العظيمين دجلة والفرات فارتقوا حيناً ما إلى منزلة الديانة التوحيدية (القول بوحدانية الله) كما تشهد بذلك تعاليمهم الدينية.
وبينما كان السواد الأعظم من الجالية السامية يتدرج في مراتب التقدم والرقي ويأخذ في أسباب القوة والتكاثر في أعلى الدلتا انحدرت فئة قليلة نحو الجنوب إلى بقعة يقال لها يور داخل حدود المملكة الكلدانية. وكان لهذه القبيلة زعيم وقد حكم على نفسه بالنفي والطواف في الأرض. هذا الزعيم هو والد الذين تألف منهم التاريخ في المستقبل. أما سيرة هذا الرجل وما تضمنت من منفاه وتجولاته اندمجت في سلك الأساطير المقدسة لعدة من الأديان.
ولعل الأسرة اليافثية كانت أطول تلك الأسرات مكثاً في المواطن الأولى. فبينما الشعوب الأخرى التي انشعبت عن الجرثومة الأصلية كانت تؤلف دولاً وتحدث أدياناً كان الفرع اليافثي يتطور على أسلوب خاص به. لكن سير الأمم الذي بدأ لم يكن ليوقفه شيء. فجعلت(50/16)
القبائل واحدة أثر أخرى تهاجر نحو الغرب مدفوعة بروح القلق والتطلع الغريزية في القبائل الهمجية أو بضاغط التزاحم والتكاثر وضيق المجال وطلب النجعة في مواطنهم الأصلية. فأول من هاجر من القبائل اليافثية البلجيون والكلت. ثم تبعهم قبائل أخرى حتى لم يبقى في المواطن القديمة إلا الآريون الأصليون. فقسم من هؤلاء كان يقطن جوار باداخستان وقسم عند بلخ حيث لبثا قروناً عدة منعزلين عن الأمم المجاورة لا يتأثران بحروبهم ولا بحركاتهم. وأن ضوء التاريخ الذي طلع فجره على الشعوب الغربية مؤسسي الممالك والمدنيات ليسقط شعاعه أيضاً على هؤلاء الأقوام القديمة ويجلو لنا كما لو كان من وراء غيم وضباب عدة قبائل منها على تلك الهضبة حتى نراها قد برزت من الوحشية إلى الهمجية وأخذت تشعر بوجود معنى روحاني يعم الكون ويشمل الوجود أجمعه. في ذلك الحين أخذت الأفكار الروحانية تحل محل القوى الطبيعية والظواهر الكونية التي ما برحت حتى ذلك الحين تعبد من أولئك الأقوام عبادة خوف وخشية مشفوعة بالرعشة والارتجاف فجعل بعض هؤلاء الأقوام يرجعون كافة المعاني والتصورات المنتزعة من القوى الطبيعية والظواهر الكونية إلى مصدرين أساسيين - النور والطلام - فجعلوا الشمس بشير الحياة والنور رمز الإله والخير الذي بالرغم من احتباس قوته وتقيد صولته سيفوز فيما بعد على قوة الشر والظلام ويقهرها. وعند البعض الآخر من هؤلاء الأقوام كانت المعاني والتصورات التي أصبحوا ينسبونها للوثن الذي كانوا يعبدونه من قبل تتداخل وتتدامج بعضها في بعض - فأحياناً تبدو كوحدات كاملة شخصية متفرقة متميزة وأحياناً تتضام وتتلاحم حتى تصير شيئاً واحداً. وبعد ذلك نرى سحب الغموض والإبهام تنجاب وإذا بتلك التألفات القبلية والتكونات الفصائلية قد تحولت إلى تألف النظامات الملوكية وإذا بالمشروعات الزراعية قد حلت محل رعي الماشية وسوم البهائم وشرع في إيجاد الصنائع والفنون الأولية، وانتشر استعمال المعادن، وأهم منكل هذا هو أن فكرة وجود شخصية عليا مسيطرة على الوجود أجمع أخذت تتسرب إلى تلك الأذهان المقفلة وتكره نفسها على الدخول فيها عنوة وقسراً. فالملوك الأقدمون أمثال كيومورز هوشانج وغيرهما ممن شاد بذكرهم وتغنى بحديثهم شاعر الفرس الأكبر الفردوسي بشعر يسحر الألباب هو أمثلة ونماذج على مدنية تتقدم وترتقي. والظاهر أن دخول النظامات الملوكية في القبائل الآرية(50/17)
الأصلية كان معاصراً لتلك المشاحنة الدينية التي وقعت بين فرعي الأسرة الآرية فأدت إلى طرد الفرع الشرقي من مواطنه الأصلية هضبة بكتريا. وذلك أن أستاذاً يدعى زرادشت أحدث بين الآريين الغربيين ثورة دينية عظيمة فنشبت عن الحركة المذكورة معركة دينية شديدة كان من آثارها تلك اللعنات الشائعة الخالدة التي صبها شعراء الفيديين على عدو أمتهم ودينهم - زرادشت هذا. وإن أهاجي أولئك الشعراء الموجهة ذد الملة الجديدة هو أقطع دليل على أن هذا الانشعاب الديني كان السبب في انشعاب فرعي الأمة الآرية الأصلية وانصداعهما.
ولعلها كانت اول حرب دينية وقعت للبشر. في هذه الحرب استطاعت القبائل الغربية المتدينة بمذهب الثنوية (أي القول بوجود إلهين - إله خير وإله شر أو أصلين هما النور والظلمة) أن يطردوا أخوتهم - المتدينين بمذهب خليط - نصفه الإسراك أي تعدد الآلهة ونصفه الحلول أي الاعتقاد أن الله حال في كل شيء - فيقحموهم أرض باروبا ميسادي وعلى ذلك تدفق الآريون الشرقيون في بلاد الهند فاجتاحوا الأمم القديمة السوداء يوسعونهم ذبحاً وأسراً ويعاملونهم معاملة الأرقاء والعبيد.
على أن الفرق بين الديانتين الفيدية والزرادشتية لم يكن إلا نسبياً محضاً - وذلك أن ديانة زرادشت استعاضت عن عبادة الشيء بعبادة السبب فصيرت آلهة الفيديين أبالسة وصيرت عبدة الفيدية كفاراً. بينما شعراء الفيديين من وجهة أخرى وصموا إله أضدادهم أهورا بالشر وسموع أصورا أي القوة المعادية للإله وصبوا اللعنات الملتهبة على رأس زرادشت.
إن تاريخ ميلاد زرادشت الأول ومسقط رأسه مجهولان محتجبان في ظلمات الخفاء. غير أنه قد زهر في عهد داراهستابيس أستاذ آخر تسمى بعين هذا الاسم زرادشت فأحيا التعاليم القديمة ونظمها ووسع أساسها.
تدفق سيل الغزوات الآرية في الهند مستفيضاً شرقاً وجنوباً مدة عدة قرون وبديهي أن الجاليات الآرية تأثرت بوثنية الأمم التي غزتها وملكتها أو التي استقرت بينها - حتى نتج عن ذلك التأثر السيء عبادة السكتي الوحشية الخبيثة القذرة من ناحية - وشهوانية مذهب كرشنا السافلة من ناحية أخرى.
ولكن صميم الأمة الآرية بقي لقرون عديدة محتفظاً بالأفكار والعواطف التي انتقلت معه من(50/18)
وطنه الأصلي واستمرت هذه الأفكار والعواطف تؤثر فيه تأثيرها غير أن هذا الصميم (صميم الأمة الآرية) كان قد كتب عليه أيضاً أن يفقد هذه البقية الباقية من الفكار والعواطف. وذلك أن القوم طاب عيشهم وصفا زمانهم ولاحظتهم عيون الإقبال والسعادة وانفسحت لهم نعمة فانغمسوا في اللهو والترف وباتوا بمعزل عن الحياة الجدية العملية التي كان يحياها أخوانهم الآريون الغربيون - وكانوا فوق ذلك واقعين تحت تأثير مخيلاتهم التي كانت مخصبة لدرجة فاسدة مريضة ولم يكن لهم نظام أخلاقي أدبي موضوع في قانون نافذ فعال ففقدوا عقيدة اسلافهم الروحانية ثم أحرزوا على توالي الأيام قانوناً - ولكن هذا القانون كان يمثل تلك الأفكار التي تتفشى في عصور مادية قذرة خبيثة.
ثم حدثت بعد ذلك ثورة نشأت عن غرائز ثورية وسلبية تسلطت على الذهن الهندي، ولكن البوذية على ما امتازت به من الأغراض السامية والمطامح العالية لم تكن بأية حال ديانة إيجابية فعلية. فهي وإن وافقت الزاهد المنعزل المتعبد عديمة التأثير على الجماعات والجماهير. وإن فشلها وخيبتها مع وجود أحسن الظروف ملاءمة ومناسبة كانت خاتمة سيرتها في الهند باعتبارها نظاماً دينياً.(50/19)
المرأة والروح العسكرية
للأستاذ عبده برقوقي المحامي
إن للأنظمة السياسية والاجتماعية واصطباغها بالروح العسكرية والاقتصادية شأناً كبيراً وتأثيراً عظيماً في تحديد مركز المرأة الاجتماعي ودرجتها من الاحترام العام. وذلك لأن الأمة التي تتغلب عليها الروح الاقتصادية مهما كانت جهالتها وسذاجتها تعظم نساءها وتعلي قدرهن وتحيط حقوقهن بسياج متين من القوانين والعادات التي تدفع عنهن كل افتيات. فال تبيح تعدد الزوجات وإن إباحته مقتته ولا تجعل للرجل سلطاناً مطلقاًَ على المرأة بل تبين حدوده ومعالمه بشكل نير واضح. ولا تكره البنت على الزواج بالشاب الذي يختاره لها والدها بل المرجع في ذلك إلى رأيها واختيارها.
وللبنت في بعض القبائل الساذجة التي من هذا القبيل أن تخطب بنفسها الشاب الذي تريده ولا تنتظر أن يتقدم إليها بل ترسل والدها إليه ليخطبه. أما الأمم والقبائل التي تتغلب عليها الروح العسكرية فعلى عكس هذا الخلق. تستهين بالنساء وتعبث بحقوقهن وتسيء معاملتهن.
وإذا تصفحنا الأمم واستقرأنا العادات واستوعبنا القوانين تتجلى لنا صدق هذه النظرية. ففي بولينيزيا نجد قبيلتي فيجيان والسامون على طرفي نقيض من الأخلاق. فالأولى مفطورة على حب القتال وترى الروح العسكرية منسكبة في مشاعرها وأنظمتها.
فرؤساؤها يتمتعون بسلطة لا حد لها وهي منقسمة إلى طوائف بعضها فوق بعض الأدنى يطيع الأعلى طاعة تقرب من العبادة وعلى رأس الجميع رجال الحرب وهم على جانب عظيم من القسوة والعنف. ولها جيش منظم على رأسه ضباط بدرجات مختلفة. فهذه القبيلة الحربية يذيع بينها تعدد الزوجات إلى أبعد مداه ويقتني رؤساؤها عشرات الزوجات إلى المئة وتحتقر النساء وتزدريهن وتبيح للرجل أن يبيع زوجته وأن يذبحها ويأكل لحمها إذا أراد.
أما القبيلة الثانية فالروح الاقتصادية سائدة فيها. لها حكومة دستورية ورؤساؤها يعينون بالانتخاب. وسلطتهم مقيدة محدودة. وبها نظام اقتصادي محكم الترتيب والنظام. فحث الإضراب عن العمل معروف لديها ومسموح به للعمال وبها نقابات للصناع وأجراء يعملون(50/20)
باليومية.
يقابل هذا أن النساء فيها مستمتعات بنصي بوافر من الرفاهية والاحترام العام لا يعملن إلا الأعمال السهلة الخفيفة. وإذا تزوج رجل بامرأة وجب على كل منهما أن يحمل بائنة وفي الغالب تكون البائنتان متساويتان وإذا افترقا بعد عشرة طويلة تقسم ثروتهما بينهما مناصفة فتأخذ الزوجة النصف.
وإذا انتقلنا إلى الأمم الراقية القديمة منهاوالحديثة نجد أن قدماء المصريين كانوا على درجة عظيمة من المدنية، ويجلون الصناعة ويتقنون أنواعاً كثيرة منها ويقدسون الفنون الجميلة ويعنون بها عناية كبيرة كما تدل عليهم آثارهم المجيدة. وكانوا على جانب عظيم من العلم وحسن الملاحظة وبعد النظر ورفاهية العيش. ولم يصلوا إلى هذه الغاية إلا بعد تدرج طويل وتطور استغرق قروناً عديدة في أثنائها ثبتت الروح الاقتصادية واستقرت في أعماق قلوب المصريين حتى أن الروح العسكرية التي ظهرت بينهم فيما بعد وقدستها ديانتهم لم تقو عليها، وظلت الروح الاقتصادية سائدة على مشاعر المصريين وأفكارهم. وكانت المرأة إزاء هذه المدنية الزاهرة محترمة الحقوق، وكان تعدد الزوجات على الرغم من إباحته نادراً ومستهجناً والطلاق ممقوتاً من الذوق العام والحصول عليه من أصعب الأمور. وكانت الروابط العائلية واضحة نيرة وخاضعة إلى أحكام دقيقة، وكان أساس الحياة الزوجية التآزر والتضامن والمساواة بين الزوجين. وكانت النساء تغشى المنتديات وتشارك الرجال في الحفلات العمومية كما تفعل الأوروبيات الآن.
وظلت المرأة المصرية حافظة مركزها مع ما أصاب مصر من الرزايا والكوارث الوطنية التي أفقدتها استقلالها وأوقعتها تحت نير الأجنبي. ولم تقدر قوانين الأمم التي تداولت الحكم على مصر أن تضعف مركز المصرية أو تهضم حقها. وظل مواطنونا الأقباط متمسكين بتراث أجدادنا فقد نقل المقريزي عن أخلاق وعادات الأقباط في عهده أنه لو باع أحدهم شياً يذكر في العقد أنه باع بعد الاستئذان من زوجته. ولا تزال العادات القبطية إلى عصرنا هذا تحرم الطلاق وتعدد الزوجات بتة ولذا تجد الحركة النسائية بينهم سائرة إلى الأمام بخطوات واسعة، وعن قريب ستتوج المحافل المصرية بنسائها الأقباط. ولكن المصريين لمسلمين عدولا عن كثير من عادات أجدادهم وذلك لامتزاجهم بالأمم الحربية التي فتحت(50/21)
بلادهم واستقرت بين ظهرانيهم واقتبسوا بعض عادات وأخلاق الفاتحين.
ولا يغيب أيضاً عن البال أن عهدنا بالإتجار في الرق غير بعيد، وأن كثير من الوجهاء إلى وقت قريب كانوا يذهبون إلى الأستانة ويشترون النساء للتزوج منهن أو التسري بهن.
غير أن هذا كله كان قاصراً على الطبقات العليا أما سواد الأمة وجمهورها فقد ظل بعيداً عن ذلك تقية منه. فالفلاح المصري الصميم يقنع عادة بزوجة واحدة ولا يطلقها إلا في الندرة ويعاملها معاملة القرين بخلاف الطبقات الأخرى التي اختلطت بالعرب والترك وغيرهم من الأمم الحربية التي نزحت إلى مصر فإنها شديدة البأس على نسائها وأطفالها، يكاد الرجل أن يكون ملكاً مستبداً، كلما قام أو قعد وقف له الجميع إجلالاً وإعظاماً، وإذا جلسوا معه فخشب مسندة مطرقين إلى الأرض لا ينبسون بكلمة ولا يردون له رأياً ولا يأنسون به. ولن تجد في مصر أكثر زواجاً وطلاقاً من البدو أو ممن أصلهم بدو.
لكن منذ أمد غير بعيد أخذت هذه الطبقات تتجانس مع بقية الأمة وتقترب عاداتها من العادات المصرية القديمة وتتقلص عنها قسوتها على النساء وشدتها على الأطفال والفضل في ذلك راجع إلى شرف محتد الأمة المصرية ومجدها الأثيل وإلى نسيم الرقي الاقتصادي والعلمي الذي هب على مصر فأنعش حياتها المادية والأدبية وحملها على السعي في إصلاح شؤونها السياسية والاجتماعية وتطلب نصيب أوفر من الحرية في الحكومة والعائلة وسيصل بها التطور في المستقبل القريب إلى ائتلاف في العادات والأخلاق ووحدة في الأحوال الشخصية فيتقاضى المسلم والقبطي أمام محكمة واحدة وعلى قانون واحد ولا يكون بينهما فرق في الزواج والطلاق. وقد برهنت المرأة المصرية في حركة الأمة الأخيرة على صدق هذه النبوة فقد اشتركت النساء في تعضيد الحركة الوطنية وضممن أصواتهن إلى أصوات الرجال وقابلن ذوي الشأن من أجانب ووطنيين وعرضن عليهم مطالب الأمة وسرن في الشوارع وعلى رؤوسهن تيجان الكمال والوقار يشهدن العالم كله على أن المرأة المصرية الحديثة جديرة بمركز نساء الفراعنة العظام.
إن نظام الحكومة صورة من النظام العائلي وعلى قدر ما لرئيس العائلة من سلطة يكون سلطان الحكومة. وإذا كان رب الدار جباراً مستبداً كان الحاكم كذلك. والبلد الذي تكون روحه عسكرية يكون الرجل فيه خشن المعاملة قاسي القلب شديد البطش صعب المراس(50/22)
يحتقر من دونه من النساء والأطفال والضعفاء. فالحاكم الروماني أول عهد رومة بالحياة السياسية كان مطلق الإرادة لا رقيب عليه ولا حسيب وكذلك كان الأب الروماني في ذويه، والسبب في ذلك أن رومة كانت أمة حربية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. وظل الاستبداد فيها آخذاً برقاب العائلة والأمة إلى أن ضعفت الروح العسكرية، ورجحت عليها الروح الاقتصادية، وقد تم هذا حينما أصبحت رومة إمبراطورية عظيمة تضم بين ذراعيها بلاداً شاسعة وأمما عديدة وقلت بذلك نسبة المشتغلين بالحرب إلى مجموع الأمة فإن الروح العسكرية لا تتوقف قوتها على كثرة الوقائع التي انتصرت فيها الأمة وإنما على نسبة الجنود إلى مجموع الذكور القادرين على العمل فإن كان جميع الذكور جنوداً مستعدين للقتال والنزال كانت الروح العسكرية على أتم قوتها وإن لم يكونوا كذلك وازدادت طبقة العمال والتجار والزراع ضعفت الروح العسكرية بنسبة هذه الزيادة وتقوت الروح الاقتصادية، والأمم الصغيرة المتعادية إذا اتحدت وألفت منها إمبراطورية عظيمة تضعف فيها الروح العسكرية ولو أنها في هذه الحالة تزداد خطراً على جيرانها وتكثر مواطن الخلف بينها وبين ما يماثلها من الإمبراطوريات فإن نسبة المحاربين فيها مهما كانت عظيمة لا تصل إلى النسبة التي كانت في جزئياتها. وهذه هي حال الإمبراطورية الرومانية بعد تأسيسها واتساعها. وهناك أمر آخر جدير بالعناية وهو أن الاحتفاظ بالبلاد الشاسعة التي امتلكتها رومة أوجب عليها ترقي الصناعة والزراعة وإشغال عدد كبير من رجالها في تهيئة أدوات القتال ومعدات النقل لجيشها العرمرم وفي أثناء هذا الرقي الاقتصادي والنمو السياسي كانت المرأة الرومانية تعلو أيضاً حتى وصلت مع الإمبراطورية إلى ما يقرب من الكمال ثم تدهورت وانحط شأنها حينما انفرط عقد الإمبراطورية وتناثرت أجزاءها إلى إقطاعيات صغيرة متعادية فانتعشت الروح العسكرية وضعفت الروح الاقتصادية ولبثت المرأة كذلك مهملة محتقرة حتى انقرضت الإقطاعيات ونشأت على أنقاضها الممالك الحديثة.
والممالك الأوروبية الحديثة ليست كلها على وتيرة واحدة في معاملة النساء لأن الروح العسكرية فيها على درجات مختلفة من الشدة والضعف فمركز المرأة الفرنساوية أو الألمانية أقل من مركز المرأة الإنكليزية لأن الروح الفرنساوية أو الألمانية أميل إلى(50/23)
العسكرية من الروح الإنكليزية وليس لإنكلترا بسبب موقعها الجغرافي وانفصالها عن القارة الأوروبية جيش كبير بخلاف فرنسا وألمانيا فإن الخدمة العسكرية فيهما تستنفد عدداً عظيماً من الشبان وتمنعهم من القيام بنصيبهم من الأعمال وتلقي بعبء هذا النصيب عل عاتق النساء.
فترى النساء في فرنسا وألمانيا يشاركن الرجال في العمل في الحقول ويزاولن خارج المنازل أشغالاً كثيرة بخلاف الإنكليزيات فإن عملهن سهل خفيف والإنكليزي مشهور بظرفه مع النساء حتى يضرب به المثل في ذلك ويترك لأولاده الذكور والإناث على حد سواء مجالاً عظيماً من الحرية.
أما الألماني فيعود أولاده على الطاعة والنظام وقد قالت سيدة ألمانية أقامت مدرسة في إنكلترا مدة طويلة أن متاعب التدريس في المدارس الإنكليزية أشد منها في ألمانيا وذلك لنزوع الروح الإنكليزية إلى الحرية وانطباع الروح الألمانية على الطاعة والنظام.
وقد بلغت الروح العسكرية في فرنسا مدة حكم نابليون الأول مبلغاً عظيماً أقست قلوب الرجال وملأت نفوسهم كبراً وأنفة حتى أنستهم واجبهم نحو الضعفاء في كثير من الأحيان.
وقد حكي عن نابليون أنه قال يجب أن يكون للزوج على امرأته سلطان مطلق.
أما في أمريكا فقد بلغت المرأة مركزاً سامياً لم تبلغه نساء البلدان الأخرى لضعف الروح العسكرية وعدم الحاجة إلى جيش كبير.
وإذا رجعنا إلى الشرق الأقصى تتجلى لنا صحة النظرية بوضوح تام فإن الصين منذ ألفي سنة لم تستقر على حال من القلق والثورة بسبب تفكك أجزائها وتحللها ثم تجمعها واتحادها وتعاقب ذلك على مدى هذه القرون الطويلة ومكثت أجيالاً عديدة في حرب وكفاح مع التتار والمغول وفشا عن ذلك روح عسكرية قوية واستبداد مطلق في الحكومة والعائلة واستهتار بالمرأة إلى درجة الإتجار فيها والتسري بها وإشغال كاهلها بأشق الأعمال كجر العربة والمحراث ولكن في هذه الأيام الأخيرة تحسنت حالتها نوعاً ما بفضل ما أصاب الرأي العام من التطور والرقي والطموح إلى الحرية.
وكذا اليابان فإن حروبها الداخلية الطويلة أكسبتها روحاً عسكرية ووصمت الحكومة فيها والعائلة بطابع الاستبداد المطلق فالمرأة من زمن غير بعيد كانت تسام الهوان وتباع(50/24)
وتشترى للتسري بها وكان الرجل يعاملها بمنتهى القسوة ويطلقها متى أراد ويقتلها أوي صلبها إذا ظن بعفافها سوءاً. ولكن منذ ما أخذت اليابان بأسباب المدنية الحديثة والرقي الاقتصادي ارتفع شأن المرأة وارتخت قيودها وزال عن كاهلها مظالم كثيرة.(50/25)
أثران خالدان
خطابان من مازيني إلى مسز كالاريل
نقلهما إلى العربية الكاتب الفاضل على أفندي أدهم الموظف بجمرك مصر وأهداهما إلى البيان
يذهب فريق من المفكرين إلى أن ولوع بع النفوس بالكمال المطلق وشغفها بالمثل الأعلى هما كتعلقها بأمل لا يتحقق وكلفها بوهم لا يصدق ولكنهم لا ينكرون على ذلك الولوع بالكمال فائدته في تهذيب النفوس وإيقاظ الشعور ولا يجهلون أثره المحمود في حياة الفرد والجماعة، وهم يشبهونه بحجر الفيلسوف وأكسير الحياة اللذين كانا من أشد البواعث على تقدم علم الكيمياء وأنا نري أن نلحظ الموضوع من جانب آخر وهو أن كل بطل باسق الأفعال ضخم الآمال يعبر لنا ن نفسه عن حلم رائع أرسلته فيها الطبيعة وهو يستفرغ همته ويبذل غاية ما في وسعه في أن يلائم بين العالم الخارجي وبين ذلك الحلم المشتملة عليه نفسه وأن السعي وراء ذلك هو على شقاء العظماء ومصدر ما يلاقونه من الصعاب وإذا نظرنا إلى حياة رجل من فحولة الرجال مثل مازيني في ظلال تلك الفكرة تبدت لنا أسباب الأخطار التي صادفته في حياته فلقد عاش الرجل أكثر حياته طريداً كالمثل الشرود ولما نبت به بلاده وأخذت تلفظه الأقطار إلى أن ألقى عصا المسافر في لندن التقى هناك بعائلة كارليل ونشأت له صداقة متينة معها وكان يخص المسز كارليل بالجانب الأوفر من تلك الصداقة ويجمل الظن بالحياة أن يقف الإنسان على حقيقة تلك الصداقة وذلك الود النقي المتبادل إذ يعلم أن الصداقة الشريفة والصفاء المحض ليسا وهماً من أوهام العقول المسترسلة وراء الأحلام الهائمة في أدوية الخيال، وقد كانت مسز كارليل شاعرة أدبية من النساء العبقريات الساميات اللب الكبيرات الروح وقد كان في مزاجها نزوع إلى الحزن ولم يكن أسلوب الحياة المنعزلة التي كانت تعيشها مع زوجها ما يسلسل أنوار السرور في ليل الحياة المكتئبة وكانت معاشرة زوجها من أشق الأمور وأصعبها احتمالاً لوعورة أخلاقه وتسخطه الدائم وملله المستمر، وقد كتب إليها مازيني خطابات عدة جديرة أن تلهم النفوس الحائرة الصبر والقوة بما يتفجر في خلالها من ينابيع التفاؤل العذبة ومن بين هذه الخطابات الخطابان الآتيان.(50/26)
1
خطاب من مازيني إلى مسز كارليل
صديقتي العزيزة:
لم أجد سبيلاً إلى الكتابة إليك أمس كما كان في نيتي لوفاة زوجة صديقي بتروسي. لقد كانت حزينة لدى والموت ولكنه حزن معافى من العيوب بريء من النقصان، وهكذا ينبغي أن يكون حزنك وهذا ما أريده بك، بل هذا ما يبتدر إليك ويستبق نحوك لو عملت الروية لحظات وجلت هنيهات في مضمار الفكر وقد أحاط بك اليقين وانبعث في صدرك الإيمان. إن الأفراح والآلام وإيماض الآمال ببروق النجح وانقشاع غبرتها عن الخيبة هي - كما تعودت أن أقول - مثل الأمطار وضوء الشمس لا بد للمسافر أن يلاقيها في طريقه، فلنحمد الله ولنشكره إذا طلع علينا أضواء الشمس، ولنشتمل في بردتنا ونوثق عراويها ونضم أزرارها إذا حل علينا الغيث نطاقه وأرسلت السماء أمطارها، ولا يخامرنا الشك أو يداخلنا الريب في أن سقوط الأمطار أو لشروق الشمس أدنى تأثير على نهاية الرحلة المنشودة، ومثل هذا لا تسقط دونه معرفتك ولا يعزن عن علمك ولكنه يعوزك يقين يعمر قلبك ويهبك القوة على النهوض بما يوحي به إليك فكرك ويرد إلى فسك ذلك اليقين من إضمار المحبة للناس والانطواء على المودة لهم وقد يخلص لك إذا أشرقت في مدجيات أحزانك أنوار الإيمان الديني وربما يسلس لك القياد ويعطيك الليان إذا أنت فكرت فيمن مات من الأحباب والأصدقاء ونشرت مطوى أخبارهم وجددت قديم ذكرهم، وأنت تعرفين كلفي بك ونزوعي إليك فلا تصوحي مني أزاهير اليقين ولا تنضبي فيّ ينابيع الرجاء ولا تكوني عليّ حرباً فكفاني مساورة تلك الأضاليل التي تحف بي من كل جانب وتطالعني من كل مرقب وتميل بنفسي إلى ناحية الهاوية السحيقة ولا تزيدي نفسي حزناً ولوعتي اتقاداً بسوء أسوتك وشر قدوتك وبما يبدو عليك من شواهد المادية ولوائح الأنانية، وإن عهدي بك راسخة العقيدة ناصعة الإيمان فلماذا لا تحضرك خاطرة أن الله أراد بهذه الحياة الفانية أن يبلونا وأنه عما قليل سيقيمنا في ظلال راحته ويبسط فوقنا جناح حنانه إذ لك والدين وإن كانا الآن بعيدين عن منال الإحساس مرتفعين على متعلق المشاعر فلم لا تفضين إليها بذات صدرك وتناقلينهما حديث أشجانك فإن لحظة واحدة تستغرقينها في مناجاتهما لأجدى عليك من(50/27)
كلماتي برمتها وأجمل أثراً في نفسك من نصائحي بجملتها، ولو كان والداك أحياء الآن كما يقول الناي أما كنت تستفيضين في جوارهما وتفزعين إليهما وتخبئين رأسيك في صدريهما فيتسرب السلو إلى قلبك ويتندى برد الهدوء على كبدك فتحسين بأنك مدينة لهما بالقوة حتى لا يستشعرا منك الخجل أم قد تشعبت بك الظنون وتقسمتك الأوهام فدار في خلدك أنهما قد سلكا طريقاً لا رجعة منها وأن روحيهما الخالدتين الفياضتين بالحب قد انتثر عقدهما وانحل نظامهما فليس لهما أبد الدهر ناظم يقدح عندك في معاقد حبك لهما ويقلل من فرط إجلالك إن غيبتهما المقابر ونصبت عليهما الصفائح.
ولقد طال ما استشعرت أن مناجاتي لأرواح أصدقائي كانت لي مصدر قوة غير منتظرة ومثار عزم غير مرتقب ولقد كانت تتصبب في نفسي مسايل تلك القوة وتجيش فيها غوارب ذلك الاعتزام وأنا على سطح تلك الغراء ولم أرتفع بعد عن الأرض، تودين الآن أن تصدعي منا متلائم الشعب وتفرقي مجتمع الشمل كوني منيعة الجانب على المكاره وجلدة على الخطوب وكوني صادقة العهد لمن أوقفت لهم حبك وحبست عليهم إعجابك وكوني ملء عيون أصدقائك مهابة وقلوبهم جلالاً فإن أكثرهم يلقى من عاديات الزمن ونكبات الدهر وما يحلل من بأس الأقوياء ويوهن من عزائم الأشداء، بل تكاد نفسه تسيل على نصال الألم في صمت وسكون تعوزه كلمة منك ترفه عن نفسه وتخفف من جواه وتبعث فيه القوة والعزيمة فانهضي إلى العمل ولا تنتبذي منا مكاناً قصياً واعلمي أن الشيطان لما أراد أن يغوي المسيح زين له العزلة وحبب إليه الخلاء.
صديقك مازيني
2
خطاب آخر من مازيني لمسز كارليل
صديقتي العزيزة:
قضيت سحابة الأمس خارج المنزل وقرـ خطابك لما عدت في المساء فلم أجد نهزة صالحة للكتابة إليك، وكانت روح الحزن تطالعني من خلال كلماتك القليلة ذلك الحزن العميق الولاج، ولا أقول الحزن الذي ليس لصدعه رأب ولا لدائه طباب، ومما يستدعي الأسف ويستوقد اللوعة أنه ليس في وسع أحد مهما بسط له من القوة وأوتي من الأيد أن(50/28)
يرد عنك عرام الحزن ويكف غرب المصاب فأنت وحدك - وإذا أرسلت رائد طرفك في صفحات حياتك الغابرة بهدوء لا ترنق صفوة رياح العواطف، ولا تهتاج ساكنة ثوائر النزعات - في وسعك أن تعمري في ليل النسيان تلك الخيالات التي تزورك، والأشباح التي تطرقك، أنت - ولا أحد سواك - في وسعك أن تبصري نفسك أن الحاضر سواء أصلدت أخلاقه صلابة أم رقت عذوبة لا منصرف لنا ولا متحول عن أن نلاقيه بأنفس كثير الرزايا عندهن قليل، فلا تزدهف لبناً حوادثه ولا تهفو بأحلامنا رواياه وإلا فأين منازل الإجلال اللائق بروحك الخالدة ومعاهد الإيمان بالزمن المقبل الخطوات، ذلك المستقبل الذي ستشرق فيه الشمس جلواء الطلعة لا تحجبها عن النواظر مطارف الغيوم أو جلابيب السحب. إن كل ما تحويه قدرتي وتحده طاقتي أن أنصح لك أن تنصبي في طلاب القيام بالواجبات، وليس مرمى خاطري هنا الواجبات التي تضفي على حياتك ظلال السعادة، فإن السعادة من وراء طاقة البشر ومن فوق إمكانهم، وإنما معقد أفكاري وقبلة خواطري الواجبات الدينية التي تفيض في نفسك قوة المثابرة وتكسو الحياة حلة مقدسة وتهون عليك الاستسلام للمقادير، ولكني على ثقة أن نصيب تلك الواجبات منك الصد والاستهتار، إنا كلينا يحمل في مخيلته صورة للحياة جد مختلفة عن الصورة المرتسمة في ذهن الآخر، وقد كتب لنا في لوح المقدور أن نسير في طريقين متوازيين، ولكن عرفاني بقيمة تلك الواجبات ما زال هو الدافع الصادق الذي يتجافى بنفسي عن مهابط الكفر والإلحاد، وينأى بي عن مساقط اليأس والقنوط ويحثني على المسير متلفعاً برد الهدوء في طريق حياة تزداد على تسلسل الأيام إقفاراً ويتكاثر حملها على تجرم الأعوام ثقلاً. وإني أعترف إليك وأنا مبلول الجوانح قرير العين أنه بما استقر في علمك عني ومما سأدرجه عنك في سبائب الكتمان أني أضطلع من الأيام بأعباء ترق عنها صفحة احتمالك، وقد لاقيت من مؤلم الخداع ومرير الشكوك ما لم يضطرب بمثله جنانك ولم يتلجلج نظيره في خاطرك ولكني جاعل قيد عياني أن لا سعادة تحت السماء وأن حياتنا تضحية لغرض أسمى وأنبل وأوفر سعادة وأكثر بلهنية، وكفاني من الأيم أن يكون لي أحباب وإذا بخلت الأيام بذلك فكفاني أن يكون لي والدة ترصدني رعايتها وتكلؤني عنايتها من نواحي إيطاليا أو من نوافذ السماء فذلك كاف ليحميني الوقوع في الشرك والارتطام في الوهدة وما يسفر(50/29)
عنه ذلك من التفرق والانشعاب وذلك يكفيني لأنصلت في طريقي مجتمع القوة مثابراً على السعي والدؤوب حتى تصل بي الأيام إلى حافة القبر - القبر الذي ستوجف إلي ساعته إن لم أكن في طلبه دائم الإلحاح مرتفع العقيرة.
فانهضي أيتها العزيزة وانشطي من عقال الأحزان وانفضي عنك غبار الهموم واعلمي أن مسيرنا سواء أرمضتنا الهموم أم لم ترمض ضربة لازب - ذلك المسير الذي تجلل وجوهنا فيه تلك الابتسامة الحزينة ونتقارض فيه التشجيع. إنا نحمل بين جنبينا سراً مقدساً لا يجب أن نزيله لمخلوق مهما تعاظمت قدرته وتعالت كلمته، تقولين أن حياتك خاوية فارغة - أكانت حياتك ناضبة من فعال الخير ممحلة من الحب فأعيدي ذكر والدتك وافعلي الخير وارتقبي عناية الله واعلمي أن وجودنا ليس سخرية من الله وإنه لم يرسل في نفوسنا عبثاً ذلك النزوع إلى الكمال ولم يلهمنا ضلة ذلك الطموح إلى السعادة الذي نشقى منه الآن وثقي بالله الأيام الباقية.(50/30)
رسائل في علم الفلك
الرسالة الأولى
الفلك عند الأقدمين
علم الفلك هو العلم الذي يبحث في العالم السماوي وما فيه، كالشمس والقمر والنجوم والكواكب، وكل ما يتعلق بهذه الأجرام كحركتها وأحجامها وأبعادها وكسوفها وخسوفها، والوظيفة التي يؤديها كل منها في هذا النظام المحكم الدقيق.
وينماز الفلك عن سائر العلوم الطبيعية، بأنه بحث في أشياء هي فوق متناولنا فلا يستطيع المرء أن يصل إليها فيعلم منها ما جهل، ولا أن يحصل على أجزاء منها ليختبرها ويمتحنها فتعينه على الاستنباط والاستنتاج. ومعلوم أن هذه الأجرام هي أبدية بالنسبة إلى آجال الباحثين فيها وأعمارهم. ولهذا العلم فضل المتقدم هو أنه الذي حدا بالإنسان - وهو في طفولته الأولى - على أن ينعم النظر في السماء وما حوت، ويجتهد في أن يحلل ما يراه من ترتيبها ونظامها ويعلل ما يشاهد من سيرها وحركاتها، حتى وجدت فيه ملكة الملاحظة وقوة التفكير وأمكنه الوصول بعقله فحسب إلى نتائج دونها عقبات حتى تكاد تكون فوق طاقة البشر.
وإنا لا ندري متى ابتدأ علم الفلك، فقد أتى عليه ولا مراء حين من الدهر كان في حيز العدم. ولكن هذا الوقت وراء التاريخ، ليس ثم من يعرفه على التحقيق. وحسبنا دليلاً على مقدار قدمه، وبعد عهده، أن أجدادنا الأقدمين - الذين عاشوا آلاف السنين قبل المسيح عليه السلام - خطوا فيه خطوات واسعات، ونهضوا به نهضة حفظ لهم الدهر ذكراها على مر السنين وتتابع الدهور. حتى أن من بين الأقاويل التي تحوم حول أهرامهم الخالدة، ما يؤيد أنها شيدت بناء على مشاهدات فلكية صحيحة ودقيقة. ثم تلقنه اليونان عن المصريين، فأعاروه جانباً عظيماً من اهتمامهم، ووسعوا نطاقه، وأحدثوا فيه أشياء كثيرة. . ومما يروى أيضاً أن للهينيين آثاراً فيه منذ القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، وللهنود علم به قبل هذا التاريخ، وأن قساوسة بابل قد ضربوا فيه بسهم حوال ذلك العهد.
على أن أقدم المشاهدات الفلكية التي يوثق بصدق روايتها حدثت في القرن الثامن قبل الميلاد.(50/31)
ومن البديهي أن أول ما يلفت نظر الإنسان - منذ تكونت فيه القوى العقلية - هو أن هنالك نورين يتناوبان الإضاءة على هذا العالم: أحدهما، وهو الأقوى يظهر نهاراً وثانيهما وهو أقل من سابقه يظهر ليلاً، وأن هناك ضوءاً ثالثاً هو اضعف بكثير من الاثنين يسطع في السماء ليلاً كأنه المصابيح المتألقة - وهو ضوء الكواكب. بيد أن هذه المشاهدة مع بساطتها المتناهية، أدهشت عقول أهل تلكم الأجيال الغابرة، وحيرت أفهامهم، وجعلتهم يذهبون في تعليل نظامها مذاهب شتى، ويلصقون بها الأقاصيص الجمة والخرافات العديدة ومنهم من عظم في نظره ش أنها إلى حد أن اتخذها إلهاً يسبح بحمدها ويقدس لها كما قال تعالى في الذكر الحكيم عن إبراهيم عليه السلام:
{فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون}
فلما انعموا النظر في هذه الأضواء وطفقوا يراقبونها، تبين لهم أنها لا تنير فقط، بل تتحرك في وقت معاً - فالشمس مثلاً - وهي مصدر الضوء الأقوى - تشرق كل يوم من المشرق، ثم تصعد في السماء إلى أن تبلغ كبدها في منتصف النهار، وبعدها تأخذ في الانحدار حتى تغيب في المغرب. على أنهم لاحظوا فوق ذلك أن نقط الأفق التي تظهر منها الشمس، والأخرى التي تغيب فيها وارتفاع الشمس وقت الظهيرة، وحدة إضاءتها - كل هذه ليست ثابتة وإنما يتخللها اختلاف تدريجي يصحبه تغيير محسوس في الجو والزراعة وما إلى ذلك.
ففي الوقت الذي تكون فيه الشمس أعلى ما يكون وقت الزول، تكون حرارتها شديدة ويكون النهار أطول أمداً من الليل. فإذا جاء الوقت الذي يقل فيه ذلك الارتفاع إلى النهاية، ضعفت حرارتها وارتد النهار قصيراً. وبذلك عرفت الفصول المختلفة وسمي المدى الذي يكمل فيه هذا التغيير (عاماً).
وراقبوا القمر - وهو مصدر ضوء الليل - فإذا به يتقلب في أشكال عديدة لا يخطئها البصر، تتعاقب بترتيب منتظم في مدة ثابتة معينة. فيكون هلالاً صغيراً ضئيلاً يظهر بعد غروب الشمس مباشرة ولا يلبث أن يختفي، ثم ينمو في الليالي التالية فلا يكاد يمضي(50/32)
الأسبوع الأول حتى يظهر في شكل نصف دائرة قطرها في اتجاه مضاد للغرب. ثم يستمر في الازدياد حتى يصير في نهاية الأسبوع الثاني قرصاً كامل الاستدارة يظهر عند غروب الشمس ويأفل عند شروقها. . ثم ينقص شيئاً فشيئاً حتى يعود كما بدا (كالعرجون القديم) ثم يختفي بعد ذلك ليلتين أو ثلاثاً يظهر بعدهن الهلال الجديد ليدور نفس الدورة مرة أخرى.
وتعرف هذه الأشكال المختلفة بأوجه القمر وبواسطتها وبواسطة المدة التي تتم فيها - وهي الشهر القمري - وباختلاف الحالة الجوية التي مر ذكرها منذ هنيهة - التي تعرف بالفصول - بواسطة هذه الأشياء استطاع الناي في تلكم الأزمان الغابرة أن يقسموا أوقاتهم، وينظموا أعمالهم ويعينوا مواعيد اجتماعاتهم وغزواتهم ومواقيت زرعهم وحصادهم. وتسنى لرعاتهم أن يعلموا مواطن العشب والكلأ ويعرفوا متى يقيمون ومتى يظعنون.
أما الكواكب فإنهم ألفوها منتشرة في الفضاء أنى نظروا وحيثما ولوا وجوههم فلما راقبوها أثناء الليل رأوا أنها تتحرك حركة بطيئة مع حفظ مراكزها بالنسبة لبعضها تماماً حتى ليخيل للرائي أنها مثبتة على ظهر كرة هائلة تدور بها عل نقطة ارتكاز ثابتة. وتسمى هذه الكرة الوهمية (الكرة السماوية) كما أن النقطة الثابتة تدعى (القطب) وتجلى لهم أن النجوم التي على مقربة من ذلك المرتكز الخيالي لا تغيب عن الأبصار مطلقاً بل تتحرك في دوائر كاملة لا تتجاوز الأفق مهما اتسعت. . أما باقي أجزاء من دوائر قد خفي عنا باقيها. . وأن منها ما يبزغ في وقت معين في السنة ثم يحتجب، كما أن منها ما يظهر في ليالي الشتاء فقط وأخريات في ليالي الصيف.
ولما كانت النجوم جماً عديدها، متشابهة أشكالها، متقاربة أحجامها لم يك ثمة طريقة لتعيين إحداها إلا بمراعاة مركزها بالنسبة إلى النجوم الأخرى، لذلك قام الفلكيون منذ نيف وأربعة آلاف سنة فقسموها إلى مجموعات أطلقوا عليها أسماء ما تشابهه ولو بعض الشبه - من الأشياء المعروفة لديهم. . . فالدب الأكبر مثلاً يطلق على السبع النجوم الظاهرة الترتيب في السماء المعروفة باسم بنات نعش ولو أن الشبه بين ترتيب نجوم هذه المجموعة وبين الدب بعيد ضعيف لا يكاد يذكر.
وقد اختبرت اثنتا عشرة مجموعة هي على شكل دائرة في السماء لتدل على موضع الشمس في أي شهر من شهور السنة، وأسموها الأبراج وهي: العقرب، والقوس، والجدين(50/33)
والدلو، والحوت، والحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان.
وكونت في السماء، عدا هذه الأبراج، من ثلاثين إلى ستة وثلاثين مجموعة منها المثلث، والقوس، والنسر الطائر، والثعبان، والكأس، والسفينة.
ولقد علم الأقدمون وثبت لديهم أن النجوم تظل مضيئة في السماء نهاراً كما تبين ساهرة ليلاً. ولتلك من أعظم ما استكشفوا وأهم ما وصلوا إليه، إذ أنها أول استنتاج لحقيقة لم يروها بأعينهم بل كان رائدهم إليها التفكير ليس غير. وإن هذه النتيجة أيضاً من القدم بحيث لا يعي التاريخ لها اسماً تعزى إليه.
ومن آثار الأقدمين أيضاً أنهم استكشفوا أجراماً خمساً لا تتحرك كقطعة واحدة في المجموعة السماوية بل تشابه الشمس والقمر في أنها تسير وتغير أماكنها بالنسبة للنجوم الأخرى. وأنها لتشابه القمر على وجه خاص في أن نورها ينقص ويزيد من آن لآخر. فأطلقوا عليها اسم (الكواكب أو السيارات) ليفرقوا بينها وبين النجوم الثابتة. وهذه النجوم هي:
عطارد: وهي أقرب الكواكب إلى الشمس وأسرعها سيراً. وهو لا يظهر إلا أحياناً على مقربة من الأفق بعد غروب الشمس أو قبل شروقها مباشرة.
الزهرة: وهي ثاني الكواكب قرباً إلى الشمس، وتلقب (بنجمة العشاء) عندما ترى بعد الغروب وبنجمة الصباح عندما ترى قبل الشروق.
المشتري: ويضاهي نوره - في بعض الأحيان - ضوء الزهرة وهي عند تمامها.
المريخ وزحل: ويكون نورهما كنور أسطع النجوم الثابتة عندما يأخذان من السماء مكاناً حسناً.
ولا يهذبن بك الوهم فتظن أن الأقدمين قد جهلوا شكل الأرض، فإنهم قد علموا ذلك علم اليقين. وأثبتوا كرويتها من عدة قرون قبل الميلاد، ببراهين لا تقل وضوحاً وجلاءً عن تلك التي نقرؤها في أحدث كتب الجغرافيا وأن منهم من قاس قطرها أيضاً كما سيمر بك في الرسالة الثانية.(50/34)
حديث المائدة
قال الأستاذ: فرح أصحاب المائدة بعودتي إليهم حتى قال لي أحدهم على سبيل الإطراء (إنك لتتكلم كالذي يعتقد صحة كلامه) فكأن هذا الرجل كان يرى ذلك فيّ خلقاً نادراً وخلة غير معهودة حتى ذكرها لنا.
قلت (أي الأستاذ): من حاول التحدث بجد وإخلاص عرض نفسه للوقوع في آفتين الأولى: الصراحة المؤلمة. والثانية: الغلظة. ولا يخفى أن الغرض من التحدث إلى رجل أجنبي هو أن يعطي الإنسان ويأخذ من الحياة الحقيقية الخاصة بالاثنين أقصى ما تسمح به الفرصة. ولكن الحياة والحديث كثيراً ما يتضاءلان حتى يستحيلا إلى مجرد ألفاظ فارغة. ولقد روى لنا المستر (هاك) عدة نوادر عن أسلوب المحاورة بين رجلين من أهالي الصين كانا يتحدثان الأحاديث الطويلة المسهبة دون أن يلفظ أحدهما بكلمة ذات معنى: وهذه الأعجوبة ليست مقصورة على القاطنين وراء السد (سد يأجوج ومأجوج - حائط الصين) من الجنس الأصفر ولكنها تصادف كثيراً في النازلين دون السد من الأجناس الأخرى وأبرع المحدثين من الصينيين بضع نساء حسان أعرفهن وألقاهن أحياناً. فإذا رأيتهن فما شئت من ظرف وإيناس ومنطق حلو رخيم الحواشي تتطاير منه شظايا الملق والتقريظ تطاير نتف الوريقات الذهبية في الماء المعطر - وتنسجم ألفاظه انسجام الجدول السلسال - لا ترى فيه طغياناً ولا ركوداً - ولكن كلمات مؤتلفات متناسقات لا يتخللها مجاز بديع ولا استعارة مدهشة - فهن يصغن من الهواء ألفاظاً حلوة الانسجام لا تجد فيها من المعنى إلا مثلما تجد في السحاب من القصور الخيالية أو في جمرات موقد الشتاء من الوجوه الوهمية.
لعلك أيها القارئ، كنت يوماً في قطار ففصلت عنه الآلة البخارية قبل بلوغه المحطة بمسافة بعيدة على أن القطار استمر بالرغم من ذلك في مسيره بسرعة وسكينة كما لو كانت الآلة لم تزل متصلة به وتسحبه. ولو لم تكن قد أبصرت بعينك الآلة تفصل وتنعطف في طريق جانبي لما هجس بظنك أنك تسير بقوة حقيقية ميتة. فهذا كمثل أولئك النسوة الحسان الآنفات الذكر - فلعمري إن فيهن من تفصل ذهنها فصلاً تاماً عن حديثها ـ.
وأعجب من ذلك أننا لا نشعر بما صنعت فلا نرى البتة فرقاً. فشفاههن تساقط الكلم المستعذب كما تساقط أناملهن قطرات النغم المستملح من معازفهن - فالاعتياد المجرد من الإدراك يحول المعنى حروفاً ملفوظة على نحو ما يحول المعنى الموسيقى حروفاً نغمية(50/35)
(حروف النوطة) ولكنهن بالرغم من ذلك كله يحكمن العالم ويملكن أعنة الوجود - وما ذلك إلا لأن الجمال هو عنوان حقيقة أجل وأعظم من الحكمة.
هنا سألتني السيدة الأرملة ربة الوقار والجد تفسير جملتي الأخيرة.
قلت لها: سيدتي إن الحكمة خلاصة الماضي. أما الجمال فهو ثمرة المستقبل.
هذه كلمة استطرادية ثم نرجع إلى ما كنا فيه فنقول: هبني جلست على مائدة الإفطار إلى جنب رجل إنكليزي ذي فطنة وذكاء. فأول ما يجري بيننا هو أن كلينا ينظر في وجه صاحبه ثم نتبادل بضع كلمات.، وقد قرر كل منا في نفسه شيئاٍ - وهو تحاشي إساءة جليسه واستعمال الرقة واللطف والمبالغة في المجاملة والاحتفاء إذ كانت العواطف التي يشعر بها كل نحو الآخر ودادية محضة. فإذا تنازعنا الشراب. فنفض من حمرته على وجهينا ومن جمرته في دمائنا ازددنا رقة ودماثة.
قالت الأرملة: ما أحسب الذين يتحادثون على الخوان خلقاء أن ينطقوا بشيء من جوامع الكلم أو نوابغ الحكم ولاسيما إذا خالطت رؤوسهم المدام وصدمتهم حميا الكاس قبل الشروع في هرائهم ورطانتهم.
قالت الأرملة هذه الجملة بحموضة مسكرة كما لو كانت ألفاظها قد غمست في مادة (خلات الرصاص) ومثل هذه الجملة كان يسميها زملاء شبيبتي (الطعنة الخلس).
قلت في نفسي لا بد من القضاء على هذه المرأة.
فنظرت إليها وقلت: سيدتي إن المعلم الأعظم السيد المسيح كان مولعاً بالحديث على الخوان لأن هذه العادة كانت في زمن غابر ومكان قصي نسيت عظم قيمتها وجليل مزيتها؟
نسيت أنها كانت ولائم صادقة التف على موائدها أناس جياع ظماء شتى المذاهب والطبقات. ويحتمل أن القوم كانوا يديرون أحيناً أحاديث الخلاعة والمجون. ولا شك أنهم يديرون أكواب العقار.
إن الخمر مهما تكن منافعها ومضاره الصحية فإنها ولا شك أحسن دواء لعلاج الولائم البليدة المملة. ولا يخفى أنه كلما أقيمت مأدبة حرها طائفة من الناس مختلفوا الحالات النفسية والبدنية فالغرض المقصود والحالة هذه محاولة التسوية بين هؤلاء الجماعة في مسافة ساعة حتى يجمعهم صعيد واحد من الأنس والابتهاج والبشر. فالطعام وحده قد يستطيع أن(50/36)
يصنع ذلك ولكن بفرد واحد من الجماعة. والحديث وحده قد يكفي فرداً آخر. ولكن المسوى الأعظم والموحد الأكبر هو الخمر التي ما زالت اليوم على عهدها يوم (أبصرها الماء فاحمر خجلاً) ويوم استحلت الستة الأوعية المملوءة ماء إلى خمرة صرف عتيقة.
نرجع بعد هذا الاستطراد إلى ما كنا فيه من موضوع المحادثة مع الرجل الإنكليزي ذي الفطنة والذكاء. فنقول:
يبدأ المتحادثان بالمناوشة ببضعة معان خفيفة - تبحث عن الأفكار وتستكشفها كما يفعل الكيماوي الكهربائي عندما يحاول استكشاف تياره، فيستعمل ورقة من عباد الشمس الأزرق للاستدلال على الأحماض وورقة تورموريك للاستدلال على القلويات - طريقة الكيماويين في تعيين ماهية المركبات المجهولة. وتارى ترى المتحادثين يرميان المسبار في الماء ثم ينتزعانه فيفحصان ما جاء به من الرمل والمحار ليعرفا هل سيبقيان طويلاً في الأوشال والطحاطيح (الماء القليل القريب القعر) أو قد أشرفا على الغمار وأوشكا أن يلقيا (حبل الماء العميق).
إن تيار أفكاري منقسم إلى ثلاث طبقات فوق بعض. وبيان ذلك أني إذا جالست إنساناً فطفق يتحدث إلي تبعت أقواله وأحواله بالطبقة العليا من تيار أفكاري ولكن تحت هذه الطبقة العليا يفيض تيار آخر سفلي من انتقاداتي على أقواله وأحواله وتحت هاتين الطبقتين تجري طبقة ثالثة من شعور مستقل لا علاقة له بما فوقه. وهاك بيان هذه النظرية بالكتابة.
(أ) الطبقة العليا - الفكر وهو يتبع امرأة تتكلم.
(ب) الطبقة الوسطى - الخواطر التي تصحب الطبقة العليا.
(ج) الطبقة السفلى - وسوسة فكرة ذاتية مترددة ملحة.
الشرح
(أ) حلة بيضاء ذات أهداب زرقاء محلاة بأزهار حريرية وباقة من زهر التفاح - أساور دمالج وقلادة من اللؤلؤ وقرط من اللؤلؤ وقرط من الذهب - حذاء من القطيفة وجورب من الحرير الأبيض.
(ب) خيبة الله على هذه المرأة! يا للسخف ويا للحماقة! ما أرذل هراءها وما أثقل ثرثرتها(50/37)
(نظرة من النافذة على الشارع - ثلاث صفحات في وصف مستوعبات هذه النظرة لو حاولنا كتابتها - على أن النظرة لم تستغرق أكثر من عشر ثانية) تباً لك أيتها المرأة العجوز وسحقا! (تقع العين على صورة معلقة فوق الموقد) ما أشبه أنفها بأنف أمها وسائر أنوف أسرتها! هذه أنف زنجية لماذا لا تخرمها وتلبس فيها حلقة؟.
(ج) أخشى أن أتأخر عن ميعاد المحاضرة - أخشى أن أتأخر عن ميعاد المحاضرة - أتأخر عن ميعاد المحاضرة، عن ميعاد المحاضرة - ميعاد المحاضر - ميعاد المحاضرة الخ الخ الخ.
إن الطبقة الفكرية العميقة قد تبرز أحياناً إلى حيز الشعور بالكيفية الآتية: تستمر الطبقة أو الطبقتان الفكريتان العاديتان في الاطراد والجريان ولكن تشوبهما قوة خفية لا تزال تعترضهما وتزعزعهما بكيفية غامضة مبهمة - دأبها ذلك حتى تراني أصيح فجأة قائلاً (ها هي! لا زلت أعرف أن هناك شيئاً يقلقني ويكدر صفوي) وإذا بالفكرة التي ما برحت تتغلغل خلال الطبقتين الآنفتي الذكر قد نفذت فيهما فنجمت منهما وطفت على وجههما واضحة بينة - واجباً ثقيلاً أو ذكرى أليمة.
بدأ الرجل القزم المشوه الوارد ذكره في النبذة السالفة بتقريظه بلده بوستون واسترسل في ذلك مسهباً مستفيضاً كدأبه وديدنه.
فرد عليه الفتى الجميل الجالس بحذائه وهو من أهالي ماريلند قائلاً: لم هذه المقارنات والمفاضلات بين مختلفي المدن والبلدان؟ أليست كلها أمريكية وكل أمريكي منسوب إلى أمريكا بما ضمنت من البلاد والقرى؟ وهب أنكم أهالي بوستون أرجح أحلاماً وأرحب إفهاماً من سائر أهل أميركا فمن ذا يحسدكم على ذلك أو يبغضكم من أجله. نحن أمريكيون جميعاً. وحيثما رفعنا أبصارنا فرأينا الراية الأمريكية تخفق فوقنا وترفرف فذاك مستقرنا وموطننا!
قلت: إن حصر الذهن في أي نقطة محدودة يعوق نموه ويكدي شبابه ويرده قزماً قصيراً دميماً.
قلت ذلك وفاتني أن في هذه الكلمات تعريضاً بقصر الرجل ودمامته ولكنها لم تفته فأسرها في نفسه وتململ لها أسفاً وكمداً وامتقع لونه. ثم اشتد به الكرب فما أطاق استقراراً في(50/38)
مجلسه فهم بالقيام قائلاً:
اسمحوا لي أن أنصرف.
هنا ارتفع صوت حلو رخيم فيه رنة حنان ورقة قائلاً: كلا إنه لا يقصد إلى ما ذهب إليه ظنك. وإنما قال ما قال غير متعمد كلا والله لن تذهب. ورفعت ي بضة عضة بيضاء فاستقرت على عضد الرجل المسكين.
هذه هي الفتاة إيريس العذراء اليتيمة الحسناء - إحدى جلاس المائدة.
هنا ارتفع صوت أناثي آخر بلهجة كأنها محلول حمضي شديد من الجد والوقار والحشمة خال من أدنى أثر من اللطف والرقة فقال: إيريس عزيزتي رويدك انظري ما تصنعين!
ولكن الفتاة لم تبال بتحذيرات الأرملة ذات الوقار وبقيت واضعة يدها على عضد القزم المشوه - فكانت صورة بديعة يعدها المصور غنيمة وفرصة - دامت بضع ثوان ولا عجب. فأي شيء أغرب وأندر من منظر المليحة الحسناء في ريعان الشباب ورونق الصبا والقزم المشوه الدميم عليه وصمات الطبيعة القاسية وآفاتها ولعناتها ينظر أحدهما في عيني الآخر وقد امتزجت نظراتهما واختلطت لحاظهما.
لأكبر ظني أن القزم لم يظفر قط في حياته بمثل هذه النعمة ولم يفز بمثل هذه النظرة من حسناء قبل إيريس ولا شك أن الفتاة لم تنظر قط في عينين كهاتين تغلغلت ألحاظهما إلى أعماق روحها - لا أقول أن عيني القزم كان لهما بريق وإشراق خارق للعادة - ولكن كان فيهما تلك النار الحزينة التي تلتهب في أرواح من ينظرون إلى جمال المرأة بلا أمل - ولكن يأسها لمزيد الأسف مصحوب أبداً بالوجد والهيام والكمد. فخيل إلى القزم أن هاتين العينين كانت كمياه الجدول الشفاف وأنه قد أبصر في أعماقهما المبهمة روضة أنفاً مغلقة الأغلفة والبراعم تنتظر طلوع فجر عاطفة شديدة فتتفتح أزهارها وتينع ثمارها وتدوي خمائلها برنين نغمات الهزار والبلبل.
هذه الاستعارة من بنات أفكاري أنا - أستاذ المائدة - لا من بنات أفكار القزم، فإن القزم لم يتخيل مثل هذه الاستعارة في تلك اللحظة وليس في مقدوره ذلك ولا في مقدور أي إنسان آخر في مثل ذلك الموقف الحرج. وإنما كل ما جاش بصدر القزم إذ ذاك هو لوعة حزن وحرقة بث وأسى لا يعبر عنها لسان ولا يصفها بيان - ثم أنين باطن صامت.(50/39)
قال القزم للفتاة بنوع من التغزل (نحن رهناء أدنى إشارة من السيدات - وطوع بنان الجنس اللطيف) قال ذلك وحدثته نفسه البشرية والطبيعة الغريزية - تلك الطبيعة التي تحنو وتتحدب على جميع أولادها، ولا تترك أشقى المخلوقات وأبأسهم وأشدهم تشويهاً وأكثرهم علة وآفة بلا عزاء طفيف من اعتداد بالنفس واعتقاد بأن لا تخلو من بعض المحاسن والمزايا - تلك الطبيعة حدثته بأنه قد أجاد وأحسن في رده على الفتاة وأن جوابه الخلاب لا بد قد أصاب حبة قلب الغادة - وهنا غرق ذهنه في لجة من الخيالات العذبة والأحلام اللذيذة ثم أن الأوهام الجنونية القديمة والخواطر المتهوسة العتيقة التي ما برحت تحوم على الأبواب التي يحرسها العقل والرأي الصحيح وما فتئت تنتظر غفلة العقل وترقب غرته - إذ كانت تعلم أنها إذا حاولت الدخول طردها العقل رفساً بالقدم مع التحقير والإهانة - هذه الأوهام الجنونية القديمة والخواطر المتهوسة العتيقة هجمت على تلك الأبواب في هذه الفرصة وتهافتت متكاثفة متراكمة يطأ بعضها على أعقاب بعض وهي في حالها هذه مبهمة متقطعة غامضة خجلة ن نفسها ولكنها تتزاحم وتتضاغط في أعماق الفؤاد حتى حمي الفؤاد واستحر من شدة احتكاكها واصطكاكها - وإليك بضعة أمثلة من هذه الأوهام الجنونية والأفكار المتهوسة: ألا تذكر أن جون ويلكيس أقبح الناس خلقة وأبشع أهالي إنكلترا صورة قال لبعض أصحابه أني إذا سبقت أجمل الرجال إلى لقيا أي سيدة بمسافة نصف ساعة فقط ضمنت لكم أن أصيبها وأسبينه فأستحوذ على لبها بما لا يدع فيه محلاً لغيري؟ (2) ألا تذكر كاديناس الشيخ الأشيب الهرم المتوحش الهمجي يقتاد الغانيتين الفتانتين (ستيلا) و (فانيسا) وقد استهواهما وأسر لبهما؟ (3) ثم يهجس بعد ذلك ببيت من الشعر:
وكأن تحت لسانه ... هاروت ينفث فيه سحراً
فكأنما يقول لنفسه أن المعول في استياء قلب المرأة إنما هو على اللسان الخلاب والمنطق الجذاب وليس على الخد الأسيل والطرف الكحيل والمنظر الجميل. أجل إن خلابة المنطق وسحر البيان هو الذي ما زال يفتن ويستهوي حواآتنا من قديم الأزل ألا تذكرون أن أبشع الحيوانات طراً وأقبحها هو الذي فتن أمنا الأولى وبذلاقة لسانه واستهواها حتى أقبلت عليه تصغي لزخرفة أباطيله وتمويه أضاليله - فوق الشر والبلاء.(50/40)
ويل لنا معشر الرجال، إنا إذا استرسلنا في أمانينا وأحلامنا شرعنا نمثل في عالم الخيال دور هرقل إله القوة وهو يهز صولجانه فيخضع به الرجل والمرأة - يخضع الرجل بقوة الصولجان والمرأة بمهارة هزه وتقليبه - أجل نمثل دور هرقل ونحن جلوس إلى الموقد نتخذ من المحثة الباردة صولجاناً نهزه فنخضع به بني الإنسان وما أسهل ذلك علينا. فإذا نزلنا معترك الحياة الحقيقية وجدنا المحثة في النار فإذا تناولناها فالغالب أننا نجدها أحر من أن نستطيع إمساكها وقد تكون من فرط الحرارة بحيث تسلخ يدنا فنترك عليها جلدنا حين نقذفها أو نلقيها صارخين صرخة عالية أو صامتة.(50/41)
الموت
مخافة الموت غريزة بشرية أحسن دواء لها أن يذكر الإنسان أن للحياة بداية كما أن لها نهاية، فلقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاًَ مذكوراً، ومع ذلك فإن هذا لم يضره ولم يعنه ولم يأبه له ولم يكترث، فلماذا يعني ويهتم ويتأفف من أنه سيجيء عليه حين من الدهر لا يكون شيئاً مذكوراً. إنه ليس بودي إن كنت حياً أرزق منذ مائتي عام أو أثناء عهد الملكة اليصابات. فلماذا يسؤوني ويؤلمني أني لن أكون على قيد الحياة بعد مائتي عام - في عهد لا أدري من!.
ليس الموت إلا عودة إلى الحالة التي كنا عليها قبل مولدنا التي لا نستطيع اعتبارها إلا فرجة لنا وخلاصة للنفس وإطراحاً لأعباء همومها، فلقد كانت هذه الحالة عيداً لنا وكنا بخير لم ندع إلى الظهور على مسرح الحياة للبس الحلل الزاهية أو الأطمار البالية - للضحك أو للبكاء - لاستحسان الجماهير حركاتنا وأعمالنا أو لاستهجانهم إيانا.
ولكنا كنا راقدين في زوايا الفقدان وكهوف العدم بمعزل عن الأذى، وقد نمنا ملايين القرون لا نريد أن نستيقظ آمنين مطمئنين خالين من الهم والأسى مدة ذلك العدم الطويل في نومة أهدأ وأعمق من نومة الطفولة ملفوفين في رداء من أنعم التراب وألينه. ومع ذلك ترانا نظل وأخوف مخاوفنا أن نعود إلى هذه الحالة - إلى الراحة النهائية إلى دار الخلاص من الأحزان والمصائب بعد حياة تعسة شقية كلها كرب وضيق آمال كاذبة ومخاوف باطلة.
ليس في فكرة حياة سابقة لميلادنا من عوامل التشويق والترغيب مثل الذي يشعر به المرء نحو حياة مستقبلة تجيء بعد حلول الأجل. فلقد يسرنا أنا بدأنا الحياة حين بدأناها ولا يسوؤنا أننا لم نبدأها قبل ذلك فحسبنا ما عانينا وكابدنا وما كافحنا وجاهدنا مدة عمرنا القصير. فلا ضير علينا أنا لم نشهد حرب طروادة ولم نبصر مصرع هكتور وآخيل ولم نر اليونان تدحر الفرس في ثرموبولي. فحسبنا أن نقرأ أنباء ذلك في الكتب والأسفار ونقف ننظر إلى البحر الهائل الذي يفصل ما بيننا وبينها. تلك العصور كانت في بكرة الدهر وطفولة الدنيا إذ كان العالم لم تمهد به أسباب الراحة والرخاء بعد فإن تكن الحياة إذ ذاك فأخذنا العدد لقطع مراحل العيش فنحن لا نرى خساراً علينا في فقدنا الستة الآلاف الأعوام التي سلفت قبل ظهورنا. ولا نشعر نحو ذلك بأدنى اهتمام أو اكتراث. ولا نتوجع ونتفجع لأنا لم نر كرنفال الحياة الأكبر يسير أمامنا موكبه العظيم الهائل طول تلك المدة(50/42)
وإن كان يحزننا أننا سنجبر على ترك موقفنا قبل مرور سائر الموكب.
وقد يقال في تعليل ذلك الفرق أن قد نعلم من الأخبار المنقولة والروايات المأثورة ما جرة في عهد الملكة اليصابات بل في عهد دارا واسكندر بل في عهد الآشوريين والفينيقين. ولكن لا سبيل لنا إلى معرفة ما سيحدث في المستقبل إلا انتظارنا الحوادث وتوقعنا الوقائع. وعلى قدر جهلنا بالغيب واحتجابه عن ظنوننا وأوهامنا يكون فرط تطلعنا إليه وتشوفنا نحوه. ولكن هذا التعليل خطأ محض لأنه لو كان حقيقة لكنا لا نزال نتطلع إلى عمل سياحة في أراضي جرينلندة أو رحلة إلى القمر ونحن لا نرغب البتة في هذا ولا ذاك كذلك لا رغبة لنا البتة في الإفضاء إلى غيوب المستقبل والاطلاع على أسراره إلا أن نجعل ذلك علة إلى استطالة أعمارنا. فنحن لا يهمنا أن نكون أحياء بعد مائة أو ألف عام إلا كما يهمنا أن نكون قد عشنا قبل ميلادنا بمثل هذه المدة ولكن الحقيقة والواقع هو أن كل إنسان يود لو أن الساعة الحاضرة تصبح أبدية سرمدية أجل كلنا يود أن يبقى كما هو وأن الدنيا تبقى كما هي لتمده بأسباب النعيم واللذة.
كلنا يود أن يحرز اللذة الحالية ويستبقها ويستديمها إلى نهايتها القصوى ويكره جداً أن يراها تسلب منه وتنتزع فيبقى مكانها خالياً ثم يعوض بها بدلاً فديدنه في ذلك قول القائل:
خذ زمانك ما أعطاك مغتنماً ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره
فالعمر كالكاس تستحلى أوائله ... لكنما ربما مجت أواخره
إن الحزن والكمد واللوعة والحرقة هي في ألم الفراق وفي مضاضة الاستلاب والانتزاع وفقد المألوف والمحبوب وترك الأوطار والأماني غير مقضية والآمال والأماني غير محققة ينتج من ذلك أن حب الحياة هو علاقة وألفة وليس بغريزة مستقلة. فمجرد الكينونة لا يفي بحاجة الإنسان الفطرية ولا يشفي رغبته الطبيعية. وإنما الذي فيه قضاء لحاجته وشفاء لرغبته هو الكينونة في مكان وزمان وظروف خاصة بعينها. فنحن نؤثر الوجود في هذا الآن - في هذه الجزيرة، من بحر الحياة على أن نختار أي حين مستقبل أو نقتطع سلخة من الوقت قدرها ستون عاماً من الأبد.
فهذا دليل على أن تشبثنا بالحياة ليس متوقفاً على مجرد الوجود أو الوجود بحالة طيبة - ولكنا ميالون بالفطرة أشد الميل إلى البقاء على ما نحن فيه من الظروف والأحوال كما(50/43)
هي. فالجبلى لا يترك صخرته. ولا الهمجي عشته، كما أنا لا نحب أن نتخلى عما نخن فيه من منهج العيش الخصيص بنا بكل ما فيه من آفات ومزايا ومحاسن ومساويء ولو أعطينا بدله أي عيشة أخرى مهما كانت، وما أحسب أن في الدنيا إنساناً يرضى أن يتبادل العيش والحياة مع آخر مهما بلغت عيشة هذا الثاني من النعيم والرغد والسعادة فلأسهل علينا أن لا نكون مطلقاً من أن نكون غير أنفسنا. إني أعرف أناساً يبلغ من بسطة أرواحهن وفرط تطاولها أنهم يودون لو يعيشون ثلاثمائة عام ليروا إلى أي ذروة من النفوذ والقوة تصل أمريكا هلال هذه المدة. فهذه غاية وراء أقصى مطامح. ومع ذلك لا أنكر أني أود البقاء إلى أن أرى دولة البوربون تنهار فتنهدم وتضمحل فتنعدم. وكلما عجل إليها انقضاء ذلك كان أشهى إلى قلبي وأندى على كبدي.
من شيمة الفتيان والشباب أنهم لا يذكرون الفناء ولا يهجس ببالهم أنهم سيموتون مطلقاً قد يتصور أحدهم أن غيره من الناس يموت وقد يوافق على المذهب القائل بأن:
كل حي لاق الحمام فمودي ... ما لحي مؤمل من خلود
باعتباره نظرة معنوية ولكن يصعب عليه جداً أن يطبق هذه النظرية على نفسه. وذلك أن ميعة الشباب وحدته ونشاطه وشرته وجيشان مرجل الصبا في جوفه وغليانه. واحتدام تنوره وفورانه - كل ذلك مناقض لفكرة الهرم والموت فهو ينفر بالفتى عن هذه الفكرة ويشرد.
فإذا استرسل به الفكر برهة في وادي التأملات والتصورات فعرضت له فكرة الموت بدا له الشبح المخوف على مسافة كأقصى ما ينصوره الذهن تنحسر دون غايتها الأوهام، ثم ما أبعد الخلاف وما أشد التناقض بين بطء قدوم هذا الشبح الغامض المبهم وتراخي مسيره وثقل حركته وبين ساعتنا الحاضرة من اللهو والطرب والمراح وأحلام المنى وفرحة الأمل! فنحن نرقب أقصى حافة الأفق وأنأى مرمى الحدق ثم نقول في أنفسنا أي مسافة مترامية الأنحاء متنراخية الأرجاء لا بد من طيها قبل أن تبلغ غاية سفرنا البعيد ونلقي عصا التساير على ساحل الحياة. هذا ما نقوله لأنفسنا ونحدث به ضمائرنا وبينا نحن كذلك إذا بالضباب تحت أقدامنا من حيث لا نشعر ولا نتوقع وإذا بظلمات الهرم تلفنا وتغشانا. ماذا جرى؟ لقد اختلط شطرا العمر إحداهما بالآخر وامتزجا وتداخلا واندمجا وإذا بالطرفين(50/44)
الأقصيين قد تلاقيا ولم نستمتع بتلك الفترة اللذيذة التي كانت تتراءى بينهما لعين خيالنا والتي كنا نعول عليها ونعتمد وبدل الذي كنا ننتظره من خريف الكهولة وحدائقه الحواء وأوراقه الصفراء وأزاهيره اللمياء وأصائله الذهبية وشمسه المدنفة العليلة التي آذنت بالمغيب وقد نفضت على الأفق الغربي ورساً مزعزعاً:
ولاحظت النوار وهي مريضة ... وقد وضعت خداً على الأرض أضرعا
وظلت عيون النور تخضل بالندى ... كما اغرورقت عين الشجي لتدمعا3
يلاحظها صوراً إليها روانيا ... ويلحظن ألحاظاً من الشجو خشعا
كما لاحظت عواده عين مدنف ... توجع من أوصابه ما توجعا
وبدلاً من ظلال عشيات هذا الخريق المنتظر المملوءة بأصداء الشباب الراحل وهمسات الأبدية القادمة الممسكة الأرجاء المعطرة الجوانب بما لا يزال يعبق بأردانها من نفحات لذات الصبا الدابر والنعيم الغابر وما لا يزال يهب عليها من عوالم الذكرى من شذا عهد الشباب وعصر اللهو والبطالة - بدلاً من ذلك كله لا نبصر إلا ضباباً بارداً ثلجياً يلف كل شيء ويغشى جميع الكون بعد انقضاء الشباب وذهاب روحه. وحينذاك نظل بحالة إذا نظرنا أمامنا وجدنا قفراً خراباً وأسوأ من ذلك أنا إذا التفتنا وراءنا وجدنا تلك المناعم والمطارب التي كان يكسوها الصبا بهجة ورونقاً وتلوح لعين الشباب بديعة رائعة جميلة قد عادت في عين الشيخوخة غثة تافهة حقيرة وعلى ذلك أن ملاذ حياتنا قد بليت ورثت وذهبت في فيافي الزمن أو لعلها قد حولت نحونا جوانبها المقفرة ونواحيها الجدبة الموحشة. أو لعل ما كابدناه من ضرباتها المتولية وصدماتها المتواترة قد أوهنتنا. ونهكتنا وأبلتنا فلم تترك بنا رغبة أو ارتياحاً لملاقاتها بعين الذكرى. ولا غرو فأي لذة في استثارة الأدواء الكمينة ونبش الأوجاع الدفينة فمن ثم ترانا لا نريد أن نجدد شبابنا كما تتجدد للظى السعير جلود أهل جهنم فحسبنا ما جرى وكفانا. فدع الشجرة الساقطة لات تقمها. وأغلق الكتاب واختم الحساب لا تفتحه ولا تفض ختامه آخر الأبد.
وقد شبه بعض الشعراء الحياة باستكشاف طريق كلما تقدمنا به ازداد ضيقاً وظلمة ولم يترك لنا مجالاً للرجوع فيه من حيث أتيناه، وفي نهايته نختنق لانبهار النفس على أني شخصياً لا أشتكي كثافة الجو كلما دنوت من النهاية ولكني أشتكي قلة الأنيس وفقد العماد(50/45)
والمستند. فياويلتا إني أمد يدي أبتغي ما أركن غليه وأتشبث به فلا أجد، بل أراني في عالم من المعنويات، أرى خريطة الحياة تنشر عارية خالية أمامي وأرى شبح الموت يتمشى في القفر الخراب لاستقبالي لقد كنت لا أبصر ذلك الشبح في صباي لتزاحم أفواج المرئيات والعواطف على قلبي وبصري ولاعتراض شخص الأمل بيني وبين الشبح المخوف يقول لي (لا تكترث لذلك الشيخ الهرم ولا تحفل) أما وربك لو كنت عشت عيشة سعيدة رغداً لما حفلت بالموت ولا باليت. ولكن كيف لا أحفل بالممات ولا أبالي وما قضيت من عيشتي وطراً ولا بلغت أملاً. لقد خانتني الآمال الكذابة وخدعتني الأماني الخلابة ثم راحت وهي تسخر مني وتهزأ وإني ليعز علي أن أترك الحياة ولم أر الإنسانية تظفر بأقل ما كنت أرجو لها في صباي من الأوطار والمآرب، أو ترقى إلى أدنى ما كنت أبغي لها من منازل السمو ومراتب الكمال كما أني لا يسرني أن أموت ولم أترك ورائي مؤلفاً جليلاً أو مصنفاً سامياً نبيلاً. وبودي فوق ذلك أن ألقي لدى فراش الردى إذا جاءت سكرة الموت وأخذ الحمام بالكظم صديقاً صدوقاً ورفيقاً رفيقاً يشيع جنازتي ويحثو تراب حفرتي. فبهذه الشروط ألقى الحمام مستسلماً إن لم أكن مرتاحاً وأكتب على قبر (شاكرٌ راضٍ) ولكني قد قتلت نفسي تفكيراً وتأملاً فيعز علي أن يذهب كل هذا التفكير والتأمل ضياعاً. وإني إذا استدبرت ماضي خيل إلي كأنما قضيت عمري نائماً في حلم علىسفح جبل العلوم حيث جعلت أتغذى بالكتب والأسفار والآراء والأفكار لا يصل مسمعي من ضجة العالم وجلبة الإنسانية المحتشدة في الحضيض إلا صدى أقدامهم ودوي ضوضائهم فلما انتبهت من هذه الحالة المبهمة (الشفقية) بضجة موكب الإنسانية السائر تحت قدمي آنست رغبة في النزول إلى عالم الحقائق للدخول في حلبة ذاك السباق، ولكني أخشى أن يكون وقت ذلك قد فات وأنه أولى لي أن أعود إلى خيالاتي الكتيبة وأحلامي المدرسية. وما لي ولأهل هذا العالم لست منهم ولا هم مني وما كنت لأروعهم بغرابة منظري وشذوذ فكري وإني كأصحاب الكهف لو طلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً.
ليس عجيباً أن ادكار الموت وتأمل معناه يصبح أكتر تردداً على خواطرنا كلما ازددنا منه دنواً وإن عباب الحياة يزداد جزراً وانكشافاً كلما برد في عروقنا دم الشباب وجف فيه معينه. وأنه كلما أبصرنا جمع ما يكتنفنا ويحيط بنا من الكائنات عرضة للطوارئ(50/46)
والظروف والصدف وصروف الزمان وتقلبات الحدثان، وكلما رأينا قوانا تخور ومحاسننا تزول وآمالنا تبيد وشهواتنا تموت وخلاننا تدرج فتقبر - كلما رأينا ذلك دبت إلينا تدريجياً فكرة الفناء وبدأنا نشعر أننا هالكون.
في الذاهبين الأول ... ين من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
أرى الناس يضيفون إلى مخافتهم الطبيعية من الموت نوعاً من الألم لا لزوم له ولا ضرورة - وأعني بذلك ما يظهرون من التوجع للفجيعة التي ستصيب أهلهم وأقاربهم لفقدهم إياهم. فلو كان الأمر مقصوراً على هذا فجدير بنا أن نريح أنفسنا من هذه الوجهة فإن مصاب أهلنا لموتنا أخف وأهون مما نتصور ولقد رأيت أن ما يكتب عادة على قبر الميت من أمثال هذه العبارة (تعزوا ولا تحزنوا علي يا أولادي الأعزاء ويا زوجتي الحبيبة) يعمل به دائماً وذلك أننا لا نترك بموتنا في المجتمع ذلك الفراغ الهائل الذي تخيله إلينا أنانيتنا تعظيماً لأنفسنا الضئيلة وتعزية لها بما توهمنا من اهتمام الغير بنا واكتراثهم لنا. أجل إن الفراغ الذي نتركه حتى في أسرتنا ليس من العظمة كما نحسب. فلقد رأيت الثلمة تسد والجرح يندمل في أقرب مما نتوهم.
سيعرض عن ذكري وتنسى مودي ... ويحدث بعدي للخليل خليل
بل أعجب من ذلك أن الفراغ الذي نتركه ربما عدا أحياناً في نظر الأسرة أفضل وأنفع من وجودنا وما أحكم ما قال الشافعي في هذا المعنى:
ستألف فقدان الذي قد فقدته ... كإلفك وجدان الذي أنت واجد
ألم تر إلى الناس كيف يظلون رائحين في الطرقات والشوارع في غد يوم وفاتنا كما كانوا يفعلون في أمسه والمجتمع بحاله وعلى عهده لا يرى فيه أدنى نقص ولا يحس. لقد كنا ونحن أحياء نحسب أن الدنيا لم تخلق إلا لنا، وأن الأرض لم تأخذ زينتها وزخرفها إلا لتقر أعيننا، وتشرح صدورنا، والسماء لم ترصع بسبائك اللجين ولم تزين بمصابيح الفلك إلا(50/47)
لتبهج نفوسنا وتنير سبلنا. وإن كل ما في الكون وكل ما تقل الغبراء وتظل الخضراء لم يوجد إلا لمنفعتنا ولذتنا فما بال العالم كعهده وعلى حاله بعد ما سكت نبضنا وعدنا جثة هامدة وجمرة خامدة لقد زلنا وما زالت من النجم لمعته ولا من الروض نضرته.
أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
إن الطبيعة لا تحزن وكذلك الجماهير الجماعات لا رحمة عندها ولا حنان ولا رثاء. وأنها لا تأبه لي ولا لك كما لو كنا من سكان المريخ أو أهل القمر. وليس عجيباً نسيان العالم إيانا عقب مغادرتنا مسرح الحياة لأنهم لم يكادوا يشعروا بنا ونحن فوقه وليس الأمر مقصوراً على أن أسماءنا لا تعرف في بلاد الصين بل الحقيقة أنه لم يسمع بها في الشارع المجاور لنا ولا في الزقاق المصاقب. فإذا كانت هذه منزلتنا لدى المجتمع الإنساني ونحن أحياء فماذا عسى تكون منزلتنا عنده ونحن عظام نخرة ورمة بالية. وما كان (لحفنة من التراب) أن تثور في وجه العامل لأنه لا يأبه لها، أو تشاحن الملأ وتقاتله لأنه لا يشعر لوجودها. ولو أن لها لساناً ينطق لقالت (أيتها الدنيا اذهبي لشأنك! دوري دورتك في الأثير الأزرق وتشكلي لكل عصر شكلاً وتلوني لكل جيل لوناً - فلن يكون بيني وبينك اتصال أو احتكاك البتة).
إن ما يبديه الناس من هذا التشبث الصبياني بالحياة من حيث هي فكرة ومعنى إنما هو نتيجة هذه المدنية الحديثة المصطنعة، فلقد كان الناس في القديم يغشون ساحات الحروب ويغامسون القحم والأهوال والمهالك ويخاطرون بالأرواح لأدنى سبب وأتفه عله ويلقون بأنفسهم في المتالف من أجل غرض فذ أو بغية واحدة فإذا لم يظفروا بها عادت الحياة وهي عبء فادح عليهم ونكبة ومصيبة لا تطاق ولا تحتمل. أما الآن فقد تغيرت الحال. وأصبح جل همنا من الحياة وأقصى بغيتنا من العيش هو التفكير والتأمل، وعاد أهم ملاهينا وشهواتنا هو قراءة الروايات والأشعار والقصص الجديدة - وهذا ما نستطيع إتيانه على مهل وفي هينة وتحت ظلال الأمن والسلام والطمأنينة.
ونحن إذا نظرنا في قديم التواريخ والقصص قبل أن يؤثر الأدب الحديث تأثيره في شؤون البشر وأحوالهم بإدخال روح الفتور والبلادة عليها - رأينا أن الأبطال والبطلات كانوا يرتقبون الفرص للمخاطرة بأرواحهم بغير باعث سوى مجرد احتدام نار الحمية والحماس(50/48)
في قلوبهم. وما يجيش بنفوسهم من حميا الفتوة وغلواء البأس والمراح والهمة. لقد كان أولئك الأبطال يتمادون في ولوعهم بأمر ما ويلجون في شغفهم بوطر من الأوطار حتى يبلغوا بهذا الولوع والشغف أقصى درجات الجنون فيبذلون في سبيل إدراكه كل غال ونفيس من مال وروح إذ يرون كل ما عداه بخساً خسيساً بل حثالة ونفاية. فهم يتهافتون على سرير الموت كأنه سرير العرس. ويضحون بلا أدنى تأسف ولا تندم أنفسهم وغيرهم على منسك (مذبح) الغرام أو الشرف أو العقيدة أو غير ذلك مما يكون قد تملك قلوبهم من الوجدانات والعواطف. ألم تر إلى روميو كيف قذف (بزورقه المتعب المنهوك) على صخرة الموت لما رأى أنه قد فقد معشوقته جولييت وكيف طوقته هي بذراعيها في سكرة الموت وتبعته إلى ساحل الفناء. لقد كانت الفكرة تستولي على نفس الرجل فتستبد بها وتطرد كل ما عداها - ثم تصبح الحياة - بدون تحقيق تلك الفكرة - شيئاً تافهاً غثاً بل بغيضاً كريهاً. ورأيي أن مثل هذه الحياة أشرف وأجل من حياتنا لأن فيها من قوة الخيال وحدة الشعور والإحساس وصرامة العزيمة وشدة الجرأة على المخاطر والأهوال ما لا نظير له في حياتنا الموصومة بالجبن والحذر والنكوص والنكول والفتور والتراخي وحب البقاء من أجل ذاته الحقيرة الخسيسة القليلة القيمة. وإنه لخير لنا وأكثر بطولة أن نرمي إلى غرض جميل أو جليل فإذا أخطأنا المرمى وبؤنا بالفشل والخيبة تحملنا تبعة مخاطرتنا بجلد وقوة ورجولة - من أن نجدد عقد إيجارنا لحياة متعبة مضجرة مسئومة مملولة خالية من المتاع واللذة ومن السحر والفتنة قد يجوز أن نخسرها بعد ذلك في مشاجرة مرذولة من جراء غرض خسيس عديم القيمة، أفلا ترى فيما وصفناه من الاستخفاف بالموت والجرأة على مهاجمة شيئاً من روح التضحية والاستشهاد ونوعاً من سطوة التوحش وعرام الهمجية المعجبة الرائعة؟ ألم يكن للدين دخل في ذلك؟ - وما بالك بتلك العقيدة الخالصة التي تملأ المرء يقيناً بحياة آخرة تتضاءل إزاءها الحياة الدنيا حتى ترى المجاهد أو العاشق أو الفارس يهون عليه أن يخلع هذا الرداء الترابي ويلقي بروحه العارية في أحضان الأبدية وهذا ما يحجم عنه الفيلسوف العصري شكاً وريبة. وجبناً ورهبة مع كل ما يفخر به من حكمته ولبه وقضاياه المنطقية ونظرياته الفلسفية - أسلحة عاجزة يصبح بفضها أضعف قلباً وأوهن ركناً من المرأة. وخلاصة القول أن أحسن دواء لمخافة الموت هو أن يقدر(50/49)
الإنسان حياته حق قدرها. فإذا كان جل همه من البقاء هو التمادي والاسترسال في أهوائه المتقلبة الطائشة الجائرة وشهواته القذرة الأليمة المضادة فأولى له أن يمضي على عجل وإذا كان حبه الحياة لما ينشد من خيرها ويرجوا من نفعها فلن يجد في فراقها شديد عناء ولا كبير ألم.
وليم هازلت
إلف هذا الهواءِ في الأنف ... س أن الحِمامَ مُرُّ المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق
المتنبي(50/50)
باب الزراعة
آلات زراعية جديدة
احتفلت شركة مهنا ومجيد لتوريد الآلات الميكانيكية - والكهرباء - يوم الأحد 28 سبتمبر سنة 1919 في التوفيقية في أملاك سعادة علي باشا مهنا بتجربة سيارات للحرث بحضور جم غفير من العظماء يتقدمهم سعادة فتحي باشا الوزير السابق وسعادة خيري باشا مدير البحيرة سابقاً ومفتشو دائرة سمو الأمير عمر طوسون الذي له اليد البيضاء في مساعدة المشروع والسيد حسين القصبي وعميد عائلة وار بالبحيرة وسعادة عبد الحمد بك الصحن مفتش المالية ومهندسو الشركات الأجنبية وكثير من المزارعين.
وبعد تجربة السيارات وظهور نجاحها أمام الجمهور مدت الموائد وألقي بعد ذلك محمد علي بك مهنا كلمة شكر للحاضرين ثم تبعه الأستاذ عبد الله أفندي عبد المجيد وألقى المحاضرة الآتية ننقلها بفصها ونصها لأهمية موضوعها من الوجهة العلمية.
المحاضرة
أيها السادة:
إني أضم صوتي لصوت زميلي محمد بك علي مهنا في شكر سمو الأمير عمر طوسون لاهتمامه بمشروعنا وشكركم، وأتمنى أن تعيروني آذانكن لحظة حتى أسيح معكم في عالم الحياة الجديدة للزراعة.
لا أود أن أذهب بكم إلى الماضي، فنحن ما زلنا نعيش فيه. وما علينا إلا أن ننظر إلى محاريثنا وطريقة بذرنا الأرض. وحصدنا النبات، ودراستنا للقمح نحن أيها السادة لا نزال مع الماضي ولم نفتح الحياة الجديدة لمصر اللهم إلا لنفر قليل من المزارعين العقلاء المستنيرين.
أريد أن أبحث معكم الآن من الوجهة الزراعية المحضة في حياتنا الحالية لأبرهن لكم أن خصوبة أرض مصر التي تغنى بها اليونان والرومان والعلماء الزراعيون الحاليون هي فوق ما يقولون، وإنما ينقصها تطبيق النظريات العلمية والعملية حتى تجود بالنضار الكثير. وتفيض على العالم من خيراتها كما كانت تفيض عليه من قبل.
لمَ تُحرث الأرض أيها السادة؟(50/51)
ليست الأرض كما يتوهم البعض بجماد وإنما هي مسكونة بملايين من المخلوقات الحية. هذه المخلوقات المكروسكوبية هي التي تساعد على نمو النبات، وطبخ السباخ وتهيئته طعاماً سائغاً له. وكلما زاد عدد هذه المخلوقات زاد عملها. وأفادت الأرض وزادت الخصوبة.
الطريقة التي تزيد عدد هذه المخلوقات هي الطرق التي نطلبها نحن بني الإنسان أنا نطلب هواء جيداً ونوراً ساطعاً وشمساً تنقي الجو.
كيف نصل لذلك؟
بالحرث، إن المحراث الجيد هو الذي يقلب عالي الأرض سافلها، حتى تنقلب الأرض التي كانت معرضة للشمس، وتحل محال الأرض التي لم تكن كذلك لتصير الطبقة الزراعية موطناً صحياً للحيوان والنبات الذي يسكنها.
والمحراث المصري الذي بين أيدينا لا يقلب الأرض جيداً. فالحرث إذن ناقص نقصاً هائلاً من الوجهة العلمية العملية التي تنطبق على الشروط التي تزيد خصوبة الأرض وفوق ذلك أن المحراث البلدي لا يقاوم صدمة الأرض. وليس بالسهل إيجاد حراث ماهر. والدليل على النقص الهائل في تركيب محراثنا هو أن المزارع مضطر أن يحرث الأرض مرتين وثلاثاً حتى يمر المحراث بكل جزئيات الأرض. وانظروا كم من الوقت يضيع في هذه العمليات.
ما هو المحراث الذي يصل بنا للدرجة القصوى من المحصول؟
هو المحراث الذي يقلب الأرض جيداً، ولا يمنعه جفاف الأرض عن السبر ويمكنك أن تحرث به على أي عمق تشاء، وفي الوقت نفسه يقضي على النباتات الضارة باستخراجها من جذورها. ويدفن السباخ إلى الطبقة الأرضية حيث تجدها جذور النباتات بسهولة. ويحفظ المياه في باطن الأرض حتى إذا تأخرت المناوبات وجد النبات من رطوبة الأرض منهلاً عذباً. ويزيد سمك الطبقة الزراعية فلا تكون الأرض خفيفة بل سمينة. خصبة. جيدة.
ثم يمكنك أن تحرث بسرعة هائلة فتقتصد في الوقت، بمعنى أنه يمكنك أن تحرث به عقب الحصاد فلا تنتظر المناوبات لحرث أرض الذرة، وتحرث به القطن بسرعة تمكنك من أخذ(50/52)
بطنين من البرسيم بدل بطن واحدة، وبالاختصار يمكنك أن تبكر في زراعتك وأخيراًُ يعرض الأرض للشمس جيداً فتقتل الحرارة الميكروبات التي تضر النباتات والبويضات المختفية التي تنتظر الوقت الملائم فتفقس وتزحف على النبات فتضره، هذه المحاريث التي رأيتم تجربتها تعرض الحشرات والميكروبات إلى التغيرات الجوية التي لا طاقة لها بمقاومتها فتموت في أقرب وقت.
هذا أيها السادة - من الوجهة الزراعية - بعض فضائل المحراث الذي رأيتم تجربته بأعينكم وليس هذا كل ما هنالك وإنما هناك فوائد اقتصادية جمة، منها:
(1) سرعة الحرث.
(2) الاقتصاد الهائل في قيمة حرث الفدان إذ لا يتكلف أكثر من خمسين غرشاً صاغاً مع احتساب استهلاك ثمن الآلةى وجميع النفقات.
(3) استعمال السيارة في جر المحصول من بلد لبلد إذ يمكنها أن تجر من طن ونصف إلى ثلاثة أطنان حسب قوة الآلة المحركة.
(4) استعمال السيارة في إدارة مكينة للدراس أو طلمبة مياه. . الخ.
ليس كل النجاح الزراعي في الحرث الجيد الاقتصادي وإنمال هناك أشياء أخرى مفيدة ولازمة من الوجهة الزراعية الاقتصادية التي تنمي قوة الإنتاج: ستنشر بقية المحاضرة في العدد القادم.(50/53)
الذباب المنزلي
يوجد الذباب المنزلي في جميع أنحاء الدنيا بقرب المساكن، ويضايقنا كثيراً وبخاصة في فصل الصيف حيث يتغذى بالعرق. وزيادة على ذلك أن الذباب ينقل إلينا جراثيم أمراض معدية كثيرة فهو أكبر الوسائط في نقل جراثيم الحمى التيفودية التي ينقلها نقلاً ميكانيكياً، إذ من المعلوم أن هذه الجراثيم توجد في براز المصابين. والذباب يتغذى بالبراز، فتعلق الجراثيم بأرجله وفمه، وعندما ينتقل ويقف على أي طعام يترك عليه هذه الجراثيم وبعد أن يأكلها السيء الحظ تظهر عليه أعراض المرض.
الذبابة حشرة صغيرة لونها أردوازي ورأسها أسود وتضع بيضها وسط القاذورات وأكوام الأسمدة وغيرها من المواد المتحللة حيوانية أو نباتية وبعد يوم أو اثنين يفقس البيض وتعيش اليرقات في الوسط المتقدم الذكر بشرط أن تكون به بعض الرطوبة، وبعد أسبوع أو أقل يتم نموها وتتحول إلى عذارى في المواضع نفسها، والعذراء بيضية تقريباً حمراء وبعد أربعة أيام أو خمسة تخرج منها الذبابة، ويتغذى الذباب بالمواد المتحللة السائلة وببراز الحيوانات والإنسان وكذلك بالمواد الصلبة كالسكر وذلك بكونها تنزل عليه لعابها فيذيبه ثم تمتص هذا الجزء السائل.
طرق المقامة: الذباب من أكثر الحشرات خطراً في نشر الأمراض المعدية وهذا زيادة عن مضايقته لنا فلذا يجب العمل على مقاومته بإعدام الوسط الذي يعيش فيه. (1) يفضل الذباب المواد المتحللة السائلة أو النصف سائلة ولذلك يجب تغطية أكوام السماء بطبقة جافة من الأرض ونثر قليل من الجير عليها. (2) بما أن انتشار الذباب بكثرة هو نتيجة عدم اتباع الطرق الصحية في القرى وغيرها يجب الامتناع عن التبول أو التبرز في الطرق حيث تكون معرضة للذباب بل يجب اتخاذ محال خاصة بعيدة عنه. (3) يجب ألا ترمى زبالة المنازل في الشوارع بل توضع في صناديق خاصة ذات أغطية إلى أن يأخذها الكناسون وليست صناديق الزبالة الموجودة الآن في شوارع القاهرة من غير أغطية. (4) تستعمل في المنازل مصائد للذباب منها ورق مغطى بطبقة لزجة يلتصق عليها الذباب عندما يلامسها وذلك لتقليل عدده في الحجر.
نعمان محمد(50/54)
أستاذ علم الحشرات في مدرسة الزراعة العليا(50/55)
تفاريق
يقول العقلاء:
ـ إذا أردت أن تكون عظيماً فاعتن بصغائر الأمور.
ـ لا ينزعن أحدكم إلى الكسل فإنه مجلبة للشقاء.
ـ من أحسن عمله أحسن إليه عمله إن عاجلاً وإن آجلاً
ـ من بذل قصارى جهده فقد عمل كل شيء. ومن فعل دون ذلك لم يعلم شيئاً.
ـ ليكن اجتهادك في التقرب إلى من هم دونك أكثر من اجتهاد في التقرب إلى من هم أعلى منك.
ـ تأنيب الضمير دليل على الحياة الحقة.
انتحار الحيوان
هل حقيقي أن الحيوانات تتعمد الانتحار للتخلص من الحياة؟
بينما يجيب بعض العلماء على هذا السؤال بأنه خرافة لا معنى لها لأن تعمد الانتحار للتخلص من الحياة يدل على أنت المنتحر يعلم ماهية الموت ويدري عواقبه نجد آخرين يذهبون إلى أن الحيوانات التي قد تدفعها العوامل إلى قتل نفسها ويدلون في ذلك بالحجج والبراهين.
فمن ذلك ما حدث به رجل إنجليزي كبير يدعى المستر م. بريجز حيث قال:
في يوم من أيام مايو سنة 1902 كنت مقترباً من مدينة ويانه عائداً من بودابست على ظهر سفينة تجارية صغيرة، وبينا نحن نسير في قنال الدانوب أبصرنا رجلاً يسوق جوادين قد نال من أحدهما التعب وأخذ منه النصب كل مأخذ، ولكن السائق القاسي أخذ يجبر الجواد على متابعة السير بأن يضربه على أنفه ضرباً أليماً متبايناً حتى ضاق الحيوان المسكين ذرعاً وأفلت من جلاده هذا ورمى نفسه في الماء أمام الباخرة. وإني ككثير غيري ممن شاهدوا الحادثة أعتقد أن الجواد التعس ما زال واضعاً رأسه تحت الماء حتى غرق.
ومما يروى أيضاً أن غزالين تناطحا في جنينة الحيوانات بباريس تناطحاً عنيفاً هائلاً دام نحواً من نصف ساعة ثم انتهت المعركة بهزيمة أحدهما. . قال الحارس الذي رأى الحادثة رأي العين أنه دهش لما رأى الغزال المقهور وقد جرى إلى البركة ثم غمس رأسه في(50/56)
الطين حتى مات كأنه آثر الموت على العار.
والأمثلة غير هذين عديدة كلها من الغرابة بحيث لا يكاد يصدقها إلا من رآها فإن صحت كان ذلك ولا شك تقدماً عظيماً في عواطف الحيوانات.
مدير الفرقة (مغضباً): لماذا تبتسم عندما تسمع حديث الموت؟
الممثل: إن العناء الذي نلاقيه ف هذه الأيام والأجور التي نتقاضاها منك تجعلني أعتقد أن الموت (أفكه) وسيلة للتخلص من الحياة.
- ما أشد عناد الأطفال، فقد ذهبت بولدي إلى المصور فجلس أمامه كئيباً لا يبتسم بالرغم من أنني نهيته عن ذلك وضربته ثلاث مرات فإنه ما زاد وجهه إلا كآبة وتقطيباً.
قال امرأة لزوجها وهما أمام قفص القردة في حديقة الحيوانات:
- انظر إلى هذا القرد ما أعظم مشابهته للإنسان.
فأجابها: حقاً إنه يشابهنا كثيراً.
الحيرة والارتباك
هما من أصعب العقبات التي تحول بين المرء وبين نجاحه وتقدمه في الحياة وفضلاً عن أنهما يسممان المخ وينهكان الأعصاب فإنه يستحيل على القوى العقلية إزاءهما أن تعجل بالانتظام المطلوب.
وما الحيرة والارتباك سوى أن يظل المرء يكرر الفكرة الواحدة المرة بعد المرة دون أن يصل إلى الحل المرضي أو النتيجة المقصودة، فإذا اعترض المصاب بهذا الداء شيء أحزنه مثلاً! وضعه نصب عينيه وجعل يتأمل فيه ويتأمل، غير مجتهد في إعمال الفكرة ليستنبط وسيلة تخرجه من المأزق الذي هو فيه. وبذلك تخيم على عقله الظلمة والجمود ويتسرب إلى نفسه اليأس والقنوط، وهذا ولا شك يضر الجسم جميعه أبلغ ضرر إذا استرسل المرء فيه.
على أنه في استطاعة الحائر المرتبك أن يشفي نفسه من هذه العلى الخبيثة وذلك المرض العضال، والسبيل إلى ذلك هو أن يريح المرء عقله فلا يجهده البتة في التفكير إذا رأى أنه غير مهتد إلى الطريق القويم وأن يقصي كل فكرة سيئة تحاول أن تتسرب إليه وأن لا يفتح أبواب مخه إلا إلى الخواطر العذبة الجميلة.(50/57)
فمثلاً إذا أرادت فكرة مجنونة أن تتسرب إلى عقله فليطردها وليلفته إلى وجهة أخرى يرى منها العالم جميلاً مشرقاً.
* *
الرجل (وقد أوشك أن يقوم القطار): يا أسطى! ألا يمكنك أن تسير أسرع من ذلك؟
سائق العربة: نعم يمكنني ولكنني لا أريد أن أسبق العربة.
* *
هام غني كبير بممثلة غاية في الجمال، وفي ذات يوم بينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث، طلبت الفتاة منه أن يخبرها كم عمره بالضبط، فلم يدر ماذا يقول وغير مجرى الكلام: وبعد أن انصرفت أخبر صديقاً له بما كان وقال له:
هل هناك عاب علي إذا أنا لم أطلعها على الحقيقة؟ فأنا أبلغ الآن 69 وأريد أو أوهمها بأن عمري 49 لا غير فما رأيك؟
فأجابه صديقه: رأيي أنك إذا كنت تريد منها أن ترضاك زوجاً فخير لك أن تخبرها أنا في التاسعة والثمانين.
* *
كان فتى وفتاة يتحادثان فقال الأول أن في استطاعة الشاب أن يقبل أي فتاة سواء رضيت أم لم ترض. فعارضته صاحبته على ذلكن وطال الجدال والأخذ والرد في هذا الموضوع وأخيراً اتفقا على أن أحسن طريقة لحسم النزاع هو أن يجربا المسألة فعلاً فقاما إلى بعضهما وما هي إلا برهة وجيزة حتى انتصر الفتى وأخذ يقبل الفتاة تقبيلاً حاراً. ولما انتهى قامت الفتاة وقالت:
لقد أخذتني على غرة. . هيا بنا نجرب مرة أخرى!.
ٍ * *
لاحظ كثيرون ممن رأوا المسيو كليمانصو في مؤتمر الصلح أن له عادة لا يغيرها أبداً: وهي أنه يظل لابساً قفازاته أثناء الجلسات وإذا ما جلس على كرسي الرئاسة وضع يديه على المنضدة أمامه. وسواء أدامت الجلسة خمس دقائق أم خمس ساعات، فإنه لا يرفعهما.
* *(50/58)
تنمو أظافر الأصابع بمعدل 1/ 32 من البوصة أو 0. 8 من الميلمتر في الأسبوع فإذا عاش المرء سبعين سنة تجددت أظافره نحو 186 مرة.
* *
تكثر ولادة التوائم (جمع توأم) في الممالك الباردة أكثر منها في البلاد الحارة، وفي النساء بين الخامسة والعشرين والثلاثين أكثر من غيرهن.
* *
رأى بخيلاً صديقاً له وقد فتح المروحة فتحة صغيرة جداً وصار يهوي بها على وجهه، فقال له لم ذلك فأجابه: إني بهذه الطريقة جعلت المروحة تعيش عشرين سنة للآن وستعيش مثلها إن شاء الله. فقال البخيل إن مروحتي عاشت ثلاثين سنة وستعيش مثلها مع إني فتحتها كلها:
ـ وكيف ذلك؟
ـ ذلك لأني أفتحها ثم أحرك وجهي أمامها ولا أحركها هي.
* *
حمير تلبس البنطلونات
هل رأيت في حياتك حماراً يلبس بنطلوناً؟ أظن كلا، ولكنهم يقولون أنه منظر عادي في جزيرة صغيرة عند ساحل فرنسا تجاه حديقة روشل.
فأهالي هذه الجزيرة يشتغلون غالباً في المياه المالحة لاصطياد الحيوانات الصدفية مثل (أم الخلول) ولما كانوا يستخدمون الحمير لنقل ما يستخرجون جعلوا (البنطلونات الطويلة) لأرجلها يربطونها إلى ظهورها بواسطة حبال وذلك لوقاية الحيوانات المسكينة من التهابات الأملاح ولدغ البعوض ونوع من الذباب يضايق الحيوانات مضايقة شديدة فلا بد أن يكون منظرها جميلاً.
* *
السيدة: من الغريب أن الخادمة غادرت المنزل ولم تترك لي كلمة واحدة.
صاحبتها: هذه أحسن بكثير من خادمتي لأنها غادرت المنزل ولم تترك لي ملعقة واحدة.
* *(50/59)
- أصحيح أن دواء الدكتور فلان نافع مفيد؟
- نعم إن اتبعت ما كتب عليه بالظبط!
- وما ذلك؟
- تكون الزجاجة محكمة القفل دائماً.
* *
قالت إحدى الأمهات الإفرنجيات لابنها الصغير قاصدة أن تؤثر فيه بالكلام اللين: إنك إن لم ترجع عن (شقاوتك) هذه فإنك توجع دماغي فأمرض فأموت ثم يحملونني في العربة إلى المقبرة، فأثرت هذه الكلمات في نفس الولد قليلاً ولكنه ما لبث أن ابتسم ابتسامة مكر وقال:
- هل تسمحين لي أن أركب بجانب العربجي؟
* *
القطط في مصالح الحكومة
تخصص بعض الحكومات مبالغ ليست بالقليلة تنفق على القطط (المستخدمة) في مصالحها لحراسة الأوراق والسجلات من أن تعبث بها الفيران، فإنه لا يتكاد تخلو مصلحة من المصالح من قط (لإبعاد الفيران) كما هو العنوان الرسمي للوظيفة. بيد أنه بمصلحة البوستة بإنجلترا مثلاً (قلماً) كبيراً من القطط تقوم بخراسة الخطابات ليلاً وهم يهتمون أيما اهتمام بغذائها ومسكنها.
أما في فرنسا فإنهم يمرنون القطط على أعمال الحكومة خاصة فيرسلونعها أولاً في إحدى السفن الحربية حتى إذا ما أظهرت الكفاءة في العمل (عينت) في أحد المخازن.
بعض أسباب الطلاق عن الإفرنج
نسرد للشرقيين بعض الأسباب التي تدعو كثيراً من النساء الإفرنجيات إلى أن يقفن أمام القضاء يطلبن فصلهن من أزواجهن ونحن نؤكد للقراء أنها مستخرجة من سجلاتهم الرسمية. يقلن حفظهن الله:
- أنه لم يقدم لي هدي يوم عيد ميلادي.
- إنه يقول أن الكعك جامد (ثم تبكي وتنتحب) كالرصاص.
أإنه يكرر طول النهار نغمة واحدة وهي تي تم. . تي. تم(50/60)
- إنه يدعي أن له الحق في أن يدخن في السرير وقتما يشاء.
- إذا كان ولا بد أن أقول فإن اقتراحه بارد جداً.
- لقد تجاسر أن يقول أن كتشنر ارتقى لأنه كان عاقلاً لدرجة أن لم يتزوج.
* *
الآذان الكبيرة البارزة تدل على أن لصاحبها ذوقاً في الموسيقى. وأما الآذان الصغيرة ذات الزوايا فتدل على أن صاحبها قاس سيء الخلق.
* *
إبادة النمل
إذا أردت أن تتخلص من النمل ومضايقته فاغمس قطعة من الإسفنج في الماء ورش عليها شيئاً من السكر ثم ضعها في المكان الذي يكثر فيه النمل فإذا اجتمع عليها للدرجة الكافية فخذها وألق بها في ماء مغلي ثم كرر العملية.
* *
الأب: ماذا تعلمت اليوم في المدرسة؟
الولد: عرفت كيف أتكلم أمام المعلم بدون أن أحرك شفتي.
* *
كان مدير إحدى الشركات الإنجليزية للتأمين على الحياة يفاخر مدير إحدى شركات التأمين الأمريكية في سرعة إعطاء المبالغ المطلوبة منه فقال الأول:
ـ أننا بمجرد ما نعلم بموت أحد معاملينا نرسل تحويلاً مالياً على أهله فوراً.
فقال الأمريكي:
ـ هذا لا يعد شيئاً بالمرة. فقد كان لنا (زبون) يسكن الطابق الذي فوق مكتبنا في نيويورك. فاتفق يوماً أن هوى من النافذة، فأعطيناه التحويل أثناء مروره بنا.
* *
كتب معلم حساب على (التختة) 92. 7 ولكي يري تلميذه تأثر ضرب هذا العدد في عشرة مسح الشرطة الإعشارية ثم التفت إلى أحد تلاميذه وقال:
المعلم: الآن أين الشرطة الإعشارية؟(50/61)
فأجابه التلميذ بلا تردد: في البشاورة يا فندي.
* *
ذهب ريفي إلى إحدى المدن الكبرى واستأجر غرة في نزل فخم. ولكنه قبل أن يغادر المكان سأل صاحب الفندق عن مواعيد الأكل فقال له:
عندنا الفطور من 6 إلى 11 والغذاء من 11 إلى 3 بعد الظهر والعشاء من 3 إلى 8 مساءً.
فدهش الريفي من ذلك وقال:
ـ إذن لن يكون لديّ وقت أشاهد فيه البلد وأقضي فيه أشغالي.
تمائم شاه العجم
إحداها سقطت من السماء
تحت هذا العنوان جاء في (مجلة بيرسن) ما تعريبه:
شاه العجم الشاب الذي زار إنجلترا وأوروبا لأول مرة في حياته، هو من أشد الناس اعتقاداً بالتمائم والتعاويذ. وأن في حيازته نحواً من مائتين منها. وأغلبها وراثي كان له شأن عظيم في تاريخ أسلافه وأجداده. وأنفس هذه التمائم هي قطعة مكعبة من الكهرمان معروف عنها أنها سقطت من السماء على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ولها خاصية أنها تحمي حاملها من كل مكروه وتبعد عنه الأذى والأخطار ولذا يعلقها الشاه على رقبته في أغلب الأوقات.
وعند الشاه نجمة من الذهب تجعل المجرمين والمتآمرين يقرون بذنوبهم ويعترفون.
وعنده أيضاً سيف به (ماسة) تجعل صاحبها لا يقهر ولا يغلب. . وعنده أيضاً خنجر له خاصية السيف السابق ولكن جلالة الشاه يعتقد أن فيه ميزة أخرى وهي أن الذي يقاتل به يلقى حتفه به أيضاً ولذا تجده موضوعاً في صندوق من خشب الصندل مقفل بكل عناية.
وأغرب ما في تمائم الشاه هو صندوق صغير مرصع بالجواهر يقال عنه أنه من أيام النبي وأنه قد بارك فيه. ويعتقد أن له القدرة في أن يجعل أعضاء الأسرة المالكة يختفون عن الأبصار إذا كانوا عزباً ولكن ليس هنالك ما يثبت أن أحدهم جرب قوة الصندوق من هذه الوجهة.(50/62)
وعند الشاه أيضاً مجموعة جواهر وأحجار كريمة تعد من أثمن وأنفس المجموعات الموجودة في العالم بأسره منها درة على شكل الكمثرى تقدر بنحو 60000 جنيه وهي تكون جزءاً ن التاج الفارسي.
* *
شرعت أمريكا في أن تستخدم الطيارات في أعمال البوليس وأنه لمن المحتمل جداً أن الحكومة هنالك ستضم قريباً أطولاً هوائياً صغيراً لقوة الشرطة الخيالة القائمة على حراسة الفلوات الشاسعة القارسة البرد الواقعة في الشمال الغربي. وبهذا تذلل كثيراً من المصاعب وتخفف كثيراً من المخاطر التي كانت تقوم في وجه أولئك الحراس البواسل.
ومما لا شك فيه أن فكرة وجود بوليس هوائي نافعة جليلة لاسيما في الممالك التي تحدث فيها الحوادث الفجائية في أماكن بعيدة نائية. ويضطر البوليس السري إلى أن يذهب إلى مكان الحادثة فيأخذ منها المعلومات المطلوبة ويرى آثار الجريمة بمجرد وقوعها. . ونحن نرجح أنه لا يمضي وقت طويل حتى نرى حكومات أخرى قد حذت هذا الحذو واتبعت هذا السبيل.
* *
كان ولد يهودي صغير يلعب على شاطئ النهر فسقط في الماء وكاد أن يغرق لولا أن رآه رجل يحسن السباحة فنزل ونجاه بعد جهد جهيد. وبينا كان هذا الرجل يستريح من النصب الذي نال منه جراء هذا المجهود العظيم، إذ برجل جاء إليه وقال:
- أأنت الذي نجيت ولدي من الغرق فأجابه الرجل وهو يلهث تعباً: نهم أنا. فقال اليهودي: وأين برنيطته؟.
* *
أرسل أحد أصحاب المحلات التجارية كاتباً له ليضع خطابين هامين في صندوق البريد بعد أن يلصق على أحدهما ورقة بوستة واحدة وعلى الثاني اثنتين. ولكن الكاتب قبل أن يرمي الخطابين في الصندوق رأى أنه عكس وضع الورق. فصحح الغلطة بحل ترآى له ثم انقلب راجعاً وقص على صاحب المحل ما كان من أمره. فقال له الرجل:
ـ إن هذين الخطابين من الأهمية بمكان فكيف تداركت الغلطة.(50/63)
فأجابه الكاتب: المسألة بسيطة جداً: غيرت العناوين.
* *
كان رجل وغلام يقطعان قطعة من الخشب بمنشار كبير ذي قبضتين فمر بهما رجل لم ير هذه الطريقة من قبل وبعد أن راقبهما وهما يهتزان بعنف كالمعتاد قال للرجل:
ألا تستحي يا رجل وأنت تحاول أن تأخذ المنشار من الولد الصغير؟.(50/64)
مطبوعات
كتاب المواكب
للكاتب الشاعر النابغة جبران خليل جبران
عرفت جبران خليل جبران كاتباً ملهماً، إذا كتب عن الحياة حسبت الحياة تكتب عن نفسها.
غير أني لم أكن أعرفه شاعراً إلا اليوم. حيث ظفرت بكتاب له اسمه المواكب أرسل فيه قصيدتين فضفاضتين، أولاهما على لسان شيخ فان غالب حياة المدنية فغلبته وصارعها فصرعته فأمضى فيها رأياً متبرماً متشائماً أملته عليه تكاليفها التي لا تقف عند حد. والأخرى على لسان فتى غض نشأ في الغابة الحرة الطليقة بين عيونها الثجاجة وجداولها الرجراجة، وجناتها الفياحة، وطيورها الصداحة، فاستقام له من حياته العذبة رأي مستبشر متفائل ينقض به رأي الشيخ في كل أدواره.
مثال ذلك قول الشيخ في الروح والجسم:
وغاية الروح دي الروح قد خفيت ... فلا المظاهر تبديها ولا الصور
فذا يقول هي الأرواح وإن بلغت ... حد الكمال تلاشت وانقضى الخبر
كأنما هي أثمار إذا نضجت ... ومرت الريح يوماً عافها الشجر
وذا يقول هي الأجسام إن هجعت ... لم يبق في الروح تهويم ولا سحر
كأنما هي ظل في الغدير إذا ... تعكر الماء ولّت وأمحى الأثر
ضل الجميع فل الذرات في جسد ... تثوي ولا هي في الأرواح تحتضر
فما طوت شمأل أذيال عاقة ... إلا ومر بها الشرقي فتنتشر
وقول الفتى:
لم أجد في الغاب فرقاً ... بين نفس وجسد
فالهوا ماء تهادى ... والندى ماء ركد
والشذا زهر تمادى ... والثرى زهر جمد
وظلال الحور حور ... ظن ليلاً فرقد
أعطني الناي وغنّ ... فالغنا جسم وروح
وأنين الناي أبقى ... من غبوق وصبوح(50/65)
يتخلل ذلك صور أنيقة من صنع الشاعر تؤدي مناحي شعره أحسن أداء، ومنها ترى كيف تخضع اليراعة والريشة لكف واحدة.
ولا عجب أن يلم جبران بالحياة الطبيعية والمدنية جميعاً فقد عالج الأولى في مروج لبنان والثانية غي عاصمة الأميركان، فهو ربيب الحياتين، وخريج المعهدين.
وربما كانت عبقرية هذا الرجل غريبة في نوعها فلم أعرف فيمن عرفت قبله من العبقريين شاعراً ومصوراً في آن.
وهو من هذه الناحية شاعر مرتين أو مصور مرتين فما أرى الشعر إلا تصويراً والتصوير إلا شعراً كما قلت في رواية لي:
إنما ريشة المصور تحكي ... قلم الشاعر المجيد تماما
هذه لا تني تصور محسو ... ساً وهذا يصور الأوهاما
ولأن نقرأ القصيد نقوشاً ... مثلما تقرأ القصيد كلاما
على أن جبران رغم شاعريته الجياشة المتوثبة لا يخلو شعره من سقط يقع فيه من ناحية اللفظ - فالشاعرية شيء والشعر شيء آخر ـ.
وربما كان ذلك راجعاً إلى اضطلاعه باللغات الأجنبية ومقامه في جو أجنبي.
فطالما احتال على معانيه الشريفة بلفظ سوقي أو منحوت ينبو له الذوق وتشمئز منه اللغة، وهو عيب لو تعهده بالرجوع إلى كتب العرب لأفلت منه.
من ذلك قوله:
فهو النبي وبرد الغد يحجبه ... عن أمة برداء إلا من تأنزر
وقوله:
من أمل بنعيم الخلد مبتشر ... ومن جهول يخاف النار تستعر
فإن في لفظي (الغد) بالتشديد (ومبتشر) لخزياً للشعر ومهانة للشاعر.
هذا عدا الغموض واللحن الشائعين في شعره.
فإذا غضضنا الطرف عن اللفظ وتتبعنا المعنى وحده في كتابه لأكبرنا الشاعر الإكبار كله واقترحنا على الدهر أن يسخر للشعر العربي أمثال هذا الرأس العامر الحافل ليزجي إليه الفينة بعد الفينة موكباً من مواكبه الفخمة. فإن الشعر العربي بحاجة إلى من يقول(50/66)
والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا ... به ويستضحك الأموات لو نظروا
فالسجن والموات للجانين إن صغروا ... والمجد والفخر والإثراء إن كبروا
فسارق الزهر مذموم ومحتقر ... وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر
وقاتل الجسم مقتول بفعلته ... وقاتل الروح لا تدري به البشر
ولما كانت مبادئ الفلسفة تختلف في كل النفوس كان بدهياً أن لا نقر جبراناً على كل ما جاء في شعره من الآراء والمعتقدات كقوله في الدين:
إن دين الناس يأتي ... مثل ظل ويروح
لم يقم في الأرض دين ... بعد طه والمسيح
فإن الدين باق ما بقي في الأرض قلب يخفق
محمود عماد
بوزارة الأوقاف
البيان وهذا كتاب المواكب أهداه إلينا جبران أفندي بواسطة مجلة الفنون التي تظهر في نيويورك - وهو يطلب منها.(50/67)
ملكة الورق
للروائي الروسي الكبير اسكندر بوشكين
ترجمها للبيان الكاتب محمد السباعي
الفصل الأول
أقيمت حفلة قمار في منزل نارموف أحد ضباط فرسان الحرس، وكان ذلك في قلب الشتاء وقد تصرم الليل الطويل حتى إذا كانت الساعة الخامسة صباحاً جلس القوم على مائدة السحور فأقبل الفائزون على الطعام بشهية حادة، وجعل الخاسرون ينظرون إلى ألوان الخوان بعيون شاخصة ذاهلة، ثم جرت الكؤوس وفاضت المدام. فجرت معها جداول الأنس وفاضت ينابيع الكلام واشترك الكل في الحديث.
قال ربي البيت: كيف حالك يا سورين؟
هي على ما تعهد من الخسارة، إني سيء الحظ ولا محالة، / فإني أجيد اللعب وأكتم عواطفي وأربط جأشي ولا أجعل لشيء ما سبيلاً إلى إثارة خاطري وتهييج بالي وتراني بعد ذلك كله أخسر!.
قال أحد الجلوس وأشار إلى شاب مهندس: ما رأيك في هرمان؟ هذا الذي ما راهن ولا قامر قط ولا أمسك الورق بأصابعه. وتراه مع ذلك يسهر يرقب لعبنا إلى الفجر.
فأجاب هرمان: إني أجد في مراقبة اللاعبين لذة ولكني لا أستطيع تضحية الضروري أملاً في نيل الكمالي.
قال تومسكي: إن هرمان ألماني دأبه الاقتصاد ولكن إذا كان في الدنيا مخلوق لا أفهم حقيقته فذلك هو الكونتيس حنة فيدوروفنا - جدتي.
قال الضيوف: كيف ذلك؟
قال تومسكي: لا أفهم سبب امتناع جدتي عن المقامرة.
قال نارموف: لا عجب في ذلك وقد ناهزت جدتك الثمانين من عمرها.
لو كنت تعرف من أمرها ما أعرف لما قلت ذلك.
كلا لا أدري من أمرها شيئاً ي هذا الصدد فخبرنا.
إذن اسمعوا: إنه منذ ستين عاماً رحلت جدتي إلى باريز حيث أحدثت بفتنة جمالها رجة(50/68)
وضجة. فكان الناس يجرون وراءها لاختلاس نظرة أو لمحة إلى الزهرة المسكوفية وكان ضمن عشاقها الوزير الأكبر الكاردينال ريشيليو فقد بلغ من حبه إياه أنه كان يجن بها شغفاً وأوشك من فرط جفائها وقسوتها أن يذبح نفسه. وكان النساء في ذلك الحين يقامرن. فخسرت جدتي في إحدى الليالي مبلغاً هائلاً للدوق دورليان، فلما عادت إلى دارها أخبرت جدي بخسارتها على مائدة الميسر وسألت دفع المبلغ. وكان المحوم جدي ينزل من زوجته الجبارة المتكبرة منزلة وكيل الدائرة من السيدة المطاعة الثرية. فكان يخشاها خشية السبع الضاري. والنار، والسيف البتار، ولكنه لما سمع بتلك الخسارة الفادحة خرج من سجيته وزايله عقله فأحصى خسائرها وأنبأها أنها قد بددت في ظرف ستة أشهر ما لا يقل عن نصف مليون فرنك وأن ضيعتيها العظيمتين - ضيعة موسلو وضيعة سارتوف ليسا كائنتين في باريز وأنه يرفض طلبها بتاتاً. فضربته جدتي على صماخ أذنه بجمع كفها ضربة قاسية ونامت بمعزل عنه تلك الليلة علامة على سخطها وغضبها. وفي الغداة استدعت زوجها وهي ترجو أن تكون تلك العقوبة المنزلية قد أثرت فيه وألانت من شكيمته ولكنها وجدته كأصعب ما كان جماحاً لا يبض حجره ولا تندى صفاته. فشرعت لأول مرة في حياته تناقشه الحساب وتجاذبه أهداب المجادلة والمحاجة وكان شأنها معه قبل ذلك أن تأمر فيطيع وتطلب فيجيب - فأخذت تباحثه وتحاجه وتقدم له العلل والأسباب والشروح والتفاسير أملاً في إقناعه بإفهامه أن الديون ليست كلها سواء ولا يصح أن ينظر إليها بنظر واحد ولا أن تنزل منزلة واحدة من الأهمية والخطورة، وأن هنالك فرقاً عظيماً بين الدائنين إذا كان أحدهما برنساً عظيماً وكان الثاني بقال الأسرة أو خياطها.
كل هذه المجهودات والمساعي ذهبت هدراً وضياعاً على صخرة عناده الصماء كما تتمزق أمواج الخضم على ساحله الحجري. ماذا تصنع جدتي لقد ضاق ذرعها واسود بياض النهار في بصرها. فأخذت تتأمل وتتدبر وتتلمس وجوه الرأي. والحاجة تفتق الحيلة فتذكرت رجلاً نبيلاً كانت عرفته آنفاً ولعلكم سمعتم برجل يدعى سان جرمان وكان يعرف بحدة الذكاء وقوة الشخصية والقدرة على إتيان الكثير من العجائب والخوارق. وكان يزعم أنه اليهودي التائه وأنه مستكشف أكسير الحياة وحجر الفيلسوف وهلم جرا. فكان بعضهم يراه دجالاً. وقال عن المؤرخ كازانوفا في مذكراته أنه كان جاسوساً ولكن مهما قيل عنه(50/69)
وبالرغم مما كان يكتنفه من هذه المزاعم المبهمة وما كان يلفه ويغشاه من ظلمة الخفاء والغموض فلقد كان رجلاً جذاب الحديث فتان المعاشرة محبوباً لدى أعلى الطبقات والدوائر. ولا تزال جدتي حتى الساعة تحمد عهده وتثني أحسن السناء على سالف عشرته وصحبته - وتثور على من يذكره بسوء وينتقص من قدره. وكانت جدتي تعلم أن سان جرمات لديه وفر عظيم ومال كثير - فعزمت على الالتجاء إليه وكتبت إليه تسأله الحضور إليها على عجل. فلم تك إلا هنيهة حتى مثل الشيخ المسن بين يديها فالفاها بأسوأ حال من الحزن والأسى.
فحدثته عن قسوة زوجها ووحشيته بأفظع عبارة وأشنعها وختمت كلامها بأنها قد توجهت إليك بكل آمالها وطرحت عليه ثقل حاجتها وأعباء همها شافعة غليه بما بينهما من صداقة ومودة.
فأطرق سان جرمان مالياً.
ثم رفع راسه فقال: إني لنادر أن أمدك بالمال الذي تطلبينه ولكني أعلم أنك لن تستريحي بعد ذلك أو ترديه إلي وما كنت لأوقعك في هم جديد. بيد إني أعرف وسيلة أخرى لإخراجك من هذه الورطة وهذه هي تمكيني إياك من استرداد خسارتك بواسطة اللعب!
قالت جدتي: ولكني لا أملك يا عزيزي الكونت من المال فتيلاً ولا قطميراً فكسيف أعاود اللعب؟.
فأجاب سنا جرمان: لا لزوم للمال. تفضلي علي بالإصغاء ببرهة.
ثم أفضى إليها بسر غريب يود كل منا لو يشتريه بجميع ما لديه من ثروة.
فبدت علامات الدهشة على وجوه الشبان الضباط الأربعة وأنعموا الإصغاء إلى الرجل بكل جوارحهم.
وهنا أشعل تومسكي متبغته وأخذ يرسل أنفاسها هنيهة ثم استأنف الحديث، قال: في عين هذا المساء ذهبت جدتي إلى فرساي للمقامرة. وافتتح الدوق دورليان اللعب فاعتذرت جدتي عن عدم دفع المبلغ ألطف اعتذار ثم شرعت تلعب ضده. فاختارت ثلاث أوراق فلعبتها واحدة أثر الأخرى فربحت الأوراق الثلاثة للتو واللحظة وبذلك استردت جدتي كل ما خسرته في الليلة السالفة.(50/70)
قال أحد الضيوف: صدفة لا غير!
وقال هرمان: قصة ملفقة وحكاية مخترعة!
وقال ثالث: لعلها كانت أوراقاً معلمة!
قال تومسكي: بجد ووقار: ليس المر كما تزعمون.
قال ناروموف: عجباً لك! تقول ن لك جدة تعرف كيف تختار ثلاث أوراق فائزة على التوالي ولم تستطع للآن أن تستخرج هذا السر مها؟
قال تومسكي: هذا أصعب ما في الأمر وأشقه! لقد كان لها أربعة أولاد أحدهم والدي وكان كلهم مقامر متطرفاً ومع هذا فإنها لم تبح بالسر لأحد منهم على ما كان في ذلك من فائدة لهم ولي. ولكن عمي الكونت إيفان إليتش حدثني الحديث الآتي مؤكداً حالفاً بشرفه على صحته. وذلك أن المرحوم تشابلنسكي - ذلك الذي مات فقيراً بعد تبديه الملايين - خسر في صباه مرة ثلثمائة ألف روبل ربحها منه زوريتش على ما أذكر فطاش لبه حسرة ويأساً. فرثت له عمتي مع فرط قسوتها على المبذرين من الشبان فأعطته ثلاث أوراق وأمرته أن يلعبها على التوالي وأخذت عليه عهد الله وميثاقه أن لا يعاود لعب الورق بعد ذلك ما عاش. فمضى تشابلتسكي إلى خصمه الظافر واستأنفا اللعب فأخطر على الورقة الأولى خمسين ألف روبيل فربحها على الفور. ثم ضاعف المبلغ فربح م استمر على نفس الخطة فاسترد فوق ما كان خسر. .
ولكن قد آن لنا أن ننصرف فالساعة الآن ست ونصف.
الفصل الثاني
كانت الكونتيس العجوز - جالسة في غرفة التواليت أمام مرآتها يكتنفها ثلاث وصائف إحداهن تحمل علبة الأحمر والثانية علبة المداري (دبابيس الشعر) والثالثة تمسك قبعة مستطيلة ذات أهداب وأشرط حمراء زاهية. وكانت الكونتيس قد فقدت كل أثر للجمال وتخلت عن كل ادعاء للملاحة ولكن لم تتخل مع ذلك عن عادات الصبا فكانت تتبع في شأن اللباس الزي الذي كان مألوفاً منذ سبعين عاماً.
وتنفق في مهمة التزيين والتجمل من الوقت والمجهود مثلما كانت تنفق منذ ستين حجة. وكانت تجلس قرب النافذة سيدة صغيرة تشتغل على منسج تطريز.(50/71)
ودخل الغرفة ضابط صغير فقال مسلماً: صباح الخير يا جدتي صباح سعيد أيتها الآنسة ليزا إن لي عندك حاجة يا جدتي.
وما هي يا بول؟
إني أستأذنك في تقديمي إليك أحد أصحابي وفي التصريح لي بإحضاره المرقص ليلة الجمعة.
أحضره المرقص مباشرة وقدمه إلي هنالك. هل كنت عند ب، أمس؟
نعم وقد جرى كل شيء على أحسن منهج من الأنس والصفاء ودام الرقص إلى الساعة الخامسة صباحاً. وما كان أجمل الفتاة إيليتسكايا وأملحها.
وماذا لها من الجمال يا عزيزي وأين منها الملاحة؟ أليست هيب كجدتها البرنسيس داريا بتروفنا حذوك النعل بالنعل؟ أظن البرنسيس وجاورت ربها منذ سبعة أعوام.
هنا رفعا السيدة الصغيرة رأسها وأشارت إلى الضابط إشارة خفية فتذكر إذ ذاك أن لا يجوز مطلقاً إخبار الكونتيس بوفاة أي واحدة من لداتها وأترابها فعض على إصبعه ندماً. بيد أن الكونتيس لم تبد أدنى اكثرات لهذا النبأ.
ماتت ولم أخبر بذلك، لقد عينا وصيفتين في بلاط القيصر في يوم واحد ولما عرضنا على القيصرة. . .
وهنا أخذت الكونتيس تقص للمرة التالية للألف على مسمع حفيديها إحدى نوادر صباها.
ولما أكملت القصة قالت: ادن مني يا بول خذ بيدي فأنهضني من مجلسي ليزانكا! إن علبة السعوط؟
ثم توارت الكونتيس هي ووصائفها الثلاث خلف ستار لإتمام شعائر التواليت وبقي تومسكي وحده مع الآنسة.
قالت ليزافيتا إيفانوفنا همساً: من هو ذاك الذي تريد أن تقدمه للكونتيس؟
ناروموف، أتعريفينه؟
كلا، هل هو جندي أو ملكي؟
جندي.
هل هو في فرقة المهندسين؟(50/72)
كلا بل في فرقة الفرسان وما الذي حملك على الظن بأنه في فرقة المهندسين؟.
فابتسمت الآنسة ولكنها لم تحر جواباً.
وهنا صاحت الكونتيس من وراء الستار: بول ابعث لي برواية جديدة بشرط أن لا تكون من طراز الجيل الحاضر.
ماذا تعنين بذلك؟
أعني بذلك رواية لا يرتكب فيها البطل قتل أبيه أو أمه ولا يرى فيها غريق فإني لترتعد فرائصي من جثث الغرقى.
أمثال هذه الروايات لا تظهر في هذا العصر. أتريدين رواية روسية؟
أتوجد روايات روسية؟ إذا فابعث لي بواحدة يا عزيزي ابعث لي بواحدة.
وداعاً يا جدتي. إني على عجل وداعاً يا ليزافيتا إيفانوفنا وما الذي حملك على الظن بأن ناروموف من فرقة المهندسين؟
ثم انطلق تومسكي.
وبقيت ليزافيتا وحدها في الغرفة. فألقت نسيجها وشرعت تطل من النافذة فلم تك إلا بضع دقائق حتى ظهر أمام بيت في ركن الشارع على الجانب المقابل للنافذة فتى ضابط فاحمر وجه الفتاة خفراً فتناولت نسيجها ثانياً وأكبت على المنسج وفي هذه اللحظة عادت الكونتيس مستكملة اللباس حافلة بالزينة.
قالت الكونتيس: مري الخدم بإعداد المركبة يا ليزافيتا، سنخرج للنزهة.
فنهضت ليزافيتا عن المنسج وشرعت ترتب نسيجها.
ما خطبك يا بنيتي أبك صمم؟ مري بتجهزي المركبة في الحال.
فقالت الفتاة سأفعل فوراً ثم أسرعت إلى ردهة الغرفة.
وهنا دخل أحد الخدم وقدم للكونتيس بضعة كتب من البرنس بول أليكسدروفيتش.
قالت الكونتيس: بلغه عني مزيد الشكر والثناء، ليزافيتا! ليزافيتا! إلى أين تجرين؟
إني ذاهبة لألبس ثيابي.
إن لديك منفسحاً من الوقت يا بنيت، اجلسي ههنا افتحي المجلد الأول واقرأي لي.
فتناولت الفتاة الكتاب وقرأت بضعة أسطر.(50/73)
قالت الكونتيس: ارفعي صوتك ما خطبك يا بنية؟ هل فقدت صوتك؟ رويدك قربي مني هذا المسند القدمي، أدنيه قليلاً، كفى، كفى.
ارمي الكتاب يا ليزافيتا، أي هذر وهذيان، رديه إلى البرنس مع الشكر الجزيل. . ولكن أين المركبة؟.
قالت الآنسة وأطلت في الشارع المركبة مستعدة، كيف بقيت بلا لبس حتى الآ،؟ هذا دأبك لا تزالين تجشميني مشقة انتظارك. هذا ما لا يطاق ولا يحتمل يا عزيزتي.
فأسرعت ليزا إلى غرفتها ولم يمض عليها هنالك دقيقتان حتى شرعت الكونتيس تدق الجرس بأقصى قواها فتبادر الوصائف الثلاث مسرعات إليها من باب وهجم الخادم من الباب الآخر.
فصاحت الكونتيس مغضبة: عجباً لكن! لا تجبن لي دعاء قط كلما ناديتكن خبرن ليزافيتا إيفانوفنا أني في انتظارها.
وهنا عادت ليزافيتا لابسة برنسها وقبعتها.
قالت الكونتيسة: لقد طالت غيبتك يا ليزافيتا ولكن لماذا كل هذا التأنق في اللبس وهذا التبرج؟ ومن يا ترى تريدين اقتناصه بحبائل زينتك وفتنتك؟ وماذا ترين حالة الجو الآن، إنه ليوم ريبح.
قال الخادم: كلا يا مولاتي الجو هادئ ساكن.
إنك لا تدري ما تقول، افتح النافذة، ألا تحس الريح والبرد؟ جرد الخيل من العدة واللجم. لا داعي للخروج يا ليزافيتا. ولم تكوني بحاجة إلى كل هذا التزين والتبرج.
فقالت ليزافيتا في نفسها: ما هذا العذاب الأليم! ويلي من هذه العيشة ثم ويلي.
والواقع أن ليزافيتا كانت في شقوة وبلاء لقد قال شاعر إيطاليا المخلد (دانتي): ما أمر خبز الأجنبي وما أوعر سلعه. ولكن أي مخلوق أعرف بمرارة الاحتياج من الفتاة الشقية المقضي عليها بمرافقة عجوز غنية! نحن لا نقول أن الكونتيس كانت فظة غليظة القلب ولكنها كانت سريعة التقلب والتلون جمة الحالات والأهواء شأن المرأة التي تبطرها النعمة ويفسدها تملق الأتباع وتزلف المتقربين. فضلاً عما جبلت عليه من الطمع والأنانية، فهي في ذلك كسائر العجائز اللائي قد مر بهن أطيب عيشهن وأرغد أيامهن، فنفوسهن تذهب(50/74)
حسرات في أثر شبابهن وأفكارهن لا تزال مع الماضي وليس لديهن أدنى عطف على الجيل الحاضر أو ميل إليه ومجاملة له. وكانت الكونتيس مع ذلك تنغمس في لجة الحياة الأرستوقراطية العالية وتركض في ميادين لذاتها وشهواتها وتمعن في أودية غرورها وباطلها - تشهد حفلات الغناء والموسيقى وتحضر المراقص وتشهد الملاعب والملاهي وتجلس إلى موائد المقامرة فتنتبذ في هذه المحافل ناحية من القوم بزاوية من المكان حيث تقعد مدهونة بألوانها وأصباغها مزملة في ثيابها مكللة بحليها العتيقة الطراز القديمة الزي كأنها حلية من حلي البيت وزخرف من زخارفه ولكنها حلية قديمة قبيحة وزخرف عتيق ممقوت عدمه خير من وجوده.
فكلما دخل ضيف تقدم إليها فحياها بانحنائة شديدة عملاً بآداب المجاملة وجرياً على الأصول المتبعة والتقاليد الموروثة، ثم لا تجد بعد ذلك أحد يعيرها أدنى التفاتة وكانت تقيم الحفلات في دارها فتستقبل أهل البلاد كافة وترعى في ملاقاتهم كل آداب الملاطفة والحفاوة وإن كانت قد أصبحت لا تعرف وجوه الزوار والضيوف ولا تذكر واحداً منها.
وكان لديها عدد كبير من الخدم يجلسون كسالى في ردهة غرفتها وفي غرفة الخدام يزجون الوقت بالثؤباء والمطواء ويصنعون ما يشاؤون ويزدادون على مر الأيام ضخامة وسمناً ويتبارون ويتنافسون في سرقة الكونتيس العجوز بكل جرأة وقحة.
أما ليزافيتا فكانت صحية البيت وشهيدة حوادثه ووقائعه فإذا صنعت الشاي اتهمت بالإكثار من السكر وليمت في ذلك. وإذا كلفت بقراءة الروايات للكونتيس أخذت بهفوات المؤلف وسقطاته. وإذا صحبت الكونتيس في غدوانها وروحاتها ألقيت عليها مسؤولية سوء الجو أو رداءة الطريق. وكان لوظيفتها في خدمة الكونتيس مرتب ولكن كانت تقبض مع تكليف الكونتيس إياه أن تلبس من الثياب ما يلبسه خاصة النساء أعني القلائل منهن.
أما في الحفلات والمجتمعات فكانت تمثل أحزن الأدوار وأشقاها فكان يعرفها كل إنسان ولا يكترق لها أي إنسان وفي المراقص كانت لا ترقص إلا إذا اشتدت الحاجة إلى شريك. وكانت النساء لا يمسكن بذراعها إلا إذا احتجنها لحراسة ثيابهن. وكانت ليزافيتا رقيقة الشعور فكانت تتوجع لسقوط منزلتها وتحس لذلك أشد المضض. كل هذا جعلها تتلهف على من ينقذها من هذه العيشة الأليمة وتتلدد حائرة تلتمس بعينها الحزينة مخلصاً لها من(50/75)
هذا الكرب والضيق. ولكن الشبان والفتيان كانوا يطمحون إلى المثريات من العذارى ويشرئبون إلى ربات الأنساب والأحساب فكانوا يزوون بوجوههم عن ليزافيتا إيفانوفنا مع أنها كانت أجمل ألف مرة ممن كانوا يتهافتون عليهن من الفتيات العاطلات الوجوه من المحاسن والقلوب من العواطف.
وكم من مرة انسلت ليزافيتا المسكينة من المرقص الحافل المزدحم لتخلو بنفسها ولتبكي شجوها في غرفتها الضيقة الحقيرة التي كان جل أثاثها صندوق ومرآة وسرير وشمعة صغيرة ضعيفة اللهب ضئيلة الشعاع.
في ذات صباح: كان ذلك بعد الحفلة الموصوفة في أول هذه القصة بيومين وقبل المنظر الذي فرغنا من وصفه آنفاً بأسبوع - كانت ليزافيتا إيفانوفنا جالسة إلى النافذة تطرز على منسجها فحانت منها التفاتة إلى الطريق فوقع بصرها على فتى من فرقة الضباط المهندسين واقفاً لا يبدي حراكاً يدمن النظر إلى نافذتها فنكست رأسها واستأنفت عملها.
وبعد خمس دقائق أطلت ثانياً من النافذة فإذا بالفتى الضابط لا يزال ثابتاً مكانه. ولما لم يكن من شأنها مغازلة الضباط المارين تحت نافذتها أقلعت عن الإطلال على الشارع واستمرت في عملها ساعتين كاملتين دون أن ترفع رأسها، ثم دق جرس الغداء، فقامت وأخذت تطوي نسيجها ثم حانت منها التفاتة إلى الطريق عفواً فإذا بالضابط لم يبرح مكانه فاشتد عجبها من ذلك. وبعد الغداء عادت إلى النافذة وبها شيء من القلق والاضطراب ولكنها لم تجد للضابط أثراً فصرفت شبحه من ذهنها وتناسته فنسيته.
فلما كانت بعد هذه الحادثة بيومين تهم بالجلوس في المركبة مع الكونتيس أبصرت ذلك الضابط ثانياً وكان واقفاً خلف باب المركبة ساتراً نصف وجهه بياقته الفروية ولكن عينيه البراقتين كانتا تتوقدان تحت حافة قبعته فأوجست خيفة ليزافيتا على أنها لم تدر على ذلك الخوف وأخذت مجلسها من المركبة والرعب يرجف أوصالها.
ولما عادت إلى البيت أسرعت إلى النافذة فإذا الضابط واقف في مكانه المعتاد يديم النظر إليها فارتدت منقبضة واستولت عليها الحيرة والدهشة وتملكها نوع غريب من الشعور لم تفقه له معنى.
ومن ثم فصاعداً لم يمض يوم إلا ظهر ذلك الضابط تحت النافذة في الساعة المعهودة فنشأ(50/76)
بينهما نوع من الصحبة الصامتة والمعرفة الخرساء. فكانت في أثناء جلوسها إلى منسجها تحس دنوه وتشعر باقترابه ثم ترفع رأسها فتنظر إليه وتزداد نظراتها طولاً على ممر الأيام، وكأنما الفتى كان يستأنس بذلك ويرتاح له وكأن عينيه كانتا تنمان عن شكره لها تلك النعمة الجليلة. فكانت ترى بعين الشباب السريعة اللمح الثاقبة النظر تلك الاحمرارة الفجائية التي كانت تصبغ خده الشاحب كلما تلاقت ألحاظهما، وبعد مضي أسبوع بدأت تبتسم إليه. .
لما استأذن تومسكي من جدته في تقديمه إليها أحد أصحابه أخذ قلب الفتاة يخفق بشدة فلما علمت أن ناروموف ليس من فرقة المهندسين تندمت على إفشائها جانباً من سرها إلى تومسكي النزق الخفيف بإلقائها عليه ذلك السؤال.
كان هرمان إبناً لرجل ألماني استوطن روسيا وتجنس بالجنسية الروسية. وكان قد ورث عن أبيه رأس مال صغير. ولصحة اعتقاده بوجوب المحافظة على استقلاله الشخصي واستغنائه عما في أيدي الغير أمسك كل الإمساك عن مساس إيراده الخاص واكتفى بإنفاق مرتبه منصرفاً عن كل أسباب النعيم والترف. وكان فوق ذلك كبير الهمة بعيد المطامح محتشماً وقوراً، وكان لكثرة صمته واحتجازه لا يترك لجلسائه ورفاقه مجالاً للتهكم على بخله وشحه. وكان حاد الشهوات ملتهب الخيال ولكن كان له من القوة والعزم والحزم أمنع وقاية من ارتكاب هفوات الشباب المعتادة فمع فرط ميله للمقامرة لم يمس ورق اللعب طول عمره لأنه كان يرى أن حالته المالية لا تسمح له (على قوله) بتضحيته الضروري أملاً في اكتساب الكمالي ومع ذلك فلقد كان يجلس الليالي الطوال المتولية على مائدة القمار بقلب خفاق يتتبع تقلبات حظوظ اللاعبين وتطورات اللعب.
وكانت قصة الورقات الثلاث قد أحدثت أثراً شديداً في نفسه وأشعلت خياله فجعل يسهر الليل الطويل لا يفكر في سوى ذلك. فقال في نفسه في الليلة التالية وهو يتمشى في شوارع بطرسبرغ: أما لو باحت لي الكونتيس العجوز بسرها العظيم! أما لو خبرتني أسماء الورقات الثلاث الرابحة! لأقدمت على اللعب وارتقبت طالع سعدي.
نعم لا بد لي من التعرف بها والازدلاف إليها لنيل حظوتها - ولو قضت علي الضرورة مغازلتها والتشبيب بمقابحها ومساويء خلقها. . ولكن ذلك يحتاج وقتاً طويلاً والمرأة قد(50/77)
أربت على الثمانين فلا يبعد أن تموت في ظرف أسبوع بل في ظرف ساعات. . كلا! إنما الورقات الثلاث الرابحة ليست سوى الاقتصاد والاعتدال والجد. هذه هي أوراقي الثلاث، فبها أضعاف رأس مالي وأزيد عليه سبعة أمثالي وأنال الخفض والرخاء والسعادة.
وكذلك استرسل هرمان في هذه الخواطر وهو يجوب طرقات المدينة حتى انتهى إلى أحد شوارعها الكبار وأبصر أمامه منزلاً عتيق الطراز واسع الأرجاء وكان الشارع غاصاً بالمركبات الفاخرة وكلها يتجه عند باب تلك الدار المزدان بوهاج المصابيح فتارة ينزل من تلك المركبات إلى أرض الطريق قدم لطيفة لكاعب حسناء وتارة حذاء ثقيل لضابط من الفرسان وأخرى جورب حريري وحذاء رقيق لأحد أعضاء العالم السياسي. وكذلك جعلت الفراء الناعمة والبرانس اللينة معاً تتوالى في نظام متصل مارة إلى ساحة الدار أمام بوابها الضخم الجسيم.
فوقف هرمان وسأل الخفير القائم في زاوية الطريق: من صاحب هذه الدار؟
فأجاب الخير: الكونتيس أـ
فشخص الفتى في الفضاء وتذكر مرة أخرى نبأ الورقات الثلاث المدهش العجيب. ثم أقبل يخطر جيئة وذهاباً أمام الدار يفكر في صاحبته وسرها الغريب.
ولما عاد إلى مثواه وأراد النوم انتابه الرق والسهاد مدة طويلة فلما هوم للنعاس تراءت له في المنام مائدة القمار وعليها أوراق اللعب وأكداس الذهب والفضة والبنكنوت وأُري أنه يعلب ورقة أثر أخرى كلها رابح وأنه يصيب العسجد واللجين والبنكنوت في جيوبه صباً حتى تطفح بهذه النفائس.
ولما استيقظ في الصباح أخذ يتنفس الصعداء على ما قد خسر من تلك الثروة الخيالية. ثم غادر مثواه وانطلق في شوارع المدينة حتى أبصر نفسه كرة أخرى أمام قصر الكونتيس وكأنما اجتذبته إلى هنالك قوة خفية مجهولة. فوقف ونظر إلى النوافذ فلمحت عينه في إحداها رأساً تزينه لمة جثلة سوداء وهو منكس يحنو فوق شيء لعله كتاب أو منسج تطريز.
ثم رفع الرأس فرأى هرمان وجهاً ذا نضرة ونعمة تتألق في صفحته المصقولة عينان سوداوان.(50/78)
في هذه اللحظة جرى عليه القدر المحتوم ونفذ فيه حكم القضاء.
الفصل الثالث
لم تكد ليزافيتا ليفانوفنا تخلع ردائها حتى استدعتها الكونتيس ثانياً وأمرتها ثانياً أن تكلف الخدم بتجهيز المركبة. فوقفت المركبة حيال الباب وتهيأت الكونتيس ووصيفتها للركوب.
في هذه اللحظة بينما كانت السيدة العجوز تحاول الركوب ويعينها على ذلك خادمان سمينان أبصرت ليزافيتا ضابطها عند العجلة فقبض على يدها فأطاش الفزع عقلها وأطار لبها. ثم اختفى الفتى وقد ترك بين أصابعها رقعة صغيرة فأخفتها في قفازها. وبقيت مدة سير المركبة لا تبصر ولا تسمع وكان من دأب الكونتيس إذا ركبت أن لا تزال تضجر رفيقتها بأمثال هذه الأسئلة:
من ذا الذي مر بنا آنفاً؟
ما اسم هذا الكوبري؟
ما هذه الكتابة المنقوشة على تلك اللوحة؟
ففي هذه المرة جعلت الفتاة تجيب على هذه الأسئلة بأجوبة مبهمة سخيفة خارجة عن الموضوع مما أحرج صدر الكونتيسة وأثار غضبها.
فصاحت قائلة: ما خطبك يا فتاة وماذا دهاك؟
هل زايلك عقلك أو ماذا؟ ألا تسمعين ألا تعين ألا تفهمين ما أقول؟
الحمد لله لا يزال عقلي بخير وكلامي واضحاً بيناً!
ولكن ليزافينا إيفانوفنا لم تسمع توبيخها هذا. ولما عادت إلى القصر أسرعت إلى غرفتها وأخرجت الرقعة من قفازها ولم تكن مختومة فقرأتها وكان فيها تصريح بالحب وكانت مكتوبة بلهجة رقيقة مؤدبة محتشمة وكانت مكتوبة حرفاً بحرف من رواية ألمانية. ولكن ليزافيتا لم يكن لها أدنى إلمام بالأدب الألماني فلم يخالجها أدنى شك في أن الرسالة من فيض إحساس ذلك العاشق الجديد ومن بنات أفكاره فسرت بها كل السرور وطربت لحلاوة ألفاظها وسحر بيانها أيما طرب.
ومع كل هذا فقد كان ابتهاجها يشوبه مزاج من القلق والارتباك. وذلك أنها كانت لأول مرة في حياتها ترتبط مع شاب صغير بعلائق سريبة خصوصية وقد كان في شدة جرأة الفتى ما(50/79)
راعها وأرهبها. فعنفت نفسها على طيشها وتهورها ولم تدر ماذا تصنع أتمتنع عن الجلوس عند النافذة فتقف الفتى عند حده بهذا الصدود والانصراف؟
أترد عليه رسالته أم تجيبه عليها جواباً فاتراً أصلاً.؟ إلا أنها لتفتش حولها على مخلوق تبثه همها وتعرض عليه حالها من القلق والحيرة فلا تجد لها من صديق ولا رفيق ولا معين ولا نصير ولا مرشد ولا مشير فأصرت أخيراً على إجابته.
فجلست إلى مكتبها الصغير وتناولت قلماً وقرطاساً وشرعت تفكر، فبدأت الرسالة عدة مرات ثم مزقتها، إذ بدا لها أن أسلوب تعبيرها كان تارة يطمع ويستميل للينه ورقته وتارة يؤذي ويجرح لجفائه وقسوته. وأخيراً استطاعت أن تسطر بعض كلمات رضيتها وارتاحت لها وهي:
لا شك عندي أن غرضك نبيل وغايتك شريفة، وإنك لا تريد أن تسوءني بأدنى ما يحرج مركزي أو يضير سمعتي، ولكن لا أرضى أن تكون فاتحة تعارفنا بهذا الأسلوب الذي تسلك.
وأرجو أن لا أرى اليوم الذي أندم فيه على ما ألقاك به الساعة من هذا الإهمال والصدود الذي لم تستحقه مني.
ولما ظهر هرمان في اليوم التالي بموقفه المعهود قامت لزيافيتا عن منسجها فمضت إلى غرفة الاستقبال ففتحت نافذتها وألقت الرسالة في الطريق واثقة أن الفتى عنده من الفطنة وسرعة الإدراك ما يبعثه على التقاطها.
فأسرع هرمان إلى الرقعة فالتقطها ثم أوى إلى حانوت حلوى ففض الطرف فألفى فيه رسالته وجواب ليزافيتا وكان يتوقع ذلك فعاد على منزله وذهنه مشغول بما بدير من الدسيسة.
وبعد مشي ثلاثة أيام على ذلك جاءت صبية مشرقة العينين صانعة في حانوت ملابس إلى ليزافيتا برسالة. ففضتها ليزافيتا بيد مضطربة قلقه وهي تخشى أن تكون من صاحب دين يطالب ببقية حسابه ولكنها لم تلبث أن عرفت فيها خط هرمان.
فقالت للصبية: لقد أخطأت غرضك يا عزيزتي هذه الرقعة ليست لي.
فأجابت الفتاة مبتسمة ابتسامة معنوية: بل إنها لك يا سيدتي تفضلي بقراءتها.(50/80)
فنظرت ليزافيتا في الرقعة فعلمت أن هرمان يلتمس لقاءها.
فصاحت وقد راعها قحة هذا المطلب وأسلوبه: أنا واثقة أن هذه الرسالة ليست لي.
ثم أنها مزقت الرقعة شذر مذر.
فقالت الصبية: إذا كانت ليست لك فلم مزقتها، لقد كان ينبغي لي أن أردها إلى صاحبها.
فارتبكت ليزافيتا لهذه الملاحظة وقالت: أرجوك يا عزيزتي أن لا تأتيني بأية رسالة أخرى بعد الساعة وخبري مرسلك أن هذا عار عليه.
ولكن هرمان لم يكن بالرجل الذي تصده مثل هذه الصدمة فكان لا يمر يوم إلا تأتيها منه رسالة وكان يتفنن ما شاء في رسالاته المتولية في أساليب الاستمالة والاستهواء وكان لا يترجم هذه الرسائل من القصص الألمانية كما صنع في الرسالة الأولى بل كان يكتبها تحت تأثير سورة الطمع الملتهب بلغة عواطفه ووجدانه فكانت تنم عن صرامة عزمه وصلابة إرادته وتشف عن اضطرابات خياله الجامح الشرود الذي لا ترده شكيمة ولا يثنيه عنان.
فضعفت إرادة الفتاة أمام هذه القوة الهائلة فأذعنت واستكانت ولم تعد تقوى على رد تلك الرسائل إلى صاحبها كما فعلت بالأولى. بل على عكس ذلك كانت تجد لكلمات الفتى حلاوة في قلبها وروحاً على كبدها ونشوة تميل لها وتترنح كالشارب الثمل من حميا الراح والغصن الرطيب في اليوم الراح. وبدأت تجيبه على كتبه ورسائله وكانت أجوبتها إليه تزداد على مر الأيام إسهاباً وإطناباً ورقة وغزلاً وأخيراً ألقي إلهي من النافذة الرسالة الآتية:
في هذه الليلة تقام حفلة رقص في دار السفارة تحضرها الكونتيس وسأبقى معها هنالك حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فهذه فرصة لالتقائنا في خلوة. والمرجح أنه متى خرجت الكونتيس انطلق الخدم كل في شأنه فلا يبقى إلا البواب وهذا من دأبه النعاس متى ترك وشأنه.
فاطرق الدار الساعة الثانية عشرة فاصعد السلم فإذا عثر بك أحد في الردهة فسل عن الكونتيس هل هي بالدار فستخبر كلا وإذ ذاك ليس أمامك إلا الرجوع من حيث أتيت ولكن الأرجح أنك لن تصادف أحداً. وستكون الوصائف كلهن مجتمعات في غرفة واحدة فإذا غادرت الردهة فانعطف يسرة ثم سر قدماً حتى تبلغ مرقد الكونتيس ففيها تجد حاجزاً خلفه(50/81)
بابان. فالأيمن منهما يفضي إلى مقصورة لا تدخلها الكونتيس أبداً. والأيسر يفي إلى دهليز في أقصاه سلم متعرج - هذا السلم يؤدي إلى غرفتي.
فبقي هرمان ينتفض كالنمر أثناء انتظاره الموعد المضروب ولما جاءت الساعة العاشرة كان واقفاً حيال قصر الكونتيس وكان الجو فظيعاً إذ كانت الريح تعصف هوجاء مجنونة والجليد يتساقط صفائح عراضاً. وضوء المصابيح متضائل والشوارع قفرة خاوية ولكن هرمان كان ملتفاً في عباءة كثيفة لا يحس ريحاً ولا جليداً.
وأخيراً ظهرت مركبة الكونتيس وأبصر هرمان خادمين سميني يحملان شخص الكونتيس المحدودب المقوس ملفوفاً في الفرو الأسود وخلفها ليزافيتا في ملاءة دافئة د زينت رأسها بباقة نضرة من الزهر ثم أغلق باب المركبة وانحدرت على الثلج اللين وأغلق باب القصر وأظلمت النوافذ.
وجعلهرمان يقبل في الطريق ويدبر ويحوم حول القصر المهجور ثم وقف تحت مصباح ونظر في ساعته فألفاها اثنتي عشرة إلا عشر دقائق. فبقي ثابتاً مكانه تحت المصباح ينظر في الساعة بفارغ الصبر انقضاء الدقائق الباقية.
فلما كانت الساعة الثانية عشرة بالضبط صعد هرمان سدة الباب ودخل الساحة المشرقة بالمصابيح الوهاجة فلم يجد للبواب أثراً فأسرع هرمان مصعداً في السلم وفتح باب الردهة فألفى بها خادماً نائماً في كرسييه إلى جنب مصباح فاجتازه هرمان بقدم خفيفة ثابتة.
وكانت غرفة الجلوس في ظلام إلا شعاعاً ضئيلاً كان يتسرب إليهما من مصباح الردهة.
بلغ هرمان مرقد الكونتيسة فألفى في إحدى زواياه مزاراً مملوءاً بدمى وتماثيل للقديسين والقديسات وأرائك عليها الوسائد والحشايا اللدنة الناعمة وهي منضودة في نظام محكم قد نصلت أصباغها لطول القدم ولاحت عليها معاني الوحشة والكآبة وكانت الجدران مغشاة بأثواب من حرير الصين. وعلى أحد جانبي الحجرة كان يتدلى صورتان رسمتهما في باريز المصورة الشهيرة ليبران. إحداهما صورة رجل بادن ضخم أشقر اللون يناهز الأربعين في حلة عسكرية خضراء ناضرة على صدره نجمة.
الثانية صورة امرأة صغيرة ذات أنف أشم يزين جبينها طرة مصفوفة ويحلى شعرها وردة حمراء. وفي أركانالحجرة وزواياها تماثيل رعاة من الصيني وساعات موائد من عمل(50/82)
الصانع المشهور ليفتروي وصناديق حلي ومراوح غير ذلك من اصناف اللعب والطرف والزخارف مما كان يألفه النساء في أواخر القرن السالف يوم جن الناس ولوعاً ببلونات (مونتجولفيير) ومغناطيسية مسمر فوقف هرمان خلف الحاجز فألفى لدى ظهره سريراً منالحديد وعلى يمينه الباب المفضي إلى المقصورة. وعلى يساره الباب المؤدي إلى الدهليز ففتح الثاني فأبصر السلم المتعرج المنتهي إلى حجرة الوصيفة المسكينة. . ولكنه كر راجعاً فدخل المقصورة المظلمة.
مر الوقت بطيئاً وكان السكون سائداً ودقت الساعة واحدة فرن صداها في أرجاء الحجرة ثم عادا السكون ولبث واقفاً مرتكزاً على رف الموقد الخامد. وكان رابط الجأش يدق قلبه دقات منتظمة مطردة دأب الرجل الذي يكون قد عزم على أمر هائل خطر ولكنه محتوم لا مرد عنه ولا مناص منه. ثم دقت الساعة نصفاً بعد الواحدة ثم اثنتين بعد منتصف الليل. فبلغ أذنيه من أقصى مسافة دقدقة الحوافر وجلجلة العجلات من مركبة الكونتيس العائدة وهنا اعترته هزة شديدة ورجفة عنيفة. وتقدمت المركبة ثم وقف فسمع صوت سلم المركبة وهو يدلى، وإذا بالخدام والوصائف وسائر أهل القصر كلهم في هرج ومرج. فكان الخدام يتسارعون ويتسابقون في كل مكان. وقد امتلأ فراغ القصر جلبة ولجباً وأشعلت الغرف وتألقت أنوارها. ودخل مرقد الكونتيس ثلاثة وصائف عجائز وعلى أثرهن الكونتيس ذاتها وقد نهكها التعب وأعياها النصب فتهالكت على كرسي من طراز فولتير.
وقد أشرفت على الهلاك وكأن إحدى قدميها في القصر والأخرى في القبر فهي أحق أن تسمى ميتة من أن تعد مع الأحياء فنظر هرمان خلال شق في الحاجز وإذا بليزافيتا تمر به كثب وإذا به يسمع وقع قدميها السريعتين أثناء صعودها السلم الحلزوني.
فأحس لحظة من الوقت بما يشبه وخز المضير ولذعة الندم ولكنه كان إحساساً طياراً كلمحة البرق ثم عاد قلبه إلى سيرته الأولى من التحجر.
أخذت الكونتيس تخلع ثيابها أمام مرآتها فنضت قبعتها المكللة بالأزهار ثم نزعت قنزعتها المذرور عليها المسحوق عن شعرها الأشيب المجزور وتساقطت حولها المداري ودبابيس العشر كالأمطار الغزيرة وسقطت حلتها الحريرية المزركشة الصفراء على قدميها الوارمتين.(50/83)
وكان هرمان يطلع على هذه الخفايا المنكرة والخبايا الممقوتة من أسرار (تواليت) الكونتيس.
وأخيراً بدت العجوز في (طرطور) النوم وجلبابه - فكانت في هذا الزي الذي هو أشبه بسنها وأليق بشخصها أقل قبحاً وأخف بشاعة منها في الحلة الفاخرة والحلي الباهرة.
كانت الكونتيس كسائر العجائز مصابة بالأرق. فلما نضت ثيابها جلست على النافذة على كرسي من طراز فولتير وصرفت الوصائف ثم أخرجت الشموع وتركت الحجرة وليس بها من وسائل الإضاءة إلا قنديل واحد كما كانت قبل فلبثت الكونتيس جالسة بمكانها مصفرة الوجه والبشرة كأنما غمست في كركم تحرك شفتيها المسترخيتين وتترجح يمنة ويسرة.
وكانت عيناها الثقيلتان الكليلتان البليدتان تنم عم عزوب العقل والتدله، ويخيل إلى الناظر أن حركة اهتزاز جثتها ليست حركة اختيارية منها ولكنها ناشئة عن فعل آلة كهربائية مخبوءة في جوفها.
ولكن وجهها الميت تنكر بغتة وتبدل هيئة مدهشة فوقفت حركة ارتعاش الشفتين وفاضت الحياة في العينين، ماذا جرى؟ إن أمام الكونتيس يقف رجل غريب مجهول.
وقال بصوت خفيض واضح: لا تخافي! سألتك بالله لا تخافي! ما كنت أنالك بأدنى مضرة ولا نويت لك قط شراً. إنما جئت لأسألك حاجة.
فنظرت العجوز في صمت كأنما لم تع ما قال. وظن هرمان أن بها صمماً فأدنى فاه من أذنها وأعاد ما قاله أولاً فاستمرت العجوز على سكوتها.
وقال هرمان: إن في يديك ترفيه عيشي وإسعاد حياتي ثم لا نفقة ولا مؤونة عليك في ذلك، وإني لأعرف أنك تستطيعين تسمية ثلاث ورقات من ورق اللعب. . .
وهنا سكت هرمان إذ بدا له أن الكونتيس بدأت تفهم كلامه، وكأنها تعالج نفسها على تهيئة جواب لكلامه.
فقالت بعد الجهد الطويل: لم يكن ذلك إلا أمزوحة ودعابة. وإني أؤكد لك أنها لم تكن سوى أمزوحة.
فأجا بهرمان مغضباً: لا مزاح في الأمر اذكري تشايلنسكي الذي فرجت كربته ونفست غمته وأعنته على استرداد خسائره.(50/84)
فاشتد قلق الكونتيس وحيرتها وبدا في أسارير وجهها آيات الغم والكرب ثم تماسكت واستعادت ثباتها ورزانتها.
وقال هرمان: ألا تستطيعين تسمية هذه الورقات الثلاث؟
فاستمرت العجوز في سكوتها وقال هرمان:
لمن تدخرين هذا السر؟ لأحفادك؟
إنهم ليسو بحاجة إذ هم أغنياء من دونه ثم هم لا يعرفون للمال قيمة فورقاتك لا فائدة فيها ولا ثمرة للمبدد المبذر لأن الرجل الذي لا يستطيع صيانة تراث أبيه يعجز عن صون ما عداه من مال طريف ومتاع مستحدث ومثل هذا لا يموت إلا فقيراً ولو كان رهن إشارته وطوع بنانه جن سليمان يأتونه ما يشاء ويبغي ولكني لست من تلك الفئة وذلك القبيل إذ كنت أعرف قيمة المال فأوراقك الثلاث لن تذهب على سدى ولن تطيح معي جباراً فدعك من هذا الكتمان وبوحي لي بأسمائها.
ثم سكت ولبث ينتظر رجع جوابها مرتجف الأوصال من سدة انفعاله وتمادت الكونتيس في سكوتها فخر هرمان راكعاً تحت قدميها.
وقال: إذا كان شعاع الحب قد أشرق قط على ساحة قلبك.
وإذا كنت تذكرين حلاوة ذلك الشعور وطربه ولذته. .
إذا كنت جربت شعور الأم نحو طفلها الرضيع وأطرب أذنيك نغمة وليدك وهو يضحك ويغرد - إذا كان قلبك قد عرف قط أي شعور إنساني ودب إليه أدنى إحساس آدمي - فإني أستحلفك بعواطف الزوجة والوالدة والعاشقة - أعني بك ما هو مقدس في الحياة أن لا تردي دعائي ولا ترفضي طلبي بوحي لي بسرك أي فائدة لك فيه.
ومن المحتمل أن يكون هذا السر متصلاً بإثم عظيم أو جرم جسيم - بمحالفة الأبالسة ومعاملة الشياطين مما يستوجب الحرمان الأبدي من رحمة الرحمن ويستجلب لعنة الله إلى يوم الدين.
وأنت عجوز هرمة قد أكل عليك الدهر وشرب وأيامك في هذه الحياة معدودة ولعلك هامة اليوم أو غد فتدبري حالك وانظري في عاقبتك ومآلك واطرحي على كاهلي هذا السر وما يتصل به من إثم وجريمة - فإن حامله عنك ومريحك من شره وأذاه. أفشي إلي سرك(50/85)
واذكري أن في يدك سعادة إنسان وشقاءه ونعيمه وبلاءه.
وإني أنا وأولاد ي وأحفادي من بعد سنثني عليك ما حييت ونستمطر ضريحك سحائب الرحمة والرضوان بعد مماتك ونصلي لروحك كما يصلى لأرواح الأبرار والقديسين. كل ذلك والكونتيس صامتة لا تنبس بكلمة.
فثار هرمان لقدميه.
وصاح وهو يحرق نابه على العجوز غيظاً وحقداً: تباً لك وسحقاً أيتها العجوز الشوهاء سأرغمك على الكلام إرغاماً، ثم سحب مسدساً من جيبه.
فعند رؤية المسدس بدت علائم القلق والاضطراب على وجه الكونتيس للمرة الثانية، فهزت رأسها ورفعت يديها كأنما تحاول اتقاء الطلق. .
ثم استلقت على ظهرها وبقيت مسلوبة الحركة.
فصاح هرمان وقبض على يدها: أجيبي ودعك من هذه السخافة الصبيانية إني أسألك لآخر مرة فأجيبي: أتسمين لي الورقات الثلاث.
فلم تحر الكونتيس جواباً. فتأمل هرمان وجهها فإذا هي ميتة.
الفصل الرابع
كانت ليزافيتا إيفانوفنا جالسة في غرفتها لم تنزع بعد حلة المرقص منغمسة في لجة من الأفكار والخواطر. وكانت لدى وصولها القصر صرفت خادمتها التي تقدمت نحوها متثاقلة مكرهة لتعينها على نضو ثيابها فأخبرتها أنها ليست بحاجة إليها وأنها ستنضو ثيابها بنفسها.
ثم صعدت إلى حجرة خفاقة الأحشاء وهي تتوقع أن تجد هرمان هنالك وتود من أعماق قلبها أن لا تجده فلما ولجت باب الغرفة علمت لأول وهلة أنه غير موجود فأثنت على الأقدار وحمدت حسن حظها الذي حال بين هرمان وبين المجيء في الموعد المضروب.
ثم جلست دون أن تنزع ثيابها وأخذت تعيد كرة الفكر على تلك الحوادث التي ساقتها في ذلك الوقت القصير إلى هذه النقطة الخطيرة وكيف ولم يكن قد مر ثلاثة أسابيع منذ لمحت الفتى الضابط لأول مرة من النافذة وهي مع ذلك قد أصبحت تراسله وتمكن هو من حملها على أن تضرب له موعد لقاء في جوف الظلام!(50/86)
ولم تكن تعرف اسمه إلا من توقيعه على بعض رسائله. ولم تكن جاذبيته الحديث قط ولا سمعت صوته ولا سمعت به إلا تلك الليلة. ولكن من العجيب أن تومسكي تلك الليلة أمل به ما ساءه وكدره من عشيقته البرنسيس بولين ن في المرقص وأراد أن يقتص منها فعمد إلى ليزافيتا فاختارها شريكة له في الرقص فطوى هزيعاً من الليل يركض بها في حلبة الراقصين وسط الملعب.
وما زال طول المدة يهيجها ويستثيرها بالتلميح إلى ميلها للضباط المهندسين وأكد لها أنه أعرف منها بأخلاق هذه الفئة واتفق أن بعض الأمازيح والنكات الصادرة منه في هذا الصدد أصابت المرمى فأوجست الفتاة خيفة أن يكون سرها قد ظهر.
فسألته مبتسمة: من أنبأك بكل هذا؟
فأجاب تومسكي: من صديق امرئ تعرفينه حق المعرفة، من رجل عظيم الكفاءات والمواهب.
ومن هو هذا الرجل العظيم المواهب والكفاءات؟
اسمه هرمان.
فلم تجب ليزافيتا ولكن يديها وقدميها فقدت الإحساس والشعور.
واستمر تومسكي فقال:
إن هرمان هذا لذو شخصية نادرة غريبة لامتيازها بالولوع بركوب الأهوال والأخطار. وإن له سحنة كسحنة نابليون وروحاً كروح إبليس واعتقادي أن في عنقه ثلاث جرائم. . ما أشد اصفرار وجهك!.
أشعر بصداع. . ولكن خبرني ماذا قال لك هرمان هذا!.
قال لي هرمان أنه ساخط على خط صديقه وأنه لو كان في مكانه لسلك سلكاً آخر. . وإني لأحسب أن هرمان نفسه له فيك مآرب ومطامع أو على الأقل أراه يصغي أشد الإصغاء إلى كل ما يقوله عنك صديقه.
وأين أبصرني؟
لعله في الكنيسة أو في طابور. الله وحده يعلم. أو لعله في غرفتك وأنت نائمة. . إن هرمان هذا لا يبعد عليه. . .(50/87)
وهنا أقبل عليه ثلاث سيدات إحداهن البرنسيس بولين ذاتها فقطع تومسكي حديثه. ثم جرى بين الحبيبين عتاب انتهى بالصلح والوئام. ثم أوصلها إلى مجلسها من الحفلة وعاد هو إلى مجلسه. وقد انمحى من ذاكرته ليزافيتا وهرمان وكل ما يتعلق بهما. وأرادت ليزافيتا أن تستأنف مع تومسكي الحديث المبتور ولكن الرقص انتهى وآذن عقد الحفلة بانتثار ونهضت الكونتيس للخروج.
كانت لكمات تومسكي ليست أقل ولا أكثر من تافه الحديث الذي يتخلل حركات الرقص ولكنها رسبت في أعماق نفس الفتاة العاشقة. وكانت الصورة التي صور فيها تومسكي خلق هرمان وخلقه تنطبق على ما كانت الفتاة قد صورته بريشة الوهم والخيال على صحيفة ذهنها وقد أعانها ما قرأته من روايات ذلك العصر على أن تعير وجه معشوقها من المزايا والصفات ما هو جدير أن يروعها ويسحر لبها.
ففي تلك اللحظة كانت الفتاة جالسة في حجرتها وذراعاها الحاسرتان مضمومتان على صدرها وراسها الذي لا يزال مزداناً بالأزهار منكس على صدرها العاري وترئبها المصقولة فإنها لكذلك إذ فتح الباب ودخل هرمان فعرتها هزة.
وسألته بصوت خاف: أين كنت؟
فأجاب هرمان: في مرقد الكونتيس لقد غادرتها اللحظة أن الكونتيس قد ماتت.
يا الله! ماذا تقول؟
قال هرمان: وأخشى أن أكون أنا السبب في موتها.
فنظرت إليه ليزافيتا وإذا بكلمات تومسكي قد ثار لها صدى في روح الفتاة: إن في عنقه ثلاث جرائم!
وجلس هرمان لدى النافذة على كثب منها فقص عليها ما جرى.
وأصغت له الفتاة وفرائضها من الفزع ترتعد. وكذلك ظهر لها أن جميع تلك الرسائل الغرامية والرغبة الشديدة والحرص والطلاب والمطاردة لم تكن منبعثة عن عاطفة الحب!
ولكن المال هو جل بغيته ومرغوبه وما تصبو إليه نفسه ويحن إليه قلبه! وإنها لم تكن سوى آلة عمياء في يد لص، في يد قاتل سيدتها وولية نعمتها!
فذرفت دموع الندم حارة مرة. وجعل هرمان ينظر إليها صامتاً وقلبه ايضاً نهب الوساوس(50/88)
الأليمة.
ولكن دموع الفتاة المسكينة وفتنة جمالها التي زادها الحزن روعة وسحراً لم تكن لترقق من غلظة كبده مثقال ذرة وكذلك لم يشعر بأدنى وخزة ضمير على ما جنى من قتل العجوز. وإنما ساءه وأحزنه شيء واحد، ضياع ذلك السر الذي كان يرجو من ورائه ثروة هائلة.
وقالت أخير: إنك لوحش ضار. .
فأجاب هرمان: ما اردت قتلها ودليل ذلك أن مسدسي كان خالياً من الرصاص.
بقي الاثنين صامتين.
وبدأ الفجر ينبثق فأطفأت ليزافيتا شمعتها وضاءت الحجرة بضوء الفجر الضئيل الأصفر فأرقأت عبرتها وغيضت دمعتها ورفعت بصرها نحو هرمان وكان جالساً قرب النافذة مضموم الذراعين على صدره وعلى جبينه أشنع عبسات الغيظ والحنق. فكان في هذه الهيئة أشبه الناس طراً بصورة نابليون الأول وأحست الفتاة لهذا الشبه الغريب نوعاً من الدهشة.
ثم قالت أحيراً: كيف السبيل إلى إخراجك من القصر؟ لقد فكرت في إنزالك من السلم السري ولكن ذلك يقتضي المرور خلال حجرة الكونتيس وإني لأخاف أن أدخلها.
فقال: خبريني كيف أهتدي إلى السلم السري أذهب بمفردي.
فقامت ليزافيتا وتناولت من درجها مفتاحاً فأعطته لهرمان ووصفت له طريق الخروج. فضغط هرمان على يدها الباردة المسلوبة القوى ثم قبل رأسها المنكس وخرج من الغرفة.
فانحدر في السلم المتعرج ودخل حجرة الكونتيس مرة أخرى فأبصر العجوز الميتة جالسة مكانها كما لو كانت متحجرة وقد ارتسم على وجهها آيات السكينة التامة والطمأنينة المطلقة.
فوقف هرمان أمامها وأدمن إليها النظر في جد واهتمام كأنما يحاول إقناع نفسه بحقيقة الحادث الجلل.
وأخيراً دخل المقصورة والتمس الباب ثم أخذ يهبط في السلم المظلم وقلبه مفعم بإحساس غريب لا عهد له بمثله.
ثم قال في نفسه: يالله يا لسخرية القضاء! أكبر ظني أن في هذا السلم بعينه ومن هذه(50/89)
الحجرة بعينها وفي هذه الساعة بعينها كان يرى منذ ستين عاماً شاباً عاشقاً ينساب انسياب الأرقم في خفية وتستر بعد انصرافه من الخلوة بحبيبته يضم إلى صدره قبعته المثلثة الزوايا وهو الآن أعظُم بالية في قبره لم يبرح نهب الفناء والبلى الأعوام الطويلة ولكن قلب معشوقته الهرمة لم تقف نبضاته إلا الآن.
ووجد هرمان في أسفل السلم باباً ففتحه بمفتاح ثم سلك دهليزاً أفضى به إلى الشارع.
الفصل الخامس
بعد مضي ثلاثة أيام من الليلة المنحوسة توجه هرمان الساعة التاسعة صباحاً إلى دير حيث احتفل بجنازة الكونتيس العجوز. فبالرغم من تحجر شعوره وموت عواطفه لم يتمالك أن أحسن شيئاً من وخزات المضير إذ ناجته نفسه أنت قاتل العجوز. . وبالرغم من قلة إيمانه وضعف عقيدته فقد كان شديد التأثر بالخرافات والخزعبلات فقام في عقيدته أن الكونتيس الميتة قد تنحس حظه وتشقي جده وتؤثر في حياته أسوأ الأثر. فعزم على أن يشهد جنازتها ليستميح عفوها وغفرانها.
كانت الكنيسة غاصة بالخلق فبعد جهد جهيد استطاع هرمان أن يشق طريقه وسط الزحام وكان النعش موضوعاً على دكة فاخرة تحت سرادق من القطيفة. وفي جوفه الكونتيسة ممتدة مضمومة اليدين إلى صدرها على رأسها قبعة من مهلهل النسيج وعليها ثوب من الحرير الأبيض وحول الدكة أهل القصر وأعضاء الأسربة فالخدام في القفاطين السوداء وعلى أكتافهم شعار نسب الأسرة وفي أيديهم الشموع والأقارب والأولاد والأحفاد وأولاد الأحفاد كلهم في ملابس الحداد.
لم تذرف على نعش العجوز عبرة ولم ترسل عل رفاتها زفرة فالكل مثلوج الصدر يبس المدامع بارد الأنفاس ولو سالت الدموع لعدت ضرباً من التصنع الكاذب والنفاق الممقوت.
فلقد كانت الكونتيس قد بلغت من الهرم ما أصبح الموت بعده أمراً متوقعاً وشيئاً مألوفاً لا يحدث روعة ولا هشة. وكان أهلها قد أخرجوها منذ حين طويل من عداد الأحياء وشطبوا اسمها من قائمة أهل الدنيا.
ثم صعد المنبر خطيب مصقع ذائع الصيت فألقى خطبة الجنازة فوصف في أبين عبارة وأرقها وأسهلها انتقال الأبرار من عالم الفناء إلى عالم البقاء. ونعت عيشة الكونتيس البارة(50/90)
الصالحة بمنتهى الورع والتبتل.
فقال: طوبى لك أيتها التقية النقية. لقد نزل بك ملك الموت فالفاك في هجود وسجود وخشوع وركوع. تنتطرين وفدة عروس الظلام ورسول الحمام.
لقد فجعت منك الليالي نفوسها ... بصوامة الآصال محيية العتم
تمت الخطبة وسط السكوت التام، ثم تقدم الأهل والأقارب ليحيوا الجثة تحية الوداع وجاء من بعدهم زمرة الزائرين ليؤدوا شعائر الولاء الأخيرة لمن قضت السنين العديدة تشاطرهم باطل اللذات والملاهي.
وتقدم بعد هؤلاء خدام القصر وفي أخرياتهم عجوز من سن الميتة يدعمها فتاتان صغيرتان ولم تكن تستطيع الانحناء إلى الأرض فسكبت دمعة على رفات مولاتها ولثمت يدها الباردة.
وعزم هرمان على التقدم إلى النعش فدنا منه ثم ركع على الحجارة القارة وبقي كذلك بضع دقائق ثم نهض واقفاً وبه من اصفرار الوجه وشحوبه مثل ما بالميتة. ثم ارتقى سلم الدكة وحنا فوق الجثة. وإذ ذاك خيل إليه أن الميتة رشقته بنظرة تهكم وسخرية وغمزت إليه بإحدى مقلتيها. فانقبض متراجعاً وزلت قدمه فهوى إلى الأرض فأسرع غليه أناس فأنهضوه.
وفي عين اللحظة حملت ليزافيتا إيفانوفنا مغشياً عليها إلى باب الكنيسة وقد كان من هذا الحادث ما شوش سكينة المشهد الجليل وزعزع وقاره بضع دقائق فتهامس الجمع ومال أحد أمناء القصر على رجل إنكليزي واقف إلى جانبه فقال له في أذنه:
إن هذا الضابط هو ولد غير شرعي للكونتيس فأجابه الإنكليزي بجمود وبرودة أوه!
أحس هرمان طول ذلك اليوم بانفعال نفساني شديد فأوى إلى مطعم في ناحية منعزلة من المدينة ليتغذى وهنالك أكثر من شرب الخمرة على خلاف عادته ليسكن نافر جأشه واضطراب وجدانه ولكن الخمرة ضاعفت هياج نفسه وثورة خاطره. فلما عاد إلى غرفته فانطرح على إحدى أرائكها دون أن ينزع ثيابه فاستغرق في النوم.
فلما انتبه من رقدته كان الليل قد جن وضوء القمر مستفيضاً في أرجاء غرفته فنظر في ساعته فإذا هي ثلاث ونصف فجلس في فراشه وأخذ يتذكر جنازة الكونتيس.(50/91)
في هذه اللحظة أطل عليه من نافذته شخص ثم مضى في سبيله. فلم يكترث هرمان لهذا الحادث.
وبعد بضع دقائق سمع باب ردهته ينفتح فظن هرمان أن خادمه قد عاد سكران من بعض معاركه الليلية ولكن لم يلبث أن سمع خطوات غير مألوفة في أذنه. وكأن أحد يتمشى في خفين على أرض الردهة في لين وخفة.
ثم انفتح الباب ودخلت عليه امرأة في ثوب أبيض، فحسبها هرمان مربيته العجوز وتعجب ماذا أقدمها عليه في مثل هذه الساعة من الليل. ولكن المرأة ذات الثوب الأبيض دلفت نحوه بسرعة ثم مثلت أمامه - فإذا الكونتيس!
وقالت بصوت ثابت متين:
لقد جئتك على غير رغبة مني. ولكني أمرت أن أجيب سؤالك. ستربح إذا لعبت الثلاث الورقات الآتية على التوالي وهي ثلاثة سبعة فنط ولكن على الشرائط التالية:
أن لا نلعب أكثر من ورقة واحدة في طظف أربع وعشرين ياعة وأن لا تعيد الكرة ما حييت وإني أغفر لك جريمة قتلي بشرط أن تتزوج وصيفتي ليزافيتا إيفانوفنا.
ثم تولت عنه فهرولت نحو الباب وأملست. وسمع هرمان باب البيت يفتح ثم يغلق وأبصر للمرىة الثانية شخصاً يطل عليه من النافذة.
فبقي هرمان كالمغشي عليه ساعة من الزمن ما به سبيل إلى الإفاقة من تلك الغمرة وأخيراً قام فدخل الحجرة المجاورة فأبصر خادماً طريحاً على الأرض يغط في نومه فأيقظه بعد جهد. فألفاه نشواناً كدأبه فاستفسره عما جرى فلم يستطع أن يمده من المعلومات والبيانات بأدنى شيء وألفى هرمان باب البيت مغلقاً. فانكفأ هرمان إلى حجرته فأشعل شمعة ودون كل تفاصيل رؤياه.
الفصل السادس
لا يمكن اجتماع فكرتين في حيز واحد من العالم الذهني إلا إذا أمكن اجتماع جسمين في حيز واحد من العالم المادي وبناء على هذه النظرية أصبحت فكرة ثلاثة، سبعة، فنط تدور في رأس الفتى وتطفو في دماغه وترسب وتتردد على شفتيه وتتكرر.
فإذا أبصر فتاة قال في نفسه: ما أنحف قوام هذه الفتاة وما أشبهها بمنظر (الثلاثة القلبية)(50/92)
وإذا سأله أحد الناس كم الساعة؟ أجاب: سبعة إلا ثلاثة. وكلما أبصر رجلاً سميناً أذكره بالفنط. وكذلك أصبحت فكرة ثلاثة، سبعة، فنط شغله الشاغل في اليقظة وحلمه في الكرى.
وكان منظرها يتشكل لعين خياله الملتهب في شكل وصورة. فكانت الثلاثة تبدو كأنها الزهر الناضر الجميل وكانت السبعة تتراءى كأنها أبواب القصور القديمة الغوطية الطراز. والأفناط تلوح كأنها العناكب الجسيمة الهائلة.
وكانت نفسه متعلقة من الدنيا بأمنية واحدة، وهي اجتناؤه أعظم الثمرات من ذلك السر الخطير الذي اشتراه بأغلى الأثمان ففكر في الذهاب إلى باريز لالتماس الثراء في أحد مقامرها الجمة.
ولكن عرض له من محاسن الصدف ما أغناه عن تجشم ذلك السفر البعيد!
وقبل أن يهيء الجواب على ذلك تدبر الفتاة أكرة الباب فتفتحه ثم تخرج.
وكان في موسكو جمعية مؤلفة من أغنياء المقامرين يرأسها شيكالنسكي المشهور الذي قضى عمره على مائدة الميسر وجمع الملايين يأخذ أرباحه أوراقاً مالية ويدفع خسائره ذهباً منقوداً وكان لطول تجربته وفرط حنكته قد أحرز ثقة زملائه كما أن داره المفتوحة وطاهيه الحاذق وحسن آدابه ورقة شمائله أنالته إجلال الجمهور واحترامه.
هذا الرجل الشهير قدم إلى سانت بطرسبرج فتهافت عليه شباب المدينة وفتيتها واستبدلوا مائدة القمار بمحافل الرقص وآثروا لذاذات الميسر على حلاوات المغازلة والمداعبة. ففي ذات ليلة سار ناروموف بالفتى هرمان إلى دار شيكالنسكي.
فمرا خلال حلقة من الغرف الزاهية الزاهرة الغاصة بالخدم وكانت الدار مزدحمة فمن بين قواد ومستشارين يلعبون (الوست) وفتية وشبان يتكئون على الأرائك يرشفون المرطبان أو يلهو بالمتابغ.
وكان رب الدار جالساً على مائدة مستطيلة في غرفة الاستقبال حولها نحو عشرين من اللاعبين. وكان يناهز الستين نبيل الطلعة له سمت وأبهة وعليه جلال وهيبة وقد جلله الشيب بالوقار. وقد اشرب وجهه حمرة وأشرقت له نظرة تنطق عن دماثة الطبع ولين العريكة وكانت لا تزال تبرق بعينه ابتسامة البشر والطلاقة فقدم ناروموف إليه هرمان وعرف أحدهما بالآخر.(50/93)
فصافح شيكالنسكي هرمان وسأله أن يرفع الكلفة فلا يبقى واقفاً ثم استمر في اللعب.
واستمر اللعب برهة وكان على المائدة نيف وثلاثون ورقة. وكان شيكالنسكي بعد كل رمية يعطي اللاعبين مهلة يرتبون فيها أوراقهم ويدون خسائرهم ثم يصغي إلى مطالبهم في أحسن أدب وأحسن من ذلك أدبه وتلطفه في معالجته إقامة المعوج ونشر المطوي من أطراف الأوراق التي كان بعض اللاعبين يطوي أطرافها من غير عمد ولا سوء نية. وأخير تم الدور وشرع شيكالنسكي يفنط الورق استعداداً لدور آخر.
قال هرمان: أتسمح لي أن آخذ ورقة؟ ومد يده من وراء رجل ضخم كان يشترك في اللعب.
فابتسم شيكالنسكي وانحنى في صمت دلالة على الرضا. فهنأ ناروموف هرمان على نقضه ذلك المبدأ الذي التزمه طول عمره أعني اجتناب اللعب وتمنى له الفوز والظفر.
قال هرمان: أريد الاشتراك، وكتب أرقاماً بالطباشير على ظهر ورقته.
فقال صاحب البنك (هوشيكالنسكي) وحدد بصره: على أي مبلغ يا سيدي؟ معذرة إن في بصري شيء من القصر.
فأجاب هرمان: على سبعة وأربعين ألف روبيل.
فعند سماع هذه الكلمات التفت كل من بالغرفة بغتة واتجهت الأبصار كافة نحو هرمان.
وقال ناروموف في نفسه: لقد خولط الفتى في عقله!.
وقال شيكالنسكي بابتسامته المعهودة: إن هذا مبلغ باهظ لم يحدث قط أن أحداً من لاعبي هذه المائدة جازف بأكثر من مائتين وخمسة وسبعين روبيل على دفعة واحدة.
فأجاب هرمان: لا بأس بما تقول. ولكن خبرني أتقبل ورقتي أم ترفض؟
فانحنى شيكالنسكي قبولاً.
وقال: كلا ما أقوله هو أني مع مزيد ثقتي بكلام أصدقائي لا أستطيع أن ألعب إلا على المال الحاضر المنقود. أما من جهتي فإني أعلم أن كلمتك كافية ولكني محافظة على نظام اللعب وتسهيلاً للحساب أطلب إليك أن تضع المبلغ فوق ورقتك.
فاستخرج هرمان من جيبه بنكنوتاً فأسلمها إلى شيكالنسكي فنظر فيها الرجل نظرة خفيفة عجلى ثم وضعها على ورقة هرمان.(50/94)
ثم شرع يلقي الورق. فبدا على اليمين ورقة تسمى وعلى اليسار ورقة ثلاثة.
فقال هرمان وأبدى ورقته: لقد كسبت! فتهامس الحضور عجباً ودهشة وعبس شيكالنسكي ولكن الابتسامة الدائمة لم تلبث أن عادت إلى وجهه.
ثم قال لهرمان: أتريد أن أنقدك المبلغ الآن.
فأجاب هرمان: إذا شئت.
فاستخرج شيكالنسكي من جيبه عدداً من أوراق البنكنوت فدفعه إليه على الفور فتناولها هرمان وترك المائدة. فبقي ناروموف ذاهلاً دهشاً وشرب هرمان زجاجة من عصير الليمون وانطلق إلى منزله.
وفي مساء اليوم التالي سار هرمان إلى دار شيكالنسكي فوجده يوزع الورق فأفسح المقامرون لهرمان مجلساً بينهم وحياه رب الدار بانحنائة المستبشر بقدومه.
فاشترك هرمان في الدور التالي فتناول ورقة ووضع فوقها رأس ماله أعني السبعة والأربعين ألف الروبيل مشفوعاً بما ربحه الليلة السالفة.
وشرع شيكالنسكي يلقي الورق فبدا على اليمين ولد وعلى اليسار سبعة.
فأظهر هرمان سبعته.
فضج القوم أجمعون وعلا هتافاهم وبدا القلق على شيكالنسكي بلا شك ولكنه عد المبلغ وهو أربعة وتسعون ألف روبيل فناوله هرمان فوضعه هرمان في جيبه بأربط جأش وأوقر حال وغادر المكان في الحال.
وفي الليلة التالية عاد هرمان إلى مائدة الميسر وكن الكل في انتظاره وكان الجنرالات والمستشارون قد انصرفوا عن لعبتهم الوست ليشاهدوا هذا المقامر الهائل. وقام الفتيان الضباط عن متكآتهم وأرائكهم لعين هذا السبب حتى الخدام أنفسهم تزاحموا في المكان حتى غص بهم. وأحدق الكل بهرمان إحداق السوار بالمعصم يتدافعون حوله ويتهالكون وكف اللاعبون غيره عن اللعب ليروا ماذا تكون العاقبة والمآل.
ووقف هرمان على المائدة وتأهب للعب وحده ضد شيكالنسكي الذي كان على شدة اصفرار وجهه لا يزال يبتسم. وتناول هرمان ورقة غطاها بكومة من البنكنوت. فلا والله ما كان ذلك بلعب وإنما حرب وقتال. وجلاد ونضال.(50/95)
غلط القوم لست تلعب بالأورا ... ق ولكن بأنفس اللعباء
وأرى أن رقعة الأدم الأح ... مر أرضا عللتها بدماء
وكأن الذي تدير على القو ... م حروباً دوائر الأرحاء
وأخذ شيكالنسكي يطرح الورق ويداه ترتجفان فبدت على اليمين (ملكة) وعلى اليسار (فنط)
فصاح هرمان: لقد فاز الفنط وأظهر ورقته
فأجابه شيكالنسكي بأدب واحترام: لقد خسرت ملكتك.
فانتفض هرمان مذعوراً ونظر في ورقته فإذا هي الملكة فلم يكد يصدق عينيه أو يفهم كيف غلط مثل هذه الغلطة.
وفي هذه اللحظة خيل إليه وهو ينظر في ورقته أن الصورة المنقوشة عليها أعني الملكة كانت ترمقه بابتسامة الهزء والسخرية والتهكم وإنها لتغمز ليه بعينها، ثم أدهشه عظم الشبه بينها وبين.؟. . .
فصاح وقد تملكه أشنع الرعب والفزع:
الكونتيس العجوز!
وطفق شيكالنسكي يجمع أرباحه. ولبث هرمان فاقد الحركة برهة من الزمن ولما غادر المكان علت فيه جلبة القوم ولجبهم.
وقال اللاعبون: إنها لأشنع خسارة.
واستأنف شيكالنسكي تفنيط الورق وجدد القوم المقامرة.
جن هرمان وهو الآن سجين مستشفى المجاذيب بغرفة رقم 17 وهو لا يعي قولاً ولا يحير جواباً ولكنه لا يبرح يوسوس باستمرار وبسرعة مدهشة: ثلاثة، سبعة، فنط، ثلاثة سبعة، ملكة، ثلاثة سبعة، فنط، ثلاثة، سبعة، ملكة. . . . . .
وتزوجت ليزافيتا إيفانوفنا بفتى جميل - ابن رجل م وكلاء الكونتيس المرحومة - حسن الحال ناعم العيش.
ورقي تومسكي إلى رتبة كابتن وزوج من البرنسيس بولين.
(تمت)(50/96)
العدد 51 - بتاريخ: 1 - 1 - 1920(/)
قصة رنيه
للكاتب الفرنسي الخالد شاتوبريان
نقلها إلى العربية الكاتب عي أدهم أفندي وأثر بها البيان ومهد لها بهذه الكلمات الآتية قال:
كلمة عامة - حياة كل إنسان كنغمة يرن صداها ثم يغيب في صمت الأزل العميق حيث لا يقدر لها رجوع طوال الأيام وأبد الليالي، وتتفاوت تلك النغمات، فمنها النغمة الضاحكة المستبشرة، ومنها النغمة الموجعة الحزينة ومنه النغمة الثائرة المتمردة الساخطة المتبرمة، وكذلك كانت حياة ذلك العبقري التعس الحظ شاتوبريان، فقد عاش منشقاً على عصره خارجاً على أوضاعه وسننه، وكانت حياته عقداً منتظما من الألم، وسلسلة متصلة من الضجر والملل، وكان يحس طول حياته أن العدم كان أولى به من الوجود وكان يرى أن حب الحياة - تلك الغزيرة التي تسوقنا إلى الاستمساك بالحياة وتدفعنا إلى الرغبة فيها في أشد الأوقات محنتنا وتغطى على مساوئ العيش وعيوبه - كان يراها عارضاً من الجنون، وكان يدعو الله أن يشفيه منه، وقد كان شاتوبريان مطبوعاً على الشاعرية وكانت المواهب الأدبية متأثلة في نفسه، وإن شعراء العالم العظماء يسيرون إلى نواحي الخلود في صفين، فريق ترى حياته ممثلة مصورة في تواليفه وفريق يعكسون صورة العالم في كتاباتهم كما تتراءى الصور في صفحة البحيرة الهادئة الصافية، والنوع الأول يستثير الحب والعطف ويرجح فيه الجانب الأخلاقي على الجانب الفني، والنوع الثاني يبعث على الإعجاب والإكبار وللجانب الفني فيه القسط الأوفر، وقد كان شاتوبريان من شعراء النوع الأول ولذا ترى شخصيته جلية واضحة في كل ما يكتبه، وكل ما يقوله يدور حول محور هذه الشخصية.
مولده ونشأته ووراثته - ولد في سنة (1768م) وهي واقعة على المحيط في مقاطعة بريطانيا في الشمال الغربي من فرنسا، والرياح التي تهب في تلك المقاطعة تملأ النفس بالرهبة والحزن الغامض الخفي الذي ينتقل بالروح إلى نواح مجهولة قاضية ويلبس الجو هناك لبسة الحزين فترى السماء ملتفة في سود السحائب ولأمواج المحيط هناك أرانين شجية كأنما في طيها سر من الأسرار الأبدية وقد قضى شاتوبريان أيام طفولته في تلك النواحي، وللمشاهد التي يراها الإنسان في طفولته تأثير لا يزول على حياته فإن ظلالها(51/1)
لتنبسط وتخيم على أكناف العمر وكلما أقصانا عنها تيار الزمن كان خيالها أكثر لجاجة بالذهن وتشبثاً بالخاطر.
وسكان بريطانيا من أصل سلتي ففيهم طبائع السلتيين وأمزجتهم مثل الحزن الصامت الذي اشتهر عن الشعب السلتي والحياء والانقباض عن الناس لأنهم يعرفون بساطة نفوسهم وبعدهم أساليب المكر فيتحامون جانب الأجنبي عنهم لئلا يقف على سر تلك السذاجة فينتفع منها، والحياء من دلائل العواطف العميقة والوجدان الحي والإحساس القوي المندفع، وقد يصمهم من يجهل أمرهم بالجفوة وخشونة الجانب ولكن من يستشف قراره قلوبهم يرى وراء تماسكهم طبعاً سمحاً وماء صافياً وفؤاداً يجيش بالعواطف الرحمة والحب، ومن عاداتهم إكبار قبور آبائهم وإجلال ذكر أجدادهم واحترام المرأة وتوقيرها، وقد ورث شاتوبريان منهم هذه الطبائع كما ورث من أبيه العبوس والتقطيب ومن والدته التقوى والتدين وقد ولد في أسرة كريمة المناسب شريفة المحتد فورث أيضاً تقاليد تلك الأسرة.
روح العصر الذي عاش فيه - كانت أوروبا في الأيام التي أظلت حياة شاتوبريان تعاني عصور انتقال من أشد عصورها اضطراباً، وعصور الانتقال عرضة إسهام التطور الفجائي لأن سير الانتقال قد يسرع فتحدث التوراة وقد عاش النصف الثاني من القرن الثامن عشر وكان عصر الحاد وشك ومتناقضات إذ رفع فيه الإنسان من وجهة إلى مستوى الآلهة ومن ناحية أخرى رفع عنه آخر نقاب يستر عن النواظر وحشيته وحيوانيته وقد حدثت فيه الثورة الفرنسية تلك الأساة الكبرى وعاش النصف الأول من القرن التاسع عشر وقد كانت أوائل ذلك القرن الجليل الشأن المفعم بالحوادث أيام اضطراب وفوضى وكانت أعلام الملل تخفق في كل ناحية من أوروبا ولم يظهر شراح لفلسفة التشاؤم مثلما ظهر في ذلك الوقت، ومعرفة أسباب ذلك توقفت على درس العوامل المختلفة التي أثرت على ذلك القرن وأري أن هناك صلة شديدة بين تلك الآمال التي كانت مستسرة في النفوس قبل الثورة وبين تراميها إلى أبعد مطارح حسن الظن بإمكان تسويد مبادئ المساواة والإخاء والحرية ثم نكوصها على الأعقاب ويأس العالم من تحقيقها بعد ذلك وإنك لتقرأ في دواوين شعراء هذا العصر ما يملأ النفس ظلمة قنوط ويلهب الفؤاد حزناً وأسى في عصور الانتقال يخافون المستقبل فلا يعلقون عليه أملاً ويكون كرههم للمستقبل بقدر حبهم للماضي والعلة(51/2)
في ذلك أنهم يميلون إلى تفهم الماضي وفحصه ليقيسوا عليه المستقبل فيتقدموا نحوه بقلب مشبع وجأش رابط.
ومن هنا تطرق إلى شاتوبريان الميل إلى التاريخ فقد كان دائم المسير في صحراوات الأزمنة الخالية متجولاً بخياله في أطلال الأمم القديمة البالية كأنه يرى سكناً للنفس في أطلالها الدوارس وآثارها العوابس وأحوال الأمم في عصور الانتقال لا تبعث على حسن الظن بالحياة ونكتفي بهذه الإلمامة في وصفها.
أخلاقه وأطواره - كانت أخلاقه نارية مستعرة هائجة مثل أمواج البحر المغتلمة منظرها يبث الروعة في النفس ويتغشى القلب حيالها مسايل الإعجاب والرهبة ولكنها كميا البحر مرة المذاق لا تجد النفوس سبيلاً إلى إساغتها وكانت نقمته تترامى إلى كل غاية وتريد أن تبلغ شأو كل مطلب ولما كان لا يجد في الوجود شيئاً يعقد به حبه كان يرجع إلى نفسه فيقصر حبه عليها وتظهر هذه الصفات في الكاتب إذا اصطدم بروح عصره فقد كان عصره عصر الحاد وسخرية بالأديان وكان هو متديناً وكانت الديموقراطية تتمشى مبادئها وهو أرستقراطي متحامل على الديموقراطية ويرى فردريك أميل في شاتوبريان نفساً معذبة وحياة بائسة شقية ولكنها مشرقة بأنوار الفخار متألق في أضاء العظمة وإنك لتلمح من كلماته عظمة الحزن وجلاله وروعة الأسى وفخامته.
وقد كان قوى الروح محتدم العواطف جم الاحساسات حافل شعاب الفكر بكل سري من الخواطر عبقري من الأفكار وكان خياله متوثباً جوالاً يمر بين الزمن الماضي والحاضر عن كمال يتغنى به وعظمة يشيد بذكرها ولم يكن خياله على اتساعه من تلك الخيالات التي تؤثر على النفس بما تعرضه على الذهن من تهاويل وصور الفكر المجرد كما ترى ذلك في أصاغر الشعراء ومقعدي الكتاب بل كان أساسها الشعور المتدفق الجائش في حنايا أضلعه والفائر في مطاوى نفسه ولقد كان شديد الشعور بنفسه وبعظمتها إلى حد الطفولة، والغرور الذي كان متمسكناً من نفسه يذكرنا بغرور البحتري وهو غرور مقبول حين الموقع في النفس.
وقد كان شاتوبريان يزدري أدباء عصره ويدعوهم بالأقزام الذين يلوثون بالأدب ويدنسون أديمه النقي وصفحته الطاهرة وكان ينتقد من تقدمه من الأدباء بكلمات قارصة ومن أقواله(51/3)
عن برناردين بيير فيه ضيق الفكر وإسفاف الروح وكان ينتقض بيرون ويتهمه بالسطو على أفكاره وإهمال ذكره وكان يرى أن الناس لا تستطيع فهمه لأنهم أقل وأضأل من ذلك، وجميل كل هذا الغرور من شاتوبريان لصدوره من نواحي العبقرية.
تأثيرات الرحلات في نفسه - طاف شاتوبريان أوروبا وزار الأراضي المقدسة وشواطئ أفريقا وسافر إلى أمريكا فترى من ذلك أنه كان جوابة أقطار وقد زاده ذلك بسطة في الخيال وفسحة في الفكر ومقدرة على الوصف.
مزاجه ونفسيته - أقوي العناصر التي تكون شخصية شاتوبريان عنصران وهما عنصر التشاؤم وعنصر التدين وقد يستغرب الإنسان جمع هذا الرجل لهذين العاملين فإن نور الدين كأن من واجبه أن يبدد دهمة التشاؤم وإن تهب من ناحيته على النفس نسمات القناعة والرضى والاغتباط بالكون وحكمته ولكن بعض أنواع التشاؤم يستصحب الروح الدينية وقد طالما استبهمت حقيقة تلك العلاقة على أفهام النقاد وانطوى سرها عن علمهم وقد سهل اكتناه سرها الفيلسوف الألماني إدوارد فون هارتمان في قوله إن الأصل في الدين هو أن الروح الإنسانية كثيراً ما تلتقي بالشر وتصادفها الخطيئة وينشأ من ذلك أنها تحاول أبداً بحث ذلك الشر الذي يعترض سبيلها وتدبر تلك الخطيئة التي تعتاق سيرها لتعرف مكامنها فتأمن صولتهما.
وإن من يسائل نفسه عن كيفية تصرفها حيال الشر ومسلكها أمام الخطيئة وكيف يلائم بين الشر وبين ضميره القلق من الشر ويوفق الخطيئة وبين روحه النافرة منها - أقول من يسائل نفسه عن هذين أحسبه سائراً على طريق الدين الواصل ومسلكه اللاحب وإن التأثيرات الموجعة التي تتواتر على النفس من ناحية الشر وتترادف عليها من صوب الخطيئة إذا لم ترجع كفتها في الميزان تمام الرجحان انطفأ الحماس الديني المشبوب وخمدت جمرته وكلما اشتد الشك - ذلك الشك الذي يسير على مدرجة التفكير في الشر ويتبع آثار آلام الخطيئة وتم له الانتصار والغلبة على جانب الاقتناع بالدنيا والابتسام إليها وكلما كان التشاؤم له الشعب الأوسع من النفس والجانب الأكبر فيها، وكلما امتد رواق سلكته على سائر منازع النفس وأميالها راح الدين وهو على أساس ثابت الدعائم موطد العمد، وإذا غاب عن النفس ذلك التوجه إلى التشاؤم امتنع على الدين أن يسير على سجيته(51/4)
ويجري على طبعه.
وليس هذا بكاف في تفهم مزاج الرجل فقد كان يتنازع نفسه عوامل أخرى وإن نفس العظيم عالم تتصادم فيه العوامل المختلفة وتتصارع ولقد قال ماكس نورداو إن الإغراق في حب الإنسانية والمغالاة في كرهها ينشاآن من سبب واحد وعوارض عقلية متحدة والمزاج السوداوي كذلك قد يسوق إلى النسك التام واستصغار أمور الحياة واحتقار ملذاتها مثل المعري وفردريك أميل وقد يسوق إلى الأبيقورية أو الخيامية وهي أن يبادر الإنسان إلى الشهوات مخلوع العنان ويفرط في الحسية وفي مثل هذه الحالة النفسية تكون فكرة العدم العدم والفناء التام مائلى للذهن إلى جانب فكرة المسارعة إلى التمتع باللذات وشرب كؤوس المسرات قاطبة وهذا ما يشاهد في رباعيات وفي كتابات شاتوبريان وما يغلب على أكثر العصور السوداوية عصور التشاؤم والممل مثل عصر شاتوبريان ومثل عصر أبي العلاء المعري.
مكانه في الأدب - كان شاتوبريان طاتباً ضليعاً ومن أكبر الفرنسيين بسطة في الأدب وهو في ربيئة كتاب العالم وأكبر قواد النهضة الروانتية المعروفة في الأدب الفرنسي والتي كان من فرسانها بعد أن مهد لهم السبيل شاتوبريان بما بثه من الروح الجديد هيجو ولإمارتين وغيرهما ومن أهم مزاياه الافتتان في وصف مناظر الطبيعة والتغني بجمالها وهو كاتب يهز النفس قال عنه جوبير إن كانت كتابات برنارد دي سنت بيير مثل صوء القمر فإن كتابات شاتوبريان مثل ضوء الشمس.
آراء النقاد فيه وفي القصة - يعرف أكثر النقاد قيمة شاتوبريان ويكاد يقع إجماعهم على أن قصة رينيه هي أبدع كتاباته ونجتزئ هنا بآراء ثلاثة من أكبر نقاد الدنيا.
رأى هنري فردريك أميل - إن شاتوبريان بدون أن يعرف أو يقصد أخرج للناس واضحة عن نفسه في رينيه لأن رينيه هو شاتوبريان وهذه الصورة الصغيرة هي من كل الوجوه سفر خالد كامل وقد لا تشعر الأجيال القادمة يحب لرينيه ولكنه سيبقى خالداً كأبي الهول يفسره كل عصره تفسيراً خاصاُ - وكذلك كل شيء جليل.
رأي سنت بيف - بين الصور والتماثيل المختلفة التي حاول شاتوبريان أن يبرزها ويعرضها على أنظارنا قد وفق في إخراج صورة واحدة خيالية لنفسه ترى فيها محاسنه(51/5)
متصلة بعيوبه إتصالاً خالداً وهذه الصورة هي قصة رينيه.
رأي ماثيو أرنولد - كان أرنولد يلوم الإنكليز على عدم تقديرهم لشاتوبريان وإهماله قصة رينيه وكان يؤثرها على منفرد وقابيل وهما كما يعلم القارئ أشهر ما سطرته براعة الشاعر بيرون وكان يرى في شاتوبريان روحاً قوية مسوقة بالفطرة إلى دراك الجلا والجمال.
وبعد قراءة ما تقدم والمقابلة بينه وبين ما في القصة يتضح لنا أنها نوع من الاعترافات النفسية وأخت رينيه المدعوة أمليا هي أخت لشاتوبريان كانت تدعي لوسيل.
* * *
قصة رينيه
منقولة عن شاتوبريان
لما اطمأنت الأسفار بالرحالة الفرنسي رينيه في قبيلة الناتشيز لم يجد معدى عن الزواج بهندية جرياً على عادة تلك القبيلة ومساوقة لتقاليدها ولكن لم نستحكم بينهما أواصر الزواج لأنه كان يهفو به إلى أحشاء الغابات نزاع إلى الحزن قد علق بنياط قليه ونصرف بأعنة نفسه وكان يطوي هناك غلائل الأيام منفرداً يغالبه الأسى ويساوره، وتروحه الأفكار وتباكره، وكان يشبه المستوحشين بين المستوحشين، ولم يكن يخالط أحداً حاشى شكتاس الذي أقامه رينيه مقام الوالد والأب سويل الراهب في حصن روزالي، وكان لهذين الشيخين في نفسه المكانة السامقة والمنزلة الشماء، وقد اقتعد الأول غارب تلك المكانة بسلاسة أخلاقه وسهولتها، والآخر على خلافه إذ رقى ذروة تلك المنزلة بصلابة طباعه وحزونتها، ومن وقت صيد كلب الماء الذي سرد فيه الشيخ البصير شكتاس حوادث حياته على مسامع رنيه لم يرتض زنيه الكشف عن حوادثه وإبراز أخباره، وقد كان شكتاس والأب سويل بل لا ينفكان يستشيران علم دفينته ليصلا إلى مكتوم سره وكنون أمره، وليتعرفا أية ملمة قد حدث بأوروبي من أسرة كريمة المنبت وضاحة الحسب على أن يُنضى جلباب الشباب في صحراء لويزيانة، وكان رينيه يعتذر عن رده طلبهما بقوله أن تاريخ حياته ليس فيه ما يستلهي الخاطر ويستوقف الناظر، وإنه محدود بأفكار قد استفاضت أمواجها في نفسه، وإحساسات قد ثارت عواصفها في قلبه، وأما الحادثة الحافزة له على الرحلة لأمريكا فكان(51/6)
يرى أن الأجمل به أن يلفها في أكفان النسيان ويكسوها من ظلمة الأبد، وقد استنت أعوام على هذه الوتيرة لم يستطع الشيخان في أثنائها أن يعلما مخزون دخيلته، ومكنون طويته. ثم وصله خطاب من أوروبا ضاعف أحزانه وأزكى قدة همومه، ولما تمادى به الأسى وكادت رواسي نفسه تميد من الألم فزع إلى صديقيه الشيخين وقد زادهما ذلك رغبة في استجاء غامض سره واستفتاح مغاليق نفسه، وقد أظهرا من حصافة العقل وركانة الحلم م لم يجد بعده ندحة عن إرضائهما، فضرب لهما موعداً لأليقص عليهما حوادث حياته التي لم يتمرس بتجاريبها ولم يزاول من أمورهما شيئاً، ولكن ليفضى إليهما بإحساساته الروحية وأسرارها، ففي اليوم الحادي والعشرين من ذلك الشهر الذي يسميه الهنود شهر بدر الأزهار صمد رنيه إلى كوخ شاكتاس واعار ذراعه للشيخ البصير وسدك به إلى سرحة فرعاء على ضفاف المسيسبي وكانت جوانب الليل قد تصدعت عن أنوا الفجر المتبلج، ولم يتريث الأب سويل عن الحضور في الميعاد المضروب، وعلى كتب في السهل كانت تتراءى للناظر قرية الناتشيز بأشجار توتها وأكواخها التي كانت تشابه خلايا النحل، وكانت المستعمرة الفرنسية وحصن روزالي قائمين في الناحية اليمنى، وكانت الخيام والمنازل التي لم يكتمل بناؤها والحصون التي لم يتم تشييدها والمزارع وقد انتشر فيها الزنوج البيض والهنود - أقول كانت كل هذه المشاهد في تلك البقعة تمثل للرائي البون الشاسع بين عادات المتدينين وعادات الهمج العاطلين من المدنية في أوضح الصور وابهر المجالي، ومن ناحية الشرق وشط تلك المناظر الرائقة كانت الشمس مقبلة تتهادى من وراء قنن جبال الأبالنسية المتكسرة، وقد كانت تلك القنن ترتسم على صفحة السماء المذهبة بأضواء الشمس في صورة حروف مصبوغة بلون لازوردي، ومن ناحية المغرب كانت أمواج المسيسيبي تطرد وقد رفرف عليها صمت فخم ضاربة أعطاف الهضبة في حلال لا يدركه التصور ولا يناله الوهم، فطار ذلك المنظر الأنيق بفؤاد الفتى وأخذ بلب الراهب فأنشأ يمتدحانه وقد احتواهما الأسف للشيخ البصير شاكتاس إذ ليس في وسعه أن يسرح الطرف في هذه المشاهد البديعة، ويتملى من تلك المحاسن الزاهرة، ثم أن الأب سويل وشكتاس اقتعدا العشب وأخذ رنيه مجلسه بينهما، وبعد سكون لم يطل أمده أخذ ينثر الكلام الآتي على مسامع الشيخين وهم جلوس تحت ظلال تلك السرحة المنهدلة فقال:(51/7)
لا أستطيع في مستهل قصتي أن أكافح الحياء إذا ماجت بي أمواجه، فإن صفاء قلبيكما وسكون الطبيعة السائد حولي يغريان بي الخجل، وكم ستأخذكما الرحمة لي فإن ما استصب علي من الأمور وأحاط بي من القلق يكشفان لكم عن نفسي التعسة وجدي العاثر.
ومثلكما من قد تلون به الزمن، وتصفح الليالي، وعرف هموم الحياة قاطبة، فماذا تظنان بفتى في روق الشباب مجرداً من القوة، منسرحاً من إيراد الفضيلة، يرى نفسه في نفسه الجحيم الذي قد سجر أضالعه وأضرم أنفاسه، ولا يشكو إلا من آلام قد استدرجها إلى نفسه، وهيأ لها المتغلغل إلى سويداء قلبه، ولكن لا تفرطا في عذله، ولا تجاوزا في لومه الحسد، فكفاه من مرارة الألم ولوعة الحزن ما أرمض جوانحه، وألهب جوارحه.
لقد فجعت في والدتي ععند قدومي الحياة، وسحبت منها سحباً، وكان لي أخ قد خصه والدي بناصر الدعوات، وصالح البركات، لأنه أصاب فيه الولد البكر، وأما أنا فقد دفعت من ساعة مولدي إلى يد المربيات ولذا لم أذق نعيم الأبوة، ولم أنهل من حياضها العذبة الصافية، وكنت ناري المزاج غير متزن الأخلاق، تارة ضرب النفس طلق المحيا مرتفع الصوت دائب الحركة، وطوراً تدب نحوي ظلال الأسى السود فآوي إلى الصمت والإنطواء، وكنت أجمع حولي الغلمان لذاتي، ثم أنسل من غمارهم، وأعتلي هامة رابية لأعلق نظري بالسحاب السائر يطوى مراحل الفضاء، وليتسلسل في مسمعي دويّ سقوط الأمطار على أوراق الأشجار، وكنت إذا أظل الخريف أرتاد قصر أبي وهو يتوسط غابة في إقليم نائي مكان ويشرف على بحيرة، ولما كان يعتاق جناني الهيبة أزاء والدي صرت اسكن إلى أختي امليا وأصبح القرب منها مسلاة نفسي، ومتنفس خاطري وقد أربت عقدة الحب بيني وبينها مشاكلة أميالها لأميالي، وكان عمرها ينيف على عمري بسنوات قلائل، وكنا شغوفين بتسلق التلال وبالسياحة في نواحي البحيرة وكنا نجوس خلال الغابات ونتدرج في مسارحها تحت أوراقها الأشجار المتساقطة، وإن الأنس من الأشياء لا أنس تلك الأيام حيث رياض العيش خضر نواعم، ووجود المسرات وسيمات بواسم، وإن ذكرياتها لتملأ نفسي بهجة وسروراً، فلا فقدت يا أحلام الطفولة رونقك، ولا ألوت الأيام ببهجتك، ويا ذكر البلاد التي عقت بها تمائمي، ونضوت فيها الحداثة، لا تناول البلى بشاشتك، ولا عاث الزمان في زهرتك، وفي بعض الأحايين كنا نسير وقد ضرب السكون فوقنا أروقته(51/8)
مسلفين الآذان لهمس الخريف واصوات الأوراق الجافة متلذذة التي كنا نطؤها بالأقدام في حزن، وأحياناً في تلك الملاهي البريئة كنا نتبع طير السنونو في البراري وقوس الغمام على القمم الماطرة، وكنا يروقنا أن نترنم بالأشعار التي كانت مشاهد الطبيعة تهتاجها في نفوسنا وقد نبتت في ثرى نفسي بذور الشاعرية، وليس هناك شيء أحفل بالشاعرية وما تتطلبه من من نضارة العواطف وغضارتها وصفاء النفس وابيضاضها من قلب لم يتبلج عليه أكثر من سبعة عشر ربيعاً، ولا غرو فإن فجر الحياة مثل فجر النهار، فياض بالطهر، ومفعم بالصفاء، مزدحم بالتصورات الجميلة غاص بالموسيقية والنغم. وكنت أسمع في أيام الآحاد والأعياد في الغابة الفسيحة الأرجاء، وبين أشجارها الفينانة، صوت جرس الكنيسة، وكان الهواء يستحمل إليّ دقاته من إقليم متراخية بعيدة الشقة، وكان ذلك الجرس يدعو المزارعين إلى انتحاء المعابد للصلاة، وكنت أستند على جذع شجرة من شجرات تلك الغابة صاغياً إلى رنات ذلك الجرس المتدفقة النقية، وكانت كل دقة من دقاته تحمل إلى روحي الصافية البريئة طهارة الحياة الريفية، فكنت كأنما أتنسم من تلك الدقات رياً شذاها، وكأن كل نبرة من نيرانه كانت تروي له عن سكون الخلاء وصمته، وتحدثني عن جمال الأديان وإشراقها ورونقها وبهائها، وتعيد في نفسي ذكر طفولتي الحزينة وأيامها المورقة الأيك والوريقة الضلال، وكيف لا يتزلزل قلب الإنسان مهما كان قاتم الأرجاء مظلم النواحي عندما تصلفح الآذان دقات جرس الكنيسة مقبلة من ناحية أوطانه البعيدة مآلف طفولته ومنازل قومه - ذلك الجرس الذي اهتز طرباً يوم ميلاده والذي أطار أنباء قدومه الحياة، والذي نقرأ فيه تاريخ أول نبضة من نبضات القلب، والذي نشر في شتى النواحي ومطرف الجهات سرور الأب الصالح التقي وآلام الأم ثم أفراحها التي لا يمكن لكاتب تصويرها، وإن صوت الجرس من ناحية الوطن يفيض على إحساساتنا من عواطف الدين والعائلة والوطن، ويذكرنا بالمهد واللحد، ويعيد لنا صور الماضي والحاضر.
ولطالما كنت أنا وامليا نصعد في صعود من تلك الأفكار الوقورة الرفيعة، قد رسب في قراره نفسينا ميل إلى الحزن قد نكون ورثناه من والدتنا أو أن يكون هبة من الله قد اختصنا بها، وفي تلك الأيام استكف والدي داء أعجله إلى القبر، وقد فاضت روحه وهو في ذراعي، ورأيت صورة الموت على شفة ذلك الوالد المتفضل الذي منحني الحياة،(51/9)
ووهبني الوجود، وكان لهذا المنظر في نفسي عليا التأثير ولا يزال ذكره إلى الآن يتجدد في قلبي ويتردد في خاطري، وهذه أول مرة تجلى فيها لناظري واضحاً جلياً خلود الروح، فقد كان لا يجول في بالي إذ ذاك أن هذه الجثة الهامدة الميتة هي التي أوحت إلي الفكر، وشعرت أنها تتصل بمنبع آخر وقد استولى على مشاعري حزن مقدش شماوي كان أقرب ما يكون إلى السرور، واتسق لي الأمل أني سألتقي بروح أبي، وإن زهرة حياته ستعود بعد التصوح إلى النضارة.
وقد ظهر لي منظر آخر زادني إعتقاداً بتلك الفكرة السامية وذلك أني رأيت ملامح وجه أبي وقد غشاها الجلال، واكتست بهاء وروعة، فلم لا يكون ذلك السر المبهم دليلاً ناهضاً على خلود النفس؟ ولك لا يكون الموت الذي وسع علمه كل شيء قد مسم تلك الجبهة بأسرار الحياة الأخرى؟ ولم لا يكون في القبر رؤيا فخمة للأبدية.
وكانت امليا وقد آدها حمل تلك الأحزان قد لاذت بحمى برج حيث كان ينسجم في آذانها تحت قبواه المبنية على الطراز القوطي أناشيد القساوسة في الجنازة ودقات الجرس المحزن، وقد شيت والدي إلى مثواه الأخير وموئله من ظلم الحياة، ورأيته وقد أهيل عليه التراب ووطئنه إذ ذاك أقدام الأبدية والنسيان، ودبت ظلال المساء غير مكترثة على قبره، ولولا تعلق ابنه وابنته بذكره لكان وكأن شخصه لم يلح على مسرح الأيام، وكأن اسمه على صحيفة الدهر، واضطررنا أن نبرح منزل والدنا لأنه صار من ميراث أخي، فعدت أنا وامليا وساكناً جماعة من ذوي قربانا، ولما حمتني الأقدار الدخول في مسالك الحياة الخادعة، أعملت فيها الفكر الواحدة بعد الأخرى قبل أن أخاطر بنفسي في اعتسافها وأقذف بمهجتي في إثارة غبار طرفها، وكانت امليا تزين لي الحياة الدينية، وتفيض في ذكر محاسنها وفي السعادة التي تتقاطر على النفس من صوبها، وكانت تقول لي وهي تنظر إليّ نظرات يتخللها الحزن وينبعث منها الأسى أنك أنت السبب الوحيد الذي يصلني بالدنيا، ولما امتلأت شعاب النفس بالاحساسات الدينية من فيض أحاديث امليا كنت كل يوم أزور صومعة قريبة من محل إقامتنا، وقد امتلكني مرة ميل شديد إلى أن أمضي حياتي هناك، ولله ما أسعد هؤلاء الذين قضوا حياتهم في سكون وعزلة، والأوروبيون دائماً في انفعال مستمر، ولذا تنزع نفوسهم إلى الراحة والسكون، وإنه كلما توالت القلب الثورات وترادفت(51/10)
الاضطرابات، استمال النفس للسكون، واستروحها الهدوء. وتقام هذه الأديرة في بلادي المفتوحة الأبواب للبائسين، المباحة الحمي للمستضعفين محتجبة في الأودية التي تحمل إلى القلب شعور هؤلاء التعساء المحزونين الغامضين، وكأنها تهجس في النفس وتوسوس في الخاطر بأملهم في الخلاص، وفي بعض الأماكن تشاد تلك المناسك على الربوات والرامات، فتظهر هناك الروح الدينية سامية الطرف تلعاء الجيد كأنها أزهار الجبل مرتفعة نحو السماء لتتسنم رياها العبق، وشذاها الفواح، وكنت أنظر الاقتران الجليل بين المياه والغابات من ذلك الدير القديم العهد الذي عقدت العزيمة على الإقامة به مجهول المحل مغمور الذكر نائياً عن تقلبات الخطوط وتصاربف الزمن.
ولقد كنت أطوف منفرداً نواحي ذلك الدير المنعزل، ولما كان القمر يريق أضواءه المفضضة على أعمدة الأروقة ويرسم ظلالها على الحيطان المقابلة كنت أتريث في السير متأملاً ذلك الصليب الذي يسم أراضي الموت، وكنت أرى الأعشاب الطويلة التي كانت تنمو بين أحجار القبور.
ولقد كانت تلك القبور قبور الذين عاشوا بمعزل عن الدنيا وعبروا بمدرجة الزمن من سكون الحياة إلى سكون الموت تملأ قلبي بضروب كره الحياة وصنوف احتقار العيش، ثم نكبت عن تلك الخطة ولست أدري إن كان باعث ذلك هو القلق المستمكن من نفسي أو سابق انحرافي عن حياة الأديرة، ثم قامت في نفسي فكرة السياحة والتطواف فودعت أختي وقد ضمتني بين ذراعيها ضمة تبينت فيها أثر السرور وظل الفرح كأنها كانت جذلة النفس لفراقي، وقد بعثني صنيعها هذا على إرسال الفكر في المحبة البشرية وتناقضها العجيب، ولما كنت الآن في عفرة الشباب محشوّ الجوانح من حماس وقوة امتطيت ثبج بحر الحياة المصطفق الآذي، والمتناووح الرياح، وما كنت أدري ثغوره ومراسيه، ولا أخطاره ودواهيه، فيممت أطلال الأمم التي سحبت عليها الذيول أرواح الزمن، وعصفت بها أعاصير الفناء، ورأيت بقايا رومه وآثار اليونان بلاد القوة والمجد التالد، والذكر المشرفات الخوالد، حيث القصور مدفونة في كثبان الرغام وحيث أضرحه الملوك قد أجنتها الأشواك، فهناك تتجلى قوة الطبيعة أزاء ضعف الإنسان، زهناك يرى المشاهد فصيلة من فصائل النبات نخنرق أحجار تلك القبور الصلبة وتنفذ منها، بينما قد أعيا رفات هؤلاء الموتى(51/11)
الجبابرة الأشداء رفع تلك الأحجار والخلاص منها.
وفي بعض الأوقات يرتفع عمود عال ويخرق سماوة الجو في وسط الصحراء لا أنيس بها كما تنهض فكرة كبيرة من وقت لآخر في نفس قد نالت منها حادثات الليالي وهدمت صروحها صروف الزمن، وكنت أقضى اليوم مفكراً في تلك الآثار وبين لجج من التأملات وكنت أرى الشمس - تلك الشمس التي أبصرت بناء تلك المدن - جانحة للغروب تحفها الروعة والجلال لقد كانت تغرب الآن عن تلك المدن وقدر قمها الدهر في طراز العفاء وكنت أرى القمر يرتفع في صفحة السماء الصافية وكانت أشعته توضح لي مواقع القبور الشاحبة بين القارورتين المكسورتين وكان القمر ينير بسناه المفضض أحلامي وكنت ألمح شبح تلك العصور الغوابر إلى جانبي هائماً في بيداء التفكير ثم أمسكت عن الحفر في تلك التتوابي التي لم أكن أهز منها سوى رفات مجرمين ثم أردت أن أوازن بين الفضائل التي اكتسبتها من الأمم الحية وهل هي أكثر عدداً وأحمد أثراً من الفضائل التي تعلمتها من الأمم البائدة، وحاولت أن أقابل بين الأحزان التي تسربت إلى نفس من الحاضر وتلك التي خلصت إلي من الماضي فلما كنت يوماً أجوب نواحي مدينة من عظيمات المدن ومررت خلف قصر في فناء منعزل مهجور شاهدت تمثالاً يشير بأصبعه إلى مكان شهير بضحية من ضحايا التاريخ ووقد ملك صمت ذلك المكان عليّ مشاعري وغيض من جلادتي ولم أكن أسمع هناك غير أعوال الرياح وأنينها حول رخامه الذي كانت تخفق فوقه أعلام الحزن وكان هناك فريق من الصناع عند أقدام التمثال يستريحون في أكنانه ثم يعودون إلى تحت الأحجار وصقلها وكان يبدو عليهم لوائح عدم الاكتراث فسألهم ما شأن هذا فلحظت على أحدهم أنه يشق عليه أن بحدثني قصته وعلى آخر أنه يجهل النكبة التي ترجع أيام التمثال إلى عهدها.
وقد أصبت من تلك الحادثة المقياس الصادق لحوادث الحياة وتقلباتها للإنسان وقيمته وضآلة له قدرة وصغر شأنه إذ كيف كان مصير هؤلاء الرجال حين رن صدى ذكرهم في الكون فقد ضرب الدهر من ضربانه وكر كرته فإذا وجه الأرض قد جدد وبدل، وكنت أنقب في رحلتي عن رجال الفنون وعن الرجال ذوي الأرواح السماوية الذين غنوا الأناشيد للآلهة على مزاهرهم الجوفاء الرنانة وعن السعادة التي تهدلت ظلالها على هؤلاء القوم(51/12)
الذين كانوا يجلون الشرائع ويفخمون شأن الأديان ويوقرون المقابر وقد صدرت هذه الأناشيد من شعب شعاره التقوى وفيها أثر تلك الموهبة التي تمنحها السماء للأرض ولقد كانت حياتهم زاهية مستنيرة بأضواء الإيمان السامي وقد تغنوا بأسماء الآلهة أفواد ملائكية وكانوا أعرق الناس في السذاجة وكانت أحاديثهم صافية كأحاديث الخالدين أو أحاديث صغار الأطفال وكانت لهم أفكار غريبة في الموت وكانوا يموتون وهم يجهلون الموت كما يموت المولود، وفوق جبال كاليدونيا غنى لي آخر مغن رن صدى صوته في تلك الصحراء أناشيد صاغها أحد الأبطال في تهوين آلام الشيخوخة وقد كنا جالسين على أربع مغشاة بالطحلب وكان هناك جدول تتسلسل مياهه عند أقدامنا وكانت الظباء ترعى على قيد منا بين بقايا حصن قديم وقد نشرت الديانة المسيحية أعلام السلام في تلك الأماكن التي كان بها للحرب والكفاح مستراد ومذهب - أما إيطاليا القديمة البسامة الثغر فقد برزت لي مبتكرات الفن وبدائعه وكنت أجوس خلال هذه القصور الفخمة التي نذرها الفن للدين ونفسي حشوها الرهبة والخوف المقدس فكم رأيت من العمد والأقبية وما اشجى هذه الأصوات التي كنت أتسمعها من تلك القباب ولقد كانت تحاكي صوت الأمواج في المحيط أو أنين الرياح في الغابات والأجم أو صوت الله في معبده ولقد كانت هذه القصور الشاهقات القوائم وتلك العمائر المستشرقات المعالم كأنها مصورة من مخيلة شاعر مهذب الخيال حافل الذهن ولكن ما الذي وعيته من الدروس بعد ذلك التعب والنصب وطيي الفيافي واختراق السهوب وركوب متن البحار؟ لم أجد ما أنيط به ثقتي عند القدماء ولم أر شيئاً عليه طابع الجمال وميسم الحسن عند المحدثين، فالماضي والحاضر تمثالان ناقصان الأول كسرته الأجيال السالفة والثاني لم يتسلم الكمال بعد من يد المستقبل وقد يشملكما العجب وأنتما من قطان الصحراء وروادها لأني في كل هذه السياجات لم أتكلم عن أثر من آثار الطبيعة. في يوم من الايام رقيت ذروة جبل أطنه حيث البركان المتنمر الثائر في وسط الجزيرة وقد شاهدت هناك مشرق الشمس في موكب الأضواء في الأفق المنبسط الممتد وكنت أرى صقلية صغيرة متضائلة كأنها بركة تحت أقدامي وكانت امواج البحر تتابع على مسافة وقد كانت الأنهار تتراءى لي كأنها خطوط على المصور الجغرافي. هذا ما كانت تلمحه عيني من جانب وأما في الجانب الآخر فكانت تطالعني فوهة جبل أطنه(51/13)
الناري وكنت أرى أحشاءه الملتهبة من بين ذلك البخار الأسود المرتفع من صدره، وإن شاباً ممتلئاً بالعواطف يجلس على فوهة بركان منهمل الدموع نادباً حظ الإنسانية التي لا يكاد يرى آثارها من مجلسه هذا لجدير أن تسعه رحمتكما ويشمله حنانكما ولكن مهما اختلفت ظنونكما برنيه فإن هذا الوصف يظهر لكما صورة أخلاقه ومن ثم كان صوب ناظري ما عشت كون عظيم القدر غير المحسوس وهاوية سحيقة مفتوحة إلى جانبي. . وبعد نطق هذه الكلمات استولى على رنبه سكون وتاه في أودية التأملات والتفكير فنظر إليه الأب سويل نظرة استغراب أما الشيخ البصير شكتاس لما لم يسمع كلام زنيه فأخذ يفكر في أسباب ذلك الصمت ثم لمحت عينا زنيه فريقاً من الهنود مارين من السهل وقد شملهم السرور ورفت على وجوههم لمحات الابتهاج والصفاء فاكتسى وجهه هيئة الحنو والرفق في أسرع من نغبة الطائر وانسكبت من عينيه الدموع دراكاً وهتف قائلاً أيها المستوحشون السعداء لم لا يتاح لي هدوء مثل المتاح لكم ولقد طوفت في الآفاق وجنيت من تجوالي ثمرة قليلة وأنتم تستظلون في هدوء تحت أشجار البلوط وتتركون الدهر وحبله على غاربه لا توكلون به فكراً وتدعون المقادير تجري في أعنتها غير حاسبين لها حساباً ولا تفكرون في غير حوائجكم ومرافق حياتكم وتصلون لي غاية الحكمة من طريق أقرب وأوضح من الطريق الذي نسلكه إليها مثل الأطفال بين اللعب والنوم وإذا أرهقكم يوماً ذلك الحزن الذي ينشأ وفرة السعادة وفيض النعيم فسرعان ما تصدع أرواحكم عنها قيوده وعيونكم موجهة نحو السماء تبحث هناك في رفق وهوادة عن ذلك الكائن المستور الذي يرسل عليكم رحمته ويحوطكم بعنايته. وهنا ضعف رينيه وأمسك عن الكلام وأسند رأسه إلى صدره فمد شكتاس يده في الظلام ولما قبض على ذراع ولده رنيه قال له بصوت تترقرق فيه مياه الإخلاص ويسمع من نبراته صدى الحب: يا ولدي - يا ولدي العزيز فاستفاق رينيه من غشيته عند ما ولجت في أذنه تلك الكلمات وسأل أباه الصفح عنه ثم قال شكتاس إن نبضات قلب مثل قلبك لا تكون متساوية متناسبة ولكن نهنه من غرب طباعك التي ساقت إليك الكثير من صنوف الأكدار وضروب الآلام وإذا كان نصيبك من شقاء الحياة وعثور الجد أوفى وأوفر من نصيب غيرك فلا يهولنك ذلك ولا يرعك فإن الروح الكبيرة الواسعة تحي من ألوان الحموم وأفانين الآلام ما لا تتيع له الروح الصغيرة فاستمر(51/14)
الآن في سرد قصتك وقد طفت بنا قسماً من أوروبا فحدثنا الآن عن وطنك وأنت تعلم أني قد زرت فرنسا وإن شوابك المودة تصلني بها وإني لصديان النفس إلى نهلة من أخبار ذلك السلطان ذي الأبهة والجلال لويز الرابع عشر الذي قد تصرم عصره وانطوى زمانه وقد زرت مقصورته الفاخرة وإني لا أنظر الآن سوى بعين الذاكرة وإن الشيخ الفاني المتهدم وما يحوطه م الذكريات ليشبه شجرة هرمة من شجرات السنديان في غاباتنا فإن هذه الشجرة تعجز عن أن تتزين بأوراقها فهي تستر في بعض الأوقات صلعها بالنباتات الغريبة التي تترعرع حولها وتتشبث بهاوقد هدأ هذا الكلام ثائرة رنيه فعاد إلى سرد حوادث حياته قال:
إني لآسف إذ ليس في وسعي أن أذكر الزمن من الأفيح والعهد الزاهر وإني لم أنظر سوى تصرمه في أبان طفولتي وقد كان عهده زال وزمانه مضى لما عدت إلى وطني ولم يحدث في أية أمة بغتة تحول أكثر ابتعاثاً للغرابة وإثارة للدهشة من ذلك التحول الذي حدث بفرنسا فقد أسفت من سماء العبقرية إلى الحضيض الأوهد من ضؤولة الروح وحقارتها وانحطت من توفير الأديان وإجلالها إلى عدم التقوى والطغيان وتدلت من الأدب والحشمة إلى الفجور والفسق وقد كان من العبث أن أصيب فيها هدوءاً لخواطري القلقة وسكوناً لرغبات نفسي الحرار ولم أكن قد استوعبت بعد دروس الحياة ولم يكن بي على رغم ذلك سرور الغفلة وراحة الجهل وكان يتبين لي من سلوك أختي الغريب وتصرفها المبهم معي إنها يلذ لها أن ازداد تبرماً بالحياة وعزوفاً عن العيش وكانت قد رحلت عن باريز بأيام قلائل قبل عودتي فكتبت إليها أخبرها أن في نيتي أن ألحق بها ولكنها أبطأت في الرد لترجعني عن ذلك العزم بدعوى جهلها بالمكان الذي قد تقصده لإنجاز ما ترومه من الأعمال فكم توارد عليّ إذ ذاك من الخواطر الحزينة في الصداقة التي يزيدها القرب فتوراً وانحلالاً ويعفى البعد على معالمها ولقد كنت إذ ذاك غريباً في وطني وأردت أن أغامر في طلب دنيا تلفظني ولا تأبه بي وروحي التي لم يسترقها الهوى كانت تسعى وراء ما يقتاد أهواءها ويستنزل حبها ولكني تبدي لي أني أهب من الحب وانعطف أكثر مما يمنح لي ورأيت الناس لا يتطلبون مني منطلقاً مهذباً سامياً ولا شعوراً رائعاً عميقاً وكنت أحاول أن أصغر من شأن وأقتل من قيمتها أجعلها في مستوى الجماعة.(51/15)
وكان الناس في كل مكان ينظرون إليّ نظرتهم إلى رجل مفعم النفس بتهاويل الخيال وتصاوير البطولة وقد كنت خجلاً من الدور الذي أحاول تمثيله ولما كان كل يوم يزداد نفوري من القوم ومن مشاغل حياتهم رأيت الإقامة في ضاحية من الضواحي حيث أمضي تحت غياطل النسيان وخمول الذكر وقد أصبت في الأيام الاولى من تلك الحياة سروراً وراحة ولما كنت مجهول المحل مغمور الذكر صرت أدخل أحياناً في غمار الناس وأندس في جموعهم تلك الصحراوات الواسعة الجرداء وكنت كثير الجلوس في كنيسة قل ورادها وكنت هناك أذهب الساعات في التأمل والتفكير وكنت أرى النساء الفقيرات يعفرن وجوههن في طلب المغفرة وحسن المآب وكنت أرى المذنبين راكعين للندم ولقد كان ينصرفون عن ذلك المكان بوجوه باشة رائقة وإن ذلك الصياح الأصم الذي كنت أسمعه من الخارج كان يشبه صوت أمواج العواطف المغتلمة وزوابع الدنيا الثائرات التي كانت تفني عند أقدام تمثال السيد ولقد كان الله هو الشهيد على سيل تلك الدموع التي أسلمتها المحاجر هناك وكم ألقيت نفسي عند قدميه في ضرع وخشوع متوسلاً إليه أن يرفع عني أعباء الحياة أو يغير مني الإنسان القديم ومن الذي لم يشعر بحاجته إلى تجديد نفسه وإن يعيد ريعان الشباب من أمواله الغدير ويقوي روحه من ينبوع الحياة؟ ومن لم يجد نفسه موقراً بأثقال من نفسه تعجزه عن الاضطلاع بعظيمات الأمور والنهوض بجلائل الأعمال من نبل وشرف وعدل وقسطة؟
ولما كان المساء يقبل ساحباً أذياله في الأفق كنت وأنا عائد في طريقي إلى مكان عزلتي أقف على قنطرة في الطريق لا شاهد غروب الشمس وقد كانت الشمس تتراءى للناظر وهي تضيء من بين الأبخرة الكثيفة المتصاعدة من المدينة كأنها تنساب في سيال من الذهب وكأنها تتحرك مثل (البندول) في ساعة الزمن وكنت أصل منزلي وقد أفرغ الظلام أبراده على أعطاف الارض وكنت أسير في طرق كثيرة التعاريج والمنحنيات منعزلة ولما كنت أرى الأنوار اللامعة من منازل الناس كان ينتقل بي الفكر إلى داخل تلك المنازل وما انطوت عليه من مناظر الشقاء أو مرائي السعادة وكانت تمر بي خاطرة ممضة مؤلمة وهي أن تحت سقوف تلك المنازل ليس لي صديق يخفق قلبه بحبي ويهتز للقائي وكنت وأنا أسامر هذه الأفكار اسمع دقات جرس الكنيسة وكان يرن صداها وينتشر في جميع النواحي(51/16)
فواأسفا على الإنسان ووارحمتا به فإن كل ساعة تمر تفتح قبراً بين القبور الإنسانية وتستذيب فؤاد الصابر الجلد وتستنزل دموع الأبي الأصيد ثم سئمت تلك الحياة التي ابتسمت لي زهرتها في الأيام الولى ومللت من ترديد أفكاري وأخذت أفتش في زوايا القلب وأحفر في قبور نفسي عما أبتغيه فلم أهتد إلى شيء ولكن خيل لي أن الغابات تؤنس من وحشتي وتجلى من حزني وقد استبدلت بي فكرة إذهاب حياتي في منفى ريفي ولم يكن قد مضى من حياتي سوى سنوا قلائل كنت أشعر أني قد عشت فيها الأجيال المتطاولة وقد حبذت تلك الفكرة وأقبلت عليها بالحماس الذي كنت أفيضه على كل ما يسنح ببالي ويهجس بخاطري وأسرعت في الانتقال لا تواري عن العالم في كوخ وقد كنت متهماً عند الناس بتقلب في الأميال وذبذبة في الأهواء وقد طالما أسحوا وأهضبوا في حديث عجزي عن البقاء على وتيرة واحدة وأسلوب متشابه وقالوا أني رهينة لكل عصاف من الأماني فريسة لكل جامح من الأهواء وإني شديد الرغبة في سرعة النفوذ إلى أعماق المسرات كأنما يضجرني بقاؤها واسترارها وكنت منسوباً إلى أني أتخطى حدود رغباتي وأجاوز دائرتها وإني من المسترسلين في البحث وراء كمال مجهول تحدوني على طلبه فطرتي وماذا على من العاب إذا كنت أرى في كل ما يحوطني حدود لرغباتي العريضة وأماني نفسي الواسعة البعيدة وقد صرت أشعر في تلك الأيام برغبة في توالي إحساسات الحياة وتكرارها وبقائها على طراز واحد وعندما كان يعتادني في بعض هذه الأوقات وهم البحث عن السعادة كنت أنقر على مكامنها وأفتش على مواطنها فيما ألفته وتعودته وقد كانت تتغشاني غشية ازاء سكون الطبيعة الخرساء تنقلني إلى حالة يعجزني وصفها ولقد كنت بعيداً عن الأهل وحيد من الخلان ولم تكن أشعة الحب قد أشاعت في نفسي أضواءها وصرت أشعر بثقل حمل الحياة وكنت أحياناً يصيبني الخجل فجأة وأظن أن أنهاراً من الأمواه الحارة تتدفق في نفسي وكنت في بعض الأوقات أرسل صيحات وصرخات على غير إرادة مني وكنت أبيت بليلة الملسوع تطرفني الأحلام المخيفة وتتأوبني الخيالات الرهيبة وكان يعتادني الأرق فأغتال الليل مسهد الجفن مشرد الفكر وكنت في افتقار إلى ما أملأ به هاوية حياتي فكنت أهبط الوادي وأفرغ ذروة الجبل ناشداً في كل منهلة طالباً في كل مكان تلك الصورة الخيالية لحبي المقبل وكنت أقبلها في الرياح وكنت كأنني أسمع صوتها الندي في خرير(51/17)
مياه النهر ولقد كانت تتراءى لي صورتها في كل ما تأخذه العين وفي النجوم الزاهرات في صفحة السماء الجائدات بباهر اللألاء في كل وجوه الحياة ومناحي العيش وهذه الحالة مترجحة بين الهدوء والسكون لم تكن خيالية من أسباب السرور فقد كنت أخفف من غلواء أشجاني بتناول غصن من أغصان صفصافة كانت ترمي ظلالها على ضفاف جدول وكنت أعرى الغصن من أوراقه وكنت أرسل خاطرة وراء كل ورقة يجري بها تيار الجدول ولن يكن هم الملك الذي يخشى ضياع تاجه وانحلال ملكه بثورة تضطرم نيرانها ويتوقد جاحمها بغتة بأكثر من همى عندما كان يصادم الورقة وهي محمولة على التيار ما عسى أن يقطعها فما أضعف الإنسان وما أشد طفولة القلب الإنساني الذي تتبدل الأحوال وهو باق على حداثته لا تعلوه كبرة ولا يمسه هرم وانظر إلى أي طور من أطوار الطفولة قد يرجع بنا العقل وأنا كثيراً ما نعقد آمالنا بأشياء لا قيمة لها مثل أوراق تلك الصفصافة وإني ليعجزني التعبير عن تلك الطوائف المختلفة من الإحساسات التي كانت تتكاثر عليّ وتتغاير إليّ وإن أصداء نوازع النفس وأميالها في فضاء القلب موحش قفر مثل حشرجة الرياح وخرير الأمواه في سكون الصحراء وصمتها وإن تلك النوازع لتثور في أنفسنا ولكنا لا نملك التعبير عنها وقد أقبل الخريف وأنا بين هزاهز الحيرة ومعتلجات الشك واستقبلت شهر العواصف مفعم الخاطر ملآن النفس وكنت أغبط الراعي الذي كنت أراه يدفئ يديه في النار الكليلة التي أشغلها في الغابة وكنت أستمع إلى غنائه الفياض بالشجى والذي يقرع من النفس أوتار الحزن فيحرك ساكن الشجن ويوقظ راقد الألم وكان يذكرني غناؤه أن جميع الألحان الطبيعية مترعة بالحزن حتى تلك التي توقع عليها أنغام المسرات وأناشيد السعد وما القلب سوى آلة موسيقية غير تامة - مزهرٌ تنقصه أوتار السرور فترغم على أن نوقع نغمات السرور على تلك الاوتار الخاصة بالأنين والحسرات.
وفي النهار كنت أهيم على وجهي في الأراضي الجرداء التي تفضي إلى الغابات وقد كانت أشياء قلائل تستغرق تأملاني وتستأسر بأحلامي فمن ورقة جافة تذروها الرياح أمامي ومن كوخ يتصاعد منه الغبار إلى أعالي الأشجار الصلعاء ومن طحلب متعلق بأشجار البلوط الذي كان يهتز ويرتعش عند هبوب رياح الشمال ومن صخرة نائية منفردة ونهى مهجور تسمع فيه حفيف البردي الذابل وكانت قبة جرس الكنيسة القائمة في النواحي البعيدة(51/18)
تسترعي نظري وكنت أتبع نظري الطيور السابحة في الفضاء وكنت أصور لنفسي تلك الشواطئ المجهولة وأجواء تلك النواحي القاصية التي تؤمها الطيور وكنت أتمنى أن أكون محمولاً على أجنحتها وكان قد رسب في أعماق نفسي سر غريزي يكاد يصدع أركانها ويرجف جوانبها وكنت أشعر أني كمسافر له كل يوم جيئة وذهاب ورحلة ومآب ولكن صوتاً منحدراً من السماء كان يصب في مسمعي إن وقت سفرك لم يحن بعد فترقب هبوب رياح الفناء وعند ما تهب حوّل بصرك صوب تلك الأراضي التي يشتاق قلبك إليها وتنزو نفسك حنيناً إليها فهبي أيتها الرياح التي ستحمل رنيه إلى حياة جديدة.
ولقد كنت أقول ذلك وأنا سائر سيراً حثيثاً وعلى وجهي آيات الحماس والتوقد وكانتالرياح تعصف بشعري وتلاعبه ولم أكن أشعر بالمطر المتساقط ولا بالجليد وكنت أسير شارد اللب مُتّله العقل وكأنما شيطان قلبي قد امتد رواق سلطته على سائري وفي الليل كانت رياح الشمال تهب فتهتز الكوخ والمطر يتساقط غزيراً على جوانبه وكنت إذا اقتربت من النافذة أبصر البدر يشق السحب المتراكمة وينساب بين الغمائم السوداء كأنه زورق أبيض اللون يغالب الأمواج وكنت أشعر أن الحياة تزداد في أعماق نفسي وإني أصبحت من القوة بحيث أستطيع خلق أكوان ولم يكن إلى جانبي أحد أسر إليه تجاريبي فيا رب لو كنت وهبت لي زوجة طبق إرادتي أو فعلت معي ما فعلته مع ابي البشر آدم ومنحتني حواء من أضلاعي لكنت أسجد قبالة صاحبة ذلك الجمال السماوي وكنت أضمها إلى في ذراعي متوسلاً إلى الله أن يهبها الأيام الباقية من حياتي ولكنني كنت مستفرداً واحداً في الأرض واستحوذ على جسمي إذ ذاك فتور وعاودني الملل القديم الذي عرفته من عهد طفولتي مشدود القوى مستحصد المريرة وامتنع القلب عن أن يمد الفكر بعناصره الكريمة وكنت أتقرا وجودي بذلك الملل العميق في نفسي وكنت أناهض في نفسي هذا الداء ولكن بدون رغبة متينة في إخماد جمرته وقل شوكته.
ولما لم أجد ما يأسو جروح قلبي الكوالم التي يكن لها من جسمي مكان خاص بل كانت في كل ناحية منه عقدت العزيمة على الانتحار وأني الآن أسال الأب سويل أن يسامح بائساً غاب عنه صوابه ولقد كنت جافل النفس بالدين ولكنني كنت أسألك في التفكير مسالك الملاحدة والكفرة وكان قلبي يهوي الله ولكن عقلي كان ينكره.(51/19)
ولقد كانت أخلاقي وأحاديثي واحساساتي متناقضات متنادة سوداء مظلمة ولكن هل يعرف الإنسان دائماً قيمة نفسه؟ وهو هو دائم الوثوق بما يدور في خلده من الأفكار ولقد فشلت في كل شيء وخدعتني الصداقة وغرتني الدنيا والعزلة.
ولما كنت منبوذاً من المجتمع متروكاً من أمليا وأصبحت الوحدة لا تسر خاطري ولا تحث لي سلواً صرت أقول في نفسي لماذا أبقى على قيد الحياة؟ لقد كانت أمليا مٍجنى من عاديات الزمن الزمن وموثلي من ظلم الليالي والآن قد تركتني، ولما وقر في عزمي أن أطرح عن كاهلي أعياء الحياة عزمت على أن أصب كل همتي إلى ناحية هذه الفكرة النزقة ولم يكن هناك ما يبعث على الإسراع في إتيان هذا العمل ولم أضرب موعداً لساعة مبارحتي الحياة لأتملى من محاسن الوجود قبل الرحيل عنه ولأستجمع قواي كي أحس خروج الروح كما كان يفعل القدماء ورأيت من الضروري أن أعد التدابير اللازمة لما تمتلكه يدي من أمتعة فجبرت على أن أكتب لامليا كتاباً يحوي شكوى قصيرة من نسيانها لي وإهمالها لشأني وذكرت في تضاعيفه شيئاً قليلاً عن الحزن الذي قد أخذ بزمام قلبي وحسبت بذلك أنني قد واريت عنها ولكن أختي تعودت قراءة ما في سريرتي بدون عظيم مشقة وقد راعها التكتم الذي ينم عنه الخطاب وكثرة سؤالي عن أشياء لم أكن أهتم بها من قبل فلم ترد علي ولكن فدكت بنفسها وإذا أردتما أن تدركا مقدار فرحي برؤيتها فينبغي أن تعلما أنها كانت الشخص الوحيد الذي أنيط به حبي وأعقد به رجائي وإن كل شعور اختلج نفسي متصل بها فهي رفيقة طفولتي وأليفة أيامها الرائقة النضرة واستقبلت امليا بفرح شديد وكان قد مضى زمن لم أجد فيه من يفهمني ومن أفتح له مغاليق نفسي وأنشر له مطاويها وقد ألقت امليا نفسها بين ذراعي قائلة أيها الناكر للجميل أتريد الموت وأختك باقية في الدنيا؟ أتستريب في حبها لك؟ ولكن لا تعتذر عن نفسك فإني عرفت أميالك بحذافيرها كأني كنت حاضرة أملاك. أتظنني من اللواتي يرجح خداع الناس بأميالهن وأنا التي شاهدت نشأتك وميلاد عواطفك ولكن باعث كل هذا شقاء نفسك وتبرمك بالحياة وبعدك عن شرعة الإنصاف فتقسم لي الآن بكل محرجة من الأقسام وأنا أضمك إلى قلبي أن هذه آخر مرة تلقى فيها مقاليد نفسك إلى النزق والطيش وإنك لن تعود إلى التفكير في الانتحار.
وكانت وهي تنطق بهذه الكلمات تنظر إليّ نظرات ملؤها الحنو والشفقة وكانت تغطي(51/20)
جبهتي بالقبلات ولقد كانت كآلام الرؤوم بل كانت أكثر من ذلك وأسمى ففتح لها القلب أبوابه وأباحها ملكه وكنت في يدها كالطفل فأقسمت لها اليمين التي تريدها ولم يكن في إعتقادي أن البؤس سيجد إليّ سبيلاً بعد هذا ومضى على اجتماعنا الساحر البهيج أكثر من شهر ففي الصباح كنت أسمع صوت أختي فأشعر في نفسي برعدة فرح وهزة طرب وكانت الطبيعة قد حبتا مليا بصفات مقدسة فكان لروحها من الخفة البريئة والظرف ما لجسمها من البضاضة واللدونة وكان لإحساسها ما لا يجد من الوداعة والعذوبة واللين وكانت لها نفس حلوة لذيذة خيالية حالمة وكان الناس يقولون أن بين قلبها وفكرها وصوتها تناسباً تاماً وكان لها من صفات النساء الحياء والمحبة ومن صفات الحور الطهارة ورخامة الصوت وجاء الزمن الذي أكفر فيه عن هفواتي السابقة فقد سألت الله مرة في هذياني أن ينزل بي ملمة لتكون لي سبباً محسوساً يبعث على الألم ويدعو إلى الحزن وقد استجاب الله هذا الطلب الرهيب في ساعة من ساعات غضبه وبماذا أبوح لكما الآن يا أخوي؟ انظرا فهذه الدموع تسيل من جفني تباعاً.
ومن منذ أيام لم تكن في وسع أحد الوقوف على حقيقة ذلك السر الذي اكتتمته ولكن الآن قد قضي الأمر وإنه في كل وقت ينبغي أن تدفن هذه القصة في قبور النسيان فتذكرا أني قد قصصتها عليكم تحت ظلال سرحة في الصحراء - ثم تحمل عنا الشتاء وشاهدت أن امليا تفقد راحتها وتشكل صفوها وأنها أخذت في النحول ونال منها الوهن وبأت عيناها تغوران واصبحت مشيتها بطيئة وصوتها قلقاً مضطرباً وقد فاجأتها يوماً تبكي عند أقدام صليب من الصلبان وأصبحت الدنيا والوحدة ومرور الليل والنهار - أصبحت كل هذه المظاهر تخيفها وبرعبها وكان يرتسم على شفتها الألم والملل.
وكانت في بعض أوقات تقبل على العمل بدون كلال أو تعب وفي بعض الأوقات كان يجهدها المشي وكانت تبدأ العمل ثم تتركه وتفتح كتاباً للقراءة ولا تقرأ منه سطراً واحداً ثم تنهل من عينها بوادر الدموع فتطلب العزلة والعبادة وقد حاولت عبثاً الاهتداء إلى سرها ولما سألتها مرة وأنا أضمها بين ذراعي قالت لي بابتسامة حزينة أنها مثلي لا تدري سبباً لما بها ومر على ذلك ثلاثة أشهر وكانت حالتها تزداد سوءاً في كل يوم عن سابقه وظهر لي أن مكاتبان سرية كانت تصلها فتسبب لها البكاء وكانت تبدو عليها علامات الهدوء أو(51/21)
الانفعال تبعاً للخطابات التي كانت تتسلمها وفي صبيحة يوم لما تولي ميعاد تناولنا الإفطار صعدت إلى مخدعها وطقت الباب فلم يجبني أحد ففتحت الباب فلم أجد أحداً في المخدع ثم رأيت على المدخنة خطاباً باسمي ففضضته وقرأته وحفظته معي لأطرد عن نفسي الأيام المقبلة كل خاطره فرح وسانحة سرور وهذا نص الخطاب: - إلى رينيه
يعلم الله يا أخي أنه قد طالما وهبت لك حياتي لأطوي عنك فترة من فترات الألم ولكن لأقول نجم الحظ لم أوفق إلى طريق إسعادك ولم أهتد إلى سبيل الترفيه عنك وإني أرجّي أن يكون من ذلك العجز الواضح شفيع لديك وعذير إليك إذا أنا تلمست الخلاص منك وركنت إلى الفرار كمن قارفت ذنباً أو ارتكبت إثماً فليس لي يدان بدفع توسلاتك وقد حم الرحيل وأظل الفراق وقد جاء الوقت الذي ألبى فيه النداء المهيب الذي كان يتصبب في أذني من نواحي السماء مهيباً بي. لماذا تريثت إلى الآن؟ وأنت تعرف يا رينيه جنوح نفسي من عهد الحداثة إلى الحياة الدينية وقد كنت باقية في الحياة من أجلك فافسح لي فناء العذر فقد أدتني الأحزان لمفارقتك وإني في هذه الأيام يا أخي العزيز لأدرك من صميم نفسي وأشعر من أعماقها بضرورة هذه الملجئ التي أعهد فيك الأعراض عنها والأزوار عن جانبها وإن هناك من أفانين الشقاء وألوان المصائب ما يسوقنا إلى اعتزال الناس وإذا الناس وإذا لم يكن هناك تلك الأديار فإلى أي ركن كان يلجأ الهارب وفي أي ظل يحتمي وأكبر ظني أنك تلقي يا أخي العزيز الراحة المنشودة في تلك العزلة الدينية فليس في الأرض منزل يليق بكرامتك والناس أنذل وأقل قيمة وأقل قيمة من أن تعايشهم وهل تطن أن هناك شيئاً أكثر مجلبة للاحتقار أو مدعاة للأهوان من أدامة التفكير في ترك الحياة ورفضها وإذا كان إنسان له سجايا كسجاياك وطبائع كطبائعك يجد الموت سهل المساغ عذب المور فماذا تظن بحاجة أختك إلى الموت وتعلقها بالموثق فإني أعرف وفاءك وصدقك وقد أقسمت أنك ستعيش من أجلي ولكن يا عزيزي رينيه العزلة جانباً واخرج من أفيائها إلى مضاحي العمل وأبحث عن وظيفة لك وإني أعلم إنك تبتسم ابتسامة مرة معلقاً بأطرافها السخر من مجاري الأحوال في فرنسا وتزهد في الالتحاق بوظيفة ولكن لا تحتقر تجاريب آبائنا وحكمتهم في الحياة فقد كان نفعهم عمماً وخيرها شاملاً وكانت أقل من غيرها تعطيلاً لمصالح الناس وإضراراً بهم واتبع أسلوب الحياة الذي يعيشه أكثر الناس لتكون(51/22)
أقل شقوة واندر كسوف بينا ولقد تصيب في الزواج قرة لعينك وسلوانا فتقضي الأوقات مع زوجتك وأولادك وأي امرأة لا تستفرغ جهدها في إشعارك السرور وإدخال الابتهاج على ننفسك فإن روحك النارية المتوقدة وعبقريتك الجميلة المشرقة وسمتك وما عليه من شارة الجلال والأبهة وما يقرأ في ملامحك من معاني الإباء وعزة النفس والعطف والحنان كل هذه الصفات والشمائل تجعلك تستوثق من حبها لك ولا تستريب في قصر هواها عليك وانصباب أميالها نحوك لترد عنك كياد الأحزان وتبطل أسباب الآلام وستضمك بين ذراعيها ضمات تنم عن الحب الدخيل وتبوح بالهوى المستمكن الأصيل وتكون لك ينبوعاً عذباً من الصفاء ومورد إخلاص ازرق الجمات وسأرحل إلى دير. . . فإنه مبني على شاطئ البحر وموقعه يلائم روحي ففي الليل من وسط غرفتي أسمع خرير الأمواج التي تغسل حيطان الدير وأفكر في تلك الجولات التي كنا نجولها معاً في وسط الغابة يوم كنا نظن أننا نسمع صوت البحر من قمم أشجار الصنوبر المهتزة. فيا رفيق طفولتي العزيز قل سنلتقي بعد ذلك وأعقد بك الحاظاً شيقة لرؤيتك وقد كنت أكبر منك سناً بأعوام وقد هززتك في مرقدك وكثيراً ما كنا نرقد في مرقد واحد فهلا ضمنا قبراً واحد يوماً ما ولكن أني يكون ذلك وأنا سأرقد وحيدة تحت رخام المعبد حيث نستريح الراحة الأبدية هؤلاء الفتيات اللواتي لا يأبه بهن أحد ولست أدري إن كنت سنتمكن من قراءة هذه السطور التي قد بللتها الدموع ولقد كان فراقنا أمراً محتوماً ليس في قدرتنا أن نستدفعه وأنت تعرف حيرة الإنسان وأنت تعرف حيرة الإنسان من حوادث الحياة وتدري صغر قيمتها وإني أذكرك بصديقنا الصغير م الذي مات غريقاً في جزيرة فرنسا والذي لما تسلمت آخر خطاب منه بعد مرور أشهر على موته كان جسده رهين الحفائر وفي الوقت الذي بدأت فيه تلبس عليه ثياب الحداد كان الناس قد تناسوا الحزن عليه في الهند فما قيمة الإنسان الذي تغيب ذكراه هكذا عاجلاً في سباسب النسيان؟ فريق من أصدقائه لم يصلهم بعد نبأ موته بينما الفريق الآخر قد تعزوا فيا عزيزي رينيه بل يا أعز الأعزاء هل ستغيب ذكراي من نفسك وتقفر منازل حبي من قلبك بهذه السرعة؟ يا أخي نزعت نفسي منك في الحاضر لكيلا نفترق في الأبدية.
حاشية - أضيف إلى هذا الخطاب أني أهبك كل ما تمتلكه يدي من متاع الدنيا ولي أمل(51/23)
أنك لا ترد ذلك وأن تقبله دليلاً على حبي لك وانعطافي نحوك.
* * *
ولو أن صاعقة سقطت إذ ذاك عند قدمي لما أحدثت في نفسي الذي أحدثه وقع ذلك الخطاب فما كنه ذلك السر الذي سترته عني امليا؟ وما الذي بعثها فجأة على الإقامة في الدير؟ وهل جملت في عيني الحياة بما خلعته عليها من رونق ودادها الساحر لتتركني على عجل ولم جاءت إليّ وجعلتني أصدف عن خطتي ولقد بعثها إلى دافع الشفقة ولكن لما اعتراها التعب بغتة من تلك المهمة الشاقة نأت بجانبها عن بائس لا يعقد الآمال على غيرها ولا يفكر إلا فيها ومن غرائب الأمور أن الناس يعتقدون أنهم يحسنون صنعاً إلى من منعوه موارد الانتحار وبقد كنت أشكوها إلى نفسي قائلاً يا امليا يا ناكرة الجميل وجاحدة الفضل لو كنت أنت مثلي قد ضللت السبيل في صحراوات الأيام لما كنت أتحامى القرب منك وأتسلى عن بعادك ولما أعدت قراءة الخطاب تبينت فيه أثر الألم والحزن فأجدّ ذلك جروح قلبي المندملة ثم أومض لي بارق فكرة أنارت في ليل حيرتي وشكي وهي أن امليا قد تكون أحبت إنساناً وكتمت حبه ولم تجرأ على الإباحة بهواها وقد تراءى لي أن هذا الظن يوضح كل ما التبس حزنها وبواعث كآبتها والرسائل الغريبة التي كانت ترد إليها وذلك الحزن الذي يلوح من خلال خطابها فكتبت إليها فوراً متوسلاً إليها أن تكشف لي عن أسرها فأسرعت في الرد ولكن لم تطلعني على جلية أمرها وقالت لي أنها حصلت على إذن لتتدرج في صفوف المتقدمات للرهينة وأنها عن قريب ستقسم اليمين فاتقدت غضباً من إصرار امليا ومن غموض كتابها والتوائه علىى الفهم وعدم ثقتها بمودتي وبعد أن أعملت الفكر وأجلت النظر فيما أفعله حيال ذلك نويت الذهاب إلى ناحية (ب) حيث أبذل هناك ما في طوقي وكانت الديار التي نشأت فيها على الطريق ولما رأيت الغابات التي أمضيت فيها الأيام الزاهرة من حياتي لم أستطع حبس الدموع وإمساك أرسان الأشجان وكان يعز علي أن أمر عليها بلا وداع وأودعها بلا سلام وكان أخي الأكبر قد باع ميراثه ولكن المشتري الجديد لم يسكن في القصر وقد وصلت إليه من ممشى محفوف بالأشجار وكنت أمر بأطرافه المهجورة وكنت أمشي على مهل أنظر النوافذ المقفلة والمكسورة والشوك الذي ينمو عند جدران الحيطان والأوراق الجافة المنتشرة على اوصدة(51/24)
الأبواب والبهو الذي كان يجلس فيه والدي مع خدامه وحاشيته وقد كانت السلالم يعلوها الطحلب وكان زهر الحيطان الأصفر نامياً بين أحجارها القلقة المهتزو ثم فتح حارس لا أعرفه الأبواب بخشونة فترددت في الدخول فصاح بي الرجل أظنك ستصنع صنيع تلك الغريبة التي جاءت هنا من منذ أيام وعند دخولها أغم واضطررت إلى حملها للعربة وكان من الواضح أن أعرف تلك الغريبة التي جاءت مثلي تودع تلك الأماكن البكاء والعبرات ومواقف الذكر والحسرات ثم سترت عيني بالمنديل ودخلت تحت أسقف ديار قومي وطفت المخادع التي لم أكن أأسمع فيها سوى صدى أقدامي وكان بالقاعات ضوء كليل من الأشعة الضئيلة الداخلة من خلال النوافذ المقفلة وزرت القاعة التي ماتت فيها والدتي والقاعة التي كان يعتزل فيها أبي والقاعة التي كان فيها مرقدي والأخرى التي نشأت فيها الصداقة بيني وبين أختي امليا وكانت كل القاعات عريانة مجردة وكنت أرى هناك نسج العنكبوت ثم خرجت مسرعاً إرجاع لطرف إلى نواحيها فما أرق حواشي الأيام الماضيات إذ عقد الأخوان منتظم وشملهم ملتئم وإذ حلو المذاق وكأس المسرات مترع دهاق ولكنها قصيرة العمر سريعة المر كأنها خطف الوميض يعارض مبراق فإن نفس الله يفرقهم كالدخان فلا يعرف الابن أباه وينكر الوالد ولده وتنسى الأخت أخاها ويتشاغل الأخ عن أخيه وإن شجرة البلوط تضم حولها صغارها ولكن ليس هذا حال بني الإنسان ولما وصلت إلى ناحية (ب) توجهت إلى الدير وطلبت أختي وسمعت أنها لا تقابل أحداً فكتبت إليها فأجابتني أنه ليس في الحق أن ترسل أي فكرة في الدنيا بينما هي تكرس حياتها لله وإني إذا كنت صادقاً في حبي لها أتحاشى أن أقلقها بأحزاني ثم أتبعت ذلك بقولها ولكن إذا كان في عزمك الحضور يوم حفلة دخولي الرهبنة فإني أختار لك أن تمثل فصل الوالد وهذا ما يليق بكرامتك وما يجدر بصداقتك.
ولما قابلت بين هذا الإصرار الجاف وبين حماس صداقتي الشديد كاد يطير عقلي ويذهل لبي فكنت أحياناً أحاول العودة إلى منزلي ولكني آثرت البقاء لأبدد نظام الحفلة وقد كان يوسوس في نفسي الشيطان أن أنتحر في الكنيسة وإن أمزج زفراتي الأخيرة بالأنات المتصاعدة من أختي وقد أخبرتني ربة الدير أنهم قد أعدوا مقاعد في المحراب ودعتني لحضور الحفلة التي ستقام في الغد وعند انفجار عمود الفجر سمعت أول دقات جرس(51/25)
الكنيسة ولما دنت الساعة من الحادية عشر قصدت الدير ولا شيء يصدع حصاة القلب مثل رؤية منظر كهذا ومما يشب الحسرة ويستضرم الكمد أن نعيش بعد رؤيته وكانت الكنيسة خاصة بالناي ثم اهتديت إلى مقعدي في المحراب وقد جلست على ركبتي غير عالم بما أصنع وبما قام في خاطري ثم وقف الراهب أزاء المذبح وفتحت النافذة السرية وأقبلت امليا وقد تزينت بكل لماع من الحلي وفاخر من الثياب وسائر صنوف الأبهة الدنيوية ولقد كانت إذ ذاك غاية من الملاح والحسن وكان يبدو على محياها المشرق معان مقدسة تثير الدهشة والإعجاب ولما بهر ي ذلك الحزن الجليل الفخم الذي أقبل على نفسي من تلقاء القديسة وملا نفسي ذلك الجلال الديني غابت من نفسي كل نوايا الشر للقديسة وخارت قواي وشعرت أني في قبضة يد قوية ولم أجد في قلبي غير إعجاب عميق وخشوع وضرع وجلست امليا تحت مظلة وابتدأت الحفلة على أنوار المشاعل وفي وسط الأزهار والروائح العطرية وعند ما وهبت نفسها وكرست حياتها نزع الراهب عنه ملابس ولم يبق على نفسه سوي غلالة من كتان ثم صعد المنبر وألقى خطبة قصيرة مؤثرة أتى فيها بوصف سعادة العذراء التي وهبت حياتها للسيد ولما قال وهي مثل البخور الذي يتفانى في اللهب استولى على الحاضرين سكون تام وانتشرت الروائح الفردوسية وكانت للناس تشعر أن الملائكة قد هبطت الأرض وكأن أجنحتها ترفرف ول المذبح ولما أتم الراهب خطبته ولبس سائر ثيابه واستمرت الحفلة رأيت امليا وقد ركعت على ركبتها على آخر درج المذبح وكان يعاونها في ذلك اثنان من الراهبات الصغيرات وهنا طلبت لأقوم بالوظيفة الأبوية.
ولما سمعت امليا صدى خطواتي المضطربة في المعبد كانت على وشك الإغماء ووقفت إلى جانب الراهب لأقدم له المقص وفي هذه اللحظة شعرت بتجدد ثوراتي واشتعلت في تفسي نيران الغضب ولكن امليا استعادت قوتها ورمتني بنظرة حشوها التأنيب واللوم والحزن كسرت من حدتي واطفأت ما احتدم من غضبي واستفادت أختي من اضطرابي وتقدمت بكبرياء وصيد وكان شعرها الفاخر يتساقط على النيران المقدسة وارتدت برداء كثيف ونزعت الحلي ولكن ذلك لم يزر بجمالها وكان الملل المرتسم على جبهتها قد سترته تحت عصابة من التيلة كان على رأسها النقاب الغريب الذي يرمز للدير والعذراء ولم أرها(51/26)
يوماً من الايام أجمل منها في ذلك اليوم ولقد كانت عينها النادمة موجهة نحو الأرض ولكن روحها كانت تحلق في السماء ولم تكن امليا قد حلفت اليمين بعد ومن أجل أن تموت من نفسها كل رغبات الدنيا كان لا بد أن تمر من جوف قبر وقد رأيت أختي راقدة على الرخام وعليها غطاء وكانت أربعة مشاعل تزهر في الأركان الأربعة وكان القسيس وهو ملتف في برد أسود وفي يده كتاب قد بدأ الجناز ثم أكملته الراهبات فما أشد السرور الديني ولكن ما أروعه وما أهوله ولم أتمالك عن الركوع حيال هذا المنظر المحزن ثم سمعت بغتة من ناحية المقبرة أنيناً مضطرباً فانحنيت قليلاً وهنا اصطدمت في أذني تلك الكلمات الهائلة (التي كنت أنا المقصود بها) ليت الله يقدر لي أن لا أعود من تلك الرقدة إلى الحياة ويرسل كل رحمته على أخي الذي لم يشاركني في أميالي الأثيمة وهنا انبلج لناظري صبح ذلك السر وغبت عن صوابي وسقطت على الرداء وضممت أختي في ذراعي وقلت يا من وهبت حياتك للسيد المسيح دعيني أعانقك العناق الأخير وأنت في هاوية الموت التي ستبعدك عن أخيك.
وقد بددت هذه الكلمات وما أعقبها من سيل الدموع وانهمارهما نظام الحفلة فتوقف الراهب وأقفلت الراهبات النافذة وانصبت جموع الحاضرين إلى المذبح وحملت وأنا مفقود الرشد ولست أحمد صنيع هؤلاء الذين ردوا عليّ مشاعري وعلمت عند رجوع إحساسي أن الحفلة قد تمت وأن أختي أصيبت بحمى شديدة وأنها طلبت مني أن لا أراها فيا للهفة والشقوة! أخت تخشى محادثة أخيها وأخ لا يستطيع محادثة أخته ثم تركت المعبد كما نخرج من مكان تطهير الأرواح حيث اللهب المتطاير والنار المشتعلة يمحوان عنا الآثام ويؤهلاننا للدخول إلى النعيم المقيم والسرور المخلد ولقد نجد في نفوسنا قوة عند مقاومة النكبات التي تحل بنا وتنحت من جانبنا ولكنه يصعب علينا أن نحتمل تبعة شقاء غيرنا ولما أحطت علماً بأسباب شقاء أختي وضحت لي جملة حوادث كانت من قبل مبهمة مثل ذلك المزيج من الفرح والسرور الذي لاح على امليا عند ما كنت أودعها مسافراً لجوب الأقطار وذلك الحذر الذي كان من دأبها عند عودتي وذلك الضعف الذي كان يحجزها عن الذهاب للدير ولقد كان سبب المكاتبات التي تردها عزمها على اللحاق بالدير ورغبتها في ترك ما تمتلكه لي ولقد ذقت الآن إراقة الدموع على الهموم الخارجة عن دائرة الأوهام(51/27)
الغير المكسوة بأثواب الخيال ولما كانت أهواء نفسي طويلاً بدون وجهة تنحوها وغاية ترمي إليها انثالت كلها وأقبلت من كل مشعب إلى هذا الحزن الجديد ولقد صرت أشعر بضؤب من ضروب القناعة في بلوغ همومي الكمال وقد سرني أن أعلم أن الألم ليس من الميسور أرهاقه مثل السرور ولقد كنت أريد هجران الحياة قبل الساعة التي يريدها الله.
ولقد كان ذلك إثماً وقد أرسل الله امليا لتنقذني من حبائله ولتنزل بي العقاب وإن كل فكرة أثيمة أو كل عمل أثيم يسوق إلى النفس رسل الشقاء ولقد توسلت إلى امليا أن أرتضي الحياة وأن لا أأدبر عنها وكان ينبغي لي أن لا أزيد في شقائها. ولقد صرت الآن لا أرغب في الموت وهمومي حقيقة ملموسة ولقد صارت الهموم تملأ جو نفسي وقد كان قلبي بطبيعته وتركيبه كأنما قد صيغ من الضجر والملل ثم تمشي ببالي أن أهجر فرنسا وأرحل إلى أمريكا وفي هذا الوقت كانت هناك عمارة بحرية تتأهب للإبحار من ميناء (ب) إلى لويزيانا فاتفقت مع أحد رؤساء سفنها على الرحلة معه وأعلمت امليا بذلك العزم وأعددت لوازم الرحلة وكانت أختي قد قاربت الموت ولكن الله الذي قدر لها حياة في الدير أطول لم يدعها إلى جواره ولما عاودت الدخول إلى طريق الحياة ذلك الطريق الوعر الذي حفت به المخاطر وأطاف به الهلاك تقدمت ثبتة الجنان ساكنة الطير لملاقاة أحزان الحياة غير ناظرة سوي تباشير الانتصار وآيات الظفر ولقد كانت ترى في وفة الآلام وتكاثرها غاية الفخر ونهاية العظمة.
وبيعي الأملاك التي كانت باقية لي والتي سلمتها لأخي والتأهب الطويل للرحلة وهبوب رياح مضادة أطالت كل هذه الأسباب انتظارنا زمناً ليس بالقصير في المرسى وكنت في كل يوم اذهب لأتنسم أخبار امليا واستطلع حوادثها وكنت أعود أدراجي وقد ثارت بنفسي عوامل جديدة تبعث على الشفقة وتدعو إلى الاعجاب وكنت أطوف بلا انقطاع حول الدير القائم على شاطئ البحر وكنت ألمح في نافذة صغيرة ذات قضبان حديدية مطلة على الساحل المقفر راهبة عليها سيما التفكير وكنت أراها تسرح النظر في المحيط حيث الأمواج تهز السفن التي ستقلع إلى أقصى نواحي الأرض وفي ضوء القمر كنت أرى الراهبة نفسها في النافذة ذاتها يشغلها التأمل في المحيط وقد أضاءته أنوار القمر وكأنها كانت تتسمع إلى أرانين أمواج المحيط وهي تنكسر على الساحل المهجور في حزن(51/28)
واكتئاب ويخيل لي الآن أن صدى الجرس الذي كان يدعو الراهبات إلى الصلاة الليلية والدعاء لا يزال يظن في أذني ولما كان يدق في رفق وكانت الراهبات يتقدمن في سكون إلى المذبح كنت أسير سيراً حثيثاً إلى الدير وكنت أسمع من وراء حيطانه آخر أناشيدهن التي كانت تختلط تحت أقبية الدير بصوت الأمواج الواهي وقد ملأ نفسي السرور والابتهاج ولست أدري كيف أن تلك الحالات التي كان من حقها أن تنمى همومي وتكثر من أشجاني كانت على عكس ذلك تستدفع مرارة همي وتخضد شوكته ولقد كانت تنحدر من عيني الدموع على الصخر وفي الرياح ولكنها لم تكن دموع الغضب ولقد صار حزني الخارج بطبيعته وجوهره عن حد المألوف يحمل في ثناياه نوعاً من الشقاء وإن الإنسان ليسره كل شيء غير مألوف ولو كان في طيه نكبةمن النكبات وكنت آمل أن أختي سيقل حزنها وقد وصلني منها خطاب قبل سفري أكد في نفسي هذا الظن ولقد كانت امليا تشاركني في همومي وتحنو على في اللأواء وقد ذكرت لي أن الأيام انقضت همومها وقالت إنها لا تيأس من السعادة وقد هبت على قلبها نسمات الهدوء من وراء التي قمتها وقالت أن بساطة رفيقاتها وسمو مقاصدهن وانتظام أسلوب معيشتهن كان يرسل السرور والبهجة في نفسي ويبدد منها سحب الأكدار ولما كنت أسمع دوي الزوبعة وأرى طائر البحر من نافذتي يرنق بجناحيه ويغالب العواصف كنت أفكر في السعادة التي نالتها طائرة السماء من وراء العثور على ملأ يرد عنها هوج العواصف وإن ذلك الدير هو الجبل المقدس الذي نسمعه من قمته آخر أصوات الأرض وأول موسيقى السماوات وهنا يخدع الدين النفس عن الإحساس ويطهر حسراتنا وينقيها ويبدل اللهب المتهالك بلهب باق على الأيام ويمزج الدين سكونه وبراءته ببقايا ألعاب قلب يهوى الراحة وحياة قاربت النهاية.
ولست أعرف ما تضمره لي المقادير وما ستلده الليالي الحبالي وهل الرياح العواصف ستتبع طريقي ما عشت ثم صدر أمر إلى السفن بالإقلاع وكانت طائفة من سفن العمارة على أهبة السفر عند الغروب وكنت قد نوى أن أقضي الليلة الأخيرة في البر لأكتب خطاب الوداع لامليا وعند منتصف الليل لما كنت مشغولاً بذلك ولما كانت الأوراق مبللة بدموعي وكان عزيف الرياح مرتفعاً تسمعت في صوت العاصفة المرنان فميزت صوت المدافع مختلطاً بدقات جرس الكنيسة فلجأت للساحل وكنت منفرداً وكان الشاطئ قفراً(51/29)
موحشاً لا يسمع الإنسان فيه إلا ترانيم الأمواج فجست على صخرة وكانت على جانب مني تزخر أمواج البحر المؤتلفة وعلى الجانب الآخر حيطان الدير الشاهقة التي كانت كأنما تغيب عن نظري في السماء وكانت تنبعث أضواء من النافذة ذات القضبان فهل كنت أنت يا امليا الساجدة أمام الصليب متوسلة إلى الله أن يرأف بأخيك وإن صور الزوبعة الثائرة في البحر والسكون السائد في الدير والناس تنكسر على الصخور في النواحي المجاورة له ومنظر اللانهائية الواقعة على الجانب الآخر من ذلك الدير ونور المصابيح المضطرب من السفن والمنار في الدير الذي يرسل الأنوار في سكون وحياة الملاح الذي لا يدري ما تبطنه له الأيام المقبلة فوق ذلك الزاخر الهزج وحياة الراهبة في الدير التي تعرف كل مستقبلها لأن حياتها صور متشابهة ومن ناحية أخرى روح هوجاء ثائرة في غرق أشد هولاً من الغرق الذي يغشاه الملاح - كل هذه القصور لا تزال منقوشة في صفحة ذهني مائلة لعين ذاكرتي فيا سماء تلك الأرض الجديدة التي تشهد الآن دموعي السواجم ويا صدى الشواطئ الأمريكية الذي يردد الآن كلماتي لقد كان في اليوم التالي لتلك الليلة الرهيبة وأنا مضطجع في السفينة أن نظرت أرض وطني تختفي عن نظري إلى الأبد ونظرت النظرة الأخيرة إلى الأشجار المهتزة التي تنمو على شواطئ وطني وكانت بروج الكنائس تصغر في الأفق.
ولما أتم رينيه قصته أخرج من ثيابه ورقة ناولها للأب سويل ثم رمى نفسه بين ذراعي شكتاس وأومأ إلى الأب - ويل وهو يحاول إخماد زفراته أن يقرأ الخطاب من رئيسة دير (ب) ويشمل تفاصيل آخر ساعة من ساعات الأخت امليا التي ماتت شهيدة حماسها وكرمها في القيام على رفيقة لها كانت مصابة بمرض معد وقد كان الحزن عليها عاماً في الدير لأنها كان لها المحلة العليا في نفوس الجميع وكن يجللنها أجلالهن للقديسات وأضافت تلك الرئيسة قولها أنها في الثلاثين سنة التي قضتها في الدير لم تنظر راهبة لها سهولة أخلاقها وتوازنها ولم تر راهبة قابلت الموت ببشاشة ورحب صدر مثلها - فضم شاكتاس رينيه في ذراعه وقال له يا ولدي لقد كنت أود أن يكون الأب أوبري هنا فلقد كان من شيمه التي عرف بها أنه يجرد من قلبه هدوءاً يخمد عواصف العقل ولقد كان مثل القمر الاضحيان في الليالي الباكيات المتعلقات بالحب فإن تلك السحب المتراكمة التي تزجيها الرياح لا تعوق(51/30)
سير القمر وهو يتقدم في هدوء وصفاء في وسطها أما أنا فكل شيء يسبب لي اضطراباً ويحدث فيّ هزة ولكنه ستهوي أميالي ويقتاد أهوائي وإلى هنا كان الاب سويل صامتاً لا ينطق مرسلاً على معارفه سيما الجد وكان يحمل بين جانحيه قلباً حدباً رقيقاً ولكنه كان يلبس مظاهر التعبيس والانقباض وما أظهره شكتاس من الاحساس جعله يعدل عن صمته ويقول لرينيه إني لم أجد شيئاً يستحق الشفقة والمرحمة في قصتك وإني أرى منها شاباً مفعماً بالخيالات يؤلمه كل شيء ويترك ما عليه من الواجبات الإنسانية ليندفع في تيار أفكار لا طائل تحتها وإذا كان الإنسان ينظر إلى الحياة نظرة سوداء فليس في هذا دليل ناهض على أنه اسمي من الناس نفساً وأرجح منهم لباً وأنا لنكره الناس وتنقض الحياة عند مالعجز عن أن نمد نظرنا إلى أعماق النفس الإنسانية وإنك لو أرهفت البصر وحددت الطرف لوجدت أنك تشكو من أشياء لا وجود لها وإنه لمخجل ومزر بشأنك أن لا يكون في منال قدرتك ومناط همتك النظر إلى كارثة حياتك الوحيدة بدون أن يحمر وجهك منها خجلاً وإن الدين والفضيلة والطهارة كلها مجتمعة لم تروح عن نفسك الحزينة ولقد كفرت أختك عن ذنبها وإنك هنا في الغابات تذهب أوقاتك عبثاً وتهمل واجباتك وقد تظن أنك تتشبه بالقديسين الذين كانوا يقيمون في الصحراوات ولكن هؤلاء كانوا يقضون أوقاتهم هناك في أخماد جمرة الأهواء ومغالبة سورة الأميال بينما أنت تذهب أوقاتك في إيقاظ تلك الأهواء وتحريك هذه المنازع ومن علمك أيها الشاب المغرور أن الإنسان كثير بنفسه وغن الوحدة لتفسد من لا يعيش فيها مع الله وإنها تضاعف قوة الروح ومن ناحية أخرى لا توجد سبيلاً للانتفاع بتلك القوة وإن من تمنحه الطبيعة قوة ينبغي له أن يصرفها في إنهاض نظرائه والأخذ بيدهم وإذا ترك تلك القوة مهملة فإنه يعاقب عاجلاً أو آجلاً بالشقوة الأبدية.
وقد أفاق رنيه لما سمع هذا الكلام فرفع رأسه من صدر شكتاس وابتسم شكتاس تلك الابتسامة التي تتجلى على الشفة بدون أن يظهر أثرها في العين وكان لهذه الابتسامة معنى غامض سماوي ثم قال شكتاس لرنيه إنه يخاطبنا يا ولدي بلهجة شديدة وكلامه هذا يقوم المموج فينا وهو على صواب في كل ما يقول وإني أشايعه على أنه الاليق بك أن تزايل هذه الحياة الغير المألوفة والمفعمة بالأحزان وأنه ليس هناك سعادة إلا في الاندماج في الحياة العامة وإنه في ذات يوم شكا المسيسبي عند منبعه من أنه ليس له سوى مجرى(51/31)
هادئ نقي وطلب إلى السحب في الجبال الشاهقات ومياه السيول العارمة وأمطار العواصف الغزيرة أن توافيه بأمواهها فأصبح الماء يفيض على جانبيه حتى اتلف ساحله البديع الذي كان مكسوراً بالأزهار محفوفاً بالأشجار ولقد كان ذلك النهر يزهى بقوته ويزمجر ويهدر ولكنه لما رأى أنه أمسى محوطاً يصحراوات وأنه يتفق في الفقر الموحش وإن أمواجه دائمة التوثب والإغتلام صار يأسف على حالته السالفة حيث الطيور على سواحله مترنمات والأزهار زاهيات والأشجار متهدلات الظلال ترافقه في سيره الهادئ الرزين، ثم أمسك شكتاس عن الكلام وسمع في الغابة أصواتاً مقبلة من ناحية المسيسبي كانت تنبئ عن قرب هبوب العاصفة فرجع الثلاثة قاصدين أكواخهم وكان رنيه يمشي صامتاً بين الأب سويل الذي كان يدعو الله وبين شكتاس الذي كان يتلمس طريقه وقد قيل لي أنهما رداه إلى زوجته ولكنه لم يجد الراحة المنشودة.
وقد مات بعد ذلك بقليل هو والأب سويل وشكتاس في المعركة التي حدثت بين الفرنسيين وقبيلة الناتشيز ويرى المشاهد هناك صخرة كان يجلس رميه فوقها عند غروب الشمس. . .
تمت القصة(51/32)
محاورة
بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد
للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوبنهر
(تابع ما نشر في العدد 7 و 8 سنة سابعة)
الفيلسوف - وكذلك ترى القساوسة ينزلون منزلة بين الخداع والوعظ لأنهم لا يجرأون على تعليم الناس الحقيقة حتى لو كانوا يعرفونها - وإنهم لا يعرفونها وعلى كل حال يمكن أن يكون هنالك فلسفة حق ولكن لا يمكن أن يكون دين حق - أعني ديناً حقاً بمعنى الكلمة الحقيقي وليس بالمعنى المجازي الرمزي الذي وصفته آنفاً.
ولا بدع في أشرف الحقائق وأهمها وأقدسها وأسماها لا يمكن إظهارها للعامة إلا ممزوجة بالأكاذيب بل لا بدع في أن هذه الحقائق إنما تستفيد سلطانها وقوتها من هذه الأكاذيب إذ كانت الأكاذيب أبلغ أثراً وأروع وقعاً في نفوس العامة. أقول لا بدع في ذلك لأنها سنة الطبيعة التي ما برحت تبرز الخير بالشر مقروناً والشرف بالخسة والكرم باللؤوم والبر والفجور والوفاء بالغدر.
وهذه الحقيقة هي عنوان العالم الأخلاقي. على أنه لا يليق بنا أن نيأس من مجيء يوم يبلغ فيه الناس من العقل والعلم مبلغاً يمكنهم من إنتاج فلسفة حق ثم قبولها واعتقادها. والواقع إن الحقيقة المجردة هي من البساطة وقرب الفهم بحيث يمكن إيصالها لي أذهان العامة بلا أدنى مزاج من الأساطير والخرافة (طائفة أكاذيب) أعني بدون جعلها ديناً.
الفقيه - إنك لا تستطيع أن تتصور مبلغ غباوة العامة وضآلة أفهامهم.
الفيلسوف - إني أقول هذا الكلام على سبيل الأمل لا غير. على أني لا أستطيع إطراح هذا الأمل - أقول إذا عرضت الحقيقة على الناس في صورة أبسط وأقرب إلى الفهم لم تلبث أن تنزل الدين عن أريكة سلطانه التي ما زال يتبوؤها منذ أقدام الأزمان وإذ ذاك يكون الدين قد ادى رسالته وجرى شأوه. فلا بأس عليه أن يترك النوع الإنساني وشأنه ملقياً حبله على غاربه ولا جرم فلقد تولاه في طفولته حتى بلغ سن التكليف والرشد - وعلى الدين إذ ذاك أن ينسحب هو ذاته ويتوارى ويستتر في أمن وسلام وطمأنينة وله ألف حمد وشكر. وعلى كل حال فما دام الدين موجوداً فإن له وجهين - وجهاً من الحق وآخر(51/33)
من الزور والباطل فهو تارة سر متأمله وأخرى يسوءه. ولذلك يجب علينا أن نعد الدين أذى لازماً وشراً لا بد منه وإن ضرورته مبنية على سخافة عقول العامة وضعف أذهانهم حتى أصبحوا بعجزهم عن إدراك الحقيقة محتاجين إلى ما يقوم وينوب عنه.
الفقيه - إنكم معشر الفلاسفة لتتكلمون كما لو كانت الحقيقة رهن أدنى إشارتكم تدعونها فتجيب وعلى متناولكم تمدون أيديكم فتأخذون بزمامها وتقبضون على ناصيتها.
الفيلسوف - إذا كنا لا نملكها فذلك والله راجع إليكم معشر الفقهاء إذ جعلتم من الدين في جميع الأمكنة والأزمان سلاسل وأغلالاً شللتم بها حركة الفلسفة وحبستم سعيها. ولم يكفنا إن منعنا الناس من نشرها أو النطق بها حتى حلنا بينهم وبين التصدي لها التفكير فيها واستكشافها بوضعنا أذهان الأطفال في نعومة أظفارهم في أيدي القسوس يعبثون بها كما شاؤا ويملأونها من السخافات والخرافات بما أرادوا - ويحفرون في أدمغتهم المسالك التي تخصص لمجرى الأفكار الأساسية والآراء الجوهرية في أمهات المسائل حفراً عميقاً يبقى ثابتاً معيناً أبد الدهر. وإني ليزعجني أحياناً ما أراه في مؤلفات الفطاحل من أكبر مفكري القرن السادس عشر والسابع عشر من شدة تقيد عقولهم وفرط اعتقال أذهانهم بعقائد التوراة والإنجيل - وأظهر ما يكون أثر هذا الأسر والاستعباد الذهني في نظري عقب تلاوتي مؤلفات المفكرين من فلاسفة المشرق. فأقوام يهيئون مثل هذه التهيئة العقيمة خلقاء أن لا يدركوا للفلسفة الصادقة أدنى معنى!
الفقيه - وعلى فرض إمكان التوفق إلى هذه الفلسفة الصادقة فإن ذلك لا يقتضي إلغاء الديانة كما تتوهم إذ لا يمكن اشتراك الناس أجمع في مذهب فلسفي وأحد لاختلاف طبائع الأذهان وتعدد أساليب التعليم والتربية. ولا بد أن ينصرف السواد الأعظم من الناس إلى الاعمال الدينية البدنية الشاقة التي عليها المدار والمعول في سد حاجات النوع البشري ففضلاً عن أن هذا يحرم أغلبية الناس الوقت اللازم للتربية والتعليم والتفكير والتأمل ولكنه بسبب ما هنالك من التباين والتناقض بين القوى الجثمانية البحتة والقوى الذهنية المحضة قد تقرر أن الإفراط في المجهودات البدنية ببلد الذهن وبرده ثقيلاً كثيفاً وبالتالي عاجزاً عن أن يدرك من المعاني إلا الساذج البسيط والملموس المحس. وعلى هذا النحو تسعة أعشار العالم - إن الناس يحتاجون إلى مذهب عن العالم الغيبي أو فيما وراء الطبيعة أعني أصل(51/34)
العالم والوجود وحياة البشر لأن هذا من أمس حاجات النفس البشرية ومما تشرئب إليه الأرواح بفطرتها وتتطلع. ولكنه يحتاجون إلى أن يكون هذا المذهب الباحث في هذه المسائل مذهباً مألوفاً وهذا لا يتأتي إلا بشرائط ومزايا - أهمها الوضوح والجلاء على أنه يجب مع ذلك أن يكون في بعض المواقع مبهماً غامضاً بل ملغزاً معمي لا يهتك الذهن حجبه ولا ينفذ الوهم إلى لبابه. وإلى هذا يضاف نظام أخلاقي صحيح مرض.
وأهم من كل ذلك هذا المذهب الآنف الذكر يجب أن يتضمن ذخراً وافراً من وسائل العزاء والسلوان وأسباب الترويح والترفيه يقدمها للإنسان في المحنة والمصاب والألم وعند حضور الوفاة. فينتج من هذا أن الدين ليس حقاً إلا من الوجهة الرمزية لا بالمعنى الحقيقي. وينبغي فوق ذلك أن يستعد سلطانه إلى الأذهان وروعته في القلب مما له من الثقة المكتسبة من تواتر الأجيال الحائزة لمزية الإجماع والإطباق المؤيدة بالآيات المدونة والصحف المأثورة - وهذه الصفات والمزايا مما يتعذر جمعه وتأليفه وضم شتاته - بحيث أن المفكر المدقق والمتأمل المحقق البعيد الأناة والروية إذا تدبر الأمر لا تطاوعه نفسه على التصدي لهدم أي دين ما وتقويض أركانه ولكنه جدير أن يرى الدين أنفس ذخيرة وأحسن عدة للسواد الأعظم من بني البشر.
فعلى من أراد انتقاد الدين أن لا يزال يذكر طبائع الجماهير التي من أجلهم وضع ويصور لنفسه فرط انحطاطهم الذهني والأخلاقي. وليعلم بعد أن وراء أكثف حجاب من سخيف الخرافات ومستنكر الشعائر والمناسك تلمع وتتألق جذوة من الحق كامنة في تلك السخافات كمون العطر في عوده والمسك في مادته وإن هذا الأرج الذكي يتعلق ويعبق بكل ما قد لامسه واتصل به.
خذ مثلاً على ذلك الحكمة النابغة والعظة البالغة الواردة في الأسفار المقدسة الهندية القديمة المسماة اليوبناشاد - اتظر إلى هذه الحكمة النابغة والعظة البالغة ثم حوّل عنها بصرك إلى شعائر الوثنية الجنونية الشائعة اليوم في بلاد الهند وما تتضمنه من المواكب والأعياد ورحلات الحجيج أو إلى جنونيات الطوائف الهندية العصرية المسماة السانياساي في مراسمهم الدينية ومناسكهم التعبدية. ومع ذلك فليس في وسعنا إنكار ما يكمن تحت كل هذه الجنونيات والسخافات من معنى هو في الحقيقة مطابق للحكمة البالغة الآنفة الذكر بل هو(51/35)
صورة منها. فهذا المعنى الفلسفي يحتاج إلى إبرازه في تلك الأشكال المستنكرة لتقريبه من أفهام الجماهير الحشية البهيمية. وكذلك نرى في هذا المذهب المتناقض الطرفين قطبي الإنسانية: أعني حكمة الفرد (العبقري الواضح لتلك الأسفار الحكيمة المقدسة) وبهيمية الجماهير وكلا القطبين يلتقيان على كل حال في نقطة ائتلاف مشتركة بينهما في العالم الأخلاقي. ومن ذا الذي لا يذكر حكمة القائل إن الغوغاء والطغام يبدون لي كأنهم بشر على أني لم أر في صنوف الخلائق مثلهم حمقاً وخسة وغباء وقول الآخر يا أشباه الرجال ولا رجال وبيت القائل:
إني لأغمض عيني ثم أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحداً
إن العالم التحرير يعد الدين من قبيل العناصر الإصلاحية فيراه ضرورياً للجماعات كالملح للطعام ويمكنه أن يتخذ لنفسه سراً مذهباً فلسفياً واحداً لا يصلح لكل الناس. فكل فلسفة تجذب إليها - بناء على ناموس التآلف الطبيعي - فريقاً من الناس تكون ملائمة لأسلوب تعليمهم وكفاءتهم العقلية. وعلى ذلك فلا يزال ثمت مذهب فلسفي (غيبي - متعلق بما وراء الطبيعة) لمتعلمي العوام ومذهب أرقى للفئة القليلة المختارة. مثال ذلك أظن مذهب الفيلسوف كانت - ذلك المذهب الأشرف الأسمى قد تناوله العلماء فرايز وكروج وسالات بالإفساد والتنكير والحط والتسفيل تنزلاً به إلى مدارك العامة واحتياجاتهم. وهذا مصداق لقول جيتا (شاعر الألمان الأكبر وكاتبهم الأشهر) الواحد لا يكفي الجميع. فمحض الإيمان بالوحي والتنزيل ومحض الفلسفة هما طرفا نقيض وقطبا تباين واختلاف تنحصر بينهما عدة مذاهب هي بمثابة تعديلات وتحويرات مؤلفة من عناصر هذين القطبين وجزئيات ذينك الطرفين بما يلائم مآرب ومشارب لطبقات المنوعة والفرق المختلفة. وهذه نتيجة لزومية مترتبة على ما أحدثته الطبيعة ونظامات التربية بين ضروب الناس وصنوف البشر.
الفيلسوف - إن رأيك هذا يذكرني ما قد ذكرته قبل من أسرار القدماء وإنهم كانوا يرمون إلى معالجة الشر المترتب على فروق الكفاءات العقلية وأساليب التعليم وكانت خطتهم في ذلك إنهم ينتخبون من بين الجماهير أناساً قلائل فيكشفون لهم قناع الخفاء عن جانب من الحقيقة فيبصرون طرفاً منها بعد أن كانوا في ظلام دامس وعمى مطلق عن جميعها. ثم(51/36)
هذه الفئة القليلة يختارون فئة أقل وإلى هؤلاء يحسرون اللئام عن جزء آخر من الحقيقة ثم ينحون هذا النحو حتى يصلوا إلى النخبة المتقاة والصفوة المختارة. وهي أساسها المعرفة الصحيحة والخبرة الدقيقة باختلاف الكفاءة الذهنية في طبقات البشر.
الفقيه - إن ما تتخذه الآن من أساليب التربية الثلاثة أعني الابتدائي والثانوي والعالي هي إلى حد ما صورة مما كان يتبعه القدماء من طريق تعليم الناس أشرار العلوم.
الفيلسوف - هذا على التقريب فقط وهو صحيح من هذه الوجهة وهي أن العلوم الراقية كانت تكتب باللاتينية التي كان لا يفهمها إلا الصفوة المختارة من العلماء. فإما وقد ألغي هذا النظام فقد تدنست تلك الأسرار المقدسة بإبرازها من حجاب اللاتينية وابتذالها بعرضها على أبصار الغوغاء المدنسة.
الفقيه - كيفما يكن ذلك فلا تنس أن الواجب عليك عند انتقاد الدين أن تتأمله من الوجهة العملية أكثر مما تتدبره من الوجهة النظرية. فغير خاف أن الفلسفة الغيبية (ما وراء المادة) قد تكون عدوة الدين ولكن الفلسفة الأخلاقية لن تزال صديقة له وخليلة. ويحتمل أن يكون أكذب ما في الدين هو جانبه المتعلق بالغيب وما وراء المادة. ولكن لا مشاحة في أن جانبه الخاص بالأخلاقيات حق صراح. وهذا ظاهر من الأديان المختلفة إذا تباينت وتناقضت من حيث ناحيتها الغيبية (الخاصة بما وراء المادة) فإنها لتتفق في ناحيتها الأخلاقية.
الفيلسوف - وهذا يؤيد القاعدة المنطقية وهي أن المقدمات الباطلة قد تؤدي إلى نتيجة صحيحة.
الفقيه - تمسك إذن بنتيجتك التي وصلت إليها ولا يفوتنك أبداً أن للدين جانبين فهو إذا كان باطلاً ومحالاً من الجانب النظري أعني من الجانب الذهني فإنه من الجانب الأخلاقي الوسيلة الوحيدة لهداية وإرشاد وتعليم وتهدئة هذه الحيوانات المتعقلة الذين قرابتهم إلى القردة لا ننفي أن لهم نسبة قريبة ورحماً ماسة بالذئاب والنمرة والدين في الوقت ذاته فيه قضاء حاجتهم وشفاء غليلهم من حيث تفسير أسرار الكائنات والغاز الحياة والموت والفناء والخلود والروح والمادة والآجلة والعاجلة تفسيرا يلائم كثافة أذهانهم وانحطاط مداركهم. والظاهر لي أنه يعوزك الفطنة التامة إلى الفرق الهائل الذي هو كفرق ما بين السماء والأرض والهوة السحيقة بين الرجل العالم المستنير المدرب على التفكير والتدبر وبين(51/37)
سخافة عقول البهائم الإنسانية وكثافة أذهانهم وقصر مداركهم وبلادة مشاعرهم وغلظة أفهامهم وانحصار أفكارهم في سبيل واحدة ترمي إلى إحراز الغذاء خوف الفناء - سبيل يلزمونها طول اعمارهم لزوم الإنسان لظله لا يريدون بها بديلاً ولا يبغون عنها حولاً ولا تستطيع قوة أن تصرفهم عنها إلى غيرها - ولا بدع فإن ما تقتضيه أشغالهم من حصر مجهوداتهم في كد القوة العضلية يضئل ويهزل القوة العصبية التي هي مصدر الذكاء والفطنة. فأمثال هؤلاء يجب أن يعطوا عماداً ودعامة يعتصمون بها ويرتكنون عليها أثناء مسيرهم على زحلوقة الحياة الزلقة وسبيلها الشائكة - أعني ينبغي أن يقدم إليهم القصص الخرافي الشائق والأساطير الخرافية المستملحة البديعة معروضاً فيها ما يهمهم ويعنيهم من مسائل الحياة والموت والروح والمادة وأسرار الكون والغاز الطبيعة في قالب الصور والحكايات إذ كان والقلب الوحيد الذي تستطيع إدراكه أذهانهم البليدة وإفهامهم البطيئة وإذ كان من المستحيل أن تسمو بعقولهم الراكدة إلى فهم التفاسير الدقيقة والفروق اللطيفة الغامضة فأنت إذا نظرت إلى الدين هذه النظرة وتذكرت أن أغراضه وغاياته عملية من الوجه الأهم نظرية من الوجهة الضأل كنت جديراً أن تراها خليقه بأجزل المدح والثناء وأجل الاحترام والتبجيل.
الفيلسوف - أجل. التبجيل الذي أساسه المبدأ القائل بأن الغاية تبرر الواسطة. إني على كل حال لا أوافق على جعل هذا المبدأ الأساس الذي عليه يبني حل هذه المشكلة وفك تلك المعضلة. أنا لا أعارض في أن الدين أحسن واسطة لكبح جماح ذوات الاثنين من بهائم الإنسانية البلداء الأذهان الخبثاء النفوس ذوي الحران والعناد والإصرار. غير أن أخا الحق يرقص الزور والبهتان وينبذ الغش والخداع مهما قيل أنه واسطة إلى الخير. وإن من أعجب الأمور أن تروج الفضيلة بوسائل الخدع والأكاذيب. أما أنا فقد أعطت بيعتي وعهدي وذمتي لسلطان الحق المبين ودخلت في شيعته وتحت لوائه ولن يراني الله ما حييت خافراً للذمة ناكثاً للعهد. وعزمي ونيتي أن أقاتل شيعة الباطل وأنصار الأخاديع والأكاذيب ذوداً عن حمى وذباً عن حريمه غير مكترث لما عساه يصيبني في تلك السبيل من الأخطار والأهوال والمتالف والمهالك. فإذا آنست من جانب الدين دلائل العداء ونوايا الاعتداء -.(51/38)
لها بقية(51/39)
الأمل والمستقبل
مازيني في طليعة قواد الوطنية ومن اعز الأصدقاء الإنسانية في القرن التاسع عشر وإن اسمي مزايا العظيم أن يعيش للنوع لا لنفسه وإن العظيم يقبل إلى السكون وهو عالم إنه ليس له مطلق السيادة على نفسه فإن صوت ضميره يذكره دائماً أن يعيش لإسعاد من حوله وهو بطبعه من أجنح الناس وأميلهم إلى قول أوجست كونت عش للناس وهو مدفوع بجبلته وغريزته إلى ذلك وإذا تلوم عليه فإن ما يصيبه من الندم أشد مما عسى أن يلاقيه من الألم ولذا قال رينان العظيم أبعد الناس عن الحرية وإن الإنسانية لتعجز عن قضاء ديونها للعظماء وإنه لولاهم لكانت أكثر النفوس صحراوات مجدبة ومغارات مظلمة. وينبغي أن يكون حبنا للبطل وإعجابنا به قريبين من حد العبادة وذلك لأن البطل صورة من صور اللانهائية وإن الروعة التي تداخل النفس عند النظر إلى الأبطال نشبه الإحساس الذي تستشعره النفس عند مشاهدة غابة فسيحة الأرجاء باسقة الأشجار أو رؤية بحر عجّاج متلاطم الأمواج إلى أمثال هذه المشاهد التي تحرك في أعماق نفوسنا الشعور الديني لما فيها مرائي اللانهائية وصورها ونرى في مازيني مثلاً أعلى في إنكار الذات قال عنه كارليل (مازيني رجل فضيلة وعبقرية وأحد هؤلاء الرجال النوادر الذين يجدر بنا أن نسميهم الأرواح الشهيدة) وقد كان مازيني من رواد الكمال وعشاقه وكانت في أخلاق القديسين وطهارتهم وصفات الأبطال وأعمالهم.
وقد نشأ مازيني فوجد أوطانه مفككة الأوصال مصدوعة القوى فساءه أن يرى إيطاليا المشرقة الجميلة مهد الحضارة الرومانية وأرض بروتس ودانتي وقد استعبدها النمساويون القساة الغلاظ القلوب وعز عليه أن يسوم النمساويون أبناء وطنه سلالة الرومان الأمجاد الخسف والعبودية ويحجبوا عنهم ضوء الحرية المقدس ونور العلم والعرفان وآلم نفسه كل ذلك فامتشق سيف الجهاد وكان يطارد شرور الحياة بقوة الأمل. وقد كان ثابتاً في جهاده فلا يستهويه النجاح ولا يكسر من عزيمته الفشل.
وقد كان في مازيني بشر سكان الجنوب وتفاؤلهم ولكن السنوات الطويلة الموقرة بالحزن التي قضاها في سويسرة وتحت سماء لندن الغائمة المربدة بعيداً عن سماء إيطاليا الطلقة الصافية قللت من بشره وغبطت من بشاشته فكان لا يزايله اكتئاب صامت شجى كالغيمة الرقيقة الشفافة التي تعلو صفحة القمر الباهر. وكان هذا الحزن يزيد نفسه ملائكية ويبث(51/40)
في تضاعيف كلامه رنة مؤثرة تجذب نحوه القلوب وكان يزيده إنكاراً لذاته وتجرداً عن شخصيته.
وقد كانت مع أصدقائه خضر الربى موطأة الأكناف وكانت أحاديثه جذابة حلوة المساق إلا إذا عاج به الحديث على المسائل السياسية فقد كان يتحول من الهدوء والسكون إلى الثورة والانفعال ويحور صوته المؤثر الرخيم الحواشي زأر أسد أو عزيف عاصفة وكان عسر الخليقة شديد القسوة مع رفاقه السياسيين. وكان كثير الثقة بنفسه والتثبت من آرائه كأنه كان يشعر أنها ضرب من ضروب الوحي والإلهام فهي مسلمة من الخطأ ولذل كان لا يسمح لأحد من حزبه أن يتخطى حدود أفكاره أو يخرج عن دائرتها وتغلب هذه الصفات على رؤساء الأحزاب السياسية العظماء، ونحن نعرف أمثالها في سعد زغلول باشا رئيس وفدنا المحبوب، وتتشابه أخلاق العظماء على الرغم من اختلاف البيئة وتفاوت الزمن.
وقد كتب المقالة التي انتخبنا منها النبذة الآتية وهو في المنفى ليستحث عزيمة حزبه ويدعوهم إلى النهوض والثورة.
إن دماء الأبطال المراقة وعبرات الأمهات المسفوحة ستسقيان قبور الشهداء وتبتلان ثراهم ونحن أوفر من أعدائنا شجاعة وأقداماً وأميل منهم إلى التضحية وتكريس حياتنا وأعرف منهم وأبصر بحوائج العصر ولوازمه وروحه وطبيعته ولقد شردنا عن أوطاننا فحملنا إلى مطارح الفي ضميراً نقياً ونية ثابتاً وإن مصير أعدائنا مرتكز على نجاح مساعينا فإن تولت بهم الليالي وهي متدبرة وإلا متنا كراماً أحراراً وإننا نسير تحت العاصفة والسحب المتلبدة الكثيفة في السماء ولكن هناك وراء تلك السحب الشمس الخالدة إنهم ليحجبونها عن عيوننا زمناً ولكنهم لا يستطيعون إذهابها من الأفق وإن العالم يتقدم إلى الأمام بخطوات رزينة ثابتة ومحال أن تعترض تقدمه قصاصات أوراق الساسة الدنسة ودسائسهم الوضيعة وإن الإسراع في الحركة هو سر الانتصارات الكبيرة.
وينبغي لنا أن لا نقصر نظرنا على أنفسنا فإن داخل النفس أنفاس القبر الباردة والشك يسير بين المقابر والأطلال تتبعه الأنانية وإن الشعوب ستتبوأ في المستقبل مقاعد الملك لا الملوك ولا الإشراف وإني أقول قولة حق أن الأمة التي قد تأصل حب الحرية في قلوب أفرادها رسب الميل إلى التضحية في قرارة نفوسهم واستظهروا أسباب الثورات ونتائجها(51/41)
- مثل هؤلاء لا يعجزهم أن يكسروا قيودهم ويصدوا عنهم الأغلال ويردوا عن أوطانهم رعيل الممالك المتواطئة على سلب حقوقهم ويستذلوا الجموع المحتشدة لسحق حريتهم وليس في الأرض قوة تردهم عن الغابة التي صمدوا إليها والمطلب الذي قصدوا إليه وبقد كانت النيران التي أضرمت في أبدان القوم مدعاة إلى عبادة الحرية وقد حملوا ما يعي عن حمله المناكب وبقوا من الآلام ما لا يملكون التعبير عنه لأنه تجاوز الحد وفات الغاية وستكون ثورتهم لذلك يحسر دونها الوصف ويخون نعتها البيان ولقد كانت أحزانهم مباركة وقد علموا من كل دمعة مترقرقة حقيقة مشرقة وكان كل سنة تتسلخ بضحاياها تزيدهم إيماناً بالتضحية وأملاً في الخلاص والحرية ولقد تجرعوا الكأس مترعة ولم يتركوا بها صبابة فلم يبق لهم إلا كسر تلك الكأس.
يقول لنا فريق من خصومنا إنكم تسخرون بأنفسكم وتزينون لها المحال وإن اليقين قد غاب من النفوس وقد صدأت القلوب وقد ران عليها الخمول ولقد طال عهد القوم بالقيود حتى فترت عزائمهم ونكلت هممهم ونسوا المشي والحركة وأنكم تحاولون أن تثيروا حفيظة جماعة من الأرقاء المستضعفين الأذلاء المنبوذين فكيف تجمعون شتاتهم وتؤلفون شملهم لملاقاة الصعاب ودفعها ورد البلايا ودرئها وقد طالما أهبتم بهم إلى الكفاح والمجالدة في طلب الحرية وبغية الانتقام فتصاموا عن النداء أو رفعوا رؤوسهم المشوشة برهة ثم عادوا إلى سباتهم وبقد شاهدوا جنائز الشهداء تمر أمامهم ولم يكن يخالط عقولهم أو ينصب في آذانهم إنهم يشيعون منها إلى القبر حقوقاً فرطوا في التماسها وأخلوا في طلبها وإن نفوسهم إلى المال منجذبة إلى الماديات وإن الخوف ليقع في قلوبهم من كل جرس ولقد خمدت في نفوسهم نيران الحماس وليس من الميسور معاودة إشعالها وبدون مناصرتهم لا يتم لكم أمر ولا يعتدل بكم حال وليس في طاقتكم أن تبلغوا شأو الانتصار ولكن في مكنتكم أن تلقوا عليهم دروساً في التضحية إذا اعتقدتم أن الدماء المسفوكة لا تنشب أن ينهض على آثارها جبل من الساخطين المنتقمين الثائرين المتمردين ينادون بالثارات ويصبون الويلات ولكن لا تجشموا على المكروه من لم تكن له نفس وثابة كنفوسكم أو همة قعساء كهمتكم أو مال كبار كآمالكم. . . . .
إن اليقين يتطلب غرضاً شاملاً يعانق الحياة ويضم بين حاشيته كل مظاهرها ويحول كل(51/42)
مجاريها إلى مصب واحد تنساب فيه القوات المختلفة ويستلزم عزيمة صارمة وهمة ماضية واعتقاداً راسخاً بأن ذلك الغرض ليس بالممتنع وليس من المستحيل إدراكه ويستصحب ذلك الاعتقاد بقوة سامية مرهونة الجانب مشرقة على هذا الكون ومطلة على هؤلاء المجاهدين في سبيل الوصول إلى ذلك الغرض.
إن الأفكار الكبيرة تخلق الأمم الكبيرة فلتكن حياتنا وقفاُ على فكرة كبيرة وفي ذمة غاية سامية وأفسحوا أفق أفكار الشعب ووسعوا نطاق معرفته وحرروا الضمائر من رق المادية الجاثمة على النفوس واجعلوا قبالتهم رسالة كبيرة وإن المصالح المادية عند ما يمسها الضرر تنجاب ظلمتها عن الفتن والقلاقل لكن المبادئ الكبيرة هي التي تتفجر عن الثورات الهائلة وإن اليقين ينفخ في الشعر روحاً قوية فيترجم لنا الشعر عن تلك الآمال المتراميات الجوابة في نفوسنا ويسربلها في أضوائه فيزيدها جمالاً في النفوس وإشراقاً وبهجة وإتلافاً وسيرتل الشر على مسامعنا أنغام التضحية ويسمعنا أناشيد الأحرار المقهورين ويترنم بذكر تلك الدموع التي تمحو الآثام ويصف لنا تلك الأحزان الجليلة التي تنفي النفس ويليح لنا بصور عظمة الماضي الملتفة حول مهد الزمن الحاضر وسيرقرق الشعر أنداء العرب المطوية على الأشجان وسيعلم الشعر الناشئين المترعرعين والذين لا تزال تندي على جوانبهم ظلال الشباب شريف التضحية وعظمة الثبات وفخامة الصمت وكيف لا يستكينون للشدائد إذا حفتهم منفردين الوحشة المخيفة وكيف يتقدمون برباطة جأشن فلا يتغشاهم الخوف وعن يمينهم السهام الصوارد وعن شمالهم البارقات الرواعد وكيف لا تخالج نفوسهم الشكوى والملل في السنوات الطويلة من الكمد والبرجاء والجروح الدامية الغيبة ويلقنهم اليقين بالمستقبل فلا تتراخى عزائمهم عن السعي ولا تكل هممهم عن العمل وإن كان الموت قد يستلب حياتهم قبل إقبال ذلك الزمن البسام المستنير الذي يعملون من أجله ويذيبون أنفسهم على جوانب الدهر في طلبه.
لقد أتى على الدولة الرومانية حين من الدهر كانت فيه الأزمان ملفوفة في أردية الظلماء وكانت السماء خاوية مقفرة وكانت الإنسانية تسير ضاربة في تيه الضلال وبيداء الحيرة وقد خيمت فوقها الوحشة الرهيبة وأحاطت بها المخاوف المرعبة وكانت تقف وقفة الحائر اللهف في دهش وذهول وقد اختفت إذ ذاك أمم بأجمعها من وجه الأرض وأدرجت في(51/43)
أكفان الفناء وتطلعت أمم أخرى غيرها رافعات الرقاب كأنها تشرئب لرؤية مصارع الأمم الزائلة وقد عم آفاق البسيطة وطار لعناً السماء صوت أجش أجوف كصوت الفناء والانحلال وقد علت الخليقة رجفة فاهتزت السموات وزلزلت الأرض وكان الإنسان إذ ذاك مكفهر الطلعة جهم المحيا يثير منظره المخاوف ويبعث على القلق ولقد كان واقفاً بين أبديتين لا يعرفهما فقد كان يجهل الماضي وصوره المطوية ولا يدري المستقبل وما تضمره له بطون الغيوب وكانت القلوب إذ ذاك فارغة من الإيمان مقوية من اليقين وكانت الجوانح قد أظلت من أنوار التقية بالله والاعتقاد بالجماعة وكان الاجتماع قد تخلخلت أركانه وامتزجت أموره وكانت هناك سلطة حاكمة واهنة متعثرة في حمأة الخطيئة ووهدة الشهوات وكان هناك مجلس أعيان يعيد في الذاكرة رسم العظمة الخالية وكان يهب الأموال ويقيم التماثيل للظلمة المستبدين وكانت هناك عصابة من الرؤساء قد اشتد بينهم حب المنافسة والمباهاة وفريق من الجواسيس ولمة من السفسطائيين والأذلاء الخاضعين وكانت المبادئ الكبيرة قد سدت عليها المطالع وأخذت المسالك وكان الناس ايأبهون لغير الماديات وكانت الوطنية الصادقة قد طار طيرها من أوكان القلوب وكان صوت بروتس مقبلاً من ناحية القبور يقول للعالم أيتها الفضيلة ما أنت إلا كلمة وكان هناك طائفة من ذوي النفوس النبيلة الصالحة والضمائر العفة النازهة وقد تماسكوا عن الدنيا إبقاء على نقاوة عقولهم وصفاء أرواحهم من العيوب الفاشية من إطراح وطنية ومن إقلاع عن فضيلة ولم كانت الأرواح قد تضاءلت استبدت الحواس بالناس فحامت نفوسهم على الشهوات وكانت هممهم لا تترامى إلى أبعد من طلب المعاش ونهمة الدنيا وكانت الفلسفة قد تحيف جانبها الشك وأصبحت أبيقورية ثم فنيت في زوابع من الرياح الكلامية وكان الشعر قد تحول إلى أهاجي ومقذعات ولقد كان الإنسان وهو يجتاز هذه المرحلة من الحياة يقف الفينة بعد الفينة قلق الخاطر غير مستقر النفس كالريشة في العاصف الماثر وكان يقف وقد توحشت ألحاظه ووجب قلبه من هول الوحدة التي تحيطه وكانت أصوات الخوف تدوي في جوف الليل الموحش على قوارع الطرق وكان بعض الأفراد وقد أثاره الخوف ينهد إلى تماثيل الآلهة العريانة الباردة التي كانت تعيد في الأيام السالفة وينظمها بالقبلات كأنما قد مسه عارض من الجنون وكانوا ينفخون في غير مكدم ويمون من اليقين الديني بناء غير مرموم وكانوا(51/44)
يعودون وقلوبهم طافحة باليأس وكلمات الكفر جارية على ألسنتهم - هكذا كانت تلك الأزمان كأزماننا هذه ولكن لم يكن ذلك آخر عهد الدنيا ونهاية الحياة ولكن كان آخر صفحة من صفحات التقدم والرقي وكانت تطوي لتنشر صفحة أخرى ويقبل عصر جديد قد لاحت بشائره وأقبلت بوادره ولقد كان العالم إذ ذاك يتهيأ لاستقبال السيد المسيح الروح الملأى بالحب والتقديس ولقد حنا أضلاعه على ذلك العالم ونفث فيه يقيناً هو الحب والتضحية.
أيها المجاهدون لغرض سام وشريف تدرعوا بدرع اليقين واشعروا قلوبكم عز الحق الذي أيها الداعون إلى الحق الذي لا تغَره الدنيا اليوم المجالدون في الحرب المقدسة لئن دعاكم العالم اليوم بالثار سن المتمردين فغدا هذه الدنيا الغير الوافقة بكم ولا الحافلة بأموركم غداً تدين لكم منه الرقاب المتطاولة وتخشع العيون الطامحة وتتطامن أمامكم المفارق وتنكس الأعناق وإن الشهداء هم الأولياء عندنا والقديسون والأبطال هم قساوستنا وقوادنا الروحيون وإن الأعمال الكبيرة هي توسلاتنا وصلاتنا التي نصل بها إلى عليبن ولقد حث بروما في ذات يوم من أيام القرن السادس عشر أن جماعة ديوان التفتيش انتظم سمط أعضائها ليعقدوا أمراً ينكر دوران الأرض وكانوا يزعمون أنهم يعلمون خفيات كل مكتم وأسرار كل مجهول وأنهم ستمدون واسع سلطتهم ويستقون غزير علمهم من الله وكان واقفاً أمامهم سجين يرسف في ثقيل القيود ينتظر يصبر ما تصطفق عليه آراؤهم في أمره وكانت أنوار العبقرية تضيء معالم وجهه وكان هذا الأسير قد سبق عصره وجاء قبل أوانه وكان قد استل من صدر الزمن سراً من أسرار الكون الخفية الجليلة وذلكم السجين هو جليليو - هز ذلك الشيخ رأسه الوقورة الصلعاء وقد أخذت نيران الثورة تدور في نواحي نفسه التي قد تملأت من الغضب من هذه النفوس المغلقة والإحساسات الراكدة التي تروم إرغامه على إنكار حق اجتلى نوره وانبلج لعينه صبحه ولكن الآلام التي ألمت به وما قاساه من عنت الأسر قد نقضت مرته وألانت شكيمته ولما كان يخشى ضير وعيدهم ويود لو يستدفع إذا هم كاد يلين لهم ويغلب على أمره حيالهم فرفع يديه ليقسم اليمين ولما كان يحرك يديه رفع عينيه الكليلتين للسماء التي ظالما أجال في طرفه الليالي الطويلة ليطالع في صفحتها سطراً من قوانين الكون ونواميسه فلمح أشعة الشمس التي كان لا يخالطه الريب في ثباتها وسط العوالم المتحركة فتمشى في قلبه الندم وصاح من أعماق نفسه، لكنها تدور وقد كرت على(51/45)
ذلك ثلاثة أجيال نهل فيها الزمان وعل من تلك المجالس فغابت آثارها ولكن الأرض لا تزال تدور وأصبح دورانها أمراً لا مساغ للشك فيه ولا نزال كلمات جليليو ترفرف فوق هام الأجيال.
فارفعي أيتها الإنسانية عينيك إلى السماء وإقرائي هناك قصة أنها تدور فلنصدع دجنة الحوادث بأنوار اليقين ولننسف بقوة العمل ما في طريقنا من الموانع والعقبات وأن المستقبل لنا.(51/46)
جامعة الدين
وجامعة الوطن
إن نزعة مقدسة لأنها رسالة إلى السماء إلى أهل الأرض. ولكن نزعة الوطن أقدس منها لأنها جاذبية الأرض لأهلها. ومغناطيسية التراب لمن خلقوا منه ودرجوا فوق أديمه. والنزعة الأولى إحساس داخلي عميق صادر من مكان خفي. وعوامل غامضة. ولكن النزعة الأخرى ليست إلا حاسة واضحة، ونتاج بواعث جلية ظاهرة. وتاريخ الدنيا ليس إلا تاريخ النزاع المستمر بن العاطفتين، وسجل الحرب الطاحنة بين الحاستين، وليست المدنية التي نزهى اليوم بها والحضارة الحديثة التي نشيد بذكرها، إلا وليدة الأولى، وربيبة الأخرى، على أنه كثيراً ما بنيت الثانية. وكثيراً ما هدمت الأولى. وكل دين في العالم لم ينهض إلا على أنهار من الدماء. ولم يذع إلا بعد ذبح عظيم، ونفوس تلاشت في سبيله، وأرواح ذهبت في طريقه، وقد كان الدين لا يزال في الجماعات الدينية التي لا تزال تعيش بروح القرون الماضية، يدخل في كل قطعة نم الحياة ويتغلغل أثره في كل ظاهرة نم ظواهر العيش، وكان الدين في الحياة الإنسانية الأولى السلطان الأكبر الذي يحكم الناس ويمتلك رقابهم. وينفذ أحكامه في نفوسهم وأفئدتهم. وهو الذي أثار تلك الحروب المخيفة التي ما أن تزال عنواناً على تاريخ الماضي المظلم. وآية باقية على مبادئ القرون الوسطى. إذ كان الناس يأبون إلا أن يقتتلوا ويدس الأخ أخاه في الثرى، ويبقر الجار بطن جاره على حاسة الدين التي ليست إلا العلاقة الخفية القائمة بين الفرد والكون العظيم الذي حوله. ولا شأن لها بعلاقة الفرد بالفرد والجمع بالجمع. وما كان ذلك إلا لأن الدين وإن عظم إذ ذاك سلطانه على الأرواح. كانت تغلب عليه الروح المادية. وكان أكبر مظاهرة الأنانية. إذ كان الناس يرون يومذاك في أوثانهم آلهة محسوسة فعالة نافذة السلطان. وإن حياتهم لا تسير إلا إذا جرها الدين جراً. وساقها الإيمان بالعقيدة سوقاً، وإن نشبهم لا يزيد إذا لم يجاهدوا للعقيدة التي يدينون بها. وإن شاءهم وأنعامهم لا تسمن ولا تربو إلا إذا حاربوا من أجلها. وكانوا يرون من الأنفة وقوة الجانب والعزة الكبرى أن يكرهوا الدنيا على أن تدين بدينهم. وإن لا يسمحوا بالحياة في جوارهم لما ليسوا على نحلتهم.
وبجانب تلك الحاسة العظيمة الجبارة. كانت تعيش نزعة الدفاع عن الأرض التي يعيش(51/47)
الجماعات الإنسانية فيها متضائلة بجانب أختها حاسة الدين، مستسلمة لأحكامها، نازلة على أمرها ونهيها، إذ كان الناس يرون يمذاك أن الأرض فسيحة فحيث القي الفرد خيامه، وضرب مضاربه، وسرح ماشيته. فله أن يميها وطناً، وينسبها له داراً، فإذا سئمها وانتقل به عنها مطلب من مطالب الحياة أو وثبة من وثبات الدين، فما هم بضائره أن يتحمل إلى مكان آخر يختاره وينزل حيث تحط به ركابه، فإذا هو عند وطن جديد، وإذا هو ناشئ في قوم آخرين، ولهذا كثير ما اقتتلت عشائر كانت تعيش في إقليم واحد، وتتجاور في صعيد مفرد، وحمل القوم على إخوانهم الذبن يشاركونهم في ملكية الأرض التي هم عليها جميعاً، وراء الخلاف الديني، ونزاع العقيدة للعقيدة، فلم يكن من ذلك إلا أن أغار عليهم من هم أقوى منهم جانباً، وكان من خلافهم أن ديثوا بالصغار وحقت عليهم المهانة وذلة الأسار.
على أنه كان الدين في العصور الماضية قد تغلب على الروح الوطنية. فما كان ذلك إلا لأن العقل الإنساني كان لا يزال ضيق الدائرة، محصور المضطرب لا يستطيع أن يتحمل التسامح الفكري، وحرية المبدأ، لأنه كان يخشى أن يكون في تقلبه ذلك الشر كله على مبادئه. وكان يشفق من أن يهدم عقيدته أو يضعف من شوكتها، أو يفقدها مكانتها إذا أجاز بجانبها عقيدة عقل غيره وارتضى أن تعيش مذاهب الناس بجانب مذهبه. وخاف أن يفقد كل شيء إذا هو فعل ذلك ثم تبين له سخف بجانب عقائد جاره ومنافسه.
ولكن العقل الإنساني الذي صير على سلطان الدين ومشى على حكمه قروناً عدة وأجيالاً، ما زال يوسع من جوانبه أن خفية أو جهاراً يفتح نوافذه المطلة على حدود الشك والتفكير المطلق الحر خلسة واستتاراً، لكي تدخل إليه نسائم الرياح النقية المتطهرة فتمسح عنه بعض أقداره حتى استطاع آخر أمره أن يعلن على رأس العالم كله أن العقل الإنساني لا حدود له ولا تخوم وأن من أكبر الجرائم أن يوحد العقل في العالم بأسرد فتعيش الدنيا كله بعقل واحد. وأنه ينبغي لهذا أن تحترم كل عقيدة. لأن في احترامها احتراماً للعقل الذي صدرت عنه. وكان في ذلك أول بواكر التسامح الفكري. وظهور حرية الأديان في العالم وإذا استتب بالتسامح في الدنيا المقام بدأت روح الدفاع عن الأرض تنمو وتزحزح روح الدفاع عن السماء. حتى جعل الناس في المدينة الحديثة يؤثرون وطنهم على الدنيا بأجمعها. وعلى الأرض والسماء معاً، وانكمشت الروح الدينية فأضحت في مكانتها الواجبة لها. وهي(51/48)
أن تكون العلاقة الشخصية القائمة يبن الفرج وخالقه دون أن تمس العلاقة بين الفرد وجاره. وأصبحت الأمم تقف صفاً صفاً، أمام أي خطر يحدق بأرضها غير حافلة جموعها باختلاف أحزابها في عقائدهم وتنوع مذاهبهم. وأصبح الدفاع عن الأرض ديناً للإنسانية عاماً. ومشى الدين الروحاني بجانب ذلك الدين العام المقدس ورضيه وتقبله وانبرى زعماء الأديان ورجالاتها في مواطن الخطر المحدق بأوطانهم ينضون عنهم أثواب القساوسة. وينزعون معاطف الكهنوت. ويثبون إلى محاربة أعداء بلادهم في لباس الجند. وشملة الحرب. ونحن لا نستطيع أن نحصي عدد رجال الكنيسة الذين تطوعوا في هذه الحرب الطاحنة من كل أمة من الأمم التي تناجزت فيها وأسهمت في وطيسها. على حين كانت المسيحية هي الدين الذي يؤمن به الجميع:
وإذا كان هذا هكذا. فلا عجب أن ترى مصر التي كن يظن العالم أن أقباطها ومسلميها يوم النضال عنها وفي موقف الذود عن ذمارها سيظلون أقباطاً ومسلمين ويخذل عنصر عنصراً قد انضووا تحت لواء دين واحد، هو دين الحياة والإنسانية كلها. وهو الوطن فإذا هم جميعاً صفوف منظمة تسير إلى غاية واحدة هي نشدان الحيرة أو الفناء.
الخرطوم
ع. ح(51/49)
باب الزراعة
زراعة القطن
حقائق ودقائق عنها
منذ سنوات كنت أبحث في غيطان القطن عن تأثير الحشرات فلفت نظري غيطان متلاصان أعرف نم قبل تماثلهما في الأحوال الزراعية ولكني وجدت أن أحدهما أزكى من الآخر زكاء بيناً.
كان ذانك الغيطان متماثلين في نوع التربة والزراعة السابقة للقطن وكان زارعاهما متساويين في العناية بهما وكانا مزروعين من صنف واحد من أصناف القطن ولكن نبات أحدهما عفى من نبات الآخر وأكثر منه وأبكر فروعاً وأزهاراً بحثت فلم أجد في وسائل تهيز الأرض وخدمة الزرع فيهما ما يعلل به هذا التفاوت الكبير بين زرعيهما واستزدت من المشاهدات في غيرهما مع المقابلة يبن بعض الغيطان وبعضها الآخر فوجدت أيضاً أنه بنما تكون الزراعة الكبيرة أنمى من غيط يجاوره ويماثله تكون الزراعة الوخرية ذات البقعة يرجع إليها في التعليل عادة بين جمهور الزراع ليست وحدها هي الفعالة في تخصيب الزرع وأنه لا بد أن يكون هناك عوامل أخرى ولذلك أخذت أستكشف باستمرار وأراقب بعين ساهرة كل ما يمكن تبينه من وسائل فلاحة القطن وكيفياتها المختلفة وملابساتها المتنوعة حتى وقفت بعد طول الملاحظة والاختبار والبحث والاستبصار إلى حقائق ودقائق جديرة بلفت نظر الزراع إليها أذكر منها الآن ما يلي:
(1) أن لصفة البذرة في ذاتها (بصرف النظر عن نوعها) تأثيراً قوياً قلما يلتفت الكافة إلى دراسة نتائجه وتقديرها حق قدرها بالدقة والعناية اللازميتن وأن عامة الزراع مهملون في اختيار البذور فلا يكادون يفرقون بين الطيب والدون أو الطيب والأطيب حاسبين أنه ما دامت البذرة تنبت فنماء نباتها وزكاؤه بعد تابع لخصبة التربة فحسب وهذا خطأ فإنه كلما كانت البذرة أزكى أصلاً وأرسخ صفات أي أصيلة ونقية (بالمعنى النباتي) كان نبتها أقوى وأمنع - أي ذا مناعة والمناعة هي القدرة على مقاومة الأدواء.
ومما يحسن التنبيه إليه لمناسبة ذكر البذرة تصحيحاً لبعض المزاعم الشائعة في القرن الزراعي خطأ ما يأتي:(51/50)
(ا) زعم التقاوى تكون أحسن لجهة ما إذا جلبت لها من جهة أخرى فإن هذا على ما يلوح لي بل أكاد أتأكده من الأوهام فهؤلاء زراع الخضروات المصرية كانوا ولا يزالون ينتخبون تقاويها نم ذات زراعتهم ويتداولون زراعتها وانتخابها دواليك منذ سنين عديدة ولا تزال مع ذلك حافظة لجودتها وخصائصها مع المزيد فيهما حيث يكون الانتخاب أدق والعناية بالفلاحة أتم ولعل سبب هذا الوهم أن البذرة المجلوبة تكون عادة مجلوبة من مزارع مشهورة بحسن عناية زراعها. فتكون لذلك جيدة وإذاً بالفضل لحسن التخير والانتقاء لا للجهة فإذا أحسن إنسان انتقاء بذرته نم غلة أرضه كان ذلك وافياً بالغرض.
(ب) إن البذرة المتخيرة إذا زرعت في غيط غير معتنى به وانحط نسلها فيه لذلك نسلها هذا تعود بذرته وتسترجع جودتها. الأولى إذا زرعت في غيط معتنى به كما يجب ولذلك قد تكون صفة البذرة الظاهرة أحياناً ليست دليلاً تام الدلالة عليها بدون الرجوع إلى استكناه أصلها.
(2) إن لدرجة جفاف الأرض تأثيراً فإذا كانت الأرض حلوة ولم تجف تماماً للدرجة التي يحسن معها الحرث فإن نبتها ينشأ ضعيفاً وإذا كانت الأرض بها شيء نم الملوحة وحرثت وهي جافة جفافاً تاماً فإن نبتها ينشأ ضعيفاً أيضاً وفي الأرض الحلوة كلما كانت مدة التشميس أطول كان إخصابها للزرع أزكى وبالعكس الأرض الغير حلوة فإنها إذا شمست كثيراً تفوخر.
(3) إن لأوقات الري سيما مدة التزهير تأثيراً شديداً سريعاً فأحسن ما يكون الرى حينئذ في الأوقات اللينة صباحاً ومساءً وليلاً أما الري في أوقات الحرارة سيما إذا كان الزرع عطشاناً عطشاً بينا فإنه يكون مفاجأة مضرة به للغاية.
وبعد فإني أذكر فيما يلي بعض الحقائق التي لا يد نم التدقيق في مراعاتها لتحسين غلة القطن نوعاً ومقداراً.
(أولاً) تدمس الأرض (تروى) قبل الحرث إذا كانت بائرة أو بعد التخطيط (قبل وضع البذرة) فإنه يلطف خصوبة الأرض الفائقة الخصوبة حتى لا يهيج قطنها ويغسل ملوحة الأرض فلا تعيق نمو نباتها ويزيل خشونة الأرض إذا كانت فلا تعاكس خروج نبتها (وإذا كانت الأرض نقية من الملوحة ومتوسطة الخصب ومحروثة جيداً فإنه لا يلزم دمسها إلا(51/51)
إذا كانت ستزرع قطناً رجيعاً) وإذا وجد أن الدمس سينشأ عنه تأخير زرع الأرض عن إبانه أي عن وقته المناسب فيمكن الاكتفاء بجعل رية الزرع إشباعاً.
(ثانياً) أن تكون سعة التخطيط متوسطة توسطاً يميل إلى تسعة مثلاً إذا قدرنا لأرض جعل التخطيط كل 9 أو 10 خطوط في القصبتين فيرجع ال9 أو 11 و12 فيرجع ال11 وأن تكون المسافة يبن الزرع أي بين النقرة والنقرة أو الجورة والجورة متوسطة أيضاً ولكن بميل إلى التضييق فإذا قدرنا لأرض أن تكون المسافة 35 أو 30 سنتيماً رجحنا المسافة الأقل والسبب في ذلك أنه مع جعل التخطيط أقرب إلى السعة - إلى حد محدود طبعاً - تصير المساطب أعلى فتجد فيها جذور النبات عمقاً أكثر (مما تجده في المساطب ذات التخطيط الضيق) مخدوماً خدمة حسنة فينشط نموها وبالتالي نمو الشجيرات وتفريعها وتزهيرها.
ثالثاً: تنقع البذرة في المساء مسافة الليلة التي ستكون الزراعة في صباحها وأحسن أن يكون الماء بقدر ما يغمر البذرة فقط بدون أن يطف عليها.
رابعاً: أن تؤخر رية المحاياة ما أمكن للزرع احتمال ذلك بحيث لا يروى إلا إذا ظهرت عليه أمارات الظمأ الشديد.
خامساً: أن يبكر بخف القطن ما أمكن التكبير.
سادساً: أن يروى القطن رياً إشباعاً متقارباً ما أمكن ذلك في الوقت ما بين نزول النقطة ومجيء الفيضان أو من أواسط يونيو إلى أوائل أغسطس.
سابعا: أن يبادر بجني القطن كلما وجد به ثلث محصول أي يجني ثلاث مرات
الألفى
آلات زراعية جديدة
بقية محاضرة الأستاذ عبد الله أفندي عبد المجيد
التي نشر قسم منها في العدد 7 و8 سنة سابعة
البذارة
تبذر بسرعة هائلة. وباقتصاد هائل. هـ آلة تضع فيها القمح أو البرسيم ويجرها حصان أو بغل فتسير وتدفن في الأرض البذور على أبعاد متساوية وعلى خطوط هندسية متباعدة(51/52)
تباعداً متساوياً فلا تبذير ولا إسراف مهندس حكيم يخط لك حديقة غناء.
لقد نشرت نقابة سنتماي الزراعية سنة 1916 في الجرائد المصرية نتيجة أبحاثي وطريقتي في بذر القمح. وبرهنت أنه لا يجب أن يوضع في الفدان أكثر من ثلاث كيلات حتى يجد النبات هواء يتخلله ومسكناً صحياً فتكبر السنبلة وتكون أقل عرضة للأمراض الفطرية الخ وأخيراً يعطي محصولاً أكبر. وقد جربت وزارة الزراعة هذه الطريقة ورأت أنها خير طريقة من الوجهة الزراعية والاقتصادية.
البذارة أيها السادة آلة رخيصة يجب أن تكون عند كل مزارع وكل نقابة أنها توفر في سنة واحدة ضعف ثمنها وتوفر الوقت والعمل والعمال.
وللسباخ بذارة مخصوصة تنثر على الأرض بميزان عادل.
* * *
العزاقة
آلة سهلة يحركها حصان فتسير بين خطوط القطن أو الذرة وتعمل في الساعة الواحدة مالا يعمله العامل في يوم. فانظروا الاقتصاد الهائل.
الوابورات البخارية التي تدار بالغاز كلكم يعرفها أو كلكم تملكون منها في دوائركم قد عرفتم نفعها الجم فلا أود أن أكلمكم عنها.
آلة ضم القمح
عربة يركبها الفلاح يجرها حصان وكلما سارت تساقط القمح بكل لطف وحزمته وتركته مجهزاً للدراس.
آلة الدراس
آلة تدرس القمح والشعير وخلافة فيتساقط الحب خيالياً من كل الوساخات وهي تكفي المالك تعب المواشي وهلاكها في الحر وتقتصد في الوقت. ومنها الرخيصة التي تسير بالمواشي ومنها ما يدار بالآلات.
الغرابيل الميكانيكية
من ذا الذي يسير حقل من القمح ولا يرى اختلاف العينات؟ تزرع قمحاً بلدياً فتراه خليطاً من الهندي والبلدي. تزرع برسيماً فتراه مزيجاً من نباتات متعددة ولم ذلك أيها السادة؟ لأننا(51/53)
لا نعتني بتنقية البذور.
إن هناك قانوناً طبيعياً يتصرف في الإنسان والحيوان والنبات. ذلك القانون هو أن الضعيف لا يوجد إلا ضعيفاً. الشيخ الهرم ل يوجد نسلاً قوياً كالشاب. كذلك الحبة الضعيفة لا توجد نباتاً قوياً.
لذلك وجب علي أيها السادة أن أنبهكم بكل قواي أن من الواجب ليكون عندك محاصيل جيدة أن تنتخب البذور القوية.
وما هي الطريقة؟
الغرابيل الميكانيكية. تضع القمح بكل ما فيه من وساخة؟ فيحرك رجل بسيط؟؟؟؟ فيتساقط خمسة أنواع من القمح أو البرسيم. كل عينة لوحدها. درجة أولى وثانية. وثالثة. والزلط والتراب لوحده. والزميل والحبوب الدخيلة لوحدها وبذلك يخرج عندك النوع الجيد لبذار أرضك ولبيعه بذوراً للغير بثمن عالٍ جداً. ويكون قمحك خالياً من كل أنواع الحبوب الدخيلة كالزميل وخلافه.
إننا في حاجة شديدة أيها السادة لهذه الغرابيل. وإني أود أن أجاهد بكل قواي لأقنعكم أنه من الواجب أن يكون عندكم نم الغد غرابيل منها. اقتنوها وجربوها تروا أني أخلص لكم النصح.
طالما كنت أتمنى أن أجد الفرصة السانحة فأقول بملء صوتي:
إلى الغرابيل الميكانيكية. إلى الآلات الزراعية الحديثة. لا تبخلوا على أرضكم لتجود عليكم. اخدموها تخدمكم. حافظوا على خصوبتها تحافظ على ثروتكم.
إن هذه الآلات أيها السادة لا تكلف كثيراً ولا تطلب مالاً جماً وهي ثروة باقية. أن نم هذه الآلات ما يمكن للمزارع الذي يملك عشرة فدنة أن يقتنيه. منها لبسيط الرخيص. ومنها صغير الحجم. ومنها كبير. منها ما يقدر عليه كل جيب وفي الختام أيها السادة نشكركم على تشريفكم وتشجيعكم. ولنا الأمل الأعظم أن تكونوا أكبر معضدين لنا.
وإنا ننتهز الفرصة لنبوح لكم جهاراً أننا لا نبغي من عملنا هذا حطام الحياة إنما هو واجب نؤديه فلتؤدوه معنا ولتساعدونا عليه والسلام.(51/54)
متفرقات
أبطال بريطانيا العظمى يموتون جوعاً
يوجد في بريطانيا ثلثمائة شخص من أبطال هذه الحرب الكبرى لا يجدون مورداً للارتزاق. وقد أصبحوا من الهلاك على رقاب قوسين أو أدنى.
ومن بين هؤلاء الثلثمائة ألف بطل ستون ألف ضابط يبحثون في بلادهم عن وظائف أية كانت - كما أن مننهم رجلاً عد من الأبطال مراراً ضاقت الآن سبل العيش في وجهه فلم يجد وسيلة سوى أن يجوب الطرقات (يضرب على مزمار) ليلفت الأنظار إليه. وآخر كان في المدفعية وجرح مرتين وحاز نيشان لشجاعته وأقدامه تجده إلا أن يعيش بالاستجداء بأن يبيع ظهور النتائج الملونة وعلب الشوكولاته الفارغة. وإذا علم القارئ أن (ملازماً) و (يوزباشياً) أصبحا يجوبان الشوارع وهم يبيعان سندويش ويعلنان للملأ جلية أمرهما، أمكنه أن يصور لنفسه مقدار البؤس والفاقة والشقاء الذي أصحبت الأبطال تقاسيه في بلادهم بريطانيا العظمى. . .
العيون والأمراض
ما رأيكم يا معشر الأطباء؟
يقولون أنه كما يقيس الحرارة الترمومتر، وحالة الجو بوساطة البارومتر كذلك يمكننا أن نعرف ما إذا كان الإنسان صحيحاً أو مريضاً من عينيه. وهذه الطريقة تسمى القزحية وقد قال عنها الدكتور أندرسون الدانيماركي أنها هي الطريقة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها في استكشاف مكان المرض.
وأول من كشف هذه الطريقة هو رجل هنغاري. فقد حدث وهو في صغره أنه أمسك بومة قد كسرت ساقها، فلاحظ أن نقطة سوداء قد ظهرت على الحلقة الملونة التي تحيط بإنسان العين - وهي التي تسمى القزحية - وبعد مضي سنين عدة لاحظ نفس النقطة على القزحية رجل قد كسرت ساقه كذلك. . . فأدت به هذه الملاحظة إلى بحث الموضوع بشكل دقيق، فاتضح له أن كل مرض من الأمراض يحدث نقطة في مكان خاص من القزحية. . حتى إذا ما عولج المرض وزال اختفت هذه النقطة، وبقدر الشفاء كون الاختفاء حتى ليمكن الطبيب أن يعرق متى يتم شفاء المريض.(51/55)
* * *
قطارات تسير بالهواء
هل سيأتي يوم سيتغني فيه العالم عن البخار والفحم وقوة الماء والكهرباء في تسيير القطارات؟
أجل ربما كان ذلك، إذا نجح ذلك الشاب الإيطالي في إتمام إختراعه. فبواسطة هذا الاختراع الذي قد سجل في جميع أنحاء العالم سيصبح من الممكن تسيير القطارات بقوة الهواء المضغوط. والسبيل إلى ذلك - وإن كان لا يزال سراً من أسرار المخترع - ينحصر في استنباط طريقة جديدة لضغط الهواء بكمية هائلة في مركز من المراكز، ثم يوزع كوقود في أنابيب متينة صلبة بطول الخط الحديدي على المحطات المختلفة حتى تملأ منها خزانات القطارات عند الحاجة.
وإذا تمت هذه الطريقة فإنها ستكون أقل نفقة بكثير من أية طريقة استعملت للآن حتى الكهرباء لأنها لا تحتاج إلى إنشاء مركز الضغط ووضع الأنابيب فبارك الله في أولئك الرجال العاملين الذين يكدون أذهانهم في استنباط الطرق التي تعود بالخير العميم على العالم بأسره.
* * *
يقول العقلاء
- رب فتاة ثرية، كانت زوجة زرية
- من تردد في النجاح، أكد له الخيبة
- علم المرء بجهله، شطر كبير من العلم
- تجربة واحدة خير من ألف نصيحة
* *
أغني ممالك الأرض بالنسبة لسكانها هي لكسمبرج بألمانيا ثروة الفرد الواحد في المتوسط في أهم الممالك:
لكمبرج 480ج - الولايات المتحدة 420ج - بريطانيا 390ج فرنسا 300ج
* *(51/56)
ماتت امرأة في (برستد فوجدت جدران منزلها مغطاة بطوابع بوستة قديمة، فيا لها من نزعة غريبة.
* * *
الحرير من خيوط العناكب
يقولون أنه أصبح من الممكن أن يحصل الإنسان على خيط حريري يبلغ ميلين من نسيج العنكبوت المعتاد مرة أو مرتين في الأسبوع وذلك بواسطة آلة حديثة أنشئت لذلك الغرض خاصة. وقد نجحت مدغشقر نجاحاً باهراً في عمل خيوط حريرية من نسيج العنكبوت حتى لقد أصبحت تصنع منه جوارب وقفازات (جونتيات).
وينقسم جسم العنكبوت إلى قسمين أحدهما صغير، وفيه الرأس والصدر، والثاني كبير فوفيه المعدة والبطن، والفم فكان قويان ونابان حادان. وإلى جانبيه يدان حساستان بهما يقبض العنكبوت على فريسته. أما مخالب أرجله فهي أشبه شيء بأسنان المشط ولذا تمكن من أن يسير في بيته ف أي تجاه دون أن يسقط فيه.
وللعنكبوت ثمانية أعين موضوعة حول رأسه بحيث يرى من جميع الاتجاهات في وقت واحد. . . . أما آلة النسيج في هذا الحيوان فهي آخر بطنه. . . . ترى لها نوعاً من الأصابع القصيرة المدببة الأطراف، تخرج منها المادة السائلة بإرادة العنكبوت. وهذه المادة السائلة تجمد وتقوي بمجرد ملامسة الهواء.
* * *
ألوان المدن
لاحظ الطيارون وهم يحلقون في أجواء المدتن المختلفة أن لكل منها لوناً خاصاً تترآى لهم فيه. . فمثلاً نيويورك تظهر: حمراء - وواشنجطن: خضراء - وشيكاجو وسان فرانسيسكو: أبيض سنجابي - وسنت لويس: أبيض ناصع - وبستن: رمادي كالسحاب الذي يتلبد في سمائها أحياناً. أما لندن: فتظهر لون أزرق أغبر ليس رائقاً ما عدا حدائقها الواسعة فتظهر بلون أخضر مائل إلى السواد - وبرمنجهام وغيرها من البلدان الصناعية مثل شيفيلد فلونها بني قائم - وعلى العموم ترى ألوان المدن التي على الشاطئ ليست قائمة كالتي داخل المملكة.(51/57)
* * *
أيهما تفضل
أيهما تفضل، أعلاوة قدرها عشرون جنيهاً كل سنة، أم علاوة فدرها خمسة جنيهات كل ستة أشهر؟
بديهي أنه إذا ألقي هذا السؤال على جماعة الموظفين، فإن 99 في المائة منهم لا يترددون في اختيار العلاوة الأولى - ولكن هذا الواحد من المائة هو لا شك أحست تقديراً وأكثر فوزاً وإليك البرهان:
لنفرض أن هذا الموظف سيبتدئ بمرتب قدره 100 جنيه في السنة، ولنحسب إيراده في مدة سنتين ففي الستة أشهر الأولى 50 جنيهاً وفي الثانية 55 جنيهاً وفي الثالثة 60 والرابعة 65
وعلى ذلك يكون المجموع 230 جنيهاً
أما إذا قبل 20 جنيهاً كل سنة، فإنه يأخذ 100 جنيهاً في السنة الأولى و120 في السنة الثانية، فيكون المجموع 230 جنيهاً فقط. . . .
* * *
عجائب المخلوقات
يوجد رجل يدعى (لويس) له قلب يدق دقات موسيقية رنانة يمكن سماعها من جميع أركان غرفة واسعة. ولويس هذا هو رجل بولاندي نفي منذ سنوات في سيبريا لجريمة ارتكبها ثم حاول الفرار فأصيب بجرح واسع من جراء ذلك. والظاهر أن الحربة لما اخترقت صدره مست قلبه بكيفية خاصة استحال بعدها آلة موسيقية لا تزال للآن موضع دهشة رجال الطب واستغرابهم.
وأعجب من هذا ما سمعناه عن رجل في نيويورك يتلاعب بالجاذبية بكيفية لم يكن للعقل أن يقلبها أو يصدق خبرها لولا إقرار كثير من علماء ورياضي أوروبا وأمريكا بوجوده.
كنا نعلم أن وزن أي شيء من الأشياء ثابت لا يتغير لأنه يتعلق بجاذبية الأرض للمادة التي يتكون منها الجسم. . ولكنا نسمع أن هذا الرجل الغريب يمكنه وهو فوق الميزان أتن يجعل وزنه يتزايد كيفما شاء، فيكون 200 و400 و600 وفي بعض الأحيان 800 رطل(51/58)
مع أنه رجل نحيل لا يزيد عن 120 رطلاً وكذلك في استطاعته أن ينقص وزنه حتى لتخاله من حمله أنه طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره.
وهذا الرجل نفسه لا يقدر أن يشرح السر في هذه الميزة العجيبة. وكل ما يعرفه هو أنها تزداد فيه قوة يوماً عن يوم وهو يقول لابد من أحداث تعديل في قانون الجاذبية حتى يتفق مع حالته.
* * *
معلومات صغيرة
يبلغ عدد الذين يتناولون (معاش الحرب) 2، 621، 313 نسمة
يوجد أكثر من 500 مدرسة للموسيقى في ألمانيا
لا يبلغ سن المائة إلا واحد من كل عشرة آلاف نسمة
نالت المرأة في غرب استراليا حق الانتخاب نمذ خمسين سنة تقريباً
في 1913 - 1914 كانت نفقة الجيش البريطاني (28، 220، 000) جنيهاً وفي 1919 كان نفقته (268، 534، 000) جنيه
تستطيع (1، 000، 000) مكروبة أن تقف على سن الدبوس
يبلغ عدد اليهود في أنحاء العالم 15، 430، 000 نسمة
العائلة الحاكمة في اليابان هي أقدم العائلات في العالم. فإن الحاكم الحالي هناك يقول أن به يكون قد حكم اليابان 122 حاكماً من أسرة واحدة لم تنقطع وقد وليت الحكم عام 700 قبل الميلاد.
رؤوس صلعاء للإيجار
لقد أصبحنا في زمن لا ينتهي فيه العجب! حتى لقد أصبح الناس الآن يعالجون أبواباً والارتزاق هي النهاية والغرابة. فمن ذلك ما قرأناه عن شاب متعلم حسن البزة طيب المنبت طال عليه أمد البطالة واشتد به البؤس وضيق ذات اليد، حتى لقد اضطر أخيراً أن يقبل ما عرضته عليه شركة من أشهر شركات المسارح بباريس. . وهو أن يحلق رأسه كلها (بالموسى) ثم يكتب على جلدها اسم المسرح وعنوان الرواية وميعاد التمثيل ثم يجلس هكذا في قهوة غاصة بالقوم على سيبل الإعلان. . . فاللهم فرج هذا الكرب وارفع هذا(51/59)
البلاء الذي عم العالم قاطبة، وارحم عبادك فحسبهم ما قاسوه من صنوف العذاب والويلات والمهانة في هذه السنوات الأخيرة.(51/60)
الحق صراح
غريب في أمر هذه المجلة - غريب أمرها للغاية التي لا بعدها - إذ كلما حز بها أمر، وأخذت بخناقها ضيقة مالية من جراء وكلائها، وخراب ذممهم وعبثهم بأموالها - وبهذا الجرم الدنيء - الجرم الذي لا ينال من صاحب المجلة نقول أنهم بهذا الجرم الخبيث الذي لا جرم مثله يقتصون الحين بعد الحين جناحي البيان فتكون النتيجة أنه يعجز عن أن يطير إليهم فيه - ويطول هذا العجز الشهر والشهرين والثلاثة حسب كمية هذا الجرم، فتذهب الظنون إذ ذاك مذاهبها ويكاد اليأس من ظهور المجلة مرة أخرى يتسرب لا إلى نفوس القراء فقط بل إلى القائم بالعمل نفسه. وعلى الرغم نم ذلك كله لا تكون إلا عشية أو ضحاها حتى يهيئ الله من أمرنا رشداً، ويتيح لهذه المجلة ما يقيلها من عثرتها، وينتاشها من وهدتها، فيرتاش البيان - ويرتاش أبدع الارتياش ويطير باسم الله مجراه، إلى من ينتظرون بشغف سراه.
ألم بالبيان في هذا العام ثلاث ملمات من نوع واحد، وذلك أن ايتلي ثلاثة من المخلوقات، عينوا وكلاء محصلين له في الجهات، حصل ثلاثتهم على نحو من خمسين ومائة جنيه، لم يحظ البيان منها بخمسين ومائة مليم، بينما ذلك المقدار كان يكون كافياً لإخراج خمسة أعداد البيان، فسببت هذه الملة المروعة عدم ظهور عددي نوفمبر وديسمبر لأن البيان من ابتداء سنته الثالثة يتأثر باشتراكاته تأثراً بيناً، فيهبط ويرتفع كالبارومتر يتأثر بالجو الذي يحيط به. . . فأخذنا نم ذلك المقيم المقعد، وصرنا بحيث لا نستقر على حال من القلق. إذ قد بذر الله في قلبنا حب هذا العمل ولا تعلق بالمضي فيه بصفة لا أدل عليها من ثباتنا فيه إلى اليوم على الرغم من أمثال هذه العقبات التي تكاد أكبر قوة ما دامت طريقة الحصول على الاشتراكات ترسل إلى الجريدة أو المجلة مباشرة دون واسطة، مجصل فلو أن هذه الطريقة تتبع في مصر لكان البيان اليوم على حال يحسد عليها. . . لكان يجاري اليوم مجلات الغرب ويلز الغرب معها في قرن.
أما بعد فلما رأينا البيان بهذه الحال أخذنا نبحث عن حيلة نخرج بها من هذا المأزق المتضايق فشغلنا أولاً بتأديب هؤلاء الخونة حتى يكون فيهم لمن بقى اعتبار ثم بعد ذلك لم نر أمامنا للحول على مبلغ من المال ندارك به حالة سوى ذلك الذماء الباقي لأولادنا فما كان منا إلا أن أزعجناهم إزعاجاً كأنا بهم لا ينسون أبد الدهر حرقته وذلك بأن أخذنا منهم(51/61)
أخذ عنيدهم، ثمن قطنهم، واشترينا به ورقاً يكفي البيان عاماً كاملاً، ثم اتفق أن شغلنا في تلك الآونة بحفلة البيان السنوية التي لم نوفق إلى إقامتها إلا في مساء يوم الخميس الموافق 2 يناير - والشيء يذكر بالشيء، فقد كانت حفلة هذا العام حفلة من أجمل حفلات! إذ مثلت فيها جمعية أنصار التمثيل رواية من أبدع روايات الدنيا وأروعها وهي رواية بني الوطنية أو الرسول التي نقلها من الفرنسية إلى العربية الكاتب المبدع عباس أفندي حافظ أحد كتاب هذه المجلة، وأهداها إلينا لتمثل في هذه الحفلة، وزاد هذه الحفلة رونقاً وجلالاً أن رأسها حضرة صاحب المعالي أحمد حشمت باشا الذي رأينا منه ما يصح معه أن نلقبه بحق - نصير العلم والأدب في مصر - وقد دعونا لتشريف هذه الحفلة كل من نعرف منه سمو الخلق ونبل الروح والغيرة على العلم والأدب في شخص هذه المجلة فكان في طليعة من أجابوا الدعوة حضرة صاحب المعالي عدلي يكن باشا وحضرة صاحب السعادة الوطني الكبير علي شعراوي باشا وحضرة صاحب السعادة الأديب الكبير أحمد تيمور باشا وحضرة صاحب السعادة محمود فخري باشا وحضرة صاحب السعادة عثمات مرتضى باشا وحضرة صاحب العزة ذي الحسب العد والإحساس المتفضل القاضي الفاضل السيد فوده بك القاضي بمحكمة مصر وحضرة صاحب العزة الوطني الغيور الهمام عبد الستار الباسل بك وحضرة صاحب العزة المهذب النبيل على محمود بك نجل حضرة صاحب السعادة محمود سليمان باشا وحضرة صاحب العزة العالم الجليل وشاعر العربية والتركية نور الدين مصطفى بك وحضرات أصحاب العزة الأفاضل الأماجد علي جلال بك القاضي بمحكمة مصر المختلطة وإبراهيم الهلباوي بك وإسماعيل شرين بك وأحمد ومحمد شريف صبري بك والعالم الفاضل السيد مصطفى عبد الرزاق وسعادة الأصولي الفاضل محمد أسعد بك وسعادة الشاب الكبير علي توفيق بك ومحمد محمود جلال بك إلى كثير من كرائم السيدات وطلبة المدارس وتلاميذها وقد ألقيت خلال فصول الرواية منولوجات وطنية جميلة آية في الإبداع وختمت الحفلة بأن ألقى كاتب هذه الأسطر كلمة شكر لحضرات الذين أجابوا الدعوة متفضلين وجملة القول أن هذه الحفلة أصابت من النفوس أقصر غايات الاستحسان، فكان لديهم يد نعم اليد على البيان.
وبعد فلما قطعت هذه المرحلة الأولى رأينا أنها لا تصل وحدها بالبيان إلى الغرض الذي(51/62)
نرمي إليه ويرمي إليه عشاقه، وذلك إنا - كما يعرف ذلك كثير من خلطائنا - كنا وحدنا القائمين بجميع أعمال هذه المجلة من مادية وأدبية فكان لذلك أثر سيء على البيان - فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فلم نر أبداً من أستاذ الأعمال الإدارية إلى ابن عمنا وشريكنا في هذا العمل ناجي أفندي البرقوقي - فكان ذلك، وأصبح حضرته من اليوم هو الذي يجعل أن يفاوض في جميع شؤون هه المجلة الإدارية وأهمها تعيين الوكلاء ومحاسبتهم. وبذلك أدرك البيان ما يتمنى، وأصبح البيان بحال تبعث على الطمأنينة التامة من جميع جهاته.
يبدأ أن لنا لدى حضرات المشتركين الذين اعتادوا أن يدفعوا الاشتراكات بواسطة المحصلين ولا سيما الذين يقيمون في غير القاهرة والإسكندرية أن يعدلوا عن هذه العادة جهد استطاعتهم بأن يكلفوا خاطرهم ويرسلوا إلينا قيمة الاشتراك في ميعادها مباشرة بواسطة البريد وبذلك يؤدون لنا ولأنفسهم ولوطننا المحبوب أجل خدمة. . سدد الله خطواتنا جميعاً إلى ما فيه الخير لمصر والمصريين. فلتحي مصر الحرة المحبوبة - وليحي كل مصري يعمل لمصر وإسعادها - وليحي من يقدر الواجب حق قدره.(51/63)
العدد 52 - بتاريخ: 1 - 2 - 1920(/)
اعترافات الفرد دي موسيه
كان من بين الموضوعات التي وقع عليها اختيارنا لنشرها مذ السنة الثانية للبيان اعترافات شاعر فرنسا الخالد الفرد دي موسيه - وقد نشرنا فعلاً من هذه الاعترافات الفصل الثالث والرابع - لأن الأول والثاني كمدخل لهذه الاعترافات، ولاعترافات نفسها إنما تبتدئ من الفصل الثالث، ثم سكتنا عن الاسترسال في نشرها لاشتغالنا بالموضوعات الأخرى التي كانت أهم في نظرنا بيد أن كثيراً من قراء البيان اليوم طلبوا إلينا ملحين أن نعود إلى ترجمة الاعترافات - ولأن العهد بالسنة الثانية قد طال وأصبح الكثير من قراء البيان اليوم غير قرائه بالأمس - لذلك لم يجد ندحة عن استئناف ترجمة هذه الاعترافات من أولها. والمحور الذي تدور هذه الاعترافات حوله هو التشهير بعصر الشاعر ومساوئه ومن هنا اسماها اعترافات فتى العصر.
(الفصل الثالث)
حضرة وليمة في دار بعض الناس، وكان حولي أصدقائي في الحلل الفاخرة. والحلى الباهرة. والمكان غاص بالفتيان والفتيات - يتلأ لأن جمالاً وبشراً، ويتألقن سروراً وحسناً. وعن يميني ويساري الأباريق والأقداح. والنرجس والأقاح. والألوان في الصحاف، والزجاج يجلو السلاف. وفرقة الموسيقى تصدح الألحان. كهديل الورق في الأغصان. وكانت تجلس أمامي على المائدة حبيبتي - وكانت من أمنح خلق الله وكنت بها صبا مستهاماً.
وكانت سني إذ ذاك تسعة عشر، وكنت في رخاء من العيش وصفاء من الدهر وأمان من النوائب. وكنت شاباً نبيلاً شريفاً، ومخلصاً صريحاً، مملوء الفؤاد بالأماني المستحيلة مما تفيض به قلوب الأحداث والشباب. وكانت الخمر قد دبت في عظامي والتهبت حمياها في عروقي. فكنت بتلك الحال التي يظل فيها المرء يبصر شخص حبيبته في كل ما تقع عليه عينه من المرئيات. فكأن الكون كله في نظرة جوهرة عظيمة لها ألف ألف وجه وعلى كل وجه يبدو وجه حبيبته. وكنت فرحاً مسروراً طرباً أحس كأن كل مخلوقات الله أخوة لي وأكاد أهم باعتناق كل من رأيته يبتسم. وكانت حبيبتي قد وعدتني اللقاء في تلك الليلة بعد؟؟؟؟؟ الحفلة. فرفعت شفة الكأس إلى شفتي أرتشف ريقتها، وفي تلك اللحظة نظرت(52/1)
إليها وفي أثناء ذلك التفت أتناول صفحة من يد الخادم فسقطت شوكتي فانحنيت التقطها. ولما لم أجدها رفعت ذيل غطاء المائدة لأبحث عنها. فأبصرت تحت الخوان قدم حبيبتي مستقراً على قدم شاب كان جالساً إلى جانبها وقد التفت الساق بالساق وهما من آن لي آخر يتغامزان بالأكف ويتضاغطان بالأرجل والأقدام ثم استويت جالساً وطلبت شوكة أهرى واسترسلت في الأكل والشرب على غاية نم السكون والطمأنينة. وكذلك كان شأن حبيبتي وجارها - ساكتين صامتين لا يتنابسان شفة ولا يتبادلان النظرات ولا اللمحات - لا علناً ولا اختلاساً. وكان جارها قد ارتفق على المائدة وأقبل على امرأة أخرى حياله يمازحها ويداعبها وهي ترية أسوارها ودمالجها، وكانت حبيبتي ساكتة الأوصال لا تبدي حراكاً، ترنو بلحظ فاتر وطرف مريض. وجعلت أراقبها أثناء الطعام فلم يبدر من أيهما أدنى ما يدعو إلى ريبة أو تهمة. لما وضع الآخر الألوان أسقطت فوطتي عمداً ثم انحنيت لآخذها فألفيتهما على مثل حالتهما الأولى لم يتحولا عنها مثقال ذرة.
وقد كنت واعدت حبيبتي على أن أرافقها إلى دارها بعد الوليمة. فأقضي معها هزيعاً من الليل. وكانت أرملة، فكان لا قيد عليها ولا بأس أن تستقبل الضيوف في دارها ولا سيما إذا كان لها قريبة عجوز كانت لا تزال ترافقها وتنزل منها منزلة الحارسة والرقيبة. فلما رفع الخوان ونهضت للانصراف نادتني قائلة أوكتاف! أوكتاف! هلم إليّ! أما آن أن نذهب إلى الدار؟ أني متأهبة للذهاب فلم التفت إليها ولكني أخذت في الضحك ثم غادرت إلى حجر في الطريق فقعدت عليه ولم أدر فيما كنت أفكر وبماذا اشتغل بالي إذ ذاك وماذا جال بخاطري. فلقد كنت يعلم الله قد راعني وهالني ما شهدت نم خيانة حبيبتي، وبهرني وغمرني ما رأيت من غدرها حتى رحت كما قال القائل:
ترى الجلد مغموراً يميد مرنحا ... كان به سكراً وإن كان صاحياً
وكان الذي أبصرته بعيني رأسي من عملها الآنف الذكر لم يدع للشك أدنى مجال عندي. فأحسست كأنما شج رأسي بصخرة أو سقط عليّ حائط. فلست أدري ماذا كان يمر بخاطري ساعة كنت جالساً على ذلك الحجر سوى أني كنت أرفع طرفي بلا تفكير نحو السماء حيث أبصرت شهاباً ينقض، فنزعت قبعتي أحيي ذلك البارق المارق الذي يبصر فيه الشعراء آية على خراب عالم من العوالم.(52/2)
ثم عدت إلى منزلي على مهل وأنا لا أحس ولا أشعر ولا أعقل ولا أفكر كمن قد ذهب فلبه وطاح لبه. ثم أني نزعت ثيابي ومضيت إلى مضجعي ولكني لم أكد أضع رأسي على الوسادة حتى تملكني حب الانتقام والأخذ بالثأر وجاش بقلبي جيشة حفزتني من فراشي حفزاً، فلم أشعر إلا وأنا قائم على الجدار منتصباً كأني الرمح أو الجذع وقد خنقني البكاء ثم انطلقت عيني بوابل من الدمع هطال، وذراعاي ممدودتان وقد ارتفع مشطا قدمي عن الأرض لتشنج أعصابي فلم أطأ أديمها إل بعقبي. ومضت عليّ ساعة وأنا على هذه الحال من الجنون التام يابس المفاصل جامد الأوصال كالهيكل العظمي. وهذه كانت أول ما أصابني نم الثورات الغضبية والنوبات العصبية.
كان الرجل الذي فاجأته يغمز حبيبتي ويجمشها أحد أصدقائي المقربين. فجئته في الغد يصحبني رفيق لي من فئة المحامين اسمه ديزينيه ثم أخذنا مسدسين ومضينا إلى غابة فينسين وجعلت أثناء الطريق أتحاشى النظر إلى خصمي والدنو منه فمنعت نفسي بذلك من الاعتداء عليه بالنسب أو الضرب. ومثل هذا الاعتداء يعد شيئاً وعبثاً ما دام القانون يجيز المبارزة القائمة على أساس منظم غير أني لم أملك مع ذلك أن صوبت إليه طرفي خلسةً وكان رفيق صباي منذ الطفولة وقد قضينا معاً حقبة من الدهر كأحسن ما يكون صديقان ونحن من الألفة بحال هي المصافاة بين الماء والراح. وامتزاج الأبدان بالأرواح. وكان عليماً بحبي لعشيقتي وفد أفهمني مراراً أن مثل هذه الروابط الغرامية مقدسة في مذهبه وأن يؤثر الانتحار على أن يكون لعهدي غادراً - ويفضل أن يحثى فوقه تراب القبر على أن يحاول خلعي من منزلتي في فؤاد حبيبتي ليحتلها بدلي ويقوم فيها مقامي فوثقت به الثقة العمياء ولعلي لم أخلص لإنسان قط إخلاصي له ولم أختص رفيقاً ولا خلا بمثل مكانته في صدري.
فجعلت أنظر نظرة المندهش المستغرب إلى ذلك الرجل الذي ما برح يصف لي فرائض الصدقة وواجبات الإخاء كما كان يصفها أبطال الأزمان الغابرة ثم قد أبصرته بعد ذلك يداعب حبيبتي - نظرت إليه بعين شاخصة ذالهة. ونفس من لوعة الجوى متساقطة ذابلة. نظرت إليه أتأمل كيف صاغه الله وكيف صوره وركبه، ومن أي جوهر صنعه ومن أي طينة عجنه، وهل هو من معشر الأنس منذ الطفولة، وعاشرته عشرة الأصفياء الأولياء.(52/3)
والخلان الأوفياء. قد بدا لي الآن كأنه مخلوق عجيب لم أره قط ولم تقع عليه عيني إلا في تلك اللحظة.
ثم وصلنا إلى مكان البارزة وبعد إجراء التمهيدات الأولية وقف كل منها موقفه وأخذ يدنو من الثاني على مهل وكان وهو أول مطلق فأصابني في ذراعي اليمين فحولت المسدس إلى يساري ولكن خارت قواي فوقعت إلى ركبتي.
وهنا رأيت خصمي يهرع نحوي أصفر الوجه مضطرباً. وهرع إليّ شاهدي أيضاً إذ رأياني جريحاً. فأومأ إليهما بالتنحي وقبض على يدي المجروحة واصطكت أسنانه وأعياه النطق ورأيت عليه آية الكرب الحازب، والبرح الأليم. وكأنه كان إذ كان يقاسي من الكمد والبلاء أشد ما قاساه إنسان.
فقلت له إليك عني! اذهب فاغسل يديك الملطختين بدمي في فراش -! عند ذلك خنقته العبرة - وخنقتني
ثم حملت إلى مركبة وأتيت بطبيب ولم يكن الجرح بليغاً ولا خطراً. إذ كانت الرصاصة لم تبلغ العظم. ولكني كنت من الهياج العصبي بحالة منعت من تضميد الجراحة! فلما همت المركبة بالمسير بصرت على بابها بيد مرتعشة - يد خصمي قد مدها للمصافحة فكان جوابه مني هزة الرأس إباء ورفضاً.
ولقد كان بي من حدة الغيظ ووقدة الحنق ما أغلق باب العفو والغفران وإن كانت شواهد حالته دلتني إذ ذاك إن ندمه كان صادقاً وكانت توبته نصوحاً.
ولما بلغت منزلي كان جريان الدم من جرحي قد نفعني كثيراً بإضعاف قوتي لأن هذا الضعف الحادث كسر شوكة غضبي وأنقذني من سورة ذلك الحنق والهياج الذي كان أشد بلاء على من جرحي. فذهبت مسروراً إلى فراشي. وقدمت إلى كوبة ماء، فما أظن أني ترشفت في حياتي شراباً كان أبرد على كبدي وأندى وأطيب في فمي واحلي من تلك الكوبة.
ولما استلقيت على الفراش أخذتني الحمى. فأخذت اسكب العبرات. وجعلت أقول لنفسي لو أن حبيبتي كان أمرها مقصوراً على الصد والهجر بل على الجفاء ولا أتصور. وإني والله لا أستطيع أن أتخيل كيف أن امرأة تخدع الرجل وتكذب عليه بيننا هي تحب غيره وماذا(52/4)
يدعوها إلى ذلك وليس يضطرها إليه دافع من واجب أو مصلحة. ثم جعلت أسأل صاحبي ديزينيه عشرين مرة في اليوم كيف يتفق ذلك وكيف يحدث؟ أما لو كنت زوجاً لها أو مستأجراً لفهمت علة خيانتها لي. فما بالها إذ زال حبها لي لا تصارحني بذلك ولا تكاشفني فما بالها تكذبني وتخدعني؟
والواقع أنني لم أكن أتصور أن أمر الحب مما يجوز فيه الكذب. ولا جرم فإنما كنت يومذاك طفلاً، وأعجب من ذلك أي لا أزال ف هذا الباب طفلاً ولا أزال لا أستطيع أن أتصور أن أمر الحب مما يجوز فيه الخداع والكذب. فكلما أحببت امرأة خبرتها أني أحبها وكلما زال حبي خبرتها بزواله. إذ كنت اعلم أن أمر الحب هو اضطراري قهري يسير فيه الإنسان ولا يخير ولا يكون له فيه رأى ولا حيلة - فهو في كل أطواره آلة بريئة - فإن كانت فيه جريمة فتلك هي الكذب والخديعة.
فكان لا يزال جواب ديزينيه على كل أسئلتي هو أنها لمجرمة شقية فعدني أن لا تراها البتة
فأقسمت له على ذلك. ثم نصح إليّ أيضاً أن لا أكتب إليها ولا على سبيل التوبيخ والتأنيب وأن لا أرد عليها إذا بدأتني بالكتابة فوعدته الطاعة في كل ذلك وجعلت أغضب كلما أبدى لي شكة في صحة نيتي على هذا.
ولكن أول ما عملته بالرغم من كل ذلك أني ذهبت عقب خروجه من عندي إلى دار حبيبتي لألقاها فألفيتها منفردة قد جلست على كرسي بزاوية حجرتها مطرقة الرأس عليها شواهد الاضطراب والحيرة. فأنحيت عليها بأشنع التعنيف والتوبيخ وكنت من اليأس في سكرة وغمرة. وجعلت أصيح بأرفع صوت وكانت العبرة ربما اعترضتني حتى تحول بيني وبين الإبانة فكنت راكب على السرير لأطلق العنان لدموعي وأطرح منها عبأ عن مهجتي ثقيلاً.
وكان مما قلت لها الويل لك أيتها الخائنة الغادرة الفاجرة! إنك لتعلمين إن في ماجئته هلاكي وحتفي وهذا لعمري بغيتك ومناك، ومرادك ومشتهاك خبريني ماذا كلن مني يستوجب ذلك وماذا صنعت وما ذنبي
فطوقتني بذراعيها وقالت أنه فخ نصب لها وشرك أتيح لها الوقوع فيه. وأنه القضاء المحتوم والقدر المحموم ابتلاها بالماكر المحتال الخلاب المنطق الذلق اللسان ما زال بها(52/5)
يغريها ويغويها وينصب لها من مصايد كيده حتى نشبت في الحبالة. وأنه استعان على لذك بإضعاف عقلها يحميها الشراب وعصفة الكأس على أنه لم يبلغ منها وطراً سوى ما كان من ذلك الغمز والتجميش على الخوان فكل ما أتته هو هفوة بسيطة في بعض فترات الغفلة والغرة وليست بسقطة ولا جريمة. وأنها على هذه الهفوة النادمة ندامة غيرها على الإثم والجناية - فهي قاتلة نفسها حسرة لا محالة وهي قاضية نحبها وكمداً ولوعة - حتى ولو غفرت لها وعفوت عنها.
وكانت في أثناء ذلك يبكي بكاء مراً وقد استنفدت دموع الندامة الصريحة والتوبة الصحيحة ونفضت جعبة اللفظ الخلاب والكلم الجذاب في سبيل استمالتي وتعزيتي واستعطافي وتسليتي. ولم أر أجمل منظراً منها ساعة ركعت لي وسط الحجرة وقد علاها شحوب واصفراراً واضطربت هيئتها وتشوشت ثيابها وانتفش شعرها واسندل على منكبيها - أجل لم أر أحسن منها بهجة وأملح رواء وهي على هذه الحال.
فلقد والله هاج المنظر حواسي فارتجفت ورهبة من هذا الهياج وعاقبته.
ثم خرجت متعباً مكدوداً منهوك القوى لا أكاد أبصر أو أسمي وعزمت على أن لا أراها ثانية ولكني عدت إليها قبل اقضاء ربع ساعة. وما أدري أي قوة خفية كاتن تدفع بي إليها. ولقد قامت بنفسي في رغبة شديدة في حيازتها مرة أخرى لأشرب على نحرها المشرق وترائبها المصقولة دموعها ودموعي ثم أقتلها وانتحر.
والواقع أني كنت أمقتها وأعبدها. وكنت أشعر أن حبها مضيعتي ومتلفتي ولكني كنت أشعر أيضاً أن حياتي من دونها إحدى المستحيلات فأسرعت إلى غرفتها كالبرق الخاطف ولم أقف! أكلم أحداً من الخدم ولكني دخلت بلا تردد ففتحت عليها باب حجرتها.
فألفيتها جالسة إلى المرآة تتجمل وتتبرح وقد تكللت بالجواهر وتجللت بالدرر واللآل. وإن خادمتها؟؟؟؟ شعرها وترجله، وتضفره وتعقصه والغانية ممسكة في يدها قطعة من مادة حمراء كانت تدلك بها وجنتيها دلكاً رفيقاً ليناً. عند ذلك أحسست كأني في حلم إذ لم أستطع أتصور أن هذه هي عين المرأة التي رأيتها منذ ربع ساعة منطرحةً على الأرض في غمرة من الحزن والكمد. فمثلت ثابتاً مكاني كالنصب جامد الحركة شاخص البصر. وكانت هي لما سمعت الباب يفتح لفتت رأسها مبتسمة وقالت أهذا أنت؟(52/6)
وكانت تريد الذهاب إلى بعض المراقص وهي في انتظار من كان سيصحبها إلى هنالك. فلما رأتني - وغيري كانت تنتظر - ضمت شفتيها وقطبت جبينها.
فتقدمت خطوة نحو الباب. ثم نظرت إلى جيدها لاحسان المعطر يزينه شعرها المسلسل مشبوكاً بمشط من الماس. فخيل إلى أن هذا الجيد - مركز القوة الحيوية - كان أسود من الجحيم. وكان ملتفاً فوقه ضفيرتان لماعتان مزدانتان بحلي من اللجين وما كان أعجب التباين يبن بياض جيدها وكتفيها وبين لون ذلك الشعر المتكاثف. ولكن جمال هذا المنظر كان مشوباً بمعنى من معاني الدعاة والفجور. فما أكدت أتبين هذا المعنى حتى استفقت مما كان غشيني من الحيرة والارتباك منذ دقيقة فتقدمت خطوة نحوها فجأة وضربت هذا الجيد بجمع كفي. فصاحت حبيبتي صيحة منكرة وخرت على الأرض صريعة وانطلقت من المكان في الحال.
ولما عدت إلى غرفتي عاودتني الحمى بما لا أستطع معه التهالك على الفراش ونكأ جرحي بعد اندماله فأصابني منه عذاب الأليم. وجاء ديزينيه يعودني فأخبرته بالذي كان! فأصغى إلى في صمت وإطراق. ثم أقبل يتمشى في الحجرة جيئة وذهاباً برهة من الوقت كالمتردد الحائر الذي لا يدري كيف يصنع. وأخيراً وقف أمامي. وقهقه ضاحكاً.
وقال أهي حبيبتك الأولى؟
قلت كلا. بل الأخيرة
وقرب منتصف الليل وأني لفي سنة من النوم القلق المضطرب أريت فيما يرى النائم كأني أسمع صوت زفرة ففتحت عيني فإذا حبيبتي واقفة إلى جانب فراشي مضمومة الذراعين على صدرها كأنها شبح أو خيال. فلم أملك أن صحت صيحة عالية وقد حسبت أن هذا اللطيف من خيالات ذهني المختل المشوش. فوثبت من فراشي وهربت إلى الركن المقابل من الحجرة فأقبلت إليّ تقول لي:
إنه أنا ثم طوقت خاصرتي بيمينها وسحبتني نحو الفراش.
فصحت ماذا تريدين؟ دعيني وشأني. فإني والله لا أكاد أهم بقتلك الآن! فقالت إذن اقتلني. لقد خدعتك وكذبت عليك. وإني لمجرمة أثيمة وشقية تعسة. ولكني أحبك ولا سيبل إلى تركك وقطيعتك(52/7)
فنظرت إليها. فما كان أجملها وأحلاها! لقد كانت كل أوصالها ترتجف وترتعد. وطوفان الدمع يفيض وينهمل من عينيها المحورين الممتلئتين حباً وشغفاً وغراماً. ونحرها عار وشفتاها تلتهبان وجداً وهياماً. فاحتملتها بين ذراعي وقلت فليكن كما تقولين. إني أشهد الله المطلع العليم وأقسم بروح أبي لأقتلنك ونفسي معاً ثم تناولت سكيناً من الرف ووضعته تحت الوسادة.
فمالت عليّ فقبلتني وقالت مبتسمة هلم يا أوكتاف. لا تكن أبله - هلم يا ولدي. إن هذه الأوهام تمرضك. وإنك محموم. فأعطني السكين
فعلمت أنها تريد أن تأخذ السكين. فقلت لها أصغي إلي. أنا لا أعرف من أنت. ولا أي رواية هزلية تمثلين. ولكني أعرف من نفسي أني لا أهزل ولا أمزح. لقد أحببتك كما لم يجب امرأة إنسان. ولا أزال - لسوء حظي ومن بلائي وسبب حتفي - أحبك حباً يدخل معي قبري. ولقد جثتني الآن تعرفينني أنك تحبينني. وهذا يسرني. ولكني أعرفك مع كل هذا أن في الحياة شيئاً مقدساً. فإذا كنت أنا حبيبك الليلة فلن يكون لك حبيب غداً. إني أشهد الله أني لن أجعلك حبيبتي من الغد لأني أبغضك بقدر ما أحبك. وإني أشهد الله أني لا أمتنع من قتلك غداة إذا شئت وهنا بدأت أهذي هذيان الحمى. فألقت رداءها على كتفيها وانطلقت من حجرتي تعدو عدواً.
ولما علم ديزينيه بهذا الحادث قال لي:
(لماذا رفضتها وصددت عنها؟ أنك لتمقتها أشد المقت. وأنها والله لمليحة حسناء.)
قلت له أتمزح؟ أنحسب أني أرتضي مثل هذه المرأة حبيبة لي وعشيقة؟ أم تحسب أني أقبل الشريك في الرفيقة؟ ألا تذكر أنها اعترفت بأنها ملكت نفسها رجلاً سواي. وهل نسيت أن بي من الوجد بها ما أرفض معه إلا امتلاكها أيضاً. إذا كان هذا مذهبك في الحب فأني لك راث وعليك باك)
فقال ديزينيه أنه لا يغالي في الحب إلى مثل هذا الحد. ولا يتطرف لمثل هذه الغاية.
ثم استرسل في هذا المعنى فقال (عزيزي أوكتاف. أنك لا تزال صبياً. فأنت مولع بها لا يكون في هذه الحياة، مشغوف بما لا يتفق مع أخلاق الزمان وطبائع الدهر. وأنت لا تؤمن إلا بمذهب واحد في الحب لعلك قد انفردت به من بين الملأ فلن تجد لك فيه شريكاً. على(52/8)
أنك لا تحسد على هذا ولا تغبط. وأراك ستتخذ من هذه المرأة أبدالاً وأعواضاً ولكني أراك أيضاً ستندم يوماً ما على ما كان منك هذه الليلة:
ورب يوم بكيت فيه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه
إلا فاعلمن أن هذه المرأة كانت إذ طرقتك تلك الساعة وأنت نائم عاشقة لك لا محالة. ولعلها ليست عاشقة لك الآن إذ ربما تكون في حضن غيرك. ولكنها كانت تحبك في ذلك الأوان بذلك المكان وماذا يهمك غير ذلك؟ فلقد سنحت لك إذ ذاك فرصة من أسعد فرص الهر فأضعتها وما هي وربك بعائدة
كم من مؤخر فرصة قد أمكنت ... لغد وليس غد هلا بمؤات
حتى إذا فاتت وفات طلابها ... ذهبت عليها نفسها حسرت
أجل والله أن هذه المرأة لن تعود إليك. فإن المرأة لتغفر لكل إنسان إلا الذي زهد فيها. واحسب أن وجدها بك قد كان عظيماً هائل العظم إذ رفع بها إلى أن تلتمسك وتطلبك مع اعترافها لك بالجريمة وتوقعها منك الإباء والرفض إلا فاعلمن علم اليقين لتند من والله على إضاعتك هذه الفرصة فما أحسب أن الحظ بمثلها جواد الدهر يشبهها سخى.
لقد كان في كل ما قاله ديرينيه لهجة اعتقاد راسخ هدوء عميق وثقة تامة مما أزعج خاطري وراع قلبي وارتعدت له فرائضي أثناء إصغائي إليه. حتى لقد هممت وهو يتكلم أن أذهب ثانياً إلى دارها أو أكتب إليها لتأتيني. ولكني لم أستطع أن أنهض لتنفيذ هذه الرغبة - وبذلك سلمت من تعريض نفسي ثانياً لغضاضة مصادفتي إياها مع خصمي أو في انتظاره. ولكني كنت أملك القدرة على الكتابة إليها ثم سألت نفسي على الرغم مني هل هي مجيبتي إذا دعوتها.
ولما انصرف ديزينيه عراني من فرط الكرب والوجد ما عزمت معه على حسم الأمر بأية طريقة وعلى أية وجه. وبعد كفاح شديد بين إحساسي الحب والبغض في صدري تغلب الثاني على الأول فكتبت إليّ حبيبتي أني لن أراها بعد اليوم البتة. وسألتها أن لا تأتيني حتى لا تتحمل مضاضة إغلاق الباب في وجهها. ثم أعطيت الخادم الرسالة ليوصلها إليها. ولكنه ما كاد يغلق الباب خلفه حتى ناديته فلم يسمع ثم لم أجرؤ على ندائه مرة أخرى، فدفنت وجهي من بين يدي واستسلمت لليأس.(52/9)
* * *
الفصل الرابع
في فجر اليوم التالي كان أول - سؤال وجهته إلى نفسي هو ماذا أنا فاعل؟ وكنت خالياً من الأعمال والأشغال. وكنت قد درست الحقوق والطب ولكن ميلي كان موزعاً بينهما ولم أقرر أي هاتين الصناعتين أتخذها عملاً ومرتزقاً. وكان سبق لي التوظف في مصرف رجل مالي ولكن تتابع أغلاطي في الحساب اضطرني إلى تقديم استقالتي تفادياً من سبة الرفت وعاره. وكنت قد أكثرت من الدراسة ولكنها سطحية إذ كتن سريع الحفظ ولكني كنت أسرع نسياناً.
وكانت اللذة الباقية لي بعد ذهاب لذة الحب هي الحرية والاستقلال. وكنت ما زلت منذ حداثتي أغرس الوصول هذه المزية الغالية في صدري وأربها وأنميها حتى أضحت ولها في فؤادي محراب مطهر ومن جوانحي هيكل مقدس. وكانت أبي ذات يوم فكر في أمر مستقبلي فعدد لي جملة صناعات وأعمال وأطلق لي أن أختار أحبها إلى قلبي وأشهاها إلى نفسي لتكون مهنتي في المستقبل. فأشرفت من نافذتي فنظرت إلى شجرة نحيفة عالية وأخذت أتأمل هذه الصناعات واحدة بعد واحدة فلم تمل نفسي إلى شيء منها البتة ثم شرد ذهني. فأحسست كأن الأرض تتحرك حتى لكأنما تلك القوة الخفية الكامنة الموكلة بتصريفها في الفضاء قد عادت ظاهرة لحسي فأبصرت الأرض تنهض في الفضاء. وخيل إلي كأني على ظهر سفينة وأن شجرة التي أمامي هي السارية (الصاري). فنهضت من مجلسي وتمطيت ثم صحت: هذه السفينة السابحة في الأثير! ما أبخس أن لا يظل بها المرء إلا برهة ثم يتركها. وما أبخس أن لا يكون أحدنا إنساناً حقيراً وشبحاً ضئيلاً ونقطة سوداء على هذه السفينة. أفتراني أزيد نفسي بخساً وغبناً. لقد رضيت بما لا بد منه أن بكوني إنساناً مطلقاً ولن أتسفل بنفسي إلى ما دون ذلك فأكون إنسان مقيد بحرفة أو مهنة
وهذا كان أول قسم أقسمته وأنا لم أعد الرابعة عشرة بمشهد الطبيعة الهائلة على أن لا أتقيد بحرفة فإن أك قد حنثت فيه فإنما ذاك مجاراة لأميال أبي ومساوقة لأهوائه على الكرة مني وبالرغم من أنفي.
وكذلك نهجت منهج الاستقلال لا كلاً ولكن بمحض إرادتي. وآثرت بحبي كل ما كان من(52/10)
صنع الله والنزر القليل من مصنوعات البشر. ولم أك قد عرفت من الحياة سوى الحب ولا من الدنيا سوى حبيبتي وبهذا وهذه قد اكتفيت وأصبت فيها مقنعاً من كل ما عداهما. فلا جرم حين عشقت لدى خروجي من المدرسة إن كان هذا العشق باقياً لا محالة أبد الدهر وإني ممتع به في هذه الحياة وفي الآخرة ولا بدع أن أصبحت فكرة الحب قد نفت عن ساحة خاطري كل ما عداها من الأفكار والخواطر.
وهكذا نعمت بعيشة رخوة كسلي إذ كنت أقضي اليوم مع حبيبتي أذهب بها إلى المروج الخضر أيام الصيف وإلى الغابات والرياض فأستلقي على العشب جانبها وكان منظر الطبيعة لا يزال من أقوى المؤثرات في نفسي. أما في الشتاء فكنت إتباعاً لأميالها أمضي بها إلى حفلات الرقص والغناء. وكذلك انسجم بنا زورق الحياة الذهبي في تيار من اللذة لا يعرف نهاية ولا يقف عند غاية. أما الآن وقد أصبحت لا أفكر في شيء سواها بعد ما بدا لي من خيانتها فقد أصبحت لا أحد لي في الحياة رأياً ولا فكرة.
ولا أعرف صورة تسف بقارئ حالتي النفسانية إذ ذاك أبلغ من تشبيه هذه الحالة بغرفة جمعت أنواعاً من الأثاث من كل جيل وعصر وأصنافاً من الأمتعة من كل أرض وإقليم في هيئة مضطربة وخليط مشوش. إن جيلنا هذا لم يتميز بشكل خاص ولا صورة مميزة. فنحن لم نطبع طابع العصر على مساكننا ولا حدائقنا ولا منتزهاتنا ولا ملاهينا. فإذا سرت في الطرقات صادفك ذوو اللحى المقصوصة على هيئة اللحى التي كانت في عهد هنري الثالث وصادفك أيضاً المحلوقو اللحى وصادفك ذوو الشعور المجعولة على هيئة المنظورة في صور الرسام الكبير روفائيل وآخرون قد جعلت شعورهم على نحو ما كان يرى في عهد يسوع المسيح. وكذلك غرف المترفين قد ملئت بالطرائف والعجائب - بين يونانية وغوطية ومنسوبة إلى عهد الرينيسانس (أحياء الفنون والمعارف) ومعزوة إلى عهد لويز الثالث عشر، كلها مخلوطة لا يتميز بعضها من بعض. وهكذا ترانا قد أحرزنا أشياء القرون المختلفة والأجيال المتنوعة وحزناً من الأمتعة والأدوات ما يتصل بجميع العصور إلا عصرنا - وتلك لعمري حالة لم تقع في أي عصر آخر. فمذهبنا في ذلك مذهب احتيار لا ابتكار نأخذ كل ما وجدنا وأصبنا - هذا لفائدته وهذا لقدمه وهذا لحسنه بل ربما كان لقبحه. فنحن نعيش بين آثار حتى لكأن قد اقتربت الساعة وأزفت الآزفة.(52/11)
وعلى هذا النحو كانت حالتي النفسانية. وذلك أني كنت قد أكثرت من الإطلاع وتعلمت فن التصوير. وحفظت غيباً أشياء عديدة بلا نظام ولا ترتيب فكنت ترى رأسي تارة خالياً وتارةً مفعماً مكتظاً كالإسفنجة. وجعلت أولع بالشعراء واحداً أثر واحد. وإذ كنت بطبيعتي حساساً سريع التأثر كان لا يزال الشاعر الأخير يبغض إلى كل من سبقه. وهكذا صيرت مع نفسي محزناً حافلاً بالأطلال القديمة حتى إذا آل بي الأمر إلى العجز عن الازدياد من المقتنيات الجديدة أصبح انا نفسي طللاً.
ولكن هذا الطلل كان عليه شيء حديث فتى - وذاك هو آمال قلبي الذي كان لا يزال طفلاً.
فهذا الأمل الذي كان لم بفسده طارئ ولم يبله والذي كان الحب قد أنمى غرسه وأنضر عوده قد أصابته الطعنة النجلاء من خيانة حبيبتي فأصبح مهيض الجناح دامي الجراح. وأصبح منه فؤادي كأنه
قطاة عزها شرك فباتت ... تغالبه وقد علق الجناح
إن المجتمع - ذلك الجم الأذى الكثير الضرر - ليشبه الأفعوان الهندي الذي يكن في أوراق النبات هو الشفاء من سمه والترياق من عضته - وكذلك المجتمع أبداً يجعل الدواء إلى جانب الداء الذي يحدثه.
مثال ذلك أن الرجل المنغمس في المجتمع العائش عيشاً منظماً مطرداً - المقسم أوقاته بين أعمال وواجبات أسرته وزيارة أقاربه وتعهد إخوانه والتمتع بحبيبته (كقسم من أقسام أعماله وبعض من كل) إذا أصيب بفقد حبيبته لم يكن في ذلك عليه خطر ولا يناله منه قاصمة الظهر ولا موهنة العظم. إذ أنه لن يلبث أن يجد في سائر واجباته وأعماله ملهاة ومسلاة ومندوحة عن إقضاء النهار بالفكر المقلق. والليل بالهم المؤرق. فيوشك أن يهون بلاؤه ويزول عناؤه. فمثل هذا يكون له من مجموع أعماله وجملة خواطره وأفكاره كالجيش الململم والخميس العرموم فإذا رمته يد القضاء بسهم مسدد فأصاب أحد هذا العسكر الذي تتكون من أفراده مجموع أعماله وأفكاره. فخر المصاب صريعاً أسرع إلى يد فراغه والقيام مقامه فلا يشعر بفقدانه.
ولكني كان يعوزني مثل هذا العزاء والسلوى إذ كنت منفرداً وحيداً. وكنت إذا لجأت إلى الطبيعة - أمي المحبوبة - أحاول التسلي بها والترفه بها ألفيتها قاعاً صفصفاً مفعمة(52/12)
بالوحشة خالية من الأنس. فلو أني استطعت إذ ذاك أن أسلو حبيبتي وأنساها لنجوت وسلمت.
وكم من صب أضناه الهوى وأضواه الجوى لغدر الأليف وخيانة الحبيب فراح من كاس الغرام مقهوراً وفي لجة الهيام مغموراً، وفي غل الذلة والهوان مأسوراً. ثم كان عليّ أهون سبب شفاؤه، وبأيسر دية خلاصه وافتداؤه. ذلك لأن أمثال هؤلاء تأبى طباعهم الاستمرار على حب الغادرة الفاجرة والاسترسال في هوى الخافرة للعهد الخاترة.
هنيئاً لهؤلاء ما أوتوا من ثبات عزيمة، ونفاذ صريمة. لكن غير هذا شأن المحبين في التاسعة عشرة من العمر لا عزم ولا حزم - فهم أغرار أغمار يجهلون من أمور الدنيا وأحوالها كل شيء ويتطلبون من متاعها ولذتها كل شيء وأينما التفتوا - يساراً أو يميناً وخلفاً أو أماماً - تتراءى لهم عروس الدنيا في أبهى زخرف وأبهر زينة تناديهم وتستدعيهم، وتستميلهم وتستهويهم. وصوتها الفاتن الخلاب يلج إسماعهم في مهب كل ريح خاطرة. وشبحها الساحر الجذاب يطالع أبصارهم قي مدب كل لحظة باردة. فكل شيء شهوة خلوب، وكل شيء حلم كذوب. وإذا كان القلب فتياً فالحقيقة معدومة. كذلك خيال الشباب يتراءى له أن الحجر الأصم ينفطر وهمه عن الكنوز الذهبية. والسلمة الصلبة تنشق له عن أملح حورية.
ولو أن للعاشق في هذه السن الخيالية ألف ذراع لما خشى أن يفتحها جميعاً إذ ما عليه إلا أن يعتنق بها حبيبته حتى يجد كل ذلك الفراغ قد انسد.
في ذلك العهد لم أك أستطيع أن أتصور أن للإنسان في الحياة وظيفة سوى الحب وإنه يقدر أن يصنع شيئاً سوى أنه يحب. فإذا ذكر لي الناس صناعة أخرى حرت وبهت فلم أحر جواباً. وقد كان غرامي بحبيبتي غراماً وحشياً وكانت روحي تشعر من وقع هذا الغرام بمعنى شيطاني جهنمي. وسأضرب لك مثلاً يشراح هذا. وذلك أنها أعطتني يوماً صورة صغيرة لها فحملتها على قلبي شأن المحبين. فإني ذات يوم سائر في طرقات المدينة إذ رأيت في بعض حوانيت التحف والنوادر آلة التعذيب حديدية في طرفها صفيحة ذات أسنة وأبر فشددت الصورة إلى هذه الصفيحة ولبستها على جلدي فكانت الأسنة والإبر تنغرز في صدري لدي كل حركة فتحدث لي بذلك لذة كبرى حتى لقد كنت أحياناً أضغط بيدي على(52/13)
الصفيحة استزادة من اللذة. وكنت أعلم أنها حماقة ولكن الحب مصدر الحماقات.
فمنذ خانتني هذه المرأة نزعت الصورة الأليمة، ولا تستطيع أيها القارئ أن تتصور أي لوعة وكمد شف قلبي إذ أفض مغلاق تلك الصفيحة. واى زفرة ملتهبة لفحت جوانحي وضاقت بها أضلعي حين تخلصت من ألم لذة تلك الصورة وصوبت نظري إلى ما بصدري من ندوب الإبر والأسنة فخاطبتها قائلاً:
أيتها الندوب المسكينة! عما قريب تزولين. ألا أيها الجرح العزيز على آسوك بأي مرهم؟ وأداويك بأي بلسم؟
ثم حاولت أن أبغض هذه المرأة - ولكن عبثاً إذ كانت كأنها في دم عروقي. فكنت ألعنها ولكني أحلم بها. فقل لي كيف أملك هذا؟ ومن لي بأن أصرف الأحلام وأسيرها. وأحرك رؤى المنام وأدبرها؟ أما ترى ماكبث قال بعد ما قتل دنكين إن ماء الأقيانوس بأسره ما كان ليمحو الدم البريء من يدي
وإني لا ضيف إلى ذلك ولا هذه الجراح والندوب الظاهرة والباطنة، وقلت لصاحبي ديزينيه بالله خبرني ما أنا صانع؟ وكيف السبيل إلى الخروج من هذه الغمة؟ أني والله لا أكاد أضع رأسي على وسادتي إلا وجدت رأسها إلى جانبيي!
لقد عشت في الحياة بروح هذه المرأة انظر إلى الدنيا بعينيها. وأنصت إلى الدنيا بأذنيها. فزوال ثقتي بها هي زوال ثقتي بالعالم أجمع. وبراءتي منها هي براءتي من العالم أجمع وخسارتي إياها هي خسارتي العالم أجمع! ومن ثم استترت في داري لا أغادرها إذ خيل إليّ أن الدنيا مملوءة بالوحوش الضارية. والسباع العادية. وبالجان والمردة والأغوال والسعال وكان لي جواب وأحد على كل ما كان يلقى على من كلمات الإرشاد والنصيحة وهو لا أنكر أنه رأي صواب ولكني سأصر على مخالفته
وجلست إلى النافذة وناجيت نفسيأنا واثق أنها آتية. أحل إنها في الطريق لقد اقتربت من منزلي وأنها لتزداد دنوا فهي والله لا تحيا بدوني كمالا أحيا بدونها فماذا أقول لها وبأية هيئة ألقاها؟ أني أتذكر خيانتها فأقول أولي لها أن لا تحيي أليس من الصواب أن أبعث إليها أن لا تحضر خشية أن أثور بها فأقتلها؟
وبعد رسالتي الأخيرة إليها لم أسمع عنها نبأ. فجعلت أناجي نفسي ترى ماذا تصنع الغادة(52/14)
الآن؟ وبماذا هي مشغولة؟ أنها تعشق رجلاً غيري. فلا عشقن فتاة سواها ولكن من؟
وجعلت كلما فكرت وبحثت ونقبت عن مليحة أهواها أحسست كان هاتفاً يهتف بي أتحب امرأة غيري! أيمكن أن أراك تهوى امرأة وتشعقها ثم تكون هذه المرأة إنسانة سواي أذلك ممكن! أمجنون أنت
وقال لي ديزينيه ويحك أيها النذل الخسيس! أما تفتأ تذكر هذه المرأة؟ فمتى أنت ناسيها أو متناسيها؟ أو قد بلغ من عظم قدرها وضخامة شأنها عندك أنت لا تعدل بها شيئاً سواها؟ لقد والله عظمت من شأنها صغيراً. وأجللت من أمرها حقيراً. ثب إلى رشدك والتقف أول غادرة ترميك بها يد القدر.
فأجبته: كلا إنما مصيبتي فيها بالطامة الكبرى والآفة الجلى. أو لم أصنع الواجب؟ أو لم تطردها من منزلي؟ فماذا عساك تنكر عليّ وتنقم مني؟ لقد فعلت ما يقتضيه الواجب. فإما ما دون؟؟؟؟ فمن خاص شؤون وشخصي أحوالي وخارج عن نطاق عتبك ومجال نقدك أن الأسد الذي يجرح في معترك الأسود والظباء خليق أن يحمل السهم في جنبه ثم يأوى إلى زاوية مستترة فيقضي بها نحبه بمعزل عن أعين الشامتين. وبمأمن من السن اللائمين. فخبرني ماذا أصنع؟ وأين فتياتك التي سترميني بها يد القدر؟ قصاراك والله أن تريني أرضاً وسماءً ودوراً وقصوراً ورياضاً وغياضاً. ورجالاً صلاباً. وكواعب أتراباً. وتقول لي دونك فهذه هي الحياة وبهجتها. والدنيا وزينتها. وما هي بالحياة ولكنها لجب الحياة وجلبتها. وصخبها وضجتها. فاكفف عني غرب لسانك فما في كلامك من ثمرة ولا فائدة وأمض عني وجعني وشأني.
* * *
الفصل الخامس
ولما رأى ديزينيه أن دائي عضال وما ليأسي من دواء وإني عن العذال في صمم وعن اللوام في ذهول وإني قد حبست نفسي في حجرتي إلى أمد غير محدود على أن الأمر خطير والخطب جليل فجاءني ذات ليلة مطرقاً كئيباً فذكر لي حبيبتي وأقبل يهيجني ويستثيرني بسرد الجم الكثير من سوءات النساء وعوراتهن وبينما كان يتكلم كنت متكئاً على مرفقي ثم استويت جالساً في فراشي وأنعمت الإصغاء إليه.(52/15)
وكانت ليلة حالكة الظلام وعزيف الرياح يخيل إليك أنات المحتضرين في سكرة الموت. وأقواس الغمام تضرب زجاج النوافذ بسهام القطر. وجيوش السحاب تزدحم وتلتطم.؟؟؟؟؟ الربق تحتدم وتضطرم وقطع الصبير شهب بسلاسل البرق ملجمة. وبذهبية خيوطه ملاحف المزن مسداة ملحمة. وللرعد خلال ذاك قروم هدارة الشقاشق وخضوم هرت الاشداق مفوهة المناطق. وقد؟؟؟؟؟ طيور الجو ففزعت إلى الدوح والأشجار. وأوت إلى الوكنات والأوكار. فخلت السيل من الأنيس وصفرت. وخويت الطرقات من الخيط وأقفرت. وكان جرحي قد تحرك عليّ ساكنه ودائى قد ثار على كامنه.
لقد كان لي آنفاً حبيبة وصاحب. فقد خانتني حبيبتي. وأرقدني صاحبي على فراش المرض. فكنت في تلك الساعة لا أستطيع أن أميز بالضبط ما كان يتتابع في خاطري من الهواجس. ويتواتر على بالي من البلابل والوساوس. فأحياناً يخيل إلي أني كنت في حلم مزعج فليس علي إلا ن أغمض فأنام فأستيقظ في صبيحة الغد سعيداً ضاحكاً فرحاً وأحياناً يخيل إلي أن حياتي الماضية لم تكن إلا حلماً صبيانياً مهزأ سخيفاً وأني قد صحوت منه وانقشعت عني ضبابته. وظهر لي بطلانه وضلالته.
وكان ديزينيه جالساً حيالي قرب المصباح وكان رزيناً ركيناً وقور الجلسة لا يطيش ركنه ولا تستطار حيوته. وهو لا يزال يفتر عن ابتسامة يقين بحقائق الأمور واستهزاء بالظواهر الكاذبة والزخارف الخداعة. وكان له قلب كبير لكنه صلب الحصاة جلمد لا يبض حجره ولا تندى صفاته. وقد كان له سابقة في الحب والغرام أسفرت عن خيانة المحبوب. فهذه الحادثة أجدبت روضته قبل أوانها. وصوحت زهرته قبل ابانها. فصحا من سكرة الهوى وأترابه منغمسون في أنهارها. ونجا من حومة الصبا ولداته غرقون في غمارها. وأضحى ينشد وأنداده ينشدون؟؟؟؟؟ والنسيب.
صحا القلب عن ليلى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحه
وكان بالحياة عليماً بصيرا. وبصروفها وتقلباتها خبيرا. وقد مر به زمن وقف على الربوع والديار وساءل الدمن والآثار. ولاعب المها وغازل الدمى. وساهر؟؟؟؟؟ وزجر القطا. وضرب الحمقى. وقال متمثلا.
أبيت أهتف بالشكوى وأشرب من ... دمعي وانشق ريا ذكرك العطر(52/16)
ثم أفاق وصحا. وعاد جلمد الفؤاد متحجر الحشا. وقال لقلبه مالك وللهيام والصبا. إنما شأنك الدورة الدموية وتدبير مجراها. وتصريف مسراها. وقال لذهنه مالك ولعالم الخيالات والأوهام. والأباطيل والأحلام. الذي يسمونه الهوى. ويدعونه الصبا. فدعك من هذا وخذ في المحسوسات والملموسات. وانعم بطعمة شهية. ورشفة هنية. وغادة بضة طرية. واغتنم اللذة اغتناماً. والتهم المسرة التهاماً وانتهب من قيضة الحظ من المناعم ما استطعت انتهاباً.؟؟؟؟؟ من حوزة الدهر من المطارب ما وجدت إلى ذلك السبيل انتهاباً.
خذ من زمانك ما أعطاك مغنما ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره
فالعيش كالكاس تستحلي أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره
وكذلك أصبح ومذهبه في الحياة إنها وليمة يجلس الحي على خوانها ساعة ثم يخرج إلى العدم. فهو أبداً على خوان الحياة يخطف ما وصلت إليه يده، وعينه أثناء ذلك ترتقب شيخ الغول المخوف المسرع إليه في ظلم الغيب وحجب القضاء - الموت.
وقال لي هذا الصاحب يوماً أي أوكتاف: يلوح لي من شواهد أحوالك أنك ترى في الحب رأي الشعراء والروائيين كما وصفوه في تصانيفهم. فأنت على الأقوال لا الفعال تعوّ ل وتعتمد. ومنشأ هذه السفسطة والقياس الفاسد وهذا يجلب عليك شراً كبيرا.
فاعلم رعاك الله أن الشاعر يصور الحب كما يصور النحات الجمال، وكما يبتدع الموسيقار النغم، أعني أن هؤلاء الثلاثة لما كانت الطبيعة قد وهبتهم جهازاً عصبياً دقيقاً حساساً تراهم ينتقون ويختارون بحذق وتحمس أصفى وأنقى عناصر الحياة وأجمل وأبدع أصناف المواد التي منها يؤلفون ملحهم وتحفهم، وأشجى وأرخم أصوات الطبيعة. يروى أنه كان في أثينا عدد جم من الفتيات الحسان. فقام المصور بركسيتيل فصورهن جميعاً واحدة بعد أخرى. وكانت كل حسناء من هؤلاء مهما أفرط جمالها لا تخلو من عيب واو في منتهى الغموض والدقة.
فعمد ذلك المصور إلى هذه المجموعة العجيبة فاختار من كل واحدة أملح ما فيها وكوّن من هذه المختارات صورة القصوى في الحسن الإحسان. والمثل الأعلى في الإبداع والإتقان - وسماها فيناس الزهرة ربة الجمال. وكذلك لأول من ابتدع آلة الموسيقى وضع لهذا الفن قواعده وقوانينه كان امرأ قد طالما أصغى إلى وسوسة النسيم عذبات الأغصان. وسجع(52/17)
الحمام على منابر القضبان. وكذلك الشعراء الذين عرفوا الحياة لما رأوا الجم الكثير من غدرات العشاق. وفجرات من كانوا يظهرون الصبابات والأشواق. وأبصروا الملائكية. فصلوا عن الطبيعة الإنسانية كل ما يدنس أردانها ويشوه محاسنها من الخبائث والخسائس فخلقوا تلك الأسماء الغريبة الخفية التي ما برحت تتنقل على السنة الخلق من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل - دافنيس وشلو وهيرو ولياندار وبراميس وثسبي
فالدي يفتش في الحقيقة الواقعية عن مثل ما كان لتلك الأسماء الخيالية من الحب والصادق والهوى العذري كالذي يفتش في الشوارع العمومية عن نساء في مثل محاسن فيناس أو كالذي يشتهي أن يسمع من الحمام والبلابل ألحان الموسيقا البديع بيتهوفن
الكمال لا يوجد فتفهم معانيه هو أقصى ما يبلغه الذهن البشري من ذوي النبوغ والعظمة. ولكن الرغبة في امتلاك الكمال هو أقصى درجات الحمق والسخافة
افتح نافذتك يا أوكتاف - ألا ترى أمامك اللانهاية؟ ألا تشعر أن الجو لا حد له ولا غاية؟
ألا ترى أن عقلك يوحي إليك بهذا؟ ولكن هل تستطيع إدراك معنى هذه اللانهاية؟ وهل في مقدورك وأنت الفاني ابن الفاني والمحدود بن المحدود والمولود بالأمس والهالك غداً - هل في مقدور من هذا شأنه وهذه حاله أن يتصور أن شيئاً يكون بلا غاية ولا نهاية؟ إلا فاعلمن أن هذا المشهد الهائل - مشهد اللانهاية مازال أعظم داع إلى الجنون في كل قطر من أقطار العالم. وهذا المشهد مشهد اللانهاية هو المصدر الذي نبعث منه الأديان والعقائد.
ولقد روي أن البطل الروماني العظيم كاتو قد انتحر ليخرج من العالم المحدود إلى العالم العديم الحدود، أعني أنه ألقى ما يملك من عالم الفناء ليملك عالم الخلود واستغنى عن هذه الحياة المحصورة ليحرز تلك اللانهاية. ومن أجل إحراز هذه اللانهاية ألقى القديسون من طوائف عيسى والمتقون والأبرار والصالحون والمصطفون والأخيار بأنفسهم على ألسنة النيران الحامية. وفي لهوات الوحوش الضارية وقذفت شيعة الهيوجينوت في يوم القديس بارثيلوميوس وغيره أنفسهم أسنة رماح الكاثوليك وظبي سيوفهم. وكل شعوب الدنيا وأمم الأرض قد مدوا أذرعهم إلى هذه اللانهاية وودوا لو يقذفون بأنفسهم في أعماقها وكم ترى المجنون يود لو يملك السماء ولكن العاقل الحكيم يعجب بها وطرب فيخر لها ويركع وبذلك يرضى ويقنع.(52/18)
فالكمال كاللانهاية كلاهما لا ينل ولا يدرك. وما لنا خلق ولا جد. وما كان لنا أن نرجو الكمال في أي كائن أو نبتغيه في أي شيء - من حب أو جمال أو سعادة أو فضيلة. ولكن على المرء أن يتمادى ويغرق ما استطاع في حب الكمال ليكون فاضلاً طاهراً سعيداً.
فهبك أنك تملك صورة من صنع المصور الخالد روفائيل وأنك تبصر في هذه الصورة آية الكمال. ثم هبك أنك بينما تتأملها ذات يوم وتدقق النظر في أجزائها وتفاصيلها عثرت في بعض أركانها على عيب - عضو مكسور أو عضلة غير طبيعية كالذي يرى في إحدى ذراعي (المصارع القديم) فإن ذلك سيحزنك بلا شك ولكنه لا يحملك على إلقاء الصورة في النار. بل أقصى ما تقوله إذ ذاك هو إن الصورة لم تبلغ حد الكمال ولكن فيها من المحاسن الجم العديد.
(إن من النساء ما يكون لهن من كرم الطباع وحسن الوفاء ما يمنعهن من اتخاذ حبيبين في وقت واحد. وعساك ظننت خليلتك من هذا الصنف وحبذا لو كانت ولكنك علت أنها خدعتك. أفكان ذلك موجباً لأن تحتقرها وتسيء معاملتها وتراها أهلاً لبغضك ومقتك!
(فهب يا أوكتاف إن هذه المرأة لم تخدعك ولم تخن عهدك ولم تشرك بك حبيباً آخر. أفكان حبها إياك مع هذا كله بالغاً حد الكمال أو قرابه. كلا فما كان أبعده من الكمال من كل ذلك وما كان أقله وأضأله وأشده تقيداً بأوضاع من بعدك.
(فتأمل ذلك تدرك أن الذي يطيح بك الآن في مهواة اليأس هو معنى الكمال الذي أسندته إلى خليلتك ثم أتضح لك أنه زور وباطل فمتى علمت أن هذا المعنى - أي الكمال - لم يكن في ذاته إلا ضئيلاً بشرياً محدوداً علمت أن ارتفاعك أو هبوطك درجة في ذلك السلم العفن القذر - سلم النقص والعيب البشري إنما هو أمر حقير تافه.
(أنت لا تنكر أن خليلتك قد كانت تحب وسوف تحب أناساً غيرك. فعساك قائلاً لي إن هذا لا يهمك ما دامت تحبك ولا تشرك معك غيرك ولكني قائل لك إذا كنت توقن أنها قد أحبت سواك فسيان كان ذلل بالأمس أو منذ عامين وإذا كنت توقن أنها ستكون لها معشوقان فماذا يهمك إلا مرة واحدة فماذا يعنيك دام ذلك عامين أو ليلة واحدة.
أأنت رجل يا أوكتاف؟ أفلا ترى الأوراق عن شجرها تتساقط انتثاراً؟ والشمس تشرق ثم بالحجاب تتوراى؟(52/19)
أفلا تسمع ساعة الحياة تدق لدى كل نبضة من فؤادك؟ فهل بين حب عام وحب ساعة كل ذلك الفرق العظيم في نظرنا نخن معشر السخفاء والحمقى وأننا لنبصر من هذه النافذة - وشبر عرضها - أعماق اللانهاية.
(أنت تسمى المرأة التي تمحضت الحب مدة عامين مختصة وفية. فلديك فيما يظهر إلى تقويم يبين لك كم مرة تجف لثمرات الرجال على شفاه النساء. وأنت ترى بوناً شاسعاً بين التي تهب نفسك نم أجل المال والتي تهب نفسها من أجل اللذة. وبين من تهب نفسها عن باعث كبرياء وزهو وبين من تهب نفسها عن وفاء وإخلاص.
وإن فيمن تشتري من النساء من هن أغلى ثمناً من غيرهن. فأما من تحوزهن عن باعث زهو وتعاظم فإنك تظهر من الأبهة والجلال لبعضهن أكثر مما تظهر لبعض الآخر. وأما من تخلص لهن الود وتمحضهن الوفاء فإلى بعضهن تهب نصف قلبك وإلى البعض ثلثه وإلى البعض ربعه حيث متفاوت أقدارهن في التربية بالأدب. وفي الحسب والنسب وفي الجمال والدلال والشيم والخصال. وحسب لظروف وأحياناً حسب الساعة وحالتها الجوية وما قد شربت من أصناف الخمر في غدائك.
(أنت تملك النساء اليوم يا أوكتاف بفضل زهرة صباك ونار شبابك وحسن صورتك وأنت ترجل لمتك وتسوي طرتك ولكنك لعين هذه الأسباب لا تعرف لبائع المرأة وكنه حقيقتها.
تناسل الخلائق أهم أغراض الطبيعة. فأينما طرحت بصرك من ذروة الجبل لي قرارة البحر وجدت الحياة ترهب الموت. فالله سبحانه وتعالى محافظة على مصنوعاته وضع هذا القانون الأعظم وهو أن أكبر ملاذ المخلوقات جميعاً محصورة بي العمل المؤدي إلى التناسل. فالفحل من النخيل حينما يرسل إلى أنثاه المادة اللقحة تراه يخفق غراماً ويرجف صبابة في الرياح اللافحة الملتهبة. ولو عل إذا أبت عليه أنثاه وتصعبت فربما مزق جلدها وهتك أديمها. ولحمامة تخف وترعش ت جناحي ذكرها كالعاشقة المغرمة. والرجل حين يعانق حبيبته يحس في قلبه الطابر ذلك الشرر المقدس الذي منه خلق.
فيا صديقي العزيز إذا عانقت يوماً مليحة حسناء فتية قوية فبكيت نم شرط اللذة وأحسست إيمان الوفاء والحفاظ تثب إلى شفتيك وأحسست السر الإلهي به على روحك إلى إخراج نفسك من هذه الغمرة الروحانية والنوبة الخيالية وأرسل من ثاقب بصيرتك شعاعاً من نور(52/20)
الحقيقة يبددما يلف شخص هذه المرأة من ضباب تلك الفضائل الوهمية والكمالات الخيالية ويجلوها لك على حقيقتها المجردة فأتخذ منها ومطية لذة مادية وأظفر منها بومس.
ولكن لا تخلط بين الخمرة والنشوة. لا تحسبن الكاس التي شربت منها الرحيق المقدس مقدسة. ولا يدهشنك أن تجدها في المساء فارغة مكسورة. فما هي امرأة أي قارورة من طين قد صنعها خزاف.
فاحمد الله إذا أراك السماء. وإذا رأيت لك أجنحة تصفق بها وترفرف فلا تحسبن أنك قد صرت بذلك طائراً. واعلم أن الطيور ذاتها لا تستطيع اختراق السموات وهتك حجاب السحاب. فإن في أعماق السماء طبقات لا تجد فيها الطرب هواء تحبي به. وإن القنبرة التي تطمع في ضباب الصباح تريد مطلع الشمس ربما سقطت إلى الأرض ميتة. فارتشف كاس الحب كما يرشف العاقل الرزين كاس الخمر وإياك أن تكون سكيراً مستهتراً. فإذا صادفت في معشوقاتك مخلصة أمينة فأحببها لهذا. فإذا وجدتها خلاف ذلك ولكن مليحة حسناء فأحببها لحسنها وملاحتها. وإذا ألقيتها فوق ذلك ظريفة لبيبة فزدها حباً. فإذا كانت من كل هذه المحاسن والمزايا عارية وكان كل ما فيها أنها تحبك فأحببها أيضاً. فإنك لن تظفر بمن هواك في كل آونة ولحظة.
ولا تحملنك الغيرة من النظير المزاحم على نتف شعرك وحثو التراب على رأسك وإرادة الانتحار. فإن الذي يتألم فيك إذ ذاك أنما روح الكبرياء والتعاظم. ولكن اقلب سياق الألفاظ وهب أنها تخون خصمك من أجلك تجد في عملها هذ - وإن كان لا يزال خيانة وغدر - منتهى السرور واللذة.
لا تسن لنفسك قوانين السلوك خاصة. ولا تردان إن تفردك المعشوقة بالحب وحدك وتؤثرك بالهوى على كل من عداك. لأنك لما كنت بشراً وقليل الوفاء فإن قانونك هذا يضطرك إلى أن تقيده بهذه العبارة على قدر الإمكان
أرض بالجو كيفما كان. وبالريح كيفما هبت. وبالمرأة كيفما بدت. إن الإسبانيوليات - خير النساء - يحببن بإخلاص. فلهن قلب صدق ملتهب ولكنهن يلبسن عليه خنجراً. والإيطاليات شهويات شيقات ولكنهن يخترن من الرجال أعرضهن مناكب وينتقين عشاقهن بمقياس الخياط. والإنكليزيات ميالات للكآبة متطرفات ولكنهن فاترات جامدات. والألمانيات(52/21)
لطاف ورقاق ولكنهن تافهات غير مفتنات. والفرنسيات لبقات متأنقات غنجات ولكنهن مجدبات.
وعلى كل حال فلا تتهمن النساء بمالهن من الصفات والأخلاق فنحن الذين ألبسناهن ما ترى لهن من الخلال إذ كنا لا تزال تخلع ما كستهن الطبيعة من الطباع ونعيرهن المتكلف المصطنع.
إن الطبيعة التي تعني بكل شيء قد خلقت العذراء ملحة للعاشق. فلما ولدت نبت شعرها وتغير شكل ثدييها ووسم بدنها بميسم القبح فخلقت المرأة لتكون أما فأصبحت بذلك جديرة أن يهجرها الرجل إذ كانت قد فقدت جمالها ولكن طفلة يتشبث به باكياً. وهذا قانون الأسرة البشري. وكل ما يرمي إلى خرقة يعد منكراً. وإن السبب الباعث طبقات الفلاحين إلى استشعار الصلاح والتقوى هو أن نساءهن لسن إلا آلات للولادة والرضاعة وما رجالهن سوى آلات للكد والكسب. فليس لنسائهن شعور مستعارة ولا في ثديهن لبن العذرة. ولكن حب هذه الطبقات صحيح الأديم صافيه غير نغل ولا أبرص. وهم إذا تعانقوا فعلوا ذلك وهم يجهلون البتة أن كولومباس اكتشف أمريكا. وإذا كانوا غير شهويين كانت نساؤهم صحيحات معافيات. وإذا كانت أيديهم صلاباً غلاطاً فما قلوبهم بالصلاب ولا الغلاط.
إن المدينة لتجري على نقيض الطبيعة ففي مدائننا وحسب عادتنا ترى العذراء التي خلقت لتمرح في ضياء الشمس لتقر ناظرها برؤية المصارعين العراة كما كانت الحال في لاسيديمونيا ولتختار الخليل من بينهم وتنتقي. وتعشق كما تشاء وتهوى. تحجب في مقصورتها وتسجن. ولكنها تكتم تحت صليبها رواية غرامية فتجلس في سجنها صفراء فاترة كسلى تذوي نضرتها. وتذبل زهرتها أمام مرآتها. وكذلك تسهر الليل الطويل وفي فحمته تخبو جذوة جمالها الوقاد وتنطفئ جمرة حسنها المشبوب. وتصوح محاسنها فتذوي إذ لا تجد مجالاً للإزهار والإيناع ولا تصيب فضاء وهواء طلقاً ثم تخرج من سجنها بغتة وهي لا تعرف شيئاً ولا تحب شيئاً. ولكنها تشتهي كل شيء. فتتولي تعليمها عجوز ثم تهمس في إذنها كلمة منكرة وبعد ذلك تطرح على فراش رجل مجهول فيغتصبها اغتصاباً - وهذا يسمونه زواج نظام الأسرة المتمدينة. ثم تلد الفتاة المسكينة ويذهب جمال شعرها وثدييها وبدنها. وأهالها! لقد فقدت جمال عاشقة وما ذاقت عشقاً. لقد حملت وولدت وأنها لا(52/22)
تعرف لذلك علة ولا سببا. وكذلك ترزق صبياً ويقال لها قد أصبحت أمّاً. فتجيب (قائلاً لست أماً). أعطوا هذا الوليد لامرأة ذات لبن فإنه لا لبن في ثديي. وما كذلك يسرى اللبن إلى ثديي النساء ويقول زوجها (إنها لعلى حق. وإن هذا الطفل مسخطة لها ومضجرة. وكذلك تعالج الفتاة من داء الأمومة فتعافى. ولا يمضى شهر حتى تجدها في أحد المراقص أو دور الأوبرا. وطفلها في شايوت أو (زير) وزوجها في بيت من بيوت الفجور وترى حولها الرجال عشرات يغازلونها ويداعبونها ويعدونها الحب والإخلاص والوفاء يحلقون لها بأغلط الإيمان أنهم عبيدها وأسراها وأنهم فيها هائمون وبهواها متيمون. فتختار منهم واحداً وتضمه إلى صدرها. فيدنس عرضها ثم يدعها وشأنها. فتقضي ليلتها بكاء وانتحاباً ثم تنظر فإذا عيناها قد احمرتا من البكاء فتلتمس من يهون خطبها ويسرى كربها ويهبها العزاء والسلوى فتتخذه أنيساً وجليساً وصديقاً ورفيقاً. حتى إذا فقدته استبدلت به آخر ثم آخر وهكذا حتى تتجاوز الثلاثين من عمرها وأخيراً تمل وتسأم وتتسخط وتتبرم وتشتكي كظة السرف وفقدان الأمل ثم يمرض يقينها وتضمحل عقيدتها. ويخلو فؤادها من كل عاطفة إنسانية حتة من الاشمئزاز والتأفف. فيناهي كذلك إذ تصادف ليلة في بعض المراقص فتحب فتى جميلاً أسود الشعر متلألئ العينين فياض الأمل. فتعرف في وجهه نضرة الصبا ثم تتذكر آلامها وأوجاعها فتقبل عليه تعطيه عبراً ودروساً من تاريخ حياتها وتعلمه التشاؤم وتبرهن له على استحالة ما يسمونه الحب وتحذره من الهيام عبثاً وراء هذا السراب الخادع والبرق الخلب.
فهذه هي المرأة كما خلقتموها - كما صورتها يد المدنية. ومن هذا القبيل حبائبنا ومعشوقاتنا. ولكنهن على أية حال نساء ولهن محاسنهن كما لهن عيوبهن. وفيهن ملهى ومستمتع! وقد تصاب منهن أحياناً فرص النعيم وخلسات اللذة!
فإذا كنت يا صاحبي متين الخلق قوي العزيمة واثقاً من نفسك مستكمل الرجولة فإني أشير عليك بهذه النصيحة. ادفع بنفسك غير هياب ولا وجل في غمار الدنيا واركب متن لجهاً وعباب موجهاً! وأنعم من النساء بكل من حصلت لديك - من مومس وعاهرة ورقاصة وفلاحة وشريفة وكريمة. وكن تارة وفياً وطوراً غادراً. وآناً فرحاً وآونة حزيناً. وساعة منخدعاً وأخرى محترما ولكن إذا ظفرت من امرأة بحبها وهواها فضن بنعمة هذا الغرام(52/23)
أن تضيعها - ول يعينك صنف المرأة التي تهواك - فكل ما عدا نعمة الحب باطل لا قيمة له
وإذا كنت أمراً عادياً فأكبر ظني أنك تطيل الفكر والتدبر قبل عقد نيتك وإجماع أمرك. ولكنك تكون جديراً أن لا تعول على أدنى شيء مما تتوقع أن نجده في عشيقتك
وإن كنت ضعيفاً سخيفاً مليئاً أن ترسو وترسخ وترسل جذورك حيث تصادف قطعة من الطين مهما قلت - فإني أنصح إليك أن تتخذ درعاً حصداء نتقي بها كل شيء. فإنك إذا أذعنت لخلقك الضعيف وطبعك السخيف عيق نماؤك واكدى شبابك ولم تنتشر لك فروع وأغصان وراء مرسى أصولك ومغرس جذورك. فلا تلبث أن تذبل وتذوي كالنبات العقيم ثم لا تزهر ولا تثمر وينتقل ماء حياتك إلى شجرة أخرى. وتصير كل أعمالك ومجهوداتك أصغر من ورق الصفصاف. ثم لا تسقى إلا من ري مدامعك. ولا تغذي إلا من مادة قلبك
وإذا كنت متحمساً ملتهب الحمية تصدق بالخيالات والأحلام وتريد تحقيقها فليس لك عندي جواب سوي لا وجود للحب
لأني موافق على ما تراه من أن الحب إنما هوان يهب المرء نفسه روحاً وجسماً! وبعبارة أبلغ أن يجعل المرء من شخصين شخصاً - والحب هو التقلب في ضياء الشمس وفي الهواء النقي وبين الزهر والريحان بجسم ذي أربعة اذرع ورأسين وقلبين. والحب هو اليقين والإيمان. وهو دين السعادة الدنيوية والنعيم الأرضى. وهو مثلث مستنير في سقف هذا المعبد المسمى الدنيا. والحب هو أن يرتع المرء إرجاء هذا المعبد وإلى جانبه مخلوق يستطيع أن يفهم لماذا يستوقفك خاطرا أو كلمة أو زهرة أثناء سيرك فتدعوك إلى رفع رأسك إلى ذلك المثلث السماوي. هذا ولا ننسى أن أعمال المرء أشرف ملكاته نعمة كبرى ومن ثم كان للعبقرية. أتعرف من جمالها وروعتها. فما بالك إذن بمضاعفة هذه الملكات ويضم فؤاد إلى فؤاد وذهن إلى ذهن - إلا أن هذه لهي السعادة القصوى. والنعمة العليا. وما من الله على عبده بأكثر من هذا ولا أجزل. ومن ثم فضل الحب حتى على العبقرية. فبالله الا ما خبرتني - أكذلك رأى زوجاتنا في الحب؟ كلا! فغير ذلك في الحب رأيهن. وإنما الحب عندهن هو السير مقنعات وكتابة الرسائل الغامضة المبهمة والمشي على أمشاط أقدامهن. والنكيت والتبكيت والنظرات الفاترة والالجاظ المراض وإرسال الزفرات العفيفة(52/24)
الطاهرة ويدبرون المكايد وهن في الحلل البيض المنشاة ثم ينصبن الحبائل لأشجاء نظيره أو خديعة زوج أو تعذيب عاشق. والحب في رأي زوجاتنا هو أن يلعبن لعبة الغش والكذب كما يلعب الأطفال لعبة المراوغة وهو دعارة القلب وفسوق الروح وذلك حيث مما كان يحدث من دعارة نسوة الرومان في ساتورنالية بريايوس وهو صورة مموهة من الرذيلة والفضيلة وهو مهزلة باردة سخيفة - يظل كل الممثلين فيها يتهامسون ويؤودن أعمالهم بوجوه مزوية وأعين مغضوضة ويظل كل شيء فيها حقيراً مشوهاً على فرط التألق والتكلف - مثل ما تصدره إلينا الصين من تلك التحف الخزفية البشعة المنكرة. وهو خليط ممقوت من الحسن والقبح ومن عنصري الخير والشر والرحمة والنقمة والنعيم والجحيم في هذه الدنيا. وهو ظل لا جسم وخيال بلا حقيقة وهو هيكل عظمي لجملة مصنوعات الخالق. هذا ما قاله ديزينيه بصوت صارم في سكينة الليل وهدوئه.(52/25)
محاورة
بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد
للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوينهور
(تابع ما نشر في العدد الأول من هذه السنة)
الفقيه - ولكنك لن تؤنس ذلك! هذا وأن الأديان ليست بخديعة ولكنها حقيقة وأهم الحقائق. ولكن فرط سموها هو الذي يبعدها عن منال أذهان العامة ووهج ضيلئها، هو الذي يعشى العين الاعتيادية فلا تراها ومن ثم كان وجوب خفائها تحت ستار الرمز والكتابة حتى أصبح الدين يعلم الناس ماليس بحقيقة في حد ذاته ولكنه حقيقة باعتبار ما يكمن وراءه من المعاني. فإذا نظرت إلى الدين من هذه الوجهة رأيته حقاً.
الفيلسوف - قد يجوز لك لو كان يحكم للدين بأنه حق من الوجهة الكنائية ليس إلى ولكن أنصار الدين يدعون أنه حق بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهنا موضع الغش والتدليس. ومن هذا الوجه يجب على ناصر الحق أن يقاوم الدين ويحاربه.
الفقيه - ولكن هذا الخداع شرط أساسي لا بد منه وذلك أن الدين إذا صرح بأن عنصر الحق فيه مقصور على ما تتضمنه عقائده من المعنى الرمزي الكنائي لزالت عنه قوة نفوذه وسلطانه وزال بزوالها جميل أثره في مشاعر الناس وعواطفهم وحسب تهذيبه لطباعهم وأخلاقهم. فبدلاً من تناول الذين بهذا الانتقاد المر والاعتراض الشديد ينبغي أن تنظر إلى فوائده العملية الجليلة من حيث تهذيب النفوس وترقيق المشاعر وتسكين العواطف باعتباره هادياً إلى سبيل الرشاد. ودليلاً على طرق الصلاح والسداد، وملاذاً وملجأً وعمادً وعصمة للإنسانية المنكوبة المحروبة المتوجعة المتفجعة في الحياة والممات. ولا مشاحة في أنه يجب عليك أن تحاذر إيقاظ الريب والشكوك في صدور الجماهير بإثارة المجادلات النظرية فتسلبهم بذلك أحسن مصدر للعزاء والسلوان وأغزر منبع للأمن والسلام، والتوكل والاستسلام، مما هم في أمس الحاجة إليه - بل أحوج إليه منا نحن المتعلمين - لتخفيف وطأة النحس. وتهوين فدحة البؤس، وتنفيس غمة الكرب وتفريج أزمة الخطب. ولهذا السبب وحده لا يصح الطعن على الدين.
الفيلسوف - إن حجتك هذه لواهنة واهية وبمثلها كان يمكن خذلان البطل لوثر ورده(52/26)
بالهزيمة حين شن حربه العوان على الكاثوليكية وصب غارته الشعواء على فعلتها القبيحة المنكرة أعني بيعها عفو الله وغفرانه بالذهب والفضة في سوق الكذبة والخديعة. أفلا ترى أن أوراق العفو وصكوك الغفران التي كان قسوس الكاثوليكية يزورونها على الله في ذلك الزمان كانت تمد العدد العديد من البشر بأمتن أسباب العزاء والسلوان وأحسن وسائل الأمن والسلام في سكرة الموت وغمرة الاحتضار حتى كان الرجل يفارق الدنيا قرير العين مثلوج الفؤاد مملوءاً ثقة واعتقاد بصحة ما يحمل في يده من تلك الأوراق المزورة وهو على سرير الموت مقتنعاً بأنه يحمل منها عدة ترخيصات وجوازات بدخول الجنان والتمتع بصفوة خيراتها ونخبة لذائذها. أي فائدة وثمرة في تقديم أسباب العزاء والسلام إذا كان لا يزال مشهوراً فوقها سيف الغش والخديعة؟ الحق يا سيدي - الحق وحده - هو القوي المتين الوفي الأمين. والحق أبلج والباطل لجلج. والحق هو العزاء المادي الوحيد الراسخ الأساس الصلب الدعائم الذي لا تزعزعه الحوادث والكوارث - هو الجوهر الفرد والمفرد العلم والحي الباقي.
الفقيه - أجل ما أصح قولك هذا لو كنت تحمل الحق في جيبك وتضم عليه أصابعك تمن علينا وتنعم كلما سألناك منه حفنة أو قبضة ولكن ما لديك هو مذاهب فلسفية لا مادية. (أي عما وراء المادة) ليس فيها شيء محقق سوى وجع الرأس. والقنوط من الحقيقة واليأس. وقد كان أجدر بك أن تعلم أن على أطلال ما هدم ويشيده على أنقاض ما قوض.
الفيلسوف - يسؤوني أن أراك متمسكاً بهذا القول، ألا تعلم أن تحرير المرء من أغلال أكذوبة ليس معناه أنك سلبته شيئاً بل أنك وهبته شيئاً. لأن عرفانك عن شيء أنه باطل إنما هو حقيقة من الحقائق. هذا وإنك لن تجد أكذوبة أية كانت إلا ولها شر وفيها أذى. وليس من أكذوبة إلا ستلحق الضرر باتباعها عاجلاً أو آجلاً. فعليك إذن أن تكف عن خديعة الناس وتقر أنك جاهل بما لا تعرف وتترك الحرية لكل امرئ يختار من المبادئ والعقائد ما يشاء وتشاء أمياله ونزعاته ويكون آراءه وأفكاره لنفسه. ولعل هذه الأفكار والآراء لن تكون في النهاية كما تتوهم أنت من السخافة ولرداءة إذ كان في طول احتكاكها واصطكاكها ما هو كفيل بتهذيبها وتنقيحها وتصفيتها من خبث الضلال وتنقيتها من شوائب الكذب والبهتان. وعلى كل حال فإن اختلاف المذاهب والآراء يقيم بين الناس التسامح والتساهل(52/27)
ويبث فيهم روح الملاينة والمهادنة. ولمن أوتي بعد من العلم والقدرة ما يمكنه من الاشتغال في الفلسفة أن يفعل ذلك وأن يعدو بها شأوا وراء ما قد وصلت إليه إذا استطاع ويسمو بها درجة فوق ما بلغت.
الفقيه - حبذا ذلك أو أمكن! شعب كل أفراده فلاسفة يجتمعون في حومة الخصام تحت عجاجة المغالطة والتضليل والسفسطة يثور بعضهم على بعض ويثب بعضهم ببعض وقد يضرب بعضهم بعضاً.
لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضل عن الهدى وتجور
وهن كآنية الزجاج تصادمت ... فهوت وكل كاسر مكسور
الفيلسوف - إن القليل من اللطمات واللكمات يتبادله الجماعات من آن إلى آخر ليصلح من أحوالهم كما يصلح الطعام القليل من الملح والبهار. وبفرض أن هذا التلاكم شر فإنه على كل حال أهون من شر حكومة القسوس وما تتضمنه من اضطهاد الشيع من المارقين والخوارج ونهب الأهالي ونصب محاكم التفتيش وشن الحروب الصليبية وما إلى ذلك. كل هذه الآفات كانت نتيجة خرافات الدين ورموزه وكناياته وأساطيره المقررة المسجلة المسنونة المشروعة. ولذلك لا أزل أقول إنك لن تحصد الخير من الزور والباطل كما لن تجني العنب من الشوك.
الفقيه - إلى م أكرر سمعك أن الدين ليس بزور وباطل وإنما الحق ذاته في ثوب من الرمز والكتابة. أما قولك أن لكل فرد أن يقرر لنفسه ما شاء من المذاهب الدينية فإني أعترض عليه بأن مثل هذا التخصيص جد مخالف ومناف لطبيعة البشر، فلو حدث لمحي النظام الاجتماعي بحذافيره. وقد قيل أن الإنسان حيوان لا مادي (مولع بالبحث فيما وراء المادة) أي أن له في الغيب وفيما وراء الطبيعة حاجات ومآرب. ومن ثم تراه لا يزال ينظر إلى الحياة من وجهتها اللامادية ومن هذه الوجهة وعلى هذا الاعتبار يحاول أن يفهم معاني كل شيء في الوجود وأسرار كل كائن.
وعلى ذلك فبالرغم مما نراه من ضعف الثقة ومرض اليقين في كافة العقائد الدينية وكثرة ما يغشاها من الريب ويحوم حولها من الشكوك فقد نرى أن الأديان كلها متشابهة متماثلة في الجوهر الأساسي من أركان ناحيتها اللامادية وعناصر جانبها (الغيبي) حتى لترى أن(52/28)
الصداقة لمتينة والتحالف الدائم لا يكون لا بين الأمم المتحدين أراء في هذه النقطة ونتيجة هذا إنك ترى تشابه الأمم واختلافها أشد وأعظم في مسألة الدين منه في أمر الحكومة بل اللغة وعلى ذلك فإن نظام المجتمع أعني الحكومة لا يضمن ثبات أركانه ورسوخ أصوله إلا إذا قام على أساس مذهب (لا مادي) شائع معترف به من جميع الطبقات ولا مراء في أن مثل هذا المذهب اللامادي لا يكن أن يكون إلا مذهباً (لاماديا) مألوفاً - أعني ديناً من الأديان فحينئذٍ يصبح على تمام ملاءمة ومطابقة للحكومة ولكافة أساليب الحياة الوطنية ومناهجها ومظاهرها لجميع ما يقوم به عامة أفراد الشعب من الأعمال المقدسة في حياتهم الشخصية. ولقد كانت هذه هي الحال عند قدماء الهنود والفرس والمصريين واليهود واليونان والرومان ولا تزال هي الحال عند البراهمة والبوذية والمسلمين.
أجل إن في بلاد الصين ثلاث عقائد دينية وأشيع هذه الثلاثة أعني البوذية أقلها نصيباً من رعاية الحكومة وعطفها وحمايتها ومع ذلك فإن الأمثال السائرة في بلاد الصين الكثيرة التردد على الألسن ذلك المثل القائل (إنما الثلاث العقائد هي في الحقيقة عقيدة واحدة) أو بعبارة أخرى إنها متحدة في الجوهر. وإمبراطور الصين يقر بالثلاث ويوافق عليها جميعاً. وهذه أوروبا هي حلقة دول نصرانية. والنصرانية هي أساس كل واحدة من فرائد هذه الحلقة وهي رابطة الكل والعروة الوثقى المؤلفة شمل الجميع ومن ثم ترى أن تركيا بالرغم من وقوعها داخل حدود القارة الأوروبية لا تدرج ولا تدمج في سلكها. وعلى هذا النحو ترى أن ملوك أوروبا ليسوا ملوكاً إلا بإذن الله رضاه وإن الباب ولي الله في أرضه ووكيله ومندوبه وعلى ذلك فلما كان عرشه باعتباره وكيل الذات الإلهية ومندوبها هو أسمى عرش في أوروبا رغم أن سائر عروش هذه القارة إنما هو عالة على عرشه وذيل له وحاشية أو هو فرع منه مستأجر من قداسته. وعلى هذا النحو ترى البطارقة والكرادلة والأساقفة ليس سلطانهم محصوراً في دائرة الدين بل يتناول أيضاً الشؤون الدنيوية والمسائل المادية. ألا ترى أن الأساقفة ورؤساء الأساقفة لا يزال لهم إلى الآن في بلاد الإنجليز مجالس يشغلونها وأصواتاً يرفعونها في مجلس الشيوخ. هذا وإن الملوك البروتستانتيين يصبحون بفضل بروتستانتيهم زعماء الدين في مملكهم ورؤساء الكنيسة.
ولقد كان الذي يشغل هذه الوظيفة الدينية الكبرى في إنكلترا منذ أعوام قلائل فتاة لا تجاوز(52/29)
الثامنة عشرة من العمر. ولما ثارت البروتستانتية ثورتها في وجه البابا مزقت شمل النظام الأوروبي وهدمت بنيانه وبددت سلسكه وحلت عراه ولا سيما أواصر الوحدة الألمانية الصادقة بإلغاء دينها المشترك. فقضى على هذه الوحدة وما زالت مقضياً عليها حتى أتاح الله من عوضنا منها - لا أقول خيراً - ولكن شراً - أعني بذلك ما قد أقامته السياسة على أنقاض الوحدة الدينية المتينة القوية الرصينة بعد انقراضها بأزمان من تلك الوحدة الحالية التي هي محض سياسية وبحث اصطناعية. وبعد كل ما سردته لا أخالك تشك في شدة الارتباط الكائن بين الوحدة الدينية في الشعوب وبين حسن النظام وصلاح غيره من الشؤون الدولية والأحوال الاجتماعية. فهذه الوحدة لا تزال في كل زمان ومكان عماد الشرائع والستور أي أنهما قاعدة النظام الاجتماعي الذي لا يكاد يقوم على أساسه ويعتدل في نصابه إلا أذا استمدت الحكومة قوة وتأييداً من جانب الدين واستمد الملك الحاكم فخامة وأبهة زجلالاً.
الفيلسوف - حسن جميل الحق ما تقول، أجل إن الملوك ليعدون الله عفريتاً يخوفون به الأطفال الكبار الشيب ويدفعونهم باسمه الرهيب إلى فراشهم حينما تعوزهم وسائل الإرهاب والإفزاع. ومن ثم شدة اعتمادهم على الله. فأما وقد ألغيت خطة التعذيب والتنكيل ونصيبهم من الخوازيق والأوتاد وصارت في خبر كان فقد أصبحت تلك الخطة في سياسة الأمم وتدبير الشعوب باطلة ملغاة عديمة الأثر والمفعول. ولتعلم أن بعض الديانات هي أشبه شيء بالحباحب لا تضيء إلا في الظلام فالجهل العام شرط أساسي لصولة الأديان ونفوذها وهو النصر الوحيد الذي ليس إلا فيه يستقيم أمرها ويقوى شأنها. فإذا بزغت في أفق الحياة كواكب العلم على اختلاف أشكالها بين تاريخ وجيولوجيا وطبيعيات وفلك فبثت شعاعها وأفاضت نورها على أرجاء العالم وأنحائه وإذا ما استطاعت الفلسفة بعد طول الاحتجاب والاحتباس أن ترفع عبقريتها وآرائها ومعتقداتها فقد آن إذ ذاك أن تنهار أركان الأديان المبنية على الخوارق والمعجزات وتنقوض دعامها فتهلك وتبيد ووترك مكانها للفلسفة أحكامها. وقد لاح فجر العلم والعرفان وانصدع عموده في القارة الأوروبية في أخريات القرن الخامس عشر بقدوم الفلاسفة اليونان الحديثين ثم ما لبثت شمسه أن ارتفعت وأتلع ضحى ذلك العلم والعرفان ومتع نهاره أثناء القرنين السادس عشر والسابع عشر الخصيبين(52/30)
المنتجين.
فانكشف بذلك دياجير العصور الوسطى وتبددت غيومها وأدجانها.
وبقدر سطوع ذلك النور وانتشاره اضطرت الكنيسة والإيمان إلى الانزواء والاستتار والاختفاء تدريجاً على ممر الأيام. وترتب على ذلك تناقض الفلاسفة الانكليز والفرنسيين وتخاصمهم وتضاربهم. وما زال دأبهم ذلك حتى ظهر إمام الفلسفة وعميدها وقطبها ومحورها الحكيم الأشهر والمنطقي الأكبر عميويل كانت الألماني في عهد فريدريك الكبير فنزع من الدين والإيمان عماده وسنده الذي كان قد استمده سالفاً من الفلسفة. فكانت نتيجة ذلك ما نراه في القرن التاسع عشر من وهن المسيحية وتضعضعها وتجردها من راسخ الاعتقاد وصحيح الإيمان ودفاعها للمحافظة على كيانها. وكفاحها لصون موضعها ومكانه. والملوك المذعورون المروعون يحاولون أثناء ذلك إنهاضها وإنعاشها وإمساك رمقها واستبقاء عنصر الحياة فيها كالمنبهات الصناعية كما يحاول الطبيب استحياء المحتضر بالأودية والعقاقير، ولا يخفين عليك أن العلم والدين ما برحا أثناء هذه الحوادث التي قد يبيّنها لك ينزا أحدهما من الآخر منزلة إحدى كفتي الميزان من الأخرى إذا شالت واحدة فلا بد أن ترجح الثانية. وهذا الميزان حساس للغاية بحيث يمثل لك التأثيرات الدقيقة الوقتية، فمن أمثلة ذلك أن غارات السلب والنهب التي قام بها لصوص الفرنسيس تحت زعامة اللص الأكبر نابليون بونابرت في أوائل القرن التاسع عشر وما تكلفته شعوب أوروبا من المجهودات العظيمة لرد عاديات أولئك اللصوص وغوائلهم وطردهم من حمى أملاكهم وحريم أوطانهم - كل ذلك أدى إلى إهمال العلوم الطبيعية وبالتالي إلى تقصير عظيم في نشر نتائج هذه العلوم ونشر آثارها. وإذ ذاك بدأت الكنيسة ترفع رأسها ثانياً وبدأ الإيمان ينتعش انتعاشاً شعرياً ملاءمة لروح ذلك العصر ثم نرى من جهة أخرى أن في خلال الثلاثين عاماً التي أعقبت ذلك العهد تمالأ الرخاء والفراغ على تشييد صرح العلوم ونشر المعارف بمقدار خارق للعادة مما أدى إلى ما قد ذكرت آنفاً من تصدع صرح الدين وتفسخ أركانه وإيذائه بالتهدم والسقوط، ولعل التنبؤ بزوال الدين قاطبة من العالم الأوروبي سيتحقق عن قريب فينسل الدين من أوروبا كما تنسل الحاضن من الطفل الذي كبر ونما وبلغ أشده - ثم يسند بعد ذلك أمره إلى معلم ومهذب ليثقفه ويقومه. ولا جرم فإن مذاهب(52/31)
الإيمان والاعتقاد التي لا أساس لها سوى الثقة العمياء والوحي والخوارق والمعجزات لا تنفع ولا تصلح ولا تليق إلى بطفولة إنسانية. ولا خفاء أن النوع البشري لم يخرج بعد من طور الطفولة إذ كل الحقائق الطبيعية والتاريخية تقرر أن عمر الإنسانية لا يتجاوز الستة آلاف من السنين وهذا يعادل متوسط عمر الفرد مائة مرة. وحسبك بذلك دليلاً على طفولة النوع البشري.
لها بقية(52/32)
البلشفية
حقيقتها ومبادئها ونظاماتها
(بقلم الكاتب الإنجليزي المنصف. و. ن. جود)
ترجمة العالم الكاتب الأستاذ محمود طاهر
ظهرت البلشفية في روسيا في أواخر الحرب الأوروبية الكبرى. وقام زعماؤها ينشرون مبادئهم ويبثون تعاليمهم بين مواطنيهم الذين ما برحوا يرزحون تحت نير حكم الفرد حتى تدهوروا إلى أوهد هوات الخمول وأسحق أغوار الاضمحلال، فهب الشعب الروسي من سباته العميق وقام ينشد حريته المسلوبة ويطلب حظه من الحياة الحقة. فنشأ من جراء ذلك تلكم الثورة الهائلة التي أدهشت العالم وأفزعته، وحدت ببعض السوء على أن يقرفوها يكل تهمة نكراء ويلبسوها بالأوهام والأباطيل. ولكن سدى ذهبت جميع مجهوداتهم إذ رأينا البلشفية تنمو وتذيع وتنتشر، والناس شعوباً وجماعات يلوذون بأكنافها أفواجاً حتى اضطرت الدول العظمى لأن تعترف بعجزها عن مناوأتها وترى ضرورة التفاهم معها والاتفاق وإياها، كما قام الكثيرون من فطاحل السياسة ورجالات الاجتماع، ممن روسيا في السنوات الأخيرة - ينتصرون للبلشفية ويؤدون إلى العالم أمرها زاروا أداء تنزه عن الغرض والهوى.
وسننشر تباعاً سلسلة المقالات التي نشرتها جريدة المنشتر جارديان لمراسا الخاص و. ت. جود عن كل ما يتعلق بالبلشفية مبتدئين بما جاء تحت العنوان الآتي:
أساس التربية الحديثة
لما كنت قد قضيت أغلب حياتي في التعليم وأعماله على اختلاف أنواعها عنيت بالطبع عناية خاصة بأن أقف على نظامات الحكومة الروسية الحاضرة إزاء التعليم. إن روسيا كتلة من الأمية وقسطها من الجهالة أو فر من قسط أية بقعة أخرى من بقاع أوروبا. ولكن بقاء كيان الحكومات ورسوخ أقدامها يتوقف على طريقة علاج هذه المسألة. وإنا نعلم أن أهمية التعليم قد قدرت حق قدرها في الثورة الفرنسية الكبرى، لذا كنت أتوق إلى معرفة مقدار إدراك قادة تلكم الثورة الأخيرة لهذه النقطة التي تعد نتيجتها من الأهمية والخطورة بمكان عظيم. فانتهزت اقرب الفرص لمقابلة لونا كارسكي مدير لجنة التعليم كما أنى(52/33)
تحادثت غير مرة مع مساعدة الأستاذ بوكروفسكي ذلكم المؤرخ الكبير فعلمت علم اليقين أن البلشفيك على بينة تامة من جسامة مسألة التعليم الروسي وضرورتها لدعوتهم وأنظمتهم وحياتهم وعلمت أنهم طرحوها على بساط واسع من البحث والفحص بكيفية تدعو إلى الدهشة والاستغراب. وضالتهم في ذلك هي أن يمحو الجهالة من عقول الفلاحين، وأن ينشروا المدارس في جميع القرى والأرياف، وأن يعدوا الفصول ويضعوا البرامج الخاصة للتعليم الصناعي والفنى الترفيه حال العمال، وأن يؤسسوا جامعة أهلية تقوم بما تقصر عنه تلك المعاهد المتقدمة من تهذيب الفنون الجميلة كالتمثيل والغناء والتصوير. وجملة القول أنك إن رأيت النهضة قائمة في روسيا الآن فثم تياراً هائلاً من الرغبات يدفع القوم إلى إصلاح التعليم من وجوهه جمعاء، وأن هذه الحركة المباركة لو تعهدوها باعتناء وحنكة لأخرجت جني يانعاً طيباً لروسيا بل وللعالم قاطبة. ولقد ينال منك العجب إذا أنت علمت أن الفكرة السائدة هنالك أن جهل وطني واحد وهو خطر على الأمة، وأن من
أول واجبات الحكومة أن تساعده حتى تزول جهالته.
ولقد كنت عام 1911 في موسكو أزور المدارس وأنتقد حال التعليم، فرأيت جماعة من المصلحين نشطوا لترفيه حال تلاميذ مدارس القرى بإمدادهم بكتب المطالعة القيمة السهلة المأخذ الأكيدة الفائدة. ومساعدتهم على تعليم الحساب والرياضة، كل ذلك على نفقة الجماعة لا يكلف الحكومة فتيلاً، غير أنهم ما عتموا أن اضطهدوا وصودرت تآليفهم وأصبحوا عرضة لكل مهانة واحتقار وهدفاً لجميع أنواع التشهير والقذف سراً وعلانية. ثم هبت فئة أخرى تريد إنشاء ناد ودار كتب يأتي إليهما معلموا مدارس القرى في أيام العطلة وأوقات الفراغ لتبادل الآراء وتصفح الأسفار واكتساب المعلومات ولكنها كانت في كفاح ونضال مع الحكومة التي لم تأل جهداً في عرقلتها. ولكن ما هي إلا الفترة بين سنة 1911 و 1919 حتى جاءت البلشفية تحمل كل خير وفخار.
سخاء الحكومة
تبرع الناس بالأموال عن طيبة خاطر فجمعوا في مدى ستة أشهر مبالغ باهظة ومقادير جساماً. وأول خطوة عملية كانت في سبيل تعميم التعليم في القرى وكان الرائد فيها الفكر الناضج والرأي السديد. حتى ولقد مهدوا السبل ليشركوا الزراع أنفسهم في هذه الحركة(52/34)
العلمية كي لا يفوتهم نصيبهم فيها لهذا أصبحت المدارس (مدارس صناعية) تعلم فيها القراءة والكتابة والحساب ثم يدرب طلابها على كل ما يحتاج إليه معيشة القرى من الصنائع كالتجارة والحدادة والزراعة وأعداد الكتان والصوف والغزل والنسيج وما إلى ذلك.
والمدارس الصناعية الحديثة تضيف إلى ذلك تعليم الفلاحة وزارعة الحدائق ومن هنا يمكنك أن تتصور مقدار حب الأهالي ومقدار إقبالهم على هذه المدارس التي تعود بهذا النفع العميم. وحسبنا دليلاً على ذلك مئات المدارس من هذا النمط التي أنشأها المزارعون أنفسهم في المدة الأخيرة. ويكفينا برهاناً على ضمان استمرارها في سبيل التقدم والنجاح تلك الهمة العالية التي يبذلونها في موسكو لتدريب معلمين أكفاء لهذه المدارس الصناعية.
ففي ميدان (اكاتير نسكي) يوجد بناء عظيم تحيط به حديقة شاسعة واسعة تبلغ مساحتها أفدنة عديدة - كان قبلاً مدرسة داخلية لبنات الأغنياء وعليه القوم. أما الآن فهو يجمع بين جدرانه 300 مدرس انتخبهم السوفيت من جميع أنحاء روسيا وأركانها وهو يعيشون في تلكم الدار إذ بها العد الكافي من غرف النوم وقاعات التدريس وورش الصناعة كما أن بها مثل ذلك لعدد كبير من صغار التلاميذ ذكوراً وإناثاُ يستخدمون لتدريب المدرسين وتمرينهم. أما إدارة هذا المعهد العظيم ففي يدي اثنين - امرأة ورجل - لهما كفاءة عظمى في التدريس، ومهارة فائقة في حسن الإدارة وحظ وافر من جميل الخلق وهمة لا تحد في إنجاز الأعمال وهناك تعطى النظريات أولاً ثم تطبق عملياً في (الورش).
التعليم العملي
فكانت نتيجة ذلك أن دبت في القوم روح سارة كادت أن تؤدى بنفسي إلا الحسد. وأنت يمكنك أن تعرف قيمة هذا المعهد وأهميته حينما تعلم أن كل من تخرج منه يرسل إلى بلدته لينشر فيها ما اكتسبه من علوم وصنائع. أما التلاميذ الصغار فإن سوادهم الأعظم من أبناء العمال وكلهم في أحسن صحة، وخير حال، وأقوم خلق، وإن مداركهم لتنمو بسرعة حتى إن منهم من يظهر ذكاء نادراً وحذقاً فوق المنتظر. وبهذه الطريقة الناجعة تسني لهم أن يربوا ملكات نشئتهم ومواهبهم الطبيعية ويستخدمونها في صالح روسيا ولولا ذلك لظلت خافية مختبئة إلى أن تذوي وتموت دون أن يستفاد منها شيء.(52/35)
أما عمال المدن والمصانع الكبرى فقد أعدت لهم الفصول ووضعت لهم البرامج لتعليم العلوم الصناعية والفنون المختلفة. ولما كانت الحاجة شديدة جداً إلى أمثال هؤلاء العمال قامت الحكومة فاتخذت لهم مدارس من الدور الكبيرة وردهات المطاعم ولا أندية.
والعناية موجهة أيضاً إلى فني الموسيقى والتمثيل ولقد صادف المسرح من الشباب ميلاً عظيماً حتى أن عدد الملتحقين به في موسكو وبتروغراد أصبح هائلاً لدرجة مدهشة.
وسن ابتداء العمل هي السادسة عشر، وإذ ذاك يكون العمل ست ساعات فقد بينا تقضى الساعتان الباقيتان من اليوم في الدرس والتعليم وذلك لمدة عامين ويؤمل فيما بعد أن ترفع سن ابتداء العمل إلى الثامنة عشر. أما في هذه الأيام فنظراً لحاجة الأمة وافتقارها الشديد إلى الأيدي العاملة صرح أن يكون سن العمل من الرابعة. على شريطة أن يشتغل ذلك العامل الصغير أربع ساعات فقط ثم يقضي الأربعة الأخريات في قاعة الدرس. وإني لأرى في هذا النظام النية الخالصة لخير النشء الروسي والاحتفاظ به أن يناله أقل ضير.
وبينا كنت حاضراً مؤتمراً عقده المدرسون ليقرروا رأيهم إزاء مسألة التجنيد إذ أتى لينين - وكنت رأيته في ذلك الوقت للمرة الأولى - لا يخفره حرس ولا اتباع وأنشأ يتكلم نحو ساعة من الزمن عن واجبات كل روسي وأن كل امرئ يلزمه أن يعمل بمفرده على خدمة البلاد وإعلاء شأنها. وإن حضور لينين هذا المجتمع لهو دليل على مقدار اهتمام القوم بأمر التعليم.
المسارح والفنون الجميلة
أما المسارح فقد أصبحت حقاً عاماً للشعب. وألفت لجان من رجال الدين يساعدها أخريات من سوفيت موسكو ولمراقبتها والاهتمام بأمرها ما عدا مرقصهم الشهير ودار التمثيل في موسكو فقد تركا وشأنهما ولم يغيروا فيهما شيئاً عن ذي قبل. فهناك تمثل الروايات الدوام والفودفيل والأوبرا وتقام المراقص وكل شيء. . . . ولكن الجمهور المشاهد قد تغير!. . فالقوم اليوم يذهبون إلى التمثيل حباً لا كعادة قومية كما كانت الحال قبلاً.
وفي كثير من الليالي يكون للعمال الفرصة الأولى والتفضيل الكلي في توزيع البطاقات (التذاكر) وذلك مع مراعاة حالتهم الاقتصادية. وتوفير أسباب الراحة والسرور لهم. . ويحي سوفيت موسكو حفلات سمر نسائية يحفظون أجورها جداً ليكون المشاهدون أكثر ما(52/36)
يمكن.
ومما يدعو إلى الدهشة والاستغراب والإعجاب معاً أنهم يبذلون مجهوداً عظيماً في إنشاء سبع دور للتمثيل في الحدائق وفي بعض الأماكن الأخرى حيث تمثل في أيام الآحاد روايات خاصة يحضرها الأطفال فقد وذلك بلا مقابل. ولقد ذهبت إلى إحدى هذه الدور في حديقة الحيوانات وهنالك رأيت أحوال ألف طفل لا يتجاوزون الرابعة عشر وكلهم يتبعون باهتمام زائد تمثيل رواية اسمها عشة العم تم ثم إني تجولت فيما بينهم لأتبينهم وأرى حالهم فإذا بهم - والحق يقال - يضارعون أترابهم ونظائرهم في لندن.
* * *
ولتعلم أن روسيا غنية جداً من ناحية التحف وكنوز الفنون. ولقد كان قلبي منقبضاً حزيناً وراسي مفعماً بأخبار الممالك الغربية ومفترياتها عن البلشفيك وكنت موجساً خيفة مما عسى أن يكون قد حل بهذه النفائس. ولكن عيني كذبت تلك الأقاويل وأرجعت لي طمأنينتي. فإن كنوز الاسكندر ومحتويات المتاحف الآخر، ما زالت محفوظة مصونة معتنى بأمرها. وقد أرسلت جميعها على موسكو لتكون في مكان مكين وحرز حريز، ولقد كانوا يودون أن ينشؤوا لها متحفاً في موسكو ولكنهم عدلوا عن ذلك لأن النفائس حق من حقوق بتروغراد وليس من العدل والذوق أن يسلبوا مدينة حقها، ولذا كانت مصونة حتى ترد إلى صاحبتها في الحين المناسب.
أما معرض صور تيرتيا كوفسكي في موسكو، فهو اليوم أغنى منه في أي وقت آخر، ولقد زرته فأليفته غاصاً بالمتفرجين - وأغلبهم من الجنود - ووجدت جماعة المرشدين يقومون بوظائفهم بمهارة فائقة، ولطف ليس وراءه زيادة لمستزيد، ولقد جمعت أنفس الصور ومجموعاتها من بيوت الأفراد كما أنه قد أعد متحف خاص لأعمال الزخرفة والبناء والأثاث، والكل معنى به عناية عظمى ومصرح للجميع بالتفرج عليه.
وإني هنا أعترف بأن مبادئ البلشفيك ونظاماتهم أبعد ما يكون عن فكرة أماتة الفنون والقضاء عليها بل إنها ستكون سبباً في إنمائها وتهذيبها وإعلاء شأنها. وحسبي ما قاله لونا كارسكي وهو يتكلم عن المسارح والفنون الجميلة حيث قال لي: إن لدينا مواد صالحة لن ندعها تذوي وتموت ونحن سكوت راضون.(52/37)
كيف تربي طفلك
إياك
وعلى الآباء ألا يكونوا أشبه شيء بالشرطة، وأن لا ينظروا إلى الحياة نظر هؤلاء إليها فيأخذوا الناس بالوعيد وييضعوا لهم الذُر وألوان التهديد، فإن واجب الشرطي أن يراقب الناس ويكون بمرصد لمن يعتدي على القانون ويخالف السنة ويركب رأسه في هذه الحياة، ولكن واجبك أيها الوالد أن تزرع في فؤاد صبيك حب القانون ولا يتوفر لك ذلك إلا إذا جنيت نفسك استعمال آداب الشدة وعبارات النهي والزجر ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وتوفرت على تصوير الخير أمام أعين أطفالك وبصيرتهم بجماله وأريتهم وجه صلاحه وسداد الرأي في اتباعه فذلك أنفع لهم وأحدى عليك من تحذيرهم الشر وإصرارك على تكريههم فيه وزرع البغضاء له في قلوبهم من طريق النهي والزجر والتأنيب. فدع قولك لصبيك. . . إنك لطفل خبيث شرير. . . . . واستعض عنه قولك في رفق. . . . إنك لست بالمحمود الخلق الآن. . . . . وبدلا من أن تصدر له وخامة العاقبة إذا هو حاد عن طريق الخير وشذ عن قانونك الذي وضعته له. يخلق بك أن تصور حسن العواقب إذا هو أطاع قانونك وعمل بإرادتك وصدع برأيك. فبدلاً من تقول له. . . . . إنك مخطئ. . . لا تقطف الأزاهر من أفنانها - لا تبك لأنك قذرً. . . . لا تصرخ. . . . . لا تحدث هذه الضوضاء!. . . . لا تهبط عن مقعدك!. . . لا تكن قاسياً معك أخيك!. . . . يحسن لك أن تقول له في رفق وهداوة ولين، لقد ارتكبت هفوة. . . . . . الله في الأزاهر المسكينة. خل عنك البكاء وكن فرحاً طروباً. اجتهد أن تكون أنظف هنداماً. . . تكلم بصوت رقيق خفيض. . . رفقاً رفقاً. . . . أرجوك أن تمكث في مكانك - ترفق بأخيك. . . . . وهلم. . . . .
فإذا أنت فعلت ذلك لم تلبث أن بوناً شاسعاً بين الأدبين، وفرقاً عظيماً، فإن آداب النهي والزجر تبصر الطفل بكل ما هو شر وأثم، وتريه أنه الطفل الشرير الأثيم. أما آدب العرف والرفق فتدله على الجميل وتجلبه إلى الخير وتعوده التزامه والدأب عليه وسلوك مالكه.
فعليك أن تأخذ إذن بالآداب الموجبة وتحاش الآداب السالبة، وليكن مقصدك الحض على(52/39)
الخير لإزالة الشر بتنبيه الطفل إليه.
العناية بالبدن
من الناس طائفة يرون أنه إذا اعتنى الإنسان بصحة الطفل فلا مشاحة في أنه سيروح بطبيعة الحال فرحاً ذكياً نشيطاً متقدماً في النماء، مون الناس آخرون يذهبون إلى أن الصحة لا أهمية لها البتة في ترقية عقول الأطفال وتهذيبهم وإعدادهم للأغراض السامية التي يتطلع الآباء إليها في الحياة، ونحن نتخذ مكاناً وسطاً بين الرأيين ولا نغالي في المذهب مغالاة الرأيين بل نقول أنه إذا أهملت تربية الذهن والأخلاق فلا شك في أن الصحة لا تلبث أن تفسد وتهن يوماً وإنه إذا غفل أمر الصحة فمن الصعب أو المستحيل أن يصل المربي إلى تحقيق شيء من المقاصد الأخلاقية التي يريدها لطفله ولا أمل في تنمية مدارك الطفل أو تهذيب خلقه.
فحذار أن تستهين بأمر صحة الأطفال فإنك إن فعلت سقطت عنك وظائف المربي المهذب فأما العناية بثياب الأطفال الداخلية اللاصقة بأبدانهم والعمل على تنظيفهم أبداً فأمر معلوم لا يريد بسطاً ولا شرحاً ولكن ينبغي أن تحشد العناية التامة بوجه خاص لكل ما يمس الأطعمة ويختص بنظافتها وجودتها وصلاحيتها.
ومما هو بسبيل ذلك أن يعتني الآباء بأمر اللبان وغيرها من الأطعمة ويهتموا باختيار أجودها وأصلحها وأصحها، ويغلى اللبن أو كل ما هو أشبه به من الأطعمة أو وضعه فوق النار قبل تقديمه للأطفال بل لطالما رأينا الآباء العقلاء بعيدي النظر لا يفتأون يغلون اللبن أو الماء قبل إعطائهم لأصبيتهم - ثم لا ننس وجوب تغيير الأطعمة والأوان الأطعمة وألوان الأكل وتنويعها من حين إلى حين كما تقتضيه فصول العام وتستوجبه اختلافات الطقس والهواء.
ويجب أن يقدم إليهم في كل يوم لون من الفاكهة أو نوع من الحلوى. وينبغي أن تكون المآكل في منتهى البساطة دون أن ينقصها التنويع والتغيير ثم ينبغي للأطفال الدفء في الشتاء والاشتمال بالثياب الباعثة عليه والتخفف منها في الصيف والارتداء بالثياب المناسبة له الصالحة لجوه ولاغناء عن تغيير ثياب النوم عند تغيير كل فصل أو مرحلة من العام، ولا بد من أن يكونوا في وقاء من تقلبات الطقس أو من التيارات الهوائية عند النوم وهبات(52/40)
الرياح في الشتاء وأيام البرد ثم لا ينبغي إذا كفلت للأطفال مستلزمات الرياضة في الهواء الطلق والنسيم العليل أن يحمل على الأطفال بالتعب ويطلب منهم الإجهاد والاستمرار حتى يدركهم اللغوب بل يجب أن تحترم رغبتهم في الراحة وينزل عن طلبهم عند الجهد والكلال. فإذا رأيت الطفل قلقاً باكياً أو نحو ذلك، فانتظر وتحر السبب لعل الباعث هواء الحجرة أو خلوها منه أو درجة الهضم عند الطفل أو فساد معدته. فإذا ألمّ به ما يلم بالأطفال من الدعكات الانحرافات فعليك استشارة الطبيب للتو والساعة وإنفاذ وصاياه ووصفاته مراعياً الدقة التامة والحذر الشديد، وينبغي لك العناية بأسنان الطفل من الحين إلى الحين والنظر إليها وتقفقد شئونها وحالاتها ثم فحص عينيه وجميع أطراف بدنه وأطراف جثمانه فإذا تيسر لك الوقوع على طبيب تستطيع أن تسترشد به في أمر تربية طفلك فلا تن عن الاسترشاد به والركون إلى نصائحه. وإذا أمكنك الحضور إلى محاضرات التربية والجلوس إلى مذكرات التمريض ودروس الإسعافات الوقتية وما إليها من الدروس التي تلقى على الجماهير لتدريبهم على مستلزمات الصحة فافعل ولا تتأخر وادخر لك إذا استطعت كتاباً أو دليلاً من الكتب الطبية التي وضعت لإرشاد الآباء خاصة.
وبد فإنه لا يتسع المقام هنا للاستطراد في ذكر وجوه عديدة من شرائط العناية بالصحة ولا استيعاب هذا الباب برمته. ولكن إذا كنت قد أدركت روح هذه التعاليم التي بسطناها لك فقد سهل عليك أن تجد لنفسك ما يلزم للطفل من العناية البدنية وما يجب وما يصلح. واعلم أننا نريد في جميع أجزاء هذا الكتاب الذي توفرنا فيه على حشد مبادئ التربية الحديثة أن نفهم الناس أن الوالد الذي يهمل أمر الصحة أو يغفل أمر الخلق إنما يهمل بذلك الصحة والخلق معاً.
الأدوار الأربعة للحياة
الآن وقد بسطنا لك المبادئ الأولية في التربية فنحن مستطردون إلى الطرائق الواجبة لها. ومن هنا يصح لنا أن نقسم التربية إلى أربعة أدوار - فالدور الأول - من وقت الميلاد إلى سن الثانية ومنتصف الثالثة. - والدور الثاني - في هذه السن الأخيرة إلى السابعة - والدور الثالث - من السابعة إلى الربيع الواحد والعشرين أو حواليه والدور الأخير من ثمت إلى السنين التالية.(52/41)
ففي الدور الأول - إذ يكون الطفل عاجزاً عن الإدراك - لا سبيل عليه لا من ناحية تكوين العادات المحمودة. وأما الدور الثاني إذ يكون قد أصاب قسطاً من الإدراك يكفل له فهم أوامرك. فلا سلطان لك عليه إلا من ناحية الطاعة. وفي الدور الثالث حيث يكون الصبي قد تهذبت قواه العقلية وعرف ضبط نفسه ليكن رائدك الحث ومقصدك الأول الحض والترغيب وإن كانت الإرادة الشخصية هي الباعث الأكبر على الصلاح في هذا الدور الثالث.
والذي قصدنا إليه من وضع هذا الكتاب لا يتعدى بسط المبادئ الرشيدة الواجبة للأدوار الثلاثة الأولى وأما الدور الأخير فلا سلطان لنا عليه.(52/42)
باب الزراعة
زراعة القطن
الفلاحة المصرية عبارة عن معارف وقواعد توصل إليها الفلاحون بمشاهداتهم واختباراتهم المتوالية والمتداولة بينهم خلفاً على سلف وحتى الآن لم يدون منها إلا قليل من كثير وإذاً فلا مندوحة لطلابها من الرجوع إلى عرف أهلها وهو يختلف باختلاف بيآت الأرض ومراتبها ووسائل فلاحتها وإذا كانت معرفة هذا العرف الزراعي صعبة لما تقتضيه من المثابرة في البحث والاستقصاء وقوة الإدراك في تخليصه مما يغشاه أحياناً من الإبهام والأوهام فإن تطبيق قواعده في استغلال الأرض وتكييفها حسبما تستدعيه الظروف أصعب لما يقتضيه من حسن التمييز ودقة الملاحظة وقوة الفطنة في إرجاع المسببات في أسبابها الحقيقية وذلك لا يتم إلا بالمرانة والتدريب الطويلين وبعد فإني سأتي فيما يلي على مشاهدات لبعض مهرة الزراع في تحريهم إجراء تلك القواعد مجرى العمل الصحيح.
في زراع القطن الرجيع
كل نبات يفرز بجذوره مادة يفيده إفرازها ولكنها إذا ظلت في التربة وتلاه زرع من صنفه أضرت بهذا الزرع التالي وهذا من دواعي رداءة القطن الرجيع (القطن بعد القطن) ولملافاة ذلك يجب تطهير التربة من تلك المادة السامة حتى يقل أو ينعدم تأثيرها، ويتم هذا التطهير بغسل الأرض وترويحها وإحرارها، وللوصول إلى ذلك يزال أثر الزراعة السابقة من الأرض فيقلع حطب القطن قلعاً وتدمس الأرض قبل الحرث مرة وقبل الزرع مرة أخرى سواء كانت أثناء الحرث أو بعد التخطيط وتهويتها وتشميسها سيما أثناء الحرث مدة كافية وبعد زراعتها تظل بدون محاياة إلى أن يقوى نبتها ويخف لأن تبكير محاياة القطن الرجيع تسبب تسقيطه وبدون استيفاء الإجراءات الآنفة الذكر يضعف نمو النبات للغاية.
شاهدت هذا العام غيطاً من غيطان القطن يراد زراعته رجعياً وكانت إزالة الحطب منه تقطيعاً لا تقليعاً (وهذا من دواعي الرادءة لأن أثر الجذر السابق يعاكس نمو الجذر اللاحق ولذلك اضطررنا لجمعها من الأرض بكلفة كان يمكن اقتصادها لو روعي ذلك من قبل) ثم دمست الأرض واستجعل فلاحها فحرثها وهي طرية نوعاً ما وذلك يستدعي ضعف نباتها أول نشأته سيما إذا لم تسمد سماداً كافياً وبعد أن تم حرث الأرض وتخطيطها ومسحها(52/43)
جرى البحث في هل الأوفق دمسها قبل الزراعة أو زراعتها بدون دمس.
في حالة إذا ما دمست الأرض خشي زراعها من تأخير الزراعة عن أول الوقت البدري وهو من المتشبثين بالزراعة البدرية كل التشبث - وخشي أيضاً من أن الدمس بعد أن حرثت طرية يزيد في تبريدها وهذا هو الأهم.
وفي حالة عدم الدمس - يخشى من تأثير الإفرازات السامة من أثر القطن السابق فضلاً عن أن الأرض الغير مدموسة أي المزروعة على الناشف تشقق عاجلاً وذلك من دواعي طلبها المحاياة واللازم في الأرض الرجيع تأخير محاياتها إلى ما بعد الخف وإلا يحصل تسقيط النبات كما سبقت الإشارة.
وقيل في علاج ذلك أنه مع الزراعة على الناشف فلاجل عدم طلبها المحاياة إلا بعد مدة كافية - يمكن احد أمرين.
1 - إما إعادة نزول المياه ثانياً عقب الزراعة ببضعة أيام وقبل ظهور النبات وبذلك يمتنع التشقيق وتطول مدة احتمال الأرض بعد ذلك لمنع الري ولكن خشي مع ذلك أمرين أ - إن مولاة الري تزيد برودة الأرض كما سبق الإشارة ب - إن بعض أجزاء هذه الأرض محشة أي بها حشائش بكثرة يخشى من تكاثرها على نبات القطن فتخنقه.
2 - أما التكبير بعزقها أول عزقة (نكش) نكشاً خفيفاً لسد الشقوق وحفظ ثرى التربة ثم إعادة العزق بعد مدة أخرى.
قد يفيد ذلك في تأخير حاجة الأرض للمحاياة ولكن يبقى أثر المادة السامة مضعفاً للنبات ولذلك ترجح دمس الأرض وإن تأخرت الزراعة من أول الوقت البدري إلى أول الوقت المتوسط فلا بأس فإن ذلك خير من اختصار إجراءات الفلاحة فإن إعطاء الأرض حقها من الخدمة أولى بالاعتبار.
ترجح الدمس ولكن صادف ذلك حبس المياه لخلل طرأ على إحدى برايخ الري وكا تصليحه منوطاً بمصلحة الري وخيف من طول مدة الحبس فرؤي حينئذٍ أنه إذا ترائ أن ذلك سيؤخر الزراعة كثيراً فيفضل عدم الدمس وقيل أن ترك الأرض (من منع المياه بهذا الحبس) عرضة لتأثيرات الجو مفيد في تطهيرها وإذن يترجح بعد ذلك الزراعة بدون دمس.(52/44)
ولو كان أمكن دمس الأرض حال ورود المياه عقي الجفاف مباشرة وكانت لأرض مع ذلك لم تحرث ندية نداوة ظاهرة لما كان حصل هناك تردد في دمسها البتة. ومن العوامل التي ينظر إليها في ترجيح الدمس أن البذرة المعدة لزراعة هذه الأرض منتقاة من أجود عينة يعز الحصول على مثلها فيما إذا حصل تسقيط التبات وأريد الترقيع زيادة عن المعتاد.
وتقرر مع الدمس أنه لا تزرع الأرض غلا بعد أن تنشف وتستحصف جيداً والنايدة الزرع تكون تكون أشفافاً أي خفيفة جداً وأنه إذا اقتضى الحال تساعد التربة بالتسميد تكبيشاً أثر الخف مباشرة وكانت أرض هذا الغيط كحلاء. متوسطة الخصب إلا أن المادة العضوية (السماد البلدي) فيها قليلة عما يجب وكان ذلك من دواعي زيادة الحذر من برودة الأرض بسبب حرثها طرية وإعادة دمسها مع ذلك.
وفي غيط آخر زرع رجعياً أجريت الإجراءات الآتية في خدمته: أزيل حطب القطن السابق تقليعاً ثم حرثت الأرض ولوطت ثم حرثت أول حرثة ودمست ثم سمدت وحرثت ثانية وخططت فجاء محصولها جيداً لم يقل عن القطن المبكر إلا نحو 20 في المائة وقد كانت الأرض سواء متوسطة الخصب ليست غنية بالمواد العضوية غناء تاماً.
وفي الغيطين الآنفي الذكر لم تزرع الأرض برسيم تحريش وهذا (أي عدم زراعة البرسيم التحريش في الأرض المراد زرعها قطناً رجعياً) هو المختار في الأرض الجنوبية وما يصاقبها اما في البراري حيث الأرض غير نقية من الملوحة وغير قوية الخصب فإنه يكون الأوفق في كثير من الأحوال زراعتها برسيم تحريش ثم حرثها بدرياً ودمسها في الخطوط - والري الذي تستدعيه زراعة البرسيم والدمس بعد ذلك كافيان في تطهيرها ولا خفاء إن مثل هذه الأرض لا تحتاج للتشميس مدة طويلة خلافاً للأرض الجنوبية فإنه كلما طالت مدة تشميسها كان ذلك أحسن لها.
أحمد الألفي(52/45)
متفرقات
أسعد البلدان
في كندا بلد اسمه (مِدِسن هات) هو بلا شك أسعد بلاد العالم، وذلك لأن في جوف الأرض تحت هذا البلد خزاناً هائلاً ومعيناً لا ينضب من غاز الاستصباح وهو ليس بزيت البترول كما قد يتوهم البعض، بل هو الغاز (يشبه الهواء) الذي تضاء به الشوارع وكثير من الحوانيت عندنا. فتجد القوم هنالك ينيرون منازلهم منه ويستعملونه في تشغيل آلات المصانع التي سرعان ما أنشأوها بعد اكتشاف ذلك الكنز العظيم.
ومصابيح الشوارع لا تطفأ قد في مدرسن هات هذه. لأن أولياء الأمر هناك يرون أن من العبث وخرق الرأي والإسراف أن يدفعوا أجوراً خاصة لإشعال وإطفاء المصابيح مع أنها لا تكلفهم شيئاً.
وليس هناك من يخطر على باله أن يستعمل الفحم، فالكل يستعملون الغاز في الإضاءة والطهي وجميع ما يلزم لهم. وإذا ما زار هذا البلد زائر عظيم ذو حيثية. أكرموه بما لا يمكن أن يحظى به في أي بقعة أخرى من بقاع الأرض وذلك بأن يأمر أولياء الأمر بأن يكشف بئر من الآبار - وما أكثرها - ثم يشعلونها، فيرتقع لهيبها إلا ارتفاع شاهق ويسطع ضوؤها في اميال عديدة. فيا لها من نعمة قد خصَّ الله بها أولئك القوم!!
* * *
كثيراً ما يبحث المرء عن سعادته كما يبحث عن نظارته. حين تكون معلقة على أنفه.
جوستاف دروز
الرجل الذي لا يرضيه القليل لا يرضيه شيء.(52/46)
العدد 53 - بتاريخ: 1 - 3 - 1920(/)
اعترافات الفرددي موسيه
الفصل الخامس
في اليوم التالي ذهبت إلى غابة بولونيا قبل الغذاء. وكان الجو مغيماً. فلما بلغت بوابة مايوت أرخيت عنان جوادي ملقياً حبله على غارية يذهب أين يشاء وأرخيت كذلك عنان فكري أستعيد في ذاكرتي ما قاله لي ديزينيه.
فبين أنا كذلك إذ سمعت صوتاً ينادي باسمي فالتفت ورائي فابصرت في عربة مكشوفة إحدى صويحبات حبيبتي. فاستوقفتني وأومأت إلي بيدها إيماءة الصديق الودود ودعتني للتوجه معها في عربتها لمنازعتها الغداء إذا شئت.
وكانت هذه المرأة (واسمها مدام ليفازير) صغيرة الجرم بضة مكتزة شقراء وكان بي أبداً نفرة عنها وتبرم بها لا أدري لماذا لم يكن بيني وبينها ما يدعو إلى ذاك، وكانت علاقتي بها ما برحت ودية. ولكنها حينما دعتني لم أجد بداً من قبول دعوتها، لعلمي أن حديثي معها سيدور على حبيبتي. لذلك ضغطت على يدها أثناء المصافحة وشكرت لها حسن صنيعها بي.
فناطت حراسة جوادي إلى واحد من خدمها وأجلستني بالعربة إلى جانبها وانطلت بنا العربة عائدة إلى باريز. وهنا أصابتنا السماء برذاذ فأغلقنا العربة وسددنا نوافذها ولبثنا صامتين برهة فنظرت إليها نظر الحزين الكمد وكنت أرى فيها صديقة حبيبتي الغادرة وحميمتها وكاتمة أسرارها. وقد كانت في أيام تصافينا وتآلفنا في عهد الوصال الطيب الحلو تجلس معنا في خلوتنا فاستثقل حضرتها وأتمنى انصرافها وأعد عليها مقامها بيننا في الدقيقة والثانية! ولعل هذا كان سبب تبرمي بها واستيائي منها. وكنت أعلم أنها كانت تشفع لي عند حبيبتي وتدافع عني وتصون غيبتي فكنت خليقاً أن أغفر لها دخولها بيننا لحسن نتيتها وإرادتها الخير لي.
ولكني كنت أجدها بالرغم من محاسن صنائعها عندي قبيحة مملولة وبغيضة ممجوجة. كذلك كان رأيي فيها أيام الوصال الهنية. أما الآن فقد بدت لي مليحة حسناء فو أسفاً!
فجعلت أتأمل يديها وثيابها. وجعلت كل حركة وإشارة منها تخلص إلي أعماق قلبي وما ذاك إلا لأن عهد الماضي كان في هذه الأعماق حياً جديداً يعيش ويجيش كما كان أبان(53/1)
حدوثه وفطنت المرأة إلى حقيقة أمري وكنه حالي واطلعت على خبايا ضميري وقرأت صفحة الماضي في مطاوي سريرتي فعرفت ما كان يلقح جوانحي وينضج كبدي من تلك الذكريات الأليمة والهواجس القديمة. وعلى هذه الحال انقضت العودة - أنظر إليها وتبتسم إلي. فلما بلغنا باريز قبضت على يدي وقال (واها. وها) فأجبتها والعبرة تختفي (خبريها إذا شئت) ثم فاضت دموعي.
ولما فرغنا من الغداء وجلسنا إلى النار قالتأوقد نفذ السهم وقضى الأمر؟ أو ليس لما فات من رجعة؟ أم لارد لذلك القضاء ولا دافع. أفلا سبيل ولا حيلة؟
فأجبتها واحزناً وواأسفاً! يا سيدتي اعلم أن الحزن لا شك قاتلي. وإن أمري لينحصر في هذه الكلمة وهي: لا أستطيع أن أحبها وليس في وسعي أن أحب سواها ولا طاقة لي أن أبقى بلا حب. فهزت رأسها عند سماع كلمتي هذه وتبينت في وجهها أثر الرحمة والرثاء ولبثت برهة طويلة تفكر وترجع كرة الذهن في ماضي حياتها كالتي تبحث عن صدى في أعماق قلبها. وقد أسدلت من أهدابها حجاباً على عينيها واستغرقت في لجة من الذكرى. ثم مدت إلي يدها فدنوت منها وقالت وأنا أيضاً قد جربت كل ذلك ثم خنقتها العبرة فسكتت.
لعاطفة الحب لدات وأتراب فمن أجمل لداتها وأملح أترابها عاطفة الرحمة.
أمسكت بيد مدام ليفازير وكدت أضمها بين ذراعي وأخذت تسرد على مسمعي كل ما استطاعت أن تذكره من محاسن حبيبتي شفاعة لها عندي. وجعلت تقول في سبيل الاعتذار عنها بمقدار ما تقول في سبيل الرثاء لي والترحم علي فاشتد حزني وشجني. فماذا أقول؟ هذا وأن مدام ليفازير شرعت تتكلم عن نفسها.
فما قالت لي في هذا الصدد أنه كان لها عشيق فهجرها. وأنها ضجت من أجله ضحايا عظيمة فخاطرت بثروتها وشرفها معاً واستجلبت وعيد زوجها وتهديده وكانت قصتها ممزوجة بدموعها فأنستني أحزانها أحزاني. وأذهلتني بأشجانها عن أشجاني. وقالت لي إن تزويجها من زوجها هذا كان على خلاف رغبتها وبعد جهاد طويل وكفاح عنيف. على أنها إن أصبحت اليوم حزينة فما ذاك إلا لأنها أصبحت لا تجد من يحبها ويهواها. وآنست منها أنها كانت تنقم من نفسها عجزها عن استبقاء ذلك الحبيب واحتجاز قلبه لديها حتى أوجدت له سبيلاً إلى تركها والتخلي عنها وتعزو الذنب في ذلك إلى نفسها بتنكبها سبيل الحفاظ(53/2)
وعدو لها عن سنة الوفاء بالعهد.
وبعد تهدئة روعها شيئاً قلت لها (كلا يا سيدتي ما أظن التقائي بك اليوم كان عن طريق الصدفة. ولكنه كان مدبراً بحكم العناية الإلهية التي لا تزال تجمع بين المحزونين المنكوبين - أهداف النحس وأغراض البؤس وتضم بين الأكف المرفوعة إلى الله! فلا تندمي على ما كان من دعوتك إياي وحديثك لي وليس على أمريء يصغي إلى حديثك من بأس ولا عار عليه إن جرت على شكواك دموعه. وضاقت الزفرات المتصاعدة ضلوعه. فاعلمي أن السر الذي أفضيت به إلي إنما هو دمعة تحدرت من جفونك فسقطت على فؤادي وستبقى أبداً هنالك واسمحي لي يا سيدتي بزيارتك كرة أخرى لأشاطرك همومك وأقاسمك أحزانك.
وبلغ من شدة عطفي عليها ورثائي لها أن خرجت من سجيتي وشيمتي وعانقتها بلا تبصر ولا روية. ولم يجل بخاطري أن ذلك يسوؤها والواقع أنها لم تكترث له قط ولا رأته إلا أمراً اعتيادياً محضاً.
وكان السكوت قد ضرب أطنابه في المنزل الذي كانت تقطن فيه مدام ليفازير وقد فرش فناؤه بالقش لمرض كان أصاب أحد سكانه حتى لا يحدث مرور المركبات والبهائم ضوضاء فتزعج ذلك المريض وتهيج أعصابه. وكنت ملتصقاً بها أضم عليها ذراعي وقد أسلمت قلبي إلى أمتع العواطف النفسانية - أعني عاطفة الحزن المشترك واللوعة الموزعة.
وتماد بنا الحديث بلهجة أخوان الصفاء وأخدان الإخاء. فتشاكينا آلامنا وأوجاعنا وأحسست بين ملتقى هذا الحزنين المتلاطمين كأنما هب على قلبي نسيم لين من ملكوت الرحمة يأسو جراحي وينفي أتراحي وكأنما قد هتف بي صوت رخيم من عالم الخلد كموسيقى السموات ونغمة الملائكة قد تألف من أنات النفس الإنسانية وحنات الروح البشرية يسكن لوعتي ويطفئ حرقتي. ولكني في أثناء هذا العناق والبكاء لم أكن أبصر من جسم هذه المرأة سوى وجهها. فلما نهضت من جانبها وذهبت عني خطوات ظهر لي أنها تعمدت في أثناء انحنائي عليها وتحدبي فوقها أن ترفع رجلها على صفة الموقد رفعاً أدى إلى إسقاط أزارها حتى انكشفت ساقها وتعرت.
وأعجب من هذا أنها بالرغم مما شاهدت علي من أثر الارتباك والخجل والحيرة عندما(53/3)
أبصرت ساقها عارية - لم تحرك ساكناً ولم تحاول ستر عورتها فتنحيت جانباً وزويت نظري عن هذا المنظر الأليم ريثما تستر نفسها ولكنها لم تفعل فعدت إلى صفة الموقد فارتفعت عليها وجعلت أنظر إلى تلك العورة نظرة المشمئز المتأفف وأخيراً وقعت عيني على عينها فأدركت من ألحاظها أنها قد عرفت كل ما وقع وجرى وأنها أتته عامدة قاصدة. فدهشت وبهت وأصابني كالصاعقة، إذ علمت أن كل ما أتته المرأة من بثها الشكوى إلي واستدارز رأفتي ورحمتي لم يكن إلا تصنعاً أرادت به غشي وخديعتي وقصدت به إلى استدراجي واستهوائي وإيقاعي في حبائل كيدها. فلما تجلت لي الحقيقة غراء واضحة تناولت قبعتي دون أن أنبس بكلمة واحدة وإذ ذاك أصلحت هي هيئتها وسترت ساقها، وخرجت من الغرفة بأسرع ما في طاقتي.
ولما بلغت منزلي ألفيت وسط حجرتي صندوقاً كبيراً من الخشب. وذلك أن إحدى خالاتي توفيت وأورثتني شيئاً زهيداً من متاعها. وكان بين محتويات هذا الصندوق بضعة كتب تربة. فعولت على قراءة جانب من هذه الكتب إذ كنت في فراغ من الوقت وقد نال مني الضجر وكان معظم تلك الأسفار قصصاً مما ألف في عهد الملك لويز الخامس عشر. وكانت خالتي لما أوتيت من الورع والتقى ترفعت عن قراءة تلك القصص إذ كانت تلاوة أمثالها ضرباً من الفجور والمنكر.
وليعلم القارئ أن من دأبي وديدني أني أطيل التأمل في كل ما يقع لي من الحوادث مما دق وحقر ثم أعزو حدوثها إلى سبب قوي وحكمة بليغة من الأقدار التي أعتقد أنها تسير في كل ما تخصني به من الأحداث على نظام وتدبير - لذلك تراني إذا جلست أتذكر ما مر بي من الحوادث ضممت بعضها إلى بعض في نساق منضود كأنها فرائد العقد النظيم - يربطها سلك واحد من المناسبة والملاءمة قد أبرمته يد العناية والتدبير الإلهي.
ليعجب القارئ ما شاء فما عجبه بما نعي أن أقول أن ورود هذه الكتب وقع مني في تلك الظروف التي وصفتها أجل موقع وأعظمه. فأسرعت فيها التهاما لمشمولاتها أسراع النار في اليراع وانتهبتها انتهاباً وأنا أثناء ذلك بحال جمعت بين لوعة الكمد ولذعة اليأس. وقلت لهذه الكتب مناجياً ألا فحياك الله وأبقاك على مدى الأزمان فإنما أنت على هدى وسواك على ضلال. فمن ثناياك يفيض نور اليقين. وبين سطورك يشرق البرهان المبين. وفي كل(53/4)
لفظ فيك لسان صادق. وكل حرف من حروفك مقول بالحق ناطق. وأنت وحدك تعرفين أسرار الحياة وسرائر الإنسان. وأنت وحدك تجرؤين أن تصرحي بأنه لا حقيقة في الوجود إلا الدعارة والمنكر والنفاق والبهتان. فكوني أصدقائي وشيعتي ورفاقي وانفثي سمومك الكاوية على ما بقلبي من الجراح، وعلميني أن أتلقى عنك الصدق المبين والحق الصراح.
ثم التفت إلى مكتبتي وما قد احتوته من دواوين الشعر والمباحث الفلسفية فخاطبتها قائلاً: وأنت يا عصبة المجانين والمتهوسين والمتعلقين بأذيال الخزعبلات والترهات والخرافة، السادرين في الغواية. والغرور والعماية. الغرقى في الأحلام. والأوهام. والأباطيل. والأضاليل - أيتها الفئة المفتونة التي لا تجني من أوراقها سوى الغصص والكروب. والمحن والخطوب. والرزايا والبلايا. لئن كنت تعرفين الحقيقة ولكنك تغريننا وتخدعيننا فلأنت الأفاكة والمزورة والغشاشة والدجالة. ولئن كنت تعتقدين بصحة ما تنطقين به من الهذر والهذيان فلأنت السخيفة الحمقاء. والغريرة البلهاء. ففي كلتا الحالتين لا تخلين من الكذب والبهتان، تعبثين بألباب الرجال وبأحلامهم تلعبين وتتخذين من الشيب والشباب أطفالاً بهم تهزئين ومن سذاجتهم تضحكين، تجمعينهم حولك كما تجمع العجوز أطفال البيت حولها في ليلة الشتاء فتدهشهم بعجيب الأقاصيص وتروعهم براويات العفاريت والجان. ثم تسرهم بحيث عصا موسى وخاتم سليمان. تالله لأحرقنك جميعاً!
وفي أثناء هذه المناجاة أسعفتني الشؤون بديمة من الدمع مدرار وأدركت أن حزني العميق هو كل ما أدركت من حقائق هذا الوجود فصحت في هذيان هذه النوبة الأليمة مخاطباً الكتب خبريني أيتها الملائكة أو الشياطين. خبريني أيتها الكهنة العرافة والزجرة العيافة. المشيرة بالخير أو بالشر، المتفائلة بالسعد أو المتشائمة بالنحس - خبريني كيف أسير وماذ أصنع وأي منهج أسلك؟ كوني حكماً بيني وبينها قاضياً!.
ثم إني تناولت من بين تلكم الأسفار كتاب التوراة وفتحته عفواً وأنا أقول: أجيبيني يا كلمة الله أبدي لي طرفاً من رأيك. ثم نظرت في الكتاب حيث فتحته فإذا فيه:
لقد تأملت في أعماق نفسي فعرفت هذه الحقيقة وهي أن الله وحده عليم بذات الصدور ليس غيره يعلم شأن الصالح التقي والأريب اللبيب وما يصنعان وما كسبت أيديهما. وليس امرؤ ما يستطيع أن يستدل بكل ما لديه من شواهد الأحوال على ما تكنه صدور الغير من حب(53/5)
وبغض.
إن الدهر ليسوي في معاملاته بين شتى أصناف البشر - بين الصالح والطالح والبر والفاجر. والوفي والغادر. والكريم واللئيم والبريء والأثيم.
إن من أسوأ البلايا. وشر الرزايا. أن نرى الدهر يصيب الناس طرا بسيئته ومحنته عل حد سواء. هذا وأن السيئة والآفة والشر عريقة في الإنسان متأصلة في نفسه. فالناس قلوبهم مفعمة بالجنون ما عاشوا وهم إذا ماتوا لحقوا بسكان القبور.
فلما تلوت في التوراة هذه الآيات استولى علي العجب والدهشة ولبثت حائراً مبهوتاً. ولم أك أحسب أن التوراة يكون فيه مثل هذا المعنى فصحت قائلاً مخاطباً الكتاب المقدس: وأنت أيضاً قد خامرتك الريب يا كتاب الأمل ويا سفر الرجاء!.
ماذا يظن الفلكيون حينما يحسبون مدار الكوكب ومجرى الرجوم ومواقيتها؟ ماذا يظن الطبيعيون حينما يرونك بالمجهر آلاف الحيوانات الدقيقة في قطرة من الماء؟ أيظن هؤلاء أنهم قد اخترعوا ما قد يرون وأن إسطرلابهم ومجهرهم هما اللذان يسنان قوانين الطبيعة ويضعان نواميس الوجود؟ وماذا كان ظن أول المشرعين حينما جعل يبحث عن الحجر الأساسي في البناء الاجتماعي فعارضه معارض فهاج غضبه فضرب الموائد النحاسية بكفه فأحس عند ذلك بقوة قانون الجزاء والمكافأة في أجزاء كيانه وأحس بصوت هذا القانون يصيح في أعماق نفسه؟ أفظن ذلك المشرع أنه هو الذي ابتدع العدل وأحدثه؟ وهل ذلك الذي كان أول سارق لثمرة غرس جاره ظن أنه هو أول من اخترع الإثم وابتدع العار؟ وهل كان صاحب ذلك الغرس حينما غفر لهذا السارق وبدلاً من ضربه إياه ترفق به وتعطف عليه وقال له: لا بأس عليك ولا حرج هنيئاً لك ما أخذت بارك الله لك فيه هلم إلي أزدك وأضاعف لك العطية وكذلك جزاه على الإساءة إحسانا. وأولاه على الإيذاء والإضرار براً وحناناً - هل ظن إذ ذاك أنه هو اخترع الحلم والعفو والمروءة. وإنه ابتدع المكرمة والفضيلة؟ رحماك اللهم يا إله الأرض والسماء! هاك امرأة تلهج بذكر الحب والصبابة ثم تغرو تندر وتنكث العهد وتنقض الميثاق، وهاك رجلاً يلهج بذكر الصداقة والإخاء ثم ينصح لي أن أبتغي أسباب العزاء والسلوان في الفسق والدعارة والسكر والعربدة وهناك امرأة تبكي لي رثاء ورحمة ثم تحاول أن تعزيني عن مصائبي بفتنة ساقها(53/6)
الملساء. وهاك توراة تلهج بذكر الله ثم تجيبني بألفاظ الشك والتهمة وسوء الظن.
وهنا أسرعت إلى نافذتي المفتوحة فنظرت منها في أعماق السموات ثم صحت قائلاً: أحقاً أيتها السموات أنت خالية فارغة؟ أجيبي أجيبي! هلا قبل موتي أريتني أن هذا الوجود شيئاً خلاف الأوهام والأحلام؟.
كان السكون العميق يغشي أنحاء ذلك الميدان الفسيح. وبينا أنا شاخص البصر في أعماق الجو ممدود الذراعين طرق أذني صوت حمامة ترجع الهتاف والهديل. فاتبعتها عيني وإنها لتحلق في السماء حتى إذا غابت عن بصري في زرفة السموات مرت من تحت نافذتي صبية تغني.
لم أحبب أن أذعن واستكين. ولكني رأيت أنه قبل استعراض الجانب المشرق في الحياة - هذا واقد ظهر لي لآن مظلماً مربداً كريهاً - يجب علي أن أجرب كل شيء وأحاول كل أمر. لذلك بقيت مدة طويلة ضحية للأحزان والآلام فريسة لمزعجات الرؤى والأحلام.
ولعل الشباب قد كان السبب الأكبر في عدم استفاقتي وامتناع صلاحي وتعذر شفائي فأينما كنت وكيفما كنت لم يكن يشغل بالي شيء سوى النساء فكلما وقعت عيني على امرأة عرتني هزة ورعشة. وكم مرة اتنبهت من رقدتي أثناء الليل أتصبب عرقاً فوضعت فمي على جدار الغرفة وأنا أشعر أني أكاد أختنق!
لقد قضيت ريعان شبابي وريق صباي في الحب الطاهر والهوى العذري فأصبحت كل معاني اللذة عندي مقرونة بذلك الحب منحصرة فيه ولكني علمت أن مثل هذا الحب لم يكن إلا ضرباً من المحال وشيئاً لا يكون في هذه الحياة. فأصبحت مصيبتي وبلائي أني كنت أبداً أفكر في النساء وأبداً أقرن بخيالاتهن في مصورتي معاني الدعارة والفسق والفجور والحب الكاذب وغدر النساء وخياناتهن وكيدهن. وكان اتصالي بأي امرأة هو في مذهبي حبها الحب الطاهر. فأصبحت الآن لا أفكر إلا في النساء ولا أعتقد بوجود الحب الطاهر.
فأورثني هذا الشعور ثورة نفسانية وهياجاً ونوعاً من الخبل والجنون. فجعلت أحياناً أقترح على نفسي أن أفعل كما يفعل الرهبان - أعني أن أفصد نفسي لأخمد ثوران الحواس. وأحياناً أفكر في الخروج إلى الشارع أو إلى الريف أو إلى أي مكان آخر فأرتمي تحت قدمي أول امرأة أصادفها وأعطيها عهد الله أن أمحضها الحب الصريح أبد الدهر وأكون لها(53/7)
على الدوام العبد الخاضع المطيع.
والله وحده شهيد إني لم آل جهداً ولم أدخر وسعاً في سبيل الاستفاقة من هذه الغمرة الكاربة والاستسفاء من هذا الداء الأليم. ففي أول الأمر وقد قام بعقيدتي أن مجتمع الرجال هو بيئة الفسق وبؤرة الفساد ومواطن الغدر والخيانة وإن الرجال كلهم فجرة خونة فشأنهم شأن حبيبتي - اعتزمت اعتزالهم جميعاً والركون إلى الوحدة والانفراد ثم عاودت الاشتغال بالدرس والقراءة فأقبلت على كتب التاريخ ودواوين الشعر القديم ومباحث علم التشريح. وكان في الدور الرابع من الدار رجل ألماني عالم تحرير قد اعتزل الناس وآثر الوحدة. فما زالت به حتى وعدني أن يعلمني لغته. ثم أخذ في إنجاز وعده بجد ولكن ساءه مني عزوب عقلي وشرود ذهني. وكم من مرة جعل ينظر إلي حائراً دهشاً ضاماً يديه فوق كتابه وأنا غارق في غمار أحلامي لا أعي ما يقول بل لا أسمعه ولا أراه ولا أبصر فرط أسفه علي ورثائه لحالي! وأخيراً قلت له جعلت فداك أيها السيد الكريم. إلا أنه لا مراء في الحق. لا شك أن فائدة من محاولتك تعليمي ولا ثمرة. على انك وايم الله أكرم من رأيت وأفضل الناس طرا، عبثاً تحاول إصلاحي وإنه وأبيك لأمر تعجز عنه قوى السموات والأرض. فدعني وشأني وما قد كتب لي وجرى علي. وإني وإياك لعلى حد قول القائل:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد أن هما شفيالي
فقالا شفاك الله والله مالنا ... بما حملت منك الضلوع يدان
لا أدري أفهم الرجل مني الرجل هذا الكلام الملغز وهذه الرموز والإشارات ولكنه ضغط على يدي دون أن يفوه بكلمة - وبذلك أغلق باب الألمسانية إلى الأبد.
ثم رأيت أن العزلة بدلاً من إصلاح حالي قد زادتها فساداً فعدلت عن هذا المذهب. فمضيت إلى الريف وانهمكت في الصيد وأخذت في شتى ضروب من الألعاب الرياضية فكنت إذا قضيت النهار الطويل بالعدو والركض والضرب والطعن والكد والكدح ثم انقلبت إلى الدار بعد الغروب متعباً منهوكاً يتفضخ العرق من جبيني وتفوح مني رائحة البارود والاصطبل لا أكاد أتماسك ولا أقوى على حمل بدني فتهافت على فراشي وأغمضت أجفاني التمس النوم وأستدرج شبحه الشارد امتنع مني ولج في نفوره ومثل أمامي طيف تلك الحبيبة فصحت قائلاً أناجي ذلك الشبح المائل: أيها الخيال أيها الخيال. ألا تزال تطاردني(53/8)
وتقفوني؟ حسبك الله أما تسأم؟ أما تمل ألا تعفيني ليلة؟ ألا تعفيني ساعة؟
فخبرني بالله أي فائدة جنيت من هذه المجهودات والمحاولات؟ إلا أن العزلة لم تصنع أكثر من انها أرجعتني إلى الطبيعة وألقت بي في أحضانها. والطبيعة أرجعتني إلى الحب وأقلت بي في أحضانه.
فعندما دخلت المشرحة بذلك المستشفى (في شارع الأوبزفانس) فألفيتني محوطاً بالخبث أمسح يدي الملطخة بالدماء في أطراف منديلي أصفر الوجه بين الموتى وأكاد أختنق بروائح البلى المعفنة المنتنة أصابني من ذلك أعظم الكرب وضاق صدري فزويت وجهي عن هذه المشاهد الأليمة والتفت خلفي فإذا المروج الخضراء والحدائق الزهراء. والخمائل الغناء وجمال شمس المغيب في جلال سكينة الغروب فناجيت نفسي قائلاً:
كلا! كلا. لن يكون في معاهد العلم عزائي! فما بي والله غير جمرة الشباب وجزوة الصبا من داء. وداء الشباب لا علاج له ولا دواء. فدعني أحيا حيث لجة الحياة زاخرة وريح الحياة ثائرة. وإن كان الموت فدعني أمت في الضياء وتحت سرادق السماء.
ثم تركت ذلك المعهد على جواد عتيق فطويت بساط الثرى حتى انتهيت إلى روض عشيب مزهر في واد عازب مهجور. فيا ويلتا لكان هذه الأودية والرياض كانت كلها تصيح إلي قائلة:
ماذا تبغي وماذا تريد؟ نحن في نضرة وأزهار. وفي بهجة واخضرار. نحن نلبس لون الأمل.
فعدت أدراجي إلى المدينة فأضللت نفسي في طرقاتها الغامضة. وجعلت أنظر إلى الأنوار المشرقة من نوافذ أعشاش الأسرات الخفية المجهولة وأرمق السابلة والمركبات السائرة. يالله أي وحدة وعزلة في هذا الجموع المحتشدة والفئات المزدحمة! وأي دخان كثيف السواد. كثوب الحداد. فوق المنازل. وأي أحزان وأشجان في هذه السبل الملتوية والطرق المتعطفة - حيث لا تبصر إلا عاملاً مجهوداً. وناصباً مكدوداً. وإلا ازدحاماً. وتدافعاً واصطداما. إن هي (أعني المدينة) إلا بالوعة تلتقي فيها الأجسام لا الأرواح وتجتمع فيها الأبدان فأما النفوس فشاردة الأذهان نادرة نافرة. وما أن تبصر العين فيها إلا فجاراً عاهرين يمدون الأيدي للسابلة! فإن كان للمدينة لسان لكانت نصيحتها لبني الإنسان(53/9)
والمذهب الذي تشير عليهم باتباعه هو: عليكم بالفسق والفجور والدعارة فإنها منفاة الهموم ومسلات المحزون والمغموم! هذه هي موعظة المدن لبني الإنسان وهذا هو إنجيلها ووحيها المنقوش على جدرانها بتراب الفحم وعلى أرضها بالأوحال وعلى وجوه أهلها بالدماء.
وكنت إذا شهدت محافل الرقص في فاخرات القصور فأبصرت الغانيات في الحلل والخمر والزرق والبيض يتوثبن بأقدام خفاف لطاف حاسرات الأذرع والصدور. منشورات الذوائب والشعور. كأنهن الملائكة قد ثملت بخمرة النور في فلك النغم والجمال - قلت في نفسي يا لكن الله أيتها الحسان؟ لأنتن والله بستان أي بستان! فأي رياحين أنتن اليوم مشمة وقطاف! ولكن خيرنني ماذا تقلن للعابث بكن إذ ينتزع آخر ورقة من ورقاتكن. أفلا تقلن له ترفق بنا وتحنن وابق فينا على البقية الباقية! لا بأس عليكن. هذه سنة الوجود - وهذا ختام حياتكن الفرحة المرحة وهذه غاية ضحكاتكن وابتساماتكن إلا فاعرفن أنه فوق أعماق هذه الهاوية السحيقة الهائلة ينتشر نسيجكن الحريري المهلهل المكلل بالأزهار والرياحين ويرفرف! وعلى شفا جرف هذه الهاوية تتوثب أقدامكن الخفاف وتتنزي!.
لقد قال لي مرة صاحبي ديزينيه لماذا تنظر إلى هذه الحياة النظرة الجدية؟ ما هكذا ينظر إلى الحياة غيرك. تقول إن الزجاجات من الخمر تخلو وتفرغ ألا فاعلمن انك واجد بدلاً منها في الكهوف، وإن الكهوف جمة على السواحل ألا فاصنع لي شبكة وزخرفها بخلابة القول وسحر البيان واجعل فيها طعمة من نحلة مجاجة بالعسل وألقها لي في نهر السلوان فصد لي بها مليحة حسناء ذات شماص وملاص يكون فيها عوض مما فاتني من وصل الحسان وفيها عزاء وسلوى. فإن أفلتت مني وأملست فإن الشبكة باقية. تقول لي الحب الحب، لا تزال تلهج بذكره. هلا دريت يا مفتون أن الحب اسم بلا مسمى ولفظ بلا معنى وخيال كاذب ووهم باطل! فكبر ظني أنك ستقتل نفسك حسرة في أطلابه ثم لن تنال شيئاً. هلا علمت أن الشباب دائب في انقضاء والصبا إلى الزوال. مهما امتد به الأمد وطال. فلو حزمت ورشدت لعمدت إلى ملكة البور تغال استبيتها بدلاً من إضاعة الوقت في دراسة التشريح والطب.
فهذه وأمثالها كانت نصائحه إلي وكنت إذا أنفضت تلك الحفلات والمراقص مضيت إلى داري.(53/10)
المرأة والرجل
وأيهما أحظى في الحياة من صاحبه
ذلك بحث طريف. وسؤال دقيق. لا يزال يجري على ألسنة الرجال وتمتضغه أفواه كثير من النساء. ولا يزال كل إنسان أرجلاً كان أم امرأة يضع قبالة عينه أن يظفر بالسعادة. وينعم بأحسن نصيب في الحياة دون غيره. على أن الجنسين اللذين تتكون منهما الإنسانية لا يزالان في نزاع على هذا السؤال. كل يريد أن يخص نفسه بشرف أنه الأقل حظاً. الأشقى نصيباً من الآخر.
وقد عرض هذا السؤال على طائفة من الكتاب والكاتبات الذائعي الذكر فجاءت الأجوبة من نواحيهم جد متباينة وهي غاية في التعارض والتباين وقد آثرنا أن ننشر تلك الفتاوى لقراء البيان.
سئل الروائي الطائر الصيت مسيو دينيه بوليسف العضو في المجمع الأدبي بباريس. وصاحب طائفة من الروايات الخالدة - فقال أتسألونني أي الفريقين أحسن نصيباً في الحياة الإنسانية وأنتم تعلمون أن هذا السؤال قد أصبح محلولاً في هذه الحرب. وإن هذه المجزرة التي أطاحت بالعالم كله أبدت الجواب الصراح عليه. أليس الرجل هو الذي خلق الحرب. والحرب أبداً في الدنيا من عمله وصنع يده. وستكون الحرب أبداً حقاً من حقوقه. فأي عبء عمركم الله ثقيل مثل هذا اضطلعت به المرأة. وأي خطب أشبه بهذا احتملته النساء. لعلكم تقولون أن في الأمومة ومتاعبها الكفاية للمرأة. على أني لا أرى في الأمومة أن اكتنفتها المتاعب من جميع وجوهها ما يؤلم المرأة ويخيفها ويثقل كاهلها. فهي تخرج الطفل إلى الدنيا. ولعل في ذلك شيئاً من الألم. ولكن حبها إياه هو الغاية وفيه العزاء والسلوى. ومهما كان الوالد يحب أطفاله وولدانه فهل كان حبه ليقارن بحب أمهم إياهم. فإذا تقرر ذلك أفليس الحب في الحياة هو السعادة كلها ثم أنتم تعلمون أن حب المرأة أشد من حب الرجل، وفي كثير من الأحايين أسمى منه عنصراً. وأصفى منه باطناً وظاهراً. والخطأ الذي يشترك فيه الناس قاطبة هو ذهابهم إلى أن الرجل أكثر تنعماً بالحب من المرأة إذ كان أكثر منها حرية، وأطلق سراحاً وأوسع حدوداً. إذ يجب أن لا ننسى أن الرجل أكثر خلق الله سوء استعمال لهذا الحب. وكم من رجل بدد حبه وعبث به. وبعثره وذراه مع الريح. أفهل(53/12)
ترون الذي يحب ويبقى على الحب وإن كان ذلك من الألم ما فيه. أسوأ حظاً من الذي يحب فيعبث بالحب: وجملة القول أن المرأة من الوجهتين معاً الحب وراحة البال أحسن حظاً من الرجل.
قد تقولون أن المرأة لا تستطيع أن تحرز المجد وتدرك الشأو البعيد، وإنه إذا كان الناس يستميتون في طلاب المجد واعتلاء متن الغاية القصية من رفعة الشأن أفلا ترى هذا المجد نعمة كبرى انفرد بها الرجل دون المرأة. وأنا لا أنكر أن للرجل فرصاً سوانح أكثر من المرأة في سبيل إحراز المجد. ولكن أليس المجد الذي نكتسبه نعود فتخلعه على النساء. أليس الرجل يكدح لنيل الفخار. فإذا ظفر به ألقى منه على امرأة من نساء الدنيا. وكذلك كان النساء يتنعمن بالعلاء والشهرة على حساب الرجال. وجملة قولي أن رأيي هو أن المرأة خير نصيباً من الرجل في حياتنا هذه.
* * *
فتوى مدام سيمون
اكبر ممثلة أديبة في باريس
وصاحبة الدور الأكبر في رواية النسر الصغير
التي وضعها الروائي أدمون روستان
أول ما عرض السؤال عليها صاحت قائلة: وهل هذا يحتاج إلى سؤال. وهل هناك شك في أن الرجل هو الظافر دون المرأة بأحسن نصيب من الحياة! إني أقول ذلك بلاد أدنى تردد أو حيرة.
حسب الرجل حريته. أليست القهوة أكبر نعمة للرجل، فهو إذا ضاق صدره في المنزل وتألم من صراخ الأطفال واجتوى جو الحجرات. انفلت إلى القهوة فنعم فيها بحريته. والرجل ينعم بالاستقلال لأنه يستطيع أن يفعل ما يشاء ويختار. فهل ثمت يرجح بهذه السعادة ويفضل تلك النعمة. من هذا تعلم أن المرأة يجب أن تكتسب شيئاً فشيئاً كثيراً من الحرية والاستقلال لأجل سعادة البيت وصلاح الأسرة، وإني لأرى أن المنازعات العاطفية القائمة اليوم بين الرجال والنساء ليست إلا منازعات اقتصادية فإذا اشتغلت المرأة وكدحت لاكتساب الرزق وظفرت بحريتها، تغيرت صفة حب الرجل لها. ففي سبيل تحسين نصيب(53/13)
المرأة ينبغي لهن أن يطلبن من العمل والإسهام في الأشغال المطلوبة من الرجال اليوم وحدهم استقلالهن وتحريرهن، ولعل معترضاً يقول إن ذلك قد يراد منه المساواة بين الجنسين. ولكن المرأة في حبها لا بد أن تكون دائماً تابعة للرجل طائعة نازلة على أوامره خاضعة لسلطانه، وكيف بعد هذا يمكن أن تقارن المرأة بالرجل في هذه الحياة. ونحن قد رأينا ما فعل الرجل في هذه الحرب الكبرى مما لا تستطيع المرأة أن تفعل شيئاً منه.
إذن لا ريب في أن الرجال هم الذين يتمتعون في الحياة بنصيب أكبر، ولكم ندمت وتمنيت لو أنني كنت رجلاً. وإذا كانت المرأة تجد في الحب اكبر لذاذتها، فإن للرجل كذلك ألف لذة ولذة.
* * *
فتوى مدام الفونس دوديه
زوجة الكاتب الخالد الفونس دوديه
ماأصعب هذا السؤال وما أعصاه على الحل والشرح: إذ لكل من الرجل والمرأة واجب خاص مختلف عن واجب صاحبه. وإذا كان لكل أثر في تخفيف أعباء رفيقه، وتسهيل احتمال خطوبه، فإن الرجل هو الذي يؤسس العائلة، والمرأة هي التي تدير شؤونها وتعمل على الاقتصاد في أمورها وبذلك تزيد في ما يكسب الرجل بجهد يده وتنميه وتصلح منه فإذا هو أكثر بركة، والمرأة هي التي تضع الطفل والرجل هو الذي يكفل له الغذاء والتربية والحماية، والمرأة هي الحارسة داخل أسرتها وهي التي تخلع من جمالها على الدار جمالاً. وتجعل من البيت نظاماً وكمالاً، والرجل يتألق خارج البيت ويشرق ذكاء وهمة وطموحاً، وكدحاً وسعياً، ولعلكم تسألون إذا كان الأمر كذلك. فليس أحد خيراً نصيباً من صاحبه. فأقول إن الفريق الذي يقع له أحسن النصيبين هو أشدهم تقديراً لواجباته، واحتراماً لما يطلب منه أداؤه وهو الذي يستطيع أن يعلو بالأسرة ويسقط، وهو الذي بيده صلاح البيت وفساده، وأنتم تعلمون أن كل ذلك مشترك بين الرجل والمرأة، ليس لأحد منهما سلطان أكثر من رفيقه وعدم المساواة بين الرجل والمرأة إنما مصدره الضعف وإغفال الواجب والجهل.
* * *
فتوى الكاتب المشهور نانجسر(53/14)
أنتم تعلمون أن الجواب يتوقف على الناحية التي ينظر منها المسؤوا إلى السؤال وما حوى - وأنا أقول أن امرأة غفلا بلهاء أسعد حالاً من الرجل، فإن المرأة الحمقاء إنما تضيع وقتها في ارتداء ملابسها وإظهار محاسنها والبروز في أجمل بزاتها، والتهادي في مجامع الشاي وحفلات الرقص، لا حزن تحزن، ولا شيء يؤلم نفسها، وهي كذلك وهي تعيش وكلاً على الرجل، وقفاً على ما يكسبه، أما المرأة الذكية فإنها تحسد الرجل على استقلاله. وتنفس عليه حريته، وتغبطه على قوته، وتود لو أن يتاح لها ما ينعم به من سهولة التعليم وحرية التهذيب - وتود لو تيسر لها أن تعيش كما يعيش - وتضطلع بخطوب كخطوبه، وتؤدي أعمالاً شاقة كأعماله. وأن تقوم بأفعال جسام، وشؤون عالية، ولهذا تتألم لأنها لا تستطيع حولا، وتحزن أن ليس لها بكل ذلك يدان وكذلك ترى الرجل أسعد حالاً من هذه المرأة.(53/15)
العودة إلى الحياة
بعد عشرة آلاف سنة
الحيوانات التي ينتظر العلم خلقها
أخيراً أحد أبطال العلم في أوروبا في هذه الأيام الأخيرة وهو العلامة جوليان هيكسلي أن يعلن أنه قد يستطيع أن يعيد إلى الحياة مخلوقاً من العدم منذ عشرة آلاف سنة فضج عالم العلماء لهذا الخبر. وأخذت ندوات العلماء تبحث في هذا الأمر وتنقب وقد قال هيكسلي بعد ذلك في هذا لأمر بنفسه - قد اكتشفنا منذ أشهر إننا إذا وضعنا قليلاً من سائل الشيرويد على بيض ضفدع وهو في حالة الجمود قبل أن تتحرك فيه الحياة، مشى فإذا هو ضفدعة تامة التكوين. نامية ألأجزاء. وأننا إذا استخرجنا تلك العصارة من ذلك البيض منعناه الحياة فظل جامداً لا يحور حيواناً متحركاً.
وقد استطاع هذا العالم أن يحدث كذلك طائفة من الضباب (جمع ضب) والجراذين (جمع جرزون).
وقد ختم العلامة هيكسلي بحثه بقوله: -
على أن العلم الذي اهتدينا إليه اليوم ليس شيئاً مذكوراً يخول لنا حق ارتقاب الشيء الكثير. وإنني الآن لا أستطيع أن أظن أن الشيوخ قد يمكن أن يعادوا إلى الشباب، وتسترد عهد الصبا. وغاية ما يستطيعه العلم الحديث اليوم أن يرد القوى إلى طائفة من وظائف الجسم. ونحن نعلم أن باستخدام طائفة معينة من الغدد قد يمكن تغيير أعضاء البدن وعملها. على أنني أرجو أن أوفق إلى خلق مخلوقات حية لم تكن في عالم الحياة من قبل. وقد تمكنت من استخراج حرباوات كثيرة وقد استمدها كثيرون من أصدقائي العلماء ليروا رأيهم في تركيبها وتكوينها: فهي لا تختلف عن الحرباوات الأخرى في شيء.
على أنه لا ينبغي أن يظن الناس أنني أستطيع بذلك أني أدعي المقدرة على أني أستخرج من القردة أناسا يتكلمون وإنما نحن العلماء نستطيع أن نرقي العضويات في حدودها الواجبة. ونعمل على تنميتها إن أمكن.
وقد أيد أبحاثه العلامة السير لانكستر المشهور في التاريخ الطبيعي فقال: إن هذه الاكتشافات ولا ريب ستفتح باباً لكثير من الممكنات المدهشة. وإن كان ينبغي لنا أن لا(53/16)
نغالي في التكهن عما يكون من ورائها. ويصح لنا القول بأن إحداث تلك الضفادع من الكائنات الجامدة إنما كان من جراء سرعة العمل على نموها بقوة الحرارة والغذاء.(53/17)
أخلاق العظماء
من توقيعاتهم
لا تزال توقيعات الناس في الرقوق والكتب والرسائل تكشف أسراراً غريبة عن خلقهم ونزعات أنفسهم ورأيهم في أقدارهم واعتدادهم بأنفسهم. وإذا أصبح معرفة هذا السر ميسوراً لكل إنسان فإنا ندع القارئ أن يتصور النتائج الخطيرة التي تنجم عن ذلك الاكتشاف لوذاع وعرفه الناس جميعاً.
وقد تناول رجل من مشهوري علماء الفراسة في علاقة الخطوط بأخلاق الناس جملة من توقيعات عظماء هذا العصر وقاد ة السياسة وملوك الأرض. فأظهر ما يكمن من دلائل نفوسهم ومنازع عواطفهم وراء خطوطهم وفي أضعاف أمضاءآتهم.
ونحن ننشر هنا نتائج أبحاثه عن طائفة من عظماء أوروبا وأمريكا.
الملك جورج الخامس
أكبر ما يأخذ النفس من إمضاء الملك جورج الخامس بساطتها المتناهية ومنها يتبين الإنسان أن الملك لا يرى في نفسه شيئاً كثيراً ولا هو بالمتكبر المعتد بنفسه وحروف إمضائه تدل على أنه رجل. . . دُغْري. والذيل المتطاول الذي يضعه تحت اسمه من ابتداء حرف الجيم يدل على رقة القلب وشدة العاطفة ومن أمضائه كذلك يتبين الإنسان حدة الخلق وسرعة الغضب وشدة الانفعال عند الغيظ.
الرئيس ويلسون
أما الرئيس الأمريكي فإنما يكتب خطاً واضحاً دقيقاً فيه علائم العناية. ومن إمضائه يرى الإنسان آثار الاحتراس وحب التدقيق المواظبة والنظام ومنه نعرف أن للأستاذ ويلسون خلق المدرس والسرعة التي ينهي بها الحروف الأخيرة من كلمة. . . ويلسون. . . تدل على حب الكتمان والالتجاء إلى الإخفاء والإبهام في الموضوعات الكبرى وتدل كذلك إمضاؤه على هدوء المزاج والصبر وإغراء الناس بالإعجاب به والإكبار من شأنه.
لويد جورج
من توقيع رئيس الوزارة الإنجليزية يرى الإنسان أسراراً غريبة لم تتفق لتوقيع أي رجل آخر. ولم يكن في جميع رؤساء الوزارة قبله وزير كتب بخط غريب مثل خطه، ومن هذا(53/18)
الإمضاء الغريب دليل على شخصيته المبتكرة الشاذة التي ليست على مثال متكلف مفتعل. فإن حرف الدال فيها يبعث على الظن بأن الرجل كبير الاعتداد بنفسه ومن الذيول العليا التي يربط بها رؤوس الحرف دليل على الطمع وحب العلاء والظهور. ومن تفكك بعض حروفه برهان على سرعة جريه إلى معرفته لنتائج الأمور ووثبته إلى معرفة العواقب بلا تمهل. ومن خطه يتجلى الرجل أشد الناس حباً للأفكار الخيالية والمشروعات الخيالية وإلى التحليق في سماء كل شيء خيالي. والرجل من خطه مفراح تغلب عليه سرعة التأثر وتغير المزاج وهو يتكلف النظام ويتطبع به لا يجده طبعاً. وهو قلق لا يهدأ في مكان. ولديه أثر من الشجاعة الأدبية.
المارشال فوش
توقيعه توقيع جميل واضح مقروء ثابت وحروفه المستديرة الجلية تدل على الصراحة المتناهية فليس ثمت خفاء أو دسيسة أو سر يجنح إليه ومن التعاريج العليا في إمضائه أثر للطبيعة الفرحة البهيجة التي تغلب على رجال الجند الكبار. والحروف التي يبدأ بها اسمه تدل على الرأي المتعالي الذي يراه في نفسه وعلى احترام الجنس اللطيف وجبه. . .
الفيلد مارشال هيج
ما أشد وجه الشبه بين إمضاء الجنديين، فوش وهيج. ولهما من خلقهما أشباه ونظائر. على أن إمضاء هيج أدل على حب الاحتراز والثقة بالنفس وصرامة العزيمة مع مزاج هادئ إذا استفز كأنه أشبه شيء بأسد - وهو رجل فخور تياه ذو خيلاء يعتد بنفسه وبالعنصر الذي منه انحدر.
المستر اسكويث
في إمضاء الرجل دليل على العزيمة العتيدة التي لا تستشعر يأساً. عزيمة رجل يناضل ويحارب بكل وسيلة للوصول إلى غرضه. وفي توقيعه إمارات الجرأة والبلاغة وحب الحق والكرم والتسامح، وهو كثير العواطف ولوع بإشباع لذاذات نفسه. وفيه للطمع دلائل. ولحب المجد والفخار.
الملكة ماري(53/19)
إن خط الملكة ماري زوجة جورج الخامس يخالف خط بعلها جد المخالفة. وهو يدل على الحزم والتدبير وحب النظام والروح العملية، والخط الطويل العريض الذي تضعه تحت اسمها بأكمله يدل على إعجابها بأنها ملكة لا عن غرور بنفسها.(53/20)
لماذا تقف أجسامنا عن النمو
عند غاية محدودة
أشد ما نعجب له أن نرى الفريق الأكبر من الناس يأخذون في النماء ويسترسلون في الطول حتى إذا بلغوا حداً ما وقفوا عنده فلا طول ولا نماء.
ولا ريب أن العالم رجالاً ونساء ما يفتأون ينمون ويفرعون بلا وقوف ولا تمهل. حتى لتراهم بعد سنين مردة يطولون أخواتهم جميعاً. على حين ترى في الناس أقزاماً صغاراً لا يفرعون ولا يزكون.
ولكن السواد الأعظم من الناس ينمون إلى حد محدود. وإلى طول مناسب يبين في وسط الزحام ولا يصغر عن الأنظار في الجموع الحاشدة. وهؤلاء الذين نسميهم الفريق الذي ينمو بنظام.
على أن محور هذا النماء في الطول والعرض والحجم غدة صغيرة في حجم العنبة لا تزن أكثر من عشر حبات واقعة في الجزء الأمامي من قاعدة الجمجمة - وقد دلت الأبحاث العلمية على أن الغدد تفرز سائلاً أسموه (الهرمون) أو المهيج، وهذا السائل يسري في الدم فيجعل فيها نشاطاً حاداً ينبعث في جميع أجزاء الجسم والأجهزة والأنسجة.
وهناك عوامل كثيرة تعمل على هذا النماء بخلاف تلك الغدة ولا سيما الغذاء ووجود الخلايا الكثيرة في داخل البدن وازديادها وحدوث بعضها بواسطة بعض. على أن هذه القوى لا بد لها منة الغدة الهرمونية السابقة الذكر حتى تضبطها في الحدود الواجبة لنماء الجسم الإنساني. وما كان المردة الطوال من خلق الله يطولون ويفرعون إلا من كثرة إفراز هذا السائل. وقد اهتدى العلم إلى أن غدد الخنازير إذا أخذت وضعت في جسوم المصابين بقلة سائل الهرمون في أبدانهم أحدثت أثرها فيهم وعملت على نمائهم ولو كانوا أقزاماً. ويؤكد العلماء أن غدد القردة والفيلة تؤدي كذلك إلى هذه النتيجة بعينها - ولا ريب أن في الأفيال الضخمة العظيمة التي خبرنا عنها الصيادون أنها تسكن بجوار المستنقعات في مجاهل أفريقية ليست إلا صحية وجود سائل (الهرمون) في جماجمها بكمية كبرى حتى ليبلغ الحيوان الواحد من جرّاء كثرة هذا السائل الغدّي مائة قدم طولاً.
وهناك في البدن غدد أخرى لا تزال تفعل فعلها. ومن تلك غدد داخل المخ تقع وراء الينين(53/21)
وفوقهما بقليل ولها أثر كبير في النماء وقد ذهب علماء التشريح وعلم طبائع الحيوان إلى أن تلك الغدة أثر قديم يدل على أن الإنسان كان قديماً ذا أعين ثلاث على أن الاكتشافات الحديثة عادت فدلت على أن لهذه الغدة أثراً كبيراً في نماء حجم الرأس. . . . . .(53/22)
محاورة
بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد
للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوبنهور
(تابع ما نشر في العدد 2 سنة ثامنة)
الفقيه - إذا كنت بدلاً من تنبئك الزوال المسيحية فرحاً بذلك مسروراً تتأمل أعظم أفضالها وآلائها وآلاء وأفضال الديانة التي نبعت بعد عهد غير طويل من عين المنبع الذي فاض بالمسيحية - أعني الشرق - أقول ذا تأملت جليل منن هذين الدينين على العالم الأوروبي لكان ذلك أولى بك وأجدر. أجل لقد استفادت أوروبا من المسيحية معنى ما برح مجهولاً لديها - أعني هذه الحقيقة الجوهرية وهي أن الحياة الدنيا لا يمكن أن تكون في ذاتها غاية ونهاية ولكنها سبب نتيجته فيما يليه ووسيلة غايتها فيما وراءها. ولقد وجدنا اليونان والرومان حصروا غاية الحياة في ذاتها فحق لنا أن ندعوهم وثنية ضالة عمياء ثم كان من نتيجة عقيدتهم هذه ان أصبحت كل فضائلهم تنحصر فيما هو مفيد للمجتمع - أعني في النافع وقد قال ارسطاليسأن أحسن الفضائل أنفعها للغير ومن ثم رأينا الأقدمين يفضلون حب الأوطان على سائر الفضائل مع أنه صفة مشكوك في فضلها إذ كان مبنياً على ضيق النظر والمحاباة وفساد الحكم والزهو والافتخار الباطل والغرور والأنانية. وقد ذكر ارسطاليس الفضائل الإنسانية مرتبة حسب قيمها وأقدارها وها هي: العدالة والبسالة والاعتدال والأبهة والمروءة والسخاء والحفاوة والاقتصاد والعقل فما أبعد الفرق بين الفضائل وبين الفضائل المسيحية. بل أن أفلاطون ذاته وهو أشد الفلاسفة القدماء روحانية لا يرى فضيلة فوق العدالة - فهو وحده الذي يوصي بها ويحث عليها ويأمر الناس بحبها لذاتها بينما سائر الفلاسفة يذهبون إلى أن العيش الهنيء هو الغرض الأوحد للفضائل - وإلى أن الواسطة إلى نيل هذه الغاية هو التمسك بمكارم الأخلاق. فلما ظهرت المسيحية أنقذت العالم الأوروبي من استغراقها جهالة وخطأ في حياة فارغة فانية غير مأمونة. فالمسيحية لا تقتصر على تعلم العدالة ولكنها تعلم أيضاً حب الغير والرحمة والعفو وحب الأعداء والصبر والتواضع والزهد والإيمان والأمل. بل لقد ذهبت المسيحية وراء ذلك فدلت على أن الحياة الدنيا شر وضير وأن الإنسان في حاجة إلى النجاة والخلاص فحضت(53/23)
على احتقار الدنيا وعلى الورع والتقشف وعلى العفاف والتقوى وعلى إنكار الذات وعصيان النفس إذ كانت بالسوء أمارة وما يقتضي ذلك من الصد والإعراض عن الحياة الدنيا وزخرفها الباطل وزبرجها الكاذب وغرور لذاتها الفانية ثم دلت فوق ذلك كله على فضلى الفضائل وكبرى المحامد أعني مكرمة الارتياح إلى مكابدة الآلام واحتمال المصائب حتى جعلت الصليب (آلة العذاب) رمزاً على النصرانية. لا أنكر أن هذا المذهب في الحياة - وهو بلا جدال أصح المذاهب - قد ظهر قبل عهد المسيحية بالآف السنين في الأقطار الآسيوية على أشكال أخرى وبلا اتصال بالمسيحية كما لا يزال في تلك الأقطار حتى الساعة. ولكن أوروبا لم تتلقه إلا بفضل ظهور المسيحية في بلدانها. إذ من المعلوم أن سكان أوروبا وإن لم يكونوا سوى قبائل أسيوية نزحت في الأصل عن أوطانها بآسيا فلبثت أزماناً جوالة بالآفاق حتى انتهت أخيراً إلى القارة الأوروبية فخيمت بها واستوطنت بقاعها - غير أن هذه القبائل لم تلبث أثناء تجولاتها الطويلة أن نسيت ديانة أوطانها الأصلية فنسيت معها أيضاً المذهب الصحيح في الحياة الدنيا. ثم استحدثت في أوطانها الجديدة (أوروبا) أديانا أخرى أحط منزلة من الأولى وأخبث جوهراً وأقل تهذيباً - كعبادة أو دين (في اسكاندينيفيا) وما إليها من البقاع الشمالية الأوروبية) والأديان الدرودية واليونانية وهذه لا تحتوي من المذاهب والعقائد إلا ما هو حقير سطحي ضئيل بالقياس إلى الديانات الآسيوية القديمة أو إلى الدين المسيحي.
وفي هذه الأثناء تولد في أمة اليونان ذوي خاص غريزي عن عنصر الجمال في الكون والخليقة وبصر ثاقب بمواطن الجمال وأسراره فكان من نتيجة ذلك أن خرافاتهم الدينية أخذت على السنة شعرائهم وعلى أنامل مصوريهم ونحاتيهم أشكالاً بديعة عجيبة. وصوراً أنيقة غريبة. لا يدانيها في الحسن مدان. ولا ترام غايتها من الإحسان والإتقان. ولكنا من جهة أخرى نرى أن المذهب الصحيح في الحياة الدنيا والغرض الأشرف الأسمى من الوجود والغاية القصوى كان مما قد غاب عن أذهان أولئك اليونان ودق عن إفهامهم. وكذلك شأن الرومان في هذا الصدد. فعاش أولئك وهؤلاء أعمارهم كأنهم أطفال كبار حتى ظهرت المسيحية فلفتت أنظارهم إلى الناحية الخطيرة من الحياة والجانب الجليل.
الفيلسوف - أجل. وإذا أردنا أن نعرف ما كان من نتيجة ذلك فما علينا إلا المقارنة بين(53/24)
العصور القديمة وما تبعها من القرون الوسطى - أعني بين عهد بيريكليز اليوناني وبين القرن الرابع عشر بعد الميلاد. أجل والله إن أحدنا لا يكاد يصدق أن أهل هذين العصرين هم من جنس وأحد وطنية واحدة. فقد امتاز أقدم العصرين عصر قدماء اليونان بأرقى مدينة وأسماها وأرفعها وأسناها. واشدها تهذيباً وأحسنها ترتيباً مع النظامات المتقنة والقوانين المحكمة وجميع الفنون الجميلة والصناعات البديعة فضلاً عن الشعر والقصص والفلسفة في أكمل مظاهرها وأجمل مجاليها - تلك آيات روائع وملح بدائع قد مرت عليها آلاف السنين. وهي في بابها فذة نادرة فريدة مقطوعة الأشياء والنظائر لا يلحقها مقارب ولا مدان. ولا يشق غبارها في مضمار الرهان. فهي نتائج قرائح وأذهان لم تتوفر لغير أربابها من بني الإنسان. فكأنها صنعة لأنس أو أنس لجان. أولئك قوم أفاضوا على صفحة الحياة رونق الغضارة. وأسالوا على جبينها عزة البهجة والنضارة. ووثقوا عراها بأجمل أواصر الألفة والوداد: وشادوا صرحها على أوطد دعائم التضامن ولاتحاد (اقرأ كتاب مأدبة زينزفون). هذا عهد يونان القديمة. فانظر الآن إلى أوروبا في القرون الوسطى وخبرني ماذا تجد؟. . الكنيسة تأسر الأذهان. وتفل مضارب اللسان، وتحطم الأقلام وتطمس الأفهام وتحرق الأجسام. وقد أصبح الناس سوقة وملوكاً وشريفاً وصعلوكاً وعبيداً وأرباباً وأسوداً وكلاباً. فهنالك تجد القوة الغاشمة والشريعة الظالمة وعماية التعصب العاسفة وسطوة الاستبداد العاصفة. وما ينجم عن ذلك ويتلوه من ظلمة العقول والإفهام ودياجير الشكوك والأوهام وتضارب العقائد والملل واصطدام المذاهب والنحل. ونتائج هذا من محاكم التفتيش والتعذيب والحروب الدينية ووقائع الصليب ومصارع الخارجة والمارقة. ومقاتل أهل البدع من الزنادقة. فإذا تأملت النظام الاجتماعي في ذلك العصر المظلم لم تجد سوى نظام الفروسية وما أدراك ما هو؟. . مزيج من الحمق والوحشية يمتاز بفرط التكلف المرذول والتصنع الممقوت وفاحش الخرافات والترهات والخزعبلات ونهاية الغلو والإغراق في تقديس النساء. ولا يزال لهذا النظام البائد المفترض بقية بين ظهرانينا أي في أوروبا الحديثة تظهر في هذه العصور الحديثة في مظهر ما يسمونه الآن احترام المرأة وهو كما لا يخفى نظام فاسد سخيف قد عوقبنا على اتباعه بالعقاب الطبيعي المنتظر - أعني طغيان المرأة وعتوها وغطرستها - مما لا يزال يستثير علينا بحق هزء الشرقيين(53/25)
وسخريتهم ويجعلنا - ونحن أهل ذلك - أضحوكة في نظرهم وهدفاً لسهام تنديدهم وتبكيتهم - وهي سخرية قد كان قدماء اليونان يشاركونهم فيها لو أنهم بقوا إلى هذه الساعة. أجل لقد وصل الأمر في العصور الوسطى المظلمة (التي تسمونها كذباً ذهبية) إلى أن الفرسان صاروا يعبدون المرأة عبادة ذات مراسم ومناسك مرتبة ومنظمة. ويأتون في سبيل عبادتها ما يسمونه آيات البطولة وقام الشعراء يتغنون في النسيب بالأشعار الغنائية وما شاكلها من السخافات على أن هذه الأناشيد والأغاني كانت مما امتازت به فرنسا بينما الألمان الأبلد طباعاً الأجمد شمائل كانوا أميل إلى إدمان الشرب وإدمامة السطو والنهب يملأون أجوافهم بالخمور ويفعمون من الأسلاب والغنائم الدور والقصور، دأبهم ذلك وديدنهم طول أعمارهم. ولم تخل سوامرهم وأنديتهم أيضاً من سخيف الأشعار الغزلية. والأناشيد الغنائية. وهذا كله ثمرة الهجرة والنصرانية.
الفقيه - أجل إن هجرة أولئك الشعوب الآسيوية البربرية هي التي أرسلت هذا السيل الجارف من تلك الأمم الوحشية فأطفأت به سراج المدينة اليونانية الوهاج وطمست معالم هذه الحضارة الزهراء. وأعادت الصلاح فساداً ورواج الفنون والمعارف كسادا. ولكن خبرني بماذا عاد الأمر إلى صلاحه. وتمكن في نصابه بعد التقوض عماد نجاح الأمر وفلاحه؟ بالديانة المسيحية. لقد أصيبت مدينة أوروبا القديمة من هجرة الآسيويين بالداء. ثم ظفرت من ظهور المسيحية وانتشارها بالدواء. فالمسيحية هي التي كبحت جماح أولئك الشعوب الوحشية الهمجية وقمعت غلواءهم وردت عرامهم وراضتِ شمائلهم وألانت من غلظة أكبادهم وملست من خشونة جوانبهم. وغير خاف أن أول ما يجب في تأديب الهمجي وتهذيبه هو تعليمه كيف يسجد ويركع. ويبتها ويتضرع ويطبع ويخضع. إذ ليس إلا بعد ذلك يمكن تمدينه وتحضيره. وهذا ما قد حصل في ايرلندة على يدي القديس باتريك وفي ألمانيا على يدي وينفريد السكسوني أجل لم يكن شيء سوى هجرة الشعوب الآسيوية في قديم الزمان - تلك الهجرة التي حاول عبثاً أن يعيدها في عهد أحث الغزاة الجبابرة عطيل وكنجبز خان وتيمور لنك (ثم طوائف الغجر بشكل هزلي) - لم يكون شيء سوى هجرة تلك الشعوب ما اجتاح مدينة أوروبا القديمة وأبادها. ثم جاءت المسيحية فكانت القوة المقاومة لهذه الهمجية العاملة على استئصالها مثلما غدت فيما بعد ذلك أعني من خلال(53/26)
القرون الوسطى القوة المقاومة لهمجية جبابرة الظلم والطغيان أعني الأمراء والفرسان الآنفي الذكر.
بيد أن قصوى غاية المسيحية وأهم أغراضها ليس هو توفير الملذات في هذه الحياة الدنيا وإنما هو ترشيح أهلها لاستجلاب النعيم في الآخرة. فالمسيحية ترمي إلى غاية وراء هذه الحياة القصيرة الفانية وتتجاوز ببصرها هذا الحلم الطائف إلى موطن السعادة الأبدية والنجاة السرمدية. فمذهبها من هذه الوجهة مذهب الفضيلة المحضة المطلقة - وهو مذهب لم تعهده أوروبا قبل المسيحية كما قد بينت لك عند المقارنة بين ديانة القدماء ونظامهم الأخلاقي وبين المسيحية ونظامها الأخلاقي.
الفيلسوف - هذا صحيح من الوجهة النظرية فقط ولكن انظر إلى الأعمال والآثار، ألا ترى أن أوروبا القديمة كانت بلا شك أقل قسوة من القرون الوسطى وما ارتكب فيها من إزهاق النفوس بأنكل ضروب التعذيب وبالإحراق بالنيران الحامية. . . . هذا ولا ننسى ما كان عليه القوم القدماء من فضائل الصبر والاحتمال والجلد وشغفهم بالحق والدفاع عن حوزته وحب الأوطان والاستبسال في الذود عن حياضها وتحليهم بصنوف المكارم والمحامد حتى أصبح النظر في آدابهم وآرائهم وفي مذاهبهم وفي أعمالهم وآثارهم يعد من أفضل دراسة الأخلاق والآداب. ثم انظر هل كانت الحروب الدينية والمذابح والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش وغيرها من الضيم والاهتضام والاضطهاد واستئصال سكان أمريكا الأصليين وإحلال رقيق الزنوج محلهم - فهذه كلها ثمار المسيحية ولا ترى في سيرة القدماء ما يشبه أدنى شيء من هذا أو يوازيه فأما الرقيق عند القدماء فما كانوا من الرق من شيء وإنما كان ذاك من حيث هذه الدلالة لفظاً بلا معنى واسما بلا مسمى إذ كان أولئك الأرقاء قوماً في رخاء عيشهم وفي سهولة وفي بلهنية وفي رغد قد نعموا بغبطة ألمن والطمأنينة جزاء إخلاصهم ووفائهم لسادتهم فالفرق بينهم وبين أشقياء رقيق الزنوج الذين هم وصمة في وجه الإنسانية ولوثة في عرضها كالفرق بين الفريقين في اللون أما ما يعاب على القدماء من استهانتهم بأمر اللواط وتسامحهم فيه مع أنه إثم ومنكر فهذا شيء يسير جداً في جانب ما عددت لك من فظائع المسيحية - على أن اللواط بعد ليس بالأمر النادر بين أهل العصر الحاضر كما يتوهم البعض.(53/27)
إذا قارنت بين العهدين من كل الوجوه غير تارك لا صغيرة ولا كبيرة أفلا تزال بعد ذلك تصر على أن بني البشر قد أصبحوا بفضل المسيحية أكرم طبعاً وأرقى خلقاً؟
لها بقية(53/28)
روح الإسلام
(لأكبر نصير للإسلام اليوم السيد أمير علي)
(الباب الثالث)
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
* * *
إن ما امتاز به الإسلام من سرعة الانتشار المدهش في أرجاء الأرض لمن أعجب ما رؤى في تاريخ الأديان، فأنا إذا تدبرنا أمر المسيحية وجدنا أنها لبثت حقباً بعد ظهورها وهي تكمن في المغامض والخفايا، وتختبئ في الأنفاق والزوايا. ولم يك إلا بعد ما تشربت في ذاتها مذاهب الوثنية وامتصتها واشتملت وبعد ما قام بأنهاضها ورفع شأنها ملك نصفه وثني ونصفه مسيحي - أقول لم يك إلا بعد هذا وذاك أن استطاعت المسيحية أن ترفع رأسها وتنال مركزها بين سائر أديان هذا العالم أما الإسلام فإنه لم يمضي على وفاة مؤسسه ثلاثون عاماً حتى كان قد أفضى إلى قلوب الملايين من سكان المعمورة وقبل مضي مائة عام كان صوت الأمين ابن الصحراء صلوات الله عليه قد دوى صداه في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا وإن كتائب الفرس والروم وجحافل كسرى وقيصر الذين حاولوا أن يردوا طغيان هذا السيل الجارف ويصدوا طوفان تلك الديمقراطية الجديدة التي نِات في جزيرة العرب لقوا شر هزيمة على أيدي فيالق الأعراب وأعملت فيهم السنة والظبى حتى تمزقوا شذر مذر وطاحوا جباراً بيد أن ما أتيح للإسلام من هذا النجاح الباهر وما خص به من عجيب تأثيره في أذهان الرجال وعظم موقعه في نفوسهم قد كان باعثاً على مزعم فاسد وتهمة كاذبة ألا وهي أن الإسلام دين السيف قد قام بالسيف وزاج بالسيف، ونحن الآن باحثون في عوامل انتشار الإسلام وأسباب شيوعه لنرى هل لهذه التهمة أدنى نصيب من الصحة.
* * *
لما ورد النبي كانت قبيلتا الأوس والخزرج اللتان كانتا قد أقامتا منذ سنين عديدة في حرب عوان مستمرة طحون حُطَمة - وقد وضعنا السلاح عقب حلف كاذب وصلح مموه - إذ(53/29)
كانت شواهد الأحوال تدل على تجدد القتال بأفظع مما كان وأشنع وكان اليهود بعد غارة حبلة قد قبلوا حماية عرب المدينة ثم أخذوا يجددون ما درس من بأسهم وشوكتهم ويستجمعون ما انتشر من أمرهم، وشرعوا يهددون أقرانهم الوثنيين بانتقام المسيح الذين كانوا يزعمون أنه عما قريب سيظهر وأنهم يرتقبون مطلعه من آونة إلى أخرى، وكانت قبائل الأعراب المحيطة الذين كان لقريش عليهم السيطرة التامة قد تألبوا من صوب وجدب على عرب المدينة وتمالأوا عليهم. فما كاد محمد ينزل المدينة حتى بدت للعيان تلك الأخطار المهددة للديانة الجديدة الإسلام - وكان المهاجرون (أعني الصحابة المكبين) أولئك الذين استقبلوا الموت واستهدفوا للمنون من أجل سيدهم وما ابتعث من النور في صدورهم ثم كابدوا من بعد ذلك آلام النفي والاغتراب والحَرب والاستلاب - أولئك كانوا الفئة القليلة يكادون يعدون على الأصابع. هذا شأن المهاجرين، وما كان الأنصار أهل المدينة بأمثل ولا أجزل لقد كانوا لقد كانوا أكثر بلا شك من المهاجرين ولكنهم لم يكونوا بالجم الفقير والعديد المجمهر وكانوا فوق هذا منقسمين بعضهم على بعض تدب بينهم عقارب التحاسد وتسعى بينهم أفاعي التضاغن والتحاقد. وكان في المدينة حزب قوي تحت زعامة رجل. عظيم النفوذ يطمح إلى عرش المدينة وهذا الحزب كان للكفار مؤازر، أضف إلى ذلك أن اليهود وقد اتحدت كلمتهم جعلوا يكيدون لمحمد تارة بالسم وتارة بالدسائس ولكن ذلك القلب الجريء الذي لم يتزعزع حين هددته بالموت قريش بقي ثابتاً متماسكاًُ إذ أصبح يرى حوله شيعة مخلصين لا يجدون لهم ملاذً غيره ولا عصمة سواه.
لذلك نرى محمداً في هذه الأزمة قد ظل يجمع بين تلك العناصر المتنافرة والقوات المتخاذلة المتناكرة التي التفت حوله مؤمنة به وبرسالته فألف منها هيئة موحدة متينة الروابط وثيقة العرى فأقام القضاة المحكمين بين هذا المجتمع بدلاً من السنة الانتقالية الثأرية التي كانت شائعة بين عرب القبائل وكانوا لا يعرفون غيرها. . وقضى عل العصبة القبائلية فمحا بذلك مذهب التفريق بين أوس وخزرج فأصبحنا قبيلة واحدة. وإضافة إلى ذلك اتبع خطة التسامح مع من كان في جمهوريته الجديدة من اليهود والنصارى فوسعهم في مدينته مسوياً بينهم وبين شيعته من اتباع دينه. ونثر بذور المودة والإخاء بين الفئات المختلفة من حملة الكتب السماوية جميعاً. فصرح أن الكل سواء في نظر الخالق إن الذين آمنوا والذين هادوا(53/30)
والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. لقد صادف محمد أناسيا (أعني العرب) بدينون بأخبث ضروب الوثنية ويعيشون بالغارة والسلب والنهب ويرتاحون بسفك الدماء كأنهم فيهم غريزة وجبلة - فهذب طبائعهم - وطهر نفوسهم وعلمهم الصدق والعفاف والتقوى والحلم والأناة والصبر والعفو والغفران والرحمة والتحاب والمؤخاة، والتواد والمصافاة. فكان يقول لهم وإن تعفو وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنا المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها، وهكذا.
وبينما كان محمد يؤدي هذا الواجب الأقدس - يهذب قومه ويغرس فيهم حامد الخصال ومكارم الخلال ويرفعهم من وهدة الخسة وينتاشهم من بؤرة الفساد ويستنقذهم من حمأة الرذيلة ويطهرهم من أدران الخبائث وأدناس الموبقات - أعداؤه - وقلوبهم تغلي مراجلها عليه حقد ونفور مشاعرها عليه بغضاً - يهاجمونه ويحملون عليه أشد الحملات وأنكرها. وكانوا قد أجمعوا قتله واستئصال. وقالوا إن هذا الخارج من ملة آبائه (يعنون محمدا) وهؤلاء المارقين من دين أسلافهم (يعنون أتباع محمد) قد لجأوا إلى المدينة (بلدة اقراننا ومنافسينا) يزرع بها بذور المروق والإفك والضلالة. فحق على جميع الشعوب العربية أن تتضافر وتتناصر على إبادة أولئك الحمقى المجانين الذين هجروا أوطانهم وعقارهم من أجل إله خفي مجهول لا يحس ولا يرى، وكذلك نرى أن محمد منذ دخل الإسلام بدينه أصبحت حياته مرتبطة بحياة قومه وحياة الأنصار الذين دعوهم إلى ديارهم ورحبوا به وأكرموا مثواه فأصبح هلاكه ليس بهلاك فرد ولكنه هلاك كل من التف حوله وانضم تحت لوائه.
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدم
فإذا تأملت حالة النبي إذ ذاك يحدق به الأعداء والخونة وتحمل عليه قريش والعرب كلها تؤيدها وترفدها علمت أنه كان هو وعصبته هالكين لا محالة لولا وثوبهم وثبة الضياغم. والليوث الضراغم. وأسياف بأيديهم هي كما قال الشاعر:
صفحتاه عقيقتان من البر_ق ... وفي مضربيه صاعقتان
ولم يك إلا بعد أن دهمتهم قيالق الأعداء أن خاطب النبي رهطه بكلمة الوحي وقاتلوا الذين(53/31)
يقاتلوكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
وكذلك أصبح الدفاع في نظر المسلمين هو بمثابة المحافظة على أرواحهم. فليس أمامهم إلا خطتان: إما الاستسلام للقتل والذبح إما الدفاع عن أنفسهم. وقد آثروا الثانية فأفلحوا واستطاعوا بعد طول الجهاد أن يخضعوا أعداءهم.
ثم كان من أمر اليهود بعد ذلك أن حقدهم الشديد على المسلمين ونكثهم العهود والمواثيق المرة بعد الأخرى ودوامهم على إثارة الفتن ودأبهم في السعي إلى إيقاع المسلمين في حبائل كيد الكفار - كل ذلك أدى إلى إنزال العقوبة بهم وسومهم أنكل العذاب. وكان ذلك من النبي ورهطه بمثابة دفاع الضعيف عن نفسه وعلى سبيل الإنذار والتحذير وليس من باب الانتقام والتفشي.
* * *
وليس لمعترض أن يقول أن محمداً كان من الواجب عليه أن يكون كبعض من ظهروا في هذا العالم من آن إلى آخر من أرباب المذهب ومؤسسي العقائد ممن آثروا أن يذعنوا لقوة الظروف والعوامل المعاكسة فيقنعوا بإرسال القول دون تنفيذه وبتشييد عوالم الخير والصلاح في مخيلاتهم حيث تظل ضرباً من الأحلام والمنى لا تخرج من حيز الوهم والتأميل إلى حيز التحقيق والعمل. ويرضون أن يؤول أمرهم إلى التضحية والاستشهاد وتختم حياتهم على المشنقة أو على المقصلة أو هلاكاً في النار. أو الأسار. فيكون كل ما صنعوه هو أن يخرج أحدهم من الدنيا بأحلام لم تحقق وميتة بالسيف أو بالنار تكسبه حلية الشهيد أو التضحية - نقول ليس لمعترض أن يعيب على محمد أنه لم يكن من أمثال هؤلاء ولم يرض لنفسه مثل هذه السيرة ولم يقتنع بمثل هذا العمل - إن صح أن نسميه عملاً - وليس لمعترض أن يقول أنه قد كان من الواجب على النبي أن يخرج إلى الدنيا ثم يخرج عنها دون أن ينفذ مهمته ويبلغ غايته. وما كان لعاقل أن يقول أن ظهور أمثال ما ذكرنا في هذه الدنيا يوجب على محمد أن يحذو حذوهم فيضحى نفسه وجميع شيعته وأتباعه تأييداً لما نسميه في عصرنا هذا فكرة.
دعنا نقارن بين جهاد المسلمين في سبيل الدفاع عن أنفسهم وحفظ أراوحهم بما جاءته اليهود والنصارى بل بما جاءته أمة الفرس المهذبة الرقيقة من الحروب الفظيعة لنشر(53/32)
عقائدهم وأديانهم. فأما اليهود فقد كان الاعتداء والسطو والاستئصال والإبادة مما تحلله وتجض عليهم شريعتهم بل كان حقن الدماء واستبقاء العدو مما يستوجب لعنة الله في عقيدتهم.
وأما أهل الصدر الأول من المسيحية فسرعان ما نسوا وأهملوا ما كان أوصى به المسيح من فضائل التواضع والخشوع والحلم والوداعة حينما اشتد بأسهم وقويت شوكتهم. فما كادت المسيحية تصير الدين الشائع لطائفة من الناس حتى استشعرت خلال الحيف والجور والاضطهاد. ولقد قارن كثير من المؤرخين بين عيسى ومحمد - فمن كان منهم مقتنعاً بألوهية عيسى ذهب إلى أن الوسائل الدنيوية التي استخدمها محمد لإصلاح أمته لم تكن إلا (وحياً شيطانيا) وأن انصراف عيسى عن هذه الوسائل (ولعل ذلك كان لعدم سنوح الفرصة ومساعدة الظروف) من أوضح الدلالة على ألوهية عيسى، وسندلي بالحجج والبراهين الدالة على سخف هذا الكلام وبطلانه وما فيه من البعد عن جادة الصواب والجنف عن محجة السداد وإنه كذب على التاريخ وافتراء، بل مناقض للطبيعة البشرية.
لقد كان ثمت بون شاسع بين الظروف والأحوال التي عاش فيها محمد والتي عاش فيها المسيح. كان نفوذ عيسى أثناء مدة زعامته القصيرة مقصوراً على فئة قليلة من أتباعه كلهم من طبقة العوام الوضيعة. ولقد ذهب عيسى ضحية ما أثار من الحنق على نفسه بمطاعنه من أكاذيب الطبقة الدينية في عصره - ضحية بغضاء أمة عنيدة قاسية - وذلك قبل أن يصبح لأتباعه من كثرة العدد وقوة النفوذ ما يدعو إلى وضع القوانين العملية للسير عليها والاهتداء بها في مسالك الحياة - وقبل أن يؤسسوا نظاماً لنشر تعاليمهم الدينية أو الاتقاء سطوات أهل الدين الشائع يومذاك. وذلك أن أتباع عيسى لما كانوا قد انشعبوا من أمة عظيمة الشأن ذات قوانين ثابتة موطدة تقوم بتنفيذها حكومة قوية - فقد أعوزتهم لذلك الفرصة لتأسيس نظام، وكذلك الأستاذ الزعيم عيسى لم يجد ثمت داعياً لوضع القوانين العملية الأخلاقية. زلكن القوم أحسوا بهذه الحاجة حينما عظم شأنهم وكثر عددهم، ثم ظهر رجل عبقري متضلع من كنوز الحكمة الأفلاطونية الجديدة فألف هذه النابغة من الأصول والقوانين والآداب نظاماً محا ماامتازت به تعاليم المسيح من البساطة وسائر الخصائص التي انفردت بها تلك التعاليم.(53/33)
وقد ابتلى محمد - كالمسيح - منذ أول مرة بمناوأة قومه إياه ومكافحتهم له. وكان أتباعه بادىء ذي بدء كأتباع عيسى صغر شأن وقلة عدد. وكان محمد قد أشبه المسيح أيضاً من حيث أنه قد جاء قبله رجال قد طرحوا عنهم قيود الوثنية وأصغوا إلى نجوى الحقيقة المطلقة في أعماق صدورهم. وأشبه المسيح أيضاً من حيث أنه كان يحث على الحلم والوداعة والبر والمعروف والتألف والتآخي.
ولكن محمد ظهر بين أمة منغمسة في العادات الوحشية والتقاليد الهمجية كانت ترى أن الحرب هو المقصد الوحيد في الحياة - أمة كانت بمعزل عن العوامل المادية الخسيسة الشائعة إذ ذاك بين أمتي اليونان والرومان ولكنها كانت كذلك بمعزل عن عوامل المدنية التي كانت فاشية بين تينك الأمتين. ففي أول الأمر أثارت تصريحات النبي احتقار الأعراب ثم هيجت بعد ذلك سورة غضبهم وانتقامهم. على أن أتباعه جعلوا مع ذلك يزدادون في العدد والعدد حتى جاءته دعوت الأنصار إلى المدينة فتوجت بالنجاح أعماله. ومنذ قبل هذه الدعوة بهذا الملاذ الكريم - منذ دعته الأنصار إلى أن يكون مشرعهم الأكبر وقاضيهم الأعظم وأستاذهم الروحاني أصبح حظه بحظهم مقروناً. ومستقبله بمستقبلهم مرهوناً. منذ تلك الساعة أصبح المسلمون مضطرين إلى إقامة الأرصاد على الوثنيين وأشياعهم وغدامة اليقظة والرقابة على حركاتهم وتدابيرهم وعلى أغراضهم ونواياهم. وكذلك نرى أن بلدة واحدة اضطرت إلى القيام في وجه الأعراب بأسرهم ونهضت لصد هجمات القبائل العديدة التي كانت تسكن جزيرة العرب - فهذه الظروف ألجأت حضنة الإسلام في الأحايين الكثيرة إلى اتخاذ أشد التدابير للمحافظة على كيانهم. ولا غرو فإنه إذا خابت وسائل الحث والإغراء لم يبق سوى طرق الإكراه والضغط.
وهكذا يتضح لنا أن غريزة المحافظة على النفس التي أوحت إلى نبي النصرانية عيسى أن يشير إلى أتباعه باتخاذ آلات الدفاع عن أنفسهم هي التي ألهمت المسلمين في زمن محنتهم إلى شهر السلاح عندما ألح عليهم أعداؤهم ذووا البطش والصولة.
وكذلك استطاع محمد بطرق اللين تارة وبالهمة الصارمة أخرى أن يؤلف أشتات الأمة العربية ويضم نافر تلك العناصر المتناكرة تحت لواء الدين السديد. وفي ظل كلمة التوحيد وإذ ذاك ساد السلام في أنحاء البلاد. ورفرفت أجنحة الأمن والطمأنينة على رؤوس العباد.(53/34)
لقد ظهر محمد في أمة كانت - كما لا تزال نراها - أشد الأمم نارية وأسرعهم بطشاً وفتكاً تنطوي صدورهم على مثل شمسهم المحرقة شهوات وأهواء - فلطف سورة أعدائهم. وسكن ثورة طغيانهم. ورد جماح عسفهم. وكف عرام عنفهم. وأشعر قلوبهم الرفق والحلم والتقوى وأورثهم فضائل الورع والزهد وإنكار الذات. وهجرة اللذات - مما لم يشهد التاريخ مثله. ولم يعهد العالم نظيره وشكله.
لهذا الفصل بقيةٍ(53/35)
صور هزلية
من أخلاق الناس
للكاتب المبدع عباس حافظ
عم زايد
كان عم زايد. . . . رحمة الله عليه - خادماً أسود في دار قوم عشيرتنا. نسخة قديمة من كتاب البلاهة الطبيعية التي أول ما خرجت طبعتها من مطابع المكتبة السماوية، في الأحراش، وتفرقت نسخها في الأجم، تحت ظلال الدوح وفي أفياء السرحات الباسقات، يوم كانت الإنسانية لا تزال في عنفوانها لا تعرف إلا ألكل والشرب - فقد ولد عم زايد ونما وكبر وشاخ ومات، أبله لم يزد عقله في رجولته عن حلمه في طفولته. وكان ذلك منه مثالاً على الثبات والوفاء، فقد كان رحمه الله وفيا في خدمته، ثابتاً على وفائه لسادته، فأبى ثباته إلا أن يظهر كذلك في بلاهته فظل عليها طول حياته. ولم يشأ وفاؤه إلا أن يبدو كذلك في سذاجته فمات عليها رحمه الله عليها وعليه!
وليس ألذ للسيد من أن يكوت الخادم أبله مغفلاً، حتى لا يأخذ سيده بالحقد أو بالمعارضة إذا كان عاقلاً، حتى ولا يكون في البيت عاقلان، فيصطدم عقيل السادة بعقيل العبيد، ولأن يجد الإنسان المتاعب من تحريك الخادم الأبله، خير له من أن يجد العنت كله من وراء الخادم العاقل. وندر ما تجد في الخدم العقلاء. أوفياء، ولكن أندر منه أن ترى في الخدم البله خونة، وليس في الخادم من لذة للسيد إلا إن كان في خلقه شيء من عنصر البلاهة فإن الدار ولا ريب تصبح به فرعاً منالتياترو وقاعة من قاعات السنيماتوغراف ولكنه سينماتوغراف قاصر على الأهل والمعارف فقط، ولا أنكر أن في اقتناء الخادم العاقل بعض الرحة والعون على شؤون البيت. ولكنه لا يزال بعد ثقيل الظل - لأنه يعرف الواجبات المطلوبة منه، ويضع لنفسه حدود خدمته فلا يريد أن يتطامن لأطفال البيت حتى يركبوا ظهره، ويتخذوه مطية مضحكة لهم. على حين يجد الصغار الروح كله والسرور من امتطاء ظهور الخدم البله، وفي رضى أولئك بذلك وتقليدهم للحيوانات والدواب. والسيد العاقل بل ربة البيت العاقلة تستطيع أن تتخذ من الخادم الأبله، خادمين اثنين، رجلاً وامرأة، فهو لا يأنف ولا يتعالى ولا يتململ إن دعي إلى الاشتراك في غسل الأواني،(53/36)
وتنظيف المقاذر وحمل الكناسة، ويجد في اللطمات تهوي على قفاه مزحاً دعابة، فلا يكون منه إذا ضرب إلا أن يرفع عينيه إلى السيد الضارب، وهو ضاحك السن شاكر لهذه الهزة اللذيذة التي نبهت أعصابه، فإذا أنت فعلت شيئاً من ذلك، أو طلبت بعضه من الخادم العاقل، فلا تجد أمامك إلا كلمة حسابي تنذرك بالمتاعب التي تجرها على نفسك بالوقوف مرة أخرى على أبواب المخدمين ودفع العرايين وقراءة الرخص وشهادة الشاهين.
ولذلك آثرت أنا - الخدم البله على مزاحميهم العقلاء - الخدم العقلاء، ولهذا كان خادمنا - عم سرور حبيبنا إلي وكان عم زايد هو الذي جئت أصفه لكم ساداتي القراء. أعز الأصدقاء.
* * *
وأعجب ما في خلق عم زايد أن الناس يتوسلون بالشراب إلى فك قيود العقل. والتحلل من الرزانة والجد، ولكن عم زايد كان على نقيض العالم كله فلا تزيده البوظة إلا سكوناً ووجوماً، ولا يزداد بها إلا خرساً، وانكماشاً وكان الرجل قليل الأكل، كثير الشراب، ولا أذكر أنه طلب إلى ربة البيت الذي هو فيه يوماً طعاماً، بل لا يزال صابراُ فإن قدم إليه طعام طعم، وإن لم يطعم لم يتكلم ولو أنه نسي شهراً. أو أغفل طعامه زماناً، إذن لغاب عن ذاكرته أن هناك في الدنيا عملية كيماوية اسمها االأكل! بل لمضى على شرابه حتى يقع من شدة الجوع يلهث تعباً وإذ يلوح إليه الناس أمام بصره الزائغ بقطعة من الخبز فتعاود الذكرى أن العالم طعاماً وشراباً لا شراباً فقط.
وكان عم زايد - أسكنه الله الجنة في مقاصير البله والمعتوقين - كثير المشي، فلو أنك أمرته بالتحرك وسرت في أثره فلم تقل له قف عن المسير، لظل يسير في الأرض حتى يصل إلى ساحل البحر فيظل ماشياً يخوض الماء حتى تأمره بالوقوف أو ليسيرن، أشبه شيء بقطار السكة الحديد الذي أغفل سائقه الالتفات إلى إشارة الخطر فجعل يطوي القنطرة حتى وقع في البحر بمن فيه، أو كالجندي الذي أمره نابليون بالانصراف عن حضراته فظل سائراً حتى وصل شاطئ النهر ومشي حتى وقع في البحر غريقاً، لأن قائده لم يقل له دور!. . أي لم يعطه الأمر بالوقوف، وهذا مثل الطاعة البلهاء العمياء التي تطلب إلى الجندي في الجيش.(53/37)
وكان عم زايد لا يعرف حتى ولا أصحاب المنزل الذي يخدم فيه وسادته الذي نشأ فيهم وقضى حياته في ظلهم إلا إذا كانوا داخل جدران المنزل. فإذا خرجوا إلى حاجة لهم أو مشوار من المشاوير فالتقى بهم في طريقه لم يعرفهم ولم ينظر إليهم ولم يلتفت أو يدر مكانهم منه إلا إذا استوقفه أحدهم فذكره بأسمه أو عرفه بصوته. فإذا أنت بعثت به إلى شراء شيء من السوق ثم خرجت في أثره تمشي في السوق لترى ماذا هو صانع وجئت حتى حاذيته فلا تتوقع أن ينظر إليك أو يتبينك وإن حك ذراعك بذراعه. وقد تقف بجانبه أمام البائع وتأخذ في جدل معه أو حوار فلا يدرك من أنت وما شأنك.
ولم أر عم زيد في دموع ولم أشهده باكياً وقد يقف في جنازة سيد من ساداته مبتسماً بين النواجذ كما يقف يوم العرس لا يدري ماذا شغل الناس حوله. . . . أعلى ميت يبكون أم تلك عروس إلى عروس يزجون. على أنه كان متزوجاً ولكن لم يكن زواجه بلاهة منه كما هو من بلاهات العقلاء بل كان بلاهة من أسياده إذ رأوا جارية لهم تناهز السن التي كان هو يعض عليها، فزوجوهما على بركة الله ولم يجتمع الزوجان في شيء اجتماعهما في خصلة واحدة هو أنه كان أفطس الأنف وكانت هي بسلامتها فطساء. ولم يفترقا في شيء افتراقهما في شيء واحد: هو أنها كانت نصف عاقلة. وكان هو تام البلاهة. فجعلت تشده إلى العقل وجعل هو يجذبها إلى البلاهة. فلما لم تتغلب عليه ولما لم يتغلب عليها جعلت هي تضحك منه مع الضاحكين. وجعل هو الآخر يسخر منها ومن الناس أجمعين.(53/38)
انقباض النفس
للشاعر النفساني الروحاني كلوردج
نقلها إلى العربية الكاتب الشاعر عبد الرحمن أفندي صدقي
حزن من غير ما ألم، أجوف موحش معتم. حزن مكظوم نعسان هادئ لا يجد له مخرجاً أو مفرّجاً في كلمة أو زفرة أو غيره - بلى سيدتي في هذه الحال من الكمد والخمود استغوتني أغاريد طائر صداح إلى الاسترسال في التأملات فكنت طوال هذا المساء المتأرج الساجي أرمق الأفق الغربي وصبغته الوارسة
وقد رنقت شمس الأصيل ونفضت ... على الأفق الغربي ورسا مذ عذها
وما زالت أرمق - ولكن بأيما عين غافلة وألحاظ جوفاء - وسوارى المزن فوقي شفيفة متفتقة قد تنصلت عن ظاهر سريانها وخيلت أنه لهاتيك الكواكب والدراري اللآئي يمرقن خلفها أو ما بينها. آونة متلالئات وأخرى معتمات ولكن على الحالين مستبينات للعيان. وذياك الهلاك مستقر كأنما قد ترعرع ونما في بحيرة له ولازوردية لا تعرف دراريا ولا مزنا. أرى كل هذه المشاهد حسانة فاخرة أرى ولكن لا أشعركم هي أنيقة حلواء.
(3)
حال سالف ابتهاجي إلى كآبة وانقباض. وإني لهذه المشاهد أن ترفع الوقر المزهق عن صدري فعبثاً أحاول الترفيه ولو رمقت إلى الأبد هذه الأضواء الوارسة التي تتلكأ في المغرب إذ لا أمل أن أستمد من المظاهر الخارجية حرارة وحياة ينابيهعما باطنية.
(4)
بلى يا سيدتي إنما نسترد ما أعرناه وإن حياتنا وحدها تحيا الطبيعة وحياتنا وحدها تسربلها إما في رياط عرس أو لفائف كفن فإذا شئنا أن نعاين شيئاً أسمى قيمة مما تخوله هذه الدنيا الميتة الباردة لهذا الملأ التعس اللازب القلق الخامد الحب فعلى النفس وحدها أن ينبجس عنها ضوء بهاء، رباب ضحيان أغر يشمل الأرض - وعلى النفس وحدها أن تنخمضعن صوت حلو جهوري من نتاجها وهو من كل الأنغام الحياة والعنصر.
(5)
آه أيتها النقية القلب لا أظن بك حاجة أن تستفسري مني وتتساءلي ما تكون هذه الموسيقى(53/39)
الفعالة النفسية، ما تكون وأين توجد، وهذا الضوء، هذا البهاء، هذا الرباب الضحيان الأغر، هذه القوة الجميلة المجملة - الابتهاج يا سيدتي الفاضلة، الابتهاج الذي لم يسوغه أبداً إلا الاتقياء وحدهم وفي أتقى ساعة لهم، وهو الحياة وعصير الحياة، رباب وشؤبوب في آن. الابتهاج يا سيدتي هو الروح والقوة تهبنا إياه الطبيعة صداق زفافها علينا. هو أرض جديدة وسماء جديدة لم يحلم بها الفاسق ولا الأصعر الصليف - الابتهاج هو الصوت الحلو، الابتهاج الابتهاج هو الرباب الضحيان - وإنا لنبتهج في داخل أنفسنا ومن تلقاء أنفسنا، ومنها يتدفق كل مايفتن بعدها السمع منا والبصر فكل الأنغام أصداء لذياك الصوت وكل الألوان سطوع وانتشار لذياك الضوء.
(6)
ولقد جازت بي - على الرغم من خشونة السنن - حقيبة من الدهر كان فيها ابتهاجي هذا يداعب كل ملمة وضيق، ولم تكن الرزايا كلها إلا بمثابة مادة يصوغ لي منها الخيال أحلام سعادة، لأنة الأمل إذ ذاك كان يزكو حولي كالكرم المؤتشبة أفنانه، وكانت الثمار والأوراق التي تخص غيري كأنما تختصني. وأما الآن فالنكبات تقوس إلى الرغام كاهلي ولو أنها اقتصرت على استلاب تهللي ومرحي ما حفلت بها ولا اكترثت لها لكنها - وأبؤس نفسي - في كل زيارة تعطل ما أودعته في الطبيعة منذ ميلادي من روح الخيال الفاطر فلا اعني اليوم بما يجب أن يخامر إحساسي ويستولي على مشاعري بل الاستسلام والصبر كل مقدروي ولقد رأيت أن أنصرف إلى أبحاث الفلسفة الجافة العويصة عسى استل من فطرتي كل الرجل الفطري، وكانت هذه خطتي التي أترسم وحيلتي التي إليها أركن فإذا بالذي يناسب الجزء يعدي الكل حتى لصار الآن ديدن نفسي.
(7)
إليك عني يا أفاعي الهواجس التي تلتف حول عقلي، يا رؤيا الحقيقة المعتمة. بي أتحول عنك منصتاً إلى الريح التي طال في الخارج هذيانها دون أن تسترعي إليها انتباهي. فيالها من صرخة نزع هائلة نبهني بها مزهرها وكأنما مدفيها التعذيب. ولكن، أيتها الريح الهاذية الهاذرة ألا ترين أن الجلمد العاري والغدير في قنة الطود والشجرة المسفوعة وحرج الصنوبر السحوق الذي لم يبلغ إليه تسلق حطاب، والدار المنعزلة اتخذتها الساحرات مثوى(53/40)
من قديم: كل هاتيك ألا ترينها كانت معازف أصلح لك أنت أيتها العازفة المعتوهة التي اسمعها في هذا الشهر، شهر الشآبيب المنهلة والخمائل والأزاهر الموصوصة - أسمعها تحتفل بعيد الشيطان منشدة أسوأ من نشيد الشتاء، خلال النوار والبراعم والأوراق المرتجفة. أنت أيتها الممثلة المبرزة في كل أصوات المأساة. أنت أيتها الشاعرة القديرة المتحمسة إلى حد الجنون! عما تحدثين تحدثين عن هرب الجيش المهزوم بما فيه من تأوهات المدعوسين والمثخنين بالجراح - في آن واحد يتأوهون من مضض الكلوم ومن كلب البرد. ولكن انصت - هذه فترة سكون عميق! وكل هذه الجلبة التي كانت كأنها لملأ هارب بما فيه من تأوهات وارتعاد مقضقض - كل هذا انقضى فإنها تقص الآن أسطورة أخرى بأصوات أقل عمقاً وأخفت جرساً، والأسطورة أقل رعباً من سابقتها مشوبة من بهجة التصوير بما يطأ من من هو لها، كالتي صورها الشاعر (اتواي) نفسه من أنشودته الرقيقة فهي أسطورة طفلة صغيرة في مجهل منعزل لا يبعد عن السكن ولكنها ضلت طريقها فآونة تئن في خفوت من لأسى المر والفرق الأخرى ترفع عقيرتها بالصياح في أمل أن تسمع أمها.
(8)
انتصف الليل ولكن قل أن مر في خاطري خاطر اليوم. وأني لأسأل الله لخلّي أن ينر احياؤها نظائر هذه السهرات. فلتطرقها أيها الكرى المدمث المترفق ولترف عليها بأجنحة شفاء وعافية. ولتكن هذه العاصفة على حد المثل القائل تمخض الجبل فولد فأرة، ولتتدل الدراري كلها مؤتلفة على سكنها، مستقرة شاخصة كأنها تسهر على حراسة الأرض النائمة. ولتنتبه خلّتي وقلبها الممراح الطروب وتصوراتها الزاهية المبرقشة وعيونها الطافطة بالبشر، وليسبح الابتهاج بروحها إلى فراديسه العليا، وليدوزن الابتهاج صوتها طبق أنغامه الحلوة ونبراته المستعذبة ولنحي لأجلها كل الأشياء قاطبة من قطب إلى قطب إذ حياتهن مجال تدويم لروحها الحية. إيه أيتها الروح الناصعة الطويلة التي ترشدها السماء وتهدى خطواتها الفانية المعبودة. يا أروع خلة اصطفيت أسأل الله أن تغتبطي وتطربي دواماً وإلى أبد الآبدين.(53/41)
تفاريق
أشهر مخترعي العالم
غوتنبرج: مكتشف الطباعة بالأحرف
جميس واط: مستعمل قوة البخار
بل: مخترع التليفون
أديسن: مخترع الفوتوغراف وكثير من المخترعات الكهربائية
ديزل: مخترع (المكنة) الهائلة المعروفة باسمه.
ألمانيا والتجارة
عجيب ما يأتينا من تلكم الأخبار المتضاربة عن ألمانيا. فبينما نحن نسمع عن إفلاسها وفاقتها وتدهور حالها الاقتصادية وما إلى ذلك مما أدهش عقولنا وجعلنا نظن أن ألمانيا قد دالت دولتها وأصبحت في خبر كان. أقول بينا نحن نسمع ذلك إذ توافينا أنباء أخرى على النقيض من هذا.
فقد أرسلت إحدى المجلات الإنجليزية رسولاً من قبلها ليستطلع طلع هذه البلاد الغريبة ويقف على جلبة أمرها. فعاد هذا الرسول. وأخذ يدبج المقالات الضافية ويصرح فيها بأن الحال في ألمانيا ليست من الظلمة والارتباك والتدهور في شيء بل على العكس نرى أن القوم هنالك هانئون في خير حال وعيشتهم راضية مرضية، وكلها أمل في المستقبل.
ولقد أعرب في مقال له بالعنوان السابق، عن عظيم دهشته من وفرة المال في ألمانيا وضخامة رؤوس الأموال واستعداد القوم لشراء المواد الخام بأي ثمن كان. وسرد لذلك أمثالاً كثيرة منها أنه جلس مرة مع تاجر من التجار المتوسطي الحال يجاذبه أطراف الحديث فأراه هذا أنه مستعد لشراء أربعمائة طن من النحاس لاستخدامها في بعض الأغراض الكهربائية وأنه مستعد أن يعقد أي شروط لذلك وأن يدفع الثمن المطلوب في أي وقت. . . . ثم سمع أيضاً بأن شركة قد تألفت لصنع (الكاوتشوك) من بعض المواد الكيمية ورأس مالها بلغ 000، 000، 5 من الجنيهات جمعت كلها من (برلين) فقط.
ولقد صرح له بول فون مندسون رئيس الغرفة التجارية في برلين بقوله: إن انخفاض سعر المارك في الوقت الحاضر ليس من الأهمية بمكان. لأنه لا شك سيرتفع حينما نبتدئ في(53/42)
تصدير بضائعنا. أما الآن فكل مجهودنا موجه إلى شراء المواد الخام بأي ثمن وبأية طريقة، وعندنا لذلك المال الكافي. وسنناقش تجارة العالم كله. ومع ذلك سنربح ربحاً عظيماً.
ولقد أشيع مثلاً خبر اعتصاب المعدنيين في ألمانيا، وصارت الحكومة نفسها تصدر لذلك النشرات المطولة وتذيعها في العالم كله، مع أن الغرض من ذلك إنما هو حمل مؤتمر الصلح على إنقاص كمية الفحم المطلوبة من ألمانيا لفرنسا من 000، 000، 40 طناً إلى 000، 000، 21 فقط.
ثم قال المراسل أيضاً. ولقد كنت في برلين في الوقت الذي حدث فيه اعتصاب عمال السكك الحديدية في انجلترة. فكنت أرى الألمان على اختلاف طبقاتهم يقابلون أخبار اشتداد الأزمة في انجلترة بالضحكات والنكات.
ضيق الأرزاق في بلاد المغرب
أكلة في المطعم بصورة
يذكر القراء ما كتبنا قبل هذا عن رؤوس صلعاء للإيجار وما كان من ضيق المرتزق اليوم في بلاد المغرب من أثر الحرب، حتى أصبح أشد الناس حياء لا يستحي أن يبحث رزقه من أتفه السبل، ولو عرض نفسه بذلك لسخرية الناس، واستدف لضحكات القوم وقد قرأنا عن أمثلة أعجب من ذلك، وهو أنه يوجد في الحي اللاتيني بباريس عدة مطاعم صغيرة قد غطت جدرانها صور مختلفات ألوانها ورسوم بالزيت أو الدهن أو المداد، وكل صورة منها تمثل رجلاً جائعاً لا درهم يملك، ولا رغيف يأكل، وقد صور هذه الصور كثيرون من أهل الفنون الفقراء الذين عز عليهم القوت. فاتفق أصحاب تلك المطاعم على أن كل صورة بأكلة في المطعم من غير مقابل وليس على المصور المسكين كلما عضه الجوع، وعز عليه الطعام إلا أن يمشي إلى ذلك المطعم فيضيف إلى مجموعة تلك الصور الجائعة أقرب صورة إلى حالته، ومن هنا كانت هذه المطاعم متاحف كبرى لصور الجوع.
وأغرب من هذا كله أن نسمع بجندي في انجلترة من الذين سرحتهم الحكومة بعد انتهاء الحرب يعرف 6 لغات مختلفة ثم لم يجد في جميع سبل الرزق ما يستطيع به أن يسد أرماقه، إلا أن يجمع أعقاب السجائر.(53/43)
هذه طائفة من ويلات تلك الحرب المدهشة، وهي ولا ريب معرة للإنسانية لا يمحوها شيء من صفحات التاريخ.(53/44)
مطبوعات جديدة
كتاب مختصر تاريخ أوروبا
في العصور الوسطى
أهدى إلينا صديقنا الكاتب المؤرخ الفاضل الأستاذ حسين أفندي لبيب المدرس بمدرسة القضاء الشرعي وصاحب كتاب تاريخ الأتراك العثمانيين وتاريخ الأندلس والجغرافية التجارية - كتاباً له وضعه أخيراً في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى بسط فيه القول على الحروب الصليبية والفروسية والنظام الإقطاعي ونشوء دول أوروبا الخ الخ والكتاب يوجد في جميع مكاتب القاهرة وثمنه 15 غرش.
التربية والتعليم
مجلة شهرية تعني عناية خاصة بكل المباحث التي تبحث في شؤون التربية والتعليم لمديرها حضرة الأستاذ الفاضل عز الدين أفندي علم الدين وتظهر في دمشق عاصمة الدولة السورية فنرحب بهذه المجلة المفيدة وننصح القائمين بالتربية والتعليم خاصة بأن يقتنوها.
البيان
مجلة شهرية علمية أدبية تاريخية اجتماعية سياسية لمنشئيها حضرات الأفاضل عبد الرزاق أفندي وعبد الله أفندي وعثمان أفندي وصاحب امتيازها حضرة الفاضل عبد القوي افندي وتكتب باللغتين العربية والهندية وتظهر في لكنؤ - الهند. وهي الآن في سنتها التاسعة عشر اشتراكها اثنا عشر شلنا.(53/45)
أحداث الشهر
سار يباري النجم في جده ... وعاد كالسيف إلى غمده
ذاك سيد الشعراء وشاعر العربية الأوحد - أحمد شوقي بك - فقد رفهت الأقدار عن الناطقين بالضاد عامة والمصريين خاصة بأن أدال الله لنا من غربته جميل اوبته - وما كاد ينطلق بلبلنا الغرد من معتقله حتى شدانا بهذه الأبيات.
أنادي الرسم لو ملك الجوابا ... واجزيه بدمعي لو أثابا
وقلّ لحقه العبرات تجري ... وإن كانت سواد القلب ذابا
سبقن مقبلات الترب عني ... وأدين التحية والخطابا
نثرت الدمع في الدمن البوالي ... كنظمي في كواعبها الشبابا
وقفت بها كما شاءت وشاؤوا ... وقوفاً علم الصب الذهابا
لها حق وللأحباب حق ... رشفت وصالهم فيها حبابا
ومن شكر المناجم محسنات ... إذا التبر انجلى شكر الترابا
وبين جوانحي واف ألوف ... إذا لمح الديار ومضى وثابا
رأى ميل الزمان بها فكانت ... على الأيام صحبته عتابا
* * *
وداعاً أرض أندلس وهذا ... ثنائي إن رضيت به ثوابا
وما أثنيت إلا بعد علم ... وكم من جاهل أثنى فعابا
تخذتك موئلاً فحللت أندي ... ذراً من وائل وأعز غابا
مغرّب آدم من دار عدن ... قضاها في حماك لي اغترابا
شكرت الفلك يوم حويت رحلي ... فيا لمفارق شكر الغرابا
فأنت أرحتني من كل أنف ... كانف الميت في النزع انتصابا
ومنظر كل خوان يراني ... بوجه كالبغي رمى النقابا
وليس يعامر بنيان قوم ... إذا أخلاقهم كانت خرابا
* * *
أحق كنت للزهراء ساحاً ... وكنت لساكن (الزاهي) رحابا
ولم تك (صور) أبهى منك ورداً ... ولم تك بابل أشهى شرابا(53/46)
وإن المجد في الدنيا رحيق ... إذا طال الزمان عليه طابا
أولئك أمة ضربوا المعالي ... بمشرقها ومغربها قبابا
جرى كدراً لهم صفو الليالي ... وغاية كل صفو أن يشابا
مشيبة القرون أديل منها ... ألم تر قرنها في الجو شابا
معلقة تنظر صولجاناً ... يخر عن السماء بها لعابا
تعد بها على الأمم الليالي ... وما تدري السنين ولا الحسابا
* * *
أيا وطني لقيتك بعد بأس ... كأني قد لقيت بك الشباب
وكل مسافر سيؤوب يوماً ... إذا رزق السلامة والإيابا
ولو أني دعيت لكنت ديني ... عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي ... إذا فهت الشهادة والمتابا
وقد سبقت ركائبي القوافي ... مقلدة أزمتها طرابا
تجوب الدهر نحوك والفيافي ... وتقتحم الليالي لا العبابا
وتهديك الثناء الحر تاجاً=على تاجيك مؤتلقاً عجابا
* * *
هدانا ضوء ثغرك من ثلاث ... كما تهدي (المنورة) الركابا
وقد غشى المنار البحر نوراً ... كنار (الطور) جللت الشعابا
وقيل الثغر فاتأدت فأرست ... فكانت من ثراك الطهر قابا
فصفحاً للزمان لصبح يوم ... به أضحى الزمان إلي تابا
وحيا الله فتيانا سماحاً ... كسو عطفي من فخر ثيابا
ملائكة إذا حفوك يوماً ... أحبك كل من تلقى وهابا
وإن حملتك أيديهم بحوراً ... على أكفهم السحابا
تلقوني بكل أغر زاه ... كأن على أسرته شهابا
ترى الإيمان مؤتلقاً عليه ... ونور العلم والكرم اللبابا
وتلمح من وضاءة صفحتيه ... محيا مصر رائعة كعابا(53/47)
وما أدبي لما أسدوه أهل ... ولكن أحب الشيء حابي
شباب النيل إن لكم لصوتاً ... ملبي حين يرفع مستجابا
فهزوا (العرش) بالدعوات حتى ... يخفف عن (كنانته) العذابا
أمن حرب البسوس إلى غلاء ... يكاد يعيدها سبعاً صعابا
وهل في القوم يوسف يتقيها ... ويحسن حسبة ويرى صوابا
عبادك رب قد جاعوا بمصر ... أنيلا سقت فيهم أم سرابا
حنانك واهد للحسنى تجارا ... بها ملكوا المرافق والرقابا
ورقق للفقير بها قلوباً ... محجرة وأكباداً صلابا
أمن أكل اليتيم له عقاب ... ومن أكل الفقير فلا عقابا
أصيب من التجار بكل ضار ... أشد من الزمان عليه نابا
يكاد إذا غذاه أو كساه ... ينازعه الحشاشة والإهابا
وتسمع رحمة من ناد ... ولست تحس للبر انتدابا
أكل في كتاب الله إلا ... زكاة المال ليست فيه بابا
إذا ما الطاعمون شكوا وضجوا ... فدعهم واسمع الغربى السغابا
فما يبكون من ثكل ولكن ... كما تصف المعددة المصابا
ولم أر مثل سوق الخير كسبا ... ولا كتجارة السوء اكتسابا
ولا كأولئك البؤساء شاء ... إذا جوعتها انتشرت ذئابا
ولولا البر لم يبعث رسول ... ولم يحمل على قوم كتابا
شهداؤنا الاثنا عشر
علمونا الصبر نطفئ ما استعر ... إنما الأجر لمفجوع صبر
صدمة في الغرب أمسى وقعها ... في ربوع الشرق مشؤوم الأثر
زلزلت في أرض مصر أنفساً ... لم يزلزلها قرار المؤتمر
ما اصطدم النجم بالنجم على ... ساكن الأرض بأدهى وأمر
قطف الموت بواكير النهى ... فجنى أجمل طاقات الزهر
وعدا الموت على أقمارنا ... فتهاووا قمراً بعد قمر(53/48)
في سبيل النيل والعلم وفى ... ذمة الله قضى الاثنا عشر
أي بدور الشرق مذا نابكم ... في مسار الغرب من صرف الغير
نبأ قطع أوصال المنى ... وأصم السمع منا والبصر
كم بمصر زفرة من حزها ... كنس الأعفر والطير وكر
كم أب أسوان دام قلبه ... مستطير اللب مفقور الظهر
ساهم الوجه لما حل به ... سادر النظرة من وقع الخبر
كم بها والدة وآلهة ... عضها الثكل بنار فعقر
ذات نوح تحت أذيال الدجى ... علم الاشجان سكان الشجر
تسأل الأطيار عن مؤنسها ... كلما صفق طير واصطخر
تسأل الأنجم عن واحدها ... كلما غور نجم أو ظهر
تهب العمر لمن ينبئها ... أنه أفلت من كف القدر
ويح مصر كل يوم حادث ... وبلاء مالها منه مفر
هان ما تلقاه إلا خطبها ... في تراث من بنيها مدخر
* * *
أمة الطليان خففت الأسى ... بصنيع من أياديك الغرر
جمعت كفاك عقد زاهيا ... من بنينا فوق واديك انتثر
ومشى في موكب الدفن لهم ... من بنيكم كل مسماح أغر
وسعى كل امرئ مفضل ... بادي الأحزان مخفوض النظر
وبكت أفلاذكم أفلاذنا ... بدموع روضت تلك الحفر
وصنعتم صنع الله لكم ... فوق ما يصنعه الخل الابر
فقد بكينا لكم من رحمة ... يوم (مسينا) فأرخصنا الدرر
فحفظتم وشكرتم صنعنا ... وبنو الرومان أولى من شكر
أي شباب النيل لا تقعد بكم ... عن حظير المجد أخطار السفر
إن من يعشق أسباب العلى ... يطرح الأحجام عنه والحذر
فاطلبوا العلم ولو جشمكم ... فوق ما تحمل أطواق البشر(53/49)
نحن في عهد جهاد قائم ... بين موت وحياة لم تقر
حافظ إبراهيم(53/50)
العدد 54 - بتاريخ: 1 - 4 - 1920(/)
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الثانية
من المرية إلى قرطبة
تابع ما نشر في العددين 7و 8 من السنة السابعة
الأسطول الأندلسي
وروح العظمة التي ترفرف عليه
أسلفنا لك في الرسالة الأولى من هذه الرسائل شيئاً من القول قد يكون مغنياً في معنى الأسطول وأثره الصالح في ادلولة التي تعنى به، وإن الدولة الفاطمية في أفريقية، والدولة الأموية في الأندلس لهذا السبب بعينه ولأن بلادهما واقعة على سيف البحر الرومي البحر الأبيض المتوسط وبحر الظلمات المحيط الاطلانطي قد بذتا سائر الدول في العناية بالأساطيل حتى قبضنا بها على أعنة البحار، واستوتا على ما فيه من جزائر وأقطار، وآضنا بذلك وآضت رعاياهما سادة البر والبحر، بل ذل الزمان لهم ولانت أعطاف الدهر، وهذا هو الذي أرهج بين هاتين الدولتين بالفساد. وأرسل بينهما عقارب ألحقاد، وأثار بينهما نقع الحرب والجهاد، حتى لا تكاد الحروب بين الدولتين ينطفئ لهيبها، فتراهما للتافه من ألأسباب يجردان الجيوش بعضهما على بعض، وتتلاقى أساطيلهما مصرجة بالشر، ولعلك لم تنسى بعدُ حادثة هذا المركب الأندلسي الذي قمنا فيه من الاسكندرية، وأنه تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز لدين الله الفاطمي وأخذ ما فيه من بريد وبضائع، فما كان من المعز إلا أن أرسل أسطولاً كبيراً إلى؟؟؟؟ لأسطول الأندلسي في المرية - كما أُخبرنا بذلك ونحن في هذا البلد - فعاث فيه عيثاً والحق به وبالمرية ما أرضاه ونقع غلته وأطفاً لهيبه، فلم يسع أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر إلا الانتقام من المعز، فأمر بتجريد الأسطول وحشد المقاتلة والذهاب إلى أفريقية، فذهب إليها تحت أمرة حاجبه الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد أسطول كبير يقل عدداً عظيماً من رجالات الحرب، فعاج أولاً على مدينة وهران وجمع من فرسان الأندلس المحتلين بلاد المغرب نحواً من خمسة وعشرين ألف فارس ثم هجم بالرجلان والفرسان على أفريقية ودارت بينه وبين رجال المعز رحى الحرب فهزم الأندلسيون قبائل صنهاجة وكتامة، وكان يتلف منها السواد(54/1)
الأعظم من جيش الأفارقة - واقتفوا آثارهم حتى بلغوا ضواحي تونس - وهي غنية بتجاربها الواسعة يسكنها كثير من تجار اليهود الأغنياء فحصروها براً وبحراً وألحوا في الحصر، فلما رأى أهلها أن الخطر محدق بهم عرضوا أن يسلموهم المدينة وقدموا مبلغاً كبيراً من المال إلى الحاجب ابن شهيد، وقدموا إليه كذلك أنسجة من كل نوع وطرفاً من الحلي وذهباً وحجارة كريمة وملابس من الصوف والحرير وأسلحة وخيلاً وعدداً عظيماً من الأرقاء، ثم غنم عدا ذلك سفن الميناء وأثقالها وضمها إلى سفنه وكر راجعاً إلى الأندلس.
* * *
ومن سننهم التي مضوا عليها وجرات عادتهم بها أن يحتفلوا بالأسطول عند رجوعه ظافراً من حرب، فتقوم الأساطيل بألعاب وحركات بمرأى من عظماء الدولة ومسمع، كأنها في حرب مع الأعداء فاتفق في اليوم الذي وصلنا فيه إلى المرية أن آب الأسطول الأندلسي رافعاً أعلام النصر في هذه الواقعة، فأمر أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس بأن تقوم الأساطيل بألعابها، فما كان منا إلا أن بادرنا إلى إمتاع أنفسنا بمشاهدة هذه الألاعيب صحبة الأمير، فذهبنا إلى الميناء - ميناء المرية - فوجدنا ثمت في انتظارنا مركب كبيراً كأنه رضَوى أو ثبير، أو الأمل الكبير، فدعينا إلى النزول فيه، ثم أخد لأمير ابن رماحس في أن يرينا ما في هذا المركب من بروج وقلاع ومناظر وتوابيت ومن منجنيقات ومكاحل بارود ونفط - ومن نوتية ومن مقاتلة وأسلحة وهلم مما قضينا منه عجباً - وهذا المركب نوع من الأنواع التي يتألف من منها الأسطول يسمى الشواني الواحد منه شونة وبعد ذلك أخذ هذا المركب يسير بنا الهوينا في اختيال، مترجحاً ذات اليمين وذات الشمال كأنه عروس يرفرف عليها روج الجمال والإجلال، وبعد أن سار في البحر شيئاً وقف بنا حيث نشاهد حركات الاسطول وألاعيبه. وكان الشاطئ. ساعتئذٍ قد غُص بالنظارة من كل صنف من أصناف الناس، والزوارق قد انتثرت على متن البحر من جميع النواحي، وفيها لا يعلم عديدهم إلا الله من الاندلسيين والاندلسيات، كي يشاهدوا حركات الأسطول - فكان لذلك منظر تحسر دونه الظنون، وتتراجع دون إدراكه الأوهام - منظر يهز رواؤه الفكر، ويُشيع الروعة في الصدر، وينتقل من هذا العالم إلى عالم آخر كأنه الخلود.(54/2)
مجال أسود وملهى سفين ... فياطيب لهو ويامنظر
وياحسن دنيا وياعز كلك ... يسوسهما السائس الأكبر
ثم بصرنا بعد ذلك الأساطيل على اختلاف ضروبها، وقد أخذت بصورة شيطانية في ألاعيبها، فإذا رأيت ثَم رأيت، كنائن، غير أنها تمرق مروق السهام، ورواكد هي مدائن، بيد أنها تمر مر السحاب غير الجهام، وأطياراً إلا لها جوارح، لا تصبد إلا الأرواح وأفراساً في سرعة البرق اللامح، سوى أنها ذات دُسُر وألواح.
معيدة السقائف ذات دسر ... مضبَّرة جوانبها رَدَاح
* * *
تتخاذل الألحاظ في إداركها ... ويحار فيها الناظر المتأمل
فكأنها في اللطف فهم ثاقب ... وكأنها في الحسن حظ مقبل
* * *
فيا للجواري المنشئآت وحسنها=طوائر بين الماء والجو موماً
إذا نشرت في الجو أجنحة لها ... رأيت به روضاً ونوراً مكمما
* * *
ذات هدب من المجاذيف حاك ... هدب باك لدمعه أسغاد
حمم فوقها من البيض نار ... كل من أسلت عليه رماد
* * *
ملأة الكماةُ ظهورها وبطونها ... فأتت كما يأتي السحاب المغدق
عجباً لها ما خلت قبل عيانها ... أن يحمل الأسد الضواري زورق
* * *
رأرت زئير الأسد وهي صوامت=وزحفن زحف مواكب في زورق
* * *
ترمي ببروج إن ظهرت ... لعدو محرقة بطنا
وبنفط أبيض تحسبه ... ماء وبه تذكى السكنا
* * *(54/3)
وما زالت الأساطيل تلعب كأنها في سوح القتال، من لدن ذَرَّ قرن الشمس إلى أن جاء وقت الزوال.
* * *
وهنا يجمل بنا أن نقول لك القول على أنواع السفن التي يتألف منها الأسطول الأندلسي وعُددها وآلاتها - فمن تلك الأساطيل نوع ما يقال له الشواني جمع الشونة أو الشيني كما بك آنفاً - وهي أجفان حربية كبيرة تقام فيها الأبراج والقلاع للدفاع والهجوم - وأبراجها ذات طبقات مربعة - فالطبقة العليا منها تقف منها الجنود المسلحة بالقِسيَّ والسهام - وفي الطبقة السفلى الملاحون الذين يجذفون بنحو من مائة مجذاف، ويتراوح ما تحمله الشونة من الشونة من المقاتلة - ما بين المائة والخمسين وبين المائتين - وتجهز الشواني وقت الحرب بالسلاح والنفطية والازودة بله الجنود البحرية، ومن أنواع الأسطول نوع يعرف بالبوارج جمع البارجة وهو أكبر من الشواني - ومثله نوع يقال له المسطحات - ومن هذه الأساطيل نوع يقال له الحرافات جمع الحرافة وهي مراكب حربية كبيرة قُرابَة الشواني بيد أن هذه تماز عن تلك بالمنجنيقات وتلك هذه عن بالقلاع، فتراهم يحملون في الحراقة مكاحل البارود والعرادات والمنجنيقات يرمي بها النفط المشتعل على الأعداء - وهم يعملون الحراقة في صورة الأسد وفي صورة الفيل وفي صورة العقاب وفي صورة الحية وفي صورة الفرس كتلك الحراقات التي كانت للأمين بن الرشيد والتي يقول فيها الحسن بن هانئ:
سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برا ... سار في الماء راكباً ليث غاب
أسداً باسطاً ذراعيه يعدو ... أهزت الشدق كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السو - ط ... ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رأوه على صو - رة ليث يمر مر السحاب
إلى أن قال يصف هذه المطايا:
تستبق الطير في السماء إذا ما ... استعجلوها بجيئة وذهاب
ذات سور ومنسر وجناحين ... تشق العباب بعد العباب(54/4)
أما الطرائد فهي السفن التي تحمل الخيل للأسطول، وأكثر ما يكون فيها أربعون فرساًة والقرافير - فهي السفن الكبيرة التي تحمل الزاد والكراع والمتاع - والفلائك والقوارب والشلنديات فهي من توابع الأسطول كالطرائد والقرافير.
* * *
أما عُدد الأساطيل وآلاتها ومعداتها وأسلحتها فهي الرماح والعِصي والتراس والزرد والخوذ المنجنيقات والعرادات.
وقد رأيت الأندلسيين يستعملون في حروبهم البحرية، النار اليونانية وهي مزيج من الكبريت وبعض الراتنجات والادهان في شكل سائل يطلقونه من اسطوانة نحاسية مستطيلة يشدونها في مقدم السفينة فيقذفون منها السائل مشتعلاً أو يطلقونه بشكل كرات مشتعلة أو قطع من الكتان الملتوت بالنفط فيقع فيحقهل حرقاُ، ومن غريب هذه النار أنها تشتعل في الماء والهواء والنفط - وقد رأيتهم كذلك يستظهرون بالبارود الذي يسمونه الثلج الهندي - ونحن قلم نسمع بأمة من الأمم اهتدت إلى هذا الثلج الهندي قبلهم - ذلك إلى معدات أخرى لا أظنهم قد سُبقوا إليها، أرانيها الأمير ابن رماحس في الشونة، التي كنا نشاهد منها حركات الأسطول، مثل التوابيت المعلقة فوق البروج، وهي صناديق كبيرة مفتوحة من أعلاها، يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو فيقيمون فيها للاستكشاف ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق فيرمون العدو بها وهم مختبئون في هذه الصناديق، ومعهم عدا الحجارة قوارير النفط يقذفون بها السفن والقلاع فتحترق في التو واللحظة - ومعهم كذلك عدا الحجارة وقوارير النفط جرارة النورة وهي مسحوق ناعم مؤلف من الكلس والزرنيخ يرومون بها الأعداء في مراكبهم فتعمى أبصارهم بغبارها وقد تلتهب فيهم التهاباً - وقد رأيتهم وهم يرمونهم أيضاً بقدور الحيات والعقارب وربقدور الصابون اللين كي يزولقوا أقداهم - ومن حيلهم التي يتخذونها وقاء من أعدائهم أنهم يحوطون المراكب بالجلود أو اللبود المبلولة بالخل والماء أو الشب والنطرون كي لا يفعل النفط فيها فعله - ومن حيلهم أنهم يجعلون في مقدم المركب هناة كالفأس يسمونها اللجام، وهي حديدة طويلة محددة الرأس وأسفلها مجوف كسنان الرمح تدخل في أسفلها في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها الاسطام فيصير اللجام كأنه سنان رمح بارز في(54/5)
مقدم المركب فيطعنون مركب العدو به فلا يلبث حتى ينخرق فينصب فيه الماء فيغرق - ومن تلك الحيل أنهم إذا جن الليل لا يشعلون في مراكبهم ناراً ولا يتركون فيها ديكا وقد يسدلون على المراكب قلوعاً زرقاء، فلا يرى العدو مراكبهم التي يشبه لونها لون الماء أو السماء. فسبحان الملهم من يشاء ما يشاء، ويخلق ما لا تعلمون لا إله غيره.
* * *
أما رآسة الأساطيل فقد جعلوا على كل أسطول قائداً ورئيساً فالقائد يدبر أمر سلاحه وحربه ومقاتلته، والرئيس يدبر أمر جريه بالريح أو المجاذيف ومعرفة مسالك البحر وطرقه بواسطة الرهنامج وبيت الابره التي هي مبتكراتهم ولم يسبقهم إليهم سابق فيما علمنا. أما النظر في الأساطيل كله فيرجع إلى أمير واحد من أعلى طبقات المملكة يلقبونه أمير البحر أو أمير الماء.
مدينة المرية
أما مدينة المرية فهي من مشهور مدائن الأندلس، وهي على ساحل البحر الرومي كما اسلفنا، وفيها دار الصناعة، ويربض فيها الشطر الأكبر من الأساطيل الأندلسية، والشطر الآخر يربض في مدينة بجاية - وهي واقعة بين جبلين، فعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة وعلى الآخر ربضها والسور محيط بها وبالربض، وفي غريبها ربض له آخر يسمى ربض الحوض، ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات، وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة وأحجار أولية وكأنما غربلت أرضها من التراب، ولها مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار، وطول واديها أربعون ميلاً في مثلها كلها بساتين بهجة وجنان نضرة مطردة وطيور مغردة وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام - وبها لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول وللحل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول، وللثياب الجرجانية والأصفانية كذلك - ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف، وقد علمت أنه لا يوجد في بلاد الأندلس أكثر مالاً من أهل المرية، ولا أعظم متاجر وذخائر - وبها من الحمامات والفنادق نحو الألف وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسناً - وفيها كثير من العلماء والأدباء والفلاسفة.
وجملة القول أن المرية هذه كما رأيت تزخر بالحياة زخراُ، وتنطق بنشاط المسلمين(54/6)
وجدهم، وبأقصى غايات عزهم لذلك ومجدهم
فلو أن السماء دنت لمجد ... ومكرمة دنت لهم السماء(54/7)
روح الإسلام
الأكبر نصير للإسلام اليوم سيد أمير علي
لما ظهر محمد كان العالم لا عهد له بما يسمى الحقوق الدولية. فكانت الحرب إذا نشبت بين القبائل المختلفة أو الأمم المتنوعة، كانت نتيجتها أن القبيلة أو الأمة الفائزة تبطش بالأمة المغلوبة فتذبح رجالها وتسبي نساءها وتأسر عجزتها وصبيانها وتغنم أسلابها وتنهب متاع دورها وأثاث قصورها وتغصب عقارها وأموالها.
إن الرومان الذين استغرقوا ثلثمائة وألف عام في تكوين مجموعة قوانينهم ونظام شرائعهم لم يفطنوا قط إلى هذه المسألة الخطيرة. أعني واجبات السلوك الدولي، وفررائض المعاملات الإنسانية، فكان لا باعث لهم على الحرب والقتال إلا الرغبة في إخضاع الأمم المجاورة. وكانوا إذا انتصروا ففازوا بغرضهم من إخضاع الأمة المهزومة تحكموا فيها وضربوا على أيديها وساموها الخسف والضيم وتصرفوا فيها تصرف السيد في المسود. والأرباب في العبيد. كانوا إذا أبرموا عهداً مع المغلوب ثم بدا لهم أن ينكثوه لفائدة أو منفعة لم يترددوا في ذلك طرفة عين. وكانت حقوق حرية الشعوب المهزومة لا قيمة لها عندهم ولا تزن في نظرهم مثقال ذرة فلما دخلت النصرانية في العالم الروماني لم تحدث لأدنى تعبير أو تبديل في آراء مشرعي الرومان عن مسألة الواجبات الدولية بل بقيت الحرب على ما كانت عليه قبل من فظائع التخريب والعسف. والتدمير والحيف. ولضيم والإذلال. والإبادة والاستئصال. وذلك أن المسيحية أخلت نفسها ونفضت يدها من مسألة المعاملات الدولية والواجبات الإنسانية المتبادلة بين شعب وآخر - وبذلك تركت أربابها وأتباعها يتعسفون مجاهل الضلال في أسود ياجير الجهل والعماية.
والعجب العجاب أن ترى العلماء والمفكرين من فطاحل العصور الحديثة بدلاً من ان يعتدوا هذا عيباً في نظام المسيحية وخللاً في جهاز شريعتها سببه أن هذه الديانة كانت قد تركت عند هلاك مؤسسها في حالة نقص بين لم تستكمل أصولها ولم تستنم قواعدها - حاولوا تبريرها وتحبيذها! ضلة منهم وسفهاً مصدره الأهواء الزائغة والمحاباة الباطلة. وهذا لعمرك مذها جائر يقضي بأن ما يعد صواباً بالنسبة للأفراد يعتبر خطأ بالنسبة للأمم والعكس بالعكس. وهكذا بقيت الديانة وواجبات الآداب التعاملية بمعزل عن نظام القوانين(54/8)
والشرائع. فأصبحنا نرى الدين مع ادعائه أنه المنظم لما بين الأفراد من العلاقات والروابط لا يعترف بأن هنالك علاقات وروابط بين المجاميع المختلفة المؤلفة لجملة الإنسانية. وبذلك انحط الدين عن المنزلة اللائقة به وأصبح لا يعدو كونه تظاهراً بفيضان الوجدان والشعور أو طريقة لتبادل التقاريظ والاطراءات في مواطن الجمل ومواقف المناظرة - وإن كان (أي الدين) ربما ارتفع أحياناً إلى مرتبة الفلسفة الأخلاقية.
إن الأساس الذي عليه تقوم الحقوق الدولية وواجبات السلوك بين مختلف الأمم هو معاملة الشعوب كالأفراد والاعتراف بأن لهؤلاء من الحقوق مثل ما لاولئك وأن النظام الحقوقي للاثنين واحد. لأنه كما أن من الأفراد تتكون الشعوب فكذلك من الشعوب تتكون الإنسانية - فحقوق الأمم واوجبات المتبادلة بينها لا تختلف بوجه ما عما هو عليه كائن بين الفرد والفرد.
لا أنكر أن نهضة الكنيسة اللاتينية في غربي أوروبا وما اقتضى ذلك من توسيع سلطة الأساقفة بمدينة روما ومد نفوذهم قد أوجد في عالم النصرانية اللاتينية شيئاً من المسؤولية الدولية. وكلن هذا كان مقصوراً على اتباع كنيسة روما - أو كان في الأحايين القليلة يتناول عالم المسيحية الإغريقية على سبيل الامتنان والتفضل. أما سائر شعوب الأرض فكانت تحرم ثمرات هذه المسؤولية. حتى أصبح الدين يتخذ ذريعة للاعتداء على الأمم المستضعفة وحجة مبررة لاضطهادها واهتضام حقوقها فباسمه كان يرتكب في هذه السبيل كل جريمة وتقترف كل جناية. إذ كانت الكنيسة تصادق على كل فظائع السطو والاستلاب. وتؤمن على مظالم العسف والاغتصاب. وإذا أفرط الجبار المستبد في الظلم والحيف استطاع أن يخرج من ذنوبه ويتخلص من آثامه بتوسيط الكنيسة بينه وبين رب العباد. وتشفيعها في جرائمه يوم الحشر والمعاد. وكذلك كان الطاغية الغشوم لا يعدم من الكنيسة شفيعاً لدى الرحمن. وممهداً وموطئاً بحابح الجنان. فمن مذابح شارلمان التي أتاها بترخيص الكنيسة ومصادقتها إلى قتل أو أسر شعوب أمريكا الأصليين الأبرياء تمتد سلسلة متوالية من الاعتداءات على حقوق الأمم وواجبات الإنسانية، فهذا الاستخفاف بالأساسي من قواعد المروءة وأصول البر والتقوى هو أيضاً كان الدافع إلى الاضطهاد من كان من أتباع المسيح قد جرؤ على إيتان شذوذ في الرأي والتفكير عن سنة الكنيسة.(54/9)
ولما ظهر المذهب البروتستانتي لم يحدث أدنى تغيير في هذه الحالة، بل إن ما وقع من الحروب وضروب الاضطهاد بين أرباب النحل النصرانية المختلفة يصح أن يؤلف منه تاريخ قائم بذاته فقد قال هالام في تاريخه: إن جريمة الاضطهاد هي الجريمة الأساسية الدولية التي كان يرتكبها أرباب الملل الجديدة من أهل المسيحية حتى أنك إذا قرأت أخبارهم لم تلبث أن تثور عليهم أو تحنق على مسلكهم فيتحول انتصارك لهم مقتاً لهم وعطفك عليهم اشمئزازاً منهم.
على أنه مهما بلغ من اختلاف النحل النصرانية الجديدة في ما بينهم أو بلغ من شذوذهم عن كنيسة روما من حيث المسائل الفقهية والنقط المذهبية فلقد أتفقوا جميعاً ضد الشعوب الخارجة عن دائرة المسيحية في إجماعهم على الامتناع من تبادل الحقوق والمصالح مع أولئك الشعوب قاطبة فهذا جروشياس مؤسس القانون الدولي في أوروبا قد استثنى الأمم الإسلامية من امتياز تبادل الحقوق والمصالح مع الأمم الأوروبية.
أما روح الإسلام فعلى عكس ذلك، مناف للاحتجاب والاحتجاز مناقض للانفراد والاعتزال. فإن محمداً بالرغم من ظهوره في عصر جاهلية الأمم وانغماس العالم في ظلمات الضلال قد وضع من مبادئ العدالة ما لم يفطن لبعضه زعماء أي ملة أخرى، وسن من القوانين الممتازة بفرط التسامح وسعة النظر ما لم يكد يوجد في أي دين آخر. فلقد قال ذلك المؤرخ النابغة الذي أشرنا إليه آنفاًإن الإسلام إنما كان يعرض دينه عرضاً ولا يفرضه فرضاً وإذا كان يمنح الأمم المقهورة إذا احتضنته مزية مساواة الأمة الفاتحة أعني المسلمين في كافة الحقوق والمصالح ويخلصها من كل ما كان جميع الأمم القاهرة قد اعتادت ضربه على المقهورين من الشرائط القاسية. والفرائض العاتية منذ بدأ العالم إلى مظهر محمد صلى الله عليه وسلم.
وبمقتضى الشرائع الإسلامية كان كافة الخاضعين لدولة الإسلام من أهل الديانات المخالفة يمنحون حرية الضمير والفكر والعقيدة وفي الآية لا إكراه في الدين أوضح دليل على ما قد امتاز به الإسلام من فضيلة الرفق والبر والرأفة والتسامح وبعد ذلك كله يقوم أهل العناد والمكابرة فيرمون الإسلام بالبطش والفتك والقسوة. ونرى أناساً قد بلغ من فرط ظلمهم وجورهم ولجاجهم في الباطل وتعاميهم عن الحق أن ينسبوا التعصب والجبروت والعسف(54/10)
الذي ينطق بأمثال الآيات الآتية:
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
صل من قطعك واحسن إلى من ساء إليك
أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم
ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك
وليذكر القارئ أن هذه الآيات والأحاديث ليس مما يصدر عن صاحب مبدأ غيور متحمس لكنه ضعيف غير ذي بأس أو فيلسوف خيالي ينشر من المبادئ ما لا طاقة له بتنفيذه قد يديه الأحزاب المعاكسة والقوات المعاندة ولكنها كلمات رجل في غلواء قوته وعنفوان شبابه على رأس حكومة قوية محكمة النظام قادر على تنفيذ مبادئه بحد سيفه المشهور.
ونحن ما زلنا نرى في عالم السياسة والديانة أن الأفراد والأحزاب لا تحض عل خلة التسامح والرفق والتجاوز إلا وهي حالة الضعف والعجز. حتى إذا ما اجتمع إليهم من الحول والطول ما يستطيعون به محاربة الأحزاب المعارضة ذهب ما كانوا يدعون من حب التسامح والتجاوز واستبدلوا به القسوة والاضطهاد. فلا رقى قسطنطين عرش القياصرة زال الخطر عن المسيحية وأمنت شر المسيئين والمعتدين، ولكن منذ هذه الساعة ابتدأت المسيحية خطة من العسف الطغيان والبطش والاضطهاد لا يدانيها في الفظاعة إلا خطة اليهود من قبل. قال المؤرخ ليكي: لم تكد الكنسية المسيحية تكتسب السلطة المدنية في حكم قسطنطين حتى سلكت أسوأ مناهج السقوة والقهر والإكراه سواء ضد اليهود والوثنيين والخوارج. فتولت التنكيل بهم على أشنع آلات العذاب - تحرقهم على جمرات نيران بطيئة الالتهام، وتنضج جلودهم على جذوات أفران متمهلة الضرام، لتربهم بذلك مبلغ ما وصلت إليه المسيحية من الرأفة والرفق والإنساني. وأعجب من ذلك أن ترى زعماء المسيحية قد جعلوا واحداً بعد واحد يكتبون الرسائل عن قداسة القسوة والاضطهاد ومن بين هؤلاء قديس قد اشتهر بالبر والتقوى - فهذا أدلى بالعدد الجم من البراهين والادلة على صواب اتخاذ أشنع وسائل العقاب والتمثيل، وأفظع طرائق العذاب والتنكيل، محتجاً بوق المسيح ما معناهأرغموهم على الدخول في الدين.
تلك شيمة النصرانية، ولكن انظر إلى الإسلام في أقصى صولته وسلطانه لما دخل محمد(54/11)
الكعبة مظفراً منصوراً قد هبت ريح فوزه وسطعت نجمة عزه وأخذ يحطم الأنصاب والأوثان، ويعلن أنها رجس من عمل الشيطان. لم يظهر إ ذاك عنفاً ولا عدواناً. ولا بطشاً ولا طغياناً، ولكن رحمة وحناناً، وبراً وإحساناً إذ قال لقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، وحينذاك أذاع معروفاً وبراً، وأوصى بالضعيف والفقير خيراً، وأمن الخائف وأغاث اللهيف وأطلق العاني وفك الأسير.
ولم يقتصر محمد على الإيصاء بالرفق والتسامح بل جعل ذلك قانوناً موضوعاً وشرعاً متبوعاً. فكان يمنح ألأمم المقهورة الحرية المطلقة في اختيار ما شاؤوا من ألأديان والعقائد. ومقابل هذا التمتع بحرية العبادة لم يكن يطلب منهم أكثر من جزية محدودة. ومتى عقد الاتفاق على هذه الحرية فكل تداخل في شأن دياناتهم أو حرية ضمائرهم كان يعد خرقاً لقوانين الإسلام ونقضاً لشرائعه. . . . فهل يستطيع امرؤ أن يقول مثل هذا عن أي دينآخر؟. وإليك رسالة محمد إلى نصارى نجران: قال صلى الله عليه وسلم ما نصه بمعناه إن رسول الله يكتب إلى قساوسة بني الحارث وقساوسة نجران وأساقفتهم وأتباعهم ورهبانهم بالترخيص لهم بالإقامة على دينهم واستدامة شعائرهم ومناسكهم صغيرها وكبيرها سواء في الأديرة والكنائس والهياكل والمعابد. ويعظهم عهد الله وميثاقه وحمايتهم ورعايتهم فلا يطرد أسقف من أسقفيته ولا قس من كنسيته ولا راهب من ديره. ولا تمس كرامتهم ولا يعتدى على نفوذهم وسلطتهم ولا يغير أدنى شيء من مراسمهم وتقاليدهم. وما داموا على مراعاة حرمة السلام والاستقامة فلا ينالون بسوء ولا أذى ولا يحل بهم ضيم ولا اضطهاد، فهذا دليل يبين على أن نشر الدين بالسيف كان منافياً لروح الإسلام متناقضاً لمذهب محمد كما أن الجدال والخصام في المفاضلة بين الأديان والعقائد كان من أبغض الأشياء إليه. وكثيراً ما كان يقول ما معناه قيم المخاصمة والمنازعة فيما تجهلونه. ألا فاجعلوا همكم الاستباق إلى الحسنات، وابتداء الصالحات والطيبات.
والآن نرجع إلى النظر في وجوب حروب محمد لاستقصاء بحثها وفحصها. فقد رأينا أن وقائع المسلمين تحت قيادة النبي مع القبائل المختلفة كان سببها عدوان الوثنيين وبغيهم مما اضطر المسلمين إلى الدفاع عن أنفسهم والمحافظة على كيانهم.
أما وقعة مؤته وغزوة تبوك وهما أول ما قام به المسلمون لمدافعة اعتداء دولة أجنبية(54/12)
(الروم) فقد أثارهما ما كان من مصرع سفير المسلمين بأسياف الروم، فولا قيام المسلمين بعقاب نصارى الدولة الرومانية الشرقية على ذبحهم ذلك السفير لما وجد أعداء الإسلام سبيلاً إلى اتهامه بأنه لم ينتشر إلا بحد الحسام، فأما وقعة مؤتة فكانت سجالاً لا عليهم ولا لهم وأما غزوة تبوك وكانت دفاعية محضة (لصد جيوش هرقل) فلم تشف نفوس المسلمين بثأر ذلك السفير القتيل بل تركت دمه مطلولاً أثناء حياة النبي. ولكن خلفاءه لم ينسوا ذلك الدم المهراق ولم يلبثوا أن أدركوا الثأر من دولة الروم الباغية فأنزلوا بها من العقاب أنكله وأنكاه، ومن الانتقام أشده وأقساه.
إن مبلغ اتساع الدولة الرومانية الشرقية وامتداد أملاكها وولاياتها ترك المسلمين في حالة حرب مستمرة مع الجانب الأكبر مة العالم المسيحي، أضف إلى ذلك ما كان لولاة الولايات الرومانية من السلطة الشاذة تحت سلطة قياصرة الدولة الرومانية الشرقية المتضائلة المضحكة، صعب على ملوك الإسلام حسم هذا النزاع بوسائل المعاهدات والمحالفات مع أولئك الولاة، فكان المسلمون لا يكادون يفرغون من أحدهم بعد إخضاعه وعقد المعاهدة معه حتى يداهمهم آخر بضري من الاعتداء فيضطرهم إلى معاقبته. ومن ثم استمر المسلمون مع عالم النصرانية بأسره في حرب عوان شرعية مبررة.
ولا أدعي أن المسلمين لم يندفعوا قط إلى محاربة الشعوب المسيحية بعوامل الاعتداء والجشع. فإنه لن يدعي مثل ذلك إلا جاهل بطبيعة الإنسان وغريزة البشر، إذ أن من المحال أن ترى المسلمين بعد إيغالهم في ممالك الأعداء وتغلغلهم في صميم أحشائها وبعد ما أدركوا من تلك الفتوحات المتوالية والانتصارات المتتالية في أقصر مدة من الزمن مما لم يسبق له نظير في تاريخ العالم - وبعدما تقرر في نفوسهم من ضعف الأمم المجاورة ووهنها - يستطيعون أن يستمروا على مبدئهم الأول من التسامح والتجاوز فيبقون داخل نطاق القانون لا يتعدونه كما إني لا أنكر أنه قد كان بين أتباع محمد من الحروب ما لا تقل فظاعة عما وقع بين أتباع المسيح. ولكن هذه الحروب كانت داخلية أسرية_منبعثة عن تنافس الأسر الحاكمة المختلفة) وهذا السبب بعينه هو الذي أدى إلى ما حل ببعض الطوائف الإسلامية من الاضطهاد والضيم، فإن ما أصاب أبناء علي وفاطمة من ألأمويين راجع ولا شك إلى تلك العداوة القديمة والأحقاد المتأصلة في نفوس قريش على بني هاشم(54/13)
وزعيمهم محمد كما سأبين فيما يلي: -
ولا خفاء في أن ذوي المطامع من قادة المسلمين كانوا كأمثالهم من زعماء المسيحية وملوكها يتخذون الدين ذريعة إلى غزو لأمم والشعوب للاستيلاء عليها قضاء لمآربهم. ولكنا كنا نقصر أبحاثنا على تأصل روح الشرائع والوصايا التي سنها محمد وأدلى بها إلى أتباعه تراثاً كريماً مشرفاً، فإن روح الاعتداء لا يتبين لها أدنى أثر في تلك الشريعة الغراء التي أدخلت قانون حقوق الأمم في نطاق الإسلام ودائرته وما برح المسلمون وهم في اوج مجدهم وعنفوان سلطانهم يخاطبون الأمم المغلوبة بأمثال هذه الكلمات:
كفوا العداء. واقصروا عن الاعتداء. وحالفونا نكن لكم من الأولياء ونمحصكم الحب والولاء. والحفاظ والوفاء. أو ادفعوا الجزية نجركم ونؤمنكم ونرعى حرمكم ونصون حريمكم ونحفظ حقوقكم. أو ادخلوا في ديننا نسوّكم بأنفسنا في كل شؤوننا وأحوالنا لا يكن ثمت فارق بينكم وبيننا - لكم مالنا وعليكم ما علينا.
إن القواعد الأساسية التي عليها بنت قواعد الإسلام الحربية لتدل على تلك الحكمة والسداد والبر والتقوى التي هي أكبر من مزايا الشريعة الإسلامية وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم. ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
ولما حول المسلمون جيوشهم إلى فارس كان داعيهم إلى ذلك أحوال وظروف خاصة، فإن المناذرة وهم أسرة نصف عربية كانوا يحكمون تحت لواء المملكة الفارسية. وكانوا مع وجود العداوة السياسية بينهم وبين قياصرة الروم إلا أنهم كانوا مرتبطين بأولئك القياصرة بأواصر الدين (المسيحية) والمصلحة. ولذلك كان لأوائل حروب المسلمين مع الدولة الرومانية الشرقية تأثير على أهل الحيرة الذين هم رعية المناذرة.
وكانت ولايات الحيرة تشمل بقية عظيمة من الأرض تمتد من شواطئ الفرات غرباً متجاوزة صحراء العراق إلى ما يلي مراعي العرب الغسانيين (من أرض الشام) الذين كانوا ولاة القياصرة (ملوك الدولة الشرقية الرومانية).
وكانت منزلة ولاية الحيرة تحت سيادة الفرس تمائل منزلة ولاية جوديا تحت سيادة أغسطس قيصر أو طيبارنوس قيصر. وكان على الحيرة في أبان غزو المسلمين لبلاد فارس حاكم فارسي. ولكن الأكاسرة لفرط غيرتهم كانوا قد أشركوا في السلطة مع خليفة(54/14)
المناذرة مرزباياً (أعني عميداً) وكان أهل هذه الناحية (أعراب الحيرة) لا يحتملون رقابة أمراء الفرس ولا سيطرتهم (كشأن ذريتهم اليوم) فجعلوا يشنون الغارات على القبائل المجاورة حتى امتد أذاهم إلى المسلمين. وكانت حكومة هؤلاء قد اشتدت وتضاعفت قوتها بإخضاع من كان ثار من قبائل العرب وارتد عقب وفاة محمد. وأصبحت دولة العرب متماسكة متدامجة مجتمعة ململمة متآزرة متضافرة تحت سلطان ملك فرد وخليفة واحد - عمر - فأصبحت ترى من العار أن يحتمل اعتدءآت ولاية حقيرة من ولايات دولة مضمحلة قد آذن عهدها بانضرام. وتداعي صرحها لانهدام. . . . فجرد خليفة المسلمين جيشاً لغزو العراق فزحف هذا الجيش على الحيرة ففر المرزبان هارباً إلى المداين عاصمة الدولة الفارسية وأذعن الأمير العربي - بلا كفاح ولا نضال - إلى جيش المسلمين تحت قيادة البطل الهمام. والأسد الضرغام. سيف الله القاضب. وشهاب الله الثاقب. خالد بن الوليد.
ولما استولى المسلمون على الحيرة أصبحوا على أبواب دولة الأكاسرة. وكانت هذه الدولة قد تتابعت عليها فتن وثورات داخلية ارتكبت فيها الفظائع والجرائم. ثم أتيح لها في شخص الملك يزدجر حاكم صارم العزيمة بعيد الهمة. فاستطاع هذا الملك القادر أن يوجه إلى كتائب المسلمين الزاحفة جيشاً ململماً. وخميساً عرمرماً. وكان عمر إذ ذاك خليفة الإسلام بالمدينة. ومع تفوقه على سلفه أبي بكر في توقد العزيمة والنشاط وطموح الهمة وبعد الغاية فقد كان عنده من الحزم والاناة والروية ما آثر معه أن يجرب مع الملك يزدجر أولا طريقة المسالمة فعرض عليه بواسطة سفرائه شروط التحالف المعهودة حقناً للدماء. وتفادياً من كوارث الهيجاء.
أما هذه الشروط فهي اعتناق الإسلام وهو داعية كل خير وباب كل بر والكفيل بتقويم تلك الخطط السياسية العوجاء التي هبطت بالدولة الكنعانية (الفارسية) إلى وهدة الضعة والانحطاط. ونقص تلك الضرائب الفادحة التي امتصت دماء الشعب. وتنفيذ مبادئ العدل حسب نصوص الشريعة الإسلامية التي قضت بالتسوية بين مختلف الرتب والدرجات. والمنازل والطبقات في اعتبار القانون. فأما الرضوخ لهذه الشروط وأما دفع الجزية مقابل التمتع بنعمة الحماية. فلم يكن من الملك يزدجرد إلا أنه رفض هذه الشروط المعروضة(54/15)
رفضاً مقروناً بالأنفة والكبرياء. . . . والاستهانة والازدراء. . فنشب القتال بين المسلمين والفرس وحدثت وقعة القادسية ووقعة نهاوند. فأنحن المسلمون في جموع الفرس وأفنوا منهم خلقاً كثيراً ومزقوا شملهم كل ممزق. وقتل إذ ذلك كثيراً من أشراف الدولة وكهنتها ممن كان جل همهم وأقصى مناهم في استدامة دولة الفوضى والفساد. وحكومة الظلم والاستبداد. وفر الملك يزدجرد هارباً كما فعل سلفه داريوس من قبل. ورحب بنوساسان (أمة الفرس) بالمسلمين إذ رأو فيهمخ منقذيهم من دولة المنكرات والمآثم. وحكومة المجحفات والمظالم.
إن تحول الشعب الفارسي بأسره إلى دين محمد وانمحاء المجوسية من تلك البلاد البتة لمما يحتج به أحياناً على نفي روح التسامح عن الدين الإسلامي ووصمه بروح التعصب والاستبداد. ولكن من تأمل الظروف التي كانت عليها أمة الفرس عند استيلاء المسلمين على بلادهم أدرك بطلان هذا القول. وذلك أن روح التعبد والتدين لم يكن لها أدنى أثر بين أمة الفرس في ذلك الحين.
وكان الشعب قد تضعضع وتحطم وهبط إلى أسفل درك الانحطاط والاضمحلال. والتفكك والانحلال بتأثير أسوأ عاملين. وأخبث آفتين: فساد الطائفة الدينية (المجوسية) وانحطاطها. وفجور الهيئة الحاكمة وسوء إدارة الحكومة. أضف إلى ذلك أن بدعة المذهب المازادكياني والمذهب المانيكياني كانت قد فصمت كل عروة ورابطة في النظام الاجتماعي. فكان كل ما صنعه كسرى يزدجرد هو أنه استطاع أن يؤجل إلى حين انحلال الروابط الاجتماعية بتة وانهدام بنيان المجتمع انهداماً تاماً.
فكانت النتيجة أنه بمجرد دخل المسلمين تلك البلاد مبشرين بتوطيد دعائم النظام والقانون هنالك تهافت الشعب بأسره على الإسلام ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً وانضوت أمة الفرس تحت لواء الملة المحمدية إلى ألبد.
فمن حقق النظر ودقق البحث عرف بطلان ما عزاه خَطأ أمثال المؤرخ موبر حيث يقول في رسالته عن الإسلام لقد كان من الضروري لبقاء الإسلام أن تتبع في نشره وسائل العنف والقهر. والغضب والقسر. وإن ما يرمي إليه من التفشي في جميع الشعوب التعميم في مشارق الأرض ومغاربها كان أمراً يتحتم تنفيذه بحد الحسام وبديهي أنه ليس من دين(54/16)
ظهر في العالم إلا أتى عليه دور أصبح فيه سالكاً ملك الاغتصاب والاعتداء تبعاً لمذهب زعمائه ورؤسائه. وكذلك كان شأن الإسلام في بعض أدواره. فأما أنه يجتذب الناس إليه عنوة وقهراً أو أنه كان في أي أدوار حياته أكثر عدواناً. وأشد طغياناً من أي دين آخر، فهذا زور وباطل يقوم بتنفيذه ألف دليل من التاريخ والواقع.
ما شهر الإسلام السيف ولا اعمله إلا دفاعاً عن كيانه. وذودوا بنيانه. وكذلك سيفعل ما بقي له على وجه البسيطة أثر ببصر. وشأن يذكر. ولكنا ما رأينا الإسلام قد يتداخل في شأن أي دين ذي فضيلة ولا يأخذ الناس باضطهاد ولا بتعذيب ولا يؤسس أمثال ما كان من المسيحية من محاكم التفتيش ولجان التنكيل والتمثيل. والإسلام - هداك الله - لم يخترع آلات التعذيب لمحو الاختلافات المذهبية وغل الأذهان وأسر العقول ودفن الضمائر واستئصال البدع والأهواء واصطدام جرثومة كل مروق وشذوذ - وهذا كبر خطر على حرية التفكير وشر عائق للرقي والتقدم وأعظم بلاء على المدينة. وليس أحد ينكر أن النصرانية حينما كانت تدعي أنها الدين الأقدس المعصوم من كل خطأ وزلة - كانت تسفك من الدم الطاهر الزكي. البريْ. النقي أكثر مما سفكه أي نظام آخر من دين أو حكومة منذ بدء الخليقة. فلما صارت النصرانية في انكلترا البروتستانتي ظلت طائفة البريزبارتين هنالك تلقى أشنع ضروب التعذيب السنين العديدة - حبساً في ظلمات السجون وكياً بالنيران وتقطيعاً للأوصال والأعضاء. وتمزيقاً للجوارح والأشلاء. وتنكيلاً. وتمثيلاً.
أما في اسكوتلندة فكانوا يطاردون فيقتنصون كالوحوش في البراري والقفار. والانجاد والأغوار. وكانت تصطلم آذانهم من جذورها وتستل ألسمنتهم من اوصلوها. وتكوى جلودهم بالمياسم المحماة في الأفران. وتنتزع أصابعهم من رواجبها بنسافات حديدية. وتفضخ عظام أرجلهم في أحذية فولاذية. وكانت النساء تسام سوء العذاب علانية على قارعة الطريق بمشهد الجماهير الكثيفة. وكذلك طوائف الكاثوليك كانوا بعذبون ويشنقون ويلقون في النيران أحياء فتجعل أشلاؤهم حطباً لجاحمها المشبوب وقوداً. ولكن هذه الملل المختلفة والنحل المتنوعة وهذه الطوائف المتناكرة والأحزاب المتنافرة بين كاثوليك وبروتستانت وأرثودوكس وغير أرثودوكس - كانوا جميعاً يطرحون الخلاف والتناقض. وينبذون الفوو والترافض. ويتركون الخصام والمجادلة. والمشاحنة والمناضلة. ثم يترافدون(54/17)
ويتساندون. ويتآزرون ويتناصرون. فيصبحوا جميعاً حزباً واحداً وعصبة فردة ضد الأقوام غير المسيحية جميعاً. ففي انكلترا كانوا يعذبون اليهود ويشنقونهم. وفي اسبانيا كانوا يحرقون المسلمين. وكان الزواج أمراً محرماً بين النصارى واليهود وبين النصارى والكفار (يعني المسلمين) وإذا وقع عد باطلاً وملغى. بل كان عند المسيحيين من أشنع المحرمات يعاقب عليه بأشنع العقوبة بل إنا لنبصر في هذا العصر الحاضر أمريكا المسيحية تلقي في النار الزنجي المسيحي إذا جرؤ على التزوج بامرأة مسيحية بيضاء. فهذا وربك أثر آخر على طغيان المسحية!
ولا تزال هذه اللحظة ترى أن بقعة لم تفض فيها أنهار العلوم الحديثة وكل ناحية لم تبعث فيها مبادي، التفكير النظامي العلمي روحاً جديدة - فهنالك روح القسوة والاستبداد والعنف والتعسف لا تزال سائدة متسلطة، وهنالك البغض القديم والحقد على الإسلام لا يزال يبدو في مظاهر شتى: في حملات الصحف والجرائد وغيرها من النشرات والرسائل وفي أحاديث الأندية ومجادلات المجالس ومشاحنات المحافل وفي تضاعيف الخطب والمحاضرات العامة، فروح الاضطهاد لم تذهب إلى النصرانية ولم تنعدم ولكنها كامنة راكدة تتوقع أدنى استثارة من رجل متعصب متعسف فتنفجر انفجار البركان. وتنبجس انبجاس الطوفان.
وكمين الحريق في العود مخفي ... وحقين الرحيق في العنقود
والآن نتحول عن هذه الصورة المنكرة إلى عالم الإسلام. فنقول: بينما كانت المسيحية تبتلى بأفظع ضروب الاضطهاد ملتي اليهود والنسطوريين على حد سواء وقوم أسوأ العذاب أولئك الأقوام المزعوم أنهم ذرية الذين صلبوا الهم الروحاني والذين أبوا أن يقدسوا أمه العذراء - بينما كانت المسيحية تصنع هذا بهؤلاء الناس كان الإسلام يترفق بهم ويتعطف عليهم ويمنحهم نعمة رعايته وحمايته.
أجل بينما كانت اوروبا المسيحية تحرق الساحرات والخوارج والزنادقة وتذبح اليهود والكفار (أعني المسلمين) كانت ملوك الإسلام تعامل رعاياهم غير المسلمين بمنتهى الرفق والتسامح - يتخذون منهم الوزراء والمستشارين والأمناء وكتمة الأسرار. وكل مأمون على الغيب مستودع للثقة مستكفي جلائل الأعمال. وكل أمر ذي بال، وكذلك كانت وظائف(54/18)
الحكومة ومناصب الدولة مستباحة للمسلم وغير المسلم على السواء. ولقد أحل النبي عليه السلام زواج المسلم من اليهودية والنصرانية والزردشتيه. ولكنه لم يحلل ذلك لأسباب سياسية ظاهرة. وهذه تركيا وفارس الإسلاميتان تستند مصالحها الخارجية إلى نفر من نصارى رعيتها. وكذلك نرى أن اختلاف الدين يعد في عالم النصرانية جريمة ولكنه في نظر الإسلام لا يعد إلا شيئاً عرضياً وأمراً اتفاقياً. وقد قال المؤرج ايركيهار (مازال اختلاف الدسن في مذهب المسحيين بعد سبباً حاملاً على إقامة الحرب وليس هذا مقصوراً على عهد القرون المظلمة ولا بين ذوي التعصب الديني فقط، ومن نظر في صحف التاريخ رأى أنه منذ مذابح السكسون والفرزبانيين وغيرهما من القبائل الجرمانية باسم الدين بسيف شارلمان، ومنذ مقتل الملايين من خلق الله في المكسيك وفي بيرو، ومنذ إحراق الالآف من عباد الله الصالحين رجالاً ونساء. ومنذ مذبحة قبيلة الالبيجبنزبين ومنذ المشاهد الدموية التي وقعت في الحرب الثلاثينية الدينية - إلى فظائع الاضطهاد التي وقعت في اسكولتندة الكلفينسنية (نسبة إلى مذهب كالفين الزعيم الديني المشهور) وفي انكلترا اللوثرية (نسبة إلى مارتن لوثر وهو أشهر من أن يذكر) - تمتد سلسلة متوالية متواصلة من الظلم والعدوان والبغي والطغيان. والجهل والجمود والتعصب.
لقد قيل أن دين الإسلام ذا الغبي والعدوان قد بث روحاً حربية في عالم النصرانية أثناء القرون الوسطى، فرداً على هذا نقول أن مذابح جاستنيان وحروب كلوفيس الفظيعة التي جرت باسم الدين (المسيحية) قد وقعت قبل عهد محمد بأزمان طويلة.
قارن أيضاً بين سلوك النصارى الصليبيين والمسلمين. لما استولى الخليفة عمر على بيت المقدس في عام 637 بعد الميلاد سار على ظهر جواده خلال المدينة إلى جانب البطريق (سوفرونيوس) يحاوره في شأن ما بها من الآثار. فلما جاءت ساعة الصلاة أبى أن يصلي في كنيسة (البعث) حيث اتفق وجوده إذ ذاك واكنه أدى فريضة الصلاة على عتبة كنيسة (قسطنطين) واحتج لعمله هذا بقوله للبطريق (لو أني تبعت رايك لما أمنت أن بجرؤ المسلمون في مستقبل الزمان أن ينقضوا المعاهدة بحجة أنهم يحذون حذوى ويقفون أثري) فلما استولى الصليبيون على المدينة لم يمتنعوا من فلق جماجم الأطفال على الجدران وقذف الرضعاء من فوق شرفات الحصون. وشي الرجال على جمر النيران. ومن يقر بطون(54/19)
الناس لاتهامهم بابتلاع الذهب والفضة. ومن احراق اليهود في معابدهم. وفي هذه المذبحة بلغ عدد القتلى 700000 نفس وقد شوهد مندوب البابا بين طائفة المعتدين يشاركهم سرورهم وطربهم.
وخلاصة القول أن الإسلام جرد السيف دفاعاً عن كيانه. وشهرت المسيحية السيف لإخماد الفكر واستعباد الأذهان والضمائر. ولما اعتنق قسطنطين النصرانية أصبحت هذه الديانة سلطان الأديان في عالم الغرب فلم تكن تخشى أدنى اعتداء من أعدائها. ولكنها منذ بلغت هذه السلطة والنفوذ تخلقت بخلائق التعصب والاعتزال والاستبداد فحيثما تمكنت النصرانية استحال على أي دين آخر أن يرفع رأسه دون أن تتناوله المسيحية بالبغي والعدوان. أما المسلمون فعلى العكس من ذلك كانوا يكتفون من أرباب العقائد الأخرى بضمانات المسألة والمحاسنة ودفع الجزية مقابل الرعاية والحماية - هذا وإلا فالمساواة في الحقوق والامتيازات والمصالح - إذا قبلت الأمم المغلوبة الدخول في الإسلام.(54/20)
قصة الكاس
للكاتب الألماني لودويج تيك
نقلها إلى العربية الكاتب الفاضل علي أفندي أدهم
(الفصل الأول)
كانت أجراس الظهر تدق في الكنيسة الكاتدرائية العالية، وفي الساحة المنبسطة أمام الكنيسة كان الرجال والنساء في جيئة وذهوب، ورواح وغدو وكانت العربات تكر وتسير، وكان القساوسة يحثون الخطى متجهين إلى كنائسهم المختلفة، وكان فرديناند واقفاً على السلم العريض يرمق الناس وهم قادمون للصلاة وكانت أشعة الشمس تلمع على الأحجار البيضاء، وكان الكل يبحثون عن ملجأ يرد لوافح الشمس وحرها، ويقيهم اصطكاك الهواجر وأوارها، وكان هو الوحيد الذي قضى وقتاً طويلاً معتمداً على عمود بين الأشعة الحارة اللافحة غير محتفل بها كأنه لا يحس وقداتها ولا يتأذى بلسعها لأنه كان مستغرقاً في طوائف من الذكر كانت تنتظم في سلك ذاكرته، مسترسلاً في أفكار كانت تردد في ذهنه وتبرق، وكان يعيد في نفسه صور أيامه المواضي وعهوده الخوالي.
كان يوقظ في نفسه كل عزيمة راقدة، ويشب منها كل همة خابية بذلك الشعور الطريف الذي تخلل حياته وأفاض صبغته على كل رغباته وجعل أزمتها في يده يصرفها كيف شاء.
في مثل هذه الساعة من العام الفائت كان واقفاً هنا ناظراً إلى النساء والفتيات المجتمعات بقلب غير مكترث ووجه متهلل مشرف، وكان ينظر الحفلة المزينة المزخرفة وكانت تلتقي بألحاظه في مكر وخلابة ألحاظ مترعة بالحنان، وكانت خدود تتورد خجلاً وألحاظ ترتد حياء، وكانت عينه المشغولة تلمح القدم الدقيقة وكبف كانت تصعد درجات السلم وكيف كان الثوب الهفهاف يميل على جوانبه فتظهر من تحت أرساغ القدم اللطيفة، وعند ذلك مرت في الساحة حسناء ريانة الشباب مرتدية سوداء، وكانت نحيفة ضامرة نبيلة الطلعة شريفة المحيا، وكانت غاضة الطرف في انكسار وفتور، وكانت تصعد السلالم غير ملتفتة إلى شيء في حسن مستملح، زكان ثوبها الحريري مفاضاً على أحسن الأشكال وأبرع الصور، ولما بلغت آخر درجات السلم رفعت رأسها بغتة فالتقى لحظها بلحظه فصب في عينه شؤبوباً من الضوء الصافي.(54/21)
وقد أصمته سهام تلك النظرة ونفذت إلى صميم نفسه ثم داست قدمها أطراف الرداء. وبينما هو يسرع نحوها لم يستطع أن يمنعها من الركوع أمامه لحظة وهي في شكل يطبي نافر الهواء ويسلس جامح القلوب، وكانت كلها حياء ولم تكن روحه سوى مرآة تترآءى في صقالها الصورة التي كانت راكعة أمامه وتلك الزهرة المتفتحة التي مثلت لعينه.
وفي اليوم التالي زار الكنيسة وصار هذا المكان مقدساً في عينه وقد كان في نيته مواصلة الأسفار ومتابعة الرحلات، وكان رفقاؤه ينتظرونه بصبر وقلق المنزل ولكن منذ اليوم صار هذا المكان مألف نفسه ومهوى أفكاره ومعقد أهوائه، وكانت صورتها حاضرة لعينه مصورة في قلبه، وكان يراها في أوقات كثيرة ولم تكن هي تتجنبه، وكانت لا تستطيع القرب منه أكثر من دقائق متقطعة منّهبة من خلسات الزمان وغفلات العيش لأن عائلتها الواسعة الثروة الجاه كانت تشدد الرقابة عليها وكان لها خطيب.
وقد كانا يتبادلان الإقرار بالحب ولكنهما كانالا يعرفان ما يصنعان بعد ذلك لأنه كان غريباًٍ وليس في طاقته أن يقدم لمحبوبته ثروة طائلة كما كان ينتظر، وكان يشعر الآن بخصاصته ونضاضة وفره ولكنه لما كان ينظر إلى أسلوب الحياة الذي يعيشه الآن كان يخيل إليه أنه سائر إلى طريق الغنى والثروة وأنه سيفادى العيش أخضر صافياً وكان يرى وجوده قد أصبح طاهراً نقياً وقد صار قلبه مجالاً للعواطف الكريمة وكأنها كشفت له الغطاء عن محاسنها وأطلعته على فتان جمالها وبارع حسنها وصار يشعر أنه ليس بعيداً عن العبادة والدين، وكان الآن يعبر مدخل الكنيسة.
وقد صار لظلال المجهول الخافقة في نواحي المعبد شعور آخر في نفسه لم يكن يخالجها من قبل في أيام لهوه وطيشه وقد هجر أصحابه ومعارفه وعاش للحب، ولما كان يجتاز الشارع الذي فيه منزلها ويراها مطلة من النافذة وكان يقضي نهاره رخيّ البال منشرح الصدر وكان يخاطبها في أغلب الأحيان عند تدجي الليل وانتشار الظلام وكانت حديقة منزلها مصاقبة لحديقة صديق له لم يكن عالماً بسره وقد مر عام على كل ذلك.
كل هذه المناظر مرت صورها في ذاكرته، وكانت تلك الصورة النبيلة مارة إذ ذلك أمام بصره في الساحة الممتدة أمامه، وكانت تضيء بين الجموع كما تضئ الشمس، وكانت نغمات موسيقية لذيذة تصدح في قلبه الملب بالأشواق وبينما هي قادمة كان يعود إلى(54/22)
الكنيسة وهناك قدم لها الماء المقدس وكانت أصابعها البيضاء تهتز عندما تلمس أصابعه ثم انحنت في رفق شاكرة له صنيعه فتبعها وسجد على كثب منها وكان قلبه يكاد يذوب حباً ويقطر حزناً وكان يظن أنه من جروح الاشتياق الرغيبة وصدوعه الدامية تكاد روحه تفنى في توسلات مستحرة وكانت كل كلمة من كلمات القسيس تدوي في أركان نفسه فتزداد حباً وإيماناً وكانت شفتاه ترتعشان والفتاة الحسناء تدني صليب سبحتها إلى فمها الياقوتي ولقد صار قلبه ملآن بالحب بعدما كان منه فارغاً، وزاهياً بالإيمان بعدما كان منه عاطلاً.
ثم أن الراهب رفع الخبز ودق الجرس فانحنت بضراعة وخشوع، وكأن ومض البرق مس إذ ذاك مشاعره ووجداناته، ومثل له أن الصورة التي على المذبح قد دبت فيه الحياة وأن النوافذ المعتمة الملونة كأنها أضواء منتشرة من نواحي الجنة، ثم فاضت مدامعه واستبقت عبراته فخفضت من نيران قلبه، وأطفأت من وقدة أحزانه.
انتهت الصلاة فقدم إليها الإناء المقدس ثم خاطبها ببعض كلمات ثم سارت عنه وتأخر هو قليلاً لكيلا يبعث على الريبة والظنون وأتبعها الطرف حتى اختفت حاشية ثوبها فأخذت بوارح الشوق تنشره وتطويه، ولواعج الحب تدنيه وتقصيه.
وصار يشعر شعور الجوابة الحائر في نواحي غابة فسيحة متباعدة الأطراف وقد غابت عن نظره آخر أشعة من شعاع الشمس الغاربة ولكنه انتبه من رقدته وأحلامه واستيقظ من تأملاته وغفلانه لما لمسته يد رجل متكهل ونادته باسمه فأجفل وتراجع إلى الوراء وعرف صديقه ألبرت، المسن، الملتهب الطباع الداني الغضب والذي كان يعيش في عزلة عن الناس وكان منزله المنفرد مباحاً لألبرت وقال له بصوته الخشن الأبح هل تتذكر وعدنا؟
فقال فرديناند نعم! وهل عقدت النية على أن تفي اليوم بوعدك؟
فأجابه ألبرت نعم وفي هذه الساعة فاتبعني إن شئت.
فسارا في المدينة إلى شارع قاص وهناك دخلا عمارة كبيرة وقال له ألبرت يلزم الآن أن تدخل معي إلى غرفتي المنعزلة حتى لا يكدر صفاءنا أحد.
فمرا من غرف عدة ومن سلالم كثيرة وممرات حمة وكان فرديناند يظن نفسه قد حدق المنزل وأحاط بكل نواحيه خبراً وقد صار يتعجب من كثرة الغرف ومن تنظيم المنزل وتنسيقه الغريب وكان يزيد في دهشته أن يسكن مثل هذا المنزل شيخ أعزب منفرد مع(54/23)
عدد قليل من الخدم ولا ترك الغرف الزائدة عن حاجته للناس.
ثم فك ألبرت مزلاج إحدى القاعات وقال هنا المكان الذي أقصده فدخلا قاعة واسعة عالية مغطاة الحيطان بنسيج أحمر تتقاطع فيه خيوط ذهبية وكانت المقاعد والكراسي مغطاة بالقماش الأحمر نفسه وكان يأتي ضوء أرجواني من خلال الأستار الحمراء الحريرية الضخمة ثم قال له ألبرت انتظر قليلاً وذهب إلى غرفة أخرى فتناول فرديناند بعض الكتب فوجد فيها كتابة غير واضحة ودوائر وخطوطاً، ومن الأشياء القليلة التي استطاع قراءتها استبان له أنها كتب في الكيمياء وقد كان يعلم من قبل اشتهار ذلك المسن بصنع الذهب وكان هنا مزهر معلق على المائدة وكان محلى بلؤلؤ وأخشاب مزخرفة وعليه صور تمثل طيوراً وأهاراً بديعة الرسم غاية في الاتقان ونهاية في الدقة وكان في وسطه لؤلؤة في صورة نجمة قد تمهر فيها صانعها حتى بلغ أتم الإتقان ومنتهى الحذق وكان في وسطها دوائر مستطيلة متقاطعة مثل نوافذ الكنائس القوطية.
فقال له ألبرت وهو عائد أنت تنظر إلى ذلك المزهر وتتأمله؟ إن عمره مئتا سنة وقد أحضرته معي كتذكار لسياحتي في اسبانيا ولكن دعنا من هذا وخذ مجلسنا.
فجلسنا إلى جانب المائدة التي كانت مغطاة كذلك بقماش أحمر ووضع الشيخ المسن عليها شيئاً ملفوفاً بدقة ولباقة - ثم تابع القول فقال رحمة بشبابك الغض - وعدتك أخيراً بأن أنظر لك هل ستضاحك السعادة يوماً ما وهل ستفتر لك مباسم الحياة؟ وسأقوم الآن بإنجاز هذا الوعد وإن كنت تظن الموضوع هزلاً ولا يلمم بك الخوف لأن ما أحاوله سيقع بدون خطر مرعب أو عزائم مخيفة أو دعوات رهيبة تزعج مشاعرك وتقلق حواسك وأن العمل الذي أنا الآن بصدده لا يؤتي إلا من وجهتين ولا يتسور عليه الفشل إلا من ناحيتين وهما إما إنك كاذب في حبك مزور في هواك وفي هذه الحالة لا يجدي العمل ولا يثمر إذ لاشيء يكشف لي سره ويزيل الستار عن خبيئته وإما أنك تكدر سكون الوحي وتعكره بأسئلة لا فائدة منها أو بحركة سريعة عجلى أو بترك مكانك وتشبثك بالصورة فعدني الآن بأن تحافظ على نفسك سكونها وأن تلزم الهدوء.
فوعده فرديناند بذلك وأخرج الربطة التي كانت فوق المائدة من لفائفها.
ولقد كان داخل تلك اللفائف كأس ذهبية مصنوعة صنعاً دقيقاً جميلاً وكان حول قدمه(54/24)
العريضة إكليل من الزهر يتخلله الآس وأوراق أخرى كثيرة وفواكه دقيقة الصنع بديعة الحفر يتخلله ذهب لامع وآخر معتم وكان حول منتصف الكأس منطقة ثمينة عليها صور أطفال وحيوانات وحشية صغيرة تلعب مع الأطفال أو تفر بين يديها ثم أديرت الكأس برشاقة وخفة فانحنت من أعاليها. كأنها تتهيأ لملاقاة الشفة وكان الذهب يتوهج من داخلها. فوضع ألبرت الكأس بينه وبين الشاب وأشار إليه أن يقترب ثم قال له ألا تشعر بشيء لما تغرق ألحاظك في سنا الكأس؟
فقال فرديناند نعم فإن هذا الضوء يشرق في أقصى أعماق قلبي وإني أشعر به كقبلة في صدري الحران المشتاق.
فقال له ألبرت هذا حق فلا تحرك الآن عينك عنه ولكن صوبها نحوه وأثئر طرفك باستقامة إلى لمعان وبريق هذا الذهب وفكر جهدك في المرأة التي يهواها قلبك.
جلس الاثنان صامتين وكلاهما يرمق باهتمام الكأس اللامعة وكان ألبرت قد بدأ قبل ذلك بدقائق يصنع إشارات ساكنة في بطء ثم ازدادت سرعتها حتى صارت جد سريعة. وكان يدير أصبعه في دائرة دائمة حول الكأس اللامعة ثم توقف وابتدأ يصنع الدورات نفسها من الناحية المقابلة، وبعد انتهاء هذا بدقائق أخذ فرديناند يظن أنه يسمع عزف موسيقى مقبلة من الخارج من شارع بعيد ولكن النغمات كانت تقترب مرتعشة في الهواء وأخيراً صار لا يخالجه الشك في أن هذه النغمات مقبلة من الكأس ثم صارت صدحاتها تزداد قوة، وكانت لها قوة تضرب في أعشار القلوب تركت قلبه رجافاً نباضاً على أنغامها المصبوبة المتدفعة وكانت الدموع تنهل من مآقيه وتتفجر في عينه وكانت يد ألبرت الحاذقة الصناع تتجه في نواح مختلفة حول فم الكأس وكان يظهر كأن شرار يتطاير من بين أصابعه وكأن ذلك الشرر كان ينقض في طرق متشعبة إلى الذهب وكان يسمع لها طنين عندما تلاقيه، وكانت النواحي اللامعة تكثر وتتتابع وكانت تتبع حركات يده إلى الأمام والخلف وكانت تنبعث منها أنوار مختلفة الألوان وكانت تزدحم وتلتئم حتى اجتمعت في خيوط غير منكسرة وقد ظهر الآن أن ألبرت كان وهو في الناحية الحمراء المعتمة يلقي شبكة غريبة فوق الذهب المتوهج لأنه كان يجر حزم الضوء إلى هذه الناحية أو تلك كما يريد وكان يليح بها نحو الكأس وكانت تطيعه وتثبت في موضعها كغطاء يروح ويجيء وبنتثر وينتظم وينفصل(54/25)
ويتصل، ولما قيدهما هكذا أخذ يزيد الدائرة حول حافة الكأس وضوحاً فتباعدت المسيقى وصارت تضعف شيئاً فشيئاً حتى غابت آثارها ولما كانت النغمات تولي كانت الشبكة الملتهبة بالشرر تهتز إلى أمام والخلف كأنها تتنزى من الالم وبينا هي يزداد انفعالها إذ نبذت إلى قطع وصارت خيوط الضوء تنصب في الكأس ولما كانت هذه النقط تساقط ارتفع منها سحابة حمراء كانت تتحرك داخل نفسها في دوامات عدة كانت تظهر فوق الحافة كالرغوة ثم برزت نقطة بيضاء مسرعة من خلل الدائرة السحابية وأخذ يتكون في وسطها شبح وظهر فجأة من فتق البخار صورة عين وفوقها جاءت غدائر الشعر تلتوي ثم أخذ يتمشى احمرار رقيق من فوق الظل ومن تحته ورأى فرديناند صورة حبيبته بسامة المحيا مشرقة الوجه وعينيها الزرقاوين وخدها الأسيل الرقيق وفمها المتورد الجميل وكانت رأسها تروح وتجيء ثم أخذت تظهر أكثر جلاء فوق الرقبة الهيفاء البيضاء وانحنت أمام الشاب المأخوذ بالدهشة والسرور.
وكان ألبرت مقبلاً على إقامة الدوائر حول الكأس حتى برزت الأعطاف وكانت الصورة الحسناء تستتم تركيبها وتستكمل شكلها وكانت تنحني في رشاقة مستحبة ثم أخذ يظهر الصدر الناعم المقوس وعلى النهدين البارزين وردتان لهما حمرة سرية كانت تحلو في النفوس وتعذب، ويحسن موقعها في الأرواح ويجمل وكان فرديناند يتوهم أنه يشعر بالنفَس المتردد ولما كانت تلك الصورة تنحني مائلة نحوه بل تكاد تلمسه بشفتيها الملتهبتين نسي من فرط السرور وعده وقام وانحنى على ذلك الفم الياقوتي وقبله وأراد أن يقبض بيديه على المعصمين الجملين وأن ينقذ تلك الصور الآسرة للأرواح السالبة للمهج من سجنها الذهبي فحدث ارتجاج واهتزاز في الصورة الحسناء وانفصلت الرأس عن الجسم وتبددا في خطوط كثيرة العدد وكانت وردة ملقاة في أسفل الكأس كانت تكثل حزمتها بابتسامة عذبة فتناولها فرديناد في لهفة والتياع وضمها لشفته فذبلت من حرارة أشواقه وآضت هواء.
فقال له ألبرت بصوت الغاضب الحنق لقد أسأت كل الإساءة ولم تف بوعدك ونفسك فقطعها لوماً ثم لف الكأس كما كانت وأزاح الستائر وفتح نافذة دخلت منها أضواء النهار ثم خرج فرديناند كاسفاً منكسراً آسفاً حزيناً بعد أن حاول عبثاً أرضاء ألبرت وترك البرت(54/26)
متقد الغضب.
وانفدفع وهو في اضطراب بال وتشرد خاطر في شوارع المدينة حتى أفضى به التسيار إلى أحد أبوابها فجلس خارج الباب تحت رفرف شجرة وكانت قد أخبرته في الصباح أنها ستذهب في المساء مع أقرباء لها إلى الضواحي ولما أسكره الحب ورنحه قام وطاف نواحي الغابات وجاس خلالها وكان ذلك الشكل المأنوس لا يزال ماثلاً لعينه بينا هو يطفو ويرسب في لهب من الذهب.
وكان ينتظر ظهورها لملاقاته في رونق بهائها ولكن الشبح كان ينكسر ثانياً أمام عينه وقد كان مغضباً من نفسه حنقاً عليها لأن هواه الغير المستقر وضجة مشاعره وهياج حواسه، كل أولئك قد بدد نظام الصورة وربما بدد آماله وشتت سعادته إلى الأبد.
ولما صار الطريق بعد الظهر مزدحماً غاصاً بالناس انسحب إلى أعماق الغابات ولكنه كان لا يزال يرمق جانب الطريق البعيد فكانت كل عربة تمر من الباب تلمحها عينه - وأقبل الليل وكانت الشمس الغاربة تتطرح أشعتها الحمراء عندما خرجت من الباب عربة مذهبة مزخرفة وكان يلمع منها ضوء ناري في توهج المساء فانسل إلى ناحيتها وكانت عينها قد لمحته وحنت صدره اللماع الزاهي من النافذة في رفق وقد علت وجهها ابتسامة صافية، ورأى تحيتها الدقيقة وإشارتها وكان واقفاً إلى جانب العربة فانهلت عليه نظرتها ولما اكنت تتحول للذهاب سقطت الوردة التي كانت تزين صدرها عند قدمه فرفعها وقبلها وقد اختلج في نفسه أن تلك الوردة تقول له أنه لن يرى حبيبته مرة أخرى، أن غدر مسراته قد جفت فلن يعود لها تدفق ومسيل، وأن نجم سعادته قد غاله من بعد البزوغ الافول، وان زهرة حباته ستلجّ من بعد النضرة في الذيول.
* * *
(الفصل الثاني)
كانت الخطوات السراع تمر فوق السلالم في هبوط وصعود، وكان المنزل كله في هرج وحركة وجلبة، وكان سكانه يتأهبون لحفلات الغد وكانت ربة المنزل أكثرهم فرحاً وأشدهم إقبالاً على العمل، وكانت العروس قد نفضت يدها من العمل وتراجعت إلى حجرتها لترسل الفكر في مصير حياتها، وكانت العائلة تنتظر ولدها الأكبر وزوجه - وكان ضابطاً في(54/27)
الجيش - والأختين الكبيرتين وزوجيهما وكان ليوبولد الأصغر يتفنن في الخبث لإكثار الفوضى وتعميمها وإطالة الهرج والجلبة، وكان يعرقل أعمال الجميع ويفسد مساعيهم بدعوى أنه يعاونهم على تقويض الفوضى وإبطالها، وكانت أخته أجاثا التي لم تتزوج بعد تحاول عبثاً رده إلى عقله وإقناعه بأن لا يضيع شيئاً وأن يترك الآخرين في سلام، ولكن والدتها قالت دعيه وسخافاته، وخليه وحماقاته، لأن اليوم الكثير منها أو القليل لا يعد شيئاً مذكوراً، وإني أطلب إليكم أمراً واحداً وهو أنه لنزاحم الأشغال عليّ اليوم أرجو أن لا أزعج بأنباء جديدة إلا إذا كانت عن أمر كبير الأهمية خطير الشأن، فإذا كسر أحد طبقاً أو نقص معلقتان أو هم أحد الخدام الأجانب بتحطيم النوافذ فإني لا أعبأ فتيلاً بأمثال هذه الحوادث، ومن أجل ذلك أطلب إليكم بكل رجاء وأتوسل بكل وسيلة أن تريحوا آذاني اليوم من سماعها وإن شاء الله متى انتهت هذه الأيام وجلبتها نعاود النظر في أمثال هذه الحوادث ونتصفح وجوهها ونوسعها تدبراً وتفكراً.
فقال له ولدها ليوبولد لله درّك يا والدتي. إن الشجاعة لتلمح من كلماتك وإن هذه الاحساسات حديرة بربة منزل مثلك وإنه إذا دقت إحدى الخادمات عنقها أو أن الطاهي أخذ منه السكر فحرق المطبخ، أو أن الساقي لشدة سروره أراق النبيذ الجيد كله على الأرض أو شربه، فإن أخبار هذه الحوادث التافهة سوف لا تصل مسمعك، ولكن إذا كان هناك زلزال سيهدم المنزل - مثل هذا الخبر يا والدتي العزيزة لا يمكن أن يحفظ سراً.
فقالت والدته متى يتخلى عن هرائه وسخفه وماذا يقول أختاك عندما يجدانك في هذه الحالة من الميل إلى المرح واللعب والخبث مثلما تركاك من منذ عامين؟
فقال ليوبولد أنهما سيمتدحان ثبات أخلاقي ولا يقولان أني إنسان سريع التحول كثير التلون مثلهما أو مثل زوجيهما اللذين قد تغيرا تغيراً كبيراً في هذه السنين القصيرة.
ثم دخل العروس وسأل عن عروسه فأرسلت الخادمة إليها ثم قال العروس هل ذكر لك ليوبولد طلبي يا والدتي العزيزة.
فقال ليوبولد نعم قد ذكرت لها طلبك بلا شك ولكن الفوضى التي تراها حولنا لا تترك للإنسان منفسحاً ليفكر فكرة مقبولة.
ثم دخلت العروس وحيت عروسها بفرح - ثم قال العروس إن الطلب الذي أبغيه هو أنك(54/28)
لا تعدينها كبيرة إذا أنا أحضرت ضيفاً غريباً إلى منزلكم المزدحم الآن.
فقالت له الوالدة إن المنزل على اتساعه لا يتبسر أن أجد فيه الآن غرفة أخرى.
فقال ليوبولد لقد سبقتكما إلى تسوية هذه المسألة وقد أعددت المخدع المتسع له.
فقالت الوالدة ولم ذلك؟ وأنها محل بغيض وقد مضت سنوات وهو مخزن للأخشاب.
فقال ليوبولد ولكنها الآن مرتبة ترتيباً بديعاً، وصديقنا الذي أعددنا له لا يعير أمثال هذه الأمور التفاتاً وهو لا يبغي منا سوى حبنا ورضانا وهو أعزب يهوى الانفراد والوحدة وإنها المكان الذي يلائمه وقد صادفنا مشقة في أغرائه على المجيئ وحثه على الظهور ثانية بين رفقائه البشر.
فقالت أجاثا أظنه لا صديقكم المظلم الناحية الكريه المتوسم صانع الذهب، فقال العروس هو بعينه إذا كنت تصرين على تلقيبه بذلك.
فقالت أجاثا ولا تسمحي له إذن ياوالدتي بدخول منزلنا، وماذا نصنع برجل كهذا، ولقد نظرته مرة في الشارع مع ليوبولد فخامرني منه الخوف وأن ذلك المجرم المتطاول الأمد، العالي السن، لا يذهب إلى الكنيسة ولا يهوى الله، وهو فارغ القلب من حيث الإنسانية، وقد يصيبنا شر من وراء حضور مثل هذا الكافر في حفلة عرس كهذه.
فقال لها ليوبولد إنك ترمينه بذلك لجهلك أمره ولأن سَحبة أنفه لا تسرك، وإنك تظنينه ساحراً من خدام الشيطان لأن ظلال الشباب قد تحسرت عنه وبهجة الصبي فارقته.
فقال العروس: افسحي يا والداتي العزيزة محلاً لهذا الصديق المسن في منزلك ودعيه يقاسمنا أفراحنا ويساهمنا مسراتنا وإنه يا عزيزتي أحاثا قد قاسى كثيراً من عنت الهموم وطالت معالجته للبأساء ومصابرته للبلايا وأن همومه التوالي جعلته قليل الثقة كارهاً للناس وهو يتجنب الجماعات ويؤثر الوحدة وإن صديقيه الوحيدين هما ليويولد وأنا وغني مدين له كثيراً فعو الذي حول أميالي إلى ناحية مهذبة وهو الذي جعلني جديراً بحب جوليا.
فقال ليوبولد وهو يعيرني كل كتبه ولا يبخل علي بمخطوطاته ولا يمنعني نقوده عند سماع كلمة واحدة وهو رجل سمح الأخلاق كريم النزعة ولعلك يا أختي الصغيرة عندما تنظرينه بعين الرضى تقتربين منه ويزول من نفسك الأعراض عنه والخوف من جهامة نظره.
فقالت الوالدة لا أرى بأساً في إحضاره هنا وقد سمعت عنه كثيراً من ليوبولد حتى لقد(54/29)
استشرفت إلى لقائه وتطلعت إلى الوقوف على أمره ولكنني لا يمكنني أن أقيمه في مكان أليق من المخدع المذكور.
وفي الساعة نفسها طار إليهم خبر حضور أضياف من أفراد العائلة وهم الأختان المتزوجتان وأخوهما الضابط، وكان معهن أولادهن وكانت الوالدة تسر من رؤية حفيداتها وكان الكل قد شملهم السرور واحتواهم الفرح ثم تجاذبوا أطراف أحاديث مروحة مبهجة ثم إن العروس وليوبولد توجها بعد التحية والسلام ليبحثا عن منزل صديقهما الشيخ الهرم الحزين، وكان يقيم أكثر أيام السنة في الضواحي على بعد فرسخ من المدينة ولكن كان له أيضاً محفوف بحديقة على كثب من باب المدينة وهناك جمعتهما به قذفات الاتفاق وقد وجداه في قهوة كانا قد اتفقا معه على الالتقاء بها ولما حان المساء أتيا به بعد محادثة قصيرة إلى المنزل فتلقته الوالدة بالبشر والحفاوة ووقفت البنات بعيدات عنه وكانت أجاثا خجلة وكانت تتجنب نظراته وتتقيها وعند انتهاء أحادي ثالاستقبال دخلت العروس عليهم فلما أبصرها وضحت على وجهه آيات الفرح الشديد وإنه يحاول جهده أن يحبس قطرة من الدمع متحدرة وقد سر العروس لسروره وحدث بعد ذلك وهما واقفان عند نافذة أن قيض على يده وقال له ما قولك الآن في جوليا الجملة الحسناء؟ أليست هي ملكة من السماء؟
فقال الرجل المسن والانفعال باد عليه إني لم أنظر جمالاً كهذا الجمال الفتان البارع وإني أقول أنها قد بلغت من القسامة والحسن إلى حد أنه يمثل إلى أن عرفتها في أزمان تصرمت وهي وإن كانت غريبة عني فإن صورتها كانت لا تغب عن ناظري وكانت مرسومة أبداً في مخيلتي.
فقل له الشاب إني أفهم مغزى أحاديثك فإن الشيء الصادق الحسن الجليل الفخم عندما يغمر مشاعرنا ويبهر حواسنا يكون على رغم ذلك غير مستغرب في عيوننا كأنه شيء لم نسمع به أو لم ننظره ولكن على العكس من ذلك فإن روحنا الداخلية في ساعات كهذه تصير واضحة لنا وتستيقظ في نفوسنا الذكر الراقدة وتنتبه وجداناتنا الهاجعة.
ولم يشاركهم هذا الغريب في الأحاديث عند تناولهم العشاء وكانت عينه موجهة إلى العروس في لهف واهتمام حتى أربكها بنظراته وأخافها ثم قص الضابط حوادث غزوة كان من أبطالها وأفاض التاجر المتمول في ذكر التجارة وما يتهددها من الأخطار وأخذ المزارع(54/30)
يتكلم عن الاصلاحات التي يزمع إدخالها في ضيعته.
ولما انتهى العشاء استأذن العروس وعاد لآخر مرة إلى غرفته المنعزلة لأنه كان قد اتفق أن الزوجين يسكنان في منزل الوالدة وكانت قد أعدت الغرف لهما ثم انفرط عقد الجماعة وقاد ليوبولد الغريب إلى غرفته وقال له وهما سائران أنك تسامحنا لاضطرارنا إلى أن نقيمك في مكان بعيد أسباب الراحة فيه غير متوفرة ولكنك قد نظرت بعينك كثرة أفراد عائلتنا وبعضهم سيحضر غداً وإني أعلم أنه ليس في وسعك أن تفر من يدنا لأنك لا تدري طريقك في هذا المنزل الواسع الرحيب.
ثم سارا من مرات كثيرة وترك ليوبولد صديقه بعد أن حياه ثم وضع الخادم مشعلين على المائدة وسأل الغريب إن كان يطلب مساعدته في خلع ملابسه، وتركه لما أعفاه من ذلك وخلا إذ ذاك الغريب في نفسه.
فاخذ يقول لنفسه وهو يروح ويجيء في الغرفة كيف نبعت من قلبي هذه الصورة اليوم واضحة جلية ولقد نسيت الماضي البعيد وخلتها أمام عيني ولقد عدت إلى الشباب وكان صوتها في أذني حلو الرنين كما أعهده ولقد ظننت أني أستفيق من حلم ثقيل ولكن لا - لقد صحوت من رقدتي وإن تلك الدقائق اللذيذة لم تكن سوى وهم جميل.
وقد كان مهتاج الخاطر مضطرب الذهن وأخذ ينظر إلى بعض الصور المعلقة على الحوائط ثم أجال نظره في الغرفة ثم قال اليوم كل ما أرى على حاله ولم يتغير شيء وإني لأذكر أني عرفت هذه الدار من أزمان ماضية بعيدة ثم أخذ يجمع تذكراته من جوانب الماضي ونواحيه ورفع بعدُ الكتب الكبيرة وكانت إحدى الأركان ولما قلب صفحاتها خر رأسه وكان معلقاً على الحائط غطاء عود ولما كشف الغطاء وجد آلة قديمة قد أخلق الزمن جدتها وبدد أوتارها فقال لا لست مخطئاً وهذه العود لها صورة خاصة وهو العود الإسباني عود صديقي الراحل من أزمان - ألبرت المسن -.
وهذه كتب السحر وهذه الغرفة التي أطلعني فيها على الرؤيا المباركة وقد بهت احمرار الجدران ولكن كل ما يتعلق بتلك الساعات في نفسي واضح جلي وقد كان ذلك سبب ما تغشاني من الخوف عند قدومي إلى هنا من الممرات التي قادني فيها ليوبولد.
فيالله! هاهنا على تلك المائدة ارتفعت الصورة ونمت كأنها قد سقيت وانتعشت من احمرار(54/31)
الذهب وهنا ابتسمت لي تلك الصورة التي كادت ترميني بالجنون هذه الليلة وهاهنا كنت أحادث ألبرت.
ثم خلع ملابسه ولم ينم إلا حُثاثاً واستيقظ عندما ضرب الفجر بعموده وفتح النافذة وكانت الحدائق والمباني كما كانت إذ برد شبابه قشيب وإذ آماله زاهية متفتحة الزهرات فقال وقد تصعدت من زفراته لقد مرت أربعون عاماً على ذلك المساء ولقد عشت في كل يوم من تلك الأيام المشرقات أطول ما بيني وبينها الآن.
ثم دعته الجماعة وأمضى الصباح في أحاديث مختلفة وأخيراً دخلت العروس في زينتها وبهائها فلما لحظها أظهر عليه تأثر شديد شاهدوه الحاضرون ثم ساروا إلى الكنيسة وتمت هناك حفلة الزواج ولما عادوا إلى المنزل قال ليوبولد لأمه الآن يا أماه ماذا تقولين عند صديقنا الكهل الطيب السريرة. فقالت لقد كنت أظن صورته تبعث على القلق والخوف أكثر من ذلك وإنه رجل عواطف وشعور وقد نرى فيه صديقاً ناصح الجيب وافر الإخلاص.
فقال أجاثا: أتؤملين الإخلاص في صاحب تلك النظرات الحائرة المتوقدة وهذا الموجه الممتلئ بالتجعدات وهذا الفم الأصفر الغارق وهذه الضحكة الغريبة التي ترن في سخرية واستهزاء.
لا. فليدفع عنها الله شر صداقته، وإن الأرواح الشريرة إذا ظهرت في صورة إنسان فإن مما لا نزاع فيه ولا مماراة أنها تظهر في صوراته.
فقالت والدتها إني أظنه أقل سناً من ذلك وأجمل وإني أنظره بالعين التي تنظرين إليه بها وفي استطاعة الإنسان أن يلحظ عليه أنه حاد الطبع فوار الإحساس وإنه قد راض نفسه على أن يحجز فيها مشاعره وأنه اعتاد أن يحزن إحساسه في صدره وقد يكون - كما يقول ليوبولد - لاقى من أبكار الخطوب الفواجع ونوازل الهموم الصوادع ما جمع في نفسه الأحزان وألف فيها الأشجان حتى فقد صراحته البسيطة التي هي في العادة نصيب السعيد وقسط المنعم.
ثم دخلت بقية الجماعة فوقف مجرى الحديث ثم حضرت المائدة وجلس الغريب بين أجاثا وبين التاجر الغني ولما ابتدأ شرب النخب صاح ليوبولد قائلاً انتظروا قليلاً يا أصدقائي(54/32)
المبجلون وإني سأحضر الكأس الذهبية لأديرها على الحاضرين وهم بترك مكانه ولكن والدته أشارت إليه أن يلزم محله وقالت له لا يمكنك أن تعرض موضعها لأني حفظتها في مكان خاص ثم انفلتت لإحضار الكأس.
فقال التاجر: إنها خفيفة الحركة فانظر كيف تسير في رشاقة وقد أربى عمرها على الستين وأنها أبداً ضحاكة الوجه والبشر والإيناس وهي موفورة السرور في هذا اليوم خاصة لأنها ترى نفسها قد عادت إلى رونق الشباب في جوليا.
فوافقه على ذلك الضيف الغريب ثم عادت السيدة وفي يدها الكأس وكانت ملآى بالنبيذ ثم أديرت عليهم فكان كل منهم يشرب نخب أعز الناس عليه وأحبهم إليه فجوليا شربت نخب زوجها وهو شرب نخب حبيبته جوليا واقتدى بهم الآخرون عندما أفضنت إليهم الكأس ولكن الوالدة أبطأت عندما وصلتها الكأس.
فقال لها ولدها الضابط في الجيش في خشونة أسرعي وأديري الكأس إننا نعرف اعتقادك في خيانة الرجال ونبذهم الحفاظ وأنهم ليس فيهم أحد يستحق الحب من المرأة فقولي لنا إذن من أعز عليك؟
فنظرت إليه والدته وقد غابت عن وجهها مظاهر السرور وعلته لمحات الكدر وقالت إن ابني من أدرى الناس بطبائعي وقد ركز رأيه في، فليسامحني الحضور إذا أنا كتمت عنهم ما جال بفكري الآن ولعل ولدي يستمر صادقاً في حبه مخلصاً في هواه حتى يظهر بطلان اعتقادي وفساد فكري، ودفعت الكاس بدون شرب، وقد عرت الحضور من ذلك حيرة.
فقال التاجر وهو مقبل على الغريب أنه مما يروى عنها أنها كانت لا تحب زوجها وكانت تهوى رجلاً غيره نكث عهده ولم يستمسك بموثقه ولقد كانت في صباها من ربات الحسن والملاحة.
ولما وصلت الكأس إلى فرديناند أخذ يحدق فيها وقد تملكته الدهشة لأنها كانت الكأس التي أخرج منها ألبرت المسن الشيخ الجميل ثم أخذ ينظر إلى ذهبها وإلى تماوج النبيذ بها وارتعشت يده وصار يظن أنه ليس من الممتنع المستحيل أن يخرج من تلك الكأس المسحورة الصورة التي يعرفها وتجلب معها الشباب الراحل والعيش الزائل ثم قال بصوت مسموع هل الذي يلمع داخل الكأس نبيذ؟(54/33)
فقال التاجر: نعم أكنت تظنه شيئاً آخر. اشرب وكن مسروراً.
فسرت رعدة خوف في أضلاع الرجل وقال اسم فرانشسكافي صوت عال مرتح \ جف ووضع الكاس على فمه فرمته الوالدة بنظرة دهشة واستفسار.
ثم قال فرديناند وقد استحيا من حيرته من منذ كم اشتريتم تلك الكأس؟
فقال ليوبولد إنها في المنزل من قبل مولدي وقد اشتراها والدي وسائر المنزل وأمتعته من رجل كبير السن أعزب كان دائم العزلة والصمت وكان جيرانه يظنونه ساحراً.
ولم يقل الضيف إنه يعرف هذا المسن لأنه كان في حيرة وخيال.
ثم رفع الطعام ونزل فرديناند منفرداً مع الوالدة وانصرف الصغار يستعدون لحفلة الرقص فقالت الوالدة اقترب مني فإن سنوات رقصنا قد تصرمت وإذا كنت لا ترى في سؤالي نكراً فاسمح لي أن أعلم منك هل أبصرت كأسنا مرة أخرى قبل اليوم وما الذي سبب لك كل هذه الأزمات النفسية والثورات الداخلية؟
فقال لها إني يا سيدتي أسألك الصفح وأطلب إليك المعذرة لما بدا من آثار انفعالات وإني من ساعة دخولي منزلك شعرت كأني غبت عن نفسي وإني في كل دقيقة أنسى أن شعوري بيضاء قد كللها المشيب وأن القلوب التي كانت تنبض بحبي قد أسكتها الموت وأن ابنتك الجميلة التي تلقى اليوم أسعد أيام حياتها تشبه حسناء عرفتها في أيامي الماضيات حيث الشباب غض نضير وماء العيش سلسال غير وإني لأحسب ذلك معجزة خارقة للعادة وأعجوبة شاذة عن المألوف وقد اختلفت إلي هذا المنزل قبل اليوم وعرفت تلك الكأس في حادثة لا تزال منقوشة في ذاكرتي وإنه ليعز على يد الأيام أن تمحوها منها وهنا أخبرها قصته وقال في ختامها إني في مساء ذاك اليوم وأنا في الحديقة نظرت صببتي آخر نظرة لما كانت تسير بها العربة وقد سقطت من صدرها وردة التقطتها ثم فقدت مني وأثبتت أنها لم ترع أمانتي ولم تحفظ عهدي وتزوجت بعد ذلك بأيام قليلة.
فقالت السيدة وقد ثارت سواكن نفسها وهبت في قلبها رياح طال ركودها في صوت مرتفع ألست أنت فرديناند؟
فقال: نعم هذا اسمي يا سيدتي
فقالت السيدة: أنا فرانشكا(54/34)
فقاما ليتعانقا ثم تراجعا إلى الوراء وأخذ كل منهما يحدق في الآخر ويتدبره وكانا يبذلان الجهد ليجمعا من أطلال الزمن ودمن الماضي تلك الصورة التي كان يعرفها كل منهما في الآخر، ومثلما يوجد دقائق في الليالي الكدراء الممتلئة بالزوابع والأعاصير والسحب السوداء تومض فيها النجوم اللامعات خلسة وتختفي فكذلك كانت تنبعث لعينيهما الملامح الزائلة من الحواجب والعيون والشفاه وكانا كأنهما يريان شبابهما واقفاً على كثب منهما بين الدموع والبسمات فانحنى فرديناند ثم قبل يدها وتساقطت من عينيه دمعتان كبيرتان ثن تعانقا عناقاً قلبياً مخلصاً.
ثم قالت: هل توفيت زوجتك؟
فقال متنهداً إني لم أتخذ زوجة لي طول حياتي.
فقال وهي تضرب كفيها إذن أنا التي خنت عهدك - ولكن لا إني لم أكن خائنة فإني عند عودتي من الضواحي حيث أمضيت شهرين سمعت من كل أصدقائك وأصدقائي أنك رجعت إلى وطنك وتزوجت هناك وأطلعوني على خطابات منك تؤكد ذلك وتدعمه وكانوا يستفيدون من يأسي وحيرتي وغضبي ولهذا رضيت الزواج من آخر وكان يستحق مني ذلك ولكن أفكاري وقلبي كانا دائماً في حوزتك.
فقال فرديناند:
إني لم أترك هذا البلد ولكني سمعت بعد مضي زمن أنك تزوجت ولقد أرادوا أن يفرقوا بيننا وقد تم لهم ذلك ولقد صرت والدة سعيدة وإني سأعيش في الماضي وسأحب أولادك كأنهم أولادي ولكن ألا ترين شيئاً يبعث على الغرابة في أننا لم نلتق مرة قبل ذلك.
فقالت: -
لقد كان خروجي من المنزل نادراً وزوجي تغير اسمه بعد أن مضى على الزواج وقت قصير لميراث استحقه وبذلك كنت لا تستطيع أن تعرف أو أن يداخلك الظن من قربنا منك.
فقال فرديناند: - لقد كنت أحاشى الناس وعشت للانفراد والوحدة. وقد كان ليوبولد الشخص الوحيد الذي اجتلب انتباهي وحبب إلي الخروج إلى رفقائي بني الإنسان وإنه يا صديقتي المحبوبة كحلم مخيف مرعب أن نظن كيف افترقنا وكيف التقينا ثانيا.(54/35)
ولما دخل الصغار كان يبكيان وكانا في تأثر شديد ولم يقل أحدهما عما حدث فلقد كان السر جليلاً مقدساً وبعد ذلك كان الرجل الهرم صديق العائلة ولقد التقيا في شكل غريب ليرتبطا رابطة لانفصم عروتها ولا تحل عقدتها ولم يفرق بينهما إلا محتوم الموت.
تمت القصة(54/36)
خواطر ليوباردي
الكونت جياكو موليو باردي أكبر كتاب إيطاليا وشعرائها بعد دانتي. فضله أرنولد - النقادة الانجليزي العظيم - على اللورد بيرون من حيث الكتابة والأسلوب وغزارة الاطلاع والقدرة الفنية، وفضله أيضاً على وردزورث من حيث القوة الشعرية. وقد عاش ليوباردي في أوائل القرن الماضي عيشة معذبة يلاقي الأمرين من اعتلال صحته وسوء معاملة أبيه إياه. ومات وهو في الثامنة والثلاثين، وقد خلف كتباً كثيرة وأشعاراً طويلة ممتلئة بالحزن والكآبة والسخط والألم، ناظراً إلى الحياة نظرة سوداء، غير واجد في المجتمع إلا البؤس والشقاء، وتعد خواطره هذه من أبدع ما كتبه الكتاب من عهد باسكال وبيكون إلى اليوم.
- 1 -
كان الفيلسوف شيلو الذي يعد أحد حكماء اليونان السبعة الذي يقول أنه ينبغي لمن أوتوا بسطة في الجسم أن يكونوا ذوي شمائل عذبة وأخلاق لبينة رقيقة كي يوحوا إلى الناس عاطفة الحب لهم لا الخوف منهم. وكذلك أقول أنه ينبغي لمن أوتوا الأذهان العظيمة أو المواهب الكبيرة أن يعملوا دائماً أبداً على التلطف وحسن المعاشرة، إن لم أقل التواضع الحقيقي لمن حولهم. ينبغي أن يتذكروا عظيم الجريمة التي يجب أن يكفروا عنها، وعناد العدو الذي يجب عليهم إرضاؤه - فالأول تفوقهم، والثاني حسد الناس لهم! وكذلك كان يعتقد القدماء إذا ما رأوا أنفسهم في أوج الرفاهة والنعيم، أنه ينبغي لهم إرضاء آلهتم، فكانوا يقدمون على التضحية وامتهان النفس وتعذيبها تكفيراً عن شيء قلما يكفرون عنه، وهو التنعم والسعادة.
- 2 -
إن المجتمع مهما تعددت طبقاته يرجع إلى قسمين: نفر قوي يتحكم وآخر يشقى من جراء هذا الحكم. وما من قانون أو قوة تستطيع أن تمنع هذه الظاهرة. بل إن الناس مهما تقدمت المدنية وارتقت الفلسفة لا بد منقسمون إلى هاتين الطبقتين. فعلى الذين يستطيعون الخيرة أن يختاروا ما يشاؤون وإن كانت الحقيقة أن الجميع لا يملكون هذا الاختيار في جميع الأوقات.
- 3 -(54/37)
ليس هناك حرفة كحرفة الأدب ناضبة المعين غير مجدية محترفها شيا. ولكن للتدليس في هذا العالم قوة تستطيع أن تجعل حتى حرفة الأدب منتجة مثمرة. إن الخداع هو روح الإنسانية وعنصرها الحي القوي. وما من موهبة أو فضل لا تسعين به بقادرة على أن تؤثر في قلوب الناس تأثيراً صحيحاً أو كاملاً. وإنك لا تكاد تختبر رجلين أحدهما ذو مواهب صادقة في أي عمل من أعمال الحياة والآخر ذو مواهب داعية، إلى وجدت هذا أكثر نجاحاً وظفر في الحياة من الأول. إن الخداع على تعدد أنواعه يستطيع أن يسود في أحيان كثيرة دون الاستعانة بالحق، ولكن الحق الخالص غير المشوب با لخداع لا يكون إلا قليل الغناء والأثر. ولا أعتقد أن هذا نتيجة طبع سيء فطرت عليه الإنسانية ولكنني أعتقد أنه ناتج من أن الحقيقة الخالصة الناصعة تكون غالباً ممتقعة غير جذابة. فلا بد للتأثير في الناس من أن نمزجها بالألوان ونكملها بالمبالغة والتفاخر وبذلك نستطيع أن نلقي في أذهانهم صوراً أسمى وأكثر من الحقيقة الواقعة. بل إن الطبيعة نفسها تعمل على خديعة الإنسان، فهي تمنحه الخيال والأوهام ولن يطيب له العيش فيها بل لن يطيقه ويسيغه بدونهما.
- 4 -
يعتقد بعض الشباب أنهم ينالون استحسان غيرهم إذا ما تكلفوا هيئة الكئيب الحزين، قد تكون الكآبة المتكلفة مقبولة إلى قدر معلوم ولا سيما من النساء. ولكنما إذا كانت كآبة صادقة حقيقية فإن الناس لا يطيقونها ويفرون منها، ولا شيء أبهج وأدنى إلى الفوز في المجتمعات من طلاقة الوجه وبشاشة النفس وابتهاج الأسارير. فالحقيقة أن الناس إذا فرغوا من أحاديثهم كانوا - مع احترامي الشديد لأولئك الشبان - أميل إلى الضحك والجذل منهم إلى البكاء والتقطب.
- 5 -
إن جهل الناس بالناس هو ذلك الذي لم يتعلم بعد أن أفرغ الكلمات وأخلاها من المعاني وأبعدها عن الصدق هي تلك المنح والوعود التي يدفعها الإشفاق والعطف أو حب المساعدة وإسداء الخير، مهما كان المصدر الذي قيلت منه. وكلما ظهرت هذه الكلمات بمظهر الأريحية والرغبة الصادقة وتكررت بحماسة وتأكيد كانت أدعى إلى قلة الثقة بها(54/38)
والارتياب في وفائها. فكن حذراً غير متسرع في قبول كل طلب ملح في خدمتك ومنفعتك ولو كان مصحوباً بأحر مظاهر المروءة والعطف. فإنك لو ركنت إلى هذا المظهر من الأريحية أو خدعت بهذا الإلحاح المتكرر وأقضيت بحاجتك لمن يريد أن يوليك الجميل لم تلبث أن تري وجهه امتقع وراح يغير في الحديث ويجيبك إجابات متقطع ويتركك أخيراً في حال غامضة مبهمة، ويكون حظك أسعد الحظوظ لو استطعت أن تقف له على أثر بعد هذه لمقابلة أو أن تسمع عنه شيئاً زمناً طويلاً.
ذلك لأن الناس لا يرغبون كثيراً في إسداء الصنيعة إلى غيرهم، لأن إسداءها يورثهم مشقة وتعباً ولأن مصائب أصدقاؤنا لا بد تاركة أثر من الرضى في نفوسنا وإنما يرغب الناس حقيقة في الاشتهار بالمروءة والعطف واكتساب شكر الآخرين ودلهم عليهم بالغنى وعزة الثراء إذ يعرضوا عليهم المساعدة والجود. وفي أغلب الأحيان لا يكون الناس راضين عن العطاء ولكنهم راضون أن يعرضوا هذا العطاء، وكلما ازددت رفضاً وإباءاً ازدادوا إلحافاً ورجاء ليغنموا نتيجتين: جرح كبريائك ورجوعهم بعد رفضك غير ملزمين بما وعدوا. وبهذه الطريقة تراهم يتظاهرون بشجاعة غريبة بالاهتمام بالمسألة والرغبة في إنجازها دون أن يخافوا فضيحة أمرهم مؤملين أن يكسبوا من وراء ذلك اعترافات بالجميل دون أن يخسروا شيئاً، حتى إذا ما ظهرت من ناحيتك بادرة الإجابة إلى مطلبهم وقبول منحنهم ولوا منك فراراً!!
- 6 -
لقد صدق لا. بروبير إذ قال أنه لا سهل على الكتاب السخيف أن يشتهر ويعظم أمره إذا كان مؤلفه مشهوراً من أن يشتهر كاتب وضع كتباً قيماً نفيساً. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أن خير طريق لاكتساب الشهرة ربما كانت في أن يعلن الإنسان عن نفسه بثقة ومثابرة ويؤكد بكل الوسائل الممكنة أنه قد اكتسب تلك الشهرة فعلاً.
- 7 -
ظن الإنسان الذي يصرح بمتاعبه وأحواله وبفتح قلب همومه وأحزانه مهما كانت منزلة أقواله من الصدق، إنما يهدم في الوقت نفسه صرح منزلته ومقامه في قلي أعز أصدقائه عليه. ولكن ينبغي للإنسان أن يتماسك لدى الخطوب ويثبت عند صدمات النوائب ويحتفظ(54/39)
بكرامته الشخصية وبذلك يرغم الآخرين على احترامه ويحملهم على الإعجاب بمتانة خلقه وعظمة نفسه. فإجلال الشخص نفسه إن لم يبدأ أولاً في قلب الإنسان فإنه لم يخلق في قلوب الآخرين. وإذا لم يكن الإنسان ذا شعور خاص بكرامة نفسه فإنه يجد هذه لكرامة في مكان آخر.
- 8 -
إن الناس يضحكون غالباً مما يعجبون به كالثعلب الذي يحكم بحموضة العنب الذي يوده ولا يقدر عليه! فالناس أشوق ما يكون إلى الظفر بالحب العميق الصادق مع ما فيه من حزن وفرح وهم في الوقت عينه يحملون عليه ويوسعونه ذماً. وكذلك العاطفة الشريفة أو العمل العظيم الحليق بالإعجاب والإجلال يكتم الناس شعورهم نحوه لا يعترفون به. ولا سيما إذا كان من استحق منهم هذا الإعجاب هو من أصحابهم وطبقتهم فيرون من لهوان على أنفسهم أن يقروا له بذلك الإعجاب والاحترام ويعمدون إلا السخر منه والتحقير به. وهذا العمل مطرد في حياة الإنسانية في كل يوم حتى أصبح من الضروري للإنسان أن يعمل على إخفاء كل مكرمة ونبل أكثر مما يعمل على إخفاء هفوة أو رذيلة. ذلك لأن الرذيلة على ما يظهر هي مبدأ السواد لأعظم من الناس فهم يغفرونها ويصفحون عنها على حين أن المكرمات والعظائم أعمال غير مألوفة ولا شائعة فيقابلونها بالشك والارتياب.
- 9 -
ليس شيء أدعى إلى السخرية والغرابة كتعمد الناس أن يظهروا على غير حقيقتهم. فالفقير والجاهل والقروي والمريض والعجوز كل أولئك لن يكونوا أبداً موضعاً للغمز والاستهزاء والسخرية ما داموا لا يحاولون الظهور بغير ما هم عليه. ولكن العجوز إذا تصابى والفقير إذا ادعى الغنى والريفي إذا تحضر والمريض إذا تظاهر بالصحة والجاهل إذا ادعى العلم فإنهم يصبحون جميعاً خليقين بالسخرية والاستهزاء ومبعثاً للفكاهة والضحك. من ذلك يتضح لنا أنه ليست معايبنا ونقائصنا هي سبب الضحك والسخرية ولكنه تكلف إخفائها والتظاهر بخلافها.
- 10 -
إن الذين لا يغامرون بأنفسهم في المجتمعات والمجالس فلما يكونون من أهل الوحشة(54/40)
وكارهي الإنسانية. فإن المبغض الحقيقي للبشرية إنما تعثر عليه في مزدحم المجتمعات والمجالس لا في مجاهل الأرض وفلواتها. لأنه ليس هي الفلسفة والتفكير بل التجاريب والمشاهدات التي تولد في قلب الإنسان بغض البشر وكراهة النوع الإنساني - ذلك وأن ما من إنسان كاره لأخيه الإنسان انصرف إلى الوحشة والعزلة والانفراد إلا خبت في قلبه شعلة ذلك البغض وانطفأت تلك الحفيظة.
- 11 -
قد مرت بالإنسانية عصور لم تحدث أثراً في عالم الفنون والآداب بل ولا في غيره من عوالم التهذيب والعرفان ولكنها كانت مع ذلك سبباً في إشعال نار الثورة في كل شيء في العصور التي تلتها.
- 12 -
إن النوابغ وأصحاب العقول الكبيرة قد يصبحون على مر الزمن غير مهتمين ولا مكترثين بالشهرة والمديح والهتاف الذي يعلو من أجلهم. ولكنهم لن يغضوا الطرف أبداً عن النقد والطعن الذي يوجه إليهم. فالحقيقة أن كل الإجلال والإعظام والثناء الذي يظفر به أولئك العظماء لا يجزيهم شيئاً عن الألم الشديد الذي يحسونه من نقد قارص أو كلمة واحدة لاذعة ربما رصدت من إنسان لا يقام له وزن ولا رأي. وعلى العكس من ذلك ترى الرجال المغمورين والخاملين الذين ألفوا النقد وعدم الاكتراث لا يتألمون ولا يتعذبون، وتراهم فرحين مبتهجين بالثناء الذي لم يألفوه إذا جادت عليه الأيام بشيء منه.
- 13 -
ليس الموت شراً لأنه ينقذ الإنسان من كل الشرور. وإن في الحرمان بعده من تناعم الحياة ولذائذها لاطفاء لرغباتنا إليها. ولكن الشيخوخة هي الشر المحض إنها بينما تحرم الإنسان من لذاته لا تطفئ رغباته، وتورثه الآلام والأحزان. لكن الناس يخشون الموت ويطلبون الشيخوخة.(54/41)
شهداؤنا الاثنا عشر
خلدوا تاريخهم بين السير ... وارفعوهم فوق أقدار البشر
واقطعو من جلدنا أكفانهم ... واجعلوا أهدابنا خيط الإبر
واغسلوا من دمعنا أجسادهم ... وادفنوهم بين سمعي والبصر
في هوى النيل هوت أقمارنا ... من سما (دُجنا) وأرداها الخطر
فإذا مصر في ظلام حالك ... تستغيث الله من وقع الخبر
مادت الهرام حزناً وأسىً ... وأبو الهول من الهول زأر
لا ترى في الناس إلا باكياً ... مذ بكى العلم عليهم وانفطر
* * *
مجّدوا تلك الضحايا واقرأوا ... آية الإخلاص في تلك السور
لم تكن هجرتهم من أرضهم ... عن جفاء بيننا أو عن بطر
إنما هجرتهم للعلم كي ... ينهلوا من ورده حيث انهمر
فإذا الموت (بدجنا) رابض ... في انتظار الركب إذا وفى ومر
فدهاهم فوق جسر ومضى ... حاملاً أراوحهم الاثنى عشر
* * *
يا بقايا همة ناهضة ... سوف يبقى بيننا هذا الأثر
كلما مر عليكم ناشئ ... جدد العهد وحيى وادكر
مصر أولى بالضحايا إنها ... أمهم أحنى عليهم وأبر
جشموا أنفسهم من أجلها ... غربة كانت عذاباً للأسر
فّا ما استشهدوا في حبها ... كان في أقصائهم إحدى الكبر
بل هنا في مصر في أحضانها ... ينبغي أن ينعموا بالمستقر
وبإيطاليا ارفعوا ما شئتم ... أثراً بالقرب من ذاك الممر
* * *
أيها المصري لا تهلك أسىً ... كل شيء في كتاب مستطر
حكمة بالغة بل عبرة ... لو وعاها المرء منا لاعتبر
كم غريب آب من أسفاره ... بعد ما أمسى شهيداً وانقبر(54/42)
ومقيم هب من رقدته ... بسلم الروح على متن السفر
في التوابيت شباب ناهض ... رلزل القطرين لما أن عثر
في التوابيت رجال صمدوا ... في قتال الدهر لما أن غدر
في التوابيت كرام أنفقوا ... عمرهم في رفعة النيل لأعز
في التوابيت هنا أكبادنا ... أودعوها في الحشا لا في الحشر
في التوابيت وما أدراكم ... ما التوابيت ضحايا المؤتمر
* * *
يا شباب النيل سر نحو العلا ... رافع الرأس وجده ما اندثر
وأين كالأهرام مجداً خالداً ... ليس تلبيه الليالي والغير
أمة مظلومة من خلقكم ... لا ترى ذون الورى أن تحتقر
* * *
أمة النيل تأسي واصبري ... واشتري صفو الليالي بالكدر
واحمدي الله على أحكامه ... يرحم الموتى ويجز من صبر
محمد نجيب الفرابلي المحامي(54/43)
تفاريق
النساء في انكلترا
دارت رحى الحرب الأوربية، واستغرقت نيرانها خمسة أعوم طوال، حصدت فيها ملايين النفوس البريئة من الطرفين، إذ كانت الأمم المتمدينة تقذف في سعيرها بأقوى رجالها وخيرة شبابها بلا حساب ولا مبالاة. وما كادت الحرب تضع أوزارها حتى رأى العالم من ذيولها أهوالاً ومشاكل - دولية واقتصادية واجتماعية - لا تقل في فظاعتها وتعقدها عن أهوال الحرب نفسها ومشاكلها.
ومن أكبر تلك المعضلات التي تشغل الآن بال المفكرين وأولياء الأمور في البلاد الأوروبية عامة وانجلترة خاصة هي مسألة آلاف الآلاف من النساء اللاتي أصبحن ولا أمل لهن في الزواج لقلة الرجال، والقوم في حيرة حيال ذلك، وإليك بعض ما جاء في إحدى المجلات الانجليزية بهذا الصدد، قال الكاتب: -
بينما كان مندوب إحدى الجرائد ماراً في شارع أستراند، خطر له أن يلاحظ نسبة الرجال إلى النساء، فوجد في خلال ربع ساعة أن قد مر به 230 امرأة، 58 رجلاً ولقي كذلك في عربة من عربات الترام 22 امرأة وستة رجال فقط.
ومعلوم أن النساء عندنا يربون قبل الحرب على الرجال بمليون امرأة أما الآن فقد صار النساء يزدن على الرجال بمليوني امرأة.
لقد جاهر الكثير منا يعني الانجليز بأن ليس ثم أي دواء لتلك الحال. ولكن لماذا؟ إن هنالك ممالك كثيرة هي في حاجة إلى النساء - خصوصاً في مستعمراتنا - فأستراليا مثلاً تحتاج إلى 200 ألف امرأة حتى يتساوى عدد الفريقين وكندا إلى 130 ألف امرأة لنفس السبب، كما أن جزائر (فوكلاند) تحتوي على 1200 رجل و 80 امرأة فقط وفي ترينيدار 136 ألف رجل و 119 ألف امرأة.
أجل إني أرى أن المهاجرة إلى المستعمرات هي أفضل الوسائل وأمثلها لمعالجة حالتنا الحاضرة. . . . .
* * *
معلومات صغيرة(54/44)
- لو أذيب جميع ما في العالم من ذهب لأمكن احتواؤه في غرفة طولها سبعة أمتار وعرضها كذلك وارتفاعها خمسة أمتار.
- كان للمدينة تأثير عظيم في أعمار الخيل ففي أيام وحشيتها الأولى كان الحصان يعيش ما بين 36 إلى 40 سنة. أما الآن فالجواد الذي يبلغ الخامسة والعشرين يعد مسنّاً.
- إذا عاشت الدجاجة عيشة صحية، فإنها تضع من 300 إلى 500 بيضة في حياتها. وأكثر ما تبيض الدجاجة في سنتها الثانية.
- يعرف الآن نحو2000 نوع من أنواع النمل. . . . والنملة تستطيع أن تسير بحمل يزن أضعاف وزنها هي، وليس لمخلوق آخر هذه القوة!
- أول من تعلم أن يسوق سيارته بنفسه هو ملك إيطاليا
- لا تسنح الفرص الكبيرة إلا لمن ينتفع بالفرص الصغيرة.(54/45)
العدد 55 - بتاريخ: 1 - 5 - 1920(/)
عجز الذهن البشري
عن إدراك خفايا الأشياء
للعلامة الفيلسوف الأمريكي البروفيسير وليم جيمس
إن أحكامنا عن قيم الأشياء وأقدارها - صغيرة كانت أم كبيرة - تتوقف على ما تثيره هذه الأشياء في نفوسنا من الإحساسات والعواطف، فنحن إذا وصفنا شيئاً بالنفاسة بناء على الفكرة التي نكونها عنه فما ذلك إلا لأن هذه الفكرة ذاتها تكون مقرونة بإحساس خاص. ومعنى هذا لو أننا لو كنا بفطرتنا عديمي الإحساسات وكانت الفكرة هي كل ما يمكن أنة يقوم بنفوسنا من أشياء هذا الوجود. إذن لفقدنا كل ما نسميه شهوات ومكاره وأصبحنا عاجزين عن أي شيء من الأشياء هذا أنفس وأهم من ذلك.
وبعد فإن عجز الذهن البشري عن إدراك خفايا الأشياء الذي هو موضوع مقالنا هذا هو عجزنا جميعاً عن إدراك ما يقوم بنفس كل إنسان سوانا من والاحساسات العواطف المتسببة عن أشياء هذا الوجود.
نحن أشخاص عمليون لكل واحد منا وظائف وواجبات محدودة. كل منا مدفوع بالفطرة إلى أن يشعر أتم الشعور بأهمية واجباته وبخطورة الأحوال والظروف التي تستدعي هذه الواجبات. ولكن هذا الشعور يكون في كل واحد منا سراً حيوياً مكنوناً مكتوماً في خزائن صدورنا لا يمكننا إيقاف الغير على حقيقة؟؟؟؟ ومقجاره، إذ كنا عبثاً نحاول من الغير أن يشاركونا في هذا الشعور أو ينظروا إليه بالعين التي بها إليه ننظر أو يزنوه بالميزان الذي به نزنه. وذلك لأن هؤلاء الغير مشغولون عنا تمام الانشغال بأسرارهم الحيوية وقد بلغ من فرط اهتمامهم بخفايا وجداناتهم ومكنونات صدورهم ما لا يستطيعون معه اهتماماً بخبايا عواطفنا ودقائق أسرارنا، ومن ثم ما تراه من خطأ أحكامنا حين ترانا ندعي القدرة التامة على تكييف أحوال الغير واحساساتهم وتقدير مرمى أغراضهم وغاياتهم. وقيم مشتهايتهم ومبتغياتهم.
ولنضرب لك مثلاً على ذلك شأننا مع كلابنا. ألا ترى أنه ما يربطنا بهذه المخلوقات من عروة تلك المودة التي هي أوثق من معظم ما يرى في هذا العالم من الصلات والروابط - فنحن وهم أعني الكلاب في ماوراء هذه الصلة الودية العاطفية - كلانا غافل تمام الغفلة(55/1)
عن كل ما يحب الحياة إلى الآخر يجعل لها قيمة ووزناً. فأما نحن فغافلون عن فرط لذة العظام تحت الأسوار والجدران وعن روائح الأشجار وعمدان المصابيح وأما هم أعني الكلاب فغافلون عن ملاذ الكتب والقراءة والمباحث الفلسفية والفنون الجميلة. فأنت إذا جلست مكباً على قراءة أمتع ما صادفت من الروايات والقصص ترى ماذا يكون رأى كلبك في سلوكك نحوه إذ ذاك وما ترى حكمة على خطتك معه وموقفك إزاءه إما أنه مع ملية إليك وعطفه عليك فإن منه حالتك إذ ذاك ومعنى سلوكك يكون مما يقع وراء دائرة فهمه ودون نطاق إدراكه. ما معنى جلوسك كالتمثال أو الصنم فاقد الحس والشعور معدوم الحركة في حين كان الواجب عليك والمتوقع منك أن تخرج به للتنزه في الغابات لملاعبته ومداعبته تقذف العصى والعيدان في الماء ثم تأمره بالتقاطها وهلم جرّا!
ما معنى هذا المرض العجيب الذي ينتابك كل يوم في ساعة مخصوصة - مرض تناول الأشياء وإمساكها بين يديك وإدامة النظر إليها الساعات المتوالية وأنت ثناء ذلك فاقد الحركة مسلوب الحس قد زال عنك كل دليل على أنك حي ذو روح.
إن همج أفريقيا كانوا أقرب إلى الحقيقة من هذا الكلب الذي لا يفهم أدنى شيء من حقيقة حال صاحبه وهو مكب على القراءة، حين ازدحموا متعجبين حول أحد سياح الأمريكان وقد ظفر بعدد من جريدة الأميركان أدفر تيراز وأكب عليها يلتهم سطورها. وذلك أنه ما كاد يفرغ منها حتى أقبل عليه أولئك الهمج المتوحشون فأخذوا يسامونه في هذا العدد من الجريدة المذكورة وعرضوا عليه ثمناً غالياً جداً في ذلك الشيء الغريب المجهول.
فلما سألهم فيم ولوعهم بهذا الشيء ولم يطلبونه قالوا إنما نريده دواء للهين إذ م يستطيعوا أن يؤولوا إلا على هذا الوجه معنى ذلك الحمام البصري، البطيء الذي أعطاه ذلك الأمريكي لعينه على سطح ذلك الشيء (أي على صفحات الجريدة).
والواقع أن كل عمل من أعمال الحياة يبعث في الإنسان فرط الاشتياق إلى مزاولته وشدة الرغبة في إنجازه وإدراك غايته وكل أسلوب من العيشة يكون مشفوعاً بتوقد الحركة وجيشان الهمة وتحفز العزيمة وبالولوع والتطلع والتشوق والتلهف فهذا هو الذي يكون ذا أهمية وقيمة - وهذا التطلع والولوع والتلهف قد يكون متصلاً بالحواس أو بالنشاط العضلي والعصبي أو بالمخيلة أو بمملكة التأمل والتفكر - وعلى كل حال فهو حيثما يوجد(55/2)
يكون مقروناً باللذة والمتاع - وليس الا معه تكون شهوة الحياة وتوقد جمرتهما ولآلاء بهجتها. وتدفق موجها. وتدفع لجها. وهنا الأهمية والخطورة والقيمة والنفاسة.
ولقد أوضح الكاتب الشهير روبرت لويز ستيفنسون هذا المعنى بأبدع مثل وأروعه في مقالة أعتقد حقاً أنها جديرة بالخلود جزالة معنى وسداد حكمة ورشاقة معرض وحسن سلوك قال هذا الكاتب البديع:
في نهاية شهر سبتمبر حينما يدنو ميعاد عودة الطلبة إلى المدارس ويأخذ الليل في اشتداد الحلك كنا نخرج من بيوتنا ليلاً حاملين تلك المصابيح الصفيحية المسماة (عين الثور) - وكانت هذه المصابيح من الشيوع والاشتهار بحيث أصبحت من أهم متاجر الجزائر البريطانية. ففي ذلك الأوان كانت حوانيت التجار تعرض في نوافذها تلك المصابيح. فكنا نشتريها ونشدها في وسطنا معقودة في مناطقنا فكانت تفوح منها رائحة الصفيح المحرق. وكان ينبعث لها لهب لا يصلح لإضاءة وأنما يصلح لإحراق أصابعنا.
وكان لا فائدة له وكانت لذتها خيالية فقط. غير أن الغلام الذي يحمل مثل هذا المصباح كان يحسب أنه ملك الدنيا بحذافيرها. فليس وراء ما قد بلغه غاية. وكأننا في هذا كنا ننتظر من طرف خفي إلى عادة الأجيال الغابرة وإلى ما كنا نقرؤه في الأقاصيص عن تلك العصور العجيبة - ولكن مهما يكن من مصدر هذه الفكرة فلقد كان متاعها عظيماً. وكان المصباح الصفيحي عين الثور أقصى أماني الغلام وغاية مأمولة.
وألذ ما في هذه اللذة أن الغلام كان إذا ركب المصباح في منطقته زر فوقه معطفه (البلطو) فخبأه تحته وحجب سناه وكتم شعاعه ثم انطلق في سبيله في الظلام الدامس فإذا التقى اثنان من أولئك الغلمان نادى الواحد الآخر أمعك مصباحك فيجيب الثاني أجل وفيها الكفاية. وذلك أنه لما كانت القاعدة في هذا الشأن أن يحجب الغلام نوره الباهر. وكوكبه الزاهر. كان لا يمكنك أن تعرف حامل المصباح إلا برائحته فكأنه في ذلك قطة الزبد لا تعرف إلا بعبق رياها. وأرج شذاها. فكان الغلام يعتسف الدجى مزرور الساء. مضموم الرداء. لا يتسرب شعاع من سناه. ولا يفلت بريق من ضياه ولا يتسلل من نوره الوهاج أدنى بصيص يسدد خطاه. ويضيء مراه. - فكأنه وسط الظلام عمود من الظلام. فاللذة كلها والطرب والنعيم في هذا وفي اعتقادك في أعماق ذهنك الأبله المعتوه أنك تحمل تحت(55/3)
كسائك مصباح عين الثور وفي فرط جذلك وطربك لهذا الاعتقاد.
لقد جاء في حكمة المتقدمين أن كل طفل شاعر وأن كل رجل مهما بلغ من جموده وجفائه ومن غلظته وقسوته فإنه يحمل في صميم قلبه قبر ذلك الشاعر الذي كأنه أيام هو صبي لاعب. على أنه يصح لنا القول بأنه لا يزال كل رجل مهما غلظت طباعه وجفت أخلاقه يضم بين جوانجه ويحمل في أعماق قلبه شاعراً حياً يعيش ويجيش ويلهو ويلعب تحت ظاهر الجامد القاسي - وهذا الشاعر الحي المتوقد في قلبه هو متعة حياته ولذة عيشه ومصدر ذاته ومبعث مسراته - أو هو كما يقال بهارى هذه الحياة وتوابلها وهو ترياقها وأكسيرها. وهو أريجها وعبيرها. وهو مجمرتها الفواحة بالطيب والشذا، التفاحة بالمسك والعنبر. ولقد أرى الناس يغفلون أو يتغافلون عما لا يبرح الإنسان يحمله في فؤاده حتى عهد المشيب والشيوخة - بل حتى يواري في ثرى رمسه من معاني الطفولة وخرافات الخيال وأخاديع المني وزخارف الأوهام والأحلام. فأنت إذا نظرت إلى حياته من الظاهر لم تلقها سوى كوخاً حقيراً من الطوب والآحر. فإذا استبطنتها وأفضيت إلى جوفها فلعلك واجد في صميمها غرفة ذهبية يرتع فيها الرجل ويمرح ويختال في برد ملفوف من نسيج أوهامه. ويرفل في وشي منمنم من غزل خرافاته وأحلامه. ويسحب مثل ذيل الطاووس من صنعة أباطيله. وينشر مثل أجنحة الملائكة من حوك أخاديعه وأضاليله. وفيها ينعم ويلهو. ويصدح ويشدو. ويجذل ويطرب. ويزهي ويعجب. ويمتع نفسه خيالاً بكل ما حرمه حقيقة ويستوهب من أكف الأوهام السخية السجيجة. أضعاف ما ضنت به الحقائق البخيلة الشحيحة، فإذا أبصرت طريقه في الحياة اسودت أرجاؤه وتكلفت ظلماؤه. فاعلم أنه يحمل في منطقته وتحت ردائه مصباح عين الثور.
لقد سمعت حكاية خرافية قرعت حبة فؤادي ومست صميم روحي. وهي حكاية الراهب الذي ولج بعض الغابات فسمع طائراً يغرد فلبث يصغي دقيقة أو اثنتين ثم عاد من حيث أتى فلما انقلب إلى الدير بالمدينة وجد نفسه غريباً بين أهله وسكانه من الرهبان ثم علم أنه قد غاب من الغاب مدة خمسين عاماً خيل إليه أنها دقيقتان. فعلم - هداك الله - أن هذا الطائر ليس مقصوراً على الغابة ولكنه كائن في حياة كل إنسان يكمن منها في أعماقها وأغوارها حيث لا بني يهتف ويغرد فلا يسمعه إلا هذا الإنسان وقد غفل عنه سائر الناس(55/4)
طرا. فالحمال المسكين الذي يرزح تحت حمله من أجل درهم - إنه والله ليسمع أغاريد هذا الطائر فيبتهج في أعماق نفسه ويطرب وأنت تحسب أنه ليس على أديم الأرض أبأس منه ولا أشقى. ولقد أمكنني بغير واسطة سوى مصباح عين ثور أيام طفولتي أن أستثير هذا الطائر من عالم الخيال فاستمتع ما شئت بمطارب ملاحنه وأنا ذلك الطفل المعدم المسكين الرث الملابس يخالني الناظر فريسة الوجاع والآلام. واليتيم في مأذبة اللئام. فحياة الإنسان مؤلفة من عنصرين - أولهما البحث عن مكان هذا الطائر وثانيهما الإصغاء إلى أغانيه. فمعرفتنا هذه الحقيقة وذكرانا لتلك الساعات الهنيئة التي كنا فيها ننصت إلى أغاريد الطائر هما اللذان يملآننا عجباً عندما ننظر في قصص الروائيين الوقعيين وذلك أن كل ما تجده في هذه القصص هو الجزء الظاهر لك من حياة الأشخاص - وهذا في الغالب لا يكون إلا المؤلم الموجع المضيض القفر الموحش المجدب. فأنت في تلك الروايات لا ترى الحياة إلا مؤلفة من الطوب والطين والوحل والخشب والحديد ورخيص الشهوات وحقير المخاوف والآمال - وكل ما يخجلنا أن نذكره وكل ما لا يهمنا أن ننساه - فأما أغاني ذلك الطائر المغتال لدولة الزمن الفيحاء فلا نسمع لها خبراً. ولا نبصر لها أثراً.
أرأيت إذ عثرت أثناء قراءة بعض تلك القصص الوقعية على قطعة نصف لك حال غلام مثلي أيام طفولتي يسير في الظلماء رث الثياب سيء الحال مجوّعاً مقروراً تقذفه السماء بنبالها الصائبة. وتضربه النكباء بسياطها القاضبة. أكنت واجداً في هذه الصورة سوى ما تصف لك من بؤس ذلك الغلام وكربته. وما تصور لك من مسكنته وذلته. ولكن هذه هي الحقيقة كلا هذا ما قد حسبه مؤلف القصة المضلل وما يظنه القراء الغافلون أنه الحقيقة. ولكن هؤلاء لم يبصروا سوى الظاهر الكذاب. وقد خفي عنهم الباطن والسر واللباب. فسل الغلام نفسه ينبئك أنه في جنة من النعيم أساسها هو ذلك المصباح الكريه الرائحة.
والواقع أن سر سعادة امرئ ومنبع سروره هو أعقد من المشكلات. وأعوض المعضلات. ومما لا يكاد إنسان مهما نفذت بصيرته. وثقبت بديهته. أن يستطيع الوقوف عليه. والاهتداء إليه فهذا السر والعلة الخفية قد تتعلق على أوهى من خيط العنكبوت من الوسائط الخارجية كمصباح عين الثور وقد تكون كامنة في خفايا نظام العقل وجوهر النفس وتركيب الروح وهي (أعني العلة الخفية في سعادة الإنسان) لا يكاد يكون لها روابط(55/5)
بالأشياء الظاهرية - بل ربما لم يكن لها بتلك مساس البتة. حتى ترى أن عيشة الإنسان التي قد قبلها وارتضاها من القدر هي بحذافيرها خارجة عن منطقة الحقائق واقعة في دائرة الخيال، وفي هذه الحال يكون نهر اللذة في حياة المرء هو مما يجري تحت الثرى والأديم فأعين الناظرين البله المغفلين (أني لأرحمنهم رحمة واسعة لغرورهم وغفلتهم) لا تأخذ إلا ظاهر الأمر ولكنها عن مكنون الحقيقة عمية مكفوفة. لأنها لا تنظر إلا إلى الرجل. . . ومن نظر إلى الرجل كان بخيبه الظن وفساد الرأي مليئاً جديراً. لأن عين الناظر في هذه الحال لا تصيب من الإنسان إلا ما يماثل الساق من الشجرة الباسقة - فهو لا يرى إلا واسطة التغذية ومصدر القوت للإنسان فأما الإنسان ذاته فهو في عليا طبقات الجو وسط قبة الورق الخضراء ينعشه بمراوحها الهفهافة أيدي النسيم. وتطرب نغمات ألحان البلبل الرخيم. فالمذهب التأليفي الحقيقي هو في الواقع ليس سوى مذهب الشعراء (الذي يعده الناس خطأ نقيضاً للمذهب الحقيقي) فإنك ترى الشاعر يتغلغل بين الأغصان والقضبان وراء الإنسان الحقيقي المستتر كما قلنا في عليا طبقات الجو وسط قبة الورق الخضراء، وما أن ينى يرتقي ويتسلق كأنه السنجاب حتى يسمو إلى حيث يستطيع أن ينال لمحة من الفردوس السماوي الذي ينعم فيه الإنسان الحقيقي ويتلذذ. أجل إن المذهب الحقيقي مازال أبداً مذهب الشعراء - إذ ينقبون عن مكنون موضع اللذة ويفتشون عن محجوب مستقر الطرب ثم يجعلون لهذا الطرب صوتاً فوق مرتبة الغناء. ووراء أقصى غاية الموسيقى.
فإن الطرب هو سر السعادة فإذا فاتك الطرب فقد فاتك كل شيء. والطرب الذي يجد المرء في مباشرة أي عمل هو الذي يحعل لهذا العمل معنى وغاية وغرضاً وقيمة ووزناً. فهذا بيان الأمر - وهذا عذر كل امرئ في كل ما يباشر من الأعمال ألا ترى أن الذي لم يقف على سر المصباح لا يستطيع أن يدلاك حقيقة ما يجده الغلام حامل المصباح من اللذة الخفية. والنغمة اليسرية. ومتى صح الحكم على الكتب المسماة حقيقة المذهب بأنها أبعد الأشياء من الحقيقة. فإن كل هذه الكتب خلو من اللذة الشخصية والمعاني الشعرية ومن عالم السحر والأحلام ومن نسيج الخيال الذهبي الذي يكسو كل معنى عار ويشرف كل معنى خسيس. وفي كل كتاب منها (من الكتب الحقيقة) ترى الحياة هاوية إلى أسفل كالرصاص بدلاً من سموها كالمنطاد وتغلغلها في ذهب الأصيل وبهجة جمال الغروب. فإن(55/6)
قيل أن هذه الكتب الحقيقية صادقة قيل في الوقت نفسه وإنها أيضاً كاذبة. فإنك لا تكاد تبصر إنساناً يعيش وسط الحقائق الظاهرية - بين أحماض معمل الوجود وأملاحه ولكن في غرفة خياله الملونة بين نوافذها المنقوشة الزجاجات وبين جدرانها المسطورة بأساطير الأقاصيص وأعاجيب الروايات والأحاديث
لها بقية في بيت القصيد سنأتي عليها في العدد القادم(55/7)
النهضة الإيرلندية
شيء عن حزب السين فين
قد أضحى العالم بأجمعه يعلم نبأ النار المشتعلة في تلك الجزيرة ثالثة ثلاثة الممالك المتحدة البريطانية. وهي ايرلندة. والحركة الثائرة القائمة في أرضها النزاعة بأهلها إلى الاستقلال ولكن قليلين من الناس الذين يدركون معنى كلمة السين فين التي تطالعهم في كل يوم من أنهار الصحف. والرّوح التي تنطوي تحت تلك اللفظة. والمبادئ التي تتوخى منها. والأغراض التي يسعى الساعون باسمها. ولهذا آثرنا أن نوجز في المقال الآتي تاريخ تلك الحركة حتى يكون القراء على بينة منها.
* * *
معنى كلمة السين فين في اللغة الايرلندية بالحرف الواحد نحن انفسنا ولما كانت هذه الكلمة تطوي تحتها النهضة النزاعة إلى استقلال ايرلندة، لم تلبث أن أصبحت اسماً للحزب الجمهوري في تلك البلاد. وهذا المعنى الذي جثا اليوم هو الذي سيدون في معاجم الغد، ويدرج في قواميس لغة الحرية في المستقبل.
وأول ظهور هذه الكلمة في عالم الدنيا كان عام 1904 - أي منذ ستة عشر عاماً وكانت تدل على كثير من المعاني، وغلب عليها جملة من التطورات، وتشعبت فيها المطامح والأغراض، حتى أضحت لها المكانة التي تمت لها اليوم.
وقد شرحت المبادئ التي يقصد إليها من كلمة السين فين والحركة الناهضة من جوانبها في أبحاث عدة وسمت بعنوان أبحاث في عودة المجر إلى الحياة ونشرت عام 1904 في صحيفة سيارة اسمها الايرلندي المتحد وقد وصفت الحركة المجربة لنيل الاستقلال في تلك المباحث بأنها نتاج ثورة منتصرة ناجحة لم يسفك فيها دم ولم تسل في سبيلها نفوس، ولم يطح فيها بأرواح وأبدان. وعزيمة صارمة في شعب مظلوم أبي ألا أن ينكر سيادة الأقوياء عليه، ويخلع عنه سلطان الجبروت الذي يريد أن يتحكم في حياته، ورغبة شديدة في العمل بنفسه لإصلاح شن بلاده من جميع الوجود الأدبية والاقتصادية والسياسية، وقد حض بها كاتب تلك المباحث أهل جلدته وأبناء وطنه الايرانديين أن يحتذوا هذا الحذو ويتبعوا تلك المبادئ بعينها، فأغرى ايرلندة بأن تكف عن إرسال مندوبين عنها في البرلمان البريطاني(55/8)
وتمتنع عن دفع الضرائب إلى الخزانة البريطانية والالتجاء إلى قضاة المحاكم البريطانية وإدارتها وتقليد الانجليز في مبادئ الأخلاق وفي الآداب وفي حركة العلم وفي تيار الشعر والنثر. وبذلك كله تصبح ايرلندة قائمة بذاتها وتكتب بيدها في لوحة التاريخ ايرلندة الحرة بلا انجلترة.
ذلكم الكاتب القوي العظيم الجبار الروح الذي كان القائد الأول من قواد النهضة، والجندي السائر في الطليعة، كانا رجلاً بسيطاً يدعى آرثر جريفيس وهو فتى ملتهب الروح. ناضج الذهن، اجتمعت فيه الروح السلتية بالخيال الايرلندي، وكان رئيس تحرير تلك الصحيفة الأسبوعية، التي كانت تعيش في العن مظاهر الفقر عام 1903، في شارع مهجور من شوارع عاصمة ايرلندة، حتى لقد وصفها أحد الكتاب الفرنسيين الذين اتفق لهم رؤيتها في ذلك الحين فقال إن إدارة تحرير تلك الصحيفة لم تكن إلا حجرة صغيرة ضيقة الجوانب، لا ينفذ إليها بصيص الضياء إلا من نافذة واحدة قد استعيض عن زجاجها صحائف الجرائد، ولا تحتوي من الأثاث إلا كراسي قذرة علاها الماد والصمغ والتراب وقد علل فقر تلك الصحيفة كثيرون بسوء حالها وقلة دخلها. وآخرون زعموا أن أصحاب الصحيفة أنفسهم هم الذين أبوا إلا أن تظهر بهذه الحال الرثة، وتبدو بذلك مظاهر الفقر، حتى لا تقع أدوات المكتب وأثاثاته إن احتوت منه الشيء الفخم والمظهر الغني في أيدي الشرطة وتحت طائلة القانون الذي كان يصادر الصحف التي تكتب في حدود التطرف وتنشيء المقال الثائر المخيف من تلكم الحجرة الصغيرة.
ومن وسط مظاهر ذلك الفقر الشديد والرثائة البادية راحت إذ ذاك كلمات ذلك الكاتب تخرج ملايين من أهل ايرلندة إلى النور وتشيع في أجزاء الإمبراطورية كلها، وتنتقل في ندوات البرلمان. وكان ذلك الرجل يكتب فكأنما كان محامياً أصولياً مدرها يحمي عن الحق، ويبسط مبادئ القانون، وكأنما كان قاضياً يصدر حكمه من دست القضاء.
وكان المجمع الغالي في ذلك (نسبة إلا بلاد غاله - وبلس) العهد قد أعاد ماضي اللغة وأقر رجعتها الايرلندية إلى البلاد، وأسس الروح الغالية القديمة، ولكن كان الفلاحون والزارعون الصغار في الوقت نفسه منكبين على شراء الأراضي والانتفاع بالمخترعات الحديثة الزراعية في الاستثمار والاستكثار حتى أصبح لا هم لهم إلا الأرض تخرج لهم الحب(55/9)
يكنزون بثمنه أموالهم، ويملأون خزانتهم، حتى لم تلبث البلاد أن احتوت جمهوراً من المزاعين المترفين المتبلدين المتناسين حركة الاستقلال والعمل للحرية، وكذلك تنازعت المادية والمبادئ الروحية العالية ووقعت بينهما الحرب. ونشب الخلاف وتركت مقاليد النهضة السياسية في أيدي قوم من أهل الصناعة وقصروا سعيهم على طلب الهوم رول حتى ذهبت الطنون إلى أن جماهير الشعب الايرلندي لا تجد روحاً إلى الاستقلال ولا نميل بقلوبها إلى طلاب تحقيق النهضة، وفي الحقيقة لم يتبع الحزب البرلماني من أهل ايرلندة المبادئ كلها التي كان يسعى إلى تحقيقها جملة لشعب ولم يرعوا حق تلك الرغبة الايرلندية في وستمنستر وفي مقاعد أهل البرلمان من الايرلنديين كماليتها السماوية والروحانية العالية التي تتجلى من ناحيتها في بلادها، والإلهية التي تشع على الناس من سماء كلمة الحرية الجميلة ولم يلبث أن عدت مبادئ الكاتب الأول، والجبدي الحي الآنف آرثر جريفيس، واضع أساس النهضة، وراسم خطة السعي - مبادئ طوينية خيالية، وأمثلة عليا لا سبيل إلى بلوغها.
على أنه في اليوم الثامن والعشرين من شهر نوفمبر عام 1905 انتدبت طائفة صغيرة من زعماء الوطنية الايرلندية وألفت المجلس الأهلي وطلبت إلى جريفيس أن يضع البرنامج الوطني الذي ينبغي العمل على إنفاذه ورسم الخطة العملية الخليقة بالتحقيق فقام الرجل بإلقاء مباحث ومحاضرات عن ذلك وكانت كلمة سياسة السين فين أول ما ظهرت على شفتيه، وجرت في مباحثه.
ولم تكن تلك الندوة يوماً من الأيام منذ نشأتها الأولى جمعية سرية، أو شرذمة من الناس يعملون في الظلام وتحت أستار الدسائس. بل كانت تتألف من أندية صغيرة منتشرة في جميع أطراف أيرلندة. مفتحة أبوابها للقصاد. مجاهرة بمبادئها وأغراضها. معلنة مقاصدها ومساعيها. وكانت كلها تحت اسم واحد وهو ندوات السن فين وما كاد يحل عام 1907 حتى كان منها في أيرلندة كلها سبعون نادياً ولم تلبث صحيفة الأيرلندي المتحد التي مر بك ذكرها أن غيرت اسمها فراحت تنادي في ذلك الوطن الملتهب لمعنى الحرية صحيفة السين فين وأضحت يومية سيارة عدة أشهر في عام 1909 واجتمعت نية الوطنيين على إصدار طوابع للبريد خاصة بأيرلندة مختلفة عن الطابع البريطاني. ولكن لم تلبث الأموال التي(55/10)
خصصت لأغراض تلك الحركة أن نفذت. وضعف شأن الحزب الأيرلندي المعين في البرلمان. وقامت ثائرة المتطرفين والاشتراكيين، ففقدت نهضة السين فين مكانتها الكبرى التي كانت لها. وذهبت ريحها. فتولى عنها. وتفرق القوم. ولم تعد ندوات السين فين تلفت أنظار الإنسانية والعالم المتحضر - على أن دور النشاط الثاني وعهد الحمية والعمل والسعي، لم يلبث أن أقبل عام 1913 فظل باقياً مستحراً حتى عام 1916 وهو دور الأيرلنديين الذين تطوعوا للجندية، ودخلوا في غمار القتال طواعية واختياراً. يومئذٍ لعبت أحزاب السين فين دوراً خطيراً في سبيل الاستقلال. فإنه لما أصبح التصويت للهوم رول أمراً محققاً. قرر أهل ولاية بلفاست أن ينفذوا بالقوة والاقتسار قانون الاستقلال الذاتي ولهذا أنشأوا جيشاً من المتطوعين الالتريين من جراء الحرب الداخلية التي أثارتها الحكومة الوقتية تحت إشراف السير ادوارد كرزون. ثم جمع الاشتراكيون من ناحيتهم كذلك جيشاً آخر من أهل دبلن سموه الجيش المدني وفي الحال أعدوا العدة لتعليمه واستمدوا له الذخيرة واللباس. وجعلوه على الطراز الأخير من فن قيادة الجيوش.
فلما نشبت الحربر الأوربية اقترح جون ردموند على وزارة الحرب الانجليزية أن تحول فرقة الأيرلنديين المتطوعين إلى فرقة مقيمة في انجلترة لا تبرحها لحماية الأرض والدفاع عن الحمى والذمار ولكن اللورد كتشنر قابل المقترح بالرفض استكباراً وأنفة واعتزازاً، فنصح النواب الوطنيون الأيرلنديون لجنود تلك الفرقة ورجالاتها أن يخرجوا من سلكها ويندمجوا في جيش الإمبراطورية التي منحتهم الهوم رول والتي جعلت تقول أنها تدافع عن حرية الشعوب. وكذلك سلك كثيرون أنفسهم في الجيوش المتدفعة إلى الحرب وأسدل الستار يومذاك على الهوم رول إلى أجل مسمى على أن زعماء إيرلندة رأوا أنه قد خدعوا عن أمرهم وأن أيرلندة لم تكن من بين الشعوب التي من أجلها شبت نار الحرب في الغرب لمنحها حريتها، وفك رقبتها من أغلال الاستبداد وأنه خليق بهم أن يكون السعي لتحرير بلادهم في أرضهم والجهاد للحرية فرق ثري وطنهم فأعادوا إنشاء جيشهم الأول ألذي أصبح العالم كله يعرفه باسم جيش السين فين ولم بكن في صفوف ذلك الجيش كثيرون من شيوخ السين فين الأولين، وإنما كان فيهم قلائل من الجمهوريين نخض بالذكر منهم العالم الأيرلندي ماكتيل والأستاذ دي فلبرا ومؤسس جامعة سارت انده ونعني به باتريك بيرس(55/11)
وقد احتذى الزعماء الجدد حذو الأولين فجعلوا يثيرون الحرب على إنجلترة ويطلبون فصل أيرلندة عنها الفصل التام. وإنشاء جمهورية أيرلندية على أنقاض البناء الأول.
ولا تظن العالم قد نسي القتال العنيف الذي وقع عام 1916 يوم ثار فتيان أيرلندة وهم نحو ألفي رجل فاحتلوا جزءاً كبيراً من عاصمة البلاد ونادوا بالجمهورية الأيرلندية وجعلوا يقفون أمام جيش منظم ويقاومون مدفعية شديدة النيران وظلوا وقوفاً أمام تلك الشراذم التي تفوقهم عدداً عديداً أسبوعاً كاملاً حتى استشهدوا والابتسامة الحلوة العذبة ابتسامة الاستشهاد في سبيل الحرية - تجري على شفاههم في محضر الموت. ورفعوا إلى أداة الإعدام. والمقصلة مصلته. والمنون متداينةز وهم فرحون لا تفتر ثغورهم عن الابتسام. وأما الشعب الأيرلندي - إن لم يظهر إعجاباً بتلك الثورة الطائشة المستميتة فقد أبدى إكباره الأعظم لبطولة أولئك الفتيان ولقد شهد لهم بتلك البطولة أعداؤهم. كان من وراء تلك الثورة أن ضرب خمسة وعشرين من الزعماء بالرصاص ومن بينهم الزعيم توماس كلارك ذلك الوطني المغوار اذي جعل طوال حياته يشتهي أن يلقي تلك المنية الحلوة. وضربت رقاب كثيرين، منهم في الربيع العشرين. ماتوا جميعاً وظل الابتسامة الناضرة التياهة المدلة ببطولتها يجري على أفواههم.
وحكم على الشاعر الأيرلندي الجميل يوسف بلا نكت بالإعدام وكان إذ ذاك خطيب عروس حسناء. ففي الليلة السابقة لموعد شنقه انسلت العروس تحت ستار الظلام إلى السجن ومعها قسيس فعقد للعروسين وتم الزواج. وفي الغداة سقط ذلكم البطل قتيلاً إذ بدت أمينة عن كثب زوجه وهي في إطار حفلة العرس والأزاهر حافة بها.
كان موت أولئك الأبطال وزج إخوانهم في غيابات السجون ونفي رفاقهم وتشريدهم في الأصقاع النائية. والبلاد البعيدة. صفحة أخرى في كتاب الذكريات الوطنية التي يكتب منها تاريخ أيرلندة المجيد. وكان تقتيلهم سبباً من الأسباب التي دفعت السواد الأعظم من الشعب الأيرلندي إلى الرغبة عن الهوم رول. وإنشاء السين فين - علم الجمهورية الجميلة المبتغاة.
* * *
منذ ذلك العهد أصبح السين فين حزباً سياسياً كبير الشأن كبير الخطر، واتخذ مركزه مدينة(55/12)
دبلن وانتشرت منه ندوات فوقعت في جميع بلاد أيرلنده وحواضرها أضحى المبدأ الأوحد الذي تعمل جميعاً له هو أيرلندة بلا أنجلترة، وجمهورية على أنقاض العبودية، وأصبح الزعيمان جريفيس ودي فاليرا يضعات أيديهما على هذا العمل لا كبر.
فلما كانت انتخابات ديسمبر سنة 1918 انتصر في الانتخاب أعضاء السين فين على مزاحميهم وأصبحوا أعضاء الحزب الأهلي الأكبر، وأصر الأعضاء المنتخبون وهم أحد بني وطنهم أخلاصاً، وأكبرهم نفوسها - على مبدأهم وهو أن لا يجلسوا في مجالس البرلمان الإنجليزي ولا يشغلوا منه المقاعد، ولا تكون لهم في تلك الندوة أشباح، ولذلك اجتمعوا في شهر يناير عام 1919 فأنشأوا مجلساً وطنياً يدعى في اللغة الأيرلندية (الديل إيربين) ونشر ذلكم المجلس دعوة بالاستقلال ونادى بتأسيس الجمهورية الأيرلندية.
ثم قر بعد ذلك القرار على إرسال نائبين إلى باريس ي طلبان إلى مؤتمر الصلح سماع القضية الأيرلندية. ووقع الاختيار على الزعيم جون أوكلي رئيس ذلكم المجلس وكاتب من مشهوري الكتاب، وبطل من الأبطال جرج في تلك الموقعة التي مر بك بيانها. والثاني جورج دوفي النائب عن دبلن وهو رجل من كبار أهل القضاء. وانضم إليهما ثلاثة زعماء من قبل أيرلندي أمريكا وهم الذين قووا شوكة النهضة، وأيدوها بالحمية والنشاط، وهم فرانك والش وادوارد ون من حكام الولايات المتحدة الأسبقين ثم ميشيل ريان. على أن المؤتمر لم يستمع لهم. ولم يتقبلهم. ولم يرتض زيارتهم، بل لقد كان من كليمنصو أن رفض مقابلة مدام دوفي وهي السيدة التي أوفدت برسالة إليه من قبل نساء أيرلندة للدفاع عن حق وطنهن. ولكن الرئيس ويلسون رضي بلقاء الثلاثة النواب من أهل مملكته، ووقعت بينه وبينهم أحاديث، ودارت مناقشات، وبعد لأي تنازل مستر لويد جورج بالموافقة على مقابلتهم.
* * *
أبطال ذلك الحزب السياسي الكبير اليوم رهائن المحابس، يعيشون في الحواصل والسجون، ومنهم اللذين توسدوا الحفر، واضطجعوا في ظلمة القبور \، إذ رأت الحكومة المسيطرة أن ذلك الحزب مسؤول عما وقع في أيرلندة من المجازر وأنه من الأحزاب المشاغبة المرجفة بالفتن، الناشرة أعلام القلاقل، فعملت على مصادرته، والتنكيل بزعمائه.(55/13)
على أن كلمة السين فين ستخلد في تاريخ الدنيا علماً على ما كان في جزء من بلاد الله من الاستماتة في سبيل الحرية والاستشهاد لنيل نعمة الاستقلال.(55/14)
روح الإسلام
لأكبر نصير للإسلام اليوم سيد أمير على النابغة الهندي العظيم
الفصل الثامن
مركز المرأة في الإسلام
في دوار معينة من التطور الاجتماعي لا يكون تعدد الزوجات أو ارتباط الرجل بعدة نساء إلا أمراً لا بد منه وحالاً لا مفر منها، ولقد كانت الحروب التي نسبت بين القبائل وما كان منها من إقلال عدد الرجال وكثرة عداد النساء، والسلطان المطلق الذي ينعم به زعماء القبائل وسادة العشائر والأفخاذ والبطون - كل أولئك كان السبب في إيجاد عادة تعدد الأزواج التي أصبحنا نعدها بحق في هذا العصر المتحضر نقيضة لا تحتمل واذاة وشر من شرور المجتمع.
وقد كان تعدد الزوجات في الأمم الشرقية جمعاء شريعة مقررة وسنة متبعة. وكان اعتياد الملوك إياها والأكاسرة وأهل بيت الملك - وكانوا إذ ذاك ينزلون من أممهم منازل الأبارب ويحملون علم الألوهية - باعثاً للناس على اتباعها. والجري على سنن ملوكهم من ناحيتها. فقد ذع تعدد الأزواج (من كلتا ناحيتيه أي إكثار الرجل من النساء وارتباط لنساء بعدد من الرجال) بين أهل الهند منذ زمن بعيد في التاريخ ولم يكن ثمت بين الآشوريين والميديين والبابليين أي حد لعدد النساء الزوجات التي يحوز للرجل الأعراس بهن. ولا يزال الرجل في البراهمة إلى يومنا هذا يستطيع أن يتزوج من النساء العدد الذي يحب ويختار. ولقد كان تعدد الزوجات؟؟؟؟؟ بين بني إسرائيل قبل عهد موسى وفي أيامه إذ أقر تلك السنة ولم يضع لعدد زوجات حداً ولا قيداً ولكن وضع ذلك القيد بعد ذلك في التلمود ونص على جواز الزواج بعدد من النساء على قدرة مكنة الرجل من إطعامهن والإنفاق عليهن ولئن كان زعماء اليهودية قد قالوا بتحريم الزواج بأكثر من أربع نسوة فقد خالفهم قوم في ذلك ولم يعترفوا بحد ولا شرط.
أما الفرس فإن دينهم أباح الإكثار من اتخاذ الزوجات، وقد انحط تعدد الزوجات بين الشعوب الفينيقية السورية - التي هزمها بنو إسرائيل وأبادوها - إلى درك ليس بينه وبين الحيوانية الشنعاء أي فارق أو خلاف. وكذلك فشت سنة تعدد الزوجات في أهل طراقية(55/15)
وليديا وكثير من الشعوب القديمة التي كانت تسكن أقاليم عدة من بلاد الغرب والأقاليم الواقعة في غربي آسية وزادت عن الحد وتمادت حتى تجاوزت الوصف.
ولقد كانت الزوجة في أهل أثينا القديمة - وهي ولا خفاء أكبر الأمم الأثرية القديمة حضارة - متاعاً يباع ويشترى وسلعة في السوق تنتقل من حوزة رجل إلى رجل، وكانت تعد شراً لا غنى عنه في البيت وللابتذال في لخدمة وإخراج الذراري والأطفال وكان للأثيني أن يتزوج بمن شاء من النساء حتى فقد جعل الخطيب ديموستينس - وهوهو في براعة الخطابة - يفخر بأن في أمته ثلاث طبقات من النساء، طبقتان منها أزواج شرعية وأخريات غير شرعية.
ولئن كان الرجال في اسبارطة القديمة لا يباح لهم الزواج بأكثر من واحدة فقد كان لنسائهم أن يتزوجن بأكثر من رجل واحد.
ولعل الظروف لخاصة التي وضعت فيها أنظمة الدولة الرومانية هي التي حالت دون إباحة تعدد الزوجات في إبان نشأة تلك الدولة، ومهما كان نصيب قصة اختطاف نساء السابين وسبيهن في أوائل العهد بدولة الرومان من الصحة والحق، فإن ثبوت تلك القصة في سجل التاريخ باعث على الظن بأنها كانت العامل في وضع الأنظمة الأولى عندهم في الزواج والأسرة، على حين أن تعدد الزوجات في الولايات المجاورة لرومة وفي ولاية اتروسكان خاصة كان عادة شائعة وسنة مألوفة، وجاءت بعد ذلك الحروب الكثيرة والغزوات الطويلة والفتوح المستمرة وما كان منها من حدوث الاختلاط بالأمم الأخرى التي كانت تسكن إيطالية. ثم الترف الناشئ من النجاح والرفاهية التي تعقب الانتصارات فكانت كلها سبباً في جعل مشروعية الزواج عند الرومان أمراً لا أهمية له ولا ضرورة فلم يكتفوا بإباحة تعدد الزواج وجعله شرعة ونظاماً مقرراً بل استحال الزواج كذلك ضرباً من النسري لا أكثر ولا أقل. ولم يلبث النسري بعد أن أقرته شرائع الدولة الرومانية أن أضح في قوة الشريعة المباحة والسنة المقررة، ولذلك كانت حرية النساء وضعف الرابطة التي تمسكهن بالرجال وتبادل الزوجات بين الرجال أو التنازل عنهن لم تكن جميعاً إلا تعدد الزوجات بعينه وإنما تحت اسم آخر، وفي شكل مختلف.
وبدأت يومئذِ تعاليم المسيحية الأولى تلقي على سواحل غاليلية وتشع على العالم الروماني(55/16)
بأسره، على أن نبي الناصرة (عيسى عليه السلام) لم يستطع أن يقدر مسألة الزواج حق قدرها عامة وكذلك شاعت سنة تعدد الزوجات وفشت وسادت، حتى جاءت قوانين حوستنيان فأبطأتها وحرمتها ولكن أمر تحريمها في تلك القوانين المدنية لم يحدث أي تغيير في أخلاق الشعب ومبادئ الآداب عندهم فظل تعدد الزوجات باقياً معمولاً به متبعاً حتى جاءت مدنية المجتمع المتحضر فقطعت بتحريمه، وحكمت عليه بالموت.
وكانت الزوجات عدا الزوجة الأولى التي بنى الرجل بها قبل الأخريات في شر حال وأسوأ عيشة، سلبية الحقوق، لا تنعم بشيء من تلك الرعاية التي ترعى القوانين بها حق الزوجة الأولى، عبيداً أرقاء، مستهدفات لتقلب الزوج، رهائن أوهامه، غرضاً لمنازعه وأهواء نفسه، وكان أطفالهن يوسمون بمسم الزنا، ويدعون مزنمين، ويحرمون من حقهم في إرث أبيهم، ويعاملون كأنهم طرائد المجتمع متمردين منبوذيتن من صفوفه.
ولم يكن التمتع بعدد من الزوجات شرعيات وغير شرعيات مقصوراً على طبقة النبلاء والأشراف بل لقد كان كثيرون من رجال الدين يتناسون العهد الذي عاهدوه والقسم الذي اتخذوه من البقاء في العزوبة والتحرج من الأزواج فيرتبطون بزيجة أو زيجتين شرعيتين أو غير شرعيتين، والتاريخ يدل على أن تعدد الزوجات لم يكن في نظرة الإنسانية محرماً غير جائز كما هو اليوم بل أن القديس اوغستين نفسه لم يكن فيه شيئاً من الإثم أو المعابة أو مخالفة نواميس الآداب واعترف بأنه لا يعد جريمة إذا كان سنة مقررة في بلد من البلدان وقرر المصلحون الدينيون من الجرمان في القرن السادس عشر صحة الزواج بامرأة ثانية أو ثالثة بجانب الزوجة الأولى لأسباب كثيرة منها العقم وقلة النسل.
ونحن نرى كثيرين من العلماء الدينين يعترفون بأن ليس في تعدد الزوجات أي مخالفة لقواعد الآداب وأن عيسى لم يحرم التعدد تحريماً قاطعاً ولم يقل بمنعه منعاً باتاً ومع ذلك يقولون بأن فكرة الفردية في الزواج لم تعم في الغرب ولم تنتشر إلا بفضل التعاليم التي بثها الجرمان أو أهل الدولة الرومانية الشرقية في تضاعيف المسيحية ولكن هذه الفكرة الأخيرة تخالف الواقع والتاريخ ولا أثر لها من الصحة. إذ لم يقل باستمساك الجرمان بسنة الاقتصار على زوج واحدة غير واحد أو اثنين لا تصح شهادتهما ثم لا ينبغي أن ننسى الغرض الذي من أجله وضع المؤرخ تاسيتاس كتابه في في آداب الجرمان فقد كان كتابه(55/17)
ذاك نقداً حاراً شديداً على الإباحية التي كانت متفشية في بني وطنه وكان غرضه إدخال مبادئ أطهر من المبادئ التي كانت سائدة يومذاك في رومه. وإذا نحن فرضنا أن تاسيتاس كان علي الحق فبماذا نؤول عادة تعدد الأزواج التي ظل عليها طبقات النبلاء من الجرمان حتى القرن التاسع عشر. ومهما كانت عادة الرومان في العهود الأولى من تاريخهم فلا نزاع في أن تعدد الأزواج في أخريات أيام الجمهورية الرومانية وأبان عهد الامبراطورية كان ولا ريب مقرراً كسنة مشروعة أو لم يكن على ألأقل معتبراً اثماً محرماً وأمراً غير مشروع فإن الإمبراطور فالنتيان الثاني أصدر قانون أباح به لرعايا مملكته الزواج بعدة نساء إذا شاؤوا وليس في التاريخ الديني لتلك الأزمنة دليل ما على أن أساقفة ذلك العصر ورؤوس الكنيسة أقاموا أي اعتراض على إصدار ذلك القانون بل لقد تابع القياصرة الذين جاءوا بعد ذلك الإمبراطور سنة تعدد الزوجات ومشي قومهم في آثارهم.
وبقيت تلك القوانين على حالها تلك حتى عهد جوستيان إذ كان أكبر نصحاء ذلك الإمبراطور ووزرائه رجلاً ملحداً وثنياً. ولكن تحريم ذلك الملك تعدد الزوجات لم يستطع أن يزجر ميل ذلك العصر ويقمع رغبته بل لم يكن قانون تحريم تلك السنة القديمة إلا دليلاً على تقدم الفكر الإنساني في تلك العصور وأثراً من تطور الآداب ليس غير ولم يتعد تأثيرها فئة قليلة من المفكرين وراحت في الجماهير ضعيفة الأثر لا سلطان لها ولا نفوذ.
وفي الأقاليم الغربية من أوروبا لم يكن من علو كفة البرابرة واختلاط مبادئ السكان بمبادئ الفاتحين إلا أن حطت من علاقة الرجل بالمرأة وحاولت جملة من قوانين أولئك البرابرة أن تضع نصوصاً خاصة بتعدد الزوجات ولكن التعاليم والنصوص لم تغن شيئاً ولم تفد فتيلاً. إذ كانت الشعوب والجماهير ترى ملوكهم مكثرين من الزوجات فلا تجد على احتذائهم حولا. ولا ترى أبداً من الاقتداء بهم حتى أن رجال الدين على الرغم من وصايا الاستمساك بالعزوبة التي كانت تلقن في الكنيسة جعلوا يتسرون بامرأة أو بأكثر من امرأة. وذلك بإذن من رئيس أسقفيهم.
* * *
والخطأ الأكبر الذي وقع فيه كتاب المسيحية قولهم أن محمداً اتخذ تعدد الزوجات سنة من سنن دينه وأقره وأباحه أجازه.(55/18)
والفكرة القديمة التي كانت تجري في أذهانهم من أن نبي الإسلام هو الذي كان أول من سن تعدد الزوجات وجعله شريعة من الشرائع الاجتماعية - وهي فكرة تدل على مقدار جهل الذين حملوها أدمغتهم - قد هدمت اليوم ودحضت وظهر لهم فسادها ولكن الخطأ الذي لا تزال جماهير العامة تستمسك به وتصر عليه. ولا يزال خلق كثير من المتعلمين ورجال المسيحية يقولون به هو ما قدمنا من أن محمداً اتخذ تعدد الزوجات شريعة وأقره سنة وقانوناً. وتلكم فكرة ليس في الدنيا أفسد منها وأبعد عن الحق. وأضعف أساساً. فإن محمداً وجد تعدد الزوجات معمولاً به بين أمته وجيران أمته والبلاد الواقعة حول جزيرته حيث اتخذت ثمت مظهراً مخيفاً. وكانت في حال التفشي سيئة نكراء ونحن لا ننكر أن قوانين الإمبراطورية المسيحية حاولت أن تصلح من أمر هذه النقيصة وتكسر من حدتها ولكنها عجزت وعادت مخيبة طائشة السهام فظلت تلك العادة نامية متأصلة لا راد لها ولا زاجر يزجرها. وظلت الزوجات المسكينات اللاتي تزوج منهن الرجل بعد زوجته الأولى يعانين جملة من الآلام وضروباً من الشقاء.
وكان فساد أمر الأخلاق في بلاد فارس على عهد ظهور النبي وتحطم مبادئ الأدب والشفاعة والسوء بحال مروعة. فلم يكن ثمت للزواج قانون أو شرعة معروفة. وإن كان ثمت قانون فلم يكن أحد منهم يعترف به أو يرتضيه.
ولما كان كتاب الزندافستا لم يضع حداً محدوداً لعدد النساء اللاتي يجوز للرجل الابتناء بهن لم يكن من الفرس إلا أن جعلوا ينعمون بعدد عديد من النساء وعدد مثله من السراري. وكانت هناك عادة أخرى غير تعدد الزوجات عند الجاهلية واليهود وهي عادة زواج المتعة فكان هذا التحلل الشنيع في المبادئ الاجتماعية أثر مخيف سيء منكر في حياة المجتمع بجزيرة العرب.
على أن الإصلاحات التي أسننها النبي أحدثت تحسيناً متسع المدى بينا محسوساً من وجهة مركز المرأة على حين كانت حالة النساء عند اليهود والعرب غير المستعربة نهاية في الانحطاط والمهانة والسوء فقد كانت الفتاة اليهودية في بيت أبيها في مكان الخادم لا أكثر ولا أقل وكان لأبيها أن يبيعها في السوق إن كانت قاصرة ولأبنائه الذكران من بعده أن يتصرفوا بأمرها كما تشاء أهواؤهم وكانت الفتاة لا ترث أبويها إلا إذا كانت وحيدة لا(55/19)
ذكور معها. وكان أهل الوثنية القديمة من العرب من جراء تأثير اختلاطهم بالبلدان المحيطة بهم يعدون المرأة سلعة وملكاً من سلع الرجل وأملاكه وكانت الأرامل تنتقل بعد موت بعولتهم إلى حوزة أبنائهم بحق الإرث.
وكان ذلك منشأ زيجات كثيرة بين أبناء الزوج وآرامل آبائهم وهي التي جاء الإسلام فمنعها وسميت بعد ذلك زواج المقت وتمادت بعرب الجاهلية الأولى الكراهية للنساء حتى جعلوا يئدون النساء ويدسون الولائد الإناث في الثرى أحياء، وهذه العادة الشنعاء التي كانت سائدة بين أهل قريش وقبائل كندة حاربها الإسلام وشدد محمد الكير عليها وأسنن لها العقوبة الصارمة والمثلات الشديدة وكذلك قل عن عادة تقريب الأطفال قرابين لآلهتهم.
وكان مكان المرأة في دولة الفرس وكذلك في دولة بيزانطة حقيراً مهيناً في نظام المجتمع وانبرى قوم من المتهوسين الدينيين خلعت عليهم المسيحية بعد ذلك ألقاب القديسين والولياء الصالحين فجعلوا يحطون من قدر المرأة وينكرون فضليتها ويحكمون؟؟؟؟؟؟ ناسين أن النقائص التي رأوها في المرأة ليست إلا صورة أذهانهم الناقصة الصفراء المريضة معكوسة أمام أعينهم.
في ذلك العهد وبناء المجتمع يكاد يخر إلى الأرض وينتقض حجراً حجراً. والرابطة التي كانت تربط ذلك البناء هاوية متحللة، ظهر محمد بتعاليمه الجديدة، وسننه الصالحة فوضع ذلكم النبي الكريم المبدأ الأول في رأس تعاليمه. الوصاة بالنساء واحترامهن، وتغلغل أثر ذلك المبدأ في صحابته وأتباعه وأنصاره فأسموا ابنة النبي تقديراً لمكانها وإجلالاً لطهرها وقداستها، سيدة شباب أهل الجنة وفاطمة الزهراء ثم قفت على آثار ابنة النبي طائفة طويلة من النساء أعلين من شأن جنسهن لفضيلتهن، ومزاياهن.
ومن بين الشرائع التي دعا إليها النبي وسنها منعه عادة الزيجة الوقتية - زواج المتعة - ولئن كان قد أباحها اضطراراً في مبدأ المر فقد عاد فحرمها تحريماً في العالم الثالث من الهجرة بل لقد وضع محمد للنساء حقوقاً لم تكن لهن من قبل وأسس لهن امتيازات سيدرك العالم قيمتها على ممر الزمن بل لقد رفعهن من وهدنْهن فسوى بينهن وبين الرجال في الوظائف والحقوق وكسر من شوكة تعدد الأزواج فوضع حداً لعدد الزوجات التي يجوز للرجل الابتناء بهن معاً ولا ننسى أن الآية التي جاءت في الكتاب العزيز لتحديد عدد(55/20)
الزوجات وإباحة الزواج بأربع نسوة إنما عقبت بآية أخرى وهي (وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة) فإن هذا الشرط من الأهمية بمكان عظيم ولم يغفل قيمته علماء الإسلام وسادات الدين ففي القرن الثالث من الهجرة جعل علماء الإسلام في عهد المأمون يعلمون الناس أن مبادئ القرآن أنما تبث فكرة الاقتصار على زوج واحدة وتوحي إلى المسلمين الاستمساك بتلك الفكرة وإنها في صف فردية الزواج وعلى الرغم من الاضطهادات التي حمل بها ذلكم الخليقة المرور المتوكل على أولئك العلماء ومنع بها انتشار تلك التعاليم التي بثوها بين الناس والمبادئ التي نادوا الجماهير إليها فإن الاعتقاد بصحة تلك المبادئ لا يزال ينشر نفسه في كل مكان ويكره الجميع على الاقتناع به ويوحي إلى الجماعات الإسلامية المستنيرة المهذبة أن تعدد الزوجات يناقض تعاليم الإسلام كما هو مناقض لتقدم المجتمع المتحضر والآداب الخلقية الحقة والمدنية الحديثة.
وينبغي أن لا نسى الناس أن وجود تعدد الزوجات يتوقف على ظروف خاصة وأحوال معينة وأزمنة معلومة تجعل العمل به لزاماً وأمراً لا بد منه لحماية العنصر النسائي من شر الجوع والفاقة وإذا صحت التقارير وصدقت الإحصائيات التي بين أيدينافان أغلب الفساد الخلقي والإباحية وتهدم المبادئ الأدبية المتفشية في أكبر حواضر المدينة في بلاد الفرنجة لا منشأ له إلا الفاقة الشديدة وقد أبان الأب هوك والسيدة دف غوردون في تواليفهما أن مجرد الحاجة في أكثر الأحابين يدفع الناس في المشرق إلى إتباع فكرة تعدد الزوجات.
لهذا الفصل بقية ستنشر في العدد القادم(55/21)
ماوراء الساحل المجهول
طائفة من المشاهدات النفسانية الغريبة
بقلم كونان دويل
تحت هذا العنوان ماوراء الساحل المجهول بدأ كبير الروايات في الغرب. وأكبر علماء العصر كذلك - ونعني به السير كونان دويل - صاحب روايات شرلوك هولمز التي دلت على براعة الخيال وأبانت عن طول باع المؤلف في العلوم الحديثة بخاصة وعلوم النفس وما إليها - بنشر طائفة من المقالات الممتعة في إثبات آرائه في اتصال هذا العالم الدنيوي بعالم آخر والحياة بعد الموت. وهذه المقالات تحوي جملة من الشواهد الغريبة والأمثلة المدهشة وقد آثرنا أن ننشرها لقراء البيان تباعاً كما ظهرت في صحائف الغرب.
أشباح الماضي
ليس هناك أعجب ولا أمر أبعد عن التصديق وأقرب إلى الحق أيضاً من أن الحوادث الماضية قد تترك أثراً باقياً في البيئة التي نعيش فيها لا يني يوماً يظهر ثانية للعيان كأن يشعر الإنسان به أو يسمع به أو يراه بعد زمن. وقد وضعت هذه الوجوه التي يظهر فيها أثر الماضي بهذا الترتيب. أعني الحس والسمع والنظر لأن الإنسان في أغلب الأحوال يشعر بالماضي أكثر مما يسمع به أو يسمع به أكثر مما يراه.
هذا ونحن نعلم أن الذهن الحساس يتأثر بسرعة في مكان حدث فيه مصاب أو وقع حادث أليم فقد زارت سيدة من أقاربي يوماً ممرضة في أحد المستشفيات فلم تجدها هناك فسألت إحدى الممرضات قائلة. . . هل السيدة فلانة خرجت. وهل تلقت أنباء سيئة. . . فكان الجواب. . نعم خرجت لأنها تلقت نبأ برقياً بأن زوجها مريض. ونحن نسأل أنفسنا من أين علمت السيدة قريبتي أن هناك أنباء سيئة وصلت إلى صديقتها. والجواب أنها أحست ذلك من الشعور بأن قلبها خفق عند دخولها رحبة المستشفى. والعلماء يقولون هذا هو التليبائي. أو انتقال صور الذهن ونحن نقول أننا إذا كنا نقصد بمعنى التليبائي انتقال فكرة معلقة بهذه الصورة ساعة أو نحوها ثم وقوعها في نفس حساسة بعد ذلك. فإنني لا أريد جدالاً ولا أقصد دحضاً. ولكن إذا قلنا أن في الإمكان بقاء الفكرة المتنقلة ساعة فلماذا لا نقول بإمكان بقائها عاماً ثم قرناً كاملاً.(55/22)
لي صديق كان يسكن منزلاً عتيقاً كان له زوج سريعة الإحساس وكانت تشعر دائماً بهزة محسوسة كلما نزلت السلم عند وصولها إلى درجة معلومة من السلالم وقد اكتشف بعد ذلك أن سيدة عجوزاً كانت تسكن تلك الدار منذ زمن بعيد صدمها طفل ماجن وهي هابطة السلم عند تلك الدرجة ففقدت توازنها فوقعت من السلالم وليس من الضروري أن نعتقد بأن عفريتاً ظل يختلف إلى تلك البقعة فيحدث نفس تلك الهزة مع السيدة الجديدة بل الشرح القريب للصواب هو أن ذهن السيدة العجوز عند وقوعها من السلم اضطرب أشد الاضطراب فترك أثراً دائماً وراءه جعل يظهر بهذه الصورة العجيبة.
تأثير الوقائع القديمة
كثيراً ما رأينا أو سمعنا برجال أقوياء الأعصاب رابطي الجأش تولاهم الخوف والرعب في أماكن معينة دون أن يعلموا سبب جزعهم ولكن يلوح لنا أن رعباً وقع لهم في الماضي عاد إذ ذاك فأثر في حواسهم دون أن تراه أعينهم مرة ثانية. وليس من الضروري أن يكون الإنسان معتقداً بوجود الأرواح حتى يحدث لديه هذا الشعور بعينه إذا كان في ميدان وقعت فيه حرب قديمة.
وإنني لأشعر بتأثير غريب لا وهماً ولا خيلاً عند زيارتي لأرض كانت يوماً ميداناً للقتال وساحة موقعة حربية كأن يظلم المكان في ناظري، وأشعر بقلبي يخفق وأنفاسي تتصاعد وتترادف بسرعة، وقد وقع لي نفس هذا التأثير، وأخذني في عين هذا الإحساس عندما زرت الأرض التي حدثت عنها موقعة هايستنج الكبرى المشهورة في التاريخ. وشبيه بهذا التأثير ما يعتري أغلب الناس من الظلمة التي تحدث في أذهانهم عند دخولهم بعض المنازل والدور. وخليق بالفقراء وزعماء الاشتراكية الذين يحسدون أهل الثراء وسادات الأشراف والنبلاء على تلك القصور الشاهقة والاطم العالية الرائعة التي يسكنونها أن؟؟؟؟ عليهم تلك المنازل فلعلهم أسعد حالاً ولعله أفضل لهم أن يعيشوا في تلك الأكواخ البسطة والمنازل الصغيرة اللطيفة من العيش في تلك القصور بعيدين عن الاضطرابات والوساوس والهواجس النفسانية التي تعتريهم في تلك القصور الرائعة التي لا تزال عليها آثار مظلمة رهيبة تملأ جو حجراتها وغرفها مما وقع فيها من جرائم وشرور.
وإذا كان بالإمكان أن يشعر ذو النفس الحساسة بأثر حادثة من حوادث الماضي فقد جاز أن(55/23)
يتمكن شخص منه حساسة أن يرى عياناً الشخص الذي وقعت له تلك الحادثة.
ولكني لا أكاد أصدق أن روح تلك الشخص بعينه هي التي تتراءى في مكان تلك الحادثة ولا أستطيع أن أصدق أن شخصاً كان ضحية جريمة من الجرائم منذ مائة سنة أو خمسين سنة يتقمص وتتبدى روحه في عين ألأثواب التي كان يرتديها فيتغشى الأماكن التي وقعت فيها الجريمة ولكن يجوز أن صورة الذهن تبقى ظاهرة في المكان الذي وقعت فيها آلام ذهنية شديدة.
وإن سألت كيف ولمَ فما أحد يستطيع أن يجيبك اليوم ولكن لعل الجيل الذي سيعقب جيلنا هذا قد يتمكن من حل الأسئلة، ولنضرب لك أمثلة ظهور الصور الذهنية للحوادث التي وقعت في ماضي الزمن. وإنني لا أرى مثلاً أبدع من الحادثة التي وقعت للسيدو جورديتش فربير. وهي سيدة جمعت إلى قوة الأعصاب رباطة الجأش بعد النظر والتفكير قبل التصديق والاقتناع فقد نامت تلك السيدة في حجرة من حجرات قصرها مبتون كورت وكان القصر مشهوراً بأن الأرواح ترتاده وتغشاه وقد وصفت ما حدث لها أتم الوصف حتى لا يتردد من يقرأ تلك الدقائق في الاقتناع بأن الحادثة التي حصلت كانت حقيقية ومنطقية على الوصف أتم الانطباق.
وكانت الحجرة التي تنام فيها غرفة صغيرة لا أستار لها ولا حجب. وليس بها إلا باب واحد بجانيب السرير وقد جاءت تلك السيدة إلى القصر خاصة لرؤية الشبح الذي يرتاد جوانب القصر فظلت ساعات من الليل تقرأ في كتاب ثم أخذ بها النوم ولكنها لم تلبث أن استيقظت على أصوات حركة وكان الظلام دامساً وخيل لها أن قوة مجهولة تمنعها من الوصول إلى المكان الذي وضعت عنده ثقاب الكبريت عندما أرادت أن تضيء الحجرة. ولما سألت عن الطارق لم تلق جواباً. وللحال ظهر بصيص من النور في وسط تلك الظلمة الحالكة وجعل البصيص ينتشر ويشع ويضيء حتى بان شبح سيدة مشوقة القد نحيلة جعلت تخطو ببطء في الحجرة حتى بلغت أقصى ركن منها فوقفت ثمت لا تتحرك. وقد استطاعت السيدة رواية الحادثة أن تتبين أن الشبح بكل دقة وقد وصفت تلك السيدة التي تراءت لها فقالت كان لها وجه جميل. وجه امرأة في الثلاثين أو تزيد خمساً. وكانت نحيلة في ثوب رمادي ناعم. قميص ووشاح.(55/24)
فأعادت السؤال على الشبح فلم تجب كذلك وإما رفعت ذراعيها وجثمت فوق ركبتيها ودفنت وجهها في راحتيها وجعلت تصلي ثم لم تلبث أن زال الضوء واختفى كل شيء. والأثر الذي أحدث ذلك المنظر في السيدة المشاهدة دل على أن تلك المرأة كانت في يأس واستسلام. على أن المشاهدة لم تنزعج مطلقاً ولم تضطرب أعصابها من هذا المشهد بل أخذت بقية الليل تقرأ في كتابها الذي تركته قبل النوم.
وهذه الحادثة وأمثالها كثيرات. ومن بينها ما روته السيدة تويديل في كتابها الأشباح التي رأيتها وهي سيدة مصدقة منة الثقات. فقد روت تلك الكاتبة أنها كانت تسكن يوماً في بيت قديم في غربي لندن. ففي ليلة قرة من ليالي الشتاء وإنها لمغفية بين النوم واليقظة. إذ سمعت صوتاً أشبه بتصفيح أوراق كثيفة ففتحت عينيها وإذ ذاك رجلاً جالساً في مقعد أمام الموقدة المشبوبة. وكان في ثوب عسكري من الطراز الذي كان يلبس في أيام القائد نلسون ذي أزرار نحاسية. وكان الرجل مجيلاً البصر في النار المشبوبة أمامه. وهو ممسك بإحدى يديه عدة أوراق وكان جميل الطلعة رائعاً غيسانياً. وظل ساعة في مجلسه ودخان النار متصاعد من فوق الأزرار النحاسية. ولبث كذلك حت الساعة الأولى من الصبح فاختفى بالتدريج. ورأت السيدة الشبح بعينه عدة مرات ولا مشاحة في أن الشبح كان دائماً في مكانه. وإنما رؤيته كانت تتوقف على حالة السيدة المشاهدة. وهذه الحادثة تشرح رأينا في أن ذلك الشبح إنما كان صورة ذهنية ظلت بالمكان الذي وقعت عنده الحادثة. فإن تلك الأوراق التي كانت في يده توحي إلى الإنسان إنها كانت وصية أو أوراقاً ذات أهمية كان ذلك الضابط بعدها أو كان تلقاها. وكانت قد أحدثت له مشاغل وآلاماً ودليل ذلك جلوسه أمام النار مفكراً واجماً سارحاً في التفكير.
وهنا أضرب لكم مثلاً من أعجب الأمثلة التي دونت منذ بضع سنين ونشرت في مجلة الوايد ورلد وأنا على أتم الاعتقاد بأن تلك القضية حقيقية، وقامت على أساس متين من الحقائق. وتفصيل تلك القصة إن سيدة وأطفالاً لها كانوا يسكنون بيتاً منفرداً منعزلاً على ساحل البحر وقد أزعجهم شبح جعل في ساعة معلومة من الليل يهبط سلالم البيت ثم يختفي في حجرة الطابق الأرضي في البيت. وكانت السيدة على شيء من الشجاعة فأجمعت النية على أن تجلس لانتظار رؤية ذلك الشبح فما لبثت عند حلول الميعاد المعلوم(55/25)
أن رأته أمامها وتبينت ثم رجلاً قزماً شيخاً في ثوب بال عتيق يحمل حذاءيه في يديه غير منتعل وهو يخرج نوراً أصفر براقاً. فجعل ينزل مدارج السلم بخطى ثقيلة بينة الوقع فعزمت السيدة أن لا تكاشف أحداً من أهل البيت بالأمر ولكن مرضعاً في الدار لطفل من أطفال السيدة جاءت تصرخ وتصيح قائلة أنها رأت في البيت رجلاً عجوزاً مخيفاً وقد رأته وهي تنزل السلم إلى قاعة المائدة لتحضر قدحاً من الماء وشهدته عياناً وقد جلس إلى مقعد وجعل يخلع نعليه وقد تبينته من النور الذي كان معه لأنها لم تجد من اضطرابها وقتاً لإشعال عود الكبريت. فقام وزوج السيدة وأخوها بتحقيق الأمر فوجدا أن هناك تحت البيت قبواً أو مخزناً كان يؤدي إلى مغارة أو كهف يتصل بمياه البحر فدل ذلك على أن المكان كان معداً لتهريب البضائع. فقام الزوج وشقيق السيدة بتحقيق الأمر ومشاهدة ذلك القبو. وإذ ذاك رأيا أشنع منظر وشهدا أرهب مشهد. وجدا رجلين في صراع مخيف وشجار رهيب. وتغلب رجل منهما على الآخر فصرعه إلى الأرض وقتله ثم حمل جثته إلى الكهف وراح يدفن السكين في حفرة في الأرض. وكان الزوج هو الذي تمكن وحده من رؤية الرجل وهو يدفن السكين وأغرب ما في الأمر أن الزوج أخرج فعلاً سكيناً من أرض الكهف بعد ذلك. وشهد الرجلان بعد هذا الحادث القاتل يمر بهما فتبعاه ودخل قاعة الطعام فشرب كأساً من الخمر ثم خلع نعليه وحملهما في يده وصعد السلم ودخل حجرة من الحجرات واختفى. وكانت تلك الأفعال تحدث منه كل ليلة يرقبانه فيها.
فانتهى منهم البحث إلا الاستدلال على أن البيت كان يسكنه منذ عدة سنين إخوان جمعا ثروة طائلة من وراء التهريب وكانا يجمعان المال على نية المشاركة فأراد أحدهما الزواج فطلب أخذ نصيبه من الثروة ولكنه لم يلبث أن اختفى فجأة وأشيع عنه أنه ركب البحر في سفرة طويلة وأعقب ذلك أن الأخ الثاني لم يلبث أن جن. ولم يظهر سر اختفاء أخيه في حياته البتة وهنا نقول أن الحجرة التي دخل فيها الشبح كانت تحوي دولاباً لعله كان خزانة المال الذي جمعاه من تهريب البضائع. والغالب على الظن أن حمل الرجل نعليه في يديه كان باعثه أن القاتل يخشى حارس البيت ويخاف أن يسمع وقع أقدامه في هدأة الليل.
من هذه القصة نستطيع أن نتصور أنه في تلك المجالدة الأخوية المخيفة كان الرجلان في أشد ثورة العواطف حتى تركت أثراً في لوحة المكان الذي وقعت فيه. وهذا الأثر ظهر(55/26)
جلياً لكل من السيدة والزوج والممرضة والأخ. لأنهم جميعاً رأوا الشبح مما يدل على أن صورته كانت لا تزال متينة لم تتغير وهنا نقول أن القصة مثل من الأمثلة الدالة على وجود صور ذهنية تنطبع فوق لوحة الزمن والمكان في أوقات الشدائد وثوران العواطف. وإنه كلما كانت العاطفة شديدة عند وقوع الحادث. كان الشبح أثبت على البقاء عدة سنين.(55/27)
أشعار منثورة
للكاتب الروائي الروسي تورجنيف
ينقلها إلى العربية الكاتب الفاضل علي أفندي أدهم
لا نزال نجاهد
أي حادث تافه زهيد قد ينتقل الإنسان في بعض الأحايين من حال إلى حال؟
مشيت مرة في الطريق ولخطرات الهموم الهواجس في نفسي أي اعتلاج، وكان قلبي قد كظته أوصاب مخاوف سوداء ثم رفعت رأسي وكان الطريق ينطلق أمامي انطلاق السهم بين صفين من شجر الحور المتطاول الفارع.
فوق ذلك الطريق على مسافة عشر خطوات مني في أشعة الشمس الذهبية المتلألئة الباهرة للعيون السادرة للأبصار كانت تثب طائفة من العصافير بسلاطة وخفة وحسن ثقة بالنفس ولمحت واحداً منها خاصاً كان يطفر على جوانب الطريق بعزيمة المستئيس وهمة المستميت نافخاً صدره مغرّداً في زهو وطغيان وتصلف كأنه يريد أن يقول ليس ثمت ما يخشى.
مجاهد صغير مستبسل مغامر أروع مقدام؟
وفي الوقت نفسه كان باز يرنق بجناحيه في أعنان السماء كأنه قد قيض لابتلاع هذا المجاهد الباسل الصغير.
فنظرت وتضاحكت وانتفضت نفسي فتبدد عني شمل الخواطر الحزينة وشعرت بتجديد العزيمة والإقدام وتوقد الحماس للحياة.
دع بازي أيضاً يرنق بأجنحته فوقي فإننا سنجاهد ولا نعبأ بشيء.
ن. ن
في سكون ورشاقة أنت تسيرين في طريق الحياة، فلا دموع ولا ابتسامات وقل أن تنبعث من عينيك نظرة غير مكترثة صادرة عن انتباه بدون احتفال تتخلل سكونك.
أنت صالحة عاقلة وفي منتأى عن كل شيء وليس بك منة حاجة إلى أي إنسان.
أنت حسناء ولا يستطيع أحد أن يدري أأنت تقدرين حسنك أم لا؟ وليس عندك عطف فتمنحيه ولا ود فتبذليه ولست ترغبين في أحد.(55/28)