متهماً مشبوهاً بل مخدوعاً مدخولاً في عقله، وأما الرجل العميق الروح. العميق الرغبات المحب للخير - وإن امتزاج هذا الخير بالقوة والشدة والجفاء - فينظر إلى المرأة نظر الشرقيين، يجب أن يعدها ملكاً من أملاكه، ومتاعاً محبوساً من أمتعته، ومخلوقاً قضت عليه الطبيعة بالخدمة وأداء واجبه الذي أعد له، يجب أن يقتدي في ذلك بحكمة آسيا العظيمة، وسمو غريزة آسيا، كما فعل اليونان القدماء - وهم أبدع ورثة آسيا وتلامذتها - إذ كانوا من زمن هوميروس إلى بركليز يشتدون في معاملة المرأة، ويظلون أبداً شرقيين إزاءها، فعلينا نحن أن نفهم ضرورة ذلك وحكمته وسداده.
إن هذا الجنس الضعيف لم يعامل في العصور الماضية بمثل هذا الاحترام الذي يعامل به اليوم. وهذا بفضل مزاج الديمقراطية الحديثة. فلا غرو إذا كان هذا الجنس يريد أن يسيء استعمال هذا الاحترام. لأن النساء يطلبن أكثر منه. وقد تعلمن أن يسألن حقوقاً أخرى ومطالب. حتى لقد كادت ضريبة هذا الاحترام تصبح مخيفة مفزعة، وجملة القول أن المرأة قد فقدت الحياء. ويجب أن نقول أيضاً أنها فقدت الذوق. إنها ابتدأت تتعلم أن لا تخاف الرجل. والمرأة التي لا تخاف الرجل. والمرأة التي لا تخاف تضحى أكبر غرائزها النسائية، وعلى هذا ينبغي أن نفهم أن المرأة قد بدأت تتلف الآن وتفسد.
إن تحرير المرأة الذي تطلبه النساء أنفسهن. ويصيح به معهن الفارغو الرؤوس من الرجال، ليس يراد به إلا إضعاف الغرائز النسائية وقتلها، إنها حركة طائشة بلهاء، حركة رجولية حمقاء، يجب أن تخجل منها المرأة الصالحة، لأن تركها الأسلحة التي أعدتها الطبيعية لانتصارها، واستباقها الرجل وتقدمها عليه وإزالة إيمانه بنسائيتها الأبدية فيها، واجتهادها في إغراء الرجل أن يجتنب عقيدته بأن المرأة يجب أن يحتفظ بها، ويحرص عليها ويرعى شأنها، ويتمتع بها كحيوان داجن، ضعيف ومفترس معاً، ليس ذلك كله إلا دليلاً على غرائز المرأة، ولا يقصد به إلا ترجيلها وتذكيرها!!(31/7)
باب الأدب والتاريخ
مذكرات شبلي شميل
قلت أن جمال الدين كان من الفلاسفة الرواقين أي أنه كان ينشر تعاليمه في طي المحادثات الإعتيادية ولكنها كانت محادثات خلابة في لذة المعنى وحسن الإنسجام، ولم يتهيأ له أن وقف خطيباً في قوم إلا مرة واحدة أظهر فيها أنه خطيب مفوه أيضاً، وكان ذلك بمعنى أديب اسحق وفي تياتروزيزينيا على محضر من جمهور غفير من علية القوم من رجال ونساء من السوريين والمصريين. فألقى خطبة اجتماعية سياسية أبدع فيها معنى ومبني وجرأة وبقي يرتجل الكلام نحو ساعتين من دون أن يبدو عليه أدنى تعب أو يتعلثم حتى خلب العقول وأقام الناس وأقعدهم كأنه رابطهم بسلاسل كلامه يلعب بهم كما يشاء وقد أعجبني منه قوله فيها وهو يتكلم عن استبداد الملوك واستماتة الشعوب. قال كأن الناس ليسوا شيئاً والملك هو كل شيء إن قام قاموا وإن قعد قعدوا.
ولما بلغني أن جمال الدين بعد أن نفي من مصر ببضع سنين كتب رسالة باللغة الأفغانية في نفي مذهب الماديين ترجمها الشيخ محمد عبده إلى العربية دهشت لتصوري أن الرجل لم يكن من المتدينين. على أن جمال الدين كسائر الفلاسفة الأقدمين لم يكن يستطيع بمبادئه النظرية وفلسفته المجردة أن يجزم جزم الطبيعيين في استنادهم إلى العلوم الحديثة اليوم فكان يتعذر عليه إلا أن يكون من الشكوكيين أمثال المعري وفولتير الذين ينكرون الأنبياء ولكنهم يقفون مترددين في أمر الخلق هل هو حادث أو قديم فيكونون تارةً من الإلهين وطوراً من اللا أدريين لعم تمكنهم من ضابط علمي محسوس يضبط أحكامهم ويقوي حجتهم في ترددهم اللهم إلا أن يكون كفولتير من النفعيين وجمال الدين تنبوا أخلاقه العالية عن ذلك. فبقي أنه من المصافيين الحكماء الذين يكونون في اعتقادهم على هوى جليسهم تارة أقرب إلى المعطلين وطوراً أقرب إلى المؤمنين أي أنهم يكونون كما وصفهم الإمام الغزالي حيث يقول إن الآراء ثلاثة أقسام رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد ورأي يكون بين الإنسان ونفسه لا يطلع عليه الأمن هو شريكه في اعتقادي. ويصعب علي جداً بعد اختباري الرجل بنفسي من جهة ثم سماعي عنه بعد ذلك أن أبدي فيه حكماً جازماً ولكني أرجح جداً أنه لم يكن من(31/8)
المؤمنين.
اليوم الثالث
وأما أديب فأول عدد أصدره من جريدة مصر أصدره في القاهرة. وقد أعدت له مقالة موضوعها العبادة الفتيشية لقرب عهد المذاكرة في هذا الموضوع على ما تقدم وجعلت لها توطئة من عندياتي تعبت فيها جداً حتى جاءت على ما أحب (وهي التي كانت غرضي في كل تلك المقالة) ودفعتها إلى أديب لينشرها في أول عدد يصدر من جريدته فلم يبد عليها أقل ملاحظة وكان يقيم هو في المكان الذي كنت فيه. وقد تأخر صدور العدد الأول أكثر من أسبوعين وكلما سألته عن ميعاد صدوره كان يجيب بأن أسباباً طرأت أخرت صدوره ولكنه لم يذكر لي شيئاً يختص بمقالتي. ثم قبل صدور العدد بأيام قليلة عزمت على ترك القاهرة والعودة إلى الإسكندرية. وبعد وصولي إليها بأيام وصلني العدد المنتظر من الجريدة وبالطبع أول ما بحثت عنه مقالتي وهي كانت أول مقالة نشرتها في جريدة مصر. ولقد دهشت جداً لما رأيتها منشورة ولكنها مبتورة والتوطئة التي كانت موضع إعجابي - لأنها كانت لي وكل فتاة بأبيها معجبة - محذوفة بلا شفقة ولم ينشر من المقالة إلا الحوادث المعروفة في الكتب والتي هي شواهد على حقيقة هذه العبادة في الأمم والقبائل المختلفة. فأخذتني سورة الغضب من صاحبي ولاسيما من تكتمه هذا وهو معي كل يوم فكتبت له كتاباً بأحرف من نار أظهرت له فيه مزيد استيائي من سلوكه هذا المسلك معي وحسبت ذلك آخر العهد بيننا لتبايننا في الأخلاق. أما أديب فكان إذا جرح يعرف كيف يؤاسي فما عتم أن وردني جوابه فكان لغضبي كالزيت الطافي فوق أمواج البحر الهائج فاسترضاني بذكائه أكثر مما أغضبني بحيلته وكان جوابه شعراً في أكثر من عشرين بيتاً من النظم الرقيق الخفيف لا أروي منها سوى الأبيات الثلاثة الأولى والكتاب فقد مني. قال: ـ
العذر ثم العذر يا سيدي ... من حادث ما إن جرى عمدا
قد ألزموني حذف ديباجه ... كانت لجيد صحيفتي عقدا
قالوا تمس الدين في بلد ... كل له فيه غداً عبدا
وهذا كان شأنه معي كلما طرأ طارئ أثارني ضده وأديب كان كاتباً مصوراً فإذا وصف شيئاً أراكه كأنه مرسوم أمامك وقد وقع لي مرة أني كتبت له كتاباً طويلاً في أمر تأثرت(31/9)
منه جداً خططته بريشة دقيقة وبسرعة واحدة فائقتين وخطي الهيروغليفي معروف للمطلعين عليه فوردني منه جواب لم أطلع على فاتحته حتى كنت ألين من الشمع لقبول عذره فيه مهما كان. قال: ـ
قرأتك بصعوبة وفهمتك بسهولة أما الأول فلتعرج خطك السرطاني وأما الثاني فلظهور حدتك على رؤوس أحرفك.
للمذكرات بقية
قصيدة اغتصاب الضفيرة
الفصل الثاني
ما نضار أشعة الغزالة فياضاً على بساط الماء. وغلالة الهواء بأبهى من جمال نظيرتها بيلندا الحسناء. ينساب بها على التاميز فوق لجينه المذاب. زورق سهو الأراجيح وثاب. لقد كانت هذه الشمس الآدمية محفوفة من الشباب إناثاً وذكراناً بأمثال النجوم الشوابك غير أن العيون لم تكن لغيرها ترنو. ولا النفوس إلى غيرها تصبو. وكانت تلبس على صدرها صليباً لا تستنكف اليهود إن تلثمه حباً وإكراماً. ولا تأنف المجوس إن تسجد له تجلة وإعظاما. وكانت حركات لحظها السراع تنم عن قلب ذكي وقاد. شبيه بطرفها في البريق وفي كثرة التقلب والترداد. وكانت الآنسة تجود للكل بغرور الإبتسام. وتبخل بصدق الإحسان والإنعام. وتعطي زور الموعد الهواء. وتمنع رعاية العهد والوفاء. ولطالما قابلت خاطب ودها بالإباء. وإن لم يشب إباءها قط إساءة ولاإيذاء. وكانت مقلتها كالشمس تبهر الإبصار بالضياء. وهي كذلك كالشمس تعم بنورها الكل على حد سواء. وكانت عذوبة شمائلها وحلاوة أنسها تستر عيوبها إن كان للحسان عيوب وكان من ساءه من صفاتها شيء نكر فحسبه إن ينظر إلى وجهها ليزول ذلك الأثر.
وكانت هذه الغادة تحمل على متنها لإتلاف نفوس البشر ضفيرتين تحسن ربهما وتعهدهما فكانتا تنسدلان وراءها في حسن تماثل وتعادل متآزرتين على تزيين جيدها الحسان بحلقات فاحم ذي صقال. ففي ألغاز هذه الحلقات كان الغرام يسجن أسراه. ويقيد حسراه. فيا من أبصر صناديد الرجال. ترسف من خيوط الذهب في أغلال. وما زال ابن آدم يتخذ من الشعر شباكه. ومن الخيط أشراكه، يصيد بها السمك في الماء. والطير في السماء. غير أن(31/10)
الإنسان سيد الأسماك والطيور تصيده ضفائر الفتيات والحسن يقود الرجال بشعرات. بهاتين الضفيرتين أولع البارون الجسور. فما هو إلا أن رآهما حتى تطاول إليهما سوم طاوية الضفور وضارية النور ولما أبى إلا نيل بغيته. شرع في أعمال حيلته. وتدبير خطته. سيان عنده الكيد ومخاتلة. والبطش والمصاولة. بحجة أنه متى كلل النجح سعى العاشق الملتاع. فليس يحفل الناس أكان ذلك بالغضب أم بالخداع.
لذلك لما شابت ذوائب الظلماء. وهم نجم الصبح بالإغفاء ركع هذا البارون لربة الحب وتضرع إليها أن تنيل طلبته. وتقضي حاجته. وأقام لها قرباناً من اثنتي عشر قصة من غزليات شعراء الفرنس ذهبية الأغلفة ووضع على هذه المجلدات ثلاثة مناديل ووشاحين وقفازتين وغير هذه من آيات حوادث غرامه السالفة ودلائل معاشقه السابقة. ثم جاء ببعض ما لديه من رسائل الحب فأضرمها وبذلك اللهب أشعل القربان الذي هيأه. ثم أزكى الضرام بخمس زفرات من صدره الحران. وقلبه الولهان. وبعد ذلك سجد للربة وابتهل إليها أن تقدره على نيل بغيته. ثم تبقيها مدى العمر في حوزته. فسمعت الآلهة دعاءه فقضت له نصف حوجائه. ونصفها الثاني أطاره عاصف الريح في نكبائه.
وانسابت السفينة الأنيقة في تيه وخيلاء وخفقت الأشعة على بساط الماء، وسرت أنغام الآلات في صفاء جو بديع. ورقت على الموج لطاف الألحان قد براها الشجا فكادت تضيع. وسالت الأمواج لينة المسيل. ولاعب سيالها كل نفس من لين المطرد عليل. في تلك الساعة السعيدة تبسمت من السرور بيلندا فابتسم لابتسامتها الوجود وسبح الماء والهواء بحمد خالق بيلندا الإله الموجود.
ولكن الملك الحافظ حارس المليحة كان بحازب الهم مقهوراً وفي حومة الغم مغموراً. فأومأ إلى أعوانه وجنوده. فانضوت إلى ظل أعلامه وبنوده. وجعلت تتهامس من خافت أجراسها. بما ظنه أهل الأرض خفيف الرياح ودوى وسواسها وبعضها أقبل ينشر في بهاء الأشعة وشى جناحه. وأخرى أنشأت تهبط الماء كأنها سحب من العسجد وتارةً تركب من الهواء كواهل رياحه فيا لها من خلائق لطفت فغابت عن الأبصار وكأن أجسادها للخفاء جواهر مذابة في أضواء وأنوار. وقد طارت منها في الهواء أطراف الجلابيب والحلل. وما حللها إلا الشفوف حاكتها يد الغزالة من الندى والطل. ثم غمستها في أبهج أصباغ السماء.(31/11)
حيث النور لا يزال من ضروب الألوان يلبس رداء وينصل من رداء. ويمزج ياقوتةً حمراء. بلا زوردةٍ زرقاء. والشعاع يطرح على الدنيا كل لون ناصع لماع. كالرشقاء تفرش الأرض من ثوبها المخلوع بصبغ أنواع. والحباحب تتداول من ألوانه التي يخلعها على الروض المجاور أطياف لماحة سراع وكان زعيمهم آريل يتبوأ قمة الدقل فاستقبل الشمس بجناحيه الزرقاوين ثم افتتح القول:
أيها الملائكة والجنة والعفاريت والأبالسة أعيروني أنا زعيمكم وقريعكم آذاناً صاغية. وأفئدة واعية. كلكم يعرف ما قد أسند إلى كل طائفة منكم من الأعمال والوظائف فجماعة يمرحن في نسائم الأسحار. ويصلين جمرة النهار وفئة تهدي جحافل النجوم الزاهرة. وكتائب الكواكب الباهرة. وطائفة أكشف جوهراً. وأغلظ عنصراً. ترشف النطف من الدجنة المستهلة أو تغمس أطراف القوادم في الخضلة أو تنشئ الرواعد القاصفة أو تمسح حوالب المزنة الواكفة. وطائفة تحرس الإنسان في عالمه الأرضي وترعاه. وتمهد السبيلة وتسدد خطاه. ورؤوس هذه الطائفة وزعمائها تدبر شؤون الأقاليم والأمصار. وتحوط سدود المملكة في البر والبحار.
أما نحن فإن لنا عملاً أدنى قيمة من ذلك وهو صيانة الملاح، وقاية الوجوه الصباح في الأمساء والأصباح. فنحن نقي مسحوق الطلاء. أن تطير الريح الهوجاء عن الخد الأسيل والعارض الصقيل. والأنف. الذي كأنه خد السيف. ونحن نحفظ الغاية أن تزول عن الغانية ونحن نستعير حلك الليلة الظلماء، لنزيد به كحل اللواحظ الوطفاء. ولمع السراب. لمنضودة الثغور العذاب. وحلاوة الشهد المشتار. لطلاوة اللفظ المختار. وحمرة الورود. لصبغة الخجل في الخدود واهتزاز الغصن الميال. لخطرات التيه والدلال. بل ربما أوحينا إلى المليحة في المنام. استبدال قلادة بقلادة أو حزام بحزام.
وبعد فاعلموا أيها الجن والعفاريت والملائكة إن أشأم الفال يهدد اليوم بيلندا نخبة الخرد. الغيد. وصفوة البيض الرعاديد. لست أعلم ما كنهه وما حقيقته. بل كل ما أعلم أنه خطب سينالها اليوم بطشه أو خديعته. فلا ندري أذلك الخطب هو أن الغادة ستهتك اليوم ستر العفاف. أم ستكسر كوبة أو تخدش صفحة من الصحاف. بل لا ندري أهو أنها ستلوث الشرف الوضاح. أم المنطقة والوشاح وهل تفوتها الصلات في المحراب. أو موعد في(31/12)
بعض مجالس اللهو والشراب. وهل تصاب اليوم بغارة على القلب. أو على الجيب. وهل تفقد في بعض المراقص حشاها. أو شيئاً من حلاها. فبادروا أيها الأعوان إلى المليحة وادفعوا عنها كل طارئ شر. وطارق ضر. ولتكن عناية العفريت نسيم بالمروحة الرجراجة. وعناية لؤلؤ بالجواهر الوهاجة. وليوكل (أبو دقيق) بساعتها العسجدية. وليستكف (الجعدي) أمر ضفائرها الذهبية. أما أنا فسأرعى كلبها المألوف. وأحوطه من المهالك والحتوف. فشمروا في مهمتكم هذه عن ساعد الجد وأنجزوها بعزيمة وحد. واعلموا أن من فرط أو قصر فليلقين أنكى العقاب، وأنكل العذاب. فما يسجن في القوارير. أو يسمر بالدبابيس على خرق الحرير. أو يغرق في محلول من البياض والحمرة. أو يعزز ألف عام في خرت إبرة. فإذا حاول الهرب عاقت سبيله الخطوط اللزج واللبان. فهو في حبالته مغلول الجناحين حيران. هنالك يلقى الويل من الشبه القابضة للجلود والأبشار. حتى يعود كالزهرة الرقيقة إذ بلها البرد والإعصار. أو يعلق في أبخرة القرفة والكاكاو. فهو من هول ما تحته من ذلك الزبد الخصم صارخ عاو.
عند ذلك هبطت العفاريت من شرع السفينة فأحدقت بالفتاة طبقة فوق طبقة وحلقة دون حلقة. فجماعة تغلغلت في الغاز شعرها الوحف. وأخرى رفرفت منها حول قرط وشنف. وطائفة أحدقت بخصرها كأنها له دون النطاق نطاق. وأخرى بجيدها الحسان كأن أحداقها لزام وعناق. وفئة عند مستعذب الثغر. كأنها سرب من الحور حول الكوثر. قد وقفت من ذلك الفم على باب الخزانة الصدر. تسمح بالخروج لمعروف الكلام وتمنع المنكر وأخرى على باب الأذن تزيد محاسن القول الجميل. وتخفف وطأة الخشن الثقيل وتلطف ثماجة المستهجن المملول. وفرقة عند اللحاظ تحولها عن الصالح. إلى الصالح. وتغريها بالمليح. بصرفها عن القبيح. وأخرى لدى الكف تمنعها مصافحة اللثيم. وتمدها إلى الكريم وجماعة عند القدم تأخذ عليها سبل الفساد. وتخلي لها طرق الرشاد. وتسد مالك الشر. وتفتح مناهج الخير.
كل ذلك حاوله العفاريت والجنة بأمر الزعيم آريل إذعاناً لرغبته. وأخذاً بطاعته. وهم أثناء ذلك ترعد أوصالهم وجلاً. وتخفق أحشاؤهم وهلاً. لهول ذلك الخطب المنذر. والمصاب المنتظر. ضارعين إلى الله أن يهديهم إلى سبيل رده. وطريق صده. لو كان يدفع قضاء(31/13)
لهذه القصة بقية(31/14)
باب العلم والفلسفة
المسألة الكبرى مخابرة الموتى
معلومات جديدة
لا تزال مسألة مخابرة الموتى الحديثة الأكبر بين العلماء ولا يزال البحث دائراً، والجدال حاراً، والأدلة متواترة، وقد رأينا في مجلة لندن مقالاً مستطيلاً أنشأته سيدة من كبار الثقات في المسائل العلمية، جاءت فيه بمعلومات طريفة وتجربة مدهشة قامت بها فآثرنا أن ننقل للقراء شيئاً منها قالت: ـ
كان أول لقائي بمسز ريت، الوسيطة الأميريكية الذائعة السيط في مايو عام 1914، وكنت أشد الناس تكذيباً لهذه المسالة، وأبعدهم عن تصديق الوسطاء وكان يوماً جميلاً صاحي السماء، مستهلاً، ولكن كان لا بد لنا في سبيل هذه الجلسة العلمية من الظلام، ونحن لا نعرف السبب الذي يدعونا إلى وجوب إيجاد الظلام، عندما نريد أن نظفر بنتائج طيبة في مخابرة الموتى، ولكنا نعلم بعد أن الظلام يزيد في تبيين الظاهرة، كما أن النبأ اللاسلكي الذي نرسله في الظلام (أي ليلاً) يصل إلى غرضه في زمن أقل مما إذا أرسلته في النور (أي نهاراً) لأن النور ينقص من سرعة الأثير ويزيد في ارتجاجه ومن ثم لا يجب أن نذهب إلى الشك والإرتياب في ضرورة الظلام عند مخاطبة الموتى، إلا إذا كنا نريد أن نشك في ضرورته عند إبراز الصورة الفوتوغرافية.
ومسز ريت عندما تقوم بعملية الوساطة لا يصيبها الغيبوبة أو السبات العميق، بل إنها لتجلس بكل هدوء تحدثك وهي على سكونها الطبيعي، وكانت أول جلسة لنا في غرفتي وكان مجلسي يبعد عن مجلسها بسبعة أقدام أو نحوها وكان البوق عند قدمي وهذا البوق ضروري لأنه يعين على تجمع الارتجاجات الأثيرية، فقدمت إلي مسز ريت البوق لأفحصه فوجدته بوقاً عادياً من معدن الألمانويوم وقامت إلى الأستار فأسدلتها، وساد الظلام، وإذ ذاك ثار في فؤادي إحساس غريب، إذ وجدتني في جوف الظلمة جالسة مع سيدة غريبة ننتظر ظهور الأرواح. وأخذت مسز ريت في أحاديث عامة مألوفة، وهي في مجلسها البعيد عن مجلسي، ولكن لم تكد تمضي لحظة صغيرة، حتى أحسست بشيء يلمس ركبتي، وإن كانت مسز ريت لا تزال في مقعدها بعيدة عني وسمعت على أثر ذلك صوتاً يتكلم من(31/15)
البوق، وأنا أقول لكم إنه صوت طبيعي بين، صوت لا يختلف عن صوتي وأصواتكم ويسمعه كل إنسان، ولو كانت الحجرة حافلة بالناس لسمعوه جميعاً ويجب أن لا تذهبوا إلى أنه محض خيال مني ووهم، بل كان صوتاً مسموعاً لا يخطأ في فهمه، ولم تكن مسز ريت قد لاحظته، بل طفقت تجري في حديثها العادي، والصوت لا يزال يتكلم، فسألتها الصمت، وأعلمتها أي أسمع صوتاً مسموعاً.
وتبينت في الحال جلية الصوت، فتولتني الدهشة، لأنني أحسست أنني أمام عجيبة أغرب من الآلات البخارية والطيارات وجميع مخترعات العالم، وإنني إزاء أكبر حادث في جميع تاريخ حياتي.
وكان الصوت يناديني باسمي العادي، وكان متهيجاً أجش مضطرباً، وجعل يتكلم بضع دقائق وتبينت أنه أحد أصدقاء زوجي عندما أنبأني باسمه وكانت وفاته منذ عدة سنين، ولذلك ازدادت دهشتي، لأنني لم أكن أتوقع محادثته، فسألته عما إذا كان يشعر بالسعادة والغبطة فقال بل كل السعادة، إنني أدرس علم النشوء الآن وأهتم الآن بجميع هذه المسائل، ولكن لم أكن أتوقع وجودك هنا، فسألته السبب قائلة إن مخابرة العالم الآخر كانت تبدو لي دائماً من المسائل الممكنة، فأجاب، نعم، ولكنك الفرد الوحيد الذي حاول أن يكلمنا من الأسرة كلها
وخلاف ذلك أصوات آخرين، وكان من بينهم صديقة لي كنت أحبها في هذا العالم، قبل وفاتها، ولكي تدلني على علامةجاءت إلي بمصباح مضيء، مصباح بين ظاهر، في حجم مصباح الدراجة البسكليتوجعلت تلوح به في وجهي في برة الظلام، وكان من الوضوح والبيان بحيث أنني مددت ذراعي فأمسكت بالمصباح من وسطه.
وتركت مسز ريت غير مقتنعة، وهجمت على ذهني الشكوك والريب وجعلت أدير في هذا الحادث كل وجوه التكذيب والإنكار، وآخر ما عمدت إليه من إقناع نفسي بكذب الحادث أن أخذت أقول أن هذا الصوت هو ترتيب آلي دقيق عملته مسز ريت، يعين إنساناً في خارج الحجرة على أنفاذ الصوت إلى جوف البوق، ولكن الجلسات الأخيرة التي جلسناها أظهرت خطأ هذا الظن، لأن الجلسات كانت في حجرتي، ثم ذهبت بعد ذلك إلى أنه من المحتمل أن تكون مسز ريت علمت شيئاً من تاريخ أسرتي واستطاعت بذلك أن تذكر لي أناساً بأسمائهم(31/16)
وحوادثهم، وكذلك جعلت أضرب في بيداء الظنون والريب.
والحجة الكبرى التي كنت أريدها لتصديق الحادث هو أنني جعلت أقول، إذا كان هناك شخص يستطيع أن يكلمني من العالم الآخر فهو زوجي ولو استطاع زوجي أن يكلمني لتكلم، ولكن كان الصوت الذي كلمني في الجلسات الأولى غير بين، ولم يكن هناك ما يؤيد شخصيته، وظننت من السهل محاولة تغيير الصوت واللهجة، وكنت أريد لتحقيقه شيئاً من الأمور التي تثبته لدي.
ووليت عن مسز ريت شاكة مستريبة، ولكني في اليوم التالي قابلت صديقاً لي هو الكولونل جونسون فأنبأني أنه يحمل إلي رسالة ولم أكن التقيت به في ذلك العهد إلا مرة أو مرتين ولم يكن يعرف شيئاً عني أو عن زوجي فبلغني أنه زار مستر ريت وصباح اليوم وأنه تلقى رسالة إلي كتبها في التو واللحظة - لأنه كان يجيد الكتابة في الظلام. وتفصيل الخبر أن صوتاً مضطرباً كلمه من البوق وذكر له اسم زوجي ولقبه وقال أن زوجته (يعنيني) كانت هنا في اليوم الفائت وذهبت دون أن تعتقد بوجودي وأنها لم تفهمه، وطلب إليه أن يؤكد لها شخصيته، وإن أبى سير كوبزكي سعيد وأنه يصرف كثيراً من الساعات معه وسأله أن يذكر لي لفظة جلاتون (هكذا سمعها الكولونل جونسون) وقال ما نصه على المحطة الأوسترالية فهي ستفهم ذلك ولا تستطيع أيها القارئ أن تتصور الدهشة الكبرى التي ثارت لدي عندما سمعت هذه اللفظة، حتى لقد أحسست أن الحجرة تدور بي دوراناً، وجعل قلبي يخفق بشدة ويثب لأنني علمت أنه لا يوجد في أنحاء الكون كله أحد يعرف سر هذه اللفظة إلا زوجي، وهذه اللفظة التافهة كانت تحمل أكبر قوى الإقناع.
وصحة هذه اللفظة جلاتياوهو أسم السفينة التي كان يقودها الدوق أوف إدينبرج، وكان زوجي في أيام شبيبته في المحطة الأوسترالية على ظهر هذه السفينة، وكثيراً ما قضى أياماً حلوة مع الدوق فوق سطحها، حتى لقد كان يعيد تذكرها الحين بعد الحين ويحدثني عن لذائذها ومباهجها، ولدي منها ذكريات أخذها زوجي قبل غرقها.
وأنا أعتقد أكبر الاعتقاد بأن مسز ريت لا تعلم شيئاً من هذا وأظن من السخف أن اتهمها بأنها راجعت قوائم البحرية وسجلات السفن، لأني أعلم أن ذلك لا يتيسر لها، ولو استطاعت الظفر بها، فما الذي حداها إلى ذكر جلاتيادون غيرها من أسماء السفن العديدة(31/17)
التي قضى زوجي عمره فوق ظهورها، فلما زال ما كان يجول بخاطري من الظنة والوساوس، أجمعت على أن أجلس جلسة أخرى مع مسز ريت، فكان ذلك.
وجاء قبل زوجي شقيقه، فقال أن الرسالة التي أرسلها إلي وهي جلاتيا أرسلها ليثبت شخصيته وحقيقته، لأنه كان يعلم أنها تكفي لإفهامي، وأنه كان حزيناً لهذا الشك الذي انتابني ثم حضر بعد هذا الصوت صوت زوجي فجعل يسميني الأسماء الخصوصية التي كنا نتنادى بها، ولا يستطيع أن يعرفها غيرنا.
ثم عاد إلى ذكر جلاتيا، وانطلق يكلمني عن أمور سرية بيني وبينه، فلما قال أنه سيعود، شهقت بالبكاء في الظلام، وإذ ذاك سمعته بكل أذني يقول لا تبكي!!(31/18)
باب الفكاهة والملح
مذكرات بكويك
(2)
المستر ونكل على الثلج
كان المستر بكويك وتلاميذه وخادمه ضيوفاً عند أحد سراة الأرياف - المستر واردل - برهة من الزمن وجاء يوم عيد الميلاد أثناء هذه الضيافة فاجتمعوا للطعام ولما رفع الخوان اقترح عليهم صاحب الدار أن يقضوا ساعة باللعب على الثلج فارتاح الحضور للاقتراح إلا رجال النادي لعجزهم عن أمثال هذه الألاعيب وكان في القوم خلاف أصحابنا الأربعة طالبان من طلبة الطب وجماعة من النساء - من أهل بيت المستر واردل صاحب الضيعة، وأقارب أحد الطالبين.
قال المستر واردل ماذا قولكم في ساعة على الثلج؟
قال بنيامين ألين أحد الطالبين هذا أصوب شيء ورب هذا اليوم
وقال بوب سويلر (ليس بعد ذلك شيء)
قال واردل (أنت تجيد اللعب على الثلج ولا شك يامستر ونكل؟)
المستر ونكل (أ - أ - أظن ذلك - ولا - ولا - ولكني بعيد العهد به)
السيدة اربيلا (أخت بنيامين) بل تلعب يا مستر ونكل أني أبتهل إليك أن تفعل. إني لأشتهي ذلك من صميم قلبي وتقول آنسة أخرى (لله ما أبدع هذا اللعب وما أحلاه)
وتقول غادة ثالثة (أجل والله ما أرشقه) ورابعة تقول (ما أشبهه بخفة الغزلان وتمايل الأغصان)
ونكل ما أشد حرصي على إتيان كل ما يسركن ويحمر خجلاً ولكن ليس لي مزلقان (خفان للتزلق على الثلج)
فسرعان ما أزيل هذا العائق بإحضار مزلقين وحينئذ عبر لسان ونكل عن مزيد السرور والفرح وثم وجهه عن مزيد الكمد والترح.
ثم أن المستر واردل والطالبان لبسوا المزالق ونزلوا إلى الساحة الثلجية فأتوا منفردين ومجتمعين من عجيب إلا لاعب ما أدهش الحضور. كل ذلك والمستر ونكل يحاول لبس(31/19)
خفيه وقد عكس وضعهما وعقد الأربطة تعقيداً لا يرجى حله مستعيناً في عمله بصاحبه سنودجراس الذي لعله لا يعرف من أمر هذه اللعبة أكثر مما يعرف زنوج أفريقيا. وأخيراً بمعونة سام ولر توقف المستر ونكل إلى أحكام وضع الخفين المشئومين على قدمه وربطهما ثم أنهضه سام قائلاً انطلق يا سيدي وأر القوم كيف يكون اللعب.
قال ونكل مهلاً يا سام مهلاً! قف سام قف! قال ذلك وهو يرجف ويرتعد وقد أمسك ذراعي سام بقبضة الغريق ما أشد بلل هذا الثلج يا سام وما أزلقه للقدم!
سام (ليس هذا بمستغرب من الثلج يا سيدي ثبت قدمك واستمسك يا سيدي!
نطق سام بهذه العبارة بمناسبة حركة عجيبة حدثت من المستر ونكل إذ ذاك وهو أنه هم بطرح رجليه في الهواء والاستلقاء فوق الثلج.
قال ونكل (هذان - هذان الخفان ثقيلان جداً - أليس كذلك يا سام) قال هذا ورجلاه تضطكان من الرعشة.
قال سام (أخشى أن يكون الثقل صفة لابسهما لا صفتهما وهنا صاح المستر بكويك ولم يكن يعرف من نكبة صاحبه شيئاً هلم يا ونكل! السيدات كلهن تطلع لرؤية حذقك ومهارتك
قال ونكل وعلى وجهه ابتسامة حزينة (سأفعل يا سيدي)
قال سام وهو يحاول التملص من قبضة ونكل سيبدأ يا سيدي. انطلق يا سيدي انطلق! قال ونكل تشبث بسام تشبث المعشوقة بالعاشق ساعة الوداع مهلاً يا سام! لحظة يا سام أصغ لي يا سام أن عندي كسوتين جيدتين في المنزل لا حاجة لي إليهما يا سام. هما تحت تصرفك يا سام
قال سام (شكراً لك يا سيدي)
قال ونكل (لا داعي لأن تخلص يدك من يدي لتؤدي لي تحية الشكر يا سام. لا داعي لذلك يا سام. لقد كان في نيتي منذ أمس أن أعطيك خمس شلنات هبة العيد يا سام. وسأعطيكها هذا المساء يا سام
قال سام (ما أحسن تعطفاتك يا سيدي)
قال ونكل (ساعدني في مبدأ هذه المشقة يا سام. لا تتركني وحدي يا سام. هذا حسن يا سام. أراني سأعرفها قريباً يا سام لا تسرع يا سام لا تسرع)(31/20)
وبينما كان ونكل يسير فوق الثلج مطوقاً بذراعيه ساماً منحنياً فوقه بهيئة تخالف رشاقة الغزلان وتمايل الأغصان (كما وصفت إحدى السيدات شكل لاعبي هذه اللعبة في بدأ هذا الحديث) احتاج المستر بكويك خادمه لبعض شؤونه فصاح به عن غير تعمد إساءة (سام؟)
قال سام (لبيك يا سيدي)
بكويك (أنت هنا. إني أُريدك)
سام يخاطب ونكل (أطلقني يا سيدي، ألا تسمع المستر بكويك يدعوني)
وهنا نزع سام نفسه من قبضة ونكل بأشد ما في طاقته فانزلق ونكل فوق الثلج بسرعة الشهاب المنقض فاصطدم بالمستر بوب سويار عندما كان هذا الشاب يبهر الأبصار بأبدع ما يأتيه أستاذ في هذا الفن فهوي الاثنان على الجليد. وحينئذ أسرع بكويك إليهما. فأما بوب سويار فكان قد نهض إلى قدميه وأما ونكل أعقل من أن يفعل مثل ذلك في هذه البقعة المهلكة. فقعد فوق الثلج يبذل أقصى الجهد في محاولة التبسم. ولكن وجهه كان ينم عن غاية الكمد والكربة.
قال بنيامين ألين هل أصابك أذي يا مستر ونكل؟
قال ونكل (ليس بالأذى البليغ) وأخذ يحك ظهره
قال بنيامين (ليتك تدعني أفصدك)
ونكل (كلا! شكراً لك)
قال بنيامين (في اعتقادي أنه أولى لك)
ونكل (أشكرك. أولى لي ألا أفعل)
فالتفت بنيامين إلى المستر بكويك وقال (ما رأيك يا مستر بكويك؟)
وكان على وجه بكويك تلوح دلائل الأسف الشديد الغيظ فالتفت إلى سام وقال (انزع خفيه في الحال).
قال ونكل (كلا! كلا! أنا لم أكد أبتدي دعني أحاول ثانياً).
قال بكويك مشدداً (انزع خفيه).
إنه لم يكن في طاقة ونكل عصيان أمر أستاذه لذلك أذعن ومد رجليه إلى سام فخلع الخفين
وقال بكويك (أنهضه فأنهضه سام).(31/21)
فتنحى بكويك عن القوم مسافة وأومأ إلى ونكل فدنا منه. ثم إن يكويك وجه إلى صاحبه نظرة حادة قاسية وقال بصوت منخفض جلي:
(إنك لسفيه يا سيدي)
فاندهش ونكل وقال (إنني ماذا؟)
قال بكويك (سفيه يا سيدي. وإذا شئت أن أزيدك تبياناً وإيضاحاً فأنت دعي يا سيدي خادع غشاش).
وبعد هذه الكلمات ولى صديقه كتفيه وعاد إلى زمرة أصدقائه.(31/22)
باب تدبير الصحة
الإغماء
الإغماء عبارة عن توقف مؤقت للمراكز الحيوية يحصل كما يظهر من أنيميا (فقر دم) المخ التي تحصل عن عارض فيه نفسه أو خارجه كفقر دم عام - ويحصل الإغماء عادةً في أمراض القلب وأمراض الدم وضربة الشمس وبعد التخدير العام بالكلوروفورم - وحصوله إما أن يكون فجائياً أو يصيب المريض تدريجياً فيشعر بعدم راحة عمومية في جسمه ثم يشعر بدوار وطنين في الأذنين وظلمة في البصر ثم يبهت وجهه ويعرق عرقاً بارداً ثم يغمى عليه أي يفقد الإدراك فيكون الإغماء حينئذٍ تاماً فيصير الشخص ممتداً باهت اللون ساكن الحركة والحس ويكون التنفس والقلب واقفين تقريباً ثم بعد ثوان أو دقائق تعود دقات القلب وحركات التنفس شيئاً فشيئاً وتنتهي النوبة، واستمرارها إلى الموت نادراً وهذا غير الغثيان (السخسخة) فهو إغماء غير تام لأن التنفس وضربات القلب يبطئان ولكنهما لا يقفان ومدة الغشيان أطول من مدة الإغماء بكثير.
ولعلاج هذا الطارئ تخفض الرأس عن الجسم ويرفع الجذع أو توضع الرأس بين الركبتين إذا كان جالساً وينشق منعشاً كالنوشادر ويعطى متى أمكنه قليل من المنبهات كالكونياك أو حقنة الإستركين تحت الجلد ويستريح باقي النهار لأن المرض ربما عاد وإذا استمر الإغماء يعمل للمريض التنفس الصناعي ويستدعى الطبيب.
مرض غريب
ينتقل إلى الإنسان من الببغاء مرض يسمى بستاكورس وهو مرض نادر يشبه الحمى التيفودية في أدورها ويصعب على الطبيب جداً تشخيصه ومن غريب الأمر أن فحص دم المصاب بهذا المرض تشبه تماماً نتيجته فحص دم المصاب بهذه الحمى فيظهر جلياً مقدار الصعوبة في معرفة حقيقة المرض ولا يساعد على التشخيص شيء أكثر من الإستفهام عما إذا كان المريض يخالط ببغاء أولاً والمرض مجهول من أغلب الأطباء فلا عجب أن يكون غريباً.
الزهري الوراثي
يعتقد الكثيرون أن الطفل المولود من والدين مريضين أحدهما أو كلاهما بالزهري لا يصح(31/23)
غمره في الماء قبل الأربعين يوماً وهذا خطأ محض يجب أن يراعيه كل الناس إذ مثل هؤلاء أحق الأطفال بالتنظيف والحمام.
غرابة غذاء المريض بالحمى التيفودية
تنتشر الحمى التيفودية الآن ويعتقد الكثيرون أن غذاء المريض بها يجب أن يكون قاصراً على اللبن فقط ويعتقد كل الأطباء تقريباً أن هذا هو طريق السلامة الوحيد ولكن الأستاذ كولمان ويشاركه كثيرون في رأيه ينادون بوجوب تغذية المريض بهذه الحمى كما يشاء فهل يعجب هذا الرأي جماعة الحانقين على الأطباء والكارهين لهم كراهة في اللبن وهل آن لحضرات الأطباء أن يعدلوا رأيهم ولو قليلاً رعاية لخاطر المريض؟(31/24)
تفاريق
رئيس حكومة مجهول من أكثر رعيته
بلاد سويسرة الجمهورية غربية في كل شيء، ولكن أغرب غرائبها أن كثيرين من الرعية والشعب لا يعرفون اسم رئيس الجمهوررية. وقد ينتخب لمقعد الرآسة ثم يمضي عنه، ويتولى إليه غيره، وهم لا يعلمون عن ذلك إلا لنذر اليسير. وذلك أن رئيس الجمهورية الصغيرة في حجمها، الكبيرة الشأن في حياتها، يكاد يكون أشد رؤوس الحكومات والملوك تواضعاً. وأبعدهم عن ضوضاء السلطة والحكم، وهو ينتخب لمدة سنة واحدة، تبتدئ من يناير وتنتهي في آخر ديسمبر وهو لا يتقاضى مرتباً كبيراً، يعينه على عيشة الترف، والبذخ والأبهة، إذ ليس مرتبه إلا خمسمائة جنيه وأربعين في العام، أي 45 جنيهاً في الشهر، وهو مرتب يتقاضاه لدينا رئيس قسم أو مصلحة صغيرة في فرع من فروع الحكومة، وله مجلس وزارة يتألف من سبعة وزراء، ووزير سويسره يتناول 40 جنيهاً في السنة، أي لا يزال في الرتبة الثالثة من البكوية المصرية. فانظر كيف تكون مرتباتهم، إزاء مرتباتنا.
أرباح الكتاب الروائيين في إنجلترة
إن الرواية التمثيلية التي تنجج في إنجلترة تكفي لأن تمد كاتبها بالثروة الكبرى والغنى العريض، وحسب الكاتب أن يضع رواية واحدة. فيربح ما يكفيه طول حياته، فقد اكتسب مستر بانيلي في رواية واحدة، من نوع (الفودفيل) وهو أحط أنواع الدراما وأسهلها في التأليف نحواً من مائتي ألف جنيه، أما رواية (ملك الفضة) التي وضعها سير آرثر جونس وهو من كبار كتاب المسرح في إنجلترة فقد كانت له منجماً من مناجم الذهب. بل إن ممثل رواية (كزمت) أو (القضاء والقدر) والممثلة التي أخذت الدور الأكبر فيها. أضافا إلى حسابيهما في المصرف من وراء تمثيلهما أربعين ألفاً من الجنيهات. على أن السير هنري جيلبرن وهو من الأسماء المتألقة في المسرح الإنجليزي لم ينل أو أمره في الرواية الأولى التي هجم بها على المسرح إلا ثلاثين جنيهاً، ولكنه لم يصادف بعد ذلك مثل هذه الخيبة، لأنه لم ين أن اكتسب من رواياته (الأوبرا) بالإشتراك مع سير آرثر سيلفان نحو من 180000 من الجنيهات في وقت قصير. وكانت رواية (صديقة الله) التي وضعها الكاتب(31/25)
القصصي روبرت هيكنز في أول الأمر قصصية، فطلب إليه أن يجعلها تمثيلية. ودفع إليه في سبيل ذلك عشرون ألفاً، على ما ظفر به من المطابع التي طبعت النسخة القصصية: وقد ظل مستر بري يكسب من روايته (الوزير الصغير) أربعمائة جنيه في الأسبوع سنين عدة.(31/26)
العدد 32 - بتاريخ: 20 - 2 - 1917(/)
الرئيسان
مستر لويد جورج رئيس الوزارة الإنكليزية - دولة الرئيس حسين رشدي باشا رئيس الوزارة المصرية
ليس هناك أشد أثراً في نفوس الناس من قراءتهم سير العظماء، وليس أروح للأفئدة من معرفة أسرار النبوغ، وأخلاق العبقريين، لأن كل إنسان، مهماأسف إلى الحضيض الأوهد، ومهما بلغ من الضعف ووناء الهمة، يريد أن يكون بين الناس عظيماً، ويود لو ارتفع إلى مصاف العظماء، فهو أبداً يسأل نفسه لماذا لم يترك له مقعد من مقاعد الإمارة والسلطان ولماذا يظفر غيره بمقاعد الوزارات ومنصات الحكم، وهو أبداً يأبى أن لا يعرف الأسرار الخفية التي هوت به إلى مهاوي الضعة والخمول، وعلت بغيره إلى سماء المجد والعلاء.
ولهذا كان الكلام عن العظماء بليغ الوقع من نفس الإنسان لأن صفات العظماء هي نماذج للناس، وكل رجل يريد أن يجد له نموذجاً جميلاً يحاول أن يحتذي حذوه، ويكمل منه ما يراه من نفسه ناقصاً مبتوراً
ونحن لذلك نرسم للناس هنا صورتين من صور العظماء، ونشرح لهم أسرار شخصيتين من كبار شخصيات العالم اليوم، ونقارن بين رجل يدير دفة دولة من أكبر دول الأرض، ورجل يرأس حكومة على صغرها لا تزال في أعظم خطب من خطوب التاريخ، رجل في أمة كبرى تريد أن تطفئ لهيب الحرب، ورجل يريد أن يبتعد بأمته الصغيرة عن منال الرحى الطاحنة، رجل عظيم في إنجلترة العظيمة، ورجل خطير في مصر الخطيرة، مصر المملكة الصغيرة في نفسها، الكبيرة في أهميتها، مصر - هذا اللولب الذي يحرك عجلة الحرب، والزنبلك الذي يجري لعبةالسياسة.
إن كل رجل في الحياة العمومية شخصيتين، شخصيته الأصلية، والشخصية التي يراها له إعجاب الأصدقاء والمحبين والأشياع والمنافسين، وكذلك شأن مستر لويد جورج، ودولة الرئيس حسين رشدي باشا، فهما لا يزالان عظيمتين في نفسيهما، عظيمين في نفوس الناس، ولعل ذلك يرجع من جهة إلى أنهما قد وئبا الطليعة في أشد مشاكل الحياة العمومية، وفي أعصب الأزمان، وإلى مزاجهما الطبيعي من جهة أخرى ولا نظن أن هناك رجلين يحملان في السياسة قلباً أنصع من قلبيهما، لأنهما في أحرج مواقف السياسة أشد السياسيين إخلاصاً، وأبعدهم عن الإحساس الشخصي، أو الغرض الذاتي، بل إنهما ليعدان الإحسان(32/1)
الشخصي شر العوامل الرجعية في السياسة، حتى لقد قال مستر لويد جورج يوماً إذا أنا وجدت الإحساس الشخصي يريد أن ينازع ضميري حطمت هذا الإحساس تحت قدمي تحطيماً.
ومستر لويد جورج يميل إلى الحدة في التعبير، والحمية في الأسلوب، وإنك لواجده في حجرته من دار مجلس العموم يحسو الشاي مع البرلمانيين، وهو في أشد لهجات الحديث، وأحر أساليب القول، ولعل المصريين كذلك يتبينون من تصريحات دولة الرئيس رشدي باشا حرارة في الأسلوب، وغرابة في اللهجة والتعبير، لأن رشدي باشا يضع جميع أعصابه في كل كلمة يقولها، وكل كلمة يكتبها، وإنك لتقرأ تصريحاته الخطيرة فكأنك تقرأ صفحة روحه ظاهرة للعين بينة، لأنه لا يستطيع أن يمنع الفيض الجياش المندفع من فؤاده، أو أن يمسك عليه إخلاصه المنحدر، وأنت تعلم أن الرجل المخلص هو دائماً رجل حاد المزاج، حار اللهجة لأن من أكبر أكبر أعراض الإخلاص الحرارة والتأثر، أما الرياء والكذب والخداع فتخفي نفسها دائماً وراء الهدوء والبرود والصمت والسكون.
ومستر لويد جورج رجل صريح، وأكبر أعدائه المواربة والنفاق، وهو أجرأ الناس على قول جميع ما يجول في نفسه، وهذه المزية المحمودة هي من أكبر صفات الرئيس رشدي باشا فهو لا يمتنع عن إبداء رأيه الصريح الخالص في أخشن مواطن السياسة وأعظم المسائل المتعلقة بشؤون الحكومة لأنه يؤثر أن يفقد الدنيا بأسرها على أن يفقد قطعة صغيرة من ضميره، ويرى أن المنصب على خطورته لا يتطلب أن يخسر صاحبه وجدانه من أجله، وهو يعلم أن الحياة - وإن ارتفع الإنسان إلى مقاعد الملوك - لا تستحق أن يعيش الرجل يوماً واحداً وضميره محبوس في أدراج مكتبه مع الخاتم الذي يوقع به على أوراق الحكومة ومكاتباتها.
هذا والرئيسان يميلان إلى التواضع، فقد روى مستر أوكونور العضو البرلماني المشهور عن مستر لويد جورج ما يأتي: هو لا يحب المجتمعات بل يأخذه منها الملل، وتعتريه السآمة، وإذا أراد يوماً أن يتمتع بمساء جميل، جمع إليه أصدقاءه، وصرف أكثر الليل مصغياً أكثر منه محدثاً، وهو يجنح إلى البعد عن أنظار الناس والاختفاء عن عيون الجماهير، وقد شهدته يوماً في أشد الاضطراب إذ رأى جمعاً من الناس ينظرون إليه(32/2)
بشغف عند خروجه من إحدى المآدب، وقد سمعته مرة وقد ألفى نفسه في مطعم صغير بباريس، بنجوة من مرأى الناس ومسمعهم، يبدي دلائل الراحة والرضى أن أصبح بعيداً عن أبصار الجماهير وتحديقاتهم، - وهذه الصفات تنطبق كل الانطباق على الرئيس رشدي، فهو رجل متواضع جناح إلى العزلة، متباعد عن الكلفة والأبهة، وكثيراً ما شوهد يمشي على قدميه، غير محتفل بالمظاهر الرسمية، ولا مكترث بأبهة الرآسة، لأنه يعلم أن تلك الأبهة المصطنعة، والكبرياء المتعمل، والنفخة الجوفاء التي يعمد إليها كثير من الحكام وأهل السلطة ليست إلا دليلاً بيناً على نضوب قلوبهم من نبعة العظمة الحقيقية، لأن العظمة الصادقة ليست في المظهر، ولكنها في الصميم، والعظمة تعلن عن نفسها ولو كانت في الأطمار والأثواب البالية، ولو رأيت نابليون يوماً في ملابس الخادم الذي يشتغل في بيتك لظل يروعك ويكرهك على الوقوف أمامه خاشعاً متهيباً، كما لو رأيته في لباس الإمبراطورية، ولقد كان ابن الخطاب في ردائه وثوبه الشطرنجي أشد روعة وجلالاً مما لو جئت إليه بأفخر بدلة من ديفس براين نعم لأن العظمة تطل عليك من عينيه، وتهجم عليك من وجهه، وتصدمك من كلامه ومشيته، ومن النور المنبعث من كل ناحية من النواحي.
وجملة القول، إذا كان مستر اوكونور عضو البرلمان قد قال عن لويد جورج إنه إذا لم يستطيع هذا الرجل أن ينتصر لإنجلتره وينجح الإنكليز فلن يوجد رجل بعده يستطيع ذلك إلى الأبد، فما أجدرنا أن نقول نحن أيضاً أنه لا يوجد غير الرئيس رشدي باشا، يستطيع أن يسمو في تاريخ العالم الحديث بمكانة مصر والمصريين!!(32/3)
جنون الأنانية الايجومانيا
وسر خيبة المصابين به في الحياة
مجنون الأنانية شديد المبالغة في قدر قيمة نفسه ومبلغ أهمية أعماله مهما صغرت وذلك لأنه لا يشغله شيء غير نفسه والعالم أجمع ليس له في قلبه إلا أضيق مجال بل ربما لم يكن له ثمت مجال قط. فلا غر وأن يظل وهو لا يدرك ما هنالك من الصلات والعلائق بينه وبين سائر الناس والوجود ولا يحسن فهم الوظيفة التي يجب أن يؤديها في مجموعة النظامات الاجتماعية. وقد يخشى أن يخلط القارئ بين جنون الأنانية وجنون العظمة ولكن بين الاثنين فرقاً مميزاً، أجل لا خلاف في أن جنون العظمة ناشئ عن اختلال في الأجهزة الحيوية مؤد إلى دوام اشتغال الإنسان بنفسه فترى أن ما يصاب به صاحب هذا الداء من التهيج الكيماوي البيولوجي في الأجهزة الحيوية هو الذي يحدث تلك التخيلات الفاحشة التي تجعل المرء يتصور أنه ملك أو أمير أو قائد أو نبي أو بطريق.
فجنون العظمة مشابه لجنون الأنانية من حيث أن المصاب يكون في كلتا الحالتين مشغولاً بذاته. ولكن الجنونين مختلفان في النقطة الآتية وهي أنه لما كان جنون العظمة يستثير في ذهن المريض تلك الصور اللذيذة التي توهمه أن له في المجتمع مركزاً عظيماً ومنزلة جليلة فذلك يستلزم أن المريض مع شتغاله بنفسه لا بد أن يشتغل كذلك بالمجتمع الذي (حسب تخلياته) قد أصبح أميره أو وزيره أو قائده أو نبيه. أما جنون الأنانية فعلى العكس من ذلك يعزل المصاب عن الجماعة ويحجبه داخل ذاته احتجاب القنفذ في شوكه والسلحفاة في قشرها. ففي جنون العظمة ترى المصاب يحسب حساب المجتمع ويعرف مقداره ويعترف بأهميته مخطورته ويعلق أهمية عظيمة على خضوع ذلك المجتمع له (أي لذلك المريض) واحترامهم له وإجلالهم إياه. أما في جنون الأنانية فلا يرى المصاب ضرورة إحرازه مركزاً اجتماعياً عظيماً (موهوماً بالطبع) ولا يريد إجلال الناس له وإكبارهم إياه ليبرروا له شدة عنايته بنفسه وتفانيه في حب ذاته بل هو لا يرى المجتمع البتة. والناس في نظره غير موجودين. والكون بحذافيره لا يتراآى له إلا كشبح مبهم أو ضبابة رقيقة. كلا بل لا يخطر بباله أنه فرد من الجماعة أو أنه مخلوق أسمى درجة من سائر المخلوقات وإنه لهذا السبب محمود أو محسود. والذي يراه هو أنه منفرد في الدنيا بل هو نفسه الدنيا.(32/4)
وكل ما عداه من الناس والحيوانات والأشياء إنما هي وسائط وأسباب (موصلة إليه) عديمة الأهمية لا تستحق الذكر.
وكلما كانت الأجهزة الحيوية - الأعصاب الموصلة والمراكز العصبية لأعضاء التغذية والحس والإرادة - كلما كانت هذه الأجهزة أقل اعتدالاً كان جنون الأنانية أقل شدة وكان الضرر الناشئ عنه أقل مقداراً. فأدنى مظاهر هذا الجنون وأخفها أذى هو ما يشاهد أحياناً في المصاب به من شدة الإفتخار بحرفته أو صناعته. فإذا كان مصوراً لم يشك في أن عماد الدنيا ومقدار نظام الكون هو الصور ولاسيما صوره هو. وإذا كان كاتباً أو شاعراً اعتقد أن الدنيا لا تعني إلا بالشعر والكتابة. ولا يعترض معترض بأن هذا العيب ليس خصيصاً بجنون الأنانية بل هو عيب شامل لا يكاد يسلم منه إنسان إذ الحقيقة أن هنالك فرقاً عظيماً بين الإنسان العادي وبين مجنون الأنانية في هذه النقطة. فالإنسان العادي مع عرفانه بأهمية عمله يعرف أيضاً منزلة هذا العمل بالنسبة لغيره مما هو أعلى درجة وأعظم خطورة. ولكن مجنون الأنانية لا يخطر بباله قط أن أي عمل يقوم به يمكن أن يكون قليل الأهمية في نظر الناس. فالإسكاف الصحيح العقل الذي يقضي عمره في ترقيع النعال القديمة بيناً تراه يبذل منتهى جهده الجسماني والعقلي في مزاولة عمله تراه مع ذلك يقر ويعترف بأن هنالك أعمالاً أعظم قيمة بكثير وأجل فائدة ولذة للمجتمع من ترقيع نعل قديم. ولكن مجنون الأنانية على عكس ذلك، يعتقد - إذا كان كاتباً مثلاً - أن الدنيا لم تخلق إلا لتتعان على إخراج كتاب بديع.
فإذا اشتد اعتلال الأجهزة اشتد الجنون الأناني حتى لا يقتصر في الكتاب على مجرد التناهي في تفضيل صناعته على سائر أعمال الحياة بل يتجاوز هذا الطور البريء إلى طور الإجرام الأدبي الذي ربما بلغ درجة الجنون الأدبي. ففي هذا الطور تتولد في المصاب الرغبة في ارتكاب الأعمال الضارة به وبغيره. وقد يعترض معترض بأن هذا يحدث أيضاً للصحيح العقل ولكن الصحيح العقل عنده من قوة الإرادة ما يدفع به الميل إلى الإجرام. أما المجنون الأناني فإنه أضعف إرادة من أن يرد نزعاته وشهواته فهو لا يستطيع أن يضبط أفكاره وأعماله بواجب مراعاة مصلحة المجتمع وذلك لأن المجتمع معدوم الوجود في نظره. فهو منعزل عديم الإدراك للنواميس الأدبية المسنونة للحياة في(32/5)
المجتمع لا للفرد المنعزل. فحالة هذا الإنسان أشبه شيء بحالة روبنسون كروسو (المزعوم في القصص أنه عاش حقبة من الدهر منفرداً في جزيرة أفضى إليها مفرده عقبة عاصفة أودت بكل من كان معه من ركاب سفينة كانت تسير في المحيط الهادئ الجنوبي) إذ يعيش وحده في جزيرته. فلا شك في أن روبنسون هذا كان لا وجود قانون العقوبات في نظره فهو لا يعمل غير الطبيعة ومهما صنع من قتل حيوان أو سرقة بيض طائر أو عشه فعمله هذا لا يعد من الوجهة القانونية قتلاً أو سرقة. فالمجنون الأناني هو روبنسون كروسو يعيش تخيلاً وتوهماً في جزيرة منفرداً وهو مع ذلك عاجز عن ضبط نفسه فهو لا يرى الناموس الأدبي العام وكل ما يحتمل أن يراه ويعترف به - ولعله يأسف على حدوثه - هو خرقه القانون الأدبي بالنسبة لنفسه - أعني عجزه عن قمع نزاعاته فيما يعود بالضرر على ذاته خاصة.
وهناك حالات من المرض يكون الجنون الأناني فيها مقروناً بفسائد الحواس والغرائز، إذ لإخفاء أن الحواس والغرائز إذا فسدت أدت أعمالها على عكس قوانينها المعهودة وفي عكس مناهجها القويمة. ففي حالة فساد الذوق ترى المصاب يشره إلى إلتهام الأشياء التي ينفر منها السليم الذوق بمنتهى الإشمئزاز والكراهية أعني الأشياء المعترف بأذاها والتي تنبذ من أجل ذلك - كالمواد العضوية العفنة والروث والسرجيم والبصاق والمخاط وهلم جرا. وفي حالة فساد الشم ترى المصاب يفضل روائح العفونة على نفحات الريحان والأزاهير. وفي حالة فساد الشهوة للنساء ترى المصاب يشتهي الأمر المنافي للفطرة والحكمة أعني المنافي لإبقاء المثل. وفي حالة فساد الشعور الأدبي ترى المصاب يألف ويلتذ الأعمال التي تملأ الرجل الصحيح اشمئزازاً وكرهاً. نقول فإذا كان الجنون الأناني مقروناً بهذا الفساد من الحواس والغرائز فإن المصاب لا يقتصر أمره على مجرد قلة الشعور بالخير والشر وعدم التمييز بينهما بل يتعدى ذلك إلى ما هو أخبث وأرذل أعني الميل المتعمد إلى الشر بإعظام شأنه في الغير وإتيانه إياه بذاته كلما استطاع إليه سبيلاً ثم يجد فيه من الحسن والجمال ما يجد الرجل الصحيح في الخير.
والجنون الأناني - مقروناً بفسائد الغرائز أو غير مقرون - تختلف مظاهره بإختلاف البيئة والدرجة الإجتماعية المنسوب إليها المصاب، وكذلك بإختلاف مشاربه الخاصة وخصاله(32/6)
الممين فإذا كان في الرعاع والطغام فلن تراه إلا أمرأ ساقطاً مخالطاً غير شريفة أو تراه مجرماً عادة وصناعة. أما إذا كان موسراً متعلماً أو كان ذا منصب عظيم فإنه يرتكب في هذه الحالة جرائم الطبقات العالية فيكون دون جوان الملاهي والمراقص وحجرات السمر والمؤانثة وتبيع الغواني وزير النساء. يرفع لواء الفجور أنى نزل ويحمل الخزي والعار إلى بيوت صفوة أخدانه. ونخبة من صحابه وخلانه. أو أن يكون صياد الوارثات من النساء وقناص الأرامل الموسرات. وخواناً حيثما أؤتمن. وهمازاً مشاء بنميم، مناعاً للخير معتدياً أثيماً. وزراعاً للفتن بثاثاً للمكايد وأفاً كالكذابا. وغذا كان من أرباب العروش فربما استفحل فيه الداء حتى يصير سبعاً ضارياً ووحشاً مفترساً وقائداً غازياً فاتحاً مدوخاً لشعوب الأرض وممالكها. فإن كان محدود السلطة كان من قبيل شارل الخبيث والكونت دي فريه وملك نافر وجيل دي ريه وقيصر بورجيا. وإذا كان مطلق السلطة كان مثل نابليون بونابرت. هذا وإذا كان جهازه العصبي أضعف من أن يولد عنده البواعث المغرية بمحاولة ضخم الأعمال والمساعي أو كانت عضلاته أوهن من أن تستطيع تنفيذ ما توحي به تلك البواعث فإن هذه الأميال الجنائية تبقى غير مقضية. وتبقى هذه المطامع الإجرامية غير مكفية. وتلك الغلة المتأججة غير مشفية ولا مروية. وإذ كان لا بد لها من منفذ ومخرج فإنها تجعل مخرجها من طريق التصور والخيال. في هذه الحالة يكون المجنون الأناني مجرماً نظرياً أو أفلاطونياً ليس إلا. فإن كان من حملة الأقلام شرع في وضع النظريات الهادمة للنواميس الأدبية والقوانين الإجتماعية مما ينطبق على فساد عقله وغرائزه ويلائم جنونه الأناني. أو أخذ يقرظ فاسد النظريات بأبدع القول وأخلبه، يزين زور الكلام بآنق حلى البلاغة وأبدع زخارف البيان. فأمثال هؤلاء الكتاب هم في الحقيقة مجرمون ولكن الفرق بينهم وبين سكان السجون هو أنهم لم يأثروا في قوة الإرادة ومضاء العزيمة ولا يستطيعون به الذهاب إلى السجن على أجنحة الجرائم الفعلية. بل كل ما يستطيعون تزويق اللفظ وتنميق العبارة.
وهنالك خاصة يستوي فيها جميع المجانين الأنانيين وتلك هي عجزهم عن التوفيق بين أنفسهم وبين الظروف التي يعيشون فيها سواء أكانوا ممن يظهرون عداواتهم للنواميس الإجتماعية في صورة فكرية أو فعلية - بالكتابة أو بالإجرام فهذا العجز عن الملائمة بين(32/7)
النفس والظروف المحيطة بها هو من أوضح خواص مجنون الأنانية، وهو لهم مصدر عذاب دائم مآله الخراب التام في النهاية. بيد أن هذه الخاصة هي نتيجة لزومية لبنية جهازه العصبي الأوسط. فإن أول شروط إمكان الملائمة أن يكون الجهاز المذكور من الصحة بحيث يؤدي إلى الذهن صورة صحيحة للحقائق التي يلزم المرء أن يطابق بينها وبين نفسه (أي أن يسير على سننها ومناهجها) مثال ذلك أنك أيها القارئ لا تستطيع تجنب الحفر التي في الطريق إلا إذا كنت تبصرها. وإنك لا تستطيع أن تتقي اللطمة الواقعة عليك إلا إذا كنت تبصر مصدرها ومأتاها. ولا يمكنك أن تولج النصاح في خرت الإبرة إلا إذا كنت تتبين خرتها بطرف جلى وتحمل نصاحها بكف ثابتة غير رعشة. والحقيقة إن ما نسميه سلطاناً على الطبيعة إنما هو خضوعنا للطبيعة. وإن من خطأ التعبير أن ننسب الخضوع للقوى الطبيعية إذ الحقيقة هي أننا نحن الذين نلاحظ تلك القوى ونعرف خواصها ثم نوقع الملائمة بين صفات القوى المذكورة وبين رغباتنا وأغراضنا. فنحن مثلاً نعرف أن الكهرباء تسري في الأسلاك النحاسية فترانا نحتال بدهائنا فنضع تلك الأسلاك في المكان الذي نريد وصول الكهرباء إليه حيث نلتمس نفعها وفائدتها. أفليس ذلك خضوعاً منا لخواص الكهرباء وطباعها. فبلا خبرة بأحوال الطبيعة لا تتأتى الملائمة وبدون الملائمة لا يمكن الانتفاع بقواها وفضائلها وبعد فمجنون الأنانية لا يستطيع التوفيق بين الظروف المحيطة وبين نفسه لعدم استبانته حقيقة تلك الظروف أما عدم استبانته لحقيقة تلك الظروف فلأنه مريض الأعصاب الموصلة، بليد المراكز الإدراكية ضعيف ملكة التأمل.
والسبب الباعث على الملائمة وعلى كل مجهود يبذله الإنسان - والملائمة كما يعلم القارئ ليس سوى نوع من المجهود - هو الرغبة في قضاء حاجة حيوية أو الفرار من ألم ما. أو بعبارة أخرى القصد من الملائمة هو اكتساب الوجدانات اللاذة ودفع الأليمة. وعليه فالمريض العاجز عن إحداث الملائمة أضعف كثيراً عن اجتلاب إحساسات اللذة ودفع إحساسات الألم من السليم القادر على إحداث الملائمة. فلا غرو أن ترى هذا المريض (مجنون الأنانية) لا يزال يصطدم بالعقبات والعثرات لأنه لا يعرف كيف يتجنبها. ولا غرو أن تراه تتقطع نفسه حسرة على التفاحة اليانعة لأنه لا يدري كيف يتوصل الفرع الذي منه تتدلى. فمثل ذلك الإنسان خليق أن يشقى بالحياة وبالناس وإن يكون كثير التسخط(32/8)
سريع الغضب سيء الخلق حانقاً على الكون والطبيعة ناقماً على المجتمع ونظاماته مغتاظاً منهما متأذياً بهما لعدم قدرته على التأليف بينهما وبين نفسه. فهو في ثوران مستمر على جميع النظامات والكائنات يحاول هدمها أو على الأقل يتمنى هدمها ويحلم به. ولكن هذه الانقلابات التي يتشوف إليها ويحرص عليها بل التي ربما أفلح في إحداثها بالفعل هي انقلابات عقيمة مجدبة من الثمرة من حيث الرقي والتقدم. فهو باعتباره مصلحاً أشبه شيء بالطوفان أو الإعصار باعتبارهما أداتين من أدوات الكنس. إذ الطوفان والإعصار لا ينكسان الطريق ولكن ينسفانه. فكذلك هذا التأثر على النظامات الاجتماعية لا ينظف المجتمع من آفاته وينقيه من عاهاته ولكنه يهد ويهدم بطريقة عمياء هوجاء مجنونة. وهذا هو الفرق بينه وبين المصلح الحكيم الخبير الذي شأنه الإصلاح يقود الإنسانية المتألمة المتقهقرة حينما يرسله القدر إليها من الظلمات إلى النور بسبل خفية صعبة وعرة. نعم إن المصلح الحكيم قد ينسف بمنتهى العنف والقسوة تلك الرسوم القديمة البالية الخربة التي قد أصبحت عقبات في سبيل التقدم - ينسفها ليقيم النظامات النافعة على أطلالها. أما المجنون الأناني فإنه يطعن على كل ما يراه سواء أكان نافعاً أم غير نافع. ثم إذا هدم وخرب لم يفكر في تنظيف الأرض من أنقاض ما هدم. بل كل لذته في أن يرى كثبان الأنقاض تعلوها الأعشاب الفاسدة نابتة حيث كانت الجدران والسقوف التي هدمها.
إن هناك لبوناً شاسعاً بين المصلح العاقل وبين الثائر المصاب بجنون الأنانية. وذلك أن الأول يكون ذا غايات ومقاصد وليس للثاني غايات ولا مقاصد. إذ الثاني أقصر نظراً من ذلك وهو لا يفكر قط فيما يجب أن يكون عوضاً من الأشياء متى يريد إزالتها ومحوها. بل كل ما يعرف هو أنه يكره جميع الأشياء على الإطلاق ويريد إرسال صواعق غيظه على كل ما يراه حوله. ومن ثم ترى أن مثل هذا المتهوس ربما حول تيار غضبه إلى شرور خيالية وأضرار وهمية. وربما رمى إلى غرض حقير ومقصد تافه بل لا يبعد أن يشن غارته على النواميس النافعة الحكيمة فتراه تارة يوجه الطعن إلى مسألة رفع القلنسوة بالتحية فيعتصب مع أعضاء حزبه ضد ذلك وتارة يوجه نقمته إلى مسألة التطعيم الجداري الإجباري. وطوراً إلى مشروع إحصاء عدد الأهالي. وأعجب الأشياء أن مجنون الأنانية في قيامه ضد هذه المسائل يظهر من الاهتمام والتحمس ويلقي من الخطب وينشر من(32/9)
المقالات أمثال ما يصدر عن أرباب الانقلابات العظيمة الذين يحاولون إبطال تجارة الرقيق أو يطالبون بتحرير الأفكار وحربة النشر - ماكس نوردو.(32/10)
صور هزلية
من أخلاق الناس
يأبى العالم كله إلا أن يكون مضحكاً، لأن الحياة نفسها هي أضحوكة الأضاحيك، والناس لا يستطيعون أن يكونوا كاملين، لأن الحياة تأبى إلا أن تكون شوهاء ناقصة، بل إن الرزالة والوقار والكمال لتبدو جميعاً أزاء سخافة الدنيا أبدع أنواع المجون، وأغرب ضروب الرياء، وأنت لا تستطيع أن تجد رجلاً واحداً في هذا الأوقيانوس المزدحم، رزين الروح من كل نواحيه، خالياً من الشائنة، بعيداً عن المعابة، وقد تقع يوماً على رجل يبعثك منظره على احترامه، ويريدك خلقه على إجلاله، ولا ترى فيه إلا صورة رائعة من تلك الصور الخلقية بالنسخ والرسم تلك الصور الجميلة التي حاولت الأديان والشرائع والفلاسفة والخياليون والشعراء والمفكرون أن توجد لها مطبعة من مطابع البالوظة لكي يطبع الناس جميعاً أنفسهم عليها، فتظن أنت إذ ذاك أن هذا الرجل الجليل مادة واسعة للكلام عن الفضيلة وخطوة طيبة في سبيل قتل الحيوان الذي يطل دائماً من أثواب الإنسان، ووسيلة ممكنة لتقليد الملائكة، وتظنه جميلاً من كل ناحية التمست رؤيته منها، ووقوراً رزيناً من كل عاطفة أردت الإشراف عليه من صوبها، ولكنك لو رأيت أشعة خلقية على نحو الأشعة الرنتجنية، واستطعت بها أن تبصر كل أجزاء روحه ودخيلة نفسه، إذن لما لبثت أن تهتدي إلى ركن مضحك غريب منه، ولألفيته بعدها مفارقة عجيبة لا يسعك إلا أن تقهقه ضاحكاً منها، ولأدهشك هذا الضعف الإنساني الذي شاءت الطبيعة أن يظل إلى الأبد أكبر فضيلة الإنسان وأكبر عيوبه، ولعلمت أن الرجل العظيم أشبه بتمثال ضخم من الحديد يقوم على ساقين من الطين أو الفخار.
وكذلك ترى أن العظيم لا يزال مضحكاً، والحقير مادة الضحك كلها، وإن الحياة ليست إلا نكتة من نكت الطبيعة ولكنها تعد نكتة قاسية تبكي أكثر مما تضحك، ثم يجيء الموت فيختم هذه الطقطوقة الهزلية، وتكون الطبيعة قد شبعت عند ذلك من الضحك من الإنسان والهزؤ به.
وأغرب شؤون الطبيعة أنها قد تجعل إنساناً نهاية في الجد وآخر ما يمكن أن يتصور من الرجل الصالح الرزين العاقل التقي الورع، ولكنها تأبى إلا أن تضع له زراً خفياً في خلقه،(32/11)
إذا حركته تغير المنظر، وتوارى هذا الستار، وجد ستار آخر على فصل من أغرب فصول الفودفيل الخليع، وأنت قد تلقى رجلاً يحب الصلاة، ولكنه يميل بطبيعته على السكر، وهذه مناقضة لا تغيب عن ذهن الطبيعة، ولكنها تريد أن تلعب بالناس وحسبه، ولهذا ترى حيرة الرجل بين هذين الميلين مجونية مضحكة، إذ تجده يسقط فوق ركبتيه ركوعاً لله، في ميقات من مواقيت الصلاة، ويسقط مترتحاً ساجداً للكأس في موعد من مواعيد الشراب، ثم لا تنسى أن الصلاة هي محاولة التقرب من الله، وإن الشراب أيضاً هو محاولة إخماد الحس، أي أنه محاولة الإقتراب من الموت، والموت هو من نفسه اقتراب من الله.
الحياة أضحوكة أيها الناس، وأبدعكم من كان أشد إضحاكاً من الجميع، والهازئ بالحياة أصلح لها من المقطب لها الجاد في الحرص عليها، والإبتسامات ألطف من العبرات، وخير للإنسان أن يكون مضحكاً من أن يكون كايوسا وأن يكون مفرقعاً من أن يكون سائلاً لأن الضحك ليس إلا فرقعة من مفرقعات العواطف، وهو انفجار أشبه بانفجار النيازك في الأعياد، لأنه انفجار كثير الألوان، زاهي الأصباغ، أما الدموع فهي العواطف ذائبة، والأحزان سائلة، فإذا جاشت بنفسك دمعة وأرادت أن تهجم على عينيك، فلا تدعها تسيل وتنحدر، لأنها ماء الروح، وخير لروحك أن تظل بمائها، حتى لا تجف وتنصب، ولكن عليك أن تحيل هذا البكاء ضحكاً هستيرياً متشنجاً، حتى تدع الذي يراك يبتسم لك ويكون صدى ضحكتك، إذ ينبغي أن تحاول جهدك أن لا تظهر أمام الناس حزيناً، لأن حزنك ثقيل الظل على الناس، مكروه المظهر في المجلس والرجل الحزين لا يلتفت إليه إلا من قبيل التهكم به وبحزنه معاً، لأنه يريد أن يقطع مادة الضحك من قلوب الحاضرين.
أيها الناس، إن الحياة سخيفة، ودمعة واحدة تطفر من عين إنسان يجب أن تقدر بالعالم كله، فدعوا البكاء جانباً لأن الدموع غالية، وما أرخص ثمن الضحكات، كل عشر ضحكات بقرش، أيها الناس، فاضحكوا ملء أفواهكم.
نعم. لنضحك، ولنجتهد في أن نضحك كثيراً من بعضنا، وأنا موافيكم بعد اليوم بصوركم المضحكة، وبادئ صورتي الهزلية قبل كل صورة فإلى الملتقى.
ع. ح(32/12)
مذكرات شبلي شميل
ومن المقالات التي لي ونشرت في جريدة مصر الفتاة مقالة نقدت فيها قانون المطبوعات وهو القانون المعمول به اليوم والذي وضعت مواده حوال سنة 1880 ولكن لم يعمل به في ذلك الحين، ومضمونها أن الآلات التي يخترعها الإنسان ليست إلا أعضاء متممة لأعضائه الطبيعية فلا يجوز أن يسن لها قانون غير القانون المسنون لنفس هذه الأعضاء وهو القانون العام. فإذا كنا نستطيع أن نسعى بأرجلنا إلى الشر وأن نعمله بأيدينا فهل تقيد أرجلنا وأيدينا بالقيود قبل العمل. فالذي يطلق على الأعضاء الطبيعية يجب أن يشمل الأعضاء الإضافية والطباعة من هذه الأعضاء فيجب أن تترك لها الحرية كما تترك لليدين والرجلين حتى إذا جنت أخذت بجنايتها.
وكأنه بلغني أن واضع بنود هذا القانون رجل فرنسوي طريد الحرية في بلاده أو طريد أكثر منها يدعى بورلي هذه المنشورة في مصر الفتاة وقد أرسلت إليه نسخة منها. ثم ختمت كتابي بقولي: ـ
إني لأعجب كيف أن رجلاً نظيرك طريد الحرية يقبل أن يضع بنود مثل هذا القانون. ولكن يظهر أن لسماء مصر تأثيراً خاصاً على العقول. ولم أزد على ذلك.
والظاهر أن صاحبنا وهو في أبان نفةذه في قلم قضايا الحكومة في ذلك الحين يوم مسألة مقاطف جبل الزيت وظهور العملة (المزيفة التي أثري بها ناس تحني لهم الرؤوس اليوم وترفع لهم القبعات) لم يألف عندنا مثل ذلك فكبر عليه أن يخاطب بمثل هذه اللهجة من رجل مجهول وهو في هذا المقام من النفوذ فهاج وماج وتوعد وأخذ يسأل من أكون أنا كما بلغني بعد حين من الموظفين في مصلحته وبعضهم وهو نجيب عنحورى لا يزال حياً يسعى حتى اليوم. والظاهر أنه حاسب نفسه بعد ذلك فعرفأن الحق أغلب وأن صاحب هذا القول لا يخشى تهويلاً فصمت وانفض هذا الإشكال ولكن من دون رد على خطابي كما كان يفعل أكابر القوم في بلاده وكأنه جرى في ذلك مجرى أكابرنا في بلادنا لأن كل شيء يعدي والقبيح عدواه أسرع من عدوى الحسن.
ومذكراتي هذه خدمتني كثيراً في مجلة الشفاء بعد ذلك وقد فقدت مني اليوم ولم يبق في ذاكرتي منها إلا أهم حوادثها ولم أحفظ من أسماء الأطباء إلا الذين لازمتهم كثيراً ووقعت لي معهم حوادث تحفظ ولاسيما أن ذاكرتي في الأسماء والتاريخ في غاية الضعف ولكنها(32/13)
قوية جداً في الحوادث نفسها وذلك يدل على ما بي في كل أموري من الميل الخاص المنطبع في من أصل فطرتي من النظر إلى الجوهر والإعراض عن الأعراض.
وقد رافقني هذا الضعف في كل أعمالي العملية والدنيوية حتى كنت أشعر به عندما كنت أريد أن أبسط مسألة جوهرية علمية أو أدبية تلزمني فيها المصاحبات المحسنة والمؤيدة مما هو ضروري في كل كتابة. وكان شره الأكبر علي في أشغالي المالية ذهبت كلها طعمة سائغة لقلة تدبيري وعد احتياطي وكثرة تسليمي واعتمادي فيها كثيراً على سواي ولقد كان لهذا الإضطراب في أموري الدنيوية صدى وأي صدى على سائر حياتي العلمية والفكرية بعد ذلك ونزع مني كل لذة كنت أشعر بها وأنا منصب عليها كل الإنصباب بجملتي قبل هذا التاريخ.(32/14)
مركز المرأة الإجتماعي
(4)
إن الأمة المصرية على الرغم من رسوخ قدمها في المدينة وعلو كعبها في الحضارة لا تزال متمسكة ببعض العادات القديمة التي أورثتها إياها القرون الغابرة. وهذه العادات غير ملتئمة مع بعضها لاختلاف المصادر التي استقيناها منها وغير منسجمة مع المدينة الحديثة لاندثار الظروف الإقتصادية والبيآت الإجتماعية التي ولدتها وقيام ظروف وبيآت أخرى.
فلا نزال إلى الآن نقابل البنت ساعة ميلادها بانقباض وكسوف بال ونعتبر المرأة التي لم ترزق بذكر عاقراً وإن كان لها من البنات عشر. وكلما كثر عدد بناتها خجلت من نفسها وعيرتها أترابها بذلك ويرثي الناس لحال زوجها كأنه أصيب بداهية دهماء.
ولهذا الشعور أصل تاريخي وذلك أن القبائل المتوحشة التي تعيش على النهب والصيد لا تكسب قوتها إلا بشق الأنفس ولا تحصل منه إلا على القدر الضروري ولا يفيض عن قوت يومها شيء وإن فاض فنزر ضئيل. والمرأة لضعفها ورقة تركيبها عاجزة عن معاونة الرجل في أعمال الصد والقتال. فهي بطبيعة الحال عالة تعيش من كسب غيرها. وبقدر عدد النساء تقل أقوات القبيلة ويشتد الضيق على أفرادها. فلا عجب إذا رغب المتوحشون عن المرأة وكرهوا وجودها وعملوا جهدهم على تقليل النساء بوأدهن.
أما الآن فلا مبرر لهذا الشعور حيث انفتحت أمامنا سبل الحياة ونبذنا الصيد والقتال إلا اللهو أو حرب ضرورية واحترفنا بمهمة أخرى كالزراعة والتجارة والصناعة وتوفرت لدينا طيبات الحياة وأصبحت المرأة قادرة على معاونة الرجل في أعماله بل أصبحت خير معين له كلما سمحت لها العادات والظروف بإظهار كفاءتها.
ولا تلبث البنت تثمر وتنتزع حتى تشعر بضعة مركزها وتمييز أخيها عنها في الحقوق. إن اختصت معه لا تجد لها منصفاً بل ينقلب عليها أبواها يعنفانها وينصرانه عليها ولو كان ظالماً.
يهشان في وجهه ويفرحان بلقياه ويخصانه بلذيذ الطعام وجميل الثياب وهي تنظر إليه عن كثب بحسرة تفتت قلبها من غير أن تجرأ على الشكاية. بل تثور في نفسها وتذرف الدمع غيرة وانكساراً.(32/15)
وكلما تقدمت في الحياة ازداد مقامها انحطاطاً واتسعت الفروق التي بينها وبين أخيها انفراجاً حيث يذهب هو إلى المدرسة ليتلقى علوماً تثقف عقله وتهذب نفسه وتزج هي في سجن الحجاب فلا تخرج منه إلا إلى القبر. وإن حاولت الهروب والخروج حيث الهواء الطلق والطبيعة الجميلة تعاد إليه مع الضرب والزجر حتى تنصاع وتألف رجلاها القيد فتلازم بيت أبيها غارقة في غياهب الجهالة لا تدري من أمر الحياة ما لا يزيد عن السليقة والإلهام بالشيء الكثير.
تحيا وتموت من غير أن يتعهدها معلم يهذب نفسها ويقوي مداركها. فما أشبهها بالشجرة الشيطاني التي تنبت في الفلاة ولا تجد من يعني بأمرها ويرعاها بالسقي والحرث ويشذب أغصانها ويقوم إعوجاجها فتنمو سقيمة ويأتي ثمرها كالعلقم تعافه النفوس وتتقزز منه الطباع.
وإذا ما بلغت البنت سن المراهقة انقطعت عن الأكل مع أبيها وإخوتها خجلاً من نفسها وشعوراً بضعف مركزها ولأنها في الغالب تتولي بدل أمها خدمة أبيها على الطعام.
والزوجة في أغلب عائلات الطبقة الوسطى لا تأكل مع زوجها وتقوم بخدمته فتناوله الماء وألوان الطعام وذلك إذا لم يكن عنده خادمة أو بنت كبيرة. ولا تأكل عادةً إلا بعد فراغه.
فيا لها من عادة قاسية تكسر أنف المرأة وتذهب بكبريائها وتغرس في قلوب الأبناء احتقار الأمهات والإستخفاف بهن.
للكلام بقية
الدكتور عبده البرقوقي المحامي(32/16)
باب تدبير الصحة
اللسان
ودلالته على المرض
اللسان يدل دلالة صريحة على حالة الجهاز الهضمي وتتغير حالته تغيراً مدهشاً مختلفاً في كثير من الأمراض فمن أحمر رطب نظيف إلى ما يأتي من الأشكال.
(1) في النزلة المعدية المزمنة - باهت اللون رخو مغطى بطبقة بيضاء ومحاط بانخفاضات من ضغط الأسنان.
(2) في الإمساك المزمن - مغطى بطبقة سميكة ضاربة إلى الصفرة.
(3) في القلاع (من أمراض الفم) - مغطى بنقط بيضاء.
(4) في الحميات - جاف ومغطى بطبقة.
(5) في القرمزية (حمى طفحية) - في لون الشليك وشكله.
(6) في التيفودية - رطب في الأول وعلى جانبه سلك أبيض بجوار حافتيه الحمراوين وفي الأيام الأخيرة يجف اللسان ويتشقق.
(7) في البول السكري - متسع وذو لون كلون اللحم العجالي.
(8) في الإدمان على الخمر والشلل العام الجنوبي مرتعش بلطف إذا مد.
(9) في التجمد المنتشر (مرض عصبي) وفي الرقص الزنجي - مرتجف بشدة إذا مد.
(10) في الكربتنزم (ضعف في النمو) اللسان كبير بالنسبة للفم.
(11) في الشلل النصفي - اللسان ملقى في زاوية الفم
(12) المرض النخامي - إسوداد في اللسان.
الأسئلة الطبية وأجوبتها
السؤال الأول ما هو الدواء الناجع لمن يوجد في بوله 0. 0249 من مجموع البول من حمض البوليك وما هو الطعام الواجب استعماله أثناء الغذاء وإذا كان اللحم ممنوعاً فهل يجوز أن يستعاض منه السمك أو بعض الطيور.
السؤال الثاني هل لحمض البوليك تأثير على الأعصاب ولاسيما الأقدام، وهل يحدث ورماً في أصابع الأقدام والتهاباً كما يحدث ذلك الزلال للمصاب به؟(32/17)
السؤال الثالث ما هي الأعراض الأولية التي يشعر بها المريض أول إصابته بالسل الرئوي ومم ينشأ هذا المرض وما هو العلاج الأولى الذي يلجأ إليه للوقاية منه أو لتخفيف وطأته إلى أن يعرض المريض نفسه على طبيب أخصائي؟
أحمد عبد المحسن عثمان
المخزنجي بالسكة الحديد السودانية بعطبره
السؤال الرابع شاب يتمشى في السابعة والعشرين يظنه الرائي بديناً صحيحاً بيد أنه يشعر بضعف الأعصاب ورعشة اليدين وفي بعض الأحيان تؤلمه المفاصل وهذا يجعل جثمانه يتدرج في الهزال تدرجاً غير محسوس ويتركه يئن من آلام متقطعة فما رأي حضرة الدكتور في هذا المرض؟
أحمد كامل بمديرية طنطا
الأجوبة
(1) يقول حضرة السائل أن البول يحوي 0. 0249 من مجموع البول والمفهوم من كلمة مجموع البول أنه بول 24 ساعة فإذا تقرر ذلك كان المقدار الذي يقول عنه حضرة السائل قليلاً جداً بالنسبة للحالة الطبيعية إذ يجب أن يحوي البول على الأقل من 0. 55 إلى 0. 70 جرام فيظهر جلياً أن المقدار المقول عنه إنما هو لمريض بحمض البوليك أو بالنقرس، والأدوية المفيدة التي قر عليها الرأي الطبي هي الأدوية المقوية للهضم والمساعدة للأمعاء خصوصاً الملينات الملحية (لا المسهلات) وعادة يصف الطبيب بعض أملاح البوتاسيوم والليثيوم وكذلك حمض الثيمينيك أما الببرازين الذي اعتاده الكثيرون ففي نظري لا قيمة له. أما الغذاء والعناية به فمهمة جداً فيجب أن يكون خلوا من الأطعمة النيروجينية والأطعمة السكرية العالية والتي تحوي البيورين فمن التي لا تحويه - اللبن. البيض. الزبدة. الجبن. الخبز الأبيض. الأرز. الفواكه. الكرنب. الخس أما البطاطس والفول السمك والفراخ واللحم الضان والعجالي ولحم الخنزير والكبد فتحوي مقادير مختلفة ولكن أخفها السمك فلحم الضان، كذلك يجب الإمتناع عن المشروبات الروحية بتة، ويستعاض عن السكر بالسكارين كما في البول السكري.
(2) يسأل حضرة السائل عما إذا كان لحمض البوليك تأثير على الأعصاب خصوصاً(32/18)
الأقدام إلخ.
ولعل حضرة السائل يقصد أن يقول تأثير على الأعضاء لأن الأقدام ليست من الأعصاب وفي كلتا الحالتين الجواب نعم له تأثير هام على سائر الأعضاء خصوصاً أصابع الأقدام وفي الغالب تكون أو مظاهره، وكذلك له تأثير على الأعصاب خصوصاً ما يتعلق منها بالنخاع الشوكي.
(3) يصعب جداً أن يعرف المريض بالسل الرئوي حقيقة أمره في المبدأ وعلى كل حال فالمرض قد يبدأ بعنف وسرعة وغضب كما قد يبدأ بلطف وبطء فبعض الحالات يبدأ بسعال وبصاق ربما كانا قليلين إلى درجة لا تدرك وبعضها يبدأ بالنفث الدموي أو بالنزيف الصدري وبعضها يبدأ بالتهاب رئوي يذهب ويترك أرضاً خصبة للسل كما أن البعض ربما بدأ عنده المرض وليس عنده من الأعراض إلا ارتفاع قليل في الحرارة بعد الظهر أو ألم متقطع بين الكتفين أو أسفل الضلوع والبعض لا يشعر بشيء إلا بضيق قليل في التنفس والبعض يهزل ولا يدري لهزاله سبباً والبعض لا يدرك شيئاً مطلقاً.
أما المرض فينشأ عن عدوى المريض بباسليوس كوخ ويساعد على ذلك التزاحم وعدم تهوية الأماكن - والجلوس في غرف ملىء بالغازات - وضعف التغذية - والشغل المتعب - والتعرض للرطوبة والبرد - والحمى التيفودية - والمشروبات الروحية - والبول السكري - والضعف الزهري - ومخالطة المصاب به - وتتطاير ذرات بصاق المسلولين متى جفت في الهواء، فإذا كانت هذه هي الأسباب أمكن التفادي منها جهد المستطاع.
(4) يلوح لي أن هذا الشاب عصبي أكثر مما هو مريض لو صح أنه مريض وأن كل ألامه هذه وتصوراته عصبية أكثر مما هي مرضية على أني أنصحه أن يبتعد عن الدخان والمشروبات الروحية والمكيفات الأخرى والعادة المضرة لو كان ممن يقترفونها فإن لم تتحسس حالته فأنا مستعد لأن يستشيرني كتابةً أو بشخصه كلما أراد ومتطوع جهدي لهذه الإستشارة.
الدكتور محمد عبد الحي(32/19)
تفاريق
غرامات الحروب
الحرب لعبة غاية الثمن، باهظة القيمة، وأغرب ما يذهب في سبيلها ما يسمونه غرامة الحرب، إذ لا يكفي المنهزم نكبة هزيمته، والنفوس التي ذهبت فدى لفكرة وهمية قامت برأس ملك أو برلماني أو جماعة من السياسيين، والملايين المنثورة التي خرجت من الجيوب لتدخل رصاصاً وقنابل وقذائف في جسوم القطعان الإنسانية المسوقة إلى المجزرة، بل ترى سنن الحرب تطالبه بعد كل ذلك بالغرامة، وشروط الصلح تلزمه المكافأة للغالب، والجائزة للمنتصر، فهو على حد المثل العلمي السائر موت وخراب ديار.
ولا أدري ماذا كان يقول أجدادنا الذين شهدوا الملايين العديدة التي ذهبت في حرب القرم أو الحروب النابولونية، إذا هم علموا أن كل ما ضاع في تلك الحرب يكفي إنجلترة في هذه الحرب أسبوعين لا غير، وإن جميع الملايين من الجنيهات التي صرفتها بريطانيا في حربها مع البوير لا تعدو أن تبلغ قيمة فاتورة واحدة من الفواتير التي يعمل حسابها لسبعة أسابيع فقط.
ولقد كان من ارتفاع ثمن هذه اللعبة الخطرة في العصر الأخير، إن ارتفع أيضاً ثمن الغرامة التي يدفعها المغلوب في ميدان هذه اللعبة.
ولعل القراء يذكرون أن الحرب السبعينية قررت الغرامة على فرنسا، وقد ظن الناس إذ ذاك أن مقدار هذه الغرامة كان قاسياً باهظاً ظالماً، إذ طالبتها بروسيا، بعد تسليم الألزاس واللورين، بغرامة مقدارها خمسة بليونات من الفرنكات فوق البيعة وإن يظل الجنود البروسيون محتلين الأرض الفرنسية حتى يومذاك إن فرنسا لن تستطيع ـن تفيه إلا بعد عشرين عاماً على الأقل. وإنها ستضطر كذلك إلى البقاء تحت قبضة الغالب. ولكن العالم لم يلبث أن أخذته الدهشة الكبرى إ رأى أن فرنسا استطاعت أن تدفع آخر فرنك وتجلي عن أرضها آخر جندي ألماني، في خلال سبعة أعوام. ولكن هذه الغرامة العظيمة، وإن كان حمل زنتها من الذهب يستلزم ثلاثين كتيبة من الجنود، أو ثلاثين طابوراً لا تزال أقل مقداراً مما تنفقه الدول المتحاربة اليوم في إثني عشر يوماً!!
على أنه لم تدفع أمة قبلها غرامة مثلها. فإن روسيا لما انتصرت على تركيا منذ أربعين(32/20)
سنة، قدرت النفقات التي صرفتها في سبيل هذا الإنتصار مائة وخمسة وأربعين مليوناً من الجنيهات، ولكنها لم تطالب تركيا إلا بغرامة قيمتها 32 مليوناً وهو وإن كان مبلغاً صغيراً كما يظن، يؤلف تسعة أكوام من الأوراق ذات الخمسة جنيهات، وكل كوم منها أطول من برج لندن.
أما الغرامة التي دفعتها النمسا عندما انتصرت عليها بروسيا عام 1866فلم تبلغ أكثر من ثلاثة ملايين، والغرامة التي دفعتها الصين لليابان فكانت 35 مليوناً وقد دفع آخر قسط منها بشيك واحد، ولعله أكبر شيكات الأرض إلى اليوم، إذ كان مقداره 11. 0080887 جنيهاً و15 شلناً وتسعة بنسات هذه غرامات الماضي، فماذا تظن أن ستكون غرامة هذه الحرب، وماذا تتوقع المقدار الملائم لها، إذا علمت أن مقدار النفقات التي سينفقها الحلفاء إذا ظلت الحرب ثلاث سنين ما يربي على عشرة بليونات من الجنيهات وهو مبلغ يتطلب لجره ثلاثة آلاف قطار من القطارات السريعة.
(وبعد) فماذا تقول لو أعطيت بنساً واحداً من كل جنيه منها؟؟
مقياس جديد للأمانة
خطر لإحدى المجلات النيويوركية أن تعلم مقدار إحساس الأمانة في نفوس أهل الولايات المتحدة. فاخترعت طريقة تعد من أبدع ما تخيل المتخيلون. وذلك أنها أرسلت مائة خطاب، كل خطاب منها يحتوي ورقة من ذات الريال الواحد، واختارت لهذه المائة رسالة طوائف معينة من الناس وأعدت لكل طائفة خمسة خطابات، ثم أرسلت الرسائل جميعاً إليهم، بحيث تدل المرسل إليهم أن الرسائل قد وقعت إليهم خطأً واتفاقاً، وكانت تريد أن تعلم كم شخص سيرد الرسالة التي أرسلت إليهم غلطاً، فكانت النتيجة إن 60 في المائة هم الذين ثارت في نفوسهم الأمانة، وبلغ منهم الوفاء أن ردوا الرسائل إليها.
وإليك البيان: ـ
قائمة النساء
5 نسوة من ذوات البسطة في العيش 4 نسوة هن اللاتي رددن
5 ممثلات 3
5 من العاملات على التايبرريتر 3(32/21)
5 مدرسات 4
من أصحاب المحلات التجارية الناجحة 5
5 من نساء مختلفات 3
5 من فتيات المصانع 3
5 من الطبيبات 3
5 من المشتغلات بالمحاماة 3
5 من المراضع 3
فتكون النتيجة أن 33 امرأة هن الأمينات من 50 امرأة
الرجال الذين ردوا لم يردوا
خمسة رجال من ذوي البسطة في العيش 3 2
خمسة من المحامين 4 1
خمسة من الأغنياء 4 1
خمسة خمارين أو أصحاب حانات 1 4
خمسة من المرشحين (بالكسر) 3 2
خمسة من أعضاء البرلمان 3 2
خمسة من الصحفيين 4 1
خمسة من الأطباء 2 3
خمسة من الشرطة 3 2
خمسة من الممثلين 4 1
حقائق غريبة عن الإنسان والبيض
قد دلت الأبحاث الأخيرة على أن ألفاً من البيض ومائتي بيضة تحتوي جميع العناصر الكيماوية الموجودة في الإنسان الذي يزن مائة وخمسين رطلاً، وهو الوزن المتوسط للرجل الكامل، ولكن هذا ليس معناه أنك إذا صنعت قرصاً من 1200 بيضة، أحدثت بذلك إنساناً، ولكنا نريد بذلك أن العناصر الكيماوية الموجودة في ذلك القرص تعادل قيمة الموجود منها في الإنسان. فإذا أصر إنسان على أن لا يأكل في حياته إلا البيض استطاع أن يحصل منه(32/22)
على الأحماض الكيماوية المطلوبة للحياة ولكن الجهاز الهضمي لا يستطيع أن يهضم طعاماً كهذا دائماً، ولذلك لا يلبث أن يتعثر هذا الإنسان في المرض، ولا يني أن يموت، إذا لم يتغير هذا الطعام.
وإذا تحول الإنسان سائلاً، أمكن لك أن تظفر منه بنحو 3630 قدماً مكعباً من غاز الإستصباح والهيدروجين، أو ما يكفي لأن يملأ بالوناً يحمل 155 رطلاً.
وإذا أمكنك أن تستخرج كل عنصر من العناصر الموجودة في الجسم الإنساني. استطعت أن تظفر منه بحديد يكفي لصنع عدة من المسامير الكبيرة الحجم، وشحم يصلح لصنع 14 رطلاً من الشمع. ومن الرصاص ما تستطيع أن تخرج به 9360 قلماً من الرصاص أو 65 قاروصة - والقاروصة اثنا عشر دوزينة - ومن الفوسفور ما يفي لعمل 820 ألفاً من أعواد الكبريت، وفوق ذلك تجد عشرين ملعقة من الملح وخمسين رأساً من السكر و42 لتراً من الماء. وكذلك تعلم أن الجسم البشري ليس إلا معملاً كيماوياً كبيراً. ولكن 120 بيضة تكفل هذا المقدار، وبعد فإذا علمت أن الدول بحاجة شديدة اليوم إلى الحديد والرصاص والفوسفور والشحم وجميع هذه الأصناف، فأنت ولا ريب ترى أن تستخرجها من البيض - على ارتفاع أثمان البيض في هذه الأيام - خيراً من أن تستخرجها من الناس، أليس كذلك؟؟(32/23)
العدد 33 - بتاريخ: 5 - 3 - 1917(/)
مسكينة مسكينة
قال الشيخ علي: واسمع الآن يا بني ما أقص عليك فإني محدثك بخبر ليتني إذ علمته ما وعيته وليتني إذ هذا الفصل الروائي البديع هو أحد فصول كتاب المساكين للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي - آثر البيان بنشره فرحب به البيان - والكلام كما ترى موضوع على لسان الشيخ على بطل هذا الكتاب، والشيخ على المذكور - كما شرحنا ذلك في آخر عدد من البيان الشهري - رجل مجذوب سعيد بالدنيا والدنيا سعيدة به - وهذا الفصل قائم بنفسه لا علاقة له بما قبله ولا بما بعده. والكتاب سيظهر قريباً وهو يطلب من إدارة البيان وعيته ما أثبته ولا نفذت فيه كما نفذ في.
ولكن الحياة كما تقضي علينا أن نشهد أموات الأحياء ونحملهم إلى أبواب الآخرة من تلك الحفر، تقضي علينا كذلك أن نشهد أحياء الأموات من أهل الرذائل وتحمل من أخبار ضمائرهم الميتة إلى أبواب السماء في أنفسنا.
فواها لك أيتها الحياة الدنيا تقتلين بالشر وتجرحين بأخباره ولا تؤتين عسل الحكمة إلا بعد لسع كثير. . .!
وقد علمنا أن كل شيء يسير فإنما هو يذهب في طريق يهتدي أو بعنف وكأن الأسف على أهل الشر لم يجد له طريقاً في هذه الحياة إلا من ضمائر أهل الخير.
كانت لنا يا بني في هذه القرية النضرة فتاة بائسة ضاق بها العريض من هذا البر فخرجت إلى بعض المدن تستطعم الحياة. فحدثتني أنها استضاقت حتى كأنما كانت تنفذ إلى رزقها من شق في صخرة في غر في جبل. ثم استضاقت فكأنما ولجت هذا الغار فانحدرت تلك الصخرة فسدت عليها عليها فلا وراء ولا أمام وأعجزها حتى المعاش الملفق.
وخرجت يوماً على الناس وكأنها لقذارتها قطعة من الحياة البالية مدرجة في بعض الأطمار، أو روح من الهواء تمشي ساكنة في أردية من الغبار، وما تحصي العين تلك البقع المنتشرة في ثيابها، كأنها أرقام للفقر يعد بها ليالي عذابها، وهي علم الله بقع، أشأم منها أنها في رقع، وقد أغبر شعرها الفاحم وتلبد، فكأنه بعض ما وقع على رأسها من حظها الأسود، ولاح من تحته وجه كالدينار الزائف في صفرته ورده، وكالقمر المحقوق في استطالته تحت الظلام ومده، وهي فتاة عليلة قد أخذ السقام من حجمها، كما أطفأت الأقدار من نجمها، وخفي من المرض في صدرها، أكثر مما خفي بين الناس من قدرها، وما تعرف من أسماء(33/1)
الأموات والأحياء غير أسماء أهلها، ولا تملك من الأرض كلها أكثر من غبار نعلها، وقد خرجت تتحامل فكلما خافتت في مشيها قليلاً خافت العثار، فاستندت إلى جدار، فإذا رأيت ثم رأيت صورة البؤس ولكن في غير إطار، وإنها لتمشي وليس فيها دم ينتهي إلى قدميها فهي تجرهما جراً وتقتلعهما بين الخطوة وما تدري من الألم أهما على الأرض أم في الأرض يسوخان، وقد تزايلت أعضاؤها فما تحس أن فيها حياة متماسكة، وهي ما فتئت تحسب أن جسمها قد خلق نعشاً لقلبها فلا هذا القلب يحيا كما تحيا القلوب ولا ذلك الجسم ينمو كما تنمو الأجسام.
وفي رأسها عقل زاد فضل الله ورحمته في جهة منه ونقص عنف الناس وقسوتهم من جهة أخرى، فبينا هي على ذلك نحمد الله إذا هي مع ذلك تلعن الناس. وهي مرة تنظر إلى الحياة فترى كل شيء في الحياة إلا نفسها ومرة تنظر إلى الموت فلا ترى في الموت شيئاً إلا نفسها ولم يكن يمسك روحها بين الإثنين إلا خيطان أحدهما من السماء وهو الأمل في رحمة الله والآخر من الأرض وهو إشفاقها على جدتها التي كانت تكدح منذ الصغر لقوتها. تلك الجدة الفانية التي كبرت وبلغت من الكبر حتى حسبتها الفتاة قد كبرت عن سن الموت. . .
أما الآن فقد تبين لها الخط الأبيض من الخط الأسود وانصدعت حفرة جدتها المسكينة ولم يبق لها إلا رحمة الله.
قال الشيخ علي: وكان خروج هذه البائسة أصيل يوم من أيام الصيف ذهبت فيه طاوية على الجوع كما تغدو الطيور من وكناتها وملء بطونها هواء. غير أن الطيور تهزأ بالناس جميعاً وهي على ضعفها أقوى من الشرائع والقوانين إذ تنبعث وكأن كل طائر منها إرادة متجسمة تقذف بها السماء فما تبالي على أي أرض تقع ومن أي حب تلتقط ولا نعرف إلا أن هذا الإنسان يعمل على السخرة ليخرج لها من الأرض رزقها رغداً.
أما الفتاة فكل الناس يهزأ بها وهي ترى كل إنسان على ملكه كأنه قانون وضع لعقابها إذا حدثتها النفس حديثاً فقد بلغت من الضعف والمرض والفاقة إلى حال لا تجعل يديها تصلحان لعمل غير الأخذ فإن اختلست قيل سارقة فعوقبت، وإن سألت قيل متشردة فكذلك.
ويا ليت في قلب هذا الإنسان من معاني الصفح بعض ما في لسانه من ألفاظ القصاص(33/2)
ولكنه حيوان متكلم فتنصرف فطرته الحيوانية أكثر ما تنصرف إلى لسانه كما تتمثل هذه الفطرة من سائر الحيوانات في حواسها التي تبطش بها وكلا النوعين سواء في الإفتراس. والكلب والتوحش فما اللسان إلا حاسة البطش العاقلة. . . وقلما يؤذي الإنسان، قبل أن يؤذي بهذا اللسان.
ولم تر المسكينة أروح لنفسها المكدودة من الإنتحار وكأنما يخال لها أن في الموت عيشاً فخرجت تمشي بين الناس إلى قبرها كأنها فيهم جنازة وهم يعيشونها. ولئن كانت لم تسر بالحياة فلقد سرها أن ترى تشييع جنازتها وهي حية تموت ولا أقول وهي حية ترزق فإن العلة النازلة بها قد أخذت عليها مذاهب الرزق حتى لم تترك لها في الناس وجهاً وقبضت عنها الأيدي إلا تلك اليد الواحدة التي تأخذ ولا تعطي وهي يد الموت.
وإنها لتنفتل وتلتوي على أحشائها من رجفة الجوع وما تأخذ عينها من الناس إلا من يحمل بطنه حملاً من شبع وري فكان نظرها إلى الناس أمض عليها من الفكر في نفسها وكأنها تقتل من وجهين.
وكذلك أخذت سمتها إلى طريق النهر وأمضت نيتها على الموت غرقاً لتموت نظيفة وتكون لنفسها غاسلة وترسل روحها المتألمة إلى السماء في دموع السماء.
ومشت تتساقط كأن الجوع والمرض يهدمان منها في كل عثرة ركناً أو كأنه كتب على كل بائس أن يموت في طريقه إلى الموت. وهي تنتهض من كل عثرة إلى أشد منها كما تتخطى العنكبوت في نسجها من خيط واهن يكاد ينقطع إلى خيط أوهن منه. وقد اجتمعت روحها في عينيها فهي تسيل على نظراتها الشاردة وكلما امتد بها السير قصرت مسافة النظر حتى توهمت أن الموت بادئٌ بها من عينيها. وإنها لكذلك إذ لمحها طفل قروي قد انقلب من المدينة إلى الضاحية التي غادر فيها أمه العمياء وكان يعتمل طوال يومه في بعض المصانع وهو يحمل طعامه الذي لم ينله إلا ببيع نفسه يوماً كاملاً. على أن المسكين لا يحس من الذل أنه اشترى نفسه بمقدار ما يحس من العزة أنه ابتاع أداماً ورغيفين وقطعة من الحلوى.
قال الشيخ علي: وبصر هذا الطفل بالفتاة وأدرك أن روحها تخطو في أنفسها وإنه الجوع لا غير، وهو من أبنائه طالما شد عليه حتى انطوى. ولأن لغمزاته حتى التوى، وما يعرف(33/3)
أنه ابن أبيه وأمه، أكثر مما يعرف أنه ابن فقره وهمه، فابتدر إلى المسكينة وكانت حركة الحياة فيها أسرع من حركة أضراسها في طعامه ثم ذهب لا يعرف ما نصنع لأنه طفل أو لأنه فقير. لا أدري. غير أني أعرف أنه لا يسلم من لؤم النفس في صنعة المعروف وتطويل المن به وتعريض الحديث فيه إلا الأطفال وإلا الفقراء. أولئك لأنهم لا يستكثرون الخير، وهؤلاء لأن الخير منهم غير كثير.
وانطلق الطفل وهو يلوي رأسه ويفكر في أي خديه تقع عليه اللطمة الأولى من أمه لأنها لا محالة ستحسبه اقترف إثماً فطرد من عمله، وانقطعت به طريق أمله، وإلى أن يأتي الله بالصباح الذي ينير برهانه، ويثبت لها إحسانه، يكون هذا الليل، قد صب عليه الويل، وهكذا جعل يشهد الله على ما سيلقاه في سبيل الخير بدلاً من أن يشهد الناس على ما لقي غيره منه في هذا السبيل من إحسانه وإيثاره. لأنه طفل أو لأنه فقير؟ لا أدري.
أما الفتاة فأرسلت في أثره نظرة حية ولم تجزه غيرها بل جعلت جزاء عمله من عمله نفسه لأن ثرثرة الفقراء في الشكر على المعروف كهذيان الأغنياء في التبسط على المن به كلاهما لا يكون الأمن خبث أو لؤم وهي فتاة أقدمت على الموت ولم تقدم على السرقة. وإنها لتعلم أن من أحياها فكأنما أحياء الناس جميعاً ولكنها رأت الطفل غير أهل لأن يعرف إحسانه من نفسها. لأنه طفل أو لأنه فقير: لا ادري.
ولما أمسكت عليها النفس وراجعت الحياة بدا لها فيما اعتزمه من الانتحار فترددت وجعلت تساورها الظنون وخلق لها من معدتها عقل جديد يبصرها فرق ما بين الجوع والشبع وكذلك تعرض لبعض الناس حالات من الحرص يعقلون فيها يبطنوهم حتى أن أحدهم لو تحسس رأسه وهو يفكر لحسبه بطناً صغيراً من العظم. . . فأنشأت الفتاة تستقيم على طريقها وهي تؤامر نفسيها على الحياة والموت وقد بدأت تهضم في معدتها الطعام والعزيمة جميعاً.
وبينما هي تسير نظرت في عرض الطريق سيدة لولبس معنى الغنى لفظاً مابس غير اسمها، ولو كان للكبرياء رسم ما رأيته غير رسمها، وقد أورثها الغني ذلك الغرور بنفسها، حتى توهمت أنها في الأرض أخت شمسها، وبلغت في النعمة من الحمق والبطر، بحيث جعلت نفسها كالسماء متى تعبس وجهها استهلت لعنتها المطر، وهي من أولئك اللواتي(33/4)
يخرج الغنى معهن في الطريق لا حارساً ولا منعاً ولكن للكيد والفتنة. فتنة المساكين وكيد الحاسدين فخرجت في زينتها وكأنها حانوت جوهري. . . وهي نصف من النساء ولكنها تتصابى فكأن في سامتها وابتسامتها شباب عشر فتيات جميلات. . . وقد ذهبت في أوضاع جسمها مذاهب هندسية بين المستدير والمستقيم والمنحني. . . حتى ظهرت كأن نصفها من الله ونصفها من الخياطة. . . وإذا رأيت جملتها رأيت روضة الجمال بألوانها وأزهارها ولكن. . . مصوره، فإذا انتهيت إلى وجهها رأيت للحسن هناك شهادة على الله ولكن. . مزورة. . . وعلى الجملة فقد جعلها حسنها المالي في رأي نفسها كالشرائع لا جدال فيها إلا من زنديق. . .
ورأتها الفتاة كما تنظر المرأة إلى المرأة بعين جامدة ليس فيها لغة ولا فلسفة ولا شعر، فقالت يا لها سعادة أن تكون هذه العجوز. . . لا تتقدم في عمرها إلى الأمام ولكنها ترجع إلى الوراء، وأن تظهر بين الناس حسناء وإن كانت من القبح بحيث ذهب نصف نهارها في التحسن، وأن لا تجد من هموم الدنيا أكثر من هم الألفاظ أن قال الناس غير حسناء أو قالوا غيرها أحسن منها. ويا له شقاء أن تكون هي كما هي وأكون أنا كما أنا.
ثم رمت بعينيها إلى السماء وانحرفت تواجه تلك السيدة فما تبينتها هذه وألمت بما نفسها حتى انقبضت كأنما أثارت الأرض في وجهها دابة جامحة، وجعلت تتحاماها وتلوذ ههنا وههنا وتحتث قدميها كأنها لقاء خطر شديد. غير أن الفتاة ملأت عليها الطريق بحركاتها فكانت وجهها كيفما يمنة أو يسرة وكأنما تطاردها مطاردةً.
فلما عيت السيدة بأمرها وغاظ الفقر نعمتها وهاج الفضول الفتاة حنقها وكبرياءها. وقفت لها وقفة القضاء عابسة الوجه شامخة الأنف يكاد يستنفض الناس طرفها وتكاد تميز من الغيظ وتدل هيئة وجهها على أن وراء شفتيها المرتجفتين كلمات أحد من أنياب الوحش.
فلم تبال الفتاة وبقيت رئتاها واسعتين للهواء إذ ليس بعد الفقر خوف، ودلفت إليها باسطة اليد وهي تكاد تزلقها ببصرها حتى إذا وقفت بإزائها خفضت رأسها وقالت:
سيدتي! أدام الله نعمته عليك وهنأك هذه النعمة بدوامها.
ـ هي دائمة وما أنت والنعمة؟
سيدتي! وقاك الله ما أنا فيه من بأساء الحياة ولا كتب عليك أن تعرفي ما هي.(33/5)
ـ فلماذا أنت وأمثالك في الحياة إذن أيتها الحمقاء وهل يكتب تاريخ البؤس إلا في صفحة من مثل هذا الوجه؟
سيدتي! هبيني خادماً أحسنت إليها.
ـ فلتكوني خادماً طردتها إن بلغت أن تكوني خادماً لمثلنا.
ـ يا ويلتا! إلا رحمة في قلبك فتجودي علي بما لا بأس عليك منه؟
ـ ولماذا أفضلك على سائر الفقراء؟ ينبغي أن أجود عليهم جميعاً إذا أنا وجدت عليك ولو فعلت لطلبت بعد ذلك من يجود علي.
سيدتي! ألا فاجعليني من نصيبك في الإحسان وغيري من الفقراء له غيرك من الأغنياء على الموسع قدره وعلى المقتر قدره.
ـ إذاً فكوني أنت من نصيب غيري ودعي غيرك لي سيدتي! ليس فقري عن خطأ مني وليس غناك عن صواب منك وما الرزق يا سيدتي من فضل الحيلة.
ـ وهل أنا أريد أن أعاقبك فتنتفي من الخطأ.
ـ رجماك واتقي الله في الإنسانية فلعل في قصرك الباذخ كلبة جعلتها أحسن حالاً مني.
ـ حينما تصيرين مثلها فتعالي إلينا ويومئذٍ تعرفين كيف تطرد الكلاب.
قال الشيخ علي: فكبر ذلك على الفتاة وانتبهت في نفسها فضيلة الفقر فرأت أنها تنظر من ضمير تلك السيدة في مرآة مقلوبة من مرائي الإنسانية مهما جهدت أن تستقيم لها لم تزدها إلا مسخاً. هنالك غلبتها عيناها وانطلقت وراء دموعها ولم تجد لها عزماً.
أما السيدة الكريمة - كما يقال فابتلعت ما بقي في فمها من تلك الفلسفة وافتر ثغرها قليلاً عن ابتسامة السخرية وسرها أن يكون في لسانها كل هذا النطق. . . ثم أنغضت رأسها بكبرياء وقالت: مسكينة مسكينة ومرت بعد ذلك لا تلوي.
وسمع الله قولها إذ تجادل الفتاة وقد ربت في ثيابها من الغيظ وتنفشت كالإسفنج فأطلق عليها دموع البائسة وإن هذه لتأنس راحة في البكاء لم تعهدها من قبل فانزوت جانب الطريق وجعلت تبكي ثم تبكي ثم تبكي حتى لو جمعت دموعها لغمرتها وقد جمعها الله وأرصدها من أقداره لتلك الإسفنجة وقضى ربك ألا تعصر بعد اليوم إلا دموعاً.
كانت السيدة فتاة كطلعة البدر في الرابعة عشرة لا تصفها إلا مرآتها وهي الدنيا مجموعة(33/6)
في قصرها. وكأنها في النعمة مستقبل نفسها وماضي أمها، وكانت هذه السيدة عقيماً ولكن شذت معها الطبيعة لأمر أراده الله فولدت لها فتاة وكأنما انشق لها القمر. ولم تذكرها في نفسها إذ كانت تحاور تلك المسكينة بل ذكرت خادمتها وأنفت لهذه الذكرى. ومن شؤم الغنى على أله أن لا يذكرهم في الشر إلا بأنفسهم ولا ينسيهم في الخير إلا أنفسهم فلا يعلمون أن الفقر أواع كثيرة وأن الغني نفسه نوع من الفقر إلى الله. وبذلك ينظرون إلى المساكين تلك النظرة التي لا تخلو من بعض معاني القضاء والقدر كأن الألوهية درجات جعلهم الغني في واحدة منها. فما ظنكم أيها الأغنياء برب العالمين؟
وانكفأت السيدة إلى قصرها فإذا فتاتها تنتفض من وعكة الحمى وهي في سريرها كقلب أمها في اضطرابه والتهابه وما تعلم من أين اتصلت بها الحمى ولكن الله يعلم ولئن كان البعوض مما يعد في أسباب هذا المرض فلقد كان كلامها للفتاة ينفر منها كما ينفر البعوض من مستنقع. فخرجت المرأة عن رشدها وضاقت عليها الأرض بما رحبت ولقد تكون المصيبة جنوناً وإن لم يكن من أسمائها الجنون. على أنها لم تر ملجأً من الله إلا إليه فابتدرت تدعوه وضرب الذهول بينها وبين اللعنة فلا تردد غير هذه الكلمات: يا رب. يا رب. ابنتي. ماذا جنت. مسكينة مسكينة.
وجاء الطبيب كأنما أطلق في قنبلة مدفع ضخم. . . . . فأسرعت إليه وهي تقول: ابنتي ابنتي أيها الطبيب مسكينة مسكينة. ثم مرت الأيام وابنتها مريضة وهي مريضة ببنتها فكانت كلما نظرت إليها ملتهبة ذاوية لم يجر الله على لسانها غير هذه الكلمات: أه يا ابنتي مسكينة مسكينة.
قال السيخ علي: وضرب الدهر من ضرباته خرجت الفتاة البائسة ذات يوم وكانت قد أصابت عملاً فتردم جانب من حالها وبينما هي تمشي مطمئنة رفع لها شبح أسود في عرض الطريق فجعلت تدانيه حتى حاذته فإذا هي بسيدة الأمس وقد حال لونها، واستحال كونها، وعادت من الهم كأنها ظل منتصب في سواد، وظهرت من الخزن كأنها تمثال منصوب للحداد، وهي تلوح من الذلة والإنكسار، كأنما مات بعضها، وبقي بعضها، وكأنما كانت حياتها من الأزهار، فذهب ربيعها وروضها، وبقي جذرها وأرضها.
فما تبينتها الفتاة ورأت ما نزل بها حتى نفرت دموعها حزناً ثم رفعت عينيها إلى السماء(33/7)
وقالت:
يا رباه مسكينة مسكينة. . . .
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع من تشاء
ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك
على كل شيءٍ قدير.(33/8)
مركز المرأة الإجتماعي
5
المرأة في أغلب العائلات المتوسطة أسيرة زوجها وخادمه المطيع. تهب واقفة كلما أقبل أو أدبر. ولا تجلس ما دام واقفاً على مقربة منها ولا تخاطبه إلا بخشوع واستكانة وإن نادته فلا تناديه باسمه ولكن تناديه بلفظ السيادة، وكذا هو لا يناديها باسمها ولكن يدعوها بألفاظ لا تدل على الإحترام بل على العكس تدل على الإمتهان وإن كانت دلالتها غير صريحة.
حدثني صديقي بأنه بقي إلى سن العشرة يجهل اسم والدته وذلك لأن الناس ينسبونها إليه ويدعونها بأم فلان ولم يسمع أباه يناديها باسمها وإنما (ياهوه) أو (ياللي هنا).
لا يستشير الرجل زوجته ولا يشركها في الرأي ومن العيب الفاضح أن يقال عنه أنه (مشورة مرة) وإن شاورها فإنه يعمل بضد ما تقول (شاوروهن وخالفوهن).
ولا يخجل الرجل من أن يمد يده إلى المرأة بالضرب ولا يتأفف الجمهور كثيراً من أن يرى رجلاً يضرب امرأة. ولكنه تثور ثائرته حينما يجد امرأة تهين رجلاً أو تضربه.
غير أن عادة ضرب الرجال النساء فاشية على الخصوص بين الطبقات السفلى. وهذه العادة الذميمة لحسن الحظ آخذة في الإنقراض.
أجل. إن الفلاحة مطلقة السراح تخرج حينما تريد سافرة الوجه إلى المزارع والحقول وزيارة جاراتها وتساعد زوجها وتشاركه في الرأي وتؤاكله وتجالسه ولها دراية تامة بمهام الأعمال الزراعية.
غير أنها ما زالت دون الرجل بمراحل في الإحترام، وحظها من الإحتقار الجنسي حظ أي امرأة أخرى.
ومن أكبر المساب وأبلغها في القحة أن يقال لإنسان لأنه امرأة.، اذكر يومأً أني كنت سائراً في شارع شبرا فسمعت حوذياً يحث حصانه على المشي ويبالغ في إذلاله بقوله له (شيه يا مره) إلى هذا الحد بلغ احتقار المرأة بيننا حتى صار اسمها مسبة للإنسان والحيوان.
ولكن مع هذا لا ننكر أن في الأمة المصرية عوامل اجتماعية واقتصادية تعمل ببطء. ولكن باستمرار على رفع شأن المرأة وإعلاء مركزها الإجتماعي وإنالتها الحرية والحقوق التي تصلح لها.(33/9)
ومن هذه العوامل جوار الأوربيين لنا في بلادنا واختلاطنا بهم واقتباسنا بعض عاداتهم وسفر بعض الأغنياء مع عائلاتهم إلى أوروبا مدة الصيف وإقبال الشبان على التعلم في الجامعات الأوروبية والمدارس المصرية وتفتح أذهانهم بنور العلم والمدينة بفضل انتشار الكتب والجرائد.
والتعليم الأنثوي من خير هذه العوامل فإنه يرفع من شأن المرأة ويعلي قدرها ويكسبها ثقة نفسها ويفتق ذهنها فتعرف حقوقها فتدافع عنها وتطمح إلى الإستزادة منها وترغم الرجل على احترامها. فأشد ما تكون الحركة الأنثوية وجهاد المرأة في اكتساب حقوق جديدة في البلاد التي بلغ فيها التعليم الأنثوي ذروة الكمال وكادت المرأة تماثل الرجل في قوة المدارك كإنجلترا وأميركا.
غير أن هذا التعليم مازال ضعيفاً بيننا قليل الإنتشار وذلك لحداثة عهده وتسلط الأوهام والخرافات على كثيرين ولكن على الرغم من هذا فإنه سائر إلى الأمام يتخطى هذه العقبات بقدم ثابتة. وأتى بفوائد لا بأس بها وإن كانت لا تزال بذوراً لم تنتج بعد. فمن آن لآخر تسمعنا المرأة صوتها طالبة إصلاح شأنها ومن قبل كانت صامتة لا تنبث بكلمة ولا تجرأ على التذمر. وبدأت تسترجع حريتها وتحمل الرجل على احترامها. ولحسن الحظ لم تجمح ولم تلجأ إلى الطعن وهذا ما يبشر بحسن المستقبل.
غير أن الجمهور لا يرى في النساء المتعلمات هذه الرزانة ويرميهم بالرعونة والخفة وهو معذور في ذلك لأنه لم يتعود بعد أن يرى المرأة عالية الرأس طامحة إلى الحرية وعهده بها الإستكانة والخضوع ولأن بعضهن وهن قليلات جداً أسأن فهم الحرية لحداثة عهدهن بها.
وقد أدى التطور الإقتصادي واستزادة الناس لأسباب الرفاهية إلى تحسين حال المرأة. إذ عدل كثير من رجال الطبقتين العليا والوسطى عن الإكثار من الزواج والطلاق ومن قبل كان الواحد منهم لا يكتفي بزوجة واحدة بل يتخذ عدة زوجات ولأتفه الأسباب يطلق زوجته ليتزوج بغيرها وذلك لأن حاجيات الحياة كانت قليلة جداً. بحيث كان رب العائلة لا يهتم بكثرة أولاده ونسائه أما الآن فحمل الحياة ثقيل لكثرة ما يحتاج إليه الإنسان وما تتطلبه الأطفال من الرعاية والتربية.
ولا ننس ما للإصلاح القضائي خصوصاً القضاء الشرعي من الفضل في وقاية المرأة من(33/10)
عبث الرجل. فمن قبل كان يعبث بها طلاقاً وزواجاً ولا ينفق عليها ويتركها هي وأطفالها عرضة للبؤس والشقاء ولا تجد من ينصفها. وقد تغيرت هذه الحال نوعاً ما. وأصبحت المرأة تلجأ إلى المحاكم الشرعية لتقرر لها نفقة ولا يهمل قرار المحكمة مثل الأول بل ينفذ على الزوج بالقوة وإذا امتنع يحبس.
ولابد أن هذه الشدة تحمل الرجل على التردد والتفكير من قبل أن يقدم على طلاق زوجته أو الزواج بإمرأة ثانية. وبعد فإن إصلاح المحاكم الشرعية قد أفضى إلى تقليل الطلاق وتعدد الزوجات.
الدكتور عبده البرقوقي المحامي(33/11)
فكاهات ونوادر ومختارات في الأدب والتاريخ
نبل أرواح العرب
كان معن بن زائدة الشيباني من سادات العرب وكان نادرة الفلك في الكرم والجود. وكان في أيام الدولة الأموية يتنقل في الولاية من الآية إلى الأية، وكان منقطعاً إلى يزيد بن عمر الفزاري أمير العراقيين أزمان الأمويين فلما دالت الدولة إلى العباسيين وجرى بين أبي جعفر المنصور وبين يزيد المذكور من محاصرته بمدينة واسط ما هو مدون في كتب التاريخ أبلى يومئذٍ معن مع يزيد بلاءً حسناً فلما قتل يزيد خاف معن من أبي جعفر المنصور فاستتر عنه مدة وجرى له مدة استتارة غرائب فمن ذلك هذه الحكاية التي تشف عن نبل أرواح العرب سواء في ذلك أميرهم وحقيرهم، حدث الشاعر مروان بي أبي حفصة - وكان مروان شاعر معن خصيصاً به - قال: أخبرني معن وهو يومئذٍ متولي بلاد اليمن أن المنصور جد في طلبي وجعل لمن يحملني إليه ممالاً فاضطررت لشدة الطلب إلى أن تعرضت للشمس حتى لوحت وجهي وخففت عارضي ولبست جبة صوف وركبت وخرجت متوجهاً إلى البادية لأقيم بها فلما خرجت من باب حرب - وهو أحد أبواب بغداد - تبعني أسود متقلد سيفاً حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه وقبض على يدي فقلت له وما بك فقال أنت طلبة أمير المؤمنين فقلت ومن أنا حتى أكون طلبة أمير المؤمنين فقال أنت معن بن زائدة فقلت له يا هذا اتق الله وأين أنا من معن فقال دع هذا فإني والله لأعرف بك منك فلما رأيت منه الجد قلت له هذا عقد جوهر بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي فخذه ولا تكن سبباً لسفك دمي قال هاته فأخرجته إليه فنظر فيه ساعة وقال صدقت في قيمته ولست قابله حتى أسألك عن شيءٍ فإن صدقتني أطلقتك فقلت قل قال إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرني هل وهبت مالك كله قط قلت لا قال فنصفه قلت لا قال فثلثه قلت لا حتى بلغ العشر فاستحيت وقلت أظن أني قد فعلت ذلك قال ما ذاك بعظيم أنا والله راجل جندي بياده ورزقي من أبي جعفر المنصور كل شهر عشرون درهماً وهذا الجوهر قيمته ألوف الدنانير وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس ولتعلم أن هذه الدنيا من هو أجود منك فلا تعجبك نفسك ولتحقر بعد هذا كل جود فعلته ولا تتوقف عن مكرمة ثم رمى العقد في حجري وترك خطام الجمل وولى(33/12)
منصرفاً فقلت يا هذا والله لقد فضحتني. ولسفك دمي علي أهون مما فعلت فخذ ما دفعته لك فإني غني عنه فضحك وقال أردت أن تكذبني في مقالي هذا. والله لا أخذته ولا آخذ لمعروف ثمناً أبداً ومضى لسبيله فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن يجيئني به ما شاء فما عرفت له خبراً وكأن الأرض ابتلعته.
كيف كانوا يكرمون العلماء ويكافئونهم
حدث النضر بن شميل العالم اللغوي المشهور قال - كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت ذات ليلةٍ وعلي ثوب مرقوع فقال يا نضر ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان قلت يا أمير المؤمنين أنا شيخ ضعيف وحسر مرو شديد فأتبرد بهذه الخلقان قال لا ولكنك قشف ثم امتد بنا نفس الحديث فأجرى هو ذكر النساء فقال حدثنا هيثم عن ابن عباس قال قال رسول الله إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز - فأورده بفتح السين - قال النضر فقلت صدق يا أمير المؤمنين هيثم حدثنا عوف ابن أبي جميلة عن الحسن عن علي قال - قال رسول الله: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز - قال. وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال يا نضر كيف قلت سداده قلت لأن ههنا لحن قال أو تلحنني؟ قلت إنما لحن هيثم وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه قال فما الفرق بينهما قلت السداد بالفتح القصد في الدين والسبيل وبالسر البلغة وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد. قال أو تعرف العرب ذلك قال نعم هذا العرجي يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فقال المأمون قبح الله من لا أدب له وأطرق ملياً ثم قال أنشدني أخلب بيت قالته العرب قلت حمزة بن بيض يقول في الحكم بن مروان:
تقول لي والعيون هاجعةٌ ... أقم علينا يوماً فلم أقم
أي الوجوه انتجعت قلت لها ... وأي وجه إلا إلى الحكم
متى يقل صاحباً سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات أدخل أو وفني سلمي
فقال أحسن ما شاء. أنشدني أنصف بيت قالته العرب.(33/13)
قلت ابن عروبة المدني حيث يقول
إني وإن كان ابن عمي واغراً ... لمزاحم من خلفه وورائه
وممده نصري وإن كان أمرأ ... متزحزحاً في أرضه وسمائه
وأكون وإلي سره وأصوله ... حتى يحين علي وقت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا دعي باسمي ليركب مركباً ... صعباً قعدت له على سبسائه
وإذا رأيت له رداءً ناضراً ... لم يلفني متمنياً لردائه
فقال أحسن ما شاء. أنشدني أقنع بيت للعرب قلت الحكم ابن عبدل الأسدي حيث يقول:
أطلب ما يطلب الكريم من الرز ... قلنفسي فأجمل الطلبا
وأحلب الثرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعةٍ رغبا
والنذل لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع الظهر لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا
ولم أجد عدة الخلائق إلا الد ... ين لما اعتبرت والحسبا
فقال المأمون أحسن ما شاء: ما مالك يا نضر، فقد أريض لي بمرو أنصأبها وأمزرها. قال - أفلا تفيدك مع ذلك مالاً - قلت إني إلى ذلك محتاج. قال - فأخذ القرطاس وكتب وأنا لا أدري ما يكتب ثم قال كيف تقول من التراب إذا أمرت أن تترب. قلت أتربه قال فهو ماذا قلت مترب قال فمن الطين قلت طنه قال فهو ماذا قلت مطين. قال هذه أحسن من الأولى ثم قال يا غلام أتربه وطنه ثم صلي بنا العشاء. ثم قال لخادمه تبلغ معه إلى الفضل بن سهل فأتيته فلما قرأ الكتاب قال يا نضر - إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب فأخبرته ولم أكذبه فقال لحنت أمير المؤمنين فقلت كلا إنما لحن هيثم وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه فأمر لي الفضل بثلاثين ألفاً - فأخذت ثمانين ألفاً بحرف استفيد مني.
شيء من نوادر أشعب
كان أشعب بن جبير التابعي المدني من أظرف الناس وأكثرهم نادرة وأبدعهم فكاهةً(33/14)
ومجوناً - وكان شرهاً لهماً دباغي المذهب طفيلياً جد بخيل. وكان لذلك كله حبيباً إلى النفوس كأنه مخلوق من كل نفس فكان مقرباً من الخلائف والأمراء وأهل بيت النبوة وأشراف العرب - وكانوا يتنافسون في طلابه والإختصاص بسمره ومجونه ونحن نختار هنا بعضاً من نوادره تفكهةً للقراء - حدث الرواة قالوا - قالت صديقة أشعب مرة لأشعب هب لي خاتمك أذكرك به قال أذكريني أني منعتك إياه فهو أحب إلي: وحدثوا أن أشعب صلى يوماً جانب مروان بن إبان بن عثمان - وكان مروان عظيم الخلق والعجيزة فأفلت منه عند نهوضه بعض ما يقبح. . . وانصرف أشعب من الصلاة فظن الناس أنه هو صاحب تلك الفعلة. . فلما انصرف مروان إلى منزله جاءه أشعب وقال له الدية فقال دية ماذا فقال دية. . . التي تحملتها عنك وإلا شهرتك والله فلم يدعه حتى أخذ منه شيئاً صالحاً. وحدث رجل من الأشراف قال - قلت لأشعب يوماً لو تغديت عندي العشية فقال أكره أن يجيئ ثقيل قلت ليس غيرك وغيري. قال فإذا صليت الظهر فأنا عندك فصلي وجاء فلما وضعت الجارية الطعام إذا بصديق لي يدق الباب فقال ترى قد صرت إلى ما يكره قلت إن عندي فيه عشر خصال قال فما هي - قلت أولها أنه لا يأكل ولا يشرب. قال التسع لك أدخله. . . . وسمع أشعب امرأة تقول اللهم لا تمتني حتى تغفر لي ذنوبي فقال لها يا فاسقة أنت لم تسألي الله المغفرة إنما تسألينه عمر الأبد يريد أن الله لا يغفر لها أبداً. . . وحدثوا: أن لولين بن يزيد بعث إلى أشعب يوماً بعد ما طلق امرأته سعدة فقال له يا أشعب لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلغ رسالتي سعدة فقال له أحضر المال حتى أنظر إليه فأحضر الوليد بدة فوضعها أشعب على عنقه ثم قال هات رسالتك يا أمير المؤمنين قال - قل لها يقول لك:
أسعدة هل إليك لنا سبيل ... وهل حتى ألقياته من تلاق
بلى ولعل دهراً أن يؤاتي ... بموت من حليلك أو طلاق
فأصبح شامتاً وتقر عيني ... ويجمع شملنا بعد افتراق
فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه فأمرت ففرش لها فرش وجلست فأذنت له فدخل فأنشدعا ما أمره فقالت لخدمها خذوا الفاسق فقال يا سيدتي إنها بعشرة آلاف درهم قالت والله لأقتلنك أو تبلغه كما بلغتني قال وما تهبين لي قالت بساطي الذي تحتي قال قومي عنه فقامت(33/15)
فطواه ثم قال هاتي رسالتك جعلت فداءك قالت قل له:
أتبكي علي لبني وأنت تركتها ... فقد ذهبت لبني فما أنت صانع
فأقبل أشعب فدخل على الوليد فأنشده البيت فقال أوه تلتني والله - اختر إما أن أدليك منكساً في بئر أو أرمي بك من فوق القصر منكساً أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربةً فقال ما كنت فاعلاً بي شيئاً من ذلك قال ولم قال لأنك لم تكن لتعذب رأساً فيه عينان قد نظرتا إلى سعدة فقال صدقت يا بن الزانية أخرج عني.(33/16)
أفكار بليدة
لمفكر بليد في أوقات بليدة
الإنقباض
إني أستطيع أن أتلذذ من الحزن. وأجد الإبتهاج في التعب والشقاء، ولكني لا أرى أحداً يحب أن تصيبه نوبة الإنقباض، ومع هذا تأبى هي إلا أ، تصيبهم وتدنو منهم، ولا يستطيع أحد منهم أن يعرف سبباً لها أو تفسيراً، فأنت قد تصيبك النوبة في اليوم التالي لليوم لذى رزقت فيه الثروة الكبرى والغنى العريض، كما قد تنتابك في اليوم الذي تفقد فيه مظلتك في القطار، وترى تأثيرها على مزاجك أشد من التأثير الذي تشعر به عندما تصاب بوجع الأضراس وعسر الهضم ورطوبة الرأس في آنٍ واحد، إذ تصير قلقاً أحمق متهيجاً خشناً مع الأضياف والغرباء. خطراً على الأصحاب والأًصدقاء مشاغباً مشاجراً ثقيلاً على نفسك، وثقيلاً على كل من حولك.
وأنت في هذه الحال لا تستطيع أن تفعل شيئاً ما وتفكر في شيءٍ وأن كنت مضطراً إلى أن تقوم بعملك. ثم أنت لا تستطيع أن تجلس هادئاً، لذلك تضع قبعتك فوق رأسك تهم بأن تتنزه ولكنك لا تكاد تشرف على رأس الشارع، حتى تود لو أنك لم تخرج وإذ ذاك ترجع أدراجك إلى البيت. فتفتح كتاباً تحاول أن تقرأ، ولكنك تجد شكسبير مبتذلاً سوقياً. وترى ديكنز بليداً ثرثاراً. وتكري ثقيلاً، وكارليل متصنعاً متكلفاً. فلا تلبث أن ترمي الكتاب بعيداً وتأخذ في شتيمة المؤلفين. ولمن الكتاب، ثم تطرد الفظه من الحجرة وتغلق الباب في أثرها وعند ذلك يخطر لك أن تجلس لكتابة خطاباتك ولكنك لا تكاد تنتهي من هذه اليباجة. . . عزيزي فلان. . . . من بعد مزيد من السلام والسؤال عن صحتكم التي هي غاية المراد من رب العباد. . .، حتى تمضي نصف ساعة ولم تزد عليها حرفاً واحداً، فتقذف بالخطاب في الدرج وتطرح الريشة الممتلئة بالمداد فوق غطاء المائدة، وتنهض بعزيمة جديدة وهي الذهاب لزيارة آل فلان. . . . ولكنك وأنت تدخل قفازتيك في يديك يخطر في ذهنك أن آل فلان هؤلاء مغفلون ثقلاء، وأن لا عشاء عندهم وأنك ستضطر إلى مناغاة طفلهم الصغير وملاعبته فتلعن آل فلان هؤلاء وتنوي المكث والبقاء.
وعند هذا الحد تحس أنك قد انهزمت، فتدفن وجهك في راحتيك. وتظن أنك تود لو مت(33/17)
واسترحت، ولهذا تبدأ تصور لنفسك سرير مرضك والأصحاب وهم حافلون من حولك والأقرباء وهم مجتمعون حول فراشك يبكون جميعاً وينتحبون، وأنت تباركهم أجمعين ولاسيما الأوانس والفتيات منهم وتروح تقول لنفسك أنهم سيقدرونك حتى قدرك إذا أنت ارتحلت، ويفهمون الخسارة العظمى التي خسروها، وتمكث تقارن بألم شديد بين احترامهم إياك ميتاً. وقلة اعتبارهم إياك الآن حياً وتجعلك هذه الخواطر هادئاً بعض الهدوء، ولكن لا يلبث هذا الهدوء أن يذهب، إذ لا يني يدور في رأسك بعد ذلك أنك لا بد أحمق معتوه إذ تتصور لحظة واحدة أن إنساناً سيحزن عليك أو سيتألم لمصابك، وتمضي على هذا تقول لنفسك من ترى يعني بي إذاً أنا: انفلقت: أو: شنقت: أو تزوجت: أو غرقت: لأنك لم تر من احترام الناس ما تستحق، ولم تجد من تقديرهم ما أنت به خليق، وتنطلق تراجع ماضيك وأيامك الأولى: فيبدو لك أنك أسئت من الناس منذ كنت في المهد.
ولا تكاد تمضي نصف ساعة عليك وأنت في هذه الخواطر المحزنة حتى تنهض خائفاً متوحشاً متسخطاً على كل إنسان، ومغضباً من كل شيء، ولاسيما من نفسك، ولو لم تكن الأسباب: التشريحية: تحول بينك وبين رفس نفسك إذن لفعلت، يجئ بعد ذلك أوان النوم فتثب إلى منامتك، فتخلع كل قطعة من ملابسك وتقذف بها في كل ناحية، ثم تطفئ الشمعة وتقفز إلى السرير، وهناك تتلوى وتنقلب ساعتين أو نحوهما، تضع الغطاء حيناً وحيناً ترفسه برجليك، وأخيراً يغلب عليك النعاس. فتحلم أحلاماً سيئة ولا تصحو الغداة إلا متأخراً.
هذا هو ما نعانيه نحن العزاب المساكين على الأقل في مثل هذه الظروف، أما المتزوجون فيهددون زوجاتهم، ويتسخطون على الأكل، ويصرون على ذهاب الأطفال إلى النوم!!(33/18)
باب تدبير الصحة
معلومات عامة وضرورية
طول الرجل يقرب كثيراً من طول ذراعيه إذا مدا مضافاً إليهما طول ما بينهما من الجسم أما طول المرأة فأقل من طول ذراعيها وما بينهما وذلك لقصر ساقيها نسبياً.
يبلغ طول الفخذ 28 ر من طول الجسم ويبلغ طول الرجل تسعة عشر مرة طول الإصبع الوسطى ويبلغ طول الذراع من طرف الإصبع الوسطى إلى طرفه عند تثنيه مع الساعد خمسة مرات طول الإصبع المذكور.
ويبلغ طول الطرفين السفليين (الفخذين والساقين) مجتمعين طول الرجل السليم.
التسنين
تظهر أسنان الطفل في المواعيد الآتية
القواطع السفلى الأمامية الشهر السادس
العليا السابع
الجانبية الثامن
السفلى الجانبية العاشر
الأضراس الأولى الرابع عشر
الناب الثامن عشر
الأضراس الثابتة الرابع والعشرين
أما الأسنان الدائمة فتظهر في المواعيد الآتية:
الأضراس الأولى السنة السادسة
القواطع الأمامية السابعة
الجانبية الثامنة
الناب الثانية عشر
الأضراس الثانية الرابعة عشرة
الأضراس الثالثة (ضرس العقل) من الثامنة عشرة إلى الخامسة
والعشرين(33/19)
الدكتور محمد عبد الحي(33/20)
تفاريق
هل خطر لك أيها القارئ وأنت تبتاع كتاباً جديداً أن تعرف كم أنفق المؤلف من الوقت في وضع كتابه قبل أن تبرزه المطبعة وتذيعه المكتبة بين الناس.
إن مما لا شك فيه أن كثيراً من الكتب التي نقبل عليها ونحتفل بها عند ظهورها ما كانت لتقابل منا بالإحترام لو عرفنا تاريخها الحقيقي. فإذا قيل لنا أن مؤلفاً صرف كذا من السنين يضع رواية أو كتاباً أو تاريخ رجل عظيم فإن الجانب الأكبر من محصولات المطبعة عمل يدوي سخيف ولا أثر فيه للذهن.
لما قضى الملك إدوارد السابع ملك الإنكليز وأذيع الخبر مشى أحد الوسطاء بين المؤلفين والناشرين إلى عدة التلفون وأخذ يتعاقد مع ناشر على وضع تاريخ للملك الراحل
قال الوسيط - ما قولك إذا قدمت لك هذا التاريخ بعد خمسة عشر يوماً.
قال الناشر - أقبله منك.
وأخذ ناشر آخر يتحادث مع مؤلف على أن يقدم له هذا التاريخ بعد أسبوع. وبعد ساعة كان المؤلف يبدأ تاريخه وفي نهاية الأسبوع كانت الأصول بين يدي الناشر. ولا يزال هذا التاريخ رائجاً في السوق.
ولما نشبت هذه الحرب كانت الكتب التي صدرت في الأسبوع الأول أكثر من القنابل التي أطلقت. قال أحد الكتاب قيل أن يستوثق الناس من أن الحرب أعلنت بين إنكلترا وألمانيا أخذ بيت كبير للطباعة يرسل الرسائل التلغرافية والتلفونية إلى المؤلفين والمترجمين فمن مؤلف طلب كتاباً عن الجيش الألماني على أن يقدمه بعد عشرة أيام وطلب من آخر أن يترجم من الألمانية كتاباً عن الأساليب الحربية الألمانية وآخر ليضع كتاباً عن الجيش الروسي. وآخر ليؤلف كتاباً عن الحياة السرية في بلاط الإمبراطور غليوم.
ولا تزال هذه الكتب رائجة ومعدودة عمدة يرجع إليها!!!
إن اكتشاف الحكومات للمؤامرات التي تدبر ضد وزرائها لا يقع صدفة بل هو نتيجة نظام متين ففي كل دار للبريد غرفة خاصة بالحكومة وفيها تفتض رسائل الذين تشتبه فيهم ثم تصدرها إليهم بدون أن تترك عليها أثراً ينم عن عملها وهذه الغرفة في ألمانيا والنمسا وتركيا سوط نقمة هائلة لكثيرين يغيبون في السجون أو يختفون من الوجود بدون أن يعرف مقرهم ويكون هذا العقاب نتيجة عثور الحكومة على رسالة في هذه الغرفة السرية.(33/21)
وهذه الغرفة في إيطاليا وروسيا نقمة الفوضويين والنيهليست وقد استخدمها نابليون الثالث قبل سقوطه لمطاردة خصومه فكان يقبض على المئات ويزجهم في السجون لأن حكومته اكتشفت أسرارهم من مراسلاتهم في الغرفة السرية.
وافتضاض رسائل المرتاب فيهم يتم بمهارة ودقة فائقة ويقبض عليهم بدون أن يحذروا أو يعلموا أنهم موضع الظن والريب.
وطريقة فض الرسالة التي من هذا القبيل بسيطة جداً وذلك أن يدخل طرف آلة معدنية دقيقة في زاوية الغلاف اليسرى من وجهه الآخر وتتمشى الآلة ببطء وحذر بين الطرفين المصمغين حتى يفتض الغلاف وتقرأ الرسالة وتعاد ويصمغ الغلاف مرة أخرى.
فإذا وجد القائمون بهذا العمل أن صمغ الغلاف كثير ولا سبيل إلى افتضاضه بدون ترك أثر عرضوا الغلاف لبخار متصاعد من آنية فيها ماء يغلي فيلين الصمغ ويسهل لصق الغلاف مرة أخرى. فإذا وقع ما أفسد هذه العملية يوكل إلى خبير يضع غلافاً مماثلاً نصوص الرسالة تماماً وتختم الرسالة وتسلم إلى المرسلة إليه.
يظن الكثيرون أن بنك إنكلترا تابع للحكومة الإنكليزية والواقع أنه بنك أهلي تديره شركة إنكليزية وقد عهد إليه سنة 1906 أن يتكفل بشؤون الدين الأهلي البريطاني وجعلت له عمولة على ذلك قدرها 325 جنيهاً عن كل مليون حتى 500 مليون جنيه و100 جنيه عن كل مليون فوق هذا المبلغ وعلى هذه القاعدة يدير شؤون قروض الحرب الحالية فتربح الشركة من مجموع القروض إذا قدرناها بمليارين وخمسمائة مليون جنيه 250 ألف جنيه.
لملوك أوروبا اليوم مكاتب صحفية خاصة بهم ففي كل مكتب موظفون يطالعون أكبر صحف العالم ويقطعون منها ما يعجب الملك الإطلاع عليه فملك الإنكليز يحب الإطلاع على الأخبار الخارجية وأخبار الدوائر العليا السياسية. وجلالته من أكثر الملوك إطلاعاً وإلماماً بأخبار العالم. فإذا سافر استصحب هؤلاء الصحفيين. وعنده مجموعات بالأخبار والمعلومات المتقطعة من الصحف للرجوع إليها عند الحاجة.
ونحن نعلم أن عظمة السلطان حسين يتبع هذه الطريقة ففي كل صباح يقرأ إبراهيم بك رمزي رئيس قلم الترجمة الصحف المصرية ويقتطع منها ما يهم عظمته الإطلاع عليه.
يجدر بالقارئ أن يلم بهذه المعلومات عن الولايات المتحدة.(33/22)
ـ تضم 49 ولاية مستقلة استقلالاً داخلياً.
ـ نيويورك يقطنها 5 ملايين وهي ثاني مدينة في العالم.
ـ يقدر سكان الولايات المتحدة بمئة مليون منهم 16 مليوناً من أصل ألماني.
ـ هي الدولة البحرية الثالثة في العالم وسفنها الحربية أربع مدرعات كبيرة من الطبقة الأولى وعشر نسافات مسلحة و25 نسافة من الطبقة الأولى والثانية والثالثة.
ـ الجيش الأميركي العامل لا يزيد عن ربع مليون ولكن الحكومة تستطيع أن تستخدم احتياط وافر العدد.
ـ لما شبت الحرب بين الولايات المتحدة وإسبانيا طلب رئيس الجمهورية المستر مانكلي 300 ألف متطوع فلبى طلبه مليون رجل.
ـ الرئيس ويلسون يعد قائد الجيش العام وهو الذي يعين القواد والضباط.
ـ في حالة الحرب تتألف رئاسة الجيش بعد الرئيس ويلسون من وزير الحربية ومساعد له ورئيس أركان الحرب.
ـ لا يجوز للرئيس ويلسون أن يعلن الحرب وإن كان هو صاحب الكلمة العليا في شؤون البلاد الخارجية وله أن يعقد المعاهدات مع الدول الأجنبية. ولا بد لإعلان الحرب من موافقة الكونجرس وهو المجلس النيابي الأميركي.
ـ يعد الضباط الأميركيون في مقدمة ضباط العالم كله من جهة عظمة المرتب فالميجر جنرال ينقض 1700 جنيه في السنة والكولونيل 800 جنيه والضابط 500 جنيه وفي صفوف الضباط يدفع للأنباشي 6 جنيهات وللجندي جنيه أسبوعياً.
ـ جلبت إنكلترا من الولايات المتحدة منذ أن نشبت الحرب ذخائر حربية بمبلغ 100 مليون جنيه.
ـ يقدر عدد الذين يشتغلون في صنع الذخائر في الولايات المتحدة بخمسة ملايين عامل وعاملة.
ـ يؤخذ من الإحصاء الأخير أن ثروة أمريكا تبلغ 30. 459 مليون جنيه.
يشتغل من سكان الولايات المتحدة في الزراعة عشرة ملايين ونصف مليون وأكثر من سبعة ملايين في الأعمال الصناعية.(33/23)
تمد الولايات المتحدة العالم بثلث مقطوعيته من القطن وبلغت قيمة ما جلبته إنكلترا من أمريكا في سنة 1915 - ما قيمته 45 مليون جنيه ويزيد.
صحيفة المتسولين
ولم لا يكون للمتسولين صحيفة يومية خاصة بهم. إذا جئت باريس أيها القارئ وحمل إليك البريد رسائل كثيرة كلها مطالب قوم محتاجين فاعلم أن اسمك الكريم قد دون في صحيفة المتسولين. فإن متسولي باريس ككل هيئة منظمة في العالم يصدرون جريدة يومية خاصة بهم وحدهم يوزعونها على كل متسول في المدينة.
هذه الجريدة مقصورة على نشر أخبار الوفيات والمواليد والأفراح والولائم والزيارات الكبيرة والحفلات الخاصة ولا يطبع منها إلا عدد محدود فيستطيع المتسول أن يقصد المصادر التي يستجدي منها بدون أن ينفق الوقت عبثاً. ولا تكون هذه المصادر إلا عرماً أو مأتماً أو مسكن رجل غريب عرف بالإحسان وإسداء الخير.
الملوك يشغلون أموالهم
ويفتح أحدهم محلات للحلاقة
يظن أكثر الشرقيين أن الملوك لا عمل لهم في هذه الحياة إلا التربع في أريكة الملك والتحكم في رقاب العباد وأكل أطيب الأطعمة والتمتع بكل ما لذ وطاب ولكن الغربيين يعلمون الكثير عن ملوكهم ولا تفوتهم حركاتهم، وكما خلق الغربي ميالاً بطبعه إلى العمل وكسب المال كذلك لا يأنف أن يعمل ويتاجر ويضارب ويرابي ويفتح الأرض وغير ذلك من الوجوه التي تواتيه بالأرباح والمكاسب.
فملك إسبانيا صاحب مصنع للدراجات والسيارات وإمبراطور ألمانيا يملك قهوة في بوتسدام قريبة من قصره الملكي وجلالته يخصه حظ وافر من أرباح معمل الجعة في هانوفر وهو الصاحب الوحيد لدار صنعة الصيني الموجودة في كادنين وربحه منها 9 في المائة لرأس مال قدره 100000 جنيه وبطرس ملك الصرب صاحب صالون للحلاقة وإجزاخانة في بلغراد وكان جلالته قبل الحرب عميلاً لمصنع فرنسي شهير يصنع السيارات وملكة هولندا تحصل من معمل اللبن على كميات عظيمة تبيعها لبائعي أمستردام وملك ورتنبرج يستثمر فنادقه في (بيتس فورست) بما يجاوز 10000 جنيه في السنة الواحدة.(33/24)
أما ملكة رومانيا الحسناء فإنها شرعت منذ سنين قليلة في فتح معمل لصنع الخلال وقد راجت هذه الصناعة قبل الحرب حتى كان ربح الملكة عظيماً مستغرباً وقيصر روسيا تاجر أخشاب شهير ودون ساكس جزار وهو كأغلب بني جنسه يعمل ويستثمر.
أما الأرشيدوق فريدريك ملك النمسا فإنه أوقف للفائدة المالية مبلغ 5000. 00 جنيه فتح بها داراً لعمل الشمع وملك الدنمرك تقتصر أعماله على المضاربات وملك أسوج يأخذ في مائدة عظيمة من معمل الجعة في استوكهلم وقد أغنت صناعة تقطير المشروبات الروحية امبراطور النمسا السابق فوضع مقداراً عظيماً من المال أدار هذه الصناعة وكان يربح منها قبل موته ربحاً طائلاً في هذه الأيام العصيبة.
وألبرت ملك البلجيك كان يربح ربحاً مضطرباً لا يزيد عن ثلاثة جنيهات في الأسبوع من مكاتبته لجريدة أمريكية أما ملك بلغاريا فهو أمهر وأقدر الملوك الذين يعملون ويربحون فهو صاحب ملاعب ودور صور متحركة ومعامل الدخان ومعمل للبن وقد ربح ربحاً عظيماً في الأيام الأخيرة من مضارباته في بورصة النمسا ـ(33/25)
العدد 34 - بتاريخ: 20 - 3 - 1917(/)
كتاب القرن العشرين
أو
كتاب مصر والمصريين
كتاب تربية الإرادة
كان يشكو ضعف الإرادة، وكما ألب على أن هذا المرض الذائع الخبيث هو علة العلل والكل في الكل وإليه يحور كل خلق مرذول فينا، وقضيتنا تصدي العلماء للبحث في هذا الموضوع، ونقبوا وأمعنوا في البحث ووضعوا المقالات والرسائل والأسفار فما قاربوا وقد جهدوا، ثم جاء المتأخرون وزادوا عليهم وأبروا مستظهرين يعلم النفس، وغيره من العلوم التي لم يكد يعرفها المتقدمون وحلموا حول الحمى، وأوشكوا أن يصيبوا الغرض وما زالوا حتى قام أخيراً العالم البسيكولوجي جول بابو رئيس كلية شامبيري بفرنسا ووضع كتاباً سماه تربية الإرادة وما كاد هذا الكتاب يفلت من المطبعة حتى طار في الآفاق كل مطار ونقل إلى أكثر اللغات الأوروبية كالألمانية والروسية والبولونية والسويدية والإسبانيولية وكثير من اللغات الأخرى وقابلته صحف الغرب بما يستأهله من الإحتفاء والترحاب وكتبت عليه الفصول الصافية وأثنت على واضعه الثناء اللائق بمثله وتهافت عليه القراء تهافتاً شديداً حتى أعيد طبعه في غضون ثلاثة عشر عاماً سبعاً وعشرين مرة وقد أبت الأقدار لا أن لا تحوم لغتنا العربية من هذا الكتاب القيم الذي نحن أحوج الناس إليه ونحن أولى به وهو أولى بنا فقد فطن إلى هذا الكتاب وضرورة نقله إلى العربية أربعة من أفاضل المصريين أحدهم وقف عن تمام العربية بعد أن علم شروع الآخرين والثاني لخصه تلخيصاً أما الثالث والرابع فقد عالجا ترجمته كله وقد أهدياه إلينا قصد أن نقوم بنشره بين قراء العربية بيد أن أحدهما لم يتمه والثاني أهداه إلينا مترجماً كله.
تصفحنا هذا الكتاب وأخذنا في قراءته فلم نكد نقرأ منه بضع صفحات حتى اضطرينا إلى قراءته كله فقلنا هذا هو الكتاب هذا هو كتاب القرن العشرين هذا خير ما يهدى إلى المصريين ولاسيما شباب اليوم ورجال المستقبل ولاسيما (طلبة المدارس العالية وسائر المشتغلين بأشغال عقلية) كما قال الأستاذ بايوه نفسه. والكتاب إذا نظر فيه الناظر منا خيل إليه أن واضعه إنما وضعه لشبابنا اللذين نال منهم ضعف الإرادة وملك عليهم أمرهم(34/1)
وسبب لهم هذه الفوضى الأخلاقية المخيفة التي حار أمامها الكتاب والمصلحون حتى لم يجدوا ملجأ إلا هذا السكوت الأخوف. وقد كفانا مؤونة الإفاضة في هذا المعنى مؤلف الكتاب وتلك الشروح المستفيضة التي أتى عليها في مقدماته وفي القسم النظري من مؤلفه فقد شطر المؤلف كتابه هذا إلى شطرين فشطر نظري تمهيدي وآخر عملي تحقيقي هو بيت القصيد في الكتاب - وأن كان كل ما فيه بيت قصيد - ووضع للجميع ثلاث مقدمات كما سترى، هذا وقد نهج مترجم الكتاب بلغته منهجاً سهلاً عادياً يتفق وموضوع الكتاب ومباحثه العلمية فلم يحفل بالتنوق في العبارة ولا باختيار الألفاظ التي هي أليق ما تكون بموضوع أدبي. ومن هنا مضافاً ذلك إلى سهولة طريقة المؤلف في أبحاثه كان الكتاب قريب التناول جداً بحيث لا يدق عن فهم الجمهور، وقد رأينا خير وسيلة إلى تقديم هذا الكتاب للناطقين بالضاد أن ننشره تباعاً في مجلة البيان مستقلاً بنفسه على أن ننشر منه في كل عدد ست عشرة صفحة وقبل أن نختم هذه الكلمة نقول أن مترجم الكتاب هو من أفضلنا المضطلعين باللغة الفرنسية الدقيقين في الترجمة وقد طلب إلينا أن لا نذكر اسمه الآن. وقد نشرنا مع هذا العدد ملزمتين من الكتاب مبتدئين بمقدمات المؤلف مرجئين كلمة المعرب وكلمتنا نحن وفهرس الموضوعات إلى ما بعد تمام الكتاب - سدد الله خطانا إلى الخير أجمعين.(34/2)
مركز المرأة الإجتماعي
ـ 6 ـ
النتيجة
مما تقدم يتضح جلياً أن المرأة في جميع أنحاء العالم أحط قدراً وأقل حقوقاً من الرجل غير أنها في الأمم المتمدنة أحسن حالاً وأكثر حرية منها في القبائل المتوحشة. وفي مصر لا تزال العادات القومية آخذة بعنق المرأة مانعة إياها من الرقي والوصول إلى الدرجة التي تليق بوظيفتها الإجتماعية ولا يكفي لتحريرها خروجها سافرة الوجه فإن أمامها عقبات كثيرة خلاف الحجاب. وليس بكافٍ لتذليل هذه العقبات جيل أو اثنان بل لا بد لذلك من أجيال عديدة. فإن المرأة لا تعاني فقط ظلم الرجل واستبداده بها بل تعاني أيضاً جهلها واحتقارها لنفسها واستخفافها بحقوقها.
لا يكفي السجين الذي أقام جل حياته في السجن والأغلال أن تفك قيوده ويخلى سبيله بل يجب مع هذا مساعدته بالتعليم والتهذيب ورفع شأنه في نظره ومحو الأثر الذي علق بنفسه من جراء السجن والإذلال.
فالواجب علينا إزاء المرأة أن نعيد إليها كبرياءها ونبدد غياهب جهلها وننتشلها من الأوهام والخرافات الآخذة بتلابيبها وسواء علينا أخرجت المرأة بعد ذلك سافرة الوجه أو مؤتزرة بالسواد إذا كان هذا بمحض إرادتها وكانت مصونة الجانب رفيعة القدر.
إنا لا نحارب الحجاب لذاته فإنه لا يعنينا كثيراً وإنما نحاربه لأنه عنوان ذل المرأة والعلم الذي يستظل به الرجال وتجتمع حوله اللافتيات على حرية النساء.
لا يقتتل الجنود من أجل علمها لذاته فإنه خرقة يمكن الإستعاضة عنها بأخرى كلما بلى أو فقد. وإنما يذبون عنه لأنه عنوان الأمة ومثال قوتها وعظمتها ففي الدفاع عنه دفاع عن بيضة الأمة وصون لمجدها ومحافظة على حقوقها.
كذلك شأن خصومنا مع الحجاب فإنهم يدافعون عنه لأنه علم على قوتهم ومثال تسلطهم على المرأة وسيادتهم عليها. فإن فقدوه تلاشت قوتهم وذهب بأسهم مع طول الزمن. وما دام باقياً فهم مطمئنون على مجدهم الذي قد دبت في عظامه عوامل الفناء من زمن غير بعيد ولكنها لا محالة ستقضي عليه ولا يبقى لهم منه إلا إطار فارغ لا يحوي شيئاً.(34/3)
لا تبتكر النظريات الإجتماعية ولا تخترع ولا تخلق من عدم وإنما تتنبت عن جذور لها في الأمة. هذه الجذور هي الحوادث التي تمر على الهيئة الإجتماعية والتقلبات التي تصيبها في طريقها. ولا تقف الأمة إزاء هذه الحوادث والتقلبات جامدة ساكنة بل لابد أن تغير من نظامها وتعدل من سيرها بحيث تصبح على وفاق مع هذه الحوادث. وهذا ما يسمون بالتطور الاجتماعي. فمعنى التطور الاجتماعي ترك نظام قديم غير ملائم لما أصبحت عليه الأمة بسبب ما أصابها من الطوارئ والسير نحو نظام جديد يلائم الحالة الجديدة التي صارت بها الأمة.
والعالم البصير الذي يرقب هذه الحوادث ويحلل أجزائها ويعرف كنهها يمكنه أن يقف على مجرى طريقها فيرسمه سلفاً ويحث أمته على إتباعه كالرياضي حينما يقع نظره على قوس يعرف مركز القوس بعد الاختبار والامتحان ثم يطيل القوس ويمد حتى بصير دائرة. وما يستخلصه العالم الاجتماعي من الحوادث وما يرسمه قياساً على ما مر فيها هي نظريته الاجتماعية التي إن جاءت الحوادث مصدقة لها كانت صحيحة والتف حولها الأتباع وتوافر المدافعون وإن كذبتها الأيام تخاذل عنها أعوانها وتلاشي أمرها.
ونظرية السفور هي بنت الزمان ووليدة الحوادث أظهرها قاسم أمين بقوة فكره وبعد نظره. ومن ثم أخذت تنمو وتشتد ويتهافت عليها المتعلمون من كل حدب ويفر أمامها أعداؤها لائذين بالعادات القديمة مستصرخين إياها مستنجدين بها طالبين المعونة من كل شارد ووارد ولم يجدهم الاستصراخ شيئاً فإن الطبيعة قاسية القلب تجهز على الضعيف ولا تبقى لا على القوي الصالح. والسفور خير نظام يكفل للأمة الهناء والسعادة في حيانها المنزلية. وستنتهي إليه الأمة ولو كره أصار الحجاب.
ومن العبث أن يعارضوا حركته أو يناهضوها أو يعرقلوا من سيرها فإنهم لن يفوزوا بغرضهم ولن يرجعوا بطائل إذ من المحال أن يسبق الإنسان الحوادث ويقف في وجهها ومن الهذيان أن يعترض عليها فإنها لا تصغي لأحد.
وإذا كان مآل المرأة المصرية إلى الحرية والسفور كما هو واضح من استقراء أحوال الأمم التي سبقتنا في الحضارة ومن مجرى الحوادث بيننا فما الداعي إلى الكتابة في هذا الموضوع وسيتم التاريخ دورته من غير احتجاج إلى معونة إنسان.(34/4)
أجل سيتم التاريخ دورته من غير معونة ولكن لو وقف الإنسان على سير التاريخ وأدرك حقيقة الحوادث ونبه الأفكار إليها لتكون في علم واستعداد لملاقاتها فقد دفع عن أمته ألم البغتة والمفاجأة وقصر عليها زمن الانتظار ولطف ما تعانيه من المتاعب والآلام أبان التطور والانتقال، ومن عارض التاريخ فحاول الوقوف في وجه الحوادث استفز غضبها وأزكى أجيجها وضاعف من أتعابه وآلامه. وهذه حال أنصار الحجاب فكل ما فعلوه أن استشاطوا غضباً وألماً غيظاً وحرقوا علينا الأرّم.
الدكتور عبده البرقوقي(34/5)
صور هزلية
من أخلاق الناس
أنا
هل سمعتم أيها القراء بنبأ رجل نصفه من الفخار الذي صنعه الله منه، ونصفه الآخر عفريت من شر ما جاء في دفاتر مواليد العفاريت، عفريت ملتهب الرأس تتطاير منه نار ساطعة تتطاول إلى السماء، وإن كان نصفه الأسفل، هذا النصف الذي تجتمع فيه فضيلة الأنبياء برذيلة المجرمين، يجر نفسه على الأرض، ويمشي بين الناس، بيناً نصفه الأعلى، هذا النصف الناري الملتهب، يطل من عالم الجان والملائكة، على عالم الطين والوحل.
وهذا التركيب الذي ركب به هذا المخلوق العجيب هو الماركة المسجلة التي طبعها الله فوقه ليدل مخلوقاته على أنه قادر على أن يجعل من الكائنات مزيجاً واحداً، ويخلق من جميع العقاقير والعناصر والسموم - التي يركب منها في معمله أجزاء كونه - مادة مفردة، وإن مثل هذا المخلوق هو ضرب من السلطة التي صنعتها القدرة الإلهية للناس لتكون وسيلة لأجل فتح نفسهم قبل أن يأكلوا الحياة أكلاً، وهو من مقويات الشهية، لأن كثيرين من الناس خلقوا في هذه الحياة ليكونوا لها فاكهة ونقلاً، ولعل الأولين خير للناس من الآخرين، لأن الذي يبدأ بأكل الفلفل والحريف يستطيع أن يلتهم طعامه ويئنيه بالفاكهة، ولكنه إذا بدأ بالفاكهة لم يستطع أن يستمرئ طعامه، أو ينال منه المقدار الكبير، لأن الفاكهة في نفسها مغذية، وكل فصيلة التوابل في مرارتها، وكل ما اشتدت لذعتها في الفم، وحرارتها في المعدة. اشتد هجوم الآكل على الطعام، وفتك بجميع ما في خوانه من المخلوقات التي لا يزال كل فخره وزهوه في أنه فضلها بقوة النطق، ومن الأعواد الخضراء التي وثبت من المصدر الذي وثب هو منه - وهو التراب!
أيها القراء إنكم لم تسمعوا ولا ريب بخبر هذا المخلوق الخرافي، ولم تقعوا على فتوغرافيتهفي معروضات الصور، ولم تروه في صندوق الدنيا الذي يطوف في الأزقة لفرجة الصبية والأولاد، وتودون ولا ريب أن تسمعوا طرفاً من أخلاقه، وتقرأوا نزراً من مزاياه وخصائصه، وتفهموا شيئاً عن هذه المناقضة الغريبة التي جاءت لتعارض قوالبكم الجميلة التي خرجت من يد الطبيعة في كل هدوء ولين - إذن فليكن ما تريدون أيها القراء(34/6)
إن هذا العفريت الإنساني هو أنا - أنا الذي أعيش الآن معكم وأكلمكم، وأخرج بعض الأحيان في الظلام لتخويفكم، وأختفي حيناً عن أنظاركم، حتى لا تروا سر التركيب الذي ركبت، والهيئة التي فيها صورت، وكثيرون منكم رأوني وشهدوا دلائل كثيرة من عفريتيتي. وبينات واضحة من إنسانيتي، ولكنهم يصرون مع ذلك على إنكاري، ويمرون مغمضي الجفون بقوتي، ويقولون إنني تزوير على الطبيعة، وأكذوبة على الحياة، وإنني رسم فقط لا حقيقة، وتسويدة لصورة بني آدم، وإنني مصور بمقياس 1 من الطبيعة
1000
البشرية الصحيحة، إلى آخر ما يقولون من الأقاويل التي يسمع أمثالها العفاريت في الليل من أفواه العجائز عند ما يجلسن حول الموقدة مع الأصبية الصغار يلقين إليهم حواديت الغول وأبو رجل مسلوخة. . . فلا يسع العفاريت إلا أن تضحك، لأنها تعرف نفسها أكثر من العجائز.
وأنا أيها الناس أحدثكم الآن عن نفسي فأقول إنني خلقت بكل سرعة، ولم يكن هناك وقت كاف لتنظيف قالبي منعكارة الطين الذي صنعت منه، فخرجت يفوح مني - كما يقول ابن الرومي - الحمأ اللازب. وربما تراني يوماً أهب عليك بشذى الملائكة، وأنت واجدني تارةً أسموا إلى مقام سكان الدور الأعلى من الجنة، وطوراً أنحط فأكون من أسفل أضياف جهنم.
ولعل هذا التناقض هو السبب الذي جعلني عن الناس غامضاً، وتركني في الحياة أدق سراً منها.
أنا أيها الناس سيد الكفار، ومع ذلك أنا رأس المؤمنين، وأنا لم أدخل في حياتي مسجداً، ولم أهبط يوماً مصلى أو معبداً، ولكن لي صلاة وحدي، وعبادة بمفردي، وهذه الصلاة هي خلاصة الصلوات الخمس، واختصار جميع كتب الأديان. وهي ضرب من الصلاة الإختزالية التي يراعى فيها الحرص على الوقت، والسرعة في التناول. وقد ترونني يوماً متسخطاً متمرداً على الشرائع متطاولاً على سكان السموات، غير راضٍ بحظي في الدنيا. ولا مبال بالأوصاف المخيفة التي ذكرتها الأديان عن نار جهنم ووقوها، فتظنون ذلك مني كفراً، وتحسبونه مروقاً وزيغاً، ولكن ما يدريكم لعلها كما يقول الشاعر موسيه نوع آخر من أنواع العبادات، وصيغة أخرى من صيغ الصلوات، لأن تسخط المؤمن في بعض الأحيان(34/7)
قد يكون عند الله نوعاً من غضب العاشق، وانحرافاً من انحرافات المتيم العابد، وعارضاً من حسن النية وبلاهة القلب، واذكر أنني يوماً تسخطت وتمردت، فشاءت الأقدار إلا أن أقع في المرض غداة الغد، وأخذت الحمى مني مأخذها، ورأيت طائف الموت يدنو من فراشي، فهجمت عيني الدموع، وتحدرت مني العبرات، وصحت بجميع قوتي. . . يا رب. أنا صغير. أنا أحبك كل الحب. وإنني كنت من أقبل أمزح فقط. أنا ا، بك ولكني لا أريد أن أترك دنياك الآن. أي ربي. اصفح عن عبدك الذي شاءت نزعة المجون التي خلقتها معه. إلا أن يستعملها معك أيضاً، ولعل ملائكة السموات ضحكت إذ ذاك من هذه الهزيمة السريعة التي انهزمتها، وصفح الله عن مجوني، لأنني شفيت في اليوم التالي من المرض!
وأنا أيها القراء أحياكم جميعاً، ومع ذلك أنا أشدكم قحة وجرأة، ولعل فيكم من رآني وأنا في نوبات حيائي، فعدني المثل الأعلى للحياء النسائي وود لو كان نصف هذا الحياء في زوجته أو عشيقته، ثم لم يلبث أن شهدني بعد ساعة أسلط لساناً من نسوة الزرائب، وأحد لفظاً من الحطيئة، ولكن حيائي لا يزال حياء حراً لا صنعة فيه، وقحة نقية لا تعمل فيها، وليست جرءتي وقحتي إلا لغة العفريت الذي يكمن في عواطفي، وأسلوب الشيطان الذي يمرح في ذهني، وأما حيائي فهو صفة من صفات الجزء النقي من وجداني، وهما أبداً في حرب، ودائماً في تنازع، وكثيراً ما يغلب الشيطان، لأنه يحمل علم الشر، والشر أقوى جنوداً، وأشد ساعداً، وأمتن عضلاً من الخير، لأن الخير رجل متسامح، مستضعف، يتمسك أبداً بالمبدأ القائل إذا لطمت على خدك اليمين فأدر خدك اليسار، وقد انتهز الشر هذه الفرصة فألهب خد الخير ضرباً ولطماً!
وكثيراً ما يتفق حيائي مع جزائي، فيضع كلٌ يده في يد صاحبه، ويعقدان الهدنة، ويرضيان بالسلام، وهما لا يظهران متصاحبين مختلطين إلا في رسائلي وخطاباتي، وأنا أرجو الله أن لا يصاب أحد القراء بأن يكون لي حق أو حاجة لديه. لأنه إذا نكب بهذه النكبة، رأى من مذكراتي ورسائلي ما يرى على المجلدات الضخمة، والدفاتر العريضة.
وأنا أشد الناس افتتاناً بالنساء، ومع ذلك أراني أجبن المغازلين وأخوف ما أكون من النظر إلى عيني امرأة.
ولا أعرف لماذا كلفتني شياطين الجن والإنس أن أحمل عنها جميع غرورها، وأتكبد نفقات(34/8)
هذا الغرور وخسائره، لأن الغرور كالشراب يعطيك طرفاً من حلاوة النشوة. ثم هو يثأر بعد ذلك لنفسه منك فيأخذ من عرضك ومالك وبدنك، ويأبى أخيراً إلا أن تعترف له بأنك تحبه ولا تستطيع له سلوا - والغرور في نفسه فضيلة. ولكنها فضيلة تسكن في كوخ صغير على حدود الشر، وقد يطغى عليها مد الشر يوماً فيسحبها إلى ساحله، ويسكنها طابقاً عالياً في أسمى منازله القائمة على ضفافه والحق أقول لكم أيها الناس أنا أشد الشياطين غروراً وغروري يمتاز بأنه غرور فلسفي مبتكر قوي المنطق، ولكنه بعد غرور صخاب أجش الصوت، ولعله خلق معي في يوم راعد، لأنه كثيراً ما يصطدم مع سحابة كبيرة من غرور رجل آخر، فيكون منه دوي شديد ثم ينجلي الصوت عن ماء منبثق كالمطر بعد الرعود، وهذا الماء الغزير هو دموع صاحبي الذي صادم غروري غروره فصرعه.
وأشد ما يكون غروري وأنا في صرعة الشراب وحميا الكأس إذا أصبح بأهل البيت، وأنا أقذف بالحذاء في ناحية وبالطربوش في ركن، والبنطلون في زاوية انظروا إلى أيها السفلة الجاهلون هذا أنا الأديب العظيم، أنا من سادة من حمل الريشة. . . . أنا نابليون القلم. أنا ابن شكسبير وجوت وينتشه. . أنا. . أنا الأديب العظيم!!. . . .
وهنا تثور نزعة الدعابة والتهكم بعمتي العجوز عند سماع كلمة أديب لأنها تظنني أريد بها التربية والتأدب والأخلاق الجميلة. وفي بعض الأحيان تخطئ سماعها، فتظنني أقصد أن أقول أدباتي فيضج الجميع بالضحك.
ولكنهم لا يلبثون أن يجدوا هذا الأديب العظيم غداة الغد ملقي طريحاً، نصفه فوق السرير، ونصفه الآخر مدلى تحته!!
وأما فؤادي أيها القراء فمختلف التربة، متنوع الأديم، منه أقليم قد تعثر فيه بمناجم الذهب والألماس، وأقاليم باردة متجمدة كبحر البلطيق، وفيه قطع متجاورات خصيبة الأرض يانعة الثمر، فارغة الأزاهر، ومنه جزء صخري، حجري، قد لا تعمل فيه المطارق، ولا تستلين منه الفؤوس، ولا تؤثر فيه المعاول، ولكنه قد يلين يوماً فتكون منه دموع سخية وعبرات متحدرة، ولعل الله لم يخلق هذا الجزء الصخري في فؤادي إلا ليكون مصداقاً لقوله جل شأنه وإن من الحجارة لما يشق فيخرج منه الماء.
ع. ح.(34/9)
حديقة أبيقور
أبيقور فيلسوف يوناني قديم، مات عام270 قبل مولد المسيح، وكانت فلسفته تدور حول اللذة، وأنها أكبر غرض في الحياة، وأن إشباع الشهوات يجب أن يكون أول مقاصد الناس، وأن الحياة حلم وأنها وهم الأوهام، وقد كان يسكن أبيقور هو وتلاميذه وأشياعه في حديقة ناضرة، وحائط بديع الأزهار، وقد ابتاعه هو بنفسه، وانطلق يزرعه ويفلحه ويحرثه بيده وجهده، ويقوم على تعليم تلاميذه الحكمة، وتدريس الفلسفة.
وقد استعار كاتب عصري من أكبر كتاب الجيل الحديث وأديب من أقدر أدباء فرنسا، ونعني به أناتول فرانس، العضو بالأكاديمية، هذا الإسم حديقة أبيقور عنواناً لكتاب ممتع من كتبه، وضع فيه طائفة من خواطره السامية، وحشد فيه جماعة من آرائه ومبادئه، وألقى فيه زروعاً فارغة من الأفكار الجميلة وأفناناً من الفلسفات البديعة.
ونحن نختار للقراء شيئاً من هذا الكتاب.
فضيلة الشر
لا بد من وجود الشر في العالم، ولا غناء للأرض عنه، وإذا لم يوجد الشر، لم يوجد الخير، والشر هو السبب الوحيد الذي يحث الناس على الخير، وليت شعري ماذا تكون الشجاعة إذا لم يوجد الخطر، وما الرحمة إذا لم يكن ثمت حزن ماذا تصبح التضحية، ويحدث للإيثار وإنكار الذات إذا كان العالم في سعادة عامة وشاملة، وهل تستطيعون أيها الناس أن تتصوروا فضيلة ولا شر بجانبها، وحباً ولا بغض إزاءه، وجمالاً ولا قبح.
حمداً للشر والعذاب والآلام والهموم، لأنها جعلت المقام في الأرض ممكناً محتملاً، وتركت الحياة تستحق أن تعاش، ثم ألا يجب علينا أن نشكر للشيطان شيطانيته، لأنه فني من أكبر أهل الفنون، وحكيم من أبلغ الحكماء ولأنه هو الذي صنع نصف العالم وهذا النصف لا يزال مندمجاً في النصف الآخر بحيث يستحيل عليك أن تحطم الأول دون أن تسئ إلى الثاني، وكل رذيلة تقتلها تجد أمامها فضيلة قتلت معها.
إننا عندما نقول أن الحياة طيبة، وعندما نقول أن الحياة رديئة، إنما ننطق بكلمات لا معنى لها، إذ يجب أن تقول أن الحياة طيبة ورديئة في آنٍ واحد، لأننا منها وحدها وبفضلها استطعنا أن نستمد فكرة الطيب والرديء، والحقيقة أن الحياة جميلة ومخيفة وفاتنة ومريعة(34/11)
وعذبة ومريرة وأنها كل شيء، وهي في ذلك أشبه بالثوب الكثير الرقع، المختلف الألوان، الذي يلبسه البهلوان المهرج، فمنا من يرى من الحياة الجزء الأحمر، ومنا من يرى الجزء الأزرق وهم جميعاً يرون الحياة كما هي، لأنها حمراء وزرقاء وجميع الألوان الأخرى، وقد كان هذا أدعى لنا إلى أن نتفق ونتهاون ونعيش على الوئام ونرضى بحظوظنا وأقدارنا، ولكنا قد فطرنا على أن نريد أن نكره غيرنا على أن يفكر فكرنا ويحس إحساسنا ولا نسمح لجارنا بأن يكون فرحاً مسروراً عندما نكون نحن متألمين محزونين.
عناد الشيخوخة
الشيوخ يصرون دائماً على رأيهم، ويستبدون بفكرتهم، ولهذا قد اعتاد سكان جزر فيجي أن يذبحوا آباءهم عندما يصيرون شيوخاً، وبذلك يمهدون سبيل التطور ويسهلون طريق الإرتقاء. وأما نحن فنؤخر أنفسنا بأن نلقي جميع مقاليد أمرنا في أيدي الشيوخ!
غرض الأدب
ليست الحقيقة مقصد الفنون، ونحن يجب أن نطلب الحقيقة من العلوم، لأنها غرضها الأول، ولكن لا يجب أن نطلبها من الأدب، إذ لا غرض للأدب غير الجمال.(34/12)
الإدانة والمسؤولية
مبحث قيم جليل للعالم دانتك يقوم بترجمته للبيان الدكتور عبه البرقوقي المحامي. من كتاب اسمه آثار السلف.
ـ 1 ـ
من الأمور الهامة المطروحة على بساط البحث والمناقشة صفة العقوبة وشدتها وذلك أنه إذا كان الإنسان حراً في اختيار أفعاله فالأمر سهل لا يحتاج إلى مناقشة وإن كان الأمر على العكس وكان الإنسان مقيداً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فيجل بنا أن نبحث عن المسؤولية وكنه أمرها وهل هي موجودة حقيقة أم غير موجودة من قبل أن نبدي رأينا في وصف المجرمين بالعنف واللين.
الإنسان صنع الورثة والتربية. وأعني بالوراثة مجموع خواص وصفات البويضة التي خلق منها الإنسان وبالتربية مجموع الظروف والحوادث التي مرت بهذه البويضة منذ أن نشأت وتكونت إلى الآن.
ومن المسؤول عن الوراثة؟ الصدفة، فإن البويضة وإن كانت ترث عن الأب والأم معاً إلا أنهما لا يمكنهما أن يعرفا سلفاً نتيجة امتزاجهما بعض ببعض فإن صفات البويضة لا تتوقف على ما ترثه من الأب والأم بل تتوقف أيضاً على طريقة امتزاج الميراثين بعض ببعض ونسبة ما تأخذه عن كا منهما.
تزوج رجل بامرأة فولد لهما طفل حائز جميع الميزات الجميلة. فلهما أن يلدا أخاً له. هذا الأخ لو أتى ربما يكون دميم الخلق أو أبله وعلى الرغم من أنه ليس لهما ضلع ولا إرادة في كلتا الحاليتن فإنهما يتيهان عجباً وافتخاراً بابنهما الأول ويذوبان خجلاً ومعرة من الثاني، وهذا غريزي في الإنسان.
ومن المسؤول عن التربية؟
التربية هي مجموع الظروف التي مرت بالبويضة منذ تكوينها كثيرة التعقيد والتركيب بحيث يستحيل تحليلها ومعرفة جميع أجزائها. وهي تتكون من تأثير الكائنات الحية وغير الحية في الإنسان. ولا تقل الكائنات الثانية عن الأولى أهمية فلو جلست بجانب حائط فسقط منها حجر على رأسك فأدماه كان هذا درساً نافعاً لك.(34/13)
ومن البديهي ألا يسأل أحد عن فعل هذا الحجر ولو كان بالقرب منك إنسان يمكنه أن يلفت نظرك ويحذرك من سقوط الحجر عليك.
ولما كانت قوة التقليد في الإنسان عظيمة كان تأثير الكائنات الحية في تربيته عظيماً وكلما كان أقرب الشبه ببعضها كان تأثير هذا البعض فيه أشد وأعظم حيث يسهل عليه التقليد والتشبه. لهذا كان الفضل الأول في تربية الناس راجع إلى تأثير بعضهم في بعض ولقصور اللغات البشرية عن التعبير بدقة وإيثار السهولة والإيضاح على الحقيقة غالينا في تقدير فضل الإنسان على الإنسان وقصرنا لفظ التربية على ما يكتبه المرء من الناس وأغفلنا ذكر العناصر الأخرى وتناسينا فضلها. وهذا خطأ فاحش يؤسف له ولا يسع العلم أن يغض الطرف عنه كل قرين بالمقارن يقتدي مغالاة كبيرة في فضل الإنسانية على تربية الإنسان ونكرات لفضل العوامل الأخرى التي من بينها الوراثة.
من شابه أباه فما ظلم مثل يقرر الوراثة وأثرها الهائل في الإنسان ولكن من غير دقة ولا تحقيق كما هي الحال في المثل الأول. وعلى الرغم من تضارب المثلين وتناقضهما بعضهما لبعض لا نفتر عن التمثل بهما واستعمال الواحد تلو الثاني حسب الظروف والأحوال.
لا تتوقف أفعال المرء على الوراثة والتربية فقط بل تتوقف أيضاً على مزاجه والظروف المحيطة به، والبيئة العائش فيها وهو غير مسؤول عن كل هذه الأمور لأن البيئة والظروف خارجة عن إرادته ولأن الأمزجة نتيجة الوراثة والحوادث التي مرت بحياته وإذن فلا مسؤولية ولا إدانة.
بيد أني لو عثرت بقدم إنسان سهواً أو خطأ لا ينظر إلي بالعين التي يرمقني بها فيما لو كنت متعمداً فإنه في الحالة الأولى لا يحفظ لي في قلبه ضغينة ما حتى ولو أصابه أذى عظيم وفي الحالة الثانية مهما كان ألمه تافهاً يستاء مني ويعتبر أني مذنباً ويعاملني معاملة المذنبين مع أن الحالتين سواء لأني في كلتيهما مقود بقوة خارجة عن طوق إرادتي.
إذا رآني قادماً عليه وشاهد مني أني ذاهل عنه ولم يسحب قدمه من طريقي فهو المخطئ فإن لم يرني هو أيضاً فكلانا غير مخطئ ولكن مع هذا هناك أذى قد وقع.
وفي حالة تعمدي نظرته عن بعد وكنت إذ ذاك مدفوعاً برغبة خفية إلى المشي على قدمه(34/14)
وقد توالدت هذه الرغبة عن العوامل المكونة لتربيتي. فقد أحفظ له ضغينة في قلبي وبمجرد ما لمحته عيني تحركت الضغينة ودفعتني إلى الإساءة إليه والإنتقام منه بالمشي على قدمه. وقد أكون لا أعرفه ولم أقابله من قبل ولكن سحنته لم تعجبني ودمه لم يتفق مع دمي بحيث أن جهازي العصبي ساقني إلى إهانته بالمشي على قدمه. ولو سرنا في هذا التعليل إلى النهاية وهو تعليل صحيح لحكمنا بأنه مخطئ مثلي لو فرض وكنت أنا مخطئاً حقيقةً لأنه لو ابتعد عن طريقي لما وقعت له إهانة غير أنه قد يلطمني على وجهي عقاباً لي على ما آتيته معه. وقد تنفعني هذه اللطمة فتمنعني من أن أناله بأذى فيما لو تقابلت معه مرة ثانية وكان أثر الحزن الذي أصابني من جراء اللطمة باقياً في ذاكرتي.
ولو كان غرضه من هذه اللطمة تهذيب أخلاقي وتقويم معوجي فقد أحسن إلي. ولكنه على الأرجح لا يرمي إلى هذا الغرض الفلسفي السامي وإنما ينبغي الإنتقام وأن يشفي غليلي كأني مسؤول عن عملي ولكن لم أكن مثله قصير النظر قليل الحكمة في المشي على قدمه كراهة مني لسحنته وهو غير مسؤول عن قبح خلقته.
إن المجتمع الإنساني سائر في ضلال وبغير هدى ولا حكمة فإنه يعاقب المجرمين انتقاماً منهم لا تهذيباً لنفوسهم وتقويماً لجهازهم العصبي الفاسد. بيد أن بين الغرضين الإنتقام من المجرمين وإصلاح نفوسهم صلة تقارب وتشابه.
إذا سقط رجل من أعلى فقتل أحد المارين من غير أن يصاب هو بأذى فلا نعاقبه لأنه غير مسؤول. وبعبارة أخرى لأنه لم يرد القتل ولم يكن لجهازه العصبي ضلع فيه إذن فلا معنى لإصلاح هذا الجهاز بالعقاب والتعذيب لأنه لم ينم عن فساد واعوجاج - إذا كان ولا بد من الإصلاح والمعالجة فلنعالج ثقل الرجل حتى يكون خفيفاً بحيث لو سقط مرة أخرى فلا يؤذي أحداً.
وإذا ارتكب مجنون القتل فلا نعاقبه لأنه غير مسؤول عن عمله ونكتفي بوضعه في مستشفى المجانين حتى نأمن شره ونمنعه من أن يصيب نفسه بضرر. وبعبارة أخرى إن العقاب لا يقوم جهازه العصبي وإن جنونه لا يسمح له أن يتخذ من العقاب رادعاً يزجره عن الإجرام.
وكذلك حاد المزاج غير مسؤول. فإنه لو أقدم على القتل إبان ثورته فذلك لأنه لم يكن لديه(34/15)
العقل ما يكفي لردعه. ومن الحمق أن نعاقبه قانوناً لأن القانون لا يكبح جماحه ولا يأخذ بشكيمته.
إني أعرف كلباً وديعاً ساكناً غير أنه يحمل لكلب آخر حقداً لا يغلب وضغينة لا تنتزع كلما رآه ثب عليه ليفتك به. ولم يردعه عنه زجر ولا رهب ولا أي نوع من أنواع التعذيب والتأديب وأخيراً قرر رأي صاحبه على تأديب الكلب الآخر بمنعه من الإقتراب منه وبذا استقر السلام بينهما.
هذه هي الأحوال التي يسمونها باللامسؤولية وحكم القانون فيها هو نفس الحكم الذي فرغنا الآن من شرحه غير أن الأسلوب القانوني يخالف الأسلوب الذي اتبعناه فالقانون يذكر دائماً الإدانة والمدانين والإجرام والمجرمين ولا يجد في الأحوال التي سردناها إدانة تستحق العقاب وحيث قد انتهينا من هذه الأحوال فلنبدأ بسرد أحوال الذين يقال عنهم أنهم مسؤولون عن أفعالهم وبعبارة أخرى الذين لا عيب في جهازهم العصبي.(34/16)
تفاريق
ثمن السكوت
ليس السكوت كبير القيمة غالي الثمن في الروايات فقط وفي الحكم والأمثال والمواعظ. بل إن كثيراً من أكبر مخترعات الدنيا قد اضطرت الحكومات إلى ابتياعها من أصحابها لكي لا تذيع أسرارها بين الناس.
من ذلك إن حكومة الولايات المتحدة تدفع عشرة آلاف جنيه في كل عام إلى أسرة حقيرة تسمى أسرة فرانكس، وتفصيل الأمر أنه كان منذ عشرين سنة رجل منها يدعى جوستاف فرنكس استطاع أن يخترع طريقة يتمكن بها من إزالة الأثر الذي يتركه خاتم مصلحة البريد على الطوابع الموضوعة فوق الرسائل والخطابات بدون أن يفسد الطوابع نفسها، بل يردها جديدة كأن لم تختم بخاتم البريد، وكان هذا المخترع كافياً لأن يجلب لهذا الرجل أكبر مقدار من الثراء، وكان يكون له مادة واسعة للربح والإغتنام. وذلك بأن يجدد الطوابع المستعملة ثم يعود إلى بيعها، ولكن لحسن حظ الحكومة أنه كان رجلاً أميناً. وكان ثمن أمانته عشرة آلاف جنيه في السنة. وذلك أن الحكومة دفعت إليه هذا المقدار لكي يعدم هذه الأداة التي اخترعها ويظل على سكوته ويبقى صامتاً جامداً على سره، وسيكون هذا المبلغ معاشاً لأولاده من بعده.
وهناك حادث شبيه بهذا جرى للحكومة الإنكليزية وذلك أن رجلاً يدعى بلدوين طلب منذ سنين أن يجتمع بمدير بنك إنجلترة فلما أدخل عليه قدم له ورقتين من الأوراق المالية متفقتي الشكل، متماثلتي الصورة، وأنبأه بأن البنك لم يصرفهما خطأ ولكنه هو الذي اخترع آلة تستطيع أن تقشر من الورقة المالية ورقة مثلها على الرغم من ضعف سمكها المتناهي فيكون من ذلك ورقتان ماليتان متشابهتان أتم الشبه، فلم يسع مدير البنك إلا أن يشتري السر منه، ولم يخرج الرجل من حجرة المدير إلا مالياً متمولاً من كبار الأغنياء.
ومنذ عشرين ستة استطاع كيماوي يدعى سويريدج أن يخترع مفرقعاً أسماه الفولمنيت، استطاع به أن يمد مسافة مرمى المدفع إلى نحو خمسة أميال، ولكن الحكومة الإنكليزية لم تشتر منه المخترع، لأنها لم تكن تفكر يومذاك في فائدته، وقد حاولت ألمانيا أن تشتري من الرجل سره بأي مبلغ من المال يطلب، ولكنه ظل على رفضه، وشاءت الأقدار إلا أن(34/17)
يطير جسم هذا المخترع بدداً صغيرة من أثر انفجار مخترعه وهو يشتغل في معمله، فمات السر، ولم يستطع العلماء أن يعرفوا له أثراً.
ثرثرة البرلمانات
كثرة الثرثرة ولا ريب في مجالس البرلمان في هذه الأيام، واشتدت حرارة الأسئلة، وحمي الإستفهام بأذهان الأعضاء، فقد دل الإحصاء البرلماني لا خير عن محاضر جلساته أن مستر جنيل العضو المعروف سأل الوزراء 869 سؤالاً في ثلاثة أشهر فقط، ويليه في كثرة الأسئلة مستر هوج فقد سأل ستمائة سؤال وستة أسئلة، وإذا علمت أن مندوب وزير الحربية في المجلس هو الهدف الأول لهذه الرمايات العديدة، فلا تعجب إذا علمت أن مستر تيانت الذي كان مندوباً للوزير الحربي في المجلس أجاب في دور واحد من أدوار إنعقاد البرلمان 2111 سؤالاً ثم ناب بعده مستر فورستر فكان عدد الأسئلة التي وجهت إليه1685 سؤالاً ثم ناب بعدهما مستر اسكويث فأجاب على 1652 سؤالاً.
ولعل أكثر المتكلمين ثلاثة في البرلمان الإنكليزي أولهم مستر والترلونج فقد تكلم في دور واحد بما ملأ 229 عموداً من محاضر الجلسات ثم مستر هوج بنحو 219 نهراً ومستر اسكويث 202
غني كبير واشتراكي متطرف
في آنٍ واحد
أغرب ما يمكن من متناقضات الحياة أن يكون الإشتراكي هذا الرجل الرحيم القلب الذي يدافع عن العمال الفقراء، ويناضل في سبيل إصلاح شأن المساكين والصغار والقاعدي الحال، متمولاً يربح المقدار الطائل من الجنيهات، وأغرب منه أن يكون أديباً، وأن يكون كاتباً.
إذن فهل تعرف من هو هذا الإشتراكي المتمول، هو برنارد شو الروائي المشهور فهو يكسب الآن من كتبه ورواياته والضرائب التي يضربها على المطابع وشركات التمثيل أربعمائة جنيه في الأسبوع!!
ولكن يجب أن لا يحسد مثل برناردشو على مقدار مثل هذا وهو الآن قد بلغ الستين، وكان في أول حياته يعاني أشد ضروب الفقر، ونكد الطالع إذ بدأ حياته العملية محصل ضرائب(34/18)
أو (جابياً) كما نسميه نحن. وإن كان الآن من ذوي الأطيان والعقار، ويدفع للحكومة في السنة أكثر مما كان يجنيه لها من قبل، ثم لم يجد حظاً في الجباية فانحدر إلى لندن واشتغل عاملاً بسيطاً في شركة التليفون، ولكنه لم يلبث أن سئم هذه الصناعة، فكان بعد ذلك أول عهده بالكتابة، ولكن أول كتابته كانت شؤماً على الصحيفة اليومية التي نشرت مقاله فإن جميع المشتركين والقراء رفضوا الصحيفة، ولم تلبث أن أفلست بفضل قلم برناردشو، ثم بدأ يكتب في نقد الموسيقى فأقفلت عدة مراقص في المدينة، ثم صادفه بعد ذلك حسن الطالع فأصبح اشتراكي اليوم يكسب 400 جنيه من الورق.
كيف تكتب معاهدات الصلح
عندما ينتهي عمر هذه الحرب، ويتبدد في الفضاء صدى آخر قنبلة، سيكتب المتحاربون بينهم معاهدات الصلح ولا ريب وسيكون هذا الكونتراتو الدولي غريباً في نوعه، مدهشاً في قيوده، والمتفق عليه في كتابة عقود الصلح أن يكتب العقد بخط اليد من أوله لأخره ثم يختم بأختام كثيرة ثم يجلد ويلف في لفائف وأشرطة من الحرير الأخضر وهم قد اصطلحوا على أن يبدأوا العقد بهذه الكلمات باسم الثالوث الأعظم المقدس! ولعل ذلك ضرب من التناقض المضحك الغريب. إذ يعودون آخر أمرهم إلى أوامر الدين وكلماته بعد أن أساؤوا إليه بالدماء التي سفحوها والنفوس التي طاحوا بها. والشباب والولدان والأيامى واليتامى الذين مضوا إلى الله في سبيل وحشية السياسة.
ولما كانت تركيا ستدخل نهاية لحرب ضمن المتهادنين، فسيكتب لها في نسختها بدلاً من هذه الفاتحة بسملة السلام وتوضع بسم الله الرحمن الرحيم في رأس العقد.
ويكتب من العقد صور بعدد الدول التي ستضع إمضاآتها في ذيله ثم تحفظ الصور الأصلية في دفتر خانات الحكومة وتؤخذ منها صور أخرى للرجوع إليها ونشرها بين الناس.
وهذه العقود لا تكتب كما تكتب العقود الإعتيادية، أعني على طول الصحيفة، وإنما في أنهار متوازية، وبعدد اللغات التي تتكلمها الدول المتصالحة، ويراعى في الترجمة كل مجهودات الذكاء اللغوي في تقريب اللفظ والمعنى المرادفة في اللغة الأخرى.
أسرة تتألف من 66 فرداً
يفخر الصينيون بكثرة عدد أهل الأسرة الواحدة، والأسرات الكبيرة العدد هي التي تظل(34/19)
رافعة الرأس، تياهة العطف، لأنهم يعدون وجود أفراد كثيرين تحت سقف واحد، يحتويهم بيت واحد، دليلاً على سلامة القلوب، وحسن التربية ومن أكبر فخرهم أن يكون في البيت الواحد خمسة أجيال من الأسرة أعني أن يكون هناك أجداداً وآباءً وأحفاداً وأحفاد الأحفاد، وقليلون من يظفر بهذه المزية. وهم على نقيض ذلك يعدون الأسرة التي تتألف من أربعة أفراد أو خمسة دليلاً على الفساد والسوء والشؤم، وإن كانت من أغنى أغنياء المملكة كلها، أو من أكبر أصحاب السلطة فيها.
وفي مستعمرة واى هاي واى امرأة عجوز تتألف أسرتها من ستة وستين شخصاً، وأعجب من ذلك أن ليس لهؤلاء الستة والستين إلا خادم واحد يخدمهم، ولعل هذا الخادم أشقى جميع خدم الأرض حظاً، وأنكدهم حياةً.
الأيتام في أوستراليا
يصح لنا أن نقول أنه لا يوجد في أوستراليا أيتام. وذلك ليس لأن هناك آباء يموتون، ولكن لأن كل والد يموت ويترك وراءه يتيماً لا نصير له، تتقدم الحكومة فتتبناه، فالأيتام إذن أولاد الحكومة، إذا لم يكن هناك أقارب لهم يأخذون على عاتقهم رعايتهم.
والحكومة الأوسترالية تأخذ الطفل اليتيم فتعهد به إلى مصلحة تسمى مصلحة الأيتام، وهذه توجد له مكاناً في بيت من بيوت الريف، وتدفع بهم إلى المربين، وتنتقي له أحسن المواقع هواء وجوا وأوفق للصحة حتى إذا بلغ الثالثة عشرة ورأت أنه قد أصبح صالحاً للعمل، أجرته لمربيته، وأخذت هي أجوره، فوضعت ثلاثة أرباعها في صندوق التوفير وأعطت إليه الربع ليأكل منه، وعندما يتقدم في سني الشباب، تعطيه جميع ما وفرته له، ليتحصن به في حياته المستقبلة، وإذا كان الطفل بنتاً كفلت الحكومة لها بائنة أو دوطة جميلة لأنها تعتبر نفسها إذ ذاك حماة العريس. وطوبي لمن تكون الحكومة حماته!!.
السجون البديعة
لعل حكومة نيوزيلنده أرفق الحكومات بالمساجين ففي سجون الجزيرة الجنوبية يسمح للمسجون أن يكون لديه جواد من جياد السباق وأن يراهن في الحلبة إذا أحب رهاناً، وفي سجون أخرى من المملكة يؤذن للودعاء من المساجين أن يخرجوا يوماً في الأسبوع للرياضة في المكان الذي يشاءون، وأصحاب السلطة في الحكومة النيوزيلندية يؤمنون(34/20)
بتأثير الهواء الطلق على الأخلاق. ومن ثم كل رجل يحكم عليه بالسجن يخيرونه بين أن يعيش داخل السجن أو أن يكون خارجه، وهم يضربون وراء السجون خياماً، وقد حدث مرة أن ظهر خطر هذه الفكرة إذا اتفق أن غضب المساجين من سجانيهم فعمدوا إلى سجنهم فضربوا جدرانه وانطلقوا هاربين بالخيام إلى صميم الغابات.
وفي بعض السجون مدرسة ليلية لتعليم المساجين العلوم العصرية. وهم ينتخبون الأساتذة من المساجين أنفسهم.
حب المشي
كان شارلز دكنز القصصي الإنكليزي الكبير من أكبر المشاة وكان يمشي عشرين ميلاً في اليوم وولترسكوت اعتاد أن يمشي في النهار 30 ميلاً على الرغم من عرجه، أما الشاعر وردسورث فكان يستطيع أن يمشي على قدميه 20 ميلاً بعد أن بلغ الستين من عمره وقد حدث للفيلسوف الطائر الصيت هربرت سبنسر وهو في الثالثة عشرة أن مشى ثمانية وأربعين ميلاً في اليوم. ثم سبعة وأربعين في اليوم التالي. وقد رؤوا أن الفيلسوف تولستوى مشى وهو في الخامسة والخمسين 13ميلاً في ثلاثة أيام وكان هؤلاء العظماء يسمون أمثال هذه المشيات البعيدة، كما يسميها أهل الصعيد في مصر (فركة كعب!).(34/21)
باب تدبير الصحة
تعاطي المسهلات
كثير جداً من يتعاطى المسهلات (الشرب) بسبب وبغير سبب وأكثر منهم من يتعاطاها عند الشعور بأي مرض وهذا نظام لا يخلو من خطر على المتعاطي قد ينتهي معه الأجل ولذلك أريد أن أنبه إلى الأحوال التي يجب انتظار رأي الطبيب فيها دون سواه منعاً لهذا الخطر.
(1) كل حمى تبتدئ بألم في الرأس والمفاصل والظهر مع بطء في السير سواء أصبحت بإمساك أو إسهال تفادياً من أن تكون الحمى تيفودية أو باراتيفودية حيث الخطر أكيد لا يمكن دفعه إلا بشق الأنفس.
(2) الآلام بطنية حيث يخشى من وجود التهاب الزائدة الدودية (الأعور) أو من التواء الأمعاء وانسدادها إذ المسهل في هذه الأحوال خطر مدلهم.
(3) الضعف العمومي حيث يخشى على المريض من الإغماء أو خمود القلب.
(4) والحمل - حيث يخشى من الإجهاض فالنزيف.
إهمال الجروح
(1) كثير من الناس من يهمل إصبعه إذا جرح وذقنه إذا أدمتها الموس وقدمه إذا قرحها الحذاء اتكالاً على أن الأمر ليس بذي بال ولو علم المجروح أن جرحه الصغير الضئيل الهين ربما جر عليه ما لا يستهان به كالحمرة ومرض التيتانوس حيث يدخل مكروبهما من ثغرة الجرح مهما صغر.
والحمى مرض يأتي بقشعريرة وحمى واحمرار وورم حول الجرح أو قريباً منه ولو كانت في الوجه لكان أمرها في غاية الخطورة والتيتانوس مرض تشنجي تتوتر معه العضلات الجسمانية كلها مبتدئة بعضلات العنق مع صعوبة في الإزدراد وتخشب في الجسم يصبح معه المريض كتلة جامدة لا حراك بها وهو من أشد الأمراض خطراً وفتكاً فيجب العناية بالجروح عناية تامة كإدمائها قليلاً عند حصولها وغمر الجرح في الكؤل النقي أو صبغة اليود ووضع شاش معقم عليها وتغطيتها من الملامسة والهواء.
البول
البول في حالة الصحة يكون مقداره في مدى أربع وعشرين ساعة شتاءً من 1200جرام(34/22)
إلى 1400 وصيفاً أقل من ذلك بكثير بسبب العرق ولونه يضرب إلى الصفرة رائقاً خالياً من الأوساخ والرواسب.
أما في الأحوال المرضية فإما أن يزداد مقداره وإما أن ينقص فيزيد في الأحوال الآتية: - البول السكري - البول العصبي - بعض أمراض الكلى والإمساك والخوف - الإدمان على الخمر.
ويقل في الأحوال الآتية: - الحميات - الإسهال - أكثر أمراض الكلى - أمراض القلب - أمراض الرئتين - أمراض الجلد العامة - بعض الأمراض العصبية - التأثرات النفسانية.
الأمراض
تصل الأمراض إلى جسم الإنسان بطرق مختلفة أهمها كما يأتي:
(1) بواسطة الماء: - الكوليرا - الحمى التيفودية - البلهارسيا - الديدان.
(2) الهواء: - السل الرئوي - القرمزية - الجدري - الحصبة - التيفوس - الدفتيريا.
(3) الغذاء: - التيفودية - الدفتيريا - الديدان - الدوسنطاريا - التدرن المعوي.
(4) الحشرات (الناموس - البق - البراغيث - الذباب) الحمى الراجعة - الحمى الصفراء - داء الفيل - الملاريا - التيفوس - الطاعون - مرض النوم.
(5) الملامسة: - أكثر الحميات - الحمرة - التيتانوس - الأمراض الجلدية - الزهري - السيلان.
الطفل
وفساد الهضم
من أسباب فساد الهضم عن الأطفال الرضع الفطامة المعجلة (قبل 14 شهراً) وحمل الأم أثناء الإرضاع والرضاعة الصناعية والتعرض للبرد وسوء خلق المرضع وعد انتظام الرضاع وأيام التسنين وإطعام الطفل أي طعام غير لبن الأم ويبتدئ المرض عند الطفل بتكرار الفواق الزغطة فالميل إلى القيء فالقيء فعلاً فتشنجات موضعية عامة والقيء يحتوي عادةً على لبن متجمد وتنتفخ البطن ويحصل إسهال أخضر رائحته منتنة كريهة ويحصل للطفل مغص يجعله يصيح من آنٍ لآخر.
العلاج - يرجع الطفل للرضاعة إن كان اسبب الفطام وتنظم مواعيد التغذية إن كان السبب(34/23)
عدم نظامها بأن يرضع الطفل في الأشهر الثلاثة الأولى كل ساعتين وفي الليل مرتين وفي الثلاثة الثانية كل ثلاث ساعات وفي اللي مرة ثم كل أربع ساعات إلى الفطام. ويعطى مسهلاً من الزئبق الحلو إن كان من التسنين وإذا لم يتحسن يكره الطفل على الحمية الإمتناع عن الأكل ولا يعطى له غير ماء الشعير مدة يومين فإذا لم يتحسن يعرض على طبيب.(34/24)
باب النقد
حوال الشيخ الدباغ
لعل قراءنا يذكرون أنا أتينا على شيءٍ من نوادر أشعب الماجب المشهور في العدد الخامس عدد 5 مارس وقلنا ثمت في سياق وصفه أنه كان دباغي المذهب وفسرنا هذه النسبة بأنه كان طفيلياً وعلقنا على هذه الكلمة دباغي بهذا - نسبة للدباغ المشهور في عصرنا هذا بنوادره الطفولية ولكن أين نجوم الغبراء من نجوم الزرقاء. هذا ما جاء بالحرف في ذلك الموضع ولكن لم يكد يظهر هذا العدد ويذيع بين قرائنا حتى جاء إلينا هذا الخطاب ـ.
. . . صاحب البيان
تحية طيبة. وبعد فقد قرأت في باب النوادر والفكاهات من مجلتكم الكريمة عدد 5 مارس عند شيءٍ من نوادر أشعب تعريضاً بالشيخ الدباغ إذ قرفتموه اتهمتموه بالتطفل وقلتم فيما قلتم ولكن أين نجوم الغبراء من نجوم الزرقاء فحدا بي حب الإستطلاع إلى أن أستعلم هل قصدتم بذلك إلى اللف والنشر فعنيتم أشعب بنجوم الغبراء والشيخ الدباغ بنجوم الزرقاء فإذا كان ذلك هو ما تقصدون إليه فقد نصرتم الحقيقة فإن الناس ليعلمون من أشعب من سوء المع وقبح التطفل ما لا يمحو ذكراه ويشفع له أدبه ومجونه أما دباغنا الظريف فما علمنا عليه من سوء وما أطلعنا منه على شيءٍ من خلائق الطمع والتطفل وإنما هو تظنن واقتيات من بعض الوريقات السوقية تلقفها بعض الهازلين من أولئك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين بذوهم وأبروا عليه بأدبهم وكياستهم - وإني لأشهد بين الله والناس - وأنا أحد عارفيه - إني لم أرى طوال حياتي - وقد أربيت على الخمسين وقتلت البحث في أخلاقنا علماً - أعف ولا أمراً أكرم نفساً من هذا الشيخ الذي لا عيب فيه سوى أنه لا يجيب دعوة الداعين كبراً مآبه كبر ولكنه الشمم وإباء النفس. وكفى بهذا الخلق مدحضةً لما يزعمون والسلام عليكم ورحمة الله.
المخلص محمود صادق
ونحن فنقول أنا قبل كل شيءٍ لم نقصد التحرش بصديقنا الأديب الشيخ إبراهيم الدباغ ولا أن نصفي إناءه وننتقضه لأنا نعرف منه ماجناً ظريفاً حلو الفكاهة والمحضر فضلاً أنه أديب لا يتخلف عن كثير من أدبائنا المعروفين أما قولنا أنه مشهور بنوادره الطفولية فإن(34/25)
كلمة مشهور ليس معناها كذلك على الحقيقة ولكن هذا مما شاع عنه وإن كان غير مطابق للواقع وقصدنا بذلك تقريب أشعب إلى أذهان القراء بضرب الشيخ الدباغ مثلاً له وحسب دباغنا فخراً أن يلز مع أشعب في قرن فإن أشغب بن جبير فضلاً أنه ماجن في طليعة مجان العرب كان إماماً من أئمة الحديث وكان في الغناء في طبقة معبد والغريض وكان فقيهاً وكان أديباً ومن هنا قلنا ولكن أين نجوم الغبراء من نجوم الزرقاء لأن الشيخ الدباغ مهما علت منزلته في الفضل والأدب فلن تبلغ منزلة أشعب وهو من علمت وبعد فهذا هذا وقبل أن نختم هذه الكلمة يجمل بنا أن نقدم صاحب هذا الكتاب إلى حضرت قرائنا حتى يعرفوا مقدار نبله ولطف إحساسه وغيرته على الأدب والأدباء فصاحب هذا الكتاب هو محمود صادق بك بن المرحوم محمد صادق باشا ومن ثم ترى أنه رجل جمع بين الغني الكبير والمجد التليد وأمثال محمود صادق بك في بلدنا هذا أبعد الناس عن الأدب والأدباء كأنهم وإياهم أبناء علة فإذا رأينا اليوم محمود صادق بك يعني بالنصح عن أديب كان ذلك دليلاً محساً على نبل إليك وإحساسه المتفضل وعطفه على الأدباء وتوفره على القراءة والإطلاع وجملة القول على أنه غني منقطع النظير ولهذا اغتبطنا بدفعه هذا كل الإغتباط وكدنا اخرج من أديمنا فرحاً بهذا الرجل الكبير الروح فنشكر له هذا الصنيع الجميل ونعتذر إلى أديبنا الدباغ عن طغيان القلم.(34/26)
موت رجل كبير
وفاة عمر سلطان باشا
في شهر فبراير الماضي، مات رجل كبير من الأفراد الذين هم في التعداد التاريخي بألوف من الناس، وفي تقدير الحياة أفضل من ربع سكان المملكة، مات عظيم من المصريين كانت له نفس كبيرة، وروح كريمة، وأثر مذكور، وسكن نبض خفاق في جسم أمة هامدة، وتعطلت حياة نشيطة نبيلة من صور مختلفة من الموتى، مات رجل بكل معنى الرجولة، في زمن نحن فيه أحوج إلى نصف رجل، لأن الفرد النافع في أمة مثل أمتنا يعد عنصراً غريباً ظاهراً بينا إذ كنا لم نعتد بعد أن نكون على شيءٍ من النفع، مات المرحوم عمر سلطان باشا وهو اسم مجيد من الأسماء الكبيرة التي تطل صورتها من مجموعة صور الماضي، وسلسلة ذهبية من أسرة معروفة في تاريخ هذه البلاد. بل هو ذكرى حلوة عظيمة الأثر في نفوس المصريين هو نسخة أخرى من رئيس أول مجلس من مجالس النواب في تاريخ هذا البلد لأن كلمة سلطان باشا لا تزل تهز فؤاد كل مصري، لأنها تعود إلى ذكرى سلطان باشا الكبير، والد فقيد اليوم، رئيس مجلس النواب القديم.
ومن ثم كان سلطان باشا الصغير يحمل في نفسه دستورية سلطان الكبير وعظمته وفضله إذ كان اسمه في تاريخ المآثر الأهلية والمكرمات العمومية في رأس القائمة، وطليعة الصحيفة، ونحن نعد موته خسارة كبرى، ونكبة عظيمة للفقيرين والمعوزين، وضربة للخير، ومصاباً نزل بالرحمة، لأن كل ثروة في الأمة من ثروات الأفراد الكبار هي حجر صلب متماسك في بنائها. وركن متين من أركانها، لأن حياة الأمم الجيوب، وفي المصارف وفي الخزائن. ثم هي بعد ذلك الأيدي، ثم في الأعمال الكبيرة والمفاخر العظيمة. لأن كل رجل غني ينفق من ماله على غير مناعمه يعد رجلاً نادراً ملائكي النزعة، لأن للغني عدة من الطبائع يكتسبها صاحبها من ورائه، وكل ورقة مالية تدخل في جيب الغني الحريص تنزع ورقة من صحائف كتاب الشفقة، حتى لقد كاد كتاب الشفقة لا يبقى منه إلا غلافه، ولعل الأقدار تهب بعض الناس نعمة الغنى، ثم تصيبهم بعدها في قلوبهم بكل مادة القسوة لكي يمشوا في الدنيا بقلوب ذهبية.
وإذا كان ذلك كذلك فحليقٌ بكل مصري أن يحزن لفقد هذا الرجل التقي الصفحة، في وسط(34/27)
كثيرين سود الصحائف.(34/28)
استدراك
جاء في صفحة 16 سطر 11 من كتاب تربية الإرادة الذي نشرنا منه ملزمتين في هذين العددين ويهجمون منه على حين طيب وصحتها ويهجمون منه على جني طيب(34/29)
العدد 35 - بتاريخ: 20 - 4 - 1917(/)
أمس واليوم
مقال بديع للكاتب الأشهر السيد مصطفى لطفي المنفلوطي كتبه خصيصاً لهذه المجلة ووعد أن سيوالي البيان بكل ما يكتب من الآن. .
عندي أن الفضيلة والرذيلة كالجمال والقبح أمرين اعتباريين يختلفان باختلاف الأمكنة والأزمنة. فكما أن الجمال في امة قد يكون قبحاً في أمة أخرى. كذلك الفضيلة في عصر، قد تكون رذيلة في عصر آخر.
ليست الرذائل والفضائل أسماء توقيفية كأسماء الله لا يمكن تغييرها ولا تبديلها. وليست الفضيلة إلا لأنها طريق السعادة في الحياة ولا الرذيلة رذيلة إلا لأنها طريق الشقاء فيها. فحيث تكون السعادة في صفة فهي الفضيلة وإن كانت رذيلة اللؤم.
وحيث يكون الشقاء في صفة فهي الرذيلة وإن كانت فضيلة الكرم. لقد اعتاد علماء الأخلاق في كل زمان زفي كل مكان من عهد آدم إلى اليوم أن ينشروا لنا في كل كتاب يؤلفونه أو رسالة يدونونها جدولين طويلين ثابتين لا ينتقلان ولا يتحلحلان. . يكتبون على رأس أحدهما عنوان الفضائل وتحته كلمات الجبن والبخل والخيانة والغدر والطمع والدناءة والكذب والظلم والقسوة. وأرى أنه قد آن لهم أن يعلموا أن الناس اليوم غيرهم بالأمس. وأن أساليب الحياة الحاضرة غير أساليب الحياة الماضية وأن كثيراً من الصفات التي كانت في عهد البداوة والسذاجة رذائل يجتويها الناس ويتبرمون بها ويستثقلون مكانها قد أصبحت في هذا العصر عصر المدنية المادية المؤسسة على المنافع والمصالح حالة واقعة مقررة في نظام المجتمع البشري. وأسساً ثابتة تبنى عليها جميع أعماله وشؤونه فلا بد للناس منها. ولا غناء لهم عنها. ولا مندوحة لهم أن أرادوا أن يخضوا معترك الحياة مع خائضيه من أن يتعلموها تعلماً نظامياً ويدرسوها مع ما يدرسون من علوم الحياة التي يتوقف عليها نظام عيشهم ويتألف منها شأن سعادتهم وهنائهم.
كان الكرم فضيلة يوم كان الناس يحفظون الجميل لصاحبه ويعرفون له يده التي يسديها إليهم. فإذا هوى به كرمه إلى هوة من هوى الشقاء وجد من بين الذين أحسن إليهم أو جل في نفوسهم شأن إحسانه من يمد إليه يد المعونة ليستنقذه من شقائه أو يرفهه عليه. أما اليوم وقد أنكر الناس الجميل واستثقلوا حملهعلى عواتقهم بل أصبحوا يشتمون بصاحبه يوم تزل به قدمه ويصفونه بجميع ما ورد في كتب المترادفات من أسماء الجنون وألقابه فليس الكرم(35/1)
فضيلة وليس من الرأي الدعاء له والحض عليه.
وكانت الرحمة فضيلة يوم كان الناس صادقيين في أحاديثهم عن أنفسهم فلا يعترف بالبؤس إلا البائس. ولا يلبس الأطمار إلا من يعجز عن لبس الجديد. أما اليوم وقد ذلت النفوس وسفلت المروءات فلبس ثوب الفقير غير الفقير. وانتحل البؤس غير البائس. وأصبح نصف الناس كسالى متبطلين لا عمل لهم إلا التلجوأ إلى ظلال القلوب الرحيمة يعتصرونها ويحلبون درتها حتى تجف جفاف الحشف البالي فالرحمة هي الفقر العاجل والخسران المبين.
وكانت الشجاعة الأدبية فضيلة يوم كان الناس ينصرون الشجاع ويؤازرونه. ويتتبعون خطواته في جميع مذاهبه التي يذهبها. فلا ينقطعون عنه حتى يظفر أو يموتوا من دونه. أما اليوم وقد ضعفت همم الناس ووهنت عزائمهم. وماتت في نفوسهم الحفائظ والغير. ووكل بعضهم أمره إلى بعض. فإن رأوا قائماً يمينهم بدعوة أغروه بالمضي فيها ثم وقفوا على كثب منه ينظرون ماذا يفعل فإذا ظفر قاسموه غنيمته وإن فشل خذلوه وتنكروا له فالشجاعة جنون لا يجد صاحبها من ورائها إلا التهلكة والشقاء.
وكانت القناعة فضيلة يوم كان الفضل هو الميزان الذي يزن به الناس أقدار الناس وقيمهم وكان الفقر مفخرة للشريف إذا عفت يده. والغني معرة للدنيء إذا سلفت مساعيه وأغراضه أما اليم وقد مات كل مجد في العالم إلا المجد المالي وأصبح الناس يتعارفون بأزياءهم ومظاهرهم. قبل أن يتعارفوا بصفاتهم وأعمالهم. فالقناعة ذل الحياة عارها وبؤسها الدائم وشقاؤها الطويل.
وكان الغضب رذيلة يوم كان الناس يعرفون فضيلة الحلم ويقدرونها قدرها. ويطأطئون رؤوسهم بين أيدي صاحبها إجلالاً وإعظاماً. أما وقد أصح الناس أشراراً يحملون شرورهم على أيديهم ويدورونبها في كل مكان يطلبون لها رأساً يصبونها عليه ولا يجرؤون على غير الرأس الضعيف اللين. فلا خير في الحلم والخير كل الخير في الغضب.
الحياة معترك أبطاله الأشرار وأسلحتهم الرذائل. فمن لم يحاربهم بمثل سلاحهم هلك عن الصدمة الأولى.
يجب أن يكون الناس جميعهم فضلاء ليسعدوا بفضيلتهم فإن عجزوا عن ذلك فليكونوا(35/2)
جميعاً أدنياء ليتقي بعضهم بأس بعض. أما أن يتقلد سوادهم سلاح الرذيلة والنزر القليل منهم سلاح الفضيلة وهو أضعف السلاحين وأوهمهما فليس لذلك إلا معنى واحد. وهو أن يهلك أشراف الناس وفضلاؤهم في سبيل حياة أدنيائهم وأنذالهم.
إن الدعاء إلى البر والإحسان والرحمة والشفقة والعدل والإنصاف والصدق والإخلاص في هذا العصر إنما هو حبالة ينصبها الدهاة الماكرون للضعفاء الساذجين لخدعوهم بها عن مائدة الحياة التي يجلسون عليها. فيستأثروا بها من دونهم. فلا يدعو الداعي إلى الكرم إلا لينل ما في جيوب الناس إلى جيبه. ولا إلى العفو إلا ليصيب بشره من يشاء دون أن يناله من الشر شيء. ولا إلى القناعة إلا ليتعلل من سواد المزاحمين له على أغراض الحياة ومطامعها. ولا إلى الصدق إلا ليستمتع وحده بثمرات الكذب ومزاياه.
كلنا يكذب فلم يعيب بعضنا بالكذب بعضاً. وكلنا يبسم لعدوه وصديقه ابتسامه واحدة فلم نستنكر الرياء، وكلنا يطمع في أن تكون له وحده جميع خيرات الأرض وثمراتها من دون الناس جميعاً فلم نستفظع الطمع. وكلنا يتربص بصاحبه الغفلة ليختتله عما في يده فلم نشكو من الظلم؟
إنا لا نفعل ذلك إلا لأنا نريد أن نستخدم الفضيلة في أغراضنا ومآربنا كما استخدم رؤساء الدين الدين في العصور الماضية. وكما استخدم رجال السياسة الوطنية في العصر الحاضر.
يجب أن يتعلم الطفل من أول يوم يجلس فيه أمام مكتب مدرسته أن الموجود في الحياة غير الموجود في الكتب وأن قصص الفضائل التي يقرؤها ونوادر المروءات والكرم والإيثار وأحاديث الشهامة والشجاعة وعزة النفس وإبائها إنما هي روايات تاريخية قد مضت وانقضى عهدها حتى لا يصبح ناقماً على العالم يوم ينكشف له وجهه ويرى سوآته وعوراته. وحتى لا يضيع عليه عمره بين التجارب والإختبارات.
ولو كنت أعلم من أصول الرذائل وقواعدها فوق القدر الذي أعلم منها لألفت للناشئ كتاباً دراسياً أبين له فيه كيف يكذب التاجر. ويغش الصانع. ويلفق المحامي. ويدجل الطبيب. ويختلس المرابي. ويرائي الفقيه. ويصانع السياسي. ويتقلب الصحفي. ثم أقول له هذه هي الحياة وهذا سبيل العيش فيها إن أردتها. فإن لم تردها فدونك مغارة موحشة في قمة من قمم(35/3)
الجبال العالية فعش فيها وحدك بعيداً عن العالم وما فيه. وكل مما تأكل حشرات الأرض واشرب مما تشرب منه حتى يوافيك أجلك.
أنا لا أدعو إلى الرذيلة بل إلى سعادة الحياة وهنائها وهو ما أسميه الفضيلة. لأني أعتقد أن الشر لا يقاوم في العالم إلا بالشر. وإن حامل السيف لا يغمده إلا أمام حامل سيف مثله. والسيل الجارف لا يقف عن جريانه إلا إذا وجد في وجهه سداً يدفعه. وإن الظالم لا يظلم إلا إذا وجد بين يديه ضعيفاً. والمحتال لا يحتال إلا إذا وجد أمامه غبياً. وأن الناس لا يتحامون ولا يتحاجزون ولا يأمن بعضهم بأس بعضهم إلا إذا برزوا جميعاً في ميدان واحد يتقلدون سلاحاً واحداً في فضاء واحد.
ما أجمل الفضيلة وما أعذبها. وما أجمل العيش في ظلالها لولا أن شرور الأشرار قد حالت بيننا وبينها. فرحمة الله عليها. ووا أسفا على أيامها وعهودها.(35/4)
الآداب وتطورها
للكاتب الاجتماعي الدكتور عبده البرقوقي
اختلف العلماء والفلاسفة في تعريف الآداب. وسبب الخلاف راجع إلى أنهم غير متفقين على معرفة الأصل الذي نشأت عنه وتشعبت منه. وقبل أن ندلي بتعريفنا يجب أن نتساءل عن منشأ الآداب وكيفية وجودها. وهل هي غريزية في الإنسان أو اكتسابية، وإن كانت إكتسابية فمن الذي أكسبه إياها؟ الدين أو الإجتماع أو هو الذي اخترعها من نفسه تسهيلاً لأعماله؟
يرى فريق من العلماء أن الآداب غريزية في النفس وأن الإنسان مفطور على تمييز الخير من الشر وأن الآداب قائمة بذاتها غير متصلة بالدين ولا متفرعة عن الصالح العام. فالخير خير لذاته لا لأنه نافع أو لأن الدين أمر به والشر شر لذاته لا لأنه ضار أو لا لأن الدين نهى عنه.
ولو كان هذا الرأي صحيحاً للزم أن تكون الآداب جامدة ولا يعتورها التغيير والتبديل مهما تغيرت الأحوال وتبدلت الشؤون. فالشر شر والخير خير منذ وجد الإنسان إلى ما شاء الله.
بيد أن الواقع يخالف ذلك. والمشاهد أن الآداب مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة والشعوب وإن كان اختلافها بطيئاً لا يلحظ إلا إذا كان المدى بعيداً. أما إذا كانت المسافة قصيرة فيخيل إلى الناظر أن الآداب ثابتة لا تتغير.
ويرى العلماء الروحانيون ومن على شاكلتهم أن مصدر الآداب الدين. فإن الدين هو الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأعد للمتقين جنات النعيم وللأشرار عذاب الجحيم. ولولا الدين لكان الإنسان كالعجماوات خلوا من كل فضيلة يرتكب المنكرات من غير حياء ولا جزع ومن لا دين له لا يرتجى منه خير ولا يتقي شره.
غير أن من بين المتدينين الذين لا يتطرق الشك إلى يقينهم ولا يتوانون في تأدية واجباتهم الدينية من يرتكب الشر ويقترف الجرائم من غير أن يكون لديه سلطان عليه. يذوب أسى وخشوعاً إذا ذكر الله وإذا فرغ من صلاته هب إلى خطف الأرواح واختلاس الأموال ونهش الأعراض مستعيناً بالله وملائكته ورسله على تحقيق آماله. وهل يصعب على الإنسان أن يوفق بين دينه وشهواته ويتلمس لجرائمه ما يبررها في نظره ويخلق لنفسه(35/5)
المعاذير التي تطمن باله وتريح ضميره.
وجدت الآداب ممتزجة بالدين امتزاج الماء بالعود فلا ترى ديناً خلوا من الحث على الفضيلة والنهي عن الرذيلة ولا تجد آداباً قائمة بذاتها منفصلة عن الدين إلا في الندرة. ولقد اختلطت الآداب بالعقائد حتى تشاكلت وتعذر التمييز، ومن هنا نشأ القول بأن الدين هو أصل الآداب - ومن أمد غير بعيد كانت القوانين متصلة أيضاً بالدين فانفصلت عنه فهل تنفصل الآداب عن الدين أيضاً وهل امتزاج القوانين فيما مضى يسمح لنا بأن نقول أن الأديان أصل للشرائع والقوانين.
إن منشأ الدين الإجلال والإعظام وشعور القلب بالرهبة والخوف. ومنشأ الآداب كما سنبينه بعد هو الإجتماع وحب الذات وضرورة التوفيق بينهما، ولقد وجدت الآداب والدين معاً فامتزجت الآداب بالدين والإنسانية في أول عهدها لا تعرف توزيع الوظائف على الأعضاء وقسر العضو على وظيفة واحدة بل كان للعضو الواحد عدة وظائف فكان من شأن الدين أن يراقب الآداب ويسن القونين ويستخلص النظريات العلمية ولكن سارت الإنسانية بعد ذلك بأزمان بعيدة استقل القانون واختلاف الدين والآداب في الأصل والمنشأ يوضح لنا جلياً ما أشكل علينا في أول الأمر من وجود أناس متدينين وهم في الوقت نفسه قارورة خبث وبؤرة فساد.
وهناك رأي آخر يقول بأن الإنسان هو الذي أوجد الآداب وأنه هو الذي اخترع الخير والشر تسهيلاً للعلاقات الإجتماعية وتحديداً لها فسمى ما يفيده خيراً وما يضره شراً وفي الواقع وننفس الأمر لا خير ثمت ولا شر.
حقاً لا خير ولا شر فإن الأمور كلها لسببه مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد وما هو خير عندنا قد يكون شراً لغيرنا وما نعتبره أدباً ربما اعتبره سوانا سفالةً ولكن لا تصدق بأن هذا محض اختراع من الإنسان.
يعتقد الإنسان وجود خير وشر ويحكم على بعض الأمور بأنها خير وعلى البعض الآخر بأنها شر ويجوز أن يكون مخطئاً في حكمه أو واهماً في اعتقاده ولكنه وهم طبيعي منشأه حياة الإنسان الأولى وتداول النفع والضر عليه مما يحيط به وارتكازهما في جهازه العصبي.(35/6)
ولقد لبثت البيئة الأولى التي كان الإنسان عائشاً فيها قروناً عديدة لم تتغير تغيراً محسوساً فأكسبته آداباً مخصوصة لازمته طوال هذه القرون فارتكزت في أعضائه وصار لها في بنيته جهاز خاص فتوارثها عنه أعقابه وأصبح الإنسان يعتقد بحق أنها آداب مطلقة.
فطر الإنسان على الأثرة وحب الذات حفظاً لحياته وبقاء نوعه، والأثرة خميرة صالحة لكثير من المزايا الإنسانية غير أنها قد تلقي بالمجتمع الإنساني إلى التهلكة لو أطلق لها العنان وتجردت من كل قيد.
وهو من جهة أخرى مدني بالطبع يجب الإجتماع ولا غنى له عن الوئام والإتحاد مع العائلة أو القبيلة التي كان عائشاً بينها ليكون قادراً على درء الخطوب ومقاتلة الأعداد والتغلب على الوحوش الضارية التي تنازعه البقاء خصوصاً إذا كانت العائلة أو القبيلة قليلة العدد كما كانت الحال في مبدأ الإنسان ولم يسد الإنسان على العالم ولم يتغلب على أعدائه إلا بعد جهاد طويل نشأ عنه حب الغير وتآخي الناس واعتبار كل منهم للباقين بمثابة حلفاء تحافظ على حياتهم ويحافظون على حياته وإذا حميت الأثرة الفردية بأحدهم ودفعته إلى التعدي على آخر فقد أخل بالمجتمع كأنه تعد على المجموع مهما كان تعديه تافهاً واعتبر عمله مخلاً بالآداب، فالآداب قواعد اجتماعية أوجدتها ضرورة الإجتماع منعاً للأثرة الفردية من الجموع وحثاً للناس على عمل النافع والإمتناع عن المضار، وبعبارة أخرى قواعد اجتماعية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وهذا الحد واسع جداً غير قاصر على الآداب بل يشمل أيضاً القوانين ولتصحيحه يجب أن نخرج منه القوانين التي لا يدخل في دائرتها الأكل تعد يظنه المجتمع الإنساني بليغاً ومهدداً لكيانه ويفرض لمقترفه عقاباً زاجراً.
وكانت الهيئة الإجتماعية في أول الأمر قاصرة على أعضاء العائلة أو القبيلة لا تتعدى ذلك إلى غيرهم من الأجانب الذين كانوا معتبرين كأعداء ألداد لا يرعى لهم ذمار ولا يعترف لهم بحق بل يجب مقاتلتهم أينما وجدوا فالآداب إذ ذاك كانت قاصرة على حماية العائلة أو القبيلة فقط ومن عداها فهو مهضوم الحقوق.
ولم يكن الإنسان عائشاً في سلام واطمئنان بل كان قلق البال على حياته يكافح الوحوش الضارية التي كانت تنازعه البقاء والسيادة ويقاتل القبائل الأخرى إما دفاعاً عن نفسه أو(35/7)
طلباً للسلب والنهب فالخطر المحدق بالقبيلة كان عظيماً جداً ولا طاقة لها على دفعه إلا إذا كانت قوية ولا تكون قوية إلا إذا كان الأمن مستتباً بين أفرادها فكان كل ما من شأنه أن نحل بهذا المر يقع بالقوة مهما كان تافهاً ويعاقب مقترفه عقاباً صارماً لخطورة الحال كما بينا. فكانت الآداب إذ ذاك صارمة والقوانين قاسية وحرية الفرد معدومة ودائرة العقاب واسعة تشمل تقريباً كل شيء، قل أن توجد هفوة ولو تافهة ولا يكون لها عقاب، وجملة القول أن أسلافنا كانوا لا يميزون بين الآداب والقوانين وكانت قوانينهم كلها جنائية وكانت العقوبات شديدة للغاية.
ولم تتلطف الآداب ولم تنقشع عنها غياهب القوة ولم تتهذب القوانين ولم تستنشق الأفراد الحرية إلا بعد أن قلت الغارات والحروب وأمن الناس جيرانهم واندمجت القبائل في بعضها وصارت أمماً - أما القبائل التي لبثت على حالها ولم يصادفها هذا التطور لفقدان أسبابه بينها فلا تزال شديدة البطش بأفرادها تأخذهم بالقوة والقسوة محافظةً على كيانها وليس للفرد إزاءها شخصية بالمعنى الذي نفهمه نحن الآن.
وكلما ارتقت الأمة في مدرج الحضارة والمدنية ارتخت قيود الأفراد وزاد نصيبهم من الحرية الأدبية واتسع لهم المجال في القول والعمل وقل افتيات المجموع وتعرضه للفرد لها بقية.(35/8)
الإدانة والمسؤولية
ـ 2 ـ
إن سليم العقل من يقدر على فهم الأمور ولا يشذ في عمله عن دائرة الحكمة. وبعبارة أخرى من كان له في سلوكه قائد من التروي يتبصر في الأسباب ويوازن بين العلل التي تدفعه إلى العمل وتنهاه عنه ليختار لنفسه الطريق الذي ينبغي له أن يسير فيه.
غير أن اختياره هذا متوقف على الظروف والمؤثرات وعلى طبيعته وتركيب جسمه الذي يتأثر بعلة دون أخرى. ولكن أليس التركيب الجثماني نتيجة الوراثة والتربية، وعلى ذلك يكون سليم العقل هذا غير مسؤول أيضاً عن عمله.
إن الغرض الذي تنشده القوانين وتسعى إليه الشرائع هو تربية صحاح العقول وتهذيب نفوسهم وحملهم على التأني والتروي وزنة الأعمال بالحكمة حتى تكون على وفق ووئام مع صالح الهيئة الإجتماعية. ولو كان المرء خالياً من كل شيء ماعدا خوفه من القانون واحترامه إياه لكان الناس جميعاً كالمعتوهين الذين مر ذكرهم آنفاً.
ولو كانت القوانين صالحة لكانت معرفتها وراثية ولصار المجتمع الإنساني كخلايا النحل يؤدي كل وظيفة بدون ملل ولا ضجر.
غير أنا لم نصل إلى هذه الدرجة ولم نزل بعيدين عنها بمراحل عديدة. وكل فرد يتخذ من تربيته ووراثته (خصوصاً وراثته فإنه يوجد كثيرون متفقون في التربية غير أنهم مختلفون) محكمة باطنية يسميها بالضمير ويحكمها في كل شيء.
قال حكيم إذا أردت ألا تقاضي فلا تقض على أحد غير أن هذا الحكيم نفسه لم يسعه أن يتبع حكمته وينهي نفسه عن مقاضاة الناس والحكم عليهم بل استمر في محاكمتهم بدون هادة ولا انقطاع حيث وعد الذين يتبعون حكمته ويسيرون على مقتضاها بخير الجزاء ولكن ألم يأت دوره أيضاً في المحاكمة وحكم عليه بالصلب. أما نحن فلا ندعي أننا أعقل منه أو أكثر منه حكمة ولذلك لم نفتر عن مقاضاة الناس والحكم عليهم فإن هذا طبيعي في النفس.
يقضي العدل بمكافأة كل إنسان على قدر قيمته. ولكن أليست ضمائرنا هي الميزان الوحيد الذي نزن به أقدار الرجال ونحكمها في أعمالهم، وحكمها بات لا يقبل نقضاً؟ ومن المحال(35/9)
أن نرضي الناس جميعاً والمحاكم الباطنية أي محاكم الضمير والوجدان مختلفة غير متماثلة. وجدير بهذه الحقيقة أن تحملنا على عدم التعويل على ضمائرنا وعدم الإعتداد بأحكامها ولكن أنى لنا ونحن لا نذعن إلى الحق بسهولة.
العدل أجمل وأرقى شعور في الإنسان. وقد ألبسنا الإله ثوباً نفيساً من هذا العدل غير أن الإله بدأ عمله بتفضيل هابيل على قابيل. وهذا هو عين الجور الظلم فإنه هو الذي خلق الإثنين بما فيهما من فضل ونقص وخير وشر. إلا أن هذا لبشري محض.
يرشدنا المنطق إلى أن المسؤولية غير موجودة وإن الأولى والأعدل محو العقاب والثواب من معجمات لغاتنا وكتب شرائعنا غير أنا نحب أفراداً ونمقت آخرين وشعورنا أعز لدينا من العقل يقول أن طول فرانس لو كنا نعقل أو نفهم لكانت النفوس البشرية لدينا كالأشكال الهندسية لدى الرياضيين فلا نبغض إنساناً لقصر عقله وخبث طويته كما لا يكره الرياضي الزاوية إذا قل انفراجها عن الزاوية القائمة أو زاد عنها ومع هذا تنطوي قلوبنا على الحب والكراهة وهذا ألد عدو للحكمة.
يحاول بعض الفلاسفة ذوي العواطف الشريفة والإحساسات الرقيقة أن يلينوا من قلوب القضاة ويحملوهم على أخذ المجرمين الرأفة والشفقة بأن يقولوا أن المجرمين غير مدانين فيما اقترفوه من الإثم والعدوان. وإنما الهيئة الإجتماعية هي المذنبة الأثيمة وهي المسؤولة عن إجرام هؤلاء المساكين وإن هؤلاء الفلاسفة لمحقون في رأيهم غير أهم لا يريدون الإستمرار فيه إلى النهاية وليسوا بالمثال الصالح ولا الأنموذج الحسن في أحكامهم لأنهم يحتقرون القضاة قساة القلوب ويسلقونهم بألسنة حداد مع أن هؤلاء القضاة لا يخرجون عن كونهم مجرمين كالمجرمين الآخرين غير مسؤولين عن أعمالهم ولقد يمكن معالجة هؤلاء الفلاسفة وإرجاعهم عن خطئهم لو لم يكن نتائج رأيهم (وهذه النتيجة طبيعية ولكنهم لا يقبلونها) اعتبار القاضي طيب القلب كالقاضي القاسي لا يفضله في شيء ولا يستحق مدحاً ولا ثناء، يريدون إلغاء العقاب ولكنهم يحتفظون بالأجر والثواب وهذا لا يمكن إزالته من النفوس إلا بإزالة الإنسانية نفسها.
وهل هذا غير منطقي! أو هل المنطق الذي أضلنا عن الحق! وهل لم يكن رائدنا الدقة! أو هل هذه الدقة وهم وخيال.(35/10)
لا ينفك الإنسان عن التغير والتبدل في كل آونة ولحظة. وما الإنسان إلا سلسلة تراكيب جثمانية مختلفة يأتي بعضها في تلو بعض ويعقب أحدها أثر لآخر ولا يمكن سرد أعمال إنسان من غير أن نلاحظ أنه في هذه اللحظة غيره في اللحظة التي سبقتها وأنه ليس هو الآن نفس الرجل الذي كان منذ هنيهة مضت. وإذن فمحال على المنطقي المدقق أن يشكر إنساناً على عمل اشترك في تركيب جثماني غير تركيبه الحالي.
نحب قائداً ونجله ونغدق عليه الألقاب والنياشين فنسميه البطل المقدام والقائد العظيم لأنه انتصر على أعدائه وأنزل بهم المحن ولا نذكر المدفع الذي حاز به الفخر ونال بواسطته النصر مع أن المدفع أقل تغيراً من القائد وأدوم على كيانه منه.
إن الأسماء التي تعطى للأفراد وتلازمهم طول الحياة من تغيير ترابط أعمال الفرد بعضها ببعض ماضيها وحاضرها ومستقبلها بحبل متين لا تنفك عقدته أبداً. ولكن من منا لم يشعر بألم عظيم وحزن عميق حينما سيق فرديند ديلاسبس العظيم إلى محكمة الجنايات بصفة منهم أثيم.
هل من كان يوماً عظيماً يبقى دائماً عظيماً! وهل من أجرم ولو مرة يصير طول الحياة مجرماً أو هل من المحال أن ينقلب اللص القديم رجلاً نزيهاً! إن هذا ينبغي أن يكون لو كانت القوانين لا ترمي إلى معاقبة المجرمين وإنما تقويم نفوسهم قدر المستطاع. إن اللص الذي يعود إلى الإجرام بعد ما اقتص منه القانون على جريمة سابقة يظهر للملأ ننقص هذا القانون وعواره. ولا يكون القضاء حسناً - قلت حسناً ولم أقل عادلاً لأنه لا وجود للعدل والظلم ولا أساس لهما من الصحة - أقول لا يكون القضاء حسناً إلا إذا كان غرضه مداواة المجرمين مما ألم بهم وأضر بجهازهم العصبي فأفسده. ولكن القضاء للأسف لا يعني بهذه المسألة ولا يعتبرها التفاته بل يعاقب المجرمين باسم العدل الذي لا وجود له ولا أثر له من الصحة وإنما هو محض خيال ووهم ويترك في نفوسهم ذكرى قد تزيد من شرهم وترصد في وجوههم باب الأمانة فيما لو حدثتهم نفسهم يوماً بالتوبة.
ولكن من منا يقبل على نفسه أن تكون شخصيته متغيرة غير ثابتة على حال وأن يكون أعجوبة غريبة لا تنفك عن التلون والتبدل.
ينسى المرء سيئاته التي تزري بشرفه ويذكر دائماً حسناته التي ترفع من قدره. ولا يحفظ(35/11)
من سيرة غيره إلا القبيح معتقداً أن الحط من قيمة رفعة له وإعلاء لشأنه. ولولا الأشرار ما وجد الأخيار.
إن اللغات البشرية لغات شعور وإحساس وليست بلغات علم وفلسفة. وإذن فليس من المستغرب القول بوجود إدانة ومسؤولية ولا نسبة العقاب والجزاء إلى العدل ولا تسمية الأفراد بأسماء لا تفارقهم طول الحياة وإن كانت الحقيقة خلاف ذلك فإن اللغات لا تعبر عن الحقيقة وإنما تعني بالإفصاح عن علاقات الناس بعضهم ببعض ومن العبث بل من الحمق أن تكون هذه العلاقات قائمة على الحقيقة وإنما تعني بالإفصاح عن علاقات الناس بعضهم ببعض ومن العبث بل من الحمق أن تكون هذه العلاقات قائمة على الحقيقة فإن قوامها الأغلاط والأوهام.
وخليق بمن ينكر المسؤولية أن ينكر الثواب ولا يدعي لنفسه فضلاً ما. ولكن أني لنا ذلك وقد فطرت نفوسنا على العكس ويتضح مما مر من تاريخ الإنسانية أننا بعيدون جداً عن الحكمة والفلسفة.
إن الناس ليسو بحكماء وقد يكون هذا من حسن حظهم فإنهم لو كانوا كذلك لكانت الحياة مملة.(35/12)
الحرب
كلمة شعرية نثرية بديعة في وصف الحرب الحاضرة
من كتاب المساكين
رقعة من الأرض كأن فيها شيئاً من الطينة التي خلق منها الإنسان، فهي تمطر من دمائه، وكأنما عرفته في سماء الله فلا يكاد ينزل بها الجيشان. حتى تعيد أرواح أكثرهم إلى سمائه، ينجذب إليها الجندي لأن فيها ترابه بل لأن فيه من ترابها، وينطرح عليها لأن اقتراب منيته في اقترابها، ولا تزل تصرعه وكأنها من شوقها تضمه. وتلقيه على صدرها ميتاً أو جريحاً كأنها تعلمه بذلك أن الأرض أمه. وهي مزرعة الموت نباتها الرؤوس، فمنها قائم وحصيد، وثمراتها النفوس، فمنها داني القطاف ومنها بعيد، وقد رواها بالدم الحي فنبت فيها العظم وأثمر فيها الحديد.
بل هي ساحة لحرب ترفع عليها القوة راية وتنزل راية، ويحشر في مسرحها الناس لتمثيل لهم الموت كل يوم رواية، وقد اضطربت فيها الآجال فكأنها أمواج في بحر القدر ناخره، وتناثر فيها الرجال فكأنهم عظام في بعض المقابر ناخره. وظهرت تلك الساحة وقد كشرت عن أنياب من السيوف وأسنان من الأسنة كأنها لأهل الدنيا فم الآخرة أما الجنود فإذا رأيتهم يلتحمون قلت زلازل الأرض قد خلقت على ظهرها، وإذا شهدتهم يقتحمون خلت نفوس الكرام قد حملت على دهرها، وقد أيقنوا أنهم إن لم يكونوا للموت كانوا للأسر، ومن لم يبن منهم على الفتح بنى على الكسر وما منهم إلا من يحمل رأساً كأنه لا يمكنه على عنق لا يدري كيف يمسكه، في بدن لا يعرف أيأخذه الموت أم يتركه، فهو لا يبالي أظلته الشمس. أم أظلم عليه الرمس، ونهض للتاريخ مع الغد أم ذهب في التاريخ مع الأمس، وإذا كان من صفة الميت أنه اسم في الحياة بغير جسم، فمن صفة هذا الحي أنه جسم يعيش بغير اسم. وما الجندي إلا عدد في حساب الحرب، فسيان قطعه الطرح أم أخذه الضرب وإنما هو حيث يتهيأ له انتظار الأقدار، فليس إلا الصبر، ولو في بطن القبر، وحيث يطبخ له النصر على النار. فثم المكان ولو في جوف البركان، وآية عقله أن يكون كالآلة المتقنة تعمل بلا عقل فلا يخشى الحيف، ولا يسأل لماذا ولا كيف، ومن ذكائه أن يكون من صحة الذهن. . . بحيث لا يفرق في الموت بين الجمر والتمر، وأن يكون من خفة الروح بحيث تحمله(35/13)
اللفظة الخفيفة على جناح الأمر.
وما الحرب إلا أن يتنازع الناس على الحياة فيقيموا الموت قاضياً، ويطلبوا من الشريعة المدونة في صفائح السيوف حكماً على الحياة ماضياً، فكلا الفريقين يقدم الحجج، من المهج، ويأتي من بلاغة الموت في خصامه بكل ضرب ويجري الحياة مجرى الإستعارة في بيان الحرب.
وقد توقف الرجال في يوم أطول من يوم العرض، وتقاذفوا بالآجال حتى أوشكت السماء لكثرة ما ينزل منها أن تقع على الأرض، فالخيل منقضة كأنها صواعق أرسلها الموت في أعنه، أو نوازع من السحاب بروقها الصورم والأسنة، مسرعة كأنها تسابق تلك المنايا التي جرت بها الأقدار، جائلةً كأنما تحيرت كيف تفر من ساحة الموت بما حملت من الأعمار، وعلى ظهورها كل فارس كأنه بين الرماح أسد في غاب، وكأن الموت من سيفه سم خلق في ناب، وكان العنان في يده سوط ولكنه سوط عذاب، لم يعد في الفرسان، حتى لم يعد من الإنسان، فإذا صاح بقرنه عرفت وحوش ذلك الصوت، وإذا هاجته الحرب لم يفته من ضروب النقمة فوت، وإذا نظر إلى مقتل عدوه حسبت عينيه نقطتين على تاء الموت.
وقد ثار الغبار كآفة طريق يمتد من الأرض إلى السماء، أو كأنما أراد أن يمثل السحاب وقد رأى المطر تمثله الدماء، أو كأنه لما رأى الحرب تتوقد هب مستجيراً من الرمضاء، أو هو قد فر من الأرض لما خشي أن تنفلق الأرض من حوافر الخيل، أو كأنه أنف أن يأتي الناس أعمال اللصوص في نور الشمس فضرب عليهم قبة من الليل، أو حسب عقول الجند في أيديهم وأرجلهم. . . فطار ينظر أين تلك الهام، أو هو لما رأى المطر أحمر خشي على الأرض فثار ينظر ماذا دهى الغمام.
والمدافع قد رمت الأرض بزلزالها، وألقت على الجند من شر أفعالها، فتركنهم كالغابة الملتفة إذا استطار فيها الحريق وانحط فريق من أشجارها على فريق، وكأنما انقض عليهم من قنابلها جدار من الجحيم. وكأن كل مدفع في صيحة الحرب إنما هو عنق شيطان رجيم.
تحمل في بطونها أجنة من النار ترتعد الحصون لهول ميلادها، وتنحني القلاع مخافةً منها على أولادها، ولها صوت بعيد كأنها تنادي به السماء لترسل المنايا الطارقة، أو لتستقبل الأرواح المفارقة، أو كأنه نشيد فخم تفتخر به الأرض على الرعد والصاعقة، وهي القارعة(35/14)
وما أدراك ما القارعة، أما يومها فيوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وهو إن لم يكن يوم النفخ في الصور. فإنه يوم تحصيل ما في الصدور، وإن لم يكن يوم يبعثر من في القبور فإنه يوم يبعثر الناس في القبور. وهو المدفع حسبه قوة أنه من الحديد، وحسب ما يحويه قول الله عز وجل فيه بأس شديد، وحسبه رعباً أنه شكل عصري من عذاب الخف القديم أعده الله لهذا الإنسان الجديد، فكم من حصن منيع إعتزبه أهله اعتصاماً، فتركهم فيه تراباً وعظاماً، وكم من قلعة شامخة اغتر الجند بقواها، فدمدم عليهم بذنبهم فسواها.
وأما الرصاص فهو من سماء الموت حب غمامة، وله صفير كأنه ترنم الشيطان ببعض أنغامه، ولو أن عاصفة كنست أرض الجحيم لما شوت الوجوه بأشد من ناره. ولا حملت من من هناك إلا ما تحسب هذا الرصاص من حصاره وغباره، يثور كما تثور الأعاصير، ويندفع كما تندفع المقادير، ويقع على الأجسام بالأجل أو يطير، ويتناثر كأن في السماء نجماً تفتت فسقط، أو كأن قطعة ذابت من الشمس فألقت على وجوه الناس هذه النقط، أو هو فوج من ذباب النار، هبط إلى هذه الدار، فلا هم له إلا الجلود وإنضاجها بلذعه، والعيون وإخراجها بنزعه، والعروق واستخلاصها، والدماء وامتصاصها، والأرواح بعد ذلك واقتناصها. وكأنه زفرات غير أنها لا تخرج من الصدر بل تنزل فيه، ولولا أنها تشويه ولا تشفيه، وهو أوقع في الرؤوس من الأوهام، وأنفذ في الأغراض من مكائد الأفهام، وأحر على الأكباد من كل ما يضرم غضب الجبار المغيظ، وما هو إلا العذاب الرفيع إن كان المدفع هو العذاب الغليظ. . .
وهناك من الروع ما لا يحصيه الوصف ولا يحصله، وإن عرفت آلة التصوير كيف تجمله فليس يعرف القلم كيف يفصله، ولعمري لو كان البحر الأسود في المحبرة، لما بلغ في وصف هذه المقبرة، غير أنها الحرب التي ابتدعها العلم لهلاك الإنسان، والقوة التي رزقها العقل فكانت بلاء على الأبدان. قوة المعجزات التي أركبت هذه الذبابة الإنسان على متن الغمام، وطوت لها من السماء بين جناحي النور والظلام، فإذا سمت الطيارةخفض لها السحاب جناح الذل، وأقبلت الملائكة تسأل ربها ما هذا الجزء من العالم بل ما هذا الكل، وما هذه الجرادة التي رأسها في ظهرها، وسرها في جهرها، بل ما هذه الحياة الأرضية(35/15)
التي عرجت في السماء فخرجت من حدود دهرها، وماذا العقل الإنساني الذي لا يوزع جأشه، والذي يرفعه إلى السماء ارتعاشه، وهو مع ذلك يندفع على أهله بالويل اندفاع السيل، ويطلع نصفه كالبور على الأرض ليطلع نصفه الآخر كالليل؟
وهي الحرب العامة كأنها ثورة الدهر وقد ضجر من هذا العالم وطغيانه، ومل من سماجة إنسانه، واشتاق إلى عصر حيوانه، فزفر زفرةً أيقظت الموت وكان نائماً، وتركت هذا الإنسان من الفزع لجنبه أو قاعداً أو قائماً، واستنزلت من القضاء ما كان في علم الله غيباً، واشتعل من هولها رأس الأرض ببياض السيوف شيباً، وجعلت من البيوت قبوراً لأهلها، وساوت في معايش الناس بين صعبها وسهلها، وأظهرت لعقول العلماء أن أكثر علمها من فنون جهلها. . . فالأرض في بلاء منتشر لا يعرف له حجم، والشعوب في ظلام من اليأس ملتهب النجم، والدول في عصر كليل الشياطين كله رجم. .!
تلك هي الحروب القائمة اليوم وليكن كما ترى خيال النار في الماء، أما الحقيقة فكل حرف منها جيش وكل كلمة أمة، ووراء ذلك معنى رائع هو استجماع الحياة الأرضية لمقابلة الموت. ولو أن لهذا الكون مرضاً يعتريه كما نعتري الناس أمراضهم لقلت إن شق الأرض قد ضرب بالفالج فأصبح شقها الآخر لا يكاد يجر ظله حول الشمس لأن الحركة مقسومة بينه وبين ذلك النصف الميت، فقد اشتبكت العلائق بين دول الأرض جميعاً إذ لا تعرف دولة بين الناس ترعى شعباً من البهائم، ولما بدأ الإنسان يعرف نفسه في عصر العلم والمدنية عرف أخاه لأن أكثر حقيقته الإنسانية فيه ومن ثم اتصل به اتصال اليد بأختها في المعاونة على ما يسرت له كلتاهما، وجمع العلم بين هذه الأمم لأنه لا ينتسب لواحدة منها وليس له في الأرض خال ولا عم ولا يعرف شيء يقول للعلم يا بني ويقول له العلم يا أبت إلا التاريخ الإنساني.
ولهذا سفر بين أمم الأرض كل من يخرج من رأس الإنسان وما ينتج من يده واتصل ذلك واستفاض حتى كأنما دارت الأرض دورة جديدة من داخلها فما إن يقع الإضطراب في ناحية منها إلا دخلها من الأثر في سائر نواحيها من هزة ترجف إلى زلزلة تهدم إلى الخسف الذي يجعل عاليها سافلها.
وإني باسط لك شيئاً من الرأي في كلمات قليلة ولكنها كالمعركة الأخيرة التي يحق بها(35/16)
النصر فتكون هي تاريخ الحياة ولا يكون ما سبقها إلا تاريخاً للموت.
ألا فلتعلم أنه لو كان لحوادث الدهر منذ نشأ الدهر تاريخ صحيح يصف لنا ما كان سبباً في كل حادثة وما صارت كل حادثة سبباً فيه لأثبت يقيناً أن ليس في الأرض شيء من خير أو شر غير ما يلزم لبناء هذا التاريخ الأرضي على الوجه الذي يتفق مع بناء الإنسان، والتاريخ يطرد حيناً ثم يعطف ههنا وههنا في مجراه من الغيب فلا يتحول إلا انشقت له ناحية من العالم. فإن خربت دولة أو سقطت أمة فما هي بصاحبة الدهر كله وقد كان لها قسمها منه ثم عاد الدهر يطلب قسمه منها. ولن يجدد البناء القديم حتى يكون الهدم أول العمل في تجديده.
فالحرب شر لا بد منه لأنها من عوامل التحليل والتركيب في تاريخ الإنسانية وهي بذلك سبب من أسباب استمراره، وكل شر لا بد منه فهو خير لا غنى عنه. وهل يبتغي الإنسان أن تضرب العصور والدول كما تضرب الدنابير والدراهم من معدن معروف على وجه معروف ولغاية معروفة! وإذا لم يكن لنا مستقبل التاريخ وكنا في عمر محدود فما نحن والرأي في بناء هذا المستقبل، وكيف نقدم لله آلات البناء ثم نحكم الشرط أن لا يكون في هذه الآلات ما يحتفر أو يكسر أو يرض!
أنما يجعل للحرب ذلك الوصف الذي يطير لها في كل أرض صوتاً بالذم والسوء أنها لا تأتي إلا بغتةً ولا تطبق إلا في غفلات العيش وأنها تثور في بياض الأمن حمراء من لون الموت وتطلع في خطب النعمة سوداء من لون القحط وتنبثق بالشر مأموناً وتصب المحنة على من لا يطيقها ثم لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تلف من جانبي الحياة لفاً، وهي في كل ذلك الليلة المكشوفة التي تشتهرها الأحاديث وتضرب فيها الألسنة وتسيل عليها الأوهام بما في طباع الناس من طبقات الأخلاق ضعفاً وشدة وخوفاً وطمعاً وبخلاً وكرماً وحذراً واندفاعاً بحيث تصبح وكأنما ترتمي على رأس كل إنسان بالموت أو بالخوف من الموت أو بالخبر عن الموت أو بما يشبه الموت أو بما يكون الموت خيراً منه. وإلا فكم يترضرض الناس كل يوم وكم يجدون من صنوف الدمار، في الأعمار، ومن ضروب الأرزاء في الأرزاق، ما لو جمع بعضه إلى بعض في نسق واحد لطم على هذه الحروب كلها ولا ظهر لك أن في السلم ما هو شر من الحرب وإن لم يصرخ به صوت الموت.(35/17)
وما البغي والظلم والكيد والفتنة والإستبداد ونحوها مما يشمل أكثر وسائل الحياة الإنسانية إلا ضروب من القتل الخفي وربما عد الموت في بعضها راحة من الموت. . ولكن ذهب باثمها في اصطلاح الناس أنها خطط موضوعة للمغالبة على الحياة وإنها لا تنالهم إلا فرداً فرداً، وكأن بطل الأمم غير باطل الأفراد لأن الإجتماع قضى منذ أول العهد به أن تكون الأمة مظهر الشرع وأن يكون الفرد مظهر العقاب. ولكن ليت شعري لم يكون الفرد كذلك من الأمة ولا تكون الأمة كذلك من أمة غيرها!
فالحرب هي عقاب الجماعات وهي كذلك ضرورة اجتماعية ولن يخلو منها تاريخ الإنسان إلا إذا رجع الناس أمة واجدة في تركيب مستحيل لا يتهيأ معه أبد الدهر ما يقسم هذه الأمة على نفسها، ولعمري أن ذلك التركيب الإجتماعي الذي يخلو من الحروب لزهد الناس في جنة الله ولا يدع للأديان محلاً على الأرض، يحسبون أنه صلاح في الطبيعة وهو يفسد الطبيعة كلها فما هو إلا خيال خيال شعري في تاريخ الحقيقة الإنسانية وما أرى الحرب إلا البرهان الذي تقيمه الطبيعة أحياناً على فساد ذلك الخيال كلما أوشك الضعف الإنساني أن يتوهمه حقيقة. وإذا كان الله لم يخلق إنساناً من النور فلا تظلم نفسه ولا من الثلج فلا يحمى دمه ولا من الصخر فلا يهن كاهله ولا من الحق فلا يحيد على غيره ولا من الرضى فلا يطمع في سواه ولا من السكون فلا يتحرك في نزاع، فكيف لعمري يخلق بعض الكتاب والفلاسفة هذا الإنسان الجديد من عناصر السلم وحدها؟
إلا أن الإنسان لا يولد ساكناً ولا نظيفاً وإنما يخرج من بطن أمه في ثورة دموية تتفجر من حوله ههنا وههنا وما أرى الحرب أكثر ما تكون إلا ولادة للتاريخ على هذا الأسلوب فكأن من التاريخ ما يولد على أسلوب الأحياء في ثورة من الدم ومنه ما يوجد على أسلوب النبات في تحول ساكن غير منظور.
والحركات المجهولة في نظام الأرض كثيرة بعضها يجري على الطبيعة وبعضها يجري على الإنسان، فكما يدك الجبل وتخسف الأرض ويطغي الماء وتثور العواصف وتنفجر الباراكين يجري على الإنسان من مثل ذلك في القحط والوباء والحروب وغيرها، لأن الإنسان في الحقيقة هو الطبيعة الرفيعة وما القوة المركبة فيه التي تخرج من مجموع غرائزه إلا تهيئة حربية في نفسه، فلولا أن هذا الإنسان مهيأ للحروب بأدواتها الطبيعية(35/18)
وأن هذه الأدوات هي كذلك من أسباب بقاءه اللازمة له لما قامت في الأرض حرب أبداً، ولو أبعدنا في مطارح الفكر ونظرنا من وراء النفوس الإنسانية إلى ميادين الحروب لرأينا أن الحرب التي تقوم بين الأحياء إنما هي حروب قائمة بين مذاهب الحياة.
وكما يجتمع العلماء وأهل السياسة لتنقيح الأنظمة والقوانين تجتمع الأمم المتحاربة لتنقيح الطباع والعادات وما أعجب أن يكون القتل تنقيحاً في قانون الحياة. . . فلا تنظر من الحروب إلا هؤلاء المساكين والمتوجعين والمحزونين فذلك كله إلى نهاية ولا يبقى منه على الأرض شيء قل أو كثر، ولا أحمق ممن ينظر ساعة الهدم إلى آثار الهدم ولا يعلم أن ذلك سبب لما بعده وأنه إذا لم يهلك يوم في سبيل الغد هلك المستقبل كله.
ولكن متى تكون الحرب حقاً ومتى تكون باطلاً فهذا ما لا سبيل إلى وجه الرأي فيه وربما كان الجواب عليه سؤالاً آخر، وهو متى تعرض في حياة الناس تلك المسائل التي لا يصلحون هم أنفسهم لحلها. ومتى تكون الحركة العنيفة التي يتحول بها التاريخ الإنساني كلما وجب أن ينحرف ليتبع مجراه من الغيب؟ أليس ذلك هو السبب في أن العقل أحياناً يكون أول من ينهزم في الحرب كما نراه اليوم فيصبح الفلاسفة والعلماء والمتفننون ولاهم لهم إلا إدارة حركة الموت هجوماً ودفاعاً وترى الصلوات والأدعية تتصاعد إلى الله وفيها ريح الدم والنار كأنها قنابل صنعت من العواصف؟
وقد يقول بعضهم أن في الحرب إسرافاً اجتماعياً بما تأخذ من الموتى وما تترك من المرضى ولكن كم من الإسراف الطبيعي والأخلاق في بقاء الناس موفورين بعلومهم وفنونهم وشهواتهم ونعمهم ومصائبهم ونحوها مما يؤدي إلى انطواء هذا المجتمع الإنساني في الأدمغة والقلوب بما تبعث عليه تكاليف الحياة الإجتماعية السامية التي تحاول أن تجعل الإنسان حيواناً على شكل مخترع. .؟ فلا ترين هذه الوحشية التي تعتري الناس في حروبهم إلا سبباً في رجوعهم بعد ذلك إلى الإنسانية الخالصة التي أفسدوها بحضارتهم وضربوا عليها الحدود من مصطلحات التمدن ومن أصول المعاملة فأصبح الإنسان منهم يقضي العمر وهو يتعلم كيف يصير إنساناً. .!
هو أنا ففي خاصة نفسي أكره الحرب لأني أراها تصور بكل ألوان الهلاك والخراب فكرة العدم المبهمة على قطعة من أديم الأرض، وأمقتها لأنها تلوث الحياة بدماء الرجال ثم لا(35/19)
تغسلها إلا بدموع النساء والأطفال، وأبغضها لأنها تدفن تاريخها الصحيح للمستقبل ولا تترك للحاضر إلا تاريخها المشوه في أعضاء الجرحى، ولكن البغض يا بني لا ينفي الحكم مما تبغضه وما سرور نصف الناس إلا بما يكره النصف الآخر.
وأكبر شخص اجتماعي وهو الأمة كأصغر شخص اجتماعي وهو الطفل كلاهما يبكي ويتألم حين يضرب لتأديبه.(35/20)
حديقة أبيقور
نعود في هذا العدد فنقتطف ثماراً حلوة من حديقة أبيقور للكاتب الذائع الذكر أناتول فرانس.
فصل الجهل
لا أقول لكم أن الجهل هو الضرورية الأولى للسعادة بل أقول كذلك أنه شيء لا بد منه للوجود، لأننا لو عرفنا كل شيء لما استطعنا أن نتحمل الحياة ساعة واحدة، والباعث على احتمالنا الحياة هو مجرد أكذوبة. والحياة لا تغتذي الأمن عصارة الوهم.
فلو أننا ظفرنا بالحقيقة، وامتلكنا علم السماء، لهوت الحقيقة من بين أيدينا، وإذن لهبطت على العالم فدمرته تدميراً، وتقلص الكون أسرع من تقلص الظل، ولو سقط العلم الإلهي على الأرض لجعلها رماداً يذروه لريح في كل مكان.
لذة الألم
كنت أقرأ منذ أيام كتاباً لشاعر فيلسوف يريد أن يصور مجتمعاً من الناس خلوا من الفرح، متخلصاً من مادة الحزن، بعيداً عن عنصر الألم والقلق، ولكن كيف نحتمل أن نخرج من هذا العالم الذي ترى فيه الناس يتقاتلون ويحبون ويتألمون، فنحب حبهم، ونرضى بالألم معهم - هذا هو الفرح الحقيقي، وتلك هي اللذة الصادقة، لأن اللذة لا تزال في صميم الألم، كما يكون بلسم الجراح في جوف الشجرة الفينانة الكريمة.
إن قراءتي هذا الكتاب قد جعلتني أرتضي هذه الحياة الحزينة السوداء الأليمة. وأغرتني على الرضى بالناس والشعور بالرحمة لهم، بل قد أحسن إلي هذا الكتاب إذ حببني إلى الحقيقة وحضني من الوهم، فقد دلنا من مجتمعه الخالي من الشرور والآلام على أن أهله السعداء لا يشبهوننا وإنه من الحماقة الكبرى أن نفارق أرديتنا لندخل في أرديتهم، ونخف من حياتنا لنستبدلها بحياتهم.
لعمري ما أسوأها من سعادة،. . إننا إذا تجردنا من المشاعر تجردنا من الفن، وإذن كيف يكون من أمرهم. أنهم إذ ذاك لا يتذوقون الشعر الرهيب الفخم الرائع الذي يثير الخوف والبغض والحب، ولا الشعر الفرح البهيج الذي يضحك من شرور الناس، ويهزأ بنقائصهم، ويداعب آلامهم.(35/21)
إن أهل ذلك المجتمع الخيالي عمى البصائر عن جلال هذا الشعر الذي لا يزال المادة المقدسة في الأرض، والعناصر الإلهي في العالم، وهذا المجتمع ليس لديه فرجيل وصحابة، وإنما لديه كل مخترعات العالم ومبتكراته، ولكن من يدري لعل بيتاً واحداً جميلاً من الشعر قد أحسن إلى العالم أكثر من كل علم المعادن ومستخرجاته.
يا له من تقدم. . . ويا لها من سعادة. هذا المجتمع المؤلف من المهندسين والمخترعين لا يحمل شيئاً من العواطف، ولا الشعر، ولا الحب، وا أسفاه. . . وكيف يعرفون الحب، إذا كانوا في ظلال السعادة يعيشون. إن الحب لا يزهر ولا ينمو إلا في كنف الألم والحزن. ثم ما هي أقسام العشاق والمحبين ونجواهم لحبائبهم إلا أن يقال عنها صرخات حزن، وصيحات عذاب فلقد صرخ شاعر يوماً وهو في ثورة من ثورات الحب وهو إلى جانب حبيبته لو كان في مكاني هذا إله من الآلهة لأصبح شقياً حزيناً معذباً. إن الآلهة يا فاتنتي لا تتألم، ولا تستطيع أن تموت لأجلك. .!.
إذن فمغفرة للحزن، ورضي بالألم، وصفحاً عن العذاب ولنؤمن بأنه من المستحيل أن تكون هناك سعادة هي أكبر من التي نملكها في هذه الحياة الإنسانية، الحلوة المريرة، الحسناء الدميمة، الخيالية الحقيقية، هذه الحياة التي تحوي كل شيء، وتضم كل الفروق والمتناقضات - هذه هي حديقتنا، ففيها يجب أن نعيش، وفيهل يجب أن نزرع ونحرث!(35/22)
مصر
منذ مائة وأربعة وخمسين عاماً
قطعة مجهولة من التاريخ
ظفرنا في هذه الأيام بكتاب غريب نادر الوجود، يربى عمره على المائة والعشرين عاماً، إذ كان طبعه عام 1792 أي يوم جن جنون الثورة الفرنسية واحتدمت نارها، والكتاب مترجم إلى الإنكليزية عن الألمانية وهو غريب الأسلوب، قديم التراكيب، تخالف لهجته ونطق حروفه اللغة الإنكليزية الحديثة، ولعل ذلك لأن اللغة الإنكليزية قد تنقلت في أدوار عدة وتطورت أطواراً شتى، ومشت في قوانين الطبيعة التي تأبى إلا التجديد، وليس تقدم الكتاب في العمر، وتراخيه في السن، هو الذي استأثر بدهشتنا، وامتلك عجبنا، ولكنا كنا بموضوعه أشد دهشةً، وأكثر عجباً، وذلك أن الكتاب يدور حول سياحة غريبة خطيرة قامت بها بعثة علمية في عدة أنحاء من الشرق، فجاءت إلى مصر عام 1761 من الميلاد أي منذ 154 سنة. ثم واصلت المسير إلى جزيرة العرب حتى بلغت الهند، وتفصيل الخبر أن فريدريك الخامس، ملك الدانيمارك في ذلك العصر - وكان للدانيمارك في العصور الماضية شأن وأي شأن - أنفذ طائفة من العلماء المقربين إليه، والسائحين المشهورين في ذلك العهد، واختار لهم رجلاً من كبار أهل الرياضيات والعلوم الهندسية لمرافقتهم وإعانتهم على استكشاف تلك البلاد، ومسح أراضيها، وتعرف طبائع ترتبها وجوهاً، وعادات أهلها وهذا الرياضي هو العالم الألماني نيبور جاء به من ألمانيا لهذا الغرض خاصة، فبدأت الرحلة عام 1716 من كوبنهاجن. عاصمة الدانيمارك فانحدرت إلى مرسيليا، ثم عرجت على القسطنطينية فأقامت فيها أياماً واجتازت البحر الأبيض إلى الإسكندرية.
وقد آثرنا أن ننقل طرفاً من هذا الكتاب الغريب، وهو من قلم نيبور نفسه، ولعله كان على شيء كثير من الأدب والبحث ودقة الملاحظة والإستنساج، لأننا نشتم من مؤلفه روحاً أدبية خفيفة الظل، ولعل الذي أعانه على تفهم غرائب البلدان التي احتوته في سفرته. هو أنه قبل قيام البعثة، توفر على تعلم العربية وإتقان الكلام بها، واعرف ما في أمره أنه هو الفرد الوحيد الذي واصل الرحلة إلى بومباي في الهند، ولقى في سبيل ذلك الأهوال والمخاوف وعانى التهلكات والمخاطر لأن افراد البعثة جميعاً قضوا في الطريق، عندما اشتملت عليهم(35/23)
بلاد العرب بحرها ووقدة شمسها وغرابة جوها، فلم يبق منهم حي غير نيبور هذا، وليس ذلك إلا لأنه عرف كيف يتحصن من الجو، ويأخذ لنفسه الحذر من أثر المناخ الغريب عن مناخه، إذ كان يرتدي اللباس العربي، ويتخذ الأثواب الملائمة لزي البلاد التي كان ينزل بها.
وفي هذا الكتاب شذوذ من التاريخ المعروف، والوصف الجغرافي العادي الذي نعرفه نحن أكثر من نيبور، ومن ثم قد آثرنا أن نمر بذلك مراً، ونتحاشى نقله، ونأخذ في كل ما يفيد القارئ، ويبعث على الفكاهة والغرابة.
بعد أن وصف الإسكندرية وآثارها القديمة المعروفة، استطرد يصف كنيسة الأقباط فقال وللأقباط كنيسة مقامة للقديس مرقس، وفيها قبره، ولكنها لا تفتح ولا تدخل، لأن بعض قساوسة الروم حاولوا أن يسلبوا رأس هذا القديس، وإن كنت أعلم أن أهل فينيسيا البندقية يدعون أن لديهم هذا الرأس المقدس. ولا أعرف أي الخبرين أصح وأقبل للتصديق، وقساوسة الكاثوليك يفخرون دائماً بأنهم استطاعوا أن يخدعوا العرب والأقباط بأن قطعوا الرأس وشحنوه في طرد سميك، ونجحوا في تسفيره بصفة طرد يحوي لحم خنزير. لأنهم عرفوا أنهم عندما يصفونه بأنه لحم خنزير لا يستطيع أن تدنوا منه الضباط الأتراك الموظفون في الجمرك، والأتراك يحرمون تصدير الجثث أو الموميات إلى الخارج، ولهذا كان من الصعب أن تنقل الجثث القديمة التي يعثر بها في أرض مصر، ولكن كانت الجمارك وشؤونها الكبرى إذ ذاك في أيدي اليهود، وبذلك استطعنا أن ننقل مومياء وجدناها في الإسكندرية على ظهر سفينة إيطالية، بعد أن رشونا عمال الجمارك، وحاولنا ترحيلها إلى أوروبا، ولكننا لم نلبث أن أعدناها على الرغم منا، لأن جميع البحارة الطليان في تلك السفينة هددونا بتركهم السفينة، إذا لم تقذف هذه المومياء بعيداً، إذ توقعوا أنها ستجر الشقاء عليهم.
وقد كانت الإسكندرية تستطيع أن تكون أحسن حالاً من حالها الحاضرة لو لم تنتابها النكبات والعوائق من كل سبيل، لأن أهل الإسكندرية يحملون استعداداً طبيعياً كبيراً للتجارة، ولكن تأثير الحكومة يحول دون ذلك، ولم ألتق في أسفاري ببلد أهله أعرف باللغات الأوروبية من أهل الإسكندرية بل إنهم ليحسنون التكلم بلغات شمال أوروبا كذلك،(35/24)
مثل الألمانية والدانيماركية والسلافية وغيرها، وكثيرون من الإسكندريين يشتغلون تراجمة، واللغة الأجنبية شائعة على ألسنة الإسكندريين هي الطليانية.
ولكن جهل المسلمين فيها وبلاهتهم عاقتني عن كثير من أبحاثي وملاحظاتي، فقد حدث أن تاجراً تركياً شهدني وأنا أوجه أداة المساحة التي كانت معي ناحية المدينة، فثار في نفسه الفضول، ودنا فنظر إلي من خلال الزجاجة وإذ رأى البرج من خلالها عاليه سافله، تملكه الخوف، وذهبت نفسه شعاعاً من الفزع، فانطلق هارباً، وراح ينشر في المدينة خبراً غريباً مؤداه أنني أريد أن أقلب المدينة، وانتهى الأمر إلى الحاكم، ومنذ ذلك اليوم امتنع خادمي التركي عن المشي معي.
واتفق مرة أنني وأنا في إحدى قرى الدلتا كنت أقيس بعض الزوايا وكان أحد الفلاحين واقفاً عن كثب مني فردت أن أمتحن شجاعته فجعلته ينظر من خلال الزجاجة، فراعه أن يرى قريته المحبوبة عاليها سافلها، فاشتدت رعدته، وزاد خوفه عندما أشرت إلى الخادم أن يقول له أن الحكومة قد غضبت على هذه القرية فأرادت أن تدمرها تدميراً، وقد جئت لهذا الغرض، ففزع الرجل، وتوسل إلي أن أنتظر بضع دقائق فقط حتى يستطيع أن ينقذ زوجته وبقرته، وإذ ذاك أفلت تاركاً ساقيه للريح يريد بيته قبل أن يخر عليه السقف وعدت أنا ثانية إلى الزورق الذي جئت فيه.
وبعد أن أقامت الجماعة بالإسكندرية قليلاً سافرت إلى رشيد وقد وصفها نيبور وصفاً يكاد يجعل رشيد اليوم نجعاً صغيراً بجانب رشيد الأمس، إذ كانت في ذلك العهد ثغراً من أكبر ثغور البلاد المصرية - قال نيبور وقد حدث أن فرداً منا يسمى فورسكال، أبى إلا أن يسافر إلي عن طريق البر، وكان المسافر عرضة لسطوا العرب الأفاقين المتجولين في ذلك الإقليم، وقد كان من هذه المخاطرة أن جاء زميلنا وليس عليه إلا بنطلونه فقط، لأن العرب باغتته في الطريق فسلبته كل ما يملكه، ولكن هزتها أريحية الكرم، فأبقت له بنطلونه.
وانحدرت البعثة بعد ذلك إلى القاهرة، فبعد أن وصف كثيراً من آثارها وأحوالها وموقعها وقلعتها قصر الباشا والإنكشارية قال كثيراً ما يخطئ السائحون في تقدير عدد سكان المدن في الشرق، وكذلك القاهرة لأن ضيق شوارعها وطرقها تدعو إلى التوهم أنها آهلة بالسكان مزدحمة بالأهلين، وفي عدة من الأحياء دروب ضيقة طويلة لا تنتهي إلى شارع. ولا(35/25)
تحور إلى غاية ولا ترجع إلى طريق معين، وسكان هذه الأحياء يستطيعون أن يتحدثوا خلف بيوتهم، ولكنهم يمشون ميلاً كاملاً قبل أن يلتقوا، وهذه الحواري يسكنها الصناع، وهم يتركونها نهاراً إلى مصانعهم في الشوارع الكبرى ويغادرون نسائهم وأطفالهم في البيوت، ولهذا يندهش أهل الحارة وينزعجون عندما يرون رجلاً يمر بين بيوتهم ويظنونه قد ضل طريقه ويجتمعون حوله يمنعونه من المرور.
والقاهرة حافلة بالبرك وتكثر عند فيضان النيل، فتكون بساتين ناضرة، وفيها يسكن أكابر البلد، وليست قصور الكبراء والذوات في شيء من الفخار والرواء وإنما تمتاز بجدرانها العالية، وحيطانها التي تخفي ما ورائها.
يتلي - ومزايا الكتاب ستتجلى فيما يأتي(35/26)
صور هزلية
من أخلاق الناس
عمتي
جئت أصف لكم الآن غريبة من غرائب الدنيا لعلها تعد الثامنة بعد العجائب السبع، ولكن تمتاز عنها جميعاً بأنها عجيبة حية متنقلة، تأكل وتشرب، وأما الأهرام وأخواتها فعجائب صامتة ميتة جامدة، لا تأكل وإنما تحطم أسنان الزمن عندما يريد أن يعضها، ولا تشرب اللهم إلا من أفواه السماء، ولكنه لا يدخل في فمها، وإنما يدهن ظاهر جسمها دهناً، ولعل الملك المتولي شؤون الرعد في السماء، والقربي الخازن للماء المقدس الذي تغتسل منه الملائكة، عندما يصدر إليه الأمر بترك حبال القرب ليهبط ماؤها على أهل الأرض، يكتب على القرب الواقعة على الأهرام وأمثالها يستعمل من الظاهر!.
وأنا أخشى الآن أن يقع هذا العدد في يد كاتب من كتبة الفنادق فيدلي بأمر هذه العجيبة إلى النزلاء والسائحين والمنحدرين من العالم الجديد للفرجة فلا نلبث أن نرى بيتنا متحفاً من المتاحف، وأخشى أيضاً أن تصدق الحكومة فتكبس بيتنا بحثاً عن هذه الغريبة الطريفة، لكي تضمها إلى آثار مصر المعروفة.
إن عمتي، أو العجيبة الثامنة، تعيش الآن، على التقدير الجغرافي في المنطقة المعتدلة الشمالية، ولكنك لو وضعت مقياس فارنهايت عند قلبها، تجمد الزئبق في الحال لأن لها فؤاداً جليدياً مقتطعاً من ثلوج جرينلاند أو الأرض الخضراء فظاهرها يشاركنا في حرارة المنطقة المعتدلة ولكن باطنها مع الأسكيمو في برودة القطب، ولهذا أعد نفسي أكبر من الكبتن سكوت، وأعظم من الكولونل بيري، لأنني استطعت أن أصل إلى فؤادها، وأغرب ما في سياحتي القطبية أنني استطعت أن أتحمل العيش في جو بارد مثل هذا، لأنها تأبى دائماً إلا أن أعيش في قلبها!!
وأشد ما تظهر برودة فؤادها في معاملتها للأطفال، ولا أظن أن أجن أطفال الدنيا كلها يستطع أن يبقى على جنونه ساعة واحدة إذا جئت به إليها، وهي تكلم الرضيع الذي لم يحل الحول على تاريخ هبوطه إلى العالم كما تكلم رجلاً في الأربعين تهديداً ووعيداً وإنذاراً، وكثيراً ما سمعتها تخاطب طفلة لا تتجاوز سنها الأشهر في وجوب النظافة بكلمات(35/27)
وعبارات يدق علي أن افهم نصفها، ولا يكون من الطفلة إذ ذاك إلا الصمت من الدهشة والذهول، ولكنها تسمي هذا الصمت من الأطفال إدراكاً وفهماً، فتنظر إلينا وعلى وجهها كل هلائم الإنتصار والإبتهاج، ولا أظن أن أحداً منا نجا وهو في طفولته من أسلحتها وهي الششم والفلفل والويل للطفل الذي يمرض في بيتنا، إذا لم ينته في توه وساعته عن مرضه، ويفارق الفراش في يومه، وإلا رأى من أساليب مداواتها كل ضروب القسوة والعذاب، وكثيراً ما يخفي الأطفال مرضهم، ويذهبون إلى المدرسة في الصباح، وهم أحوج إلى النوم في السرير خشيةً من البعبع وأنا لا أدري لماذا لا تأخذها وزارة المعارف فتجعلها مفتشة في الكتاتيب، فننقذ سيدنا من المتاعب التي يعانيها من أولاد كتابه، وكثيراً ما فكرت في أن أفتح لها مدرسة، وأقيمها معلماً ولكني خشيت من قضايا الجنح التي قد يرفعها علينا بعض الآباء من جراء قسوتها في تربية أولادهم، ولعل الباعث الأكبر على هذا النظام الإسبارطي في التعليم هو أنه لا بلد لها ولا بنين، وقد رزقت مع ذلك طفلاً منذ ثلاثين عاماً أو تزيد، ولكنه أحسن إلى نفسه بالموت قبل عمره، لأنه تنبأ بلذة الشطة وآلام الششم والقطرة، وهي منذ وفاة طفلها تعتقد أن لها آثاراً عن كل طفل، وترة عند كل والدة، ولعلها تود لو يخرج الناس كباراً من بطون أماتهم حتى ينسى العالم لفظة أطفال فتزول من ذاكرتها ذكرى طفلها.
وهي أشد الناس كراهية للحب وتندهش كل الدهشة أن ترى في العالم شيئاً يسمى غناء وموسيقى وخمراً. وأغرب ما أقصه من أمر كراهيتها للحب إنا نسكن في شارع شعري ساكن هو خير ما يرتاده العاشقون.
وكثيراً ما يختلف إليه الشباب وفتياتهم ليذوقوا من ثمرة الحب. وإنها لتبصر بهم يمشون في رفق وهدوء فلا تني تأخذ في اللقاء محاضرة طويلة تريد بها أن تثبت أن الحب لا يوجد في الدنيا وتحشد في سبيل ذلك حججاً وبراهين وتختلق حوادث وقططاً وتلفق كلمات وأموراً لا يستطيع أن يقف أمامها الفرد دي موسيه رئيس نقابة العشاق في العالم كله.
وعمتي تدعي الخبرة الكبرى بالطب وترجع نسبها إلى أبقراط، ثم تقول أن الله لم يخلق إلى الآن طبيباً يستطيع الإنسان أن يسلم إليه حياته ولو في أتفه الأمراض. ولا تتكلم عن الأطباء إلا كما تتكلم عن القتلة والجزارين وقطاع الطرق وهي لا تضن على الناس(35/28)
بنصائحها الطبية وتتنقل في منازل أقاربنا وأصدقائنا مدلية بالوصفات واللزقات والدهانات والمراهم وكل ما في جعبتها من أسلحة الموت، ثم تحرض الناس على أن لا يسمحوا لطبيب أن يدخل دورها وأن يكتفوا باتباع آرائها في علاج مرضاهم ولكن المرض لا يلبث أن يشتد بالعليل بفضل أدويتها ولا يجد إذ ذاك أهله مناصاً من استدعاء الطبيب وتكون عمتي بذلك قد أضافت عشر فوزيتات إلى حسابه قبل مجيئه. وأنا أنصح للأطباء أن يرشوها بمقدار من المئة من مجموع المبالغ التي يكسبونها بواسطتها، ولكني أخشى أن يزداد بهذه الطريقة عدد الوفيات في السنة فيكسب معهم الحانوتية والفقهاء والمكفنون والتربية وزملاؤهم.
وهي أجهل ما تكون بالقانون، ومع ذلك تدعي أنها لو امتنحت في الليسانس لكانت الأولى في الإمتحان، وهي كثيراً ما تقسم أن سعد زغلول لا يكسب منها قضية لو كانت هي التي ترافع إزاءه ولكنها بعد هذا أشد الناس خوفاً وفزعاً من مواقف القضاء والتحقيق ولشد ما ترتعد فرائص هذه الأستاذة القانونية لأبسط سؤال يلقى إليها في ساعة المحكمة لو دعيت إلى الشهادة وقد حدث أن وقعت سرقة في بيتنا إذ ضاع لأحد الساكنين في طابق من طباق منزلنا ثوب فألقى الشبهة على الخادم ورفع الأمر إلى الشرطة فأنفذت جاويشاً لتحقيق القضية فجاء الرجل وسألها شهادتها مع بقية الشهود فكان من تلعثمها ورعدتها واضطرابها ما خفت أن يظنه الجاويش دليلاً على أنها السارقة!!!(35/29)
متفرقات
دائرة المعارف الصينية
كل شيء في الصين غريب، حتى دائرة المعارف، فإن في القسم الصيني من المتحف البريطاني كتاباً واحداً يشتمل على خمسة آلاف مجلد وثمانية وعشرين مجلداً، وهذا الكتاب الصيني العجيب الذي خرج من المطابع الصينية ابتاعته الحكومة الإنكليزية منذ أعوام بنحو من ألف وخمسمائة جنيه، ولا يوجد منه الآن إلا نسخ معدودات، والكتب دائرة معارف أدبية تحتوي آداب الصين منذ ثمانية وعشرين قرناً وابتدأت من عهد الإمبراطور كنغ هي الذي كان على عرش الصين من عام 1662 إلى عام 1722 وكان مولعاً بالأدب مفتوناً بالعلم، فرأى فيما رأى في أبحاثه ودراسته الأدب الصيني القديم أن شيئاً كثيراً من التحريف والفساد وقع في النسخ الحديثة الطبع، ففكر في أن يعيد طبع الأصل ويحفظ في مجلد واحد، فجمع كنغ هي طائفة من العلماء ليختاروا ويفحصوا القطع التي يراد إعادة طبعها واستعان بالمرسلين الجزويت على سبك حروف من النحاس لجمع هذه الكتب، فلبثت الجماعة في سبيل إخراج هذه الدائرة فأوصى خلفه بأن يعمل على إتمامه فأنفذ الإمبراطور الجديد وصاة سلفه، والكتاب مقسم إلى ستة أبواب، وكل باب منها يختص بفرع من فروع العلم.
المتسولون المتنعمون
لعل البلد الوحيد الذي فشى فيه المتسولون حتى أصبحوا طائفة يعتد بها في تعداد السكان، هو مملكة هولانده، ويظهر أن للمتوسلين في هذه المملكة تاريخاً وماضياً، لأن الحكومة اضطرت منذ عشرين سنة إلى وضع قوانين صارمة في معاملتهم وقد أفردت لهم مستعمرات لنفيهم إليها وتشغيلهم في زرع أرضها وحرثها، وهذه المستعمرات مجدبة، قاحلة، تطلب جهداً وتستلزم الدأب والعناء الشديد، ولكن وباء التسول قد أصبح الآن أشد خطراً وأكثر تفشياً منه منذ عشرين عاماً، فإن الحرب قد ساقت ألوفاً من التجار الألمان إلى المملكة الهولندية وجمعاً كبيراً من الزوار والهاربين واللاجئين، جاؤوا يهربون بأنفسهم من مآثم الحرب في مملكهم ومجازر القتال في ديارهم، فعلمت الأطفال صناعة الحاويوبيع أوراق اللعب الكوتشينا والرقص والغناء فاكتسب المتسولون من ذلك مئات من الجنيهات،(35/30)
وأصبحت أسرة المتسول منهم تعيش الآن في أرغد نعمة وأحسن حال، حتى عادت الحكومة فسنت قانوناً جديداً يعد بموجبه إعطاء المتسول شيئاً من الحسنة مخالفة من المخالفات المعاقب عليها في المحاكم وأصبح يقبض الآن على المتسول والمتصدق معاً.
ونحن نقول إن ما وقع في هولانده لا يكاد يختلف في شيء عما يقع الآن في مصر، فقد غصت الطرق بالمتسولين من الأطفال والفتيات والشيوخ والشباب وأصبح الإنسان لا يطيق الجلوس في قهوة أو منتزه، فهل يرضى الجمهور أن يذعن إلى قانون مثل هذا يغل يده عن إعطاء المتسولين وتشجيع البلادة والكسل ويمسكه عن الإفراط في القروش التي تخرج من جيبه لتجعل من المتسول رجلاً مثرياً من أصحاب الأموال، أم تتنازعه الرحمة الشرقية التي أكثر ما تكون شراً وويلاً وضراً فيأبى إلا أن يكون في الدنيا سائلون ومستجدون ويصبح السؤال صناعة من الصنائع الفنية الناجحة؟؟.
جريدة شفوية
إن الشرط الأول في الجريدة أن تكون مكتوبة ومطبوعة، وموزعة في الطرق لتأدية مطالب الباحثين عن الأنباء والمشغوفين بتتبع شؤون المدينة وأحداثها وأخبارها، وهذا هو المبدأ الذي سارت عليه جميع صحف الأرض، وأكن في الولايات المتحدة الأمريكية الآن صحيفة غير مطبوعة قد أغنت عن وجود الجرائد والصحف السيارة، وهذا النظام هو بواسطة التليفون، وذلك أن شركة التليفون توزع نشرة شفهية على جميع خطوطها للمشتركين وغير المشتركين. ففي ساعة معينة من النهار يفتح المركز الرئيسي للشركة جميع خطوط التليفون في المدينة من أقصاها إلى أقصاها ويستدعى المشتركين فيدلى إليهم بجميع الأخبار الجديدة الخاصة بالولاية والأنباء السياسية والشؤون الدولية وكل ما يهم السكان من أحداث العالم، وكذلك الوفيات في الولاية والأعراس والطلاق والمواليد والملاهي وأحوال الجو وما إلى ذلك، وبذلك عطلت شركة التليفون على الصحفيين، وجعلت من بنات التليفون سياسات كبيرات.
الساعات الخطرة من النهار
اكتشف منذ أيام عالم من كبار علماء الجراثيم الذين قضوا أكثر دهرهم في دراسة الجراثيم وكل ما يختص بعلم البكتريولوجيا. . إنه في الساعة التاسعة من الصبح وفي مثلها من(35/31)
الليل يكون عدد الميكروبات المتطايرة في الهواء أكثر من أية ساعة أخرى من ساعات اليوم، وإن مقدار الميكروبات في الساعة الثالثة من الصباح والساعة الثالثة من المساء (بعد الظهر) أقل من أية ساعة أخرى وطريقة ذلك أنه أخذ عينات من الهواء في ساعات مختلفة من النهار وأجرى فحصها أدق الفحص، واستطاع بالدقة أن يعرف مقدار الميكروبات الموجودة في كل بوصة مكعبة منها، وسرميل الجراثيم إلى الساعة التاسعة في الصباح وحبها للساعة التاسعة من الليل هو حركة الناس في هاتين الساعتين إذ يبدأ القوم في الخروج من بيوتهم من الساعة السادسة إلى التاسعة ويعودون في مثلها من المساء إلى دورهم من أعمالهم أو يمرحون في الشوارع بحثاً عن اللهو والرياضة وترويح النفس. وقد لاحظ أنه لا تكاد الساعة السادسة من الصباح أو المساء حتى تبدأ في الجو أعراض تنبئ بحلول هجوم الميكروبات، ثم تأخذ كتائبها في الزيادة، والازدحام حتى تملأ الفضاء في الساعة التاسعة وفيها الكتيبة الصالحة، وفيها الشرادم الخطرة المخيفة ثم تأخذ بعد ذلك في الإختفاء والغروب حتى تكون الساعة الثالثة.
القرائح الفياضة والقرائح الناضبة
من الكتاب والمؤلفين كثيرون مقلون، لا يكاد الكاتب منهم ينتهي من السطر الثالث أو الخامس حتى يتصبب جبينه عرقاً، وتنضب قريحته، ولعله لا يعاود الكتابة إلا بعد حين، وكثيرون مثلهم يستغرقون وقتاً طويلاً في التأنق وإكراه المعاني على الحضور إلى أذهانهم والتجويد في انتقاء اللفظ الفخم والعبارة الرقيقة، وقد يرتحلون عن الدنيا ولم يستطيعوا أن يخرجوا للعالم غير كتاب واحد أو نصف كتاب، ولعل القراء يذكرون الآن كتاب (عيسى بن هشام) فهو على تفاهته لا يزال الجزء الأول، وسيمضي هذا القرن، وتتتابع مراحل المستقبل، ولا يزل على حاله الأولى من النقص، وكثيرون من كتاب هذا البلد يعدون في الأدباء الكبار والكتاب المعروفين، ولم يكتبوا في حياتهم أكثر من بضع صفحات، ومنهم من لا يعرف إلا بقطعة واحدة، لا يزال الحكم فيها كذلك متبايناً، ولعلها أقرب إلى السخف والركاكة وبرودة المعنى، وأغرب منه أن رجلاً يعده الملتفون حوله أديباً وهو لم يكتب إلا قطعة صغيرة تافهة منذ خمسة عشر عاماً، وهو يقرؤها الآن على الناس من ذاكرته ويتلوها غيباً كما يقوا العامة. على أن هناك كتاباً كثراً لا تستطيع أن تحصي عدد ما خرج(35/32)
لهم من المقالات والموضوعات لأنها تربي إذا جمعت على المجلدات الضخمة، ولكنك لا تظفر منها جميعاً بأكثر من أسطر قلائل تستطيع أن تقول عنها لا بأس بها.
ولكن ماذا تقول إذا علمت أن السير كونان دويل، الروائي الإنكليزي الطائر الذكر، بلغ من سرعته في الكتابة أنه وضع رواية تحتوي 1200 كلمة، في جلسة واحدة ولا يفارق مكتبه، وإن ستيفلسون، وهو من كبار الروائيين، وضع رواية كبيرة من روايته في سبعة أيام. وإن الكاتب الكبير هول كيل أتم أكبر كتاب له وهو حياة الشاعر كول ريدج في عشرين يوماً، أما الرجل الإيديالي المفكر المشهور
هـ. ج. وويلز، فيكتب عشرة آلاف كلمة بين الصبح والعصر وإن مسز ميد أتمت عشرين ألف كلمة في يوم واحد ولكن أسرع من كل هؤلاء ولعله أشد كتاب الأرض فيضاً، وأطولهم نفساً في الكتابة هو ديماس الكبير. فقد لبث سنة كاملة يكتب في كل أسبوع مجلداً كاملاً.(35/33)
باب تدبير الصحة
ينتشر الآن في القاهرة أنواع جمة من الحميات فتجد في الأطفال الحصبة والقرمزية والتهاب الغدة النكفية والحميات المتقطعة وفي غيرهم حمى تمكث 24 ساعة ليس هناك من الأطباء من يجرأ على تسميتها أو تشخيصها وحمى تمكث ثلاثة أيام وأخرى تمكث سبعة أيام وليس في الأطباء من يمكنه الجزم بحقيقتها اللهم إلا جماعة من المطلعين يعدونها من قبيل حمى الثلاثة الأيام التي تنتشر في الصين وحمى السبعة الأيام التي تنتشر في الهند وهكذا نحن إزاءها لا نقطع بشيء لأنا غير واثقين لأنها حميات وافدة لم ترها بلادنا غير هذا العام بهذه الكثرة غير أنه مع انتشار هذه الحميات الحميدة العاقبة دائماً ينتشر التيفود والتيفوس ولذا أريد أن أنبه إلى طرق الوقاية من كل هذه:
(1) غسل الأيدي جيداً مرات متعددة في النهار وكلما سنحت الفرصة وعلى الأخص قبل الأكل وبعدة.
(2) غلي ماء جيداً لاسيما إن كان مما ينقله السقاؤون.
(3) غلي اللبن جيداً أيا كان مصدره.
(4) غسل الفواكه في ماء مغلي وتقشيرها.
(5) وضع اللحم والحمض في ماء مغلي مدة دقيقتين أو ثلاث دقائق.
(6) غسل الصحون والأطباق في ماء مغلي مضاف إليه حمض كبريتيك بنسبة 3 إلى المائة.
(7) غسل الشوك والسكاكين والملاعق في ماء مغلي مضاف إليه قليل من بوتسا الغسيل حتى لا تصدأ.
(8) مسح الأرجل جيداً قبل دخول المنزل وترك الأحذية خارج محلات النوم والغداء.
(9) لا تصافح إلا للضرورة.
(10) لا تطل في عيادة المريض أو المصاب بالحمى.
(11) لا تجلس في مجتمعات عمومية أو في القهوات ولا تشرب شيئاً يقدم لك لا تثق بالأيدي العاملة فيه.
(12) لا تعامل باعة الشوارع.
(13) لا تضع الثلج على الماء.(35/34)
(14) احترس من أكل الجلاطا والدندرمة.
(15) نبه أولادك لخطر البسبوسة والهريسة والجرانيطة وكل ما تلمسه أيدي الباعة والصناع.
(16) قصر ملابسك حتى لا تلامس الأرض.
(17) امنع السيدات منعاً قهرياً من الذهاب للمآتم.
(18) طهر المرحاض بماء الجير أو الفنيك.
(19) لا تأكل ما يعسر هضمه.
(20) لا تعرض نفس للرطوبة.
(21) لا تأخذ مسهلاً أبداً إلا بأمر الطبيب.
(22) احترس من الذباب وضع الحواجز دونه.
(23) احترس من البراغيث والقمل والبق ما استطعت.
(24) استحم بالماء الدافئ كل يوم وغير ملابسك كذلك.
الدكتور محمد عبد الحي(35/35)
طرفة أدبية
وفاء المرأة العربية
حكي أن معاوية جلس بمكان بدمشق مفتح جوانب الأربع يدخل منها النسيم فبينما هو جالس في يوم قيظ وهو صاحي النهار ولفح الهجير إذ نظر إلى رجل يمشي وهو يتلظى من حر التراب ويحجل في مشيته رجلاً حافياً تتأمله ثم التفت إلى جلسائه وقال هل خلق الله أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في مثل هذا الوقت فقال بعضهم لعله يقصد أمير المؤمنين فقال والله لئن كان قاصدي سائلاً لأعطيته ومستجيراً لأجرته أو مظلوماً لنصرته، يا غلام قف بالباب فإن طلبني هذا الإعرابي فلا تمنعه الدخول فخرج الغلام فوافى الإعرابي فقال له ما تريد فقال أمير المؤمنين. فقال له ادخل فدخل وسلم على معاوية فقال له من أين الرجل فقال من تمين فقال له ما جاء بك في هذا الوقت قال جئتك شاكياً وبك مستجيراً فقال ممن فقال من مروان بن الحكم عاملك ثم أنشأ يقول:
معاوي يا ذا الجود والحلم والفضل ... ويا ذا الندى والرشد والعلم والنبل
أتيتك لما ضاف في الأرض مذهبي ... فيا غوث لا تقطع رجائي من البذل
سباني سعدي وانبرى لخصومتي ... وجار ولم يعدل وغاضبني أهلي
فلما سمع معاوية إنشاده والنار تتوقد فيه قال له مهلاً يا أخا العرب اذكر قصتك وأفصح عن أمرك قال كانت لي زوجة وهي ابنة عمي وكنت لها محباً وبها كلفاً وأنا قرير العين طيب العيش وكانت لي قطعة من الإبل أستعين بها على قيام حالي وكفا أودي فأصابتني سنة شديدة أذهبت الخف والظلف وبقيت لا أملك شيئاً قلما قل ما بيدي وذهب مالي بقيت مهاناً ثقيلاً على وجه الأرض أبعدني من كان يشتهي قولي وأزور عني من كان يرغب في زيارتي فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال وقلة المال طردني وأغلظ علي فأتيت الملك مروان مستصرخاً به راجياً لنصرته فأحضر أباها وسأله عن حالي فقال لا أعرفه قبل اليوم فقلت أصلح الله الأمير أحضر ابنته واسألها عن حالي فبعث إليها فأحضرها مجلسه فلما وقعت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب وصار لي خصماً وعلي متكبراً ونهرني وأظهر لي الغضب وبعث بي إلى السجن وبقيت كأنما خررت من السماء بمكان سحيق ثم قال لأبيها هل لك أن تزوجني منها على ألف دينار وعشرة آلاف درهم لك وأنا ضامن(35/36)
خلاصها لك من هذا الإعرابي فرغب أبوها في البذل وأجاب سؤاله لذلك فلما كان من الغد بعث إلي من السجن وأوقفني بين يديه ونظر إلي كالأسد المغضب وقال يا إعرابي طلق سعاد، فقلت متى قلت لا يسلط علي جماعة من غلمانه يعذبونني بأنواع العذاب فلم أجد بداً من ذلك ففعلت فأعادني إلى السجن حتى انقضت عدتها ثم تزوج بها ودخل عليها وقد أتيتك راجياً وبك مستجيراً وإليك ملتجئً ثم اضطرب واصطكت لهاته وخر مغشياً عليه فلما رأى حاله وسمع كلامه قال تعدى وظلم ابن الحكم ثم كتب إليه يقول قد بلغني أنك اعتديت على رعيتك وانتهكت حرمة من حرم المسلمين وينبغي لمن كان والياً أن يغض بصره عن شهواته ويزجر نفسه عن لذاته ثم كتب تحت ذلك يقول:
فعلت ويلك أمراً لست تدركه ... فاستغفر الله من إمرءٍ زني
أعطي الإله يميناً لا أكفرها ... نعم وأبرأ من ديني وإيماني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنك لحماً بين عقباني
طلق سعاد وجهزها معجلةً ... مع الكميت ونصر بن ذبيان
ثم طوى الكتاب وطبعه بخاتمه واستدعى الكميت ونصر بن ذبيان وكان يرسلهما في المهمات من حوائجه فأخذاه وسارا حتى أتيا المدينة المنورة فدخلا على مروان وسلما عليه ودفعا له الكتاب فجعل مروان يقرأه ويبكي ولم تسعه المخالفة فطلقها بحضرة الكميت ونصر بن ذبيان وكتب إليه يقول:
لا تجعل أمير المؤمنين فقد ... أوفي بنذرك في حسن وأحسن
وما أتيت حراماً حين أعجبني ... فكيف أدعى بلفظ الخائن الزاني
فسوف تأتيك شمس ليس يعدلها ... عند الخليفة من أنس ومن جان
ووقع الكتاب فأخذه الرسولان وسارا به حتى دخلا معاوية فدفعا إليه كتابه فقرأه وقال أحسن مروان في الطاعة ثم أحضر الجارية فلما رآها رأى منظراً عجباً من الحسن والجمال والقد والإعتدال فلما خاطبها وجدها عذبة الألفاظ شيقة الكلام فقال علي بالإعرابي فأتوا به وهو على غاية من سوء الحال فقال هل في سلوة عنها وأعوضك ثلاث جوار مع كل واحدة ألف دينار وأقيم لك في بيت المال ما يكفيك ويعينك على صحبتهن فلما سمع الإعرابي مقالة معاوية شهق شهقة ظن معاوية أنه فارق الحياة فقال له معاوية ما بالك قال شر بالي(35/37)
وأسوأ حالي، استجرت بعدلك من جور ابن الحكم فبمن أستجير من جورك ثم قال لو أعطيتني ما حوته خلافتك ما اعتضت بها بدلاً فقال معاوية أنت مقر يا إعرابي بأنك مطلقها ومروان مقر بأنه طلقها ونحن نخيرها فإن اختارت سواك زوجناها منه وإن اختارتك أعدناها إليك فقال افعل فقال معاوية ما تقولين أيما أحب إليكي أمير المؤمنين في عزه وسلطانه وشرفه أم مروان في عسفه وجوره أم هذا الإعرابي مع جوعه وفقره وسوء حاله فقالت منشدة:
هذا وإن كان ذا بؤس وإقتار ... أعز عندي من أهلي ومن جاري
وصاحب تاج أو مروان صاحبه ... وكل ذي درهم عندي ودينار
ثم قالت ما أنا بخاذلته لحادث الزمان ولا لغدر الأيام وإن لي عنده صحبة لا تنسى ومحبة لا تبلى وأنا أحق بصبري عنده في الضراء كما نعمت معه في السراء قال فتعجب معاوية من قولها ومودتها وأمر لها بعشرة ألاف درهم وردها إلى الإعرابي بعقد جديد صحيح.(35/38)
في شؤوننا المصرية
الأكذوبة الكبرى
المتاجرة بدعوى الإصلاح الديني
ليس هناك أوقح ممن يفتري على الموتى. ويكذب على المضطجعين في مراقد الآخرة. لأنه يعلم أن الموتى لا يستطيعون كلاماً. ولا يصدرون دفاعاً. وإن الحجة صامتة. والفرصة سانحة. وأغرب ما في فريتهم أن تكون مقصداً من مقاصد التجارة وضرباً من ضروب الربح والإثراء. وأشد من ذلك أن تكون هذه الأكذوبة التجارية في سبيل من الدين والإصلاح وأن تروج عند بعض الناس. وتجد القبول عند طائفة من الجمهور. ولعل ذلك لأنها تجري على طريقة الأوكازيونات والفرص العظيمة والإعلانات الكبيرة والضوضاء العالية. مثل أستين وشيكوريل وتيرنج وإخوان شملا وهلما جر. وإن صاحب هذه الفرية أصبح من المتمولين وله أطيان وعقارات في هذا البلد. ولذلك يريد أن ينازع المصريين في التلقب باسمهم. أي - بوضع اليد - أو بموجب الأوراد التي في يده عن الخراج الذي يدفعه للحكومة. كأن كل بربري أو سيامي أو مالطي يشتري له في مصر قطعة من أرضها. يشتري معها جميع حقوق أبنائها. أصبح اسمه في دفاتر حساب البنوك والمصارف وكان من قبل في أول صفحة من صفحات كتاب الفقر!.
ولكن إذا كان الموتى لا يتكلمون. فإن في الأحياء من يستطيعون كلاماً عنهم. ودحض أكاذيب اللذين يعيشون الآن على حسهم وإذا كان العالم المبجل. والفيلسوف النادرة في هذا العصر المادي المخيف. والكاتب المخلد الذي أعجز الأولين والآخرين السيد محمد رشيد رضا قد لزق نفسه بالإمام الأستاذ الشيخ محمد عبده لزقاً وادعى أنه هو الذي خرجه وأعطاه الشهادة وإنه كتب له وصية وقف له فيها الحق في اسم المصلح الديني وإن المرحوم الإمام ذهب عن الدنيا. وعلى وجهه ظل ابتسامة حلوة لأنه قضى مطمئناً على تفسيره للقرآن واثقاً من أن العم رضا تربيته سيأخذ في التفسير ويواصل الشرح على النحو الذي نحا، والسنن الذي استن فنحن نقول له ولمن يجهلونه - غير قاصدين إلى تحقيره عند بني وطنه لأن السكتة بيننا وبينهم مقطوعة - إن هذا التفسير الرشيدي إنما هو على الطريقة الجربية وإنه من أكبر الفضيحة لهذا العصر المهذب أن يفسر القرآن الكريم(35/39)
بذهنية لا تفترق عن أذهان الأطفال والتلاميذ. وبأسلوب متهدم مريض يحمل جميع أعراض الهستريا أو التشنج العصبي. ولا يكاد يرتفع عن لغة المحضرين وكتبة العرائض ومترجمي إعلانات السينماتوغرافات. وإن روح الأستاذ الإمام لتخجل الآن أن ينسب إليها مجموعة من أبدع مجموعات السخف والركاكة واللغو وإنها أكبر إهانة لرجلٍ نقي الصفحة. جبار الذهن. عميق التفكير. مخلص النية. خرج من الدنيا فقيراً. شأن المصلحين والعظماء. ولكن لم يلبث المدعي التلمذة عليه أن أصبح بنكيرا ومن وراء الإصلاح الديني الذي يزعم أنه قائده الفرد. ووليه الأوحد كأن للإصلاح الديني أسهماً وسندات كالبنك العقاري اشترى السيد رشيد رضا منها ثلاثة أرباعها، وترك الربع في السوق لعلماء الأزهر. على حين أن في علماء الأزهر الشريف سادة أجلاء ومصلحين كبار الأذهان. يكاد يكون رشيد رضا إزاءهم بكل مجلدات مجلته في الصف الأول من الأميين.
وجملة القول ليس لنا إلا أن نقول كما قال الفيلسوف نيتشه هو المنار الأعلى لإقيانوس الكلام الفارغ!!. . كاتب
البيان كتب هذه الكلمة التمهيدية أحد كبار الكتاب بمناسبة تلك الضجة الكبرى التي أحدثها ذلك الشيخ زيادة في الإعلان عن نفسه - كتبها على الهامش تمهيداً لسلسلة كلمات يأتي فيها على منزلة هذا الرجل الحقيقة وسائر أعماله وما خفى من شؤونه والموعد قريب.(35/40)
جمعية المواساة الإسلامية
ومبرات الإسكندريين
من المشاهدات الطبيعية في الكثير الغالب أن سكان السواحل وأهل المدائن الواقعة على ضفاف البحار أنقى قلوباً وأرق نفوساً وأقرب إلى الخير من البلدان الداخلة في صميم المملكة ولعل ذلك لأن أمواج البحر تغسل عن أفئدتهم عيوبها، وتطهر وجدانهم مما يعرض لها من نقائص الأرض ومعايب الطبيعة البشرية الضعيفة، وعلى هذه القاعدة كان أهل الإسكندرية عظماء النفوس، يستمدون عظمتهم من عظمة البحر الضخم الكبير الذي يلعب عند مربض مدينتهم، وهم أشد حمية وأكبر نهضة. وأكثر براً وأنبل إحساساً من جميع سكان القطر، ولا نعلم كيف يقع القاهريون في الميزان إذا هم وزنوا بأهل الإسكندرية، وأين تكون مبراتنا وجمعياتنا ونوادينا بالقياس إلا مثلها عندهم، وهم لا يألون جهدهم في تهذيب مدينتهم ورفع شأنها، وإصلاح أمرها. ونحن أكسل ما نكون إذا دعينا إلى الخير. أو سؤلنا البر. وقد اقتنعنا من مفاخر المدن بأننا الحاضرة. واكتفينا بأننا العاصمة. وسرنا أننا التخت كأن البلاد الأخرى التي وراءنا فقط في تعداد السكان دكك بالنسبة إلى تختنا المطرب الشجي. وكأننا لم ننسى أننا عجزنا على أن نقيم نادياً واحداً لموظفينا. ونمده بما يطيل عمره. ويثبت قدميه. فلم يلبث شبه النادي الذي ألبسناه - على غير التقوى - أن وأدناه وشيعناه إلى المقبرة التي قبرنا فيها كثيراً من أعمالنا الخيرية ومبراتنا وجمعياتنا. إذ بيعت مقاعده وأثاثه في المزاد. على مرأى المشتركين والأعضاء. على حين لا يني النادي الإسكندري المزهر الكبير يعدو مسرعاً في التوسع والنماء والرسوخ والرقي. حتى أصبح ندوة علمية. وجمعية خيرية. ومدرسة عالية. ومجتمع خير وأدب وصلاح في آنٍ واحد وذلك لأن إخواننا الإسكندريين أشد منا تمسكاً وتلازماً ووحدة، وأندى منا يداً وكفاً، وأرق منا أفئدةً وأرواحاً.
وهذه جمعية المؤاساة الإسلامية، لا تكاد نرى لها أختاً في بلدنا، ولا نشهد لها شقيقة في أي بلد آخر من بلاد القطر، كأن جمعية واحدة لمواساة المساكين اللذين تقطعت بهم أسباب الحياة في مصر، تكفي لأن تطل من ساحل البحر الأبيض على مسكين في الحدود الأخرى من القطر، مع أننا بحاجة إلى جمعيات كثيرة للمواساة، لأننا شعب نصفه من المساكين(35/41)
والفقراء، ولكن حسب الإسكندرية فخراً أنها قامت وحدها بفضيلة المواساة، وتفردت بمحمدة التعزية، وليس ذلك إلا أن ليس بيتنا نحن القاهريين عظماء نفوس وكبار أفئدة، لأن كبار العاصميين مشغولون عن كل شيء بشؤون الحكومة وأحداثها، وأما كبار الإسكندريين فشغلهم الأكبر صالح المدينة، وخير الشعب وهم على رأسهم أمير جليل لا يزال اسمه في الخير والنيل والبر يعدل اسمه العظيم في سجل الإمارة وهو سمو الأمير الجليل عمر بن طوسون فهو لا يفتأ يمد الجمعية بالعون. ويشملها بالرعاية. بعد أن أوقف لها سبعة عشر فداناً من أجود أرضه تربة. ورجل عظيم مثل هذا في بلد واحد يكفي لان يجعل كل سكانها عظماء ثم لا يزال في رئاستها حضرة صاحب العطوفة الإسكندري الصميم محمد سعيد باشا. وهو خير خليق برعاية جمعية طيبة في مدينته التي ولد فيها لمواساة جيرانه ومواطنيه. ولعل أعضائها أبدع عقد من عقود الفضل وأروع قلادة من قلائد الكرم والحمية والغيرة. ووساطة هذا العقد والحبة الساطعة في هذه القلادة رئيسها العامل حضرة إبراهيم بك سيد أحمد وهو رجل خير محمود العاطفة. فياض الروح بمشاعر الرحمة والشفقة والغوث وإلى جانبه رجلٌ من أرق الناس حاشيةً وأعطفهم على الفقراء ومفتقدي العزاء والعون كبداً يكاد يذوب خفة روح، وكرم شمائل، ونعني به وكيلها الفاضل صاحب العزة محمد بك. لك رئيس كتبة الجمرك الإسكندري من قبل ثم هم جميعاً الأسماء الكبيرة المتألقة في الحياة الإسكندرية والشخصيات الظاهرة المتجلية في الشؤون العمومية ولذلك استطاعت جمعية المؤاساة بالإسكندرية أن تعيش وتتقدم وتزكوا ثمارها، بجانب أخواتها الجمعيات الخيرية الأخرى، لأن كل اسكندري كبير هو في نفسه جمعية بر كبرى.(35/42)
العدد 36 - بتاريخ: 20 - 5 - 1917(/)
إيمان الملحدين
خاتمة الشاعر هايني
لا يزال العالم حافلاً بالملاحدة، ولكنهم لا يزالون منتشرين في الأرض متفرقين في رحاب الدنيا، لا تجمعهم جامعة، ولا تؤلف بينهم وحدة، ولا يحتويهم معبد يعبدون فيه الصورة الجديدة التي يريدون أن يضعوها إزاء صور السماء، ولو اجتمعوا فرقة واحدة، والتأموا طائفة منظمة، لشهدت الأرض مرة أخرى حرباً مخيفة من حروب الأديان، ولحشد أهل الملل التي تحمل ألوية الأنبياء، وتعيش على شعائر السماء، كل قوة لقتالهم، وجاؤوا بكل سلاح لإبادتهم، ولكن المؤمنين والمتدينين يعتصمون بالصبر، ويرتضون وجود الملاحدة بينهم، لأنهم يعلمون أن الملاحدة لا يستطيعون لقلتهم ضراً، ولا يحدثون خطراً ولا ويلاً، وهم لا يكادون يظهرون في الجماعات إلا فرادى. ولا يخرجون إلا متباعدين، وقد تلتقي أنت في الطريق برج منهم وأنت تعلم في نفسك أن الإيمان راسخ في فؤادك وأن الدين هو قبلتك، فتشعر بشيء من الدهشة والفكاهة والروح عند رؤيته، وتروح تجيل البصر في هذا المخلوق الصغير الذي يهزأ بعشرة آلاف سنة من الدين، ويتطاول هذا القزم الضعيف، الذي لا يكاد يبلغ في طوله ركبة أحقر عفريت من عفاريت العالم الأسفل، إلى عرش الملكوت الأعلى، وتندهش أن ترى هذه الآنية الفخارية التي تتحطم من أقل عارض من عوارض الجو، تريد أن تنسى الصانع العظيم الذي أخرجها قالباً جميلاً من الطين، وقد يدخل عليك السرور كله أن تستمع إلى حديث هذا المتمرد الفار من الخدمة الإجبارية لله، هذا الجندي الضعيف الذي يريد أن يعصي أوامر القائد الجبار الذي يحرك خطواته في معركة الحياة، وإنك لتصغي إليه فتحس الإيمان الذي في فؤادك يريد أن يغضب ويخرج لمعارضته ومجادلته، ولكنك تعود فتشعر بأن هذا الملحد الذي أمامك خليق بالرحمة، قمين بالرثاء، لأنه في مرحلة قاسية من مراحل الفكر لا يستطيع أن يخرجه منها إلا الله نفسه، ولا يستطيع أحد إقناعه إلا الذي أرسل في فؤاده من قبل فكرة إنكاره، فتتولى عنه، وأنت حزين النفس لأنك لم تستطع أن تربط السلك الكهربائي بين فؤاده وفؤادك، حتى تصل إليه حرارة إيمانك، ونور يقينك، وأغرب ما في الإلحاد أنه لا يقع إلا عند أهل الفكر، ولا تجد جاهلاً في الملاحدة، لأن الجاهل لا يستطيع أن يناقش الإحساس العميق المؤمن الذي يجري(36/1)
في فؤاده، وحسبه أن يشعر بروح الله فيه وهو لا يريد أن يكذب الملايين الكبرى التي سبقته وعرفت منشىء الأكوان قبله، ولكن المفكر الملحد ليس إلا رجلاً مزهواً بنفسه، معجباً بفكره، مغتراً بقوته، وهو يأبى إلا أن يعيش على المنطق، ولا يقبل أي فكرة أو إحساس إلا إذا جاءت في قطار العقل، وإكسبريس المرئيات، كأن هذا العقل هو الذي اخترع نفسه، وكأنه هو الذي وضع الكواكب، وكأنه هو الذي سن القوانين التي يكره على الخضوع لها، وكأن هذا العقل هو الذي ينطفئ بنفسه عندما تأتي ساعة الخمود الأبدي على أن هذا الزهو الذي يعيش إلى جانب الإلحاد ليس بعد إلا زهواً إنسانياً، وهو لذلك قليل العمر، متغير اللون، ضعيف الأعصاب، مريض القلب، ولا يلبث أن يسقط مغشياً عليه عندما تريد الطبيعة أن تداعبه، ولشد ما يفرح المؤمنون عندما يرون ملحداً مؤمناً، لأنهم يعلمون إذ ذاك أن الطبيعة قد انتقمت لنفسها ولهم، والرجل الملحد ينتهي دائماً برجل أعمق إيماناً من الذي عاش دهره في الحياة مؤمناً، وإيمان الملحدين لا يزال إيماناً قوياً مؤيداً بالإعتراف. قائماً على الإذعان والإستسلام أشبه بإيمن الرجل بقوة عده الذي حطمه في المعركة تحطيماً، ونكل به نكالاً أليماً، ولكنه وا أسفاه إيمان متأخر، كثيراً ما يجيء بعد الأوان، لأنه أغلب ما يكون على فراش المرض، أو في اللحظة التي يتشاجر فيها الأحياء والملائكة على جثته فيظفر بها مندوبهم، وهو صديقنا عزرائيل الكريم وينهزم الأحياء باكين معولين.
كان هنريك هايني، الشاعر الألماني الكبير. ملحداً في رأس الملحدين، وكان زعيم الشعراء المزاحين الماجنين، لأنه يأبى إلا أن يرسل النكتة ولو في أحرج مواقف الحزن والألم - وفي تلك اللحظة التي يجهد الإنسان ذاكرته الذابلة المضمحلة لتلاوة اسم من أسماء الله، ويحاول بكل قوى الدرجة الأخيرة من الصحو واليقظة أن يستعيد آية من آيات الكتب السماوية - كان هايني لا يزال على شفتيه غمغمة نكتة حلوة من نكته، وهذا خلق غريب يكاد يكون لا مثيل له في تاريخ المحتضرين، ولكن هذا الملحد المزاح الذي لم يشأ أن تفلت السماء من مزاحه ودعابته، هذا الشاعر المتهكم بكل من حوله، الهزاء بكل صفة من صفان الحياة - الضاحك من أعدائه، الساخر من أصدقائه عاد آخر أيامه فأذعن إلى القوة العظيمة التي تركته في سريره لا يبرحه - وذهبت بنور عينيه، وأرسلت المرض يأكل سلسلة(36/2)
فقاره، فأصبح مؤمناً بها، منهزماً إزاء جبروتها، وأغرب ما في الطبيعة المزاحية التي خلقتها معه، واكتفت منه بالإعتراف بها والإنقياد لسلطانها، وتركته يمزح ما شاء وهو مريض ويمجن ما أحب، وهو في الساعة الأخيرة من حياته، ولهذا كان إيمانه لا يزال ممزوجاً بالنكتة، مختلطاً بالدعابة، ولكن حسبه أنه إيمان فرح بهيج، بعد أن كان كافراً موحشاً قاسي المجون رهيب المظهر.
وتفصيل قصة هذا الشاعر أنه أقام في باريس ستة عشر عاماً من سنة 1831 إلى سنة 1847. وكان يعيش أبهج العيش، ويمرح في الحياة الباريسية. محبوباً مصفقاً له، معجباً به، يكتب تهكماته الحلوة، ويضع شعره العذب الجميل، ولكن ما كاد يحل عام 1847 حتى بدأ يشعر بدنو مرض السلسلة الفقارية، وقد لبث بعد ذلك سبعة أعوام محبوساً في سريره، سجيناً في فراشه من أثر هذا المرض المخيف، وآخر مرة خرج فيها من البت كانت في مايو عام 1848. وقد وصف ذلك فقال جعلت أجر نفسي بعد لأيٍ وجهد إلى متحف اللوفر، وقد كدت أسقط عياءً وضعفاً عندما دخلت القاعة الفخيمة حيث تجلس الآهة الجمال العزيزة، سيدة ميلو المحبوبة، فوق عرشها، فسقت نفسي وحملت ساقي إليها فجلست عند قدميها، وانطلقت أبكي بكاء مراسخينا يشفق الصخر منه، فنظرت إلي الإلاهة في رحمة ورثاء ورفق. ولكن في يأس وحيرة واضطراب في الوقت نفسه، ولعلها كانت تريد أن تقول لي ألا ترى أيها الإنسان المعذب أنني ليس لي ذراعان، فأحتضنك فيهما، ولهذا لا أستطيع أن أمد إليك يد العون! ومنذ ذلك التاريخ لم يخرج هذا الشاعر الجميل من بيته، في الطابق الأعلى من منزل باريسي، وأصبح هذا الرجل الجائع الذهن المتطلب معرفة علم الكون محبوساً في حجرة صغيرة، بعيداً عن مراقبة الحياة، رهين محبسين مظلمين، إذ كان مرضه العصبي قد عدا إلى عينيه فذهب بلمعة يمناهما، وكان يرفع غطاء الأخرى بإصبعه ليرى العالم الذي حوله. وكان الأفيون هو النعمة الوحيدة التي ترسل إليه النوم، وتبعث إليه طائف الراحة والسكون. ولكن الغريب من أمره أن مرضه لم يستطع أن يؤثر على نزعته الشعرية، أو يعدو على شيءٍ من بهجة روحه.
قال يصف نفسه إذ ذاك هل أنا حقاً أعيش، وهل أنا موجود. . .، لقد ذبل جسمي وتلاشى، حتى لست الآن إلا صوتاً. وفراشي قد أعاد إلي ذكري قبر الساحر مرلين، الواقع في غابة(36/3)
بريتانيا تحت السروات الباسقات التي تحلق رؤوسها في الهواء كلهب خضراء متطولة في بهرة السموات. وا حزناه. يا صديقي مرلين إنني أحسدك على هذه الأشجار الناضرة، والنسيم البليل الذي يهز أغصانها وأفانينها، إذ لا شجرة ناضرة تنثني حول قبري أو وسادتي التي أضطجع فوقها في باريس، وإذ لا أسمع أبداً غير دحرجة العجلات ومطارق السنديان، وخفقات المعازف والعيدان، قبر ولا سكون، وضريح ولا راحة، وموت ولا مزايا الموتى وحقوقهم - ومنذ زمن طويل جاؤوا فأخذوا القياس لإعداد أكفاني وصندوقي، وتدوين اسمي في دفتر الوفيات. ولكني أموت بكل بطء، حتى أصبحت عملية موتي مملة لي ولأصدقائي ولكن صبراً يا صحابتي. كل شيء سينتهي، وستجدون يوماً الخميلة التي طالما لعبت أمامكم فيها عروسة مزاحي قد أقفلت أبوابها!.
وهنا بدأت ثورة الإيمان تهب في فؤاده، ولعل ذلك راجع إلى شدة وطأة المرض، لأن كل لذعة من لذعات الألم تغسل قطعة من الإلحاد عن قلبه، وكل عضة من عضات العذاب تأخذ بين أسنانها جزءاً من طبقات الشك، وكذلك استطاعت الآلام أن تهضم كل فؤاده، ثم خلق الله له فؤاداً غيره، ولكنه أراد إلا أن يكون قليل المقام في جثمانه، فلم يلبث أن أخذه إلى جواره.
قال هايني: - ماذا يفيدني من أن يتوج الشباب المفتونون بحبي، والعذارى المعجبات بي تمثالي الرخامى بأكاليل الغار، وتيجان الزهر، وأنا أرى يد الممرضة العجوز المهزولة تطرد الذباب عن وجهي وعيني، وماذا يغني عني أن تكون جميع ورود شيراز تعبق شذاها، وترسل أنفاسها وبخورها حولي. لا أشم بخوراً ولا عبقاً، غير رائحة المناشف الدافئة الموضوعة عن رأسي. أواه. . إن تهكم الله يحطمني: إن مؤلف الكون العظيم. أريستفانيس السماء قد أجمع نيته وحشد كل قوته على أن يفضح أريستفانيس الأرضي الصغير. إن أحسن مداعباتي وأبدع أمازيحي لم تكن إلا تجارب صغيرة لتعلم فن التنكيت، إذا هي قورنت بنكته ومداعباته، أنا دونه في صناعة المزاح وصغير بجانبه في فن السخرية!!.
فماذا يقول المؤمنون عن هذا المؤمن الجديد الذي يعترف بضعفه واستخذائه ويقر بإيمانه بوجود الله وقوته، ولكنه مع ذلك يأبى إلا أن يكون مزاحاً حتى مع خالقه، ولكن الله أعرف(36/4)
بفؤاده وسلامة مزاحه مع الناس، وقد نزع عنه روح الإلحاد وأبقى فيه على روح المجون، ثم ماذا هم قائلون إذا قرأوا الشذرة الآتية التي جعل يصف فيها اعتقاده في وجود الآخرة.
قال يخاطب قراءه عزاء يا قرائي وسلوى، فسنلتقي ثانيةً في عالم أحسن من هذا. هناك حيث في نيتي أن أكتب لكم كتباً أبدع مما كتبت - إني آخذها قضية مسلمة، إن صحتي ستتحسن هناك وإن العم سويدنبرج لم يخدعنا. إذا أنبأنا بكل توكيد وثقة أننا سنسترسل في علمنا القديم الذي كنا نزاوله في ذلك العالم الآخر كما كنا نفعل هنا، حذوك النعل بالنعل، وإننا سنحتفظ هناك بشخصياتنا، فلا تتغير ولا تتبدل، وإن الموت لن يحيل شيئاً من نظامنا. إن سويدنبرج رجل شريف، طيب القلب، ولا يسعنا إلا أن نصدق كل ما قاله عن العالم الآخر الذي أبصر فيه بعيني رأسه الأشخاص الذين لعبوا دوراً كبيراً في الأرض، وقد قال عنهم أن أكثرهم ظل على حاله لم يتغير، ولكنهم أصبحوا هناك مودة قديمة وأصبحت طبعتهم متأخرة. فمثلاً الدكتور مارتن لوتر ظل متمسكاً بعقيدته التي لبث ثلاثمائة سنة يكتب عنها كل يوم الحجج والبراهين، ولكن كثيرين منهم لم ينجحوا ولم يبقوا على شخصيتهم، بل تهذبوا كثيراً وتحسنوا، وتطوروا إلى الشر أو الخير، ففريق منهم كانوا في الأرض أبطالاً وصناديد وقديسين فتدهوروا هناك فصاروا فجرة فسدة سفهاء لا يصلحون لشيء، وفريق آخر من الذين كانوا هنا أقوياء الإرادة، صارمي العزيمة، عادوا فأصبحوا الآن أشراراً مجرمين، وبالعكس صارت بنات لوط على ممر الزمن من بنات الفضيلة وعدت في العالم الآخر الأمثلة العليا للعفاف والحشمة والأدب.
وكان هايني في أيام شبيبته لا يترك صديقاً أو عدواً إلا سخر منه وأخذه بمجونه ولكنه عاد فرأى خطأه، وتبين سوء ما فعل، فكتب قطعة تعد أحسن وصف للدنيا، فقال. . وا أسفاه الحق أقول لكم لا ينبغي أن يسئ إنسان إلى أحد في هذا العالم. كل منا مريض في هذا المحجر الصحي، ولكل منا علته في هذا المستشفى. ولقد ذكرتني تهكمات الكتاب بشجار غريب وقع في مستشفى كراكاو، وكنت أنا شاهده. وذلك أن المرضى انطلقوا يتهكمون بعضهم ببعض ويتباهلون ويتعايبون بأمراضهم وعللهم، فسمعت المسلول الذي أكل السل رئته وهضم لهاته يسخر من آخر أهزله الإستسقاء، وهذا ينكت على مريض بالسرطان، وصاحب السرطان يعيب على صاحب الجذام. حتى وثب أخيراً مريض محموم في أشد(36/5)
صرعات الحمى طافراً من سريره فمزق كل الضمادات المقطعة الحاجبة جروح رفاقه وعللهم، فبدت السوءات والشناعات وكل أنواع الدمامة والقبح!!. . . .(36/6)
الجنون والعبقرية
إن الطبيعة كثيراً ما تعمل على مبدأ الحرمان والتعويض، وكثيراً ما تهب النعمة، ثم تسترد من صاحب الهبة في سبيلها ثمناً غالياً، وتلزمه رهناً باهظاً، وتأخذ من سمسرة فاحشة وأنت لا تجد امتيازاً حبته الطبيعة، إلا رأيت وراءه تضحية، ولا تشهد الطبيعة حارمة من ناحية، إلا ألفيتها معوضة مجزية من الأخرى، وهذه الفلسفة الإلهية لا تزال السر الأكبر في بقاء الكون، وهي ضرب من التوازن حتى تتكافأ القوات التي تحمل الأرض، ولولاها لتحطمت الكواكب، وهوت الأفلاك وتدمرت الخليقة، ولعل الطبيعة أرادت بذلك أن لا تثير نزعة التحاسد بين الكائنات، وشاءت أن لا تهتاج الغيرة في الخلائق، فجعلت من الكواكب القصير الرأس - لأنه كان لا بد في الكواكب من قصار الرؤوس - ولكنها أشفقت أن يحزن الكوكب لقصر رأسه. وينظر إلى ضخامة هام أخوته. فجعلت له ذنباً مستطيلاً يجي وراءه في بهرة السموات، ويوم يتفاخر كوكب عليه بعظمة رأسه ويدل عليه سيار بشدة عدره، يوليه ظهره مزهواً متكبراً، باسطاً إليه ذنبه الجميل كأفخر ما تكون الطواويس بأذنابها.
وإذا كان هذا هو القانون العام الذي تجري عليه كل العوالم التي خرجت من يد الصانع الأكبر. فلا تعجب إذن من أن يكون في الناس الجهلة وهم أغنياء، والبله وهم ناعمو البال والعقلاء وهم المحزونون المتعبون، والمرأة الشوهاء الطلعة ووراء لسانها قلب ملائكي مشرق الصفحة، ثم الحسناء المعارف، الصبوح المحيا. مندوبة. . القمر في الأرض وخلف هذا الحسن نفس ملوثة خبيثة يأخذ عنها الشيطان أوامره، في مصطبخ كل يوم، ويعود إليها بدفتر اليومية عند مغيب كل شمس!!.
وعلى هذه القاعدة، لماذا يندهش الناس إذ يسمعون أن كثيراً من النوابغ، وطائفة كبرى من العظماء. وجيلاً عديداً من كتاب الدنيا وشعرائها وفلاسفتها وقوادها وأهل الذكاء المتوقد المفرط فيها، كانوا في حياتهم أحق بسكنى مستشفيات المجاذيب من كثير من البله والمجانين العاديين الذين دخلوها، ولماذا يأخذ المجتمع العجب، وتقع في قلوبهم الحيرة، إذ يرون رؤوسهم والصفوف الأول الصاعدة في طلائعهم، والأدمغة الجبارة الخصيبة التي تطل عليهم، أكثر ما يغلب عليها المرض، وتنتابها العلل، كأنهم لا يعلمون أن العظماء إنما يدفعون إلى الطبيعة ثمن أذهانهم الجميلة على طريقة التقسيط، وكثيرون منهم لا يزالون(36/7)
يواصلون دفع هذه الأقساط من أجسامهم وعيشهم وكل ما حولهم، حتى يستنفذوا جميع ذلك. ولا تزال الطبيعة تطالبهم بالباقي، فلا ينون يأخذون من الهبة نفسها وهي أذهانهم ويعطون الطبيعة صاغرين، لأنهم يخشون من فضيحة الديون، ولا يحبون أن يكسر عليهم شيء من أقساطهم، وعندما ينقص العظيم من أطراف البقية الباقية لديه وهي ذهنه، يراه الناس مجنوناً ويعده المجتمع المتطلع إليه، مريضاً مأفوناً، ويأنفون أن يعيشوا وراء مجنون، ويتبعوا ظل رجل مريض، فيطرحونه، ويذهبون عنه متفرقين، ليبحثوا عن ذهن جديد يركعون عنده وإذ يرون النتيجة أبداً واحدة، ونوابغهم دافعين إلا أقلهم إلى هوة الجنون أو المرض، يعودون فيصلحون ما أفسدوا في عهد حياتهم، فينصبون لهم التماثيل، ويقيمون الأضرحة، ويضعون الكتب البديعة عنهم، ويود أكثرهم أن يصابوا بنعمة هذا الجنون الطيب الذي ينتهي بهذه الخاتمة المرضية، ولكنهم لا يعلمون أن جنوناً عن جنون يفترق، لأن جنون ألف معتوه في دار المجانين لا يكاد يعدل جنون رجل عبقري واحد. لأن هؤلاء الألف إنما يحطمون زجاج النوافذ، وينطحون الأبواب والجدران، ولكن جنون العبقري إنما يحطم الآداب القديمة، ويمزق الكتب العتيقة، وينسخ كل ما في المكاتب، ويترك لكل كلمة يقولها ألف ذهن حائراً، وألف فؤاد مذهولاً. وهكذا يصلون عدواهم إلى الذين يقرأونهم، وينقلون قطعة من هذا الجنون المبارك إلى أذهان الذين يعيشون وراءهم، وكل قارئ من القراء المعجبين برجل نابغة مريض، إنما يحترق تحت تأثير ذلك السيال الكهربائي النافذ إلى ذهنه. وإذا كان أغلب الناي يتبعون النوابغ على حسب ذهنياتهم واختلاف مشاربهم، فلك أن تقول أن السواد الأعظم من العالم مجانين وإن الأرض قد أصبحت صورة مكبرة من السراي الصفراء.
إذن فليكن النوابغ مرضى، وليعش العبقريون على الجنون، فليس بضائر العالم جنونهم، ولعل جنونهم ومرضهم خير للناس وأبقى على نظام الأرض ولو كانت هذه القوة الجبارة تمشي على قانون منظم، ولو كانت عقول النوابغ تضطرد في مضطرد رقيق هادئ متناسق، إذن لطاحوا بالناس، وملكوا الدنيا أو قلبوها رأساً على عقب وإذ ذاك لا يسع القطعان الإنسانية إلا أن تهرب من وجوههم هروب الجرذان من أظلاف القطط. . ويومذاك يقفز هذا الكوكب ولا يبقى فيه إلا عفاريت آدمية تتضارب وتتجالد وتتنازع على(36/8)
كرسي جمهورية العفاريت في الأرض!
نقول هذا غير قاصدين إلى معارضة الأستاذ سيزار لومبروزو في أبحاثه التي بسطها في كتابه الرجل العبقري ولا ذاهبين إلى إنكار مذهبه من أن ليس بين الجنون والنبوغ إلا خيط ضعيف وإن أعراض العبقرية لا تكاد تختلف كثيراً عن مظاهر الجنون. ولكنا بعد نعدها حقائق مرة أليمة، ولكن العلم لا يسأل عن الألم، ولا يكترث بالعواطف، وإنما هويتهم بالنتيجة، وينظر إلى الغاية، وقد سرنا من لومبروزو أنه لم يستطع أن ينكر أسفه لهذه النتائج الخطيرة التي أنزلت أكبر مظاهر القوة الإنسانية إلى مستوى البلاهة والمرض والإنحطاط ولكن لا ترى الطبيعة نفسها أبت إلا أن ينبت الياسمين بجانب القراص، ويطلع الورد على مقربة من خانقة الذئب. وهل ترون العالم النباتي يستحق اللوم والتأنيب أن اهتدى إلى هذه النتائج، وهل تعد جريمة منه أن ينهي إلى الناس أمرها.
وقد كان المؤرخون إلى هذا العهد قصاصين فقط ومحدثين، وكانوا مزامير ليس غير للأمراء والملوك وقادة الحروب، ومضرمي نيران القتال، ولم يهتموا بتحليل نفسيات النوابغ وتشريح أرواح العبقريين، فلم ينقلوا إلينا شيئاً عن اضطرابهم وأمراضهم وأعراض انحطاطهم. وأبت نزعة الكبرياء والزهو والغرور على هؤلاء النوابغ أن يبسطوا للعالم أسرارهم، اللهم إلا قليلون منهم كاردان وروسو وستورات ميل وموسيه ولامارتين، ولعمري من كان يظن أن ريشيليو كان مريضاً بالصرع، لو لم تزره النوبة، وهو في مجلس من مجالسه ومن كان يعلم أن كافور الطلياني الكبير حاول الإنتحار مرتين، لو لم يضع برتي ومايور كتابيهما عنه، ومن كان يعرف جنون كارليل لو لم تئن بالشكوى زوجته.
ونحن هنا نقول أن كثيراً من أمراض النوابغ وجنونهم يرجع إلى الوراثة، وذلك في الذين ينحدرون من آباء سكيرين أو مزهورين أو معتوهبن أو مصدورين، وغير ذلك، أو من أسباب عارضة مختلفة، والأعراض التي ترى عليهم هي في الغالب فقد الحاسة الأدبية، والتجرد من العاطفة، والنزاع إلى الشك والوسوسة وفقد التوازن إما بزيادة في قوة من قوى العقل (كالذاكرة مثلاً أو الذوق الفني أو غيرهما) أو ينقص في غيرها (كقوة الحساب مثلاً) والتناهي في الصمت أو المغالاة في الثرثرة، والغرور، وتقلب الشخصية، والأنانية، وجعل(36/9)
الأهمية الكبرى لأتفه المسائل واتخاذ ألفاظ خاصة يخرجونها عن معانيها إلى معاني أخرى يريدونها منها.
هذه هي الأغراض الأخلاقية، أما الأغراض البدنية فمنها كبر حجم الآذان وقلة شعر اللحية وعدم انتظام الأسنان وفقد التناسب بين الوجه والرأس، بأن تكون الرأس في نهاية اصغر أو مفرطة الحجم، ونضوج الشهوة قبل أوانها، وصغر البدن أو ضخامته واستعمال اليد اليسرى دون اليمنى، واللعثمة والكساح والسل الرئوي والشهوانية المفرطة التي تخف حدتها بالعقم.
ونحن هنا نذكر عدة من أسماء العظماء والعبقريين الذين ظهرت عليهم هذه الأعراض.
أما صغر الجثة، وضؤولة البدن، فقد اشتهر بهما كثيرون مثل اسكندر الأكبر وأرسطو وأفلاطون وأبيقور وأرخميدس وديوجنيس والقائد تيلا. وبقطيط الذي كان يقول أبداً من أنا. . أنا لست إلا رجلاً صغيراً ومن المتأخرين جبون المؤرخ المشهور، وأسبينوزا ومونتان والموسيقي موزار والموسيقي بتهوفن والشاعر جولد سمث والشاعر الألماني هايني والكاتب شارلزلام وبلزاك الروائي العظيم ودي كونسي وأبسن والكاتبة القصصية العبقرية المعروفة باسم (جورج أليوث).
ومن بين الذين كانوا طوال القامة مشذبي الأعواد، الشاعر جوت، والشاعر شيللر، والإمبراطور شارلمان، وبسمارك ومولتكي والخطيب ميرابوديماس الكبير وشوبنهور ولامارتين وفولتير وبطرس الأكبر وواشنطن وكارليل وترجنيف.
ومن بين الذين كانوا مقعدين أو عرجاً أو حدباً أو حنفاً الشعراء بوب وليوباردي وولتر سكوت وبيرون والمؤرخ جبون وكثيرون من العبقريين وجبابرة العقول عاشوا وماتوا عزاباً وآخرون تزوجوا ولكنهم لم يتركوا نسلاً ولا جاءوا بذراري ولا بنين وفي ذلك يقول الفيلتوف ببكون. . أن أنبل الأعمال وأخطر الفعال إنما جاءت من رجال عقيمين وقد أرادوا بها أن يظهروا للعالم الصور الجميلة التي في أذهانهم بعد أن عجزوا عن إظهار صور أخرى من أبدانهم، وكذلك كان الإهتمام بالذرية والجيل المستقبل أشد ما يكون في قلوب من لا ذرية لهم. . ويقول لابريير إن هؤلاء الناس - يعني العبقريين - لا سلالة لهم ولا أعقاب. هم وحدهم ينشؤون من المستقبل المنحدر بعدهم ذراريهم وأطفالهم. .(36/10)
وأغرب ما في ذلك أن جميع كبار شعراء الإنكليز لم يتركوا أولاداً ونحن هنا نذكر أسماء الشعراء الآتين - شكسبير. ملتون. دريدن. أديسون. بوب. سويفت. جونسون. جولد سميث. وكثيرون غيرهم اجتنبوا الزواج لكي يتفرغوا إلى الدراسة والأدب. وقد قال المصور العظيم ميشيل أنجلو يوماً إن لي في فني بعيشة الأسرة - كنت - ماكولي - بنتام - شوبنهور - فولتير - شاتوبريان - فلوبير - ماسيني، وهناك مجمع من النوابغ أقدموا على الزواج، ولكنهم عانوا منه العذاب، وساءت به حالهم، وأظلم عيشهم ومنهم شكسبير ودانتي وبيرون وكولوريدج وأديسون وكاريل وأوجست كونت وديكنز، وقد كتب فلوبير يوماً إلى الكاتبة القصصية الطائرة الصيت جورج ساند أن بنات الشعر أخف رحمة، من بنات حواء وقال شامفور لو عقل الرجال لما بقي في الأرض جميعاً رجل يتزوج، وأما عني أنا فإنني لا شأن لي بالزواج لئلا يخرج مني ولد مثلي!!
وهناك عارض آخر يشترك فيه الجنون والعبقرية، ولاسيما الجنون الأخلاقي ونعني به النضوج قبل الأوان. فإن الشاعر دانتي كتب أول قصيدة في الحب وهو في التاسعة وكان باسكال وكونت مفكرين كبيرين رائعي التفكير وهما في الثالثة عشر، وكان فولتير كذلك وهو في هذه السن. وكتب الشاعر جوت قصة بسبع لغات، ولم يكن قد جاز بعد العاشرة، والروائي التمثيلي كوتزبي جعل يكتب كوميديات للمسارح وهو في السابعة، ونظم بيرون عدة أبيات وقصائد وهو في الثانية عشر، ونشر في الثانية عشر أول قطعة من ديوانه ونعني بها - عات الفراغ وأعجب من جميع ذلك أن ميرابو الخطيب العظيم خطب وهو في الثالثة ونشر مؤلفات له في العاشرة وإن موزار جعل يقيم الحفلات لكي يوقع موسيقاه الجديدة وهو في السادسة. ولكن هذا النضوج المبكر لا يزال بعد نضوجاً مريضاً عارضاً غير طويل العمر، وكثيراً ما يظهر في المتوحشين والبيئات التي تعيش على الغريزة، وهناك مثل سائر يقول إ، الذي يكون عبقرياً في الخامسة يصير مجنوناً في الخامسة عشر!. . .
وقد يعترض بعض الناس على هذا العارض فيقولون إن هناك كثيرين من النوابغ والعبقريين لم تظهر عبقريتهم ولم يتجلى ذكاءهم المتوقد إلا بعد دهر طويل. وبعد أن جازوا من عمرهم سنين عدة، وهؤلاء يجاب عليهم بأنه لم توجد ثمت ظروف صالحة(36/11)
مواتية لظهور ذكائهم، أما إن يكون ذلك راجعاً إلى جهل المعلمين والآباء إذ يحسبون العبقرية وهي في دور الذهول والبلادة في الطفل بلاهة أو غباء وحمقاً، وكثيرون من الأطفال كانوا يعدون في المدرسة أغبياء أو حمقى أو طائشين ثم أصبحوا بعد ذلك عظماء ونوابغ، ولم تلبث أن ظهرت عبقريتهم عندما سنحت الفرصة لإظهارها أو عندما اهتدت أذهانهم إلى الطريق الملائمة لعبقريتهم، ونذكر من هؤلاء بلزاك وديماس الكبير والدوق ويلنجتون القائد الإنكليزي العظيم والروائي الخطيب شريدان والشاعر بيرنز، وكان نيوتن مكتشف قانون الجاذبية آخر أقرانه في الفرقة، يوم كان تلميذاً، وكان ولتر سكوت غبياً مكسالاً في المدرسة، ولكنه ظهر بعد ذلك أكبر الروائيين، وأما جوستاف فلوبير فتعلم القراءة في طفولته بكل مشقة وجهد، ولكنه في الوقت نفسه كان يضع في ذهنه روايات تمثيلية كثيرة، وكان لا يستطيع كتابتها، فاجتزأ عن ذلك بأن أخذ يمثلها بنفسه ويقوم هو بجميع أدوارها.
ويجئ بعد ذلك الذهول أو الغيبوبة، وقد وصف كثيرون من العبقريين أنفسهم وهم تحت تأثير الإلهام فقالوا أن حالتهم إذ ذاك تشبه حمى بهيجة مفرحة. تثير تفكيرهم وتبعث أذهانهم على التخيل والغياب في أبعد مراحل التصور والفكر. ومن ذلك يقول بول ريختر إن الرجل العبقري في نظري هو رجل منوم، يرى في حلمه الهادئ أكثر وأبعد مما يراه في صحوه ويقظته، وهو في هذا الحلم يبلغ أسمى جبال الحقيقة والرجل العبقري في ذلك مدفوع بإحساس لا يستطيع رده، وكما تدفع الغريزة الحيوان إلى إتيان عمل قد يكون فيه موته، تجد العبقرية كذلك عاجزة عن مدافعة ما يثيرها من الإحساس الداخلي الغريب. وقد غزا نابليون غزواته، وأغار الإسكندر غاراته. لا حباً في المجد ولا رغباً في الشهرة والفكاهة. ونما إطاعة إلى غريزة قوية ل قاهر لها، وكذلك العبقرية تخلق وتبتكر لا رغبة في الإيجار ولكن لأنه يجب أن تخلق وتبتكر.، حتى لقد قال نابليون إن نهاية وقائعه كانت نتيجة لحظة واحدة من التفكير، إذ تظهر اللحظة القاطعة، فتسطع شعلة الفكرة، فإذا به يرى نفسه منتصراً، وقال لامارتين لست أنا الذي أفكر، إن أفكاري، إن أفكاري هي التي تفكر عني وكثيراً ما كان يقول الشاعر جوت أنه لا بد للشاعر من التهاب الذهن، وقد نظم جوت أكثر شعره وهو في حال بين النوم واليقظة، وكتب فولتير جزءاً كاملاً من كتاب الهنريات(36/12)
وهو نائم.
ولعل أقرب ضروب الشبه بين العبقريين والمجانين، لا يقع لا عندما يكون أهل العبقرية تحت تأثير الإلهام، والأعراض التي تبدو على الرجل العبقري عندما يكون في هذه الحال هي سرعة النبض وإصفرار المحيا وبرودة الجلد والتهاب الرأس من الحمي وزيغ البصر من ظهور بريق موحش مخيف في العينين، وكثيراً ما يحدث أن الشاعر أالكاتب لا يدري ماذا كان يكتب أو ينظم عندما يفيق بعد ذلك من الحمى التي انتابته. فقد كان الشاعر تاسو نظهر عليه كل عوارض الجنون، عند ما كان يأخذ في نظم قصائده. . ومنهم من يضطر إلى إحداث الإلتهاب في ذهنه بأية وسيلة وسبيل لكي يقع له التفكير، ويواتيه الشعر والخيال، فكان شيللر يضع رجليه في الثلج، وروسو لا يفكر إلا إذا عرض رأسه لأشعة الشمس وهي في أشد وهجها، وكان الشاعر شللي يرقد ورأسه على مقربة من الموقدة وقد يتحول الإلهام في بعض الأحايين إلى الهذيان. فقد كان ديكنز وكليست يحزنان على الأبطال الذين يضعانهم في روايتهما، وقد شوهد الشاعر كليست باكياً متحدر العبرة، جازعاً كاسف البال، بعد انتهائه من كتابة إحدى رواياته التراجيدية، وهو يقول صارخاً لقد ماتت. لقد ماتت! وأشد ما يتجلى في النوابغ والعبقريين شدة الإحساس، حتى إن كارليل وموسيه وفلوبير كانوا لا يستطيعون احتمال ضوضاء الشوارع وأصوات النواقيس، ولهذا كانوا لا يقيمون في منزل واحد، وإنما يتنقلون من شارع إلى شارع، ومن مسكن إلى مسكن، هرباً من الأصوات. وقد تشنج الشاعر بيرون عندما رأى الممثل كين يمثل فوق المسرح. وقد رأى المصور فرانسيا يوماً صورة من صور روفائيل، فمات لساعته من شدة الفرح وتبدو لهم طعنات خناجر ومدى وسكاكين، ما يبدو لغيرهم وخزات الإبر، فإن الشاعر شاتو بريان لم يكن يحتمل أن يسمع مديحاً موجهاً إلى إنسان ما، ولو صانع أحذيته، دون أن يثور ثائره، ويهتاج حنقه، وقد شوهد الشاعر الروسي بوسكن في دار التمثيل والجمهور منصرفون في ختام الرواية، متزاحمون عند الباب يعض من الغيرة والحنق كتف إحدى السيدات، وكانت تمشي إلى جانب زوجها، وذلك لأنه كان إذ ذاك يميل إليها. وإن الفيلسوف شوبنهور كان رفض أن يدفع للدائنين الديون التي عليه إذا كتبوا اسمه بالباء المشددة بدلاً من باء واحدة وآخر ما نذكره من الأعراض التي تظهر على النوابغ السخافة،(36/13)
وكثيراً ما توجد دلائلها في كتبهم وأحاديثهم فقد جمع جوستاف فوليير طائفة منها في كتاب أسماه ملف البؤساء وكانت لا تعرف اللاتينية، ولكنها كانت تفهمها جيداً، أو كلمة برناردان دوسان بيير صاحب الرواية الطائرة الصيت بول وفرجيني وهي أن الطبيعة قسمت البطيخة إلى شقق لكي تؤكل في العائلة ولما كانت القرعة أو اليقطينة أكبر حجماً، فإنها خلقت لكي تؤكل مع الجيران!!.(36/14)
الآداب وتطورها
ـ 2 ـ
الأثرة الذاتية وحب الغير
جبلت الكائنات الحية على الأثرة وحب النفس فالنبات يمد جذوره في الأرض إلى مسافات بعيدة ويخص نفسه بأوفر نصيب من الغذاء الضروري لحياته ويمانع غيره من أن يقتات بجانبه أو يعيش معه في بقعة واحدة، وإذ كانت المادة المغذية غير كافية للاثنين حاول كل منهما قتل الآخر، وتقتتل الحيوانات فيما بينها طلباً للحياة فتعدوا الضاريات على آكلة النباتات لتقتات بلحومها فتدافع هذه عن نفسها، وينشب بينهما القتال أو تطلق لساقيها العنان، وتتناجز الضاريات فيما بينهما للإنفراد بالبقاء، وكذلك تتناطح آكلة النباتات لتستأثر بالأعشاب وورق الأشجار.
والإنسان مع كل هذه الكائنات في حرب عوان لا يفتر عن مقاتلها ليأمن شر بعضها وليستخدم البعض الآخر في منفعته، وهو مع بني جنسه في عرك مستمر أيضاً ليستقل بخيرات الأرض ونعيمها.
فالأثرة الذاتية أساس كل حياة والعالم قائم على جهاد وقتال، القوي فيه فائز والضعيف مخزوم، وإذا لم يكن بد من أن يكون بعض الناس آكلاً والبعض الآخر مأكولاً فلتكن من الصنف الأول لا الثاني إن أمكن.
ومحبة الغير وهي عاطفة طبيعية في النفس فرع من محبة الإنسان لذاته. فالمرء لا يريد لغيره الخير إلا إذا ناله أو ظن أن يناله خير من جراء ما أصاب هذا الغير. ولا يحافظ المتوحش على حياة أخيه المتوحش إلا لأن أخاه يذب عنه ويعينه على أعدائه.
ولا يقف الإنسان إزاء مصائب غيره جامداً بل يحزن ويتألم، إن وقع نظره على جريح أو مبتور اقشعر بدنه وانتفضت أطرافه، ولو رأى مريضاً توجع له ورثى لحاله ويفزع من أخبار الموت ويجزع منها وذلك لأنه يتمثل نفسه في الحالة التي رأى غيره فيها فتطير نفسه شعاعاً من الألم وتنتابه هذه الحركة القسرية المسماة بالقشعريرة والتي كانت في الأصل حركة اختيارية يراد بها درء الألم. ألا تجد أنك لو رأيت إنساناً مبتور أحد الأعضاء سرت القشعريرة في العضو المقابل له من جسمك وربما تلمست هذا العضو(36/15)
لتطمئن عليه. وأشد ما يكون فزع الإنسان من ذكر الموت حين مرضه وأيام الأوبئة المعدية.
ولو مر بك فقير يقطر ذلاً ويتساقط جوعاً انقبض صدرك وانفطر قلبك ومددت يدك إليه بالصدقة لترد إليه مسغبته وفي الحقيقة لتدفع عن نفسك الألم الذي شعرت به حينما رأيته ووضعت نفسك مكانه فمثل الصدقة كمثل القشعريرة وانقباض اليد حينما نشعر بقرب النار منها تنزل إلى القلب الراحة والسكينة وتبعد عنه الألم. والمتصدق في الواقع ونفس الأمر إنما يحسن إلى نفسه من قبل أن يحسن إلى غيره.
والفقير أبر الناس بالفقراء وأشفقهم عليهم ومعظم دخل الشحاذين من جيوب المعوزين الذين يتوقعون الفاقة من وقت لآخر وذلك لأنهم واقفون على حافة العدم ومهددون بالفقر فكل مظهر من مظاهر الفاقة يخيفهم ويهوي بمخيلتهم إلى جحيم الحاجة وسرعان ما يجدون أنفسهم مكان الشحاذ يستعطون، فيمدون أيديهم بالصدقة ليبعدوا عن أنفسهم هذا الخيال المفزع ولا يمكن أن يقال أن منظر المرض أو الفقر في حد ذاته مؤلم فكثيراً ما يمرض بعض الناس به ولا تجد الشفقة إلى قلوبهم سبيلاً ولا يتأثر الإنسان من التمثيل مهما كان متقناً والممثلون بارعين في محاكاة الطبيعة إلا إذا نسي الإنسان نفسه وظن التمثيل حقيقة وامتزج بأبطال الرواية. أما إذا أقام بمعزل ورجع إلى نفسه وأدرك أن ما يمر به محض تمثيل سخر منه وضحك في المواقع التي تستوجب البكاء.
يجمع الإنسان بين جوانحه كثيراً من المتناقضات فبينما نجده شغوفاً بالعدل وحب الغير إذ تجده يحب نفسه حباً جماً ويؤثر مصالحه على مصالح غيره وتعترك في نفسه أميال شتى يرجع بعضها إلى حب الذات ويرجع البعض الآخر إلى محبة الغير. والإنسان بين هذين الفريقين مع الغالب فتارةً تفوز الأثرة الذاتية وطور ينتصر العدل الذي هو محبة الغير. وفوز أحد الجانبين على الآخر متوقف على مزاج الإنسان وبنيته وما ورثه عن أسلافه من القوة والضعف والشدة واللين وعلى ما يحيط به من الظروف والأحوال. وهذا العراك في أغلب الأحايين فاتر لحسن الحظ ولا يدوم طويلاً.
غير أنه قد تصيب الإنسان في بعض الأحايين أزمة شديدة تتماثل فيها الأميال وتتساوى القوى المعارضة ويحار في الأمر فلا يدري ماذا يفعل ولا لأي الجانبين ينحاز.(36/16)
أمر المؤمنين عمر بن الخطاب بجلد ابنه ولكن هل تظن أن هذا الأمر كان سهلاً عليه! وهل صمم عليه من أول وهلة حينما ظهرت له إدانة ابنه!
إن دون الوصول إلى هذا الحل عراكاً شديداً بين حب الإبن وحب العدل وحاد للغاية، لا يصبر عليه إلا كل بطل شجاع كعمر بن الخطاب والفضل في فض الخلاف وترجيح إحدى الكفتين راجع إلى يقين عمر وإيمانه العظيم وإيثار الآخرة على الدنيا واعتقاده بأن العقاب يطهر النفس ويشفع في غفران الذب وبعبارة أخرى خوفه من الله سبحانه وتعالى وعذابه وإلى حبه لابنه وتوخيه الأنفع والأصلح بأن اختار له نعيم الآخرة لأنه أعظم وأبقى.
وحب الإنسان لابنه شكل من أشكال حب الذات بل هو بعينه إلا أنه أوسع وأعم وكذا الخوف من الله نوع من أنواع الحب الذاتي. فالحب الذاتي هو الذي هيج عواطف عمر وأثار أشجانه وهو الذي هدأ روعه وأنزل السكينة وأملى عليه الواجب.
وهو الذي حمل السمو أل على الوفاء بعهده وتضحية ابنه وإيثار الثكل على أن يشوه سمعته ويسلم شرفه ويسلم سلاح امرئ القيس لأعدائه.
وهو الذي يحمل الجندي على الإستماتة في الدفاع عن بلده والاحتفاظ بترث أسلافه. إن منشأ حب الوطن آتٍ من تمتع الإنسان بخيرات بلاده ونعيمها - ووجود مصالحه فيها فهو إن دافع عنها فإنما يدافع عن نفسه وأهله وقوته وماله.
وكلما كانت المصالح الشخصية أكثر التئاماً مع المصالح العمومية كانت الأمة أقدر على الدفاع عن نفسها والأفراد أشد تفانياً في حبها يدافعون عنها وكأنهم يدافعون عن أرواحهم ويلقون بأنفسهم في غمار الحرب لا طلباً للموت وإنما حباً في البقاء واحتفاظاً بحريتهم وحقوقهم.
يقول جوستاف لوبون إن وطنية الإنكليز والأمريكان والألمان قوة عظيمة دونها قوة المدافع وكل أمة فقدت وطنيتها فعن قريب تفقد كل شيء.
نسي جوستاف لوبون أمته ولكن نحن لا ننساها فإنها في طليعة الأمم التي تتقد حمية وتشتعل وطنية فقد دكت المدافع الألمانية حصون فردان وصيرتها أطلالاً بالية وغيرت معالم أرضها وجعلت عاليها سافلها ولكن فردان لم تؤخذ لأن الأمة الفرنساوية أبت أن تسلمها واستعاضت عن الحصون بصدور أبنائها الأبطال فثبتت هذه حيث لم تثبت تلك لأن(36/17)
حشوها الغيرة والحماسة والوطنية وهل للمدافع سلطان على هذه العواطف.
ولا غرو أن يكون الإنكليزي والفرنساوي بهذه الوطنية فإن حكومتيهما من خير الحكومات حرية وعدلاً وأكثرها عطفاً على أبنائها ورعاية لمصالحهم.
لا توجد الوطنية إلا حيث توجد الحرية والعدل ولا يدعو إلى انقسام البلد وتفرقها أحزاباً وطوائف إلا اختلاف المصالح ولا تنشأ الثورات والفتن إلا عند وجود هيئة حاكمة متمتعة بخيرات البلد وهيئة محكومة تتقلب على الذل والفقر. وإذا ثبت أن الحب الذاتي أثاث كل عاطفة شريفة وإحساس راق كما أنه جرثومة الشرور ومدعاة الفساد فمن الحمق إبادته وإزالة أثره من النفس ومن المحال نزعه إلا بنزع الحياة ولولاه لما نشطت الهمم وتسابقت الأمم والأفراد في مضمار المدنية بل لماتت الإنسانية في مهدها وكل ما يستطاع عمله ويحسن بنا أن نفعله هو أن نتوخى له سبيل الرشاد قدر الإمكان ونبتعد به عن مهاوي الفساد، أما تطهير النفس منه فمحال وضار للغاية.
وقد حاولت الإشتراكية من أول وجودها أن تبني نظامها الإجتماعي والإقتصادي على مبدأ نكران الذات فأخفقت إخفاقاً تاماً لا لأن مبادئها لم ترق في أعين الجمهور بل هي بالعكس خلابة تبهر الأبصار وتستهوي العقول وإنما لأنها لم تهتد إلى دافع غير الحب الذاتي يدفع الأفراد إلى العمل ولهذا رجعت بعض الفرق الإشتراكية عن مبدأ المساواة التي بدأت منه واعترفت بالحب الذاتي وإنما تحاول فقط تنظيمه وتنسيقه وتطهره من الشرور، وقد سعت الإنسانية إلى هذه الغاية بأديانها وقوانينها وشرائعها وما زالت تسعى فهل تصل إلى بغيتها وهل يصبح الإنسان ملكاً لا يتقاسمه الخير والشر! ولا تخالج نفسه الأفكار السيئة! لا أظن.
عبده البرقوقي
المحامي(36/18)
مختارات
أدب الملوك
من الكلمات المتداولة الكثيرة الذيوع والإنتشار قولهم كلام الملوك ملوك الكلام، وإن هذه الكلمة لتصدق على كثير من كلام الملوك ومن إليهم من الأمراء والعظماء وذوي السلطان ونحن ننشر هنا شيئاً مما عثرنا عليه من الكلمات الحكيمة والآداب الرفيعة التي أثرت عن بعض الخلائف والملوك والأمراء والعظماء من المتقدمين عسى أن يكون فيها لمن بقي اعتبار. حدث الأصمعي قال: لما عزم الرشيد على الأنس بي قال لي في أول يوم أحضرني للأنس والمحادثة يا عبد الملك أنت أحفظ منا ونحن أعقل منك، لاتعلمنا في ملأ، ولا تسرع إلى تذكيرنا في خلوة واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال فإذا بلغت من الجواب قدر استحقاقه فلا تزد، وإياك والبدار إلى تصديقنا وشدة التعجب مما يكون منا، وعلمنا من العلم ما نحتاج إليه على عتبات المنابر وفي أعطاف الخطب وفواصل المخاطبات، ودعنا من رواية حوشي الكلام وغرائب الأشعار وإياك وإطالة الحديث إلا أن نستدعي ذاك منك، ومتى رأيتنا صارفين عن الحق فأرجعنا إليه ما استطعت من غير تقرير بالخطأ ولا إضجار بطول الترداد - قال الأصمعي: فقلت يا أمير المؤمنين. إني إلى حفظ هذا الكلام أحوج مني إلى كثير من البر - ونهض هشام بن عبد الملك يوماً من مجلسه فسقط رداؤه من منكبه فتناوله بعض جلسائه ليرده إلى موضعه فجذبه هشام من يده وقال مهلاً إنا لا نتخذ جلساءنا خولاً - وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: إن قوماً صحبوا الملك بغير ما يحق لله عليهم فأكلوا بخلاقهم وعاشوا بألسنتهم وخلفوا الأمة بالمكروه والخديعة والخيانة، كل ذلك في النار، ألا فلا يصحبنا من أولئك أحد. فمن صحبنا بخمس خصال فأبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ودلنا على ما لا نهتدي إليه من العدل وأعاننا على الخير وسكت عما لا يعنيه وأدى الأمانة التي احتملها عامة المسلمين فحيي هلاً به. - وتناظر المأمون ومحمد بن القاسم في شيء ومحمد يغضي له ويصدقه فقال له المأمون أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك ولو شئت أن أقتسر الأمور بفضل بيان وطول لسان وأبهة الخلافة وسطوة الرآسه لصدقت وإن كنت كاذباً وصوبت وإن كنت مخطئاً وعدلت وإن كنت جائراً ولكني لا أرضى إلا بإزالة الشبهة وغلبة الحجة،(36/19)
وإن أضعف الملوك رأياً وأوهنهم عقلاً من رضي بصدق الأمير - وسخط الرشيد على حميد الطوسي فدعا له بالسيف والنطع فبكى فقال ما يبكيك قال والله يا أمير المؤمنين ما أفزع من الموت فإنه لا بد منه وإنما بكيت أسفاً على خروجي من الدنيا وأمير المؤمنين ساخط علي فضحك وعفا عنه وقال: إن الكريم إذا خادعته انخدعا: وكتب علي بن عيسى الوزير عن المقتدر كتاباً إلى ملك الروم فلما عرض على المقتدر قال فيه موضع يحتاج إلى إصلاح فسألوه عن ذلك فكان قد كتب في الكتاب أن قربت من أمير المؤمنين قرب منك وإن بعدت عنه بعد عنك فقال ما حاجتي إلى أن أقرب منه. اكتبوا إن قربت من أمير المؤمنين قرب وإن بعدت عنه أبعدك - وقال أبو عبد الله ابن حمدون النديم: لقد رأيت الملوك فما رأيت أغزر أدباً من الواثق، خرج علينا يوماً وهو ينشد لدعبل بن علي الخزاعي:
خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ ... طوى الكشح عني النوم وهو مكين
وإن امرأ قد ضن عني بمنطق ... يسد به من خلتي لضنين
فانبرى أحمد بن أبي دؤاد كأنما انشط من عقال فسأله في رجل من أهل اليمامة فأطنب وأسهب وذهب في القول كل مذهب فقال له الواثق يا أبا عبد الله لقد أكثرت في غير كثير فقال يا أمير المؤمنين إنه صديقي:
وأهون ما يعطى الصديق صديقه ... من الهين الموجود أن يتكلما
فقال الواثق وما قدر اليمامي أن يكون صديقك، ما احسبه إلا من عرض معارفك فقال يا أمير المؤمنين إنه قصدني في الإستشفاع إليك وجعلني بمرأى ومسمع من الرد أو القبول فإن أنا لم أقم له هذا المقام كنت كما قال أمير المؤمنين آنفاً:
خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
فقال الواثق لمحمد بن عبد الملك الزيات أقسمت عليك إلا عجلت لأبي عبد الله بحاجته ليسلم من هجنة الرد وكدر المطل.
ـ ولما ولي أبو جعفر المنصور الخلافة نهد إليه إبراهيم بن هرمة الشاعر ممتدحاً فلما دخل عليه أنشده شعره الذي يقول فيه:
له لحظات عن خفاء سريرةٍ ... إذا كرها فيها عقاب ونائل(36/20)
فأم الذي آمنت آمنة الردى ... وأم الذي حاولت بالشكل ثاكل
فاستحسن المنصور شعره وقال له سل حاجتك قال تكتب إلى عامل المدينة أن لا يحدني إذا أتى بي إليه وأنا سكران وكان ابن هرمة مولعاً بالشراب كثير السكر - فقال له المنصور هذا حد من حدود الله وما كنت لأعطله قال فاحتل لي يا أمير المؤمنين فكتب أبو جعفر إلى عامله بالمدينة من أتاك بإبراهيم بن هرمة وهو سكران فاجلده مائة واجلد ابن هرمة ثمانين فكان الشرطي يمر به وهو سكران فيقول من يشتري ثمانين بمائة ويمضي لطيته ولا يعرض له بشيء.
ليلة أكتوبر
بقلم شاعر الشبيبة الخالد الفرد دي موسيه
الشاعر
لقد طار العذاب الذي عانيته طيران الحلم، وتبدد ألمي كالطيف. ولست مستطيعاً تشبيه ذكراه اليغيدة، وآثاره المتنائية، إلا بالسحائب الخفية، الرقيقة الوشائح والحجب إذ يرفعها الفجر، ويزيحها السحر، فتهرب مع الندى، وتختفي مع القطر.
إلاهة الشعر
ولكن أيها الشاعر أنبئني قبل أن تبسط لي ألمك، هل أنت منه أبللت، وهل أنت من الأسى قد تعافيت. ليكن كلامك الآن بلا حب ولا بغض، واذكر أنك أسميتني من قبل معزيتك، ومنحتني الاسم العذب الجميل وهو أنيستك إذن فلا تجعل مني شريكة في العواطف التي أساءت إليك ولا تحملني تهمة جرم الجانحة التي أضاعتك.
الشاعر
لقد شفيت من المرض، وخرجت من العلة، حتى لقد أشك في أنني كنت بها يوماً مريضاً، ولبثت دهراً بها عانياً مهموماً، وإذ أنا أفكر في الأماكن التي جازفت فيها بحياتي، والعهود التي خاطرت عندها بعيشي، لا أتصور في مكاني إلا رجلاً غريباً عني لا أعرفه، ووجهاً عني مجهولاً لم أنظر إليه. فلا تخافي إلاهة الشعر ولا تجزعي. وهلمي على خفقات أنغامك التي توحي إلي بها، وأنفاس لحنك التي تنفخينها، نتجاذب في هدوء أطراف الحديث(36/21)
ونتسار بلا خشية أسرار الأفئدة ونبكي لذكرى الهموم، إذ البكاء جميل، ونبتسم لحديث الأحزان، إذ الإبتسامات عذبة مروحة مطهرة.
إلاهة الشعر
إني لأحتضن قلبك الذي أغلقته دوني، وأميل على هذا الفؤاد الذي حجبته عني، كالأم الرؤوم الحنون، تسهر عند مهد ابنها المحبوب، وسرير طفلها المعزز. تكلم يا صديقي وأفض. إن قيثاري المتنبه المستمع سيتبع نبرات صوتك في لحن خافت أجش حزين، حتى تتولى ظلمات الماضي في ظل خيط من الضياء أشبه شيءٍ بشبح عارض يمضي مسرعاً هارباً
الشاعر
أي أيام العمل. . . أي زمن الجهد والدأب أيتها الأيام التي أحسست فيها وحدها أنني أعيش، وحقاً أحيا. أيتها العزلة العزيزة المحببة، حمداً لك الله وشكراً، إذ عدت إلى حجرتي المهجورة، ورجعت إلى معهد درسي القديم المنبوذ، أيها المكان الفقير المعتزل الساكن، يا جدران بيتي الصامتة الفريدة المقفرة. يا مقاعدي التي عدا عليها التراب، يا مصاحبي الصادق المخلص الأنيس. . أي قصري وعالمي الصغير وأنت يا ربة الشعر. يا رفيقتي الأبدية الصغيرة، حمدك رب وشكرك، ها نحن عدنا نتغنى سوية ونصدح، وجئنا معاً نتباكى ونترنم. إذن فإليك الآن أفتح مغاليق فؤادي، وأمامك أرفع الحجب المخطرفة فوق جانحتي. وستعلمين كل شيء، وتعرفين أي ألم تستطيع المرأة أن تضرم ناره، وأي شر تستطيع أن تحدثه، لأن مصابي، يا صحابتي، كما تعرفون، من امرأة. امرأة واحدة صغرت لها وخضعت، صغار العبد لسيده، وخضوع الرقيق لمولاه. أيها السلطان المستبد. أيها النير المطلق، أيها السيد اللعين الجبار، إنه منك وحدك قد فقد فؤادي قوته، وأضاع لديك شبابه، وأسرف على نفسه. ولكن لا أكتمك إني قد رأيت السعادة على مقربتها، وشهدت البهجة في جنابها، وكنا عن كثب من الجدول الفضفاض نسير معاً، في هدأة المساء، فوق الرمل الفضي، نستهدي أشباح الحور البيضاء سنن الطريق، ونسترشد بها عن بعد منحدر السبيل، وإذ أرى على ظل القمر وخيوط البدر هذا البدن الجميل متثنياً بين ذراعي. ولكن حسبي وكفى كلاماً. . . . . . . . . . . . إنني لم أتنبأ بالخاتمة، ولم أكن(36/22)
أعلم الغاية. ولم أتصور في أضعاف القدر خفي النية. إن غضب الآلهة ولا ريب كان يطلب فريسة، وحنقها كان يسأل فدية، إذا عاقبتني وعدتني مجرماً إن حاولت أن أكون سعيداً.
إلاهة الشعر
إن صورة الذكرى الحلوة قد عادت تتفتح لذهنك، وتتجلى لخاطرك. فعلام تخشى أن تعود إلى الأثر التي تركته في نفسك، والجزء الجميل الذي أحدثته في فؤادك. أإنكاراً للأيام الجميلة، وكفر بالعهود الناضرة، وأنت تريد أن تقص القصة صادقة، وتشرح همامة نفسك إخلاصاً وأمانة، أيها الإنسان الفتي الصغير إذ كان حظك قاسياً، ونصيبك محزناً آسياً. إذن فابتسم لحبك الأول، وليومض ثغرك للهوى القديم.
الشاعر
كلا. إنني أتباسم لآلامي، وأتضاحك لعذابي يا إلاهة الشعر. إني أريد أن أقص عليك خيبتي وأحلامي وهذياني، بلا تأثر ولا حزن، غير ذكر الزمن، ولا شارح المكان، ولا باسط الفرصة والعهد. . . في ليلة من ليالي الخريف، في ليلة قرة متجهمة، أشبه بليلتنا هذه وإليها أقرب، وأنة الريح، وحشرجة الهواء في رأسي الملتهب. وذهني المتعب. تشق صميم همي، وتنفذ إلى جوف حزني، وكنت لدى الناقدة على مرتقب عشيقتي، أتسمع في هذه الظلمة المنتشرة السائدة خفق قدمها وحفيف ثوبها وأنا أحس في نفسي حزناً غريباً. ومصاباً أليماً، إذ ثارت ريبة الخيانة في خاطري، ووسوسة الغدر في ضميري، وكان الشارع الذي أسكنه قفراً مظلماً. ورأيت أشباحاً تروح، وأبصرت أشباحاً تمر، وريح الصبا تنفذ من بين شقتي الباب، وكأن في عزيفها أنة إنسانية، وفي زفيفها آهة نفسانية، ولا أدري لماذا أحسست روحي تجري في سبيل الشك، وتندفع إلى توقع الشر، وأنا أجاهد شجاعتي، ولكن لم ألبث أن شعرت بالرعدة تسري في جميع بدني، إذ الساعة آذنت، وإذ دقات الزمن توالت، وهي بعد لم تعد، وطلعتها لم تقتبل، وجعلت أجيل البصر وحيد، مطرق الرأس، منكس الجبين إلى فسحة الطريق، ومرمى السبيل. وأنا لم أنبئك بعد أي هيام مجنون أرسلت هذه المرأة في نفسي، وأي نار طائشة هوجاء أضرمت في وجداني. ولم أكن أحب غيرها في نساء الدنيا، وكنت أتصور اليوم الذي أعيشه بدونها قدراً أروع من الموت،(36/23)
وفاجعة أشد إرعاباً من الفناء وإذ ذاك جعلت أجهد نفسي إن أقطع بيننا الرابطة، واستحث فؤادي على أن أبدد العلاقة، ورحت في ضميري أدعوها مائة مرة الفاسدة، ونعتها الغادرة الخائنة، ورجعت إلى سجل آلامي التي عاينتها منها. أستعيدها ألماً ألماً، وأذكرها عذاباً عذاباً، واأسفاه!. . عند ذكرى جمالها المشؤوم. وحسنها المميت، أي ألم لم يهدأ، وأي حزن لم يسكن وأي غضبة لم تفتر وتهن. . .!
وبدأ الصبح، وأشرق النور. . . وأنا لا أزال عند الشرفة متعباً من الإنتظار، ذابل الجفن من أثر التهويم، ففتحت عيني أستقبل بها الفجر الوليد، ورفعت محجري أشهد اليوم الواثب من مهده، وتركت بصري الزائغ يمرح في الطريق ويدور، ولكني لم ألبث أن سمعت وقع أقدام عند منعطف السبيل، وملتف الشارع الصغير. أي إله السموات. أي رب العظيم. إذ بي أراها هي بنفسها. أواه هذه هي قد دخلت بيتها. . . من أين كانت قادمة. . . ماذا كانت تصنع الليلة. . . أجيبي من الذي يقودك هذه الساعة، في أي مكمن رقد لي الصباح هذا البدن الجميل. وفي أي فراش امتد هذا الجسم البض الناعم وأنا عند الشرفة مسهد العين، وحيداً، ندي الجفن. أنبئيني في أي سرير، وأي خلوة، وأي مضطجع. من كان الساعة يشهد ابتساماتك، ويرى مشرفة أساريرك، إلى أي رجل كنت تضحكين، وأي فتى كنت تقبلين، أيتها المرأة الملوثة. أيتها الوقاح الفاسدة. أتراك جئت تعرضين فمك للثماتي، ورضابك لرشفاتي. . . ماذا تريدين مني، وماذا تسألين. أي ظمأ مخيف بعثك الآن على أن تأخذيني بين ذراعيك العاطشتين، وتحتضنيني بين ساعديك الظامئين الناضبين. أيتها المرأة الخائنة اذهبي عني. . . ويا شبح عشيقتي انطلق مبعداً قصياً. ادخل قيرك الذي منه نشرت، وحفرتك التي منها بعثت. دعني أنسى إلى أبد الأبدين شبابي، وإذا أنت يوماً هجت بي الذكرى، وعدت إلى الفكرة، فلا تصور أنني تصور أنني في منام، ولا تخيل إنني في حلم.
إلاهة الشعر
هون عليك يا شاعري إني استحلفك، ورفقاً بنفسك إنني أتوسل إليك. لقد أرعدني كلمك وأزعجني حديثك: حديثك. أي فتاي المحبوب. إن جرحك لا يزال يريد أن ينتقض. ولا يزال يطلب أن ينفتح. وا أسفاه. إنه جرح ولا ريب عميق، وطعنة ولا شك نجلاء وكذلك(36/24)
جراحات الحياة ما إن تزل بطيئة البرء، وهموم هذه الدنيا متوانية الشفاء، فعليك إذن بالنسيان واطرد من روحك اسم هذه المرأة، وامح من صفحة نفسك أثر هذه الغادرة.
الشاعر
اللعنة عليك أيتها المرأة الأولى التي علمتني عذاب الهجر، ولقنتني نقيضة الخيانة والغدر. وذهبت بعقلي رعباً، وأطارت لبي حنقاً وغضباً، خزياً لك وعاراً يا ذات العين الظمياء التي قبر حبها المشؤوم فصل الربيع من حياتي - ودفن أيامي الحلوة الحسناء، يا من صوتها وابتسامتها ورنوتها الخادعة، ونظرتها الغاوية علمتني أن أذم السعادة، وألعن الراحة والهناء، ويا من شبابها ومفاتنها بعثتني على اليأس، إذا كنت الآن أشك في صدق الدموع وأستريب لغة العبرات، فذلك أني رأيتك تبكين وألفيتك تذرفين ماء الشؤون وتجهشين. خزياً وعاراً أيتها المرأة. إذ كنت أشد بلاهة من الطفل، وأنقى ذهناً من الوليد، وإذ كان فؤادي متفتحاً لحبك كالزهرة للفجر،. . . بعداً لك أيتها المرأة وضلة. . . أنت أم أحزاني وأنت والدة همومي أنت جعلت جفني للدموع عيناً وجعلت عيني للبكاء مصباً ومصدراً ولكن ثقي أنها الآن تسح وتنهمل، لا حاجز يحجزها، ولا مانع يكفكفها. إنها تخرج من جرح عميق لااندمال له، ولكني من هذه العين الثرة، والصدر المنهمر، والسيل السخين المر، سأغتسل الآن وأتطهر، ثم أنفض عني ذكراك المرعبة، وأنطلق من أثرك الكريه المرذول.
إلاهة الشعر
حسبك أيها الشاعر حسبك. إذا كان وهمك في هذه الخائنة لم يلبث إلا يوماً واحداً، فلا تفسده إذ تتكلم عنها، ولا تشنه إذ تنبئني نبأها.
أيها الشاعر، أحترم حبك إذا أردت أن تكون محبوباً وإذا عز على الضعف الإنساني أن يغفر عن الآلام التي نالته من غيره، ووقعت به عن يد سواء، إذن فأغن عن نفسك ألم الحقد، وتحرج من الضغينة.
وإذا لم تجد في نفسك القدرة على العفو والغفران. فاستقبل عنه العزاء والنسيان. إن الموتى يرقدون بسلام في جوف الأرض، ويضطجعون في أحشاء الغبراء، إذن فلترقد كذلك عواطفنا المنطفئة، وليدفن جبنا الخامد، فإن لرفات القلوب ترابها. ولأشلاء الأفئدة رغامها،(36/25)
وخليق بنا أن لا نمس مضاجعها المقدسة أو نلمس بأيدينا مواقدها المباركة.
أيها الشاعر، لماذا تريد، أن لا ترى في قصة عذابك الأليم إلا حلماً موهوماً، وحباً مخدوعاً، وهوىً كاذباً، أتظن العناية الإلهية لا غرض لها من تعذيبك، ولا باعث لها على ألمك، وهل ترى في نكبتك مسرة لله الذي نكبك، ألا تعلم أيها الطفل أن الضربة التي منها تشكو وتئن قد أفادتك وحفظتك، لأن فؤادك من الضربة تفتح، ومن العذاب نضج.
أيها الشاعر. إن الإنسان طفل والحزن معلمه، ولن يتهذب حتى يحترق بنار الألم، ويخبز في موقدة العذاب، تلك شريعة صلبة قاسية، ولكنها سنة عالية سامية، قديمة كالعالم، عتيقة كالقدر، وكما ترى الحبوب لا تنضج إلا بالري والسقاء، تشهد الإنسان لا يعيش ويحس إلا بالدموع والبكاء.
أيها الشاعر ألم تقل أنك من جنتك قد أبللت ومن نزقتك قد أثبت، ألست فتى في مطارف الشباب، ومنعماً في إبراد الهناء، ومحبباً مكرماً في كل مكان، فهل كنت تعرف هذه المباهج الناعمة، والمسرات الرفيعة، لو أنك لم تذرف قبلها دمعاً، وتسكب أول أمرك عبرات وشؤوناً. لعمرك نبئني، هل كنت من فرح ترفع الكأس المترعة إلى شفتيك، عند منحدر النهار، على ضفاف النهر، بجانب صديق قديم، في مائدة خمر وشراب، لو لم تدفع من قبل ثمن هذا الفرح، وتقضي حق هذا السرور، خبرني هل كنت ستحب الأزاهر وتهوى الحقول النواضر، وأناشيد بترارك وأغنيات الأطيار، وصور ميشيل أنجلو، والفنون الرفيعة، وشكسبير والطبيعة، لو لم تجد في خلالها أنات قديمة وشهيقاً، وتشهد في أضعافها نحيباً وعويلاً، وهل كنت مدركاً من طلعة السموات الإنسجام المعجز، والإئتلاف المدهش وسكون الليل، وخرير الموج، لو لم تسهد عينك ليلة فبت للنجوم راعياً، ولم لم تصبك الحمى فبعثتك على تخيل الراحة الأبدية.
ليت شعري. أليس لديك الآن عشيقة حسناء، وخليلة فاتنة، وإذ تشد على يدها. عند الوداع، ألا ترى ذكرى آلام شبابك الأول تجعل ابتسامتها المقدسة أشد روعة، وأعذب تأثيراً، وأفتن نعمة، ألا تذهبان في أعماق الغابات المزهرة متنزهين، ألا تنطلقان الآن ذراعاً لذراع في صميم الأحراش اليانعة متصاحبين، ألا تمشيان فوق الرمل الفضي مختليين، ألست الآن وعشيقتك الحاضرة تسيران معاً وكما كنت العشيقة الأولى - في هذا الصرح الأخضر(36/26)
الناضر، تستهديان أشباح الحور البيضاء سنن الطريق، وتسترشدان بها عن منحدر السبيل، ألا ترى الآن، كما كنت من قبل، على ظل القمر وخيوط البدر، بدناً جميلاً متثنياً بين ذراعيك، إذن فعلام الشكوى، ولم الصراخ والأنين وقد نشر بفضل العذاب أملك الخالد، وأبل على يد العذاب رجاؤك الأبدي، وعلام إذن تحقد على التجربة الأولى، وتكره شراً جعلك خيراً مما كنت، ومصاباً هذبك وسما بك.
أي بني العزيز. لتشكر هذه الخائنة الحسناء التي أرسلت عبراتك، واحمدها أن أسالت ماء فؤادك. ألا أشكرها إنها امرأة، وقد قربها الله إليك لتحسن بعد العذاب سر العداء، وكان واجبها شاقاً، ومهمتها معذبة مؤلمة، ولعلها كانت تحبك، ولعلها كانت مولعة بك، وكانت تعرف الحياة، فعلمتك، وكانت بها خبيرة، فلقنتك، ثم جاءت امرأة أخرى فقطفت ثمر ألمك، وحظت منك بنتاج حزنك. أي طفلي العزيز. أشكرها. فإن حبك المحزن المخيب قد زال كالحلم، وثق أن دموعها لم تكن كذباً، وعبراتها لم تكن خدعة، أشكرها يا بني إنك تعرف إذ ذاك تحب. . . .
الشاعر
لقد قلت حقاً، إلاهة الشعر، ونطقت صواباً، إن الحقد شر، والبغضاء إثم، تثير رعدة مخيفة، ورجفة مرعبة، إذ ينتشر في الفؤاد دخانها، ويتصاعد في أعشار القلب بخارها، إذن فاستمعي إلي أيتها الإلهة وأنصتي، ثم لتقومي شهيداً على قسمي، عيناً ليميني.
أقسم يا ربة الشعر بعيني عشيقتي الزرقاوين، ولون السماء المصحية، بتلك الشعلة المتوهجة، والشرارة الساطعة التي يسمونها نجمة الزهرة. . . بعظمة الطبيعة، ورحمة الخالق، بالضياء النقي الطاهر الذي يرسله النجم لهدى الساري، ومفتقد الطريق بأعشاب المرعى، وسرحات الغاب، بالحقول الخضراء، والمروج الفيحاء، بقوة الحياة، وجلال الكون،. . . . أقسم يا أشلاء حبي القديم، وبقية غرامي الطائش المجنون. إني سأباركك في ذاكرتي، ويا أيتها القصة المظلمة الموحشة الراقدة في مضاجع الماضي المنسي الذاهب، إني سأقدسك في ثنايا ذهني وخاطري ومخيلتي، وأنت يا من حملت من قبل اسم العشيقة، ولقبتك لقب الحبيبة الصديقة، لتكن اللحظة السامية التي فيها أنساك، لحظة العفو والغفران.
إذن إلى الغفران، إذن إلى العزاء والصفح، إني الآن، أقطع رابطة الفتنة التي ربطتنا معاً(36/27)
أمام الله. وبدمعة متحدرة، دمعتي الأخيرة، أقرئك الوداع المستديم، وأتلقى منك الفراق الخالد.
والآن هلمي يا ربة الشعر، وتعالي أيتها الشاعرة الحسناء، نعود إلى الحب، ونتطارح ذكر الهوى. . . . وأسمعيني أغنية منك بهيجة مفرحة، كما كنت تطربينني في أيامي الأولى الراغدة، وزمني الماضي الجميل. وهذه نفحات الحقول، وعقبات الأزاهر، تنم عن مقرب الصباح، وتكشف الغطاء عن مطلع الضياء.
تعالي يا ربة الشعر أيقظي الحبيبة الجديدة من منامها، واجمعي أزهار الحديقة، واقطفي ورود البستان، تعالي انظري الطبيعة الخالدة تخرج من كلة النوم. تعالي نعود إلى الحياة في منبثق أول خيط من خيوط الشمس.
نصيحة
للشاعر محمود باشا البارودي
بادر الفرصة واحذر فوتها ... فبلوغ العز في نيل الفرص
واغتنم عمرك إبان الصبى ... فهو إن زاد مع الشيب نقص
إنما الدنيا خيال عارض ... قلما يبقى وأخباراً تقص
تارةً تنجو وطوراً تنجلي ... عادةً الظلل سجا ثم قلص
فابتدر مسعاك واعلم أن من ... بادر الصيد مع الفجر قنص
لن ينال المرء بالعجز المنى ... إنما الفوز لمن هم قنص
يكدح العاقل في مأمنه ... فإذا ضاق به الأمر شخص
إن ذا الحاجة ما لم يغترب ... عن حماه مثل طير في قفص
وليكن سعيك مجداً كله ... إن مرعى الشر مكروه أحص
واترك الحرص تعش في راحة ... قلما نال مناه من حرص
قد يضر الشيء ترجو نفعه ... رب ظمآن لصفو الماء غص
ميز الأشياء تعرف قدرها ... ليست الغرة من جنس البرص
واجتنب كل غبي مائق ... فهو كالعير إذا جد قمص
إنما الجاهل في العين قذي ... حيثما كان وفي الصدر غصص(36/28)
واحذر النمام تأمن كيده ... فهو كالبرغوث إن دب قرص
يرقب الشر فإن لاحت له ... فرصة تصلح للختل فرص
ساكن الأطراف إلا أنه ... إن رأى منشب أظفور رقص
واختبر من شأت تعرف فما ... يعرف الأخلاق الأمن فحص
هذه حكمة كهلٍ خابر ... فاقتنصها فهي نعم المقتنص
طرفة تاريخية
المساواة في الإسلام
حديث جبلة بن الأيهم
حدث المؤرخون قالوا: لما أسلم جبلة بن الأيهم الغساني - وكان من ملوك آل جفنه - كتب إلى عمر رضي الله عنه يستأذنه في القدوم عليه فأذن له عمر فخرج إليه في خمسمائة من أهل بيته من عك وغسان حتى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بقدومه فسر عمر رضوان الله عليه وأمر الناس باستقباله وبعث إليه بأن زال وأمر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا السلاح والحرير وركبوا الخيول معقودة أذنابها وألبسوها قلائد الذهب والفضة ولبس جبلة تاجه وفيه قرطة مارية وهي جدته ودخل المدينة فلم يبقى بها بكر ولا عانس إلا تبرجت وخرجت تنظر إليه وإلى زيه فلما انتهى إلى عمر رحب به وألطف وأدنى مجلسه ثم أراد عمر الحج فخرج معه جبلة فبينما هو يطوف بالبيت وكان مشهوراً بالموسم إذ وطئ أزاره رجل من فزارة فانحل فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري فاستعدي عليه عمر رضوان الله عليه فبعث إلي جبلة فأتاه فقال ما هذا قال نعم يا أمير المؤمنين إنه تعمد حل أزراري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف فقال له عمر قد أقررت فإما أن ترضي الرجل وإما أن أقيده منك قال جبلة ماذا تصنع بي قال آمر بهشم أنفه كما فعلت قال وكيف ذاك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك قال إن الإسلام جمعك وإياه فلست تفضله بشيء إلا بالتقي والعافية قال جبلة قد ظننت يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية قال عمر دع عنك هذا فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك قال إذن أتنصر قال إن تنصرت ضربت عنقك لأنك قد أسلمت فإن ارتددت قتلتك فلما رأى جبلة الصدق من عمر قال أنا ناظر في هذا ليلتي هذه وقد اجتمع بباب عمر من حي هذا(36/29)
وحي هذا خلق كثير حتى كادت تكون بينهم فتنة فلما أمسوا أذن له عمر في الإنصراف حتى إذا نام الناس وهدأوا تحمل جبلة بخيله ورواحله إلى الشام فأصبحت مكة وهي منهم بلاقع فلما انتهى إلى الشام تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتى أتى القسطنطينية فدخل إلى هرقل فتنصر هو وقومه فسر هرقل بذلك جداً وظن أنه فتح من الفتوح عظيم وأقطعه حيث شاء وأجرى عليه من النزل ما شاء وجعله من محدثيه وسماره.
ثم أن عمر رضي الله عنه بدى له أن يكتب إلى هرقل يدعوه إلى الله جل وعز وإلى الإسلام ووجه غليه رجلاً من أصحابه وهو جثامة بن مساحق الكناني فلما انتهى إليه الرجل بكتاب عمر أجاب إلى كل شيء سوى الإسلام فلما أراد الرسول الإنصراف قال له هرقل هل رأيت ابن عمك الذي جاءنا راغباً في ديننا قال لا قال فألقه قال الرجل فتوجهت إليه فلما انتهيت إلى بابه رأيت من البهجة والحسن والسرور ما لم أرى بباب هرقل مثله فلما أدخلت عليه إذا هو في بهو عظيم وفيه من التصاوير ما لا أحسن وصفه وإذا هو جالس على سرير من قوارير قوائمه أربعة أسد من ذهب وإذا هو رجل أصهب ذو سبال وعثنون وقد أمر بمجلسه فاستقبل به وجه الشمس فما بين يديه من آنية الذهب والفضة يلوح فما رأيت أحسن منه فلما سلمت رد السلام ورحب بي وألطفني ولامني على ترك النزول عنده ثم أقعدني على شيء لم أثبته فإذا هو كرسي من ذهب فانحدرت عنه فقال مالك فقلت إنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا فقال جبلة أيضاً مثل قولي في النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكرته وصلى عليه ثم قال يا هذا إنك إذا طهرت قلبك لم يضرك ما لبسته ولا ما جلست عليه ثم سألني عن الناس وألح في السؤال عن عمر ثم جعل يفكر حتى رأيت الحزن في وجهه فقلت ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام قال أبعد الذي قد كان قلت قد ارتد الأشعث من قيس ومنعهم الزكاة وضربهم بالسيف ثم رجع إلى الإسلام فتحدثنا ملياً ثم أومأ إلى غلامٍ على رأسه فولى يحضر فما كانت إلا هنيهة حتى أقبلت الأخونة يحملها الرجال فوضعت وجيء بخوان من ذهب فوضع أمامي فاستعفيت منه فوضع أمامي خوان خليج وجامات قوارير وأديرت الخمر فاستعفيت منها فلما فرغنا دعى بكأس من ذهب فشرب منه خمساً عدداً ثم أومأ إلى غلام فولى يحضر فما شعرت إلا بعشر جوار يتكسرن في الحلى فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله ثم سمعت وسوسة(36/30)
من ورائي فإذا أنا بعشرٍ أفضل من الأول عليهن الوشي والحلي فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله وأقبلت جارية على رأسها طائر أبيض كأنه لؤلؤة وفي يده اليمنى جام فيه مسك وعنبر وقد خلط وأنعم سحقهما وفي اليسرى جام فيه ماء ورد فألقت الطائر في ماء الورد فتعك بين جناحيه وظهره وبطنه ثم أخرجته فألقته في جام المسك والعنبر فتمعك فيها حتى لم يدع فيها شيئاً ثم نفرته فطار فسقط على تاج جبلة ثم رفرف ونفض ريشه فما بقي عليه شيء إلا سقط على رأس جبلة ثم قال للجواري أطربنني فخفقنا بعيدانهم يغنين:
لله در عصابةً نادمتهم ... يوم بجلق في الزمان الأول
بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم ... شم الأنواف من الطراز الأول
يغشون حتى ما نهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
فاستهل واستبشر وطرب ثم قال زدنني فاندفعنا يغنين:
لمن الدار أقفرت بمعانٍ ... بين شاطئ اليرمول فالصمان
فحمى جاسم فأبنيةالصف ... رمغنى قبائل وهجان
فالقريات من بلاس فداريا ... فكاء فالقصور الدوان
ذاك مغنى لآل جفنة في الدار وحق تعاقب الأزمان
قد دنا الفصح فالولائد ينظم ... ن سراعاً أكلة المرجان
لم يعللن بالمغافير والصم ... غ ولا نقف حنظل الشريان
قد أراني هناك حقاً مكيناً ... عند ذي التاج مقعدي ومكاني
فقال أتعرف هذه المنازل قلت لا قال هذه منازلنا في ملكنا بأكناف دمشق وهذا شعر ابن الفريعة حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت إما أنه مضرور البصر كبير السن قال يا جارية هات فأتته بخمسمائة دينار وخمسة أثواب من الديباج فقال ادفع هذا إلى حسان وأقرئه مني السلام ثم راودني على مثلها فأبيت فبكى ثم قال لجواريه أبكينني فوضعن عيدانهن وأنشأن يقلن قوله:
تنصرت الأشراف من عار لطمةٍ ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها لجاج ونخوة ... وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قال لي عمر(36/31)
ويا ليتني أرعى المخاض بدمنةٍ ... وكنت أسير في ربيعةٍ أو مضر
ويا ليت لي بالشآم أدنى معيشةٍ ... أجالس قومي ذهب السمع والبصر
ثم بكى وبكيت معه حتى رأيت دموعه تجول على لحيته كأنها اللؤلؤ ثم سلمت عليه وانصرفت فلما قدمت على عمر سألني عن هرقل وجبلة فقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها فقال أورأيت جبلة يشرب الخمر قلت نعم قال أبعده الله تعجل فانية لإشتراها لباقية فما ربحت تجارته فهل سرح معك شيئاً قلت سرح إلى حسان خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج فقال هاتها وبعث إلى حسان فأقبل يقوده قائده حتى دنى فسلم وقال يا أمير المؤمنين إني لأجد أرواح آل جفنة فقال عمر رضي الله عنه قد نزع الله تبارك وتعالى لك منه على رغم أنفه وأتاك بمعونة فانصرف عنه وهو يقول:
إن ابن جفنة من بقية معشر ... لم يغذهم آباؤه باللوم
لم ينسني بالشآم إذ هو ربها ... كلا ولا متنصراً بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده ... إلا كبعض عطية المذموم
وأتيته يوماً فقرب مجلسي ... وسقي فرواني من الخرطوم
فقال له رجل أتذكر قوماً كانوا ملوكاً فأبادهم الله وأفناهم فقال ممن الرجل فقال مزني قال أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لطوقتك طوق الحمامة وقال ما كان خليلي ليخل بي فما قال لك قل قال إن وجدته حياً فادفعها إليه وإن وجدته ميتاً فاطرح الثياب على قبره واتبع بهذه الدنانير بدناً فأنحرها على قبره فقال حسان ليتك وجدتني ميتاً ففعلت ذلك بي.
قطعة من فلسفة شوبنهور
(1)
الإستقلال الذهني
مكتبة صغيرة منظمة خير من عظيمة مشوشة وكذلك مقدار صغير من الأفكار قد نظم وركب في ذهن صاحبه خير من أكبر كمية من أفكار مشوشة قد جيء بها من ههنا وههنا.
الإنسان قادر باختياره على القراءة والتحصيل ولكنه غير قادر على التفكير. وإنما يشعل(36/32)
التفكير ويشب كما توقد النار بتيار من الوحي وزكي لهيب التفكير بالرغبة كما يزكي لهيب النار بمنفاخها. وهذه الرغبة إما أن تكون خارجية أي غير ذاتية (ويراد بهذا النوع من الرغبة ذلك الذي يبعث الإنسان على الإهتمام بكل شيء خارج عن نفسه لاستطلاعه وبحثه والتفكير فيه والكتابة عنه) أو تكون رغبة باطنية أي ذاتية (وهي التي تغذي الإنسان بالتفكير في ذاته وأحواله الشخصية والكتابة عن تجاربه وأحواله وعواطفه) وهذه الرغبة الثانية هي التي عنها يكتب معظم الكتاب. أما الأولى فهي مزية الفئة القليلة منهم أعني الفحول الذين هم مفكرون بالفطرة فالتفكير فيهم غريزة كالتنفس لكل ذي رئتين.
القراءة تدفع في الذهن أفكاراً قد تكون منافية لحالته أثناء القراءة منافية طابع الحديد للشمع اللين الذي يطبع بذلك الطابع. فترى أن الذهن يكابد في هذه الحالة أشد الإكراه والضغط من الخارج. وذلك أنه يرغم على التفكير في هذا المعنى ثم في ذلك مما لا رغبة له في ساعته.
وعلى العكس من ذلك إذا شرع الإنسان يفكر لنفسه فإنه لا عدو مجاراة خاطرة ومسايرة وجدانه مما قد أثاره في نفسه إذ ذاك شيء من الأشياء المحيطة به أو هاتف من هواتف الذكرى. ونحن لا ندعي أن المناظر المحيطة بالإنسان قادرة أن تنقش على صفحات ذهنه فكرة واحدة معينة محدودة كما تنقش القراءة ولكننا نقول أن المناظر المحيطة تمده بالمواد والبواعث على أجله الفكر فيما هو مجانس لطبيعته مؤتلف مع مزاجه في تلك اللحظة وهذا هو السبب في أن كثرة القراءة تسلب الذهن كل ما به من صفات المرونة واللين والرخاوة التي تجعله طيعاً في قبضة صاحبه يصرف عنانه كيف يشاء وكالعجينة يكيف شكلها كما يريد. ويكون الذهن في حالة إدامة القراءة وعد التفكير كاللولب الذي تبقيه مضغوطاً على الدوام تحت ثقل عظيم وعلى ذلك فإذا كان أحد الناس لا يريد التفكير فأحسن طرقة هو أن يتناول كتباً فيقرأ كلما وجد نفسه خلواً من العمل.
وهذا هو السبب في أن العلم يجعل أكثر أربابه أشد بلادة وحمقى مما كانوا بفطرتهم ويكلل مؤلفاتهم بالخيبة ويحرمها النجاح ويجعلهم كما قال الشاعر بوب لا يزالون يقرأون ثم لا تقرأ لهم كلمة.
العلماء هم الذين أطلعوا على محتويات الكتب أما المفكرون والنوابغ والأعلام الذين قادوا(36/33)
وأرشدوا فهم الذين قرأوا كتاب الكون وقلبوا صحائف الوجود.
وواقع أنه لا صدق ولا روح إلا في الأفكار التي نشأت واختمرت في ذهن الإنسان نفسه. إذ أن هذه الأفكار وحدها هي ما يفهمها المرء تماماً ويحيط بكنهها. فأما قراءته أفكار غيره فهي كتناوله بقايا طعام غيره أو لبسه منبوذ ثياب شخص سواه.
وأن نسبة الفكرة التي تقرأ إلى الفكرة التي تنبع من تلقاء ذاتها في ذهننا لهي كنسبة الأثر المتحجر من نبات كان في جاهلية الزمن (العصور السابقة للعصور التاريخية) إلى النبات الذي نراه بأعيننا غضاً مورقاً مونقاً.
هذا وأن كثيراً من الكتب لا تعدوا كونها مجاهل ومتائه وأن من عمل بها فإنما يركب متن الضلال ويلج في سبل الباطل، أما من استرشد بعقله أعني من فكر لنفسه وكان ذا بصرٍ فذلك يملك البوصلة التي تهديه المنهج القويم فيجب على المرء أن يقرأ إلا إذا غاض ينبوع فكره. وهذا كثير الحدوث حتى لأكبر المفكرين.
(2)
المرأة
قد قلدت الطبيعة المرأة وظيفة تربية الأطفال لأن المرأة بفطرتها صبيانية الذهن قصيرة النظر حمقاء. أو بعبارة أخرى هي طفلة طول حياتها - هي شيء بين الطفل والرجل (صاحب الرجولة التامة). انظر إلى الصبية كيف تقضي اليوم أثر اليوم في ملاعبة طفل صغير ترقص معه وتغني له. ثم تصور لو أن صبياً كان مكانها مع الطفل فماذا كان يصنع؟ أكان يصنع مثلها؟
الطبيعة تهب الفتاة حظاً وافر من الحسن والملاحة لمدة بضعة أعوام قلائل أثناء الشباب ثم تسلبها بعد ذلك الجمال والسر في ذلك هو أن الطبيعة تمد الفتاة في تلك البرهة بالسلاح اللازم لاقتناص رجل يكون عائلاً لها وقائماً بشؤونها وحافظاً لحياتها. حتى إذا تم لها ذلك نزعت الطبيعة عنها ذلك السلاح. فالطبيعة تبدي في ذلك مبدأها الإقتصادي المعهود. وهو تقديم ذخائرها لأبنائها وقت الحاجة فقط. فشأنها في ذلك كشأنها مع النملة الأنثى متى حملت الجنين فقدت أجنحتها إذ لا لزوم للأجنحة بعد ذلك بل ربما كانت عقبة لها في سبيل تربية النسل. وكذلك تفقد المرأة جمالها بعد ولادتها مرة أو اثنتين لعله لعين ذلك السبب.(36/34)
وكذلك نرى أن الفتاة تعتقد أن شؤونها المنزلية والعائلية إنما هي مسائل ثانوية بل ربما عدتها تافهات يسخر منها ويهزأ أما المسائل الجوهرية والأمور الأساسية لديها فهذه هي الحب والمغازلة واقتناص القلوب وكل ما يدخل تحت ذلك من ضروب الحلى والزخرف وصنوف اللهو والرقص وما شاكلها.
لا يخفى أنه على قدر عظم الشيء وشرفه وكماله يكون بطء تكونه وطول مدة نمائه فالرجل لا ينضج عقله قبل الثامنة والعشرين من عمره. أما المرأة فتبلغ ذلك في الثامنة عشرة. ولكن عقلها ضيق النطاق قريب النظر. وهذا هو السبب في أنها تبقى طفلة طول عمرها لأنها لا ترى من الأمور إلا ما بين يديها ولا تتعلق إلا بالحاضر وتغتر بالظواهر فتحسبها حقائق وتؤثر الحقير على العظيم والتافه على الجسيم. وإنما بفضل العقل الراجح ترى الرجل لا يقصر نظره على الحاضر بل يمده إلى المستقبل والماضي ومن ثم ينشأ الحزم والتبصر والتدبير مما يمتاز به الرجال على النساء. وقلة اهتمام المرأة بالمستقبل هي التي تغريها بالتبذير المجاوز كل حد - المشرف على الجنون. فهي تحسب أن الرجل ما خلق إلا ليكسب لها المال وإنها لم تخلق إلا لتبدده.
المرأة مجردة من صفة العدالة والإهتداء إلى الحق ولذلك سببان - الأول هو ضعف الإدراك وقلة التبصير اللذان أشرنا إليهما آنفاً. والثاني هو أن الطبيعة لما وهبتها الضعف والوهن جعلت سلاحها المكر لا القوة. وهذا سبب ما ترى للمرأة من الكيد والحيلة وتأصل رذيلة الكذب في طباعها. وكما أن الأسود قد زودت بالمخالب والفيلة بالأنياب والثيران بالقرون فكذلك المرأة قد زودت من الطبيعة سلاحاً تدافع به عن نفسها - هذا السلاح هو الرياء - فالرياء في المرأة يقوم مقام قوة الجسم والعقل في الرجل. ولذا فالرياء هذا خلق غريزي في المرأة تستوي فيه الذكية والبليدة. فمن البديهي إذن أن تلجأ المرأة إلى الرياء عند الحاجة مثلما تلجأ الحيوانات الآنفة الذكر إلى أسلحتها التي أشرنا إليها عند الضرورة. ومن ذلك ينتج أن المرأة الصادقة التي لا ترائي هي إحدى المستحيلات. وينتج أيضاً ما قد عرف عن المرأة من سرعة استكشافها خلق الرياء في الرجل. ولا عجب فإن من يحاول إجازة الرياء على معدن الرياء لكمن يهدي المطر إلى السحاب فمن الحماقة والأمر هكذا أن يسلك الرجل مع المرأة سبيل الرياء ومن هذا الخلق (أعني الرياء) ينشأ ما يعرف عن(36/35)
المرأة من صفات الكذب والغدر والخيانة ونكران الجميل وهلم جرا. وقد ثبت في سجلات المحاكم أن النساء أكثر ارتكاباً لجريمة الحنث من الرجال ومما يشك فيه جواز تحليفهن اليمين وقبول شهادتهن وتشهد سجلات القضاء أيضاً أن قد يصادف من حين إلى آخر المرأة الغنية الممتعة بكل ما تشتهي وهي مع ذلك تعمد إلى الأمتعة في حوانيت الباعة فتسرقها.
وما كان قط لمن له مسكة من العقل أن يسند ذلك الإسم الجميل الجنس اللطيف لذلك الجنس الدميم الضئيل الضيق المنكبين العريض الكفل القصير الرجلين. فإن هذه المقابح هي جل محاسن ذلك الجنس. وأقرب إلى الحقيقة أن يسمين الجنس المعادي للجمال لجهلهن بالفنون الجميلة - الشعر والموسيقى وما يجري مجراهما. فإنهن لا طبيعة لهن البتة ولا استعداد ولا ميل ولا إدراك لشيء من هذه الفنون. فإن رأيت منهن تعلقاً بشيء منها فما هو إلا إدعاء باطل إذ يتخذن إحدى هذه الفنون ذريعةً للتقرب من الرجال قصد اصطيادهم. والحقيقة أن المرأة لا يهمها شيء سوى الرجل فميدانها الرجل وغايتها الرجل. والقلعة التي تريد مهاجمتها والإستيلاء عليها هي الرجل. ولذا فالرجل يجوز العلوم وهي تحوز الرجل. فإذا رأيتها تحاول إحراز شيء من الفنون فإنما تفعل ذلك لإحراز الرجل. فاشتغالها بالطلب والدراسة نفاقٌ ورياء ومن ثم قال روسو المرأة بوجه عام لا رغبة لها في الفنون ولا تفهم العبقرية ولا تملكها. . والذي لا يغتر بالظواهر لا بد أن يكون قد عرف ذلك في النساء. ومن لم يكن قد أطلع على ذلك الخلق فيهن فما عليه إلا أن يراقب حركاتهن في دار التمثيل أو في دار الموسيقى. فإنه إذا رأى اشتغالهن أثناء أبدع الفصول وأعجبها وطربها وأغربها بصنوف الأحاديث الصبيانية من فصول القول ولغو الكلام علم مقدار فهمهن للفن. . ولنعم ما كان قدماء اليونان يصنعون من منع النساء حضور التمثيل. فإن ذلك السبيل الوحيد لاستطاعهم سماع الموسيقى وألفاظ الممثلين. ولعله قد يحسن في أيامنا هذه أن يكتب على ستار المسرح ممنوع الكلام بحروف كبيرة.
ولا عجب فيما قد أوردناه ههنا من سوء انصراف النساء عن محاسن الفن إذا ذكرنا أن أعظم مشاهير النساء لم يخرجن قط للعالم من المؤلفات ما هو حقيق أن يعد في الطبقة الأولى من نتائج الذهن البشري وأبين ما يشاهد هذا في فن التصوير الذي قد عرف أن(36/36)
جزأه العملي هو سهل التناول على المرأة والرجل على حد سواء. فهن لهذا يتهافتن على الإشتغال بالتصوير. ومع ذلك فلست ترى لأنثى قط صورة مشهورة يصح مقارنتها بثمرات أنامل كبار الفن من الرجال. وذلك لتجردهن من الملكة التصويرية التي هي أس النجاح في ذلك الفن وإنما أقوى الملكات فيهن هي الملكة الوجدانية أي المنصرفة إلى ذاتية الإنسان ومتعلقاتها - وليس إلى تأمل الأشياء الخارجة عنه وتصورها (وهي ما قد سميناه بالملكة التصويرية). ولذا فالمرأة العادية لا إدراك عندها قط لمعاني هذا الفن (التصوير). وقد قال هويارتي في كتابه الذي لم يزل مشهوراً منذ ثلاثمائة عام أن النساء مجردات من الكفاءات العليا. على أن لكل قاعدة شواذ. ولكن النادر لا حكم له. فلا جرم إذا قلنا أن النساء بوجه الجمال ما زلن ولم يزلن سوقيات الأذواق (نسبة إلى السوقة وهم العامة) سخيفات الآراء ولذا لم يزل منهن محرضات لأزواجهن على كل خطة دنيئة وغاية سافلة. وكونهن سوقيات وسخيفات مع مالهن من السلطة والنفوذ في المجتمع هو سبب انحطاط المجتمع في هذا العصر الدنيء وفساده وما أصدق ما قاله شامفورت حيث قال إنما وظيفتهن العبث بحماقتنا وسفاهتنا وليس بعقولنا وأذهاننا فلا جدال في أنهن الجنس المؤخر. والذكور هم الجنس المقدم. فأقصى حقهن علينا هو أن نرمقهن بعين الصفح والتجاوز عن ذلاتهن. فأما إجلالهن واحترامهن فهذا بله منا وسخف وسفاهة لا ثمرة منه إلا أن يحقرنا في نظرهن والرجل مقدم على المرأة وهو أعظم شأناً منها وأرجح وزناً. وقد أحسن الشرقيون والقدماء في تفضيلهم الرجال على المرأة. لله درهم إنهم أنفذ بصيرة وأصح رأياً. وقبحنا الله إذ نقتدي بقدماء الفرنسيس في تقديسنا المرأة اتباعاً لمذهب الفروسية. . أسوأ العصور الوسطى وأسود بصماتها. وهل كان لهذا المذهب الفاسد - مذهب تقديس المرأة - من فائدة سوى أنه ملأ علينا ذلك المخلوق الضعيف خيلاء وغطرسة وطغياناً وعتواً. حتى صرنا يشبهن آلهة الهنود القردة المقدسة التي لشعورها بمنزاتها السامية عند عبادها قد أصبحت تظن أنها قادرة أن تفعل ما تشاء كما تشاء.
أما مركز المرأة أعني السيدة في أوروبا مركز كاذب لأنها لا تصلح - وهذا رأي القدماء وما أصحه - لما أصبحنا نخصها به من آيات التشريف والتقديس حتى عادت تشمخ على الرجل أنفاً وتقعد فوقه وتقدمه إلى صدور الحفلات والمجالس وتنافسه في حقوقه(36/37)
وامتيازاته. فحالتنا هذه قد أصبحت موضع استهزاء الشرق وسخريته. وأصبحنا نحن في نظر سكان آسيا أعجوبة وأضحوكة ولو بعث الله يونان وروما القديمتين لنظرتا إلينا كما ينظر الشرقيون الآن.
وخلاصة القول أنه لا بد من إنزال المرأة السيدة عن منزلتها الباطلة المكذوبة إلى مكانها الحقيقي. أجل إذا كان هناك مخلوق يجب محوه من الكون فهو السيدة الأوروبية لأنها خارجة عن نظام الكون. نحن لا نريد السيدة وإنما نريد ربة البيت الخبيرة بشؤونها العلمية بطرق تدبيره، المأدبة المتواضعة الخاضعة العارفة وظيفتها ومنزاتها وقدر نفسها. غير الشامخة ولا المتغطرسة ولا المتكلفة ولا السخيفة التي أضحكت منا أهل العالم بالحمق والجهل والإدعاء الكاذب. ويعجبني ما قال اللورد بيرون في هذا الصدد وهو من بعض رسائله مركز المرأة في يونان القديمة معقول مستصوب - مركزها الحالي بقية من وحشية العصور الوسطى - عصور الإقطاعيات والفروسية - وذلك أنه مركز كاذب مصطنع - الواجب عليهن الإهتمام بشؤون البيت - وأن يطعمن الطيب ويكسين الجديد - ولكن لا ينبغي إختلاطهن بالرجال أو دخولهن في حومة المجتمع ويجب تعليمهن الدين ومنعهن من الشعر والسياسة - وأن لا يصل إلى أيديهن من الكتب إلا ما كان خاصاً بالفقه والطبيخ. وقد أبصرتهن يشتغلن في إصلاح الطرق في بلدة إيبيراس فرأيتهن يجدن هذا العمل أهم.
(البيان) فماذا يقول دعاة السفور بعد كلمة هذا الفيلسوف الألماني الكبير؟(36/38)
باب تدبير الصحة
فرس الليل
أو الكابوس
كثير من الناس يعرفون ما هو الكابوس وهو المعروف عند الإفرنج بفرس الليل وكثير من العامة عندنا يسمونه حمار الليل ويقولون لمن تملكه الأرق ركبه حمار الليل ولعله من الأمثال الحكيمة وخدمة لمن كانوا سعداء ولمن يزورهم فرس الليل أشرح لهم حقيقة غابت عن الكثيرين.
فرس الليل هي حلم مزعج يصحبه إحساس بانقباض كأنه نشأ عن حمل ثقيل معيق للتنفس ومهدد بالإختناق ورغماً من جهاد النائم للتخلص من هذا الحمل وذلك الإختناق فإنه لا يقوى على التخلص ولكنه بعد جهاد عنيف يطول ويقصر تدركه رحمة فيستيقظ وكأنما أزيح عنه أثقل ما حمل الإنسان ثم يتمالك قواه ولكنه عادة يصاب بعرق غزير وخفقان في القلب وألم في الرأس وميل للنعاس. .
ويرى العلماء أن هذا الطارئ ينتج عن اضطراب في الدورة الدموية الرئوية والحشوية (البطن) أكثر من اضطراب في المخ أما أنا فأقول وعن اضطراب في الدورة المخية أيضاً ويأتي عادة في الساعات الأولى للنوم أكثر مما يأتي في الساعات المتأخرة. - أما أسبابه فالنوم قبل تمام الهضم والنوم والوجه مغطى والأنف مسدود وعدم راحة الرأس على الوسادة وامتلاء المعدة بالأدوية المختلفة الضارة - ولعلاج هذا الأمر يبحث عن السبب ويزال.
الجولان النومي
الجولان النومي كثيراً ما يصيب بعض الأفراد ويكون مصدر انزعاج للمريض وعائلته وهو عبارة عما يحصل للنائم من استيقاظه وقيامه وعيناه مغمضتان أو مفتحتان (وفي كلتا الحالتين لا يبصر) بأعمال غاية في المهارة والدقة إما عقلية أو يدوية وعند استيقاظه تماماً لا يذكر شيئاً مما حصل على الإطلاق ولا يجب إيقاظ المتجول على هذا الشكل وهو سائر خوفاً من سقوطه ولا يترك المريض بهذا النوع ينام منفرداً إذ ربما قام وجال على عادته ودخل من نافذة على أنها باب فسقط وكثيراً ما يحصل هذا ويجب إغلاق أبواب الحجرة(36/39)
والنوافذ جيداً خوفاً من هذا العارض.
ولعلاج هذا الأمر تقوية المريض بكل الوسائل وعدم السماح له بامتلاء المعدة عند النوم والتبرز قبله مباشرة ولو بالوسائل الصناعية (الحقن الشرجية).
الحمل ومدته
مدة الحمل عند المرأة 272 إلى 273 يوماً هذا إذا عرف تاريخ بدأ الحمل بالدقة كأن كان ناشئاً على الوطء مرة واحدة أما إذا جهل فيحسب من آخر عادة 280 يوماً والمفهوم أن الحمل يحصل عادة قبل العادة دم الحيض بأيام أو بعدها ببضعة أيام وإذا عرف تاريخ آخر حيض أمكن معرفة يوم الوضع في الجدول الآتي:
يناير
31 يوماًفبراير
28 يوماًمارس
31 يوماًأبريل
30 يوماًمايو
31 يوماًيونيو
30 يوماً775547أكتوبر
(نوفمبر) نوفمبر
(ديسمبر) ديسمبر
(يناير) يناير
(فبراير) أكتوبر
(مارس) مارس
(أبريل) يوليو
31 يوماًأغسطس
31 يوماًسبتمبر
30 يوماًأكتوبر
31 يوماًنوفمبر(36/40)
30 يوماًديسمبر
31 يوماً767776أبريل
(مايو) مايو
(يونيو) يونيو
(يوليو) يوليو
(أغسطس) أغسطس
(سبتمبر) سبتمبر
(أكتوبر)
ولعمل الحساب يؤكد من السيدة تاريخ آخر يوم انتهاء الحيض الأخير وعلى هذا التاريخ يضاف العدد المذكور بالجدول المبين أعلاه أسفل الشهر الذي انتهى فيه الحيض أخيراً.
والعد الناتج يعطي التاريخ من آخر الأشهر الموجودة بأسفل كل عامود الذي فيه تضع المرأة فمثلاً - آخر حيض للمرأة انتهى في 14 يناير فيضاف 7 على هذا التاريخ أي 14 + 7=21 فإذن المرأة تضع في 21 أكتوبر.
مثل آخر - لنفرض أن تاريخ آخر حيض انتهى في 29 يناير فيضاف سبعة على هذا التاريخ 29 + 7=36 أي في 5 نوفمبر.
وهذا الجدول مؤسس على فرض أن الولادة تحصل بعد انتهاء عشرة أدوار حيض كل واحدة 28 يوماً وعلى ذلك يكون الحساب تقريبياً والفرق لا يتجاوز الخمسة أيام زيادة أو نقصان.
وعلى ذكر الحمل والولادة أقول أن كثيراً من إخواننا علماء الدين سألوني رأيي في مسألة مدة الحمل وهل يمكن أن تطول أكثر من الزمن المعلوم فأقول بياناً لذلك أن الحمل بمعناه الحقيقي أي بوجود الجنين في حالة حيوية لا يمكن بحال من الأحوال إنما يمكن أن يحصل إجهاض في بحر مدة الحمل وعوضاً عن أن يقذف الجنين خارج الرحم يستمر في الرحم ويمتص أو تتكمش أجزاؤه وتتكلس وتبقى ما بقية المرأة إلا أن يزول بعملية جراحية أو خلافه وكذلك في الحمل خارج الرحم قد يقذف الجنين في البطن ويمتص أو تتكلس أجزاؤه أيضاً ويبقى في البطن في حالة غير حيوية بالمرة سنين طويلة ربما بلغت ثلاثين عاماً أو(36/41)
أكثر.
من ذلك يرى أن الحمل الحقيقي لا يستمر أكثر من الميعاد القانوني إلا في ظروف استثنائية لبضعة أيام أو لسنين عديدة ولكن في حالة غير حيوية بالمرة.(36/42)
تفاريق طبية
(1) أسرع السموم فعلاً حمض الهيدروسنيك إذ ربما قتل في بضع ثوان.
(2) الأطباء أقل الناس أعماراً.
(3) الصداع من أسبابه الشائعة الإمساك.
(4) إذا أردت أن لا تصاب بمرض الكاتب فعود نفسك أن تكتب معتمداً على كتفك أو على منتصف الساعد وإياك أن تعود نفسك الكتابة معتمداً على إصبعك الخنصر أو على الرسغ ومعنى ذلك إلا تجعل محل التثبيت الخنصر أو الرسغ ومرض الكاتب مرض ينتاب الكاتب وسائر ذوي الحرف اليدوية وله أدوار تبتدئ بارتعاش اليد وعدم القدرة على إمساك الآلة (القلم مثلاً) ثم الارتجاف ثم التراخي والشلل والعلاج الوحيد الذي توصل إليه الطب إلى الآن هو الراحة من العمل المسبب والكهرباء بقيود مخصوصة.
(5) المراحيض على الطريقة الإفرنجية لها فوائد جمة منها الراحة المطلقة للجالس عليها حتى يمكنه أن يقرأ كتاباً بدون ملل أو كلل وهي في الواقع تعلم الأمعاء أن تؤدي وظيفتها بدون مساعد لها لا كما هو الحال في الكنف المصرية التي بضغط الفخذين والركبتين على البطن تساعد على التبرز ولتلك أيضاً ميزة هي أن تجعل المرء أقل عرضة لمرض الفتاق لأن الرجلين بتدليتهما تشدان جدر البطن فلا تسمح باتساع الحلقة الأوربية على عكس الجالس القرفصاء فإن العضلات ترتخي ويسهل تمدد هذه الحلقة وهي التي عادة يسقط فيها الفتق.
(6) كثيرون يحبون الدوش بالماء البارد الآن - لا بأس به ولكن بشرط أن لا يكون بعد مجهود مباشرة أو عقب تناول الغذاء. أو قبل الخروج للرياضة.
الدكتور محمد عبد الحي(36/43)
صور هزلية
دباغ جديد
أنا رجل أحب ما يكون إلي الطعام، وأشد الناس احتفالاً به، ولي في الولائم غارات، وفي الأفراح - بل وفي المآتم أن أردتم الحق، عند ما يطاف على المعزين بالصحاف المفعمة بسد الحنك، بعد السبحة - جولات وغزوات، ولا أظن أن عمتي ذاقت اللحم منذ سنين، وما كان ذلك منها زهادة فيه، ولا كان لأننا لا نشتريه، وإنما هي تأتي إلا أن تدافع القطع المتجاورة وغير المتجاورة في الإطباق إلى ناحيتي، وتفتح سككاً في الصفحة وطرقاً لكي ترسل إلي ما يدنو إليها من قطعة فخمة، أو ريشة طيبة، وتجتزئ هي بالسلطة، أو غيرها من الألوان التي تحبها، وأحاول دائماً أن يصنعوها بجانب ما أشتهيه من الطعام وأبتغيه من الأصناف لكي تكثر الأيدي على ما أكره، وتغيب يدي فيما أحب. ويبقى بذلك مبدأ التوازن قائماً بيننا، وفكرة العدل منفذة، ولكنه ولا ريب ضرب من العدل المعوي، وهو في ذلك يخالف العدل السماوي أو العدل الأرضي. لأنه صادر من فلسفة الأمعاء، وهي فلسفة خاصة مبتكرة تؤول إليها كل فلسفات العالم، بل هي نهضمها جميعاً وتأكل الأذهان التي أحدثتها. وهذه الأسلاك الدقيقة المتشعبة المتثنية هي أشد سرعة في تبليغ الإنسان أوامرها من أسلاك التلغراف وخطوط التلفون. .
ولعل أيثار عمتي إياي على نفسها في مجالس الطعام، بعد الفضيلة الكبرى التي أعلمها عنها، لأنها فضيلة لها طعماً، ثم هي بعد حسنة منها تتحول دائماً إلى الدم. وهذا الدم العبيط وأسأل القراء المغفرة لعباطة دمي - يتصاعد إلى رأسي فيزيد في قوة خيالي وتفكيري، وبذلك تكون كل قطعة من اللحم تقذفها عمتي إلي، إذ نحن صافون حول المائدة، هي بمثابة فكرة ألهمتني إياها فالتهمتها. وعلى ذلك يصح للقراء أن يقولوا أن عمتي متعهدة مقالات للصحف والمجلات، وإنها شريكة لي في حتى الإعجاب الذي قد أصادفه من بعض القراء.
ولكن وا أسفاه. لي في البيت عواذل، ولي في الأسرة منافسون، ونحن إذا جلسنا إلى المائدة، فكأنما نجلس أمام خريطة حربية في مؤتمر من مؤتمرات الصلح، إذ يتفاوض الأعضاء في تقسيم الأراضي، ويتحاورون في التوزيع، ولذلك إن لي قريباً رزقه الله مصيبة الولوع في الطعام، وهي بالطبع تعد في نظري مصيبة من ناحيته، ولكنها نعمة(36/44)
كبرى من ناحيتي. وهنا يثبت فوق المائدة شبح العم دارون يحمل قانون تنازع البقاء، فيدهن بأنانيته أطراف الشوك والملاعق والسكاكين لكي تكون أحد في الحمل والقطع، فإذا امتد الخوان، ووضعت الصحاف والألوان، وجلس قريبي بجانبي، لا يلبث أن يجيل البصر في المائدة، فيعد قطع اللحم، ويعد الجلوس ويقيس القطع على حساب تواريخ الولادة، وبموجب قسايم الصحة، ويحاول لو استطاع أن يجيء بشهادات من الأطباء يعترفون فيها بأنهم يرون الضرر الأكبر في أكل اللحوم، وقد استطاع أن يهزمني من المبدأ الذي يسير عليه في عملية التوزيع، وأعني به مبدأ السن، لأنه أكبر مني عمراً، ويكاد يطوي طيتين من سني، وعبثاً كنت أحاول أن أقنعه بأن يعتبر السنة من عمري سنة ونصفاً على قانون الخدمة في السودان، المعروف بالضمايم ذهاباً إلى أنني أديب وأنه ينبغي لي مقدار كبير من الغذاء لكي أكتب كتباً جميلة، وأضع أفكاراً رائعة، ولكن مثله لا يخدع من هذه الناحية، ولا ينهزم بهذه السرعة، إذ ينثني يجادلني في الأدب، ويروح ويثبت لي أن من أكبر ما يفسد الذهن، ويحدث الغباء، ويظلم الخاطر، أن يكثر الأديب من الطعام، ويحيلني إلى قائمة طويلة من الصوفيين والزهاد والنباتيين والخلوتية فلا يسعني إلا أن أرضى بقطعتي صاغراً منهزماً.
وأنا عندما تصلني رقعة دعوة إلى وليمة أو عرس، أبيت قبل ميعادها أياماً وأنا في ذهول ونشوة، ويزيد شكري لصاحب الدعوة إذا أرسلها إلي قبل موعدها بزمن يسير، لأنني أجلس إلى مائدته ست مرات أو تزيد في الحلم، وبذلك يشبع ذهني، ويأكل خيالي، بينما يكون طاهي الوليمة لم يبدأ بعد في تقشير بصلها، وأنا أنصح لصحابتي وأصدقائي قبل أن ينتهوا من ترتيب ألوان الوليمة، إذا فكروا يوماً في إقامة وليمة - إن يسألوني رأيي - لأنني أكون قد تخيلت في المنام أحسنها وأضمنها لاكتساب إعجاب المدعوين، وأعتقد أنني خليق بأن يركن إلى ذوقي، في مثل هذه المهمة، لأنها توافق. . . . مشربي. ولكني بعد أعجب العجب كله وأتساءل لماذا يأبى الناس إلا أن يخجلوا أو تثور العزة في نفوسهم إذا عرف عنهم أنهم يحبون الطعام ويستكثرون منه، ولماذا لا يأنفون من أن يكونوا مرابين ومحامين وصحفيين وممثلين وأشباه هؤلاء، ثم يموتون آنفة وخجلاً وحياء إذا قيل عنهم دباغين مع أنني أعتقد وأؤمن بأن جميع الناس دباغون وإنما تختلف درجات دبغهم وتتباين(36/45)
قوة هجماتهم في الخوان، وكل رجل لا يريد أن يحتمل كلمة دباغ يجب أن نقول عنه دباغ سابقاً أو دباغ في الإجازة أو دباغ متقاعد أو دباغ تحت الإختبار لأنه إما أن يكون ولوعاً بالطعام فأسرف فيه حتى بشمت معدته، وتعطلت أمعاؤه، وأما أن يكون قد خلق ممعوداً مريضاً مهزولاً - يعيش في حسرة دائمة، وحزن طويل، ولكنه يحيل إقلاله من الطعام في الولائم والإكتفاء باليسير من المآكل في المآدب، إلى مظهر من مظاهر الحياء والقناعة والرضى بالقليل.
وأنا أقول أن حياء الناس من هذه الوجهة هو ضرب من الرياء الإجتماعي والسفسطة الكاذبة، لأننا قد خلقنا لكي نأكل، ونعيش لكي نأكل، ولا نصدق أبداً أننا نأكل لنعيش. وإلا لما خلقت معنا الديوك الرومي والحمام والسمان وصيد البر والبحر، ولما فكر الطهاة في اختراع البفتيك والروستو والساندويش وكل ما لذ وطاب، ولو كان الأكل فقط لكي يسد الإنسان أرماقه، ويمسك على مادة الحياة فيه، لاكتفى كلنا باليسير من الطعام، وأصبحنا جميعاً معريين نخشى أن نرى الديك مذبوحاً، والعجل - ولا مؤاخذة أيها القراء - مهدور الدم، ولما تكالب الناس على الحياة تكالبهم اليوم، وطمع رجل في أن يأكل أبدع مبتكرات الطهاة، وأذ ما جاء في قوائم اللوكاندات وترك ملايين من الناس تأكل. . . . بعضها. . . مع أنه لم يصل إلى الظفر بطعامه الفخم، ومآكله الدسمة، إلا بعد أن فتح نفسه بأكل لحوم ألوف من الفقراء والذين تحت يده في عمله أو مصنعه أو مزرعته، ولعل الأغنياء يجدون اللذة الكبرى، والمذاق العذب اللطيف، في طعم اللحم الآدمي، لأنهم يريدون دائماً أن يستكثروا منه، ويظهر أن اللحوم الآدمية تقوي الأسنان، واللثة، وتفيد الأعصاب، وتحجر القلوب، وهذا هو السبب الذي بعث الأغنياء والأكابر على اعتياد تناول هذا الأبيراتيف قبل الجلوس إلى مائدة العشاء، بعد أن يكون قد دخل في جيوبهم وخزائنهم مئات الألوف، وخرج العمال من عملهم في مصانعهم وأشغالهم وشؤونهم بثمن الفول المدمس.
والآن لغضب مني الدباغ القديم، وليصرخ في الشوارع، وليطلبني في ساحة المحكمة، لأني جئت أستلب منه إسماً يقال أنه ألقى إليه وهو لا يستحقه، لأنه نحيف، صغير المعدة، ومن المقلين في الأكل والأدب معاً، إذا تجاوزت معه في نصيبه من الثاني، وعلى أني لا أصدق أنه أديب ولو نظم ونثر - وأذن فلا مناص لنا من أن نسميه دباغ كؤوس أو دباغ وسكي(36/46)
إذا كان يغضب من تهمة الإكثار من الصحون والألوان.
والآن أدع القراء يهيمون مع الدباغ في تخيل سلطة الحاثي وكبابه وأعود عنهم إلى عمق لأنها في انتظاري عند المائدة، لتغيب هي في التوابل، وأمعن أنا في التهام اللحم، وإلى الملتقى.(36/47)
معلومات نافعة مفيدة
كيف تعالج أبن الرجلين المسامير
تأخذ 30 قمحة من حامض السليسيك و10 قمحات من القنب الهندي و 4 دراهم من الكاوديان وتمزجها معاً وتدهن منها كل يوم صباحاً ومساءً.
إذا كنت مهزولاً وتريد أن تسمن
إذا كنت كذلك فاعمد إلى الحقنة تحت الجلد بمحقنة مخصوصة يرشدك إليها الطبيب بشيء من زيت الزيتون فلهذا النوع من الزيت خواص مغذية لا خفاء بها وقد علم بالإختبار أنه إذا دخل الجسم من طريق الجلد كان أسهل امتصاصاً منه من طريق المعدة وبهذه الطريقة تسمن وتتحسن تحسناً ما في سائر أحوال البنية.
إطفاء لهيب البترول وعلاج الحروق
من المعروف أن البترول إذا التهب لا يطفأ بالماء بل يزيد به اشتعالاً ولكن الأفضل أن يطرح فوقه تراب أو رمل أو رماد أو يلقي عليه نحو بساط أو وسادة حتى ينقطع عنه الهواء فينطفئ وقد علم بالإمتحان أن اللبن والحليب أنفع شيء في سرعة إطفائه فإنه يخمد لهيبه في التو واللحظة - أما أفضل معالجة الحرق فذلك أن يغمس المحل المحروق في محلول نترات البوتاس ملح البارود المشبع ويترك فيه مدة فلا يلبث الألم أن يسكن ومتى سخن المحلول من حرارة العضو المحروق يضاف إليه في كل فترة شيء من النترات ويترك العضو المحروق مغموراً به مدة ساعتين أو ثلاث إلى أن يزول الألم بالكلية وأما ما لا يمكن غمسه في المحلول من أجزاء الجسد فتستعمل له الكمادات أي الخرق مبلولة بالمحلول وتلصق على الموضع المحروق وسخنت نستبدل بغيرها حتى تحصل الفائدة.
فائدة لغوية
لكثير من كتابنا المشهورين الذين تثنى بهم الخناصر ويشار إليهم بالبنان كما يقولون أوهام وأخطاء لغوية لا ندري كيف تسربت إليهم مع ما عرفوا به من التدقيق وشدة التحري، ولكن العصمة لله وحده - فمن بين تلك الأوهام جمعهم الميل بفتح الميم، على ميول مع أنه لا يجمع إلا على أميال وأما الميول فهو جمع الميل بكسر الميم، وكذلك يجمع على أميال وإنا لنذكر أن أول من استعمل هذا الجمع هو أحمد لطفي السيد بك مدير الجريدة سابقاً وقد(36/48)
قلده في ذلك جميع مريديه وطايفته تلك الطايفة التي أبى عليها التنطع في اللغة إلا أن تجعل النسبة إلى الطبيعة طبعي لا طبيعي مع غثاثة تلك النسبة ونبوء السمع بها ومع أن جميع علماء الإسلام من فلاسفة وفقهاء ولغويين درجوا على استعمال النسبة المألوفة طبيعي على الرغم من مخالفتها للقياس - وهذا من المفارقات العجيبة ولله في خلقه شؤون.(36/49)
مطبوعات جديدة
أرجأنا الكلام على المطبوعات الجديدة من كتب ومجلات وجرائد إلى أول عدد يصدر من البيان الأسبوعي.
ماجدولين الجديدة
لم ننشر في هذين العددين ما ننشره عادةً من رواية ماجدولين الجديدة لضياع النسخة الإنكليزية وقد أرسلنا لإحضار نسخة أخرى ستحضر إلينا قريباً.
حول المتفرقات وشؤوننا المصرية
جارت مقالات هذا العدد على كثير من المتفرقات وعلى باب في شؤوننا المصرية الذي كان من موضوعاته المكتوبة المعدة للطبع كلمة عن المجمع اللغوي ومسألة الطربوش فنظرة إلى البيان الأسبوعي.(36/50)
التطور الكبير
لقد آن للبيان أن ينجز وعده
لعل قراءنا أيدهم الله يذكرون أن قد كانت النية بهذه المجلة مذ عامها هذا أن نظهرها أسبوعية كما بينا ذلك في مفتتح العدد الأول من هذه السنة ولكن قامت حوائل إذ ذاك حالت دون إنجاز هذا العزم إلى الآن واليوم وقد زالت تلك الحوائل وتوفرت الأسباب التي تستدعي تحقيق هذه النية فإنا نعلن قراءنا بما يأتي:
أولا ستظهر هذه المجلة من بعد هذين العددين بعد عون الله وحسن توفيقه ظهر كل خميس من كل أسبوع في طرازها هذا طولها والعرض.
بيد أن صفحات كل عدد أسبوعي لا تتجاوز إثني عشرة صفحة بحيث يكون مجموع صفحات كل شهر تربى على صفحات البيان الشهري الحالي.
ثانياً ما دام هذا البيان الأسبوعي سيكون في ذلك الحجم وما دامت أعصاب أهل هذا الجيل قلقة مضطربة بحيث لا نطيق المباحث الطوال والمقالات المستفيضة فسنبذل آخر مجهودنا في أن تكون جميع موضوعات البيان قصيرة منوعة كثيرة فضلاً أنها تكون زبدة المعارف وبحيث تربي موضوعات كل عدد أسبوعي على العشرين موضوعاً يتنقل فيها القارئ بين مبحث علمي وموضوع تاريخي ورأي اجتماعي وطرفة أدبية وملحة فكاهية ونظرة انتقادية وقصة قصيرة تامة تتلاقى فيها الفائدة باللذة والفكاهة وهلم إلى كل ما تستروح إليه النفس ويشرب بالضمير ويلتهمه العقل التهاماً.
ثالثاً وإذا أصبح الورق من الغلاء بحيث لا يخفي ذلك عن جميع القراء وإذ أن إرسال هذا البيان الأسبوعي إلى جميع قرائنا سواء في ذلك من دفع الإشتراك سلفاً ومن لم يدفع يكلفنا من جراء أجرة البريد مالا قبل لنا به وما نحن في غنى عنه فقد عزمنا عزماً لا تخلخل فيه على أن لا نرسل البيان من الآن إلا إلى من يدفع قيمة الإشتراك سلفاً ولو سبب ذلك أن يهبط لكل مشترك لم يسدد ما عليه إلى الآن إذا أراد الخير لنا وله ولهذه الأمة أن يبادر من الآن بإرسال ما عليه كله أو بعضه حوالة على البريد المصري باسمنا - ومن هنا أيضاً فصلنا جميع وكلاء البيان المحصلين، وبهذه المناسبة نرجو حضرات مشتركينا الأفاضل أن لا يسلموا اشتراكاتهم إلى أي إنسان مهما أبرز من الإيصالات الممضاة منا ومنه والمختومة(36/51)
بختم المجلة اللهم إلا إذا قدم إلى المشترك خطاباً خاصاً مكتوباً بصفة خاصة إلى حضرة المشترك أن يسلم اشتراكه إلى هذا المندوب المخصوص وكل ذلك يستثني منه حضرة الأديب الفاضل محمد أفندي حماد وكيل البيان في المينا.
وما دامت نيتنا بالبيان هذه النية فإنا نعلن جميع كتاب العربية في مصر وجميع علمائنا وأدبائنا أنا معدون لقبول كل ما يكتبون كل فيما تخصص له بحيث لا تتجاوز الكلمة التي يكتبونها في أي موضوع العمود الواحد من أعمدة هذه المجلة ومعدون كذلك أن نقدم لكل كاتب الجائزة المالية التي تليق بما يقدمه للبيان.
أما موعد ظهور هذا البيان الأسبوعي فقريب جداً وسنحدده على صفحات الجرائد اليومية والله الموفق والمعين.(36/52)
أغلاط مطبعية
جاء في صفحة 26 سطراً من كتاب تربية الإرادة - ومنها أنها لا تجعلها - وصوابها - ومنها أنها لا تجعلنا - وفي هذه الصفحة سطر 3 - وأذكر من - وصوابها - وأذكرني - وفيها سطر 16 من العمود الثاني - ما تنتقص إحداهاالأخرى - وصوابها - ما تناقص إحداها الأخرى - وفي صفحة 35 سطر 17 من العمود الثاني - أن يحد الإنسان - وصوابها - أن يجد الإنسان ـ(36/53)
تفاريق
كم يوم يعيش اإنسان بلا طعام
كم تظن الجنود والأهلين يستطيعون أن يعيشوا، إذا كانوا في حصار شديد، وقد نفذ الزاد، وقلت الميرة، وندر الطعام؟
يقرر العلم أن الإنسان يستطيع أن يعيش على الماء صرفاً بلا طعام ثلاثين يوماً أو نحوها، ولا تفسد أجهزة البدن بعد هذا المقدار، إذ في المكنة أن يسترد قوته ويستعيد نظام جسمه بالتحفظ الشديد في الغذاء. ويبلغ الدهن الذي في البدن مقدار ربعه، وفي حالة المجاعة يأخذ الجسم غذاءه من دهنه، وشحمه - وإذا تقرر ذلك، صحت الكلمة السائرة عندما يغضب أحد الناس من آخر فيقول له كل بعضك ونحن نستطيع أن نحرق ونمتص من عضلاتنا وشراييننا، حتى ستين في المائة من وزنها، ولا يبقى منها إلا الأربعون، ومن الكبد والجهاز الهضمي بين ثلاثين وأربعين في المائة من زنتها وعشرين في المائة من الرئتين، ويستطيع القلب أن نأكل منه عشرة في المائة، وأما المخ والجهاز العصبي فيستطيعان أن يخسرا حركة ونفعاً وحيوية، مثل الأعصاب والعقل والقلب، أقلها تحملاً للخسارة، وأشدها جزعاً، وأقلها صبراً على المجاعة وأما الدهن والعروق، والشرايين، فهي التي تؤكل أولاً.
فكاهة
قال رجل، لصديق له إنني لم أكن قبل اليوم أعتقد فيك الصدق والرجولة والتمسك بقولك، ولكني الآن اعتقدت ذلك وآمنت به.
فسأله الآخرـ ولماذا.
قال لأنك عندما اقترضت مني الجنيهين قلت لي هذه الجملة سأبقى مديناً لك إلى الأبد!.(36/54)
كتاب تربية الإرادة
مقدمة الطبعة الأولى
للمؤلف
مما يدعو إلى العجب الإعجاب جماع الناس
على شدة الحاجة إلى معلم يعلمهم شتى
العلوم والفنون وإقبالهم على تعلمها بجد واهتمام
إلا علم الحياة فإنهم لا يحفلون بتعلمه ولا تحدثهم
نفوسهم بضرورة الجد في تحصيله
(كلمة قالها نقولا في كتابه الموسوم: في أنه لا ينبغي للمرء أن يسير في هذه الحياة حسبما تجره إليه الظروف وتدفعه يد الإتفاق).
كان للدين السيادة المطلقة على العقول أبان القرن السابع عشر وشطر من القرن الثامن عشر فلم يكن ثمت ما يدعو إلى فتح باب البحث في مسألة تربية الإرادة في أعم معانيها إذ القوى التي بأيدي الكنيسة الكاثوليكية - وهي القديرة جد القدرة على تربية الأخلاق - كانت وقتئذٍ كافية لهداية الناس وإرشادهم إلى أهم ما ينبغي لهم من شؤون حياتهم.
أما اليوم فقد ذهبت هذه القوة وعفت آثارها من أغلب العقول المفكرة ولم تعوض بما يقوم مقامها فلا بدع إذا اصيبت الإرادة بالوهن والضعف والإنحلال في هذه الأيام وأخذت الكتب والجرائد والمجلات حتى القصص الموضوعة تشير إلى هذه الحال وتشكو من عواقبها وتستحث على تداركها.
وقد أتاحت الأقدار لهذه الحال التي تمكنت من النفوس أساة وأطباء زعموا أنهم يعرفون الداء ويصفون الدواء ولكنهم وآأسفاه كانوا متشبعين بمذاهب علم النفس الشائعة في عصرهم فتوهموا أن لقوة الإدراك هيمنة وسلطان على الإرادة وظنوا أن وعن الإرادة نتيجة الجهل بنظرية فلسفية مؤيدة بالحجة والبرهان تتناول البحث فيما هنالك من مباحث ما وراء الطبيعة والأسرار المعنوية الخفية.
وهم في جهلهم هذا معذورون إذ من القواعد المقررة في علم الإقتصاد السياسي أن الإنسان أول ما بدأ بزراعة الأرض اختار الأرض الموات الجرداء فبذها وحصد ما استطاعت أن(36/55)
تغله تلك الأرض من غير أن يكلف نفسه عناء حرثها وفلاحتها ثم تدرج من ذلك إلى زراعة البقاع الخصبة، عن كان لا يصل إلى ثمرتها إلا بعد الكد والجد وعصب الريق. كذلك الحال في علوم النفس فإن أول ما بدأ الإنسان بالبحث فيه هي الظواهر الهينة اليسيرة التي لا كلفة ولا عناء في بحثها ودرسها وهي لا تفضي إلى نتائج ذات تأثير على أخلاق المرء وسلوكه في هذه الحياة ثم تدرج منها إلى دراسة النظريات الأساسية الجوهرية ذات النتائج الخطيرة الجليلة والآثار الصالحة المجدية وإن كان قد لقي فيها ما لقي من الجهد والعناء. وما وصل الباحثون في هذه العلوم إلى ما وصلوا إليه حتى استجلوا ما لقوة الفكر من الأثر الضئيل في الأخلاق واستيقنوا أنها ليست شيئاً مذكوراً إذا قيست بالأميال والعواطف والشهوات، وكل فكرة لها شيء من السلطان على الإرادة فإنما جاءها ذلك من اصطباغها بصبغة الأميال والشهوات.
لو أن هؤلاء المتقدمين بحثوا بحثاً وافياً في الإرادة ودوافعها لعلموا أن الأفكار المجردة لا تغني شيأً في قوة الإرادة وإن عاطفة واحدة يختارها المرء ويأخذ نفسه بها ويروضها عليها خليقة أن تصير قطباً تدور عليه حياته على شريطة أن يعرف كيف يستخدم مصادر القوى والوظائف المكتنة في أعماق نفسه ويعلم كيف يصرفها مع وجوهها المعقولة. ألا ترى كيف استطاع البخيل أن يحرم نفسه من جميع اللذات الجسدية من طعام شهي ولباس فاخر وفراش وثير وأن يعيش في عزلة عن الناس بلا صديق ولا أنيس كل ذلك حباً في الدرهم والدينار حتى رسخ هذا الخلق في نفسه رسوخاً لا سبيل إلى زحزحته. فهل تستبعد أيها القارئ بعد ذلك أن يكون لعاطفة شريفة راقية من السلطان على نفسك ما يجعل حياتك كلها وقفاً عليها وجميع أعمالك رهينة بها. إن كنت تستبعد هذا الأمر فما ذلك إلا لأانك تجهل الوسائل الكثيرة التي يمنحك إياها علم النفس والتي بها يمكنك أن تكون كما تريد أن تكون.
ولكن مما يدعو إلى الأسف أن الهمم لم تحم حول البحث في مصادر هذه القوى النفسية ووجوه الإنتفاع منها فإن العلماء الذين تولوا قيادة العقول في أوروبا في هذه الثلاثين عاماً الأخيرة قد انقسموا فريقين يرى كل منهما رأياً هو وتربية الإرادة على طرفي نقيض. بل ينكر كلاهما بتة إمكان هذه التربية ولا يسلمان بوجودها. وخلاصة المذهب الأول أن الأخلاق جملة ولدت مع الإنسان مكتنة في جبلته وغريزته فليس له من سلطان عليها ولن(36/56)
يستطيع فيها تغييراً ولا تبديلأً. وسنعود إلى هذه النظرية في سياق هذا الكتاب فنبين ما فيها من الخطأ ونفندها تفنيداً. أما المذهب الثاني فهو القول بحرية الإختيار أي أن الإنسان حر يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء بمحض اختياره وهي نظرية يدل ظاهرها على أنها تؤيد تربية الإرادة وتقول بها وتحث عليها حتى أن (ستورات مل) ذهب به التغالي إلى القول بأن الآخذين بمذهب حرية الإختيار يتولد لديهم شعور بما للجد والسعي الشخصي من الآثار في نفوسهم. ولكنا على الرغم من هذا كله ومع علمنا بفكرة (ستورات مل) وهو من زعماء القائلين بالعلية أي ارتباط المسببات بأسباب وعلل لأنحجم عن القول بأن نظرية حرية الإختيار منافية لتربية الإرادة وامتلاك هوى النفس وإنها عقبة كأداء في سبيلها لا تقل شأناً في ذلك عن سابقتها أعني القول بأن الأخلاق لا تتغير ولا تتبدل وذلك لأانها تعد مسألة تربية الإرادة أمراً هيناً سهلاً وأنها من الأمور الطبيعية التي لا بد منها، مع أن هذه التربية عمل طويل بعيد الشقة ولا بد فيه من السعي الكثير والعناء الكبير والإلمام بقوى النفس ومعرفة مصادرها ومواردها.
ولقد ترتب علي القول بحرية الإختيار أن كثيراً من أصحاب العقول الراجحة والآراء الصائبة لم يحفلوا بالبحث والتفكير في مسألة الإرادة ودراسة أحوالها وملابساتها فأضرت هذه النظرية بعلم النفس بل بالإنسانية جمعاء ضرراً لا كفاء له لهذا السبب رأينا أن نهدي كتابنا هذا إلى الموسيو (ريبو) أستاذنا القديم الذي علمنا حب البحث في علوم النفس بل الرجل الذي كان أول من نشر مباحثه النفسية في فرنسا بعد أن جردها من مباحث ما وراء الطبيعة فابتعد فيها عن البحث في ماهية الإدراك وأحوال النفس واقتصر - كما يفعل العلماء في مباحثهم - على درس الأمور السابقة والملابسة لأحوال الإدراك والحركات الإرادية وغير ذلك من حركات النفس.
ومما يحب التنبه له أن طريقته لا تنفي وجود المباحث اللاطبيعية أي البحث فيما وراء المحسوسات بل تقول بوجودها وتعترف بأن علم النفس جزء من هذه العلوم وكل ما هنالك أنها تخرج هذه المباحث من علم النفس وشتان ما بين هذا وذاك ومدار طريقة الموسيو (ريبو) هي جعل البحث في شؤون النفس علماً من جملة العلوم الأخرى التي نهتدي بهديها ونسير على نهجها، والعلماء كما لا يخفى لا يتلمسون العلم لذاته ولا حباً في العلم ولكن(36/57)
لمعرفة ما هو مقدر حدوثه من الظواهر والأحداث للنظر في اتخاذ الأهبة لها وتدبير ما يصلح نحوها وبالجملة فإن خطة العلماء هي تقدير الحوادث وتدبيرها.
فمن ذلك مثلاً أن العالم الطبيعي لا يهمه أكانت نظرية التموجات الضوئية فرضاً من الفروض أم حقيقة من الحقائق ما دامت تؤدي إلى الغرض المقصود وكذلك العالم البسيكولوجي (النفسي) سواء لديه أكانت نظرية توافق بعض الأحوال العصبية مع بعض الحركات النفسية فرضاً أم حقيقة ما دامت تصح دائماً في مقدماتها وفي نتائجها. فالمعول عليه إذن هو معرفة ما ينتظر حدوثه في المستقبل على ما تريد ويكون على مقتضى ما نود أن يكون هذه هي خطة العالم وكذلك يجب أن تكون خطة المشتغل بعلم البسيكولوجيا (النفس). وقد سرنا على هذه الخطة في تأليف كتابنا هذا.
فقد بحثنا فيه عن أسباب وهن الإرادة وضعفها في أيامنا الحاضرة. ومن رأينا أن الدواء الشافي يجب أن يلتمس في تربية وجدانات النفس وعواطفها وتقويتها وإنمائها. ولقد يصح أن نطلق على هذا الكتاب العنوان الآتي: مباحث في الوسائل التي بها نولد في نفوسنا العواطف الضارة بتلك التربية ونمحقها بحقاً. وسيرى المطلع على هذا الكتاب أنا قد وفينا هذا الموضوع حقه من الشرح والتبيين وبذلنا جهد الطاقة في هذه المباحث ذات الشأن الجليل والمكانة النبيلة.
ولم نجعل بحثنا في الكلام على الإرادة من وجهة عامة مجردة بل قصرنا جل عنايتنا على الكلام في تربية الإرادة لدى المشتغلين بالأمور العقلية التي تحتاج إلى جهد طويل ودأب وصبر. وفي اعتقادنا أنه سيكون جزيل النفع جليل الأثر لدى طلاب المدارس وسائر من يشتغلون بعقولهم.
طالما سمعت الشبان يشكون من عدم وجود كتاب يشرح لهم الأساليب الموصلة إلى قوة الإرادة وامتلاك زمام النفس فها أنا ذا أقدم إليهم اليوم ما أفادتنيه أربعة أعوام قضيتها في البحث والتفكير في هذا الموضوع الخطير.
مقدمة الطبعة الثانية
للمؤلف
إن استقبال الصحافة الفرنساوية والأجنبية لهذا الكتاب بالترحاب والحفاوة التنويه بذكره(36/58)
وإقبال القراء على اقتنائه وتهافتهم عليه حتى نفذت نسخ الطبعة الأولى في بضعة أسابيع كل ذلك يدل على أن هذا الكتاب جاء في الوقت المناسب وأنه قضى حاجة كانت في نفس الجمهور المستنير.
ونحن نقدم خالص شكرنا إلى من كتبوا إلينا في هذا الصدد ولاسيما طلاب الحقوق والطب ولقد أيدت رسائلهم ما كشفنا عنه النقاب في الفصل الأول من الباب الخامس. غير أن كثيرين منهم اعترضوا علينا في سوء ظننا بالشبان وقالوا إن الشبان ما برحوا يعرفون مزية الجد والعمل ومالهما من الآثار الجلية.
ولكن ما أبعد المسافة بين القول والعمل ويلوح لي أن الشبان كثيراً ما يخلطون بين القلق والإضطراب والضجيج وبين العمل النافع المثمر الذي قوامه الإفتكار والإبتكار. وزعم بعض الذين كتبوا إلى أن الشطر الأعظم من شبان هذه الأيام قد تملك فؤادهم حب الموسيقى نوعان من أمراض الإرادة يجب المبادرة إلى علاج الشبان حتى يبرأوا منهما ويتقوا غوائلهما.
أما القسم العلمي من كتابنا هذا فلم يصادف نقداً ولا اعتراضاً بل قوبل بالثناء والإطراء. وليس الأمر كذلك فيما ارتأيناه في الفصل الثالث من الباب الأول والفصل الأول من الباب الثاني فقد كنا نتوقع نقداً شديداً لما دوناه فيهما من الآراء ولكنا وجدنا أن أكثر هذه الإنتقادات غير وجيهة لم تنل من تلك الآراء.
لأننا لم نقصد إثبات أن الأفكار ليس لها أدنى سلطان أو تأثير على الإرادة. لأنا وإن كنا ارتأينا أن للدوافع الغريزية والعادات السلطان الأكبر على الحركات الإرادية بيد أنا قلنا أن الإرادة في أرقى أشكالها إنما تكون بجعل أميال الإنسان خاضعة لأفكاره صادعة بأوامرها وأثبتنا من جهة أخرى أن ليس للفكرة من تأثير على مزيج الشهوات والأميال الحيوانية المنحطة بحيث تتسلط عليها وتكبح جماحها حالاً ومن غير واسطة. وأن قوة الفكرة أمام أعداء أشداء أقوياء الشكيمة كهؤلاء الأعداء لا بد أن نستمدها من مواطنها وهي مشاعر النفس وإحساساتها.
ولقد كنا نظن أن أصحاب مذهب حرية الإختيار سوف يعترضون أشد الإعتراض على ما ارتيأناه في الحرية وكنا نتوقع أن تقوم قيامتهم على هذه الآراء فإذا بنا نرى أصحاب القول(36/59)
بأن الأخلاق ولدت مع الإنسان فلا سبيل لتغييرها هم الذين ثارت تائرتهم وحملوا علينا حملات شعواء.
ويظهر أن نظرية حرية الإختيار قد تركها القائمون بأمر التربية في زوايا النسيان فلقد رأوا أنفسهم مرغمين على مواجهة حقائق ثابتة لا ظنون وأوهام وفروض.
ومما يذكر في هذا الصدد أن الموسيو ماريون وهو الالثقة الحجة في مثل هاتيك المسائل شرح في محاضراته التي ألقاها ما بين عامي 1884 و 1885 الأضرار الجمة التي خلفتها لنا عملياً نظرية حرية الإختيار وهي من مسائل ما وراء الطبيعة فلا سبيل إلى البحث العلمي فيها وخلاصة هذه الأضرار أنها منعت الإنسان من التفكير في الحرية الحقيقية بشروطها وقيودها تلك الحرية التي يجب علينا أن نجد في نيلها والحصول عليها بمجهوداتنا الذاتية. وللموسيو ماريون في مقدمة كتابه التضامن الأخلاقي رأي وجيه عرض به رأي الموسيو فوييه وهو أن مجرد تفكيرنا في حريتنا يجعلنا بالفعل أحراراً.
أما رأي الموسيو ماريون فهو أن تناهينا في الإعتقاد بحريتنا والإعتداد بها يحول دون السعي في الإحتفاظ بما نلناه منها والحرص على القدر الذي حصلنا عليه. وهو رأي أقرب إلى السداد وأدنى إلى المنفعة فإنا لا نكون أحرار إلا إذا جاهدنا في هذه السبيل حق الجهاد حتى نبلغ الغرض.
وقد وجه بعضهم اللوم والتعنيف إلى المؤلف لأنه لم يحفل بالأخلاق الغريزية ولم يجعل لها مكاناً في مباحثه. ونحن نقول لهذا البعض أنهم مخطئون غاية الخطأ في فهم معنى الخلق. الخلق ليس مادة بسيطة بل هو مجموعة مركبة من أفكار وعواطف وشهوات وغير ذلك ومن ثم يكون ذهابهم إلى أن هناك شيئاً اسمه خلق بمثابة اقول بأمور مستحيلة لاتتفق والعقل السليم، ذلك لأن القول بوجود مجموعة عناصر متباينة كما وكيفما وقوى كثيرة متجمعة على وجه خاص وكيفية خاصة قد انحدرت مع الإنسان وغرست في جبلته قول لا يوافق ذو مسكة من العقل. والقول بهذا الرأي يكون معناه أن الإنسان قد يكون له بعض تلك الأخلاق الغريزية الفطرية في أنقى مظاهرها وأكمل أشكالها خالية من كل ما يحيط بها من مؤثرات الوسط والتربية. ولكن دلت التجارب على أن محاولة الوصول إلى تلك المرتبة ضرب من المحال ولا سبيل إلى الوصول إليها بحال من الأحوال فهذه الاستحالة لا(36/60)
تدع مكاناً للاعتقاد بثبات الأخلاق والغرائز المولودة مع المرء.
على أن القول هناك أخلاقاً غريزية وجدت في الطبيعة الإنسانية يؤدي طبعاً إلى القول بأن عناصر الخلق الأصلية الجوهرية أي الأميال لا سبيل إلى تعديلها أو تبديلها بوجه من الوجوه وأنه قد قضي عليها بأن تبقى كما هي إلى أبد الآبدين وهو قول ينقضه من أساسه ما نحس به في باطننا وما نستفيده من التجارب وما أحصاه المشتغلون بالتربية والقوام على النفوس ولا يتفق مع ما يقع كل يوم للناس جميعاً في أعمالهم ومعاملاتهم ولقد أقمنا الأدلة القاطعة في الفصل الثاني من الباب الثالث على أن شيئاً من ذلك لم يكن وإن في استطاعة المرء تعديل عاطفة من العواطف بتقويتها وإنمائها أو منعها وكبح جماحها ولو لم يكن الناس كلهم على هذا الرأي لما رأيت ثم حاجة إلى تربية الأطفال ولتركة لهم الحبل على الغارب ووكلت أمرهم إلى الطبيعة تتصرف فيهم على مقتضى نواميسها التي لا تتغير ولا تتبدل.
هذه الملاحظات النظرية كافية في تفنيد ما زعموه من ثبات الأخلاق وعدم قابليتها التغير والتبدل. وإن شئت أيها القارئ الزيادة من النظر في هذه المسألة فعليك قراءة المؤلفات الحديثة عن موضوع الخلق ولاسيما الجزء الثالث من كتاب المسيو بوهان، أقرأ هذه الكتب والمباحث تجد فيها أن الأكثر الأغلب أن الإنسان كأنما ينطوي في أنحاء نفسه على أشخاص عديدين مختلفي المذاهب متنوعي المشارب وإن الإنسان كلما تدرج في سبيل الرقي الأخلاقي والتطور نحو الكمال انعدمت في نفسه أميال وقامت مقامها أميال أخرى جديدة وكثيراً ما تجد للإنسان أميالاً وأحوالاً لم تكن موجودة لديه من قبل كلما تقدم في السن، بل كثيراً ما يتبدل خلق بخلق آخر وصاحبهما واحد. أليس ذلك كله دليلاً على أن وجود خلق ثابت لا يتغير أمر أعز من بيضة الديك.
نرى نفوس أكثر الأطفال حافلة بالأميال والأهواء المتضاربة المتناقصة المشوشة. وما وظيفة التربية غير إيجاد النظام في هذه الفوضى والعمل على تثبيت بعض الأميال في نفوس الأطفال حتى تمتاز عما عداها وتصير قوية الأركان راسخة الدعائم. وبيناً المربي آخذ في عمله وقد أدرك شيئاً مما يبتغيه من تثبيت بعض الملكات والأخلاق الصالحة ومقاومة الملكات الخبيثة المرذولة والجد في محوها إذ بالطفل وقد بلغ أشده وتخطى دور(36/61)
البلوغ فلا يلبث حتى تهب في نفسه عواصف هوج تقتلع من نفسه ما غرس فيها من الملكات وتقلب ثمرة هذه المجهودات رأساً على عقب فتتبلبل أفكاره وعواطفه وينتابها الخلل والفوضى. فإذا لم يثب معتمداً على نفسه موجهاً وجهته إلى مكافحة هذه العواصف والجد في تكوين صفاته الأدبية وتجديد أخلاقه على أساس متين وقع لا محالة في تلك الحالة التي أفضنا في وصفها في الفصل الأول من الباب الثالث.
ولو فرضنا صحة ما يدعون وسلمنا بأن الخلق يولد مع المرء كما هو هبة منحتها الطبيعة للمرء فتجعل حياته ممتازة بصفة من الصفات وخلة من الخلال لا يحيد عنها يمنة ولا يسرة لترتب على هذا الفرض وجود أناس تمكنت من نفوسهم بعض الأخلاق تمكناً شديداً حتى لا سبيل إلى زحزحتها منها.
ولكنا نتلمس مثل هؤلاء الرجال فلا نجدهم وإلا فأين هم؟
أفي عالم السياسة ونحن لا نكاد نرى رجالاً وجهوا كل همهم إلى غاية واحدة سامية راقية اللهم إلا القليل النادر منهم. وأما أغلب المشتغلين بالسياسة فإن أفكارهم وعواطفهم متشردة مبلبلة يذهبون مع كل ريح ولا يستقرون على حال من القلق وتراهم كثيري الجعجعة والحركة والاضطراب وقلما ترى لأحدهم رأياً سديداً أو عملاً رشيداً بل ترى في الكثير منهم أحلام الأطفال في أجسام الرجال.
أم في عالم الأدب؟ وأنت ترى أن أكثر أرباب الأقلام قد أجمعوا على تمجيد الوحشية البشرية واستخدموا أقلامهم في تزيين الشهوات الجسدية والانغماس في الترف والملاذ بعد النكبة التي أصابت فرنسا في صميمها عام 1870 ويدلك على صحة رأي (مانزوني) وأنه أصاب كبد الحقيقة فيما قال ما تراه في فرنسا من نقصان المواليد بقدر ما ازدادت دواعي أثارت الشهوات وموجبات الانفعالات.
لم يهتم كتابنا بإيقاظ عوامل الشرف والنبل وطلب المعالي تلك العوامل الكامنة في نفوسنا المسكتة فيها بل عمدوا إلى تحريك غرائزها الفطرية البهيمية كأنهم اعتبروا الحياة البشرية منحصرة في النخاع الشوكي والنخاع المستطيل. ليس الذي يسطرونه بالأدب الذي يغذي العقول ويستصرخها إلى التأمل والتفكير بل أدب يستثير الشهوات ولا يحفل بالفضيلة ومكارم الأخلاق.(36/62)
إنا نمسك القلم عن الاسترسال والإفاضة في القول ونكتفي بأن نقول أنه لكي يكتمل خلق من الأخلاق في الإنسان لابد أن تكون خلاله على وتيرة واحدة وليست كل يوم في شأن وأن تكون راسخة في النفس متمكنة منها جد التمكن حتى يكون صاحبها متطلعاً إلى غاية يوجه إليها كل همته وآماله. إذا تبين لك ذلك أدركت أن الخلق ليس وليداً مع الإنسان مغروساً في فطرته فقد رأيت أن المرء يولد وفي نفسه الأفكار والأميال والأهواء فوضى لا نظام لها وإنما ينظم شتاتها ويضم بين أطرافها العمل على نيل الخلال التي أشرنا إليها والسعي في تحصيلها. ويتلخص من كل ما تقدم أن الخلق كسبي لا طبيعي فمن قصرت همهم عن الطموح إلى تلك الحال والطمع في إدراكها فليس لهم حق فيما يعلى قدر المرء ويسمو بمكانته ويجعل له شأن في هذا الوجود أعني الحرية وامتلاك هوى النفس.
مقدمة الطبعة السابعة والعشرين
للمؤلف
في غضون ثلاثة عشر عاماً ونصف عام أعيد طبع كتاب تربية الإرادة سبعاً وعشرين مرة إلى أكثر اللغات الأوروبية. وهذا وحده دليل على مقدار حاجة الناس إلى مثل هذا الكتاب.
ولو نشرت الرسائل التي انهالت على المؤلف لتألف منها مجلد ضخم يدل بعبارة بليغة مؤثرة على حالة نفوس أكثر الشبان في هذا العصر.
نعم فلقد أصبحت العقول في هذه الأيام تخامرها الشكوك والريب والشبهات وتضرب الحيرة حولها نطاقاً إذ لا تجد من المذاهب الفلسفية ولا من الأوضاع الاجتماعية ما تستروح له وتسكن عنده وتظفر منه بالحقيقة المنشودة. حتى الدين الكاثوليكي. وقد كان فيما سلف الحمى الذي تلجأ إليه الضمائر القلقة المضطربة أضحى في هذه الأيام وقد أقسم ذووه على أنفسهم وتفرقوا شيعاً وأحزاباً.
ولا تجد رأياً أو مذهباً في السياسة أو الاجتماع أو الأخلاق وإلا وقد تناولته يد البحث بالنقد والطعن والتجريح.
على أن التربية في المدارس الثانوية اقتصرت على تلقين الطلبة المعلومات العقلية البحتة ولا تعدو ذلك فالأخلاق التي تتكون في هذا الطور هي صلة مشوشة مضطربة ضعيفة الأثر بين العقائد القديمة المتوارثة وبين المذاهب الفلسفية الحديثة.(36/63)
فهل تعجب بعد ذلك إذا طرق الشبان أبواب الحياة وهم ضعفاء الإرادة قاعدو الهمة تسير بهم الحوادث رغم أنوفهم كيف شاءت.
لم يدر بهم أحد على الصبر وطول الأناة والتجرد من الهوى والغرض والنظر إلى الأمور نظر الباحث المشكك والشك أول مراتب النظر الفلسفي.
تضيق صدورهم عن قبول الآراء المستحدثة التي لم يألفوها لأن الغرور متمكن من نفوسهم فلا يكادون يفقهون أن ما يعملونه بالنسبة إلى ما يجهلونه كالقطرة بالنسبة للبحر أو الذرة إلى الصخر ولم يتشبعوا بالحرية الحقة ولم يتعودوا على تحري روح الحقيقة والتماسها في مباحثهم، تلك الروح التي تعيش في ظلها المذاهب المتضادة وتحيا تحت كنفها الآراء المتناكرة المتنافرة. بل تراهم يتعصبون لمذهب دون مذهب وينصرونه على ما عداه من غير ما تدبر ولا تفكير فيضلون سواء السبيل وتعجز مداركهم عن فهم المباحث الراقية أي عن خدمة الحقيقة.
والحقيقة أحق ما ينبغي على المرء أن يشد إليها الرحال ويبذل دون الحصول عليها نفسه ونفيسه لأن أقصى أمانيه أن يكون حراً والحرية لا تعدو معرفة الحقيقة وكشف الغطاء عنها.
فإن شئت أن تكون حراً فاجعل كل ما يصدر عنك من الأعمال مطابقاً لحقائق هذا الوجود.
ويتلخص مما تقدم أن الحرية تستلزم حتماً الوقوف على النواميس التي تسير عليها أمور هذا الوجود الظاهرة أو الباطنة وأن يطلع الإنسان على أسرار قوى نفسه أي معرفة ذاته ومن غير هذين الشرطين أي العلم بنواميس هذا الكون والعلم بأسرار قوى النفس يستحيل رقي شخصية المرء ووصولها إلى درجة الكمال.
ولا يتيسر الوصول إلى هذين العلمين إلا بالعمل والسعي بإدراكهما. وللعمل آثار على المرء إذا راقبها عن كثب واستطلع طلعها نفذ فكره من ذلك الحجاب الكثيف الذي يغطي أمياله ومنازعه المكتنة في أعماق نفسه وامتد نظره إلى ما وراء المعتقدات الشائعة والمؤثرات الناشئة من أحوال الناس وعاداتهم ومصطلحاتهم التي تقسر المرء على مجاراتهم من غير روية وتسدل على نفسه ذلك الحجاب الكثيف. فإذا نفذ فكره وامتد نظره إلى ما وراء ذلك تجلت له ذاتيته الصحيحة مجردة من كل شائبة.(36/64)
قال أيمرسون: إن الذي يجب علي أن أفعله هو ما يوحيه إلى وجداني وما أرى أنه صالح لشخصي لا ما يراه الناس أنه الأفضل والأولى بالإتباع. وهذه القاعدة على ما في تطبيقها من العناء والصعوبة سواء في ذلك الأمور العملية والشؤون العقلية هي بمثابة الحد الفاصل بين الهمة والمروءة وبين فتور العزم والنذالة.
فإن شئنا الاحتفاظ بشخصيتنا وأن نؤدي في هذه الحياة ما هو مقدور لنا وجب علينا أن ندرك تمام الإدراك نفوسنا وما تنطوي عليه من القوى فإنا إن جهلنا ذلك أصبحنا لعبة في أيدي الحوادث والطوارئ تعبث بنا وتقلبنا كيف شاءت وعدت علينا المعتقدات الفاسدة والأوهام الشائعة بين الناس فعطلت تطورنا نحو الكمال وتدرجنا في مدارج الرقي وحولت ذلك إلى وجهة غير التي تقتضيها طبيعتنا وأميالنا الأصلية الغريزية.
وأما إذا وقفنا على أسرار نفوسنا واطلعنا على حقائق هذا الكون الذي فيه نعيش وفي أرجائه نتخذ ميدان الحركة والعمل هان علينا أن نربي إرادتنا ونحكم نفوسنا وذلك بأن نهيئ الأسباب فتنتج حتماً نتائجها.
كذلك يفعل ربان السفينة: يعلم أن اللجة تحاول أن تبتلع سفينته في جوفها وأن الرياح تهب بغير ما يشتهي ويهوى فيهيئ من الأسباب والوسائل ما يضطر الأمواج أن تحمل سفينته طوعاً أو كرهاً والرياح أن تدفعها وتسير بها إلى بر السلامة.
وهذا العمل والسعي في إعداد الوسائل وتهيئة الأسباب القائمة على الروية والتفكير وإدراك حقائق الأمور لا تقتصر فائدتها على كشف ما في جوانب نفوسنا من الأميال والمنازع الأساسية الأصلية فقط بل أنها ترينا أيضاً بمرأى العين حقيقة الروابط الكامنة بين الناس في هذا العمران وتميط لنا اللثام عن القواعد والأصول التي تقدم عليها هذه الروابط. فاعلم أن وجود شخصية للمرء واكتمالها حتى يكون له قسط ونصيب من خدمة هذا المجتمع إنما يتوقف على ما لدى غيره من بني الإنسان من المدارك والصفات والأخلاق. وأن أقصى ما يبلغه من القوة في هذه السبيل تكون مطابقة لأكبر ما يكون بينه وبين أهل عصره من صلات التضامن والعدالة وعلى مقدار هذه الصلات والروابط تكون حالته بلا زيادة ولا نقصان.
وهذا العلم الذي يحصل للمرء تدريجياً ويتناول معرفة ما هو منطوٍ بين جوانحه من الأميال(36/65)
والغرائز، وتكوين إرادته وتكويناً قوامه الفهم والإدراك خاضعاً لأحكام ناموس العلة والمعلول أي أن الأسباب تنتج نتائجها، كل ذلك لا يتم إلا على شريطة الهدوء والسكينة حتى يكتمل المطلوب ويبلغ غايته. وإنه لمن أوجب الواجبات علينا أن نحرص كل الحرص على إبعاد كل ما من شأنه شرود الفكر وتبلبل البال وتقسم العقل، تلك العيوب التي خلفها في نفوسنا التعليم في المدارس حتى كأن الغاية التي ترمي إليها برامج التعليم ومناهجه هي الإحاطة بجميع المعارف البشرية في أقصر زمن ممكن. وكذلك يجب علينا أن لا نكد أنفسنا ونجهدها في قراءة ما لا يفيد ولا يثمر بل يلهي الذهن ويشغل العقل على غير طائل ولا جدوى. وأن نتجنب جهد طاقتنا المشاغل الكاذبة والقلق والاضطراب التي هي من مستلزمات الحياة في هذا العصر وكما أن السائل إذا أذيبت فيه بعض الأملاح وترك ساكناً من غير تحريك رسبت فيه بعد زمن أجرام متبلورة لطيفة الشكل فكذلك الإنسان إذا استجمع نفسه وظل ساكناً هادئاً تكونت شخصيته شيئاً فشيئاً وتولدت في نفسه ملكات راسخة من الحزم والعزم والإقدام.
الباب الأول
تمهيدات
الفصل الأول
ما هو ضعف الإرادة وأشكاله المختلفة لدى
طلبة العلوم والمشتغلين بأشغال عقلية
كان كاليجولا أحد طغاة ملوك الرومان يود لو تجتمع رقاب عداته في رقبة واحدة فيحزها بضربة بكر من سيفه. أمنية حمقاء كما ترى تشف عما وراءها من ضعف الإرادة فضلاً عن أنها لا ترد ولا تجدي.
وأنت فإذا استقصيت أسباب ما يعرض للمرء من الخيبة والفشل فيما يحاول من المطالب وما يلحقه من جراء ذلك من الويلات والخطوب لرأيتها تحور جميعها إلى سبب واحد هو ضعف إرادته وسقوط همته وفتور عزيمته وخوفه من عناء السعي والجد.
شطر المؤلف كتابه هذا إلى شطرين الشطر الأول القسم النظري وهذا هو الباب الأول منه
(1) قال أبو تمام:(36/66)
من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا
واستنامته إلى الأحلام والأماني فيما ينشد، وجزعه من الشقة وبعد الشقة. إن المطالب لا ينالها إلا بعيد الهمة، ذاك الذي يبذل في سبيل غرضه الجهد يعقبه الجهد لا يثنيه حب الراحة ولا يلويه عن قصده المجاشم وطالما كان الكسل عقبة كأداة في سبيل إدراك ما يبتغيه المرء لأنه يجذبه إلى الراحة كما تجذب خاصة الثقل الأجسام نحو الأرض.
ولا يمكن أن يقوم في وجه الإرادة ويعرقل سيرها ويشل حركتها ويخمد جذوتها إلا قوة ثابتة مستمرة. فإن قيل أنها الشهوات قلنا أن الشهوة من طبيعتها سريعة الزوال فلا تثور حتى تسكن بل إنها كلما اشتدت كانت أسرع إلى الهمود والخمود اللهم إلا في بعض أحوال شاذة تستبد فيها الشهوة الإنسان وتتسلط عليه فتكون شغله الشاغل آناء الليل وأطراف النهار وهذه الحالة قريبة من الجنون. فإذا تقرر ذلك وكانت الشهوة ليست دائمة البقاء فلا يصح اعتبارها من العوائق الكبرى في سبيل الإرادة وقد يستطيع صاحب الشهوة في أثناء ركودها وسكونها أن يأتي بأعمال كبيرة ويقوم بمهام عظيمة.
أما العقبة الكبرى في سبيل الإرادة فهي حالة نفسية طبيعية ذات آثار فعلية بادية للعيان تسمى الكسل أو قعود الهمة فكلما حاول الإنسان مجهوداً في عمل من الأعمال كان عليه أن يقاوم هذه الحالة النفسية الثابتة ويشهر عليها حرباً عواناً وربما لا يكون الفوز مضموناً فيما يحاوله من التغلب عليها وقهرها.
وإنما قلنا أن هذه الحالة النفسية طبيعية لأن الإنسان في مبدأ الخليقة لم يندفع إلى العمل والسعي إلا بعد أن استحثته الحاجة وساقته إلى ذلك مكرهاً. ولقد أجمع رجال الأسفار ممن جابوا الآفاق ودرسوا حالة الأمم الهمجية على أن هذه الشعوب مرتطمة في حمأة الخمول والكسل ولا يبدو منها ما يدل على أنهم يبذلون أي مجهود. وقد أصاب الموسيو ريبو في قوله أن قوة الانتباه الإرادي لا بد أنها أول ما ظهرت كان ذلك لدى نساء الأمم الهمجية لأن الرجال كانوا يحبسون نساءهم ويكلفونهن القيام بشاق الأعمال بينما هم يتفيأون ظلال الراحة والكسل.
ولماذا نذهب بعيداً وننظر إلى الماضي وأمامنا اليوم زنوج أمريكا يبيدون وينقرضون يوماً بعد يوم ولا يحرك ذلك عزائمهم ويستحثهم على معالجة أي عمل يعود عليهم بالسعادة(36/67)
والثراء.
ومن الشواهد على ما نذهب إليه أيضاً ما نعانيه من قسر الأطفال على المواظبين على عمل من الأعمال. وأنظر إلى الصناع والزراع فهل نجد منهم من حاول إتقان عمله وابتكر فيه من ضروب الإيجاد ما لم يسبقه إليه أحد ألا تراهم محتذين حذو من تقدمهم مقتفين آثارهم ناسجين على منوالهم. وإذا استعرضت في ذهنك جميع ما نستعمله في بيتك من آنية وغيرها لرأيت أكثرها خداجاً ناقصاً وأنه لو كان بذل في سبيله شيء من الجهد العقلي لكان أوفى بحاجة الناس مما هو الآن وأدنى إلى الغاية. إذا تبين لك ذلك أدركت صدق ما قاله الفيلسوف هزبرت سبنسر في هذا المعنى: يخيل إلى أن الناس جعلوا وجهتهم أن يقضوا هذه الحياة من غير أن يبذلوا في سبيلها من الفكر إلا أقل ما يستطيعون، نعم فإننا إذا رجعنا إلى ماضي حياتنا وتمثلنا بذاكرتنا أيام المدرسة لما وجدنا بين رفاقنا جميعاً من كان يكد ذهنه ويأتي بما يدل على جهد عقلي بل كان أكثرهم يعتمد على ذاكرته في استظهار بعض ما يمكنه من النجاح في الامتحانات. وعندما ينتقلون إلى المدارس الخصوصية يزداد نفورهم من كل درس يحتاج إلى أعمال الفكر والروية وكل آمالهم ومطمح أنظارهم اجتياز الامتحان بإجهاد الحافظة ثم بذل ما في وسعهم لنيل وظيفة في إحدى المصالح يرتزقون منها ولا يتطلعون إلى ما هو أبعد من ذلك غاية ولا يطمحون إلى معالي الأمور. ولقد أجاد الموسيو رنوفيه كل الإجادة في وصفهم حيث قال:
إن الذي يتطلع إليه الشباب ويجعله قبلة آماله وظيفة يحصل عليها قليلة لأجر قليلة لا احترام ولا مستقبل لها ولا أمل في التدرج منها إلى ما هو أرفع. تمر الأيام وتكر السنون ولا يزال حتى يدركه الهرم وهو على كرسيه معنى بأعمال عادية تافهة ويرى في كل يوم انحطاط قواه عقلاً وجسداً ولكنه يروح عن نفسه بالانصراف عن كد الذهن وإجالة الرأي والتصرف في الأمور لأن النظامات واللوائح أغنته عن ذلك وحددت حركاته وأعماله وجعلتها على مثال آلة الساعة في وقتها وانتظامها وأغنته عن مشقة السعي والحياة الحقيقية
على أنا لا نلوم الموظفين وحدهم وننعي عليهم هذا النقص الذي أشرنا إليه فإن المهن الأخرى مهما تكن درجتها من الرفعة والسمو لا تكفي لحفظ شخصية صاحبها ولا تضمن له قوة إضافته واستقلال رأيه فإن المرء أول ما يمارس عملاً من الأعمال يجهد عقله في(36/68)
المران عليه للإحاطة بدقائقه وخفاياه ثم لا يمضي حين من الدهر حتى يقل عدد ما يعرض له من الأمور التي تتطلب درساً وبحثاً وتنقيباً وحيلةً واستنباطاً. حتى المهن السامية التي يرى من ظاهرها أنها تحتاج إلى أجهاد عقلي عظيم لا تلبث أن تصير بالمران والاعتياد أمراً يسيراً لا كلفة في أدائه ولا عناء. فالمحامي والقاضي والطبيب والأستاذ يعتمدون في ممارسة أعمالهم على معلومات اكتسبوها ولا يجدون في إنمائها إلا في القليل النادر لأن ميلهم إلى بذل المجهودات يقل سنة فأخرى فتضعف من جراء ذلك وظائف العقل كالانتباه والتروي والاستنتاج بسبب قلة المسائل التي ترد عليها وتحتاج في حلها إلى وظيفة من تلك الوظائف العقلية. فإذا لم يجد الإنسان في أن يجعل لنفسه بجانب مهنته أو وظيفته عملاً عقلياً يشغل به نفسه ويشحذ به قوى عقله كان جديراً بالوقوع فيما ذكرناه من العيوب فيخبو ضوء ذكائه وتخمد نار عزمه.
ولما كان هذا الكتاب قد ألفناه خصيصاً لطلبة العلوم وللمشتغلين بأشغال عقلية كان خليقاً بنا أن نشرح الأشكال المختلفة لهذه الحالة التي يجب مقاومتها بكل قوة. فأصعب الأشكال مراساً وأشدها بأساً انحلال عزيمة الشاب وسأمه وكلال نفسه وهي الصفات التي تبدو جلياً في جميع حركاته، ينام نوماً طويلاً ثم يقوم متكسر الأعضاء مسترخي العزم فاتر الهمة لا يرى لذة في أداء أي عمل من الأعمال حتى لا تقرأ سأمه في وجهه، ينهض متثاقلاً متثائباً لتنظيف وجهه وارتداء ملابسه فيقطع في ذلك وقتاً طويلاً ثم يتناول طعام الفطور ويتوجه في التو والساعة إلى القهوة حيث يقرأ الجرائد اليومية ويتصفحها جميعها ولا يفوته منها كلمة واحدة حتى ولا إعلاناتها ذلك لأن مثل تلك القراءة تقطع وقته ولا تتطلب منه عناءً ولا جهداً. ويعود إليه شيء من النشاط آخر النهار ولكنه لا يغتنم فرصة ذلك النشاط فيثب إلى عمل ذي شأن بل يصرف الوقت في أحاديث لا فائدة منها ومناقشات عقيمة سقيمة في نقد الناس وتجريح أعمالهم وإظهار معائبهم لأن كل كسول حسود ولا يكاد يسلم من لسانه أحد من رجال السياسة أو العلم والأدب ثم يذهب إلى فراشه منقبض الصدر وإن كان قد قضى سهرته في اللهو واللعب ولكنه له مشوب بالانقباض وضيق الصدر لأن اللذة لا تنال إلا بالتعب والراحة لا تدرك إلا بالكد والعناء.
من أنواع اللهو واللذات ما هو مباح ومفيد كقراءة الكتب النافعة وزيارة المتاحف(36/69)
والرياضة في الغابات فإنها لذات لا تبرم بها النفس أبداً وفي وسع الإنسان أن يعود إليها كلما أراد ولكن الكسول لا يعرف الطريق إليها والاستفادة منها والاستمتاع بها لأنه في شغل عنها بلذات أخرى تجعل حياته خالية من كل معنى. وبالأعراض عن تلك اللذات النافعة تفلت من يده لأنه لا يعرف كيف يقبض عليها بكفه. ولقد صور سان جيروم هذا الكسول فقال إن مثله مثل الجندي الذي صور شاهراً سيفه فإنه يظل طوال حياته رافعاً سيفه في الهواء لا يهوي به. كذلك الكسول تتردد الأماني والرغائب في إنحاء نفسه ولا يستطيع تحقيق شيئ منها ما بقي حياً.
عاى أن الكسل الطبيعي المغروس بالفطرة في النفس لا يمنع من أن تهب النفس أحياناً وتندفع إلى العمل بقوة وعزيمة. فليست المجهودات العنيفة هي التي تجزع منها الأمم الهمجية بل العمل المذكور المتكرر والثبات والدأب لأن ذلك يستنفد من القوة ما لا تستنفده المجهودات الشديدة. ولعمري أن إنفاق الأموال القليلة التافهة يربى مع الإستمرار والتكرر على المقادير الطائلة التي تنفق مرة ثم يعقب ذلك إمساك وشح. فالكسالى يصيرون على كل نضال يفتقر إلى جهد عنيف مؤقت تعقبه راحة وسكون. ولقد أسس العرب دولة واسعة الأطراف غير أنهم لم يستطيعوا الإحتفاظ بها نظراً لما ينقصهم من أخلاق الثبات والدأب في بذل المجهودات لتنظيم إدارة تلك البلاد التي افتتحوها وإنشاء الطرق بها وتأسيس المدارس وتعضيد الصنائع. وكذلك ترى الكسالى من طلبة المدارس عندما يقترب موعد الإمتحان يأخذون في مراجعة دروسهم بقوة وعزم ولكن الذي يزعجهم ولا يستطيعون إليه سبيلا هو الدرس المعتدل المنتظم المتكرر في كل يوم وليلة مدى عدة شهور وأعوام. لا طاقة لهم بمتابعة هذه لخطة المثلى، يسترسلون في خمولهم وكسلهم ثم يهبون دفعة واحدة عند اقتراب الإمتحان.
فالعزيمة الحقة ذات الآثار النافعة إنما تنحصر في المجهودات المعتدلة المستمرة المتكررة، وكل عمل يخرج عن هذا الضرب من المجهود من المجهود يعد من أعمال الكسالى. ثم إن كل عمل مستمر يستلزم بالضرورة وجهة له أو غاية معينة. فليس إذن في تعدد الأعمال التي يقوم بها المرء وكثرتها ما يدل على قوة إرادته بل الإرادة الصحيحة تكون بتوجه العقل بجميع وظائفه وقواه إلى غاية واحدة. وإنا واضعون لك نوعاً من أنواع الكسالى تجده(36/70)
أينما سرت: تري شاباً يلوح عليه النشاط وتترقرق في محياه البشاشة والعزم ويندر أن تراه غير منهمك في عمل من الأعمال تجده في يوم واحد قد قرأ رسالة في علم طبقات الأرض وفضلاً في النقد الأدبي وتصفح بعض الجرائد وألقى نظرة على بعض المحاضرات وكتب مقالة في بعض مسائل العلم والفلسفة وترجم قطعة من اللغة الإنكليزية فتعجب بذلك الشاب كما يعجب رفاقه غاية العجب بمقدرته وعزيمته على الإتيان بكل هذه الأعمال الكثيرة المتنوعة على أننا لا نعده إلا كسولاً لأن هذه الأعمال المتنوعة لا تعد في عرف العلوم النفسية إلا دليلاً على بقاء الذهن على حالته الطبيعية الغريزية وعدم ارتقائه إلى درجة الإنتباه الإرادي حيث يكون لسلطة الإرادة يد في توجيهه حيث يرخي الخير والمنفعة. وهذه المقدرة العجيبة على الإتيان بأعمال متنوعة متعددة ليست إلا ضعفاً في الإرادة وهذا الشاب الذي وصفناه نوع من أنواع الكسالى وهو نوع نسميه النوع المشتت الذهن نعم إن تنقل الذهن بين هذه الأعمال المتنوعة والفنون المختلفة يلذ العقل ويروح عن الخاطر ولكنه لا يعد إلا نزهة لذيذة فقط أي لا منفعة فيها ولا ثمرة لها. ولقد شبه نقولا أولئك الذين يتنقون بين الأعمال المتنوعة من غير أن يستقروا على حال بعقول الذباب وقد شبههم فنيلون بشمعة تضيء مكاناً معرضاً لهبوب الرياح من كل جانب.
وأكبر عيوب توزع قوى العقل في مجهوداته وتشتتها أنها لا تدع للفكرة أو العاطفة من الوقت ما يكفي لاكتمالها ورسوخها في قرارة النفس وبذلك تمر كل فكرة بالذهن مروراً لا تستقر حتى ترحل ولا تسلم حتى تودع كأنما هي مسافر نزل في فندق ثم زايله ورحل عنه في التو واللحظة.
وبذلك تظل الأفكار والعواطف والوجدانات غريبة عنا وليست منا فلا تلبث أن تهمل في زوايا النسيان. أما العمل العقي الصحيح فإنه يتطلب حتماً توجيه القوى العقلية في طريق واحد كما سنرى ذلك مفصلاً في الفصل الآتي.
وهذا النفور من المجهود الحقيقي أي من ربط جميع القوى العقلية وتوجيهها جميعاً إلى غاية واحدة واضحة يزداد صعوبة ويشتد بنسبة افتقار المرء إلى مجهود ذاتي فإن الفرق شاسع بين إتيان عمل مبتكر واستنباط وسائله واختراع السبيل إلى إيجاده جديداً لم يسبق له نظير وبين شحن الذاكرة بنتائج العقول وآثارها ومبتكرات الأذهان وأثمارها فإن لأول(36/71)
مفتقر إلى مجهودات متعبة مضنية والثاني عمل هين يسير لا كلفة فيه ولا عناء.
كل عمل فيه اختراع وإنشاء فقوامه هذان الأمران معاً أي توجيه قوى العقل إلى غاية واحدة وربط بعضها ببعض ويدلك على أن ذلك شا قمتعب جزع أكثر طلبة المدارس العليا من كل عمل من هذا القبيل وهم الذين سيكونون في مستقبل أيامهم الطبقة الرقيقة التي يلقى على عاتقها تدبير الأمور بالحكمة وسداد. أنظر مثلاً إلى طلاب الفلسفة ترهم أنجب الطلاب وأوفرهم ذكاء وأشدهم مواظبة وتشميراً في تحصيل دروسهم على أنهم لا يسلمون من ذلك العيب الذي أشرنا إليه وهو الخمول العقلي ووقوفهم في تحصيل الفلسفة عند حد الألفاظ وحده دون أن ينفذوا إلى المباحث التي تنم عن أعمال الطالب فكرته. ومثال ذلك أنهم عند دراسة علم النفس لا يخطر ببال أحدهم أبداً أن كل إنسان في الحقيقة مشتغل بهذا العلم على وجه عملي وأن مظاهر قواه النفسية من أفكاره ووجدانات وازدادت تتجلى في كافة حركاته وسكناته طول حياته. هل خطر ذلك لأحدهم فعمد إلى نفسه يراقبها ويميز خطرات فكره وخلجات وجدانه فيستنبط منها ما يصلح أن يكون شاهداً ومثالاً للنظريات التي هو متوفر على دراستها وألا تراهم يقتصرون كلهم في ذلك على المثل والشواهد المذكورة في الكتب التي بين أيديهم. إنهم إلى الإستظهار أميل منهم إلى البحث وهذا العبء الثقيل الذي يبهظون به ذاكرتهم لا يخيفهم ولا يزعجهم كما يزعجهم بذل أقل جهد ذاتي فهم يتأثرون بغيرهم وليس لهم أثر صدر عن أنفسهم اللهم إلا بعض أفراد منهم يشذون عن رفاقهم فتراهم أذكى فؤاداً وأمضى عزماً ولكنهم أفراد قليلون.
ومما يدلك على نفور الطلبة من بذل أي مجهودات ذاتية تلك الإختبارات التي تجري كل ثلاثة أشهر لمسابقة الطلبة في الحصول على درجة الأول في فرقته فإن أكثر الطلبة يرهبونها ولا تقع موقعاً حسناً من أفئدتهم ذلك لأن تلك الإختبارات وإن كانت لا تضطرهم إلى مجهودات شخصية إلا أنها عبارة عن إنشاء موضوع جديد مادته الدروس المتفرقة التي تلقوها وتشترط فيها سهولة التراكيب ووضوحها وفي ذلك من الكلفة عليهم ما فيه.
ينتقل الطالب الذي مني بهذا الفوز من العمل الذاتي إلى المدارس العليا ومعه هذا الفوز، وذلك لأن الكسل العقلي لا يحول بينه وبين التدرج من مدرسة إلى أخرى أرقى منها إذ لا يعبأ أحد من الممتحنين يقيمة الطالب الحقيقية ومقدار كفاءته الذاتية بل كل ما يعنى بشأنه(36/72)
هو الذاكرة وما هي عليه من وفرة المعارف المكتسبة أو قلتها. ولو سألت طالباً ذكياً مفكراً من طلبة الطب أو الحقوق أو العلوم الطبيعية أو التاريخ لصرح لك بأن المجهودات الشخصية التي يبذلونها في تحصيلهم والتي تفتقر إلى أعمال الفكر والروية أقل من القليل بالنسبة لمجهودات الحافظة لذلك يعجب الإنسان من تفشي هذا العيب عيب الخمول العقلي حتى لدى العلماء وهو خمول تستره الظواهر الباهرة من تأليف المؤلفات الضخمة وتكلف العناء البالغ في سبيل جمع مواردها والتأليف بينها فيعجب الرائي كيف يرمي من هذه معارفه وهذا عمله بالخمول العقلي والجواب على ذلك يسير فإن الكمية لا تقوم مقام الكيفية بل كثيراً ما تكون كمية العمل عائقة عن إبلاغه الدرجة المرومة من ألغجادة والكمال والإتقان وفرق كبير بين من يجمع بين أقوال غيره وبين من يبتكر ويبتدع. يهزأ أصحاب الإطلاع الواسع بالفلاسفة وهم أنفسهم خليقون أن يشبهوا بالجرذ الذي أضحى بين الأدباء كناية عن سعة الإطلاع وبيان ذلك أنهم زعموا أن جرذاً رأى يوماً موقداً فيه بعض الثمرات تشوى على الجمر فكلما مد يده وحاول أن ينال من تلك الثمرات وهي مستورة بالرماد لذعته النار. وما زال يعالج هذا الأمر حتى وفق إلى أخذ واحدة ثم ثانية تلتها ثالثة.
فهذا مثل المنقطعين إلى الإطلاع: يبدأون عملاً ويأخذون في الجد في إتمامه فإذا أعياهم البحث وأنهكهم التعب كفوا ثم عادوا بعد قليل إلى سيرتهم الأولى. معتمدين في عملهم هذا على الكتب والرسائل التي دونت في الموضوع الذي يعالجونه وليس أن تبتدع أو تنشئ شيئاً جديداً. نعم إن العقل قد يستفيد من هذه المطالعة ولكنه يضيع كثيراً من مضائه ونفاذه إلى صميم الحقائق.
ولعل الزمن الآتي يحقق آراء الفيلسوف رينان في مستقبل العلوم التي هي لمحض الإطلاع فحسب. فإن تلك العلوم فضلاً عن حقارة نتائجها وكثرة ما فيها من الخطأ والخلط والتناقض سوف يأتي زمن لا تقوم فيه لها قائمة ولا تروج لها سوق. وإليك مثالاً لذلك الكتب التي تؤلف وتهدى في كل عام إلى المكتبة الأهلية بباريس فإنها تبلغ عشرين ألف مجلد عداً. فإذا أطرد ذلك فقد اتمضي خمسون عاماً حتى تربى مجموعة الكتب الموجودة في عهدنا الحاضر على ألف ألف مجلد، عدا الجرائد والمجلات والنشرات الدورية وهو عدد عظيم من الكتب حتى لو ركمت فوق بعضها لأربى علوها على قمة الجبل الأبيض. فكيف يمكن(36/73)
أن يحتوي التاريخ بين دفتيه على أسماء الأعلام بل لا بد أن تمحي منه شيئاً فشيئاً ولا يذكر فيه غير الحوادث الإجتماعية الكبرى على أن تلك الحوادث نفسها مثار للغرض والهوى والظن والتخمين في أسبابها وفي نتائجها. وليس في مقدور الإنسان أمام هذه المواد الكثيرة الهائلة أن يحيط بها علماً ويقال عندها أنه واسع الإطلاع. أما أصحاب العقول المستنيرة الرشيدة فلا يرون في هذا العمل إلا عملاً آلياً بحتاً وهو الرجوع إلى المعاجم ودوائر المعارف والسجلات والكتب وذلك كله ليس من الأعمال العقلية في شيء لأن الأعمال العقلية إنما تنحصر في أعداد المواد اللازمة لبناء فكرة من الأفكار وتجنب كل تفصيل تافه ليس له شأن في تركيب بنيتها. وإنشاء موضوع هو تصوير روحه وجوهره تصويراً واضحاً للعيان وترك التفاصيل التي تشوه الحقائق. ومن تأمل بعين الناقد البصير لرأى أن تلك الحواشي والتفاصيل تسربت إلى الموضوع على غرة من العقل أثناء اشتغاله وكده في البحث وعنائه في الإستنتاج والإستنباط لما هو مغروس في الطبيعة البشرية من الخمول العقلي: تستريح المفكرة وتغفو غفوة فتمدها الحافظة بما هو مخزون فيها.
نقول والحسرة ملء فؤادنا أن مناهج التعليم الموضوعة في أيامنا هذه تزيد في هذا الخمول العقلي في شدته وتثقل في وطأته حتى كأنما يراد بها تخريج تلاميذ مشتتي الأذهان بتكليفهم بأن يلموا بكل شيء إلماماً ويمروا به مروراً من غير أن يعلق بعقولهم منه شيء أو يتسع الوقت لتمنعهم في الدرس والبحث لسبب ما فرضته تلك المناهج من المواد الكثيرة المتنوعة. وإن للطالب أن يفقه عنهم طريقة التعليم هذه وهي تهدم من نفسه كل قوة للإستنباط وكل إرادة في العمل الجدي.
لقد أتى زمن على المدفعية الفرنساوية كانت فيه ضعيفة فزيدت اليوم عشرة أضعاف قوتها. كانت القنبلة في الزمن القديم تنفجر عندما تصدم الهدف فلا تصيبه بكبير أذى. أما اليوم فقد اخترعوا آلة خاصة تدفعها إلى الإستمرار في السير بضع ثوان بعد اصطدامها بالهدف لتغلغلها في أحشائه وتمكنها من جوانبه ثم تنفجر فتسحقه سحقاً ولا تبقى فيه ولا تذر. ولقد نسوا في طرق التربية أن يخترعوا للذهن آلة تدفعه إلى الإمام حتى يتمكن من المعلومات وكان القائمين بأمور التربية يقولون للعقل: أتريد أن تقف؟ كلا. كلا. لا بد لك من الجد في السير. فيقول لهم: ولكنني لم أع شيئاً مما قرأت وتلك الوجدانات التي تولدت لدي من(36/74)
القراءة ما كادت تمر بي مروراً حتى ذهبت وأمحي أثرها فأصبحت أثراً بعد عين. فيقال له: لا بأس. لا بأس. لقد مضى عليك أيها المسكين أن تظل سائراً لا تلوى على شيء ولا نصيب لك من الراحة. لا بد أن تمر على الرياضيات والطبيعية والكيمياء وعلم الحوانات والنباتات وطبقات الأرض وتاريخ جميع الأمم وتخطيط البلدان ويجب أن تتعلم لغتين أجنبيتين وتدرس أدبيات بعض الأمم وتدرس علم النفس والمنطق والأخلاق وما وراء الطبيعة وتاريخ المذاهب الفلسفية. فسر في طريقك فإنك صائر إلى حالة من أتعس الحالات وعادة من أقبح العادات وهي الإطلاع على كل شيء إطلاعاً سطحياً لا تنفذ منه إلى بواطن الأمور وتعرف كنهها وتكون عرضة للإنخداع بالظواهر.
وليت الطلبة بعد خروجهم من المدارس والتحاقهم بالجامعات يتئدون في سيرهم الحثيث بل يسيرون أيضاً بخطى واسعة وبعض فرق من الجامعة أعجل في سيرها وأبلغ في غوائلها من الآخرين.
أضف إلى هذا القلق الذي تولده الدراسة ما تبعثه الحياة في عهدنا الحاضر في أنفسنا من الآثار السيئة فإنها تشتت الذهن وتبلبل الأفكار على صورة لا مفر للإنسان منها ولا طاقة له بالخلاص منها فإن سهولة النقل وكثرة الأسفار في البر والبحر والتنقل بين السهول والجبال والأنجاد والأغوار كل ذلك يلهي الذهن ولا يدع للمرء متسعاً من الوقت لقراءة ما يفيد أو التفكير فيما ينفع حتى يحق لنا أن نقول أننا نعيش عيشة مضطربة لا خير فيها أو عيشة كثيرة الحركة قليلة البركة.
والصحف اليومية بما لها من الأساليب الشائقة التي تستهوي النفوس وتجتذبها إلى ما يقع من الحوادث في كافة بقاع الأرض استمالت أكثر الناس إليها وجعلتهم يفضلون قراءتها والإستمتاع بأحاديثها على قراءة الكتب القيمة المفيدة.
فكيف يمكن اجتناب تشتت الذهن الذي يولده الوسط إذا لم تتخذ العدة اللازمة لدفعه ودرء شره بواسطة التربية ولكن أين الإهتمام بتربية الإرادة إذا كان لم يفكر أحد من القوام على الناشئة في وسائل إنمائهاوتقويتها بل لم يجعلوها غرضاً مقصوداً وإنما جعلوها واسطة يستعين بها الطالب على الجد في تحصيل دروسه فإذا انقضت لبانته واجتاز الإمتحان عادت قوة إرادته إلى الخور وعزيمته إلى الضعف.(36/75)
تزعم المدارس أن مهمتها تقوية عقل التلاميذ لاكتساب شتى المعلومات فلا تسعى في تقوية إرادتهم إلا على قدر ما هو لازم لكسب تلك المعارف ومن الوسائل التي نستعين بها في هذا السبيل تأنيب الأستاذ تلميذه سراً أو علانيةً والثواب أو العقاب وغير ذلك من الآلات التي تستخدم للوصول إلى شحذ همة الطالب واستفزازها إلى الجد والإجتهاد.
ولكن ليت شعري ماذا يكون حال الطالب في غده عندما لا يرى شيئاً من تلك الوسائل لا يرغب في ثواب ولا يرهب عقاباص ولا هو خاضع لمؤثر من تلك المؤثرات التي تبعثه على الجد.
لقد ضل أولو الأمر في مسائل التربية سواء السبيل إذ جعلوا جل عنايتهم بالحاضر وغفلوا عن المستقبل فلم يحسبوا له حساباً وكان خليقاً بهم أن يحفلوا بتربية الإرادة ويجعلوها تربية صحيحة دائمة البقاء لا أن يمحوها بالصناعة قوة عارضة لا تلبث أن تزول متى تغيرت الأحوال وتبدلت الأمور.
لا يبقى للطالب في المدارس العليا من دواعي الجد والمثابرة في التحصيل غير تلك الأمنية التي تتلجلج بين جوانحه وهي اجتياز امتحان الليسانس في الحقوق أو الدبلوم في الطب وهي إجازات قد يصل إلى إحرازها أبلد التلاميذ وأكثرهم خمولاً فترى مما تقدم أن ليس لتربية الإرادة نصيب وافر من الإهتمام مع أن قوة الإرادة أو العزيمة هي كل شيء في الإنسان وهي التي تجعل له قيمةً وشأناً ولولاها لظلت أجل المواهب وأسنى الملكات عقيمة لا تثمر ثمراتا بل الإرادة هي التي دفعت الإنسان إلى إبراز ما تم على يديه من جلائل الأعمال وعظائم الأمور.
من العجب أن يقول كل إنسان في نفسه ما نحن قائلون الآن وما من أحد إلا ويتألم ويشكو من شدة الإهتمام بتثقيف العقل وتربيته بأنواع العلوم والفنون وإهمال الإرادة وتركها ضعيفة خائرة. ولكن مع هذا الشعور العام بشدة الحاجة إلى تربية الإرادة لم يعن أحد للآن بتأليف كتاب واحد في هذا الموضوع الخطير. لذلك أخذنا على عاتقنا تأليف هذا الكتاب بأسلوب لم يسبقنا إليه أحد ولم نكن فيه من المقلدين.
سل بعض الطلبة الذين اشتهروا بفتور همتهم وغفلتهم عن الإهتمام بواجباتهم والجري وراء اللعب واللهو وقل لهم ما هذا وما الذي أدى بكم إلى هذا الحال يجيبونك جميعاً بما(36/76)
معناه: كان أساتذتنا بالأمس يحددون لنا الدرس الذي يلزمنا حفظه يوماً فيوماً بل ساعة فساعة فكان الأمر بذلك واضحاً لنا محدوداً لا لبس فيه، نعلم مثلاً أي فصل من التاريخ يجب درسه وما هي النظرية الهندسية التي يجب علينا تفهمها والقطعة التي تجب ترجمتها وفضلاً عن ذلك فقد كنا مسوقين إلى الجد في التحصيل رغبةً في المكافأة تارةً ورهبةً من العقاب تارةً أخرى وكانت المباراة والمسابقة بين التلاميذ دافعاً لنا إلى التشمير في العمل. أما الآن فلا شيء من ذلك كله فنحن نتصرف في أوقاتنا كيف شئنا ولما كنا لا ندري كيف نحسن توزيع الأعمال التي لدينا حسب الأوقات كما أن طريقة التلقين ليست مطابقة لجهلنا من الضعف فقد صار مثلنا مثل من يلقى في الماء وهو لا يعرف السباحة غير أنه تمنطق بمنطقة النجاة. وإنا لخليقون على ذلك أن نكون من الهالكين. لقد جهلنا كيف نشتغل وكيف نريد بل لا ندري ما هي الوسائل التي بها تربي إرادتنا بأنفسنا إذ لا يوجد كتاب عملي ألف في هذا الموضوع نستعين به ونسترشد بنبراسه. لذلك ترانا مرغمين على الخضوع لما جرت به المقادير ولم نعد نشعر بأننا قد ألقينا سلاحنا واستسلمنا وتركنا الجهاد للخلاص من هذا المأزق المتضايق ولكن ما أشده ألماً لنفوسنا وما أسوأ وقعه في قلوبنا ومما يزيد الحال ضغثاً على أبالة التردد على القهاوي والحانات ومعاشرة خلان السوء الذين يميلون إلى اللهو وقطع الأوقات في المسرات. وهكذا تنقضي أوقاتنا واليوم خمر وغداً أمر.
فهذا الذي يشكو منه الطلبة هو الذي حدا بنا إلى تأليف هذا الكتاب فلعلهم يجدون ضالتهم ويهجمون منه على حين طيب.
الفصل الثاني
الغاية التي ننشدها
أهملت مناهج التعليم مسألة الإرادة ولكن ذلك الإهمال لم يمنع الناس كافة من الإعتقاد بأن قيمة المرء على قدر همته وقوة إرادته وإجماعهم على احتقار الرجل الضعيف وإهمال شأنه ولما كانت قوة إرادة الإنسان إنما تقاس بمقدار ما يصدر منه من المجهودات في أعماله فلذلك ترى كل واحد يتظاهر بكثرة الأعمال التي يقوم بها ويغلو في ذلك إلى حد بعيد وإنما يقول ما لا يفعل ويدعي ما ليس فيه لعرفانه ما لقوة الإرادة من المقام الرفيع في عيون الناس. يقول ذلك وهو بمأمن من أن تذهب لزيارته في مثل تلك الساعة بمثل ذلك(36/77)
البكور للوقوف على صدق ما يقول. حتى إذا عرض لك أن نزوره يوماً عند الساعة الثامنة نجده لا يزال راقداً في فراشه فيعتذر حينئذٍ لك بأنه قضى سهرة الأمس في شهود التمثيل أو في ليلة ساهرة أحياها بعض الرفاق ولذلك لم يتمكن من القيام مبكر كعادته منذ الساعة الرابعة وهكذا يعتذر بمثل تلك المعاذير كلما يتفق لك أن تزوره في مثل تلك الساعة ثم ينتهي أمره بالخيبة والفشل في كل أمر يحاوله.
أكثر الطلبة يكذبون على غيرهم في موضوع الجد والإجتهاد والمواظبة على الدرس وكلهم يكذبون على أنفسهم ويغالون في تقدير أعمالهم ويدعون أنهم أكفاء لا يعوزهم الصبر على عناء الدرس والبحث وحل معضلات المسائل. فهذه الأكاذيب كلها دليل ساطع على ما يعتقدونه اعتقاداً صحيحاً من أن قيمة المرء بعمله وجده ولو عورض أحدهم فيما يزعمه ويدعيه وقيل له أنه ضعيف الإرادة لا صبر عنده على مواصلة الكد في الدرس والتحصيل لاعتبر هذا القول إهانة لشخصه وتحقير لشأنه. وله الحق في ذلك لأن إنكار قوة إرادته معناه أنه ساقط الهمة فاتر العزم عاجز عن متابعة الجهد بالجهد ومواصلة السعي بالسعي لترقية عقله وتثقيفه وتهذيبه حتى يسمو عن طبقة العامة ويلتحق بطبقة الخاصة. ولعمري أن من كان هذا شأنه فقد قضى عليه أن يظل حقيراً طوال حياته لا أمل له أبداً في صلاح حاله.
وهذه الإعتقادات تدل ضمناً على وجود رغبة صحيحة لدى الطلبة في العمل والتشمير فيه ولكنها رغبات وأماني تجول في أنفسهم ولا يستطيعون تحقيقها وإبرازها إلى حيز الوجود. فهذا الكتاب سيكفل للطالب بيان الأساليب التي بها يحول تلك الإرادات المتزعزعة التي تجول في نفسه إلى عزم صادق شديد دائم البقاء ثم ينتهي بأن يصير عادة ثابتة وطبعاً راسخاً في النفس لا يمكن إقتلاعه منها.
وإذا ذكرت الأعمال العقلية في سياق الحديث فإنما المقصود بها إما دراسة أحداث الطبيعة أو مبتكرات العقول وثمرات الفنون، وإما محاولة إبراز شيء جديد يخترع اختراعاً وتبتدعه القريحة ابتداعاً، وأعلم أن كلا الأمرين مفتقر إلى استخدام الوظائف العقلية، فأما دراسة الطبيعة ومبتكرات العقول وثمرات الفنون فيصل الإنسان إلى غرضه منها بقوة الإنتباه وأما الإبتداع والإبتكار فلا بد فيه من التأمل واستجماع قوى الذهن. فالإنتباه لازم لا(36/78)
غنى عنه على أية حال. غير أن الإنتباه ليس حالة عقلية موجودة على نمط واحد، ثابتة لا تتزعزع، طويلة البقاء، فيمكن تشبيهها بقوس شد طرفاه وترك مشدوداً على تلك الحال. بل الإنتباه عبارة عن عدة مجهودات عقلية تحدث وتتكرر ويعقب بعضها بعضاً ويختلف بعضها عن بعض قوة وسرعة. فإذا كان الإنتباه قوياً شديداً ومروضاً على أداء عمله بلا كلل كانت هذه المجهودات المتكررة التي يتألف منها متعاقبة بسرعة شديدة جداً حتى ليخيل للمرء أنها مجهود واحد مستمر. وقد يلبث هذا الإستمرار الظاهر أو الإنتباه الشديد ساعات من النهار.
فالغاية التي ننشدها هي الحصول على قوة انتباه شديدة ومستمرة. وغنى عن البيان أن من أحسن نتائج تربية الإرادةة وامتلاك زمام النفس أن يكون في وسع الإنسان بذل مجهودات عنيفة شاقة وقت ما يشاء من غير أن يتململ منها أو يضيق بها ذرعاً.
غير أنه لا بد لذلك من السكينة والهدوء والبعد عن الإضطراب والحركة فكيف يمكن حمل الشبان على تلك الخطو وهم بما لهم من حدة المزاج والحياة الفوضى لا صبر لهم على التزام السكون ولا قبل لهم بما ليس من طبائع الحياة الحيوانية البحتة. وكيف نريدهم على تلك الحياة العقلية ينفرون منها بطبعهم ويرون فيها فسوقاً عن الطبيعة البشرية وتمرداً على الفطرة الإنسانية. فهذه هي العقبة التي يستطاع تذليلها شيئاً فشيئاً بالتربية والمران والإعتياد.
قلنا أن الغاية التي ننشدها هي إيجاد انتباه شديد قوامه بذل المجهودات المتكررة ولكن الدأب في بذل تلك المجهودات قد لا يؤدي إلى الغرض المقصود فقد تداهم الفوضى تلك المجهودات فتجعلها متوزعة أشتاتاً لا رابط يربطها بعضها ببعض فلا بد إذن من أن تكون أيضاً متجهة كلها إلى غاية واحدة ومرمى واحد حتى تكون منتجة مثمرة. وأعلم أن كل فكرة أو عاطفة يراد إدخالها في أنفسنا وإحلالها فيها محلاً كريماً حتى تصير منها جزأً غير منفصل فتألفها نفوسنا وتطبعها بطابعها وتحتفظ بها وتجعلها موضع مناجاتها لا بد أن تكون بحيث تجر إليها غيرها من الأفكار والعواطف وتدمجها في بنيتها وتبقى هي واسطة عقدها وممتازة عنها بقوتها ورفيع مقامها وتؤثر فيها تأثيراً ينمو ويشتد شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً مع طول الروية وكثرة الترديد.(36/79)
انظر كيف يتم إنشاء أثر من الآثار العقلية الراقية أو تحفة من تحف الآداب والفنون النادرة: تخطر على عقل الرجل العبقري فكرة قد تكون خطرة من خطرات الشباب تتولد في دماغه وهي صالحة للبقاء خليقة بالحياة فتتردد بادئ ذي بدء في ذهنه يسترها شيء من الغموض والإبهام ويمنعها من السفور شيء من الحياء ثم لا يلبث أن يعطيها حقها من الغاية ويقدر ما يمكن أن تدله من الأفكار حق قدره. وإنما يلفت ذهنه إلى كل ذلك قطعة قرأها أو حادث حدث له أو كلمة قالها مؤلف عرضاً ولم يفطن إليها ولا إلى ما تثيره من الأفكار أو فطن إليها ولكنه لم يدرك أنها مثمرة ولود. ثم تأخذ هذه الفكرة تقوى وتشتد بما يدخل في بنيتها من مواد الغذاء التي ترد إليها من المطالعات أو الأسفار أو الأحاديث مع ذوي العقول الراجحة. على هذا الأسلوب كتب (جوت) شاعر الألمان العظيم روايته الشهيرة (فوست) فإن الفكرة الأساسية لهذه الرواية خطرت له فما زال يتعهدها ثلاثين حولاً وهي تنمو وتترعرع وتغور جذورها لامتصاص مادة غذائها من تجاريب هذه الحياة ثم عرضها ناصعة ساطعة من مؤلفه العبقري الجليل.
هذا هو الواجب عمله نحو كل فكرة ذات شأن ولكن بمراعاة النسبة فيما يبذل لكل فكرة من الإهتمام حتى يكون على قدر ما لها من الشأن. وكل فكرة تخطر ببالنا وتلم به إلماماً وتمر به مرور الطيف هي في حكم العدل وكأنها لم تكن. فإذا عرضت لك فكرة عليك أن تفطن لها وترددها في ذهنك مرة بعد أخرى وأنت معجب بها مفتون بمحاسنها وإياك أن تتركها لنفسها قبل أن تترعرع وتشتد وتكون واسطة العقد المجموعة من الأفكار، فإنها كلما طال بها المقام في ذهنك اكتسبت قوة وحياة تمكنانها من اجتذاب غيرها من الأفكار المثمرة والعواطف القوية وإدماجها في بنيتها لما للأفكار من تلك الخاصة العجيبة الخفية وهي ارتباط بعضها ببعض حتى كأنها تتجاذب بقوة مغناطيسية.
وهذا العمل أي إدماج الفكرة أو العاطفة في أنفسنا حتى تصير كأنها جزء من جثماننا يتم تدريجياً بطول التأمل الهادئ الساكن الذي يلازمه الدأب والمثابرة والصبر. وما أشبه هذه الحالة بما يحدث في بعض السوائل من الرواسب المتبلورة فإنك إذا تركت سائلاً في حالة الهدوء بدون أن يتحرك أو يضطرب لا تلبث أن ترى فيه ألوفاً من الذرات المتبلورة تتجمع تدريجياً بغاية النظام والإحكام.(36/80)
وهذا هو تفسير قولهم أن الإكتشافات إنما هي عمل من أعمال الإرادة. فإن نيوتن لم يكتشف قانون التجاذب العام إلا بعد أن فكر فيه طويل التفكير. وإذا أنكر أحد أن العقول الكبيرة ليست إلا صبراً طويلاً فليصغ لما يقوله دارون عن نفسه: كنت أطيل التفكير ولا أقرأ إلا المسائل التي تحرك في نفسي حب النظر فيما شاهدته أو ما أريد أن أشاهده وإنني واثق كل الثقة أن هذا النظام الذي اخذت نفسي به هو الذي قدرني على عمل ما عملته في خدمة العلم وقال ولده كان لوالدي قدرة عجيبة على الإمعان في بحث مسألة من المسائل وإطالة التفكير فيها مدة أعوام عديدة.
والخلاصة أن هذه الحقيقة أضحت واضحة للعيان فلا حاجة إلى إطالة الشرح والبيان. والغاية التي ينشدها ويسعى إليها طلاب الأشغال العقلية هي أن يكون لهم انتباه شديد طوع إرادتهم بشرط أن لا يكون ممتازاً بقوته وتعدد مجهوداته فحسب بل لا بد من أن تكون جميع أفكارهم تحوم حول غاية معينة ومطموح أنظارهم أن تكون جميع أفكارهم وعواطفهم أثناء توجيه إرادتهم نحو تلك الغاية المعينة متصلة بالفكرة الأساسية التي يشتغلون في سبيلها متعلقة بها غير خارجة عن منطقة نفوذها.
هذه الغاية الجليلة التي ننشدها يعترضها كسلنا الغريزي فيعرقل مساعينا في إدراكها فعلينا أن نقاومه أشد مقاومة حتى نتغلب عليه ونفوز بنيل تلك الأمنية الغالية.
وقبل البحث في الوسائل اللازمة لتحويل الرغبات الضعيفة المتذبذبة إلى إرادات ثابتة راسخة يجب علينا نفند مذهبين فلسفيين متناقضين يقف كلاهما سداً منيعاً دون تربية الإرادة.
الفصل الثالث
في الرد على بعض المذاهب الفلسفية الفاسدة
التي تبعث على اليأس من تربية الإرادة
ـ 1 ـ
مذهب القائلين بأن الأخلاق لا تتغير
ما الجدل إلا تمهيد يمهد به الكاتب لأغراضه التي سيشرحها بعد ذلك ولكن لا ينبغي له أن يعلق عليه آمالاً كباراً فليس يفنيد مزاعم الخصم المناظر ودحضها بمجدية نفعاً في التدليل(36/81)
على صحة مذهب من المذاهب وإصابته عين الحقيقة وإنما يكون ذلك بالرأي المؤيد بالدليل.
ولما كان كتابنا هذا عبارة عن مذهب في التربية وأسلوب خاص لها دعائمه قائمة على أصول علم النفس وقواعده المتينة الأساس رأينا أن نبدأ كلامنا قبل الخوض في هذا الموضوع بتمهيد ندحض فيه النظريات الفلسفية الفاسدة من الوجهة العقلية النظرية الضارة في الوجهة العملية.
وأكثر هذه النظريات خطأ وأعظمها ضرراً في نتائجها تلك النظرية القائلة بأن الأخلاق لا تتغير. وأول من طرق هذا الباب الفيلسوف (كانت) ثم تبعه (شوبنهور) وذهب مذهبهما (هربرت سبنسر).
أما (كانت) فمن رأيه أن الأخلاق التي فينا قدرت لنا ونحن في عالم الغيب ولا مرد لما قضت به الأقدار فمتى نزلنا إلى هذا العالم عالم الزمان والمكان بقيت اخلاقنا وإراداتنا بالتبعية لها كما هي لا قدرة لنا على تغييرها أو تبديلها لا قليلاً ولا كثيراً.
ويرى (شوبنهور) أن الأخلاق ولدت مع الإنسان فلا يستطيع لها تغييراً ولا تبديلاً. من يستطيع مثلاً تغيير مجرى أفكار الأناني وعقائده التي تجعله يؤثر نفسه على غيره أو إقناعه بأن طريق السعادة هو الإستقامة وشرف المعاملة لا الخداع والمخاتلة إذا حاول إمرؤ شيئاً من ذلك كان غير موفق. وأما محاولة جعله يشعر بآلام غيره ويتألم لها فهي ضرب من المحال كمحاولة تحويل الرصاص إلى ذهب. ومن قوله في هذا الصدد: قد تستطيع أن تقنع الأناني بأنه إذا ترك فائدة نال عوضاً عنها خيراً أعظم وفائدة أجزل وقد يمكنك أن تفهم الشرير بأن أقدامه على فعل الشر يجر عليه بلاء عظيماً وشراً مستطيراً. ولكن إذا حاولت أن تطهرهما من أدران الأثر أو الشر فإنك إنما تطلب محالاً ولن تستطيع إلى ذلك سبيلاً إلا إذا استطعت أن تقنع الهر بأنه لا حق له في حب لحم الجرذ وأنه يصيدها وافتراسها إنما يأتي عملاً منكراً.
أما الفيلسوف (هربرت سبنسر) فقد نظر إلى المسألة من وجهة أخرى تتفق مع الفلسفة الإنكليزية فإنه ارتأى أن الأخلاق تتغير مع طول الزمان تحت تأثير القوى الخارجية والبيئة والوسط وظروف المعيشة وغير ذلك ولكن لا يتم هذا التحول إلا في أجيال.(36/82)
ولا يخفى ما في هذه النظرية الأخيرة مما يدعو إلى اليأس والقنوط من إمكان الإنسان تكميل نفسه وتربية إرادته. لأن الشاب لا يمكنه أن يعيش أدهاراً لكي يتمم اصلاح نفسه وإنما يعتمد على عشرين عاماً تكون فيها أخلاقه من اللين والمرونة بحيث تقبل أن توضع في القالب الذي يراد وضعها فيه. فإذا بدأ الشاب يشتغل في إصلاح أخلاقه استعصى عليه الأمر وبعدت عليه الشقة في مقاومة طبائعهالتي ورئها عن أسلافه المتقدمين الذين تفصلهم عنه ألوف بل ألوف الألوف من السنين وقد خلفوا في نفسه أثناء تلك العصور والأعقاب آثاراً انطبعت في دماغه انطباعاً عضوياً. فلعمري ماذا هو فاعل إزاء هذا الجم الغفير من الأدباء والأجداد وهو كلما هم بفك نفسه من أسرهم تألبوا عليه بجمعهم. ماذا في استطاعة إرادته الضعيفة الضئيلة أن تفعله في صد تلك المؤثرات الكثيرة القوية وإذا ثارت في نفسه عوامل الغضب من هذا التحكم والقهر وعزم على الخروج من تلك الربقة وعصيان تلك العادات الثابتة الراسخة في قرارة نفسه وآلي إلا أن يغالبها ويغلبها استعصى عليه الأمر وباء بالخيبة والفشل. بيد أنه يعزيه عن هذه الحال تفكيره في مصير أولاده وأحفاده بعد خمسين ألف سنة مثلاً فيرى أنهم سيبلغون حينئذٍ أقصى درجات الرقي والكمال بتأثير البيئة الاجتماعية وما ينتقل إليهم بالوراثة من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل فما زالوا يكملون فيها الناقص ويزيدون في أجزائها حتى بلغت بعد ذلك الزمن الطويل اقصى درجات الإتقان والكمال.
إن البحث في الأخلاق من هذه الوجهة خارج عن موضوع كتابنا هذا ولكنا نرى من الواجب علينا أن ننظر في هذه المسألة نظرة عامة وندحض ما نراه وجيهاً من حجج أصحاب هذه النظريات.
هذه النظريات الثلاث التي بسطناها للقارئ تدل دلالة بالغة على ما للخمول العقلي من التأثير البليغ على هذه العقول الكبيرة. ذلك الخمول اللاصق بالجبلة البشرية لصوق الزلة متى زلها آدم أبو البشر. ذلك الخمول الذي جعل هذه العقول الكبيرة تتأثر بألفاظ اللغة وهي لا تشعر. يهتمون بالألفاظ ويهملون المعاني المستترة وراءها. تكون اللفظة واحدة فيخيل إليهم أن ملولها واحد. وهذا هو السر في وجود تلك النظرية القائلة بأن الخلق لا يتغير لأن أصحاب هذا الرأي ظنوا أن لفظة خلق تدل على شيء واحد ولم يفطنوا إلى أن الخلق إنما(36/83)
هو عبارة عن مجموعة من الأفكار والأميال والشهوات. ومن المعلوم أن مجموعة القوى عرضة للتعديل بالتغيير والتبديل.
الخلق الإنساني له وحدة شبيهة بالوحدة الأوروبية فكما أن المخالفات والإتفاقات بين بعض الدول وبعضها وتقدم أحدها في مراقي العمران وتقهقر الأخرى كل ذلك له أثر في هذه المجموعة قوة وضعفاً. كذلك الحال في الخلق فكل ارتباط وانفكاك يحدث بين التصورات والأميال والشهوات يؤثر في الخلق فيزيد في قوته أو يغير في تجاهه. على أن هذا الكتاب من دفته إلى دفته سيكون البرهان الساطع على إمكان تحويل الخلق من حال إلى حال أخرى.
نعود إلى البحث في النظريات المتقدمة التي تؤيد مذهب القائلين بأن الخلق لا يتغير. أما آراء (كانت) فإنها مبنية على تصورات غير مستمدة من الوقائع المحسوسة. ولولا أنها خليط من مذهب القدرية ومذهب العلية لما حفلنا بها ولتركناها تنفصل من الموضوع كما ينفصل غصن الشجرة الذي ذبل ونضبت منه مادة الحياة وسترى تفصيل ذلك فيما يلي:
أما شوبنهور فليست آراؤه مدعومة بالأدلة القاطعة الدامغة وإنما هي عبارات ضخمة عليها مسحة من العلم. وشقشقة اللسان لا تغني من الحق شيئاً وإليك ما أمكننا استخلاصه من البراهين على صحة ما يزعمه:
أولاً - لو كانت الأخلاق قابلة للإصلاح لكان الشيوخ أكثر تقوى وفضيلة من الشبان وهذا أمر غير واقع.
ثانياً - إذا اقترف إنسان إثماً يشينه أضاع ثقة الناس به وهيهات أن يستطيع إلى استردادها سبيلاً ولا يزالون يسيئون به الظن إلى الأبد. وهذا دليل على أن الناس مجمعون على أن الأخلاق لا يمكن أن تتغير أو تتبدل.
هذه العبارات إذا تأمل فيها الناقد البصير لا يرى فيها شيئاً يؤيد ما زعموا بل لا تصح أن تعد أدلة قاطعة دامغة. نعم إنها قضايا صحيحة في جملتها ولكنها لا تدل إلا على أمر واحد تدل على أن أكثر الناس لم يهتموا جد الإهتمام بتربية إرادتهم وإصلاح أخلاقهم. تدل على أن الناس يتصرفون في جميع أعمالهم في هذه الحياة حسبما توحي إليهم أميالهم وعواطفهم وقلما يحفلون بإراداتهم. تسوقهم العادات وآراء المجتمع قسراً إلى عمل ما يعملون ولا(36/84)
تحدثهم أنفسهم بالخروج من ربقة هذا التحكم كما أنه لا يخطر ببال إنسان أن يعصي أن يدور مع الأرض وهي دائرة حول الشمس.
نحن لا ننكر الخمول المتفشي في جميع طبقات الناس ونقول أنهم يقضون حياتهم في البحث عما يقيم أودهم فقط وليس للحياة العقلية عندهم من نصيب. انظر إلى طبقة العمال بل إلى الأغنياء والفقراء، إلى النساء والأطفال تراهم جميعاً لا يفكرون فيما يصنعون وما مثلهم لا تلك التهاويل التي تدار بالأيدي فتمثل لك أناسي يتحركون ويعملون. ترى جميع الناس قد انحصرت جميع حركاتهم في منطقة الرغائب التي لا سلطان للإرادة عليها أو الواقعة تحت تأثير المؤثرات الخارجية.
يقضي عليهم تنازع البقاء ويقعون تحت حكمه فيضطرون إضطراراً إلى الترفع عن الحالة البهيمية والترقي إلى درجة الإنسانية حتى إذا زالت تلك الظروف الخارجية التي تسوقهم قسراً رجع أكثرهم القهقرى إلى الحيوانية الأولى فأولئك الذين نضب من نفوسهم ذلك الينبوع الذي يجري تياره نحو الأفكار السامية والغايات الشريفة وأولئك الذين ليس لهم من شرف نفوسهم وأخلاقهم ما يحدو بهم إلى طلب الكمال والرقي كل أولئك تراهم قد تذبذبت أخلاقهم ثم انحطت إلى الدرك الأسفل. فلا عجب بعد ذلك إذا رأينا شيخاً قد انغمس في حمأة الفساد وفتى له من عفته وآدابه ما يسلك به طريق الرشاد.
وهنالك رأي آخر يظن الناظر إليه أنه على شيء من الرجاحة والوجاهة وهو أن الأناني لا طاقة له بإيثار غيره على نفسه وتضحية منفعة له في سبيل غاية شريفة حتى لو اعتقد ضرورة ذلك وصحت عزيمته عليه.
ولكنك إذا دققت النظر في هذا الرأي لما رأيته شيئاً مذكوراً. ألست ترى الجبناء والأنذال يقدمون على أكبر المخاطر ويركبون أخشن المراكب حتى أنهم ليتعرضون للموت الزؤام أملاً في كسب المال مع أن غريزة حب البقاء وكره الموت لا تصادمها شهوة من الشهوات وتستطيع التغلب عليها ومن البديهي أن الحياة أعز شيء لدى الأناني فإنه يحتفظ بها أيما احتفاظ ولكننا طالما رأينا بين من اشتهروا بالأثرة وحب الذات حباً متناهياً من بذل روحه فدى لوطنه أو دفاعاً عن غاية شريفة.
فإذا كان التحول الوقتي للخلق بهذه الصورة ممكناً فما معنى قولهم إذن أن الخلق لا يتغير.(36/85)
إن الخلق الذي يتحول تحولاً جوهرياً حتى لينقلب إلى ضده في مدة قصيرة جداً لا يصح أن يقال عنه أنه غير قابل للتغيير والتبدل بل يجب أن يقال إن هذا التحول الوقتي إذا تكرر وأدمن صاحبه تكراره مرة بعد مرة قوي واشتد وأصبح سجية وطبعاً.
على أنا بعد نسأل (شوبنهور) هل وجد إنساناً اتصف بخلق واحد كالأنفية مثلاً فهو أناني في جميع حركاته وسكاته، في جميع أفكاره وميوله ومنازعه، لا يمازج هذا الخلق خلق آخر. مثل هذا التوحيد في الطبيعة البشرية لم يوجد أبداً في عالم الحقيقة. وهنا نعيد ما قلناه أن تصور الخلق الإنساني شيئاً واحداً بسيطاً وكتلة متماثلة الأجزاء إنما يأتي من عدم التدقيق في البحث والنظر السطحي للأمور.
نحن إنما نتكلم على الإنسان الذي يعيش على سطح هذه الكرة الأرضية لا على إنسان موهوم لا حقيقة لوجوده إلا في الخيال.
فما تقدم يكفي لدحض آراء (كانت) و (شوبنهور) وتفنيد نظريتهما التي هي في منتهى الذاجة. وأما (سبنسر) فإننا نقول له أن الآباء والأجداد كما يورثون أحفادهم الأميال الفاسدة يورثونهم الأميال والطبائع الصالحة وكلا النوعين ينتقش في نفوسهم وينطبع فيها انطباعاً عضوياً. وعلى ذلك يستطيع الإنسان بشيء من الدراية والحذق وحسن الحيلة أن يتدرع بتلك الأميال الصالحة ويستخدمها في منفعته ويقاوم بها تأثير ما ورثه من الأميال الفاسدة. وتنتهي المسألة بترجيح أحد هذين الفريقين من الأميال على الفريق الآخر. وسترى فيما سيمر بك من هذا الكتاب الأساليب التي بها يكون الفصل بينهما فتفوز الأميال الصالحة ويكون لها الغلب.
الآن وقد ظهر لك إلى ما يذهب إليه بعض فلاسفة الفرنسويين من المذاهب التي تثبط العزائم وتدعو إلى اليأس من إصلاح المرء نفسه وخلقه. وفي طليعتهم الفيلسوف (تين) فإنه على ما هو معروف عنه من سعة المدارك قد خلط خلطاً قبيحاً بين مذهب القدرية والجبرية وعندما حاول أن ينقض مذهب العقليين الذي وضع أساسه الفيلسوف كوزين ارتأى أن الحياة البشرية مستقلة تمام الإستقلال عن الإردة وما الفضائل في نظره إلا أموراً طارئة تجلب من الخارج كما يجلب السكر مثلاً من المستعمرات. وهو تشبيه سخيف ركيك ولكنه ماذاع في عصره وانتشر في مبدأ أمره حتى حجب العقول عن بحث العوامل النفسية(36/86)
المؤثرة فيما يقع من الإنسان من الأفعال، وأزاغ البصائر عن فهم معنى كتاب الموسيو ريبو الشهير الذي عنوانه (أمراض الإرادة) ومضى الناس زمناً غير قصير على هذا الضلال بتأثير هذه المذاهب المضلة وقصارى القول أنه يلزمنا في مثل هذه المباحث الدقيقة أن لا نعول على ما قاله ذلك الفيلسوف أم ننحاز لرأيه لأنه ابن وطننا فرب عدو عاقل خير من صديق جاهل.
ـ 2 ـ
مذهب حرية الإختيار
بقي علينا قبل الدخول في موضوع الكتاب أن نفند مذهب حرية الإختيار الذي يطنطن به أصحابه ويبنون عليه القصور والعلالي. وخلاصته أن قدرة الإنسان أن يقمع شهواته ويمتلك زمام هواه بمحض إرادته ومشيئته. صور ذلك المطلب بصورة الشيء القريب المنال الذي لا يمتنع على أحد.
أما نتائج هذا المذهب فهي زيادة عدد من خابوا في هذا السبيل فلووا عنان همتهم واستكانوا ولجأوا إلى اليأس والقنوط فكان ضرر هذه الآراء بالنفوس أشد من ضرر مذهب الإعتقاد بالقضاء والقدر كما سترى ذلك مفصلاً.
يزعمون أن حرية الإختيار شرط لازم للحرية الأدبية مع أن بينهما بعد ما بين المشرقين لأن امتلاك المرء زمام نفسه وتغلبه على أهوائه أمر يدرك بطول الأناة والصبر والجهد والعناء فالقول بأنه يتعلق بمشيئة المرء وحدها يدعو الشبان إلى اليأس والقنوط من كسب هذه الأمنية الغالية إذ يرون ما بين رغائبهم وبين وصولهم إلى تحقيقها بوناً شاسعاً وفرقاً بعيداً.
يقرأ الشبان تراجم حياة عظماء الرجال المتقدمين أصحاب العزائم الكبيرة والهمم السامية وبصورها لهم الخيال وتمادي الزمن بصورة أكبر وأعظم مما هي في الحقيقة فتتأثر نفوسهم بالعبرة ويتلهبون شوقاً إلى التشبه بهؤلاء الرجال واقتفاء خطواتهم فيجعل بنا ونحن نراهم على هذه الحالة النفسية أن لا نخفي عنهم أن هؤلاء الرجال إنما أدركوا ما أدركوا من المجد وبعد الصيت والذكر الخالد في صحائف التاريخ بالعمل والجهد وشق الأنفس والصبر الجميل على المكاره ثم نصور لهم ما يكون من نصيبهم من الفوز والفلاح إذا(36/87)
صبروا وعملوا وذللوا ما يعترضهم من المشاق والأهوال.
لا يملك الإنسان إرادته بمحض مشيئته فقط كما أن فرنسا لم تنهض من كبوتها بعد حرب السبعين وتسترد مجدها بمحض مشيئتها فقط بل لأنها قضت عشرين حولاً وهي تجد وتسعى وتهيء وسائل النهوض من هذه العثرة. فكذلك خروج الإنسان من أسر الشهوات وتمكنه من امتلاك زمام نفسه إنما يكون بالسعي والجهد والصبر الطويل.
يا عجباً! أيقضي كثير من الناس ثلاثين عاماً من أعمارهم في الكد والكدح ومزاولة أشق المهن والأعمال لكي يتمكن الواحد منهم من ابتياع ضيعة ينعم فيها بالراحة فيما يبقي من أيام حياته ولا يفتكر أحد في صرف القليل من زمنه في إصلاح نفسه وامتلاك إرادته وهي التي تتوقف عليها قيمة المرء بل هي التي يبني عليها مستقبله وبها يكون رجلاً رفيع المقام نابه الذكر وهي التي تفتح له أبواب السعادة وتدر عليه صنوف الخير. أليس من العجائب أن تكون هذه صفات الإرادة ومزاياها ومناتبها ولا يبذل أحد كل ما في وسعه لتقويتها وقلما تخطر لأحدهم ببال. غير أن هذا الإهمال الظاهر يخفي تحته آلاماً مبرحة تساور نفوسنا ولطالما شعرنا بها جميعاً وإلا فمن من الطلاب لم يشعر بما يختلج في نفسه من المقاصد الحسنة والنوايا الشريفة النبيلة وما يلاقيه من العقبات والعوائق في سبيل تنفيذها وإبرازها إلى حيز الوجود فإن ضعف عزيمته يحول بينه وبين ما يشتهي.
يقول لنا أساتذتنا أنتم أحرار فافعلوا ما تشاؤون. نعم نحن نشعر بأننا أحرار ولكن اليأس الكاذب يساور نفوسنا.
يقول لنا أساتذتنا ذلك ولكنهم لم يقولوا لنا إن الإرادة تنال بالدأب وطول الأناة ولم يشرحوا لنا الوسائل التي تمكننا من نيلها ولم يدر بنا أحد على هذا الجهاد أو بعد معدته لنا. ولم يأخذ بيدنا أحد ويشد أزرنا في هذا المعترك بل تركنا وشأننا فمن المعقول إذن أن ندع هذا الجهاد جانباً ونستسلم إلى نظريات الفيلسوف (تين) وأضربه من القائلين بمذاهب القدر فإن ما يقررونه في تعاليمهم موافق كل الموافقة لما هو منطبع في نفوسنا من الكسل ولأنه يصور لنا هذا الجهاد عبئاً وتعباً ضائعاً سدى وإن لا قبل لنا بالوقوف هذا الموقف فتهدأ نفوسنا الثائرة وتطمئن مشاعرنا الهائجة ونخنع لما جرت به المقادير. وهذه الآراء بجملتها التي تهدم كيان الإرادة وتقود دعائمها مستمدة من مذهب حرية الاختبار.(36/88)
إن الحرية الأدبية والحرية السياسية وكل شيء له قيمة في هذه الحياة ينبغي أن يؤخذ أخذاً بالكد والكدح وشق الأنفس ثم يجب الاحتفاظ بما حصل منه والذود عن حياضه والحرص عليه أن يضيع من اليد بعد أن حصلت عليه. أن الذي يدرك من هذه الأمور كلها يكون هو الجزاء الأوفى لأصحاب العزائم الكبيرة الصادقة والصابرين المثابرين أصحاب البراعة والحذق. وما أجمل ما قاله ذلك الحكيم لا ينال الحرية إلا من استحق أن يكون حراً. الحرية ليست حقاً من الحقوق أو حدثاً من الأحداث وإنما هي جزاء حافل بالسعادة الكاملة والهناء والغبطة. وإنما مثل الحرية في جميع ما يعمله الإنسان أو يتفق له وقوعه مثل ضوء الشمس بالنسبة للمناظر الجميلة الشائقة فإنه هو الذي يعطيها بهاءها وسناءها. فمن حرم الحرية امتنعت عليه اللذات الصالحة الباقية الآخذة بمجامع قلبه التي يستمتع بها زمناً طويلاً.
ومن بواعث الأسف أن مسألة الحرية كانت مثاراً للمنازع والخلافات حتى عتورها الغموض والإبهام ولقد قال عنها (بين) أنها قفل لعلوم ما وراء الطبيعة قد علاه الصدأ.
ولكن الذي نقصده هنا من معاني الحرية امتلاك المرء زمام نفسه وقمع شهواته بأن تتسلط على نفسه الأميال الشريفة والأفكار السامية. وتتغلب على البهيمة الجاثمة فيها. غير أنه لا ينبغي للإنسان أن يطمع من الإرادة في مرتبة معصومة من الخطأ بعيدة عن الزلل فذلك لا يستطيع إليه سبيلاً لقرب عهده بآبائه الأولين الذين كانوا يهيمون في البوادي ويلجأون إلى الكهوف والمغاور وأورثوه من أخلاقهم الغضب وحب الذات والميل إلى الشهوات والخمول فيستحيل عليه أن يقتلع من نفسه جذور هذه النقائص ويطهرها منها تطهيراً. إن النساك والزهاد الذين جاهدوا أنفسهم حق الجهاد وحاربوا بلا هوادة غرائزهم الحيوانية لا يدعون العصمة من كل زلل ولا الطهر التام من كل رجس ودنس.
فالغاية التي نوجه إليها أبصارنا هي أن تكون لنا إرادة قوية نستطيع بها دفع ما يثقل كواهلنا من الخمول وما يهيج أعصابنا من الشهوات. ولسنا بمطلعين إلى مقام العصمة وتجريد النفس تجريداً تاماً من حب الذات وما شاكله من الأخلاق الغريزية فذلك ما لا مطمع فيه ولا أمل في إدراكه.
ولا يظن أحد أن المطلب الذي أشرنا إليه سهل المنال فإن دون دركه أهوالاً بل هو عزيز(36/89)
لا يناله من رامه إلا إذا تدرع بالصبر والجلد وعرف الأساليب والطرق التي توصله إلى الغاية حق معرفتها وأما من جهلها أو أخذه الغرور فلن يدرك شيئاً في هذا السبيل. فمن دخل في غمار هذا المطلب وهو جاهل بقواعد علم النفس أو غلب عليه الغرور فلم يسترشد بآراء من يعرفون هذه القواعد كان مثله من يجهل لعبة الشطرنج ثم يلعب مع قرن خبير بها طبيب بأسرارها.
يقول لنا أنصار مذهب حرية الاختيار إذا كنتم لا تستطيعون أن تنشئوا شيئاً وليس في وسع مشيئتكم وإرادتكم أن تمنح سبباً من الأسباب أو باعثاً من البواعث قوة لم تكن لهما من قبل وليست من طبيعتها فأنتم إذن لستم بأحرار.
فنجيبهم كلا. بل نحن أحرار ولا نقصد من الحرية إلا هذا المعنى أي أننا لا ندعى أننا نمنح سبباً من الأسباب أو باعثاً من البواعث قوة لم تكن لهما من قبل بمحض رغبتنا التي هي عمل نفسي باطني لا ضابط له ولا نظام بل هو مناف لما يقرره العلم من النواميس التي تربط الأسباب بالمسببات لا نقول ذلك ولا نذهب هذا المذهب وإنما نقول أننا نعطى هذه القوة إذا راعينا قواعد علم النفس وطبقناها تطبيقاً معقولاً. فنحن نرى أن التغلب على الطبيعة البشرية والتحكم فيها لا يكون إلا بالخضوع لنواميسها. ولا حرية لنا إلا بفهم قواعد علم النفس واستخدامها في مقصدنا الشريف ألا وهو تربية الإرادة والخلاص من ربقة الشهوات. وكلما ازداد علمنا بالعوامل النفسية التي تسيطر على حركاتنا وأعمالنا كنا أقرب إلى الحرية.
يقولون لنا وقد احتدم الخلاف بيننا: إذا كنتم لا تسلمون بأن الإرادة وحدها ومن تلقاء نفسها وبمحض اختيارها ومن غير أن يكون هناك رغبة سابقة تستطيع أن ترجح سبباً ضعيفاً من أسباب قوية فأنتم بذلك لا تفرضون سابق وجود الرغبة والمرء إذا لم يكن لديه رغبة في العمل فلن بعمل أبداً فكأنكم برأيكم هذا قضيتم على هذا الإنسان قضاءً مبرماً. ويكون رأيكم هذا شبيهاً برأي أصحاب الدين الكلفيني (البروتستانتي) فإن لديهم فئة من الناس مغضوباً عليهم كتب عليهم أن يكون ثمرهم لجحيم. غير أن المغضوب عليه من هذه الفئة لا يزال يؤمل من العزة الإلهية غفران ذنوبه وشموله برحمتها فهو أحسن حالاً من ذلك الإنسان الذي سبقت الإشارة إليه لأنه كلما بحث في أعماق نفسه ولم يجد أثر للرغبة في(36/90)
العمل خارت قواه وانتزع منه كل أمل لعلمه علم اليقين إن كل سعي ضائع سدىً وبعبارة أخرى إما إن يكون لدى الإنسان رغبة في السعي إلى الكمال أو لا يكون فإن لم يكن فكل محاولة ضائعة هباء. ولما كانت الرغبة ليس لها ضابط ولا هي متعلقة بالإنسان وطوع أمره فإن مذهبهم هذا يؤدي إلى مثل مذهب القضاء والقدر إلى ما هو شر منه وهو مذهب الجبر.
فنجيبهم: نسلم لكم بعض ذلك جدلاً ولكن اعلموا أن الرغبة في الكمال مهما كانت ضعيفة ضئيلة في نفوسنا نستطيع بالصناعة تقويتها وإنماءها حتى تصير ثابتة راسخة وتؤول إلى عزم صادق.
يقولون: ولكن هذه الرغبة ضعيفة كانت أو قوية لا بد من وجودها - على رأيكم - فإن لم توجد فلا تستطيعون شيئاً ما.
وجواب على ذلك: نعم. ولكنا نسأل أنصار مذهب حرية الاختيار هل يمكن أن يطلب الإنسان الكمال وليس في نفسه ما يدفعه إلى هذا الطلب - إن الذي يسعى وراء مطلب من المطالب الكبرى ولا سيما إذا كان هذا المطلب يقتضي وقتاً طويلاً وعناءً كثيراً ولم يكن في هذا المطلب ما يشوقه ويستهوي فؤاده ثم يبوء بالخيبة والفشل - إن النجاح في أمر موقوف على حب هذا الأمر والشغب به والولع بإتمامه.
يقولون لنا: ولكن على أية حال لا بد من وجود الرغبة لدى الطالب فإذا لم توجد فقد قضي عليه قضاءً مبرم بسوء المآل.
فنرد عليهم: نسلم لكم بما تقولون ونقرر أنه لولا رغبة المرء في امتلاك رغبته لعجز تمام العجز عن أن يكون حراً.
نعم إن هذا الإلزام والشرط ينتج أسوأ النتائج لأن بعض الناس حرموا هذه الرغبة فليس في استطاعتهم أن يعملوا في حياتهم عملاً ما. ولكن لا بد من أنكم توافقوننا على أن هؤلاء التعساء قليل عديدهم وأنهم في جملة من قضي عليهم نحس طالعهم بأن يكونوا كذلك وهم أشبه بأولئك الذين اختلت قواهم العقلية فأصيبوا بالجنون الأدبي.
إني أقرر الحقيقة التالية وإن كنت لا أستطيع إقامة الدليل عليها ولكني واثق بصحتها إذا لم يرد علي ما ينقضها إلى الآن: ذلك أنك إذا سألت أي إنسان كائناً من كان على شريطة أن(36/91)
يكون سليم العقل عما إذا كان يفضل عملاً شريفاً يكسبه المجد والفخر كعمل العالم (باستور) مثلاً، أو يشتهي لنفسه حالة بعض الأوغاد الذين أدمنوا الخمر وعكفوا على احتساك كؤوسها في الغدو والرواح حتى طاحت بعقولهم وأفسدت ضمائرهم لأجابك بلا شك أنه يؤثر الحالة الأولى ويختارها لنفسه.
هذه حقيقة نقررها فهل يستطيع أحد إنكارها؟ هل يوجد في الناس من بلغ به البله والغباء أن لا تتأثر نفسه بمفاخر النبوغ ومحاسن الجمال وعظائم المجد والسؤدد؟ أظن أن مثل ذلك الإنسان لا يوجد ولم يوجد فيما مضى. ولو أنه وجد لما عناني من أمره شيء لأنني لا أعده إلا حيواناً في ذي إنسان. وما أقرره الآن يصدق على جميع الآدميين المتصفين حقيقة بمعاني الإنسانية وهو كاف للدلالة على ما أقصده. فإذا كانت الناس جميعاً يعجبون بحكمة (سقراط) ووفاء (ريجليس) وتقوى (فنسان دي بول) وزهده وورعه وتعلقت نفوسهم بهذه الفضائل ورجحوها على ما يأتيه صغار الأحلام من الانغماس في أقبح أنواع الشهوات واللذات فإن هذا الترجيح معناه حب هذه الصفات الفاضلة والرغبة في دركها والحصول عليها. ومهما تكن هذه الرغبة ضعيفة الأثر قليلة البقاء فإن في وسعنا أن نحوطها بالعناية والرعاية ونستعين في سبيل إنمائها وتقويتها بأصول علم النفس فتشب وتقوى وتستحيل إلى عزم ثابت لا يتزعزع، وبعد أن كانت تلك الرغبة نبتة ضعيفة تصير دوحة عالية تعجز هوج الرياح عن تحطيمها.
فإن قيل لنا إنكم بما تذهبون إليه قد فرضتم وجوداً حوال نفسية اضطرارية لا مفر للإنسان منها فكأنكم تذهبون مذهب القائلين بالجبر. ولكن اعتراضهم هذا لا يروعنا لأننا لا ننكر أننا نضم بين جوانحنا هذه الرغائب التي تضطرنا اضطراراً إلى عمل ما نعمل غير أنها كلها رغائب نحو معالي الأمور وتطلع نحو المفاخر والمحاسن ونفور من الدنايا والمقابح لا يشذ عن ذلك غير أفراد قلائل تصيب بالخبل في عقولهم فلم يعودوا يميزون بين الخبيث والطيب وهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
الأخلاق الفاضلة ليست في حاجة إلى نظرية حرية الاختيار التي ألقيت على عواهنها وكانت داعية للقنوط من إمكان تربية الإرادة كما تقدم لنا القول. وإنما الأخلاق الفاضلة في حاجة إلى الحرية فلا أخلاق بلا حرية. والحرية غير الاختيار الحر. ثم أن الحرية لا تكون(36/92)
إلا في النفس قارة في أعماقها وينبغي أن تخضع للعوامل النفسية صادرة عنها منفعلة بها.
ولأجل إدراك هذه الحرية ينبغي أن تصور مخيلة الإنسان خطةً ومنهجاً يختاره ويرضى أن يسير عليه ما عاش ثم يسعى إلى تحقيقه معتمداً في ذلك على معارفه وخبرته بأصول علم النفس إذ بها يتمكن من ضم بعض قوى نفسه إلى بعضها أو تفريقها وإبعادها عن الالتئام تذرعاً إلى إعلاء شأن تلك الخطة التي اخطتها لحياته وسيادتها على ما عداها من الخطط والمناهج ثم يستخدم في الوصول إلى غايته الزمن وهو العامل الأكبر والقوة العظمة في تحرير الأفكار وتجريدها مما يشوبها من الشوائب.
ربما كان رأينا هذا الذي بسطناه في الحرية لا يسر الناظر إليه ولا يستميله نحوه لما يكبد طلاب هذه الحرية من العناء والجهد في دركها بخلاف نظرية الاختيار الحر فإنها فرضت الإنسان حراً مالكاً لأمره يتصرف كيف يشاء. ولكن نظريتنا ترجح عليها بميزات عدة منها أنها مطابقة لطبائعنا النفسية والأدبية ومنها أنها لا تجعلها هزؤاً وسخرية بسبب التناقض البين بين ما ندعيه من أننا أحرار نفعل ما نشاء وبين كوننا في أسر أعدائنا الذين بين أضلاعنا (يريد المؤلف الخمول والشهوات وأذكر من ذلك بالحديث الشريف أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك) ولو اقتصر هذا التناقض على أن المتأمل في علم النفس يراه فيلذه درسه والوقوف على تفاصيله لهان الخطب ولكنه يثمر أخبث الثمر فإنه لا يستقر في النفس حتى يبعث اليأس والقنوط من الاستمرار في المجاهدة. وعلاوة على كل ما تقدم أن من مضار نظرية الاختيار الحر أنها حالت زمناً ما بين أصحاب المدارك السامية والعقول الناضجة أن يطرقوا باب البحث في أحوال الإرادة وأطوارها والتعمق في تحليلها ودرسها درساً فلسفياً فكان هذا الإهمال خسارة للعلم لا عوض عنها ولا عزاء فيها.
الآن وقد أدحضنا بالحجة تلك النظريات الذائعة بين الناس المتعلقة بالإرادة وأفسحنا الطريق فيها علينا أن ندخل في غمار الموضوع ونشرع في درس الإرادة وتحليلها تحليلاً نفسياً.
الباب الثاني
في تحليل الإرادة تحليلاً نفسياً
الفصل الأول(36/93)
الكلام على تأثير الأفكار في الإرادة
لو كانت عناصر العالم النفسي بسيطة التركيب لهان على الباحث أن يتعرف على المصادر التي يستمد منها القوة في تربية الإرادة ويميز المواطن التي يأتي من ناحيتها الضعف الذي يحول بينه وبين ما يشتهي. ولكن هذه العناصر مختلطة بعضها ببعض اختلاطاً شديداً وممتزجة مزاجاً جعل تحليل الإرادة تحليلاً نفسياً دقيقاً عسيراً وليس من الهنات الهينات.
على أن المعروف أن هذه العناصر التي يتألف منها العالم النفسي قد يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام وهي. (1) الأفكار أو الإدراكات (2) الأحوال النفسية أو الوجدانات أو الإحساسات أو المشاعر أو العواطف (3) الحركات أو الأعمال أو مظاهر الحياة الخارجية أو الإرادة.
- (1) -
في أن الأفكار ليس لها تأثير يذكر بالنسبة لتأثير العواطف
الفكرة تشتمل على عناصر عديدة مختلفة ويتيسر للباحث في الروابط الكائنة بين قوة الإدراك وقوة الإرادة أن يميز نوعين من الأفكار وهما الأفكار التي تنبعث من النفس والأفكار التي ترد من الخارج فيدركها العقل.
ومن الواضح المعلوم أن أكثر الأفكار إنما ترد للإنسان من الخارج فلا تستقر في نفسه إلا كما ينزل المسافر في فندق ثم يزايله سريعاً أو كما قال مونتيني. لا يكاد الذهن يمسكها إلا كما تمسك الماء الغرابيل. لا متسع لقوة التفكير أن تعمل فيها عملاً ما وإنما تتلقفها الحافظة فتخزنها وتدعها مكدسة في قرارها تكديساً ولقد يكون منها ما تنتقص إحداها الأخرى. وكل إنسان منا يدرك أن في ذهنه عدداً عظيماً من الأفكار والآراء التي اكتسبها من القراءة أو من الأحاديث بل من الأحلام والخيالات والأماني وكلها غريبة عنا طارئة علينا انتهزت فرصة خمولنا العقلي فولجت في عقولنا مكتسبة ثوباً من الرفعة ومظهراً من العظمة والجلال بانتمائها إلى كاتب شهير أو أستاذ قدير وقد يكون إثمها أكبر من نفعها.
ففي الحافظة في هذا المستودع الذي جمع بين الخبيث والطيب من الأفكار والآراء تسرح أميالنا الحيوانية ويمرح خمولنا الغريزي تتلمس بين تلك الأفكار المخزونة فكرة تتوكأ عليها وتجعلها مسوغاً ومبرراً لوجودها ولما يصدر عنها من المظاهر ذلك لأن تلك الأفكار(36/94)
المخزونة ملك لنا وواقعة تحت تصرفنا فما علينا إلا أن نصفها صفاً ونستعرضها ونختار منها ما نشاء ونجعله مداراً للحركة والعمل وبذلك تكون أعمالنا دائماً موافقة لما وقع عليه اختيارنا من تلك الأفكار والآراء المخزونة في حافظتنا. ثم إن لنا على تلك الأفكار النفوذ الأعظم والسلطان الأكبر فإنما هي كلمات مجردة لا تستطيع أن تقف في سبيل الشهوات والأغراض.
فإذا اصطدمت بها تفككت أجزاؤها وتلاشت كما يتكسر إناء من الصلصال إذا صدمته قدر من الحديد.
حاول الموسيو فوييه في رسالة له أن يثبت أن للأفكار قوة
وأخذ يؤيد مذهبه هذا بالحجة والبرهان ولكنه لم يفطن إلى أنه إذا كان للفكرة قوة فإنما استمدتها من قوة القوى، من القوة الحقة أعني قوة الأحوال النفسية التي يعبر عنها بالإحساس أو الوجدان أو العواطف واكتسبتها بامتزاجها بها وارتباطها معها ارتباطاً محكماً متيناً. فإن الفكرة في ذاتها ضعيفة بنفسها كما تدل على ذلك التجارب والمشاهدات وشتان ما بين فكرة كل ما تستطيعه أن تريك أن ما هممت بفعله وصحت عزيمتك على إمضائه هو النهج القويم والصراط المستقيم وبين اعتقاد جازم وشعور ملازم يستثيرك ويستفزك ويحركك إلى إنفاذ ما يجول في خاطرك ويجيش في صدرك. والفكر إذا انفرد بمقاومة الشهوات الحيوانية وصد ثائرتها وحده بلا معين عجز عن ذلك كل العجز ولم يستطع الصبر والثبات على هذه المجالدة. على أن انفراد الفكر ووقوفه هذا الموقف مستحيل ما دام الإنسان في حالة الصحة والعافية لشدة ما بين الفكر والمشاعر من الروابط وإنما يتجلى للإنسان وهو في حالة المرض تلك الحقيقة وهي أن كل قوة تدفع الإنسان إلى عمل من الأعمال الكبيرة العظيمة فإنما مصدرها الإحساس وحده. نحن لا ندعي أن العقل مجرد من كل قوة وإنما الثابت لدينا أنه عاجز كل العجز عن صد الأميال الحيوانية التي تملك المشاعر وتنحط عليها بكلكلها.
ولقد ضرب الموسيو ريبو أمثلة عديدة أبان بها أن الإدراك وحده عاجز إلا إذا أسعفته الإحساسات والعواطف فمن ذلك أن رجلاً اتفق له حادث سر فؤاده وشرح صدره واقر عينه فانفعلت نفسه بذلك انفعالاً شديداً حتى لم تبد إمارات الجذل في أسارير وجهه من شدة(36/95)
ما أدركه من الفرح ولكن فكره ظل على حاله غير متأثر بما وقع وبقي متمتعاً بقواه جميعها ومدركاً ما حدث فلم يستطع ذلك الرجل وهو على تلك الحالة أن يحرك يده للتوقيع على رقعة قدمت إليه. وكثيراً ما يتفق مثل ذلك لكل واحد منا في صبيحة ليلة ساورته فيها الهموم فأقلقت مضجعه وتركته مسهداً حزيناً منقبض الصدر.
ففي مثل هذه الأحوال جميعها يصيب الإنسان ضرب من الذهول والجمود مع بقاء قوته العقلية على حالها تدرك ما جرى وتعلم ماذا ينبغي فعله ولكنها عاجزة في نفسها عن دفع الإنسان إلى أي عمل من الأعمال إلا إذا شاركها الشعور وأمدها بالقوة والحول.
وإنني ذاكر لك ما وقع لي على سبيل المثال، ذلك أن خادمتي جاءتني في صبيحة يوم فأعلمتني أن زائراً ينتظرني في ردهة الإستقبال وكنت لا أزال راقداً في فراشي ثم بقيت أتقلب في الفراش متلذذاً بالدفء والرحة. وقد غاب عن ذاكرتي ما أبلغتنيه خادمتي. ثم سمعتها تتحدث مع هذا الزائر فأحسست بأن تثاقلي عن النهوض وتباطؤي عن ملاقاته مناف للذوق ومجاف لآداب المعاشرة واللياقة فنهضت وثباً وأسرعت إلى استقباله.
ومن الأمثال والشواهد التي ذكرها المسيو ريبو تعلم الفرق بين نتائج الفكر وبين نتائج الإحساس. ومن ذلك أن رجلاً أصيب بمرض في الإرادة فبات لا يستطيع أن يأتي بأية حركة إرادية ولكنه ظل حافظاً لقواه العاقلة كلها فحدث ذات يوم أن المركبة التي كان بها صدمت إمرأة فكان أول من وثب منها وركض لإغاثة تلك المرأة الجريح.
قد يحمل بعض الناس الحوادث المتقدم ذكرها على أنها أحوال مرضية لا يصح إطلاقها على الناس كافةً. نعم إنها أحوال مرضية ولكنها صورة مكبرة لضعف النفوس الذي يشاهد في الناس عادةً ولكنهم قلما يعترون بهذه الأحوال أو يحسبون لها حساباً. وذلك مثل البخيل الذي يشهد تمثيل رواية (موليير) ويسمع بأذنيه نوادر الشح وغرائب البخل مصورة مجسمة فيقهقه منها ويغرب في الضحك ولكنه قلما يعتبر بها أو يدرك أنها صورة مكبرة لذلك الخلق المرذول الذي هو عليه. وكذلك ضعيف الإرادة يرى بعض اللذين أصيبوا بالأمراض النفسية فلا يسلم بأن حالته النفسية إنما هي حالة صغيرة من هذه الأمراض على أنه مهما أصر على رأيه ولم يقتنع بأن قوة الإدراك وحدها لا تجزئ شيئاً وإنه لا بد من سلامة النفس من العلل والأمراض فلسوف تقنعه التجارب بأنه في ضلال مبين وأن الفكرة(36/96)
وحدها ضعيفة في ذاتها قوية في بانضمامها إلى الإحساس. انظر إلى السكيرين تراهم يعلمون حق العلم عقبة الإدمان على السكر وما ينتجه من النتائج الوخيمة ولكنهم قلما يحسون ويشعرون بذلك إلا عندما تبدو لديهم أول علامات الجنون الكحولي فإذ ذاك يندمون ولات ساعة مندم. فلعمري ماذا أفادهم علمهم بهذه النتائج إذا كانوا لم يشعروا بها ولم تنفعل بها نفوسهم. فإذا وقعت الواقعة وحل بهم المرض والفاقة قالوا متوجعين ليتنا كنا علمنا. لقد علمتم ولكنكم ما كنتم تشعرون. والشعور هو صاحب الكلمة العليا والأمر النافذ على الإرادة.
تقدم الكلام على تلك الأفكار المخزونة في الحافظة التي لا تنفذ إلى أعماق النفس وليس لها أثر فيما يصدر من الإنسان من الأفعال ونقول الآن أن هناك نوعاً آخر من الأفكار يستعين ببعض العواطف الوقتية فينتج بعض النتائج ويكون له شأن في دفع الإنسان إلى الحركة والعمل. مثال ذلك أن رجلاً قضى بضعة أيام في بيته ملتزماً العزلة والسكون ممتعاً نفسه بالراحة والخمول يقطع أوقاته في القراءة وكلما هم بكتابة فصل من كتابه الذي شرع في تأليفه وأزمع إبرازه للجمهور أحجم عن ذلك ضعفاً منه وخوراً في عزيمته فبينا هو على هذه الحال إذ حضر البريد فحانت منه إلتفاته في إحدى الصحف فرأى أن زميلاً له نشر كتاباً حاز إقبال الجمهور ورضاه فاشتعلت نار الغيرة في فؤاده وشحذ عزيمته حب المباراة والسبق فعاد إلى الكتابة وانكب عليها وما زال حتى أتم مؤلفه. فما عجزت عن عمله الفكرة والقياسات المنطقية جعله مجرد انفعال نفساني وهو عاطفة الغيرة أمراً ممكناً ميسوراً. على أن عاطفة الغيرة معدودة من عواطف الدنيا.
إني لأذكر دائماً حادثة وقعت لي فأرتني جلياً الفرق بين الفكرة والإنفعال النفساني ذلك أنني كنت في بعض السنين أروض النفس في جبال الألب وذهبت ذات يوم قبل شروق الشمس أصعد الجبل فأدى بي المطاف إلى اجتياز طريق مكسوة بالثلوج ومنحدرة انحداراً شديداً ينتهي إلى هاوية مظلمة بعيدة القرار وكنت أسير في هذه الطريق إنزلاقاً على الجليد فلم أفقد صوابي بل علمت ما أنا فيه من حرج الموقف وسوء المغبة وأيقنت أنني هالك لا محالة على أنني تجلد وتملكت رباطة جأشي واعتمدت على عصاي المحددة الطرف فأمكنني أن أتئد في سيري حتى صار أبطأ مما كان وسرت الهويناً حتى اجتزت هذه(36/97)
الطريق برفق وحذر ووصلت إلى اليبس وتسنمت الصخر وقد نجوت من الخطر فارتعد عند ذلك جسمي ارتعاداً شديداً من جراء التعب والإعياء ثم أخذ قلبي يخفق خفقاناً متتالياً وتصبب مني العرق البارد وأدركني في تلك اللحظة خوف شديد ووجل طارت منه نفسي شعاعاً ذلك أنه في تلك الآونة استحالت فكرة الخطر إلي إحساس وشعور بالخطر.
ومن بين تلك الأفكار التي ترد من الخارج وترتبط ارتباطاً وقتياً بالعواطف التي تثور ثم تخمد سريعاً ما هو أدخل في النفس وأعلق بها وأشد بها ارتباطاً ومنا تمكناً وهو عبارة عن أفكار ترد من الخارج أيضاً كسابقتها التي شرحناها غير أنها لا تتحد إلا مع العواطف الأصلية الغريزية. أفكار من طبيعة تلك العواطف وعلى شاكلتها فتمزج بعضها ببعض امتزاجاً لا يسهل معه الفصل بينها حتى تتشابه فيلتبس الأمر ولا يعلم إن كانت الفكرة هي التي استغرقت العاطفة أو العاطفة هي التي استغرقت الفكرة وأدمجتها في بنيتها، ومما يعين على سبك هذه السبيكة وصبها في ذلك القالب أن الفكرة الطارئة من الخارج تندمج أيضاً في الأفكار التي تتولد في النفس وتفيض منها وهي التي تعبر تعبيراً صحيحاً وتدل دلالةً ناطقةً على كنه الأخلاق ومنازع النفس وأميالها وما هو مستقر في أعماقها من الخواطر والسوائح وفي أثناء هذا الإدماج يصبغها الإحساس بصبغته ويمدها بشي من حرارته حتى ليخيل إلى من تأمل فيها أنها عواطف منبعثة من النفس وليست أفكاراً مصدرها الإدراك والتعقل ثم تظل بعد هذا التحول الذي طرأ عليها باقية في الذهن حافظة لقوتها وحرارتها التي استمدتها من العواطف. إن المواد التي تسيل على جوانب البراكين مصهورة ثم يبترد سطحها تبطن في أحشائها مواضع بها أجزاء تظل سائلة وتبقى أعواماً طوالاً حافظة لحرارتها الشديدة. فما أشبه هذه الأجزاء بتلك الأفكار في كمونها في النفس على حرارتها حتى يتاح لها أن ينقدح زنادها ويتطاير شررها. هذه الأفكار هي التي توحي إلى صاحبها المعاني وتلهمه الآيات وتنفث فيه السوانح فيما يعانيه من كبريات المسائل وعظائم العزائم المفتقرة إلى الجهد الكثير والتفكير الطويل.
وأعلم أن هذه الأفكار بما لها من الصلة المتينة بالعواطف أصبحت شبيهة بها وعنواناً عليها وواسطة تتنقل بها بين القلوب وتحل بين الجوانح والأفئدة ولولاها لظلت العواطف في مكانها نكرة لا تعرف ومجهولاً لا يهتدى إليه، وذلك لأن العواطف من طبيعتها بطيئة ثقيلة(36/98)
الحركة ومهما كانت قوتها في قلب صاحبها فإنه يشعر بها شعوراً يشوبه اللبس والإبهام والغموض فلا يجد إلى الإفصاح عنها سبيلاً. وأما الفكرة فإنها لينة مرنة تنتقل على أهون سبيل من عقل إلى عقل متبطنة العاطفة التي تعبر عنها فتفعل في النفوس فعلها.
فأنت ترى من ذلك أن الأفكار التي من هذا القبيل مباينة كل الباينة للأفكار الطارئة من الخارج التي وعتها الحافظة وخزنتها في وعائها. هذه ألفاظ سيالة تنتهي بمجرد النطق بها وليس لها في النفس الإنسانية من أثر يذكر وتجعل من صاحبها رجلاً قوالاً غير فعال. وأما تلك فإنها ذات أصول تستمد بها قوتها وبأسها من ينبوع العواطف والأميال والشهوات المستكنة في قرارة النفس.
فإذا تولدت فكرة من هذا الطراز في نفس مستعدة لقبولها حدث كما يحدث من خاصتي الإنتقال والتجاذب في السوائل المتجاورة أمران حقيقيان بالعجب. الأول أن الفكرة تجذب إليها العواطف الصالحة لإخصابها فتتغذى منها وتترعرع وتقوى، والثاني أنها تنقل إلى العواطف ما اتصفت به من الجلاء والوضوح وتوجهها إلى الغاية المنشودة وتهديها سبلها. وكما أن المغناطيس يجذب بردة الحديد ويجعلها دوائراً وصفوفاً في غاية النظام والإحكام كذلك الفكرة توجه العواطف المتباينة إلى وجهة واحدة وتهدم ما بينها من الفوارق والتناقضات. تكون العواطف في قلب صاحبها خليطاً مشوشاً مضطرباً فتتسلط عليها الفكرة فتجمعها بعد شتاتها وتنظمها بعد انتثارها وتضم أطرافها وتسلك بها المنهج القويم والحجة الواضحة. لذلك تجد الجماهير في الشعوب الديمقراطية تخفق أفئدتهم بأماني ورغائب يتطلعون محوها ويشرئبون إلى تحقيقها ولكنهم قلما يفهمون كنه ما يجيش في صدورهم منها حتى يقف بينهم خطيباً زعيم من زعماء السياسة المعروفين لديهم فيقول كلمة تصادف هوى من نفوسهم وتقع على موضع الألم من أفئدتهم فسرعان ما تجتمع كلمتهم على غاية واحدة وتتفق أغراضهم في سبيل واحد بعد أن كانت عواطفهم فوضى لا نظام لها ولا ثمرة ترجى من غليانها في صدورهم.
هذه حال الأفكار إذ اانضمت إلى العواطف وارتبطت معها وأما إذا بقيت وحدها فإنها تظل عاجزة عن صد تيار المشاعر الطبيعية والإنفعالات الغريزية ودفع استبدادها وتحكمها مثال ذلك أنه قد يحدث للإنسان في بعض الليالي أن ينقبض صدره وتنتابه المخاوف بلا سبب(36/99)
معقول وترتعد فرائصه فرقاً ويخفق قلبه خفقاناً شديداً فيصعد الدم إلى رأسه وتحتقن وجنتاه ومع أنه يفهم أن لا محل لهذا الرعب ويعلم أن استرساله في ذلك معيب وحاط من كرامته فلن يستطيع أن يتغلب على عواطفه ويقهرها. فمن لم يحدث له مرة مثل ذلك عليه أن يختبره بنفسه وذلك بأن يقوم بعد منتصف ليلة من ليالي الشتاء تعصف فيها الرياح عصفاً شديداً ويأخذ في قراءة قصة (الباب المسدود) من كتاب القصص الخرافية تأليف هومفن فيرى بعينيه كيف تعجز قواه العقلية ومداركه السليمة عن التغلب على عاطفة الخوف.
دع الآن هذه العواطف الغريزية وانظر إلى العواطف التي تكتسب بالرياضة والمران، وتأمل في الفرق البعيد بين تنائجها ونتائج الأفكار. انظر مثلاً إلى الإعتقاد الديني لدى الأدباء والمستنيرين والمهذبين من أهل الحضارة القائمة على التعقل والبحث المنطقي، وهذا الإعتقاد بعينه لدى راهب من رهبان (الدومنقيين) القائم على الإيمان والتسليم بلا بحث. تجده لدى هذا الراهب اعتقاداً راسخاً كالجبل لا يميد وعاطفة عالقة بالنفس لا يتطرق إليها الشك، يؤمن إيماناً صحيحاً بضحى في سبيله ملاذ هذه الحياة ويزهد فيما يتهافت عليه الناس ويتهالكون على اقتنائه ويصبر على الفقر والجوع ويروض نفسه على تحمل التعب والألم وأما ذلك المترف الذي يعرف قواعد الدين ويعلم حكمها وأحكمها وقد يذهب للصلاة في الكنيسة ولكنه لا يحجم عن اقتراف أشنع الآثام التي تنم عن الأنانية والطمع كأن يقتر على خادمته المسكينة ويرهقها فلا يطعها إلا بقدر ما تمسك رمقها، لا يشفق على ضعفها ولا يرثي لحالها بل يكلفها من العمل ما هو فوق طاقتها على أنه ينفق بلا حساب في سبيل لذة ينالها أو وطر يقضيه.
بل انظر إلى ذلك الإشتراكي الذي يرقى المنابر ويرفع عقيرته بالدفاع عن حقوق العمال يصف حالهم وظلم أصحاب الأموال لهم ثم نجده بعد ذلك يعيش عيشة البذخ والترف يتنعم بكل صنوف الملذات وينفق عن سعة فيما لا تدعو إليه ضرورة وإنما اقتضاه الزهو والخيلاء. أين هذا الإشتراكي من مثل الكونت تولستوى الذي يؤمن بالإشتراكية إيماناً ويحس بها إحساساً ولذلك لم يمنعه ماله من شرف المحتد والثروة الطائلة والقريحة المتوتدة والجاه العريض والصيت الذائع من أن يقيم بين الفلاحين ويشتغل في الأرض معهم ويقاسمهم شظف عيشهم ويشاركهم في سرائهم وضرائهم.(36/100)
كل إنسان يعلم حق العلم أن كل نفس ذائقة الموت وأن كل كائن حي لا بد أن يموت ولكن قلما ينتفع أحد بهذه الفكرة لأنها تتردد في الذهن ولا تأثير لها على أخلاق المرء وطباعه وكان حقاً عليها أن تخفف من غلوائه وتيهه وأن تعزيه عن مصائب هذه الحياة وآلامها وأن تطهره تطهيراً من الطمع والجشع والتناهي في حب الذات. ولكن أنى لها ذلك وهي مجرد فكرة لم تستشعرها النفس ولذلك ترى المجرمين الذين قضي عليهم بحكم الإعدام لا يشعرون بدنو أجلهم وتنفعل بهم نفوسهم إلا في آخر أيامهم. ولقد وصف (ديكنيز) حالهم بقوله: تتردد فكرة الموت دائماً في ذهن المحكوم عليه بالإعدام ولكنها لا تكاد تخطر حتى تزول. وكلما فكر في انصرام حبل أجله وارتعدت فرائصه وانخلع قلبه هلعاً واحمر وجهه حتى يحاكي الجمرة ثم ينتقل فكره رغماً عن إرادته فيحدق ببصره في كوة للغرفة التي أعتقل بها ويعد قضبان الحديد التي فيها ويلمح بينها قضيباً قد التوى فيتساءل عما إذا كان أولياء الأمر في ذلك السجن يبادرون إلى تقويم ذلك الإعوجاج ثم ينتقل فكره على هذه الصورة حتى إذا أقبل مساء آخر يوم من أيامه تجلت له صورة الموت في أبشع مظاهرها فتحس بها نفسه فتخور قواه ويستولي على قلبه الجزع واليأس.
وقد ذكرنا من الأمثال والشواهد ما يكفي للدلالة على ضعف تأثير الفكرة بالنسبة للعاطفة. ولكل قارئ أنم يراجع ما مر به من الحوادث وما استفاده من التجارب فيجد كثيراً منها يؤيد صحة قولنا.
والخلاصة أن الفكرة في ذاتها ضعيفة وكانت تكون قوية لو أنها وجدت وحدها في الضمير ولكنها ليست فريدة فيه بل هي والعواطف فيه فرسا رهان فهي مضطرة أن تستمد منها ما هي في حاجة إليه من القوة اللازمة للمجاهدة.
ـ 2 ـ
في أن لنا السلطة التامة على أفكارنا وكيفية الإنتفاع
بتلك السلطة واستخدامها
إذا كانت أفكارنا عاجزة عن التأثير بنفسها كما تقدم الكلام فذلك لا يهمنا ولا يحززننا لأن لنا عليها السلطان الأعظم ولنا أن نتصرف فيها كما نشاء. إذ من المعلوم أن من طبيعة القوى المدركة أن الفكرة إذا خطرت جذبت إليها فكرة أخرى ترتبط بها وهذه تجر غيرها(36/101)
وهكذا فيتألف من ذلك سلسلة طويلة من الأفكار ومن الهين علينا الميسور لنا أن نستعين بنواميس تسلسل الأفكار وارتباطها بعضها ببعض فنقطع سلسلة منها شاغلة لذهننا وندخل فيها بإرادتنا أفكاراً أخرى غريبة عن هذه المجموعة فندمجها فيها وننظمها في سلكها ثم نربط ما انقطع من تلك السلسلة. كنت أفكر في إيراد مثال أوضح به هذه القضية النظرية فهداني الإتفاق إلى المثال الآتي وطالما كان الإتفاق خير هاد وأرشد دليل. ذلك أنني بينما كنت أفكر إذ طرق سمعي صفير صادر من صفارة العمل القريب من داري فقطع هذا الصوت الذي مثل لسمعي سلسلة الأفكار التي كانت شاغلة ذهني ولو شئت أن أستبقيها لما استطعت إلى ذلك سبيلاً. ثم تجلى لخيالي منظر البحر عند شواطئ جزيرة (قورسه) والجبال الشامخة والمناظر الأنيقة الشائقة التي تبدو أمام عيني المتنزه على شاطئ البحر في مدينة (باستيا) إحدى مدن تلك الجزيرة. وإنما استعاد خيالي تلك المناظر لأن صفير صفارة الذي طرق سمعي يحاكي كل المحاكاة صفير البواخر الذي كنت أسمعه كل يوم في غضون ثلاثة أعوام قضيتها في تلك المدينة.
فمن هذا المثال تعلم أن الأقوى هو الذي له حق البقاء في الذهن فإن أردت أن تطرد من ذهنك فكرة فسلط عليها فكرة أخرى أقوى منها وأشد بأساً.
ومن القواعد العامة في علم النفس أن الأحوال الماثلة أقوى من الممثلة أو بعبارة أخرى أن الأحوال الحاضرة في الذهن التي ترد إليه من طريق الحواس الخمسة أكبر حولاً وأشد قوة من الأفكار التي تهجس في الضمير وتمثل المعاني والمدلولات البعيدة عن الحس. وكما أن صفير الصفارة طرد من ذهني مجموعة الأفكار التي كنت أريد أن أطلق لها العنان فكذلك لكل إنسان أن يحتذي هذا المثال بحكمة وحذق فيثبت في ذهنه من الأفكار ما يشاء ويمحي منه ما يشاء.
فإذا تولدت في ذهنك سلسلة من الأفكار لا تود بقاءها فيه وتريد أن تمحوها من نفسك فما عليك إلا أن تصطنع أحوالاً ماثلة تعرض لذهنك بقوة وتقطع هذه السلسلة وتحل محلها.
ومن جملة هذه الأحوال الماثلة ما هو طوع إرادتك ورهن إشارتك تستخدمه أينما شئت وكيف شئت وهي الحركات ومنها حركات اللسان والشفتين أي النطق. فإذا رمت أن تطرد بعض الأفكار من ذهنك فخذ في قراءة قطعة وانطق بألفاظها وأجهر بصوتك عند القراءة.(36/102)
ومن الوسائل التي كان يتذرع بها بعض العباد لطرد الأفكار الضارة التي تثير الشهوات ونزغات النفس ونزواته أن يجلدوا حتى تدمى جسومهم. بهذا وبأمثاله يستطيع الرجل أن يغلب فكرة على أخرى ويدخلها في نفسه عنةً واقتداراً ويجعلها تسير بذهنه إلى وجهة غير التي كان متجهاً نحوها.
ومما يعين على الوصول إلى تلك الغاية ناموس الحافظة إذ من المعلوم أن ما يراد حفظه في الحافظة يجب أن يكرر تكراراً كثيراً في كل آونة حتى ينطبع فيها وينتقش ويحمي سطور ما تقدمه ويعفي أثره ويحل محله بشرط أن يكون هذا التكرار مقترناً بالإنتباه التام ونشاط النفس وارتياحها، بذلك يطرد الإنسان أفكاراً قديمة ويستعيض عنها بأفكار حديثة، ثم إن دقائق الدماغ التي ولدت تلك الأفكار التي طردناها وحكمنا عليها بألا تعود تضعف وتضمر ثم تزول كلها وتجر معها جميع الأفكار التي كانت تتولد منها. الخلاصة أن في وسع المرء أن يسيطر على أفكاره فيقتلع البذور الفاسدة منها والبقعة التي تنبت فيها تلك البذور وتذكو وتترعرع.
وإذا رمت عكس ما تقدم أي أنك تريد الإحتفاظ بسلسلة من الأفكار موجودة في ذهنك وتود أن تبقى وتنمو وتشتد فما عليك لإدراك هذه الغاية إلا أن تجتهد في إبعاد كل ما من شأنه أن يمثل لذهنك ويلم فيه من المبصرات أو المسموعات أوغيرها وذلك بملازمة السكون التام والصمت وإغماض العينين إذا كانت سلسلة الأفكار التي لديك لينة مرنة لا تحتمل مصارعة. ولك أن تستعين ببعض الأحوال التي تفيدك فيما تنشده ولاسيما النطق بالعبارات التي تعبر عن الفكرة التي تريد الإحتفاظ بها والجهر بها ثم تقيدها بالكتابة. وللكتابة شأن خطير لا يستهان به في التفكير الطويل فإنها عدة للذهن تعينه على التفكير باستخدامه آلتي البصر واليد. ولقد انطبعت في نفسي عادة اكتسبتها من ممارسة صناعتي وهي أنني لا أقرأ شيئاً إلا حافظت أشد محافظة على تأدية حروفه من مخارجها وجهرت بصوتي في القراءة فتتأصل بذلك في نفسي كل فكرة وترسخ بواسطة ثلاث عوامل بل أربع إذ من المتعذر أن يقول الإنسان قولاً بلسانه ولا يسمعه بأذنه.
وقصارى ما نقول أن سيطرتنا على أفكارنا وسلطتنا عليها لما تأتيان من سيادتنا على عضلاتنا وإمكاننا تحريكها بإرادتنا ولاسيما عضلات الحواس الخمس ومن جملتها(36/103)
العضلات التي تتحرك عند النطق. فبهذه السيطرة نستطيع أن نخلص من مجموعة أفكار ولجت ذهننا وتملكته وتحكمت فيه وأن نستبدلها بما هو خير منها. وتختلف هذه السلطة لدى الأفراد قوة وضعفاً. ولا يحسن أن يحسد الإنسان في نفسه حالة خاصة فيخالها عامة في جميع أفراد النوع الإنساني بمخالفة ذلك النواميس.(36/104)
ماجدولين الجديدة
الجزء الثاني
في إنجلترة
الفصل السادس
وصيفة اللادي جانيت
الفصل شتاء، والسماء مصحية، والجو مشرق جميل ونحن ندخل بالقارئ دار مابلثورب بلندن، فنجاوز الحديقة إلى حجرة الطعام، وليس في عشاق الفنون، والمفتونين بالجمال من أهل لندن من لم يسمع بالنقوش الجميلة التي ازدانت بها حجرات ذلك المغنى، ولهذه الحجرة مدخل حافل بالأزهار، ومستغرب النبات، وعلى يمينك باب يؤدي إلى حجرة الكتب، قاعة كبيرة تتصل بحجرات البيت، وعلى يسارك، قاعة البليارد تتجاوزها إلى قاعة التدخين.
هذا والساعة قد دقت اثنتين، وقد بسطت المائدة لطعام الغداء. وكان الجلوس ثلاثة، وفي الصدر جلست اللادي جانيت روي، وبجانبها وصيفتها ومقرئتها، وأما الثالث فضيف نزل بالدار، لا يزال قراء هذه الرواية يذكرون اسمه - وهو هوراس لمكروفت - الملتحق بالجيش الألماني مكاتباً حربياً لإحدى صحف لندن.
واللادي جانيت روي، لا تحتاج إلى التعريف، فهي نجم متألق في المجتمعات الإنكليزية.
من الذي لم يسمع بيواقيتها وحرائرها، ومن ذا الذي لم يفتن باعتدال قوامها وشعرها الأشيب الوقور الجميل وعينيها السوداوين اللتين لا تزالان تحتفظان بلمعة الشباب، ورنوة الصبا، ومن الذي لم يطرب لسماع حديثها الفياض الندي، ومحاضرتها الرطبة الشهية. . .، من هذا العابد المتمسك الذي لم ينته إليه طرف من غرابة آرائها وشذوذ أفكارها، كل إنسان قد سمع بالسيدة العجوز، أرملة لورد طال العهد بموته، كل إنسان يعرف اللادي جانيت روي.
ولكن من الذي يعرف المرأة الشابة الحسناء الجالسة عن يمينها. تلعب بالطعام ولا تأكله. لا إنسان يعرفها ولا ريب.
إنك لتراها الآن في لباس رمادي جميل، تكاد تداني اللادي روي في طول قامتها، تحمل في(36/105)
وجهها مفاتن من الحسن قلما توجد في مشذبات القوام. ممشوقات القدود. وإنك لتحس إذ تنظر إليها أنها ليست إلا سيدة نبيلة تشارك اللادي روي في الشرف وجلال الأصل. ولكن. واآسفاه. ليست هي بعد إلا القارئة والوصيفة،. . . . وهي تقابل حديث سيدتها بإطراقة من رأسها اللطيف. ولكن ما بالها حزينة صامتة الحزن، ألا يزال ضميرها يعذبها؟؟
لم تلبث أن نهضت فجأة وهي تقول بحزن، هل تأذنين لي يا مولاتي أن أذهب إلى قاعة الزهر؟. . فأجابت اللادي جانيت. بلا ريب يا عزيزتي.
فحنت رأسها لسيدتها ونظرت إلى هوراس نظرة رحمة وإشفاق ثم تولت ذاهبة، وعينا هوراس تتبعانها.
فلما اختفت، ظل صامتاً لا يأكل، والشوكة في يده يلعب بها، قالت اللادي - ألا تأخذ شيئاً من الفطائر؟
فأجاب هوراس. كلا. وأشكرك.
فعادت اللادي تقول. ألا تتناول شيئاً آخر.
فأجاب هوراس. إذن فآخذ قدحاً آخر من النبيذ إذا كنت تسمحين.
وإذ ذاك ملئ القدح وجرعه مرة واحدة في سكوت واللادي جانيت تلاحظه. قالت اللادي. يلوح لي أن جو داري لا يوافقك يا صديقي الشاب فإنك منذ نزلت ضيفاً عليا لا تفتأ تلح على الكاس، وتملأ الأقداح إثر الأقداح، وتشعل اللفافة بعد اللفافة، إن هذه الأعراض غير محمودة في الفتيان. لقد جئت بيتي يوم وصولك مريضاً من أثر جرح أصابك في ميدان الحرب، ولو كنت أنا في مكانك ما عرضت نفسي للرصاص، ولا غرض هناك إلا وصف موقعة في الصحف، ولكني أظن الأذواق تختلف، أراك مريضاً، ألا يزال جرحك يؤلمك.
فأجاب هوراس. كلا.
فعادت تسأله. وهل أنت ضيق الصدر.
وعند ذلك وضع هوراس الشوكة في يده واعتمد بذراعه على المائدة ثم أجاب. أشد الضيق!
فتملك اللادي جانيت الغضب وقالت، إن مائدتي يا سيدتي ليست من موائد الأندية والأسمار وأنا لا أسمح إنسان أن يكون ضيق الصدر في بيتي. إني أعد ذلك إهانة موجهة(36/106)
لشخصي، فإذا كانت حياتنا الهادئة لا تلائمك فقل ذلك وانظر موطناً آخر تتحمل إليه، وعلى ذكر ذلك، هل وجدت لك عملاً جديداً تزاوله.
فأجاب هوراس بهدوء، أجل، إن الحرب لا تزال قائمة وقد طلب إلي أن أكون مكاتباً حربياً لصحيفة أخرى.
قالت اللادي بغضب شديد لا تتكلم عن الصحف والحرب يا سيدي، إني أمقت الصحف، ولا أسمح لها بدخول بيتي، بل إني ألقي تبعة هذه الحرب الموحشة وهذه الدماء المسفوحة، عليها وحدها.
فتملكت هوراس الدهشة وقال، ماذا تعنين، هل الصحف هي المسؤولة عن الحرب؟
فأجابت اللادي بهدوء، كل المسئولية. إنك لا تفهم العصر الذي نعيش فيه، هل ترى أحداً منا يعمل شيئاً اليوم إلا ودلو رآه مكتوباً في الصحف، أنا أكتتب لجمعية من الجمعيات، وأنت تحرز شهادة من الشهادات، وهو يخطب خطبة عصماء، وهي تؤلف ندوة من الندوات، وهم يذهبون إلى الكنيسة، وأنا وأنت ونحن وهو وهي وهم نريد شيئاً واحداً، نريد أن نرى ذلك منشوراً في الصحف، فهل تظن الملوك والساسة والقواد والشعراء شواذ عن بقية الناس، كلا، إني أقول لك لو كانت صحف الغرب أجمعت على أن لا تحتفل بالكتابة عن الحرب بين فرنسا وألمانيا، إذاً لكانت الحرب قد انتهت منذ زمن بعيد، دع القلم يكف عن تذكية السيف، وأنا أقول لك لا حرب يومذاك ولا قتال!
قال هوراس بتهكم إن أراءك عليها طلاوة الجديد يا سيدتي، فهل تمانعين في رؤيتها منشورة في الصحف؟
فهاجمته اللادي بأسلحته. إذ قالت، ألست أعيش في القرن التاسع عشر أجل بل! اكتبها يا سيدي، واكتبها بالقلم العريض.
فعمد هوراس إلى تغيير الموضوع فقال، أنت تلومينني على أنني ضيق الصدر وتظنين أن ذلك لأنني سأمت هذه العيشة البهيجة في دار ما بلثورب، ولكن كلا يا سيدتي اللادي فإنني لم أمل العيشة ولم أسأم - وهنا التفتت صوب قاعة الزهر ثم عاد فاسترسل في حديثه - وإنما الحق أقول إنني غير مسرور من جريس روزبري.
قالت اللادي وماذا صنعت جريس؟(36/107)
قال هوراس إنها تصر على تأجيل الزواج، وتأبى كل الإباء أن تحدد يوم عقد القران.
فسألته اللادي، وهل تعرف لذلك سبباً.
فأجاب هوراس، أخشى أن يكون هناك باعث لها على هذا التأجيل، باعث لا تستطيع أن تبوح به لكي أو لي.
قالت اللادي باستغراب، وماذا يجعلك تظن هذا الظن؟
فأجاب هوراس، لقد باغتها مرة أو مرتين وهي تبكي، ثم لا أفتأ أراها ترتجف حيناً، وحيناً تقطب، وتارةً تبدو مبتهجة، وأخرى حزينة مضطربة، فما معنى كل هذه الحركات.
فلم يكن من اللادي إلا أن ابتسمت قائلة، إن المعنى واضح أيها الأبله كل الوضوح، إن جريس منحرفة المزاج في هذه الأيام وقت وصف الطبيب لها السفر وترويح النفس، وسأسافر بها إلى مصطاف جميل.
فقال هوراس بل الأوفق أن أسافر أنا بها ولعلها ستوافق بتأثيرك ونفوذك، فهل ترينني أسألك أمراً كبيراً إذا أنا توسلت إليك أن تعملي على حضها وإغرائها، لقد كتبت والدتي وشقيقتاي إليها فلم يفلحن، فاصنعي لي أكبر جميل كلميها اليوم!
وإذ ذاك أخذ يد اللادي جانيت فطبع عليها قبله حارة وعاد يقول لقد كنت أبداً حنوناً علي عاطفة حادية.
وإذ ذاك أدركت اللادي جانيت الرحمة له فأجابت بلطف إذن فهل أكلم جريس حقاً.
ورأى هوراس أنه قد تحقق رجاؤه فنهض وألقى ببصره ناحية حجرة الزهر ووجهه مشرق بالفرح وأما اللادي جانيت - ولا تزال ذكرى والده الحلوة في ذهنها - فاختلست النظر إليه. ثم تنهدت من ذكرى أيام الشباب الضائعة ولكنها لم تن أن تمالكت نفسها.
قالت وهي تدفعه صوب الباب، اذهب إلى قاعة التدخين، اذهب وخذ في سيئة القرن التاسع عشر، فحاول هوراس أن يشكرها ولكنها دفعته ثانية وهي تقول اذهب ودخن. اذهب ودخن.
فلما بقيت اللادي جانيت وحدها دارت دورة في القاعة ثم فكرت قليلاً.
لم يكن غضب هوراس غير معقول إذ ليس هناك عذر لهذا التأجيل الذي يشكوه، وسواء أكان للفتات باعث أم لم يكن فلا بد من تلمس ما يجول بخاطرها، ولكن كيف تهجم اللادي(36/108)
جانيت على الموضوع دون أن تغضب فتاتها وإذ ذاك جعلت العجوز تقول يا لله من بنات هذا العصر إني لا أستطيع فهمهن، لقد كنا في زمننا إذا أحببنا رجلاً اندفعنا إلى الزواج به في أقرب فرصة، ولكن هذا العصر عصر التقدم والرقي. فواهاً لنسائه ثم واهاً.
وأجمعت على مفاتحتها بالموضوع وتركت الكلام للظروف ثم دنت من باب حجرة الزهر فنادت جريس. . . .!
وفي الحال جاءت الفتات الهيفاء تخطر نحوها فوقفت عن كثب ثم قالت هل ناديتني يا مولاتي.
فأجابت السيدة نعم فإني أريد أن أكلمك، تعالي واجلسي بجانبي.
وانثنت اللادي جانيت إلى منضدة في القاعة فجلست عندها وإلى جانبها وصيفتها.
الفصل السابع
جوليان جراي
وافتتحت اللادي جانيت الكلام فقالت أنت تلوحين هذا الصباح شاحبة يا ابنتي.
فتنهدت مرسى تنهدة راجعة وأجابت إني مريضة. وأقل ضوضاء تزعجني.
فوضعت اللادي جانيت يدها فوق كتفها بلطف وإشفاق وقالت إذن فلنجرب السفر يا عزيزتي وترويح النفس. فأي ناحية تشائين يا فتاتي. هل القارة تريدين أم ساحل البحر؟
فقالت مرسى. أنت تعطفين علي كثيراً يا مولاتي فأجابت هذه ومن ذا الذي يستطيع أن لا يعطف عليك يا عزيزتي.
فتوردت وجنتاها الذابلتان وقالت وهي ترتجف أواه يا مولاتي أعيدي علي كلمتك.
فنظرت إليها اللادي جانيت متعجبة واسترسلت مرسى تقول في رنة صوت محزن أجش نعم يا مولاتي لا تظنيني جاحدة. هل يطيب لك حقاً أن أكون في بيتك. هل أحسنت سلوكاً منذ نزلت دارك يا مولاتي.
فتأثرت اللادي جانيت من هذه الكلمات ولكنها ظنت أن فتاتها تتلطف لها فقالت وهي تبتسم أنت تتكلمين يا عزيزتي كما تتكلم الأطفال الصغار ثم ألقت يدها فوق ذراع مرسى برفق واسترسلت بلهجة أكثر جداً، بل إني أحمد اليوم الذي جئت إلي فيه يا جريس. ولا أظن أنني أكون أكثر حباً لك لو كنت ابنتي.(36/109)
فمالت مرسى برأسها كأنما لتخفي وجهها وشعرت اللادي جانيت أن ذراع الفتات ترتجف تحت راحتها فقالت ماذا بك يا عزيزتي. فأجابت مرسى في صوت متقطع خافت. لا شيء يا مولاتي إلا أنني شاكرة لك جميلك.
وكان وجهها لا يزال منزوياً عنها.
فقالت اللادي جانيت في نفسها عجباً ماذا قلت لها حتى أخذت في هذا القول هل هي اليوم متفتحة القلب. إذا كان ذلك فلأكلمها عن هوراس. . . .
وانطلقت تدنو بها من الموضوع فقالت ما أطيب الحياة اليوم وما أنضر العيش. لقد عشنا على محض المودة والهناء ولكن ماذا أصنع يا عزيزتي جريس إذا جاء اليوم الذي أضطر فيه إلى أن أفترق عن ابنتي.
فارتجفت مرسى ثانية وفاضت عيناها بالدموع وقالت في لهجة الخوف ولماذا أتركك يا مولاتي.
فأجابت اللادي جانيت أنت ولا ريب تحذرين
فقالت مرسى منذعرة. كلا. إني لا أستطيع أن أفهم. أنبئيني يا مولاتي لماذا،. . . - فأجابتها إذن فسلي هوراس ينبئك.
ولم تفهم مرسى من هذه الكلمات ما كانت تقصد اللادي جانيت، بل انطلق ذهنها إلى حادثة الكوخ، فتراخت ذراعاها ومال رأسها، فرمقتها اللادي جانيت بنظرة عجب وانذهال قالت وهل حدث بينك وبين هوراس منافرة؟
قالت كلا.
قالت ولكنك تعرفين قلبك يا طفلتي - أنت ولا ريب لم تشجعي هوراس على الحب دون أن تشعري له بشيء منه؟
قالت وهي ترتعد. كلا. كلا.
فقالت اللادي جانيت. . ولكن. . . .
وللمرة الأولى اجترأت مرسى على أن تقاطع سيدتها فقالت في رفق يا سيدتي اللادي جانيت إني لست في عجلة من أمر الزواج وإن في المستقبل متسعاً للكلام فيه. إن لديك حديثاً كنت تريدين أن تطارحيني إياه. فما هو. .(36/110)
فلم تجد اللادي جانيت غير الصمت. . جعلت تقول لنفسها عجباً لبنات هذا العصر. أي تركيب ركبن. وأي قلوب يحملن.
ولبثت مرسى تنتظر حديث سيدتها وساد السكون بينهما وكاد يكون سكوتاً مزعجاً لو لم ينفتح الباب المؤدي إلى المكتبة وإذ ذاك ظهر أحد الخدم يحمل صينية من الفضة فدخل القاعة فازداد غضب اللادي جانيت فمضت تصب على الخادم جام سخطها فقالت بحدة ماذا تريد وهل دققت لك الجرس حتى تأتي.
قال الخادم جاء خطاب يا مولاتي. والرسول ينتظر الجواب ثم قدم الصينية إلى سيدته وفوقها الخطاب وعاد أدراجه. فعرفت اللادي جانيت خط العنوان بنظرة استغراب ودهشة فالتفتت إلى وصيفتها وقالت قبل أن تفض غلاف الكتاب اسمحي لي يا عزيزتي فانحنت مرسى لها انحناءة الاحترام وابتعدت إلى الناحية الأخرى من القاعة.
فأرسلت اللادي منظاريها إلى عينيها وجعلت تسائل نفسها وهي تضع الغلاف المفضوض فوق المائدة عجيب أن يعود بهذه السرعة.
وكان الخطاب يحتوي هذه السطور:
يا خالتي العزيزة
قد عدت ثانيةً إلى لندن على غير موعد لأن صديقي القسيس قد قصر من أمد إجازته وواصل عمله في الريف. إني مشفق أن تعذليني إذا اعترفت لك بالأسباب التي حملت صديقي القسيس على المبادرة إلى العودة. ثم إن لي غرضاً شخصياً من مقابلتك قريباً. فهل تسمحين بأن أتبع خطابي هذا إلى دار مابلثورب. ثم هل تسمحين لي بأن أقدم إليك سيدة أنت لا تعرفينها - وأنا بها شديد الإهتمام. أنشدك الله إلا ما قلت نعم لحامل هذه الرسالة فتصنعي بذلك جميلاً حلواً لابن أختك البار.
جوليان جراي
فلما انتهت من تلاوة الرسالة لم تتمالك أن كررت العبارة التي تشير إلى سيدة.
وكان جوليان جراي ابن أخت لها فقدتها منذ أمد بعيد، ولو لم يكن جوليان قريب الشبه بوالدته، لما كان بلغ ماكن الحب والعطف من قلب خالته، لأنها كانت تكره منه آراءه في الدين ومنازعاته في السياسة. وكانت هناك مزية أخرى لجوليان كانت تحتج له عند خالته(36/111)
وتعطف عليه فؤادها وهي الفخر الذي كانت تحسه اللادي جانيت للذكر المتطاول الذي أحرزه ابن أختها الشاب في عالم الكتابة والوعظ الديني، وكان جوليان بعد ذلك لطيف الدعابة فياض الحديث حلو الأماليح حتى لقد كان ذلك ينسيها إذا لقيته كرهها مبادئه.
لذلك لا عجب إذا كانت اللادي جانيت قد اندهشت وبدا عليها الإهتمام من أمر السيدة الغريبة التي ذكرها ابن أختها في كتابه. إذن فهل أجمع على تغيير حياته. وهل تخير له عروساً. وإذا كان ذلك فهل يكون اختياره يلائم مكانة الأسرة.
فلما خطر هذا السؤال الأخير بذهنها ظهر على وجهها المشرق إمارات الشك إذ ذكرت أن آراء جوليان الحرة المتطرفة قد تؤدي به إلى الغلو والخروج عن حدود الأسرة وآدابها ونهضت اللادي جانيت عن المنضدة وهي تهز رأسها عن ريب وتشاؤم وتقدمت إلى باب المكتبة ولكنها لم تكد تخطو خطوتين حتى عادت إلى وصيفتها وقالت إنني ذاهبة لأكتب كلمة إلى ابن أختي وسأعود قريباً يا عزيزتي فدنت مرسى منها متعجبة وهي تقول ابن أختك إن مولاتي لم تذكر يوماً أن لها ابن أخت.
وهنا ضحكت اللادي جانيت وقالت: ولكن لا ريب في اسمه كثيراً على لساني وكنت ولا شك كثيراً ما أردت أن أنبئك به. ولكن كانت تنسينيه شجون الأحاديث التي كنا نأخذ فيها. ثم الحق أقول أن ابن أختي ليس من الموضوعات التي أحبها. لا أريد بذلك أني أكرهه. كلا. يا طفلتي وإنما أمقت مبادئه فقط ومع ذلك سترين فيه رأيك بنفسك فهو قادم اليوم لزيارتنا. . . انتظري هنا ريثما أعود فإن عندي ما أقوله لك عن هوراس.
ففتحت لها مرسى باب المكتبة ثم أغلقته وراءها وعادت تخطر في الغرفة ذهاباً وجيئةً وهي تفكر.
هل كانت في ابن أخت اللادي جانيت. كلا. إن مولاتها لم تذكر اسمه. إنها لا تزال على جهلها بأن ذلك الواعظ الذي وعظهن في الملجأ وابن أخت المرأة المحسنة إليها هما رجل واحد. وإنما كانت تفكر في الكلمات التي طلعت بها عليها مولاتها في أول الحديث إني أحمد اليوم الذي جئتني فيه يا جريس كانت هذه الكلمات بلسماً لفؤادها الجريح. إن جريس الحقيقية ما كانت لتحرز أكثر من هذا المديح الحلو المغسول لو أنها جاءت، ولكنها لم تلبث أن تولاها رعب مخيف لذكرى خدعتها التي نجحت. ولم تشعر من قبل بما شعرت به في(36/112)
تلك اللحظة من الإحتقار والضعة والتأنيب، يالله لو أنها استطاعت أن تفوح بالحقيقة. . . وآطرباه لو أنها استطاعت أن تعيش على حقيقتها في دار مابلثورب. ما كان يومذاك أسعدها. وأبهج حياتها. . هل يحتج لها إخلاصها إذا هي اعترفت. هل ترى حسن سلوكها يتشفع لها إذا هي باحت. كلا. واحزناه. إنها لم تنل مكانها من عطف مولاتها وحبها إلا بخدعة. إذن فلا شفاعة للخدعة ولا معاذير.
وهنا أخرجت منديلها فكفكفت به عبرتين انحدرتا على وجنتيها وحاولت أن تعود بذهنها إلى ناحية أخرى.
ماذا قالت اللادي جانيت عندما خرجت إلى المكتبة قالت أنها ستعود لتكلمها عن هوراس، ويلاه. كيف تستطيع أن تواجه هذه النكبة الأخرى، بحق السموات كيف تخرج منها. أتدع الرجل الذي أحبها يندفع معصوب العين إلى الزواج بامرأة مثلها. كلا. إن الواجب يقضي عليها أن تنبئه ولكن كيف؟ أتجرح فؤاده وتمر عليه عيشه وترسل الأسى في ثنايا روحه إذا هي قالت له عن حقيقتها، وإذ ذاك صاحت باكية. كلا. لا أستطيع أن أنبئه. لا أستطيع.
ومضت فجلست فوق المنضدة ودفنت وجهها في راحتيها وقد تولاها اليأس ثم ختمت نزاع ضميرها كما ختمته من قبل فقالت. ضلة لي. ليتني مت قبل أن تطأ قدمي وصيد هذه الدار. وليتني أموت الآن فيموت معي كل شيء،
وفتح الباب المؤدي إلى قاعة البليارد برفق. وكان هوراس منتظراً هناك ليسمع ما يكون من شفاعة اللادي جانيت ولكن أضناه الإنتظار فلم يستطع أن يمكث أكثر مما مكث.
فأطل من الباب بكل لطف وهدوء. متهيئاً للرجوع إذا وجدهما لا يزالان يتحدثان ودله انصراف اللادي جانيت على أن الحديث قد انتهى. إذن فلماذا لبثت خطيبته وحدها؟ أتنتظره أتكلمه عند عودته؟
فتقدم بضع خطوات. وكانت هي في مكانها لم تتحرك. تائهة اللب شاردة الخاطر. ممعنة في تفكيرها. أتراها تفكر فيه، فتقدم خطوة أخرى ثم ناداها جريس!
فاستوت واقفة وقد خرجت من بين شفتيها صحية خافتة وقالت مغضبة وهي تسقط ثانيةً في مقعدها إني أود أن لا تزعجني. إن أقل إزعاجة تقتلني.
فاعتذر هوراس متذللاً ذلة المحب المتدله ولكن اعتذاره لم يستطع أن يسكن ثائر غضبها،(36/113)
فأشاحت عنه بوجهها في سكوت وصمت. فجلس بجانبها وسألها بكل رقة ولطف عما إذا كانت رأت اللادي جانيت
فأطرقت برأسها إطراقة الإيجاب دون أن تنبس ببنت شفة. وكان هوراس فتى في حرارة الشبيبة فلم يطق احتمال الإنتظار ولذلك عاد يسألها دون أن يدرك شيئاً من اضطرابها وهل ذكرت اللادي جانيت اسمي أمامك؟
فالتفتت إليه بغضب فقالت بحدة قبل أن يزيد على ما قاله كلمة واحدة لقد حاولت أن تجعلها تحثني على الزواج بك. إني أرى ذلك في وجهك.
ولو كان هوراس رجلاً دقيق البصر لأدرك أن الوقت لا يلائم التحدث إلى خ
خطيبته، لكنه لم يدرك ذلك فاستطرد يقول بلطف لا تغضبي وهل يعد ذنباً دون المغفرة إذا أنا وسطت اللادي جانيت؟ لقد حاولت أنا أن حضك فلم أفلح ثم حاولت والدتي وشقيقتاي أن يقنعنك فما أعطيتهن إلا أذناً غير واعية. . . .
وإلى هنا لم تستطع أن تحتمل فضربت برجلها الأرض ضربة هستيرية وصاحت قائلة بحدة وخشونة لقد سئمت من طول ذكرك والدتك وشقيقتيك وما فتئت تتكلم عن شيء روح غيرته ذكرتهن.
فأغضب ذلك هوراس فنهض عن المتكأ وكانت والدته وشقيقتاه في أكبر منزلة في قلبه بل لقد كن لديه المثل الأعلى لنساء الأرض جميعاً ومشى مبتعداً فوقف في الناحية المقابلة من القاعة وراح يرسل إلى حبيبته أكبر تأنيب استطاعه في ذلك الموطن.
قال: لكان يحسن بك يا جريس لو أنت استطعت أن تقتدي بوالدتي وشقيقتي فإنهن لم يعتدن أن يخاطبن من يحببن بخشونة وقسوة.
ولكن هذا التأنيب لم يحدث في الفتاة المنزعجة شيئاً من التأثير أو الإهتمام وظلت كأنما لم تبلغ كلماته مسمعيها. كان يثور فيها الآن روح محزونة تترد وتغضب كلما عمد هوراس إلى تمجيد نسوة عشيرته. جعلت تناجي نفسها فتقول يغضبني أن أسمع بفضائل النساء اللاتي لم يسقطن. أي فضيلة للعيش في ظل الشرف إذا كانت الحياة تبتسم لهن وتحبوهن بسلسلة متلاحقة غير منقطعة من المناعم والمباهج ومطارف الدنيا ومتاعها؟ هل عرؤفت أمه مرارة المسغية والجوع؟ وهل تركت شقيقتاه منبوذتين في الشوارع طريدتين؟(36/114)
وأقسى قلبها أنه عد نسوة أسرته قوالب لها تحتذيها ألم يفهم بعد أن النساء يكرهن أن ينصح لهن بأن يقتدين بنسوة غيرهن.
وهنا نظرت إليه عن جزع ودهشة. وشعرت الآن أنه لو حاول أن يجالسها لما استطاعت إلا أن ترده عن مداناتها، بل لو حاول أن يكلمها إذن للقيته بجواب فظ حاد. وكان جالساً إلى مائدة الطعام وظهره إلى ناحيتها وقد اعتمد رأسه بيديه.
جلس صامتاً يتكلم وساد بينهما سكون، والسكون أكبر سلاح يهزم المرأة. إن المرأة تستطيع أن تحتمل ممن تحب القول الغليظ والكلمة المتجافية، واللغة النافرة لأنها تستطيع أن ترد عليها بمثلها وأما سكون من تحب فاحتجاج لا طاقة لها باحتماله.
فبعد تردد قليل نهضت مرسى عن المتكأ فتقدمت متذللة طائعة نحو المائدة.
لقد أهانته. وهي وحدها الأثيمة.
الله للمسكين كيف يستطيع أن يعلم باضطرابها عندما كان يضايقها بأسئلته عن براءة وحسن نية.
ودنت منه خطوة فخطوة وظل هو لا يتحرك ولا يلتفت وجاءت فوضعت يدها بجبن فوق كتفه وهمست في أذنه: هوراس أصفح عني إني مريضة اليوم. إني متعبة لم أكن أقصد شيئاً بما قلت: رحمتك يا هوراس ومغفرتك.
فلم يستطع هوراس أن يغالب هذا الحنان الذي فاض في صوتها وكلماتها فرفع رأسه وأخذ يدها في يده وانحنت هي فلمست جبينه بشفتيها وقالت هل صفحت عني؟ فأجاب آه يا عزيزتي لو تعلمين كم أنا أحبك.
فأجابت في رفق وهي تلوي قطعة من شعره حول إصبعها إني أعلم ذلك.
وانطلقت روحاهما في عالم الحب وظلا تائهي الخاطر، ولو أنهما انتبها إذ ذاك لسمعا صوت باب المكتبة وهو يفتح.
وكانت اللادي جانيت قد فرغت من الكتابة إلى ابن أختها فعادت لتبر بوعدها لهوراس فتشفع له عند حبيبته. فلما فتحت الباب بكل هدوء إذ بها ترى العاشق الصب يتشفع لنفسه بنفسه فقالت لنفسها لا حاجة إذن إلي ثم أقفلت الباب ثانيةً بخفة وسكون وتركت المحبين في خلوتهما.(36/115)
وعاد هوراس إلى إلحاحه ففتح موضوع التأجيل فلم يكد يتكلم حتى تراجعت الفتاة منصرفة بحزن هذه المرة لا عن غضب.
قالت لا تلح علي اليوم. إني مريضة.
فنهض ونظر إليها نظرة شغف وصبابة وقال إذن فهل نتكلم غداً؟
فرجعت إلى مجلسها عند المتكأ ثم قالت: نعم غداً. وعمدت إلى تغيير شعاب الحديث وقالت: أي شيء آخر اللادي جانيت. لقد طال غيابها. فحاول هوراس أن يظهر اهتمامه بسؤالها عن غياب اللادي جانيت فقال وقد أخذ له مكاناً وراء المتكأ وهو يحنو عليها.
وما الذي جعلها تتركك؟
فأجابت أنها ذهبت إلى حجرة المكتبة لتكتب كلمة إلى ابن أختها. وعلى ذكر ذلك من هو ابن أختها؟
فأخذت هوراس الدهشة فقال. ماذا؟ ألا تعرفينه. فأجابت - كلا. ومن يكون.
قال هوراس. ولكنك سمعت ولا ريب أن ابن أخت اللادي جانيت ذائع الصيت.
وهنا تمهل قليلاً ثم انحنى فرفع خصلة من شعرها وأدناها إلى شفتيه واستطرد يقول في رفق إن ابن أخت اللادي جانيت هو جوليان جراي!!.
فنظرت إليه عن رعب شديد كأنها لم تصدق أذنها فتملك هوراس العجب وقال. ما هذا الإنزعاج يا عزيزتي. فأشارت إليه بالصمت وراحت تكرر لنفسها في خفوت جوليان جراي هو ابن اللادي جانيت وأنا لا أعرف ذلك إلى الآن.
فسألها هوراس وقد ازدادت حيرته وماذا يزعجك يا عزيزتي من معرفته.
فاستجمعت قواها بجهد شديد، وتضاحكت ضحكة خشنة قلقة جوفاء، وأسكنته بأن وضعت راحتها فوق فمه، وانطلقت تقول بمجون أي حماقة منك وأي جنون، كأن المستر جوليان جراي دخلا في نظراتي. أنظر ها أنا قد تعافيت. وهنا نظرت إليه ثانية في ابتهاج مضطرب وعادت إلى الحديث قائلة أجل. إني ولا ريب قد سمعت عن الرجل. ولكن هل تعلم أنه قادم اليوم.
إني لا أستطيع أن أكلمك وأنت في موقفك هذا. تعال واجلس.
فأطاع - ولكنه لا يزال غير مقتنع بما قالت، ولم تفارق وجهه بعد إمارات القلق والدهشة،(36/116)
وأصرت هي في نفسها أن ترقد في خاطره كل ريبة أو تهمة، فقالت وهي تضع ذراعها في ذراعه والآن أنبئيني بأمر هذا الرجل الذائع الصيت، كيف هو؟.
فأحدثت هذه الملاطفة تأثيرها في هوراس، فأشرقت صفحة وجهه وزالت الدهشة من معارفه وأجابها بخفة وابتهاج إذن فاستعدي لرؤية رجل هو أغرب أهل السكينة أجمعين. إن جوليان جراي لهو النعجة البيضاء في القطيع الأسود. هو الرجل العجيب الذي لا يدانيه في الغرابة رجل يخطب في كل مكان. حتى البيع والصوامع والمحاريب، بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين الكفرة والملاحدة والمارقين، لا يعترف للسكينة ولا لأهلها بسلطان، بل يهزأ بهم جميعاً يمشي في منافس الأرض يفعل الخير على أسلوبه هو وهواه. لا يريد أن يرقى مدارج صناعته، حسبه - كما يقول - أن يكون كردينال المنكوبين. وأسقف الجائعين، وقسيس المساكين، وهو على غرابته حلو المحضر. رقيق القلب فياض الحديث، وهو بين النساء معروف مشهور، وهن يذهبن إليه طلباً للنصيحة والهداية، فلو أنك تذهبين!.
فتغير لونها وسألته بحدة، وماذا تعني بهذا؟
قال وهو يبتسم لقد اشتهر جوليان جراي بقوة إقناعه ونصحه، فلو كلمك يا عزيزتي جريس لاستطاع أن يحملك على تحديد اليوم الذي نريد. فماذا تقولين إذا أنا التمست إلى جوليان جراي أن يشفع لي لديك؟.
كان يقول ذلك عن مزاح، ولكن مرسى ظنته يجد في قوله. فقالت في نفسها خائفة، لعله يقدم على ما يقول إذا أنا لم أمنعه، وليس لمنعه من سبيل إلا أن أحقق الرجاء الذي كان يلح في طلبه قبل أن يدخل صديقه الدار.
وإذ ذاك ألقت يدها على كتفه، وحاولت أن تخفي القلق الذي يضطرم في فؤادها وراء ضروب الخلاعة واللين.
قالت بدلال لا تتكلم هكذا. ماذا كنا نقول قبل الآن. . . قبل أن نتكلم عن مستر جوليان جراي.
فأجاب هوراس، كنا نتساءل عن غياب اللادي جانيت. . . فضربته على كتفه بيدها في رفق وتيه وقالت كلا، كلا. هناك شيء قبل ذلك. . .(36/117)
ورنت إليه رنوة دل وخلاعة. وفي الحال أدرك مرادها فطوق خصرها بذراعه.
قال وهو يهمس بالألفاظ همساً كنت أقول إنني أحبك؟!!
قالت: وهل ذلك فقط. . . .؟
قال: وهل سئمت من ذلك؟
فابتسمت ابتسامة حلوة فاتنة، وقالت وهل كنت حقاً تتكلم بجد عن. . . . عن. . . . وهنا تمهلت وأمسكت عن إتمام كلامها وأبعدت عينيها عنه.
قال. أعن زواجنا؟ قالت نعم.
فأجاب. بل إنه أكبر أماني في الحياة وعلالاتي.
قالت أحقاً تقول. قال. حقاً قلت؟
وكان سكوت
وظلت مرسى تلعب بإصبعها وهي مضطربة الذهن في سلسلة ساعتها وعادت تقول في رفق. وهي تنظر إلى سلسلة الساعة دون أن ترفع طرفها إليه - ومتى تريد أن يكون؟. .
فأدهش هوراس الآن حديثها ونظراتها. لأنها لم تنظر إليه بهذا العطف والدل من قبل. ولا حدثته يوماً بهذا الحديث الندي الرطب. فلم يستطع أن يصدق ما قالت.
قال. أواه يا عزيزتي. أتهزأين بي؟
قالت. ومن الذي يدعوك إلى أن تظن هذا الظن؟
قال بكل صراحة وطهارة ضمير. إنك لم تكوني تسمحين لي بأن أتكلم عن زواجنا أبداً. . . .
قالت. لنترك أمر ما كان. إن الناس يقولون أن النساء قلوبهن هواء. إن القلب إحدى نقائص الجنس النسائي. .
قال هوراس بلهجة حارة مخلصة. ما أطيب هذه النقيصة وما أحلى! فهل تتركين لي حقاً تحديد يوم الزواج؟
أجابت. إذا كنت تصر على ذلك
ففكر هوراس هنيهة ثم قال إذن فليعقد زواجنا بعد أسبوعين! رفعت يدها محتجة.
قال. ولم لا إن المحامي على أتم الأهبة. وليس هناك ما نعده لذلك اليوم. وقد قلت يوم قبلت(36/118)
خطبتي أن الزواج سيكون زواجاً عادياً. لاحفل في ولا عرس.
فأطرقت رأسها مجيبة
وعاد هو يقول. إذن فليكن بعد أسبوعين، ألا قولي نعم،، وضمها إليه.
وأما هي فظلت صامتة وقد سقط عنها قناع الذل الذي تقنعت به لتخفي حزنها واضطرابها واستقرت عيناها عليه في نظرة رحمة وحنين وإشفاق. ومضى هو يقول. لا تنظري إلي هكذا. لفظة واحدة يا جريس لا غيرها. . . . هي لفظة. . . نعم!!. .
فتنهدت ثم قالتها.
وعند ذلك قبلها قبلة حارة وتشبث بنحرها، فتململت وتخلصت منه بجهد شديد وقالت بخفوت. اتركني. إني أتوسل إليك أن تتركني لنفسي.
وكانت ترتجف.
فنهض هوراس ليتركها قائلاً سأجد اللادي جانيت روي، أني أريد أن أظهر للسيدة أني قد استرددت انشراحي الآن وبهجتي. وأقول لها السبب!. .
وعطف يريد باب المكتبة. ولكنه عاد يقول. وأنت هل تظلين هنا. هل تدعيني أراك ثانية إذا هدأ اضطرابك؟
قالت مرسى سأنتظر هنا.
وقنعه هذا الجواب فغادر الحجرة.
وعند ذلك تراخت ذراعاها فوق حجرها وترامى رأسها الجميل فوق وسائد المتكأ. وجعلت تنظر حولها نظرات مذهولة حائرة هل نطقت حقاً بالكلمة التي ستربطها وهوراس برابطة الزواج بعد أسبوعين! يا إلهي. أسبوعان!. . . . ولكن لعل حادثاً يطرأ في خلال الأسبوعين فيمنع هذا الزواج. ولعلها واجدة مخلصاً لها من هذا الموطن المخيف الذي هي فيه الآن.
إذن. ليكن ما يكون. لقد عقدت عزيمتها على التماس الحديث مع جوليان جراي إذا جاء البيت. . . . حديث سري لا شاهد له. وإذ ذاك استوت في مجلسها وقد تولتها رعدة شديدة لهذه الفكرة التي تملكتها.
وجعل اضطرابها يخيل إليها جوليان جراي. وهو يكلمها عن هوراس كما قال. ورأته وهو(36/119)
يجلس إلى قربها. هذا الرجل هز روحها هزاً من فوق ذؤابة منبره. وهي تصغي إليه من أقصى الكنيسة ولا يراها. هذا هو الآن إلى قربها ينظر إليها نظرة ممعنة فاحصة. يرى سرها المعيب يطل من عينيها، ويسمعه من تضاعيف صوتها، ويحسه في رعشة يديها، ويخرجه من أعماق فؤادها بكلماته حتى تقع راكعة على ركبتها أمامه، مدلية باعترافها وخدعتها.
فسقط رأسها الجميل ثانيةً فوق الوسادة، وأخفت وجهها بيديها فزعاً من هذا المنظر الذي تخيله ذهنها.
ومضت الدقائق سراعاً، وأخذ اضطراب ذهنها يتجلى الآن في كل قطعة من بدنها النحيل المهزول.
وشعرت بأنها تبكي دون أن تدري، وبدأ رأسها يتراوح وأعصابها ترتجف، فاضطجعت فوق المتكأ متراخية فوق الوسائد، وأغمضت عينيها، وأخذت دقات الساعة المعلقة فوق الجدار تضعف وتغيب عن سمعها، ولم تلبث أن أخذت جفنيها إغفاءة، وكانت إغفاءة خفيفة حتى لقد أزعجها تنزي الأطيار فوق الآيك في الحديقة.
ودخلت اللادي جانيت وهوراس في تلك اللحظة، وشعرت بحفيف الثوب، كأنها تشعر به في حلم، ولكنها لم تكد تفتح جفنيها حتى كانت الحجرة خالية، إذ انطلقا من الحجرة في خفية، ليتركاها تستريح. فأغمضت عينيها ثانيةً، ولم تلبث أن راحت في سبات عميق!
الفصل الثامن
ظهور جوليان جراي
وانتبهت مرسى بعد فترة سبات على صوت باب زجاجي ينفتح في أقصى حجرة الزهر، وكان هذا الباب يؤدي إلى الحديقة ولا يدخل منه إلا أهل البيت وأصحابهم المقربون وخلصاؤهم الأعزاء عليهم. فظنت مرسى أن اللادي جانيت عائدة إلى قاعة الطعام، فنهضت قليلاً عن المتكأ وهي تتسمع. وبلغ سمعها إذ ذاك صوت الخادم، وأجاب هذا الصوت صوت آخر، ولم يكد يصل إلى أذنها، حتى ارتجفت أشد رجفة وإذ ذاك نهضت مرتعبة وعادت تتسمع، وهي لا تستطيع أن تتمالك أنفاسها المضطربة الراجعة. أجل. قد عرفت هذا الصوت الأجش العميق. إن هذا الصوت الذي أجاب الخادم هو الصوت(36/120)
المضطجع في فؤادها، هو الصوت البعيد الذي سمعته في كنيسة الملجأ. إن الزائر الذي دخل من باب حجرة الزهر. هو. . . . . جوليان جراي!
وكانت خطواته تدنو سريعاً من قاعة الطعام، فتمالكت نفسها وانطلقت بسرعة إلى باب حجرة المكتبة، ولكن يدها المرتجفة لم تستطع أن تفتحه، فراحت تعالجه مرة، ولم تكد تنجح في فتحه حتى سمعته ثانيةً. . . . يكلمها.
وكانت هذه كلماته أرجو أن لا تهربي. إني لست رجلاً مخيفاً، أنا لست إلا ابن أخت اللادي جانيت. أنا جوليان جراي!!
فالتفتت إليه مسحورة من صوته وواجهته في صمت وكان واقفاً إزاءها، وقبعته في يده، وهو في لباسه الأسود ورباط رقبته الأبيض، وفي سمته البعيد عن سمت أهل الكنيسة، وكان يبدو على وجهه - على الرغم من شبابه - دلائل الهم وتفاريق الشجن، وكانت جبهته منحولة الشعر، مهلل العارض، وكان ربعة القوام، شاحب المعارف، لا لحية ولا شارب، تطل كل روعته، ويشرف عليك كل جلاله من عينيه، أجل. إن عينيه كانتا مستودع كل جماله. وانطلق يكلمها بكل أدب واحترام. .
قال. دعيني أتوسل إليك أن تتفضلي بالعودة إلى مجلسك.
ثم اسمحي لي أن أستغفرك إذا هجمت على الحجرة هجوماً!. . .
وهنا تمهل، ينتظر جوابها، قبل أن يتقدم في القاعة. فاستطاعت أن تتمالك نفسها من الرعب، فأحنت رأسها إليه وعادت إلى مكانها من المتكأ.
فنظر إليها هنيهة ثم خطا في القاعة متقدماً، وقد بدأت دهشته تثور في فؤاده عند رؤيتها. إذ جعل يقول لنفسه حزن عظيم غير عادي قد طبع طابعه فوق وجه هذه المرأة. إن في جانحة هذه المرأة قلباً ليس كقلوب الناس. ليت شعري من تكون؟. .
فاستجمعت مرسى قواها وجاهدت نفسها لتكلمه.
قالت بحياء وخوف إني أظن أن اللادي جانيت في حجرة المكتبة فهل أنبئها بقدومه؟
قال. كلا لا تزعجي اللادي جانيت. ولا تزعجي نفسك
وعند ذلك تقدم إلى المائدة الطعام، تاركاً لها الوقت لتهدئة جأشها، ثم عمد إلى الزجاجة التي كان يشرب منها هوراس فصب جميع ما فيها في قدح، وقال وهو يبتسم ملتفتاً إليها مرة(36/121)
أخرى إن نبيذ خالتي سينوب الآن عنها. لقد مشيت مسافة طويلة فدعيني أجترئ على أن أتناول ما أريد في هذا البيت دون دعوة، ألا تتناولين شيئاً؟
فاعتذرت مرسى، وهي في عجب من خفة روحه ودعابته. فاشتف القدح في مظهر الرجل الخبير بالنبيذ البصير بالردئ منه والجيد. ثم وضع عن فمه القدح وهو يقول برزالة مضحكة إن نبيذ خالتي لخليق بها. كلاهما نتاج الطبيعة، وهنا اقتعد مجلساً إلى المائدة. وجعل ينظر نظرة الناقد الفاحص إلى الصحان المتنوعة الموضوعة فوقها واستطرد في حديثه يقول وما هذا؟ فطيرة فرنسية!. . . . يلوح لي أنه من الظلم الأكبر أن نذوق نبيذ فرنسا ونمر بفطائرها معرضين وإذ ذاك أمسك بسكين وشوكة وراح يأكل الفطيرة بالخبرة التي كان يذوق بها النبيذ ثم لم يلبث أن صاح في حمية وطرب وابتهاج إن هذه الفطائر لجديرة بتلك الأمة العظيمة. . . لتحي فرنسا!!. . .
وظلت مرسى واقفة تسمع وترى متعجبة منذهلة إذ أبصرت أمامها رجلاً ليس بينه وبين الرجل الذي تخيله فؤادها شبه أو تماثل ولو نزع عنه رباط رقبته الأبيض لما استطاع أحد أن يعرف أن الرجل من أهل الكنيسة.
ومضى يعمل السكين والشوكة في فطيرة أخرى. وهو منطلق في حديثة يكلمها بهدوء وألفة كأنما كان يعرفها منذ عدة أعوام.
قال مستطرداً في حديثه. لقد جئت إلى هنا عن طريق الحدائق. وقد كنت منذ زمن أقيم في إقليم قفر دميم قروي هادئ، وأنت لا تستطيعين أن تتصوري البهجة التي ثارت في فؤادي عند رؤيتي مناظر الحديقة ونضارته، وإذ شهدت الغواني في أثواب الشتاء وأبراد الدفء البهيج، والمرضعات النشيطات المتخففات، والأطفال الحسان، والولدان المحببين، ورأيت الجمع المزدحم يتزلق فوق أحذية الثلج. ولشد ما انتشت روحي بعد الحياة المظلمة التي عانيتها في الريف، حتى نسيت نفسي فانطلقت أغمغم بترنيمة خافتة، وأنا أخترق منافس الحدائق. فمن الذي تظنيني التقيت به وأنا في أحر غنائي؟.
فاعتذرت له مرسى لأنها لا تستطيع ظناً ولا حدساً، ولكنه مضى في حديثه أخف روحاً وأكثر دعابةً من قبل. دون أن يتظاهر بأنه قد لحظ التأثير الذي أحدثه في ذهن الفتاة.
قال من الذي ترينني التقيت به، وأنا أترنم بأحر النغم. .! التقيت بأسقفي. ولو وكنت في(36/122)
تلك اللحظة أغني أغنية كنيسية لاستطاع سيدي الأسقف أن يتجاوز عن جرئتي وعاميتي، صارفاً النظر عن غنائي. ولكن لسوء الحظ كانت الأغنية التي أغمغم بها في موسيقى فردى الشاعر الطلياني: ولعله سمعها من المعازف المتنقلة في الشوارع. وقد تبين ولا ريب الأغنية، وعرف اللحن، لأنني عندما رفعت القبعة بالتحية. ولى وجهه عني، ونظر إلى الناحية الأخرى. غريب والله أن نكون في عالم اكتظ بالشرور والآثام وامتلأ بالأحزان والآلام، ثم نهتم بتافهة كهذه. ونحزن ونغضب لرؤية رجل من أهل الكنيسة يترنم بالأغنيات.
وإذ ذاك أزاح عنه صفحة الطعام واسترسل يقول بكل بساطة إني لا أستطيع أن أفهم لماذا نريد دائماً نحن معاشر الكنيسيين أن نعد أنفسنا طائفة منفصلة، وجمعاً منعزلاً عن بقية الناس، نمنع من أن نفعل كما يفعلون. إن أئمة الدين الأولين لم يسنوا لنا هذه السنة، ولم يدعو لنا هذا المثال. لأنهم كانوا أرزن منا عقولاً، وفطن ألباباً، وخيراً منا نفوساً، بل إني لأستطيع أن نقول أن أكبر ما يعيقنا عن أن نفعل الخير ونجيء بالمكرمات اتخاذنا مظهر الهيبة والرئاسة والعظمة والزهو. وأنا نفسي لا أطالب بأن أكون أكثر احتراماً وتوقيراً من أي رجل آخر يفعل الخير جهد طاقته. وإذ ذاك نظر إلى مرسى نظرة ضاحكة وهي تنظر إليه مندهشة محملقة، ثم عادت إليه نزعة المجون فاستطرد أن يقول هل أنت من الديمقراطيين المتطرفين. إنني منهم!!.
وحاولت مرسى أن تفهم كلماته ولكنها لم تستطع له فهما. إذن أيكون هذا الرجل الواعظ الذي فتن فؤادها في مصلى الملجأ، وسحرها، وطهر عواطفها بكلماته، أيكون هذا المتكلم الذي أبكى عيون النساء، وأرسل عبراتهم، تلك النسوة اللاتي أغلقت الأيام أفئدتهن وأقست الجرائم شعورهن أجل. أجل. هاتان العينان اللتان تنظران إليها الآن في نزق ومجون هما العينان الجميلتان اللتان نفذتا من قبل إلى أعماق فؤادها. هذا هو الصوت الذي يضج الآن بالدعابات والأمازيح هو نفسه ذلك الصوت العميق الأجش الحنون الذي هز أعشار قلبها هزاً، إنه فوق ذؤابة المنبر ملاك من ملائكة الرحمة. فإذا هو في الشارع طفل أطلق سراحه من محابس المدرسة.
قال برفق، وقد لحظ اضطرابها لا تنزعجي مني ولا تخافي. إن الرأي العام قد نعتني(36/123)
بأسماء وألقاب أقسى من كلمة المتطرف وقد أنبأتك منذ لحظة أنني كنت قبل أن أنحدر إلى هذا المكان في إقليم قروي. وكان عملي هناك أن أقوم في القرية مقام قسيسها وكان قد مضى إلى إجازته. فهل تتصورين ماذا كانت النتيجة. إن صاحب القرية قد سماني اشتراكياً وأما الفلاحون فلقبوني فوضوياً ثورياً. فاستعيد صديقي قسيس القرية في الحال ليستلم مني عمله. وأما الآن فلي الشرف بأنني أكلمك وأنا في نظر الناس رجل مطرود. أثار قرية بجملتها، فلم تستطع أن تحتمله.
وهنا ترك مجلسه من المائدة، وجاء فاتخذ له مقعداً بجانب مرسى بكل بساطة وصراحة، ومضى يقول. . وأنت ولا ريب ترغبين في أن تعرفي ما هي الهفوة التي ارتكبتها. فهل تعرفين شيئاً من علم الإقتصاد السياسي وقانون العرض والطلب.
فأجابت مرسى بأنها لا تفهم من ذلك شيئاً.
فقال - ولا أنا أيضاً. في بلد مسيحي. وهذا هو ذنبي. وأنت ستسمعين اعترافي في كلمتين، كما ستسمعه خالتي. وهنا تمهل قليلاً وتغيرت هيئة وجهه، ورأت مرسى إحساساً غريباً يطل من عينيه. إحساساً ذكرها الآن به أول رؤيتها له.
وعاد يقول. إني لم أكن أعرف من قبل أسلوب الحياة التي يعيشها الفلاحون، حتى أقمت في الريف مكان صديقي القسيس. ولم أكن شهدت في حياتي ما شهدت إذ ذاك هو البؤس والمتربةوالآلام التي التقيت بها في الأكواخ والخصائص ما رأيت صبراً مثل صبر هؤلاء المنكودين المعذبين. إن شهداء الزمن القديم كانوا يتحملون ويصبرون ثم يموتون، ولكني أسأل نفسي هل كانوا يستطيعون أن يتحملوا ويعيشوا كالشهداء الذين وجدتهم حولي في القرية، يعيشون الأسابيع والشهور والأعوام، على حافة الجوع وضفاف الحزن، وساحل الحاجة، ويرون أطفاهم وضوار الجوع يستعر في أحشائهم، ينبتون ورائهم ليعيشوا مثلهم على الحرية والحاجة. فهل خلقت أرض الله الجميلة لتحمل شقاء مثل هذا. إني لا أستطيع أن أحدثك الآن عن ذلك، دون أن تندي عيناي بالدموع.
وإذ ذاك أطرق رأسه حزيناً، وتمهل ليمسك عليه جأشه وحسه والآن عرفته مرسى مرة أخرى. أجل. هذا هو بعينه الرجل الذي توقعت أن تراه، وكذلك ظلت جالسة تنظر إليه معصبة وهي لا تشعر وقلبها معلق في ألفاظه واثباً مع كل كلمة من كلمه.(36/124)
وراح مستطرداً ففعلت كل ما في وسعي للدفاع عن هؤلاء المساكين المكدودين، وانطلقت أطوف بأصحاب الأرض والمالكين أسترحمهم للزارعين، وأستعطف قلوبهم لأجل الذين يعملون في الأرض، أقول لهم إن هؤلاء الصابرين لا يطلبون كثيراً، ولا يسألون كبيراً، باسم رحمة الله. إكفلوا لهم العيش آمناً، والحياة غير قاتلة، وهنا صرخت في وجهي نظريات الإقتصاد السياسي، وولولت قوانين العرض والطلب ونظرت إلي متجهمة عابسة، إذ نبؤوني أن الأجور التي يتناولونها هي أعدل الأجور، وإن الجزاء الذي يجزونه عليهم أحق الجزاء، ولماذا؟ لأن الفلاحين مكرهون على قبولها فعزمت أنا على أن أجعل الفلاحين غير مكرهين على قبول أجور الجوع - فجمعت قواي - وحشدت وسائل دفاعي فكتبت إلى أصحاب لي عديدين في بلاد المملكة وأنحائها، ونصحت لكثيرين من فلاحي القرية أن يتحملوا منها إلى بلاد أخرى حيث يجدون أجراً أطيب، وعملاً أهدأ، وحياة أقل ظلماً. هذه هي الجريمة التي لم أقبل من أجلها. ولكني غير مصروف عن نيتي، ولا عادل عن عزمي. إن لي صحابة كثراً في لندن - وأنا فيها مذكور الإسم - وأستطيع أن أقيم الإكتتابات وأفتح السبيل إلى التبرعات، وسيجد قانون العرض والطلب العمل قليلاً في ذلك الإقليم، وسيضطر الإقتصاد السياسي أن ينفق عدة شلنات زيادة على الفقراء. ما دمت أنا ذلك المتطرف، الإشتراكي، الثوري ـ. . . جوليان جراي!.
وعند ذلك نهض، وانطلق يدور في الحجرة، وثارت الحمية في فؤاد مرسى من حميته، فحذت حذوه، وكان كيس نقودها في يدها، عندما واجهها.
قالت بلهجة وصدق. . أرجو أن تدعني أن أقدم جزيتي الصغيرة. .
وهنا انتشر ظل الإحمرار على وجنتيه الصفراء، ونظر إلى وجهها الرحيم الجميل وهي تحس إحساسه.
قال مبتسماً. . كلا. كلا. إنني، وإن كنت القسيس، لا أحمل صندوق الصدقات معي في كل مكان، فحاولت مرسى أن يكون الكيس في يده، وعادت نزعة المجون تشرق في نظراته فقال وهو ينسحب قليلاً. . كلا. كلا. لا تحرضيني أن أسرع الناس انقياداً، وأطوعهم للحض والإغراء، قسيس يغري على أخذ تبرع.
ولكن مرسى أصرت على أن يأخذ، فانهزم لها حتى يثبت صحة ملاحظته عن طبائع(36/125)
القسيس، فأطلق يده في الكيس وأخرجها بشيء من النقود. وقال. . إذا كان لا بد من آخذ، فلآخذن. . شكراً لك إن وضعت القدرة المثلى، شكراً لك إن أعطيت المعونة في حينها، فأي اسم أكتب في قائمة التبرعات.
فاضطربت مرسى وزاع بصرها عنه وأجابت في صوت منخفض لا اسم. حسبي أن يكون تبرعي مجهولة.
ولم تكد تجب جوابها، حتى فتح باب المكتبة، ولحسن حظها، ولسوء حظ جوليان جراي، دخلت اللادي جانيت روي وفي أثرها هوراس.
وإذ ذاك صاحت اللادي جانيت وهي مفردة ذراعيها عجباً ودهشة جوليان!
فقبل خالته في وجنتها قائلاً إنك يا خالتي توحين فاتنة حسناء! ثم مد يده إلى هوراس مصافحاً، فشد هوراس عليها ومشى مقنبراً من مرسى وانطلق الإثنان يمشيان إلى الناحية الأخرى من القاعة وانتهز جوليان هذه الفرصة التي سنحت للتحدث مع خالته بحرية وجلاء، فمضى يقول. لقد جئت عن طريق قاعة الزهر، فوجدت هذه السيدة الشابة في الحجرة، فمن تكون؟.
فسألته اللادي بلهجتها الجلية المتهكمة وهل أنت اهتممت بها؟.
فأجابت بكل صراحة كل الإهتمام!.
فنادت اللادي مرسى لتدنو منها.
فلما جاءت صوبهما، قالت اللادي دعيني يا عزيزتي أقدم إليك بصفة رسمية ابن أختي، أي جوليان، أقدم إليك مس جريس روزبري. وأمسكت عن إتمام كلامها فجأة لأنها لم تكد تلفظ بالإسم حتى انذعر جوليان جراي، وبدت الدهشة تتجلى على وجهه فسألته اللادي بحدة ماذا حدث؟.
فأجاب وهو منحن إلى مرسى إنحناءة الإحترام لا شيء لا شيء! وأما هي فأجابته على تحيته. بشيء من الإضطراب لأنها لمحت ذعره هي أيضاً عندما ذكرت اللادي جانيت اسمها له وكان لهذا الذعر ولا ريب معنى خفي. فماذا ترى يكون هذا المعنى. ولماذا تراه قد ولى وجهه ملتفتاً إلى هوراس والإضطراب باد في عينيه، وقد تغيرت هيأته كل التغيير في اللحظة التي نطقت خالته بالإسم الذي ليس اسمها. الاسم الذي سرقته!!(36/126)
وعادت اللادي جانيت إلى الحديث مع ابن أختها. وتركت هوراس يعود إلى مرسى، قالت إن حجرة قد أعدت لك. وأنت ولا ريب مقيم بيننا دهر.
فتقبل جوليان الدعو، ولا يزال عليه سيماء الرجل المشغول الذهن فبدلاً من أن يلقي نظره لي اللادي جانيت، دار بعينه فنظر إلى مرسى نظرة دهشة بينة واضحة.
فضربته خالته على كتفه وقالت: إني أنتظر أن ينظر إلي الذي يكلمني. لماذا تحملق البصر هكذا إلى فتاتي المتبناة؟
فكرر جوليان في أثرها وهو ينظر إليها نظرة ذهول فتاتك المتبناة!!.
فأجابت اللادي بلا ريب. إنها ابنة الكولونل روزبري وبيني وبينها صلة النسب والقرابة، فهل تظنني جئت بفتاة لقيط؟
فزال القلق من وجه جوليان وأشرقت معارفه وقال مجيباً إني قد نسيت الكولونل حقاً. أجل. أجل. إنها بلا ريب تمت إلينا بصلة النسب.
قالت اللادي جانيت متهكمة يسرني ولا شك أنني أقنعتك بأن جريس ليست لقيطاً.
وعند ذلك أخذت ذراع جوليان ومشت به بعيداً عن مسمع هوراس ومرسى وانطلقت تقول والآن لنتكلم عن خطابك الذي أرسلته. إن به سطراً أثار قلقي. . من هذه السيدة الغريبة التي تريد أن تعرفني بها؟.
فذعر جوليان وتغير لونه.
قال هامساً إني لا أستطيع أن أقول الآن.
قالت ولماذا؟
فنظر جوليان إلى مرسى ثانيةً
قالت اللادي جانيت وقد نفد صبرها. ما دخل فتاتي في ذلك؟
فأجاب جراي في صوت رهيب يستحيل علي أن أقص عليك ما أريد. ما دامت مس روزبري باقية في هذه الحجرة.
الفصل التاسع
أنباء من مانهايم
وهنا ثارت نزعت الفضول في نفس اللادي جانيت واشتد قلقها، ولم تدرك غرض جوليان(36/127)
جراي، ولم تفهم بصيصاً من معنى كلماته.
قالت إني أكره الأسرار، ولا أحب الغموض، وأعد الأسرار دليلاً على سوء التربية، وفساد القلوب، ونحن الأشراف خلقنا بأن ننزه أنفسنا عن التهامس والتخافت في زوايا الحجرات ولكن إذا كان لا بد من أن تنطلق في غموضك، وتصر على عزيمتك، فإني أسمح لك أن تركن إلى ركن في حجرة المكتبة فتلقي إلي هناك جميع ما تريد.
فانطلق جوليان في أثرها إلى المكتبة، على غير إرادته، وهو في أشد ضروب الحيرة.
فلما احتوتهما الحجرة جلست اللادي جانيت في مقعدها، وهي على أتم الإستعداد للسؤال والإستجواب، ولكن دخل في تلك اللحظة أحد الخدم يحمل رسالة.
وكانت الرسالة من سيدة وكانت إحدى صواحب اللادي جانيت وحبائبها جاءت إلى موعد قد ضرب من قبل بينهما ليذهبا إلى إحدى الحفلات.
وقد أعلن الخادم أن السيدة تنتظر اللادي في مركبتها عند الباب.
فلم يسع اللادي جانيت إلا أن تأمر الخادم بأن يدعو السيدة إلى الجلوس في قاعة الإنتظار وينبئها بأنها قد عرض لها الآن ما يشغلها وإن مس روزبري ستقوم مقامها في اصطحابها إلى الحفلة.
وهنا التفتت إلى جوليان جراي وقالت في لهجة التهكم اللطيف هل يسرك الآن أن لا تكون مس روزبري في الحجرة فقط، بل في الدار كلها.
فأجاب جوليان برزانة وجد أجل. خير لي أن لا تكون في المنزل الآن.
فانطلقت اللادي جانيت إلى قاعة الطعام فدنت من فتاتها قائلة أي عزيزتي جريس. لقد كنت تلوحين شاحبة مضطربة محمومة عندما رأيتك وأنت مضطجعة فوق المتكأ منذ هنيهة صغيرة، وأظن أنه لن يسوءك أن تخرجي إلى المركبة لترويح نفسك في النسمات العليلة، وقد جاءت جارتنا الآن لتأخذني إلى الحفلة المقامة اليوم وقد بعثت إليها أقول إنني في شغل عن الذهاب، فهل تصنعين لي جميلاً بأن تقومي مقامي في اصطحابها إلى المكان الموعود.
فظهر على مرسى القلق، ولم تستطع أن تحير جوابها. ولم تستطع رفضاً. وهنا أسرع هوراس إلى الباب ليفتحه استعداداً لخروج مرسى، وهمس إليها يقول وكم تغيبين. لقد كنت أريد أن أحدثك ألف حديث، وكان لدي أشياء وأشياء أريد أن أكلمك عنها، ولكنهم قد قطعوا(36/128)
علينا السبيل.
قالت مرسى سأكون هنا بعد ساعة.
قال هوراس وستكون الحجرة خالية لنا إذ ذاك، إذن فعودي إلى هنا عند رجعتك تجديني في انتظارك.
فصافحته مصافحة ذات معنى ومضت منصرفة، وعند ذلك عادت اللادي جانيت إلى جوليان وكان على كثب منهما ولا يزال على قلقه واضطرابه.
قالت اللادي والآن. ماذا يمسك لسانك عن النطق، ها هي جريس قد خرجت، فلماذا لا تبدأ. أتمانع في وجود هوراس.
أجاب كلا. ولكني لا أزال قلقاً مضطرب البال
فقاطعته قائلة وعلام القلق؟
قال جوليانأخشى أن تكوني قد أزعجت هذه المخلوقة الفاتنة بإرسالها الآن خارج الدار.
فنظر إليه هوراس وقد صعد الدم إلى وجهه وقال بحدة إني أظن أنك تقصد بكلمة المخلوقة الفاتنة مس جريس روزبري؟.
فأجاب جوليان بلا ريب. ولم لا؟.
فدخلت اللادي جانيت بينهما مهادنة فقالت مهلاً يا عزيزي جوليان. لقد عرفتك بجريس الآن في صورة فتاتي المتبناة. . . . .
وانطلق يقول هوراس في أثرها بكبر وذهول ولقد آن الآوان لي أن أقدمها إليك في شكل زوجتي المخطوبة إلي.
فنظر إليه جوليان كأنه لا يصدق مسمعيه وقال مندهشاً متعجباً زوجتك!.
فعاد هوراس يقول نعم زوجتي، وسنزف بعد أسبوعينوهنا تمهل ثم استرسل في حدة وغضب ولكنني أسألك هل أنت تمانع في هذا الزواج.
فداخلت اللادي جانيت ثانيةً بينهما فقالت ما هذه الحماقة يا هوراس إن جوليان يهنئك به ولا ريب.
قال جوليان ببرودة وهو غائب الذهن في حيرة نعم. أهنئك! أهنئك.
وإذ ذاك ضمت اللادي جانيت تعود بالحديث إلى الموضوع الذي اجتمعت بجوليان من(36/129)
أجله.
قالت الآن كل منا يفهم صاحبه. فدعنا إذن نتكلم عن سيدة أنسانا الحديث ذكرها منذ هنيهة. وأنا أعني بها يا عزيزي جوليان المرأة الغريبة التي جاءت في خطابك. ها نحن وحدنا كما رغبت أن نكون. إذن فارفع النقاب الذي يحجب وجهها عن الأعين والأبصار يا ابن أختي المحترم. ولتخجل ما شئت ولتتورد وجنتك إن أردت. أتراها ستكون مسز جوليان جراي المستقبلية؟.
فأجاب جوليان بكل هدوء بل إنها غريبة عني كل الغرابة؟
فصاحت اللادي مندهشة. غريبة عنك! وأنت قد كتبت إلي تقول إنك بها شديد الإهتمام!!؟
فأجاب جوليان نعم أنا بها مهتم. وأغرب من ذلك أنك ستكونين بها أنت أيضاً شديدة الإهتمام!. .
فألقت اللادي جانيت يدها فوق المائدة بقلق وانفعال وقالت ألم أحذرك أنني أشد الناس كراهة للأسرار. وأكثرهم اجتواء للغموض فهل تريد أن تشرح لنا ذات نفسك أم لا تريد؟.
ولكنه قبل أن يجيب على سؤالها، نهض هوراس من مجلسه قائلاً أتراني أحول دون الحديث؟
فأشار إليه جوليان بالعودة إلى مجلسه وأجاب كلا. إنك لا تحول دون الحديث، كما قلت من قبل. بل إني أقول الآن أنه بما أنك ستكون زوج مس روزبري في المستقبل فإن لك دخلاً فيما ستسمعان مني الساعة.
فعاد هوراس إلى مجلسه وعليه سمات الدهشة والإتهام. ومضى جوليان يخاطب اللادي جانيت قال لقد سمعتني كثيراً ولا ريب أتكلم عن صديق لي قديم يشغل وظيفة في الخارج.
فأجابت اللادي جانيت. أجل. الست تعني السفير الإنكليزي في مانهايم؟
قال هو ذاك. . فلما عدت من الريف وجدت بين الرسائل التي وردت إلي في غيابي خطاباً مستطيلاً من السفير. وهذا الخطاب قد أحضرته الآن معي وأنوي أن أقرأ عليكما شذوراً منه تخص قصة غريبة لا أستطيع أنا أن أسردها عليكما في أسلوب أشد بياناً ووضوحاً من هذه الرسالة.
قالت اللادي جانيت خائفة وهي تنظر إلى الصفحات الضيقة السطور التي نشرها ابن(36/130)
أختها أمام عينيها وهل تراها طويلة؟.
واقترب هوراس قائلاً. . وهل أنت واثق من أن لي كما قلت دخلاً في هذا الأمر، إن سفير مانهايم رجل غريب علي!. فأجاب جوليان برزانة وجد إني كفيل بأن صبر خالتي وقلقك لن يكونا سدى إذا أنتما أمهلتماني حتى أقرأ عليكما ما أنا قارئه.
وإذ ذاك بدأ يتلو الشذرة الأولى التي انتخبها من الخطاب فقال. . . . . . إن ذاكرتي ضعيفة بليدة من ناحية التواريخ. ولكن لا بد من أنه قد مضت ثلاثة أشهر على اليوم الذي تلقيت فيه نبأ عن عليل إنكليزي جيء به إلى المستشفى في مانهايم وسألت أن أرى رأيي فيه، بصفتي السفير الإنكليزي في المدينة. فذهبت في ذلك اليوم نفسه إلى ذلك المستشفى وأدخلت على حجرة العليل. وكان العليل سيدة. . شابة ولعلها في صحتها تعد حسناء. فلما نظرت إليها ظننتها مائتة. وتبينت رأسها معصوبة بضمادة فسألت نوعه الإصابة التي أصابتها فعلمت أن المرأة كانت حاضرة إحدى المناوشات بين الفرنسيين والألمان، ولا يعرف أحد السبب ولا يعلم الباعث. وإن الإصابة جاءتها من شظية من شظايا قنبلة ألمانية. . .
وهنا استوى هوراس في مجلسه فجأة، وكان إلى هذه اللحظة مضطجعاً في مقعده غير مكترث ولا مقبل بسمعه. وصاح. . . يالله! أتكون هي تلك المرأة التي رأيتها ملقاة ميتة في الكوخ الفرنسي؟.
فأجابه جوليان إني لا أستطيع أن أعرف. ولكن لتستمع حتىنهاية الرسالة فلعلها تجيبك عني.
واستطرد يتلو الرسالة:
وكانت المرأة الجريح قد ظنت مائتة، فغادرها الفرنسيون في الكوخ ذاهبين، فوجدها الألمان بعدهم في فراش في كوخ وكان أول من وجدها رئيس جماعة الإسعاف!.
فصاح هوراس أجنتياس ويتزل!!.
فردد جوليان في أثره بعد أن نظر إلى العبارة التالية لما قرأ أجنتياس ويتزل!!.
قال هوراس بدهشة هو ذلك. أي سيدتي اللادي حقاً إن لي دخلاً في هذه القصة. ألا تذكرين ما قلت لك من قبل عن كيفية لقائي بجريس. ولا شك أنك سمعت كثيراً عن ذلك(36/131)
من جريس نفسها!. . .
فأجابت اللادي جانيت. . إنها كانت تخاف العودة إلى ذكر ذلك.
وقد حدثتني كيف أوقفوها عن المسير عند الحدود وكيف وجدت نفسها بغتةً في رفقة امرأة إنكليزية لا تعرفها. وبالطبع سألتها كثيراً من الأسئلة وقد تولاني الرعب عندما سمعت منها أن المرأة سقطت قتيلة تحت شظايا القنبلة على مقربة منها ولم نشأ أنا ولا هي الرجوع إلى الحديث مرة أخرى منذ ذلك العهد والآن أقول لك يا عزيزي جوليان إنك قد أحسنت صنعاً بتجنبك ذكر هذا الحديث في حضورها. ولعلي قد فهمت الآن الغرض، وأدركت الغاية. أن جريس ذكرت اسمي واسمها ولا ريب لرفيقتها المسافرة معها والمرأة الآن بحاجة إلى المعونة، وقد سألتها مني بواسطتك. وأنا بإعانتها كفيلة قمينة. ولكن يجب أن لا تحضر إلى هنا حتى أمهد السبيل إليها عند جريس، حتى لا تجزع إذا رأتها قد نشرت من الموت أما الآن فلا ينبغي أن تجتمع بها مطلقاً
قال جوليان بصوت منخفض لا أظن ذلك
قالت اللادي جانيت ماذا تعني. ألم تنته القصة بعد؟
أجاب جوليان بل إنها لم تبتدئ إلى الآن. دعي صديقي السفير يتلو علينا قصته
وعاد يقرأ فبعد فحص الجثة أدق الفحص، استنتج الجراح الألماني أن الجراح الفرنسي قد أخطأ فهم الإصابة،
وظنها موتاً وهي ليست إلا تغيباً وقتياً عن الإحساس، وكان الرجل أشغل ما يكون بمثل هذه الحوادث الخطيرة من المرض، فعمد إلى محاولة البحث والفحص، فقام بعملية جراحية لها، وكان النجاح له مكفولاً، وقد أبقاها لديه بعد العملية بضعة أيام، ثم أحالها إلى أقرب المستشفيات منه، وهو مستشفى مانهايم، واضطرته وظيفته إلى الرجوع إلى الجيش فترك العليلة في الحالة التي رأيتها بها، فاقدة الرشد، ولم يكن يعلم الجراح ولا أهل المستشفى شيئاً عن هذه المرأة، ولم توجد معها أوراق يستدل منها عنها، وكل ما استطاعه الأطباء عندما سألتهم خبرها. أن جاؤوني بقميصها مكتوباً عليه اسمها. فتركت المستشفى بعد أن كتبت الاسم في مذكرتي وكان هذا الاسم مرسى مريك!
وهنا اخرجت اللادي جانيت دفترها الصغير فقالت دعني أنا أيضاً أدون الاسم عندي. فآتي(36/132)
لم أسمع به من قبل. وأخشى أن أنساه. . . . أيه يا عزيزي جوليان. لتستطرد في القراءة!
فمصى جوليان في تلاوته فاضطررت في هذه الحالة أن أنتظر حتى أسمع من المستشفى خبر شفائها لكي أتمكن من الكلام معها، ومضت أسابيع ولم أتلق خبراً عنها من الأطباء وقد قيل لي عند عيادتي إياها أن الحمى قد انتابتها وأنها الآن بين الاضمحلال والهذيان، وقد اعتادت في نوبات هذيانها أن تذكر اسم خالتيك اللادي جانيت روي وتردد أشياء كثيرة وكلمات لا يعرف الأطباء عنها طرفاً، وقد فكرت قبل الآن في الكتابة إليك والالتماس منك أن تنبئ اللادي جانيت ولكني رأيت من شك الأطباء في حياتها أن أنتظر حكم الزمن في أمرها قبل أن أزعجك به
قالت اللادي. ولكني أعترف لك بأنني لا أرى إلى الآن ما شأني بهذه القصة
فأردف هوراس قائلاً وهذا ما كنت أريد أن أقوله قبلك. نعم إن القصة محزنة ولا ريب، ولكن ما دخلنا نحن؟
فأجاب جوليان إذن فلا أقرأ الشذرة الثالثة من الرسالة فيكون فيها فصل الخطاب
وعاد إلى تلاوة الرسالة فقال وأخيراً تلقيت رسالة من المستشفى تنبئني أن مرسى مريك قد نجت من الخطر وإنها تستطيع وإن كانت لا تزال ضعيفة أن تجيب عن أي سؤال أحب أن أسألها، فلما بلغت المستشفى طلب إلي أولاً أن أزور رئيس الأطباء في حجرته. فلما التقينا انطلق الرجل يقول إني أرى من واجبي أن أنبهك قبل أن يدخل بك على المريضة أن تكون شديد الحذر في حديثك معها فلا تهتاج روحها بإبداء علائم الدهشة أو الشك في كلماتها إذا هي أسرفت معك في القول. نحن هنا مختلفو الآراء في أمرها متنازعو التقارير والملاحظات ففريق منا وأنا منهم يشكون في أن ذهنها قد أبل مع إبلال جثمانها، ونحن مع ذلك لا نستطيع أن نقرر جنونها فهي لا تزال رقيقة هادئة لا أذاة تحدث ولا خطر ترتكب، ولكنا بعد ذلك نذهب إلى الظن بأنها تحت تأثير وهم شديد مسيطر على ذهنها، تذكر يا سيدي التحذير الذي حذرتكه منذ هنيهة. والآن اذهب لترى بنفسك.
فأطعت وأنا في شيء من الحيرة والإرتباك، فلما دنوت من السرير، رأيت المريضة تلوح ناحلة ذابلة ولكني شهدتها مستجمعة قواها، ثائبة الرشد، وكان صوتها وهيئتها وحديثها تنم عن أنها سيدة مؤدبة، فلما انتهيت من تعريفها بنفسي أكدت لها رغبتي في مساعدتها(36/133)
وجنوحي الشخصي إلى خدمتها وكنت أخاطبها بالإسم الذي وجد مطرزاً على أثوابها، فلم تكد لفظة مرسى مريك تخرج من شفتي حتى بدأ في عينيها بريق مرعب مخيف، وصاحت في غضب وخنق لا تدعني بهذا الإسم الكريه. إنه ليس اسمي. جميع الناس هنا يعذبونني بمناداتي مرسى مريك، وعندما أغضب منهم لذلك يجيئون لي بملابسي، وهو يصرون مهما قلت لهم ومهما حدثتهم أن الملابس ملابسي فلا تكن مثلهم إذا أردت أن تظفر مني بالود والألفة، فتذكرت إذ ذاك تحذير الطبيب فاعتذرت إليها المعاذير الواجبة، فلم يلبث أن هدأ ثائرها وسكن غضبها، وعمدت إلى تغيير الحديث فسألتها عما هي صانعة بعد ذلك وأكدت لها أنني في خدمتها وأنني كفيل بتحقيق مطالبها، وإذ ذاك جعلت تسألني بلهجة تهام وريبة ولماذا تريد أن تعلم مني ذلك؟ فذكرتها لوظيفتي وأنني بموجبها أستطيع مساعدتها فلم تلبث أن قالت بلهف وفرح أجل. إنك تستطيع أن تكون لي أكبر العون. إذن لتبحث عن مرسى مريك!! ورأيت إ ذاك البريق المرعب يعود يسطع في عينيها الذابلتين ولوناً باهتاً من الإحمرار يتصاعد إلى وجنتيها الصفراوين فسألتها وأنا لا أظهر شيئاً من الإستغراب أو الإندهاش عن من تكون مرسى مريك هذه، فكان جوابها السريع امرأة سوء بغي باعترافها، قلت وكيف أستطيع إيجادها؟ فأجابت ابحث عن امرأة في ثوب أسود وفوق كتفها إشارة الصليب الأحمر وهي ممرضة في الإسعاف الفرنسوي. فقلت وماذا فعلت؟ أجابت إنني قد فقدت أوراقي، وفقدت جميع ثيابي ومرسى مريك هي التي أخذتها جميعاً، فسألتها وكيف عرفت أن مرسى مريك هي التي أخذتها، قالت لا أحد غيرها أخذها، هذا ما أعلم. فهل تصدقني أم لا؟ وكانت توشك إذ ذاك أن تعود إلى الإهتياج فأكدت لها أنني سأرسل في التو والساعة العيون والأرصاد للبحث عنها، فدارت عيني بعينيها وأسندت رأسها فوق الوسادة فرحةً راضيةً قانعة وهي تقول، لك الله من رجل طيب. عد إذن إلي وأنبئني أنك قد قبضت عليها.
ذلك كان أول لقائي بها في مستشفى مانهايم. ولست بحاجة إلى أن أقول لك أنني شككت في وجود هذه الممرضة الموهومة، ومع ذلك كان في إمكاني أن أقوم ببعض التحريات والأبحاث عنها، وذلك بسؤال الجراح أجنتياس ويتزل وكان مقره معروفاً ولا ريب عند أصدقائه في المدينة، فكتبت إليه فجاءني منه الجواب في حينه، وخلاصته أنه عندما دخل(36/134)
الكوخ يوم الموقعة، وجد الجرحى قد تركهم رفقاؤهم، ولكنه لم ير معهم هذه الممرضة التي يقال عنها أنها كانت تحمل شارة الصليب الأحمر فوق كتفها، ولم يكن بالكوخ من الأحياء غير سيدة شابة إنكليزية في معطف أسود من معاطف السفر كانت قد أوقفت في الطريق، وقد أعانها على السفر إلى إنجلترة مكاتب حربي لصحيفة من الصحائف الإنكليزية.
قالت اللادي جانيت إنه يعني بذلك جريس.
وأردف هوراس وكنت أنا هذا المكاتب!.
قال جوليان. مهلاً. مهلاً. بضع كلمات فقط تفهمان الغرض الذي أرمي إليه في تلاوة هذه الرسالة.
وانطلق يقرأ فلم أشأ أن أذهب إلى المستشفى بنفسي بل اكتفيت بإبلاغ نتيجة بحثي في كتاب صغير، ومضت مدة ولم أسمع عن المريضة شيئاً ولم يكن إلا أمس فقط أن طلب إلي أن أعودها، وكانت قد تماثلت للعافية وأوشكت أن تخرج من المستشفى، وقد صرحت برغبتها في العودة إلى إنجلترة فرأى الرئيس أن الواجب عليه أن يستدعيني قبل خروجها فلما شهدتها للمرة الثانية، ألفيتها هادئة السرب متمالكة القوى، فلم تكذبني اعتقادها في أن عجزي عن إيجاد الممرضة لم يكن إلا من إهمال شأنها. فلم يسعني إلا أن أسألها إذا كان لديها من المال ما يكفل نفقات سفرها فعلمت منها أن قسيس المستشفى كان قد نشر خبر مصابها في المدينة وأنه قد اجتمع لها من اكتتابات القوم شيء من المال يستطيع أن يمكنها من العودة إلى بلدها. فسألتها عن أصدقائها فأجابت إن لي صديقة واحدة فقط، ولكنها تعدل ألف صديقة. هي اللادي جانيت روي، وأنا أترك لك أن تتصور مقدار دهشتي عندما سمعت ذلك منها، فلم أشأ أن أعود إلى زيادة الأسئلة على ذلك، مخافة أن تغضب وتعود إلى اضطرابها وحنقها وتعللت أنني أستطيع أن أدفع بهذه السيدة المسكينة إلى كنفك وعونك عند وصولها لندن، بأن أكتب لها رسالة إليك. وأنت ستسمع منها خبرها ولعلك ستستطيع أكثر مني أن تتحقق بنفسك عما كانت لها باللادي جانيت آصرة أو علاقة. وجملة القول لم يبق لي إلا كلمة واحدة فأختم هذا الخطاب المستطيل فلعلك تذكر أنني منذ هنيهة كتبت أقول لك أنني في حديثي الأول معها تحاشيت من أن أبعد في سؤالها عن اسمها ولكني في هذه المرة أجمعت على إلقاء هذا السؤال.(36/135)
وهنا أمسك جوليان عن إتمام الكلمات الباقية إذ لحظ شيئاً من التلهف بدا على وجه خالته، وقد نهضت اللادي جانيت من مجلسها وجاءت خلف مقعده لتقرأ العبارة الأخيرة من كتاب السفير، من خلال كتفيه، فاستطاع أن يحول بينها وبين قراءتها بأن وضع يده فوق السطرين الأخيرين من الخطاب.
قالت اللادي جانيت بحدة ماذا تقصد بهذا؟.
فأجاب جوليان، يا سيدتي اللادي جانيت حباً وكرامةً أن تقرأي الجملة الختامية بنفسك، ولكن قبل أن تفعلي ذلك أريد أن أهيئك لدهشة عظيمة وحيرة كبيرة. فتمالكي جأشك ودعيني أقرأها عليك بكل هدوء وبطء وعينيك مستقرة على عيني حتى ألفظ الكلمتين الباقيتين من الجملة. وانطلق يقرأ ونظرت إلى المرأة في وجهها وقلت لها إنك قد أنكرت أن الإسم المطرز فوق أثوابك عندما جئت إلى هذا المستشفى هو اسمك الحقيقي، فإذا لم تكوني حقاً مرسى مريك فمن تكونين؟ فأجابت على الفور إن اسمي هو. . . . . . . . . . . . .
وهنا وقف جوليان عن نطق الإسم ورفع يده عن الصفحة فنظرت اللادي جانيت إلى الكلمة الباقية ولكنها لم تلبث أن تراجعت وقد صرخت صرخةً دهشة عالية أنهضت هوراس من مجلسه مذعوراً راجفاً وهو يصرخ أنبئاني. أي اسم قالت؟
فأنبأه جوليان قائلاً:
جريس روزبري. . . . . . . . . . . .!.
الفصل العاشر
التشاور
وقف هوراس لحظةً مصعوقاً ينظر نظرات ذهول إلى اللادي جانيت وكانت كلمته الأولى عندما ثاب رشده موجهة إلى جوليان.
قال مغطباً عابساً أتراك جئتنا بمزحة، إذا كان ذلك فأنا لا أرى وجه الفكاهة فيها.
فأشار جوليان إلى سطور الرسالة ومضى يقول إن رجلاً يكتب كل هذه السطور المستفيضة المستطيلة إنما يكتب جاداً ولا ريب والمرأة قد فاهت باسم جريس روزبري على سبيل التعارف والآن ها أنت قد علمت السبب.(36/136)
ثم التفت إلى هوراس فقال لقد سمعتني أقول أن لك بصفتك زوج مس روزبري دخلا في حديثي مع اللادي جانيت. والآن ها أنت قد علمت السبب!.
قالت اللادي جانيت إن المرأة ولا شك مجنونة، ويجب بلا ريب أن نبقي هذا الخبر الآن سراً مكتوماً عن جريس.
وأضاف عليها هوراس قائلاً نعم. لا شك في أن جريس يجب أن تبقى غير عالمة بهذا، وهي لا تزال ضعيفة، وخليق بنا أن نحذر الخدم، قبل أن يقع مصاب، أو تحل نكبة، إذ لعل هذه المجنونة محاولة عما قليل أن تغزو هذا البيت بجنونها.
قالت اللادي جانيت أجل. أجل. يجب أن نفعل ذلك في الحال. دق الجرس. دق الجرس. وأغرب ما يدهشني يا جوليان أنك جعلت تصف نفسك في جوابك لي بأنك شديد الإهتمام بهذه المرأة.
فأجاب جوليان دون أن يدق الجرس بل إني الآن أشد بها اهتماماً من قبل، إذ أرى مس روزبري نفسها ضيفتك في دار مابلثورب.
قالت اللادي جانيت. لقد كنت يا جوليان دائماً وأنت طفل صغير شريراً في رغبتك غريباً في كراهتك. لماذا لا تدق الجرس؟.
فأجاب جوليان لغرض واحد يا خالتي العزيزة. أني لا أريد أن أسمعك تأمرين خدمك أن يغلقوا باب بيتك في وجه هذه المخلوقة المنكودة المسكينة!.
فنظرت إليه اللادي جانيت نظرة عابسة مرعبة، كأنها قد اندهشت من اجترائه عليها.
قالت بدهشة باردة. إنك لا تنتظر مني ولا ريب أن أرى هذه المرأة؟
فأجاب جوليان في رفق وهدوء أرجو أن لا ترفضي لقاءها. لقد كنت غائباً عن البيت عندما زارتني. ولكن ينبغي لي أن أسمع ما تريد أن تقول. ففضلت أن لا أسمعها إلا في حضرتك. فلما تلقيت جوابك الذي سمحت لي فيه بأن أقدمها إليك، كتبت إليها ضارباً موعداً للقاء في هذا اليبت.
فرفعت اللادي جانيت عينيها السوداويين إلى السقف وهي في صمت ثم قالت في لهجة التهكم ومتى أنال الشرف بتنازلها لزيارة!.
فأجاب ابن أختها بهدوئه المعتاد اليوم!(36/137)
فعادت تسأله وفي أية ساعة؟
فأخرج جوليان ساعته من جيبه ثم لم يلبث أن ردها إليه وهو يقول لقد تأخرت عن الموعد عشر دقائق.
وفي تلك اللحظة دخل الخادم فتقدم إلى جوليان يحمل بطاقة زيارة فوق الصينية. ثم قال سيدة تريد رؤيتك يا سيدي!.
فأخذ جوليان البطاقة ثم انحنى باحترام فدفع بها إلى خالته وهو يقول بهدوء ها هي قد جاءت!.
فنظرت اللادي جانيت إلى الرقعة ثم لم تلبث أن قذفت بها إليه بغضب وقالت مس روزبري!. . . أتطبع الإسم طبعاً! أتطبعه فوق البطاقة. أي جوليان إن للصبر حدوداً. وللحلم غاية. إني أرفض لقاءها!.
وكان الخادم لا يزال واقفاً أشبه شيء بالتماثيل فنظر جوليان إليه وقال وأين هي الآن؟
فأجاب الخادم في قاعة الإفطار يا سيدي!
قال جوليان إذن فلتنتظر هناك ولتبق أنت على منال الجرس!.
فانصرف الخادم صامتاً. وإذ ذاك التفت جوليان إلى خالته فقال عفواً يا سيدتي عن اجترائي على إصدار الأوامر إلى الخادم في حضرتك. فإني أريد أن لا تتسرعي في الحكم أننا خلقاء ولا ريب أن نستمع لها.
قال هوراس محتداً غاضباً إن ذلك يعد إهانة لجريس إذا نحن استمعنا لها!.
فأطرقت اللادي جانيت رأسها إطراقة الموافقة ثم قالت وهي تشبك ذراعها إني أرى ذلك أيضاً!.
فعمد جوليان إلى إقناع هوراس أولاً فقال معذرة يا سيدي وغفراناً. إني لا أقصد مس روزبري في شيء من هذا اللقاء ولا أود أن أدخل بها في هذا الموضوع!
وهنا تمهل ثم عاد يوجه الخطاب إلى اللادي جانيت ولكن خطاب السفير يقول أن أهل المستشفى في ماتهايم مخلفو الآراء في أمرها متباينو الأفكار، وإن فريقاً منهم وبينهم رئيس الأطباء يذهبون إلى أن شفاء ذهنها لم يصحب إبلال بدنها.
فعقبت اللادي على قوله وبعبارة أخرى إن في بيتي الآن امرأة مجنونة ويراد مني أن أقبل(36/138)
لقاءها!.
قال جوليان في رقة ورفق كلا. دعينا من المبالغة والمغالاة. فإنها لا تجدي علينا شيئاً في هذه المسألة الخطيرة. إن صديقي السفير يؤكد لنا في رسالته أن أطباء المستشفى يقررون جميعاً لأنها رقيقة وديعة، لا ثورة تثور، ولا أذاة تحدث ولئن كانت حقاً تحت تأثير وهم ذهني شديد، فهي ولا ريب جديرة منا بالرحمة والعطف والرثاء، وهي بلا شك تحتاج إلى العناية والرفق. فسلي يا خالتي العزيزة فؤادك الكريم الرؤوم أليس من القسوة الكبرى أن نقذف هذه المرأة المسكينة المعذبة إلى عرض الطريق، دون أن نبدأ بسؤالها والتحقق من قولها.
فأثارت هذه الكلمات روح العدل الكمين في فؤاد اللادي جانيت فقالت بصوت رهيب. أجل إن في هذه الكلمات مسحة من الحق ثم نظرت إلى هوراس واستطردت تقول ألا تظن ذلك أنت؟.
فأجاب هوراس في لهجة الرجل الذي لا يستطيع أي إقناع أن يهزم عناده إني لا أستطيع أن أقول شيئاً!.
ولكن صبر جوليان كان أشد قوة من عناد هوراس، فانثنى يقول بكل هدوء وخفة لهجة، ولكنا نحن الثلاثة لا نزال نشعر بالإهتمام والقلق من هذا الأمر الجديد العارض. . ثم ألسنا يا سيدتي اللادي جانيت الآن في أسنح الفرصة لإنهائه وأطوع الظروف لفضه، إن مس روزبري لا تزال خارج البيت كله، فإذا تركنا هذه السائحة تجري مفلتة من بين أيدينا، فمن يدري لعل حادثاً غريباً يقع بعد اليوم؟
فلم تستطع اللادي جانيت إلا أن تصيح وقد رأت رأيها الأخير، إذن لندع المرأة تدخل. أجل يا عزيزي جوليان. لتدخل في التو والساعة. قبل أن تعود جريس إلى البيت. أرجو أن لا ترفض دق الجرس في هذه المرة؟
ولم يكن جوليان ليتردد هذه المرة في دق الجرس ولا ريب فلم يكد يفعل، حتى انثنى يسأل خالته بكل احترام أتسمحين لي أيضاً أن أصدر الأمر إلى الخادم!؟.
فأجابت السيدة العجوز وهي تنهض بشيء من الإنفعال مره الآن ما شئت ولنخرج من هذه المشكلة.(36/139)
وجاء الخادم فتلقى الأمر بدعوة السيدة إلى الدخول وهنا خطا هوراس يريد الخروج من الباب الثاني، فدلفت إليه السيدة قائلة إنك لن تذهب الآن ولا ريب؟.
فأجابها بشيء من الخشونة إني لا أرى فائدة من بقائي!.
فقالت اللادي جانيت، إذا كان ذلك فلتبق لأني أود بقاءك!. .
قال وهو أشد عناداً من قبل، بكل تأكيد، إذا كنت تريدين ذلك! ولكن تذكري أنني أخالف جوليان في رأيه جد الخلاف، وأرى أن المرأة ليس لها الحق علينا!
وإذ ذاك أفلتت من جوليان للمرة الأولى بادرة غضب وسخط وتأثر فقال بحدة. . ما هذه القسوة يا هوراس. لكل إمرأة في هذه الأرض حق علينا!.
وأنساهم الجدل أمرهم، فلم يذكروا أنهم قد أمروا الخادم بدخول القادمة.
وإذ ذاك لم يلبثوا أن تنبهوا على حفيف ثوب، فنظروا جميعاً صوب الباب، ينظرون المرأة الغريبة القادمة!. . . . .
الفصل الحادي عشر
البعث
وإذ ذاك لاح شبح إمرأة صغيرة في ثوب أسود رقيق الحال، لا تأنق فيه ولا زينة، فلما دنت إليهم رفعت في صمت نقابها الأسود فبدأ وجه شاحب مهزول. تطل منه آثار التعب والمرض، وعليه مسحة جمال أخفاها الهزال، وأذهبها الإصفرار وقفت هذه المرأة كذلك جامدة في مكانها، وجعلت تنظر إليهم صامتة، وظلوا أيضاً واجمين هنيهة لا يتكلمون، ينظرون مذهولين مبهوتين إلى هذا الوجه الشاحب إزاءهم ومضت لحظة، لا حس في الحجرة ولا صوت إلا دقة هذا السكوت الرهيب.
قالت. وهي تدير عينيها في الرجلين الواقفين قبالتها أين مستر جوليان جراي؟
فتقدم جوليان بضع خطوات، وقد تمالك اضطرابه قال. إنني آسف إني لم أكن في البيت عندما جئتني ورسالة السفير، أرجو أن تأخذي لك مجلساً.
وعلى سبيل تهدئة الجأش، عادت اللادي جانيت إلى الجلوس في ناحية بعيدة من الزائرة، وظل هوراس واقفاً بجانبها وانحنت محيية الزائرة الغريبة بأدب متكلف مصطنع، دون أن تفوه بكلمة، وهي تقول في نفسها إني مضطرة إلى الإصغاء لهذه المرأة ولكني لست(36/140)
مضطرة إلى محادثتها. فليقم بذلك جوليان وحده! وظلت اللادي جانيت جالسة مشبكة ذراعيها، ترتقب بدأ المجلس، كالقاضي الجالس في منصة الحكم.
قالت المرأة، وقد ألقت نظرها إلى اللادي جانيت، أهذه هي اللادي جانيت روي؟
فأجاب جوليان بالإيجاب، وأمسك عن القول منتظراً نتيجة جوابه، وهنا نهضت المرأة من مكانها فخطت إلى ناحية اللادي جانيت، وراحت تخاطبها بكل هدوء ورباطة جأش، قالت إن الكلمات الأخيرة التي فاه بها أبي في الحياة، كانت كلمات يا سيدتي تدلني على أن ألتمس منك العطف والرعاية والعون.(36/141)
العدد 37 - بتاريخ: 1 - 12 - 1917(/)
الإسلام في انجلترا
هناك في ناحية من لندن المختنقة بالسكان، عاصمة دولة الشعب البريطاني، في وسط آلاف الكنائس، وعديد المعابد والهياكل، وعلى مرأى ومسمع من القساوسة وأقطاب الدين المسيحي ينهض مسجد للمسلمين، بقبابه العالية، ومآذنه المتطاولة، وطارزه العربي البديع، حيث تؤدى فرائض الشريعة المحمدية، ويسبح فيه باسم الحنيفية البيضاء، وتلقى فيه أبدع المحاضرات في أمهات الإسلام، وأعوص مشاكله وموضوعاته - ونعني به مسجد (ووكنج) على بعد نصف ساعة من محطة واترلو، فهو منتدى كبار الإنكليز الذين اعتنقوا الدين الإسلامي، وصفوة علماء الهنود وأكابرهم الذين نزلوا ببلاد الانجليز، ويصيبون الرزق فيها من صناعاتهم الأدبية والعلمية والفنية، كالصحافة والأدب، والطب والمحاماة.
وقد تكاثر اليوم عديد الإنكليز المفكرين وأهل الطبقة العليا الذين دخلوا في الدين الإسلامي بعد أن دققوا النظر في درسه، وأمعنوا في بحثه وتغلغلوا في صميمه ولبه، وإنك لترى كتبهم في الإسلام وتواليفهم ومباحثهم تكاد تسمو على أذهان كثيرين من علمائنا وأعلامنا، والمسلمين العاديين الذين إنما أضافتهم إلى صفوف الإسلام أحكام الوراثة، وأشربت قلوبهم حب الدين وإن كانت أذهانهم خلاء من فهم معانيه وأغراضه، ودرك الفلسفة الإلهية التي تنساق في كل شرائعه، ولعل القادم الجديد على الدين من وراء التفكير الطويل والدرس المتواصل والاقتناع المتين، خير من مئات من الذين يحملهم الدين ولا يحملونه، ويقومون في تعداد أهله، وهو يريد أن يتعداهم.
وما أظن إيماناً كإيمان رجل كبير الذهن، خفيف الروح، قوي النفوذ، مثل اللورد هدلي الذي اعتنق الإسلام منذ سنين، ولا يزال ينضح عنه بكل ما في وسعه إلا انتصاراً باهراً للإسلام في عصر كثر فيه أعداؤه، وتألب عليه المتألبون للثأر منه، لأن إسلام رجل كبير من أهل المسيحية أكبر دليل على أن هذا الدين يسع العالم كله، إذ كان يجري مع الفطرة الإنسانية ويسير مع الغريزة، وإنك إن جئت إليه لتمتحنه من ناحية الذهن، وأردت أن تخبره من وجهة المنطق والعق ل والفكر راعك وأذهلك وصدمك بجلال حججه وعظم آياته، وإن أنت التمست إليه السبيل من ناحية القلب، غشى قلبك منه سحر، وتغلغل في كل جانحة من جوانحك، وكذلك تراه بين الهمج والقوالب الخشنة من الإنسانية المظلمة في الكهوف ووراء المكامن والأعراش، وفوق ربوات الجبال، وتحت وقدة الشمس المحرقة،(37/1)
عظيماً يهذب من طبائع الإنسان الأول ويهنه من وحشية الحيوان الكامن في فؤاده، ويزجر مشاعر قابيل عن خاطره، كما تراه جليلاً في أذهان أهل الأذهان، شديد الأثر عند المفكرين والمهذبين والعقليين.
والغريب من أمر انتشار الإسلام في بلاد الانجليز أن الداخلين فيه والمعتنقيه من الأسرات الكبيرة، ومن طبقة الأشراف، والأغنياء منهم، ومن الطبقة الوسطى، ومن القساوسة والكهنة والرهبان، وقد تسلم الأسرة الواحدة بأجمعها، ربها وزوجه وأطفاله وأقاربه، وهناك جمع كثير من الضباط والجنود دخلوا في صفوف الإسلام، تحت العلم المحمدي وهم لا يقتصرون على اعتناق الإسلام ولزوم فرائضه، بل لا يلبث كل منهم أن ينفرد بالكتابة والبحث في فرع من فروع الإسلام، فمنهم من ينشر المقالات الضافية والأبحاث الممتعة في حقوق المرأة في الإسلام، ومنهم من يسترسل في درس الاشتراكية في الشريعة الإسلامية، إلى كثير من الأبحاث التي تدق على أفهام كثير من المسلمين.
ولعل الفضل في ذلك يرجع إلى رجلين من كبار الهنود المسلمين الذين عظم إيمانهم واشتدت حميتهم للدين، وهما الخواجه كمال الدين أحد كبار المحامين في انجلتره، ومن خريجي جامعاتها، والآخر خواجه صدر الدين، فقد أسس هذان الفاضلان منذ بضع سنين مجلة باللغة الانكليزية هي اليوم لسان حال الانكليز المسلمين، وهي ذائعة الانتشار في الشرق والغرب، فهي لا تقل في فائدتها عن المسجد الذي أسس للتقوى في لندن ونعنى به جامع ووكنج.
ولا تزال الصفوف الإسلامية تزداد إلى اليوم بفضل تلك المجلة، ولا يزال الدين غضاً جديداً يجمع العدة لينهض نهضته الكبرى بعد الحمّى التي أصابت الغرب.(37/2)
كتاب العصر
أحمد لطفي بك
في الصف الأول من صفوف الكتاب العصريين ينهض هذا الرجل الخصيب الذهن، القوي الأثر، ولعله كان محدثاً في الآداب المصرية تغييراً خطير الشأن، ومرسلاً في أرواح الشباب والمنحدرين إلى المستقبل تطوراً شديد السلطان، لو أنه أمسك على نفسه بعض النشاط الذي كان يثب في جوانحه يوم كان في الحياة العمومية قائداً يمشي في أثره كثيرون من المتطلعين إلى التهذيب، النازعين إلى مناهضة المبادئ القديمة التي لا يزال يعض عليها بنواجذه سواد طبقات الشعب، ولو أنه غالب الحب الذي يتغلغل في نفوس أكثر الناس لروعة المنصب الحكومي وفخامة مقاعد الإدارة، أو لو أنه إذ جلس مجلسه، وتولى منصبه، لم ينس الناس ولم ينصرف عن الجمهور، ويرضى بعمل هين ليس فيه من متعبة إلا كثرة الإمضاءات والتوقيعات، ومراجعة القوائم والكشوفات.
وما أظن الجلوس في مقاعد الحكومة يمنع الرجل المفكر من أن يطل على الشعب الحين بعد الحين، أو يترك الذهن صدئاً منطفئاً مفلول العزيمة، بل لقد رأينا كثيرين من أهل الفكر قعدوا مقاعد الحكومات، وتولوا الوزارات والرئاسات، فلم يحل ذلك بينهم وبين عرض الصور التي تلوح في أذهانهم على الجمهور، وإخراج ثمرات قرائحهم كلما رأوا الفرصة سانحة، والزمن مواتياً، فقد كان لو رد بيكو نسفيلد على رأس الوزارة الانكليزية فلم يمنعه منصبه على خطورته أن يضع ذهنه في كل مكتبة ويعيش في خزانة كل قارئ فبيناهو ينشئ المحالفات، ويوقع على المعاهدات، ويرأس البرلمانات، إذ هو طرح عنه كل ذلك، عائد إلى حجرته، ليغيب في تفكيره، ويأخذ في وضع رواياته، حتى لقد كان على رأس الحكومة، ثم هو بعد ذلك في رأس كل إنسان يعيش تحت الحكومة وكان كبير الوزراء وكبير الروائيين في آن واحد، ولعل روايته فيفان جراي تقوم في التاريخ الإنساني بكل ما أنشأ من عهود وأنظمة، واستن من شرائع وقوانين وهو في وزارته ومكان رئاسته.
ثم نحن لا ننسى أيضاً أن جوت كان وزيراً ورئيس بلاط دوق ويمر، ورئاسة بلاط الملوك مضيعة للزمن، مشغلة عن الحياة، صارفة عن كل شأن، لأن صاحبها ملزم بأن يظل عند عين الملك وسمعه، وأبدا في ندوته وسمره، فما كان ذلك ليقتل في جوث الروح المضطرمة(37/3)
في جانحته، والنزعة الفكرية التي تتقد في فؤاده، فكان يفلت حيناً من سلطان ملكه ليطيع سلطان عقله، ولو كان سلطان الحكومات مستطيعاً أن يسود في المفكرين على أذهانهم، لما انحدر إلينا ولآخر إنسان سيبقى على الأرض كتابه أحزان ورثر وهو الكتاب البديع الرائع، كتاب الحزن الإنساني كله.
ثم لا ننسى كذلك أدباء العرب الذين عاشوا في قصور الخلفاء، وولوا الولايات، وعهدت إليهم المقاطعات، فأبوا إلا أن يظلوا مع ذلك أدباء وكتاباً أكثر منهم ولاة وعمالاً وحكوميين.
على أنا نقول أنه ما كان أبدع ذوق الحكومة، وأعطف فؤادها على الفكر والأدب، إذ اختارته لوظيفة ليعيش فيها بين الكتب وتركت إليه أذهان ألف سنة أو تزيد تحوطه وتشارفه، ولم تحرمه من الجو الذي لا يموت فيه الذهن، لا تصدأ فيه القريحة، ولم تختطف منه قلمه فتحطمه وتقذف به تحت مكتبه، وكان هذا ولا ريب عزاء الناس يوم اعتزاله إياهم، وكان فيه بعض التخفيف من ألم المهذبين يوم اختارته الحكومة لنفسها، إذ كان الجميع يتوقعون أن تصبح دار الكتب النبعة التي سيخرج منها ذهن قائدهم أصفى من قبل وأكثر فيضاً وأنضج فكراً، وكان أملهم في ذلك أمل صاحب العمل الذي يعهد إلى عماله المقام في مشارف مناجم الذهب، واحتفار أرض هي مظنة المعدن والجوهر.
ثم لا تنس بعد ذلك أن الحكومة لم تأخذه إليها إلا يوم نشبت الحرب، وطارت شرارة المجزرة، وخمد صوت الفكر متبدداً في تضاعيف صوت القنبلة، وانكمش المفكرون متضائلين أمام أهل السيف، فلم يكن ثمة سبيل إلى هذا الرجل المفكر أن يرسل قلمه في تفاسير السياسة، وينطلق في شرح أعاصير الدول، والخوض في نبوءات الحرب، وكان الرجل لا يزال مهيب الفكر عند الحكومة، محترم الذهن عند كبارها، فلم يسع الحكومة إلا أن تذهب إليه فتهمس في أذنه أيها الرجل المفكر، ليس لك محل في الحرب، إن زملاءك اليوم في دول الحرب قد سكتوا، إذن فتعال عش بجانب أساتذتك مفكري العصور الذاهبة، تعال اخرج لنا من هذه المطمورات تمثالاً للفكر منسياً.
حتى إذا استرسلت الحرب في عزيفها وصريخها ونكرها، لم يلبث أن ملها الناس واعتادوها، ورضوا بالآلام التي تجيئهم من ناحيتها، وراحوا يتلمسون عنها العزاء، ويتفقدون السلوى، وليسوا بحاجة إلى شيء مثل القراءة، ولا أذهب لأحزانهم من الكتب(37/4)
لأنها تضمد جراحات النفوس، وتسكن آلام الأذهان، ولو خرج للجمهور اليوم كتاب بديع طلي خفيف الظل لالتهموه لساعتهم، لأن أذهان القراء أصبحت تحس بحاجتها إلى الغذاء، إذ كانت مواد التسعيرات جعلت مطالب المعد تسود على مطلب العقول، وقد تعب الناس الآن من كثرة التفكير في الأكل، إذ علموا أن الحرب ستأكل الجزء الإنساني فيهم وتدعهم نوعاً جديداً من الحيوانات المتكلمة إذ لم يحتفظوا بقلوبهم وأذهانهم.
وكان هذا الرجل المفكر يستطيع في هذا الزمن الأحمر القاني من دماء الأبرياء أن يكون بلسماً، وكان فكره الخصيب خليفاً بأن يكون معزياً مواسياً، ولكنه ترك الناس لآلامهم، وجعل نفوس القراء المتلهفين على قراءة البديع من الفكر في سكون أشبه بسكون الموت، ولم يخرج للجمهور في ثلاثة أعوام أثر فكره إلا مرتين، في يوم عيد شكسبير، وكلمة عن قاسم أمين، وهذان المقالان وإن لم يكونا في شيء من روعة الذهن الذي كان يطل علينا قبل ركوده قد وقعا إذ ذاك من نفوس القراء، وأذكرا الجمهور السحر الأول الذي كان يبين في كتابته، والفتنة التي كانت تفعل في القلوب من أثر طلاوة موضوعاته.
وقد يتعزى كثيرون اليوم عن سكوته بأنهم سيرونه بعد حين طالعاً عليهم يحمل أرسطو في يده وخارجاً إليهم بفلسفة قديمة كان لها الأثر الأكبر في تهذيب الإنسانية وتنويرها، وعليها قامت الفلسفات التي جاءت بعدها، على أننا نقول لهم ما قلناه من قبل وهو أن مقالاً واحداً من قلمه الساحر في شأن من شؤون حياتنا الحاضرة أجدى علينا من أرسطو وكتبه، لأنه إذا كان تمت فائدة من فلسفة أرسطو وتواليفه فهي لطلاب دراسة الفلسفة القديمة والراغبين في أن يحملوا الحياة على طرف دبلوماتهم وشهاداتهم ويعيشوا بهذه الرقعات الجميلة المختلفة الألوان التي لا تفيد في معركة الحياة شيئاً، ثم ليس كل القراء طلاب دبلومات، وليسوا جميعاً في مجالس المدارس، بل هم أحوج أن يغتذوا من روح المفكر العصري الذي يعيش بينهم ويشاركهم في عواطفهم، ويكشف لهم عن كنه الحياة، ويفتح أعينهم الزائغة القلقة إلى أسرار الوجود، من ألف كتاب قديم لألف فيلسوف عظيم، فلو مضى الآن أناتول فرانس وهو من أكبر كتاب فرنسا المعاصرين، فنبش كتاباً قديماً من كتب الفلسفة العتيقة فترجمه لشعبه، لاحتفلت به المدارس ورحبت به الجامعات، ولكنه لا يستطيع أن يظفر في قلب القارئ الفرنسي العادي البعيد عن المدارس وأهلها بما يظفر به من التأثير كتاب(37/5)
صغير واحد من ثمرات ذهن أناتول فرانس نفسه وليست المدارس هي كل ما يمد الحياة بل ليست إلا حظائر لتربية العاديين، وتهذيب القطيع الإنساني وإعداده للحياة العمومية الهادئة.
ولقد يظن أحمد بك لطفي السيد أنه لا يزال إلى اليوم يذكر الناس ويحف بتهذيبهم ويفكر في شؤونهم ويعمل على ترقية آدابهم، بهذا المجمع اللغوي الذي ينتدى في دار الكتب الفينة بعد الفينة ليصل ما بين مبتكرات الحياة الجديدة وبين لغة العرب وينقذ الأساليب الكتابية من العجمة التي أبت مدنية اليوم إلا أن نرضى بها في الحياة وفي اللغة كارهين، ولكنا نعلم أن هذا المجمع اللغوي لم يحدث منذ تألف أثرا، وما نظنه محدثه، وأعجب من ذلك أن يأتي مبدأ المجمع اللغوي الآن فينسخ مبدأ المصرية في اللغة الذي كان يجري من قبل في ذهنه ويصر عليه، ويناضل عنه، ويفسد به أساليبه السلسة المائية العذبة ليبدي للقراء أنه قد أنفذ فكرته على رغم أنوفهم، ولعمري أن تغيير المبادئ بهذه السرعة أمر يبعث على الدهشة ويدعو إلى الريبة وما نعلم له شبيهاً في كتاب الغرب وعلمائه وفلاسفته، بل رأينا الكاتب منهم يطرد في مبدأ واحد، فلا يزال يجري به إلى الأبد، حتى يعرض به يوم يعرض الناس جميعاً.
ولكنا بعد نقول أن عدوله الآن عن مبدأ اللغة المصري أجدى عليه، وخير لقرائه الذين يتعشقون أسلوبه، لأنه كان يتخلل كتابته فيذهب بجمالها، وينغص على القارئ ويفسد الأثر الذي تحدثه الفكرة المبسوطة أمامه، إذ كانت تبدو عليها دلائل التكلف، وإنها جيء بها عمداً، وسيقت من الكاتب سوقاً، لتنفيذ مبدأ يحاول الإصرار عليه على فساده ويجتهد في التمادي فيه على باطله، وأنت تعلم أن لطفي بك كاتب شاعر تتدفق أفكار المثل الأعلى في جميع ما يكتب، وإنه من الكتاب الذين يبحثون عن الكمال الإنساني في الحياة، وهذا ولا ريب ينبغي له أسلوب فاتن وعبارة مونقة رائعة حتى يستأثر بالقلوب، ويستهوي الأذهان، وإذا أنت التمست ذلك من أساليب الشارع، وافتقدته في لغة السوق، وطلبت شيئاً منه من أفواه العجائز، فما أنت واقع إلا على أحط صورة من صور الأذهان، لأن لغة الحياة العمومية لا تزال تحمل جميع أعراض الحقارة التي لا يخلو منها عنصر واحد من العناصر الأولى المكونة لحياتنا الحاضرة، ولا بد مع ذلك أن يكون الكتاب والشعراء(37/6)
والمفكرون في طبقة أسمى من الحياة نفسها التي تحوطهم، بل يجب أن تكون لهم لغة غير لغة الناس، لأن لهم أذهاناً أصفى من أذهان الناس، وليس في لغة الحياة الحاضرة شيء يصح أن نأخذه عنها ونقتطفه ليكون تطرية لأساليب الأدب، وزينة للكتابة والشعر، وأكبر دليل على فساد لغة الأسواق ما نسمعه من الأغاني والألحان التي تجري اليوم على ألسنة الرجال والنساء والولدان في الأزقة والطرق، فهي لا تكاد ترتفع في معانيها وأصولها عن الأغاني الشائعة بين الزنوج سكنة الأحراش والجبال، وهي لا تمت إلى الشعر بسبب، مع أن الغناء في الجمعيات المهذبة المتحضرة لا يزال ضرباً من أرقى ضروب الشعر، وهو لديهم من أسمى فروع الأدب.
ونحن الكتاب والشعراء أخلق بأن نرتفع بالناس لا أن نسقط إليهم وننزل على حكمهم، لأن الطفل الذي تسمح له بأن تجارية وتكفل له جميع ما يريده حقاً وباطلاً لا تلبث أن تفسده عليك وتفسده على نفسه، فلا تستطيع له بعد ذلك إصلاحاً، ولا تجد لك إلى تهذيبه سبيلاً، ولا ترى لك عليه من سلطان.
هذا ولعل لطفي بك سيخرج بعد الآن من معتزله، وينطلق من ركوده، ولعل في هذا باعثاً له على الرجوع إلى تذكير الناس به قبل أن ينسوه كما نسيهم، وما نسيان الشعوب إلا أكبر عقوبة للذين يعتزلون الجهاد من أجلهم.
هذا ما نسوقه اليوم توطئة للكلام عن أسلوب أحمد مصطفى بك السيد وتحليل مبادئه الفلسفية وبسط رأينا في أدبه، وفي المجمع اللغوي، في العدد القادم إن شاء الله.(37/7)
الحرب
بقلم شاعر
من أبدع ما عثرنا به من كتب الحرب كتاب جميل مؤثر الأسلوب وضعه حديثاً الشاعر الفرنسي الطائر الصيت بييرلوتي صديق الشرق، وصاحب الروايات المختلفة عن المرأة التركية وضفاف البوسفور، وهو مجموعة مذكرات كتبها في خلال الحرب، عندما سنحت الفرصة له، وصف فيها عدة من المناظر المفزعة، والمشاهد النكراء المبكية التي مر بها في سياحاته المتواصلة بين فرنسا والبلجيك، تحت مثار النقع، وعن كثب من ميادين الموت، وقد افتتح الكتاب بصورة الخطاب الذي بعث به إلى وزير البحرية الفرنسية عندما نشبت الحرب يستعفيه من دعوته إلى الصفوف، ويستقيله من إكراهه على العودة إلى الخدمة العسكرية، إذ كان بييرلوتي يحمل رتبة كبتن في البحرية الفرنسية، وهو كتاب رقيق، بل خطاب رجل شاعر أخلق به حمل القلم من امتشاق السيف، يكره الحرب لا جبانة منه وخوفاً، ولكن سموا عن سفك الدماء وتعففاً.
وإليك صورة الكتاب: -
روشفور في 18 أغسطس سنة 1914
من الكبتن جوفيود من احتياطي البحرية إلى وزير بحرية فرنسا
سيدي
عندما دعيت إلى الخدمة في بدء نشوب الحرب كنت أمنى النفس بأنني سأؤدي عملاً أكثر أهمية من هذا العمل الذي خصصت به في أحواض البحرية.
وثق يا سيدي أنني لا أريد بهذا لوماً وعتاباً لأنني أعلم أن على البحرية عملاً عظيماً في هذه الحرب وأن جميع رفاقي وإخواني في الرتبة التي أحملها، ضباط الرديف، سيظلون قعوداً حتى تواتيهم الفرصة للخدمة، وإنهم وا أسفاه سيرون مثلي نشاطهم مختزناً وقواهم محتبسة، وأرواحهم في عذاب.
ولكن دعني أذكر الاسم الآخر الذي أحمله، إن الإنسان العادي لا يعرف شيئاً كثيراً عن قوانين البحرية، إذن فلا تظن أنها ستعد أسوة سيئة في وطننا العزيز، حيث كل إنسان قائم بعمله أبدع القيام، مؤد واجبه على أحسن ما يكون من الأداء، أن لا يؤدي بييرلوتي عملاً(37/8)
نافعاً، إن اشتغالي بصناعتين في آن واحد يجعلني باعتبار كوني ضابطاً في مركز استثنائي، أليس كذلك؟
إذن فعفواً ومغفرة إذا أنا التمست إليك أن تعاملني معاملة استثنائية رحيمة لينة، إنني أقبل بفرح بل بفخر وزهو أي وظيفة تدنيني من خطوط النيران، ولو وظيفة ضئيلة تافهة، وظيفة دون مقام القصب الذي فوق سترتي.
فإذا عز ذلك فهل لي أن أعين بصفة إضافية في سفينة يكون لها الحظ في شهود القتال الحقيقي، إني أؤكد لك سأجد إذ ذلك سبيلاً إلى تأدية عمل نافع، أما إذا نهضت في سبيل إنفاذ ذلك القوانين والصعوبات فهل في الإمكان أن تهبني يا سيدي - في المدة التي سأظل فيها في ارتقاب الدعوة إلى خدمة الاسطول - حرية الذهاب هنا وهناك حتى أحاول أن أجد أي عمل أعمله، ولو في الإسعاف.
إن مركزي حرج، ولن يدرك أحد ولن يصدقوا أنني كبتن في رديف البحرية وإن ذلك يلزمني أن أبقى ساكناً، وفرنسا كلها مدججة بالسلاح.
جوليان فيود
العصفوران الصغيران
ذات مساء وقف قطار مزدحم بالمهاجرين من البلجيك بمحطة من محطات أحد البلاد الجنوبية في فرنسا، فنزل الشهداء المساكين في أثر بعضهم البعض، وهم زائغو الأبصار ذابلو الوجوه، إلى الافريز الغريب عليهم، حيث كان جمع من الفرنسيين ينتظرون مقدمهم للتأهيل بهم، وكانوا يحملون متاعاً صغيراً من الثياب التقطوها ولا ريب في عجلة، وكان في الجمع أصبية كثيرون، بين بنات وفتيان وولدان فقدوا آباءهم في النيران والمجزرة، وإلى جانبهم عجائز وجدات أصبحن وحيدات في العالم إذ هربن وهن لا يعرفن السبب، غير متشبثات بالحياة، وإنما مدفوعات بإحساس خفي غريب وهو حفظ الذات، وكانت وجوه هذه السيدات الطاعنات في الأسنان لا تنم عن أي تأثير أو انفعال ولا يبدو في صفحتها دليل من الحزن أو اليأس كأنما قد فارقت أرواحهن جسومهن وتولت عن أدمغتهن ألبابهن.
وفي غمار هذا الجمع الحزين طفلان في بواكر العهد بالحياة، يمسك كل بيده يد صاحبه،(37/9)
صبيان غفلان لعلهما أخوان شقيقان، أما أكبرهما فيجري في الخامسة وما أظن الصغير يعدو الثالثة، ولم يكن أحد من الجمع في رعايتهما، ولم يعرفهما في الناس أحد، ولكن كيف أدركا عندما تولى عنهما الأهل أنهما إذا أرادا من مخالب الموت فراراً فليطفرا إلى هذا القطار. . . . ذلك سر لا أدركه.
وكانا في أثواب نظيفة، ويلبسان جوارب صوفية صغيرة، مما يبعث على الظن بأنهما من أبوين فقيرين ولكن لهما فضيلة العناية، ولا ريب أنهما طفلا أحد أولئك الجنود البواسل الذين سقطوا قتلى في ميدان الشرف، ولعل أباهما أغمض عينه على آخر نظرة استطاع أن يمنحهما إياها، وكان التعب آخذاً مبلغه منهما، وكانا بحاجة شديدة إلى النعاس، فلم يبكيا ولم يصرخا، ولم يستطيعا جواباً عن الأسئلة التي كانت تلقى إليهما ولكنهما مع ذلك لم يترك أحدهما يد الآخر، بل ظل كل مستمسكاً بأخيه، على أن الأكبر، وهو لا يزال قابضاً على يد الصغير خشية أن يفقده، لم يلبث أن تبين المسؤولية التي على عاتقه وهي حماية أخيه، فتطاول ومد عنقه إلى السيدة التي بجانبه وهو يقول في صوت ضعيف مسترحم، والنعاس يغالب جفنيه، ويبين في تضاعيف جرسه، سيدتي: هل سيذهب أحد بنا إلى الفراش؟!!
تلك هي الرغبة الوحيدة التي استطاعا في تلك اللحظة أن يشعرا بها، كل ما كانا يطلبانه من رحمة الإنسانية أن يذهب أحد بهما إلى الفراش، وقد كان ذلك، فذهبا إلى النوم، ولكن لا يزال كل منهما يشد على ذراع أخيه، متلازمين متلاحمين، هابطين معاً في لحظة واحدة إلى وادي النسيان الجميل الهادئ، سبات الأطفال، الهنيء العميق!!
وقد كتب بييرلوتي في أوائل الحرب، قبل أن تقدم تركيا على الإسهام فيها خطاباً رقيق الديباجة، بديع المعنى إلى أنور باشا ينصحه أن يبتعد بوطنه عن ويلات القتال وشره، وإليك ما قال:
روشفور في 4 سبتمبر سنة 1914
أخي العزيز وصديقي العظيم
أرجو أن تعفو عن كتابتي إليك، لأن باعث كتابي هذا حبي لك وإعجابي بك وببلادك التي كدت أتخذها إلى وطننا، لقد ظهرت في الأرض التي حول طرابلس بطلاً صنديداً ووقفت لا خوفاً ولا رهباً وثبتّ وأنت قليل حيالهم وهم كثيرون، ثم أنت الذي في طراقية(37/10)
استرجعت أدرنه لتركيا، وقمت بهذا العمل، وهو فتح مدينة الأبطال دون أن تسفك دماً كثيراً ثم أنت الذي بشدتك وسطوتك ورهبك طهرت البلاد من القسوة والشناعة والنهب والسلب، ولقد شهدت منك أنفتك وغضبك واشمئزازك من فظائع البلغار، وطلبت إليّ أزور بنفسي في سيارتك أطلال تلك القرى التي مر فوقها أولئك القتلة.
ليكن ذلك، ولكن دعني أنبئك بحقيقة كنت ولا ريب تجهلها حتى الآن، إن الألمان في بلجيكا وفي فرنسا وبالأمر يرتكبون اليوم هذه الفظائع بعينها التي ارتكبها البلغار في أرضكم، بل هي أفظع منها بآلاف مرة وأشد نكراً، لأن البلغار قوم جبليون يعيشون على الفطرة الأولى، قد استأثرت بأرواحهم جهالة الدين، وعصبية العقيدة، ولكن هؤلاء قوم متمدنون، متمدنون واأسفاه!
إن تركيا تطمح اليوم إلى استرداد جزائرها، وهذا لا يغيب عن نظر أحد، ولكني أرتعد مخالفة أن تذهب في الحرب بعيداً، واأسفاه، إني أحذر التأثير الذي تغرى به مملكتك العزيزة وشخصك من ذلك الإنسان، لأنه ولا ريب رأى ما شجعه على استخدام وطنيتك الحارة وحميتك الجميلة، ويستهويك ويعدك وعود الانتقام لك وأخذ الترة لبلدك، فحذار من أكاذيبه، وأنا واثق أنه يحاول جهده أن يمنع الحقيقة أن تصل إليك، وإلا أثار أنفة فؤادك الجندي المخلص الأبيّ، وكما استطاع أن يقنع فريقاً من أمته، قد عرف كيف يقنعك بأن هذه المجازر التي أقامها كانت على كره منه، كلا، ليس الأمر كذلك، إنها خطة من قبل موضوعة، وطرائق مرسومة.
ما أشد ما يكون ألمي وحزني لو قدر على أن أرى تركيتنا العزيزة، قد خدعت بهذا الإنسان فتعثرت في أذياله إلى مخاطرة مرعبة.
إن لك يا صديقي سلطاناً على أمتك وأثراً في شعبك فهل أنت رادها عن الطريق الوعر الذي تريد أن تركبه.
إن كتابي سيغيب في الطريق ولكن لعلك إذ يصل إلى يدك تكون قد فتحت عينيك، على رغم هذه الشباك التي تحوطك، اعف عني واغفر لي رغبتي في أن أكون في عداد الذين ستصلك الحقيقة على أيديهم.
إن لي إيماناً شديداً بأننا الظافرون بالنصر، ولكن ابتهاجي يوم الخلاص سيسدل عليه الحداد(37/11)
ولو قدر على أن أرى وطني الثاني، وطني الشرقي، دفيناً تحت الأنقاض. . .
بييرلوتي(37/12)
مذكرات عن مراكش
ومولاي الحفيظ
تعقد المحالفات، وتبرم المعاهدات، ويتنازل الملوك عن ممالكهم، وثتل العروش وتدخل الشعوب الضعيفة الخاملة في جوف الشعوب العظيمة الرفيعة الشأن، ولا نعرف عنها إلا شيئاً يسيراً تأتي إلينا بها الأنباء البرقية، ويقتطعه الصحفيون ويستنزلونه من صنائع أهل الشأن، والمقربين إلى من بيدهم زمام تلك الأمور، وكذلك مضى نصف أحداث التاريخ أسطراً ضئيلة في الكتب، لو اطلع عليها كانت اليوميات في السماء لنسخ أكثرها، وهكذا مشى التاريخ الإنساني مقتضباً موجزاً من ناحية، مكذوباً من الناحية الأخرى.
على أنه قد يهدي الله أناساً عندهم علم ما خفي على الجماهير، فيأبون ألا أن يخرجوا عن هذه الأسرار، ويحدثوا الإنسانية بغرائب ما انتهى إليهم أو وقع على أيديهم.
ومن هذا ما قرأناه أخيراً في مجلة الاستراند الانكليزية، بقلم مستر والتر هاريس من التفاصيل الغريبة والقصص المدهشة، والأسرار التي تكاد تلوح ضرباً من المجون وإن كانت لا تزال حقائق لا يشهد بها أثر للكذب أو الاختلاق، وهذه الأسرار تتعلق بما دار بين مولاي الحفيظ سلطان مراكش السابق وبين الحكومة الفرنسية عند تنازله عن العرش ودخول الدولة المراكشية في كنف جمهورية فرنسا وحمايتها، وقد كان الكاتب مستر والتر هاريس حاضر أمرهم، وعلى يده وقع التعهد بين السلطان مولاي الحفيظ ومندوب الجمهورية، وقد وصف جملة من أخلاق الحفيظ وطرفاً من المخازي التي ظهر فيها الرجل ضئيل الروح ساقط الهمة، مرذول السيرة.
ونحن نقتطف للقراء شيئاً من هذا المقال الغريب تفكهة لهم وكشفاً لحقائق مرة يجب أن نعلمها قبل سوانا.
قال مستر هاريس: بعد أن بسط العداء الذي كان مستحكماً بين عبد العزيز والحفيظ وتولى الأخير زمام الحكم، وانشقاق القبائل عليه:
ولم يكن مولاي الحفيظ بالرجل الخليق بأن يرد الحياة إلى مراكش المحتضرة، فاتخذ من الحكم ضروباً من القسوة والوحشية، فخرجت عليه القبائل حتى حاصرته في فاس في أوائل عام 1912 فاستنجد بالفرنسيين وكانوا قد نزلوا ببلدة نسبلا ككا على شاطئ المحيط(37/13)
الأطلنطي، فلم يلبث أن وصلت إليه الكتائب، ففضت جموع المحاصرين عن أسوار العاصمة، ولم تكد تمضي بضعة أسابيع حتى تم التوقيع على معاهدة الحماية الفرنسية، ولكن حدث بعدها مجزرة قتل فيها جمع كثير من الجنود الفرنسية وبذلك أضحى مركز الحفيظ حرجاً، بين فرنسا وبين شعبه، فأجمع على اعتزال الملك.
وعليه انتقل البلاط إلى رباط، وهناك كان آخر العهد باستقلال مراكش، وهناك بدا الحفيظ مطماعاً جشعاً.
وقبل أن يرحل عن فاس إلى رباط، دبر الحيلة لكي يتزود بالثروة ومطالب الترف، فنصح لنساء الأسرة المالكة وعقائل قصره، وهن سرب كبير، لا يقل عددهن عن فرقة من فرق الجيوش فيهن أزواج السلاطين السابقين وكريماتهن وذوات أرواحهن وقريبات الحفيظ ونساء عشيرته، بأن يرافقنه جميعاً إلى رباط وأصدر إليهن التعليمات القاضية بنقل أمتعتهن، أما الجواهر واللآلئ، والأعلاق والنفائس فطلب إليهن أن يضعنها في صناديق صغيرة، وأما الثياب والمتاع الآخر القليل القيمة ففي جعب كبيرة وطرود فصدعن جميعاً بما أمر، ولكن عندما آن أوان رحيل السلطان ترك وراءه السيدات والجعب، وسافر بالصناديق الصغار.
وهذه الجواهر الآن في أوروبا ولا ريب أنها لم تلبث أن انتقلت إلى التجار، ولعلها تزين اليوم صدوراً وأعناقاً ومعاصم ونحوراً في قصور الغرب ومغانيه.
وقد قضى الأسابيع الأخيرة من حكمه في نزاع مستحر بينه وبين المفوضين من الفرنسيين، وكان لا يزال سلطاناً، ولذلك لا يزال خطراً، وأمر خلفه لم يكن قد تقرر بعد، وبذلك كان لا يزال على مائدة هذا اللعب بالسلطنة أوراق طيبة، وقد استطاع أن يظفر منها في اللعب بالفائدة، حتى أنه عندما استتب كل شيء وأرسلت كتب تولية أخيه الأصغر مولاي يوسف إلى داخلية البلاد، عاد مولاي الحفيظ فغير رأيه وتنازل عن عهده، فلما سئل في ذلك قال إنه رأى أن لا يعتزل ويترك مملكته، فوقعت فرنسا في ضيق من أمرها، بعد أن أعلنت تولية يوسف، ولا يزال السلطان الأول باقياً لا يريد اعتزالاً، ثم عاد فصرح بأن في الإمكان مفاوضته ثانياً في أمر الاعتزال لعله يستطيع أن يثوب إلى عزمه الأول، وكل ذلك لكي يتناول 40 ألف جنيه أخرى، وقد دفعت إليه بصك على أحد المصارف، عندما(37/14)
أبحر من رباط شاخصاً إلى فرنسا زيارة وتنزهاً وتجوالاً، وفي مقابل ذلك سلم المعتمد الفرنسي أوراق اعتزاله، ولعل أغرب ما في تاريخ اعتزال الملوك، وأفكه ما في هذه القصة التي نبسطها للقراء الآن وأبعث على الضحك والدهشة هذه الصورة التي بين أيديهم وهي تمثل الحفيظ والمعتمد وقد وقفا إزاء بعضهما البعض، يحمل كل منهما في يده صورة التعهد الذي جرى بينهما ولا يظهر منه إلا طرفاً، وهو يخشى أن يدفع به إلى صاحبه فيفلت به دون أن يسلمه العهد الذي بيده.
وفي مساء اليوم الذي تلاه التوقيع على التنازل أعدم الحفيظ جميع الشعائر المقدسة للسلطة لأنه علم أنه آخر سلطان نعم بالاستقلال في الدولة المراكشية، فعزم على أن يقضى بانقضاء عهد الاستقلال على هذه الشارات التاريخية الخالدة فأحرق المظلة الحمراء التي كان يستظل بها في الرسميات والحفلات وحطم المحفة الرسمية وجعلها للنيران طعاماً ثم الصناديق والمحافظ التي كانت فيها المصاحب والكتب الدينية، ولكنه لم يستطع أن يحرق الكتب، بل أبقى عليها، وأخذ معه جواهر النساء ولآلئهن.
وعاد بعد زيارته فرنسا إلى طنجة، وكان قد وصل إليها إذ ذاك أسرته وحاشيته وهم يبلغون نحواً من مائة وستين شخصاً، فدفعت إليه قلعة طنجة المسماة بالقصبة لتكون مقامه في مثواه، ولم يلبث في طنجة أياماً حتى بدأت المناقشة في شروط اعتزاله، إذ كان قد كتب التنازل ولم توضع الشروط، وهنا احتدم الخلاف، واشتد الشجار بين الفريقين، ولم يكن الحفيظ يأسف على شيء من نعمة الاستقلال أسفه على أنه لم يضع شروطاً أحب إليه ويظفر ببنود في العهد أصلح لثروته ولكنه كان لا يزال يطمع في الحصول على مال آخر، وثروة أكبر.
وفي ذلك الحين طلب الفريقان إلى كاتب هذه السطور أن يتداخل في الأمر، ليصلح ذات البين، إذ كان قد وقع بين السلطان المخلوع وبين المفوضين الفرنسيين في الصلح مشهد رائع هائل، إذ احتد الحفيظ وشتم، وتكلم بلهجة قاسية ليست في شيء من لهجات الملوك، حتى أصبح الاتفاق أمراً مستحيلاً.
ففي ذات يوم، والوقت صباح، زارني موظف فرنسي ملتمساً إلى أن أتداخل بين الفريقين ثقة بأن لي دالة وأثراً على السلطان المخلوع، ثم لم يكد ينصرف حتى حضر الحفيظ نفسه(37/15)
إلى داري وكان في أشد حالات الانفعال والغضب، فجلس فوق متكأ وعيناه مفعمتان بالدمع وانطلق بشرح لي مظالمه وشكواه حقاً وباطلاً، وأضاف على ذلك قائلاً: وأنت وحدك الذي له النفوذ التام على هؤلاء الملاعين فأرجوك أن تتداخل في المفاوضات، فلم يسعني إذ ذاك إلا القبول.
وابتدأت المفاوضات بعد ذلك بساعة فظل الحفيظ في داري طول ذلك اليوم، ورفض أن يأكل أو يشرب.
وفي غيابي عند المفوضين انصرف الحفيظ، ولكنه لم ينصرف حتى أخذ معه صفوة المنتخبات العربية الخطية التي كنت أحفظها في مكتبتي، ولم أرها منذ ذلك الحين، ولكن السلطان أرسل إليّ بعدها هدية في مساء ذلك اليوم، لعلها مقابل ما أخذه من كتبي، وهذه الهدية سيف مرصع بالذهب.
والمسألة الهامة من هذه الشروط هي ديونه وقد ثار حولها الخلاف أياماً، إذ كان الاتفاق في أول الأمر على أن جميع الديون التي صرفت في شؤون المملكة يجب أن تعد ديوناً حكومية وعلى فرنسا أن تدفعها إلى أربابها، وأما الديون الخصوصية فعلى السلطان المخلوع أن يدفعها من أمواله الخاصة، ولكن كان من الصعب التمييز بين هذه الديون لأن سلطان مراكش كان ملكاً مستقلاً مطلق التصرف، وأموال المملكة هي أمواله، وليس ثمة فارق بين دين خصوصي ودين عمومي، بل كانت العادة المتبعة في الصرف على شؤون الحكومة والبلاط السلطاني أن تكتب بها صكوك على الجمارك.
فمن بين الديون التي اشتد فيها أمر الخلاف ثمن سلالم من الرخام البديع كان السلطان قد أمر بصنعها لقصره بفأس في إيطاليا، فاحتج المفوضون بأن هذه السلالم ليست إلا مطلباً من مطالب السلطان ولهذا يقوم هو بدفع ثمنها، ولكن السلطان أصر على أن القصر هو ملك الحكومة، وأن جميع ما يطرأ عليه من الإصلاح يعود نفعه إليها، وقال أن خلفه هو الخليق بأن يدفع ثمن هذه السلالم لأنه سينتفع بها، فأذعنت السلطة المحتلة إلى عدل هذه الحجة، ودفعت الثمن، ولكن الموضوع لم ينته بعد، فإن الحفيظ بعد بضعة أشهر من ذلك العهد إذ كان يبرم إذ ذاك عقداً لبناء قصره الجديد بطنجة وضع في صورة البناء رسماً لسلم من الرخام، فاجترأت على أن أسأله إذا كانت هي السلالم التي كان عليها النزاع من(37/16)
قبل فكان جواب الحفيظ، أجل هي بعينها، إنها لم تكن قد خرجت من إيطاليا إذ ذاك فأرسلت نبأ برقياً إلى المصنع الذي كان يعدها بأن يبعث بها في الحال إليّ لا إلى فاس، وكان ذلك!
ويتلو هذا المطلب مطلب آخر وهو ثمن بضعة أمتار من القماش الأحمر غالية الثمن باهظة القيمة، فلم يسع المفوضون إلا أن يضعوا ثمنها في قائمة الديون الخصوصية، ولكن السلطان احتج قائلاً أن هذا القماش اشترى لأجل شؤون المملكة، لنصنع به سراويل لجواري المطبخ السلطاني، والمطبخ السلطاني يحوي مئات منهن لأجل إعداد الطعام للملك، فرفضت السلطة المحتلة قبول هذا الدين، فأخرج السلطان حجة أثرية ليدل بها على أن جواري المطبخ هن من خدم الحكومة وأنهن ينتقلن مع القصر من حوزة سلطان إلى سلطان فأذعنت السلطة إلى هذا المبدأ، ولكنها أصرت على رفض الدين بحجة أن هؤلاء الجواري لا يطلبن مثل هذا القماش الثمين الباهظ القيمة لأثوابهن الداخلية، وإن قماشاً من القطن كان يغني عن هذا الترف ويفي بالغرض، فلم يكن من السلطان المخلوع إلا أن أجابهم جواباً مسكتاً بقوله، يمكن أن يكون ذلك في أوروبا ولعل جواري المطبخ الملكي هناك يلبسن سراويل من القطن، ولكنا في مراكش نعظم مركزهن!! فلم يحر المفوضون جواباً، ودفع الثمن.
وأصعب المشكلات التي عرضت عند تصفية الديون مسألة طبيب أسنان السلطان المخلوع، وهو إسباني الجنسية، لأنها كادت تحدث مشكلة دولية، ولا يذهب بك الظن إلى أن الدين الذي كان يطالب به هذا الطبيب كان خاصاً بصناعته، ولكن كان ذلك إفاء لثمن أسد اشتراه للسلطان من ألمانيا، وقد كان تعبينه في أوائل عهد السلطان الحفيظ وبالحكم بماهية منتظمة ثم أصبح دائماً في بلاط جلالته، وظل مدة يصلح من أسنان البلاط ويداوي أفواه سيدات القصر حتى أصبحت نواجذهن تلمع بالأسنان الذهبية فما انتهى من هذه المهمة ظل بلا عمل.
فأوفده الحفيظ إلى هامبورج ليشتري حيوانات له يحفظها في حدائقه، ولكن الطبيب أخطأ إذ تأخر لأنه حين عاد إلى فاس، كان شوق السلطان المخلوع إلى الأسد قد انطفأ ورأى أن لا حاجة به إلى اقتناء كثير من الحيوانات لأنها تستلزم مصاريف باهظة.(37/17)
وقد زاد الأمر إشكالاً وحال دون فضه أن الحفيظ كان قد رأى من قبل عند الطبيب كرسيه المهتز فطلب إليه أن يصنع له عرشاً هزازاً على قواعده الآلية ودفع إليه الثمن، ولكن العرش لم يتم ولم يقدم للحفيظ ولهذا كان هو الآخر يدين الطبيب كما دانه فاحتج السلطان بأنه قد دفع ولا شك ثمن الأسد وإذا لم يكن قد دفع، فهو ولا ريب دين عمومي، ولم يكن عليه مسؤولاً، وطلب تسليم العرش الهزاز إليه، وفي ذلك الوقت كان عقد خدمة الطبيب قد انتهى فأعلنه الحفيظ بأن ليس في النية تجديده، ولكن كان الطبيب لا يزال يستطيع المناوءة والعناد، إذ كان السلطان قد أسكنه مغنى جميلاً في أملاكه دون أجر فرفض ترك الدار وإعانته السلطة الإسبانية على أمره، فلما بعث السلطان بطائفة من العبيد لطرده من البيت وجدوا الدار محاصرة بالمتاريس، وألفوا الرصاص ينهال عليهم من كل مكان.
وهنا استفحل الأمر، وعظم الخطب، وكاد يصل إلى مشكلة دولية.
ولكن لم تلبث توسلاتي ومفاوضاتي أن ذهبت بثورة العاصفة، ورضي السلطان بأن يمثل الطبيب بين يديه للمهادنة والمفاوضة، وكان السلطان جالساً في ديوانه، ممعناً في قراءة كتاب عندما دخل الطبيب، فأدى السلام وحياه بأدب ولكن بشيء من التكلف والمغالبة، ولعل ذلك لم يرض جلالته لم يبتسم له، كما كان اتفاقي معه، ولم يجبه على تحيته بل استرسل في قراءته بصوت مترنم مجود متظاهراً بعدم الالتفات.
وساد السكوت قليلاً، ولكنه لم يلبث أن تبدد إذ قال أحد الحاشية: مولاي الملك هاهو الطبيب قد حضر.
فلم يكن من السلطان إلا أن قال، دون أن يرفع عينه عن الكتاب، هل أحضر المقعد معه؟
ولم يكن هذا ما اتفقت عليه معه، إذ طلبت إليه من قبل أن لا يذكر كلمة عن الكراسي ولا عن الأسد بل كان الغرض من هذا اللقاء مفاوضة الطبيب في ترك البيت على أن يأخذ مقداراً من المال.
وقبل أن يتوسط أحد في الحديث، لم يكن من الطبيب إلا أن صرخ قائلاً: ادفع لي ثمن أسدي.
وعند ذلك اشتعلت نار الحديث، وانطلق السلطان في غضبه ولعناته، ولم ألبث أن رأيت الطبيب في أيدي الخدم والحاشية يتململ ويتلاكم ويتضارب، وقد حملوه على هذه الصورة(37/18)
خارج الحجرة.(37/19)
صور هزلية
من أخلاق الناس
القلوب السوداء
استطاع الجغرافيون أن يقسموا الناس على ألوان وجوههم، وتبعاً لمناطق الكرة الأرضية التي احتوتهم، إذ كانت الشمس هي التي لونت الناس، وأنضجت جلود فريق، وتركت جلود الفريق الآخر نيئة، وجلود الباقين نصف سوا على اصطلاح أصحاب المطاعم، ولعل الشعراء يحبون القمر، والعشاق يترنمون بجمال البدر، لأن القمر - أطال الله بقاءه، ومتع أهل الشعر والحب به - لا قدرة له على التلوين، ولا يستطيع أن يحدث أثراً في وجوه الحسان، بل إنه ليرسل أشعته الفضية - وهذه الاستعارة تعجب ولا ريب البخلاء والماديين - فتنعكس فوق صفحة الوجه النضير، والوجنة المشرقة، والطلعة الحلوة، التي هي أشبه بطلعة المحمل أو بطلعة رجب فتزيدها جمالاً وفتنة ونضارة، وتجعل نصف كتب الدنيا شعراً، والنصف الآخر نثراً، ولذلك نستطيع أن نقول أن القمر هو أستاذ الشعراء أو هو ناظر مدرسة الشعر الأرضي كله.
على أن هذا التقسيم قد يكون ظلماً في بعض الأحيان، ومخالفاً للحقيقة في كثير من الظروف، لأنه تقسيم لا يتعدى الظاهر، والظاهر قد يعارض الباطن، وقد يغلبه على حقه، أو يوهم الناس به وما هو به، فكثيرون يطالعونك بوجوه المنطقة المعتدلة ووراء وجوههم قلوب تشترك في لون وجوه جزيرة تاهيتي وآخرون ضربت عليهم الشمس جزية التلقب باسم العبيد والبرابرة، وهم قوم أخيار، بيض الأفئدة، من الطراز الأول.
ولو أردنا إذ ذاك أن نصلح خطأ الجغرافيين لكنا خلفاء بأن نسمى الأولين برابرة بيض على رأي العامة، ولكنهم وا أسفاه لا يزالون يتمتعون بحقوق الرجل الأبيض، وهم أحق بأن يعيشوا في جوار سكنة الأحراش، وآهلة الغاب والأجم، وأهل نم نم لأن قلوبهم السوداء ليست إلا مقابر تضم الجثث والرفات والأشلاء وهي صحراء قفر، ومفازة مخوفة، لا يؤنس إليها، ولا يدنى منها، وحشة وظلمة، وهولاً ونكراً.
وعندما يكون القلب أسود مظلماً، يترك في صفحة الوجه ظلاً قاتماً، لأن النور الخارجي ينعكس عليه فيرسل صورته في معارف الوجه، ولهذا أول علائم صاحب القلب الأسود أنه(37/20)
مقلوب السحنة، ثم لا يزال يبدو في الحديث واللهجة، مهما حاول ذو القلب الأسود أن يكذب على طبيعته، ويغالب لؤمه ودناءته، ويضاحك الناس ليأكلهم، ويلاعبهم ليعضهم، كما تفعل الهرة بالفأرة قبل أن يكتب اسمها في سجل الجرذ التي غابت في أجواف السنانير، وأصحاب القلوب المظلمة يرسلون دائماً في المجلس عدوى مرضهم، لأنهم يخفون حقدهم على العالم وسخطهم على القدر - في طي الفلسفة السوداء - والناس يستمعون مع هذا لهم وينصتون إلى لغة حقدهم مندهشين مذهولين لأن من خصائص الفلسفة السوداء أن لها طعماً مراً ولكنه لا يزال لذيذاً مثيراً للشهية، وليس في سرر أهل القلوب السوداء إذا احتوى الظلام الأرض، وليس فوق وسائدهم إذا ابتعث الليل من مكمنه إلا خطط للثورة على العالم لا تعد الثورة الفرنسية الكبرى شيئاً بجانب ما يجول في رأس رجل منهم فوق وسادته، وليس في قلب كل واحد منهم إلا مجموعة من أبدع ما ابتكر من أساليب اللعنة، وأغرب ما ذهب إليه من عبارات السخط، وكل قلب أسود يموت ويقف عن ضرباته، تنطفئ به ثورة، ويطوى كتاب من كتب الحقد، ويموت أسلوب من أساليب دلائل الخيرات.
من هؤلاء رجل طوال مشذب العود، ولد على الحدود القائمة بين دولة البيض والسود، وهو نسخة متأخرة من العمالقة، يمشي في أمطار عصرية، لو رآها استين لأثارت فيه ذكرى أول عهده بفتح دكانته الصغيرة في صميم الموسكى، وهو أبدا يشكو المرض لأنه دائماً يأكل بعضه، حقداً على الدنيا، ونظراً لما في أيدي الناس، وبكاء على سقوط نجمه في الأرض، ولا تراه يئن إلا من داخله، لأن أحشاءه لا تستطيع هضم جثمانه لأنه من نوع اللحم الخشن على رأي الجزارين، فلذلك لا يجد قلبه إلا أن يتأكل أطرافه، وإذا مشى إليك يحدثك فكأنه لفرط طوله يكلمك من الطابق الأعلى، أو يطل عليك من البلكون، وإذا جلس إليك فلنحول ساقيه وامتدادهما ألفيت قدمه فوق ركبتك.
وقد أصاب هذا الرجل شيئاً ضئيلاً من العلم ولكنه يظنه علم السماوات، فلا يرضيه أن يرى في الدنيا عالماً، لأنه يخشى أن ينازعه على كرسي رئاسة جمهورية العلم، ولكن العلم الذي أوتيه أشبه به أن يكون جهلاً، لأنه ليس على قاعدة، ولا ينهض على أساس، وإنما هو مجموعة متضاربة مبعثرة جمعها من السوق، وأخذها من فهارس الكتب وكتالوجات المكاتب، ولا يعجبه من كتب الأرض قديمها وحديثها شيء، ويعتقد أن جميع كتاب الدنيا(37/21)
من أبعد العصور إلى اليوم لم توجدهم الطبيعة إلا ليكونوا التجارب الأولية الخائبة ارتقاباً لظهوره هو ونبوغه.
وهو مثال الخيبة في الحياة لأنه مثال الغلظة في نفسه، فهو إذا اشتغل في عمل لم يلبث أن يعد صاحب العمل أجيراً عنده، ويطالبه بالاحترام الشديد الذي يعتبر إرهاقاً إذا طالب به السيد خادمه، بل قد يكاد يسأله أن يتنازل له عن حصة فيه أو يكتب له جزءاً منه في الوقفية، وإذ التمس إلى أحد من الناس ما لا على سبيل القرض أو الهبة، فكأنما هو في جرأة السؤال وقحة الطلب يسأله وفاء دين عليه، أو يطالبه بالعوايد أو الخفر وقد لا يتأخر عن إنذاره بالحجز في مدة محدودة إذا هو لم ينزل عن منحه الهبة أو القرض، وإن كانت لفظة القرض لديه يراد بها، السلفة المستديمة إذ أقسم أن لا يدفعها إلا على يد الملك المكلف بجرد تركات المفلسين في الآخرة!
وغريبة الغرائب أن يكون ذلك الرجل شاعراً. . . ولكن لا يستطيع أحد أن يفهم شعره سواه، ولعله من بخله وشحه يضن على الناس حتى بمعانيه، وهو يحاول أن يجيء بالشعر الذي لا يفهم، لأنه يأبى إلا أن تكون المعاني في بطنه ولذلك يوفر عليه الإكثار من الطعام، لأنه لا يستطيع أن يكفل الكثير منه، لفاقته ورقة حاله، وهو يدعي أن شعره هذا يرقص الهزاز فوق أيكه، والبلبل الصداح في وكنه، وإن كان شعره البربري لا يصلح أن يتغنى به على (الدلوكة) في مجالس شراب العبيد، وهو مع ذلك يقول إن الله إنما ذم الشعراء في كتابه، إذ علم أنه سيخرج في الأرض إبان القرن العشرين إله الشعر، وأن هذه الألوهية الشعرية ستقع من نصيبه فذم الشعراء جميعاً غيرة منه مقدماً وخشية من أن يتبع الناس إبليس الشعر فيسكنوا في أبياته وينسوا مقاصير الجنة.
ولشعره أوزان غير أوزان الشعر المعروفة للناس، ولعله رأى أن كل نبي يخرج للناس ينسخ السنن والشرائع التي جاءت قبله، وعلم أن نبوة الشعر قد نزلت عليه فاضطر إلى أن يحاول إظهار شيء من المعجزات، حتى يدينوا له ويؤمنوا به، فأوحى إلى صحابته والحواريين من أنصاره أن ينشروا الدعوة بين الناس، ويدعوهم إلى الأوزان الجديدة، فأخذ كل منهم وزناً منها وطاف بها على الشعراء يعرضها عليهم ويدعوهم إليها، ولكنهم ضحكوا منه ساخرين، لأنهم علموا أن الوزنة من هذه الأوزان لا تساوي (وزنة) من الجميز وأنها(37/22)
لا توازي لذلك فتيلاً!
ومن أكبر المذاهب التي يؤمن صاحبنا بصلاحها ويرجو أن يسارع العالم إلى تحقيقها، مبدأ الاشتراكية ولكنه لما رأى أن المجتمع الإنساني قد تأخر عن تنفيذها مع أنها مبدأ مستعجل يجب البت فيه، اضطر هو إلى تنفيذه على الأغنياء الذين يتصل بهم أو الذين يستطيع أن يصل إليهم من غيرهم، وبهذا أصبح له الفضل بأنه الاشتراكي (العملي) الأول في الحياة الإنسانية كلها، وهو في صميم فؤاده ولا شك يشكر (كارل ماركس) مؤسس الاشتراكية أن اهتدى إلى هذه الفكرة (الذهبية) لأنها وفرت عليه متاعب سؤال الناس رأساً بدون واسطة العلم والكتب. . . .
هذا هو الرجل، وتلك صورته، ولكن أعجب منها ولا ريب صورة كاتم أسراره، وصديقه الذي لا يفارقه، وأنا أترك القراء الآن لكي أوافيهم بها في العدد القادم، فإلى الملتقى.
عباس حافظ(37/23)
من جوامع الكلم
نلتقط هنا شيئاً من جوامع الكلم المأثورة عن كثير من نوابغ الافرنج بين علماء وأدباء وفلاسفة وملوك وروحانيين - التقطناها من كتبهم ودواوينهم خصيصاً لقراء البيان.
باسكال (1623 - 1662)
لو كان أنف كليوباترا أقصر قليلاً لتغير وجه الأرض بأسرها.
ياللإنسان من ظل خافت ضعيف، وأعجوبة جديدة، وعفريت منكر، يا له من فوضى، ويا له من مناقضة، ويا له من معجزة وآية، هو القاضي الحاكم في كل شيء، هو أرضة ضعيفة من دود الأرض، ثم هو مستودع الحق، وجحر الشك، وكهف الباطل، وهو فخر الكون، وهو خزيه وعاره!
إن آخر شيء نفكر فيه بعد وضع الكتاب هو ماذا يجب أن نكتبه أولاً!!
فولتير (1664 - 1778)
لو لم يكن هناك رب، لوجب علينا أن نخترع رباً! - التاريخ ليس إلا صورة الجرائم والآلام والشناعات - هناك حقائق لا تصلح لكل الناس، ولا لكل الأزمان - لقد بعث إلى الملك بعض ثيابه القذرة لأغسلها له.
مونتان (1532 - 1592)
توجد هزائم أحق بالفخار من الانتصارات - أرواح الملوك والاسكافيين قد صبت في قالب واحد، فإن شجاراً صغيراً بين رجل ورجل يثير حرباً طويلة شعواء بين الملوك - إن شهوتي للطعام تأتي وأنا آكل لأقبل أن آكل - لم أر أغرب عفريتاً ولا أعجب معجزة في العالم مني - من رأيي إنه كان الأفضل لنا أن لا يكون لدينا شرائع وقوانين أصلاً من أن يكون لنا منها هذا العدد العظيم المتكاثر - دعونا نترك الطبيعة تسير في سبيلها فهي أدرى منا بواجبها - جميع الناس يعرفون كتابي فيّ، ويعرفونني في كتابي - أن أكبر فضيلة في خلقي لا تزال عليها مسحة الشر - من يدري عندما ألاعب هرتي إذا كانت هي التي تهزأ بي أكثر من هزئي بها!
مارتن لوثر (1483 - 1546)
قل لسيدك أنه لو كان في (ورمز) شياطين عدد ما في سقوفها من أحجار وقراميد فأنا(37/24)
داخلها - حيث يبني الله لعبادته معبداً، يشيد الشيطان بجانبه لشيعته هيكلاً.
ألفونس الحكيم (1221 - 1284)
لو كنت حاضراً يوم خلق الخليقة لكنت أبديت عدة نصائح غالية كانت ولا ريب ستصلح نظام الكون.
لاروشفوكول (1613 - 1680)
الحب الحقيقي كالعفاريت يتكلم عنها جميع الناس، وقليلون رأوها - حب العدل عند سواد الناس ليس إلا الخوف من أن ينالهم ظلم - لا نستطيع أن ننظر إلى الموت نظرة طويلة ممعنة ثابتة، كعجزنا عن النظر إلى دارة الشمس - المصلحة تتكلم جميع الألسن، وتستخدم جميع اللغات، وتمثل جميع الأدوار، حتى دور التجرد من المصلحة - أكثر النساء يحزنّ ويتألمن ويلبسن الحداد لفقد حبيب، لا لكي يظهرن كيف كن من قبل أن يحببن، بل ليعلم عنهن أنهن خليقات بالحب مرة أخرى.(37/25)
تأثير الطعام والغذاء
في إطالة الحياة وتقريب الموت
أبحاث طبيب دانماركي كبير
إن لهذا الموضوع اليوم أهمية خاصة، وحاجة ماسة، إذ ارتفعت أثمان المواد الغذائية، وعزت منها أشياء، وندرت أشياء، وناهيك بغلاء اللحم، حتى أصبحت هذه الأيام عند الفقراء كما سماها أحد الأدباء أياماً لا لحمية وقد كان الدكتور هندهيد - وهو من الأطباء الكبار - منذ نشأت الحرب يدأب على عمل تجارب عدة في معمله للوصول إلى معرفة المقدار اللازم من البروتين لتغذية الجسم وانتظام حركته وعمله، ولا يغيب عن القراء أن كلمة البروتين هي الاصطلاح العام للأغذية النيتروجينية، أو التي تحتوي كثيراً من النيتروجين، ومن بينها اللحم السمين والبيض واللبن وكثير من الخضروات.
وهذا الموضوع يهم كل قارئ شخصياً لأنه يتعلق بحياته، فإن الأمراض الناشئة من فساد مقادير البروتين تؤلف جزءاً عظيماً من إحصائيات الوفيات.
وقد ذهب الدكتور هندهيد إلى أن نحواً من 25 جراماً من البروتين في اليوم مقدار كاف لتغذية البدن، مع أن الإنسان المتوسط الحال يتناول ثلاثة أو أربعة أضعاف هذا المقدار، ويعتقد أن تناول مقادير زائدة عن الحاجة من الأطعمة البروتينية يعمل على تسميم البدن والإضرار به.
وحيث أن الأطعمة البروتينية، كاللحم والبيض - باهظة الثمن فلا يستطيع المتوسطو الحال أن يحصلوا عليها في كل حين ولذلك فلا يصدق أحد إذا قلنا له أنه بشرائه المقدار الكثير منه إنما يبتاع المرض، ويشتري الأذى، ويعمل على تقصير أمد حياته، وليست التجارب التي قام بها العلامة هندهيد نظرية فقط بل كانت عملية تنفيذية، وهي طريقة تحديد مقادير الغذاء لأشخاص يشتغلون بأعمال تتطلب الحركة والنشاط ومعرفة مقادير الفضلات والمواد البرازية التي تتخلف عن الأطعمة حتى لقد خرج من بعض هذه التجارب بأن شخصين استطاعا أن يعيشا عاماً كاملاً على البطاطس وزيت الزيتون وقد كان غذاؤهما اليومي منظماً يتراوح بين 20 و 25 غراماً من المادة الزلالية، مع أن العلماء ذهبوا في تجاربهم الأولى منذ زمن إلى أن المقدار اللازم من المادة الزلالية في اليوم هو 81 جراماً.(37/26)
وليس في البطاطس مقدار كبير من البروتين ولهذا تكفي ثلاثة أرطال منه في اليوم ويقوم بالحاجة الباقية من الحرارة المطلوبة للبدن نحو من ست أوقيات من الزبدة.
وهذان الشخصان اللذان استغنيا بالمادة الزلالية الموجودة في الخضروات عن كافة البروتين الموجود في الحيوانات كاللحم، اكتسبا الصحة التامة والقوة المتينة، حتى أن أحدهما بعد الانتهاء من هذه التجربة العملية اشترك في سباق لمسافة 264 ميلاً جازها في 99 ساعة وهو الميعاد المضروب للسباق.
والدكتور هندهيد يرى أن المادة الزلالية الموجودة في الخضر تقوم مقام المادة الموجودة منها في الحيوانات ويلفت النظر إلى أن أمراض الكبد والكلى والأمعاء هي في سكان المدن والحواضر أربعة أضعافها عند الفلاحين وأهل القرى الذين يعيشون وأكثر غذائهم الخبز والبطاطس والدهن، والآن لنبحث في الأطعمة التي يمكن الحصول منها على المقدار اللازم من البروتين للجسم في اليوم وهو بين 20 و25 جراماً، وهذا يسهل على الكيماوي أن يوافينا به فإن نحواً من ثلاثة وعشرين جراماً منه توجد في ثلاث بيضات أو في قطعة من اللحم الأحمر يبلغ حجمها نحواً من ثلاث بوصات مكعبة أو في رطل ونصف من اللبن، والقطعة الصغيرة من الخبز التي تبلغ أوقيتين تحتوي أربعة جرامات من البروتين.
على أن الجهاز الهضمي لا يستطيع أن يستخرج جميع المادة البروتينية من أي مقدار من الطعام ويجعله صالحاً للجسم ولهذا لا نستطيع أن نضع نهاية صغرى نظرية للغذاء ونكفل به الصحة وليس من المحتمل أن يفيد الرجل المتوسط الحجم أن يتناول أقل من ضعف المقدار النظري الذي يذهب إليه الدكتور هندهيد وهو العشرون جراماً من المادة الزلالية ليكفل للأنسجة المقدار اللازم لها.
وللوصول إلى طريقة عملية يستطيع الإنسان أن يظفر بالمقدار الواجب له من البروتين من بيضة واحدة وقدح من اللبن وخمس أوقيات من اللحم توزن قبل نضجها فإن هذا المقدار يكفل ولا ريب مقدار البروتين الذي يتطلبه البدن حقيقة، بل قد يزيد على حاجته.
ومن المحقق أن مثل هذا المقدار وحده لا يستطيع أن يمد البدن بوحدات الحرارة الكافية لتسيير هذه الأداة الإنسانية بنظام ولهذا لا بد من التماسها في الأغذية الخالية من البروتين، ولا بد أن يحسب حساب لمقادير من النشا والسكر والدهن وهذه تستمد من الحبوب وبعض(37/27)
الخضر.
وهنا يحسن أن نلفت النظر إلى معنى لفظة وحدة الحرارة وهي المصطلح عليها عند الكيماويين بكلمة كالوري وهي نوعان الوحدة الصغرى والوحدة الكبرى، أما الصغرى فهي مقدار الحرارة اللازمة لرفع سنتيمتر مكعب واحد (نحواً من خمسة عشر نقطة من الماء) درجة سنتجراد واحدة وأما الكبرى فهي الحرارة اللازمة لرفع كيلو جرام درجة واحدة في مقياس السنتجراد، وفي الكلام عن آلة بخارية، تستعمل الوحدة الكبرى، وبالحرى يصح ذلك عند مقياس حرارة الإنسان، كما أنه يسهل عليك أن تعرف وزنك بالأرطال بدلاً من أن تزن حجمك بالدراهم أو الحبات.
ولكل نوع من الطعام حرارة خاصة به عندما يحتويه البدن ويحترق في جوفه ومن الأطعمة ما يشعل في الجسم ناراً أكثر وأحر من غيرها، فإذا أنت تناولت أوقية من الزبد فإنها تشعل في بدنك حرارة أكثر مما لو أنت تناولت مثل زنتها من السكر.
واللحوم المتنوعة لا تفترق في شيء كثير عن اللحم البقري من وجهة الحرارة فإن الدجاج والطيور والسمك أقل كثيراً في الحرارة من اللحوم الأخرى، والبيضة الواحدة تحتوي 85 وحدة حرارية، والرطل من اللبن الذي لم تؤخذ قشدته يحوي نحواً من 300 وحدة حرارة، والرطل من الخبز لا يقل في حرارته عن مثله من اللحم إذ تتراوح بين 1100 و 1200 وحدة حرارة أي مقدار الحرارة الكافية لنصف يوم للإنسان المتوسط.
ومن بين الخضروات الكثيرة الحرارة، بعد الفول في الصف الأول فإن الرطل الواحد منه يحتوي على 2500 كالوري والفاصوليا الناشفة كذلك.
أما الخضروات اللينة التي تحتوي مقداراً من الماء فلا تحتوي كثيراً من الحرارة فإن الفاصوليا الخضراء مثلاً ليس في الرطل منها أكثر من 430 وحدة حرارة، واللوبيا الخضراء 180 والقرنبيط 140 والجزر 200 والبصل الأخضر 215 والسبانخ 100 والبطاطس 370 ومن بين الفاكهة الخضراء ينهض الموز في الطليعة إذ في الرطل منه 400 كالوري وفي التفاح 260 وفي التين 330 وفي العنب 390 والبرتقال 210.
ومن هذا تبين لك أن الفاكهة اللينة لا تحتوي مقادير مرتفعة من وحدات الحرارة، على أن الفاكهة الجافة خير منها فإن رطلاً من البلح يحتوي 1415 وحدة حرارة وكذلك البندق وهو(37/28)
الطعام الوحيد الذي يحوي جميع المواد الصالحة للجسم.
ولكن الأهمية الكبرى هي التحفظ من الإكثار من الأطعمة التي تحتوي المقادير الكبيرة من البروتين، والآن دعنا نضع لك نظاماً للغذاء اليومي تحاشينا فيه الإكثار من اللحوم وما يخرج من الحيوانات، وإن كان المقدار الذي تحتويه هذه القائمة من المآكل من البروتين كافية لحاجة الجسم.
فخذ في إفطارك أوقيتين من الخبز المقدد وثلاث أوقيات من اللبن وخمس أوقية سكر (في القهوة) وثلاثة أرباع الأوقية من الزبدة.
أما للغذاء فحسبك رطل ونصف من اللبن وأوقيتان من الخبز وأوقية ونصف من الزبدة و4 أوقيات من السلطة من الخس ومعها أوقية ونصف من زيت الزيتون وأوقيتان من الكعك و 4 أوقيات من الفاكهة اللينة.
وللعشاء هذا القدر: حساء الخضر، حساء 5 أوقيات من البطاطس مع مثلها من الجزر والسبانخ، أوقيتان من السكر وأوقية من الزبدة وربع أوقية من اللوز و 4 أوقيات من مربى التفاح وأوقية من الجبن.
ولعل هذا قد يظن أنه لا يحوي كثيراً من مادة البروتين، ولكن التقدير دل على أن هذه الأطعمة تحتوي 45 جراماً منها وهو المقدار المقرر لرجل وزنه 158 رطلاً والحرارة التي تحدثها في الجسم تربو على 2598 وحدة حرارة مع أن المطلوب للرجل الذي هذه زنته 2560 وحدة فقط، على أن هذا النظام يراد به الرجل الذي يعمل أعمالاً هادئة لا تتطلب الحركة والعمل البدني، فلا ريب أن المشتغل بلك يتطلب وقوداً أكثر من هذا وغذاء يقوم بحاجة بدنه.(37/29)
ملح أدبية
ليس هناك أوجع لقلب الشاعر ولا أجلب لحقده وبغضه من أن يمتدح إنساناً بقصيدة يحبرها ويبالغ في تجويدها وتثقيفها، ويكد في ذلك ذهنه، ويغوص على المعاني النادرة البديعة فيستخرجها من مكامنها، ويلصق به كل محمدة إلصاقاً، ويستقصى في ذلك حتى يكذب ويغلو ويبالغ إلى الحد الغير المعقول، ثم هو لا يحظى من وراء ذلك كله بطائل، كان في عصر الشاعر ابن الرومي وزير كبير يسمى اسماعيل بن بلبل الشيباني ويكنى أبا الصقر، كان هذا الوزير ممدوح ابن الرومي، مدحه بقصائد عدة كلها آية في الإبداع ولكنه أخفق في جميعها، ومن هذه القصائد القصيدة النونية المشهورة التي تربى على المائتي بيت، ولما أنشدوا أبا الصقر هذه القصيدة وسمع هذا البيت منها:
الوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لعمري ولكن منه شيبان
قال لقد هجاني، فقيل له إن هذا من أحسن المدح، ألا تسمع ما بعده:
كم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان
فقال أنا بشيبان لا شيبان بي فقيل له فقد قال:
ولم أقصر بشيبان التي بلغت ... بها المبالغ أعراق وأغصان
لله شيبان قوم لا يشوبهم ... روع إذا الروع شابت منه ولدان
فقال لا والله لا أثيبه على هذا الشعر وقد هجاني، فما كان من ابن الرومي إلا أن زلزل الدنيا على أبي الصقر هذا وأخذ يثأر لنفسه منه ويصب عليه جام غضبه كما يقولون وهجاه بعدة قصائد هي الشماتة مجسمة إذ نكبه الموفق الخليفة العباسي بعد أن عزله من الوزارة، فمن ذلك قوله:
فلئن نكبت لطالما نكبت ... بك همة لجأت إلى سندك
لو تسجد الأيام ما سجدت ... إلا ليوم فت في عضدك
يانعمة ولت غضارتها ... ما كان أقبح حسنها بيدك
فلقد غدت برداً على كبدي ... لما غدت حراً على كبدك
ورأيت نعمى الله زائدة ... لما استبان النقص في عددك
ولقد تمنت كل صاعقة ... لو أنها صبت على كتدك
لم يبق لي مما يرى جسدي ... إلا بقاء الروح في جسدك(37/30)
وقوله:
خفض أبا الصقر فكم طائر ... خر سريعاً بعد تحليق
زوجت نعمى لم تكن كفأها ... فصانها الله بتطليق
لا قدست نعمى تسربلتها ... كم حجة فيها لزنديق
وهاك حديث شاعر آخر يشبه حديث ابن الرومي
حدث أبو العيناء قال: كان عيسى بن فرخان شاه يتيه على في ولايته الوزارة فلما عزل وهبني، فلقيني فسلم علي فأحفى فقلت لغلامي من هذا؟ قال أبو موسى، فدنوت منه، وقلت أعزك الله والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، فالحمدلله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة فلقد أصابت منك النقمة ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك ولله المنة إذ أغنانا من الكذب عليك ونزهنا عن قول الزور فيك فقد والله أسأت حمل النعم وما شكرت حق المنعم.
وهذا أبو العيناء - واسمه محمد بن القاسم - كان ضريراً، وكان أديباً شاعراً وكان من أحفظ الناس وأفصحهم لساناً وأحضرهم بديهة، وكان من ظرفاء العالم له نوادر مستملحة مع الخلفاء والوزراء ومن إليهم نورد شيئاً منها تفكهة للقراء، حدث الرواة قالوا: حضر أبو العيناء يوماً مجلس بعض الوزراء فتفاوضوا حديث البرامكة وكرمهم فقال الوزير لأبي العيناء - وكان قد بالغ في وصفهم وما كانوا عليه من البذل والأفضال - قد أكثرت من ذكرهم ووصفك إياهم، وإنما هذا تصنيف الوراقين وكذب المؤلفين، فقال له أبو العيناء فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير، فسكت الوزير وعجب الحاضرون من إقدامه على ذلك، ووقف عليه رجل من العامة فلما أحس به قال من هذا، قال رجل من بني آدم فقال أبو العيناء مرحباً بك أطال الله بقاءك ما كنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع، ومر يوماً بباب عبد الله بن منصور وهو مريض وقد أبل فقال لغلامه كيف خبره فقال كما تحب فقال فمالي لا أسمع الصراخ عليه، ودخل على المتوكل في قصره المعروف بالجعفري فقال له ما تقول في دارنا هذه فقال إن الناس بنوا الدور في الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك ثم قال له: كيف شربك الخمر فقال أعجز عن قليله وأفتضح عند كثيره فقال له دع هذا عنك ونادمنا فقال أنا رجل مكفوف وكل من في مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن أخدم ولست آمن(37/31)
أن تنظر إليّ بعين راض وقلبك عليّ غضبان أو بعين غضبان وقلبك راض ومتى لم أميز بين هذين هلكت فأختار العافية على التعرض للبلاء فقال بلغني أن فيك شراً فقال يا أمير المؤمنين إن يكن الشر ذكر المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقد مدح الله تعالى وذم فقال نعم العبد أنه أواب وقال هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم وقال الشاعر:
إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم أذمم النكس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما
وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع السنيء والدنيء بطبع لا بتمييز فقد صان الله عبدك عن ذلك - ورحمه رجل بالجسر على حماره فضرب بيديه على أذن الحمار وقال يا فتى قل للحمار الذي فوقك يقول الطريق - وسئل مرة عن مالك بن طوق فقال لو كان في زمن بني إسرائيل ونزل ذبح البقرة ما ذبح غيره قيل فأخوه عمر قال كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً - وكتب إلى عبيد الله ابن سليمان: أنا أعزك لله وولدي وعيالي زرع من زرعك إن أسقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى، وقد مسني منك جفاء بعد بر وإغفال بعد تعاهد حتى تكلم عدو وشمت حاسد، ولعبت بي ظنون رجال كنت بهم لاعباً ولله در أبي الأسود في قوله:
لا تهنى بعد إذ أكرمتني ... وشديد عادة منتزعة
فوقع في رقعته - أنا أسعدك الله على الحال التي عهدت وميلي إليك كما علمت وليس من أنسيناه أهملناه ولا من أخرناه تركناه مع اقتطاع الشغل لنا واقتسام زماننا وكان من حقك علينا أن تذكرنا بنفسك وتعلمنا أمرك وقد وقعت لك برزق شهرين لتربح غلتك وتعرفني مبلغ استحقاقك لأطلق بك باقي أرزاقك إن شاء الله والسلام.(37/32)
باب النقد
حول حفلة تابين الشيخ سلامة
دعيت في من دعى من كهول وشباب، وسراة وفقراء، لاستماع ما تقوله الخطباء والشعراء تأبيناً للشيخ سلامة حجازي، فرأيت وسمعت، ولم أجد بداً من تعقيب تقريظ الصحف اليومية للحفلة بكلمة كان على تلك الصحف أن تقولها من عند أنفسها فلم تقلها استبقاء لمودة فريق وخيفة أن تغضب فريقاً آخر ترهبه ولا تعرف له وداً، ولا أحسب مجلة البيان على تلك الطريقة، ويقيني أنها مذيعة ما يأمر الأدب بإذاعته، وما يقتضي التاريخ أن يعرفه العامة كما يعرفه الخاصة، على أني براء من ألم ما يصيب بعض النفوس من النداء بأن البلد اليوم لا يريد أن يراهم أو يسمعهم يخطبون ويقولون الكلام الموزون الذي يسمونه الشعر، وليس إعجاب الجهال بهم مسيغاً لهم أن يتمادوا في عمايتهم وإنحائهم على اللغة بفاحش اللحن وعلى الأدب بتعويج الأسلوب، وعلى الفلسفة بالتخبط وإنزال الظنون منزلة اليقين في طويل عريض من اللغو لا يفهمونه وهم أربابه فمستحيل أن يفهمه الناس، وليتهم قاموا لذلك في مواطن المهاترة والمهاذرة بتبادل الآراء، فكنا ننتظر الصواب يأتي بعد خطلهم، ولكن الحفلة حفلة تأبين، ولم يرهم السامعون أبنوا الرجل بشيء، وما كان إلا أن نهض واحد يتكلم عما سماه العبقرية وآخر يتكلم عما تفعله الموسيقى بالنفس، وآخرون يتأوهون وينادون بأن حزنهم على الحجازي شديد، ولولا كلمة جاءت من خليل المطران وقرأها جورج طنوس لخرجنا ونحن لم نسمع شيئاً فإن هذا الشاعر هو الذي أبن صديقه التأبين الصحيح فذكر طائفة من أعماله ومآثره الفنية وصفة حياته واستخلص من كل أولئك أنه رجل جليل حقيق بأن يخلد ذكره في قومه، فأحسن ما شاء، ولا غرو فإنه خليل المطران، أما الشعراء فلم أر منهم من أجاد غير مجد الدين أفندي ناصف وجورج أفندي طنوس، ولو أحسنت ملياً ديان إلقاء توشيحها لجاء حسناً، ولكنها ولا أعلم كيف كان ذلك عجزت عن إلقائه كما انتظره منها الناس، ولست عاتباً على أحد عتبي على عمر بك عرف، وابراهيم أفندي رمزي واسماعيل بك عاصم، وجورج أفندي طنوس، فإن عمر بك كاتب مجيد، وخطيب مشهور معترف له بالبيان، وكان مستطيعاً أن يسمعنا خطبة يضمنها أبلغ الرثاء، ولكنه تجاوز صناعته إلى الشعر فرمانا بمنظومة كانت تقطر ركاكة وتفككاً،(37/33)
وكذلك كانت منظومة ابراهيم أفندي رمزي وهو صديق الشيخ سلامة العارف بحياته، ولو أرسل كلامه نثراً استطاع أن يرضى المحفل ولا يغضبه، واسماعيل بك عاصم رجل من أبناء الجيل الماضي، مطبوع على السجع ولو لم يفد المعنى لا فرق بينه وبين توفيق أفندي عزوز إلا في أواخر الجمل، فإنها من عند الأول مقيدة لا تقع إلا مرة واحدة ثم لا تقوم وهي من عند الثاني مرسلة تشج رأس هذا وتفقأ عين هذا، وكان الأجمل باسماعيل بك أن يتنحى عن أمر ندب المؤبنين لغيره، فإن هذا الزمن غير الزمن الذي كان يحسن فيه أن يقال وليتقدم الشاعر المأنوس، جورج طنوس وهذا الشاعر، الذي أقيمت له المنابر، وسيف الله الباتر، أسعد داغر وهذا هو الشاعر الذي يعرفه الجمهور، محمد بك تيمور أما جورج أفندي طنوس فكان كاتب سر الحفلة وهو بصير بمواقع الكلام وكان عليه أن يقف بين أولئك المتكلمين وبين الناس فيمنع منظومهم ومنثورهم، إلا ما يراه حسناً أو جيداً، وهو لم يفعل هذا بل تركهم يتناوبون إيذاءنا بأسماعنا ما لا نريد أن نسمع من كلام قضوا في ثلاث ساعات ومحصله كله من أوله إلى آخره أن النابغة من الرجال ينبغ وهو صغير الشأن فيعلو وقليلاً ما يأتي الزمان بذلك الرجل، وإن الموسيقى فن جميل، والتمثيل جميل، والشيخ نابغة موسيقى ممثل، ولم يقل أحد كيف كان هذا إلا خليل المطران كما رأيت وإذا كان ما يستعاذ منه فقصيدة الدباغ فإن المقام مقام تأبين وهو قد جاء بهزل سقيم في قصيدة جل ألفاظها دهن ولحم وشحم وجلد وأدم فكانت تشتم منها رائحة المطابخ ولم يشك سامع في أن أحد الطهاة صنعها له وكتبها على مائدة حفظها منها، ولعل ما لقيه أكثر المؤبنين من سخرية شهود الحفلة واستهزائهم وضحكهم وإعراضهم زاجر لهم عن غشيان مثل هذا المحفل بعد اليوم، ولعل هذه البادرة متبوعة بالارتقاء الذي نؤمله إن شاء الله.
ومما لاحظته أن حثالة الجمع - ولكل كأس حثالة - كانوا يبهرهم الإلقاء فيصفقون لبعض الناظمين والناثرين فلا يصفق معهم العارفون بمواقع الكلام، وليس هذا ذنب المصفقين، ولكنه دليل على أن رقاع الدعوة كانت مباحة لمن يريدها كائناً من كان، وتلك مخزية تشهد بأننا فوضى لا هداة لنا، وربما فهم الذين لا يعرفوننا أننا لا نفرق بين الغناء والصياح، ولهم العذر فقط تقطعت الأيدي بالتصفيق لقصيدة عبد الحليم المصري وربما نشرها المقطم أو الأهرام فرأيت ضعفها، لأنه أجاد إلقاءها، ولم تهتز لهم شعرة عند استماع قصيدة أسعد(37/34)
داغر على جلالها ومتانتها ودقة معانيها لأنه كان يلقيها وكأنما هو خائف أن يسمعوه فأفسد بقبح صوته واضطراب إلقائه ما أحسن صياغته.
فإذا كانت مجلة البيان تريد خدمة الأدب والتاريخ فهذا ما يريد الأدب والتاريخ أن يذيعه للناس والسلام.(37/35)
متفرقات
الامبراطور الجديد في الصين
وصلت منذ أيام الأنباء تترى من الصين بأن القلاقل مستحكمة والاضطراب سائد على حدود الامبراطورية، والسبب في ذلك ظهور رجل غريب لا يعرف أصله ولا يدرك سره يطالب بلقب الامبراطور في قبائله وفي الأمة الصينية بأسرها، واسم هذا الرجل القديس توشا وقد اعتاد أن يأكل لحوم النمر والذئاب والفهود وقلب الإنسان.
وقد ضرب للناس اليوم الثامن والعشرين من الشهر العربي الخامس من هذا العام موعداً لارتقائه.
وفي يوم تتويجه ذبحت ألف رأس من الماشية وأعدت ثمانمائة دن من الخمر للمأدبة الواجبة لأتباعه، وقد عين له مجلساً من الوزراء، وديواناً للحكم، يوفد الولاة إلى البلاد، والعمال إلى الأقاليم لحكمها.
وقد أصدر مجلس العقوبة منشوراً بالعقوبات المختلفة التي يوقعها على المجرمين والمخالفين لأحكام القوانين، فإذا قبض على إنسان وهو يشرب الأفيون، قطعت شفتاه، والرجل الذي يرجف في المدينة بالإشاعات جزاؤه قطع لسانه، والرجل الذي يسمع وهو يقسم أو يحلف، تنتزع سن من أسنانه، أما اللصوص فتقطع أيديهم.
وقد صدر أخيراً قرار آخر يقضي بجعل هو كنغ حاضرة الامبراطور السماوي الجديد وخلاصة المبادئ التي يريد إنفاذها في الصين تحريم الأفيون وتشجيع القوم على الشغل في المناجم والبحث عن الذهب والمعادن ونشر التعليم الإجباري.
ومن هذا نرى أن الرجل خليط من الشر والخير، وصورة غريبة من الصور الإنسانية الموحشة من ناحية الجميلة من الأخرى.
برلمان من سبعة أشخاص
في صميم المحيط الهادئ، تقوم جزيرة معتزلة وحيدة صغيرة، هي جزيرة بتكيرن وهي في منتصف الطريق بين أستراليا وأمريكا الجنوبية ومساحتها لا تزيد عن ميلين مربعين وسكانها مائة وتسع وستون نفساً، ولهم برلمان مؤلف من سبعة أعضاء ولهم رئيس ونائب رئيس وقاض، يحكمون في أمور المملكة ونظامها وكل شاب يجوز الربيع الثامن عشر(37/36)
يصبح ذا حق في الانتخاب، والانتخابات تجري شفوية لا كتابة ولا تحرير.
والغريب أنه قد يمضي عام كامل دون أن تقف سفينة البريد بأرضهم وقد حدث أن مضى ستة وعشرون عاماً لم يقف فيها بشاطئها إلا سفينتان فقط!!
مكتب الغسالين
لعل أكبر كتاب في الدنيا حجماً وأكثر صفحات هو دفتر قيد أسماء الغسالين الموجود في سكوتلاند يارد دار الشرطة في لندن، فهو يتألف من اثني عشر مجلداً ضخماً، يحتوي جميع الأدلة والبيان الذي تستطيع بواسطته أن تقتفي آثار صاحب أي قطعة من القماش أو الملابس وصلت إلى دكان غسال من الغسالين، وقد تمكنت الشرطة من الاهتداء إلى ألوف من المجرمين، فاقتص العدل والقانون منهم، بفضل هذا الكتاب القيم، ولاسيما عندما يحاول القتلة والمجرمون أن يخفوا آثار جرائمهم، بأن يفصلوا الرأس عن البدن ويهربوا بها لواذاً مختفين، ولعل أكبر حادثة من هذا القبيل، ما وقع أخيراً في لندن إذ عثر ببدن امرأة قتيلة، لا تبين معالم وجهها، عند شاطئ النهر، فلم يكن من الشرطة إلا أن زاروا أربعمائة حانوت من حوانيت الغسل والكي للاهتداء إلى صاحبة الملابس التي وجدت على المرأة القتيلة، وأخيراً دل البحث الدقيق على حانوت صغير في أقصى المدينة، اعتادت القتيلة أن تبعث إليه بأثوابها لغسلها وكيها، وعلموا أن الاسم هو مسز بنت، فلم يمض ساعات، حتى عرفت المرأة، وعرف زوجها واهتدى إلى أنه القاتل، فقد ظن هذا الأحمق أنه قد محا كل أثر لجريمته، وصرف كل شبهة، فاتخذ لها مسكناً على شاطئ النهر باسم مستعار، ثم أخذها بعد هدأة من الليل للنزهة عند البحر، وخنقها بكل سكون ورقة ولطف، وهو يوهمها أنه يريد تقبيلها.
ولكنه نسي أن هناك جاسوساً صامتاً صغيراً في دار الشرطة هو كتاب الغسالين.(37/37)
مطبوعات جديدة
ظهر في هذه الفترة التي احتجب فيها البيان هذه الكتب الثلاث، وبما أنه ليس هناك متسع للكلام على الكتابين الأولين أرجأنا القول عليهما إلى العدد القادم ونكتفي الآن بالكلام على كتاب التعليقات الجديدة، وقد كلفنا أحد المشتغلين بالقانون أن يكتب عنه كلمة مختصرة وها هي:
كتاب التعليقات الجديدة
على قانون العقوبات الأهلي
تأليف محمد عبد الهادي الجندي بك
إن خير طريق للوقوف على حقائق الأمور كما يجب هي الطريقة التاريخية التي سلكها سبنسر وغيره من كبار الفلاسفة في الأبحاث الاجتماعية، وقد سلك هذه الطريقة ثقاة الفقهاء الغربيين في شرح المواد القانونية يمهدون الطريق بذكر تاريخ هذه المادة ومصدرها المأخوذة منه والأسباب التي دعت الشارع إلى وضعها والمناقشات البرلمانية التي دارت حولها والأدوار التي تقلبت فيها، أما غير هذه الطريقة فتخبط ورجم بالغيب وجولات خيالية لا رائد لها يرشدها إلى الصواب ولا ضابط يكبح جماحها ويلم شاردها.
ولما كان القانون المصري صورة مترجمة للقانون الفرنسي كان الرجوع إلى الشراح الفرنسيين وأحكام المحاكم الفرنسية خير طريق يسلكه القضاة والمحامون في تطبيق القانون المصري وتعرف معناه.
ولكن الشارع المصري الذي تعجل في أول الأمر ولم يكلف نفسه العناء في وضع قانون يلائم الجو المصري والعادات المصرية بل أخذه من القانون الفرنسي مع التباين العظيم بين البلدين أصلح غلطته هذه وأخذ يعدل المواد القانونية ويحاول إلباسها ثوباً مصرياً ملائماً للذوق المصري وقد عنى على الأخص بمواد قانون العقوبات حتى صار هذا القانون كالمرقعة بعضه مصري يلتئم مع عاداتنا والبعض الآخر افرنجي - وأصبح الرجوع إلى كتب الشراح الفرنسيين غير كاف للوقوف على غرض الشارع بل مدعاة في بعض الأحايين إلى الخطأ والبعد عن الصواب والواجب أن يلجأ المرء إلى الكتب الفرنسية فيما هو مأخوذ عن أصل فرنسي وإلى الأعمال التحضيرية كتعليقات الحقانية ومناقشات مجلس(37/38)
الشورى ومذكرات لجنته فيما هو من عمل الشارع المصري.
غير أن هذه الأعمال التحضيرية مبعثرة يصعب على الباحث الاهتداء إليها فلم شعنها حضرة الأستاذ عبد الهادي الجندي بك ورتبها أحسن ترتيب معقباً كل مادة بالأعمال التحضيرية الخاصة بها بحيث إذا أراد أحد الحقوقيين أن يدرس مادة من مواد قانون العقوبات فما عليه إلا أن ينظر في كل ما جاء من الأعمال التحضيرية لهذه المادة ويقارنها بعضها ببعض ثم يستخلص قصد الشارع.
فالأستاذ عبد الهادي الجندي بك بكتابه التعليقات الحديثة على قانون العقوبات قد وضع الحجر الأساسي في مصر للطريقة العلمية لدراسة القوانين ولم يسبقه إلى هذه الفكرة أحد ففضله على القانون المصري وكل مشتغل به فضل كل مخترع ونأمل أن يكمل عمله ولا يقف عند هذا الحد فإنه وإن كان قد أنجز عملاً جليلاً يستحق عليه الشكر والثناء إلا أن خبرته وكفاءته تبعثان على الرجاء في أن لا يكتفى بتكديس أدوات البناء وتهيئتها تاركاً إياها لغيره يشيد بها ما يريد أن يشيده، بل نريد منه أكثر من ذلك - نريد منه أن يستخدم هذه الأعمال التحضيرية في شرح القانون واستخلاص المبادئ القانونية ونقدها كما فعل الأستاذ جارسون في تعليقاته على قانون العقوبات الفرنسي وهذا ليس بالأمر السهل ولكن كفاءة عبد الهادي بك أهل للنهوض بكل عظيم.
وعلاوة على ما تقدم قد عني المؤلف بتذييل كل مادة بطائفة منتقاة من أحكام محكمة النقض ومحاكم الاستئناف والمحاكم الجزئية، وفائدة هذه الأحكام جلية لا تحتاج إلى بيان.
وبودنا أن لو تعرض المؤلف إلى تحليل هذه الأحكام وإيضاح المبادئ التي بنيت عليها فلا يكتفى بسردها مجردة عن كل تعليق بل يأتى بها لنقدها أو ليستشهد بها على رأيه.
وبعد فإن كتاب عبد الهادي الجندي بك جليل جمع بين الجديد والمفيد وقرب مناهل القانون للحقوقيين وفتح لهم مضماراً جديداً للمسابقة فاستحق منهم الشكر والثناء.(37/39)
العدد 38 - بتاريخ: 1 - 1 - 1918(/)
كلمات العظماء
نعود فننشر جملة من جوامع الكلم والأقوال العظيمة التي فاه بها عدة من العظماء وقواد الإنسانية وذوي الشخصيات الخالدة في التاريخ ذاكرين طرفا عن المواطن التي قيلت فيها والمواضع التي كتبت في حينها مفتتحين هذه الكلمات في كل عدد ببضع كلمات من كلم سيد العظماء بل سيد العالم كله سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تيمناً بها واعتباراً بما انطوت عليه من المعاني المقدسة الجليلة ولا جرم فهو صلى الله عليه القائل أوتيت جوامع الكلم وأنا أفصح من نطق بالضاد - قال عليه السلام:
ياعم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته.
قالها السيد الرسول لعمه أبي طالب إذ صمدت إليه قريش بعد أن ضاقوا ذرعاً برسول الله وتسفيهه أحلامهم وما هم عليه من عبادة الأصنام والشرك فقالوا لعمه - إما أن تكفه أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين - ثم انصرفوا فعظم على أبي طالب فراق قومه ولم يطب نفساً بخذلان ابن أخيه فقال له يا ابن أخي إن القوم جاؤوني فقالوا لي كيت وكيت فأبق على نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن الرسول أن عمه خاذله فقال هذه الكلمة الخالدة ثم بكى وولى فقال أبو طالب أقبل يا ابن أخي فأقبل عليه فقال اذهب فقل ما أحببت والله لا أسلمك.
إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى
المنبت المقطع عن أصحابه في السفر والظهر الدابة - قالها صلى الله عليه وسلم لرجل اجتهد في العبادة حتى هجمت عيناه أي غارتا فلما رآه قال: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق إن المنبت الذي يجد في سيره حتى ينبت أخيراً، سماه بما تؤول إليه عاقبته.
إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكمةً
قالها صلى الله عليه غذ وفد إذ وفد إليه فيمن وفد الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم فقال الزبرقان: يا رسول الله أنا سيد تميم والمطاع فيهم والمجاب منهم آخذ لهم بحقهم وأمنعهم من الظلم وهذا - يعني عمراً - يعلم ذلك، فقال عمرو أجل يا رسول الله، إنه مانع لحوزته، مطاع في عشيرته، شديد العارضة فيهم، فقال الزبرقان أما أنه والله قد علم أكثر مما قال ولكنه حسدني شرفي، فقال عمرو: أما لئن قال ما قال فوالله ما علمته الأضيق(38/1)
العطن، زَ من المروءة أحمق الأب، لئيم الخال، حديث الغنى، فرأى الكراهة في وجه رسول الله لما اختلف قوله، فقال يارسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية، فقال رسول الله: إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكمة.
فولتير
الخواطر الصائبة كاللحى، لا تكون للأطفال ولا للنساء
وقد استمد جوت منه هذه الكلمة إذ قال: إن النساء لا يستطعن تفكيراً فهن في ذلك كالفرنسيين، إن الفرنسيين هم نساء أوروبا.
إن الحياة أجمة مختنقة بالأشواك وخير للإنسان أن يمر بها مسرعاً.
إن الحياة حرب، فالذين يعيشون على نفقة الآخرين هم الذين يكسبون الموقعة
لست أملك صولجاناً بل قلماً
ما ازددت رغداً وسعادة، إلا ازددت رثاء ورحمة للملوك
إني أنفس على الحيوان أمرين، جهلها ما سيقع من الشر، وجهلها ما يقال عنها.
ميرابو
إنني إذ أهز جدائل شعري، أهز فرنسا بأسرها.
قال هذه الكلمة العظيمة وهو في ندوة البرلمان وقد أراد إنسان أن يقطع عليه الحديث وقد كان ميرابو عظيماً جبار الذهن، وكان دميماً مشوه الخلقة، حتى لقد وصف نفسه إلى سيدة في كتاب أرسله لها، تصوري لنفسك نمراً عظيماً شوهه الجدري، وقد اتفق أن كان ذات يوم يخطب في البرلمان مسترسلاً في وصف المثل الأعلى للملك العادل، فذهب إلى أنه ينبغي أن يكون الملك العادل فصيحاً شريف الفؤاد، مهيب الجانب. . فانبرى تاليراند فأضاف على ذلك: ومصاباً بالجدري!! فضحك الجمع.
وقال يوماً عن دمامته: إنكم لا تعلمون مبلغ سلطان قبحي!
وقال في نجحه مع النساء: هبوني نصف ساعة فقط مقدماً قبل أن يجلس إلى امرأة أجمل رجل في العالم كله!.
لورد بيرون(38/2)
لقد صحوت فوجدتني ذائع الذكر.
قد تنمو الصداقة فتكون حباً، ولكن الحب لا يرسب يوماً فيكون وداً.
الحب كالحصباء أشد ما تكون خطراً إذ تجيء في الحياة متأخرة.
المؤرخ هو نبي ينظر إلى الوراء.
كولوريدج
في الإنسان جزء حيواني وآخر ملائكي، فمن لا تراه صاعداً إلى مصاف الملائكة فاعلم أنه هاوٍ إلى درك الأبالسة.
الأشرار والأخيار هم أقل شراً أو خيراً مما تلوح عليهم.
وقال في الشاعر وردزورث: إني لا أعجب أن أراكم تحسبون وردزورث رجلاً صغيراً، لأنني أعلم أنه يعدو أمامنا جميعاً مستبقاً متقدماً حتى ليخيل إليكم قزماً ضئيلاً على بعد المسافة بينه وبينكم.
وقال فيه يوماً وكان قد عاد فاستزرى شعره وأخذه بمر النقد، وسأله رجل ما هو أحب مستخرجات الشاعر وردزورث إلى قلبك فأجاب كولوريدج ابنته دورا!!.
ديموناكس
- فيلسوف كلبي من أهل أثينا حوال عام 150 بعد المسيح -
إن الشرائع جميعاً عقيمة لا نفع منها لأن الأخيار لا حاجة بهم إليها، وأما الأشرار فلا تصلح حالهم بها.
ورأى يوماً رجلاً مزهواً برداء من جلد أحمر يشتمل به فقال له: لقد كان يلبسه قبلك خروف!.
دياجونيس
سئل يوماً لم يكون الفلاسفة أبداً حاشية وتبعاً للسراة والملوك، ولا يكون السراة في حاشية الفلاسفة فأجاب: لأن الأولين يعلمون ماذا يحتاجون إليه، وأما الآخرون فلا يعلمون.
وسئل كذلك وقد رؤى وهو يمد يده إلى تمثال منصوب لم ذلك، فأجاب: لكي أعتاد رفض السؤال.
وأجاب يوماً إذ سئل ما أشد عضات الحيوان خطراً.(38/3)
إذا كنتم تقصدون الحيوانات المفترسة فعضة النمام وإذا كنتم تريدون الحيوانات الأليفة، فعضة المتملق.
ووقف يوماً بباب رجل شرير فسمعه يقول، لا تدعوا أحداً من الأشرار يجتاز هذا الباب، فقال: إذن فمن أي مكان يدخل رب البيت؟.
نابليون
أكثرهن ولدا:
كانت مدام دي ستايل، الكاتبة الفرنسية الطائرة الصيت، تتودد إلى نابليون وتكثر الترداد عليه، ظناً منها أنها تكسب بذلك وده، وتظفر باهتمامه، ولكنه لم يشعر نحوها بشيء من ذلك، فاتفق يوماً، أنها سألت الإمبراطور رأيه عن أعظم امرأة في العالم، وكانت بذلك تتوقع أن تظفر منه برأي يصلح لها، ويكون مديحاً لأترابها ربات النبوغ، ولكن نابليون أجاب على سؤالها بقوله: هي أكثر النساء أولاداً!!.
وكانت مدام دي ستايل عاقراً.
فأرادت أن لا تستسلم إلى الهزيمة أمامه فقالت إن الذي يعرفه الناس عن جلالتكم هو أنكم لا تحبون النساء!.
فلم يكن هذا ليهزم نابليون إذ قال: سيدتي، إنني مولع بزوجتي الولع كله!.
فأمسكت مدام دي ستايل عند هذا الحد.
عني وهذا الثوب، اخلعوا عني هذا الثوب الممقوت!!.
قالها بعد الفراغ من حفلة تتويجه امبراطوراً.
إن لكم إخلاص القطط، لا تبارح الدار.
قالها إلى جمع من أهل بلاطه، عند عودته من منفاه في جزيرة ألبا وقد جاءوا إلى قصر التويلري يحيونه ويؤكدون له إخلاصهم.
كان ينبغي لي أن أموت في واترلو!.(38/4)
الحرب
بقلم شاعر لفائي ملكة البلجيك
في معتزل بعيد قصى عن العالم المصطخب، يلوح هذا المنتبذ الذي اتخذته هذه المليكة المعذبة نجوة وملجأ، ولا أعلم كم لبثت في السيارة وهي تعدو في الطريق إليه، وقد ضرب المطر الغزير المنهمل حجاباً أشهب ناصعاً فوق نافذتها، ونحن نسير على مطلع الظلام، وفي أول مرحلة من عمر الليل، وإذا بالضابط الذي يجلس إلى جانب السائق يشير إلينا بأننا قد وصلنا.
وكانت جلالة الملكة اليصابات أميرة البلجيك قد تفضلت فأذنت لي بلقائها في منتصف السابعة من المساء، فخشيت إذ ذاك أن أكون قد تأخرت ولكننا كنا لا نزال في حدود المتّعد، وإن بدا الظلام أحلك شديد السواد، ولكن الوقت كان مارس، وفي مثل هذا الموعد، تحت تلك السحائب الوطفاء، والغمائم المتكاثفة، يكون الليل قد سقط فعم الأرض.
ووقفت السيارة، فوثبت منها إلى رمال ذلك الساحل، وأنا أستمع إلى خرير الاوقيانوس عن كثب مني، وأكاد أتبين بحر الشمال معتلجاً مزبداً، هذا والأمطار والرياح القرة، تعزف وتترامى من حولنا، وهناك تلوح ثلاثة بيوت لا مصابيح فيها، ولا أضواء تبدو من خلال نوافذها، وشبح يحمل مصباحاً زجاجياً ساطع النور في عجلة يعدو نحونا للقائنا، وإذا به ضابطاً في خدمة جلالة الملكة في يده مشعل من تلك المشاعل الكهربائية لا تستطيع الرياح أن تخنق أنفاسها.
فلما دخلت البيت الأول من تلك البيوت الثلاث على هدى ذلك الضابط، أسرعت أهم بخلع معطفي في البهو، استعداداً للقاء الملكة، وإذ به يقول: كلا، كلا، بل أمسك عليك معطفك إننا سنخرج من هذا البيت حتى نصل إلى حجرات صاحبة الجلالة.
وكان هذا البيت الأول معداً لوصيفات الملكة وضباط بلاطها الذي أصبح خلواً من البهجة، مقلاً من الآداب والرسميات، يعيش إذا عم الظلام الكون في حلكة دائمة حيطة من غرة القنابل، وحذراً من مباغتة المطارات، ولم نلبث لحظة حتى بلغنا حجرات الملكة وقد تبينت ثمة أرضاً براحاً رملية مترامية كالصحراء لا حدود لها.
قال دليلي وهو يجتذبني إلى الحديث، ألا يخيل إليك هذا المكان بقعة في صحراء أنك إذ(38/5)
أرسلت إلينا خادمك العربي وهو ممتط صهوة جواده لبعثتنا على أن نتصور هذه الصورة.
ودخلنا حجرة دافئة ساطعة النور، تثير بأثاثها الأحمر اللون، ورياشها الناضرة روح البهجة في النفس والأنس في بهرة هذه الوحشة الصامتة.
ومكثت إذ ذاك أرقب مطلع الملكة، فلم أكد أجلس في الحجرة مجلسي حتى لمحت هناك على مقعدين صندوقاً طويلاً صغير الحجم، وقرأت فوقه بعض أحرف يابانية.
وكان الضابط يتبع بنظراته نظراتي، ويلمح مني دهشتي، فلم ين أن قال إن هذا الذي ترى أمامك سيف قديم أرسلته اليابان منذ قليل إلى جلالة الملك!.
وقد كنت قد نسيت اليابان واليابانيين، أولئك الحلفاء الرابضين في أقصى الشرق، ولكني الآن ذكرت أنهم حقاً في صفنا، ويدهم في أيدينا، ما أغرب ذلك وما أعجب، وعلمت الآن أن النكبة التي وقعت بالملك وزوجه، والأحزان التي نزلت بساحة هذا البلاط، قد وصلت أنباؤها إلى مسمع ذلك البلد الأقصى، والمملكة المتباعدة، فلم يسعها إلا أن تظهر إعجابها للملك المحزون الأبي فأرسلت إليه سيفاً!!
وكان الضابط يوشك أن يقوم للصندوقة فيخرج منها السيف ليريني غراره، ويطلعني على صنعه ودقة الفن الياباني الذي ركب به، ولكن دخلت في تلك اللحظة سيدة من الوصائف، فأعلنت مقدم الملكة.
ولم أكن رأيت هذه الملكة من قبل وقد أكبرتها الآلام في خاطري، وعظم جلالها من أثر الأحزان التي نالتها، فجلست أرتقب مطلعها بلهف شديد، واضطراب عظيم، وأنا واقف هناك أمام الموقدة بينا الرياح والجليد والأمطار تعزف خارج الدار في بهرة ذلك الليل الصامت، وجعلت أسائل نفسي من أي الأبواب ستدخل، ثم لم ألبث أن أجبت نفسي بأنها ولا ريب ستقدم من ذلك الباب الذي أمامي في نهاية الحجرة، فاستقرت عيناي عليه لا تبرحانه.
لكن كلا، فإنني لم أنِ أن التفتّ ورائي على حفيف ثوب ناعم صوب الجانب الآخر من القاعة، وإذ بحجاب من الحرير الأحمر يخفي وراءه باباً صغيراً قد هتك، ومن خلاله بدت الملكة عن كثب مني حتى لم أجد الوقت الكافي لأقدم لتحيتها الانحناءة البلاطية.
وكان الأثر الأول الذي وقع في فؤادي من رؤيتها ليس إلا تأثيراً مضطرباً، أو إن شئت(38/6)
فقل تأثيراً لونياً، منظر ثوب أزرق، وعينين زرقاوين تسطعان كنجمين متألقين، ثم إذ هدأ اضطرابي وزال زيغ بصري، تبينت أمامي مظهراً رائعاً من مظاهر الشباب، وكأنها لما تتجاوز الرابعة والعشرين وقد كنت أعلم من الصور العديدة التي شهدتها، تلك الصور التي قلما تصدق الخبر عن الصورة الحية، إن الملكة ممشوقة القذ مشذبته، ولكن الملكة على العكس ربعة القوام، ذات وجه صغير مستدير، وتقاطيع نهاية في الرقة، وجه أثيري، من الرقة واللطف بحيث لا يكاد يبين ضوءه بجانب تلك العينين الصافيتي الزجاجة، كفيروزتين شفافتين تنمان عما وراءهما، حتى لكأنك إذ ترى الملكة وأنت تجهل أمرها وحقيقتها والعظائم التي قامت بها، ستصبح في نفسك من ترى تكون هذه المرأة صاحبة هاتين العينين إنها ولا ريب امرأة سامية المكانة تحلق في جواء الرفعة تنظر بهما لا وجل ولا خوف إلى وجه الحتوف، وإزاء الأخطار والموت!. .
وأنت تعلم أن حديثاً مع ملكة لا يجري إلا مع رغبتها وفي المناحي التي تنبعث هي فيها، ولذلك انطلقت الملكة في أول الحديث تجاذبني أطراف الحديث كثيرة وموضوعات متعددة، آية رقة المحضر، وعذوبة الخاطر، كأنما لم يكن يجري في العالم تلك الأحداث المخيفة، والنكبات المفزعة.
فتحدثنا عن الشرق، وكان كل منا قد جاب بلاده، وأكثر فيه التطواف ثم تكلمنا عن الكتب التي قرأتها، كأننا قد نسينا المأساة الكبرى القائمة في الكون، أو كأننا قد غاب عنا أن وادي الخوف يحف بنا، وأن الأرض التي في جوارنا أصبحت مغطاة بالأطلال والموتى.
وكأن الملكة قد استشعرت شيئاً من الثقة بعد هذه الأحاديث، فطفقت تكلمني عن تخريب ايبرس وفرني وغيرها، وهي البلاد التي جزتها في طريقي إلى الملكة وإذا بي أرى غمامة صغيرة قد بدت في تينكم العينين الزرقاوين، على الرغم من المغالبة الشديدة.
قلت. . ولكن يا سيدتي، لا تزال هناك منها جدران باقية لم تنقض، وقد نستطيع أن نقيم هذه الجدر ونكمل المنهدم منها، فتعود سيرتها الأولى، وسيسهل ذلك في الأيام البيضاء التي سيجيء بها المستقبل.
فأجابت: آه، أتعني أننا مستطيعون أن نعيد بناءها، أجل بلا ريب نستطيع أن نعيد البناء ولكنها ستروح تقليداً لا غير، وإذ ذاك تفقد الروح الأثرية التي كانت لها، وسألتمس جلالها(38/7)
القديم فلا أقع عليه.
ومال بنا الحديث إلى موضوعات أقل أهمية، وإذ بنا بغتة نجدنا في الحديث عن ألمانيا، ولعل العاطفة الأولى السائدة في جوانحها هي الدهشة، دهشة أليمة تامة كبرى.
قالت في صوت متهدج: إنهم قد تغيروا ولا ريب، واستحال خلقهم القديم إلى خلق جديد، إنهم لم يكونوا كذلك من قبل، لقد كان ولي العهد - وأنا أعرفه منذ عهد الطفولة - شاباً رقيق العاطفة، ولم يكن في خلقه ما يبعث الإنسان على توقع. . . . . وهناك أمسكت عن الحديث ثم عادت تقول:
ولقد حاولت أن أجد السبب، وأنا أفكر الليل والنهار، فلا أستطيع لهذا فهما كلا، كلا، لم يكونوا كذلك من قبل، هذا لا ريب عندي فيه.
ولكني كنت أعلم أنهم كذلك أولاً وآخراً، وقديماً وحديثاً، على أنني لم أشأ أن أعارض الملكة وهي قد نشأت بين ظهرانيهم، كالزهرة الحسناء بين العوسج.
وساد السكون بيننا لحظة، ثم تذكرت أن الملكة أميرة بافارية فاجترأت على أن أذكرها بأن البافاريين في الجيش الألماني محزونون عليها متألمون لألمها، ولكن الملكة رفعت يدها عن ثوبها وأشارت إليّ إشارة نهائية خاتمة، وقالت في صوت منخفض، الجملة الآتية وقد وقعت في صميم ذلك السكون كأنها كلمة لا نقض فيه ولا إبرام:
لقد انتهى بيننا كل شيء، لقد ضربت بيني وبينهم أستار من حديد لن ترفع آخر الحياة!.
ولعل الذكرى أهاجت بفؤادها ذكريات أخرى، عن عهود طفولتها وأيام شبيبتها والزمن الناضر الذي قضته بينهم، وإذا بالعينين الزرقاوين قد تحدرت منهما دمعة فأشحت بوجهي جانباً حتى لا يلوح لها أنني قد لمحت بكاءها. . . بيرلوتي(38/8)
كتّاب العصر
أحمد لطفي بك
شخصيته - اطلاعه - مبادئه - أسلوبه - مستقبله
(2)
كل رجل عظيم أرادت به الطبيعة غرضاً سامياً من أغراضها الكبرى في الأرض يحمل في فؤاده شيئاً من عظمة الطبيعة نفسها التي أرسلته وهو لا يزال يعيش بروح الجندي، وإن لم يحمل سيفاً، لأنه خلق للقيادة والأمر، فهو يهبط على الناس بذهنه، فيقتادهم إلى الطريق التي يهتدي إلى سننها، طائعين أو كارهين، ولقد سيقت شعوب كثيرة إلى ما كانت تكره، لأنها لم تستطع أن تفلت من مغناطيسية القائد العظيم.
ولعل العظيم في صورة الكاتب أكثر وسيلة إلى القلوب، وأقرب مدخلاً إلى الأرواح، لأن الناس يرون أمام أعينهم الزائغة القلقة الخائفة، رأساً عظيماً جباراً، وقلماً بديعاً ساحراً جذاباً، فإذا حاولوا الإفلات من ناحية، أمسكتهم الأخرى، وإذا سكن القلم يوماً، انطلق الرأس أياماً، وكم من كتاب في الدنيا سادوا على الأفئدة سيادة الملوك على مرافق الأمم، وإن لم يحملوا سيفاً، ولم يكن لهم سلطان من مال، أو سلطان من جاه أو دهاء أو خدعة مكر.
والطبيعة تخلق في العصر الواحد كتّاباً كثيرين على الألوان المتعددة التي يصلحون لها، ولكنها لا تريد لهم القيادة، ولا تمنحهم الزعامة، بل تحبس كل هذا فتخص به رجلاً عظيماً واحداً، وتدع الباقين رسلاً له وحاشية وبلاطاً، أو أعداء وبغضاء ومنافسين، لتتم لها من أي واحدة منهما الغاية التي تطلبها، وقد يلذها أن يكون هؤلاء أعداء له، لأنها ستقف على مشهد من العراك العنيف بين القطة العظيمة والجرذان الصغار.
وقد تضن أحياناً على أهل عصر من العصور بالكاتب القائد وتأبى إلا أن يعيش العصر أخرس صامتاً تلعب به قوالب صغيرة من الكتاب لا تملك اللولب النفسي الذي يسمو بالقواد والعظماء، وقد نرسل إليه نصف قائد، لأنها تكون إذ ذاك في شغل بإعداد القائد التام، فتخرج الأول ليكون مندوباً عن الثاني فقط، حتى يثب من أحشاء الزمن فيأخذ مكانه الذي هيئ له.
وقد كان ذلك هو الحال في مصر، فنحن نعلم أننا مقفرون في العصر الأخير من القواد(38/9)
الكتّاب، ولسنا نجري في سبيل من التفكير محدودة، ولا نجد وجهة في الحياة معينة، بل لا نزال نضطرب في أودية متشعبة، وراء كتّاب مجيدين، ولكنهم كما قلنا لم يؤتوا الأداة الرافعة التي تسمو بالقواد والأبطال، فنحن نصفق لمطلع كتاب حلو الأسلوب كما نهلل لمقال رائع الديباجة، ولكن كتاباً حلوة بأساليبه لا يغني شيئاً عن ظمأ النفوس إلى قائد مفكر، ولا يرد حاجة الشعب إلى أن يكون مقوداً، وقد يخرج ألف كتاب ممتع، فلا يكون منها إلا أن تزيد الناس حيرة في أمر حياتهم، وتضليلاً عن الطريق القويم، ولسنا نحتاج إلى كتب قدر احتياجنا إلى ذلك القائد، وإن لم يضع في حياته كتاباً، فقد كان قاسم أمين قائداً كاتباً مفكراً، فاستطاع بكتابين صغيرين أن يهتاج الأذهان ويثير التفكير ويفتح مغاليق الحياة الصحيحة الواجبة.
هذا وقد كان لنا في أحمد لطفي بك السيد نصف قائد، لأنه لم يرتفع إلى مصاف القيادة الكاملة، وكانت الطبيعة نصبته لتنوير الأذهان ارتقاباً لمطلع الرجل العظيم الذي تهيئه للأجيال القادمة، فمنحته أشياء، وأمسكت عنه أشياء، فظل معلقاً ترتفع به مواهبه حيناً، وتكاد تسقط به المزايا التي تنقصه حيناً آخر، فهو لم يؤت تلك العظمة النفسية التي لا بد للقواد منها، ولم يصب من يد القوة الإلهية تلك الشخصية الكبيرة التي تحرك الناس كما تحرك اليد لعباً من الخشب، ولم يملك الإرادة الصلبة التي تصرع الأحداث وتخرج من صراعها أقوى منها إذ بدأته، بل لقد اضطرب في مواقف كثيرة كان يستطيع أي رجل من أقوياء الإرادة أن يثبت أمامها، ووضع فكرة في يومه، ثم جاء فنسخها في غده، وهذه جميعاً ليست من شأن القواد، لأن الإرادة العظيمة لا يختلجها خالجة من الترددات أو الوساوس أو التقلبات، لأنها تنبع دليلين قويين الذهن الخصيب والنفس المطمئنة.
وقد كان قاسم أمين عظيماً في نفسه وكان فتحي زغلول كذلك، ولكن لطفي بك السيد دونهما في هذه العظمة، لأنه يعيش بروح رجل متوسط، وذهن رجل ذكي متوقد، ومن هذه المناقضة الغريبة في التركيب كثيراً ما يصطدم ذكاء ذهنه بعادية روحه، فيغلب الذهن يوماً، وقد تهزم الروح الذكاء حيناً، لأنها أعمق أثراً في الإنسان من ذهنه.
ويلوح لنا أن أحمد بك لطفي السيد لم يقرأ كثيراً ولم يتوغل في الاطلاع، واكتفى بقراءة القديم، ولم يبعد في البحث عن الآراء الجديدة، ولم يقف هنيهة ليلقي نظرة طويلة إلى(38/10)
الأفكار المتعددة المناحي التي تسوق الحياة اليوم، ولعله أخذ أكثر العلم عن مونتان ومنه استمد روح التفكير المنطقي، والنزعة السفسطائية، فقد كان مونتان نبي السفسطائية، وكان غريب المنطق والتدليل.
وقد يذهب بخاطرك أن الرجل ذا الذهن الخصب القوي التربة قد يلقي جميع كتب الدنيا جانباً، ويكتفي بأن يظهر إلى الناس الصور الجميلة التي تلوح في مخيلته، إن حاجته إلى قراءة أذهان غيره تذوب ضئيلة أمام القوة التي لا تنفك تخرج من ذهنه في كل حين أثراً مبتكراً جديداً، ولكن الطبيعة تخشى أن تجعل لكل مفكر ذهناً إلهياً على غراره، يعيش بنفسه، ولا يستمد أكثر قوته من غيره، لئلا يضطرب نظام التفكير في الكون، ولا يسمع العظيم صوت العظيم، بل أرادت أن يكون العلم والفكر في الحياة متسلسلاً وأن يكون الذهن وليد الذهن، والفكر مبعث الفكر، وبذلك نما الذهن الإنساني فكان من نمائه ما نرى اليوم من ألوف النظريات والفلسفات ولو لم يقرأ هربرت سبنسر برليوز ورابليه وروسو قبل أن يتصدى لكتابه في التربية، لخرج الكتاب ناقصاً غير ممتع، وإن كان لا يزال يحتوي عظمة سبنسر وذكاءه.
ولعل هذا هو السبب الذي جعل تفكير لطفي بك وخواطره لا تزال تبدو عليها مظاهر البساطة الأولى التي تكون للماس إذ يخرج من أحافير الأرض، فلا يزال يتطلب الصقل والتهذيب واللمعة الزجاجية الشفافية.
وليس للطفي بك مبادئ فلسفية معينة وقواعد فكرية معروفة، فقد مر بجميع المذاهب العصرية السارية في أذهان أكبر رجال الفكر فلم تستوقفه أحدها، ولم يعج على شيء منها، ولم يقصر ذهنه على إشاعة مذهب واحد في بلاده، ولم يقف جهده وحياته للنضح عن فكرة فلسفية جديدة، بل كل ما نعلمه عنه أنه ذهب في حياته العمومية الماضية إلى جملة من المذاهب الخاصة، التي أخلق بها أن تسمى مبادئ سياسية، من أن نطلق عليها مبادئ فكرية، لأنها لم تحتج إلى شيء كثير من الفكر، ككل المبادئ السياسية اليومية التي تخطر في خلد الكاتب الصحفي، ثم لا ينى الزمن يثبت بعضها ويمحو بعضاً، فإن المصرية في اللغة ووزارة معارف أهلية، والاستقلال والانفراد عن العصبية الدينية، والعض بالنواجذ على العصبية الجنسية، وما إلى هذه المبادئ التي أكثر لطفي بك من الكلام عنها، وخابت(38/11)
كلها، لم تكن في شيء من الروعة، وليست من العمق وبعد الغور وثقوب النظر إلى ما يرفعها إلى صف المبادئ الفكرية الجليلة، فلم تلبث أن نسيت وعفى الزمن عفاءه عليها، ولعل لطفي بك نفسه قد نسيها مع الناسين.
وهذا ما يبعثنا على أن نقول أن لطفي بك ليس إلا كاتب رسالات أنيقة، عذبة، متعددة الموضوعات، مختلفة الألوان، وأنه كان يكتب كلما عنت فكرة، أو خطر موضوع أو وقع في الصحف جدل، أو مر في قراءته بخطأ رأي ويريد أن يصلحه، ولكن هذا ولا ريب ليس دأب الكاتب المتولي زعامة الفكر المشرف على عالمه الصغير من الكتاب.
ولنقف الآن عند أسلوبه، فإن فضيلته كلها في هذا الأسلوب، وجميع شخصيته وعوارض نفسه ومنازع روحه متجلية في تلك المناحي، وهو يغلب عليه الشاعرية، وتمازجه روح فاتنة تستهوي الأفئدة، وإن كان خلاء من أساليب البلاغة، والمحسنات البديعية، إذ كان لطفي بك قليل المحفوظ منها، صغير الجعبة، ولكنه لو حفظ الكثير منها لأضربت به، لأنها تبدو إذ ذاك نابية بروحه، مبتردة الأثر في طي نفسه المتدفقة في قلمه، ولأضحى في أسلوبه رجلان، ومشي في ديباجته شخصان، كل منهما يعارض صاحبه، ويأخذ منه فضيلته، ليشوه من فضيلته، على أننا لا نزال نقول إن أسلوبه يعتريه الروح الخطابية، وتخالط لهجته الدفاع القضائي، فكأن كل موضوع أدبي لديه قضية في ساحة المحكمة، إذ يأخذ في شرح دعواها وتفصيل وجوهها، والخروج منها بالتفكير المنطقي إلى الغاية التي يتوخاها، وذلك يجعل أسلوبه متفككاً، مضطرباً ضعيف الأعصاب، مريض الشرايين، ولكنه لا يستطيع أن يغالب ذلك أو يحول دونه، لأن صناعته التي عاش الدهر الطويل عليها، ومهنته التي وضع يوماً روحه فيها وبذلت له أياماً روحها، تأبى عليه إلا أن يحتفظ بمادتها في أسلوبه ومناحي كتابته، وتصر على أن يظل بلفظة المحامي في تفكيره.
ولعل هناك باعثاً غير الصناعة، ونعني بها العادة، وهي شديدة الأثر، كبيرة السلطان على الروح، فنحن نعلم أن لطفي بك السيد اعتاد أن يكتب وهو في محضر كبير من الزوار، ويرسل القلم يجري فوق الورق على أحاديث الندى وهم صافون من حوله ذاهبون في سبل طولي من الثرثرة والجدل والمناظرة، حتى لقد ترى المقال الواحد من مقاله يحوي صوراً عدة من الضوضاء التي كانت حوله عندما كان مسترسلاً في كتابته، فلا تكاد تطالعك قطعة(38/12)
خاصبة فرحة بهيجة، تشعرك أنها إنما قد كتبت على صوت ضحكة فرحة أطلقها زائر من الزوار، أو ملحة أرسلها في المجلس ظريف من الظرفاء، حتى تهجم عليك قطعة أخرى صامتة حزينة قفراء، تدلك على أن سكوناً أليماً كان قد نزل إذ ذاك بالمجلس، أو تهويماً اختلج العيون، أو ثقيلاً غليظ القلب، مشوه الروح، عرض للندوة، فهربوا من غلظته بالصمت الأليم.
والآن وقد طوى أحمد لطفي بك السيد الماضي وأصبح ذهنه البديع مجلداً كذلك في طي مجموعات الجريدة في دار الكتب، والآن وقد أمسك عن الكتابة، ورضي بالعيش في ظل الإدارة، وترك الحياة البديعة التي كان يعيشها، مع الشعب، في جناب الأدباء، حبيباً إلى النفوس، مقروءاً في كل حين، فهل ترون المستقبل كفيلاً بأن يعيد إلينا نشاطه الأول الذي كان في ماضيه، ويغني عنا ما فقدناه من فترة حاضرة، وهل تظنونه واضعاً بعد اليوم كتاباً مخلداً بعده، أو مخرجاً أثره يبقي آخر الحياة فخماً مهذباً سامياً على أثره.
إننا نعيش تحت جو حار يذبل عاجلاً فيه الذهن، وتخمد بسرعة القريحة، ولا يكاد الكاتب المبدع يجتاز الخمسين حتى يحس ذهنه متبلداً، ورأسه أشيب ناصعاً وخواطره قرة باردة، لا تلذ إلا في جلسات العجائز، حول الموقدة، فإذا لم يعن المفكر بنفسه ويتخذ الحذر لقريحته، ويسارع في وضع ما يعن له من تواليفه، ويستبق الخطى إلى الخلود قبل أن نعجله شيخوخته، فلا يلبث أن يرى الزمن يفر مسرعاً من بين راحته، ويمضي الحياة بلا تراث ذهني يذكره الناس به.
وكذلك نخشى على لطفي بك فتوره الوقتي اليوم، ونخاف تبلده وسكونه، ونشفق من أن يمضي عن الحياة مدير دار الكتب لا غير. . . . . .(38/13)
الاشتراكية
لقد بلغت الاشتراكية اليوم شأناً عظيماً من القوة والمنعة والبأس حتى أصبحت رهيبة الجانب يخشى بأسها ويخطب ودها وأمست الحكومات الأوروبية تتزلف إليها خصوصاً في هذه الأوقات العصيبة المملوءة بالمصائب والمحن.
وويل للحكومة التي تغضب عليها الاشتراكية وتتخلى عن مساعدتها وتناوئها العداء فإنها تسقط لا محالة مهما كانت قوتها وثقة الأمة بها.
ولا عجب فعدد الاشتراكيين عظيم جداً في البلاد الأوروبية، ولا يزال آخذاً في الازدياد، ولا يعلم إلا الله متى يقف نموها.
وقد عثرت على إحصائية يرى منها الإنسان مبلغ قوة الاشتراكية فآثرت نقلها يطلع عليها القارئ، وبذلك يمكنه أن يقدر الاشتراكية حق قدرها، وقد بلغ عدد الاشتراكيين في ألمانيا حسب انتخاب 1907 - 3250768 ولكن منذ ذلك الوقت ذاعت حركة الاشتراكية ونمت وربت وأقبل عليها المريدون من كل أنحاء ألمانيا حتى بلغوا 4238919 في انتخاب سنة 1912 وبلغوا في فرنسا 1106470 وفي النمسا 1041946 وفي انجلترا 338885 وفي بلجيكا 483240 وفي إيطاليا 338885 وفي فنلاندا 316951 وفي سويسرا 100000 وفي الدانيمارك 88721 وفي النرويج 90000 وفي هولندا 82000 وفي السويد 75000 وفي إسبانيا 40000 وفي بلغاريا 13360 وفي صربيا 3056 فيكون مجموع الاشتراكيين في أوروبا 7554290 وفي الولايات المتحدة 442483.
وإلى القراء جدولاً مبيناً فيه عدد النواب الاشتراكيين في كل بلد من البلاد الأوروبية ونسبتهم إلى مجموع الأعضاء النيابيين من كل مجلس:
اسم البلدعدد النواب الاشتراكيينعدد أعضاء المجلسالاشتراكيةفنلاندا8620943 % السويد3616521. 81بلجيكا3516621. 08الدانيمارك2411421. 05لوكسمبورغ104820. 83النمسا8851617. 06فرنسا7658413. 01النرويج111238. 94إيطاليا425088026هولندا71007بريطانيا العظمى406705. 97سويسرا71704. 11روسيا174423. 82صربيا11600. 72إسبانيا14040. 25أما في ألمانيا فقد بلغ عدد النواب الاشتراكيين حسب انتخاب 1912 - 110 فتكون نسبتهم 36 %.(38/14)
وقد تغيرت هذه النسبة من ذلك الحين تغيراً عظيماً فلا تطابق الواقع الآن في كل البلدان الأوروبية ولكنا أتينا بها لأننا لم نقف على إحصائية أحدث منها.
ولكن قوة الاشتراكية غير آتية من كثرة عدد المتشيعين لها فحسب وإنما هي آتية على الأخص من تمكن رسومها في نفوسهم وقوة تمسكهم بها.
إن كثرة العدد لا تغني شيئاً إذا كانت العقيدة ضعيفة والنفوس غير مشتعلة بنار اليقين ولم نر عملاً عظيماً قام على أساس مكين كالعقيدة المتينة.
إن العقيدة المتينة دينية كانت أو سياسية هي حجر الفلسفة التي تصير الضعيف قوياً والجبان شجاعاً، هي تضرم في النفوس نار الأقدام وتحملها على عظائم الأمور وهيهات أن تقف في وجهها عقبة من غير أن تكتسحها من طريقها أو تعلو عليها ثم تنحدر عنها وهي أشد قوة.
تمنى الاشتراكية العالم بالخير العميم والسعادة التامة والهناء الرغيد والسلام الدائم المبني على المساواة بين الأفراد والأمم وتحاول أن تقضي على أسباب البغضاء والكراهية بإلغاء الملكية الفردية وإحلال الملكية الاجتماعية مكانها وتوزيع الناتج من الأرض وعمل الإنسان على الأفراد بالتساوي.
وهذه النظريات خلابة تروق الأبصار وتعجب بها النفوس الشعرية وتغوي الفقراء والمعدمين، فلا عجب إذا أعجب بها القوم واستماتوا في الدفاع عنها كما يستميت المؤمن في الذب عن دينه، وإذا نحن رأينا صوت الاشتراكية مسموعاً في كل مكان، ولو أن الاشتراكيين لا يزالون الأقلية في كل المجالس الأوروبية كما هو ظاهر من الجدول السابق فنسبتهم في فرنسا 13 في المائة ومع ذلك يحدثون من الشوشرة والضوضاء ما تهزله أركان مجلس النواب الفرنساوي وترتعد له فرائض الوزراء، وكم من مرة سقطت الوزارة الفرنساوية لتخلي الاشتراكيين عنها.
لهذا كانت دراسة الاشتراكية والوقوف على أمانيها وأغراضها وإمكان تطبيقها لا يخلو من لذة وفائدة خصوصاً في هذه الأوقات التي هب فيها الاشتراكيون يزأرون وقد ظنناهم تلاشوا أو ضعفوا بسبب ما أصابهم من الصدمات الشديدة حين إعلان الحرب الأوروبية الحالية، ويحاولون أن يحدثوا أمراً وتأبى حكومات الحلفاء إلا أن تسير في طريقها حتى(38/15)
يقضي الله بما هو قاض ومن هنا أخذنا في درس الاشتراكية درساً تاماً دقيقاً وإذاعة ذلك بين قراء البيان مذ العدد القادم إن شاءالله.
عبده البرقوقي المحامي(38/16)
مختارات
قال ابن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنه ... بما سوف يلقى من أذاها يهدد
وقال:
قد حدثت في دهرنا أنفس ... تستبرد السخنة لا الباردة
كما تعاف الطيب المشتهى ... من الطعام المعدة الفاسدة
وقال:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
وقال:
يمل كل شراب من يعاقره ... وشارب الراح مشغوف بها عانى
كريقة المرء لا تنفك من فمه ... وما يمل لها طعماً لإبّان
يقول إن شارب الراح لا يتلها أبداً فهي كالريق الذي هو دائماً في فم الإنسان وما يمل طعمه في وقت من الأوقات.
وقال:
لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضل عن الهدى وتحور
وهن كآنية الزجاج تصادمت ... فهوت وكل كاسر مكسور
وقال:
نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عني فكدت أهيم
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم
وقال يهجو:
أتظن أنك لو مسخت ... بلغت قبرك أو قرابه
بؤس لمن قد خاض ظلك ... ثم لم يسلخ إهابه
وقال أبو تمام في الخمر:(38/17)
راح إذا ما الراح كن مطيها ... كانت مطايا الشوق في الأحشاء
صعبت وراض المزج سيء خلقها ... فتعلمت من حسن الخلق الماء
خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء
وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت كذلك قدرة الضعفاء
وقال:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
ينظر إلى هذا المعنى قول بعضهم:
في الناس من لا يرتجى نفعه ... إلا إذا مس بإضرار
كالعود لا يطمع في ريحه ... إلا إذا أحرق بالنار
وقال المعري:
وخف بالجهل أقوام فبلغهم ... منازلاً بسناء العز تلتفع
أما رأيت جبال الأرض لازمةً ... قرارها وغبار الأرض يرتفع
وقال:
تحفّظ بدينك يا ناسكاً ... يرى أنه رابح ما خسر
فلست كغيرك أطلقت من ... حياتك بل أنت عانٍ أسر
وللسبك رد كسير الزجاج ... ولا يسبك الدر أن ينكسر
ولا تيأسن من الملك أن يعود ... إذا جيش قوم كسر
فقد يرجع القمر المستنبر ... مقتبلاً بعد أن يستسر
هو الدهر يفنى ونفسي على ... وناها وكون مناها عسر
وكم فيك يا بحر من لؤلؤٍ ... ولكن لجّك لا ينحسر
فأكره على الخير مجبولةً ... على غيره في علانٍ وسر
فلم يجعل التّبر حلي الفتا ... ة حتى أهين وحتى كسر(38/18)
رسائل النساء
أو صورة فلسفية من روح المرأة
مارسل بريفوست، من كبار كتاب فرنسا، وروائييها الطائري الصيت، وأحد أعضاء الاكاديمية الفرنسية، قصر كل مقدرته الكتابية على تصوير نفوس النساء في جميع مراحل العمر، وبحسب أماكنهن في الحياة، فأجاد في ذلك الإجادة كلها، وعرف بهذه البراعة المدهشة، وخير تواليفه رسائله التي كتبها على ألسنة السيدات إلى عشاقهن وأحبابهن أو إلى معارفهن وكاتمي أسرارهن، من المرأة المخادعة زوجها، والسيدة الضاحكة من عشاقها، واللاهية بخدع رجلين في آن واحد، وما إلى تلك الصور.
ونحن نعرب هنا الآن رسالة من تكلم الرسائل الرقيقة، وهي من ممثلة إلى ضابط مفتون بها، وفي هذه الرسالة طائفة من المعاني الفلسفية، والحجج الغريبة في الحب، والفتنة العمياء، وعبث المرأة الساقطة بالقلوب.
الضابط
من مدام فيكتوريا لانسيني إلى مسيو جورج بريانشو
لقد كتبت إليّ إحدى عشرة مرة يا سيدي منذ جئنا لنمثل في بلدتك، وكانت الرسالة الأولى تحوي ما معناه سأكون هذا المساء في الصف الثالث بعد مقاعد الموسيقى الوترية، في الناحية اليمنى من الملهى وستعرفينني من ثوبي العسكري، ثوب ضابط في المدفعية، وستتبينين من الوردة الحمراء التي وضعتها في عروة ردائي المحب، المفتون بك المدله في الصمت. . . .،
وقد رأيتك حقاً، ولكني لا أقول أنني تأملتك ملياً وأنعمت فيك النظر، فإن التلفت والخروج عن طور التمثيل خطر مرعب فوق المسرح، ولكني لمحت هناك ضابطاً شاباً بديع المعارف في ذلك المقعد الذي عينته، تطل من عروته تلك الوردة القرمزية التي هي أشبه شيء بالوسام المجيد.
وفي اليوم التالي إذ عدت إلى الملهى لحفظ أدواري ومراجعتها، دفعوا إليّ رسالة جديدة ممضاة منك، فإذا أنا أمام أربع صفحات حشدت فيها أبدع ما قرأته في حياتي، فقلت إنك تعاني الألم الأليم من حبك إياي عن كثب وأنه ينبغي لك أن تراني، وتحدثني وتقضي من(38/19)
الحين إلى الحين بضع هنيهات على مقربة مني وفي مجلسي ولا تطلب أكثر من ذلك، وقد أقسمت لي بشرف رجل عسكري أن ذلك يكفي لكي يجعلك أسعد ضباط فرنسا بأسرها.
وأنا عليمة يا سيدي أنك ولا ريب قد حكمت عليّ سوءاً ورميتني بفساد التربية إذ لم أجب بسطر واحد على صفحاتك الأربع، ولكن ماذا تريد غير ذلك مني، لطالما تلقيت أشباهاً لهذه الرسائل ونظائر، ولم يكن لها من تأويل عندي إلا هذه الفكرة إن هذه القينة قد تستمال، إنني رجل شاب، ولست غنياً، فعلام الخوف ولا جزف ثمة ولا مخاطرة، لنجرب!. . . .
فلم أرد على رسالتك، فرحت تكتب إليّ غداة كل يوم رسالة، وجعلت أتلهى في الصباح بتصفحها من المطلع إلى الخاتمة، وكانت رسالتك كل يوم تبدو أقل احتراماً في لهجتها وتهيباً، وأكثر حرارة وولعاً وتوقد، وجعلت تقول أنك تعرف السبب الذي من أجله أصد عنك وأعرض، ذاهباً إلى أن ضابطاً في المدفعية ليس شيئاً مذكوراً وليس رجلاً مثرياً. . . ولكنك أردفت ذلك بقولك إنك خليق بالعناية وإنك أرفع من هذا قدراً، لأنك انحدرت من أصلاب أسرة شريفة في الريف، وإنها لاتزال على شيء من الخير والرزق وأنك ستصبح معلماً ذات يوم، وهي مكانة سامية، إلا إذا كنت أنا أفضل أن تظل في الخدمة العسكرية لكي تصبح ضابطاً عظيماً.
فماذا تظنني أجيبك على هذا، إني أسألك ذلك وألتمسه إليك، كان هناك في الإمكان جواب واحد، أليس كذلك، وهو يتلخص في هذه الألفاظ إنني أرتقبك في هذا المساء!
ولكني لم أكن أريد ذلك، ولم أكن أستطيع أن أجيبك بمثل هذا، وسأبسط لك الآن السبب.
فعمدت إلى وسيلة أخرى، إذ بدا لك أن من السذاجة وبلاهة الفؤاد أن يكثر الإنسان من لغة العاطفة مع امرأة على شاكلتي، فوضعت في غلاف خمس سفاتج من ذات الألف فرنك، ومع الخمسة آلاف هذه الألفاظ في قطعة صغيرة من الورق: الضابط بريانشو يود أن يرقد ليلة الغد مع مدام لانسيني، الرد منتظر. . . .، وكان الرد بسيطاً للغاية وهو إرسال خمسة آلافك إليك في التو واللحظة.
ولما كنت رجلاً ذا قلب، وشاباً من أهل الخير، فقد علمت أنك قد ارتكبت أمراً نكراً إذ أهنت امرأة - قد لا تكون امرأة شريفة - ولكنها امرأة ليس لك عليها من حق أو سلطان.
ولعل أبدع كتبك عندي وأشدها تأثيراً أخيرة رسائلك، تلك التي سألتني فيها الصفح(38/20)
والمغفرة، وإن كنت ختمتها بتهديد، إذ قلت إنني أرى أنك لن تحبيني يوماً، بل إنك لتكرهينني الآن إذ أهنتك، ولكني أعلم ماذا بقي عليّ أن أفعل، إنني سأنتظر حتى مساء الغد، فإذا لم أتلق في مساء الغد كتاباً منك ينبئني أنك ستكونين لي فلن أكون غداة اليوم التالي إلا جثة هامدة، الوداع يا سيدتي، لتنسي الضابط بريانشو وتروحي في الحياة سعيدة!.
رباه! إني أعلم أن هذه الكلمات كثيراً ما تكتب دون أن يكون هناك أية نية على إنفاذها، ولكني رأيتك مضطرباً في كتابك متألماً، وشاهدتك في مقعدك وراء الموسيقى أصفر شاحباً، ثم خمسة آلاف فرنك هذا القدر الكبير على ضابط صغير في مرتبتك، هذا القدر الذي لا يعرف أحد غير الله كيف جئت به، كل ذلك قد أزعجني، وأخافني، وأشفقت من أن تنفذ وعيدك، فلم يسعني إلا أن أرد عليك في هذه المرة. . . . . .
إنك تسألني أن أكون لك وتحفل بذلك أكثر من احتفالك بالحياة، ولكني لا أستطيع يا بني أغضبك بالحكم على ذوقك. . . بل إنه ليعد ملالي وتغالياً، ولا تظن أنك دميم في عيني، كريه إلى ناظري، بل إنني لأراك آية الرقة وروعة الحسن، ولعل في هذا ما يرد عليك عزة نفسك ويرضي خاطرك، ولكني الآن أقول لك أن هذه الرغبة التي أثرتها في فؤادك، طالما ثارت كذلك منذ خمسة وعشرين عاماً قضيتها فوق المسرح، في قلوب عدد كبير من الرجال، شباباً وكهولاً، وأشراراً وأخياراً، وفقراء ومثريين، وكانت هي الضرورة التي خلقتها صناعتي وشهرتي، ولكني أقسم لك أنها لم تكن لديّ في شيء من الأهمية، ولاسيما إذ تعدو الشيخوخة، ويحل الضعف، وتتقدم السن، كحالي اليوم، فإن لي ولداً يناهز الربيع التاسع عشر، ويبدو لي الآن ولع الرجال بي وتوثبهم ضرباً من التحية اللازمة فقط.
ولكنك ستقول ولكني أحبك بقلبي وأحس أشد العذاب في حبك، وأوثر أن أموت. . . . ولكنك مع ذلك ستقنع ولن تعود بك حاجة إلى الانتحار إذا أنا وهبتك خلوة في سبيل خمسة آلافك، وإنني إذا منحتك نفسي في هذا المساء فستأذن لي غداً بالسفر في جولة للتمثيل.
إنني أعلم هذه النزعة الشديدة التي تلهم الشباب لأجل امتلاك مرأة من نساء المسرح فإنهم يحتاجون إليها مرة واحدة، ثم تهدأ ثورتهم فلا يحفلون بما يكون مصيرها بعدها.
ستقول كلا، أليس كذلك، لست هذا الرجل، إن لحظة لذة لا تهدئ ثائرك ولا تبرد حرارتك،(38/21)
إذن فينبغي يا بني أن لا أمنحك هذه اللحظة، بل أقول لك أنني مخافة أن تكون حقاً في حبي أرفض اللقاء بك لأنني لا أود أن تحبني إذ لا يجب أن تحب وأنت في سنك هذه الناضرة إلا سيدة شابة تصلح لك أو المرأة التي ستصبح زوجك، ولكنك إذا تركت فؤادي ينطلق في حبي فأي مستقبل لك تؤمله، إنني لا أستطيع أن أعيش في ظلك، فهل أنت تابعي وسائر في أذيالي إلى أي مكان أريده أم هل مقدم على المسرح فتكون ممثلاً، وتترك السيف والجند، أو تكون رفيق ممثلة يتبعها في جولاتها ولو فعلت ذلك لألفيت نفسك بعد أيام قد ضحيت كل شيء لأجل امرأة عجوز.
نعم لقد كنت من قبل حسناء فاتنة ولكني أعترف أنني لم أعد اليوم في شيء من ذلك الحسن ولا على شيء من تلك الفتنة، فأزل عن عينيك تلك الصورة التي تخدعك منها المساحيق والطلاء والأثواب، وتأثير الأضواء وسلطان الموسيقى بل إنني لأكاد أبكي ألماً إذ أتصور العذاب الذي سيثور في نفسك لو رأيتني على حقيقتي، وشهدت ما أصارتني الخمسون ربيعاً التي أعض الآن عليها.
ثم تصور أن الحقيقة لا تبدو لك إلا بعد ما قد امتلكتني وتمتعت بي، وإذ أكون قد بدأت أنطلق في حبك، وتكون أنت قد بدأت لا تود إلا أن تفر هارباً وتعتصم مني بالنسيان.
كلا، لا يصح لي أن أقدم على هذه المخاطرات، وخير لي وإن كنت على الخمسين أن أكون رفيقة رجل مالي شيخ فإن ذلك من صناعتي، ولا خطر فيه على الفؤاد، ولكني لا أريد عاطفة شابة حارة مضطرمة وأنا في هذه السن فليس لديّ ما أبادلها به ولا أستطيع لها إمساكاً ولا بها احتفاظاً.
فهل أدركت الآن أن كل ذلك في صالحك، وأنه لا يثقل عليّ مطلقاً أن أهب نفسي ليلة إلى ضابط شاب جميل وقد رأيت أن أرسل إليك مع رسالتي هذه صورتي الشمسية التي صنعتها منذ خمسة عشر عاماً، إذ كنت في عيني عشيقي المرأة الحسناء التي وهمتها فوق المسرح فاحتفظ بتلك الصورة فهي دليل على أنني لم أحقر حب ضابط صغير ذي وردة حمراء في عروته.
فشجاعة يا بني صبراً، فقد كان حقاً على أن أحدثك جميع هذا الحديث، وإذا أردت أن تعلم ما بعثني على أن أتشجع فأدلي إليك به فإنني منبئك. .(38/22)
إنني إذ تلقيت تلك الرسالة التي حدثتني فيها عن نيتك في الانتحار كنت أفكر في طفلي الذي يوشك يخرج من الجامعة ويلتحق بخدمة الجيش كذلك، وقد تخيلته في لباس الجند مثلك، في مدينة من مدائن الريف، مذهوب الرشد بمغنية مثلى، أواه أينتحر لا جل ذلك أو يفر من الجندية أو يستلب أو يشوه مستقبله!
إني أرجو الله أن يحفظه جزاء لي إذ أنقذتك وحفظتك اليوم.
أيها الأحمق، أمل إليّ وجنتيك أطبع فوقهما قبلتين مستطيلتين، من تلك القبلات التي تهبك إياها والدتك. . . . .(38/23)
تشخيص الأمراض
بواسطة الأحلام
في هذا المقال الذي سنبسطه للقراء أمل للضعفاء الذين يعانون آلاماً من أمراض النفس ويشعرون أنهم يعيشون أقل من الحياة الصحية الكاملة، وذلك أن العلم الحديث عمد الآن إلى ما سموه تحليل النفس، وهو لا يحتاج إلى شيء من الأدوية والعقاقير، ولا يبحث فقط عن أعراض الأمراض، بل عن مسببات هذه الأعراض وأول مبادئ هذا التشخيص أن الأعراض ليست ناشئة عن سبب جثماني، والخطوة الثانية أن مبعثها الأول في النظام النفساني للشخص، وأن استقصاء هذه البواعث يجب أن يكون بدرس أحلام المريض، وجملة القول إن هذه النظرية الحديثة تذهب إلى أن الحاسة الشهوانية هي سبب كثير من أمراضنا الخطيرة الحاضرة.
وهي تقسم الأمراض إلى عدة أقسام، أولها الأمراض الذهنية أو العصبية التي مبعثها البدن، كالفالج ووجع المفاصل أو تصلب الشرايين وما إليها من تلك الأمراض التي تدل على تهدم الأنسجة العصبية والتي ترجع مباشرة إلى أصل جثماني، وهذه لا يتداخل فيها الطبيب الحديث الذي يعالج الأمراض من ناحية الأحلام إذ لا شأن له بالأمراض التي ترجع إلى أصل بدني على أن كثيراً من هذه الأمراض لا يزال يرجع إلى سبب نفساني، وإن كان السبب البدني حقيقياً ولكن أصلها لا يزال نفسانياً، فقد تجد مريضاً طريح الفراش دهراً طويلاً من أثر الفالج، والحقيقة أن هذا الفالج الوهمي يرجع إلى الهستيريا وقد تعاني إحدى السيدات الألم من وجع المفاصل أو الربو، ولا سبب هناك لذلك إلا الهستيريا، وهذه لا باعث لها إلا حالة من حالات النفس.
وإليكم تفاصيل حادثة نشرها طبيب من هؤلاء الأطباء تمت إلى هذا التحليل الجديد بسبب:
المريض سيدة مكتملة الحياة كانت مصابة بالفالج في ذراعها منذ ثلاث سنين حتى لقد كان الأطباء يغرزون الدبابيس في تلك الذراع فلا تحس المريضة أدنى ألم، ولكنهم إذا حاولوا مد هذه الذراع صرخت المريضة وشعرت بأشد الألم وحار الأطباء في كنه هذا الألم ولكن المريضة كانت تعرف أنها منذ اثنين وعشرين عاماً تعاني آلام الهستيريا.
وأوجب الواجبات في هذا التشخيص النفسي هو اشتراك المريض والطبيب في العمل(38/24)
للوصول إلى النتيجة المطلوبة، وتأسيس رابطة بينهما وثيقة.
فلما رأى طبيبها أن هذه الرابطة قد بدأت تستحكم بينهما قال وهو يقترح عليها بكل لطف نبئيني بجميع أحلامك.
على أن المرأة لم تكن تؤمن كثيراً بالأحلام، بل كانت كذلك تظن أنها لا تحلم إلا قليلاً، بل لا تحلم مطلقاً ولكن لم تكد تمضي بضعة أسابيع حتى بدأت تكتشف صوراً من الأحلام تمر بخاطرها فجعلت إذ تفيق من نومها تدونها في كتاب ليقرأها الطبيب وكانت ترى هذه الأحلام تافهة فارغة طائشة حتى أنها لم تكن تود أن تتذكرها ولكن كانت تخشى أن تسيء إلى طبيبها، وما كان أشد دهشتها إذ تراه يرضى بهذه الأحلام، ويفهم منها أشياء لا تفهمها، ثم لم يلبث أن انطلق يذكر لها أشياء عن حياتها كانت تعلم أن ليس هناك إنسان يعرفها، وحوادث دفينة في أعماق نفسها حتى لقد نسيت أنها وقعت لها يوماً ولم يلبث الطبيب أن راح يلتمس أثر الضربة التي أفلجت ذراعها في ماضي حياتها، وعاد يذكرها بخيانة زوجها لها، وإغضائها عن هذه الخيانة، وتجاهلها مع أنها كانت بينة ظاهرة أمام الجميع وعاد بها إلى مصدر تلك الاضطرابات العصبية التي كانت تثيرها الحالة النفسية.
وهكذا كان ذلك هو تشخيص مرضها، وكان أيضاً العلاج، لأن التحليل في هذه النظرية الجديدة هو التشخيص والدواء معاً، وهذه هي فضيلة هذا التشخيص، فلم يكد ذهن هذه المريضة ينفتح على ذكرى حادثة وقعت لها وهي في الخامسة من عمرها حتى ذهب عنها المرض كما جاء.
ولم يتأت هذا التحليل النفساني العميق في لحظة أو جلسة واحدة، بل كان علاجاً استغرق زمناً طويلاً ولم يكن إلا على شكل أحاديث ومحاضرات يلتقط منها الطبيب قطعاً من أحلامها فيربطها بعضها ببعض، وكذلك جعل يتوغل أسبوعاً فأسبوعاً وشهراً فشهراً في صميم حياتها المنسية البعيدة، حتى تبين له أولاً أحداث حياتها المحزنة، ثم بدت لها هي كذلك بعده، بواسطة الطبيب، إذ بدأ يريها بصيصاً ضعيفاً من معنى أحلامها، ثم لم تلبث بعد حين أن تربط هي هذه المعاني بعضها ببعض وأخيراً جعلت هي تقوم بتحليل نفسها، وهذا مبدأ هذا العلاج الجديد، إذ ينبغي أن يشترك الطبيب والمريض في التحليل النفساني، فما كان ذلك، لم يلبث أن زال عن ذاكرتها النقطة السوداء التي كانت غائبة عنها، فكأنما(38/25)
كانت هذه الحادثة خثرة متجمعة في ذهنها، فلما زالت، زال الفالج.
وهذه المرأة هي مثال من الأمثلة التي يستحيل فيها المرض إلى الهستيريا فإن ذكريات ذهنها الفظيعة المؤلمة التي زالت عن الذاكرة بقوة الإرادة تحولت فيها إلى هستيريا وأصابت الجسم بالآلام التي تحصن ذهنها منها وكذلك ترى الهستيريا تحول الألم من الذهن إلى ألم جثماني.
والنوع الثاني من الأمراض التي يختص بها الطبيب الذي يعالج النفس هو النروستانيا، وهو لا يعتبرها ناشئة عن حالة ذهنية، ولكنه يرجعها إلى العادات الشخصية التي يسلكها المريض المصاب بها في الحياة.
والخلاصة أن الأطباء الأخصائيين في هذا النوع من العلاج يذهبون إلى أن أحلامنا هي قصص رغباتنا وللاقتناع بصحة ذلك يجب أن ننظر إلى الأماني اليومية التي يشعر بها الأطفال فإن الطفل يود لو ظفر بالقمر وتدانت النجوم إليه ويجب أن تكون له الخيول التي تمر في الطريق، وكل ما يرى أو يسمع، ولما كان أكثر رغباته غير مستطاع التحقيق، اضطر إلى أن يخلق أشياء في ذهنه، ومن ذلك نشأت اللعب والعفاريت والأمراء والملكات والقواد.
فإذا انتقلنا من رغبات الأطفال في يومهم إلى أحلامنا نحن الكبار ونحن نيام، فلا نلبث أن نجد أننا إنما نكبر تلك الأحلام الصبيانية التي كنا نشعر بها في طفولتنا، فالفقراء منا يحلمون بالثروة والمرضى بالعافية والمهاجرون بالأوطان والجائعون بالشبع والأطباء النفسانيون يؤمنون بأن لكل حلم معنى وأن الأحلام هي مدلولات حوادث معينة وقد استطاعوا في علاجهم النقائض والعلل الأخلاقية الوصول إلى نتائج مدهشة، ومن ذلك أن محامياً شاباً جاء إلى استشارة طبيب مشهور في مدينة كبرى من المدائن وكان في حالة عصبية مزعجة وهو يشكو أنه لا يستطيع عملاً البتة وأنه قد ذهب أياماً إلى مكتبه وحاول بنشاطه المعتاد أن يؤدي عمله فلم يستطع إنجاز شيء منه، وعدا هذا العجز الفجائي إلى حياته الأدبية بل إلى أحاديثه وجملة القول كان يشعر بأنه قد تحطم كلية، فلما استطاع تذكر بعض أحلامه، خفّ ما كان به.
وتفصيل الأمر أنه كان يشتغل عند محام شيخ طويل العهد بصناعة المحاماة، وكان هذا(38/26)
الشيخ يشرف على بعض تركات وأوقاف طائلة، وكان قد رفع العمل الخاص بها إلى مساعده الشاب، ولم يلبث أن توفى المحامي الشيخ، فلم يبق إنسان يعرف دخائل تلك الأوقاف إلى المحامي الشاب، فدلت أحلامه على منشأ اضطرابه العصبي، إذ كان كل حلم منها يدل على نزاع حاد قائم بينه وبين نفسه.
فلما أتم طبيبه تشخيص مرضه قال له، إن بك نزعة إلى استلاب هذه الأوقاف أن نفسك تحدثك بوضع يدك عليها، ولكن ضميرك قذف جانباً هذه الإغراء، لأنك رجل شريف عدل، ولكنك تريد أن تقدم على ذلك، وأنت لا تشعر وهذه الحرب الناشبة في دخيلة نفسك قد حطمت جهازك العصبي.
فتبين للمحامي أن تلك هي الحقيقة وشكر للطبيب هدايته.
ولهذا العلاج الجديد مزية كبرى وهي تحصين الفرد من الخطر القادم فهو يقول لكل شخص أيها الإنسان، عليك نفسك احتفظ بها، إنك تشغل ذهنك بأمور تؤثر في نشاطك الحيوي، وإذا وقع لك اضطراب عصبي، فالتمس إيجاد السبب في نفسك وهو يقول للآباء احتفظوا بأبنائكم وحصنوهم ولا سيما من أنفسكم، من الإكثار من حبهم وتدليلهم أو تأنيبهم ومن الصدمات النفسانية ومن المشاهد التي تؤثر على شعورهم الغائب في وقت يكون فيه هذا الشعور هو أشد ما يكون في الطفل وأكبر العناصر المؤلفة لخلقهم في الحياة.(38/27)
متفرقات
أسرار الدول
كيف تصل إلى السفراء
من أكبر الصعوبات التي تزاولها الدول في هذه الحرب، الطريقة التي تتبعها في الاحتفاظ بأسرار سياستها الخارجية، إذ لا تجد سراً من أسرار الحكومة يدون عند بدئه في ورق أو يستنزل من القلوب إلى الأقلام، اللهم إلا في الظروف النادرة عندما يراد عرضها على الندوات التشريعية ورفعها إلى الملك، حتى إذا أقر ديوان الحرب على أمر هام من أمور السياسة الخارجية المزمع عرضه على إحدى الدول المحايدة، فكرت السلطة في كيفية إيصاله إلى سفيرها في تلك المملكة، وإذ ذاك يدون السر في الورق ولكنه يكتب على طريقة من طرق الرمز متبادلة بين الحكومة وذلك السفير، والموظفون الذين يقدمون لعمل تلك الرموز هم عمال أمناء لدى الحكومة موثوق بهم وكثيراً ما يتناولون خمسمائة جنيه أو سبعمائة عن الطريقة الواحدة التي يخترعونها.
فإذا تم كل ذلك وأعد السر لإرساله دفع إلى ساع من السعاة الذين يطلق عليهم سعاة الملك وهو يحمل جعبة لها قفل سري، ولهذا القفل مفتاحان فقط، أحدهما لدى وزارة الحرب، والآخر لدى السفير، وعليه أن يفتح الجعبة بنفسه أو يدفع ذلك إلى كاتم أسراره، عند وصول الرسول إليه.
وأنت ترى أن السفر من إنجلترا إلى الممالك المحايدة من المشقة والخطورة بمكان في هذه الحرب، لأن الرسول يظل على أعين الجواسيس ومرتقبهم وعلى الرغم من أن الساعي أو الرسول يسافر في خفية وهو شاكي السلاح مدجج، قد لا يزال في خطر من شرهم وهو أبدا يجلس في قطار السكة الحديدية في بهو خاص به، وعليه أن يضحي حياته ويبذل نفسه قبل أن يكره على النزول عن السر الذي في جعبته وتقديراً لعمله يتقاضى مرتباً قدره أربعمائة جنيه في العام وبدل سفرية قدره جنيه في اليوم، وقبل أن ينتخب لهذه الوظيفة الخطيرة، يجب أن يندبه لها موظف من كبار موظفي الحكومة يأخذ على كاهله المسؤولية عنه ويضمن للحكومة أمانته والوثوق به.
فإذا وصل الرسول إلى السفير يحمل سراً فليس أحد سوى السفير أو كاتم أسراره يستطيع(38/28)
أن يأخذ الجعبة من الرسول، وفي كل سفارة حجرة حديدية يخثزز فيها المعتمد رسائل الأسرار الخطيرة، ولا يحتفظ أحد بفاتيحها غيره ولا يسمح لأحد بدخولها سواه، ويبقى حولها الحراس ليلاً، حفاظاً عليهم أمناء، ولهم أن يطلقوا الرصاص على أي مهاجم، ولهذا ترى الدول الغربية ما عدا بريطانيا وإيطاليا لا تأذن لأي عضو من أعضاء سفاراتها الخارجية أن يتزوج بأي امرأة من نساء المملكة التي يخدمون بها.(38/29)
مطبوعات جديدة
ماجدولين - ابن الرومي - ديوان رامي
1
ماجدولين
أهدى إلينا صديقنا الكاتب الأديب السيد مصطفى لطفي المنفلوطي نسخة من كتابه الذي أسماه ماجدولين أما السيد المنفلوطي ككاتب فسيفرد له البيان مقالاً على النحو الذي نحوناه في الكلام على أحمد لطفي السيد بك، وأما هذه ماجدولين فقد قلنا في العدد الماضي أنها للكاتب الفرنسي ألفونس كار واسمها الأصلي - تحت ظلال الزيزفون - أملاها على السيد حضرة صاحب العزة محمد فؤاد كمال بك ثم صاغها السيد هذه الصياغة التي هي آية في الإبداع بعد أن تصرف فيها بالحذق والزيادة حتى أصارها كأنها من وضعه لا من وضع ألفونس كار، وهذا ضرب من ضروب الترجمة يشبه لاقتباس، فنحث القراء على اقتناء هذه القصة الفلسفية المؤثرة التي هي من أبدع حسنات السيد - وثمنها 15 قرشاً صاغاً وهي تطلب من جميع المكاتب.
2
ديوان ابن الرومي
كان من أكبر أماني الأدباء والمتأدبين أن يطبع ديوان هذا الشاعر الكبير المنقطع النظير قبل أن تعبث يد العثّة بتلك النسخة الخطية الوحيدة الموجودة في دار الكتب السلطانية، فانتدب لهذا العمل العظيم وزير الكبير والعالم العامل حضرة صاحب المعالي أحمد حشمت باشا وزير المعارف الأسبق واستقل بطبع هذه الديوان على الرغم من الصعاب التي تكتنفه من نحو غلاء الورق وطول الديوان وسقم النسخة الخطية وكثرة التحريف الذي لحقها من جراء جهل النساخين، وأظهر منه اليوم جزءاً كبيراً يقع في نحو من ستمائة صفحة من قطع البيان مطبوعاً على ورق جيد صقيل أحسن طبع وأنظفه، وقد ضاعف إحسانه حفظه الله بأن شرح هذا الديوان وشكله شكلاً تاماً وعهد بذلك إلى حضرة الأستاذ الشيخ محمد شريف سليم أحد أساتذة اللغة العربية وناظر مدرسة المعلمين - دار العلوم - فوضع الأستاذ شرحاً كافلاً ببيان غامضه وحل مشكلة، ويظهر أن الأستاذ لقي من شرح ابن(38/30)
الرومي الأمرّين ووقع منه في كبد أيّ كبد ومن ثم انتشر عليه الأمر وذهب في أكثر شرحه مذهب ذلك الشيخ الذي أنشد قول العباس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرني داعي ... يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
إن دام لي هجرك يا مالكي ... أوشك أن ينعاني الناعي
فلما سمعها بكى، ثم قال: هذا شعر رجل جائع في جارية طباخة مليحة، فقيل له من أين قلت ذاك، قال لأنه بدأ فقال - قلبي إلى ما ضرني داعي - وكذلك الإنسان يدعوه قلبه وشهوته إلى ما ضره من الطعام والشراب فيأكله فتكثر علله وأوجاعه وهذا تعريض، ثم صرح فقال - كيف احتراسي. . . البيت - وليس للإنسان عدو بين أضلاعه إلى معدته فهي تتلف ماله وهي سبب أسقامه وهي مفتاح كل بلاء عليه، ثم قال - إن دام لي هجرك. . . البيت - فعلمت أن الطباخة كانت صديقته وأنها هجرته ففقدها وفقد الطعام فلو دام ذلك عليه لمات جوعاً ونعاه الناعي. . . . .
ولسنا الآن على نية أن نتعقب هذه الهنوات التي يخطئها العد والتي لو عرضت على ابن الرومي وكان حياً لكان بطن الأرض أحب إليه من ظهرها ولكنا نذكر هنا مثالاً منها إلى أن يوفق الله بعض الأدباء فيستدرك على الكتاب الأخطاء التي جعلتنا نرحم الأستاذ ونرثي له وإن كان الأستاذ معذوراً في ذلك العذر كله لأنه لم يدفع إلى مضايق الشعر، ولا يفهم الشاعر عمرك الله إلا شاعر مثله والأستاذ ممن غذى بلبان الحقائق العلمية والقواعد الثابتة المقررة وعلى ذلك نشأ ثم توفر أخيراً على العمل الإداري وألف نظامه الحسي الواقعي فكيف وتلك حاله تراه ينساب مع مثل ابن الرومي ويستطيع أن يبعد معه في تصوراته الشعرية الخيالية - أما المثال الذي نذكره هنا ونجتزئ به الآن فهو البيت الذي حير الأستاذ وجعله في غماء من أمره وهو البيت الذي أقامه وأقعده وأتى به في كلمته الافتتاحية مثالاً من الأمثلة التي تعترضه في الديوان وتربكه ثم هو بحذقه يخرجها أحسن تخريج. . . وهو هذا البيت الذي جاء في وصف الموز.
يشهد الله إنه لطعام ... خرّ هيّ يغازل الحسناء
قال الأستاذ فكلمة (خرهي) بالخاء لا توجد في العربية وليست من المعرب ولا الدخيل(38/31)
فقلبتها على صور شتى من (خزهى) إلى (حرهى) إلى (جزهى) إلى (حرهى) وهلم جرا وصرت أراجع المعاجم فلم توافق قط صورة من هذه الصور صحة المعني إلى أن اهتديت إلى أنها (جرهى) نسبة إلى (جرهة) وهي البلحات وما أشبهها في قمع واحد ولا شك أن الموز كذلك، ثم أن مغازلة الموز الحسناء لا معنى له فيشبه أن تكون كلمة (يغازل) محرفة عن (يماثل) بظهور المماثلة بين الموز والحسناء في العذوبة والحلاوة وحسن اللون ولين الملمس وما أشبه ذلك، فصار البيت بعد هذا التصحيح.
يشهد الله أنه لطعام ... جرهى يماثل الحسناء
فأنت تراه هنا قد تعسف تعسفاً شديداً حتى عمى الأمر على القارئ وأدجنت سماء البيت مع أن البيت في أصله صحيح وكل ما هنالك أن الميم خرجت في الخط مخرج الهاء وصواب الكلمة - خرّمى يغازل الحسناء - والخرمية نسبة إلى بابك الخرمى الخارجي المشهور الذي قتل بعد ولادة ابن الرومي بقليل وهي كلمة فارسية معناها الفرح والسرور ويسمون نحلتهم لذلك دين الفرح، وقد لقيت الدولة العباسية من هذا الرجل عننا، وهم يبيحون النساء قاطبة لا فرق ثمة بين الأم والأخت والبنت، وتلك نزعة مجوسية وهي منشأ مذهبهم، فشبه ابن الرومي الموز بأنه طعام خرمى يستهوي الحسان ولا يتحرج من إثم شأن تلك الطائفة لأنه عند الشاعر من الفرح والسرور حتى عدا الظفر به فوزاً وعد فوته موتاً كما ذكر ذلك في هذه القصيدة وفيها من المبالغات شيء كثير، ألا ترى أن الشاعر قال (يشهد الله أنه لطعام الخ) فلم يشهد الله على أنه كذلك لولا أن الأمر أكبر من أن يكون وصفاً ساذجاً طبيعياً (جرهياً). . . . ولا يخفى أن تلك العبارة لا تقال إلا في الأمور العظيمة من حلال وحرام، وعندنا أن ابن الرومي قصد من الخرمية معنى أبعد من ذلك وأدق في الوصف وأبلغ في الإشارة وأشبه بابن الرومي الذي يحوم كثيراً في شعره حول الحاسة الجنسية ومتعلقاتها، وذلك المعنى يتعلق بصفة الموزة في شكلها وخلقتها. . . . وهذا من خبث ابن الرومي وفحشه وكم له من مثلها وأقبح منها تلميحاً وتصريحاً.
(وبعد) فإنا نكتفي بهذا الآن ولا بد لنا إن شاء الله من عودة نستقصي فيها هفوات الأستاذ - على أن الديوان خليق بأن يقتني وما على المتأدبين إلا أن يستقلوا بأذهانهم ولا يعتمدوا كثيراً على الشرح في تفهم معنى ابن الرومي - والكتاب يباع بعشرين قرشاً صاغاً وهو(38/32)
يطلب من جميع المكاتب.
3
ديوان رامي
نعرف من الأستاذ أحمد أفندي رامي خريج مدرسة المعلمين الناصرية وأحد أساتذة المدارس الأميرية اليوم شاعراً غزلاً مطبوعاً عذب الروح يأبى إلا أن يكون شاعراً من جميع نواحيه كأنه يجاري العباس بن الأحنف الشاعر الغزل الذي كان كله شعراً وظرفاً وطبعاً يتدفق، وقلباً من قلوب الطبيعة يخفق، فكأن الخنساء عنتهما إذ تقول في أخيها صخر:
جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر
حتى إذا جد الجراء وقد ... لزّت هناك القدر بالقدر
وعلا هتاف الناس أيهما ... قال المجيب هناك لا أدري
برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري
أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر
ومن ثم ترى الشاعر الشاب رامي لا يكاد يتصرف في شيء من معاني الشعر عدا الغزل وما ينظر إلى الغزل كما كان الشاعر الشيخ العباس بن الأحنف وإذا كان بعض النقدة يبهرجون شعر رامي لسهولته ولأنه خلاء من الجزالة والفخامة والعمق والروعة وكثير من المحسنات البيانية فقد كان بعض نقاد الشعر أزمان العباس بن الأحنف يستبردون شعره ولكن شعر ابن الأحنف عاش على الرغم من ذلك وسيعيش ما بقى محب في الأرض، وقد طبع اليوم الشاعر رامي ديوان شعره طبعاً نظيفاً حسناً على ورق جيد وجعل ثمنه خمسة قروش ويطلب من جميع المكاتب.
تصحيح الأغاني - تصحيح لسان العرب
أهدى إلينا أخيراً حضرة الفاضل الشيخ محمد عبد الجواد الأصمعي نسخة من تصحيح الأغاني وأخرى من تصحيح لسان العرب، أما الأول فإن الذين قرأوا كتاب الأغاني سواء أفي النسخة الأميرية أم النسخة الساسية، يعرفون أنه وقع فيه أغلاط مطبعية كثيرة جداً ولاسيما الساسية فرأى الأستاذ الأصمعي أن يطبع تصحيح الشيخ الشنقيطي الذي استدرك(38/33)
به أغلاط النسخة الأميرية ثم زاد الشيخ الأصمعي أن بين مع ذلك هذه الأغلاط عينها في النسخة الساسية - وبقي بعد ذلك ما تفردت به الساسية - وأما تصحيح لسان العرب فهو لحضرة صاحب العزة العالم الفاضل أحمد بك تيمور طبعه كذلك الأستاذ الأصمعي - فخليق بكل من يقتنى لسان العرب والأغاني أن يبادر باقتناء هذه الكتابين، وثمن كل منهما ستة قروش، ويطلبان من صاحبهما الأستاذ الأصمعي بمكتبة حضرة صاحب السعادة أحمد زكي باشا بباب الخلق بالقاهرة.
أغلاط مطبعية
وقع في هذا العدد أغلاط مطبعية يجمل بالقارئ الكريم أن يصححها هكذا، ففي صفحة 60 في أبيات المعري هو الدهر بفتح الراء والصواب ضم الراء وفيها أيضاً وضعت الدال من يعود في السطر الأول والصواب وضعها في أول السطر الثاني لأن في هذه الأبيات تدويراً وفي صفحة 64 فؤادي وصوابها فؤادك وفي صفحة 68 رفع العمل والصواب دفع العمل وفي صفحة 70 بالحذق وصوابها بالحذف وفي صحفة 71 هذه الديوان والصواب هذا الديوان وفي صفحة 72 (في بعض النسخ) لا شاعر إلا شاعر وعلى ذلك ممن نشأ وصوابها على ذلك نشأ وبظهور المماثلة وصوابها لظهور المماثلة.(38/34)
العدد 39 - بتاريخ: 1 - 2 - 1918(/)
رسائل النساء
وخزات الضمير
كلما راجعت في نفسي الماضي وإحداثه، وما جرى على ضفافيه، أحاول جهدي أن أبتعث ضميري من مرقده، وآخذ نفسي بالحكم القاسي والمعتبة الأليمة، ورحت أقول لنفسي ليس لي حق في أن ألمس بكفي الهناء، وأحس متعة السعادة، أنني استرقت الهناء من المجتمع الإنساني استراقاً، واستلبته من الشرائع، واغتصبته من الواجب، لم أكن امرأة وفية شريفة، ها قد مضت أربعة عشر عاماً وأنا أخون زوجي وأخادعه. . .
وكذلك أنطلق أريد نفسي على أن تشمئز وتأنف من نفسي، إذ يتراءى لي أنني إذا استشعرت في ضميري وخزاً، وأحسست في فؤادي تأنيباً، خففت من نكر جريمتي وكفرت قليلاً عن فظاعة إثمي، وكلما تاملت ملياً في وجه زوجي وهو جالس في مقعد كبير، يغيب في قراءة صحيفة الأنباء في دقة وسكون، لا أني أخاطب نفسي قائلة هاك رجلاً طيب القلب، سليم الطوية، ركن إليك وألقى حياته بين يديك، وحمّلَك اسمه، وعهد إليك هناءه وهدوء باله، فماذا صنعت بكل ذلك مدى الأربعة عشر عاماً. . . . ضلة لك، لو علم هذا الرجل الأبله الفؤاد، هذا الموظف الساذج الذي يدأب على كسب حياته وحياتك وحياة طفلتك، هل تظنين اللذائذ والمسرات والمباهج التي نعمت بها وازدهيت ذلك الدهر الطويل تستطيع أن تعدل الآلام التي سيعانيها، لو تهتكت الحجب المسدولة على الحقيقة. . . . .
ولكنه لن يعرف الحقيقة، وإن يعرفها أبد الدهر، لأنه لم يشهد يوماً الرجل الذي من أجله أطرحته، وتوليت عنه، ولكنني أؤمن الآن بأن هدوء زوجي ورقدة باله وسكون نفسه هي التي بعثتني على تأنيب ضميري وزجر خاطري، ولما لم أكن أشعر له بالحب في قلبي، ولا أحس بدني مجتذباً إليه، بل كنت أحمل له تلك العاطفة العادية التي تخلقها الألفة الطويلة، ويثيرها المقام المستمر عن كثب منه، وارتباط المصلحة، وامتزاج العيش، فلم أر له من حق على إلا أن أجعل حياته تجري في ذلك الهدوء الجميل، والسكون العذب وإلا أن أهتم بمصالحه، وأشاركه رعاية شؤونه، وعبثاً حاولت أن أستمسك بعرى الشريعة والفضيلة والواجب، لأن المرأة لا تحس سلطان الإخلاص إلا نحو الرجل الذي تحبه.
هذا ما حدثت به النفس ليلة الأمس، وها أنا اليوم أعرف الجرح الذي تحدثه وخزات(39/1)
الضمير، بل لقد بلغ هذا الجرح من أعشار فؤادي حتى لقد أصبحت لا أدري كيف أعيش بعد اليوم وفي قلبي ذلك السرطان الأليم، ولكن بضع كلمات سقطت من شفتي ابنتي - فتاني اليانعة هيلين ذات الربيع السادس عشر - كانت كافية لكي تنتاشني من حمأة تلك الجريمة التي ارتكبتها. . . .
كنت قد أدبت ابنتي أحسن التأديب، واجتهدت في أن أراعيها وأحضنها أفضل الرعاية والحضانة إذ أردت أن لا أستوجب الملامة أن أكون أمّاً سيئة، وأن كنت زوجاً مرذولة، ولعل قليلات من الفتيات نعمن في الحياة بما نعمت به هيلين على يدي من التهذيب والتأديب والرعاية، حتى لقد كنت إذا جن جنوني في حب لوسيان وذهبت فيه المذاهب، وتابعت النفس مستسلمة، لا ألبث حتى أعود إلى هدوئي وأرجع إلى نفسي، إذا رأيت ابنتي وشغلني شاغل صحتها وهنائها وبهجتها، وكذلك مضيت أرعاها، وهي تكبر وتخرج عن كمها، وتزدهي وتتفتح وردتها، ولقد استخدمت لكي أخدع يقظة عينيها الصافيتين الساجيتين، تينكما العينين الطفلتين الرانيتين، من الحيل والوسائل أكثر مما استخدمت منها لكي أخدع زوجي وأخفي عنه الحقيقة، ولقد كان يلذلي - وأنا الأثيمة الملوثة الروح - أن اعمل على نماء طهر تلك الروح الناصعة البريئة البيضاء الأديم، فما أوشكت تناهز العاشرة حتى نزعتها من أحضاني وأسلمتها إلى حضانة المدرسة في معهد ساكن تحف الفضيلة به، وكانت لا تخرج من المدرسة إلا مرة في كل شهر، وكانت تقيم بيننا في كل عام خمسة عشر يوماً في إجازتها السنوية، ثم تنثني عنا فتشخص إلى الريف لترويح النفس عند جدتها، ولا ريب أن العلاقة بيني وبين لوسيان في خلال تلك الفترة تهن وييبس ثراها، وكنت أبتهج ويطير الفرح بفؤادي إذ أراها تجري إلى النماء عذبة جميلة طاهرة، لا تعرف شيئاً من مناكر الحياة ومفاسدها، ولعل هذا الفرح هو الذي منعني من قبل، وشغلني عن أعرف وخز الضمير ولذعاته. . . . . .
كان على هيلين أن تعود ضحى أمس إلى المعهد وكان بيني وبين لوسيان متعد في مغربه، وأنا لا أنكر أنني قد أدركت الآن الفظاعة الشنعاء وهو أن أخلط في حياتي الأمومة بالخنا ولكنني لم أتألم حتى الآن بل كنت أنظر بغيرة وشغف إلى هيلين، ولو اقتضت الحال أن أضحي كل علاقة بيني وبين لوسيان في سبيلها، لما ونيت أن فعلت، ولكنني إذ كنت أراها(39/2)
في مأمن، لا سوء يبلغ إليها، كنت أعمد إلى عشيقي فأهبط بين ذراعيه في ذهول وجنّة رائعة.
وكان المتعد بيننا أن يرتقب لوسيان حضوري إليه في منزله عند الساعة الثالثة من الأصيل، ولكنني تلقيت ضحى رسالة من رئيسة المعهد تنبئني فيها بأن جدران المدرسة قد دهنت وأن الدهان لم يجف بعد، وأن إجازة البنات قد أطيلت يومين.
فلم تكد تسمع هيلين الخبر حتى رقصت جذلاً، وانكمش فؤادي أنا حيرة وغماً، واسترسلت أهيم في أودية التفكير وشعابه، فخطر لي أولاً أن أكتب إليه أنبئه بأمر هذا الحائل العارض، وكدت أنفذ النية، لولا أن هيلين ظلت طول الصباح بجانبي لا تفارقني، فأجمعت على الصبر واستسلمت للسكوت وجعلت أقول لنفسي، أن لوسيان سيرتقب مطلعي ولن يشك في أنه قد حال حائل بيني وبين ملقاه.
وقد انتظر حقاً ساعة فساعة ونصفاً ثم ساعتين، وإذ ذاك اشتد قلقه إذ كان يعرف دقة احتفاظي بموعده، وقد أنهكت الثمانية أيام التي غاب فيها عن مشاهدتي كل عاطفته، وكان حقاً يحبني أشد الحب، فلم يستطع إذ ذاك صبراً، فخرج من منزله ووثب إلى أول مركبة عرضت له في الطريق وعدا إلى منزلي يطلب رؤيتي.
وكانت وصيفتي لا تعرفه وقد جاءت تنبئني بأن سيداً يلتمس لقائي وهو يقول أنه تاجر نبيذ يريد أن يعرض عليّ ألواناً من خمره وأنبذته وهو يلح في التماس مقابلتي فلم تشأ الوصيفة أن تخالفه فلم يسعني إلا أن أدخل حجرة زوجي، ولما يعد من محل عمله، وظلت هيلين في الحجرة المجاورة تنتظرني.
فلما وقع بصري على لوسيان تصورت الرعب كله وتخيلت الحقيقة مكشوفة مهتوكة الحجاب ووهمت الجريمة مفتضحة متجلية للعيان، فصرخت صرخة مرعبة، وحاول هو أن يهدئ من ثائرة جزعي، ويزيل عني روعي، ومضى يقول: إنني سأنصرف في التو والساعة ولكن نبئيني ماذا أمسكك عن اللقاء ولا أعلم الآن بماذا أجبته، وبماذا حدثته، بل لا أدري إلا أنني صرفته في عجلة وخوف، وعاد هو مطمئن اللب، إذ علم أن لا خطر.
فلما ذهب أويت إلى حجرتي، فحاولت أن أستعيد صوابي وأراجع سكينتي قبل أن أعود إلى هيلين.(39/3)
ولم تسألني هيلين كلمة واحدة عن تاجر النبيذ، ولم أجد لدي من الشجاعة ما يبعثني على القول والكذب إزاء تينكما العينين الزرقاوين النافذتي البصر، ومضى اليوم في سكون دون حادث وعاد زوجي وجلسنا حول المائدة للعشاء، وكان مشرق الوجه، متهلل المعارف، فرحاً برؤية فتاته بجانبه، وكان يظنها قد انطلقت إلى المدرسة.
فما بلغنا من العشاء إلى صحاف النقل والفاكهة، أنشأ يقول وهو يقشر قطعة من الكمثرى: ألم يحضر أحد هذا المساء في غيابي
وإذ ذاك اصفر لوني وتراخت قوتي وأردت الكلام فاحتبست الألفاظ بين شفتي واختنق صوتي فلم أستطع تلفظاً، ولكنني لم ألبث أن أفقت من الغشية على صوت هيلين وهي تقول لأبيها، في أتم الهدوء.
كلا، يا أبت لم يحضر أحد
فنظرت إليها وإذ ذاك تلاقت العينان بالعينين، وإذا بي ألمح عينيها يبتسمان لي، وتبينت فيهما هذا المعنى لا تخشي يا أماه شيئاً إنني معك.
لم يأخذ النوم عيني طوال الليل، ولم يغمض لي جفن، وثار الاشمئزاز بنفسي من نفسي، وعلمت أنني قد عوقبت أشد العقاب، إذ رأيت هذه الطفلة قد حذرت، ولا ريب أنها قد حذرت منذ زمن - عار أمها، وأنها قد تعلمت الخداع أسوة بوالدتها وأجادت الكذب لأجلي، بل أصبحت فيه أمهر مني وأوسع فطنة وحذقاً. . . . .!(39/4)
إلى طلاب الفلسفة
فلسفة التحول وعلاقة الفلسفة بالحياة
خلاصة مبادئ الفيلسوف العصري هنري برجسون
هنري برجسون اسم ذائع الذكر في فرنسا خفاق البنود في مدائن الغرب كله، ولعل القراء قد مروا في مطالعتهم الأنباء البرقية التي وردت في الصحف أخيراً بخبر احتفال الأكاديمية الفرنسية بهذا الرجل، تمجيداً لشأنه، وإكباراً لنبوغه، وهو الآن أستاذ في جامعة فرنسا وعضو في المجمع العلمي، وقد اشتهر اسمه أخيراً في العالم المتحضر ونقلت جميع تواليفه إلى جميع لغات الغرب، وأهم هذه التواليف الثلاثة، وضعها على فترات من الزمن، مستقلة بعضها عن بعض، خص كلاً منها بنظرية قائمة بذاتها، وأول هذه التواليف كتابه الموسوم بعنوان الزمن وحرية الإرادة وهذا المؤلف يرجع تاريخه إلى عام 1888 والثاني المادة والذاكرة وقد كان أول ظهوره عام 1896 وثالثها وأشهرها وأحفلها بالفلسفة الناضجة كتابه التطور المنتج عام 1907 ولعل هذه هي رؤوس كتبه، لأن ما جاء بعدها لم يأت بشيء جديد، بل كان شرحاً لنظريات الفيلسوف وتوسعاً في بيان دقائقها والمستغلق المستعصي على أذهان الناس منها.
ونحن المصريين الذين نريد أن نؤلف لنا مجموعة جديدة من الآداب، ونحدث نهضة عصرية في الفكر والفلسفة، خلقاء بأن نشارك الغرب في اهتمامهم بنظريات هذا الفيلسوف وآرائه لأنها تفتح مغاليق الذهن، وتكشف ما استسر من حقائق الحياة ومكنونات هذا الكون ولهذا رأينا أن نشرح للجمهور المهذب شيئاً من مبادئ هذا الفيلسوف ونلخص أساس قواعده الفلسفية كلما رأينا الزمن لذلك مواتياً، والفرص مطاوعة، ونحن الآن بادئون الشرح ليكون عوناً لطلاب التعمق في الدرس، وسبيلاً موطئة للذين يريدون أن يمعنوا في بحث حقائق هذه الفلسفة الجديدة.
لعل أكبر ما لفت أذهان الناس إلى فلسفة برجسون هي سهولة الحقائق التي بنيت عليها، وبساطة العناصر الأولية التي تألفت منها، على أن أكبر المكتشفات العلمية كانت بسيطة للغاية في مصدرها وأصلها التي تفرعت عنه، وليست الدهشة التي تعتري العالم عند وثوب المكتشف إليهم بها هي تساؤلهم كيف تأخرت الإنسانية كل هذا الزمن عن الاهتداء إليها، بل لعل تلك المكتشفات كانت مختفية في طي حقيقة ظاهرة للعيان، يلمسها الناس كل(39/5)
يوم، ولكنهم لا يفهمون كنهها حتى يحين الوقت لظهورها فيعثر عليها ذهن من الأذهان الحاضرة البديهة فيعلنها للناس.
نقول أن فلسفة برجسون سهلة للغاية ولا تحتاج إلى كبير عناء في تفهمها، والسبيل الأول لإدراكها هو أن نعلم أننا إذا أردنا أن نفهم حقائق الكون فعلينا أولاً أن نفهم معنى الحياة وهذا هو الذي يميز فلسفة برجسون عن جميع المبادئ الفلسفية القديمة والحديثة والمعاصرة لأن الذهن أو العقل إنما وجد لخدمة أغراض هذه الحركة المستمرة التي نسميها الحياة وكذلك وجد العلم لأجل الحياة، ولم توجد الحياة لأجل العلم، ولسنا نستطيع سبيلاً إلى فهم أسرار المعلوم والمجهول بعقولنا كما يقول الإيدياليون أو طلاب الكمال الإنساني ولا في العالم الخارجي الذي يحوطنا كما يقول الطبيعيون ولكن سبيلنا إلى فهم تلك الأسرار هي الحياة.
إن برجسون يعتقد أن أكبر واجبات الفلسفة هو أن تفعل ما لا يستطيعه العلم الطبيعي، وهو فهم الحياة، فإن تحول الحياة الذي لا ينقطع وتطور حركاتها ومظاهرها هو الذي بعث العقل إلى معرفة الجامدات وجعل لهذه الجامدات أو إن شئت فقل المادة مظهر الوجود الجامد الباقي على حالته في الكون ولكن الكون ليس مادة جامدة ولا عقلاً حياً مفكراً، ولكن تطوراً منتجاً متحولاً.
ويلوح لنا كأن هناك حركة دائمة تدفعنا جميعاً في تيارها الجارف، ومعنى الوجود هو الاندفاع مع ذلك التيار كاندفاع الشيء فوق صدر الأمواج فإن الحاضر وهو الذي يضم بين جوانبه جميع سلسلة الوجود هو نفس هذه الحركة وهي سائرة في طريق إتمام نفسها، وهو أي الحاضر يضم الماضي في طيه ويسير به معه، منطلقاً إلى المستقبل وهذا المستقبل لا يلبث أن يكون حاضراً، وهذا هو الحياة، أي هي تحول مستمر لا انقطاع له يحتفظ بالماضي وينشئ المستقبل.
والصعوبة في فهم هذه الصورة هي كيف يمكن أن يكون هناك حركة مطلقة وتحول مطلق وصيرورة مطلقة، إذ لا بد أن يكون هناك غرض باعث يحرك ويحول ويصير، ولا بد أن يكون هذا أكثر حقيقة من الحركة نفسها، وهي - أي الحركة - ليست إلا تحولاً عن مكانه، وأكثر حقيقة كذلك من صيرورته، وهذه ليست إلا تحولاً عن صورته، وهذه الصعوبة هي(39/6)
لب الأمر وهي أكبر دقائقه، وهي ليست الصعوبة التي يجدها علماء المادة وعلماء الروح فيما إذا كانت طبيعة الوجود مادية أو روحانية، ولكن الفكرة الاعتيادية التي نذهب إليها هو أن الدليل على وجود الأشياء في الحقيقة، هو كونها أشياء جامدة ثابتة في الفضاء، وهذا هو المبدأ الأول في العلوم الطبيعية، وكذلك يعتقد العلم الطبيعي أن الزمن ليس جزءاً من الجامدات، فنحن عند ما نرى أي شيء عادي من الجامدات الأولية - كالماء والهواء والبلورة والمعدن - نعتقد أن للزمن أي جزء في حقيقتها، لأنه مهما تعرض لها أي تغير، فلا تزال في ماديتها على حالها، فإن الماء إذا حللناه إلى عناصره، فإن ذلك يستغرق شيئاً من الزمن ولكن جوهر هذا الماء لم يتغير ولم يتحول فإن الغازات التي يتألف منها الماء منها لا تزال موجودة، ومن المستطاع إعادة تركيبها وتأليفها، ونحن بلا ريب لا نستطيع أن نتصور الأشياء خارجة منفصلة عن الزمن ولكن هذا لا يستلزم أن يكون الزمن لازماً لوجود الكائنات وعليه فليس الزمن إلا صورة من صور الوجود، ومن هذه الصورة نعرف الأشياء ولكن الزمن كانت ضعف ما هي الآن، فإن ذلك لم يكن ليحدث أي تغيير في جوهر الكائنات.
وليس هناك مقياس محسوس نستطيع به مقياس تيار الزمن وكل هذه المقاييس الزمنية كدوران الأرض حول محورها ودورانها حول الشمس أو حركات بندول الساعة ليست إلا مقاييس نسبية ولوظلت نسب الزمن ثابتة إزاء بعضها البعض فإن أي تغيير في سرعة الزمن، لا يحدث أي فرق أو أثر في جواهر الكائنات.
على أننا نجد الزمن بالنسبة إلى الكائنات الحية هو جوهر حياتها وكل معنى وجودها إذ للكائنات الحية مقياس زمني يقاس بنفس المقاييس النسبية التي نحدد بها الأطوار المتتابعة التي تمر بالكائنات الجامدة وهذا هو الذي يخطر بأذهاننا عندما نتكلم عن حياتنا المسرعة الذاهبة ونفكر في الأشياء التي تبقى بعدنا إذ يلوح لنا أن الحياة مؤلفة من أدوار معينة محدودة هي الطفولة والصبا والشباب والكهولة والشيخوخة، وهذه الأدوار هي التي نمر بها ونتصور أن لكل دور منها مدة يبقى فيها ثابتاً على حاله ثم بعد ذلك يبتدئ في التحول والتغير، ولكن التحول إنما هو مستمر في كل دور منها وليست هذه الأدوار إلا المنظر الظاهري للحياة، والجسم هو الذي يساعدنا على رؤية هذا المنظر لأن جسمنا هو كائن من(39/7)
الفضاء ولذلك نراه في هذا الشكل الظاهري، ولكن الحياة نفسها إذا نحن شهدناها من باطنها، من المركز الذي نشغله نحوها وهو أننا نحن والحياة شيء واحد لا تزال هي الزمن، فالحياة إذن هي تيار متدفع، هي تحول حقيقي وحركة مستمرة مطردة لا انقطاع لها، والكائن الحي هو كائن يبقى متحولاً متغيراً بلا ونى ولا فتور، ولا يظل مطلقاً على حاله.
ومن هذا نستنتج أن هناك صيغتين للزمن، إحداهما هي أن الزمن لا يحدث تأثيراً في جوهر الكائنات وثانيتهما هي أنه الجوهر نفسه وهذا يؤدي بنا إلى سؤال ذي وجهين، وهذا السؤال هو ما هو الجوهر، ومعنى ذلك ما هو الذي يوجد ويبقى بلا تحول، أو ما هو الذي يوجد وهو متغير متحول، والفرق بين هذين هو الفرق بين الكائنات الجامدة والكائنات الحية، فالزمن من ناحية الأولى لا أثر له وهو من ناحية الثانية كل الأثر.
ومن هنا نخرج إلى سؤال آخر وهو - هل الجوهر المختفي وراء كل هذه الظواهر مادة لا تتغير ولا تتحول أم هو كائن حي كل وجوده هو الزمن، والجواب الذي يجب أن تقوله الفلسفة هو أن الزمن هو جوهر تتألف منه الكائنات، ولكن العلم الطبيعي يختص بوجه واحد منه محدود ضيق الدائرة وهو المادة التي لا تتغير ولا تتطور، والعلم الطبيعي لا يدرك الحياة ولا يبحث في أسرارها، ولكن الشاغل الأكبر للفلسفة هو الحياة. . . .
هذا هو أساس فلسفة برجسون وهو كالتمهيد لما سنأخذ في شرحه من فلسفة هذا الفيلسوف مذ العدد القادم.(39/8)
جنون الإنسانية
لم تكن الإنسانية يوماً من الأيام، من أبعد حدود التاريخ إلى عهد هذا الكوكب الأرضي بما يدعونه الحضارة، عاقلة رزينة سليمة الذهن، بل لقد ظل الوحش المفترس الذي درج مع الإنسان الأول في يوم واحد، يجري في عروق هذا الإنسان ويسري في دمه، ولقد ظلت الإنسانية في جنة حتى انتهت إلى هذا الجنون الأكبر الذي يعانيه المجتمع منذ أربعة أعوام أو نحو منها، وقد بدت جنة الإنسان في سلسلة طولى من الحماقات والتطرفات، دوّنها بيده في التاريخ وأبى إلا أن يلبسها ثوباً طلياً مفوفا حتى تبدو للأجيال المنحدرة إلى المستقبل مفاخر وفعالاً جساماً رائعة، وقد وثب في القرون الماضية عدة من العظماء والقواد والمنارات العليا فحاولوا هداية الناس واجتهدوا في أن يكونوا قدوة ومثالاً للإنسانية، ولكن نجاحهم لم يلبث أن ذهب، وعاد الناس بعدهم يتابعون ضروباً متعددة من الحماقات والجنات، والرغبة الأولى التي يلتمسونها في الحياة هي أن يطأ القوي هامة الضعيف ويسبح الجميع في أنهار من الدماء ويمشون في سوح من المجزرة.
وقد دأب الفلاسفة والمفكرون والكتاب منذ القدم على البحث في العلاج الناجع للإنسانية والأشفية المؤكدة، وانطلقوا يلتمسون الحاجة الكبرى لصلاح الناس، والذهاب بعنصر الشر والجريمة في الأرض، فذهب كل منهم مذهباً، وتضاربت الآراء، وتزاحمت النظريات، فلم يسع الإنسانية المريضة إلا أن تضحك من أطبائها وأساتها وتهزأ بهذا التناقض والتعارض على مقربة من سرير العليل، فلم تلبث أن طرحتها جانباً ومضت في سبيلها تجري وراء نزعة نفسانية مجنونة، هي نزعة القتل الاجتماعي، وإبادة الملايين من النفوس لينعم بالحياة ملايين مثلهم.
والآن ما هي الحاجة الكبرى لصلاح الإنسانية، وما هو المطلب الواجب لكي يثير في الإنسان السمو والنزعة إلى الخير، ويطهر القلوب من جنة الأنانية، ويبعثهم على التماسك والفعال النبيلة السامية، وجواب ذلك كلمة واحدة، وحقيقة بسيطة في صميمها، تصرخ أبداً في أذهاننا وتطالعنا في وجوهنا، ولكن الإنسانية لم تستطع الاهتداء إليها في العهود الذاهبة من التاريخ، وهذه الكلمة هي السلامة، ونعني بها سلامة العقل والجسم، وهذه السلامة هي التي توحي إلى الناس أنه ينبغي عليهم أن يطيعوا قوانين الله وشرائعه وإلا كان نصيبهم الدمار والانقراض.(39/9)
ويجب أن تكون سلامة العقل والجسم هي القانون الأول الذي ينبغي أن يسود في مناحي الحياة وأصولها الأولية، فينبغي أن تسود في الزواج وفي العلم والدين والتربية.
ونحن نعلم أن الزواج الحاضر في الإنسانية لا يقوم على قاعدة صحيحة، ولا ينهض على شيء من الشروط الهامة لاتفاق روحين على تكوين أرواح أخرى، وكثيراً ما كان الزواج في الإنسانية الحاضرة هو سلسلة جرائم وجنايات نكراء وهو الذي جعل العالم حافلاً بالمجانين والمرضى والمشوهين والضعفاء، لأن هناك قواعد بينة في الصحة أغفلها الناس وأنكروها ورضوا بأن تكون عقود الزواج هي الشرط الأول فقط لصحته ونسوا النظر إلى الزواج من الوجهة الصحية والنفسانية، وذلك اتباعاً للرياء الاجتماعي الذي نحمله في كل فروع الحياة، وللتقاليد التي لا نستطيع انحرافاً عنها، ولو استبان باطلها ووضح فسادها، بل لعل كثيرين من قواد هذه الحرب المدهشة إنما اندفعوا وراء لوثتهم هذه من أثر نزعة مجنونة استحرت في أذهانهم وورثوها من زواج لم تراع فيه القواعد الصحية، وأمراض عصبية أصابتهم من الإصلاب التي انحدروا منها، فإذا كانت الإنسانية تريد أن تكون شعوباً عاقلة وحكاماً وملوكاً وقواداً عقلاء سليمي النفوس فيجب أن تعمل على أن تحتفظ بالنظام والتعقل في تربية الأطفال وتهذيبهم، وتسير على قوانين الصحة والشروط الواجبة لتربية الذهن والأعصاب، لأن كل جريمة ليست إلا نزعة من نزعات الجنون ولا يرتضي أي عقل منظم سليم أن يتصور قتل نفس زكية واحدة فضلاً عن حصد ملايين من النفوس.
ولقد رأينا جمعاً من سادة العلم توفروا على ابتكار الأساليب المتعددة من المخترعات ومتابعة قوانين الطبيعة إلى أبعد حدودها لإنقاذ الحياة الإنسانية من ويلات المرض والضعف والمهلكات، ولكنا لا نزال نرى الفريق المجنون من العلماء يحشدون كل ذكائهم وكفاءاتهم للوصول إلى ابتكار وسائل جديدة من أسلحة الحرب لإبادة الحياة والصحف اليوم في دول الغرب المسهمة في المجزرة تصيح اليوم جازعة من قلة عدد المواليد ولعل هذه الصرخة الجازعة أنكر ما وصل إلى المسمع من المناقضات المخيفة الأليمة لأن الدعوة إلى إخراج جموع من القطع الإنسانية الصغيرة في الوقت الذي يدأب الناس فيه على إخراج جموع كبرى من المدافع والمهلكات ليست إلا إهانة عظيمة للأمهات المحزونات والثكالى الحادات، إذ لماذا يجب أن تلد الأمهات وتربي الوالدات، لكي يلقى أبناؤهن منونهم(39/10)
إطاعة للحكومات، واستماعاً إلى نداء السياسات والوزارات، بل إن دعوة مثل هذه ليست إلا دليلاً على جنون مرعب ورغبة شديدة في الهدم والقتل لا تصدر عن عقل منظم سليم.
والآن نحن آخذون في الوجه الثالث الذي أكسب الناس الجنون فأعماهم عن سلطانه، ونعني به الدين، فقد ظلت الأديان والنبيون والقديسون وأهل الخير يصيحون بالناس ويدعونهم إلى الوئام والتحاب والسكينة ولكن الشرائع السماوية والتعاليم الدينية لم تستطع شيئاً لتطهير النفوس من أثر الحيوانية والعواطف الشريرة الراسخة العرق في أعشار القلوب، وأصبح كثيرون ممن رزقوا سعة العقل، وشيئاً من الذكاء المتقد، والفطنة الوثابة، يذهبون في سبل طويلة من العقائد الملحدة، وينكرون القوى الإلهية التي تحرك الكون، ويعدون ذهنهم - وهو هذه الصندوقة الصغيرة المحدودة - مركز الكون كله، ولعل الحاد الأذكياء والقواد والأبطال باعث من البواعث الأولى التي خلقت هذه الحرب، فقد خرجوا عن العقائد المقررة الصحيحة إلى اعتناق دين القوة، وعبادة الأنانية، وأصبح جمع كبير من العلماء ينشرون في العالم جملة من النظريات الطبيعية والفلسفات العقلية التي لا تؤمن إلا بالمحسوس وما يستطيع العقل الإنساني أن يتناوله، فانطلق وراءهم كثيرون يدينون بعقائدهم، ويسلمون أنفسهم إلى الوساوس والنزعات التي سداها ولحمتها الأثرة والسمو على كثبان من الجثث الإنسانية، وقد فقد أهل الدين في المجتمع اليوم سلطانهم الأول، وأصبحوا لا يستطيعون مناهضة الأفكار الجديدة الشريرة التي طحت بالناس وأفسدت أذهانهم، ولكن قبول الدين والانصياع إلى القوانين والتعاليم التي جاءت بها الأديان ليس إلا أكبر وسيلة لإمساك النفوس عن غيها وقمع النزعات الشريرة فيها.
وقد سرى هذا الفساد إلى الخلق، لأن النزعات الشريرة تؤثر في الخلق كما يتأثر الجهاز الهضمي والمزاج العصبي بطعام غير صالح أو غذاء سيء ولهذا كان الطفل بحاجة إلى الرقابة والرعاية في الأحوال الأولى من سنه لأن الأطفال يأخذون عما يرونه من أفعال آبائهم والقائمين على تعهدهم بالتربية، وكل والد قلق الروح سريع الغضب يخرج أولاداً حمقى غير مكترثين، وأبناء ساخرين هازئين، لأن الأطفال من شأنهم الضحك من آبائهم إذ يرونهم محتدين غاضبين، ويسخرون من إشفاق أمهاتهم وخوفهن وقلقهن، فلا تزال عاطفة السخرية تنمو فيهم كلما شبوا عن الطوق حتى تنشئ منهم ناساً أشراراً مخوفين في المجتمع(39/11)
يضحكون ويبتهجون لآلام غيرهم ويتلهون بنكبات سواهم.
فإذا كنا نريد أن نقتل روح الجرائم، فلنأخذ بالأساليب الصحية في تربية الأبناء والاحتفاظ بخلقهم والبيئة التي يعيشون فيها.(39/12)
صور هزلية
من أخلاق الناس
عم سرور
لي الشرف بأن أقدم إلى القراء صورة رجل يأكل ويشرب ويمشي على قدمين ويخاطب الناس، ويجلس في مجالسهم، ولكنه لا يعيش ولا يحس بالحياة، ولا يعرف من علم الجغرافيا إلا القطعة الصغيرة من الأرض التي تحوط مسكنه، ولا يعلم من التاريخ إلا أن صوت معدته يستصرخه إلى طعام الإفطار وأكلة الظهر ووجبة العشاء ولعل حياته التي عاشها إلى الآن لم تكن إلا صورة حقيقية لمبحث الجولان في النوم وهو لهذا يستطيع أن يزوغ من الحساب في الآخرة لأنه كان في الحياة الدنيا في الإجازة ولا أظن أن يديه ورجليه ستعرف كيف تؤدي الشهادة عليه، وهو لم يكلفها عملاً، ولم يلتمس إليها سعياً ولا شغلاً، وقد لا يكفي نشادر الجنة لإيقاظ هذه الروح من ضجعتها الدنيوية الطويلة، وآخر ما يمكن أن يصنع لأجله هو أن يلقى في نهر من أنهار الخمر فلعله مستفيق من ذلك الرحيق الإلهي العذب.
هذا الرجل، بل مادة النوم التي يتوزع عنها أسلاك النعاس إلى أجفان الإنسانية أو مندوب أهل الكهف في هذا العصر، أو شركة النوم والبلاهة ليمتد هو - ولي الشرف - عم سرور: بواب منزلنا سابقاً، والمدير الفني في حفلات الدلوكة الآن.
وسيعجب القراء وتتولاهم الدهشة الكبرى أن يكون هذا الطيف الإنساني بواباً وأن يلقى إليه أمر الحراسة، وأن يستأمن على الأبواب والأمتعة والأرواح، وسيذهب القراء مذاهب كثيرة في التأويل والحدس والتخمين، حتى ينتهوا إلى أن أهل البيت ولا ريب يشاركون بوابهم في ذهوله وغفلته وبلاهة فؤاده، ولكنهم لن يصلوا إلى الحقيقة وهي أن البيت والحمد لله لا يحتوي من النفائس ما يعد خليقاً بالسرقة، وأن ليس على الأرواح ضير من اللصوص، لأن اللصوص لا يخطفون الأرواح إلا إذا حالت دون سرقة المتاع.
وقد كان عم سرور مع ذلك المثل الأعلى للبوابين، وكان حارساً أميناً يحكى الكلب وفاء وحفاظاً، ولكنه لا ينبح اللصوص وإنما يغط في وجوههم، وقد بلغ من عنايته بحراسة الباب أنه في الأيام الأولى من عهده بخدمتنا لم يكن يعرفني ولم يكن قد استوثق بعد مني -(39/13)
ولعله إلى الآن خالي الذهن من ناحيتي - فاتفق ذات ليلة أن تأخرت في مجلس سمر مع صحابتي فجثت في موهن من الليل أدق الباب، فخرج عليّ من البيت غاضباً متجهماً وطلب إليّ تحقيق شخصيتي، وعبثاً حاولت أن أبين له أنني من أهل البيت وأسمي له أفراد الأسرة بأعيانهم، وطفقت ألتمس إليه أن يأخذ قولي صدقاً، ويجيز لي الطريق، ويغني عني الوقوف طويلاً في قرة الليل، ويشفق على أن تصيبني وعكة من أثر برد الشتاء، فلم تكن توسلاتي وضراعاتي لتزحزحه عن فكرته الراسخة في ذهنه وهو أنني رجل غريب جئت لمأرب شرير في قرارة نفسي، ولو لم أستصرخ أهل البيت في تلك الهدأة وأثير الجيران من المضاجع وأعدو إلى أقرب شرطي من الناحية استعديه على عم سرور، إذن لأصبحت الغداة واقفاً بالباب أحمل الزمهرير في فؤادي.
ولكني عمدت بعد ذلك إلى اتخاذ الحيطة لنفسي حتى لا أقع في مناورة كتلك معه فاعتدت إذا خرجت في الأصيل أن أذهب إليه وهو جالس عند الباب مهوماً في محضر من الملائكة، فأنهضه من مكانه وأنظر له ملياً في وجهه، وألتمس إليه أن لا ينساني وأتضرع إليه أن يتذكر معارف وجهي وتضاعيف صوتي ولهجتي ولم تكن هذه الوسيلة لتبعثني على الطمأنينة، فاجتهدت في أن أحمل دائماً في جيبي شهادة ميلادي وبطاقتي، مخافة أن يكون الشرطي حديث العهد بالناحية فأروح ضحية جهل الشرطي وأمانة عم سرور، وأبيت في الطريق مقروراً حتى يتنفس الصبح.
ولما ظهرت تلك البراعة منه في أمر الحراسة، أردنا أن نبتذله في الخدمة، فكان فيها القدوة المثلى والمثال المحتذى، إذ بلغ من ذكائه أنه كان لا يعرف كم قرش تحتويه القطعة ذات الخمس، وكان يكرهنا إذا أردنا أن نرسله في شراء حاجتين معاً على أن لا نعطيه ثمنهما إلا قروشاً، ونضع ثمن واحدة منهما في يد من يديه، وقيمة الثانية في اليد الأخرى، ونشيعه حتى السلم تذكيراً، ونستحلفه إلا ما أفاق قليلاً، ونجلس ندعو الله أن يعيده سالماً ويرده إلينا بالطلبتين آمناً، ولكنا لا نلبث أن نراه طالعاً علينا بشربة من الملح الانكليزي، وكنا سألناه شراء ملح من ملح الطعام، أو ورقة من البن وكنا طلبنا إليه ابتياع شيء من البندق، وكذلك طفق يشتري لنا الأشياء التي تلوح له في حلمه أو التي توحي إليه نفسه أنها أفضل لنا من سواها، وكذلك جعلنا نخسر كثيراً من المال بسببه، فكأنه كان يعارض أمانته في الحراسة(39/14)
بهذه الخيانة النومية في الخدمة، ولكنا رأينا لهذه النقيصة مع ذلك شيئاً من الفضل، فقد وجدنا لدينا بعد زمن قليل مدخراً من المآكل والحاجيات كنا نريد أن نتناساها ونغفل أمر خزنها ن مكرهين على ذلك بدافع الاقتصاد الذي أكرهتنا الحرب على مراعاته.
على أن هذه لم تكن وحدها الخسائر التي لحقت بنا من هذه الذاكرة الزنجية فقد كان لدينا طابق من طباق البيت ظل زمناً لم يستأجره أحد وقد بقي إلى الآن بلا مستأجر، والفضل أو النكبة في ذلك تعود إلى العم سرور فقد حاولنا ألف مرة أن نوصيه أشد الوصاة أن يقول لطلاب الإيجار أن إيجار الشقة لا يقل عن جنيهين ونصف جنيه، ولكنه كان ينسى ذلك في كل مرة يعرض فيها للطابق مستأجر، فلا يفتح الله عليه بما يقوله للمستأجرين إلا أن الإيجار هو جنيه ونصف وقد كان الطابق لا يساوي حقاً إلا هذا القدر فكأنما وضع عم سرور له الأجرة العدل الواجبة، فلم يسع المستأجرين إلا أن يأخذوا بقوله ويسخروا من أقوال أصحاب البيت، فظللنا في خلاف وعم سرور، مصرين نحن على ما قدرنا، ومصراً هو على ما قدر - وكذلك ظلت الشقة بدون إيجار حتى اليوم.
ورأى عم سرور بعد حين الرغيف الذي يقدم إليه في جلسات الطعام يصغر شيئاً فشيئاً ويتضاءل حيناً فحيناً ولم يكن قد سمع بالحرب ولا يعرف في أي قطعة من الأرض تشتعل هذه الحرب وتنتشب، لأنه لا يدري أن وراءه الحارة عالماً خارجياً، ودولاً عظمى هي السبب الأكبر في صغر حجم رغيفه، فشكا إلينا الأمر وسألنا الباعث والداعي فلما أنبأناه بأن الحرب قائمة وأن الإنسانية تتنازع وتتقاتل، لم يدرك من كل ذلك شيئاً وحسبها شجاراً في الدرب الأحمر ولما لم ير صلاحاً لحجم رغيفه أفلت من البيت هارباً.
تلك هي صورة من صور الفضيلة البلهاء النائمة، وقد يستعذبها كثيرون ويستثمرونها ولكني أؤثر عليها ذكاء مشتعلاً شريراً يأتي بالإثم والضر، لأني لا أنسى ألم وقوفي بالباب الساعات الطوال في صميم الشتاء بفضل تلك الفضيلة السلبية الناعسة. . . . . . .
عباس حافظ(39/15)
مختارات
للمعرّي في لزومياته:
رويدك قد غررت وأنت حر ... بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحاً ... ويشربها على عمدٍ مساء
يقول لكم غدوت بلا كساء ... وفي لذاتها رهن الكساء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهي ... فمن جهتين لا جهة أساء
وله هي الراح أهلاً لطول الهجاء ... وإن خصها معشر بالمدح
قبيح بمن عدّ بعض البحار ... تغريقه نفسه في قدح
وله إذا نال فيك الناس مالا تحبه ... فصبراً يفيء ودّ العدوّ إليكا
وقد نطقوا ميناً على الله وافتروا ... فما لهم لا يفترون عليكا
وللمتنبي:
وجدت المدامة غلابة ... تهيج للقلب أشواقه
تسيء من المرء تأديبه ... ولكن تحسّن أخلاقه
وأنفس ما للفتى لبّه ... وذو اللب يكره إنفاقه
وله إلف هذا الهواء أوقع ... في الأنفس إن الحمام مر المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق
الحزن على الفراق لا يكون إلا بعد الموت وذلك لا يمكن وله ولا تحسبن المجد زقاً
يقول: لا يجمل بالمرء أن يحزن للموت لأنه لا معنى للحزن قبل فراق الروح إذ هو عجز وقينة=فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتركك في الدنيا دويّاً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
ولأبي تمام في الخمر:
وكأس كمعسول الأماني شربتها ... ولكنها أجلت وقد شربت عقلي
إذا هي دبّت في الفتى خال جسمه ... لما دبّ فيه قريةً من قرى النمل
وللبحتري:
أترى حبي لسعدى قاتلي ... وإذا ما أفرط الحب قتل
خطرت في النوم منها خطرة ... خطرة البرق بدا ثم اضمحل(39/16)
زمن تلعب بي أحداثه ... لعب النكباء بالرمح الخطل
نطلب الأكثر في الدنيا وقد ... نبلغ الحاجة فيها بالأقل
أخلق الناس الأخيرون كأن ... لم ينبوا جدة الناس الأول
ولقد يكثر من إعوازه ... رجل رضاه من ألف رجل
كأبي جعفر الطائيّ إذ ... يتمادى معطياً حتى يمل
وادع يلعب بالدهر إذا ... جدّ في أكرومةٍ قلت هزل
ذلّل الحلم لنا جانبه ... وإذا عزّ كريم الناس ذل
رابئ يرتقب العليا متى ... أمكنته فرصة المجد اهتبل
وأرى الجود نشاطاً يعترى ... سادة الأقوام والبخل كسل
ولابن المعتز:
كن جاهلاً أو فتجاهل تفز ... للجهل في ذا الدهر جاه عريض
والعقل محروم يرى ما يرى ... كما ترى الوارث عين المريض
كلمات حكيمة
قال بعض الحكماء: إذا أقبلت الدولة خدمت الشهوات العقول وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات، وقال: لا تحقرن صغيراً يحتمل الزيادة، وقال: لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده فإن الناس ليس يسألون في كم فرغ من هذا العمل وإنما يسألون عن جودته، وقال: إذا أنكرت من أحد شيء فلا تطرحه وأجل فكرك في جميع أخلاقه فلكل شخص موهبة من الله عز وجل لا يخلو منها، وقال: اتقوا صولة الكريم إذا جاع وبطر اللئيم إذا شبع.
صلحة
كان أبو الشمقمق الشاعر أديباً ظريفاً مفلوكاً وكان قد لزم بيته في أطمار مسحوقه وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج فنظر من فرج الباب فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه فأقبل إليه بعض إخوانه فدخل عليه فلما رأى سوء حاله قال له ابشر أبا الشمقمق فإنا روينا في بعض الحديث إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة قال إذا كان والله ما تقول حقاً لأكونن بزازاً يوم القيامة.(39/17)
باب النقد
ديوان ابن الرومي
ما كاد عدد البيان الذي نبهنا فيه إلى شرح هذا الديوان ينتهي إلى الأدباء حتى تتابعت إلينا كتبهم ورسائلهم يستزيدوننا فيها من القول ويسألوننا يسط الكلام عن معاني الشاعر وإصلاح ما زل فيه قلم الشارح الجليل، فتناولنا الكتاب ولم نكد نتصفح جانباً قليلاً منه حتى سئمت النفس وفتر النشاط وكاد القلم يترضض من كثرة ما عثرنا به ومن كثرة ما فتح لنا الشارح من الحفر. . .
ونحن مبينون شيئاً مما استدركناه على أن نتجاوز عن الهفوات الصغيرة وما إليها من الهنات التي يمكن تأويلها والتمحل في مناقشتها والمماراة فيها، ونترك ما وراء ذلك من سائر الكتاب لمن عساه يتفرغ له من الأدباء وأهل الاطلاع فإن وقتنا وصبرنا كلاهما لا يتسع لما بقى والله أعلم به كم هو وما هو؟
قال ابن الرومي ص 6
وجاهل أعرضت عن جهله ... حتى شكا كفى عن الشكوى
قال الشارح: أي ورب سفيه صددت عن سفهه ولم أشكه حتى شكى امتناعي عن أن أشكوه: وليس كذلك المعنى، إنما يريد الشاعر أنه أعرض عن جهل هذا الجاهل فلم يجبه ولم يأبه له ولا تألم لهجائه فصار عدم تألمه لذلك السفيه ألماً وهذا معني مشهور وهو الذي أراده بشار بن برد حين قال - هجوت جريراً في حداثتي فلم يجبني ولو أجابني لكنت أشعر العرب. (وفي صفحة 7)
إن من السلوى لخيلولة ... توهمني البلوى به بلوى
قال الشارح: السلوى ما يسلى الإنسان ويصرف عنه همومه ثم قال في معنى البيت إن مما يزيل عني الكدر في أمره أني ظننت أنه بلوى حقيقية فإذا أنا واهم وهو تفسير مضطرب كما ترى وصواب البيت (إن من البلوى لخيولة) يريد الشاعر أنه لو توهم أن ابتلاءه بهذا الجاهل مما يصح أن يعد في البلاء لكانت هذه الخيلولة هي البلوى على الحقيقة لأن الرجل سفلة مستهلك لا يقام له وزن ولو على الظن (وقال ابن الرومي صفحة 8)
وما فاته في الصوم فطر لأنه ... مدارس علم والدارس غذاء(39/18)
ولا فاته في الفطر صوم لأنه ... مواصل صوم عقبتاه سواء
قال الشارح: المعنى أنه لا يقطع الصوم في غير رمضان وكل نوبة من صومه مماثلة للنوبة الأخرى. . . قلنا فكأن الرجل صائم الدهر مواصل في صومه فإذا كان كذلك فما مماثلة كل نوبة من صومه للنوبة الأخرى؟ إنما أراد الشاعر أن ممدوحه على صومه في رمضان يفطر النفس لأن الدرس غذاء الروح وعلى فطره في غير رمضان صائم اللسان عن الفحش والهجر والهذر وصائم النفس عن المعاصي وثواب هذا الصوم يعدل ثواب الآخر.
ثم أهدى لنا الفواكه شتى ... والتحيات جل ذاك عطاء
قال الشارح: هكذا في الأصل ولعله قسم يعني أقسم بالتحيات أن هذا العطاء جليل: والصواب كالتحيات وهذا ظاهر لأن الفواكه كأنها تحايا الفصول وما زال الناس يحيي بها بعضهم بعضاً، وعلى أنها والتحيات فلم لا تكون معطوفة على الفواكه عطف تفسير (وفي صفحة 11) بعد قول الشاعر في صفة الموز:
يشهد الله أنه لطعام ... خرمي يغازل الحسناء
وهو البيت الذي صححناه في العدد الماضي:
نكهة عذبة وطعم لذيذ ... شاهداً نعمة على نعماء
والصواب على ما يظهر أن الشطر (ساعدا نعمة إلى نعماء) ومن عادة ابن الرومي أن يكرر ألفاظه ومعانيه وأساليبه كما اتفق كثيراً وقد قال في صفحة 44:
ما تعرفت مذ تعيفت طيري ... غير نعماء ظاهرت نعماء
فهذه هي مساعدة النعمة للنعمة التي أرادها في البيت والمعنى أن نكهة الموز العذبة وطعمه اللذيذ ساعدا نعمة المغازلة الخرمية. . . إلى نعمة الحس والتمتع به، (وفي صفحة 12).
إني للحقيق بالشبع السا ... ئغ من أكله وإن كان ماء
قال الشارح: يعني أنني الجدير بأن أشبع من أكله الهنيء وإن كانت مادته مائية قليلة الغذاء: وما نعرف أحداً يقول إن مادة الموز قليلة قوام الغذاء بل الموز كثير التغذية حتى قدروا أن مقداراً منه كمقدار من اللحم سواء، وإنما غرض الشاعر أن هذا الموز لحسن إساغته وانسرابه في مجاري الحلوق لا يقال في شبعت من أكله وإنما الحق أن يقال من(39/19)
شربه لأنه على ذلك أشبه بالماء منه بالطعام (وفي صفحة 18) في معاتبة أبي القاسم الشطرنجي.
أترى الضربة هي التي غيب ... خلف خمسين ضربة في وحاء
قال شارحنا: الذي أراه أن الخلف هنا بضم الخاء اسماً من الاخلاف وهو التكذيب في المستقبل والوحاء العجلة والإسراع ومعنى البيت أترى أن الضربة والنكاية التي هي في الغيب ولم تحصل بعد مخلفة لعاداتك في خمسين ضربة حصلت قبلها وكلها في غاية العجلة والإسراع، وهذا عجيب من الشيخ وكان خليقاً به إذ يجهل لعب الشطرنج أن يفزع إلى أخ له من خريجي دار العلوم وأحد أساتذة آداب اللغة القائمين بدراستها في إحدى المدارس العالية اليوم قد حذق الشطرنج وشأى فيه شأواً بعيداً وكاد يلزّ مع أبي القاسم هذا في قرن فيسأله عما يقصد إليه الشاعر، ولو أن الشيخ لم يعود نفسه شرح أبيات القصيدة من القصائد حتى يستوعبها كلها لرأى تفسير هذا البيت في صفحة 26 عند قوله:
أترى كل ما ذكرت جلياً ... وسواه من غامض الأنحاء
ثم يخفى عليك أني صديق ... ربما عز مثله في الغلاء
فالشاعر يريد أن صاحبه الشطرنجي يرى الضربة الأخيرة التي تقتل الشاه ويكون عندها الفصل في اللعب من وراء خمسين ضربة يرمي بها خصمه دراكاً لا يتأمل ولا يفكر لقوة ذهنه ومهارته وبصره بأوضاع الشطرنج وحفظه لهجاء هذه الرقعة، وتلك من صفة أبطال هذه الساحة لا يشتهرون إلا بالحفظ وسرعة اللعب مع الإصابة والسداد (وفي صفحة 19 - في الشطرنجي أيضاً -).
قال الشيخ: ومعنى البيت على ما يظهر لي أنك تعلي من تشاء وتضع من تشاء.
وليس هذا المعنى مما يقصد إليه مثل ابن الرومي، إنما يريد الشاعر أن صاحبه لقوته في اللعب وثقته بنفسه يترك لخصمه رخا أو فرزانا ويناقله بالباقي ومع ذلك لا يغلبه خصمه، بل يزداد شدة استعلاء كما تقول لمن هو أضعف منك أصارعك بيد واحدة وأنت تستعمل يديك معاً، وعلى ذلك يكون اشتقاق يحط من الحطيطة لا من الحط وكثيرون من المشهورين في اللعب بالشطرنج لا يلعبون إلا كذلك أي بدون رخ أو بدون فرزان ولا يزالون كذلك إلى اليوم.(39/20)
وفي صفحة 20
وأرى أن رقعة الأدم الأح ... مر أرض علائها بدماء
قال الشارح في معنى عللتها: يعني وأظن أن سطح الشطرنج الذي لونه أحمر أرض أهرقت عليها الدماء لتلهيها بها: ولا معنى لهذا التعليل والصواب بللتها كما هو ظاهر.
وفي صفحة 21 - في هذه اللعبة أيضاً -
تقتل الشاه حيث شئت من الرق ... عة طباً بالقتلة النكراء
غير ما ناظر بعينك في الدس ... ت ولا مقبل على الرسلاء
بل تراها وأنت مستدبر الظه ... ر بقلب مصور من ذكاء
ما رأينا سواك قرناً يولي ... وهو يردي فوارس الهيجاء
قال الشيخ: الدست المقصود به هنا صدر الرقعة: وليس ذلك صحيحاً بل الدست الرقعة نفسها وهو في الأصل دست القمار، يقولون للغالب تم له الدست وللمغلوب ثم عليه الدست فابن الرومي يصف صاحبه في هذه الأبيات بأنه لحفظه وذكائه يلعب على الغائب، وهذه صفة جماعة اشتهروا في تاريخ الشطرنج وعلى ذلك قوله في صفحة 22.
تقرأ الدست ظاهراً فتؤدي ... هـ جميعاً كأحفظ القراء
قال الشارح: أي تقرأ الرقعة عن ظهر قلب فتلقيها إلقاءً جيداً الخ: ولا معنى لهذا وإنما هو ما يسمى في بعض كتب الأدب التي تتكلم عن الشطرنج باللعب على الغائب أو اللعب غائباً وكيفية ذلك أن أقوى الخصمين يستدبر الشطرنج فلا ينظر إليه ولا يرى كيف ينقل خصمه بل يكتفي برسم الرقعة وما عليها في ذهنه لأن ذلك في حافظته من كثرة اللعب والمران عليه ثم ينقل الخصم فيقال لهذا الغائب بنظره عن اللعب نقل كذا فيتمثل النقل في ذهنه ثم يشير بما يريد وهكذا حتى تكون الغلبة له أخيراً مع أنه لم ينظر شيء، ويقال إن في مصر اليوم من يلعب بهذه الصفة بعد أن يحكموا رباط عينيه، ولعل أحداً من القراء يوافينا بحقيقة ذلك.
وقال في هذه الصفحة:
رؤية لإخلاج فيها ولولا ... ذاك لم تأت صحبة ابن بغاء
وهو موسى وصاحب السيف والجي ... ش وركن الخلافة الغلباء(39/21)
قال الشارح في شرح موسى: لعله يريد أنه الحاكم الأعظم صاحب الكلمة النافذة على حد قول الشاعر.
إذا جاء موسى وألقى العصا ... فقد بطل السحر والساحر
الخ الخ: وهذا عجيب جداً بل أعجب من كل ما مضى فما هو موسى العصا ولا هو الحاكم الأعظم وإنما هو موسى بن بغا القائد التركي، وبغاء بفتح الباء لا بالضم كما ضبط الشارح هو أبوه وهو صاحب وصيف المشهور وفيهما وفي المستعين يقول الشاعر:
خليفة في قفص ... بين وصف وبغا
يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا
وفي صفحة 26 - أترى كل ما ذكرت جلياً البيتين -
قال الشارح: المعنى أترى كل كلامي واضحاً وغيره خفياً الخ: وذلك تابع للخطأ الذي سبق بيانه في صفحة 18 وإنما غرض الشاعر أترى ما ذكرته جلياً وترى سواه أيضاً من الأمور الغامضة ثم يخفى عليك الخ يريد المبالغة في توجيه الحجة عليه فإن الذي يرى الأمور الغامضة كلها جلية كيف يخفى عليه صداقة الشاعر.
وبعد فإنا نكتفي بهذا المقدار في هذا العدد فإن لسعر الورق سلطاناً لا ندحة لنا من النزول على حكمه.(39/22)
الصين الجديدة
إن كل ما يصل إلى المسامع عن دولة الصين لا يزال يترك وراءه أثراً من الحيرة ومزيجاً من الدهشة والاستغراب، ويرسل الذهن يجري عادياً على أجنحة الخيال إلى تلك المملكة القصية النائية فيرسمها في مخيلته ويصور أناسيها ويتأمل وجوههم الصفراء ويستقصي الألوان المتعددة من أطوارهم الغريبة وتقلباتهم العجيبة فكأنما القارئ يطالع في قصة من قصص روكامبول أو يقرأ سيرة من سير سندباد البحري.
ونحن نقدم الآن لقراء البيان فذلكة تاريخية تحتوي خلاصة تاريخ الصين منذ نشوب الحرب إلى اليوم والأدوار التي تمشت فيها حتى قطعت منذ عهد قليل علاقاتها بألمانيا وأسهمت مع الحلفاء في معاداة الألمان، وهذا البحث لا بد منه ليربط الناس ما علموه من أخابير الحرب بما لم يعلموه، وليتموا في أذهانهم السلسلة المتطاولة حتى لا تكون منها حلقة مفقودة.
عندما نشبت الحرب، كانت الصين جمهورية وكانت الجمهورية قد اجتازت من العمر إذ ذاك عامين ونصف عام، وذلك منذ اعتزلت العرش أسرة تسنج المالكة في اليوم الثاني عشر من شهر يناير عام 1912 ولكن كانت في الحقيقة جمهورية بالاسم فقط إذ كانت قد استحالت إلى حكومة فردية مطلقة تحت الرئيس يوان شي كاي، إذ لم ين هذا الرئيس أن فض البرلمان واستعاض عن القوة العسكرية قوة ملكية سلمية وبدأ فرديته بأن دعا إلى قرض قدره خمسة وسبعون مليوناً من الجنيهات لكي يذهب بالضائقة المالية في الصين، فجمع هذا القرض في باريس في السابع من شهر فبراير من ذلك العام وألقى إلى المصرف الصناعي الصيني ثم أعقب هذا القرض قرض آخر تشفع هذا الرئيس له برغبة إعادة النظام وتدبير شؤون الدولة فاشتركت في جمعه انجلترا واليابان والولايات المتحدة والروسيا وألمانيا وفرنسا وكان ذلك قبل أن تنشب الحرب.
وكان النزاع قد بدأ إذ ذاك بين الصين واليابان إذ كانت مقاطعة كيوتشو قد أسلمتها اليابان في سنة 1897 إلى ألمانيا ولم تلبث أن أرسلت اليابان مذكرة إلى ألمانيا في 15 أغسطس، ولم يحن السابع من نوفمبر حتى سقطت عاصمة المقاطعة الألمانية وهي تسنج تو في أيدي اليابان وسكت الألمان عن النزاع ولكن الصين أرسلت احتجاجاً إلى اليابان عن فعلها وأمسكت عن رد كيوتشو إليها وأجلت المناقشة فيها إلى ما بعد الحرب، فلم تلبث أن(39/23)
أصبحت العلاقة بينهما واهنة العرى وانتهى الأمر بأن سلمت بكين عاصمة الصين في 8 يونيو عام 1915 فانتفع الرئيس يوان شي كي بالظروف الخارجية إذ كانت قد أحالت الأنظار عن داخلية المملكة، وانطلق يدأب على إقامة حكومة ملكية مطلقة وذلك بعون الحزب العسكري الذي يرأسه نيجان هوفاي ومجلس الوزراء تحت رئاسة تسان تشنج يوان ففي شهر أكتوبر نشر مجلس الوزراء قراراً بأن أعضاء البرلمان الجديد لهم أن يضعوا أصواتهم في صف الجمهورية أو يطلبوا إزالتها، وفي الوقت نفسه عمد يوان شي كاي إلى التنازل عن الشرف الملقى إليه وهو رئاسة الجمهورية، وإذ ذاك تداخلت دول الحلفاء وابتدأ تداخل اليابان وروسيا وانجلترا ثم جرت فرنسا على آثارها لكي تحول دون رجعة الحكومة الملكية المطلقة ولكن السواد الأعظم من ولايات الدولة كانت قد صوتت في صالح عودة الملكية، وفي الحادي عشر من ديسمبر أقر في الانتخابات العمومية على رغبة الشعب، وكانت خطبتان في المجلس كافيتين لقبول يوان شي كاي مراعاة لرغبة الشعب الأهلية، وفي الثالث عشر من ديسمبر احتفلت الصين بالإمبراطور الجديد، ولكن عهد يوان شي كاي بالحكم الإمبراطوري المطلق لم يلبث طويلاً إذ تلقى في الحادي والعشرين من ذلك الشهر من قائدين زعيمين من زعماء الولايات وهما الجنرال تسي نجو من ولاية نويان والجنرال تيانج كي يو من ولاية كيوتشو بلاغين مستطيلين، وطلباً إليه الإجابة عنهما في مدى خمسة أيام، فلما لم يجب، أعلنت الولايتان الاستقلال، وظلت الثورة أشهراً ثلاثاً ثم بدأت تخمد نارها بعد ذلك، ولكن لم يكد يهجم الربيع حتى امتدت نيران الثورة مرة أخرى فأقبلت على التمرد ولايات الغرب وأسهمت في العصيان، فعاد يوان شي كاي يلتمس صلاح ذات البين بالمفاوضات والملاينات والمسالمات، ولكن المفاوضة لم تغن شيئاً لأن هذه الثورة المشادة باسم الجمهورية لم تكن في الحقيقة إلى مأرباً من مآرب عدة من الموظفين والقواد والزعماء، وكذلك شاعت الثورة في الإمبراطورية كلها، إذ كان المجلس معقوداً للصلح في نانكين، فاستفحل الأمر واستعصى على يوان شي كاي، فلم يلبث أن وافته المنية فجأة في السادس من شهر يونيو بعد غلاب خمسة أعوام طوال وظلت الصين بعد موته مقسمة مفصومة العرى، إذ ثارت مطامع أهل الأغراض والدسائس، وكان يوان شي كاي الحائل دون رجعة الجمهورية، فلما قضي زال ذلك الحائل، وكانت اليد الألمانية(39/24)
تعمل في الخفاء، فلم يلبث الرئيس الذي خلف يوان على الجمهورية وهو لي يوان هونج أن ألقى نفسه إزاء حرب شديدة مع رجال الحزب العسكري القديم ولما أعيد فتح البرلمان ألفت الحكومة حرباً أخرى من الحزب الراديكال أو حزب المتطرفين تحت زعامة سن يان سن، وخمدت نار الخلاف بأن انتخب لوظيفة نائب رئيس الجمهورية رجل سياسي عامل محبوب من الأحزاب المعارضة والفرق المتناهضة، وهو المارشال فونج كونشانج.
وكان المظهر الذي اتخذته الولايات المتحدة إزاء ألمانيا ودعوة الرئيس ويلسون التي ألقاها إلى الدول المحايدة احتجاجاً على حرب الغواصات قد أحدثت أثرها في الصين لأن للولايات المتحدة فيها أثراً أكبر من أثر دول الغرب فقد اجتهدت منذ سنين في أن يسود نفوذها الاقتصادي في المملكة الصفراء حتى أصبح لها حق عليها واستمالت عاطفة الجمهورية الوليدة، ولم تلبث أن صارت إزاءها الراعي المدافع يحميها من دول الغرب وأطماعها ومن شر اليابان قبلها فلم يسعها خشية على نفسها إلا أن تنضم إلى الحلفاء، وتمهد السبيل لمستقبلها، وتشترك في مؤتمر الصلح الذي سيبتدئ بعد الحرب، ليرى رأيه في مستقبل العالم الإنساني.
ذلك ما ذهب إليه الحزب الجمهوري، فبعد المعارضة الشديدة من المحافظين والعسكريين عشاق القوة الألمانية وعبدة الإمبراطور غليوم، تحت زعيمهم تشانج سون ظفرت الحكومة بهذا الرأي فأرسلت إلى برلين مذكرتها الأولى احتجاجاً على امتداد الحرب البحرية وتوسع الألمان فيها ثم ثنتها بأخرى في 28 فبراير من العام الماضي فلما تلقت رداً سلبياً عرض رئيس الجمهورية لي يوان هونج على البرلمان نيته في قطع العلاقة السياسية بين الصين وألمانيا، فتلقي البرلمان الرأي بالقبول وفي الرابع عشر من شهر مارس أعطى الأميرال فون هنتز سفير ألمانيا جواز السفر.
ولكن لم يكن ذلك يعد إعلاناً للحرب، فقد اعترضت الجمهورية حرب داخلية جديدة، إذ كان الجنرال تشانج وحزب كبير في أثره يسعون في إعادة الملكية وقد استطاع هذا الحزب أن ينشر الدعوة ويظفر بالأنصار، ونجح القوم في النداء بطفل صغير يناهز الحادية عشر إمبراطوراً جديداً للمملكة، ولكن عهد بن بي بالو وهو هذا الطفل الإمبراطور لم يكن طويلاً، فلم يجد الرئيس لي يوان هونج إلا الاستسلام والرضى بالهزيمة، على أن(39/25)
الجمهورية لم تلبث أن رجحت كفتها وظفرت بمكانتها الأولى، وانتخب للرئاسة المارشال فونج كوك تشانج فأخذ الرئيس سبيله إلى الحرب بجانب الحلفاء.(39/26)
أحداث الشهر
عمرية حافظ
ما نشك وما نرى أحداً يرتاب في أن حافظ بك إبراهيم الموظف بدار الكتب السلطانية قد انتكس في عهده الأخير انتكاساً شعرياً، فتراجع طبعه وأصفت قريحته وأصبح كما يقول الفرزدق - وإن قلع ضرس من أضراسه لأهون عليه من نظم بيت من الشعر الذي يسمى شعراً، وإذا جاز لنا أن نتابع الأولين في تمثلهم، ونأخذ في العبارة بمجازهم قلنا أن آلهة الشعر قد ملت حافظاً فطردت جنيته بعيداً عنه فما تجد إليه ولا يجد إليها سبيلاً وقد جعلت تلك الآلهة على شعره سافله وأمطرت منه الحجارة. . فهو اليوم ينظم بلا عون إلا من الكتب والدواوين يلتقط منها الكلمة ويسترق المجاز ويسلخ المعنى وينسخ ويمسخ ويعالج ما يعالج المكدود المنقطع ثم يجيئنا بعصب الريق ونحت الصخر وهذا الشعر المخذول والنظم المغسول ثم يقول للناس هاؤم اقرأوا. . .
فلك الله. . . ماذا نقرأ من هذه العمرية - وما هي في بنائها وهندستها ووضعها وأبياتها المتداخلة وما نفض عليها القدم من أسلوبه وصفته ألا صرح يشبه مهجور ربع السلحدار في الجمالية، ولعل من مراعاة النظير ما رأى لطفي السيد بك من أنه يجب أن يكون إلقاء هذه القصيدة في درب الجماميز. . .
نظم حافظ سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما عدا أن مسخ التاريخ فإذا هو تفاعيل، وجاءنا بهذه العمرية فأعلمنا بعد الهرم وبعد عمر قطعناه في الأزهر أن مجموع المتون ينقصه متن جديد يسمى عمرية حافظ إبراهيم، وإلا فأين الشعر في نواحي هذه القصيدة وأين الروح الإلهية التي تخلق هذا البطل العظيم بعد نيف وثلاثمائة وألف سنة وأين موضع الاتصال بين روح حافظ وروح الفاروق، وأين أسرار التاريخ وفلسفته وشعر الحياة التي لم تشهد الأرض مثلها إلا ما شهدت من النبيين وأولي العزم من الرسل؟
أما آن لك يا حافظ أن تقدر هذا الناس الذي تعيش بين ظهرانيه حق قدره، وأن تدرك مبلغ التطور الذي ألم بنفسية الجمهور من وقت أن استأثر الله بالأستاذ الإمام إلى اليوم.
لقد كان جمهور الأمس يهتز لكل كلمة تهبط عليه من أي نواحي الأستاذ وكنت أنت بعض نواحيه وكانت لا تزال فيك بقية من نقد الأستاذ وتهذيبه وحكمه ونوابغ كلمه ولا يزال(39/27)
عليك ظل منه، أما جمهور اليوم فما أن يراك إلا نوعاً غريباً من صحف الأخبار تنظم المقالات نظماً صحفياً وتقيمها على أعمدة من قوم تشرئب إليهم أعناق الجمهور، فإن كان الشاعر الصدق المشاعر الخالد بحق - الشاعر الإلهي - شوقي. . شاعر الأمة فأنت فكاهة الصحافة لا تكاد تقرأ حتى تلقى. . .
أين لا أين عمريتك هذه يا حافظ من بردية شوقي أو همزيته
شتان ما يومي على كورها ... ويوم حيان أخي جابر
أي شوقي:
نبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس
وتكلموا في أمر كل عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينسبوا
وبعد فأما نقد القصيدة وإقامة البرهان على ما قدمنا بيانه فموعدنا به العدد القادم إن شاء الله القادم.(39/28)
أبيات حكيمة
مختارة من نهج البردة لسيد الشعراء شوقي
يا نفس دنياك تخفي كل مبكية ... وإن بدا لك منها حسن مبتسم
فضي بتقواك فاها كلما ضحكت ... كما يفض أذى الرقشاء بالثرم
مخطوبة منذ كان الناس خاطبة ... من أول الدهر لم ترمل ولم تئم
يفني الزمان ويبقي من إساءتها ... جرح بآدم يبكي منه في الأدم
لا تحفلي بجناها أو جنايتها ... الموت بالزهر مثل الموت بالفحم
كم نائم لا يراها وهي ساهرة ... لولا الأماني والأحلام لم ينم
طوراً تمدك في نعمى وعافية ... وتارة في قرار البؤس والوصيم
إلى أن قال:
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ... فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
والنفس من خيرها في خير عافية ... والنفس من شرها في مرتع وخم
تطغى إذا مكنت من لذة وهوى ... طغى الجياد إذا عضّت على الشكم
وهاك شيئاً من همزيته في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم
والحرب من شرف الشعوب فإن بغوا ... فالمجد مما يدّعون براء
والحرب يبعثها القوي تجبراً ... وينوء تحت بلائها الضعفاء
ومنها:
الحق عرض الله - كل أبية ... بين النفوس حمىً له ووقاء
ومنها يضرع إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم ويشفع إليه للمسلمين:
أدعوك عن قومي الضعاف لأزمة ... في مثلها يلقى عليك رجاء
أدرى رسول الله أن نفوسهم ... ركبت هواها والقلوب هواء
متفككون فما تضم نفوسهم ... ثقة ولا جمع القلوب صفاء
رقدوا وغرهموا نعيم باطل ... ونعيم قومٍ في القيود بلاء
قسط الشعوب من الحضارة أنعم ... تترى وقسط المسلمين شقاء
أورثتهم غرر البلاد فضيعوا ... فاليوم هم في أرضهم غرباء(39/29)
ظلموا شريعتك التي نلنا بها ... ما لم ينل في رومة الفقهاء
مشت الحضارة في سناها واهتدى ... في الدين والدنيا بها السعداء(39/30)
باب تدبير الصحة
طلب إلينا أن نعود فنفتح هذا الباب الذي تطوع حضرة صديقنا الناطاسي النابغة الدكتور محمد عبد الحي للقيام به تفضلاً منه حفظه الله.
الإمساك الاعتيادي - كثير من الناس يلجأ بسرعة مدهشة إلى الشرب والملينات فيصبح الإمساك عادة تستعصي على كل علاج فيجب في مثل هذه الأحوال الامتناع البتة عن كل دواء إلا بإرشاد الطبيب، والالتجاء إلى تنظيم مواعيد الأكل بالدقة وكذلك مواعيد الضرورة وعمل تدليك يومي للبطن يعمل بالطريقة الآتية: تؤخذ كرة ككرة البلياردو مثلاً لا هي بالثقيلة جداً ولا هي بالخفيفة وتكسى بجلد ناعم كجلد الشاموا مثلاً وتستعمل مرجا (تدويراً) على البطن من اليمين إلى الشمال على دائرة البطن أي مع اتجاه المصران الغليظ ويزاد حجم ووزن هذه الكرة تدريجاً إلى أن يصل إلى ما زنته ستة أرطال تقريباً وأحسن وقت لاستعمالها عند القيام من النوم في البكور ويكفي لهذه العملية خمس دقائق كل يوم.
لدغ النمل - إذا اقتربت من عش النمل ونكشته انبعثت منه رائحة حمض الفورميك وهذا الحمض بعينه هو الذي تدفع النملة إذا لدغت فيحدث تهيجاً موضعياً في الجلد وما تحته، ويوجد هذا الحمض بعينه في بعض النباتات التي تلدغ باللمس وكثير منها ينتشر في القطر المصري وكذلك هو هذه المادة التي ترسلها النملة إلى جسد الملدوغ وأحسن علاج لذلك الماء بسرعة أو القلويات ككربونات الصودا المذابة أو النشادر أو رغاوي الصابون أو بصلة تشق نصفين وتوضع على المحل (رأي ولتر اسكس ونتر) أو طين الزير كما هو شائع معروف.
القلب في اليمين - كل الناس يعلمون أن القلب في الجهة اليسرى من الصدر وأنه يدق دقات الحياة تحت الثدي الأيسر وإلى اليمين منه قليلاً ولكن كثيرين جداً من الناس بل ومن الأطباء يجهلون أن القلب ربما جاء وضعه في اليمين على عكس المعروف تماماً ولكن ذلك نادر الحصول جداً وربما صحبه أيضاً وجود الكبد في الشمال بدل اليمين والطحال في اليمين بدل الشمال وهكذا ينتقل وضع الأعضاء كلها أو بعضها من الناحية إلى الأخرى، وإذا كانت هذه الأعضاء في حالة طبيعية فانتقالها خلقي لا ضرر منه على الحياة على الإطلاق.
التواء العنق - من الناس من يخلق وعنقه في التواء ووجهه ثابت في اتجاه الالتواء وهذا(39/31)
نادر جداً ومن الناس من يستيقظ من النوم فيجد عنقه في ناحية ولا سبيل إلى تحريكها للناحية الثانية وهذا ولا شك شيء مخيف للمصاب ولكنه سريع الشفاء وسببه في الغالب البرد ودواؤه التعريق والتدليك فإن استطال الأمر استوصف الطبيب.
ومن هذا الالتواء نوع يأتي بشكل نوبة مزعجة للمريض ويهيجها الكدر والغضب وتسكن إذا جن الليل ورأى الطبيب يجب أن يؤخذ في مثل هذه الأحوال دون إمهال.
الاكلمسيا - مرض تشنجي يأتي للحوامل والوالدات والنفساء وهو مرض خطير للغاية فيجب الالتفات جيداً إلى الإنذارات التي تعتور المريضة إبان حملها بعد الشهر السابع وأهم هذه الإنذارات آلام الرأس وورم الأرجل والأقدام وضعف النظر ووجود الزلال في البول، لذ يتحتم أن يفحص بول الحامل من وقت لآخر بعد الشهر السادس حتى إذا وجد فيه الزلال احتيط من الاكلمسيا وعولج في التو واللحظة.
الزغطة - الزغطة يغلب أن تتسبب عن تهيج في المعدة يحركه التطبل بالأرياح والامتلاء الشديد أو أكل غير مهضوم وخصوصاً الفلفل والبهارات، ومن الأسباب المشاهدة أيضاً والمسببة لها الإجهاد المتعب عقب الأكل ويحصل بكثرة للأطفال الرضع إذا ازدردوا اللبن بسرعة أو للكبار إذا عبوا السوائل عبا ولقد جاء في الحديث الشريف (مص الماء مصاً ولا تعبه عبا) والزغطة زمنها لا يطول إلا إذا التفت إليها فإن شغل الإنسان عنها ذهبت ولذلك كان توجيه الفكر لشيء خاص خير علاج لإيقافها ومن الطرق المستحسنة لإيقافها عند الأطفال وضع طرف الإصبع على الغضروف الحلقي (البروز الموجود في العنق تحت الذقن ببضع أصابع) بلطف وتحريكه قليلاً وعند البالغين بأن يأخذ المرء شهيقاً عميقاً ويستمر في الشهيق لحظة دون أن يحرك الصدر للزفير.
وأسهل من ذلك أن يعد المرء من واحد إلى مائة دون أن يأخذ نفسه أو يمص الماء مصاً بضع مرات دون التنفس أيضاً فإذا لم تفد هذه الوسائل فأحسن شيء هو النشوق إذ يكفي تنشيقة واحدة لإيقافها.(39/32)
العدد 40 - بتاريخ: 1 - 3 - 1918(/)
متن العمرية
لحضرة صاحب العزة حافظ بك إبراهيم
وعدنا القراء في الجزء السابق من البيان أن نتبسط شيء في نقد هذه العمرية التي يزعم قوم أن الله تعالى قد عمر بها جانباً من الأدب كان خرباً، وسد بها ثلمة في الشعر العصري كانت واضحة، ودفع بها الفلك الدوار فمر فأسرع فانبثق منها على الأدب العربي عصر جديد،،، هكذا قالت الصحف فيما كتبت أو كتب لها،، وقالت صحيفة أخرى: إنه لم ينشد في عكاظ شاعر أبلغ من صاحب هذه العمرية في عمريته: كأن أصحاب هذه الصحيفة أو كتابها قد أحصوا أسماء الشعراء الذين أنشدوا في عكاظ وقرأوا ما أنشدوه، فإذا كان العلماء قد قالوا إن أسماء الشعراء عكاظ وقصائدهم التي أنشدوها غير معروفة إلا أربعة أو خمسة فلا ندحة لنا من أن نتأول أن كتاب تلك الصحيفة أرواح رجعت إلى الدنيا بعد 1400 سنة وكانت من قبل في أجسام عكاظية، ولعل منها روح النابغة، ولعل صاحبها هو الذي كتب تلك الكلمة فكان له الأمر من قبل ومن بعد، وتم له الحكم بين الشعراء في عكاظ ودرب الجماميز،،
ليس بنا أن نتصدى لمثل هذا ولا نحن موكلون بوضع الصراط والميزان في هذه المجلة لمحاسبة الأخلاق الأدبية ولكنا موفون بما وعدنا على أن نلتزم جانب الإيجاز ما استطعنا وحسبنا الله. . .
لقد حرنا في إدراك الغرض الذي امتثله حافظ حين قرض هذه العمرية لأن الشعراء لا ينظمون إلا لغرض معين، فأما رياضة الخاطر، أو إظهار محاسن الصناعة، أو العمل لفائدة ما، أو قضاء حاجة في النفس، على أنا نجمل من هذه الأغراض كلها فنفرض أن الشاعر قصد إلى أهمها فأراد أن يقدم لهذا العصر المادي أثراً من الروح الإلهي وأن يتحف أدباء العصر بتحفة من الفن، ونضيف إلى هذين أنه يرمي بهذه القصيدة كما يقول هو إلى قضاء حقوق نام قاضيها - وحكاية مناقب عمر للشاهدين وللأعقاب - ثم ننظر في وفاء العمرية بهذه الأغراض وما مبلغها من كل واحد منها.
فأما أثر الروح الإلهي في القصيدة وما يتجلى فيه من الحكمة الرائعة والوصف البارع والإبداع والسمو وفلسفة الحياة وما إلى ذلك من مظاهر الروح والفكر فهو أثر ضئيل جداً(40/1)
لا يكاد يحس على أنه مع ذلك إنما هو من روعة تاريخ الفاروق وسموه الطبيعي وروحانيته لا من نفس الشاعر ولا من قوته الذهبية، فإن حافظاً لم يعرف بالحكمة ولا بالفلسفة ولا هو ممن يضرب الأمثال للناس ويشرح لهم معاني الحياة ولا هو بالشاعر الذي يغوص وراء المعنى إلى سره وصميمه ويتغلغل بروحه في ضمائر الأشياء كما هو حق الشعر، وذلك هو السر في أن أكثر قصائده أنفاس ضيقة وأبيات معدودة لا يطيل فيها ولا يعدد الفصول ولا ينوع الأساليب وبخاصة في نشأته الأولى فلما أدرك أخيراً أن الشعر هو تعبير عن أسرار المعاني في هذا الكون، وأنه لذلك يجري مجرى الشرح والإفصاح عما في الطبيعة من أغراض النفس وما في النفس من معاني الطبيعة فيجب أن تكون أكثر قصائد الشاعر طويلة أو إلى الطول إلا أن يكون من شعراء المقاطيع فيلزمها ولا يكلف نفسه إلا وسعها عمد صاحبنا إلى الإطالة قليلاً ولكنه لم يجد في ذهنه المادة الفلسفية التي تعطيه من أسرار الأشياء وتكشف له عن آثار الشعر في المناسبات المعقودة بين النفس وبين هذه الأسرار، ولا رأي في روحه قوة الجبابرة النفسيين التي تشبه قوة الخلق في توليد المعاني بعضها من بعض وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، ولا أحس في رأسه ذلك الخيال الذي يتلاعب بالصفات والحقائق حتى يجعل من التوهم حساً ويرى العين مالا تراه إلا النفس ويرى النفس ما لا تراه إلا العين، بل رأى - وله الله - أن كل بضاعته حافظة جيدة تواتيه شيء من الألفاظ الجزلة والعبارات المونقة - من صنع غيره طبعاً - والمعاني التي طال عليها القدم، وأكل الدهر عليها وشرب، فعمد إلى الصحف ينظم من أقوالها وآرائها وهجر ما عدا ذلك من فنون الشعر وأغراضه إلا قليلاً، ولقب نفسه بالشاعر الاجتماعي، فإذا كان الموضوع الصحفي مما كثر فيه الكلام وتقلبت الآراء وامتدت أطرافه طالت فيه القصيدة الحافظية وإلا قصرت.
ومن هنا طالت العمرية لأن تاريخ الفاروق رضوان الله عليه طويل الذيل مبسوط الجناحين على الآفاق وهي مع ذلك تصلح شاهداً على ما قدمنا، فإن الشاعر الاجتماعي اختار لأكثر فصولها من أخبار عمر وسيرته ما كان في مادته التاريخية شيء من الطول أو أمكن أن يكون له هذا الطول من سياق الحكاية وذلك كي يسهل عليه النظم وتتسع جوانب القصيدة، وإلا ففي كثير من الأخبار القصيرة التي أضرب عنها ما هو أبلغ في معناه وموقعه وأحسن(40/2)
بمذهب الشاعر وأقرب إلى خياله مما اختار، ولو تأملت الفصول القصيرة في هذه العمرية كعمر وشجرة الرضوان مثلاً، لرأيتها ضعيفة متهالكة حتى في النظم لأن مادة التاريخ والحكاية فيها قليلة ولم تمدها قريحة الشاعر بشيء من روحه فخرجت مخرج الاقتضاب، ولو أن شاعراً فحلا عمد إليها لا خرج من كل فصل منها فصلاً فلسفياً بديعاً، وكان في خبر شجرة الرضوان وحده أبلغ درس لجماعة المسلمين من زوار الأضرحة ونحوهم لو عرف حافظ كيف يجعل ما ليس بشعر شعراً مع أنه جاء بالخبر كله في بيتين لا قيمة لهما.
وعلى أن الشاعر إنما نظم التاريخ نظماً وعلى أنه خلط فيما اختاره من فصول القصيدة فما وقت هذه القصيدة بتاريخ عمر ولا أظهرت لنا شيئاً من أسراره الخاصة به ولا بينت لنا أوليات عمر التي امتاز بها كالتاريخ الهجري وتدوين الدواوين وتمصير الأمصار واتخاذ بيت المال وما إلى ذلك مما هو مادة للاجتماع وللسياسة وللتاريخ، بل كان أكبر الأمر عند حافظ أن ينظم قطعاً قطعاً على النسق التاريخي ومع سهولة هذا العمل فقد جاء بالتاريخ ممسوخاً حتى أن من لم يقرأ تاريخ عمر ويرجع إلى الأصل الذي نقل عنه الشاعر لا يكاد يفهم من القصيدة إلا ما يعطيه ظاهر اللفظ.
والآن نفرض أن حافظاً أراد من قصيدته أن يتحف الصناعة - صناعة الأدب - بتحفة من الفن فهانحن أولاء نقرأ القصيدة ونعيدها ونتدبرها ونقلب النظر فيها فما نراها من أولها إلى آخرها إلا نظماً نظماً وإلا وزناً وزناً، أما المجازات والاستعارات والكنايات وتفويف العبارة وحسن الإشارة والاختراع في أسلوب الأداء ونحو ذلك مما هو من باب الصناعة البيانية التي ترفع طبقة الكلام عن الكلام فما نرى منه شيئاً، بل إنك لتجد هذه الصناعة ركيكة مستهلكة من مثل قوله في دعائه لله فمر سرّي المعاني أن يواتيني كما كان يقول للبارودي في مدحه فمر كل معنى فارسي بطاعتي وقوله أديماً حشوه هم وإنما يقال حشو برديه مثلاً لأحشو أديمه. . صاح الزوال بها وصاح الوهمي لا يسند إلي الزوال الوهمي، وهلم، هذه واحدة - والثانية أن معاني القصيدة كلها خالية من الإبداع والابتكار وما نرى فيها أبدع من هذا البيت في وصف الدولة الإسلامية:
تنبو المعاول عنها وهي قائمة ... والهادمون كثير في نواحيها
على أنه مسلوخ من قول الشاعر:(40/3)
فلو ألف بأن خلفهم هادم كفى ... فكيف ببان خلفه ألف هادم
وانظر الفرق بين روحي الشاعرين روح الحكيم وروح المحتكم، ثم هذا البيت في الدولة أيضاً:
من العناية قد ريشت قوادمها ... ومن صميم التقى ريشت خوافيها
لولا أن فيه خطأ بليغاً وذلك أن القوادم هي أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح والخوافي سبع ريشات بعد السبع المقدمات أو هي ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خفيت فكأن الشاعر يقول ريشت الريشات القوادم وريشت الريشات الخوافي وهذا من الخطأ والقبح كما ترى إنما يقال ريش الجناح ليس غير، ثم هذا البيت:
وفتنة الحسن أن هبت نوافحها ... كفتنة الحرب أن هبت سوافيها
على أن في هذا البيت من سوء الطباق بين الحسن والحرب ومن ضعف التعبير في قوله هبت نوافحها وهبت سوافيها، لأن النوافح والسوافي متغايران في المعنى فيجمل أن يعبر عن فعليهما بلفظين متغايرين يلائم كل منهما المعنى الذي يساق به، ثم قوله - إن الحكومة تغرى مستبديها - وهو يصلح أن يكون مثلاً وليس في القصيدة غيره من هذا النوع ولكن فيه هذه الإضافة التي جاءت حشوا في (مستبديها) ويلحق بهذه الكلمات قوله:
فأنت في زمن المختار منجدها ... وأنت في زمن الصديق منجيها
وفيه جناس لا بأس به وإن كان من أضعف الأنواع لخلوه من النكتة التي تجعل التأثير بالغاً على النحو الذي انفرد به رجال هذا الفن كالبستي والصفدي وغيرهما.
هذا هو كل ما يعجب الناقد أو الأديب من القصيدة على بعد ما بين مشرقها ومغربها وعلى أنها زهاء مائتي بيت فأين هي من صناعة البيان أو صناعة الشعر على أنها في تاريخ رجل أي رجل وعصر أي عصر، وثالثة أن القافية التي اختارها حافظ لقصيدته من أضعف القوافي وأسهلها، لا تدل على شيء من تمكن الرجل من صناعته فإن الهاء فيها هي هذه الهاء ضمير الغائب المؤنث، تتكرر في كل بيت إلا بضعة أبيات فإنها فيها أصلية من بنية الكلمة كقوله: تشبيهاً وتنزيهاً ونحوها، ولو عمد مبتدئ في الشعر إلى النظم على هذا الروي وكرر الهاء كما فعل حافظ ما أعجزه أن يجيء بألف بيت وبألفين وأين هذا الصنيع من قوافي شاعر كابن الرومي على طول قصائده أو قوافي البردة أو الهمزية للإمام(40/4)
البوصيري رحمه الله أو صدى الحرب لشوقي أو كشف الغمة للبارودي أو غيرها مما لا يجهله الأدباء، وما القافية في قوتها وتمكنها إلا طراز الصناعة لا يقصر فيها إلا مقصر ضعيف ولا يستهين بها أو يبتذلها هذا الابتذال إلا شعراء المتون إذ هم لا يريدونها إلا خاتمة للبيت من النظم كما صنع حافظ.
والرابعة أن الأسلوب القصصي في هذه العمرية لا يجري على قاعدة من قواعد القصص والرواية وليس فيه من أثر الفن الروائي شيء بل هو تقليد ضعيف جداً لبعض ما جاء من أساليب القصص في القرآن الكريم وكان هذا أدل على جهل الشاعر بقواعد البلاغة وطرق النظم المعجز، لأن الأساليب القصصية في القرآن تساق على نمط يراد به البلاغة والإعجاز قبل التاريخ والسير وقبل معنى الخبر وشرحه فلا يتأتى لكائن من كان من البلغاء أن يعارضه أو يجري على أسلوبه في كثير ولا قليل لأن التاريخ فيه ليس مفرداً بالوضع بل هو يأتي في سياق الكلام ويراد للتمثيل والموعظة والعبرة ونحو ذلك، فلو أن الشاعر كان بصيراً بمذاهب الكلام لما اختار هذا النسق الذي جاءت به القصيدة فصولاً يدفع بعضها في قفا بعض، ولو أنه كان شاعراً بحق وكان من رجال القرائح وحكماء الكلام لنظم في سيرة عمر رواية كاملة يخرج لنا بها الياذة عربية في مثل روح هوميروس أو نفس الفردوسي أو السعدي أو ملتن أو دانتي أو غيرهم من شعراء الأمم ولكن أني له وهو يرى نفسه من الضعف ما يجعل مثل هذه القصيدة في اعتباره ديواناً، ويرى حوله من النفاق وسوء التقدير ما يجعله في رأي نفسه كأنه تاريخ على حدة والعجيب أن يكون هذا شأن من حوله مع أنه هو نفسه يقول أنه ضعيف الحال واهيها ويقر في قصيدته بأسلوبها وفصولها أن عمر في هذه القصيدة إنما هو أمثلة من عمر لا غير.
وانظر مطلع القصيدة ومقطعها وأين هما من براعة الاستهلال وبراعة المقطع بل انظر هذه المعجزة الكبرى في أساليب الرواية وكيف بدأ تاريخ الرجل بمقتله.
ثم تأمل كيف تنقطع الصلة بين كل فصل من القصيدة وما بعده كأن ليس في البلاغة شيء يسمي حسن التخلص ولا في أصول فن الرواية ما يقضي بتعليق فصل على فصل ومراعاة السياق ونحو ذلك، وكأنه يكفي أن يقال (مقتل عمر) (إسلام عمر) (عمر وبيعة أبي بكر) الخ الخ فهل هو يضع كتاباً في التاريخ أو ينظم متناً من المتون.(40/5)
وهل يدري القراء لماذا بدأ الشاعر بمقتل عمر. . إنه لم يفعل ذلك إلا فراراً من الموضوع الذي يريد نظمه وعجزاً عن توفيته حقه لأنه إن بدأ بوصف عمر ونشأته ومنزلته في الجاهلية لزمه أن يجري على هذا النسق حتى ينتهي كل ما في حياة الرجل من الشعر والحكمة ثم تنتهي القصيدة بمقتله فإن هو بتر التاريخ أو اقتضب منه أو خلط في نسقه ظهر ذلك للناس واضحاً وظهر معه عجزه وقصوره، فأعد سامعيه وقراءه من أول القصيدة أن لا يلتفتوا إلى النسق التاريخي ولا ينتظروا فيه إلا قطعاً وفصولاً عن عمر وسيرته وكأنه ظن أنه بذلك يذهب بوعيهم وانتباههم. .
لم يبق إذن إلا أن الشاعر أراد بهذه العمرية كما يقول هو حكاية مناقب عمر للشاهدين وللأعقاب فأما للشاهدين فربما وأما للأعقاب فليس هناك إلا أن تأتي نكبة على كل أسفار التاريخ العربي فتذهب بها ولا يبقى إلا متن العمرية وشرحه. .
وللنظر في كيفية حكاية الشاعر لمناقب عمر فقد خرجنا بالقصيدة من باب الشعر إلى باب النظم ثم انتهينا إلى باب حكاية المناقب، وإنها في هذا الباب يعلم الله دون هذه القصص العامية أو المعربة التي نظمت فيها مناقب سيدي أحمد البدوي وسيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنهما أو قصة سيدنا يوسف عليه السلام لأن هذه القصص محكمة في بنائها على الأسلوب الروائي وفيها شيء كثير من حسن التخيل وبلاغة التصوير، وقد نظم الغبارى الزجال المشهور قصة سيدنا يوسف في زجل طويل جاء فيه بالمعجب والمطرب بحيث لا تقع عمرية حافظ من قارئه إلا موقع الماء المثلوج ممن امتلأ جوفه رياً وبرداً.
نحن نقر حافظاً على أنه حكى جملة صالحة لا بأس بها في سيرة عمر ومناقبه وأنه جهد الجهد كله في نظمها ولكنا لا نقول أبداً أنه جاء بشعر شاعر أو وفى النظم حقه أو مزج فلسفة الشعر بفلسفة التاريخ بل فيما هو دون ذلك لا نقول أنه محص التاريخ ولا جاء به على وجهه ولا اجتهد فيه برأي بل مسخ وبتر وأخطأ ودل على أنه لا يفهم التاريخ العربي بقريحة عربية وأثبت أنه ضعيف جداً في العلوم الاجتماعية لا يقام لرأيه وزن فيها ولو شئنا أن نورد كل ما في قصيدته من هذه الأغلاط لطال الأمر علينا وعلى القراء ولكنا نورد أمثلة قليلة تومئ إلى ما وراءها قال في الدولة الإسلامية وأسباب سقوطها:
والله ما غالها قدماً وكاد لها ... واجتث دوحتها إلا مواليها(40/6)
جاء بهذا البيت في مقتل عمر بعد أن لعن مولي المغيرة الذي قتله ولقد أقسم حافظ أنه ما غال الدولة ولا كاد لها ولا اجتث دوحتها إلا الموالي وأنه لو قسم لو تعلمون عظيم، فأي برهان يقول حافظ هذا القول وما هو أثر الموالي في هدم الدولة الإسلامية ومن هو الخليفة الذي تولاها منهم وماذا كان لهم من الشأن في القضاء والسياسة والجند.
لعل الشاعر يجهل فيما يجهل أن مولي المغيرة وهو أبو لؤلؤة كان مجوسياً ولولا ذلك ما أقدم على قتل عمر، ولعل الشاعر لم يقرأ فيما قرأ أن عمر لما عرف قاتله قال الحمدلله الذي لم يجعل منيتي على يد من يدعي الإسلام، وإلا فأين أبو لؤلؤة هذا من سائر الموالي ومنهم أئمة الناس وعلماء الأنصار وكان منهم سعيد بن جبير رأس التابعين ونبغ منهم في عصر واحد عطاء بن أبي رباح إمام الناس بمكة وطاوس باليمين ومكحول بالشام ويزيد بن أبي حبيب بمصر والضحاك بن مزاحم بخراسان والحسن البصري بالبصرة وإبراهيم النخعي بالكوفة وغيرهم وغيرهم ممن قام بهم العلم واهتدى الناس بهديهم، وهذا حماد الراوية أمام أهل الأدب الذي تنتهي إليه الأسانيد مولي من الموالي، ولكن شاعرنا الاجتماعي المؤرخ الكبير لا يقرأ ولا يعلم إلا من بعض كتب المحاضرات كالعقد الفريد ونحوه وهي كتب لم توضع للتاريخ والتحقيق وإنما جمعت للمحاضرة والفكاهة.
ثم قال حافظ بعد هذا البيت يعني دولة الإسلام أيضاً:
لو أنها في صميم العرب قد بقيت ... لما نعاها على الأيام ناعيها
وهذا من الجهل بالتاريخ وطبائع الأمم وأحوال الاجتماع وإلا فهل كان يريد الشاعر أن لا يسلم إلا العرب أو أن يفرق الإسلام - وهو دين الإخاء والمساواة - بين العربي والمولي، ولنا أن نفهم من هذا البيت أن الشاعر يريد من البيت الذي قبله أن الموالي كانوا ملوكاً وخلفاء للدولة الإسلامية لأنهم في رأيه هم الذين اجتثوا دوحتها، وهذه مادة جديدة في التاريخ وقد وجب على المؤرخين وأهل البحث أن يسألوا شاعرنا تصحيح كتب التاريخ والأنساب فربما كان معاوية أو عبد الملك أو هشام أو غيرهم من الموالي، وربما كان الديلم والترك ونحوهم من هؤلاء الموالي أيضاً فيجب أن يتناول التصحيح الحافظي كتب اللغة والأدب فوق التاريخ والأنساب. . . وقال في إسلام عمر:
ويوم أسلمت عز الحق وارتفعت ... عن كاهل الدين أثقال يعانيها(40/7)
وصاح فيه (بلال) صيحة خشعت ... لها القلوب ولبت أمر باريها
الذي يفهم من هذين البيتين أن بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن جهراً يوم أسلم عمر لأن المسلمين قبل ذلك كانوا مستخفين فخشعت القلوب ولبت دعاءه وهرع الناس إلى الصلاة أو نحو ذلك المعنى مما يتصل ببلال.
ففي أي كتاب هذا يا حافظ؟ أجهلاً بتاريخ الدين فوق الجهل بتاريخ الأمة؟ إن الذي في كتب التاريخ أنه لما أسلم عمر كبر المسلمون (وكانوا نحو أربعين نفساً) تكبيرة سمعت بفجاج مكة، وفي رواية كبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل مكة وفي رواية ثالثة فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحد أن بلالاً كبر أو أذن أو صاح بل لم ينص أحد على أن بلالاً كان من أهل الدار، أما ما يثبت جهل الشاعر بتاريخ الدين فهو أن عمر رضي الله عنه أسلم بمكة في السنة السادسة من النبوة، والأذان شرع بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، وبين هذه وتلك سبع سنوات وأيام، وقالوا في بدء الأذان أن سيدنا رسول الله اهتم للصلاة كيف يعلمون بها فذكروا له راية فلم تعجبه فذكروا له الشبور البوق فقال هو من أمر اليهود فذكروا له الناقوس فقال هو من أمر النصارى فذكروا له النار فقال هي للمجوس فانصرف عبد الله بن زيد والمصطفى صلى الله عليه مهتم لهم فأرى الأذان فغدا إلى النبي فأخبره بذلك فأمره عليه الصلاة والسلام أن يلقيه على بلال، وكان ذلك في السنة الأولى من الهجرة كما في صحيح مسلم وغيره، فأين صيحة بلال يوم إسلام عمر وهو لم يتعلم الأذان إلا بعد ذلك بسبع سنين، كأن الاسم التاريخي عند هذا الشاعر الاجتماعي همزة وصل أو همزة قطع أو نحو ذلك من ضرورات النظم. . أليس ذلك من الكذب على التاريخ. . وقال في مثال من هيبة عمر:
أريت تلك التي لله قد نذرت ... أنشودة لرسول الله تهديها
قالت نذرت لئن عاد النبي لنا ... من غزوة لعلي دفي أغنيها
واستأذنت ومشت بالدف واندفعت ... تشجي بألحانها ما شاء مشجيها
والمصطفى وأبو بكر بجانبه ... لا ينكران عليها من أغانيها
إلى أن قال ما معناه حتى إذا قدم عمر خارت قواها وخبأت دفها في ثوبها فقال رسول الله: قد فر شيطانها لما رأى عمر لأن الشياطين تخشى بأس مخزيها، ويعلم الله أن هذا الأبيات(40/8)
مؤلمة للمصطفى صلى الله عليه وسلم مغضبة لعمر رضي الله عنه، مغضبة لكل مسلم يغار على دينه، فأقل ما يؤخذ من هذا الشعر أن السيد الرسول وسيدنا أبا بكر كانا يسمعان الغناء ويشهدان الرقص من امرأة محرمة وأن الشيطان كان بحضرتهما يرى ويسمع لا يفر منهما ولا يهابهما وأن عمر وحده هو ذو الغيرة على الدين وهو الذي يفر منه الشيطان.
ونحن نعجب أشد العجب كيف يمر هذا الكلام على مسامع شيخ الجامع الأزهر وغيره من العلماء الذين حضروا الحفلة الجماميزية ولا ينكرونه ولا يردون على الشاعر بل يدعون هذا السخف ينسرب إلى الشباب والفسقة وينشر عليهم في الصحف فيحتجون به لفسقهم ودعارتهم إذا شهدوا الرقص أو سمعوا الغناء والألحان، ألا يعلم شاعرنا القائل (واندفعت تشجي بألحانها ما شاء مشجيها) - على ما في الخطأ اللغوي في استعمال هذا التعبير لأن الشجو هو الحزن والأسى ولا الطرب) - أن الألحان محرمة قطعاً حتى في الأذان وحتى في قراءة القرآن فكيف يسمعها النبي صلى الله عليه وسلم من امرأة تتفنن فيها ألا أن الشاعر الاجتماعي من أجهل الناس بعادات العرب وقد مسخ القصة مسخاً وقلب عادة عربية بحتة إلى حالة عصرية مخنثة وزادها تخنيثاً فجاء بالمرأة ودفها كأنها من نساء قهوة ألف ليلة. . . . والقصة على ما في كتاب أسد الغابة هي بحروفها: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت أن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف قال إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها وقعدت عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشيطان ليخاف منك يا عمر.
وليس يخفى أن من التعبير في لغة الحديث الشريف أن الغضب من الشيطان واللهو من الشيطان ونحو ذلك فإذا سكن الغضب فقد زال تأثير الشيطان وكذلك في الباقي فكأن الشيطان كف تأثيره على المرأة حين رأى عمر وكأنه خاف حين خافت فهذا هو المعنى، أما أن الشيطان كان حاضراً ثم فر كما عبر الشاعر فهذه إن كانت منقبة لعمر فهي والعياذ بالله ونستغفر الله منقصة لصاحب الشريعة. . .
لم تكن المرأة إلا جارية سوداء أي أمة متبذلة للخدمة والمهنة ولم تصنع شيئاً إلا أنها(40/9)
ضربت بالدف ضرباً حماسياً على عادة نساء العرب من استقبال الفاتحين والغزاة من أبطالهم فانظر كيف وصف الشاعر من ألحانها وتطريبها وانظر مبلغ هذا التفنن والجهل بمقامات الكلام ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا قليل من كثير، وحصاة كما قيل من ثبير، ولو أنا تعقبنا هذه العمرية تعقباً تاماً لضاع على قرائنا هذا العدد وأخوان له من بعده ولكن البعرة كما يقولون تدل على البعير، ومن ثم نجتزئ بهذا المقدار في هذا العدد وربما كانت لنا عودة ونختتم القول بأن نضرب المثل لشوقي وحافظ بما قيل، مثل الأديب ذي القريحة مثل دائرة تدار لخارجها فهي في كل دارة تدار تتسع وتزداد عظماً، ومثل الأديب غير ذي القريحة مثل دائرة تدار لداخلها فهي عن قليل تضؤل وتبلغ إلى باطنها والله أعلم.
استدراك
وقع في هذه الكلمة بعض أخطاء مطبعية رأينا أن نبادر بالتنبيه إليها وأن كان قراؤنا من الفطنة بحيث لا تخفى عليهم، بيد أنا ننصح إلى حضراتهم دائماً أن يكلفوا خاطرهم ويتداركوا كل خطأ مطبعي بالتصحيح الذي نلفتهم إليه في كل عدد تلحقه هذه الهنوات التي لا حيلة لنا في البراءة منها وعمال مطابعنا على ما يعلمون - ففي صفحة 108 (ولا من قوته الذهبية) وصوابها (الذهنية) وفي صفحة 109 (تواتيه شيئاً) وصوابها (تؤتيه شيئاً) و 110 (حشوه هم) وصوابها (حشوه همم) و 112 (وهو يرى نفسه) وصوابها (وهو يري في نفسه) و 114 (وإنه لو قسم) وصوابها (وإنه لقسم) و (فأي برهان) وهي (فبأي برهان) و (علماء الأنصار) وهي (وعلماء الأمصار) و (طاوس باليمين) وهي (وطاوس باليمن).
(1) على أن للبيان كلمة على حافظ بك باعتبار كونه شاعراً على النحو الذي نحوناه في الكلام على أحمد لطفي السيد بك ستنشرها في العدد القادم.(40/10)
كلمات العظماء
طلب إلينا أن نعود فنتحف القراء بمجموعة من الكلمات الطيبة الخالدة التي تستوقفنا في أمهات الكتب وتضاعيف الأسفار بين كلمة فاه بها رجل عظيم في موطن عظيم مثله أو كلمة نابغة عرضت لكاتب كبير أو مؤلف خالد أو نادرة أرسلها فيلسوف مشهور أو ملك كبير أو قائد جبار، ولعل الكلمة الواحدة تقوم مقام موضوعات متشعبة وتثير خواطر لم تخطر من قبل على أحد ببال، وسنفتتح هذه الكلمات دائماً بكلمات من أحدايث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نردفها بأخرى مأثورة لنبي كريم أو قطب من أقطاب الدين تيمناً بها واعتباراً بما تنطوي عليه من المعاني الإلهية المقدسة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما هلك امرؤ عرف قدره
هذه الكلمة هي رأس الحكمة بل هي أساس صلاح العالم كله سواء في ذلك الأفراد والشعوب، فلولا جهل المرء أو الشعب قدره لما عانت الأفراد والشعوب ما عانت وتعانيه مذ خلق الله آدم أبا البشر إلى يوم يبعثون، وقد قال الأول من عرف نفسه عرف ربه، وقال أبو الطيب:
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
وقال رسول الله: كفى بالسلامة داءً
من أبلغ ما سمع، يريد رسول الله أنه إذا امتد بالمرء العمر وبلغ من الكبر عتياً كان هذا الكبر نفسه المسبب عن السلامة والعافية داءً من أخبث الأدواء لما يستتبعه الكبر من الضعف والتهشم وما إليهما، وفي معناه يقول الشاعر حميد:
(1) وثمة معنى آخر لعله يريده صلى الله عليه وسلم وهو أن الحياة الإنسانية مبنية على أن بعض الضعف نافع لها فلو سلم الإنسان من الأدواء فكفي سلامته داء لأنها تفسد فيه بعض الغرائز الكريمة فيبطر ويطغى إلى غير ذلك مما يشاهد في أهل الغرور وذلك من أخبث الأدواء النفسية.
أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلماً
ويقول آخر:
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فلأنها الأصباح والأمساء(40/11)
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء
وقال زهير:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برامي
فلو أنني أرمى بنبل رأيتها ... ولكنني أرمي بغير سهام
وقال رسول الله:
الصبر عند الصدمة الأولى
وهذه الكلمة أوضح من أن تستوضح، وقال عليه السلام:
إياكم وخضراء الدمن
تمام الحديث: قيل وما ذاك يا رسول الله، فقال: المرأة الحسناء في منبت السوء - وأصل الدمن ما تدمنه الإبل والغنم من أبعارها وأبوالها فربما نبت فيها النبات الحسن الناضر وأصله في دمنة خبيثة قذرة، وأكل هذا النبات مؤذ - ضرب رسول الله هذا النبات مثلاً للمرأة الجميلة الوجه اللئيمة المنبت، قال أبو عبيد أراد فساد النسب إذا خيف أن تكون لغير رشدة.
وقال رسول الله:
المرأة كالضلع إن رمت قوامها كسرتها وإن داريتها استمتعت بها.
الضلع العود فيه ميل وانحناء، وفي معناه استوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع أعوج - وهذا على الكناية، وقال السيد الرسول:
ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً الموطأون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، ألا أخبركم بأبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون.
قوله الموطأون أكنافاً قال ابن الأثير: هذا مثل وحقيقته من التوطئة وهي التمهيد والتذليل وفراش وطيء لا يؤذي جنب النائم، والأكناف الجوانب، أراد رسول الله الذين جوانبهم وطيئة يتمكن فيها من يصاحبهم ولا يتأذى ولا ينبو به موضعه، والثرثارون أي الذين يكثرون الكلام تكلفاً وتجاوزاً وخروجاً عن الحق والمتفيهقون توكيد للثرثارون من فهق الغدير امتلأ ماء فلم يكن فيه موضع مزيد - يريد رسول الله الصدق في المنطق والقصد(40/12)
وترك ما لا يحتاج إليه، ومصداق ذلك قوله لجرير بن عبد الله البجلى يا جرير إذا قلت فأوجز وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف.
من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر
لسيدنا السيد المسيح صلوات الله وتسليماته عليه - جاء في الأصحاح الثامن من إنجيل يوحنا ما معناه: ثم حضر السيد إلى الهيكل صباحاً وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم ثم قدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت وهي تزني فقالوا له يا سيد هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل وقد أوصى نبي الله موسى أن مثل هذه ترجم فماذا تقول أنت - قالوا هذا ليمتحنوه كي يفرط منه ما يؤاخذونه به ويلاحظونه عليه - فأطرق السيد صلوات الله عليه وأخذ ينكث الأرض بأصبعه وأخذوا هم يلحون في تسآلهم فانتصب السيد ثم قال هذه الكلمة السماوية الخالدة التي سرت مسرى الأمثال واحتذاها كتاب الغرب ووضعوا في معناها من الروايات ما لا يكاد يحصي ومن هذه الروايات رواية ماجدولين للروائي الشهير ولكي كولنز وهي تلك التي كان ينشرها البيان في العام الماضي - وهذه المرأة كانت تسمي مريم المجدلية، وقريب من معنى هذه الكلمة قول السيد المسيح أيضاً.
هلّا أخرجت الخشبة التي في عينك ثم أخرجت القذى الذي في عين أخيك وهي من الكلمات الحكيمة التي لا خفاء بها.
القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم لغد، والأمانة أن لا تخالف سريرة علانية واتقوا الله فإنما التقوى بالتوقي ومن يتق الله يقه.
لسيدنا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن قوله:
إذا كنت في منزلة تسعني وتعجز عن الناس فوالله ما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوةً للناس، وقال رضي الله عنه:
إنما مثل العرب مثل جمل أنف فلينظر قائده حيث يقوده، فأما أنا فورب الكعبة لأحملنّهم على الطريق.
الجمل الأنف الذي لا يريم التشكي أي يديم التشكي من فعل الخزامة التي توضع في أنفه يريد أن العرب على الرغم من أنفتهم وإبائهم أن يساقوا بالقوة سأحملهم على الطريق الحق قوة واقتساراً ولا أبالي.(40/13)
ذاك أوقع له فيه
روي أن قوماً ذكروا لعمر رجلاً فقالوا يا أمير المؤمنين فاضل لا يعرف من الشر شيئاً فقال ذاك أوقع له فيه.
الخطيب بوالو: من كبار الكتاب الفرنسيين في القرن السابع عشر.
(مثل الشرف كمثل جزيرة قفر مترامية لا ساحل لها ولا مرسى فمن خرج منها فلا يستطيع لها عوداً!)
(الطعام الذي يعاد تدفئته وتسخينه لا يساوي شيئاً)
(انظر إلى الإنسان في ثوبه الحقيقي، فهو أبداً يتنقل من أبيض إلى أسود، ينقض في الصباح ما أقر في العشية، أبداً تلقاه قلقاً نزوعاً عدواً لنفسه، يغير في كل لحظة آراءه كما يغير زيه وبزته، اليوم في قلنسوة وغداً في قبعة، ولفحة واحدة من الهواء تسوءه وقد تقتله).
(لا أعرف إلا ثلاثة: كورني وموليير وأنا!)
هذا ما أجاب به بوالو إذ سئل كم رجل عظيم أخرجه عصر لويس الرابع عشر.
فانبرى له إذ ذاك من سأله، ولكن ماذا تقول في راسين؟ فأجاب لقد كان رجلاً آية في الاجتهاد وكنت أعلمه بكل مشقة كيف ينظم شعراً. . .!
وكان بوالو يبعد كثيراً في فضيلة الصراحة، فقد حدث أن لويس الرابع عشر، الملك العظيم كما يلقبونه دفع إليه يوماً بضعة أبيات من نظمه وسأله أن ينبئه برأيه فيها فلم يكن من بوالو إلا أن قال، ليس في العالم شيء يستحيل على جلالتكم فقد أردت أن تنظم قصيدة غثة فنجحت!. . .
ولعل هذه الجرأة أشد ما قذف في وجوه الملوك.
وجاء إليه كاتب قبل وفاته بآن قريب برواية تمثيلية ليرى فيها رأيه، وكانت تمت إلي السخف والتفاهة بسبب فلم يسع بوالو إلا أن قال له أتريد بروايتك هذه أن تعجل منوني!. . .
(إذا استبطأ الجلوس قدوم رجل ينتظرونه فلا يلبثون أن يتذكروا سيئاته قتلاً للوقت).
- وكان هذا جواب بوالو إذ سئل عن سبب دأبه على أن يحضر إلى الموعد الذي يضرب(40/14)
له في اللحظة المحدودة!
الكردينال ريشيليو
(أروني ستة أسطر كتبها أخلص المخلصين وأنا مستطيع أن أجد فيها ما يبعث على شنقه!).
وهذه الكلمة دليل على قوة عارضة الرجل وبراعته في التخريج والتأويل.
فردريك الكبير، ملك بروسيا:
(لو أردت أن أعاقب ولاية من ولايات دولتي وليت عليها الفلاسفة. . .)
قال هذه الكلمة عندما كان فولتير قد أساءه وكان إذ ذاك يضطغنها عليه
(أنا فوق النحو)
قالها إذ لاحظ عليه فولتير كثيرة وقوعه في اللحن إذا نظم أو كتب
وكذلك كان نابليون وكان يتشفع لذلك قائلاً إن رجلاً أكثر دأبه النظر في شؤون الشعب لا يستطيع مراعاة قواعد الإملاء والنحو.
(سيدي، إنك أخطأت في مخارج ثلاث كلمات)
قالها دي فافرا إلى كاتب الجلسة وهو يقرأ عليه الحكم بإعدامه.!
ولعل هذا من أغرب ما علم من ثبات العظماء!
(احترمي العبء يا سيدتي)
قالها نابليون لسيدة إذ كانت تأمر جماعة من العبيد - يحملون أحمالاً صعداً إلى ربوة عالية - أن يدعوا الطريق لنابليون
(لو كان حياً لجعلته أميراً)
قالها نابليون عن كورني وكان أكبر شعراء الفرنسيس المتقدمين.
وقد ذكر الشاعر جوت هذه الكلمة ثم أردفها بالكلمة الآتية: وإن كان نابليون لم يقرأ حرفاً واحداً من شعره.
(إني أغزو المدائن والبلاد وجوزفين تغزو القلوب والأرواح!)
قالها عن زوجته:
(أردت أن يكون البحر الأبيض المتوسط بحيرة فرنسية)(40/15)
قالها وهو في منفاه:
(ألا تتكرمون يا سادة بإطلاق الرصاص!!)
قالها متهكماً وقد عتبوا عليه إنه لم يراع الأدب في أمر الجند بإطلاق رصاصهم!
وإنني لأخاف ثلاث صحف سيارة أكثر من مائة ألف سيف!!)
الرحمة خور في الطبيعة
قالها محمد بن عبد الملك الزيات وزير الواثق العبّاسي - وكان رجلاً قاسياً حجّالجيّ المذهب وله حكايات في ذلك ليس هذا موضعها وهو أول من أحدث التنور لتعذيب خصومه فيه وفي هذا التنور عذبه المتوكل حتى فاظ مات فيه.
الجماع جنون وحسب الرجل أن يجنن نفسه مرة واحدة في كل عام
لأبي مسلم الخراساني.(40/16)
الأحزاب الروسية
التي خلقت الثورة والتي ناوأتها
من أعجب أحداث هذه الحرب الكبرى أن تتمخض في قطعة من الأرض عن ثورة أهلية لم تكن في حسبان أهلها من قبل، فتدول دولة حكومة مطلقة كان الذي يعيشون تحتها يظنون أنهم مذعنون إليها يد الدهر، وهذه الثورة ونعني بها النهضة الروسية لا تعد صالحة إلا إذا قام على أطلال الحكومة القيصرية الذاهبة صروح متينة شامخة من الرقي والتهذيب والإصلاح، لأن الثورات الأهلية لا يحكم عليها إلا بنتائجها، وعلينا أن نرتقب زمناً طويلاً للبناء، لأن البناء متراخي الزمن يعوره من المهلة والأناة والحيلة والدأب مالا يعوزه الهدم.
ونحن ننتهز هذه الفرصة فنبسط للقراء بياناً مجملاً عن الأحزاب التي تعمل للنهضة ليكون هذا معجماً للناس إذا مرت بهم أخبار روسيا في عرض الصحف، أو قرأوا عنها ما يروقهم في الكتب والمجلات.
حزب الكماريلّلا
هذا الاسم يطلق عادة على أهل المبادئ الرجعيين من الرجال والنساء الذين كانوا يحوطون القيصر وفيهم السياسيون، ومن بينهم القواد وفي غمارهم الكنيسيون والقساوسة، وفيهم النزاعون إلى ألمانيا وكانوا قبل إبان الثورة يعملون في الخفاء لإقامة صلح بين الدولتين وآخرون منهم مثل راسبوتين همهم إحراز السلطة والاغتناء وإفعام خزائنهم بالمال وجيوب أشياعهم والمحسوبين عليهم ولم تكن قرارات القيصر وأفعال القيصرة إلا رهينة تأثير هؤلاء القوم ولم يكن مستطيعاً أي أمر لا يرتضونه أن يصل إلى مسمع القيصر أو يقع على مرأى القيصرة.
حزب الثنوفنيق
هم عمال الحكومة القديمة الأصاغر - ولا سيما رجال الشرطة المنشورون في روسيا طولاً وعرضاً، وهم يتكاثرون عديداً ولما كانت رواتبهم ضئيلة استعانوا بالرشوة والأعطية ونهب الناس ولعل قسوتهم وغشهم وإرهاقهم وحيلهم هي العامل الأكبر الذي أساء سمعة الحكومة القيصرية عند الفلاحين وملايين الناس الذين أنقضت هذه القسوة ظهورهم ولذا كان أول الخطوات التي خطتها الحكومة الجديدة هي أن تحذف هذه الفئة حذفاً وتقضي على(40/17)
أثرها المفسد كل القضاء.
حزب المائة السوداء
اسم يطلق على أشد حزب الرجيعين رجعية وأكبر أنصار القيصر وصنائعه، وأفراد هذا الحزب رجال من أهل النفوذ والمناصب وكانوا يستخدمون ألعن الوسائل للقضاء على الوطنين والحربين وطالما ذهبت نفوس وسالت مهج وارتكبت شنائع بأمرهم وتأثيرهم وأول من طال نفوذهم واتسع سلطانهم عام 1905 عندما خابت الثورة التي حاول الأحرار إثارتها في ذلك العام ونفوذ هذا الحزب لا يزال باقياً على الرغم من دأب زعماء الثورة في إبادتهم، وهم اليوم قد عادوا يدسون الدسائس ويعقدون المؤامرات لرجعة العرش.
طبقة البورجوا أو الطبقات الوسطى
هذا الاسم هو الذي يطلق على الطبقة الوسطى في الثورة الفرنسية ولكن هذه الكلمة اتخذت لها معنى جديداً في روسيا منذ بدء الثورة فأصبحت تطلق على كل جمع من الناس يعرف عنهم أن مصالحهم السياسية وأميالهم الاجتماعية لا تتفق وأميال الجماهير وهم لهذا متهمون عند الثوريين وكان من هذا أن اعتبر كثيرون من المفكرين وأصحاب الأذهان السامية ضمن هذه الطبقة وفي هذا خطر شديد على الكتاب والمفكرين، وهذا الخطر نفسه هو الذي وقع في الثورة الفرنسية، فطيح بكثير من الفلاسفة والكتاب فوق الجيولوتين.
حزب البولثفيكي
هؤلاء جمع مركب من عدة عناصر من الأحزاب الأهلية الفوضية المختلفة، ولهذا فهم ليسوا حزباً مؤتلفاً منظماً، وأشياعهم يمتون إلى أحزاب متعددة، وهم لذلك مختلفو الرأي في كثير من الموضوعات الاجتماعية والاقتصادية ولكن مبدأهم الأول الذي تضافروا عليه هو العمل والاستعداد للذهاب إلى أبعد حدود التطرف ولو إلى القتل في سبيل غايتهم، وهم السبب في المجازر التي وقعت في الأيام الأخيرة في طرف بتروغراد وهم القابضون على أزمة الحكومة اليوم.
حزب اللينينيث
حزب صغير من الاشتراكيين ولكنه أكثر الأحزاب عملاً ونشاطاً وقد استمد اسمه من(40/18)
زعيمه نقولا لينين وكان هذا الرجل قبل الثورة اشتراكياً صميماً ثم أصبح بعد الثورة أكبر دعاة الصلح بأي ثمن وأية وسيلة وأكبر المنادين لعقد صلح منفرد بين روسيا ودول الاتحاد وقد اتهم بأنه صنيعة من صنائع الألمان وأنه يتقاضى منهم أجراً على دعوته فأمرت الحكومة الوقتية بإلقاء القبض عليه فتمكن من الهرب، ومنذ ذلك التاريخ أصبح طريد القانون فانتشر أفراد حزبه طرائق بعد ذلك ولكنه مع ذلك استطاع أن يقيم في عدة أنحاء من المملكة مظاهرات ضد تلك الحكومة وكانت مبادئه الاشتراكية ودعواته الشديدة الحماسية هي التي فشت في الجيوش الروسية فبعثت على رجعة الجنود على جاليسيا ومن ريجا وقد استطاع أن يجعل الجنرال كورنيلوف تحت إمرته وأذناً واعية لمبادئه، ويعتقد في روسيا أنه منذ اختفائه يشتغل جندياً في صفوف جنود ذلك القائد.
الزمستفوس
هي مجالس منتخبة في كل قسم من أقسام المملكة وهم قوم عقلاء يعملون لصالح روسيا وهم لا ريب الذين نشروا في الأمة الرغبة في إقامة حكومة مستقلة وكان البرنس جورج لوف أول وزراء الحكومة الوقتية من أكبر أنصار هذه المجالس الشورية وهو الذي قام بتشكيل مجتمع كبير عام من كافة أحزاب الزمستفوس في أشد عهود هذه الحرب وأرهب المواطن التي وقفتها جيوش الروس - وكان من هذا المجتمع أن قام بتوريد جميع الأغذية والميرة والذخائر والإسعافات الطبية للجيوش في الميدان.
وهناك أحزاب وفرق وطرائق متعددة أقل شأناً من هذه بين رجعية وناهضة أغفلنا ذكرها لأنها قلما تجيء في الأنباء والصحف.(40/19)
يوميات قائد بحري
هذه اليوميات التي ننشرها اليوم للناس هي أبدع ما خرج في هذه الحرب إذ هي مذكرات حقيقية يلتقي فيها الحب بالقصص ويجتمع في تضاعيفها المأساة بالدرام، وهي خليقة بأن تنسب إلى عقل روائي عظيم كعقل فيكتور هوجو وهي دليل قائم على أن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال.
وواضع هذه اليوميات هو اللفتنننت كولونل هانز فون تير بنجر قائد الغواصة نمرة 13، وكانت وفاته منذ عدة أسابيع وتناقلت صحائف الغرب خبر موته لأنه قضى منتحراً إذ قتل فجأة وهو لا يدري الفتاة الجميلة التي كانت خطيبته، عندما نسف سفينة أبيها وقتل رجال غواصة شقيقها، فثار الحزن بفؤاده فلم يتمالك جأشه في الغداة ولو ين أن قذف بنفسه من أعلى سطح الغواصة إلى اللج المتقاذف واختفى في لحظة عن عالم الفضاء إلى قاع الأوقيانوس فلما عادت الغواصة إلى مربضها جمع رجالها متاع القائد ومن بينها هذه اليوميات التي كان يحرص عليها أشد الحرص، وأودعوها ذمة صديق له قريب في كوبنهاجن.
واليوميات طويلة شائقة تقع في مجلد، ومفعمة بالملاحظات والقطع الرائعة ولكن الجزء الذي نشر في الصحف منها هو الذي نبسطه الآن للقراء. . . . .
5 مارس سنة 1914
لم يكن أبهج لدي وأعز فرحة منذ قدومي إلى ستكهولم من لقائي بصديقي سفن لارسن إذ صادفته وهو يرتشف رشفات القهوة في رحبة الملهى، فانطلقنا إلى داره وهناك التقينا بوالده لارس لاسن ووالدته وشقيقته مينا وقد رأيتهم قوماً كراماً محببين جذابى النفوس، أما الوالد فشيخ ممراح يملأ جو المكان الذي ينزل به ضحكاً ولهواً والفتاة صبيحة الوجه حسناء المعارف أذكرتني إذ وقع بصري عليها بالفتاة جريتشن في رواية فوست التي شهدت تمثيلها ذات يوم لا أذكره.
ورأيت أن سفن قد اطلع كثيراً ودرس جملة من العلوم منذ آخر عهدي به في المدرسة وأصبح يحدث الجلوس بلهجة الثبت الثقة في كل موضوع وفن، وكان الحديث الذي دار بيننا في تلك الجلسة الفكهة عن الجمال ولعل ذلك وحي من وحي نظرات شقيقته، فسألتها(40/20)
إذ ذاك أن توقع لنا نغماً على المعزف البيانو.
فلم تتدلل ولم تتمنع، وإنما سألتني في مقابل النزول لي عن ملتمسي أن أغضي النظر عما أجده من النقص في توقيعها وقامت في الحال إلى البيانو وأطلقت أناملها تلعب بالنغم لعباً فبعد أن وقعت بضعة ألحان معروفة سألتها مرة أخرى أن تضرب لنا لحناً من بتهوفن فأنشأت توقع لحن ضوء القمر وكان أعز الألحان لدي وأبهجها لنفسي وانطلقت روحي في عالم الحلم والخيال، وكان توقيع الفتاة جميلاً، وكان السحر الذي فعلته في فؤادي عظيماً. . . . .
5 إبريل سنة 1914
أيكون في الدنيا بأسرها سعادة أكبر من السعادة التي أحسها الآن. . . . أن مينا تحبني وقد نبأتني ذلك اليوم، لقد مضت ثلاثة أسابيع وأنا لا أستطيع أن أجمع شوارد خواطري وأوابد أحلامي فأدونها في يوميتي بل جعلت أنظر إلى صفحاتها البيضاء مذهول اللب لا أستطيع أن أستنزل ما في صدري صدر الصحف ومضيت أعجب كيف أنني لم أتبين فيها نظراتها المفعمة بالحب، وكيف كنت أبله أحمق إذ لم أتشجع من قبل فأسألها أن تكون لي. .
مينا. . .! لي. . . . إلهي هل أنا جدير بهذه النعمة الكبرى، أتراني خليقاً بأن أظفر بهذه المنحة الإلهية وهي قلب مينا. . . .؟
20 يوليو سنة 1914
ألقيت بالقلم جانباً ولبثت أتسمع صيحات الغلمان باعة الصحف وهم يعدون في الشارع في هذه الساعة الواهنة من الليل، إنهم يصرخون بأن الحرب موشكة أن تقع وكانت الجريدة التي يبيعونها تريد أن تقنع قراءها بأن من المحتمل أن تساق أوروبا بأجمعها إلى حرب كبرى من جراء شكاة النمسا من الصرب. . . ياللسخافة وياللتكهن!! إن حرباً أوروبية تنشب اليوم لا تكاد تلبث أسبوعاً حتى تجر الخراب والإفلاس إلى كل شعب ومملكة، إني سأذهب إلى المضجع فأهبط في وادي النوم هادئاً لا خوف ولا رهب من هذه الحرب الموهومة.
أما إذا وقعت الحرب حقاً، فإنني من رديف البحرية، وأعلم علم الغواصات وأنا إلى الحرب(40/21)
ذاهب ولا ريب وقد كنا في هذا المساء في حديث طويل أنا وسفن عن الغواصات وكان هو كذلك يعلم خافية أمرها ويرى أنها ستدخل في الحرب وستقوم بالجزء الأكبر منها، وكان هذا هو الرأي الذي اجتمعنا عليها في هذا المساء. . . .
31 يوليو سنة 1914
لقد تحقق المستحيل ووقع المحظور، وقامت الحرب وأنا غداً شاخص إلى كييل ولعل إصدار الأمر إلي بالسفر إلى كييل هو في سبيل خدمة الغواصات.
أما والد مينا ووالدتها - لهما الله - فقالا أنهما لا يعتقدان الحرب ماكثة أسبوعاً أو أسبوعين على الأكثر وأنه إذا خمدت الحرب بعد تلك المدة القصيرة وعدت إليهما تزوجت من الفتاة على الفور.
30 سبتمبر سنة 1914
للمرة الثانية منذ تلقيت قيادة الغواصة رقم 13 عدت إلى كييل طلباً للوقود والميرة ومع ذلك لم أتلق كتاباً من مينا!
أترى خطابي لم يبلغ إليها ولكنها تعلم أنها تستطيع أن تكتب إلي من كييل، لا يعقل أنها طردتني من فؤادها بهذه السرعة، كلا إنها مخلصة القلب نبيلة الفؤاد عظيمة الذهن فلا تطاوعها النفس على أن تحل رجلاً غيري مكاني من قلبها لمجرد أنني بعيد عن نظرها ولكن من يعلم. . . . رباه. . . إن هذه الخالجة من الشك تحرق فؤادي. .
في الرابع والعشرين من أغسطس أغرقنا سفينة.
والتهم اليم من رجالها وكانوا مئة، اثنين وعشرين رجلاً، واتفق أن الموج قذف إليها على لوح من الخشب صبياً من البحارة متشبثاً للنجاة مجاهداً، فالتقطناه من اليم وإذا به لا يكاد يعض على الثانية عشر، وعلمت من الصبي أن أباه وأخوه له ثلاثة ذهبوا إلى فرنسا وأنشأ الصبي يقول. . . وبقيت أنا الرجل الوحيد في الأسرة. .
فسألته عما إذا كان يشعر بحزن لتركه أمه، ولعله لم يكن لديه من الوقت من قبل سعة للتفكير فيها، فلما أذكرته الآن ذلك انفجرت عيناه دمعاً وأجهش بالبكاء وطلب العودة إلى وطنه وجعل يحدثني أنه أفلت من الأسرة ناسياً أن أمه وشقيقته مفتقدتاه محزونات عليه.(40/22)
قلت مواسياً الطفل: أتعدني إذا أرسلتك إلى وطنك أنك غير فاعل أمراً آخر يجرح فؤاد أمك؟
فأجاب أعدك ذلك يا سيدي، إني لأعدك كل شيء إلا. . . . . . وهنا تمهل متردداً
قلت. . ماذا. . .؟
قال. . . إلا. . . إلا. . إلا أن يحول شيء بيني وبين قتال أولئك الألمان الملاعين. .!
فضحكت ملء قلبي وعجبت كيف يلقي الأطفال كراهية الشعوب ولعل الصبي تعلم ذلك من والدته. .
وفي المساء بعينه أشرت إلى سفينة نرويجية كانت تمخر العباب ونقلت الصغير إليها بعد أن استوثقت من القبطان بأن ينزله ساحل وطنه فسر القبطان ذلك وأنبأني أنه كان شاخصاً بالصدفة إلى لندن وكانت قرية الفتى عن كثب منها، والآن أسائل نفسي هل ترى الصبي تاركاً أحد هؤلاء الألمان الملاعين في نجوة من شره إذا وقعت في يديه. . . . .
بلغني الآن منذ آونة بأنني سأتلقى قيادة غواصة كبرى فلم أندم على تركي هذه الغواصة رقم 13 لأنها لم تكن تعجبني. . . . .
15 أكتوبر سنة 1915
الأيام الثلاثة التي مضت كانت أرهب الأيام في حياتي ولن تمحي ذكراها من خاطري.
لم تكن الغواصة التي استلمت قيادتها وهي الغواصة رقم 34 أرحب صدراً من تلك المسكينة التي تركتها وأفخم حالاً فقط بل كان بحارتها أقل وحشية من أولئك وأرفق قسوة ثم زد على ذلك أن معي صديقي العزيز فرتزلونج، وهو يتلوني في القيادة. . .
وعجيب من القضاء والقدر أن يعبث بنا هذا العبث ويقذفنا بتلك الدعابات، إنني عندما تركت استوكهولم لم يكن فرتز قد تلقى بعد الأوامر بالانضمام إلى الصفوف وجعل يقول: وإذا دعيت إليها أبيتها إذ كان يعد الحرب عودة إلى الوحشية ذهابة بالمدنية، مفسدة للكولتور الذي أقمناه ورفعنا بنيانه، ولم يكن في دعاة السلم من هو أشد حمية منه.
فلما سألته ماذا غيّره وأحاله جندياً، أنشأ يقول بصراحته المعتادة: لم أتغير ولم يتبدل ذهني، إنني لا أزال أعد الحرب جرماً وفعلة خاطئة ولكن ماذا أصنع لقد وجدتني زنبلكاً صغيراً في وسط ملايين من قطع هذه الماكينة العظيمة التي يسمونها الوطن. . ومن العار الأكبر(40/23)
أن لا يؤدي هذا الزنبلك الصغير عمله والأداة متحركة دائرة ولذلك ها أنا ذا. . .!
كان الثالث عشر من أكتوبر يوم شغل شاغل إذ كنت موكلاً بتوصيل رسالة من أهم الرسائل إلى انجلترا، وكانت في رمز علمت منه أنها تختص بالحصر البحري وكان عليّ أن أدفع بها إلى ربان سفينة سويدية نبئت أنها تبعد عشرة أميال من ثغر يار موث وعليه هو أن يتم الباقي، ولما كانت الرسالة ينبغي أن تكون لدى الربان في الساعة الثامنة من المساء ولم يبق على الموعد إلا خمس ساعات أطلقت لقاربي الحد الأقصى من سرعته.
وستبقى الخمسة أميال الأخرى ماثلة في خاطري يد الدهر، فقد سدد أحد القوارب الانكليزية المستكشفة المرمى علينا ولكنه أخطأنا بأربعين ياردة، فغطسنا في الحال وأجبناه بناسفة من نسائفنا.
ويلوح لي أن الطوربيد أصاب مخزن بارود تلك السفينة.
ولم أجد من الوقت متسعاً لإنقاذ القوم، لأن الرسالة التي كلفت بها كانت تستحثني فتركتهم لأمرهم يفعل القضاء بهم ما يريد. . .
أول يناير سنة 1915
كنا على قاب قوسين أو أدنى من الهلاك في أول أيام العام الجديد لو لم تنقذنا المعجزة، فقد كادت تهوى بنا سفينة كبرى من سفن الأعداء.
وذلك أنني قبل وشك الساعة الثالثة من الصباح انطلقت أستلم من فرتز نوبتي في الحراسة، وكان يرقب الغواصة الليل كله، ولم يغمض لي جفن طول تلك المدة، ولم يأخذ عيني الكرى، وأسهدتني وساوس مختلجة في صدري من تلك الوساوس التي تهجس في الخاطر، قبل وقوع مصاب، أو حادث سيء، ذلك الإحساس الأليم الذي يشعر به الإنسان من حين إلى آخر قبل نزول النازلة، ولكن كنت أرد السبب إلى ذكرى مينا وكنت أوجس شراً أن يكون قد ألم بها أمر أو وقعت لها ملمة، ولم تستطع الصلاة، ولم يغن الابتهال - ذلك البلسم العذب الذي يدمل جراحات النفوس ويطفئ آلام الذهن - عني في تلك المرة شيئاً، ولم يفد في تخفيف جزعي، وتهدئة اضطرابي.
وكان فرتز قد أنهكه التعب، فسره أن يفلت من الحراسة ومضى إلى مخدعه طلباً للراحة، ولم يكد يتركني، حتى سمعت صوتاً لا يجهله رجال الغواصات، صوتاً بدا خافتاً ولكنه عاد(40/24)
يشتد شيئاً فشيئاً، وهو صوت حركة آلة باخرة، وكنا نسير في رفق غاطسين في اليم نحواً من خمسة عشر قدماً، وللحال حولت مجرى الغواصة بعيداً عن جهة الباخرة واقتربت قليلاً من سطح الماء، لأستخدم المنظار وتبينت فوق دائرة ذلك المنظار شكل السفينة.
أول إبريل سنة 1915
يلوح لي أن في هذه المجزرة شيئاً من البهجة والسرور فقد أصبح لديّ إرسال ناسفة في طريقها إلى الموت أمراً لا يزيد في تأثيره عن قذف كرة الكركيت إلى الناحية الأخرى من الملعب، وما أشبه تهالك النفوس على الباخرة المغرقة وسقوطهم إلى اليم كتساقط الأهداف إذ تصدمها الكرة.
كنت علم الله أريد لهواً، وأطلب سلوى، إن مينا لم تبرح في ذاكرتي ولا أزال أحملها في خفقة فؤادي، وفي هذا القنص تحت أديم الماء ما يهدئ من ثائرة ذهني بعض الهدوء، وقد قال لي فريتز إن من حسن حظي أنني لست مولعاً بالشراب وإلا لقد كنت عليه ملحاً، وكنت سأكون من السكر منزوفاً طول الوقت وقد حاولت أن أجد في هذه اليوميات العزيزة عليّ، مانعاً يحول بيني وبين الجنون. . . .
30 مارس سنة 1916
تراءت لي مينا ليلة الأمس في الحلم، وعلى الرغم من كثرة ما شغلت خاطري بتذكارها طول نهاري، وعديد ضراعاتي وصلاتي من أجلها كانت هذه أول مرة بانت لي في الرؤيا. .
لقد كان حلماً مضطرباً مشوشاً ولم أستطع أن أتذكر إلا اليسير منه، إذ أفقت ويلوح لي أنه حلم مزعج يحمل في أثره شراً وسوءاً لأنه قد ترك أثراً حزيناً وظلاً ثقيلاً على القلب.
في السابع والعشرين من هذا الشهر أغرقنا سفينة نرويجية تحمل لحوماً من الأرجنتين وقد كنا أنذرناها بقنبلة فلم تعتد بالنذر فأرسلنا إليها أخرى فأطارت جهازها اللاسلكي، والفضل في ذلك للرامي هالبرت، فهو يعتز بأنه لا يرسل رسولاً من رسل الموت إلا بلغ هدفه، وإذ ذاك وقفت السفينة وهرع البحارة إلى قوارب النجاة، فأطلقنا على الجارية ثلاثاً أخرى فأجهزت عليها، وانطلقنا نعين القوم ونرعى القوارب ورأينا أنهم على مسافة قصيرة من(40/25)
الساحل، مقدارها مائتا ميل فزدناهم ميرة وأمددناهم بكفافهم من الطعام والشراب، إذ كانت أحمال سفينتهم من اللحوم قد غرقت معها.
وكان من بين البحارة رجل قزم أصفر البشرة، أسود الشعر أشبه شيء بالإسباني منه بالنرويجي. . وسمعناه يغمغم لغة من اللغات إذ ابتعد القارب عنا.
قال إيجلو أحد بحارتنا وكان منه قريباً: إنه يريد أن يذهب الإمبراطور إلى الجحيم!
قال هالبرت وقد وضع يده على مسدسه: هل تأذن لي يا سيدي بأن أرسل هذا الرجل إلى الجحيم ليعلن أهلها أن جلالة إمبراطورنا يرفض الذهاب إليها!
وكان هذا القول المجوني منه جداً وعزماً صادقاً.
قلت اسأله وكيف عرفت أنه يقول سوءاً عن الإمبراطور؟
فأجاب: إني سمعته لأني أعرف النرويجية!
وكان القارب لحسن الحظ قد انطلق عنا مبتعداً فلم أر إلا أن أقول: لعلك مصيب رجلاً غيره إذا أنت أطلقت الرصاص على هذه المسافة الكبيرة.
وكنت لا أريد أن أظهر أمام البحارة شيئاً من عدم الاكتراث لإهانة سخيفة كهذه، ولكني مع ذلك كرهت أن يقتل رجل من أجل كلمة طائشة لا معنى لها. . . . . .
2 إبريل سنة 1916
رأيت مينا في المنام مرة أخرى، وكان حلم الأمس ذاك الحلم الفائت بعينه وأنا الآن مستطيع تذكر الحلمين، رأيت مينا في رفقة أبيها وسفن شقيقها، وكانت أمها في الناحية الأخرى بمكان قصيّ بعيد، وكانت واقفة تشير إلى مينا تطلب قدومها إليها، وكانت ذراعا مينا متفتحتين إليّ تطلبان احتضاناً، ولكني عندما هممت بالذهاب إليها وقع انفجار هائل، أخفاها قليلاً عني، ولكن لم يلبث أن تبدّد الدخان فرأيت مينا واقفة بجانب أمها، ترسل القبلات بأناملها إلى وجنتي وإلى أبيها وشقيقها.
قال صديقي فرتز عندما أنبأته نبأ هذا الحلم: إذا كان لهذه الرؤيا معنى فلا يكون ذلك إلا أنك لن تلبث حتى ترى الآنسة مينا.
على أن تفسيره لم يمح ما عراني من الاضطراب لهذا الحلم وما كنت أشعر به من آلام، ولا أستطيع أن أجتنب تخيل مصاب شديد وقع بمينا أو لا شك واقع أو أمر نزل وانقضى.(40/26)
6 إبريل سنة 1916
لقد قتلت أعز إنسان لديّ على الأرض. . . أنا قاتل مينا. . . غفرانك ربي وعفوك. . . أواه. . . أواه. . .
10 أكتوبر سنة 1916
مضى زمان طويل منذ ذلك اليوم الرائع الهائل إلى هذه الساعة! لم أكن أعتقد أنني سأعيش هذه المدة المتطاولة، فقد علمت من فرتز أنه وجدني طريحاً والجملة الأخيرة من يوميتي لم تتم وإنني لبثت ثلاثة أيام سوياً في حمى شديدة، أهذي هذيان من به جنة ولم أستطع أن أتمالك جأشي وأعود إلى لبي إلا في هذه الساعة، ولم يكن لدى جلد على متابعة اليوميات إلا الآن.
في السادس من شهر إبريل المنصرم رأيت سفينة سويدية تنوء بأحمالها، راجفة في مهب الريح، تعدو صوب السواحل الانكليزية، فأطلق هالبرت قذائفه فأصابت واحدة منها صاريها فهوى متحطماً إلى أديمها، وأحدث وقوعه اضطراباً عظيماً في السفينة فلاح لنا أنها توشك على الغرق، فلما تدانى قارب النجاة منا، بلغ مني العجب مبلغه إذ رأيت فيه لارسن والد مينا وشقيقها سفن، وعلى الرغم من أنني أحسست أشد الحزن إذ خطر لي أن هذا اللقاء قد كلف الشيخ عظيماً، لأنني لم ألبث أن أوحي إليّ أن السفينة المغرقة هي ولا ريب سفينته التجارية التي كان يصيب الرزق منها، فإنني لم ألبث أن شعرت بروح من السعادة يسري في جميع أجزاء بدني، لأني علمت أنني سأظفر الآن بأنباء عن مينا.
فصحت بهما والقارب لا يزال على بعد مائتي خطوة منا أنشدكما الله أين مينا؟ قال لارسن الشيخ وهو يشير إلى البقعة التي سقطت عندها السفينة هناك!
فلم أدرك المعنى الذي أراده من تلك الكلمة وحسبته يتكلم على سبيل الاستعارة والمجاز كأنما يريد أن يقول أن الفتاة كانت تحب تلك السفينة أشد الحب وأنها ستروح دامية الفؤاد إذ تعلم بنبأ تلك الفادحة ولكنني عندما اقترب القارب وأدركت حقيقة المصاب العظيم تراخت ركبتاي وكدت أسقط لو لم أستند على ذراع هالبرت ورجل من البحارة، فقد علمت(40/27)
أن قطعة كبيرة انتثرت من الصارى فصدمت مينا وهي خارجة من حجرتها فأماتتها لساعتها، وأسقطتها تحت الأنقاض وعلم أبوها وشقيقها أن القضاء قد نفذ وشهدا السفينة مسرعة إلى الغرق وأن ليس لهما سعة من الوقت، فلم يجدا لهما سبيلاً إلا أن ينزلا قارب النجاة ويتركا رفات مينا يهوي إلى قاع الأوقيانوس.
فجاهدت قواي وانطلقت بالرجلين إلى حجرتي، وهناك تلقيت منهما تفصيل القصة.
قال سفن شقيقها: فلو أنك كتبت إلينا. . .! أنك لم ترسل إلينا إلا كتاباً واحداً، ثم أعقب ذلك. . .! السكوت التام!.
فصحت عجباً. . لك الله أيها الرجل! لقد كتبت عدة من الرسائل أناشدكم فيها إلا ما أرسلتم إلى تذكاران مينا!. .
قال الشيخ: ولكننا لم نتلق إلا واحدة منها، تلك التي قلت فيها إنك وإن كنت قد دعيت إلى خدمة الغواصات غير متوقع أن تغيب طويلاً عن استكهولم!. .
قلت: ومن كان يظن أن هذه الحرب الملعونة ستطول هذا الأمد الرخيّ كله؟
قال الشيخ: لقد حاولت مينا أن تحتمل آلام الفراق بشجاعة وصبر ولكنها عادت تأخذ في النحول والهزال، ولم تكن تشكو ولم تكن تتأوه ثم لم يمض زمن حتى انقطعت عن الكلام عنك دفعة واحدة لأنها كانت تعلم أننا كنا نعتقد أنك قد نسيتها وطردتها من قلبك، ولم تكن تحتمل أن تسمع كلمة سوء من إنسان عنك!
فلما أقبل ديسمبر الماضي، توفي الله زوجتي، وكانت تلك نكبة أخرى أشفقنا منها أن تذهب بحياة الطفلة المسكينة، وقد ذبلت الوجنتان وغارت العينان، فاشتريت تلك السفينة - تلك التي أغرقتها منذ لحيظات - وأجمعت على أن أصحب مينا في سفراتي واستعنت على قيادة الجارية بسفن.
وكنا عائدين من الساحل الغربي لإفريقيا نحمل أحمالاً إلى انجلترا وكان قضاء ثلاثة أشهر في عرض البحر كافياً لكي يرد لون الورد إلى وجنة الفتاة، وأوشكت مينا أن تعود إليّ جمالها الأول، كآخر عهدك برؤيته، ولاح لنا الابتهاج مسرع إلينا وإننا لكذلك - وتلك عجائب القدر - إذ بك قد عرضت لنا في طريقنا، فبددت هناءنا إلى الأبد!
فما سمعت من الرجل أن زوجته قد توفيت، تذكرت الحلم وما تراءت لي فيه تلك المرأة(40/28)
الصالحة فنبأته بالخبر كيف أنني رأيتها واقفة عن كثب تشير إلى مينا أن تقدم إليها وإنني رأيت بعد الانفجار مينا بجانب أمها، تقذف في الهواء قبلات حارة إلينا.
فتبادلنا العزاء، ما استطعنا سبيلاً إليه، وأمددنا قارب الرجلين بالميرة الواجبة فركباه شاخصين إلى الساحل الانكليزي.
وعمدت إذ ذاك إلى يومياتي، أدون أحداث اليوم، ولكنني لم أكد أخط سطرين، حتى علت عيني غشاوة مظلمة، وأعقبها النسيان المطلق، ولما فتحت عيني مرة أخرى بعد ثلاثة أيام رأيت فريتز وكمفر بجانب سريري، وجعل فريتز يقول لي: إنه كان مجمعاً إذا أنا لم أفق على أن يقود الغواصة إلى مربضها لكي يكفل لي من التمريض العناية التامة.
الله للرجلين، ما أكرم فؤاديهما. . . . .
12 إبريل سنة 1917
ليكن عدد ما في يومياتي هذه من الكلم سخطات ولعنات، ماذا أصبح العالم الآن في ناظري. . . . جحيماً وعذاباً مقيماً. . .!
مينا من قبل ثم الآن شقيقها بل صديقي الكريم عليّ سفن لارسن وعشرة من بحارته!. . لقد كرهت رسل الحرب ومستطيريها.
الواجب، الواجب، لا شيء غير الواجب، لا كلمة واحدة تقال عن الإنسانية!!
القتل والنسف، والتحطيم والتدمير بالقذائف والمهلكات، يوماً فيوماً، حتى يستدير العالم، وتستحيل دورة السنين، رباه، ما أشد سآمتي اليوم من كل ذلك، وما أكرهني فيه، ولم كل هذا التقاتل والتطاحن، لا شيء إلا أن حاكماً لا يريد أن يذعن إلى حاكم آخر. . . .!
والآن إذا كان لا بد من القتل، فإنني سأقتل كنمر مفترس، سأحطم كل شيء في طريقي، إلى الجحيم رجال الحرب جميعاً، إذن فسأجيد القيام بواجبي، سأكون وحشاً ضارياً. . .
25 مايو سنة 1917
لا بد من أنني كنت مجنوناً إذ كتبت الجزء الأخير من يومياتي
إنني لا أتذكر مطلقاً أنني كتبتها، ولم أفتح يومياتي منذ ذلك العهد إلا الآن.
كان سفن ولارسن والده ضابطين على سطح الباخرة آدا، فلما نزلا قارب النجاة بعد الغرق،(40/29)
ثار الجنون برأس سفن من أثر هذه المجازر التي أحدثتها فوثب من القارب طافراً إلى عنقي يريد أن يدقه، وكان هالبرت بجانبي فضربه فوق رأسه بمؤخرة مسدسه فسقط سفن منحدراً إليّ أليم فوثبت وراءه، ولكنه كان قد هوى إلى الأعماق ولا يزال في إغمائه، وبحثنا عنه كثيراً فلم نعثر بأثر منه.
أما والده المسكين، وقد فقد زوجته وطفلته وابنه - فلم يعتب ولم يلم، كان فؤاده في أشد اليأس، فجلس في مكانه من قارب النجاة يهز رأسه في صمت، ولبثت أرقب القارب وهو يبعد عنا ذاهباً في صميم الأمواج، فشهدت الرجل من خلال المنظار لا يزال يهز رأسه.
إن بعض العزاء الذي أشعر به الآن أستمده من الجلوس ملياً أمام صورة مينا وقد جللتها بالسواد وببضعة أبيات في رثائها، نظمتها في خاطري، ما أعجبني كيف استطعت تصويرها بريشتي في هذه الصورة الحية الرائعة. . .!
هنا انقطع سير اليوميات فجأة.
وقد حدث أحد البحارة الذين كانوا في السفينة النرويجية الملقبة فوكلاند والتي أغرقتها الغواصة بعد ذلك بما رأي من جنون القائد وكيف قذف بنفسه إلى اليم ولا تزال تجري على شفتيه هذه اللفظة الرائعة مينا! مينا!.(40/30)
آداب
دعا طلحة بن عبيد الله - وكان من أجود قريش - أبا بكر وعمر وعثمان رحمة الله عليهم أجمعين فأبطأ عنه الغلام بشيء أراده فقال طلحة يا غلام فقال الغلام لبيك فقال لا لبيك، فقال أبوبكر ما يسرني أني قلتها وأن لي الدنيا وما فيها وقال عمر ما يسرني أني قلتها وأن لي نصف الدنيا وقال عثمان ما يسرني أني قلتها وأن لي حمر النعم وصمت عليها طلحة فلما خرجوا من عنده باع ضيعة بخمسة عشر ألف درهم فتصدق بثمنها - فتأمل مبلغ أدب القوم ولا جرم فقد أدبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم وأحسن تأديبهم -
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رجل من القراء متقشف متماوت فخفقه بالدرة وقال له أمتّ علينا ديننا يا هذا، فانظر كيف كان بصرهم بالإسلام وإشفاقهم عليه أن يحرف عن موضعه وأن يدال من عزه ذلاً ومن قوته ضعفاً كما يظن كثير من أهليه اليوم ن ويروى أن رجلاً قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم قال يا رسول الله إنما أؤخذ من الذنوب بما ظهر وأنا أستسر بخلال أربع الزنا والسرقة وشرب الخمر والكذب فأيهن أحببت نزلت لك سراً فقال رسول الله دع الكذب فلما ولى من عند الرسول هم بالزنا فقال يسألني رسول الله فإن جحدت نقضت ما جعلت له وإن أقررت حددت فلم يزن ثم هم بالسرق ثم هم بشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إلى رسول الله وقال قد تركتهن جمع.(40/31)
أحداث الشهر
الرزء العظيم
فقيد مصر المرحوم حسن جلال باشا
أفجعتنا الأقدار في أوائل هذا الشهر مارس سنة 1918 وأبت علينا إلا أن يختطف منا ريب المنون رجلاً عظيماً من رجالات القضاء، وشيخاً جليلاً من مشيخة القانون، فاهتدمت من حياتنا السامية المهذبة ركناً ركيناً كنا به أعزة رافعي الرؤوس، وكنا من سيرته النقية القوية الطاهرة نتلقى دروساً عالية تكاد تكون المثل الأعلى في العفة والتقى والنزاهة وقوة اليقين.
وكذلك أرادت الأقدار إلا أن نعيش لنرى رؤوساً كبيرة من تعتبط بعضها إثر بعض فلا نكاد نغتبط بظهور رجل عظيم وقدوة صالحة تحتذى حتى ينزو القضاء فيسترد ما أعطي ويدعنا عزلاً في هذه الحياة عارين من كل ما ينعشنا ويسمو بنا إلى مستوى الجماعات الفرحة المبتهجة المدلة برجالها النافعين.
ولو نحن ألقينا نظرة في تاريخنا الحديث لألفيناه مجموعة من انتظار رجل عظيم والإشفاق من سرعة فقديه، فنحن أمة محزونة لا يكاد يندمل جرح من جروحنا حتى ينفتح بجانبه جرح جديد.
مات حسن جلال باشا - رأس كبير في القضاء وفي الخلق فتوارت صورة جميلة من الصور التي يجب أن ترتسم الحياة على غرارها، وليس ثمة عجب من أن يكون الرجل القاضي بين الناس عدلاً إذا كانت الحياة التي يعيشها بريئة غير متهمة بإثم من الآثام التي يقضي فيها، إذ كان حسن جلال باشا رجلاً تقياً نقياً صالحاً لم تدنس صحيفته معابة من المعابات التي لا يخلو تاريخ العظماء من واحدة منها.
لقد نشأ الفقيد نشأة صالحة وغذي من تربة قوية وعاش دهراً في بلاد الغرب فلم تستطع مفاتنه أن تحدث أثراً في حياة الرجل لأنه كان يعرف قيمتها في نفسه، وإذ ارتفع إلى منصة القضاء علم إن راحة ضميره تعدل العلم بأسره فلم يرض أن يعيش هو في حرب بينه وبين ضميره لكي يجعل ضمائر المجرمين في هدوء بينهم وبين نفوسهم، فعاش حتى أخريات أيامه رجلاً يأخذ من نفسه حتى يري الناس كيف يجب أن يعيشوا ولا يدع حياته(40/32)
تجري في أساليب عيش الناس.
إن موت رجل نافع مثل الفقيد خسارة كبرى ولا سيما إذا كان رجلاً عدلاً لأن الناس يأبون إلا أن يكونوا فيما بينهم ظالمين ومظلومين، فلا جرم أن يكون عالم القضاء حاداً على الفقيد وعالم الناس في مأتم على قاضيهم، بيد أن ما يجعل العزاء قريباً إلى النفس ويجعل صبر المحزونين أن لا يزال من آل جلال رجل من طراز الفقيد، رجل كله كذلك فضل وتقى ونزاهة وعلم وإباء، رجل يستطيع أن يقول لنا ها أنا ذا أخي بينكم! -: ونعني به الرجل الطيب القلب الكريم المحتد على بك جلال شقيق فقيدنا والقاضي بالمحكمة المختلطة اليوم - فإذا كان الميت قد مات فليحي الحي، وليعش عيشاً طويلاً هنيئاً رغداً.
ولو كنا الآن في سبيل تعداد مآثر جلال باشا لجئنا بموسوعات عنه ولاستطردنا طويلاً في تعداد مناقبه ولكنا نترك ذلك الآن مرتقبين الكتاب الممتع الذي سيخرج عن قريب بفضل رجل أديب مهذب من مريدي الفقيد وهو حضرة صاحب العزة محمد توفيق أبو طالب بك باشكاتب محكمة مصر الأهلية الابتدائية.(40/33)
مطبوعات جديدة
التفسرة
أي الاستدلال بالبول على أحوال المرض
كتاب قيم في نوعه، وموضوعه يدل عليه عنوانه، وضعه العالم النطاسي الدكتور أحمد عيسى بك، والدكتور ليس بحاجة إلى التنويه به وبفضله وأنه من نوابغ الأطباء المصريين الممتازين الذي يحق لنا أن نفخر بهم، وثمن الكتاب 20 قرشاً وهو يطلب من جميع المكاتب.(40/34)
العدد 41 - بتاريخ: 1 - 4 - 1918(/)
صفحة من تاريخ الأندلس
الشهامة الإسلامية والفتوة العربية
كتبها خصيصاً لمجلة البيان العالم البحاثة المحقق حضرة صاحب السعادة
أحمد زكي باشا سكرتير مجلس الوزراء
لما انقسمت كلمة المسلمين بالأندلس آذنهم الله بزوال ملكهم وذهاب ريحهم فتقمم الولاة والقضاة والعمال والثوار بقايا ذلك الملك الطويل العريض وادعى كل منهم المملكة لنفسه في البقعة الصغيرة التي احتازها.
بل نرى بعضهم قد ألف أول جمهورية إسلامية (كما حدث في قرطبة مع بني جهور) والبعض الآخر ألف حكومة ثنائية على الشكل الذي كان معروفاً عند الرومان باسم (كما حدث في بلنسية ما بين مبارك ومظفر العامريين) وكان من العجائب اشتراكهما في الملك ولا تنافس بينهما حتى أنهما لم يمتازا إلا في الحرم خاصة وقد ذكر ابن دراج القسطلي شاعر الأندلس هذين الرجلين في قصيدة له بقوله:
وأظفرت آمالي بقصد مظفر ... وبورك لي في حسن رأي مبارك
ولكن اشتد أمرهما وحرصهما في الجباية وأضرا بالناس فاستغاثوا إلى الله فهلك مبارك متردّياً عن فرسه، وضعف مظفر بعده فأخرجه أهل بلنسية فانتزا بشاطبه.
أولئك هم ملوك الطوائف، كان كل واحد منهم يطمح في أن يتغلب على جميع أقرانه ويجمع الملك كله في يده ليجعل نفسه خليفة الله في أرضه وليورث الخلافة بنيه من بعده، فكانوا مع ضعفهم وضآلة ملكهم في خصام وعراك لا يكاد أن ينقطعان، هذا إلى انغماسهم في حمأة الترف وهويهم إلى الحضيض الأوهد من الشهوات.
نعم وقد كان ملوك الإسبانيين في جهات الشمال كذلك منقسمين بعضهم على بعض ولكنهم استفادوا من تشاحن العرب وتطاحنهم، فكانوا يجمعون كلمتهم عند الحاجة لإضعاف العرب ثم يعودون على خصوماتهم ومنازعاتهم إلى أن تتجدد الحاجة فيجتمعوا لسحق العرب وإذلالهم، وبهذه الوسيلة تمكنوا من استخلاص طليطلة التي هي مفتاح الأندلس الإسلامية.
ذلك أنه عند انقراض الخلافة الأموية من قرطبة، كان القاضي في مدينة طليطلة رجلاً اسمه ابن يعيش فاستبد بالأمر فيها ونادى بنفسه ملكاً عليها ولكنه لم يلبث إلا قليلاً حتى قام(41/1)
عليه بنو ذي النون - وكان لهم شوكة وعصبية في شرق الأندلس - فانتزعوا الملك منه وقاموا بشأنه خير قيام، وفي أيامهم تقدمت المدينة وبلغت من السعادة المادية والأدبية درجة تغبط عليها.
(1) هذه البيانات لم يطلع عليها أحد من الباحثين والمنقبين قبل الآن، ولم يذكرها مؤرخ عربي أو غربي، وقد ظفرت بها في كتاب المغرب بأخبار المغرب لابن سعيد الأندلسي الشهير وكتابه بخط يده محفوظة بقاياه القليلة بدار الكتب السلطانية، وفي خزانتي الزكية نسخة مأخوذة عنها.
وكان واسطة ملوك هذا البيت هو المأمون بن ذي النون فإنه تغلب على كثير من ملوك الطوائف وأضاف من أملاكهم إلى ملكه وصنع بطليطلة من العجائب ما تكفل به التاريخ وبسطناه في موضع آخر من محاضراتنا على حضارة الإسلام في الأندلس.
وفي أيام المأمون هذا كان معاصره فردينند الأول قد تمكن من التملك على ثلاثة من ممالك الإسبانيين وهي قشتالة وجليقية وليون، فاستفحل أمره وقويت شوكته وحينئذ توجهت أنظاره إلى غزو ملوك الطوائف وتوسيع مملكته على حسابهم فتقدم بجيوشه نحو قلعة هنارس الكائنة بالقرب من مدينة وادي الحجارة فاستغاث أهلها بالمأمون بن ذي النون لأنه أقوى ملوك الطوائف، غير أنه كان في خصام مستمر مع مناظره المعتمد بن عباد فلم يشأ أن يزيد فوق أكتافه عدواً جديداً بل رأى من السياسة أن يستميله ليتمكن من إذلال ابن عباد والقضاء على دولته، لذلك لم يعبأ المأمون بتقدم فردينند الأول وفتوحه في بلاد الأندلسيين من جيرانه بل ذهب بنفسه إلى معسكره وسأله الصلح وأرضاه بكل ما طلب، ثم تقدم إليه في أن يشن الغارة على ابن عباد ليقتلع دولته من إشبيلية، فلما رأى ابن عباد هذا الخطر الداهم، مع علمه بعجزه عن مقاومة هذه الجيوش، بادر هو أيضاً إلى الدخول في صلح فردينند وفرض على نفسه إتاوة سنوية يؤديها إليه وقدم له هدايا جليلة، فأنعم عليه فردينند بما طلب.
ولقد بلغ من انقسام ملوك الطوائف بعضهم على بعض أن المأمون وضع جيوشه تحت تصرف فردينند هذا فذهب بها وبجنوده يشن الغارات عليهم حتى بلغ أبواب بلنسية، فاستفحل أمره وأمر دولته إلى أن كان سبباً في سقوط طليطلة نفسها.(41/2)
ومن العجائب أن سقوطها كان بسب أكرومة فعلها المأمون بن دي النون مع ابن فردينند هذا فعادت هذه الأكرومة عليه وعلى دولته بالو بال وكانت سبباً في زوال ملكه وضياع الأندلس كلها من يد المسلمين، ذلك أن فردينند لما أحس بدنو أجله في سنة 1065 م (458هـ -) قسّم مملكته وهي قشتالة وجليقية وليون بين أولاده الثلاثة: دون شانجه ودون غرسيه والأذفنش، غير أن الأول اغتصب نصيب أخويه وحاز المملكة كلها لنفسه ففر غرسيه ولاذ بابن عباد في إشبيلية فأمده بالمال والرجال لاسترجاع نصيبه، وأما الاذفنش فقد هرب من الدير الذي حبسه فيه أخوه بمدينة برغش واستجار بالمأمون ابن ذي النون فأكرم مثواه وخصص له قصراً فاخراً في أرباض طليطلة خلف النهر، ولا تزال خرائبه موجودة للآن بقرب محطة السكة الحديد ناطقة بما كان فيه من عظمة وجلال.
مضت الأيام والشهور وهذا الأمير الإسباني في ضياف ملك المسلمين على أحسن حال، وقد روى مؤرخو الافرنج أن المأمون ذهب في يوم من الأيام مع رجالاته وكبار قواده إلى زيارة هذا الضيف الكريم فأخذوا في المسامرة والمنادمة في روضة القصر ثم جلسوا تحت الأشجار الوارفة الظلال وهبّ عليهم النسيم العليل، فنام الأمير الإسباني أو تناوم بينما كان سادات العرب يتجاذبون أطراف الحديث حتى انساقوا إلى الكلام على حصانة المدينة واستحالة أخذها مهما كانت قوة الجيش الذي يهاجمها، ففرطت عند ذلك كلمة من أحد القواد كانت هي القاضية! فقد قال إن العدو مهما فعل بالمدينة فلن يتأتى له أن ينال منها شيئاً اللهم إلا إذا عول على طرقها سبع سنوات متواليات لإفساد ما حولها من الزروع والغلات، فحينئذ يكون من أهون الأشياء عليه اقتحامها إذ يكون الجوع قد فعل بها أفاعيله.
تنبه المأمون بن ذي النون لهذه الفلتة وتفطن سادات العرب لما فرط من صاحبهم وأوجسوا خيفة أن يكون ضيفهم الإسباني متناوماً لا نائماً فيكون قد وعي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها للإسبانيين امتلاك هذه المدينة الحصينة المنيعة، فأخذوا يستخبرون النائم ولكنه أغرق في الغطيط وزاد في التناوم وبالغ في التماوت حتى اطمأن بالهم وظنوا أنه لم يدر ما دار بينهم من الحديث، ولقد بالغ الافرنج في رواية هذا التماوت إلى درجة لا تقبلها العقول فقد زعموا أن العرب تخيلوا أنه وقف على أسرارهم فأرادوا أن يقتلوه ولكن شهامتهم أبت عليهم أن يسفكوا الدم الحرام ولاسيما دم الضيف بغير الحق.(41/3)
فأرادوا أن يختبروا حالته فتقدم أحد السادات وهزّه بعنف شديد فلم يستيقظ، فجاء آخر وصبّ في يده الرصاص المذاب فلم يتحرك الأمير الإسباني أدنى حركة، قالوا: فكان في هذا البرهان المحسوس على هذا النوم العميق منجاة له من القتل فقد خرق الرصاص يده ولم يتمامل مطلقاً ولذلك لقبه قومه بالملك المخروق الكف، نعم إن فريقاً آخر من مؤرخيهم يقولون أنه إنما لقب بذلك لتبذيره وإسرافه في بذل الدارهم والدنانير.
هذا وما زال الأمير الإسباني في ضيافة ملك المسلمين حتى دعاه الأعيان بلاده لتقلد زمام الحكم بعد وفاة أخيه، فتوقف في إجابتهم وعلق قبوله دعوتهم على الاستئذان من ضيفه ووليّ نعمته وحافظ مهجته، فشكره المأمون على هذه المجاملة وقال له ما معناه أنت طليق، وأنا لك نصير! ولقد وجب حقك عليّ منذ لذت بجواري ودخلت في حماي! فلك عليّ أن أزوّدك بما تشتهي من المال وأمدك بمن تريد من صناديد الرجال! عهد أقطعه على نفسي حتى تسترجع عرش أبيك، ولست أطلب منك سوى خصلة واحدة: هي أن تحلف لي بأنك تبقى محافظاً على عهدي فتحترم مملكتي ولا تؤذيني في أهلي وبيتي.
فشكره الأمير الإسباني وأقسم له بأغلظ الإيمان على ما أراد، ثم ذهب بجيش العرب وبمال العرب نحو بلاده فتقلد زمام الأحكام باسم ألفونس السادس، وقد لاقى العرب من بعد ما لاقى سنمار، لما سنراه من أفاعيله عما قريب.
مازال ألفونس محافظاً على عهده مع المأمون، بل إنه أمده بجنوده في حروبه مع ابن عباد سلطان إشبيلية، فكان ابن عباد ووزيره ابن عمار (الشاعر الأكبر والداهية الأشهر) يواصلان الحيلة والدسيسة حتى أغريا ألفونس السادس بطليطلة وكان بها مغرماً هائماً ولاسيما بعد معرفته التامة بها وبقيمتها الحربية، فقد كان يهجس في ليله ونهاره بطليطلة وبحب طليطلة ولكنه كان يكبح نفسه عن أمانيه وأحلامه إذ كان يذكر عرفان الجميل ووجوب الوفاء بالوعد وضرورة البر بالقسم العظيم، فصار يتربص الفرص وهو يتقلب على أحر من الجمر، حتى وافاه الدهر بما يشتهي، فقد كان من حظّه أن مات المأمون وخلفه ولده هشام فأساء السيرة، على ما يقال، والأرجح أن دسائس ابن عباد وابن عمار من جهة، ومكايد الفونس نفسه من جهة أخرى، فعلتا فعلهما بين أهل البلد حتى جاهروا هشاماً بالعدوان واقتحموا عليه قصره وقتلوا حراسه وحاولوا اغتياله، غير أنه تمكن من الفرار،(41/4)
فلجأ إلى الفونس السادس، صنيعة أبيه منذ عهد قريب، فأكرم وفادة هشام وأمده بجيش ساعده حقيقة على الرجوع إلى كرسي مملكته، ولكن هذه المعاونة لم تكن صادرة عن أريحية كاملة كما فعل المأمون مع الفونس بل إن الفونس أخذ من ابن المأمون ثمن هذه المساعدة إذ ألزمه أن يتنازل له عن حصنين منيعين متاخمين لبلاده، على أن هشاماً لم يتمتع بهذا الملك إلا قليلاً من الأيام، ولذلك لم يرد ذكره فيما وصل إلينا من كتب العرب وفي بعض تواريخ الافرنج، وخلفه القادر بالله يحيي: وهو أخوه على قول الافرنج، وابنه على قول العرب، وكان غبياً بخيلاً منحط الطباع فاسد الأخلاق فاغتنم الفونس هذه الفرصة وهاجم المدينة الجميلة التي كان يحلم بامتلاكها، وكان من أعرف الناس بعوراتها وطريقة الاستيلاء عليها نظراً للمدة الطويلة التي أقامها بها في ضيافة المأمون بن ذي النون، ونظراً لما علمه أثناء ما كان متظاهر بالنوم في روضة القصر.
فمكث ثلاث سنوات وهو يشن الغارات على طليطلة مكتفياً بقطع الأشجار وإتلاف المزارع وإحراق الأنادر والبيادر بما فيها من الغلات والأرزاق حتى جعل المدينة أشبه بروضة أي واحة في وسط صحراء جرداء قحلاء، وكان يأسر الفلاحين وينقلهم إلى بلاده لكيلا يعودوا لغراسة الأرض وتعميرها حول طليطلة فتعود إليها القوة والحياة.
بهذه المثابتة وقعت في قبضته المدينتان المجاورتان لطليطلة وهما مجريط (مدريد الآن) ووادي الحجارة، فبقيت طليطلة منقطعة منعزلة، ولذلك تسرب إليها الضعف والوهن فأصبح الاستيلاء عليها من أسهل الأمور: وحينئذ استغاث صاحبها بابن الأفطس ملك بطليوس وبابن هود سلطان سرقسطة وتمكن بمعاونتهما من صد جيوش الفونس السادس، ولكن هذا الملك عاود المدينة بالتخريب وتقليع الشجر وإتلاف المزروعات حتى تأتت له الفرصة التي كان ينتظرها وحلت الساعة التي كان يترقبها، وحينئذ جاء بجنود لا عداد لها وحاصر المدينة ست سنين ففعل الجوع أفاعيله بأهلها ولذلك طلبوا المفاوضة معه على تقرير الصلح، فأراد القادر أن يكون تحت عهده وفي ذمته ولكن الفونس أبى إلا أن يتسلم المدينة ليجعلها كرسياً لمملكة قشتالة، فلما علم أكابر البلد وحماتها بذلك أجمعوا أمرهم على المدافعة عن وطنهم وأهلهم وتحالفوا على الموت في سبيل الجهاد، غير أن العامة واليهود والمستعربين (أي أهل الذمة من الإسبانيين) ألزموهم بأن ينزلوا على حكم الفونس وأن(41/5)
يقبلوا كل ما يريد مهما اشترط ومهما اشتط في الطلب.
حينئذ سلمت طليطلة إلى الفونس السادس في 24 مارس سنة 1085 (24 ذي القعدة سنة 477 هـ -) فدخل بجنوده وجيوشه في موكب حافل يوم 25 مايو من المذكورة (27 محرم سنة 478 هـ -) إلى تلك المدينة الجليلة: مدينة الرومان، عاصمة القوط، مصر العرب، وقد أمر بسد الباب العربي الذي دخل منه فهو لا يزال مسدوداً إلى اليوم، واسمه عند العرب باب شقرا ويسميه الإسبان إلى الآن باسمه العربي محرفاً هكذا بيساجرا.
وخرج القادر يحيى بن ذي النون منها على أقبح صورة وأفظع سيرة قاصداً عمالة بلنسية التي رضي الفونس بأن يبقيها له إلى حين، فقد بلغ من سخافته أنه بعد ضياع ملكه العظيم أراد أن لا يخرج من طليطلة إلا بعد أن يتخير بنفسه الطالع ويستخبر الكواكب لمعرفة الوقت الميمون المبارك فسار في الشوارع وبيده الاسطرلاب يحسب الدقائق والساعات ويرصد الطوالع والنوازل، فتعجب منه المسلمون وهم يبكون، وضحك منه الإسبانيون وهم به يستهزؤون.
سقطت طليطلة في يد الإسبانيين فوجد الأندلسيون من ذلك ما لا يطاق وكانت هذه النازلة سبباً في احتراق قلوبهم وشدة تخوفهم من سوء العاقبة حتى قال شاعرهم العسال:
يا أهل أندلس، حثوا مطيكم ... فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه، وأرى ... ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
ونحن بين عدو لا يفارقنا ... كيف الحياة مع الحيّات في سفط
على أن النازحين من أهل طليطلة ما زالوا يستنفرون إخوانهم في بقية أمصار الأندلس ويستنجدون ملوك الطوائف لاستردادها، لذلك يحدثنا التاريخ بما حاولوه من استرجاعها المرة بعد المرة فكانت سراياهم تراوحها وتغاديها، وتصبحها وتماسيها، وتطرق أحوازها ومغانيها، وتحوم حول حماها وتشن الغارات عليها.
ومما يجب ذكره في هذا المقام أن الفونس السابع ملك طليطلة خرج لشن الغارة على بعض حصون المسلمين، واتفق في أثناء غيبته أن سرية من سرايا الأندلسيين ذهبت إلى طليطلة فهاجمتها وكادت تملكها، غير أن زوجة الفونس السابع وهي الدونة برنجويلا المسماة أيضاً بيرنجير أفلحت في إنقاذ المدينة منهم فلقد أقدمت هذه الملكة البارعة في الجمال على حيلة(41/6)
بلغت من الجراءة مبلغاً ليس له مثيل في التاريخ، فإنها حينما رأت العرب وقد أوشكوا على فتح المدينة عنوة راسلت أميرهم وطلبت منه الهدنة إذ كتبت إليه رسالة هذه ترجمتها:
ياوجوه العرب! بأي شرع من شرائع المروة والفتوة، تحاربون امرأة لا حول لها ولا قوة؟ لعمري أن هذا ليس من شمائل قومكم أهل الحمية والنخوة! أفما علمتم أن الملك زوجي قد ذهب لمحاربة إخوانكم في عقر داركم؟ وها أنا قد كاتبته بنزولكم علينا وهو بلا شك سيسارع إلينا، فإن كنتم كما أعهد من أهل النجدة والبأس، فما في انتظاركم ساعة من بأس! وإلا فاذهبوا إلى ملاقاته ومقارعته في جهة أوريجا هنالك يتاح لكم الظهور بمظهر الأنجاد المغاوير! أما إذا بقيتم في هذا المكان فليس لكم من فخار في قتال ربات الحجال! وإنما يحيق بكم الخزي المبين، إذا أقدمتم على امرأة عزلاء ليس لها من ناصر ولا معين.
وصلت هذه الرسالة إلى أمير العرب فدبت فيه النخوة العربية فسارع إلى التنصل والاعتذار على أشرف وجه وأنبل أسلوب، مؤكداً أنه لم يكن يعلم أن الملكة كنت وحدها في طليطلة وإلا فإنه ما كان يجيز لنفسه أن يطرق حماها لأنه لم يخطر على باله قط أن يحارب امرأة ولا أن ينتهك حرمتها.
ثم عرض عليها رفع الحصار في الحال بعد أن يتشرف بتقديم التحية إليها، حينئذ تقدمت الملكة فوق الأسوار وهي تتجلى كالعروس في أفخر ملابسها وحولها الوصيفات والضاربون بالآلات الموسيقية.
فبادر العرب كلهم من وراء الأسوار إلى تقديم مراسم التحية والإجلال، وهتفوا مهللين مكبرين أمام هذا الجمال الساحر ثم انصرفوا تحت جنح الليل، فالتقوا بالملك الفونس في طريقهم فانقض عليهم بجنود لا قبل لهم بها فأفناهم عن آخرهم وكان ذلك آخر العهد بهم.
وسنمحص هذه الرواية تمحيصاً تاريخياً علمياً في العدد الآتي، ونردفها بمسألة مشابهة لها من جهة الشهامة العربية، والله ولي التوفيق.(41/7)
معبد هيبس
وصف هذا المعبد - دلالة الخط الهير جليفي
شكوك حول قراءتها - من (رحلة الواحات)
لحضرة الاستاذ الشيخ محمد حلمي طمارة أحد خريجي مدرسة القضاة الشرعي
لو كان لي قدرة على التصوير لاستغنيت به عن الوصف هنا، لأن صورة معبد (هيبس) تلقى في الإنسان روعة لا تحدثها العبارة، وتحيي في قلبه شعوراً بعظمة الآباء لا يقوى البيان على إحيائه.
فتماثيل السباع الرابضة هناك والتي أصابها من التشويه ما أصاب (أبا الهول) تمثل ما كان له من المناعة، وشدة التحجب، وتخيل إلى القادم أنه مشرف على عرين ليوث وغابة أسود، لا قادم على بيت عبادة ودار تنسك. . .
وبقية سياج المعبد الخارجي تدل حجارتها العظيمة على ما عاناه بانوها في نقلها.
وما قاسوه من جرّاء وضعها في الجدار ورفعها. . . فإذا تجاوزنا ذلك كله وجدنا مجازاً جميلاً على جداره الشمالي صورة امرأة حسناء واقفة أمام رجل، يزعم أهل الآثار أنه آلة النسل - وعلى الجنوبي رجل جلس على كرسيه وخلفه امرأة وأمامه خادم حلق النسر فوق رأسه، يناول سيده الكأس بيمينه، وبين يديه مائدة عليها أباريق الشراب وأواني الطعام ووراء هذا المجاز قصر فخيم وبناء ضخم، يتقدمه بهو جميل، به ست دعائم منها ثلاثة على يمين الداخل ومثلها على شماله وخلف ذلك ردهة بها اثنا عشر عموداً تؤلف ثلاثة صفوف متوازية تنتهي بردهة أخرى بها أربعة أعمدة في صف واحد تتصف بصفة على جوانبها معاهد الآلهة وحجرات النساك وفي إحدى الحجرات سلم إلى السطح ونفق في الأرض، أما زينة المعبد وزخرفه فنقوش جدرانه وسقفه التي شابهت معرض الصور ودلت على نبوغ الأجداد في التصوير وبراعتهم في تأليف ألوانه وقدرتهم على اختراع الصور وحذقهم في تنويعها فمن صائل برمحه على أفعوان، وشاهر سيفه في وجه إنسان، إلى أسرة حول مائدة الطعام وغلام يعاطي مولاه كأس المدام ومن صورة الشمس وشعاعها ذاهب في أنحاء الفضاء، والطيور تحلق في جو السماء إلي متمخضة عن حملها وآخذة بيد بعلها، إلى غير ذلك من صور جامعة بين جسم الإنسان ورأس الحيوان في أزياء تساعد(41/8)
المبدع على الإبداع وتهدي المخترع إلى الاختراع وألوان لم تنسخ الأيام آيتها، ولم تنل الدهر جدتها.
تلك صورة المعبد وقد كان الواجب يتقاضى البحث عنه من الجهة التاريخية إلا أن تاريخ العصور التي تمخضت عن تلك الآثار يستقى أنباءه من النقوش الأثرية التي بقيت ألغازاً مبهمة وطلسمات معجمة أدهاراً طويلة، إلى أن أعلن اكتشاف (الهيرجليفي) على أثر الوقوع على حجر رشيد فتهللت وجوه أهل العلم لذلك، وظنوا أنهم عثروا على مفتاح التاريخ وفتحوا باب العلم المغلق وربما كان هذا الاكتشاف نافعاً لو بقيت كتب الأقدمين، فأما وليس لنا منها إلا ما بقى على الدمن والأطلال الدوارس، فإن اكتشاف خطهم جاء كآلة قليلة الغناء هذا إذا صحت دلالة ذلك الخط، وفهمت إشارته وساوى في إفادته المعاني سائر الكتابة المقروءة - لكني لا أؤمن بقدرته على تلك الإفادة، وأشك في صحة دلالته على الرغم من كثرة قرائه ووفرة المؤلفين فيه وسهولة تعلمه ونشر طريقته وتعويل علماء العصر عليه وإقرار الجمعيات العلمية لأن طريقة اكتشافه مدعاة للشك، موجبة للريب، فلقد قال لنا مكتشف أنه رأى منشوراً على حجر رشيد مكتوباً باليونانية، ورآه مكتوباً بالمصرية القديمة في ناحية من الحجر ورأى في ناحية ثالثة نقوشاً (هيرجليفية) اعتقد أنها المنشور بعينه، فشرع يستخرج من تلك النقوش الحروف الهجائية لتلك اللغة، وبعد استخراجها قرأ بها سائر الكتابة وفهم دلالتها وكلماتها بعد أبحاث ترجع إلى مثل ذلك - إننا إذا تساهلنا وقلنا أن المكتوب باللغتين المقروءتين، هو المرسوم باللغة غير المقروءة لا نزال نرى أن إخراج الحروف من هذا الحجر، على هذا النحو من الأمور الصعبة.
الغريب أن الكتابة المكتشفة لم تكن من نوع الكتابة المعتادة في دلالتها بل كانت على ما يقول مكتشفوها، رموزاً، وإشارات، يختص بها طائفة من رجال الدين، بادوا وبادت دولتهم، قبل أن يطلعوا أحداً على تلك الرموز أو يرشدوا إلى تعليمها بمؤلف مكتوب بلغة معروفة وهذا مما يرجح عندنا أن المنقوش على حجر رشيد (بالهيرجليفي) يخالف المكتوب عليه باليوناني والمصري وإلا لما كان سراً مصوناً عن العامة مضنوناً به على الناس فكتابة المنشورات به تنافي أن يكون سراً محجباً ووضعه على هذه الطريقة يعرض رموزه للحل وألغازه للبيان وهذا ينافي شدة الكتمان.(41/9)
إن اكتشاف لغة على هذا النحو أولى بوضاع الروايات الخيالية، منه بطلاب الحقائق العلمية، وقد يصدق الإنسان باختراع لغة ووضعها ويتردد في القول باكتشاف لغة باد أهلها ولم يتركوا لمن بعدهم سبيلاً إلى معرفتها، من كتب تعلم قراءتها ومعاجم تفسر مفرداتها ومؤلفات تهدي قارئ جملها إلى دلالة التراكيب بل ولم يدلوا على حروفها الهجائية ورموزها الأولية ولو جاءنا فرنسي لا علم له بالانكليزية مدعياً أنه استعان بمعاجم الانكليز على فهم شعر. . شكسبير لكذبناه في دعواه، وأقمنا جهله بأصل اللغة برهاناً على كذبه مع اتحاد اللغتين الفرنسية والانكليزية في الأصل والحروف وتقارب بعض المفردات في النطق والمعنى ووجود المعاجم والكتب المساعدة على ذلك فما بالنا نصدق رجلاً لا عهد له بلغة ولا معرفة له بحروفها ولا اجتماع له بأحد من أهلها وليس هناك معاجم تحل مفرداتها على فرض قراءة حروفها فيما هو أبعد من ذلك وأصعب.
إن اللغة العربية - وهي لغة دين دعا أهلها لتدوينها والمحافظة عليها ونشرها لا تزال - وقد ضبطنا كل مفرداتها، وجمعنا ما قيل فيها من نظم ونثر، ودونا فيها ما لا يحصى من المعاجم والكتب وأخذناها عن أهلها بالرواية والتلقين والمشافهة والمحاكاة - لا نزال إلى الآن نستصعب فهم الكثير من جملها وربما جهلنا جهلاً تاماً بعض ألفاظها التي جاءت في أشهر وأكرم كتبها كالمقطعات في أول السور، ذلك حال العربية والعناية بها كما علمت - فما ظنك بلغة قوم، كانوا يخفونها عن العامة، ويخصون بها الكهنة الذين انقرضوا دون بذلها لسواهم ومضى على انقراضهم طويل الأزمان والآناء.
سوف نسمع نعرة حماسية، من قراء تلك الرموز ومصدقي أنبائها، غير أن الباحث عن الحقيقة يجب أن يروض آذانه على الجلبة والصخب.
إننا إذا طرحنا السفسطة، وطلبنا أقوى الحجج على صحة دلالة (الهيرجليفي) لبحثها، وجدناها لا تقوى على تحمل النقد الصحيح فأشياعها يقولون أن قراءة (الهيرجليفي) منتجة باطراد وأن الذين تعلموها يقرؤون بها كل مكتوب، وأن قراءها يتحدون في فهم المراد بها، ولو كانت دلالتها غير صحيحة، لظهر الاضطراب عند تطبيقها، وفقدت دلالتها ولم تشف عن المقصود منها، وفي ألواح كثيرة كتبت بها، وإذا صحت النتيجة واطردت الدلالة، دل هذا على صحة المقدمات الموصلة إليها.(41/10)
ذلك أوجه الأدلة عند الأشياع والناظر في هذا النوع من الحجاج يجده من قبيل الاستدلال بسلامة النتيجة، على صحة الفرض وقد علمنا المنطق أن صحة النتيجة لا تستلزم صحة المقدمات، ليس هذا خاصاً بالقضايا النظرية، بل وبالمسائل العملية أيضاً فإن قدماء الميقاتيين والفلكيين، بنوا جميع حساباتهم وتقاويمهم وأزياجهم على فرض أن الأرض ثابتة وأن الكواكب تدور حولها وجاء المتأخرون ففرضوا عكس فرضهم، وأتوا بنتائج مثل نتائجهم وتقاويم لم تختلف عن تقاويمهم ولا يمكن مع القول بصحة النتيجتين، القول بصحة الفرضين لأن ذلك من قبيل الجمع بين الضدين فتوافق قراء (الهيرجليفي) لا يدل على صحة طريقته لا سيما ومكتشفه قد فرضه حقيقة واقعة وشرع يبحث عن طرق إثباتها لا أنه سلك من طرقها إلى غاياتها.
قد يكون هذا تهجماً على العلم، وقد يكون جرأة على معارضته وقد يكون سفسطة ضد الحق، وقد يكون كل ذلك غير أنها شكوك تعترضني كلما حاولت قراءة أي باب من تاريخ مصر القديمة فتحول بيني وبين الاندفاع به شكوك تحقر من أسناد ذلك التاريخ في نظري وتقف دونه عقبة اعترضتني فلم أستطع تذليلها، وكم عرضت لي أثناء الدراسة فزهدتني في حفظ درس التاريخ القديم، نفثة على هذا العلم قديماً ملأت صدري وضاق بها ها أنا ذا أنفثها أمام معبد (هيبس).(41/11)
الملايو
أرسل إلينا هذه الرسالة حضرة الأديب الفاضل حسين أفندي عابدين المقيم بسنغافورة اليوم
يسكن الملايو شبه جزيرة ملقا وأرخبيل ماليزيا (جزر الهند الشرقية) الذي سمي كذلك نسبة إليهم، وقد اختلف المؤرخون في أصل هذه الأمة، فقال البعض أنهم من آسيا ثم تفرقوا في الجزر وينسبون اليابانيين إليهم، وقال آخرون أنهم من جزيرة سومطرة، وقال غيرهم أنهم من جزر المحيط الهادي نقلتهم الرياح الشرقية نحو آسيا ولا يزال يوجد قوم من نسلهم بجزيرة مدغشقر.
وبتوالي الغزوات على بلادهم قد اختلطوا بالعرب والفرس والهنود والصينيين والافرنج وغيرهم، ولكن لا يزال بسومطرة وملقا وغيرهما العنصر الأصلي خالصاً.
وهم يشبهون المغول في السحنة، قصار القامة، أقوياء البنية، طويلو الأصابع رفيعوها، ثقيلو الأرجل في السير أقوياء عليه، كرويو الرؤوس مع انبطاح من الخلف وغزارة في الشعر، قصيرو الأنوف ولكنها واسعة الفتحات، واسعو الأفمام ولكنها غليظة الشفاه جميلو الأسنان مربعو الوجوه، مرفوعو العيون بانحراف نحو الأصداغ (البعض أفقيوا العيون) ناميو عظام الوجنات بارزوها، يقل الشعر في أجسامهم ولحاهم، لون بشرتهم بين الصفرة والسمرة، ثديّ نسائهم صغيرة، ولسن جميلات القوام كالهنديات والمصريات والتركيات وغيرهن.
من عوائدهم مضع البتل ويسمونه سيرة وهو ورق نبات كاللبلاب (المعروف بمصر) له مفعول صحي قابض، ويضيفون إليه جو زالا رك ويسمونه بينغ والكاس ويسمونه كافور وثمر شجر الكات ويسمونه كمبير والتمباك ويسمونه تمباكو ومن يراهم لأول مرة وهم يمضغونه لا يظن أنهم يأكلون لحماً نيء تسيل منه الدماء فتشمئز منهم نفسه.
وقد كانت أسلحتهم السيف ويسمونه فدغ والخنجر ويسمونه كولوء والسهام المسمومة ويسمونها أنق فانه والسباطانة ويسمونها سمفيتن (وهي أنبوبة طويلة توضع بها قطع صغيرة من الطين الجاف أو غيره وينفخ فيها فتصيب الغرض، وهي تستعمل لصيد الطيور الصغيرة) وغيرها، ولكنهم الآن يستعملون الأسلحة النارية الحديثة.
وملاهيهم هي المراهنة بالورق والنرد والشطرنج ومضاربة الديكة وفحول البقر والجاموس والصيد والمبارزة والرقص، والميسر منتشرين بعضهم رجالاً ونساء.(41/12)
وهم ذوو صفات غريزية فاضلة، فلرجالها ذكاء متوقد وحماس غريب، عزيزو النفس يترفعون عن الذل، أولو شجاعة قد تقودهم إلى حتفهم، كثيرو الحذر في المعاملات يتهمهم بعض المؤرخين بالخيانة وقساوة القلوب غير أني لا أعرف فيهم إلا الأخذ بالثأر وكظم الغيظ.
وهو من الأمم التي تعيش متكلة على غيرها، ترزق من خدمة الأمم الأخرى دون أن تسعى إلى ترقية نفسها بذاتها بل ولا بغيرها.
ولهم استعداد فطري للصناعة كالحياكة والصباغة والحفر على المعادن والنجارة، والصياغة، والدباغة، وعمل الأسلحة، ولا يضاهيهم في بعضها غيرهم من الأورباويين.
وقد كانت حكوماتهم قبل استعمار الافرنج لها استبدادية ارستوقراطية بمعنى الكلمة فالوالي ويسمونه راج أو تفكو بسر هو الحاكم المطلق، يتصرف فيهم نساء ورجالاً تصرف المرء في عبيده بل أشد.
ومنازلهم يصنعونها من الخشب وهي مربعة الشكل تقريباً، ويقيمونها على أوتاد لتقيم تحتها ماشيتهم وسقوفها مائلة ويصنعونها من سعف نخل يسمونه نيفا ومتى صنعت يسمونها أتف.
ويلبس الرجال عادة قميصاً قصيراً (لا على الركبة فقط) وسروالاً فوق قماش (كفوط الحمام المعروفة أو كالتي يستعملها بائعو شراب العرقسوس والخرنوب بمصر) ويسمونه ساروغ وعمامة (كالتي يستعملها مكاريو مصر المعروفة عندهم باللاسة) أو قبعة من القش (مخروطية الشكل) وقد يستعملون نعالاً في أرجلهم وتلبس النساء كالرجال تقريباً ولكن بدون سروال، ويضعن فوطة ساروغ على رؤوسهن (وهذا عوض من المئزر) ويرفعنه على أذرعهن إلى محاذاة الوجنتين، ويمسكن طرفيه بأيديهن فيشدونه بحيث تستر حافته وجههن، فلا ترى منه إلا العينين، فهن في ذلك كبعض قرويات مصر، ولهن شغف بالتحلي بالخواتم والأساور والقلائد والأقراط، ويفتخرن بكثرة ما يكتنزنه من الفوط ساروغ فقد تجد عند بعضهن ما يبلغ ثمنه من هذه الفوط فقط سبعين جنيهاً أو أكثر، وقد يبلغ ثمن الواحدة خمسة جنيهات أو أكثر بحسب صناعتها مع أنها مصنوعة من الحرير فقط؟؟!!
وقد كانوا يفتدون القتيل بالمال بدل إعدام القاتل، ويبارزون خصومهم، ويشترون نساءهم والرجل له عليها حق مطلق والفقير الغير قادر على الثمن يشتغل مدة معلومة عند أهل(41/13)
العروس ويكون عمله عندهم مهرها، ويرث الميت أبناء أخته قبل أولاد أبيه (هذه العادة متبعة للآن عند أهالي مفكابو بسومطرة من المسلمين) وقد احترمت الحكومات المستعمرة هذه العوائد إلى أن زالت ولم يبق منها إلا الأخيرة.
وقد كانت الديانة الشائعة بينهم هي الوثنية حتى القرن الثالث عشر (كما يزعم المؤرخون) فقدم إليها تجار من مسلمي الفرس نقلوا إليها آداب العرب وديانتهم، وأول بلد نزلوه هو ملقا، ثم انتقلوا إلى جزيرة سومطرة حيث كانوا بها في عصر ماركوفولو الرحالة الشهير، ثم ازداد نفوذهم في هذه الجزيرة حتى حملوا حكام هذه البلاد على اعتناق الإسلام في القرن السادس عشر (الميلادي)، وبعد ذلك ازداد الإسلام انتشاراً في جميع الجزائر والبر الأصلي.
على أنني أظن (كما يظهر لي من بعض الآثار القديمة) أن العرب هم أول قوم دخل هذه البلاد في القرن الخامس الهجري، وأكبر دليل حسي ظاهر أن مذهب الملايوهو الشافعية، أما ملوكهم وهم من أصل مغربي (كما تثبت ذلك الآثار) فقد كانوا مالكيي المذهب، وهم الآن شافعية، وللمغاربة في هذه البلاد آثار قديمة عجيبة.
وللغة الملايو لهجات مختلفة وإن كان الأصل واحداً. . وقد شاع استعمالها بينهم وبين التجار على اختلاف أجناسهم ابتداء من القرن الثالث عشر الميلادي.
وقد أثرت مخالطة الأجانب لهم في لغتهم، ففيها الآن كثير من أصل هندي (سنسكريتي) وعربي وبرتغالي وإسباني وغيرها، والأكثرية للأولى مع أنهم أخذوا عن الإسلام كلمات عديدة.
وقد أخذوا عن العرب حروفهم الهجائية وزادوا عليها حرف ج (جيم بثلاث نقط) وينطق به كحرفي في الانكليزية وتشا في العربية، وحرف غ (غين بثلاث نقط) وينطق به كحرفي في الانكليزية أو نجا باللغة العامية أو نقا في اللغة العربية حسب نطق عرب حضرموت وغيرهم، وحرف ف (فاء بثلاث نقط) وينطق به كحرف في اللغة الانكليزية أو با في الفارسية وحرف ن (نون بثلاث نقط)، وينطق به ككلمة في الانكليزية أو نيا في العربية، وينطقون بالحروف الهجائية العربية كما هي، غير أن الراء ينطقون بها كالغين كما ينطق بها بعض الفرنسيين، والقاف في آخر الكلمة ينطقون بها همزة، ويحذفون الهمزة في النطق(41/14)
بحروف الباء والتاء وما تنتهي بهمزة فينطقون بها باتا الخ وكذا حرف الزاي ينطقون به زا.
ولا يتغير شكل الكلمات بالتصريف أو الاشتقاق، ولا يثنى الاسم فيها، وفي جمعه يضعون رقم اثنين على كل كلمة يريدون جمعها، مثل كاين؟ ومعناها قماش وأقمشة، وينطقونها كاين كاين ولجعل الكلمة اسماً جامداً أو صفة أو فعلاً مبنياً للمعلوم أو للمجهول يزيدون مقاطع مخصوصة في أوائل الكلمات، وأرقامهم في الكتابة هي نفس الأرقام العربية المستعملة الآن عند الافرنج، وقد انتشرت الآن في بعض الجهات كتابة الملايو بالحروف الافرنجية خصوصاً بين الطائفة المتعلمة في مدارس الحكومات والقسس، ولولا همة البعض لاندثرت الكتابة بالحروف العربية، وقد اشتهر في الكتابة عندهم من الرجال راج علي الأحمدي وراج طاهر ومن النساء راج عائشة وكلهم من العائلة التي كانت حاكمة بجزائر ريهو التابعة لهولنده الآن، ولهم مؤلفات كثيرة مترجمة عن العربية خصوصاً الأخيرة، ونبغ من المولدين السيد شيخ بن أحمد الهادي في لغة الملايو، وليس له إلى الآن غير بعض مقالات وأشعار نشرت في بعض المجلات والجرائد، على أن له الآن همة وعزماً على إتمام ما سيخلده له التاريخ وفق الله الجميع لما فيه الخير.
البيان لحضرة صاحب العزة القاضي الفاضل الأستاذ صالح جودت بك رسالة قيمة أتى فيها على كل ما يتعلق بأمة الملايو هذه فمن أراد التوسع في هذا الباب فعليه هذه الرسالة الصافية، وقد أخذنا عنها صورتي السلطان عبد الحميد حليم شاه راجا قدح وهي إحدى ممالك شبه جزيرة ملقا وسمو نجله الكريم والمصور الجغرافي لجميع بلاد الملايو.(41/15)
رسائل النساء
أو صورة فلسفية من روح المرأة
عيناك
من الآنسة انطوانيت ليجراند إلى صاحب السيادة الفيكونت هرفيه دي لافريير: إني لأشك الآن يا سيدي هرفيه - إذ أكتب إليك - في أن اسمي الذي ستجده في ذيل هذه الرسالة سيذكرك شيئاً ويحدثك عن أشياء فقد وقعت لك ولا ريب صيدات كثيرة، وتواتت لك مغازلات عدة، بل أنني لأعد خاطئة إذا سميت الشيء الذي وقع بيننا حادثاً، إذ لم يكن لديك شيء يستحق الذكر بل لقد نسيت بعد لحظة تلك الفتاة الصغيرة ذات الثوب الأسود، التي تبعتها ذات ليلة من ليالي الشهر المنصرم في شارع بداسي دانجلا حتى ميدان الأهرام - هل تذكر الآن ذلك - هناك دانيتي فهمت إليّ وحدثتني فإذا بنا قد مشينا ونحن لا نشعر جنباً إلى جنب حتى شارع مدنتورجي، وهو الشارع الذي يلم على دارنا، وقد كنت أنت في ثوب رسمي وفي صدرك ربطة عنق بيضاء وفي حذاءين لامعتين، إني لأذكرك الآن وأتصور جميع ثوبك، ولقد كان يخيل إلي إذ ذاك جميلاً ومعيباً معاً أن أمشي إليك في بهرة الطريق، متحدثين كأننا نعرف بعضنا بعضاً منذ أمد طويل، وكنت إذ ذاك في خجل ولكني كنت مع ذلك في غبطة وابتهاج، ورحت أحدث النفس قائلة، إنه الآن يمشي بجانبي على أعين السابلة ومن حسن الحظ أن اليوم يجود بنفسه وإن الليل يوشك يعم الأرض فهو ولا ريب لا يجدني دميمة ولا يرى ثوبي قبيحاً غير مشرق، فلما عانقتني عناقك الحار وضممتني إليك تلك الضم الشديدة ونحن واقفان في ظل ذلك الباب الكبير - حقاً لقد كنا إذ ذاك في جنة - وسلمت علي للوداع كنت أعلم جيداً أنني على الرغم مما قلت لك سأوافيك إلى الموعد الذي ضربت مساء الغد التالي في الطابق الواقع في شارع التراس، أواه، لو أنك تعلم ماذا اختلج في رأسي واضطرب في فؤادي، بعد تلك اللحظة، فلما قلت لك، ونحن في الطريق عائدين أدراجنا، إنني ليس لي أحباب ولا أعرف عشاقاً، وإنني لم آثم قبل اليوم ولم ألتمس إثماً، ضحكت أنت عن مزاح واهتز شاربك ابتهاجاً واستوقفتني قليلاً وتأملت عيني، وأنشأت تقول، أعاقلة رزينة إلى الآن؟ أتكون عاقلة فتاة باريسية صغيرة مثلك، بتينك العينين وهذا الفم العذب، أعاقلة في الربيع التاسع عشر، ورأيت أنا إنك لم(41/16)
تصدقني إلا قليلاً، على أنها كانت الحقيقة الصادقة وأني لا أزال أستطيع عليها قسماً الآن، لو أنك كنت بجانبي، وتستطيع في هذه اللحظة لي تصديقاً لأن هناك لحظات من الزمن لا يجد الإنسان فيها روحاً إلى المزاح أو رغباً في الكذب.
أواه، يا مسيو هرفي، إنني الآن في أسوأ حال، وكنت منتعشة القوى، بتوردة الوجنة، عمر الصيف وحياة الربيع، فلما هبت أرواح الشتاء، وطلعت وماكر البرد، عادت إلى ذات الصدر، وأنا أقول لك الآن أنني لم أكن يوماً قوية الصحة، وكيف أكونها، والصناعة التي أحترفها شديدة الخطر على الصدور الرقيقة، واللهي الضعيفة، فنحن أبداً خالعات ثوباً لنجرب أثواباً أو مشداً أو شملة عارية الصدر، على مقربة من حرارة المواقد، وفتحات الأبواب يدخل منها الهواء البارد فيصدم الظهر، وفي كل ذلك واقفات نجري من ناحية إلى ناحية، أو جامدات في أماكننا كالصورة الجيرية الموضوعة في صدور محلات الأزياء ولكني لا أريد أن أحدثك أحاديث حزينة ولا أريد أن أبسط لك سوء ما صنعت بي حرفة الوقوف في محال الأثواب، فلست أحمل لك ضغناً، ولست أحس لك حقداً، ولكن لي ملتمساً إليك أطلب أن أبتهج بتحقيقه وأنت لن ترفض هذه الضراعة إذا جئت على آخر سطر من كتابي هذا.
لقد كنت قلت لك ذلك المساء الذي التقينا فيه إذ ضربت لي موعدك، كلا، كلا، ولكنك أدركت جيداً أنني كنت أقصد بذلك أن أقول، نعم، نعم، فلما كان اليوم الموعود، خرجت من المصنع قبل وقت الخروج بساعة فعدوت ألتمس البيت لكي أبدع الزينة، وأتم التطرية، وقلت لشقيقتي الكبرى أنني ذاهبة إلى دار التمثيل وصواحب لي فصدقت الخبر، وكانت خلية الذهن من خافية الأمر، ولتعلم أنني كنت فاتنة رائعة السمت عندما بلغت إلى ناحية شارع تراس، الذي كنت قد طلبت إلي أن أرتقب قدومك إليه عند الساعة التاسعة من المساء، ولم أكن إذ ذاك بثوبي الأسود الذي شهدته بل كنت مرتدية ثوباً جميلاً أزرق اللون مفصلاً على المنوال الذي تحاك به في مصنعنا أثواب الأميرات فجئت إلي الموعد متهللة الأسارير متفتحة الفؤاد، لا خجل أشعر به ولا ندامة، فقد فكرت منذ فهت أنت بكلمتك الأولى أنه لا يليق بنا أن نكون نحن الفقيرات عاقلات رزينات طول الحياة، وإن أبدع السوانح أن تتزوج الفتاة الآثمة بالفتي الذي أثم معها، على أنك تدرك يا مسيو هرفي أنني(41/17)
لم أفكر في أنك ستتزوجني إذ كنت أعلم أنك ستنطلق بعد ذلك عني لكي تتزوج فتاة غنية عريضة الجاه ولكن ذلك لم يحزنني بل لقد كنت في غبطة وابتهاج إذ أتصور أنك ستحبني برهة من الزمن، وأنني سأكون لك دون أن أكون قد هبطت من قبل أن ألقاك في أحضان رجل سواك، فكأنك ستكون في تلك البرهة من الحب زوجي، فقد كنت حقاً تلذني ولا تستطيع أن تتصور التأثير الذي أحدثته في فؤادي وقد رأيت رجالاً كثراً يجيئون إلى المصنع ماشنين إلى أكتاف سيداتهم أو حبابئهم، ولكن لم يكن في هؤلاء الرجال رجل له شاربك وأسنانك الجميلة وعيناك البديعتان، ولاسيما عيناك، عيناك، حتى أنني لما وقفت في شارع تيراس أستطلع قدومك، انطلقت أتخيل تينك العينين وأحدث نفسي أننا إذا احتوتنا حجرة واحدة سأجترئ فأقبلك في عينيك أحر القبل.
انتظرت ساعة فساعتين، ثم انتظرت حتى منتصف الليل، وأنا أتمشى فوق الافريز حتى لا يستوقف منظري المارة فيستريبون بي، لقد دنا مني جمع من الشباب يقولون لي كلما نكراء وكنت في حيرة لا أعرف كيف أتجنبهم لأنني خشيت أن أبتعد عن المكان مخافة أن أفقدك، فلما دقت الساعة الأولى بعد منتصف الليل وألفيت مكاتب الحافلة - الأومنيبوس - قد أقفلت أبوابها وأطفأت أنوارها أجمعت الرأي على العود إلى البيت حتى لا أزعج شقيقتي.
وأؤكد لك يا مسيو هرفيه أنني أويت في تلك الليلة إلى المضجع كسيرة الفؤاد محزونة وبت أتقلب في الفراش لا تغمض لي جفن، وبكيت طويلاً وعبثاً حاولت أن أقنع ذهني إذ أقول لنفسي، لعل عائقاً اعتاقه، أو لعل الأسرة حالت دون المجيء لي موعده أو عل شاغلاً من شواغله زجره عن موافاتي، فلم يستطع إنبائي بمعاذيره، إذ كان يجهل عنوان داري. . . وجملة القول أن أشد ما أحزنني وابتأست له أنني لا أعرف السبيل إلى لقائك مرة أخرى فإنني لم أقل لك عن عنواني وأما أنا فأعرف اسمك والنادي الذي تذهب إليه ولكنني لم أجد جلداً على الكتابة إليك وانتهى بي مطاف الفكر إلي أنك لو كنت تحمل في فؤادك شيئاً من الرغبة في فإنك ولا ريب باحث عني فواجدي، إذ تعرف المحل الذي أعمل فيه والساعة التي فيها أنطلق عنه.
وكذلك ظلت بضعة أسابيع إذا انصرفت من محل شغلي أتمشى زمناً أمام الباب، أستطلع الوجوه، وأغيب النظر في معارف السابلة، لعلي مشاهدتك في غمارهم ثم لا ألبث أن(41/18)
أنطلق في رفق صعداً في الشارع عائجة على الشوارع التي مشنا فيها معاً، فلم أكن يوماً لألقاك واستبان لي إذ ذاك أنني لم أخطر في ذهنك مطلقاً، وكان على أن أنساك، أليس كذلك.
وهذا هو ما حدثتني به النفس ولكني لم أستطع عليه صبراً، وكلما مضى يوم زدت لك تذكراً واشتد الحزن بفؤادي، ولشد ما يسوءني أن تضحك يا مسيو هرفيه مما أقول لك الآن فغن رجلاً مثلك من الطبقة الرفيعة السامية له من ملاهيه ومباهجه ما يشغله عن سماع صوت الفؤاد، ونجوى النفس، وأما نحن الفقراء فليس لنا غير المصنع نذبل فيه، وغير المنزل الصامت لا يحتوي لهواً ولا مبهجاً وإذا قيض الله لنا شهود دار التمثيل فذلك هو النعيم الأكبر والحادث الأعظم، فإذا نحن انطلقنا في النهار نجرب قميصاً أو نخبر معطفاً، فنحن إذا الليل هجم مضطجعات في السرر محزونات مكدورات، نفكر في رجل وكذلك مضيت أتذكرك وأفكر فيك حتى سئمت كل شيء، ولقد كنت من قبل فرحة راضية العيش وثيقة الأمل في المستقبل دون أن أعلم ماذا يمسك هذا الأمل، أما اليوم فلا رغبة لي في شيء، ولا شهوة لدي إلى الطعام، ولا نزوع إلى النوم، ولتعتقد أنني خلال الأيام الأخيرة كنت أتمشى أبداً في مقتبل المساء فوق الافريز أمام ناديك ولقد رأيتك ثماني مرات يا مسيو هرفيه ولكني لم أكلمك لأنك قلما كنت تخرج في النادي بمفردك، وإذا فعلت ذلك فقد كنت تثب الوثبة إلى مركبتك، وإذ ذاك جعات أضطرب وأرتجف، حتى لا أستطيع كلاماً ولا مشياً.
حوالي نهاية شهر يونيو ارتحلت أنت إلى الريف، وقد علمت ذلك من الصحيفة التي تجيء غداة كل يوم إلى صاحب المصنع فهدأ ثائري قليلاً في غيبتك إذ علمت أنك لم تعد تحتويك باريس وأن لا وسيلة إلى رؤيتك، وجعلت أقول: إنه سيعود مع الخريف، ونحن لم نكبر بعد، لا أنا ولا هو، وقد جئت حقاً ورأيت عند يوم عودتك إلى باريس، وأنا محدثتك كيف كان اللقاء، وضراعة إليك أن لا تغضب على فإن بي حزناً منه مستطيلاً.
على دقة الساعة التاسعة كنت في موقفي أمام ناديك، وإذا بمركبة وقفت ببابه، ورأيت في المركبة سيدة فخرج إليها من النادي خادم فكلمها وعدا راجعاً إلى النادي وهنا أتوسل إليك أن لا تتألم يا مسيو هرفيه، إذا أنا قلت لك أنني لم أجد تلك السيدة على شيء من الحسن(41/19)
ولا مسحة من الروعة، ولم يكن ثوبها الثوب الذي يتم عن سيدة محترمة كبيرة المكانة، وأخيراً جئت إليها من النادي وقبل أن تصعد إلى المركبة فتتخذ مكانك بجانبها قلت للحوذي شارع تيراس!!.
فإذا بي قد أحسست انقباضاً في فؤادي إذ تذكرت ما قلت لي يوم كان اللقاء إن لدي في شارع تيراس طابقاً أستخدمه لهذا الغرض، فعلمت إذ ذاك ماذا سيحدث بينكما. . . . . . . . . .!
أتظنها حماقة مني وطيشاً ولكن إن أردت الحق فاعلم أنني لم أكن غيري عليك إلى تلك الساعة، ولا أعلم لذلك سبباً إلا أنني كنت أؤمن بأنك ولا ريب لا تستطيع أن تعيش عيشة القديسين والرهبان، ولكنني إذ عرفت المرأة التي ستضاجعها، وعلمت المكان الذي اضطجعتها إليه ثارت ثورة الألم في فؤادي حتى لم أعلم كيف بلغت بي قدماي منزلي، وإذا احتواني البيت انطلقت إلى المخدع فتراميت فوق السرير ووعكتني إذ ذاك الحمى بعد موهن من الليل واحتبس صوتي وأخذ لساني السعال واشتد بي ذلك حتى لقد مضى على الآن وأنا طريحة الفراش شهر كامل ولا أستطيع نهوضاً وأخشى أنني لن أستطيعه أبداً.
وأنت فتعلم يا مسيو هرفيه أنني لا أقرفك بتهمة حزني ومرضي فلم أكن يوماً قوية الصدر متينة اللهي، ولكن لعلك كنت السبب في تعجيل علتي ونضج مرضي وإن كنت خلي الذهن بريء النية والآن وأنت تعرف أن من المزعج المؤلم أن أرتحل عن الأرض وأنا ملمة على الربيع العشرين ولما أشهد يوماً صبوحاً في الحياة، ولما أرتشف كأساً من السعادة، فقد اجترأت على أن ألتمس إليك أمراً وأطلب إليك حاجة لو حققتها أثرت أكبر السرور في نفسي الخافتة، وإن كان في تحقيقها بعض المتعبة لك، وهذا الرجاء الذي أسوقه إليك هو أن تحضر إلي في منزلي للتوديع الأخير إذ كنت لا أستطيع إليك حضوراً، فلا تخش يا مسيو هرفيه ألماً فلست محدثاً أحداً غيري ولا ملتقياً بإنسانة سواي، بل أنت صاعد إلى الطابق الثالث من المنزل رقم 15 فدق الباب وستفتح لك شقيقتي وتكون بيننا خلوة صغيرة واعلم إنني قد أصبحت مهزولة ضامرة ولكن وجهي لا يزال بعد صغيراً رائعاً كعهدك به أول مرة وستحدثني وتنظر إلي - وسأستمع إلى صوتك - وسأشعر بآخر نفثة من السعادة إذا أنت أذنت لي إذ ذاك أن تكون فوق شفتي. . . . . . عيناك!!(41/20)
للمتنبي:
إلف هذا الهواء أوقع في الأنف ... س أن الحمام مرّ المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق(41/21)
في سبيل الكلام
لحضرة العالم الكاتب الدكتور منصور فهمي
الكمال قوة أزلية تدب في الكون دبيب الماء في العود الأخضر، والكمال إما أن يكون كلياً عاماً وهو كمال هذا الوجود الذي لا تبلغ مداركنا إلا بعض جهاته، وليس في طاقة عقولنا إدراك كنهه على أنها تعترف بوجوده الظاهر في حركة الكون المستمرة على سبيل لا ينتهي وإلى غير قصد معلوم، وإما أن يكون كمالاً نوعياً وهو أجمل صورة يصل إليها كائن من الكائنات بما أوتيه من استعداد ترقى به إلى الغاية المقدورة فإذا بلغها يتحول إلى نوع مغاير وتظهر تلك المغايرة إما من سبيل الانحلال والفساد أو من سبيل وجود يخالف به الوجود الأول ومثل ذلك مثل الشرنقة تبلغ كمالها النوعي في صورة معروفة وعلى نحو معلوم فإذا تخطت تلك الصورة فإنما تتخطاها لكائن آخر بينها وبينه اختلاف في الشكل.
كما أن للكون جميعه كمالاً هو أول معنى لتأويل وجوده وهو الباعث لتطوره وحركته كذلك لكل جزء من أجزاء الكون كمال نوعي وللجماعات والأمم كمال خاص بها ينبع من أفئدة مصلحيها، فبينا ترى جماعة لا تبصر إلا أفقاً محدوداً من آفاق الحياة الواسعة، وبينا تراها تجمد عند حال تزعم أنها خير حال تجد بين أفراد تلك الجماعة من يبصرون بأعينهم ما لا يبصر هؤلاء ويتمعون نغمات لم تصل بعد إلى آذان الجماعة، أولئك الأفراد هم سدنة الكمال المقدور لذلك الكائن الاجتماعي، ليس للأمة إلا كمال واحد لا يتكرر تبلغه وفقاً لطبيعتها، وانسياقاً مع تاريخها فإذا هي بلغته في عصر من العصور فإنها تنتقل بعد لحال مغايرة فتتحول الجماعة القديمة إلى أخرى وتصبح تلك الجماعة الثانية في حكم كل كائن جديد من حيث أهليته لقسط آخر من الكمال حرى به.
كان لمصر في السالف قسط من الكمال العمراني موفور وحضارة منمازة بلغت أوجهاً في عصر معلوم فهل يحق لواهم أن يزعم لأمتنا االمصرية الحالية سبيلاً إلى نفس الكمال الاجتماعي والحضارة التي كانت للسلف في زمن مضى وانقضى؟؟ كلا فأمة اليوم غير أمة الأمر لها كمال خاص تستطيع أن تكسبه كما كان لسلفها ما كسبته من الكمال.
كما أن لكل جماعة ولكل أمة نصيباً واحداً من الكمال لا يتكرر كذلك لها نصيب معين يختلف مزاجه عن أنصبة الجماعات الأخرى، لها كاس من الكمال تنتشي هي به ولا(41/22)
يستمرئه سواها، فعبثاً محاولة الوصول إلى حضارة قدت لباساً لغيرنا دون تحوير فيها وتعديل، الكمال المرجو لأمتنا هو ما يهتف به الهام المصلحين وليس هو ما تجود به يد المقلد ولا ما يجيش في صدر الجامد والفرق بين المصلح وبين المقلد وبين الجامد، هو أن الأول يوحي إليه صورة سامية يدخرها المستقبل للأمة التي يتناجى بإصلاحها، وأما المقلد فيحمل في نفسه صورة لأمة معاصرة راقية يود لو اتخذت مثلاً للأمة التي هو منها، وأما الجامد فينشد نظاماً عتيقاً لا ينفرج ذهنه لخير منه.
نزعات المصلحين وحدها هي القيمة الجديرة بالاعتبار لأنها المنزل المستطاب الذي يحط الركب عنده رحاله وتستريح عنده الأمم وهي سائرة في سبيل مالها.
أما بعد فما أشد حاجتنا إلى المصلحين يرشدوننا كما يرشد الراعي سربه العزيز ليصل إلى المرعى الخصيب، ليت شعري ماذا قطعنا اليوم في سبيل الرقي، ومن ذا الذي يسدد خطانا إلى الكمال المنشود؟؟(41/23)
الصحافة عندنا
لحضرة صاحب الفضيلة العالم الأديب الشيخ مصطفى عبد الرزاق
كرتير المعاهد الريفية
كان الغريب إذا حل بلداً فأراد أن يلم بجمال أهله زار المعابد وغشى الملاهي ليرى أثر العقائد الدينية وهو أكبر مظاهر الجد ويرى ذوق القوم في اللهو واللهو من جوانب الحياة أيضاً وما برحت المعاهد والملاهي موضع استكشاف لمن يحاول أن يتعرف حال الجماعات عن كثب في عقولها وأخلاقها وأذواقها ويتتبع تطوراتها ويوازن بين جهاتها.
ولكن العصور الحديثة أوجدت مرآة جديدة لتبين ما عليه الجماعة في مدنيتها، تلك هي الصحافة التي تصور منازع الناس في أخلاقهم وأفكارهم وحركات تقدمهم وانحطاطهم وتفصح كل إفصاح عن مذاهبهم في الجد وذوقهم في اللعب.
وقد لا تكون صحافتنا خارجة كلها من أعماق قوميتنا بيد أنها مثل لما نحن عليه في حياتنا الاجتماعية وفيها مظاهر أخلاقنا.
تنشر الصحافة كما يدل عليه الاستقراء نشرات تدون أخبار الوقائع المتفرقة التي يجمعها المؤرخون عادة في مؤلفاتهم وذلك عهد السذاجة التي يكون فيها دعوة الإصلاح خافتة وحركة الأفكار ضعيفة فلا تتجه الأذهان إلا للحوادث الجزئية من غير تحليل فيها ولا تركيب ولا استنتاج ثم تشتد دعوة الإصلاح الاجتماعي وتقوى فتؤسس الأحزاب السياسية والجماعات الإصلاحية وتحتاج في تأييد دعوتها إلى لسان ناطق هو لسان الجرائد وتنمو الحركة الفكرية وتنهض حجتها وتقتضي بياناً يجليها ويدفع شبه خصومها هنالك تخرج الصحافة من طور الطفولة إلى طور جديد تصير به لسان حزب ذي مبادئ يريد أن تسود في الناس لأنها عنده أساس الخير للجماعة أو تصير مجلات تحمل إلى العقل البشري ثمرات جديدة في العلم.
وقد تجاوزنا من غير شك عهد السذاجة الصحافية وعرفت بلادنا جرائد الأحزاب وعرفت المجلات العلمية.
ولئن كانت جرائدنا الحزبية اعتبطت كلها بأسباب يرجع بعضها إلى عيب في القيام بتدبير شؤونها، فإن مجلاتنا أيضاً لا تزال تنازع الحياة نزاعاً.(41/24)
ليس الوقت مناسباً للتفكير في أمر ما مضي من جرائدنا وأن كنا من أمره في حسرة وألم ولكن في مقدورنا أن نطب لداء مجلاتنا رجاء أن تحيا حياة طيبة ولها في ظل العلم حرية لا ينالها ضيم.
يشكو أصحاب المجلات من قلة إقبال القارئين عليها ومطالهم في أداء حقوقها ومن الإنصاف أن نعترف بعدل هذه الشكاية.
ونرجو أن يحمل حب العلم قومنا على الاطلاع فإن من أدوائنا المستعصية أننا نقرأ قليلاً كما نرجو أن يكبر في النفوس خطر المروءة فلا يجرح المرء مروءته وهو ذو شرف وذو سعة من أجل دريهمات يؤدي بها ديناً لامرئ شريف النزعة باعه بها ليالي ساهرة وحشاشة نفس مجهودة.
على أنه يجدر بأصحاب المجلات أن لا ينسوا أنهم وضعوا أنفسهم في مقام الإدلاء لطلاب العلم ورواد البحث فعليهم أن يكونوا نصحاء أمناء أوفياء للعلم يعطونه قسطه من أنفسهم، نطالبهم بأن يؤدوا الموضوعات حقها فيبرزوها ناضجة محصها فضل الروية والبحث وأن يفسحوا صدورهم لآراء المخالفين ومناقشاتهم، نطالبهم بأن يخدموا تقدم العقول وحريتها وأن يحببوا العلم للناس ما استطاعوا بحسن اختيارهم وحسن بيانهم وحسن تصرفهم في نظام البحث ومناهجه.
والأمل معقود بالمجلات الشابة التي تقوم على إخلاص من أصحابها وعزيمة صادقة أن تحقق ما نرجو لمجلاتنا المصرية من الترقي وإنا لنرقب نهضتها ترقب الساري طلعة الهلال، ونحيي كل خطوة من خطواتها في سبيل الكمال.(41/25)
فكاهة الفاكهة
للكاتب الصحافي المشهور سليم أفندي سركيس
يريد صاحب البيان مقالة لعدده الخاص، والذي أعلمه من مطالعة البيان أن كل عدد من أعداده خاص، حافل بالموضوعات الجليلة، وأنه امتاز بصراحته في النقد وأمانته في النقل، وامتاز أيضاً بحسن انتقاء الموضوعات على أن صاحب البيان امتاز بأمر آخر هو التشبث بإصدار مجلته كل هذه السنوات تشبث شهيد، فإنني على ثقة من أنه ينفق في هذا السبيل أكثر مما يستفيده من قرائه، إنهم يعطونه فضلات أموالهم بشيء من التردد والتسويف وهو يعطيهم وقته كاملاً واجتهاده وأكثر ماله، ما علينا من كل هذا، إنه يريد مقالة لعدد خاص، وهذه مقالتي - فكاهة من الفاكهة.
يتساءلون: لماذا ينجح الغريب المتاجر في مصر دون المصري فيها، أما أنا فإنني لا أعرف شيئاً من أسرار التجارة ولكنني عرفت حادثة من حوادث جمة علمت منها بعض الأسباب التي من أجلها يكون التاجر الغريب ناجحاً دون المصري، أوردها للقراء لعلّ في إيرادها عبرة ورادعاً.
كانت الساعة السادسة مساءً، وكنت في منزلي، فخطر لي أن أمتع نفسي بشيء من المشمش الحموي وخشيت أن لا يحسن خادمي مشترى ما أريد من الباعة ثم تذكرت أن هناك رجلاً مصرياً أنفق مالاً كثيراً على الاتجار بالفاكهة وله مخزن كبير في نقطة مشهورة فتناولت دفتر التلفون ولبثت أقلب صفحاته إلى أن عثرت على نمرته فخاطبته وكان حديثنا كما يأتي:
- هالو
- هالو
- هذا محل فلان الفكهاني؟
- نعم وأنا هو
- أهلاً وسهلاً، سعيده
- سعيده يا سيدي.
- قل لي بحياة أبوك عند كشي مشمش حموي؟(41/26)
- مين حضرتك؟
- إنك لا تعرفني فهل عندك مشمش حموي؟
- ليه؟
- أريد أن أشتري قليلاً منه فإن كان عندك عرفني عن ثمن الاقة لأرسل خادمي بالثمن.
- ومين حضرتك؟
- لا يهمك معرفتي لأنك لا تعرفني.
- إذاً ما أعرفش.
وترك التلفون. . وتركني، وترك ما عنده من المشمش وترك الفلوس في جيبي وترك تأثيراً سيئاً في نفسي.
هذا الحادث ردّد إلى خاطري الحادث الآتي:
كنت في منزلي، وكانت الساعة الخامسة، وفاجأني بعض الزائرين، وأردت أن أحسن الضيافة، فتناولت دفتر التلفون وطلبت نمرة بقال يوناني وهذا ما جرى بيننا من الحديث على علاته:
- هالو
- هالو
- هذا مخزن فلان؟
- أيوا يا سيدي.
- أريد قليلاً من الماكروني.
- حاضر أفندم، من أي صنف.
- من الأحسن.
- مين حضرتك.
- أنت لا تعرفني فلا يهمك أن تعرف من أنا، ولكني سأرسل خادمي إليك فأرجوك أن تعطيه أحسن صنف.
- ماعليش يا سيدي، بلاش ترسل الخدام، أخبرني عن اسم حضرتك ونمرة البيت والشارع فأرسل لك العينات مع خادمي وهو يعرفك عن الثمن.(41/27)
وفعلاً جاءني خادمه واشتريت ما يلزم ثم اشتريت ما لا يلزم أيضاً ولا أزال أشتري منه حاجات بيتي.
الفاكهاني يخسر ومحله يصغر، وبضاعته تفسد ويقل عدد زبائنه.
والبقال يكسب، وصار محله كبيراً، وبضاعته جديدة ورائجة، وعدد زبائنه يزيد أما أنا فأرى رأي البقال الرومي.(41/28)
قصيدة منثورة
بقلم حضرة الأديب الشاعر الكاتب الشريف السيد حسن القاياتي
جعلت فداك أيها الخليل الرغيب، إن نفسي وقيت شكاتها، وعدتك بلواها.
هذه قصيدة كنت عملتها في هذا الغرض الخلقي ولا مر ما بدالي أن ألبسها هذا الثوب النثري فإن نالت رضى فذاك ما اعتمدت وإن كانت الأخرى فلعل من المعذرة لصاحبها أن هذا الضرب من الشعر المنثور طراز حديث لم نحسنه يعدوان أن الباكورة ربما جاءت فجة غير ناضجة.
تكاد تذوب مما تجد من لوعة، وتطوى عليه من جمر الأسى، حتى ليخيل إليّ أنها تسيل حسرة، وتتحدر حرقة، بل يخيل إلى أن هذه الدموع الحمراء التي تستنزلها الفجيعة، وتساقطها الشكوى، إنما هي ذوب تلك النفس الآسية، وقطرات تلك الكبد المتفطرة، وفي سبيل المجد والسؤدد، ما تلقين أيتها النفس:
ضلالاً لنفسي، بل رحمة لها من نفس سرية ماجدة، كيف سرت إليها خدع الأماني، وتمشّت نحوها أباطيل الأمل الخلوب الكاذب، فجعلت تمنيها الحياة الشهية، والمنزلة الشماء، أجل إن من خدع الأماني، وأباطيل الأمل، أن تسمو نفس حرة إلى مستعذب من الحياة، وشهيّ من العيش، وإن فيما تشكوه تلك النفس الحرة هماتها الكبيرة، وعزائمها الناهضة المتوثبة، هيهات منها ذلك:
ليست نفسي الطموح البعيدة الهمّ بدعا من النفوس الكريمة حين تلبس ثوب الليل مسهدة الجفن، نابية المضجع، حتى يتفرّى دجاه عن مستنير الفجر، وتشيع في نواحيه ثقوب الضوء، وينصل صبغه بلون الصباح المشهر، فكم أنفس سامية طماحة يؤرقها أسى برح، وهمة مترامية، فتبيت ترعى النجوم، وتناجي ساهرة الكواكب، كأنما تتلمس منزلها المسلوب بين تلك النظائر، وتسمو بنفسها إلى مكانتها بين تلك الأخوات من الكواكب:
ليل يصادفني ومرهفة الحشد ... ضدين أسهره لها وتنامه
واكبدي للمجد، وحر قلبي على كل فتي نبيل سباق إلى الحمد، سريع إلى الكرامة، يحتوي المجد من أطرافه، وينزل في بحبوحة الشرف الصميم أين - لا أين - العلى من مثل هذا المتحبب النبيل الذي غزا القلوب بوده وإحسانه، فأنزلها على حكمه، ورادها بلباقته حتى نزل في حياتها، وحلّ في الصميم منها، أنه لخليق بمثل ذلك المعشّق الطلعة، الرقيق(41/29)
الحاشية، المحبب إلى كل القلوب حتى كأنه خلق منها، أن تدنيه القلوب، وتقر بمرآة العيون، حتى كأنه الزهرة التي رفت حلاوة، وندت غضارة، وغضاضة، فراحت تحملها صدور كل رقيق من الفتيان، ورشيق من الحسان:
يقولون مثر طويل الذيل، تنزل المني على حكمه، ولا يناله الدهر إلا بما يريد، أجل إنه لكما يذكرون، ولكن ليس الثراء كل ما تنزع إليه همة طالب المجد، إن وراء ذلك لغرض ضخم، وآمالاً كبار، يقض لها المضجع، وتذهب عليها نفسه حسرات وماذا يغني الثراء عن ذلك وهل يستخفّ ثكلى محزونة تألق الحليّ في لباتها، وتزدهي بإشراق اللآلئ عليها، وفي صدرها داء دخيل، وغلة هي ما هي، أهلاً بما يهدي إلينا الدهر، وتنفحنا به أيامنا من عطاء سني، ونعمة مبتدأة ومستأنفة، إن كانت العلياء والمجد بين تلك الهبات، وفي جملة تلك العطايا، ولا أهلا بها إن لم يكونا فيها، ولا أبعد الله إلا هبات لا تكسب مجداً، ولا تسمع حمداً، بعدا لطالب المجد يقنع في طلبه بالدون، ويرضي في مسعاه بما دون السماء، إن الحر الكريم النفس، الحمي الأنف، لا يزال ينزع إلى كل عمل جسام، ويسمو للجميل من المسعاة كما يسمو ورد الخدود فيحل في الوجنات الرقاق، ويرتفع رمان النهود فينزل في صدور الحسان، واسوأتاه من أن الرجل السري النابه لا يأبه إلا لأمر طعامه وشرابه، ولا يعمل إلا على نيل حاجته من مطعم شهيّ، وشراب لذّ، وشهوة ممتعة، ثم لا يبالي بعد ذلك أثلم عرضه أم سلم، وخمل ذكره أم نبه، تلك حياة إنما نالها بذلة وخسة كما تبذل البغيّ نفسها، وتبتذل شرفها، لحفظ حياتها، وإمساك حشاشتها، ولخير من تلك الحياة موت مريح، وهلاك شريف:
يعيبون عليّ وقاري، ويستنكرون مني أخذ نفسي بالسكون، وحملها على عزة الجلال، والعزوف عن الطيش، ويقولون إنما هو شاب ناشئ، ماله وما للوقار والجلال، هلّا أرسل نفسه على سجيتها، ومضي مع الصبا والصبوة، مطلق العنان، خليع الرسن، وليس الوقار بهجنة ولا عار على ناشئ حميد السيرة، رقيق الأدب، تطيب سجاياه على علاتها، وترضي خلائقه كلها:
إن في الناس لفريقاً استخفهم سكر الشباب، وسكر الشراب، يحسبون أن السمو كله، والرفعة بجملتها، إنما هي في احتساء العقار، وكأس تدار، فإن كل ما تخيل أولئك حقاً -(41/30)
ولن يكون - هتفنا مثلهم بإخوان الأنس، وندامى الكأس، هاك أيها النديم، وهات أيها الساقي الجميل، ولو كان الرقيّ في غزال يتصبى الحسناء، ويمكن من صعب المخبأة الجموح، وفي أن يكون الفتى زير نساء، وقيد ظباء، فإن لي من نفثات السحر، ورقيّ الشعر، ما ينبت مضجع الخريدة الحيية العفيفة شوكاً، ويصيد البكر عن رقودها حنيناً إلى بلبله الغرد، وطائره الصائح، لو شئت - لا شئت - أن أذهب مع السفاهة والطيش، وأجرى مع أسباب الغواية واللهو، لم أبت ليلة إلا ثاني قمر أو شمس، ولم تزل كل مليحة تهدي إليّ زورتها، وتتحفني بمواعيدها، ولكنت كمن يقول:
رعى الله دهراً لم أبت فيه ليلة ... خليّاً ولكن من حبيب على وعد
أجل بصرك فيمن ترى من الناس، وأنا الضمين لك ألّا يزال يصادف سوءة، وتقع به على مخزاة فاشية، وفعلة فاضحة، يروح ويغدو بها أولئك الذين يخيلون إليك أنهم الفضيلة حية، والخلال الحميدة، تطالعك في زيّ الأناسيّ، فلو أن كريه هذه السير، ومساوئ تلك الخلال، يمزج به طيب الثغور لصد العاشق المهجور عن قبلات الحسان، أو يخلط به العذب القراح لثنى عن الري الظمآن، آداب ناشئتنا متكلفة مصنوعة، تخلق لا خلق، ورياء لاحق، إذا أعطاك أحدهم بعضه فلكي يأخذ كلك، كما يصنع الصائد الدرب بتلك الحبات التي يغر بها الطائر حتى يسقط بأجرامه في حبائله، وما أشبه أخلاق نشأتنا المكذوبة المزورة هذه بخدود نسوتنا المصبوغة بصبغ الحقاق لا صبغة الخلاق، لا يغرك ممن تصطفيه منهم وجه يفيض بالبشر، وثغر بسام يزوّر لك القول، ويخلبك بسحر الحديث، فإن وراء ذلك صدراً يغص بأفانين الخداع، ويفتن في ضروب الحيل والكيد، وضلوعاً تنطوي لك على دخيلة شر، ومضمر غلّ، وحذار أن يزدهيك ذلك الوجه المشرق فيودي بك، فإنما هو كالزهر الأنيق يروعك منه مرآة وحسنه حتى إذا أدني من الأنف بعث بجرثومته إلى صدر حامله فلم تخرج إلا في صحبة روحه، همّ الشباب منهم ووكده أن يروح ويغدو آية الحسن، وفتنة القلوب، وأن يشار إليه بكل بنان مخضب، وينزل من الحسن في كل قلب، حتى لقد أزرت البراعة في ملابس الفتيان على البراعة في ملابس الحسان.
هذه آصال مصر وعشياتها، ألست تنظر إلى متنزهاتها، ومسارح ظباءها، كيف تطلع كل مخبّأة، وتبرز كل كريمة مصونة فلا تزال تهدى إلى شبه الظبي ملاحة من فتيانها، شبه(41/31)
المهاة حسناً ورشاقة من فتياتها من كل فتانة المحاسن، ساحرة الجمال، زهراء القناع رقيقة تخالها من ذلك القناع المهلهل الذي يصف وجهها، ويحكي محيّاها، قد أشرفت على مرآتها بعد طول تعهد بالصقل والجلاء، من تلك الحسناء التي تخطر في العشيات فتكاد تتوثب إليها القلوب من صدورها، وتثبت في محاسنها الأحداق والنظرات، تلك التي توحي إليّ خطراتها خطرات شعري وينفث سحر طرفها سحر قوافيّ، أجل من تلك التي يغرى بحركاتها الدل كله، ويكمن في لفتاتها الموت، وينزل في نظراتها السحر، ولمن في الفواتن من الغيد تلك النهود المسددات كالرماح إلى صدور العشاق، يطيح عنها الثوب ويتكشف الملبس، فإذا هي كالثمرة اليانعة تساقط عنها كمها وبدت من غلافها، قامت تتأود كالغصن الأغيد، وأقبلت تصف لنا الغصون النواعم في طيب نشرها، وضائع أريجها، واهاً لها من طفلة غريرة غضة السن صغيرتها في مثل سن البدر، بل في حسنه وإشراقه، تقوم مقام البدر إن نام ضوءه عن ليالي وصالها، وساعات ازديارها، فهي ملء القلب حسناً وحباً، ملء العين إشراقاً وقرة، وما أنس من شيء فلا أنس هذه الدرة الزهراء، واللؤلؤة المتخيرة، لم يزل بها دعاة العهر والفحش، ورواد الريبة والخنى، يرقونها بكل رقية من رقي الفسوق، وينفثون لها في كل عقدة من عقد السحر، حتى أخرجوها عن صدفتها، وأنزلوها من سماء عفافها وعزتها، رحمتا لتلك الفتاة العذراء الغريرة، وحرّ قلباه لهذه الفريسة المغتصبة، فلعهدي بها كبعض الملائكة طاهرة الذيل، عفيفة الإزار، آمنة كبعض حمامات الحرم، يطوي ضميرها على نقاء، ويكشف صدرها عن صفاء، كما تتكشف الصدفة عن درتها، وتنم المزنة الشفوف على الشمس دونها، بل عهدي بتلك الخفرة الحيية أيام كان وجهها بحيائه ومحياها يشرق بمائه، تكاد النظرة تدمي وجنتها الرقيقة، وتستنزل عبرتها حياءً وخفراً، صب عليها نكد الدهر، وتعس الجد، ظبياً من الظباء الآنسة، لا الظباء الكانسة، معشّق الحسن، فتان المحيا يرتقي جب القلوب، لا نوّار الكثيب، ويتشهى من الأفئدة منهوباتها دون موهوباتها، فلم تزل بها ضحكات ذلك الثغر الخائن، وابتسامات هذا المستهتر الفاتك، حتى استتزاتها عن عرش كرامتها، وألقت بها بين يديه محترقة بجمر تلك الضحكات الخائنة، كما تهوي الفراشة على جمرة الشهاب المحرقة، بنفسي هي، ما أشرف نفسها وأسمى همامتها، لم تسلم قلبها لمهاجمه إلا بعد طول مغالبة وفضل مصاولة ومدافعة،(41/32)
فلشد ما جاذبته فؤادها، ونازعته قيادها، حتى أدركها الضعف - والفتيات ضعيفات - فسقطت تتخبط في حبالته كتخبط الطائر في شبكة الصائد، تجاذبه حيناً، وتقر حيناً، فإذا هي أخيذته، كم ظلت لدى ذلك الوحش المفترس محبوسة به عن أهلها - ممنوعة من ذويها، وهو يتلهى بها، ويتعلل بمحاسنها، قبل أن يصل إلى فؤادها، وينفذ إلى قلبها، كحامل الكأس يحبسها طويلاً في يده ليلتذ بمرآها الأنيق، ويتعلل بمنظرها الشائق.
تلك الرياض الناضرة المونقة في الجزيرة شهدت هذه الزهرة الذابلة تهصرها كف ذلك الجاني الآثم، هناك حيث لا ينفك تهتصر الغصون، وتجتني الأزهار، ومن لها بالجلادة والامتناع، وأنى لفتاة مثلها بالصبر والعصمة، وإن في صدرها لنارين متأججتين: نار أسى وشجو، ونار صبابة والتياع، ضرمهما الخائن الخادع، وأوقدهما على كبدها المتصدعة بما جنى على عفتها، وشب في قلبها من حب، وكم اعتمدت أن تبرّد من ناريها، وتطفئ من جمرتي فؤادها، بما تفيض من نيل دموعها الهامية، فما أطفأ ذلك وقداً، ولا أهدي لصدرها برداً، لقد ألحّ الحزن عليها وشرد من لبها فألقت بنفسها، وتساقطت بين تلك الرياض محزونة ذاهلة مقسمة اللب، حتى ليخيل إلى من يراها أنها إحدى زهرات الروض الساقطة الذابلة، ويحي على مصر وأواه من هذا البلد المحبوب المفدى بالنفوس ألا يبرح من خلائقه ودأب أهليه أن تظل ناشئته المرجوة، والشباب المرتقب من شبانه، حرباً عواناً على الغيد الملاح من فتياته الكرائم، وعقائله المصونات، بما يكدرون في كل آونة من ماء الحسن، ويدنسون من نقيّ الأعراض، بعض هذا أيها القوم ومهلاً قليلاً، فما هكذا يكون عهد الإصلاح، ولا هكذا تكون المدنية، والأخذ بأسباب الرقيّ والحضارة، ومتى كانت الأحرار تسترسل في سوءاتها وتذهب في مخازيها في كل مذهب، تساءلتم طويلاً وتناظرتم كثيراً في أي الأمرين من السفور والحجاب، أجدى على مصر، وأعود عليها بالفلاح والرفعة، وهذه مصر تشكو إليكم سافراتها ومحجوباتها وتبرأ إليكم من عصرياتها ورجعياتها، إن النساء قلوبنا التي نقيم دونها الصدور، وعقولنا التي تسددنا إلى كل عمل حميد، ومسعى كريم، ولطالما أرخينا الاعنة لهذه القلوب المحبوبة، فجعلت تتناهبها الأهواء، وتعبث بها الأضاليل ولشد ما شف القلب ركوبه الذلة، وأودى به غشيانه كل ملهاة شائنة لله أنتم فما أرجح أحلامكم، وأوفي عقولكم، وأكرم شمائلكم، أين يذهب بكم هداكم الله عن طريق الهداية(41/33)
وأين - لا أين - تبتغون الجدوى من غير متطلبها، إن الذي يسره أن يصلح من حال أمته وينشؤها نشأة فاضلة كريمة يعمل على أن يغرس الفضيلة في الأمهات اللواتي يربين شبان الغد في حجورهن، ويخلق التهذيب في تلك المدارس الأولى لنشأتنا المرجوة المخائل، هناك فلتقرّ عينه بأمة رشيدة عاقلة، وشعب سامٍ نبيل، والله المستعان.(41/34)
جولة في الأصيل
معربة عن الانكليزية بقلم حضرة الكاتب الشاعر الأشهر محمود أفندي عماد:
أعط الفكر هدنة، ودعنا نخب في أحشاء هذه المروج الخضر، ونتسنم متن ذلك الساحل الرملي، أو ننحدر إلى مسارب تلك الغابة الغلباء، طائرين بأجنحة الخيال بين مجاهلها الموحشة لنشهد الطبيعة تختال في ثوب عرسها القشيب.
اطرح آنة ما صحفك الميتة التي كنت تقرؤها في ليالي الشتاء لترى فيها وصف غيضة أو غدير، وحسبك فاقرأ هذه الصحيفة الحية، صحيفة الطبيعة الحكيمة ن واجمع من أساطرها نخبة صالحة من العظات البالغات، فما أرى كل نجم أو شجر أو ورقة أو زهرة غضة كانت أو يابسة ألا تحتوي على سفر ضخم مكتظ بالحكم الرائعة، والطرف المستملحة فلنقرأ ثم لنقرأ، ولننهب بالعين مخبوءات هذا السفر القيّم.
رويدك وانظر قبل أن نغادر عتبة الدار هذه الزهرة التي يسمونها (فلة الوادي) واقرأ طرفتها المعلقة بأجراسها المتدلية البيضاء، أنها لا تنبت على جوانب الطرق العامة حذراً من أن تلهبها شمس الظهيرة المحرقة، وهي ليست على شيء من حب التبرج المكذوب والظهور الخادع، بل تراها قانعة بقميصها الأبيض العادي الذي يتضوع من أردانه ريحها الطيب فيرشد المعتسف إلى منبتها الخفي البعيد.
وفي الوقت الذي تطأطئ فيه أترابها الشامخات رؤوسهن أمام سلطان النسيم القاهر تتنفس هي بسكينة ورفق في مخبئها الوادع الأمين، وسواء عليها مرت الريح رخاء تتخلل ثنايا الكروم الدانية أو نكباء تنطح هامات أشجار الحور والبلوط العالية فتحطمها بشراسة وبأس:
وكذلك النفوس المتواضعة لا تشعر كثيراً بضربات القضاء المتوالية التي تهز بقوة عرش الملك العظيم.
وليست العلياء على منعتها إلا رصداً للمهالك، فلنقنع ولنتواضع نعش في سكينة وسلام، ولكن هلمّ، فقد أبطأنا، وتسلّل برشاقة وحذر لئلا توقظ زهر (الزعفران) النائم أو يراك (الأقحوان) اليقظ الذي يولي وجهه دائماً شطر قرص الشمس، وانظر على كثب منه (زهرة الربيع) التي كأنما أضناها الحب فنكست رأسها لتخفي صدرها المجروح أو زهرة (الدمروز) الملساء ذات الطرف الساجي، وإلى جانبها زهرة (الهندبا) التي تذكرني بالتلميذ يمرح زماناً في ثوب المدرسة الذهبي، ثم تمسه يد القسيس فإذا هو في ثوب روحاني(41/35)
ساذج.
أو هل بصرت بتلك الزهرة الحزينة، زهرة (الهيكنت) التي يقولون إنها تحيا الليل باكية والنهار منكسة الجبين؟
لله ما أنضر هذا الحقل، وأبهج منظره الذي ترتاح إليه النفوس، إنه كصبي غض الصبا يخب لاهياً في طيلسان من حرير وقد تهدلت على كتفيه خصل شعره الناعم الأثيث ولكأني بالنجوم التي تنتثر في زرقة السماء أقل عدداً من زهرات (كأس الملك) المنتثرة في خضرة هذه الأرض وقد تخللتها زهرات الأقحوان، لشد ما عانى الفلاح الماهر في تهذيب هذه الغروس وتشذيبها وأخص من بينها أشجار (التنوب) الصلبة فنشطت تحمل سلالها الذهبية.
على رسلك يا صاح، ولا تدن منها، فإني لأشفق عليك من نصالها المشحوذة التي تدب بحماس عن زهراتها المتدلية.
لقد زعموا أن (الأرواح) يألفن كثيراً هذه الأشجار ويهرعن إليها إذا جن الليل جماعات جماعات، وفي يد كل واحدة منهن زهرة من زهرات (كأس الملك) تحتسي بها سلسال النسيم العليل، ثم يأخذن في الرقص والطفر على وقع النغمات البعيدة التي ترويها الريح عن تلك القرى، أو سجعات البلابل الأنيقة التي ترددها عند انتصاف الليل.
وما أحسب هذه الدائرة الصغيرة إلا مكان التئام الحفلة، فهنا أتى أبيرون (ملك الأرواح) يقود رهطه على ضوء مشعلته الكبيرة وأخذ معه في اللهو والمرح ولعل ذلك هو سر ما نراه من احتشام الشاة هذه النواحي الخصبة، وتهيبها مراعيها على ما بها من نضارة وإيناع.
ويقولون إن هذه الأرواح لا يزلن على حالهن تلك إلى أن ينشطر الليل نصفين ويصيح الديك صيحته المعهودة، فيقفن رقصهن وزمرهن ثم ينصرفن أسرع من سنحات الفكر، ويتبعن (نصف الليل) أينما حل في أنحاء الأرض!!
هكذا ينسج الخيال نسيجه الشفاف، ويعجب العقل بهذا الصنع الدقيق، فيفلت من أسره، ويطير بجناحي النسر، محلقاً فوق الشمس.
ألم تر إلى تلك الغابة التي تكسو هذا المنحدر كيف تتموج أوراق أشجارها عندما يحركها النسيم فتعكس لوناً فضياً بهيجاً؟ خذ بنا إليها، ولنسلك هذا الدرب الأرنّ، ولنلقف بأسماعنا(41/36)
بعض ما يساقط علينا من الأنغام المطربة التي تعجز عن أن تخرجها الصنعة الموسيقية الحديثة.
أو تدري ما الذي يلقى إلينا بهذه الأنغام؟ أنها آلة دقيقة تطير حول الشمس يسميها الناس البلبل.
إن الطبيعة كثيراً ما تصر آلاءها في دائرة ضيقة!!
أنصت! ها هي البلبل تغنينا، ولا أحسب كل من لعب على سمعه شيء من غنائها بقادر على أن يفلت منه.
إنها لطائر ذات مروءة، تسعى دائبة في سرور غيرها، وليست كأولئك المغنيات اللائي يغريننا بأصواتهن المصقولة حتى إذا ما استعدناهن أشحن عنا متدللات متكبرات وتركننا بين الراحة والألم!!
وهذا هو (الحسون) الصغير، ذو الريش الجميل، يلتقط حبات (البابونج) ثم يقفز برشاقة على فروع (التفاح) المزهرة، فيتأنق في جلسته ما يشاء، ويحيينا بصوته الأغن.
ولا أراني ممارياً إذا قلت أني أضن به على القفص ولو أعطيت الدنيا وما فيها.
على أني أستميحك وقفة لدى هذا العش الصغير، أو إذا شئت ذلك البناء الحصين وأرجو أن تستظهره ببصرك وتستنبطه، ثم تفضي إليّ بما عساه أن ينالك من الدهش عندما تعرف أن (العصفور) لم يستعن على بنائه بآلة من آلات البناء!! فلا أثر لقاطعة تشذب شواذه، أو مسمار يربط أجزاءه، أو مبرد يصقل خشونته، أو غراء يلصق جوانبه، بل تراه غني عنها جميعاً بمنقاره الصغير!! وبناؤه مع ذلك آية في الدقة والأحكام!
فأية يد ماهرة تستخدم كل أسباب العمل، وتفرط فيه عقدين من السنين، ثم تغدو علينا بآخر يحكيه متانة وإتقاناً؟؟
ألا أن حقاً علينا أن ندهش ونعجب من هذه المهارة التي تفضل مهارتنا الفطرية أو لست ترى (النحلة) تلك الصناع الحاذقة، كيف تهزأ بالإنسان الذي يعمد إلى النماذج والأدوات عندما يراد على صنع جرم سداسي بينما هي لا تعمد في صنعه إلا إلى النظر؟ إنها لمهندس داهية كبير، أما رأيت كيف تبدأ بناءها بالسقف عندما نبدؤه نحن بالأساس؟؟
على أنها رغم ما تصرفه في هذا البناء من الجهد تظل هائمة بياض يومها بين الأشجار(41/37)
متنقلة من زهرة إلى أخرى بعزمة لا يتطرق إليها الملل.
فقل لأولئك (الكسالى) الذين حق عليهم القول إنهم يسرقون قوتهم هلموا فانظروا كيف تبتغي الحياة الشريفة من طريق الكد والعمل!!
لقد انكشفت حكمة الحياة لجماعات النحل فانطلقن يكدحن بعزم ومضاء، ولا قوت لهن إلا ما يصدفنه من المن، فإن العالم النباتي - ذلك الكيماوي الكبير - يقطر لهن الذهب فيستحيل إلى سائل عسليّ سائغ الطعم سهل المزدرد.
ولكن حسبك وانظر إلى الشمس، إنها تطرق أبواب المغرب تتهادى في غلالة ذهبية آية في الوراء، وتتسلل متباطئة خلف السحب المتقطعة القانية، وإن في فتور حرارتها وانحدار قرصها الأحمر ما ينذرنا بهجوم الليل.
رويدك أيتها الفارّة الحسناء، إن الأزهار الحزينة تنكس رؤوسها بوهن وخور فمديها بروح من عندك. .
أما وقد أظلنا المساء فلنعد أدراجنا ولنمر من بين تلك الأغصان المشتبكة لنلمح من خلالها الفضاء الأزرق المهيب الذي يسقف الوادي الفسيح المزدحم بالأكواخ وقد تكدست حولها كومات الأعشاب الذابلة، وإلى جانبها ينساب ذلك الغدير الفضيّ في حلة فضفاضة من حقول (البرّ وحشيشة الدينار) وهنالك على مدى البصر ترى غابات البلوط الكثيفة متلعة رؤوسها إلى السماء.
كل ذلك قد نسق بمهارة تنسيقاً يعجب الطبيعة.
فلله ما أسعد الرجل يشرب قلبه حب بلاده فلا يبتعد عن داره إلا بمقدار جولتنا هذه وهو لا يعدم خلالها وحشة تجذبه إليها حتى إذا عاد فوطئ عتبتها استشعر فرحاً وسروراً يحمد معهما العودة كما نحن الآن.
ذلك مثال مما يستقبل به الغربيون ربيع بلادهم، وهو وإن لم يخل من إبداع إلا أنه لا يعادل إبداع الطبيعة عندهم، فلقد خلعت على نواحيهم حللاً مفوّفة عريت من مثلها نواحينا، وصار حقاً على شعرائهم أن يبزوا شعراءنا في الإبانة عن خوالجهم كلما طلع عليها الربيع، فما صحيفة الشاعر إلى صورة لصحيفة الطبيعة في بلاده.
وذلك مصدر ما نراه من التباين في خيال الشعراء الغربيين والشرقيين، ولو أن لنا ما لهم(41/38)
من الغابات المرنة التي انفصلت عن الجنة لكان للخيال في نواحينا شأن آخر.
فلا يكونن هذا التباين مدعاة لتحقير الشاعر في الشرق، فهو إنما ينطق بما توحيه إليه طبيعة أرض وسمائه، وإذا كان ثمة تقصير فمرجعه إلى الوحي لا إلى الشاعر.
وما عسى أن يقول المسكين في ربيع لو لم تشعره به التقاويم السنوية لحسب أنه لم يطلع عليه بعد؟؟ فإن للربيع آثاراً واضحة لا تكاد تري العين بعضها في هذه البلاد إلى بمنظار يقيها (رياح السموم) التي تبث فيها (الصحراء الكبرى) تحياتها السنوية المعهودة إلى مصر والمصريين. .
فحسب الشاعر المصري في مثل هذا الفصل أن يشغل شعره بأكبار الطبيب الذي أبرأه من الحمى والرمد، لا أن يشغله بأكبار شيء لم تعرف له نفسه إلا النقمة الخالدة واللعنة المؤبدة. . . وهل الشعر إلا ما تعرفه النفس؟؟
يقولون إن ربيع هذا العام قد أظلنا، فهل هذا صحيح؟؟ إني لا أكاد أومن بما يقولون وإلا فأين ما قرأناه عن جوّه السجسج ونسيمه العليل؟؟
لا عهد لنا بشيء من ذلك، وكل ما في الأمر أنا انتقلنا حقاً من برودة حادة جمدت الدم في عروقنا إلى حرارة قاسية غلته فجأة فانبعث من مسام أجسامنا عرقاً حاراً صبيباً. . .
وليس ذلك إلا كناية عن خروجنا من الشتاء ودخولنا في الصيف، فأين الربيع؟
هذا هو السؤال الذي اختلج في نفسي عندما قرأت في (تقويم الأوقاف) خير حلول الربيع فنظمته في هذين البيتين.
يقولون بين الشتا والمصي ... ف ربيع أنيق اللباس خليع
وهذا الشتاء تولي حميداً ... وجاء الصيف فأين الربيع؟
وهما كل ما قلته في الربيع. . .(41/39)
اللغة العربية
لحضرة الأديب الكبير العالم المفضال الشيخ فؤاد الخطيب أفندي
لا جرم أن اللغة العربية أجزل اللغات السامية وأوسعها مجالاً وأحكمها استعمالاً.
لا يذهب مر العشي بسلاستها ولا يعبث كر الغداة بطلاوتها، ولقد طاحت دول وبادت ملل فاستسرت لغاتها وعفت آياتها، وتلك اللغة تدور مع الأحقاب في غلائل الآداب وغلواء الشباب، لا يرهقها هرم ولا يخلقها قدم، فكأنها وهي ابنة القرون الخالية والأمم الماضية، نشأت في اليوم الحاضر أو أمس الدابر، فجاءت دفعة واحدة مستوفية أقسام جمالها وصحة أبنية أسمائها وأفعالها، تجول بها أسلات الألسنة وأطراف اليراع، في صدور المحافل وبطون الرقاع، فتنتظم فوائدها وتعقل شواردها فلا تشذّ نادرة ولا تند بادرة.
أجل، إن السيف الباتر والجبروت القاهر والمكاتب المتماوجة بالزحام والمدارس المكتظة بالطلاب والصحف الذائعة في الآفاق والوفود الضاربة في الأصقاع - لم تحول لغة عن أصلها ولم تجذب أمة بحبلها، فأين ذلك مما وقع للعربية مع تلك الشراذم البدوية، فإنها لم تنهب الأرض في قطار ولم تجزع الفضاء في منطاد ولم تمخر البحار بالبخار بل جابت المسارح ورادت المكامن وطافت المجامع، فولجت كل مصر وسكنت كل نفس وقالت لكل شيء: حسبك فإنك عربي منذ اليوم.
فسقى الغيث ذلك العهد القديم، ورعى الله ذلك العربي الصميم فلقد كان نوراً في الظمات وهدىً في الشبهات، إذا جال في مضمار الفكر، وراوح بين النظم والنثر، صور على الطرس حقيقة النفس فناجتك بأسرارها، وحدثتك بأخبارها، فإذا الغيب تكاد تراه عيناك، وإذا الوهم تكاد تلمسه يداك.
فهكذا الأدب وكذلك العرب، فلقد سبروا غور العلم ومشوا إلى أعماق الفهم.
فانتزعوا العقول من عقالها واستلوا الوجود من العدم واستخرجوا اليقين من الريب وتغلغلوا بين الذرة وأجزائها، وتسربوا بين العصا ولحائها، وكانوا وكل سحر غير سحرهم باطل، وكل بلد خيموا فيه بابل.
اللهم سبحانك، أينطق العربي بالحكمة الناصعة ويهتف بالقافية الرائعة، فتكاد لحلاوة أبياتها تقبل أفواه رواتها - وهو في ذلك المنقطع من الأرض، يهيم في ظلمات بعضها فوق(41/40)
بعض، إذا مشت عيونه ففي صميم القفز وإذا وقفت به فعلى أديم الصخر.
فلا يزال في الوجود كالمثل الشرود، تتلقفه الأقطار وتتخطفه الأسفار، فمن هضاب يحوم فيها كالعقيان إلى بطاح يعسل فيها كالسيدان، ومن مجالدة زعزع نكباء تنسف التلال، إلى مكابدة هاجرة سجراء تأكل الظلال.
فما ثم مرتع شائق فيستمد من جماله البيان، وما ثم مورد رائق فيمتح من عذبه اللسان، وإنما هي أرجاء عابسة وبيداء طامسة، تجول فيها الأفكار فتكل وتدور فيها الأبصار فتضل.
فسلام على تلك الجزيرة الجرداء ومرحى لتلك المجاهل الخلاء فوالله ما تعوزها الرياض مبثوثة الزرابي والأنماط، ولا الحقول مبسوطة البرود والرياط، ولا النمير يترقرق على حصباء تتألق، فقد نبتت فيها حسنات الزمان، وتفجرت منها ينابيع العرفان، فغنيت بنضرة الآداب عن بهجة الأعشاب، وبكمال السكان عن جمال المكان، بل كانت مسبح الروح الأمين وموئل الدنيا والدين فتبارك الله أحسن الخالقين.
فأي نياط لا يتقطع، وأية مهجة لا تتصدع، فقد أودى أولئك الكرام، وتنكرت تلك الأيام، حتى تبازى الرهام، واستنسر الحمام، ولم يبق غير أمة مكسال، لا تتحرك إلا بزلزال، ولا تقطع من أشواط الدهر، إلا مسافة العمر إلى القبر.
فأين بنو قحطان، وفتيان عدنان، فيهبوا بالنفوس من غمرتها، وينهضوا باللغة من كبوتها، فتلك مفاخر بلادهم ومآثر أجدادهم، ملء الأنجاد والأغوار وطلاع الدفاتر والأسفار، وأنها لتنطوي بالمرء مراحل العصور والأجيال، وتطل به على عالم الحقائق من ملكوت الخيال.
أما والله لولا تنطس بعض المتزمتين وسدهم على اللغة أبواب التعريب والاشتقاق فحجروها في الحواشي وأقبعوها في المتون، لما ازورّ الطلاب عنها وامتلأوا نفوراً منها وكأن العلم كل العلم أن يمضغ المرء كلام غيره ويلوك أقوال سواه، فيتشدق بالمذاهب العقيمة ويتبجح بالأمثال السقيمة، وإن قعد به العجز عن إنشاء فقرة وتصوير فكرة، ولم يغن عنه سواد الحدود والمصطلحات، وما أفتن فيه من الشواهد والنكات.
ولا بدع فإن الأصول وسيلة والأنشاء غاية، ولشد ما بينهما من شاسع الفرق وواسع البون وكم بين الماء والسراب، والقشور واللباب.(41/41)
وأما من رزق قريحة وقادة وبصيرة نقادة وأحاطة بما لا مندوحة عنه من قواعد اللغة وأصول العربية، ثم راض نفسه على مزاولة أساليب العرب ومناحيهم وتوفر على مطالعة تراكيبهم ومراميهم، فقد اكتسب من ملكتهم ما أخرجه إلى لهجتهم، فبات وما يعترضه عيّ ولا ترتهنه لكنة ولا تتحيف بيانه عجمة.
وهل البلاغة لعمري إلا بصقال الديباجة ومتانة الأسلوب وحلاوة الأداء، لتكون المعاني أعلق بالخاطر وأسرع في السمع وأفعل في النفس، أرأيتك وقد ثقفت الألفاظ المتخيرة وعرفت أين تضع يدك في سبكها وتأليفها، كيف تهز القلوب وتخلب الألباب وتملك قياد الأهواء.
ولله در أبي هلال العسكري إذ قال في الصناعتين إن مدار البلاغة على تحسين اللفظ، وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً وقال ابن الأثير أن اللفظة الواحدة تتنقل من هيئة إلى أخرى فتحسن أو تقبح، هذه كلمة (الأرض) فإنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مفردة سواء أفردت بالذكر عن السماء كما في قوله تعالى (والله أنبتكم من الأرض نباتاً) أو قرنت بالسماء مفردة كما في قوله تعالى: (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) أو مجموعة كما في قوله تعالى (الله الذي خلق السموات والأرض)، ولو كان استعمالها بلفظ الجمع مستحسناً لكان هذا الموضع أو شبهه أليق به، ولما أراد أن يأتي بها مجموعة قال: (لله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن)، وكذلك قول أفصح الخلق لبعض النساء (ارجعن مأزورات غير مأجورات)، وحسبك أن المعاني المنقولة من لغة إلى أخرى تفقد ماءها وتفارق صفاءها، وما ذلك إلا لأنها انسلخت من برودها المعلمة وانخلعت من قوالبها المحكمة فكانت شبحاً ناحلاً وخيالاً ماثلاً.
وليت شعري ماذا يضر المعاني إذا أجيدت لها المباني، فكانت شرعاً في المتانة وسواء في الصياغة ولاسيما وقد جاشت غوارب العجمة وفشت لوثة اللحن، ومست الحاجة إلى شد أواصر اللغة وتقويم منآد اللسان.
إلا وأنه لمن البر بالأدب والغيرة الصادقة على العرب، أن ينسج المتأدب على منوال الفصحاء ويطبع على غرار البلغاء فذلك تاريخ آبائنا يصيح بنا من ورائنا وكله دموع تترى لا ألفاظ تتلى (وما يذكر إلا أولو الألباب) والله الموفق إلى الصواب.(41/42)
شبابنا والإسلام
ترى الرجل المتدين - وأكثر ما يكون من المتقدمين في السن - فتسر، ثم
(البيان) بين شباننا اليوم أفراد مهذبون مستقلوا الفكر ذوو شجاعة أدبية اهتدوا بفطرتهم القوية إلى المنهج القويم في تربية أنفسهم فانتهجوه وأصبحوا قرة أعين أهليهم وأصدقائهم والغيورين على رجال المستقبل. . .
نعرف من هؤلاء الشباب الصالح - الشاب الفاضل محمد بك جلال نعرف منه شاباً يتقد ذكاء جمع بين حرارة الشباب ورصانة الشيوخ وقد أردناه على أن يكتب في البيان كلما بداله أن يكتب تشجيعاً له وانتفاعاً بمواهبه، وهذه هي الباكورة الأولى من ثمرات فضله.
لا تلبث حتى ترى أنه يعوزه شيء من نور الحقائق العلمية الحديثة فتأسف.
وترى الرجل الذي أصاب حظاً وفيراً من العلوم العصرية - وأكثر ما يكون من الشباب - فتطرب لحديثه، ونفاذ بصيرته واستنارته، ثم تلاحظ حاجته الشديدة إلى شيء من الدين فتألم.
تسر من الأول لأن تدينه يضمن بدرجة ما، تقدمه الخلقي واحتفاظه بالكمال ثم تأسف لجموده وعدم وقوفه على شيء من أسرار العلوم الحديثة، لأنه لو وفق بين الأمرين لا شك يجد مجالاً أوسع لخدمة بلده وعشيرته.
وتسر من الثاني، لأنه شاب في مقتبل عمره ومع ذلك تراه ملماً بكثير من أسرار العلوم مما يزيد أملك في نفعه، وتتألم لأن نقص دينه نقص في دوافعه إلى الخير، وفي زواجره عن الرذيلة، وتأسف ثانياً وتعجب أكثر، لأنك ترى تقدمه في العلم فتقرر النتيجة المنطقية الواضحة وهي أن استعداده الفكري الذي أهله لدرجته العلمية كفيل بأن يفهمه الحقائق الدينية ولكنك لا ترى ذلك في الواقع.
تلك هي حالنا اليوم يضحك الفريق الأول من الثاني ويسخر هذا من ذاك يظن الأولون أن العلوم الحديثة مؤثرة على العقيدة، نزاعة بالمرء إلى الخروج عن أوامر دينه ونواهيه، ويرى الآخرون أن لا طائل تحت التمسك بالدين، وبعضهم يظن أن الدين لا يساعد على الرقي وخصوصاً المادي منه.
أن أنس ما أنس كلمة سمعتها من ناشئ لم يتجاوز الخامسة عشر بعد، زرت أخاه، فاجتمعت به، ثم أخذت أسأله عن سيره في دروسه، فما لبث أن قال: إني لا أبغض من بين الدروس(41/44)
غير درس الديانة لأنه ثقيل وقد أخذت فيه درجة أقل من العلوم الأخرى.
علقت هذه الكلمة بذاكرتي علوق الدرن بالرئة فأخذت أفكر في سبب بغض الطلبة تعلم دينهم وأبحث في سبب بعدنا عن الفكرة الدينية.
إنا لا نتلقى في عهدنا الأول، أيام تثمر التعاليم أي في دور التربية المنزلية شيئاً من أركان الدين وقواعده، حتى نصل إلى سن (الكتاب) فنتلقى شيئاً، بطرق عقيمة، على فقهاء من الطراز القديم، فلا نخرج من المكتب إلا ونحن ناسون.
أما في المدرسة، فالحصة المقررة للديانة لا تكون إلا بعد انتهاء الدروس وهذا أمر يؤثر على الطلبة من جهتين.
أولاً: يجعلهم ينظرون إليها نظرة ثانوية ويعتقدون أنها ليست على شيء من الأهمية.
ثانياً: يكون قد مضى على الطلبة وقت كبير يشتغلون أشغالاً عقلية، فلا يستطيعون فهمها كما يجب.
هذا النظام شائع في مدارس الحكومة والمدارس الأهلية اللهم إلا مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية.
وليس من العدل أن ننسب بعدنا عن الفكرة الدينية إلى طريقة تعليم الدين في المدارس فقط بل إن المرء لينشأ في أسرته فلا يرى أثراً للتعاليم الإسلامية فإما يرى أسرته قد مسخت وتطرقت إليها التعاليم الافرنجية مشوهة أو لا يرى فيها غير تعاليم إسلامية محرفة عن أصلها ففي الأولى يخلب لبه بتلك التعاليم التي تتبعها الأمم المتمدينة ظاناً أن ملأه خير ملأ يتبع نظام التطور والارتقاء ولو عرف الحقيقة لعلم أنهم ما أخذوا إلا سفاسف المدينة ونفاياتها.
وفي الحالة الثانية يرى ما يبغضه في دينه ويدعوه إلى التمرد عليه ولو علم حقيقة دينه لاستسهل أن يفدى تعاليمه الصحيحة بالروح.
حالان كلتاهما خطر على الدين وتشويه للحقيقة أما سفور وتبرج محرمان يظنهما المرء أشهى ثمار المدنية الغربية وأما جمود وتحريف في الأمور الشرعية نزاعان بالمرء إلى المروق من دينه.
يسمع من عشيرته أن من قرأ دعاء نصف شعبان مرت عليه السنة قبل أن يموت، يري أن(41/45)
هذا أمر لا يقبله العقل ومع ذلك رواته مسلمون فيظن أن هذا من الإسلام فيزري على هذا الدين لأنه لو قام حقيقة على مثل هذه التقاليد لكان هناك مجال للظنون.
يرى أن رأس أسرته يبرم الأمر دون استشارة محقراً رأي الأفراد الآخرين ويرى أن روح الصراحة معدومة بينه وبين أبيه وأبوه مسلم فينسب هذا إلى الدين مع أن الإسلام هو الدين الذي يعضد الشورى ويحض عليها.
ثم يظهر التحريف والخطأ المحض في الخطبة والزواج فيتم هذان الأمران دون استشارة مع أنه محور الأمر وإليه يرجع الرأي وهو الذي سيجني الفائدة إن وجدت ويحمل الضرر إن حدث فيظن أن هذا ناشئ من الدين.
ولا أبالغ إذا قلت أن سلطة الآباء ورؤساء الأسر في مصر وعلى الأخص في الأرياف تقرب مما كانت عليه في العهد الروماني.
وتظهر هذه المخالفات بل الطعنات التي يطعنها في الدين أهله منذ الصغر منذ توضع التمائم والأحجبة، عندما يتذكر المرء ذلك بعد أن يكبر يراه منافياً للشريعة.
مع أن الإسلام في حقيقته دين الفطرة دين التقدم والرقي وقد قص علينا التاريخ ما بلغ أسلافنا من الرفعة حين اتبعوا صحيح تعاليمه.
ويظهر الفرق بين الأسر المسلمة وغير المسلمة في اختيار المدارس فترى المسيحي واليهودي كل يختار لابنه مدرسة تكون بقدر الإمكان موافقة لروح ديانته، وتراهم يختارون المدارس ليهذبوا أبناءهم لا ليضعوهم بعد في الوظائف فتجد الرجل على فقره يعد ابنه للأعمال ذات الكسب فيعرف مثلاً أن اللغة الفرنسية مفيدة في التجارة فيدخله مدرسة فرنسية فإذا تعلم أخذه بجانبه فيساعده في أعماله ويتمرن عليها وينتهز فرصة خلو ابنه من المشاغل في المساء فيدخله إحدى المدارس الليلية كالقسم التجاري مثلاً أو الحقوق فلا يحرم نصيبه من عمل ينفعه في عمله أيضاً فيما بعد، أما نحن والحمدلله فلا أمل لنا إلا وظيفة في الحكومة كذلك علمنا آباؤنا قلا يهمنا إذا تربية كفاءتنا الشخصية ما دمنا سنصبح مرؤوسين نأتمر بأوامر سوانا.
وأقرب طريق لهذا المستقبل الباهر مدارس الحكومة حيث لا نتعلم شيئاً عن الإسلام.
وهنا أبين كيف تسلط على عقول البعض أن الإسلام لا يساعد على الرقي المادي.(41/46)
إننا نتربى كما بينت سابقاً على النحو الذي يرسمه لنا آباؤنا، لا يبلغنا شيء من حقيقة ديننا لا في البيت ولا في المدرسة، ونوع تعليمنا يقتل كفاءتنا وحب العمل على الاستفادة فلا ننجح ونحن مسلمون أستغفر الله مسلمون اسماً فقط ثم إذا قارنا بين أسرنا والأسر المسيحية نجد الثانية مرتقية، وحيث إن الآباء ليسوا على شيء من حقيقة الدين ولكنا نعتقد أنهم يعرفونه حق المعرفة لا نلبث حتى نعزي إلى الدين هذا التأخر والدين من ذلك كله براء. . ورحم الله الشاعر عمر الخيام إذ يقول يخاطب حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بما معناه - لقد زخرفوا لك دينك وقلبوه ظهراً لبطن حتى لو عرضوه عليك أنت لأنكرته - فاللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون.
محمد محمود جلال(41/47)
حفلة تكريم البيان
في أواخر شهر مارس الماضي - بعد ظهور العدد الرابع من بيان هذا العام ارتأى جماعة من أهل الفضل الغيورين على العلم والأدب أن يقيموا حفلة تكريمية لهذه المجلة لمناسبة مرور سبعة أعوام عليها، والحرى لذكرى ظهورها في مثل هذه الأيام من سنة 1911 وأخيراً اعتزموا أن يكون برنامج هذه الحفلة كما ترى (1) أن تقوم جوقة الأستاذ عبد الرحمن رشدي الممثل المصري المشهور بتمثيل رواية جديدة توضع أو تترجم خصيصاً لهذا الغرض وتكون ذات مغزى مفيد (2) أن يطرب حضرات المحتفلين أحد مشهوري المغنين (3) أن يخطب في الحفل حضرات أصحاب العزة والفضل ابراهيم بك الهلباوي ومحمد أمين واصف بك وخليل أفندي مطران وحفني بك ناصف والدكتور محمد حسين هيكل والدكتور منصور فهمي والأستاذ سليم أفندي سركيس وحسن بك الشريف والدكتور عبده البرقوقي (4) أن يطبع عدد ممتاز من مجلة البيان يكون فيه أثر لكل كاتب عصري معروف ويوزع ليلة الحفلة على المحتفلين، ثم شرعوا في إنجاز الفكرة وإبرازها من خدرها فاتفقوا مع جوقة الأستاذ رشدي ووكلوا إلى حضرة الأديب عباس أفندي حافظ ترجمة رواية فرنسية بديعة للغاية آثرها الأستاذ رشدي واستحسنها ورآها موافقة فأخذ الأستاذ عباس في ترجمتها ثم مصرها وأصارها بلباقته المعروفة رواية مصرية آية في الإبداع، بيد أن طوارئ خاصة ألمت بالأستاذ رشدي بعد ذلك حالت دون تمثيل هذه الرواية ولاسيما أنها جاءت بعد البرح البارح الذي عرا جوقته من جراء تمثيل روايات عدة جديدة في هذا العام فكان ذلك سبباً في إرجاء الحفلة وتغيير برنامجها إذ كانت النية أن تكون الحفلة في أواخر شهر إبريل. . . وإذ أن المراسح التي اعتاد الأستاذ رشدي التمثيل فيها كانت في ذلك الوقت مشغولة اضطر القائمون بأمر الحفلة أن يولوا وجوههم شطر جوقة أخرى ومرسح آخر فكان أن اتفقوا مع الأستاذ جورج أبيض على أن يمثل رواية عطيل لأن الوقت لا يتسع لتمثيل رواية جديدة وأن يكون الاحتفال في كازينو الكورسال عصر يوم الجمعة الموافق 17 مايو.
في أثناء الاشتغال بأمر الحفلة كتبنا إلى كثير من الكتاب أن يكتب كل منهم في أي موضوع يختاره هو وتجيش به نفسه فوعدوا جميعهم، غير أن أكثرهم طال علينا طوله حتى سبب ذلك تأخر العدد وعدم ظهوره ليلة الاحتفال. . .(41/48)
أما الخطباء فقد تأهبوا جميعهم للخطابة - ولكن لأن الصيف اشتدت وقدته، واحمرت حمارته، فأرغم أكثرهم على مزايلة القاهرة والهرب من هجيرتها ثم ألم بساحة بعضهم ما لم يمكنه معه أن يحضر الحفلة بتة - هذا إلى أن رواية عطيل استوعبت لطولها الوقت المقرر للحفلة على الرغم من أنهم حذفوا منها نحواً من الفصلين - كل ذلك لم يترك مجالاً لحضرات الخطباء أن يخطبوا حتى الذين حضروا الحفلة منهم لأن خطبهم كان أولى بها أن تلقى في حفلة قاصرة على الخطب لا يشركها في الوقت شيء آخر لأنها خطب مستوفاة لا كلمات مقتضبة مخطوفة، أما صاحب هذه المجلة فقد قام آخر الحفلة على الرغم من ضيق الوقت وألقى شيئاً من كلمته التي يراها حضرات القراء بعداً، وقد ألقى بعده حضرة الأديب الشاعر مجدي أفندي ناصف نجل حضرة صاحب العزة حفني بك ناصف بيتين نالا من الاستحسان ما يستأهلان، من هنا يدرك قراؤنا الأفاضل سر تأخر عدد إبريل إلى اليوم، أما من جهة حضرات المدعوين لمشاهدة الحفلة فقد كانوا من خيرتنا علماً وفضلاً وجاهاً إذ كان في طليعتهم حضرة صاحب المعالي عدلي يكن باشا وحضرة صاحب المعالي سعد زغلول باشا وحضرة صاحب السعادة محمود فخري باشا وحضرة صاحب السعادة أحمد زكي باشا وحضرة صاحب السعادة الحسيب النسيب سيد العراق السيد طالب النقيب وحضرة الأديب الكبير الشيخ فؤاد الخطيب أفندي وحضرة صاحب العزة العالم الفاضل الجليل نور الدين بك مصطفى وحضرة صاحب العزة الأصولي المفضال حلمي بك عيسى وحضرة صاحب العزة القاضي الفاضل السيد بك فوده والقاضي المبجل علي بك جلال وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ مصطفى عبد الرازق وكثير من أعيان المحامين والأطباء والأدباء والعلماء والوجهاء وأساتذة المدارس وطلبتها، مما دل على عناية القوم بكل ما هو بسبيل من العلم والأدب، والمطلع على هذين العددين يرى آثاراً طيبة لبعض علمائنا وأدبائنا مما وضعوه خصيصاً لهذين العددين لمناسبة هذه الحفلة وكلهم على أن سيوافوا البيان دائماً بما سيرضي قراءنا الرضا كله إن شاء الله.
أما كلمة صاحب هذه المجلة فها هي تي:
سادتي:
إني لأرى أن لكل منكم على ديناً من الفضل يجب أداؤه، وحقاً من الشكر يلزمني وفاؤه،(41/49)
فقد والله سقيتم بنداكم من هذا الضعيف أرضاً، وجعلتم عليه بهذا التكريم نافلة من الشكر وفرضاً، وحقق الله بكم أمل الآملين، وجعل رضاكم من ثواب العاملين، غير أني وإن بالغت في الثناء فما يحسن اللسان، أن يكافئ بعض ما قدمتم من الإحسان، ولو كنت صاحب ألف بيان. . .
علم الله يا سادتي أن هذا الضعيف الواقف أمامكم قد صارع الدهر في سبيل خدمته الأدبية فلم أزل أثير في وجهه غبار العزيمة، حتى ثار من خلفه غبار الهزيمة وكم أشرعت في نحره القلم وكم براه، ولكن الله أجارني وأجاره، وكم أوتر هذا الدهر قوسه ونبل، ورماني من أحداثه بعدد الحصى ورميته من نفسي بجبل.
يكاد صاحب المجلة العربية في بلادنا أيها السادة فيما يكابد من الناس وما يلقى من الأرزاء والإزراء في سبيل الإصلاح وما يجب عليه من الثبات لقاء ذلك - أن يكون كصاحب الكتاب المنزل في أول دعوته وفاتحة نبوته وهيهات يفلح إلا إذا صبر على المكاره كما صبر أولو العزم من الرسل فلو أني حدثتكم بما لقيت في سبيل هذه المجلة وما ألقى الله عليّ من عنت الدهر لرأيتم من أمري كأنما أهدم نفسي أمامكم قطعة قطعة حتى لا يبقى مني إلا هذا القلب وحده وليس فيه غير اليقين بعون الله والثقة بأهل الفضل.
ولو كنت أرمي بعملي هذا إلى الريح لكان أمساكي عن الإنفاق وترك المجلة من السنة الأولى ربحاً كبيراً، فما كانت تلك السنة إلا صدمة زلزلت فيها أركان ثروتي زلزالاً جعلها لا تتماسك فيما بعد! أقبل عليّ الناس بالطلب يتساقط كالمطر وأقبلت عليهم بالثقة فكنت أرسل أعداد البيان في مهاب الرياح الأربع وكان يخيل إليّ أنه يطير في الآفاق على أجنحة الملائكة ولما تم الحول رأيت أن الرياح لا ترجع بشيء وأن الملائكة لا يحصلون قيمة الاشتراك وأن الفساد في أكثر الناس يرجع سببه إلى النية الصالحة في بعض الناس.
يريد الأكثرون عندنا أن يقرأوا وأن يتأدبوا أن يجدوا في خدمتهم عقولاً كبيرة ونفوساً الهية من الشعراء والكتاب والفلاسفة ولكن على شرط أن يكون ذلك كله أو أكثره بلا ثمن بل سلف لله تعالى فإن انخدع بهم صاحب المجلة وذهب يؤاتهم على هذه الرغبة لم تكن الأسنة أو بعضها فإذا هو قد شقي بمجلته وأصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية لا على عروشها، ولكن على غروشها، وما زال الفقراء عندنا يريدون أن يقرأوا ولا يستطيعون أن(41/50)
يدفعوا والأغنياء يستطيعون أن يدافعوا ولا يريدون أن يقرأوا، فمجلة البيان لبثت في حياتها تقاتل الموت ولولا ذلك لماتت.
لم أقصد أيها السادة إلى الربح من عملي ولا فكرت فيه ولا عملت له فإني أرى أن النفس المادية لا تستطيع أن تتصل حق الاتصال بمجموعة الروحانية التي تتألف منه جمهرة القراء وبالتالي فهي لا تستطيع أن تنبسط على هذه المجموعة شعاعاً ولا أن تخطر عليها نسيماً ولا أن تترقرق فيها ندى فإن غذاء الأرواح كغذاء الأزهار - بالنّير النّير والرقيق الرقيق، ولهذا كان كل أهل الإصلاح من الأنبياء فمن دونهم لا يبالون بالمال ولا بالغنى لمكان الاتصال منهم بتلك المجموعة ومكان الإفاضة عليها، ولهذا أيضاً قنعت قناعة الزهاد، ووقفت نفسي على ما قدّر لها من الجهاد وأبيت أن يكون اتصالي بالقراء من هذا النوع السوقي الذي يشبه اتصال البائع بالمشتري، وأنا أعلم يقيناً أن هذا غرض تتزلزل النفس من دونه ولا يثبت عليه إلا من كان حجراً تحت ضرس الدهر لا يقضمه ولا يهضمه.
فعلت كل ذلك لأنه مبدأ نشأت عليه في صحبتي للأستاذ الإمام حكيم الشرق وأكبر المصلحين فيه المرحوم الشيخ محمد عبده، فقد صحبته وأخذت عنه تسع سنوات كاملة بعد أن قطعت عمراً قبلها في الأزهر وكنت من الذين يدرسون وأخلاق الأستاذ ونفسيته العالية ويستمدون من روحه العظيمة ويقدّرون مستقبلهم على ما يرون من حاضره، ولو أنه رحمه الله تفرغ لإنشاء مجلة لكان له منها أعظم الربح أو أعظم الخسار لأنه لا يبالي بكليهما ولا يسعى لأحدهما وإنما يكون الأمر صورة لذمم القراء. . .
ولما استأثرت رحمة الله بالأستاذ جعلت همي أن أستثمر أدبه فيّ فانصرفت نفسي إلى منزع من الإصلاح أتأتى إليه بعمل ينفع الناس ولم أر إلا الأدب واللغة والرقائق النفسية ففرغت للامتلاء من آثار الأولين والآخرين وما زلت أرصد في مراقب الأيام حتى خرجت من صحف الغيب في أوائل سنة 1911 صحيفة البيان.
ولا أراني في حاجة أن أبسط لكم خطة المجلة ولا ما وقفتها عليه فقد مرّ على ذلك سبع سنوات وهي ربما أغنت في شرح ذلك عن سبعة السن ولكني أشهدتكم على قليل مما لقيت في سبيلها وما أنا بآسف ولا نادم ولا متبرم لأني جد واثق أنه لا يوجد اليوم في مصر المحبوبة رجل مفكر ولا أديب بليغ ولا عالم محقق ولا متأدب يتهيأ لمستقبله العالي إلا وهم(41/51)
يقرؤون البيان ويحرصون عليه ويكرمون صاحبه بمودتهم وانعطافهم عدا طائفة كبيرة من أمثالهم في أقطار المشرق، فالبيان والحمدلله بعناية هؤلاء قائم على بنيان متين من عقول سامية يقوم عليها كذلك بناء الأمم.
نعم إننا لا نزال نشكو مطل كثير من قومنا في حقوق الأدب وبخاصة طوائف من الأغنياء بلغ بهم الانصراف عن معنى الأمة ومقوماتها التي من أهمها نشر اللغة والأدب وما يعين على تهذيب الطباع إلى أنها عفا الله عنهم ولم يعودوا يرون أن في الإسلام زكاة إلا ما يدفعونه بقوة المحصل وكثرة الإلحاح اشتراكاً في مجلة أو صحيفة.
نشكو من هؤلاء وهؤلاء ومن طائفة ثالثة هم من أهل العلم والفكر ولكنهم يكرهون ما كان عربياً، ولا يقرأون ما هو عربي ويأنفون أن يشتركوا في مجلة عربية كأن هذه اللغة ليس في أفواه آبائهم وأهليهم وجميع قومهم ولم ذلك؟ لأنهم تعلموا في أوروبا، أفترى كل من تعلم في أوروبا لا بد أن يصير أوروبياً في لغته ومنزعه ومذهبه واحتقاره للشرق.
وهب ذلك صحيحاً وحقاً وضرورياً لهذه الأوروبية، أفلا تعلمهم أوروبا أن لكل أمة حقوقاً على أبنائها ولكل شعب لغة وعادات ومذهباً خاصاً في التاريخ وأن كل فرد من الأمة يجب عليه أن يحتفظ بمجد تاريخها ويبالغ في إظهاره والتعلق به ويزيد فيه بما يقتبس لأمته من محاسن غيره من الأمم.
وبالاختصار ألا تعلم أوروبا أن من كان مصرياً وجب عليه أن يبقى مصرياً مصرياً مصرياً ولو انتقل إلى القمر؟
أيها السادة - إني أعد من سعادة مصرنا المحبوبة أن نشأنا الجديد المبارك الذين يتخرجون من المدارس العليا سنة فسنة أخذوا يدركون أن من أجل الأعمال في خدمة الأمة مساعدة المصلحين ممن تفرغوا لخدمتها، وكنا قديماً نحسب أن شمس بلادنا الحارة تقضي بأن يكون لنا من شباب وشيوخ كثير من الأعمال الباردة ولكن هذه الآية قد الزمان إلى الأمام وأخرجت التربية الحديثة جيلاً مباركاً ميموناً يرى أن هذه الشمس الحارة تقضي عليه بأن يكون حارّ النفس والفكر والرغبة في التقدم والإصلاح والأعمال الجدية، فعلى هذا النشء الصالح الذي أدعو له من صميم قلبي أعلق مستقبل البيان. . .
ولهذه المناسبة كتب حضرة الشاب المهذب ناجي أفندي البرقوقي الذي اختار الله له أن(41/52)
يشركني في هذا العمل غيرة منه على البيان واحتفاظاً به وخشية أن يصيبه لا سمح الله ما يلتاث معه أمره - كلمة هي عنوان الوفاء والنبل والإخلاص - قال حفظه الله:
الكتاب والشعراء هم عندي أنبياء هذه العصور، وما الكتب والمطبوعات النافعة إلا معابد متنقلة - معابد يجتلي فيها القارئون أسرار هذا الوجود وسر عظمة مبدعه، وليس بخاف أن المجلات والجرائد اليوم قوة لا يستهان بها، قوة لها أكبر الأثر في الجماعات والشعوب - فلا صولة الملوك، ولا سطوة الجيوش، ولا فعل القوانين ببالغة شيئاً لقاء هذه القوة التي يصل لنا أن نسميها قوة القوى، وبقدر نصيب الأمة من الحضارة والتمدين يكون تأثير صحافتها ومكانة كتابها وأدبائها.
ونحن إذا ألقينا نظرة على أدبائنا والمفكرين فينا وجدنا حالهم مما يؤسف له، وجدنا أمتنا المحبوبة مهملة شأنهم معرضة عنهم غافلة عن قيمتهم وتقديرهم وتقدير ما يعانون، ويمين الله لأهون عندي أن أمسك الفأس أحفر بها الأرض تحت حرارة الشمس شهراً كاملاً من أن أتناول القلم أخط به مقالاً في ساعة أو ساعتين أجهد فيهما ذهني وأعتصر أعصابي واحترق دمي ثم لا أحظى بعد ذلك كله بطائل، فليت شعري ماذا يلاقي أولئك الذين وقفوا حياتهم على الكتابة والوضع والتأليف ووصلوا الليل بالنهار، وضحوا كل مرتخص وغال في سبيل خدمة الأمة، وما هو جزاؤهم منها وماذا بعد ذلك؟ إن أمثال هؤلاء العاملين إما أن يكونوا من طينة غير طينة الناس العاديين.
ناجي أفندي البرقوقي هو شقيق الدكتور عبده البرقوقي وابن المرحوم الشيخ عبد الله البرقوقي ابن عم صاحب هذه المجلة - شاب فاضل مهذب حصل على الشهادة الابتدائية وتلقى جميع دروس القسم الثانوي - ثم حبب إليه أن ينقطع لثروة أبيه يديرها وينميها ولم يهمل مع ذلك واجبات الذهن فلا يكاد يمر عليه يوم دون أن يقرأ ويطالع ويدارس، فنعم الشاب هو.
فهم سائرون في طريقهم بقوة غير عادية فلا يثني عزائمهم ثان، وهذا ما لا يدركه تصوري، وإما هم - إذا نحن استرسلنا في غفلتنا عنهم وتركنا حبالهم على غواربهم - صائرون إلى اليأس والانثناء والخمود ضرورة أنهم بشر مثلنا وإذ ذاك نردد قول أبي العلاء المعرّي:(41/53)
نلوم على تبلّدها قلوباً ... نعاني من معيشتها جهاداً
إذا ما النار لم تطعم وقوداً ... فأوشك أن تمر بها رماداً
ظهر تحت سماء مصر منذ سبعة أعوام على حين حاجة منا إلى ذلك - مجلة البيان مجلة قيّمة امتازت بصفاء لغتها وطلاوة موضوعاتها وعنيت كل العناية بنشر آثار سلفنا الصالح وترجمة أطيب ما أنتجته عقول الغربيين وبالجملة سدت فراغاً كنا كلنا نشكو منه ونألم له - ولعل كثيراً من قراء البيان يعرفون مقدار الضحايا التي ضحّاها حضرة الأستاذ في سبيل هذا البيان، وأنه أوذي بسبب إيذاء لو أن بعضه أصاب شركة غنية مؤلفة من عدة أفراد من ذوي الثراء الطائل لكانت قد نفضت يداها من هذا العمل بمجرد شعورها به ولكن الأستاذ قد أشرب قلبه حب هذا العمل وامتزج منه باللحم والدم إذ قد فطره الله على حب العلم والأدب وعلى ذلك نشأ وفي هذا السبيل قضى زهرة شبابه بين دراسة وقراءة وترجمة وتأليف.
مضى الأستاذ في سبيله وما بالى بالمصاعب التي اعترضته ولا بالخسائر المادية التي أصابته، ولقد كانت هذه العزيمة الثابتة القوية كافية في أنت تصبح مجلة البيان في مقدمة المجلات العربية نظاماً وأكثرها انتشاراً لولا ما نشأ عن هذه الحرب من غلاء الورق إلى الدرجة القصوى التي قضت على كثير من المجلات والجرائد.
وهذا ما حملني على أن أبادر بوضع يدي في يد الأستاذ وأن أحتمل عنه شيئاً من أحماله كما هو الواجب على كل من آتاه الله بسطة في الرزق أن ينصر العاملين على خدمة المصلحة العامة ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وهنا أتقدم إلى جميع الناطقين بالضاد ولا سيما المصريين منهم وعلى الأخص قراء البيان أن يؤازرونا بأن يقدروا هذا العمل حق قدره وأن يعذروا الأستاذ عما أرغم عليه في الماضي إرغاماً من اضطراب المجلة في ظهورها وأن يكونوا على يقين من أنا لا نألوا جهداً ولا ندخر في سبيل الإبقاء على البيان سدد الله خطانا إلى الخير أجمعين.(41/54)
العدد 42 - بتاريخ: 1 - 6 - 1918(/)
سنة 2900
هذا مقال فكاهي طريف، نقدمه للناس لكي يتكهنوا هم في أنفسهم عن حال الدنيا يوم تدور دورة الدهر ألفاً، وتجري عجلة القرون عشراً، ويتخيلوا مصير الأرض في المستقبل البعيد والزمن الرخيّ القادم، ويتفكهوا بخيال كاتب من كبار كتاب الملح والنقد المضحك والفلسفة البهيجة، ويذكروا ما قد رأوه له في أعداد البيان السابقة من أفكاره البليدة وآرائه الممتعة التي يلبسها ثوب التهكم والأضحوكة العذبة، ونعني به الكاتب الروائي المشهور جيروم. ك، جيروم الذي وسم نفسه بلقب المفكر البليد.
وقد عثرنا بهذا المقال في كتاب من كتبه الفرائد، ومقالاته المبدعة، فآثرنا أن نسوقه إلى القراء، لأننا أحوج إليه في زمن يظن أهله أنهم قد لمّوا على المرقاة الأخيرة من مدارج الحضارة.
كنت ليلة الأمس في سمر طيب، ومحضر جميل، إذ جلست إلى العشاء في ناد يجمع طائفة من أصحابي الراقين على الاصطلاح الجديد، وكنا جلوساً أمام عشاء فاخر، يحتوي صحافاً عذبة المذاق، وألواناً من الطعام متعددة، فلما نهضنا إلى جلسة التدخين، لم نلبث أن سقطنا في جدل طويل عن موضوع المساواة القادمة بين الناس، وتوحيد الثروة، وإبطال الغنى الفردي.
ولم أكن أستطيع أن أسهم في هذا الجدل، أو أهجم مع صحبي في مثل هذا الحديث، لأنني لم أجد فرصة من زمني مذ كنت صبياً تؤاتيني على أن أذاكر هذه الأبحاث، إذ كنت فقيراً أسعى إلى الرزق طفلاً.
على أنني لبثت أستمع إليهم، وهم يشرحون كيف أن الدنيا قد ظلت منذ آلاف من الأجيال، قبل أن ينحدروا إليها، تسير على خطأ، وتدور دورة شمالية وكيف أنهم يستطيعون في بضع سنين أن يصلحوها ويردوها إلى مدارها المضبوط.
وكان محور حديثهم المساواة العامة، المساواة في كل شيء، في الثروة والامتلاك والعمل، والمساواة في الرضى والسعادة، وكيف أن الدنيا حق للجميع، وخلقت للجميع، ويجب أن تقسم القسمة العدل على الجميع، وأن عمل الفرد ليس له ولكنه حق المجموع، وعليه أن يطعمه ويكسوه، ويجب أن يكون هذا العمل يقصد به إسعاد الجنس الإنساني كله، لا إسعاد صاحبه.(42/1)
أما الثروة الفردية - هذه السلسلة الاجتماعية التي ربط فيها القليلون الكثيرين، هذا المسدس الذي يحمله بضعة من اللصوص فيسرقون به ثمرات أتعاب الجميع فينبغي أن ينتزع من الأيدي التي ظلت تقبض عليه كل هذا الزمن الطويل.
إن ثدي أمنا الأرض يجب أن يرضع جميع أطفالها بالسواء، فلا يجوع أحد، ولا يبشم بالغذاء آخر، وليس للقوى أن ينال نصيباً أكثر من الضعيف، ولا للذكي أن يظفر بما لا يستطيعه المغفل الأبله.
ولم يكد ينتهي صحبي من حديثهم الحار، حتى رفعنا الكؤوس عالية فشربنا في صحة المساواة، المساواة المقدسة الجميلة، ونادينا غلام النادي فاستزدناه شراباً وتبغاً.
وانطلقت آخر السهرة إلى البيت مفكراً متعب الذهن. ولم تغمض لي جفن ساعة طويلة، بل أمسيت أتقلب في الفراش، أفكر في هذا العالم الجديد الذي فتح أصحابي مغاليقه لعينيّ.
ورحت أقول لنفسي ما ألذ الحياة لو يتحقق مشروع أصحابي فلا يعود في الدنيا كل هذا التنازع وكل هذا التقاتل، ولا يصبح ثمة غيره ولا تنافس ولا مخافة فقر، ولا يشتغل الإنسان في اليوم إلا ثلاث ساعات - هذا على تقدير أصدقائي، فلا يطلب مني أن أشتغل بعد ذلك - وهذا هو الفرح الأكبر من ناحيتي، ثم لا فقراء فيحسن إليهم، ويرثي لأمرهم، ولا أغنياء فيحسدون ويلعنون.
وإذ ذاك نسيت نفسي فانحدرت في سبات عميق لا يعرف غوره. . . . ونمت!.
فلما أفقت وجدتني نائماً ممدداً في تابوت زجاجي، في حجرة عالية السقف، ساكنة، لا يسمع فيها صوت ولا حس، وفوق رأسي يافطة معلقة، فالتفت لأقرأ، فإذا هي بهذا النص:
إنسان - نائم
التاريخ - القرن التاسع عشر
وجد هذا الرجل نائماً في بيت بلندن سنة 1900، ويلوح من أقوال صاحبة البيت أنه يوم العثور عليه كان نائماً نحو عشر سنوات (ويظهر أن صاحبة البيت نسيت أن توقظه) ولهذا تقرر إذ ذاك لغرض علمي أن لا يحاول أحد إيقاظه، حتى يعلم كم مدة يظل فيها نائماً، ولذلك نقل إلى متحف الغرائب لحفظه، وتاريخ دخوله المتحف هو 11 فبراير سنة 1900.
ملحوظة: الرجا من حضرات الزائرين أن لا يسكبوا ماء من خلال فتحات الهواء حتى لا(42/2)
يستيقظ.
ورأيت رجلاً أشيب تلوح عليه مخائل الذكاء، يرتب بضعة ضباب في تابوت قريب من تابوتي، فلما لمحني دنا مني ورفع الغطاء عني وهو يقول ماذا حدث، هل أزعجك شيء.
قلت - كلا، هذه عادتي عندما أفيق من النوم، بعد تعب شديد، وسبات ولكن في أي قرن نحن الآن؟.
فأجاب الرجل - نحن في القرن التاسع والعشرين، وقد نمت ألف سنة!
قلت - لا ضرر عليّ من ذلك، فقد شبعت من النوم، وليس أعز لديّ من إخراج كل مادة النوم التي كانت مختزنة في أعصابي وبدني.
ولم أكد أتم القول حتى قفزت من التابوت.
فأنشأ الرجل يقول وقد لمحني وأنا أشتمل بأثوابي وكانت موضوعة في التابوت بجانبي أظن أنك كالعادة ستطلب إليّ أن أجول جولة معك في المدينة، وأشرح لك التغييرات التي طرأت عليها، وتنطلق تسألني أسئلة طائشة، وتبدي أموراً ودهشات سخيفة.
قلت - هو ذلك، وهذا ما يجب عليّ أن أفعل. .
فتمتم يقول: ليكن ما تريد، هلم بنا إلى التجوال، ومشى أمامي يدلني على الطريق.
فلما نزلنا السلم رحت أقول - أبخير الآن؟
قال - أي شيء بخير تعني؟
أجبت - الدنيا، فقد كان جماعة من أصحابي يفكرون قبل أن يضرب الله على أذني ويرسل النوم إلى عينيّ في أن يفكوا القطع المركبة منها ماكينة الدنيا، فيركبوها كما يجب، فهل استطاعوا تصليحها الآن، هل الناس متساوون اليوم، وهل انتهى عهد الآلام والأحزان وأشباهها؟
فأجاب دليلي، نعم بالتأكيد، وستجد كل شيء الآن بخير، لقد اشتغلنا كثيراً وأنت نائم، ويمكنني أن أقول لك أن الدنيا قد تحسنت الآن. .
وانطلقنا نسير في مناكب المدينة، فإذا بها آية النظافة والسكون وإذا الطرق متشعبة بعضها من بعض على شكل زوايا قوائم وعلى نظام واحد، وطريقة مفردة، ولم أجد بها من جياد ولا مركبات، بل تسير حركة الطرق فيها بالكهرباء، وكان جميع الناس الذي تمر بهم على(42/3)
سمت واحد، وغرار متساوٍ حتى ليخيل للرائي أنهم أهل عشيرة واحدة وكان الجميع يرتدون كدليلي سراويل سوداء، وسترة سوداء كذلك تمتد حتى العنق ولها منطقة في خصرها وكل رجل منهم حليق اللحية والذقن، والكل سود الشعر فحمه.
قلت لصاحبي - أيكون هؤلاء الناس جميعاً توائم؟
فصاح الرجل: أتقول توائم؟ لك الله من ماجن، كلا، كلا، وماذا بعثك على هذا الظن؟
قلت: وكيف لا والجميع متشابهون، وكلهم سود الشعور، فأجاب الدليل: هذا هو اللون الرسمي القانوني للشعر، إذ ينبغي أن يكون الجميع كذلك، فإذا ولد رجل بطبيعته غير ذلك فعليه أن يصبغه صبغة سوداء.
قلت - ولماذا؟
فأجاب الرجل - وفي لهجته دليل الغضب والاهتياج من كثرة أسئلتي، أتسألني لماذا، لقد كنت أظن أنك قد أدركت أن الناس قد أصبحوا الآن متساوين، فماذا لعمرك الله يكون مصير مساواتنا إذا سمحنا لرجل أو امرأة أن تخطر بيننا إعجاباً وإلالاً بشعر ذهبي إزاء آخر بشعر كلون الجزرة، فنحن بإكراهنا الجميع نساء ورجالاً على أن يكونوا حليقين وأن يكونوا سود الشعور وأن تكون شعورهم متساوية الطول، نصلح بعض أغلاط الطبيعة.
قلت: ولم اخترتم اللون الأسود؟
فأجاب بأنه لا يعرف السبب ولكنه اللون الذي أقروا عليه.
قلت: ومن الذي أقر عليه؟
فرفع الرجل قبعته وحسر عن رأسه وأطرق بعينيه خاشعاً كأنه في موقف من مواقف التسبيح والعبادة، وقال: الأغلبية!.
وانطلقنا حتى إذا بلغنا جمعاً كثيراً من الرجال، أنشأت أقول: ألا يوجد في هذا البلد نساء؟.
فأجاب الرجل وهو في أشد الدهشة: أتقول نساء، بلا ريب، لقد مر بنا مئات منهن. . .
قلت: يلوح لي أنني أعرف النساء إذا أنا لمحتهن، ولكني لا أذكر أنني أبصرت امرأة واحدة في طريقي. . .
قال: وهو يشير إلى شخصين يمشيان على مقربة منا، وهما في الثوب العادي، السراويل والسترات السوداء انظر هاك امرأتين تسيران هناك!.(42/4)
قلت: وكيف عرفت أنهما من النساء!.
فأجاب الرجل: كيف لا أعرف ذلك، ألا ترى القطعة النحاسية المرقومة بنمرة التي يلبسها كل شخص في عنقه؟. .
قلت: نعم، لقد رأيت ذلك وجعلت منذ لحظة أفكر كيف جعلتم هذا العدد العظيم من رجال الشرطة، وإذا كان كل هؤلاء من البوليس فأين أذن الناس؟. .
أجاب صاحبي: لا حاجة بنا إلى شرطة ولا إلى بوليس، بل إن أهل القطع النحاسية المكتوب فوقها نمر زوجية هم النساء وأما النمر التي بالفرد فهم الرجال.
قلت: وقد مشينا قليلاً، ولم وضعتم لكل امرأة ورجل نمرة.
فأجاب: لنميز كلاً منهما بها.
قلت: إذن أليس لكل اسم يعرف به؟
قال: كلا.
- ولماذا؟
- لك الله، لقد كان في الأسماء ظلم أي ظلم، فقد كان قوم من قبل يسمون أنفسهم عبد العزيز ولطيف وكانوا بهذه الأسامي ينظرون نظرة احتقار وازدراء إلى الذين يدعون زعرب وجحلش وهؤلاء بدورهم يهزأون بالذين يلقبون أنفسهم زعزوع وحجلوف فلكي نمنع هذا الهزء ونريح الجميع قررنا أن نلغي الأسماء بتة ونضع لكل إنسان نمرة!
قلت: ولكن ألم يحتج على ذلك عبد العزيزيون واللطيفيون؟
قال: نعم، ولكن الزعربيون والجحلشيون كسبوا منهم القضية، لأنهم كانوا الأغلبية!.
قلت: ثم ألم يصبح حملة نمرة 1 ونمرة 2 يحتقرون نمرة 3 ونمرة 4؟
قال: نعم، كان ذلك في أول الأمر، ولكن عندما ألغيت الثروة، فقدت الأرقام قيمتها، ولم تصبح لها قيمة إلا في الصناعة فقط، ولكن الآن نمرة 100 لا يعد نفسه أسمى أو أكبر مكانة في شيء عن نمرة مليون.
ولم أكن اغتسلت منذ خرجت من التابوت، إذ لا سبيل إلى الاستحمام في المتحف وأحسست الألم من حرارة الجو، وما عراني من الأوساخ، فقلت ألا سبيل إلى الاستحمام الآن؟.
قال: كلا، فليس لنا أن نستحم بأنفسنا وعليك الصبر حتى تأذن الساعة الخامسة من المساء،(42/5)
فيذهب بك إلى الحمام!. . لكي. . يحموك؟
قلت في دهشة يحموني؟ ومن ذا الذي يقوم بذلك.
قال: الحكومة!
ومضى يحدثني كيف أنهم لم يستطيعوا أن يحتفظوا بمساواتهم إذ أذنوا للناس أن يستحموا بأنفسهم، فقد كان فريق يدخل الحمام ثلاث مرات أو أربعاً في اليوم وآخرون لم يمسوا الصابون والماء من أول السنة إلى آخرها، حتى انقسم القوم إلى طبقتين، الطبقة النظيفة، والطبقة القذرة، وعادت إلى الظهور مناوءات الأحزاب، ومنافسات الطبقات فالفريق النظيف جعل يزدري الفريق القذر، وهؤلاء جعلوا يكرهون الأولين، فلكي نقطع هذا الخلاف، ونذهب بأمر هذا العداء، أقرت الحكومة أن تقوم هي بنفسها بعملية الاستحمام، وأصبح كل فرد من أهل المدينة ملزماً بالحضور إلى الحمام مرتين في اليوم، وأبطل الاستحمام الخصوصي.
ولاحظت ونحن مغذان في المسير أننا لم نقف ببيوت، ولم أشهد منزلاً واحداً، بل لم أر إلا أبنية شاهقة عظيمة أشبه بشيء بالقلاع والثكنات، والجميع على نظام واحد، وسمت واحد، ولكني بين آونة وآونة كنت أمر بأبنية صغيرة موسومة بكلمة متحف مستشفى قاعة المناظرة، الحمام، مجمع العلوم، معرض الصناعة، مدرسة الكلام الخ ولكني لم أجد بيتاً.
قلت: ألا يسكن أحد في هذه المدينة؟
فأجاب الرجل في حنق: إنك لتسألني أسئلة حمقاء، أين إذن يسكنون؟، إذا لم يقيموا بالمدينة؟
قلت: هذا ما أحاول الاهتداء إليه، لأني لا أجد أمام عيني منازل ودوراً.
فأجاب: لسنا بحاجة إلى المنازل والدور، نحن نعيش اليوم على الاشتراكية، ونقيم معاً في ظلال المساواة والأخوة العامة، ونسكن في تلك الأطواد الشامخة التي ترى فكل بناء منها يحتوي ألفاً من أهل المدينة، وألفاً من السرر والمهاد الموطأة وفي كل قاعة مائة منها، ثم فيها الحمامات وقاعات الملابس، وقاعات الطعام والمطابخ، فإذا أذنت الساعة السابعة من الصبح دق الناقوس فنهض كل نائم فأصلح ما اضطرب من أفراشه ثم ينحدر الجميع إلى قاعات الملابس فينظمون من زينتهم، وفي الساعة الثامنة يطاف عليهم بطعام الفطور، وقد(42/6)
أصبحنا اليوم جميعاً نباتيين، نعيش أكثر غذائنا الخضر والبقل، فإذا أقبلت الساعة الأولى من المساء نفخ في الصور مرة أخرى فهرع الجميع إلى الطعام، وإذ تدق الساعة العاشرة من المساء تطفأ الأنوار والمصابيح، ويذهب كل إلى مضجعه، وكذلك نعيش سوياً في إخاء تام، الكاتب بجانب الكناس، والسمكري بجانب الصيدلي، أما الرجال فيسكنون في الأبنية القائمة في هذا الجانب من المدينة، وأما النساء ففي الناحية الأخرى.
قلت: وأين يسكن إذن الأزواج؟
فأجابني: لا أزواج بيننا ولا زيجات، فقد أبطلنا الزواج منذ مائتي عام أو تزيد فإن العيشة الزوجية لم تنجح معنا البتة وألفينا الحياة البيتية نقيضة الاشتراكية، لأن الرجال في شغل إذ ذاك بأزواجهم وعشائرهم عن التفكير في الأمة، وكانوا يجنحون إلى العمل والدأب للإجداء على أحبابهم القلائل ونسوا صالح المجموع، واحتفلوا بمستقبل أصبيتهم وذراريهم أكثر من احتفالهم بمستقبل الإنسانية العامة، وكان من روابط الحب والدم أن جعلت في الناس عشائر وأسرات صغيرة، ولم تؤلف بينهم فتجعلهم جميعاً عشيرة واحدة وأثار الحب رذيلة الطمع في قلوب الناس، فلكي يظفروا بابتسامات النساء اللاتي يحبونهن، ولكي يتركوا وراءهم اسماً مذكوراً وأحدوثة طيبة يحملها أبناؤهم من بعدهم، تدافع الناس جميعاً وراء البحث عن السمعة والرفعة، وكان دأب الرجال أنهم إذا أحبوا امرأة حسبوها أسمى من أية امرأة سواها وأعلنوا ذلك على رؤوس الأشهاد، واعتقدت البعولات أن أزواجهن أسمى وأعقل وأروع من أزواج غيرهن، والأمهات يؤمنّ بأن أبناءهن لا يدانيهم في الفضل والحسن أحد، وتعلم الأطفال من آبائهم أن أمهاتهم وواديهم هم أفضل الأمهات، وأعظم الوالدين، في العالم كله.
وكذلك رأينا الأسرة من كل وجه عدوة المساواة ورأينا في الحي الواحد الرجل يعيش في ظل زوجة حسناء فاتنة وله ولدان جميلان، وفي البيت المجاور لداره رجل يبني بامرأة دميمة وقاح، تخرج له ذراري سوء، بالعشرات، فهل كنت ترى ذلك في شيء من المساواة.
ثم لا تزال الأسرة قائمة، يرفرف عليها ملك الأحزان وملك الفرح، فإذا أدجنت السماء، وأرخي الليل سدوله، ألفيت زوجين مكدودين ينتحبان في الكوخ، وفي الناحية الأخرى من المدينة يخطر حبيبان يضحكان من آلام الناس، ويرتشفان كؤوس النعمة والحب.
وكذلك رأينا الحب عدونا اللدود، لأنه قتل روح المساواة، وجاء إلى العالم بالألم والفرح،(42/7)
وساق الدموع والعبرات، وجلب النعمة والهموم، فحذفناه من الحياة حذفاً، ومحوناه محواً، وطمسنا على آثاره وآثار ما فعل.
ولم يعد الآن في العالم زيجات، ولذلك لم تعد الآلام تزور الناس، ولم يبق في الدنيا دموع ولا قبلات.
قلت: يخال إلي أنها نعمة الطريقة، ويا حبذا المذهب، ولكني أسألك ولي معذرة في هذا السؤال، إذ لا باعث عليه إلا الغرض العلمي، وكيف تحتفظون بالنسل؟
قال: ما أبسط الوسيلة، وما أسهل السبيل، وكيف كنتم في زمنكم تحفظون نسل الخيل والبقر، أم يكن ذلك بالتعشير والتنطيط كذلك نحن، فإذا أقبل الربيع، وضعت الحكومة تقديراً لميزانية الأطفال الذين يلزمون لها، وأخذت العدة لذلك، وأجرت الترتيب، فإذا ولدوا أخذوا من أحضان أمهاتهم (حتى لا يعتدن على حبهم) وربوا ونشأوا في المستشفيات العمومية وفي مدارس الأمة حتى يبلغوا الربيع الرابع عشر، وإذ ذاك يفحصهم رجال يعينون لهذا الغرض، ليعلموا الصناعة التي تلائمهم في الحياة، فإذا اختاروا لهم السبيل، وربوهم على الصناعة، ولقنوهم العلم والفن، وألموا على العشرين، ظفروا بحق الانتخاب ذكوراً وإناثاً على السواء.
وسرنا كذلك بضعة أميال، فلم أرَ غير أبنية شاهقة، وصروح عالية، فقلت: أليس في المدينة حوانيت للبيع والمخازن وأسواق؟
أجاب: كلا، ما حاجتنا إلى الحوانيت والمخازن، إن الحكومة تطعمنا وتكسونا وتكننا وتطببنا وتحمينا وتزيننا وتحصد غلاتنا وتواري سوءاتنا، فما حاجتنا إذن إلى الحوانيت.
قلت وقد أحسست تعباً من أثر المسير، ألا نستطيع أن نجلس في أي مكان ونلتمس شراباً؟
قال: شراباً! ماذا تقصد بكلمة شراب إننا نتناول مقداراً طيباً من الكاكاو في جلسة العشاء، هل تريد ذلك، فلم أشأ أن أشرح له وأفسر، إذ أدركت أنه لم يكن ليفهم لو شرحت له.
قلت: نعم، هذا ما أردت.
ومر بنا رجل حسن الخلقة، وشاب جميل السمت، ليس له إلا ذراع واحدة، فلفت إليه نظر الدليل وطلبت الشرح.
قال: نعم، إننا إذا وجدنا رجلاً فوق المسوى العادي، قطعنا ذراعه، أو ساقاً من ساقيه،(42/8)
لنجعل كل شيء متساوياً، لأن الطبيعة كما ترى، أبداً في اختلاف وخطأ، فنحن محاولون دائماً أن نصلح سيرها، ونهذب من شأنها.
قلت: فماذا تفعلون لو خرج إليكم رجل ذكي أوى من النبوغ وتوقد الذهن ما لم تؤتوا.
قال: لسنا نجد ذلك الآن، ولو يخرج لنا منذ زمن طويل قوة ذهنية خارقة للعادة حتى الآن، ولكن لو عرض إنسان له مثل ما وصفت من حدة الذهن، فليس علينا إلا أن نؤدي له عملية جراحية في مخه حتى تجعل ذهنه يبرد وبهذا يكون في مستوى الأذهان العادية.
وانطلقنا.
حتى إذا مشينا قليلاً قلت: ثم ألا يؤذن لكم بقراءة الكتب.
أجاب: أما عن الكتب فإني أقول لك أن ليس لدينا الكثير منها، إذ كنا نعيش الآن عيشة كاملة، خلوا من المظالم والآلام والفرح والأمل والحب والحزن، فلم بعد لنا ما نكتب عنه!
قلت وماذا صنعتم بالكتب القديمة، وماذا كان مصير شكسبير وسكوت وملتون وغيرهم من سادة كتاب العهد القديم، وماذا صنعتم بالكتاب أو الكتابين اللذين وضعتهما أنا في زمني، ماذا جعلتم من كل هذه الكتب والتواليف البديعة؟
فأجاب الرجل: لقد أحرقناها جميعاً، فقد كانت كلها مفعمة بوصف الآلام القديمة، يوم كان الناس دواباً كدواب الحمل.
فسألته: أليس لكم دين تدينون به.
قال: نعم.
قلت: ألكم إله تعبدونه.
قال: نعم.
قلت: وماذا تسمونه.
قال: الأغلبية!.
قلت: دعني أسألك السؤال الأخير، وأرجو أن تغفر لي كل جرأتي هذه.
هل كثيرون منكم يرتكبون جريمة الانتحار؟
فأجاب: كلا، لم يكن هذا ليوجد لدينا.
فنظرت إلى الوجوه التي أمر بها، وجوه النساء وملامح الرجال فرأيت في معارفها هيئة(42/9)
صامتة هادئة، فجعلت أسائل النفس حائراً، أين رأيت مثل هذه الوجوه، لأنها لاحت لي كأنني كنت أعرفها من قبل.
ولكني لم ألبث أن تذكرت، لقد كانت بعينها الهيئة الهادئة المذهولة الحائرة التي كنت ألمحها في وجوه الخيل والثيران التي كنا نرعاها ونربيها في عالمنا القديم.
نعم، بلا ريب، أمثال هؤلاء الناس لا يستطيعون أن يفكروا في الانتحار!. . . .
يا الله! لقد أمست الوجوه مظلمة والأشباح معتمة في ناظري، وأين دليلي، لقد ضللته، ولماذا أنا الآن جالس فوق أفريز الشارع، آه، ماذا أسمع! هذا ولا ريب صوت مسز بجل صاحبة البيت الذي أنا فيه، هل كانت في سبات مثلي ألف عام، إنها تقول لي الآن أن الساعة الثانية عشر صباحاً، الثانية عشر فقط، هالوا!. . . .
هذا أنا في فراشي، أكان كل ذلك حلماً! وهل عدت إلى القرن التاسع عشر؟
فتحت النافذة فإذا بي أسمع حركة معركة الحياة القديمة، والناس يتقاتلون ويدأبون ويكدون والناس ضاحكون وباكون ومبتئسون ومبتهجون، يفعلون السوء، ويؤدون الخير، ويقعون وينهضون.
إذن إلى العمل، إلى العمل، فقد تأخرت في النوم، وليتني لم ألح على كؤوس الوسكي ليلة الأمس!(42/10)
حالة الأدب اليوم
أيها السادة:
ما دمنا نحتفل اليوم بمجلة البيان فلا شك في أنا نحتفل بالأدب والأدباء، فقد أخذت هذه المجلة من أول عهدها إلى اليوم بناصر الأدب، مقدمة إياه على كل فن أو باب آخر، جاعلة له المقام الأسمى في كل ما تعنى به من اجتماعيات وتواريخ وغيرها، بل أنا لا أغالي إذا قلت أن مجلة البيان قصرت نفسها على نصرة الآداب والكتابة حيث جعلت جل همها بل كل همها النظر إلى ما يختص بالأدب من جهة ما تعالجه من سواه من الموضوعات، كما أنها جعلت غرضها الإصلاحي الذي ترمي إليه - ولكل منا نحو الإصلاح غرض - جعلته إعلاء شأن الأدب وإدخال الإصلاح إليه.
لهذا كانت تعني بنشر ما يظهر من آي الأدب وبدائع الشعر عنايتها بنقدهما جميعاً واسمحوا لي أيها السادة أن أقول أني لست أقصد بالنقد ما يسرع إلى ذهن الكثيرين تصوره من البحث وراء عيوب الشيء واستظهارها واتخاذ ذلك وسيلة للطعن على الشيء والانتقاص منه، ولكني أقصد بالنقد تمحيص الشيء والنظر إليه بعين نافذة وعادلة معاً واستظهار الحسن منه والسيء، وتلك هي وحدها الطريقة المثلى، وهي الطريقة التي اتبعها كبار كتاب الغرب، وهي أيضاً الطريقة التي عالج البيان الأخذ بها في كل ما تعرض لنقده من أعمال الأدب ورجاله.
على هذه الطريقة في النقد أيها السادة، على هذه الطريقة الحيادية التي لا تعرف التعصب المذموم ولا تهتم إلا بقول الحق، أريد أن ألقي على حضراتكم كلمة موجزة في حال الأدب عندنا اليوم، وقبل أن أتقدم بشيء منها أتقدم بالاعتذار إليكم عنها، أتقدم بنقدها على هذا الأساس، وهو أنا نعيش في زمن توترت فيه أعصاب العالم كله واتجهت نظراته نحو نقطة غامضة يريد أن يجد حولها شعاعاً يبصره بما تحتويه، هذه النقطة الغامضة هي المستقبل، ولقد بلغ من توتر الأعصاب أن نسيت الأذهان التفكير فيما سواها إلا ما تعلق بالحياة المادية حياة البطون والأبدان، والأدب أبعد الفنون عن التفكير في حياة البطون والأبدان، كما أنه لا يستطيع أن يتمركز حول هذه النقطة الغامضة السوداء لأن من أهم خواصه التوسع والانتشار في كل نواحي الحياة من إحاطة بظواهرها وامتداد إلى خوافيها وهجران إياها للهيام وسط الأجداث والتسرب بين الرفات وارتفاع عن هذا وذاك إلى أجواء الحزن(42/11)
والسرور والحب والكراهية واللذة والألم والترف والزهد والنعيم والبؤس وسائر ما في الحياة عذا ذلك من إحساسات ومشاعر ومظاهر ومناظر وعادات وأخلاق وعواطف ومنافع وما في الموت من سكينة ووقار ومن جمود وفناء وما بعد الموت من عوالم تملؤها الأرواح في سعادتها وتعسها وفي هيمنتها وتسبيحها وفي بقائها وتطورها، فمهما كان الاضطراب الذي يهز جوف العالم اليوم عظيماً فإنه منبع لأدب عظيم قوي في الغد، ولكنه فيما يتعلق بالحاضر وفيما يتعلق بنا نحن مخفت صوت الأديب المترنم فلا تسمعه الآذان المأخوذة بأرعاد المدافع وهزيم الطيارات ولا تهتز له القلوب الواجفة أمام الأخطار المحدقة من كل صوب وحدب.
لهذا كان الكلام في حال الأدب اليوم عرضة لأن يقع فيه شيء من الاضطراب ولأن ينسي صاحبه كثيراً من الأشياء المتعلقة بهذا الفن لأنه كما قدمت لحضراتكم مأخوذ بغيره، فإذا تكلمت أنا اليوم ووقعت فيما أخشاه فأرجوكم المعذرة، وما كنت لأقف وأتكلم في مسألة شأنها ما ذكرت إلا لما على كل محب للأدب من واجب نصرة مجلة البيان وتعضيدها.
الأدب في مصر اليوم أيها السادة خافت الصوت معقول اللسان، لعل صوته أشد خفوتاً في بلادنا منه في كل بلد آخر، بل ربما كان الخفوت في وصفه غير كاف لأنه في الحقيقة مختنق الاختناق كله، فلا نكاد نسمع بعمل يظهر من أعمال الأدب ذي قيمة، ولا أحسب ذلك شخصياً بالنسبة لي وراجعاً لأني لا أقرأ ما يظهر، بل أحسبه حقيقة واقعة، ولا شيء أدل على ذلك من أن جرائدنا - حتى الأسبوعية منها - مجلاتنا لم تتناول بالنقد إلا رواية ماجدولين التي استنبطها قلم الأستاذ السيد مصطفى لطفي المنفلوطي من رواية (تحت ظلال الزيفون)، وإلا قصيدة حافظ بك ابراهيم في مناقب عمر، أما ما سوى ذلك من المؤلفات والقصائد في الأدب فلم ينل من حق البقاء أكثر من يوم نشر، اللهم إلا بعض دواوين شعرية جمع فيها أصحابها المقطوعات التي كانوا قد نشروها من قبل في الصحف ويعثر الإنسان في بعضها على شيء جيد.
والسبب في هذا الخفوت، أو الاختناق، ووجوده عندنا أضعاف ما هو عند غيرنا أن أدبنا كان ولا يزال إلى اليوم صحافياً، أقصد أنه أدب قصير النفس غير مكتمل مواد الحياة، أدب هو ابن ساعته أو يومه، فكانت تروجه الصحافة التي كانت تعنى به عناية غير قليلة،(42/12)
وكانت تسمح له أن يلبس صفات حياتها هي، وصفاتها الانتشار والرواج على ألسن العامة والخاصة كل فيما يروق في نظره، فلما احتبست الصحف المصرية الكبرى احتبس هذا الأدب في صدور أصحابه، ولقد ظلوا بدأ هذه الحرب ولا تزال تجول في خواطرهم هواجس منه أظهرها بعضهم على صفحات بعض الصحف السيارة ثم أخمدت جذوتها فيهم نيران أقوى منها تلتهم العالم بأسره.
لكن بعض الكتاب استمر يثمر، لم تجمد قريحته أمام الجمود العام الذي أصابنا بل رأيناه مستمراً في طريقه، على أنه لم يستطع أن يتخلص من التأثر بالجمود العام بل سرت إلى روحه الكتابية ريح من النفس العامة فصرت ترى الآنسة مي وقد عرفناها فيما مضى ذات قلم عصبي مرتعش كله الصور والإحساسات والمشاعر والخيالات تدخل بنا في جمود الفلسفة الناشفة معظم الأحايين، والآنسة مي سيدة، أي يجب أن يفيض قلمها بالعواطف الناطقة لا بالصور المبهوتة ولا بالفلسفة الناشفة.
ذكرت لحضراتكم أن أحسن ما ظهر في عالم الأدب أخيراً أو بالأحرى أكثر ما نال شهرة، ماجدولين والعمرية، وماجدولين مستنبطة، والعمرية قصة شعرية تنقصها الروح الشعرية، ولهذا يجب أن نفتش في غير عالم الشعر والنثر علنا نجد روحاً غير الروح الجامدة المتأثرة بالحرب المذهولة أمام فظائعها.
الكتاب الذين استمروا يثمرون هم من الكتاب الذين ظهروا إبان هذه الحرب أي الذين كانوا قبلها مكتفين بعجالات يدرجونها في الجرائد، أو كانوا مشغولين بأشياء أخرى غير الأدب، هؤلاء الأشخاص جميعاً بقيت متغلبة عليهم فكرة الكتابة للنشر قبل الكتابة للأدب، فلما لم يجدوا في الصحف معينهم حولوا نظرهم شطر مسارح التمثيل فكتبوا روايات لا شك أن من بينها ما يغتبط المصري له، ولسنا ندعي أن غبطتنا ناشئة عن أنا وجدنا بين هؤلاء نابغة كشكسبير أو راسين أو موليير أو جيت وأضرابهم من كبار كتاب الأمم الأخرى، وإنما اغتباطنا لأن فكرة الظهور أمام الملأ المصري بالرأي والفكر لم تخمد من نفوس الشباب المصري، فأدى ذلك بأحسن ما تهيئه له ملكته وتمليه عليه موهبته، والنبوغ يستلزم الجمع بين بذل الجهد وحسن الملكة فإذا قدم إخواننا الشباب المثل لبذل الجهد فربما كانوا السبب في ظهور النابغة عاجلاً أو آجلاً ومن بينهم هم أو من بين جيرانهم.(42/13)
هؤلاء الكتاب التمثيليون وضعوا نصب أعينهم معالجة أمراض اجتماعية متفشية في البلاد بالطعن عليها أو الاستهزاء بها أو إظهار أصحابها مظهر السخرية، وقد نجحت بعض القطع التي وضعوها، ولكن لم يكن نجاحها ناشئاً عن اعتبار السامعين بالمثل الذي يقدم ولكن لأن في هذه القطع أجزاء حازت الصفات اللازمة في القطع التمثيلية، أي حازت روعة المظهر ودقة الوضع وحسن الأداء من الممثلين.
نعم أيها السادة، فليس التمثيل مدرسة كما يزعمون، ولكنه سلوة النفس المتعبة عن بعض نصبها، والنفس المتعبة لا تتسلى بالنصيحة ولكن بالعاطفة القوية ظاهرة أمامها تذكرها شيئاً من عظمة النفس الإنسانية فتتسلى بذلك عما تلاقي في الحياة من الصغائر، أو رقة العواطف فترجع إلى ماضي الشباب أو تترنم بحلو حاضره، أو مضحكات الحياة فتتسلى بذلك عن محزناتها، التمثيل سلوة للنفس كما أن الغناء والموسيقى سلوة لها، كلاهما ينسيها هم الحاضر ويحملها على جناح الخيال والعاطفة والأمل إلى حيث ترى خيراً مما كان أمامها فتبيت مغتبطة مسرورة.
لهذا أيها السادة كان أحسن وقت يسمع فيه المغني أو الموسيقي أو التمثيل أول الليل حين نرجع متعوبين من عملنا وفي أشد الحاجة إلى ما يسلينا، حين نكون مستعدين لنسيان أنفسنا لنذهب مع صوت الكمنجا أو ترنم المغني أو حماس الممثل إلى أبعد الغايات.
ولهذا وجب أن يعني الكاتب التمثيلي بأثر روايته من هذه الجهة جهة استفزاز العاطف لينسى السامع نفسه ويذهب مع الممثل إلى حيث يشاء غير مهتم بإهداء النصيحة للنصيحة.
على أنا مهما قلنا في هذا الباب وسابقه فإنا لا نزال نتكلم عن الأدب الصحيح، الأدب الذي نحترمه ونعني بالإشادة به وإعلاء شأن ما يروقنا منه، ولكن هناك نوعاً جديداً من التمثيل الهزلي أبدعته الحرب الحاضرة لتسلي به النفوس المثقلة بكل شيء والمتقززة من كل شيء، نوعاً تعيساً، نوعاً قذراً، ولكنه يستهوي بقذارته مع عظيم الأسف نفوساً كثيرة جداً ونفوساً لا تكتفي بما يجب من مشاهدة ما يظهر منه مرة ولكنها تستظهره وتتغنى به أغنيات العرب بأشعار أصحاب المعلقات هذا النوع الجديد هو ما يسمونه الكوميديا فرانكو أراب، أو إذا أردنا أن نطلق عليه اسم كبراء رجال الفن من أهله فهو أدب كشكش(42/14)
والبربري.
ربما يكون خطأ مني ذكرى هذا النوع حين التكلم أمام حضراتكم عن الأدب ولكن ساقني لذلك ما أرى من تهافت كثير من شبابنا الراقي عليه، وتهافت الشباب الراقي من شأنه أن يبعث إلى هذا النوع حياة لا شك ستنتهي بانتهاء الحرب التي كانت سبباً في قيامه ولكنها تكون إلى ذلك الحين حياة قوية تؤثر في أعصاب المجموع القاهري ومن يلجأ إليه تأثيراً سيئاً.
من ذلك ترون أيها السادة حال الأدب اليوم، اختناق الأنواع المهمة منه، وجمود ما يظهر أو ضعفه، وفوق هذا وذاك انصراف الجمهور عنه، ولا شيء أتعس على الأدب والأديب من انصراف الجمهور.
إنا لم نتعود في هذه البلاد تقدير أعمال الأدب تقديراً عالياً، ولذلك لم يخرج أدبنا يوماً عن أن يكون أدباً صحافياً، لم يستقل بذاته ولم تتكون له حياة خاصة، ولا عجب فحياة الأدب مرآة حياة الأمة، ولكنا كنا إلى زمن أخير نهتم لهذا الأدب الصحافي ونعني به ولو بعض العناية، وكان هذا الأدب الصحافي نفسه يقوم أساساً لبعض أعمال أدبية وأخرى أدبية اجتماعية لا بأس بها، ولكنا اليوم قد فقدنا حتى هذا الأدب الصحافي ولم يبق لنا إلا مقاطيع الشعراء وبعض قطع كتاب التمثيل.
ولست أريد أن أظهر أسفاً على هذه الحال فالأسف لا يجدي نفعاً، ولكني أريد أن أقول أن هؤلاء الذين استمروا يثمرون يستحقون كل إعجاب، لأنهم ظلوا لم يغيرهم التيار العام تيار اليأس الروحي والأمل المادي، ومن هؤلاء كتاب مجلة البيان، فليحيى البيان.(42/15)
الرئيس ويلسون
وأمريكا الحديثة
لقد كانت أمريكا ابتكاراً من ابتكارات أوروبا، وخلقاً من خلقها، وهي اليوم من حدود المكسيك إلى رأس هورن في أقصى جنوبها أشبه شيء بإسبانيا والبرتغال لأنها تتكلم بلسانيهما، وتتخلق بأخلاقهما، وتحوي سلالات وذراري من أحفادهما وأما الولايات المتحدة وكندا فصورة من بريطانيا وفرنسا.
على أن أمريكا ليست نسخة حقيقية أصلية من أوروبا، فإن أولئك الطلائع الغربيين الذي انحدروا إليها بقلوب مخاطرة، وأرواح وثابة جريئة، ومادئ جليلة صادقة، لم يفروا من أوطانهم لكي يؤسسوا بناء الاستبداد في الناحية الأخرى، فإن الانكليز البيوريتان وإخوانهم الإيقوسيين الأولين كانوا على جانب عظيم من الشعور بالواجب وتقديس الحقوق الدينية والسياسية، فلم يعانوا المشقة في إبدال الحكومة الملكية القائمة على أساس من قوة الماضي والتاريخ والبطش ديمقراطية جميلة، وشادوا بناء حكومة الأمة وراء نوابها المختارين، وأصبحت أمريكا حكومات جمهورية وشعوباً من الجمهوريين.
بينما أوروبا تنظر إلى هذا التطور الغريب، والانتقال المدهش، إذ بالحرب الكبرى قد نشبت في العالم المتحضر بأسره، فأثارت مبدأين متعارضين، متقابلين، هما الحق والقوة، ولم يلبث أن قامت الحرب النفسية في قلوب الأمريكيين، بين الدولار - الريال - وبين العقيدة الروحانية القديمة، مبدأ واشنطن وبن، ولبث حزب الحق ينتظر الموقف الذي ستقفه أمريكا في هذه الحرب، ولكن ذلك الرئيس الذي ألقى إليه تقاليد العالم الجديد نهض أمام شعبه فأعلن الحيدة في الحرب ورفض أن يدلي بسهم في تلك المجزرة، لأن هذا الرئيس ودرو ويلسون رجل ثاقب الرأي، بصير بالأمور، ولم تستطع الأحداث يوماً أن تسوقه إلى مخاطرة مجازفة، لأنه انحدر من أسرة كان مبدأها الاحتفاظ بالمشاعر الدينية منذ القدم، ثم نشأ نشأة علمية، وغذى من القانون، ولذلك لم يسلك نفسه وأمته في سلك المحاربين.
والرئيس ويلسون ولد عام 1865 في ولاية فرجينيا، من والدة إيرلندية المنبت وأب إيقوسي المحتد، وكان أبوه قسيساً فدفعه إلى الجامعة إذ شب عن الطوق، وأتم تعليمه الابتدائي والعالي ووضع كتابه الذي ظفر من أجله بشهادة الدكتوراه ووسمه بعنوان(42/16)
الحكومة المؤتمريةعام 1885 ثم عين أستاذاً للتشريع في إحدى الجامعات حتى كان عام 1902 وإذ ذاك أسندت إليه رئاسة تلك الجامعة، ونهض به الحزب الديمقراطي فتقلد وظيفة محافظ نيويورك في اليوم الثاني من شهر نوفمبر سنة 1910 ولم يمض عامان حتى سما إلى رئاسة جمهورية الولايات المتحدة، وأعيد انتخابه عام 1916.
ولعل أكبر المهام التي يعانيها رجل واحد أن يعهد إليه الحرص على مستقبل مائة مليون، وأن يجد أمامه قرنين عنيدين، وعدوين لدودين وهما روزفلت وتافت الرئيسان السابقان وكان من ذلك أنه في عام 1914 فقد شيئاً كثيراً من أصوات أنصاره، ثم ألفى نحو عشرة ملايين من أهل جمهوريته يمتون إلى الألمان بالود أو القرابة ولكن روزفلت جعل يقول إن لأمريكا معدة قوية وستهضم بسرعة الأغذية الغريبة عنها ولم تلبث الولايات المتحدة أن انقسمت أقساماً واختلفت في الحرب شيعا، ولكن الرئيس ويلسون أبى إلا أن يحاول إلى النهاية الحرص على الحيدة الدائمة، فوقف في نادي الصحافة يخطب قائلاً: إن هذا الشجار قد ساق المتشاجرين المسهمين به إلى حدود نسوا فيها واجب المسؤولية، وقد جعل قوم يقولون لي إذا كان نصف الدنيا قد جن جنونه، فلماذا نأبى أن نندفع وراءهم، ولماذا لا ندخل في صميم الزوبعة ثم نعود إلى الإصلاح والبناء إذ تمر العاصفة، ويسكن الريح!.
ولكن ألمانيا أرادت إلا أن تكون هذه الحيدة مستحيلة الإنفاذ، بذلك الحصر البحري الذي قامت به في أول الحرب، إذ أغرقت الباخرة لوزيتانيا، وكانت تقل بين مسافريها 124 أمريكياً.
وإذ بلغ هذا الحادث أسماع الأمريكان ضجت الولايات المتحدة، وقامت المظاهرات والجلبة والصياح، فلم يكن من الرئيس ويلسون إلا أن أخرج شعبه من هذه الفتنة سالماً، لأنه علم أن ليس الغضب المؤقت هو الذي يستطيع أن يحل عقدة تلك الحرب، ولكن توقع الفائدة الكبرى هي التي يريدها هذا الشعب المختنق بالتجار وأهل الأدب والمزارعين وكان مبدأ ذلك الرجل العظيم الذي حررهم من الأسر، ونعني به جورج واشنطن مقدساً لديهم، معبوداً في قلوبهم، إذ علمهم أن لا يعقدوا محالفة ما بينهم وبين أية دولة غربية.
وظلت عقيدة مونرو عزيزة لديهم، وهي تقضي بالامتناع عن التداخل في شؤون الغرب، وهذه العقيدة نشأت منذ عام 1823 يوم كان مونرو رئيساً للجمهورية فأدرك ويلسون كل(42/17)
ذلك وجعل يضرب على نغمته حتى استطاع أن يسود على العواطف، ويمتلك في قبضة يده مشاعر الشعب، حتى أقبل عام 1916 بانتخاباته، إذ كان قد مضى عليه في الرئاسة أربعة أعوام وهو الزمن المحدد لبقاء الرئيس، والانتخاب للرئاسة في الولايات المتحدة حادث عظيم، وشان مذكور، يعدون له العدة أشهراً، ويظلون يهيئون له واجبه ليالي وأياماً، ويشترك كل فرد من الأمة فيه اشتراكاً عملياً محسوساً ولا يفتأ الشعب في سعي متواصل، وتحت تأثير عظيم، من شهر مايو حتى أوائل شهر نوفمبر.
أما الحزب الجمهوري، فكان تحت زعامة روزفلت، وقد بايع رجلاً يسمى هيو، وأما الحزب الديمقراطي، فظل على مبدئه الذي سنه لنفسه منذ عام 1912 فاختار ودرو ويلسون، وكذلك بقيت الولايات المتحدة تلك المدة في نزاع وجدل، وتصويت حتى كان اليوم الثامن من نوفمبر إذ بويع ويلسون ظافراً بأصوات تبلغ 251 صوتاً إزاء 242 لمنافسة، وإذ ذاك أظهر الرجل نفسه، وكشف الحجب عن مضمره، فكتب دعوة عامة إلى الشباب الأمريكيين يقول فيها: إن الذين ينظرون إلينا من مسافة بعيدة، لا يشعرون بما يخفق بين جوانحنا من هزة المبدأ الروحاني الحار الذي يثب في أعماق نفوسنا، إنهم لا يدركون أننا وراء نشاطنا المادي الذي شدنا بفضله بناء سامياً شامخاً من المجد الصناعي المزهر لا زلنا أمة من الإيدياليين طلاب الكمال الإنساني، نبذل الحياة مسترخصة في سبيل الفكرة، كما نبذلها في سبيل الريال!.
فلما كان اليوم الرابع من شهر فبراير سنة 1917 أطارت أسلاك البرق في العالم كله النبأ بأن الولايات المتحدة موشكة أن تقطع علاقاتها وألمانيا وأن ويلسون قد دفع بجواز السفر إلى الكونت برنستورف سفير الألمان في جمهوريته وبعث أمراً إلى مسيو جيرارد سفيره في برلين أن يقفل عائداً إلى أمريكا.
ومضى ويلسون إلى مقر الحكومة لكي يقرأ على المؤتمر إعلان قطع العلاقات وكانت الحجرة غاصة بالقوم، وقد جلس جميع النواب في مقاعدهم، وساد السكوت، فلما أقبل يخطر في المجلس نهض الجميع فصفقوا له أحر تصفيق فلم يكد يفه بالكلمة الأولى من خطابه حتى عاد السكون إلى نصابه، وكان من قوله: لقد ساقتنا الظروف إلى تأكيد حقوقنا تأكيداً فعلياً حاراً صريحاً ولعلنا مشتركون في هذه المجزرة بأشد ما يكون من قوتنا على(42/18)
الرغم منا.
على أن استمرار الاعتداء على السفائن الأمريكية في عرض البحار من غوائل الغواصات، ولاسيما السفينة فيجلانسيا والسفينة ممفيس وغرق عدد عظيم من الأمريكيين جعل إعلان الحرب مؤكداً لا ريب فيه، وكذلك كان شهر فبراير عام 1917 تاريخاً مشهوداً في سجل الولايات المتحدة منذ حرب الاستقلال، إذ أعلن ويلسون الحرب على ألمانيا، وهو يقول: إنه لأمر رائع مخيف أن يساق هذا الشعب العظيم الهادئ إلى الحرب، بل إلى أكبر حروب الدنيا هدماً وتخريباً ولكن الحرص على الحق أثمن من الحرص على السلم.(42/19)
الأيدي القارئة
كيف استطاع العلم الوصول إلى تعليم العميان القراءة والكتابة
ما أثقل عبء الحياة، وما أعتم الكون، إذا عاش الإنسان في ظلام دامس، ومر بالعالم مروراً، ولم ير الشمس، إلا حرارة في اليدين، ولم يحس منها إلا دفئاً في البدن، ولكن ليس نور الشمس هو الذي يبدد وحده ظلام الحياة، فكثيرون من المبصرين، يعيشون في حلكة شديدة في أعمق مخابئ العيش، لأنهم أوتوا البصر، ولم يؤتوا البصيرة، ولم ينالوا حظاً من العلم، ولم يضربوا بسهم في التهذيب.
ولذلك جاهد العلم في خلال القرن الماضي وخاتمة القرن الذي جاء قبله ليرسل نوراً ساطعاً يغني عن نور الشمس، إلى عين الأعمى، ليبدد حزنه، ويفتح إزاء روحه مغاليق الفكر، ويلهمه التأمل والابتهاج بأنه يعيش في قلبه، ويحيا في صميمه، والقراءة للأعمى هي البلسم العذب لجراح عينيه، والكتاب لديه هو الخدن الذي لا تمل عشرته والولي الذي لا يبرم بولائه ورفقته، أنه يعلمه وينسيه آلامه، وهو الذي يزكي روحه ويطهر فؤاده وينير بصيرته، وقد كتب رجل أعمى إلى صديق له إن لديّ كتباً أقرأها، هذا هو البعث، هذا هو الرجوع إلى الحياة، إلى النور، إلى حرية الفهم والإدراك.
ونحن نذكر هنا تاريخاً موجزاً للعلم من هذه الناحية، ونبسط للقراء نبذة عن أولئك العظماء من سادة أهل العلم الذين وقفوا حياتهم على الوصول إلى الطرائق الميسرة لتعليم العميان كيف يكتبون ويقرأون، ولعلهم في التقدير الإنساني يقومون في الصف الأول من أبطال العلم الذين خدموا الإنسانية، وكفكفوا دموعها وآسوا جراحها.
إن الرجل الذي مهد السبيل ووقف في الطليعة، هو العالم فالنتان هوى، فقد أوحي إليه في عام 1771 أن يخرج الفريق الأعمى من الإنسانية من آلامهم بتعليمهم العلم، إذ كان مقتنعاً بشدة ذكائهم ففكر في وضع كتب لهم بحروف بارزة، وفعلاً قام بعمل حروف طبوغرافية عادية ولكنها كانت كبيرة الحجم، وظاهرة التعاريج بحيث لا توجد أي صعوبة في معرفتها باللمس.
على أن هذه التجربات الأولى التي قام بها ذلك الرجل لم تكن إلا تجربات طويلة ذات نتيجة ضئيلة، وأكبر عيوب الطريقة التي ابتكرها هي أن الكتاب الصغير يستلزم حجماً(42/20)
عظيماً، وسفراً كثيفاً ثقيل الوزن، لأنه لا يمكن طبع حروفها، لشدة نتوءها، إلا على وجه واحد من الصفحة، وكذلك تجد القراءة على تلك الطريقة بطيئة لأن الحروف لا تتميز بسرعة وقد استطاع بها فالنتان هوى أن يجعل العمي يقرأون، ولكنه لم يجد الطريقة التي بها يكتبون على أنه ولا ريب كان ممهد السبيل وكان الغازي الذي فتح طريقاً جديداً في العلم.
ولكن مجد هذه الخدمة الجلية للإنسانية لم يقع إلا للعلامة لويس براي، ولد عام 1809 وكان تلميذاً في معهد الشبان العميان وقد اخترع الطريقة التي سميت بعد ذلك باسمه عام 1825.
وأهمية طريقته أنه ابتكر أحرف هجاء خاصة، مدارها الرموز على شكل نقط أفقية وموازية، وأعطاها الأحجام المناسبة والنتوء الواجب بحيث لا يتكلف القارئ إلا تحريك أنامله تحريكاً منتظماً لملاحظة الخطوط وبهذه الطريقة استطاع العميان قراءة 150 كلمة في الدقيقة وهو المقدار الذي يقرؤه المبصر عادة، بصوت جهوري في نفس الوقت.
وكان من هذه الطريقة كذلك أن تمكن العمي من الكتابة وهذا بإحداث نتوء الخطوط والنقط بواسطة مخراز على الورق، ولكن الصعوبة الأولى في ذلك هو إيجاد وسيلة للمحافظة على اطّراد الخطوط والكلمات وسيرها على الورق بنظام، دون أن يقوم بعضها فوق بعض، ويختلط الكلام بالكلام، ولكن العلامة لويس براي، أزاح تلك الصعوبة، فوضع جدولاً على شكل لوحة من المعدن الرقيق محفورة خطوطاً متوازية، توضع فوقها صفحة من ورق خاص.
وفي هذا الإطار الذي يحتوي اللوحة النحاسية والورق توجد مسطرة صغيرة مثقوبة ثقوباً على شكل مربعات مستطيلة قائمة الزوايا كل منها في حجم الحرف، وفي هذه المربعات يخط مخراز الأعمى بواسطة هذه المسطرة النقط التي يريدها.
والرموز التي وضعها العلامة براي للكتابة هي نفسها التي وضعها للطبع، ولكن الأعمى يستخدم في الطبع حروفاً متحركة ويصف هذه الحروف في لوحات، كالمتبع في الطبع عادة، وكثيرون من العمي يحترفون الآن حرفة الطباعة وصف الحروف، ويشتغلون بجانب زملائهم المبصرين، ولا يقل عملهم في الإحسان والإتقان عن عمل رصفائهم،(42/21)
ولكنهم لا يستطيعون مساجلتهم في السرعة، لأن الصفاف الأعمى يضطر إلى قراءة الحروف بملمس أصابعه قبل أن يشرع في جمعها.
حتى إذا انتهى الأعمى من رص حروفه، في اللوحات المعدة لها أخذت هذه اللوحات وهيئت للطبع، والورق الخاص به عادة يختار من النوع الكثيف الخشن ولذلك يبل قبل إعداده للطبع ثم ينشر على اللوحات ويضغط عليه بواسطة قطعة ناعمة من الجلد بشدة حتى تنقل الحروف على الورق دون أن تثقبها، ثم يسحب الورق إذ ذاك وينشر لتجفيفه، وقد اخترع العلامة باري بعد ذلك آلة تسمى الأستروميت وهي في غاية البساطة، واستعيض بها عن وضع صفحات الورق فوق اللوحة، وذلك أن ليس على الصفاف الأعمى إلا أن يكتب مباشرة بمخراز من الصلب فوق صفحة من الجلد أو الزنك، وهذه الطريقة تشبه طريقة حفر الكليشيهات ولكن هذه الآلة لا تزال ناقصة من ناحية، إذ من الصعب تصحيح الحروف، وتستلزم نفقات كثيرة لشراء لوحات من المعدن، ولكنها حسنة مغنية من ناحية السرعة في العمل.
وأصعب ما في الطباعة العمياء موضوع الورق فإن الكتاب يستلزم مقداراً عظيماً منه لأن كل حرف 7 ملليمترات طولاً و 5 ملليمترات سعة ولا مقدرة على تصغيره دون هذا الحجم ثم ليس في الاستطاعة طبع الحروف على ظهر الصحيفة، ولا بد أن يكون الورق من الغراء الخشن والضرب الكثيف ولذلك كانت الكتب الأولى التي طبعت على طراز براي نادرة جداً وغالية الثمن، وعظيمة الحجم.
ولكن مهارة العميان وذكاءهم وقوة تفكيرهم استطاعت التغلب على هذه العيوب إذ اخترعوا طريقة الكتابة بين السطور وبها تمكنوا من الطبع على وجهي الصحيفة.
وقد أدخلت على هذه الطباعة ضروب كثيرة من التحسينات، ولا يزال العلماء المشتغلون بتهذيبها يفكرون في الإكثار من وسائل التحسين، ولكن لا تزال الكتب التي تخرج للعميان عظيمة الحجم، غالية الثمن، والكتاب الواحد المؤلف من مائتي صحيفة يزن كيلو غرام، وقد طبع كتاب العلامة سورل للعميان وهو أوروبا والثورة الفرنسية، فاستغرق 114 مجلداً، وكان ثمن الجزء الواحد منها قبل الحرب ثمان فرنكات، ولهذا كان تأسيس مكتبة صغيرة منزلية من هذه الكتب يكلف صاحبها مالاً طائلاً، ولا تجد كثيرين من العميان(42/22)
يتيسر لهم ابتياعها ثم هي كذلك تتطلب مكاناً رحيباً لكي يسعها.
ولهذا كسدت الكتب التي طبعت على طريقة براي في السنين الأخيرة لأنها تكلف الناشرين مبالغ عظيمة ولا تجد قراء وطلاباً عديدين.
ومثل هذه الكتب لا تطبع في فرنسا إلا بفضل مجمع الشبان العميان والعميان التابعين لجماعة القديس بولص.
على أنه سيبقى عدد الكتب المطبوعة منها محدوداً، ولكن بفضل الكتب الخطية، يجد جمع كبير في فرنسا من العميان ما يسد حاجتهم إلى القراءة والتعلم والاطلاع، فإن جمعية فالنتان هوي التي تأسست عام 1883 في باريس قد أنشأت للفريق الأعمى من أهل فرنسا مكتبة تحتوي كتباً خطية مفتحة الأبواب للجميع، وهي اليوم غنية بالكتب وإن كانت لا تكفي وحدها لسد الحاجة فقد كان لديها في أول الأمر مائة مجلد فصارت إبان الحرب خمسين ألفاً تحتوي اثني عشر ألف كتاب، وهذا العدد لا يزال آخذاً في التكاثر والنماء.
وهذه الكتب تعار للجميع الراغبين في استعارتها، وترسل إليهم في الولايات والريف وفي المستعمرات، بل وفي كندا، وهي متعددة الفنون، مختلفة الأنواع، ولا تزال قائمة كتبها تحتوي ما يوافق أذواق الجميع، والعميان يقبلون على قراءة الروايات، ولكنهم أشد ما يكونون إقبالاً على كتب التاريخ والفلسفة والعلوم، وفي المكتبة كتب للشباب والأطفال، من كل نوع وفي كل فن.
والشعراء المختلفون إلى تلك المكتبة يقرأون جزأين عادة في الأسبوع، ولكن منهم من يقرأون مئات في العام وكانت المكتبة تعير قبل الحرب ثلاثة آلاف مجلد في الشهر.
ولعل السبب في تكاثر عدد الكتب الخطية، هو بفضل أهل القلوب الرحيمة، والإحساس الحار المتوقد، وذلك أن الجمعية لا تكاد تنشر في الناس الدعوة إلى من يتطوعون من المبصرين إلى نسخ مجلدات للعميان على طريقة براي، حتى يتبرع الكثيرون، رجالاً ونساءً وشباباً، بل وأطفالاً إلى الخدمة، لكي يتعلموا الحروف الهجائية التي ابتكرها براي ويتمرنوا على الكتابة بها، ولا تستغرق مدة التمرين زمناً طويلاً، بل من هؤلاء المتطوعين الكرماء من يقدمون للمكتبة خمسة وعشرين مجلداً منسوخاً من مؤلفات الكتاب على الطريقة العمياء، في العام.(42/23)
تلك خدمة جليلة قدمتها الإنسانية البصيرة إلى الإنسانية العمياء، في قطعة متحضرة من الدنيا، فلماذا لا ندرس هذا الموضوع ونهيئ له الأسباب في هذا البلد الذي يبلغ فيه العميان عدداً عظيماً مذكوراً، ولماذا لا تعمد جمعية تحسين حال العميان إلى إنفاذ هذه الطريقة في مصر، فتؤدي أكبر خدمة للذين تأسست من أجلهم.(42/24)
مطالعات
نوادر العميان
حدث بعضهم قال: نزلت في بعض القرى وخرجت بعد هدأة من الليل لأقضي حاجة فإذا أنا بأعمى على عاتقه جرة ومعه سراج فقلت له: يا هذا، أنت والليل والنهار عندك سواء، فما معنى السراج؟ فقال: يا فضولي، حملته معي لمن كان أعمى البصيرة مثلك، يستضيء به فلا يعثر بي فأقع أنا وتنكسر الجرة، وقال بعضهم: يقال أن أهل هيت يكون أكثرهم عوراً، فرأيت رجلاً منهم صحيح العينين، فقلت له: إن هذا لغريب! فقال: يا سيدي إن لي أخاً أعمى قد أخذ نصيبه ونصيبي، وتزوج رجل أعمى من امرأة قبيحة، فقالت له: رزقت أحسن الناس وأنت لا تدري فقال لها: يا بظراء أين كان البصراء عنك قبلي؟ وكان بحرم سيدنا الخليل عليه السلام شخصان أعميان أحدهما ناظر الحرم والآخر شيخه فأراد الناظر عزل الخطيب فعارضه الشيخ ومنعه فقال له الناظر كأنك قد شاركتني في النظر فقال له، لا بل في العمي فاستحى واستمر الخطيب، وجاء رجل بشار بن برد الشاعر الأعمى فسأله عن منزل رجل ذكره له فجعل بشار يفهمه ولا يفهم فأخذ بشار بيده وقام يقوده إلى منزل رجل وهو يقول:
أعمى يقود بصيراً لا أبالكم=قد ضل من كانت العميان تهديه
فلما وصل به إلى منزل الرجل قال له: هذا منزله يا أعمى، وإذ جر الحديث إلى ذكر بشار فلنورد شيئاً من نوادره عامة، أنشد بشار يوماً أبياته التي يقول فيها:
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأنّ جفونها عنها قصار
إلى أن قال:
كأن فؤاده كرة تنزى ... حذار البين أن نفع الحذار
يروعه السرار بكل أمر ... مخافة أن يكون به السرار
فقال له رجل: أظنك أخذت هذا من قول أشعب، ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننت أنهما يأمران لي بشيء: فقال بشار: إن كنت أخذت هذا من قول أشعب فإنك أخذت ثقل الروح والمقت من الناس جميعاً فانفردت به دونهم، وحدث بعض الشعراء، قال: أتيت بشار الأعمى وبين يديه مائتا دينار فقال لي خذ منها ما شئت أو تدري ما سببها قلت لا، قال:(42/25)
جاء فتى فقال لي أنت بشار فقلت: نعم فقال إني آليت أن أدفع إليك مائتي دينار وذلك أنى أحببت امرأة فجئت إليها فكلمتها فلم تلتفت إليّ فهممت أن أتركها فذكرت قولك:
لا يؤيسنك من مخدرة ... قول تغلظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعد ما جمحا
فعدت إليها فلازمتها حتى بلغت منها حاجتي، ولولا أن الفسوق قد استشرى في عصرنا هذا، وأن شبابنا حرسهم الله قد سبقوا بشاراً في معنى بيتيه هذين وأمعنوا إلى ما لا يخطر على بال بشار وتكشفوا عن أقصى غايات الصفاقة ورقاعة الروح لكنا اختشينا ذكر مثل هذين البيتين في البيان، وإلا فإن المهدي الخليفة العباسي لما بلغه عن بشار هذا الشعر ثم قدم عليه بشار فاستنشده إيه فأنشده طار الغضب إلى رأسه - وكان المهدي غيوراً - وقال لبشار: تلك أمك يا عاض كذا وكذا من أمه؟ أتحض الناس على الفجور وتقذف المحصنات المخبآت والله لئن قلت بعد هذا بيتاً واحداً في النسيب لآتين على روحك، ثم إن بشاراً لم يحظ من المهدي بعد ذلك بشيء على الرغم من ائتماره بأمر المهدي وإقلاعه عن النسيب وإكثاره من تمداحه حتى أن بشاراً لما ضاقت عليه الدنيا من جراء ذلك هجا المهدي أقذع الهجاء فسعى به يعقوب بن داود وزير المهدي، وكان يعقوب هذا مضصغنا على بشار إذ هجاه بقوله:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزق والعود
فدخل يعقوب على المهدي فقال له يا أمير المؤمنين إن هذا الأعمى الملحد الزنديق قد هجاك فقال بأي شيء فقال بما لا ينطق به لساني ولا يتوهمه فكري فقال له بحياتي إلا أنشدتني فقال والله لو خيرتني بين إنشادي إياه وبين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي فحلف عليه المهدي بالإيمان التي لا فسحة فيها أن يخبره فقال أما لفظاً فلا ولكني أكتب ذلك فكتبه ورفعه إليه فكاد ينشق غيظاً، وعمد على الانحدار إلى البصرة للنظر في أمرها فلما بلغ البطيحة سمع أذاناً في وقت ضحى النهار فقال انظروا ما هذا الأذان فإذا بشار يؤذن وهو سكران فقال له يا زنديق عجبت أن يكون هذا من غيرك أتلهو بالأذان في غير وقت صلاة وأنت سكران ثم دعا بابن نهيك فأمره بضربه بالسوط فضربه بين يديه على(42/26)
صدر الحراقة سبعين سوطاً أتلفه فيها فكان إذا أوجعه السوط يقول حس - وهي كلمة تقولها العرب للشيء إذا أوجع، فقال له بعضهم انظر إلى زندقته يا أمير المؤمنين يقول حس ولا يقول باسم الله فيقول بشار ويلك أطعام هو فأسمي الله عليه فقال آخر أفلا قلت الحمد لله قال أو نعمة هي حتى أحمد الله عليه فلما ضربه سبعين صوتاً بأن الموت فيه فألقى في السفينة حتى فاظ مات.(42/27)
تفاريق
لماذا نكبر؟
سؤال صعب، وموضوع خطير، لا يزال العلماء يحاولون له جواباً، ويلتمسون له حلاً، ومنهم أكبر علماء هذا العصر، وسادة فلاسفته، ويلوح لهم أن السبب الأكبر في الشيخوخة هو تجمع مقدار معين من الفضلات الحية في الجسم على مدى العمر، والجسم يتخلص من كثير من هذه الفضلات بكل سهولة، ولاسيما من الغازات كحامض الكربونيك، ولكن منها ما لا يستطيع البدن أن يتخلص منه كل التخلص ويؤول به الأمر إلى تسميم الأجهزة وتصلب الشرايين والمفاصل، وإسقاط الشعر أو تشييبه، وإحداث الغضون والمكاسر في البشرة، والناس هم الذي يعجلون إحداث هذه التغيرات أو يبطئون أثرها في أبدانهم بحسب لون الحياة التي يحيونها، وسبل المعيشة التي يسلكونها.
وقد ترى رجلاً في الأربعين يلوح أهرم وأكثر شيباً في المفارق، وأظهر شيخوخة من رجل في الستين، وليس كر الغداة ومرّ العشي هما وحدهما اللذان يحدثان الشيخوخة، ولكن ما يحدث في أجهزتنا على ممر أعمارنا، فأما اللذين يعيشون عيشة رزينة عاقلة، ولاسيما الذين لا يسرفون على أنفسهم شراباً وطعاماً وينامون النوم الذي يكفي جسومهم ويعدم أو يطرد السموم التي حدثت لها في يومهم، لا تعجلهم الشيخوخة كما تعجل الذين لا يعيشون عيشة منظمة، ومن الناس قوم خلقت لهم أرواح هادئة وطبائع ساكنة وهؤلاء تبطئهم الشيخوخة، ويمهلهم الهرم، والناس مصيبون في الاعتقاد بأن الهموم والأحزان تكبر الناس قبل أعمارهم، والحقيقة أن هذه الآلام النفسانية تضعف القوة التي في البدن على قتل السموم، وكذلك ترى ذوي الطبائع المضطربة العصبية يموتون قبل أهل الطبائع الهادئة الساكنة.
وجملة القول أنا نستطيع أن نقول إن اللذين لا يهرمون سريعاً هم الذين يرعاهم الأطباء الثلاثة، الهدوء والحمية والعقل.
لماذا يعد العيش في الريف أصح من عيش المدن؟
ليس هناك في الحقيقة إلا سببان يرجحان بعيش الريف على أخيه عيش المدن، ولكنهما لا يزالان من الخطورة بمكان عظيم فأولاً الهواء الذي نتنفسه دافعاً إلى اللهي والرثات من(42/28)
الحقول هو بلا ريب أنقى من الهواء الفاسد الذي نعيش في صميمه في المدينة، ولا يحتوي ما يحتويه عيش المدن من الأتربة التي أكثر ما تكون خطرة فاسدة، ولأنه غير مفعم بالغازات السامة التي يحملها هواء المدينة، ثم إن فعل أشعة الشمس أشد أثراً في الريف منه في المدينة حيث الناس مختنقون في الدور المظلمة والمساكن البعيدة عن مهبط الشمس، والشمس من أكبر معدمات الجراثيم والنور من أشد أعداء القذارة والتعفن.
ونستطيع كذلك أن نزيد على هذا أن السكون والهدوء المستتب في القرى والريف يسكن الجهاز العصبي، وإن الإنسان في الريف أبعد ما يكون من الملاهي والملذات ووسائل الفساد والترف ويستطيع في الريف أن يتلهى برياضات تحصن الجسم وتنقي الروح، ولا يتيسر ذلك في المدائن.
على أننا لا نستطيع أن نجزم بأن المعيشة الريفية بريئة من العيوب من ناحية قانون الصحة، بل هناك ضرران عظيمان، ومنقصتان كبريان، إحداهما من ناحية المياه الصالحة للشراب، وثانيتهما المجاري والمصارف والبالوعات، إذ لا تجد في كثير من بلدان الريف ماء للشراب غير ماء الآبار ويجب اتخاذ الحيطة من هذا الضرب من المياه، لأن الآبار من العادة أن تحفر في أراضي متخللة كثيرة المنافس والنبعات قريبة من المساكن ولذلك قد تمتزج المياه القذرة والمياه الراسبة الآسنة بمياه الآبار وتفسدها وتلوثها بجراثيم أمراض خطيرة معضلة، وكذلك عدم وجود المجاري والمصارف التي تسوق هذه الرواسب والمواد البرازية التي تخرجها الحيوانات والناس إلى مسافات بعيدة عن الدور قد تحدث أضراراً لا يستهان بها ولو كان في مكنة الإنسان إذا أراد أن يجعل في الريف مقامه أن يجعل داره على منال ماء ظاهر متدفع غير آسن أو آبار صخرية عميقة الغور تخرج مياهاً نقية، لتحصن من شر هذه الآفة الضارة، وعندما يدور الزمن دورته ويتبين للشعوب الفوائد الجلى التي تعود على الناس من الهواء الطلق الطاهر والنور قد يجمعون الرأي على أن يكون بناء القرى الريفية على حال بريئة من هذه المضار.
ويجب على الحكومات أن تعمل على أن لا يلوث الهواء في المدينة بهذا الدخان الكثيف والروائح الكريهة والغازات والأبخرة الضارة التي أكثر ما تخرج الآن من البيوت المتجاورة المختنقة في المدينة ويجب أن لا تكثر هذه البيوت الصغيرة المعتمة القاتمة، بل(42/29)
يحسن أن يكون لكل بيت حديقة وأن يكون مرتفعاً ارتفاعاً متناسقاً مع البيوت المجاورة له، ويجب أن يعمل على قتل هذه الضوضاء الصخابة في الطرق بأن يغشي أديم الطريق بطبقة تجعل حركة العجلات المتدحرجة فوقها هادئة ساكنة لا يسمع لها هذه القعقعة المزعجة.(42/30)
الصحيفة النقية البيضاء
صحيفة الحساب الختامي لوقف المغفور له أحمد منشاوي باشا
لعل أعدل السنن التي استنها الناس للتوريث أن تنحدر الثروات والأملاك إلى الوارثين أوقافاً ثابتة، في نجوة من شر البيع وغوائل التبديد، وكثيراً ما ضاعت ثروات عظيمة، وباد وفر طائل، لم يحرص عليه صاحبه فأرسله إلى ورثته إرسالاً وبسطه لهم بسطاً ولم يقيدهم به ويقيده بهم، وكثيراً ما يقذف المورث بتراثه فلا يدع لهم فيه متنفساً للزكاة والخير والبر وإيتاء المعروف فينطلق من بين أيديهم لا بركة فيه.
نقول ذلك وقد وقع لنا منذ أيام صحيفة الحساب الختامي للعام المنصرم لوقف من أكبر أوقاف مصر وأذخرها بالحسنات والصدقات والمبرات، تركة رجل من أعرق أهل هذا البلد أرومة وأكرمهم عنصراً، من أولئك الذين ودّوا لو يملأون الأرض بهجة ونعمة وبراً، وينضبون مادة الدموع من الحياة، ويقتلون الحزن الإنساني قتلاً، ويرسلون النور في الأكواخ والكهوف والدور، ونعني به الرجل العصامي المعطاء المحسن المرحوم أحمد باشا المنشاوي، فقد مات ذلكم الرجل عن وقفه العظيم الحافل بالبنود والنصوص البارة بالفقراء، الضاربة بأسهم في البر وفعل الخير، فما عتم أن وقع في يد رجل من غرسه، وزرع من زرعه، فاحتفظ بالتراث وأزكاه، ونهض بالوقف وأنماه، والرجل العظيم الذي يكل إليه عظيم مثله البصر بأمر عظيم مثلهما خليق بان ينهض به، ويقوم عليه أحسن القيام لأنه لا يلاقي في ذلك من الجهد غير ما ينبعث من طبيعته النقية وضميره الحي وخيمه الصالح ونشاطه المتوثب، فلا غرو أن يحرص على فضل ذلك الوقف وإنفاذ وصاية الواقف، الناظر الفاضل الشريف الذي ظل أعواماً يدير شؤونه وينظر في أموره ونريد به حضرة بسيوني بك الخطيب، فقد ملأ قلوبنا فرحاً وأثلج منا الصدور إذ قرأنا صحيفة ذلك الحساب فألفيناها مفعمة بالأدلة الجلية الساطعة تشهد على فضل ذلك الرجل الحازم البصّار بالأمور المضطلع بعظائمها، ورأينا الحسنات فيها تتلاقى بالصدقات، والمبرات تزدحم والمكرمات، بين مساجد تعمر، ومعاهد علم تعضد، ومستشفيات تأسو الجراح، وتفتك بالأمراض، وفقراء يطعمون، وعشائر يكسون ويرعون إلى ما في شروط الوقف من خير، وما في فؤاد الناظر من وجدان يتعرف أقوم السبل لصلاح أمر الوقف وإنعاشه، وتثمير الثروة واتساعها،(42/31)
وكذلك أراد الله للمنشاوي البار الرحيم العاطفة رجلاً حفظ له الذكرى الجميلة، وناب عنه في الحرص على مواضع الخير فارتحل المنشاوي عن الحياة، وقام بعده في الفضل فضل مثله، فنعم الرجلان، المورث والقائم على التراث.(42/32)
العدد 43 - بتاريخ: 1 - 9 - 1918(/)
أناطول فرانس
ومختارات من كتبه
يعيش اليوم في العالم شيخ أربى على السبعين، ولا يزال يشارك الدنيا في شؤونها بنشاط الفتيان، ويعني بالبحث في أسرار الحياة وفلسفتها بحدة الشباب، وهمة الأقوياء، وقد ظفر بالسيادة في الأدب، وامتلك القمة العالية في التفكير، وأصبحت كتبه وتواليفه فرحة رواد الأدب وعشاقه، وأفكاره وخواطره حديث أهل الفكر وسادته، إذ جاء بآراء جديدة، وانحرف في الفلسفة عن سبيل الفلاسفة الذين تقدموه فقذف إلى الدنيا بنظريات طلية طريفة، وهو محبوب من كل قارئ متأدب، أصاب الإعجاب عند كثير من المهذبين، ذلكم هو أناتول فرانس، الكاتب الذائع الذكر في فرنسا، الطائر الشهرة في كل مملكة يفتح فيها كتاب، ويدرس فيها أدب.
وهو اليوم قد بلغ صميم الشيخوخة، وانتهى إلى سن القعود والوهن، ولكنه لا يزال يكتب ويفكر ويسهم في كل ما يشغل أذهان الكتاب، إذ كان مولده عام 1844 ولعل الفضل في نبوغه أنه منذ طفولته وعهد شبيبته كان يعيش بين المجلدات الضخمة والتواليف العظيمة، محاط في كل مكان بالكتب والأسفار، فقد كان أبوه ورّاقاً كتبياً يصيب رزقه من بيع الكتب، فنشأ أناتول مجلداً صغيراً متحركاً في المكتبة، ينقل الكتاب من الدرج إلى الدرج ويحمل السفر الممتع من ناحية إلى ناحية ولا يفوته أن يلقى نظرة على عنوان الكتاب ليعرف اسم المؤلف، حتى إذا شب عن الطوق جعل يوغل في فهم الكتاب أثر الكتاب، فكان كل ذلك غذاءً طيباً لذهنه الخصيب زاده نبوغاً ومدى فسيحاً تجري فيه عبقبريته، ونحن نقتطف قطعاً قصيرة مختلفة من طائفة من تواليفه.
مختارات من كتاب صديقي
بين كتب أناتول فرانس مؤلف وسمه بهذا العنوان كتاب صديقي وهو تاريخ أناتول فرانس، ووصف لحياته، وأغرب ما في كتب هذا الفيلسوف الغريب أن بطل كل كتاب من كتبه وقصة من قصصه، كأنه صورة من أناتول فرانس نفسه، ورسم حقيقي لخلقه، وكتاب صديقي هذا سفر بديع رائع تلتقي فيه الفلسفة الفكهة، بالأدب المطرب الخفيف الروح.
1(43/1)
الكوكب
أتمت ابنتي سوزان في هذا المساء اثني عشر شهراً من عمرها وقد امتلأت في الاثني عشر شهراً هذه التي عاشتها في هذه الدنيا القديمة والكوكب العجوز المسن، بالشيء الكثير من علم الحياة، وخبرت العالم، ولو أن رجلاً استطاع أن يكشف في مدى اثني عشر عاماً الحجب عما اهتدت إليه ابنتي سوزان في اثني عشر شهراً، إذن لكان رجلاً إلهياً مقدساً خالداً، والأطفال الصغار لا تزال لهم عبقرية مجهولة لا تدركها الأبصار، وهم يصلون إلى إدراك الحياة بنشاط يفوق طاقة القوة الإنسانية، وخفة لا تزال تقرب من الخفة الشيطانية.
فهلا تعتقدون أيها الناس أن هؤلاء المخلوقات الدقيقة تنظر وتحس وتتكلم وتقارن وتفكر وتتذكر، هل ترونهم وهم يمشون ويدرجون ويغدون ويروحون، أتشهدونهم وهم يلعبون ويلهون، بل أعجب أمورهم، وآخذها باللب، وأبعثها على الحيرة والذهول أنهم يلعبون، لأن اللعب هو أساس جميع الفنون، هو المادة التي استمد منها العالم جميع الآداب والعلوم، أليس شكسبير عمركم الله إلا لعباً وعرائس، وأغاني وأناشيد ولسوزان سلة كبيرة مفعمة باللعب، منها لعب من صنع الطبيعة، وأخريات من صنع الصانع، ومن يد العامل، بين حيوانات من الخشب وأولاد من المطاط، ومنها كثيرات لم تخلق لتكون لعباً فأسعدها الحظ أن أصبحت على يد سوزان كذلك، فمن أكياس نقود قديمة ومن صندوقات محطمة، ومن مساطر ومن مقصات ومن دليل من دلائل السكة الحديد ومن كراسة بالية ممزقة، وفي كل يوم تخرجها سوزان فترتبها فوق مخدتها وتدفعها إلى أمها، ولا تعلم لها شكلاً، ولا ترى فارقاً بين هذه الأشياء الصغيرة، وبين الأشياء الأخرى التي في العالم، وعندها إن العالم بأجمعه ليس إلا لعبة عظيمة مقطوعة ومرسومة.
فلو أننا تعمقنا في نظر هذه الفكرة التي تجول في تلك الروح الصغيرة، وهذه العقيدة في الطبيعة وفي الحياة، إذن لا عجبنا هذا المنطق، ولكن نحكم عليها من ناحية أفكارنا، لا من ناحية أفكارها هي وخواطرها، ولأنها لا تملك العقل الذي لنا نحن نحكم بأن ليس لها عقل، فياللظلم وياللجور وياللطيش، ولكني أنا الذي أعرف كيف أنظر إلى الأمور من ناحية حقائقها أرى روحاً وعقلاً حيث لا يرى الناس إلا ثرثرة وغرائب لا اتصال بينها ولا رابطة.(43/2)
على أنني لا أحب أن أروح طائشاً أمامكم وأرمى بالغلو في حب ابنتي إلى حد العبادة فلست عابد أطفال، ولست أقول أن ابنتي أجمل وأذكى من أية طفلة أخرى، ولست أغالي وأذهب بعيداً في الوصف، بل أقول لأمها صديقتي العزيزة ها نحن قد ظفرنا بطفلة جميلة ذكية.
قالت زوجتي: حمداً لله أنه خلقها كذلك وراحت تعد الفراش لرقاد الطفلة وجاءت تأخذها إلى النوم ولكن سوزان أصرت بعناد شديد على أن تظل يقظى، ولا تأوى إلى المهاد المعد لها، لأنها جعلت تغيب يديها الصغيرتين في جوف دولاب في الحجرة مفعم بالأمتعة.
قلت لزوجتي انظري ما أجملها في هذا الدولاب أن سوزان ليست بديعة فيما تعرف فقط بل إنها لأبدع فيما لا تعرف، إن جهلها بالأشياء مع اهتمامها بها، لا يزال يدل على أنها أوتيت روحاً من الشعر!
فلم أكد أفه بهذه الكلمات حتى التفتت إلى زوجتي ضاحكة ساخرة مني وأنشأت تقول، لك الله! أتقول أن سوزان شاعرة! أتتكلم عن شاعرية طفلتك! ولكن ابنتك لا تتلهى إلا في المطبخ بل لقد رأيتها منذ أيام مشرقة الوجه متهللة الوجه وهي في وسط الزبالة وكناسة المطبخ، فهل تسمي هذا منها شعراً؟
قلت: بلا ريب يا زوجتي، بلا ريب أن الطبيعة بأسرها تلوح لديها طهارة تامة كاملة حتى لا نرى في العالم شيئاً قذراً مطلقاً، حتى ولا في مقطف الزبالة ولهذا ترينها غائبة مضطجعة بالأمس وهي فرحة مسرورة في وسط أوراق القرنبيط وقشور البصل وشراشير الجزر، تلك مسرة عظيمة لها لأنها تغير الطبيعة عندها بقوة ملائكية وكل ما تلمسه بيدها يشعرها بفكرة الجلال والجمال،. . .
وبينا نحن في هذا الحديث إذ تركت سوزان الدولاب ودنت إلى النافذة فتبعتها أمها وأخذتها بين ذراعيها، وكان الليل ساجياً دافئاً والسكون سائداً، فصمتنا نحن الثلاثة.
ففي هذه الهدأة الساحرة رفعت سوزان ذراعيها عالية بقدر ما استطاعت، وبطرف أصبعها أشارت إلى كوكب هناك في بهرة السماء، وهذا الإصبع الدقيق جعل يتلوى بين الفترات كأنما ينادي أحداً.
وكذلك راحت سوزان تكلم الكوكب. . .!(43/3)
وأما حديثها الذي طارحته النجم فلم يكن كلمات وألفاظاً، بل كان حديثاً غامضاً ساحراً، بل أنشودة غريبة، فلم يسع أمها إلا أن قالت وهي تحتضنها حقاً إن الطفلة لشاعرة!.
آراء مسيو جيروم كونيارد
مسيو جيروم كونيارد اسم كتاب وضعه أناتول فرانس ليرسم فيه صورة من صور رجال الدين وآرائهم في الحياة وقصد به إلى التهكم عليهم والسخرية من مذاهبهم في الحياة ونحن نقتطف آراء مسيو جيروم في العلم.
2
الفلسفة والعلوم
إن الإنسان يا بني ليس إلا حيواناً أحمق وليس تقدم روحه إلا نتيجة من نتائج ضلاله واضطرابه ونزقه، ولهذا تراني يا بني أهزأ بذلك الذي يسمونه العلم وتلك التي ينعتونها الفلسفة فهما ليسا عندي إلا صوراً متناقضة وخيالات طائشة وهما فتنة من فتن الشيطان يغوى بها الأرواح، وضلة يستهوي بها النفوس، وأنت فإنك تراني في نجوة من الاعتقاد بتلك الشيطانيات التي تغلب على أذهان العامة، وتسيطر على رؤوس السوقة، وأنا لا أزال مع سادة رجال الدين في أن الشيطان لا يزال في قلوبنا ودمنا، بل نحن عفاريت الشر في صميم وجداننا، وما أشد غضبي من ذلك الذي يدعونه الفيلسوف ديكارت وجميع الفلاسفة الذين سلكوا مسلكه وجروا وراءه في طريقه، فأرادوا أن يجدوا في الطبيعة نظاماً للحياة، وسنناً للوجود، إذ ما هو علم الطبيعة يا بني إلا خيالات تتوارد على مشاعرنا وعواطفنا وماذا عمرك الله قد أحدث العلم، وماذا جاء به كل هؤلاء العلماء، وجميع أولئك الفلاسفة من ديكارت وشيعته إلى هذا الرجل الأحمق الجميل البديع مسيو فونتنل، لم يحدثوا يا بني إلا نظارات يضعونها فوق أعينهم، كتلك التي أضعها الآن فوق أنفي، أجل، ليس تلك المناظير التي يسمونها الميكروسكوبات والتلسكوبات وأخواتها ويغترون بها ويتفاخرون إلا نظارات لا تفترق عن نظاراتي هذه، بل يا فتاي ما تلك الآلات والأدوات التي يملأ بها العلماء مكاتبهم ومعاملهم وخزائنهم؟ ما تلك المناظير والاسطرلابات والبوصلات؟ أليست هي وسائل تعين العواطف على أوهامها، وتمدها في طغيانها وتزيد في الجهل، وتقربنا من الطبيعة وفي معرفة أسرارها كل الأذى والضر بل أن أكبر هؤلاء العلماء الجلة وأولئك(43/4)
المشيخة العظماء لا يختلفون عن العامة في شيء إلا في مقدرتهم على التلهي بأوهامهم التي يهيمون فيها وأغلاطهم المعقدة المتفاقمة التي يصيبونها، إنهم ينظرون إلى الكون من وراء زجاجات متشعبة المناظر، منعكسة الصور، بدلاً من أن ينظروا إليها بأعينهم نفسها خلواً من تلك المناظر، ويشهدوها بأبصارهم كما خلقها الله لهم، ولكنهم يمين الله لا يغيرون من جوهر العين باستخدام نظاراتهم، ولا يبدلون طبيعة الأحجام باستخدام تلك المقاييس ولا يغيرون الأوزان باستعمال تلك الموازين، بل إنهم ليكتشفون من وراء ذلك صوراً ظاهرة ليس غير، إن كراهتي للعلم لتشتد وتثور كلما رأيته بين الناس محبوباً معززاً مكرماً!!
حديقة أبيقور
هذا هو الكتاب البديع من بين كتب أناتول فرانس وتواليفه، لأنه ليس إلا خواطر متفرقة غير موصولة، وآراء منثورة متتابعة في شؤون شتى وموضوعات متباينة، على نحو تواليف نيتشه وخواطره، ولعل أمثال تلك الكتب أخف مساغاً على الروح وأقرب منالاً من النفس.
3
كثير من الناس في هذا العصر تغريهم الحياة بالإيمان بأنا قد بلغنا نهاية الحضارة، وألممنا على خاتمة الدنيا، ووصلنا إلى الدرجة الأخيرة من المدنية، وإن العالم بعدنا سينساق إلى خاتمته، ويهوي إلى الهاوية، ويسرع إلى الفناء والانقراض، وهم في ذلك أشبه بسادة المسيحية القديمة إذ ظنوا أن الدنيا لا تستطيع أن تجوز العام الألف من تاريخ مولد سيدهم ولكنهم لا يزالون متكهنين عصريين، أوتوا ذوق الجيل والمدنية، ولعل ذلك باعثه العزاء والزهو كأنهم يريدون أن يقولوا أن الكون لا تطاوعه نفسه أن يعيش بعدهم.
أما أنا فلست ألمح في الإنسانية أي دليل أو نذير للانقراض، ولست بنهاية الحياة مؤمناً، ولست لها مصدقاً، بل لا أعتقد أننا بلغنا شيئاً عظيماً من المدنية، وجزنا الخطى إلى نصيب وافر من الحضارة بل أرى أن ترقى الإنسانية نهاية في التراخي والبطء والمهل، وإن الفروق والاختلافات التي تبدو بين الجيل والجيل في الأخلاق والآداب من الضؤولة والدقة بحيث لا يكاد يلمسها الحس، ويشعر بها الذهن وإن كانت تدهشنا وتبغتنا وتقع منا على غرة على أننا قلما نلاحظ مظاهر الآداب وفروع الحياة التي لا نزال نجمد عليها كما عض(43/5)
آباؤنا من قبل، ولا تختلف في شيء عن آداب العصور القديمة، بل إن قطار الحياة بطيء، ومركبات المدنية متراخية، والإنسان دأبه الاحتذاء وعبقرية التقليد، وندر ما يحدث، وقل ما يكتشف، وضؤل ما يخترع ويبتكر بل إن قانون الثقل الذي ننسبه إلى الأرض إذ تجتذب إليها الأشياء الصغيرة الحجم عنها لا يزال يطرد في الحياة وفي كل أنواع العلم والحضارة ولقد كنت أجتاز أمس عرض الطريق فرأيت بناة يهدمون داراً قديمة مهجورة وأطلالاً بالية فشهدت الفعلة يحملون الصخر كما كان يحمله من قبل عبيد طيبة ونينوى ورأيت أزواجاً وبعولاً يخرجون من المصلى والمعبد القائم في ناحية من الشارع فيدخلون ألحان الواقع في الناحية الأخرى منه طلباً لأقداح الشراب والتماساً للكأس يلحون عليها ولا أزال أشهد الدنيا تتبع شرائع وقوانين قديمة يوم كان قيصر رومة شاباً يانعاً، فلذلك لا أنى أقول. . . لا شيء جديد تحت الشمس.(43/6)
فتاوى في الحب والزواج
وضعت إحدى المجلات الانكليزية المشهورة عدة أسئلة خطيرة في الحب وألقتها إلى جمع من أكبر كتاب العصر في انجلتره، وآثرت منهم الروائيين على سائر الكتاب، لأنها علمت أن الروائيين هم كتاب العواطف، وأساتذة علم النفس، وهم أخبر بأسرار النفوس، وأوسع علماً بأفانين الحب من غيرهم، فجاءت أجوبتهم غريبة في بابها، لا تخلو من تناقض، ولا تزال متعارضة متباينة، ونحن ننقل إلى قراء العربية جملة من هذه الآراء بعد أن نبسط لهم هذه الأسئلة بترتيبها:
الأسئلة
السؤال الأول - أي الحبين أقوى من صاحبه، حب المرأة، أم حب الرجل؟
السؤال الثاني - هل ينبغي للمرأة أن تظهر حبها؟
السؤال الثالث - هل يجوز أن يحب المرء أكثر من شخص واحد في آن واحد؟
السؤال الرابع - هل يحدث الحب يوماً بمجرد النظرة الأولى؟
السؤال الخامس - أترون الزيجات القائمة على الحب خير ضروب الزيجات؟
السؤال السادس - هل يجوز أن تحب المرأة ذات الوجه الدميم كما تحب الحسناء؟
السؤال السابع - هل يمكث الحب إلى الأبد؟
الأجوبة
فأجاب على هذه الأسئلة الكاتب الطائر الصيت والروائي المبدع هوراس انسلي فاتشل فقال:
1 - حب المرأة أقوى من حب الرجل عامة لأنها ترى في الحب معنى غير ما يرى فيه الرجال ويشغل الحب في فؤادها جميع أفكارها ووحي نفسها.
2 - أعتقد أن الحب باعث الحب والهوى وليد الهوى والعالم ممتلئ بالنساء النصف والسيدات اللاتي اجتزن حدود الصبا يعشن وحيدات مبتردات العاطفة مريرات العيش لأنهن في بعض أدوار أعمارهن لأمر عظيم أو حادث تافه في تيار الحياة وآذيها، أخفين عواطفهن عن الرجل الذي كن يحببن حياء منهن وخجلاً أو كبراً وعزة أو تيهاً ودلالاً.
3 - بلا ريب فإن متعددي الزيجات يؤكدون جواز هذا الحب وإني لأذكر رجلاً أخلص في(43/7)
حبه لزوجتين في عصمته إذ جعل يقسم بينهما بالسواء زمنه وماله وعواطفه ولم يعرف المرأتان قدر هذا الحب إلا بعد وفاة الرجل فراحتا تخلصان إحداهما إلى الأخرى وتحملان الحب الذي كان في جانحة الرجل لكل منهما.
4 - لا شك في ذلك فقد حدث أن رجلاً من كبار القواد التقى بفتاة في صبيحة يوم فتزوجها في مسائه وعاشا على محض الحب والوفاء.
5 - لا مشاحة في ذلك لأن زوجاً بلا حب إذا راح موفقاً مسهماً في النجح فإنه أشبه شيء باشتراك في متجر وتضامن على عمل.
6 - أتظنون أن المرأة الدميمة تلوح كذلك في عيني الرجل الذي يحبها؟ فلكم من نساء قبيحات أرسلن وحي الحب في أفئدة على مر الزمن وكر الغداة والعشي.
7 - هذا سؤال صعب الاهتداء إلى حله ولا يستطيع إنسان أن يجيب عليه ولكن لنتوقع أن يزهر الحب في تأثيره العظيم فيبقى آخر الحياة فكذلك يعتقد الروحانيون.
آراء البارونه اورسازي
وقالت البارونه اورسازي، وهي من أكبر الروائيات في العصر الحديث، وأخبر الكاتبات بالحب، وقد وضعت عدة من الروايات في الثورة الفرنسية، بذت فيها ديماس وأبدعت الإبداع كله، وقد اختلفت آراؤها في بعض النقط عن آراء الكاتب الذي بسطنا أجوبته:
1 - يصعب في المسائل التي تمت إلى علم النفس بسبب أن يرسل الإنسان القول عامة، ويعمم في رأيه، ولكن لنا أن نذهب إلى القول بأن حب المرأة أقوى من حب الرجل، لأنه أجلد منها على المقاومة والمغالبة، وأقدر على الاستمرار والبقاء، والحب عند الرجل - ونعني بالحب أسمى مراتبه وأطهر أنواعه، ولا نقصد بذلك إلى الحب الجنسي وإن كان قوياً شديداً - يجب دائماً أن يكون مقروناً بالاحترام والإعجاب بالخلق أو الذكاء النسائي - والرجل لا يستطيع أن يطاوع النفس فيتزوج بالمرأة التي لا يشعر من ناحيتها بشيء من الاحترام، ولذلك كان خليقاً بنا أن نذهب إلى أن في حب الرجل للمرأة تقديراً وتفكيراً معيناً إذ يحسب لحبه حساب الشرف والنبل وفضل المرأة التي يحب ومحاسنها، ولكن حب المرأة نقيض هذا الحب، إذ المرأة لا تحب الرجل لنبل قدره وفضله، ولكن كثيراً ما يكون حبها إياه على الرغم من ذلك، فإنها قد تخف إلى بذل مهجتها وسويداء قلبها طوعاً(43/8)
وبإخلاص نية إلى مخلوق حقير، خفتها إلى بذلها لرجل عظيم، وتمنح فؤادها مجرماً شنيعاً إذا وقعت في هواه، كمنحه البر الطاهر أخا الفضل، والرجل دائماً يقول في أعماق نفسه إذ يحس عيباً من العيوب، أن هذه المرأة ليست خليقة بأن تكون والدة لبني وأطفالي: وإن كان يحس نفسه أسيرة تلك المرأة ومفتونة بشخصها، ولكني أشك في أن تاريخ هذه العاطفة العظيمة كلها يحوي ذكر امرأة واحدة من نساء الدنيا قاطبة قالت في ظروف شبيهة بتلك. . كلا، إن هذا الرجل ليس خليقاً بأن يكون لأطفالي أباً، ولأسرتي رأساً!. .
2 - إذا أحبت المرأة حقيقة فستجد نفسها لا تطاوعها على مغالبة كتمان حبها فإن هذا الحب سينم عن نفسه في مئات من السبل وألوف من الظروف التافهة الصغيرة، ولعل حبيبها لا ينتبه لذلك وإن كان يعمل على أن يجتذب حبه إليها إذ ليس في الحياة ما هو أشد من الحب الكامل الحقيقي مغناطيساً.
3 - لا يقع ذلك مطلقاً، إذا كنا نقصد بالحب إلى الحب الحقيقي التام، حب الروح، أو القلب أو النفس أو أي اسم تختار للتعبير عن الجزء السامي في الإنسان إذا امتزج بحب البدن، وإنما قد يجوز أن يروح حب الرجل أو المرأة أسير شخص آخر بالحواس بينما يحتفظ بعاطفة عميقة نحو شخص غيره، ولكن هاتين العاطفتين في نفسهما لا تسميان حباً.
4 - ليس الحب نباتاً ينمو وزرعاً يزكو، بل الحب قوة عنصرية روحانية تخلق خلقاً.
5 - بلا شك، فليس أكره لنفس المرأة الحساسة، من زواج بلا حب، فإذا لم تكن امرأة ذات جانحة حساسة، بل كانت عروساً خشبية لا أقل ولا أكثر وكانت مادة بلا روح، ومدراً من الآجر الجميل، أو مخلوقاً بلا تفكير، يرضيها أن تكون فقط في بيت رجل، أو ذات مكان اجتماعي، فلا يرتقب من مثلها أن تجعل الرجل سعيداً، وهذا من ناحية المرأة، أما الرجل الذي يتزوج لسبب غير الحب، للمال أو للمركز أو لسبب من الأسباب المادية التجارية فليس إلا مخلوقاً أبله ضعيفاً لا يستطيع أن يجعل أية امرأة سعيدة.
6 - تحب المرأة الدميمة أكثر من المرأة الحسناء، وفي أغلب الأحيان، لأن الرجل يحبها أولاً بجزئه السامي فإذا نجحت بعد ذلك في فتنة حواسه كذلك فلا يلبث حب الرجل لها أن يكون أشد وأروع وأثبت على البقاء من الحب الذي تظفر به المرأة الحسناء بكل سهولة، واعلم أن الرجل الذي يحب امرأة ليست جميلة لا بد أن يكون أرق طبعاً، وألين روحاً،(43/9)
وأقوى أعصاباً، وأشد وفاء من الرجل الذي يقع فريسة سهلة ذلولاً لفتنة امرأة حسناء، وهنا لا بد أن نقصد كذلك بالحب في أرق جوهره وسلطانه ونعني به العاطفة الكبرى، لا الرغبة الشهوانية الجسدية ليس غير.
7 - الحب الحقيقي التام يبقى بلا ريب آخر الحياة، ولا يستطيع شيء في الأرض أن يقتله أو يذهب به ويبلى جدته، وقد تسأمه الحواس، ولكن الرابطة الروحانية تظل باقية بعد أن خطت يد الزمن خطوطها ووضعت طابعها وغضونها ومكاسرها في وجه الحبيب، والحب التام معناه الإيمان التام والثقة التامة والرفقة التامة للذهن والبدن، والاشتراك التام في المصالح والأفكار والخواطر والمطامع والأماني، وجميع قوى الظلام من حزن ومتعبة وسآمة وضجر وإغراءات نفس لا تستطيع أن تحدث أثراً في تلك القوة.
ومثل هذا الحب الطويل العمر يوجد فعلاً، أكثر مما يتوهم الناس ولكنه لا يريد أن يعلن عن وجوده أمام عالم شهواني وقح.
أجوبة وليام لكيه
ورد وليام لكيه وهو من أكبر الروائيين في العصر، وتعد رواياته بالعشرات، ولا يزال اسمه كل يوم يدور في صحف الغرب فقال:
1 - المرأة عادة هي التي تقوم بتضحيات أكبر من تضحيات الرجل وكل امرأة تحن إلى الحب، على حين ترى الرجل كثيراً ما يعد قلب المرأة صغيراً ويستخف بعاطفته والرجل الكبير لا يلبث أن يروح عند المرأة معبوداً، وعبادة البطولة وهي إعجاب يكاد يكون حباً، لا تزال في جانب المرأة.
2 - إن إظهار المرأة حبها قبل أن تستوثق من أن الحب بينهما مبادل، قد يصغر في بعض الأحيان من قدرها في نفس الرجل فلعله قد يقرفها بالطيش ويرميها بخفة الحلم، ويتهمها بالتسرع، فينبغي للمرأة أن تحاذر من إظهار حبها وعليها أن تأخذ بالثبات وتتظاهر بعدم الاكتراث وتبدو في سكون وصبر حتى يعلن الرجل أولاً عن حبه.
3 - كلا، ولا ريب، فإن الحب الصادق هو عاطفة موقوفة على شخص واحد، والعلم بعده ضئيل في النظر، والناس دونه تافهون، على أن الحب الأفلاطوني - وهو لا يزال يختلف عن الحب الحقيقي - قد يجوز للرجل أو المرأة أن تستشعر عاطفة عميقة لأشخاص(43/10)
متعددين ولكن الحب الروحاني السماوي بين الرجل والمرأة لا يتقبل أكثر من شخص واحد يمنح العبادة كلها.
4 - توجد هناك جرثومة معينة تصيب أهل الشباب ولم يستطع العلماء المحدثون أن يضعوا لها اسماً، ولكن اسمها هو، مكروب الحب! وهذه الجرثومة كثيراً ما تلتقي بها في قاعات الرقص ودور الملهى وفي المصطاف والمتربع، والذين تصيبهم يقعون في الحب للنظرة الأولى، وهذا الضرب من الحب هو عرض من الأعراض المعدية المريضة التي يأتي بعدها في مستقبل الحياة الحب الحقيقي.
5 - لا مشاحة في أن زيجات الحب خير الزيجات، ولكن في هذه الأيام التي أصبحت لوازم الحياة غالية، وحاج العيش باهظة الثمن، قد أصبح الحب في كوخ أكثر نفقة من الحب في دار فسيحة منذ سنين عديدة مضت وعندي أن لا يحب الإنسان مطلقاً خير له من أن يحب لأجل المال وأنا لم أشهد في حياتي مثلاً واحداً من هذه الزيجات المالية دامت بعد وقوعها هانئة سعيدة مطلقاً.
6 - بلا ريب، إن أكبر نساء عصرنا هذا وأكبر بطلات التاريخ كن عادة نساء دميمات، ولكن اعلم أن الرجل المفكر الثابت الراجح اللب يعرف جيداً أن الجمال ليس إلا حلاوة جلد وعذوبة مظهر، وإن أجمل الأزهار، ما كان أشد سرعة إلى الذبول وأقصر نضرة، والرجال ذوو القلوب المليئة بالحب الحقيقي لا يحفلون بنظرات النساء الحسان، والرنوات الفاتنة من محاجرهن بل هم يأبهون باستعدادهن وطبائعهن وحلاوة خلقهن، وعذوبة حديثهن، وأما الذين يطلبون الوجه الجميل فكثيراً ما يهتدون إلى الخبث كميناً وراءه، ولا أريد بقولي هذا إن النساء الجميلات جميعاً شريرات خبيثات ولكن الجمال البهي الفاتن وا أسفاه كثيراً ما يكون باعثاً على الخفة والطيش وحب اللهو، وتحبباً وتدللاً لا يلبث الرجل أن يجد منه السآمة القاتلة.
7 - نعم، فقد كان لي عمة ذات بعل تزوجا وبقيا في ظل الزواج سبعة وخمسين عاماً، فإذا أقبل المساء جلسا حول الموقدة كعاشقين مفتونين بعضهما بالبعض، إذ يمسك الزوج بيد زوجه فيلاطفها بين راحتيه في رقة وعطف، وقد اعتادا أن يعلنا للناس أنهما لم يتشاجرا في حياتهما اللهم إلا لأمر تافه، لفتح نافذة، أو إغلاق شرفة، فإذا حان موعد النوم أخذ(43/11)
الزوج وقد بلغ التاسعة والثمانين يد زوجته الضامرة المهزولة فينحني إليها ويطبع فوق تلك اليد الذاوية قبلة حارة، وقد ماتا معاً في مسافة قصيرة، واستيقا إلى مضاجع الأبدية في خلال شهر واحد وقد ظلا حبيبن إلى أنفاسهما الأخيرة، هذه هي المشاهدة التي وقعت لي، ولا شك في أن العالم حافل بمئات منها.
ردود تمبل ثيرستون
وقال تمبل ثيرستون، وهو في الصف الأول من الروائيين:
1 - إن العنصر الأكبر في حياة المرأة هو تربية أطفالها والسبيل إلى خلق هذا العنصر الذي أرادته الطبيعة هو عواطفها وجوانحها، ولكن العنصر الأكبر في حياة الرجل هو عمله وواجباته فالحب لدى المرأة هو القوة المسيطرة على حياتها، هو أكبر من الوحي ومن الباعث والدافع، هو الغرض والغاية.
2 - فإذا كان الحب كما قلت هو من ناحية المرأة الغاية والغرض فعليها أن تظهر شيئاً منه لتتم لها منه غايتها، وكما أن الرجل لا يسترخص ولا يبخس عمله قيمته، كذلك المرأة لا تستخف بأعماق حبها.
3 - إذا كان القصد من هذا السؤال أتم ضروب الحب، إذ يتلاقى فيه الولاء بالعطف، والعاطفة بالثقة والاحترام، فأقول كلا.
4 - الحب لمجرد النظرة الأولى يجب أن يحدث غالباً، وكما أن بعض هزات منسجمة من الموسيقى تكسر في لحظة واحدة آنية من الزجاج إذ تتموج فيه تموجات النغمة فتهز الآنية فتلقيها من فوق رفها إلى الأرض، ترى بعض الطبائع تحس لمجرد الملامسة بقوي جاذبة تدفعها وتثير فيها الحب، وما يقال في ذلك عن الحب يقال عن العداوة والكره.
5 - قد يكون الزواج الخلاء من الحب نافعاً للأمة إذا كانت المرأة التي لا تحب زوجها تحب بلا أدنى ريب أطفالها وتحسن تأديبهم والقيام على رعيهم، ولكن ذلك يقصد به أن يكون الزواج عقداً من العقود الرسمية لا يعتبر الفريقان فيه إلا خداماً من خدمة الأمة، ولكن هذا ولا شك ليس المقصود من السؤال والزواج المعقود على الحب في نظر الفرد أرضى أنواع العلاقة، ومن هذا قامت الإصلاحات الجديدة في شرائع الطلاق.
6 - محاسن الوجه لا أهمية لها في الحب، وإنما هو الخلق الذي يسيطر على الحب(43/12)
الحقيقي فالمرأة القبيحة الوجه الحسناء الخلق لا تخلو من نظرات جميلة ومقتبل ناضر في عين الرجل الذي يحب منها خلقها.
7 - هذا السؤال لا يخلو من غموض فإذا كان يقصد به أيجوز أن يبقى الحب مدى حياة العاشقين فجوابه نعم، إذ يجوز أن يحب الرجل والمرأة بعضهما البعض جميع حياتهما ثم يعودان في ظل الشيخوخة إلى حب الأطفال وهو حب لا عاطفة فيه ولكن لا يخلو مع ذلك من تأثير نفساني، أما إذا كان القصد به بقاء الحب إلى الأبد فإن الكاتب لا يسعه إلا أن يظل صامتاً لعدم خبرته بهذا الأمر.
آراء الكاتبة ماي ادينجتون
وهنا نختم هذه الفتاوى الفلسفية بذكر آراء كاتبة مشهورة عارضت الفتاوى السابقة جميعاً في السؤال الأول، وجاءت برأي لا يزال صالحاً ولعله أقرب إلى الحق وأدنى إلى اليقين، ومن جميع هذه الآراء المتضاربة المتعارضة يستطيع القارئ أن يخرج منها الفكرة الصائبة والرأي الحصيف.
قالت:
1 - إن حب الرجل عامة أقوى من حب المرأة، لأن النساء عمليات في الحب شأنهن في كل شيء وهن يأخذن الحب عملاً من الأعمال ومأمورية من المأموريات ووقوع المرأة في إشراك الحب يختلف في جوهره عن وقوع الرجل في أحابيله إذ حب الرجل يعميه ويذهب بلبه، ويحجب قوة المنطق فيه، والحب الأعمى لقب احتكره الرجال دون النساء لأن حب المرأة لا يكاد يعميها أو يذهب بلبها والرجل يتناول الحب فيجري به في طباق الخيال، وهو مفتون بالخيالى ولوع بالكمالى أما المرأة ببصرها الناصع فأحب إلى نفسها الحقائق، والرجال أغلب عليهم الإذعان لعواطفهم وقليلات في النساء ذوات العواطف وكثيرون من الأزواج يحبون نساءهم، وقليلات منهن يحببن أزواجهن.
2 - لا ينبغي للمرأة أن تظهر حبها إلى الحد البعيد وتتجاوز الاعتدال وإنما قد تأمن المرأة إذا تظاهرت بالحب الشديد.
3 - نعم ولكن ليس الحب نفسه في درجته ومرتبته وليس في شدته وحدته ولأن يحب الإنسان شخصين في آن واحد معناه أن كل منهما يظفر بحب جزئي فقط وأن يحب لصفة(43/13)
من الصفات ليس غير لا أن يحب بجملة فضائله ومناقصه ومحاسنه ومقابحه فإن في الناس من لا يجلدون على أن يحبوا إلا الحب الجزئي، على حين ترى الكثيرين غير خليقين بأن يحبوا أكثر من حب جزئي.
4 - لا يقع ذلك كثيراً ولكنه يقع ولا ريب وهو عادة حب حقيقي متطاول الأجل متراخي الأمد ولعل في بغتته والفكرة الخيالية التي تمازجه ما يكسبه شذى وعبقاً وعذوبة لا تكاد تذهب أو تزول والناس رجالاً ونساءً يقعون مرضى في الخيال ولا دواء لهم منه.
5 - لا ريب في أن زيجات الحب أكثرها عسيلة، فإذا استمر الحب، كان الزواج فخر الزيجات، وأمجد القرآن، فإذا لم يعش الحب فسيبقى للزوجين ذكرى تلك السعادة الكبرى التي كانا ينعمان بها وستظل لديهما رابطة تضمهما وتشدهما، وخليق بكل إنسان أن يجعل مطمح بصره، وأمنية نفسه أن يجد حباً تاماً كاملاً، فإذا كان الزواج يخلو من تلك الروح فليس إلا عقداً صرفاً قد يسرق رجلاً وامرأة من أعز فرص الحياة وتجاريب العيش.
6 - بلا ريب فإن الجاذبية النسائية لا تزال سراً غامضاً من مبهمة الأسرار، وإن كان معروفاً من صاحبه - أي المرأة - وقد تكون المرأة الحسناء بلا جاذبية، ولا فتنة مطلقاً، وقد تروح الدميمة بالفتنة مفعمة وقد تكون آية الجاذبية وليس السبب في اجتذاب المرأة الرجل هو الجمال، بل إنه لذلك الشيء الغامض المستسر الذي لا نستطيع أن نصفه إلا بأنه هو ولا نعرفه، فإذا وقع هذا الشيء هو للمرأة الدميمة فلن يعرف أحبابها أنها دميمة، ولن تدعهن يعرفون ذلك عنها، وقد لا يعرف حقيقة ذلك إلا نساء أخريات.
7 - نعم، ولكن ذلك نادر، من ناحية المحب والمحبوب، والمرأة قد تظفر بحب ثابت من زوجها، إذا كانت فاتنة كثيرة الحيلة، وقد لا يظفر الرجل بهذا الحب منها ولا شك في أن الحب المتبادل الثابت المقيم هو أجمل شيء في هذه الأرض.(43/14)
الاشتراكية
تعريفها وأركانها
من الصعب أن يأتي الإنسان بتعريف موجز وشامل لجميع العناصر المكونة للشيء المراد تعريفه خصوصاً إذا كان هذا الشيء مبهماً غامض المعنى كالاشتراكية فإنها لا تزال إلى الآن مفككة الأوصال تتشكل بأي شكل يراد منها وتقبل أي تعريف يعطى لها ولذا اختلف الاقتصاديون في تعريفها اختلافاً بيناً وذهبوا فيها مذاهب شتى وقل أن تجد اثنين متفقين في تكييفها وتبيان معالمها وحدودها، فقد اقترحت جريدة الفيجارو في 5 فبراير سنة 1892 على قرائها أن يوافدوها بتعريف الاشتراكية وعينت المسيو دي مولان حكماً لفحص ما يرد لها من الأجوبة فورد عليها ما يربى على الستمائة تعريف، ولضيق المقال نضرب صفحاً عن هذا الخلاف ونكتفي بتعريف المسيو ديشان فإنه أقرب إلى الصواب.
قال المسيو ديشان: الاشتراكية هي إلغاء الملكية الفردية وجعلها ملكية اجتماعية طلباً للمساواة في مرافق الحياة ومراعاة لصالح الفرد وحب العدل.
ومن هذا التعريف يستنتج أن الاشتراكية تتكون من ثلاثة أركان وهي أولاً المساواة، ثانياً إلغاء الملكية الفردية والاستعاضة عنها بالملكية الاجتماعية، ثالثاً الحامل على هذا التغيير وهو مراعاة العدل وإيثار صالح الفرد على الجماعة.
يقول الاشتراكيون أن الأغنياء بتملكهم رؤوس الأموال قد تملكوا زمام الإنسانية وسخروها في خدمتهم وامتصوا دمها ولم يتركوا لها إلا ما يسد الرمق ويمكنها من مداومة خدمتها لهم، يريد الاشتراكيون المساواة بين الأفراد في مرافق الحياة ومصادر الرزق وذلك لينتفي الظلم بين الناس فلا يتخذ بعضهم بعضاً إرقاء يشغلهم ويسخرهم في توفير أسباب رفاهيته ويرهقهم تعباً ونصباً.
لا تعبأ الاشتراكية بالهيئة الاجتماعية ولا تهتم بسعادتها وإنما تهتم بسعادة الأفراد خصوصاً المعوزين والفقراء دون تمييز بينهم بخلاف الفردية فإنها وإن اهتمت بسعادة الفرد وتوفير أسباب هنائه إلا أن بغيتها الحقيقة هي تقوية الهيئة الاجتماعية وتثبيت أركانها، فسعادة الفرد لدى الفردية وسيلة أما لدى الاشتراكية فغاية، إن المساواة التي تنشدها الاشتراكية هي المساواة الحقيقية في الانتفاع بالثروة والاستفادة بمرافق الرزق لا المساواة أمام القانون فقط(43/15)
فهذه من شأن الأحزاب السياسية وهي مساواة اسمية لا حقيقية لها.
وليس من الاشتراكية كذلك محو الفروق الطبيعية التي قد توجد بين الأفراد ومحاولة جعل الناس سواء في القوي الجثمانية والعقلية والأدبية لاستحالة تحقيق هذه الرغبة، ولكن ماذا تفيد هذه الفروق وما عساها أن تأتي به إذا لم يكن لها أثر في الخارج ونتيجة ظاهرة في الحياة للمتفوقين من أبناء البشر الذين خصوا بموهبة سامية أو قوة جثمانية عظيمة، إن عدم الاعتداد بهذه الفروق في توزيع الأرزاق مدعاة لإزالتها ووسيلة لجعل الناس سواء في المدارك والقوى، ولكن هذه الغاية التي قد تؤدي إليها الاشتراكية ليست بالغاية المباشرة التي ينشدها الاشتراكيون إنما غايتهم هي هدم جميع الفروق الصناعية التي أوجدها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
ظهرت فكرة المساواة في الوجود من قرون عديدة وهي فكرة لذيذة تصبو إليها النفوس وترنو إليها الأنظار لجمالها الفتان، ولم تعدم الإنسانية في زمن ما أبطالاً يدعون الناس إلى الرفق بالفقراء والإحسان إليهم وإلى محاربة الفقر ومحو دائرته من الوجود وإشراك الناس جميعاً في الأموال بالتساوي، فأفلاطون كان يمقت الفروق الشاسعة التي توجد بين الأفراد بسبب الغنى والفقر وكان ينادي بضرورة محو هذه الفروق ومساواة المواطنين الأحرار في الانتفاع بالأموال، وهذه أفكار شبيهة بالاشتراكية استهوت عقول بعض العلماء فقالوا إن الاشتراكية مذهب قديم وإن أفلاطون هو المؤسس لها وهذا خطأ عظيم فإن أفلاطون لم يقترح المساواة بين الناس لأنه كان يرى في عدم المساواة ظلماً وإجحافاً شأن الاشتراكية وإنما لأنه كان يرى أن المساواة تكسب المدينة الراحة والسكينة وعلى الأخص تزيدها قوة واقتداراً.
فأفلاطون لا يعبأ بالفرد بل على العكس يضحيه في سبيل المدينة والاستزادة من قوتها.
وعلاوة على ذلك إن المساواة التي يطلبها أفلاطون قاصرة على طبقات مخصوصة لا تشمل جميع سكان المدينة ولا يتمتع بها غير الأحرار أما الأرقاء فلا حق لهم فيها ويجب أن يكونوا بمعزل عنها يعملون لتوفير أسباب الرخاء والرفاهية للأحرار بل كان أفلاطون يرى أن وجود الرق ضروري ولازم لسعادة المدينة، فالمساواة التي كان يطلبها أفلاطون مساواة أرستقراطية أما المساواة الاشتراكية فهي مساواة ديمقراطية يشترك فيها جميع(43/16)
الأفراد من كل الأمم والشعوب دون قيد ولا شرط.
إن لفظة الاشتراكية حديثة جداً وضعت حوال سنتي 1835 و 1836 ثم شاع استعمالها بعد ذلك، ولم يلتفت علماء ذلك العصر إلى الحالة الفكرية التي كان عليها العالم في قديم الزمان وغرتهم فكرة المساواة التي كانت تتردد على ألسنة الفلاسفة القدماء وظنوا أنها اشتراكية مع أنها ليست من الاشتراكية في شيء فإنها مساواة قاصرة على طبقة أو فئة مخصوصة كما سبق بيانه ولأن الحامل عليها هو حب النفع العام وتقليل الشقاء بقدر الإمكان وذلك لا لأن البؤس ظلم وإجحاف بل لأنه مؤلم للعواطف الشريفة: أما الاشتراكيون فإنهم يرون في عدم المساواة ظلماً وإجحافاً ويبغضون الأغنياء ويمقتونهم من كل جوارحهم فالمساواة التي كان يطلبها الفلاسفة القدماء هي مساواة هادئة وقاصرة على الأحرار لاقتسام الأرزاق فيما بينهم دون أن يكلفوا أنفسهم مؤنة العمل فإن العبيد كانوا هم المكلفين به وإذن فهي مساواة استهلاكية بخلاف الاشتراكية فإنها لا تنشد المساواة في الاستهلاك فقط وإنما تنشد المساواة في العمل أيضاً.
إن الاشتراكية مذهب عام لا يخص أمة دون أخرى بل يعطف على الجميع خصوصاً البؤساء والفقراء ورائده حب العدل والتغالي في خدمة الفرد.
وإذ ثبت أن المساواة الاشتراكية تشمل جميع الأفراد ولا تستثني منهم أحداً ظهر أن المسيحية بعيدة عن الاشتراكية وإن جمعيات الرهبان التي تأسست في القرون الوسطى لم تكن اشتراكية بالمعنى الحقيقي ولو أنها كانت مقامة على دعائم المساواة الحقة فإنها كانت قاصرة على أفرادها خاصة لا تتعدى إلى سواهم ولا تسعى إلى نشر المساواة بين الأفراد الآخرين ولا إلى قلب النظام الاقتصادي بل كانت عائشة بمعزل عن العالم تزرع أرضها على الشيوع وتقتات منها على الشيوع لا يهمها من الحياة الاقتصادية الخارجية شيء.
نعم كان السيد المسيح عليه السلام يعطف على الفقراء ويمقت الأغنياء ويحتقر المال ولا يقبل إنساناً ضمن أتباعه إلا إذا تجرد من أمواله وأملاكه وطرح عن كاهله شواغل الدنيا، ولكنه مع هذا لم يكن اشتراكياً فليس من رأيه عدم التداخل في شؤون الحكومة بدليل قوله أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ولم نر من بين أقواله ما يدعو إلى المساواة بين البشر.
ومما لا شك فيه أن الدين الإسلامي مشفق بالفقراء رؤوف بالمعوزين لم يدخر وسعاً في(43/17)
حث المؤمنين على الصدقة وتحبيب الإحسان إلى قلوبهم ولم يترك الفقراء تحت رحمة الأغنياء إن شاءوا أعطوا وإن شاءوا منعوا، بل جعل له نصيباً من الأموال ففرض الزكاة وخصهم بجزء منها حتى لا يكونوا هدفاً للموت جوعاً وأجاز الرق ولم يحرمه تحريماً باتاً ولكنه يمقته ويعطف على الأرقاء ويرثي لحالهم ويدعو إلى معاملتهم بالرفق والي عتقهم حتى جعل العتق كفارة عن الذنوب غير أنه أبقى للأغنياء أموالهم وأملاكهم وأباح لهم التمتع بها ولم يلغ الملكية ولم يشرك الفقراء في أموال الأغنياء وإنما أشركهم في الغلة فقط ولكن بدون مساواة فإن الزكاة مهما بلغت لا تبلغ النصف وجملة القول إن الدين الإسلامي دين غير اشتراكي بالمعنى الحقيقي أيضاً
عبده البرقوقي(43/18)
أبطال الحرب
الجنرال فوش
قائد جيوش الحلفاء
لا تزال كل أمة مسهمة في هذه الحرب تضحك ساخرة مستخفة من قواد عدوتها ورجالات الحرب فيها، والشعوب المحاربة لا تفتأ منذ قامت هذه الحرب تتقاتل في حلبات الصحف قتالاً أعنف وأشد عداء من قتالها في حومة الوغى، وقد تعايبت أمم الحرب الحاضرة، وتنادرت كل أمة على قواد بالأحرى، وراحت تصور كل قائد صوراً ماجنة، وتخرجه في أمتها في مظهر مضحك، وتستخف بقوته وكفاءته، ولكن الرجل الذي سلم من ألعاب في أرض عدوه، وخلا من الذام في المملكة التي نصب لقتاها، ولا تزال صحف الألمان تقول عنه قولاً كريماً، وتقدره حق قدره حتى قالت عنه كبريات صحفهم: ذلكم رجل خليق بأن يجالد بسيفه أطول سيوفنا نجاداً، وأحد ظباة قوادنا غرباً، هو الجنرال فوش قائد جيوش الحلفاء اليوم في سوح الغرب.
هذا هو الرجل في صورته التي صورها أعداؤه، وأكبر مميزات هذا القائد هدوءه الذي لا يعكره شيء وسكونه الذي لا يمازجه اضطراب، وقد خلا خلقه من تلك البساطة التي كانت دأب جوفر وشيمة من شيمه، وتلك الطبيعة اللينة العريكة التي كانت لسلفه، ولكنه رجل صامت حفيظ على كلمه وإشاراته وأفعاله، وإنه ليجمد على رأيه، في برود العظماء وسكون جأشهم وهو قليل الكلام كثير الفعل.
وقد صوره أحد الضباط الذين يعملون تحت إمرته فقال: إنه لرجل ما أن يزال يبدو فتياً في عنفوان الشباب وحدة الفتيان، وهو خفيف اللحم، رطيب الغصن، بسيط المظهر، ذو رأس فخم أشم متطاول.
وأشد ما يدهش الرائي منه نظراته الجلية النافذة الذكية العميقة اللامعة، فإن عينيه الغريبتين تضيئان جميع معارف الوجه، ولولا عيناه لبدا الرجل مغضباً مقطباً وهو يتجلى في ذلك الشارب الغزير الذي يمتد على صدغيه فإذا راح يتحدث، رأيت ضوءاً في محياه، وبريقاً غريباً يضيء وجهه، على أن وجهه الساكن لا يزال ينم عن حزن عميق لأنه افتدي في سبيل فرنسا ابنه وزوج ابنته، ولا يدري أحد سر هذا الرجل إذ لا يمضي يوم واحد حتى(43/19)
يرى الضباط هذا القائد العظيم قد انطلق إلى الكنيسة فقضي فيها تضع لحظات في عبادة صامتة وتفكير وقد تكون الكنيسة طللا مهيلاً من أثر قنابل العدو، أو دمناً عافية، فلا يحول ذلك بينه وبين هذه العبادة التي اعتادها، وإنه ليمضي وحده ولا يخبر أحداً من ضباطه بذهابه، ولا تحسب ذلك منه مظهراً من مظاهر الورع والتدين، وإنما هي حاجة إلى الاختلاء كل يوم بضع دقائق بنفسه والانتباذ ناحية بعيدة عن متاعب حياته وضوضاء عمله، وليس ذلك تمثيلاً منه وعملاً مسرحياً كما يفعل الملوك والقواد، وإنما هو أثر بسيط من التقى النقي الخالص يؤديه رجل بسيط سهل الخلق.
وهو رجل جنوح إلى العزلة، ولوع بالاختفاء، متواضع عطوف على مرؤوسيه وعماله وهو أكره الناس لكسر خواطر الصغار ورفض سؤال السائلين، ولكنه لا يسمح لنفسه أن يعرض على الجماهير، ويرفض الرفض كله أن يطلب منه أن يصور صوراً فوتوغرافية أو يظهر في لوحات الصور المتحركة السينماتوغراف فلا يدع قصة تلك الصور يصورونه وهو يصافح بيده أيدي الفلاحين أو متقبلاً باقات الأزهار من أيدي بيضات الخدور في القرى، وعذارى الريف، أو محياً السلام العسكري في الاستعراض، وفي زيه يتجنب ما يجعله مترفاً أنيق الملبس، والأثواب العسكرية الزاهية الألوان المزركشات بالذهب عدوته والبغيضة إليه، بل دأبه أن يرتدي بثوب بسيط لا ينماز عن ثوب الجندي بشيء حتى ليخال إليك إذا وقفت منه على شرف إنك ترائي عسكرياً في الصفوف.
ويقول الذي اختلطوا به أنه لا يكاد ينام أو يعقد الكرى جفنيه، إذ ليس لديه وقت للراحة.
ولقد مكث يدير معركة المارن خمسة أيام وليالي خمساً يقظاً وأذنه مسندة إلى سماعة التلفون فيلقي ويخابر قواده وأعوانه العديدين.
ومن مائدته والألوان التي تقدم إليه في مواقيت الطعام تعرف طراز الحياة التي يعيشها فهي تعيينات رجل عسكري تلتهم بسرعة، وفي صمت، وإن له لشهية قوية بالنظر إلى أنه رجل عمل ما تفتر له همة، صفحة لحم، وطبق خضر وفنجان من القهوة، هي قائمة طعامه وشرابه في اليوم.
وقد اضطر مرة واحدة في العمر أن ينحرف عن النظام الذي وضعه لنفسه فدعا مكاتبي بعض كبريات صحف فرنسا إلى الحضور إليه في مكتبه، وكان يقيم في دار قديمة، قد أفرد(43/20)
له فيها حجرة بسيطة الأثاث، أشبه شيء بحجرات المتوسطي الحال وقد كان يخيل إلى هؤلاء إذ أقبلوا على الحجرة وأوشكوا على المثول بين يدي ذلكم القائد أنهم سيرونه جالساً إلى مكتب حافل بالخرائط والمصورات والمذكرات والأوراق المتراكمة، ولكنهم لم يلبثوا أن عجبوا العجب كله إذ ألفوه جالساً أمام مكتب ليس عليه إلا دواة وقلب وأداة التلفون، وكذلك فوق ذلك المكتب يضطرب مستقبل الإنسانية وفيها تخفق حياة العالمين، ولا خرائط في الحجرة ولا زينات غير مصور جغرافي عظيم قد أطل من ركن من أركانها.
وكان والده عام مولده في السادسة والسبعين من عمره وكان كاتم سر حاكم المدينة وهي بلد صغير من فرنسا يدعى تاربيس فتلقى فوش في صغره العلم في مدارس سانت اتيين، وأما والدته فابنة ضابط أدرك عهد نابوليون وكان فخر العشيرة وجعل فردينان فوش، بطل الحرب اليوم يلقن الأقاصيص البديعة الحربية عن جده، وألوان الشهامة التي بدت منه في أيام البلاء، ومعرك الفخار.
وأتم فوش العلم في ميتز، وتعلم فيها حب اللورين، واغتذى من الحمية الأهلية فيها وكان يوم إعلان حرب السبعين يعد نفسه لدخول الامتحان النهائي في المدرسة.
وهو من أكبر المعجبين بنابليون، وعنه أخذ كثيراً من أفانين الحرب، ودرس جميع خططه، ووعي جميع مبادئه الحربية، ولذلك عين عام 1896 أستاذ الفنون العسكرية وخطط الحرب في المدرسة الحربية في فرنسا ووضع كتاباً قيماً في ذلك كان له من ورائه الذكر الأكبر.
وغريب أن يكون فوش رجلاً من أبطال السيف، وقائداً من حملة القلم، فإن الكتاب الذي عده الناس حجة في فنون الحرب، وأكبروه إلى مصاف الثقة الفنية، كتابه الذي وضعه قبل عام 1904 وأسماه مبادئ الحرب وتنبأ فيه بالأحداث التي نشهد اليوم أهوالها ومناكرها.
والقائد فوش بعيد الآن عن الأنظار، قلما يراه جيوشه، فإن عمله العظيم الذي لا يزال أكبر من القوة الإنسانية يمسكه بمكتبه، ويشده إلى مركز قيادته، وهو في ذلك على نقيض القائد جوفر، فقد كان جوفر لا يفتأ يروح ويغدو ويجوب وينتقل، بل إذا دفعه الأمر إلى التنقل بين جنده للتأكد من أمره، والتثبت من مكانه، فلا يكاد يقف، ولا يكاد يتمهل، بل يمضي مسرعاً مخفاً بلا تردد ولا ونى، ويكره أن تنتقل آراؤه من فم إلى فم، في صفوف عسكره،(43/21)
ولكنه لا يستطيع أن يمسكهم عن الكلام، بل ما فتئت كلماته حديث الجند يتذاكرونه، وقصص الجيش يتبادلونه، ومنها يستمدون الصبر على البلاء، والاطمئنان إلى الاستماتة، والرضى بالمكاره، إذ يقولون نحنفي أمن وسلام ما دام فوش معنا!.
ونحن ننقل إلى الناس كلمة بليغة مبكية من الكلم الروائع التي فاه بها منذ ارتفع إلى قيادة الجيوش.
قال أواه إنكم لا تعرفون الألم الذي يعانيه والد إذ تنزل الأحزان بساحته إلى الأبد، لقد استشهد فتاي، وأصبحت إحدى بناتي أرمل، وسأعود إلى داري التي تركتها مفعمة بالهناء في يوم صائف جميل فأجدها تضج بنشيج أطفال يتامى لم يعرفوا أباهم، ولم يشهدوا وجهه، لقد أدركت اليوم فخر حياتي وأراني كنت خادماً أميناً لا طماعية لنفسه في غير رضي ربه، ولست وحدي في هذا المصاب، بل هناك ألوف وألوف من الآباء والشيوخ فقدوا جميع أحبابهم وفلذات الأكباد التي كانت أمنياتهم، ولكن لا حق لنا نملك في الشفقة، فإن مملكتنا بل إن وطننا المحبوب هو أهم من أكبادنا، وأكبر خطراً من أفراخنا، فلنتقبل هذه التضحية، ولنرتض الأسى صابرين، إن الإنسانية كلها في خطر، فلتنتصر الحرية أولاً، وبعد ذلك لنا أن نبكي، وندع الفيض للعبرات.(43/22)
مطالعات
الشنقيطي
في أقصى جنوب مراكش - بينها وبين بلاد السنغال - في بهرة صحراء خرساء مقفرة تكاد تأكل الشمس فيها حتى ظلها - تقوم بلاد عجيب أمرها للغاية التي لا وراءها فقد كان المنتظر لمثل هذه البلاد أن يكون قطانها قوماً موحشين بعيدين عن العلم واللغة والأدب وسائر ما يتصل بذلك مما تستتبعه الحضارة والتمدن، وينكره التبدي والتوحش، بيد أن أمر هاتيك البلاد على العكس من ذلك، فهي اليوم كأنها البصرة أو الكوفة بالأمس، أو كأنها جامعة عربية قد انتبذت مكاناً قصياً وتغلغلت في أحشاء الصحراء خشية أن تعدي طلابها عجمة المتحضرين.
- شنقيط وما أدراك ما شنقيط؟ هي ما علمت، هي التي أهدت إلينا أصمعي هذا العصر المأسوف عليه محمد محمود بن التلاميد التركزي المعروف بالشنقيطي، ونحن فقد رأينا هذا الشنقيطي وخالطناه، وقرأنا عليه بإيعاز من المرحوم الشيخ محمد عبده المعلقات السبع وكتاب الكامل للمبرد، ووقفنا منه ومن كثير ممن وقف على جلية أمره على شيء من نوادره وغرائب أطواره وشواذ أخلاقه وما إلى ذلك مما يصح أن يتحف به قراء البيان.
كان هذا الشنقيطي رحمه الله نادرة الفلك في الحفظ والاستظهار، وكان آية في اللغة والحديث وعلم الأنساب، وتلك شنشنة الشنقيطيين جميعاً، ومن ثم كانت القوة المفكرة في أكثرهم مشلولة، وهي سنة طبيعية معقولة، فكلما كانت الحافظة قوية يقضي حاضره، كانت المفكرة ضعيفة مسلوبة نائمة، وهو قانون التعويض يعطي ويمنع، ويقوى من هنا ويضعف من هناك.
انفصل الشيخ من بلاده بادئ ذي بدء وقصد إلى مكة المكرمة واتصل بالشريف عبد الله أمير مكة وقتئذ فأكرمه وقربه إليه ولبث عنده زماناً وكان يحرش بينه وبين علماء مكة حتى وجدوا عليه وصارحوه العداء والشر فلم يطق الإقامة هناك فعمد إلى المدينة المنورة فوقع بينه وبين علمائها كذلك ما سبب تألبهم عليه حتى أخرجوه منها، وكان الرجل لبياض سريرته ونقاء طويته ولأن فطرته الطيبة لم يشبها شيء من المكر والخداع والمداهنة كان آية فيما يسميه المهذبون الشجاعة الأدبية وينعته السواد الأعظم من الناس بالحمق والسفه(43/23)
وسوء الخلق فكان لذلك لا يخشى في الحق ذاماً وكان يقول للمخطئ أنت مخطئ وللكذاب أنت كذاب تصريحاً لا تعريضاً ومن هنا لم يستقر على حال من القلق وكلما حل مكاناً ضاق به أهلوه من العلماء وشغبوا عليه وناوأوه وسخروا منه اللهم إلا من كان منهم لا يعرف من نفسه نقصاً يخشى اشتهاره أو من كان يعرف أن ليس عالم إلا وهناك من هو أعلم منه فلا يستحي أن يفيد من هذا الرجل علمه مثل المأسوف عليه الشيخ محمد عبده الذي كان من شأنه مع الشنقيطي ما سيمر بك.
فلما نبت به المدينة وأهلوها ولم ير المقام صالحاً ولى وجهه شطر القسطنطينية وكان ذلك أزمان السلطان عبد الحميد فاتفق وهو هناك إن لفت بعضهم عبد الحميد إلى الكتب العربية الموجودة في إسبانيا وأشاروا عليه أن يوفد الشنقيطي إلى تلك البلاد لأنه خير من ينهض بهذه المهمة فأرسل إليه السلطان أن يتأهب للسفر فلم يقبل ذلك إلا على شريطة أن يعزل ناظر وقف الشناقطة في المدينة المنورة وأن يعد له طباخاً ومؤذناً وأن يكافئه أحسن مكافأة بعد أن يرجع، وقد أشار الشنقيطي إلى ذلك في قصيدته المسماة هذا حظ جد من المبناه، وبراءة محمد محمود من عاب الجهل الذي عبناه بقوله:
فكان من السلطان أمرك بعد ما ... شرطت أموراً لم تصادف أولي عزم
ثم إن السلطان أرسله في وابور خاص وأعطاه مؤذناً وطباخاً وبعث معه أحد أدباء تونس فذهب إلى إسبانيا وكتب أسماء الكتب العربية النادرة التي لا توجد في القسطنطينية ثم رجع فتقدم إليه السلطان بأن يعرض عليه الأوراق التي عنده فتأبى حتى يأخذ مكافأته فأرسل إليه السلطان أن مكافأته ستصرف إليه فأصر على إبائه فما كان من السلطان إلا أن غضب منه وأهمل شأنه وشأن أوراقه فصادف إذ ذاك أن أوسكار ملك السويد والنرويج طلب إلى السلطان عبد الحميد أن يوفد إليه وفداً من علماء العربية يقف منهم على أشياء تتعلق بالقرآن الكريم وأشياء من الشعر العربي وأن يكون من هذا الوفد الشيخ الشنقيطي فأرسل السلطان إليه أن يتهيأ للسفر فقال حتى تعطوني مكافأتي فطار الغضب في رأس السلطان وأمر أن يزايل القسطنطينية في التو واللحظة.
وبعد أن فارق الاستانة قدم إلى مصر ونزل على السيد توفيق البكري نقيب الإشراف والكاتب الشاعر المشهور فأكرم السيد وفادته واستأجر له ولجاريته داراً ووظف له وظيفة(43/24)
ماهية شهرية قدرها خمسة جنيهات، فمن نوادره مع السيد البكري أن السيد طبع بعد اتصال الشنقيطي به بمديدة كتابه شرح أواجيز العرب فأقام الشنقيطي الدنيا وأقعدها وادعى أن البكري سرق هذا الشرح منه ونسبه إلى نفسه زوراً ولجأ آخر الأمر إلى المحاكم فلم تحكم له ونحن فلا نظن إلا صدقه - ومن نوادره أنه لما قدم إلى القاهرة ونزل على السيد البكري وكان يوم عيد فجاء إلى السيد البكري جماعة من العلماء يعيدون عليه وفيهم المرحوم الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر إذ ذاك والشيخ عبد القادر الرافعي فلما اطمأن بهم المجلس أراد الشيخ الرافعي أن يداعبه أو يحرش بينه وبين الشيخ سليم وكان يعرفه من قبل - فقال: لقد تنصرت بعدنا يا مولانا إذ تلبس الخف الأسود، فقال الشيخ البشري أجمع على كراهة لبس الخف الأسود، فقال الشنقيطي: ثبت في الصحيح أن النجاشي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خفين ومسح عليهما فما لونهما فقال البشري لا أدري فقال الشنقيطي: عجباً لك تدعى الإجماع ثم تقول لا أدري فسكت الجمع وكان في المجلس أحد الأفندية فقال للشنقيطي أفدنا إذن يا مولانا عن لون الخفين المذكورين فقال له سأعلمه للعوام فتلقوه من هناك، وعلى ذلك انفض المجلس، ثم أراهم الشيخ الشنقيطي بعد ذلك كتاب الشمائل وأن الخفين كانا أسودين فلما بلغ ذلك الشيخ البشري قال إن في رواته ضعيفين فهو غير مقبول ووضع في ذلك رسالة فلما اتصل ذلك بالشنقيطي قال ما معناه: إن الضعيف لا يرد إلا بما هو أصح منه والشيخ البشري أضعف منهما.
ولعل القراء قد سمعوا بمسألة عمر وإن النجاة جميعاً على أن عمر ممنوعة من الصرف فجاء الشنقيطي وخطأهم جميعاً وذهب إلى أن عمر مصروفة وفي ذلك كلام يطول نرجئه إلى فرصة أخرى كما يجمل أن نرجئ الآن الشطر الآخر من الكلام على الشنقيطي وماذا أفادته اللغة العربية والناطقون بالضاد من علم هذا الرجل وسائر نوادره إلى عدد آخر قادم إن شاء الله.
كلمات حكيمة
قال عمرو بن العاص: إذا أنا أفشيت سري إلى صديق فأذاعه فهو في حل فقيل له وكيف ذاك؟ قال: أنا كنت أحق بصيانته، ويعزي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه - وكان(43/25)
يكثر إنشاده - فقائل يقول هو له وآخر يقول أنه كان يتمثل به:
فلا تفشين سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحاً
وإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً
وأسر معاوية رضي الله عنه إلى عثمان بن عنبسه بن أبي سفيان حديثاً، قال عثمان فجئت إلى أبي فقلت أن أمير المؤمنين أسر إلى حديثاً أأحدثك به؟ قال: لا، إنه من كتم حديثه كان الخيار إليه، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكاً بعد أن كنت مالكاً، فقلت له: أو يدخل هذا بين الرجل وأبيه؟ فقال لا ولكني أكره أن تذلل لسانك بإفشاء السر، قال فرجعت إلى معاوية فذكرت ذلك له، فقال معاوية: أعتقك أخي من رق الخطأ، ومن قولهم أصبر الناس من صبر على كتمان سره ولم يبده لصديقه فيوشك أن يصير عدواً فيذيعه وقال بعض الشعراء:
ولي صاحب سري المكتم عنده ... مخاريق نيران بليل تحرق
عطفت على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمان لا تتتخرق
فمن تكن الأسرار تطفو بصدره ... فأسرار صدري بالأحاديث تغرق
وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً ... من القول ما قال الأريب الموفق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق
وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله: إن هذا الرجل - يعني علياً - قد اختصك من دون أصحاب رسول الله فاحفظ عني ثلاثاً، لا يجربن عليك كذباً ولا تفشين له سراً ولا تغتب عنده أحداً: فقيل لابن عباس كل واحدة منهن خير من ألف دينار فقال كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف، وقال المهلب بن أبي صفرة: أدنى أخلاق الشريف كتمان السر وأعلى أخلاقه نسيان ما أسر إليه وقال معاوية للأحنف بن قيس في شيء بلغه عنه فأنكر ذلك الأحنف فقال له معاوية بلغني عنك الثقة فقال الأحنف يا أمير المؤمنين إن الثقة لا يبلغ وفي ضد هذا كله يقول بعض الشعراء:
لا أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي
وإن أحق الناس بالسخف لامروء ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب
فما رأى القراء في هذا الشاعر الذي يحق لنا أن نشكره إذ أفهمنا أن الشعراء ومن إليهم من(43/26)
ذوي العواطف المضطربة والأعصاب المريضة لا يطيقون كتمان الأسرار فينبغي لذلك أن لا يفشى إليهم سر.
هذا ومما يستحسن أن يذكر هنا وإن لم يكن من هذا الباب قول القائل:
كتمت الهوى حتى إذا نطقت به ... بوادر من دمع تسيل على خدي
وشاع الذي أضمرت من غير منطق ... كان ضمير القلب يرشح من جلدي
الحسن البصري والخليل بن أحمد
يعجبني من زهاد سلفنا الصالح الأولين نفر تعمر سيرتهم وأحوالهم صدري ويملأ كلامهم أذني صواباً وحكمة سماوية تنحدر من الأذن إلى صفحة القلب فينبثق لها نور يجلو ظلام البصيرة - من هؤلاء النفر رجلان كانا المثل الأعلى للعقل والورع واحتقار الدنيا ثم للبيان الإلهي الذي كانه وحي يوحى، هما الحسن البصري والخليل بن أحمد، أما الحسن البصري فكان من جلة التابعين الذين أدركوا أصحاب رسول الله وساداتهم، وهو من أبناء الموالي إذ كان أبوه يسار مولى زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وأمه خيرة مولاه أم سلمة زوج النبي قالوا وربما كانت تغيب أمه في حاجة فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فيدر عليها ثديها فيشرب منه فيرون أن تلك الحكمة من بركة ذلك، قال أبو عمرو بن العلاء ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج بن يوسف الثقفي فقيل له فأيهما كان أفصح قال الحسن - ونشأ الحسن بوادي القرى وكان أجمل أهل البصرة حكي الأصمعي عن أبيه قال: ما رأيت أعرض زنداً من الحسن، كان عرضه شبراً، فمن كلامه رضي الله عنه: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه إلا الموت: وله: كان الناس ورقاً لا شوك فيه وهم اليوم شوك لا ورق فيه: ورأى يوماً رجلاً وسيماً حسن الهيئة فسأل عنه فقيل إنه يتنادر للملوك يضحكهم بمجونه ونوادره ويحبونه، فقال لله أبوه ما رأيت أحداً طلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا - وكانت أمه تقص للناس ودخل عليها يوماً وفي يدها كراثة تأكلها فقال لها يا أماه ألقي هذه البقلة الخبيثة من يدك فقالت يا بني إنك شيخ قد كبرت وخرفت فقال يا أماه أينا أكبر.
وإذا أنت أردت استقصاء كلمات هذا الرجل العاقل الحكيم فعليك مطولات كتب الأدب والتاريخ ونحن إنما نأخذ من كل شيء طرفاً.(43/27)
وأما الخليل بن أحمد فأنت تعلم أنه الذي وضع علم العروض وأخرجه إلى الوجود، قال حمزة بن الحسن الأصبهاني، وبعد فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب أصول من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه ولا على مثال تقدمه احتذاه وإنما اخترعه من ممر له بالصفارين من وقع مطرقة على طست ليس فيهما حجة ولا بيان يفسران غير جوهرهما، فلو كانت أيامه قديمة، ورسومه بعيدة، لشك فيه بعض الأمم لصنعته ما لم يصنعه أحد منذ خلق الله الدنيا من اختراعه العلم الذي قدمت ذكره ومن تأسيسه بناء كتاب العين الذي يحصر لغة أمة من الأمم قاطبة ثم من إمداده سيبويه من علم النحو بما صنف منه كتابه الذي هو زينة لدولة الإسلام: انتهى كلام حمزة - وليس هذا الذي نقصد إليه وإنما الذي نعجب به من هذا الإمام عقله وتقاه وزهده في حطام الدنيا، قال تلميذه النضر بن شميل: أقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال، ولقد سمعته يقول: إني لأغلق على بابي فما يجاوزه همي: وكان يقول أكمل ما يكون الإنسان عقلاً وذهناً إذا بلغ أربعين سنة ثم يتغير وينقص إذا بلغ ثلاثاً وستين، وأصفى ما يكون ذهن الإنسان في وقت السحر - واجتمع الخليل وعبد الله بن المقفع ليلة يتحدثان إلى الغداة فلما تفرقا قيل للخليل كيف رأيت ابن المقفع فقال رأيت رجلاً علمه أكثر من عقله وقيل لابن المقفع كيف رأيت الخليل فقال رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه - وكان له ولد متجلف فدخل على أبيه يوماً فوجده يقطع بيت شعر بأوزان العروض فخرج إلى الناس وقال إن أبي قد جن فدخلوا عليه وأخبروه بما قال ابنه فقال مخاطباً له:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
وكان يتردد إليه شخص يتعلم العروض وكان بعيد الفهم فأقام مدة ولم يعلق على خاطره شيء منه، قال الخليل فقلت له يوماً قطع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته ثم نهض ولم يعد يجيء إلي، فعجبت من فطنته لما قصدته من البيت مع بعد فهمه - وكان رحمه الله كثيراً ما ينشد هذا البيت:(43/28)
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال(43/29)
قتل الأطفال
يعلم الناس أن العرب في جاهليتهم الأولى كانوا يئدون البنات، ويقتلون البنين، خوفاً من عار يصيب شرف العشيرة من فتياتها، وخشية إملاق من تكاثر فتية العشيرة وغلمانها، إذ كان الرزق في الصحراء شاقاً على أهلها، وكان الطعام لا يظفر به إلا بشق النفس، وتهالك الروح، وكان الطعام لا ينال إلا قسراً، والأكل لا يقع للفم إلا انتهاباً، فخشي القوم أن تجوع بطون الجميع، فآثروا أن يقضوا على أنفس القليل، ليعيش الكثير، وقد يكون في تلك العادة الجاهلية روح من الوحشية والقسوة، ولكنه لا يزال بعد نظاماً اجتماعياً، وتنفيساً للحياة من أن تخنق فينقرض الأهل، ولا يبقى طفل يوأد، ولا وليد يخنق، ولكنا لا نستطيع أن نرتضي ذلك النظام، لأن الرحمة مادة العيش، ولزام الشرائع، ونحن يهون علينا أن نصاب في كثير من فروع الحياة من وراء الرحمة إذ نستخدمها في مواطن غير مواطنها، وتسلم الرحمة من الأذى فتعيش بجانبنا.
ولا يظن القراء أن عادة قتل الطفل والصبية، إناثاً وذكراناً، قد انقرضت إذ بادت الجاهلية الأولى وأن العرب هم واضعو ذلك النظام الخشن وحدهم، وأن الشمس اليوم تطالع العالم فلا تشرف على والد يغيب أصابعه في عنق وليده وتغيب عن الدنيا وتنيب عنها أخاها القمر فلا يدرك إما تخنق طفلتها وهي في نشيجها مفحمة من البكاء، بل لا تزال تلك العادة شائعة في كثير من أقطار الدنيا وبلاد الله، وفي أقاليم لا يعز فيها الطعام، وتخوم سرية بالغذاء وخبأ الأرض والسماوات ففي قبائل الأسكيمو الغربيين يقتل الأطفال لا خشية مسغبة أهلهم وإنما يخنق الضعفاء منهم والمشوهون، ولا يسمح للولدان التوائم بالحياة، لأنهم يعتقدون أن الشؤم واقع بمولدهم، وأن النحس ملم بخروجهم إلى نور الشمس وفي قبائل تسمى الإيبونز في أمريكا الجنوبية يقتلون الأطفال الذكور أكثر من قتلهم الإناث، فإذا أبقوا يوماً على طفل منهم، لم يلبثوا أن يبيعوه ويستبدلوا به زوجة، وأما الفتاة فغالية الثمن سامية القيمة.
وقد أرجع العلماء الكبار مثل هربرت سبنسر ودارون ووستر نمارك وماك لينان عادة قتل الطفل إلى أربعة بواعث، نحن باسطوها للقراء.
فالباعث الأول ثورة غاضبة في النفس وسورة حادة تغذوها الوحشية فقد ذكر دارون أن الرجل في جزيرة تيارا دل فيوجو ومعناها في الإسبانية أرض النار وهي تلك الجزيرة(43/30)
المترامية على سفح قارة أمريكا الجنوبية، يثب إلى طفله فيفدخ جمجمته، لأنه قلب سلة السمك، وفي أستراليا إذ يرى الوالد ضبيه مريضاً يقتله فيضع لحمه فوق النار فيعده شواء شهياً لمائدة الغذاء، وفي بلدان من بلدان أفريقيا اعتاد الصائدون أن يضعوا أطفالهم في حفر الأسد ليغروا الأسد على الوقوع فيها والارتطام في قاعها.
والباعث الثاني هو تنازع البقاء ففي بولينزيا إذا أجدبت الأرض وحل المحل وضع السكان ضريبة من اللحم الآدمي يقدم من كل أسرة من أسر البلد فلا يختارون إلا جيد تلك اللحمان، وهو لحم الأوزي أي لحوم الأطفال، وفي جزر واي هاي واي يخنقون الأطفال أو يئدونهم بعد الطفل الرابع، لأنهم لا يستطيعون أن يحتملوا أكثر من أربعة أطفال للمرأة وبين القبائل الصائدة والعشائر الحربية التي دأبها الحرب والقتل، يرى الرجال أن النساء لا يستطعن أن يستخدمن كدواب للحمل كما هي في الجماعات الزراعية إذ يعتقدون أن الفتيات قد يقعن في إشراك فتية القبيلة المعادية لهم، ولذلك يقتلون البنات في طفولتهن على أن الدافع الذي كان يدفع جاهلية العرب إلى وأد البنات لا يزال يغري قبائل من الهنود بذلك القتل وتلك سنة فاشية في راجبوتا وغيرها من البطون والعشائر ففي الطبقة النبيلة، وبين أشراف رجبوتا يعتقدون أن من العار الأكبر أن تظل الفتاة بلا زواج وأنه لا يجوز للعذراء أن تتزوج من دونها في طبقتها ومركزها الاجتماعي، ثم لا يزال زواج البنات أمراً غالياً باهظاً يستنفد ثروة والدها، إذ قد يكلف زواج البنت والدها الراجا ما يربي على مائة ألف جنيه فلاجتناب كل ذلك وللتفادي من هذه الأداة جعل كل رجل يقتل نسبة محفوظة من بناته.
والباعث الرابع أن يكون سبباً من الأسباب الاجتماعية أو شرعة من الشرائع السياسية فقد كان الأطفال في اسبارطة وفي كثير من بلاد الرومان القدماء يقتلون بأمر الحكومة إذا كانوا ضعفاء أو مشوهين.
وقد كان أرسطو وأفلاطون يمتدحون تلك الشرعة ويمجدونها ويرون سدادها ورجاحتها، وإن كان الناس اليوم يعيبون على الفيلسوف نيتشه أن خرج إليهم بذلك المبدأ الذي كان أبوه أرسطو وهو سيد فلاسفة الأرض يحترمه ويؤمن بصلاحه.
على أن جريمة قتل الأطفال ليست سيئة تشين أهل الممالك البعيدة عن تخوم المدينة، بل لا تزال شائعة في أهل الحضارة، ومدنية القرن العشرين، وكم نسمع عن أطفال وجدوا(43/31)
طريحين في عرصات الطرق أو مخنوقين وملقاة جثثهم في ركن من أركان الدور والحوانيت، وهي كثيراً ما ترجع إلى الجنون أو الكراهة الشديدة التي لا موجب لها للطفل أو للزنا مخافة العار الذي يصيب الأم من مولد طفلها.(43/32)
التصوير المضحك
والنقد العجيب
توماس كارلايل من كتاب انجلترا المعدودين، وأعلام فلاسفتهم المخلدين، كاتب غريب الأسلوب يهز الفؤاد هزاً وينقل روح القارئ من عالم الأرض إلى عالم السماء، وهو فيلسوف ولوع بالعظمة، مفتون بالمثل الأعلى يحزنه أن يسف إلى الأرض ولا يرضيه أن يعيش إلا عيش الملائكة ولعل كتابه الأبطال والبطولة أول كتاب في نوعه، وأحر مؤلف أسلوباً وفلسفة وخواطر.
على أن كارلايل كان لا يزال غريب الأطوار، متقلب الخلق، لا يرضيه أحد من الناس، ولا يعترف بوجود أحد، ولم يفلت كاتب ولا شاعر من شعراء زمنه وكتاب جيله، ولم ينج الكتاب الذين سبقوه، من سخريته ونقده والتهاتف به، وقد جمع الناس بعده الآراء التي أدلى بها عن كثيرين من الكتاب والشعراء، وطائفة من الصور المضحكة التي اخترعها عنهم، فلم يجرأ أحد أن يرمي الرجل بالجنة ويقرفه بالتحامل ويتهمه بالسخف، بل احترم الناس منه آراءه وإن كان بعضها باطلاً، والآخر مغالى فيه.
ونحن نقتطف للقراء جملة من هذه الصور تفكهة لهم وترويجاً:
قال عن الشاعر بيرون وهو ومكانه في طليعة شعراء الأرض - بيرون ولد رقيع اتخذ الحزن عياقة والهموم زياً من الأزياء المستحدثة.
وعن توماس مور - وهو من كبراء الشعراء - تفاهة شهوانية ذات اسم عظيم وقال عن استوارت ميل، صاحب كتاب الحرية - أقرب شبه رأيته للرجل الحقيقي.
وعن الشاعر ورد سورز - نوع غريب من الإنسان، ولكنه في جوهره ومظهره إنسان صغير، وقال عنه بعد سنين عدة، وقد بلغ الشاعر عهد الشيخوخة، رجل عجوز غلباوي بريالة، وقال عنه كذلك. . . عود صديء قديم يلزمه وتران أو عدة أوتار حتى يستطيع الإنسان أن يسمع نغمه!
سدني سمث - رجل من الشحم والعضل لا غير، ويظهر أن ليس فيه روح قط.
الشاعر كولريدج - نفس يائسة لا أمل لها، ولا شغل لها إلا الوعظ.
وعلى ذكر ذلك - سأل كولريدج الكاتب شارلز لام هل سمعتني يوماً أعظ، فأجاب لام، لم(43/33)
أسمع منك طول حياتي شيئاً آخر!.
وقال عن الشاعر ما كولي مؤرخ انجلترا العظيم، يحتاج إلى أصول الإيمان.
ثم كتب عنه بعد ذلك، مخلوق مسكين، لا حيلة له إلى فهرسة الأدب والتاريخ ولا خيال فيه ولا روح، كافر ملعون له نظارات، ولا عينان وراءها ووصفه في موضع آخر فقال هو شلال نياغرا في الكلمات والنظريات والآراء العادية السقيمة، وكل ما كان فيه قد تحول الآن إلى لسان، وقال عن كتب التاريخ التي وضعها ما كولي ليس فيها معنى قط، بل هي ليست إلا مجموعة من الرياح الكلامية الفارغة.
وقال عن الكاتب شارلز سامر، لا إيذاء منه مطلقاً، هو أشبه بقطعة النقود الممسوحة التي زالت عنها جميع آثار سكتها!.
ولم تقتصر دعاباته هذه على الكتاب والشعراء بل تناول جمعاً من القواد والعظماء أيضاً ونحن ننقل شيئاً منها.
قال عن مازيني - رجل من قواد إيطاليا العظماء - أنه رجل صغير جميل مفعم بالإحساسات والنغمات والفضائل!
وعن لويس نابوليون - رجل غشاش نصاب رأى الناس مستعدين لقبول الغش فغشهم، وقال عن نابليون بونابرت: إن ذهنه أشبه شيء بمنجم منطفئ، هو ممثل تراجيدي مضحك، أو ممثل مضحك مبك، وذكر أيضاً عنه هو نابليون هو قاطع الطريق في التاريخ الإنساني!
وعلى ذكر ذلك نبسط للقراء حادثة غريبة، وهي أن نابليون عندما كان في إيطاليا، لتتويجه ملكاً عليها، أقيم ثمة مرقص عظيم في ميلان - بعد حفلة التتويج بزمن قصير، فلمح نابليون سيدة وضعت في مشدها باقة من الزهر فخطفها من صدرها وقال: إن الطليان كلهم لصوص! فأجابت السيدة بكل أدب - كلا يا مولاي ليسوا جميعاً، ما بونابرت! ومعنى العبارة الأخيرة، أنت فقط يا لصي!
وكتب يوماً نابليون إلى الماجور شل وكان رئيس حزب في إيطاليا كتاباً بهذا العنوان: إلى شل زعيم اللصوص! فرد عليه بكتاب جعل عنوانه: إلى بونابرت زعيم جميع اللصوص!.
وقال عن ثكري - وهو من أكبر كتاب انجلترا المعدودين - رجل متوحش عياط، جائع.(43/34)
فلو أن رجلاً قام اليوم فبسط آراء له على هذا النحو في الكتاب والشعراء والمفكرين في مصر لقامت ولا شك قيامة الناس عليه، ولرموه بالهوس والتخريف، واضطغنوها عليه إلى الأبد لأننا لا نجلد على النقد وتجزع نفوسنا من الدعابة.(43/35)
أحداث الشهر
النكبة الأهلية الكبرى
من أكبر أحداث هذا الشهر أكتوبر في مصر، نازلة ألمت بساحة هذا البلد فأدمت القلوب، وسحت لها العيون، وعم الأسى الأرواح، وحد عليها عالم الأدب، وعطل العالم النسوى من أكبر فخره وأروع حليته، وأنهد ركن من النهضة الأدبية التي نحن بسبيلها، وفقد عالم التفكير علماً خفاقاً من أعلامه، وخسر طلاب التهذيب والدعاة إلى الإصلاح والواثبون إلى ترقية الأسرة المصرية والسمو بها إلى التربية الحديثة القويمة، عنصراً من ألزم العناصر لرقي الأسرة، وهادياً من أسمى الهداة إلى السنن الصالح، والتهذيب المنشود، ذلك أن اغتالت المنون سيدة من كرائم الكاتبات، وزوجاً من خيرة الأزواج، وابنة رجل من مشيخة الأدب، وأهل الأسماء النبيلة، والذكر الرفيع، والعمل الصالح، فلم يبق في مصر إنسان فتح في حياته صفحات كتاب، ولا رجل أدرك شيئاً من تاريخ النهضة الحديثة، ولا زوج عرف فضل الزوجة الكريمة المهذبة، ولا أب اعتز بفلذات كبده، وازدهى بكرائم بناته، إلا جزع للنبأ، وطار لبه للمصاب، فبكى العلماء والأدباء والمتأدبون وعامة القراء في أثر تلك الراحلة الكريمة، إذ فقدوا أدباً رائعاً، وتفكيراً طلياً طريفاً، وخواطر عليها أثر الإخلاص والنبل والسمو الذهني، وابتأس الأزواج إذ غاب عن حياة الأسرة المصرية المثل الأعلى للزوجة، والقدوة الحسنة لحياة العشيرة، واذكروا مصاب زوج أسيف كان عزيزاً بتلك النعمة العظيمة، فخوراً مغتبطاً بتلك النفيسة الغالية، وتقطعت أكباد الآباء، وزفرت زفرات الشيوخ، إذ انتهى إليهم جزع أب كان خير الآباء لخير البنات، وكان بكنزه العظيم عزيز الجانب، وكان بتلك السيدة الممتعة الأدب، المستضيئة الخاطر فرحاً قرير العين.
تلكم هي المرحومة ملك ناصف، باحثة البادية، التي لها الشأو البعيد في الأدب، والسهم الأكبر من البحث، والنصيب الأجزل من الفلسفة العصرية، والخواطر الجميلة المهذبة، سيدة هي فخر نسائنا، وكاتبة في طليعة أديباتنا، أخذت الذكاء والفضل مطبوعاً، وجرى في غريزتها من أبيها حفني ناصف، الشاعر الحلو الأغاريد، الفكه القريض، الجم الأدب، فتجلى فيها أدبها الخصيب، وذكاؤها المفرط، غريباً شاذاً نادراً آية عجب ودهشة، في وسط عالم نسائي ما فيه إلا معجبة بسوارها، مزهوة بأقراطها، ومزركشة بأثوابها، وحرائر(43/36)
معاطفها وإلا من برزة خلت من خفر وحياء فأخذت الظهور في عالم الأدب مصيدة، وبدت بين الكتاب والكاتبات لتتم لها الأحبولة، وادعت العلم وتكلفت التفكير، ولا تفكير ولا علم إلا بأمور نسائيتها وسخفها، ولذلك كان رحيل سيدة فضلة وكاتبة بليغة ومفكرة رائعة التفكير، أوقع في النفس من وفاة رجال عديدين من النافعين، وطائفة من العظماء الكبار الأذهان، لأننا نستطيع عن الرجال تأسياً، ولهم بديلاً وإضراباً، ولكن فقد كاتبة نحن في أشد الحاجة إلى قلمها وذهنها وروحها السامية أبلغ أثراً من ذلك وأعظم وقعاً، إذ هيهات أن تجود الأقدار بمثلها، وهيهات أن يخرج العالم النسائي في مصر ضريبة لها إلا على فترة من القرون وهون من الأجيال، وإذا كانت الطبيعة تضن على الدنيا بالعظيم فتدع بينه وبين التالي له صفحات خالية في سجل الدهر ولا تخرجه إلا بعد أن تعد له العدة من الظروف والوسط والزمن، فهي لا تزال أضن بالعبقريات، وأبخل بالسيدات العظيمات، لأن العظمة عنصر غريب لا يوافق النساء، والعبقريات منحة لا تزين الغانيات، ولكن الأقدار تتخير المرأة التي تصلح لغرضها الذي تريده القوة الإلهية فتحبوها بكل الألوان والمستلزمات التي تطلبها العظمة والعبقرية، ولذلك كانت السيدة التي يؤتيها الله تلك الهبة أروع من الرجل الذي قد يمنحها، ولو أنت أردت أن تحصي عدد النساء العظيمات في تاريخ أمة من الأمم، لما أعجزك الإحصاء، ولا شرفن عليك من خلل القرون والأجيال، فإذا هن قلائل وإذا بك ترى بين كل منهن والتالية لها زمناً طويلاً، وعهداً بعيداً.
فكيف عمركم الله نستطيع صبراً على نكبة أهلية كهذه غمت حياة الشعب جميعاً، وتناولت أهم فروع عيشنا فنزلت بها، ولكنا خلقاء بأن نتجمل بالصبر، طوعاً أو كرهاً، ونسوق العزاء إلى الثاكل الذي دمي فؤاده من أثر نكبته، ذلك الشيخ الجليل، والأديب الممتع العذب المحضر، وإلى الزوج الأسيف المحزون، الذي ألم به هذا المصاب العظيم، فكان منه ذا أثرين، وهد منه ركنين، إذ فقد زوجه الصالحة، وربة بيته العامر، وكان من هذه الناحية زوجاً، ثم خسر ضوء ذلك الكوكب الذي كان متسامياً في أفق الأدب والتفكير، وكان من هذه الوجهة أديباً متعلماً مهذباً، ولكن حسب ذلك الزوج الكريم، عبد الستار بك الباسل فخراً أن زوجه ستروح وإن غابت عن حياة هذه الأرض، في القلوب، وذكرها في الأسماع، وطيب أحدوثتها في الأفواه، وإن الله قد أراد لها نعمة الخلود.(43/37)
هذا وسنأتي على ترجمة حياة الفقيدة ملخصة بقلم حضرة الأستاذ الأديب الشيخ مهدي خليل المدرس بمدرسة عبد العزيز الأميرية مع اختيار شيء من منظومها ومنثورها في العدد القادم إن شاء الله.(43/38)
مجموع المتون
للعمرية والبكرية والعلويتين
لما نظم سعادة حافظ بك ابراهيم متن العمرية تكلفنا أن نكتب لقرائنا كلمة عن هذا المتن الذي جاء بدعاً في نظم المتون، وما كنا علم الله نظن يومئذ أن لهذا المتن ذيولاً وحواشي، وأنه سيحدث في الأدب إحداثاً تفتق في جوانبه، وتطفئ من كواكبه، حتى جاء عبد الحليم أفندي المصري ببكريته وجاء العرب بعلويته والشيخ القصري بما لا نعرف كيف يسمى، أعلوية، أم سفلية. . .
رأينا قراءة متن العمرية تميت النشاط وتخمل الرغبة في الأدب فلا ندري كيف انبعث القوم لتقليده كأنه لا ذوق لهم في الشعر ولا بصر لهم بفنونه وصناعته، ولو عرفوا لعرفوا أن الأحق بالشاعر الفحل أن يصلح غلطة حافظ ويكفر عن سيئته ويستن للأدب غير سنته فيقرض عمرية جديدة يدور لها الفلك وينقض تلك البنية الخربة المتهدمة ويرفع في مكانها صرحاً من الشعر العربي المتين يتراءى فيه الذوق والفن والقريحة أحسن ما تكون ثلاثتها في أثر من آثار البيان.
انحدرت بكرية المصري كما انحدرت عمرية حافظ بين الرايات والمقاعد وكان لكلتيهما حفل ومنبر ولكل من الرجلين قوم يعضدونه وينهضون بأمره ويدعون إليه ويلقون من شهرتهم على قصيدته فما كدنا نفهم من هذه الظاهرة الاجتماعية شيئاً لأن القصيدتين سواء حذوك مثلاً بمثل إلا أن في البكرية عامية وتهافتاً وهنات أخرى تسقط بها دون العمرية، ثم أرسل العرب علويته بلا طبل ولا زمر فكانت هذه فضيلة فيه لأنه أخلص النية ولم يحاول أن يسترهب الناس ويسحر على أعينهم بالأسماء والألقاب وقد نظم كما نظم صاحباه وتمت لنا ثلاثة متون.
ونحن فلا نشك في أن حافظاً والمصري والعرب يعدون من شعراء البلد والبلد متخلف في أشياء كثيرة فلعل لهم عذراً ونحن نلوم، ولعله ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولعل نسق الشعر الذي نتخيله في مثل هذه السير التاريخية الكبرى مما يفوت طوقهم ولا يمكن أن يواتيهم بحال من الأحوال لقصور علمهم بوجوه الكلام وسياسته وقلة بضاعتهم من الأدب ولضعف ملكة التمييز في أكثر قومنا وانصراف كبرائنا عن الأدب وفنونه حتى ليس فيهم(43/39)
متوسم به ولا محقق فيه ولا من يقام لرأيه في تلك الصناعة وزن.
ولا أدل على ما نحن فيه من قاصمة الظهر وغصة الحلق وهذه القصيدة التي سموها علوية القصري والتي يقول في مطلعها:
عبرت بالعبرة المجراة لا الكلم ... عن حال قلب سليمٍ بالهوى كلم
له عليه من الحكم المنفذ ما ... للعاصفات على الخيزور والسلم
يسيل سيل سحاب الدمع منك على ... وادي الخدود وقلب القلب في ضرم
فهذا الشعر الذي لا يسك سمع أديب حتى يتخيل من ألفاظه ونسقه أن جداراً ينقض على رأسه حجراً حجراً ولا يكاد يأتي على آخره حتى يمثل له أنه يسمع معاول رجال التنظيم ينبشون عنه تحت الردم. . . هو الذي نصب له فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية نفسه فنوه باسم ناظمه ودعا العلماء والكبراء والأدباء إلى الاحتفال به وسماع قصيدته فذهبوا وسمعوا ورجع بعضهم كالمغشى عليه من الموت.
لا تعنينا هذه المتون ولا شعراؤها فهي هي وهم هم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؟ ولكن ما بال هؤلاء الكبراء عفا الله عنهم لا يميزون الخبيث من الطيب؟ وما لهم يحدثون في الأمة هذه الأحداث ويشهرون ببعض أدبائها تشهيراً وكانوا في ستر وعافية من الله وهم لا يجهلون أن صنيعهم هذا مما تفسد به أذواق الناشئين في الأدب وتخبث عليه نفوسهم وتضعف منه قرائحهم، وأنه يبعث على الغرور ويزينه للناس ويخلط في ألوان الأخلاق، وجملة القول أنه يجني على الأدب والأخلاق معاً.
إنهم إن يكونوا يعرفون ذلك ويأتونه فتلك مصيبة وإلا فالمصيبة أعظم، والحق فيما نرى أن كبراء الأمة لا يبالون بالأمة من هذه الجهة وإنهم لا يزالون على أثر من العهد القديم الذي جعل احترام بعض الطبقات ديناً وأمرهم شرعاً وسن لهم من مذاهب الاجتماع حلالاً وحراماً وأوجب على الضعفاء حق المنصب والجاه، وكأنهم أيضاً لا يبالون بما حولهم من عيون تبصر وآذان تسمع وقلوب تشعر وأفهام تعي وأذهان تنتقد، وكأنه لا حكم عليهم لأحد مع أنهم في عهد جعل لكل الأمم على كبرائها ما للعاصفات على الخيروز والسلم. . . كما يقول شاعرهم القصري.
ربنا إن أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(43/40)
الجمعية الجغرافية السلطانية
جمعية المؤاساة الإسلامية بالسويس
أهدى إلينا حضرة صاحب العزة عبد العزيز بك فهمي سكرتير الجمعية الجغرافية السلطانية نسخة من برنامج أعمال هذه الجمعية - ونظراً إلى أن هذا العدد لا يتسع للقول على هذه الجمعية بتفصيل أرجأنا ذلك إلى العدد القادم - وكذلك أرجأنا مضطرين كلمتنا على جمعية المواساة الإسلامية بالسويس إذ أهدانا حضرة سكرتيرها الأديب علي أفندي عبد السلام نسخة من قانونها.(43/42)
العدد 44 - بتاريخ: 1 - 10 - 1918(/)
تاريخ الأدب التركي
كثير من قراء العربية لا يعرفون شيئاً من أدب اللغة التركية وتاريخه وتطوره ومناحي أدباء الترك في منظومهم ومنثورهم - لذلك رأينا أن ننشر في البيان كلمة ممتعة تبصرنا بعض الشيء بآداب هذه اللغة، نقلها من الانكليزية حضرة الأستاذ الفاضل حسين أفندي لبيب المدرس بمدرسة القضاء الشرعي - قال:
أدب العثمانيين مثل حضارتهم مستمد من الفرس بواسطة السلاجقة ومن الطبيعي أن تجد مشابهة عظيمة بين كتاباتهم وكتابات أساتذتهم الفرس ولا يدهشنا أن نرى في آداب الشعبين الفارسي والتركي روحاً واحدة واستعارات وتشابيه متوافقة وأوزاناً وبحوراً للشعر متشاكلة، وترى الشعر التركي أرقى في مجموعه من النثر التركي كما أن الشعر الفارسي أرقى من النثر الفارسي وأمهات القصائد الفارسية والتركية البليغة من مميزاتها عذوبة اللفظ وصفاء المعنى والتناسب بين أبياتها عبارة وموضوعاً على أنها من الجهة الأخرى مظهر من مظاهر الصناعة والتكلف فترى الشاعر ينحو نحو الإغراق والمبالغة ويأتي بالمعاني المبتذلة المألوفة ويكثر من التورية ونحوها من أبواب البديع حتى لقد تسقط معانيه للهوه بهذه المحسنات اللفظية إلى درجة المعاني الصبيانية وأبواب الموضوعات الشعرية التركية والفارسية محدودة ما عدا القصائد التاريخية الطويلة فإن موضوعاتها متعددة ومعانيها مختلفة، والعشق بما فيه من الآلام واللذائذ يحق له أن يكون في المحل الأول من الأدب التركي وكذلك يتغنون بمدح الربيع ويصفون أصوات البلابل وجمال الأزاهر ومظاهر الكون الجميلة كل هذا ممزوج بالإحساس الديني كشكر الله والابتهال إليه والتضاؤل أمام قوته ومن الغريب أن الترك مع أنهم من الشعوب الحربية ليس لهم من الشعر الحماسي ما يعتد به وهذا إنما سببه أن الفرس أساتذتهم لم يرد لهم شعر حماسي إلا ما جاء في قصائدهم القصصية الطويلة.
والقصائد التاريخية المشار إليها فيما سبق مقفاة كل بيتين من قافية واحدة من أول بيت لآخر بيت والقصائد التركية في العادة لا تزيد على 24 بيتاً يضمن البيت الأخير اسم منشئها.
أما النثر التركي على أحسن حالاته عندهم فإنما يصفه الفرنجة يميل كتابه إلى الغلو والمبالغة وحب المحسنات اللفظية والإسجاع مع تكلف المعاني وتشويش العبارة، والفرنجة(44/1)
وأصحاب الأذواق السليمة من كتاب العرب يكرهون تكلف الأسجاع والتزامها في كل عبارة فلا بدع إذا عابوا على أدباء الترك شغفهم بالسجع إلى درجة الإفراط مثل سعد الدين المؤرخ التركي القديم أما حيث لا يلتزم السجع في النثر التركي فترى المعاني أقرب إلى الطبع وأدنى إلى الذوق السليم.
وإذا بالغ الكتاب في تجريد كتاباتهم من المحسنات اللفظية وأقصوا كل سجعة أو لفظ رشيق أصبح كلامهم جافاً غير جذاب.
والأدب العثماني واسع غني فالمنشئون من كل نوع وخصوصاً الشعراء وجدوا في كل العصور وكانوا متعددين يقصدون القصائد الكثيرة العدد والطويلة المدى ولذلك سنكتفي في هذه العجالة بذكر قليل من أشهر مشهوري الشعراء الذي لهم المحل الأرفع في تاريخ بلادهم الأدبي.
فمن أقدم الشعراء العثمانيين الغازي فاضل
وقد دبج يراع الشاعر شيخي القرمياني قصيدة تاريخية طويلة ضمنها ذكر خطوب شرين البطلة الفارسية المشهورة في حكايات الفرس كما أن يازجي أوغلو كتب السيرة النبوية الشريفة شعراً وسمى قصيدته المحمدية وأهم كتب منثور العصور التركية القديمة كتاب حكايات الأربعين وزيراً جمعه جامع في النصف الأول من القرن الخامس عشر سمى نفسه شيخ زاده ولعل اسمه الحقيقي كان أحمد والحكاية الآتية بلسان الوزير العشرين تظهر روح حكايات هذا الكتاب وترى منها أن عبارته كانت بسيطة لا تكلف فيها.
كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك عظيم الشأن وقد خرج مرة للصيد والقنص وفيما هو عائد إذ بصر بشبح فقير في أسمال بالية وحال رثة ينادي من نقدني ألفا ذهباً بعته نصيحة من النصائح الغاليات قال الراوي فلما سمع الملك مقالته وفهم دعوته لوى عنان فرسه إليه وأقبل عليه وسأله ما هي تلك النصيحة الغالية فقال إذا أردت ذكرها فانقدني مهرها فأمر الملك حاشيته وغلمانه بإعطاء الشيخ المدعي ما طلب - ألفاً من الذهب - فلما حصل على غنيمته شرع يشدو بنصيحته قال: أيها الملك المهيب الرفيع الجناب إذا هممت بفعل أمر فاحسب حساب عاقبته فلما أتم مقالته سخر منه غلمان الملك وأهل حاشيته وقالوا هذه نصيحة مألوفة معروفة على أن الملك لم يكترث بهم وزاد الشيخ إكراماً وإحساناً(44/2)
وأمر بكتابة النصيحة على جدران قصوره وأبوابها، قالوا وكان لهذا الملك خصم لدود ملك جبار عنيد يتربص به الفرص ويكيد له ما استطاع لذلك سبيلاً ولما أعيته الحيل ولم يصل إليه بمكروه قال في نفسه لماذا لا أذهب إلى حلاق الملك وأعده بالمال الجزيل وأعطيه موسى مسمومة يفصد بها الملك فيموت وأتخلص منه علي أهون سبيل وسرعان ما غير ملابسه وتنكر وذهب إلى الحلاق وأعطاه ألفاً ذهباً وموسى مسمومة فأجابه الحلاق وكان شرهاً يحب المال حباً جماً إلى ما طلب ووعد بتنفيذ ما رغب ولما مرض الملك أرسل في طلب الحلاق ليفصده فسار إليه ومعه الموسى المسمومة فوجد الغلمان قد هيئوا له آنية يتلقى فيها دم الفصد وكان مكتوباً على حافتها نصيحة ذلك الشيخ الذي اعترض الملك وهو راجع من الصيد والقنص وهي إذا هممت بفعل أمر فاحسب حساب عاقبته فلما تأملها الحلاق قال في نفسه إنني الآن على وشك فصد الملك بهذه الموسى المسمومة فلا بد أنه يموت وإذا مات لا يتركونني حياً بعده وإذن لا أنتفع بالمال الذي أعطيته قال هذا في نفسه ثم أخفى الموسى المسمومة وأخرج غيرها بريئة من السم فلما رآه الملك يبدل موسى بغيرها سأله عن السبب فقال إن الموسى الأولى قد علا حدها التراب فراب الملك أمره وقال له إن الموسى الأولى لم تكن من المواسي الخاصة بي فلا بد من سر دفين وأمر خفي أخبرني سريعاً وإلا أذقتك كأس المنون فعندها لم يسع الحلاق إلا أن يقول الحق وحكى له السر من أوله إلى آخره وإن عزمه على الإيقاع بالملك قد تحول منذ وقع نظره على النصيحة المكتوبة على الإناء قال الراوي: فسر الملك من صراحته وانتصاحه بالنصيحة فخلع عليه خلعة سنية وأجاز له الانتفاع بالذهب الذي أخذه من عدوه ثم قال الملك: حقاً إن نصيحة ذلك الشيخ المبارك تقدر بمئات الألوف من الذهب لا بألف واحدة.
على أن الآثار القلمية للترك قبل الاستيلاء على القسطنطينية سنة 1453 ليست بذات شأن كبير أما بعد الاستيلاء عليها بقليل فقد راجت فيها أشعار غزلية لأمير تتري اسمه الأمير علي شير نواي فتن بها الوزير أحمد باشا أحد رجال السلطان محمد الثاني ونقلها وكان هذا الوزير شاعراً أديباً وكاتباً مجيداً له المقطعات البليغة ذات المحل الرفيع في الأدب التركي وقد نسج فيها على منوال الأمير التتري وفتح بنظمها عهداً جديداً للغة التركية فأقبل الترك على تلاوة الأشعار ونظمها وكان سنان باشا من وزراء محمد الفاتح أيضاً من الذين فازوا(44/3)
على الأقران في حلبة النثر الرقيق الحاشية الخفيف الروح كيف لا وهو مؤلف الكتاب الديني المشهور الموسوم بالتضرعات وهو كتاب ممتع جليل فيه الأسجاع اللطيفة والإشارات الظريفة ننقل منها ما يلي:
أنت الخالق الذي لا يحتويه ظرف مكان، البارئ الذي لم ينشأ من أي شيء كان، الحكيم الذي ضلت في معرفة حقيقة أمره الإفهام، المنيع في ملكه فلا سبيل إلى أن تصل إلى دائرة وجوده الأوهام، قد عجزت العقول البشرية عن أن تحلق قريباً من سماء وجودك الرفيع، وحاول أحد الأذهان تصور مكان عظمتك القدسية فلا تستطيع.
وجاء بعد أحمد باشا الشاعران المتغنى بشعرهما نجاتي وزاتي ففاقا عليه وممن هن جديرات بالذكر من شاعرات هذا العصر عصر محمد الثاني زينب ومهرى وقد كان محمد ينشط العلوم والآداب ويخلع الخلع السنية ويعطي العطايا الحاتمية للشعراء والأدباء.
هذا وقد كان محمد الثاني نفسه شاعراً أديباً وكاتباً مجيداً له الشعر الرقيق الذي لا يزال محفوظاً في بطون كتب الأدب على أن حفيده السلطان سليم الأول المعروف بياوز أو الغضوب كان أعظم سلاطين آل عثمان فلم تكن كفاءته الشعرية بأقل من كفاءته الحربية والإدارية وأن من الخمسة والثلاثين سلطاناً الذين تولوا الأريكة السنية العظمى واحداً وعشرين نظموا شعراً معروفاً لهم وليس بينهم من يستحق فضل السبق غير السلطان سليم فإنه كان شاعراً لا يجاري وأديباً لا يبارى على أن مما له يؤسف له أنه نظم معانيه الرائقة وضمن أفكاره الشيقة اللغة الفارسية فلم ينظم بلغة آبائه وأجداده ولو أنه نظم بالتركية لعادت عبقريته على اللغة بأعظم الفوائد على أنا نثبت هنا ترجمة معنى شيء من قصائده التركية القليلة.
فمن ذلك أنه ندب خلانه وأقرانه ووصف هطول الدمع من عينيه أبدع وصف وقد شبه حاجبيه وأنفه بجسر تمر منه الأفكار الحزينة الكثيرة البارزة من مخه على جبهته وجعل الدموع بمثابة بحر عظيم في أسفل ذلك الجسر ثم أشار إلى عبث الأقدار به وهو شريد طريد ثم ذكر صعوبة العثور على الخل الوفي وقال إن العثور عليه أصعب من معرفة أسرار الأكوان.
أما كمال باشا زاده أحمد المعروف بابن كمال فكان من رجال القضاء الممتازين وكان له(44/4)
القدح المعلى في الشعر والنثر، من آثاره قصيدة تتضمن قصة يوسف وزليخة زوج بوطيفار كما أن له بحثاً يسمى النيجارستان يشبه في عبارته وأسلوبه بحث الشاعر الفارسي المشهور بالسعدي المسمى جولستان أو حديقة الورد، وكان الشاعر مسيحي من معاصري سليم الأول وله قصيدة فذة في الطبقة الأولى بلاغة وفصاحة وحسن انسجام خلدت اسمه عند المشارقة ولدى أدباء الفرنجة أيضاً وهي قصيدة في وصف الربيع نورد من معانيها ما يأتي:
اسمع يا صاح صوت البلبل الشجي فهو يناديك، لقد أقبل فصل الربيع الجميل كم في خمائله من الأزهار اللطيفة وفي رياضه من المشاهد الظريفة فأشجار اللوز تنثر من لآلئ الندى الناصعة البياض ما تقر به العين وينشرح له الصدر فلا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب، ما أجمل الورد والخزامى وقد تفتحت أكمامهما وعلقت حلقات من قطر الندى البراق بآذانهما الجميلة فلا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب، لا تسكب عيون السحاب كل فجر دموعها الرقراقة المتألقة على خد الورود الأرضية ولما يختلط نفس الصبح البليل ونسيمه العليل بعبق كالمسك التتري ولما يكون وجه الدنيا ضاحكاً مستبشراً لا تقف وقفة الغافل ولا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب، ألا ترى إلى الجنان المزهرة والبساتين المثمرة كيف يعطر شذاها الهواء وكيف تذكو رائحة قطر الندى قبل أن تبلغ الأرض، ألا ترى إلى السماء كيف انعقد فوق الأرض كالفسطاط العظيم فلا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب.
ولغاية عهد سليم الأول كانت الآثار القلمية التركية ساذجة غير مصقولة فلما ولي سليمان الأول 1520 - 1566 انفتح عصر جديد زاهر فقد نبغ في أطراف دولته في الشرق والغرب شاعران عظيمان مجيدان وهما الفضولي والباكي وكان الفضولي نزيل بغداد وأحد المقدمين الأربعة في الشعر التركي القديم أول شاعر نال بحق سبق الإجادة الصحيحة في الآداب التركية ولم يفق عليه ممن تقدمه أحد ولأقاربه في الفضل وكان من خصائص هذا الشاعر أنه لم يتقيد بمعاني من تقدموه رغماً من احتذائه الفارسية ذوقاً وعبارة فقد اختط(44/5)
أسلوباً جديداً في التعبير عن المشاعر الحقيقية فكان يكتب وجدانه كتابة يخيل لقارئها أن نفساً تخاطب نفسه ومشاعر تتصل بمشاعره فلا يحس بتكلف أو صناعة ولا يسمع غير هاتف نفس الشاعر المحزون، وكان الفضولي له السلطان على القلوب يوجهها كيف شاء إن شاء فاضت النفوس بالحزن وإن شاء طغى السرور على القلب وله ديوان شعر رقيق كما أن له قصيدة عامرة في حب ليلى ومجنونها كما له ي النثر الآثار التي لا تقل عن شعره إجادة وحسن سبك وصفاء معنى وكانت أساليبه تخالف الأساليب المألوفة لدى أدباء العاصمة وهذا هو السبب في قلة من احتذاه ومن معاني الأبيات الآتية تعرف قدر ذلك الشاعر.
أيتها الحبيبة إني لأستقل عداوة العالم أجمع ولا أعبأ بها ما دمت راضية عني، وإني لأستصغر صداقة الأصدقاء بالنسبة إلى حبك، هل تبلغ نكاية الأعداء مني ما بلغه الحب وتباريح الغرام، إن حياتي سلسلة آلام وأحزان وأنا أبداً المعنى الدنف، لقد كنت قبل الحب لا أعلم لذة الوصال ولا أعرف مرارة الفراق ولقد أعماني النوى فلا أرى أشباح الأشياء الواضحة الجلية، ألا ترى أيها القلب نور هذا البدر الزاهي، وأنت يافضولي لو أن جسمك الفاني أصبح تحت جنادل وأحجار فإن معنى الحب الذي ملك عليك قلبك خالد لا يموت، إني كلما ذكرت أيام الشباب ولذات الوصال ذاب جسمي الناحل الفاني الذي بلغت به الشيخوخة باب القبر، وإذ قد حان مماتي فقد آن لك أيتها النفس والطائر المحبوس في قفص أن تكون طليقاً، ما ألذ ظلم الحبيب، لقد وطنت نفسي على تحمل جميع آلامه وشرب كأس عذابه حتى صباته وإذا كان من المستحيل الآن أن أتصل بك أيها الحبيب فحسبي أن أستعرض صور الوصال الماضية، فاستعراضها خيالاً ينبوع سعادة عظيم لي الآن، لقد فاقت أخبار عشقي أخبار مجنون ليلى فأصبح اسمه بي نسياً منسياً.
أما الباكي شاعر القسطنطينية فكان دون الفضولي في المنزلة الأدبية ولكنه مع ذلك فاق سائر من تقدموه، له في السلطان سليمان مرثية خالدة نثبت منها هنا ترجمة منثورة لبعض أبيات استهلها بتوجيه الخطاب إلى القارئ.
أيها المغرور بالدنيا وزخرفها متى تفيق من نومك وتعلم أن الدنيا متاع الغرور، ليكن نصب عينيك ذلك اليوم الذي فيه تفارق الدنيا ولذاتها، لا بد أن تذبل خزامى الربيع وتسقط أوراقه(44/6)
الخضراء وأنت أيها الإنسان لا بد من صيرورتك إلى حفرة من تراب، لا بد للزمان من أن يرنق كأس سرورك المترع الصافي إنما الإنسان حقاً وصدقاً من صغت نفسه لقبول الحقائق، وما أحرى الرجل المتصف بصفات الإنسانية الراقية بأن يتحلى بالشفقة ويخلص نفسه من أشواك القسوة والوحشية ألا يفيق الإنسان وقد سطا ريب المنون على أمير لا ككل الأمراء أمير خضعت لسيفه رقاب الكافرين وخلعت صوارم كفه قلوب الفرنجة والمسيحيين وبعد أن كان له في الحياة بأس تذل له الهام أصبح الآن ساكناً تحت جنادل وركام.
لقد كان سليمان بهجة الأنام وزينة أعيان الإسلام فكان في عزم الاسكندر وأبهة دارا ولقد طأطأت الأرض رأسها إجلالاً وإعظاماً لسدته العلية وكانت أصغر عطاياه تصير الشحاذ المعدم أميراً سخياً. . . .
(وبعد أن أفاض في مدحه). . . قال وهو وإن خضعت عنقه لداعي الموت فقد كان له عزم القدر والسلطة القاهرة.
وظهر نجم الشاعر القدير نافع الأرضرومي في أفق عصر السلطان أحمد (1603 - 1607) فجدد معالم الشعر التركي القديم وقد اشتهرت قصائده بالرقة والانسجام كما اشتهر غزل الفضولي بحسن الذوق وسلامة البيان وقد خط لنفسه طريقاً في التعبير ونهجاً في الأسلوب فكان شاعراً حراً كالفضولي وقد حذا حذوه شعراء كثيرون اشتهر منهم صبري على أن نافعاً كان نقاداً شديد الوطأة فسبب له ذلك غضب الناس والعظماء الملتفين حول مراد الرابع فما زالوا به حتى أمر بقتله وهاك إحدى قصائد نافع المشهورة وهي مدح في السلطان مراد قيل أن السلطان أمره بمدحه فارتجلها ولكنا لا نميل إلى تصديق ارتجالها لأنها من البلاغة بالمحل الأرفع وقد وصف الربيع فأبلغ الألفاظ وأجمل المعاني وهو موضوع محبوب من الشعراء الترك.
يهب نسيم الربيع المبكر وتفتح أكمام الزهر في الفجر فلتفرح قلوبنا، أيها الساقي املأ الكأس واسقني بيدك لقد حلت أيام شهر مايو الجميلة وتعطر الهواء وأصحت السماء ولبست الأرض حلة عدنية وليس في الأرض مكان إلا كأنه ناحية منعزلة من بستان أنيق.
ومنها، ليحضر الساقي بكاس الخمر وتعزف القيان على الأوتار وإن أعقل العقلاء من اغتنم ساعة السرور وأسعد السعداء من قبص بإحدى يديه على قدح من النبيذ المعتق وأخذ(44/7)
يعبث بالأخرى بشعر حبيبه الجميل وأنت أيها الساقي لا تن في أن تترع الأقداح واحذر أن تنقصها شيئاً، ويا غصن البان أشرق بوجهك المنير علينا ويا شفاهاً تزري بحمرة الورد أبسمى فإن الزمان يبتسم لابتسامك.
سلم أمورك للقدر ... واغنم أويقات السرور
والحزن لا يمنعك من ... شرب العتيق من الخمور
وإن خمر المحبين ترياق الهموم وراحة النفوس، وقد كان لها من المنزلة في فارس القديمة إن كان يجلها رجال الدين، وإن الخمر مجلبة السرور في مجالس العاشقين، وإنما مثل الخمر إذا صبت في الكاسات مثل ذوب الحديد وقد صهرته النار ولها لمعان الخزامى وهي في كؤوسها الدرية، وإن مثل الخمر في كاساتها كمثل الندى في شقائق النعمان، فاسقنا أيها الساقي من خمر الأمير الهمام وأترع الكاسات فإنا نريد أن نبدد الأحزان واجبنا إلى طلبنا ولا تبخل علينا ببنت الكرم فإنا عشاق معذبون قد برح الغرام بأجسامنا.
ومن مشاهير الشعراء نابي وكان في عصر السلطانين ابراهيم (1640 - 1648) ومحمد الرابع (1648 - 1687) وكان في فارس عصرئذ شاعر قدير نحا بالأسلوب الشعري نحواً جديداً مؤسساً على الروح الفلسفية الحكيمة فقلده نابى ونقل تلك الروح إلى التركية، لذلك تجد غالب شعره أدبياً حكيماً فلسفياً وقد احتذى أستاذه الفارسي في بعض الأحيان إلى درجة فقد فيها شخصيته التركية وسار على نهجه من الشعراء المشهورين راغب باشا والشاعر سامي وكثيرون غيرهما.
أما في عصر أحمد الثالث (1703 - 1730) فقد ظهر نابغة الشعراء الأتراك القدماء نديم، ويمتاز نديم بكونه نحا أسلوباً خاصاً به خالف فيه كل من تقدمه من الشعراء ولم يستطع أحد ممن أتوا بعده محاكاته فيه، ولنديم هذا من الشعر الغزلي ما يسيل رقة وانسجاماً فيه من خفة الروح والظرف والرشاقة ما ليس في شعر غيره من شعراء التركية في أي عصر من العصور، وقصائده مع كونها أظرف وأرشق من قصائد نافع إلا أنها ليست دونها متانة ودقة صناعة وتمتاز عنها بخلوها من التنميق وبعدها عن التزويق ولا يعرف من أمره غير أنه كان من أبناء القسطنطينية وكان أميناً على المكتبة التي أنشأها الصدر الأعظم إبراهيم باشا كما أنه معروف أنه كان حياً لغاية سنة 1727 وهاك شيئاً من غزله:(44/8)
أتلفني الحب والغرام، وأضعت في مداعبة الغيد الحسان الأيام، وقد نفد صبري وذهب جلدي وبلغ الحنق بي مبلغاً ذهبت فيه إلى تمزيق ثيابي، وما عانقتني ووضعت ثديها الجميلين وصدرها المحبوب على صدري حتى استلت راحة الضمير والهناء من بين جنبي فلا أعرف لهما الآن مستقراً، أيها المخلوق الظريف الصغير ما أقساك كأن قلبك قلب الكفرة الذين لا يعرفون للرحمة اسماً ومع أنك جميل، جميل في كل شيء في شعرك وعينيك إلا أنك مع ذلك نصراني العاطفة، وإن جمالك فيه قسوة عليّ ورب الكعبة كم مرة أخلفت وعدك وحنثت في يمينك.
ما أجمل تلك الغدائر المدلاة من رأسك! كل من رأى وجهك المشرق بالجمال يصرع ويجن ويذهل عن نفسه، ألا يحق لي الحزن والبكاء، ألست أشقى البرايا وأتعس العالمين، أنا النحيل المضني، أيها المعشوق الجميل من خلق ذلك القد المعتدل والعيون الساحرة، إن لك لعبقاً أطيب من الطيب وإن لك لوجهاً يزري بالأزاهير وقد فتحت أكمامها، إني أخاف على جسمك الناعم الحريري من وخز أشواك تلك الأزهار المعلقة في صدرك، ما أجملك وأنت تخطرين وفي إحدى يديك زهرة وفي الأخرى قدح خمر ولست أعرف أي الثلاثة تحملين الخمر أم الزهر أم الثغر الباسم.
والعصر القديم للآداب التركية ينتهي بنهاية حياة الشاعر نديم وأزهى فترات ذلك العصر العهد الواقع بين ابتداء حياة نافع وموت نديم أو من جلوس أحمد الأول (1603) إلى خلع أحمد الثالث (1730).
أما النثر وقد أغفلنا ذكره من عهد محمد الفاتح فمن أشهر ما كتب فيه الهمايومانه وهي ترجمة أنور السهيلي الفارسي ترجمها علي سلبي لسليمان الأول وقد ألف بعد ذلك بقليل العلامة سعد الدين لتلميذه مراد الثالث (1574 - 1595) كتاب تاج التواريخ وهو تاريخ أعمال السلاطين التسعة الأول وهذا التاريخ هو الحلقة الأولى من سلسلة كتب تاريخ الترك التي لم تنقطع، وقد عرف بتحريه الصواب مع بلاغة أسلوبه ورشاقة عبارته وهو من أوله إلى آخره مسجع وقد زينه مؤلفه بقطع غالية من الشعر النفيس بعضها له وبعضها لغيره من أدباء الترك والفرس، ومن المؤرخين الذين اشتهروا بعد سعد الدين المؤرخ ناعمة وتاريخه يتعرض لذكر الحوادث الواقعة بين (591 - 1659) ويختلف عن تاج التواريخ(44/9)
من جهة أن كاتبه لا يتكلف الأسجاع وإنما يكتب بالأسلوب البسيط السهل الذي تفهمه العامة ولا تنكره الخاصة فضلاً عن أنه ماهر الوصف دقيق في إبراز الماضي البائد في صورة الحي الماثل للعيان، أما أولياء أفندي فإنه ساح واخترق الآفاق وضرب في عرض القارات الكبرى الثلاث القديمة ثم ألقى عصا التسيار في القسطنطينية حيث دون رحلته في كتاب عظيم، أما الحاج خليفه المعروف أيضاً بكاتب شلبي المتوفى سنة 1685 فقد تعددت مؤلفاته القيمة في التواريخ والأخبار والسير وتخطيط البلاد وغيرها من العلوم وفي سنة 1728 ظهر أول كتاب مطبوع في تركيا وكان ترجمة قاموس عربي، والذي أنشأ أول مطبعة كان الوزير الأعظم إبراهيم باشا صاحب الأيادي البيضاء على الشاعر نديم وقد جعل عليها رجلاً مجرياً أسلم وسمى نفسه إبراهيم.
وآخر الأربعة المشهورين من الشعراء الأتراك القدماء الشيخ غالب وكان معاصراً لسليم الثالث (1789 - 1807) له قصيدة طويلة نهاية في الإبداع وغاية في حسن الانسجام بعنوان الحسن والعشق، ولقد صاغها في قالب روائي جميل من أبدع ما أبرزته العبقرية التركية، وقد تمثل بفضولي ونافع ونديم واختط له في الأسلوب خطة خاصة به ونحا نحواً جميلاً ناجحاً أربى به على الأقران.
ولقد كان عصر محمود الثاني (1808 - 1839) عصر تطور وانقلاب في التاريخ التركي فلقد تناول التغيير والإصلاح النظم والقوانين والمرافق القديمة قليلاً وكثيراً فليس من العجيب أن تتأثر الآداب بالروح التي أثرت في غيرها ودخل في الشعر والنثر مذهب أوروبي ملك على اللغة التركية أمرها إلى اليوم غير أن النثر كان أسرع من الشعر في التأثر بمناحي الآداب الافرنكية وأشهر شعراء وشاعرات عصر الانتقال هذا واصف، وقد كتب أسفاره بلغة القسطنطينية الشائعة لعهده، وعزت منلا والسيدتان فطنت وليلى.
ولقد دخل التغيير جوهر الآداب التركية بشكل عظيم فعال واضح منذ ثلاثين سنة فقط وقد تعاظم أمر هذا التغيير والانقلاب من يوم إلى آخر وتناول الآداب التركية في المعنى والمبنى والجوهر والعرض شعراً ونثراً بحيث لا نبالغ إذا قلنا أن قصيدة أو مقالة من قلم شاعر أو أديب تركي من أهل هذا العصر الحاضر لا تفهم ولايكون لها قيمة عند أديب من أدباء الترك الماضين وهذا التغيير إنما سببه مطالعة دروس اللغة والآداب الفرنسية الأمر(44/10)
الذي لم يتعاظم شيوعه إلا منذ الثلاثين سنة الأخيرة وقد كان تأثير ذلك مدهشاً غريباً يدلك على ذلك أن غاية ما يرجو الأديب العصري في الأستانة وكل ما يصبو إليه ويريد أن يعرف به ويشهر عنه أن يكتب من غير تكلف، وقد دالت دولة السجع والبديع والمحسنات اللفظية وحل محلها الكلام البسيط الممتع الوافي بالغرض الصاعد بالمعنى إلى عقل القارئ من غير إجهاد نفس وأعنات فكر، وقد أدخل على اللغة التركية النمط الروائي في الكتابة وهو أمر جديد عليها لم تكن تعرفه من قبل وقد نبغ جم غفير من أدباء الترك في إنشاء الروايات الممتعة تمثيلية وغير تمثيلية وقد تناول حب التشبه بأدباء الفرنج الشعراء فهجر الترك إنشاء القصائد على الأنماط والقوافي القديمة واحتذوا الفرنجة في سائر أميالهم الشعرية وقد تناول التغيير اللغة نفسها فأهملت كلمات كثيرة قديمة لأنها أصبحت غير مفيدة وغير وافية بالغرض وعدلوا معاني كلمات أخرى بحيث أصبح يستطاع بواسطتها التعبير عن الأفكار والمصطلحات العصرية الحديثة التي لم يكن في الإمكان التعبير عنها بالأساليب والمفردات القديمة ولم تكن كل هذه التغييرات لتتم من غير معارضة ونضال فإن كثيراً من الأتراك المحافظين على القديم ممن يعجبون بالأساليب الفارسية ويكرهون كل ما كان أوروبياً لم يرقهم هذا التغيير وقاوموا العصريين طلاب الإصلاح بعنف وشدة ولا يزال منهم نفر قليل يجهر بالمعارضة والشكوى إلى اليوم.
وتظهر روح الإصلاح واحتذاء الأساليب الأوروبية الجديدة في تضاعيف منشآت عاكف باشا ورشيد باشا، أما شناسي أفندي المتوفى سنة 1871 فإليه يرجع كل الفضل في القيام بحركة الإصلاح الأوروبي دون غيره وقد عضد شناسي أفندي بكفاءة وقدرة كمال بك ذو المواهب الباهرة والآثار الخالدة وخير من عكف على خدمة الأدب من الأتراك وكذلك عضده وسار في ركابه كل من الأديبين الشاعر أكرم بك الذي كان إلى عهد غير بعيد أستاذ الآداب في المكتب السلطاني والروائي حامد زعيم الروائيين الأتراك وحامل لوائهم.(44/11)
الأستاذ ويلسون
رسول السلام
ونهوض العالم الجديد لإطفاء نار العالم القديم
دخلت أمريكا الحرب العامة، وهي المرة الأولى في تاريخ تلك الديمقراطية العظيمة التي إنما أسست على السلام، لا للحرب ولا للقتال والصدام، سمع فيها الناس جميعاً باشتراكها في حرب الإنسانية العامة على حين أنها بعيدة عن ميدان القتال بآلاف الأميال، ولا مطمع لها في أرض، ولا صالح لها في مستعمرة، ولا مطامع لها تمد إليها عينها، ولا أغراض تريد من دخول الحرب تحقيقها، بل وثبت من مكانها فاجتازت الأوقيانوس يقودها رجل عظيم، ويحركها رأس جبار، لإطفاء نار الحرب، وتهدئة تلك الجنة التي تولت أهل العالم القديم، وتسكين سورة تلك الحرب التي كادت تودي بالحضارة العظيمة، حتى استطاع ذلكم الرجل النادرة رسول السلام أن يظفر بالاحترام والتقدير للجميل والاعتراف بالصنيع المحمود، من كل رجل يحب الحق، وينتصر للحرية، ويجنح إلى السلام.
وقد قرأنا في إحدى المجلات الكبيرة بحثاً طلياً ممتعاً كتبه عضو مشهور من أعضاء البرلمان البريطاني عن الأستاذ ويلسون رئيس تلك الجمهورية الكبرى، وهو بحث جديد لم ينشر نظيره في الصحف، ولم يكتب ضريبه في المجلات، فإن الكاتب - وهو مستر اكونور - ظل أعواماً عدة يدرس آراء ويلسون وكتاباته، ويعجب بمبادئه السياسية، وزار أمريكا فلبث فيها عاماً أو يزيد، صرف أكثره في واشنطن، وزار ويلسون وتحدث إليه، حتى استطاع أن يصور الرجل الصورة التامة الحقيقية، وقد آثرنا أن ننشر ذلك البحث الجميل الممتع، تخليداً لأكبر شخصية في التاريخ الحديث، وتقديراً لعظمة نصير الإنسانية الضعيفة، ومؤيد الدعوة إلى السلام العام.
هذا الرجل هو وليد المتحف والمكتبة وابن أمريكا وإيرلنده، وإن فيه لجميع ملامح العنصرين، ولم أر قبله رجلاً تبدو عليه دلائل أصله، وأمارات الجنس الذي انحدر عنه، في روعة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فإن جده وجدته هبطا من مقاطعة الصتر وكان الجد صحفياً صفوة عمره، وكان والده قسيساً عصرياً مستنيراً، ولهذا كان الجد والأب من الطبقة المهذبة، وكانا معاً من أهل المواهب الذهنية، وكانا قارئين مشغوفين(44/12)
بالقراءة ودارسين مولعين بالبحث والدرس، فإذا كان مستر ويلسون اليوم من كبار العلماء والباحثين، ورجلاً من أكبر المفكرين، وسيداً عظيماً في عالم الأدب وميدان الخطابة، فإنه إنما أوتي جميع أولئك رأساً من أجداده وعشيرته، والوسط الأول الذي نشأ فيه، ولئن كان تربى في كثير من المدارس، وتخرج من عدة من الجامعات، فإن الفضل في جميع مشاعره الأدبية، وعظمته الذهنية، يعود إلى أبيه، وعن أبيه أخذ كذلك الروح المجونية في الحياة، المحتجبة في تضاعيف التعبير الشديد وعبوسة اللغة التي يتكلم بها، وذلك التقطيب الذي يبدو في معارفه، وقد حدثني أولياؤه وخلطاؤه عنه فقالوا إن صورة الفوتوغرافية لا تشبه حقيقته عند الذين يعرفونه، فإن الجبين العالي والفم المنطبق الشفتين، الثابت التقطيب والفك القوي، والصدغ العريض، والملامح المتجهمة، إنما تقدم للناس صورة ويلسون آخر يخالف ويلسون الذي يعرفونه، ولعل ذلك راجع إلى الثقة بالنفس، لأن الثقة بالنفس تكسب الوجه شيئاً كثيراً من الرزانة والوقار لا حقيقة له في النفس التي تختفي وراء ذلك الوجه، فإن وردر ويلسون المعروف في الحياة الخصوصية وبين الأصدقاء والخلطاء يتجلى وفي عينيه بريق ساطع، وفي فمه حركة مستمرة، وشفتاه لا تفتران عن الابتسام وإن تراءى في صورة الفوتوغرافية مقطباً، وأكبر مزايا ذهنه أن الكاتب الذي أولع بقراءة كتبه ولبث طول حياته ثابتاً على مطالعة تواليفه هو الروائي شارلز دكنز ومنه استمد قوة الملاحظة، وأدرك معرفة جميع الذين حوله، وإن نظر إليهم عن كثب في وسط الزحام العظيم أو في غمار الحفلات وسهرة الملاهي والاجتماعات، أو وهو مشغول الذهن بإعداد الخطابات، وإنه ليعود قافلاً من احتفال أهلي عظيم حيث الأمور تنهك الرجل الكبير وتذهب راحة الوالي العظيم السلطان، غير متعب ولا متراخي القوي، لأنه اعتاد أن لا يجد لهواً إلا في ملاحظة الناس الذين حوله، ولا يبهجه إلا الاطلاع إلى الذين يحوطونه.
ومن هذا يستطيع المرء أن يصف ويلسون على الرغم من أنه من أصل إيرلندي بأنه أشد الأمريكيين أمريكية، لأن الذهن الأمريكي إنما ينظر إلى الأمور الرزينة رزيناً، وإذا باشر عملاً - كهذه الحرب مثلاً - فلا يدعه حتى يتهمه، ويهجم عليه بصبر لا رحمة لنفسه فيه ولا إشفاق، ولكن العادة أن الأمريكي لا ينظر إلى الأمور نظراً محزناً رزيناً جد الرزانة، لأن الأمريكي لا يزال يحب المجون والتهييص ولاسيما في الحديث، حتى ليخيل للإنسان(44/13)
أن الأمريكان أقرب إلى الفرنسويين أرواحاً ومشاعر منهم إلى الانكليز أو الاسكوتلنديين، والأمريكي لا يريد أن يلوح رزيناً ولكن البساطة - وهي الخلق السائد في ذلك العالم الجديد - تجعل الرزانة إذا هو اتخذها مضحكة متباينة، ولذلك - على الرغم من معارف ويلسون المتجهمة ولهجته القاسية التي تدل على حدة الطبع وحمية النفس، وتوقد الوجدان - لا ينبغي أن تحسب الرجل على رزانة مصطنعة غير طبيعية، ولا يجمل أن يظن الرجل متكبراً متغطرساً صلفاً كما اعتاد الناس أن يحسبوه ولكن من بين الفضائل التي أخذها عن أبيه وتعلمها عن والده هو أن يكون رجلاً بين الرجال، وكل إنسان عرف ذلك القسيس الشيخ المهذب، وإن لم يكن إلا أستاذاً للعلوم الدينية الغامضة - يعلم أنه كان يكسب فؤاد المرء بتلك الحرية والصراحة في الحديث التي يستمدها من قلب طيب كريم بين جوانحه.
فلما انتقل الأستاذ ويلسون من التدريس في الجامعة لكي يتقلد ولاية مقاطعة نيوجرسي كان الناس يذهبون إلى أنه سيصبح لعبة في أيدي السياسيين العمليين ولكن ظهر بعد ذلك أن نيوجرسي تلك المقاطعة الصغيرة أصبحت أرقى مقاطعات الولايات المتحدة الأمريكية في القضاء والتشريع والحكم والإدارة، ولو أننا قارنا ويلسون وهو حاكم تلك الولاية به وهو اليوم على رأس مملكة عظيمة، لرأيناه في الأولى صغيراً بالنسبة إليه الآن، ولكن عندما يذكر تاريخ الماضي يعلم الناس أن أعماله في تلك المقاطعة كانت مثالاً من أبهر الأمثلة على رجل برلماني وقائد حمي يسوس الحوادث والرجال ويسوقهم إلى غرضه الذي يعمل له.
ولعل سائلاً يسأل عن الطرائق والصفات والمميزات التي جعلت حاكم ولاية جرسي قديراً على هذه المعجزات، فليعلم الناس أنه نقيض ما يحسبه الناس والصورة المعارضة لما كان يتأول القوم فيه، فلم يكن أستاذاً غامضاً عليه خشونة العلم وثقل روح العلماء، بل كان محبباً رفيقاً متسامحاً، وديعاً هادئ الطبع، يعرف الرجال ويعرف كيف يسوسهم أو بعبارة أخرى كان رجلاً مفكراً ودارساً باحثاً أوتي رزانة الغرض مع شيء كثير من روح الدعابة، فاستطاع بذلك أن يلقى جميع صنوف الرجال ويمتزج بهم ويكسبهم إلى صفوفه ويظفر بهم في جانبه، ويحركهم كما يحرك حجارة الطاولة وأدوات الشطرنج ومن هذا تعلم أن ويلسون لم يدرس شارلز ديكنز عبثاً وبلا جدوى.(44/14)
ولكن لا ريب في أن هناك صفات أخرى كان لها الفضل في نجاحه الباهر وذلك أنه كان أميناً، شجاعاً، جلداً رابط الجأش، ولم يكن الرجل أخا عزة مصطنعة وكبر متعمل، ووقار متكلف، ولم يكن من أساتذة الجامعات المزهوين بأنفسهم المعتزين فإذا غلبته المصاعب، وعرضت شدائد لا يستطيع لها مغالبة، ترك مكتبه بكل سكون، وغادر كرسيه الهزاز ومضى إلى منصة المنبر يحدث الناس الحديث ويقص عليهم الأمر، وهو لا يعبأ بأن يقال عنه خطيب مكثار، أو متكلم خداع، بل يعلم أنه إنما التجأ إلى شعبه الذمي يحبه ويدافع من أجله، وينضح عنه.
وهنا انتقل إلى شرح الرجل من ناحية أخرى، فأقول أن ويلسون رجل إنساني، والمخلوقات الإنسانية لا تستطيع أن تثبت على قسوتها التي تحشدها للغرض الذي تضع نصب عينها ما لم توجد لنفسها شيئاً من اللهو لا تستطيع أية قوة أن تعيش بدونه، ولكن الأستاذ ويلسون تابع عمله إلى غرضه بكل ما تستطيع القوة الآدمية، وليس الأمر المدهش أن يكون ويلسون رئيساً للجمهورية، وأن يكون في هذه الساعة الرجل الصالح للرئاسة، بل لقد يكون ادعى للدهشة وأعجب لدى الناس، أن لا يكون كذلك، لأن تقلده الرئاسة ليس إلا نتيجة طبيعية منتظرة لإعداده نفسه منذ رجولته وتدريبه إياها في سبيل الرئاسة، وكما يدرب اللاعب نفسه ويمرن عضله وساقيه وشدة أسره لكي يظهر في ميدان المصارعة والألعاب الرياضية، ظل ويلسون يمرن نفسه لهذا المنصب العظيم الذي يتقلده اليوم وللساعة الرهيبة التي تبدو فيها عظمته العامة المعروفة في الخافقين ولم يكن ويلسون باحثاً طالب علم منذ صغره، إذ ورث ذلك عن أبويه والوسط الذي نشأ فيه، بل كان طول حياته بعد ذلك باحثاً يدرس الشؤون والعلوم والموضوعات التي تخلق برجل يتصدى للحياة العمومية، فقد كان يتناول الرياضيات - أي علوم الرياضة - في جرعات صغيرة تكفي لاجتيازه الامتحانات، حتى لقد روي عنه أنه كان في المدرسة يأخذ أقل درجة - أي النهاية الصغرى - في علوم الفلك، وإنما توفر على إجادة العلوم التي لا بد منها في الحياة العمومية، كالتشريع والاقتصاد السياسي والتاريخ، وهذه هي العلوم بأعيانها التي التجأ إلى تدريسها عندما كان يسعى على الرزق أستاذاً عادياً من الأساتذة، وبتدريسها كذلك زادت معارفه فيها وتوسعت معلوماته ولا أظن أن هناك أدباً من الآداب القديمة أو شيئاً من الأدب(44/15)
الحديث لم يدرسه ويلسون ويأخذه بالشرح والتحليل، وكتب بعد ذلك كثيراً في مسائل التشريع والقانون والأنظمة الاجتماعية.
على أن ويلسون أذن لنفسه دهراً وجيزاً أن يتحول قليلاً عن خطته التي اختطتها وهي تدريب نفسه لأجل الحياة العمومية وذلك أن اشترك ورجلاً آخر في إنشاء مكتب للمحاماة في المدينة ولا يصح أن نقول بوجه عام أن أمر الاشتغال بالقانون ومعالجة القضايا مضيعة لزمن الرجل الذي أعد العدة للحياة العمومية، فإن أبراهام لنكولن، وهو ذلك الرئيس القديم الرائع الذي تولى أمر الولايات المتحدة في زمن الحروب الداخلية وكان من أكبر أهل الأدب والخطابة لم يعرف أخلاق الناس، ولم يخبر الأمور، ويدرك أسرار الحياة إلا بعد أن كان محامياً طوافاً يتقلب في البلاد بحثاً عن القضايا، ويجول في المدائن للحصول على المرافعة في الخصومات، ولكن ويلسون لم يكن له طباع ذلك الرئيس - لنكولن ولم تكن نشأته مثل نشأته وكان ولا ريب سيصيب من تضحية نفسه سنين طوالاً للبت في حقوق الأفراد وظلامات الأشخاص تأثيراً في ذهنه وبدنه كان سيكون ذا خطر شديد عليه فيما بعد، على أن حسن الحظ أنقذه من هذه الصناعة، لأن مستر ويلسون لم يخلق ليضحي نفسه للزبائن وأرباب القضايا والحادثات، لأن الله لم يفتح عليه بزبون ولا راجت المحاماة على يده فلم يكن انحرافه عن خطته التي رسمها لنفسه وسلوكه طريقاً غير صالحة له ولا صالح لها إلا أمراً عرضاً لم يلبث أن زال.
وعاد بعد ذلك إلى أمره الأول، ورجع إلى حجرات التدريس، وإلى تعليم الطلاب، وقد ذكرت أن الموضوعات التي توفر عليها ذهن ذلك الرجل هي التشريع والاقتصاد السياسي والتاريخ، ولكن هناك فرعاً من العلم برع فيه وحشد كل ذهنه له، ونعني به الأدب، ولا ريب في أن الولوع بالأدب ورثه عن أبيه، وشجعه والده على الإقبال عليه، ونشأ لذلك عليه من طفولته، ولكن لو لم يرثه عن أبيه، وعن المدارس والجامعات، لكان ويلسون ولا ريب سيروح من نفسه بالأدب ولوعاً، وهو رجل أديب بكل معنى هذه اللفظة، بل لعلني مصيب إذا قلت أنه أكبر أديب في رجال السياسة العصريين وهو قارئ يلتهم في القراءة كل نوع من الكتب، وقد أخبرني طبيبه المشهور الأميرال جرايسون أن من عاداته الخطرة أنه قد يهتم بقراءة رواية من الروايات فيسهر على قراءتها حتى الرابعة بعد منتصف الليل،(44/16)
أي أنه يختلس بضع ساعات من الزمن اللازم للترفيه عن بدنه من متاعب حمله العظيم.
ولعلكم سائلون ما أحب شيء إلى ذهنه في القراءة، فأقول أنني كلما قرأت أو سمعت خطب الرجل، لا أفتأ استنتج منها أنه هذب أسلوبه من كثرة قراءة الأدب اليوناني القديم فإن أكبر مزايا ذلك الأدب هي البساطة المتناهية وقوة التعبير والوضوح، والوضوح هو لازمة من لازمات البساطة، ولو أنت استعدت إلى ذهنك القطع والمختارات التي آثرت حفظها من الأدب اليوناني القديم وآثرت في فؤادك أشد التأثير وهزت روحك هزاً، لرأيتها أبسط ما يكتب ولألفيتها خالية من التعمل والطلاء وخذ لذلك مثلاً قصة موت سقراط التي وضعها أفلاطون في كتابه فيدو. . . فإنك لا تجد في أضعافها شيئاً من المحسنات، بل هي نهاية في البساطة والوضوح، على أنها تصل إلى أعماق الأعماق من الأفئدة، وكان حدسي هذا وأخذي بالظنة في الأسباب التي هذبت أسلوب الأستاذ ويلسون حقاً وصواباً كما عرفت ذلك من بعد إذ نبأني صديق له أن ويلسون درس جميع خطابات الخطيب اليوناني العظيم ديموستنيس حتى استطاع أن يقرأها في اليونانية بكل سهولة ولباقة كأنه يقرأ في كتاب انكليزي، والذين يذكرون ديموستنيس يعلمون أن أول مزايا خطبه المأثورة هي البساطة المتناهية، بل لقد حدثني من أثق بحديثه أن ويلسون حتى الساعة وهو في وسط متاعبه الرسمية لا ينى يعود من الحين إلى الحين إلى فتح تاريخ ذلك الخطيب العظيم يتلمس من خطبه الوحي ويستنزل منها الإلهام ويتطلب العزاء والحكمة والهدى، وأنا أذهب إلى أن ويلسون استمد أسلوبه العجيب أيضاً من سادات الأدب الفرنسوي وهو أقرب آداب الغرب في بساطته إلى آداب اليونان، وهذا التفاني في الأدب لم يكن وراءه غرض إلا إعداد نفسه للحياة العمومية، وهذا التهذيب الذي كان يستعد به الرجل لم يكن معروفاً للعالم، ولاسيما أهل السياسة ورجالاتها فلما طلب إليه أن يترك هدوء المدرسة وسكون المدرسين إلى ضجة الانتخابات وجلبة الحياة السياسية، ظن الناس أن أمامهم رجلاً جديداً عليها حديث العهد بشؤونها فلم يلبثوا أن عجبوا إذ رأوا إزاءهم رجلاً مدرباً منذ عهد طويل عليها، ويوم كان يدرس ديموستنيس ويعني كلمة الجوامع، لم يكن يقصد بذلك إلى الجلوس في امتحان الجامعات، ونيل نمرة طيبة فيه، وإنما كان يريد من ذلك غاية أكبر ومقصداً أسمى، وهو إعداد نفسه لمنصة المنبر ومواقف مجلس التشريع في ترينتون وواشنطن وإعانته مزية(44/17)
أخرى على أمره، فقد منحته الطبيعة صوتاً أجش عميقاً فهذبه وأخذه بالمران والتدريب في الأندية ولكنه لم يكن يريد أن يكون مغنياً، بل خطيباً مفوهاً، وكان تهذيب صوته، أشبه بتهذيب المغنين أصواتهم لأنه عرف علم ضبط تنفسه عند الكلام ولعل هذا هو السبب الذي جعل صوته، وإن لم يكن جهيراً مرتفعاً يصل إلى آخر رجل في الصفوف المتأخرة من الزحام العظيم في القاعة الرحيبة وجعل كل كلمة ترن في الفؤاد فتأخذ مجامعه.
والآن أصل إلى النتيجة الباهرة من هذا التدريب الذي أعده لنفسه وهو ويلسون في مقعد الرئاسة، فهو في كثير من الوجوه قد أعاد استخدام الطرائق التي سلكها في ولايته على مقاطعة نيوجرسي، وأنقذ الجمهورية الأمريكية العظيمة من كثير من أخطارها الكبرى، وكانت العادة من زمن بعيد أن الرئيس يلقي الكلام إلى المجلس قولاً ملفوظاً - لا خطبة مكتوبة - ولكن لما ولي على الجمهورية الرئيس جفرسون جعل يتلو خطاباته في رق مسطور، ولعل ذلك لأن مقدرته الكتابية كانت أسمى من براعته الخطابية، فاحتذى الرؤساء بعده حذوه وطرسوا على آثاره، ولكن جاء ويلسون فحطم هذه القيود وذهب بأثر تلك السنة ولم يدع بينه وبين نواب الأمة غير قلبه ولسانه.
وهنا أذكر نبذة عن الحياة اليومية التي يعيشها الرئيس ويلسون والعادات التي اعتادها في نظام عيشه، وهي جميعاً مختارة من المعلومات التي كان يدلى بها إلى الصحف طبيبه الخاص - الأميرال جرايسون - ولم يكن لأحد تأثير على ويلسون أشد من أثر طبيبه الخاص، ولما جاء ويلسون إلى الدار البيضاء وارتقى إلى الرئاسة لم يكن على صحة جيدة، وكان ككل المفكرين الذين ينهكون أذهانهم في أعمال شاقة، يعاني مرض عسر الهضم فأكرهه الطبيب على أن يتخذ لنفسه ألواناً من الرياضة، ويختار ضروباً من التلهي والترويح، وكان من ذلك أن اعتاد الرئيس أن يخرج في وقت محدود غير حافل بالجو إذا أمطر أو السماء إذا غامت، أو العاصفة إذا عصفت، فينطلق إلى حلقات لعبة الجولف وهو منذ طفولته ماهر خبير بركوب الجياد ولذا يؤدي أكثر رياضته على ظهور الصافنات، وهو حذر حريص من ناحية طعامه وينصاع لمشورات الطبيب إذا وصف له لوناً من الطعام لا تقبله نفسه ولا يشتهيه، وهو لا يزال يشارك أبناء وطنه وأفراد أمته في الولوع بالحلوى إلى حد خطر، ولكنه استطاع أن يضبط استهتاره هو نا ما، وهو شريب كبير لا(44/18)
شريب خمر وإنما شريب ماء مثلج، فهو أحب شيء إليه، واشتد طبيبه في النصح له بأن يعمد إلى التلهي كذلك بجانب الرياضة فلم يسع ويلسون إلا الانتصاح ومضى يزور دور التمثيل وحفلات الموسيقى وحلقات الغناء على فترات صغيرة من الأيام، ومن أكبر مزايا خلقه أنه قادر على أن يخلع عنه مظهره الرسمي، ويتجرد من شؤون عمله، ويتحرر من مسؤولياته، إذا هو كان في لهوٍ أو ترويج، فلا يكاد يستقر به المقام في مقصورته من دار التمثيل وترتفع الستار عن المسرح، حتى ينسى ويلسون أنه رئيس الولايات المتحدة، وهذا التجرد من الرسميات يتجلى في حلقات لعبة الجولف حتى أن شركاءه في اللعب لا يجرأون على ذكر أية كلمة تتعلق بالشؤون العمومية أمامه وهم لاعبون وقد نسي رجل من الذين كانوا مقربين في تلك الحلقة إليه، ومكثرين من اللعب معه يوماً هذه العادة فذكر أشياء بسبيل ذلك، فلم يسمح له الرئيس بعد ذلك بلقائه أو الاشتراك معه في تلك الحلقة.
والرئيس ويلسون قصاص أحاديث طلبة، ورجل عذب المحضر، مفعم الجعبة من النوادر والحكايات حتى لقد قص على حكايتين أو ثلاثاً يوم لقائي به، وهي حكايات نذكرها في موضوعاتها وظروفها ونجيء بها تأييداً لحديث، أو شفاعة لحكمة أو موعظة.
ذلكم هو الرجل الذي أخذ على نفسه أن ينقذ الدنيا جميعاً من الشبح المخيف الذي عم الأرض: وهو الحرب، وهو الرجل الذي أراد أن ينثر نعمة الحرية في كل ركن من أركان الدنيا، ويعمم الديمقراطية في الشعوب أجمعين، وإذا كان في الدنيا رجل يستطيع أن يؤدي هذا الأمر العظيم الجليل الهائل فهو هو ذلك الرجل الذي أصبح اليوم بغريزته وعقيدته ورأسه وفؤاده سيد أنصار الحرية والسلام العام.
هو الرئيس ويلسون.(44/19)
خواطر الطفولة
هذا مقال فلسفي فكه، بديع المنحى، رائع المغزى، وضعه في هذه الأيام الأخيرة رجل من أكبر كتاب الدنيا في الروايات وفي الصفوف الأولى من العلماء المحدثين، وأدباء انجلترا العصريين، وهو السير كونان دويل، ولا يذهبن القارئ إذ يقرأ هذه الأسطر إلى أنه سيقرأ رواية جديدة عن شرلوك هولمز وهو ذلك الضرب من الروايات الشرطية، والأقاصيص التي افتن كونان دويل في سبكها وإظهار حيل اللصوص والشرط في تضاعيفها، ولا يحسبن أنها تدخل في باب تاريخ الحرب الكبرى الذي كلفت الحكومة الانكليزية هذا الكاتب العظيم بوضعه، ومنحته في سبيل إتمام هذا التاريخ مائة ألف جنيه تنشيطاً له واحتثاثاً، بل هذه ليست إلا صوراً رسم فيها ذلك الروائي المبدع وجهاً جديداً من حياته الخاصة، وصور بها أطفالاً له نجباء، وسيعلم القارئ أن السير كونان دويل ولا ريب وجد في تصوير هذه اللوحات الصغيرة ترويحاً لنفسه في هذه الأيام العصيبة التي تركت أثرها في كل روح، وشغلت كل ذهن، ونحن نعتقد أنها ستقع هذا الموقع من نفس القارئ وتخرج به من قراءة أخابير الحرب ومشاغلها وهمومها إلى قراءة قطعة عذبة لذة ذات مغزى طيب نافع.
هذه الصور التي أرسمها هي عن ثلاثة أطفال، ولكن أشخاصها في الحقيقة خمسة، على أن الشخصين الآخرين ليسا إلا من باب الصور الإضافية فقط أما الأطفال الثلاثة فهم مختلفون جد الاختلاف وأكبرهم سناً صبي في الثامنة ندعوه لادي وإذا كان في أهل الإنسانية فارس انحدر إلى الدنيا جاهزاً. . وتام الفروسية فهو هو، فإن له روحاً أشجع ما يكون من الأرواح وهي أنكر الأرواح لذاتها، وأطهرها صفحة، وأنصعها أديماً، وهي تسكن بدناً طويلاً نحيفاً كامل الهيئة، خفيف الحركة، وهو صبي خجول، ولا يشرق أمام الغرباء، ثم يتلوه الطفل دمبلس وهو يناهز السابعة، ولن ترى في الدنيا طفلاً مثله استدارة وجه ونعومة خد، تحت عينين واسعتين شريرتين تلمعان مجوناً حيناً، ثم تنطفئان حيناً فتلوحان حزينتين ذابلتين، وفي هذا الطفل بذور الرجل العظيم، وأساس الجبار الهائل، وإن لروحه عمقاً وسكوناً ووقاراً تتجلى في كثير من الأحايين، ولكنه في ظاهره طفل الأطفال، وأشد الصبيان صبيانية، وهو أبداً يطلب العبث والأذى والمجون ويصرخ دائماً قائلاً، الآن أريد أن أتملعن وأمجن!. . فإذا قالها أتمها وإذا فاه بها أنفذها، وهو يحمل حباً خالصاً ووداً لجميع من حوله من المخلوقات، وهو أشد الناس ميلاً إلى خبر الحشرات ومعرفة أسرار الكائنات،(44/20)
وقد شوهد كثيراً وهو يمسك بيده حشرة من الحدائق فيدنى فمها من حافة آنية مفعمة بالزبد ليعلم إذا كانت تحب الزبدةكما يقول:
وهو يتفحص الحشرات ويخرجها من مكامنها بشكل عجيب، وطريقة غريبة ولك أن تضعه في أجمل حائط. . وتدخله أبهج بستان فإنك غير لابث قليلاً حتى تراه طالعاً عليك يحمل في يده ضفدعة أو بزاقة أو فراشة، ولا شيء في الدنيا يحرضه على إيذائها وإنما يمنحها ما يظنه كرماً وحسن معاملة ثم يعيدها إلى أوطانها ويردها إلى أماكنها التي التمسها فيها، وقد اعتاد أن يكلم أمه كلاماً خشناً إذا سمعها تأمر الخدم أن يقتلوا الفراش إذا وجدوه فوق الكرنب ولا يرضيه أو يقنعه أن يسمع منها أن تلك الحشرات مؤذية للخضر ضارة به.
وإن له لمزية على أخيه لادي، وهي أنه لا يعتريه الخجل مطلقاً ولا يغريه بالسكوت، بل لا يلبث في لحظة أن يألف أي إنسان ويهجم عليه بالحديث ويسأله الأسئلة المتكاثرة وهو مخلوق فرح ولكنه (خلقي) أحب الأطفال إلى الشجار إذا قطب جبينه واحمر خده، وتقلصت شفتاه، فإذا عاودته هذه الحال استطاع أن يدفع أخاه الأكبر ويلصقه بالجدار، وذلك لأن أخاه يشعر بالفروسية، وتمسكه طبيعته النبيلة عن إيذائه أو مقابلته بالمثل، ولو قدر الله أن تظهر عظمة هذا الطفل الدفينة فيه النامية بين جوانحه، فهل تعرفون فيم تظهر، وأي منحى تنتحي، في قوة الخيال، فقل له أيتما حكاية فلا تلبث أن تجد الطفل قد راح مذهولاً مبهوتاً سارحاً في ملكوت الله، وإنه ليجلس جامداً في مكانه - لا حراك يتحرك، ولا يد يرفع، ولا رجل يهز، ولا يدع عينيه تتوليان عن عين محدثه وهو يلتهم كل غريب من الأقاصيص - وغامض مبهم من النوادر والحواديت وهو في ذلك نقيض أخيه، فإن هذا قلق لا يستقر به مكان، ولا يطمئن له مجلس، شغوف بأن يتحرك ويجري ليؤدي عملاً، أو ينفذ أمراً، ولكن دمباس الأصغر ينشغل ويثبت في مكان لا يبرحه، إذا كان هناك شيء خليق بأن يسمع، وإن له لصوتاً هو أحد مزاياه، وخاصة من خصائصه، فإذا كان قادماً عرفت ذلك عن كثب وهو مستهل طالع عليك من مسافة، وهو بهذه الرهبة الطبيعية، فضلاً عن جرأته وبلاغته واستفاضة كلامه يتخذ الرئاسة على إخوته في أي مكان يحتله على حين ترى أخاه الأكبر - وهو من نبله يرى نفسه أرفع من أن يحسن شيئاً من عوامل الغيرة - يرضى بأن يكون إزاء أخيه الصغير بمثابة الجمهور المتفرج الضاحك قبالة(44/21)
المغنى الجهير الصوت.
وأما الطفل الثالث فمخلوقة في الخامسة جميلة كملاك وعميقة الروح كبئر، والطفلان بجانبها قليلاً الغور وبركتان ظاهرتا القاع بالنسبة إلى هذه الطفلة الصغيرة، في وضوح نفسها واعتزالها وإخلادها إلى ذات روحها، ونحن نعرف الولدين أما البنت فلا نستطيع لكنها إدراكاً، إذ يلوح وراء هذا البدن الضئيل الصغير شيء قوي، وعنصراً شديد التأثير وإن لها إرادة هائلة، وعزيمة صارمة فلا شيء يردها عن أمرها، ولا أمر في الدنيا يغريها بترك منتوى نفسها، وإنما تستطيع النصائح والإرشادات الرقيقة اللينة أن تهذبها وتكبح جماحها هو نا ما، والطفلان لا يستطيعان شيئاً ولا حيلة لهما ولا رجاء، إذا هي أصرت على شيء، أو أجمعت النية على شأن من الشؤون، ولكنها لا تبدي هذه النية القاسية إلا إذا أرادت أن تعلن عن عظمتها، وتظهر جلالها، وهذه لا تكون إلا على فترات ولا تقع إلا في أحايين إذ أن عادتها أن تجلس صامتة هادئة معتزلة متنبهة لجميع ما يحدث حولها، دون أن تسهم فيه إلا بنظرة أو ابتسامة وهي وأخوها الصغير دمبلس حليفان صديقان وإن كانا لا يفتآن يقعان في شجار المحبين ومعاكسات العشاق، فإذا كانت يوماً غضبي منه لم تذكر اسمه في صلواتها وراء أمها فتقول اللهم بارك كل إنسان إلا دمبلس وإذ ذاك تصيح بها أمها، ما هذا؟ ما هذا؟ يجب أن تذكري اسم أخيك!. وحينئذٍ تقول متكرهة. . إذن، فاللهم بارك دمبلس الفظيع!. . بعد أن تخص بالابتهال إلى الله قطتها وجديها وعروسها الخشبية.
وإن حبها عروسها خلق عجيب من بين أخلاقها، وهو يثير في الذهن نظرية علمية يؤيدها الأساتذة والفلاسفة، فقد بلغ من حبها لها أنها لا تذهب إلى أي مكان إلا اصطحبتها معها، وإن جميع لعبها الأخرى لا تعزيها عن غياب هذه العروسة، فإذا سافرت الأسرى إلى المصطاف على ساحل البحر فلا غنى عن سفر العروسة معها، ولن يغمض جفنها إلا إذا كانت بين ذراعيها - وإذا دعيت العشيرة إلى مأدبة، أصرت على حملها إلى الوليمة - وهذا الخلق يوحي إلى الفلاسفة شيئاً من تاريخ النوع الإنساني، فإن هذه العبودية التي تشعر بها الوليدة نحو عرائسها، صورة حية من نشوء الأديان، وهي أثر من آثار ساكن الكهوف والإنسان الأول، والوثني القديم، وفي حب هذه الطفلة لعروستها عبادة الوثنية فإن الهمجي المتوحش يختار الشيء التافه الذي لا يستحق العبادة فيعبده، وكذلك ترى هذه(44/22)
الهمجية المتوحشة الصغيرة تعبد عروسة من الخشب.
هؤلاء أطفالنا الثلاثة، صورتهم صورة خشنة لا دقة فيها ولا تلوين ولا تجميل بقدر ما استطاع قلمي الضعيف أن يصف ويرسم، والآن دعنا نتخيل أننا في فصل الصيف، والوقت مساء، والظلام قد عسعس، وقد جلس الوالد يدخن في مقعده، والأم عن كثب تسمع والأطفال قعود كالحزم على السجادة وهم يتباحثون ويتناقشون ويجتهدون في حل عقد مسائل الحياة الصغيرة الغامضة عليهم، وعندما يجلس أطفال صغار يلعبون بفكرة جديدة، يروحون أشبه شيء بالقطط أمام الكرة، فكل منهم يقذفها إلى صاحبه، وأحدهم يلاطفها بيده، والآخرون يحاولون اختطافها بعضهم من بعض.
وكانت الطفلة تتكلم، وهي تحضن عروستها التي تؤثرها على جميع لعبها، فلم يسع الوالد إلا أن يخفي وجهه وراء الصحيفة التي كان يجيل البصر في أسطرها، ويشحذ سمعه للحديث الذي راح يدور بين الأطفال.
قالت الطفلة: إنني لفي عجب - لا أدري هل سيسمحون لي بدخول عروستي معي إلى الجنة أم لا.
فضحك الصبيان، وكانت عادتهما أن يضحكا لجميع ما تقول - فأردفت تقول. . إنهم إن لم يسمحوا بذلك، فلن أرتضي الدخول أبداً إلى الجنة وحدي.
قال دمبلس: ولا أنا إذا لم يسمحوا لي بدخول نمري!
وهنا عادت الطفلة تقول: سأقول لهم أنها عروس نظيفة هادئة ساكنة جميلة لا تؤذي أحداً في الجنة. .
قالت ذلك وهي تحتضن العروسة وتلاطفها.
وهنا نظر لادي إلى أبيه فقال. . . ما رأيك في هذا يا أبي؟ هل تظن أن في الجنة لعباً وعرائس!. .
قال الوالد. . بلا ريب، يوجد فيها كل شيء يستطيع أن يسعد الأطفال ويبهجهم.
قال دمبلس: وهل فيها قدر ما في ألف صنف؟
قال الشيخ: وهو يبلع ريقه متحيراً. . بل أكثر!. .
فصفق الأطفال الثلاثة فرحين مبتهجين لهذا النبأ الخطير.(44/23)
قال لادي: وهو أحب الأطفال إلى الحشرات وعلم الحيوان.
أبتاه العزيز: إنني متحير في أمر الطوفان، متعجب منه أشد العجب.
فسأله أبوه. . ومم العجب يابني؟.
قال الطفل: من مسألة السفينة، فقد تعلمت أن جميع حيوانات الدنيا كانت فوق ظهرها، وإن من كل حيوان زوجين اثنين، أليس كذلك؟
قال الوالد: هو ذلك!
فسأل الطفل: إذا كان ذلك كذلك، فماذا كانت تأكل الحيوانات آكلة اللحوم؟
وأنت فتعلم إن الإنسان يجب أن يكون أميناً مع الأطفال فلا يدلى إليهم بأجوبة مضحكة على أسئلتهم الغريبة، فإن أسئلتهم في العادة أكثر عقلاً وحكمة من أجوبة آبائهم.
قال الشيخ: وهو يزن كل عبارة يقولها - الحقيقة يا بني، هذه الأقاصيص قديمة جداً جداً، وضعها اليهود في التوراة، ولكنهم استمدوها من القوم الذين كانوا في بابل، ولعل أهل بابل التقطوها من قوم قدماء أدركوا شباب العالم، وإذا تنقلت قصة مثل هذا التنقل، فقد يضيف إنسان عليها شيئاً ويردف آخر على ما أضاف الأول أشياء، ولذلك لا يمكن أن تنحدر إلينا الأحداث على حقائقها التامة.
قال الطفل مستنتجاً: إذن فهي كاذبة لا حقيقة لها!. .
فأجاب الوالد: بل أريد أن أقول حقيقية، فقد كان في الدنيا طوفان عظيم، وأظن أن قوماً استطاعوا النجاة منه وأنقذوا معهم حيواناتهم، فلما أقلعت السماء، وجفت الدماء، نزلوا إلى الأرض وحمدوا الله على سلامتهم.
فسأل الطفل: وماذا كان رأي الذين لم ينجوا من هذا الطوفان.
قال: هذا ما لا علم لنا به.
فقال الطفل: بل بالطبع لم يشكروا الله ولم يحمدوا.
فقال أبوهم: لقد لقوا عقابهم وحسب.
وهنا انبرى دمبلس الأوسط فسأل فجأة. . هل ينبغي لنا أن نفعل كما كان يفعل عيسى؟
قال أبوهم: بلا ريب يا بني العزيز، فقد كان أنبل رجل.
فسأل الطفل: وهل كان ينام من المغرب يا أبي؟(44/24)
قال الولد: لا أعلم عن ذلك شيئاً.
فقال الطفل: لو كان عيسى ينام حقيقة من المغرب فأنا لا أريد أن أقتدي به في هذه العادة.
قال الطفل الأكبر: وهل كان يأخذ شربة زيت من الحين إلى الحين.
فأجاب الوالد: إنه كان يصدع بما يؤمر، يا بني لقد كان رجلاً طيباً، ولذلك كان ولا ريب طفلاً طيباً في طفولته.
قال لادي: إن أختي الصغيرة رأت الله أمس!.
وهنا سقطت الصحيفة من الوالد رعباً وحيرة.
فأردف الطفل يشرح الأمر وهو يقول: لقد أجمعنا أمرنا على أن ننام على ظهورنا ونحملق في السماء حتى نرى الله عياناً ولهذا وضعنا السجادة على العشب وامتددنا جنباً لجنب، ورحنا نحملق بقدر ما استطعنا، فلم أر شيئاً، ولم ير دمبلس شيئاً، ولكن الطفلة تقول أنها رأت الله.
فأطرقت الطفلة برأسها ضاحكة وقالت أجل لقد رأيته.
فسألها أبوه وما شبهه يا طفلة؟
قالت الطفلة شبهه شبه الآلهة تماماً، وأمسكت ولم تزد.
قال لادي: وهو يمسك بأطراف الموضوع، أبي، من هو الأقوى، الله أم الشيطان؟
قال أبوه، الله بلا ريب لأنه يحكم كل شيء.
فسأله ثانية: إذن فلماذا لا يقتل الشيطان؟
وأردف أخوه: ولماذا لا يسلخه؟
وقال الأول: ولو فعل لزال كل سوء من الأرض.
أليس كذلك يا أبي؟
فوقع الوالد في الحيرة الكبرى فجاءت زوجته إلى عونه وراحت تقول للأطفال، لو كان كل شيء طيباً في الحياة سهلاً في الدنيا، إذن لما كنا واجدين شيئاً نحاربه ونجاهد إزاءه يا أبنائي الأعزاء، وإذ ذاك لم تكن لتتهذب أخلاقنا، وتتحسن نفوسنا، وتستقيم أرواحنا.
قال الوالد مردفاً على قول الوالدة: وكانت تكون الحياة أشبه بميدان لعب الكرة، واللاعبون في صف واحد لا يجدون لاعبين أمامهم يقاومونهم.(44/25)
وعادت الأم تقول: لو لم تكن الهموم والشرور والنقائص والمضار، لم نجد شيئاً نميز به، وبضدها تتميز الأشياء.
قال الطفل: بذلك المنطق الغريب الذي يجنح إليه الأطفال، إذا صح ما تقولين يا أماه، فإن الشيطان نافع أكبر النفع وهو في النهاية ليس رجلاً مسيئاً كما كنا نظن.
قال الوالد متحيراً: لا ينبغي أن نتصور الشيطان شخصاً بل نتصور جميع الدنايا والمعابات التي نرتكبها وجميع القسوات والفظاعات والشنائع، فهي الشيطان الذي نحاربه، فهل تظن في جميع هذا شيئاً نافعاً، أظنك لا تقول ذلك.
ففكر الأطفال في هذا ملياً، ثم رفع لادي رأسه فسأل والده وهل رأيت الله أنت يا أبي؟
فأجاب الوالد: كلا، بل شهدت أعماله، وهذا كل ما نستطيعه في هذا العالم انظر إلى الكواكب في الليل وانظر إلى القوة التي جعلتها في نظام متين، ومسيرة مضطردة لا تغيير لها ولا تبديل.
قال أحد الأطفال: لعله لم يستطع أن يجعل هذه الكواكب الشهب تقف في مكان واحد.
قال الشيخ: بل لقد أراد بها أن تكون شهباً لا مقر لها ولا مطمأن.
قال الطفل: ليتها كانت جميعاً شهباً، فيا الله من ذلك المنظر الجميل لو أنها راحت كذلك.
قال الأب: نعم، ولكنها في ليلة واحدة قد تنفذ في كبد السماء ثم لا تلبث أن تحتجب، فانظر ماذا يكون حال الدنيا إذ ذاك.
فلاحظ دمبلس: أحقاً أن الله يسمع جميع ما نقول؟
فأجاب الوالد: لا أعرف وهو خائف أن يساق إلى موضوع مخيف ولكن الأم كانت أثبت منه فقالت أجل يا بني، إنه يسمع كل شيء.
فعاد الطفل يسأل: وهل هو يتسمع علينا الآن؟ قالت: أجل.
فأردف الطفل يقول: إذا كان هذا فإن ذلك ليس من الأدب في شيء.
فابتسم الوالد لأنه أدرك المأزق الذي وقعت فيه زوجته، وتنهدت الأم حسري مرعبة لا تعرف ماذا تقول.
وهنا كان قد أمسى الليل، وحان موعد نوم الأطفال فنهضوا من مكانهم.
قالت الأم: لتقولوا دعواتكم عند النوم قبل الذهاب إلى المضاجع.(44/26)
فركع الثلاثة فوق السجادة، ولا تزال الطفلة مصرة على احتضان عروستها قال دمبلس صاحب الصوت العميق الأحش، وهو في موقف الإمامة، اللهم بارك كل إنسان أحبه واجعلني صبياً طيباً خير مثال للأطفال، ونشكرك اللهم ونحمدك على أن جعلت يومنا مباركاً ناعماً، اللهم أطل عمر أبي، وبارك في والدتي.
وهنا أردفت الطفلة تقول: اللهم أرسل سكراً كثيراً للمساكين.
وزاد عليها دمبلس، اللهم رخص لنا ثمن الغاز حتى لا يشكو أبي.
قال الوالد: آمين.
وانطلق الأطفال بعد تقبيلة المساء إلى المضاجع.(44/27)
كتاب الانحطاط
للكاتب ماكس نوردو الفيلسوف الهدامة البديع كتاب سماه الانحطاط بحث فيه على طريقته المعروفة عن أسباب الانحطاط السائد على العالم اليوم وبخاصة أوروبا، وعن مظاهره ونتاجه، ولعل القراء يذكرون أنا نقلنا إلى العربية كثيراً من آراء هذا الرجل، واخترنا له مذ السنة الأولى من كتابه الغرائب وأكاذيب المدنية الحاضرة وكتاب الانحطاط هذا واليوم نلخص لهم آخر فصل من كتاب الانحطاط وهو الذي عقده للبحث عن انحطاط أوروبا ومصير هذا الانحطاط قال:
أصيبت أوروبا في هذه العصور الأخيرة بالمرض النفساني أو العقلي الذي اصطلح علماء البسيكولوجيا والباثولوجيا (علماء النفس وعلماء الأمراض) على تسميته بالانحطاط، وهو مرض في الجهاز العصبي له تأثير شنيع على الحياة الذهنية والأخلاقية للفرد وبالتالي للجماعة، وأول من فطن إلى حقيقة كنه هذا الداء واستجلى غوامضه وأحاط بظاهره وباطنه ثم وضع له تعريفاً فنياً أصولياً هو البحاثة موريل إذ قال: إن أوضح فكرة يمكننا تكوينها عن مرض الانحطاط هو أنه انحراف فاسد عن صورة أصلية يترك المصاب به عاجزاً عن تأدية وظائفه الاجتماعية في الحياة، وهذا الداء ينتقل إلى الذرية بطريق الوراثة ويزداد ويتجسم مع التسلسل، وخواص هذا الداء - تعطل في نمو الملكات الذهنية والأعضاء البدنية وضعف وسقم فيهما.
وأهم أعراض هذا الداء النفسية هي: عدم الشعور بفروض الآداب وواجبات الفضيلة أعني قلة التمييز بين الخير والشر، فالمصابون به لا يعرفون ما يسميه الناس قانون الحشمة واللياقة فتراهم لأقل باعث من شهوة أو هوي يقترفون الإثم والجريمة بكل طمأنينة وارتياح، ولا يكادون يحسبون أن في فعلهم هذا ما يسوء الغير ويؤذيه، وهذه الخصلة في أقصى درجاتها تسمي الجنون الأخلاقي، ولها سببان نفسيان، الأنانية الشديدة، وسرعة التهيج العصبي، أعني العجز عن مقاومة الإرادة متى همت باتيان أي شيء، ومن أعراض الداء أيضاً سرعة تأثر العواطف (وإن كان هذا العرض ربما شوهد في الرجل السليم عندما يصاب بعلة وقتية كالمرض الجثماني أو انتهاك القوى أو بصدمة ذهنية، ففي هذه الحالة يزول العرض بزوال السبب) فترى المصاب يضحك حتى تسيل دموعه أو يبكي منتحباً بلا داع ولا موجب، فالشعر البارد السخيف يطربه ويشجيه، والغناء الفاتر الضعيف يميته(44/28)
ويحييه، وهو بين هذا وذاك يفخر ويتيه بما قد أوتي من رقة الإحساس وحدة الشعور، ويحسب أن الله قد خصه من دقة النظر ونفاذ البصيرة بما حرمه العوام والغوغاء من الطبقة الغبية البليدة، فيدلّ على أولئك المساكين ويرمقهم بعين الإصغار والاحتقار، وقد فاته أنه هو المسكين الخليق بالازدراء بل بالرحمة والرثاء، وإنه إنما يتيه ويفخر بداء وفساد في العقل.
ومن أعراض الداء أيضاً نوع من الكآبة والضيق والهم يعتري المصاب ويظهر فيه على صورة اليأس والتشاؤم والتبرم بالناس والكراهة لجملة ظواهر الحياة والكون، أو الكراهة لنفسه والتأفف من ذاته، قال العلامة موريل وأمثال هؤلاء لا تكاد تسمع منهم إلا الأنين والشكوى يندبون حظوظهم ويلعنون القضاء والقدر بألفاظ وكلمات محدودة معدودة لا تتغير ولا تتنوع ويصورون لأنفسهم بأيدي الخيال صوراً شنيعة من الخسران والخراب والتلف.
وهذا الضيق والهم والضجر تكون في العادة مصحوبة بالعجز عن القيام بالعمل أياً كان إلى حد الكراهية الشديدة للحركة على الإطلاق وموت العزيمة، والمريض المصاب بهذه البلية لا يخطر بباله أن سبب ما هو فيه من الضيق والملل ونتيجتهما من البلادة والتقاعد إنما هو فساد في الخلقة ومرض في العقل، ولكنه ترى أن الحالة التي هو بها هي نتيجة مشيئته الحرة واختياره فيعتقد أنه هو الذي فضل بمحض إرادته ترك الأعمال ترفعاً واستنكافاً من خسة العمل وحقارته وهو الذي تجنب السعي احتقاراً للدنيا وطلابها وعملاً بسنة الزهاد والمتصوفة وإيثاراً لمبدأ الرهبنة ودين البوذية، مادحاً نرفانا بأنه أكمل إنسان وأفضل مخلوق، فمثل هذا المصاب وأشكاله قد أعدتهم الفطرة لأن يكونوا شيعة الفيلسوف النابغة والمريض المصاب آرثر شوبنهور وليس عليهم إلا أن يتعلموا أصول البوذية حتى يعتنقوا هذه الديانة.
وعلى ذكر الفيلسوف العظيم الذي كان من زمرة المصابين بذلك الداء (الانحطاط) نقول إنه لا يتحتم أن يكون (المنحط) (المصاب بداء الانحطاط) خلوا من النبوغ والعبقرية، فلقد أجمع الباحثون طرا على عكس ذلك، قال العلامة ليجران (ربما كان المنحط عبقرياً، وذلك لأن الذهن المختل التوازن هو بطبيعة خلقته وتكوينه جدير أن يعظم فيه بعض الملكات بقدر ما يصغر فيه البعض الآخر فبينما يسوؤك ويحزنك بأخبث الرذائل وأنكر القبائح إذ(44/29)
يروعك ويفتنك بأعجب البراعات وأبدع المزايا) وقال العلامة روبينوفتش أن المنحط قد يبلغ من حيث ملكات التفكير والتصور (أي الملكات العقلية) درجة عالية جداً ولكنه لن يكون من الوجهة الأخلاقية إلا فاسداً فساداً تاماً، فهو يستخدم ملكاته الباهرة سواء في أشرف الأعمال وفي أخسها وأحقرها.
أما منشأ هذا الداء (الانحطاط) فهو ضعف الأعصاب وانتهاك القوى وهما نتيجة لسببين رئيسين، أولهما الانهماك في الشهوات والملاذ وما يقتضي ذلك من معاقرة الخمور وتعاطي المخدرات وكد الأعضاء وإقلاق البال وتهييج العواطف وثانيهما ما كابدته أوروبا في القرن السالف وما تكابده الآن من الثورات والحروب ونحن قائلون هنا كلمة في شرح تأثير الحرب على الشعوب بإنهاك قواها وإضعاف أعصابها بمناسبة الحرب الحاضرة.
قد اكتشف العلم الحديث الأمراض العصبية الناشئة من صدمة عصبية كطروء خطر فجائي مثلاً، فأثبت أن كثيراً ممن نجوا من الغرق أو النار أو حوادث القطارات أو ممن هددوا بالقتل قد فقدوا عقولهم أو أصيبوا بأمراض عصبية خطيرة مزمنة عقيمة، فما بالك بمن يغشون ساحة القتال ويغامسون حومة الوغي وأنهم ليكافحون كل هذه الأخطار مجتمعة في وقت واحد، فهم يبقون الأشهر والسنين مهددين في كل لحظة بالعاهات الفظيعة والموت الذريع محفوفين بمناظر الخراب والدمار والغرق والنار والجراح المخيفة وكثبان القتلى مكدسة مركومة مما تهلع له القلوب وتطيش العقول، أضف إلى ذلك الأعمال الشاقة التي تستهلك قواهم وتستنفذ مجهوداتهم، من الزحف المؤدي إلى الإعياء والحفا، وسوء الغذاء، والقحط أحياناً، وقلة النوم، واهتياج العواطف، ولا يقولن معترض إن الجندي يكتسب بالاستمرار مرانة على استقبال هذه الأهوال حتى يصبح عديم التأثر بتلك الفظائع المحيطة به، فرداً على هذا الاعتراض نقول إن قلة تأثر الجندي تؤول بأن منظر الفظائع الماثلة أمامه قد لا يستفز شعوره ولكنه يقع في حواسه بلا شك وتنقله الحواس إلى المراكز العصبية فيترك أثره في الجهاز العصبي، فكون الجندي لا يشعر بالصدمة العصبية - بل بالتحطم العصبي - ليس دليلاً على عدم حصول الصدمة، لأنه كثيراً ما شوهد في حوادث القطار والحريق والغرق أن المصاب وإن فقد الشعور أثناء الصدمة فلم يحس بهولها إلا أن آثارها من الأمراض العصبية لا بد أن تظهر ولو بعد مرور الأشهر على حدوث الصدمة.(44/30)
وعلى ذلك فلا ريب في أن الحرب هي منشأ لداء الانحطاط بين الجماعات وأن معظم الجنود العائدين من المعارك يحملون إلى أوطانهم أعصاباً مريضة، وهذه النظرية قد تكون أقل انطباقاً على الفريق الغالب منها على الفريق المغلوب لأن الشعور بالفوز من ألذ إحساسات النفس البشرية، ونتيجة هذا الإحساس اللذيذ من تجدد النشاط والقوة خليق أن يقاوم المضار الموبقة الناشئة من تأثير فظائع الحرب، ولكنه لا يستطيع محو هذه المضار البتة، وهكذا يعود الغالب والمغلوب إلى وطنيهما وقد خلف كل منهما على ساحة القتال جانباً عظيماً من قوته العصبية والأدبية.
إن تفشي الغلظة والوحشية في الشعوب غب الحروب قد أصبح من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل، فقد عرف الناس أن الشعوب المتحاربة تخرج من الحرب أسوأ أخلاقاً وأخشن طباعاً مما كانت عليه قبل، فيزداد في كشوف إحصائياتها تعداد الجرائم والفظائع، ولا يحسب أحد أن الجندي الذي يعود من الحرب سريع الغضب يسحب خنجره على الناس لأقل باعث - إنما يفعل ذلك لأنه قد صار أشجع قلباً وأخشن جانباً - كلا بل لأنه قد صار أشد تهيجاً، وقد أثبت العلم أن سرعة التهيج ليست إلا إحدى ظواهر الفساد العصبي.
ولما كان هذا الداء الانحطاط شاملاً لم يخل منه فريق المفكرين من الكتاب والشعراء والمصورين والموسيقيين فقد خرج جانب عظيم من مؤلفات الأجيال الحاضرة متلبساً بعاهات هذا الداء وشوهاته ومقاذره وهو على ذلك أروج من الكتب السليمة القيمة النقية وقامت الجماهير المصابة العليلة فأجلست على أريكة دولة الآداب والفنون رجالاً أدهشوا القراء ببدائع الخيال وروائعه ولكنهم أصفار من الآراء الناضجة والأفكار المنتجة الخصيبة مجردون من المبادئ القويمة والمذاهب السليمة منحرفون عن سنن الحق والمنطق والطهر والفضيلة يشحنون مؤلفاتهم بأصناف الباطل والخرافات والخزعبلات ويفعمونها فوق ذلك بأفانين الفسق والفجور والإثم والرذيلة، والجماهير الحمقى السخيفة تسميهم قادة الدنيا وأعلام الهدى ومصابيح المستقبل، وما هم إلا فئة من المرضى المصابين لولا مزية الخيال القوي والأسلوب الرائع لكان المستشفى أولى بهم من غرفة الكاتب والمؤلف.
فأوروبا الآن قائمة في حومة داء ذهني فتاك - أو بعبارة أخرى في حومة موت أسود من الانحطاط فلا جرم إذا تساءلنا ماذا يكون بعد ذلك؟(44/31)
لا يسعنا إزاء ما نبصر من أعراض هذا الداء العضال إلا استنباط النتيجة الآتية هي أنه إذا كان الداء المذكور لم يبلغ بعد أقصاه وأنه سيزداد شدة وعمقاً واتساعاً فلا بد أن يأتي زمن تصبح فيه الظواهر المقصورة البوم على سكان مستشفيات المجاذيب فقط قد شاعت في المجتمع الأوروبي وصارت من أحواله وصفاته العادية، وإذ ذاك ترى الحياة قد أخذت الصورة الآتية أو نحوها:
تؤسس أندية الانتحار في كل مدينة، وإلى جانبها تقام أندية التذابح أي قتل الأعضاء بعضهم بعضاً عن اتفاق وتراض بواسطة الخنق والشنق والطعن بالمدى والخناجر، وبدلاً من الحانات والفنادق تنشأ أماكن لتعاطي الأثير والكلورال والنفط والأفيون والحشيش، ويزداد عدد المصابين بفساد حاستي الذوق والشم ازدياداً يستوجب فتح دكاكين تقدم فيها على صحون الذهب وأواني البلور جميع أصناف القاذورات للزبائن الذين يجلسون على فاخر الكراسي محفوفين بكافة ضروب الأوساخ متلذذين باستنشاق روائح النتن والعفونة، وتخلق وظائف وأعمال جديدة - كوظيفة الحقن بالمورفين والكوكايين، ووظيفة أناس يقفون على معاطف الطرقات يمدون أيديهم للمصابين بمرض الأجورافوبيا (مرض ذهني من شأنه أن صاحبه يعتريه الخوف الشديد إذا أراد عبور طريق واسع) ليساعدوهم على عبور الطرق والساحات، ووظيفة أناس يهدئون - بجميع أساليب الأيمان والتأكيدات - خواطر المصابين بداء الشك والارتياب كلما جاءتهم النوبة العصبية.
يشتد في الناس التهيج العصبي إلى حد أنك تجد المصابين به يطلقون الرصاص من نوافذهم على الأطفال الذين يصفرون أو يصرخون تحت بيوتهم صراخاً غير موسيقي خالياً من الأوزان والقوافي، أو تجدهم يهجمون على مدارس الموسيقى فيقتلون صغار الفتيات اللاتي يتلقين دروسهن الابتدائية في الكمنجة والبيانو لأنهن صدعن رؤوسهم وهيجن أعصابهم بضوضائهن الأليمة، أو تجدهم يحاولون أن ينسفوا بالديناميت شركات الترام لأن السواقين يطيّرون عقولهم بالأجراس والصفافير، فلهذه الأسباب كلها تسن الحكومة قوانين لمنع التصفير والصياح في الطرق، وتبنى مدارس الغناء والموسيقى بكيفية تمنع نفاذ الأصوات إلى الخارج، وتوضع في القانون مادة لتحذير المركبات من إحداث أقل صوت أثناء سيرها، ونظراً إلى أن نباح الكلاب يصيب الكثيرين بالجنون ويغرى الكثيرين(44/32)
بالانتحار يسن قانون بمنع إبقاء الكلاب داخل المدن إلا بعد إخراسها بقطع العصب الحنجري وآخر يحرم على الصحافيين وأرباب المجلات أن ينشروا موضوعات تتعلق بحوادث الانتحار والإكراه والاغتصاب وإلا فهم مسؤولون عن كل ما يرتكبه القراء من الجرائم تقليداً لما دونوه في صحائفهم.
تفسد العلاقة الجنسية (التي بين الذكور والإناث) فساداً يستدعي تغيير النواميس المشروعة والعادات المألوفة ملاءمة للحالة المستجدة، فترى المخنثين - الذين يصبحون يومئذ السواد الأعظم من الناس - يلبسون أزياء نسائية لوناً وتفصيلاً، أما النساء فلا يستطعن إذ ذاك إرضاء الرجال إلا إذا لبسن أزياء رجالية - أحذية طويلة غليظة بمهاميز ونظارات على عيونهن وعصيّ وسياط في أيديهن وسيجار طويل في ثغورهن، وتشرع القوانين القاضية بتزويج الرجل بالرجل وإباحة مواطأة الأخوات والأمهات وغيرهن من المحرمات ومواطأة الحيوانات والموتى، وكذلك يصبح العفاف والتقى من خرافات الماضي ويعدان من قبيل الوحشية والصفات الرجعية المنافية لروح الرقي والتقدم ويعد الشغف بسفك الدماء مرضاً بسيطاً يقدم المصاب به إلى عيادة الطبيب بدلاً من محكمة الجنايات.
ويشتد ضعف العقول بدرجة تستدعي تقصير وقت الدراسة بالمعاهد العلمية فيجعل ساعة واحدة في اليوم، وكذلك لا يسمح للمحاضرات والخطب بل للروايات التمثيلية والمناظر السينماتوغرافية أن تستغرق أكثر من ربع ساعة على الأكثر وعلى ذلك يحذف من بروجرامات المدارس كافة المواد المتعلقة بالتربية الذهنية وتكثر المواد الخاصة بالألعاب الرياضية ولا يمثل على المسارح إلا مناظر الفسق والدعارة وقتل الآباء والأبناء وإلى هذه المسارح يهرع الآلاف من غواة الفن للتبرع لأرباب الأجواق بتمثيل هذه المنكرات حتى يفوزوا بلذة هذه الميتات الحلوة الشهية بين هتاف الجماهير المأنوفة.
وينسلخ معظم الناس من الأديان المعروفة ويتكون عدد عظيم من الشيع الروحانية التي تستخدم العرافين والكهان وضراب الرمل ومحضري الأرواح والمنجمين والسحرة وقراء الأكف بدلاً من القسوس والأساقفة.
وتشتد مبالغة الشعراء والكتاب والمصورين في تعمية أغراضهم وإخفاء مقاصدهم واستعمال الرموز الغامضة والكنايات المبهمة بدلاً من الجمل الواضحة والعبارات(44/33)
الصريحة وذلك لاختلاط أذهانهم وتشويش عقولهم وخلوها من المعاني المحدودة والأفكار البينة الجلية - نقول ويبلغ من تعاظم هذه العيوب الكتابية إن المؤلفين لا يضعون الكتب والأسفار، والمصورين لا يرسمون الصور والنقوش كعهدنا بها الآن ولكنك تجد الكتاب مطبوعاً على ورق أحمر أو أسود أو أزرق أو ذهبي، وعلى هذه ترقم ألفاظ متنافرة غير متسقة ولا متصلة وأحياناً ترقم مقاطع من الألفاظ أو أحرف أو أرقام ولكنها منطوية على رموز خفية يطلب من القارئ حلها بواسطة لون الورقة وصنف حروف الطباعة وحجمها وشكلها، والمؤلفون الذين يطلبون الشهرة والرواج يستعينون على بلوغ ذلك بتحلية الأسطر بنقوش رمزية وإشباع الصحيفة بنوع معين من الروائح العطرية يرمز به طبعاً لغرض معين ومعنى مقصود، ولكنّ هذا المذهب الكتابي يعد مستهجناً مبتذلاً عند علية القراء ومهذبيهم وذوي الفطنة والبصر بأسرار البلاغة منهم، فهؤلاء يعدون أحسن الكتب والدواوين ما ضمنت صحفها حروفاً مبعثرة مفرقة من أحرف الهجاء، وأفضل منها الكتب التي تضم أغلفتها صحفاً غفلاً خالية من كل أثر ولكنها مصبوغة بألوان مختلفة وهناك جمعيات تؤلف خاصة لشرح هذه المؤلفات وتفسيرها وحل ألغازها وفك طلاسمها، وهذه الجمعيات تتضارب آراؤها في تأويل الكتب المذكورة وتتباين مذاهبها فيحدث بينها من المشاجرات والمشاحنات ما يؤدي في معظم الأحايين إلى سفك الدم وإزهاق الأرواح الخ الخ.(44/34)
الطلاق وتعدد الزوجات
نظرة فلسفية عامة في هذا الموضوع
للفيلسوف دافيد هيوم
لما كان الزواج عقداً يبرم بين الذكر والأنثى عن اتفاق وتراض وكان الغرض منه المحافظة على النوع فمن البديهي أنه لا يمكن أن تكون شروطه واحدة بعينها في جميع الأحوال المختلفة ولكن متنوعة حسبما يقتضيه الاتفاق ولذلك كان من الحماقة أن يحسب الناس أن الزواج يمكن أن يكون على صورة واحدة في جميع العصور والأمم، ولولا أن الناس مقيدون بالقوانين والشرائع لم تكد تجد زيجتين متماثلتين في الدنيا، بل لكنت تبصر بين كل زيجة وأخرى من الخلاف ما تراه بين سائر أنواع العقود والمساومات.
فعلى حسب اختلاف الظروف ومزايا القوانين المتعددة تختلف شرائط الزواج التي تفرضها هذه القوانين في الأماكن والأزمان المختلفة، ففي ميناء طونكين من بلدان الصين اعتاد البحارة الافرنج الذين يرسون بهذه الميناء أن يتزوجوا من الوطنيات مدة موسم البطالة، والأمر المدهش العجيب أن هؤلاء الزوجات بالرغم من قصر عمر هذا الزواج ويأسهن من بقائه يعطين أزواجهن أوثق العهود على ملازمة العفاف والصون لخدورهن وحسن القيام بجميع ما لهم عليهن من الحقوق.
وتتابعت مرة حروب وأوبئة على جمهورية أثينا (في عهد قدماء اليونان) فأفنت جانباً عظيماً من أهلها فأباحت الجمهورية للرجال زواج الاثنتين تعجيلاً بتعويض خسائرها، واتفق في ذلك الوقت أن الشاعر التمثيلي الكبير يروبيديز وقع بين امرأتين شريرتين فسامتاه سوء العذاب بكثرة مشاجراتهما ومنازعاتهما حتى بغضتا إليه النساء فبقى إلى آخر عمره من ألدّ أعداء الجنس اللطيف.
وحدث في بعض الأزمان أن سفينة غرقت على كثب من ساحل بلد قفر غير معمور فنجا جانب من ركابها ولاذوا بذلك الساحل وتصادف أن عدد الرجال فيهم كان أضعاف عدد النساء، فوقع الخصام والنزاع بين الذكور لتزاحمهم على الإناث ففض القبطان المشكل بتقسيمه العنصر اللطيف على رجاله بالطريقة الآتية: اختار امرأة جميلة لنفسه خاصة، وأعطى امرأة واحدة لكل اثنين من النوتية المتوسطي الدرجة، وامرأة واحدة لكل خمسة من(44/35)
النوتية الأصاغر.
ولقدماء البريطان أسلوب في الزواج لا يوجد بين غيرهم من الأمم، وذلك أنه كان يجتمع عدد منهم - عشرة أو اثنا عشرة - فيعيشون معاً وهو أمر ضروري ضمان البقاء في تلك العصور الهمجية، ثم لتوثيق عري الألفة والاتحاد بينهم كانوا يتخذون مثل عددهم من النساء ليكنّ زوجات مشتركة بينهم جميعاً بلا تخصيص، وكل ما يولد لهم من الذرية يعدونه ولداً للجميع على السواء، ويقوم الكل معاً بتربية هذه الأولاد وتموينهم.
أما بين الحيوانات فلما كانت الطبيعة هي المشرّع الأعلى فهي التي تقوم بوضع القوانين الضابطة لشؤون زواجها وتنوع هذه القوانين تبعاً للظروف الخاصة بكل حيوان، فحيث تسهل الطبيعة أسباب الغذاء والحماية للحيوان المولود فإن زواج الأبوين ينتهي عند انقضاء النزوة الأولى، إذ يترك الفحل ولده للأنثى ويمضي لشأنه، أما في الظروف التي يصعب فيها استحضار الغذاء فإن الزواج يستمر مدة موسم كامل حتى يصبح الولد قادراً على تموين نفسه وعند ذلك ينحلّ عقد الزواج من تلقاء ذاته ويصبح كل من الطرفين حراً مستعداً للدخول في تعاقد آخر في الموسم القابل، أما الإنسان فلما كانت الطبيعة قد وهبته العقل فلذلك لم تعن العناية التامة بتحديد كل مادة في عقد زواجه ولكنها أباحت له تحديد هذه المواد حسبما تقتضيه ظروفه الخاصة فنشأ عن ذلك الصور المختلفة للزواج كتعدد الزوجات في أمم المشرق وإباحة الطلاق عند قدماء اليونان والرومان، أو تقييد رجل بامرأة طول حياته في أوروبا الحديثة وهنا يجدر بنا أن نبحث في مزايا ومضار كل واحد من النظامات المختلفة.
قد يقول أنصار تعدد الزوجات إن هذا النظام هو الدواء الوحيد لآفات العشق والوسيلة الوحيدة لتحرير الرجل من استبعاد المرأة إياه الذي هو نتيجة لزومية لعاطفة الحب، فهذا النظام وحده (أعني تعدد الزوجات) هو الكفيل لنا باسترداد حق سيادتنا على المرأة، لأنه بإشباع شهوتنا للنساء يعاد إلى نفوسنا سيطرة العقل على الهوى وبالتالي يعاد لنا نفوذنا وسلطتنا في بيوتنا، فالرجل مع النساء كالحاكم الضعيف مع رعيته فكما أن هذا لا يستطيع أن يقاوم مكايد الشعب ودسائسه إلا بتسليطه بعض الأحزاب على بعض فكذلك الرجل بإشعاله نار الغيرة بين نسائه يصبح مطلق النفوذ والسلطان عليهن، وفي المثل السائد فرّق(44/36)
تسد وإن ترك هذه الخطة هو الذي أوقع الأوروبي من الرق والعبودية فيما هو أمر واد هي من حالة رعايا ممالك الشرق الذين يخضعون لحاكم هو على كل حال بعيد عنهم ولكنهم في بيوتهم حكام مطلقون وملوك مستبدون.
وعلى نظام تعدد الزوجات قد يعترض بحق بأن استعباد الرجل للمرأة هذا إنما هو ضرب من الظلم والاغتصاب وأنه يفسد صلة المساواة التي يجب أن تكون بين الرجل والمرأة وإن الطبيعة قد جعلت من الرجل حبيباً للمرأة وعاشقاً وصديقاً، أفيليق به بعد ذلك أن يستبدل من هذه العلاقات الودية المحبوبة علاقات العبودية الكريهة ولقب الجبار المستبد والغشوم الطاغية.
وماذا نستفيده من هذا النظام، هل نستفيد من وجهة كوننا عشاقاً أو من وجهة كوننا أزواجاً، كلا لا فائدة البتة، لأن هذا النظام الاستبدادي يفسد في نفوسنا صفات العاشق وصفات الزوج معاً، ألا ترى أنا بهذا النظام نفقد ألذ أدوار الحياة أعني دور المغازلة والتودد الذي يقع بين الخطيبين قبل الزواج الاختياري القائم على رغبة الطرفين ورضاهما، فإن هذا الدور اللذيذ لا يتفق مع النظام الاستبدادي الذي تباع فيه المرأة للرجل بيع السلع في الأسواق، وإن الزوج الذي يهتدي إلى إتلاف جميع عناصر الحب إلا عنصر الغيرة لملئ بالخيبة والخسران، فإن الغيرة بين سائر أركان الحب الممتعة الشهية هي كالشوكة بين أوراق الوردة الناضرة، والويل للأحمق المأفون الذي ينتزع أوراق الوردة فينبذها ويحتفظ بالشوكة.
وهكذا نرى أن هذا النظام الاستبدادي (القاضي بتعدد الزوجات) الذي يتلف كل عناصر الحب إلا الغيرة إنما هو عامل فعال في حل روابط الحب والصداقة فإن الغيرة تقطع أسباب الألفة والوداد بين الأفراد وتفصم عرى الثقة والعقيدة، فترى الرجل لا يجرأ أن يدعو إلى داره صاحباً أو صديقاً مخافة أن يكون قد جلب إلى زوجاته عاشقاً مغراراً، ولذلك ترى البيوت والأسر في بلاد المشرق منعزلة منفصلة كأنها الممالك المستقلة، فلا عجب والحالة هذه أن تلقي سليمان (الملك والنبي) يذم الدنيا ويعدد آفاتها ومصائبها مع ما أوتي من أبهة الملك ورغد العيش وسط زوجاته السبعمائة وسراريه الثلاثمائة لأنه كان مع كل هذه المتاعب لا يجد صديقاً واحداً يشاركه في أفراحه وأتراحه، ولو كان جرب لذة الحياة(44/37)
الغربية التي تنعم بها أوروبا الحديثة وهي زوجة أو رفيقة واحدة وبضع أصدقاء وعدد وافر من الجلاس والسمراء لوجد الحياة أخف محملاً وأحلى مذاقاً، عجباً للإنسان يمحو من حياته عنصري الحب والصداقة ماذا بقي في الحياة - لا درّ درّه - بعد ذلك؟
ومن نتائج هذا النظام الزواجي الشرقي أيضاً سوء تربية الأولاد لاسيما أولاد السراة والأعيان، وماذا تنتظر من ذرية تنشأ بين أمهات رقيقات وآباء جبابرة إلا أن يشبوا على طبائع الذل والجبروت فيصبحوا عبيداً أذلاء وطغاة جبابرة، فتراهم في مخالطتهم رؤساءهم ومرؤوسيهم لا يكادون يذكرون أن الله قد خلق الناس أمثالاً متساويين بالفطرة وماذا تنتظر من والد له خمسون ولداً أن يكون مبلغ اهتمامه وعنايته بغرس مبادئ الآداب والعلوم في ذرية لا يكاد هو نفسه يلم بأطرافها أو يعرف أفرادها لهذه الأسباب كلها يظهر لنا أن الانحطاط والبربرية نتيجة لزومية لنظام تعدد الزوجات.
ومما يزيد النظام المذكور شناعة آفة الحجاب وتضييقه الخناق على الجنس اللطيف في كافة أنحاء المشرق، ففي هذه الأقطار يمنع الرجال البتة من كل اتصال بالإناث حتى الأطباء والجراحين فلا يسمح لهؤلاء أن يعودوا النساء في أمراضهن إذ يكون المرض قد أخمد فيهن كل شهوة بريئة أو أثيمة وصيرهن من الوهن والذبول بحيث لا يطمع فيهن طامع، وقد حدثنا الطبيب تورنيفورت أنه لما استدعي إلى سراي الحرم السلطاني بالاستانة أدخلوه صالوناً فسيحاً فنظر فإذا أذرع ممدودة خارجة من ثقوب في جانبي الصالون يمنة ويسرة فتناهى عجبه من ذلك المنظر المدهش وسأل عن سر ذلك فأعلموه يفحص شيئاً منها خلاف تلك الأذرع، وإنه محظور عليه أن يسأل المرضى أو غيرهن من الخدم والوصفاء أدنى سؤال خشية أن يؤدي ذلك إلى التساؤل عما لا يصح إعلانه من حديث القصر، ومن ثم كان ما يدعيه أطباء الشرق من استطاعة معرفة كافة الأمراض بواسطة النبض فقط شبيهاً بدعوى الدجالين عندنا (انكلترا) معرفة المرض بمجرد النظر في البول، وظني أنه لو كان الطبيب تورنيفورت من أولئك الدجالين لما سمح له أهل البلاط الملوكي في الاستانة بهذه المادة (البول) يستعين بها على ممارسة فنه وصناعته وذلك لفرط غيرة الأتراك على المرأة.
أما وقد دحضنا نظام تعدد الزوجات وقضينا عليه لنظام توحيد الزوجة فلنبحث الآن في(44/38)
موضوع الطلاق هل يصح أن يكون اختيارياً كعهده أيام اليونان والرومان، وهنا نورد الحجج التي يقدمها أنصار مذهب الطلاق والأسباب المبنية عليها هذه الحجج.
يقول أنصار هذا المذهب أن الزواج كالقرص من عسل النحل فيه الشهد والشمع - فالشهد هو ما يسبق العرس من زمن المغازلة والزلفى إلى المعشوقة والتودد وما يحتويه ذلك الزمن من حوادث القرب والبعد والوصل والهجران والخصام والتصافي - وبعد هذا الدور اللذيذ ينتهي العسل ولا يجد الزوجان أمامهما سوى الشمع، ثم يحدث بينهما الفتور والجمود والملل والضجر والمشاحنات والأذى، وهذه الجراح لا يزيدها الزمن إلا اتساعاً، أليس الأصوب والأليق بنا والحالة هذه أن نفرق قلوباً لم تخنق على مثال واحد ولم يرد الله أن تتآلف وتمتزج، ولكنها قد تجد أشكالها وأشباهها في أناس آخرين إذا هي انفصلت وتزايلت، وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته.
هذا وحرية الطلاق ليست فقط دواء التشاحن والكراهة العائلية، بل هي أيضاً وقاية من هذا الضرر، وهي السر الوحيد في استبقاء تلك المودة التي ألفت بين الزوجين في أول الأمر، وبيان ذلك أن الرجل يفرح بنعمة الحرية ويغتبط ومجرد فكرة المضايقة والتقييد تؤلمه أشد الألم، فإذا قيد قلب الرجل بعشرة المرأة التي لم يضمها لنفسه إلا عن محض إرادة واختيار فإن العاطفة تتغير في الحال وتنقلب عن الميل والرغبة إلى النفور والزهد، فإذا كانت القوانين تحرمنا بنظام توحيد الزوجة لذة التنويع والتنقل التي هي من أكبر لذائذ الحب أفلا أقل من أنها تبقى لنا مزية الحرية التي هي من أوجب ضروريات الحب، ولا يقولن أحد لصاحب مبدأ الطلاق ارض بزوجتك فإنك أنت الذي اخترتها بمحض هواك وغرضك فعلى مثل هذا المعترض نرد بالكلمة الآتية نعم لقد اخترنا سجننا بأنفسنا ولكن لا عزاء لنا في هذا إذ كان لا مفر من بقائه لنا سجناً مؤبداً.
ويقدم المعارضون لمبدأ حرية الطلاق نفياً للحجج الآنفة ردين قاطعين وهما:
(أولاً) ماذا يكون مصير الأولاد بعد افتراق الزوجين، لا مناص من ترك معظمهم لامرأة أب يلقون على يديها كراهة عدوة لهم أو إهمال أجنبية غريبة باردة القلب من ناحيتهم، أفليس في الطلاق الإجباري (الموت) كاف لا يقاع تعساء الأطفال في هذه البلية حتى تضاعف عدد هؤلاء التعساء بمضاعفة حوادث الطلاق ووضع سلطته الرهيبة في أيدي(44/39)
الأزواج ينفذونها لأقل باعث من هوي أو شهوة مما يسوق الذرية إلى موارد العذاب والأسى.
(ثانياً) لا مشاحة في أن الإنسان يثور بفطرته ضد الأسر والتقييد ويفرح بالحرية ولكنه من وجهة أخرى يخضع للضرورة ويوطن النفس على السيء الذي لا مناص منه ولا موئل، وهذان المبدآن - مبدأ كراهة التقييد والرضا بالواقع الذي لا محيص عنه - إن قلت أنهما متناقضان فهذا حق، ولكن أليس الإنسان إلا خليطاً من المتناقضات ومزيجاً من الأضداد، هذا وإن الضدين من أخلاق المرء لا تراهما في العادة يتحاربان ويمحو أحدهما الآخر، ولكن ترى أحدهما يتغلب على الثاني تبعاً للظروف الخاصة الملائمة له المؤيدة لسطانه، فطبيعة النفور من التقييد وكراهة التضييق تقوي وتستفحل في دور العشق الذي يسبق الزواج لأن العشق بطبيعته عاطفة قلقة نزقة وثابة مملوءة بالأهواء المتضاربة والنزعات المتباينة فهي تنشأ فجأة من تأثير لحظ أو ابتسامة أو ملاحة أنف أو وجنة أو حركة أو جلسة أو خطرة أو من لا شيء ثم تنطفئ وتزول على هذا النحو، فمثل هذه العاطفة تتطلب الحرية قبل كل شيء، أما مبدأ الصداقة والعشرة فهو خلق ساكن هادئ يدبره العقل وتؤيده العادة، وينشأ عن طول الصحبة وتبادل الأفضال والمنن - وهو خال من أسباب الغيرة والظنون والمخاوف، مجرد من طوارئ الغضب والرضا وحوادث الهجر والوصل ونوبات الحميات الباردة والحارة التي يتألف من مجموعها هذا العذاب العذب والألم اللذيذ الخاص بعاطفة العشق، فمثل هذا الخلق الهادئ (أعني الصداقة بين الزوجين) التقييد أكفل باستمراره والتضييق أضمن لقوته وبقائه، فهو لا يبلغ أقصى غايته إلا إذا ارتبط الزوجان بروابط المصلحة والضرورة حتى يتفقا في المقصد ويتحدا في الغرض والغاية، فلا خوف إذن من إبرام عقدة الزواج الأبدي فإنه أوكد لمودة الزوجين إذا كانت متينة من الأصل وأحرى أن يكسبها قوة ومتانة إذا لم تكن كذلك، وكم مشاجرات تافهة وأكدار بسيطة يتغاضى عنها الزوجان اللذان يعلمان أنهما مربوطان بقيد الزواج الدائم، وهي إذا وقعت بين اثنين غير مقيدين هذا القيد كانت مليئة أن تهيج الشر بينهما إلى أقصى درجات المقت والعداوة.(44/40)
أكاذيب الحب
مقال فكاهي طريف ترجمه من الانكليزية محمد السباعي
ما زال الحب مصدراً للخيال فهو لا يزال يولد حتى في أجهل الطبقات وأغلظها آلافاً من الهموم الوهمية والأمراض الشعرية (أعني الخيالية) فهو يطلق لسان الحوذي والبواب بما يماثل رقيق الغزل وحلو النسيب ويترك الجندي الغليظ سهل الجانب سلس المقادة، فترى أحط السوقة وأخشن العمال إذا أصابه الحب يدمي حشاه ويذوب صبابة وعليه من آيات الظرف والأدب ما هو من مستلزمات هذه العاطفة.
وهذا الذوبان النفساني الداخلي قد أحدث في اللغة لفظاً أصبح شائعاً في هذه الفئة الذائبة وأعني بهذا اللفظ ميت صبابة.
والروايات والقصص التي قوامها ومنشؤها هذه العاطفة مملوءة بهذه الميتات المجازية فترى الأبطال فيها والفرسان والغانيات والقيان كلهم في حالة النزع والاحتضار ومن ثم صار الشعراء يشبهن الجنس اللطيف بنوع الأفعى التي تسلط لحظها على الطائر حتى تقتله بسحر عينها، ولكن أبدع من هذا وأدق تشبيه الشاعر (كولي) المرأة الجميلة بالقنفذ الذي يرسل السهام (كناية عن أشواكه) من جميع أجزاء جسده.
ولقد بحثت في هذا الأمر فرأيت أن أحسن علاج لهذا المرض العام هو أن يتأمل العاشق حقيقة معشوقته التي هي مصدر الداء، فإذا رأى أنها قد تيمته بجمال صحيح وفضل صريح فليسترسل في حبه وإعجابه، أما إذا وجد أن سبب مصابه ومحنته هو سفاسف وسخافات من تصنعات امرأة متبرجة خداعة فلا عذر له في التمادي واللجاجة.
بهذه الفكرة استعرضت عدداً وافراً من رسائل الحب التي جاءتني من هؤلاء الأموات فكونت منها كشف إحصائية الوفيات الآتي الذي سأقدمه الآن للقارئ بلا مقدمة ولا تعليق خدمة له إذ قد بينت فيه مواضع الخطر ومظان الداء وأوضحت أفظع الأساليب والحيل التي تتخذها الحسان لسفك دماء الأبرياء والطائشين
المستر أ. قتل في السينا ماتوغراف في 3 سبتمبر.
المستر ب. أصيب بطلق من بعض النوافذ فخر قتيلاً.
المستر ج - أصيب في دار الأوبرا بلحظ من عين زرقاء وكان المقصود رجلاً آخر فمات(44/41)
بالقضاء والقدر.
المستر د. قضى نحبه في مرقص.
المستر هـ -. مات بخبطة مروحة على كتفه الأيسر من كف الآنسة كوكيتيلا دلوعة بينما كان يحادثها وهو في حالة اطمئنان وعدم استعداد.
المستر و. أصيب بجراح بليغة في جنبه الأيسر بفردة شراب المسز اما الأحمر أثناء نزولها من مركبتها.
المستر ز. قتل في دار التمثيل بتكشيرة.
المستر ح. أصيب بجراح قتالة من الآنسة (نل) بينما كانت تزرر فستانها.
المستر ط. وافاه الأجل في الحمامات في 31 إبريل.
المستر ي. لقي حتفه من يد مجهولة كانت تلعب بالقفاز (الألدوان) على الجانب الأيسر من البنوار الأمامي بدار التمثيل.
المستر ك. أصيب برضوض شديدة لاحتكاكه بفروة كم فستان فزدقي.
المستر ل. أصيب بطلق نفذ إليه من خروق مروحة في كنيسة سانت جيمس.
المستر م. انضرب في قلبه بعقد لؤلؤ.
المستر ن. والمستر س. والمسترع. والمسترف، بينما كانوا واقفين صفاً إذا سقطوا جميعاً في لحظة واحدة بغمزة من عين الأرملة (ترابلند) (صائدة).
المستر ق. داس غير متعمد على ذيل سيدة أثناء الانصراف من التياترو فاندارت عليه فجأة فخر ميتاً في الحال.
المستر ر. قتل في مجزرة حفلة العرس الأخيرة.
المستر ش. قصف غصن شبابه الغض في الحادية والعشرين من عمره بتأثير البودرة.
المستر ث. قتل بسهم خرج من غمازة في خد ماري الأيسر.
المستر خ. بينما كان يقدم إلى المسز فلافيا قفازها - وكانت ألقته على الأرض عمداً - أخذته منه وأخذت روحه بانحناءة (علامة الشكر).
المستر ذ. أصيب بجرح خفيف من عين سوداء وبينما كان يحاول الفرار أصيب بابتسامة أجهزت عليه.(44/42)
المستر ض. أصيب وهو طائر بسهم من فتاة في الخامسة عشرة إذ أطلت عليه برأسها من المركبة عن غير قصد.
المستر ظ. أغرق في بركة من الدموع بواسطة المسز (مول).(44/43)
قاعة الموت
وآلام الظمأ
الظمأ إحساس عام يتناول أجهزة البدن كلها، وإن كنا لا نفتأ نعده إحساساً في جزء واحد من الجثمان فقط، أي إحساساً نشأ من جفاف الفم والحلق والحنجرة، ولكن هذا الجفاف الذي نحسه جميعاً ونعرفه ليس إلا أثراً من نقصان السائل في الجسم، على أن الظمأ قد يحدث دون أن ينقص البدن شيء مما يستلزمه من هذا السائل، وإنما هو اضطراب جزئي يحدث إحساساً جزئياً فإن جميع ألوان الشراب والقهوة والتوابل تحدث رغبة شديدة في الماء، وتثير ظمأ حاراً ملهباً، وإن كانت الخمر والقهوة تزيدان السائل الذي في البدن دون أن تنقصه، وكثيراً ما كان السائل على كثرة مقاديره لا يستطيع أن يطفئ جذوة الظمأ في أحوال كثيرة، ولاسيما الظمأ المتطاول الشديد.
فقد وصف الرحالة أندرسون في عرض تواليفه عن رحلاته في صميم إفريقيا ومجاهلها الآلام التي كان يعانيها أتباعه وحيواناتهم فقال بعد كلام طويل حتى إذا امتهد للقوم السبيل إلى الماء وشربوا حتى استجموا فكأنما فقد الماء مزيته الأصلية لديهم، لأن جميع الوسائل التي اتخذناها لتخفيف شرة الظمأ لم تجد فتيلاً وذلك الظمأ الطويل والصبر مدة كبيرة على آلامه أحدثا ضرباً من الحمى لم تذهب آثارها بمجرد استجمام البدن من حاجته إلى السائل، ومن هذا تعلم أنه وإن كان السبب الأولي للظمأ هو نقصان السائل في البدن لا يزال له ثمة سبب خفي وذلك ألم جزئي موضعي استثار الظمأ.
على أن هذا الإحساس الموضعي لا يزال متوقفاً على أجهزة البدن فلو أنك أنفذت الماء إلى الأمعاء أو العروق انطفأت حدة الظمأ وإن لم يمس الفم أو الحلق، والجو الرطب البارد يمنع الظمأ والاستحمام يطفئ من جذوته ولهبه لأن الجلد يمتص الماء.
وكما أن الجوع ينشأ من نقصان مقدار الطعام اللازم للأجهزة ينشأ الظمأ من نقصان مقادير الماء، لأن الماء الذي نشربه إنما يذهب كل لحظة في التنفس، لأننا كلما تنفسنا أضرمنا مقداراً من الماء في شكل بخار، ويتجلى ذلك في الشتاء عندما يتجمد البخار المتصاعد مع أنفاسنا، ولكن العرق أيضاً سبب لنقصان الماء في البدن، والماء هو العنصر الأكبر في البدن، لأنه يحتوي سبعين في المائة من وزن الجسم كله، وليس في جميع الأجهزة، ولا في(44/44)
العظام ولا في الأسنان، كذلك عضو واحد يخلو تركيبه من الماء ففي الأنسجة العصبية يتألف الماء من 80 جزء من ألف، وفي الرئة 830 من الألف.
وكثيرون من الناس استطاعوا احتمال الحرمان المطلق من الطعام بضعة أسابيع، ولكن الحرمان من الشراب ثلاثة أيام - إلا إذا كان ذلك في جو رطب - قد يكون الحد الأقصى لاحتمال الإنسانية، لأن الظمأ أشنع عذابات الدنيا، وأفظع الوسائل التي اتخذها الحكام المستبدون، في الشرق والغرب لتعذيب أعدائهم والناقمين عليهم، بل إن الظمأ هو السبيل التي يستعين بها الناس على تدجين حيواناتهم وتأليفها وكسر شرتها، فقد كان من عادة أحد العلماء - وكان لديه جواد شكس شامس رذل - أن يستخدم الظمأ لكبح جماحه وكسر حدته، فإن هدأ الجواد قليلاً منحه من الماء قليلاً، حتى لم يلبث الحيوان أن راح ذلولاً سهلاً مطمئناً للركوب، مطواعاً للأعنة.
ولعل أغرب أحداث الظمأ التي ذكرها التاريخ تلك القصة التاريخية المأثورة التي وسمنا هذا الفصل بعنوانها، أعني قاعة الموت وهي الحجرة السوداء في كلكتا عاصمة الهند وهي التي حبس فيها مائة وستة وأربعون نفساً ونحن ننشرها هنا كحادثة تاريخية ممتعة ونظرية علمية تدل على آلام الظمأ في أشنع صوره.
وتفصيل الحادث أن حاكم قلعة وليام بكلكتا أيام الفتح الانكليزي لمستعمرة الهند، حبس تاجراً من الهنود لذنب ارتكبه، وجريمة أحدثها، فلم يكن من سراج الدولة طاغية ولاية بنغال إلا أن تذرع بهذا الحادث واتخذه شفيعاً مبرراً لغارته على تلك القلعة في جيش جرار، وحاصرها وافتتحها ثم حبس البقية الباقية من الحامية في حجرة من حجراتها تسمى القاعة السوداء وقد وضع قائد الحامية - وكان أسيراً محتبساً في تلك القاعة الشنيعة مع القوم - وصفاً بليغاً يستدر الشؤون ويرعب الأبدان، ونشر هذا الوصف عام 1758، ونحن نقطتف منه النبذة الآتية:
صور لنفسك حال مائة وستة وأربعين مسكيناً قد هد التعب قواهم هداً وتراخت نفوسهم بعد متعبة الحرب والقتال، يركمون بعضهم فوق بعض في حجرة مساحتها ثمانية عشر قدماً، في ليلة حارة قائظة من ليالي الهند الدافئة، يقوم على جوانبها حيطان شاهقة، وأسوار منيعة ولا فتحات فيها إلا في الناحية الغربية منها، حيث لا يوجد إلا نافذتان مسورتان بقضبان(44/45)
الحديد، لا يكاد ينفذ منهما شيء من الهواء - فما لبثنا بضع دقائق حتى راح كل منا يحس عرقاً متصبباً مستفيضاً يجري من بدنه، لا يستطيع القارئ له تصويراً، وهذا أحدث ظمأ ملهباً مضى يزداد في سعرته كلما تحدر العرق وتصبب، وجعلنا نفكر في عدة وسائل لتفسيح المكان واستجلاب الهواء، فلكي نصيب الطلب الأول، اهتدينا إلى فكرة صائبة، وهي التخفف من الأثواب، وخلع الأردية، فأجمع القوم على استحسانها واستصوابها، ولم تكن إلا لحظة حتى خلع الجميع أثوابهم كلها، إلا أنا ومستر كورت واثنان بجانبي، فتهللت وجوه الجمع إذ ذاك فرحاً إذ حسبوا أنهم قد أصابوا مأمناً ومضوا يلوحون بالقبعات في الفضاء ليحدثوا جرياناً في الهواء، وهنا اقترح أحدهم بالجلوس القرفصاء، ففعل القوم ذلك، ولكن الضعفاء المهزولين، الذين أضواهم التعب، لم يستطيعوا النهوض، عندما أمروا به لأنهم فقدوا قوة سوقهم، ولما جلس الجمع جنباً إلى جنب وتساندوا وطلب إليهم بعد ذلك النهوض، جاهدوا جهاداً شديداً في سبيل القيام على أقدامهم، ولم تكد تحين الساعة التاسعة من المساء، حتى كان الظمأ قد بلغ الغاية القصوى، ولم يستطع الإنسان له احتمالاً فحاولوا كسر الباب فلم تجد محاولاتهم نفعاً، فعمدوا إلى قذف الإهانات الشنعاء والمثلبات النكراء وعور الكلم للحراس حتى يستنفروهم إلى فتح الباب وإغضابهم حتى يرمونا بالرصاص فلم يفلحوا، أما عن نفسي فلم أكن حينئذٍ قد شعرت بشيء من الألم الشديد، اللهم إلا على القوم وسوء مصيرهم، فقد جعلت صدري وفمي بين قضيبين من قضبان النافذة، لأجعل للهواء سبيلاً إلى رئتي، وإن كان الظمأ قد بدأ يثور في نفسي، والعرق يجري شديداً صبيباً من أجزاء جثماني، وإذ ذاك شعرت برائحة كريهة صدرت من الجمع المتألم المسكين، حتى لم أطق أن أحول وجهي عن النافذة فراراً من شمها.
الآن بدأ كل إنسان - إلا أولئك الذين جاءت أمكنتهم على مقربة من النافذتين - يلهث ويصرخ، ومنهم قوم غشيتهم الغاشية وأصبحت الصرخة العامة، الماء! الماء! وهنا أخذت الرحمة بفؤاد رجل من الحراس فأمر للقوم بقرب من الماء، وكان هذا ما أخشاه لأنني توقعت إذ ذاك أن تكون تلك المقادير من الماء الضربة القاضية التي تذهب بما بقى من أمل فحاولت مراراً أن أتوسل إليه فيما بيننا أن يمنعها عن الجماعة ويمسك عن تقديمها إلى القوم ولكن حال صياح الجمع وتهافتهم على الماء دون ذلك، فلما تقدم إليهم الماء ولاح(44/46)
لأعينهم اللهفى الظامئة، فهيهات للقلم أن يستطيع أن يرسم الصورة المخيفة التي بدت من القوم إذ رأوا مطلع الماء عليهم، وتجلت لأعينهم هذه الضالة المنشودة، وقد كنت أعلل النفس من قبل بأن بعض هذا الجمع، من أولئك الذين ظلوا حافظين لقواهم العقلية قد يعيشون حتى نهاية تلك الليلة ويشهدهم الصبح أحياء ولكني إذ رأيت ذلك الهول، توجست خيفة وأشفقت أن لا يبقى منا أحد يقص على الإنسانية قصتنا وينقل إلى العالم أمر هذه الجريمة العظيمة، وقبل أن يظهر الماء لم أكن أحس ظمأ شديداً إليه، ولكنني لم ألبث إذ لمحته أن علا ظمئي واشتد واضطرم ولم نجد وسائل لحمل الماء من القرب إلى تلك القاعة إلا باغترافها في القبعات، ونقلها في أجواف القلانس، بعد مدها من خلال قضبان النوافذ ولكن الماء لم يحدث إلا تخفيفاً عارضاً ولم يطفئ جذوة الألم إلا لحظة قليلة، وبقى العذاب على حاله، والعناء برمته، ولئن كنا نحمل الماء في القبعات من خلال القضبان، ونجلب في القرب مقداراً طيباً، ونملأ القلانس حتى حفافها، فإن ما كان بين القوم من التنازع والاحتيال على الظفر بالجرعات منه والحسوات الصغيرة من القبعات لم يترك في كل قبعة إلا قدر ما يملأ الفم، أو قدح الشاي، على أن هذه الغوثة كانت أشبه شيء بتقطير قطرات من الماء على النار المشبوبة، تزيد النار اشتعالاً واللهيب التهاباً، أواه، أيها الناس، كيف عمركم أستطيع أن أصف العذاب الذي أحسسته والألم العظيم الذي ثار في فؤادي للصيحات والوثبات والاعوالات والأنات التي زفرت وتصاعدت من أقصى القاعة، وأبعد أركان هذا المحبس، من أولئك الذين لم يستطيعوا مد أيديهم إلى الماء أو الاقتراب من القبعات، واستيأسوا من الظفر بقطرة تبل حلوقهم، واستعصت عليهم الحيل لنوال حسوة واحدة تخفف شدة ظمئهم، وهم يصرخون عليّ متوسلين، مستحلفين بجميع الأقسام المقدسة، مستصرخين بكل حرمات الود والحب والرثاء، وإذ ذاك أصبح الاضطراب عاماً مخيفاً مرعباً، وقد اشتد التدافع والتزاحم حتى أصبح غير محتمل، واندفع كثيرون من الذين كانوا وقوفاً في الناحية القصوى من الحجرة يطلبون وصولاً إلى النافذة فألقوا إلى الأرض كثيرين من أولئك الذين تهدمت قواهم، وتحطمت أعصابهم، فوطؤوهم بأقدامهم، وخنقوهم خنقاً، ولبثت من الساعة التاسعة إلى الحادية عشرة أنظر إلى هذا المشهد الفاجع ولا أستطيع شيئاً، وأنا أمد الجمع بالماء في القبعات وقد كادت ساقاي تتحطمان من أثر الضغط(44/47)
الشديد عليهما، ولكن لم ألبث أن وجدت الجمع قد تدافع حتى كدت أختنق، ووقفت لا أستطيع حراكاً من مكاني، فلما أضواني التعب، وكدت أروح صعقاً، أجمعت أمري على أن أترك النافذة، وأخلي نفسي من أمر إمداد الجمع بالماء، فصرخت في القوم وتوسلت إليهم أن ينقذوني من هذا الضغط الخانق، ويدعوا لي السبيل إلى ترك مكاني إذا كانوا يشعرون بشيء من الاحترام لي، ويسمحوا لي بأن أفارق النافذة وأموت في مكان بعيد من الحجرة، فخلوا السبيل، وأزاحوا الطريق فاخترقت الجمع بكل صعوبة حتى بلغت بهوة السجن، حيث كان الزحام أقل منه في أركان الحجرة، من جراء الجثث التي سقطت موتى وهلكى تحت الأقدام، فركعت فوق جثة من تلكم الجثث وأسندت رأسي إلى جثة أخرى وأسلمت نفسي في ذمة الله العلي العظيم وشعرت بشيء من الراحة، إذ ارتقبت أن تكون آلامي وعذاب نفسي قد كادت تنتهي، أو لعلها على مختتم، وإنني عما قليل أستريح من إحساس الحياة، وإذ ذاك بلغ ظمئي أشده، وصعب تنفسي واختنق ولم ألبث كذلك عشر دقائق حتى أحسست ألماً في صدري وخفقاناً شديداً في قلبي، لا أستطيع تصويره، فنهضت من مكاني مكرها ولكن زاد الألم في صدري، وعظم الخفقان، واشتد الاختناق، على أن حواسي لم تتبدد، ولبي لم يذهب، وأحزنني أن لا أرى الموت مني على قاب قوسين، وآلمني أن أجدني لا أزال بحواسي، ولم أستطع احتمال الآلام أكثر مما احتملت، وللحال أجمعت على أن أخترق الطريق إلى النافذة المقابلة وبقوة أحسست أنها ضعف ما كنت أشعر به من شدة الأسر بلغت الصف الثالث دون النافذة، فتشبثت بقضبان الحديد، وبذلك كنت في الصف الثاني، ولم تكن إلا بضع لحظات حتى زال عني ألم الصدر، والخفقان في القلب، وصعوبة التنفس، ولكن الظمأ ما فتئ يتزايد ويعظم ويلتهب فرحت أصرخ بأعلى صوتي: الرحمة أيها الناس، الرحمة، شربة ماء، شربة ماء فحسبني الجميع هالكاً على محضر الموت، ومشرف المنون ولكن القوم إذ رأوني لا أزال واقفاً في غمارهم، أحسوا بأن الاحترام لا يزال واجباً لي، والعطف أخلق بمثلي، فصاحوا، أعطوه ماء، أعطوه ماء!. ولم يجرأ أحد منهم على لمس القبعة التي امتدت إليها الأيدي حتى اجترعت جميع ما فيها ولكن الماء لم يحدث ترويحاً، ولم يخفف ألماً، ولم يكسر حدة الظمأ، بل زاد ظمئي به وتفاقم واضطرم، فأجمعت على أن لا أشرب ثانية وإنما وطنت النفس على الصبر، وأسلمتها إلى الألم(44/48)
والاحتمال، على أنني جعلت فمي رطباً إذ رحت أرشف من الحين إلى الحين وأمتص بين كل لحظة وأختها العرق المتحدر من أكمامي وقميصي وألتقط القطرات المتصببة، وهي تسقط كقطرات المطر الوابل من وجهي ورأسي، ولا أصف لك اليأس والحزن والآلام التي كانت تثور بفؤادي إذا فرت قطرة منها أو أفلتت من فمي المتفتح لها، المفغور لتلقيها وقد لاحظني أحد رفاقي وأنا أعالج هذه الوسيلة فالتقط الفكرة، واسترق الوسيلة ومضى يمتص ما يتحدر من أكمامي ووجهي وأطراف بدني، وبذلك نهبني جزءاً عظيماً من كنزي، وسرقني نصيباً طيباً من هذا المختزن العزيز لدي إذ ذاك فلما أحسست ذلك منه، وأدركته عليه، جعلت كلما امتلأ كم من ثوبي أسرع فأمتصه قبله وأزاحمه على رشفه، وكثيراً ما التقت أنفي بأنفه، واصطدم فمي بفمه ونحن متنازعان على الثوب متقاتلان، وهذا الرجل كان من بين الذين نجوا من غائلة الموت بعد ذلك وهو اليوم يؤكد لي ويقنعني بأنه لا يزال مديناً بالحياة لي، بفضل القطرات العديدة التي امتصها من أكمامي، والحق أقول لكم لم يكن في العالم نمير عذب، ولا فرات كان أسوغ وأعذب وألذ من تلكم القطرات التي جعلت أحسوها من العرق المتصبب من ثوبي وبدني!!.
ولم تكد تنتصف الحادية عشرة حتى كان عدد عظيم من الجمع في حمى مرعبة، وغشية صارعة محزنة هاذية، وآخرون منهم علا ضجيجهم، واستحكم هذيانهم، وارتفعت الحمى لديهم، ولم يبق من القوم أحد ظل على شيء من الهدوء والسكينة إلا الذين نجوا بأماكن على مقربة من النافذتين، وقد وجد الجميع الآن أن الماء لا يسكن سورة الظمأ ولا يطفئ جذوته، بل يزيدها اشتعالاً، ويضرم نارها إضراماً، وأصبحت الصرخة العامة من جميع الأفواه، الهواء، الهواء! وراح الجمع يبتكر ألعن الشتائم، وأنكر السباب، وأقبح الكلم العوراء، لكي يخرج الحراس عن طورهم، ويثور حقنهم، فيرمونا بنيران بنادقهم، ويطلقوا علينا قذائفهم، حتى نستريح من العذاب، وننجو من الألم، ولو فعلوا لهرع كل إنسان من القوم يستقبل الرصاص بصدره، ويزاحم إخوته على الاستباق إلى ورود حياض الموت، ولكن هذه الحيلة لم تنجح فتراخى الذين اضمحلت قواهم، وخفت للموت أرواحهم، واضطجعوا على أديم الحجرة فوق صدور إخوانهم الهلكى، ورفقائهم الموتى الذين فارقوا هذه الآلام واستراحوا بالموت من العذاب الشديد في ظل الحياة، وآخرون لا يزال لديهم(44/49)
شيء من القوة والجلد اقتحموا السبيل مستيئسين إلى النافذة وكثيرون على اليمين وعلى الشمال سقطوا عياء وكلالاً، ولم يلبثوا أن سكنت نأمتهم، وفاضت أنفاسهم الأخيرة، إذ علت الآن من جثث الموتى وجسوم الأحياء ريح خانقة خبيثة شنعاء.
وفي تلك اللحظة لم أكن أشعر بشيء من الإحساس، بل رأيت غشية متقدمة إلي، آخذة بعنقي، فسقطت قريباً من ذلك الرجل الشهم العظيم وهو ضابط من خيار الضباط اضطجع ميتاً خامد الأنفاس بجانب فتى له من الشباب المساعير ويده في يده، والرأس بجانب الرأس، وفي الفترة التي تلت ذلك إلى الساعة التي أنقذنا فيها من شر قاعة الموت، وحجرة الشنائع والأهوال، لا أستطيع أن أدلي إلى الناس بوصف، أو أشرح لهم شيئاً.
هذه هي النبذة التي اخترناها من ذلك الوصف الرهيب.
فلما كانت الساعة السادسة من الغد فتح باب القاعة فإذا بثلاث وعشرين شخصاً فقط من المائة والستة والأربعين، هم الذين تتردد فيهم الحياة، وتتصاعد أنفاسهم مرجّعة خافتة، فأنقذ هؤلاء بجميع الوسائل وتعافوا بعد لأي وجهد.(44/50)
الاشتراكية
ركن المساواة
المساواة فكرة قديمة جداً ظهرت في العالم قبل ظهور الاشتراكية بقرون عديدة ومن الجائز أن تموت الاشتراكية وتبقى المساواة بعدها، وذلك لأن المساواة أمنية ومثل أعلى، أما الاشتراكية فوسيلة من ضمن الوسائل العديدة التي تتخذ لتحقيق هذه الأمنية، والأمنية حسب الترتيب الطبيعي وقواعد المنطق سابقة لوسائلها وعمرها أطول من عمر وسائلها، فإن الإنسان لا يفكر في اختيار طريق دون طريق إلا بعد أن يعرف لنفسه غرضاً ما، وقد يظهر له عوار الطريق الذي اختاره فيعدل عنه من غير أن يضطر للعدول من غرضه الأصلي.
ظهرت فكرة المساواة في العصر اليوناني الروماني وقام البليبيان وطلبوا من البريسيان أن يساووهم بأنفسهم في الحقوق السياسية والدينية وذكر أريستوفان في رواية له على لسان براسكاجو زوجة أحد قضاة أثينا أن من الواجب أن تكون الأشياء كلها ملكاً للمجتمع وأن يكون لكل إنسان نصيب فيها وأن تكون كل الأنصبة متساوية وأن يعيش الجميع كعائلة واحدة وعلى وتيرة واحدة وطعام واحد ومن يخالف ذلك يعاقب عقاباً صارماً، وهذه هي الاشتراكية بنفسها، ولكن لا يغيبن عن الأذهان أن العبيد في هذه العصور القديمة كانوا بمعزل عن الأحرار لا يقاسمونهم هذه الحياة الاشتراكية.
وبعد انقضاء هذا العصر اختفت فكرة المساواة وانطفأت جذوتها وبقيت كذلك مدة طويلة حتى أشرقت المدينة الحديثة فأرثت نارها وأشعلت لهيبها وألبستها حلة خلابة استهوت العقول وتبعها خلق كثيرون يسبحون باسمها ويستهدون بنورها.
وقد يقال لماذا ظهرت في هذين العصرين فقط ولم تظهر في العصور التي بينهما؟ وما الداعي لظهورها في جهة وعدم ظهورها في أخرى؟ وهل لهذا من سبب وما هو؟
إن مرجع الإجابة على هذه الأسئلة علم النفس والوقوف على حقيقة الهيئة الاجتماعية في هذين العصرين والعصور التي بينهما وتحليل الأخلاق والمعتقدات ومقارنتها بعضها ببعض، وهذا بحث يضيق المحال عن إيفائه حقه، وكل ما نقدر أن نقوله هو أن لتقارب الأجزاء التي يتكون منها المجتمع أو تنافرها وعدم التئامها وكيفية امتزاجها بعضها ببعض(44/51)
تأثيراً كبيراً في حمل النفوس على تطلب المساواة وأن طبيعة الشريعة تدعوهم إلى القناعة والرضا بما قسم لهم والاكتفاء بما لديهم وعدم التطلع إلى ما في أيدي غيرهم، وهذه أخلاق لا تساعد على انتشار المبادئ الاشتراكية بينهم، وكيف تنتشر المبادئ إذا كانت التربة غير صالحة لغذائها والنفوس غير مستعدة لقبولها.
محا التاريخ الفرنساوي الامتيازات السياسية والاجتماعية التي كانت لبعض الطبقات ومهد السبيل لقيام الطبقات المغبونة ومطالبتها لحقوقها المهضومة وفي سنة 1848 نال الفرنساويون عموماً حق الانتخاب وأصبح للعمال نواب في المجالس التشريعية يدافعون عنهم ويناضلون عن مصالحهم ويتطلبون لهم حقوقاً جديدة.
ومما زاد العمال قوة واقتداراً اكتسابهم حقوقاً لم تكن لهم من قبل بل كان القانون يحرمها ويعاقب عليها كحق الاجتماع وحق الاعتصاب، وساعدت المصانع الكبرى على تآزر العمال وتكاتفهم إذ من لوازمها اجتماع عدد كبير من العمال في بناء واحد وكانوا من قبل مبعثرين في أنحاء البلاد، والاجتماع من أهم العوامل الفعالة على نشر المبادئ خصوصاً المبادئ الخلابة.
تسلح العمال بكل هذه الأسلحة الماضية وقاموا في وجوه الملاك يناضلونهم ويحاولون التغلب عليهم وملء قلوبهم الحقد والضغينة على الملاك الذين خدعوهم في الثورة الفرنساوية وحملوهم على القيام معهم في مناهضة الإشراف والقسس، وبعد الثورة اشتغل الملاك بالقوة والمال أما العمال فقد رجعوا بخيبة الآمال، ولا يزال الملاك يخادعونهم ويسوقونهم إلى حروب لا فائدة لهم منها.
ليس للاعتصابات العديدة التي كثيراً ما تنتاب أوروبا أسباب مخصوصة خلافاً لما يظهر للعيان لأول نظرة، وإنما كلها ناشئة عن سبب واحد هو تمسك العمال بمثلهم الأعلى وتطلعهم للمساواة التامة وهم يعتقدون في أنفسهم أنهم أساس الثروة العمومية ومصدر الخير ومنبع الأرزاق وأن كل ما في العالم من متاع وزخرف صنع أيديهم، وإن ثروة الأغنياء آتية من الظلم والسرقة لأن العامل ينتج أكثر من حاجياته بكثير ولكنه لا يأخذ منه إلا القدر الضروري لحياته وما زاد عن هذا القدر يدخل في جيوب الأغنياء ظلماً وعدواناً، فاعتصاب العمال مهما اختلفت أسبابه الظاهرية حركة اقتصادية غرضها الحقيقي انزال(44/52)
الملاك عن عروشهم.
المساواة الاقتصادية والمساواة القانونية
هل يجوز لنا أن نستنتج أن المساواة الاقتصادية تولدت عن المساواة القانونية وأنها درجة من درجات تطورها ولولا المساواة القانونية لما وجدت المساواة الاقتصادية ولما شعر بضرورتها وعد لها إنسان؟
كلا فإن المساواة الاقتصادية مساواة تامة تشمل المساواة القانونية وزيادة فهي الأصل وغيرها الفرع، والأصل حسب ترتيب الوجود الطبيعي سابق للفرع.
إن القول بأقدمية المساواة القانونية وأسبقيتها المساواة الاقتصادية خطأ محض، وسبب هذا الخطأ الخلط بين أمرين مختلفين واعتبارهما كشيء واحد وهما الرغبة في المساواة وحركة المساواة، فالرغبة في المساواة الاقتصادية سابقة للرغبة في المساواة القانونية لأنها هي الأصل كما سبق بيانه، أما حركة المساواة فبخلاف ذلك أي أنها ابتدأت أولاً بالدعوى إلى المساواة القانونية فلما أدركها العالم اتخذها وسيلة للوصول إلى المساواة الاقتصادية، والسبب في البدء بالمساواة القانونية سهولة فهمها وقرب نوالها فإنه يكفي للوصول إليها بضعة أسطر أو كلمات من قلم الشارع أما المساواة الاقتصادية فغامضة المعنى حتى لدى المتشيعين لها تحفها الأوهام والخرافات وليس لها حدود معروفة.
الركن الأولى للاشتراكية
ليست الاشتراكية بالمذهب الوحيد الداعي إلى المساواة بل هناك مذاهب أخرى تنشدها وتسعى إليها، وهذه المذاهب ليست من الاشتراكية في شيء بل تخالفها وتحاول القضاء عليها، وإذن فمن الخطأ البين الاكتفاء بركن المساواة في تعريف الاشتراكية بل يجب أن نضيف إليه ركناً آخر وهو الركن الأولى أو الحامل النفساني على طلب المساواة، وأعني بالحامل العواطف التي تخالج النفس وتستفزها للعمل.
إن للعواطف النفسانية تأثيراً كبيراً على المرء في سلوكه واختياره الطريق الذي يوصله إلى غرضه، وسترى فيما يلي أن العواطف التي تأتمر بها الاشتراكية تخالف العواطف الخاضعة لها المذاهب الأخرى التي تتبارى مع الاشتراكية في طلب المساواة وإن لهذا الخلاف أثراً ظاهراً في أعمال القائمين بنشر هذه المذاهب واتخاذ القوة أو اللين وسيلة(44/53)
لتحقيق آمالهم.
تنشد المساواة لسبب من اثنين الأول رقة القلب وشرف العواطف والتأذي من رؤية الفاقة والفقر، والسبب الثاني عدم الرضا عن الأغنياء لأثرتهم الشديدة، والسبب الأول هو الحامل على تأسيس المذاهب التي تخالف الاشتراكية وهذه المذاهب وديعة ساكنة لا تنقم على أحد ولا تبغض الأغنياء لأنها لا تري في غناهم ظلماً للفقراء أو سبباً للشقاء وإذن فلا تسعى إلى قلب النظام الحالي بل تحافظ على كيانه وترد عنه كيد أعدائه لأنه كفيل حسب رأيها بإسعاد الإنسانية والصعود بها إلى أوج الرفعة والرفاهية.
أما الحامل الثاني فخاص بالاشتراكية لأن الاشتراكيين لا يطلبون فقط الرحمة وإنما يطلبون النصفة والعدل ويعتبرون الأغنياء قوماً أنانيين.
لم يثروا إلا بإجهاد الفقير واستنفاد قواه، وهم قد استأثروا بالأموال من غير عمل وبدون حق ولا يبذلونها إلا في المفاسد وزيادة الأرباح، ولن تهدأ الإنسانية وتذوق طعم الراحة، ما دام في الأرض فقر مدقع ولا يخيم السلام على العالم إلا إذا حاسبنا الأغنياء لا بالذبح والقتل بل بإلغاء الملكية الفردية التي هي بيت الداء ومظلمة الفقراء.
ومن هنا يرى القارئ أن الركن المادي للاشتراكية وهو إلغاء الملكية الفردية نتيجة لازمة للركن النفساني وإن الاشتراكية ليست بالمساواة فقط بل تزيد عليها بحبها للعدل، ولو كانت الاشتراكية قاصرة على فكرة المساواة لكان من العبث واللغو تسميتها كذلك ولوجب الاكتفاء بلفظة المساواة وتسمية الاشتراكيين بالمتساوين أو طلاب المساواة، على أنها مع ذلك أقرب إلى الحلم اللذيذ منها إلى الحقيقة الممكنة.
إلغاء الملكية الفردية
إن للوصول إلى المساواة في نظر الاشتراكيين طرقاً عديدة وسبلاً شتى منها توزيع الأملاك والأموال على جميع الأفراد بالتساوي وفرض ضرائب ثقيلة على الأغنياء بحيث تكون مانعة إياهم من التغالي في الغنى وتأخذ منهم ما تكدس في خزائنهم من الأموال لتعطيه الفقراء، ومنها هدم الملكية الفردية وتأسيس الملكية الاجتماعية على أنقاضها، وهذا المثل الأخير دون سواه بغية الاشتراكية الصميمة وأمنيتها الوحيدة، وما عداه فمن المذاهب الأخرى.(44/54)
تحاول الاشتراكية أن تلغي الملكية الفردية بمعنى أنها تحرم على الأفراد امتلاك الأشياء التي من شأنها الإنتاج كالأراضي الزراعية والمعدنية ومحلات الصناعة والتجارة أما الأشياء التي تقتنى للاستهلاك كالطعام والثياب فيجوز للأفراد أن يملكوها لا على سبيل الاحتكار بل للانتفاع بها.
إقامة الملكية الاجتماعية
ولكن لا تكتفي الاشتراكية بهدم الملكية الفردية بل تسعى إلى تأسيس ملكية اجتماعية تكون شاملة لجميع موارد الرزق وخاضعة في الإدارة والاستثمار إلى رأي الجماعة.
إن الاشتراكية إدارة مترامية الأطراف يشترك فيها جميع الأفراد كموظفين يتقاضون على عملهم أجراً وتشمل جميع مرافق الحياة لا تترك كبيرة ولا صغيرة إلا وتضع لها نظاماً.
وليس من شأنها الهدم والتخريب والقضاء على كل نظام وإماتة كل قانون، وإنما هذا من شأن الفوضوية التي تبغض النظام وتسعى في استئصال شأفة الحكومات مهما كان شكلها السياسي والاقتصادي.
إن الاشتراكية والفوضوية على طرفي نقيض، هذه تسعى إلى تخريب النظام الحالي وتحول دون إقامة أي نظام آخر، وتلك تحترم جميع القوانين ما عدا الخاص منها بحماية الملكية الفردية وتسعى في تأسيس نظام جديد يكفل للأفراد السعادة والرخاء وتكون الحكومة هي المالكة الوحيدة لمنابع الرزق لتديرها لخير الأفراد بطريقة عادلة تكفل لهم أقل ما يكون من التعب وأكثر ما يكون من الراحة.
الاشتراكية والحكم الجمهوري
ليس من مستلزمات الاشتراكية الحكم الجمهوري بل من الجائز أن تعيش وتزهى في أحضان الملوكية فإن همها الوحيد الحصول على المساواة الاقتصادية فلا يهمها بعد النظام السياسي إلا إذا عارضها في أغراضها وانضم إلى أعدائها، ففي هذه الحالة تثل عرشه وتقوض أركانه.
قال - كانت - الاشتراكي الشهير رب ملوكية خير من جمهورية.
ولكن ليس هذا بالرأي السائد بين الاشتراكيين الحديثين فإن أغلبيتهم من أنصار الجمهورية وأعداء الحكم الملوكي فإنهم في الحوادث الأخيرة ثلوا عروش ملوك عديدين ونادوا بالحكم(44/55)
الجمهوري من قبل أن يبدأوا بتنفيذ برنامجهم الاقتصادي.
عبده البرقوقي(44/56)
مطالعات
شعر الفلاسفة
من المعروف أن العلماء ومن إليهم من الفلاسفة وجماعة النظار الذين ألفوا البحث المنطقي وألفهم حتى ملك عليهم أمورهم لا يستطيعون أن يقولوا شعراً جيداً يبارون فيه سادة الشعر، لأن العلماء إنما يستمدون من عقولهم ومعلوماتهم التقريرية، أما عواطفهم فقد أطفأ العلم جذوتها فترى لذلك شعرهم فاتراً لا يهز العاطفة ولا يحرك الأرواح، أما الشعراء فإنما يناجونك بوجداناتهم وإحساساتهم ويفرغون قلوبهم في كلامهم إفراغاً، فهم لذلك يزلزلون القلوب زلزالاً ويعبثون بالعواطف عبثاً شديداً لا قبل للإنسان بالجمود إزاءه ما دام لا إنسان بلا قلب وسلطان القلوب والأهواء، فوق سلطان العقول والآراء، بيد أنه على الرغم من ذلك ترى لبعض كبار الفلاسفة شيئاً من الشعر البارع الجيد لا يكاد بتخلف في معنى الشعر عن شعر الفحول فضلاً عن أنه يمتاز بالمعاني الفلسفية الرائعة، فمن أولئك الفلاسفة الذين ضربوا بسهم صائب في الشعر أبو علي الحسين بن عبد الله بن يوسف المعروف بابن شبل البغدادي المتوفى سنة 474 فقد كان هذا ابن شبل كما قال صاحب طبقات الأطباء حكيماً فيلسوفاً ومتكلماً فاضلاً وأديباً بارعاً وشاعراً مجيداً، ونحن نختار له هنا شيئاً من شعره - فمن ذلك قصيدته الفلسفية المشهورة التي تستأهل أن نأتي عليها كلها في البيان - قال:
بربك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار
مدارك قل لنا في أي شيء ... ففي أفهامنا منك انبهار
وفيك نرى الفضاء وهل فضاء ... سوى هذا الفضاء به تدار
وعندك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار
وموج ذا المجرة أم فرند ... على لجج الدروع له أوار
وفيك الشمس رافعة شعاعاً ... بأجنحة قوادمها قصار
وطوق في النجوم من الليالي ... هلالك أم يد فيها سوار
وشهب ذا الخواطف أم ذبال ... عليها المرخ تقدح والعفار
وترصيع نجومك أم حباب ... تؤلف بينه اللجج الغزار
تمد رموقها ليلاً وتطوى ... نهاراً مثل ما طوى الإزار(44/57)
فكم بصقالها صدي البرايا ... وما يصدى لها أبداً غرار
تبارى ثم تخنس راجعات ... وتكنس مثل ما كنس الصوار
فبينا الشرق يقدمها صعوداً ... تلقاها من الغرب انحدار
على ذا ما مضى وعليه يمضي ... طوال مني وآجال قصار
وأياماً تعرفنا مداها ... لها أنفاسنا أبداً شفار
ودهر ينثر الأعمار نثراً ... كما للغصن بالورد انتثار
ودنيا كلما وضعت جنيناً ... غذاه من نوائبها ظؤار
هي العشواء ما خبطت هشيم ... هي العجماء ما جرحت جبار
فمن يوم بلا أمس ليوم ... بغير غد إليه بنا يسار
ومن نفسين في أخذ ورد ... لروح المرء في الجسم انتشار
وكم من بعد ما ألفت نفوس ... جسوماً عن مجاثمها تطار
ألم تك بالجوارح آنسات ... فكم بالقرب عاد لها نفار
فإن يك آدم أشقى بنيه ... بذنب ما له منه اعتذار
ولم ينفعه بالأسماء علم ... وما نفع السجود ولا الجوار
فأخرج ثم أهبط ثم أودى ... فترب السافيات له شعار
فأدركه بعلم الله فيه ... من الكلمات للذنب اغتفار
ولكن بعد غفران وعفو ... يعير ما تلا ليلاً نهار
لقد بلغ العدو بنا مناه ... وحل بآدم وبنا الصغار
وتهنا ضائعين كقوم موسى ... ولا عجل أضل ولا خوار
فيالك أكلة ما زال منها ... علينا نقمة وعليه عار
نعاقب في الظهور وما ولدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار
وننتظر الرزايا والبلايا ... وبعد فالوعيد لنا انتظار
ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضب أحرجه الوجار
فماذا الامتنان على وجود ... لغير الموجدين به الخيار
وكانت أنعماً لو أن كونا ... بخير قبله أو نستشار(44/58)
أهذا الداء ليس له دواء ... وهذا الكسر ليس له انجبار
تحير فيه كل دقيق فهم ... وليس لعمق جرحهم انسبار
إذا التكوير غال الشمس عنا ... وغال كواكب الليل انتثار
وبدلنا بهذي الأرض أرضاً ... وطوح بالسماوات انفطار
وأذهلت المراضع عن بنيها ... لحيرتها وعطلت العشار
وغشى البدر من فرق وذعر ... خسوف للتوعد لإسرار
وسيرت الجبال فكن كثبا ... مهيلات وسجرت البحار
فأين ثبات ذي الألباب منا ... وأين مع الرجوم لنا اصطبار
وأين عقول ذي الأفهام مما ... يراد بنا وأين الاعتبار
وأين يغيب لب كان فينا ... ضياؤك من سناه مستعار
وما أرض عصته ولا سماء ... ففيم يغول أنجمها انكدار
وقد وافته طائعة وكانت ... دخاناً ما لقاتره شرار
قضاها سبعة والأرض مهدا ... دحاها فهي للأموات دار
فما لسمو ما أعلا انتهاء ... ولا لسموك ما أرسى قرار
ولكن كل ذا التهويل فيه ... لذي الألباب وعظ وازدجار
وقال يرثي أخاه وكان اسمه أحمد:
غاية الحزن والسرور انقضاء ... ما لحى من بعد ميت بقاء
لا لبسيد بإربد مات حزناً ... وسلت عن شقيقها الخنساء
مثل ما في التراب يبلى الفتى فالح ... زن يبلى من بعده والبكاء
غير أن الأموات زالوا وبقوا ... غصصا لا يسيغه الأحياء
إنما نحن بين ظفر وناب ... من خطوب أسودهن ضراء
نتمنى وفي المنى قصر العم ... ر فنغدو بما نسر نساء
صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي نغتذي نموت ونحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء
ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء(44/59)
راجع جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يسترد المساء
ليت شعري حلماً تمر بنا الأيا ... م أم ليس تعقل الأشياء
من فساد يجنيه للعالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتقاء
قبح الله لذة لأذانا ... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق ... د فإيجادنا علينا بلاء
وقليلاً ما تصحب المهجة الجس ... م ففيم الأسى وفيم العناء
ولقد أيد الإله عقولاً ... صحة العود عندها الإبداء
غير دعوى قوم على الميت شيئاً ... أنكرته الجلود والأعضاء
وإذا كان في العيان خلاف ... كيف بالغيب يستبين الخفاء
ما دهانا من يوم أحمد إلا ... ظلمات ولا استبان ضياء
يا أخي عاد بعدك الماء سما ... وسمو ما ذاك النسيم الرخاء
والدموع الغزار عادت من الأنفا ... س ناراً تثيرها الصعداء
واعد الحياة عذراً وإن كا ... نت حياة ترضى بها الأعداء
أين تلك الخلال والحزم أين ال ... عزم أين السخاء أين البهاء
كيف أودي النعيم من ذلك الظ ... ل وشيكاً وزال ذاك الغناء
أين ما كنت تنتضي من لسان ... في مقام ما للمواضي انتضاء
كيف أرجو شفاء ما بي وما بي ... دون سكناي في ثراك شفاء
أين ذاك الرواء والمنطق الموف ... ق أين الحياء أين الإباء
إن محى حسنك التراب فما لل ... دمع يوماً بصحن خدى انمحاء
أو تبن لم يبن قديم وداد ... أو تمت لم يمت عليك الثناء
شطر نفس دفنت والشطر باق ... يتمنى ومن مناه الفناء
إن تكن قدمته أيدي المنايا ... فألى السابقين تمضي البطاء
يدرك الموت كل حي ولو أخفت ... هـ عنه في برجها الجوزاء
ليت شعري وللبلى كل ذي الخ ... لق بماذا تميز الأنبياء
موت ذا العالم المفضل بالنط ... ق وذا السارح البهيم سواء(44/60)
لا غوى لفقده تبسم الأ ... رض ولا للتقى تبكي السماء
كم مصابيح أوجه أطفأتها ... تحت أطباق رمسها البيداء
كم بدور وكم شموس وكم أط ... واد حلم أمسى عليها العفاء
كم محى غرة الكواكب صبح ... ثم حطت ضياءها الظلماء
إنما الناس قادم أثر ماض ... بدء قوم للآخرين انتهاء
وقال:
إذا أخنى الزمان على كريم ... أعار صديقه قلب العدو
وقال:
قالوا القناعة عز والكفاف غنى ... والذل والعار حرص النفس والطمع
صدقتم من رضاه سد جوعته ... أن لم يصبه بماذا عنه يقتنع
وقال:
ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح
وقال:
تسل عن كل شيء بالحياة فقد ... يهون بعد بقاء الجوهر العرض
يعوض الله مالا أنت متلفه ... وما عن النفس إن أتلفتها عوض(44/61)
تفاريق
القناع العجيب
يلوح لنا أن العلم يجري اليوم أشواطاً بعيدة في تخفيف ويلات الإنسانية وتهذيب الدنيا وتطهير العالم من علله ومساوئه وآلامه ولا ريب في أن العلم لا يلبث قليلاً حتى يبتكر لكل علة أشفية، ويخلق لكل مرض علاجاً، ومن أعجب عجائب المبتكرات التي وصل إليها العلم في هذه الأيام هي القناع العجيب الذي يعين الأعمى على رؤية المحسوسات ويمحو ذلك الظلام الدامس الذي يحجب نور الدنيا عن تلك العيون الغائرة المغلقة.
وهذا المبتكر ابتدعه رجل من أهل بولونيا يدعى كان، وهو جندي من الذين جاهدوا في فرنسا وانتظموا في صفوف جيوشها، ولئن كان حد هذا الابتكار لا يزال اليوم قصيراً ولم تنتج الفائدة الكبرى منه، فلا تزال آمال العلماء كباراً في إمكان تعميمه، والظفر بالنتائج الحسنة منه.
وهذا القناع يلبسه الأعمى، فيعم جميع وجهه، وهو متعلق بأداة كهربائية تشتمل على عدسات مخروطية الشكل وحجرة صغيرة لتشعع النور وإذا تقنع به الأعمى استطاع أن يميز جميع الألوان والأشباح والمحسوسات.
وقد جرب هذا الاقتراح التجربة الأولى فاستطاع أحد العميان أن يدرك به الفرق بين أصبعين وثلاثة أصابع رفعت أمام عينيه ليدل على عددها، وتمكن بهذا القناع العجيب من أن يبصر قطعاً متجاورات وغير متجاورات من أمتعة الحجرة وأثاثها، ويرى الفروق في ألوانها وأحجامها.
فإذا تحقق هذا المخترع وعم الدنيا، فلن يعود في الدنيا بعدئذٍ قوم يمسكون بأيدي قوم، ليدلوهم على جادة الطريق، ولا يعتز جمع على جمع بأنهم يرون الشمس في أبهى حلالها، ومشرقة أشعتها، ويشهدون الطبيعة في مظاهر جلالها وفرحها وعبوسها وكدرها، والآخرون لا يحسون ذلك إلا في أفواه الذين يحدثونهم عنها الأحاديث، ويقرأون لهم الأشعار والكتب والأسفار.
الاستصباح بلحوم العجول
منذ أشهر طويلة كان الناس في هذا البلد يضجون ويفزعون، ويصيحون خشية ورعباً، من(44/62)
أن يعز عليهم وسائل الاستصباح ومواد الإضاءة والاستنارة فيبيتون في ظلام حالك، وتنحدر البلاد في هوة سحيقة من الأعتام، والبلاء الذي يختفي وراء أستار الظلام، وكان القوم يقتصدون في الغاز، ويستحثون بعضهم البعض على استخدام الحكمة والروية والحزم والتدبير في إنارة مصابيحهم، واستهلاك المواد المختزنة لديهم، ولكن ظهور وسيلة أخرى في هذه الأيام تزيد مواد الاستصباح مادة، والاهتداء إلى طريقة طريفة للإنارة والإضاءة، نبأ عجيب، وحادث طلي جديد.
وذلك أن العالم موليش - وهو من كبار علماء النمسا - وسادات الاختراع فيها - قد أكد في بعض ما أخرج من أبحاثه الأخيرة أن في الإمكان القراءة على نور قطعة من لحم العجول أو الضان أو قطعة من البفتيك أو لحم الخنزير ولكن لم يقل ذلك العالم شيئاً عن المقدار الواجب الذي يستطيع الإنسان به أن يحدث ضوءاً كافياً يهتك حجب الظلام، وعجيب أن يستطيع الإنسان أن يجلس إلى قطعة من اللحم فيستضيء بها، ويقرأ كتبه الممتعة وأسفاره المحبوبة على نورها، ثم يعود فيأكلها كلها ويتعشى بها.
على أن الحقيقة المقررة هو أن جميع اللحمان تحتوي ميكروبات تحدث نوراً وتخرج ضوءاً، ويقول أن السجق أي اللحم المحتوي على التوابل يزيد في ذلك الضوء، ويخرج نوراً باهراً ويعين الميكروبات التي في اللحم على أن تضطرم فيكون منها نار كافية للجلوس إلى مكتبك وقراءة كتبك ودروسك وأبحاثك.
فمتى يحقق هذا المبتكر، حتى يكون القصابون في الدنيا مشاعلية كذلك!.(44/63)
أحداث الشهر
مسألة آدم
حدث في هذا الشهر حادث دوَّى صداه في المجتمع المصري تدوية بعيدة يتضاءل إزاءها دوى المدافع الضخمة، مدافع لياج وانفرس. . . وأحدث في أنفس الطبقات المهذبة المستنيرة أثراً سيئاً أعقبه سخط عام وتذمر شديد متميز يدل على نفسية هذا العصر ومزاجه العصبي الحساس الذي يهيجه إلى ما به ويستثير مقته وغضبه أهون الشيء من الحماقة والسخف وفساد الذوق، إلى غيرها من المعاني التي لا تتمشى مع روح العصر ومطالب الأمم الناهضة الوثابة، ولا تتكافأ مع حاجات الاجتماع وتكاليف الحياة الإنسانية العالية.
لا يزال في الناس ناس كأن عيونهم في أقفائهم فتأبى طبيعة النظر فيهم إلا أن تمتد إلى وراء وتخالف سبيل الحياة في الأحياء، فهم يعيشون بأرواح ماضية قد فرغ الموت منها ويبتعثون سنن الأعصر الخالية التي أفاض عليها تاريخ الإنسانية سيولاً من دمائه ودموعه، ويحتذون حذو من قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع فيزرون على سماحة الإسلام ويغضون من بهجته ويضيقون من رحبه ويرسلون في لجته الصافية من لهبات محاكم التفتيش الإسبانية في القرن الخامس عشر وإن كان اللهب لا يحرق الماء ولا يغور إلى أعماقه.
والحادث الذي نحن بصدده هو أن (الشيخ محمد أبو زيد) وهو أحد خريجي مدرسة دار الدعوة والإرشاد رجل فيما بلغنا صالح تقى غيور على دينه، فارتأى أن هناك حاجة ماسة إلى الإصلاح الديني غير أنا نلاحظ عليه أنه احتذى في ذلك حذو زعيمه الشيخ رشيد رضا صاحب صحيفة المنار، وأنه ظن أن كل ما هنالك هو مسائل الزار وكرامات الأولياء وهل الأنبياء معصومون أم غير معصومين وهل آدم نبي أم غير نبي إلى أمثال هذه الموضوعات التافهة العقيمة التي لا طائل وراءها، والتي يعد الفائز فيها والمهزوم سواء في السخف، والتي أنبأنا التاريخ أن أمة من الأمم لا تأبه لمثلها وتكثر من الجدل والمناظرة فيها ألا في دور انحطاطها كما كان من زعماء النصرانية البيزنطيين إذ كان كل بحثهم في اللاهوت المسيحي والأتراك على أبواب القسطنطينية، وكما كان من علماء الشيعة وأهل السنة من الخلاف في بغداد أواخر الدولة العباسية والتتر على أبواب دار السلام.(44/64)
فاتفق للشيخ محمد أبي زيد أن أقام في بلده ومسقط رأسه دمنهور ينشر دعوته ويبث تعاليمه، وفي دمنهور هذه يقيم عالم أزهري من العلماء الغيورين كذلك يسمى الشيخ عبد الباقي سرور وطائفة أخرى من العلماء، ولعل قراءنا قد سمعوا بتلك الحرب الدينية القلمية التي نشبت على صفحات إحدى الجرائد اليومية بين الشيخ عبد الباقي سرور هذا وبين الشيخ رشيد رضا والتي أفضت إلى أن رفع الشيخ رشيد قضية على صاحبه ثم انتهت بأن صالحتهما المحكمة، فكان ذلك مضافاً إلى كثرة تشنيع الشيخ رشيد على علماء الأزهر وتشهيره بهم واستطالته عليهم في كل عدد تقريباً من أعداد مجلته سبباً في حقد الأزهريين جميعاً على الشيخ رشيد هذا وعلى كل من يمتّ إليه بسبب.
فلما أخذ الشيخ أبو زيد يصدع بتعاليم دار الدعوة والإرشاد في دمنهور بين هؤلاء الواجدين على أستاذه مدوا عليه أعينهم وأحاطوه بأبصارهم فكان منه أنه جعل يعظ بكلام أستاذه ويخوض فيما رده الشيخ عبد الباقي عليه ومن ذلك نبوة آدم عليه السلام فقطع بأنها ظنية، ولم يحسن أن يعرض على الناس رأياً أكبر الإحسان فيه أن يخرج منه لا عليه ولا له، فأخذه بها القوم واحتسب أحدهم فرفع إلى المحكمة الشرعية دعوى تفريق بين الرجل وزوجه لأنه فيما زعموا قد مرق من دينه بإنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وكان خليقاً بالمحكمة أن تكون فوق العواطف والأهواء وإن تستصلح الرجل إذا تبين لها فساده وتستتبه إذا قامت الأدلة على ذنبه وأن لا تقطع بكفره وارتداده قبل أن تيأس منه وتستفرغ جهدها فيه فإن الحكم بالكفر ليس كالحكم بالنفقة وإخراج الدين ليس كإخراج الدَّين، غير أن المحكمة قضت بالتفريق وأثبتت فسق الرجل من دينه فلم يكن منه - فيما نقل إلينا - إلا أن بعث بزوجه إلى أهلها حتى لا تكون التفرقة قهراً وإرغاماً وحتى لا يذهب رجال الشرطة إذ يذهبون لتنفيذ الحكم فينادون بكفره على باب داره فإن ذلك كفر آخر للدار بين جيرانها من مطلع الدرب إلى مقطعه. . . ثم رفع الشيخ أبو زيد استئنافاً عن الحكم تنظر فيه محكمة اسكندرية في اليوم الأول من شهر ديسمبر.
وليس من شأن البيان كما يعرف القراء أن يخوض في مثل هذه الأمور غير أن لنا كلمة في الردة وأمرها في الإسلام سنأتي بها كأنها تعليق على هذا الحادث الغريب ولعل فيها بياناً لشيء من الرأي إن شاء الله.(44/65)
الجائزة الواصفية
نحن نعلم أن الجوائز من شأنها تنشيط الفنون، وتشجيع الصناعات، وتزكية العلوم، ورفع مستوى الآداب، وهذا هو سبيلها في البلاد المتحضرة، وهذا شأنها في ممالك الغرب، ولكن الجوائز في بلدنا هذا أبعث على الفتور، وأدعى إلى الخمول والتراخي والاستيئاس، وأجنح إلى سقوط الخلق، والذهاب بالحياء، وأخلاق ديباجة الوجوه، لأن الذين يستحقونها ويعلمون أنهم مليئون بالظفر بها، وإنها إنما وضعت لهم، ورتبت لفنونهم وآدابهم، يضيعون بجانب الذين لا يصلحون لها ولا حق لهم فيها، ولا قدر يجيز لهم نوالها، لأن الأدعياء والواغلين على الآداب، والدخلاء بين أهل الفنون، لا يعدمون وسيلة تمكنهم من الحصول عليها، ولا تعز عليهم سبيل من تلك السبل الدنيا الحقيرة لأجل التمتع بها واحتكارها وقصرها على أنفسهم، ومن عمركم الله من العلماء والسادة الأجلاء في الأدب يرى هذه الحالة النكراء من سيادة الوسائط والأحابيل والخدائع والوسائل المذمومة، على الفضل والنبل والأدب الناضج، والفن الذي لا يمازجه سقم، ولا يخالطه علة أو مرض، وتنهض همته للإسهام لنوال الجوائز مع المسهمين، ويثب نشاطه لابتكار الشيء الطريف البديع الذي يظفر بالجائزة، ويأخذ بضبع المنحة أو الهبة ولذلك ترك الأدعياء وشأنهم يتوسلون ويمسحون الجوخ ويتشفعون ويبذلون ماء الوجوه ويتحككون بأصحاب الجوائز والذين قرروا المنح ورتبوا الأعطيات والهبات، ففاز بالجوائز من لا يجوز لها، وظفر بالمنحة من لم يمنح من مواهب الله ونعمه على عباده ما يجعل له حقاً في نوال أو عطية، ولذلك لم تحدث الجوائز في مصر إلا سوءاً وشناعة ولم يكن منها إلا أن استعلى الأدعياء على أهل الفضل، وكثرت جنود السوء على جنود الخير، وراجت البضائع المزجاة والتجارات العفنة الخاسرة، وكسدت الصالحة ونامت الطيبة الممتعة.
هذه هي الجائزة الواصفية، جائزة من الجوائز المقررة في كل عام - مقدارها عشرون جنيهاً - لخير كتاب يخرج للناس وأبدع سفر ينشر بين القوم، فهل تعلم من الذي ظفر بهذه الجائزة من يد سعادة حسين واصف باشا في هذا العام - ظفر بها عبد الحليم المصري، وبم استحقها - بديوانه - وهذه ولا ريب فضيحة من الفضائح الأدبية التي تسجل على تاريخ الآداب في مصر هذه السنة، وشناعة وإثم عظيم لأن الاعراف بأن ديوان المصري خير(44/66)
كتاب أخرج للناس في سنتنا هذه دليل قاطع على أن هذا البلد أخرس أصم لا أدب فيه ولا كتاب ولا شعراء ولا تفكير ولا نهضة ولا رقي، لأن شعر عبد الحليم المصري لا يزال شعراً فوق البيعة وشعراً أخلق أن يسمى نصف سوا إذ لا نضوج فيه ولا مادة مغذية، ولا يسمن ولا يغني من جوع، والشاعر عبد الحليم لم يظفر بالزعامة على الشعراء، ولم يقل أحد بأنه شاعر إلا مجازاً واستعارة وتسامحاً، وكان خيراً لنا أن لا نصرف هذه الجائزة في هذا العام ولا ينالها من نالها، ونقول جهرة بأن هذا العام كان مقفراً من الكتب خلواً من الأسفار الجديدة الممتعة، وإننا لم نفكر عاماً كاملاً، ولم نكتب ولم نؤلف ولم نعرب ولم تخطر لنا خواطر، ولم تتلجلج في صدورنا نزعات وآراء من أن نقول أن أحق بها فيه ديوان من الدواوين الإضافية المسكينة التي لا رائحة فيها للشعر المتين المفعم بالمعاني السرية والخواطر الطيبة النافعة، والأمة التي يظفر بإكليل الغار في تاريخ الآداب فيها لعام كامل مثل شاعرنا عبد الحليم، يجب أن تبكي نفسها وتأسى على أدبها وتفكيرها وكيف يكتب الكتاب الحقيقيون، وكيف يضعون التواليف الفاضلة والأسفار الطيبة، في بلد يظفر فيه بالمال الوفر والجوائز السنية، والأختام الماسية والذهبية مثل الشيخ القصرى وعبد الحليم المصري وإضرابهما، وتقام الحفلات الحافلة والأسمار الكبرى لسماع أدبهم وأشعارهم، لعمري أنها لمعرة للأدب العصري، وفضيحة من أكبر فضائحه.
ثم ألم يكف السيد عبد الحليم أن ديوانه هذا قد طبعه على نفقته أحد كبار المثرين ثم زاد على ذلك أن وزعه على جميع بيوت الأغنياء وقصور الذوات والأعيان وألقاه في كل مغنى من المغاني وفي كل دار من دور الأكابر والمترفين والأسامي النبيلة وأهل الألقاب الضخمة، وظفر بثمنه منهم أضعافاً مضاعفة ونال على أتعابه أموالاً طائلة، حتى يجري وراء الجائزة الواصفية، ويدحلب لأجلها ويوسط الناس في سبيل الحصول عليها، ويقنع الباشا الكريم أنه أحق إنسان بها، ويقبض على العشرين على عينك يا تاجر بلا خشية ولا خجل ولا اتقاء لله في هذه الأمة التي أعطته أكثر مما يستحق.
وعلى هذا القياس لا يسعنا إلا أن نعد حسين باشا واصف أكبر عليم بفنون الشعر، نقادة به بصير، فقد وضع نفسه موضع نابغة ذبيان في سوق عكاظ واستعرض جميع الشعر والقصيد الذي ظهر في هذه السنة فلم يجد غير ديوان المصري أحق بجائزته وأجدر بنوالها(44/67)
والتنعم بها، فهنيئاً للظافر بالجائزة، وتهنئة للباشا الهمام على تقلده وظيفة الحكم الأكبر في شعراء الأمة.
نحن لا نحسد عبد الحليم المصري على ما أوتي من براعة أساليبه العديدة، ولا نريد أن ننافسه فيه ونعارضه ونزاحمه، فتلك أرزاق يمنحها الله لمن لا يستحقونها، ولا شأن لنا في محاسبة الله، وإنما نخشى على هذه الأمة أن تتفشى فيها بعد الحمى الإسبانية حمى الملق ومسح الجوخ، فتذهب بأقدار الكفاءات وأهلها، ويصبح أشد الناس ملقا، أظفرهم بالخير وأملأهم بالذهب والمال جيوباً.
مصاب آل المهيلمي
كثرت الوفيات في بلدنا هذا منذ أيام، وذهب إلى مساكن الفناء فيمن ذهب من الناس أفراد من كبار الأمة وأعيانها، والنافعين من أهلها، واغتال الموت في وسط هذا التزاحم على الأبدية والتنافس على التلاحق إلى مضاجع الآخرة طائفة صالحة من القوم الذين كنا بهم أعزة، وكنا سعداء بوجودهم في وسطنا، وتألقهم في سماء الحياة المصرية، ومنهم التاجر النافع، والأريحي العظيم، وذو النفس الكريمة، والإحساس البار المحمود، والغني الممتلئ حياة ونشاطاً وفتوة ووجداناً، والكهل الناهض بعمل مفيد، والمؤدي الخدم الجليلة، وعميد العشيرة الكبيرة، ورب الأسرة التي لا نصير لها سواه ووالد إلا صبية الذين لا حول لهم في الحياة إلا حوله، ولا عزة لهم إلا به، والشيخ الصالح الذي كان رأس القبيل، وزين إلا كليل، ووقار المجالس، وهيبة الأسمار، حتى لم نكد نفرح بعقد الهدنة، ونبتهج بعود السلام إلى العالم، وقتل شبح الحرب الشنيعة، وتنفس الصعداء، والسكون إلى الحياة بعد ما شقت وصعبت وكاد المرء يتلمس منها خلاصاً، حتى دهمتنا هذه الداهمة العظيمة، والكارثة المرعبة، فأمسكنا عن الفرح، وراح في كل بيت بكاة يبكون حول مريض، وحادون يلبسون السواد على فرد نافع، والقوم مشيعون بعضهم بعضاً إلى المقابر، واجفون إذا وضعوا أيديهم في أيدي صحابهم مصافحين محيين، مرعبون إذا ألفوا رجلاً بينهم يسعل، أو أحداً منهم يرجف أو ساخن اليد دافئ الحرارة، وبات الناس على جزع، وأصبحوا على خشية وفرق، فقل الابتهاج بالسلام، والفرح للصلح، ومضى الناس في شغل بمرضاهم وموتاهم وهلكاهم عن الشؤون التي كانوا لا ينشغلون لحظة عنها، ولا يتركون التحدث بها والمناقشة(44/68)
في أسرارها وتكهناتها.
ولكن ليس في الفاجعات التي غشيت الناس اليوم فاجعة تستدر الشؤون وتبعث الأسى، وتقنع الإنسان بتفاهة الحياة، وغرائب الأقدار، من المصاب الذي نزل بآل المهيلمي فاختطف السيد الكبير، والرأس الجليل، والعميد الوطني الغيور، والشهم الأريحي المشهور، عبد المجيد المهيلمي بك فقد كان فرحاً بالحياة، رجل خبر يبذله لا طالباً جزاء ولا سائلاً شكوراً، وكان زعيماً من زعماء التجار، وبطلاً من أبطال المتجر، أراد قبل أن عاجلته المنية أن يفرح بفتاه ويغتبط بتزويجه، فزوجه وأقام له العرس الفخم، وأنشأ الزينة، ودعا الصحب والعشراء والخلطاء، وهو صحيح معافى، لا يخطر للقوم أنه على مقترب منيته وفي الطريق إلى مقبرته، فلم يلبثوا الأعشية أو ضحاها حتى اغتاله الموت، وفتاه لا يزال في فرحة العرس، وغبطة شهر العسل، ثم لم تكد تمضي أيام قلائل، حتى التحقت به قرينة أخيه عبد الغني بك، ثم اكتمل المصاب بأن انحدر العريس الفتي عبد الفتاح بأبيه في مساكنه، ووافاه في العالم الذي اختاره الله له، وكذلك قضي الوالد وابنه نحبهما على فترة صغيرة، كأنما كانا على موعد مضروب وكأنما أبى الوالد أن لا يهنأ له مضجع في الأبدية ويطمئن به المقام أو يزوره فتاه ويعيش ثمة على مقربة منه.
مصاب جليل، ونكبة عظمى، وقعت في عجلة، ودهمتنا بسرعة، فكان الأسى عظيماً، والحزن أليماً، ولا رد لقضاء الله، ولا حول ولا قوة إلا به.
ونحن نسوق العزاء إلى شقيق الفقيد عبد الغني بك ونسأل الله له السلوى وتخفيف وقع المصاب وأن يطيل حياته ويزيدها ما انتقص من الكريمين الراحلين.(44/69)
مطبوعات جديدة
تاريخ مصر
وضع حضرة الأديب الفاضل عمر أفندي الاسكندري الموظف بوزارة المعارف المصرية - وأسعده في ذلك حضرة الفاضل الأستاذ سليم أفندي حسن والميجر ا. ج.
سفدج الموظفين كذلك بوزارة المعارف - كتاباً مدرسياً لطلبة المدارس الثانوية من أبدع ما يوضع لطلبة المدارس - في تاريخ مصر القديم والحديث، والكتاب يقع في جزأين مستقلين يقعان في قريب من ستمائة صفحة، وقد عنون حضرته الجزء الأول بهذا العنوان تاريخ مصر إلى الفتح العثماني مع نبذ في أخبار الأمم التي ارتبطت بمصر من ذلك العهد والثاني بهذا العنوان تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر مع نبذ الخ وفي الكتاب نيف وثلاثون ومائة صورة بين مصورات جغرافية وتاريخية وبين صور أشخاص وآثار، ولغة الكتاب لغة صحيحة بريئة من التبذل والضعف والأخطاء النحوية واللغوية وقد توخى فيه الإيجاز غير المخل جهد استطاعته بحيث يؤاتي محبي الاطلاع من غير طلبة المدارس، وهو مطبوع في مطبعة المعارف المشهورة بدقتها وجمالها على ورق جيد صقيل، وقد قررته وزارة المعارف ليدرس في مدارسها الثانوية، وهو يباع باثنين وأربعين قرشاً صاغاً ويطلب من مكتبة المعارف بشارع الفجالة بمصر.
تاريخ الأتراك العثمانيين
وأهدى إلينا حضرة الأديب الفاضل الأستاذ حسين أفندي لبيب المدرس بمدرسة القضاء الشرعي كتابه الذي سماه تاريخ الأتراك العثمانيين وأتى فيه على تاريخ الدولة العثمانية منذ نشأتها إلى اليوم - وهو مترجم عن الانكليزية، وهو الذي نشرنا منه الفصل الخاص بالأدب التركي في هذين العددين، والكتاب يقع في نيف وأربعمائة صفحة من الصفحات الطوال ولغته جزلة متينة وفيه أبحاث قيمة انماز بها عن غيره من الكتب الموضوعة في تاريخ آل عثمان وثمن الكتاب ثلاثون قرشاً صاغاً وهو يطلب من صاحبه الفاضل وعنوانه مدرسة القضاء الشرعي.(44/70)
العدد 45 - بتاريخ: 1 - 1 - 1919(/)
هل
(1) هل من سبيل إلى قتل شبح الحرب في الأرض واستقرار السلام إلى الأبد؟
(2) هل من وسيلة إلى إبطال الشراب في العالم؟
(3) هل يجوز للأزواج أن يتكلموا في المجالس عن زوجاتهم
(4) هل ثمة شيء مما أفسدته هذه الحرب هو أولى بأن يبادر بإصلاحه قبل غيره؟ وما هو ذلك الشيء؟
(1) هل من سبيل إلى قتل شبح الحرب في الأرض
في هذه الأيام - ونحن على أبواب سلم بين الأمم، ومستهل صلح بين الشعوب. بعد جنة هذه الحرب النكراء، ولوثة هذا القتال العنيف الذي لبث بضع سنين - لا نجد فرصة أطيب، ولا سانحة خيراً من هذه، لنشر آراء طائفة من العظماء، كتاباً وشعراء وساسة وقساوسة ومتدينين، ومؤرخين وعقليين، عن هذا السؤال الذي وضعته مجلة من كبريات مجلات الغرب منذ أيام قلائل.
رأي جيروم. ك. جيروم
الكاتب المفكر الطائر الصيت، صاحب كتاب (أفكار بليدة لمفكر بليد) الذي نشرنا من قبل عدة من مقالاته المختارة
لا سبيل إلى السلام العام المقيم إلا إذا انتزع حب الحرب من روح الفرد. ولعل من بين الوسائل المهذبة التي قد تؤدي إلى هذا الغرض، وتحدث هذه الخاتمة، عصبة الأمم، واللاتجنيد، أو إبطال إكراه الناس على الجندية، فلعل فيها بعض الفائدة، ولعلها قد تجدي شيئاً من الجدوى، على انه ينبغي بجانب عصبة الأمم أن ننشئ عصبة أخرى، هي عصبة الصحف، تأخذ على نفسها إثارة الكراهية في قلوب الشعوب للحرب، وتنفيرهم من الاستماع لحكامهم وآلهتهم الأرضيين، وتبغيضهم في التنازع بين الأمم والأمم، والتقاتل بين الشعوب والشعوب.
رأي الأب برنارد فوغان
من أكبر خطباء إنجلترة(45/1)
على قدر مبلغ علمي، أظن أن لا وسيلة لاستتباب سلم أبدي عام إلا بتجربة المسيحية، فقد جربت جميع الوسائل إلا هذه فلم يفكر فيها أحد، وكانت نتيجة جميع تلك التجاريب الخيبة، وكان مآلها الفشل، فلماذا لا نجعل المسيحية سبيلاً من سبل التجربة، ونضعها تحت الاختبار.
رأي سير كونان دويل
لا أرى سبيلاً ميسورة، ولا أجد طريقة معبدة، وأود لو أنني استطعت، وليتني أجد، أن عصبة من الأمم ننضم إليها ستحدث عصبة أخرى من الأمم تضادها وترى غير ما ترى الأولى، ومن هذا تعود الحرب إلى الدنيا.
رأي اللورد أولفرهولم
من كبار المهندسين
في رأيي أنه لا إبطال التسليح العام ولا عصبة الأمم ولا احتكار الحكومات عمل الذخائر ولا إلغاء الجيوش الحاضرة ولا إبطال التجنيد، ولا وسيلة أخرى من تلك الوسائل التي فكر الناس فيها لإحداث سلم عام في الأرض، تساوي جميعاً ثمن المداد الذي كتبت به في الورق.
فنحن الآن نعيش في حياة وتطور غريب في الطبيعة البشرية من شأنه أن لا يعبأ بالمحالفات. ولا يكترث بالمعاهدات، ولا يعتد بالقوانين والشرائع، إذن فما الجدوى اليوم من البحث في إنشاء عصبة أمم، ومحالفات عديدة، والإكثار من وضع المعاهدات. ونحن رأينا أن المعاهدات السابقة لم تعتبر إلا قصاصات ورق ولكن كما شاهدنا أمراء الإقطاعيات القديمة في التاريخ كفوا عن الإغارة على جيرانهم وأعدائهم، إذ اكتشفت طريقة عمل البارود، لأن الغارة على الأعداء أصبحت لا تجلب ربحاً، وتؤدي إلى الخسار، كذلك قد أظهرت الحرب الحاضرة أن الحروب حمقاء، والقتال بين الأمم طائش وأن الرابح فيها والخاسر سواسية، كما قال المستر نورمان أنجل واضع هذا المذهب.
إن الاهتداء إلى هذه الحقيقة والإسراف العظيم الذي تجره الحرب والنفقات الهائلة التي تضيع هباء منثوراً، والخسارة الكبرى في الأموال والأنفس والحياة، ستعمل على إبطال(45/2)
الحروب في المستقبل وتجعل الحرب بعد اليوم مستحيلة صعبة جموحاً لا تذل لطالب. وهذه الحقيقة خير ولا ريب من جميع المعاهدات وتقليب وجوه الرأي في النيات وإيجاد الوسائل والطرق العديدة، وأجدى من المنافسات والأبحاث والنظريات.
رأي سير وليام كروكس
العالم الطائر الصيت
ستقتل الحرب على مدى الزمن بالبارود الذي صنع لأجلها، وستلغم بالقذائف التي أعدت لها، فإن هذا العلم الذي أخرج جميع هذه المخاوف والمهالك وأدوات التدمير، وقتل النفوس، وإبادة الحياة، سيؤدي بنفسه من جراء إكثاره من الابتكار من تلك المدمرات، وحشد ألوان كثيرة من تلك المخترعات، إلى بغض الإنسانية العامة ويثير في الدنيا مقتاً شديداً وكراهية ملعونة نحوه، ويحدث في نفوس البقية الباقية من سكان الأرض اشمئزازاً منه وأنفة واحتقاراً له، فيجمعوا بينهم فيما بينهم على أن يعتبروا هذا الضرب الخطر من العلم جر ما يعقب عليه في قوانينهم، ويعيشوا في وئام وتحاب وصفاء، مؤثرين ذلك على أن يدعوا قوماً منهم يخترعون أداة حاصدة جديدة لقتل صفوف الفريقين المتخاصمين معاً.
فتوى اللورد روبرتسون
وزير التجارة فيما سبق
لا تطمئن الشعوب إلى السلام إلا إذا اجتمعت كلها على تخفيض تسليحها إلى الحد الأدنى الذي يكفيها مؤونة حفظ قواها الداخلية ونظامها في صميم مملكتها وضد العالم الخارجي، وذلك بإنشاء قانون دولي يسري على الإنسانية أجمع، وهذا العهد الدولي الذي يستطيع أن يكره الأمة الثائرة إلى تهديد السلام على أن ترضخ لإبطال التسلح فإذا أبطل التسليح قل ولا ريب الاعتداء، وإنما لكي يتم الأمان، ويسود الاطمئنان، يجب إنشاء عرف دولي ونظام عام لكي يكون ألباً واحداً على أي معتد يريد أن ينفض يده من العهد، ولعل مصادرة التجارة وقطع سبيل مواردها عن الأمة المعتدية وسيلة صالحة كافية، هذا رأيي في عصبة الأمم.
(2) هل من وسيلة إلى إبطال الشراب في العالم(45/3)
وطائفة من فتاوى الكتاب والفلاسفة في ذلك
من بين المسائل الاجتماعية التي أحدثت المناقشات الكبرى، وجرت فيها الأبحاث، وتشعبت الآراء، وتضاربت الأحكام مسألة الشراب، وإمكان إبطال الخمر في العالم بأسره، وقد اشتدت المنافسة فيها في بلاد الفرنجة أبان الحرب، وخلال أيامها وأعوامها، ولا ريب في أن وطيس الجدال سيحتدم، وحرارة البحث ستشتد، بعد أن أصبح السلام على قاب قوسين وأدنى، وأوشكت عهود السكينة تستقر، وأيام الهدوء والوئام تستتب، ولعل هذه المسألة الحيوية الكبرى، إنما أقامت الكتاب والاجتماعيين وأقعدتهم، ولفتت إليها الأنظار، وأصابت المكان العظيم من الأذهان، لأنها تتعلق نفوس ألوف من الناس، وأكباد جموع عظيمة من الإنساني، ولأنها تفتح أبواباً كثيرة من القول، وتتباين فيها الآراء، وتصطدم فيها الأحكام.
وقد وضعت إحدى المجلات الكبرى في الغرب هذه المسألة على بساط البحث، واستنزلت آراء كثيرين من كتاب الفرنجة وأقطاب فلسفتهم ومفكريهم، فجاء من نواحيهم طائفة طيبة من الخواطر، لا تزال مختلفة جد الاختلاف، وقد أثارت الخواطر والأذهان تلك الحقيقة الجديدة الغريبة، وهي أن كندا وأمريكا استطاعتا أن تبطلا الشراب بتاتاً في بلادهما ومدائنهما فضجت ضجة الغرب وأرادت إلا أن تجد لها سبيلاً على أن تحتذي حذوهما، وأن تبتكر الوسائل لقتل هذا الشبح الذي اشتدت أذاته بالناس.
وستجد أيها القاريء أن الفتاوى التي نسوقها إلك فيما يلي إنما جاءت من الكتاب والمفكرين، ولا ترى أثر للساسة وأقطاب الحكوميين، ولذلك نقول أن جميع الوزراء والسياسيين الذين طلب إليهم الإدلاء بآرائهم، رفضوا أن يصدعوا بها ويجاهروا إشفاقاً على مراكزهم السياسية، ومكانهم في الحكومة.
وإليك هذه الفتاوى وأسماء أصحابها:
رأي برنارد شو
الفيلسوف العظيم
إن الرأي الذي أدلى برنارد شو رأي قاطع، وحكم لا تردد فيه ولا زعزعة ولا اضطراب، إذ أجاب وقد سئل رأيه:
يجب أن يمنع بيع المشروبات الكحولية الشديدة طلباً للربح، وطمعاً في الكسب الوفر، منعاً(45/4)
باتاً، في العالم كله، وفي مدائن الدنيا بأسرها، وإلى البد، وآخر الدهر، ولا حل لهذه المسألة ولا سبيل إلى ابتكار وسيلة لإبادة الشراب، حتى يكره عصارو الخمر وتجارها ومنتجوها على أن يتحملوا نفقات الأمراض والجرائم والخمول وقتل النشاط والمواهب والكفاءات التي تحدثها خمورهم، فإذا تيسر ذلك، وضربت عليهم الضريبة الفادحة، وتحملوا إصر جرمهم، انحلت مسألة الخمر من نفسها، وابتهج دعاة إبطال الشراب بتة، وغلغاء الخمر دفعة واحدة.
فتوى الكاتب المشهور هيلير بيلوك
لا يعجب الإنسان أن يرى هيلير بيلوك ينتحي منحى مخالفاً لبرنارد شو، ويرمي بفكرة متباينة مع فكرته. لأن هيلير بيلوك كثيراً ما اصطدمت آراؤه بآراء زميله، وتعارض الرجلان، ولا غرو أن يشذ بيلوك ويخرج على هذه الفكرة، وهو يحبذ الشراب في جميع قصائده، وتبين رائحة الخمر في عرض كتبه وأشعاره:
قال المستر هيلير بيلوك: لا أجد ما أقول غير أن هذه الضجة الكبرى التي قامت تناويء الشراب، وتحارب استخدام المشروبات الكحولية تلوح لي ضجة مجنونة في نهايتها، وحركة حمقاء في بدايتها، ولا أعتقد أن هناك رأياً مذكوراً أو حجة رجيحة تؤيدها وتشد أركانها، وما أحسب إلا أن جموعاً عظيمة من الناس تدعي أنها تعارض في فائدة الشراب، لأنها ممتزجة في أذهانهم بالآداب، وتثير خواطرهم المسؤولية الأدبية، كما ترى كثيرين من الناس يدعون أنهم ضد لعب الورق، أو الرهان على الخيل في السباق، بل وشرب التبغ، إذ يرى الناس أن المودة تحكم عليهم بإظهار آرائهم، لا ينون يدلون بها سواء اعتقدوا صحتها أم لم يعتقدوا، وإذا أنت نظرت إلى السواد الأعظم من أهل الأمم البيضاء في العالم الجديد أو في أوروبا، علمت لأأنهم جميعاً يشربون الخمر ويبتهجون بشرابها، ويسمنون ويتقدمون على احتسائها وقد كان هذا رأيهم من قديم الزمان، وسابق العهد والأوان.
فإذا سعى قوم إلى منع الإنكليزي من الاستطراد في عاداته التي نشأ عليها فستكون النتائج مخيفة، والعقبى مرعبة، أما إذا ذكرت هذه النية أمام الفرنسي أو الطلياني، فإنه ولا ريب ضاحك في وجهك ساخر منك ومن نيتك.
وقدعقبت المجلة على آرء هذا الكاتب بقولها: إن في آراء مستر هيلير بيلوك شيئاً كثيراً(45/5)
من الحق، فإن الإنكليز والطليان والفرنسيين مولعون بألحان، ولا نظن إلا أن الألمان سيحتجون إذا كان إبطال الشراب سيهدد جعتهم وحدائق البيرة التي أنشأوها في جميع مدنهم.
فتاوى أخرى
وقد كتب الأميرال السير برسي سكوت في أسطر قلائل فقال: لا أرى أن في الاعتدال شيئاًُ من الأذى، فإن شرب الجعة أو النبيذ أو الكحول على المائدة، أو في ثنايا الأكل، وخلال الطعام، لا يحدث أي ضرر.
ويقول الأميرال سمث، وهو من بحرية الولايات المتحدة:
إن المسألة هي من كثير من الوجوه سياسية بحتة، ويلوح لي أن أمثال هذه المسألة يجب أن تبت فيها كل أمة بنفسها بما يبوافق طبائع أهلها وعاداتهم ومشاعرهم.
ولعل الرجل مصيب فإن مطالب ساكن لابلند أو البلاد القصية في القطبين المتجمدين لا تشابه مطالب سكنة المناطق الحارة أو المعتدلة، ولهذا كان حقاً على كل أمة أن يكون لها من ناحية هذه المسألة الاجتماعية تشريع خاص، وسنة منفردة، تصلح لها ولجوها عادات أهلها.
رأي كونان دويل
أما الروائي المشهور كونان دويل: فلم يرض لنفسه أن يكون متطرفاً في الرأي، بل آثر أن يبكون وسطاً بين الطرفين، ويصلح بين النهايتين، فلم يوافق طلاب إبطال الشراب دفعة واحدة، ولم يسكن إلى دعاة الإكثار منه والإدمان عليه، بل أوجز يقول:
إنني أميل شخصياً إلى إنقاص قوة الكحول، وشدة الشراب، حتى تكون المشروبات الخفيفة من نبيذ وجعة مباحة مشروعة، ولا أستطيع أن أقول بإباحة شراب المشروبات الكحولية بأية حال.
رأي المستر والتر باروت
وقد جاء والتر باروت برأي مزجه بالفكاهة، وخلطه بشيء من المجون، ولكن لا يزال يشتم من رأيه الفكاهي رائحة تحبيذه الكاتب هيلير بيلوك إذ قال: هؤلاء المنهجيون(45/6)
المتسخطون إنما يغضبون ويلعنون ذنوباً لا يعرفونها ولم يذوقوا لها طعماً، لكي تتفشى في العالم ذنوبهم التي يجنحون إليها ويميلون، بعض الناس يشربون كثيراً، وفريقاً آخر يأكلون كثيراً، وهؤلاء نفراً من الآخرين، وألوف من الأطباء يثولون أن الين يموتون من كثرة الأكل أكثر من أولئك الذين يقضون نحبهم من كثرة الشرب، وقد قال سدني سميث إذ كان في السبعين من عمره أنه أكل وشرب أكثر مما يلزمه، وأن حجم شرابه وطعامه في ذلك العمر الطويل كان يستلزم أربعين مركبة - ذات أربعة جياد مطهمة - ومع ذلك كان بعد أن حطم تلك السن المتقدمة قوياً نشيطاً إلى النهاية، وكان كثيرون غيره في المائة ويشربون في كل يوم زجاجة من النبيذ، وهذا رأيي ولبك أن تستنبط منه ما تريد.
رأي مستر ميار
وبسط المستر ميار رأيه - وهو من رجال الدين - فقال بفائدة إبطال الشراب وإليك ما كتب:
لا أتردد هينهة واحدة في القول بأن منع شاربي الخمر إثني عشر شهراً بعد الحرب منعاً باتاً مطلقاً سيكون ولا ريب أنجع الأدوية، وأنفع وسائل الإصلاح التي يستطيع الذهن أن يبتكرها، فلو أننا فعلنا ذلك لامتلأت خزائننا من المال بما لا تستطيعه القروض واليانصيبات، ويكون الوسيلة الحسنى لإبادة الفساد والنتائج الطبيعية والعواقب البدنية التي تحدثها الخمرة، وبذلك نستطيع أن نوفر كثيراً مما يذهب من طفولتنا من الوفيات، والمراض، وما يحصدهم من جراء الإدمان على الخمر حصداً، وليس الأمر قاصراً على هذه النتائج، بل ثمت نتائج أخرى، وفوائد جلى، لو أن في استطاعة الساسة والحكام أن ينفذوا هذا القانون في بلاد لا زال الرأي فيها مقسماً والناس مختلفين خواطر وأذهاناً، على أن كثيرين من قواد الأمم، وعظماء الممالك يرون الأرض الجميلة الطاهرة فيما وراء البحار ولكنهم لا يستطيعون إليها وصولاً، لأن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال.
فتوى سميتر
وهي الموسيقية الذائعة الذكر
ومن بين السيدات المشهورات اللائي صدعن بآرائهن في مسألة الشراب الدكتورة إيتل(45/7)
سميتر، وهي من أنبغ نوابغ فن الموسيقى وأكبر وضاع الألحان، قالت:
لا أعتقد أن الذين لم تكن لهم علاقة بالمسألة التي سألتموني أن أدلي برأيي فيها، يستطيعون أن يدعوا أن لهم حق الإدلاء بآرائهم، وهذا أمري، وتلك حالي، على أنني أقول أن لي حاسة قوية ضد إبطال أمر لا ضير منه إلا إذا أكثر الناس منه وتغالوا فيه، وطلبوا المزيد والغاية منه، لأنني أرى أن ذلك يبعث على تشجيع التحبب إلى الشيء الذي يمنع، والأمر الذي يبطل، ويقتل الإرادة ويودي بفضيلة ضبط النفس، ومغالبة الشهوات.
رأي الشاعر دويسون
ولعل أغرب الآراء التي جاءت في هذه المسألة، وأحسن ما نختم به هذا البحث كلمة الشاعر دويسون، وهو رجل يسند اليوم في حدود الشيخوخة، وإن كان قد قصر البحث على نفسه ونظر إلى الأمر من ناحيته، ولم يوغل في الموضوع، ويتناوله من جميع أطرافه قال:
أنا رجل شريب ماء منذ أعوام عديدة، ولهذا أميل بالطبع إلى تعميم شرب الماء، قبل غيره من ألوان الشراب.
وقد أصاب الشاعر مقطع الحق، بعد جميع هذا البحث والتحكيم
(3) هل يجوز للأزواج أن يتكلموا في المجالس عن زوجاتهم
وضعت مجلة من كبريات المجلات في إنجلترا هذا السؤال الغريب، على مائدة البحث وساقت الكتاب إلى الإجابة عليه والإفصاح عن رأيهم فيه، فكان من بين الذين أنشأوا الأبحاث المستفيضة عنه كاتب من كبار الكتاب، آثرنا أن ننقل رأيه لقراء البيان، قال:
هناك وسيلتان راجحتان للفرار من متاعب الزوجية، وإغناء النفس عن هموم الأسرة، والعيش في نجوة من آلام الزيجات وهي إما أن لا يتزوج الإنسان مطلقاً وإما أن لا ويلد ولا يخرج إلى نور الدنيا.
ومن العبث أن نكسر جرة اللبن، ونسقي الأرض شراباً، ونبكي عليه، ونندب ما سال منه، ونقول يا ليتنا كنا تراباً، ومن السخف أن نجر علينا الهموم بأيدينا، ثم نبكي من أثقرها ونعول ونأسف ونتلهف، بل لا فائدة مطلقاً من وراء التسخط على زوجة غير صالحة، وذك شريكة لا خير منها، فإن ذلك لا عدل فيه ولا طائل تحته ولا يليق بك ولا بزوجك،(45/8)
والرجل الذي يطيل الشكوى من زوجه، ويكثر الأنين منها، ولا يفتأ يصدر الأنات والزفرات من عدم صلاحها، لا يصيب في المجالس إلا سخرية، ولا يجد في الناس إلا تهافتاً وهزؤاً، ويضيق القوم به ذرعاً، ويبرمون بحديثه وشكواه، بل لعله مثير في النفوس الرحمة لزوجه التي يلعنها، مكسبها من القلوب شفقة، غير ظافر من السامعين بسخط عليها أو غضب منها أو مشاركة معه في التبرم بها.
والقول السائر: وهو أن الرجال مختلفون، ولكن الأزواج سواسية لا بد أن يكون مصدره امرأة، ولا ريب في أنه أول ما قيل في الدنيا إنما خرج من فم زوجة، فإن النسوة المتزوجات إنما يعتبرن جميع الأزواج في نطرهن طائفة واحدة، هي آفة لا بد منها، وأما النساء فثلاث عند الرجال:
المرأة التي لا يتكلم عنها زوجها في المجامع مطلقاً.
والمرأة التي لا يفتأ زوجها يتمدحها في المجالس ويغالي في وصف محاسنها ومفاتنها.
والمرأت التي يذمها رجلها ويعيبها وينتقدها ويحدث الناس أسوأ الحديث عنها.
أما النوع الأول من الأزواج فلا نجد عاباً نسوقه إليهم ولا ذاماً نلحقه بهم، بل نوصيهم بالدأب على عادتهم والجمود على شيمتهم تلك، وأما الفريق الثاني والطائفة الثالثة فأحق بالذم، وأدعى إلى النقد، وأخلق بالتأنيب، وإني لا أجد شيئاً يستحق الذم أن أسمع رجلاً لا يفتأ يحدث الناس عن زوجه فيقول أنها طاهية صناع أو مربية صالحة التأديب، أو حائكة تجيد الزركشة والتطريز. فإن للناس أن يذكروا كلما تجاذبوا أطراف الحديث شيئاً عن هذه التفاهات والسخافات وإلا انتفى الحديث وبطل السمر، وذهبت لذة المحادثة والحوار، وإنما أشد ما أكره من المتزوجين ذلكم الرجل الذي يختلي بعد الاستراحة في الفصل الأول أو الثاني من الرواية في دار التمثيل أو الملهى، فيقول لك: إن جميع أولئك الممثلات المليحات، وهؤلاء الراقصات والفتيات لا يدانين امرأته في جمالها، ويمضي يحدثك عن جمال قامتها، وسمو كتفها وأن ذراعيها أجمل ما في الدنيا وما في العالم النسائي كله من أذرع وساعد. ولو أنك اطلعت إلى بيته وشهدت زوجته لعلمت أن كتفيها موضوع سخرية لداتها وأترابها، وملتقى استهزاء الجيران وهدف لتهانف الأقرباء والمليحات، ولو علمت بعله بهذا الكذب الذي يكذبه زوجها على الله وعلى الناس لخجلت وراحت منه غضبى(45/9)
نافرة.
أما الرجل الذي يسلق امرأته في المجالس بألسنة حداد ويشتد في نقدها ويتعسف في تأنيبها وإظهار مساوئها فأحق بالسخرية، وأجدر بالاحتقار، لأنه امرؤ ضئيل، ورجل صغير غير حازم، ولا عاقل، ومن هذا الفريق معشر كثر لا نستطيع أن نقول عنهم أنهم يميلون إلى نقد بعولاتهم وإظهار مساوئهن، وأنهم يتحدثون فيما بينهم عن أمور تتعلق بهن، ولا يصح إظهارها أو التحدث بها، ولهذا يقعون تحت هذا الضرب من الأزواج، فمنهم من يقول مثلاً لصاحبه وهو يحاوره، إن زوجتي يا صاح لا تدعني أستطيع مغازلة السيدة التي تسكن الطابق المقابل لنوافذنا، ولا أجد من غيرتها سبيلاً إلى - البصبصة - فهي (غيرى - موت) ولا أستطيع أن افلت من مراقبتها، يا لله من هذا الزواج، لعنة الله عليه، إنه احتكار فظيع، واستعباد مرذول، بل إذا رأتني يوماً وأنا في سبيل التحبب إلى الفتاة التي أمامنا من الشرفة أرعدت وأزبدت ولبثت في السرير تؤنبني وأمست إلى منتصف الليل يقظى لا تغمض لها جفن، تبكي وتعول، لأنها غيرى تكاد هذه الحاسة تأكل قلبها أكلاً، نبئني أيها الولي كيف السبيل إلى تهريب الغزل من هذا الجمرك الرقيب العتيد، وكيف الوصول إلى تجمش الحسان؟ مغازلتهن.
وهذه الذنوب التي يقع فيها الرجال ينبغي أن تزول وتبطل من عالم المتزوجين، ويجب أن يعلم المتزوجون أن الرجل ينبغي أن يرضى ببعله على كل حال، ويتذكر أنها امرأة وأنه رجل، وعليه أن يحميها ويظلها برعايته ويرفعها فوق تمثال وينصبها فوق دمية أمام الناس وبين الجماعات، وإن علم في قرارة نفسه أن هذا المعبود الذي رفعه وأقام له التمثال لا يزال ينهض على ساقين من الفخار.
ولعل قلة الزواج الآن وكساد سوقه ونفار الشباب منه. من المسائل الاجتماعية الخطيرة التي تهدد الحياة. وتنذر الجيل الحاضر بالسوء والويل، وإذا لم تبتكر الوسائل الصالحة لدرء هذا الخطر وإزالة هذا الضرر فإنه يخشى أن تزداد الحال سوءاً ويتفاقم الخطب إذ يوجد اليوم نفور عام بين فتيان اليوم من تحمل أعباء الحياة الزوجية والاضطلاع بأوزار المعيشة العائلية: والسبب الأكبر الذي بعث هذا النفور وأقام هذه الخشية هو أن الزواج قد فقد روح الخيال، وانتزع منه العنصر الروحاني، فإن ابن اليوم، وفتى العصر، يختلط(45/10)
بالمتزوجين ويجلس في مجالس الكهول من الأزواج، ويسمر مع العجائز والشايخين ويشربهم نخبهم، ويشاطرهم الكؤوس ولذة السمر والمحاضرة، فيلاحظ منهم السخط الذي يبدونه من أمر الزواج، والآلام التي لا يفتأون يبالغون في صوفها ورسماه في أشنع تصوير، وتركيبها في أشعث صورة، ويشهد الأنات والزفرات واللعنات التي تتصاعد منهم إذا جاءت سيرة الزواج، فلا يني الفتى يقول في نفسه:
مالي ولهذه الغمة، وما أنا وهذه الأحمال الثقيلة، وقد رأيت الذين جربوا قبلي باؤا من التجربة بالويل والحرب.
فلكي نرغب العزاب والفتيان في الزواج، ونجعله جميل المنظر، فتان المحيا، يجب أن نعطيه لون الإيديال وينبغي أن نلبسه لبوس الكمال والروحانية، ونغدق عليه من مفاتن المثل الأعلى، ولا ننظر إليه من الناحية المادية، وإذا نظر إليه من الناحية الروحانية الكمالية التي تفتن العواطف، وتجتذب النفوس، فلا نلبث أن نرى أمثلة طيبة من الزواج الكامل، ويظل فيه الزوجان حبيبين راضيين بعضهما عن بعض إلى النهاية.
(4) هل هناك شيء مما أفسدته هذه الحرب هو أولى بأن يبادر
بإصلاحه قبل غيره
رأي الليدي روندة
وهي من كبار المفكرات وزوج اللورد روندة مراقب التموين
الصحة
إن أول أمر ينبغي النظر فيه لبناء ما تهدم من أنظمتنا الاجتماعية والأهلية في العصر المقبل هو أن نهتم بأن يكون الأساس الذي ينهض عليه ما نبني متيناً قوياً صحيحاً، ولا ريب مطلقاً في أن الأمر الواجب الأول للظفر بهذه البغية هو العناية بالصحة فلنحشد اليوم جميع قوانا ولنبذل الجهد كله ونتضافر على أن يكون كل فرد يرد في هذه الدنيا مستطيعاً بما يعد له من الفرص، ويهيأ له من السباب أن يظفر ويتنعم بالصحة التامة الكاملة فإذا فعلنا ذلك وتمت لنا هذه النية الأولى استطعنا أن نأخذ في سبيلنا من ترميم ما تهدم من بناء الحياة ونحن مطمئنون عليمون بأننا نرفعه فوق أساس طيب متماسك.(45/11)
رأي كونان دويل
إصلاح قوانين الطلاق
السير كونان دويل - هذا الروائي العظيم - أقدر المفكرين على تناول مسائل الزواج بالإصلاح، وأعلم الكتاب بمطالبه وما يستلزمه من الإصلاح، وإليك الرأي الذي ذهب إليه، وهو رأي جديد سديد لا تردد فيه، ولا باعث عليه إلا الرغبة في كثرة المواليد، وتوفير الزيجات لتنمية السكان والتعويض عن الجماهير العديدة من فتيان الأمم وأقويائها الذين طاحت بنفوسهم الحرب الماضية. قال:
البحث الأول الذي ينبغي أن نهبه جميع قوانا هو موضوع الخسارة التي لحقت الجماعات من ناحية عدد السكان فلكي نملأ الفراغ الذي أحدثته الحرب ونسد الثلمات والفرجات التي فغرت فاها من جراء القتال، يجب أن نشرع شرعة جديدة، ونصدر قانوناً طريفاً يقضيه بأن يذلل السبيل إلى الطلاق لتلك الجموع العظيمة من أمم الغرب من أولئك المتزوجين المفصولين عن زوجاتهم بحكم الخصومات والفشل الواقع بينهم، حتى يتسنى لهم بعد ذلك الزواج ثانية وتأسيس الأسرات، وستنتفع الآداب العامة من هذا القانون وتستفيد الأخلاق الاجتماعية من هذه السنة، وهي الآن متقهقرة راجعة فاسدة من جراء الوساوس الدينية وما غليها من المنازعات والآراء المتضاربة من ناحية الكنيسة.
رأي برنارد شو
الشنق
لا يزال برنارد شو رجلاً قاسياً في حكمه، قاطع الرأي، لا يتلجلج ولا يتجمجم ولا يضطرب، وهو يميل إلى المجون، ويجنح إلى العبث، فقد كتب إلى صاحب المجلة التي دعته إلى إرسال رأيه في أوجب طرائق الإصلاح، ما يلي:
لا ريب في أن تقصدون من هذا السؤال الذي أرسلتموه إلى أن أكتب إليكم كشفاً ببيان أسماء الأشخاص الذين يجب أن نشنقهم، قبل أن نأخذ الطريق إلى الإصلاح، فلهذا لا أميل إلى أن أرد عليكم.
ولعل برنارد شو يريد بهذا الشنق طائفة من الساسة وقواد الحروب، وليته وضع القائمة(45/12)
حتى نعلم رأيه البديع في المجرمين الذين يجب أن تثأر الإنسانية منهم.
فتوى محافظ لندن
التضحية
وقد جنح السير هوريس مارشال إلى الاعتقاد بأن تلك المشاعر التي استثارت الإنسانية إلى الحرب، وتلك الوجدانات الحية التي بدت على الأمم في هذا النواع التي أسهمت فيه الدنيا، يجب أن تعاد ثانية ويعض عليها بالنواجذ في أيام السلم، إذا كانت الإنسانية تريد أن تظفر بالنجاح والترقي قال: أول الواجبات التي ينبغي أن نضعها في البرنامج الذي نسير عليه في عهود السلام، وبعد هدأة الحرب، هو ذلك الاستعداد العظيم للتضامن والتضحية الوطنية، والمشاعر الطبيعية نحو الدفاع عن الأمة، أولئك جميعاً التي ظهرت في أيام الحرب، وهذه تتطلب الشجاعة وإنكار الذات، واحتمال المصاعب والمشقات، وتبعث الناس كما ابتعثتهم في أيام الحرب منذ أربعة أعوام، على تغيير حياتهم وتهذيب وجوه عيشتهم التي اعتادوا على سلوكها والأخذ بها من قبل.
رأي مستر هري لاندر
الصناعة الأهلية
يجب أولاً أن لا تسمح الأمة بقبول المصنوعات الأجنبية في بلادها فإذا صنعت الأمة حاجياتها من المصنوعات، واستغنت عن غيرها ولم تشتر شيئاً من ذلك من جيرانها، تم الإصلاح الأولـ، ووجد العمال في البلاد العمل الذي يغنيهم ويكفل لهم تكاليف الحياة، فإذا كان لا بد من أن يرد إلى المملكة من المواد الخام التي لم تصنع في المصانع فيجب أن تدفع المملكة الموردة من الضرائب ما يغني عن الصناعة كثيراً من النفقات، ويغري المورد بالرغبة عن التزاحم في التوريد.
رأي اللور هاملتون
المنازل
الموضوعان الخليقان بالعناية قبل كل شيء، الجديران بأن نتضافر على إنقاذهما بعد(45/13)
الحرب، هما تهذيب المنازل التي نسكنها وتهذيب صحة الأمم، والحرب كما تعلمون أبعث على التساوي بين أفراد الأمم، وهي التي تنفذ المساواة في الجماعات، فقد كان الفتية على اختلاف المراتب والطبقات التي أخذوا منها إلى ميادين الحرب على مساواة واحدة في الحرب من ناحية النظام والطعام والميرة والإخطار والنجاح، ولهذا يجب أن سنتمسك بهذه المساواة التي منحتنا إياها الحرب، وينبغي أن لا نعود إلى عدم المساواة، كما قلنا قبلها، فإن الطبقات العاملة الفقيرة، التي تعيش من أجورها وجزاء عملها لا تبتغي من الحياة إلا أن يكون لها نصيب أطيب وحظ أوفر من مباهج الدنيا وطيباتها، ولا مناص لنا من أن نكفل لهم هذه الحاجة، ونغني عنهم مطالب هذه الأمنية.
خواطر الطفولة
عاد السير كونان دويل، الروائي الطائر الصيت، إلى تلك الصورة الجميلة التي ينشئها عن الأطفال، وتلك اللوحات الرائعة التي يرسمها لخلق الصبية، وعجائب ما يخرج من أذهانهم الصغيرة، وغرائب ما يصدر من أعمالهم وحركاتهم، ونعود نحن إلى نشر تلك الصور كلما رأينا شيئاً منها في الصحف، وننقل الآن الصورة الأخيرة التي ظهرت في هذا الشهر في عرض المجلة الإنكليزية الكبرى التي آثر كونان دويل أن يخصها بصوره، وقد رسم هذه بعنوان الشقاوة وبحث عن الضفادع والصور التاريخية.
يوجد من أنواع شقاوات الأطفال ألف صنف وصنف، ولشقاوتهم أعرا وحالات وظواهر يعرفها كل والد محنق وأم متعفرتة من أصبيتهما، وشقاوات الأطفال الثلاثة الذين صورتهم في القطع الماضية شقاوة ممتازة، متبانية، ولكل منهم شخصية ممتازة في هذه الخاصية، ولكل ماركة مسجلة منها، فأما الطفل الأكبر لادي فقلما يظهر شقاوته فإذا أظهرها فإنما دون إرادته، كأن شقاوته تحدث الكبار فتقول: لا أستطيع إمساك نفسي. إني متأسفة ولكن ما عليكم إلا الصبر والاستسلام ولا جلد لأحد إذ ذاك على مغالبتها ومناوءتها، أما دمبلس الأوسط فشقي بارد الإحساس، صارم الإرادة، شعاره الآن سأتملعن وأتشاقى يوخرج بعدها القول فعلاً، وللطفلة شقاوة صخابة عالية، تحوطها الضوضاء واللجب والبكاء والأعوال، كأنما شقاوتها تقول، لا أكترث مطلقاً بأحد، وسأرمي بشرابي إلى السقف ولا يستطيع امرؤ أن يضبط هذه الحمى الصاخبة، فلا يسع الوالدة المتألمة المغتاظة والوالد وهو يبتسم خفية(45/14)
وتبين نواجذه سرقة مسروراً من هذه الإرادة الأنانية الملعونة، إلا أن يصبرا حتى تنقشع العاصفة وتهدأ الزوبعة.
وقد كانت شقاوة دمبلس الأوسط قد ظهرت بأجلى مظاهرها في اليوم الذي أكتب فيه هذه الصورة، والحقيقة أنه كان منحرف المزاج معكنن وعندما يكون كذلك، لا يهدأ حتى يقذف به على الناس، ويطلعه على دماغهم، ويطلعه على دماغهم، ويتشفى من الناس الذين حوله، وقد حدث له في اليوم المنصرم حادث أقلق أعصابه، وأثار نفسه، وهي مأساة تراجيدي ذات ثلاث فصول، فالفصل الأول منها أنه في بعض جولاته الحشرية، في البستان. اكتشف عشاً من أعشاش الزنابير فحركه وأهاجه، والفصل الثاني أن الزنابير اكتشفته وحركته وأهاجته، والفصل الفاجع الأخير سمع في جميع أنحاء الحديقة وتردد صداه في حجرات الدار، ودوى دويه في القرية الصغيرة لأن لهذا الطفل حنجرة كل ركن فيها يتسع أجهر الأصوات. ولذلك، بعد هذه الرواية المحزنة التي مثلها وكان فيها خاسراً، لا يزال له شفيع للغضب وانحراف المزاج وطلب الانتقام من الإنسانية، وقد اتخذت هذه كلها منحى غريباً، شأنه في جميع غرائبه وأطواره، لأنه لا يزال طفلاً مبتكراً، فبدأت أولاً تظهر في بضع ملاحظات جعل يضعها في صلواته ويهذب بها النصوص التي اعتاد تلاوتها، إذا أكرهته أمه على الترنيم والوقوف أمام الله، واعلم أن صلواته لا رائحة فيها للصلاة، ولا دليل فيها على الخشوع، بل تمتزج بالكبر، ويبين في أضعافها الإباء والعظمة والزهو، فقد قال تشفياً وحنقاً في ذلك اليوم وقد دعي إلى الصلاة مخاطباً الخالق عز وجل من فضلك اجعلني طفلاً طيباً - وإني لكذلك. . . .!، فلما أرادت أمه تنقيح هذه التلاوة وتهذيب هذه الصلاة المبتكرة، وأملت عليه فقال: اللهم علمني ضبط نفسي نحو الناس لم يشأ أن يدع هذه الصلاة تمر دون أن يردف عليها وعلم الناس ضبط أنفسهم نحوي! وخرج من الصلاة فأظهر حاجته إلى ضبط النفس، إذ تولاه الغضب وبلغ به الحنق أشده، فجرى وهو يبكي حانقاً مفترساً، وهو يصرف بأسنانه، ويرفع قبضة يده، نحو أخيه الأكبر لادي يردي أن يهوي عليه بألوان مبتكرة من ضرب البوكس، على أن لادي وقف مكانه لم يبرحه، وجعل ينظر إلى هذا الغاضب باحتقار وازدراء ولم يزد عن أن قال بكل برود إتلهي على عينك فحطمت غضب الصغير تحطيماً، وسكنت روعه، وعاد مخذولاً مدحوراً، وكذلك ترى من(45/15)
الطفل الأكبر تلك الروح الفارسية العالية والفخار والتكبر والزهو والسكينة والثبات أمام التهديد والوعيد كما تجد الحب إزاء النعومة واللطف والميل والاستسلام.
فلم يكن من الشقي الصغير إلا أن خرج على وجهه يطلب الحديقة لكي يخفي خجله وخزيه، وكان ذلك عقاب له حتى يستشعر جريرة ذنبه، على أن الأبوين لم يلبثا أن ندما وأحسا الحنان، فمشيا إلى الحديقة لرؤية الأزهار، أو لتنسم الرياح واستنشاق علائل الهواء، أو لتفقد البطاطس أو لأي عذر من الأعذار، يستطيعان ادعاءه ليخفي كل عن صاحبه غرضه الحقيقي، ومقصده الأول من الذهاب إلى الحديقة، وكو لكي يرى ما إذا كان من المنفي وما كان من علامه، فلما تقدما خطوات في البستان، لم يشهدا أثراً للمذنب الصغيرـ، ولكنهما لم يكادا يقتربان من التعريشة الدانية الأغصان إلى البحيرة حتى سمعا صوتاً طفولياً عالياً صخاباً عميقاً، فأصاخا إلى تلك الأغنية التي كان يترنم بها الطفل، فأشار الوالد إلى زوجته أن تسكت وتستخفي وتخف الخطى، وتقتدي به في حركاته الخافتة، ففعلت كما أشار وكان الوالدان أشبه في ذلك بالأطفال إذ يلعبون لعبة الاستخفاء، وقد أطلا من خلال الأغصان ينظران خلسة إلى الطفل وكان منظر لا ينساه كل منهما آخر الحياة، إذ ألفيا الطفل يلوح بيده مطرقاً برأسه وهو منطلق في غناء تعلمه من مرضعه وأنشودة أخذها عن مربيته، وأمامه بضع ضفادع، رافعات الرؤوس محلقات الأبصار، جالسات فوق حافة البركة أشبه شيء بصف من الحضور النقادين جالسين في المقاعد الأول من التياتر وينقدون الممثلين ويرقبون حركاتهم.
فلم يستطع الوالد أن يمسك نفسه عن البقاء في مكانه بل انطلق من مكمنه فظهر أمام الطفل وهو يصرخ هالو! فلم يكن من الضفادع إلا أن هربت إلى الماء فغابت فيه.
فأجاب دمبلس عليها بصرخة مثلها، وهو فرح مسرور ونسي حزنه الأول. فسأله أبوه: أتغني للضفادع يا بني؟
قال الطفل وهو يعلم أن له رقابة شديدة على الحيوانات والحشرات، نعم ولخنفساوين اثنتين، وكان هنا الساعة ضب ولكنه لم يشأ البقاء.
فقالت الأم وهي تحتضن عظيمها: وهل تظن يا بني أنها تستلطف غناءك؟
فقال الطفل: إني أعتقد ذلك وأؤكد أتنها تحب الغناء فإنها عندما يروقها شيء تنفخ برقابها(45/16)
وأنوفها، ولقد غنيتها دورين فظهر السرور عليها بكل معالمه.
وإذ ذاك أقبلت الطفلة وأخوها الأكبر، وكانت الطفلة تمشي منتفخة زهو وخيلاء لأنها ذهبت بالأمس إلى لندن لأجل فحص عينيها، وعادت بنظارة فوق عينيها، وقد ظلت طول يومها تضع المنظار فوق عيني عروستها الخشبية وتنظر إليها نظر الطبيب إلى العليل، وكانت قد أصرت على أن تصطحب العروسة معها إلى لندن ولكن لما نبئت أنه لا يليق أن تأخذها مكشوفة ظاهرة للعيان، أبت إلا أن تكون في سفرها، ولو توضع في صندوق، فكان ما أرادت، ولكنها عندما عادت من سفرها، وسئلت رأيهما في لذة السفر قالت لأمها: لقد كان والله سفراً لذيذاً، وإن كانت عروستي محبوسة داخل الصندوق، ولم تشم الهواء مطلقاً وقد تخيلت الطفلة منذ زمن أقارب وأنسباء وسلالة وعشيرة للعروسة، وابتكرت لها عائلة وأسرة، حتى لقد أخبرت أمها أنها قد تزوجت، فارتعبت الأم وسألتها أن تشرح معنى ما قالت، فلم تزد الطفلة عن أن قالت نهم يا أماه لقد تزوجت شقيق ريجلي عروستي وظلت بعد ذلك تمشي الخيلاء مراحاً وبهجة، مشي الفتاة العروس في الأيام الأولى من زواجها.
وقد لمحت في الصور السابقة إلى آثار الطبيعة انسانية الأولى التي تنم عنها هذه الأخلاق التي ظهرت في هذه الطفلة والأدوار التي تقلب فيها الجنس البشري، وهنا أزيد عليها دوراً آخر يزيد حيرة العلماء ويثير فيهم الدهشة، وهو دور التقليد والمحاكاة والتمثيل ذ ترى الطفل في ذلك الدور من حياته يقلد أشياء كثيرة ويدعي مظهر حيوانات مختلفة ويجد في ذلك ويؤديه برزانة ويقوم به لا عن هزل أو مجون، وإنما حقيقة وجداً ويحب التمثيل ويتقن الدور الذي يلبسه، فتجد دمبلس يقول: أنا الكلب كروسو! فيأخذ أخوه عنه قضية مسلمة ويصدقها منه فيقول: جر العصا يا كلب! ثم لا يلبث كل منهما أن يفهم روح صاحبه، فيعارضه في أمره وينتقد وجوهها من ضعف تمثيلية، إذ يقول لادي الأكبر: أنا ثعبان ثم يظل على شخصيته هذه ساعات طوالاً، فلما عسعس الليل، وحان موعد النوم، سأله أخوه: كيف إذن تنام في الفراش يجب ان تنكمش وتلتف وتستدير.
وقد يتعب الطفلان من إطالة التمثيل والتقليد ويتبينان حماقة أمرهما ويدركان الروح المجونية فيها، فيضجان بالضحك، ويرتفع الصوت من كل منهما عالياً شديداً، ولكنها عادة أشبه في ذلك بالقضاة جداً ورزانة إذا أرادا التقليد.(45/17)
وقد حدث ذات يوم في أوائل الحرب أن رأت الأم طفلها الأوسط واقفاً وقفة جلال وعظمة وأبهة وزهو وكان قد اعتاد في كل يوم أن يتخذ شخصية إنسان يختارها من بين الشخصيات المعروفة في التاريخ فلم يسع الأم إلا أن سألته قائلة: من أنت اليوم يا عزيزي. فأجابها الطفل على الفور: أنا الإمبراطور! فصاخت أمه مرعبة، لك الله. وكيف تقول ذلك يا بني فلو سمعك والدك الآن لغضب أشد الغضب، فلم يكن من هذا الإمبراطور إلا أن قال: أبي!. . . ليس أبي إلا رجلاً إنكليزياً من عامة الناس.
وكثيراً ما يغلب الأطفال الميل إلى انتقاد الكبار ويعتريهم الجنوح إلى التعريض بهم والقدح في أقدارهم. فقد سأل يوماً أحد الزوار الخلطاء دمبلس: ماذا تريد أن تصنع في الحياة عندما تكبر؟، فأجاب الطفل: لن أفعل شيئاً وسأكون في ذلك كأبي!!
فإذا أنت أردت أن تدرك الغرائب التي يحدثها ذهن الطفل، وتدرس عجائب خواطرهم، فعليك بكتاب حافل بالصور التي تهتاج الخيال ثم سل الأطفال عنها ورأيهم فيها، فإن لوالد هؤلاء الصبية تاريخاً مصوراً عن العالم القديم والأجيال الغابرة، وهذا الكتاب فرحة الأطفال وأستاذهم معاً، إذ يجلس ثلاثتهم في دائرة يحملقون الأبصار في الصور ويحاولون إدراك معانيها، على حين يجلس الولد وراءهم في مقعده، مدعياً أنه أعلم منهم بها، وأكثر معرفة بأسرارها من أطفاله.
وأنشأ أبوهم يسألهم: احزروا ما هذا! وكانت أمام أعينهم صورة قبر من القبور التي يصنعها أهل الأدوار الحجرية من عهد الإنسان الأول، فيب وسطها عظام وحولها أواني.
فظل الأطفال يمعنون في النظر إليها يوتفرسون في معارفها، وانبرى دمبلس فقال: هذا جوف فيل أكل إنساناً وهذه بقايا الجثة في أمعائه.
فرد أخوه عليه يعارضه فقال: الفيلة لا تأكل بني آدم إنما تأكل الأرانب. وقال الطفلة، وكانت قليلة الكلام، فإذا تكلمت فإنما تقول عن نية وقرار وتبت رأياً قاطعاً وقد يكون في أغلب الأحيان الحق والصواب: هذه أواني!
فلم يجد الوالد مناصاً من أن يشرح الأمر فيقول نعم هذه أواني يا بني هذا إنسان مات ودفن وهذه الأواني وضعت حوله لكي تكون معه في الآخرة لينتفع بها ويستخدمها إذا شاء، وكانت هذهفكرتهم في تلك الأيام!(45/18)
ثم قلب الأطفال الصفحات فاستقرت أنظارهم على صورة من صورها.
قال دمبلس: هذا طفل آدمي يرتضع ثدي أمه فقال الوالد أجل هذان روميولاس وريماس، مؤسسا مدينة رومة العظيمة، وكانا في طفولتهما قد فقدا ثدي الوالدة فجعلت ترضعهما ذئبة.
قال دمبلس: يا للذئبة من أم جميلة. تصوروا أن نقول صلواتنا في العشي إلى ذئبة! إنها لا تكون إلا صلاة وحشية. فاستطرد الوالد في شرحه فقال: ولكنهما مع ذلك نشآا قويين ولم يلبثا أن أسسا مدينة فتحت العالم بأسره.
قال دمبلس: إلا إنجلترة بالطبع
فأجاب الوالد: بل وإنجلترا كذلك.
فلم يكد يسمع الثلاثة هذه العبارة حتى صاحوا معها صيحة احتجاج قائلين أوه لا يتقل هذا يا أبي!.
وأردف لادي وهل كان هذا يليق يا أبي!
فأجابه أبوه: لقد كان في ذلك الخير كله لإنجلترة. لقد كنا يومذاك قوماً همجاً متوحشين فجاؤوا لتهذيبنا والآن ما هذه الصورة يا أولادي!
وكانت الصورة الأخيرة والحق يقال لغزاً من الألغاز إزاء هؤلاء الأطفال فقد كانت صورة عراف من قدماء المصريين وقف يتلو نبوءته أمام صف من الجند وهم وقوف رافعي الأذرع.
قال الطفل لادي: هذا رجل واحد يلاكم ستة!
وأصدر دمبلس قراره فقال: هذه امرأة وستة رجال يريدون الزواج بها!
ولم يكن من الطفلة إلا أن هزت رأسها المتجعد وقالت: عساكر!
وكذلك جعل الأطفال يحدسون ويخمنون، كلما قلبوا صفحات الكتاب بين أيديهم، وكانوا في ذلك أشبه شيء بآخر الأكمام الجديدة في نهاية أحدث الأغصان في شجرة الحياة العظيمة وكانوا في ذلك الكتاب ينظرون إلى ما صنعت تلك الأزاهر القديمة الغابرة التي طلعت فوق الأفنان الماضية التي أبلت وذوت منذ أقدم عهود الزمان، وستثمر أيضاً هذه الأكمام وستذوي وتذهب ويجيء بعدها غيرها يبعد عنها بعد بابل عنا فتحملق وتنظر إلى هذه الأكمام وتسخر منها وتضحك إذ تتراءى لها في كتب التاريخ وصوره ولوحاته رسوم(45/19)
طياراتنا وسفائننا وجوارينا والأدوات التي ابتكرناها للتغلب على الطبيعة. وكذلك كانت الإنسانية تصنع وتثمر وتبتكر، ولكن ما القصد، وما النهاية، وما الخاتمة، لقد كان أذى الحياة مخيفاً وصخاباً رائعاً، وكان يدفعهم جميعاً ويسوقهم أمامه إلى الساحل المجهول.(45/20)
الإسبريتيوالزم
أو الحركة الفكرية القائلة بوجود الروح والرأي الأخير الذي صدر من زعيمها
سير أوليفر لودج العالم الطائر الصيت
سير أوليفر لودج هو العالم الكبير الذي يناضل اليوم ويسعى بكل قواه إلى إثبات وجود الروح والحياة بعد الموت، وقد أثار بأبحاثه وتواليفه ولاسيما كتابه الأخير رايموند أو الحياة بعد الممات ضجة كبرى في عالم العلم، وقام العلماء وأقطاب المفكرين في آثاره بين معارض ومنتصر، وقد أوفدت مجلة من المجلات الذائعة الذكر في الغرب رجلاً من كتابها ليقف على آراءه الأخيرة في أمر الإسبرايتيواليزم وقد نشر هذا الحديث في هذا الشهر ونحن ننقله للقراء
قال السائل يا سير أوليفر لودج، لقد كلفت أن أسألك ماذا تم في أمر الإسبرايتيواليزم اليوم.؟
فأجاب سير أوليفر، أما عن الإسبرايتيواليزم فلا أجيبك لأنني لا أحب هذه الكلمة كثيراً اللهم إلا إذا كان يردا بها التعبير عن فرع خاص من الفلسفة، أما من ناحية أنها تؤلف طائفة خاصة، فلا أنتسب إليها ولا علاقة لي بها ولا شأن لي معها وإن كان لا ريب في أنها تجتذب إليها جموعاً عديدة من الناس.
قال الكاتب، ولكن لا شك في أن لهذا البحث وجهة علمية كما أن له وجهة عاطفية دينية.
فأجاب ذلك العالم، نعم ككل شيء سواه في الدنيا، وهي من ناحيتها العلمية تسمى عادة الأبحاث النفسية وقد بدأ هذا البحث حول تلك الموهبة الإنسانية المجهولة، ومنذ اكتشفت التليبائي أو الاتصال الموجود بين الذهن والذهن، أصبح يجوز لنا أن نستنبط منها أن الجسم والذهن لم يكونا منفصلين بعضهما عن بعض وأن أحدهما قد يعيش بالآخر، وقد دلت التجاريب التي أداها بعضنا إلى أن يعد مسألة هذه الحياة التي قد تكون بعد موت أحدهما حقيقة تقوم عليها الأدلة.
قال الكاتب وهذا ولا ريب أمر يعد من الأهمية الأولى أليس هذا ما ترى؟
فأجاب: نعم. هذا ما أنكره فإنها من الأهمية بحيث يجب اتخاذ الحيطة والعناية قبل أن نعدها حقيقة مقررة نهائية، على أنني لا أوال في ريب من أن الدليل عليها سيصبح من(45/21)