تمييزي بين أحول النفس الثلاث: الفتور والألم واللذة. فإني أبصر كل واحدة منها بأنها من الأخريين منفصلة عنهما ليس لها بهما أدنى صلة أو علاقة. هب أن أمراً أصيب بمغص فلا شك أنه يكون في ألم. فإذا طرحته على آلة التعذيب أحس ولا ريب ألماً أشد، فهل ترى ألم التعذيب كان منشؤه زوال لذة؟ وهل نوبة المغص تعد لذة أو ألماً حسبما نشاء أن نعدها؟.
الفصل الثالث
فرق ما بين زوال الألم واللذة الإيجابية
إن الأمر في الألم واللذة ليس مقصوراً على أن وجود أحدهما غير متوقف على زوال الآخر كله أو بعضه. بل أن زوال اللذة كلها أو بعضها لا يشبه الألم الإيجابي، وإن زوال الألم كله أو بعضه قليل الشبه (من حيث تأثيره) باللذة الإيجابية. ولعل الشطر الأول من هذه القضية أقرب أن يسلم به الناس من شطرها الآخر إذ أن من الواضح أن اللذة إذا جرت بنا شوطها تركتنا حيث كنا قبل مباشرتها أعني في حالة سكينة ممزوجة بأثر حميد مما كنا فيه من تلك اللذة. واعلم أن المرء لا يستطيع أن يدرك لأول نظرة أن زوال الألم الشديد لا يشبه اللذة الإيجابية. فليذكر المرء في أي حالة يجد نفسه عقب الإفلات من خطر شديد أو الخلاص من سورة ألم حادة فإنه إن فعل ذلك تذكر أنه يجد نفسه بحال جد مخالفة لما يعتري النفس من شهود اللذة الإيجابية. إذ أنه يجد نفسه بحالة انتباه ويقظة مشفوعة بشيء من الخوف - بحالة سكينة يعلوها الروع.
فإن هيئة الوجه حينذاك وحركة الجسد تنم عن ذلك، فلو أن جاهلاً بالأمر أبصر هيئة وجوهنا وحركة أجسادنا حينئذ ما شك أننا بحال من الروع الدهش وما مر بباله قط أن بنا أدنى شيء من اللذة. ولا أرى في مصداق ذلك أحسن مما قاله شيخ الشعراء هو ميروس في بعض أبواب الألياذة. وهو قوله يصف هيئة رجل رفع عنه الألم: إن مثله كمثل رجل أجرم وخاف السلطان ففر هارباً:
كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
يؤتي إليه إن كل ثنية ... تميمها ترمي إليه بقاتل
فما زال بهذه الحال من الرعب والفرق حتى خرج من دار الخوف وأفضى إلى مأمن هنالك(17/7)
كنت تراه أصفر الوجه مبهوتاً شاخص البصر مبهوراً. وتلك لعمرك هيئة كل من كان بمثل حالة ذلك الناجي من الخطر المفلت من التلف أفضى به الفرار إلى مأمن فراح دهشاً فرقاً مبهوتا. وبيان ذلك أنه إذا اعترى أحدنا شديد الجزع لسبب ما فزال هذا السبب لم يزل معه الجزتع للتو واللحظة بل بقي حيناً بعد زوال سببه. فمثل ذلك كالزوبعة تهيج بالبحر فلا يسكن بسكونها البحر ولا يفتر بفتورها العباب بل تبصر الماء بعدركدة الريح في القطام. والموج في اصطدام. وكذلك تقرع الطبول وتنبض الأوتار فيبقى لها صدى في الأسماع وفترة في العظام فإذا زال من نفس نقيذ الألم تلك البقية وذهبت من روحه هذه الفضلة عاد إلى حاله المعتادة من الهدوء والسكينة. وقصارى القول أن اللذة وجدان إيجابي مستقل لا يكون قط منشؤها زوال ألم أو خطر.
الفصل الرابع
الكلام على السرو واللذة من حيث تضادهما
ولكن أيجوز لنا بناء على ذلك أن نقول أن زوال الألم أو تخفيضه يترك دائماً ألماً محضاً، أو أن انقطاع اللذة أو نقصانها لا يزال مشفوعاً بنوع من اللذة، كلا لا يجوز لنا أن نقول ذلك. بل الذي أقول هو هذا: أولاً إن هناك ملاذ مستقلة إيجابية وآلاماً مستقلة إيجابية، ثانياً إن الشبه الكائن بين الشعور الناشئ من انقطاع الألم أو تخفيضه وبين اللذة الإيجابية المستقلة أبعد وأضعف من أن يسوغ لنا أن نلحق الأول بالثاني أو نسميه باسمه. ثالثاً إن زوال اللذة أو نقصانها لا يشبه الألم الإيجابي المستقل. ولاشك أن في الشعور الأول (أعنى ما يعقب زوال الألم أو نقصانه) لشيئاً بعيداً من الكراهية والإيذاء. وهذا الشعور الذي هو في كثير من الأحوال محمود والذي هو في جميع الأحوال مخالف للذة الإيجابية لا أعرف له اسماًَ. ولكن ذلك لا يمنع كونه شعوراً حقيقياً جد مغاير لسائر الوجدانات. ومما لا ريب فيه إن كل نوع من الرضى أو اللذة مهما كانت صفة تأثيره هو ذو وجود مستقل في نفس الشاعرية. أجل أن كل شعور هو لاشك إيجابي مستقل وإن كان السبب كما هو الواقع في هذه الحالة - ربما كان نوعاً من الفقدان والسلب. وأنه ليجدر بنا ويجب علينا أن نميز بالتسمية بين شيئين مختلفين مثل هذا الخلاف في ماهيتهما وهما اللذة الإيجابية المستقلة المجردة من كل علاقة وتلك اللذة التي لا تكون قط بلا علاقة - وهذه العلاقة علاقة بالألم.(17/8)
وأنه لمن أفحش العيب والخطأ أن يخلط بين شعورين متغايرين هذه المغايرة علة وأثراً حتى تقع الشبهة بينهما ويلتبس أحدهما بالآخر وما ذلك إلا لأن العامة لم يفرقوا في التسمية بينهما بل أدرجوهما معاً تحت اسم واحد عام. ولكني سأطلق على تلك اللذة النسبية المتعلقة بالألم اسم السرور وسأبذل الجهد في أن لا أستعمل هذا اللفظ لغير هذا المعنى بل أجعله وقفاً عليه رهناً به. ولقد آثرت اتخاذ كلمة مألوفة معروفة أقصر مدلولها واخصص مفهومها على إدخال كلمة جديدة ربما تعذر حسن إدماجها في سلك اللغة وانتظامها في سمط الألفاظ وخلاصة القول إني سأستعمل كلمة السرور في التعبير عن الوجدان الناشئ من زوال الألم أو تخفيفه وكلمة اللذة في التعبير عن اللذة الإيجابية المستقلة التي لا علاقة لها بالألم.
الفصل الخامس
الفرح والحزن
اعلم أن انقطاع اللذة يؤثر في النفس على ثلاثة أشكال. فإذا كانت لم تنقطع إلا بعد استمرارها زمناً كافياً كان كل ما يحدثه انقطاعها هو حالة السكون الاعتيادية. وإذا كان انقطاعها بغتة نشأ عن ذلك قلق في النفس يسمى حسرة فإذا فقد سبب اللذة حتى أيس من استرجاعه نشأ بالنفس وجدان يسمى الحزن وليس شيء من هذه الثلاث كلا ولا الحزن نفسه ولو بلغ أقصاه بمشبه وجدان الألم. وذلك أن الحزين يترك الحزن يشيع في نفسه ويتفشى في روحه ويسترسل هو فيه ويتمادى وكأنه يحب الحزن ويألفه ويستريح إليه. ولكن هذا خلاف ما يحدث من الألم الواقعي الذي ما علمنا أن امرأ احتمله طائعاً مختاراً لبرهة طويلة من الزمن، وليس بالأمر العسير أن يفهم الناس أن صاحب الحزن ربما حمله مختاراً راضياً مرتاحاً إلى حمله وإن لم يكن بالأمر اللذيذ على الإطلاق، الممتع بوجه عام، وتفسير ذلك أن من شأن الحزن أن لا يزال بمثل المفقود لقلب الفاقد الحزين فيقلبه لناظر وهمه في أعجب أشكاله وأبهج ألوانه وأخلب صوره وأن يجد ذكرى كل ما كان قد اتصل بهذا المفقود من الحوادث ولحقه من الأحوال والشؤون لا يغادر من ذلك صغيرة ولا كبيرة إلا أوردها وساقها إلى مخيلة الحزين الواجد. والسليب الفاقد. كذلك من شأن الحزن أن يرجع بصاحبه إلى العصر الماضي فيشهده في عالم الخيال كل نعمة كان في سالف الأيام باشر، وكل مسرة لابس. وكل لذة عاقر. وكل حسنة خالس. ويطيل به الوقوف على(17/9)
خيالات تلك الملاذ والمطايب. ويكثر به التلوم على أشباح هاتيك المباهج والمطارب. مبدياً بها من جديد المحاسن الآلاف المؤلفة مما كان قد خفى على المرء أيام يباشر حقيقة هذه النعيم واللذائذ. وكذلك الذكرى تذيع - بعد افتقاد الشيء - للوهم. غوامض أسرار كانت أيام وجدانه تغيب عن الفهم. فلا تدركها المعرفة ولا يحيط بها العلم. فمن ذلك ترى أن الحزن تخيم من فوقه اللذة. وإن البلاء الذي تحتمله إذ ذاك لا شبه له بالألم المطلق الذي لا يكون قط إلا بغيضاً مشكراً، والذي ما أن نزال نبتغي الخلاص من ربقته. ويحمل بي هنا أن أستشهد على صدق هذه القضية بأبيات لشيخ الشعراء صناجة العالم القديم والزمان الأول هو ميروس وهي أبيات من ملحمته المسماة الأوديسيا ينعت بها بطل القصة مصاب خلانه وأخدانه، ويندب فيها بلواه وبلواهم. ويبكي شجوه وشجوهم. قال هو ميروس في تلك القصيدة الكبرى على لسن ذلك البطل إني لا أحب إدامة الإطراق والتفكير والهم ولا الاسترسال مع الخواطر المحزنة والهواجس المبرحة ولكن من شأني أن لا أزال فرق بين الخاطر المحزن وأخيه بالفكرة السارة والذكرى المفرحة بيد أن هذه الخواطر الحزينة على ما طويت عليه من حزن ولويت عليه من شجن لتكسبني لذة وتورثني متاعاً.
إني ربما صبوت للحزن وتقت إلى الأسى فسرحت خاطري في أودية الذكرى أحضر مخيلتي صور من مضى من الأصحاب. وعهود من تولى من الأحباب. رعياً مني لحرمتهم وقضاء لحقهم.
ما في اد كارك ساعة من باس ... تقضي حقوق الأزمن الأدرا
وهشت نفسي للوجد وارتاحت عيني للبكاء وخفت جوانحي للزفير وإن من الحنين ما يستحب، وإن من الدموع ما يستعذب وما بلت حرقة الجوى بمثل ماء الشؤون. ولا أطفئت جمرة الغليل بمثل مقلة هتون.
الفصل السادس
الوجدانات الخاصة بوقاية النفس
معظم الأمور الجديرة بأن تحدث في النفس تأثيراً من ألم محض أو لذة محضة أو مزيج من هذا أو ذاك لا تكاد تخرج عن أحد هذين البابين وقاية النفس العمران، فإن إليهما مرجع كل وجدان نفساني. وإني أرى الوجدان الخاصة بوقاية النفس تدور حول الألم أو الخطر.(17/10)
فترى أن ذكر الألم والمرض والموت يملأ النفس بوجدانات الخوف والرهبة. ولكن الحياة والصحة وإن هما مكنا المرء من التمتع بالملاذ فإنهما لا يستطيعان وحدهما أن يحدثا من عنيف الوجدانات وشديدها مثلما يحدث ذكر والمرض والموت. وخلاصة القول إن الوجدانات الخاصة بوقاية النفس تدور غالباً حول الألم والخطر وهي أشد الوجدانات وأقواها وأعنفها.(17/11)
الإنسان الأول
المسيوريتو أوجي من مشهوري علماء البلجيك، وبحاثة أثري في طليعة البحاثين. إلى ندوة العلوم بمجمع بلجيكا. هو من أعضائه. عشر قطع من أوثق المصادر. تمثل صور الإنسان الأول في أدوار همجيته الأولى.
وقد اعتمد المسيو ريتو عل المصادر العلمية. وثوق بصحتها، وصنع قوالب صغيرة الحجم، ودقيقة المعالم، تمثل نصف الإنسان الأعلى، في هيآته المختلفة التي تتابعت وراء بعضها وتلاحقت، والتطورات التي حدثت لها في العصور المظلمة التي لم يصل إلى التاريخ الإنسان علمها.
وقد أفرغها في قوالبها، وصنع قواعدها. النحات البلجيكي المشهور لويز ماسكرية. ولكي يصل المسيو ريتو ومساعده إلى أبعد غاية من الحقيقة المقبولة. أو الاحتمال المناسب، بدأ رسم الجماجم التي اتفق العلماء المحققون على شكلها ونسبوها إلى الإنسان في العصور المجهولة من التاريخ، ثم صورا بعد ذلك عضلات الوجه والسواعد والصدر. على حسب قوانين التناسب التشريحي. فلما تم لهما تصوير الهيكل العظمي. شرعا يكسوانه اللحم والشعر. وبعد ذلك صورا النظرات الملائمة لحال كل جنس وحياته والظروف التي يعيش فيها. ورسما الأسلحة التي كان كل يستعملها في العمل والقتل والذبح. ولاء ما بين ملامحهم ونظراتهم. وبين الأعمال التي كانوا يعملونها، وأثبت المسيو ريتو مع دمية من هذه الدمى شرحاً لها دقيقاً. وإليك صور هذه التماثيل. وما كتب المسيو ريتو من الشروح عليها:
إن القطعة الأولى: وهي التي تمثل الإنسان وهو في الطبقة الثالثة الجيولوجية. وصورة جمجمة الإنسان القردي ونصف وجهه، وهي الصورة التي رسمها العالمة الفرنسي الدكتور مانوفرييه للجمعية الأنثروبولوجية في باريس، وأردفها بنظام متججرة تدل على العصر الذي كان يعيش فيه هذا النوع. وكلاهما مثل الإنسان منذ عشرة آلاف من القرون. حين بدأ ينتقل من آكل العشب إلى أكل الثمر، أيام كان وسطاً بين القرد والإنسان. ومسيطراً على كل ما حوله من حيوان. دون أن يكون له من القوة العقلية ما يجعله يتسلط عليه ذهنياً، وكانت سيطرته لا جفاء فيها ولا إيذاء.
ولئن كان في حركاته لا يزال بعض الخصائص التي كانت لأجداده ذوات الأربع. فقد كان يمشي مستقيماً، إذ شاهد نفس من ذوات، وكان يقتبس من تورية الأحجار. وكان يصنع(17/12)
أسلحة من الحجارة إلا فانظر إليه، ودع منخارية الواسعين، وفمه الرغيب، وحسبك النظر، عينيه. فإنك ترى الرضا بالرزق المقسوم له بادياً فيهما، ولا فكر يتجلى على وجهه المسيخ ولا هم.
والقطعة الثانية لا تدل على تطور كبير. صنعت صورتها على غرار التي عثر بها العالم موير في هيدلبرج، وهذه الصورة تمثل الإنسان في الطبعة الرابعة الجيولوجية. وقد انتقل من آكل الثمر فأضحى آكل اللحم تريك أنه قفل راجعاً من الصيد يحمل جثة خنزير جبلي، قابضاً بيده على أداة الموت، وهي كالمناخس أو المعاول الحجرية.
وانظر إلى عارضة. تجسد أنه لم يرتفع أكثر من عارض الإنسان الذي تقدمه إلا يسيراً. وهيأة ملامحه تنبئك أنه قد أحس بقوته. وشعر بفوزه على الحيوان وسلطانه. وتبدلك أنه قد لاقى العناء والوصب في محاربة الخنزير واصطياده.
ولكن بين هذه الصورة. والصورة التي بعد فرق كبير. هذا هو الإنسان الذي كان يسكن جبال جالية من أعمال كنت إحدى مقاطعات إنجلترا وقد رسمت صورته على مثال الهيكل العظمي وصورة أسلحته وأدواته من الآلات التي عثر بها مع الهيكل العظمي. في تلك النواحي منذ خمسة وعشرين عاماً. وأخذ شكلها كذلك عن آثار تمثل ذلك العصر الجيولوجي نفسه اهتدى إليها على ضفاف السين. وفي بلجيكا بين بلدتي مونز وبلنش وفي تسمانيا وغيرها.
هذه هي صورة من صور الإنسان الأول العاقل وقد بدأت الغريزة فيه تقوى وتتطور إلى مبادئ التصور والتفكير. هذا هو مخترع الصناعة الحجرية الأولى. كان يجوب الصخر فيجعل منه أسلحة أمتن من أسلحة أسلافه. وآلات أدق من آلات آبائه.
إن جبينه لا يزال ضيقاً منخفضاً. ولكن وراء هذا الجبين قد نهضت فكرة الحق للقوي. على أنه لم يفكر في مهاجمة الفيلة العظيمة في احراشها. وإنما كان يعسف ويظلم من هو دونه من نوعه أي الإنسان المرسوم في الصورة الثانية المأخوذة عن العامة موير ويجور عليه. ويناله بالأذى. ومن ذلك العهد بدأ الرق والاستعباد.
وترى من صورته أنه يحمل في يده اليسرى سلاحاً مستديراً مشدوداً إلى رقبته بقلادة من أعواد الشجر. وقد قال العلامة ريتو إن هذا السلاح الحجري الذي كان يستعمله الإنسان(17/13)
الأول لأمة للقتال وعدة للذبح. لهو مبدأ الزينة وأصل الحلي.
ولننتقل إلى القطعة الرابعة وهي التي تمثل الإنسان القصير الجمجمة الذي كان يسكن أنحاء جرينل، وهي قرية من قرى نهر السين، وهو النوع الثاني من العصر الجيولوجي الرابع، وهو في نظر المسيو ريتو نتاج تمازج بين الإنسان الشمالي والأجناس التي جاءت بعده، إذ يقول المسيو ريتو إن ظهور جنس جديد كهذا قد جر إلى استئصال الأجناس الأخرى التي تقدمته على أن هناك كثيراً من الشروح والأبحاث والاستنتاجات، وكلها تدور على أنه قد جرى في عروق طبقات كثيرة من الجنس البشري دماء ثلاثة أجناس أخرى من البشر، كل منها أكثر تطوراً في التقدم الذهني من سابقه. ودليل ذلك إن قد حدث تحسين في صنع الآلات وعمل أسلحة جديدة كالرمح والمزراق ليساعد على المحاربة والمناجزة على مسافات بعيدة، إذ بدأ الأفراد والقبائل يتنازعون على ملكية الأرض، في ذلك العصر الذي تدل صناعة قطع الصخور وجوب الحجارة فيه على تقدم كبير. كما ترى من هيأة هذا الإنسان، ساكن أنحاء جرينل، وهو يصنع قطعة من الحجر بدقة وحذق وبعد نظر واهتمام.
والقطعة الخامسة تمثل الإنسان الذي كان يسكن كومب كابل وقد أخذت صورته من الهيكل العظمي الذي اكتشف هناك، ومن عصر ذلك الإنسان يبدأ استعمال المنقاش والآلات التي يستعملها اليوم صنَّاع الدنان. وصناع الرقوق والبسباكون، ووجد الهيكل العظمي الذي اكتشفوه في كومب كابل متوجاً بتاج من الصدف، وذلك ولا ريب لحماية شعورهم وجدائلهم من شدة الريح وعصف الهواء. وإن استنتاج المسيو ريتو أن منشأ القلائد والأطواق والحلي والجواهر وأنواع الزينة الحديثة، هو ذلك السلام الحجري المشدود إلى عنق ساكن جبال جالية كما مر بك، ليصح أن يقال أيضاً في هذا التاج الصدفي، وهل نستطيع أن نتصور أن هذا المشبك الذي كان يعقص به الإنسان القديم شعره وفروعه أو لعله كان الشارة الفارقة بين أهل السيادة منهم وأهل الخدمة والعبودية، هو أصل التيجان ومنشؤها؟.
ولكن هكذا يرى المسيو ريتو، ولعله على صواب.
والذي حدا بالمسيو ريتو إلى الباس هذه الصورة ناراً من الفر وهوا أن هذا الإنسان كحان يعيش في عصر جليدي. ومن ثم مسته الحاجة إلى الدفء فاشتمل في فراء الحيوانات.(17/14)
وكل من يرى أن الإنسانية كانت أبداً في تقدم وتطور لتأخذه الدهشة والحيرة لمنظر القطعة السادسة وهي صورة الإنسان الذي كان يسكن وادي نياندرثال وقد أخذت عن آثار كثيرة عثر بها في كهوف فرنسا وبلجيكا، فإن هذا الجنس الآدمي كما يرى المسيو ريتو ويوافقه المسيو لويز ما سكريه مساعده أقرب إلى الحيوانية منه إلى الإنسانية. والرأي الذي يذهب إليه المسيو ريتو هو أن هذا الإنسان من بقايا الإنسان الأول المرسومة صوته في القطعة الأولى، وجد في وسط جنس أرقى منه فخضع لسلطانه واستكان له، وإن انحطاط قوته الذهنية عنه جعله تحت رحمته ومن ثم أوى من سلطته إلى الكهوف واحتمى بالأحجار.
هذا العمر ك كلب الإنسان العاقل، يكتسى بقطع من الفراء يقذف بها إليه سيده ومولاه. ولذلك ترى على ملامحه وفي وجهه سيما الذلة والمسكنة.
وليست الحيرة والدهشة بأقل إذا نظرنا إلى القطعتين السابعة والثامنة اللتين تصوران زنوج جريمالدي أسرة أثرية قديمة في مدينة جنوه من أعمال إيطاليا ينسب إليها حتى عام 1715 من الميلاد أمراء موناكو وتدلان على الجنس الذي ظهرت آثاره من الحفائر التي اكتشفت برعاية أمير موناكو عند ساحل اللازورد، وكذلك في نواحي عسقوينا وفي دسلدورف ولكن كيف اختلطت سلالات سام بسلالات يافث وتعلموا منهم صناعة النحت؟.
لقد أحال العلم هذه الظاهرة إلى الانقلابات المتتابعة التي حدثت لهذا الكوكب الأرضي.
كانت صقلية في العصر الرابع الجيولوجي قطعة متصلة بإيطاليا، وكان مضيق جبل طارق مقفلاً، وعلى ذلك كان من السهل العبور من أفريقيا سعياً على الأقدام إلى الأرض التي ندعوها اليوم أوروبا، وهكذا اختلط هذا الجنس الأيتوبي إلى حين بسكان هذه المنطقة ولكن هؤلاء ردوهم بعد ذلك إلى أوطانهم الأولى.
ومن هيأة هذه الهياكل العظمية الزنجية المستخرجة من أرض الغرب لم يستنتج أحد من العلماء أن هذا الجنس الآدمي كان يعرف صناعة النحت ولكن هذا الاستنتاج جر إلى مناقشات علمية، نخص بالذكر تلك المناقشات التي ثارت حول الرموز التي وجدت فوق ذراعي تمثال عطارد ميلو ويذهب للدكتور ريتو إلى أن سلالات سام الذين زاروا أرض يافث وامتزجوا بالجنس الأبيض قد حملوا إليهم سر صناعة النحت إذ وجد في الأحجار المدرجة فيها عظامهم أشياء منحوتة بعضها منحوت من حجر الصابون وبعضها من(17/15)
الحجارة منها ما هو قائم، ومنها مالا يعلو عن الأرض، وأغلب هذه المناحيت كاملة الصنع تامة القالب، ونخص منها تمثال عطارد ولندورف، وهو مفرغ في قالب من حجر الجير، وأما العصابة الصدفية التي ازدان بها هذا النحات الأول فمأخوذة عن العصابة التي وجدت موضوعة فوق جمجمة هيكل عظمي عثر به في كهف الأطفال بمدينة منتون، وأما صورة المرأة الزنجية الأولى المرسومة في القطعة الثامنة فقد اهتد المسيو ماسكريه بين منابش لوسل على نهر الدردون إلى شكل منحوت، والصورة التي تحملها في يدها فمقطوعة من قرون العجل، والأساور الصدفية المحلى بها زندها ومعصمها فمأخوذة عن حلى عثر بها في مدينة منتون.
وانظر إلى الصورة التاسعة والصورة العاشرة فنحن الآن قد بلغنا بهما حدود التاريخ المجهول وأشرفنا على تخوم التاريخ المعلوم.
هذه القطعة التاسعة تمثل لك صورة الإنسان المعاصر لدخول الزنوج أرض الغرب، وإن تناسب معالم وجهه وجمجمته يدل على شيء من العقل والتمييز، والآثار التي تركها هذا الجنس في كهوف بيريجو لتدل على حذق كبير في صناعة النقش والرسم، ومهارة فائقة في رسم الحيوانات، على حين أن الزنوج الذين جاءوا قبله تخصصوا في رسم الإنسان، وخناجر ذلك العصر كما جاء وصفها في كتاب الآثار القديمة مقطوعة من قرون الأيل الشمالي، أما الأسلحة الأخرى فكانت عديدة. ولعل ذلك لأنهم كانوا يعملون على مقالة الزنوج الأجانب عن أرضهم والدخلاء فيهم.
وهذا الإنسان الذي صوره لنا المسيو ريتو دائباً في عمل منقوشاته غارقاً في إفراغ مناحيته، يدل على خطوة جديدة في تاريخ تطور الزينة، فهو كما ترى متجمل في فراء مرتوقة محوكة إلى بعضها، إذ عثر بين الآثار والمنابش بالإبرة الأولى وخيوطها، والمرتقة المستعملة في شد الجلود وحياكتها. والقطعة العاشرة وهي الأخيرة تظهر لك صورة الإنسان النحات وهو في عصر صقل المنحوتات وجلاء المقطوعات الحربية والصناعية إذ كان يشتغل بعمل مصنوعات من قرون الأيل وبدأ به عهد الحفر، وقد استخرج العامة ستيفنز في سنة 1911 من مدينة سيبين من أعمال بلجيكا هيكلاً عظمياً يمثل ذلك العصر، وقد حصل عليه الدكتور ريتو فرسمه والفأس مرفوع بيده إلى رأسه، وفي اليد الأخرى بعض(17/16)
المزاريق وعليه سيمياء العزيمة والجد، وحب القتال والحرب.
هذا هو الإنسان العاقل المتميز قد جاء يفتح الطريق لكل شيء!.
إن رأسه مجلل بقبعة من الألياف. كي يرد بها ضربات عدوه، يزينها جناحاً طائر، تشبه القبعات التي كانت تصنع في أول العهد بعصر المعادن وكان يستعملها أهل الإسكندناوه الأولون وقد أظهرها واجنر على مسرح التمثيل في بعض ما ألف من رواياته.
وبعد فلا بد لنا من أن نقول إن هذه التحقيقات ستثير الحذر وتقابل بالتكذيب من فريق المؤمنين وقد لا تصادف إجماعاً من العلماء على صحتها.
بلى. أولم تؤخذ من ظلمات لا حد لها. في ماض لا غاية له تعرف ولا تاريخ بها يعترف؟.
هذا المسيو ريتو نفسه صاحب التحقيق يذهب في طليعة نقاده وجماعة المعارضين، راضياً بكل مناظرة، متطلباً كل نقد ومناقشة، على شريطة أن يكون المناقش من العلماء المعدودين، سواء كان جيولوجياً أو أنثروبولوجياً أو حيوانياً، فلينتظر القراء رداً أو نقداً أنا معهم من المنتظرين.(17/17)
إعجاز القرآن
ننشر هنا فصلاً من فصول الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب للرافعي. وكل فصول الكتاب كالحلق المفرغة لا يدري أين طرفاها حسناً واتقاناً، وبودنا أن ننشر هذا الكتاب كله في البيان ولكن ماذا يفيد صاحبه من وراء ذلك، وماذا نبقى له ولكتابه إذن - قال الرافعي تحت عنوان: التحدي والمعارضة.
كان العرب قد بلغوا لعهد القرآن مبلغهم من تهذيب اللغة ومن كمال الفطرة ومن دقة الحس البياني حتى أوشكوا أن يصيروا في هذا المعنى قبيلاً واحداً باجتماعهم على بلاغة الكلمة وفصاحة المنطق، وأنهم لأول دعوة من بلغائهم وفصائحهم مع تباعد ديارهم بعضهم عن بعض وتعاديهم واختلافهم في غير هذا الحس باختلاف قبائلهم ومعايشهم، لأن الكلام هو يدفعهم إلى المنافرة ويبعثهم على المفاخرة، وما كان الكلام صناعة قوم إلا أصبتهم معه كالجمل المؤلفة يرد بعضها بعضاً ويدور بعضها على بعض فيكون كل فرد منهم كأنه لفظ حي وكأن معنى حياته في الألفاظ. وهذا أمر ثابت ليس فيه منازعة ولا فساد ولا التواء ولم يظهر في أمة ظهوره في جاهلية العرب الأولى قبل الإسلام وفي جاهليتهم الثانية مع بعده حين استفحل أمر الفرق الإسلامية واستحر الجدال بينهم فأفسدوا عقولهم وأسقطوا مروءتهم إلا خواص، واقتحموا تلك الخصومات حتى يبس ما بين بعضهم إلى بعض وإن كان ليس بينهم إلا الدين والعقل.
فجاء القرآن الكريم أفصح كلام وأبلغه لفظاً وأسلوباً ومعنى ليجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربية التي كانت معقودة بالألسنة يومئذ وهو متى امتلكها استطاع أن يصرفها وأن يحدث منها وكانت رأس أمره وقوام تدبيره إذ هي الأمة بصبغتها العقلية ومعناها النفسي وهو لا ينتهي إلى هذه الوحدة ولا يستولي عليها إلا إذا كان أقوى منها فيما هي قوية به بحيث يشعر أهلها بالعجز والضعف والاضطراب شعوراً لا حيلة فيه للخديعة والتلبيس على النفس والتضريب بين الشك واليقين ومن طباع النفس التي جبلت عليها أنها متى خذلت وكان خذلانها من قبل ما تعده أكبر فخرها وأجمل صنعها وأعظم همها وأصابها الوهم في ذلك وضربها الخذلان باليأس فقلما تنفعها نافة بعد ذلك أو تجزئها قوة أخرى، وقلما تصنع شيئاً دون التراجع والاسترسال فيما انحدرت إليه. فمن ثم لم تقم للعرب قائمة بعد أن أعجزهم القرآن من جهة الفصاحة التي هي أكبر أمرهم ومن جهة الكلام الذي هو سيد(17/18)
عملهم بل تصدعوا عنه وهم أهل البسالة والبأس وهم مساعير الحروب ومغاويرها. وهم كالحصى عدداً وكثرة وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفسه وإلا نفر قليل معه لم يستجيبوا له ولم يبذلوا مقادتهم ونصرهم إلا بعد أن سمعوا القرآن ورأوا منه ما استهواهم وكاثرهم وغلبهم على أنفسهم، فكانت الكلمة منه تقع من أحدهم وإن لها ما يكون للخطبة الطويلة والقصيدة العجيبة في قبيلة باجمعها، ولهذا قام كل فرد منهم في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه في نفسه قبيلة في مقدار حميتها وحفاظها ونجدتها وهذا هو نفس الشعور الذي كان يشعر به كل مسلم في الجيوش التي انصبت على الأمم أول عهدهم بالفتوح حتى نصروا بالرعب وكأنما كانت أنفسهم تحارب قبل أجسامهم وتعد المراصد لعدوهم من نفسه وتسلبه مالا يسلبه إلا الموت وحده، فالعرب يريدون أن يموتوا فيحيوا ويريد أعداؤهم لآأ، يحيوا فيموتوا. وإلا فأين تقع تلك الشراذم العربية القليلة من جيوش الروم والفرس وهي فيها كالشامة في جلد البعير لو وقعت عليها ذبابة لكانت عسى أن تخفيها؟.
على أن من أعجب ما في أمر العرب أنهم كانوا يتخاذلون عن قتال النبي صلى الله عليه وسلم وجماعته على كثرة ما استنفرتهم قريش لحربه وما اعترضتهم في حجهم ومواسمهم، وعلى ما كانوا يعرفون من مغبة هذا الأمر وأنه ذاهب بطريقتهم لا محالة فلم يجمعوا كيدهم ولم يصدمونه بل استأنوا به ولبسوه على مره وسرحوا فرصة كانت لهم ممكنة وتركوا أسباباً كانت منهم قريبة. وليس في ذلك سبب وراء القرآن فإن كل آية يسمعونها كانت تصيبهم بالشلل الاجتماعي وتخذلهم في أنفسهم فلا يحسون منها إلا تراجع الطبع وفتور العزيمة، ويكسر ذلك عليهم أمرهم فتقع الحرب في أنفسهم بديئاً بين الوهم واليقين، فإن نصبوها له بعد ذلك أقدموا عليها بنفوس مخذولة وعزائم واهية وأمور منتشرة وخواطر متقسمة وقاموا فيها وهم يعرفون آخرة النزوة وعاقبة الجولة، وتلك حرب سبيلها في القتال سبيل المكابرة الواهنة في الجدال من أقدم عليها مرة كان آية لنفسه وكان عبرة لغيره حتى ما يعتزم لهولها كرة أخرى فمن سكن بعدها فقد سكن.
نزل القرآن على الوجه الذي بيناه فظنه العرب أول وهلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وروحوا عن قلوبهم بانتظار ما أملوا أن يطلعوا عليه في آياته البينات كما يعتري(17/19)
الطبع الإنساني من الفترة بعد الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن اضطراب القوة البيانية بعد إمعانها، وجماحها الذي لا بد منه بعد إذعانها، ثم ما هو في طبع كل بليغ من الاختلاف في درجات البلاغة علواً ونزولاً على حسب مالا بد منه من اختلاف المعاني وتباين الأحوال النفسية المجتمعة عليها والتفاوت في أغراضها وطرق أدائها مما ينقسم إليه الخطاب ويتصرف القول فيه ومروا ينتظرون وهم معدون له التكذيب متربصون به حالة من تلك الأحوال فإذا هو قبيل غير قبيل الكلام، وطبع غير طبع الأجسام وديباجة كالسماء في استوائها لا وهي ولا صدع، وإذا عصمة قوية وجمرة متوقدة وأمر فوق الأمر وكلام يحارون فيه بدءاً وعاقبة.
وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضاً في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب ثقة منهم بقوة الطبع ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم يستعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلو الكلمة وهم مجبولون عليه فطرة ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم. فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه وسلك إلى ذلك طريقاً كأنها قضية من قضايا المنطق التاريخي. فإن حكمة هذا التحدي وذكره فيه إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللد والفصحاء اللسن وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليها - حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن مولد أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله وأنه غير معجز وأن عسى أن لا يعجز عنه إلا الضعيف، ويا لله من سمو هذه الحكمة وبراعة هذه السياسة التاريخية.
أما الطريقة التي سلكها إلى ذلك فهي أن التحدي كان مقصوراً على طلب المعارضة بمثل القرآن ثم بعشر سور مثله مغتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة وليس إلا النظم والأسلوب وهم أهل اللغة ولا تضيق أساطيرهم وعلومهم أن تسعها عشر سور. . . ثم قرن التحدي بالتأنيب والتقريع ثم استفزهم بعد ذلك جملة واحدة كما ينفخ الرماد الهامد فقال وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين فقطع لهم أنهم لن يفعلوا وهي كلمة يستحيل أن تكون إلا من الله ولا يقولها عربي(17/20)
في العرب أبداً، وقد سمعوها واستقرت فيهم ودارت على الألسنة وعرفوا أنها تنفي عنهم الدهر نفياً وتعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم، فلما رأوا همهم لا تسمو إلى ذلك ولا تقارب المطمعة فيه وقد انقطعت بهم كل سبيل إلى المعارضة بذلوا له السيف كما يبذل المحرج آخر وسعة وأخطروا بأنفسهم وأموالهم وانصرفوا عن توهين حجته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام فقالوا ساحر وشاعر ومجنون ورجل يكتب أساطير الأولين وإنما يعلمه بشر وأمثال ذلك مما أخذت به الحجة عليهم وكان إقراراً منهم بالعجز إذ جنحوا فيه إلى سياسة الطباع والعادات تلميحاً كما تقدم وتصريحاً كقولهم أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون وقولهم ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وأمر العادة مما تخدع به النفس عن الحق لأنها أعراق ضاربة في القلوب ملتفة بالطبائع وخاصة في قوم كالعرب كان أمر الماضي عندهم على ما رأيت في موضع سلف وكانت العادة عندهم ديناً حين لم يكن الدين الإعادة.
قال الجاحظ: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حملهم على حظهم بالسيف وننصب لهم الحرب ونصبوا له وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحاً ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة فكلما ازداد تحدياً لهم بها وتقريعاً لعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستوراً وظهر منه ما كان خفياً، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له أنت تعرف من أخبار الأمم مالا نعرف فلذلك يمكنك مالا يمكننا قال فهاتوها مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولو طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض. فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستجابة لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق(17/21)
الأموال وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفي على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات. ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة. ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور ثم تحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة؟ وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثاً وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه.
على أن التاريخ لا يخلو من أسماء قوم زعموا أنهم عارضوا القرآن فمنهم من ادعي النبوة وجعل ما يلقيه من ذلك قرآناً كيلا تكون صنعته بلا أداة. . . على أنه لا أتباع له من غير قومه ولا بشايعه من قومه إلا طائفة يستنقرون لأمره ويعطفون عليه جنبات الناس حتى يجمعوا له أخلاطاً وضروباً، وقد تبعوه وشمروا في ذلك حمية وعصبية وحدبا من الطباع على الطباع فهم في غني عن نبوته وقرآنه وإنما رأيهم الخطار بالأنفس والأموال على ما تنزعهم إليه الطبيعة مقاربة لمن قارب صاحبهم ومباعدة لمن باعد وعسى أن يرد عليهم ذلك مغنماً أو ينقلهم من غيرهم أو يجدي عليهم بالعزة والغلبة أو يكون لهم سبيل منه إلى التوئب إن صادفوا غرة وأصابوا مضطرباً إلى غير ذلك مما تزينه المطمعة ويغر به الغرور ويقصد إليه بالسبب الواهي وبالحادث الضئيل وبكل طائفة من الرأي وبغية من الوهم وتستوي فيه الشمال واليمين وتتقدم فيه الرؤوس والأرجل مبادرة لا يدري أيهما حامل وأيهما محمول. . .
ومنهم من تعاطى معارضة القرآن صناعة ظن أنه قادر عليها بضع لسانه منها حيث شاء، وهؤلاء وأولئك لا يتجاوزون في كل أرض دخلها الإسلام من بلاد العرب والعجم إلى اليوم عدد ما تراه من عانة ضئيلة تعرض لك من حمر الوحش فقي جانب البر الواسع ثم تغيب وتسقي الريح على آثارها. وسنعدهم لك عدا لتصدر في هذه الدعوى على روية وتحكم في تاريخ المعارضة عن بينة وتعلم القدر الذي بلغوه أو قيل أنهم يلغوه فإن حصر ذلك وبيانه(17/22)
على جهته يشبه أن يكون بعض ما يشهد به أو قيل أنهم بلغوه فإن حصر ذلك وبيانه على جهته يشبه أن يكون بعض ما يشهد به التاريخ من إعجاز القرآن، والحق يجمع عليه الناس كافة ثم يكابر فيه الواحد والاثنان والنفر والرهط فتكون مكابرتهم فيه وجهاً من الوجوه التي يثبت بها.
[1] فمن أولئك مسيلمة بن حبيب الكذاب تنبأ باليمامة في بني حنيفة علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وفد عليه وأسلم وكان يصانع كب إنسان ويتألفه ولا يبالي أن يطلع أحد منه على قبيح لأنه إنما يتخذ النبوة سبباً إلى الملك حتى عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشركه في الأمر أو يجعله له من بعده وكتب إليه في سنة عشر للهجرة. أما بعد فإني قد شوركت في الأرض معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها. ولكن قريشاً قوم يعتدون، وكان من المسلمين رجل يقال له نهار الرجال قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وفقه في الدين فبعثه معلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة وليشد من أمر المسلمين فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة إذ شهد أنه سمع محمداً صلى الله عليه وسلم يقول إن مسيلمة قد أشرك معه فصدقوه واستجابوا له وأمروه بمكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم ووعدوه أن هو لم يقبل أن يعينون عليه، فكان الرجال لا يقول شيئاً إلا تابعه مسيلمة وكان ينتهي إلى أمره ويستعين به على تعرف أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته في العرب ليحكيه ويتشبه به وما قط عارضه في شيء إلا انقلبت الآية معه وأخزاه الله وفي تاريخ الطبري من ذلك أشياء لا حاجة لنا بها صحت أو لم تصح.
وقد زعم مسيلمة أن له قرآناً ينزل عليه من السماء ويأتيه به ملك يسمى رحمن. . . بيد أن قرآنه إنما كان فصولاً وجملاً بعضها مما يرسله وبعضها مما يترسل به في أمر أن عرض له وحادثة أن اتفقت ورأى إذا سئل فيه وكلها ضروب من الحماقة يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه ويجنح في أكثرها إلى سجع الكهان لأنه كان يحسب النبوة ضرباً من الكهانة فيسجع كما يسجعون، وقد مضى العرب على أن يسمعوا للكهان ويطيعوا ووقر ذلك في أنفسهم واستناموا إليه ولم يجدوا كلام الكهان إلا سجعاً فكانت هذه بعض ما استدرجهم به مسيلمة وتأتي إلى أنفسهم منها.(17/23)
ومن قرآنه الذي زعم قوله أخزاه الله: والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، أهالة وسمناً. . . لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه والباغي فناوؤره. وقوله: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المتذق فما لكم لا تمجعون. . . وقولنه: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل. . . وقال الجاحظ في الحيوان عند الفوز في الضفدع: ولا أدري ما هيج مسيلمة على ذكرها ولم ساء رأيه فيها حتى جعل بزعمه فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمتعين. . .
وكل كلامه على هذا النمط وأه سخيف لا ينهض ولا يتماسك بل هو مضطرب النسج مبتذل المعنى مستهلك من جهتيه وما كان الرجل من السخف بحثث ترى ولا من الجهل بمعاني الكلام وسوء البصر بمواضعه ولكن لذلك سبباً نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إلى موضعه الذي هو أملك به.
[2] ومنهم عبهلة بن كعب الذي يقال له الأسود العنسي يلقب ذو الخمار لأنه كان يقول يا تيني ذو خمار، وكان رجلاً فصيحاً معروفاً بالكهانة والسجع والخطابة والشعر والنسب وقد تنبأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخرج باليمن ولا يذكرون له قرآناً كان يزعم أن الوحي ينزل عليه وكان إذا ذهب مذهب التنبؤ كب ثم رفع رأسه وقال: يقول لي كيت وكيت يعني شيطانه، وهذا الأسود كان جباراً وقتل قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة.
[3] وطليحة بن خويلد الأسدي وكان من أشجع العرب يعد بألف فارس، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ثم لما رجعوا تنبأ طليحة وعظم أمره بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يزعم أن ذا النون يأتيه بالوحي (وقيل بل جبريل) ولكنه لم يدع لنفسه قرآناً لأن قومه من الفصحاء ولم يتابعوه إلا عصبية وطلباً لأمر يحسبونه كائناً في العرب من غلبة بعضهم على جماعتهم وإنما كانت له كلمات يزعم أنها أنزلت عليه ولم نظفر منها بغير هذه الكلمة رأيناها في معجم البلدان(17/24)
لياقوت وهي قوله: إن الله لا يصنع بتعفير وجوكم وقيح أدباركم شيئاً فاذكروا الله قياماً فإن الرغوة فوق الصريح. . . وقد بعث أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد لقتاله وكان مع طليحة عيينه بن حصن في سبعمائة من بني فزازة فلما التقى الجمعان تزمل طليحة في كساء له ينتظر بزعمه الوحي وطال ذلك منه وألح المسلمون على أصحابه بالسيف فقاله له عيينة هل أتاك بعد؟ قال طليحة من تحت الكساء لا والله ما جاء بعد فأعاد إليه مرتين كل ذلك يقول لا. فقال عيينة: لقد تركت أحوج ما كنت إليه. فقال طليحة قاتلوا عن أحسابكم فأما دين قلادين ثم انهزم ولحق بنواحي الشام وأسلم بعد ذلك وكان له في واقعة القادسية بلاء حسن.
[4] وسجاح بنت الحارث بن سويد التميمية لو كانت في بني تغلب (وهم أخوالها) راسخة في النصرانية قد علمت من علمهم وتنبأت فيهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر فاستجاب لها بعضهم وترك التنصر ومالأها جماعة من رؤساء القبائل وكانت تقول لهم: إنما أنا امرأة من بني يربوع وإن كان ملك فالملك ملككم. قد خرجت بهم تريد غزو أبي بكر رضي الله عنه ومرت تقاتل بعض القبائل وتوادع بعضها وكان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ واشتدت شوكة أهل اليمامة فتهدت له يجمعها وخافها مسيلمة ثم اجتمعا وعرض أهلها أن يتزوجها ليأكل بقومه وقومها العرب فأجابت وانصرفت إلى قومها فقالوا ما عندك؟ قالت كل على الحق فاتبعته فتزوجته. . . ولم تدع قرآناً وإنما كانت تزعم أنه يوحى إليها بما تأمر وتسجع في ذلك سجعاً كقولها حين أرادت مسيلمة: عليكم باليمامة، وداقوا دفيف الحمامة، فإنها عزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة وفي رواية صاحب الأغاني أنه كان فيما أدعت أنه أنزل عليها: يا أيها المؤمنون المتقون لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشاً قوم يبغون. وهي كلمة مسيلمة وقد مرت آنفاً.
ثم أسلمت هذه المرأة بعد وحسن إسلامها وما كانت نبوتها إلا زفافاً على مسيلمة. .
[5] والنضر بن الحارث، وهذا ومن يجيء بعده لم يدعوا النبوة ولا الوحي ولكنهم زعموا أنهم يعارضون القرآن فلفق النضر هذا شيئاً من أخبار الفرس وملوك العجم ومخرق بذلك لأنه جاء بأخيار يجهلها العرب. . . ولم يحفل أحد من المؤرخين ولا الأدباء بهذا الرجل لحماقته فيما زعم وإنما ذكرناه نحن إذ كنا لا نرى الباقين أعقل منه. . .(17/25)
[6] وابن المقفع الكاتب البليغ المشهور وزعموا أنه اشتغل بمعارضة القرآن مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره وهذا عندنا إنما هو تصحيح من بعض العلماء لما تزعمه الملحدة من أن كتاب الدرة اليتيمة لابن المقفع هو في معارضة القرآن فكأن الكذب لا يدفع إلا بالكذب وإذا قال هؤلاء أن الرجل قد عارض وأظهر كلامه ثقة منه بقوته وفصاحته وأنه في ذلك من وزن القرآن وطبقته وابن المقفع هو ما هو في هذا الأمر. قال أولئك بل عارض ومزق واستحيا لنفسه. . .
أما نحن فنقول إن الروايتين مكذوبتان جميعاً وإن ابن المقفع من أبصر الناس باستحالة المعارضة لا لشيء من الأشياء إلا أنه من أبلغ الناس، وإذا قيل لك أن فلاناً يزعم إمكان المعارضة ويحتج لذلك وينازع فيه فاعلم أن فلاناً هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين إما جاهل يصدق في نفسه وإما عالم يكذب على الناس ولن يكون فلان ثالث ثلاثة.
وإنما نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس لأن فتنة الفرق الملحدة إنما كانت بعده وكان البلغاء كافة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه. ثم كان ابن المقفع متهماً عند الناس في دينه فدفع بعض ذلك إلى بعض وتهيأت النسبة من الجملة.
ولو كانت الزندقة فاشية أيام عبد الحميد الكاتب وكان متهماً بها لما أخلته إحدى الروايات من زعم المعارضة لا لأنه زنديق ولكن لأنه بليغ يصلح دليلاً للزنادقة.
وزعم هؤلاء الملحدة أيضاً أن حكم قاموس وشمكير وقصصه هي من بعض المعارضة للقرآن فكأنهم يحسبون أن كل ما فيه أدب وحكمة وتاريخ وأخبار فتلك سبيله، وما ندري لمن كانوا يزعمون مثل هذا ومثل قولهم إن القصائد السبع المسماة بالمعلقات هي عندهم معارضة للقرآن بفصاحتها. .؟.
[7] وأبو الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي وكان رجلاً غلبت عليه شقوة الكلام فبسط لسانه في مناقضة الشريعة وذهب يزعم ويفتري، وليس أدل على جهله وفساد قياسه وأنه يمضي في قضية لا برهان له بها - من قوله في كتاب (الفريد): أن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي (صلى الله عليه وسلم) فلم تقدر العرب على معارضته فيقال لهم أخبرونا لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة. . . مثل دعواكم في(17/26)
القرآن فقال: الدليل عل صدق بطليموس أواقليدس أن اقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، أكانت نبوته تثبت؟ فأعجب لهذا الجهل الذي يكون قياساً من أقيسة العلم. . . وأعجب (للكلام) الذي يقال فيه: إن هذا كتاب وذلك كتاب فكلاهما كتاب، ولما كانا كذلك فأحدهما مثل الآخر، ولما كان أحدهما معجزاً لا محالة وما يثبت لصاحب الأول يثبت بالطبع لصاحب الثاني وما دمنا نعرف أن صاحب الكتاب الثاني لم تثبت له نبوة فنبوة صاحب الأول لا تثبت. . . لعمري أن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلاً من الحجة وباباً من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الأطباء قط. وإلا فأين كتاب من كتاب وأين وضع من وضع وأين قوم من قوم وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض، ولا طرد ذلك القياس كله على ما وصفه كما يطرد القياس عينه في قولنا أن كل حمار يتنفس وابن الراوندي يتنفس فأين الراوندي يكون ماذا. . .؟.
ولو أن مثل هذه السخافة تسمي علماً تقوم به الحجة فيما يحتج له ويبطل به البرهان فيما يحتج عليه لما بقيت في الأرض حقيقة صريحة ولا حق معروف ولا شيء يسمى، ولكان هذا اللسان المتكلم قد عبدته أمم كثيرة لأن فيه قوة من قوى الخلق ولأنك لا تجد سخيفاً من سخفاء المتكلمين الذين يعتدون مثل ذلك علماً كابن الراوندي مثلاً إلا وجدته قد أمعن في سخفه فلا تدري أجعل آلهة هواه أم جعل آلهة في فمه.
وقد قيل إن هذا الرجل عارض القرآن بكتاب سماه (التاج) ولم تقف على شيء منه في كتاب من الكتب مع أن أبا الفداء نقل في تاريخه أن العلماء. قد أجابوا عن كل ما قاله من معارضة القرآن وغيرها من (كفرياته) وبينوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة. والذي نظنه أن كتاب ابن الراوندي إنما هو في الاعتراض على القرآن ومعارضته.
متعثراً يسقط بعضه في جهة وينهض بعضه في جهة ويستقيم من ناحية ويلتوى من ناحية وأنه عسى أن لا يكون في اضطراب النسق وتوعر اللفظ واستهلاك المعنى وفساد المذهب الكتابي وضعف الطريقة البيانية شر من هذا كله وما أسلوب الرجل إلا من هذا كله.
على أن المعري رحمه الله قد أثبت إعجاز القرآن فيما أنكر من رسالته على ابن الراوندي فقال: وأجمع ملحد ومهتدي، وناكب عن الحجة ومقتدي، إن هذا الكتاب الذي جاء به محمد(17/27)
صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالأرجاز، ما حذى على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ماهو من القصيد الموزون، ولا في الرجز من سهل وحزون، ولا كل خطابة العرب، ولأسجع الكهنة ذوي الأرب، وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق.
ولا يعقل أن يكون الرجل قد أسر في نفسه غير ما أبدى من هذا القول ولم يضطره شيء إليه ولا أعجله أمر عن نفسه ولا كان خلو رسالته منه تضييعاً ولا ضعفاً، وما نشك في أنه كان يستسر بهنات مما يضعف اعتقاده ولكن أمر القرآن أمر على حدة فما هو عند البرهان عليه وراء القبر ولا وراء الطبيعة.
(وبعد) فهذا الذي وقفناك عليه هو كل ما صدقوا وكذبوا فيه من خبر المعارضة، أما إن القرآن الكريم لا يعارض بمثل فصاحته وبمثل ما احتواه ولو اجتمعت الأنس بما يعرفونه وأمدهم الجن بمالا يعرفون وكان بعضهم لبعض ظهيراً فهو ما نبسطه فيما يلي، وذلك هو الحق الذي لا جمجمة فيه ولا يستعجم على كل بليغ له بصر بمذاهب العرب في لغتها وحكمة مذاهبها في أساليب هذه اللغة وقد تفقه بالبحث في ذلك والكشف عن دقائقه وكان يجري من هذه اللغة وقد تفقه بالبحث في ذلك والكشف عن دقائقه وكان يجري من هذه الصناعة البيانية على أصل ويرجع فيها إلى طبع.
وإن شعور أبلغ الناس بضعفه عن أسلوب القرآن ليكون على مقدار شعوره من نفسه بقوة الطبع واستقاضة المادة وتمكنه من فنون القول وتقدمه في مذاهب البيان فكلما تناهى في علمه تناهي كذلك في علمه بالعجز، وما أهل الأرض جميعاً في ذلك إلا كنفس واحدة ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إن الله عزيز حكيم.(17/28)
تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية
تمهيد آخر
الأقلام مزامير التاريخ يترنم فيها بذكر الحوادث العظام. والمفاخر الجسام. ولعله ليس في حوادث الدهر وشؤون العالم شيء هو أجل وأخطر من ظهور رجل عظيم لذلك كان ظهور هذا هو أحق الحوادث وأجدرها يترنم اليراع. في حسن تنغيم وإيقاع وقدما رأينا الروض يزهر ويثمر، فيسجع البلبل الصداح. والفجر يلوح ويسفر، فيصيح غريد الصباح. ولقد ظهر بهذا البلد الأمين في هذا العصر. عصر البعث والنهضة رجال عظام. وقادة أعلام. وكان يراع مجلة البيان بجيش في صدره الغناء. طرباً بذكر سيرهم الغراء. فيهم أن ينطلق. ويريد أن ينطلق فتعتاقه مخافة التقصير. وترده خشية الرجوع بخيبة النضو الحسير. حتى إذا مد في صدره بحر المديح واحتفل واديه. وعب عبابه وزخر طاميه. جاز السواحل وسال. وعدا الحواجز وانثال. وأرسل العبارة تلو العبارة، والمقال أثر المقال، بما قد طال صمته وأحجامه، وانقباضه عن طروق هذا الباب واحتشامه.
نعم قد قاض لنا الله بعد طول سكوت أن نتناول سير صفوة رجال هذا العصر ونخبة أبنائه من أهل هذا العصر. وقد رأينا أن نبدأ بأعضاء الجمعية التشريعية إذ كانوا هم ألسنة الأوطان وقولبها. وزبدة الأمة ولبابها. بمقولها ينطقون. وبفؤادها يشعرون وبعينها ينظرون، وبرأيها يرون.
وقد خصصنا بهذا العدد خمسة من الأعضاء كلهم سيد نبيل وبطل جليل، والخمسة في موازين الفضل والرجحان متعادلون كالحلقة المفرغة لا يعلم أين طرفاها.
ونحن الآن آخذون في الكلام عن الوزير الخطير وكيل الجمعية آنفاً عطوفة عدلي باشا يكن إذ وصل إلينا تاريخه قبل تاريخ سائر الأعضاء.
عدلي باشا يكن
الوكيل المعين للجمعية التشريعية
عدلي باشا يكن أحد سلالة الأسرة اليكنية، رجل كريم البيت شريف المحتد أغر النسب عنيد الحسب، له في المجد كاهل وسنام، ومن العزة القعساء دولة خفافة البنود والأعلام، وما بالكم بمن كان جد مولى (ابن عم) مليك مصر ساكن الجنان محمد علي باشا الكبير،(17/29)
وبيته صنو ذاك البيت الأرفع الخطير. حقاً لهذه أعلى مراتب المجد وأسمى منازل السؤدد.
هذا الرجل الحسيب النسيب سليل صنو الأسرة الخديوية، ونتيج شعبة الأيكة المحمدية، كان المظنون من مثله أن يجري على عادة الأمراء المترفين من الخفض والدعة وينهج من اللهو والبطالة منهج ذوي النعيم والسعة، يفترش مهاد الراحة والرخاء، ويتنكب سبل النصب والعناء، أبيى له ذلك نفس قلقة طموح، وهمه شرود جموح وبصيرة نافذة تشق عن لباب الحقيقة قشور الشبهات، وتهتك عن سر الصواب حجب الأباطيل والترهات، فعلم بفضل البصر والذكاء أن المروءة هي الكد والعمل، وأن القعود والنوم من شيمة الطفل الربيب، والشيخ ذي الدبيب، والحق يقال أن العمل أشرف أمور الحياة وأنفسها وأجل مسائل الوجود وأقدسها، والمرء مهما عصي أوامر الخالق وتجانف عن سبيل الدين فله الأمل الوطيد في الهداية متى كان صادق العمل مخلص السعي، ولكن في الكسل وحده الحرمان واليأس، وحسب العمل نبلاً أنه متصل بنواميس الوجود وشرائع الطبيعة. والرغبة في إتمام العمل إذا كانت صادقة مليئة وحدها أن تقرب المرء من الحقيقة، وبالعمل يستكمل الإنسان فضائل النفس ومكارم الأخلاق فيه تقتلع الأصول الخبيثة، وتصطلم الجراثيم اللئيمة، وتزرع مكانها الأغراس الطيبة، والأشجار الكريمة، وتشاد القرى العامرة والمدن العظيمة، بل بالعمل يصبح المرء نفسه بنياناً محكماً وبستاناً نضيراً بعد إذ هو شطره قفرة مجدبة. وشطره دمة معشبة. ألم تر إلى العمل حتى الأحقر الأخس من أنواعه كيف أنه ير شوارد الضمير ويؤل نوافر النفس ساعة يشرع فيه. أنت تعلم أن العامل الحقير ليس من بلايا الهم والأسف والخوف والرجاء والشك والندم والحق والغضب حتى اليأس. شأنه في ذلك شأن سائر البشر. غير أنه لا يكاد ينكمش في عمله حتى تنقمع شرور هذه الآفات فترتد مقهورة إلى زواياها. وتلوذ مخسورة بمكامنها وخفاياها. ويخلص العامل المسكين من أسارها وترى الرجل قد عاد رجلاً. وتراه تتوهج في صحيفة وجهه وفي سائره نار العمل المباركة مصفية سبيكته من شوب كل عاب وخبث كل منقصة، فطوبى لمن وفق من العمل إلى ما أعدله. فلقد ظفر والله بنهاية الأرب وغاية المنى. وأي نعمة أجزل من أن يكون للمرء عمل في الكون ومقصد في الحياة يسمو إليه ويؤمه. وما أجل العمل أنه لكا النهر المتدفق الحر الانطلاق يحترق أو حال الحياة ومستنقعاتها بقوة الجد(17/30)
والإخلاص والهمة والمثابرة ويزداد على قطع المسافات غزارة وكظة. أجل وبمتري الماء الملح من أصول أقصي الأعشاب محولاً وخيم المرائع وموبي المنابت روضة خضراء مخصبة. والعمل لو تعلمون هو الحياة. ترى العامل إذ جد خرج من أعماق قلبه وسويداء لبه هبة الله من القوة - أعني جوهر الحياة السماوي المقدس المنفوخ فيه من روح الله عز شأنه. فإذا خرج من لب الفؤاد ذلك السر ملأ نفسه مروءة ونبلاً. وصدره عرفاناً وعلماً. بل أفعم صدره بالعلم الصادق الحق. فإن أصدق العلم ما كان نتيجة العمل إلا ترى أن بصحة هذا العلم تشهد الطبيعة ذاتها؟ والحقيقة أنك لست جديراً أن تعتد من العلم إلا بما كان ثمرة عملك. فأما ما عدا ذلك فما هو إلا نظريات علمية - أمور تدور عليها مجادلات الطلبة في المعاهد وأشياء تجول على حواشي السحاب في هيئة دوامات جدلية فما تزال تدور حتى نختبرها فنثبتها. وقديماً قبل لا يزيل الشكوك إلا العمل.
أدرك عطوفة الوزير الخطير هذه الحقيقة الكبرى، ومثل الوزير خليق أن يدرك كبير الأمر وصغيره ودقيقه وجليله وباديه وكمينه.
أحاط علماً بكل خافية ... كأنما الأرض في يديه كره
لذلك وقف نفسه على خدمة الأوطان فجعل الجد شعاره والمواظبة دثاره. وتنقل في مناصب الحكومة بعد أن أتم الدراسة في مدارسها فكان أول تعيينه في نظارة الداخلية مترجماً وذلك عام 1880 وهو إذ ذاك يناهز السابعة عشرة بمرتب شهري قدره اثنتا عشرة ليرة. وفي عام 1883 نعم عليه بالرتبة الثانية وهو لا يزال في نظارة الداخلية. وفي أول أغسطس 1885 عين سكرتيراً لدولة ناظر الخارجية المصرية بمرتب شهري 22 ليرة ثم ما زال يرتقي في درج المناصب حتى تقلد إدارة مديرية الفيوم فالمنيا فالشرقية فالدقهلية فالغربية فمحافظة مصر فديوان عموم الأوقاف. واستقال صيانة لصحته عام 1907 ولكنه عين في 1913 وكيلاً للجمعية التشريعية من قبل الحكومة مع منحه امتياز النظار في أمر الحفلات العمومية والمقابلات الخديوية. وفي 1914 عين ناظراً للخارجية.
وبعد فليس أكبارنا شأن عطوفة المترجم به هو أنه تقلد تلك المناصب الكبار، ولا كان أعظامنا قدره من أجل رتبة أو وسام، فنحن نعلم أنه ليس على حسب الأقدار تعطى المناصب. ولا على قدر الأخطار توهب الألقاب والمراتب. بل تعلم أنه قد يرزق العاجز(17/31)
الجهول وليس هناك إلا عجزه وجهله. ويحرم الكيس الفاضل ولا ذنب له إلا كياسته وفضله. ولكنا تزن الرجال لا الأسماء ونقدر الأعمال لا الأوسمة ونعلم أن العظمة والبطولة تأبى إلا ظهوراً ولو في أحط الطبقات وأدنى المنازل، وكذلك الخسة والضؤولة تأبى إلا وضوحاً ولو في أرقى الطبقات وأرفع المنازل. فلو أن الأمر في عطوفة الوزير كان قاصراً على تقلده الوزارة أو ولايته من قبل ذلك ما قد ذكرنا من الأعمال والمناصب لما بعثنا له القلم من رقاده. ولا كحلنا في سبيه مقلة اليراع بأيمد مداده. ولكن الأمر هو شيء خلاف الألقاب والأسماء والمرتبات والمراتب - هو الشيم والمحامد والمكارم والمناقب، هو الرجولة والفحولة والعظمة والبطولة، تلك هي الأغاني التي بها يشد ويراع البيان. والآيتت التي يرددها كل برهة وآن. والوزير الخطير له من هذه المناقب الحظ الأوفر والمقام الأسمى، وكيف وهو المأثور عنه رأس الفضائل، وأم المزايا، أعني ما نسميه الشخصية المسيطرة، أو السلطان النفسي، أو القوة الروحية. ومعنى ذلك مغناطيسية الشخصية وتأثير روح العظيم على أرواح الخلق بما يشبه تأثير الكهرباء وهذه القوة هي أهم وسائل رقي النوع، إذ كانت جماهير الناس إنما تنقاد لرأي المفكر العظيم، وتذعن لفكرة الرجل الكبير بتأثير هذه الشخصية - قوة هذه الجاذبية. ولقد رأينا الرجل الكبير يقود الأمة الكثيفة بجاذبيته، ويجر عسكر الخليفة بتلك الكهرباء إلى غزوة عوالم المجهول حيث تسبى عقائل العلم وتقتض أبكار الفنون والمعارف، ولو أن بين الكائنات الطبيعية وبين عقل الإنسان صلة إذن والله لسارت الطبيعة وراء الإنسان حيثما توجه خاشعة منقادة ذلولاً، ولعل في جاذبيات بعض البشر ما هو أشبه شيء بالغناء الذي كان يزعم أنه كان يجذب الأنهار والجبال والبحار والآكام والقفار. والهواء والنار. ولسنا نعني بهذه الجاذبية والشخصية المسيطرة وسلطان الروح مرارة الجد وظلمة الوقار، ولا الغلظة والعجرفية، ولا الكبرياء والغطرسة، فإن هذه ضد الجاذبية هذه سبب الصدود والاشمئزاز والنفرة. فأما الجاذبية فمنشؤها البشر والطلاقة وحلاوة اللقاء وعذوبة الشمائل، وهذه كلها هي ترجمة صفاء النفس وائتلاف أجزاء الروح مسطورة في صحيفة الوجه مقروءة في لوح الحيا. وأن يكون الضمير موطن السرور ومهبط الفرح. وهذا الوصف منطبق على عطوفة الوزير كمال الانطباق، بين فيه في أجلى المظاهر. فهو أعزه الله عذب اللقاء معشوق الشمائل، يصطاد(17/32)
شارد القلوب بحبائل شره، وبروض شمس النفوس باعته انبساطه وأنسه. يغنيه تودد وجهه عن تودد لسانه. وتكفيه خلابة نظراته خلابة بيانه. تفيض ابتسامته على أعطاف المجلس رونقاً كرونق الربيع الجديد. وتبعث في ساحة الروح نسيماً كأنفاس الخمائل. وكأني بالوزير الخطير، لو قد مشى بالصلح بين بكر وتغلب في حرب البسوس. بعد أن عم بين المتحاربين الويل وطفح الكيل. وخاب كل سفير، وأخفقت كل واسطة، لأصلح بين الفريقين قبل أن يفوه ببنت شفة أو ينطق بأدنى كلمة. وكأني به يشفي بعذوبة روحه وسحر شيمته من المس والخيال، والهم والغم، والكرب واليأس، وكأني به لو عرض للسيل الجارف لوقف. أو للبركان القاذف لكف. أو للزوبعة الثائرة لهدأت. أو للهاجرة المستعرة لروحت. وإني لأذكر به بطل الأبطال خالب النفوس وجاذب الأرواح نابليون الأول ذلك الذي كان يرد الجيش المرموم بنظرة. ويقتاد الجماهير المجمهرة بشعرة. ذلك الذي بلغ من ثباته وقوته أن خسر دولة الأرض ومملكة الدنيا فلم يك إلا كلاعب الشطرنج خسر دوراً.
قد علمنا أن الرجولة أو كما يسميها البعض البطولة والعظمة قد بنيت على قاعدتين وهما الرأي والعزيمة أعني الرأس المفكر واليد الفعالة، وذلك أن يؤتي المرء نفاذ البصيرة وتنفيذ الإرادة. فباجتماعها تكمل الرجولة وبإعوازهما يكون الرجل تمثالاً متحركاً وصنماً أخرس وآلة صماء. وبإعواز أحدهما يكون المرء ناقصاً أبتر. فإذا كان ثاقب البصر بغير عزم لم ينفعه بصره ولم تغن عنه قريحته وكان كالمرأة تريك عديد الصور ولا تنيلك مما تحتويه شيئاً. وكالمسن يسحذ ولا يقطع. وإذا كان ماضي العزيمة بلا رأي فربما كان مضاء عزمه بلاء عليه من حيث أنه يركب به متن الضلال ويتعسف به مجاهل الغي. فأما اجتماع الخلتين فذاك كما قلنا هو عين الرجولة والبطولة. وعدلي باشا هو الرجل الذي اجتمعت فيه الخلتان والتقت لديه الفضيلتان. عرفناه نافذاً البصيرة مسدد الآراء.
لاو ذعيا كأنما بين جنب ... يه مصابيح كل ليل بهيم
فكم جلى ظلمة الشك بنور اليقين. وكم فض بمفتاح الرأي المشاكل. وكم له من فكرة عالية سديدة. وخطة واضحة رشيدة. ثم يعقب ذلك تنفيذ الآراء بعزيمة أمضى من النجم. وإرادة أصلب من الحديد. وقد جنى أهل الأقاليم التي كان عطوفة الوزير يليها ثمار هذا الفضل المبين. حلوة المذاق عذبة المساغ مباركة الفائدة. وكان عطوفته يرى آثار كده فيحمد جهاده(17/33)
وسعيه. وعند الصباح يحمد القوم السرى. فلا غرو أن كان الوزير بعد كل هذا شديد الحرص على استقلاله بالرأي وانفراده بالإدارة. وما ذلك بمستغرب من الكفؤ الشديد الثقة بنفسه. الجليل الروح. الكبير العقل. فلما كان في عهد ولايته بعض الأقاليم تسلط على المدير بين مفتشي الداخلية من الإنكليز فلم يبق من المديرين إلا من رضخ لهذه السلطة الجديدة إلا عدلي باشا فإنه عرف به عن ذلك سمو همته وعلو روحه. واحترامه نفسه. فنفي عن ساحتيه كل سلطة طارئة وتداخل أجنبي وانفرد بالحكم تفرد القمر البدر في مملكة السماء. وتوحد الأسد الغضنفر في العربة العصماء والأجدل الطموح في رأس القمة الشماء. كل ذلك فعله عطوفة الوزير في سكينة وصمت. وكذلك قضي الله أن أعظم الأمور وأجل الشؤون إنما تبلغ بالسكون. وإن قصوى الغايات وعليا الدرجات إنما تنال في هدوء وصمت. ومصداق ذلك أنك إذا نظرت في التاريخ وجدت أن أبرك العصور وأدر الأزمان هي التي تمر في أمن وسلام وتنقضي في سكون وصمت. هذه هي الأزمان التي نجم في غضونها ثروة البلاد وتتوفر الخبرات والبركات وتبني فيها القوة الكامنة. وتشاد فيها أركان الدولة. أما أوقات الثورات والحروب تلك الصائحة بأفواه المدافع. الضاجة بزماجر الملاحم والوقائع. فهذه أوقات هدم وتقويض. وأزمان تخريب وتبديد. لذلك قال أحد ظرفاء الفلاسفة وبالغ في قول مونتسكيو طوبى لأمة سجلات تاريخها مملة فقال الفيلسو الفكه طوبى لأمة سجلات تاريخها خالية قوله مملة أي ليس فيها أوصاف حروف ووقائع وقصص وفتن وثورات مما يلذ القراء وبلى السامعين. بل فيها من الحوادث والمسائل ما يجري عادة في غير أوقات الحروب والفتن. ثم بالغ الآخر فقال طوبى لأمة لا تؤثر عنها حوادث قط فصحف تاريخها خالية بيضاء.
ألم تر إلى الدوحة العادية كيف أنها تحيا وتنمو في الغابة ألف عام لا يسمع لها حس ولا جرس. أجل إنه لا يسمع صوتها إلا مرة واحدة. أتعلم متى؟ حينما يجيئها الخطاب بفأسه. حينئذ تعلن الدوحة حياتها ومماتها مما يصرخه تدوى لها أرجاء الغاب. وانظر إلى بذرة الشجرة العظيمة تلقيها الطبيعة من حجر الريح الفضفاضة في بطن الثرى! من كان حاضر ساعة الغرس ومن كان حاضر ساعة الإيراق وساعة الأزهار والأثمار، ومن حينما ليست الشجرة حلي نورها وفاكهتها قام بدق البشائر وهتاف الفرح والسرور لا أحد. كلا، ولا(17/34)
أثقب الناس نظراً وأدقهم ملاحظة. هذه الحوادث المفرحة لم تحدث بغتة حدوث الفتن والحروب ولكنما نمت تدريجاً وأحكمت شيئاً فشيئاً لا في ساعة بل في أشهر وأعوام.
كذلك تأثير الرجل العظيم مثل الوزير عدلي باشا يكون صامتاً شاملاً كتأثير الهواء والشمس تلك التي تجمع بين المنظر الفتان والأثر الفعال - بين الجمال والمنفعة - بين حب الناس إياها وحاجتهم إليها. وبالاثنين تكمل الفضيلة. فإن الشخص المحبوب لحسنه ورونقه وهو قليل المنفعة ناقص نقص ذي المنفعة ليس بذي رونق يستميل وخلابة تسبى وإنما كريه بغيض تجتويه الأعين وتنبو عنه النفوس.
فأما الوزير فهو الذي جمع الخلتين فاستكمل بفضل ذلك الفضيلة. فلقد بلغ من فرط محبة الناس إياه مع اعترافهم بجزيل هباته وبيض أياديه أن كثر فيهم من سمي بنيه باسمة فكلما نودي بالاسم الجليل في شوارع المدن وطرقاتها وفي دورها ومنازلها صباح مساء. وحينما يضرب الليل خيامه. ويحدر الصباح لثامه. كان ذلك النداء ثناء ذائعاً وشكراً سياراً لما أولى هذا الرجل العظيم من سابغ آلائه وجزيل نعمائه.
وكذلك الرجل العظيم كلما حل أرضاً فرحل عنها ترك بها من محاسن الآثار الخالدة مالا يزال يذكر بها ما اصطحب الفرقدان. واختلف الملوان. ولسان حال البلاد وأهلها يناديه:
فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة ... أثنى عليها السهل والأوعار
ميشيل بك لطف الله
أحد النواب في الجمعية التشريعية عن المصريين السوريين
لا أظن أن في أقطار العالم وممالكه بلدين يكادان يكونان لولا التقسيم السياسي بلداً واحداً. لا تفصلهما حدود الاجتماع. ولا تميز بينهما الفروق الطبيعية، ولا تحدهما التخوم السياسية، غير مصر والشام. فهما قطعتان من الشرق متداخلتان متمازجتان تجوز الأولى إلى أختها الأخرى. فما تبرح ترى السماء الصاحية. والشمس الزاهية. وما تنفك تشم الهواء العليل، وتستاف النسيم البليل. وتشارف الجو الجميل. وترتع في الروض العشيب، وتمرح في المنظر الخصيب، فإذا نزل المصري أرضاً سورية. فكأنه لا يزال في مصر، بين أصحابه وإخوانه، وأحبابه وجيرانه. وإذا هبط الوسري وادي النيل، رأى رحباً وسعة. وألقي خصباً ودعة. واطمأن به المقام، ورأى بدائع ضروب الترحيب، وشهد محاسن صنوف الأكرام،(17/35)
وما منشأ ذلك الود الاجتماعي بين الأمتين إلا أن الأمة السورية قد تنزهت نفسها من شوائب تلك النقيصة الاجتماعية التي تراها شائعة بين أكثر أمم الدنيا وأغلب شعوب الأرض. ونعني بها ذلك الزهو الأهلي الكاذب الذي يوشك أن يقطع بين الأمم ما تصله الروابط الاجتماعية الأخرى. إذ ترى كل أمة تياهة بنفسها مزهوة على غيرها. تجنح إلى تفضيل نفسها على ما سواها من الأمم الأخرى، وتعد آدابها وعاداتها وأخلاقها هي المقياس الصحيح الذي يجب أن يقاس به آداب العالم وعاداته وأخلاقه، وتعتقد أن الله لو جعل الناس أمة واحدة. لاختارها لتكون تلك الأمة!.
وهناك رابطة أخلاقية تربط قلب السوري بقلب أخيه المصري. وتذلل بينهما أسباب التعارف والامتزاج، وهي أن السوري سريع الاختلاط بأهل البلد الذي يستوطنه والوسط الذي يعيش بين ظهرانيه، وهذه لعمرك مزية إنسانية. لا تحدها حدود الوطنية، وإنما تحدها حدود الآدمية كلها. وما أعرف فضيلة هي خير مقاماً من حب الاختلاط بالناس، فلو لم يخلق الله الهواء خليطاً من الأكسجين والنتروجين، لاحترق العالم. والتهب عنصر الوجود، وكذلك لو لم يختلط فكر الإنسان ومزاجه بفكر غيره ومزاجه. لاحترق وأحرق معه جهازه الجثماني. والعالم من أقصاه إلى أقصاه يسير على مبدأ الاتصال. وإلا فلو قامت كل أمة بنفسها. ولم تعمل على مواصلة غيرها لما عدت الدنيا أن تكون غابات كثيفة. يسكن كل غابة منها نوع غريب من أنواع الحيوانات الإنسانية.
وقد ذلل للسوري اختلاطه ببني الأمم الأخرى الشرقية منها والغربية ما أودعه الله في مزاجه الهادي من محاسن الآداب. وما محاسن الآداب إلا الجواز الذي يبيح لصاحبه الدخول إلى باحات القلوب والاستقرار في حبات الأفئدة. إذ كانت القلوب البشرية لا تفتح موصد أبوابها إلا لذي الصفحة المشرقة. والوجه البش المبتسم والقول اللين الكريم. والخلق السهل الذلول. وقد أوتي السوري من هذه جميعها القسط الأوفر والحظ الأجمل الأكمل.
والأمة السورية اقبل الأمم الشرقية للرقي الغربي. وأكبرها استعداداً للتطور المدني. وهي تجري مع روح العصر نازعة قيود الماضي. خالصة من سلاسل المبدأ الشرقي القديم، بل هي الأمة الشرقية الوحيدة التي امتازت بقوة الدأب وروح المثابرة. وإنك لترى السوري عند خط الاستواء في ذلك الجو الملتهب والحر الأبدي والقيظ الصامت أو عند مناطق(17/36)
الجليد الشديدة الزمهرير. يجد ويعمل لا مستشعراً فتوراً ولا كلالاً. ولا واجداً نصباً ولا رهقاً، لأنه يستعين على المكاره، ويستنصر على المشاق بروح قوية جعلت شعارها ذلك المبدأ العظيم الذي سنه بونابرت بقوله: لا شيء في الحرب يعجزني فإن عز على صانع البارود صنعته وإذا أعوزني صانع المدافع والبنادق كنته، وأنا كما تعلم مدبر الأمر مصرف الملك.
وبين أيدينا الآن ترجمة رجل من أفاضل السوريين وكبير من أكابرهم، وعظيم من خلاصة عظمائهم، توفر على حبه مصر والمصريين وحبس عصارة الحياة من علم وأدب وفضل ومال على كل مشروع مصري. وعمل خيري ومبرة عظيمة كبيرة، مع أنك ترى كثيراً من أغنيائنا وأصحاب الألوف المؤلفة فينا يسيرون على مبدأ الحياد!. فلا يقوم في الأمة مشروع إلا خذلوه بصمتهم. ولا تنهض لنا نهضة حيوية إلا أماتوها بجمود أكفهم، فالأمة بهم فقيرة وإن كانوا سراتها، والأمة بهم معدمة وهم علم الله عدمها، وماذا لعمرك ترتقب منهم من نفع، وماذا ترتجي من فائدة. والعقول ناضبة، والأكف جعدة، والجيوب ممسكة، والأيدي إلى الأعناق مغلولة، وهل كانت الأمة لتقوم إلا بحبيب الموسر وعقل المفكر. وما يقوم العقل في خدمة المجموع دون الحبيب، ولا أثر له ولا فائدة بحتة إذا لم يعضد بالمال، ويعان بجود الجواد. وصفد الصافد، وعطاء السرى، ورفد الغني، وإلا فلو أصبحت الأمة وكلها عقول تفكر، وأذهان تدير. وآراء تفيض وتسح، وخواطر تتابع وتسنح، ولم يفض من جيوب الأمة جيب، ولم يهتز للندى غنى، ولم يقبل على تعضيدها موسر، إذن لضاع فيض هذه العقول وتكلبها سدى وهقاء، كما يضيع الجدول الفضفاض في رمال الصحراء، وإذن لوقفت الأمة عن سيرها، ولزمت مكانها لا ترى لها محركاً، ولا تجد لأمرها ملاكاً، ولا تبصر لنفسها قواماً، وإذ ذاك تنحط ورح الأمة وتضعف عزيمتها من جراء هذه الخيبة المتواصلة التي تصدم بها كلما قام مشروع، أو تأسست للخير جمعية، أو أنشئت لتعميم التربية والتعليم جامعة أو كلية، ويكفيك من عاقبة هذا الانحطاط النفساني إنه مقدمة للانحطاط الفكري، فإن العقول من هذا الفشل المتتابع تهرم وهي في حدثاتها. وتضعف وهي لا تزال في عنفوانها، ولا تلبث إلا ذهان الخصيبة أن يصيبها الجدب لقلقهما تجد من رى، وتشهد من عناية ورعى، إذ كانت الفكرة الواحدة في عقل المفكر مثتاثا تلمذية كثاراًُ(17/37)
من قويم الأفكار، وتنتج ترباً كبيراً من رشيد الآراء.
فلا غرو إذا قلنا أن ميشيل بك لطف الله أكثر من المصريين مصرية. وأشد من الوطنيين السراة وطنية. بعدما رأينا من جمود أكثرهم، وضنهم بحق الأمة عليهم، وبذلهم فيما لا ينفع الأمة ويضرهم. وإسرافهم حيث لا ينبغي الإسراف. وشحهم حيث لا يخمد الشح، وبعدما رأت الأمة المصرية جمعاء، من صاحب الترجمة الجواد الفياض، والكريم اليد والخلق، والشريف الروح والوجدان، والرجل العامل في سكون واطمئنان، لا يبقي كغيره من الموسرين بمكارمه المظاهر الكاذبة! ولا يروم بمآثره العامة الأبهة الجوفاء، ولا يسأل على ميراثه من الشهرة أجراً ولا جزاء. وعنده أن اللذة الروحانية بتعضيد الأمة وشد أزرها خير من لذة الجثمان باقتناء السيارات، وابتياع فخم المركبات، وشراء الجياج الصافنات، والجلوس إلى غرير الجواري وحسان القينات والتمتع بأطايب النعم وأفانين الملذات، علم أن الإنسان إن لم يرتفع إلى صف الملائكة انخفض إلى صف الشياطين، فأبت طبيعته إلا الارتفاع لا الانخفاض، وشاءت سجيته إلا الروحانية لا الحيوانية، فكان منه الإنسان الروحاني الكريم العواطف العظيم المشاعر والوجدانات، ولعمري هل انتقلت الإنسانية من همجيتها الأولى إلى حالها اليوم من حضارة وعمران، إلا بأولئك الروحانيين كبار النفوس المتجردين عن الحيوانية الذين ازدان بهم كل عصر من عصور التاريخ، وازدهى كل جيل من أجيال البشر والذين لولاهم لكنا اليوم ساكني الكهوف والأجحار، ورواد الغاب والجبال، ومعاشري الأوابد والأوعال، ثم دعك من ذكر الجماهير فإن من الخطأ لبين أن تقدر الأمة بتعدادها وتوزن بأحصائها وتقاس بآلاف الأميال المربعة من طولها وعرضها، وإنما ينبغي أن تعتبر بأهميتها في الجيل الذي هي فيه والقرن الذي تقطعه، ولا تكون هذه الأهمية إلا بأولئك الأفراد القلائل الذين إذا ظهروا في الأمة فكأنهم سكان الأمة وكان تعدادها تعدادهم وليت شعري لو كان الثلمائة الأسبارطيون وقفوا يوم ثرمو بوليه إزاء مثلهم من الفرس لا إزاء مليونين أو يزيدون. فاستكانوا لهم. وأخذوا بكثرتهم. فهل كان الأمر يكون في الحالين سواء في تاريخ الإغريق. وإن شئت فقل في تاريخ الإنسان ولقد أصاب رجال نابوليون العظيم إذا كانوا يدعونه (بالمائة ألف) ولو كان بونابارت رجلاً أميناً لما عتموا أن دعوه (بالمائة مليون).(17/38)
ولد صاحب الترجمة في القاهرة قبل الثورة العرابية ببضع سنين، فلا جرم أن ينشأ على حب مصر، ولا عجب أن يشب على مودتها. ويغتذى من محبتها، ولا بدع أن تراه بالمصريين مشغوفاً، وبخدمتهم صبا، وبالانتساب إلى مصر فخوراً، إذ كان منشأ الحب الائتلاف، وباب المودة الاختلاط، وقد يفضل المولد على الموطن، وقد يؤثر الصديق على القريب، ويستحب على ابن الجلدة الغريب، وذلك تبعاً لكثرة المخالطة وقلتها، وطول الملازمة وقصرها، ولعل صاحب الترجمة ورث حب مصر عن أبيه، وأخذه عن والده، فإن أباه حبيب باشا لطف الله جاء من بيروت مولده إلى مصر حوال عام 1852 فتخذها عن حب موطناً، ونزل بأسرته الكريمة عليها ضيفاً عزيزاً حتى إذا استتب به المقام اشتغل في تجارة الصادرات والواردات بين إنجلترا والهند والسودان في سن الفيل والعاج والصمغ والأقمشة.
فلما استمكن من فؤاده حب هذه البلاد ونعم بجناب أهلها. رأى أن ينقطع إلى سكناها. ويبقى على قربها، فاشترى له منذ ثلاثين عاما أملاكاً بها وضياعاً، ثم اعتزل التجارة بعد ذلك العهد بعشرة أحوال.
ولما ترعرع المترجم به دفعه والده إلى مدرسة اليسوعيين. ثم انتقل منها إلى مدرسة الفرير ثم رحل عنها إلى المدرسة التوفيقية وتوجه بعد ذلك إلى بيروت ليتم الدراسة بكليتها وعاد بعد حين إلى مصر فدخل مدرسة الحقوق الفرنسية. فلما شعر والده بالحاجة إليه دعاه قبل أن يتم دروسه في الحقوق إلى مشاركته في إدارة أعماله المالية. ولا أظن أن والده أساء صنعاً أو أخطأ شاكلة الصواب. فإن الشهادات المدرسية لا تزيد في شخصية الرجل. ولا ترفع من قدره. بل قد تفسد في بعض الأحايين شخصية حاملها وأخلاقه. بما قد تدخل عليها من زهو وعجب وغرور وخيلاء. فكم رأينا من طالب كان قبل أن يحرز شهادته على نصيب وافر من طيب الأخلاق. وعذوبة المحضر. ولين الجانب. فلما سقطت عليه الشهادة الدراسية إذ به انقلب صلفاً مزهواً فاسد الروح. شموس العطف. مصمر الخد حتى لكأنما قد فاز عند الله بالشهادتين!!.
وليست شهادات الليسانس والدكتوراه والدبلوم وغيرها بالمقادير التي تقدر بها أنصبة محرزيها من العلم، وأقساطهم من الإطلاع والأدب. ومواهبهم من العبقرية والذكاء وهؤلاء(17/39)
حملة الليسانس وأخوانها من عليا الشهادات يعدون في هذا البلد بالعشرات والمئات لا نسمع لهم صوتاً. ولا تشهد لهم آراء. ولا تجد لهم فضلاً. اللهم إلا أفراداً نوابغ. نضجوا خارج المدرسة وذكوا خارج الدرس ونبغوا دون الشهادة وتوفروا على العلم للعلم لا لوظائف الحكومة. وأخلدوا إلى الإطلاع والآداب. لا للشارات والألقاب. بهم تنتفع الأمة وبهم تسود.
ولم ينشب المترجم به إن دخل في الحياة العمومية لأن العظمة الشخصية لا ترضي العزلة. ولا تسكن للانفراد. ولا تطمئن للوحدة. فإنك أن تضع القطعة المغناطيسية جانباً ولم تقر بها من قطع الحديد وسبائك المعدن. لا تجدها تمتاز عن سائر أنواع الحديد والرصاص، ولا تعرف عن بقية المعادن بامتياز واختصاص فمن ثم انتظم المترجم به في سلك عدة جمعيات سورية أنشئت للخير وأسست للغوث والبر. على أنه لم يلبث أن أقال نفسه. ونفض منها يده. إثر خلاف قام بينه وبين أعضائها على وجوه هذا الخير الذي اجتمعوا له. وطرق البر الذي نصبوا أنفسهم للانفاق منه. وكان رأيه أن تصرف أموالها على الفقراء من جائع عان. وظمآن هيمان. وعار لهفان. ومريض أسوان. ومنكوب مهان. وكان غرضهم أن ينشؤا الكنائس ويبتنوا البيع والمعابد وما كان رأيه إلا الرأي الحصيف. وما كان مقصده إلا المقصد الشريف، لأن الفقراء والمحرومين هم الفتوق التي تشوه ثوب الإنسانيه. بل هم في جثمانها الجراح الدامية وما خلق الله عظماء الرجال إلا لرتق هذه الفتوق. وتضميد هذه الجروح. وما برأهم ألا ليكونوا للناس محسنين وأساة. فلا تستمع بعد للفلاسفة المختلطين القساة. ولا يغرنك صيحاتهم أن اقتلوا الضعفاء. وأبقوا على الأصلح. واتركوا العالم للأقوياء فهؤلاء نظروا إلى الدنيا من خلال زجاجة سوداء، فبدت لأعينهم كذلك مظلمة، ولو صدع بأمرهم. واتبع رأيهم. لكانوا عمرك الله أول ضحاي هذا الرأي. وأول ذبائح هذا المذهب الدموي. ثم أين تلك القوة المطلقة التي لا يشوبها شيء من الضعف. بل أين ذاك الضعيف الذي لا يعتريه شيء من القوة. وليت شعري ما أعانه الملهوفين وإغاثة المكروبين. وإعالة المنكوبين. إلا أحسن صنوف العبادة. وأصلح ضروب التسبيح والتكبير، وماذا يعني الإكثار من المعابد والكنائس والمحاريب والله قد خلق هذه الأرض جميعاً لتكو مسجده وكنيسته ومحرابه، ولقد أصاب دكنز القصى الكبير إذ وصف الإنسان بمعبد الله.(17/40)
ولم يخرج المترجم به من هذه الجمعية إلا ليدخل جمعية أعظم خيراً وأوفر بها. وأكبر قدراً. وأعلم أثراً. جمعية الهلال الأحمر، تلك الحسنة الكبرى التي جاءت بها المدنية الحاضرة فجعل على خزائنها واختير أمين صندوقها، فكم من جراح برأها وكم من طعنات نجلاء لمها، وكم من نفوس كانت على شفا الموت فأنقذها، وكم من أرواح أوشكت أن تفيض فأمسكها، وما يشق المشرفي جرحاً الأسد بدينار من ماله. ولا تجري دماء جريح إلا أوقف جريانها بضماد من عطائه، ذلك هو العمل المبرور والسعي المشكور ومن أحيا نفساً فقد أحيا الناس جميعاً.
ولا تنس حفلة الطيران واحتفاءه وأسرته بمقدم الطيارين العثمانيين وإكرام مثواهما وإحسان وفادتهما وكان في جمعية الاحتفال أمين صندوقها فأعانها بماله وعضدها بحسن إدارته، وهو اليوم يشتعل في نقابة زارعي الأقطان المصرية للدفاع عن مصالحهم. وهناك حسنة كبرى لا تحد بحدود ولا تقاس بمقياس ولا توزن بميزان، تلك أن الحكومة كانت بادئ بدء لا تقدر على اعتبار إخواننا السوريين عنصراً من العناصر المصرية وكان قانونها النظامي لا يبيح تعيين أحد منهم نائباً في الجمعية التشريعية، فكان من سعى المترجم به واجتهاده أن أقرت الحكومة على اعتبارهم عنصراص متمماً للأمة، وبذلك ألف بين القلوب وربطها برباط من الأربطة السياسية الوثقى بعدما وصل بينها وأخي الحب الأهلي وأواصر الصداقة وأسباب الألفة والود، وناهيك بذلك من عمل سياسي مجيد.
وهذه الأسرة اللطفية الكريمة تتألف اليوم من والد المترجم به سعادة المفضال حبيب باشا لطف الله، والمترجم به وإخوته. وقد أنعم عليه الجناب العالي بالرتبة الثانية وكذاك أنعم عليه الشاه الحالي بوسام السير خورشيد.
فترى أنت من هذه الفذلكة المجملة أن صاحب الترجمة يعيش للأمة ويحيا لحياتها ويعمل لا لنفسه وإنما لرقبها مؤثراً رخاءها على رخائه مفضلاً مصلحتها على مصلحته علم أن للأمة حقوقاً على الفرد. فأبى الآن يقوم بواجبات ألوف الأفراد.
ونحن فلو أردنا أن نبسط لك جملة من سديد آرائه وطائفة من جليل خواطره لما وسعها إلا كتاب كبير، فحسب القارئ منها أن نذكر أن أكبر أماني المترجم أن يثبت على الزمن فساد تلك الكلمة المتداولة اتفق الشرقيون على أن لا يتفقوا ويرى أن خليقاً بالشرقيين أن يجتمعوا(17/41)
ويتفقوا ويتناصروا إزاء هذا الغربي الجارف دون ملاحظة الفروق الدينية والجنسية حتى لا يكون ثم موضع للمشاحنات الباطلة لتي لا ترد ولا تجدي. وإنما تجلب الضرر الكبير.
وربما عدنا إلى تفصيل أرائه وخواطره. وتوفيتها قسطها من الشرح والبيان والتعليق.(17/42)
العدد 18 - بتاريخ: 31 - 6 - 1914(/)
تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية
سعد زغلول باشا
نحن الآن إزاء تاريخ مصر الحديثة كله مجتمعاً في تاريخ رجل. بل نحن الآن حيال ترجمة الأمة مجتمعة في ترجمة واحد. وكأني بالقوة الأزلية تراعي وجوه الاقتصاد في خلق الناس وتوزيع ثروة العقول عليهم. فهي إذا شاءت أن تخلق عظيماً. أو أرادت أن تجود بعقل جبار. جمعت إليها آلافاً من العقول الإنسانية فدمجتها في عقل جبار عظيم. ولقد يمر الجيل فيعدو إلى القرن. والأقدار لا تزال تهيئ للأمة عقلاً مفرداً هائلاً يغنيها عن نصف عقولها. ويكون بمثابة الغذاء التاريخي لها. هذا ونساء الأمة في كل ساعة يحملن. وحبالاها في كل يوم يلدن. ومرضعاتها في كل لحظة يرضعن. وإنك لتقرأ إحصائية المواليد في الأسبوع الواحد. فترى العشرات والمئات قد خرجوا للعالم من منابت مختلفة. وأصلاب وترائب متباينة. فما يخطر ببالك أن سيكون من هذه الأدمغة الصغيرة عقل للأمة كبير. ثم انثن فاطلع إلى إحصائية الوفيات تجدها لا تزيد ولا تنقص عن تلك إلا شيئاً يسيراً. فمن ذلك تعلم أن الطبيعة تزيد على عدد الأمة في صبحها ما تنقصه منها في مغربها. لكي يطرد بها بقاء التوازن الحيوي في الأمة. ثم هن جاءك نبأ أمة الصين. وهل سمعت بتعدادها. وهل علمت أن قد مضي ما يربي على ألفي عام. والأقدار لم تصغ بعد من هذه الملايين العديدة رجلاً آخر على مثال كونفوشيوس. فكأنها لم تطبع من كونفوشيوس إلا نسخة واحدة.
فإذا ما أخرجت الأمة عظيماً. فكأنما لم تتسع في عهده إلا له وحده. وكأن روحه وعقله وأخلاقه ومميزاته عدسات تبصر منها أمته عقلها وأخلاقها ومميزاتها. وكأنه يجلو بصر كل منا، ويزيل عن عينيه حجاب الأنانية فلا ننظر إلا له ولعظائم فعاله. ولا تكون الأمة منه إلا كما يكون من الصبية إزاء معلمهم، إذ كانت الحياة تجري على قاعدة مدرسية بحتة. والناس يحترمون عظيمهم لأنه أبدع قالب يحاولون أن يصوغوا أنفسهم على نحوه ومثاله.
ونحن بني الدنيا نعيش ونتغذى من العظمة. ونحس في وجود العظيم بيننا أنا جميعاً عظماء. ونشعر في حضرة العقل الكبير أنا بجملتنا جمع عقلاء. لأنه ينبه منا خامد عقولنا. ويثير في قلوبنا هاجع حميتنا. ويوقد بين أضالعنا فاتر أرواحنا. ويكرهنا على أن نتناول(18/1)
كل عمل بعمله بحثاً وتفكيراً. ويريدنا على أن نتداول كل كلمة يقولها شرحاً وتفسيراً. ويطالبنا بأن ننهض لحسناته تحبيذاً وتفكيراً. لأن الناس يستحبون الحمية، وإن لم يكونوا هم مادتها. ويتطلبون الحرارة النفسية، وإن لم يكونوا هم أنفسهم نشأتها. ولا تقوى أعصاب الأمة إلا بالمصل الذي يحقنها به قادتها. ولا تشتد عضلاتها إلا بالحركات الرياضية التي يمرنها عليها رجالاتها، وكان خليقاً بقادة الشعوب أن يكونوا أعلم بطب النفوس، وأخبر بالأدوية النواجع التي توافق أمزجة شعوبهم.
هذا ولو لم تكن الجمعية التشريعية تضم بين أعضاءها صفوة رجال الأمة، وخلاصة مجموعها. لما رأيت من عرض الأمة فرداً واحداً متنبهاً متيقظاً. ولأسدل السبات ستره على الأمة والجمعية معاً. فلا تكون محاضر الجمعية إلا مواعيد نوم تبتدئ وتنتهي بدقات أجراس أول من ينام وأول من يصحو من أعضائها، وإذن لما سمعت في النوادي والمجتمعات والأسمار هذه الشروح القيمة. والتأويلات الجليلة. والاستنباطات الدقيقة والاستنتاجات الثمينة. والاقتراحات السديدة. والآراء الوجيهة. التي يلقاك بها القوم على اختلاف طبقاتهم. وتباين أقدارهم. وتعدد أوساطهم. ولما رأيت نبض السياسة على ما شهدت من قوة. وعاينت من ضربان وانتظام.
وهذه الروح السياسية القويمة: وهذا التطور الفلسفي الذي وثبت إليه الأمة: هما فيض من روح رجل عظيم: كان أكبر ثمرة جادت بها الأقدار على هذا البلد المجدب رجالاً: الخصيب زرعاً، المريع نباتاً: بل هو المادة الواسعة التي يتغذى منها تاريخ مصر الحديث: وهو الكوكب الإنساني الذي في كل قلب مصري منه وميض: وفي كل عقل مصري من سناه قبس وضياء. وفي كل نفس مصرية من وهجه شعاع ولألاء. ولا أحسب القارئ يعوزه بعد ذلك التفهيم. ولا ظنه بحاجة إلى زيادة الإيضاح والتبيين: - بلى: هو سعد زغلول باشا قائد الأمة اليوم: ووزيرها بالأمس: وقاضيها من قبل ذلك ومحاميها، بل هو أول محام راح في الأمة قاضياً: وأول قاض كان وزيراً: وأول وزير أضحى في هذا الجيل نائبا!.
وأنت فستقرأ في الصفحات الآتية تاريخه الحافل بالعظائم: وتعي ترجمته المترعة بالمحاسن والمكارم: فتتبين لنفسك كيف يكون العظيم في قوة الإرادة: وما قوة الإرادة إلا(18/2)
انتصار للقوة الإلهية الكامنة في الإنسان: وما القوى في إرادته إلا من يكون لنفسه قانوناً وشرعة ونظاماً: يعلم علم اليقين أنه إذا نزل على رأيك وحكمك: وعمل بأمرتك وإرادتك: وخضع لسيطرتك وسلطتك: عطل فيه الإرادة التي تحركه: وأفسد على الله الميكانيكية التي ركبها فيه لتسيره: وكأني بقوة الإرادة من النباتات التي قل ما تنمو في هذا الجو المصري، وندر ما تطلب في تربته: وإنك أن تظفر من القوم برجل قوى الإرادة. فكأنك ظفرت منه بمادة هذه القوة وعنصرها: ومن ذا الذي ينكر على صاحب هذا التاريخ أنه في طليعة من ذكت قوة إرادتهم: واشتد في نفوسهم الاستقلال في الرأي: وقليل هم.
ولا يغيب عنك قوة منطقة وسحر بيانه، وشدة عارضته: فكأنما يكسب قضيته في ذاكرته. قبل أن يقف لها في ساحة المحاجة والجدال: كما كان نابوليون العظيم يهزم عدوه فوق خريطته الحربية: قبل أن تضمه وإياهم سوح الحرب: وتجمعه بهم ميادين القتال.
ولد سعادة سعد زغلول باشا بناحية أبيانا من اعمال مركز فوه عام 1860: فهو اليوم في الحول الرابع والخمسين، ولكنك لو أشرفت عليه لرأيت ثم شيخاً أشيب يسند في حدود السبعين، وكذلك عظماء الرجال تذيب جسومهم تلك الحرارة المتأججة في أجوافهم وجنوبهم وكلما ازداد ضرام تلك الحرارة الروحانية. استمد وقوده من اللحم والدم. وأنت فلا ترى رجلاً نابغة إلا وجدته أبداً أكبر من عمره الحقيقي. حتى أنك لتلقى الشاعر العبقري - والشاعر أحر خلق الله روحاً، وأكثر علباد الله توهجاً - يبدو لك في مظهر الشيخ الوقور. وهو لا يعدو أن يكون شاباً في مقتبل العمر وحداثة الشباب. ولشد ما يخطئ الناس إذ يقدرون عمر الرجل العظيم كما يقدرون أعمار سائر البشر. كأنهم لم يعلموا أن دقيقة العظيم تعدل يوم غيره.
فلما حبا إلى السابعة من عمره دخل مكتب القرية وظل به حوال خمسة أعوام. ثم شخص إلى دسوق لتجويد القرآن فجوده علي الشيخ عبد الله عبد العظيم. وكان أخوه الرجل الطيب الشناوي أفندي زغلول يومذاك رئيس مجلس مركز دسوق. ولم يلبث المترجم به في دسوق طويلاًَ بل جاء إلى القاهرة موطن عظمته ومهد شهرته ومعهد نباهته ودخل الأزهر ولبث يتلقي فيه العلوم خمس سنوات، وكان السيد جمال الدين الأفغاني حينذاك بالقاهرة، فلم يكد يستقر بصاحب الترجمة المقام في القاهرة حتى تعرف إليه وإلى تلاميذه أمثال المرحوم(18/3)
الأستاذ محمد عبده والهلباوي والباجوري والشيخ عبد الكريم سلمان فتلقي على الأستاذ محمد عبده القطب على الشمسية وبعض كتب في التوحيد وكان الأستاذ إذ ذاك من علماء الأزهر، ثم تعين بعد ذلك صاحب الترجمة محرراً في الوقائع المصرية وكان يرأس تحريرها الشيخ عبده وكان من بين كتابها ومحرريها الشيخ سلمان والسيد وفا زغلول شقيق نصر بك زغلول المحامي، وأقام في تحرير الوقائع سنة وبضعة أشهر يكتب بتوقيعه مقالات في الاستبداد والشورى والأخلاق وكان قبل تعيينه في الوقائع المصرية قد لخص كتاب ابن مسكويه وطبع منه أغلبه، وكان يكتب مقالات في جريدة مصر وكان يديرها ذلك الكاتب الحمي الأنف الألبي القلم أديب بك إسحق وكان بين الذين يتابعون تلك الجريدة من الكتاب سليم نقاش وكذلك كان يوافي بكتاباته صحف البرهان والمحروسة والتجارة وكلها كانت للمأسوف عليه سليم نقاش وكان الشيخ حمزة فتح الله يكتب إذ ذاك في صحيفة البرهان.
والقارئ يرى من ذلك أن المترجم به بدأ حياته العظيمة بشباه القلم وسنان اليراع يستنفد في جميع ما يكتب عصارة ذلك الذهن القوي بطبيعته الذي لا عون له إلا روح الزمن. ولا خلابة له إلا من روح صاحبه، وماذا أنت متصور من مبلغ سحر كاتب يكتب ليستمع لرنات براعته وتوقيعات قلمه أمثال أديب إسحاق ومحمد عبده وسليم نقاش ومن علمت من الفحولة الأعلام، ولعمري ما كانت الصحف وقتذاك كما ترى منها اليوم يتهجم على ميدانها التلميذ والسوقة والكاتب الفج والدعي والغبي والركيك حتى لا تكاد تقرأ في كثير منها بعد أحداث اليوم وأنبائه إلا موضوعات إنشائية لعلها نماذج المعلمين في المدارس. ولا تأخذ عينك بين أعمدتها وأنهارها إلا قصائد نسيب يصف فيها بعض هؤلاء الرصاصين وجه حبائب ولدن لهم في مخيلاتهم يشيبون بوجوه لهن سافرات - وإلى جانب هذه القصائد السافرة مقال مطول في وجوب الحجاب! - إلى آخر ما يقرع سمعك من كل مضحك مبكي.
ولا تعجب بعد ذلك إذ تعلم أن مقالات صاحب الترجمة في الوقائع والبرهان كانت من مهيئات الثورة ومضرماتها. فكأنما ألقت إليه الأقدار ذلك القلم الذي وضعته من قبل بين أنامل جان جاك روسو. فأقام به العالم وأقعده.(18/4)
وعين المترجم به بعد تحرير الوقائع معاوناً في الداخلية ثم ناظراً لقلم قضايا الجيزة على أنه لم يلبث بذلك القلم إلا بضعة أسابيع حتى إذا فصلت الثورة العرابية. فصل من وظيفته. وكان انفصاله بتهمة أنه من تلاميذ الشيخ محمد عبده وأنه من المنتمين إلى المرحوم البارودي واكتفوا من عقابه بفصله.
ويجمل بنا أن لا ننسى تلك الحسنة الكبرى التي أسداها المترجم به إلى اللغة إذ كان يصحح ركيك المقالات. وقاسد الأساليب وعاثر العبارات، التي كانت تنتهي إلى الوقائع أيام كان من محرريها. فكان ذلك درساً عملياً لنشر اللغة، واتساع نطاقها. وإبرائها من ذلك الاضطراب العامي الذي يأبى أشباه العامة إلا أن تصاب اللغة منه بعدواهم. وكانت طريقته في ذلك أن ينشر الرسائل بنصها. ثم يجيء بعدها بما هو أصح منها لغة وأفصح سياقاً. حتى يتبين الصحيح من المعتل. وينكشف السليم من المختل. وحتى يعلم الذين في ألسنتهم مرض - لا زادهم الله مرضاً. إن بضاعتهم قد بان فسادها، وإن تجارتهم اللغوية قد وضح وكسها وكسادها - ونحن أن تعجب فعجب لهؤلاء الذين يأبى العرف اليوم إلا أن نسميهم من باب المجاز كتاباً وإنك لتشفق عليهم أن يبدو للناس عوارهم فتفتح لهم عبارة قد فسدت أو جملة ركت أو اصطلاحات أخلقت أو تراكيب ابتذلت على أنهم ما يزالون يريدونك على تهريب هذه المواد المحظورة ونشرها على حساب اللغة وحساب ضميرك ثم هم بعد ذلك ساخطون غاضبون لأساليبهم العصرية في حسبانهم وهي أن انتسبت إلى أي عصر لبرأ إلى الزمن كله من الانتساب إليها، وإذا أنت جئتهم من جانب النصخ والاستدارك تشفع بعضهم لك أنهم إنما يكتبون موضوعات علمية، فكأنما قد كتب على أبواب الموضوعات العلمية ممنوع دخول اللغة الصحيحة. . .
وما كان من تلك الطريقة المثلى التي سنها المترجم به إلا أن صحت لغة الدواوين من علتها وقامت نهضة مدهشة في مصالح الحكومة بلغ منها أن سواد الموظفين كانوا يهرعون إلى المدارس الليلية لتعلم اللغة العربية الفصحى.
ثم دخل في سلك المحاماة مع المرحوم حسين أفندي صقر وكان هذا رئيس قلم في نظارة الداخلية ثم فصل بسبب الثورة فانتقل صاحب الترجمة معه في المحاماة أمام المجالس الملغاة ولم تكن المحاماة في ذلك الحين شفوية بل كانت بتقارير تتبادل بين طرفي الخصوم(18/5)
أو وكلائهما، ثم إنهم بالاشتراك في جمعية سرية كان قد ألفها شخص فرنسي جاء من الجزائر واجتمع ببعض القوم في مصر فأقاموا منهم جمعية سرية سموها جمعية الانتقام، على أن هذه التهمة التي قرفوه بها والظنة التي أخذوه بأسبابها لم تكن لتروعه ولم تكن لترهبه لأن الرجل الكبير كالكرة المطاطية تقذف بها إلى الأرض وتأبى هي إلا سمواً وارتفاعاً ولا ترى النهم تروج إلا حيث يروج الكذب ولا يروج الكذب إلا حيث تذل النفوس وتفسد الطبائع والناس كما علمت يحبون التهم الحب كله ويخفون للظنون ويبتهجون. وهم لا يريدون فيها قضاة ولا يسألون عليها دفاعاً ولا يطلبون لها شهوداً ولا محلفين لأنهم يخافون أن يفسد التحقيق عليهم تلك اللذة النفسانية التي أحدثتها التهمة فيهم. فإذا ما برأ القضاة متهماً فاعلم أن في الناس الوفا لا يزالون يعتقدون بإدانة ذلك المتهم البرئ.
ولا جرم أن تكون التهمة التي تجنوها على صاحب الترجمة أفك أفاك وقرية مفتر وانتقام حقود. وهل كانت الطبيعة القوية الوثابة التي فطره الله عليها. لنستطيع أن تعمل ساعة واحدة في ظل المكامن والمخابئ. هذا ولم يكن لصاحب الترجمة معرفة بأحد من رجال هذه الجمعية ولا من أعضائها ولكن لما اكتشفت الحكومة أمر هذه الجمعية وقبضت على بعض زعمائها سنحت لبعض رجال الحكومة الفرصة لمطاوعة فعمدوا إلى الانتقام من أعدائهم فكأنهم لم يكتشفوا جمعية الانتقام إلا ليقيموا لأنفسهم مثلها!.
وكان من الذين استهدفوا لشره هذا الانتقام صاحب الترجمة وشريكه المرحوم حسين أفندي صقر. وتألفت لجنة لمحاكمتهما مع زعماء هذه الجمعية من بعض القضاة الأجانب الذين جيء بهم من بلجيكا للاشتراك في تشكيل المحاكم الأهلية تحت رئاسة قاض منهم يسمي فلمنكس وعضوية مسيو دهولس الذي كان مستشاراً في محكمة الاستئناف وانفصل عنها منذ زمن قريب. وحسين بك واصف - حسين باشا واصف الآن - والمرحوم حامد بك محمود ومحمود بك سالم. فلما تناولت اللجنة القضية وبحثتها تبين لها براءة صاحب الترجمة وشريكه وعجبت لإدخالهما في هذه التهمة النكراء. وأقرت بأن لا وجه تمت لإقامة الدعوى عليهما ولامت الحكومة على أنها مهما ظلما وعدواناً وأمرت بإخلاء سبيلهما للتو واللحظة، وقد لبثا في السجن سبعة أيام. على أن الحكومة لم تنفذ هذا الأمر بل أبقتهما 98(18/6)
يوماً وحاولت نفيهما إلى السودان وأعد عثمان باشا ماهر المعروف بالسنيورة محافظ مصر وقت ذلك مشروعاً بذلك تقدم إلى مجلس النظار ولكن المجلس لم يقر عليه إذ لاحظ المرحوم فخري باشا ناظر الحقاقية إذ ذاك أن النفي المطلوب يعد ضربة للقضاة الأجانب الذين التجأت مصر إلى عونهم على توزيع وجوه العدل في هذا البلد ولاسيما أن القرار الذي أصدروه بأن لا وجه لإقامة الدعوى كان باكورة أعمالهم. ولكن على الرغم من هذه المعارضة ظل المترجم به رهن المحابس حتى رفعت ظلامته إلى المستر مكسويل وكان نائباً عمومياً أمام المحاكم الأهلية فأخذه العجب لذلك وأمر على الفور بإطلاق سراحهما فكان ما أمر.
وعاد المترجم به بعد أن ردت إليه حريته الشخصية إلى الاشتغال بالمحاماة مع شريكه وكان ذلك إبان افتتاح المحاكم الأهلية وكان أول من تقيد اسمه في محكمة مصر محامياً وكان ذلك عام 1884.
وانفسخ إذ ذاك المجال في قضايا الجنايات للقوة الخطابية وبدأ المحامي يدلي بدفاعه أما منصة القضاء ويبسط حججه بلسانه ويستنصر ببلاغه مذوده، وهنا تجلي للناس صاحب الترجمة يحمل تحت لسانه وفي تضاعيف صوته موهبة عظيمة الشأن جليلة القدر كانت حرارتها من قبل ذائبة في مداد قلمه، وإذا به ذلك الخطيب المفوه العظيم الذي إذا خطب الناس قاد آراءهم وقاد مع آرائهم إرادتهم، وإذا تكلم رفعهم فوق أنفسهم وأحدث فيهم قوة جديدة لم تكن تجري في شرايينهم وإذا أراد أن يهزم أفكار سامعيه، ويفتح أذهانهم نثر فيهم روحه فكلهم إذ ذاك قطعة منه لا تزال تنجذب إليه بقوة المغناطيسية المنطقية.
وكانت صناعة المحاماة في ذلك العهد على أسوأ حال وأحقر مكان وأحط قدر لا يلقي بنفيه في تيارها الكدر إلا الذين استهدفوا لسوء القالة وشين السمعة وخسران الكرامة وقد كان من ضعف ثقة القوم بأهل هذه الصناعة وخشية شرهم ورهبة ضميرهم وإذاهم أن لقبوهم بالمزورين ودعوهم بالأشرار أو ما هو في اصطلاحهم العامي المرازين ولكن المترجم به كان العامل على تطهير سمعة هذه الصناعة الإنسانية الكبرى وإعلاء كلمتها والنهوض بها من عثرتها والسمو بها من كبوتها ورد كرامتها عليها، ولم يكن ليخشى على مكانته الشخصية أن يصيبها شيء من سوء تلك السمعة إذ لا يضير الفيل العظيم أن يكون مركباً(18/7)
للملوك والعظماء وما كان في ذلك إلا كالشمس تنفذ بضيئها إلى الأماكن الوخمة والقيعان الوبيئة والمراتع المظلمة فتبدو رخمها وتقتل جراثيمها وتهتك حجاب ظلماتها وترسل في جوها مادة الحياة وتنشر في منافسها مادة الصحة.
ولبث يرفع من شأنها يرفعة شأنه ويطهر ذكرها بطهارة ذكره حتى عام 1891 إذ سمعت مكانتها واستوسق لها أمرها وشرفت سمعتها وما كاد هذا العام ينصرم ويقبل العام التالي حتى اختارته محكمة الاستئناف نائب قاض بها وبذلك كان أول محام في مصر رفع قاضياً، وقد كان لهذا التعيين نشوة ابتهاج وهزة جذل بين لدانة المحامين فلما كان اليوم الثامن عشر من شهر يوليه عام 1892 أقام له جلة المحامين وخبرتهم مأدبة كبرى في نزل حديقة الأزبكية. واشترك معهم في تلك الحفلة الكبرى رئيس محكمة الاستئناف في ذلك العهد أحمد بليغ باشا وإسماعيل بك صبري - إسماعيل صبري باشا - وكيلها، وأحمد حشمت بك - حشمت باشا - الأفوكاتو العمومي للمحاكم الأهلية. فلما انتظم عقد الحفل انبرى رأس شعراء هذا الجيل سعادة إسماعيل بك صبري - باشا - فقال:
إن تعيين حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول عضواً في محكمة الاستئناف لدليل على أن المحاماة والقضاء إخوان رضيعا لبان، وغصتان صنوان، حتى لقد راقني أن أنمثل بقول أبي الطيب المتنبي:
هذي منازلك الأخرى نهنيها ... فمن يمر على الأولى يعزيها
ثم تلاه إسماعيل بك عاصم المحامي وإليك ما قال إما يعرف صلاح الأمة بصلاح الحكومة وإنما يعرف صلاح الحكومة بحزمها والحزم هو أن يوضع كل شيء في مكانه ويصرف في وجوهه وبابه أن تعطى الوظائف للخليقين بها انحطت وأية حكومة اتخذت ذلك الحزم قانوناً لها تقدمت وقد شاهدتا حكومتنا اليوم تعطي الوظائف في المحاكم الأهلية لمن هم أجدر بها وأصلح لها ولما كانت صناعتنا المحاماة مشتبكة مرتبطة بالقضاء فقد كان لنا جزيل السرور أن رأينا في محكمة الاستئناف الأهلية مثل سعادة رئيسها وحضرة وكيلها الفاضلين وبينا نحن منشرحو الصدر مثلجو الأفئدة لظهور هذا التطور والارتقاء في إصلاح خطة القضاء بانتخاب الأكفاء لها إذ رأينا الحكومة قد نشطت لحظة جديدة مثلى فانتقت من صناعة المحاماة أصولياً نابغة وهو حضرة سعد أفندي زغلول فعينته في محكمة(18/8)
الاستئناف ولم يكن قبل في صناعة دنيا فنقول اليوم أنه ارتقى ونهنئه على ارتقائه بل كان في مهنة شريفة سامية وكانت تفخر به وتزهى بجانبه فما كان من القضاء إلا أن نفسه علينا فضمه إليه من بين أظهرنا وكن ذلك دليلاً على انتهاج سبيل الإصلاح إذ كان سعد أفندي زغلول يصلح في الحقيقة لمنصب أرقى مما انتخب له وأسمى مكاناً.
وقد اجتمعنا نحن عصبة المحامين الليلة لنهنئ أنفسنا بانتخاب الحكومة لحضرة الفاضل في سلك القضاء ولنهنئ حضرته لأنه سيوجد مع رئيس اشتهر بصفات الكمال ومكارم الأخلاق وطهارة الذمة وحب الاستقلال وسعة العلم واعتذر إليكم أيها السادة لعجزي عن إبداء كل ما يختلج ضميري من الفرح والسرور الحقيقيين.
ثم وقف بعده المرحوم إبراهيم أفندي اللفاني فقال يا سعد وفي هذا اللفظ من معنى الإجلال والتعظيم ما يكفيني مؤونة المبال، فيا سعد قد عز علي القول في هذا المقام مع مالي من الأثرة والاختصاص بك والاحتفاظ بجليل فضلك إلى حد يحتبس معه لساني ويعجز عن الإفصاح والبيان، واقتصر الآن على أن أهنئك من قلب يخالطه الأسف عن انفصالك من بيننا، وقد كنت واسطة عقدنا وعلى قدر هذا الأسف تكون تهنئتنا على دخولك في سلك القضاء ولكن علام هل انتقلت إلى مقام تكون فيه أكثر ثراء وأوسع ديناً مما كنت فيه. كلا بل إلى مقام يحبس فيه رزقك على راتب زهيد فعلام إذن نهنئك - أم هل انتقلت إلى مقام تزاول فيه علماً لم تزاول أو تزداد سعة منه ووفراً وكنت فيه قصير الباع - كلا. . فعلام إذن نهنئك؟.
بلى. نهنئك لأنك كنت تناضل عن الحق، وتحارب للإنصاف. وتجاهد للعدل. ولم يكن بيدك. فأصبحت والعدل اليوم بيدك يطالبك بحقه. إلا فلنشرب على سر استلامك زمام الحق ونصرته.
ثم وقف أحمد حشمت بك. حشمت باشا - النائب العمومي فقال: إخواني قد علمتم أن النيابة العمومية والمحاماة خصمان مختلفان. ولكن كل منهما يناضل عن الحق والإنصاف. ويجد لمحو عوامل الاستبداد والاعتساف. وقد كان حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول من أشد أولئك الخصماء وأقواهم حجة ودفاعاً عن الحق وذوداً عن العدل. فأصبح اليوم في صف الحاكمين بين الخصوم. فحق للنيابة العمومية أن ترحب به فيصلاً يقضي بالحق كما عهدته(18/9)
في دور خصومه نصيراً له.
وانبرى في أثره عدة خطباء يزيدون عن العشرة. يعددون جميعاً حسنات المترجم به في المحاماة ومناقبه ومميزاته. حتى جاء دور ذلك الخطيب المصقع البليغ. والمحامي النابغة المنطبق. الأستاذ إبراهيم بك الهلباوي فوقف يقول إذا التمست من حضراتكم المعاذير وطلبت الصفح عن التقصير. فلي شفيع قائم بين أيديكم ألا وهو كوني أخطب الآن أثر ثلاثة عشر خطيباً. كلهم قد خلب الألباب. وأخذ بمجامع القلوب. ولكن لا أسألكم عذراً لأن موضوع خطب شخص كله فضائل ومهما قال الخطباء فبحر الفضل واسع لا تنفد مادته، ولست أقصد بمقالي إلى الأسف على فراق سعد أفندي زغلول لطائفة المحامين فأنا ما اجتمعنا هنا لتوديعه منها. بل لنهنئ هذه الطائفة التي يحق لها أن نفخر أعجاباً بما نالته بتعيينه من الشرف وعلو الشأن.
تقولون إن حرفة المحاماة شريفة وفضلها مقرر. وأقول كان ذلك لها ولكن على القرطاس. وفي القواعد الفلسفية. أما المشاهد فليس كذلك ما كان.
فمنذ تسع سنوات كانت أبعد عن اسم الشرف والفضل. وتعلمون أنتم أن المحاكم الأهلية حلت محل المجالس الملغاة التي كان أمامها محامون يسمون بوكلاء الدعاوي ليس صاحب السمعة فيهم الأمن كان أخبر بأغراض القضاة وأعرف بحاجاتهم. فكان ولا ريب هذا الفن ضائع الاعتبار بين أيدي طبقة مضيعة لشرفه خافضة لمكانته فلما تألفت المحاكم الأهلية لم يجسر أحد أن يسوق بنفسه ضحية لهذا الفن وذبحا إلا رفيقنا سعد أفندي زغلول فظل يعالج مرضه ويرتق فتقه ويقيم أوده. ويجاهد في سبيل إعلاء كلمته حتى أسدل الستار على كثير من فضائحه ومعايبه فأقدم إذ ذاك أرباب الشرف على الاحتراف به ولهذا كان سعي رفيقنا بادئ بدء جهاداً مستمراً. ولولاه ما استطاع أحد منا الاشتغال بهذا الفن الذي أصبحنا نعده اليوم فناً شريفاً ومهنة سامية عالية. فالفضل كل الفضل في سمو مكانتها لحضرة سعد أفندي زغلول فلذلك وجب علينا أن نهنئ المحاماة بانتقاله منها وارتقائه إلى منصة القضاء. فهو هو الذي صيرها أهلاً لأن يرتقي منها مثله إلى محكمة الاستئناف.
ومن الغريب أنه لما عرض تعيين حضرة صديقنا المفضال سعد أفندي زغلول عضواً في محكمة الاستئناف قال قائل إن حضرته على الرغم مما أحرزه من الفضل وسعة الإطلاع(18/10)
في القوانين لم تكن لديه شهادة ليسانسيه فلما بلغ هذا القول سعادة الفاضل رئيس محكمة الاستئناف أجاب بأنه إذا كان معترفاً بفضله وسعة إطلاعه في القانون أفلا يكون اضطلاعه بدراسة الشريعة الإسلامية الغراء شفيعاً له وقائماً مقام شهادة الليسانس. وهذه حجة دامغة ومقال رشيد. وهل من ينكر بعد هذا فضل حضرة سعد أفندي زغلول وقد عرف فضله كل مصري حتى أصبح الفلاح في زوايا القرى يعتمد على اسمه في مقاضاة خصمه إن كان محقاً. وتخور قواه وتهن عزيمته عند ذكر اسمه إذا كان مبطلاً. فهل مثل هذا الفاضل تكبر عليه وظيفة مندوب في قلم قضايا الحكومة وقد أكبرتها من قبل ذلك الأغراض. ثم كادت أن تكبر عليه وظيفة نائب قاض في محكمة الاستئناف وهي الوظيفة التي تحتفل اليوم لها. وأنتم يا حضرات الأخوان تعترفون في سركم وعلانيتكم بأنه أفضلنا وأجدرنا بالرقي واستلام زمام الحكم في أكبر مصالح الحكومة. فالمحاماة التي رفعها إلى ذروة الشرف لا تزال تطالبه بأن يتسم بها أعلى سنام الرعاية والاعتبار. وأن يمحو عنها ما بقي من رسوم الزراية والاحتقار حتى إذا طلب أحدنا فيما بعد إلى منصب أرقى مما نال اليوم لا يجد دونه معترضاً.
كلكم تعرفون يا حضرات المحامين أن القضايا كانت ترفع إلى المحاكم وفي كل مائة منها سبعون أو ما يزيد ترفع فيها المسائل الفرعية فتقبل لخطأ في الشكل وجهل بالطرق القانونية. فأصبحت وليس في المئة خمس قضايا مما تقبل فيها الفرعيات. ومرجع الفضل في ذلك كله إلى سعد أفندي إذ كان قدوة وأستاذاً للمشتغلين بصناعة المحاماة بل كان أستاذاً لكثيرين من القضاة. وهذه تقاريره الشرعية والعقلية محفوظة لدينا يرجع إليها كل من استبهم عليه أمر قانوني. فلم يعد بعد من حاجة إلى بقائه بيننا. فقد أتم دروسه علينا سواء من حيث الصدق والاستقامة وطهارة الذمة أو من حيث البلاغة والفصاحة أو من حيث المسائل القانونية الدقيقة المعضلة. فليت شعري لأي شيء نتأسف من فراقه. وليس بنا من حاجة إليه إلا ما يطلب منه في دوره الجديد.
أي مشكل قانوني أو أية حادثة قانونية أخذت بطبيعتها شكلاً من الأشكال والالتباس - وللحوادث طبائع تختلف حتى مع وحدة القانون - ولم نر مرجع الفضل في حله إلى حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول؟. بل في أي وقت تنازعا في مبدأ قانوني وكان الحكم(18/11)
بين الفريقين غيره. أولم يكن الرجوع إلى آرائه في الأحكام السابقة إليه بسبيل هذا المبدأ. وانتقاله اليوم إلى سلك القضاء لا يحزننا بل يملأ صدورنا فرحاً واغتباطاً. إذ به تزول عنا بقية الوصمة التي لم تبرأ حرفتنا من عابها حتى الآن. فلو قال لنا قاض من القضاة بعد اليوم إن فيكم من لا يصلح لشيء أجبناه. بل إن فينا من شرف منصب القضاء.
فلما انتهى الأستاذ من هذه الخطبة البليغة. وانتهى الحضور من التصفيق والهتاف ودلائل الاستحسان والإعجاب. قام في أثره صاحب الترجمة يرسل بينهم ذلك الصوت العذب السحري وينثر فيهم ذلك البيان الجزل السحباني. يشكر لهم احتفالهم به وشهادتهم بفضله وإقرارهم بنبوغه وعبقريته بل إن شئت قل قطعة من اعترافاته وناهيك باعتراف العظماء، قال:
إخواني وسادتي - قد عهدتموني وليس من شيمتي الحسد، إذ ليس الحسد بنافع أحداً مطلقاً، كما أنه لم يكن من طبعي الافتخار، فأنا آمن بما عهدت فيكم من أن ترموني به. ولكني أرى نفسي اليوم على غير ما طبعت عليه، أراني حاسداً نفسي فخوراً بما أنا اليوم فيه. إذ كنت موضوع اهتمامكم ورهين عنايتكم. وكنت أود لو أني بينكن أهنئ غيري من بين صفوفكم، بما يناله عن جدارة واستحقاق.
إخواني وسادتي - قد كنت أعرف من نفسي القدرة على البيان. وتقرير الحقائق، بل كنت أعتقد - ولو كنت مخطئاً في اعتقادي - أني على شيء من البلاغة والفصاحة واللسن، وما عهدت نفسي كالآن عيباً محصراً محتبساً عاجزاً عن القيام بما يجب لحضراتكم في بيان مقام الشكر لكم. وأراكم اختلفتم في الوجهة وتباينتم في الأسلوب وقد اتحدتم في المعنى واجتمعتم فماذا يسعني من أساليب البيان لأداء ما يحق لكل منكم، بماذا أشكركم وقد هجرت الكلام شهراً، ولولا أن مظاهر السرور على وجوهكم تدفعني للمقال - وإن لساني محض معبر عما يليه إحساسي الخالص ما استطعت الكلام الآن بعد أن اقتنعت من نفسي بأني عاجز عن مجاراة كل منكم في حلبة الفصاحة والبيان.
إخواني - أراني لا أزال واحداً منكم. وإن نهاية الشرف عندي أن تقبلوني كذلك لأنكم أنتم الذين تخدمون الحقيقة ولا زلتم تجدون في طلبها. ولم يكن من أمري إلا أن ضعفت عن مجاراتكم واجتثاث السير معكم في هذا الطريق المحمود فجلست وسرتم.(18/12)
هذا ما دعاني لأن أكون قاضياً. بعد أن كنت معكم محامياً. استرحت بعد العناء. لا زراية يشرف المحاماة، لأنها حرفة إظهار الحق لمن تولى أمر القضاء بين الناس، وأرى أن أفخر حلي الشرف أني كنت بينكم زمناً طويلاً أسعى معكم في إظهار الحقائق، والله يعمل إني ما سعيت إلا لهذا المقصد الشريف. ولكني أشهد أنكم أشد مني عزيمة إذ قعدت وأنتم نهوض.
إخواني. إنني ما سبقت إلى اتخاذ فن المحاماة شعاراً إلا لأنها الحرفة التي تستلزم بسط آراء المشتغل بها على حضرات القضاة الفضلاء والأقران وجماهير العامة، فهي من ثم الحرفة الوحيدة التي تظهر فيها قيمة المرء في وسطه.
والحق أقول ما كنت بمستطيع أن أخالط من كانوا مشتغلين بهذا الفن يوم لبست شعاره. كما قال أحد إخواني أثناء كلامه وإني محدثكم الحديث.
أول ما هممت بالاشتغال بفن المحاماة وحدثتني نفسي بشأنها. نظرت فإذا من رزئت به من الذين كانوا عنوان سمعتها وذكرها. كأنهم الشوك يؤذي الناس ويعذبهم وذلك أنهم كانوا يسيئون إلى عباد الله بخيانتهم وزيغهم عن طريق الحق والهدى، ولذلك ترددت بادئ بدء ثم قلت في نفسي ما ضرك لو كنت وردة بين هاتيك الأشواك، ولو كنت الآن ما حدثتها هذا الحديث فمن حسن حظي أني أجبل البصر في هذا المحفل الحافل فلا أجد أثراً لذلك الشوك فلما استقر بخاطري أن القيام بالواجب خير للمرء حتى وإن كان يحرفه هي بأهلها من سقط المتاع أقدمت مستحصد العزم على الاشتغال بهذه الحرفة بين أولئك الذين عددتهم شوكا، والحمد لله إذ قد لفظهم الزمان لفظ النواة، وطهر الله مواضع نظرنا أن تقتحمهم في هذه الليلة.
إخواني لا أحب أن أخوض في حديث أولئك القوم ولكني أقول كما قال أحد إخواني إنه كان من أقصى واجبات تلك الشرذمة إرضاء خواطر أولئك القضاة الذين بحقهم الحق، وذهب بهم العدل.
ذلك ما أقول بصفتي محامياً بالأمس واليوم قاضياً لا يليق بي في الحالتين أن أكذب على نفسي وعلى غيري.
والذي حبب إلى الاشتغال بهذه الصناعة إني كنت مشتغلاً من قبلها بوظيفة من شأنها الإطلاع على أحكام المحاكم الملغاة التي كانت تنشر في الجريدة الرسمية يوم كنت عضواً(18/13)
في هيئة تحريرها، وكان من حظي أن عهد إلى أمر نقد تلك الأحكام، وتلخيص معانيها، ثم انتقلت من هذه الوظيفة إلى وظيفة ناظر قلم قضايا مديرية الجيزة. وهي كما تعلمون أشبه بوظيفة القاضي، إذ كان من خصائصه أن تصدر الأحكام في كثير من المواد الجزئية. فلما انفصلت من هذه الخدمة كما تعلمون وصفاً الجو من الأحداث لم يرق عيني أن أطرق باب أحد التماساً للرجوع في وظيفتي أو وظيفة غير هاوان كنت ممن يحب التواضع استغفر الله، بل إني رجوت من توسمت فيه الخير أن يساعدني لنيل وظيفة، فاعرض جهلاً منه غني ونأي بجانبه، فكبر عندي الأمر وازددت ميلاً إلى الأشغال بحرفة المحاماة وقلت لنفسي علام تحتمل يا سعد منه جهول، وما ضرك أن تكون مستقيماً بين مفسدين، بل ما ضرك أن تكون وردة بين الأشواك، فهان علي إذ ذاك أن احترف حرفة لم يكن فيها مناضل عن حق لوجه الحق.
هذا ما كان يحيط به حديث نفسي يوم أردت الاشتغال بحرفة المحاماة وأن في العالم الكوني وجوداً يحب صاحبه أن يشعر به، ذلك هو الوجود الإنساني. فكأن يخيل لي أن استقامتي في حرفة منيت بالفساد والضلال لابد من أن يعرف قدرها الوجود فأجتني ثمارها، وكنت لذلك أتوسم أن تأتي ظروف أحبها وتحبني.
إخواني - إنني اشتغلت بالمحاماة متنكراً عن أهلي وأصحابي وكلما سألني سأئل هل صرت محامياً أقول معاذ الله أن أكون كقوم خاسرين.
وجملة القول إني كنت أجتهد أن لا يعرفني إلا أرباب القضايا وإن كنت أجهل ماذا تكون العاقبة وقدر لي أني حبست في أول اشتغالي بهذه الحرفة ظلماً وعدواناً فنفعني مشروعي فيها وقد كنت أدافع عن الخصوم بالكتابة عن التقارير التي كانت تقدم إلى للإجابة على ما فيها من المسائل فانظروا إخواني في أمر محام كان يناضل عن الحق وهو منه سليب، وبعد أن انقضت مدة سحبني عدت إلى مزاولة هذه الصناعة لا أبقي بها غير الحقائق مطلباً - وكنت أحب أبدأ أن يحترمني القاضي فأحذر كل ما يؤدي إلى غير ذلك - ولعل سعادة الرئيس يذكر أنه لما كان بين أعضاء لجنة الامتحان التي طلبتني أمامها وسألتني ما هي واجبات المحامي. كان جوابي درس القضية جيداً - والمدافعة عن الحق واحترام القضاء.
سادتي تعلمون أن الحق صعب الاكتشاف وإن الحقيقة إذ تكون ضالة تتشعب طرق نشدانها(18/14)
علي الباحث ويعلم الله كم من ليال مضت ما كان أمرها عندي لا لأني كنت في عيش ضنك. ولا لأني قليل الميسرة. ولكن لأن الحقيقة ضائعة لا أجدها في طريق تشداني لها بين أناس عهدت إليهم أمانة ولا من يؤديها منهم لأهلها - كنت أرى القانون يكرهني على احترام القضاة وضميري يأبى الامتثال لاحترام كثير منهم فكنت أجمع بين الاحترام والتحقير ولا أستطيع التوفيق بين الظاهر والباطن - فأعجبوا أيها الأفاضل من مطبع غير مطيع - ولا جناح على لأن القوانين لا حكم لها على السرائر والضمائر - أقول الحق إني كنت أسأل من القاضي حقاً ومن النيابة واجباً فلا أجد هذا ولا ذاك - أما الآن فكلنا يعترف في سره وعلنه بأن القضاء ارتقى - والحق عنه مسؤول.
ومازلت إخواتي أعد نفسي محامياً عن الحقيقة التي أردنا المحاماة عنها جميعاً.
وإني شاكر فضلكم منشرح الصدر من كونكم عددتموني جوهراً شفافاً سطعت عليه أشعة العدل وأنوار الحق - فادعوا الله معي أن يؤيد روح الحق في بلادنا ويزيد في نشر الفضيلة والعدل.
هذا ما وسعه هذا العدد من تاريخ سعادة المترجم به. ولما كان هذا التاريخ قد يربى على مائة صفحة اضطرنا إلى نشره تباعاً في البيان.
فتح الله بك بركات
عضو الجمعية التشريعية عن دائرتي فوه ودسوق والقسم البحري
من كفر الزيات التابعة لمديرية الغربية
إذا كان الدهر قد عصف بالأمة العربية بعد ذلك السؤدد والفخار. وذهب بظلها بعد أن بسطته على قرص الشمس وأشعة الأقمار. فقد أبى إلا أن ينثر أخلاف أهلها مع الريح، ويذرو بقية رجالها في مشارق الأرض ومغاربها، فلم يخسر العالم منهم إلا صفة الأمة، ولم يفقد إلا شخصية المجموع، وشاء التاريخ إلا أن يحشر من الشراذم القليلة من العرب، أو ممن ينتمون إلى العرب، أفراداً وأسرات، في كل بلد كان للعرب فيه أثر، وقطر كان لتلك الأمة فيه شأن وخبر، ليكونوا دلائل وبراهين على قديم ملكهم، وعناوين وفهارس لمجلدات تاريخهم، وهم وإن اندمجوا في أهل البلد الذي نزلوه، وامتزجوا بالقوم الذين نشؤوا فيهم، وخلف لهم من تزاوجهم ذراري وحفدة وسلالات، وأصبحت لهم مميزات الموطن الذي(18/15)
عاشوا فيه وعاداته، إلا أنك لتظفر بالعربي منهم، فلا تقرأ في صفحة وجهه إلا صفحات تاريخ العرب كله، ولا تطالع في أساريره إلا سلاسل مآثرهم ومدوناتهم، ولا تقع فيه إلا على شيمهم وخلاتهم، ولا تسقط منهم إلا على قوة إفهامهم، ورجاحة ألبابهم، وهو بعد متميز عن أهل وطنه، متفرد دون الوسط الذي يحوطه، متفوق على أفراد أمته، لأنه وإن فقد الروح الاجتماعية التي هز بها آباؤه عروش العالم، وفتحوا بتأثيرها بلدانه وأقطاره إلا أن فيه لا تزال الروح الطبيعية التي تجعل العربي أبداً إنساناً قوياً في كل شيء، ولا تزال سلالات العرب في كل بل يقوون كفاآت أهله بتزواجهم، ويدخلون عليهم من دمائهم، حتى ليدور الفلك مداره، وتنصرم القرون، وتنفرط الأجيال، وينتهي اليوم الأخير من عمر الدنيا، ولا يزال في العالم رجل يقول ها أنا ذا عربي.
نقول ذلك ونحن بصدد نابغة مصري الموطن والمولد، عربي الأرومة والمحتد، وإذا كانت كل أمة من الأمم إنما طرأت على الأرض التي انتحلتها واستوطنتها، وكانت السلالات البشرية قاطبة لا تكاد تعرف لها موطناً أصلياً تقول هذا موطني على الحقيقة لا على المجاز، فليس بعاب على المصريين أن يكون عظيمهم يرجع بنسبة إلى أصل غير مصري.
فلا يندهش الناس بعد إذ رأوا من فتح الله بك بركات ما رأوا من شدة الذكاء، وقوة العارضة، وحمية الأنف، والنضح عن الحقوق، والدأب في خدمة المجموع. إن نقول إن هذا النابغة المصري ينتمي نسبه إلى أبي بكر الصديق، فمن دمائه تجري روح ثلاثة عشر قرناً كاملاً، بل تكاد تكون روحه قطعة من روح الإسلام كله، تفيض جميع مميزاته النفسية وخلاله ووجداناته وأفعاله من طبيعة الدم الذي يسري في عروقه، فكل ما ترى من وجداناته أثر من آثار ذلك الفيض الذي نبع منه، بل هي صورة مصغرة من صورة روح الصديق رضي الله عنه، ولتجدن ماء الغدير الفياض في حلاوة مساغه وعذوبة مذاقه لا يختلف عن ماء النهر العظيم الذي فاض منه واستمد، وكل ما نرى من غيرته وحميته طليعة من طبائع مزاجه، يمدها قلب كبير، وروح حارة، وليس كأولئك الذين لا تكون الحمية فيهم والغيرة إلا نتيجة الظروف، حتى لا تكاد تفرق بين غيرتهم وبين انفعالاتهم، ومثلهم في ذلك مثل الجياد غير الصافنات إذا عرضت في السوق للبيع، وجرى بها سمارها شوطاً صغيراً، أظهرت(18/16)
نشاطاً وخفة، وأبدت عتقاً وكرماً، فإذا ابتاعها مبتاع، وانطلق بها: لم يجد أثراً لذلك النشاط الوقتي الذي شاهده.
ولد صاحب الترجمة في اليوم الخامس عشر من شهر شعبان عام 1282 بمنية المرشد. وكانت يومذاك تابعة لمركز دسوق، وهي الآن تتبع مركز فوه من أعمال مديرية الغربية، وأبوه عبد الله أفندي بركات، وكان إذ ذاك عمدة لمنية المرشد، ثم رفع بعدها إلى وظيفة مأمور مركز دسوق، وجده الشيخ عبد بركات، وكان من ذوي الثراء الطائل، والغني العريض، وكان موظفاً في عهد محمد علي الكبير، رأس الأسرة الخديوية، يشغل وظيفة كانت تسمى حينذاك ناظر قسم أو ما هو في معنى ذلك، وبدأ مقام هذه الأسرة بمنية المرشد منذ ثلاثمائة سنة، وقد نزحت إليها من البرلس، وتنمي إلى أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
فلما درج إلى الحول السابع، دفعه والده إلى كتاب البلد، شأن كل مصري حتى اليوم، فلبث في هذا المعهد الصغير حتى كان عام 1293 فأرسله والده إلى مدرسة رشيد الأميرية، وظل بها حتى أتم التعليم الابتدائي، ثم انتقل حوالي عام 1297 إلى مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالإسكندرية. وكان ناظرها إذ ذاك عبد الله نديم. وبقي بها عاملاً كاملاً. وفي سنة 1298 دخل المدرسة التجهيزية يدرب الجماميز بالقاهرة ومكث بها حتى السنة الثالثة، وإذ ذاك ثارت الثورة العرابية، وقد تقدمت بوالده السن، وألفي الحاجة ماسة إلى المترجم به. ليقوم بإدارة مزارعه، ورعي شؤونه وتدبير ثروته، إذ كان أكبر أولاده، فانقطع عن الدراسة والمدرسة، وما كانت المدرسة يوماً معهداً للعظمة. ولا متخرجاً للنبوغ، وهل كانت روح النابغة لتذكو وهل كانت نفس العظيم لتنضج بين برامج المدارس وقيودها، وجدرها وحيطانها. ومحفوظاتها وقشور علمها. وما نفس النابغة إلا قبس من قبس الله. يريد مضطرباً واسعاً. ومكاناً طلقاً فضاء، وإلا عاد دخاناً يخنق الأنفاس. ويعمي الأبصار. بل كم أفسدت المدرسة من روح خصبة، وعقل قابل للنضوج. واستعدادات كبيرة، وما روح العظيم من المدرسة إلا في محبس.
وأقام صاحب الترجمة بعد ذلك ببلدة. وكانت المشاحنات والفتن والضغائن فاشية بين أهل البلد. سارية بين أسراته وعشائره، حتى كان بالبلد على صغره سبعة عشر محامياً يشتغلون(18/17)
بقضايا الخصومات الثائرة بين أهليها أمام المحاكم التي أنشئت إذ ذاك للفصل في أمثال هذه الخصومات والمشاحنات. وكانت أراضي أهل البلد في ذلك الحين مرهونة للمصارف البنوك للحكومة، واندفعوا في الفتن والمشاحنات وأمعنوا في المدابرة والمنازعة. حتى ضجت المديرية والمركز في أخريات عام 1886 ميلادية من هذا البلد وحال أهلية ففزعت الأهالي والحكومة إلى صاحب الترجمة يريدونه على أن يكون عمدة للبلد، وكان إذ ذاك في ريعان الشباب، لم يجز بعد الربيع الأول بعد العشرين. على حين أن القانون لم يكن ليبيح وقتئذ تعيين من هو في مثل سنه في منصب العمدة. وكان المترجم به لا يميل إلى إسناده إليه. لما كان يراه في ذلك الحين من عسف الحكام وبلوغهم من الإرهاف والاستبداد إلى الحد الذي لا يلتئم مع رجل يشعر بكرامة نفسه وشخصيته. ولكنه اضطر إلى قبوله. إذ رأى إلحاح الأهالي وإلحافهم. ووعود الحكام إياه بأنهم سيأخذون بالحسنى. ويجنحون إلى اللين والعرف. وكذلك ترى الرجل النابعة النابه. تبدأ شهرته حيث تبدأ مواهبه تظهر لقومه وأهل بلده. ولا تزال شهرته تنتقل من بلده إلى جوار بلده. ومن جوار بلده إلى البلدان القريبة منه وكذلك تروح في البلاد وتغدو حتى تعم الأمة جميعها.
ومضى في منصبه ذاك حتى سلخ عام 1907. يصلح ذات بين القوم. ويرد الحزازات والضغائن ائتلافاً ومودة. حتى كان من أثر ذلك أن انفرط خمسة عشر عاماً لم ترفع فيها قضية واحدة لأحد من الأهالي إلى محكمة من المحاكم. لا بينه وبين آخر من أهل البلد نفسه. ولا بينه وبين الغير. وأخذ ينشر الأمن في بلده والتحاب والتواصل بين أهليه. وكان من ذلك أن ديون الأهالي سددت. واستخلصت أراضيهم من قيود الرهون. وحسنت حالهم. ونمت ثروتهم. وابتاعوا من أرض البلدان الأخرى المجاورة. وبلغت الثقة بينهم إلى حد أن الرجل منهم إذا احتاج إلى مال قليل أو كثير. افترضه من أخوانه. دون سند أو سفتجة أو شهود. وكذلك مضي يبت بين إخوانه العمد روح التضامن والائتلاف والتضافر حتى أضحوا جميعاً يداً واحدة مجتمعين فيما ينفعهم. متوانين على ما يوجب احترامهم وتوقيرهم.
وعند إنشاء لجان الشياخات وتأديب العمد والمشايخ منذ نيف وعشرين عاماً انتخب صاحب الترجمة عضواً نائباً عن مركز فوه في لجنة الشياخات بإجماع الآراء. وإن كان أحدث العمد سناً. فكان له في هذه اللجنة كثير من المواقف المشهودة حيان مديري هذه المديرية.(18/18)
وكانوا هم أصحاب النفوذ والسيطرة على هذه اللجنة التي كانوا بطبيعة الحال يرأسونها. وكان هو الرجل الفذ الذي كان يخالف أميال المديرين وأهواءهم ونزعاتهم. غير مبال بسخطهم. ولا حافل يغضبهم. ولا مكترث بما يجلب عليه غضب أمثالهم.
وبقي بهذه اللحنة حتى نهاية سنة 1901. وكان يعاد انتخابه في كل عام. بإجماع الآراء. وانتخب في سنة 1899 في لجنة تعديل الضرائب بمركز فوه ونهض في ذلك بواجبه. حتى أن الضرائب المقررة على مركز فوه كانت أخف بكثير من سائر الضرائب المقررة على بلاد القطر. ولا يغيب عنك ما لاقى من المشاق. وعاني من الصعوبات في سبيل المحافظة على الصدق والأمانة في هذا التعديل.
وفي سنة 1902 انتخب عضواً لمجلس مديرية الغربية. فلم يستطع أن يظهر مواهبه وكفاءته. إذ كانت مجالس المديريات ضيقة الدائرة. لا تنعقد إلا مرة واحدة في كل عام. للتصديق بما تقرره نظارة الأشغال. وبقي عمدة إلى أوائل سنة 1908 إذ انتخب عضواً لمجلس شورى القوانين. وإذ ذاك جالت مواهبه العالية جولاتها. وتجلت كفايته الشخصية في أبهى مظاهرها. لأن الرجل العظيم لا يبدو عظيماً إلا في المواطن التي تجد عظمته فيها مجالاً واسعاً. ومنتدحاً براحاً. وأنت فلو جئت بديمو ستنيز اليوناني رب الفصاحة وملك الخطابة. ورأس البيان. فجعلته معلم صبية. إذن لما وجدت منه إلا رجلاً بسيطاً. ولا ألفيت لبلاغته أثراً. وما كان ليستطيع أن يظهر لا كل بيانه ولا بعضه. فلا جرم أن تكون كفاءة صاحب الترجمة في مجلس الشورى غيرها في مجلس المديرية. فليس من يقف مدافعاً عن حق فئة قليلة كمن يقف في جماعة ناضحاً عن حقوق الأمة جمعاء. ولعل الناس لم ينسوا بعد ما كان له من مواقف مشهورة. ومواطن مأثورة. مما لا يتسع المقام لذكره الآن.
وظل في مجلس الشورى حتى انفض في سنة 1911 وجاءت على آثاره الجمعية التشريعية فانتخب عضواً فيها عن مركزي فوه ودسوق وبعض بلدان من مركز كفر الزيات.
ولا يفوتنا أن نصف لك في بضع كلمات هيئة المترجم به وأخلاقه ومبادئه. إذ كانت الطبيعة تنم في الإنسان عن روحه، وتخرج للناس منها صورة دقيقة الحجم تطبعها فوق(18/19)
ملامح وجهه وهيأته ومعارفه وجميع أجزاء تركيبه الإنساني. وما آداب المرء إلا نتيجة ائتلاف إرادته النفسية ونظامه الجثماني، بل إن هي إلا آراؤه نفذت إلى يديه وقدميه ووجهه وجميع أجزاء جسمه. فقام بهذه الحركات التي اصطلحنا على تسميتها بالآداب.
فلو أنت طالعت المترجم به، لألفيت رجلاً خفيف اللحم، ربعة القوام، أسمر اللون، بشوشاً. وقد خط الشيب مفرقيه وشاربيه. ولو جدت إزاءك رجلاً نشيطاً حلو الحديث. طيب المحاضرة. ثم إذا أنت خالطته ومازجته وأنست إليه. رأيت منه أخلاقاً سامية. وصفات حرية بإعجابك خليقة بمديحك واستحسانك. وجملة هذه الأخلاق ثقته بنفسه. والثقة بالنفس من أخلاق العبقريين. لأن الرجل العبقري كوكب في نفسه لا يستمد من نور غيره. ويأتي بعد ذلك ميله إلى الجد. وصدوفه عن اللهو. فهو رجل عمل لا يجد اللذة إلا في قضاء عمله. وما عرفناه يوماً من جلساء القهاوي وروادها. أولئك الذين تزدحم بهم قارعات الطريق وأفاريزها. وأبهاء القهاوي وقاعاتها. حتى ليخال لك وهم مرصوصون بعد المغيب مصفوفون أنهم جاءوا يسمعون محاضرة أخلاقية. وكأن في كل قهوة خطيباً يخطب زبائنها. وأنه ليجول بخاطرك ساعة تشهد ذلك المحفل الحافل إن نصف بيوت المدينة قد خلت من رجالها وشبابها.
والمترجم به من أشد الناس حرصاً على الفروض الدينية وأدائها في حينها. لا تفوته فريضة، ولا يشغله عن صلاته شاغل.
والمبدأ الذي يسير عليه في جميع أعماله هو الانتصار للحق وتأييده أنى كان، والإخلاص للأمة، والعمل على تحقيق مطالبها في ظل السكون بعيداً عن لغط اللاغطين، بنجوة من هذا الاضطراب العصبي الذي تحدثه السياسة في أبعد الناس عنها. والذي يفسد على قادة الأمة أمرهم.
قليني باشا فهمي
أحد النواب عن المصريين الأقباط في الجمعية التشريعية
في كل أمة طوائف، وفي كل شعب نحل وعناصر، ولكل من هذه العناصر شخصية لا تظهر إلا إذا قام بمفرده، ولكنه يفقد في غمار العناصر الأخرى للأمة هذه الشخصية، ويكتسب بدلها شخصية المجموع الممتزج، كما يكون من المركبات الكيماوية ومخاليطها،(18/20)
فإنك ترى الماء مركباً كيماوياً من الهيدروجين والأكسجين، ولكل من هذين العنصرين مميزات وصفات شخصية، على أن ليس للماء المؤلف من اختلاطهما أدنى نصيب من تلك المميزات الفردية، فإذا انتقضت هذه الرابطة بين العناصر المتممة للأمة وانتكث السبب الذي يمسكها، وانحلت الآصرة التي تشدها أصبح أمر الأمة فرطاً، وأضحى فيها بدل مجموع واحد مجاميع كثيرة، وعوض أمة واحدة أمم متعددة. كلها يطالب بالامتياز في الحقوق الاجتماعية والمدنية، وكلها لا يتوخى فائدة المجموع الأمي. وإنما يتوخى فائدة عنصره. وإذ ذاك تصطدم المصالح وإذا اصطدمت المصالح ثار الخلاف، ولا يكون من مصير الخلاف، إلا تعطيل التطور الاجتماعي الذي تنشده كل جماعة إنسانية.
هذا وإن العنصرين المؤلفين لمجموع الأمة المصرية. هما العنصر الإسلامي وله الأغلبية. والعنصر القبطي وله الأقلية. ولا غنى لتركيب الأمة عن أحدهما. ولا يقوم المسلمون في الاعتبار المصري دون إخوانهم الأقباط. ولا قائمة للأقباط دون إخوانهم المسلمين. فمن ثم ينبغي أن يتوارى الاختلاف الديني أمام الوحدة المصرية، وينظر الفريقان إلى مصلحة مصر بنظرة المصري لا بنظرة المسلم ولا القبطي. لأن الوطن ليس بالمسجد ولا بالمعبد حتى تعتبر فيه الفروق الدينية.
وقد كان الفريقان والعهد ليس ببعيد يتقاطعان ويتجادلان، ويقيمان الجمعيات والمؤتمرات. ليقرر كل منهما حقوقه، ويعلن مطالبه، ويذيع رغائبه، وكأن حق المصري لابد أن يختلف باختلاف نحلته. ولكن أمد هذا التقاطع لم يطل. وكان من مساعي عقلاء العنصرين وكبار رجالهما، أن تبدل ذلك التقاطع وحده ووثاماً، وعاد ذلك التناكر تعارفاً وسلاماً. وأصبح المسلمون والأقباط اليوم على محض التحاب والصفاء.
نذكر ذلك ونحن بسبيل ترجمة نابغة من نوابغ المصريين الأقباط. ونابه من كبارنا بينهم هو أول من مشى بالسلام بين العنصرين. وأول من أصلح منهما ذات البين. ووفق بين القلوب، وهدأ من ثائرة الأقلام، حتى لا يدع أن يلقب فينا برجل السلام.
ولقد عطوفة صاحب الترجمة لستين عاماً خلون بعد الألف والثمانمائة، فهو الآن في العقد السادس من عمره، فبدأ علومه في مدارس الأقباط والفرنسيس، ثم دخل في خدمة الحكومة سنة 1875 فما زال يثب من منصب إلى منصب، حتى أخريات عام 1893 إذ أصبح(18/21)
مديراً لعموم الدخوليات - المكوس - ومراقباً عاماً لإدارة الأموال الغير المقررة في نظارة المالية، وكانت تشتمل إذ ذاك الدخوليات، في جميع أنحاء القطر والملاحة والأسماك والمعادن والكباري ودمغة المصوغات والضر بخانة ومصلحة الملح والإدارة العمومية لنظارة المالية ومجالس التأديب في جميع القطر، ثم اعتزل بعد ذلك خدمة الحكومة، ونحن فلا نريد أن نفيض في تفاصيل خدماته الرسمية فذلكم مشهور متداول. فليست هذه الدقائق ميزان شخصيته ونباهة ذكره، بل إن له من جلائل الأعمال ما يجعله خليقاً بالاحترام التاريخي. وحسبك مسعاه في الثورة العرابية فقد قام في تلك الظروف في أمنع حصن من الحزم والتبصر، ورأى السجون قد أقفلت أبوابها على أبرياء أخذوا بالظنة، فنهض بحركة جليلة، وبذل جهده لدى المغفور له سلطان باشا رئيس الحكومة في ذلك الحين. حتى أطلق المئات من الوجهاء والأعيان من ظلمات السجون.
ونذكر لعطوفته مساعيه في جمعية الهلال الأحمر إذ بذل لها من ماله ووقته ووقف نفسه لهذا العمل الإنساني الجليل. ومثوله الأخير بين يدي جلالة السلطان. وموقفه في المشروع الاقتصادي الذي قامت به لجنة زراعة الدخان، إذ اقترح عليهم العمل تحت إشراف لجان مسؤولة فكان قوله القول الفصل.
ولما توترت العلاقات بين الأقباط والإكليروس واشتد بينهما الخلاف في مسألة المجلس المالي، وشق على كبار الأقباط وأعيانهم حل هذه المشكلة المعضلة، قام عطوفته منفرداً وأعانه اللورد كتشنر في وضع لائحة جديدة لإعادة المجلس الملي موفقاً في بنوده وفقره بين الأقباط وغبطة البطريرك، وكان من نتيجة ذلك أن أعيد افتتاح المجلس بعد أن كان منفضاً سنين عدة، ونظر في الأعمال المرجأة المتأخرة ونشر السلام لواءه على الأكليروس والأقباط.
وهو من حائزي رتبة روملى كلربك، ولا تعطي هذه الرتبة عادة إلا إلى رؤساء النظار، ولا يحملها في مصر إلا القليون، ومن الأوسمة التي حازها من الحكومة المصرية لما عاناه في خدمتها من كد وأنفق من مجهودات، الوسام المجيدي الأول، وهو أكبر وسام يعطي في هذه الديار، وقد نال عدة أوسمة من الحكومات الأجنبية.
وقليني باشا فهمي رجل ديموقراطي الملبس والمعيشة، يقيم في مصر سبعة أشهر وفي(18/22)
أوروبا خمسة، ومشتاه في حلوان. وهو ذو ثروة متوسطة. وهو من أكبر الأسرات في مديرية المنيا. وجده الماسوف عليه يوسف عبد الشهيد بك. وكان من أقران المرحوم سلطان باشا وشريعي بك.
وبه فرط ولوع بالأسفار. وشدة شغف بالسياحات. ساح في فرنسا وإنجلترا. وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وسويسرا وروسيا وزار تركيا واليونان وبلغاريا ورومانيا وهو من المصريين الأفذاذ الفذين قاموا بالسياحة في الجزائر وتونس وإليك صورته وهو في زي المغاربة.
وأنت لو رأيت صاحب الترجمة إذن لرأيت رجلاً حاضر الذهن. قوي الفكر، رقيق الشعور، يخيل إليك أنك تقرأ في أسارير وجهه مكنون سريرته. وأنك لتجد منه استئناساً وتعاين بشراً ورقة وخلابة. فإذا ما سا
أوروبا خمسة، ومشتاه في حلوان. وهو ذو ثروة متوسطة. وهو من أكبر الأسرات في مديرية المنيا. وجده الماسوف عليه يوسف عبد الشهيد بك. وكان من أقران المرحوم سلطان باشا وشريعي بك.
وبه فرط ولوع بالأسفار. وشدة شغف بالسياحات. ساح في فرنسا وإنجلترا. وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وسويسرا وروسيا وزار تركيا واليونان وبلغاريا ورومانيا وهو من المصريين الأفذاذ الفذين قاموا بالسياحة في الجزائر وتونس وإليك صورته وهو في زي المغاربة.
وأنت لو رأيت صاحب الترجمة إذن لرأيت رجلاً حاضر الذهن. قوي الفكر، رقيق الشعور، يخيل إليك أنك تقرأ في أسارير وجهه مكنون سريرته. وأنك لتجد منه استئناساً وتعاين بشراً ورقة وخلابة. فإذا ما سايرته وبادلته الرأي وقارضته الحديث يقنت ساعتذاك أنك في حضرة عظيم يضطرك إلى احترام رأيه والتسليم به. وإن تذهب معه المذهب الذي يريد. وقد يبدهك بالحجة. ويبغتك بالبرهان فلا ترى وجهاً لمنازعته القول ولا تفارقه إلا وأنت مطمئن الرأي موفور الإقناع. قوي الفكر. ذلك لأن للقوة عدوى سريعة الظهور. فكل ما يجعلنا أقوياء في الرأي والروح والوجدان يزيد في قوتنا، ويفتح أمامنا أبواب العمل، ويبسط قبالتنا ميدان الفعل. ونحن بني الناس مدينون لكل قلب كبير. وعقل عبقري. ولسان عذب. وروح متقدة. ونحن لا نستمد شيئاً من المجتمعات. وإنما من تلك الأرواح الرقيقة والقلوب الشريفة التي تخرجها لنا القوة الألهية بين عديد ما تخرج في كل يوم من تلك القوالب الإنسانية المعتادة التي لا يفترق بعضها عن بعض إلا في أحجامها وأشكالها واختلاف تركيبها.
وإنه ليتبادر إليك في لغة حديثه إذا أنت جلست إليه معان جمة ما شئت من أدب وعلم وفضل واستمكان وإن من الناس من يحاجك كأنك خصمه فلا يزال يعطيك من صخبه وشدة جدله. حتى تقوم من حضرته وأنت لحديثه كاره ولكن الأناة والتؤدة والقول العذب اللين من شأن الرجل العظيم. وهذا ما نشعر به في حديث صاحب الترجمة وإنك لتصغي إلى قوله وهو يتدفق متدبراً متئداً فيخيل إليك أنه يتناول من ذاكرة حافلة مترعة وليس بمرسل القول للعفو والساعة. وهذه خلة كانت ولا تزال نصيب راجحي العقول موفوري(18/23)
الحجي.
أما عن مبادئه وخطته في الجمعية التشريعية فإن عطوفته يذهب إلى وجوب العمل المطمئن الهادئ والتفاهم المبني على حسن الثقة فالتشريع لا يكون بالمخاصمة والتحمس والمنابذة. ويرى أن حسن التفاهم بين الأمة والحكومة سيأتي بالفائدة العامة للبلاد وأهليها لأننا إذا ظننا بالحكومة سواء واعتقدت فينا سوء النية ظللنا متنافرين. كل يعمل على معاكسة الآخر ولا يخفى ما في ذلك من الضرر الذي يعود على الأمة ونحن نقول إن عطوفته ممن يهمهم أن يخرجوا من المسائل التشريعية بنتيجة تجري المنفعة والربح للأمة.(18/24)
أخبار وحوادث
الفقيد العظيم
ليس هناك خسارة أشد على الأمة وأفدح. ولا نكبة أدمى لقلبها وأجرح من موت الرجل النابغة العظيم. وناهيك بمصاب قد يعوق الأمة عن سير رقيها الاجتماعي. ويرجع بها خطوات كبرى تقدمتها. وبسلبها فوائد عظمى اكتسبتها. وبفقدها رجلاً مكتملاً بين ملايين ليس سوادهم كذلك - ويحرمها من عقل كبيرين عديد عقول عادية. ويسرقها صنفاً من رجالها عزيز الضريب. منقطع النظير لا أوان لظهوره يعرف، ولا حين له يرتقب. وإذا أنت علمت ذلك فلا جرم أن ترى الأمة المصرية اليوم في حزن عام واسى شامل. لوفاة رجل من أنبغ نوابغها. فقدت بفقده عقلاً ناضجاً. على حين ترى أكثر عقول الأمة لا تزال نيئة فجة، وقلما مبدعاً وأين في الأمة الأقلام المبدعة، ورأياً ثاقباً ساطعاً وأين الآراء الثاقبة الساطعة. وكيف لا تشهد العيون بالعبرات شارقة واكفة. وكيف لا تكون القلوب من لوعة الأسى واجفة راجفة. وفقيدنا نابغة القضاء. ونابغة الكتاب. ونابغة المعربين. المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا. وكيل نظارة الحقانية بالأمس.
والبيان وصاحبه من فقده في حزنين بالغين. ورعن شجنين عظيمين. نبكيه لأننا من أفراد هذه الأمة الباكية عليه. ونأسى عليه لأنه كان لنا الصديق الحميم. والعون العظيم. والنصير الذي لا تخيب نصرته. والعضد الذي لا نقدر مساعدته. وقد كان رحمه الله قبل مرضه بأيام يتأهب لافتتاح مشروعنا أبطال العالم بالكتاب عن فيلسوف من فلاسفة الفرنسيين. وقد بلغ من عنايته بهذا المشروع أن تباحث كثيراً مع الأستاذ لطفي السيد بك في الخطة التي سينهجها في الكتابة على البطل الذي وقع عليه اختياره. ولكن حم القضاء. ولا مرد لقضاء الله.
أما وقد جمد القلم الآن في أيدينا كما جمد الجمع في مآقينا. فإنا تاركون للأستاذ لطفي السيد بك التعبير عن شعورنا بكلمته التاريخية الآتية. إذ كانت أجمع كلمة في تقدير ذلك لفقيد العظيم: قال الأستاذ: أيها السادة:
إن أحمد فتحي باشا زغلول هو أصغر أمجال المرحوم الشيخ إبراهيم زغلول من أعيان إبيانا ولد في تلك القرية في 4 ربيع الأول سنة 1279 هجرية. مات أبوه رحمه الله إذ كان(18/25)
رضيعاً وكان شقيقه سعد زغلول باشا فطيماً، خلفهما أبوهما في حضانة والدتهما التي هي إحدى عقائل عائلة بركات الشهرية بالغربية، وكانت وقت وفاة زوجها لا يتجاوز عمرها العشرين. فقامت على ولديها ووقفت نفسها على تربيتهما تحت إشراف أخيهما الكبير لأبيهما المرحوم الشناوي أفندي زغلول الذي عني بتعليمهما على أحسن ما تعلم به أبناء الأعيان. تعلم فتح الله الصغير في كتاب البلد ثم في مدرس رشيد ثم المدرسة التجهيزية ثم في مدرسة الألسن فاتفق أن زاره المرحوم أحمد خيري باشا ناظر المعارف العمومية فأعجب بذكاء الشاب فتح الله صبري وأعطاه اسمه (أحمد) ونحت من (فتح الله) فتحي وأصدر أمراً رسمياً إلى المدرسة بتسميته أحمد فتحي وبأن يرد إليه ما دفع من المصارف وباعتباره طالباً مجانياً. فلما كانت 1884 أرسلته نظارة المعارف إلى فرنسا لدرس الحقوق فحصل على شهادة الليسانس ورجع سنة 1887 ووظف بقلم قضايا الحكومة ثم رئيساً لنيابة أسيوط ثم رئيساً لنيابة اسكندرية ثم مفتشاً بلجنة المراقبة فرئيساً لمحكمة الزقازيق ثم رئيساً لمحكمة مصر ثم وكيلاً لنظارة الحقانية وظيفته الأخيرة التي مات وهو قائم بها.
كان فتحي باشا كما سمعتم اليوم وقبل اليوم وكما قرأتم في التقارير الرسمية مثال الموظف الفاني في الاشتغال بأداء واجباته القائم بعمله وعمل غيره أحياناً ولم يمنعه ذلك من أن يكون معرباً ممتعاً أميناً ومؤلفاً كبيراً. عن هذا الصوف ومن هذه الجهة وقفت أمامكم أؤبن فقيد العلم والعلماء.
أيها السادة:
إن شدة الذكاء وقوة النفس وحسن الإخلاص. تلك الصفات التي ظهرت آثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض راجع معظمها إلى التأثير الورائي من أبويه وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل على الفرع، وبما تعهدت أمره في التربية وما غرست من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه.
لا يأخذكم العجب في قولي فإن من أمهاتنا نحن القرويين من هن مع بساطة في المدارك العقلية وبعد عن العلوم والمعارفة على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق وعزة النفس وذوق سليم في الحكم وطيبة وتقوى في المعاملات. ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم قانون الانتقال الوراثي فتكون لهم مال في الحياة العملية. ولولا هذه الصفات(18/26)
لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق وما عانوا من استبداد طويل. ولكن هذه الصفات الأولية قد قامت في نجاحهم مقام المعارك زمناً طويلاً ولا يزال الاتكال عليها وحدها يؤدي إلى الآن نتائجه المتواضعة في بلادنا. فإذا جاءت العلوم والمعارف على هذه الصفات الأولية ظهر النبوغ قلة وكثرة تبعاً لقوة الاستعداد أي لقوة تلك الصفات الوراثية فللأمهات القرويات أن يقبلن أيضاً شكر الجيل الحاضر. وعلينا أن نعترف علناً ومن غير تردد بما للأمهات من الأهمية العظمى من حيث توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى. وأمامنا المثل الحسي أن والدة فتحي باشا ينسب إليها الفضل الأكبر في أن أخرجت لمصر نابغتين: نابغة نرجو له العمر الطويل. ونابغة فقدناه آسفين. فقدناه ونقدم اليوم للتاريخ منه صورة هي أقوم صور نوابغنا حجة لحسن الاستعداد وعلو الكفاءة العلمية والعملية جميعاً.
إن الصفات الأولية لفتحي من شدة الذكاء وقوة النفس وحدة المشاعر هن أساس نبوغه. كان يحمل نفساً على قوتها الهائلة رقيقة المشاعر قلقة لا تستقر أو تبلغ من خدمة العلم مناها. وهيهات أن تبقى طويلاً أمثال هذه النفس في البيئات التي لا تلائم بقاءها ونجاحها. وهيهات أن تبلغ مني. كلما تقدمت اتسع أمامها أفق الأغراض وكلما انقضى سبب جاءها سبب جديد.
تعلم فتحي فصادقت القواعد العلمية من عقله مقاماً رحباً وقرت فيه أصولها ووجدت منه نفساً طلعة قوية في مركزها ميالة للانتشار في مظاهرها الخارجية يناديه صوتها الخفي: إن وف حق العلم. وآت زكاة النبوغ فأقدم منذ حداثة سنه على نشر العلم إجابة لداعي الضمير. أقدم على هذا المركب الخشن وكان الواجب عليه أن يقدم لأنه استكمل عدة الأقدام: زكاة مضيء وعقل عاصم وعلم هاد ولسان عضب ذلق غواص على موضع الحجة وقلم سيال ومركز نبيل. كيف لا يكون مقداماً من جمع بين كل هذه الأسباب.
لا أكاد أبريء فتحي من الوقوع في حيرة اختيار الطريقة التي يجب عليه اتباعها لخدمة العلم في مصر: التأليف أو التعريب وأيهما أنفع. وإذا كان التعريب فعلي أي نوع يقع الاختيار. حيرة لا بد منها لشاب خارج من المدرسة تضطرم بين ضلوعه نار الشوق إلى مجد الوطن العلمي خلو من التجارب لا يملك إلا كفاءته العلمية.(18/27)
نظر فتحي نظرة صادقة إلى حال الأمة المصرية وحكومتها فرأى أننا أحوج ما نكون إلى معرفة المثل الأعلى الذي نبغي الوصول إليه من نظاماتنا السياسية والاجتماعية حتى تتحد أطماعنا الوطنية على طريقة عامة واضحة.
ورأى فوق ذلك أن أول خطوة يخطوها المصلحون العلميون هي نقل العلم إلى أوطانهم بالتعريب. إن هذه الطريقة كانت هي ألف باء النهضة العلمية في كل أمة وفي كل زمان.
هذا النظر المزدوج كان رائد فتحي باشا في تعريبه منذ خرج من المدرسة إلى أن مات. فإنه بدأ في سنة 1888 يعرب (العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو فلم يتمه ولكنه عرب بعد ذلك (أصول الشرائع) لبنتام. و (خواطر وسوانح في الإسلام) للكونت هانري دي كاستري و (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) لأدمون ديمولان و (روح الاجتماع) و (سر تطور الأمم) لجوستاف لوبون. و (خطاب مصطفى فاضل باشا) نشر ذلك مع معرباته. وله فوق ذلك (جوامع الكلم) لجوستاف لوبون وكتاب بورجار في الاقتصاد السياسي. و (حضارة العرب) لجوستاف لوبون. و (جمهورية أفلاطون) و (الفرد ضد المملكة) لسبنسر. وكلها لم يتم تعريبها وأما مؤلفاته المنشورة فهي كتاب المحاماة ورسالة في التزوير وشرح للقانون المدني وقد ألف أخيراً كتاب (في التربية العامة) كنت أعلم أنه قد تم ولكنه لم يطبع.
قرأت معرباته المنشورة. وتفحصت من غير المنشورة. وأستطيع بعد ذلك أن أقول من غير تردد إن فتحي كما كان نابغة في الفقه كذلك كان نابغة في التعريب يمسك الكتاب يقرؤه أولاً ثم يدخل بنظره الحاد في طيات نفس الكاتب فيظهر أسرارها بقلمه العربي المبين. ومن التعاريب ما يترجم الألفاظ تحمل معانيها خالية من روح الكاتب وحرارته فلا يكون لها التأثير المطلوب إلا معربات فتحي فإنك تقرأ فيها المعاني والأغراض كأنك تقرأ كاتبها من غير فرق.
لفتحي باشا تعريبه شخصية تامة ممتازة في طريقته وفي أسلوبه البياني.
أما نحوه في التعريب فليس هو الالتزام الحرفي للأصل ولا مجافاة الأصل. ولكن نحوه بين ذلك وسط مرضي.
أما أسلوبه فهو عربي خالص لا يعني فيه بفضله الزخرف والمحسنات اللفظية ولكنه مع(18/28)
ذلك متين الرصف ظاهر الرشاقة جذاب جداً.
لم يكن فتحي باشا يعرب ليعرب. ولا طلباً للشهرة أو المال من وراء التعريب. فإنه ليس سبيلهما في بلادنا العلم والكتابة وكان حسبه شهرة مناصبه العالية وكفايته التي ما كانت يوماً واحداً موضعاً للشك من أحد سواه في ذلك أصدقاءه وحساده عارفوه وغير عارفيه. ولكننا إذا جمعنا معرباته دلنا مجموعها على أن فتحي كان له غرض ثابت يرمي إليه من وراء نشر هذه الكتب.
غرضه نشر مبادئ الحرية. حرية الفرد. وحرية الأمة. وتنبيه أطماع الأفراد والأمة جميعاً إلى اتخاذ مثل أعلى قبله لهم في أطماعهم الوطنية. أنه منذ سنة 1888 كان يرى الأمة تتقلب في أغراض أحياناً متعاكسة ودائماً مبهمة فكان يسيئه هذا المنظر ويود لو أن الشعور الوطني - الذي كان وقتئذ في خدر مستمر - يولى وجهة قبل الاستقلال على نحو منتج. كان يود لو أنهم يدركون أن إبهام الغرض وعدم إدراكه بوضوح يجعله مستحيل المنال. لذلك أراد أن يقدم للجمهور (عقد الاجتماع) لروسو حتى يتبين الجمهور حق الفرد وحق الأمة وما يجب أن يكون لها من السلطان. وللأسف لم يظهر هذا الكتاب مع أنه بلغ من تعريبه مبلغاً كبيراً، ولكنه أصدر بعد ذلك تعريب بنتام في أصول الحقوق والواجبات. حتى جاء الزمن الأخير وظهر الشعور الوطني بمظهر جميل ولكن لا يزال في مقاصده بعض اللبس حتى فيما هو مكتوب من المبادئ في الصحف وما للصحف إلا ترجمان الرأي العام. ولعل فتحي باشا أمام هذه المشاهد أشفق على حرية الأفراد وتربية الأمة من الميل الظاهر إلى ما يشبه الاشتراكية فإن الناس لم يقصروا في طلبتهم على حقوق الأفراد من الحرية وحق الشعب من السلطة بل أخذوا مع ذلك كله يطالبون الحكومة أن تقوم لهم بكل شيء. ومهما كان في أساليب هذه المطالب من الانتقاد الضمني إلا أن مثل هذه الحركة من شأنها أن تجعل الحكومة هي كل شيء والفرد لا شيء. الاشتراكية قد تكون معقولة إذا كان للأفراد شأن في تنصيب الحكومة. وإلا فإنما نهي اشتراكية معكوسة النتائج. فأخذ فتحي باشا عن بعد يهدي الأفراد إلى وجوب الاستمساك بشخصيتهم ويبين لهم أن تربية الشخصية هي التي كانت (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) يطلب إلى المصريين أن يتشبهوا بهؤلاء وأن لا يفنوا شخصيتهم فيفني وجودهم. واستطراداً في هذا النظر تصدى إلى(18/29)
تعريب (الفرد ضد المملكة) وتعريب روح الاجتماع وسر تطور الأمم. كل ذلك ليبقي في الجمهور الأسس العلمية للرقي حتى يطبق الناس حالهم على هذه الأصول فينتفعوا بتجارب الأمم.
أيها السادة: إن التوفيق بين منتخبات فتحي باشا للتعريب ينتج فوق ما قدمنا أنه كان يعتنق مذهب الحربين سواء كان ذلك في التربية والتعليم أو في الأصول الاجتماعية والسياسية بل الاقتصادية أيضاً لأنه لو كان اشتراكياً في الاقتصاد لما عمد إلى ترجمة بورجار بل لكان عمد إلى ترجمة أحد الاقتصاديين الاشتراكيين الظاهرين بالاشتراكية.
ولو شئنا أن نبين عقائد فتحي باشا من منتخباته ومن أحاديثه لضاق بنا المقام ولكني أكتفي الآن بالإشارة إلى أن بين اختيار فتحي لتلك المؤلفات وبين مذهبه الحري في محاولة الإصلاح الاجتماعي والسياسي نسباً متصلاً جد الاتصال.
حسبي الإشارة إلى ذلك وإلى أن فتحي باشا كان ذا مبادئ ثابتة وطرائق معينة في كل شيء. فكما أنه ابتداء في خدمة العلم بالابتداء الطبيعي وهو نقل العلم إلى البلاد كذلك كان يرى أن البدء في الارتقاء الاجتماعي والسياسي لا يكون بأخذ ثمرات آخر تطور للمبادئ الاجتماعية والسياسية في الأمم التي تمدنت من قبلنا. ولاشك في أن إدخال المبادئ الاشتراكية في آخر تطورها الحاضر على أمة ناهضة من عقال الاستبداد نتيجته اضطراب خطر قد يكون ضرره أكثر من نفعه.
من ذلك نأخذ أن فتحي باشا كان رجل ارتقاء لا رجل ثورة. إنه كان يكره الثورة - بعد سن الرجولة بالضرورة - يكرهها بكل مظاهرها حتى الفكرية منها فكما أنه كان يرى أن خير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته ولكنه القانون الذي يحتمل الشعب تطبيقه. كذلك كان يرى أن خير المبادئ الاجتماعية والسياسية هو ما كان لبينه وبين طبائعه وعاداته نسب تكمل ما فيها من نقص وتقوم ما بها من اعوجاج.
كان فتحي يستسر بهذه الآراء الحرة العريقة في الحرية: فإذا لم يكن نشرها ليتفق مع مركزه في الحكومة فلقد نشرها بالتعريب والعقل ليرضي دواعي ضميره وليثابر على تربية قومه تربية صالحة على قواعد ثابتة من معرفة الحقوق والواجبات. فليس فقيدنا رحمه الله من أرباب المناصب. بل هو على ذلك من أرباب المذاهب ومن هو كذلك من(18/30)
شأنه أن يكون شقياً بفرضين معذباً ضعفين. يكاد لا يكون له من وقته شيء. فهو مقسم بين الأعمال الرسمية الشاقة وبين خدمة العلم يعمل لها بالتأليف والتعريب شطر الليل وأحياناً طوال الليل ومدة العطلة فإذا لامه في ذلك أصدقاؤه هز كتفه هزة فيلسوف لا يبالي مات اليوم أو مات غداً، نعم كان المؤلف فتحي يعتقد أن الحياة تقدر بما يتم فيها من العمل الصالح لا بعدد السنين.
يكاد كلامي يلقى في الأذهان من فتحي باشا صورة عالم استغرقته أغراضه وشغلته همومه فزهد في الجمعية وفرط في القيام بالاصطلاحات المدنية. كلا إن فتحي باشا على ذلك كان مترفاً في عيشته متأنقاً في مظاهرها المختلفة. كثير الاختلاط لا تفوته عيادة مريض من أصدقائه ولا رد لزيارة ولا مواساة معارفه في أحزانهم. كذلك لا ينقبض عزمه عن شهود حفلة أنس. ولا تلوى به همومه ومشاغله عن الاعتناء باقتناء التحف والطرف وتعرف أوضاع الجمال حيث كان رحمه الله كان على علمه العميق ومنزلته العالية رجلاً غاية في الوداعة والظرف.
من ذلك يظهر لي أن فتحي باشا كان يعتقد الحياة الفردية كلا واحداً من حقه أن يكون متعادلاً في جميع مظاهره. وأن اعتدال السلوك لا يتم إلا بهذا التعادل فكما يجب على المرء أن يخدم عقله كذلك يجب عليه أن يخدم مشاعره. حتى لا تعطل ملكة من الملكات تضحية لملكة أخرى. ولا شك في أن خير قاعدة تنتج المثل الأعلى للرجل الكامل بمعنى الكلمة هي قاعدة تنمية ملكات الإنسان وقواه بنسبة واحدة.
كذلك كان فتحي باشا. وعلى هذا كنا نراه في شؤونه. غير أن الاستثناء كان يلحق لديه هذه القاعدة أيضاً. فإنه يظهر لنا من جهة أخرى أنه كان يضحي قواه الجثمانية في سبيل شهوته العلمية. وهذا المثال مع الأسف هو وقلة الحرص على المال كأنهما أمران عامان في كثير من أبطال العلم وخدمة الأوطان.
عفواً. أيها السادة. ليس فتحي في عداد الموتى الذين يؤبنون بقولة واحدة تردد لكل منهم على السواء: كان وكان. . . وعليه الرحمة والرضوان. إن فتحي ليس ملكاً لأهله وأصدقائه بل هو ملك التاريخ. وبهذا العنوان يدب علينا دراسته إنه صورة كبرى من أكبر صور النبوغ المصري بروزاً وأولاهم بالعناية والدرس. إنه رجل كبير. كبير في عقله(18/31)
وفي عواطفه بل في أطماعه أيضاً. وما كان يبين عليه أن اقتناء المال داخل في برنامج أطماعه. أقول وليس هو في هذا المعنى استثناء من عظماء الرجال أمثاله. أولئك الذين ماتوا ولا أصفر ولا أبيض كأنهم الأنبياء لا يورثون.
فإن لم يتركوا تراثاً فقد تركوا مجداً خالداً.
نعم إن أطماع فتحي باشا كانت كبيرة متناسبة مع كفاءته وثقته بنفسه. ولكنها لم تكن من الأطماع الشخصية في شيء، إنه كان يألم لما نحن فيه ويرجو أن يكون له من السلطة ما يسهل لقومه سبيل التقدم إلى الأمام - قد تكون هذه العلة هي العذر العام الذي ينتحله كل المغرمين بالمناصبة العالية. ولكن فتحي ليس من هؤلاء لأنه كان ينفذ الخطة التي رسمها لمشاغله العمومية فأخذ يسهل التقدم بقلمه ومن الطبيعي أن يرجو أن يسهله بعمله أيضاً فيكون بذلك قد جمع بين سبي النفع لا كصديقه روسو الذي قال لو كنت شارعاً أو أميراً لا اعتضت عن الكتابة في السياسة بتحقيق ما أقرر من المبادئ. على أنه يجب عليَّ في هذا الموقف أن أسارع إلى التصريح بأن فتحي لم يقدم بين يدي أطماعه إلا كفاءته. أما شخصيته واستقلاله في الرأي فلا دخل لهما في هذه الصفقة. بل ربما كان حجر عثرة في سبيل ارتقائه.
على أن فتحي باشا مهما كان محسود القدرة فإنه كان دائماً عمدة الحكومة في كثير من المشروعات الدقيقة التي تحتاج إلى مفاوضات بين جهات مختلفة. وموضع الاستشارة من نظارته وغير نظارته في وضع القوانين. كما تشهد به الألسن الرسمية والتقارير الرسمية.
أيها السادة - كنا نكرم فتحي باشا في نحو هذا الأوان من العام الماضي ونتوج مؤلفاته. وها نحن أولاء جئنا اليوم نؤبنه ونتأسف على وفاته. فما أقل هذا الوجود حرصاً على الرجال النابغين!.
أيها السادة - إن صورة فتحي باشا الذي اشترك في رسمها جميع خطباء هذه الحفلة الممثلين للمعاني والطبقات المتباينة صورة ندخرها عند الزمان على أنها طليعة النهضة العلمية وأثر من آثار المجد المصري الفخيم ولنكون قدوة للنابغين من أبنائنا على مر الزمان، فاللهم لعبدك الأمين في خدمة العلم رحمة ولبلاده عزاء أنك، أنت السميع المجيب.
وقال أمير الشعراء أحمد بك شوقي يرثي الفقيد العظيم:(18/32)
أكذا تقر البيض في الأغماد ... أكذا تحين مصارع الآساد
خطوا المضاجع في التراب لفارش ... جنبيه مضطجع من الأطواد
مالت بقسطاس الحقوق نوازل ... ومشت على ركن القضاء عواد
ورمى فحط البدر عن عليائه ... رام يصيب الشمس في الارآد
قل للمنية نلت ركن حكومة ... وهدمت حائط أمة وبلاد
ووقفت بين الحاسدين وبينه ... يا راحة المحسود والحساد
كل له يوم وأنت بمرصد ... لتصيد الأحباب والأضداد
ما كل يوم تظفرين بمثله ... إن النجوم عزيزة البلاد
يا ساكن الصحراء منفرداً بها ... كالنجم أو كالسيل أو كالصاد
كم عن يمينك أو يسارك لو ترى ... من فيلق متتابع الإمداد
ألقى السلاح ونام عن راياته ... متبدد الأمراء والأجناد
ومصفداً ما داينوه وطالما ... دان الرجال فبتن في الأصفاد
ومطيع أحكام المنون وطالما ... سبقت لطاعته يد الجلاد
ومعانق الأكفان في جوف الثرى ... بعد الطراز الفخم في الأعياد
مرت عليك الأربعون صبيحة ... مر القرون على ثمود وعاد
في منزل ضربت عليه يد البلي ... بحوالك الظلمات والأسداد
تلقي الضباع الليل في عرضاته ... واليوم في الأطناب والأوتاد
يا أحمد القانون بعدك غامض ... قلق البنود مجلل بسواد
والأمر أعوج والشؤون سقيمة ... مختلة الأصدار والإيراد
والقول مختلط الفصيح بضده ... تبكي جواهره على النقاد
وأتت علي الأقلام بعدك فترة ... فصحت وكانت مدمنات مداد
عجبي لنفسك لم تدع لك هيكلاً ... إن النفوس لآفة الأجساد
ولرأسك العالي تناثر لبه ... ونزا وصار نسيجه لفساد
لو كان ماساً ذابت أو ياقوتة ... لتحركت بذكائك الوقاد
حملته في ليله ونهاره ... هم الفؤد وهمة الإرشاد(18/33)
فقتلته ورزحت مقتولاً به ... رب اجتهاد قاتل كجهاد
جد الطبيب فكان غاية طبه ... تقليب كفيه إلى العواد
والموت حق في البرية قاهر ... عجبي لحق قام باستبداد
لا جد إلا الموت والإنسان في ... لعب الحياة ولهوها متماد
وليت في أثر الشباب ومن يعش ... بعد الشباب يعش بغير عماد
من ذم من ورد الشبيبة شوكه ... حمل المشيب إليه شوك قتاد
حرص الرجال على حياة بعدها ... حرص الشحيح على فضول الزاد
يا ابن القرى نالت بمولدك القرى ... ما لم تنله حواضر وبواد
غذتك من حسن المغبة سائغ ... وسقتك من جاري المياه براد
وتعاهدتك أشعة في شمسها ... ينفذن عاقية إلى الإيراد
ونشأت بين الطاهرين سرائراً ... والطاهرات الصالحات العاد
رضوان عيش في صلاح عشيرة ... في طهر سقف في عفاف وساد
فجمعت بخير نباتها ومضت به ... ريح المنية قبل حين حصاد
أمسي ذووك طويلة حسراتهم ... وأخوك ينشد أوثق الأعضاد
في ذمة الشبان ما استودعتهم ... من خاطر وقريحة وفؤاد
ورسائل لك لا تمل كأنها ... كتب الصبابة أو حديث وداد
وخطابة في كل ناد حافل ... ينصب آذاناً إليها النادي
ومعربات كالمنار وإنها ... لزيادة في رأس مال الضاد
وإذا المعرب نال أسرار اللغي ... روى عباداً من أناء عباد
العلم عندك والبيان مواهب ... حليتها بشمائل الأمجاد
ومن المهانة للنبوغ وأهله ... شبه النبوغ تراه في الأوغاد
(فتحي) رثيتك للبلاد وأهلها ... ولرائح فوق التراب وغاد
وسبقت فك القائلين لمنبر ... عال عليهم خالد الأعواد
ما زلت تسمع منه كل بديهة ... حتى سمعت يتيمة الإنشاد
وحياة مثلك للرجال نموذج ... ومماتك المثل القويم الهادي(18/34)
ورثاؤك الإرشاد والعظة التي ... تلقي على العظماء والأفراد
مكسوب جاهك فوق كل مقلد ... وطريف مجدك فوق كل تلاد
فخر الولاية والمناصب عارة ... كالفخر بالآباء والأجداد
ولربما عقدا نجاداً للعصا ... والصارم الماضي بغير نجاد
فافخر بفضلك فهو لا أنسابه ... تبلى ولا سلطانه الفاد
رحلة سمو الجناب العالي
راق سمو الجناب العالي الخديوي حفظه الله أن يتفقد في طريقه إلى مصطافه بالإسكندرية شؤون رعيته: ويتبين بنفسه الرقي الذي خطت إليه البلاد في عهده النضير وعصره الزاهر. ويشهد بعينه حال الأهلين الزراعية والاقتصادية.
فتفضل أبقاه الله ورعاه بالوقوف بالبلاد التي في طريقه وزيادة السراة والأغنياء في السراداقات التي أقاموها احتفالاً بأميرهم وابتهاجاً بسمو مليكهم وقد كان الوجه البحري لا بل القطر أجمعه في عيد عام وفرح عظيم وابتهاج لا يقدر بهذه الرحلة المباركة التي قام بها سمو العزيز أيده الله.
وقد انتدب سعادة رصيفنا الكاتب المفضال أحمد حافظ بك عوض مدير سياسة المؤيد الأغر لوضع سفر جليل يتناول كل ما اتصل بهذه الرحلة فنرجو له التوفيق حتى يتم هذا الكتاب على النحو الذي يبتغي صاحبه إن شاء الله.
الوزارة الرشدية
سقطت فجأة في الشهر الماضي الوزارة السعيدية. وكان من المزمع اختيار عطوفة مصطفى فهمي باشا لمنصب رئاستها، ولكن لم يتم ذلك. فأسندت إلى رجل يصلح لها وتصلح له وأكبر وزير عامل اشتهر بالصراحة والنزاهة والاستقلال وبعد الهمة وعلو النفس، هو عطوفة حسين رشدي باشا ناظر الحقانية في الوزارة المستقلة. وتألفت الوزارة الجديدة على هذا النحو عطوفة حسين رشدي باشا رئيس الوزارة وناظر الداخلية، عبد الخالق ثروت باشا ناظر الحقانية. أحمد حلمي باشا ناظر المعارف. يوسف وهبه باشا ناظر المالية، إسماعيل سري باشا ناظر الأشغال والحربية. عدلي يكن باشا ناظر الخارجية. إسماعيل صدقي باشا ناظر الزراعة. محمد محب باشا ناظر الأوقاف.(18/35)
وقد اعتزم البيان أن يكتب تراجم أعضاء هذه الوزارة العاملة في الأعداد القادمة أسوة بأعضاء الجمعية التشريعية ونوابها الكرام.
الطياران العثمانيان
قدم مصر منذ أيام الطياران العثمانيان سالم بك وكمال بك فكان لقدومهما رنة فرح وابتهاج عظيمين لطول ما ارتقب المصريون وفود الطيارين العثمانيين وانتظروا حضورهما. وقد احتفلت جمعية الطيران بهما وأقيمت لهما الولائم. وأدبت لا كرامهما المآدب هذا وقد ورد على الطيارين تلغراف من الآستانة يطلب عودتهما. فتقرر أن يسافرا على الباخرة الرومانية في الثاني والعشرين من هذا الشهر (مايو).
فصل التمثيل العربي في الأوبرا الخديوية
مثلت جوقة الأستاذ النابعة جورج أفندي أبيض أربع روايات منتقاة من أبدع حسنات الدراما الإفرنجية. وهي الشرف الياباني تعريب فؤاد أفندي سليم. ورؤى بلاس لفيكتور هوجو تعريب نقولا أفندي رزق الله. وقيصر وكليوباترة لموليير القرن العشرين برنارد شو تعريب إبراهيم أفندي رمزي. والإيما لبريو تعريب صالح بك جودت، والمؤلفون من أعيان مؤلفي الدراما الغربية. والمعربون من خيرة كتَّاب مصر وصفوة المعربين وقد أجادت الجوقة أحسن الإجادة. وأبدعوا غاية الإبداع مما يدل على مقدرة الأستاذ جورج أبيض ومهارته في انتقاء القديرين من الممثلين وكان بودنا أن نعقد فصلاً مطولاً نتناول فيه نقد كل من هذه الروايات من جميع وجوهها ونبدي الملاحظات التي تراءت لنا في التمثيل ولكن ضاق نطاق هذا العدد عن احتوائه فأرجأناه إلى العدد التالي.
وقد فاتنا أن نذكر أن جوقة الممثل المتفنن عبد الله عكاشة وأخوته مثلت في الأوبرا الخديوية قبل الجوقة الأولى ثلاث روايات مؤلفة: وهي نعيم بن حازم للكاتب المجيد والمطلع المجتهد عبد الحليم أفندي دولاور. والقضاء والقدر للشاعر الفحل خليل مطران وطارق بن زياد لكاتب غير معروف. وسنقصر كلامنا في العدد القادم على رواية نعيم بن حازم لأننا لم نشهد من هذه الروايات الثلاث غيرها.(18/36)
مطبوعات جديدة
تاريخ الصحافة العربية
انتدب جناب البحاثة الفاضل الفيكونت فيليب دي طرازي أحد علماء بيروت إلى وضع سفر واف فضفاض في تاريخ الصحافة العربية بعد أن نظر فلم يجد من تصدى إلى هذا العمل الشاق النافع على الرغم من الحاجة الماسة إليه. قال جنابه فأقدمت على تحقيق هذه الأمنية تعزيزاً لمقام صحافتنا الشريفة وإعلاء لمنارها أمام الغربيين الذين برزوا في هذا الفن الجليل وجاهدوا في جادته الجهاد الحسن. وهكذا تيسر لي بعد العناء الشديد أن أسد هذه الثلمة في لغتنا العربية وأزف عملي لكل ناطق بالضاد وهو يحتوي على أخبار الصحف أفراداً وإجمالاً مع أميال أصحابها وأسماء محرريها وتراجم المشاهير منهم بعبارة يفهمها الخاص والعام. وتخليداً لذكرهم زينت الكتاب برسوم الصحافيين الذين توفقت إلى الحصول عليها بعد بذل النفس والنفيس آسفاً لعدم الفوز برسومهم قاطبة فجاء سفراً جزيل المنافع لا يستغني عنه السياسي والصحافي والمؤرخ والشاعر والأديب والمصور والتاجر والأستاذ والتلميذ والحاكم والمحكوم. إذ يجد فيه كل واحد منهم ما يتوق إليه من ضروب السياسة أو كنوز الصحافة أو آثار التاريخ أو أساليب النظم أو بدائع الرسوم أو أطايب الأخبار والفكاهات مالا يلاقيه في كتاب سواه. فإنه أشبه شيء بدائرة معارفه عصرية لا تقتصر موادها على الصحافة فقط بل تتضمن أيضاً أكثر مطالب العلوم والآداب. والفنون المفيدة.
وقد انتقدت كل جريدة أو مجلة أو نشرة أو رسالة موثوقة بما تستحقه من المدح والذم بقطع النظر عن مذاهب أربابها وأحوالهم الشخصية وذلك بنية صادقة وقصد سليم. واستندت في ما رويته إلى أوثق المصادر حرصاً على الحقيقة وعملاً بحرفة التاريخ وقسمت الكتاب أربعة أقسام أو حقب بحيث تتناول كل حقبة قسماً من أخبار الصحافة. ثم صدرته بتوطئة ذات ثمانية فصول في تعريف الصحافة وآدابها وأسماء مؤرخيها وغير ذلك مما تهم معرفته إتماماً للفائدة. وختمته بجدول عام يشتمل على أسماء الصحف بلا استثناء شيء منها على قدر ما يستطيعه باحث محقق في بلاد الشرق. وقد رتبتها بحسب البلدان والممالك التي ظهرت فيها متبعاً لفي تاريخ صدورها نظام الأقدم فالأقدم. وجعلت بجانب كل منها اسم(18/37)
صاحبها وبيان خطتها ويوم نشأتها ليكون العمل وافياًَ بكل أطرافه.
وكذلك جاء كتابه وافياً بكل ما وعد. وقد أهدى إليها جنابه الجزأين الأول والثاني من هذا السفر النفيس وهما واقعان في نحو من خمسمائة صفحة من طراز أطول وأعرض من طراز البيان وحرف أدل وأجمل. ونحن فلا نأخذ على الفيكونت دي طرازي إلا تساهله في لغة الكتاب وإنا لنود لو يحتفل جنابه بأسلوب كتابته. ويتوخى الصواب في لغته جهد استطاعته. وإنه لو فعل لما أخل بشر بطته من التسهيل والتقريب.
نقول ذلك وليس من غرضنا أن ننتقص الفيكونت أو نطعن على كفايته فيما يقصد إليه من كتابه فمثل الفيكونت خليق بالإجلال والإكبار، وبحسبه أنه استقل بعمل محفوف بالمكاره فهو وحده ذلل صعابه، ومهد عقابه، وراض عصيه حتى واتاه وأم صاغراً رحابه، نعم وأنه لجدير بكل قارئ أن يقتني لذلك كتابه.
وقد جاء في الفصل الثاني الذي ضمنه جنابه أقوال مشهوري الملوك والكتاب والصحفيين في الصحافة مما يصح أن يكون تعريفاً للصحافة هذه الكلمات التي هي من جوامع الكلم.
يقول روزفلت ليس المجرم الحقيقي هو من يتعمد القتل أو ارتكاب أعظم المعاصي بل هو الذي يملك شيئاً لا يكون من أهله بالغش والخداع كالصحافي المقلد أو السياسي المنافق لأن الواجبات الأولية في الصحافي أو السياسي هو أن يكونا حاصلين على ثقة الشعب بمجرد القدوة الصالحة في الأعمال والأقوال.
ويقول اللورد روزبري يجب أن تكون قاعدة الصحف كن صادقاً ولا تخف.
وقال تولستوى الجرائد نصير السلام وصوت الأمة وسيف الحق القاطع ومجيرة المظلومين وشكيمة الظالم فهي تهز عروش القياصرة وتدك معالم الظالمين.
وقال اللورد ملنر أحد كبار السياسة الإنكليز إن الصحافة أجل وأعظم حرفة في العالم وربما استثنى من ذلك منصب الوزارة.
وقال فولتير الصحافة هي آلة يستحيل كسرها. وستعمل على هدم العالم القديم حتى يتسنى لها أن تنشيء عالماً جديداً. . . الخ.
والكتاب يباع في مكتبة البيان وثمنه مائة قرش وأجرة البريد أربعة قروش.
الإيمان(18/38)
قال الدكتور جوستاف لوبون في كتابه حقائق الزمن الحاضر ضعف الإنسان عن الحياة بلا يقين ففضل المعتقدات وإن ضعف أساسها عن الزندقة وإن وضح برهانها ذلك ما تجلى للكاتب الفرنسي المشهور أوجين بريو العضو بالأكاديمية الفرنساوية المولود سنة 1858 إذ كان ذات يوم في معبد من المعابد فألفي المصلين قائمين يضرعون لتمثال معبودهم يلتمسون منه قضاء الحاجات وكان من بينهم مرضى وذووا عاهات وبائسون تعلقت آمالهم بربهم تعلقاً اتصلت به سعادتهم، فتأثرت نفسه وجال في خاطره أنه لو استطاع أن يرشد هذا الجمع إلى كذب ما يعتقد، وإلى أن معبوده لا يسمع ولا يعي لما فعل حرصاً على هذا الأمل أن يزول. وهذا الخيال الكريم أن يتبدد ومن ثم خطر له أن يضع رواية في هذا الموضوع فاختار له مصر الفرعونية لما اشتهر به ساكنوها قديماً من التمسك بمعتقداتهم وتقديس معبوداتهم وتعليق آمالهم على حياة أخرى بها ثواب وعقاب فقدم مصر واستعان بمسيو لجران رئيس مهندس معبد الكرنك على وضع روايته الإيمان - قالت جريدة الطان لما ظهرت هذه الرواية واحتفلت بها الصحف الفرنسية الاحتفال اللائق بها وإنها رواية تصدت لمسألة اجتماعية كبرى كانت من القدم مثار الأفكار ومحل الخلاف بين الناس وهي مسألة الإيمان. ولقد مثل لنا فيها كاتبها صورة العذراء الطاهرة (يوما) وهي تسعى إلى الموت فرحة سكرى برحيق الإيمان وصورة الحكيم المصلح (سانتي) وهو يحاول تطهير النفوس من الخرافات وإرشادها إلى الفضيلة المجردة وصورة الشعب الغشوم وقد استسلم لإيمانه الأعمي وصورة الكاهن الماكر وقد تولى قيادة تلك القوة العمياء إلى حيث تخدم مطامعه وأمانيه - وصورة الإيمان البصير في نفس (مييريس العمياء) التي لا تؤمن بآلهة باسمهم يقتلون الناس وهي الكلمة التي ختم بها المؤلف روايته.
وقد قام بنقل هذه الرواية إلى العربية سعادة الكاتب الفاضل صالح جودت بك لما رأى أن التمثيل العربي وبالحرى الشعب المصري بحاجة إلى أمثال هذه الروايات القيمة ونحن فنقول أن لغة الترجمة جاءت كما يظن بسعادة المترجم جزالة ومتانة وأمانة في النقل وقد قام بتمثيل هذه الرواية الجليلة التي يحق لعشاق العربية أن يزهو بترجمتها جناب الممثل النابغة جورج أبيض وجوقته في الأوبرا الخديوية فأجادت الجوقة كيف شاء الإتقان والنبوغ.(18/39)
وقد طبعت مكتبة المعارف هذه الرواية ذلك الطبع النظيف المتقن وثمنها ثمانية قروش عدا اجرة البريد وتطلب من مكتبتي المعارف والبيان.
أعيان البيان
كان تاريخ الحركة الأدبية في القرن الثالث عشر الحلقة المفقودة في سلسلة تاريخ الأدب العربي. حتى ما تكاد ترى من أبناء هذا الجيل من يعرف تاريخ فارس الجوائب (مثلاً) أو يحفظ له من آثار قلمه اللهم إلا نفراً قليلاً هم الذين تشبثوا بأهداب الإطلاع وشغفوا بحب البحث والتنقيب. وهؤلاء لا يجوزون حد العشرات. إذ يظهر أن الإطلاع ثقيل الدم على روح المصري؟ وإن البحث لديه من المغلظات وإن الاطمئنان إلى قراءة سفر جديد، كتكلف مشاق سفر بعيد، على أنك ترى تاريخ آداب العرب في القرون المنصرمة قبل القرن الثالث عشر أوفر نصيباً من الانتشار، وأسعد حظاً من الإيثار والاستظهار، وقد رأى الأديب حسن أفندي السندوبي مساس هذه الحاجة ووجوب سد هذه الثلمة، ورد هذه الحلقة إلى أخواتها من سلسلة التاريخ العام. فشمر لهذا العمل، وحبس نفسه لإنجازه، وأسماه أعيان البيان، وصدر الجزء الأول منه بمقدمة جميلة في تأريخ الانقلابات والأدوار التي تقلب فيها الأدب العربي، وجاء بتاريخ اثنى عشر عيناً من أعياننا بدأهم بالشيخ حسن قويدر، وختمهم بالشيخ عبد الهادي نجا الأبياري، وطريقته في ذلك أن يبدأ بترجمة العين ثم بكلمة في مميزاته. فأخرى في مؤلفاته ثم بماله من الآثار نظماً كان أو نثراً، أو هماً معاً هذا والكتاب جليل الفائدة. كبير القدر. لا يسعنا معه إلا أن نسدي شكرنا للسندوبي أفندي على ما أسدى هو للغة من خدمة كبرى، والكتاب يباع بمكتبة البيان وثمنه عشرة قروش.
مختارات الزهور
جمعت مجلة الزهور مختار ما نشرته في سنيها الأربع من القصائد التي نظمها كبار الشعراء المصريين والسوريين والعراقيين. فجاءت مجموعة شعر طيبة. تستأهل الاقتناء إذ هي الروضة الأنف تجمع أصناف الأزهار وأطيب الأثمار، وهي أحسن مروح للنفس من عناء الأعمال فنلفت إليها اهتمام القراء.
الواجب
إننا لو استطعنا أن ننسي الموت فلن نستطيع أن نفر من الفلسفة بل نذكرها حتماً في أعمال(18/40)
الحياة والذي يذكرنا بها هو الواجب عندما نبدأ عملاً ذا خطر نسمع من أنفسنا صوتين أحدهما صوت المنفعة يقول لنا: هذا هو ما يفيدك الراحة والأمن والثروة والمجد والسلطان. وثانيهما وهو ما يسميه الناس صوت الواجب يقول لنا: أنس نفسك خاطر بها ضحها.
ليصغ الملحدون إلى صوت المنفعة، ولكن الذي يؤثر الواجب هو صاحب اليقين الفلسفي عرف ذلك أم لم يعرفه. فإنه لا يمكن الإيمان بالواجب بدون إيمان بالله والحرية والخلود.
وإن في حياة منصف وموته لدليلاً لا ينقض على وجود الله، هذه هي الأفكار التي ملكتني عندما صممت على تأليف سفر مختصر في الأخلاق لعامة الناس ولاسيما ذوي العقول المستنيرة الذين يشعرون بميل إلى الفلسفة من غير أن يكونوا قد درسوها.
تلك كلمة كبيرة جاءت في مقدمة كتاب الواجب للأستاذ جول سيمون الفيلسوف الفرنسي الكبير والسياسي المشهور، المعاصر لفيكتور هوجو ولويس بونابرت المعروف بنابليون الثالث، ومن هذه الكلمة يعرف القارئ روح المؤلف ويتبين مذهبه ويتوسم فائدة الكتاب، ويستشف قيمته الكبرى، ومنفعته الشديدة، وكتاب الواجب من خير ما كتب للناس في موضوعه، وقد كنا عربنا في بعض أعداد السنة الأولى من البيان جزءاً يسيراً منه ولكنا أمسكنا عن متابعة التعريف لأمر ما.
وقد سرنا وملأ قلوبنا غبطة وفرحاً أن تناوله كاتبان فاضلان من كتَّاب مصر العاملين على خدمتها، ونعني بهما الأستاذ طه حسين ومحمد بك رمضان، وقد ظهر الجزء الأول منه مصدراً بكلمة جليلة للمعربين الفاضلين، يشرحان بها غرض جول سيمون في كتابه والدواعي التي استحثته على وضعه. وجاء بكلمة طيبة في تاريخ حياة المؤلف والألقاب العلمية التي نالها. والوظائف السياسية التي تقلب فيها. أما عبارة الترجمة فتدل على عناية الأستاذين واستمساكهما بالأساليب السهلة الممتنعة. واللغة الجزلة الفصحى وهذا ما كنا نرتقبه من قلم الأستاذ طه حسين معرباً، بعدما عرفنا فضله كاتباً ومفكراً ويزداد جذلنا به إذ نراه مقبلاً على دراسة اللغة الفرنسية. ونتوقع أن يكون منه بعد قريب شيخ من مشايخ المعربين، ورأس من رؤوس المترجمين، ونحن في شغف وارتقاب لصدور الجزء الثاني وتواليه، حتى تنعم بفائدة هذا الكتاب، ونستطيبه بجملته. ونود لو يجعلا ثمن الجزء أرخص(18/41)
مما جعلا. لكي يستطيع القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاوت أرزاقهم الاشتراك في الانتفاع بهذه الأسفار المفيدة. فذلك خير لكتاب الواجب وبه أحرى.
هذا والجزء الأول يباع بمكتبة البيان وثمنه الآن ثمانية قروش عدا أجرة البريد.
بعد طبع ما تقدم أهدى إلينا الأستاذان الجزء الثاني من هذا الكتاب وهو كأخيه السابق مفعم بالمباحث الفلسفية الأخلاقية التي تعوز كثيراً من قراء العربية وثمنه كذلك ثمانية قروش عدا أجرة البريد.
كتاب سفن الأسطول الإسلامي
عبد الفتاح أفندي عبادة شاب مصري ذكي الفؤاد شديد العناية بدراسة فروع التمدن العربي، وآية ذلك أنه بعد أن أتم دروسه في المدارس الابتدائية والثانوية لم يكتف بذلك ولم يجعل همه قاصراً على الانتظام في سلك عمال الحكومة وتطليق العلم والدرس والكتب شأن الكثيرين من خريجي المدارس وبالحرى فابريقات التوظف في الحكومة. بل انصرفت نفسه عن هذه السفاسف وتوفر على البحث والقراءة والإطلاع وكان من ذلك أن فزع أولاً إلى الجامعة المصرية وتلقي فيها كثيراً من محاضراتها المختلفة وساعده على ذلك أن فزع أولاً إلى الجامعة المصرية وتلقي فيها كثيراً من محاضراتها المختلفة وساعده على ذلك ثروة خلفها له والده ثم أخذ بعد ذلك يظهر للناس من حين إلى آخر ثمار أبحاثه ونتاج درسه. وهذا كتاب سفن الأسطول الإسلامي أحد ما أخرجه إلى قراء العربية الذين هم أحوج ما يكونون إلى الوقوف على مبلغ ما وصلت إليه مدينة سلفهم الصالح.
فنحث القراء على اقتناء هذا السفر المفيد الذي قلما يجد القارئ ما جمعه في هذا الموضوع إلا مبعثراً هنا وهناك. وقد طبع الكتاب في مطبعة الهلال وثمنه ثلاثة قروش ويطلب من مكتبتي الهلال والبيان.
جوامع الكلم
قال الدكتور لوبون في مقدمة هذا الكتاب الغرض من هذا الكتاب تلخيص بعض الأفكار المنثورة في مؤلفاتي على اختلاف أنواعها وإبرازها في صورة قضايا جامعة. لأن الصيغ المختصرة تأخذ باللب. وتبقى في الذاكرة، ولذلك شاعت جوامع الكلم في عالم الأدب. . . الخ إلى أن قال ما معناه وهذه القضايا الجامعة مبسوطة في مؤلفاتي وهذا المختصر(18/42)
جامعها! ومن هنا يعلم القارئ أن هذا جوامع الكلم هو تلخيص كل مؤلفات لوبون في الاجتماع والأخلاق والفلسفة فمن قرأه فكأنما قرأ كل تواليف لوبون ما عرب منها وما لم يعرب. وقد ترجم هذا الكتاب فقيد مصر العظيم بل فقيد العرب والعربية أحمد فتحي زغلول باشا في أيامه الأخيرة وقام بنشره الأستاذ صالح جودت بك وطبعه نجيب أفندي متري صاحب مكتب المعارف فنشكر لسعادة الناشر هذا الصنع الجميل ونحث القراء على اقتناء هذا السفر الجليل وثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتب المعارف والبيان.
المنتخب في تاريخ آداب العرب
للفاضل م عطايا الدمشقي
أهدى إلينا من ناحية مكتب الهلال كتاب يسمى المنتخب في تاريخ آداب العرب. امام. . عطايا الدمشقي فليس لنا به علم ولكنا سألنا عنه فعلمنا أنه أحد أفاضل السوريين الموظفين في معارف الحكومة الروسية وأنه ليسرنا السرور كله أن تكثر الكتابة في تاريخ آداب العرب لأن هذا العلم على الرغم من كثرة ما كتب فيه لعهدنا هذا لا يزال بحاجة إلى القول. فإن آداب العرب متشعبة الطرق كثيرة الفرع وهو لهذا أشبه بالمطاط مهما مد منه الكاتب امتد أما هذا كتاب المنتخب فقد ألم فيه صاحبه الفاضل بكل الأبواب العامة لتاريخ الأدب العربي وهو كتاب جامع مفيد يجمل بكل من يهمه الوقوف على تسلسل آداب العرب وعلومهم أن يقرأه وقد وقف على طبعه الفاضلان عبد الفتاح عبادة وألبير عطايا وطبعته مطبعة الهلال وثمنه عشرة قروش ويطلب من مكتبتي الهلال والبيان.
كتاب الحساب التجاري والمالي
أجل كتاب ظهر باللغة العربية في هذا الموضوع بل هو الكتاب الفذ في بابه فبارك الله في الأستاذين سليم أمين حداد المدرس بمدرستي المحاسبة والتجارة العليا والمتوسطة ومحمد سعيد القطان المدرس بمدرسة المحاسبة والتجارة المتوسطة إذ سدا بهذا الكتاب النافع ثلمة في العربية كان يجب أن تسد من أزمان والكتاب يعوز العوز كله جميع المشتغلين بالشؤون المالية والتجارية وهذا الجزء الأول منه يقع في 320 صفحة مطبوع طبعاً جميلاً على ورق جيد وثمنه 15 قرش ويطلب من مكتبتي المعارف والبيان.
السعادة الأبدية(18/43)
اسم اختاره الشيخ علي عبد الرحمن الحسيني لصحيفة أسبوعية وعظية على طراز المجلات الشهرية، والشيخ الحسيني رجل مخلص تقي شديد السخط على أهل هذا العصر فهو يبذل ماله وجهده في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمثال الأستاذ لعمري هم المفلحون، سدد الله خطاه وجزاه الجزاء الذي يستأهله وجعل لصحيفته الإقبال الذي تستحقه.
المستقبل
نعرف من الفاضل سلامة موسى شاباً متعلماً دارساً وهو مع ذلك يمتاز عن كثيرين من أمثاله بالتفكير وصدع قيود التقليد، وهذا معنى يحمل بكل عاقل أن يبتهج به ويتطلب المزيد منه وفي رأينا أن مجتهداً واحداً مخلصاً وإن كان مخطئاً خير من ألف مقلد على صواب. وقد رأى سلامة أفندي أن هناك حاجة إلى صحيفة تنهج بالكتابة والبحث منهجاً جديداً يعود الناس النظر ويتمشي بالحاضر نحو المستقبل ويدخل على المبادئ الشرقية عناصر جديدة من ضروب الإصلاح الغربي - فأنشأ مجلة أسبوعية أسماها المستقبل ظهر منها إلى الآن ثلاثة أعداد.
ونحن فإنا نأخذ على صاحب المستقبل أمرين عدم احتفاله بلغة الكتابة حتى لا يبالي على أية عبارة يقع ولعل هذا من أركان الإصلاح في نظر المستقبل؟. . وثاني الأمرين عدم تقديره للبيئة الشرقية التي يكتب لها كما يجب وكما هو خليق بالمصلح الحكيم.
وإذا كان الشرق بحاجة إلى الإصلاح على النحو الذي يتطلب المستقبل فإن أول واجبات المصلح أن يتدرج في الإصلاح ويسير الهوينا كي يظفر آخر الأمر بالفلج والنجاح والله يسدد خطانا أجمعين.(18/44)
الزباء
كان جذيمة الأبرش من أفضل ملوك العرب رأياً، وأبعدهم مغاراً، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزماً. وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق وضم إليه العرب وغزا بالجيوش - وكان به برص فكنت العرب عنه وهابت العرب أن تسميه به وتنسبه إليه إعظاماً له فقالوا جذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش - وكانت منازلة فيما بين الحبرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتها وعين التمر وأطراف البر إلى الغمير والقطقطانة وخفية وما والاها - وتجبي إليه الأموال وتفد إليه الوفود. وكان غزا طسما وجدياً في منازلهم من جو وما حولهم - وكانت طسم وجديس يتكلمون بالعربية فأصاب حسان بن تبع أسعد أبي كرب قد أغار على طسم وجديس باليمامة فانكفأ جذيمة راجعاً بمن معه - وكان قد اتخذ صنمين يقال لهما الضيزنان: قالوا - ومكان الضيزنين بالحيرة معروف - وكان يستشقى بهما ويستنصر بهما على العدو وكانت إياد بعين أباغ وأباغ رجل من العماليق نزل بتلك العين فكان يغازيهم فذكر لجذيمة غلام من لخم في أخواله من إياد يقال له عدي بن نضر له جمال وظرف فعزاهم جذيمة فبعثت إياد قوماً فسقوا سدنة الصنمين الخمر وسرقوا الصنمين فأصبحا في إياد، فبعثت إلى جذيمة أن صنميك أصبحا فينا زهداً فيك ورغبة فينا فإن أوثقت لنا أن لا تغزونا رددناهما إليك، قال وعدي بن نصر تدفعونه إلى، فدفعوه إليه مع الصنمين فانصرف عنهم وضم عدياً إلى نفسه وولاه شرابه فأبصرته رقاش بنة مالك أخت جذيمة فعشقته وراسلته وقالت يا عدي أخطبني إلى الملك فإن لك حسباً وموضعاً فقال لا اجترئ على كلامه في ذلك ولا أطمع في أن يزوجنيك، قالت إذا جلس على شرابه وحضره ندماؤه فاسقه صرفاً واسق القوم مزاجاً فإذا أخذت الخمرة منه فاخطبني إليه فإنه لن يردك ولن يمتنع عليك فإذا زوجك فأشهد القوم، ففعل الفتى ما أمرته به، فلما أخذت المرة مأخذها خطبها إليه فأملكه إياها فانصرف إليها فأعرس بها من ليلته وأصبح مضرجاً بالخلوق. فقال له جذيمة - وأنكر ما رأى به - ما هذه الآثار يا عدي، قال آثار العرس، قال أي عرس، قال عرس رقاش، قال من زوجكها ويحك، قال زوجنيها الملك، فضرب جذيمة بيده على جبهته وأكب على الأرض ندامة وتلهفاً، وخرج عدي على وجهه هارباً فلم ير له أثر ولنم يسمع له بذكر. وأرسل إليها جذيمة قال:
حدثيني وأنت لا تكذبيني ... أبحر بنيت أم بهجين(18/45)
أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون
فقالت لا بل أنت زوجتي أمراً عربياً معروفاً حسيباً ولم تستأمرني في نفسي ولم أكن مالكة لأمرئ فكف عنها وعرف عذرها، ورجع عدي بن نصر إلى إياد فكان فيهم، فخرج ذات يوم مع فتية متصيدين فرمي به فتى منهم من لهب فيما بين جبلين فتنكس فمات، واشتملت رقاش على حمل فولدت غلاماً فسمته عمراً ورشحته حتى إذا ترعرع عطرته وألبسته وحلته وأزارته خاله جذيمة فلما رآه أعجب به وألقيت عليه منه مقة ومحبة فكان يختلف مع ولده ويكون معهم، فخرج جذيمة متبدياً بأهله وولده في سنة خصبة مكلئة فضربت له أبنية في روضة ذات زهر وغدر وخرج ولده وعمرو مغهم يجتنون الكمأة فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها وإذا أصابها عمرو خبأها في حجرته فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون وعمرو يقول:
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه
فضمه إليه جذيمة والتزمه وسر بقوله وفعله وأمر فجعل له حلى من فضة وطوق فكان أول عربي ألبس طوقاً فكان يسمى عمرو ذا الطوق فبينما هو جالس على أحسن حاله إذ استطارته الجن فاستهوته فضرب له جذيمة في البلدان والآفاق زماناً لا يقدر عليه - قالوا - وأقبل رجلان أخوان يقال لهما مالك وعقيل من الشام يريدان جذيمة قد أهديا له طرفاً وأمتعة، فلما كانا ببعض الطريق نزلاً منزلاً ومعهما قينة لهما يقال لها أم عمرو فقدمت إليهما طعاماً فبيناهما يأكلان إذ أقبل فتى عريان شاحب قد تلبد شعره وطالت أظفاره وساءت حاله فجاء حتى جلس ناحية منهما فمد يده يريد الطعام فناولته القينة كراعاً فأكلها ثم مد يده إليها فقالت تعطي العبد الكراع فيطمع في الذراع فذهبت مثلاً، ثم ناولت الرجلين من شراب كان معها وأوكت زقها فقال عمرو بن عدي:
صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا
فقال مالك وعقيل من أنت يا فتى فقال:
أن تنكراني أو تنكرا نسبي ... فإني أنا عمرو بن عدي
ابن تنوخية اللخمي ... وغدا ما ترياني في نمارة غير معصى(18/46)
فنهضا إليه فضماه وغسلا رأسه وقلما أظفاره وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب وقالا ما كنا لنهدي لجذيمة هدية أنفس عنده ولا أحب إليه من ابن أخته، قد رده الله عليه بناء فخرجا به حتى دفعا إلى باب جذيمة بالحيرة فبشراه فسر بذلك سروراً شديداً وأنكره لحال ما كان فيه فقالا أبيت اللعن إن من كان في مثل حاله يتغير فأرسل به إلى أمه فمكث عندها أياماً ثم أعادته إليه فقال لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق فما ذهب عن عيني ولا قلبي إلى الساعة فأعادوا عليه الطوق فلما نظر إليه إليه قال شب عمرو عن الطوق فأرسلها مثلاً، وقال لمالك وعقيل حكمكما قالا حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت، فهما ندماناً جذيمة اللذان ضربا مثلاً في أشعار العرب.
وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف الشأم عمرو بن ظرب العمليقي من العماليق، فجمع جذيمة جموعاً من العرب فسار إليه يريد غزاته وأقبل عمرو بن ظرب بجموعة من الشام فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل عمرو ابن ظرب وانفضت جموعه وانصرف جذيمة بمن معه سالمين غانمين - ثم ملكت من بعد عمرو ابنته الزباء ومان جنودها بقايا من العماليق والعاربة الأولي وقبائل فضاعة - وكان للزباء أخت يقال لها زبيبة فبنت لها قصراً حصينا على شاطئ الفرات الغربي وكانت تشتو عند أختها وتربع ببطن النجار وتصير إلى تدمر - فلما أن استجمع لها أمرها واستحكم لها ملكها أجمعت لغزو جذيمة تطلب بثار أبيها فقالت لها أختها زبيبة وكانت ذا رأي ودهاء وإرب يا زباء إنك إن عزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده أن ظفرت أصبت ثارك وإن قتلت ذهب ملكك والحرب سجال وعثراتها لا تستقال وإن كعبك لم يزال سامياً على من ناواك وساماك ولم تري بؤساً ولا غيراً ولا تدرين لمن تكون العاقبة وعلى من تكون الدائرة - فقالت لها الزباء قد أديت النصيحة وأحسنت الروية وإن الرأي السديد ما رأيت والقول ما قلت فانصرفت عما كانت أجمعت عليه من غزو جذيمة ورفضت ذلك وأتت أمرها من وجوه الختل والخدع والمكر فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها وأن يصل بلاده ببلادها وكان فيما كتبت به: إنها لم تجد ملك النساء إلا إلى قبيح في السماع وضعف في السلطان وقلة ضبط المملكة وأنها لم تجد لملكها موضعاً ولا لنفسها كفؤاً غيرك. فأقبل إلى فاجمع ملكي إلى ملكك وصل بلادي ببلادك وتقلد أمري مع أمرك. فلما انتهى كتاب الزباء إلى جذيمة وقدم عليه رسلها استخفه(18/47)
ما دعته إليه ورغب فيما أطعمته فيه وجمع إليه أهل الحجي والنهي من ثقات أصحابه وهو ببقة من شاطئ الفرات فعرض عليهم ما دعته إليه الزباء واستشارهم في أمره فأجمع رأيهم على أن يسير إليها ويستولي على ملكها - وكان فيهم رجل يقال له قصير بن سعدو كان سعد تزوج أمه لجذيمة فولدت له قصيراً وكان أريباً حازماً أثيراً عند جذيمة ناصحاً فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال رأى فاتر وغدر حاضر فذهبت مثلاً - وقال لجذيمة أكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا لم تمكنها من نفسك ولم تقع في حبالها وقد وترتها وقتلت أباها فلم يوافق جزيمة ما أشار به عليه قصير فقال قصير:
إني امرؤ لا يميل العجز ترويتي ... إذا أتت دون شيء مرة الوذم
فقال جذيمة لا ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح فذهبت مثلاً، فدعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره فشجعه على المسير وقال إن نمارة قومي مع الزباء ولو قدروا لصاروا معك فأطاعه وعصى قصيراً فقال قصير لا يطاع لقصير أمر - واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه وسلطانه وجعل عمرو بن عبد الجن الجري معه على خيوله وسار في وجوه أصحابه فأخذ على الفرات من الجانب الغربي فلما نزل الروضة دعا قصيراً فقال ما الرأي فقال ببقة خلفت الرأي فذهبت مثلاً واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف فقال يا قصير كيف ترى قال خطر يسير في خطب كبير فذهبت مثلاً وستلقاك الخيول فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك من خلفك فإن القوم غادرون فاركب العصا - وكانت فرساً لجذيمة لا تجاري - فإني راكبها ومسايرك عليها فلقيته الخيول والكتائب فحالت بينه وبين العصا فركبها قصير ونظر إليه جذيمة مولياً على متنها فقال ويل أمة حزماً على ظهر العصا فذهبت مثلاً فقال يا ضل ما تجري به العصا وجرت به إلى غروب الشمس ثم نفقت وقد قطعت أرضاً بعيدة فبنى عليها برجاً يقال له برج العصا - وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على الزباء فلما رأته تكشفت فإذا هي مضفورة الأسب فقالت يا جذيمة أدأب عروس ترى فذهبت مثلاً فقال بلغ المدى وجف الثرى وأمر غدر أرى فقالت أما وإلهي ما بنا من عدم مواس ولا قلة أواس ولكنه شيمة من أناس فذهبت مثلاً. وقالت إني أنبئت إن دماء الملوك شفاء من الكلب ثم أجلسته على نطع وأمرت بطست من ذهب فأعدته له وسقته من الخمر حتى أخذت مأخذها(18/48)
منه وأمرت براهشيه فقطعا وقدمت إليه الطست وقد قيل لها أن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه. وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في قتال تكرمة للملك فلما ضعفت يداه سقطتا فقطر من دمه في غير الطست فقالت لا تضيعوا دم الملك فقال جذيمة دعوا دما ضيعه أهله فذهبت مثلاً فهلك جذيمة واستنشقت الزباء دمه فجعلته في برس قطن في ربعة لها وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصابين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عدي وهو بالحيرة فقال له قصير أداء أم ثائر قال لا ثائر سائر فذهبت مثلاً وافق قصير الناس وقد اختلفوا فصارت طائعة منه مع عمرو بن عبد الجن الجرمي وجماعة منهم مع عمر بن عدي فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا وانقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي ومال إليه الناس فقال قصير لعمرو ابن عدي تهيأ واستعد ولا تطل دم خالك قال وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو (فذهبت مثلاً) وكانت الزباء سألت كاهنة لها عن أمرها وملكها فقالت أرى هلالك بسبب غلام مهين غير أمين وهو عمرو بن عدي ولن تموتي بيده ولكن حتفك بيدك ومن قبله ما يكون ذلك فحذرت عمر أو اتخذت تفقاً من مجلسها الذي كانت تدلس فيه إلى حصن لها داخل مدينتها وقالت إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني ودعت رجلاً مصوراً أجود أهل بلادها تصوير أو أحسنهم عملاً لذلك فجهزته وأحسنت إليه وقالت له سرحتي تقدم على عمرو بن عدي متنكراً فتخلو بحشمة وتنضم إليهم وتخالطهم وتعلمهم ما عندك من العلم بالتصوير والثقافة له ثم أثبت عمرو بن عدي معرفة وصوره جالساً وقائماً وراكباً ومنفصلاً ومتسلحاً بهيئته ولبسته وثيابه ولونه فإذا أحكمت ذلك فأقبل إلى فانطلق المصور حتى قدم على عمرو وصنع الذي أمرته به الزباء وبلغ ما أوصته به ثم رجع إليها بعلم ما وجهته له من اصور على ما وصفت له وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته وعلمت علمه فقال قصير لعمرو بن عدي أجدع أنفي وأضرب ظهري ودعني وإياها فقال عمرو ما أنا بفاعل وما أنت لذلك بمستحق مني، فقال قصير خل عني إذا وخلاك ذم فذهبت مثلاً، قال ابن الكلبي كان أبو الزباء اتخذ النفق لها ولأختها وكان الحصن لأختها في داخل مدينتها، قال فقال له عمرو فأنت أبصر فجدع قصير أنفه وأثر بظهره ثم خرج كأنه هارب وأظهر أن عمراً فعل به ذلك وأنه يزعم أنه مكر بخاله جذيمة وغره من الزباء فسار قصير حتى قدم(18/49)
على الزباء فقيل لها أن قصيراً بالباب فأمرت به فدخل عليها فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب فقالت ما الذي أرى يا قصير فقال زعم عمرو بن عدي أني غررت خاله وزينت له السير إليك وغششته وما لأنك عليه ففعل ما ترين فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك فألطفته وأكرمته وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملوك فلما عرف أنها قد استرسلت إليه ووثقت به قال لها أن لي بالعراق أموالاً كثيرة وبها طرائف وتياب وعطر فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي وأحمل إليك من بزوزها وطرائف ثيابها وصنوف ما يكون بها من الأمتعة والطيب والتجارات فتصيبين في ذلك أرباحاً عظاماً وبعض مالا غنى بالملوك عنه فإنه لا طرائف كطرائف العراق فلم يزل يزين لها ذلك حتى سرحته ودفعت معه عيراً فقالت انطلق إلى العراق فبع بها ما جهزناك به واتبع لنا من طرائف ما يكون بها من الثياب وغيرها فسار قصير بما دفعت إليه حتى قدم العراق وأتي الحيرة متنكراً فدخل على عمرو بن عدي فأخبره وقال جهزني بالبز والطرف والأمتعة لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك فأعطاه حاجته وجهزه بصنوف الثياب وغيرها فرجع بذلك كله إلى الزباء فعرضه عليها فأعجبها ما رأت وسرها ما أتاها به وازدادت به ثقة وإليه طمأنينة ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته في المرة الأولى فسار حتى قدم العراق ولقي عمرو بن عدي وحمل من عنده ما ظن أنه موافق للزباء ولم يترك جهداً ولم يدع طرفة ولا متاعاً قدر عليه إلا حمله إليها ثم عاد الثالثة في العراق فأخبر عمراً وقال اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيء لهم الغرائر والمسوح - قال ابن الكلبي وقصير أول من عمل الغرائر واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين واجعل معقد رؤوس الغرائر من باطنها فإذا دخلوا مدينة الزباء أقمتك على باب نفقتها وخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة فمن قاتلهم قتلوه وإن أقبلت الزباء تريد النلق جللتها بالسيف ففعل عمرو بن عدي وحمل الرجال في الغرائر على ما وصف له قصير ثم وجه الإبل إلى الزباء عليها الرجال وأسلحتها فلما كانوا قريباً من مدينتها تقدم قصير إليها فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب والطرائف وسألها أن تخرج فتنظر على قطرات تلك الإبل وما عليها من الأحمال فإني جئت بما صاء وصمت فذهبت مثلاً. وقال ابن الكلبي وكان قصير يكمن النهار ويسير الليل وهو أول من(18/50)
كمن النهار وسار الليل - فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها فقالت يا قصير:
ما للحمال مشيها وئيداً ... أجندلا يحملن أم حديداً
أم صرفانا بارداً شديدا
فدخلت الإبل المدينة حتى كان آخرها بعير أمر على بواب المدينة وهو نبطي بيده منخسة فنخس بها الغرائر التي تليه فأصابت خاصرة الرجل الذي فيها فند منه شيء فقال البواب بالنبطية بشتا بسقا يعني بقوله بشتا بسقا في الجوالق شر وأرعب قلباً فذهبت مثلاً فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت ودل قصير عمراً على باب النفق قبل ذلك وأراه إياه وخرجت الرجال من الغرائر وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح وقام عمرو بن عدي على باب النفق وأقبلت الزباء مولية مبادرة تريد النفق لتدخله وأبصرت عمراً قائماً فعرفته بالصورة التي كان صورها لها المصور فمصت خاتمها وكان فيها سم وقالت بيدي لا بيدك يا عمرو فذهبت مثلاً وتلقاها عمرو بن عدي فجللها بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من أهل المدينة وانكفأ راجعاً إلى العراق.(18/51)
القلب الكسير
للكاتب الأميركي واشنطن لوفنج حذق في الصوف، ومهارة في التأثير وخبرة عريضة بمواضع الضعف من القلوب البشرية، وعلم جم بعواطف الناس وآلامهم ووجدناتهم، فهو يودع كل ما يكتب عقله وقلبه، حتى لتقرأ له أجف مقالاته وأخشن رسالاته، فلا ترى بين أثناء كلماتها، وأضعاف فقرها، إلا كلمة حكيمة، أو دمعة مستهلة، أو ضحكة مفترة، أو فكاهة عذبة.
وليس أرفنج بعد بالروائي الصنع الذي يجيد حبك الرواية، ويملؤها بالأسرار المشوقة، والحوادث الغريبة، والألغاز العجيبة، ويدخل عليها من سرقات اللصوص، وتجسسات الشرط، وفضائح العشق، وغير ذلك مما ترى في الروايات الفرنسية والإنجليزية الموضوعة لتفكهة العامة، وكما تشاهد في أغلب الروايات التي تقذف بها المطابع في كل يوم مع صحف الغرب ومجلاته فلا ينتظرن القارئ من أرفنج روائياً على نحو كونان دويل وهول كاين وديماس، فإن الرجل يخاف على القارئ الملل والسآمة، فيصوغ خواطره وآراءه في أسلوب روائي، على قدر الطاقة، يحشد له فيها من فلسفته وحكمته وبدائع آرائه على مثال ما يكتب فطاحل الروائيين الغربيين في هذا العصر.
وإلى القراء قصة له صغيرة سماها القلب الكسير، وصف فيها قلب المرأة إذا كسرته الخيبة في الحب، وأرسل فيها العنان لخواطره، وأفاض في فلسفة الحب ومواقعه من قلوب الرجال والنساء. وجاء في آخر آرائه بقصة مؤثرة مبكية مستثيرة، وهي معدودة من أول حسنات أرفنج، وأبدع ما خط قامه. . قال أرفنج.
جرت العادة عند أولئك الذين جاز بهم العمر حد الشباب وحرارته، والذين نشؤا في بهجة الحياة المبددة، وفرحة العيشة اللاهية، لا قلوب لهم تنبض وتحقق، ولا أفئدة تحسن وتشعر، أن يضحكوا من قصص الحب ورواياته، ويسخروا من حادثات الهوى وحكاياته، ويقولوا تلك أساطير خيالي، وتلك تلفيقات روائي، وتلك أغاليط شاعر، أما أنا فقد علمتني مشاهداتي لطبائع الناس وملاحظاتي أن أرى غير رأيهم، وأذهب غير مذهبهم وأعتقد أنه مهما برد أديم الخلق من هموم الدنيا، وجلد من أمور المعاش، ومتاعب الحياة، وتلقن الابتسامات والضحكات من تكاليف الناس، ومصطلحات الجماعة، فما يزال في أعماق ذلك القلب الجليد نيران هاجعة خافية، لا تكاد تشعل حتى تستمر وتضطرم وقد يكون من(18/52)
ضرامها الويل والعذاب.
أجل إني لأصدق الناس إيماناً بذلك الآلة الأعمى وإني لأمضي في إيماني به إلى أقصى غاياته، وأسترسل في تصديقي بتعاليمه إلى أبعد درجاته فهل تريدون أن أسوق إليكم اعترافي يا معاشر القراء - بلى إني لا أومن بوجود قلوب كسيرة، وأفئدة جرحى، وأكباد حرى، وأصدق باحتمال حدوث الموت من الحب الخائب، والحتف في الغرام الضائع، على حين لا أظنه في كل حال داء في الرجال قتالاً، وإن كنت على يقين أن الحب كم ذوي من غادة فتانه، وكم هبط بشابه حسناء إلى ما جون الجنادل والصفائح.
وتعلم أنت أن الرجل منا مخلوق اللذة والطمع. تدفعه طبيعته إلى معترك العالم وضوضائه وجلبته. فليس الحب منه إلا زين شبابه وحليته. بل إن هو إلا مثل أنشودة تعزف. وأغنية بها يصدح ويهتف. بين فترات الفصول وفسحاته. يطمح بعينيه إلى طيب الذكر. ويمد طرفه إلى حسن القالة. ويجد للثراء والنضراء. ويطلب له مكاناً في عقل العالم وذاكرته. ويربغ سياد \ ة على الناس ورفعة شأن.
وأما جميع حياة المرأة فتاريخ عواطفها ووجداناتها. عالمها. قلبها. ودنياها. كبدها. طماعيتها أن تنشيء على هذا العالم دولة. وتقيم على عرش هذه الدنيا مملكة ومطمحها أن تفتش في ثناياه عن خبأ الكنوز. وتثير منه هاجع الدفائن فهي لهذا تبعث بعواطفها مخاطرة ومجازفة. وتنفذ جميع روحها إلى متجر الحب وسوقه. فإذا غرقت تجارتها. واحتوى الماء بضاعتها فأكبر ببلواها من بلوى. وأسوئ بعقباها من عقبي، وحسبك أنه إفلاس القلب. وخراب الفؤاد.
وخيبة الرجل في الحب قد تحدث له آلاماً مرة، ومواجع محرقة، وقد تجرح منه أماكن الرقة، وتدمي منه بعض مواقع البشاشة والوداعة، وتذبل بعض مشام السعادة ووجوهها. ولكنه بعد ما أن يزال مخلوقاً قوياً نشيطاً، يستطيع أن يقذف بأفكاره في زوبعة العمل والجهد، أو يتوارى تحت لج اللهو، وينغمس في مد الملذة والقصف، فإذا برح به الألم لرؤية المكان الذي خاب فيه حبه، واشتدت به اللواعة لمشارفة الموضع الذي فقد فيه قلبه، فليغادر إذا ما شاء مقامه، وليخف من بيته محمله ويستعير كما يقولون أجنحة الصبح، طائراً إلى أنأى أطراف الأرض، مخلداً حيث أقام إلى الراحة والسكون.(18/53)
وحياة المرأة أن تدبرتها وقارنت بينها وبين حياة الرجل، وجدتها حياة سكون واحتجاب واعتزال وتفكير، وهي أكثر من الرجل متابعة لأفكارها، ومسايرة لمشاعرها، ومصاحبة لعواطفها. فإذا انقلبت رسل حزن، وحلفاء شجن، فليت شعري أين تجد المرأة عزامها، وأين تطلب سلواها؟.
لقد كان نصيبها أن تغازل فتكسب، وتداعب فتطلب، فإذا طاش سهمها في حبها، ولقيت من الغرام نكبة، وعانت من الهوى برحا فعمرك الله، ما أشبه حالها بحصن أغير عليه، فسلب ونهب. ثم ترك مكاناً خالياً، وهجر قاعاً صفصفاً.
كم من عيون مشرقة زاهية انطفأت، وكم من خدود ناعمة أثيلة أصفرت وكم من حسان ذوت، وكم من قدود هيفاء قضب، لا يعلم إلا الله ما سبب ذبول حسنهن، وانطفاء بهائهن، وكما تضم الورقاء جناحيها إليها، فتخفي السهم الذي يبري في عظامها، ويتغلغل في جوانحها. فكذلك كانت طبيعة المرأة أن تخفي عن العالم آلام حبها المجروح، وغرامها الدامي، وما حب المرأة إلا حليف الحياء ظهير الصمت والسكون، فهي وإن نعمت به وسعدت، لا تكاد تصعد به أنفاسها وترفع به إلى أحد زفراتها، وإن هي يئست به وابتأست حملته في زوايا صدرها، وتركته هناك منزوياً مختفياً بين أطلال سعادتها ودوارس هنائها.
لقد خابت بخيبتها أمنية القلب، ومشتهى النفس، وضاعت بهجة الحياة، وانقضت مسرة الوجود تتجنب الملاهي البهيجة، وتترك الملاعب الموجدة للروح المقوية لخفقات القلب، الباعثة مد الحياة في مجاري الأعصاب والأعراق.
تلقاء المضجع، نابية المرقد، مضطربة السرب، مشتتة الراحة، امتزج نومها الحلو الهنيء بسم الأحلام المحزنة، والخيالات المبكية، يمتص دمها حزنها الجاف، حتى يهوى جسمها الضعيف الواهي تحت أخف الطوارق والعوارض، ثم انظر بعد ذلك إليها، تجد الصداقة مرسلة عيونها فوق قبرها، ساكبة مدرار عبراتها فوق ضريحها، مولهة حيرى تعجب للتي كانت بالأمس مشرقة بكل ضياء فوق ضريحها، مولهة حيرى تعجب للتي كانت بالأمس مشرقة بكل ضياء الصحة، متألقة بكل سنا الجمال، أن تشيع بهذه السرعة إلى موطن الظلمات والديدان!.
وعسيت تسمع منهم أنها قضت أثر برد شديد، وهوت من توعك عارض، ولكنهم لا(18/54)
يعلمون بذلك الداء الروحاني الدفين، الذي كان من قبل العارض يشرب من صحتها، ويحسو من دمها، حتى جعلها غنيمة ذلولاً لمناسر الموت ومخالبه.
ليت شعري، أن مثلها كمثل شجرة فينانة يانعة، كانت زينة الأجمة، وفخر الحرش، وبهاء الغابة، حسناء المنظر، بهيجة الورق، ممددة الفنن ولكن في جوفها يسرح الدود، ويأكل الأرض، وإذ ذاك لا تلبت أن تجدها قد ذبلت فجاءة وتداعت، وكنا نترقب أن تصبح أينع ما تكون مظهراً، وأنضر ما تكون فرعاً، وأبهى ما تكون غصناً، ولا ننشب أن نرى منها أفناناً مهصورة. وورقاً منتثراً، وعناء مبدداً متساقطاً، حتى إذا اضمحلت وتآكلت، رأيناها ساقطة في سكون الغاب وهدوئه، وإنا لنقف بأطلالها البالية، ونروح على شرف من بقاياها الهاوية، نحاول عبثاً أن نذكر أية صاعقة انقضت عليها، وأية ريح بارح عصفت بها فجعلتها كما أرى أثراً عافياً.
ولقد رأيت من النساء كثيرات، يأخذن في الضعف، ويسترسلن في الفتور والإهمال، حتى يختفين من هذا العالم، ويرتحلن عن هذه الأرض، وكأني بهن أنفاس مرتفعة إلى السماء، أو دخان متصاعد إلى القبة الزرقاء، وكنت أعود كل حين فأتصور أني قادر على اقتفاء سبب موتهن، بين عديد الأمراض والمهالك من سل، أوبرد، أو نحول، أو سوداء، حتى أهتدى خر ذلك إلى أول عوارض الحب الخائب، وأمارات العشق الضائع.
وقد نبئت في هذه الأيام بحادثة من هذا القبيل، انتشر أمرها في البلد الذي وقعت فيه وذاع، وها أنا أقص عليكم تفاصيلها، وأتلو عليكم من نبئها كما قد نليت على، لا زيادة عندي ولا نقصان.
كلكم لابد يذكر قصة الفتى أ. . . . ذلك الإيرلندي الوطني الأشم، إذ هي من التأثير بحيث لا تنسى ولا تبلى.
في خلال الفتن والهزاهز التي كانت قائمة في إيرلندا على ساقها وقدمها، رفعوه إلى القضاة يحكمون في أمره وقد اتهم بالانشقاق على الحكومة، والخروج على جلالة الملك، فما كان من قضائه إلا أن حكموا عليه بالموت، ودفعوا به إلى المقصلة. وكان لمقتله أثر كبير في النفوس، وأسى بليغ في الأفئدة، إذ كان فتى في طراءة الشباب، وكان جواداً في عنفوان الجود، وكان ذكياً في غلواء الذكاء، وكان نجداً في ريعان النجدة وكان على كل الصفات(18/55)
والخلال التي تستحب في الفتيان، وتحمد من الأحداث من الرجال.
وكان أيام المحاكمة أربط ما يكون جأشاً، وأثبت ما يكون جناناً، وأحمى ما يكون آنفاً، وإن الحدة الشريفة التي خلع بها عنه أمام القضاء تهمة الخيانة، والعزة التي نطق بها اسمه، والاسترحام الذي جهر به إلى الأجيال المقبلة في تلك الساعة العصيبة، كل هذه نفذت إلى صميم كل قلب كريم، وتغلغلت في أثناء كل صدر رحيم، حتى لقد بكاه أعداؤه، ولهف عليه أخصامه، وأشفقوا من تلك السياسة المتجهمة العابسة التي أملت الحكم بإعدامه.
ولكن هناك قلباً واحداً، أين لأبلغ الأقلام أن يصف ما كان يكابد من حرقة وألم، ويعالج من تفتيت وتعذيب.
كان في أيام رخائه الأولى، وعهود نعمته الماضية، قد وقع حبه من فؤاد فتاة حسناء عذبة المحضر، كان أبوها محامياً في قومه مسموع الاسم، نايه الذكر، أحبته ذلك الحب الحار الخالص أول حب المرأة في شبابها، ولشد ما كان حبها، وأحر ما كان وجدها، وأعظم ما كانت لآلامه آلامها يوم حفت به التهلكة، وسددت إليه عبر الدنيا، ووجهت إليه سهام الأقاويل، وأدبر من زمانه ما كان مقبلاً، وهوي من نجوم سعده ما كان متألقاً مسفراً وأحدق باسمه العار والخطر، وإذا كان مصابه قد أثار هاجع الرحمة في قلوب الأعداء، فليت شعري ماذا يكون مبل عذاب تلك التي كانت جميع روحها متوجهة قبل صورته.
ألا فليقل لك أولئك الذين حالت أبواب القبر وصفائحه. بينهم وبين أعز الناس في الدنيا عليهم. وأحب الخلق إلى نفوسهم. أولئك الذين جلسوا على وصيد المقبرة وعتبتها. كمن ترك في العالم وحيداً، قد تولى عنه أحبابه، وارتحل عنه أصحابه.
وأي عزاء تري يشفع لأهوال ذلك القبر. وفضيحة ذلك الموت، وعار ذلك الرحيل، ولم يصيح في الذكرى ما يختلف من لوعة الفراق، أو يذيب الحزن عبرات، ويبعث الأسى دموعاً، كقطرات الندى من جفون السماء تحيي به القلب الكسير والفؤاد الموجع، في ساعة الرحيل المحرقة المؤلمة؟.
ولقد زاد عذابها، وأكبر مصلبها، أن حبها لم يكن عن رضى من أبيها ولا عن مسرة، ولذاك لفظها أبوها من رحمته، ونفاها من حظيرته. وطردها من سقفه وكنفه. ولو استطاعت رحمة الأصحاب، وإعانات الأحباب. وعطايا الأصدقاء، أن تغني عن هذه الروح المنكوبة(18/56)
المبتلاة، إذن لما أعوزتها بلوى ولا عز عليها عزاء، لأن الإيرلنديين قوم بر ورحمة، وأهل عطف وحنان.
وكذلك وجدت من مسير الأسر الغنية. والعشائر الكريمة، أرقى صنوف الإكرام، وأعذب ضروب الرحمة، ساقوها إلى ندواتهم ومجتمعاتهم واحتالوا بكل أنواع الملاهي والمناعم أن يبددوا عنها حزنها، ويبعدوها عن قصة حبها، وذكرى نكبتها. فما أجدى كل ذلك نفعاً. فإن من المصائب ما يسحق القلب، ويحرق الروح، وينفذ إلى منبت السعادة فيهشمه، حتى ما يخرج من بعدها زهراً ولا كمأ، وهي لم تكن تمانع في غشيان أماكن اللهو، ومواطن السرور، ولكنها كانت فيها كأوحد ما تكون في أغوار العزلة والانفراد، تمشي وتخطر بينهم تائهة في حلم محزن. كأنها لا تشعر بما حولها لا تعلم. تحمل معها شجناً، يسخر من كل مداعبات الصداقة وملقها وعذب كلماتها، ولا يحفل بأنشودة المنشد، وإن لم يصدح من قبل بأحسن مما صدح وأطرب.
وقد رآها من قص على قصتها في حفلة راقصة، وأنت فلو التقيت بمظهر بؤس، ورهين شقاه، في حفل كهذا لا ترى فيه إلا راقصين وماجنين ولاعبين، إذن لكان منظره أبلغ في قلبك أثراً. وأمضي لموضع الرحمة منك حسرة ولهفاً. هناك إذ تجده طائفاً هائماً كالروح الشاردة، وحيداً لا فرح يملك لنفسه، وإن كان كل ما حوله في فرح. إذ تراه مشتملاً في حلل اللهو متجملاً في ثياب الطرب والمراح، وإن كان يلوح ضعيفاً شاحباً حزيناً. كأنما قد حاول عبثاً أن يخدع قلبه الكسير في لحظة نسيان، وبرهة تناس لأشجان.
خطرت في الحجرات الفخمة الأنيقة، ومشت بين الجمع المزد هي المتماوج وعليها تبدو أمارات الذهول، ثم جاءت فجلست عند درج الموسيقى. ودارت بعينها مبهوتة: انها لا تشعر بما حولها من زينة ومبهجة. وأخذها ما يأخذ كل قلب مريض من التحول والانقلاب. فأنشأت تغني نعمة شجية محزنة. وكانت ذات صوت عذب رخيم، ولكن كان في تلك الساعة سهلاً مؤثراً. كأنما كانت تصعد مع أنفاسها روح البؤس. وأنفاس الشفاء. والنف الجمع حولها صامتين. يسفحون الدموع ويسكبون العبرات.
وقصة فتاة كهذه صادقة الحب. رقيقاً القلب. تثير الاهتمام والعناية في بلد اشتهر بالحمية. وعرف بالحماسة والغيرة، فما عتمت أن وقعت من قلب ضابط شجاع. جعل يظهر لها(18/57)
دلائل الحب وجعل يرى أن من كانت مثلها وفيه للميت. لابد أن تروح ودوداً للحي، ولكنها رفضت سؤاله، إذ كانت جميع أفكارها سابحة في ذكرى حبيبها الأول. على أنه أصر على رجائه وألحف في سؤاله. واستشفع إليها من ناحية مكانتها. لا من ناحية فؤادها ورقتها. وأعانه على سؤله اعتقادها بفضله. وشعورها بسوء حالها. وضيق ذات يدها. إذ كانت تعيش من عطف الأصدقاء، وحدب الخلصاء. وجملة القول إنه فاز أخيراً بيدها وإن علم أن قلبها نصيب غيره. لا تحويل لذل ولا تبديل.
ورحل بها إلى صقلية. وهو يعلل النفس بأن تغيير المناظر والمعاهد قد يمحو من فؤادها ذكرى أحزانها الأولى. وكانت له زوجة محبوبة وكانت معه قدوة للزوجات. وقد حاولت فما استطاعت أن تكون ناعمة البال. رخية العيش. وأي دواء يداوي ذلك الحزن الصامت القاتل. الذي بلغ صميم الروح. واستقر في أعماق النفس، وبدأت تهزل وتضمحل وتفتر فتوراً ضعيفاً بطيئاً. حتى هبطت إلى القبر ضحية قلب كسير.
وقد بكاها الشاعر الإيرلندي مور بهذه الأسطر الآتية:
لقد أصبحت بعيدة عن الأرض التي يهجع عندها حبيبها الفتى يرسل حولها العشاق حار الزفرات. وساخن التنهدات. وهي تغضى عنهم نظرها وتسترسل في البكاء والنحيب. لأن قبر حبيبها يرقد فؤادها.
وإنها لتغني أناشيد بلادها وتصدح بأغاني قومها. وتذكر كل نغمة كان يحب وكل لحن كان يؤثر. فواها لها. إنهم ليتهيجون بأغاريدها ويطربون لنشائدها ولا يعلمون أن قلب المغنية جريح. وفؤاد المنشدة كسير.
عاش لحبه. ومات لبلده. وما أدرجوه إلا في أكفان الحياة فلن تجف عليه دموع قومه. ولن يطل مكث حبيبته بعده.
إلا فاجعلوا قبرها عند مطلع الشمس. ومشرق الضياء. ومبعث النور ليسطع في الصبح البهي فوق مضجعها. يحييها بابتسامة من جزيرة حزنها. . .(18/58)
نوادر وملح وفكاهات
سأل رجل عمر بن فنن عن الحصاة من حصى المسجد يجدها الإنسان في ثوبه أو خفه أو جبهته قال له إرم بها فقال الرجل زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد قال دعها تصيح حتى ينشق حلقها قال الرجل أو لها حلق قال فمن أين تصيح - أنت جارية أبا ضمضم فقالت إن هذا قبلني فقال قبليه فإن الله يقول والجروح قصاص - حدث السندي بن شاهك قال بعث إلي المأمون بريداً وأنا بخراسان فطويت المراحل حتى أتيت باب أمير المؤمنين وقد هاج بي الدم فوجدته نائماً فأعلمت الحاجب بقصتي وقدمت إليه عذري وما هاج بي من الدم فانصرفت إلى منزلي فقلت أحضروا لي الحجام قالوا هو محموم قلت هاتوا حجاماً غيره ولا يكن فضولياً فأتوني به فما هو إلا اندارت يده على وجهي حتى قال جعلت فداك هذا وجه لا أعرفه فمن أنت قلت السندي بن شاهك قال ومن أين قدمت فإني أرى أثر السفر عليك قلت من خراسان قال وأي شيء أقدمتك قلت وجه إلى أمير المؤمنين بريداً ولكن إذا فرغت سأخبرك بالقصة على وجهها قال وتعرفني بالمنازل والسكك التي جئت عليها قلت نعم قال فما هو إلا أن فرغ حتى دخل رسول أمير المؤمنين ومعه كركي فقال إن أمير المؤمنين يقرئك السلام وهو يعذرك فيما هاج بك من الدم وقد أمرك بالتخلف في منزلك إلى أن تغدو عليه إن شاء الله ويقول ما أهدى إلينا اليوم غير هذا الكركي فشأنك به قال فالتفت السندي إلى جلسائه فقال ما يصنع بهذا الكركي فقال الحجام يطبخ سكباجا قال السندي يصنع كما قال وحلف على الحجام أن لا يبرح فحضر الغداء فتغدينا قال ثم قلت يعلق الحجام من العقبين ثم قلت جعلت فداك سألتني عن المنازل والسكك التي قدمت عليها وأنا مشغول في ذلك الوقت وأنا أقصها عليك فاستمع خرجت من خراسان وقت كهذا فنزلت كذا يا غلام أوجع فضربه عشرة أسواط ثم قلت وخرجت منه إلى مكان كذا يا غلام أوجع فضربه عشرة أسواط ثم قلت وخرجت منه إلى مكان كذا يا غلام أوجع فضربه عشرة أخرى ولم يزل يضربه لكل سكة عشرة حتى انتهى إلى سبعين سوطاً فالتفت إلى الحجام وقال يا سيدي سألتك بالله إلى أين تريد أن تبلغ قلت إلى بغداد قال لست تبلغ حتى تقتلني قلت فأتركك إلى أن لا تعود قال والله لا أعود أبداً قال فتركته وأمرت له بسبعين درهماً فلما دخلت على المأمون أخبرته الخبر قال وددت أنك بلغت به إلى أن تأتي على نفسه.(18/59)
حدث الأصمعي قال ولي رجل قضاء الأهواز فأبطأت عليه أرزاقه وليس عنده ما يضحي به ولا ما ينفق فشكا ذلك إلى امرأته وأخبرها ما هو فيه من الضيق وأنه لا يقدر على أضحية فقالت له لا تغنم فإن عندي ديكا عظيماً قد سمنته فإذا كان يوم الأضحى ذبحناه فبلغ جيرانه الخبر فأهدوا له ثلاثين كبشاً وهو في المصلى لا يعلم فلما صار إلى منزله ورأى ما فيه من الأضاحي قال لامرأته من أين هذا قالت أهدى لنا فلان وفلان وفلان حتى سمعت له جماعة فقال لها يا هذه تحفظي بديكنا هذا فلهو أكرم على الله من إسحق بن إبراهيم إنه فدى ذلك بكبش واحد وفدي ديكنا هذا بثلاثين كبشاً.
سأل رجل أشعب أن يسلفه ويؤخره فقال هاتان حاجتان فإذا قضيت لك إحداهما فقد أنصفت قال الرجل رضيت قال فأنا أؤخرك ولا أسلفك.
قيل لأشعب لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر لكان أولى بك قال قد فعلت قالوا له فما حفظت من الحديث قال حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان فيه خصلتان كتب عند الله خالصاً مخلصاً قالوا إن هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان قال نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى.(18/60)
العدد 19 - بتاريخ: 31 - 7 - 1914(/)
الجلال والجمال
الفصل السابع
الكلام على الجليل
كل ما من شأنه أن يهيج في النفس وجدانات الألم والخوف، أو بعبارة أخرى كل ما كان رهيباً بصورة ما، أو كان له ارتباط بأشياء رهيبة، أو كان يؤثر في النفس مثل تأثير الرعب، فهذا مصدر من مصادر الجليل، أعنى أنه محدث في النفس أشد الوجدانات وأقواها، أقول أشد الوجدانات وأقواها لأني أوقن إن وجدانات الألم أشد وأقوى من التي يكون منشؤها اللذة. لاشك أن الآلام أشد تأثيراً على الجسم والنفس من أمتع الملاذ وأنعم المسار. وما أحسب إني واجد ذاك الرجل الذي يرضى أن يختم عمراً يمد له في نعم متواترة، وحياة تطال له في آلاء متصلة بيوم من الموت الزؤام، والحمام الأحمر. ولا يدع فبقدر زيادة الألم على اللذة في مبلغ التأثير تكون زيادة صورة الموت على وددان الألم في مقدار الإزعاج والأذى. وقل في آلام الحياة البدنية والنفسية ما يؤثر عليه الموت. ألا ترى أن الذي يزيد الألم ألماً علمنا أنه يريد الأجل ورسول ملك الموت. والخطر أو الألم إذا رفرف أحدهما فوق رؤوسكم كان غير ملئ بإفادتنا أدنى لذة. على أنهما قد يفيدان اللذة إذا أقاما منا على مسافات معلومات وبأشكال خاصة. وسآتي ببيان ذلك فيما بعد.
الفصل الثامن
الكلام على الوجدانات الخاصة بالاجتماع
الفريق الثاني من وجدانات البشر هو ذلك المتعلق بالاجتماع، والاجتماع نوعان: الأول هو اجتماع الذكران والإناث للتناسل. والثاني - وذلك أعم - هو اجتماعنا بالناس وغيرهم من أصناف الحيوان، والذي هو كائن بوجه ما بيننا وبين عالم الجماد. فالوجدانات الخاصة بالمحافظة على النفس محورها الألم والخطر. وألصق اللذات بهذا الغرض هي لذة حادة حارة توارة مجنونة عاتية وهي بلا شك أعلى الملاذ الحسية. ومع ذلك فإن انقطاع هذه اللذة العظيمة لا يبلغ أن يكون قلقاً أو كدراً. وما أحسب أنه محدث أقل تأثير إلا في بعض أحوال خاصة. والناس إذا أخذوا في وصف ما يجدون من الآلام والأخطار لا تراهم يصفون أولاً ما كانوا فيه من صحة وأمن ثم يندبون ضياع هذه النعمة. ولكن كل أمرهم(19/1)
يدور حول ما هم فيه من واقع الألم والروع. ولكن الأمر خلاف ذلك في صلة الذكر بالأنثى فإنك إن أصغيت إلى شكوى العاشق المهجور ألفيته يقيض في ذكر ما كان يجده أو يرجوه من ملاذ الوصال وفي محاسن معشوقه. ففقدان النعيم هو أكبر ما يشغل باله ويبعث مقاله. وليس يشذ عن هذه القاعدة أشد حالات الهيام وأقصى غايات الوله تلك التي تذهب بعقل ربها وتفضي به إلى المس والخبال وإلى الجنون. فإن المرء إذا استحوذ على روحه فكرة ما. وتسلطت عليه حالة بعينها فإنها تتملكه وتجتازه حتى تحول بينه وبين كل ما عداها، وتهدم من أسوار العقل وحواجزه كل ما يحاول أن يحتويها ويحسبها، وانهدام أحد أسوار العقل هو الجنون. ولا يشترط في ذلك أن تكون الفكرة أو الحالة النفسية هي الحب. بل أي فكرة أو حالة أخرى مليئة أن تسبب هذه النتيجة كما يرى من كثيرة أسباب الجنون وشتى علله. وهذا القول يثبت إن وجد أن الحب خليق أن يحدث نتائج خارقة للعادة لا أن هذه النتائج الخارقة لها أدنى صلة بالألم الإيجابي.
الفصل التاسع
سبب الفرق بين الوجدانات الخاصة يخلة المحافظة
على النفس والوجدانات المرتبطة باجتماع الذكر والأنثى:
لما كان أداء فرائضنا على اختلاف أنواعها متوقفاً على الحياة. وكان أداء هذه الفرائض بجد وجدوا حسان وإتقان متوقفاً على الصحة فلا غرو إن كنا نتأثر أشد التأثر بكل ما يتهدد سلامة هذه أو تلك ولما كانت مطامع الإنسان وآماله لا تنتهي عند إحراز الحياة والصحة أصبح وجدان هاتين النعمتين غير مشفوع بلذة محسة لئلا تقنع بهذه اللذة فنكسل وتفتر همتنا ونجنح إلى القعود والتواني. بل إن الله سبحانه وتعالى جعل التناسل غرضاً عظيماً سامياً فحدا إليه البشر بأقوى البواعث فأصبح لذلك مقروناً بأكبر اللذات وأحد الشهوات. ومن جهة أخرى لما كان هذا الأمر (التناسل) لم يرد منه أن يكون شغلنا الشاغل المستنفد جميع قوانا وأوقاتنا فمن الحكمة أن لا يكون فقد اللذة المقرونة به مشفوعاً بشديد الألم. والفرق بين البشر والحيوان في هذا الصدد جدير بالنظر. فالناس مستعدون في جميع الأوقات على السواء لمباشرة لذات العشق لأن عقلهم في ذلك دليلهم من حيث وقت قضاء هذه اللذات والصورة التي يقضونها عليها. فلو أن عدم هذه الملاذ كان مشفوعاً بشديد الألم(19/2)
إذن لوجد العقل صعوبة كبيرة في أداء وظيفته. أما البهائم تلك التي تتبع في هذا الشأن قوانين قلما يكون لقوة اختيارها دخل فيها - هذه البهائم لها أوقات مضروبة. ولا يبعد أن عدم قضاء الشهوة في هذه الأوقات يكون مؤلماً جداً إذ كان مانعاً لأمر لابد منه وليس يتم في غير هذا الأوان.
الفصل العاشر
الكلام على الجمال
إن الوجدان المرتبط بأمر التناسل من حيث كونه تناسلاً لا غير إنما هو الغلمة أو الشبق. وهذا واضح في شأن البهائم التي ترى الوجدانات فيها أبسط كياناً منها في الآدميين وأقل اختلاطاً. والتي تراها أقصد طريقاً منا إلى أغراضها وأقرب سبيلاً. فهي لا تراعي في أمر تزاوجها إلا مسالة التذكير والتأنيث على أنا لا ننكر انحياز كل فرد إلى قبيلة وجنسه مؤثراًَ ذلك على سائر الأجناس والقبائل. ولكن هذا الايثار لا يرجع فيما أحسب إلى جمال يراه الحيوان خاصاً بفصيلته ونوعه كما زعم الكاتب أديسون بل إلى قانون طبيعي تخضع له البهائم. وهذا ظاهر مما هو مشاهد فيها من قلة اختيارها وتمييزها بين أفراد قبيلتها التي قصرتها عليها حدود الجنسية. أما الإنسان ذلك الذي ركب في غريزته الاستعداد لتنوع العلاقات وتعدد الصلات فقد أبى إلا أن يضيف إلى شبق البهائم رغبة في بعض الصفات الاجتماعية التي من شأنها أن تشحذ الشهوة المشترك فيها مع الحيوان. ولما كان ليس كالحيوان يغشي أية أنثى صادف وجب أن يكون هناك شيء يدعوه إلى التخير والانتخاب، وأن يكون هذا الشيء صفة محسة إذ ليس غير هذه له مثل كفايتها وسرعتها وقوتها في إحداث باعث التخير. هذه الصفة المحسة هي جمال الأنثى. فالذكران مسوقون إلى الإناث بوجه عام لمجرد كونهن إناثاً وبقوة قانون الطبيعة المشترك. ولكنهم بوجه خاص متعلقون بالأفراد بتأثير الجمال الشخصي. وإني اسمي الجمال صفة اجتماعية وذلك لأن من كان من النساء والرجال بل من الحيوان (وكثيرهن) يلذنا ويفرحنا بمنظره فذلك لاشك يبعث في قلوبنا الحنان والحب لشخصه. حتى ترانا نهوى قربه ونرتاح إلى الاتصال به إلا أن يكون تمت مانع. وإني بعد لا أدري ما الحكمة في حدوث ذلك بين الإنسان وجميل الحيوان ولا ما القصد والغاية. لأني لا أرى لاتصال المرء بالحيوان المليح الأنيق الوشي والحلة من(19/3)
العلة مالا أراه لاتصاله بخلاف ذلك من الحيوانات غير ذات الحسن والبهجة. على أنه ربما كان لله في ذلك حكمة وشأن وغاية تقصر دونها إفهامنا إذ كان تدبيره سبحانه وتعالى غير تدبيرنا وأسلوبه خلاف أسلوبنا.
الفصل الحادي عشر
الكلام على الاجتماع والعزلة
أما الفريق الآخر من الوجدانات الاجتماعية فهو ذاك الحاث على الاجتماع بوجه عام. وإني أقول في هذا الصدد إن الاجتماع من حيث هو مجرد اجتماع خال من المميزات الخاصة ليس فيه لذة إيجابية وبيد أن العزلة التامة المطلقة أعني الانقطاع الكامل الدائم عن سائر المجتمع هو من أشد وأقسى الآلام الإيجابية. هذا وإن في أنس المجالس وحلاوة الأحاديث، ومحاسن التآلف والتواد ما يملأ النفس لذة ونعيماً. ومن وجهة أخرى فإن ما يتخلل مناعم التعاشر من فترات العزلة لا يخلو من مسيرة خاصة. وهذا دليل على أنا خلقنا للحلوة والتأمل وكذلك للعمل والسعي. إذ كل لكل من العزلة والاجتماع لديه. وكانت حياة العزلة المطلقة تنافي أغراض الوجود بدليل أن الموت نفسه أقل بشاعة من ذلك وأخف روعة.
الفصل الثاني عشر
الكلام على العطف والتقليد والطمع
الوجدانات الاجتماعية من وجهة هذا التقسيم ذات اختلاط. وتمازج تتشعب شعباً متنوعة وتخرج أشكالاً مختلفة تطابق شتى الأغراض التي لتحقيقها وجدت، وضروب الغايات التي ما خلقت هذه الوجدانات إلا لتخدمها في سلسلة الاجتماع الكبرى. والحلقات الثلاث الرئيسية في هذه السلسلة هي العطف والتقليد والطمع.
الفصل الثالث عشر
العطف
إنما بفضل الأول من هذه الوجدانات أعني العطف يمكننا الاتصال بنفوس الغير والافضاء إلى مواضع همومهم وشؤونهم. حتى نشعر بشعورهم فلا يكون موقفنا منهم موقف المتفرج لا يعنيه ما يكايدون ولا يجفل بما يأخذون ويدعون. أجل إنما ينبغي عليك أن تعد هذا(19/4)
الوجدان - العطف - كنوع من البدل والعوض به يستطيع المرء أن يضع نفسه موضع الغير فيرى برأيه ويحس بقلبه في كثير من المواطن. فهذا الوجدان ذو وجهين. فتارة يكون من قبيل تلك الوجدانات الخاصة بالمحافظة على النفس فمحوره الألم ولذلك يعد مصدراً من مصادر الجليل. هذا من جهة وتارة تكون اللذة محور هذا الوجدان فينطبق عليه كل ما قيل في الوجدانات الاجتماعية سواء كانت خاصة بالمجتمع على وجه عام أو ببعض أشكالها وهيئاتها. وإنه بهذه الوسيلة - أي بفضل وجدان العطف - يستطيع الشاعر والمصور والموسيقار بقوة القصيد والنقش والأنغام أن ينقلوا وجداناتهم من صدورهم إلى صدرو الناس، وان ينفضوا لذة ومسرة على الشقاء والبؤس بل على الموت ذاته. وذلك أن هذه المصائب آلم الأشياء في الحقيقة ولكنها في الفنون الجميلة مصدر لذة عظيمة. وقد كانت هذه القضية موضع كثير من الجدل والمناقشة. فقالوا إن سبب تلك اللذة هو اعتقادنا أن هذه القصة المحزنة ما هي إلا حديث خرافة، ثم سرورنا بالنجاة مما تصفه هذه الفنون من الآفات والبلايا. والذي أراه أن من الخطأ في مثل هذه المباحث أن يسند سبب الإحساسات تلك التي إنما منشأها بنية الجسد أو تركيب النفس وكيانها الخاص إلى النتائج المنطقية التي هي نمرة في البحث في شأن الأشياء المثيرة لتلك الإحساسات المذكورة. إذ الحقيقة أن تأثير القوة الاستدلالية في تهييج الوجدانات هو أقل بكثير مما يحسب العالم.
الفصل الرابع عشر
الكلام على تأثير وجدان العطف على المنكوبين في نفس صاحب
الوجدان
قبل البحث في موضوع تأثير المأساة على نفوس البشر يلزمنا أن ننظر كيف نتأثر بالمصائب الحقيقية التي تصيب الغير من بني جنسنا. ولا يسعني في هذا الصدد إلا القول بأن المرء يجد ولاشك شيئاً من السرور ليس بالقليل لما يصيب غيره من فجائع الدهر. فإن مصيبة الغير إذا لم تكن من البشاعة بحيث تنفرنا من المصاب فلا نستطيع الدنو منه بل كانت بحيث تغرينا بالاقتراب من صاحب البلوى. ومصاحبته والعطف عليه، إذن فلا بد من أن يكون لنا في ذلك نوع ما من المسرة وإلا فما كنا نستطيع إقبالاً على صاحب البلية. الست ترانا نجد في قراءة حقائق تواريخ أمثال هذه الفجائع من اللذة مثل ما نجد في قراءة(19/5)
الخرافات من ذلك إشعاراً وقصصاً. وما كان قارئ الحوادث السارة من أنباء الفتوحات وعز الدول وأبهة الملوك ليجد من اللذة عشر معشار ما يجد قارئ الفاجعات والفوادح من خراب الممالك وذل الملوك وبؤس أرباب الرفه والنعيم وحرق العشاق والمغرمين ومصارع الفرسان والأبطال وما إلى ذلك من جليل الخطوب وكارثات المحن. ومما يزيد استمتاعنا بقراءة أمثال هذه البلايا أن يكون المصاب الناشب في مخالب الفاجعة إنساناً محمود الشيمة ميمون النقيبة. خذ مثلاً على ذلك نبأى كاتو وسيبيو. فكلاهما ماجد كريم فاضل. غير أن مصرع الأول وضياع الأمر الجليل الذي كان يحاول أشد روعة في نفوسنا من ظفر الثاني وتواتر النعم عليه وترافد الخيرات والفواضل. وما ذاك إلا أن الرعب وجدان باعث للسرور ما لم يقاربك جداً. والرحمة وجدان مشفوع بالمسرة إذ كان منبعها الحب والانعطاف. والمرء إذا كان قد أعد بالفطرة لإنجاز أمر من الأمور فإن الوجدان الذي يوقظ همتنا إلى محاولة هذا الأمر لابد أن يكون مصحوباً بنوع ما من السرور أو اللذة مهما كانت ماهية هذا الأمر. ولما قضت إرادة الله أن تربطنا جميعاً آصرة العطف فقد أكد أسباب هذه الآصرة بمزاج مناسب المقدار من اللذة. وأكثر ما يكون مقداره أشد ما تكون الحاجة إليه أعني في مصائب الغير. ولو كان وجدان العطف ألما كله لكنا نتقي جهدنا جميع بواعثه من الأشخاص والأماكن كما يفعل قليلو المروءة ساقطو الهمة من المغرقين في الكسل المتغالين في الفتور والتواني. ولكن الأمر بخلاف ذلك في السواد الأعظم من الناس. فأنا لسنا إلى شيء أسرع منا إلى مكان الحادث الأليم والخطب الجلل. وكذلك ترى مشهد الفجيعة أبداً يولد فينا ضرباً من اللذة سواء كان أمام أعيننا أو كان معروضاً على ناظر الوهم في صفحات الأسفار. على أن هذه اللذة ليست صافية بل ممزوجة بجانب عظيم من الإشفاق والكرب. فاللذة هي الحادي لنا على مواطن المصيبة. والكرب هو داعينا إلى إنقاذ أنفسنا من الألم بإنقاذ ذوي البلية. كل هذا يصدر منا بلا سابق تأمل وتدبر بل بغريزة تزجينا إلى غايتها دون اختيارنا.
الفصل الخامس عشر
الكلام على تأثير المأساة
الذي ذكرناه في الفصل السالف هو الواقع في أمر الأحزان الحقيقية. أما من جهة الأحزان(19/6)
المحكية. فالفرق الوحيد هو الشرور الناشئ من تأثير التقليد والحكاية. فإنه مهما بلغ من أحكام التقليد ودقة الحكاية فليس يخفى علينا أنه تقليد لا حقيقة وهذا محدث لنا شيئاً من اللذة. وفي بعض الأحايين قد توازي اللذة المولدة من تأثير التقليد تلك المستفادة من الشيء نفسه. بيد أني أخطئ من يزعم أن جانباً عظيماً من سرورنا بالمأساة ناشئ من علمنا بأنها خداع وليست بحقيقة وأقول أنه كلما دنت المأساة من الحقيقة وبعدت من الخرافة كانت أشد تأثيراً وأعظم وقعاً. على أنه مهما يكن وقعها وتأثيرها فلن تبلغ في ذلك مرتبة الحقيقة التي تمثلها. وسأضرب لذلك مثلاً فأقول أعمد ذات يوم إلى أكبر المراسح وأفخمها وأعمل على أن تمثل به أجل مأساة وأعظمها. وأندب لذلك صفوة طائفة الممثلين ونخبتها. واستكمل لدار التمثيل زخرفها وزينتها. واستعن على ذلك بأقصى قدرة الفنون الثلاثة الشعر والتصوير والموسيقى ومنتهى سحرها وفتنتها. حتى إذا احتشدت جموع المشاهدين. والتف محافل المفترجين واشرأبت للمشهد المرقوب أجيادهم. وامتدت للمنظر المنتظر أبصارهم. فأذع بين جمهورهم أن مجرماً كبيراً سياسياً يساق إلى المشنقة في الميدان المجاور. ثم انظر ماذا يكون. لاشك أنك ستبصر بيت التمثيل قد أقفرت في الحال عرصاته وصغرت من ذلك الجمع الكثيف ساحاته. وإن جمهور النظار قد هرعوا سراعاً إلى ميدان المشنقة. دليل لعمرك قاطع على ضعف تأثير الفنون التقليدية إزاء سلطان الحقيقة. وقوة الوجدانات الحقيقية. ويخطئ البعض فيقولون إن رؤية المصائب الوقعية مشفوعة بالألم المحض. وخطأهم هذا راجع إلى عدم تمييزهم بين الشيء الذي يأبى أحدنا البتة أن يفعله والشيء الذي لو وقع لتاقت أنفسنا إلى رؤيته. فنحن يسرنا أن نبصر من الأشياء ما نود من صميم الفؤاد إصلاحه وتعويضه فمن باب أولى لا نود أن نفعله بأيدينا. انظر إلى لندن هذه المدينة الفاخرة أفتحسب أن إنساناً قد بلغ من خبثه وشره أن يحب أنه يرى هذا البلد الأمين فخر إنكلترا وأوروبا قد خرب بسبب زلزال أو حريق ولو أنه بموئل من بادرة هذا المصاب ومعتصم. ولكن هب أن هذا المصاب قد حدث بالفعل إذن فأي جموع وجماهير يأتون من مهاب الرياح الأربع لينظروا الآثار الخربة والأنقاض وبينهم من كل لا يعنيه أن يبصر المدينة في رونق بشاشتها وبهجة جمالها. وليس خلاصنا من المصاب - حقيقياً كان أو خيالياً - هو سبب سرورنا. أنا لا أرى ذلك مطلقاً: وأظن أن منشأ هذه الغلطة هو عدم(19/7)
تمييزنا بين الشرط الذي عليه يتوقف فعلنا أو إحساسنا شيئاً ما وبين السبب الداعي إلى هذا الشيء. فإذا قتلني رجل بسيف فإن من الشروط اللازمة لذلك كون كل منا حياً قبل وقوع هذا الحادث. ومع ذلك فإن من السخف أن يقال إن كون كل منا حياً كان السبب في جريمته وموتي. وكذلك فإن خلاص نفسي من كل خطر مهدد هو شرط لازم لاستعدادها للسرور بمصاب الغير حقيقياً أو خيالياً بل للسرور بأي شيء مهما كان سببه ثم من السفسطة أن يقال إن خلاص نفسي من الخطر المهدد هو سبب سروري بمصاب الغير أو خلافه. وما أحسب أن أحداً من الناس يحس في نفسه ذلك بل إنك لتجد الرجل المصاب (ما لم يشتد به ألم أو يرنق فوقه خطر) ليتوجع لمصاب الغير. وإن أشد الناس تأثراً بمصاب غيره من رققت كبده المصيبة وألات عريكته البلية. بل ربما رحمنا غيرنا من بلاء نود من صميم قلوبنا لو أنه كان من مصابنا بدلاً.(19/8)
سر تدهور العرب
بقلم الدكتور جوستاف لوبون
إن كثيراً من تلك العوامل التي ذكرناها آنفاً ونحن بسبيل بيان أسباب عظمة العرب ليصح أن نجيء به الآن توضيحاً لأسباب تدهورهم، ويكفينا أن ندخل ذلك العامل الأكبر، والسبب الأعظم، الذي دعوناه فيما مر بك بالظروف، حتى نشهد أوفر الصفات نفعاً، وأكبر المميزات فائدة، تحدث أسوأ النتائج، وأفدح العواقب، وأشأم المغبات، وذلك أمر مشهود في حياة الأفراد كما هو جار في حياة الشعوب، إذ لا ريب في أن الاستعدادات الأخلاقية، والأميال الذهنية، قد تؤيد النجح في وقت معين ثم هي بعد ذلك قد تؤوب في وقت آخر بالخيبة والفشل، وقد أبنت لك فيما تقدم كيف أن الغرائز الحربية. والنزعات العدائية الخلافية، التي ركبها الله في أرواح العرب، أسدل إليهم في عصر الفتح وزمان الغزو، الخدمة الجلى، واليد الطولى، فلما سكنت ثائرة تلك الفتوحات، وهدأت الوقائع، وانتهت الغارات والغزوات، ولم يجد العرب إزاءهم عدواً يساجلونه الحرب، ويطارحونه القتال، إذا هي قد عادت عليهم وبالا، وساءت بهم منهجاً وسبيلاً، وبلغت الفرقة منهم الغاية القصوى، ووصل الانقسام والانشقاق إلى أبعد حدودهما، وما كان الانشقاق إلا من عاداتهم الثابتة المتأصلة، فبدؤا إذ ذاك في تجزئة تلك الدولة وتبديد نظام عقدها، وكان من حق تلك العادات أن تفضي إلى سقوطهم، وما فقدوا اسبانيا وصقلية ألا على الأخص أثر خلافاتهم الأهلية، ومشاحناتهم الداخلية، ولم يتسن للمسيحيين أن يقهروهم على أمرهم، ويخرجوهم من أرضهم، إلا من جراء هذه المنافسات الدائمة، والمنازعات المستمرة.
أما عن أنظمتهم السياسية والاجتماعية فقد أثبتناهما بين الأسباب التي دعت إلى نجحهم السريع، ويصح لنا الآن أن نقول إنها كذلك أحد العوامل التي عملت على سقوطهم، إذ لم يصب العرب رائد النجاح، ولم يفلج الله لهم سهام النصر، ولم يفتحوا أقطار العالم وفجاجه، إلا عند ذلك اليوم الذي عرفوا فيه بفضل ذلك الدين الجديد الذي جاء به محمد، كيف يذعنون إلى حكم قانون ثابت، وينزلون على نير شرع مقرر، وكان ذلك القانون وحده قادراً على جمع ما تبدد من قواهم، وتوطيد ما افترق من أمرهم، وكان نير هذا القانون الصلب الثابت على أحسن حال وأنصف حكم، عندما كانت أنظمة النبي وفاق حاجات(19/9)
قومه، ومطالب أمته، ولكن لما خطت مدنيتهم خطواتهم، وبلغت حضارتهم بعد شأوها، وجب أن تنقح هذه الأنظمة وتهذب، إذ أصبح نير تلك القوانين القديمة من الثقل بحيث كان من الجائز لهم أن يرفعوه عن كواهلهم، ويضعوا وزره عن ظهورهم، وإن الأنظمة التي اشترعها القرآن، والتي كانت المعبرة عن حاجات العرب في عصر النبي، لم تصبح كذلك بعد تصرم عدة قرون، ولما كان هذا الكتاب في آن واحد مجموع شرائع دينية، وأنظمة مدنية سياسية، وكان من أصله لا يقبل تحويراً ولا تبديلاً، فقد كان من الأمور غير الممكنات أن تنقح أجزاؤه الأساسية، ولم تبد نتائج انشقاق العرب، ولم ينكشف للعيان عواقب انقسامهم، ألا يوم أن بدأت قوة العرب في الارتجاف والاضطراب، إذ أحدث انشقاقهم انتكاسات دينية، كان يراد بها على زعمهم تجديد شباب الإسلام، وإعادة زهوه، وإرجاع غضارته وريعانه، وما كان يقصد بها ألا إلى رده إلى نص القرآن وفصه، فلما كانت تلك العصور الزاهرة المشرقة، عصور خلافتي بغداد وقرطبة، عرف المسلمون جد المعرفة كيف يدخلون تحت رقابتهم وتصرفاتهم الإصلاحات التي أوجبتها حاجات الأمم التي رضيتها.
ولم تظهر صعوبة سن الإصلاح بأجلى مظهرها إلا في أنظمة العرب السياسية فإن هذه الأنظمة التي جعلت على رأس هذه الدولة حاكماً يصرف في يده جميع السلطات الحربية والدينية والمدنية. كانت هي وحدها المذللة تأسيس دولة عظمى، ورفع بنيان مملكة مترامية النواحي والأطراف، على أنها كانت مع ذلك أقل العوامل ملاءمة لتاكيد بقائها، فإن لتلك الملكيات المطلقة التي تجتمع كل سلطانها في يد واحدة قوة عتيدة في الفتح لا تغلب ولا تقهر، ولكنها لا تستطيع أن تنجح إلا على شريطة أن يكون على رأسها في كل حين رجال آية في العظمة والمراس والتفوق، فإذا أقبل ذلك اليوم الذي يعز فيه عليها رجل من هؤلاء الرجال، فاعلم أنها لا تلبث إلا عشية أو ضحاها حتى يتداعى بنيانها حجرة حجرة وتتساقط قواعدها لبنة لبنة.
وكان في مقدمة النتائج التي نشأت من النظام السياسي الفاسد الذي كانت عليه أمة العرب، تجزئة مجموع دولتهم، وتمزيق شملها، وتفريق أجزائها، إذ كان الولاة ينوبون في الولايات عن الخلفاء، قابضين مثلهم على كل السلطات الحربية والدينية والمدنية، ومن ثم لم يلبثوا(19/10)
أن امتدت أعينهم إلى الحكم كما يشهون، وتطلعت نفوسهم إلى سياسة ولا يلتهم، وتدبير أمرها كما يرغبون ويحبون، حتى إذا لم يجدوا لقوتهم قوة تعادلها وتكافئها، هان عليهم أن يدعوا السيادة لأنفسهم، ويجاهروا بأنهم سادة الولايات وأمراؤها، فلم يفز بها منهم نفر. إلا كان فوزه تحريضاً للآخرين، ولم يسب التوفيق فريق، ألا كان توفيقه إغراء لزملائه الباقين، فلم تنشب خير ولايات الدولة العربية وأوفرها ثراء. وأعظمها قدراً. أن أضحت ممالك مفترقة عنها منفصلة.
وكان لهذا الانفصال نتائج سيئة، وأخرى حسنة. فالأولى لأن تجزئة الدولة أوهنت قوتهم الحربية. والأخرى لأن هذه التجزئة نفسها سهلت تقدم المدنية العربية وارتقاءها. فلا ريب أنه لو لم تنفصل مصر والأندلس عن الدولة العربية. إذن لما بلغتا درجة التقدم التي شهدتاها. وقد كانت الولايات في أيدي عمال هم في كل حين عرضة للعزل والفصل. لا يجدون أية فائدة في أن يروا ولاياتهم في رغد ورخاء، ولا يحك في صدورهم ألا التمول والإثراء. ولا يتلجلج في نفوسهم ألا الإكثار والاغتناء. ولذلك أضحت كما كان حالها بعد ذلك تحت أولئك الحكام الذين كانت تبعث بهم حكومة القسطنطينية.
وأصبحت طائفة من هذه الممالك الصغرى المستقلة على تقدم بليغ، ورقي كبير. ولكنها كانت جميعاً مفضية إلى الخاتمة التي أفضت إليها الدول القديمة. حيث أضحت القوة الحربية. بدلاً من أن تعتمد في بعض أمرها كما هي الحال اليوم - على الاستعدادات الحربية الخطيرة الشأن: لا تستطيع أن ترتكز ألا على عدد جندها وبأسهم في الحرب وصدق لقائهم: وقوة كهذه لا تلبث أن تندحر إزاء الغارة الأولى: وأنت تعلم أن المدنية ترقق الطباع. وتهذب النفوس: ولكنها لا ترقى الصفات الحربية. بل تعد للدولة محتوم التدهور: ومقضى السقوط: وإن الشعوب التي يملك كل فرد من أفرادها قسطاً من رغد العيش: وحظاً من الرخاء والرفاهية: لا تنشب أن تجد نفسها مهددة من تلك الشعوب التي عضت الحاجة بنيها: فرغبوا في تبديل حالهم: وتغيير رزقهم: وكذلك كان فناء أكثر المدنيات القديمة الكبرى: وكذلك كان مآل الرومان. وكذلك كان عقبى العرب. إذ لأمراء في أن الفاتحين على اختلاف أجناسهم من ترك ومغول وغيرهم. أولئك الذين هدموا كيان العرب: ونقضوا بنيان ملكهم: يوم بلغوا درجة من المدنية عالية. لو كانوا جاؤوهم في ذلك(19/11)
العصر الذي كان فيه عصبة النبي قد أتموا تأسيس دولتهم. وألفوا منهم شعباً صلب العود مريراً. لا يقدح في ساقه التعب ولا النصب. يألف الشظف والعسر. ويعتاد كل ضروب الفاقة والحرمان لم تلن بعد من جنبه الخشن نعمة. ولم تهذب من طبيعته المتبدية رفاهية. إذن لكانت الخيبة نصيبهم. وكانت الهزيمة مآبهم.
وينبغي لنا أن نذكر من بين أسباب سقوط العرب، اختلاف الأمم والنحل التي خضعت لملكهم، واستكانت لصولتهم. ويتجلي أثر هذا السبب الأخير في وجهين مختلفين، كل منهما سيئ مشئوم، فالوجه الأول أن وجود أجناس مختلفة في الأمة يبعث على الاحتكاك والاختلاط، وهذا يؤدي إلى المنازعات والمنافسات بين هذه الاجناس المتباينة. والوجه الآخر إن ذلك يحدث الامتزاج والتزاوج، ولا يلبث التزاوج أن يغير دم الفاتحين الغالبين.
وكان امتزاج الأجناس المختلفة في الأمة داعياً أبداً إلى انحلالها السريع وقد شهد التاريخ أنه ليس من الممكنات أن تجتمع الأجناس المتباينة المتشاكلة في يد واحدة، إلا بمراعاة شرطين واجبين، أولهما أن قوة الفاتح قوة يجب أن تكون من التماسك والثبات والصلابة بحيث يوقن كل فرد من الأمة أن كل مقاومة يطلب أو تمرد يروم ليست إلا عرضة سريعة الزوال، وثانيهما أن الغالب ينبغي أن لا يتزوج من المغلوب، حتى لا يؤدي ذلك إلى أن يفنى العنصر الأول في العنصر الآخر، وأنت ترى أن العرب لم تحسب للشرط الثاني حساباً، ولم تتدبره يوماً، على أن الرومان أنفسهم لم يجعلوه دائماً نصب أعينهم ولم يتدهوروا إلا يوم أن تركوه جملة واحدة.
ومن بين الأسباب العديدة التي جرت إلى انحلال العالم الروماني القديم، سبب هو أعظم شأناً، وأفحل خطراً، هو تلك السهولة التي جنح إليها سادة الدنيا الأولون فأباحوا كل حقوق الوطنيين للبرابرة فأصبحت روما منذ ذلك الحين موطن أجناس مختلفة ولم تعد السلطة فيهم للرومان. وانطفأت على أثر ذلك جذوة تلك المشاعر التي ضمنت من قبل عظمة روما ومجدها. إذ كان ابن المدينة الأتربة أي روما حتى ذلك العهد لا يحجم عن بذل مهجته في سبيل مدينته لأن عظمتها كانت لديه مثلاً أعلى شديد الأثر في نفسه قوى السلطان عليه. ولكن أية قيمة. وأي أثر. وأي وزن لهذا المثل الأعلى في نفس المتبربر المتأبد.
وإن من صعاب الأمور وشدائدها أن تعيش الشعوب المتألقة من أجناس ونحل مختلفة(19/12)
ومصالح ورغائب وعواطف متباينة متضادة تحت شرع واحد وقانون مفرد، ولا يكون ذلك من الممكنات في أغلب الأحيان إلا بواسطة ضغط من الشدة بمكان، وفي النظام المسنون اليوم للأيرلنديين والهنود دليل على ذلك وبرهان.
على أن العرب لم تأخذ بهذا الضغط تلك الأجناس المختلفة التي خضعت لها وأذعنت لحكمها، لأن الدين والأنظمة التي جاؤوهم بها صادفت منهم القبول والرضى ولأنهم كانوا يعاملون جميع النحل والشعوب التي آثرت الإسلام على دينها واختارته لنفسها، مهما كان أصلها، على قسطاس من المساواة التامة الكاملة، وكذلك كان شرع القرآن وسنته، وما كان الفاتحون ليميلوا يوماً إلى تجنب هذا الشرع والانحراف عن سننه والزيغ عن جادته فكان من ذلك بادئ بدء أن الغالبين والمغلوبين ألفوا منهم شعباً واحداً ذا اعتقادات ومشاعر ومصالح مشتركة، وظل الائتلاف ضارباً بجرانه في جميع أجزاء الدولة العربية ما بقيت قوة العرب من العظمة بحيث كانت تجد من الجميع توقيراً لها واعتداداً بشأنها.
على أن المنازعات بين هذه الأجناس والعناصر المتباينة وإن قمع شرها إلا أن نارها لم تخب ولم تخمد. فلما بلغت عادات العرب من الخروج والانشقاق أشدها. وانتهت إلى مستفحل أمرها. إذا بتلك المنازعات قد عادت من مكمنها وبانت من مخبئها وظهرت بأجلى مظهرها. ولم تنشب الممالك الخاضعة لصولة الإسلام أن أضحت ميدان أحزاب لا تفتأ أبداً في تكاشح وتدابر وقتال. ومنذ حاصر المسيحيون آخر موطن للعظمة الإسلامية في الأندلس وهذه الأحزاب والفرق على حالها من التقاتل والشحناء.
وإن لوجود هذه الأجناس المختلفة في كل بلدان الإسلام وخاضع أقطاره نتيجة أخرى أشرنا فيما مربك إلى شرها. ونبهنا إلى خطرها وويلها. وهي اختلاط العرب بجميع الأمم التي عاشت بين ظهرانيها. وذلك أن العرب بامتزاجهم بتلك الأمم التي ليست دونهم وليست بأقل مدينة منهم كمسيحي أسبانيا مثلاً قد كان من الجائز أن يكتسبوا منهم بعض الميال والاستعدادات ولكن اختلاطهم بالشعوب المنحطة عن مستواهم كبعض الشعوب الآسيوية وأهل المغرب لا يجلب عليهم إلا الخسارة والوكس. وليس من شأن هذا الامتزاج في كلتا الحالين إلا أن ينتهي بإفناء أخلاقهم التي يتركب من مجموعها عنصرهم. والحقيقة المشهودة أنه لما ضاعت عظمة العرب السياسية على أثر فقدهم اسبانيا ومصر لم تكن(19/13)
الممالك التي دانت لهم تحتوي الأشر ذمة قليلة من العرب الأقحاح.
وأنت فدع جانبا الغارات وغيرها من الأسباب العديدة التي أدت إلى سقوط العرب واعلم أن مجرد تزاوجهم بالأمم كما بيناه لك كان كافياً وحده لتقرير هذا السقوط. وأمامنا مثال لذلك نستمده من حال مراكش فإن الغارات هي التي أبقت على حياتها ولكن هذه الدولة على الرغم من ذلك قد هوت اليوم إلى ما يشبه نصف بربرية. بعد أن نعمت من قبل برقي ومدنية كانت من العظمة بحيث تنافس مدنية أسبانيا ورقيها. وإن سيادة المغاربة. وفوق ذلك تزاوجهم المستمر بالعنصر الزنجي هما اللذان هبطا بمستوى تلك المدينة جد الهبوط. وقد زعم الناس أن المستقبل كان لنتاج هذا التزاوج. وذلك أمر محتمل جائز. ولكني لا أرضاه للأمم التي تريد أن تحتفظ بمكانتها في العالم وتحرص على مستواها بين أترابها من الأمم والشعوب.(19/14)
تاريخ النزاع بين العلم والدين
النهضة العلمية عند العرب
نعود اليوم فنلخص للقارئ في السطور الآتية فصلاً جليل الشأن مستفيضاً من فصول ذلك الكتاب القيم تاريخ النزاع بين العلم والدين للدكتور البحاثة جون ويليم دريبر. وهو الفصل الذي يحتوي الكلام على الروح العلمية عند العرب وأسبقيتهم الغرب في وضع أساس العلوم وقواعدها. وهو يكاد يكون من الكتاب واسطة عقده.
يقول الدكتور ويليم دريبر: إن الصداقة التي جرت بين عمرو بن العاص فاتح مصر وبين حنا النحوي. لندل على مبلغ استعداد الذهن العربي لقبول الآراء الحرة. والأفكار المطلقة. وإن وثبة ذلك الذهن من عبادة الأوثان إلى دين الوحدانية الذي جاء به محمد قد هيأت له من العلم كل سبب. وأفسحت له ميادين الفلسفة والأدب. وكان أكبر معين على ذلك عقيدة القضاء والقدر التي نزل بها القرآن. ومؤادها أن ليس في مقدرة أحد من البشر أن يعجل أو يؤخر يومه المحتوم. وإن الموت يدركنا وإن كنا في بروج مشيدة. ولا تدري نفس بأي أرض تموت. لا يعلم ذلك إلا الله فالمسلمون هم الخاضعون لإرادة الله المذعنون لقضائه. وهم يجمعون بين مذهبي التسيير والتخيير بقولهم انا أعطينا صورة الحياة فعلينا أن نلومها كما نشاء. ويقولون أننا إذا تغلبنا على القوانين الطبيعية فلا ينبغي لنا أن نقاومها. وإنما يجب أن نوازن بينها ونكافئ.
فكان من هذه العقيدة المظلمة أن أعدت أربابها والمستمسكين بها إلى النهوض بأعمال كبار وإنجاز مآثر عظام. وقد شهدت ما كان من العرب وكبرى فعالهم إذ ردت اليأس فيهم اعتزاماً واستماتة. وعلمتهم احتقار الأمل. والسخرية من باطل الأماني.
ومن هذا يتبين لك الفروق بين الأمم المسيحية والإسلامية فقد كان المسيحي مقتنعاً بوجود تداخل مستمر في قضاء الله. وكان يعتقد أن ليس هناك ما يسمى بقوانين طبيعية يسير عليها الكون. بل قد يستطيع بصلواته ودعواته وتضرعاته أن يجعل الله بغير له نظام الأمور. فإذا لم تفلح دعواته عند الله ولم تتقبل صلواته وتسبيحاته. فقد تفلح عند المسيح أو العذراء أو القديسين. أو بتأثير المخلفات. وبركة الرفات وعظام الصالحين. فإذا لم تغن عنه أبتها لأنه. فقد يفوز بقضاء أربته بتوهط القسيس أو غيره من رجال الدين. ولاسيما(19/15)
إذا استعان على ذلك ببدر المال وبالتحف والطرف والنفحات. وكانت المسيحية تعتقد أن في ميسورها أن تغير الأمور عن مجراها الطبيعي. ولكن أساس الإسلام الرضي بسنة الله. ولن تجد لسنته تبديلاً. ولم تكن صلاة المسيحي إلا دعوات لأماني يطلبها. وعلالات يرجوها. وما كانت صلاة المسلم إلا إخلاصاً لله وشكراً على سالف أنعمه وفارط هباته. وكانت تطورات العالم في نظر المسيحي إن هي إلا عوارض فجائية لا تتبع قانوناً ولا تسير على سنة. أما في نظر المسلم فعلى النقيض من ذلك. فكل حركة مادية في رأيه نتيجة حركة سبقتها. وكل فكرة وليدة فكرة تقدمتها. وكل حادث تاريخي نتاج حادث تاريخي انفرط قبله. وكل عمل إنساني منشأ عمل إنساني آخر. ولم يحدث في تاريخ البشر حوادث فجائية مطلقاً. بل كان هناك تتابع بين الحوادث وتلاحق لا مرد لهما ولا متأخر. لأن القضاء سلسلة حديدية. حلقاتها الحقائق. كلها يلزم مكانه الذي وضع فيه. ولم تضطرب منها يوماً خلقه. ولم تنتقل عن مكانها المسكين. وإن كل إنسان خرج إلى العالم دون علمه. وسيرحل عنها دون رغتبه. فليستسلم إذن ولينظر ما يكنه له الغيب في عالمه.
ثم انتقل الفيلسوف دريبر إلى التطور الذي حدث للعرب فقال وما كان أسرع انتقال عصبية العرب ونعرتهم الدينية إلى حب الأعمال الذهنية. فإنه لم يكد ينفرط بعد وفاة النبي عشرون عاماً حتى ظهر هذا الميل الأدبي بأجلى أشكاله في الشام والفرس وآسيا الصغرى ومصر وقد كان علي بن أبي طالب في ذلك العهد خليفة المسلمين فحث الناس على طلب العلوم والآداب بجملة أصولها وفروعها. وجاء على أثره معاوية رأس الدولة الأموية عام 661 من الميلاد فقلب نظام الحكومة وجعلها ورانية وكانت من قبل انتخابية في الغرب. وعاش ثم عيشة الأبهة والرفاهية والنعمة وكسر قيود التعصب، ونصب نفسه نصيراً للأدب وراعياً، وهذا الانقلاب العجيب. والتطور المدهش الغريب وليداً ثلاثين عاماً. وما كان أشد الفرق بين حال عمر بن الخطاب يوم وجد نائماً على سلم جامع المدينة وبين معاوية. والوفود تدخل عليه في قصر منيف. ازدان بالحلي والنقوش. وحف بالبساتين والجنات. وتجمل بنوافير الماء وعذب البركات.
وما كان يمضي زهاء قرن من يوم وفاة النبي حتى كثرت المعربات من تآليف أشهر كتاب اليونان الأقدمين. ولما كانت قصيدة الألياذة والأوذيسيا تعدان زيغاً في الدين وخرافة. لما(19/16)
جاء بها من أوهام الأغريق القديمة وخرافاتهم وخزعبلاتهم. فقد اكتفى العرب بترجمتها إلى السوريانية لينفقوا غلة الباحثين منهم والمستطلعين. ونقل المنصور (753 - 775م) مقر حكومته إلى بغداد. وقد جعلها حاضرة زاهية زاهرة وصرف كثيراً من زمانه في دراسة علم الفلك والدأب في تقدمه وتهذيبه. وأسس مدارس للطلب ومعاهد للشريعة. واحتذى حفيده الرشيد (786م) حذوه. واقتفى أثره. فأمر أن يلحق بكل مسجد مدرسة. ولكن العهد الأوغسطي في بلاد العرب لم يكن إلا عهد الخليفة المأمون (813 - 832م) إذ جعل بغداد مقراً للعلم ومهبطاً. وجمع المكاتب الكبرى وقرب إليه البحاثة وأدنى من جانبه العلماء.
هذا وقد استمر الارتقاء العلمي حتى انقسام الدولة العربية إثر الخلافات الداخلية إلى ثلاثة أجزاء. الدولة العباسية في آسيا والفاطمية في مصر. والأموية في اسبانيا. وأصبحت هذه الدول الثلاث تتنافس في الآداب والعلوم تنافسها في السياسة والملك.
أما في الأدب فإن العرب طرقوا من أبوابه كل ما يهذب الذهن ويبهج الروح. وقد كان فخرهم في عهودهم الأخيرة إنهم أخرجوا من الشعراء ما لم تخرجه أمم العالم مجتمعة. وأما في العلم فكل مقدرتهم تنحصر في أنهم هذبوه على مثال اليونانيين الإسكندريين. لا على مثال اليونانيين الأوروبيين. إذ رأوا أن العلم لا يتقدم آخر الدهر بمجرد النظريات بل بالبحث العملي في قوي الطبيعة وأسرارها. وأكبر مميزات طريقتهم العلمية التجربة والاستقراء. فأما الهندسة والعلوم الرياضية فقد عدوها وسائل لاتساع الذهن وتقوية التصور والتعقل. وإنك لتشهد في عديد مؤلفاتهم في الميكانيكا وعلم الهيدر وستاتك أي علم نواميس التوازن في السوائل وعلم الضوء إن حل مسألة أو مشكلة تختص بعلم من هذه العلوم لم يكن إلا بإقامة تجربة أو باستقراء آلي. ومن ذلك كان العرب واضعي علم الكيمياء. وتوصلوا به إلى اختراع كل أنواع المعدات لمسائل التقطير والإذابة والتصعيد وغيرها. وقد أدى كل ذلك إلى أن استعانوا في علوم الفلك بالآلات الدقيقة المتحللة كالأسطرلاب ومقياس الزوايا وإلى استعمال الميزان وكانوا أعلم بنظرياته وأخبر. وإلى إنشائهم مراصد للفلك مثل التي كانت في بغداد واسبانيا وسمرقند. وانتهى بهم ذلك إلى تقدمهم في الهندسة وحساب المثلثات وإلى اختراع علم الجبر واتخاذ الأرقام الهندية في الحساب - تلك هي النتائج التي نشأت من اختيارهم الطريقة الاستنباطية التي سنها أرسطو واجتنابهم أحلام(19/17)
أفلاطون نظرو.
ولكي تكثر خزائن الأسفار. وتحفل المكاتب بالتواليف الكبار. دأبوا في جمع الكتب واقتنائها. وقد روى عن الخليفة المأمون أنه جاء إلى بغداد بمئات من النوق تحمل الكتب الخطية المأثورة. ولما عقد الصلح بينه وبين ميشيل الثالث كان من شروطه أن تدفع إليه خزانة من خزائن القسطنطينية. فكان من بين الأسفار التي نالها رسالة بطليموس في الرياضة السماوية. فدفعه إلى المعربين فعرب باسم المجسطي وقد بلغ عدد الكتب المدخرة في المكاتب مبلغاً عظيماً. إذ كانت مكتبة القاهرة تحتوي مائة ألف مجلد. منها ستة آلاف وخمسمائة في الطب والفلك وحدهما. وكانت قوانين هذه المكاتب تبيح للمتعلمين والدارسين من أهل القاهرة استعارة الكتب وتجيزهم قراءتها. وقد حوت هذه المكتبة كذلك كرتين الأولى من فضة والأخرى من نحاس. وقد قيل أن النحاسية منهما هي الكرة التي صنعها بطليموس.
وأما مكتبة خلفاء الأندلس فقد بلغت مجلداتها ستمائة ألف حتى أن فهارسها استنفدت أربعة وأربعين كتاباً. وقد كان في الأندلس فوق ذلك سبعون مكتبة عمومية. وبلغت المجاميع والكتب التي في حوزة الأفراد العدد الكبير والمقدار الطائل. وقد روى أن طبيباً رفض دعوة سيلطان بخاري لأن حمل أسفاره يتطلب أربعمائة من الإبل:
وقد أعد في كل مكتبة مكان للنسخ والتعريب والتأليف. وقد كان لحونيان الطبيب مكان خاص بالترجمة في بغداد (850م) وقد أصدر منها مترجمات عدة لأرسطو وأفلاطون وأبقراط وجالينوس وأضرابهم. أما التواليف فقد كانت العادة أن يسأل طلبة الجوامع أساتذتهم أن يضعوا لهم رسائل في الموضوعات والعلوم التي كانوا بحاجة إليها. وكان لكل خلفة مؤرخ مخصوص. وإن كتب العشق والقصص أشباه ألف ليلة وليلة خير شهيد بما كان للعربي من قوة الخيال. وقد وضعوا أسفاراً كبرى في التاريخ والفقه والسياسة والفلسفة والتراجم. ولم تكن هذه الأخيرة مقصورة على تراجم المشهورين منهم بل ومشهور الخيل والإبل والنوق. ولم يضعوا فوق التآليف رقيباً. وإن كانوا عمدوا في العهود الأخيرة إلى مراقبة الكتب الدينية فلم يأذنوا بنشرها إلا بعد ترخيص. وكثرت ندبهم المراجع الجغرافية والتاريخية والإحصائية والطبية. وكثرت المعاجم ومختصراتها كمعجم العلوم لمحمد بن عبد(19/18)
الله. وكانوا يعنون بصقل ورق الكتب وجودته ونصاعة بياضه. ويؤثرون تخلل أنواع المداد في سطور الكتاب وسلالة. وتذهب العناوين ورؤوس الأبواب والفصول وتحليتها بالرسوم والنقوش.
وكانت الدولة العربية من أقصاها إلى أقصاها حافلة بالمدارس والجامعات. في المغول والتتر والفرس والعراق والشام ومصر وأفريقية ومراكش وفاس وأسبانيا. ففي أقصى حدود هذه الدولة العظيمة التي فاقت الدولة الرومانية في اتساع ملكها وترابى نواحها قامت جامعة سمرقند وفي الحدود الأخرى جامعة جيرالدة في اسبانيا وقد قاتل جيبون في عرض كلامه على رعاية الخلفاء للعلم وأخذهم بناصر الأدب كان أمراء الأقاليم والولايات المستقلون في حق الرعاية كالخلفاء. وكان من مباراتهم بعضهم بعضاً ن انتشرت روح العلم بين سمرقند وبخارى وبين فارس وقرطبة، وكان من ذلك أن وزيراً من الوزراء (هو نظام الملك) أفرد من ماله مائتي ألف دينار لتأسيس جامعة في بغداد. يهبها في كل عام خمسة عشر ألف دينار. وكان الذين يتلقون فيها العلم ستة آلاف طالب. وكانت يجرى على فقراء الطلاب ومحاويجهم الصلات والأعطيات الكافية. وكانت الأساتذة تتناول أجوراً وفيرة. وكان الداعي إلى جمع الأسفار ونسخها في كل مدينة حب الاستطلاع من فريق المتعلمين والمجتهدين. والزهور والمحمدة من فريق السراة والأغنياء.
وكانت تفوض رعاية هذه المدارس والجامعات في بعض الأحايين إلى النسطوريين وفي أحيان أخر إلى اليهود، وكانوا يجزونهم الجزاء الأوفر، ويرفدونهم الرفد الأكبر، ولم يعتدوا بأي البلاد فيها ولد الطالب، ولا في أية عشيرة نشأ، ولا أي دين يعتنق. وأية آراء دينية يرى، ما دام العلم طلبته، والرغبة في التعلم حاجته.
وسارت الجامعات على مثال الجامعة الطبية التي كانت في القاهرة فكانت لا تخرج الطالب إلا بعد تأدية امتحان شديد دقيق. فإذا جازه الطالب أبيح له الاحتراف بصناعة. وأول مدرسة طبية أنشئت في أوروبا هي المدرسة التي أسسها العرب في ساليرن (سالرنو) من بلاد إيطاليا. وأول مرصد فلكي مرصدهم الذي أقاموه في اشبيلية من بلاد إسبانيا.
ولو شئنا أن نبين للقارئ نتائج هذه النهضة العلمية المدهشة لما اتسع نطاق هذا الكتاب، بل نقول إن العلوم القديمة تقدمت على أيدي العرب وتهذبت. وأخرجوا كذلك علوماً حديثة(19/19)
طريفة. اخترعوا علم الجبر ووضعوا أساسه وقواعده بعدد يوفنتوس. واخترع محمد بن موسى حل المعادلات التي من الدرجة الثانية، واخترع عمر ابن إبراهيم حل المعادلات التي من الدرجة الثالثة. والعرب هم الذين ابتدعوا حساب المثلثات وجعلوه على ما ترى منه اليوم. وتركوه علماً منفصلاً مستقلاً. ووضع ابن موسى المذكور رسالة في حساب المثلثات الدائرية وألف البغدادي رسالة أخرى في مساحة الأرض كانت على نصيب وافر من المتانة والسداد والافتنان حتى قال قوم إنها نسخة منقولة عن كتاب أوقليدس في هذا الموضوع.
ولم يقتصروا في علم الفلك على تأليف الفهارس وإنما وضعوا كذلك مصورات للكواكب والنجوم. وسموا الكبرى منها بالأسامي العربية التي نراها حتى اليوم في كراتنا السماوية. وحققوا حجم الأرض، وحددوا طول السنة وعدد أيامها. وقد عنى الفلكي الكبير لابلاس برسالة لفلكي منهم سماها علم الكواكب. وحلها من الاعتداد محلها. وكذلك لفت لابلاس الأنظار واسترعى اهتمام علماء الفلك إلى الرسالة الخطيرة التي ألفها ابن يونس المصري في عهد الحاكم بأمر الله (سنة 1000م) لأنها احتوت كثيراً من دقائق الملاحظات منذ عهد المنصور في الكسوف والخسوف والاعتدال الربيعي والخريفي ومخانس النجوم والبروج والمنازل. وقد توفر الفلكيون من العرب على عمل الآلات الفلكية العديدة. وتركيبها وقياس الزمن بواسطة الساعات المختلفة الأنواع والأشكال. وكانوا كذلك أول من اخترع البندول.
وأما في العلوم العملية فهم أول من وضع مبادئ الكيمياء الحديثة وأول من اخترع حمض النيتريك وحمض السلفيوريك (الكبريت) والكحول. وأول من استعانوا بالكيمياء على تركيب الأدوية. وأول من استعملوا الصيدليات. وأعدوا بها المعدات الكيماوية.
وبعد أن أفاض الدكتور دريبر في بيان نتائج هذه النهضة العلمية والإصلاحلات والاختراعات التي أحدثتها العرب في جميع العلوم ووضعوها اختتم بحثه بهذه الفقرة: قال:
وكذلك كانت تلقن في مدارسهم مذاهبنا الحديثة في النشوء والتطور والارتقاء. بل إنهم ذهبوا بها إلى أبعد ما نذهب نحن فأجروها أيضاً على الأجسام المعدنية والأجسام غير العضوية. واسمع الآن ما يقول الخازني في القرن الثاني عشر من الميلاد.
عندما يسمع العامة من الفلاسفة الطبيعيين إن الذهب جسم بلغ حد الكمال والارتقاء.(19/20)
يعتقدون جد الاعتقاد أن الذهب لم يصل إلى حالته تلك إلا بتنقله بين أنواع الأجسام المعدنية كلها أي كانت طبيعته الذهبية من قبل رصاصاً. ثم صارت بعد ذلك قصديراً فنحاساً ففضة حتى بلغت درجة الذهب. وكأني بهم لا يعلمون إن الفلاسفة الطبيعيين يريدون بقولهم ذاك ما يريدون بقولهم إن الإنسان بلغ حد الكمال والتوازن في طبيعته وتركيبه. فليس معنى ذلك أن الإنسان كان يوماً عجلاً. فصار حماراً. فغدا حصاناً. فأضحى بعده قرداً. حتى صار في النهاية إنساناً.(19/21)
شذرات من فلسفة نيتشه
لعل القراء يذكرون الفصل الذي جاء في العدد الثاني والثالث من السنة الثانية يتضمن الكلام على فلسفة نيتشه وإلا طافة بشيء من ترجمته. وبعض شذرات اقتطفت من فجره. واليوم جئنا نعاود الاقتطاف من هذه الفلسفة الحارة المتأججة. والآراء المضطرمة المستعرة. ثمرات هي وإن مجت مرارة وعلقماً وصبراً، خير من تلك الآراء الهادئة الحلوة التي يسترطها المتناول. فلا تكاد تستقر في جوفه حتى ينمي حلاوتها. وليست الآراء المريرة إلا أملاحاً تزيل من جوف متناولها عتيق آراءه. وجامد أفكاره. وهي وإن لم تصادف الرضى والقبول، لا تستحق الكره ولا تستأهل الجفوة والأعراض.
النساء ـ: كل ما في المرأة لغز. لا يطلب إلا حلاً واحداً. ذلك ما يسمونه بالحمل الرجل للمرأة واسطة. غايتها الطفل. ولكن ما مكان المرأة من الرجل؟ كل رجل صادق الرجولة حقيقيها. يروم مطلبين مختلفين. الخطر واللهو - فلذلك يطلب المرأة كأشد اللعبات خطراً.
ليدرب الرجل على القتال ويمرن. ولتعلم المرأة على أن تكون ملهاة للرجل ومنعمة فكل ما عدا ذلك سخف وحماقة وجنون.
لا يستطيب الرجل المقاتل الثمار الشديدة الحلاوة ولا يستعذ بها. فلذلك يحب المرأة. لأن أحلى النساء مذاقاً. وأعذبهن مساغاً. لا تبرح مرة المطعم.
المرأة أعلم من الرجل بالأطفال. ولكن الرجل أشد طفولة من المرأة.
إن في الرجل لطفلاً مختبئاً يريد أن يلعب فأقبلن أيتها النساء واكتشفن لي الطفل الكامن في الرجل.
إلا فلتكن المرأة لعبة للرجل نقية. صافية. دقيقة كالجوهرة. تألق بسنا فضائل عالم لم يحن بعد حينه. ولم يأن أوانه.
ليسطع في حبكن. يا جماعة النساء. أشعة هذا النجم الزاهي. دعن أملكن يقول ليتني ألد الإنسان الأعلى!.
ولتجعلن الشجاعة رفيقة حبكن. وليكن في حبكن شرفكن. فإن المرأة قل ما تفهم الشرف في غير الحب. ولكن ليكن شرفكن في أن تحبين أكثر من أن تحبين ولا تكن في الحب إلا السابقات.
ليخش الرجل المرأة إن هي حبت. فإنها إذ ذاك تضحي كل شيء. وتعد كل شيء غيره(19/22)
تافهاً لا قيمة له ولا قدر.
وليخف الرجل المرأة إن هي أبغضت. فالرجل شرير في صميم نفسه. ودخيلة روحه. ولكن المرأة بجملتها شريرة فاجرة سافلة.
من هو أكره للآخر وأبغض؟ - إلا فاسمع ما يقول الحديد للمغناطيس أنا الذي أكره لك وأبغض. لأنك أنت الذي تجتذب. وإن كنت أضعف من أن تشدني إليك وتجر. .
إن سعادة الرجل في أن يقول أنا الذي أريد وسعادة المرأة هو الذي يريد.
إلا فانظروا. الآن أصبح العالم كاملا! كذلك تظن كل امرأة يوم تذعن بكل حبها وتستسلم.
يجب على المرأة أن تطع. بل يجب عليها أن تجد لملئها غوراً. لأن روح المرأة اديم متحرك متنقل. غشاء مظلم معتم. فوق ماء قريب الغور دانية.
ولكن روح الرجل عميقة غائرة يفيض آذيها من منابع وأجحار ومغاور ضنية تتخيل المرأة قوتها. ولكنها لا تستطيع لها فهماً.
الزواج والنسل - لي سؤال أريد أن ألقيه عليك وحدك. أريد أن ألقي بسؤالي أنا في أعماق نفسك. مسبار أاسبر به غور روحك.
أنت اليوم فتى في ميعة الشباب. وعفرة الصبا. وتريد طفلاً. وتروم زوجاً. لكني أسألك هل أنت بالرجل الحري بالزواج. الخليق بالذراري والأطفال؟.
أنت الرجل القوي المنتصر الهازم نفسه. القاهر فوق شهواته. المهيمن على عواطفه. المتغلب على فضائله - ذلك سؤالي إليك ومستفسري.
أم هو الحيوان ينفث في رغبتك. أم هي الضرورة. أم العزلة. . أم النزاع؟.
إنك ستبني فوقك وتشيد. ولكن قبل أن تبني يجب أن تبني أنت جثماناً وروحاً.
إنك ستزيد في نفسك وتنميتها وتكبرها. لا إلى الإمام فقط. ولكن إلى فوق. حيث جنة الزواج تعينك على بنياتك. وليتها تساعدك في تشييدك.
ستخلق جسماً أرفع من جثمانك وأسمى. وأشهق من بنياتك وأعلى. ستخلق طوقاً خالفاً.
وما الزواج عندي إلا رغبة الزوجين في خلق وليد هو أكبر وأسمى من خالقيهما. أما الزواج إلا الاحترام المتبادل بين الزوجين لتحقيق هذه الرغبة.
فليكن هذا معنى الزواج وحقيقته. ولكن ماذا أسمي ما يدعوه أولئك الكل زواجاً؟.(19/23)
بلى أسميه أجداب الروح في الزوجين. بل اسميه قذارة الروح في الاثنين، اسميه لذة يرثي لها في البعلين.
كلهم يسمون هذا زواجاً. وكلهم يقولون إن زواجهم يقضي في السموات. ولكني أحب سماء هؤلاء الحيوانات المشتبكة في مسائل السموات.
لا تضحكوا لهذا الزواج. فأي طفل لا يحق البكاء على والديه؟.
إن في هذا الرجل لسعت خير وعنوان فضل. وإنه لناضج لمعنى الأرض. على أني ما كدت أرى زوجته حتى تبدت لي الأرض كأنها دار المتهوسين المجانين.
بلى. إني لأوثر أن تهز الأرض رجفة. أو تأخذ الأرض صيحة. إذ أرى الرجل القديس لأوزة بعلاً!.
هذا مضى يطلب الحق وينشده. فرجع آخر نجعته يحمل كذبة مزخرفة. يسميها زواجاً.
وهذا راح يطلب فتاة لها صفات الملائكة. فلم يصبح إلا وهو وصيف لامرأة. ولا يزال يريد أن يصير هو ملكاً.
كم من حماقات قصيرة تسمونها أنتم حباً. فيأتي الزواج فيرد هذه الحماقات القصيرة جنوناً واحداً مستطيلاً.
حاجة الحق إلى القوة، ليس الحق بقوة في ذاته. وإن قال لك أولئك الجدليون الثرثارون المالقون نقيض ذلك. ينبغي للحق أن يجتذب القوة إلى جانبه. وأما إن يركن هو إلى جانبها. وإلا كان نصيبه الموت والفناء. وقد شوهد صدق ذلك بما هو أكثر من الكفاية والغناء.
الصدق - كثيرون من الناس صادقون، ليس لأنهم يخجلون من إظهار عواطف النفاق والافتراء وإنما لأنهم لا يستطيعون أن ينجحوا في تحريض غيرهم على التصديق بفاقهم ولما كانوا قليلي الثقة بمقدرتهم التمثيلية آثروا سهولة تمثيل الصدق.(19/24)
ابن الرومي
(تابع الكلام على حياته)
ومن قوله أيضاً:
يا ابن حرب كسوتني طيلساناً ... يزرع الرفو فيه وهو سباخ
عد ملياً قد ناطح الدهر حتى ... كل أركانه بهن انفاخ
مات نساجه ومات بنوهم ... وبدا الشيب في بنيهم وشاخوا
طيلسان إذا تداعت خروق ... بين أتنائه لهن صراخ
سرني صوته وقلت لصحبي ... لم يصوت إلا وفيه طباخ
تستمر الصدوع طولاً وعرضاً ... فيه حتى كأنهن رخاخ
ومنه أيضاً يستهدي كساء:
يا من عكفنا عليه لاذين به ... فما عكفنا على بدر ولا وثن
أعاذك الله من حال تماطلني ... لضيقها بكساء تافه الثمن
أنظر إلى هذه الدنيا وزينتها ... تر المكارم فيها زينة الزين
فاكس ابن شكرك ما يبلى على ثقة ... أن سوف يكسوك ما يبقى على الزمن
فهذا وما سبق من مثله خليق أن يريك مبلغ فاقته ورقة حاله وخصاصته، وإذا ذكرت أنه ربما لزم كسر بيته أياماً لا يخرج فيها ولا يتصرف، وحوله صبية غرائي قد أخذتهم أموة الجوع، يشربون على ريقه النفس وما غلوا شرابهم بشيء وهو يخشى أن يبرح بيته مخافة أن يفجأه مالا يطيق احتماله. والناس لا يرحمون ضعفه ولا يرفقون به. ولا يكفون عن التضاحك منه والعبث به. فمن هازل يتداعب به ويعيبه بمشيته. ومن لئيم يزعم أنه عنين ويرميه بأنه مخنث. ومن حاسد يعيب شعره ليهيجه وهو ينفشه عليه. وإنه ربما رق له جيرانه وحنوا عليه فبعثوا له بشبعة من طعام وشربة من ماء. وإنه كان يمدح أهل الثراء فلا يفيد سوى الرد. ويستصرخ بذوي الغنى واليسار فلا يغنون عنه قلامة ظفر. إذا ذكرت ذلك لم تستغرب قولنا في مفتح هذا الفصل إننا لا نعرف رجلاً أصابه ما أصابه ولا عظيماً تهاون به الناس حياً وميتاً ألا هو. على أنه لو لم يكن عظيماً وكان من أجلاف عصره وهمجهم لعجبنا كيف يجوع ويظمأ. ولاستغربنا كيف يخلو عصر من أهل المروءة(19/25)
والأريحية. فكيف وهو أشعر أهل زمانه. والموفي على أقرانه؟.
روى أبو إسحق الحصري في زهر الآداب قال قال علي بن إبراهيم كاتب مسروق البلخي كنت جالساً بداري فإذا حجارة سقطت بالقرب مني فبادرت هارباً وأمرت الغلام بالصمود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية من أين تأتينا الحجارة فقال امرأة من دار ابن الرومي الشاعر قد تشوفت وقالت اتقوا الله فينا واسقونا جرة من ماء وإلا هلكنا فقد مات من عندنا عطشا. فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة أن تصعد إليها وتخاطبها ففعلت وبادرت بالجرة وأتبعتها شيئاً من المأكول ثم عادت إلى فقالت: ذكرت المرأة (التي في دار ابن الرومي) أن البيت مقفل عليها من ثلاث بسبب طيرة ابن الرومي فتعجبت من حديثها.
على أن شعره حافل بالشكوى مما لقيه في حياته من أذى الناس وصرف الأيام وعنت الليالي ولو نحن أردنا استقصاء ذلك لاحتجنا أن تنقل أكثر ديوانه ولكنا تجترئ باليسير من ذلك فمنه قوله:
ويح القوافي ما لها سفسفت ... حظي كأني كنت سفسفها
ألم تكن هوجا فسددتها ... ألم تكن عوجاً فتقفها
كم كلمات حكت أبرادها ... وسطها المن وطرفتها
ما أحسنت إن كنت حسنتها ... ما ظرفت إن كنت ظرفتها
أنحت على حظي بمبراتها=شكراً لأني كنت أرهفتها
فرفقته حين وقفتها ... وهفهفته حين هفهفتها
وكتفت دون الغنى سدها ... حتى كأني كنت كنفتها
أحلف بالله لقد أصبحت ... في الرزق أفتني وما إفتها
لم أشكها قط بتقصيره ... فيها ولا من حيفة حفتها
حرمت في سني وفي ميمتي ... قراى من دنيا تضيفتها
لهفي على الدنيا وهل لهفة ... تتصف منها أن تلهفتها
كم آهة لي قد تأوهتها ... فيها ومن أف تأففتها
أغدو ولا حال تسنمتها ... فيها ولا حال تردفتها
أوسعتها صبراً على لؤمها ... إذا تقصته تطرقتها(19/26)
وقوله يذم الزمان وأهله:
ذهب الذين تهزهم مداحهسم ... هز الكماة عوالي المران
كانوا إذا امتدحوا رأوا ما فيهم ... فالأريحية منهم بمكان
والمدح يقرع قلب من هو أهله ... قرع المواعظ قلب ذي إيمان
كم قائل لي منهم ومدحته ... بمدائح مثل الرياض حسان
أحسنت ويحك ليس في وإنما ... استحسن الحسنات في ميزاني
وقوله من قصيدة يمدح بها إسماعيل بن بلبل الشيباني:
أمثل شعري يلوى حقه وله ... عليك من شيمك المحمود وأعوان
مالي لديك كأني قد زرعت حصي ... في عام جدب وظهر الأرض صفوان
أعايذ بك يستسقى بمعطشة ... وفي يمينك سبحان وجيحان
وبي صدا وبحلفي غصة برح ... فاعجل بغوثك إن الريث خذلان
إلى قوله:
إن لا يعني على دهري أخو ثقة ... من العباد فإن الله معوان
أو يبطل الحق بين الناس كلهم ... فليس للحق عند الله بطلان
وقوله:
عجبت لقوم يقبلون مدائحي ... ويأبون تنويبي وفي ذاك معجب
أشعري سفساف فلم يجتنبونه ... وإلا تكن هاتي قلم لا أثوب
وقوله:
أبا الصقر لست أرى مهديا ... لك المدح غيري إلا متابا
ولو وقف الأمر عند حد الفقر والخصاصة لقلنا فقير معدم أمثاله في الأرض كثير لا يحيط بهم حساب في كل زمان ومكان. وما زالت تلك حال الأديب. يقبل على الأدب فتعرض عنه الدنيا ويدبر عنه المال والنشب. ولكن الأمر لسوء طالعه قد جاوز الأملاق والفاقة إلى ما هو شر من ذلك وأصعب. وفي الفصل الآتي بيان ذلك وشرحه.
فصل في طيرة ابن الرومي وتعليلها
تذكر في هذا الباب جملة من أخبار ابن الرومي وطرفاً مما اتصل بنا عن طيرته ثم تقفى(19/27)
عليها بعد سردها برأينا في الطيرة وتعليلها:
قالوا كان ابن الرومي مفرط الطيرة شديد الغلو فيها. وكان من عادته أن يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ. ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه فيضع عينه على ثقب في خشب الباب فتقع عينه على دار له كان نازلاً بإزائه وكان (أي جاره) أحدب يقعد كل يوم على بابه فإذا نظر إليه ورجع وخلع ثيابه وقال لا يفتح أحد الباب. وفي هذا الأحدب يقول:
قصرت أخادعه وطال قذاله ... فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صعقت قفاه مسرة ... وأحس ثانية لها فتجمعا
وقال علي بن عبد الله بن المسيب: كان ابن الرومي يحتج للطيرة ويقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة. افتراه كل يتفاءل بالشيء ولا يتطير من ضده ويقول إن النبي مر برجل وهو يرحل ناقة ويقول يا ملعونة فقال لا يصحبنا ملعون. وإن علياً رضي الله عنه كان لا يغزو غزاة والقمر في العقرب. ويزعم أن الطيرة موجودة في الطباع قائمة فيها. وإن بعض الناس هي في طباعهم أظهر منها في بعض. وإن الأكثر في الناس إذا لقي ما يكرهه قال على وجه من أصبحت اليوم. فدخل علينا يوم مهرجان سنة ثمان وسبعين (ومائتين) وقد أهدى إلىَّ عدة من جواري الفيان وكانت فيهن صبية حولاء وعجوز في إحدى عينيها نكتة. فتطير من ذلك ولم يظهر لي أمره. وأقام باقي يومه فلما كان بعد مدة يسيرة سقطت ابنة لي من بعض السطوح فماتت وجفاه القاسم بن عبيد الله (وزير المعتضد) فجعل سبب ذلك المغنيتين وكتب إلى:
أيها المحتفى بحول وعور ... أين كانت عنك الوجوه الحسان
قد لعمري ركب أمراً مهينا ... ساءني فيك أيها الخلصان
فتحك المهرجان بالحول والعو ... رأرانا ما أعقب المهرجان
كان من ذاك فقدك ابنتك الحر (م) ... ة مصبوغة بها الأجفان
وتجافي مؤمل لي خليل ... لج فيه الجفاء والهجران
وعزيز علي تقريع خل ... لا يدانيه عندي الخلان
غير أني رأيت أذكاره الحزم ... وإشعاره شعاراً يصان
لا تهاون بطيرة أيها النظيا ... ر واعلم بأنها عنوان(19/28)
قف إذا طيرة تلقتك وانظر ... واستمع ثم ما يقول الزمان
فلما غاب من أمورك عنوان (م) ... مبين وللزمان لسان
لا تصدق عن النبيين إلا ... بحديث يلوح فيه البيان
خبر الله أن مشأمة كانت (م) ... لقوم وخبر القرآن
أفزور الحديث تقبل أم ما ... قاله ذو الجلال والفرقان
أترى من يرى البشير بشيراً ... يمتري في النذير ياوسنان
وكان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش غلام أبي العباس المبرد في عصر ابن الرومي شاباً مترفاً ومليحاً مستظرفاً وكان يعبث به فيأتيه بسحر فيقرع الباب فيقال له من فيقول قولوا لأبي الحسن (يعنى ابن الرومي) مرة بن حنظلة فيتطير لقوله ويقيم الأيام لا يخرج من داره وذلك كان سبب هجائه إياه فمن أول ما عاتبه به قوله:
قولوا لنحوينا أبي حسن ... إن حسامي إذا ضربت مضي
أعرف بالأشقياء بي رجلاً ... لا ينتهي أو يصير لي غرضا
يليح لي بالسلامة والسلم (م) ... ويخفي في قلبه مرضا
قال فقلنا ثم استقال فأع ... فيناه ثم استحال فانتفضا
وليس تجدي عليه موعظتي ... إن قدر الله حينه وقضي
كأنني بالشقي معتذراً ... إذا القوافي أذقنه المضضا
لا يأمنن السفيه بادرتي ... فإنني عارض لمن عرضا
عندي له السوط أن تلوم في السير=وعندي اللجام إن ركفنا
فاعتذر إليه وتشفع عنده بجماعة من أهل بغداد فقبل عذره ومدحه بقصيدته التي يقول فيها:
ذكر الأخفش القديم فقلنا ... إن للأخفش الحديث لفضلا
وإذا ما حكمت والروم قومي ... في كلام معرب كنت عدلا
ثم عاد إلى أذاه واتصل به أن رجلاً عرض عليه قصيدة من شعره قطعن عليها فقال قصيدته التي يقول فيها:
لا يلمني جارم سطوت به ... من زرع الشر عامداً حصده
جعلت عدل القصاص ملتحدي ... فليكن البغي ثم ملتحده(19/29)
كذلك إني خلقت ذا لدد=حتى أرى الخصم تاركاً لدده
لاسيما من عفوت عنه قاطع ... ته أتاني وهيجت صيده
سأسمع الناس ذمه أبداً=ما سمع الله حمد من حمده
ولابن الرومي في الأخفش أفخاش كثيرة مثبتة في ديوانه. وكان أصحابه غير الأخفش يعبثون به أيضاً فيرسلون إليه من يتطير من اسمه فلا يخرج من بيته أصلاً ويمتنع من التصرف سائر يومه - وأرسل إليه بعض أصحابه يوماً بغلام حسن الصورة اسمه حسن فطرق الباب عليه فقال من قال حسن فتفاءل به وخرج وإذا على باب داره حانوت خياط قد صلب عليها ورقتين كهيئة اللام ألف ورأى تحتها نوى تمر فتطير وقال هذا يشير بأن لا تمر ورجع ولم يذهب معه.
وروى بعضهم قال: بعثت بخادم لي يعرفه وأمرته يجلس بإزائه وكانت العين تميل إليه وتقدمت إلى بعض أعواني أن يدعو الجار الأحدب فلما حضر عندي أرسلت وراء غلامي لينهض إلى ابن الرومي ويستدعيه الحضور فإني لجالس ومعي الأحدب إذ وافى أبو حذيفة الطرسوسي ومعه برذعة الموسوس صاحب المعتضد ودخل ابن الرومي فلما تخطى باب الصحن عثر فانقطع شع نعله فدخل مذعوراً وكان إذا فاجأه الناظر رأي منه منظراً يدل على تغير حال فدخل وهو لا يري جاره المتطير منه فقلت له يا أبا الحسن أيكون شيء في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم ونظرك إلى وجهه الجميل فقال قد لحفني ما رأيت من العترة لأني فكرت أن به عاهة وهي قطع اثييه قال برذعة شيخنا يتطير قلت نعم وبفرط قال ومن هو قلت على بن العباس قال الشاعر قلت نعم أقبل عليه وأنشده أبياتاً منها:
ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفة بالمصائب
فخذ خلسة من كل يوم تعيشه ... وكن حذراً من كامنات العواقب
ودع عنك ذكر الفأل والزجر واطرح ... تطير جاز أو تفاؤل صاحب
ثم قام أبو حذيفة وبرذعة معه فحلف ابن الرومي لا يتطير من هذا ولا من غيره وأومأ إلى جاره! ومن شدة حذره وعظيم تطيره قوله لأبي العباس بن ثوابة وقد ندبه إلى الخروج معه وركوب دجلة من قصيدة طويلة:
ومن يلق ما لاقيت في كل مجتنى ... من الشوك يزهد في الثمار الأطايب(19/30)
أذاقتني الأسفار ماكره الغني ... إلى وأغراني يرفض المطالب
ومن نكبة لاقيتها بعد نكبة ... وهبت اعتساف الأرض ذات المناكب
فصبري على الأقتار أيسر مطلبا ... على من التغرير بعد التجارب
لقيت من البر التباريح بعدما ... لقيت من البحر ابيضاض الذوائب
سقيت على ربي به ألف مطرة ... شغفت لبغضيها بحب المجادب
ولم أبغها بل ساقها لمكيدتي ... تلاعب دهر جد بي كالملاعب
أبي أن بغيت الأرض حتى إذا رمت ... برحلى أتاها بالغيوث النواكب
سقي الأرض من أجلي فأضحت مدلة ... تمايل صاحبها تمايل شارب
فملت إلى خان ورت بناؤه ... مميل غريق النوب لهفان لاغب
فما زلت في جوع وخوف ووحشة ... وفي سهر يستغرق الليل واصب
يؤرقني سقف كأني تحته ... من الوكف تحت المزجيات الهواضب
يظل إذا ما الطين أثقل متنه ... تضر نواحيه صرير الجنادب
وكم خان سفر خان فانقض فوقهم ... كما نقض صقر الدجن فوق الأرانب
وما زال ضاحي البر يضرب أهله ... بسوطي عذاب جامد بعد ذائب
فإن فاته قطر وثلج فإنه ... رهين بساف ثارة ويحاصب
فذاك بلاء البر عندي شاتيا ... وكم لي من صيف به ذي مثالب
ألا رب نار بالقضاء اصطليتها ... من الضح بودي لفحها بالحواجب
فدع عنك ذكر البر أني رأيته ... لمن خاف هول البحر شر المهارب
ومازال يبغيني الخوف موارباً ... يحوم عل قتلي وغير موارب
فطوراً يناديني بلص مصلت ... وطوراً يسميني بورد الشوارب
وأما بلاء البحر عندي فإنه ... طواني على روع من الروح واقب
ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بغضه ... ولكنه من هوله غير تائب
ولم لا ولو ألقيت فيه وصخرة ... لوافيت منه النعر أول راسب
ولم أتعلم قط من ذي سباحة ... سوى الغوص والمصفوف غير مغالب
فأيشذ إشفاقي من الماء أنني ... أمر به في الكوز مر المجانب(19/31)
وأينشي الردى منه على كل شارب ... فكيف بأمنيه على نفس راكب
أخل إذا هزته ريح ولألأت ... له الشمس أفواجاً طوال الغرائب
كأني أرى فيهن فرسان بهمة ... يليحون تحوى بالسيوف الغواضب
فإن قلت لي قد يركب اليم طامياً ... ودجلة عند اليم بعد المذانب
فلا عذر فيها لامرئ هاب مثلها ... وفي اللجة الخضراء عذر لهائب
لطامن حتى تطرقن قلوبنا ... وتغضب من مزح الرياح اللواعب
ولليتم أعذار بعرض متونه ... وما فيه من آذية المتراكب
إبراهيم عبد القادر المازني(19/32)
نوادر وملح وفكاهات
كان الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر سيد كتاب العربية قصيراً دميماً جاحظ العينين مشوه الخلقة حبهم المنظر حتى قال فيه بعض الشعراء:
لو بمسخ الخنزير مسخاً ثانياً ... ما كان دون قبح وجه الجاحظ
حكي عن نفسه قال: ما أخجلني قط إلا امرأتان رأيت إحداهما في المعسكر وكانت طويلة القامة وكنت على طعام فأردت أن أمازحها فقلت انزلي كلي معنا فقالت اصعد أنت حتى ترى الدنيا معرضة بقصره - وجاءت إلى الأخرى وأنا على باب داري فقالت لي إليك حاجة وأنا أريد أن تمشي معي فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي فقالت له مثل هذا وانصرفت فسألت الصائغ عن قولها فقال إنها أتت إلي بفص وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان فقلت يا سيدتي ما رأيت الشيطان فأتت بك.
وأتاه يوماً رجل فقال سمعت أن لك ألف جواب مسكت فعلمني منها فقلت نعم فقال إذا قال لي إنسان يا زوج الفاعلة يا ثقيل الروح أي شيء أقول له قال قل له صدقت: وطلب إليه شخص كتاباً إلي بعض أصحابه يوصيه به فكتب له رقعة وختمها فلما خرج الرجل من عنده فضها فإذا فيها: كتابي إليك مع من لا أعرف ولا أوجب حقه. فإن قضيت حاجته لم أحمدك وإن رددته لم اذمك: فرجع إليه الرجل فقال الجاحظ كأنك فضفضفت الورقة قال نعم قال لا يضرك ما فيها فإنه علامة لي إذا أردت أن أشكر شخصاً.
حدث أبو العباس المبرد قال حدثنا محمد بن عامر الحنفي وكان من سادات بكر بن وائل وأدركته شيخاً كبيراً مملقاً وكان إذا أفاد على إملاقه شيئاً جاد به وقد كان قديماً ولي شرطة البصرة فحدثني هذا الحديث الذي ذكره ووقع إلى من غير ناحيته ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان لأن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك. ذكر أن فتياناً كانوا مجتمعين في نظام واحد كلهم ابن نعمة وكلهم قد شرد عن أهله وقنع بأصحابه فذكر ذاكر منهم قال كنا أكترينا داراً شارعة على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس وكنا نفلس أحياناً ونوسر أحياناً على مقدار ما يمكن الواحد من أهله وكنا لا ننكر أن تقع مؤنتنا على واحد منا إذا أمكنه ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه ودعونا الملهين والمهلبات وكان جلوسنا في أسفل الدار فإذا عدمنا الطرب جلسنا في غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس وكنا لا نخل بالنبيذ في عسر ولا(19/33)
يسر فإنا لكذلك يوماً إذا يفنى يستأذن علينا فقلنا له أصعد فإذا رجل نظيف حلو الوجه سري الهيئة ينبئ رواؤه على أنه من أبناء النعم فأقبل علينا فقال إني سمعت مجتمعكم وحسن منادمتكم وصحة إلفتكم حتى كأنكم أدرجتم في قالب واحد فأحببت أن أكون واحداً منكم فلا تحتشموني قال وصادف ذلك منا أقتاراً من الفوت وكثرة من النبيذ وقد كان قال لغلام له أول ما يأذنون لي أن أكون كأحدهم هات ما عندك فغاب الغلام عنا غير كثير ثم أتانا بسلة خيزران فيها طعام المطبخ من جدي ودجاج وفراخ ورقاق وأشنان ومحلب وأخلة فأصبنا من ذلك ثم أفضنا في شرابنا وانبسط الرجل فإذا أحلى خلق الله إذا حدث وأحسنهم استماعاً إذا حدث وأمسكهم عن ملامة إذا خولف ثم أفضينا منه إلى أكرم محالفة وأجمل مساعدة وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه فيزهر لنا أنه لا يحب غيره ويرى ذلك في إشراق وجهه فكنا نعني به عن حسن الفناء ونتدارس أخباره وآدابه فشغلنا ذلك عن تعرف اسمه ونسبه فلم يكن منا إلا تعرف الكنية فإنا سألناه عنها فقال أبو الفضل فقال لنا يوماً بعد اتصال الأنس إلا أخبركم بم عرفتكم قلنا إنا لنحب ذلك قال أحببت جارية في جواركم وكانت سيدتها ذات حبائب فكنت أجلس لها في الطريق التمس اجتيازها فأراها حتى أخلقني الجلوس على الطريق ورأيت غرفتكم هذه فسألت عن خبرها فخبرت عن ائتلافكم وثمالئكم ومساعدة بعضكم بعضاً فسكان الدخول فيما أنتم فيه أسر عندي من الجارية فسألناه عنها فخبرنا فقلنا له نحن تختدعها حتى نظفرك بها فقال يا إخواني إني والله على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها ما قدرت فيها حراماً قط ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فاشتريها فأقام معنا شهرين ونحن في غاية الاعتباط بقربه والسرور بصحبته إلى أن اختلس منا فنالنا بفراقه ثكل ممض ولوعة مؤلمة ولم نعرف له منزلاً نلتمسه فيه فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به وقبح عندنا ما كان حسن بقربه وجعلنا لا نرى سروراً ولا غما إلا ذكرناه لافضال السرور بصحبته وحضوره والغم بمفارقته فكنا فيه كما قال الشاعر:
يذكر نبهم كل خير رأيته ... وشر فما أنفك منهم على ذكر
فغاب عنا زهاء العشرين يوماً فبينما نحن محتازون يوماً من الرصافة إذا به قد طلع في موكب نبيل وزي جليل فلما بصر بنا انحط عن دابته وانحط غلمانه ثم قال يا إخواني والله(19/34)
ما هنا إلى عيش بعدكم ولست أما طلبكم بخبري حتى آتي المنزل. لكن ميلوا بنا إلى المنزل فحملنا معه فقال أعرفكم أولاً بنفسي أنا العباس ابن الاحنف وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم فإذا المسودة محيطة بي فمضى بي إلى دار أمير المؤمنين فصرت إلى يحيى بن خالد فقال لي ويحك يا عباس إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك وحسن تأتيك وإن الذي ندبتك من شأنك وقد عرفت خطرات الحلقاء وإني أخبرك أن ما ردة هي الغالبة على أمير المؤمنين اليوم وأنه جرى بينهما عتب فهي بذلة المعشوق تأبى أن تعتذر وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك وقد رمت الأمر من قبلهما فأعياني وهو أحرى أن تستعبده الصبابة فقل شعراً يسهل عليه هذه السبيل فقضي كلامه ثم دعاني إلى أمير المؤمنين فصرت إليه وأعطيت قرطاساً ودواة فاعتراني الزمع واذهب عني ما أريد للاستحثاث فتعذرت على كل عروض ونفرت عني كل قافية ثم انفتح لي شيء والرسل تعتبني فجاءتني أربعة أبيات رضيتها وقعت صحيحة المعنى سهلة الألفاظ ملائمة لما طلب مني فقلت لأحد الرسل أبلغ الوزير إني قد قلت أربعة أبيات فإن كان بها مقنع وجهت بها فرجع إلى الرسول بأن هلتها ففي أقل منها مقنع وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير ذلك الروى فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة وعقبت بالبيتين فقلت:
العاشقان كلاهما متغضب ... وكلاهما متوجد متعتب
صدت مغاضبة وصد مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذي هجرتهم ... إن المتيم قلما يتجنب
إن التجنبان تطاول منكما ... دب السلولة وعز المطالب
ثم كتبت تحت ذلك
لابد للعاشق من وقفة ... تكون بين الهجر والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم
ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى بن خالد فدفعه إلى الرشيد فقال والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا والله لكاني قصدت به فقال له يحيى وأنت والله يا أمير المؤمنين المقصود به هذا بقوله العباس في هذه القصة فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله.(19/35)
راجع من يهوى على رغم. استغرب ضحكاً حتى سمعت ضحكة ثم قال أي والله أراجع على رغم يا غلام هات نعلى فنهض وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء فدعاني يحيى وقال إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء قلت لعل هذا الخبر ما وقع مني بغاية الموافقة ثم جاء غلام فساره فنهض وثبت مكانه فنهضت بنهوضه ثم قال لي يا عباس أمسيت أنبل الناس أتدري ما ساروني به هذا الرسول قلت لا قال ذكر لي أن ماردة تلقت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه ثم قالت له يا أمير المؤمنين كيف كان هذا فناولها الشعر وقال هذا أتي بي إليك قالت فمن يقوله قال عباس بن الأحنف قالت فيم كوفي قال ما فعلت شيئاً بعد قالت إذا والله لا أجلس حتى يكافأ قال فأمير المؤمنين قائم لقيام ماردة وأنا قائم لقيام أمير المؤمنين وهما يتناظران في صلتك فهذا كله لك قلت مالي من هذا إلا الصلة ثم قال هذا أحسن من شعرك قال فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير. وأمرت لي ماردة بمال دونه وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به وحملت على ما ترون من الظهر ثم قال الوزير من تمام اليد عندك أن لا تخرج من الدار حتى يؤهل لك هذا المال ضياعاً فاشترى لي ضياعاً بعشرين ألف درهم ودفع لي بقية المال فهذا الخبر الذي عاقني عنكم فهلموا حتى أقاسمكم الضياع وأفرق فيكم المال قلنا له هناك الله فكل منا يرجع إلى نعمة من أبيه فأقسم وأقسمنا فقال أسوتي فيه فقلنا أما هذه فنعم قال فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها فمشينا إلى صاحبتها وكانت جارية جميلة حلوة لا تحسن شيئاً أكثر ما فيها ظرف اللسان وتأدية الرسائل وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة فأجبناه بالعجب فحط مائة ثم حط مائة ثم قال العباس يا فتيان إني والله أحتشم أن أقول بعد ما قلتم ولكنها حاجة في نفسي فأكره أن تنظر إلى بعين من قد ماكس في ثمنها دعوني أعطه بها خمسمائة دينار كما سأل قلنا له وإنه قد حط مائتين قال وإن فعل قال فصادفت من مولاها رجلاً حراً فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين فما زال إلينا محسناً حتى فرق الموت بيننا.(19/36)
تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية
سعد زغلول باشا
ـ 2 ـ
بلغنا بالقارئ من ترجمة رجل مصر العظيم، سعد زغلول باشا، منطبق الأمة ومقولها، والمحامي عنها ومذودها إلي تلك الحفلة الكبرى التي أقامها المحامون لتكريمه على أثر انتخابه نائب قاض بمحكمة الاستئناف، وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من شهر يوليه عام 1892 أي منذ اثنين وعشرين حولاً، وجئنا بالخطبة المؤثرة الرقيقة التي ألقاها المترجم به بين جماعة المحتفلين وفيها تلك الاعترافات البليغة التي فاض بها قلب من تلك القلوب الخفاقة النابضة وجاشت بها نفس من تلك النفوس العبقرية الفياضة، وإن للنفوس لعبقرية هي في أغلب الأحيان، أشد من عبقرية الأذهان، وما عبقرية النفوس إلا قوة الشعور بالواجب، والإيمان بالحق، ومنابذة الباطل، وهي الوحي الإلهي الذي يتنزل على النفوس الخصيبة، فيملؤها روحانية، ويرسل في نواحيها مادة الإحساس الشفاف، وإذا كانت القوة الإلهية لا تكثر في الإنسانية من عداد العبقريين عقولاً وأذهاناً، فما أقل خلقها للعبقريين نفوساً ووجداناً لأن القوة الإلهية تدأب في عملها، وتجد في إخراج قوالبها، على أنك لتهز إليك جذع الشجرة المثمرة، فلا تستطيب من متساقط ثمارها، ولا تستعذب من متناثر بواكرها إلا ثمرة أو ثمرتين، وأنت فتجد أنواع الزهر الذي لا رائحة له ولا عرف، أكثر بأضعاف من أنواع الأزاهر ذات الشذى والأريج إذ كانت لذة الجميل أن لا يكون شائعاً، ولا يروح فاشياً ذائعاً، ولعل أكبر الدلائل على العظمة الإلهية أن تخلق عظيماً واحداً، بين ألوف كلهم صغار، وإن تصور امرأة حسناء وسيمة، في أسرة كل نسائها قباح دميمات، وما أجمل مظهر الخير، وما أروع موقفه، إذا أكتنفه الشر من كل مكان.
كذاك كان نصيب سعد زغلول باشا من عبقرية الذهن، وكذلك كان قسطه من عبقرية النفس، وهما لم يجتمعا في قالب إنساني إلا أحدثا توازناً في جميع عواطفه، فإنك ترى أكثر العبقريين أذهاناً، أقرب إلى الحيوانية من غيرهم، وأشد إسفافاً إلى البهيمية من سواهم، ولو كان أمثال الفردده موسيه وبيرون ونابوليون، عبقريي النفوس، لما هام الأول بحب البغايا، ووصل الفاجرات، وما استرسل الثاني في هوى الغادات الفاتنات، ولا ركب الثالث رأسه،(19/37)
فطاح بملايين النفوس والمهجات.
ونحن اليوم عائدون فآخذون في ذلك التاريخ العظيم ونحن له أشد روحاً وأخف نشاطاً، لأنا نرى في خلاله دروس الحكمة تلقى من فم التاريخ، ونشهد في تضاعيفه مزايا العظمة تطل من الماضي إلى الحاضر، واثبة إلى المستقبل، فدافعة إلى الأبدية.
دخل المترجم به في سلك القضاء، بتلك الشخصية القوية التي ما أسند إليها عمل عظيم، إلا استكان لها، وتشكل بشكلها، واصطبغ بصبغتها، وتضاءل إزاء قوتها، وما كان أكبر الأعمال، وأرفع المناصب، إلا ليضيق بصاحب الشخصية القوية، وإن اتسع لألوف الناس، ورحب بعديد ضعاف النفوس واحترام النفس من أسمى العظمة النفسية، ونحن لشد ما نروح معجبين مكبرين، إذا وقفنا على رجل من عرض العامة، في قهوة أو منتدى، يستمسك برأيه، ويستند إلى حجته، لا ينزل عنهما ولا ينكص، وقد اجتمع الجلوس كلهم على نقيض رأيه، واتفقوا جميعاً على دحض حجته. بل إنك لتمتلئ إعجاباً وإكباراً لشأن الرجل العامي الحقير، يجيئك بكيس نقود فقدته، ويأبى أن يقبل منك على ما أحسن أجراً ولا عطاء، ويرفض أن ينال منك على ما صنع مكافأة ولا جزاء.
وما أروع الشخصية القوية في منصة القضاء، وما أشد جلال القاضي المهيب، إذا اجتمع جلاله بجلال مقعده، والتقت روعة شخصيته، بروعة سدته. وعلى قدر قوة الشخصية في القضاة، تكون قوة الإنكار في المجرمين والجناة، حتى أنك لتلقى المتهم إزاء القاضي القوي الشخصية، مضطرباً مذهولاً حائراً مذعوراً، إذ يخيل إليه أمام تلك القوة الخفية - قوة الجاذبية بين القوي والضعيف إن قد انفتحت مغاليق نفسه، وانكشفت حيالها مجاهل ضميره وبدت أعماق سريرته، وأنه قد أصبح بين يدي القاضي، وكله ثغور تطل منها ذنوبه، وتشرف من خلالها جرائمه، حتى إذا بلغ منه تأثير تلك القوة السحرية كما يبلغ من المنوم تأثير مغناطيسية المنوم، أدلى إلى القاضي باعترافه وهو هادئ ساكن، وأشهده على جريمته، ليتخلص من ذلك التأثير الشخصي الذي يصدمه به القاضي ويهدم فيه كل عزيمة للإنكار، وكل إصرار على التنصل والتكذيب.
وكم من جرائم ما كان ليجدي في اكتشاف جناتها دقة التحقيق، وما كانت لتغني في الاهتداء إلى مرتكبيها شدة التحري والاستقصاء، وقوة البحث والاستهداء، ولا ذكاء الشرطة وحيلهم،(19/38)
ولا مهارة المحققين وخدعاتهم لو لم تقع في يد قاض قوي الشخصية، اهتدت قوة شخصيته إلى المجرم من الجلسة الأولى.
وبعد فإن صاحب الترجمة، كما قالت صحيفة إلا يجيب عنه منذ ثمانية أعوام، من فريق القضاة المصريين، الذين يعتقدون أن القانون لا يعاقب رغبة في الانتقام، ويرون أن من الواجب الأخذ بالرفق في تنفيذ القانون وذلك لأن العقاب لا يطهر المجرم، ولا يزيل عنه أقذار الجريمة، ولكنه على نقيض ذلك أشد إفساداً للمجرم من الجريمة نفسها ولا تظن أنت أن المجرم يصبح بعد العقاب نفس مرتكب الجرم، بل كأن غيره الذي احتمل العقاب على فعلته، وقاسي تبعة جريمته، وليس الانتقام إلا عدلاً وحشياً، وما كان القانون إلا عدلاً إنسانياً، ومن ثم فلا ينبغي أن يشوب العقاب القانوني شائبة من وحشية الانتقام، وإنما يجب أن تمازجه إنسانية العدل، ولا أظن القانون يعاقب اللصوص والقتلة، وغيرهم من الآثمين والجناة لينزع من قلوبهم تلك الأنانية الشديدة التي دفعتهم إلى الاعتداء على حقوق غيرهم ونفوسهم وأموالهم. وإيست جرائم السرقة والقتل وغيرهما. هي التي نفسها جعلت بين الناس قتلة ولصوصاً ومعتلين.
ولعل صرامة العقاب القضائي وشوائب الانتقام التي تشوبه وإمارات الترة البادية عليه هي التي تجعل من الأمور المستحيلات أن نصبح في مجتمع إنساني يعلن المجرم فيها عن جريمته. ويذيعها على أفراد جنسه. ويملي هو الجكم بعقابه وهو معتز متفاخر بأنه بذلك يوقر القانون الذي سنه بيده وأنه بعقاب نفسه ينقذ القوة المخولة له ونعني بها قوة المشرع. وسلطة واضع القانون. ولا يكون من ذلك العقاب الاختياري إلا أن المجرم يرفع نفسه ويعلو بها فوق جريمته ويمحو آثارها بصراحته وعظمته وسكوته.
ذلك هو المجرم الذي يطلبه صالح الجمعية البشرية. وتريده القوانين الإنسانية شعاره لا أخضع في عظيم الأمور وحقيرها إلا إلى القانون الذي وضعته أنا بيدي.
والمترجم به كذلك في طليعة المصريين الحربيين. كما شهدت له بذلك صحيفة الغازات الفرنسية منذ ثمان سنين أيضاً. يرى أن المحافظة لا تلائم سنن التطور، ولا تسير بالجماعات في طريق الرقي، وإنما تقف بها في مكان واحد على حين أن الحياة تجري كل يوم إلى طور جديد، ولا ترى عقيدة المحافظة على القديم إلا ضعيفة الحجة، حقيرة الرأي،(19/39)
لأنها تقبض بيدها على حقيقة واحدة. ولا تريد أن تفتح عينها لترى حقيقة أخرى خيراً منها وأفضل أثراً. ولذلك تجد عقيدة المحافظة أبداً معتذرة. محتجة بالظروف والضرورات. وعندها أن التغيير معناه الإفساد. وإن التجديد مرادفه التبديد. ولكنك ترى مذهب الحرية أبداً على الحق. منتصراً فائزاً. يقاتل وهو موقن بالنصر والفوز. ومذهب المحافظة يستند إلى أن للإنسان حدوداً مقررة. ويحج مذهب التجديد إلى أن ليس هناك أثر لحدود الإنسان. والمذهب الأول يقوم على الظروف ولكنك تجد المذهب الثاني يقوم على القوة. ذاك يطلب الراحة والسكون وهذا لا يريد إلا العمل والحركة. ذاك سلبي وهذا إيجابي. والمذهب الأول يعتمد في جميع حياته على ذاكرته وماضيه. وأما المذهب الثاني فيركن إلى عقله وحاضره.
وإليك ما قالته عن صاحب الترجمة جريدة النيمس الكبرى في عام 1906 هو من شيعة المرحوم محمد عبد الذين امتازوا بالارتقاء والتهذيب وهم الذين سمام اللورد كرومر فريق الجيروند في النهضة الوطنية المصرية وهو مصري عريق في وطنيته. أجمع الناس على إكرامه والإعجاب به. لما اشتهر عنه من الاستقامة والاستقلال.
ونحن نقول إن شيعة المرحوم الأستاذ محمد عبده ما نبغت من الأزهر، وذكت في ربوعه. إلا لأنها كانت من أصحاب العقول القوية بفطرتها. والأرواح الخصيبة بطبيعتها. ولا تجد من طلاب الأزهر نابغة ولا عبقرياً. إلا وكان أول أمره ذا عقل قابل. وذكاء فطري. وروح وثابة ناهضة. لأن الأنبات الإنسانية الضعيفة. والعقول المظلمة. والأدمغة المعتمة. لا تدكو ولا تطيب في تلك التربة الأزهرية القوية. ولا تتفق مع جوها. ولا تنمو تحت قبها. بل إنها لتزداد كلما بقيت ضعفاً وتأوداً. وكلما سقيت من سقى ذلك المعهد. ورويت من ريه، أسرعت إلى لاذبول والاضمحلال. أما الذين يعيشون في جو الأزهر من الأقوياء طبائع وأذهاناً وأرواحاً. فلا ينون في ذلك المعهد يزدادون قوة على قوتهم. وذكاء على ذكاءهم. لأن الأزهر يخدم النبوغ وإن لم يكن فيه من هذا النبوغ مادته. وينضج الذكاء الفطري. حتى يكون منه العقل الجبار. والذهن العبقري. وإن لم يكن يعمل إيجاد هذا الذكاء والأزهر لا يفيد إلا أهل الاستعداد. ولا يصلح إلا للقابلين للنبوغ والرقي.
فلا عجب بعد ذلك أن ترى الأزهر مقلاً من إخراج الثمار الطيبة الصالحة: على كثرة عديد(19/40)
طلابه: وألوف الدارسين فيه. وإذا ما أخرج الأزهر يوماً عبقرياً واحداً: فلا تظن أن المدارس كلها مستطيعة أن تخرج آخر على شكله وغراره. وهل كانت مدارسنا وغير مدارسنا قادرة على أن تخرج رجلاً على نحو الأستاذ الإمام ومثاله. وأنت إذا رجعت إلى الأزهر وأطلعت إلى إحصائيات طلابه لألقيت عدد ما يذبل بين جدرانه. ويذوي بين حيطانه يربي على الفئات. ويسمو على الألوف. ثم إذا أنت نظرت إلى عدد النوابغ من خريجيه والعبقريين من طلبته: لما وجدتهم إلا نفراً قليلاً.
هذا ولا غرو أن يسمى اللورد كرومر شيعة الأستاذ الإمام بفريق الجير وندفي النهضة المصرية إذ كان الجير وندهم حزب طلاب الإصلاح في إبان الثورة الفرنسية. وهم المعتدلون الذين كانوا يريدون إصلاحاً لا يلطخه دم: ولا يشوبه قتل ولا جرم، وهم العقلاء من دعاة الملكية الدستورية. لم يطلبوا أن يطاح برأس ذلك الملك المخلص الضعيف: ولا أن تدق عنق تلك الملكة الغر الطائشة. وإنما يريدون حق كل فرد عند الحكومة. دون أن يستغدوا عليها قوة ذلك الفرد. ولولا الجبليون المتطرفون، ولولا المجازر التي أقاموها: والدماء التي سفحوها. والنفوس التي أسالوها: لما كان للثورة الفرنسية ذلك الاسم المرعب: والتاريخ المخوف الرهيب. ولا تجد الثورة إلا لتشبه الداعي إليها في كل أطواره وحالاته. فليست الثورة الفرنسية إلا لتحكي جان جاك روسو في كل أحواله الطبيعية. ومزاجه الثوري: وعواطفه الحارة المضطرمة: والداعون إلى الثورة يبدأون بطلب حق مهضوم. وينتهون بأن يصبحوا لحقوق غير حقهم هاضمين. وهل ترى روبسبير ومورات ودانتون كانوا يقتلون ويذبحون إلا لأنهم يريدون أن يستخلصوا حق الشعب من الأرسقتراطية والكهنوت. لا ليردوه للشعب ويعيدوه. بل ليستفردوا هم به وحدهم، ولعل الشعب في الثورة وتحت الجمهورية الأولى. كان أسوأ حالاً منه تحت الملكية. فلما جن روبسبير بالسلطان. وأذهلت لبه مشاهد الدماء. وذهبت بعقله روعة الجلوتين أراد الشعب على دين جديد ينسخ به الدين القديم. وأسمى دينه ذاك عبادة المخلوق الأعلى وما كان المخلوق الأعلى في هذه العبادة إلا روبسبير نفسه، فهل كان هذا من حقوق الشعب المهضومة؟.
ولذلك لا تجد طلاب الثورة في أكثر الأحايين إلا طلاب المآرب وإذا لم يكونوا بادئ بدء طلاب مآرب. فإن الثورة جادلتهم. ولا ريب كذلك.(19/41)
والمترجم به في صف أولئك العبقريين كبار النفوس المنضوين تحت ذلك اللواء الذي حمله في طليعتهم جون ملتون. الشاعر الإنجليزي الخالد. وهو أعطني حرية القول. وحرية التفكير. وحرية الضمير. ولا تعطني قبل ذلك شيئاً وإنك لتسمع من كل فم. وتلقي علي كل شفة. اسم صاحب الترجمة مقروناً بتلك الصفة العظمى. والسجية الكبرى ونعني بها حرية الرأي. وصراحة القول والمبدأ. يرى الطبيعة التي فطره الله عليها شرعاً إلهياً مقدساً ينبغي أن لا يغير فيه الناس ويبدلوا. ولا يمحوا فيه ويثبتوا. وما كان الرجل العظيم إلا ليدلي برأيه أمام العالم كله: وإن اجتمعت أمته وأمم الأرض جميعاً على مخالفته في ذلك الرأي. وأنت فلا تسمع لأولئك الذين يقولون إن صوت الشعب هو من صوت الله فعله في أكثر الأحايين من صوت الشيطان وضرورة الحكومة الخارجية للإنسان لا تكون إلا على نقيض نسبة القوة التي يستعين بها الإنسان على حكومة نفسه فإذا استكملت الثانية واستجمعت، قلت الحاجة إلى الأولى ونقصت. ونمن ثم كلما ازدادت الفضيلة بضروبها وفروعها. ازدادت الحرية وعمت. والرجل الذي يقذف بأغراض الناس وآرائهم ويعمل بإرادته لا بإراداتهم. ويفكر بذهنه لا بأذهانهم. ليس إلا رجلاً تنزلت الآلهة على قلبه وصفت مشاعره من شوائب الحيوانية، وتنزهت عواطفه عن نقائص البشرية، وترى الرجل العظيم يجهر عالي الصوت برأيه في يومه، فإذا جاء عليه الغد، أعلن رأى غده في مثل جهارة صوته، ورفعة روحه، حتى وإن نقض رأى الغد رأي أخيه الأمس. لا يحفل بأن لا يفهم الناس من أمره شيئاً، وهل فهمت الإنسانية كلها في جميع أجيالها فيثاغورس وسقراط ولوثر، وغاليليه ونيوتون، وكل من على شاكلتهم من كل ذي روح نقية حكيمة ركبها الله في جسم ودم. والعظمة أخلق بأن لا تطلب الوضوح للناس. وأحرى بأن تدق على أنظار صغار الناس. وتغيب عن إفهام عاديي الرجال.
وكل ما ترى من عظمة العظماء. ونبل أرواحهم. وصراحة أفكارهم. وحرية ضمائرهم. ربيب العزلة. ووليد الابتعاد عن غمار الجماعات. إذ كان المجتمع في كل مكان يعمل على قتل رجولة كل فرد من أفراده. وما المجتمع إلا شركة مساهمة يدفع لها كل عضو من أعضائها حريته وفكره ثمناً لسهمه. ولا ينال من أرباح هذا السهم إلا خبزه وطعامه وأمانه. ولذلك كان عظماء العالم ومفكروه وقادته وعبقريوه هم الذين نشؤوا بعيدين عن المجتمع.(19/42)
خارجين على قوانين هذه الشركة الغابنة رافضين أرباحها وسهامها. عاملين على إفلاسها. وإصلاح موادها وبنودها. وإن أكبر مزايا المفكرين والعظماء. أمثال سقراط وأفلاطون وسبنسر، إنهم لم يعتدوا بالجماهير ولا أكثر الآراء الناس. ولا بالعادات والقوانين التي يعيش عليها الجماعات. وإنما جاؤوا بآرائهم على نقيضها. وأتوا بأفكارهم هادمة لأفكارها. (للكلام بقية).
أحمد محمود باشا
عضو الجمعية التشريعية عن دائرة شبرا خيت
نأخذ الآن في عرض ترجمة رجل ذكي الفؤاد، شديد العارضة. كان لفعل الوراثة في تكوين ذكائه. وتغذية نبوغه. أكبر الأثر وأعظم الأسباب فهو يحيا بيننا بتلك الفطرة القوية. التي انطبعت فوق أديم روحه من اثر فطرة أبيه. فتجلت في صورته المصغرة كل محاسن الصورة المكبرة. وكل دلائلهما وكل تقاطيعهما وما كان الذكاء الموروث إلا أشد في طبيعته من الذكاء البكر وأقوى في نوعه من الذكاء المحدث والمكتسب. لأنه يزداد قوة من جراء التلقيح. ويسمو في حسنه، ويصفو في جوهره، ويشتد في نضوجه، من فعل الانتقال. والذكاء الفطري الموروث هو أكبر أنواع الثروة، وأصلح ضروب المواريث، لأنه الأساس المتين المتماسك، الذي ينهض عليه نبوغ صاحبه، وتفوقه، وشخصيته.
هذا لأن المترجم به غصن من أغصان تلك الدوحة الفينانة اليانعة، التي أخرجت لهذا البلد أحسن ثماره وأنتجت للقطر أذكى بنيه، وأنبغ أهليه، فهو ابن المرحوم أحمد محمود الكبير، رجل كان كله ذكاء يتوقد، وبديهة تستعل وروحاً عظيمة تحترق، لا تستعين بذخيرة العلوم، ووفرة الفنون على إطفاء جذوتها، وإخماد نارها.
ولا يزال عارفو ذلك الرجل الكبير من الأحياء يشهدون بقوة ذكائه، وفي الموتى ألوف يعترفون بحدة عارضته، وناهيكم بشهادة الأستاذ المرحوم محمد عبده فقد قال يوماً، وكنا نعوده، بعد أن ذكر أحمد محمود وأسف لوفاته (لقد كان أذكى رجل مصري رأيته من غير الدارسين).
والمترجم به يستمد كل طبائعه ومزاياه، من تلك العصارة القوية، التي اغتذى منها سعد وفتحي، والتي لا تخرج من فروع تلك الدوحة المباركة، إلا الذكي والألمعي والقوي ذهناً(19/43)
وروحاً، إذ كانت والدة أحمد محمود الكبير، أخت والدة سعد باشا وأخيه الفقيد العظيم، وللاختان ثلاث أخوات كلهن منجبات، يتخلل دماءهن عنصر ذلك الذكاء الفطري الخالص، الذي لم تشبه أدني شائبة من الضعف الشائع في نسل أهل المدن، ذاك لأن الذكاء القروي هو ذكاء الطبيعة النقي، يعيش في أحضانها، ويدرج في حجرها، ومن ثم ترى له جلالها، وتشهد فيه قوتها، يأخذ من نقاء هوائها نقاءها ومن رقة نسائمها رقته.
ولد صاحب الترجمة عام 1870 في الرحمانية وتوفي والده المرحوم أحمد محمود عام 1904 وهو ابن علي محمود بن الحاج علي محمود الملقب بسلطان ترك. أعطاه هذا اللقب نابوليون الأول، يوم جاء إلى مصر بخيله ورجله، وتنتمي هذه الأسرة العظيمة إلى قبيلة اللحامدة، المقيمة في صفرة والجديدة.
فلما شب المترجم به عن الطوق، دفع إلى مكتب البلد فلبث فيه أياماً. يقرأ القرآن. ويتعلم مبادئ الكتابة والقراءة. ثم دخل مدرسة للفرير. برمل الإسكندرية. فقضى بها أربع سنين. انتقل بعدها إلى مدرسة الفرير الأخرى. وكانت في نفس الإسكندرية. وجاء القاهرة بعد ذلك فالتق بمدرسة المعلمين التوفيقية. ومكث يتلقى العلم بها حتى السنة الثالثة التجهيزية. وبذلك أخذ قسطاً غير صغير من برامج المدارس. ونال حظاً غير قليل من مختلف العلوم. إذا اجتمع إلى ذكائه القوي بطبيعته. كان منه ثروة كبرى للذهن. لأن الذكاء يستطيع أن يجعل من مبادئ العلوم كل أجزائها وأصولها وفروعها، ولا تجد العلم يستطيع. وأن زادا أو كبر - أن يخلق من الذكاء شيئاً.
ولم يلبث أن خرج إلى الحياة العملية، وذلك شأن الأذكياء منذ نشأتهم، فاختير في حياة والده، عضواً في مجلس المديرية تسع سنين، ثم انتخب عضواً كذلك في لجان الشياخات وتأديب العمد تسع سنين مثلها، ثم جعل عمدة على بلده، ولما كانت سنة 1901 أنعم عليه سمو الجناب العالي بالرتبة الثالثة مع لقب بك، ثم أنعم عليه بعد سنتين بالرتبة الثانية، وفي سنة 1904 برتبة المتمايز، وقد نال في العام المنصرم من سمو أمير البلاد رتبة المير ميران، وظفر في الانتخاب لعضوية الجمعية التشريعية عن دائرة شبرا خيت.
والمترجم به فوق ذلك من نوابغ الزراعيين، فقد زاد ثروة أبيه الطائلة نيفاً وسبعمائة فدان، وتلك لعمري أسوة حسنة، يجب أن يضعها المصريون قبالة أعينهم، لأن للزراعة في هذا(19/44)
البلد الخصيب أكبر قسط من حياتنا، تقوم عليها كل مصادر الثروة، ويتوقف عليها مجموع كيان الأمة، ولذلك كان العامل على تنميتها وتحسينها، وحمايتها من أيدي الأجانب، أفرادهم وشركاتهم هو العامل على بقائنا، وتقوية مكانتنا وتحسين أحوالنا.
هذا وإن الزراعة مهنة طبيعية، نشأت مع الإنسان الأول، وتطورت بتطوره، وتقدمت بتقدمه، بدأت قبل الصناعة والتجارة، والسياسة والفلسفة والكتابة والعلوم والآداب، بل إن هذه جميعاً تنهض فوق الزراعة وعليها تعتمد، ومنها تغتذي، وبها تستقيم.
بل للزراع أن يفخر على التاجر، ويطول على الصانع، والعامل والمخترع، لأنه يأخذ من تقسيم العمل أكبر الأقسام، إذ هو المثمر والناس بعد مستغلون، وإن من عمل يده، وجهد قواه، تنال الإنسانية طعامها، وكساءها، وكنها، والناس وإن كانوا لا يحبون الشاق من الأعمال، ويكرهون منها المرهق المعنت، إلا أنهم يشعرون من صميم أفئدتهم باحترام الحرث والغرس. وحب الزرع والحصيد. ويعدونها المهنة الطبيعية والحرفة الفطرية لنوعهم. ويعتقدون أن الذين لا يشتغلون منهم بالزراعة، إنما أعفتهم الظروف منها: فجعلتهم ينيبون عنهم في القيام بسهمهم منها أيدي غيرهم. وقوى طبقة منهم.
وحسب الفلاح إن الجيولوجيا منذ شباب العالم، في خدمته، وإن الكيمياء الطبيعية، منذ أول الخليقة في معونته، خدامه النهر والجدول. والحشرات النافعة تأكل الحشرات القاتلة. ومواليه الجو وتغيراته. والسماء وأمطارها. والأرض وأسمادها. والتربة وأملاحها.
والفلاح محسن خالد، يحفر على الطريق بئراً، ويشيد بجانبه سقفاً، ويزرع الشجر وارفة ظلاله، ويقيم عرشاًَ من ورق الأعناب، ومظلات ناضرة من الريحان واللبلاب، فإن لم يستطع، وضع على الثنية حجراً، يعتقده الضال، ويجلس عنده المتعب والكال، ينشئ بذلك ثروة كبرى، يذهب وهي باقية، جليلة النفع نقريته. عظيمة الفائدة لبني بلدته.
ولأخلاق الفلاح وآدابه، بساطة مظهره وثيابه، تنبوبه باحات القصور، ولا تنبوبه باحات الطبيعة، والفلاح أروع أيكون في ساحة حقله، دائباً وراء محراثه، مقتلعاً ضعيف أعواده. والطبيعة لا تميل إلى الزخارف، ولا تعرف الزينات، ولذلك تشرق في كوخ الفلاح، وتتزاور عن قصر الأمير، لأنها لاتجد في الثاني إلا تقاليد لعملها، وقوالب صناعية على مثال قوالبها، ولا ترى في الأول إلا مصنوعاتها، كيوم خرجت من يدها.(19/45)
والمترجم به روح رقراقة شفافة، تبدو رقته في حديثه إذا حدث، وفوق معارفه إذا تبسم وفي تضاعيف تحيته إذا حيا، كل شيء في آدابه، وأخلاقه يجري مع طبيعته، يضع في كل أفعاله وحركاته وأقواله قطعة من روحه، ولذلك تجد فيها تلك الحرارة النفسية، التي تشعل روح مخاطبه وتبعثها، تجري على لسانه، وفي قوله، وإذا جلست إليه، لم تلبث أن تترك كل الآداب المصطنعة. والتكاليف المحلولة، لأنك تشعر بأنك غير مستطيع بها أن تظهر على الرقة الطبيعية، والوداعة الخالصة السحرية التي يهجم عليك بهما.
وصاحب الترجمة مفراح يلقاك بوجه مستبشر، وابتسامة لطيفة. ودعابة جميلة. يتخلل أحاديثه مزحة حلوة. وفكاهة عذبة. يحوطها بلمعة من ذكائه. والدعابة الجميلة هي أبداً من خصائص الأذكياء. لأنهم لا يستطيعون أن يلقوا القول خلوا من آثارهم توقدهم. ويريدونك على أن لا تسمع منهم إلا صوت ذكائهم.(19/46)
كشكول البيان
السفور في الآستانة
بينما نحن نتجادل اليوم ونتشائم في مسالة الحجاب والسفور. وبينما يشتد فريق الأحرار من كتابنا في نقد الحجاب وتسفيه آراء أنصاره. وبينما يرد فريق المحافظين على الأولين تسفيههم. ويرمونهم بالمروق. ويقرفونهم بفقدان النخوة والرجولة. حتى أصبحت مسألة الحجاب والسفور مسألة كلامية، سبابية، ولا يراد بها الاهتداء إلى الصواب - نقول بينما كل ذلك يجري في هذه البلاد. ويقع في أنهار صحفها: ومجلاتها. إذ بنا نشهد الآستانة. دار الخلافة الإسلامية، قد بدأت تنفذ مبادئ السفور وتعمل على تحقيقها. وإذ بنا نرى أنصاره يتكاثرون في كل يوم ويزدادون. ونسمع أن السيدات التركيات والفتيات شرعن يرفعن الحجاب. ويسفرن للرجال. ويشتغلن بالأعمال العمومية. وقد كان من همة وزراء الدولة الإنشاء المتعلمين. وخلوص نفوسهم من قيود الجمود الشرقي. وسلاسل البقاء على القديم. إن بدأت تركيا تظهر في مظهر تطور اجتماعي جديد. وإصلاح داخلي طريف. فالمصطافون اليوم النازلون بالآستانة يرونها في شكل لم يعهد من قبل. يرون النظافة سائدة في الطرق. ويبصرون خطوط الترام تخترقها. من طرف إلى طرف. ويشيدون المدينة بعد الغروب مضاءة بالمصابيح الكهربائية.
وقد مدوا حديثاً أسلاك التليفون واشتغلت جماعة الفتيات والسيدات التركيات بإدارته. سافرات غير منتقبات. وعاملات التليفون اللاتي انتخبن يعرفن ثلاث لغات ضرورية. التركية والفرنسية واليونانية. وترأسهن سيدة إنكليزية.
وقد رأست منذ أيام السيدة الفضلى زوجة جمال باشا وزير البحرية. معرضاً للشفقة في الآستانة. قامت به بعض السيدات التركيات. ودهون لمشاهدته جمعاً من الأتراك والأوروبيين وهذه هي المرة الأولى التي وقع فيها حادث مثل هذا في تركيا.
وإليك ما كتب المسيو جورج ريمون وهو كاتب صحفي مشهور يراسل مجلة (اللاستراسيون) الفرنسية من الآستانة. وكان بين الذين دعوا لمشاهدة معرض الشفقة.
لقد صادف معرض الشفقة إعجاب الكثيرين من رجال تركيا وارتياحهم. وأصاب سخط الأكثرين ونعرتهم. ولكنه على أية حال خطوة جديدة في سبيبل المستقبل. وقد أصبح في(19/47)
تركيا الآن فريقان. كل منهما أحر من الآخر استمساكاً برأيه وأشد منه تعصباًَ لمذهبه. ففريق يدعو إلى وجوب إحداث تغيير تام في حال المجتمع التركي. ولاسيما في مسألة الحجاب. والفريق الثاني هو فريق المستمسكين الجامدين على الآداب القديمة. وهم رجال العهد القديم.
وإذا كانت أمثال هذه المسألة لا تجد إلا قليل أهمية في نظر الفرنسيين. فإن لها لأهمية كبرى في تركيا. لأن الحجاب لم تسنه العادة وحدها بل الدين معها. وللدين قوة هائلة في تلك البلاد. بل الدين هو وحدة الذي تقوم عليه في تركيا القوة الاجتماعية. وإن التغييرات التي أدخلها أنور باشا في تراقيه على لباس الجنود والسماح للسيدات التركيات بالظهور سافرات. أهم كثيراً في حياة الشعب التركي من كل الحوادث السياسية الكبرى.
وليس ثم أمة قوية أو على الأقل قابلة للحياة. دون أن يكون لها حياة اجتماعية. ولا تتفق الحياة الاجتماعية لبلد يعيش نساؤه محتجبات مختمرات. وإن الآراء التي يراها الأتراك في مركز المرأة عندهم قد جعلتهم في معزل عن بقية العالم. وكانت هي السبب الأكبر في تلك الظنون والأحكام المتسرعة التي يحكم بها الغربيون على الأتراك. والتي لا يزال الأتراك أنفسهم يشكون منها ويتألمون. ولكن بدأ بعض أهل النظر الثاقب يفهمون سر سوء التفاهم الواقع بين التركي والغربي. وهو حالة المجتمع التركي. لأن المجتمع وحالة المرأة والأخلاق والآراء العامة. قبل السياسة والجرائد والتجارة وغيرها. عليها تنهض المخالفات. وتشتد الروابط والصلات. وبها يزول سوء التفاهم. على أن الحجاب في تركيا مقصور على النساء في المدن.
أما في بلاد الريف وفي القرى فلا تحتجب المسلمات عن الرجال. إلا قليلاً أو لا تحتجب بنة. وقد رأيت بعيني النساء المسلمات يحاربن جنباً لجنب مع أزواجهن وأخواتهن ورجال قبيلتهن يحملن الماء على خط النار يشجعن الجند. ويسقين المقاتلين. وهن ممتشقات السيف. متنكبات البندقية. غير خاشيات ظهور وجوههن. ولا يزال أنصار الحجاب يحتجون بالأخطار التي تهدد الأخلاق من جراء رفع الحجاب. وتسئ إلى عاطفة قوية. تعتمد في مظاهرها على أنانية الذكر. وغيرته على حق امتلاكه. ورغبته في أن لا يعدو أحد على هذا الحق.(19/48)
كل ذلك لا ريب فيه. ولكن كل تقدم لا يشتري إلا بثمن مجهودات كبار. ويعوزه شيء من التضحية. حتى تجتني منه الفائدة المطلوبة. وليس يكفي تركيا البحارة المهرة. والجند الأنجاد الشجعان. بل يجب أن يكون لها كذلك. مجتمع يستطيع أن يسير في نهج واحد مع مجتمعات الأمم الأخرى، وبدون ذلك لا تستطيع تركيا آخر الدهر. أن ترفع ذلك الحاجز الذي يحول بينها وبين أمم الغرب.
ولنعد إلى معرض الشفقة. فقد كانت سيداته على جمال رائع وتودد جذاب. وقد قال لي يوماً القائد عزيز بك بهاته النساء يعرف الإنسان الأمة. وبهن يستطيع الحكم عليها ونحن برؤيتنا النساء التركيات. لا نستطيع إلا أن نقدر تركيا حق قدرها - انتهى تعليق الكاتب.
مأساة أخرى في البحر
غرق إمبراطورة أيرلندا
لا تزال قصيدة الشارع بيرون في روعة الأوقيانوس وعظمته وأخطاره. حقيقة إلى يومنا هذا. وإن كثرت المخترعات وتعددت المبتدعات. وأنشئت السفن الضخمة. وجاءت التيتانك وتولت. واهتمت غرف التجارة في إنجلترا وغيرها بحوادث الغرق. واخترعت أحزمة الحياة. وأنطقة النجاة. وسنت البنود الشديدة لمعاقبة قواد السفن الغريقة وملاحيها. وأدخلت المواعد الصارمة على قوانين الملاحة ومعاهداتها. فلا يزال للأوقيانوس. كما يقول بيرون سلطانه، وإذا اصطلحت أمواجه. وأجيال ثلوجه على سفينة وإن كبرت. فلا عاصم لها منه ولا نجاة لها من شره.
ذهبت التيتانك. وهي في أول عهدها بالبحر. فراغ العالم غرقها. واستشهد فيها خلق كثير من ملوك المال. وملكات الجمال. وأرباب القلم. وغيرهم من مختلف الطبقات. فضاعت في اليم ثروة عظيمة. وغرقت أرواح كثيرة. ثم قامت على أثر تلك الكارثة العظمى ضجة كبرى يراد بها تحذير القوم بناء السفن العظيمة. ولكن لم يجد التحذير نفعاً. فإن هناك اليوم آلات سفن أضخم من تلك وأعظم. حمولة كل منها خمسون ألف طن. ولا يزالون ينشئون غيرها وهم يؤملون الآن أن تحسب غرفة التجارة حساباً للصعوبات التي لاقتها سفينة الإمبراطور والمشقات التي عانتها سفينة فوترلاند حتى كادت تروح مطعماً للحيتان في طريقها إلى نيويورك وعودها منها. وهما من السفن الثلاث الكبرى الموجودة اليوم. وهم(19/49)
ينصحون بالإمساك عن تشييد غيرهما من ضخم السفائن. لأن راحة المسافرين لا تزداد بالسفر على ظهورها ولا يجد المسافرون في ركوبها إلا قسطاً من الرفاهية لا حاجة بهم إليه. ولا يرونه من الضرورة في شيء بينا الخطر يتفاقم كلما كبر حجم السفينة وازداد.
وقد حدث في الأوقيانوس الأطلانطي مأساة أخرى. هي في هولها وجلالها لا تقل عن كارثة التيتانك ولا فولترنو أو غيرهما. وكيف وقد ذهبت فيها نفوس لا تقل عددها عن عدد غرقى التيتانيك. وذلك أنه في ليلة الثامن والعشرين من مايو المنصرم. عند قم نهر سانت لورانس. أعظم أنهار كندا. خرجت سفينة من أجمل سفن شركة الكنديان باسبيك وهي تلك المسماة إمبراطورة أيرلندا. من ثغر كويبك من الثغور الشرقية لكندا. تريد العودة إلى إنجلترا. فأراد القدر إلا أن تصدم بقارب فحم من قوارب النرويج يسمى (ستورستاد) وذلك حوال الساعة الثانية إلا ربعاً بعد منتصف الليل. وعلى أثر اصطدامها هوت إلى قاع البحر بأصحابها. فغرق منهم أكثر من ألف نسمة.
وقعت هذه المأساة على مسافة قريبة من الشاطئ على بعد خمسة أميال أو ستة. إزاء قرية هناك تدعى (رموسكي) لا يزيد عدد سكانها عن 3900 نفس. واقعة على الشاطئ الجنوبي لمدخل نهر سانت لورانس. فلما بلغ نبأ كارثتها السفن المجاورة. هرعت سفينتان إلى نجدتها فلم تجد للإمبراطورة أثراً. وإذا بأمبراطورة أيرلندا الجميلة قد ابتلعها الأقيانوس في بضع دقائق فهوت إلى أعماقه بأكثر أهلها. ولم تستطيع السفينتان أن تنقذ في أثناء ذاك الموقف الجليل. إلا أولئك الذين قدر لهم أن يسرعوا إلى النزول في قوارب وزوارق كانت في رفقة الإمبراطورة. وأولئك الذين سبحوا فوق أديم الماء. وكان البحر لحسن حظهم هادئاًَ ساعتئذ ساكناً. ولكن كان الماء صقيعاً متجمداً. فكان مجموع من أنقذتا ثلاثة وأربعمائة شخص. كلهم في حال رهيبة مخزنة. قد فقدوا متاعهم وسلبوا كل شيء كان في حوزتهم فيهم الجريح والمرضوض. والمخلوط من الرعب والممرور.
أما ستورسناد القارب النرويجي المشؤوم فبعد أن بقر بمقدمة بطين الإمبراطورة استطاع النجاة والفرار من الغرق. فأنزل إلى اليمن زوارقه فنجى من نجى من غرقى الإمبراطورة ومن ثم نفذ في البحر سرباً يريد ثغر مونتريال.
وأن تفاصيل الكارثة التي قصها القبطان (كاندال) ربان إمبراطورة أيرلندا. وقد كان بين(19/50)
الذين كتبت لهم السلامة. وتلك التي ألقاها القبطان (أندرسن) ربان قارب ستورستاد. يختلف بعضها عن بعضصثر جد الخلاف. ولكن التحيق وحده كفيل بمعرفة أيهما الجاني الأثيم.
وقد جر غرق هذه السفينة العظيمة على شركة سفن الكانديان سايفيك خسارة فادحة. إذ كان يبلغ طولها 165 متراً. تحمل 14191 طناً. جمعت إلى حسن الرواء. وفخامة الأثاث. سرعة المسير. وصلابة التركيب. وكانت تقطع المسافة بين ليفربول وبين كويبك في ستة أيام.
وقد قدرت الشركة قيمتها بنحو عشرة ملايين من الفرنكات. وكانت فوق ذلك تحمل خمسة ملايين من الجنيهات.
ولكثرة هذه المآسي منذ كارثة التيتانك عرضت على شركات السفن وغرف التجارة مئات من الاقتراحات والابتكارات وكلها تدور حول العمل على إنقاص أخطار البحار وأهواله. ولعل أحسن هذه الاختراعات. اختراع يتألف من حزام الحياة. وسترة من الخيش الذي لا ينفذ منه الماء. تعم البدن كله. ولهذه السترة أكما تنتهي بقفازتين. وفي رأسها فرجة تقفل إذا كان الجو رديئاً مربداً. فإذا أقفلت نفذ الهواء من أنبوبة فوق الرأس صنعت بحيث لا يستطيع الماء أن ينفذ إليها.
وقد يستطيع المسافران يسبح في البحر أياماً ويأخذ معه زاده. حتى تلتقطه إحدى السفن السيارة. ويستطيع أن يحمل من الطعام والشراب ما يكفيه أسبوعاً.
وكيفية الاشتمال في هذه السترة أن يقف الغريق في شكل دلو هو بمثابة قاع للسترة. وهذا الدلو يأخذ مقداراً من الماء حتى يستطيع الغريق في سترته أن يحفظ توازن. للسترة كذلك مصباح متحرك. يدعو على نوره السفن إلى نجدته. ليلاً ونهاراً. ويتصل بالسترة عدة حال. ليعوم عليه رجلان أو ثلاثة رجال. إن لم يقدر لهم أن يظفروا بالسترة.
وهذه السترة من اختراع رجل ألماني يدعى جسناف هنريك وهو يعلن للملأ اختراعه وأنه سيمنع كل أهوال الغرق وأخطاره.
مقتل ولي عهد النمسا
راع العالم نبأ فاجعة كبرى. رمى بها الغدر شيخاً مرزواً كريماً،. جد ملوك أوروبا بأسرها(19/51)
وعميدهم. فرانسوا جوزيف. إمبراطور النمسا. وملك المجر. إذ أصيب في ولي عهجه ووارثه الأرشيدوق فرانسو فرديناند. بن أخيه الأرشيدوق شارل لويس. وحفيد الملك فرديناند الثاني من والدته. وقد سلبه الموت من قبل ولي عهده الأول. الأرشيدوق رودلف. وذلك عام 1889. وكان هذا شهوانياً يميل إلى ملذاته. ويجنح إلى مسارته امتصت الشهوات عصاة قوته حتى لم تكن تصدق الأمة النمساوية أنه سيلبث حياً حتى يخلف والده على عرش الإمبراطورية.
والإمبراطور فرانسوا جوزيف اليوم في الحول الرابع والثمانين. ولد في اليوم الثامن عشر من شهر أغسطس. عام 1830. قضي هذا العمر الطويل في نصب ورهق. وفواجع وأشجان. جلس على عرش الإمبراطورية النمسوية. منذ اعتزله الإمبراطور فرديناند الثاني في ديسمبر عام 1848. وكذلك مضى على تبوئه أريكة العرش ست وستون سنة.
وكان قبل هذه الفاجعة مريضاً. وكانت أوربا تضرع إلى الله أن يتم عليه نعمة الشفاء. أصيب بنزلات صدرية مزمنة. وكان في مرضه أغرب المرضى حالاً. وأعجبهم أمراً. لم يرض أن يلزم فراشه إلا أياماً معدودات. لم يشأ أن يهجر جلساته. أو يترك إلى حين عمله. وقد كان جوابه مازحاً مبتسماً لابنته الأرشيدوقة ماري فاليري. وكانت نصحت له أن يتخلى عن حضور جلساته.
(لئن كنت أجش الضوت أبحه. فلست بالأصم)
ولم يحدث مرضه أدنى تغيير في شهوته للطعام. ولا في تودده للناس وتلطفه. والمطلع على التقارير التي تجيء من ويانة منبئة عن النظام الذي يتبعه الشيخ المريض في تقضية ساعات نهاره. يري أن الإمبراطورة يأوى عادة إلى فراشه الساعة الثامنة من المساء وينهض منه الساعة الرابعة صبحاً. فإذا استيقظ استحم بماء فاتر. ثم تزين. وحلق لحيته. حتى إذا أقبلت الساعة الخامسة جلس إلى مكتب عمله. وفي الساعة السادسة يتناول فطوره الأول. حساء وقطعة من الشواء البارد. فمقداراً من اللبن أو الكاكاو. وقد استبدل اللبن والكاكاو منذ مرضه بالشاي الروسي. وإذا جاءت الساعة السابعة استقبل طبيبه الخصيص به. وفي خلال ضحوة النهار يتناول لبناً مغلياً. مع شيء من الخبز الأسود. وفي منتصف الساعة الثانية عشرة يجلس إلى طعام الغداء. وهو يتألف من الحساء واللحم والخضر. ثم(19/52)
يستريح بعد الظهيرة. وفي الساعة السادسة من المساء يقدم له طعام خفيف. مقدار من السمك. مع مقدار من النقل.
وتفصيل الفاجعة الكبرى هو أن الأرشيدوق كان يرأس بعض الاستعراضات العسكرية في ضواحي (الديزيه) من بلاد البوسنة بصفته من كبار القواد والمفتش العام للجيش النمسوي. وكان في رفقته في تلك الرحلة زوجته الدوقة هو هنبرج. وقد انتهت الاستعراضات يوم الأحد الثامن والعشرين من شهر يونيو الماضي. فأراد الأمير أن يختم رحلته في البوسنة والهرسك بزيارة سراجيفو عاصمة الأولى في ذلك اليوم.
وأنه وزوجته في طريقهما إلى دار المحافظة في سراجيفو إذ اعترض السيارة التي نقلهما عامل من صفافي الحروف يدعى كابرينوفتش. وقذف عليهما قنبلة من الديناميت. أنفاها ولي العهد بأحد ذراعيه فسقطت على الأرض. وانفجرت فأصابت شظاياها السيارة التي كانت في أثر سيارة الأرشيدوق فأصيب الكولونيل موريزي ياور المحافز بجراح غير بالغة. وأصيب كذلك ستة من السابلة.
وواصلت مركبة الأرشيدوق وزوجه مسيرها إلى دار المحافظة حيث استقبلا بالحفاوة والإجلال. وقد حاولوا عبثاً أن ينصحوا للأرشيدوق بتغيير الطريق في عودته. وكان قد أجمع أمره على الذهاب إلى زيارة المستشفى الحربي. لعيادة الجرحى الذين أصابتهم القنبلة. وكذلك كانت تدفعه الأقدار المحتومة إلى موضع الكارثة.
فلما دنت السيارة التي تقله وزوجه من ملتقي شارع فرانسوا جوزف بشارع رودلف. على مسافة غير بعيدة من دار المحافظة. انبرى من أول صف من صفوف الجمهور لمحتشد. فتى ناشئ يكاد يظن غلاماً صغيراً. وتقدم إلى الأمام فصوب نحو الأمير وقرينته. رصاصتين من مسدس (برونيتج) فأصابت الأولى بطن الأرشيدوقة. من ناحية جنبها الأيمن. وأصابت الثانية الأرشيدوق في عنقه فقطعت وريده، فأسرعت السيارة بها إلى دار المحافظ. وحاولوا إسعافهما فلم يجد الإسعاف نفعاً. بل لم يلبثا أن لفظا أنفاسهما الأخيرة.
والقاتل مثل الأثيم الأول كابرينوفتش من الصرب يدعى جاريللو برنزيب أحد طلبة المدارس. لا تتجاوز سنة الحول التاسع عشر.
وقد أثارت هذه الحادثة على الصربيين - إذ كان الأثيمان منهم - حنقاً شدايداً. ومظاهرة(19/53)
أشد. وقامت الفلاقل. وارتفعت الهزاهز والفتن. في كثير من القرى الصربية في بوسنة والهرسك وقتل من الصرب وجرح خلق كثير في سراجيفو وموسطار وغيرهما وسطا المتظاهرون على الحوانيت التي يملكها التجار الصربيون على أن الحكومة الصربية نفسها احتجت احتجاجاً رسمياً على هذه المظاهرات وأعلنت استياءها وانكارها لجناية كابرينوفتش وجريمة برنزيب.
والذي يزيد الأسى على الأرشيدوق القتيل هو أنه مات في الحول الخمسين من عمره دون أن يتولى العرش. ويعتلي الأريكة. وقد نضج في العشر السنين الأخيرة. وتجلت مواهبه وظهرت كفاءته وذكاءه. ونحن. وإن كنا لا نستطيع أن نعرف ماذا كانت تكون خططه. لو كان وثب إلى العرش. نتابع آراء أهل السياسة والنظر ونرى فيه كما رأوا رجلاً ذا شخصية قوية وإرادة. وفكرة عالية في حكم إمبراطوريته. ولم يكن يعرف أحد من الناس خطة الأرشيدوق السياسية. إذا كان الأرشيدوق سراً مغلقاً ولغزاً معمي كان يفكر في صمت ويعيش في سكون ويمضي في خفاء. وكان ذهنه يسير إلى الرقي والتطور. سيراً حثيثاً في كل يوم.
ولما نعي النعاة للإمبراطور فرانسوا جوزيف ولي عهده. وهو في أحد بلاد الريف يصطاف معتزلاً ضوضاء العاصمة وجوها المعتكر كعادته في صيف كل عام. وقع منه النعي كما تقع الصاعقة واندفع في بكاه ودموعه. وهو يصيح: يا للهول. يا للهول. لم يتركوا لي شيئاً بعد في هذا العالم!.
وغادر الإمبراطور المحزون. مصطافه في صباح اليوم التالي عائداً إلى العاصمة. وكان ينتظره في المحطة فتاه ولي العهد الجديد. وكا هذا موجعاً لوفاة الأرشيدوق حزيناً لمصاب الإمبراطور يري الناظر إلى وجهه ساعة استقبال الإمبراطور. بقية دمع في محجريه فلما نزل من القطار. اعتد على ذراع الفتى. ومشى حتى بلغ المركبة. وكانت الجماهير تهتف له في الطريق وتضج بالتحية وإظهار عواطفهم نحوه وإخلاصهم إليه.
وأعجب ما في أمر هذا الشيخ. أنه ينعم الآن. وكان من قبل على حافة القبر. بصحة جيدة وحال طيبة. وتلك لعمري من معجزات القدر. وعجائبها القضاء.
قيمة الإعلانات(19/54)
منذ تقدمت الصحافة في ممالك العالم المتحضر. ارتفع قدر الإعلانات. واستمدت من الصحافة منها كذلك قوام أمرها. ومصدر ثروتها. وقد تمت قيمتها اليوم نمواً عظيماً وعلت أجورها في الغرب علواً كبيراً. حتى لنكاد نظنها نحو الشرقيين باهظة فادحة ونحن موردون للقرء. ما يتقاضاه بعض صحف الغرب ومجلاته الكبرى. من الأجور حتى يعلموا إلى أي حد ارتقى الغرب. وإل أي حد نحن في الرقي نمت إليهم.
ذلك أن أجرة نشرة واحدة للإعلان الذي يستغرق صحيفة واحدة من الصحف والمجلات الآتية أسماؤها هي كما يأتي بحساب الجنيهات الإنكليزية.
350 في صحيفة الديلي ميل وبين 75 و100 في صحيفة البانش الهزلية و40 في مجلة ستراند و15 في مجلة المجلات الأسبوعية الذائعة في أمريكا تصدران من فيلادلفيا. وعدد النسخ التي تطبع منهما مليونان في كل أسبوع و100 في مجلة ما نساي الأمريكية و50 في مجلة المجلات الأميركية و8 شلنات ونصف شلن للسطر الواحد في البتي بارزيان و150 في مجلة الاستراسيون الفرنسية الأسبوعية.
وهذا الاختلاف في قيمة الأجور يتبع الاختلاف في مقدار ذيوع هذه الصحف. وشيوع هذه المجلات. ومقدار السرعة التي تصل بها نسخها إلى مختلف أنواع الأرض.
وقد عرضت إحدى المجلات الإنكليزية المشهورة على جماعة من كبار السياسيين والاقتصاديين والدينيين والفلاسفة والمفكرين والصحفيين والحكوميين هذه الأسئلة الثلاثة الآتية:
[1] ما هو أهم عيوب الطريقة المتبعة في نشر الإعلانات؟.
[2] هل لديكم أي اقتراح لتحسينها.
[3] ما رأيكم العام في قيمة الإعلانات؟.
فرد عليها جمع عظيم منهم فكان أحسن جواب على هذه الأسئلة مارد به ماكس نوردو وقد شهدت بذلك المجلة نفسها واضعة الأسئلة. قال ذلك الفيلسوف الناضج:
إنه ليدهشنا الذين يستطيعون إخراج الاستنتاجات المنطقية من بين ثنايا الحقائق البينة الجلية قليلون جداً.
كلنا يسلم بأن تطور المدنية يفضي بنا إلى الديمقراطية وفي كل مكان تحد الحكم للجماهير.(19/55)
وفي كل مكان ترجح الجماهير بالطبقات. فكيف لا تصدم كل فرد من تلك الحقيقة التي تدل على أن الإعلان وليد الديمقراطية. ونتيجتها المحتمة. وعاقبتها الإجبارية؟.
وأنت لا تحتاج في المجتمع الأوتوقراطي. أو الشعب الأرستقراطي إلا إلى أن تلقت إليك أنظار الفرد أو تلك الفئة القليلة التي ينبسط سلطانها. وتجري قوانينها على المجتمع كله. كما قال ذلك الفرنسي المتملق إن عين لويس الرابع عشر. هي التي أخرجت كل حسنات الصناعة. وبدائع الفنون وفي مجتمع كهذا. لا يغني الإعلان ولا يفيد. بل حسبه أن يسر الملك ويرضيه. ورعاية الملك لكل شيء تذهب برعاية الشعب ولكنك في المجتمع الديمقراطي. لا تستمد من رعاية أي فرد. مهما كان عظيماً. ولا من أي بيئة من البيئات. إلا الفائدة النزرة التافهة. ومن ثم وجب عليك أن تسترعي أنظار الملايين ولا سبيل إلى ذلك إلا الإعلان.
ولاشك في أن أولئك الذين يذهبون إلى نظرية السبرمان. تلك النظرية الطائشة الحمقاء يرون الإعلان من أخلاق العامة وشؤون الغوغاء والسوقة. ولكن أخلق بهم أن يكونوا في النقد عادلين ثابتين. ليعيبوا إذن على الكنائس صخب أجراسها. وضوضاء نواقيسها. لأنها إعلان عن الفرائض الدينية. ولينكروا قاعات المتاحف الباريسية ومعارض الفنون الجميلة لأنها إعلان عن أهل الفنون. وبدائع أعمالهم. وقد يكون أدل على الأرستقراطية وأتم على النبل أن لا تدق للكنائس والبيع أجراس. بل ينتظروا حتى يجيء المؤمنون المتقون إلى الكنيسة من أنفسهم. وإن لا تعرض حسنات العبقرية على الجمهور. بل تترك في حجرة المصور حتى يجيء فيشهدها نقادة جهبذ. ولكن من ذا الذي يجرأ على أن يمتدح هذه الطريقة المبتكرة اليوم؟.
من المستطاع أن تنشر الإعلانات بطريقة ثقيلة. منحطة. سوقية، ومن الهين أن تكتب بأسلوب جميل صادق مهذب، تستطيع الإعلانات أن تسترعي الغرائز السافلة، وتستدعي الغش والمين، كما تستطيع أن تلفت الذهن، والعقل، والعواطف.
وللإعلان بالطريقة الصائبة الجميلة يجب أن تكون ملماً بروح الفرد. وروح الجماعات ينبغي أن تكون رجلاً مهذباً أميناً. طيباً. صادقاً. ويجب أن تكون على شيء من الفن فهل يتيسر هذا كله!.(19/56)
وصفوة القول. إن كل من يرضي بالديمقراطية يجب أن يرضي بالإعلان. ولا يسأل إلا أن يراعي في الإعلانات الطريقة المحمودة.
وإليك جواب برناردشو. الفيلسوف الإنجليزي العظيم على هذه الأسئلة:
[1] إن الإعلان يطالب برخصة للكذب. لا نبررها اللياقة. ولا تتشفع لها الأخلاق.
[2] استئصال شأفة النظام التجاري الحاضرة بجملة أصوله وفروعه.
[3] الإعلانات هي كل ما في التجارة.
شراب الجعة في ميونيخ
ميونيخ هي أكبر مركز في العالم لصناعة الجعة. منها يستمد شراب الجعة في كل أنحاء الدنيا وأطراف الأرض. من الجعة حاجاتهم. وفي شهر مايو من كل عام يظهر في ميونيخ نوع جديد من الجعة يسمونه جعة البوك وهي ألذ مطعماً من النوع العادي. وأعذب مساغاً. فإذا أقبل شهر مايو الجميل. أقبل أهل ميونيخ على هذه الجعة مسرعين مخفين. وقد قرأنا في إحدى الإحصائيات أن عدد الذين زاروا حدائق الجعة. وهي من أعظم حدائق العالم العربي في شهر مايو الماضي على 12000 زائر في اليوم.
وقد تناولوا ما يزيد عن 6600 جالون من الجعة. نصف هذا المقدار من جعة البوك والنصف الباقي من الجعة السوداء. أما معدل المأكولات التي تتناول على الجعة كل يوم في تلك الحدائق. فعشرون عجلاً. وأربعة خنازير. و36000 قطعة من قطع اللحم البقري. وكثير من القول التي تقدم مع الجعة - ولما كانت هذه الحدائق واحدة من بين كثيرات أمثالها في ميونيخ. فمن المحتمل أن يكون معدل الجعة في ميونيخ كلها. عشرين ألف طن كل يوم.
ومن أعجب العجب بعد هذا أن يقال أن البفاريين والمونيخيين قد أقلوا من شراب الجعة. في صيف هذا العام.
معيشة المقاصير والحرم في تركيا
كتب القائد عزت فؤاد باشا في إحدى المجلات الألمانية مقالاً في حياة الحريم. جاء فيها بملحوظات قيمة عن أسباب عدول أغنياء الأتراك وأكابرهم عن المعيشة التي كانوا عليها منذ عدة سنين. وهي تعدد الحرم. وهي تلك المقاصير التي يفرد فيها التركي زوجاته.(19/57)
وسرياته. وجواريه. فقال إن الحريم لم يعد بعد موجوداً. وإن تعدد الزوجات في تناقص وهبوط. وإن كان الشرع يبيح من الزوجات رباع. ومن الجواري والسريات ما شاء الرجل. وشاءت ثروته. ذلك لأن اتخاذ هذه الحرم يستلزم تكاليف كثيرة. ويتطلب نفقات كبيرة. وفي كثير من الأحوال يضيع دخل الرجل كله في مصاريف حريمه.
وقد جاء الكاتب بمثال لذلك استخلصه من حال حميه. وكان له أربع أزواج. وخمسمائة من الجواري والحظيات في حريمه. فقال إنه عند وفاته. في سن الأربعين لم يترك شيئاً. وقد كان ورث ثروة لا تقل عن مليونين من الجنيهات. ومنشأ كل هذه التكاليف أن كل زوجة وكل حظية لابد لها من خدم وخول. ومنذ انقطع الاتجار بالرقيق في تركيا قل معه اتخاذ الحظيات والزوجات المتعددات. وقد كانت حياة المقاصير. ومعيشة الحرم. أحد الأسباب التي عطلت رقي تركيا. لأنها كانت تمتص جزءاً كبيراً من المال. كان أحق به أن يصرف في سبيل رقي التجارة. التي تركت لليونانيين والأرمن والسوريين.
عبادة الديكة
الديكة من معبودات اليابانيين. وقد كان من تقديسهم لها أن احتفظوا بتأريخ نوعها منذ ألف عام قبل مولد المسيح. ويزين الديكة في اليابان أذناب وريش نهاية في الطول. حتى ليظن من يقع عليها أنها إحدى الشواذ. فقد يبلغ طول الريش نحواً من عشرة أقدام. وفي متحف طوكيو ثلاثة أنواع من الريش تتراوح في طولها بين ثلاثة عشر وخمسة عشر قدماً.(19/58)
العدد 20 - بتاريخ: 31 - 8 - 1914(/)
صفحة من التاريخ
النساء في الأندلس
إن الناظر في تاريخ المسلمين في الأندلس ليقضي عجباً إذ يرى ضروب الحضارة جمعاء من علم وأدب وصناعة وتجارة وفلسفة وطب وزراعة واختراع وجيش بري وبحري وأسطول ودولة وما إلى ذلك قد أربت على الغاية حتى ليصح للناظر أن يقول إن مدينة الأندلس كانت بحيث لا يتعلق بأذيالها مدينة أمة أخرى في هاتيك الأزمان، بل يرفع عقيرته قائلاً إن هذه المدينة جاءت سابقة أوانها، لا بل كانت حلماً في الكرى أو خلسة المختلس.
ولسنا نقصد بهذه الرسالة إلى التعرض لجميع أنواع الحضارة العربية في الأندلس فإن ذلك قد أتينا عليه مفصلاً في كتابنا حضارة العرب في الأندلس الذي نسأل الله أن يعين على تمامه وإنما النية بهذه الرسالة أن تذكر طرفاً مما كان عليه نساء الأندلس من علم وأدب عسى أن يكون لنا من ذلك عبرة إن شاء الله.
فأول ذلك أن كان في أحد أرباض (ضواحي) قرطبة أيام عبد الرحمن الناصر مائة وسبعون امرأة يكتبن المصاحف بالخط الكوفي: وكان لبعض قضاة لوشة إحدى مدائن الأندلس زوجة بزت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل وكان قبل أن يتزوجها وصفت له فتزوجها فكان يجلس في منصة القضاء فترفع إليه الخصومات وتنزل النوازل فيلجأ إليها فتشير عليه بما يحكم به: وقد كتب إليه بعض أصحابه يداعبه.
بلوشة قاض له زوجة ... وأحكامها في الورى قاضية
فيا ليته لم يكن قاضياً ... ويا ليتها كانت القاضية
فأطلع زوجته على هذه المداعبة فقالت ناولني القلم فناولها فكتبت بديهة:
هو شيخ سوء مزدري ... له شيوب عاصية
كلا لئن لم ينته ... لتسفعاً بالناصية
ومن مشهورات نساء الأندلس حمدة ويقال حمدونة بنت زياد المؤدب الوادي آشي من وادي آش إحدى مدائن الأندلس واحتها زينب.
قال المقري وحمدونة هي خنساء المغرب وشاعرة الأندلس وممن روى عنها أبو القاسم بن(20/1)
البراق ومن قولها:
ولما أبى الواشون ألا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقل حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
وقالت وقد خرجت مع نسائها إلى واد نهره منقسم الجداول بين الرياض فنضون ثيابهن وسبحن في الماء وتلاعبن.
أباح الدمع أسراري بوادي ... له للحسن آثار بواد
فمن نهر يطوف بكل روض ... ومن روض يرف بكل واد
ومن بين الظباء مهاة أنس ... سبت لبي وقد ملكت فؤادي
لها لحظ ترقده لأمر ... وذاك الأمر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في أفق السواد
كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالحداد
وقد أجمع مؤرخو الأندلس على أن حمدونة هذه هي صاحبة الأبيات المشهورة المنسوبة إلى المنازي الشاعر:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوخة فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظملأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس إني واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم
قال الرعيني وهو ممن وفد من الأندلس إلى المشرق ونزلت بحلب وكانت حمدونة من ذوي الألباب. وفحول أهل الآداب. حتى أن بعض المنتحلين تعلق بهذه الأهداب. وادعى نظم هذه الأبيات: يعني ولما أبي الواشون إلى آخره: لما فيها من المعاني والألفاظ العذاب. وما غره في ذلك إلا بعد دارها. وخلو هذه البلاد المشرقية من أخبارها. وقد تلبس بعضهم بشعارها. وادعى غير هذا من أشعارها. وهو قوله وقانا لفحة الرمضاء واد الخ وإن هذه الأبيات نسبها أهل البلاد للمنازي من شعرائهم. وركبوا التعصب في جادة ادعائهم. وهي(20/2)
أبيات لم يجلبها غير لسانها. ولا رقم برذيها غير إحسانها ولقد رأيت المؤرخين من أهل بلادنا وهي الأندلس أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود، ويتصف بلفظة الموجود.
ومن أديبات الأندلس نزهون الغرناطية من أهل المائة الخامسة وصفها صاحب المسهب بخفة الروح والانطباع الزائد والحلاوة وحفظ الشعر والمعرفة بضرب الامثال مع الجمال الفائق والحسن الرائق حكى أنها كانت تقرأ علي أبن بكر المخزومي الأعمى فدخل عليهما أبو بكر الكتندي فقال يخاطب المخزومي.
لو كنت تبصر من تجالسه
فأفحم وأطال الفطر فما وجد شيئاً فقالت نزهون:
لندوت أخرس من خلاخله:
البدر يطلع من أزرته ... والغصن يمرح في غلائله
ومن شعرها:
لله در الليالي ما أحيسنها ... وما احيسن منها ليلة الأحد
لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت ... عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد
أبصرت شمس الضحى في ساعدي قمر ... بل ريم خازمة في ساعدي أسد
ولها نوادر مع كثير من أدباء الأندلس لا يتسع لها هذا المقال.
ومنهن عائشة بنت أحمد القرطبية، قال ابن حيان: لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعد لها علماً وفهماً وأدباً وشعراً وفصاحة تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاج وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف، وماتت عذراء لم يمسها أحد سنة أربعمائة: وقال ابن سعيد في المغرب إنها من عجائب زمانها، وغرائب أوانها، وأبو عبد الله الطبيب عمها ولو قيل أنها أشعر منه لجاز، دخلت على المظفر بن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولد فارتجلت:
أراك الله فيه ما تريد ... ولا برحت معاليه تزيد
فقد دلت مخايله على ما ... تؤمله وطالعه السعيد
تشوقت الجياد له وهز الحس ... ام هوى وأشرفت البنود(20/3)
وكيف يخيب شبل قد نمته ... إلى العليا ضراغمة أسود
فسوف تراه بدراً في سماء ... من العليا كواكبه الجنود
فأنتم آل عامر خير آل ... زكا الأنباء عنكم والجدود
وليدكم لدي رأي كشيخ ... وشيخكم لدى حرب وليد
ومنهن الرميكية جارية المعتمدين عباد أحد ملوك الطوائف وأم أولاده وقال في المغرب ركب المعتمد في النهر ومعه ابن عمار ووزيره وقد زردت الريح النهر فقال ابن عباد لابن عمار أجز. صنع الريح من الماء زرد.
فأطال ابن عمار الفكرة فقالت امرأة من الغسالات. . . أي درع لقتال لو جمد.
فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به مع عجز ابن غمار ونظر إليها فإذا هي من أجمل ما خلق الله فأعجبته فسألها أذات زوج هي فقالت لا فتزوجها وولدت له أولاده واشتهرت بالرميكية واسمها اعتماد.
ومن غريب الأمر أن ذلك لم يقف عند المسلمات بل جاوزهن إلى اليهوديات فكان منهن أديبات كما كان من اليهود أدباء فحول وبحسب اليهود في الأندلس إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الشاعر الغزل صاحب الموشحة التي عارضها لسان الدين بن الخطيب بموشحته المشهورة ولا بأس أن نورد هنا موشحة الإسرائيلي ونعقبها بموشحة ابن الخطيب والشيء يذكر بالشيء والحديث شجون قال إبراهيم بن سهل:
هل دري ظبي الحمي أن قد حمي ... قلب صب حله عن مكنس
فهو في حر وخفق مثل ما ... لعبت ريح الصبا بالقبس
يا بدورا أطلعت يوم النوى ... غررا تسلك في نهج الغرر
ما لقلبي في الهوى ذنب سوى ... منكم الحسن ومن عيني النظر
أجتني اللذات مكلوم الجوي ... والتذاذي من حبيبي بالفكر
كلما أشكوه وجدا بسما ... كالربى بالعارض المنبجس
إذ يقيم القطر فيها مأتما ... وهي من بهجتها في عرس
غالب لي غالب بالتؤده ... بأبي أفديه من جاف رقيق
ما رأينا مثل ثغر نضدة ... أقحوانا عمرت منه رحيق(20/4)
أخذت عيناه منه العربدة ... وفؤادي سكره ما أن يفيق
فاحم الجمة معسول اللمى ... أكحل اللحظ شهي اللمس
وجهه يبتلو الضحى مبتسماً ... وهو من أعراضه في عبس
أيها السائل عن ذلي لديه ... لي يجني الذنب وهو المذنب
أخذت شمس الضحى من وجنتيه ... مشرقاً للصب فيه مغرب
ذهبت أدمع أجفاني عليه ... وله خد بلحظي مذهب
يطلع البدر عليه كلما ... لاحظته مقلتي في الخلس
ليت شعري أي شيء حرما ... ذلك الورد على المفترس
كلما أشكو إليه حرقي ... غادرتني مقلتاه دنفا
تركت الحاظة من رمقي ... أثر النمل على صم الصفا
وأنا أشكره. فيما بقى ... لست الحاه على ما أتلفا
فهو عندي عادل إن ظلما ... وعذولي نطقه كالخرس
ليس لي في الحب حكم بعدما ... حل من نفسي محل النفس
منه للنار بأحشائي اضطرام ... يلتظى في كل حين ما يشا
وهي في خديه برد وسلام ... وهي ضر وحريق في الحشا
اتقى منه على حكم الغرام ... أسد الغاب وأهواه رشا
قلت لما أن تبدي معلما ... وهو من الحاظه في حرس
أيها الآخذ قلبي مغنما ... اجعل الوصل مكان الخمس
وهذه موشحة لسان الدين بن الخطيب:
جادك الغيت إذا الغيث هما ... يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس
إذ يقود الدهر أشتات المنى ... ينقل الخطو على ما يرسم
زمراً بين فرادة وثنا ... مثل ما يدعو الوفود الموسم
والحيا قد جلل الروض سنى ... فثغور الزهر منه تبسم
وروى النعمان عن ماء السما ... كيف يروي مالك عن أنس(20/5)
فكساه الحسن ثوباً معلما ... يزدهي منه بأبهى ملبس
في ليال كتمت سر الهوى ... بالدجى لولا شموس الغرر
مال نجم الكاس فيها وهوى ... مستقيم السير سعد الأثر
وطر ما فيه من عيب سوى ... انه مر كلمح بالبصر
حين لذ النوم منا أو كما ... هجم الصبح هجوم الحرس
غارت الشهب بناء أو ربما ... أثرت فينا عيون النرجس
أي شيء لامرئ قد خلصا ... فيكون الروض قد مكن فيه
تنهب الأزهار منه الفرصا ... أمنت من مكره ما تنقيه
فإذا الماء تناجي والحصا ... وخلا كل خليل بأخيه
تبصر الورد غيوراً برما ... يكتسي من غيظه ما يكتسي
وترى الآس لبيباً فهما ... يسرق السمع بادني فرس
يا اهيل الحي من وادي الغضى ... وبقلبي سكن أنتم به
ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا ... لا أبالي شرقه من غربه
فأعيدوا عهد أنس قد مضى ... تعتقوا عانيكم من كربه
واتقوا الله وأحيوا مغرماً ... يتلاشى نفساً في نفس
حبس القلب عليكم كرماً ... أفترضون عفاء الحبس
وبقلبي منكم مقترب ... بأحاديث المنى وهو بعيد
قمر أطلع منه المغرب ... شقوة المغرى به وهو سعيد
قد تساوى محسن أو مذنب ... في هواه بين وعد ووعيد
ساحر المقلة معسول اللمي ... جال في النفس مجال النفس
سدد السهم وسمي ورمي ... بفؤادي نهبة المفترس
إن يكن جار وخاب الأمل ... وفؤاد الصب بالشوق يذوب
فهو للنفس حبيب أول ... ليس في الحب لمحبوب ذنوب
أمره معتمل ممتثل ... في ضلوع قد براها وقلوب
حكم اللحظ بها فاحتكما ... لم يراقب في ضعاف الأنفس(20/6)
ينصف المظلوم ممن ظلما ... ويجازي البر منها والمسي
ما لقلبي كلما هبت صبا ... عادة عيد من الشوق جديد
كان في اللوح له مكتتباً ... قوله إن عذابي لشديد
جلب الهم له والوصبا ... فهو للأشجان في جهد جهيد
لاعج في أضلعي قد أضرما ... فهي نار في هشيم اليبس
لم يدع في مهجتي إلا الذما ... كبقاء الصبح بعد الغلس
سلمى يا نفس في حكم القضا ... واعمري الوقت برجعي ومتاب
دعك من ذكرى زمان قد مضى ... بين عتبي قد نقضت وعتاب
وأصر في القول إلى المولى الرضا ... ملهم التوفيق في أم الكتاب
الكريم المنتهي والمنتمي ... أسد السرج وبدر المجلس
ينزل النصر عليه مثل ما ... ينزل الوحي بروح القدس
نرجع الآن إلى ما نحن بصدده، قلنا إن الأدب العربي لم يكن قاصراً في الأندلس على المسلمات بل كان كذلك من اليهود أديبات. وذاك لعمري دليل آخر على استبحار الحضارة العربية وخاصة الأدب في تلك العصر حتى غمرت جميع الأندلسيين مسلميهم ومسيحيهم واليهود، رجالاتهم والنساء، فمن أديبات اليهود في الأندلس قسمونة بنت إسماعيل اليهودي وكان أبوها شاعراً وعنى بتأديبها. قال المقري وربما صنع من الموشحة قسماً فأتمتها هي بقسم آخر قال لها أبوها يوماً أجيزي:
لي صاحب ذو بهجة قد قابلت ... منها يظهر واستحلت جرمها
ففكرت غير كثير وقالت:
كالشمس منها البدر يقبس نوره ... أبداً ويكسف بعد ذلك جرمها
فقام كالمختبل وضمها إليه وجعل يقبل رأسها ويقول أنت والعشر كلمات أشعر مني ونظرت في المرآة فرأت جمالها وقد بلغت أوان التزوج ولم تتزوج فقالت:
أرى روضة قد حان منها قطافها ... ولست أري جان يمد لها يدا
فواسفا يمصى الشباب مضيعاً ... ويبقي الذي ما أن اسميه مفردا
ومن قولها في ظبية كانت عندها:(20/7)
يا ظبية ترعي بروض دائماً ... إني حكيتك في التوحش والحور
أمسى كلانا مفرداً عن صاحب ... فلنصطبر أبداً على حكم القدر
ومن أديبات الأندلس اللواتي ملأن الدنيا أدباً وفضلاً ولادة بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر قال ابن بشكوال صاحب كتاب الصلة كانت ولادة أديبة شاعرة جزلة القول حسنة الشعر وكانت تناضل الشعراء وتساجل الأدباء وعمرت عمراً طويلاً ولم تتزوج قط. ماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانية وأربعمائة وكان أبوها المستكفي قد بايعه أهل قرطبة لما خلعوا المستظهر وكان خاملاً ساقطاً وخرجت هي في نهاية من الأدب والظرف حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر. يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتَّاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب، وطهارة أثواب. مرت يوماً بالوزير ابن أبي عامر بن عبدوس وأمام داره بركة تتولد عن كثرة الأمطار وربما استمدت بشيء مما هنالك من الأقذار وقد نشر أبو عامر كمية، ونظر في عطفيه، وحشر أعوانه إليه، فقالت له:
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلا كما بحر
فتركته لا يحير حرفاً، ولا يرد طرفاً. وقال ابن سعيد في المغرب بعد أن ذكر أنها بالمغرب كعلية في المشرق. إلا أن هذه تزيد بمزية الحسن الفائق، وأما الأدب والشعر والنادرة وخفة الروح فلم تكن تقصر عنها، وكان لها صنعة في الغناء، وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها. فيمر فيه من النادر وإنشاد الشعر كثير لما اقتضاه عصرها من مثل ذلك. قال المقري: وفيها خلع ابن زيدون عذاره وقال فيها القصائد الطنانة والمقطعات وفيها يقول:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم وما جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إلى آخر القصيدة وهي مشهورة متداولة. وبسببها خاطب ابن عبدوس برسالته المشهورة، ومن قوله يخاطب ابن عبدوس:
أثرت هزبر الثري إذ ربض ... ونبهته إذ هدا فاغتمض(20/8)
وما زلت نبسط مسترسلاً ... إليه يد البغى لما انقبض
حذار حذار فإن الكريم ... إذا سيم خسفا أبي فامتعض
وإن سكون الشجاع النهو ... ش ليس يمانعه أن يعض
عمدت لشعري ولم تتئد ... تعارض جوهره بالعرض
اضاقت أساليب هذا القري ... ض أم قد عفى رسمه فانقرض
لعمري فوقت سهم النضال ... وأرسلته لو أصبحت الغرض
إلى أن قال:
وغرك من عهد ولادة ... سراب ترآءى وبرق ومض
هي الما يعز على قابض ... ويمنع زبدته من مخض
وقالت وقد زارت ابن زيدون فأرادت الانصراف وودعته بهذه الأبيات:
ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على إن لم يكن ... زاد في تلك الخطى إذ شيعك
يا أخا البدر سناء وسنى ... حفظ الله زمانا أطلعك
أن يطل بعدك ليلى فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك
وأرسل إليها ابن زيدون مرة هذه الأبيات:
ألا هل لنا بعد هذا التفرق ... سبيل فيشكو كل صب بما لقى
وقد كنت أوقات التزاور في الشتا ... أبيت على جمر من الشوق محرق
فكيف وقد أمسيت في حال قطعه ... لقد عجل المقدور ما كنت أتقي
تمر الليالي فلا البين ينقضي ... ولا الصبر من رق التشوق معتقي
سقي الله أرضاً قد غدت لك منزلاً ... بكل سكوب هاطل الوبل مغدق
فأجابته بقولها:
لحى الله يوماً لست فيه بملتقي ... محياك من أجل النوى والتفرق
وكيف يطيب العيش دون مسرة ... وأي سرور للكئيب المؤرق
وكتبت أثناء الكلام بعد البيتين: وكنت ربما حثتني على أن أنبهك على ما أجدك فيه عليك نقداً وإني انتقدت عليك قولك:(20/9)
سقي الله أرضاً قد غدت لك منزلاً
فإن ذا الرمة قد انتقد عليه قوله مع تقديم الدعاء بالسلامة:
ألا يا سلمى يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
إذ هو أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له وأما المستحسن فقول الآخر:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي
وأخبار ولادة كثيرة رحمها الله - وبعد فإن أدبيات الأندلس يخطئهن العد والإحصاء، فنجتزئ الآن بمن ذكرنا وفيهن إن شاء الله الغناء.(20/10)
النجاح
ماكس نوردو اسم عرفه قراء هذه المجلة بما نشرته لهم ملخصاً عن كتابه الأكاذيب المقررة في المدينة الحاضرة ولهذه النقادة غير كتاب الأكاذيب كتب عدة نبحث في موضوعات شتى، فمنها كتاب الانحطاط والاضمحلال ومنها كتاب الفنون وأهل الفنون ومنها كتاب الغرائب وهو الذي نلخص عنه هذا الفصل في موضوع النجاح.
والنجاح على كونه طلبة العامل والعاطل، ومنية الكبير والصغير، فقليلاً ما كتب فيه الكاتبون، وقل في هذا القليل من أصاب وأفاد، لأن للنجاح صناعة يموت أكثر الناجحين على سرها. أو يبوحون ببعض السر ويكتمون بعضه خجلاً أو استئثاراً. إلا أن نورد وسلك في هذا الفصل مسلك التعريض بأسباب النجاح في عصرنا هذا، فجر وسائله ولم يأت في جده وهزله بكلمة لا يؤيدها الواقع أو يقوم عليها الشاهد من العيان. ولكنها حقائق لا يقبلها ولا يثق بها إلا رجل أفلح أو رجل أخفق. فأما المفلح فيعلم بم نجح، وأما المخفق فيعلم لمَ لمْ ينجح، وأما الذين هموا بالنجاح ولم يمارسوه، وعشوا إلى ضوء ناره ولم يواقعوه، وحلموا بإدراكه ولم يحققوه، فأولئك يثقون بأحلامهم وأمانيهم أكثر من ثقتهم بهذه الحقائق المؤيدة وإن كانت غير شريفة، والتجارب الصعبة على كونها أسهل من الشرف في إحراز النجاح.
وقد أفرغه في قالب الدعابة والسخر ولكن فيه من روح التذمر والنقمة ما يحسده عليه شوبنهور أمام الساخطين. مع أنه استهل هذا الكتاب بفصل مسهب في التيمن والتطير، فكان زبدة كلامه أن التيمن أعمق في الطباع من التطير، وأن النفوس أسكن إلى حسن الظن بالناس والحياة منها إلى سوء الظن بهم.
ولما ظهر هذا الفصل حسبه بعض الجهلاء جادوا في قوله، وفهموا أنه يجيز استخدام هذه الوسائل ولم يفهموا أنه ينكرها ويشهر بها، فقرعوه أقبح التقريع وسبوه في أخلاقه ومبادئه، فذيل الفصل في الكتاب بكلمة قال فيها إنه كان يود لو أتيح له نشر صور هؤلاء الكتاب لأنهم ولا ريب من عجائب المخلوقات في هذا القرن العشرين.
وكأنهم استغربوا من الرجل مجاهزته بأن النجاح يغتنم أحياناً بالخداع والتلبيس - استغربوا منه ذلك جرياً على مذهب المتشددين في تربية الناس وهم أحوج الناس إلى من يتشدد في تربيتهم، والقائلين بتجاهل مثالب المجتمع وهم من حسور النظر بحيث لا يعلمون مثالب المجتمع أو محامده، وطالما سمعناهم يحتمون على الكاتب إذا كتب في النجاح أن ينبه(20/11)
القراء إلى التعويل على أنفسهم وإلى تمحل أسباب النجاح وابتغاء الوسائل إليه. قلنا إن كان هذا واجباً فأوجب منه أن ننبه الأمة إلى أن المعول في نجاح تلك الوسائل إنما هو عليها. فإن زمناً من الأزمان لم يخل من وسائل للنجاح كائنة ما كانت. وإنما على الأمة أن تحذر لئلا تكون تلك الوسائل مما لا يحذقه إلا أرزالها، ومن لو نجحوا الأضر نجاحهم بها، وكان تقدمهم وبالاً عليها، ولئن كان من واجب الفرد أن يسعى ليستحق النجاح فلا نزاع في أن واجب الأمة أن تسعى لينال النجاح من يستحقه، إذ ليس كل من ينال النجاح ويستحقه، ولا كل من يستحق النجاح يناله.
ولو كان العامل وحده هو المؤثر في عمله للزمته وحده تبعة النجاح أو الخيبة، ولكن للنجاح أركاناً هي العمل والعامل ووقت العمل ومكانه. فربما كان العامل واحداً في البلدين فينجح هنا ويحبط هناك وربما كان العامل بعينه والبلد بعينه ولكنه ينجح في وقت ويحبط في وقت آخر. وقد تكون البيئة واحدة والعمل هو هو فيقدم عليه اثنان يظفر أحدهما ويفشل الآخر. فلا يجوز أن يتجه اللوم كله إلى العامل. فربما كان الفشل في بعض البيئات أشرف للرجل وأصون لمروءته وأدل على قدرته الصحيحة من نجاحه. وهؤلاء النشوئيون واضعو قاعدة بقاء الأنسب لا يتخذون النجاح معياراً للأفضلية، ولا يقولون أن بقاء الأنسب معناه بقاء الأرقى والأحسن. بل قد يكون الأمر على نقيض ذلك. قال سبنسر: ليس المراد بقانون بقاء الأحسن أو الأقوى هذا المعنى الذي تنطوي عليه حروف هذه الكلمات في عرفنا. ولكن المراد به بقاء أولئك الذين هم أصلح بتركيب أجسامهم للحياة في البيئة والأحوال التي وضعوا فيها. وكثيراً ما يتفق أن ما هو أحط وأصغر في التقدير الإنساني يسبب البقاء.
ونحن بادئون بتلخيص ذلك الفصل. سأل نوردو: ـ
أي غاية نتوخاها من هذا التعليم المدرسي ومن عامة أصول التربية والتهذيب؟؟ قال لا لبس في جواب هذا السؤال. إذ لا ينبغي أن تكون الغاية القصوى من ذلك إلا أن نجعل الحياة أوفق لنا بتعميقها، ومضاعفة خيراتها، وتزيين ظاهرها وباطنها. وإذا التمسنا الإيجار فأن تزيدنا وتزيد المجتمع الذي نحن فيه رغداً ورفاهة. وليس لهذه الحقيقة إلا وجه واحد فأما من يخالف في ذلك من علماء التربية فهم يقعون دون المرمى. وربما قال أحدهم أن(20/12)
غاية المدرسة هي تكوين الشخصية. فلعمري ما معنى هذا الكلام إذا نحن أنعمنا في تحليله؟؟ ما كانت الشخصية لتصب في قالبها لجمال محياها أو لتروق نظر الناظرين إليها كما يصب التمثال. ولكنها خلق يرام به شيء من النفع. وما المثابرة على الغرض، والثبات في الأعمال، والإصرار على الرأي والصدق في الرغبة، والإقدام إذا أعوز الأمر إلى الخصام، إلا درع يستلئمها الرجل وسلاح يتقلده في كفاح الحياة وتنازع البقاء. وهم يسلمون بأنها أخلاق تمهد لصاحبها الغلب على أعدائه ومنافسيه. يقولون وإذا شاء الله مرة أن يظهر الذي هو أدنى على الذي هو أعلى ففي هذه الأخلاق سلوة وشفاء لا لم الفشل وعون على الرضى عن النفس، بل وعلى المباهاة بتلك الخصال التي نجم عنها اندحار المهزوم وخيبته.
وربما قالوا أيضاً أن الغرض من المدرسة إنماء العقل، وتقوية العزيمة، وتهذيب المشاعر لتحس الطيب والجميل من الأشياء. فقل لي ما هو فحوى كلامهم هذا؟؟ إن العقل ينمو ليتفهم به الرجل أسرار الطبيعة وأمزجة الناس، فيتمتع بما في معرفة طبائع الأشياء وعناصرها من اللذة والغبطة - ذلك إلى حد تنتهي عنده لذة المعرفة وغبطتها. ثم يتذرع بها إلى ذود الضرر عنه وجلب المنفعة إليه، وأما العزيمة أو الإرادة فإنما يستحب أن تقوى ليدرأ بها ما يؤذيه ويثبطه، ولا يقصد بتهذيب الأذواق وإعدادها للإحساس بالجمال والخير إلا أن تكون باباً يلج منه إلى النفس مشاعر لاذة لها، سارة لوجداناتها، فهل لهذا الكلام فحوى إلا أن تصير الحياة أوفق للإنسان؟؟.
قال نوردو فإذا نظرنا إلى مدرسة اليوم بأساليبها وبرامجها أترانا نجدها كافلة بهذه الغاية، مفضية إلى هذه الجهة؟؟ قال كلا فإنها لا تخرج إلا تلاميذ يطرحون سلاحهم للصدمة الأولى، وكأن الذين سنوا طرائق التربية طغمة من دهاة الساسة أرادوا أن يستحوذوا على عروض الحياة ويحرموا منها الناس أجمعهم، فاجتمعموا على ابتكار هذه الطرائق يعلمون الناس كيف يعجزون عن تحصيل تلك العروض، وكيف يقنعون من الغنيمة بالإياب. ثم تطرق من هذا إلى دعابة مفعمة بالجسد والحقيقة الدنيوية، قال: بين النظام المدرسي الآن فجوة لا يحسن أن تظل بعد اليوم فارغة. ولقد لهوت حيناً بأحلام كنت أرددها وكنت أمني النفس بإنشاء مدرسة تعلن للملأ جهرة أنها لا تنوي أن تشتغل بغير آلات النجاح وتجهيز(20/13)
تلاميذها له، ولا تأبه للخيالات المجردة أو تعيرها جانباً من همها. وكنت أعلم أن أناساً من عصريينا صعدوا سلم النجاح واقتعدوا كاهله، وما حضروا في مدرسة النجاح درساً ولا فتحوا بين يدي أساتذتها كتاباً، ولكن هذا لا يقدح في سداد الفكرة فقدما نشأ في أزمان الهمجية، وفي أصقاع لا أثر لمعاهد العلم فيها، رجال بذوا قرناءهم بالحذق والمعرفة، معرفة حصلوها بفطنتهم وجمعوها بطول الجد والمراقبة، ولكنها طريقة في التعليم ما أشقها على الرجل المستقل بأبحاثه ودروسه. قال ولو التفت العصامي الذي اخترق في الزحام سمته إلى النجاح بسائق لدنى من نفسه لآسفه أن ينظر إلى ذلك السمت فيرى كم زاوية فيه سلكها ثم تنكبها، وكم عقبة تسنمها ثم انحدر عنها، وفيفاء مرحلة جاس خلالها وكانت له ندحة عنها لو وفق إلى دليل خبير، أو وقف على مداخل تلك الأنحاء ومخارجها.
قال ولكني أحجب النساء عن باب مدرستي لأنهن غوان عن نصائحها إذ ليس نجاح المرأة إلا أن تكون حظية في عين الرجل والنساء مدلولات بالفطرة على ما يحبب فيهن الرجال. وما ظلمهن إلا من يعلمهن الرسم والتاريخ وذبح اللغات الغريبة باللحن في نطفها وما شاكل ذلك مما يرعب الرجال منهن. قال: وأن المشارقة بما هدتهم إليه البديهة الموروثة، والحكمة الأصيلة قد تعودوا النظر إلى المسائل بعين أسد وقريحة أصوب من أهل الغرب، فما رأيناهم يعلمون البنت إلا الغناء والرقص والبراعة في الضرب على أداة من أدوات الطرب، ويعلموهن قص القصص، وخضب الأنامل بالحناء، وكحل الدفون بالأئمد، وما يلحق بهذه الصناعة التي تتصبى إليهن الرجال وترغبهم فيهن بما تزخرف من محاسنهن وتزين لشركائهن في الحياة فيتعلقون بهن. هذا وبناتنا المسكينات يعوقهن التعليم المدرسي عن مجاراة غرائز المرأة وإن كانت مجاراة هذه الغرائز أنفع لهن وأجدى من جميع ما يلقنه أولئك الأساتذة سيان من يلبس النظارات منهم ومن لا يلبسها. وسرعان ما تستدير إحداهن المدرسة بمصاعبها وتكاليفها حتى تنطلق مع أميالها وتربي نفسها التربية التي خلقت لها ثم تتعلم بوحي من غرائزها كيف تنقش وجهها بالطلاء الأحمر وتدممه بدقيق الأرز ولا تبالي أن تلبس أوقح الحلل وأبعدها عن الحشمة وأن تمشي وتقوم وتجلس على هيئة تكشف لك سر ما أسخطك لأول وهلة من تفصيل ملابسها، وإن تقلب مروحتها برشاقة ذات معان وألغاز، وتعرف كيف تسبل أهدابها وتشيع أجفانها بغمزات تستهوي(20/14)
النفوس إليها، وتغري الأهواء بها. وكيف تتخذ لوجهها أملح الحركات وألطف الإشارات، وتتصنع سذاجة الطفولة في نبرات صوتها، وعبث الشبيبة في غراراتها، إلى أن قال: وماذا يعنيها من نقد الناقدين؟؟. فأما أترابها من النساء فهي لا تؤمل عندهن عطفاً ولا مودة، وهبهن قد عطفن عليها وأزلفن إليها بالمودة فأي ربح لها في ذلك؟؟ وأما الرجال فماذا عليها من أن يعرض عنها أحد العلماء أعراض الإنكار والاستياء إذا كان فتيان النوادي وظرفاء الشبان يرصدونها بمجاهرهم ويلحظونها بعين الإعجاب والاستحسان.
وكما استثنى نورد النساء من مدرسته كذلك استثنى منها أشباههن من الرجال أصحاب القامة المديدة، والسبال المفتولة، والطلعة الوسيمة، والهياكل الجسيمة، وهم شبيهون بالنساء في أن نجاحهم عند غير جنسهم. فكما أن المرأة لا تعول على رأي النساء فيها كذلك لا حاجة لخلب النساء إلى التفاهم مع أبناء جنسه أو التعويل على رأيهم فيه. نجاح تلك الوسائل إنما هو عليها. وإلى تمحل أسباب النجاح وابتغاء الوسائ
وكذلك استثنى من مدرسته رجال العبقرية لأنهم شواذ الناس وإنما تشاد المعاهد للأوساط والأنداد. وإن رجلاً - كما يقول - مثل بيتهوفن كان يبلغ ما بلغه في فن الألحان حضر مدرسة الموسيقى أو لم يحضر. فأما الذين حرموا من المزايا ولم يحرموا نفساً تواقة إلى الامتياز على الناس بطنطنة الأبهة وفخامة الألقاب فأولئك الذين أفتح لهم أبواب مدرستي وأوصى رئيسها أن يقول لمن يضع ابنه في كفالته: تعال يا صاح! ألا تفصح لي عن باطن نيتك وما أنت مختارة لولدك؟ - فإن كان قصدك أن يقضي ولدك حياته في عالم وهمي، يلبس فيه أكاليل الفلج ذوو الكفاءة وأولو المقدرة، ويبحث فيه الناس عن الفضيلة العاكفة في خدرها فيجزونها، وعن البلادة والغرور والخسة فلا يجدونها، وينقبون فلا يرون فيه محلاً لغير الخير والجمال، ولا موضعاً لسوى الحق والكمال - أو كنت تختار لولدك أن يتمسك باحترام نفسه ويؤثره على إطراء الناس له. يصغي إلى ما يمليه عليه ضميره ويعرض عما يتمدح به الكافة من السوقة والغوغاء، ويغتبط بقضاء واجبه ومحاسبة ذمته أكثر من اغتباطه برضى الناس عنه، فاعلم أن لا محل له في مدرستي، وأولى لك أن تأخذ بيده إلى المدارس العتيقة فيرتل هناك ما يشاء من قصائد الشعراء الأقدمين والمحدثين، ويتلهى بما يشاء من العلوم والمعارف، ويسلم بما يفرغه في أذنيه معلموه وأساتذته، وأما أن تختار(20/15)
لولدك أن يكون رجلاً من أولئك الرجال الذين يحييهم الناس في الطرقات، الذين يسافرون في المركبات المحجوزة، وينزلون في أفخر النزلات، ويصيبون من العقدة والجاه ما يسول لهم استحقار العظمة المغمورة، والزراية على الفضيلة المجهولة، فهاته إلى فأنا الزعيم له بذلك - فأما أنه يذكر بين سير فلو طرخس فذلك مالا أضمنه لك، ولكني أضمن لك أن يدون اسمه يوماً ما بين أعظم الأسماء في سجل الحكومة.
ثم قال أنه سيرتب مدرسته درجات حسب درجات حسب درجات المدارس المعهودة لأن أكثر الناس لا يتطلعون من التعليم المدرسي إلى الانتظام في سلك الجامعات، أو يطمعون في درجة الأستاذية. وطلاب النجاح منهم من يقنع بما دون الوزارة في السياسة، ودون الملايين في الغنى والثروة، فلا حاجة لهؤلاء بما هو أعلى من المبادئ الأولية في علم النجاح. فلهذا أعددت في المدرسة قسماً عاماً لمن لا يبتغون أكثر من النجاح في الحرف الصغيرة والمكاسب الوضيعة ونصيحتي إلى هؤلاء الصدق والأمانة - قال وقد يظهر أن في هذه النصيحة شيئاً من خبث ماكيافللي ولكن الواقع والمشاهد أن الصدق نافع لطلاب القسم الأول من علم النجاح - لأن الناس كلهم على بصيرة بتمييز الجيد والردئ من صنعتهم - إذا أتقن الإسكاف صنع حذائه وباع البدال السكر نقياً ولم يبعه على الناس رملاً. فكلاهما على ثقة من نفاق بضاعته، والبركة في رزقه، وإن أجهل الناس يشعر بضيق الرداء أو سعته ويتعذر عليه أن يلحظ عيب السرير إذا كان معيباً، فاعلم أنه لا ينفع هؤلاء الصناع إلا تجويد الصنعة، والصدق في المعاملة.
فأما الطامحون إلى عظيم المراتب، المغامرون في جليل المطالب، الراغبون فيما هو أسمى وأسمق من معقول الناس فنصيحته إليهم أن يتجنبوا الحياء ما استطاعوا. فقد يكون الرجل على قدم راسخة في العلم. وعلى قسط وافر من التفوق في الفكر، مليئاً بإنجاز العظائم، مضطلعاً بكبريات العزائم فإذا كان مع هذا حيياً وقوراً فأنذره بسوء العقبى وأيئسه من الإقرار بفضله والاعتراف بحسناته، إلى أن قال: ولا يغرنك قول من قال: لا تتكلم عن نفسك فهذا هذر وهذيان. ولكن ليكن كلامك كله عن نفسك أولاً لأن الكلام عنها يطربك، وثانياً لأنك تصرف المجلس عن التحدث بغيرك - وقد يكون من أندادك - ما دام المجلس يصغي إليك. وثالثاً لأن إثارة من كلامك ستبقى في ذاكرة أشد مبغضيك. وليكن لك من(20/16)
الحزم ما يفهمك بالبداهة أن لا تذكر نفسك إلا بخير. ولا تقف في هذا عند حد بل عظم نفسك وترنم بالثناء عليها وسرد مناقبها ومآثرها واستعمل لذلك جهدك في الفصاحة والخلابة، وأضف إلى نفسك أفخم الصفات وأربع أعمالك إلى السماء السابعة وقل إنها أحسن مستخرجات العصر وأعجب محدثاته. وأكد لسامعيك أن العالم بأسره يعجب بها ولا تنس إذا لزم الأمر أن تنقل بعض أقوال المعجبين بك والمقرظين لك، فإذا لم يكن قد تناهي إليك منها ما تنقله فاختلقها للتو والساعة. وسترى أن نجاح نصيب إذا انتصحت بنصيحتي نعم إن من العقلاء من يسخر منك أو يستوقحك ولكن أين هم العقلاء؟؟ إن هم إلا فئة صغيرة وليست هذه الفئة هي التي تقتسم بين الناس جوائز الحياة. . فإذا دعيت يوماً إلى وليمة قالت ربة الدار هذا رجل صاحب دعاوى عريضة لا يقنع بالقليل من الحفاوة ولا يرضى إلا بأن أجلسه إلى يميني وأخصه بالمحل الأول على المائدة وإلا فقد يسوءه أن يتقدم عليه سواه ويبرح الدار محنقاً وقد يكون بين المدعوين رجل من أولى الكفاءة الصحيحة فلا تزيد ربة الدار على أن تقول له لا أخالك تمانع في إيثاره بذلك المكان؟ إنك ولا شك أرفع من هذه السفاسف ثم ينتهي الأمر بأن تحفظ لنفسك المكان الأول في كل وليمة، ويألف الناس تقديمك والترحيب بك حتى لا يخالج صدورهم تردد في ذلك قال ولا تنبذ الحياء كل النبذ ولكن أدخره لتعود إليه متى وجدت من المادحين ما يغنيك عن مدح نفسك.
وانتقل نوردو من ذلك إلى معاملة الأنداد والقرناء فقال: إياك والإصاخة إلي نصح الناصحين لك بتجميل رأي أمثالك فيك، فإنها خرافة فاشية بين الأغمار وما أمثالك إلا مزاحموك - كلهم من أربة النجاح الذي هو من أربك، فكلما اتسع حيزك ضاق حيزهم، وانتقص قدرك من أقدارهم فلا تنتظر منهم إنصافاً ولا ترج من لدنهم إخلاصاً وإنهم ليجسمون أغلاطك ولا يأتلون سعياً في طمس مزاياك فاقصر همك على فريقين الفريق إلا على الذين بيدهم رفعتك ونباهتك والفريق الأدنى الذين هم تحتك من الدهماء والعامة واحرص على أن تبدوا للأولين صغيراً جداً وللآخرين كبير جداً كأن الفريقين ينظران إليك من طرفي مجهر. وليس هذا بالعلم السهل ولكنك حرى أن تتمكن منه بالمزاولة والتجربة.
قال: فإذا بلغت المدى وخلفت أندادك وراءك وتبوأت المكانة التي يرجى خيرها ويخشى(20/17)
شرها هنالك تشعر بالسرور الذي يداخلك من سرعة انتقال المذمة الشائعة إلى محمدة رائعة، والجفوة إلى المحبة، والأغضاء إلى الإعجاب والثناء ثم قال وإنك أشد ما تكون فقراً أحوج ما تكون إلى تجميل بزتك والظهور بمظهر أصحاب الضياع والكور. وربما أعوزك ذلك إلى المال وقد لا يتيسر لديك الكفاية منه. فماذا أنت صانع؟؟ إذن فافترض يا بني. اقترض ولا يكرثك أمر الوفاء - إنك إن عشت عيشة الأوفياء فسكنت السطوح وأكلت الخبز القفار لا تأمن بعد قليل أن تنبحك الكلاب وتتجه إليك شبه الشحنة ويوصد الكبراء أبوابهم دونك ولا يعبأ بك حتى البدال الذي تشتري منه ميرتك الساعة التي تسدد فيها دينه عليك. أما إذا أفرطت في الاقتراض وأسرفت في الاستعارة فإنك تعيش عيش المترفين ويكلأوك الدائنون كما يكلأ والد ولده. رغبة في بقائك وإشفاقاً على أموالهم المرهونة بحياتك، ثم يتمنون لك الغنى ويسعون لك في اليسار.
وكان ختام المقالة هذه النصيحة الجامعة: لا تحتفل غاية الاحتفال بعمل ولا تبهظ نفسك في تجويده معتمداً على أن عملك يعلن عن نفسه فإن صوت الأعمال خافت يغطي عليه صلق الأوساط الحاسدين. ولغة الأعمال غريبة لا يسمعها الزعانف ولا يفقهون معانيها، وقل أن يعرفك أو يقدر عملك إلا النخبة المعدودون، والخاصة المنصفون. على أنهم مع عرفانهم قدرك وتقديرهم عملك لا يخفون إلى مسعدتك من قبل أنفسهم ما لم تعترض أعينهم غصباً. فما بالك يا بني تبدد عمرك في الأمانة والاجتهاد إنما عليك أن تدرس أطوار الجمهور وتتعرف مواطن غفلته فتستخدمها فيما يفيدك واعلم أن الناس لا طاقة لهم بالتمييز والحكم فاحكم لهم أنت، وليس لهم فكر ممحص أو نظر بعيد فإياك وما يكدر أذهانهم، ويعضل على أدمغتهم، وأن الناس بلداء الإحساس، ثقال السمع فليكن ظهورك بينهم بجلبة يسمعها الأصم ويبصرها الأعمى، وإن الناس لا يفهمون التورية والمزاح، ولا يتأولون الحروف والألفاظ فكن لهم واضحاً في مخاطبتك، سهلاً في عبارتك، وعدد لهم بلهجة ظاهرة يفهمونها ولا يرتابون فيها، كل ما هو بشين في أعدائك وكل ما هو حسن فيك، وأن الناس ضعاف الذاكرة فاهتبل هذه الغرة فيهم ولا تحجم عن طريق تؤديك إلى غرضك فإنك متى أدركته لم يذكر أحد كيف وصلت إليه فبهذه المبادئ الأساسية تصبح غنياً وعظيماً وتستتب لك الأمور في هذه الدنيا. بتلخيص وتصرف.(20/18)
عباس محمود العقاد(20/19)
ابن الرومي
(تابع الكلام على طيرته وتعليلها)
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(وبعد) فإن ما أوردناه من أخبار ابن الرومي على قلتها، وما سقناه من شعره على نزارته، خليق أن يرى القارئ أنه هنا بإزاء رجل غريب ليس كالناس، وإلا فلو أن ابن الرومي كان غير شاذ، وكانت حاله مألوفة، وأمره غير خارج عما عهد أهل عصره، لما أنكروا من أموره شيئاً، ولما وجدوا من أحواله داعياً إلى العجب، ولا باعثاً على التضاحك واللعب، وإذا كان هذا هكذا فنحن خلقاء أن نتلمس أسباب هذا الشذوذ لعلنا أن نهتدي إلى بعض السر إذا لم نوفق إليه كله، نقول بعض السر لأن النفس الإنسانية أعمق من أن يسبر غورها نظر الناظر، وأغمض من أن يحسر عنها ظلال الإبهام فكر مفكر، تلك دعوى يقصر عنها باعنا ولا يسعها طوقنا، لأن للحقائق المادية حداً تقف عنده، وغاية تنتهي إليها، وإنما يقول أحدنا بالأغلب في الظن إذا قال وبالأرجح في الرأي إذا نظر، فإذا أصاب فموفق مجدود وإن أخطأ فمشكور ومحمود، وليس يعيب أحداً أنه سعى فخاب وإنما يعيبه أنه قصر وفرط، لأن دواعي الخطأ أكثر من دواعي الإصابة إذ كانت الوسائل قليلة محدودة والغايات لا أخر لها ولا نهاية.
على أنه مهما يكن من الأمر فإن من الحقائق التي صححها القياس وأيدتها كل الدلائل في هذا العصر، أن العبقرية والجنون صنوان، وأنهما جميعاً مظهران لشر واحد هو اختلال التوازن في الجهاز العصبي وقديماً أدرك الناس ذلك فقال العرب ذكاء المرء محسوب عليه وفطن أرسطا طاليس إلى ما ينتاب العظماء من المرض ويظهر عليهم من آيات اضطراب الذهن واعتلاله، وفرق أفلاطون بين نوعين من الجنون - الجنون العقيم المعتاد والجنون الذي ينتج الشعراء ويخرج الأنبياء والعظماء وهذا ليس في رأيه داء أو شراً بل هبة من الآلهة. وأدرك سنيكا ودريدن ما بين الذكاء والجنون من الصلات، وسمى لامارتين النبوغ الجنون المفرط أخو الذكاء المفرط لأن حالات العقل متشابهة في العبقري والمجنون وذلك إن ذهن العبقري يفيض بالخواطر ويجيش بمختلف الذكر ويرى من الصلات بين الحقائق والأصوات والألوان ما يعجز الرجل العادي عنه، والمجنون في كل ذلك قرينه وضريعه،(20/20)
كلاهما يرجع السبب في أساليب تفكيره وعمله إلى فرط نشاط أو شدة اهتياج أو فتور أو نحو ذلك في بعض نواحي الذهن، وليس الفرق في درجة حدة الإحساس، وقد يكون السبب في الحالين وصول مقدار جم من الدم الفاسد إلى موضع في الذهن، وقد تكون خلايا هذا الموضع العصبية ووشائجه بطبعها مفرطة الحس، وكثيراً ما تصير العبقرية جنوناً أو ينقلب الجنون عبقرية وليس بنا إلى شرح ذلك للقارئ حاجة لئلا نخرج عما قصدنا إليه وإنما نقول إن الذي غلط النسا فيما مضى من الزمن وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات وأداهم إلى التعلق بالمحالات هو حسبانهم أن العقل البشري شيء غير محسوس وأنه جوهر روحاني متصل بالجسم ولكنه غير خاضع لقوانين المادة، وقد أبان العلم الحديث خطأ هذا الظن وفساد ذلك الزعم فليرجع القارئ إلى مصنفات العلماء في هذا المعنى إذا أراد التحقيق.
وبعد فإنه لم ينته إلينا شيء عن أبوي ابن الرومي وذلك ما نأسف له لأن للوراثة أثراً كبيراً وفعلاً لا يستهان به وما يدرينا لعل بعض الخفاء كان يبرح لو عرفنا عنهما شيئاً ولكن أحرى بمن قصر في حق ابن الرومي أن يقصر في حق أبويه! ومن ذا الذي يتوقع من مؤرخي العرب أن يعنوا بغامضين خاملين وقد ناموا عن نبيه مذكور! غير أن مما يعزينا أن شعر ابن الرومي كاف في الدلالة على مرضه وإثبات اعتلاله.
فأول ما يلفت النظر من ذلك رثاؤه لأبنائه الذي رزئهم واحداً بعد واحد وكان له ثلاثة كما هو ظاهر من قصيدته التي يقول فيها:
بكاؤ كما يشفى وإن كان لا يجدي ... فجودا فقد أودي نظير كما عندي
ألا قاتل الله المنايا ورميها ... من القوم حبات القلوب على عم
توخى حمام الموت أوسط صببتي ... فلله كيف اختار واسطة العقد
على حين شمت الخير من لمحاته ... وأنست من أفعاله آية الرشد
طواه الردى عني فأضحى مزاره ... بعيداً على قرب قريباً على بعد
لقد قل بين المهد واللحد لبثه ... فلم ينس عهد المهد إذ ضم في اللحد
ألح عليه السقم حتى أحاله ... إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط نفسه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الرند(20/21)
عجبت لقلبي كيف لم ينفطر له ... ولو أنه أقسى من الحجر الصلد
وما سرني أن بعته بثوابه ... ولو أنه التخليد في جنة الخلد
وإني وإن متعت بابني بعده ... لذاكرة ما حنت النيب في نجد
وأولادنا مثل الجوارح أيها ... فقدناه كان الفاجع البين الفقد
لكل مكان لابد اختلاله ... مكان أخيه من جزوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه ... أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي
لعمري لقد حالت بي الحال بعده ... فيا ليت شعري كيف حالت به بعدي
ثكلت سروري كله إذ ثكلته ... وأصبحت في لذات عيشي أخازهد
أريحانة العينين والأنف والحشى ... ألا ليت شعري هل تغيرت عن عهدي
كأني ما استمتعت منك بضمة ... ولا شمة في ملعب لك أو مهد
محمد ماشئ توهم سلوة ... لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أوري من الزند
إذا لعبا في ملعب لك لذعا ... فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
فما فيهما لي سلوة بل حرارة ... يهيجانها دوني وأشقي بها وحدي
وأنت وإن أفردت في دار وحشة ... فإني بجار الأنس في وحشة الفرد
عليك سلام الله مني تحية ... ومن كل غيث صادق البرق والرعد
وهذه القصيدة صريحة في أن أبناءه كانوا ثلاثة وأن محمداً ابنه هذا كان أوسطهم وأسبقهم إلى القبر في حداثة السن وطراءة العمر ولسنا ندري أي داء أصابه فمضى سابقاً أجله إذ ليس في القصيدة ما يشير إلى شيء من ذلك وإن كان فيها وصف ذبوله ولكنه وصف شعري لا يصح التعويل عليه في تعيين المرض.
وفي رثاء أحد الباقيين يقول:
حماه الكرى هم سرى فتأوبا ... فبات يراعى النجم حتى تصوبا
أعيني جوداً لي فقد جدت للثرى ... بأكثر مما تمنعاني وأطيبا
فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى ... إذا فترت عنه الدموع تلبها
وفي ثالث بنيه هبة الله يقول:(20/22)
أبني إنك والعزاء معاً ... بالأمس لف عليكما كفن
تا الله لا تنفك لي شجناً ... يمضي الزمان وأنت لي شجن
ما أصبحت دنياي لي وطناً ... بل حيث دارك عندي الوطن
ما في النهار وقد فقدتك من ... أنس ولا في الليل لي سكن
ولقد تلي القلب ذكرته ... أنيى بأن ألقاك مرتهن
أولادنا أنتم لنا فتن ... وتفارقون فأنتم محن
وليس يخفي أن فقدان أولاده جميعاً في حدثاتهم لا يدع مساغاً للشك في اعتلاله واضطرابه وإنه لم يكن صحيحاً معافى في بدنه.
ومما هو جدير بالنظر والتأمل في شعر ابن الرومي لدلالته فحش أهاجيه وإكثاره فيها من ذكر أعضاء التناسل ذكراً لا نظنه ضرباً من التكلف لمجرد الذم والقدم ولا نحسبه شيئاً لا يستند إلى أصل. لأنه إذا كان هذا كذلك فكيف نؤول اتهام الناس له بالعنة تارة وبالتخنث أخرى. وكيف نفسر موت أولاده على هذه الصورة؟ أليس البرهان من ذلك كله لائحاً معرضاً لكل من أراد العلم به وطلب الوصول إليه، والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها والعلم بها ممكناً لمن التمسه؟ وانظر أي باطل نتكلف إذا نحن زهدنا في هذه الدلائل على وضوحها وجلائها واي جهل يركبنا إذا أثرنا الجهل على العلم وعدم الاستبانة على وجودها وتعجبني كلمة للعقاد في شعور ابن الرومي بالعلاقة بين تبرج الأزهار وتبرج النساء وإحساسه بالصلة بين محاسن الطبيعة ومحاسن المرأة قال وربما كان علة هذا الشعور الغامض اضطراب في جهاز التناسل أهاج جميع أجزائه فهز خيوطها ونبه وشائجها القديمة المختلفة ومنها الإحساس بذلك التبرج كما هو في قلب الطبيعة وهذا صحيح لأنه لابد لذلك من سبب يحور إليه ولو وقف الأمر عند بيت لقلنا معنى عن له ولكنه لا يزال يكرره في حيثما سنحت له الفرصة فكأنه يريد أن يلفتنا إليه: تأمل قوله:
ورياض تخايل الأرض فيها ... خيلاء الفتاة في الأبراد
وقوله في موضع آخر يصف الرياض:
تبرجت بعد حياء وخفر ... تبرج الأنثى تصدت للذكر
وقوله من قصيدة في وصف العنب:(20/23)
لو أنه يبقى على الدهور ... قرط آذان الحسان الحور
وقوله:
لمن تستجد الأرض بعدك زينة ... فتصبح في أثوابها تتبرج
وقوله:
(وظلت عيون النور تخضل بالندى ... كما أغرورقت عين الشجي لتدمعا)
(براعينها صوراً إليها روانياً ... ويلحظن ألحاظاً من الشجو خشعا)
وبين أغضاء الفراق عليهما=كأنهما خلا صفاء تودعا
هذا وليس أقطع في الدلالة على ضيق خلق ابن الرومي ونزق طبعه وقصر أناته من أهاجيه هذه والظاهر منها أنه كان يندفع في الشتم والذم وبسط اللسان في الناس لأهون سبب ومن أجل أشياء لا تهيج الرجل السليم الرشيد كأن يعيبه واحد بمشيته أو ينعي عليه صلعه فيفور فائره ويمتلئ غيظاً على عائبه ويتناوله بكل قبيح ويلصق به كل سوءة شنعاء ومعرة دهماء. وفي ضيق الخلق وتوعره برهان على الاضطراب واختلال توازن الأعصاب.
ولا ريب أن الناس كانوا يتحككون به ويهيجونه لما يعلمون من ضيق حظيرته وسرعة غضبه لأن الناس في العادة لا يستثيرون بالدعابة إلا الطياش لعلمهم أن الحليم الراسخ الوطأة لا تقلقله المجانة والمفاكهة أولست تري الأطفال والصبيان في الطرقات هل يستفزون إلا المرهق ومن يعلمون عنه الخفة والحدة والحدة وسرعة البادرة ولقد كان أهل زمانه يعيبون شعره على إقرارهم بمزيته وحسنه وإنشادهم له في المجالس وإملائه على طلاب الأدب في حلقات الدروس فهل تحسب أنهم كانوا يفعلون ذلك إلا ليستثيروه ويضحكوا منه؟ ولقد روينا لك فيما أوردناه من اخبار ابن الرومي أن بعضهم قال: كان ابن الرومي إذا فاجأه الناظر رأي منه منظراً يدل على تغير حال فهل بعد هذا شك في مرض ابن الرومي واختلال أعصابه؟.
بقي علينا أن ننظر في طيرة الرجل وأسبابه. (البقية في العدد الآتي)(20/24)
شذرات من فلسفة نيتشه
خداع النفس - من بعد نظر الحاسدين وحدة بصرهم، أنهم يجتهدون أن لا يمعنو في التعرف لمحسوديهم، حتى يشعروا أنفسهم أنهم أعلى منهم قدراً، وأرفع شأناً.
كرم الضيافة - الغرض من كرم الضيافة تعطيل عاطفة العداء من نفس الغريب، فإذا لم تعد تنظر إلى الغرباء كالأعداء، قل لديك كرم الضيافة لهم، ويقوي هذا الكرم وينتعش ويزداد، ما دام توجس الشرفي نفسك باقياً.
صيد الحقائق - هذا يسعى في صيد الحقائق المقبولة، وذاك في صيد الحقائق المكروهة، ومع ذلك ترى الأول يجد في نفس الصيد لذة أكبر من لذة الغنيمة.
الفضائل الخطرة - لا ينسى شيئاً ويعفو عن كل شيء - لذلك سيكون كرهنا إياه مضاعفاً، لأنه يسبب لنا عاراً مزدوجاً بذاكرته وعظمة روحه.
الغرور - هو الخوف من الظهور بحقيقتك، ومن ثم هو العطل من الآباء، وليس ضرورياً أن يكون العطل من الشخصية.
الرحمة - تصوروا أن العناية بالغير والشعور بهمومهم كان لهما ضعف قوتهما الآن، إذن لما احتمل العيش على الأرض أحد، حسبكم أن تنظروا كم من حماقات يجنيها كل فرد منا يوماً فيوماً وساعة فساعة، لا يبعثه عليها إلا إرضاؤه نفسه وإخلاصه لها، وكيف ترونه لهذا مكروهاً لا يحتمل، فماذا لعمركم يحدث لو كنا نصبح للناس موضوع البلاهات والوقاحات التي عذبوا بها أنفسهم وأساؤوها، ألا ينبغي لنا ساعتئذ أن نطلق سوقنا للريح إذا لمحنا أحد الجيران مقبلاً علينا؟ ألا يكون من الضروري وقتئذ أن نجلل هذه الشفقة بالاستهانة التي ندخرها اليوم للأنانية؟.
منشأ العزلة - في العصور المتوحشة، كان للأفكار السوداء الشريرة أكبر سلطان على الناس، فكان الفرد منهم، وهو يشعر بقوته، يجتهد دائماً أن يجعل أعماله تلائم هذه الأفكار السوداء. وتمشي معها، أعني أنه كان يضع هذه الأفكار في أفعاله، فيتخذ الصيد والسرقة والسطو والغيلة والوحشية والقتل، يدخل مع هذه ضروب ضعيفة من أعماله، كانت مباحة في البيئة التي يعيش فيها، فإذا اضمحلت قوته، وشعر أنه قد أصبح متعباً مريضاً سوداوياً ملولاً، وبذلك أمسى خلواً من الرغائب والشهوات، صار أحسن من قبل حالاً، أو بعبارة أخرى أقل خطراً، ولم تعد أفكاره السوداء تنطلق إلا في ألفاظه وكلماته عن أصدقائه مثلاً(20/25)
أو حياته أو زوجته أو آلهته، أي أن أفكاره فقط أمست تأملات سوداء سيئة، وكذلك يرتقي ويتطور، حتى يكون منه مفكرو كاهن، فيضيف كل يوم إلى خرافاته، أو يخترع ملاحظات جديدة وشواهد، أو يهزأ بأعدائه وخصومه، فكل ابتكاراته، وكل ثمار قريحته، صورة منعكسة من ذهنه، نعني أنها تدل على ازدياد الخوف، وكثرة النصب والتعب، واحتقاره للعمل، واستهانته بالتلذذ والتمتع، ولذلك تجد مادة هذه الأفكار مستمدة من حالاته الشعرية التفكيرية الرهبانية، أي أن الحكم المظلم فيها متفش ذائغ.
أما في العصور المتأخرة، فإن أولئك الذين يفعلون كما كان يفعل ذلك الرجل في تلك الظروف المخصوصة، يلقون إلينا آراء وهمية شريرة، ويعيشون عيشة سوداوية حزينة، ولا يؤدون عملاً كبيراًَ، فقد سموا شعراء ومفكرين، وقسيسين، وعزامين وقد كان الناس بأسرهم يريدون أن لا يعبؤوا بهم ولا يحفلوا، واق يطردوهم من المجتمع ويلفظوهم خارجه، لأنهم لم يجدوا لهم عملاً كافياً، ولكنهم رأوا في هذا نوعاً من المجازفة فأمسكوا، وإذ كان هؤلاء اللا عاملون قد اكتشفوا آثار الخرافة وضروب الخزعبلات فاتبعوها، لذلك لم يشك فرد أن لديهم وسائل قوة مجهولة يستطيعون استعمالها.
هذه هي القيمة التي قدرت بها بقايا الجنس القديم من أهل الطبائع المفكرة - محقورين بمقدار ما كانوا من قبل غير مرهوبين، وفي هذه الصورة المحجوبة، وفي هذا المنظر المبهم الغامض، بقلب شرير، ورأس مضطرب في الغالب متعب، كان أول ظهور حياة التفكير في هذه الأرض - ضعفاء وهائلون في وقت واحد، محتقرون في السر، مجللون بكل ضروب التقديس الخرافي جهرة وعلانية.
أعداء النساء - المرأة عدوتنا - إن من يقول ذلك من الرجال إنما يظهر للناس لذة مطلقة لا تكره نفسها فقط بل ووسائلها.
الخداع بالتذلل - بحماقتك أسأت إلى جارك، وهدمت صرح سعادته، فلن ينهض أبداً بعدها - والآن بعد أن تغلبت على غرورك، جئت تذل من نفسك أمامه، وتسلم حماقتك إلى احتقاره، وتتوهم أنك بعد هذا الموقف الخشن الموجع لك المؤلم، قد أصلحت ما أفسدت، وبنيت ما قوضت، وإن فقدك الاختياري للشرف يعوض على جارك الأذى الذي نلت به سعادته، كذلك تشعر إذ تتصرف من حضرته ناعم البال، هادئ النفس، معتقداً أن فضيلتك(20/26)
قد رجعت إليك.
على أن جارك لا يزال على مضه وألمه، لا يجد شيئاً يعزيه من تصريحك بأنك كنت مخطئاً ومسيئا، بل على النقيض، يتذكر المظهر المؤلم الذي ظهرت به يوم جئت إليه تنتقص نفسك في حضرته، فيحس أنه قد طعن طعنة أخرى، ولكنه مع ذلك لا يفكر في الانتقام لنفسه، ولا يستطيع أن يتصور أي ميزان عادل يعدل بين كفتك وكفته، والحقيقة أنك ما ركبت ذلك المركب، ومثلت ذلك الدور، إلا لنفسك وأمام نفسك، وإنما دعوت للحضور شاهداً لا لصالحه بل لصالحك - فلا تخدع نفسك!.
المجرمون والمرضى - لم نكد نبدأ درس طبائع المجرمين حتى انتهينا إلى استنتاج نتيجة لا نحول عنها ولا نرتد، وهي أن ليس بين المجرمين والمجانين فارق ذوبال، وذلكم الرأي هو أشد الآراء رسوخاً في الأذهان.
ولذلك لا ننزوي عن استنتاج نتيجة أخرى نبنيها على تلك. وهي أن نعامل المجرم معاملتنا للمجنون، لا بالإشفاق المتكبر عليه، ولا بالرحمة المتعجرفة المزهوة، وإنما بحذق الأطباء، ومهارة الإساة، وحسن النية - لعل المجرم بحاجة إلى تغيير الهواء، أو تغيير الوسط والبيئة، وما يدرينا لعله بحاجة إلى التغيب عن نفسه حيناً من الدهر، أم لعله يحتاج إلى العزلة، أو الاشتغال بحرفات أخر، بل قل لعله يحس أنه أجدى له أن يظل تحت المراقبة ردحاً من الزمان، حتى يحتمي من نفسه، ومن تأثير داخلي مرهق ثائر مستبد.
يجب علينا أن نبين له احتمال شفائه، ونوضح له وسائل علاجه، (وذلك بالقضاء على هذه المؤثرات الداخلية أو تغييرها أو تطهيرها) وفي الحالات الشديدة أن نفهمه عضل دائه، واستعصاء شفائه، ويجب أن نقدم إلى المجرم المعضل الذي أصبح حملاً ثقيلاً على نفسه، الفرصة السانحة للانتحار، ونبقي هذه الوسيلة آخر سهم في كنانتنا، ويجب أن ننتهز كل سانحة لنرد عليه شهامته وحرية روحه، ونطهر نفسه من كل ندامة أو تقريع وجدان، كأنما نطهرها من أكبر الأقذار والأدران، ونريه قدرته على أن يكفر عن مأثمة أساء بها إلى إنسان، بصنع جميل إلى غيره، أو إلى المجتمع كله، حتى ترجح موازين حسناته، بموازين سيئاته الماضية.
كل هذا يجب أن يؤدي أحسن الأداء، ويقضي بأشد الملاينة والدقة والحذق، وعلى المجرم(20/27)
أن يظل باسمه، أو يبحث له عن اسم مستعار، وأن يغير مقامه في كل حين، حتى لا تتأثر سمعته في حياته المستقبلة.
نعم إن المعتدي عليه في زماننا لا يقنع من المجرم بأن يرد عليه ما فسد من أمره، بل يريد كذلك الانتقام، فيعمد إلى المحاكم يستعديها عليه لينال ترته، وهذا هو السبب الذي جعل قوانين العقوبات نافذة المفعول حتى اليوم كأنما في يد القضاء كفتان، يوازن بهما بين الجرم والعقاب، ولكن مالنا لا نخطو خطوة أخرى إلى الأمام؟ أفلا يكون من أحسن الخلاص، لعاطفة الحياة، أن نتخلص من اعتقادنا في الجرم، فنتخلص به من ميلنا القديم للانتقام، وبذلك ندرج إلى الاعتقاد بأن من الحكمة المصفاة المهذبة، أن يغفر السعداء لأعدائهم، ويحسنوا إلى الألى أساؤوهم، طبقاً لروح التعليم المسيحي. إلا تعالوا ننقذ العالم من فكرة الجرم، ونقذف معها فكرة العقاب، فليت أن هذه الآراء المسيخة المخيفة تعيش في نجوة عن مساكن الإنسان ومنازله، إذا كان من اللازم وجودها، أو إذا لم تكن تريد أن تفنى وتموت من احتقارها وسأمها من نفسها.
ولا يجب أن ننسى كذلك أن الضرر الذي يعود على المجتمع والفرد من المجرمين هو من نوع الضرر الذي يصيبها من المرضى، لأن المرضى ينشرون في المجتمع الأسى والهموم، والمرضى هم اللا مثمرون، يستغلون أثمار الغير ويأكلون منتوجاتهم، ويطلبون مع ذلك عنايتهم ومواساتهم، أطباءهم وممرضيهم، ويعيشون في الحقيقة على وقت الأصحاء وقوتهم، كل هذا ونحن نسم بالوحشية ذلك الذي يريد أن ينزل الانتقام بالمرضى، ويثير عليهم الويل والعذاب، والحال أن ذلك كان يحدث في العصور الخالية والأحقاب الغابرة، وفي المجتمعات والأوساط التي لا تزال على الفطرة، حتى بين المتوحشين في عصرنا هذا، يعامل المريض كمجرم وخطر على المجموع وويل، ويعتقدون أنه مهبط مخلوقات جنية شيطانية نفذت إلى بدنه من جريمة ارتكبها، هؤلاء الشعوب يرون أن المرضى هم المجرمون!.
أما نحن! ألسنا بعد أكفاء إلى القول بعكس هذا الرأي؟ ألا يباح لنا أن نقول المجرمون هم المرضى كلا. إن الوقت لم يحن بعد، نحن لا نزال نفتقد أولئك الأطباء الذين أحرزوا قسطاً من الآداب العملية، فأدخلوه في صناعة الطب، وعلم العلاج.(20/28)
ولأنه ليس في رجال الكنائس من وكل إليهم العناية بصحتنا، ولأن دراسة الجسم وأجزائه، والأغذية وصنوفها، ليست حتى الآن من المواد الإجبارية التي تعلم في مدارسنا الابتدائية والتجهيزية، وليس هناك حتى اليوم جمعيات اتفق أعضاؤها بينهم على الاستغناء عن المحاكم وأقضيتها. وإنكار العقاب والانتقام الواقعين اليوم على الذين أساؤوا إلى المجتمع، ولأنه لم يجسر إلى اليوم مفكر فيقيس صحة المجتمع، والأفراد الذين يؤلفونه، بعدد الطفيليات الإنسانية الممكن للمجتمع احتماله.
الرزانة والجفاء - أولئك الذين يعجزون عن إظهار الود للناس ونبيل الألفة، وصادق الخلطة، يحاولون أن يجعلوا نبل أرواحهم يتجلى في رزانتهم وجفوتهم وجدهم، ويظهر في احتقارهم الألفة، وسخريتهم منها، فكأنما تخجل حاجتهم إلى الألفة من إظهار نفسها.
الرهبنة - أشد الناس شهوانية أولئك الذين يجدون من الضروري لهم اجتناب النساء، وتعذيب أجسامهم.
الابتهاج بالحقائق - ميلنا الحاضر إلى الابتهاج بالحقائق - إذ نكاد جميعاً نشعر بهذا الميل - لا يفسر إلا بأننا ابتهجنا بالأكاذيب دهراً طويلاً حتى سئمنا ومللنا، ولكن هذا الميل في شكله الحاضر دون تخير أو تهذيب، لا يخلو من الخطر. وأقل أخطاره حاجته إلى التذوق.(20/29)
الفوضوية والفوضويون
لعل أشد أنواع الجنون الشباب، إذ كان يغتذي من حرارته، ويستمد غلواءه من غلوائه، ويأخذ ضرامه من مضطرم عواطفه، ولا تجد شباباً خلواً من رائحة الجنون، إذ كان الشباب شعبة منه، وإنما على قدر حرارة النفس، وتسلط الآراء المجنونة على الذهن، يكون مقدار الحزن من الشدة والهول، وأنت لا ترى الشباب إلا أسرع تأثراً من الكهول، وأقل نظراً، وأخف أحلاماً من الرجال والشيوخ، لأن الجنون لا يعرف التردد، ولا يريد التفكير، ولا يعبأ بالنتائج، لأنه يخشى أن يكون في التردد ذهابه، وفي التفكير تلاشيه، إذ كان التردد من خصائص العقلاء، وليس من شأن المجانين، وإذا ما رأيت الجنون يتردد هنيهة واحدة، فاعلم أنه قد بدأ يدخل في حدود العقل.
وإذا كان ذلك كذلك، فلا تعجب أن تسمع أن جميع المجرمين السياسيين إلى هذا اليوم لم يكونوا إلا شباباً وفتياناً، تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين، وفيهم صبية إنشاء لم يفوتوا بعد التاسعة عشر، لأن تعاليم الفوضى لا تتفق مع العقل، وإنما تمشي مع الجنون، ولا تستعين ببرودة الشيخوخة، وإنما تريد حرارة الشبيبة، وأشد مخاوفها الأحجام، وأشد معطلاتها التروي. فهي لذلك تخشى العقلاء ولا تطمئن للرزانة، ولا تسكن للمجادلة والمحاجة، يجب أن يكون خدامها عمياً حتى لا يبصروا، ومجانين حتى لا يحجموا، ويائسين حتى لا يخافوا ولا يفرقوا، فهي لذلك لا تقع إلا على حيواني كره الإنسانية، فأراد أن يطعنها في رؤوسها وتيجانها، ويضع من صوالجها وعروشها، أو خامل يريد بقتل العظماء نباهة الذكر، أو مغمور يرجو بزكى الدماء رفعة القدر، أو مفلوك يطلب بالاشتراكية الإجبارية الغنى بعد الفقر، أو معتوه ممرور يريد ما يراد منه، وكذلك تضم إليها زعانف الإنسانية ونفاياتها، وتجمع إليها أدنياءها ورذالاتها، وبذلك تعوض عليها بالكمية ما تفقده من المزية.
حسبك من خطر هذا الجنون، ما وقع في خلال الشهر المنصرم، فطار نبأه بين المشرق والمغرب، ورددت صداه أنحاء العالم، خطبان جللان، أحدثهما غلامان مفتونان، يسند أولهما إلى التاسعة عشر، وجاز الثاني الحول العشرين - ونعني بهما قاتل الأرشيدوق فرانسوا فرديناند ولي عهد النمسا في البوسنة، والمعتدى على سمو أميرنا المفدى، ومليكنا المحبوب، في الآستانة.(20/30)
كان من فعلة الأول أن ولدت حرباً عواناً طاحنة، تتضارب فيها دنيات العالم الحديث وحضاراته، وتتنازع البقاء دولة وأماراته، وأخرجت من بين أثناء الإنسانية المهذبة، حيوانية الإنسانية الأولى، بعد ان كانت مختفية وراء أستار العلوم، وحجب المدينة، وأغشية الفلسفة، وأطباق التربية، فرجعت تحمل كما كانت في الأعصر الحجرية، آلات التدمير والتخريب، وأسلحة النسف والحصد، وبذلك آثرت على حسنات العلم سيئاته. وقذفت أحكام فلاسفتها ومفكريها، وتعاليم سلمييها واشتراكييها، ثم عمدت إلى خرائطها ومصوراتها، تعدو على حدودها المقررة، وترفع تخومها الموضوعة، ونزعت عنها تلك الأثواب الجميلة التي خلعها عليها الفلاسفة والمفكرون، لتشتمل في تلك الأثواب العسكرية التي حاكمها السياسيون والحربيون.
وما كان من تلك الجريمة الأخرى التي اندفع إليها ذلك الشاب المجنون المرور إلا أن كدر صفاء أمة هادئة وأساء إلى شعب وديع، لا يستمد حياته إلا من حياة أميره، ولا ينال نشاطه وتطوره إلا من حسن ملكة مليكه، ولا ينهض إلا برعاية سموه وجميل عطفه وعنايته، وكأن ذلك المفتون، إذ صوب مسدسه إلى الأمير، ما صوبه إلا إلى أمته، وما أراد من غيلته إلا اغتيال رعيته، وهل كانت حياة الأمير إلا عماد هذه الأمة وقوامها، وهل كان في سلامته إلا سلامتها وسلامها، وكذلك أبى القدر أن يقضي على شعب من لوثة فرد، فرد تلك الرصاصات الخائنة طائشة، وجعل جراح الأمير المفدى غير بالغة، وأنقذ الأمة المصرية من نكبة قاتلة، يعلم الله ما تكون عقباها، وما يكون من مآلها، وقد عجل الله لأميرنا الشفاء، وأتم عليه العافية، وحفظ حياته لحياة الرعية، ينهض بها أعلى أونج العلم والرقي.
تلك آثار المجانين بمبادئ الفوضوية، وهذه سيئات إصلاحهم المزعوم، فقد وهموا أن النظام الاجتماعي الحاضر يقوم على ضروب من المفاسد شتى، وما علموا أن فوضويتهم أشد إفساداً للمجتمع من هذه المفاسد نفسها، بل أن وجودهم في الجمعيات البشرية هو الفساد الفذ الذي سيجري بالمجتمع في سبل عدة من التدهور والفناء.
ونحن نقدم إلى القراء لمعة في تاريخ هذه النظرية، والأطوار التي تعاقبت عليها وعلى الذين استهدفوا لشرها وويلاتها.
الفوضوية نظرية يقصد بها أن يعيش المجتمع بلا حكومة فوقه، لا يربط هذا المجتمع ولا(20/31)
يشده الخضوع للقانون، ولا الطاعة للسلطات، ولكن يستعاض عن ذلك باتفاق حربين الطبقات المتعددة. والبيئات المختلفة التي يتألف منها المجموع، وقد وجدت مبادئ هذه النظرية في كل عصر من عصور الإنسانية، تقوم كفة الحكومة، فتسقط كفة الفوضى، وتعلو هذه فتسقط تلك.
قال الأستاذ أدلر الألماني إن ارسيتباس المتوفى عام 430 قبل المسيح، وهو أحد مؤسسي المدرسة السريانية قال في إحدى كلماته أن على العقلاء أن لا يعطوا الحكومة حريتهم، وقد أجاب يوماً عن سؤال ألقاه إليه سقراط، إنه لا يرضى أن ينتسب لا إلى الحاكمين، ولا إلى المحكومين. .
ولعل أحسن من وضح نظرية الفوضى الفيلسوف زينون المتوفى عام 270 قبل المسيح، وهو مؤسس الفلسفة الرواقية، عارض بمذهبه القائل بمجتمع حر دون حكومة تعلوه، نظرية أفلاطون في جمهورية وطوبوية الحكومة، فنقض قوة الحكومة، ودعى إلى قوة القانون الأخلاقي الذي يسنه الفرد لنفسه، قائلاً إنه بينا غريزة حفظ الذات تدفع الإنسان إلى الأنانية إذ بالطبيعة قد جعلت لهذه الغريزة مهذباً ومخففاً، فركبت في المرء عاطفة أخرى، تلك نهي غريزة الاجتماع، فإذا رجحت عقول الناس حتى يستطيعوا أن يتبعوا غرائزهم الطبيعية، فلا تعود بهم حاجة إلى المحاكم ولا إلى الشرط والمعابد والأديان، ولا إلى استعمال السكة والنقود، وإنما يستعيضون عن الأخيرة بتبادل العوارف والأعطية.
على أن كتابات زينون لم تبلغ إلينا إلا شتيتا من كلم، ومتفرقاً من حكم، ولكن مذهبه هذا هو نفس مذهب الفوضويين العصريين فكأنما كان زينون لسان حالهم.
وقد جاء رابليه وفنيلون في طوبوياتهما بهذه الآراء عينها، وكانت شائعة في القرن الثامن عشر بين الأنسيكلو بيذيين الفرنسيين، ترى منثورات منها في كتلب روسو ومؤلفات ديدرو، حتى لقد وجدت أشدها في الثورة الفرنسية.
وكان جدوين في بحثه الذي عقده في العدل السياسي أول من نظم آراء الفوضوية السياسية والاقتصادية وإن لم يعطها هذا الاسم - قال ليست القوانين نتاج الحكمة من أجدادنا، وإنما هي وليدة عواطفهم وجبنهم وعصبياتهم وأطماعهم، وإن العلاج الذي نستمده من القوانين، لهو شر من الداء الذي تدعى هذه القوانين إشفاءنا منه، فإذا أبطلت هذه القوانين، وأقفلت(20/32)
هذه المحاكم، وترك القضاء في الخصومات للمراجيح من الناس نشأ من ذلك العدل الحقيقي.
وإليك ما كتب أيضاً يستطيع المجتمع بكل سهولة أن يعيش دون الحكومة، بل حسب المجامع ان تكون صغيرة متضامنة.
وكان برودون أول من استعمل عام 1840 لفظة فوضوية للتعبير عن حال المجتمع بلا حكومة، وهو أول من نقض مذهب الاشتراك في مال الجمهور، وكذلك كل وسائل الاشتراكية الحكومية التي ذهب إليها لويس بلانك، قال عن الامتلاك في كتابه الأول الامتلاك هو السرقة والاختلاس ولم تصب آراء برودون الفوضوية في فرنسا إلا صوتاً خافتاً. إذ كانت الكفة العليا لآراء الاشتراكية المسيحية التي جاء بها لامينية وأتباع فورييه، وآراء الاشتراكية الحكومية للويس بلانك وشيعة سان سيمون، ولكنها وجدت بعض التشجيع في ألمانيا من فريق اتباع هيجل. وقد صرح بالفوضوية هس عام 1844، وكارل جرين عام 1845.
وبدأت هذه الأفكار الفوضوية تشيع حتى انتهت إلى روسيا في خلال حكم القيصر اسكندر الثاني عام 1852 واتخذت لها اسماً غير الفوضوية ونعني به العدمية وهي لفظة كثر ما يراد بها النوع الثوري من الاشتراكية الروسية، وأول من استعمل هذه الكلمة تور جنيف الكاتب الروائي الروسي الأكبر، في روايته المشهورة الآباء والأبناء التي طبعت في عام 1862، وذلك أن تور جنيف لاحظ بين طلاب الجامعات والمدارس الصناعية العالية منظراً جديداً مدهشاً، وهو أن فتياناً نشأ، وفتيات شواب بدأوا يسخرون من الاعتقادات العامة والتقاليد المصطلحة والعادات المحترمة في الحياة الاجتماعية، وشرعوا يتباحثون في تهذيب المجتمع وتأسيسه على قواعد علمية بحتة. وكان من ذلك أنهم قلبوا النظام القديم المتبع حتى في أتفه الأمور وسفاسفها، فأما الذكران منهم فأعفوا شعورهم. وأما الإناث فقصصن فروعهن. فكانت ظواهرهم وأزياؤهم وأحاديثهم عرضة لسخرية الناس وهزئهم، ولكنهم كانوا يهزأون بذلك ولا يكترثون إذ كانوا قد رفعوا أنفسهم عن مستوى ما يسمونه بالرأي العام واحتقروا الرسوم والطقوس وكانوا لا يعترفون من المذاهب القديمة في التربية إلا بمذهب العمل لصالح الجماعات، وكانوا يصرحون بأن الإسكاف أو صانع الأحذية(20/33)
المتفوق في صناعة المفتن فيها هو خير من شكسبير أو جيت وأعظم قدراً، لأن الإنسانية أحوج إلى الأحذية منها إلى الشعر ولها أطلب ولذلك كان تور جنيف هو الذي جعل الناس في محاوراتهم وأحاديثهم يطلقون على هؤلاء الخوارج لفظة أي العدميين وإن كانوا هم ما يبرحون يحتجون على هذا الاسم ويعدونه كنية فاحشة سيئة، لأنهم يقولون إنهم لا يرون في أنفسهم إلا طلاب إصلاحات معقولة سديدة، وليسوا طلاب مزاح ومجون، وإن الفروق والغرائب التي ظهروا بها في خططهم ومناحيهم لم تنشأ إلا من إهمال الناس لمصالحهم الحقيقية، ومنافعهم الصادقة.
ظلت روسيا من وجهة التقدم المادي والأخلاقي المصلية في ميدان استباق الأمم الغربية فشعر الشبان المتعلمون بعد تلك الخيبة التي لاقتها روسيا في حرب القرم إن العهد القديم والنظام العتيق يجب أن يستبدلا بإصلاح متهور شديد، فدفعتهم حرارة الشباب، وجنون الفتوة، وبعثتهم السذاجة والبساطة وعدم الحنكة والعطل من التجربة والروية، في وجهتهم هذه بأشد من قبل تهوراً وحمية، ولما كانوا قد تعلموا مبادئ الفلسفة الإيجابية، وأخذوا بسبب منها، فقد رأوا أن روسيا ظلت باقية على حالها بعد أن تقدم الإنسانية كلها في الأطوار الدينية والأدوار الخيالية (فيما وراء الطبيعة) ولذلك فهي اليوم في أنظارهم على أبواب عصر جديد من عصور الفلسفة الإيجابية، ومن ثم ينبغي لها أن تقذف جانباً جميع الآراء الدينية والخيالية، وتنظم حياتها العملية والاجتماعية والسياسية، وتسير على هدى العلوم الطبيعية.
فكان من بين الأنظمة القديمة التي رأى هؤلاء الشبان الإغفال هدمها إذ عدوها معطلات للتقدم الحقيقي، الدين والحياة الزوجية، والامتلاك والحكومة المركزية، أما الدين فيجب عندهم أن يقوم على أنقاضه العلوم العصرية، وأما الحياة الزوجية فيجب أن تستبدل بالزواج الحر، وأما الامتلاك فبالاشتراكية، وأما الحكومة المركزية فبمجموع ولايات مستقلة.
وأمثال هذه الآراء والمذاهب لا يباح لأصحابها أن يعلنوها أو يخطبوا الناس بها، تحت حكومة مركزية يريدون نقضها، ولما كانت الصحافة الغربية قد تشبعت اليوم بروح الحريين السارية، كان من المستطاع أن تدس هذه الآراء الثورية تحت ستار الأدب(20/34)
والروايات، ولعل هذه الآراء لم تجد تأثيراً قوياً في روسيا إلا برواية. (أي ماذا نحن صانعون؟) وضعها منذ سنين الروائي تشرتسفسكي أحد قادة هذه الحركة الثورية، وقد طبعت بعد تصديق أولى الشأن عليها!.
وكانت روسيا منذ عهد بطرس الأكبر عرضة لجملة تطورات إدارية اجتماعية شديدة، وقد تنبأ الكثيرون بأن تطوراً كبيراً قد يحدث برضى من القوة المطلقة وتعاون منها، ولذلك ما كادت تبدأ هذه الآراء تخرج من أفواه دعاتها، حتى انتشرت بسرعة مدهشة، فقد كتب في شتاء عام 1862 موظف روسي كبير إلى صديق له كان غائباً عن روسيا شهراً إنك لو رجعت الآن لعجبت للتقدم الذي ظفر به الحزب المعارض، وإن شئت فقل الحزب الثور أن الأفكار الثورية قد استحوذت على جميع الطبقات والأعمار والصناعات والمهن، تعلن جهاراً في الطرق. وتلقي علانية في الثكنات، وتقال في إدارات الحكومة ومصالحها، بل إني لأعتقد أن الشرطة أنفسهم يغضبون لها ويثورون.
كان برنامج الحكومة سهلاً عدلاً واسعاً، وفيه اليسير من الحرية، ولكن كان هؤلاء العدميون طائشين خفاف العقول، فأبوا إلا أن يريدوا انقلاباً سريعاً، وهدماً عاجلاً وأجمعوا يبعثهم نزق الشباب، وقوة الصبا، وبساطة الحياة، وقلق الحداثة، على أن ينهضوا هم بأعباء هذا المذهب المجنون، نافضين أيديهم من أيدي الحكومة خارجين عليها، معارضين لأمرها، ولما لم يكن بأيديهم القوة الكافية للقضاء على الحكومة المركزية، فقد رأوا أن يحببوا الشعب إليهم، ويضموه إلى جانبهم، فمن ثم بدأوا يؤلفون منهم فرقاً وجمادات، لنشر آرائهم، وبسط مذاهبهم، بين طبقات العمال في المدن، والفلاحين في القرى، وأقاموا منهم مروجين ودعاة، يجمعونهم من طلبة الجامعات ومن المدارس الصناعية، ومن مدارس الطب، ومن الفتيات المشتغلات بالتمريض والجراحة والتطبيب، وسكان البلدة الواحدة منهم يتعاونون، ويتسارون، ويتشاورون، ولكنهم لم يحاولوا أن ينشئوا منها نظاماً تاماً، أو زعامة مرتبة منظمة، وكان لكل فرد الحرية التامة في انتخاب الوسائل التي يستطيع بها نشر مذهبهم، فمنهم من تزيا بزي العمال ليدخلوا في دينهم الطبقات الجاهلة من العمال، وفيهم من أقام في القرى مستغلاً بالتدريس، يحاول ويجد ليثير البغض والكراهية للحكومة في نفوس الفلاحين السذج الأغفال، ويسروا لهم في آذانهم أن من الواجب التخلص من موظفي الحكومة،(20/35)
وملاك الأرض، ويطمعوهم في أنهم سيقبضون بعض ذلك على الأراضي الشاسعة، والغابات البعيدة الأرجاء، والأملاك المترامية الأنحاء، ويتخلصون ثم من دفع الضرائب، وكان هؤلاء الدعاة يريدون أن يثبتوا لبعض المتعلمين من العمال أن الحالة الاقتصادية الحاضرة على أشد الفساد وأنكر الفوضى، وإن وجب كل فرد وطني صادق الرجولة أن يعينهم على الخروج من هذه الملمة، وإن أول خطوة لبلوغ ذلك، هو أن يبدأوا بهدم السلطة الحاكمة.
وجملة القول أن المحرضين لم يصيبوا رائد النجح، ولم يعودوا مما طلبوا إلا بالخيبة، ووقع كثيرون منهم في أيدي الشرطة، ومن هؤلاء المجرمين من اكتشف الشرطة أسماؤهم من نفس الذين كانوا يريدون أن يعملوا على مصلحتهم المزعومة، ولكن سوادهم كان صلب المكسر، ثابت الجنان، رابط الجأش، متأهباً لاحتمال أية تضحية في سبيل فكرته، ولذلك لم يحجم الباقون عن متابعة عملهم، وقد نظر القضاء بين عامي 1861 و1864 عشرين قضية سياسية، وحكم على أكثر المتهمين فيها بالسجن أو البقاء تحت المراقبة.
على أن شدة الشرط ودأبهم وتحريهم زادت سخط العدميين على الحكومة وكراهيتهم لها. فقد حاول في سنة 1866 أحد العدميين وهو يدعى كراكوزف اغتيال القيصر، ولكن خابت طلبته، فأمر بزيادة التحري والمراقبة. وفي عام 1869 ألف رجل منهم يدعى نتيشيف جمعية سرية باسم جمعية تحرير الشعب ولما ارتاب نتشيف في أحد أعضائها قتله فجر، قتله إلى القبض على بعض أفراد هذه العصابة الثورية وارتبط كثيرون من العدميين بالاشتراكيين في البلاد الأوروبية ولاسيما أتباع باكونين رأس الفوضويين وشيعته.
وكانت الحكومة القيصرية لا ترى جواباً لهؤلاء الخوارج إلا بالقبض على رؤوسهم وزعمائهم. فلما كان شتاء 1878 قبض على 193 محرضاً وحوكموا علانية في سان بطرسبرج (بطرغراد) وحكم على أكثرهم بالسجن أو النفي.
على أنه لم تكثر جرائمهم ولم يزدد توثبهم إلا في عام 1880 فقد قتل أحد العدميين الجنرال تريبوف محافظ بطرسبرج وهو يتظاهر بأن يقدم إليه عريضة استرحام وقتل مفتش الشرطة في رابعة النهار ثم أؤتمر على قتل خليفته. وقتل حاكم ولاية كراكوف البرنس كورباتكين، لاشتراعه نظاماً صارماً لمعاقبة المجرمين السياسيين، وهوجم القيصر(20/36)
في قصر الشتاء، وحوول مرات كثيرة نسف القطار المقل أسرة القيصر وهو في طريقه إلى العاصمة، ووضعت مفرقعات من الديناميت في القصر فقتل عشرة من خدمه ولم يصب أحد من الأسرة بسوء لأنهم تأخروا يومذاك عن حضور المائدة، دع غير ذلك من الحوادث التي عجز الجواسيس عن الاهتداء إلى الفاعلين.
ولما رأى الإسكندر الثاني عجز شرطته وضع نظاماً جديداً ودفع به إلى الكونت لوريس ميليكوف فكاد يذهب في جريرته قتيلاً ولم يكن من ذلك إلا أن تمخض عن مؤامرة جديدة لإهلاك القيصر، وذلك أنه في مارس عام 1881 والإسكندر في مركبته إذ رمى بقنبلة مدمرة كانت فيها منونه، فلم تكد المركبة تبلغ القصر حتى فاضت روح صاحبه.
وكان من هذه الوقائع المتتابعة أن ظهر فساد ذلك الرأي القائل بقتل الفوضى بالعطف والملاينة والمسالمة، ولذلك صرح اسكندر الثالث بأنه لا يريد أن يضع حداً لسلطة حكومته، فعادا يتآمرون على قتله وهو في مركبته، ولكن قبض على الجانين قبل محاولتهم فعلتهم، ولكن رجعت نهضتهم إلى الانتعاش إذ وقع في سنة 1901 اضطراب كبير بين طلبة الجامعات الروسية ثم بين الفلاحين في أشهر بلدان الإمبراطورية.
ولم تخف حدة الفوضويين ولم تهدأ ثائرتهم إلا بدخول مبادئ الحكومة البرلمانية في روسيا.
على أن ليس كل المجرمين السياسيين فوضويين في صميم أرواحهم، ولا عدميين في قرائر نفوسهم، بل فيهم العدد العديد من الذين اندسوا في أهل المذهب وهم لا يشعرون له بشيء من التقدير أو الاستحسان أو الإخلاص، من كل مسموم العاطفة يحقد على الملك لنكبة نكبته لم تقع من يد الملك، وإنما سقطت من يد القدر، وآخر لظلامه ظن أن حقاً له قد هضمته الحكومة، وما هضمته إلا معدة الطبيعة، أو مغمور أولع بالنباهة وأولعت بهجره. فتثور في أنحاء روحه عاصفة هوجاء تزعزع عروش الحكام وتتزاور عن مواطن المحكومين، كالزوبعة القاصفة الهزجة تهشم أعالي السرح، وتعجز عما دونها، هؤلاء يسيئون إلى المذهب أكثر مما يسيئون إلى المجتمع، لأن للجمعيات البشرية مدخراً واسعاً من الملوك والأمراء، ينفد هؤلاء الممرورون قبل أن ينفذ جمعهم.
منذ بدأ القرن العشرين أي منذ عام 1901 هل تعلم كم ضحايا هذه الفوضى الكاذبة؟ ثمانية عشر من الملوك والحكام وكبار رجال الأمم، نذكر من هؤلاء الملك همبرت والد ملك(20/37)
إيطاليا الحالي، فقد قتله إيطالي يدعى بوسكي جاء من أمريكا لقتلنه خاصة، إذ أطلق عليه رصاصات من مسدسه، ثم الرئيس ماكنلى قتل في مدينة بافللو من أعمال الولايات المتحدة، إذ جاء إليها في شهر سبتمبر عام 1901 لحضور معرض الاتحاد الأمريكي، وفي غضون المدة التي لبثها بالمدينة دنا منه يوماً أحد البولانديين المتجنسين بالجنسية الأمريكية وقد خبأ المسدس تحت ضمادات كاذبة موضوعة على يده اليمن بحيث يظن الناظر إليها أن اليد مكسورة أو مقطوعة فعطف عليه الرئيس رائياً لحالهن غير عالم بخافية أمره، ماداًَ يده لمصافحته فلم يكن من البولاندي إلا أن مد له يده اليسرى وأطلق عليه من المسدس المختفي بين ضمادات يده اليمنى فقتله، أما مقتل الملكة دراجا والملك اسكندر الثاني ملك صربيا فقد كان أنكر من كل ذلك وأشد هولاً، ذلك أنه في عام 1903 دخل إلى القصر ثمانون ضابطاً من الثائرين الكائدين والمسدسات بأيديهم ولما بلغوا منامة الملك والملكة كسروا بابها ودخلوا عليهما فوجدوهما في أثواب النوم فأطلقوا عليهما عدة رصاصات سقطا منها صريعين وقد وجد في جثمان الملك ثلاثون رصاصة أما زوجته دراجا الحسناء فقد مزقها الرصاص كل ممزق.
ولعل القراء لم ينسوا بعد مقتل جورج الأول ملك اليونان فقد وقع في التاسع عشر من شهر عام 1913 وكان يتمشى في أسواق سلانيك وقد احتلها اليونان في الحرب البلقانية الأولى فهاجمه يوناني مجنون وأطلق عليه الرصاص فنفذ من ظهره ومات لساعته.
هذا وأما الفوضوية في الإسلام فسنفرد لها مقالاً آخر إن شاء الله.(20/38)
جرجي زيدان ك
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
مات في الشهر المنصرم (يوليه) جرجي بك زيدان منشئ مجلة الهلال ومؤلف تاريخ آداب اللغة العربية وتاريخ التمدن الإسلامي وسلسلة الروايات التاريخية وغير ذلك من المصنفات والرسائل، وقد كان بودنا أن لا نكتب عنه الآن ولما يمض على وفاته إلا بعض شهر لأن عهدنا به مازال حديثاً فقد لا نخلو من تحيز شديد له أو عليه، وقد لا نستطيع أن نجله الإجلال الذي ربما كان أهله، أو نستصغره الاستصغار الذي قد يستحقه، ولسنا على يقين من أن الناس سيذكرونه بعد عام أو عشرة، لأن مر الأيام يجرد المرء مما ليس له، ويعريه مما ألبسته الشهرة وكساه الوهم، فليت شعري ماذا يسلب الزمن هذا الرجل بعد دورة أو دورتين، هذا ما أتمنى أن أعرفه لو كان إليه سبيل، فقد أريت نفراً من الأدباء كان الناس يتفخمونهم ويكبرونهم ويكاد بعضهم يجن بهم جنوناً، قد طويت اليوم صحائفهم وشغل الناس بسواهم من الناشئين غير أن هذا ليس خليقاً أن يمنعنا من تقدير عمله تقديراً لا ندعي أنه في الصميم من حبة الصواب ولكنه غاية ما يسعه الطوق ويبلغه الجهد، وليعذرنا القارئ إذا رآنا أصرح مما يتوقع ولا يستعجل باتهامنا ورمينا بسوء القصد بيد أنا عاذروه إذا حك في صدره شيء من ذلك لأنه لم يسبق له بنقد سير الرجال عهد.
لم يكن زيدان عظيماً ولا فحلاً من فحولة الكتَّاب ولا من أصحاب المبادئ ولا من ذوي البسطة في العلم والرسوخ فيه، وإنما غاية ما نستطيع أن نقوله عنه أنه كان من أرباب الاجتهاد مطبوعاً على العمل كثير الدؤوب عليه، هذا فضله وتلك مزيته في رأينا، على أنه فضل يشاركه فيه سواد عظيم من الناس، وإنما ظهر زيدان دون غيره ممن يماثلونه في هذه الصفة - وهم عديد الرمل في كل قطر - لأنه جعل الكتابة حرفة ومرتزقة ولولا ذلك في تقديرنا لعاش ولم يكترث له أحد ومات ولم ينعه أحد إلا آصرته وعارفوه، ويخيل إلينا أن زيدان لو ضاع منه مفتاح مكتبته لما عرف كيف يملأ صحائف هلاله!.
وليست مؤلفاته من الإبداع والحسن بحيث تصبح عندنا في مرتبة آبائنا وأحبابنا وتجاربنا لما يتجلى فيها من سعة الروح التي تكاد تلتهم الدنيا وتساوي العالم الذي تصوره! كلا! ليست كتب زيدان من هذا الصنف وليس زيدان في الحق إلا رجلاً من الأوساط لم يرفعه(20/39)
الذكاء وقوة الذهن وسعة الروح إلى مرتبة العظماء والفحول، ولم يهبط به الغباء والبلادة إلى درجة العوام والغوغاء. ولكنه وإن لم يكن من عامة الناس فإنه من عامة الكتاب عبارة ومن سوقتهم لفظاً.
وهذا يدعونا إلى الكلام عن الأسلوب فقد كان المرحوم زيدان وغيره من الكتَّاب الأحياء يرون في ذلك رأياً لا يخلو من اعتساف ولا يبرأ من مباينة لوجه الصواب، ذلك أنهم يقولون حسب الكاتب أن يفضي بمعاينة إلى القارئ، فإذا أشرت إلى سوء اختيار اللفظ المراد به العبارة عن المعنى وتعقيد التركيب وركاكة الكلام سخروا منك وقالوا قد كان لك أن تنعى علينا ذلك وتعيينا به لو أدعينا الأدب ولكننا قوم علماء نشرح مسائل العلم ونجلى غوامض الفلسفة، وليس علينا أن تتجلى الفصاحة في كل لفظة من منطوقنا وتتمثل البلاغة في كل فقرة من فقرنا، تلك صناعة الأدباء وذلك ديدن الشعراء وأين نحن منهم وأين هم منا وما كنا لنشوش تآليفنا ونعميها بتكلف الرشاقة والتأنق ونحن أهل شرح وتبين.
هذه خلاصة رأي زيدان يرحمه الله وأنصاره في الكتابة والأسلوب ولو أنهم كانوا أعمق نظراً وأدق فكراً لتبرؤا مثلنا من هذه السخافات الفاضحة والحماقات الشديدة التي اكتظت بها مؤلفات الكتاب لهذا العهد. ذلك أنهم حسبوا الأسلوب ثوباً للمعني وزينة لا جسماً حياً له ارتباطه به كارتباط الزوج بالجسم يضعف بضعفه ويقوي بقوته وظنوه خلاعة ورقة لا أحكاماً ودقة ونسوا أن العبارة إذا اختلت وأخذ الضعف والعي والركاكة والاستبهام بمخنقها نبا عنها الفهم وسئمتها الطباع وأعرضت عنها القلوب لأنه لا معنى من غير لفظ ولا يسلم إلا بسلامة اللفظ وغلا فسدوا ختل وضاع في تضاعيف التقيد وأتعب الغائص عليه الطالب له.
ولسنا نريد أن يكتب الفيلسوف والعالم والمؤرخ والأخلاق كما يكتب الأديب والشاعر والروائي ولا أن يذهبوا إلى فخامة الكلام وجزلته على مذهب العرب القدماء ولا أن يستعملوا ألفاظاً بأعيانها وعبارات معلومة لا ينبغي أن يعدوها أو يستعلموا سواها ولا أن يتركوا المألوف إلى الدارس ولا السهل إلى المتوعر ولا إن يرجعوا إلى عنجهية البادية وخشونة الأعراب ولا أن يتظرفوا بألفاظ مختارة لينة المكاسر حسنة المنطوق والمسموع، ولا أن يحوكوا الألفاظ على حسب الأماني ويخيطوا الكلام على قدود الخيال، ولا أن يأتوا(20/40)
للأشياء من بعد ويطلبوها بكلفة ويأخذوها بقوة لتملتئ الأسماع وتخلوا الطباع، وإنما نريد أن تكون ألفاظهم مهذبة وأساليبهم واضحة وديباجتهم مشرقة وأن يعبروا عن معانيهم بأجلى العبارات ويفصحوا عن أغراضهم بأبين الألفاظ وأن لا يخرجوا عن أصول اللغة وقوانينها حتى لا يتكلف القراء شططا ولا يقاسوا عنتا، فإن فساد التعابير مضيع للمعاني كخشونة الألفاظ وجفوتها - وليست البلاغة بمنافية للسهولة ولا العمل على جودة الألفاظ وسلاسة الكلام وصحة التأليف بمستدع للتقعر بمعنى الكلام والتلمظ بحوشى اللغة. فأما أن يطلبوا صحة المعنى ولا يبالون حيث وقع من هجنة اللفظ وقبحه وشناعته فذلك ما نأخذهم به وننعيه عليهم، وعلى أنى لا أدري كيف يستقيم المعنى وألفاظه مرتبكة ومبانيه مضطربة، هذا ولغة الكتابة في كل أمة غير لغة العامة وغير لسان التحادث والخطاب ولكنها لغة تناسب رفعتها رفعة المعاني وشرف العقل ولا تكون كذلك حتى ينفى الكاتب عنه هذه الألفاظ الوضيعة المضحكة والعبارات القذرة السخيفة. وأحر بمن يكتب تاريخ أدب اللغة ان لا تعلق بعبارته ركاكة ولا يرتمي عليها للابتذال ظل ما.
وليست مؤلفات زيدان إلا فهارس لا تنقع غلة ولا تبل أواما ولا تفيد المطلع عليها إلا كما تفيده الأخصاآت، وليتها بعد ذلك سلمت من معرة الخطأ وخلت من الغلط الفاحش الذي يرجع إلى الإهمال والعجلة. فلا هي جامعة فيرجع إليها عند الحاجة ولا صحيحة فيعتمد عليها ويوثق بها وكذلك ليست رواياته بأرفع مرتبة من سائر تصانيفه وتواليفه فكثيراً ما تجد القصة فيها مشوشة مضطربة لأنه لم يتولها بروية ولم يتعهدها بنظر ولا تدبر وذلك شأنه في كل شيء ولو كان زيدان ذا تؤدة وأناة لما استطاع أن يخرج لقرائه هذا العدد الكبير من الكتب والروايات. على أن ولترسكوت كان سريعاً وكانت كتابة بعض رواياته لا تستغرق أكثر من أسبوعين ولكنه كان ذا سليقة وزيدان ليس له طبع يحور إليه ولا سيلقة تخدمه ولذلك تراه لا يحال أخلاق أبطاله ولا يشرح لك شخصيتهم فعل كبار الروائيين ومجيديهم. ولست أرى فرقاً بين كثير من أبطاله لأنه لم يعن بتمييزهم كما لم يعن بالقصة وكما لم يمن باللغة.
على أنا لا نجحد الرجل فضله ولا ننكر اجتهاده وكده ولكننا آثرنا قول ما نعتقد أنه الحق في تقدير أعماله وقد مضى الرجل لسبيلخ فرحمة الله عليه وألهم آله الصبر والسلوان.(20/41)
(البيان) هذا رأي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في المأسوف عليه جرجي زيدان بك ونحن فلا نستجيز لأنفسنا اليوم بأية حال أن نصدع برأينا على أننا لا نرى ثمة فائدة في ذلك وقد مات الميت فليحيى الحي وكل ما في مكنتنا أن نقوله الآن إنا نتأول في رصيفنا الفاضل أميل زيدان خيراً كثيراً ونرى فخراً لمجلاتنا العربية أن يشتغل فيها شاب دارس متعلم مثل أميل زيدان وقد شاهدنا آثار فضله ودلائل علمه وأدبه في العدد الأخير الذي ظهر من مجلة الهلال ونود لذلك الود كله أن يقبل قراء العربية على الهلال ويعلموا أنهم سيطالعون منه موضوعات هي نتاج الدرس وثمار العقول وأن الهلال اليوم إن لم يفضل نفسه بالأمس فليس بدونه.
أما المأسوف عليه جرجي زيدان بك فقد كان بجده ونشاطه قدوة يحتذى ويحسبه أن قد سود نفسه بنفسه وإن الأيام لا تنجب من أمثاله كثيراً صنع الله له وحقق آماله في خليفته وآمال عشاق العربية.(20/42)
في عالم الحرب
كلمة تمهيدية
الآن تسخر الطبيعة من الإنسانية المهذبة وتهزأ، والآن تتقهقر مدينة العقل أمام وحشية الغريزة، هنا يتوارى قانون التضامن الإنساني إزاء قانون حفظ الذات، واليوم تختفي الصفحة البيضاء من تاريخ العقل الإنساني وحسناته، حيال الصفحة السوداء من ويلات مخترعاته ومبتكراته، واليوم تتجلى سيئات الكيمياء والميكانيكا وجرائم البخار والكهرباء.
كم من عقول كبيرة انصرفت عن خدمة الإنسانية العامة إلى خدمة السياسة وأفانين الحرب من يوم أن صنع شوارتز أول بارودة في التاريخ.
لقد كانت هذه البارودة الأولى هي أول أبواق السياسيين والحربيين، هي المزية الفذة التي يتسامون بها في الجمعية البشرية على الفلاسفة والكتاب والمفكرين، هي التت جعلت صوت المفكرون صوت السياسي، إذ كان الأول يستمد سلطانه من صرير قلمه، وكان الثاني يستمد صوته من صوت المدفع!.
لقد كانت هذه الحرب الرهيبة النتيجة المتوقعة من قانون التسليح، ذلك القانون الذي امتص أكبر قسط من ثروة الغرب، وعطل أكبر جزء من أذهانه، هو الذي جعل الأمم الغربية تبدد أذهان الملايين من أفرادها، لتربي فيهم على نفقتها حيوانية حفظ الذات، وتنمى فيهم الروح الحربية التي تريدها!.
جدت الرب فاستطار بلاؤها إلى كل بقاع العالم وأقطاره، واستحصد شرها في كل مدائنه وبلدانه، إذ كانت الرابطة الوحيدة التي تربط ممالك العالم وأممه هي التي التجارة. والنازلة التجارية التي تنزل بلندن أو برلين لا تلبث أن ترى آثارها في القاهرة وكلكتا.
وبعد فليس من وراء هذه النكبات الكبرى التي لحقت بالعالم الإنساني من هذه الحرب الخطيرة إلا كلمة واحدة لا تزال تضطرب في جوف المستقبل - هي أما أن يقضي على قانون التسليح وبذلك تتخلص الإنسانية آخر الدهر من كوارث الحرب وأما أن يحيا ثانية فيعود أشد مما كان همة ونشاطاًَ وهكذا كلما خطت الإنسانية بفضل فلاسفتها ومفكريها في طريق الكمال الاجتماعي خطوة واحدة عاد السياسيون والحربيون فتقهقروا بها خطوات.
مخاوف الكتَّاب قبل الحرب(20/43)
كان كتَّاب الغرب من السلميين والاشتراكيين يرون الاستعدادات الحربية الهائلة التي تعدها الدول الأوروبية، والمنافسات المستمرة في جندياتها، والتحسينات العديدة في بحرياتها، والاختراعات السرية والجهرية في مراكبها الهوائية ومدافعها ومفرقعاتها - كانوا يرون كل هذا فترجف قلوبهم من الصدمة الهائلة التي ستصطدم بها أوروبا من جراء هذا التسليح الدائم، وكانوا يلمحون أشباح الحرب المخيفة ماثلة أمام أعينهم تنذرهم بالويل المقبل. ولذلك جعل كثيرون من أكابر كتَّاب الغرب ينصحون أوروبا بترك التسليح، والتخفيف من الاستعداد الحربي أو إلغائه جملة واحدة، والعيش في ظلال السلم وأفياء الوئام، ولكن أخفقوا هؤلاء جميعاً في إرشاد المغرب إلى الاتفاق يداً واحدة على إطراح التسليح، لأن هذه إرادة العسكريين من دعاة العظمة التوتونية وإرادتهم فوق كل شيء.
ومن بين الكتَّاب الأعلام الذين كانوا يتوقعون هذه الحرب الطاحنة الكاتب الإنجليزي المشهور مستر فردريك هارسون، فقد كتب في فاتحة العام الماضي مقالاً شائقاً في المجلة الإنكليزية - وهي من أرقى مجلات الإنكليز - عن ألمانيا نقتطف منها النبذة الآتية:
قال فردريك هارسون: كلنا يعلم أن السلم منذ سنين هو الحالة التي يجري عليها التقدم الألماني، سواء من الوجهة الحربية أم من الوجهة التجارية، ولاسيما في البحرية، وكلنا يعتبر ذلك قضية مسلماً بها لا جدل فيها ولا مراء فإن تسعين في المائة من الشعب الألماني يريد أن يعيش في ظل السلم ما ظلت المصالح الألمانية غير معرضة لسوء وكذلك تعمل الحكومة الألمانية على بقاء السلم في الحالة الحاضرة هذا والإمبراطور يدأب مخلصاً في إزالة مخاوف جيرانه ووساوسهم حتى تضطره الشدائد إلى الكلام على أن العشرة الباقية من مجموع الأمة هم الذين يدفعون بألمانيا إلى سبيل صعبة لا نتيجة لها إلا الحرب المحتمة.
ثم انتقل الكاتب إلى بحث الأسباب التي تجعل طمع الألمان في التوسع أمراً لازماً لا مرد لألمانيا عنه إلا الهزيمة، وإليك ما قال:
هذه مشكلة دولية قامت من عهد بسمارك أي منذ خمسين عاماً على التقريب - إن كل سياسة أوروبا الآن تدور حول الارتقاء العظيم الذي تخلقه ألمانيا في الحرب والصناعة والعلم - وحول انحصار ألمانيا بين سبع ممالك مختلفة - ونصيبها الضعيف من الشواطئ(20/44)
البحرية - وتكاثر عدد سكانها المطرد - وملاصقتها من كل الجهات يجيران معادين لها أو مرتابين في سلوكها - وفوق كل ذلك تطرفها في الزهو بنفسها ومغالاتها في طمعها وظمئها للتوسع في التملك.
إن أمة كبيرة كهذه تتألف من 65 مليوناً من النفوس، وتملك مثل هذه المصادر العظيمة في السلم وفي الحرب: وتشعر بمثل هذا الزهو المتطرف، وتحس من قوتها بهذا العجب المتعجرف، تجد نفسها محصورة في مضطرب. ضيق لا يتسع لارتقائها واطراد عدد سكانها، ولا يكفي لرغباتها وآمالها، في حدود ساعد على خلقها التاريخ والجغرافية والظروف، في حدود تحرسها مخاوف جاراتها التي دونها في البأس ولا تحرسها عداواتهم.
هذا هو البركان المتغلغل الثائر المصطخب الذي ترتكز عليه سياسة أوروبا.
وختم المستر هارسون نبوءته بالكلمة الآتية: إن أوروبا والمدنية في خطر واقع من حب التوسع الألماني - إن أمامنا أزمة هائلة، وإن الذين يعمون عنها أو يتعلمون سيتحملون جريرة نكبة من أفظع نكبات التاريخ.
وكذلك كل ما حذر.
الأسباب الحقيية للحرب الألمانية الأوروبية
كتب أحد كبار ساسة الإنجليز مقالاً هاماً في هذا الصدد آثرنا تعريبه لما حوى من دقة البحث وهدوء البحث وهدوء الاستنتاج وحصافة الرأي والتفكير، والغوص على الحقائق، إذ كان الكاتب من الذين قضوا السنين العديدة مجاوراً لوزارات الخارجية في جميع عواصم الغرب الكبرى، والمطلعين على خفايا السياسات ودقائقها: قال
إن الحجة الواهية التي تذرعت بها النمسا لإضرام نار هذه الحرب - وهي أن صربيا لم تصلح ما أفسدت بمقتل الأرشيدوق فرانسيس فرديناند وزوجته، لابد من أن تطرح جانباً إذا أردنا أن نبحث عن الأسباب الحقيقية الصادقة.
أي شأن كبير لصربيا، حتى تخاطر النمسا وألمانيا بكل شيء حتى بكيانهما للفتك بها؟ وما هي الفائدة الجلى التي تنتظرها روسيا من صربيا حتى يسارع القيصر إلى لم شعث جيشه واستدعاء جنده من أطراف قيصريته، ولم تكن أطلقت بعد بارودة واحدة؟.
تلك هي الأسباب التي يجب أن نسألها إذا أردنا أن نفهم العوامل التي ولدت هذه الحرب،(20/45)
وإليك الجواب عليها.
إن صربيا وإن كانت مملكة صغيرة إلا أنها مملكة ذات بأس ومنعة. وهي الحائل الذي بين النمسا وبين بلوغها بحر إيجه إذ كانت سلانيك وهي أكبر ثغور البحر الأبيض المتوسط تبعد بنحو ثلاثمائة ميل عن بلغراد عاصمة الصرب الواقعة على حدود الإمبراطورية النمسوية، ومن ذلك يتبين أن أية دولة عظيمة ذات مصالح في بحر إيجة أو في البلقان بجملته وفي آسيا الصغرى يجب أن تقبض بيدها على هذا الثغر وإن الطريق إليه يجب أن تكون موطأة ممهدة.
هناك دولتان عظيمتان وإن شئت فقل دولة عظيمة وأخرى تتألف من مجموع دولتين عظيمتين - كل منهما ذات مصالح عظيمة في آسيا الصغرى وبحر إيجة، أولاهما روسيا والأخرى ألمانيا والنمسا مجتمعتين، وقد ظلت هذه الدول عاجزة عن بلوغ أمنياتها من تركيا حتى عام 1908 تجاهر برغائبها ولا تقدم خطواتها، ومنذ خلع عبد الحميد بدأت خريطة البلقان تتغير وتتبدل، وطفقت الفتن والهزاهز تعمل أبداًَ على تغييرها.
ولقد كانت تركي من قبل الانقلاب الدستوري نهباً مقسماً بين الماليين الغربيين وجلهم من الألمان، وقد جعل الألمان يأخذون الامتياز اثر الامتياز ويظفرون بالاتفاق بعد الاتفاق وأهم هذه الامتيازات سكة حديد بغداد، يراد بها أن تجري من القسطنطينية إلى بغداد فثم إلى الخليج الفارسي فتداني الأملاك الإنكليزية في المحيط الهندي، وكان من وراء شركة هذه السكة الكبرى المصرف الألماني، وهو من أعظم بيوتات المال في الغرب أجمع، وقد أخذ على عاتقه أن يسعف المشروعات الألمانية فيما وراء البحار كل جهده.
الأسباب المالية
كان مؤسس هذا المصرف الكبير جورج فون سيمنس وهو الذي ظفر بعقد الاتفاق على مد سكة حديد بغداد، ومديره الحالي هو أرثر فون جوينر هو الذي وكل إليه إتمام هذا المشروع، وقد أتوا حتى الآن على تشييد نصف الطريق أو كادوا، وقد أنفق إلى الآن عليه من الأموال الألمانية بين ستة عشر مليوناً وثمانية عشر من الجنيهات.
ليتدبر هذه المسألة أولئك الذين يتوهمون أن ألمانيا والنمسا اندفعا إلى الحرب يسوقهما الثأر لدم الأرشيدوق؟ إن المصرف الألماني يملك كل سكك حديد برلين وكل مستخرجات الزيت(20/46)
في رومانيا، ويدير شركة الاستصباح الكهربائي الألمانية في بلاد الأرجنتين وشيلي وأراجواي، وقد شرع فون جوينر منذ أشهر في اتخاذ التدابير لاحتكار الواردات من البترول لألمانيا حتى يقضي بذلك على جزء من ثروة الشركة الإنجليزية التي كانت تقوم بتوريده، وتقدر جملة الودائع في المصرف الألماني بنحو 85 مليوناً عدا الفوائد الذي يجتنيها من مصادر أخر.
وهرفون جوينر هذا من أصدق بطانة الإمبراطور وأكرمهم عنده وأعظمهم في أهل مشورته، يقول الكلمة فتصبح قانوناً نافذاً في كل المسائل المالية التي تتعلق بالحركة الاقتصادية في ألمانيا ولو قال مثلاً للإمبراطور أن سكة حديدية يجب أن تجري إلى بحر إيجة تحت رقابة الحكومة الألمانية النمسوية من أجل سلامة المصالح الألمانية في آسيا الصغرى، لاندفعت حكومتا ألمانيا والنمسا (ومركزهما معاً في برلين) إلى اقتحام كل عقبة تقوم في سبيل هذا الرأي وإزالة كل حائل دون هذه السكة التيوتونية.
وإني لأقول عن معرفة شخصية أن أرثر فون جوينر قد قال هذه الكلمة فأمن عليها الآخرون.
ويجب أن لا ننسى أن لألمانيا في آسيا الصغرى غير السكة الحديدية مصالح أخرى وإني أقدم للقراء خلاصة شروط الاتفاق الذي عقد في مارس سنة 1911 بين الشركة والحكومة العثمانية، ولم يكن نشر قط حتى الآن.
تتكفل الشركة بحفر الفرضات وإيجاد المعدات اللازمة لرسو السفن في الأفاريز وشحن البضائع وإنزالها. . . ويجوز للشركة كذلك أن تجري سفنها في الدجلة والفرات وللشركة أن تنتفع بما تعثر به من مناجم الفحم أو النحاس أو غيرهما على شريطة أن لا يعدو عن بقعة من الأرض قطرها عشرون كيلو متراً حول الخط الحديدي، ولها كذلك أن تتخذ ما يحسن لديها من قطع الأشجار من الغابات المجاورة، ويباح للشركة (على شريطة أن تدفع إلى الحكومة العثمانية 25 في المائة من أرباحها) أن تشيد في الأراضي المباحة لها مخازن للسكة الحديدة ومصانع لتشغيل العمال، وأن تبني مخازن لادخار القوة وسيكون لها الحق في احتكار الآجر والبرانج التي تبنيها في الأرض المباحة لها، وأن تشيد مصارف وجداول وتصل بين بحيرتي بيشيتير وقرافيرون وبين سهول قونية وقرمان. .(20/47)
وكانت حكومة ألمانيا قد بعثت سنة 1903 جماعة من مهرة المهندسين لاستجلاء الأراضي التي ستمتد فوقها السكة الحديدية وعند عودتهم أرسلت اثنين منهم إلى الولايات المتحدة وكندا للإطلاع على الطرق الاستعمارية التي تتبعها هناك شركات الخطوط الحديدية.
يتبين لك من ذلك أن سكة حديد بغداد والمشروعات الكبيرة الملحقة بها لإيراد بها القضبان الحديدية ليس غير، بل هي تتضمن القضبان والقاطرات والقناطر والمعابر والقوارب البخارية النهرية والآلات البخارية العديدة الأشكال والآلات الكهربائية المختلفة الألوان وكل هذه تجلب من برلين وفي مقابلها سينتفع الألمان بمناجم النحاس والفحم، وشاسع الغاب ومترامي الأجم وبترقية التجارة في تلك البلاد الواسعة.
العوامل الصناعية
لا يكون من خيبة مشروع سكة حديد بغداد إلا ارتباط التجارة الألمانية كلها، ولسنا نعني بخيبتها إلا معاكسة روسيا لها وقد تجلى ذلك في العام الماضي ولذلك اختطت الخطط لزيادة 000ر300 جندي على الجيش، حتى تكون قوة هذه الإدارة الحربية الهائلة ثمانمائة ألف في السلم فكلف ألمانيا ذلك خمسين مليوناً من الجنيهات، ولكن كان إنفاقها أمراً محتماً، لأن المصالح تطلب ذلك وحسب، ولما أظهرت روسيا انتباهها هذا الاتفاق، عدت إنجلترا عدوة لها، فكان من ذلك أن أصبحت ألمانيا ولأسطولها المكان الثاني في العالم.
ولننتقل إلى العوامل الصناعية، من ذا الذي سمع باسم أوغست ثيسن؟ هو المعروف في أرضه بكارنجي الألماني أو الملك ثيسن، له في مناجم الفحم والحديد الخام ثلاثمائة وعشرين في المائة مما كان قبل وازداد منتوجها من الفحم ضعفه، وليس من وراء هذه المقادير العظيمة إلا أوغست ثيسن هذا. إذ يملك في ألمانيا مناجم الفحم والطواحين والمين والأفاريز، وفي فرنسا عدة من مناجم الحديد، وفي روسيا المصانع العديدة، وله فروع في كل مملكة من البرازيل إلى الأرجنتين إلى الهند، أنشأ النقابة أثر النقابة، وبذل من جهده ما لم يبذله ألماني غيره في استعمال طريقة الاحتكار الأميركية، والتوسع الألماني في آسيا الصغرى هو كل أمنيته، وقد صرح ثيسن بأن المصالح الألمانية في آسيا الصغرى يجب أن تكون آمنة من كل سوء مهما يتكبدون من ذلك ما يتكبدون.
ومن روءا ثيسن عصبة كبرى من الماليين الألمان، هاك مثلاً أميل فون راتينو مؤسس(20/48)
شركة الكهرباء العمومية وصاحبها، وهي تقوم بمائتي مليون من الجنيهات، وراتينو وئيسن وجوينر هم في الصف الأول من ملاك الألمان ويدب أن نضيف إليهم رابعاً هو الفرد بالن صاحب شركة همبرج أمريكا الملاحية، وهناك غيرهم من سادة المال يعدلون هؤلاء في القوة والسلطان وإن ليس في الاسم والشهرة، وهم وإن كانوا لا يعرفون في بلاط برلين، لأنهم ليسوا بعد إلا تجاراً وليسوا من الأشراف، إلا أنهم المتسيطرون على الإمبراطورية الألمانية وهذه ولا ريب المتيسطرة على حكومة فينا.
وفي سنة 1910 عادت روسيا إلى المناقشة في أمر آسيا الصغرى، فكان ذلك داعياً إلى تلك المقابلة التي دارت بين القيصر والإمبراطور وظهر أن روسيا مقتنعة بتأكيدات حكومة ألمانيا لها من أنه مصالح تجارها في آسيا الصغرى محترمة، ولكن لم يكن كل منهما في قلبه راضياً عن سير الآخر وكل من له علاقة بخارجيتي برلين وبطرسبرج كان يرى أن الحرب لاشك واقعة بين الدولتين أن عاجلاً وإن آجلاً، إذ أصبحت تلك الأراضي الزراعية ميدان مصالح صناعية مختلفة للروس لفتت إليها أنظار الحكومة الروسية فشرعت تحمي هذه المصالح، وانتهت الفتن التي أثارتها دويلات البلقان بإعلان الحرب في خريف 1912 وضاعت في أثرها البقية الباقية لتركيا في أوروبا، وكانت روسيا ولاشك هيب المثيرة لهذه الفتن.
وكانت ألمانيا مزمعة الحرب في العام الآتي ولكن جاءت حادثة الأرشيدوق فعجلت بنشوبها.
هذه كلمة مجملة عن الأسباب الصناعية والمالية التي جعلت ألمانيا تقذف بنفسها في مضطرب هذه الحرب ورهجها، ولا ريب في أن هذه العوامل ليست كل شيء في أسرار هذه الحرب الكبرى وإنما نظر الكاتب إليها من جهة واحدة لا تقل عن الوجوه الأخرى من جنسية وسياسية وفلسفية وتاريخية وجغرافية.
(وبعد) فمن أراد التوسع في معرفة أسرار هذه الحرب وخافياتها فليقرأ ما سنكتبه عن تاريخ الحرب في صحيفتنا الأسبوعية عالم الحرب التي ستصدر بعد بضعة أيام حافلة بأبدع ما يحفظ عن الحرب من الشذرات اللذيذة والطرف والمعلومات الغريبة والأسرار الدقيقة والمذكرات الخصوصية والروايات الخطيرة والصور المختلفة من وقائع وخرائط(20/49)
مدائن واختراعات وصور أعاظم الرجال الذين يشتركون في هذه الحرب، وأما عن تاريخ الحرب فسنفرد له قسماً من الصحيفة كبيراً سيكون كتاباً جامعاً يتناول حركة المدنية الأوروبية في نصف القرن الأخير من أدب وفلسفة وتربية وسياسة وتسليح واختراع فنلفت إليه الأنظار.
راجات الهنود
يقاتل الآن سبعون ألفاً من زهرة جيوش الهند وأبسل شجعانهم جنباً لجنب مع الإنكليز وعلى رأسهم ستة من عظماء المهراجات يمشي في مقدمتهم السير برتاب سنج مهراجا جودبور، وقد كان تطوع هذا الشيخ خليقاً بالفخر والإعجاب فقد أبى إلا أن يمشي في رفقة الجيش ويركب الأوقاينوس ويمتشق السيف ويلبس لباس الجندي وإن كان شيخاً مسناً قد جاز السبعين أو كاد وقد اصطحب حفيده وهو فتى لم يفت بعد حدود السادسة عشر، والسر برتاب من أشهر حكام الهند وأوسعهم ذكراً وأعرضهم جاهاً كان صديقاً حميماً للملكة فيكتوريا كريما عليها يكاتبها الحين بعد الحين ويبدي لها سديد آرائه في مهام الإمبراطورية الهندية وشؤونها.
وقد اكتتب مهراجا ولاية برودا بجنوده وكنوزه وأمواله، وهو من أقوى أمراء الهند وأوسعهم ثراء. حارب أجداده الإنكليز في الثورة الهندية وهو يفخر بأنه اليوم ينصرهم، يحكم ولاية أكبر من مقاطعة غال ويقدر دخله الخاص بما يربو على مليونين في العام.
ومن مشهوري المهراجات مهراجا ميسور اكتتب للحرب بخمسة ملايين روبية أي بنحو من 000ر330 من الجنيهات لتنفق في سبيل البعثة الهندية. وتحتوي ولايته ستة ملايين من الهندوس ومنهم تخرج زهرة الجيش الهندي وصفوته.
وقد اقترح مهراجا جواليور وكذلك أميرة بهوبال إنشاء مستشفي بحري لإسعاف الجرحى وتكفل بجزء كبير من نفقاته. ولم تكتف حميته بذلك، بل تكفل بالمقادير الكبيرة من المال لمساعدة الحكومة الإنكليزية وبتقديم الخيول للجيش. وقديماً أظهر هذا الأمير الدلائل الكثيرة على كرمه وولائه وسماحتهن فهو الذي دفع إلى الملك جورج في حفلة التتويج ثمانية آلاف من الجنيهات لتصرف في سبل الخير تخليداً لذكرى ذلك اليوم، وهو الذي رافق الجيش الإنكليزي إلى الصين منذ إحدى عشرة سنة وأنشأ يومذاك مستشفى بحرياً لتضميد الجرحى(20/50)
وإبراء المرضى وهو من أشد حكام الهند نشاطاً وإطلاعاً وعلماً.
وعلى ذكر أميرة بهوبال نقول إنها التي زارت إنجلترا منذ عامين أو أكثر وقابلت الملك جورج والملكة ماري زوجته، وهي تحكم ولاية تبلغ مساحتها سبعة آلاف ميل مربع يسكنها مليون من النفوس ويعدها الإنكليز من أكمل النساء خلقاً وأرجحهن لباً ولها مكانة سامية في قلوب رعيتها.
ومن عظماء الأمراء كذلك مهراجا كشمير وقد رأس منذ أيام حفلاً حافلاً لا يقل عن عشرين ألفاً في مدينة سرنجار عاصمة ملكه فخطبهم خطبة بليغة مؤثرة انتهت باكتتابهم بآلاف من الجنيهات، وولاية كشمير من أكبر ولايات الهند وأحسنها حالاً وأكبرها صناعة وتجارة.
ولا ننسى كذلك مهراجا باتيالا وهو من المتطوعين للحرب، ولولاية باتيالا أثر من الإخلاص للإنكليز لا تمحوه الأيام. ذلك أنه في سنة 1877 لما انقضت الهند كلها على الإنكليز وثارت عليهم جنود السلك لم يكن من أمير تلك الولاية إلا أن امتطى صهوة جواده فركب إلى معسكر الإنكليز ووضع في ذمتهم لأجندة وحدهم ورجاله بل نزل كذلك عن كنوزه وأمواله.
وتختلف جيوش هؤلاء الراجات في البسالة والقوة والبأس. ولكن أكثرها يضم بين صفوفه أمهر الخيالة في العالم كله ويبلغ عدد هذه الإمارات سبعمائة إمارة تبتدئ في كثرة السكان بحيدر أباد إذ تحتوي ثلاثة عشر مليوناً من النفوس وتنتهي بإمارات صغيرة لا تزيد عن بضعة قرى حقيرة.
وتتألف البعثة الهندية في هذه الحرب من جنود الجركا وهم قوم شجعان بواسل، لا يصلحون لشيء غير الجندية والقتال، وهم من الجبليين سكان سفح الهملايا - وقد وصفهم ولي عهد ألمانيا يوماً بأنهم أبسل الجنود التي في حوزة بريطانيا يشبهون اليابانيين في ملامحهم وقصر قاماتهم.
مجاعة الباريسيين في الحرب السبعينية
كان الباريسيون المترفون يأكلون الفيران والقطط والكلاب - أنهيالهم على أكل لحوم الحيوانات المفترسة مثل الذئاب والحمر والوحشية والفيلة - غلاء الأسعار - ربح الجزارين.(20/51)
في حصار باريس الذي انتهت على أثره الحرب السبعينية اشتدت المجاعة بالباريسين المترفين وبلغت منهم شرة الجوع وقرم اللحم مبلغاً عظيماً حتى لم يبقوا ولم يذروا حيواناً مستأنساً ولا طيراً أليفاً إلا انهالوا على أكله بشره لا حد له - فأنشئت المذابح للكلاب والمجازر للقطط والفيران ومن لحوم الفيران كانوا يصنعون الفطائر، ولم يكن النوع السائد من هذه الجرذان إلا فيران المراحيض وكانت نهاية في السمن والضخامة وكانوا يقبلون عليها الإقبال كله ويقدرونها تقديراً كبيراً وإن كان بعض الباريسيين من المتغالين في الرقة والتأنق والظرف يتأففون من رائحتها الكريهة وكانوا يلتذون من لحم القطط المسلوق فلم تمض أيام حتى انتقلت كل قطة في باريز من الأسطحة إلى المقلاة.
وكانت الأسعار فاحشة. كان يتراوح ثمن الفأر بين خمسة غروش مصرية وعشرة والقطة السمينة البدينة الصغيرة تشرى بستين غرشاً مصرياً والكلب المصغر السمين يتراوح بين خمسين غرشاً ومائة وخمسين غرشاً تبعاً لحجمه وجودة نوعه.
وبلغت الحاجة إلى اللحم أشدها حتى أصبحوا يشترون إجراء الذئاب من حديقة الحيوانات التي في المدينة فكان يباع الرطل من لحمها بخمسين غرشاً ثم عمدوا بعد ذلك إلى أكل أكثر الحيوانات التي في الحديقة فكان أصحاب المطاعم يقدمون في قوائم أطعمتهم - في باب اللحوم - لحوم الإبل والياك وحمار الوحش والفيلة.
وكان في الحديقة فيلان عظيمان اشتراهما رجل إنكليزي - وكان جزاراً مشهوراً - دفع فيهما ألفاً وثمانين جنيهاً وجعل يبيع الرطل من لحمهما من جنيه إلى جنيه ونصف وكان يبيع القطع من خرطوميهما وسوقهما بأفحش الأثمان.
وعرض كذلك للبيع وعلان من الأوعال الهندية كانا في الحديقة فاشتراهما بأربعين جنيهاً وزوجان من غزلان أميركا الشمالية دفع فيهما مائة جنيه وغير ذلك من الحمر الوحشية والجواميس والدببة والذئاب فكان يدفع في شرائها المبالغ الباهظة ويربح في بيعها الأرباح الطائلة.
ومن أكبر صفقاته حمل صغير يزن نحواً من خمسة وعشرين رطلاً غنمه جندي فرنسي من الألمان فاشتراه بعشرين جنيهاً ولم يلبث أن باعه بأضعاف ذلك.
مذكرات سرية عن الإمبراطور غليوم(20/52)
وصيفة من وصائف الشرف لبثت زهاء عشرة أعوام في بلاط برلين، تحدث العالم عما رأته من غرائب أخلاق غليوم وشواذ نوادره، وأسرار حياته، وبدائع جنونه وعجائب أموره - وهي حقائق ثابتة لا يشوبها شائبة من الكذب أو التلفيق أو الاختلاق، ولا يمازجها أثر من التخيل أو الزيادة أو التوسع أو الأطناب.
والكاتبة الوصيفة من الكونتسات، أعني من السيدات النبيلات - تقول في مقدمها ليس لي مأرب شخصي من هذه المذكرات ولا أسباب عندي في وصف ما رأيت من العيشة البلاطية وشهدت، فإذا كانت قد احتوت جملة من الغرائب واشتملت طائفة من المضحكات، وهدمت كثيراً من الآراء الثابتة عند القراء، وكشفت عن أسرار عجيبة هي على النقيض مما أصبح تاريخاً مقرراً مشهوراً، إذن فليذكر القارئ أن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال وإن التاريخ ليس إلا كذبة مزخرفة - ولست ذاكرة إلا الحوادث التي وقعت تحت عياني، أو التي استقيت من شهود ثقاة، وأما الحوادث التي وقعت قبل تتويج الإمبراطور فسأضطر إلى نقلها من أحاديث أهل البلاط ورواياتهم.
مولد الإمبراطور - ضعفه الشديد عند ولادته - الإمبراطور أعرج أكتع أصم - وكيف يخفى عن الناس هذه العيوب ـ.
هل هو طفل جميل؟.
فتكوريا
في الخامس عشر من شهر يونيه سنة 1888 عند الظهيرة، ولم تكد تمضي ساعة واحدة على وفاة الإمبراطور فردريك بدأ الملك الجديد يبحث في أوراق أبيه وأدراج مكتبته ولم يكن معه إلا رجل واحد هو فون نورمان، رئيس الحرس الإمبراطوري فلم يلبث أن أخرج من بين الأوراق الرسالة المتقدمة الذكر.
فلما كانت جنازة الإمبراطور الراحل سألت نورمان وماذا قال جلالته عندما اكتشف رسالة فيكتوريا؟.
أجاب. لم ينبس ببنت شفة. ولكنه أصفر قليلاً وقد أمسك بيده اليسرى مقبض سيفه وقد بدا عليه الاضطراب.
وكانت رسالة الملكة فيكتوريا مؤرخة (28 يونيه سنة 1859) أي بعد أن خرج إلى نور(20/53)
العالم أكبر أبناء الإمبراطور فردريك غليوم وزوجته بأربع وعشرين ساعة فقط.
ولد غليوم كما يولد أولاد أهل البسطة في الثراء لا كأولاد الملوك والأمراء، وروعيت في وضعه وجوه التوفير وأساليب الاقتصاد، تلقته قابلة واحدة وطبيب واحد من أطباء القصر بإشراف الأخصائي المشهور في ذلك العهد، المرحوم الدكتور مارتن وكان واقفاً كعادته مقطباً عابساً لأنه يجب أن تعلم أن الطبيب في ألمانيا يرى نفسه أرفع من أن يتلقى الوليد ساعة الولادة. ولا يأتي أبداً إلا في الأحوال الشديدة الخطر.
وكانت القابلة التي تولدت الأميرة فردريك غليوم هي مدام ستاهل وقد أصبحت اليوم عجوزاً ولكنها لا تزال تزور القصر إلى الآن ولذلك كنت أنتهز الفرص فأسألها عن أهم الحوادث في حياتها.
قالت (ما كادت الإمبراطورة تضع وليدها حتى جعلت تئن أنيناً مخيفاً وجعل الطبيبان يتهامسان وهما يفحصان جسمها الملقى على السرير مبهوتين (إن الإمبراطورة ستموت، إنها ستضحي التضحية الكبرى من أجل ولدها) وكنت ولا شك مضطرة إلى ترك الطفل هنيهة لكي أعينهما في فحصها، فلما أفاقت الإمبراطورة بعد قليل عدت فجثوت إزاء مهد الوريث ولكن لشد ما كان رعبي، رأيته ولم يفه بصرخة واحدة، ولا حرك يداً ولا رجلاً فجعلت أقول في نفسي (يا الله! أمولود صامت؟) ثم أشرت إلى الطبيب فجاء إلى وجعلنا نفحص المولود الجديد ولا أعلم كم لبثنا وطفقنا نستعين بكل ما في كتب الطب والولادة من الوسائل لإعادة الطفل إلى الحياة.
(ثم استرسلت القابلة تقول) فلما فرقنا من عمل قصارى جهدنا أخذت الصغير تحت ذراعي اليسرى وتناولت منشفة فبللتها. بالماء وطفقت أدلكه بها وأمرس بدنه في رفق وهدوء، غير حافلة بتألم الطبيبين من عملي هذا ولا آبهة لرعب من حولي، قلت في نفسي في سبيل الشيطان كل ما يطلبون من رسوم وتقاليد وآداب، هذه مسألة حياة أو موت وكذلك انطلقت في تدليكي آونة بيد ناعمة وأخرى بيد ضاغطة، حتى إذا كادت المدافع المعلنة مولد الطفل تفرغ من نصف المائة مدفع ومدفع - وإذا بصوت خافت ضعيف صدر من بين شفتى الطفل الصفراوين.
(لقد عادت إليه الحياة! وكذلك أنقذته من الرمس المقدر له) فسألتها (ولكن ماذا تعلمين عن(20/54)
يده وذراعه المشوهتين؟).
فأجابت ستاهل (لم نهتد إلى ذلك إلا في اليوم الثالث أو الرابع من ولادته فقد قلت الآن إننا كنا بادئ بدء في شغل برد الحياة إلى الأمير عن كل شيء، ولذلك لم يفكر أحد منا في فحص أطرافه وأجزاء جسمه حتى أن الأمير في اليوم التالي لما قدم طفله إلى ذوي قرباه وأصحابه وأصدقائه وأهل الأسرة المجتمعين في القصر، لم يلحظ أحد منهم أن بالطفل سوءاً ولكنا تبينا في اليوم الثالث أن الطفل لا يستطيع تحريك ذراعه اليسرى فعرض على الجراحين فاهتدوا بعد فحصه إلى أن مفصل المرفق كان ناتئاً عن موضعه، وأنت تعلمين أن ليس ذلك بالأمر الخطير في الطفل القوي المنتعش ولكن حالة الأمير غليوم كانت غير ذلك فإن الجزء الناعم حول المرفق كان مجروحاً جرحاً بليغاً وكانت العضلات ناتئة بارزة حتى لم يجرأ أحد محاولة جبر هذا العضو الناتئ كما هو المعتاد في مثل هذه الأحوال).
وكانت كثيراً ما تعيد على مدام ستاهل هذا القول وكانت تختم حديثها دائماً بهذه العبارات (ولقد كان رأيي أبداً أن ساعد الطفل لم يخرج صحيحاً من يد الطبيعة وكذلك كان جانبه الأيسر ضعيفاً، ولا يزال إلى اليوم على ضعفه. وفوق ذلك فكل من في القصر يعلم أنه وإن كان جلالته يمشي اليوم مشية النشاط والقوة، ويخطر خطرة ذي الشطاط والفتوة، فإنه يستعين على ذلك بيقظته واجتهاده وحيلته وانتباهه، ولو اتفق أن نسي جلالته التفكير في أمره إذن لرأيته يجر ساقه جراً، وكل آلامه وأوجاعه تجتمع في شقته اليسرى، ولو كان الأمير ولد قوياً تام الصحة منتعش البدن لقد كنا لا نلبث أن نهتدي إلى مرفقه وإذ ذاك لما كان يحول يومذاك حائل دون جبره.
ولكن قضت الظروف أن يكون جوابهم على رسالة الملكة فيكتوريا بالإيجاب وقد سمعت الإمبراطور يوماً والإمبراطورة ينتقصان من قدر الدكتور هنزبتر وينقدانه النقد الشديد لقوله في كتابه إن الجيش البروسياني لم يقبل يوماً فتى ضعيف الجثمان لا يليق بأن يصير فارساً معلماً جريئاً مثل غليوم وكان ذلك عقب ظهور كتاب هنزبتر الإمبراطور غليوم الثاني صورة من حياته في عام 1888 فبعد أن حذر الإمبراطور زوجته من وقوع الكتاب في أيدي أولاده استرسل يقول إن فلاسفتنا الألمان لا يعرفون لهم حدوداً سواء عليهم أجاءوا بالحقائق أم بالأكاذيب لا تخلو كتبهم من التشهير بأصدقائهم وهم لا يشعرون.(20/55)
ولكن يخفى الإمبراطور ذراعه الشوهاء تراه يدنيها من جسمه ويضع يده اليسرى فوق خصره أو على فخذه إن كان فوق جواده، وليست يسراه في القبح كذراعه، وإنما نهاية في اصغر أشبه بأيدي الأطفال ومن كان يتتبع الصحف الألمانية لا بد ذاكر أن الصحف الرسمية اعتادت أن تنشر بين حين وآخر مقالات عدة تريد بها أن تمتحن رأي الجمهور في إدخال الأنطقة على ملابس ضباط الجيش لأن الأنطقة ليست معروفة عند الألمان ولا تلائم الزي العام فكما أن الإمبراطورة أوجيني أعادت عهد العظامة لتخفي نحافتها وتستر نحولها فكذلك يريد غليوم أن يغير اللباس الحربي ليجد ليده وذراعه مكمناً سهلاً ومخبأً مريحاً لأن ذراعه اليسرى أقصر من اليمنى بنصف قدم ولكن وا أسفاه. إن سواد الضباط لا يرون في هذه الاقتراحات إلا نوعاً من المتاجرة لا يريد بها أصحابها إلا الريح العظيم ولذلك لا ينون يسخرون من هذه الاقتراحات ويتضاحكون، هذا وغليوم لا يستطيع أن يصرح بالسبب الحقيقي للاختراع، ويضطر إلى البقاء على مضه وألمه.
والإمبراطور يستطيع أن يحرك أصابع يده الموجعة لأنه وإن كان طرف المرفق ناتئاً عن موضعه من المفصل الذي يربط الساعد بالكتف فليس العضو بجملته مفلوجاً باطل الحركة ولذلك لا مجال للريب في قول فون نورمان رئيس حرسه إن الإمبراطور قبض بيده اليسرى على سيفه فقد كثر ما رأيتها يفعل ذلك إذا وجد أو غضب، ولكنه إذا أمسك بها شيئاً فلا يستطيع يد الدهر أن يرفعها ولو قليلاً، تراه مثلاً يأخذ بها أعنة جواده ولكنه إذا أراد أن يثنيها أو يحتث مطيته لم يستطع ذلك إلا بيمناه وركبتيه.
وترى وصفاء الإمبراطور وهم أربعة يقومون بإلباسه وتنضيته وتجميل بزته، يشكون مر الشكاة من عاهة سيدهم، وقد سمعت أحدهم وكان يفيض لفولت وصيف الإمبراطورة بمكنون ألمه، يقول ما كنا لنبرم بعملنا أو نسخط أبداً لو غير الإمبراطور ثوبه عشر مرات في اليوم بدلاً من ثلاث أو أربع، وإنما الخوف من إيلام ذراعه هو الذي يرهقنا ويجعلنا في ضيق من أمرنا، ونحن كذلك مضطرون إلى أن نكون على أتم الأهبة للاحتياط لتألم الأمير إذا ارتكز على ساقه اليسرى وهو متعجل في لبس سراويلات جديدة، فلو أنهم أدخلوا على لباس الراجلة والفرسان والمدفعية بل والبحرية بنطلوناً رسمياً واحداً لا يتغير، إذن لأراحونا من نصف همومنا ومتاعبنا، أما هذا التغير المستمر في أزياء الإمبراطور فقاتلنا(20/56)
وزاهق أراواحنا وأني لأخاف أن يفضي يوماً إلى حادثة مؤلمة.
وأما يمناه فكبيرة الحجم قبيحة المنظر بل لشد ما تروح قبيحة شوها، إذا شديد صديق أو حميم، وقبل أن أقدم إلى جلالته حذرني رئيس البلاط من قبضته القوية المؤلمة على أني وإن كنت اجتهدت أن أخفي ألمي وهو يشد بيده يدي فقد أوشكت ساعتها أن أصرخ. وترى الإمبراطور يحاول أيخفي عيب يمناه وقبحها ودمامتها بلبس عدة من الخواتيم والجعرانات ولكنها لا تزداد بالماسات والعقائق إلا قبحاً وخشونة وعيباً.
وأول ما ذكرت إذن الإمبراطورة ومرضها، على ما أتذكر، كان أثر وفاة هنري الحادي عشر ابن عمة الإمبراطورة إذ كانت وفاته بالحمى الحصبا. وقد قالت الإمبراطورة يومذاك يجب أن لا يعلم الإمبراطور بسبب الوفاة، لأن ذكر الحصباء أبداً يزعجه قلت (كيف، أولم يصب جلالته من قبل بها؟) فأجابت صاحبة الجلالة بعد تردد قليل (نعم ولا ريب، وبأشد أنواعها خطراً، كيف تعيشين هنا هذه السنين ولا تعلمين بخبرها؟) ولما رأيت أن الإمبراطورة لا تريد أن تسترسل في الشرح أرجأت فضولي إلى فرصة أخرى حتى التقيت بالكونت سكندروف وكان حاجب الإمبراطورة والدة غليوم كريماً عليها مقرباً منها عليماً بأسرار البلاط. قال (لما أصيبت جلالته وهو فتى بالحصباء أصرت والدته الإمبراطورة على معالجته بطريقة شائعة في بعض أنحاء إنجلترا، فكانوا يعرضون المحموم للاستحمام بالماء المثلج عدة مرات في اليوم، وكانوا يغيرون ملابسه وفراشه كل يوم، فحدث من ذلك أن أصيب الأمير ببرج حاد شديد في أذنه اليسرى، ومنذ ذلك اليوم وهذه العلة تؤلمه وتهيج أعصابه شاباً وكهلاً ورجلاً).
اقرأ في العدد الآتي (خوف الإمبراطور من العدوى - حكايات عن ذلك - وصف(20/57)
مطبوعات جديدة
كتاب المعاملات في الشريعة الإسلامية والقوانين المصرية
للأستاذ الشيخ أحمد أبي الفتوح
مدرس الشريعة الإسلامية بمدرسة الحقوق الخديوية
بارك الله في الأستاذين الجليلين محمد زيد الأبياني بك أستاذ الشريعة الإسلامية في مدرسة الحقوق وأحمد أبي الفتوح أستاذ الشريعة الإسلامية كذلك في مدرسة الحقوق فقد سهلا الحزن وعبدا الطريق وقربا منال الحنيفية السمحاء بوضع الأول شرحيه الصغير والكبير للأحوال الشخصية وبأن وضع توأمه الأستاذ أحمد أبو الفتوح هذا الكتاب النافع الجليل الذي نحن بصدده اليوم، كتاب يقع في جلدين يحتوي الجلد الأول منهما على 224 صفحة ويحتوي الثاني 400 أما الكتاب فهو الغاية في بابه وموضوعه ظاهر من عنوانه يحتاج إليه الزارع والتاجر والعالم والمتعلم والمحامي والقاضي. وقد افتتحه بمقدمات نافعة آية في الإبداع في تاريخ الشرائع وكيف تستنبط الأحكام من مصادرها وتاريخ الأئمة الأربعة وأسباب اختلاف المجتهدين وما إلى ذلك وقد جعل ثمن الكتاب خمسين قرشاً فنرجو له الذيوع الذي يستحقه.
أبطال العالم
ظهر اليوم أول بطل من سلسلة أبطال العالم سفر يقع في 180 صفحة خصيص بتاريخ اللورد بيرون شاعر الإنكليز الأكبر في القرن التاسع عشر ومختارات قصائده ورواياته بقلم محمد السباعي، يبتدئ هذا السفر بمقدمة لصاحب هذه المجلة ثم بصورة اللورد بيرون فتاريخه، وليس هذا التاريخ سجلاً كسجلاتنا التاريخية، وإنما هو تحليل للشاعر ونقد شعره وأخلاقه في أسلوب شائق لذيذ للغاية، ويتخلل ذلك مختارات قصائده المشهورة مثل أسير شيلون وقصيدته المسماة الحلم ورثائه أمة اليونان القديمة وغادة أثينا وقصة الكافر وقصيدة القبصان وقصيدة تشايلد هارولد وأبياته في الحرية والرحيل وأبياته في البحر وواقعة واترلوا ومقتل المصارع ومسرح روما ووصف الحياة ورثاء ابنته والوداع والعودة والنعيم في الأمل والأحلام وشعره في الحب والحياة ورواية عروس عبدوس. . . الخ.
وفي تضاعيف ذلك يرى القارئ الفصول الشائقة عن الشاعر وأطواره وغرائب أخلاقه(20/58)
وسيرته مع زوجته وحبائبه، ذلك كله إلى بلاغة الأسلوب وجزالة العبارة حتى أن قارئ هذا الكتاب يفيد منه لغة وأدباً وتاريخاً ومعاني شتى في فلسفة الحياة ومشاعر النفس الإنسانية، وقد جعلنا ثمن الكتاب على هذا كله أربعة قروش يدخلها أجرة البريد ومن أحب أن يشترك في سلسلة أبطال العالم فقيمة الاشتراط في كل خمسة أبطال عشرون قرشاً ترسل حوالة إلينا.
نقابات التعاون الزراعية
نظامها وتاريخها وثمراتها في مصر وأوروبا
تأليف الأستاذ المحامي عبد الرحمن الرافعي
قل من يجهل الأستاذ عبد الرحمن الرافعي وكفاءته واقتداره وجده وتوفره على العمل، عمل كل ما يفيد أبناء العربية. وقد وضع أخيراً كتاباً جامعاً حافلاً أسماه هذا الاسم وهو يقع في 346 صفحة من طراز البيان مطبوع طبعاً نظيفاً على ورق جيد وثمنه عشرة قروش صاغ وليس بنا أن نشرح وجه الحاجة إلى اقتناء هذا الكتاب ولاسيما حاجة الزارعين وأرباب النقابات الزراعية.
عالم الحرب
تاريخ الحرب الكبرى
ستظهر إدارة مجلة البيان في أول الشهر القادم عملاً عظيماً جداً لم يسبق إليه. ذلك هو أسفار خصيصة بهذه الحرب الكبرى في طراز بين المجلات والصحف يحتوي كل عدد منها على 20 صفحة اثنتا عشرة منها ينشر فيها أطيب ما يكتبه كتاب الغرب في تواليفهم ورواياتهم ومجلاتهم الشهيرة عن هذه الحرب من أخبار تاريخية وطرف ونوادر وروايات وغرائب مدهشة لذيذة جداً - وتصور كل ما له صلة بهذه الحرب من ملوك وأمراء وقواد وجنود ومناظر مدائن ووقائع وما إلى ذلك - وثمانية منها خصيصة بتاريخ هذه الحرب وأسبابها ونتائجها ومعداتها والأمم الملتحمة فيها في أسلوب جميل ممتع معن عن كل ما كتب ويكتب في تاريخ هذه الحرب فضلاً عن التصوير الجميل الذي سيسر الناظرين - وستكون الصحائف المفردة للتاريخ منفصلة عن القسم الأول (عالم الحرب) وإن كانا في(20/59)
غلاف واحد بحيث يتسنى ضمها إلى أخواتها فيكون منها بعد ذلك لدى القارئين كتاب حافل جامع في تاريخ هذه الحرب - وورق هذه الأسفار جيد جداً وطبعها نظيف للغاية. ويظهر منها في الشهر ثلاثة أعداد إلى ستة حسب الرواج وثمن العدد الواحد قرش صاغ واحد وقيمة الاشتراك عن كل شهرين ثمانية قروش ترسل حوالة على البريد باسم عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة البيان وأبطال العالم بمصر - الإدارة بشارع عيط العدد نمرة / 18 /.
تاريخ حرب السبعين
أعاد جناب يوسف توما البستاني طبع حرب فرنسا وألمانيا، تلك الحرب المعروفة بحرب السبعين بعد أن طبعه منذ سنتين ونفدت طبعته وقد جعل ثمنه خمسة قروش.(20/60)
العدد 21 - بتاريخ: 1 - 10 - 1914(/)
خطتنا الجديدة
أرسلنا منذ أيام إلى جميع قرائنا صحيفة شرحنا فيها خطة البيان الجديدة. وإن ما كتبناه هناك يتلخص في هذه الكلمات سيظهر البيان من الآن مرتين في كل شهر وسنفرد عدد صفحات من كل عدد لتاريخ الحرب تكون بأرقام منفصلة عن أرقام صفحات البيان الأخرى انظر تاريخ الحرب الكبرى وسنعنى علاوة على ذلك بنشر أطيب ما كتبه ويكتبه فطاحل كتاب الغرب حول هذه الحرب من مذكرات سرية غريبة وروايات خطيرة وشذرات شائقة لذيذة وليس من عزمنا أن نغفل الموضوعات الأدبية والعلمية الأخرى التي لا صلة لها بالحرب بيد أننا سنضر صفحاً عن الموضوعات الطويلة التي كانت تنشر في البيان تباعاً مثل أميل وحضارة العرب في الأندلس ودون جوان وتقوم من حين إلى حين بطبعها على حدة في أجزاء مستقلة ونرسلها إلى قرائنا الحقيقيين الذين بادروا ويبادرون بدفع المطلوب منهم للبيان. ومن هنا انتفى الجور وصرنا غير مقصرين مع قراء البيان الأصليين بل على العكس صاروا هم الفائزين وبذلك سيكون البيان من الآن كأنه عمل مستأنف جديد لا ترتبط موضوعاته بالموضوعات التي نشرت في الأعداد والسنين الماضية ومن ثم يسوغ لكل قارئ أن يشترك في البيان من ابتداء هذه الأعداد وقد جعلنا قيمة الاشتراك عن كل ثلاثة أشهر عشرة قروش صحيحة. وللأساتذة وطلبة العلم وتلاميذ المدارس ومتوسطي الحال من الموظفين خمسة قروش عن كل شهرين ومتى رأينا رواجاً لهذا العمل وإقبالاً من قراء العربية محموداً أظهرنا البيان في هذا الطراز نفسه كل أسبوع لا كل أسبوعين وإذ من المعلوم الذي لا خفاء به أن مباحث البيان وغير البيان إما أن تكون علمية وإما أن تكون أدبية، لذلك ولأن مباحث الحرب أصبحت في نظر البيان ذات بال حتى كأنها فن آخر رأينا أن نجعل موضوعات كل عدد منطوية في هذه الأبواب الثلاث - عالم الأدب - عالم العلم - عالم الحرب - والله الموفق والمعين.(21/1)
عالم الأدب
ننشر في هذا الباب أطيب الرسائل والمقالات المنوعة في الأدب والأخلاق والاجتماع والتربية والفلسفة وحياة العظماء والقطع المختارة من الروايات النافعة المفيدة والشذرات الجميلة من شتى المنظوم والمنثور والنوادر المختلفة والفكاهات والملح. ونذيل ذلك كله بنقد الكتب العربية التي تظهر في الأسبوعين.
شذرات من فلسفة الشاعر موسية
الملاحدة
رأى هؤلاء الملاحدة الفقير ينزل على جور الغني، والضعيف يرضى بظلم القوي رأوه يقول لنفسه في نجواه ليعسفني الأغنياء في هذه الأرض، وليرهقني الأقوياء فإني لواقف يوم القيامة على باب الجنة، أحول بينهم وبين عرائشها ومقاصيرها شاكياً إلى الله سوء ما لقيت، رافعاً إليه الظلامات التي عانيت ثم رأوا المسكين وا أسفاه يعتصم من هذه المسلاة بالصبر، ويعدل من هذه المناجاة إلى الراحة والسكون، عند ذلك يهيبون به وما بالك تخلد إلى الصبر حتى يوم العدل، وليس هناك من عدل، وترتقب الأبدية لتأخذ بثارك وتظفر بترتك، وليس من أبدية، إنك لتجمع قطرات الدمع التي فاضت بها عينك، وتدخر لآلئ العبرات التي ذرفها أطفالك وسكبتها زوجتك، وتختزن صيحات أفراخك، وعولات صبيانك، وأنات امرأتك، لتحملها يوم الحساب إلى ربك، وليس ثمة من رب.
فلو سمع الفقير ذلك زجر دمعه، وكفكف غرب عبرته، وحظر على امرأته الشكاة ومنعها الأنين، وعمد إلى بنيه فصحبهم إلى العقل خفيف الروح مرير القوى، شديد المراس. إنه ليصرخ إذ ذاك في وجه الغنى أنت يا من كنت تظلمني وتعسف، لست إلا رجلاً مثلي، وإنه ليصيح بالقسيس أنت يا من كنت توجرني السلوى، وتجرعني العزاء، لقد كنت تكذبني.
هذا ما يريد الملاحدة، هذا ما يطلب أعداء المؤمنين، ولعلهم يعتقدون أنهم بهذا يريدون السعادة للناس، بتحريضهم الفقراء على الحرب للحرية.
ولكن أربعوا على أنفسكم أيها الملاحدة، إنه لو تعلم الفقير يوماً أن القساوسة تخدعه، وإن الأغنياء تنهبه وتجيعه، وإن الناس جميعاً في الحقوق سواء. وإن الخير كله في هذا العالم،(21/2)
ولو ركن إلى نفسه وحدها وإلى قوة ذراعيه، فلعله قائل يوماً الحرب الحرب على الأغنياء! لي مثلهم نعمى هذه الأرض وبهجتها، إذ ليس هناك غيرها. لي الأرض! إذ كانت السماء خلوا فضاء، لي بل وللجميع، إذ كان الجميع في الحق سواء، فليت شعري أيها العقلاء المنطقيون الأعلام، ماذا تراكم قائلين له إذا عاد من هذه الحرب بالهزيمة، ورجع من الملحمة بخيبة المسعي؟.
أنتم ولاشك قوم أخيار محسنون وأنتم على حق في تدبير مستقبلكم، وسيأتي اليوم الذي فيه تسعدون، أما اليوم فنحن لا نستطيع أن نسعدكم ولا نستطيع أن نرضيكم الآن يقول الظالم لي الأرض!. . فيرد عليه المظلوم ولي السماء! ولكن بماذا هو مجيب إذا انكفأ من الحرب على الظالم مذموماً مدحوراً؟.
عبادة الملحدين
نعم - ولسوء الحظ - إن في الاجتراء على الله والتسخط عليه ترويحاً عظيماً للقلب المفعم المترع إن الملحد الذي يخرج ساعته من جيبه فيفرد بضع دقائق الله يتمرد فيها عليه ويثور ويلعن ويشتم، برى في هذه الدقائق القليلة كأنه استرجع لذة شقية شريرة، بل إنها لنوبة عصبية من نوبات اليأس، إنها لاستصراخة في الحقيقة بكل قوى السماء، إنها مخلوق شقي ضعيف يئن تحت القدم التي تسحقه، هي صيحة يأس عظيمة - ولكن من يعلم؟ لعلها في عين الذي يرى كل شيء نوع من أنواع الصلاة، وضرب من ضروب التسبيح.
عباس حلفظ
فردريك نيتشه الفيلسوف الألماني
ليست الفلاسفة جميعاً باجاً واحداً، بل هم ضربان مختلفان، وفريقان متباينان، فمنهم من نسميهم بالفلاسفة الأكاديميين أو النظريين، وهم أصحاب النظريات والطوبويات والمذاهب المتباينة المتعددة، وأولئك أمثال لوك وهوبز وهملتون وكونت وكانت وستوارت مل وسبنسر وغيرهم، ومنهم من ندعوهم بالإصلاحيين العمليين، مثل لوثر وروسو وفولتير وشوبنهور، أما الأولون فيفيدون الفكر الإنساني أكثر مما يخدمون الإنسانية نفسها، هم يعملون على توسيع نطاق العقل وتجديد ضروب المنطق والتخريج والتدليل، على نحو ما ترى من أصحاب الفرق والنحل في الإسلام، وأما الآخرون فهم الذين في حرب شديدة مع(21/3)
أبناء أجيالهم، هم الهادموا القديم البانوا الجديد، هم خدام الإنسانية العمليون، ومصلحوها الحقيقيون، وفي رأس هؤلاء يقف فردريك نيتشه الفيلسوف المتوقد المستعر العظيم.
ونحن مقدمون إلى القراء شذرات غريبة من حياة هذا الرجل الغريب المجنون في نظر أعدائه وكارهيه. وأعقل العقلاء في أعين شيعته ومريديه ومنصفيه، ومنه يتبين القراء كيف تعيش العظمة، وكيف يكون العبقري خارجاً على طبائع الناس شاذاً متمرداً على أخلاق الطبيعة، متوثباً متهجماً على شرائع العالم، وإننا مازلنا نري صاحب العبقرية عرضة لأن يموت في مستشفى أو سجن أو مثقلاً بالدين أو موصوفاً بلوثة أو سبة.
من أبدع ما وقع من الاتفاق إن هذا الرجل الذي كان أعدى أعداء الديمقراطية وأشد الأرستقراطيين كبراً وشمماً وزهواً وأرستقراطية، وأشدهم بغضاً لكل ما هو حقير - يحمل اسم نيتشة ومعناها في اللغة البولندية الرجل الحقير!.
بل أغرب من ذلك وأعجب أن نيتشة الخارج على المسيحية الواقع في تعاليمها الشائم لمبادئها، كان وهو غلام يتمنى على الله أن يصبح قسيساً كوالده، وكان يلقب في المدرسة القس نيتشه!
ثم لم يكد يجوز الربيع العشرين وهو في الجامعة، حتى بدأ هذا القس الغلام يخلع عنه الرداء المسيحي الذي خلعه عليه آباؤه وأجداده، بل تصور لنفسك مقدار دهشة أمه ابنة القسيس واستنكارها لولدها إذ رفض الفتى نيتشة يوم شم النسيم سنة 1865 أن يأتي كما هي العادة إلى العشاء الرباني وقد كتب يوماً وهو في المدرسة إلى أته وكانت تغار عليه من الريح إذا كنت تطلبين اطمئنان الروح وسعادة القلب فاعتقدي، وأما إذا كنت تريدين أن تكوني من خدام الحق ففكري ونقبي!.
وقد تعرف وهو شاب بواجنر أكبر الموسيقيين في العالم كله وكانت دار الموسيقى غير بعيدة عن داره، فلم يلبث أن أصبح الشاب نيتشه من المتحمسين لمذهب واجنر في الموسيقى الغاضبين له الناضجين عنه، وكان لواجنر في ذلك العهد أعداء كثر، فكم يوم مشرق جميل بهيج قضاه نيتشه في دار واجنر، وكم من لقاء حلو دار وحديث لذا طورح، ومضت أيام فأصبح نيتشه أعز عزيز في البيت وأحب زائر وأخلب جليس وكانت كوزما زوجة واجنر تميل إليه وتحب قربه، وتصبو إلى سمره، حتى لقد كانت توصيه بشراء(21/4)
اللعبات لأطفالها.
ولما ظهر كتابه (منشأ التراجيديا) وهو باكورة كتبه لم يصادف من الجمهور إلا الاشمئزاز والتأفف والإعراض، بل أنه لم يجد في أول الأمر من أصحاب المطابع من يرضى بطبعه، وكان هذا الكتاب تحية من نيتشه لواجنر، ودفاعاً عنه وإعلاء لذكره وتشييداً بمكانه، وليس من ريب في أن الموسيقي وزوجته قابلاً الكتاب بالهتاف والتصفيق والترحاب على الرغم من اشمئزاز الجمهور وتأففه، وأما الأساتذة رصفاء نيتشه فهزوا له أكتافهم، بل قال أستاذ منهم لتلاميذه (إن الكتاب سخافة بحتة لا معنى لها) وحتى أصبح الناس ينصحون للشبان بأن لا يذهبوا لتلقي علم اللغة في جامعة بال.
ولا تسل عن حزن نيتشه وابتئاسه، أضف إلى ذلك أن وجنر ترك منزله في لوزون، فحرم نيتشه كذلك لقاء كوزما وسمرها وحديثها الرطب الجميل وكان هذا الرحيل ممهداً للجفاء بين الفيلسوف والموسيقار ومدعاة للقطيعة والعداء، نعم إن نيتشه عمل كل ما في سعته بقلمه وحبيبه لإنجاح واجنر والصعود به ذروة الشهرة الخالدة ولكن كان نيتشه في الوقت نفسه يخشى أن يعد واجنر يا ليس إلا وأن لا يحترم لقيمته الشخصية، وكان الجفاء ينمو بينهما ويكبر ويزداد وإن لم يصارح أحدهما به الآخر نعم إن واجنر ولا ريب كان ينظر بعض الأحيان إلى نيتشه كآلة من آلات شهرته ولكن أي رجل يلقى في طريقه عبقرية كهذه ولا يستخدمها لصالحه؟ على أن واجنر كان رفيقاً بصاحبه حدباً عليه مكرماً له، وكان يهتم بشأنه ويعني بحاله. ولو كان نيتشه اتبع نصيحة واجنر له وهي (تزوج يا صاح ثم سح) فمن يدري لعلنا كنا مبصرين من نيتشه أعظم من هذا وأسمى؟.
ومرض نيتشه مرضاً شديداً فانتقل إلى إيطاليا طلباً للصحة واسترجاعاً للعافية وكان وهو في مدينة جنوه يعيش أخشن العيش، ويحيا حياة البؤساء، بل كان يجهز طعامه التافه بيده على السبرتو وكان إذا انتابه الصداع - وكثيراً كان ينتابه - يلقي بنفسه بعد العشاء متبطي على المتكأ غير مستصبح بمصباح، وكان يتشاور الجيران في أمره قائلين بعضهم لبعض إنه لفقير، لا يستطيع أن يوقد ولو شمعة واحدة ولذلك جاؤوه يوماً بمصباح، فكان يشكرهم نيتشه ويشرح لهم أوجاعه وعذابه ولكنهم كانوا لا يقولون عنه إلا (جارنا القديس).
ولما كان في نابولي مع صديق له تعرف بآنسة تدعى (مايسنباج) سيدة حلوة المحضر(21/5)
جذابة الحديث، لها في الأدب قسط، ومن القلم نصيب، ولقد فرح بها نيتشه فرحاً عظيماً، فكتبت له يوماً وهو في وحدته في جنوه تدعوه لزيارة روما فأذعن، وكانت ترأمه كما ترأم الأم وليدها، وكانت تعطف عليه وتهتم له، وكانت تريد أن تجد له زوجة تكون برداً على روحه الحزينة الوحيدة وسلاماً، بل أن نيتشه نفسه كتب إليها يوماً لا أكذبك حاجتي، أنا لا أريد إلا امرأة فوجدت من توسمت فيها الخير لهذا الفيلسوف الجوالة الهائم الحزين، وهي الآنسة سالومية، فتاة حسناء. فاتنة لم تكن جازت العشرين، فما وقع بصر نيتشه عليها حتى نزلت في حبة فؤاده، وما لبث أن راح في جمالها صبا مدلها، ومضي دهر فسألها الزواج ولكنها قابلت ذلك بالرفض فظل مع ذلك في قربها شهرين آخرين. ولكن لم يلبث أن تقاطعا وتهاجرا بغتة واحدة، ولا يعرف أحد من الناس ماذا كان يجري وراء الستار، لأن سالومية نفسها وأخت نيتشه قد سكتا عن ذلك حتى اليوم ولا يريدان أن يشرحا لنا أسرار هذه المأساة الكوميدية، ولم يخسر نيتشه فقط هذه الرفيقة الجميلة الحسناء - هذه المرأة الفاتنة التي أراد أن يظفر منها بالزوجة المخلصة الحنون العطوف، بل خسر من أجلها صداقة عزيز لديه وصاحب من أكرم صحبه عليه وهو صديقه (ري) لأنه اتهمه بالخيانة، وارتاب في سلوكه مع سالومية.
وكان نيتشه يميل إلى النكتة القارصة، قالت له يوماً سيدة إنكليزية مهزولة البدن غير موفورة الصحة نحيلة اللحم (أنا عالمة يا مستر نيتشه بأنك تاتب، فلهذا أريد أن أقرأ كتبك) فما كان منه إلا أن أجاب (كلا، إني لا أريدك أن تقرأي كتبي، فإنه إذا كان ما كتبته حقاً فإن امرأة ضعيفة مثلك لا يجب أن تعيش!).
وبدأ يعاني بعد ذلك آلام الأرق فكان يتحصن منه بالعقاقير، وأخذ مخه يضطرب رويداً في بطء، فقد كتب في سنة 1888 إلى الآنسة ما ينسباج (لقد أخرجت للعالم أعمق كتاب، أنا أكبر رجل في أوروبا، أنا الكاتب الوحيد في ألمانيا).
ووضع في تلك السنة وهو على هذه الحال من اضطراب الذهن كتاباً ساماً مراً مقذعاً في صديقه ومعبوده القديم واجنر يقول فيه، إن واجنر إن هو إلا ممثل وليس من الموسيقار في شيء، هو عارض من عوارض الحياة المنحطة الضئيلة المسكينة الفقيرة، هو أفعى سامة ذات ضوضاء وصليل، هو مثال الانحطاط التام الكامل، إن موسيقاه ليست إلا موسيقى(21/6)
مسيحية.
وكان آخر كتاب كتبه هو () أي (أناهو) فكان ختاماً حلواً لموته الذهني، كتبه في أسابيع قليلة، هو رسالة لذيذة ولكنها محزنة، بقلة ناضرة، ولكن سامة، تطرف فيها وأبعد وبلغ بها أقصى حدود الرضى عن نفسه وأبعد تخوم الهو بها، وترى أسلوبه في هذه الاعترافات وثاباً طافراً قافزاً، وإليك عناوين الفصول الشائقة في الكتاب - لماذا أنا عاقل إلى هذا الحد - لماذا أنا نشيط إلى هذه الدرجة - لماذا أكتب هذه الكتب الحلوة الجميلة - أنا وهايني أعظم كتاب الألمانية في الأرض - لقد قمت بأعمال هائلة، أعمال لا يقدر عليها أي رجل في هذه الأيام، إن قراءة كتاب من كتبي لأعظم شرف يمكن للإنسان أن يظفر به، لم يكن هناك بسيكولوجيا قبلي.
ووقع المصاب الأكبر في أوائل يناير سنة 1889.
جن نيتشه جنوناً متوحشاً مفترساً كطبقاً - كان كلامه صريخاً وحديثه شجاراً عنيفاً، كان يشتري أتفه السلع ويدفع في مقابلها الجنيه والجنيهين، كان يصور له الجنون أنه قاتل مشهور وأنه ملك إيطاليا وأنه. . . . الله.
وكان يصيح في شوارع المدينة ويصرخ في السابلة تعالوا إلى السعادة!. . إني مجنوناً عشر سنوات طوال، وقضى نحبه في الخامس والعشرين من أغسطس عام 1900 ملتهب الرئتين.
هذا هو الرجل الذي قتلته الوحدة. وخنقه إهمال العصر، وذهب بلبه جهل الجيل.
تناسخ الأرواح
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان لي صديق عريض الدعوى يزعم أنه عميد أهل العلم، وأمام أولى العرفان، وقبلة المحققين والمجتهدين، صاحبته دهراً فما عرضت لنا مسألة إلا ادعى أنه توفر حظه منها وأحاط بأصولها وفروعها، ووقف على جلائلها ودقائقها، ومن أقواله المأثورة التي يرويها عنه كل من أمتع به إن كل شيء أفعله له لو علمتم سبب يدفعني إليه فمن ذلك أن عنده قرداً صغيراً قد كلف به الكلف الشديد فسألته في ذلك مرة فقال: إنكم معشر الماديين لا تعرفون من الحقائق إلا ما يلمس باليد ولا تؤمنون إلا بما يناله الحس وتتطلع عليه المدارك(21/7)
على نقصها وعجزها أما ما وراء ذلك فلا قبل لكن به وكيف وأنتم لا تنظرون إلى أبعد من أنوفكم ولا تنضون رواحل أذهانكم إلا إلى ما ليس وراءه طائل من الأمور المادية فإذا سمعتم شيئاً عن الروح قلتم سخف وهراء. فإذا جادلنا كم قلتم هاتوا دليلا علمياً، أفحسبتم أن الروح مما يوضع في موازينكم الحساسة ويطحن في هاوونكم العلمي ويغلى ويحلل على نار (بنسن)؟ كلا! يا سيدي آمنوا بالروح فإنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، قلت ومن أنبأك إني لا أؤمن بها. قال ما كنت أحسبك إلا كغيرك ممن سدت المعامل في وجوههم منافذ النظر والتفكير. ثم اندفع يحدثني عن الروح وأنا أنظر إليه كمن غبى عنه معني ما يسمع ويقول إن الأرواح بعد الموت لا تفني ولا يتقاضاها ما يتقاضى الجسم من البلى بل تلبس أجساماً أخرى وكلما بلى بدن خلعته وإكتست غيره وكثيراً ما حدث أني أبصرت عصفوراً يعذبه أصحابه فابتعته منهم وأطلقته إذ ما يدريني لعل في جسم هذا العصفور وروح قريب لي أو عزيز علي ومن أجل هذا تراني أكرم هذا القرد وأبالغ في توفير أسباب الراحة له ثم أطرق وجعل ينكت الأرض بعصاه وقال بصوت خافت كأنما يحدث نفسه إلا من لي أن يرحم الناس هذا الروح التي بين جنبي إذا انتقلت إلى جثمان غير جثماني! ثم ودعته وانصرفت وأنفق لي بعد ذلك أن زرته فأبطأ على وكان في المكان قلم ودواة وورق فتناولتها وكتبت له هذه الرسالة على لسان القرد وتركتها تحت عينه:
سيدي ومالك رقي
لقد حرمتني المقادير نعمة النطق بما سلبتني من الإنسانية ووهبتني من الحيوية فلم يكن في مقدوري وهذه حالي من العجمة إن أفصح لسيدي عن شكري لصنائعه وأياديه وأكشف له عن حقيقة أمري حتى قيض الله لي هذه الأدوات فأحببت أن أقفه على ما يجهل من أمري جزاء ما قلدني من النعم وطوقني من المنن فليعلم سيدي إني كنت في أول حياتي وبدء نشأتي كبير البراهمة وعميدهم في الهند يرجعون إلى في الشدائد ويستصبحون برأيي في كل معضل من الأمور وعويصة من المسائل ولم أزل بينهم مسموع الكلمة محترم الرأي ملحوظ المنزلة حتى وافاني القدر المحتوم فنفضت عني رمتي وانتقلت إلى جسم آخر فلم أزل صاعداً في مدارج الشرف ومراتب الجاه حتى صرت وزيراً لبعض الملوك ولكن طبيعة الإمارة والحكم أفسدت من خلقي ولوثت طهارة البرهمي لما تدعو إليه من الظلم(21/8)
وتحمل عليه من الجو والتعسف وأخذ الناس بالقسوة والعنف في بعض المواطن وحمل الرعية على الطاعة والاحتفاظ بما في اليد من قوة ونفوذ والحرص على السيادة لاسيما في تلك الأعصر الأولى فزينت لي نفسي أن أستأثر بالأمر دون الملك وسولت لي أن أنزله عن سريره فدبرت لذلك مكيدة وتآمرت مع الساقي على أن يدس السم في كأس الملك ولكنه لسوء حظي أخطأ فناولني الكأس المسمومة فمت لساعتي بين يدي الملك ونجا الساقي اللعين بحياته غذ زعم عند الملك أنه تواطأ معي ليوقعني في شر أعمالي.
وكأن الأقدار أرادت أن تسلط على بأس انتقامها وتجزيني بإساءتي الماضية فألبستني جلدة مصري فتزوجت امرأة جعلتني عبرة في الغابرين ومثلاً وأحدوثة في المتأخرين ولقيت من ذل العيش وثقل الدين وسوء العشرة ما جعلني أمضى سابقاً أجلي.
وكانت هجرتي الثانية إلى قاض شرعي فذكرت ما كنت فيه من الدين والحاجة والفقر فقبضت يدي كل القبض وعشت عيالاً على الناس وحميلة على أهل البر حتى صرت بغيضاً إلى الناس مشنوءاً من صغارهم وكبارهم على السواء فعزلت لسوء سيرتي وشناعتها وقضيت بقية أيامي في بؤس وخصاصة.
ثم صرت بعد 1لك نملة فسمكة ولو شئت أن أقص عليك كل أدوار حياتي وكيف تقلبت بي الأحوال. وتنقلت بي الظروف من مدرس إلى جرذ إلى عصفور لأحتجت إلى السنين الطوال لشرحها وتبيانها ولكن أذكرك يا سيدي بتلك الفتاة التي ملك عناتها حبك وخلب لبها فضلك وحسنك والتي كانت تطالعك مع الشمس من نافذتها كل صباح وتسهر لك الليل كل مساء حتى أصابها البرد وماتت، لترى يا سيدي أنا صديقان من قديم وإن ليست هذه أول مرة طوقتني فيها سلاسلك. فعسى أن تدوم لي نفحات برك لتقرن بين قديم النعم وحديثها وتجمع بين تالدها وطريفها.
عبدك العاني - القرد
فلما نزل صاحبنا ورأى القرد ينظر إلى الورقة ثم إليه تناولها وقرأها وما زال إلى اليوم في ليل من الشك مظلم لا يعلم أكتبتها له أم كتبها القرد.(21/9)
الكتب
الكتب كالناس، منهم السيد الوقور، ومنهم الكيس الظريف، ومنهم الجميل الرائع، ومنهم الساذج الصادق، والأريب المخطئ، ومنهم الخائن والجاهل، والوضيع والخليع، والدنيا تتسع لكل هؤلاء، ولن تكون المكتبة كاملة إلا إذا كانت مثلاً كاملاً للدنيا.
يقول المرشدون اقرأ ما ينفعك، ولكني أقول بل انتفع مما تقرأ - إذ كيف تعرف ما ينفعك من الكتب قبل قراءته؟؟.
إن القارئ الذي لا يقرأ إلا الكتب المنتقاة كالمريض الذي لا يأكل إلا الأطعمة المنتقاة يدل ذلك على ضعف المعدة أكثر مما يدل على جودة الشهية.
واعلم أن من الكتب الغث والسمين، وإن من الكتب الغث والسمين، وأن السمين يفد المعدة الضعيفة، وما من طعام غث إلا والمعدة القوية مستخرجة منه مادة غذاء ودم حياة وفتاء، فإن كنت ضعيف المعدة فتحام السمين كما تتحامى الغث، وإن كنت من ذوي المعدات القوية فاعلم أن لك من كل طعام غذاء صالحاً.
وإن من نظر أنت تراه فلا تود أن تراه بعدها، أو صوت تسمعه ثم لا تحب أن تسمعه آخر العمر، فلا أدري من أين داخل عامة القراء إن الكتاب إنما يقرأ قراءة واحدة، مع أن الكتاب أخفى رموزاً وأكثر مناحي نظر من المنظر والصوت، وأنت تنمو بعقلك أكثر من نموك بحواسك، فأنت أحرى أن تعاود النظر فيما يمتحن به نمو الفكر، وعندي أن من كان يفهم أن قراءة الكتاب شيء غير الإتيان على كلماته، وأن درسه غير استظهار صفحاته، عليه أن يكرر قراءته كلما استطاع، وأن كتاباً تعيد قراءاته مرتين لأغني وأكثر من كتابين تقرأ كلاً منهما مرة واحدة.
ثم اعلم أنه ليس بأنفس الكتب ولا بأجلها الكتاب الذي تتوق إلى إعادته بعد قراءته. وليس بأفرغ الكتب ولا بأقلها الكتاب الذي تقنع بتركه بعد الفراغ منه. فإنك ربما صادفك الكتاب الأجوف المغلق فأعجبتك رنته فجعلت تقلبه على كل جنب لعلك أن تخلص إلى لبابه ولا لباب له. وربما صادفك الكتاب القيم الشافي فانتهيت إلى آخره مرتاحاً مصدقاً فقنعت بذلك منه. وقد عهدنا الناس يمنعهم البخيل فيراجعونه ويلحون عليه، ويعطيهم المنعم الكريم فيهجرونه ويعرضون عنه، وتلك ضرائبهم في مصاحبة الكتب، فلا تكن في المطالعة من هؤلاء.(21/10)
وطريقتي في القراءة أن لا أذهب مع الطرف في الصحيفة إلا ريثما أذهب مع الفكر في نفسي، فقد أتناول الكتاب أبدأ فيه حيث أبدأ إذا كان من غير الكتب التي يلتزم فيها الترتيب والتعقيب، فيستوقفني رأي أو عبارة تفتح لي باباً من البحث والروية فأمضى معها وأطوي الكتاب فلا أنظر فيه بقية ذلك اليوم أو انتقل منه إلى كتاب آخر، وأجد هذا التوجيه في أنفس الكتب كما أجده في أردئها فلا أميز بينها في الابتداء، ولا يكاد يستدرجني إلى المضاء في المطالعة إلا موضوع يستوعب ذهني ويأخذ على المؤلف باب الانفراد بالفكر دونه. عباس محمود العقاد(21/11)
عالم العلم
الكلب الكاتب المفكر - السمك المتوحش - إنقاذ اللقطاء في فرنسا - الأكاذيب المقررة في التاريخ - فندق الباستيل - كلاب البحر الفيلية - عقيدة العلامة هيكل.
الكلب الكاتب المفكر
في مدينة مانهايم من أعمال ألمانيا كلب حير الألباب وأذهل الناس واسترعى دهشتهم، وكتبت عنه عدة من المجلات الغربية، وهو لسيدة تدعى مدام ميكل. وقد جاء الدكتور ماكنزي إلى مانهايم خصيصاً لامتحان هذا الكلب.
بدأ الدكتور يسأله عدة أسئلة في الحساب من جمع وطرح وضرب وقسمة فكان يجيب عليها ويؤدي مقدار العدد المطلوب بتحريكات من ظلفه الأيسر، ثم بعد ذلك كتب بعض حروف الهجاء وكان يرمز لكل منها عدداً مخصوصاً، وكان يتهجى الكلمات تهجية صوتية ويستعمل في ردوده عامية لغة المدينة، وكانت تتجلى في أجوبته قوة مفكرة مدهشة يمازجها ضرب من الذكاء المزاجي.
ونحن مقتطفون الكلمة الآتية من مقال الدكتور الممتحن عن الكلب: قال بعثت خادماً ليشتري نسخة من إحدى الصحف وأمرت أن لا يرى النسخة أحد غيري وغير الكلب، فلما جيء بالصحيفة اخترت نهراً من أنهارها قد كتب في رأسه الكلمات الآتية () ثم دفعتها إلى الكلب وسألته أن يرددها فقرأها الكلب على هذه الصورة () فكان هذا ولا ريب مدهشاً مذهلاً معجباً، ذلك لأن الكلب لم يكرر الألفاظ حرفاً حرفاً كما يكون من الفوتوغراف بل إنه كما ترى أرجعها إلى تهجيته الصوتية الشخصية، مما يدل على أنه قد حدث في ترديد هذه الألفاظ شيء من التفكير والتروي والتعقل.
ثم أمرت الكلب بعد ذلك أن يغادر الحجرة ليشرب شيئاً من اللبن فلما اختليت بالسيدة ميكل سألتها عما إذا كانت تظن أن الكلب يستطيع أن يجيب على أسئلة معنوية كأن يطالب مثلاً بتفسير معني () أي الخريف فكان رأي مدام ميكل أنها تعتقد أنه يستطيع ذلك وربما أجاب عن ذلك بما هو في معناه أي ربما يقول مثلاً هو فصل فلما عاد الكلب وألقيت عليه السؤال لم يكن جوابه إلا أن قال () ومعنى هذا الوقت الذي يكون في التفاح!!.
فلما رحل ماكنزي استوحش الكلب غيبته فكتب إليه في صبيحة اليوم التالي لرحيله خطاباً(21/12)
تاماً صحيحاً وإن كان موجزاً - وخير الكلام ما قل ودل - وإليك نص رسالة الكلب عزيزي الدكتور - ارجع سريعاً، لا تذهب بعيداً - أعطني صوراً وكذلك صورتك - تحيات كثيرة - خادمك!.
وهذه القوى التفكيرية في هذا الحيوان تكاد تكون من غرابتها بعيدة التصديق ولاسيما أن الكلب يفعل ذلك دون أية مساعدة من أحد.
السمك المتوحش
كتب الدكتور روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق بعد رحلة طويلة في غابات البرازيل ومجاهلها كتاباً مستطيلاً في وصف ما شاهد. ونحن نقتطف منه النبذة الآتية في وصف نوع غريب من السمك. قال روزفلت:
. . . ثم وجدنا بركة عميقة واسعة قد غشيها عدة من صغري التماسيح والخنازير البرازيلية المائية، وكان لا يقل حجم الخنزير عن النعجة أو الشاة. فلما ضربنا خنزيراً منها غطس في الماء وإذا بأسماك متوحشة مفترسة قد انقضت عليه ولم تكد تمضي دقائق حتى كانت قد التهمت نصفه، بل أعجب من ذلك وأغرب إننا أصبنا تمساحاً يبلغ طوله خمسة أقدام فما كان من هذه الأسماك المتوحشة إلا أن انقضت على التمساح فمزقته وجعلت تجره إلى البر تريد قتالنا ومواجهتنا - وذلك أنه لما هوت على التمساح الجريح ورأت الدماء تسيل منه اهتاجت اهتياجاً عظيماً حتى جعلت تهوى بأسنانها الهائلة فوق جثة التمساح وجعلت من شدة الغضب تمزقه إرباً إربا.
ومن ذلك اتضح لنا أنها لا تمس الخنازير أو التماسيح بسوء إذا كانت هذه غير مجروحة بجراح، لأن منظر الدماء هو الذي يهتاجها ويحدث لها نوعاً مخيفاً من الجنون، والعجيب من غريزة هذه الأسماك المفترسة أنها لا تتعرض أبداً للسائحين من الناس في البركة بأي سوء، ولكن الجريح منهم أو من الحيوانات يكون من شرها غرضاً للافتراس والموت.
إنقاذ اللقطاء في فرنسا
كتب أحد كبار الكتاب في فرنسا يقول إن من الضروري اتخاذ الحيطات الكثيرة لمنع الهبوط المطرد في نسبة سكان فرنسان، وقد اقترح في مقاله أن توضع في جميع مستشفيات اللقطاء صناديق تلصق بجدران الحجر ويوضع كل لقيط في صندوق منها(21/13)
ويترك للنساء الحرية في دخول الدار متى أردن، حتى لا يمنع الخجل من الفضيحة أو الخوف من العار أو أية أسباب أخرى، تلك الأمهات اللاتي نبذن أولادهن يوم الولادة في مظلم الأزقة وساكن الطرق، من الذهاب في كل يوم لتفقد أطفالهن في المستشفيات وإرضاعهم وتغذيتهن آمنات من شر الفضيحة مطمئنات، بل إن هذه الصناديق المحجوبة ستعمل كثيراًَ على تخفيف وفيات الأطفال في فرنسا وتقليل عدد الجرائم التي ترتكبها النساء في سبيل الخوف من الافتضاح.
الأكاذيب المقررة في التاريخ
وضع أحد كبار العلماء المؤرخين منذ أشهر رسالة في إحدى المجلات الكبرى تدور حول الأكاذيب المقررة في التاريخ كأنها حقائق تاريخية صادقة لا أثر فيها للخرافة وقد جاء بقائمة طويلة من هذه نقتطف منها ما يأتي:
حرق جريجوري الأكبر مكتبة القياصرة - حرق عمر بن الخطاب مكتبة الإسكندرية - قولهم إن أوروبا في القرون الوسطى كانت تعتقد أن العالم سينتهي في عام 1000 ميلادية - قصة أسر قلب الأسد - قولهم إن خطب بطرس الناسك هي التي أثارت أوروبا إلى الحرب الصليبية الأولى - رواية ويليم تل.
خرافة الباستيل
لا نظن إن في القراء من لا تتأفف نفسه وتتأثر مشاعره وترتعد فرائصه إذا ذكرت أمامه مظالم الباستيل وفظائعه! أو قرأ شيئاً عنها في رواية، أو وقع على وصف لهوله في كتاب، ذلك لأن المؤرخين والكتاب والروائيين قد أكثروا من وصف هذا السجن العتيق بكل نكراء حتى أصبح راسخاً في أذهان العالم كله أن الباستيل كان أفظع السجون التي شهدها التاريخ.
ولكن يظهر أن هذه خرافة أخرى من الخرافات التي يحملها التاريخ في بطونه ودفاتره، كما يتبين لك من الكلمة الآتية التي كتبها عنه العالم المتقدم الذكر في رسالته.
لقد كانت العناية بالمساجين في سجن الباستيل نهاية في الكرم وغاية في الجود، وكان كل سجين يكرم على قدر مكانة في الهيئة الاجتماعية، فمثلاً كانت الحكومة تصرف يومياً لحاكم الباستيل خمسة فرنكات لطعام المسجون المتوسط الحال، وخمسة عشر فرنكاً لطعام(21/14)
العضو في البرلمان وأربعة وعشرين فرنكاً للقائد وستة وثلاثين للمارشال ولما ألقي الكاردينال روهان في الباستيل من جراء عقد الملكة، كان يصرف عليه الحاكم في اليوم مائة وعشرين فرنكاً، وكذلك كان يتفق على المساجين من الفقراء والإغمار بقدر ما يناسب حالهم، فكان الباستيل أهنأ سجن في العالم بأسره بل إن ريتفيل في طعنه على حالة فرنسا قبل الثورة الفرنسية قد اعترف بأن كان يشرب وهو في الباستيل سجين خمرة الشمبانيا وخمرة البورغوينا ويأكل الفراخ والأرانب والسمك بل كان رئيس الطهاة في الباستيل يعرض على المساجين كل صباح قائمة الأصناف للتصديق عليها، بل كان الملك يأمر بكساء من يفتقر منهم إلى الملابس، وكان المساجين في السجن بأثوابهم الجميلة وأرديتهم ومعاطفهم وأوشحتهم وأقبيتهم، ولم يكن يلبس منهم أحد ملابس السجن وكانت الحكومة تقدم السجائر والدخان إلى من يحتاج إليها منهم وكانوا في بعض الأحايين يقيمون بينهم حفلات موسيقية أو فصولاً تمثيلية، وإذا مرض أحدهم عالجوه دون مابل وإن شاء أن يفصحه طبيبه الخصوصي جاؤوه به!!!. .
ولعل القراء يتساءلون بعد ذلك لقد كان هذا الباستيل أشبه بالفندق منهن بالسجن!. .
كلاب البحر الفيلية
قدم الدوق بدفورد رئيس جمعية الحيوانات في لندن إلى حديقة الحيوانات بها زوجين من كلاب البحر الفيلية، وهما اللذان ترى في الصورة الماضية، ويبلغ طول الواحد منهما نحواً من ستة أقدام ويقولون إن هذه الكلاب تنمو وتطول حتى تصير عشرين قدماً، والسبب في تسميتها بهذا الاسم هو أن منخار الذكور منها ينتهي بما هو أشبه بخرطوم الفيلة، بينا تجد إناثها أصغر خراطم من أزواجها، ولا يظهر هذا الخرطوم في الصغار، لأن رأس هذا الحيوان أشبه برأس الكلب وله عينان واسعتان مستديرتان، وهو من الحيوانات البرية البحرية.
عقيدة العلامة هيكل
أرنست هيكل من أكبر العلماء الطبيعيين في هذا العصر، وهو رسول الحرب المستطيلة القائمة اليوم بين مذاهب النشوء ولاسيما المذهب الذي جاء به هذا الشيخ وهو المونيزم أي وحدانية الكائنات، وبين أساطين رجال المذاهب الكاثوليكية الرومانية، وهو اليوم قد جاوز(21/15)
العقد السابع من عمره وقد وفدت عليه يوم عيد ميلاده الثمانين التهاني، والرسائل والأماديح من كل قواد الفكر الإنساني في نواحي العالم كله.
وهذه العقيدة الجديدة تتلخص في كلمة واحدة، هي إن الذهن والمادة شيء واحد، وإنهما مظهران لكائن واحد مطلق، وإن كل شيء في العوالم جزء من القوة الإلهية أو مظهر من مظاهرها.(21/16)
عالم الحرب
مذكرات سرية عن الإمبراطور غليوم
وصيفة من وصائف الشرف لبثت زهاء عشرة أعوام في بلاط برلين تحدث العالم عما رأته من غرائب أخلاق غليوم وشواذ نوادره وأسرار حياته وبدائع جنونه وعجائب أموره - وهي حقائق ثابتة لا يشوبها شائبة من الكذب أو التلفيق أو الاختلاق ولا يمازجها أثر من التخيل أو الزيادة أو التوسع أو الأطناب.
والكاتبة الوصيفة من الكونتسات، أعنى من السيدات النبيلات - تقول في مقدمتها ليس لي مأرب شخصي من هذه المذاكرات ولا أسباب عندي في وصف ما رأيت من العيشة البلاطية وشاهدت فإذا كانت قد احتوت جملة من الغرائب واشتملت طائفة من المضحكات، وهدمت كثيراً من الآراء الثابتة عند القراء وكشفت عن أسرار عجيب هي على النقيض مما أصبح تاريخاً مقرراً مشهوراً، إذن فليذكر القارئ أن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال وأن التاريخ ليس إلا كذبة مزخرفة - ولست ذاكرة إلا الحوادث التي وقعت تحت عياني، أو التي استقيت من شهود ثقات، وأما الحوادث التي وقعت قبل تتويج الإمبراطور فسأضطر إلى نقلها من أحاديث أهل البلاط ورواياتهم.
فكاهات كثيرة من جنون الإمبراطور بنفسه - تغزله في النساء أمام زوجته وأمام الحضور حتى ولو كان بينهم رجالهن - غيرة الإمبراطورة وأمثلة مضحكة عن ذلك، تحدث غليوم عن نفسه واعتباره كل شيء في ألمانيا ملكه - إعلانه عن نفسه - غرامة بأيدي النساء حتى العجائز والدميمات - واقعة حال بينه وبين سيدة.
علمتني الأعوام الطوال التي عرفت فيها الإمبراطور وعشتها على مقربة منه إن اعتقد أن الإمبراطور لا يجب أن يسأل عن كثير من أمور إدعائه وزهوه وقسوته وتقطيبه، لأنه لا يستطيع أن يتمالك نفسه من إتيانها، فهو لا يهتم بأحد إلا نفسه ويعد الناس والجماعة شيئاً لا يعني به ولا يحفل حتى لكأنه لا يشعر بوجود إنسان ما بجانبه.
فإذا خرج يوماً وزوجته في نزهة طيبة على متون الجياد، ثم حدث للإمبراطورة في الطريق حادث عاقها عن اللحاق به، لم يكن من غليوم إلا أن يتابع سبيله إلى الوجهة التي يريدها هو ورفقته وحرسه وراضة جواده، غير مكترث أبداً ولا مهتم ولا حافل ولا مخفف(21/17)
من سرعته حتى يمكن الإمبراطورة من مداناته، يكفي أن لدونا (اسم زوجته) وصفاءها ونساءها وحاشيتها، فليهتموا لها هم وليعتنوا.
وقد يلتقي الإمبراطور بامرأة لعلها زوجة أحد الضباط الجدد في محفل أو مأدبة فيعجب بجمالها ويشغف بحسنها، إذ ذاك لا يتأخر دقيقة واحدة عن التصريح بذلك أمام الحضور، مسترسلاً في مديح تقاطيعها، مكثراً من التنويه بوجوه حسنها، إن كانت رخصة اليد ناعمتها، أو كاعبة النهد بارزته، فإذا عمدت الإمبراطورة - وعلى رضاها يتوقف مركز كل امرأة في البلاط - إلى اسم السيدة التي نالت إعجاب الإمبراطور فمحته من قائمة زوار القصر، لم يظهر كذلك أقل اهتمام، فكأنما يرى الإمبراطور أن الشرف قد يعود فينبت ثانياً كما ينبت الشعر.
هذه مدام بوكن مثلاً، كانت عند الإمبراطور في مقياس الجمال آية الآيات ولذلك كم أكثر من الكلام عن يديها وقدميها، وكم أسهب في التشبيب بساعديها وكتفيها. بل كم زين حجرة مكتبه (بفتوغرافياتها) وزوق غرفة نومه وحجرة استقباله بعدة من صورها، ولكن السيدة نفسه لم تجز يوماً عتبة القصر، على الرغم من أن رئيس البلاط يضع اسمها في رأس القائمة سنين عدة عند كل حفلة تقام أو مأدبة تؤدب والسبب في ذلك أن الإمبراطورة وضعت يدها في القائمة فخابت مدام بوكان في كل شيء.
وهذه حادثة (فيلما بارلاغي) المصورة لا تكاد تفترق عن الحادثة المذكورة، فإن الإمبراطور أعلن عنها أكبر إعلان ونوه بها أعظم تنويه، وجعل يغدق عليها الأوسمة الذهبية و (المداليات) على الرغم من احتجاج جمعية الفنون الجميلة وعلى كره من مجمع برلين، وقد دعاها آخر الأمر لترسم بريشتها صورته فجاءت إلى القصر ولكن لشد ما أضحكني ذلك المنظر فقد أبت الإمبراطورة إلا أن لا تفارق زوجها لحظة واحدة وجعلت تجلس إلى جانبه في كل جلسة يريد تصويره عليها، وطفقت تمعن في وجه الرسامة الحسناء لكي تخجلها ولا تمكنها من إجادة عملها وإظهار براعتها فكنت أضحك في نفسي كما رأيت حيرة المصورة وأنا أتقدم أمام جلالتيهما إلى حجرة التصوير.
وأما عن تحدث الإمبراطور بنفسه واعتباره موارد الحكومة وأملاكها وثروتها كملكه الشخصي فحدث ولا حرج، كل شيء ملكه، (جيشي) و (بحريتي) و (ثغوري) و(21/18)
(حصوني) و (أموالي) و (وزيري) و (مستشاري) تلك عبارات نسمعها من فمه كثيراً بمثل اللهجة التي يقول بها (جوادي) و (أولادي) و (خطبي).
وإعلانه عن نفسه قد يلبس لباس المروءة والكرم فقد كان وجهه مشرقاً بضياء الفرح والزهو يوم أنبأ البلاط في حادثة حريق معرض باريس بأنه بعث صكاً بعشرة آلاف فرنك إلى لجنة مساعدة منكوبي الحريق فكأنما كانت تقول عيناه إن العالم بأسره سيتحدث ولا ريب عنها، أفي وسع رجل أن يعمل أكثر من ذلك لعدو أهلي؟.
وفي مساء ذلك اليوم، حتى قبل أن تعلم الصحف بأمر الاكتتاب جاء الإمبراطور رسالة برقية من سفيره في باريس تقول سيحملون جلالتك على باريس سنة 1900 في موكب فخم عظيم.
ولكن لم يكد يمضي شهر حتى عم السيل مقاطعة ورتمبرج وخرب منها ما خرب فلم يجد الإمبراطور مالاً عنده أو كلمة عزاء يدفها إلى المنكوبين والمحزونين!.
واللاتي وقع غليوم في حبهم اشتهرن بنعومة أيديه ورخصها وبضاضتها وتناسب أجزائها وحسن منظرها، وترى الإمبراطور لا يريد أن يحفل بأية غادة يتلقي في المحفل، اللهم إلا إذا كانت ناعمة اليد حلوتها، حتى ولو كان لها مع ذلك منقار النسر أو ثدي الدجاجة أو حدبة الأحدب، وإنه ليجاذبها إذ ذاك أطراف الحديث ويأخذ في التشيب بجمال يدها، فإذا قامت لتنصرف قبل يدها تقبيلة واحدة إذا رأى من الحضور أعيناً راقبة، وعشر تقبيلات إذا لم يكن ثم رقيب.
ثم لا عجب أن يكون لبس القفازات في القصر أمراً إجبارياً على نسائه ووصيفاته فإن الإمبراطورة، ولم ينعم الله عليها بجمال اليد ونعومة الكف، تحظر على نسائها ترك القفاز أو نسيانه، ولكن ترى الإمبراطور في بعض جلسات العشاء بعد مرقص أقيم أو غناء صدح يسأل دائماً بعض سيدات البلاط والزائرات أن يخلعن عنهن قفازاتهن. وقد قال يوماً على المائدة (إني لا تأفف من اليد والزند المختفيين، وراء القفاز تأففي من السيدة في ردنجوت تتبرقع!).
واعلم أن الإمبراطور وإن كانت تهفو نفسه في أثر اليد الناعمة والكف الحلوة إلا أنه ليجن غراماً إذا زانها زند بديع ومعصم جميل. وهو على أنه ليس بالرجل الجواد الكريم تراه(21/19)
السريع البذل الأريحي في انتخاب الهدايا والتحف لمن يرى من النساء الناعمات الأيدي الجميلة المعاصم، ثم هو لا يشترك في حفلات توزيع مشابك الصدر والقلائد والعقود على سيدات القصر وغانياته وإنما يخف إلى توزيع الخواتيم والأساور ويخلعها عليهن بيده.
وقد وصفت سيدة من ذوات الألقاب في القصر واقعة حال في هذا الشأن بينها وبين الإمبراطور قالت: (أمرني يوماً جلالة الإمبراطور أن أحضر إلى قصر برلين وكان أهل البلاط جميعاً متغيبين في قصر بوتسدام وأن أجيء منتقبة حتى لا يعرفني أحد.
فلما دخلت حجرته الخصوصية إذا به في بهرتها ولم يكن وجهه شاحباً كعادته فقال لي: (اخلعي عنك خمارك وسترتك) وكانت تبدو عليه علائم القلق، وكنت يومذاك في قميص رفيع ذي كمين حتى المرفق يزينهما حاشية طويلة من الدنتلا.
قال الإمبراطور وأنا أخلع القفاز يا الله، إنه لشيء جميل! ثم عمد إلى سجف هناك فانتخب من بين عدة من صناديق المجوهرات صندوقاً كبير الحجم فأخرج منه سواراً على شكل الأفعى فمده إلى آخر نطاقه وقلده ذراعي فامتد فوق المرفق، وعند ذلك شكرت للإمبراطور هديته فجعل يقبل ساعدي مرة بعد مرة بين حلقات السوار وتعرجاته ثم ختمت السيدة اعترافها في ابتسامة ساذجة طاهرة (والذي أدهشني أن جلالته كان يلعب بأصابعي ويعبث طول الوقت!).
لله سذاجة تلك الغانية: لقد ظننت ولا تزال إلى اليوم تظن أنها أول سيدة ظفرت بلعب هذه الكوميديا الجميلة، وما درت أن هناك في برلين وبوتسدام وكييل وبرسلو وكونجسبرج عشرات أمثالها من النساء والعذارى والفتيات لا يزلن يحتفظن بطرائف مثل طرفتها نلته من كف الإمبراطور، ولكنهن لسن جميعاً ثرثارات مثلها ولا ينسى الإمبراطور أبداً يد قبلها يوماً وإن بعد بها العهد، وهذه الذاكرة القوية مما يحدث في نفس الإمبراطورة زوابع من الغيرة المرة المؤلمة، وقد يكونان معاً في المركبة إلى نزهة جميلة وإذا بالإمبراطور قد قطع على زوجته الحديث يقول انظري يا (دونا) إلى يد هذه المرأة، أليست هي السيدة التي رأيناها في مكان. . . إنها لمليئة بريشة المصور!.
وللقارئ أن يتصور لنفسه مقدار غيرة الإمبراطور ومبلغ غيظها وحنقها.
(اقرأ في العدد القادم قطعاً أخرى مختارة من هذه المذكرات)(21/20)
رجال الحرب
الكونت فون زبلن
هذا اسم مشهور معروف، له شهرة الشمس والقمر، فهو أمير الهواء، وفاتح أقطار السماء، رأى الأرض توشك أن تضيق دون جنود الإنسانية، وإن صعيدها لا يكفي ميداناً للحيوانية الإنسانية، وإن سوحها لا تتسع لهذا التنازع الرهيب على البقاء ففتح لها الجو وذلل لها الريح تجري مسخرة رخاء.
ومن ترى يدري ماذا كنا آخذين عن هذا الذهن العظيم غير الطيارات لو لم يصنعها، ومن ذا يعلم ماذا كنا واجدين منه لو كان وجه هذا العقل الكبير إلى حسنات العلم وثماره الصالحة؟.
لقد كان في حياة زبلن أكبر الأمثال على قوة الدأب، ومتانة الصبر، وشدة المراس، وهول الثبات، وعظمة المثابرة، وهو اليوم شيخ قديم العهد بالحياة، دخل منذ أوائل الحرب في حدود السابعة والسبعين، فقد داءه المجد متأخراً متثاقلاً متباطئاً كأنما كان على كره منه، ولم يعط نصيبه منه إلا منذ ستة أعوام لا غير، إذ أقبلت عليه الشهرة وهو في السبعين ووضعت يدها في يده قائلة له لقد أحسنت!.
وليس في تراجم المخترعين من الوقائع الغريبة والصعوبات العظيمة والآمال المخفقة والحيل الضائعة والحوائل المنيعة ما في حياة هذا البطل، ولم يظهر رجل على متن المصاعب ولم يتسلق القحم إلى العظمة، بأشد ثباتاً ومراساً من هذا الرجل، فإن الضربات الصاعقة القائلة التي هوت فوق رأسه من يد القدر لم تستطع أن تقتله، بل كانت كل ضربة لا تقتله تخدمه، فلا بدع إذا أصبح اليوم معبوداً لي بني قومه مقدساً.
ولد في سويسرا، على ضفاف كونستانس، تلك البحيرة الجميلة الزاهية، وكان أبوه من ضباط البلاط في برلين، وقد صرف زبلن شبابه جندياً باسلاً مغواراً تطوع أول مرة في حرب الثورة الأمريكية فأبلى أعظم البلاء.
وكانت خدمته في الجيش الأمريكي هي التي قدمت إليه الفرصة الأولى لولعه بفن الطيران، إذ كان في الجيش بالون أسير للاستكشاف فكأنما أراد القدر أن لا يولد مستقبل ألمانيا الهوائي إلا في العالم الجديد!.(21/22)
فلما كانت سنة 1892 انقطع زبلن لدراسة الطيران، وأعلن قومه بأنه صانع لهم مركباً هوائياً عظيماً، يجول في الجو المسافات البعيدة، ويكتشف لهم أجنبي المواقع والسواحل والبلدان - وإذا بصيحة ضحك عالية من الجمهور وضجة عبث وسخرية واستهزاء وقهقهة عالية يمازجها نوع من الرثا، فقد ظن القوم أن الرجل قد عرته جنة أو أصابه مس أو انتابه دخل.
كان أصدقاؤه إذا نظروه يقولون إن زبلن قد أشرف على طفولة الشيخوخة وأما أعداؤه فكانوا أخف رحمة وأقل ضحكاً، كانوا يصيحون إن زبلن مخترع مغرور ممرور.
ولما لم ير في بني جنسه رجاءه المطلوب، قصد رجلاً من أصحاب الملايين في أمريكا ليرهنه مستقبله على قرض يقرضه وهو خمسة آلاف جنيه فما كان من هذا المتمول الكبير إلا أن نهره قائلاً: أن لا أحفل أبداً بأمثال هذه السخافات التي يحلم بها السفهاء!.
ولكن زبلن لم يكن ليرجع عن أمله بل ما فتئ يجاهد غير محتفل بمجون الناس ولا مكترث لمزاحهم واستهزائهم وإهمالهم، فأضاع ثروته وثروة زوجته، إذ كان ينشئ المئات من النماذج والتجارب، ثم يعود فينسخها ويحاول غيرها، يضع النموذج فإذا أتمه وطبق عليه كل قواعد العلم وقوانينه، عمد إلى تجربته، فإذا هو لسوء الخيبة لا يطير!.
وما لبث الناس حتى المعجبون به أن تناسوه بتة واحدة ولكنه جعل يكتب في الصحف ويستصرخ ويحث ويحض ويقول إنه في طريق الحق وإنه في أثر النجاح وأنه وأنه، ولكن عبثاً كان يطلب وباطلاً يريد، ولكن هذا لم يقض على قوة الثبات فيه، بل عاد فادخر بعض المال وعمد إلى مواصلة البحث والاجتهاد، ولشد ما كان عجب الحكومة والشعب والعالم كله يوم رأوا الرجل الذي كانوا بالأمس يسخرون منه ويتضاحكون من سخافته كما كانوا يدعونها، يوم رأوا هذا الرجل يطير ست جولات ناجحة لابثاً في الأخيرة منها محلقاً ثماني ساعات أو تزيد، قاطعاً في خلالها مائتي ميل أوتربو - وكان ذلك في خريف عام 1907.
إذ ذاك توارى الشاتمون المتضاحكون في أجحارهم وشقوقهم، خزياً وخجلاً وندماً، واشترت حكومته منه منطاده هذا، بل وأعطته فوق ذلك خمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات يستعين بها على تجاريبه.(21/23)
وكذلك أخذ هذا الرجل القوي الروح القوي المبدأ في تحسين مراكبه وتنقيح مناطيده حتى استطاع في سنة 1909 أن يطوف في الجو طوفة لا يقل محيطها عن ألف ميل والكونت زبلن ككل العظماء الذين حاربوا الدهر وخاضوا سبيلهم المحفوف بالمكاره إلى عرش المجد فاقتعدوه، أجل، هو ككل هؤلاء في أنه التواضع مجسماً، وهو وإن كان معبود الملايين إلا أن ذلك لم يحدث أدن أثر في أخلاقه ولين عريكته يعيش في مدينة ستوتاجرت، لا يشعر به إنسان، بل ترى برلين المتناهية في عبادته المبعدة في تأليهه قل ما تراه أو تسمع بخبره!.
ولم يرزق الله الشيخ العظيم بغير ابنة وحيدة هي الآن زوجة أحد الضباط، وقد أخذت عن أبيها علم الطيران وتعرف عن المناطيد شيئاً كثيراً، وقد كانت هي العزاء الوحيد للشيخ أيام خموله وزمان محنته.
ولا يزال الكونت زبلن يؤمل أن لا يموت قبل أن يكتشف على متن المنطاد جميع الأقاليم القريبة من القطب!.
سيرجون فرنش
لم يكن هذا الاسم قبل الحرب صغيراً فكبر بنشوبها، وما كان مغموراً فنبه بوقوعها بل لقد كان معروفاً مشهوراً في كل أنحاء العالم قاصيها ودانيها، إذا ذكر في مجلة جاء عرضاً في كتاب، ذكر الناس أنه ذلك الجندي الجليل العظيم، وأنه القائد الفذ النادرة الذي يقف على رأس قواد بريطانيا العظمى بأجمعهم وأنه أبدع قواد الخيالة في الغرب، ولعل المصريين يذكرون هذا الاسم الكبير في تاريخ السودان وحصار الخرطوم.
إن اسمه الكامل ولقبه هو فيلد مارشال سيرجون دنتون بنكستون فرنش. وإن كان لا يعرف بين جنوده إلا باسم جاكي فرنش وقد كانت أمواه البحر أول رغبة من رغائب صباه، وأول مركب في شبيبته، إذ كان أبوه من قباطنة الإنكليز، ولذلك لم يكن في هذا شيء من العجب، لأنه أراد أن يخرج على حذو أبيه، ومضى في البحرية قبل التحاقه بالجيش زهاء خمسة أعوام، تلميذاً يتدرب لرتبة الضابط.
ومن ثم ترى جنود البحرية وجنود الحربية إذا اجتمعوا يوماً في محفل أو ثكنة أو محضر وجاء ذكر هذا الرجل، ينطلقون في الخصام متنازعية بينهم متشاجرين عليه. متقاسمين له، فيقول جنود البحرية لإخوانهم جنود الحربية إن القائد فرنش نشأ أول أمره ملاحاً بيننا فيرد(21/24)
عليهم الآخرون نعم إنه مكث دهراً في البحرية ليرى سوء حالكم ويشهد عيوبكم، فلم يلبث أن تأففت نفسه منها فجاءنا وكان منه ما ترون اليوم!.
وكان وهو في الجندرية شاب، يقطع أكثر دهره مطالعاً سير ولنجتون ونابوليون وكلايف، ولم يلبث طويلاً حتى التحق بالفرقة التي جاءت السودان لإنقاذ الخرطوم. فأبلى هناك أعظم البلاء وأظهر أروع ضروب البسالة والإقدام، وقد كان غوردون الجندي القديس كما يسميه الإنكليزي محصوراً في الخرطوم، وكان فرنش قد رفع إذ ذاك إلى رتبة (الماجور) فأنفذه القائد ولسلى مع الحملة الهجانة لإنقاذ غوردون عن طريق الصحراء، فاندفع بفئته مخاطراً مخاطرة مستميتة وقاتل رجال المهدي قتالاً عنيفاً، حتى إذا دخلوا الخرطوم وجدوا غوردون قد قتل.
ثم كانت حرب البوير فتجلت عبقرية فرنش فيها بأجلى مظاهرها، ولعل أعظم شهادة نالها في حياته - والفخر ما شهدت به الأعداء - هي التي صرح بها دي ويت الزعيم البويري المشهور، فإن هذا الرجل بينا كان يمجد شجاعة الجنود الإنكليزية وينوه ببسالتهم كان ينتقص من مهارة ضباطهم، فلما ذكر اسم هذا البطل أمامه، غير في الحال لهجته، وقال نعم إنه هو القائد البويري الوحيد في جيوش الإنكليز!.
ولعل فرنش هو الرجل الفرد الذي ظفر في قتال البوير بالنجاح من الأول إلى الأخر، نزل الكاب في العاشر من شهر أكتوبر سنة 1899 وبرحها إلى وطنه في يونيو سنة 1902 يحمل لقب أكبر القواد الخيالة في العالم الحديث.
وليس هناك من ريب في أن إنقاذ مدينة كمبرلي، أعظم بلاد الماس في جنوب أفريقيا - كان إحدى مخاطرات فرنش ونادرة فعاله، فهو الذي اندفع بجنوده عدواً على متون الجياد، منقضاً على صفوف الأعداء، هاجماً في بهرة ذلك القتال المستحر.
وهو اليوم في فرنسا قائد الجيوش الإنكليزية يدافع ويناضل وهو في الثانية والستين أشد بأساً وهمة منه في الثلاثين.
ولقد كان هذا الرجل الكبير في كثير من حوادث حياته الحربية عرضة للموت أو هدفاً للأسر أو القتل، فمن ذلك أنه وقع يوماً وهو في حرب البوير في خطر شديد، تحت صيب من القنابل، وهاطل من الرصاص، وجو كثيف من الدخان، ولم تقدر عليه النجاة إلا(21/25)
بانبطاحه على أديم مركبة من مركبات السكة الحديدية، ولذلك لا غرو إذا كان فرنش معبوداً من جنوده جميعاً وقد حدث أحد الجند الذين حضروا حرب البوير معه فقال: إنه ليبدو هادئاً ساكناً في أشد المواطن اهتياجاً واضطراباً، لا يذهل به ولا يطير جنانه فيعرض الجند إلى المذبحة، بل إنه لينظر قبل أن يطفر وإذا طفر جعلنا نحن والويريون نطفر جميعاً، وهذا ولا ريب هو سر القيادة الظافرة الناجحة وكتب يوماً إلى زوجته من ميدان القتال ما كنت أظن أنني سأخرج من هذه الموقعة حياً.
وهم يدعونه بفرنش الصامت ويشبهون صمته وسكونه بسكون الماء يكون عميقاً، وقد قال يوماً لجندي من جنده قد حكم عليه بالحبس: إن فرنش العجوز لا ينبح ولكن. . . يعض!.(21/26)
عادات أهل التوجو وغرائبهم
يذكر القراء أنه ما كادت تقع الحرب حتى ضم الإنكليز إليهم أرض التوجو إحدى مستعمرات الألمان في (القارة المظلمة) كما تسمى أفريقا عند الأمم البيض، ولما كان أهل التوجو لا يزالون على الفطرة الأولى في كل فروع حياتهم، ولا تزال حالهم كحال الإنسانية جمعاء في العصور الحجرية والطبقات الجيولوجية القديمة، ولا تزال حالهم كحال الإنسانية جمعاء في العصور الحجرية والطبقات الجيولوجية القديمة، فقد رأينا أن نجيء بوصف هؤلاء الناس وشتى عاداتهم، حتى تعرف الإنسانية المهذبة مقدار الهاوية السحيقة الغور التي وثبت من أعماقها، وإن كانت لا تزال اليوم تحمل دليلاً من دلائل الإنسانية المتوحشة، وهي العيش في ظل الحرب!.
أرض توجو - أو كما يسميها الإنكليز توجولاند - إقليم مستطيل يمتد على الساحل الغربي من أفريقيا، بين مستعمرة ساحل الذهب الإنكليزية، وبين مستعمرة داهومي الفرنسية، وهو وإن كان مستعمرة من مستعمرات الألمان إلا أن سكانه من الأوروبيين لا يزيدون عن ثلاثمائة نفس، بل لم يكن فيها يوم ظفر بها الإنكليز في بدء الحرب أكثر من اثني عشر ألمانياً كلهم من الموظفين العسكريين والمدنيين بها، بينا يزيد أهلوها عن مليون نسمة.
وهم كاهل البلاد المتوحشة ينقسمون إلى قبائل وشعوب، وكلها لا تزال في مبادئ النشوء الاجتماعي فأما قبائل الجنوب فعلى شيء من المدينة الابتدائية يجيدون ركوب الخيل، ويسترون جسومهم بالقماش ويدينون بالإسلام، أما أهل الشمال فيدينون بالوثنية ويعيشون عيشة أهل العصر الحجري تماماً، جل أسلحتهم القوس والنبال وهذه الأخيرة يطلونها سماً زعافاً، وليس لديهم من السكة ووسائل المعاملات غير الملح، والنساء والرجال حفاة عراة الأبدان، وفي بعض النواحي يستترون بلحاء الشجر أو أوراق الأغصان الناضرة.
ولعل أرق قبائلهم قبيلة الكونوكومبوا وهم وإن كانت الروح الحربية عندهم لم تخرج عن حدود القوس والنبل إلا أنهم قوم شجعان بواسل حتى أن الألمان أنفسهم خرجوا من المستعمرة ولما يضعفوا شوكة هذه القبيلة الباسلة.
وترى منظر الجندي المحارب منهم - كما هو ظاهر من الصورة التي أمامك - لا يقل في الروعة عن منظر أي جندي آخر، يلبس فوق رأسه خوذة تزينها عقود من الخرز والمحار ويعلوها قرنان مستطيلان من قرون الوعل ويشد إلى كتفه جعبة يضع فيها سهامه(21/27)
المسمومة وهي من جلد وحيد القرن (الخرتيت) ومحلات بالخرزات، وهو يكاد يكون عارياً لولا الخرقة التي يستر بها عورته على أن بشرته السوداء المصقولة اللامة لتبدو في أشعة الشمس كبدلة من القطيفة أو الحرير، وتراه يلبس في زنده أساور من الفضة أو النحس إذ يعتقد أن وسوسة هذه الحلي تثير الرعب في قلوب أعدائه.
وأهل توجو جميعاً يعيشون في أكواخ من خشب الأشجار يبنون فوقها طبقة من الطين النيئ والذين يسكنون منهم الجبال يبنون لهم حصوناً تكاد تكون على شيء من الفن، وهم يجتهدون في زراعة الأرض ويخرجون أحياناً منتوجات طيبة من الدخن والقمح، بينا ترى أهل الجنوب والبلاد الوسطى يحاولون أن يظهروا أنهم قد انتقلوا قليلاً من الوحشية المطلقة فيزرعون القطن يصنعون منه موا يستر عوراتهم، وهم مهرة في عمل السلال ونساؤهم حاذقات في صنع الخرز.
وليست أرض توجو كلها طيبة لسكنى الأوروبيين بل هناك نواح منها يغشاها مكروب الملاريا، ومن الأمراض الفاشية بينهم مرض النوم وأول ما ظهر هذا المرض القتال منذ ثمانية أعوام أو تسعةن وهو يفتك بهم فتكاً ولذلك تراهم لا يستخدمون الخيل نهاراً بل يستعملونها ليلاً، لأن ذبابة هذه المرض - المعروفة بذبابة التستسى لا تظهر في الليل وأما بالنهار فيحبسونها في أكواخ يحصنونها من هذا الذباب ويقيمون عليها الحراس.(21/28)
من هو روتر؟
يرى القراء هذه اللفظة عند نهاية كل تلغرافات العالم أو جلها، فيتساءلون تري من هو روتر هذا، وكيف نشأ، وهل هو حي أم قد مات؟.
ونحن محدثون القراء عن روتر وما كان منه:
يوليوس روتر هو اسم مؤسس هذه الشركة الكبرى التي تنقل أنباء العالم بين جميع أأصقاعه وأقطاره ونواحيه، ولد هذا الرجل منذ ثمانية وتسعين عاماً أي عام 1816 ولولا قوة ثابتة ونشاطه واجتهاده وعزيمته، لما عرفه العالم ولا احتفل به الناس احتفالهم اليوم ولا ترددت أنباؤه في كل مملكة أو بلد ولما كانت لنكتب عنه هذه السطور.
نشأ كما ينشأ كل رجال العمل أو سوداهم فقيراً فكان أول عهده بالصناعة أن أخذ يطوف بين البلاد سعياً على الأقدام أو على ظهور المطي ينقل الأخبار من بلد إلى بلد إذ لم تكن السكك الحديدية ولا الأسلاك البرقية قد جاءت إلى العالم بعد.
وكذلك مضى في هذه الحرفة الشاقة المنهكة حتى إذا بلغ الثالثة والثلاثين أقام في مدينة أكس لا شابل من أعمال ألمانيا ينقل الأخبار بالتلغراف بين كثير من بلاد أوروبا وجعل يحذق هذه الصناعة ويدأب على معرفة أسرارها ومطالبها وحاجياتها وكانت لندن كعبته المقصودة ثم أخذ يجتهد حتى أنشأ بها سنة 1851 مكتباً صغيراً قصر عمله فيه على نقل تقارير الأسواق والأخبار التجارية البحتة ثم لم تلبث فروع عمله أن ازدادت حتى أصبح لذلك المكتب مكاتبون في أغلب عواصم الغرب.
ثم عمد إلى الصحف، ولكن الصحف في أول الأمر لم تثق به ولم تركن إليه ولم ترض بعمله وإن كانت قد اعترفت له بأنه قد جاء بطريقة جديدة، على أن هذه الخيبة لم تضعف من عزيمة لرجل ولم تقتل جذور الأمل القوية في أعماق فؤاده بل ظل يجاهد ويعمل ويدأب حتى جاءه النجاح أخيراً.
ذلك أن نابليون الثالث ألقى خطابه سياسية هامة في رأس سنة من السنين فالتقطها روتر بحذافيرها - وذلك بقوة الثبات التي لم تكن لتضعف من الصدمات وإن كبرت - وللحال بعث بها إلى الصحف فلم يكن هناك في الغرب صحيفة صغيرة أو كبيرة إلا نشرتها، وقرأها روتر في جريدة التيمس فما كان أشد فرحه بهذا النجاح وما كان أبهجه.
ثم لم يقتصر هذا الرجل الدؤوب على ميدان الصحافة بل ما لبث أن دخل في ميادين(21/29)
أخرى جعلت الناس باسمه يتحدثون ويهرفون، ذلك أنه في سنة 1856 اقترح أن ينشئ أسلاً كما تحت البحر بين إنجلترا وهانوفر وعقد اتفاقاً بين حكومة تلك المقاطعة وفي تلك السنة بعينها عقد اتفاقاً آخر بينه وبين فرنسا على مد أسلاك تلغرافية تحت المحيط بين الشواطئ الفرنسية وبين الولايات المتحدة.
ثم طلب في سنة 1872 إلى شاه العجم أن يعطيه الحق المطلق في إنشاء السكك الحديدية في بلاد الفرس وتشغيل المناجم والغابات وكثير من المصادر الطبيعية في تلك المملكة فرفض هذا الطلب ولكن عوض له عنه بحق إنشاء مصرف فارس.
ووقع لروتر اللقب والشرف الضخم في سنة 1871 إذ أنعم عليه بلقب البارون روتر وقد كانت وفاته سنة 1899 في مدينة نيس من أعمال جنوب فرنسا تاركاً وراءه شركة عظيمة لها أكبر الأثر في تاريخ العالم الحديث.(21/30)
القنابل الخانقة
كأننا بالعلم يخدم الحربيين أكثر مما يخدم الإنسانية، فقد كان من قوة العلم أن اخترع الفرنسيون في هذه الأيام نوعاً قاتلاً من القنابل لم يعهد له مثيل في تاريخ تطور الأساليب الحربية، ذلك أنهم اخترعوا قنابل خانقة تقطع أنفاس الجنود إذا كانوا في بقعة غير فسيحة من الأرض، وقد وقعت في هذه الحرب حادثة رهيبة تدل على قوة هذه القنابل الفاتكة.
وتفصيل ذلك أن كتيبة من الجنود الفرنسية جعلت تطلق قنابلها الخانقة على قصر كان قد احتله جماعة من الألمان، فقلما وقع القصر في أيديهم، ودخلوا يمشون في دروبه ومنها إلى البهو إذ بهم أمام جماعة من الألمان جامدين كأنهم تماثيل من المرمر، فمنهم من كانوا وقوفاً عند النافذة مصوبين بنادقهم ولا تزال أصابعهم ضاغطة على أزندة البنادق، وآخرون كانوا جلوساً يلعبون الورق ويدخنون اللفائف، وقد وقف في وسط الحجرة ضابط فاغراً فاه كأنما كان يريد أن يتكلم، وكان يبدو على الجميع كأنهم لا يزالون أحياء يتنفسون، واقفين أو قاعدين في أمكنتهم التي كانوا عليها منذ ساعة من الزمان!!.(21/31)
تميمة الإمبراطور
لا يزال الناس وإن أدعوا أنهم قد بلغوا شأوا بعيداً في الحضارة والتهذيب يظهرون بين حين وآخر دليلاً جديداً على جهل الوحشية.
هذا هو الإمبراطور غليوم يحمل دائماً في حبيب معطفه تميمة للحرب تتألف من عود من أعواد الحشيش يحتوي على أربع ورقات مجففة يابسة ذات رائحة زكية.
وحكاية هذه التميمة ترجع إلى سنة 1870 وتفصيلها أن فتاة من فتيات البلاط اقتطفت عوداً من الحشيش فأهدته إلى الملك غليوم الأول فتقبله ولما رجع من موقعة سيدان الكبرى رد العود إلى الفتاة قائلاً لها: لقد جلب إلى هذا العود حسن الطالع فخذيه الآن لعله يجيئك أنت الأخرى بالتوفيق.
ومضت أعوام فأهدته الفتاة إلى ابنة الكونتس دولما فلما كانت هذه في حضرة الإمبراطورة يوماً من الأيام ذكرت لها العود واقترحت عليها أن تقدمه إلى الإمبراطور فلما قصت القصة على غليوم لم يكن منه إلا أن أسرع متلهفاً إلى تقبله مؤكداً لزوجته أن هذا العود سيعود إليه بالنصر كما عاد إلى جده منذ أربعين سنة.
ولذلك لا يفارق الإمبراطور طلسمه هذا هنيهة واحدة ولا يريد أن يتنازل عن هذه الخرافة الكاذبة حتى الآن!!.(21/32)
تهذيب نساء برلين
أراد غليوم منذ سنين أن يهذف نساء برلين فأصدر أوامره أن لا تعطي المقاعد في دار التمثيل إلا للسيدات العاريات الصدر المرتديات الأقمصة المعروفة بالدكولتيه وكانت نساء برلين لم يعتدنها من قبل، فلما حانت ساعة التمثيل، وقع منظر عجيب يعجز عنه الوصف.
كانت تأتي السيدة إلى المشرف على تذاكر الدخول فتقول (ولكنني كما ترى عجوز، ولست أستطيع أن أظهر غضون عنقي ومكاسر صدري).
وهذا يقول لها (هذا لا يهم يا سيدتي، إن الأوامر يجب أن تنفذ، هذا هو المقص) يقول ذلك ثم يخرج من جيبه مقصاً كبير الحجم فتصيح السيدة (هذا فظيع! أيقص (فستاني) أأظهر رقبتي، هذا يستحيل!).
ثم تعلو الصيحة فالصيحة وتحاول السيدة أن تمانع ويحاول هو أن يقهرها، بينا الستار يريد أن يرتفع وبينا التمثيل يكاد يبتدئ، فلذلك تجد السيدة أنها مضطرة إلى الإذعان فيعمد الرجل إلى المقص فيقص صدر الثوب وهي بين ذلك مغطية وجهها بيدها والدموع تهمل من عينيها حتى إذا انتهى من تقوير الثوب قال لها (ما هذا يا سيدتي، ألا تنرين أنه قد صار الآن ثوباً باريسياً مفتخراً، انظري إلى نفسك يا سيدتي).
فتعدل السيدة إلى المرآة. . . لله ما هذا المنظر الجديد، إن ذلك الجيد الذي ما انكشف يوماً على أجنبي قد بدأ الآن ناصعاً من وراء هذه القوارة، إذ ذاك تحس باحمرار الخجل لأنها لم تبد في هذه البزة منذ يوم عرسها، وإنها لواقفة كذلك أمام المرآة تحملق في صورتها، إذ يعمد إليها خادم آخر من خدمة دار التمثيل فيصلح من أثر القصاصة وينظم حفافي القوارة، فإذا انتهى فتح لها الباب فتدخل البهو إلى مقعدها يعلو وجهها احمرار الخجل.
وكذلك اتبعت هذه العملية مع كل النساء النصف منهن والعجوز والشابة والحدثة فأما الشابات ومن في حدودهن فلم يعددن الأمر خطيراً أو صعباً إلى هذا الحد بل جعلت كل منهن تقول لأختها (انظري إلى عنقي، إنه ليس بعد كل هذا دميماً) وأخرى تقول (ماذا يقول فلان إذا رآني هكذا بارزة الصدر!).
ولم تلبث رحبة الدار أن امتلأت بالأعناق العارية والنهود البارزة والظهور المنكشفة وأصبحت كدكاكين الخياطين و (ورشهم) قد احتجب بلاطها بقصاصات القماش من كل الأصناف والألوان!!.(21/33)
ملابس الجنود
لكثير من الحيوانات المفترسة والوحوش الآبدة مقدرة كبرى في التخفي عن القانصين ومخادعة الصائدين والمهاجمين وقد بلغ من مهارة هذه الغريزة إنها تجتهد أن لا تسكن إلا البقاع التي تشبه تربتها وكل ما جاورها ألوان جلودها. وقد تنبيه الألمان إلى هذه الغريزة الحيوانية ففكروا في تغيير لون ملابسهم بلون سماوي قاتم يشبه الضباب وقد شهد كثيرون قد عادوا من ساحة القتال بأن من الصعب رؤيتها حتى من مسافات قريبة جداً، وقد قال أحد المكاتبين الحربيين من الأمريكان بعد أن حضر من ميدان الحرب لا ريب أن مخترع هذه الفكرة الشيطانية من العبقريين!.(21/35)
خياطة نياط القلب
من غرائب الجراحة وعجائب الجراحين أن الجراح زيدلر الروسي استطاع أن يشفي ثلاثين جريحاً كانوا قد أصيبوا بطعنات نجلاء في القلب ولعل السبب في نجاح هذه العمليات الجراحية التي قام بها يرجع إلى السرعة المتناهية في تأديتها والدقة والاحتراز الشديدين.
وتفصيل ذلك أن الجريح كان يؤخذ في التو واللحظة من موضع الإصابة فيعرض لتأثير الأثير ثم ينقل الجراح جزءاً من عظم الصدر ويرفع القلب من مرقده ويسرع في خياطة النياط بين النبضات، ولم يرجع بعد ذلك عظم الصدر إلى مكانه فوق القلب بل اكتفي من الغشاء بالجلد والعضل وذاك لكي يجعل للقلب مكاناً براحاً للامتداد وليمنع الخفقان من التعطيل وقد كان من ذلك أن عدة من هؤلاء الجرحى يشتغلون اليوم بالنشاط الذي كان لهم من قبل.(21/36)
العدد 22 - بتاريخ: 1 - 11 - 1914(/)
عالم الأدب
ننشر في هذا الباب أطيب الرسائل والمقالات المنوعة في الأدب والأخلاق والاجتماع والتربية والفلسفة وحياة العظماء والقطع المختارة من الروايات النافعة المفيدة والشذرات الجميلة من شتى المنظوم والمنثور والنوادر المختلفة والفكاهات والملح. ونذيل ذلك كله بنقد الكتب العربية التي تظهر في الأسبوعين.
تعدد الزوجات
رأي الدكتور جوستاف لوبون
ليس هناك كاتب وفي المباحث الشرقية والحضارة الإسلامية حقها من رصانة الرأي، وعدل الحكومة، وسداد الاستنتاج، والبعد عن التحيز، مثل البحاثة المحقق الدكتور جوستاف لوبون صاحب كتاب حضارة العرب وقد عثرنا حديثاً بين فصول هذا الكتاب البديع بكلمة ممتعة في ضرورة تعدد الزوجات عند الشرقيين والعوامل الجوية والفسيولوجية والأدبية التي دعت إليه، وبيان خطأ الفرنج في الحكم عليه، فرأينا أن نبسط للقراء رأي هذا الأستاذ المحقق العادل، ونطرفهم بخلاصة هذه الكلمة الشائقة.
إن جوستاف لوبون يعيب على الغربيين هذه الصورة الممسوخة التي يصورون بها تعدد الزوجات، وينعى على كتابهم ومؤرخيهم أحكامهم الطائشة وآراءهم المتسرعة لأنه يرى أنك لا تستطيع أن تفهم روح شرع من الشرائع في أمة غير أمتك إلا إذا وضعت نفسك موضعها، وتجردت عند البحث من جنسيتك، ونسيت التيار الفكري الذي يجري في الوسط الذي تعيش فيه والآراء التي تحيط بك.
إن نظام تعدد الزوجات عند الدكتور لوبون على النقيض مما يفهم الأوروبيون هو نظام بديع يرفع المستوى الأخلاقي في الأمة التي تعمل به، ويقوى فيها أواصر الأسرة ويشد روابط البيت ويجعل المرأة أشد احتراماً وأسعد حالاً من أختها في الغرب.
وإن تعدد الزوجات هو في الحقيقة نظام مستقل منفصل عن مبادئ الإسلام، وجد قبل النبي بين شعوب الشرق وأممه، كان مسنوناً بين اليهود مشروعاً بين الفرس، سارياً بين العرب، فلم تكتسب الأمم التي دخلت في دين القرآن شيئاً من هذا النظام القديم، ولم يكن في مقدرة أي دين من الأديان، وأن أوتي أكبر المقدرة على تغيير الآداب والأنظمة والأخلاق، أن(22/1)
يلغي نظاماً مثل هذا أو يعمل على أبطاله، لأنه النتيجة الضرورية للجو، والغاية المحتمة لمزاج الشرقي ونوع الحياة التي يعيشها.
أما عن تأثير الجو فلا حاجة للبسط فيه والشرح، حسبك أن فسيولوجية المرأة ومطالب الأمومة والولادة والأوجاع والأمراض وغيرها تضطر المرأة إلى أن تظل أغلب دهرها بعيدة عن زوجها، وهذه العزوبة الوقتية للرجل مستحيلة تحت جو كجو الشرق ومزاج كمزاج الشرقي، وهذا هو الذي جعل تعدد الزوجات من أوجب الصرورات.
أما في الغرب، وإن كان الجو أهدأ تأثيراً والطبائع أخف حرارة إلا أنك مع ذلك قل ما تلتقي بفردية الزوجية إلا في القوانين، وأما في العادات والآداب فما أقل العناية بها وما أندر.
يتساءل الدكتور لا أعرف لماذا يعتبر هذا التعدد الشرعي للزوجات عند الشرقيين أحط منزلة من هذا التعدد الكاذب الفاحش عند الغربيين، وإن كنت أعلم جد العلم بالأسباب التي تجعل الأول أسمى مكاناً وأربع قدراً من الآخر؟؟!.
أما وقد وفهمنا الأسباب الفسيولوجية التي عملت على اشتراع هذا التعدد في الشرق فليس من الصعب علينا أن نفهم السبب الذي حمل الدين على الإقرار عليه والاعتراف به، إن رغبة الشرقيين في الإكثار من النسل، وذوقهم المعترف به في عيشة الأسرة وعواطف العدل التي تتنازعهم ولا تسمح لهم بهجر المرأة التي لم تعد تعجبهم، هي الأسباب التي جعلت الدين يقر على هذا النظام الناشئ عن الآداب والطبائع.
يقول جوستاف لوبون وإذا اعترفنا بأن القوانين تنتهي دائماً بموافقة العادات فحق علينا أن نعترف كذلك بأن هذا التعدد المتطرف المجاوز الحد عند الغربيين سينتهي يوماً بأن تقر عليه قوانينهم!.
الأديب المصري
من كلمة للأستاذ عباس محمود العقاد الكاتب المشهور:
. . . . وما علمت في تاريخ الآداب حالاً أعجب ولا مسلكاً أوعر من مسلك الأديب العصري في مصر - عجب حاله وتوعر مسلكه لأن في مصر الأدباء العصريين وليس فيها القراء العصريون. أوهنا القراء العصريون ولكن الصلة بينهم وبين الأديب العصري(22/2)
مقطوعة.
وما القراء في مصر إلا واحد من ثلاثة: قارئ الأقاصيص والنوادر، وقارئ الأدب العربي، وقاري، الأدب الإفرنجي.
فأما قراء الأقاصيص والنوادر فأعنى من أن يقرأوا أدباً قديماً كان أو حديثاً. وأجهل إن قراؤه من أن يميزوا بين زهيدة وثمينه، وبغية هؤلاء من الكتب إنما هي تمرين ألسنتهم على الهجاء أو تبديد الوقت في البطالة والفراغ.
وأما قارئ الأدب العربي فإن كان ممن يقرأ فلا يروئ في المطالعة بصره ولا يصير من تلاوة الشيء إلى الحكم عليه فما أشبهه بقراء الأقاصيص!! وإن كان يقرأ ويحكم فهو إنما يحكم بطراز ألفه وشب عليه فلا معدل له عنه. ولا مقياس للأدب العصري إلا أدب الأمم التي سبقتنا في أدوار الحياة والفنون فهو - أي قارئ الأدب العربي - معزول أتم العزل عن آداب تلك الأمم. لا يستطيع نقدها وتقديرها إلا إذا استطاع إماطة الحجاب عن الغيب لأن حكم الرجل على ما ليس يعرف وتوهمه في نفسه القدرة على نقد أدب لا يلحن لغاته ولا يقرأ كتبه ولا يلم يسير أدبائه وأخلاقهم أو بمحاضراتهم ومساجلاتهم أو يحيط بآراء النقاد فيهم وأقوال بعضهم في بعض ويعارض بين عصورهم ومذاهبهم ثم لا يعلم الميزان الذي يزنون به إجادتهم ملاومهم - ذلك بمنزلة حذر الغيب.
ولا يحسن هؤلاء الأدباء المقارنة بين الأدبين إلا من جهات المشاركة وهي أخس ما في الأدب العصري وأنأى ما فيه عن جوهره وزبدته. وكائن ترى منهم من يقارن بين أديب محدث وأديب قديم فيرجح هذا على ذاك أنه أرجح من قبل المشاركة وبصفح عما سوى ذلك من الحسنات التي استدق سرها عليه بل يتعجل فيقضى للأدب إلى آخر بخطراته حتى لا يحرم قراء العربية حسنات هذا الكاتب الذي أبت نفسه عليه أن يلابس هذا العالم المنكوس:
عالم أشبهوا القرود ولكن ... خالفوها في خفة الأرواح
فاختار أن يقيم بعيداً عن المدينة وما فيها من الكذب والنفاق وسقوط الهمم ونستغفر الله القديم جملة على الأدب المصري جملة. وهو إن كان له عذر من الجهل بفضائل الآداب الأجنبية فلا عذر له من الحكم على ما يجهل.(22/3)
وربما عجبك من بعضهم أن يأنق للفصل الأنيق أو يستجيد قصيداً جيداً. فإذا سألته عما راقه أضحكك أنه ينتخب ما لم يخطر للكاتب أو الشاعر على بال ويسهو عما عمل له وتحراه كأنه ليس في الفصل أو القصيد.
هذا محك أولئك الأدباء على ما علمت من الزلل والانحراف. وكما رأيتهم ليسوا بأخبر من قراء الأقاصيص بغرر هذا الأدب وعرره.
وأما قراء الأدب الإفرنجي فيختارون أن يقتبسوه من أمهاته. ويرتادون في لغاته وأكثرهم لا ذوق لهم ولا بصر باللغة العربية، فما هم بأفهم للمعاني المودعة فيها من سواهم.
كانت حياة الأدب بالقبيلة ثم صارت حياته بالرؤساء في القرون الوسطى وليست مصر في حال من هذين. ثم صارت حياته اليوم بالقراء، وهم في مصر كما عهدت، فهل بقي للأديب العصري إلا أن يجاهد لنفسه وهل لقارئ حق عليه؟؟.
وصف بخيل
بقلم الشاعر الكاتب مصطفى صادق الرافعي كتبها خصيصاً للبيان
أما فلان فرجل بخيل لو مسخ حجراً لكفرت من سخطها الأحجار، ولو كان حديداً لما لأن الحديد في النار، ولو صوره الله طيناً أجوف لما طن في يد أحد على نقر، ولو خلقه مرة أخرى من تراب لما جمع هذا التراب إلا من ثياب أهل الفقر.
غنى مقتصد ملء برده مال، وملء جلده آمال، يستغل الصفر فيخرج منه ألفين، ويرى من إجلال الدينار أنه كما كتب اسم الله بلامين يكتب الدينار بألفين، وكم تمنى أن يكون كإبليس في أنه لا يموت إلا متى هرم الدهر، ولا يذهب من الأرض إلا حين لا يبقى في تاريخ الأرض عام ولا شهر، وإذا خوفته الموت والحساب قال دع عنك، وإذا علم أنه سيعطي كتاب أعماله قال يا ليته من ورق البنك.
على أن درهمه في أيدي الناس هم، واسمه في أفواههم سم، وكم لدراهمه من قتيل فمن (استلف)، فقد ذهب في التلف، ومن اقترض، فقد انقرض، وكم من بئيس قشعت غمامته، ثم غالت هامته، وقضت دينه، ثم أبكت عينه، فو الذي نفسي بيده إن دراهمه للصوص، وأنه للئيم (على الخصوص)، يرسل الدرهم في يد المسكين فيذهب فيه ديناره، ويقدح فكره الخبيث فلا تقع إلا في بيوت الفقراء ناره، ولو كان مخلوقاً يوم عرض الله الأمانة على(22/4)
السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها لحمل وحده الأمانة، وإذا كان مبلغ القول في وصف كل غنى كريم أنه صراف في خزانة الله فجهد القول في مثل هذا اللئيم أنه لص الخزانة.
وهو على غناه كأنه في الناس من همه بؤس القمار، وكأنه لحقارته ذيل الحمار، إن طلع عليهم فطالع زحل، وإن غاب عنهم فوباء رحل، ومتى ذكروه، فكأنهم أنكروه، وإذا قضى عليهم أن يسموه، فكأنما شتموه، وإذا وصفوه قالوا وجع الأظفار، وذنب بلا استغفار، وإذا عدوا الفئران سبب الطاعون عدوه سبب العدوى بين الطاعون والفار.
وأنه لآية فما رآه الصالحون إلا قالوا اللهم غفرا، ولا رآه الجاحدون إلا زادوا عتواً وكفراً، أما وجهه فلو أنزل الله مرآة من السماء فنظر فيها لصدئت من قبح خياله، كصدأ، ذلك المخزون من ماله، وأما روعته فلو خرج على الحسان لابتلاهن بما يفجأ الظباء من رؤية الفهد، وامتلكهن بما تشعر به المرضع إذا كشفت عن طفلها فأبصرت الثعبان في المهد، وأما جهامته فلو نظر إليه البدر لغرب، ولو أطلع عليه الفجر لهرب، وأما روحه فلو بعثت في خلق آخر لما كانت إلا بقة صيف، في رقبة ضيف، أو بعوضة تلسع العاشق المهجور فتوقظه وقد ظفر بالطيف، وحياته كالبلاء المحتوم، وغناه كالطلسم المحتوم، وأما هو فكالقبر الكتوم.
وأحسب لو رسمه أمهر المصورين فأبدع في خطوطه وألوانه، وأنطقه من عينه وعنوانه، وجعله آية فنه وافتنانه، وترك من يراه لا يحسب إلا أن المصور قد سرقه، أو أن الله تعالى مسخه على ورقه، لبقي مع ذلك في رسمه مغمز لا يصلحه إلا الشيطان الرجيم، ولا تلونه إلا شعلة من نار الجحيم، ومن للمصور بشرارتين من الصاعقة ينزلهما في الرسم لتظهر بهما عيناه، ومن له برقبتي البخل والرذيلة يطبق عليهما يسراه ويمناه، ومن له بلونين من غضب الله ونقمته يظهر بهما في الصورة معنى فقره وغناه؟.
ولست أطيل في القول فما أنا ببالغ من الفول بعض صفاته، وهيهات أن يصفه إلا من يعلم لغة الملائكة فينقل إلى لغة الناس كتاب سيئاته.
بشار بن برد
في طليعة شعراء العرب، وأحد شعراء الدنيا الذين لا ينتطح عنزان في أسبقيتهم في حلبة(22/5)
الشعر، بشار بن برد الأعمى شيخ المحدثين، وأحد مخضرمي شعراء الدولتين فإن هذا الشاعر يأبى إلا أن يكون شاعراً من أي الجهات نظرت إليه، فهو هو في الشعر ومحله فيه وتقدمه في طبقات المحدثين بإجماع الرواة ورآسته عليهم من غير اختلاف في ذلك محله وتقدمه ورآسته. وإذا نظرت إليه في أسلوب معيشته وجدته شاعراً، وتراه في مجونه ونوادره وغرائب أطواره شاعراً، نعم وتراه فتظنه الشعر مجسماً، ولا جرم فإنه ينمي إلى أصل آري وقد درج في مهد العربية وغذى بلبان البداوة وأخرج في خير العصور وأحفلها بالشعر والشعراء ونحن ذاكرون نهنا نتفا من شؤون هذا الشاعر العبقري تفكهة لقراء البيان.
(أصله ومنشأه)
أسلفنا أن بشاراً ينمي إلى أصل آري وذلك أن أباه برداً من فرس طخارستان (ولاية واسعة كبيرة من نواحي خراسان تشتمل على عدة بلدان) أصابه المهلب بن أبي صفرة (أحد أمراء الجيوش أزمان الدولة الأموية) في سبي فكان من نصيب زوجة المهلب فأقام برد في ضيعة لها بالبصرة مع عبيدها وإمائها ثم زوجته وأهدته لامرأة من بني عقيل كانت متصلة بها فولدت له امرأته وهو في ملكها بشاراً فأعتقته العقيلية فنشأ بشار عتيقاً لهم وربى في منازلهم ومنازل بني سدوس وصار يختلف إلى الإعراب الضاربين ببادية البصرة.
(خُلقه وخلقه)
كان بشاراً أكمه إذ ولد أعمى - قال الأصمعي كان بشار ضخماً عظيم الخلق والوجه مجدوراً آدم طويلاً جاحظ العينين قد تغشاهما لحم أحمر فكان أقبح الناس عمى وأفظعه منظراًَ - وكان إذا أراد أن ينشد صفق بيديه وتنحنح وبصق من عن يمينه وشماله ثم ينشد فيأتي بالعجب. قال الأصمعي: وكان بشار من أشد الناس تبرماً بالناس وكان يقول الحمد لله الذي ذهب ببصري فقيل له ولم يا أبا معاذ فقال لئلا أرى ما أبغض. وكذلك العبقريون يبرمون بالناس ويبرم بهم الناس كما أبان عن ذلك صاحب كتاب حديث المائدة في كلمته النبوغ والعبقرية.
(سر آخر من أسرار عبقريته)(22/6)
قال الأصمعي: ولد بشار أعمى فما نظر إلى الدنيا قط وكان يشبه الأشياء بعضها ببعض في شعره فيأنى بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله فقيل له يوماً وقد أنشد قوله:
كأن مثار النقع فوق رؤسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شيئاً فيها؟ فقال: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفر حسه وتذكو قريحته ثم أنشد قوله:
عميت جنينا والذكاء من العمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موثلا
وغاض ضياء العين للعلم رافدا ... بقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الأرض لامعت بينه ... بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا
(آراء نقدة العرب فيه)
قال الجاحظ: كان بشار خطيباً صاحب منثور ومزدوج وسجع ورسائل وهو من المطبوعين أصحاب الإبداع والاختراع المتفننين في الشعر القائلين في أكثر أجناسه وضروبه. وقال الأصمعي: قال بشار العشر وله عشر سنين فما بلغ الحلم إلا وهو مخشى معرة اللسان بالبصرة. قال: وكان بشار يقول: هجوت جريراً فاستغرني وأعرض عني ولو أجابني لكنت أشعر أهل زماني.
وسئل الأصمعي عن بشار ومروان بن أبي حفصة أيهما أشعر فقال: بشار. فسئل عن سبب ذلك فقال لأن مروان سلك طريقاً كثر من يسلكه فلم يلحق بمن تقدمه وشكره فيه من كان في عصره. وبشار سلك طريقاًَ لم يسلك وأحسن فيه وتفرد به وهو أكثر تصرفاً وفنون شعر وأغزر وأوسع بديعاً، ومروان لم يتجاوز مذهب الأوائل وسمع الأصمعي مرة وقد عاد إلى البصرة من بغداد فسأله رجل عن مروان فقال وجدت أهل بغداد قد ختموا به الشعراء وبشار أحق أن يختموهم به من مروان. فقيل له ولم فقال: وكيف لا يكون ذلك وما كان مروان في حياة بشار يقول شعراً حتى يصلحه له بشار ويقومه وهذا سلم الخاسر أحد كبار الشعراء وهو تلميذ بشار، من طبقة مروان يزاحمه بين أيدي الخلفاء بالشعر (والخلفاء في ذلك الوقت هم هم علماً وأدباً وبصراً بمواضع النقد) ويساويه في الجوائز وسلم معترف(22/7)
بأنه تبع لبشار - هذا رأي الأصمعي وقد طابقه على ذلك أكثر النقاد.
(عقيدته ومذهبه)
قال السيد المرتضى صاحب كتاب الأمالي أخو الشريف الرضى الشاعر وكما أنه في الجاهلية وقبل الإسلام وفي ابتدائه قوم يقولون بالدهر وينفون الصانع، وآخرون مشركون يعبدون غير خالقهم، ويستنزلون الرزق من غير رازقهم أخبر الله عنهم في كتابه وضرب لهم الأمثال وكرر عليهم البينات والأعلام، فقد نشأ بعد هؤلاء جماعة مم يتستر بإظهار الإسلام ويحقن بإظهار شعائره والدخول في جملة أهله زنادقة ملحدون وكفار مشركون، فمنعهم عز الإسلام عن المظاهرة، وألجأهم خوف القتل إلى المآثرة وبلية هؤلاء على الإسلام وأهله أعظم وأغلظ لأنهم يدغلون في الدين ويموهون على المستضعفين بجأش رابط ورأى جامع، فعل من قد آمن الوحشة، ووثق بالآنسة بما يظهره من لباس الدين الذي هو منه على الحقيقة عار، وبأثوابه غير متوار. كما حكى أن عبد الكريم بن أبي العوجاء قال: لما قبض عليه محمد بن سليمان وهو وإلى الكوفة من قبل المنصور وأحضره للقتل وأيقن بمفارقة الحياة - لئن قتلتموني لقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة مصنوعة - والمشهورون من هؤلاء الوليد ابن يزيد بن عبد الملك، والحمادون (حماد الراوية، وحماد بن الزربرقان، وحماد عجرد) وعبد الله بن المقفع. وعبد الكريم بن أبي العوجاء. ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي. وصالح بن عبد القدوس الأزدي (الشاعر) وعلي بن خليل الشيباني وبشار بن برد وغير هؤلاء ممن لم نذكره. . . الخ. ثم بنين مذهب كل من هؤلاء إلى أن قال: فأما بشار بن برد فروى المازني قال: قال رجل لبشار أتاكل اللحم وهو مباين لديانتك (يذهب إلى أنه ثنوى) فقال بشار إن هذا اللحم يدفع عني شر هذه الظلمة. . . قال المبرد ويروي أن بشاراً كان يتعصب للنار على الأرض ويصوب رأي إبليس في الامتناع عن السجود وروى له:
النار مشرقة والأرض مظلمة ... والنار معبودة مذ كانت النار
وروى بعض أصحابه قال: كنت أكلم بشاراً وأرد عليه سوء مذهبه بميله إلى الإلحاد فكان يقول لا أعرف إلا ما عاينت أو عاينه معاين. فكان الكلام يطول بيننا. فقال: ما أظن الأمر يا أبا مخلد إلا كما يقال إنه خذلان ولذلك أقول:(22/8)
طبعت على نما في غير مخير ... هواي ولو خيرت كنت المهذبا
أريد فلا أعطي وأعطي فلم أرد ... وغيب عني أن أنال المغيبا
وأصرف عن قصدي وعلمي مبصر ... وأمسى وما أعقبت إلا التعجبا
وقال الجاحظ في البيان والتبيين. وكان بشار يدين بالرجعة ويكفر جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكان صديقاً لواصل بن عطاء الغزال قبل أن يظهر مذاهبه المكروهة فلما أظهرها هتف به واصل فقام بذكره وتكفيره وقعد فقال بشار يهجوه:
مالي أشايع غزالاً له عنق ... كنقنق الدو إن ولي وإن مثلا
عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... تكفرون رجالاً أكفر وأرجلا
فلما تتابع على واصل ما يشهد بالحاده قال عند ذلك: أما لهذا الأعمى الملحد، أما لهذا المشنف المكنى بأبي معاذ من يقتله، أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لدست إليه من يبعج بطنه في جوف منزله على مضجعه أو في يوم حفلة ثم كان لا يتولى ذلك إلا عقيلي أو سدوسي - وكان واصل الثغ على الراء فكان يجتنبها في كلامه ألا ترى أنه عدل في هذه الكلمة من الضرير إلى الأعمى ومن الكافر إلى الملحد ومن المرعث إلى المشنف ومن بشار إلى أبي معاذ ومن الفراش إلى المضجع - قال السيد المرتضى وزاد قوم فقالوا ومن أرسلت إلى دست ومن يبقر إلى بيعج ومن داره إلى منزله ومن المغيرية إلى الغالية، والأول أشبه بأن يكون مقصوداً، وما ذكر ثانياً فقد يتفق استعماله من غير عدول عن استعمال الراء - وأنا أقول: وكذلك الأعمى والملحد قد يتفق استعمالها من غير عدول عن استعمال الراء، فأما قول واصل لا يتولى ذلك إلا عقيلي فلأن بشاراً كان مولى لهم كما علمت - وذكره بني سدوس لأن بشاراً كان ينزل فيهم، فأما بشار بالمرعث فقد قيل في ذلك ثلاثة أقوال أحدها أنه لقب بذلك لبيت قاله وهو:
قال ريم مرعث ... ساحر الطرف والنظر
لست والله نائلي ... قلت أو يغلب القدر
أنت إن رمت وصلنا ... فانج هل تدرك القمر
وقيل إنه كان لبؤشار ثوب له جيبان وارتان أي فتحتان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فكان إذا أراد لبسه يضمه عليه ضماً من غير أن يدخل رأسه فيه فشبه استرسال(22/9)
الجيبين وتدليهما بالرعاث وهي القرطة فقيل المرعث، وقال أبو عبيدة إنما سمي المرعث لأنه كان يلبس في صباه رعاثاً.
(ملحه ونوادره)
دخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي الخليفة العباسي وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد - وكان فيه غفلة - فقال له يا شيخ ما صناعتك فقال أثقب اللؤلؤ فضحك المهدي ثم قال لبشار ويلك أتتنادر على خالي فقال له وما أصنع به؟ يرى شيخاً أعمى ينشد الخليفة شعراً ويسأله عن صناعته، وكان بشار جالساً في دار المهدي والناس ينتظرون الأذن فقال بعض موالي المهدي إن حضر ما عندكم في قول الله - وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر - فقال بشار النحل التي يعرفها الناس قال هيهات يا أبا معاذ النحل هم بنو هاشم وقوله يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس يعني العلم فقال له بشار أراني الله طعامك وشرابك وشفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم فقد أوسعتنا غثاثة فغضب وشتم بشاراً وبلغ المهدي الخبر فدعاهما فسألهما عن القصة فحدثه بشار به فضحك حتى أمسك على بطنه ثم قال للرجل أجل فجعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم فإنك بارد غث.
ومر بشار بقاص في المدينة فسمعه يقول في قصصه من صام رجباً وشعبان ورمضان بني الله له قصراً في الجنة صحنه ألف فرسخ في مثلها وعلوه ألف فرسخ وكل باب من أبواب بيوته ومقاصره عشرة فراسخ في مثلها - فالتفت بشار إلى قائده فقال بئست والله الدار هذه في كانون الثاني (أي شهر طوبه أحد شهور الشتاء).
ومر بشار برجل قد رمحته بغلة (ضربت به الأرض) وهو يقول الحمد لله شكراً فقال له بشار استزده يزدك - وم به قوم يحملون جنازة وهم يسرعون المشي بها فقال ما لهم مسرعين أتراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا فيؤخذ منهم - ورفع غلامه إليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم فصاح به بشار وقال والله ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمي بشعرة دراهم، والله لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم - وحضر مرة باب محمد بن سليمان فقال له الحاجب اصبر فقال إن الصبر لا يكون إلا على بلية فقال له الحاجب إني أظن أن وراء قولك هذا شراً ولن(22/10)
أتعرض له فقم وادخل - وقال له هلال بن عطية وكان له صديقاً يمازحه: إن الله لم يذهب بصر أحد غلا عوضه بشيء فما عوضك قال الطويل العريض قال وما هذا قال أن لا أراك ولا أمثالك من الثقلاء ثم قال له يا هلال أتطيعني في نصيحة أخصك بها قال نعم إنك كنت تسرق الحمير زماناً ثم نبت وصرت رافضياً فعد إلى سرقة الحمير فهي والله خير لك من الرفض.
حكى أبو دهمان الغلال قال: مررت ببشار يوماً وهو جالس على بابه وحده وليس معه خلق وبيده مخصرة يلعب بها وقدامه طبق في تفاح وأترج فلما رأيته وليس عند أحد تاقت نفسي إلى أن أسرق ما بين يديه فجئت قليلاً قليلاً وهو كاف حتى مددت يدي لأتناول منه فرفع القضيب فضرب به يدي ضربة كاد يكسرها فقلت قطع الله يدك يا ابن الفاعلة أنت الآن أعمى؟ فقال يا أحمق فأين الحس.
ذاك ما وسعه هذا العدد وسنأتي في العدد القادم على كثير من نوادره وأحوالهن مع صواحبه وكيف كان يعيش وقطع من شعره إن شاء الله.(22/11)
عالم العلم
الإنسانية الأولى
بينما يزهى الإنسان المتحضر الحديث بآدابه وفلسفته وعلومه، وبينا هو يظن أن الأرض قد تبدلت بقوة ابتكاره وابتداعه غير الأرض، وأن الإنسانية قد دانت الكمال الاجتماعي، وبينا نحن نهرف بقوة المثل الأعلى، ونفخر بأننا ذللنا قوى الطبيعة وسخرنا لإرادتنا عناصر الكون، بينا كل هذا يجري في بقعة من الأرض، إذ بأقطار بعيدة المرامي والأنحاء لا تزال تعيش وتنمو في الظلام، ولا تزال تجري مع غرائزها الحيوانية المخيفة الرهيبة، تطلع عليهم الشمس اليوم وتغرب كما كانت تطلع عليهم وتغرب منذ أبعد عهود النشوء، وأنأى أدوار التكوين، كل ذلك ونحن لا نستطيع أن نحرمهم من مشاركتنا في لفظة الإنسانية ولا نخجل بعد ذلك من الإغراق في الزهو والعجب والخيلاء.
حدث أحد قباطنة الإنكليز بعد سفرة طويلة إلى جزر الملانزيا الواقعة بين جزيرة غينيا الجديدة وبين جزر فيجي، غرب القارة الإسترالية، عما شاهد من غرائب الإنسانية المتوحشة، قال: إن أهل هذه الجزر يأكلون الآدميين، ويقطعون جماجمهم، ولا يزال الرجل منهم يعتقد أن من أوجب الواجبات عليه أن يأكل شخصاً عظيم الشأن، قوي الأسر حتى يكتسب من أكله القوة، ويجتني من التهامه الشدة والعظمة.
وإذا اقتتلت طائفتان منهم، اجتهدت كل واحدة منها لتقتل زعيم القبيلة الأخرى فإذا ظفروا بجثته أقاموا عليها وليمة شائقة يقتسمون فيها لحمه بينهم، في فرح شديد كما لو كانوا يقتسمون بينهم ديكاً أو حملاً، وهم يعتقدون أنهم يأكل رجل قوي كهذا يكتسبون قوته وشدة مراسه، وهذه العقيدة الجائعة تجعل مقام الرجل الأبيض محفوفاً بأشد المكاره لأنهم يرون في البيض أقصى حدود الشجاعة والشدة والقوة.
والفخر عندهم كل الفخر أن يعلق الرجل منهم على رأس كوخه العدد الأكبر من الجماجم الآدمية والهامز
والحروب بين قبائلهم لا انقطاع لها، وهي نهاية في الوحشية والهول، حتى اعتاد بعض القبائل أن يبنى جزراً صناعية فوق الصخور في وسط النهار والبحيرات يأوى إليها خلق كثير من نسائهم وأطفالهم وشيوخهم، خلاصاً بهم من شر القبائل الأخرى المعادية لهم.(22/12)
والخرافات شائعة بينهم، حتى لقد بلغ من تأثيرها عندهم أن الرجل قد يلقى في روعه أنه سيموت، فلا ينثني عن مكانه رافضاً الطعام والشراب، طالباً الموت حتى يدركه.
ومنهم قبائل كثيرة تعتقد أن كل أسرة منهم يجب أن تظفر في العام برأس آدمي وإلا حاق بها الويل، ونزل بها العذاب، من مرض أو جراح أو جدب أو قحط أو موت، فإذا اصطاد أحدهم جمجمة رجل دفنها تحت أرض الكوخ الذي يقيم فيه، ووضع فوق مكان الحفرة ألواحاً يضع فيها نذراً للشياطين والأرواح الشريرة، فإذا فرغ من ذلك هجر الكوخ، منتظراً الفرج والتيسير، مرتقباً الخلاص من الأمراض والأخطار مؤملاً النجاح في صيده، والتوفيق في أمور معاشه.
وهم يعدون الرجل الذي يفقد في هذا السعي جمجمته أنه قد جاء بعار لا يمحى، ووصمة لشرف الأسرة لا تزول، فلا يدفنونه بينهم، بل يقذفونه على رابية أو جبل بعيد عن القرية وأهلها، ثم يحفرون له حفرة في الأرض ويضعون رمحه فوق الحفرة إشارة إلى أنه قتل محارباً، ولا يحملونه إلى الحفرة على نعش بل فوق درغه يشدون بينها وبين عمود من الخشب بالحبال.
والقبيلة التي يظفر أحد رجالها بالجمجمة تقيم حفلة عظيمة بينها، فيسيرون بالجمجمة صارخين فرحين مهللين، ثم يعدو كل إلى داره فيجيء بقطعة نظيفة من لحاء الشجر فيغمسها في دماء الجمجمة والعنق فإذا فرغ من ذلك أسرع إلى البيت فعلقها على باب داره، لأنهم يعتقدون أن ذلك يمنع الأمراض، ويحمي أهل الدار من انتقام أصحاب القتيل المقطوعة عنقه.(22/13)
غرائب الأديان
لا تزال الهند مكثرة من كل شيء حتى من أديانها وعقائد سكانها ونحل أهليها، ومن أغرب ما أطلعنا عليه في كتب الأنتروبولوجيين من هذه الديانات ديانة أهل التودا ونحن هنا واصفون عجائب هذا الدين وغرائبه.
إن التودا كما وصفهم الدكتور ريفرس أحد العلماء الأثريين المشهورين، هم قبيل صغير لا يزيد أفراده عن أفف نفس قد اعتزلوا ضوضاء العالم وصخبه، وانتبذوا لهم مكاناً قصيا في جبال النلجيري جنوب الهند حيث يعيشون عيشة السكون والهدوء والأمان على ضفاف جدول هناك من الجداول النابعة في تلك الجبال، وهم لا يعبدون الآلهة، ولا يعرفون لهم رباً من الأرباب، وإنما كل دينهم يدور حول عبادة الجاموس ولذلك يحرمون ألبانها على أنفسهم ويعتقدون أن أقسى أنواع الويل وأغلظ ضروب العذاب والدمار تنزل ولا ريب بالرجل الذي يجرأ على ارتكاب هذا الإثم العظيم، وليس لهم ثمة معبد سوى مربط الجاموس وقسيسهم اللبان الذي يحتلها، وينقسم هذا المربط إلى حجرتين، إحداهما مقدسة حرام والأخرى محللة مباحة، وفي الأولى يضعون الأواني غير المقدسة يعدونها لوضع ألبان الجاموس بعد احتلاب أخلافها ولتحويلها إلى الزبدة والجبن، وفي الحجرة الأخرى يضعون الأواني غير المقدسة وهي التي يعدونها لوضع هذه الزبدة والجبن بعد نقلها من الأواني المقدسة وتراهم يراعون الدقة المتناهية في نقلها، ويفردون لذلك آنية مخصوصة في الدهليز الموصل بين الحجرتين. وتراهم ينقلونها بين إشاراتهم ورموزهم وأدعيتهم، وتهليلاتهم وتكبيراتهم، فإذا فرغوا من أداء هذه الشعائر، أصبحت الزبدة والجبن حلالاً طيباً للآكلين!!.(22/14)
عالم الحرب
مذكرات سرية عن الإمبراطور غليوم
وصيفة من وصائف الشرف لبثت زهاء عشرة أعوام في بلاط برلين تحدث العالم عما رأته من غرائب أخلاق غليوم وشواذ نوادره، وأسرار حياته، وبدائع عبقريته، وعجائب أموره - وهي حقائق ثابتة لا يشوبها شائبة من الكذب أو التلفيق أو الاختلاق، ولا يمازجها أثر من التخيل أو التوسع أو الأطناب.
معاملة الإمبراطور لوزرائه - اعتباره إياهم كخدمته - حادثة المستشار الشيخ - إكراهه الوزراء على الحضور بلباسهم الرسمي قبيل الصبح - قراءة التقارير عليه - رأي خدم القصر في الوزارء - متاعب المستشار - إكراهه الوزراء على صنع ولائم له هو وحاشيته وأصدقائه.
إن معاملة غليوم الثاني لوزرائه لمن أغرب ما ظهر من نفسية الملوك وأخلاق الإمبراطورة، فإن سواد الحكوميين الذين تقلدوا عنده مناصب الوزارة لم يلبثوا أن تركوها كما يترك الخادم بيوت مخدوميهم لاضطهاد سادتهم لهم وسوء معاملتهم إياهم، وذلك لأن الإمبراطور ينظر إليهم نظر السيد العظيم إلى خدمته الإغفال بل لا يقول عن خدمتهم جميعاً من المستشار إلى أصغر رجل في الوزارة إلا المساعدة غير المحنكة.
حدث مرة أن الإمبراطور أمر مستشارة البرنس هوهنلوه أن يجيء إليه بتقاريره في الساعة السابعة صبحاً لكي يتلوها عليه في القطار، وكان غليوم مزمعاً سفراً غير بعيد، وكان ذلك في صميم الشتاء وزمهرير البرد، وكان البرنس شيخاً في الثامنة والسبعين، على أن ذلك لم يكن ليحول بين الإمبراطور وبين لذته، وكانت لذته أن يجلس في القطار إلى مائدة الفطور، مصغياً إلى قريبه الشيخ وهو يلقي عليه تقاريره عن مهام الإمبراطورية.
فلما كان الإمبراطور في قاعة الانتظار في المحطة عند الموعد المضروب جاءه رئيس حرسه يقول إن الأميرة هوهنلوه قد حضرت إلى المحطة تريد رؤية الإمبراطور فلم يكن من غليوم إلا أن أسرع إلى لقائها، قائلاً وهو يمد إليها يده مصافحاً وعليه إمارات العجب ومظاهر الدهشة، الأميرة هوهنلوه!. . أترى مستشاري مريضاً!.
فأجابت الأميرة وهي تبتسم، وكانت كذلك عجوزاً في السادسة والستين، لا. . بل نائماً!. .(22/15)
قال الإمبراطور في لهجة المغضب أينام وقد أمره إمبراطوره أن يكون الساعة بجانبه. .
إذ ذاك فارقت الأميرة تلك الابتسامة التي ظهرت على محياها ثم قالت عجباً يا بن الأخ! أنسيت الشرط التي أخذناها عليك في خدمته لك، إن أول هذه الشروط أن يحسب لسنه ومقامه حساب، إن أمراً كهذا يدعوه وهو رجل في الثامنة والسبعين إلى الحضور إلى المحطة، لفي مثل هذا الوقت المبكر الصعب، وفي هذا القر القاتل، والبرد المهلك، ليس ولا ريب من تلك الشروط في شيء، ولذلك لا غرو إذا تبادر إلى أن جلالتك تعني بذلك أن يكون التقرير لديك في القطار، ولذلك جئتك الآن به، فهل تراني أخطأت؟.
وماذا ترى الإمبراطور كان يصنع في هذه الحال إلا أن يتظاهر بالرضا والموافقة ولذلك أجاب إني عالم أنك يا عمتي رقيقة القلب، ولكن هذه الأمور كما ترين خارجة عن العادة المتبعة، ولا بد من النظام كما تعلمين. . .
وفي صميم الشتاء يجب أن يكون الوزراء جميعاً بين يديه أو على مقربة منه من الساعة السادسة صباحاً حتى منتصف الليل، وفي الصيف يدعوهم إلى الحضور في منتصف الخامسة من الفجر، ولذلك يضطر الوزير إلى أن يستيقظ من نومه قبل أن ينبثق الصبح، إن كان محتماً عليه أن يكون في لباسه الرسمي وردائه المذهب المحلى بأوسمته وشرائطه الحريرية وأن ينتعل حذاءه الدقيق ويشد إلى نطاقه سيفه وحمائله، والتجمل بهذه كلها يستغرق ولا ريب وقتاً ليس بالقصير.
وإذا لم يطلبهم في هذا الموعد كان ذلك أسوأ عليهم وأشد قسوة، لأنهم لا يأمنون أن يبغتوا ليلاً أو نهاراً باستدعاء منه وهم في حلقة الأسرة بين أزواجهم وأبنائهم وصحبهم وندمانهم وهم لا يستطيعون أن يدعوا ملكية ساعة واحدة من ساعات النهار، لأنهم يعلمون أن التقارير الدائرة حول أمهات المسائل السياسية ليست عند غليوم إلا كأطباق الحلوى، يجب أن تلتهم بين فترات اللذة وفسحات اللهو والمراح، ومن ثم يبعث في طلب رجاله في أية ساعة كانت، كما شاءت لذته وشاء سروره، حتى أن نصف تقارير الوزراء يتلى عليه في حجرات القطارات أو في قاعات الانتظار في المحطات، وأما النصف الآخر فيقرأ عليه في مركبته أو سيارته.
وترى خدم القصر يقولون إن الوزير الراغب في عمله ينبغي أن لا تفارق إذنه مسمعة(22/16)
التليفون ولا تثني عينه عن ساعة الحائط، ولا ترتد عينه الأخرى عن كتاب الدليل.
وقد يحدث في أغلب الأحيان أن يذهب الوزراء كلهم أو بعضهم إلى القصر على إثر دعوة من الإمبراطور، بصحبهم وكلاؤهم أو كتابهم بمحافظهم وأوراقهم وتقاريرهم فيخبرهم رئيس القصر أن الإمبراطور قد غير نيته، وخرج يطلب الصيد، ولعله لا يعود بعد ساعات، ومن ثم لا يجد الوزراء في وسعهم إلا أن يعودوا أدراجهم إلى بيوتهم، وربما بعث الإمبراطور في طلبهم بعد ذلك وما كادوا يستقرون في منازلهم.
على أن أشد ما ينال المستشار أو الوزير أن يكون في دار التمثيل مع الإمبراطور فيدعوه، والليل كاد ينتصف، أن يصحبه إلى القطار ليقرأ عليه تقريراً أو يلقي عليه اقتراحاً أو يدلي إليه برأي، وفي مثل هذه الحال ترى المستشار يأخذ لفي القول ويمعن في الحديث، هذا والإمبراطور يتثاءب في رفق، بين فترات الوقت، وقد أخذ الكرى عينيه.
فإذا وقف القطار بالمحطة التي يريدها أفاق الإمبراطور من نعاسه فمسح عينيه وهو يقول إني مقتنع باقتراحك هذا، فعليك أن تنفذه كما ترى وقد يقول إذا كان ضيق الصدر اترك تقريرك لدى الكاتب حتى أفحصه. . . عم مساء. .!.
يقول ذلك وهو يخطو مسرعاً نحو المركبة، بينا يعود الوزير إلى قاعة الانتظار، وقد يمكث ساعة أو ساعتين حتى يقله القطار الأخير إلى وجهته.
وقد يتفق كثيراً أن يدعو الإمبراطور نفسه إلى العشاء على مائدة أحد الوزراء تاركاً للوزير متاعب الاستعداد للقائه، وآلام التجهز للاحتفاء به، بل قد يقول له إنه قد أمر فلاناً وفلاناً من أصدقائه ورجاله إلى مصاحبته إلى هذه الوليمة الإجبارية.
اقرأ في العدد القادم قطعاً أخرى مختارة من هذه المذكرات(22/17)
الميت الحي
سارة برنار وفرانسوا جوزيف
سارة برنار هي الممثلة الذائعة الصيت في كل نواحي الدنيا وأطرافها، قل ما تدانيها ممثلة في براعة التمثيل وحذقه وإتقان حركاته، بلغ من ولعها بصناعتها أن مكثت نحواً من عامين في أحد مستشفيات السل لكي تدرس طبائع المسلولين وأخلاقهم وعوارض علتهم، حتى تقوم بدور المسلولة في إحدى الروايات التمثيلية، وقد أملى عليها الحقد الوطني والغيرة الفرنسوية بضعة كلمات في فرانسوا جوزيف إمبراطور النمسا عدت من أبدع ما جاء من الأدب الفرنسي في هذه الأيام، وقد رأينا أن نقتطع منها قطعة صغيرة لنفاسة أسلوبها وغرابة موضوعها:
سارة برنار
لما قتلت زوجة الميت الحي في جنيف، ذلك البلد السويسري الجميل، لم ينزعج الشيخ، ولا راع المصاب فؤاده، بل أسرع رجال حاشيته فاحتلوا حجراتها في المنزل الذي قتلت فيه، وجعلوا هم وصحبهم ونداماهم يتعاطون الشراب، ويعاقرون الكؤوس، وقد امتلأت بهم الدار واختنق النزل وهم يصرخون ويطربون ماجنين مازحين.
وكنت نازلة بحجرة فوق حجرات الإمبراطورة، فلما سمعت صراخهم وضحكاتهم نزلت درج السلم أريد أن أكلم وصيفة من وصيفاتها، فلم ألبث غير قليل حتى أقبلت على أحداهن في بكاء ودموع.
قلت أليس فيكم رجل رشيد يبعث بالنبأ إلى الإمبراطور بوجوه أن يطلب إلى صاحب الفندق أن يطرد هؤلاء السكارى الماجنين على أن يجيزه جائزة طيبة، إن هذا المجون، وهذا الضحك، وتلك الدعامات لهي استخفف منكر لا أكاد أمسك على دموي من فظاعته.
فمدت إلى يدها ثم قالت وصوتها يتهدج من أثر النحيب أنت على حق في الذي تجدين، إن أحد ضباط الإمبراطورة قد طير النبأ إلى الإمبراطورة، ونحن للرد مرتقبون.
على أن فرنسوا الغني المتمول، المزهو العظيم، إمبراطور النمسا وملك المجر، رأى بعد طول ابحث أن عملاً كهذا قليل الجدوى طفيف الفائدة، وأنه كذلك كثير النفقات، عظيم الثمن، وكذلك ظلت جثة زوجته الناعمة الحسناء في صندوقها، عند النزل، تنتظر مقدم(22/18)
مركبة الموتى الإمبراطورية!!.(22/19)
الرقص الحربي في روسيا
اشتهر روسيا بأنها أخرجت في السنين الأخيرة أبدع الروائيين وأبدع الممثلات وأبدع المغنيات وأبدع الراقصات، فلا عجب في هذه الأوقات العصيبة، والظروف الحرجة أن تنتقل الروح الحربية عندهم إلى المسرح، ولا غرو أن يكون الرقص وهو أكثر الفنون إظهاراً للعواطف والوجدانات، أول فن يظهر لنا روح هذه الحرب الكبرى.
وقد أقيم هذه الأيام معرض للرقص الرمزي في بلاد الروس فأظهر اثنان من أشهر أساطين الرقص من الروس كيف يستطيعان أن يعرضا على أذهان الجمهور صوراً مؤثرة مما يحدث في ساحة الحرب وميدانها.
ونعني بالراقصين مسيو فوكين والمادموازل فوكينا، فهما بما يعرضان من صور الهازمين والمهزومين، والقتلى والجرحى، يقومان مقام أكبر المجلات التصويرية عن الحرب، ومن بين ضروب الصور الحربية التي يصورانها برقصهما الجديد، دنو العدو والنضال المستميت بين الجند، وإنقاذ الجرحى، وأسر الأسرى، وهزيمة المهزوم، ولكي لا يتبادر لذهن القراء أن رقصاً تصويرياًَ كهذا لحرب هائلة مخوفة كهذه قد يظهر مظهراً بارداً، لا سمة للحرارة والاضطراب والاهتياج فيه: نقول إن الخفة المتوحشة والجنون في الحركات، والبراعة في التصوير، التي يضعها الراقصان في أثناء رقصهما المحدث يترك المشاهد مضطرب المشاعر حار الفؤاد ثائر الوجدان، وليس هناك منظر أروع ولا مشهد أهول من منظر الهدوء الذي يبديه فوكين وهو يصور مشي الجندي القوي لأسر إلى قتال الجندي الهشيم الضعيف، وهو الذي تقوم بتصويره مدموازيل فوكينا ولذلك يقبض على رأسها بين يديه ويرميها على ظهرها ثم لا يزال يلوى نصفها الأعلى ويبسطه، تصويراً للقتال العنيف المهلك بين القوي والضعيف، كما ترى من الصورة الأولى، وأما الصورة الثانية فتمثل الفتاة الراقصة وهي تصور إسعاف الجرحى وإعانة القتلى، مستعينة في رقصها بإبريق من الماء تحمله في إحدى يديها، وبطاس تحمله في الأخرى.
ثم ترى في الحركة الثالثة كيف يسقط المهزوم السقطة الأخيرة التي لا نهضة له منها وأما عن روعة هذا الرقص التصويري وهوله والجنون الذي يبدو في حركات الراقصين فيعجز عن وصفه قلم الواصف.
وقد عد أهل الفن في الغرب هذا الابتكار في الرقص معجزة لا تباري، وأخذوا في(22/20)
الإسهاب في مديح الراقصين.(22/21)
رجال الحرب
اللورد روبرتس
قضى في خلال الشهر المنصرم رجل من أساطين الحربيين عند الإنكليز، وهو شيخ في الثانية والثمانين، وقد أبت الأقدار إلا أن يقضي نحبه في زمان الحرب، وأيام القتال، بعد أن عاش هذا الدهر الأطول بين المعارك والملاحم، وقطع هذا العمر المتقادم بين السيوف واللهاذم، فكأنما قد مات كما يريد.
ولد في الهند، ونال شهرته الخالدة من ثوراتها وحروبها، كان أول خروجه إلى نور العالم في مدينة كوبنهور في شهر سبتمبر عام 1832، فلم يكد يبلغ الحول الأول حتى بعثوا به إلى إنكلترا موطنه، فلما شب عن الكوق دفعوا به إلى كلية إيتون يتلقى فيها العلم.
ونشبت الثورة الهندية عام 1857، فكان روبرتس في الهند برتبة الملازم وهناك كان أول مرة خرج فيها من بين مخالب الموت حياً، وذلك انه في حصار مدينة دلهي أصيب برصاصة في سلسلة ظهره الفقارية ولكن هذه الرصاصة اصطدمت بكيس كثيف من الجلد كان معلقاً فوق ظهره فنجا، وتلقاه هناك أحد الثوار وهو فوق صهوة جواده برصاصة من مسدسه، فنكص الجواد واثباً طافراً، فلم تصبه الرصاصة بل نفذت إلى رأس جواده، وصوبوا إليه يوماً فوهة مسدس، فلم تخرج القذيفة وفسد المسدس!.
وقد امتاز في قيادة الجيوش بسرعة الزحف، حتى أنه سار بجيشه في الحرب مع الأفغان ثلاثمائة وعشرين ميلاً في إحدى وعشرين ساعة.
وكان أول ما رفع إلى مراتب النبل عام 1882، إذ أعطي لقب البارون، وكان إذ ذاك حاكم ناتال ورئيس القواد في جنوب أفريقيا.
وقد رزئ عام 1899 بوفاة ابنه الوحيد، قتل وهو يحاول إنقاذ المدافع في موقعة كولنسو.
وقد كان هذا الرجل حتى أخريات أيامه مثال الخفة والنشاط، ينهض من نومه الساعة السادسة، فيروض نفسه بعض الترويض قبل أن يتناول طعام فطوره، فإذا كان منتصف العاشرة جلس إلى مكتبه يراسل أصدقاءه ويرد على الرسائل التي وردت إليه مع البريد، ويظل كذلك حتى الظهر، ويقضي الأصيل أما ماشياً أو راكباً أو متنزهاً في سيارته، ويتناول عشاءه في منتصف التاسعة، فإذا جاءت العاشرة كان في سريره.(22/22)
ولم يذق اللورد روبرتس في حياته الخمر، ولا شرب التبغ، وكان يرأس في بعض الأحيان مجتمعات منع المسكرات في الجيش، ولكن أكبر دليل على رجاحة عقل هذا الشيخ وحسن تبصره أنه لم يحاول يوماً أن يقهر الجند على أن يمتنعوا عن الشراب جملة واحدة.
وكان يحب الأطفال ويبتهج بمداعبتهم، ويسر برؤيتهم، وقد حدث ذات مرة، يوم كان في الهند، إن رأى طفلة في الحول الثاني من عمرها في أحد حوانيت المدينة وكان في زورة إلى أحد الأسواق العمومية، فما كان منه إلا أن حملها وجعل يلاطفها ويناغيها، ثم مشى بها متظاهراً بأنه سيأخذها معه، فلم يكن من أم الطفلة إلا أن عدت نحوه فانفضت عليه انقضاض النمرة المغضبة، والتقطت الطفلة منه، وجعلت توسعه سبا وتقريعاً وانتهاراً باللغة الهندية، وطردت هذا البطل المغوار من حانوتها، ولذلك كان يقول اللورد كلما قص القصة على الناس وكانت هذه هي الهزيمة الوحيدة التي لقيتها في الهند!.
فون بتمان هولوج
المستشار الفيلسوف
تعاقب على ألمانيا الإمبراطورية خمسة مستشارون - هم بسمارك الأوحد الفرد وكان سياسياً، وكبريفي وكان جندياً، وهو هنلوه وكان بلاطياً وبيلوف وكان مفوضاً دولياً، وبتمان هولوج، مستشار اليوم، وهو مثال الفيلسوف!.
صعد هذا الأستاذ ذروة المستشارية منذ عام 1909 فلم يخلع عنه ثوب الفلسفة ليرتدي ثوب السياسة، ولم يجر لقب المستشار في أخلاقه على لقب الفيلسوف، ولكن ذلك لم ينزل الأستاذ عن مقعده ولم يحرمه من دسته، لأن غليوم الثاني، كما قال بسمارك في مذكراته: إن هذا الفتى الشاب سيكون مستشار نفسه ولأن القوانين الأساسية لا تجعل المستشارين مسئولين أمام البرلمان وإنما أمام الإمبراطور، وكفى أن الإمبراطور راض بالمستشار الفيلسوف، مغتبط بقربه، مبتهج بآرائه الفلسفية أكثر من ابتهاجه بآرائه السياسية، وقد خسرت ألمانيا عالماً عظيماً وأستاذاً كبيراً من يوم انتقل بتمان هولوج إلى حلبة السياسة.
وكان يقولون عنه قبل المنصب أنه مثال الفلسفة النظرية السديدة فلما رفع إلى مقعد المستشارية هتفوا له صائحين هذا هو رجل الإمبراطور - يريدون أنه الرجل الفذ الذي سيسر غليوم - إذ كان تلميذين معافى فرقة واحدة في جامعة بون وإن الروابط القلبية التي(22/23)
يحفظها الإمبراطور لزملائه في المدرسة جعلت بتمام ابدا عند ذاكرته قريباً من خاطره، وكان قبل ذلك وكيل المستشار السابق البرنس فون بيلوف ولذلك كان مرشحاً بحق للمنصب مهيئاً له.
وقد قطع هذا المستشار الأستاذ حياة حكومية طيبة، خطاب استحقاق خطواته إلى الرئاسة ودلف إليها عن جدارة وإن لم يكن قد أظهر في السياسة شخصية قوية. وكذلك شأن الفيلسوف إذا أريد على عمل ليس منه ولا هو منه.
وهو مثال الرجل العملي الصامت المتواضع، لا يعرض نفسه أمام أنظار الجمهور ولا يظهر نفسه للشعب ولا عمله، اشتهر في الوظائف التي تقلدها بأداء واجباته والتوفر على عمله في سكون وهدوء ولم تشتهر خطبه في الريشستاغ ومجلس الأشراف بشيء غير الصراحة والصدق والبيان، وما عهد عليه يوماً أنه يريد إثارة الشعب أو اهتياج الرأي العام، بل عرفت الحكومة فيه الأمانة والمحافظة والإخلاص وهذه الصفات كانت خير عوض للأمة الألمانية عن البرنس فون بيلوف سلفه.
وليس لبثمان هولوج مكان يذكر في السياسة الخارجية والمفاوضات الدولية حتى اضطر الإمبراطور في السنة الأولى من تعيينه إلى تفويض زمام المسائل الخارجية إلى رجل غيره، وكل مهارته تدور حول المسائل الداخلية، حتى لا يدانيه فيها رجل في ألمانيا طولها وعرضها.
ولد المستشار في مقاطعة براندنبرج، عند قرية هناك لا تبعد عن برلين بأكثر من بضعة أميال، وقد ظفرت أسرته عام 1840 بلقب الشرف، وهي عشيرة كبيرة اشتهرت منذ نشأتها بالتجارة والاشتغال بالثروة والمال، حتى نبه اسمها وعظم صيتها قبل هذا العهد الروتشيلدي، وكانت منذ أول أمرها تتألف من فرعين بتمام وهولوج فاتحدت على ممر السنين بالتلاقح والزواج.
وهو اليوم في السابعة والخمسين، دخل وظائف الحكومة منذ عام 1885 وهي السنة التي ترك فيها الجامعة، وأتم البحث والدرس، بدأ عمله في الحكومة نائب قاض ولكن الذكرى الحلوة التي يحملها الإمبراطور لصديقه في المدرسة، وقرينه في الجامعة، جعلت الإمبراطور يرفعه في سنة 1899 إلى منصب سني وهو رئيس حكومة (بومبرج) على أنه(22/24)
لم يلبث فيه غير ثلاثة أشهر حتى صعد إلى منصب رئيس حكومة مقاطعة برادنبرج كلها، وجعل داره في بوتسدام، حيث عاد الأستاذ إلى التنعم بقرب صديقه الإمبراطور والتمتع بحلاوة صحبة زميله القديم وخذنه الجليل، وليست رياسة حكومة براندنبرج في ألمانيا إلا الخطوة الأخيرة إلى مقاعد الوزارة البروسية، ولذلك ما كادت تأتي سنة 1905 حتى انتقل فون بتمان إلى مقعد وزير الداخلية البروسية، ومضى عامان فأصبح وزير الداخلية الإمبراطورية كلها، وأضاف على هذا المنصب لقب وكيل المستشار الإمبراطوري.
وقد حمل هذا الحكومي الفيلسوف إلى جميع هذه المناصب التي تنقل بينها، مزايا الفيلسوف، وخصال الأديب المفكر، ونهي الغيرة الحادة، والاجتهاد المستمر، والتواضع الفلسفي الجميل.
وهو عدو الاشتراكية الألمانية اللدود، يصارحها بالعداوة ويكاشفها بالاضطهاد ولم تكن الاشتراكية إلا العدو الأزرق للحكومات الألمانية كلها، وهو من أشد المحافظين الراضين بالأنظمة السياسية الحاضرة في ألمانيا وعدو الدعاة إلى حكومة نيابية تامة وأنظمة ديمقراطية بحته كاملة حتى ليقولون أنه لن تقام هذه الحكومة المرجوة إلا إذا أصبحت طرق برلين أنهاراً قانية تجري بدماء العمال والصناع والفقراء والعامة وفي تلك الساعة الرهيبة، يقف التاريخ فيحكم حكمه الأخير في المستشار الفيلسوف.(22/25)
جواسيس الألمان
كان نصف أعمال الألمان قبل وقوع هذه الحرب يقوم على التجسس، وينهض على استراق أسرار الأقران والأعداء، وقد بثوا عيونهم وأرصادهم في كل نواحي الدنيا وبلادها، فما تركوا بلداً يظنونه سيثور في وجوههم إذا وقعت الواقعة إلا ملؤوه بعيونهم.
وقد قام المستر ويليم لوكيه، وهو رجل من كبار كتَّاب الإنكليز وعلم من أعلام روائييهم، فوضع في خلال هذه الحرب كتاباً ممتعاً في أسلوب قصصي، أسماه جواسيس الإمبراطور وهو مجموعة فصول شائقة مدهشة، تنطوي كلها على حقائق غريبة ثابتة، لا يشوبها للريب شائبة، تدل على صحتها تقارير هائلة ضبطها الكاتب في تجسسه على الجاسوسية الألمانية، ومصورات يدوية عن المواقع والأماكن والحصون والبلاد والشواطئ الإنكليزية التي كان الجواسيس يدأبون هذه السنين على تصويرها وأنباء ديوان الحرب في ألمانيا عن دقائقها وعظائمها، وقد دفع بهذه التقارير وتلك المصورات والأسرار إلى نظارة الحربية الإنجليزية ليرى رأيها ويقف على نيتها، فردت إليه أوراقه دون تعليق، عالمه بصدقها، موقنة بخطورتها، ثم طلبت إليه أن يضعها في أسلوب روائي حتى تكون ألطف أثراً، وأبدع سرداً.
وقد وضع الكتاب على لسان صديقين من الإنكليز أخذا على عاتقيهما كشف أعمال الجواسيس الألمان في البلاد الإنكليزية ونحن ناقلون هنا فصلاً بديعاً عن محاولتهم سرقة أسرار المدافع الجديدة.
سرقة المدافع الجديدة
كنت أنا وصديقي راي في مدينة نيوكاسل على نهر التاين وقد حرضتنا بعض أبحاث قمنا بها على الاعتقاد بأن الجواسيس الألمان قد نزلوا بهذه المدينة يسعون سعياً متواصلاً في سرقة أسرار نوع جديد من المدافع، عظيم القوة، ضخم الحجم، كان يصنع إذ ذاك في معامل الأسلحة ببلدة السويك.
وقد كنا نازلين بفندق المحطة، فبدأنا منذ يوم مقدمنا نقوم ببعض التحريات والاكتشافات، ومن بين الأمور التي وقعنا عليها وجود ناد سري يقيمه الألمان هناك فجعلنا منذ ذلك الحين نرصده عن كثب ونسهر على مراقبة أفراده.(22/26)
ولا ريب في أن ليس هناك عامل إنجليزي يرضى عن طيب خاطر أن يخرج عن سر من أسرار مصنعه إلى حكومة أجنبية، ولذلك لم يخالجنا الريب ولم يحك في صدورنا أن يكون بين عمال مصانع الأسلحة بالسويك من يقرف بالخيانة ويتهم بالغدر، وكان بين أعضاء هذا النادي الألماني - وإن كان بينهم كثيرون من السويسريين والبلجيكيين - رجل متوسط السن، يدعى بينهم جون باركر ولكننا استخلصنا بعد البحث أنه إما أن يكون ألمانياً وإما سويدياً، ثم علمنا أنه يشتغل كاتباً في إدارة شركة كبرى من شركات السفن في نيوكاسل، وكان التصوير ملهاته الوحيدة، يلتف حولنه جمع من الأصدقاء والأصحاب، بينهم عامل من رؤساء عمال المصنع، يدعى شارلز روسر، عرف بالإخلاص في العمل، والدؤوب عليه.
فجعلنا نراقب الرجلين عن كثب، وقد قامت الريبة في خاطرنا.
وكان روسر يقضي الليل مع صديقه باركر في دور التمثيل أو في المراقص وحلقات الموسيقى، وظهر لنا أن باركر كان يدفع عن صاحبه ثمن كل شيء، ويذهب إليه في بيته، ويصرف المساء مع زوجته وأسرته.
وكنا نتناوب على المراقبة، ففي ذات ليلة دخل على صديقي راي، وأنا في النزل وكان عائداً من أثر الرجل، فقال إن باركر يجض صديقه على شراء بيت جديد، يبلغ ثمنه ثلاثمائة وخمسين جنيهاً، وهو بيت أنيق جميل، حديث العهد بالبنائين.
قلت (ثم ماذا؟).
قال (لقد تسمعت الليلة عليهم فأخذ سمعي بعض الحديث سمعت باركر يعرض على صديقه أن يقرضه نصف هذا المبلغ).
فصحت قائلاً (تحت شروط، أليس كذلك؟).
فأجابني (لم تذكر الشروط، ولكن لا ريب في أن باركر يريد أن يوقع المسكين في الأحبولة. لكي يضطره إلى أن يبض له ببعض الأسرار والمعلومات، حتى ينقذه وأسرته من شر الفاقة وويل الحاجة، اذكر أن الجواسيس الألمان لا يترددون عن شيء ولا يحجمون).
قلت، نعم ذلك أمر واضح، علينا أن نحمي روسر المسكين من شراك الرجل، وهل ثمة(22/27)
شك في أنه يحتال على هذا الساذج ويظهر له بمظهر المخلص ذي المروءة الكريم، إن روسر لا يعلم أن صديقه الجواد الندي الكف ليس إلا جاسوساً).
فتبعته يوماً بعد الأصيل إلى فم التاين حيث كانت ملهاته تصوير السفن الداخلة فم النهر والخارجة منه، وقد قضى جزءاً من ذلك الأصيل وجل اليوم التالي في استعراض حول (خزان المياه) ثم عاد بعد ذلك إلى فم التاين فرسم الحصن الواقع هناك عدة صور من عدة جهات، وكذلك الخط الحديدي والنفق، والسفن الماخرة والميناء، والأفاريز والمرساة، وكان يبدو عليه أنه يصور أدق الصور الفتوغرافية للبلد كله، وكان يحمل معه مذكرة يكتب فيها ملاحظاته، يفعل كل ذلك جهرة على مشهد من السابلة، وعلى مرأى من الشرطة، إذ من ذا الذي يفكر في وجود الجواسيس الألمان في هذه البلدة النائية؟.
فلما كان المساء عرج على فندق المحطة، فخلع عنه معطفه وعلقه في البهو ثم ذهب إلى حجرة القهوة ليأمر بإعداد الشاي له.
وكنت قد تبعته إلى الفندق، ولكنني لم أعج على حجرة القهوة مثله، بل ذهبت إلى حجرة التدخين، وهناك طلبت شراباً حتى إذا جرعته عدت إلى الموضع الذي علق عنده معطفه.
هناك دسست يدي في خفية ورفق إلي جيب صدره، فوقعت على بعض أوراق وفي أقل من لحظة واحدة قبضت عليها فنقلتها على حبيبي، ثم دخلت في معطفي في هدوء وابتهاج، ورحت أمشي الهوينا إلى المحطة.
ولحسن الحظ كان القطار يهم بالرحيل إلى نيوكاسل فما ونيت إن وثبت إليه، فلما بعد بنا عن البلدة أخرجت الأوراق في لهفة وشوق أريد أن أفحصها، فوجدت من بينها صورة بسيطة عن خزان المياه في البلد وكيف يمكن حبس هذه المياه عنها، وخطاباً خصوصياً من رجل من رجال العمل: وهو من الأهمية بمكان وإليك نصه:
عزيزي جون - مع هذا الكتاب الفائدة أقدمها لك سلفاً - أربع ورقات من قيمة الخمسة جنيهات، فخذ في عملك كما كنت، واستعلم عن الأوامر كل ما أمكنك.
إنه ليسرني أن أقول أن العمل لا ينقصه الآن إلا القليل، ونؤمل أن يكون نصيبك من الأرباح في السنة القادمة مضاعفاً، وأنت واثق من هذا ولا ريب - اكتب لنا كثيراً، وأخبرنا عن أعمالك، فإننا أبداً مهتمون بصالحك، ليس من الحكمة منك أن ترتاب في(22/28)
شارلزني طالما رأيت منه رجلاً يستطيع الإنسان أن يضع عنده كل ثقته، وهو على ما أظن يسكن داراً في قرية فم التاين.
كلهم اليوم في خير، ولكن الربيع في لندن مرهق معنت، على أننا مرتقبون جواً أدفأ - زوجتي وأولادي لاسيما الصغير شارلز وفردريك وشارلوت يرسلون إليك تحياتهم - ابن عمك الودود - هنري لويس.
هذا الخطاب وإن كان بسيطاً في مظهره إلا أنه يحوي بعض تعليمات هامة للجاسوس وفوق ذلك مرتبه الشهري وهو عشرون جنيهاً.
وإذا قرئ بالتعليمات الحرفية والإشارات المعروفة بين الجواسيس الألمان كان نصه كما يأتي:
أرسل لك مرتبك الشهري - إن المعلومات التي بعثتها في خلال الشهر الماضي كانت سارة كافية - إن عملك على العموم يبعث على الرضى وإذا استمر كذلك زدنا في مرتبك - كف عن هرفك بشارلز - اهتم بنقط الدفاع في قرية فم التاين - أنت تعرف أن الرئيس (هو الذي يقابل الربيع في الرسالة) من الصعب إرضاؤه، لأنه في تفتيشه الأخير زاد في عملنا - ابق على محاولاتك ومفاوضاتك مع الثلاثة - (يريد العامل روسر) وشارلوت وفردريك (من العمال أيضاً) حتى تأتيك أوامرنا - لك أن تعرض عليهم مالاً إذا دعت الحال.
فترى من ذلك أن أي إنسان يقع في يديه هذه الرسالة الآتية من هنري لويس لا يستطيع أن يتبين لنفسه معانيها الحقيقية.
إن هذا الاسم المصطنع أي لويس كما علمنا بعد ذلك واكتشفنا، يقيم في مكتب صغير بأحد شوارع لندن، تحت اسم وكيل أشغال ولكنه في الحقيقة زعيم الجواسيس التي تشتغل بين نهري الهامبر والتاين.
وهؤلاء الزعماء يزورون عمالهم - وهم الذين يقومون وحدهم بصناعة الجاسوسية - تحت ستار سياح تجار إذا كان العميل رب حانوت، فإذا لم يكن كذلك قدموا أنفسهم كوكلاء شركات التأمين أو من رجال المزاد أو من سماسرة البيوت.
فلما رجعت عرضت على صديقي راي الكنز الذي اكتشفت، فما وقع بصره عليه حتى اضطرب وصاح قائلاً: إن الرجل جاسوس مقيم هنا في نيوكاسل ولا ريب فعلينا أن نبعد(22/29)
في مراقبته.
وكذلك فعلنا.
كان الجاسوس روسر لا يفترقان لحظة ولا ينفصلان، يلتقيان كل مساء، وكثيراً ما كانت أسرة روسر تذهب إلى مشاهدة التمثيل أو الرقص على نفقة باركر، وكان لا يجعل للمسكين سبيلاً إلى إنفاق شيء.
وقد ظهر لنا بعد استعلامات دقيقة أن روسر هذا من أمهر عمال المصنع وأحذقهم وأعلمنهم بصناعة المدافع، وقد بلغ من ثقتهم به أن ألقوا إليه مقاليد إتمام المدفع الجديد الذي سيكون فخر البحرية الإنكليزية، لا تدانيه منسوجات كروب، ولا يضارعه أحدث ما خرج من المدافع إلى ميدان الحرب.
حدث ذات ليلة إن كان الرجلان في أحد القهوات العمومية بالمدينة، وقد استرقت السمع إليهما فعلمت من مجرى الحديث أن باركر قد أقرض صديقه مائة وخمسة وسبعين جنيها، وإن عقد شراء البيت الجديد سيكتب في اليوم التالي، وكان روسر تلك الليلة مطنباً في شكر باركر مسهباً في الثناء عليه، وظهر لي كذلك أن نصف المبلغ الآخر سيدفع مؤخراً وسيلقى على باركر نفسه.
وكان الرجلان يتقارعان الكؤوس، وكان واضحاً من أمر روسر أنه لا يعلم شيئاً من أمر الهوة السحيقة الفاغرة فاها تريد أن تبتلعه، وفي الناس كثيرون لا يعرفون الريب ولا يخطر لهم الاتهام، ولا تقع لهم الاسترابة، ولعل العامل الإنكليزي أول هؤلاء.
فلما عرضت ما سمعت على راي وتشاورنا بيننا عما نحن صانعون، قر رأينا على أن الوقت قد حان للاقتراب من روسر وإظهار سر صديقه الجواد له.
وتبين لنا أن باركر قد يريد الرجل بسلطان كرمه وبقوة تأثيره على أن يستخلص له رسماً للمدفع الحديث أو شيئاً عن أوصافه ومزاياه وأسرار صناعته، ويفهمه أنه إذا لم يفعل، نزل به الدمار، وتولاه الفقر والخراب، وتحققنا أن روسر وإن كان عاملاً أميناً يعيش من أجوره الأسبوعية، وليس له ما يقيم أود زوجته وأولاده ويرفعهم من وهدة الخصاصة، وأنت تعلم أن الوجدانات الوطنية ليست من الصعب نسيانها أو التغلب عليها إذا رأى الرجل زوجته وأسرته في خطر من الجوع.(22/30)
فلما كان مساء اليوم التالي تبعنا روسر بعد خروجه من المصنع فطرقنا باب بيته النظيف الحقير.
فلم يكن منه بادئ الأمر إلا أن انتهر فضولنا وغضب أشد الغضب إذ قلنا له إنه على وشك أن يكون آلة في أيدي جواسيس الإمبراطور، ولكنه لم رأى الخطاب الذي شرحناه آنفاً وصورة خزان المياه، بدأ يفكر ويتذكر.
سألته: ألم يسألك مرة عن المدفع الجديد الذي تصنعونه اليوم في السويك؟ فقال بعد تردد نعم. . . إنني أتذكر الآن، نعم إنه سألني أكثر من مرة فقلت: لقد أراد إما أن يشقيك وإما أن يضطرك إلى أن تكون خائناً.
قال ذلك الرجل الشهم في لهجة المغضب ولن يستطيع، والله لو كان ما تقولونه حقاً إذن لدققت عنقه.
قلت كلا. لا تفعل إنه دفع لك نصف ثمن البيت الجديد، أليس كذلك، قال بلى.
قلت: إذن فاتركه لنا، إننا سنضطره إلى دفع ما بقي عليه من الثمن، وسيكون انتقامك بيتاً جديداً على حساب الحكومة الألمانية. فضحك وضحكنا.
وفي الليلة الثانية هجمنا على الرجل في حجره وخبرناه بين إشهار أمره وإبلاغ الشرطة بسره، وإما أن يرد البيت الجديد دون شرط ولا قيد لروسر فلم يسعه إلا الانصياع لما طلبنا وهو يتهدد ويتوعد أشد التهديد والوعيد، ولكننا طالما سمعنا أمثال هذا الوعيد وأشباه هذا التهديد، ولذلك ما عتمنا أن ضحكنا منه ومن وعيده.
واكتفينا من عقابه بإشهار أمره عند الشركة التي كان خادماً عندها وكنا حاضرين ساعة ترك حجره وربط متاعه وترك البلد وأهله يريد لندن وكأننا به ليشاور زعيمه (هنري لويس).
اقرأ ألذ فصول هذه الرواية في العدد القادم(22/31)
تاريخ سعد زغلول باشا
إن كتابة تراجم النوابغ والعظماء لا نصادف في الشرق تلك الغاية الكبرى التي تجدها في الغرب. فهي عند الغربيين ركن كبير من أركان الأدب لا مندرجة عنه، لا يكاد ينبغ فيهم نابغة حتى ترى المؤلفات تترى في تحليل نبوغه والبحث في أخلاقه وشخصيته وأعماله ونفسيته، والعوامل التي ساعدت على إظهار نبوغه وعظمته، وهم لا يمسكون عن كتابة ذلك، لأن النابغة لا يزال حياً بينهم، أنهم يعلمون أن من السهل لديهم أن ينسخ الكتاب الكتاب، ويهذب التاريخ التاريخ، وتنقح الترجمة الترجمة، فإذا خرج في ترجمة النابغة الواحد قبل مماته مائة كتاب، فما أهون عليهم أن يخرج بعد مماته مائة مثلها، وهذا الفرع من الأدب هو عامل من أكبر العوامل التي عملت على تقدم الغرب ونشاطه وقوته، أما نحن بني الشرق فلم نهتم إلى اليوم بأمر عظمائنا ونوابغنا تركناهم يعيشون بيننا دون أن يقوم قلم واحد فيخرج لنا صورة واحدة من حياتهم ولذلك ترانا قل ما نفهم العظمة أو نعيها، لأننا لم نشهد منها إلا مظهرها وألوانها.
نقول ذلك لنقود فننبه القراء إلى أننا كنا قد أخذنا في الأعداد الماضية نعقد أبحاثاً مستفيضة في تاريخ سعد زغلول باشا الرجل البرلماني الكبير، حتى بلغ ما كتبناه ثلاثين صفحة أو يزيد، وكنا نجرى في ترجمته مجرى الكتَّاب الغربيين المترجمين، نقف بكل نقطة من حياة الرجل فنعمد إلى تحليلها وتشريحها وبحث دقائقها وما يكون بنحو منها من الموضوعات الفلسفية والبيولوجية والأخلاقية وما إليها، وتحتوي الترجمة معلومات كثيرة ليست معروفة عند الجمهور.
وقد رأينا اليوم أن عالم الأدب في نظامنا الجديد تنقصه هذه الأبحاث الممتعة. في هذا الموضوع الجليل، فعزمنا أن نسترسل منذ العدد القادم في ترجمة هذا الرجل الكبير، فنلفت إليها الأنظار.(22/32)
تاريخ الحرب
الفصل الأول
إن النظام الاجتماعي الذي يكون فيه لأرباب الكفاءات الكبرى الكلمة العليا هو الذي يظهر أكبر الحيوية في هذا النزاع الداخلي الدائم. وأما النزاع الخارجي، أي الحرب، فلا تنتصر فيه إلا الأمة التي تضع في الميزان أكبر القوى الطبيعية والذهنية والأخلاقية والمادية والسياسية، وعلى ذلك تكون أحسن الأمم في الدفاع عن حوزتها والنضح عن سلامتها، والأمة التي تكون كذلك تنال من الحرب الظروف الطيبة المواتية للتوسع وامتداد السلطان ولا يكون من ذلك إلا تطور الإنسانية كلها، إذ لا يخفى أن تلك العوامل الذهنية والأخلاقية التي تتغلب في الحرب على غيرها تؤدي كذلك إلى ارتقاء المجتمع كله، وبدون الحرب لا يكون من الأمم والأجناس المنحطة الضعيفة الذابلة إلا أن توقف نماء العناصر الأخرى القوية المنتعشة المثمرة، وليس من وراء ذلك إلا الانحطاط العام في الجمعيات البشرية كلها، يقول فون سكليجل الحرب لازمة لزوم الحرب الواقعة بين عناصر الطبيعة.
الحق للقوة
نعم. قد تقولون قد يكون هناك منافسة سلمية بين الأمم كالمنافسة الواقعة بين أفراد الجمعية الواحدة في كل فروع الحياة الصحية - منافسة لا تستوجب دائماً نشوب الحرب، ولكن المنافسة بين الأمم لا تشبه التنازع الداخلي بين الأفراد ومن ثم لا تؤدي إلى النتائج نفسها، إن فوق منافسة الأفراد والطبقات في داخل الأمة ينهض القانون، وهو الذي يعني بمطاردة الظلم واستئصال شأفة الجور، وهو الذي ينشر العدل بين الربوع، ومن وراء القانون تقف الحكومة بقوتنها لتحمي الشعائر الأدبية والروحانية في جمعيتها ولنعمل كذلك على ترقيتها وتهذيبها. ولكن ليس هناك قوة عادلة غير متحيزة تنهض فوق منافسة الأمم لتمنع الحيف وتقتل الظلم، وتستخدم هذه المنافسة نفسها في ترقية الإنسانية والصعود بها ذروة الكمال الاجتماعي، وإنما الحائل الوحيد بين الأمم وبين الظلم هو القوة، وعلى كل أمة أن تنهض بنفسها وتأخذ مكانها من الفضيلة والمدنية وتعمل على ترقية مذاهبها ومبادئها وأغراضها فإذا حدث من ذلك أن اصطدمت هذه المبادئ وهذه المذاهب بمبادئ الأمم الأخرى ومذاهبها فعليها إما أن تخضع وتعترف بأسبقية الأمة المزاحمة وإما أن تعمد إلى القوة فتواجه بها(22/33)
الصدمة الكبرى وأعنى الحرب حتى تنشر مبادئها وتذيع في الخافقين آراءها وآدابها. نعم ليس هناك قوة تستطيع أن تحكم وتقضي بين الأمم وتجعل لحكمها سلطاناً مسموعاً وليس هناك غير الحرب لكي تسود عناصر النجاح الصحيحة على روح التدهور والانحطاط.
إن النزاع إذن هو القانون العام في الطبيعة. خلق الإنسان محارباً وإن تضحية الذات ليست إلا التخلي عن الحياة، سواء في وجود الفرد أو حياة الأمم، لأن القانون الأولى العام هو إظهار الإنسان وجوده المستقل في هذا العالم وبالاحتفاظ بالوجود المستقل دون غيره تستطيع الحكومات أن تكفل وجوه الحياة لأهلها وأفرادها وتضمن لهم الحماية المقدسة التي يحق لكل فرد مطالبتها بها وهذا الاحتفاظ بالوجود لا يكون برد عاديات أعدائها فقط وإنما يتضمن كذلك تكفلها بوجود الحياة وسبل الارتقاء لمجموع الأمة التي تحكمها.
حقوق الفتح والاستعمار
إن الأمم القوية الصحيحة، الناهضة المنتعشة، تزداد أبداً عديداً ونفيراً فلا تلبث أن تطلب توسعاً مستمراً في حدودها وتخومها وأرضاً جديدة لمقام من زاد من أهليها ولما كان كل مكان من الكرة الأرضية مأهولاً معموراًَ فلا تقع لهذه الأمة المستعمرة الجديدة إلا على نفقة أصحابها - أي بالفتح والغلب - وكذلك يصبح الفتح قانوناً من قوانين الضرورة.
إن العالم كله يعترف بقانون الفتح، وهو في أول مبادئه يكون سلمياً وأول خطواته أن يفيض بعض الممالك المختنقة بالسكان الغاصة بالأهلين على غيرها من الممالك والأخطار سيلاً عرماً من المهاجرة والراحلين، وهؤلاء ينزلون على قوانين البلد الجديد الذي خفوا إليه برحالهم، ثم يجتهدون بعد ذلك في الظفر بامتيازات لهم على حساب السكان الأصليين الذين يزاحمونهم ومن هذا يكون الفتح.
وكذلك يعترف العالم بحق الاستعمار وحق الفتح بالقوة والكره والحرب، فقد يكون هناك أمة نامية متكاثرة لا تستطيع استعمار بلد غير متحضر ولكن حكومتها تريد أن تحفظ عليها العدد الزائد من أهلها الذي لم تستطع المملكة أن تجد له طعامه ورزقه، فليس لها من سبيل إلى ما تريد إلا بالحرب، وكذلك تؤدي غريزة حفظ الذات ولاشك إلى الحرب وفتح الأرض واستعمار الأقطار ولا يكون الحق لصاحب الأرض إذ ذاك بل للغالب القاهر - وتكون القوة هي الحق الأعلى فإن الحرب هي التي تقرر الحق تقريراً بيولوجياً.(22/34)
سيئات السلم
وإذا ظلت السلم في الأمة دهراً لم تلبث أن تتسلط فيها المآرب الشخصية الحقيرة والأغراض الدنيئة المريضة، وتقوم الفتن والمكايد ويمحو الترف آثار الكمال الاجتماعي، ويحتكر المال قوة متطرفة غير شريفة ولا مشروعة ولا تجد الشخصية الكبيرة الاحترام اللائق بها.
يقول شيلر تصوح زهرة الإنسان وتموت جذوره في زمان السلم وعهودها وتموت الشجاعة وتحتضر في ظلال الراحة وخمائل السكون. إن القانون هو ملهاة الضعيف العاجز هو الذي يجعل الناس جميعاً أنداداً وأشباهاً ولكن في الحرب تتجلى شجاعة الإنسان، والحرب تعلى الروح الوضيعة، وترفع كل منحط حقير، بل إن الجبان نفسه ليتناسى اسمه.
يقول هيجل: بلى إن الحروب تخيف وترعب وتزعج، ولكنها واجبة لازمة لأنها تنقذ الأمة من كل ركود أو جمود اجتماعي.
إن الحرب أشد من السلم إيقاظاً للحياة الأهلية وأشد توسيعاً لنطاق القوة الأهلية من كل وسيلة يذكرها التاريخ - نعم إنها تجر في أعقابها نكبات مادية ذهنية ولكنها في الوقت نفسه تثير أشرف الكفاءات في الطبيعة البشرية. ولاسيما في عصرنا هذا. حيث يجوز لنا أن لا نعد نشوب الحرب من عمل الملوك فقط والحكومات. بل هي لسان حال لأمة جمعاء.
إذ ذاك تتوارى المآرب الذاتية الحقيرة أمام ذلك الحكم الرهيب الذي يتلجلج في صدر الحرب وإذ ذاك يجمع الخطر العام الجميع إلى سعي مشترك ونضال فذ، وما الرجل الذي ينزوي عن هذا الواجب وينقبض عن هذا النضال إلا ليستحق أن يركل بالأرجل والأقدام. وفي هذا الاتحاد العناصر الصحيحة التي تخرج للحياة الأهلية ثمار السعادة والهناء، ولسنا بحاجة إلى إثبات ذلك وهذه الحرب الألمانية الفرنسية - حرب السبعين - ونتائجها التاريخية.
وأما الفظائع الوحشية الحيوانية التي تقع عادة في الحروب فيجب أن لا تذكر بل تتلاشى أمام كمالية النتيجة الكبرى وفي الحرب، ولاشك تتجلى قيمة تلك الألقاب الكاذبة والمراتب الجوفاء التي تربت في أحضان السلم ورتعت في بحبوحتها زماناً طويلاً وهناك تأخذ الشخصيات الكبيرة محلها الأرفع الأوجب وهناك تخطو القوة والإخلاص والصدق(22/35)
والشرف إلى الطليعة تلعب دورها.
عرف فردريك الكبير هذا التأثير النبيل العظيم الذي تحدثه الحرب فقال: إن الحرب تفتح الميدان الخصيب، الشاسع العريض للفضائل كلها، لأن في كل لحظة من أيام الحرب يتجلى الثبات والعطف والعظمة والبطولة والرحمة والإحسان وكل لحظة من أوقات الحرب تقدم الفرصة السانحة لإظهار فضيلة من هذه الفضائل.
يقول تريتشكي يجب أن يتلاشى حب الذات وتتوارى الحزازات وتختفي الأحن والعداوات، إذا جاءت الساعة التي تصيح فيها الجمعية أن حياتها في خطر، يجب أن ينسى الفرد إذ ذاك ذاتيته، ويشعر بأنه شلو من جسم الأمة، ينبغي أن يعرف أن حياته ليست شيئاً مذكوراً بجانب حياة الجمعية، إن الحرب مهذبة رافعة سامية، لأن الفرد يختفي فيها حيال فكرة الأمة الكبرى، وإن إخلاص أفراد الجمعية بعضهم لبعض لا يتجلى أسمى جلاله إلا في الحرب. . . أية آداب فاسدة تريد أن تمحو البطولة من صدور الرجال؟. .
بل قد يكون حتى في الهزيمة نفسها ثمرات غالية سامية، فهي وإن ساقت غالباً الضعف والبؤس والشقاء، مؤدية كذلك أحياناً أخرى إلى إحياء جديد وانتعاش قوي لا سمة للفتور أو العلة فيه وهي كذلك واضعة أساس أنظمة حيوية جديدة، يقول ويلهام همبولدت إني لأرى في تأثير الحرب على الخلق الأهلي عنصراً من أسمى العناصر في تكوين الجنس البشري وصوغه وتهذيبه.
وهل هناك عمل أسمى للفرد من أن يبذل حياته لفكرته، ويضحي وجوده للمبدأ الذي يجاهد له، وكذلك الأمم والحكومات لا تستطيع أن تؤدي واجباً أربع مكاناً من بذلها كل قوتها في سبيل الاحتفاظ باستقلالها وشرفها وسمعتها وذكرها.
وهذه الوجدانات والمشاعر لا تجد لها عملاً إلا في الحرب، ولذلك كان توقع الحرب ضرورياً لإيقاظ الخلق الأهلي وتنبيهه، ولا تستطيع الأمم أن تقوم للمدنية بأصدق الواجبات إلا بترقية الخلق الأهلي بين قومها ومن ثم كانت المجهودات التي تبذل في استتباب السلم هي من أكبر العوامل على قتل الصحة الأهلية، وناهيك إذا أصبحت فرعاً من فروع سياستها، والحكومات المتلببة لصرف هذه المجهودات إنما تمتص عصارة قوتها بنفسها، إليك مثلاً الولايات المتحدة فقد قامت لغرض من أغراضها في يونيه عام 1911 تدعو إلى(22/36)
السلام العام وتدافع عنه وتنضح، وذلك لا لشيء سوى أن تترك آمنة هادئة لا تعني بغير الإثراء وجمع المال والتنعم بالغنى والوفر والثروة، ولتمسك عليها الثلاثمائة مليون من الريالات التي تنفقها على جيشها وبحريتها، فهي من ثم تعرض بنفسها لخطر عظيم ليس مقصوراًَ على احتمال نشوب حرب بينها وبين إنجلترا أو اليابان بل لأنها تحاول أن تمنع كل فرصة تسنح لحرب بينها وبين أقرانها ولداتها في القوة والبأس، وبذلك تقطع عليها تيار الوجدانات الأهلية السياسية الكبرى التي لا يكون هناك تطور أدبي في الخلق الأهلي إلا بها، وإن جرت في تلك الطريق أشواطاً أخر فهي ولا ريب دافعة عن هذه السياسية ثمناً غالياً.
مؤتمرات السلام
وجملة القول إن المجهودات المصروفة إلى إزهاق روح الحرب لا ينبغي أن توصف فقط بأنها مجهودات نزقة طائشة حمقاء بل مفسدة كذلك للآداب الإنسانية مناقضة، ينبغي أن تنعت بأنها نقيصه لا تحسن بالجنس البشري ولا تليق، لأنها تريد أن تحرم الناس حق تضحية النشب والمادة والحياة فدى للمبادئ الكمالية السامية وتحقيقاً لأسمي ضروب الانكارية الأدبية إنها تريد أن تمنع المشاحنات الكبرى بين الأمم بمؤتمرات السلام، أي بالمفاوضات والتوسطات والترضيات، أي تريد أن تقيم قانوناً سخيفاً باطلاً صورياً مكان أحكام التاريخ وأقضيته، تريد أن تعطي الأمة الضعيفة حق البقاء والحياة مثل الأمة القوية المنتعشة الفارعة، فهي لا تمثل إلا اعتداء متطرفاً باطلاً على النواميس الطبيعية للتطور، ولا يكون من ذلك إلا أشد النتائج وخامة وويلاًَ على الإنسانية جمعاء، فهي بتعطيلها التنافس الحر المسرح المباح الذي لا يعتمد إلا على القوة والسلاح والقتال، ستعمل على تعطيل التقدم الحق والارتقاء الحي الصادق، يتبع ذلك الركود الأخلاقي والجمود الفكري، ويجرى في آثار هذين الانحطاط والتدهور والانقراض، يقول تريتشكي: يرعى الله الحرب ويجعلها أبداً لا تجيء إلا لتكون للإنسانية دواء ناجعاً قوياً.
ومن ثم يجب أن نستعدى كل الوسائل على القضاء على هذه المذاهب الخيالية الواهمة ويجب أن نشهرها أمام الناس ونفضح أمرها ونعلن حقيقتها وهي أنها فكرة خيالية ضعيفة عليلة طائشة، بل ثوب من أثواب الرياء السياسي وحجاب من حجبه، ينبغي أن يعلم قومنا(22/37)
إن بقاء السلم لن يكون غرض سياستنا، بل يجب أن نكرر ونسهب في فضيلة الحرب ونعماها ووجوب وقوعها ولمثل الأعلى الذي تنطوي عليه، ينبغي أن نلقي إلى رسل فكرة السلم ودعاتها بيت شاعرنا جوت.
أأحلام بالسلام وعهوده، ألا فليحلم به من يشاء، وأما نحن فليكن صراخنا الحرب. . الحرب وهلموا إلى النصر!.
الفصل الثالث
روح الغرور عند الألمان
تتطور الأمم بالأكاذيب تطورها بالحقائق، وقد يكون للفكرة الطائشة من الأثر في أخلاق الأمة ما تعجز عنه الفكرة الصالحة، وما كان تطور الأمم ليقاس بصواب العوامل ورجاحة البواعث وصحة الأسباب، وإنما بمبلغ التأثير الذي تجدثه هذه العوامل ومقدار الغاية التي تنتهي عندها.
ظل الألمان هذه السنين يعيشون على الزهو، ويغتذون من مادته، ويتطورون تحت تأثيره، فكان الزهو عندهم ولا ريب عاملاً من عوامل التقدم، وسبباً من أسباب الحياة والنهوض، إذ كان كتابهم وشعراؤهم، وفلاسفتهم وصحفيوهم، وسياسيوهم وحربيوهم يلقون إليهم أن الألمان هم خلاصة الجنس البشري كله وصفوة الإنسانية جمعاء، وإن العنصر الألماني هو العنصر الفذ الذي سيسود فوق العالم بأسره، وإن الشعب الألماني لم يعد شعب الجعة والمراقص والمواخير، لا بل شعب الشعراء والكتَّاب والمفكرين، وإن كلمة ألمانيا لا يراد بها اليوم الأمة النازلة بين نهري الرين والفستولا، بل يدب أن يفهم الآن منها ذلك الأوقيانوس العظيم من الشعوب المتكلمة باللغات التيوتونية، أو من الشعوب التي لا تتكلم اليوم بها، وهي أحق بأن تتخذها لسانها وبها أوجب وأخلق، يدخل في الأولى السويديون والنرويجيون والدانمركيون والهولنديون، وينطوي تحت الأخرى البلجيكيون والسويسريون والنمسويون وبعض قبائل الروس والمجر، بل تجاوزوا إلى أبعد من ذلك فقالوا إن الصقالبة من روس وبولونيين وبوهيميين وصربيين وكرواتيين ليسوا في الحقيقة إلا فروعاً من العنصر الألماني، ولذلك ترى مئات من علمائهم وكتابهم وألوفاً من خطبائهم وصحفييهم يلقون في أسماع الشعب أن هذه الأمم جميعاً جرمانية ولذلك يجب أن تدخل(22/38)
أفواجاً في أمة ألمانية فذة كبرى.
كان رسول هذه الفكرة التيوتونية المتطرفة المزهوة هاوستون ستوارت تشمبرلن (إن هاوستون تشمبرلن هذا من الإنكليز ولكنه أثار بكتابه أساس القرن التاسع عشر، أما الشعب الإنكليزي وإخراجه من جنسيتهم حتى أن كتابهم لا يذكرون إنكليزيته في كتبهم بل يقولون أن القدر إلى أن يكون له اسم الإنكليز. الكاتب الألماني بكتابه: أساس القرن التاسع عشر فلقد كان لهذا لكتاب في ألمانيا ثورة فكرية هائلة، وعاطفة متحمسة عظيمة، إذ أقبل على قراءته جميع طبقات الأمة من أصغر صغير في الشعب إلى أكبر كبير، وقد عدوه كتاباً ممتعاً بعيد الغور سديد الرأي متماسك الحجة، حتى أن أغنياءهم ومتموليهم جعلوا يبتاعون الآلاف من نسخه يفرقونها دون أجر على حجرات المطالعة العمومية في كل بلد أو نجع أو قرية لكي يقرأ الكتاب دهماء الشعب وعوامهم، وقد أطراه الإمبراطور ونوه به وتقبله بقبول حسن وأصبح الكتاب الرحى التي يدور عليها قطب الأدب الألماني الحديث، فمن مؤلف في مديحه، ومن سفر في تنقيحه، ومن آخر في الرد عليه، ومن كتاب في المحاجة له، وكان من ذلك أن أصبح تشمبرلن اليوم في رأس كتَّاب ألمانيا الخالدين.
وليس نجاح الرجل بكتابه هذا بالسر المستعصي البحث المستغلق الاستقصاء البعيد لاكتشاف، حسبك أن الرجل لبس لبوس العلماء وتظاهر في بحثه بأسلوبهم، وانتحى في تخريجه مناحيهم، وراح يثبت للألمان أن تاريخ الإنسانية لم يكن إلا ألمانيا وإن كل تطورات العالم في المستقبل وكل ضروب ارتقائه المقبل، ستوسم بهذه الماركة المسجلة صنعت في ألمانيا وإن الألمان هم العنصر الصالح للأرض.
هذا هو الإنجيل الألماني الجديد الذي جاء بن تشمبرلن فلم يبق في الأرض ألماني إلا دان له وتغنى به واستظهره، وإليك قطعة من هذه الأنشودة الألمانية الحادة المتعجرفة.
يقول تشمبرلن: لا أعنى بالألمان إلا كل أمم أوروبا الشمالية التي ظهرت في التاريخ باسم القلت والجرمان والصقالبة، والتي منها نبغت شعوب أوروبا الحديثة، إن الحق الذي لا شائبة للريب فيه هو أن هذه الشعوب جميعاً خرجت من أسرة واحدة ولكن الألماني استطاع أن يظل بين أفراد هذه الأسرة سامي المكانة رفيع القدر عالي الرأس قوياً في ذهنه وآدابه وطبيعة جثمانه، حتى ليسوغ لنا أن نطلق اسمه على الأسرة كلها. . . إن الألماني هو روح(22/39)
المدنية الأوروبية، إن أوروبا اليوم المنتشرة على مدى الكرة الأرضية لهي النتيجة الباهرة لتشعب أفراد هذه الأسرة، والرابطة الوحيدة التي تصل اليوم بيننا هي الدم الألماني. . . لا يجلس على عروش الغرب إلا الألمان، إن التاريخ الحق سيبتدئ من اليوم الذي يقبض فيه الألماني بكفه العظيمة على تراث آبائه وأجداده.
وكذلك جعل تشمبرلن يبعد في القول ويمعن ويدلل لبني قومه ويثبت لهم أن في الألمان عنصراً حيوياً غريباً، هو الذي أعان كل من تجري في أعراقه الدماء الألمانية على إنجاز العظائم والقيام بالجسائم والمدهشات، وإن كل عظماء الأعصر الماضية إذا دققت البصر إليهم وحققت النظر فيهم لم يكونوا إلا ألمانيين نشأة ودماً وروحاً، هذا دانتي مثلاً الطلياني لم يكن - كما يقول تشمبرلن - إلا ألمانياً، بل انظر إلى وجهه ترله كل ملامح الوجوه الألمانية وتقاطيعها ومعارفها، وهذا باسكال كذلك وإن عده بعض الحمقى الأغفال من عظماء فرنسا ونادرة رجالها!!.
وبلغ من إلحاح تشمبرلن هذا على البحث وتشبثه بأهداب (تيوتونيته) وتماديه في التغني بألمانيته، إن عمد إلى البحث في جنسية المسيح، فجعل يثبت أن المسيح لم ينشأ في بني إسرائيل ولا سكن في ديارهم، وإليك ما يقول في ذلك بتلك السذاجة العلمية المتفشية في نواحي كتابه المتجلية في كل سطوره وسلاسله.
كل من يدعي أن المسيح كان إسرائيلياً إما أن يكون جاهلاً وإما خائناً أرميه بالجهل لأنه يخلط بين الدين والجنس، وأقرفه بالخيانة لأنه يعرف تاريخ غاليليه. . . ليس ثمة ريب في أن المسيح لم يكن إسرائيلياً ولا جرت في عروقه قطرة واحدة من الدم الإسرائيلي الخالص العبيط - فإلى أي شعب ترى المسيح يمت. .؟ ليس من جواب على هذا. .
وطفق تشمبرلن بعد هذا يتيه فيب شعاب الظن ويمرح في أودية الحدس فيقول لعل المسيح كان رحالة من الآشوريين، حتى إذا لم يقتنع بنتيجته هذه ولي وجهة شطر المغرب فقال أم لعله من الإغريق، وإنك لتعجب للرجل كيف تراه عمي عن ملمس الحق وعشى بصره أمام وضح الصدق فخرج من كتابه الضخم ولم يهتد إلى غاية ولم يقف عند نتيجة ترضيه.
على أن ألمانيا كانت أعظم من تشمبرلن وأصبر منه على التخريج وأطول منه نفساً في البحث، فما لبثت أن أخرجت من كشف لها المجاهل التي عجز عنها تشمبرلن وحسر(22/40)
بصره عن الاهتداء إليها، وحقق لها المظان التي عثر بها الأول ثم أعرض عنها، ذلك أنه لم يلبث أن أخرج ريمر أحد علماء ألمانيا المعروفين كتاباً آخر ذكر فيه مسألة نشأة المسيح وجنسيته فلم يكن من كل بحثه إلا كلمة واحدة هي إن لم يكن المسيح ألمانياًَ فهو ولا شك حديث خرافة أماً وليس في الناس من يعده كذلك فهو قد نشأ ثمة نشأة ألمانية، بل ألم يكون المسيح وردى البشرة زرقاوي العينين أصفر الفروع زاهيها، وتلك هي الملامح الألمانية بعينها، فإذا لم يرض بعض القوم هذا الدليل فليس على المنكر المتردد إلا أن يعمد إلى التحليل لفظتي عيسي و (جرماني) وهما في الإفرنجية وفإن المقطع الأول في اللفظة الأولى وهو مقلوب عن في الثانية إذ كانوا يعتبرون حرف متحركاً ولذلك أسقطوه جملة واحدة واستعاضوا عنه حرف أما المقطع الثاني من اللفظة الأولى وهو فعلامة المذكر في اللاتينية وهي التي يقابلها في الإنكليزية والألمانية لفظة الموجودة في المقطع الثاني من اللفظة الثانية. . . فهل ثم أوضح من هذا برهاناً وأجلى مما ترى دليلاً؟!!.
ولم يقف زهو الألمان عند هذه الغاية المضحكة بل تجاوزوها فقالوا إن القرن العشرين لنا نحن الألمان، كما كان القرن السادس عشر للأسبان، وكما كان السابع عشر للفرنسيين والثامن عشر للإنكليز، بل لم يقنعوا بإدعاء ملكية القرن العشرين بل أرادوا أن يظهروا للعالم أن القرون الماضية كانت لهم جميعاً.
إن الألمان يعيشون اليوم عيشة تاريخية، كما يقول نيتشه، يعنون بالماضي كأكبر عنايتهم بالحاضر، قد أضافوا على حواسهم الخمس حاسة سادسة هي الحاسة التاريخية فترى كل غلام في المدرسة يعلم أن دانتي وروفائيل وأنجلو وماكيافللي لم يكونوا كما يشهد التاريخ من الطليان بل من الألمان، وكذلك كان نوابغ الفرنسيين أمثال العالم رابيليه والفيلسوف مونتان وباسكال وديكارت، يمنون إلى الألمانيين بدمائهم الألمانية، وليسوا من الفرنسيين في شيء كما يدعي العالم ويكذب التاريخ، فإذا سمع الصبي تلك من فم معلمه لم يلبث أن تتكون في أعماق روحه عاطفة الزهو بجنسيته فلا يستطيع أن يتمالك نفسه من الاعتقاد بأنه الدماء الألمانية والفلسفة الألمانية والآداب الألمانية والعالم الألماني وصفوة القول كل ما هو ألماني في كل فروع الحياة وأصولها أسمى مكاناً من غير الألماني وأعظم قدر!.
ونحن شارحون هنا للقراء مؤلفاً حديثاً للكاتب الألماني لدويج ولمان يثبت فيه بأدلته(22/41)
الألمانية أن أكثر نوابغ الطليان والفرنسيس في النهضة العلمية من الشعراء والنحاتين والمصورين والكتَّاب والمفكرين وثبوا جميعاً من أصل ألماني، ولسنا نريد أن نفند للقراء هذه المزاعم العريضة والحجج العاثرة بل حسبنا أن نقول إن الكتاب وإن كان مضحك التخريج، واهن الاستقراء إلا أنه قد قوبل في ألمانيا بالتهليل والتكبير، وتناولته المجلات التاريخية والأثرية بالأبحاث الرزينة، والتعليقات الجدية، والمقالات الممتعة الفلسفية، وكان له أعظم الأثر في نفوس الألمان.
يدور محور هذا الكتاب على إثبات أن جميع أساطين القرنين الخامس عشر والسادس عشر أو جلهم من الطليان والفرنسيين نبغوا جميعاً من الدم الألماني، وقد انتحى وولتمان في تقسيم أوروبا منحى لم يزغ فيه عن منحى العلماء الأنثرولوبوجين إذ قسمها إلى أجناس وشعوب، وأشهر هذه الأجناس الجنس الشمالي أو الألماني، وهو الذي يمتاز عن غيره بالرأس المستطيل والشعر الخفيف والأعين الزرقاء، ثم يلي ذلك الجنس الجنوبي النازل بسواحل البحر المتوسط. وهذا يعرف بالرأس القصير المستدير والمعارف والتقاطيع السمراء، فإذا وقع وولتمان في بحثه على طلياني عرف عنه أنه كان مستطيل الرأس أزهر المعارف زرقاوي العينين لم يخالجه الشك هنيهة واحدة في أن الدم الألماني كان يجري ولا ريب في عروق الرجل.
وترى كتاب ألمانيا وأهل الرأي فيها لا يريدون أن يقتنعوا بهذا المقدار من العجب والزهو بل ما فتئوا يعلمون قومهم أن الألمان هم الذين أنقذوا العالم من ذلك الانحطاط المظلم الذي كان يهم بأن يغشي الإنسانية على أيدي الرومان في أخريات أيامهم وزمان ترفهم وضعفهم، وهم الذين رفعوها من تلك الهاوية السحيقة القرار التي تهاوت فيها المدينة الرومانية وإن البرابرة الألمان الذين تدافعوا من حدود الشمال وتخوم الجليد على روما وأهلها ودولتها واجتاحوا شاسع أقطارها ووضعوا من صولتها لم يكونوا أقل بأساً من الرومان أو أصغر أو أحط مدينة.
إليك ما يقول تشمبرلن عن هؤلاء البرابرة الألمان: إن هذا الهمجي الذي كان يؤثر أن يندفع إلى ساحة الحرب عاري البدن، هذا المتوحش الذي وثب على غرة من العالم من بين قرائر الأحراش وصمائم الأدغال فصب على الإنسانية المتحضرة المتهذبة ويلات ذلك(22/42)
الفتح الرهيب العظيم - هو الوارث الشرعي للروماني وأخيه اليوناني - دمه من دمائهما، وروحه على غرار روحهما. لقد كان العالم الروماني على أبواب الموت وفي طريق الفناء، كان عبيد آسيا وأفريقيا قد اختلسوا الخطى حتى اعتلوا عرش الدولة الرومانية، بينا كل الشآمي قد وضع في يده مقاليد التشريع، وكان الإسرائيلي غائراً بين أسفار مكتبة الإسكندرية يريد أن يوفق بين الفلسفة اليونانية والشرائع الموسوية، ثم لم يلبث أن أقبل المغولي يريد أن يسحق تحت قدمه المتوحشة الملطخة بالدماء ثمار تلك الحياة الرومانية الزاهرة، كان الشعر الهندي سائداً وكانت الفلسفة الهندية سارية فاشية، وكانت الفنون الرفيعة قد أسلمت الروح، لم يكن للأغنياء من إلا الرسوم والآداب والإصطلاحات، ولا شاغل للفقراء إلا المصارعات والمسابقات، ولم يعد يومذاك في العالم، كما يقول شيلر، أناس بل مخلوقات.
. . . إذ ذاك حان الزمن لظهور المنقذ، ونضج الوقت لوثوب المصلح المهذب. . . نحن لا نندم على شيء ندمنا على أن الألماني لم يبعد يومذاك في التطهير والاستئصال والإفناء.
يزيد تشمبرلن أن يحتكر في قومه الصراحة والتسامح والحرية. يقول إن الغوط كانوا أنبل أرواحاً من الرومان، وأجمل منهم سماحة في الدين، إنهم جاءوا الدولة الرومانية فإذا التعصب الديني ضارب بجرانه، باسط على الأرض جناحيه، فزجروا هذه العاطفة المرذولة، وقضوا على هذه النزعة المنكرة وأقاموا على آثارها عاطفة التسامح الحلوة الطاهرة، أبقوا على الآثار، وأمسكوا على العاديات، واحتفظوا بحسنات الفنون.
هذا بينا ترى الكتَّاب الألمان يقولون: نحن أحسن الاستعماريين وأبدع الملاحين وأعظم التجار. . . نحن أزكى أمة أخرجت للناس. . . بل أرقى شعب في العلم وأبدع أمة في الفن. . ثم نحن رأس الشعوب في الحرب غير مدافعين!!.(22/43)
العدد 23 - بتاريخ: 1 - 12 - 1914(/)
عالم الأدب
المرأة في رأي برنارد شو
برنارد شو هو الفيلسوف الإنكليزي الأوحد في هذا العصر، امتاز بآرائه الحرة الناضجة وفلسفته الإصلاحية السديدة، يضرب في كل مؤلفاته على نغمة الإصلاحيين الحربين، ويذهب مذهب الهادمين البانين، فهو خليف فردريك نيشته في حنقه على المجتمع وسخطه على انحطاط الإنسانية في كل وجوه الحياة وأساليبها، على أنه يطول على نيتشه بأنه أصفى ذهناً منه وأهدأ جأشاً، وأسكن نفساً، وأحلى أسلوباً، وهو يجنح في كتابته إلى العبقرية المزاجية فيجيء بالأعجب الأغرب، وليس كنيتشه في مرارة اللهجة، وقساوة التعبير، وفظاعة النقد، يضع فلسفته في روايات تمثيلية ليست في فن الروايات شيئاً مذكوراً بجانب روعة الآراء، وجلال الموضوع ونفاسة المغزى، وهو من أعظم أنصار الاشتراكية من الإنكليز وأكبر الدعاة إليها ونحن ناقلون له هنا رأيه في المرأة.
إن الوجهة الشيطانية من فتنة المرأة ومكرها، أنها تريدنا على أن نرضى بهذه الفتنة وذاك المبكر وليست غاية المرأة هي لذتها أو لذتنا، لا بل لذة الطبيعة، وإن في المرأة الحيوية عمياء مجنونة ثائرة طائشة، تضطرها إلى تضحية نفسها، فهل تظن أنها تنزوي هنيهة واحدة عن تضحيتك أنت؟.
إن للنساء غرضاً هو غرض الطبيعة نفسها، وليس الرجل عندهن غير الوسيلة إلى هذا الغرض، إنهن ليرعيننا ويحدبن علينا، ولكن كما يرعى الجندي سلاحه ولأمته، وكما يحدب الموسيقار على عوده وقيثارته، وهل تراهن يجزن لنا غرضاً نعمل له، أو حرية ننعم بها، أتراهن يرضين أن يتقارضنا بينهن، أيستطيع أقوى الرجال أن يفر من قبضتهن إذا احتبلنه مرة أو أوقعنه في شراكهن، إنهن ليرتعدن، ويرتجفن إذا حاق بنا حائق أو نزلن بنا نازلة، وإنهن ليرسلن أعينهن ويبعثن دموعهن في آثارنا إذا اختطفنا من بينهن الموت، ولكن هذه الدموع المستفيضة والعبرات المهراقة ليست من أجلنا بل لوالد قضي أو طفل تيتم، وتراهن يتهمننا بأننا لا نعدهن إلا وسائل للذتنا وشهواتنا، ولكن كيف تستطيع حماقة ضعيفة مسرعة متحولة مثل لذة الرجل أن تستعبد المرأة وفيها اجتمع غرض الطبيعة كلها؟.(23/1)
عسيت تقول وماذا يضيرني استعباد المرأة إياي إذا كان في هذا الاستعباد رغدي ونعيمي؟.
بلى لا ضير عليك أيها السائل ولا شر، إذا لم يكن لك أنت غرض كغرض الطبيعة وكنت كسواد الناس لا هم لك إلا السعي وراء الرزق والخبز.
إن رب الفن العبقري ليهون عليه أن تجوع زوجته، ويعرى بنوه، وتسغب والدته، ولا يرضى لنفسه أن يشتغل بغير فنه، ولذلك كان عند النساء مكروهاً مبغوضاً، إنه لا يدنو منهن إلا ليدرسهن، لكي ينزع عنهن بشرة الكذب، وجلدة الخداع، وأديم الرياء، ولكي يكشف دفائن أسرارهن، ويخرج خبايا ضمائرهن.
لا يقترب منهن إلا لأنه يعرف فيهن القوة التي تثير فيه أعمق خواطره وأسمى ابتكاراته، وتنقذه من برودة القريحة، وتنجيه من خمود التفكير، وترسله يمرح في مراتع الحلم ومسارح الخيال وتلهمه الوحي كما يقول!.
فهو يحض النساء على أن يعملن العمل لغرضهن، بينا هو في الحقيقة يريدهن على أن يعملونه لغرضه، ويدعي أنه ينقذها من آلام الحمل ويغني عنها أوجاع الوضع لكي يظفر هو لنفسه بالرقة والحنان والعطف الواجبة لأولادها وأصبيتها، بل منذ كان الزواج والنساء يعددن رب الفن زوجاً سيئاً شريراً.
لينقرض الجنس، أو لتذبل ألف امرأة، أو لتذو غلائل ألف غانية، فما بضائره أو محزنه، إذا استطاع أن يظفر من ذلك بما يعينه على أن يمثل دور هملت أحسن من دوره أو يصور صوراً أفخم من صوره، أو ينظم قصيدة أعمق من قصيده، أو يخرج فلسفة أبدع من فلسفته.
واعلم أن رب الفن يرينا أنفسنا على حقيقتها، وما كانت أذهاننا إلا معرفتنا لأنفسنا، ولذلك كان كل من يضيف إلى هذه المعرفة ولو النزر اليسير إنما يخلق ذهناً جديداً، كما تخلق أية امرأة رجالاً جديدي، وليس رب الفن في هذا التكوين أقل قسوة وهولاً من المرأة، هو شديد الخطر عليها وهي شديدة الخطر عليه، وليس في الحروب الإنسانية كلها حرب هي أشد هولاً وخدعة ونكراً من الحرب القائمة بين الرجل العبقري وبين المرأة الوالدة!.
كل مطلب هذه الحرب هو أيهما الذي سينهك الآخر ويبتلع؟.
البحيرة(23/2)
هي بحيرة بورجيه، في مقاطعة سافوي، جنوب فرنسا الجميلة، والشاعر هو لا مارتين، شاعر الحب والجمال، هو الرجل الذي اجتمع في قلبه قلب الطبيعة كلها هو الجزء الملائكي في وجدان الإنسانية وعواطفها، وضع قصيدة البحيرة عام 1817، بعد أن جاء إلى (بروجيه) على موعد من (الغير) حبيبته، ولكنها وا أسفاه لم توافه إلى الموضع، بل قضت نحبها بعد ذلك بثلاثة أشهر، دون أن يقدر للشاعر أن يظفر بلقائها قبل الموت.
وهذه القصيدة تعد من أبدع منظومة، وأرق خواطره، هي كلمة حادة حزينة، صادرة من أعماق قلب خفاق كبير، غذي بلبان الحب، وعاش وقضى في أحضانه.
نحن بني الإنسان ما أن نزال نساق في الحياة من ضفاف إلى ضفاف، ونقذف من ساحل إلى ساحل، وننقل من عدوة إلى عدوة مقتربين من ليل الأبدية، محمولين إلى ظلمة الخلود، فهل مكن وقفة لسفيننا فوق أوقيانوس الزمن وهل من مستقر.
أيتها البحيرة، هذا العام قد دار دورته أو كاد، هذه أمواجك المحبوبة كم كانت تعاودها، وهذا آذيك الجميل كم كانت تشارفه، ولكن انظري. . . هذا أنا جئت وحيداً أجلس على صخرتك، وأقبلت فريداً أقتعد ثنيتك، حيث كانت تجلس، وحيث كنت تشهدين.
كنت تصخبين على هذه الصخور العميقة، وكنت تئنين، كنت تتكسرين على جوانبها الممزقة وكنت تتدافعين، وكانت الريح ترمي بزبد أمواهك عند قدميها المعبودتين. . ففي ذات ليلة - وهل تذكرين - ليلة كنا فوق صدرك نجذف في سكون، ويدري بنا الزورق في صمت، لا حس فوق اللج ولا صوت تحت السماء، غير ضوضاء المجاذيف وصحبتها، وهي تضرب صفحة أمواجك الحلوة المنسجمة، وتسقط على أديم إمدادك المطردة المنسقة. . وإذا بصوت لا تعرفه الدنيا، وتجهله الأرض جرس حلو في أذني، ناعم الموقع في مسمعي، تردد صداه فوق ضفتك الجميلة الفاتنة، هذا وقد أصغى الموج وسكن خرير الماء، وهو يساقط هذه الكلمات:
أيها الزمن. قف عن طيرانك، وامتنع عن جريانك، وأنت أيتها الساعات الحنون الرفيقة، هلا سكت عن دورانك، دعنا أيها الزمن نستطيب عذوبة ألذ أيامنا وحلاوة أبدع ساعات عيشنا، كم من مكدودين منحوسين في الأرض يضرعون إليك ويبتهلون، فخفف لهم أيها الزمن من عدوك، وهون لهم من غلوائك، وارفع عنهم الهموم التي تلتهمهم، وانس السعداء،(23/3)
وتجاف يوماً عن المجدودين.
ولكن عبثاً أبتهل، وباطلاً أضرع، فقد أبى الزمن إلا الفرار والطيران، إني لأقول لهذا الليل أبطئ ولا تعجل ولكن الفجر يأتي عادياً فيطرد الليل ويبدد.
إذن فلنحب ولنحب، ولنعجل بهذه الساعة الهاربة الطائرة، ولنتمتع بالهوى ولننعم، ليس للإنسان من شاطئ يستقر عنده ولا ساحل، وليس للزمن من جانب يقف عنده ولا ضفاف، بل أن الزمن ليمر، ونحن في الأثر.
أيها الزمن الغيور الحقود، ما بال سويعات النشوة والطرب، حيث يرسل الحب نبعة السعادة. وعين الهناء! تطير عنا في سرعة أيام البؤس وزمان الشقاء!.
كيف. . . ألا تستطيع أن نقتفي آثار أيامنا الحلوة ورسومها، وطيف، أتمضي إلى الأبد، لأرجع ولأعود، هل فقدنا كل شيء، وحرمنا كل بهجة، أم الزمان الذي حبانا بها، ثم جاء فنزعها، لن يعود؟.
أيتها الأبدية، أي عالم العدم، بل أيها الماضي الراحل المتحمل، أيتها الهاوية السحيقة، الغاشية المظلمة! ماذا تصنعين بالأيام التي تلتهمين وماذا تفعلين بالساعات التي تبتلعين. . . تكلمي - ألا تردين علينا اللذائذ التي استلبت، والفرحات التي استرقت.
أيتها البحيرة! أيتها الصخور الصامتة الخرساء، أيتها الكهوف المظلمة، أيتها الغابة الكثيفة المعتمة، أنت وحدك التي يغفل عنك الزمن، بل أنت الذي يرد عليك الصبا والشباب.
أيتها البحيرة، الجميلة في صمتك وسكونك، وزمجرتك وحنينك، وعصفك ورنينك، في رابيتك الزاهرة وكثيبك، في هذه الصفصافات السوداء، في هذه الصخور الموحشة، القائمة فوق أمواجك، المشرفة على لججك وأه واهك.
سواء في الريح تئن ثم تمر، في خرير مدك المتدافع، أم في الكوكب الفضي وهو يشرق فوق أديمك بأشعته اللينة الناعمة، بل أن الريح وهي تنتحب، والجدول وهو يئن وعبق نسيمك وهو يتضوع. . . كل شيء نرى، وكل شيء نسمع، يقول لقد كنا عاشقين!.
الرحمة
بين اليقظة والمنام
جلت في المدينة جولة ليليلة فرأيت السقيم المأوف، والعديم المهلوف، والكليم المشغوف،(23/4)
ورأيت الخليع الماسي الذي لا يرحم نفسه، والعتل القاسي الذي لا يرحم الناس، وسمعت من أخبار الشعوب، وأوضار الحروب، ما يغري بشق الجيوب. فقفلت إلى بيتي مثقل الرأس، مترع القلب، ونمت وأنا أقول أما في الأرض رحمة؟؟.
وما استغرقت في النوم حتى كأنني أصعدت إلى السماء وكأن ملكاً أخذ بيمناي وذهب يعرض على أسرار حجابها، ويفتح لي مغاليق أبوابها، حتى انتهينا إلى موضع فقال الملك ارفع بصرك واقرأ - فرفعت بصري فنظرت سطراً من نور رقمت حروفه بالكواكب والأقمار وإذا هو: خزائن السماء.
ثم تقدم على باب مكتوب عليه خزانة الرحمة ففتحها فإذا بها خاوية وحارسها نائم، وتقدم إلى باب آخر مكتوب عليه خزانة المال ففتحها فإذا هي خاوية كذلك.
قلت ما هذا؟؟
قال: لقد سمعناك العشية تشكو قلة الرحمة في الأرض، فاعلم إننا نسمع الناس من عهد أبيكم آدم يطلبون الرحمة والمال فوهبناهم منهما حتى فرغت خزائن الرحمة والمال، وشرعنا في أن نملأها بجانب من كنوز السماء التي ضاقت بها الخزائن والناس لا يطلبوها وها هي خزائن الحكمة والعلم والذكاء والأخلاق موصدة لا تفتح أبوابها إلا ساعة أو ساعتين في كل حقبة.
قلت: ولكنكم أسديتم الرحمة لمن لا يفيد بها ولا يستفيد.
قال: بل أعطيناها لمن سألها - سمعنا الحكماء والشعراء والمرضى والتعساء يصيحون الرحمة الرحمة فقلنا هاكم الرحمة، ولم نسمع أحداً غيرهم يطلبها فحبسناها عمن سواهم.
قلت هذا سبب الخطأ
قال: بل الصواب هذا.
قلت وكيف ذلك؟؟.
قال: أو كان يجعل عندك أن نبذل الرحمة لمن هو في غنية عنها. أم كان يعجبك أن تمسكها عمن هو في حاجة إليها وكيف لعمري يأخذ الرحمة إلا من هو أولى بها من الناس كافة؟؟.
قلت: أنا لا أفهم معنى للرحمة إلا إذا أسعفت من بلاء. فإن كنتم تبذلونها لأهل البلاء ففيم(23/5)
بذلتموها؟؟.
قال: وفيم نبذلها لغير المبتلين وليس يعرف البلوى إلا أهلها. أفتدعونا إلى أن نخص طائفة من الناس بأنعم السماء كلها ومعها الرحمة والبلاء ويبقي الآخرون بلا رحمة ولا نعمة ولا بلاء - ذلك مالا ينتظم به أمر العالم الأرضي.
إنكم يا بني آدم تجتدون النعم وتلحفون في أجتدائها فإن أعطيتموها لم تحسنوا تصريفها فتلوموا القدر ولأنتم أحق باللائمة - تطلبون الرحمة فنرسلها إليكم فتقولون هلا بعثتم بها إلى الأغنياء. وإن سألناكم ولمه؟؟ أجبتم ليجودوا بالمال!! فكأنكم إنما تطلبون المال ولا تطلبون الرحمة. وكأن الذي أردتموه رحمة تحملها أكياسكم لا قلوبكم وتطلبون المال فإذا بعثنا به إليكم ترمونه في الدور والضياع ثم لا نلقيكم قانعين. ولا والله ما أردتم المال ولا الدور والضياع ولنكم أردتم ما في احتوائها من اللذة، وليت شعري إن كانت اللذة هي مبتغاكم فما أحجاكم أن تعلموا أنه قد تكون لذة ولا مال وقد يكون مال ولا لذة وإن ليس في الغني من اللذة أكثر مما في الفقر، لأنها إحساس في النفوس، والذهب متاع في الصناديق.
فعرفت أن أرسطو قد خدع أهل الأرض حين زعم أنه جاءهم بالمنطق بفصه. وأحببت أن لا أسترسل معه في الحوار فقلت فما بال الناس أشقياء بما عندهم من رحمة وحتام يظلون في شقوتهم هذه؟؟.
قال حتى ينتقل ما في هذه الخزائن إلى الأرض - فعلم الناس أن يطلبوا غير الرحمة فإن في أرضهم منها فوق كفايتها وهي لا تعوزهم وإنما تعوزهم نهاتي الكنوز المهجورة، وأنبئهم أنه ما دامت هي بعيدة عنهم فالأرض أرض والسماء سماء.
وإني لأفتح الباب لأنظر وراءه نظرة، فاندفع فكر على عقبه ورن له في السماء صرير نبه الحارس النائم فصحوت. وأنا أقول أليس في السماء رحمة؟؟.
عباس محمود العقاد(23/6)
نصائح للشبان
العناية بالأزياء
إياكم أيها الشبان والإسراف في الاحتفال بزيكم، والعناية المتجاوزة بثيابكم فإن تبديد المال في تزيين البدن وتطريته ليس له من منشأ غير الغرور، وإن أردتم الحق فمن أحط أنواع الغرور وأخبثها، إذ يظن بعض الشباب أن الناس سينظرون إليهم إذا مشوا في الطريق ويتبعونهم بأبصارهم، ويرسلون أعينهم في أثرهم وإنهم سيحسنون الحكم فيهم ويجملون الرأي إذا شهدوهم في أثواب جميلة زاهية، وأردية أنيقة مهفهة. ولكن ما أسخف ما أحمق، وما أكذب، فإن العقلاء من السابلة ليمرون بهم معرضين غير آبهين لجمال بزتهم وحسن شارتهم، وأما الذين يشاركونهم في هذا الغرور فسيعرفون أنهم مثلهم يحاولون التدليس على الناس والتمويه على المارة، فيهزأون بهم لذلك ويسخرون، وأما الأغنياء فلا يحتفلون بهم ولا يعتدون ولا يكون نصيبهم من المغرورين أمثالهم الذين يرغبون في التأنق ولا يجدون سبيلاً إليه إلا الكره والحقد والحسد.
ومن ثم ينبغي أن يكون لباسك ملائماً مكانك في المجتمع ومرتبتك، فإن من الخطأ البين أن تظن أنك ستستفيد من جمال سمعتك وحسن مظهرك، لأن أقدار الرجال تقاس بكفاءتهم لنفع الناس وطواعيتهم ونشاطهم للعمل لهم، وأما عن النساء وغرورهن فلئن كانت الثياب الأنيقة الناعمة تسترعي ميل بعضهن، فإن السواد الأعظم من النساء حديدات البصر، نافذات النظر، حتى ليعرفن مخابر الرجال من مظاهرهم، وإنهن لينظرن إلى الرجال نظرات عميقة بعيدة الغور، لكي يخرجن لهن مقاييس أخرى غير الثياب يقسن بها الرجال ويزن، واعلم أن النساء وإن كن يملن أنفسهن إلى الغرور، إلا أنهن يكرهنه في الرجال.
إذن فليكن لباسك رخيصاً لا فاحش الثمن، ونظيفاً غير حقير المظهر، وليكن اهتمامك بلون قميصك أكثر من اهتمامك بنفاسة قماش سترتك، وكن نظيفاً ما أمكنتك مرتبتك، دون إرهاق أو اعتساف، وحذار أن تعتقد يوماً أن هناك رجلاً فيه مسكة من العقل، سيجلك فوق مكانك، ويرفعك فوق منزلتك، لنفاسة ثوبك، وأناقة بزتك، ولعل أخبث نقائص هذا العصر، أن كل إنسان في نظر نفسه يرفعها فوق مكانتها الحقيقية في الحياة!.(23/7)
ترجمة سعد زغلول باشا
الرجل البرلماني الكبير
ـ 3 ـ
نعود فنسترسل في ترجمة هذا الرجل العظيم الذهن. الكبير الروح، المتوثب الوجدان، ونعود فنأخذ في دروسنا الجليلة التي نستمدها من الحياة العظيمة، والشخصية الكبيرة، وما كانت حياة العظيم إلا الجزء الأكبر من حياة الإنسانية نفسها، ولو أردت أن تستخلص تاريخاً حياً حاراً لأمة من الأمم، فالتمسه في تراجم عظمائها وقائمة أبطالها، ولو أنت تجاوزت ذلك إلى حياة عامة أفرادها، وعادي رجالها، لما كان تاريخك إلا مذكرات يومية بطعام الأمة وشرابها، وشبعها وريها، وحيوانيتها وعجماواتها، وليست تراجم كبار الرجال إلا برامج سامية للجنس، وخططاً عاليه للنوع، هي أشد أثراً في تطور الإنسانية من الفلسفة والعلم، وابتكارات الذهن، ومخترعات العبقرية، لأن هذه لا تهذب نفوس الناس، ولا تطهر من أخلاقهم، ولا توقد من وجداناتهم، بل إن الفلسفة والعلم والآداب والمبتكرات في كل يوم تقتل نفسها، ويمحو اليوم منها ما يثبت الأمس، وأما حياة العظيم، فلا تني تخلق عظيماً مثلها أو أشد عظمة، وهي بعد مطهرة لدهماء الناس، مهذبة لأخلاقهم ووجوه الحياة عندهم، وما كانت حياة نابوليون إلا نسخة أخرى من حياة هنيبال أو الاسكندر، بل كم خلقت ترجمة نابوليون من نابوليون صغير، له روح نابليون العظيم ومشاعره، وليست له قوته، وليس له حظه.
تكلمنا فيما مضى عن نواح شتى من شخصية سعد زغلول باشا ومزايا عظمته ونحن اليوم ذاكرون شيئاً من قوة عزيمته، وقوة دأبه وإرادته، فمن ذلك أن المترجم به تعلم اللغة الفرنسية، وهو يكاد يجاوز الأربعين من سنه، ولم يلبث غير قليل حتى حذقها، وأتقن معرفتها، وبلغ من إلمامه بها، أن أدى الامتحان بها في علم الحقوق وهو قاض في الاستئناف، ونال بذلك شهادة الليسانسييه.
وأنت ترى من ذلك أن هذا الرجل الكبير كان ينزل عن منصة القاضي ليجلس مجلس التلميذ، وذلك لأن العظمة لا تخجل من أن تستخدم ما تحتها في سبيل كماليتها، وإن الشاعر العبقري لا يضيره أن يجالس البغي لكي يستعين بتحليل نفسها على الإبداع في قصيده(23/8)
وخواطره، والفيلسوف لا تسمو نفسه عن أن يماشي السكير لكي يدرس طبائعه وعوارضه، والبحاثة العالم لا يترفع عن أن يصحب السوقة ليكون مادة له في بحثه وتفكيره، والناس كلهم طلاب معرفة، وأشدهم في طلب المعرفة نوابغهم، لأن المعرفة، في التعريف الفلسفي، هي ضرب من القوة.
هذا ولقد كانت الإرادة القوية عاملاً من أكبر العوامل في تطور العالم وارتقائه، وازدياد وسائل المدنية وأساليبها ومستلزماتها، فهي التي رفعت الإنسانية من ظلمة الخمول وحمأة الانحطاط، هي كشفت العالم الجديد، وفتحت مجاهل العالم القديم، وظهرت على متن العالم الجليد هي ذللت الكيمياء الحديثة وأحماضها، وهي أخرجت مكتشفات الطب الجديد وجراثيمه وأدويته ومضاداته، وهي اخترعت عجائب الطيران ومدهشاته.
ولا أحسب الرجل الذي يحاول اختراق الطريق مسرعاً فتدهمه العجلات وكان يعجز عن بلوغ الجانب الآخر، لو لم تتعطل فيه قوة إرادته، فعطلت فيه قوة ساقيه، ألا ترى اللص الهادئ، يعدو والشرطي في أثره، وإذا به قد وقف بغتة عن عدوه، وكان سابقاً الشرطي بالمسافة البعيدة، ذلك لأن قوة الإرادة فيه قد اضطربت، فاضطرب لها مجموع جسمه.
إن أمام الإرادة القوية الوثابة لا تتطاول صعاب الأمور وعسيراتها ولا تستكبر عظائم الخطوب وجليلاتها، بل أن اجتياز نابوليون هضاب الألب وجباله، وثلوجه وشعابه، هو الذي علمه أن يقول أن كلمة مستحيل ليست في اللغة!.(23/9)
مطبوعات جديدة
[1] المنهج الصحي: وضع الأستاذان يس أبو النور ومحمد زايد وكلاهما من خريجي مدرسة المعلمين الناصرية كتاباً سمياه المنهج الصحي وراعيا في تنسيقه والأغراض التي أودعاها بين دفتيه ما قررته نظارة المعارف المصرية في علم تدبير الصحة وهو يقع في 82 صفحة من القطع الصغير وثمنه قرشان وهو يطلب من مكتبة البيان.
[2] غاية الطالب في علم التاريخ: ألف الأستاذ عبد المقصود دغيدي أحد خريجي مدرسة المعلمين الناصرية كتيباً في التاريخ وافياً بما قررته نظارة المعارف في هذا العلم على تلاميذ السنة الثالثة وتبلغ صفحاته 74 صفحة وثمنه قرشان ويطلب من مكتبة البيان.
[3] كنوز سليمان: سفر يقع في 160 صفحة وضعه ريدرهاجرد الكاتب الإنكليزي صاحب ألن كواترمين ونقله إلى العربية أمين خيرت الغندور والكتاب نفيس ذو قيمة يبد أنا نأخذ على جناب المترجم ولوعه بالغريب من المفردات والتراكيب وننصح له أن لا يعود مرة أخرى إذ هو ألف أو ترجم إلى مثل هذه الطريقة التي ينكرها جميع علماء البلاغة وليست البلاغة أن يعمد الكاتب إلى معاجم اللغة فيصيد غريبها وموحشها ويثبتها كيف كانت وإنما البلاغة لعمري في الأسلوب كما كرر ذلك حتى أوفى على الغاية الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز.
ليست البلاغة كما قال المأسوف عليه الشيخ محمد عبده إلا ملكة البيان وقوة النفس على حسن التعبير عما تريد من المعني لتبلغ من مخاطبها ما تريد من أثر في وجدانه يميل به إلى الرغبة فيما رغب عنه. أو النفرة مما كان يميل إليه أو تمكين ميل إلى مرغوب أو تقرير نفرة من مكروه أو تحويل في اعتقاد أو تغيير لعادة أو ما يشبه ذلك مما يقصد بالخطاب، وذوق النفس كذلك لنحاسن ما نسمعه أو وجوه النقد فيما يلقى إليها.
(وبعد) فإن مجال القول لا يتسع لأكثر من ذلك الآن.
نجوي الضمائر: وهي طائفة من الرسائل الودادية التي دبجها يراع شاعر الإنجليز النابه روبرت بيرنز وبعث بها إلى السيدة م. ليهوز. كلارندا نقلها إلى العربية الفاضل عز العرب على ضابط المدرسة المحمدية الأميرية - وهو في 72 صفحة وثمنه قرشان - وعز العرب أفندي من أدباء مصر المعروفين غير أنا نلاحظ عليه هو الآخر استهتاره بالألفاظ حتى ليخيل إلى قارئه أنهه يحفظ ألفاظاً بعينها من كتاب بعينه ثم صار يجر إليها(23/10)
المعنى جراً ويلزقه بها إلزاقاً حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى ألفاظاً غيرها ومنعه الإفصاح عنه إلا بها - وتلك وا أسفاه آفة المتأدبين.
النجاة: للشيخ الرئيس أبي على بن سينا فيلسوف الإسلام كتاب جليل كبير اسمه الشفاه في المنطق والفلسفة الطبيعية والإلهية ثم اختصر الرئيس نفسه هذا الكتاب في كتاب آخر سماه النجاة. كتاب يبلغ 1024 صفحة وقد وفق الله الأستاذ الشيخ محي الدين صبري الكردي صاحب المكتبة العراقية بجوار الأزهر الشريف إلى طبع هذا الكتاب وقد جعل ثمنه عشرة قروش.
صبح الأعشى للقلقشندي: أهدت إلينا المكتبة الخديوية الجزأين الثالث والرابع من كتاب الأعشى للإمام القلقشندي المصري كما أهدت إلينا الأول والثاني - والكتاب ليس بحاجة إلى التقريظ وكل ما نقوله عن هذا الكتاب إنه موسوعات عربية تمثل ما يحتاجه الأديب في تلك الأعصر من المعارف المنوعة ثم الإلمام بكثير من تلك المعارف والكتاب يباع الجزء منه بخمسة عشر قرشاً وهو يطلب من المكتبة الخديوية ومن مكتبة البيان وأجرة البريد عن كل جزء قرشان.
الحياة القومية: سفر ينطوي على مباحث شتى في الأخلاق والاجتماع للفاضل أمين أفندي حمدي وقد ظهر منه جزأن وهو يطلب من مكتبة البيان وثمن الجزء قرشان.
ربة الدار: وضعت السيدة الفاضلة ملكة سعد صاحبة مجلة الجنس اللطيف سفراً جامعاً أسمته ربة الدار حشدت فيه كل ما يجمل بالسيدات معرفته من علم تدبير المنزل وعلم الصحة وما إليهما وقد نظرنا هذا الكتاب فألفيناه خليقاً بالاقتناء وإنا نحت كل الزوجات وكل الأمهات وبالحرى كل صاحبة منزل أن تقتني هذا الكتاب حتى تصدر في أعمالها ومملكتها الصغرى عن علم وبصيرة، وثمن هذا الكتاب عشرة قروش وهو يطلب من مكتبة البيان ومن سائر المكاتب.(23/11)
عالم الحرب
كلمات الإمبراطور
مختارات شتى من خطب غليوم ورسائله ومحاضراته وبرقياته، ومنها يخرج القارئ بتحليل واف لشخصية الإمبراطور ونفسيته، وأخلاقه وإرادته وتعاليمه وآدابه.
كلمات عن الجيش
لا ينبغي أن يكون للجندي إرادة، بل ينبغي أن يكون للجنود أجمعين إرادة واحدة. . . تلك هي إرادتي.
إذا كنتم جنوداً أخياراً فيجب أن تكونوا كذلك مسيحيين تقاة، وأبراراً متدينين.
إن الجيش وحده، لا البرلمانات ولا الأصوات ولا الأكثريات، هو الذي شاد بناء الإمبراطورية، ولذلك إني أضع ثقتي كلها في الجيش.
عقيدته وآراؤه الدينية
إن الملك يستمد سلطته من الله، وهو مسؤول أمام الله وحده، والملك هو الذي يختار طريقه بنفسه، وليس من مهيمن على أفعاله غير الاله.
لا يمضي صبح ولا يمر مساء دون أن أصلي لأجل شعبي.
أحب قراءة الإنجيل، وأقرؤه كل يوم، ولا يفارق لحظة واحدة فراشي، مهما يضمر المستقبل من البلاء لهذا الوطن، فنحن الألمان سنعرف كيف نتخلص من مخالبه معتصمين بهذا القانون السديد نحن الألمان نخاف الله ولا نخشى أحداً غيره في هذا العالم.
إن من لا يضع حياته على أساس من الدين يخسر كل شيء.
تعليمه السياسية
ليس في هذه المملكة إلا سيد واحد. . . هو أنا - ولن أسمح لنفسي بوجود سيد آخر.
ليس في ألمانيا إلا قانون واحد. . . هو قانوني، هو القانون الذي وضعتة بنفسي.
لا أريد أن أرى قوماً متشائمين في هذا البلد، فمن كان بيننا لا يريد أن يعمل عملنا، فليهجر المملكة وليبحث له عن موطن آخر.
إن سلام العالم يتوقف على العلاقات الودية بين إنجلترا وألمانيا.(23/12)
لن أنسى روح تلك الكلمة التي قالها فردريك الكبير إن الملك في بروسيا هو أول خادم في المملكة.
إن بابي مفتوح أبداً في وجه شعبي. حياتي وعملي معاً لأمتي وأنبل واجبي هو العمل لرقيها. ذهب أسلافنا وبقينا، ولا واجب الآن أمامنا غير الاحتفاظ بما ورثنا.
إن الدولة الذائعة السلطان في الأرض لا تبني في يوم واحد. أنتم تلبسون ملابس الحكومة، ولهذا تنعمون بحق الأفضلية على غيركم. إن أشرف واجبات الحكومة هو أن تحمي الضعفاء ضد الأقوياء.
آراؤه في البحرية الألمانية
إن مستقبلنا على الماء.
لا غنى لعظمة ألمانيا عن الأوقيانوس، إن الأوقيانوس هو الذي سيثبت للعالم أن فوق أمواجه وعلى متن بحاره لا يمكن أن يتم شيء دون رأي ألمانيا وإمبراطور الألمان.
لن أستريح حتى أسمو ببحريتي إلى المكان الأرفع الذي ناله جيشي. انظر إلى نهضة اليابان، ثم فكر في حالة الصين، ويعد ذلك أحكم على قوة المحيط الهادي، إن الدول العظيمة البحرية هي وحدها التي سيصغي إليها بإجلال واحترام، ولهذا السبب وحده يجب أن يكون لألمانيا أسطول ضخم عظيم.
إن بحريتنا ولا ريب لا تزال صغيرة بجانب بحريات أعدائنا، ولكن سر قوة بحريتنا وسلطانها في روح النظام، في طاعة جنود البحرية لقائدهم العظيم ولضباطهم النجباء.
رأيه في الاشتراكية
إن الاشتراكية سحابة صيف عما قليل تنقشع
إن لفظة اشتراكي لهي عندي مرادفة للفظة عدو للحكومة والوطن.
إن هذا الحزب الذي يجرأ على مهاجمة أنظمة الحكومة وآساسها والخروج على الدين، والانشقاق على العقيدة، وتبلغ منه الجرأة أن يتجاسر حتى على شخص الملك، يجب أن يسحق، يجب أن يبيد، إني لأبتهج أن أرى يد كل فرد في يدي سواء أكان عاملاً أم مالكاً أم أميراً، ما دام يبايعني على هذه الحرب.(23/13)
إن بيتنا لن يبرح يهتم بأمر الصناع والعمال.
إن صالح العمال لفي ناحية من قلبي.(23/14)
رجال الحرب
ولي عهد ألمانيا
ليس ولي عهد ألمانيا في عظمة النفوذ وقوة الأثر في الأمة، وامتداد السلطان في الشعب، أقل من أبيه غليوم، ولا أصغر نصيباً، وهو اليوم رأس من رؤوس هذه الحرب وكبير من أكابرها، وليس هو كلداته ولاة العهد في سكونهم وانزوائهم قبل أن يحين حين تتويجهم، ولا هو كمية مهملة حيال سلطة الإمبراطور والده، بل ما فتئ منذ سنين يظهر لأمته شخصيته واستقلاله ومخالفته لأخلاق آبائه ملوك هو هنزلرن وتقاليدهم وآدابهم ورسومهم، حتى نال من قلب الشعب مكاناً رحباً عظيماً.
وكان أول ما ظهرت حرية تفكيره وخروجه عن التقاليد الهوهنزلرنية العتيقة، في مسألة زواجه، ذلك أنه لما عزم على الخطبة، بت في نفسه أن لا يطيع إلا أمر فؤاده لا وحي أبيه، وأن لا ينصاع إلا لأميالهن لا لأميال السياسة، وأن لا يتزوج إلا للحب والجمال، ولم يعرف في تاريخ زوجيات الملوك والأمراء حادثة غرام كانت أحر ولا أطهر ولا أسمى روحاً من الحادثة التي انتهت بتزوج إمبراطور الألمان المقبل بالآنسة سيسيلي دوقة ملنبرج شويرين، صيف عام 1905، فإن هذه الأميرة السمراء الملامح، الفرنسية الآداب، الروسية الإصطلاحات، كانت يوم دخولها برلين، العاصمة الإمبراطورية كأنما تهاجمها هجوماً، وتدخلها قسراً واغتصاباً، وذلك لأن الزواج كان على كره من غليوم ورغم من الوالد، ولكنها قد أصبحت راسخة العرق في الأسرة الهوهنزلرنية، لأنها قد ولدت لولي العهد أربعة أولاد، كلهم قوي الأسر مملوء حياة، وذلك في مدة ثمانية أعوام.
وفي صيف عام 1907 بدأ هذا الشاب الكبير لشعبه في مظهر جديد من الشخصية الوثابة المطلقة، وذلك أن مكسميليان هاردن، وهو من أكبر الصحفيين في ألمانيا وأعظمهم فيها سلطاناً، وآخر كتابها أسلوباً، جمل يملأ أعمدة جريدته المسماة () مغامز وفضائح ومثالب عن بعض حاشية الإمبراطور وبطانته، هذا ومعلوم أن الإمبراطور لا يستقى معلوماته إلا من قطع تختار له وشذرات تجيء في الصحف فتقتطع لأجله وكانت حملات مكسيميليان وقوارس كلمة موجهة إلى البرنس يولنبرج صديق غليوم المخلص الودود، وإلى القائد الكونت كونوفون مولتكي حرسي الإمبراطور ولكنها لم تبلغ مسمعي الإمبراطور، ولم تقدم(23/15)
إليه وتناقلت طبقات الأمة هذه الحملات ولم يبق في ألمانيا كلها من يجهل أمرها غير رجل واحد، هو غليوم.
فرأى ولي العهد أن وطنيته الحارة وإخلاصه البنوي يحتمان عليه أن ينهي إلى أبيه هذه الحقائق المرة وإن كانت سيئة الموقع ويقضيان عليه أن يسترعي إليها أنظار الأمبراطور وإن كانت ستغضبه وتثير حتفه، وكان من إخلاص هذا الشاب أن حكم على البرنس يولبرج والكونت فون مولتكي ووقع الرأي العام في هذين البلاطيين الكبيرين، ولم يكن فعل ولي العهد ليؤمنه من سخط الشعب وموجدته عليه، ولكن لم يحدث شيء من ذلك، بل حمل له الناس في قلوبهم يداً كبيرة، وصنيعاً مشكوراً.
ولم يلبث غليوم أن أشرك ابنه في أمره، وأعطاه للمرة الأولى حق إمضاء أوراق الحكومة وتقاريرها، بالنيابة عنه.
ثم جاءت مسألة أغادير والأزمة المراكشية عام 1911، فتجلت كذلك شخصية ولي العهد في أسمى جلالها، وظهرت روح استقلاله بأبدع مظاهرها، هذا وقد انعقد مجلس الريشتاغ وأخذ الندي يتباحثون ويتمارون في الخطة الضعيفة التي سارت الحكومة عليها في تلك الأزمة فقام زعيم المحافظين وخطيب الحربيين، فون هايد براند، وجعل يسلق الدكتور بتمان هولوج المستشار الإمبراطوري بألسنة حداد ويعيب عليه سلوكه في مسألة مراكش ويهجم عليه بالنقد المر والاحتجاج القارس الشديد وكان ولي العهد حاضراً المجلس في حجرته الخصيصة به، وكان يسمع خطبة الخطيب ويصغي إلى نقده، وقد وقع كلامه في قلبه موزقع الإعجاب، وجعل يصفق على أعين الجمع المزدحم وأسماعه لكل كلمة حادة يقولها ذلك الرجل العظيم الملقب بملك بروسيا اللامتوج فكان عمل ولي العهد هذا خروجاً صريحاً على سياسة أبيه وتمرداً بحتاً على حكومته، ولم يكن من المستشار بعد سكوت هايد براند عن القول إلا أن اكتفى بالرد عليه بكلمة واحدة وهي أن هايد براند جندي يحمل سيفه في فمه، فكأنما بتمان كان يريد بذلك وريث العرش، ولكن ولي العهد لم يستطع أن يمسك عليه عواطف الوطنية الحارة الجائشة في حنايا أضلعه الفوارة في أعماق صدره، وترك الريشستاغ وله في جوانح الأمة أكبر الأثر.
وقد أظهر الشاب في كل أدوار حياته هذا المزاج الحاد والذهن المبتكر والشجاعة المتناهية،(23/16)
وهو اليوم مشهور في الجيش بأنه فارس مجيد ومن أكبر المخاطرين في ركوب صهوات الخيل، ويذكرون عنه أنه قاد كتيبة من الكتائب الخيالة وارتقى بهم درج سلم القصر في بوتسدام حتى قمته، وصعد مرة في طيارة من طيارات زبلن، دون أن يصطحب أحداً أو يخبر والده، ولما كان في جزيرة سيلان ثم في الهند شتاء عام 1910 أبدى من المهارة والشد والبأس في صيده في الغاب والأحراش ما دل على انه من مهرة الصيادين والقانصين.
وهو فوق ذلك جندي مغوار، أقام سنتين في حامية من حاميات دانتزيج، بعيداً عن برلين وبلاطها، وكان الناس يهمسون أنه كان في دانتزيج مقصياً منفياً، لأن الإمبراطور بدأ يغار من شهرة ابنه، وينفس عليه كبير شأنه ويقولون أن خياله الجيش الألماني لم تر قائداً يحكيه أو يضارعه.
ولعل النقيصة التي فيها إكثاره من طلب الإجازات وإفراطه في التغيب عن وظيفته في الجيش ومرتبته، مرخياً العنان للهوه ومغازلة الحسان، حيناً تراه في سان مورتز في لعبة (المزالق) وحيناً في كييل، إذا أقبل الصيف الناعم الجميل، في يخته، ويغشى دور التمثيل في برلين، على أنه وإن أحب اللهو يحترم جنديته ويكبر من شأنها، وقد تنقل بين أدوار الجندي حتى بلغ رتبة القائد بقوة رأيه وجدارته، وليس حبه للألعاب الرياضية يعد تبديداً لوقته وإسرافاً في شخصيته، لأن ألمانيا كانت قبله بحاجة إلى من يرقى فيها الرياضيات ويرفع اسمها في حلبتها، وقد وجدته في ولي عهدها.
وليس لمظهر ولي العهد ما يدل على مخبره، وليست فيه من المعارف والملامح ما ينبئك عن هوهنزلرنيسه، فهو طويل النجاد أهيف القوام، مهزوله غير عريض الصدر ولا ضخم الكراديس، ولا يخبرك ذهنه عن نصيب كبير من العبقرية أو النبوغ، وعبثاً تطلب مقدرته الحربية وكفاءته الأدبية من ثنايا فسيولوجيته، بل ترى ولي العهد على نقيض والده في تحبهم معارفه ومفتول شاربيه، بساماً مشرق صفحة الوجه، لا تفارق محياه ابتسامة صبيانية طاهرة، وهذا دليل من دلائل وقته.
وهو من عشاق الموسيقى، ويجد التوقيع على القيثار، وهو مجبول على الحياء والتواضع ديمقراطي الآداب، حتى بلغ من حبه للشعب أن اشترك في حفلة زفاف إسكاف حقير في(23/17)
بوتسدام، وقد قال يوماً (سيأتي اليوم الذي يجيء فيه الاشتراكيون إلى البلاط) وهو وإن كان يحب أن يطلق لسيارته كل سرعتها المقررة - وتعادل قوتها قوة تسعين حصاناً - إلا أنه قد عرف أنه كم من مرة أوقف السيارة ليرفع فلاحاً أو مسكيناً سقط في الطريق وليحمله إلى المستشفى.
وترى ولي العهد لا يعبد بعد زوجته وأولاده إلا شخص نابوليون العظيم، حتى لقد ملأ حجرة مكتبه في القصر بعدة من صور هذا الفاتح وتماثيله، ودمياته وتذكاراته، على الرغم من أن بونابرت اجتاح منذ قرن مضى بلاد آبائه، وقسم إقليمها ولايات فرنسية ومقاطعات.
وهو معبود الجيش الألماني، ويعدونه أعظم من غليوم أبيه، وأمهر في الحرب منه.
ألبرت ملك البلجيك
بين أساطين هذه الحرب وأبطالها الذين سيكتب لهم التاريخ صحيفة حلوة خالدة، يقف ألبرت ملك البلجيك، الصحفي والكاتب والمهندس والديمقراطي والحربي العظيم.
ولعل المصريين كغيرهم من الأمم لم يسمعوا باسم هذا الرجل الشهم قبل ذلك اليوم الذي أرسل فيه لجنوده المحشودة عند لييج يقول لهم: أثبتوا أمام جيش الألمان وكان من ثباتهم ما عرفوه.
ولقد كانت تضحيته وإنكارية ذاته وشجاعته النادرة المدهشة واستماتته في الدفاع عن شرف مملكته مثاراً لإعجاب سواد العالم، وقد حدث أنه كان يمشي بين الخنادق البلجيكية، والقنابل تتناثر وتتساقط حوله، وهو يقول لجنود (لو لم أكن قائداً في الجيش البلجيكي لوددت أن أفخر بأن أكون بينكم جندياً).
وليست كراهة هذا الملك للآداب الرسمية والاصطلاحات بأقل جلالاً من شجاعته وروعته، وبلغ من ذلك أنه في بدء الحرب وهو يخطر بين صفوف جنوده مستفسراً منهم عن حالهم وبلائهم، جعل كل جندي يخاطبه بلقب الجلالة، فكان يمتعض منها ويقول لهم (لا تقولوا جلالتك، ولا تخاطبوني كمخاطبتكم للملك، بل نادوني بألبرت!).
وكذلك عاش الملك ألبرت متحبباً لشعبه مختلطاً برعيته، ديمقراطي الروح، عالي الذهن، ومن الحوادث التي برهنت على ذلك أنه جاء إلى أحد ثغور بلجيكا الصغيرة في نزهة جميلة ساكنة. ولم يلبث أن صادق أهل هذا الثغر وصيادي الأسماك هناك وأصبح واحداً(23/18)
منهم، وبلغ من حسن عشرته بهم أنه أسهم معهم بشيء من ماله في تجارة السمك بالقرية.
وترى في ناديه العلماء والأساتذة والمهندسين والكتَّاب والتجار وكل من يتوسم فيه الخير لأمته.
وقد حاز شهادة الهندسة بعد دراستها ثلاث سنين، ثم توفر على هذا العلم ودأب على إتقانه وهو الذي وضع الخطط لمد سكة حديد كهربائية بين مدينتي بروكسل وأنفرس وأبى في التجاريب التي أقيمت بعد الفراغ من مد تلك السكة لا أن يسوق أول قطار بنفسه.
وقد وجدت السياسة والأدب فيه متعشقاً محباً، وقد ألف حتى اليوم أكثر من كتاب، وطالما صرح لشعبه أن المملكة لا تنتعش ولا ترتقي دون الفنون الرفيعة، وفي عام 1909 بدأ يدرس فن السفن وصناعتها وقصد أكثر ثغور فرنسا وهولندة لهذا الغرض، وعمد بعدها إلى درس فن الطيران والحذق فيه.
وقضى دهراً وهو ولي العهد صحفياً عادياً يكاتب الصحف ويعمل لها، وذلك أيام كان في أمريكا أي عام 1898 وأقام بنيويورك وغيرها من أمهات البلاد الأميركية بضعة أشهر وألف كتاباً عن أمريكا بعد عودته منها، امتدح فيه فكرة الحكومة عند الأمريكان.
والملك ألبرت أطول ملك في الغرب قامة وأوفاهم شطاطا تبلغ قامته نحواً من مترين وهو اليوم في التاسعة والثلاثين من عمره وارتقى العرش منذ خمسة أعوام بعد وفاة خاله الملك ليوبولد، وهو الابن الأصغر للكونت فلا ندرس، قتل أخوه الأكبر إثر حادثة غرام وكان هو وريث العرش، لأن أباه قد تنازل عن حقه في وراثة الملك بعد أخيه ليوبولد الشيخ المتهدم العمر لابنه الأكبر وفي سنة 1891 تنازل لألبرت بعد أخيه القتيل، فلما توفي ليوبولد خلفه على ملك البلجيك.
وكان زواجخ عام 1900 بابنة دوق بافاريا كارل تيودور، وكان هذا من أمهر أطباء العيون في الغرب كله، وقام بنحو من خمسة آلاف عملية جراحية للفقراء في مستشفاه الخاص بميونيخ دون أجر، وقد تزوجها الملك ألبرت عن هوى بينهما وحب والملكة اليصابت مثل زوجها في قوة الذهن وجلال الروح، وهي تشغل من قلوب البلجيك محلالا يقل عن زوجها.(23/19)
مصلحة البريد في ساحة القتال
ليس للجندي في ميدان القتال من لحظة عزاء وفرح غير الوقت الذي توزع فيه الرسائل من مصلحة البريد في الميدان. وليست إدارة البريد هناك إلا خيمة واحدة وليس عمالها إلا جنوداً بريديين، ولما كانت فرق الجنود في كل حين متنقلة من مكان إلى مكان. ذاهبة من موضع إلى موضع، كان من الصعب إرسال الرسائل إلى أصحابها في الميدان، ولكنهم اختطوا خطة تريحهم من متاعب هذا التنقل المستمر، ذلك أنهم جعلوا يقيمون إدارة بريد رئيسية في إحدى القرى التي تكون في مؤخرة خطوط القتال، بعيدة عن العدو ومنال يده، وهذه الإدارة هي التي ترسل الرسائل والطرود إلى فروعها في الساحة، فلكل فرقة بريدها، يتنقل معها حيث تنقلت: فإذا عسكروا وضربوا خيامهم، كان أول ما يضربون منها خيمة البريد، وهم يقيمون الحراس حولها شاكي السلاح، بينما عمال البريد في داخلها بأسلحتهم وبنادقهم، وليست هذه الخيمة على شيء من الأثاث لا تحتوي غير مقاعد صغيرة ومكاتب ضئيلة وأكياس الرسائل وجعبات صغيرة تقوم مقام صناديق البريد وهم يستعملون السيارات في نقل الرسائل من الإدارة وإليها وبين الفرق والفرق والخطوط والخطوط. وقد يحدث أن تتساقط على السيارة القنابل، وتتناثر حولها القذائف، وقد تقع في أيدي الأعداء، وأما الرسائل التي يبعث الجنود بها إلى أهلهم وذوي قرباهم فتوضع في تلك الصناديق ومنها تؤخذ إلى الإدارة الرئيسية، حيث يرسلونها إلى أماكنها فيما وراء البحار.(23/20)
أساطيل الشمع والذهب
اعتاد الإنكليز أن يصنعوا لكل سفينة حربية ينشئونها نموذجاً من الشمع قبل أن يأخذوا في إنشائها. وهذه النماذج توضع في أحواض خصيصة من الشمع لكي يختبر فيها نموذج السفينة، وهذه النماذج تبلغ في طولها بين أثني عشر قدماً وأربع وعشرين، أما الحوض فيتراوح طوله حوال أربعمائة قدم، والسبب في صنعها من الشمع هو أن الشمع لا يمتص الماء ولا يتغير ثقله، وإنه كذلك سهل التشكيل والتغيير إذا أرادوا أن يغيروا قالب النموذج ونظامه.
ثم هم يصنعون لكل سفين نموذجاً من الذهب لا من الشمع، يقدم للملك لا لوزارة الحربية، ومن ثم ترى الملك جورج الخامس يحفظ لديه أسطولاً كبيراً من السفن الذهبية، وكذلك جرى الألمان على منوالهم، وارتسموا رسومهم، حتى تجد الإمبراطور غليوم يملك اليوم أساطيل عديدة، ولكنها من الفضة لا من الذهب، على أن أساطيل الملك جورج تمثل تقدم البحرية الإنجليزية وتطورها منذ عهد ويليم الفاتح، حوال القرن العاشر من الميلاد، وبين هذه النماذج عدة من السفن التي تصور عظمة البحارة الإنكليز الأبطال الذين عاشوا بين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر.(23/21)
كيف يعسكر الجيش
إذا أراد الجيش أن يعسكر في موضع من المواضع لزمت كل قوة من الجيش مكانها المعدود لها المقرر، فأما الفرق الراجلة فتضرب خيامها في الطليعة، حتى تكون أقرب الفرق بعداً عن الأعداء، وذلك لأن الراجلة تستطيع إذا دوهم الجيش المعسكر أن تلتقط أسلحتها وبنادقها في سرعة البرق وتتمكن من مواجهة العدو الداهم وقتاله، وأما الفرق الخيالة فهذه قليلة الجدوى إذا عسكر الجيش، نزرة الفائدة، إذ خيم، لأنها تستغرق زمناً طويلاً في إعداد خيلها وأسلحتها وامتطاء صهواتها، ولذلك تضرب خيامها وراء مضارب الراجلة، وأما المدفعية فتلزم مكاناً وسطاً، بعيداً عن حدود المعسكر وأطرافه، وذلك لأن المدافع يجب أن تحرس إذا قام الليل وتؤمن من شر المهاجمين الداهمين، وأما مورد الماء القريب من المعسكر فعليه حراس أشداء ليل نهار وكذلك خيم الأسلاك البرقية، وهي الوسيلة الوحيدة للمواصلات والمخابرات بين نقط الجيش.
وليس لكل جندي في المعسكر إلا أن ينام دون شية أو وجل، لأن المعسكر تحرسه الحرس عند أطرافه وعلى كثب منه، حتى إذا انشق الفجر قامت الخيالة من نومها، حتى إذا تناولت فطورها في عجلة وسرعة انطلقت تكتشف الحركات التي قام بها العدو خلال الليل، وقد استعاضوا عن الخيالة في هذه المهمة بالطيارات، وللمعسكر شرطة يحفظون النظام بين الجند ويمنعون المشاحنات بينهم والمشاجرات.(23/22)
تمائم الملوك
ذكرنا في العدد الأول طرفة عن تميمة الإمبراطور غليوم، وعلى ذكر ذلك نقول كلمة أخرى عن اعتقادات الملوك في التمائم وأثرها من الحظوظ والأقدار حتى يعلم القراء أن الإنسانية لا تزال ضعيفة الأعصاب، خوارة أمام الطبيعة وأن الملوك كعامة الناس وذؤبانهم وصعاليكهم لا يزالون ضعفاء النفوس صغار القلوب، وإن أوتوا من قوة السلطان، ومناعة الجانب ما أوتو.
من المعروف عن أسرة هوهنزلرن المالكة أنها لا تزال تحتفظ بخاتم من الجعران تعتقد أنه سبب عظمتها ونجاحها، وتفصيل القصة أن أفراد الأسرة ومن ينتمي إليها يعتقدون أن فص هذا الخاتم سقط من جعران على فراش والد فردريك الأكبر، ولذلك كانوا يتوارثونه كابراً عن كابر. ويورثه الملك في ساعة احتضاره لوريثه وخليفته، وهو اليوم في أصبع غليوم الثاني، فإذا حضره الموت دفعه لولي عهده موضوعاً في حقه.
وكذلك يعتقد قيصر الروس في خاتم يقولون عنه أنه يحتوي على قطعة صغيرة من الصليب الحقيقي الذي يظنون أن المسيح صلب فوقه، وحادثة هذا الخاتم أنه قدم إلى أحد قياصرة الروس الذاهبين من يد البابا، فلما مات ذلك القيصر دفعه إلى وريثه ثم أصبح يتوارث في الأسرة إلى يومنا. بل أغرب من ذلك أن قيصر روسيا الحالي يحتفظ إلى اليوم بمجموعة غريبة من النقود الشرقية القديمة كان أهداها أحد اليهود إلى القيصر إسكندر الثالث وزعم أنه رأى في المنام أنه سيكون لها الأثر الأكبر في عظمة الأسرة القيصرية!.
ويضع الملك الفونسو ملك الأسبان إيمانه في خاتم يعد من أشهر الخواتيم في التاريخ حتى لقب بخاتم الأسبان. وكان أهدي إلى أبيه الفونسو الثاني عشر من إحدى السيدات المتدينات، فكان الفونسو السابق يعتقد أن للخاتم أثراً كبيراً في مستقبل أسبانيا وحياتها، وأمر أن يعد أبدا تميمة المملكة فحفظها عنه ابنه الفونسو الحالي.
وكان الملك إدورد السابع من أشد الملوك اعتقاداً بالتمائم وأمثالها من الخرافات وكانت تميمته سواراً أهدي إليه من أحد أصدقائه في مرضه الشديد الذي أجل من أجله يوم تتويجه بعد وفاة الملكة فيكتوريا والدته، فلما أبل من مرضه اعتقد بأن للسوار يداَ كبرى في شفائه، فلما توفي أمر أن يوضع السوار في المخلفات الخصوصية التي يتركها للملك جورج، وهو لا يزال في حوزته.(23/23)
الإمبراطور غليوم والتاج
من أغرب ما يذكر عن الإمبراطور غليوم الثاني أنه لم يتوج ولم تقم له حفلة التتويج وتفصيل الحادثة أن غليوم لما اعتلى أريكة بروسيا أخذ يعد المعدات الكبرى لحفلة تتويجه بالتاج الإمبراطوري وأمر أن يحشد للحفلة كل بديع، وكل جميل، وإن تكون أبهي مما وقع من حفلات الملوك والتيجان، ولكن للأسف لم يتم شيء ولم تتحقق الآمال وذلك أن غليوم قرر أن لا يموج باسم (الإمبراطور الألماني) ولكن باسم (إمبراطور ألمانيا) لأنه وجد في الأول لقباً أضأل من الثاني وغير جدير به، ولكن ملوك ألمانيا وأمراء مقاطعاتها وولاياتها رفضوا أن يتخذ ملك بروسيا هذا اللقب العظيم فلم يكن من غليوم إلا أن قال (إذا فلست أريد التتويج مطلقاً!) وكذلك كان.(23/25)
كيف يقضي كتشنر نهاره
يعد اللورد كتشنر ناظر الحربية الإنكليزية اليوم من أكبر رجال النشاط والمتاعب فهو وإن كان اليوم في الربيع الواحد والستين من عمره لا يزال في نشاطه وقوته ودأبه وثباته، ولم تكد تلقى إليه في هذه الحرب مقاليد وزارة الحربية حتى أبى إلا أن يجد له منزلاً بجوار مكان الوزارة، ولحسن الحظ عثر بمنزل إحدى السيدات النبيلات على مقربة من الموضع إزاء منزل المستر بلفور، الزعيم البرلماني المشهور.
فإذا كان الصبح، أقبل اللورد عند التاسعة مخفاً نشيطاً يريد نظارة الحربية، فإذا استقر به المكان أخذ يطالع الرسائل العامة الواردة إليه من ساحات القتال وغيرها فإذا انتهى من ذلك عقد مجلساً بينه وبين مستشاري الحربية ورؤساء أقسامها، أو من الوزراء، وتجد مجلسه مع الوزراء يستغرق أحياناً ساعتين من وقته وبعد ذلك يعود إلى الوزارة ليتناول فطوره، أما في المساء فلا يعرف للورد برنامج مقرر، فهو إن لم يكن في حجرته من النظارة، لابد من أن يكون في استعراض الجنود، وسواء أهذا أم ذاك لا يخفت له نشاط، ولا يعتريه كلال، فإذا جاء المساء تناول العشاء في النادي ثم يعود بعده إلى الوزارة فيمكث هناك أكثر الليل.(23/26)
العدد 24 - بتاريخ: 1 - 1 - 1915(/)
رجال الحرب
الفرد فون تيربتز
منشئ البحرية الألمانية
إذا أراد المؤرخ أن يضع تاريخاً صادقاً دقيقاً لتطور البحرية الألمانية وارتقائها، وتقدمها ونمائها، فلن تجد اسماً يضعه على رأس هذا التاريخ إلا اسم رجل واحد هو فون تيربتز. فإن لهذا الرجل الصلب العود المتشعب اللحية، السياسي الملاح، التيوتوني المعارف والسمت، الفضل الأكبر في نهضة ألمانيا إلى مصاف دول البحار. فهو وحده موجد أساطيل الإمبراطور.
وهم يسمونه في برلين (تيربتز الخالد) ذلك لأنه قد مضى عليه وهو في دفة الوزارة نحو من خمسة عشر عاماً، لم ينزل في خلالها عن مقعده ولم يعتزل أو يعزل عن منصبه، وليس في الوزارة الذين تقلدوا مناصب الوزارة من لم تزعزعه عن مكانه عواصف السياسة وأزماتها هذا الدهر الطويل اللهم إلا هو وبسمارك، فقد تقلد كثيرون من المستشارين مقاليد الاستشارة ثم تحملوا. وجاء كثيرون إلى وزارة الحربية ثم ذهبوا وتعاقب العديدون على كراسي الوزارة الأخرى ثم نزلوا، هذا وتيربتز لا يزال متربعاً في دسته منذ عام 1898 سائراً في سبيله البحري وخططه.
وليس تيربتز من أصل عريق، ولا هو من الذين يمتون إلى محتد شريف، بل على النقيض من ذلك نشأ من عامة الناس، لإسناد له الأهمية عظيمة، لا تعرف النصب ولا رأس مال له إلا قوة الإرادة وعلو المطمح، وكانت هي وحدها كافية لأن تنقله من بحار بسيط إلى إدارة قوى البحر كلها، فهو الرجل الأوحد في وزارة البحرية الذي يجمع بين أثوابه المهارة البحرية والنبوغ العملي والحذق في السياسة، حتى أن الصحف الألمانية والتقارير الحكومية تقرن اسم تيربتز ابداً باسم المستشار، وذلك لأن ألمانيا فقيرة بمستشاريها.
وتيربتز هو الذي جعل ميزانية البحرية الألمانية تتدرج من ستة ملايين من الجنيهات عام 1898 إلى ثلاثة وعشرين مليوناً عام 1913 وكانت سياسته وقوة شخصيته هي التي لعبت بعواطف الأمة، وسحرت رجال الرشتاغ، فرضوان بهذه الزيادة، وأقروا بتوسيع(24/1)
نطاق التقدم البحري، والإكثار من حشد الأساطيل.
ولد بعيداً عن البحر وشواطئه من أبوين فقيرين خاملين، فلم يكن في منشئه ولا في مظهره ما ينبئ عن أمير للبحرية وزعيم في السياسة، فلما كان في السادسة عشرة بعد الفراغ من المدرسة وتعليمها دخل تلميذاً متطوعاً في البحرية البروسية، وكانت يومذاك لا تتألف إلا من عدة سفائن صغيرة فلم يلبث غير أربعة أعوام حتى نال رتبة الملازم، ولما ناهز الخامسة والعشرين ظفر برتبة القائد البسيط، وفي هذا الموطن الصغير كان أول ما ظهر من مقدرة تيربتز المدهشة على الابتكار، وبوادر ما تجلى من عبقريته في سيطرة آرائه ومبادئه على آراء من فوقه ومن دونه، وفي هذا الموطن بدأ ذلك النبوغ العملي الذي كان الحجر الأساسي لحياته المقبلة ومنذ ذلك اليوم وهو قد اعتاد أن يمعن في التفكير والابتكار وسبق زملائه في البحرية وغير البحرية بسديد الآراء. وناضج الفكر، فكان يكتسب بذلك قلوب أشياع كثيرين، ويسحر الباب عصبة ليست بالقليلة، حتى لكأنما قد خلق هذا الرجل بطبيعته قائداً ومبتكراً، ولعل السبب الأكبر الذي جعل أزكى الرجال وأخصب الأذهان تلتف حوله وتقبل عليه يرجع إلى تمرده على الآداب البروسية القديمة، والتقاليد الحربية العتيقة، ونعني بها احترام السن وتبجيل الكبار، وكانا يريدان أن يسودا بين رجال البحرية وموظفيها، ولذلك سن قانوناً جديداً، هو أن الجدارة والأهلية هما الخليقان دون غيرهما بالاحترام والإكبار.
وجاءت سنة 1891 فخطا تيربتز بكفاءته إلى رئاسة محطة كيبل البحرية، وكانت كيبل مريض الأساطيل الألمانية ومثواها. وهناك سنحت له الفرص لإظهار براعته وقوة ابتداعه، فاهتم أول أمره بإنشاء النسافات وتحسينها والتمشي بها نحو الكمال، وإن قوة ألمانيا المعترف بها في هذا الفرع من البحرية هي نتاج دأب تيربتز ومهارته.
ولم يكن صعود الرجل من سطح السفينة إلى مقعد الوزارة لينجيه من مطاعن المنافسين والحاقدين، ولم يكن ليجعله بندوة من نقد الناقدين وشتم الشاتمين، ولكن فون تيرينز كان فوق الشتائم وفوق المطاعن فلم تنل منه شيئاً، بل كان يلقب بين رجال البحرية بالسيد.
وكان فون تيربتز لا يبرح ينظر إلى المستقبل بتلك العين الذكية الوقادة، فما كاد ينتهي من ذلك العمل الشاق العظيم، وهو تنظيم إدارة البحرية، واختيار الأذكياء والنوابغ لها، حتى(24/2)
توفر على إيجاد أسطول ألماني ضخم، يكون خليقاً بهذا الاسم، وكان التقدم الصناعي الألماني قد بلغ أشده، وانتهى إلى الغاية البعيدة، وكانت سفنها التجارية في البحر قد اتسع نطاقها وازداد، فوجد تيربتز أن الفرصة سانحة لنشر الروح الجديدة التي يريدها، وهو العمل على التأهب ببحرية كبرى، ووقع في سنة 1899 ما أعانه على مطلبه، ذلك أن سفينة بريدية من سفن الألمان وقعت في أسر سفينة حربية للإنكليز، وهنا وثب هذا الرجل فاستخدم هذه الحادثة بكل ما أوتي من قوة وبيان، وأبدى للأمة وريشتاغها أن هذه الحادثة تمثل الخطر الدائم الذي لم يبرح يحدق بالعلم الألماني الخفاق فوق سفن التجارة، ما لم ينشأ لحمايتها أسطول عظيم، وكان القانون البحري الذي سنته ألمانيا في سنة 1900 وليد ذهن تيربتز وقريحته، وكان من إقرار الريشتاغ عليه أن أعطى لقب النبل المتوارث، وهو كلمة فون كما ترى وأنزل إلى البحر أول سفينة حربية عظيمة تحمل ثلاثة عشر ألف طن، في سنة 1902 فرفع إذ ذاك إلى لقب أمير البحرية العام، وتوصل بإيقاد عواطف الشعب وإرسال الحمية في نفوس سواد النواب إلى سن المذكرة البحرية الإضافة القائلة بوجوب إنشاء الدريد نوط بين أربعة وستة في العام، فانعم عليه الإمبراطور بأسمى وسام في الإمبراطورية ذلك هو وسام النسر الأسود.
هذا وتيربتز من محبي إنجلترا والإنكليز، ومن عشاق كل ما هو إنكليزي، بل قد تعلم كل أولاده في إنجلترا.
والعزيمة الحديدية هي أكبر مزايا هذا الرجل، بل هي التي أنشأت البحرية الألمانية بل أنشأته، وهو الوزير الأوحد الذي لم يعتد الخضوع لذلك السيد الفرد، ولم يعرف الاعتصام بالاستكانة له والسكون، بل إن له لإرادة قاسية، وهو يعرف كيف ينفذها.
وهو اليوم في الرابعة والستين، لا تزال تجري في عروقه حرارة الشباب وفضيلة النشاط، وهو رب أسرة، ووطني كبير الذهن يغلي بالوطنية، فلا غرو بعد ذلك إذا عد في طليعة منشئ ألمانيا الحديثة.
فون درعو لتز باشا
من بين نوابغ العالم الذين يحملون السيف في يد، والقلم البليغ في أخرى، وطبقت شهرتهم الخافقين في الدولتين، فون درعولتز باشا، فإن هذا الفيلد مارشال الشيخ كان يكون نابها(24/3)
بأدبه ومؤلفاته وإن لم يكن جندياً يخططه الحربية وتنظيماته، بدأت مقدرته الأدبية وهو فتى حدث، في ريعان العمر، وكان أول فرع في الأدب أحبه هو الروائيات، وضع في شبابه روايات غرامية، كان يبيعها ليعول بثمنها أماً أرمل فقيرة ثم أخذ يبدي براعته شيئاً فشيئاً، ويتنقل من الغراميات إلى الحربيات، حتى وضع بعد ذلك كتاب ليون غمبتا وجيوشه فعلاً بالكتاب صيته، ونبه ذكره، وكان هذا المؤلف الحربي يجور حول إنقاص مدة الخدمة الحربية في ألمانيا من ثلاث سنين إلى سنتين، وهذه الفكرة هي التي كان الحزب الاشتراكي في الريشتاغ يدعو إليها بعد ذلك. ويشتد في طلب العمل بها، واتهم جولتز أثر ذلك بأنه من أشياع الحريين وهي تهمة لا تليق بضابط يلبس أردية الحكومة، فعوقب من أجلها بإنزاله إلى رتبة دون رتبته، وانتشر الكتاب في سنة 1877 فأثار هزة كبرى بين أفراد الأمة، على أن الكتاب مهد الطريق إلى تحقيق هذه الفكرة فحققت بعده بستة عشر عاماً.
ولعل أحسن مؤلفات جولتز وأعظمها في العالم أثراً كتابه (أمة في السلاح) نشره عام 1883، وكان يومذاك في الأربعين، وهو كتاب رشيق حماسي متين الحجة، يرمي إلى وجوب الخدمة العسكرية الإجبارية، وقد ترجم الكتاب إلى بضع عشرة لغة، ووعته كلا حكومة في الغرب ودرسته، ثم اتبعه بمؤلفات أخرى اشتهرت شهرة الأولى، منها (حروب فردريك الأكبر) و (فن قيادة الجيوش) و (التاريخ الحربي لألمانيا في القرن التاسع عشر) وقد تجلى في هذا الكتاب الأخير من أكبر دعاة النظرية القائلة بأن الحرب هي المنشأ الوحيد لتقدم ألمانيا.
وقد اشتهرت أسلوب غولتز بالرشاقة والخفة والوضوح والمائية، حتى عد بذلك من أساطين رجال الأدب.
ودعي غولتز عام 1883 إلى تنظيم حربية السلطان عبد الحميد السابق وإصلاح فاسدها، وكذلك ظل حتى عام 1895، وجد الجنود العثمانية جمعاً مشتتاً مبعثراً، لا يحتوي غير رجال غفل، لا يعرفون أساليب القتال ولا شهدوا نظاماً.
ولو سمعت ما كان يجري حول هذا القائد منذ يوم وصوله الآستانة إلى يوم رحيله عنها، من المكايد والفتن والدسائس في عهد السلطان المخلوع، إذن لعجبت كيف استطاع فون(24/4)
جرجولتز، حتى في مدى الأثنى عشر عاماً التي لبثها، أن ينجز شيئاً من الإصلاح، فقد حاطه عبد الحميد بعدة من الجواسيس والعيون، يحولون بينه وبين كل سبيل، ويعرقلون له كل سعى، وحدث مرة أن جولتز نجح في استخلاص الأذن من السلطان بإقامة استعراض يمثل القتال، وما كاد يبدأ بذلك الاستعراض، حتى جاءه الأمر بالامتناع عن إتمامه، لأن عيون السلطان ألقت في أذنه أن السبب الوحيد في عمل هذا الاستعراض هو القيام بمؤامرة حربية عليه، ولم يسمح ذلك السلطان العصبي المستبد يوماً للقائد جولتز أن يترك جنوده في أيام التمرين يستعملون رصاصات الخرطوش، وما استطاع يوماً أن يجعل مدفعيته تستعمل في أوقات التجربة شيئاً من البارود، واشتريت بنادق موزر من ألمانيا لأجل الجنود العثمانية، ولكنها ظلت مكدسة في غرائرها مربوطة في أكياسها زهاء ست سنين في مخازن الآستانة، وهذه هي التأثيرات التي كان يعمل تحتها القائد جولتز.
ولكن قوة الرجل ودأبه العظيم وصبره الطويل، كل ذلك ساعده على أن لا يرحل عن تركيا إلا وقد أسس لها جيشاً وإدارة حربية ومدرسة عسكرية ومصلحة طبوغرافية، ووضع كذلك لها الخطط الحربية لقتال جيرانها والدفاع عن بيضتها حيال دول البلقان.
فلما كان عام 1909، وقد وضعت تركيا الفتاة السلطان عبد الحميد عن العرش، وأعلنت الدستور، دعى جولتز بعد فراق أربعة عشر عاماً إلى الرجوع إلى تركيا وتنظيم الجيش الجديد، ولكنه اعتذر، على أنه قضى في العام التالي زهاء شهرين في الآستانة بين تلاميذه وأصدقائه القدماء، وقفل إلى ألمانيا راجعاً وهو يتوسم الخير في العصر الجديد.
ولما انهزمت تركيا في حرب البلقان الأخيرة، جعل بعض القوم في برلين وألمانيا يرمون جولتز باشا بالنقص، وينسبون إليه جريرة هذه الهزيمة.
هذا الجندي الشيخ، قد أوفى على السبعين، وكان في حرب سنة 1866 ملازماً ثانياً وقد تفتت عظم كتفه اليسرى في تلك الحرب من إحدى القنابل، ثم جعل يرتقي من مرتبة إلى مرتبة حتى فاز بلقب الفيلد مارشال وبوسام النسر الأسود، وهو يرجع نسبه إلى أسرة جولتز وقد نبغ له جد ارتقي إلى رتبة المارشال في عهد لويس الرابع عشر، وهو رقيق المظهر مشرق الطلعة، على حين أن له قلباً من الصخر وإرادة من الحديد، لا تحفل بشيء ولا تكترث، وأكثر مزايا شخصيته الإعراض عمن فوقه من الناس والتعطف والتودد لمن(24/5)
هم دونه، ووظيفته الحربية تستلزم حضورة إلى البلاط في (التشريفات الرسمية) ومن امتيازاته فيها أن يحمل سيف الإمبراطور.
خوف الإمبراطور من الأمراض
بينا يسير الإمبراطور في ساقة الجيش اليوم، لا تراه يتخلى عن أطباء بلاطه لحظة واحدة، فهو يخاف اغتيال المرض له، خوف قيصر الروس من غيلة سكين الفوضوي فإذا ما أصاب الإمبراطور ولو يسيراً من برد، لم يلبث أن يأوى إلى فراشه ويدعو إليه أطباءه، تاركاً العناية بكل شيء سوى صحته، وإذا كان في رجال حاشيته من يتألمون من إصابة البرد رأيتهم يحذرون جد الحذر من أن تظهر عوارض السعال عليهم وهم في حضرته، ولو عجز أحدهم مرة عن إمساك سعاله، وهو بين يدي الإمبراطور أذن لما كان نصيبه إلا الطرد من لدنه، وعليهم أن يستعملوا مناديلهم وراحهم، ويتحصنوا من السعال وراء أكفهم، حتى لا يبدو هذا العارض أمام الإمبراطور.
وقد اعتاد في برلين أن لا يخرج للرياضة إلا في رداء كثيف، يسخن على النار قبل أن يشتمل فيه، فإذا كان في حلقة الكرة، راح يلعب مع رجال بلاطه وأصدقائه وهو في ردائه هذا المحمي بينا ترى اللاعبين في لباس اللعب، والعرق يتصبب من عوارضهم وأكسيتهم.(24/6)
الطيارون الحربية الفخمة الأثاث
يعجب القارئ إذا سمع بالأثاث الفاخر الذي تحتويه الطيارات الحربية اليوم، فهي أشبه بالحجر الأنيقة في البيوت منها بمجالس بسيطة في آلات تطير في الأجواء، إذ ترى أمام السائق دولاباً فخماً وعدة من الأدراج تحتوي أشياء كثيرة، منها زجاجة لمعرفة درجة الحرارة. وأنابيب من الشكولاتا، مغطاة بالصفيح لحفظها من الرطوبة، وقنينة من خمرة الكونياك، كأسعاف وقتي للطيار إذا أغمي عليه، أو أحس بدوار، واسفنجة مشربة بالغاز ليمسح بها الآلات، ومسدس موضوع في رف مخصوص له ودرج للرسائل والكتب، وبجانبة عدة من أقلام الرصاص مختلفة الألوان، لكي يجيد الطيار رسم مواقع العدو ومرابطه وأمامه لوحة من ألواح الطباشير وعدة من المصورات الجغرافية، وفضلاً عن ذلك ترى مدخنة الآلة تمر على أديم الطيارة تحت قدمي الطيار، لكن تبقى في دفء طيب، ولكي يتحصن الطيار بالحرارة من تأثير برد الجو ورطوبته، وأعجب من ذلك أن يجلس الطيار في مقعد فخم أنيق، ذي مسند كبير، كمقاعد القضاة والوزراء وأهل الثراء!.(24/7)
النقود بدل الرصاص
وكان الثوار الهنود في الثورة الهندية يحشون بنادقهم بقطع من النقود الفضية، فلما نفدت هذه كذلك، جعلوا يقذفون على العدو من أفواه البنادق والمدافع أحجاراً خالصة من العقيق، وبلغ من جنود سراج الدولة الهندي الثائر، في الثورة الهندية، أن عمدوا إلى حشو قذائفهم بقطع من الموازين، كانوا يجمعونها من الحوانيت، فيسوون طرافها حتى تكون على شكل القنابل، لكي يسهل عليهم إطلاقها من الفوهات.(24/8)
كيف تتخاطب السفن الحربية في عرض البحار
لكل سفينة حربية في البحر معدات التلغراف اللاسلكي، وهذه توضع في مكان خصيص منفرد، يسهل على ربانها أن ينفذ إشارته ورسائله إلى السفن الأخرى الماخرة عباب البحر، أو إلى السواحل القريبة منه أو إلى محطات التلغراف اللاسلكي التي تكون على كثب من السواحل والثغور، ولكل أسطول من أساطيل الدول سفينة كبرى، هي التي تخاطب إدارة أمير البحرية رأساً، وتأخذ منها أوامرها وتعليماتها ونواياها، فتبلغها إلى المراكب الراسية عند السفن، وهذه تنشرها في سفن الأسطول كلها، وترى كل سفينة تتبع إرشاد محطة معينة على الساحل أو نقطة مخصوصة تختلف إليها الغواصات والنسافات، وأما عن التخاطب بين السفن عن مواضع العدو والاحتراز من مباغتاته وغيلاته، فإن التلغراف اللاسلكي لا يفيد فتيلاً، بل تراهم ينفذون بعض الغواصات لاستكشاف مواقع سفن العدو وممارحها والحركات التي تجمع أمرها على عملها، فترسل بذلك تقريرها إلى السفينة التي تكون في أثرها، وهذه تبلغ التقرير بواسطة مصباح مورس إلى أمير الأسطول الرابض، وقد تستعين الغواصات أحياناً ببعض النسافات، فإذا فرضنا أن ثلاثين من هذه السفن أنفذت إلى اكتشاف العدو، فإنها تكون في أغلب الأحيان هدفاً للظهور على أعين العدو، ومن ثم يستحيل على الأسطول أن يمر في خفية، دون أن يشعر به أو يحس.(24/9)
حقوق الفيلد مارشال
رتبة الفيلد مارشال هي أسمى رتبة في الجيوش الغربية، ومن حقوق صاحبها أنه لا يعتزل عن خدمته في الجيش ولا يفارق وظيفته فيها، حتى آخر لحظة من حياته، وقد يعطي في بعض الأحيان نصف مرتبه، ولكن هذا لا يعفيه من الخدمة، ولا يعد اعتزالاً أو معاشاً، بل لا يزال اسمه في قائمة رجال الحربية، الذين لا يزالون في خدمة الحكومة، ومن القوانين الحربية الإنكليزية أن لا يزيد عدد حملة هذه الرتبة في المملكة كلها عن ثمانية لا يدخل في ذلك من أعطى رتبة الفيلد مارشال لقب شرف، أمثال الملوك والأمراء والإمبراطورة، ومن بين هؤلاء الثمانية يجب أن ينتخب لهذا اللقب الفخم العظيم اثنان من رجال الجيش الهندي، وعطاء الفيلد مارشال في البحر الأبيض هو خمسة آلاف جنية في العام، ولعل أقل عطاء يناله الفيلد مارشال العادي هو ثلاثة آلاف، وهذا يزيد على عطاء أمير البحرية ورتبته تعادل كلمة فيلد مارشال بحري وهو لا يتقاضى أكثر من ألفين وخمسمائة.(24/10)
عالم الأدب
شاعر يتمرد
هذه قصيدة متمردة صارخة باكية، أرسلها الشاعر لامارتين، قلب الدنيا وصوت الطبيعة، في ساعة حزن قاتل، ويأس ثائر، وعاصفة إحساسية شديدة، هي ضمير رجل متمرد ساخط ضاقت نفسه من شرور العالم وآلامه، وأظلمت صفحة روحه أثر عارض من عوارض الهم، ونكبة من نكبات الإحساس، حتى حسب الأرض والسماء وعناصر الكون في مناحة مثله. تئن أنينه وتنتحب.
أيتها القوة الإلهية، هذا هو الشر قد ساد في مملكتك، هذا هو السوء صعد ذروة دولتك، خلق كل ذي فكر، وكل ذي نفس، لأن يلتهمه الألم. ويظفر به العذاب، بل إن الأرض والسماء، والروح والمادة، كل يتألم ويتنهد، هذا صوت الطبيعة لا يخرج إلا نفساً صاعداً متراجعاً مستطيلاً، إذن فأرفعوا أبصاركم إلى اقطار السماء، ودوروا بأعينكم في آفاق الزرقاء، والتمسوا الله في صنعه، واستصرخوا من آلامكم وأوجاعكم ذلك المعزي العظيم.
بأي اسم نسميك، أيتها القوة الأبدية، وبأي لقب نلقبك، أنت التي نسميك القدر والطبيعة والعناية والقانون البعيد عن متناول الذهن، العظيم على ملمس العقل، أنت التي ترتجف في يدك، ونرتعد في قبضتك، أنت التي ننشق عليك ونتمرد، مخافك خاضعين وتائرين، ونحبك راضين وغير راضين. أنت أبداً أمامنا. وأنت أبداً أنت!.
أية جريمة ارتكبنا حتى استحقنا الحياة. واستوجبنا الوجود. هل طلب العدم الظهور، أم هل رضي بالخروج، إذن فابعثوا صوب السماء ببخورها الذي تحب وانفذوا إلى عرش الله العطر الذي يستطيب، بتنهداتكم، وعولاتكم، وأناتكم وعبراتكم، وسخطاتكم، والحاداتكم، وأنت أيتها الأصوات المهتدجة المحتبسة الدامية، وأنت أصوات الموتى، وأجراس الهلكى، وصرخات المرضى، ورنات الثكلى، أصعدي فأطرقي تلك الأبواب المقفلة، ودقي منافذ قصر الأقدار، ومغاليق مداخل العزيز الجبار.
ألا فارفعي أيتها الأرض صراخك، وأنت يا سماء رددي، ويا أيتها الهاويات الدامسة، أيها الإقليم الأسود المظلم، حيث يركم الموت فرائه، لا تخرجي من أعماقك إلا أنه واحدة، شكاة أبدية، تكون شهيداً على تهمة الطبيعة، وظلم الأقدار، بل إن الحزن ليجعل الخليقة تبث(24/11)
الطبيعة صوتاً منتحباً مجهشاً.
انظروا، هذه هي المادة قد استكانت لشرور الخليقة ومفاسدها، وذلت لفوضى السيئة وتمردها، والهفاه، إن البدن يتلوى ويتعذب، واحسرتاه، إن الحياة غير من العدم.
إن العناصر لتتقاتل في جوف الدنيا وتتحارب، إنها لتتطاحن في أحشاء الكون وتتضارب، وإن الزمن ليذبل وردة الحياة، ويذبل غلائل الخليقة، متربعاً فوق الأطلال التي ركمها، متهادياً بين الرسوم العافية التي كدسها، واقفاً على رأس الكائنات المتحولة يريد ابتلاعها، مقيماً على مرصد من الأحياء يرتقب التهامها، وهذا أخوه الموت يختطف أصول الإنسانية من حجور الأمهات، ويخنق الجذور البشرية في أحضان الوالدات.
لقد استنامت الفضيلة للقحة، وسادت الخسة على الشرف، وطرد الصدق، ونفي الحق، وراحت الحرية هائمة، تعرض قرباناً لآلهة العالم، وأرباب الإنسانية، ومضت القوة الظالمة الجائرة، تسحب الأذيال متملكة، سادلة الثوب متسيطرة، ووقع الثراء لأهل الجرائم، وأصبحت كبائر الإثم حلالاً وشرعاً، وورث الآباء جريرة الأبناء؟ وقص الجيل المخف الذاهب همومه وآلامه للجيل المقبل القادم.
أيتها القوة الإلهية، رويدك رويدك. . . حسبك هذه العذابات والمثلات، كفاك هذه الأدعية والابتهالات، هذه الضحايا والفريسات، وأنت أيتها الشمس، الشهيد القديم على شقاء الأرض، هلا ولدت يوماً واحداً، لا يشعل أوجاع الموجعين، ولا يوقدهم المكروبين المحزونين.
أي وراث الأحزان، وحملة الأشجان، وفرائس الحياة، لن تبرحوا على الهم غادين ورائحين، حتى يقبل الموت، فاتحاً أبواب معبده، قاذفاً في جوف الأبد الساكن حزن الأبد!.(24/12)
شذرات من فلسفة نيتشه
ائتلاف الشعور
للتوصل إلى معرفة وجدان الجار أو العشير أو بعبارة أخرى لكي تولد في نفوسنا تلك الإحساسات التي تملأ نفسه ترانا غالباً نبحث عن بواعث إحساساته وأسبابها كأن نسائل أنفسنا ما سبب حزنه أو سروره حتى إذا عرفناه أدخلنا على قلوبنا من الترح أو من الفرح مثل ما به غير أنا كثيراً ما نهمل أن نفعل ذلك أعني أن نبحث عن أسباب اغتمام الرجل مثلاً فنعرفها بل كل ما نفعل هو أننا نولد في أنفسنا إحساس جليسنا بتقليدنا حركات جسمه الدالة على هذا الإحساس كحطايتنا لحظ عينيه ونغمة صوته ومشيته ووقفته (أو حكايتنا صور هذه الحركات والهيئات كما يصورها لنا الكلام أو النقش أو الموسيقى) وتقليدنا حركة عضلات الرجل وجهازه العصبي. وبمجرد تقليدنا هذه الحركات يتولد في نفوسنا الشعور الذي في فؤاد جليسنا بمقتضى القانون النفساني - قانون اصطحاب الإحساسات ودلائلها الظاهرة. وبيانه أن لكل إحساس نفسي علامة ظاهرة في الجسم متى نبع الإحساس في النفس قام عليه الدليل في الجسم فإحساس الحزن مثلاً مصحوب بالدلالة الظاهرة - ظلمة الوجه. فإذا حزن القلب أظلم الوجه في الحال وهذا القانون عكسي أعني إذا كان رجل مشرق الوجه من السرور والارتياح فقابل آخر مظلم الوجه من الحزن فإن الرجل الأول لا يتمالك أن تكسو وجهه ظلمة طبقاً لقانون التقليد. وإذا كانت هذه الظلمة الظاهرة والحزن الدخيل هما كما قلنا متلازمين لا يكون أحدهما بدون الآخر فإنه متى غشيت هذه الظلمة الوجه تولد الحزن في القلب اضطراراً لا اختياراً وإن لم يكن هنالك أدنى باعث نفسي على الحزن. وهذا التقليد للحركات الظاهرة قد نمت ملكته في الإنسان فصار فيه من أسرع الملكات وأنشطها فانظر إلى وجه أية امرأة تصادفك وتأمل فيه سرعة حركة الحياة وفرط اضطرابها وانظر ما به من الاهتزازات والتموجات التي هي نتيجة دوام تقليدها وتصويرها لما يحيط بها من الحركات والسكنات.
وبعد فإنه ليس كالموسيقى شيء أدل على ما ركب في طبائعنا من القدرة على سرعة إدراك الإحساسات والعواطف والتأثر بها. فالموسيقى وإن لم تكن إلا تقليداً لتقليد العواطف والإحساسات فإنها رغماً عما فيها من الإبهام والبعد من الأصل أسرع الأشياء إلى إشعار(24/13)
أفئدتنا ما تعبر عنه من تلك الإحساسات فنستشعرها بغتة حتى ترانا نحزن أشد الحزن مثلاً بلا أدنى باعث هنالك على الأسى. اللهم إلا سماعنا بضعة أصوات وألحان تذكرنا - لا ندري كيف - بحركات المحزونين وهيئاتهم، فلقد وري عن بعض ملوك الدانمارك أنه جلس مرة يسمع لحناً حماسياً فبلغ من شدة تأثره واهتياجه أنه وثب إلى قدميه فانتضى حسامه فذبح خمسة من أتباعه الحاضرين. مع أنه لا حرباً يشهد ولا عدواً يشاهد بل السلم ينشر فوقه أجنحته والأحباب حوله جالسون، وكم أفاضت الموسيقى من سجال العبرات على خدود الملاح في الأعراس، وكم هاجت الحنين وأوقدت نار الذكرى في قلوب الأحبة الناعمين تحت ظلال الوصل الذين قد نظم عقدهم وأليف شملهم سلك الاجتماع بعد الفرقة، وبرد أحشاءهم فرح اللقاء بعد الحرقة.
والعلة في وجود هذه الملكة - ملكة تقليد إحساسات الغير في الإنسان - هي أنه لما كان الآدمي أجبن المخلوقات وكان منذ أقدم الأزمان يوئس الخطر في كل ما ليس له بعد ألفة من الخلائق فقد أصبح إذا لقي واحداً من هذه الكائنات شرع يقلد حركات وجهه وجسده ليستدل بذلك على ما عساه يكون إحساس هذا المخلوق الغريب وعاطفته وما يحتمل أن يكون الشر الذي يضمره له. بل إن الإنسان لم يكفه أن يضع ذلك بالحيوان حتى صنعه بالجماد فكان يديم النظر إلى الكائنات الطبيعية يحاول أن يترجم حركاتها وظواهرها ومميزات خواصها ويستدل بهذه على ما تكن وتستر من نواياها ومقاصدها وكان يغريه بذلك اعتقاده الكاذب أنه ليس في الكون شيء جامد بلا روح. ويقيني أن هذا هو أصل ما يسميه المفكرون الآن عشق الإنسان للطبيعة والتداذه بمناظرها والفرح الذي يخامر القلب عند رؤية السماء الزرقاء الصافية. واللجنة المتدفقة الطامية. والصخور الشماء. والحدائق اللقاء. والرياح العواصف. والرعود القواصف، والزوابع. والنجوم اللوامع والشقاء المطير، والصيف النضير. وما إلى ذلك من شتى صور الطبيعة. وأشكالها. ولا ريب عندي أنه لولا ما سبق لنا من عادة الهيبة والخوف وحملها إيانا على الارتياب بالكائنات الطبيعية والظن أنها تضمر من المعاني خلاف ما تظهر وإنها تستر وراءها سراً مجهولاً لما كنا واجدين في رؤية الطبيعة من الجذل والابتهاج ما تجده الآن. كما أنا ما كنا لنرتاح ونطرب ونسر برؤية بني الإنسان والحيوان لولا ما سبق ذلك من ارتيابنا وخوفنا أفراد هاتين القبيلتين(24/14)
وجموعهما ولا غرو فالفرح والتعجب والضحك هي صغرى بنات العاطفة التي هي عنوان هذه المقالة أعني عاطفة (ائتلاف الشعور) أما الابنة الكبرى فهذه هي عاطفة (الخوف) وملكة سرعة الإدراك التي هي مبنية على عاطفة (حب التقليد)، (وهذه الثانية هي كما ابنا آنفاً نتيجة الهيبة والارتياب والخوف) - أقول وملكة سرعة الإدراك تضعف في ذوي القوة والجبروت والبطش إذ كانوا أشد جرأة وأقل هيبة. وعلى العكس من ذلك ترى في ذوي الخور والجبن من هم مفعموا الأوعية من ملكة سرعة الإدراك وبراعة التقليد وشدة الذكاء وفيهم موطن الفنون التقليدية ومظنة البديهة وسرعة الخاطر.(24/15)
النوم والفضيلة
سمع الحكيم زارثوسترا بفيلسوف جليل يجيد الكلام على الفضيلة والنوم ويفسر أسرارهما وإن هذا الفيلسوف يأتيه طلاب العلم من كل فج عميق فيلتفون حوله ويشنف هو آذانهم بلالئ الحكمة، فوفد (زارثوسترا) على هذا الفيلسوف في الوافدين وانتظم في سلك حلقته حتى إذا التف المحفل واحتشد القوم انبرى الفيلسوف يقول:
إن للنوم لجلالاً وروعة وإن له لموقعاً عظيماً في صدور من يبصرون آيته، وهيبة وإكباراً في نفوس من يقفون في حضرته. ألا ترى اللص نفسه يرهقه الخشوع إذا صار في جوار النوم؟ ألا تراه يدب بالليل في خفية ويسير في الظلام الهوينا؟ وإن كان الخفير - أخزاه الله وآذاه - لا يرعي للنوم هذه الحرمة فتراه يصيح جوف الليل كالبعير.
ليس النوم مطلباً سهلاً وعملاً هيناً ودليل ذلك أنك لا تستطيع استدراجه إلا بإمضائك النهار الطويل مستيقظاً.
ولكي تضمن نيل النوم ليلاً يجب عليك أن تغلب شهوتك وتقهر نفسك عشر مرات بالنهار. فإن محاربتك النفس وقهرها يحدث في قواك وهنا مستلذا وتعباً مريحاً وهو بمثابة مخدر للروح ومنوم.
ولكي يأتيك النوم عفواً ينبغي لك بعد محاربتك النفس وقهرها أن ترجع إليها مسالماً ملا ينا فتصالحها لأن قهر النفس أليم. وخصيم نفسه خليق أن يبيت خصيم نومه وأيضاً ينبغي لك أن تحصل أثناء النهار عشر حقائق وإلا اضطررت إلى التماس الحقيقة أثناء الليل فحرمت طيب الوسن. وبت بروح جائعة.
وكذلك يجب عليك أن تضحك في خلال النهار عشر مرات وتبش وتنشرح وإلا لم تأمن أن تثور عليك بالليل المعدة - أم الشرور والمضار. وقرارة المحن والأكدار.
وعلى من طلب النوم المطمئن أن يشعر قلبه الفضائل كافة. فإنه لا نوم لمن حضرت فراشه هاجسات الرذائل والخباثث توسوس له فيطفق يناجي نفسه بمثل هذه الكلمات أأشهد الزور؟ أأقترف السفاح؟ أأغوي فتاة جاري؟؟. أأخون صاحبي؟ هذه الوساوس وأمثالها لا تجرئ مع النوم في طريق واحد.
ولا يكفيك استحضارك الفضائل حتى ثنيم هذه الفضائل في الوقت المناسب فإنك أن أبقيتها ياقظة ناقشتك الحساب وخاصمتك وحاجتك وما هذا مما يجلب النوم.(24/16)
ومن مطالب النوم أيضاً طاعتك العمياء للحكومة وتحبيذها وتقديسها سواء أكانت قويمة أم عوجاء، صحيحة أم عرجاء، وماذا يجدي سهرك وطول تفكيرك إذا آثرت السلطة أن تسعى على رجلين عوجاوين، وقدمين عرجاوين؟.
وعندي أن الذي يسوق النوم إلى المرعي الأخضر الخصيب هو أكيس الرعاة وأحزمهم، على أن هذا من مستلزمات النوم.
لست أطلب الثراء الطائل ولا المجد المؤثل فإنهما من مهجيات الخاطر، غير أني أكره أن أعير جنبي الفراش وأنا بعد مجرد من طيب السمعة صفر من المال.
لا أحب خلو الدار من الضيوف، وللقليل من هؤلاء أحب إلى من كثرتهم، واشتراطي - بعد - أن يكون قدومهم وذهابهم في الأوان الموافق وإلا نغصوا على نومي.
هذا وضعاف الأحلام من هؤلاء الجلساء أشهى إلى من أولى الألباب ووقدة الذكاء إذ كانوا أجلب للنوم، بارك الله فيهم إنهم المسكنون لثائرة الذهن المنيمون هياج الأعصاب ولا سيما حين يتلقي أحدنا كلامهم بالموافقة، ويستقبل قولهم بالمطابقة. ط
كذلك يمر نهار الأخيار، ويختم يوم الأبرار، فإذا جن الليل تراني أحاذر أن أدعو النوم، لأن من خصال النوم أنه لا يحب أن يدعى.
ولكني أعرض على ضمير سجل يومي وأجيل نظري في صحيفة نهاري لا نظر ما أخذت وأعطيت وما صنعت وتركت، وما نفذت وفكرت. ثم أسرد تلك الأعمال والأفكار على مقلة النقد والتبصر كما تجتر البهيمة ما استودعته أمعاءها من الغذاء أثناء رعيها فأسائل نفسي:
ماذا كانت عشر غزواتك لنفسك؟ وماذا كانت عشر مسالماتك لها؟ وماذا كانت العشر الحقائق التي استنبطت؟ وماذا كانت العشر الضحكات التي سليت بها نفسك.
فبينما أنا وسط هذه الخواطر الأربعين تديرني وتقلبني إذا بالنوم يدهمني بغتة غير مدعو ولا منتظر.
ثم ماذا يصنع؟ ينقر على جفني خفيفاً فيثقل جفني ثم يلمس فمي فأبقي فاغراً فمي.
أجل يمشي النوم إلى الضراء. ويسري إلى في خفاء. يدب إلى هذا اللص المعشوق والسارق المحبوب فينهب أفكاري ويستلب لبي. فإذا أنا مفقود الحركة أشد تبلداً من الجماد. (انتهى كلام الفيلسوف).(24/17)
فلما وعي زار ثوسترا مقالة الحكيم ضحك خفية فكنت تراه يسرق الضحك من شدة الحياء في جيبه وقال في نفسه:
إني لأضحك من هذا الفيلسوف الأبلة إذ أتخيله محفوفاً بأفكاره الأربعين ولكني أحسده على نعمة النوم العميق وأشهد له بالسبق في هذا المضمار وإحراز تلك الغاية - أعني النوم المطمئن الهني.
فطوبى لمن رزقه الحظ جوار هذا الحكيم وبشره بطول الرقاد. وقلة قلق الوساد. لأنه ليس فيما أعلم شيء هو أعدي من النوم حتى ولو حال دون العدوى جدار من اسمك الجدران.
بل إني لأحسب في أعواد منبره الذي منه يخطب طلابه لسحراً منيما - أعني بياناً يفيض في أذهانهم ينبهها كيما يكون تيقظها هذا أدعي إلى النوم العميق ليلاً. ولعمري إذا كانت الحياة كما يزعمون خلواً من الحكمة فلم أجد بداً من استماع الهذيان إذن فهذيان هذا الرجل أحب إلى وأشهى إلى أذني من كل لغو غيره والسلام.(24/18)
ترجمة سعد زغلول باشا
الرجل البرلماني الكبير
ـ 4 ـ
كلمة في الوزارة - أهمية انتقال المترجم به إلى وزارة المعارف - الأسباب التي دعت إلى ذلك - الحالة التي كانت عليها المعارف قبل تعيينه.
ننقل الآن من ترجمة القاضي إلى حياة الوزير، ونترك منصة القضاء إلى مسند الوزارة، وليس في أعمال الجمعية البشرية عمل هو أخط من عملها، وليس بعد الصحافة كما يقول اللورد روز بري من وظيفة هي أشق ولا أكبر مكاناً منها، وما كان في أبهة هذا المنصب وعظمته وضخم أعطيته ما يغني عن متاعبه ومشاقه وأخطاره، وأنت لا ترى الوزارة تجعل من الرجل عظيماً، ولا تخلق منه نابغة، بل هي تحبوه ليس غير بالعطاء الكبير واللقب العظيم والمركب السني، وهو الذي يعلو بالوزارة ويهبط وينحرف بدقتها ويستقيم إذ كانت الوزارات مقاييس حرارة لرجالها، وموازين دقيقة لكفاءات أربابها، هي التي تربك مقدار الجزء الإنساني من الوزير، ونشعرك بمبلغ الشعور الأهلي في الحكومي، وتفهمك مقدار علمه بالنفسية الأمية، والوجدانات القومية، إذ كان حقاً على الوزير أن يكون عليماً بسيكولوجية الشعب وشعوره، ومطالبه، ومراميه، وطبائعه ومزاجه، وهل كان جراي ودلكاسيه وأشباههما إلا من أكبر علماء النفس، وأعظم الملمين بروح الاجتماع وأسراره، ذلك لأن الوجدانات الأهلية أشبه بالوجدانات الطفولية، سريعة التحول، متناقضة المبادئ ضعيفة الاستنتاج، قابلة للتأثير خوارة أمام الشخصية الحكومية الكبيرة، ولذلك كان من الوزير الكبير أن يحتال لعوارضها ويتحصن من تقلباتها، ويعمل على مصانعتها وإظهار شخصيته عليها، ولذلك كانت الوزارات قصيرة الأعمار سريعة السقوط، مستمرة التجديد، إذ على قدر معرفة الوزارة بنفسية شعبها والعمل على مطاوعة هذه النفسية وموافاتها يكون عمر الوزارة من القصر أو الطول ومكانها من الاحترام في التاريخ.
وبعد فقد كان انتقال صاحب الترجمة من محكمة الاستئناف إلى وزارة المعارف من أكبر العوامل في حياته فقد أخذت شخصيته القوية من ساحة القضاء لتعرض في ساحة الأمة، ولم تعد تلك الفضائل الإنسانية العظيمة التي تنطوي عليها روحه تبدو فقط للمجرمين(24/19)
والمتهمين وأرباب الظلامات، وذوي الحقوق المضيعة والشكايات، بل هنا جعلت تتجلى للجميع، وهنا بدأت حرارتها تزداد، ونطاقها يتسع، وأثرها يعظم ويطول، لأنها تريد أن تشمل كل فرد في الأمة وتعم المجتمع المصري بجملته، ولقد كانت وثبته من مرتبة القاضي إلى كرسي الوزير دليلاً بينا على علو شأنه، ورفعة روحه، لأن الامتياز باستقلال الرأي واحترام الذات والبعد عن الزلفى والملق لأصحاب السلطات، كان كفيلاً بأن يأخذ بيده إلى منصب سام لم يكن يومذاك يفكر فيه أو يطلبه، بل أعجب ما في ذلك أن المترجم به حتى يوم تعيينه في الوزارة كان أبعد الناس عن فكرة مفارقة وظيفته التي ألفها واطمأنت نفسه إليها وحبس آماله وكفاءاته عليها، وأنه لما ذكر نباً تعيينه حبسية مزاح مازح ودعاية مداعب، ذلك لأنه كان قليل الاختلاط بالقابضين على أزمة الأمور، في معزل عن أولى السلطة والنفوذ. مخلد إلى وظيفته يخلص إليها ويتوفر على إظهار نبوغه فيها، وليست هذه الحادثة إلا أمثولة طيبة، جديرة بالعظة، خليفة بالاعتبار، هي مقياس لنتائج الخلق الكريم، والذهنية العظيمة، والروح العالية، فقد كانت سنة الرقي من وظيفته التي كان بها أن يدرج منها إلى وكيل للمحكمة فرئيس خلقاء برتبهم وألقابهم ومناصبهم بأن يظفروا بالمنصب دونه، ولكن المزايا الذهنية والروحانية التي نبغت في سعد زغلول بك كانت بحيث تحتاج إليها الوزارة أكثر من المحكمة، وكانت باعثة على هذه الطفرة السريعة، وسترون مما سننشره من أعمال المترجم به في وزارة المعارف أن ذلك الانقلاب في سنة الرقي الحكومي، جاء بالخير العظيم للأمة والإصلاح العلمي الكبير، وكثيراً ما يكون الانقلاب السريع خيراً وأفعل أثراً من التطور الهادئ البطئ.
وقد كان دخول سعد زغلول بك الوزارة عنصراً حيوياً جديداً في الحكومة إذ كانت الوزارة الفهمية قد ظلت إحدى عشرة سنة وأشهراً وهيئتها على حالها، لا تغيير ولا تعديل، وكانت وزارة المعارف تحت المرحوم حسين فخري باشا يشرف عليها وهو في وزارة الأشغال، كعمل هين إضافي، فكانت وزارة المعارف بحاجة إلى قائد يبث فيها روحاً حارة، وذهناً كبيراً نشيطاً، ويسير بها في طريق الإصلاح السديد، فلم تجد الحكومة لها أكفأ من المترجم به فعينته.(24/20)
هل كان مجنوناً
تقدم إلى القراء في هذا العدد رواية بسيكولوجية، غريبة الموضوع، مدهشة الوقائع، مخيفة المغزى، بلغ من أهميتها وغرابة حوادثها، إن عقد مجمع الأخصائيين في الأمراض العقلية بمدينة سان بطرسبرج مجلساً خصيصاً بها، وأخذوا يتباحثون في أمرها، ويحللون دقائقها تحليلاً طبياً نفسياً لكي يخرجوا منها بنتيجة كبرى في علم النفس وفن الطب، وقد كانت مثاراً لتضارب آراء المفكرين والباحثين، وانقسام الأطباء والسيكولوجيين، واشتهرت في الغرب وعظم شأنها، هذا وواضعها ليونيداس أندريف كاتب من أبدع كتاب الروس، وروائي من خيرة روائيهم، وناهيك بما للأدب الروسي الآن من السلطان الفكري في أوروبا، بل لقد بذ الآداب الفرنسية والإنكليزية والألمانية والطليانية، وسما عليها جميعاً في الروائيات والنفسيات، حسبه أنه أخرج للعالم تولستوي، ومكسيم غوركي، وتورجنيف، ودستوفسكي وأندريف، وجوجل، وبوشكن، وكوربوتكين، مهذبي الفكر الحديث، وهادمي الآداب البالية العتيقة.
وقد بدأ هذا الروائي الكبير حياته فقيراً جائعاً مشرداً، ولم يصب أول أمره النجح في حرفته، ولا وجد ما يسد إرماقه بقلمه، حتى بلغ به يأسه من بهجة الحياة وفرحتها إن أجمع أمره على الانتحار، قال عن نفسه أطلقت على رأسي رصاصة من المسدس، ولكنني لم أنجح حتى في قتل نفسي، لقد عرفت الخصاصة في أخبث حدودها، وبلوت الفقر في أقسى غاياته، كنت أجوع أكثر أيامي، كنت لا أجد ما أمسك به ظمأ حياتي اليوم واليومين.
ومضى على سوء حاله أينما طوالاً، حتى كتب هذه الرواية التي نقدمها للقارئ اليوم، فكأنما لم نخرج من قلمه، بل من قلم الأقدار، ومداد الوحي، فكانت آخر عهده بالجوع، وأول عهده بالشبع، وارتفعت به الرواية إلى أوج الشهرة وذروة المجد، وأخذت المجلات والصحف تتناقل روايته، وتنوه بعبقريته، وعدت من أرقى ما خرج من الروايات في العصر الحديث.
في اليوم الحادي عشر من شهر ديسمبر سنة 1900، ارتكب الدكتور أنتوني كرجنتزف أحد الأطباء جريمة القتل، وبدا من الظروف التي وقعت فيها الجريمة والحوادث التي سبقتها، ما يشير إلى اضطراب في ذهنية القاتل، فسيق الطبيب إلى مستشفى الأمراض النفسية لفحصه، وهناك عرض على أمهر الأطباء والأخصائيين ولكن ما كاد الشهر يتولى بعد دخوله المستشفى حتى قدم الدكتور كرجنتزف إلى أطبائه مذكرة له بسط فيها ما وقع(24/21)
من أمره، وها نحن ننشر للناس بعض شذرات من الرسالة وقد وجه الخطاب فيها إلى أطباء المستشفى.
ـ 1 ـ
حتى هذه الساعة، وأنا أكتم عنكم يا سادتي الحق وأخفيه، ولكني أشعر الآن بقوة تدفعني على إظهاره، وستفهمون من معرفته أن حادثتي ليست من السهولة كما يبدو للنظر السطحي المتسرع البسيط، ليست حادثتي من تلك الجرائم العادية التي تقود إلى السلاسل والأغلال، وتسوق الجاني إلى الاشتمال في أكسية المجرم، وسترة القاتل، بل أن في جريمتي عنصراً رهيباً، بل أرهب مما تظنون، عنصراً غريباً موحشاً، ستنتفعون منه وتستفيدون.
إن الرجل الذي قتلته، اليكسين سافيلوف، كان رفيقي في المدرسة، ثم قريتي في الجامعة، وإن كانت وجهة درسي غير وجهته، وأنتم تعلمون أنني طبيب، وكان هو محامياً، ومحال أن يقال عني أنني كنت أبغضه، كنت أجده أبداً رقيق القلب، وثاب الشعور، فوار الإحساس، ولم أصادق دهري أحداً آخر من صداقتي له، ولكن لم يكن اليكسين، على الرغم من رقته ووجدانيته ذا شخصية كبيرة تلهمني الاحترام له، وتوحي إلى عاطفة التبجيل، وإن حلاوة طبيعته وتواضعه المدهش الغريب، وإن تقلبه في آرائه وعواطفه ومشاعره، أن تطرفه الشديد في أفكاره المتحولة المتغيرة، كل هذه كانت تضطرني إلى أن أعتبره طفلاً، بل أعده امرأة، وكان أصحابه وأهل وده أبداً هدفاً لثورة هذا الإحساس، وبركان هذا المزاج، ولكن ما أبعد الطبائع البشرية عن المنطق! إذ كانوا في الوقت نفسه يحبونه أعظم الحب، وكانوا يجتهدون أن يجدوا شفيعاً لهناته وهفواته، واقتفيت في ذلك أثرهم، فشاركتهم في الرأي، وجعلت أغضي لا لكين عن هفواته الصغيرة، نعم أقول الصغيرة وأصر على القول، لأن الكين كان عاجزاً عن أي شيء كبير، حتى في الهفوات، وإذا أردتم أيها السادة دليلاً على ما أقول فليس علي إلا أن أعد عليكم آثاره الأدبية. كلها سخيف حقير. وإن اثنى بعض النقدة الحمقى خيراً عليها. نعم هي لا شيئيات جميلة كما أن مؤلفها لا شيئية حسناً.
كان الكسيز يوم مقتله في الواحدة والثلاثين. كان أصغر مني بربيع ونصف، وكان الكسيز متزوجاً، وإذا كنتم أيها السادة قد رأيتم زوجته وهي محزونة أرمل. فما أنتم بقادرين على أن تعلموا كيف كانت قبل المقتل، إنها فقدت كثيراً، هذه وجنتها قد ذبلت، وهذا خدها الأثيل(24/22)
قد أظلم، هذه بشرتها الناعمة قد ظهر فيها التخدد والغضون، كانت تحب زوجها أعز الحب، هذه عينها لا تشرق ولا تلمع كما كانت بالأمس، ولم تعد تضحك وكانت أبداً مومضة ضاحكة، وقد رأيتها عرضاً في فناء دار الشرطة، فكدت أصعق للتغير الذي طرأ عليها، إنها لم تستطع أن ترمقني بلحظة ساخطة متوحشة مفترسة، واهاً للمسكينة!.
كان هناك ثلاثة فقط، الكسيز وتاتيانا وأنا، هم الذين يعلمون وحدهم إنني منذ خمسة أعوام قبل زواج الكسيز بعامين كنت سألت تاتيانا يدها فرفضت الطلب وأعرضت. ولكن من الحماقة أن أقول لم يكن هناك إلا ثلاثة فقط، لا ريب أن لتاتيانا حلقة من الأصحاب والأحباب. والصواحب والحبائب. وكلهم قد علم - ولا شك - بأن الدكتور كرجنتزف طلب يوماً إليها الزواج. فكان نصيبه حرارة الرفض.
إني لأتساءل أتراها تتذكر أنها ضحكت في ذلك اليوم، نعم إنها كم ضحكت في الدهر مراراً وكم ابتسمت، ولكن ذكروها أيها السادة بأنها في الخامس من شهر سبتمبر ضحكت فإذا أنكرت وهي لاشك منكرة، فذكرها أنها حقاً ضحكت، وأنا الرجل القوي العتيد، الذي لم يسكب عبرة واحدة، ولا ذرف يوماً دمعة منحدرة، ولم يعرف الرعب ولا الخوف، وقفت يومذاك أمامها مرتجفاً مرتعداً، رأيتني مرتجفاً ورأيتها تعض شفتها، ففتحت لها ذراعي لأضمها، فرفعت عينيها، ورأيت تينكم العينين تضحك، هنا تراخت ذراعاي، وراحت هي تضحك، وضحكت كثيراً، كما شاءت ولكنها عادت بعد ضحكاتها فاعتذرت.
قالت، وعيناها لا تزالان تضحكان (أتوسل إليك أن تصفح) فابتسمت أنا كذلك، ولو استطعت الآن أأصفح عن ضحكها، فما أنا بمستطيع أن أصفح لنفي عن تلك الابتسامة!.
حدث ذلك في الخامس من سبتمبر، الساعة السادسة من المساء على حساب سان بطرسبرج. أقول على حساب سان بطرسبرج لأننا كنا في تلك الساعة على أفريز المحطة، وها أنا لا أزال الآن أنظر إلى ساعة المحطة وأتبين موقع عقربيها، أحدهما في رأس الساعة والآخر في أسفلها، وفوق ذلك فإن الكسيز قتل في الساعة السادسة تماماً، وهذا لعمري اتفاق غريب، اتفاق ذو معان كبيرة عند الرجل اليقظ البصير.
قلتم يا سادتي إن أحد الأسباب التي صاقتني إلى هذا المستشفى هو أنكم لم تجدوا أي باعث على ارتكاب الجريمة، فهل تجدون اليوم باعثاً، قد تقولون الغيرة، ولكنكم على ضلالكم(24/23)
القديم، إن الغيرة من شأن الطبيعة الحادة، والمزاج المستعر الناري، وليست من شأن رجل هادئ المزاج رصين العقل بارد الروح كشأني، إذن فهل يكون الانتقام؟ نعم هذا أقرب إلى الحق وإن كانت إلا كلمة قديمة لإحساس جديد وشعور غريب مجهول.
هنا لابد لي من أن أقول أن تاتيانا خيبت ظني مرة أخرى، كنت أعتقد أنها بزواجها الكسيز وأنابه خبير لن تجد الهناء يوماً واحداً، وأنها ستندم على رفضها مطلبي ولهذا السبب اجتهدت في تعجيل زواجهما. وكان الكسيز قد راح بها صبا.
قال لي قبل فاجعة مقتله بشهر (إنني مدين لك بهذه السعادة) ثم التفت إلى زوجته يسألها (أوليس كذلك يا زوجتي؟).
فنظرت إلي ثم تمتمت (نعم) وضحكت عيناها فضحكت، وضحكنا جميعاً والكسيز يضمها إلى صدره، وكانا لا يستحييان من شيء أمامي.
قال الكسيز (نعم، إنك يا صديقي قد خسرت الصيد).
هذه النكتة الباردة المؤلمة الثقيلة هي التي قصرت من حياته أسبوعاً كاملاً، لأنني كنت قد أجمعت أول الأمر أن لا أقتله حتى اليوم الثامن عشر من ديسمبر.
أجل، كانت الحياة قد طابت للزوجين، ولاسيما تاتيانا فقد كانت سعيدة السعادة كلها وأما الكسيز فلم يكن حبه لها في أعشار قلبه، لأنه يعجز عن أي حب عميق، وكان الأدب ملهاته يؤثره على مناعم البيت ومباهج الزواج، ولكن هي! هي لم تكن تحب إلا هو، وكانت لا تحيا إلا له هو، وكان أبداً متوعك الصحة، ينتابه الصداع، وينهكه الأرق، وكانت تاتيانا ترى في تمريضه والعناية برغباته أعظم السعادة، وأكبر النعمة، والمرأة يوم تحب، تفقد كل شخصيتها.
كذلك كنت أرى كل يوم وجهها المبتسم ومحياها الباهر المشرق الناعم فكنت أقول لنفسي وأتساءل (أنا سبب كل هذا، أردت أن أرسفها في غل زوج مغفل لكي ترى بنفسها مبلغ خسارتها يوم رفضتني فإذا بي أراني قد جئت إليها بالرجل الذي أحبت!) وأنتم يا سادة ترون غرابة موقفي، كانت أخصب ذهناً من زوجها كانت تحب حديثي وتطارحنيه، فإذا انتهينا من الحديث تركتني في رفق مبتهجة إلى ذراعي زوجها!.
ولا أستطيع أن أتذكر متى كان أول تفكيري في قتل الكسيز، وكل ما أعلم أنني ألفت هذه(24/24)
الفكرة حتى لكانها ولدت معي وأعرف أنني كنت أريد أن أنزل بتاتيانا العذاب والألم، أعرف إنني فكرت في وسائل أخرى لإنجاز غرضي، وسائل أقل خطراً على الكسيز، وويلاً، لأنني كنت دهري عدواً للقسوة كارهاً لها، وكنت أعرف ما هو القتل، واعلم أنه جريمة يشتد القانون في العقاب عليها، ولكن أليست كل أعمالنا جرائم مختلفة الضروب والأنواع.
كنت لا أشعر بخوف من نفسي، وهذا كل شيء عند المجرم، أن أخوف ما يخافه القاتل والمجرم ليست الشرطة ولا القاضي ولا العقاب، وإنما نفسه التي يخاف، هي أعصابه وإراداته وضميره، وجعلت أفكر في هذا الموضوع وأروئ فيه البصر، جعلت أدرسه وأعيه وأفحصه، ولا أقول إنني وثقت الوثوق المطلق من هدوء أعصابي وثبات إرادتي، فإن وثوقاً كهذا لا يصدر إلا عن رجل مفكر عاقل يعتد بكل الاحتمالات والممكنات، ولكني بعد أن وزنت إرادتي، وصلابة أعصابي واحتقاري التام للقيمة الأدبية، شعرت أنني أستطيع أن أعتمد كثيراً على نجاح خطتي.
والآن وقد تحققت خطتي عساكم تسألون ترى أيحزني الآن ضميري، وهل أشعر بندم أو أسف؟ وأجيبكم. كلا، ولا ذرة من ندم.
أشعر بألم، نعم، بألم شديد هائل، ما أظن أحداً غيري في العالم عاناه، إن شعر رأسي الأسود يستحيل الآن إلى البياض، ولكن هذا شيء آخر، نعم شيء آخر. شيء مخيف مفزع خارق غريب، لا يمكن أن يصدق مع بساطته الفظيعة الهائلة.
ـ 2 ـ
وكذلك أجمعت على أن أقتل الكسيز، ولكني أردت أن تعلم تاتيانا أنني أنا الذي قتلت زوجها، ولكنني كنت أريد مع ذلك أن أتجنب عقوبة القانون، وإن كان عقابي لن يغني تاتيانا عن نكبتها شيئاً، لأنني كنت كأكثر الناس أكره السجن وأحب الحياة، أحب أن أرى الخمرة مشرقة في الكأس، وأن أمد ذراعي وساقي على فراش ممهد وثير، وأحب أن أملأ سحري بنسمات الربيع، وأشهد الشموس الزاهية في مطالعها ومغاربها، وأقرأ الكتب، وأنعم بالمطالعة، أحب نفسي، قوة عضلاتي، وصفاء ذهني، ورجاحة لبي. ولم أفهم يوماً ما يريد الناس بقولهم (متاعب الحياة).(24/25)
ومع ذلك كان من الهين على أن أنجو بنفسي من العقاب إذ هناك ألف وسيلة يستطيع بها الإنسان أن يقتل في خفية إنساناً آخر، ولاسيما إذا كان مثلي طبيباً، ومن بين الخطط التي فكرت فيها ثم أعرضت عنها، خطة واحدة تدبرتها طويلاً وفحصتها، ذلك أني فكرت في أن أدبر له مرضاً عضالاً قاتلاً، ولكن الصعوبات التي تعتور هذه الخطة مما يتبين لكن أيها السادة، على حين أن ألن الضحية المستطيل المستمر سيكون خشناً فظاً قاسياً، وفوق ذلك فإن تاتيانا ستتنعم بشيء من السعادة حتى في مرض زوجها وأصعب ما في خطتي أنني كنت أريد أن تعلم أية يد أوقعت برجلها، وما كان مثلي لتخفيفه العوائق، إذ العوائق لا تخيف إلا الجبناء.
وسنحت لي الفرصة والفرصة حليفة العقلاء، وهنا استرعى أبصاركم أيها السادة، إلى نقطة هامة، أقول لكم إنها الفرصة وحدها لا إرادتي التي خدمتني، هي وحدها التي كانت أساساً للجريمة، وهي التي خلقت الحوادث التي جرت بعد ذلك.
أقول لكم يا سادتي إني قرأت في إحدى الصحف، ولعل نسخة الصحيفة لا تزال في بيتي، إذا لم تكن قد وقعت في أيدي القضاء، إن رجلاً ادعى أنه أصيب بنوبة عصبية جنونية، فقد في خلالها المال الذي أؤتمن عليه، وكان في الحقيقة قد اختلسه، على أن الرجل كان هيابة جباناً، فاعترف بذنبه، وبلغ به جبنه أن دل القضاة على المخبأ الذي وضع فيه ما سرق، ولكن الفكرة نفسها لم تكن سيئة ولا صعبة الإنجاز (نعم) إن التظاهر بالجنون، وقتل الكسيز في نوبة جنونية ثم الرجوع إلى الرشد، هذه هي الخطة التي وثبت إلى رأسي. عندما كنت أقرأ قصة ذلك الرجل. وكنت كالداني الأطباء أعرف شيئاً من علم النفس وجعلت أصرف أكثر وقتي في قراءة أسفار هذا العلم والمؤلفات الموضوعة في دقائقه. حتى تبينت أن الخطة لابد موفقة ناجحة.
وأول شيء يجب أن يسترعي أذهان علماء السيكولوجيا هو تأثير الوراثة. ولشد ما كان ابتهاجي إذ وجدت التأثير الوراثي موافقاً لغرضي، كان أبي مدمناً تعلى الشراب ملحاً على الكحول. وقضى أحد عمومتي في مستشفى المجانين، وتوفيت أختي الوحيدة. وكانت عرضة للتشنج العصبي.
وبدالي أن من الهين على أن ألعب دور المجانين، فعمدت إلى قراءة ما يدور حول طبائع(24/26)
المجانين في الكتب، وأضفت من عندي بعض الاختراعات الجنونبية، كما يكون من الممثل الصنع الحاذق الأريب.
وخطر لي، وأنا أقوم بمبادئ خطتي خاطر غريب. لا أظنه يقع يوماً لمجنون، ذلك ني فكرت في الخطر المفزع المخيف الذي تجره تجاريبي المجنونة الممرورة.
وأنت يا سادتي تفهمون ما أريد، إن الجنون ليس إلا ناراً محرقة تلهب من يلعب بها، بل لو كنتم في كهف مظلم مملوء بالبارود، فأرسلتم النار في جوانبه، لكان آمن عليكم وأقل خطراً من أن ينساب إلى عقل أحدكم أقل خوف من الجنون.
كنت أعرف ذلك، وكنت أحسه، ولكن أي خطر يستطيع أن يرد الرجل الشهم الجريء.
ـ 3 ـ
ولعلكم الآن تفهمون مبلغ تلك النوبة الجنونية المخيفة التي اعترتني في وليمة آل كارجوانوف.
كانت هذه النوبة أول تجاريبي، وقد نجحت أكثر مما كنت أتوقع، أقول لكم يا سادة إن المدعوين جميعاً رأوا عوارض تلك النوبة قبل أن تبتدئ، وبدا لهم أنها حادثة عادية قد تقع يوماً للأصحاء الأقوياء، فلم يظهر على أحد منهم أدنى أمارات الدهشة أو الاستغراب.
ألم ينبؤكم أنني كنت ساعتذاك شاحب اللون، مخيفاً مرعباً، وإن جبيني كان غارقاً في لجة من العرق البارد، ألم ينته إليكم أن شعلة الجنون كانت تطل من عيني ولما أنبؤوني بعد ذلك بكل ما رأوا مني في المأدبة اتخذت هيئة محزنة مظلمة متعبة، ولكنني كنت في أعماق ضميري مزهواً بنجاحي فرحاً مغتبطاً.
ولم تكن تاتيانيا ولا زوجها حاضري المأدبة، ولا أعرف يا سادتي إذا كنتم لاحظتم هذه النقطة، نعم، لم يكن تغيبهما عن الوليمة فرصة من الفرص، ولكني اخترت أن أقوم بالنوبة في غيابهما، كنت أشفق من إرعاب تاتيانا، بل مما هو شر من ذلك، من إثارة شكوكها، وذلك لأنه إذا كان في العالم إنسان واحد يستطيع أن يكتشف أمري، فذلكم الإنسان لا يكون ولا ريب إلا هي، هي وحدها.
واخترت ساعة العشاء لنوبتي، إذ يكون المدعوون منتدين جلوساً في المقاعد. وإذ تكون الخمر قد اهتاجت أعصابهم. ولعبت الشمول بالرؤوس. وأخذت مجلسي عند طرف المائدة(24/27)
بعيداً عن الشموع الموقدة. لأنني لم أكن أريد أن أثير حريقاً في الدار أو ألهب أنفي وأطرافي.
وسألت أحد المدعوين وهو بافل بتروفتش أن يكون جنيبي. لأني كنت منذ زمن بعيد أميل إلى مغاضبة هذا المخلوق المرذول المبطان البدين. وهو إذا أكل اشتد ثقل روح وازداد برودة دم. ولقد حسبت يوم رأيت هذا الثقيل يأكل إن الأكل لابد من أن يكون رذيلة الرذائل ومشت خطتي في هينة ورفق، وكان كل شيء في صالحي، حتى لم يستطع أحد منهم أن يلحظ أن الصفحة التي حطمتها بقبضة يدي كانت مغطاة بالمنشفة، لكي أتجنب تجريح يدي.
وكانت الرواية المضحكة التي قمت بتمثيلها حمقاء طائشة، ولكن ذلك ما كنت أبتغي وأريد، ذلك لأنني لو عمدت إلى حركة أهدأ وأعقل وأتقن لراحت عند القوم غامضة مبهمة، بدأت ألوح بذراعي في الهواء وأصيح في وجه بتروفتش أرعن مغيظاً، وجعل هو في دهشة وذهول يحملق إلي ببصره، ويدير عينيه في مبهوتاً، وإذ ذاك عدت إلى هدوء هامد مظلم حزين.
قالت أيرين بافيلوفونا في ابتسامة صغيرة، ماذا بك يا أنتوني، وعلام هذا الانقباض؟.
حتى إذا شخصت الأبصار جميعاً إلى، تضاحكت ضحكة محزنة مريضة قالوا أجمعين ما بالك، ألست في صحتك؟.
قلتأحس بدوار، إن رأسي يضطرب، ولكن أرجوكم يا سادة أن لا تنزعجوا فإنها عمل قليل تمر.
وعادت ربة الدار إلى طمأنيتها، ولكن بتروفتش جعل يلحظني بعين متهمة غير مصدقة وما كادت تمضي لحظة أخرى، حتى رأيته يرفع كأسه إلى شفتيه فوثبت إليه فحطمت الكأس قريباً من أنفه، وألقيت بقوة وعنف قبضتي على الصفحة التي أمامي فطارت شظاياها في كل مكان، أما بتروفيتش فجعل يتسخط ويلعن ويشتم وهو يدور حولي، وولولت السيدات وارتفع الصريخ، وضج الصياح، وصرفت بأسناني ثم جررت غطاء المائدة وما فوقها، صدقوني يا سادة، لقد كانت رواية طائشة مضحكة.
أجل، لقد كانت دعابة جميلة، وإذا بهم جميعاً قد التفوا حولي وتزاحموا، فأمسكوا بذراعي،(24/28)
ومنهم من جاءني بالماء يمسح به وجهي، ثم أجلسوني في مقعد كبير، وأنا أزأر زئير النمر قد احتبس وأنا أدور بعيني في الجميع بنظرات مفترسة متوحشة، وكان كل شيء مضحكاً، وكان الجمع الملتف حولي أحمق مغفلاً، حتى هممت بأن أنتهز فرصتي فانهال عليهم بالضرب وألطمهم فوق أنوفهم ولكنني تجلدت فأمسكت عن ذلك وسكت.
وبدأت أتوب نمت إلى رشدي،، ومضيت أرسل أنفاساً عميقة صاعدة متراجعة وأخلق عوارض إغماء متعددة. وأصرف بأسناني، وأعض على شفتي، وأفقت أخيراً وأنا أسأل أسئلة كهذه أين أنا؟ وماذا حدث؟.
ووقع هذا السؤال البارد موقعه المعتاد، فتكلف ثلاثة من أولئك الحمقى الرد عليه، فقالوا إنك عند آل كارجوانوف ثم في صوت رفيق مداعب أتعرف يا دكتور من هي إيرين كارجوانوف؟.
حقاً إنهم لا يصلحون لحضور روايتي المضحكة الحسناء. . .
ووقعت النوبة الثانية بعد شهر من الأولى، وكانت هذه أقل حذقاً واتقاناً من تلك، ولم أكن أريد أن أحدث ضجة أخرى كالضجة التي أحدثت، ولكنني لما رأيت الظروف موافقة صالحة وجدت من الحماقة أن لا انتفع بها، وأنا لا زال يا سادة أذكر كل ما حدث، كنت مرة أخرى في حفل عند صديق لي، وكنا جلوساً في حجرة الاستقبال، آخذين في حديث طويل، وإذا بي قد شعرت بإحساس عميق حزين، ورأيت بكل وضوح وبيان موقفي، وجدتني غريباً بين القوم غير معروف، رأيتني وحيداً في هذا العالم، سجيناً آخر الدهر في محبس التظاهر بالجنون، وتولاني بعد ذلك أحساس آخر، هو احتقار كل من حولي والكراهية لهم، وهنا تميزت يا سادة من الغيظ، وعلا حنقي وتوحشي وشرعت أضرب بقبضتي الفضاء، وأصيح صيحات نكراء وأشتم شتائم شنيعة، وأقول كلمات عور مذمومة، وما كان أبهجني إذ رأيت وجوه الجمع تصفر من خوف ورعب!.
وانطلقت أصيح في القوم أيها الأوغاد، أيها السفلة الأنذال، أيتها المخلوقات القذرة المنتنة، أيها الأرواح الحقيرة الملطخة، إني ألعنكم، إني أبغضكم وجعلت في توحشي هذا وجدي أتلاكم أول الأمر مع خدم الدار وأتضارب، ثم هرع إلى سائقو مركبات الحضور فانطلقت فيهم ضرباً وصراعاً ولكماً ورفساً. والآن أعترف أمامكم في سذاجة وبساطة. إنني كنت(24/29)
أشعر بالسرور والابتهاج من ضربهم وشتمهم في وجوههم، وإذن هل من يعترف بالحق يكون مجنوناً، إنني أؤكد لكم، أيها السادة، إنني كنت أعي كل شيء، كنت أحس تحت يدي بأجسام حية تتألم من لكماتي وضربي.
وفي تلك الليلة بعينها، إذ ضمتني جدران مخدعي، رجعت أضحك من نفسي وأقول يا لي من ممثل بارع، وأويت بعد ذلك إلى الفراش، وقرأت في تلك الليلة وأنا مضطجع كتاباً بل إني أستطيع أن أقول لكم يا سادة عن اسم المؤلف. . هوحي ده موباسان، إذ كنت أبداً من المعجبين به، وبعد أن أتممت الرواية تولاني النعاس فنمت ليلتي نوماً هانئاً عميقاً كالأطفال، وأنا أسألكم الآن يا سادة، هل يقرأ المجانين كتباً، هل يجدون في قراءتها لذة ويحسون سروراً، وهل ينامون بعد القراءة نوماً طفولياً عميقاً؟.
إن المجانين لا يذوقون طعم النوم، إنهم يتألمون، إن اضطرابهم كله في أذهانهم هم يريدون أبداً أن يصرخوا ويمزقوا ويعضوا، هم يحبون أن يزحفوا على أيديهم وأرجلهم، زحفاً رفيقاً، هادئاً ثم يهبوا وقوفاً صارخين ضاحكين ها. . ها. . .
نعم، نعم، ولكنني نمت كالأطفال، وهل ينام المجانين نوم الأطفال؟.
ـ 4 ـ
وبدأ الناس بعد النوبة الثانية يخافون مني وامتنعوا عن دعوتي إلى بيوتهم وإذا لقيت عرضاً في الطريق بعض معارفي، قطبوا وجوههم وابتسموا ابتسامة مريضة سقيمة وهم يقولون يا صديقنا كيف أنت؟ وما كان أسهل على عند ذاك أن أمد إليهم يدي بالأذى، ولا ألام عليه ولا أعاتب، ولكنني تمهلت وأردت أن أنتظر حتى أفوز بتصريح طبي فعلي يكون كأذن لما سيقع من يدي وعزمت على أن أنتظر كذلك الظروف التي تجعل استشارة الأطباء في حالتي تبدو كحادث عرضي غير مقصود وإن كانت حيطتي هذه تهذيباً في خطتي لا حاجة إليه، وكذلك حدث أن تاتيانا نفسها وزوجها هما اللذان أخذاني إلى الطبيب، وكان هذا في رأيي نقطة بارعة متقنة مؤثرة قالت تاتيانا (أتوسل إليك أن تذهب إلى الطبيب يا عزيزي أنتوني؟) لقد كانت المرة الأولى التي نادتني في حياتي بلفظة (يا عزيزي) وهكذا كان يجب أن أجن لكي أفوز منها بتلك الكلمة!.
فأجبتها في استكانة وخضوع (سمعاً يا عزيزتي تاتيانا سأذهب) وكنا ثلاثتنا في الحجرة(24/30)
التي قدر لها أن تكون مكان الجريمة، فقال الكسيز في لهجة السيطرة والنفوذ (نعم يا أنتوني يجب أن نذهب دون تردد إلى الطبيب، وألا يعلم الله أي حادث أنت محدث؟!) فقلت في صوت ضعيف متخاذل جبان مرتعد محاولاً أن أخلي نفسه من التبعة في عيني صديقي القاسي الشديد ولكن ماذا أستطيع أنا أن أحدث؟ قال ومن يعلم. . . قد تفلق جممة إنسان.
وكنت أقلب بين يدي ثقالة ورق ضخمة من البرونز، فنظرت إلى الكسيز ثم إلى الثقالة وأنا أقول جمجمة إنسان؟ أتقول الجمجمة؟ فقال ولماذا، نعم أقول الجمجمة، قد تأخذ أداة كهذه فينتهي كل شيء!.
هذه يا سادتي مسألة لذيذة هامة. . لقد كانت هي الجمجمة التي عزمت على فدغها وهي هي الأداة التي أجمعت أمري على استعمالها والآن ترون أن هذه الجمجمة هي قد تخيلت الجريمة بحذافيرها قبل وقوعها، ولكن صاحب الجمجمة فاه بكلمته في ابتسامة غير مكترثة، ومع ذلك تجد هناك قوماً يعتقدون بوجود إحساسات هاجسة متنبشة. . أي حمق وأية سخافة!.
قلت لا يكاد الإنسان يستطيع أن يحدث بهذه ضراً، إنها خفيفة فأجابني الكسيز مندهشاً متعجباً ماذا تقول؟ خفيفة؟ وأخذ الثقالة من يدي فأمسكها من يدها وجعل يهزها مرات متوالية ثم دفعها إلي ثانية وهو يقول زنها في يدك قلت إني أعرف مقدار ثقلها ولكنه قال كلا، خذها في يدك وبعد ذلك احكم، فتناولت الأداة منه في ابتسامة ضعيفة، وهنا تداخلت تاتيانا بيننا، شاحبة اللون مرتجفة الشفتين، وهي تقول كيف يا الكسيز عن هذا، كف عن هذا فالتفت إليها مندهشاً ثم سألها ولماذا، ما بالك يا تاتيانا؟ فرددت القول امتنع عن هذا، أنت تعرف إنني أكره أمثال هذا المزاح وهنا ضحكنا جميعاً: ووضعت الثقالة على الخوان.
وكانت زورتي للطبيب ت. . . مثل ما كنت أتوقع، فقد كان الرجل محترساً مدققاً، واتخذ سيمياء الجد والاهتمام، وسألني أسئلة عديدة، عما إذا كان لي أقارب يعنون بأمري، ونصح لي أن لا أفارق بيني وأن أسكن إلى الراحة والهدوء وبحق مهنتي جعلت أناقشه وأحاجه وإذا كان قبل محاجتي له في ريب من حالتي، فقد تبددت جميعها بمخالفتي لآرائه في تشخيص مرضى وتشريحه، ومنذ تلك اللحظة وأنا في نظر ذلك الطبيب مجنون. نعم مجنون والجنون الذي بي جنون موحش مؤيس مطبق ولكني أؤمل أيها السادة أن لا تضعوا(24/31)
كبير أهمية لتلك المزحة الصغيرة التي موهتها على رجل من أهل صنعتكم. . . إن الأستاذ ت. . العالم البحاثة ليستحق ولا ريب كل احترام.
ومنذ اليوم الذي أصبحت حياة الكسيز في يدي وأنا أهتم كل اهتمامي بصحته ولم يكن الكسيز قوياً شديد الأسر. ومع هذا كان مهملاً نفسه غير مكترث بصحته لا يريد أن يلبس قميصاً أو يتدثر بصدار، يخرج في اليوم البارد المقرور دون خفية. وكانت تاتيانا تكلف نفسها صعود سلم داري لتحمل إلي أنباء زوجها المتوعك المريض وجاءت مرة لتقول لي إن الكسيز نام ليلة الأمس في هدأة ورفق - وكان هذا أمراً غير عادي عند الكسيز فأظهرت لهذا الخبر ابتهاجاً وغبطة وطلبت إلى تاتيانا أن تحمل إلى زوجها كتاباً مني وكان هذا الكتاب نادر الوجود وكان مشوقاً هو إلى قراءته. ولعل إتحافه بهذه الطريقة كان غلطة مني إذ قد يتهمونني بأني كنت أريد بهديتي أن أعمي القوم عن التماس الحقيقية، ولكن رغبتي في إدخال السرور على قلب الكسيز كانت شديدة حارة حتى أجمعت نيتي على أن أجازف هذه المجازفة الصغيرة، وسلكت في هذا اللقاء مع تاتيانا مسلكاً رفيقاً محبوباً جميلاً فرأيتني أكتسب بذلك شيئاً من انفعالها وتأثر مشاعرها ووجداناتها وهي وزوجها لم يشهداني في نوبتي الماضيتين، حتى لقد صعبا عليهما أن يفهما أنني حقاً مجنون.
قالت تاتيانا وهي تستأذن في الانصراف هلا جئت لزيارتنا فقلت مبتسماً لا أستطيع، إن الطبيب قد أمرني أن لا أبرح مكاني فقالت أية سخافة وأي هراء! أنت تستطيع أن تأتي إلينا، إذ تكون لدينا كأنك في بيتك، وإن الكسيز لتهفو نفسه شوقاً إلى رؤيتك.
وكذلك وعدتها الذهاب، وما وعدت في حياتي وعداً كهذا وكنت في إنجازه أوثق مني ذلك اليوم.
وكانت الثقالة البرونزية في موضعها اليوم الحادي عشر من شهر ديسمبر الساعة الخامسة من المساء، وأنا أدخل مخدع السكين، وكان ذلك قبل تناول العشاء، وعشاؤهما في الساعة السابعة، وكانا ساعتذاك في بهجة ومرح، وإزدار مراحهما برؤيتي قال الكسيز وهو يشد بيده يدي (أشكر لك يا صديقي الكتاب الذي أهديت كان ينبغي أن أذهب أنا لزيارتك، لولا أن تاتيانا أكدت لي أنك قد أبللت كل الابلال. وستذهب الليلة إلى دار التمثيل. فهل تصحبنا؟.(24/32)
ومضينا نخوض في حديث عادي طويل، وكنت أتكلم بدقة وإيجاز ووضوح وجعلت عيني طول الوقت تستقر على عقرب الساعة، وقد عزمت على أني إذ تدق السادسة يجب أن أكون قاتلاً!.
حتى إذا بقيت على الميعاد سبع دقائق نهض الكسيز عن المتكأ متثاقلاً متبلداً وغادر الحجرة وهو يقول (سأعود بعد هنيهة).
وأردت أن أتجنب عيني تاتيانا ونظراتها فخطرت إلى النافذة ففرقت الأستار ووقفت هناك كأنني أنظر وأتأمل، وإذا بي أشعر بتاتيانا دون أن أراها تخطر في الحجرة متوجهة نحوي، وجاءت فوقفت بجانبي، وكنت أسمع تنفسها الصاعد المتراجع، وعرفت أنها كانت تنظر إلي لا إلى النافذة، فاعتصمت بالسكوت.
قالت تاتيانا (ما أشد وميض الجلد!) فلم أحر جواباً، وعادت تناديني وهي مترددة (أنتوني!) ولكنني كذلك لم أجب، فكررت النداء في صوت متهدج مرتجف فنظرت إليها.
وهنا أخذت تاتيانا ترتعش وتتمايل حتى أوشكت أن تقع، كأنما صعقتها تلك القوة المتوحشة المفترسة المرعبة التي كانت تطل من عيني، ثم وثبت إلى جانب زوجها، وكان في تلك الآونة قد رجع، وتمتمت الكسيز!. . السكيز. . . إنه. . . .
فقال (ماذا تريدين؟).
قلت دون ابتسام بل في صوت خشن مخيف (إنها تعتقد أنني أريد أأقتلك بهذه الأداة) هذا ورحت أرفع في سكون وخفة وصمت الثقالة وتقدمت رويداً نحو الكسيز، فشخص في بصره مصفراً مذهولاً مبهوتاً، وهو يكرر هذه الكلمات هي تعتقد. . . قلت (نعم هي تعتقد!) ورفعت ذراعي في رفق وأنا أشير بالأداة وألوح، وبدأ الكسيز في مثل رفقي يرفع هو الآخر ذراعه، وعيناه لم تغادرا وجهي، فصحت به في خشونة وغلظة أن (قف!) وعند ذاك تراخت ذراعاه، وبقيت عيناه مستقرة على، وبدت على شفتيه ابتسامة ضعيفة ذابلة متهمة، وصرخت تاتانيا صراخاً مرعباً مزعجاً، ولكن كان الوقت قد أزف!.
نعم بحد تلك الثقالة أهويت على الكسيز أضربه فوق جبهته، وقد أنبأني القضاة يا سادة إنني ضربته عدة ضربات، إذ رأوا جمجمة القتيل مفتتة مبددة، ولكن هذا أيها السادة مخالف للحقيقة، أنا ضربت الكسيز ثلاث ضربات لا غير، واحدة وكان واقفاً واثنان وهو مطروح(24/33)
على أرض الحجرة.
نعم، الحق أقول أن الضربات كانت شديدة قاسية، ولكنها ثلاث ضربات ولا تزيد، إنني أذكر جد الذكري، نعم، ثلاث ضربات!.
ـ 5 ـ
أرجوكم يا سادتي أن لا تتبعوا أنفسكم في تحليل هذه الكلمات التي كتبتها في ختام الفصل الرابع، ولا تلقوا كثير أهمية على شطبى بعض الكلمات وحذفاتي، لا تعدوها دلائل على عقل مضطرب مجنون، فإن موقفي الغريب الآن يدعوني إلى أن أكون دقيقاً موفياً كل صغيرة، أريد أن أكون أمامكم صريحاً حراً ساذجاً، فافهموا ذلك عني واحفظوه.
وتعلمون أنتم أن لظلام الليل تأثيراً شديداً على الأعصاب المتعبة المنهوكة، ولذلك ترون أن الأفكار المزعجة والخواطر السوداء المخيفة لا تجيئنا إلا مع الظلمة ولا تغشى رؤسنا إلا مع الليل، ولذلك كانت أعصابي في الساعات المظلمة التي أعقبت الجريمة غرضاً لاضطراب مدهش غريب، نعم ما أشد حاجة من كان في مكاني إلى قوة كبرى على ضبط مشاعره، إن قتل رجل ليس مزاحاً!.
فلما كان وقت تناول الشاي، بعد أن نظمت بزتي، وقلمت أظفاري، وغيرت أثوابي، دعوت طاهيتي ماريا فازيليفنا إلى الجلوس بجانبي، وكانت هذه المرأة الحمقاء هي التي ضربتني الضربة الأولى.
قلت لها تعالي فقبليني. .
فضحكت ضحكة بلهاء وظلت جامدة في مكانها، قلت (تعالي) فارتجفت، ثم أحمر وجهها، وبدت في عينيها إمارات الرعب، وأقبلت نحوي فاتكأت على الخوان في مظهر الذليل الخاضع المتوسل فقالت (يا صديقي أنتوني اضرع إليك إلا ما ذهبت إلى الطبيب) فقلت وأنا مندهش مغضب (ماذا، أأذهب إليه ثانية؟) فصاحت المرأة (ويلاه، لا نصح هذا الصياح، إنك تخيفني، إنني مرتاعة منك يا صديقي).
كل ذلك وهي لم تكن تعلم شيئاً عن نوباتي حتى تلك الساعة ولا عن المقتل، بل كنت أبدو أمام تلك المرأة هادئاً وديعاً حدباً حنوناً.
عند ذلك تولاني خاطر غريب. قلت (إذن إن بي شيئاً ليس بالناس، شيئاً يخيف القوم(24/34)
ويرعب) ولكني طردت هذا الخاطر في الحال، ومع ذلك غادر في إحساساً غريباً، وشعرت ببرودة في ظهري ومفاصلي، وجعلت أعلل نفسي بأن ماريا علمت ولا ريب بمرضي من أهل البلد أو من ألسنة الخدم، أو لعلها لاحظت ملابسي الممزقة التي خلعتها عني، فكان ذلك داعياً لهذا الرعب الذي أبدت، فقلت (اذهبي!).
فلما تولت مددت جسمي على المقعد الطويل أمام مكتبي، ولكنني لم أشعر بميل إلى القراءة، بل أحسست بتراخ ووهن شديدين، كما يكون من الممثل بعد الإبداع في دوره. وثقل جفناي، وتراخت أهدابي وشعرت بطائف النوم وإذا بخاطر جديد قد نفذ إلى رأسي، جعل ينساب بطيئاً بليداً متكاسلاً، وكان له كل المزايا التي امتازت بها خواطري - الوضوح والإيجاز والبساطة، نعم نفذ إلى رأسي واستقر، وها أنا ألقيه إليكم أيها السادة حرفاً بحرف، في صورة الغائب، وهكذا خطر لي، وإن كنت لا أعرف السبب، وهذا هو (إن من المحتمل جداً أن الدكتور كرجنترف حقاً مجنون. هو ظن أنه قد تظاهر بالجنون ولكنه في الحقيقة مجنون. إنه في هذه اللحظة مجنون وأعاد هذا الخاطر نفسه في ذهني ثلاث مرات أو أربع، وظللت أضحك، لأنني لم أفهم (إنه ظن أنه قد تظاهر بالجنون. ولكنه في الحقيقة مجنون، إنه في هذه اللحظة مجنون).
وتوهمت أول الأمر أن هذه الكلمات قالتها ماريا، إذ بد إلى أن الكلمات قد وجدت صوتاً. وإن هذا الصوت يشبه صوتها، ثم ظننت أنه صوت الكسيز، نعم صوت القتيل الكسيز، وأخيراً تبينت أنني أنا الذي رددت هذا الخاطر، وكان هذا شنيعاً مرعباً.
هنا أمسكت بشعر رأسي ووثبت واقفاً في بهرة الحجرة أقول (هو ذلك. انتهى كل شيء! لقد وقع الذي خفت أن يكون، إنني اقتربت من الحدود ودانيت، والآن لا يحفظ لي المستقبل إلا شيئاً واحداً. . . هو الجنون!).
فلما جاءوا للقبض على كنت كما يظهر في حالة مخيفة رهيبة، كان وجهي المتوحش الشاحب تقشعر لرؤيته الأبدان، كانت ملابسي ممزقة قطعاً وإرباً، ولكن أنشدكم الله يا سادة، أن رجلاً يقضي مثلي المساء المخيف الذي قضيت دون أن يجن عقله، ألا يدل ذلك على أن لي عقلاً قوياً جباراً صلباً؟.
إنني لم أحدث شيئاً أكثر من تمزيق ثيابي وتحطيم الزجاج، وعلى ذكر الزجاج اسمحوا لي(24/35)
يا سادة أن أدلي إليكم بنصيحة، إذا قدر لأحدكم أن يعاني ما عانيت ذلك المساء فليثق من تغطية مرايا الحجرة التي هو بها وليغطها كما تغطى إذا مات في البيت ميت نعم احجبوها وأجيدوا الحجاب!.
ولا أذكر بعد ذلك شيئاً حتى وصول الشرط، وسألت كم الوقت فإنما نحن في التاسعة، فكدت لا أصدق بأنه لم يمض على قتل الكسيز إلا ثلاث ساعات فقط وإن كنت أتذكر فلا أذكر إلا شيئاً واحداً، هو خاطري، هو الصوت (إن الدكتور كرجنتزف ظن أنه قد تظاهر بالجنون وما كان في الحقيقة إلا مجنوناً).
وعند ذلك جسست نبضي فإذا هو مائة وثمانون، نعم، إن مجرد ذكرى ذلك الصوت كان كافياً لأن يثير دقات نبضي إلى هذا الحد.
ـ 6 ـ
والآن يا أساطين العلم وأرباب البحث إن منكم أطلب الجواب، هل أنا مجنون أم غير مجنون؟ إنكم ولا ريب ستنقسمون في أحكامكم، سيقول البعض رأياً، ويقول البعض الآخر نقيضه، ولكني أعدكم يا سادتي أن أصدقكم جميعاً، فأعطوني فقط آراءكم وها أنا أقص عليكم كذلك تافهة أخرى، ولكنها حادثة هامة قد نعين أذهانكم المنيرة وعقولكم الخصبة اليانعة.
في ذات مساء هادئ ساذج، بين هذه الجدران البيضاء لاحظت أن الممرضة ما كانت تنظر نظرات خائفة مذعورة مضطربة كأنما انزعجت من شيء مخيف، وتركت الحجرة فظللت وحيداً جالساً فوق الفراش وهنا جعلت أفكر وبدا لي أنني أريد أن أعمل أعمالاً غريبة - نعم، أنا الدكتور كرجنتزف أردت أن أنبح، نعم، لا أصرخ بل أنبح، كما يفعل الآخرون، أردت أن أمزق ثيابي وأجرح وجهي وأخدش، أردت أن آخذ بتلابيب القميص وأشقه شقتين حتى الحاشية، وأنا، أنا الدكتور كرجنتزف، أردت أن أنزل على راحتي وركبتي وأزحف! وكان السكون حولي سائداً، وقطع البرد تلمع فوق زجاج النوافذ، وعن كثب مني كانت ما تصلى لله في صمت، فلبثت مدة أعرض على ذهني أي عمل من هذه الأعمال، أن نبحث أثرت ضوضاء وضحكاً وسخرية، وإذا مزقت قميصي عرفت في اليوم التالي، وبكل تعقل وتدبير أردت أن أحقق الرغبة الثالثة، وهي أن أزحف، نعم لن يسمعني أحد وإذا جاء(24/36)
إنسان ورآني، أقول إنني كنت أفتقد زراراً سقط.
وهنا فكرت (ولكن لماذا أريد أن أزحف، هل أنا حقاً مجنون؟).
وتولاني الرعب، ثم تولتني رغبة شديدة في أن أقوم بالثلاثة معاً، أنبح وأزحف وأجرح نفسي، فأخذني الغضب.
وسألت نفسي (أتريد أن تزحف؟) فلم أسمع جواباً، فأعدت السؤال (أتريد أن تزحف؟) فلم يكن جواب.
قلت (إذن فلنزحف!) وشمرت عن ساعدي ونزلت على أربع وانطلقت أزحف وما بلغت وسط الحجرة حتى تبينت حماقتي فجلست على الأرض في فكاني ورحت أضحك، أضحك، نعم أضحك.
ولما كنت لا أبرح على اعتقادي أن المرء يستطيع بالبحث أن يهتدي إلى شيء من الحقيقة والمعرفة، قد أخذت على عاتقي أن أهتدي إلى مصدر هذه الرغبات المجنونة التي خطرت لي، أجل هي ولا ريب وليدة خاطري، وإن فكرة التظاهر بالجنون هي التي استدعت مني هذه الرغبات، فلما حققتها لم أعد مجنوناً ولكن يا سادة زحفت، زحفت، أي رجل أنا، أمجنون يعتذر عن نفسه أم عاقل ذو لب يمشي في دوره إلى الجنون. تعالوا إذن يا سادة إلى نجدتي، اجعلوا رجاحة ألبابكم تعلو أو تهبط بإحدى الكفتين، حلوا لأجلي هذا السؤال القاسي، آه ما أقلقني في انتظار حكمكم، هل أنا مجنون؟. (تمت).(24/37)
مطبوعات جديدة
[1] رسائل غرام بين شهيرات ورجال عظام هي رسائل مختارة حلوة الأسلوب كان قد نشرها الأديب الكاتب سليم عبد الأحد في مجلة الزهور والآن وقد جمعها وطبعها على حدة طبعاً نظيفاً متقناً على ورق جميل يخلق بمحبي الإطلاع أن يقتنوها ويقبلوا على قراءتها وهي تطلب من إدارة البيان وثمنها خمسة قروش عدا أجرة البريد.
[2و3] تربية الطفل - التمريض المنزلي - كتابان نافعان يدل عنواناهما على ما ضمناه. وضعهما الأستاذ البحاثة المجتهد الدكتور محمد عبد الحميد بك طبيب مستشفى قليوب صاحب المؤلفات النفيسة المنوعة في الطب الدالة على إخلاصه واجتهاده وطول باعه في هذا العلم عرفنا الله أقدار أمثال الدكتور ولا حرم الناطقين بالضاد آثاره النافعة. وأنا نحث كل قارئ وكل قارئة على أن يقتنوا هذين الكتابين فليس لأحد غنى عنهما وثمن الأول أربعة قروش والثاني عشرة عدا أجرة البريد وهو يطلب من إدارة البيان وأكثر المكاتب.
[4] ديوان الراشد - أهدى إلينا الأديب محمود راشد الجزء الأول من مجموعة أشعاره المسماة ديوان الراشد وثمنه خمسة قروش.
[5] الخصائص - أهدت إلينا دار الكتب الخديوية المجلد الأول من كتاب الخصائص للإمام أبي الفتح عثمان بن جنى. وهو كتاب جليل في فلسفة اللغة العربية وخصائصها وقدما كنا نود ظهور هذا الكتاب في عالم المطبوعات وقد حقق الله الآمال بهمة القائمين بأمر المكتبة فنحث جميع عشاق العربية على اقتناء هذا الكتاب النادر حتى يفيدوا منه لغة وأدباً وعلماً وأسلوب كتابته أسلوب متحيز فصيح يعد من أرقى الأساليب العربية وبودنا أن نفي الكتاب حقه من القول وننقل منه شذرات مختلفة ولكن البيان للأسف لا يتسع لمثل ذلك. وثمن الكتاب 15 قرشاً وأجرة البريد ثلاثة قروش وهو يطلب من إدارة البيان وأجرة تجيلده لمن أحب ذلك خمسة قروش.
[6] الاعتصام - وكذلك أهدت إلينا كتاباً من أنفس الكتب الإسلامية وهو كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي في البدع وهو يقع في ثلاثة أجزاء تم منها جزآن والثالث تحت الطبع وثمن الجزأين 20 قرشاً وأجرة البريد ثلاثة قروش وهو يطلب من إدارة البيان.
[7] الأحكام في أصول الأحكام للإمام الآمدي الفقيه - وأهدت إلينا دار الكتب الخديوية أيضاً هذا الكتاب الجليل وهو في أصول الفقه لكن لا على طريقة المتأخرين بل الطريقة(24/38)
التي يكتب بها الأئمة الأولون إيضاحاً وانتظاماً وحسن تنسيق وهو يقع في أربعة أجزاء كبار وإنه لجدير بعلماء الدين والقانون وطلابهما أن يحصلوا على هذا الكتاب النفيس الذي لم يظفروا بمثله وثمنه 48 قرشاً وأجرة البريد أربعة قروش وهو يطلب من إدارة البيان.(24/39)
العدد 25 - بتاريخ: 1 - 3 - 1915(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً
أما بعد فأنّا نستأنف اليوم العدد الرابع لهذه المجلة باسم الله عز اسمه وبعونه جلّت قدرته. ولعلنا فرغنا بما كتبناه لفواتح السنين المواضي من القول في شرح ما نستهدف له من عذاب واصب وجهد ناصب وما تقدم عليه من خطر أليم وهم مقعد مقيم ثم ما نشكوه لا ما نشكره وما تقرّبه الأمة من صبرنا ولا تنكره ثم ما لا نهاية له من هذا الباب الذي يفتح من صاحب المجلة على خراب ومن أكثر القراء في مصر على قيعة وسراب فاللهمّ عونك على المصيبتين المصريتين: الأدب والعلم لا يكثر قراؤهما والقراء على هذه القلة ولاسيما الأغنياء همو همو. . .
على أننا لا نزال نقول إن قراء البيان هم خاصة القوم وأدبائهم وأهل العلم فيهم وذوا النعرة الصحيحة منهم ونرى حقاً علينا أن نزلف لهم الشكر محضاً وأن نخصهم بالثنء كله فقد آذرونا وشدوا منا وحملوا عنا أكثر المؤنة في هذه الصناعة ولولا ذلك منهم لما بقى البيان حيث هو ولا قريباً مما هو ولا استطعنا في هذه الضيقة أن نتسع فيه على حين أن كثيراً من المجلات الراقية إن شرقية وإن غربية قد دفنت من جراء الحرب في غلافها أو انتقضت من أطرافها أو اقتصرت على كفافها - فأننا على ذلك قد أخرجنا وسنخرج البيان مرتين في الشهر وجعلنا وسنجعل كل عدد 64 صفحة متقنة فتلك مائة وثمانة وعشرون صفحة نجهد لها بين الهلالين وما هي في أثرها علينا بالشيء القليل ولا بالخطر الهين وإنها لتستنفذ الوسع في هذا الضيق وتستفرغ جهد الطاقة في هذا العسر من المطيق ولكن البيان بقرائه الفضلاء وهم والحمد لله وله المنة بين كافٍ ووافٍ ومن ذي عهد وذمة إلى ذي كرم وهمة وكلهم كما عرفنا ضنين بالبيان حريص أن يصل إليه مبسوط الراحة له مقبوض اليد عليه. غير أن منشأ البلية أن ينصرف سواد القارئين من أغنيائنا وأولاد أغنيائنا - وهم المادة والعدّة - على السخف والسفه وإلى ما لا خير فيه ولا خير منه لأحد ولا لأنفسهم ثم يجمدوا على ذلك جموداً لقصط لا يترك فيه قطرة من الحياء تندى فلا يبالون أن ترى وجوههم أقفاء في كل ما يسوق إلى غير الفسوق ولا يأنفون أن يجروا مع الرغاء في مضمار لا يقال السابق السابق في الجواد ولكن السابق السابق فيه الأعيار. . ولا عليهم بعد ذلك من الأدب إن نفق أوكد وصحّ أو فسد وهبّ أو ركد ولا من العلم إن دار(25/1)
أو بار وظهر أو غار وكأنهم عفا الله عنهم لا يجدون الشرف الصاعد إلاّ في تلك المقاعد ولا يحتاجون من أمتهم لغير خدمتهم ولا يخشون على أنفسهم التلف إلا متى قلّ العلف. . . فإذا كانت النهضة لأهوائهم طاروا وإن كانت لآدابهم تبلدوا وحاروا وإذا قيل الهزل والطرب أقبلوا إقبالاً شديداً وإذا قيل العلم والأدب وقفوا منها بعيداً. على أنهم ويا أسفا من الأمة هامات وفي الأمة قامات وفي عدد الأمة رقاب وفي تاريخ الأمة نعوت وألقاب. فواهاً لك أيتها الأمة المصرية ويا لهف الأنفس المشفقة عليك.
وعلم الله لو أن عشرة من هؤلاء الأغنياء أو واحد منهم أو ابن واحد منهم كان رقيق الإحساس شريف النزعة صحيح الغيرة وافر الإخلاص يعرف من حق الأمة عليه ويستيقن ما يعرفه فينظر إلى المجلات النافعة في مضر ويعينها بعض العون على ما تعالج ويثبت بذلك أن في أغنيائنا من يكون لأمته بعمة بين المصائب وإن الكنانة مهما خلت لا تخلوا من سهم صائب.
إذن لأهدينا من البيان محاسن الأدب مجموعة وجعلناه من الطلاب كفاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فوهبنا الكثير منه معونة للطلبة الفقراء ووسعنا من فوائده على القراء وأطلعناه في الكمال مطلع البدر ونشرناه كما يعم الشرق نور الفجر ولا والله ما تنقصنا الرغبة ولا تعوزنا المادة ولا يضيق بنا الإخلاص ولا يحوجنا شيء من ذلك إلى عذر نتعلل به أو نتعلق عليه ولكنا نقبل وأكثر الناس معرضون ونبسط يدنا في مالنا وهم يقبضون.
على أننا لا ندري لم لا تعتبنا حكومتنا السنية أيّدها الله وهي منا بمكان الوصي من القصر وهي دائبة على تعليم الأمة وإرشادها وهي تعرف ما تؤديه مجلة مثل البيان وما لها من الأثر الظاهر في تقوية النهضة الأدبية وما توسع على الأمة في آدابها وثروتها العقلية - لم لا تعتبنا أعزها الله وتعتب الأمة فتنظر كذلك للمجلات المصرية الصالحة وهي لا تبلغ أصابع اليد الواحدة فتحيط أصحابها بشيء من العناية وتقدر عملهم للأمة وحاجة الأمة إليهم وتعمل على أنهم فئة كهؤلاء الممثلين والموسيقيين الذين يقذفهم برد أوربا كل شتاء فتدفعهم بذهبها. فإن لم يبلغوا أن يكونوا كذلك في الاعتبار وكان بينا وبينهم ما بين الشرق والغرب فلا أقل مما يكون أصحاب المجلات المصرية الكبرى في رأي الحكومة كأصحاب الكتاتيب. . .(25/2)
على أن هناك نظارة المعارف ومدارسها ومجالس المديريات ومعالمها ونظارة الأوقاف ومعاهدها وحسبنا مدار في تلك المدارس ومجال في تلك المجالس وما نسأل حكومتنا إلا ما هو أشكل بها في ترقية الأمة وأشمل لمذهبها في التعليم واقرب إلى أغراضها السامية فيما إلى ذلك.
وبعد فهذا هذا ونحن فأنا نعد مصر والمصريين وسائر قراء العربية في سائر الأقطار أنا لا نألو جهداً ولا نذخر وسعاً في الاحتفاظ بالبيان والمضيّ في سبيلنا مهما كانت العوائق معوّلين في هذا الأمر عليّ الله جل شأنه ثم علي ما تفضل علينا من قوة المبدأ وقوة الإرادة وقوة الثبات وعلى ما تفرد به قراؤنا الأفاضل من الغيرة الصحيحة والأخلاق النبيلة الصريحة وحسبنا الله ونعم الوكيل.
عبد الرحمن البرقوقي(25/3)
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الخامسة
تاريخ الأندلس
منذ فتحها المسلمون إلى وقتنا هذا وهو سنة أربع وتسعين وثلاثمائة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
سألتني أمتعك الله بالأدب وأذاقك حلاوة المعرفة أن أردف رسائلي التي وضعتها قديماً في طراءة العمر وريعان الصبى أثر وفودي على الأندلس برسالة أبسط لك فيها تاريخ ذلك القطر العجيب الذي كأنه قطعة انخزلت من الفردوس وسربت من السماء إلى الأرض وقرت عيناً بهذا المكان فاستقرت وكانت لاهليه روحاً وريحاناً وجنة نعيم
إن للجنة في بالأندلس ... مجتلى حسن وريا نفس
فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ليلتها من لعس
وإذا ما هبت الريح صبا ... صحت وأشوقي إلى الأندلس
وإنها عمرك الله وملاك بها لخليقة ... بقول من قال وقد طبق المفصل
أي المعاهد منك اندب طيبة ... ممساك بالآصال أم مغداك
أم برد ظلك ذي الغصون وذي الجنى ... أم أرضك الميثاء أم ريك
وكأنما سعطت مجامر عنبر ... أوفت فار المسك فوق ثراك
وكأنما حصباء أرضك جوهر ... وكأن ماء الورد دمع نداك
وكأنما أيدي الربيع ضحية ... نشرت ثياب الوشي فوق رباك
وكان درعاً مفرغاً من فضة ... ماء الغدير جرت عليه صباك
ومن هنا أصاب سؤالك عن نفسي مواقع الماء من ذي الغلة على الرغم من تقدم السن وضعف الشيخوخة وأكلى على الستين. وسنفتتح لك هذه الرسالة التي سألت بالقول على الأندلس وتقويمه ووصف ما أجملته هنا من خصبه واستبحار العمران فيه وذكر البلدان والأنهار والمعادن والأجبال وسائر الخصائص التي احتوى. والله سبحانه هو الموفق لإتمام هذه الرسالة على ما تحب وتهوى. ولما فيه رضي الله والراسخين في العلم إن شاء سبحانه.(25/4)
وصف الأندلس
جزيرة الأندلس - ويسميها العجم اشبانية - وهي قطر كبير متصل ببلاد أفرنسة من الأرض الكبيرة التي هي بلاد أفرنجة العظمى إلى جنوبيها الغربي وهي على مثال الشكل المثلث إذ هي تعتمد على ثلاثة أركان فركنها الواحد فيما بين الجنوب والغرب بمقربة من جبل الأغن كثب صنم قادس إذ يتلاقى البحر المتوسط الشامي والمحيط المعروف ببحر أقيانس والذي يسميه أهل الأندلس بحر الظلمة وبحر الأنقليشيين الأنجليز والأقيانوس الاطلانطي أو الأطلانطيقي وركنها الثاني بشرقيها بين مدينة أربونة إحدى مدن أفرنسة نربون ومدينة برديل إحدى مدائن أفرنسة كذلك حيث يقترب البحر المحيط من البحر الشامي فيكادان يجتمعان فتصير الأندلس جزيرة بينهما لولا جبل البرت الذي قام ثمت وفصل الأندلس من بلاد أفرنسة والركن الثالث هو في بلاد جليقية حيث الجبل الموفى على البحر المقابل جزيرة برطانية أنكلترة بالقرب من مدينة شانت ياقب
ومن هنا تعلم أن الأندلس ليست بجزيرة على الحقيقة لاتصال أرضها ببلاد أفرنسة كما تتحقق ذلك إذا أنت نظرت إلى المصور الجغرافي الذي صورنا لك فيه هذه الجزيرة. وأن حدها الجنوبي هو الخليج الرومي بوغاز جبل طارق الخارج من البحر المتوسط مما يقابل طنجة في موضع يعرف بالزقاق - وسعة هذا الخليج اثنا عشر ميلاً - وحدها الشمالي البحر المتوسط وجبل البرت أو البرتات. والبرت بلسان الإشبانيين الباب إذ فيه أربعة أبواب أحدها ناحية برشلونة ويسمى برت جاقة والثاني يسمى برت أشمرة والثالث يسمى برت شازر ورابعها برت بيونة ويتصل بكل برت منها مدينة في الجهتين وقد زعم بطليموس أن قَلَوْبطره (كليوباطره) وهي امرأة كانت آخر ملوك اليونان أول من فتح هذه الأبواب بالحديد والخل والنار - وهذا وهم من بطليموس فإن قلوبطره كانت ملكة على مصر ولست أدري ولا المنجم يدري.
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان
أما أن العرب سموا هذه البلاد الأندلس فذلك لما سيمر بك أن قوماً يعرفون بالأندلوش سكنوا قديماً شطرها الجنوبي فسماه من بعدهم من أعجام رومة الرومانيين والقوط أندلوشيا فلما فتح العرب هذه الجزيرة سموها كلها الأندلس تسمية للكل باسم البعض كما تسمى(25/5)
الأرض الكبيرة بلاد أفرنجة وفيها أفرنجة وغير أفرنجة - أما تسمية العرب إياها اشبانية فلم نعلم لذلك سبباً على التحقيق.
ويلتحق بجزيرة الأندلس جزائر أخرى منثورة في البحر المحيط والبحر الشامي المتوسط وهي جزيرة قادس من أعمال أشبيلية وهي في البحر المحيط. وهذا البحر المحيط فيه جزائر أخرى كثيرة كبيرة وصغيرة ففيه الجزائر الخالدات وهي غربي مدينة سلا تلوح للناظر في اليوم الصاحي الخالي الجو من الأبخرة الغليظة وفيه بجهة الشمال جزيرة برطانية أنكلترة وفيها من المدن والقرى ما لا يحصى. أما البحر الرومي ففيه من الجزائر التي تلتحق بالأندلس جزائر ميورقة ومنورقة ويابسة وقد مضى وصفها في الرسالة الأولى من كتابنا حضارة العرب في الأندلس.(25/6)
الإسلام والآداب
في رأي الدكتور جوستاف لوبون
لا نظن أحداً من القراء لا يعرف من هو الدكتور جوستاف لوبون صاحب كتاب سر تطور الأمم وروح الاجتماع وكثير من المؤلفات الفلسفية الجليلة. وهذا الفصل منقول من كتابه حضارة العرب وهو كتاب قيم جليل يهم الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً أن يقفوا على آرائه فيه ومن ثم أخذنا على أنفسنا أن ننقل في البيان تباعاً أطيب ما في هذا الكتاب وسننشر كلمة اليوم دون تعليق عليها اتكالاً على فطنة القراء.
يقول الدكتور جوستاف لوبون إن التعاليم الأخلاقية التي جاء بها القرآن هي صفوة الآداب العالية وخلاصة المبادئ الخلقية الكريمة فقد حض على الصدق والإحسان والكرم والعفة والاعتدال ودعا إلى الاستمساك بالميثاق والوعد والوفاء بالذمة والعهد وأمر بحب الجار وصلة الرحم وإيتاء ذي القربى ورعي الأرامل والقيام على اليتامى ووصى في عدة مواضع من آية أن تقابل السيئة بالحسنة. . . تلك هي الآداب السامية التي دعا إليها القرآن وهي لا تكاد تختلف وآداب الإنجيل في شيء.
ولكن البحث في الآداب التي يحض عليها كتاب من الكتب ليس من الأهمية من المكان الكبير فأنك لا تكاد تقع من الأديان الإنسانية على دين لم تكن المبادئ الأخلاقية التي جاء بها سامية عالية وإنما الحقيق بالأهمية الكبرى من البحث في حال شغب من الشعوب هي الآداب العملية التي يسير عليها لا الآداب التعليمية المدونة في الكتب المحفوظة في الأذهان إذ قد دلت المشاهدات والاستقراآت إن ثمة فرق بينا بين إلا أن الآداب العملية والآداب التعليمية في جميع النحل والشعوب.
إن من بين العوامل المختلفة التي تعمل على تكوين الآداب ونشوئها هي المصلحة المشتركة وتأثير الوسط والرأي العام والطبقات العلية في الأمة والشرائع القانونية والتربية وعقلية الأمة وغير ذلك من العوامل وليس للأديان في تكوين آداب الأمم إلا أثر ثانوي ضعيف.
وقد شهدنا أن الأديان القديمة كأديان المصريين الأقدمين والآشوريين والكلدانيين والإغريق والرومان لم تسن شيئاً من الآداب ولم تتعرض للأخلاق ولا تجد فرائض وتعاليم من(25/7)
الآداب إلا في نحل الهند وفي الأديان التي جاء بها موسى وعيسى ومحمد على أن هذه الأديان الأخيرة لم تضع آداباً جديدة ولا اشترعت حدوداً من الأخلاق حديثة وإنما عمدت إلى عدة من الآداب الموجودة في الأمة فأمدتها بشيء من القوة وكفلت لها شيئاً من الضمانات وجملة هذه الضمانات أمل الثواب وخشية العقاب في حياة أخرى آجلة ولكنها في الوقت نفسه سهلت الظفر بالمغفرة فرفعت عن الخوف من العقاب ذلك الأثر الذي كانت ستحدثه في قلوب السواد الأعظم من الناس.
وفضلاً عن ذلك أن الباحث لا يعوذه إلا أن يضرب في الأرض ويدرس الناس على حقائقهم خارجين عن دائرة كتبهم وتعاليمهم حتى يعرف أن الدين مستقل عن الآداب كل الاستقلال إذ لو صح أن بينهما أسباباً وتلازماً حقيقياً لكان أكبر الأمم تمسكاً بالدين أكبرها حظاً من الآداب. ولكن ذلك في الحقيقة خلاف ما هو واقع فإن أسبانيا والروسيا وهما أشد ممالك الغرب استمساكاً بشعائر الدين لا تزال آدابها في مستوى منحط ضعيف ومن ذلك يتقرر أن الباحث في حالة الآداب عند أمة من الأمم لا يصح أن يتلمسها في دين الأمة أو يتوخى أسبابها من نحلتها على أنني أكرر القول أن الأديان جميعاً تحتوي مبادئ من الآداب عالية وأنها لو اتبعت لرجع إلى الأرض عصرها الذهبي لكن طريقة إتباع هذه المبادئ تختلف باختلاف الوسط والزمن والجنس وغيرها ولذلك نرى لكل أمة من الأمم المشتركة في دين واحد آداباً تختلف عن آداب شريكتها اختلافاً كبيراً وهذا ينطبق على الأديان جميعها ومن بينها الإسلام فإن آداب القرآن سامية عالية ولكن كان فعلها مختلفاً جسد الاختلاف تبعاً للشعوب والأوساط والعصور والأجيال فقد كانت آداب العرب في صدر الإسلام وأوائل عصوره أسمى كثيراً من آداب الأمم المعاصرة لها وفي طليعتها الشعوب المسيحية وقد كان عدلهم واعتدالهم وإحسانهم وسماحتهم في معاملة الأمم المهزومة واحترامهم لشعائرها وطقوسها وتلك الشخصية الفروسية التي طبعوا عليها كل ذلك كان حقيقياً بالإعجاب خليقاً بالدهشة والإجلال بل كانت على نقيض آداب الأمم الأخرى ولاسيما الشعوب الغربية في عصر الحروب الصليبية.
على أننا إذا جارينا الناس فنسبنا للدين من التأثير ما ينسبون له عادة لوجب علينا أن نقول إن آداب القرآن كانت أسمى بكثير من آداب الإنجيل. إذ كانت الأمم الإسلامية على آداب(25/8)
أرقى كثيراً من آداب المسيحيين ولكن ما قررناه من استقلال الآداب عن الأديان يثبت فساد استنتاج كهذا فلئن كانت هذه الآداب سامية في بعض العصور فقد انحطط انحطاطاً كبيراً في غيرها فإن سيادة الأتراك المتراخية والمتسلطة والنظام السياسي الذي بسطه فوق الممالك التي تحتها وضعاً كثيراً من آداب الشرقيين فإن مملكة تكون فيها أهواء الوالي وجنده وصنائعه وهي القانون الفذ والشرع الذي لا حول عنه ولا مرد حيث يكون كل فرد هدفاً لعسف ألف طاغية صغير لا هم لهم ولا مطمع إلا في الغنى والثراء حيث لا عدل يبتغى ولا نصفى ترتجى وحيث لا تستطيع أن تظفر بشيء إلا بقوة الذهب وسلطان المال نعم أن مملكة تعيش في جو كهذا يروح الفساد فيها عاماً شاملاً وعند ذلك لا تستطيع أن تقع فيها على أثر من الآداب أو شبه أثر ومن ثم أصبحت آداب الشرقيين بحكم الضرورة والقهر في مستوى منخفض منحط وإن كان القرآن بريئاً من هذا الانحطاط كما أن الإنجيل بريء من الانحطاط الأخلاقي المشهود بين الشعوب المسيحية التي تعيش تحت هذا النظام.
وما تقدم يكفي لإظهار ضعف أساس ذلك الرأي السائد اليوم في الغرب وهو أن الدين الإسلامي هو الذي أفضى ببعض شعوب الشرق إلى حد بعيد من الانحطاط الأخلاقي الذائع اليوم بينها وهذا الرأي يقوم على سلسلة من الأغلاط والأكاذيب هي أن القرآن هو الذي سن تعدد الزوجات وإن مذهب القضاء والقدر الذي يزعمون أن القرآن بثه هو الذي أدى بالناس إلى البلادة والخمول وإن محمداً لم يفرض على شيعته إلا شعائر بسيطة يسهل الاستمساك بها والقارئ المتتبع لما كتبنا يعرف إلى أي حد من الخطأ والفساد تجري هذه الآراء فقد أثبتنا أن تعدد الزوجات وجد في الشرق كله قبل أن يخرج محمد إلى العالم بعدة من القرون وإن القرآن لم يكن أشد قدرية من أي كتاب ديني آخر ولئن كان العرب قدريين بطبائعهم فإن عقيدة القضاء والقدر لم تؤد بهم كما يزعمون إلى البلادة والخمول وهم قد أسسوا بنياناً من الدولة شامخاً وأثبتنا كذلك أن المبادئ الأخلاقية التي جاء بها القرآن تعادل في سموها وكمالها ما جاءت به الكتب الأخرى ولو صح أن القرآن هو الذي حط من المسلمين لارتقبنا من أولئك الشرقيين الذين لم يكونوا بطبائعهم قدريين ولم يأخذوا بتعدد الزوجات أمثال مسيحيي الشرق أن يكونوا بنجوة من هذا الانحطاط ولكني لا أعرف من البحائين الذين درسوا الشرق من لم يجد نفسه مضطراً للاعتراف بأن آداب هؤلاء(25/9)
المسيحيين الشرقيين في مستوى أقل بكثير من مستوى آداب المسلمين.
ونقول في ختام هذا البحث أن آداب القرآن في سموها ورقيها كآداب أي دين آخر وأن الأمم التي دانت له أظهرت الأمم التي تعيش تحت شرائع المسيح مستوى من الآداب متحولاً متغيراً وذلك تبعاً للعصور والأجناس وتبعاً للعوامل الأولية في نشوء الآداب.
ولكن النتيجة الكبرى التي يمكن أن نستخرجها من كل ما قلنا هو التأثير العظيم الذي أحدثه القرآن في الشعوب التي خضعت لشريعته فقلما ترى من الأديان ديناً أحدث شبيه ذلك السلطان الذي بسطه الإسلام على النفوس والدولة التي شادها فوق الأرواح بل ليس في الأديان جميعاً ما ثبت سلطانه واستقام كالإسلام فإن القرآن لا يزال إلى اليوم قطب الحياة في الشرق وملاك أمرها وإنا لنجد تأثيره في أتفه فروع الحياة وأقلها ولئن كانت دولة العرب لم تعد ترى إلا في كتب التاريخ فإن الدين مؤسس تلك الدولة لا يزال حياً ممتداً منتشراً ولا يزال ظل النبي من أعماق قبره يسود متملكاً على تلك الملايين العديدة الساكنة أفريقية وآسية والمترامية بين مراكش والصين والمنثورة بين البحر الأبيض وخط الاستواء.(25/10)
من قول ابن الرومي
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام والشراب(25/11)
الخلود
قصيدة نظمها الشاعر لامارتين يرثي بها حبيبته الفير وكانت قد قضت نحبها في ريعان الشباب وكان لامارتين نفسه مريضاً يظن أنه قد شفا الموت وقد جمعت القصيدة معاني شتى من الفلسفة والحب والجمال والموت والخلود حتى عدت أحر زفرات الشاعر وابلغ نفثاته.
هذه شمس أيامنا أصفرت وهي في مطلعها أنها لا ترسل الآن على جباهنا الذابلة ووجوهنا المنهوكة المتعبة إلا أشعة متحدرة مضطربة واجفة تغالب مطالع الظلام وتناصب هواجمه هذا الظل يمتد وهذا النهار يموت كل شيء يزول يفر ويطير.
لشد ما يرتجف المرء لهذا المنظر الرهيب ويرتعش لشد ما يراجع الخطى عند حدود الهاوية وينكب بل لشد ما يخفق الفؤاد إذ يستمع عن كثب على تلك الأنشودة الحزينة المظلمة أنشودة الموتى تتردد في أعماق صدره منتشرة في أنحاء نفسه إن تلك الأنات المخنوقة والأنفاس المتحشرجة آهات الحبيب وزفرات الخليل وانتحابات الولي وهي تتراجع وتضطرب حول فراش الموت أن هذه الأصوات المضيعة المبددة تعلن الأحياء أن منكوداً منهم قد خف ومكدوداً قد رحل.
تحيتي إليك أيها الموت وسلامي أيها المنقذ السماوي الكريم ما عدت بعد اليوم تطالعني في ذلك المنظر المرعب المشؤوم برهبتك وخشيتك ولا عادت يمينك تشارفني بمرهف سيفك لست أيها الموت بالمتجهم الوجه ولست بالخائن العين أنت الذي تروح إلى الله الرحيم بأحزاننا وفجعاتنا ونستدعي رحمته على نكباتنا وويلاتنا أنت لا تعدم بل تنقذ أنت لا تقتل بل ترحم إن يدك يا رسول السماء تحمل إلى مشكاة الهية يوم تحرم عيني المتعبة الحسيرة مشرق الضياء ومطلع النور أنك تجيئني لتمطر الجفن وتبلل العين هناك يطفر الأمل إلى قربك يظلله الإيمان وتشده التقوى ويفتح أمام عيني عالماً أجمل أروع حلو المتقبل لذ المتفكه والمتنعم.
ألا تعال أيها الموت وأقبل تعال فاقطع عني أغلال اللحم وبدد عني قيود البدن تعال أكسر باب سجني وافتح مغالق محبسي أعرني أجنحتك الهفهافة وقوادمك ماذا يحبسك عني ويمسكك ماذا يعيق عن زورتي ويؤخرك ألا أطلع عليّ وأشرف أريد أن أطفر إلى ذلك الكائن العظيم اشهد عنده مبدئي ومختمي.(25/12)
أموت ولا أعرف ما الوجود واذهب ولا أعلم ما البقاء أنت أيتها الروح المبهمة أيها الطائف الغامض المجهول سدى أسألك وعبثاً أستطلعك أية سماء بحقك تسكنين وفي أية دار ترى تعيشين أية قوة دفعتك إلى عالمنا المتحطم الضعيف الهشيم أية يد حبستك في محبس فخارك واعتقلت في قالب طينك لأي سبب عجيب وبأي سر غريب يرتبط بك البدن وبه ترتبطين لأية سفرة جديدة سترحلين عن الأرض وتتحملين أتراك نسيت كل شيء أم هل تذكرين أتعودين إلى حياة أشبه وعالم أمثل وأحكى أم في حجر الله مخرجك ومربعك وموطنك ستنعمين مناعم الأبدية وتلعبين ملاعب الخلود؟!
نعم تلك علالتي يا نصف الحياة وتلك طماحتى تلك هي الأمنية التي كانت عزاء نفسي السجينة المغلولة يوم شهدت غلائل حسنك تزبل والربيع في صميمه ومزدهره هي اليوم مناي والحزن يفتك بي والأسى يقتل وأنا أجود اليوم بالنفس وأسلم أموت فينان الغصن رطب العود ولكن ها أنا ذا أبتسم!
سيصبح قطيع أبيقور وجماعته أمل خلب كاذب! وذلك العالم الذي يفحص بيده عناصر الطبيعة ويدرس في زاوية صغيرة يسمونها العقل سيقطع دهره للمادة ويعيش في عالم المادة ويغفل عن الروح سيقولون جميعاً أيها الأحمق أنظر حولك ودر بعينك كل إلى فناء وكل إلى غاية وكل يولد لكي يموت أنظر ألا ترى الزهرة في الحقل تتعب فتضمحل فتموت ألا تشهد السدرة العظيمة في جوف الأجمة الكثيفة تفرع شامخة الرأس متطاولة الذؤابة ثم تسقط تحت ثقل الدهر ممتدة على العشب منتشرة فوق بطحاء الأرض أنت ترى البحار تنضب في قيعانها وتجف أنت ترى السماء نفسها تزوي وتصفر هذه الشمس تجري مثلنا إلى الفناء والانقراض هذه الطبيعة كلها تركم القرون والأجيال تراباً فوق تراب إن الزمن يقبر في جوف حوادثه ويرمس ولكن يا لا عظم حماقة الإنسان ويا لا سخفه لا يفتأ يوقن وهو في غيابات القبر إنه سيظفر بعد الحياة بالحياة ويحلم بالأبدية وهو في زوبعة العدم!
ولكن هوناً أي عقلاء هذه الأرض لعل أحدنا سيقول لكم أتركوني أيها العقلاء إلى ضلتي وإني أحب وعليّ أن أتمنى وأتعلل إن عقلنا الضعيف يتحير ويضطرب بل إن عقلنا أمام حجتكم يسكت ولكن غريزتنا ترد عليكم وتجيب.(25/13)
وأما أنا فيوم أرى الكواكب في السموات العلى تنحرف عن سبيلها المسنونة ومنازلها المقررة وأشهد في حقول الأثير النجم يهجم على النجم والكوكب ينطك الكوكب وأسمع الأرض تتنهد منشقة الجوف وتتأوه وأرى كرتها مائدة هائمة تضطرب عن كثب من السموات وتمور تبكي إنسانها الفاني وابنها الدفين مترامية في أحضان الأبدية فانية وأدور حولي فأجدني الشاهد الوحيد والحاضر الفرد يحف بي الموت وتحوطني الظلمات عند ذاك سأنهض واثباً لا خوف ولا رعب أفكر فيك يا نصف الحياة وأحلم موقنا برجعة فجر الأبد وعود عالم الخلد أرقب لقائك وأرجو زورتك.
أتذكرين الرحلة الهانئة والسفرة الراغدة يوم نشأ حبنا الخالد وبدأ غرامنا المقيم حينا فوق ذوائب الصخور القديمة الوحيدة وحينا على ضفاف البحيرة الساكنة الحزينة على جناح النعيم بنجوة من هذا العالم يوم خضنا معاً متصاعد الظلال ومنتشر الأفياء نهبط الربى وننزل الجبال نصغي إلى غناء النجوم وصدحها موسيقى حلوة لا صخب فيها ولا ضوضاء كنت تقولين الله محجوب وهذه الطبيعة معبده هذه الدنيا صورة كماله وماويته إن النهار نظرته وهذا الجمال ابتسامته أيها الأبدي اللانهائي القدير الجليل إن القلب في كل مكان يعبدك إن الروح تهفو مشوقة إليك إنها تريد أن تطفر نحوك وتثب تشعر أن الحب ختام حياتها فهي تحترق إلى معرفتك شوقاً وتلتهب
كذلك كنت تقولين وبهذه النفثات كنت تناجين وكان قلبانا يجمعان تنهداتنا ويمزجان أناتنا وزفراتنا يبعثان بها صوب ذلك الكائن العظيم الذي يدل عليه هوانا ويشهد به غرامنا يحمل إليه الليل تخشعاتنا وضراعاتنا ويرفع إليه الفجر تذللاتنا وابتهالاتنا والعين سكرى تتلدد بين الأرض منفانا والسماء مسكنه.
أواه. . . أللعدم خلقت أرواحنا أللفناء كانت حياتنا أيجري على الروح في ظلمة القبر حظ البدن أياتهمها جوف اللحد كما يلتهم اللحم ويدق العظم أتعود مثلها تراباً وتستحيل هباء أتراها تطير وتحلق أم تراها تتبدد كأجزاء الصوت المتردد.
بعد حسرة ضائعة وزفرة راجعة وتوديعة لمن أحبك باكية أيغني المحب ويبيد المغرم أواه. . إن أمام هذا السر العظيم لإنجاحك أيها العقل ولكن نسألك أيتها الغريزة أي ألفير إن محبك يسوق بنفسه فهل من رد. . هل من جواب!.(25/14)
الكبراء
إن المتوحش الهمجي السفاك ينحني أمام معبودات من الخشب والصخور والأحجار ولكن الإنسان المتحضر العصري يسجد لمعبودات من الدم واللحم إذ كان بين عاديي الناس وأوساطهم وبين أغنيائهم وكبرائهم ضرب من العبودية المنظمة عبودية ملونة بخليط من أصباغ العظمة المظهرية التي لا تعتمد في هيبتها وجلالها الأعلى العمي اللوني المتفشي في الطبقات الصغيرة من الجمعيات البشرية وليست هذه العظمة المظهرية إلا قوالب مجوفة من الضؤولة نفختها أنفاس المال أو أبهة المنصب أو حقوق الدم والناس جميعاً إلا أقلهم يرون من المال والمنصب أكبر مقياس للقوة وفي الظافر بالطائل منهما أكبر قوى فهم يقدسون هذه القوة القياسية لأنهم يشعرون من نحوها بالضعف كما يكون من المريض برئتيه أن يحسب السعداء هم الصحاح الرئات السليمة اللهى ومن ثم فمركبة الكبير بالقياس إلى قدمي الفقير هي قطعة من القوة ولذلك فهي قطعة من الاحترام.
وعلى هذا فقد أصبح للكبراء من وراء هذه العبودية المنظمة مجموعة من الآداب خاصة بهم هي آداب السادة وغيرها آداب العبيد فالكبر مثلاً من آداب الكبراء السائدين فإن فكر الرجل العادي أن يتأدب به عد عند العاديين هارباً خارجاً واعتبر عبد السادة متهجماً متوقحاً فالزهو والكبر والصلف والبذخ من آداب السائدين والقناعة والتواضع والخنوع والحياء من آداب المسودين.
عاش لابروبير وكان من عامة الشعب في ظل الكبراء وجناب النبلاء واختلط بالسادة والمتمولين ثم جعل يشرح نفسياتهم تشريحاً دقيقاً ويحلل آدابهم تحليلاً بديعاً وكان لابرويير من أبدع كتاب العصر وأحرهم لهجة وأسلوباً كان مرير التهكم قاسي الوصف جريء اللب وكان في بلاغته أبلغ من روسو وأسحر.
والآن فاسمع ما يقوله في وصف أخلاق الكبراء: أيها الكبراء! إني أترك لكم مآكلكم ومناعمكم وفرشكم وكلابكم وأفراسكم وقردتكم ومجانكم وملاقكم ومداحكم ولا أحسدكم على شيء إلا أن في حاشيتكم خدماً يساوونكم قلوباً ويضارعونكم أرواحاً بل قد يفوقونكم أنفساً ويفضلونكم شعوراً ووجداناً
أنكم تزهون علينا بأنكم تستطيعون أن تقطعوا في جوف الأكمة الكثيفة المختنقة طريقاً معبداً أو تشيدوا فوق بطحاء الأرض عالي الجدران وشامخ الأبنية أو تذهبوا سقوفاً(25/16)
وتجملوا قباباً وأعراشاً وتزرعوا الحدائق وتنشئوا البساتين ولكن أن تردوا قلباً واحداً إلى البهجة أو تدخلوا على روح محزونة الفرح أو المسرة أو تسدوا حاجة المحتاج أو تأسوا جراح المكدود فأنتم العاجزون والمتأففون.
أنا لنتسائل إذ نرى الفروق البينة بين الأنصبة بين آلام الفقراء ومباهج الأغنياء هل ترانا نتبين ضرباً من التعويض يتساوون به جميعاً ويتكافؤون فلا يكون نصيب الفقراء أقل احتراماً ورغبة من نصيب السراة والمتمولين هذا هو السؤال الذي لا يحكم فيه إلا الفقير.
إن للفقر وللغنى لسحراً جذاباً فتاناً إن الكبراء يبتهجون من اللذات بالتطرف وأما الصغار فيحبون الاعتدال الكبراء ينعمون بالأمر والنهي والأصاغر يبتهجون بالخدمة والطاعة الكبراء يحرسون ويحيون ويبجلون والأصاغر يحرسون ويكفرون وينحنون ويسجدون والكل مبتهج بأمره فرح مغتبط.
ليس بالأمر العظيم عند الكبراء أن يعطوك المواعيد ثم لا يتقيدوا بقيودها والحزم الحزم عندهم أن يخرجوا عن المواعيد وينحرفوا عن المواثيق وكلمات الشرف.
أنت تقول في لهجة باردة وصوت محتقر ممتهن إن هذا الخادم يضرب بسهام في الاجتهاد ونشاط الروح والطاعة وأداء الواجب والإخلاص والزافي إلى سيده ولكن قل ما يكترث لهذه فيه ويحفل إنه لا يحترم إنه لا يحب هذا ولكني أسألك أهذا الخادم تقرف أم السيد تنهم؟
قد تكون في أغلب الأحيان خيراً أن نفر من حظائر الكبراء من أن نشكو إليهم ونسترحم.
إن الكبراء يحتقرون ذوي الأرواح لأن هؤلاء لا يملكون غير الروح وذوي الأرواح يزرون على الكبراء لأنهم لا يملكون غير الأبهة وذو الخير يرثون للجميع لأنهم لا يملكون إلا الروح وإلا الأبهة خلوا من الخير صفراً من الفضيلة
إن فلاناً يؤثر أن يقطع حياته صنيعة للكبراء على أن يضطر إلى العيش الناعم بين لذاته ونظرائه
إن تجهيمة أو تقطيبه تأتي إلينا ممن هم فوقنا تكرهنا فيهم وتبغض وتحية منهم أو ابتسامة توددنا إليهم وتحبب
إن الاحتقار الذي يشعر به الكبراء نحو العامة هو الذي يجعلهم لا يأبهون بأماليقهم(25/17)
وأماديحهم لأنها تخفف من حدة زهوهم وهي تطفئ من جذوة كبرهم أنظر إلى الأمراء أنهم يروحون بمديح الأكابر أشد زهواً وأكثر عجباً لأنهم لا يحتقرونهم بل يقدرونهم ويعظمون.
يعتقد الكبراء أن وحدهم المستبدون بالكمال المتفردون بالمحاسن لا يحتملون أن يروا في الناس نبل الروح ولا فضيلة النشاط ولا رقة الحاشية وهم يدعون ملكية كل شيء جميل كحقوق وجبت لهم بطيب مولدهم وكرم دمائهم ومن أكبر الخطأ أنهم يعيشون على هذا الخطأ هم يرون أن الأرض لم تخرج أثقف عقولاً منهم ولا أبلغ قولاً ولا أرق تأليفاً ولا أبدع إنشاء بل ولا أرق بصراً ولا أنعمى خلقاً بل أنهم ليذهبون إلى أن هذه لم تنبت إلا فيهم ومنهم لكم الله أيها الأكابر نعم إن لكم أرضاً واسعة وملكاً كبيراً وسلسلة من الأجداد متراخية مترامية من ذا الذي ينكر عليكم هذا ومن ذا يجحد!
أيها الأكابر أتريدون أن أعتقد أن لكم نبل الروح وروعة العظمة وجمال الذوق والحكمة وبعد النظر أتريدون أن أصدق الأماديح المتغنية بأوصافكم غني لا أومن بها إني أتميز غيظاً ن كذبها إني ألفظها إني أزدريها أتريدون أن تخدعوني بمظهر العظمة الذي تلبسونه وسمت السمو والعلاء الذي تضعونه في كل كلمة تقولون وكل أمر تحدثون وكل لفظ تكتبون إني لا أومن إلا بأن لكم الجاه والأبهة ومناعم الغنى وأطايب الثروة. . . بأية وسيلة نستطيع تعريفك أيها الكبير الخشن الصوت الفظ الجرس إنا لا نقترب منك إلا كما نقترب من النار الموقدة إنا لا نكلمك إلا عن كثب ولا ندانيك إلا عن رهب يجب أن نخلع عنك حجابك ونلمس حقيقتك ونواجهك بنظراتك ونصدمك بأقرانك حتى نخرج منك بحكم فيك سديد رشيد.(25/18)
مستقبل الإنسانية
كيف يسود السلام العام
أيمكن أن يسود السلام في العالم وكيف يسود ومن ذا يكفله؟. . . . تلك هي الأسئلة العظيمة الشأن اليوم المقلقة لأذهان المصلحين والفلاسفة والسلميين المزعجة لكل قلب يحس فوق هذه الأرض بعد أن أصبح المقتنعون بفظاعة الحرب ونكرها وأهوالها وويلاتها المتلهفون على إزهاق روح الحروب وقتل سيطرتها الراغبون في تنظيم أمور الحياة على وجه لا يعود بعده على مسرح العالم ما يجري اليوم من الشدائد والأهوال والعذاب والآلام والقتل والفتك والتخريب والتدمير - نعم بعد أن أصبح هؤلاء جمهوراً عظيماً لم تشهد الإنسانية ضريبه في جميع ماضيها الحربي المخيف ولئن كان هذا الجمهور العظيم وهو يكاد يكون السواد الأعظم من أمم العالم كلها يريد أن يستتب السلام في الأرض آخر الدهر ويستقيم إلا أن الرغبة شيء وتحقيق الرغبة شيء آخر ولكن تحقيقاً لهذا لرغبة كهذه يتطلب إرادة عامة تشمل كل إنسان في العالم وتعم إذا كان يراد أن يسود السلام في الإنسانية إلى الأبد إذ لو كان الراغبون في السلم تسعة وتسعين من المائة فاعلم أن الرجل الواحد الخارج عن هذه الرغبة سيتابع ولا ريب تسليحه واستعداده فيشعل بعد ذلك يوماً جذوة الحرب ويثير سعيرها وأنتم تعلمون أن النكبة الرهيبة الحاضرة كانت نتاج تسليح عام مستمر لبث يجري مطرداً على نظام دقيق ممهد عجيب ومهارة عظيمة ودأب كبير طويل أربعين حولاً أو تزيد ومن ثم فلا يمكن أن نرتقب سلاماً عاماً إلا بإضراب عن التسليح يكون أشد من ذلك التسليح مهارة ودأباً ودقة ونظاماً فما هي إذن الوسائل التي تمكننا من نشر السلام العام في ربوع الأرض وإغلاق سجل الحرب إلى الأبد؟؟
وقبل أن نجيب عن هذا السؤال يجب أن نشرح للقراء العوامل النفسية الغريبة التي تثير الحرب عادة والعوامل النفسية التي تجنح بالناس إلى السلم والرغبة في تسويدها.
يقول الأستاذ ويلز وهو من أكبر كتاب الإنكليز اليوم وأعمقهم تفكيراً وأصفاهم ذهناً من أكبر الاشتراكيين العصريين إن في كل إنسان منا روحاً من الاحتجاج والاستنكار للحرب وأكثرنا على وجه من الإجمال يريد السلم ويطلب إبطال الحروب ولكن ليس فينا فرد واحد قد خلا من نزعة حربية مختفية من تضاعيف نفسه محتجبة في أعماق وجدانه - نزعة(25/19)
حربية غريبة تثب لصرخات الحرب وتجيش لأصوات القنبلة وزمجرة المدفع إذ لا ريب في أن كل منا يحس بأثر من الإعجاب والإجلال إذ يقرأ في الصحف نبأ موقعة حربية أو إغراق طرادة أو نسف باخرة لأن هناك مظهراً جميلاً من العظمة ومعنى حلواً من الجلال في كثير من خشونات الحرب ورهيبة أحداثها ووقائعها يثير في قلب كل فرد نوعاً من الحمية وضرب من السمو والقوة نعم إن في أثناء جوانحنا هذه النزعة التدميرية المخربة فلا داعي إلى إنكارها لأن أول وسيلة يمكن أن نستعين بها على نشر السلام هو أن نعمل على ضبط هذه النزعة وقهرها ولا سبيل إلى ضبطها إلا بتذكير الإنسانية جمعاء بالوجه الآخر المخوف من حقائق الحرب وأمورها على أن الذين يسفهون الحرب ويكرهونها ويرمونها بكل نكراء من القول هم الذين يريدون أن ينهوا عصرها ويختموا عهدها ولكن هناك كثيرين كبرت عندهم هذه النزعة وأشتد أثرها وهم وحدهم هم الذين يقفون في طريقنا إلى السلام العام على أننا يجب أن نتذكر أن القوى التي تعمل لصالح أمر من الأمور هي دائماً أشد تماسكاً وارتباطاً وتأثيراً من القوى التي تعمل على مقاومته وهذا ينطبق على حالنا نحن رسل السلام ومقاومتنا لرسل الحرب ودعاتها وأبواقها وطبولها فنحن القائمين في وجه الحرب الراغبين في قتل روحها لم نقم في وجهها إلا لعدة من الأسباب والأدلة والبراهين وذلك أن هناك فروعاً من الحياة غير الحرب نؤثر ووجوهاً من العيش نحب وهذه الحرب تقتل رغائبنا وتعيق أميالنا وأمانينا منا من يريد أن يتوفر على الفن - الشعر والموسيقى والتصوير والنقش والفلسفة الكتابة والتأليف ومنا من يريد أن يخلد إلى حرفته في المصنع وصناعته في المعمل ومنا من يريد أن ينزوي إلى التفكير العلمي والاختراع والابتداع ومنا من يريد اللهو والمرح والبهجة ومنا ومنا ولذلك قد اجتمعنا كلنا على أن نفكر في غير الحرب وننكمش إلى مطالبنا ووجوه عيشنا غافلين عن الحرب منشغلين وبيننا نحن كذلك إذ هناك فئة قد آثرت أن تخلد إلى العمل للحرب كما آثر بعضنا الإخلاد إلى الشعر ومن ذلك أصبح نشوب الحروب من جراء إهمالنا مسائل الحرب محتملاً ممكناً لأن هذه الفئة لا تفتأ تعد الأهبة وتمهد السبل وتضع الخطط لإضرام نيران الحروب كما لا يفتأ أرباب الفنون ما يتقنون فنونهم وينقحون في أساليبها ويهذبون وجوهها وإذا بنا على غرة قد تنبهنا إلى أن الحرب قد قامت على قدم وساق وعلى هذا لن تنتهي(25/20)
الحروب ما لم نفكر نحن طلاب السلام في تأسيس نظام تام نستطيع به مراقبة مثيري الحروب وخالقيها وما لم نكن منهم بمثابة الشرطة من المجرمين واللصوص والجانين.
وقد شهدنا أن طلاب الحرب في كل أمة قليلون وإن كان أكثر الناس في بعض الأحيان يطلبون الحرب وذلك لأن العدوى قد سرت إليهم من هؤلاء القليلين وهم الذين أصبحت النزعة الحربية المختفية في أعماق عواطفنا جميعاً باعثاً نفسياً مسيطراً على كل شيء فيهم متغلباً حتى لا يمكن أن تقهر فيهم كما تقهر في وفيك بتذكر فظاعة التدمير والتقتيل ولا بإحساس الشفقة والرحمة ولا بتخيل الهول والويل لأن هؤلاء عشاق الحرب مخلوقات لا تحاكينا في التركيب ولا في العواطف ولا في الوجدانات وأنك لتسمع منهم دائماً إذا جلست وإياهم إلى حديث كلمة واحدة وهي إن الحرب تنبل وهم لا يريدون بكلمة تنبل إلا أنها تبيد آلاف المناعم التي لا يتنعمون بها ولا يتذوقونها ولا يفهمون لها معنى مناعم يجهلونها ولذلك يشعرون من نحوها بالغيرة والحقد مناعم سلمية هي الجمال والرقة والعطف والهدوء والسكون والبهجة وهم يصفون كل ما ليس خشناً في الحياة فظاً قاسياً بالانحطاط والاضمحلال وهذه الحجة التي يعمد إليها الحربيون وهي أن الحرب تنبل إن هي إلا عارض من عوارض ناموس حفظ الذات فيهم ضد مناعم السلم التي لا يعرفونها ولا يقدرون لها قدرا.
وليس طلاب الحرب قاصرين على القواد وغيرهم ممن يلبس تلك الأردية الملونة المذهبة العسكرية بل تعداهم إلى الأساتذة في الجامعات وقواد الفكر وكبار الكتاب ومنشأ ذلك إن الدأب على البحث والتنقيب وإنهاك الأعصاب في التدريس والتعليم هما اللذان يجعلان هؤلاء القوم يشعرون بالسآمة والضجر ويحسون عوارض السوداء والفتور والحزن والغم ويزداد فيهم ذلك حتى يتخذ مظهراً موحشاً يؤدي بهم إلى تلك الأفكار الوحشية الرهيبة فلو أنهم يعمدون إلى استحمام يومي طيب دافئ وانقطاع عن شراب النبيذ والجعة وغيرهما وإضراب عن التدخين وقضاء ساعات في الرياضة بعد المقيل لتحسنت صحة هؤلاء الأساتذة المحمومين المستعري الأعصاب ألمضطربي الأذهان.
على أن ليس العائق الوحيد دون استتباب السلام في العالم هم عشاق الحرب بل أولئك الجماهير العظيمة التي تعينهم على عملهن فلئن كانت الجماهير لا تحب الحرب ولا تريدها(25/21)
إلا أنها تقدم لعشاق الحرب الفرص السانحة لنشوبها لأنها لا تضع لهم حدوداً يقفون عندها ومثل هذه الجماهير كمثل قوم يخشون تفشي الحمى الصفراء في بلادهم ولكنهم يعارضون في وضع مقادير من البترول في البرك في الجداول والمستنقعات وهي الوسيلة الوحيدة لقتل جراثيمها بحجة أن البترول يضر بالأزهار.
إذن فهذه الجماهير التي تكره الحرب ولا تطلبها ومع ذلك تجيزها هي التي يجب أن نبحث في أمرها إذا كنا نريد أن يخفق علم السلام على الأرض أبد الدهر.
(1) وأول وسائل الواجبة لسيادة السلم: هي ضرورة إنشاء سلطة رقابية عامة إذا كنا نريد أن تلغي الحروب وتحترم المعاهدات ولكن ما دامت هناك حكومات متعددة كل منها حرة اليد في عمل ما تحب تسلح إن شاءت شعبها وتلغي المعاهدات كما تريد فلن يتحقق أملنا في سلام مضمون بل لن نستطيع أن نقيم سلاماً عاماً في العالم إلا إذا نسجنا نسيجاً من المعاهدات ترتبط به الأمم كلها وأقمنا شباكاً من التضامن تدخل فيه الحكومات جمعاء ولا يكون هناك اتحادات فرعية ولا اتفاقات ثلاثية ولا رباعية.
ولقد كان مؤتمر الهاي الخيط الأول من خيوط هذا النسيج الدولي العام ولكنه كان خيطاً ضعيفاً واهياً ولذلك لم يحدث أثراً ما ولكنا نريد أن يقام هناك مؤتمر عام يمثل وزارات الخارجية في جميع الأمم سواء الأمم المحاربة اليوم وغير المحاربة الصغيرة منها والكبيرة وأن لا يحل هذا المؤتمر بحال من الأحوال بل يجب أن يكون له مقام مستمر وموظفون دائمون وكتاب وإداريون ومالية مخصوصة ينعقد ويتناقش جهاراً وينشر المعاهدات والارتباطات التي تؤلف بين الدول أعضائه ويكون له الحق في الاستعانة على تنفيذ قراراته ببحريات الدول وحربياتها وأما عن الاحتفاظ بالكلمة العليا للدول العظمى فيمكن أن يكفل بعدد من الأصوات على نسبة عدد سكانها وكل دولة تبعث ممثليها بواسطة وزارة خارجيتها أو يمكن أن ينتخب هؤلاء النائبون كما ينتخب نواب البرلمانات والندوات التشريعية ولا تكون سلطة هذا المؤتمر مقصورة على سن المعاهدات وإبرامها وتنفيذها بل يعطي الحق في إنشاء ما يراه صالحاً من الأنظمة والطرائق والمشروعات المتعلقة بالتجارة والمصلحة العامة والصحة والملاحة والرقابة البحرية وما إلى ذلك ومن ثم يكون في الحقيقة برلماناً عاماً محترم الكلمة مسموع الأمر والنهى وهذه الفكرة العملية من السهل(25/22)
إخراجها اليوم إلى حيز التحقيق إذا استطعنا أن نتغلب فقط على تلك الفكرة الخالية التي يتشبث بها اليوم جمع كبير من السياسيين والحكوميين وهي أن كل كل دولة تستطيع أن تحتفظ بالسلم مع كونها غير مسؤولة أمام غيرها ولا مرتبطة بأدنى رباط مع بقية الدول الأخرى
ولكن لعل وزارات الخارجية وزراءها وكبار المفوضين والسياسيين سيثيرون اعتراضا حارا على هذه الفكرة لأنها ستجهز على عصر الأسرار وتختم عهد الدسائس. وستطهر العالم من تلك الاتفاقات السرية والمكائد المعقودة في الظلام التي كانت الأساس الأكبر الذي قامت عليه معاهدات الماضي ومفاوضاته واتحاداته ولكن صالح الإنسانية فوق كل شيء وذلك لأن المتتبع للمفاوضات التي ساقت العالم إلى هذه الحرب لا يشك في أن اكبر أسباب هذه المجزرة الهائلة أن جري السياسيون على التكتم والائتمار والخلفي ولو أنهم تكاشفوا وتصارحوا لما قذفوا بالعالم في هذه الهوة السحيقة من التدمير والتخريب
(2) والوسيلة الثانية هي أن تلغى السفارات لأن السفارة في المملكة عين عليها واشية خائنة نمامة وهل كانت السفارات الاجاسوسيات منظمة تحت ستار خدعة؟ وليس تمت من خطر على علاقات الدول ومصالحها المشتركة مادام القناصل هم القضاة المدنيين الذين يعملون على الاحتفاظ بحقوق رعاياهم.
حتى إذا تم النجاح لهذه الفكرة فأنشئ هذا البرلمان الدولي العام فأن أول مسألة خليقة بالبحث جديرة بالتدبير والتفكير هي إلغاء التسليح فإن المراقب لشئون السياسة في نصف القرن الأخير لا يستطيع أن ينكر أن ذلك الدأب العظيم على التسليح والاختراع المدمر ولابتكار المميت هو الذي جر إلى فظائع التقتيل الواقعة اليوم وحصد الجسوم وتفتيت الأبدان وتقطيع الأوصال والأشلاء فإن ملايين القتلى في هذه الحرب لم تقتلهم إلا تلك المخترعات الجهنمية الشيطانية وليدة العبقريات الشريرة ونتاج العلم المدمر.
وهناك وجه آخر من سيئات هذه المخترعات وفظائع هذا التسليح حقيق كذلك بالبحث والتفكير وذلك أن الدول العظمى تمد الممالك الصغرى والشعوب الهمجي المتبربرة والأمم التي لم تعد بعد طور التكوين الاجتماعي بتلك الأسلحة والمخترعات عينها فتسلح جنوب إفريقيا مثلاً وجمهوريات بيرو والبرازيل والمكسيك بل ترى الصين وإفريقيا حافلة بالآلات(25/23)
الجهنمية الأوروبية والأسلحة الفتاكة الأمريكية ومنشأ هذا هو التنافس التجاري والغيرة المتبادلة بين بعض الدول وبعضها وقد وجب الآن بعد ما رأينا من هذه الحرب أن يلغى ذلك التسليح الجنوني للجمعيات البشرية المتأخرة المتقهقرة.
ولا سبيل إلى ذلك إلا أن لا تعود صناعة المواد الحربية بعد اليوم صناعة حرة فردية وأن لا تكون كما كانت إلى اليوم مصدراً للإثراء ووسائل لبعض الأفراد للإكثار من الربح والمكسب وأن لا توجه القوى المخترعة والعبقريات المبتكرة إلى ابتداع ما يحصد النفوس ويفتت الأبدان.(25/24)
عالم العلم
آداب الطيور
لسنا وحدنا نحن بني الإنسان المخلوقات الوحيدة التي تتنعم بالحب والعشق وتحنو إلى المغازلة والتشبيب وتقيم الخطب والأعراس فإن في عالم الطير من ذلك المدهش لغريب إذ ما يكاد يدخل الربيع بنضارته وريعانه حتى تنطلق الطيور تبحث عن الأزواج والذكر منها هو الذي يلعب عادة دور المغازل الخاطب وإن كان بعض الذكران قد أصاب من الحياء والتعفف ما يصيب أمثالها من ذكران الناس فتضطر المتهتكات من الإناث إلى مغازلتها بنفسها وإيقاعها في مصائد الزواج وقد دلت ملاحظات العلماء على أن هناك أنواعاً من الطير لا تعد مسألة الزواج إلا أمراً عادياً لا محل فيه للحب ولا مدعاة إلى المغازلة وأمثال هؤلاء من الناس كثير ومن ثم تهجم على إناثها بالخطبة وتبغتها دفعة واحدة بطلب القران وإن هناك ضروباً غيرها تعاني المشقة المنهكة في ابتغاء قرنائها في الحياة وشركائها وأخرى لا تظفر بالأنثى إلا بعد صراع طويل بينها وبين مزاحمتها حتى إذا صرع أحدها الآخر وفر بالأنثى ظافراً وليس تعدد الزوجات معروفاً عند الطير بل لكل ذكر زوجة واحدة ومن الطير أصناف كثيرة تمكث في صحبة الزوجة آخر حياتها ومنها ما يقضي من العام في ظل الزواج فصلين أو ثلاثة ومنها ما يعد نفسه حراً من مواثيق الزواج وعهوده إذا انفرط عمر الفصل الواحد.
وللألوان الأثر الأكبر في نجاح الخطبة بين الذكور والإناث وترى لريش الذكور عادة - إلا في بعض الأحوال النادرة - ألواناً أبهج وأزهى من ألوان الإناث ولذلك تستخدم الذكران بهجة ألوان أذنابها وأعرافها وأجنحتها في المزاحمة على عشيقاتها وإذ ذاك تقع المشاحنات ويستطير القتال بين الذكور والمتزاحمة على الأنثى الواحدة وفي مثل هذه الأحوال ترى الأنثى ترضى بالصارع وإن كانت قبل الصراع تحنو إلى الصريع وتلك طبيعة الأنثى في ضعفها وإيثارها من الأزواج القوى على الضعيف حتى إذا عرض لها يوماً ذكر أقوى أسراً من زوجها وأجمل مظهراً عمدت إلى تحريض الزوج على قتاله لكي تظفر بعده به ولا يكون من ذلك إلا أن أقوياء الذكور من الطير وأصحائها وحسانها هي التي تستطيع وحدها الفوز بالزوجات وكذلك تعمل الطبيعة على بقاء الأصلح.(25/25)
وللذكور في التظاهر أمام الإناث بجمال ريشها وحسن مظهرها عادات غريبة بل تكاد تكون مضحكة فهي تحاول أن تظهر كل قطعة من جسومها وكل زخرفة في ألوانها ومن ثم تتخذ حالات من الغرابة بمكان فترى الديك الرومي مثلاً يعمد إلى الانتفاخ مزهواً متكبراً وتشهد الطاووس يرسل ذنبه إلى آخره لكي يظهر كل بدائع ألوانه على أن من الطير ما يكره أمثال هذه المظاهر فيقف إزاء الإناث لا يأتي بحركة ما مرتقباً حكمها الأخير فيه وكل ما تسمع من أغنيات الطير في الربيع ليس إلا أناشيد يخطب بها الذكور الإناث.
فإذا تمت الخطبة عمد الزوجان إلى بناء وكر الزفاف وعلى الزوج أن يقوم بالعمل الأشق منه حتى إذا وضعت الأنثى بيضها رأيت من الطير الذكر أن ما يعمد عند ذاك إلى هجر زوجه وإغفال شأنها طائراً عن الوكر أبقاً من العش ومنها أزواج أوفياء تلزم البيض وتحرسه بل تأخذ على نفسها كذلك نقفه وفقسه وإخراج صغاره(25/26)
عالم الحرب
مصلحة البريد الجوية
فكرت الولايات المتحدة في استخدام ألفي طيار لنقل الأشياء الهامة المرسلة في البريد وذلك اتقاء ضياعها في البحار بعد أن رأت الأقيانوس محفوفاً بأخطار الحرب وغيلاتها وقد أجمعت على تحقيق فكرتها إذا بدأت منذ سنتين تصدر طوابع جديدة برسم الطرود مرسوماً عليها صور طيارات البريد.
الأوسمة الحربية للكلاب
اعتادت الجيوش أن تحشد مع رجالها عدداً غير قليل من الكلاب وقد جرى الجند على اصطحاب كلابهم إلى ميادين الحرب وقد لعبت الكلاب في هذه الحرب دوراً عظيماً لم تلعبه من قبل الحروب الماضية فقد استخدم البلجيكيون الكلاب في جر الأحمال والمدافع الصغيرة والذخائر الخفيفة وقد كان منها أن جعلت تمضي الأيام العديدة مشدودة إلى عجلاتها ومركباتها لا تذوق الراحة إلا كأسيادها الجند خلال الهنيات القليلة والكلاب في الجيش الفرنسي يقومون في الآرجون مقام الحراس على الخنادق والمرابط. وقد كان من ذكاء هذه الكلاب أنها إذا رأت أو أحست باقتراب العدو أو جواسيسه لا تعمد إلى النباح كعادتها عند إحساسها بمقدم غريب أو عدو أو طارئ بل استعاضت عن النباح بضرب خافت من العواء حتى لا يتمكن العدو أو الجاسوس من الفرار إذ هي نبحت وناهيك بما تؤديه الكلاب إلى جمعيات الصليب الأحمر من الخدمات والأعمال.
فلا عجب بعد ذلك إذا كانت الجيوش الأخيرة تنعم على كلابها عند البلاء الحسن بضروب من الأوسمة لا تختلف عن أوسمة الشجعان من الجند وقد أعطيت بعض الكلاب وسام صليب فكتوريا وهو من الأوسمة الكبرى في المملكة البريطانية وقد أبلى أحد الكلاب الإنكليزية في حرب الأفغان عام 1879 أحسن البلاء فطوقته الملكة فكتوريا نفسها الوسام الأفغاني بيديها.
كيف تتخاطب الغواصات
يندهش القارئ إذ يسمع أن الغواصات استطاعت أن تبعث بأنباء أعمالها إلى عاصمة الدولة التي تنتسب إليها والوسيلة الوحيدة إلى هذا التخاطب أن الغواصات متجهزة بجهاز(25/27)
لا سلكي بخلاف الأجهزة المعروفة وهذا الجهاز يتركب من عامود قصير ينتهي طرفه الأعلى ببالون أسير مشدود فإذا أريد إرسال خبر من الأخبار جعلوا البالون يفلت في الهواء ثم يطلقون من الآلة الكهربائية الباعثة سلكاً يجري إلى العامود فإذا تركت الآلة إلى العمود انتقلت إلى البالون الأسير بواسطة آلة مغناطيسية وهذه تنفذها إلى أحد مراكز التلغراف اللاسلكي الشبيهة بها في البلاد المطلوبة ويقال أنها تستطيع إرسال أنبائها على مسافة خمسمائة ميل أو ستمائة.
تأثير التبغ في الحروب
دلت الرسائل التي يكتبها الجند في ميادين القتال إلى ذوي قرباهم وأصدقائهم في البلاد إن التبغ للجندي في مرتبة الطعام والشراب وأن له أكبر الأثر في نجاح الحروب وخيبتها وانتصار الوقائع وفشلها وإن الجيش الأقل نصيباً من التبغ أقل نصيباً من النصر وقد تجلى هذا التأثير العظيم في الحرب السبعينية فقد أكد الإحصائيون الحربيون أن هزيمة الفرنسيين العظيمة كانت ترجع إلى قلة المناعم ولا سيما التبغ بين الجنود بينما كان الألمان لا يألون جهداً في إمداد جندهم بالمقادير الكبيرة منه وتأليف الجمعيات المتعددة لإرسال ملايين اللفائف إلى ساحة الحرب وقد أثبت التاريخ أن الضابط منهم كان يعدو في الساحة فوق جواده واللفافة في فمه وإن الجند كانوا صافين وذوائب الدخان تخرج من غلاينهم بل إن بسمارك نفسه كان قدوة للجنود فلم يكن ليرى دون لفافته وقد كان من عادته بعد انتهاء الموقعة أن يمر بين الجرحى وهم بين سررهم في المستشفيات فيفرق عليهم لفائف التبغ ويشعلها لهم بل إن مولتسكي الكبير أعترف في بعض تقاريره بأن التبغ من أوجب الضرورات له إذا أجمع على تدبير موقعة من المواقع.
هل تبطل المدافع ببطلان الحرب
الناس في أوقات الحرب عرضة لأن ينسوا أن للمدافع بقطع النظر عن التقتيل والتفتيت عدة من الفوائد لا تنكر وإن المدافع لن تبطل وإن بطلت الحرب إلى الأبد. فمن فوائد المدافع الخارجة عن حدود الحروب أن السفن لا تستطيع إعلان بلوغها الساحل إلا بإطلاق مدفع يؤذن بذلك وليس من الهين أن يستعاض عن ذلك بوسيلة أخرى تغنى غناء المدفع ومدفع الظهر هو أكبر الوسائل الممكنة لإعلان البلاد وإرباضها بصحة الوقت ثم لا تنس(25/28)
المدافع التي تطلق حداداً على الكبراء والملوك والوزراء وتلك التي تطلق احتفالاً بالأعياد الكبرى وجلوس الملوك ومواليدهم.
وهذا والمدفع تنقذ الأرواح كما تخطفها فإن في البلاد المقفرة الصحراوية حيث يصعب جمع المياه من رطوبة الرمال يستعمل الجند مدافعهم في إنقاذ حياة الهالكين من الظمأ وذلك بأن يطمروها في الرمال فتلتقط رطوبتها ومن ثم يتيسر للناس الشرب(25/29)
العدد 26 - بتاريخ: 30 - 4 - 1915(/)
المتشائمون
مقال جميل جليل متفائل - خليق بجماعة الساخطين على السكون والحياة وبكل من يهمه أن يعيش في هذه الدنيا عيشة راضية أن يقرؤه وينعموا فيه النظر ويعتبروا بما جاء فيه - لخصناه من مبحث ضاف طوال للفيلسوف الألماني ماكس نوردو
من كان يحسب أهرام مصر وحدائق سميراميس وبرج بابل وتمثال رودس من عجائب الدنيا فإن ثمت ما هو أعجب من هذه وأغرب أعني بذلك مذهب التشاؤم مذهب الساخطين على السكون والإنسانية والحياة عامة سخط المهموم الكاسف البال الذي قد أصبح من الوجوم والانقباض بمنزلة من لج في الشراب علا على نهل حتى نزح أربعاً وعشرين كأساً.
والتشاؤم نوعان طبيعة وتكلف والأول ضربان نظري وفعلي فخطة النظري لإغراق في نقد كافة مظاهر الوجود ذاهباً إلى أن السكون بناء سيء الصنعة لا يفضل أدنى مجهود من يد جافية خرقاء وأنه لا غاية لاستمرار الوجود ولا قصد وصاحب هذا الرأي يقف أمام هذه الآلة (أي الكون) الضخمة المعقدة حائراً يهز رأسه عجباً ويحاول عبثاً أن يتبين لحركتها الطائشة وسيرها المجنون أدنى أثر في نظام أو حكمة ثم هو يرى أن اليد المدبرة للكون ولأعظم ما يهمنا في الكون أعني الحياة البشرية إنما هي الصدفة وأنه ليس هناك قوة منظمة كقانون الواجب توجه مجرى الحوادث صغيرها وكبيرها فالفضيلة في كساد والرذيلة في رواج والبر خائب والفجور فائز.
والعقل محروم يرى ما يرى ... كما ترى الوارث عين المريض
فلماذا تستمر الحياة ولماذا يدوم الكون؟ أليس الأصوب أن يهدم هذا البنيان ويرجع إلى العدم الذي منه خرج ونشأ؟
غرور وغفلة ومذهب باطل ورأي فائل! وذلك أنه بني على الخطأ وقام على الكذب إذ جعلت مقدمته التي ابتدئت بها القضية هي تقديس العقل البشري وافتراض أنه أشرف الخليقة وأنفس نتائج الطبيعة وانه قادر على فهم كل ما هو كائن وأنه لولاه ما كان شيء وأن ونواميسه لا بد أن تكون أيضاً نواميس الكون اجمعه.
والحقيقة أنه لو كانت نواميس الكون هي عين نواميس العقل البشري أعني أن الذي يسير الكون ويدبره هو عقل مماثل في ماهيته وتركيبه لعقل الإنسان - إذن لصح لابن آدم أن(26/1)
يطعن في هذا الوجود ويمزق بلسان الذم أديمه ويرميه بكل عيب ومنقصة لأنه يكون إذ ذاك أهلاً للقذف والقذع وتكون أفعاله في الواقع خبيثة منكرة ويكون بحق ذلك الأرعن الأخرق المجنون آناً مسرفاً وآناً شحيحاً وفي جميع أحواله اعمى عن العواقب راكباً سبل الغواية طارقاً أبواب الفساد حتى لقد آن أن يضرب على يده فيجعل تحت رقابة أستاذ مؤدب وحكيم مهذب من حائزي أرقى شهادات الفلسفة من أكبر جامعات أوربا فالكون إذن مجرد من العقل والفضيلة وعليه إما أن يعتدل فيستقيم أو يتوارى فيخفى.
هذا لو كانت القوانين المدبرة للكون هي عين المدبرة للعقل الإنساني ولكن أيها الأحمق الضعيف إني لك الحكم بأن هذا هو الواقع وبأي حق تطبق على الكون وأحواله خطة النظر والاستدلال الخاصة بك؟ أليس من المحتمل بل من المرجح أن عجز الذهن البشري عن تفسير المظاهر الكونية وربما كان أشد من عجز مفتاح ساعتك عن فتح القفل المحكم من خزانة حديثة الطراز ومع ذلك فالقوي المتصرفة في إدارة كيان الإنسان قد تكون هي عين القوى المتصرفة في إدارة السكون كما إن القواعد الميكانيكية التي يقوم عليها تركيب قفل الخزانة المذكورة هي عين التي يقوم عليها تركيب ساعتك وإنما الأمر هو فرق بين شيئين أحدهما صغير جداً والثاني مفرط العظمة لا حد له ولا نهاية - أحدهما بسيط بالقياس والثاني متناهي التركيب والتعقيد ونحعن فلا نجد أمامنا بعد ما ينفي قول من يزعم أن للكون عقلاً شاملاً عاماً يعجز دماغ آدمي وأضيفت إليها القوى في هيئة حركة عصبية تولد عن ذلك جسمه والتي أهمها الأوكسجين والإيدروجين والآزوت والكربون والحديد والفسفور الكبريت والكالسيوم والصوديوم والبوتاسيوم والكلور توجد ايضاً بكثرة مفرطة خارج الجسم لبشري الحي وكذلك القوى التي بها تؤدي الأعضاء وظائفها الحيوية وأعني بهذه لقوى القوانين الكيماوية والميكانيكية كالكهرباء وغيرها من ضروب الحركة هذه أيضاً فعالة خارج جسد الإنسان فمن ذا الذي يجرأ بعد ذلك على القول بأن هذه العناصر لا يتولد عنها عقل إلا إذا تألفت على شكل واحد خاص - شكل الدماغ الإنساني والجهاز العصبي، أليس من المعقول بل من المحتمل أن شكل الجهاز العصبي هو شيء جاء من طريق الصدفة والاتفاق وأن الجزء الجوهري والركن الأساسي إنما هو العناصر المؤلفة للجهاز المذكور والقوى الفعالة في طيه وأن هذه العناصر والقوى قد تنتج أيضاً نوعاً ما من العقل(26/2)
إذا هي تفاعلت بكيفية مخالفة للخطة التي يدور على محورها نظام الكائنات الحية الواقعة تحت حواسنا.
أما الذين يرمون الدنيا بفساد الفضيلة فقد صح رأيهم لو ساغ لنا أن نزن العالم بمعيار الفضيلة المصطلح عليه بيننا. ولكن بأي حق نفعل ذلك. إن قانون الفضيلة عندنا لا يزال رهناً بالزمان والمكان يتغير بتغيرهما فهو في انتقاله من شكل إلى شكل وتحوله عن صورة إلى صورة كالأزياء واختلاف ضروبها. ففضيلة القرن التاسع عشر هي غير فضيلة القرن الثامن عشر ومحامد العصر الحاضر هي مذام العصر الغابر بل أن قانون الفضيلة في العصر الواحد تراه متنافر الأجزاء يناقض بعضه بعضاً فهو يعد القتل جريمة إذا وقع من الفرد ومكرمة ومأثرة إذا قامت أمة مسلحة فأوقعته جملة على أمة أخرى. وهو يعد الغش والكذب رذيلتين وتراه مع ذلك يجيزهما في باب السياسة وهاك أمة عظيمة راقية - أعني الولايات المتحدة - تخص السرقة والنهب بأصرم العقوبة إذا صدر عن الفرد ولكنها تتغافل عن هذين الجرمين إذا وقعا من الجماعات والمدن والولايات بإعلانها الإفلاس الكاذب وتزويرها على أرباب الديون. وقانون الفضيلة اليوم جد مخالف لما كان عليه في سالف العصور، وأكبر ظني أنه سيكون شديد المخالفة لما سيكون عليه في مستقبل الأيام. وبالإجمال فالفضيلة إنما هي بيان لتلك الأمور التي تعتبر ضرورية من وقت لآخر طبقاً لحالة الجنس البشري وهذا البيان يوضع في أسلوب أوامر ونواه أدبية وقوانين وقواعد أخلاقية. وبتدرج الطبع الإنساني في الرقي تتغير بعض مقتضيات نجاحه وتغير هذه يستلزم تغيراً في مواد قانون الفضيلة والرذيلة أعنى يتغير رأي المجتمع في ماهية الخير والشر - المحظور والمباح - الحسن والقبيح. أفمثل هذا الميزان المزعزع والمعيار المتقلب تقاس به ظواهر الطبيعة وتختبر حركات الكون؟ وهل شي لم يسلم بصحته السلف. ولن يقر بصوابه الخلف. يجعل قانون الطبيعة الأبدي. وناموس الكائنات الأزلي؟ أما أني لا أرى الفيلسوف الذي يسخط على الكون وينسب إليه الطغيان والجور وإلى خلقه الفساد واللؤم إلا كالفتاة الغرة التي قد ساءها أن ترى الجو محالف الزرقة فهي تسوم السماء أن تلبس كل يوم لوناً يلائم صبغة حليها وحللها وبغير ذلك لا تنال السموات رضاها.
إن فلسفة أرسطاليس القائلة بتشريف الإنسان على سائر الخلائق قد ظهر بطلانها في(26/3)
العصور الأخيرة وقد ألغيت وعفت آثارها. فليس من معتقدات هذا العصر وتعاليمه أن الكرة الأرضية هي مركز الكون ولبابه وسره. وأن الإنسان هو أقصى غية الخلقة ومنتهى مطمح الطبيعة وأن القمر ما أشرق إلا لينير حنادس ليلنا والنجوم ما انتظمت إلا لتنتثر في دواوين شعرائنا. على أنه لا يزال بين طلاب الفلسفة من يتمسك بهذا الرأي المأفون فيرمي الطبيعة بالسفه والحمق بحجة أن ذخيرة الفحم الحجري ربما نفذت يوماً ما من المناجم وأن بركان فيزوف قد أهلك جما غفيراً من الخلق وفيهم الفتيان والفتيات في ريعان الشباب وزهرة العمر. وأن آنسة أورليان أحرقت بالنار حية وقائد الأسويج جستاف أدولف قتل في واقعة لوتزين في أوج انتصاره وأن الحسناء المليحة كثيراً ما تقضي نحبها على فراش النفاس وتترك الفرخ الضعيف لا كفيل ولا حاضن.
وإذا كان من حق الإنسان أن يعتد محنه وبلاياه دليلاً على لؤم الطبيعة وأجرامها فلماذا لا يحق للمكروب أي الجراثيم (البكتيريا) مثلاً أن تعد ما ينالها على يد الإنسان من المصائب دليلاً على لؤم الطبيعة وأجرامها أيضاً، أرأيت لو أن للجراثيم فكرة فلسفية إذن لشد ما كانت تسخط على العالم وتمقت الطبيعة! وحقاً إن الدنيا هي حسب نظرها فاجرة لئيمة تزداد على ممر الأيام جوراً وطغياناً، فالمكانس الفظة والمذاود الشديدة البطش والأكسجين الغليظ الكبد والماء الساخن الفتاك تتآمر جميعها على إزهاق أرواحها وكل ما فيه رزقه وبقاؤها يزال فيلتف، وما أن يزال هلا من حامض الكربونيك عدو يحارب الحياة في أجسادها ويترك حركات المرح والنشاط منها رجات نزع ورعدات حمام يستوي فيها من هذه الجراثيم البار والفاجر والطيب والخنيث، وترانا مع ذلك نعد هذا العمل الذي تراه البكتيريا أو ما من الكون وطغياناً من الطبيعة نعمة كبرى وعملاً صحياً جليلاً جديراً أن يفخر به ويهنأ عليه.
وإني لأكاد أتخيل ذبابة من ذلك النوع الذي يعشق النفوس المحفورة في بعض أصناف العملة وغيرها من النقوش والتصاوير (وعشق بعض الذباب للصور ولرسوم هو ما تشهد به ربات المنازل ومدبرات البيوت) - أقول كأني بإحدى هذه الذباب قد صادفت في بعض رحلاتها ذلك التمثال الجسيم. تمثال بافاريا فماذا تري يكون موقفها إزاء هذا البناء الضخم وماذا تكون حيرتها وتعجبها وماذا يكون إنكارها واستهجانها؟ لاشك سترى الذبابة في هذا(26/4)
التمثال كتلة لا شكل لها ولا صيغة ولا مبدأ ولا نهاية ولا أدنى آية على عقل أو حكمة أو نظام أو مبدأ - وجانب من هذه الكتلة أنعم من خدود الحسان، وفي ذلك المكان انبعاج لا يهتدى فيه إلى أصل ولا فصل، ثم إذا قيض لهذه الذبابة أن تقضى أيامها في جوف هذا التمثال لكان من المرجح أنها تضع مؤلفاً ضخماً يتناول هذا الكون الذي يحتويها بجميع أصناف الهجاء والطعن تقرر فيه الذبابة المذكورة فساد خطة دنياها واختلال ميزانها ووضوح خرقها وبلهها، وحمقها وسفهها، موردة في سبيل ذلك من الأدلة كل دامغ قاطع، ومن البراهين كل ناطق ناصع، مما لا يدع في قلوب سائر الذباب من بنات جنسها أدنى مجال للشك في صدق قولها وصحة قضيتها، حتى لا ترى فرداً من سكان هذا العالم (أعني تمثال بافاريا) إلا قد راح مقتنعاً بصواب ذلك الرأي معتنقاً لذلك المذهب على أن الذبابة لم تصل بعد إلى الحقيقة ولم توفق إلا إلى الضلال والخطأ وهذا ما يمكنها معرفته من أحقر الكتب المعنونة دليل بافاريا.
لا لا! ما أحسب فلسفة التشاؤم إلا هازلة، وما أظن فلاسفة التشاؤم إلا مازحين، وكل ما فيها من الحق هو تأفف شديد من ضعف إدراكنا وعجز أذهاننا، فترى أحدنا يود لو يقف على سر تركيب الكون ولكن هذا ما لا يكون أبداً فلا جرم أن تجدنا نغضب ونغتاظ على الكون حتى نظل بحال الهمجي المتوحش الذي يتصدى لبعض الآلات الدقيقة التركيب من مبتدعات العلم ومخترعات المدنية يحاول حل لغزها حتى إذا أعياه ذلك وباء بعد الجهد الجهيد بالخيبة اشتد حنقه على الآلة فرمى بها إلى الأرض غضبان أسفاً، وكذلك الإنسان يحسب أنه سيد الكون ولكن الأيام لا تبرح حتى تريه أن سيادته ضيقة المجال قصيرة الباع فيضيق من أجل ذلك صدره ويسوء خلقه ثم ينفث غيظه في صورة نظام فلسفي يسميه مذهب التشاؤم وإذا كان ذلك كذلك فلم لا نسمي الطفل الذي يبكيه أنه لا يستطيع تناول القمر باليد فيسلوفاً أيضاً؟ غير أن الطفل يمكن شفاؤه من داء الفلسفة برشفة من العسل أو قطعة من الحلوى.
على أن من أحسن التفكهة وأمتع التسلية أن ترى هؤلاء الفلاسفة - فلاسفة التشاؤم - يعلم كيف يهتدي إلى المضغة السائغة واللقمة الطيبة الكريمة فهو الذي يعرف من أين تؤكل الكتف وأنه بعد الغلو الفاحش في ذم الحياة والحض على إعدام الجنس الآدمي واستئصاله(26/5)
تراه يختم بالزواج رواية غرامية ويظهر بعد ذلك رغبة شديدة في سائر مطايب العيش ومحاسن الوجود، فالفلسفة عند هؤلاء الفئة ضرب من لباس التشريفات يلبسونه في الحفلات الرسمية ليروعوا به نفوس المشاهدين من العامة ويهولوا بمنظره الفتان قلوبهم ويبهروا أبصارهم، ومن تحت الحلة الموشاة والثوب المطرز القميص المعهود من التيل أو الكتان.
وهناك فضلاً عن هذه الفلسفة النظرية الكلامية التي تترك صاحبها يأخذ أقصى ريه وشبعه من مناعم الدنيا صنف آخر من التشاؤم أعني التشاؤم الفعلي الحقيقي وأرباب هذا النوع لا يجادلون ولا يناظرون، وليس لهم مذهب فلسفي وقوانين مشروعة ولا شروح ولا تفاسير، فهم لا يحاولون أن يذكروا أسباب فساد الكون وخطأ سننه ونواميسه، وإنما يبغضون الدنيا من حبات أفئدتهم ويكرهون جميع ما تظل السماء. وتقل الغبراء، من سويداوات ضمائرهم ويرون أن قبح العالم ولؤمه واختلاله جديرة أن تغري الإنسان بالانتحار. أقول مثل هذا النوع من التشاؤم لا يقبل المناقشة والرد وإنما كل ما يستطاع أزاءه هو أن يتناوله الإنسان بالتحليل والتشريح للوقوف على أصله وعلته، فبإجراء هذا يعلم أن هذا التشاؤم هو أحد أعراض مرض العقل في بدايته أو عند بلوغ أقصى شدته، وقد شاهد الأطباء وعلماء النفس أن الجنون كثيراً ما يظهر في ابتداء أمره بحالة الماليخوليا (أعني الاكتئاب المجهول السبب) فترى المصاب يلازم الحزن والإطراق ويعتزل الناس ويرمي كل ما في الوجود بعين البغضاء والمقت، والسر في ذلك أن في عضو التفكير العقل خاصة مرعبة مخيفة وهي أنه إذا أخذت فيه عوامل الفساد تنبأ بما سيكون من جليل خطبه وهائل مصابه وكان له القدرة على تتبع مسرى الداء فيه والعلم بأن التلف مصيره والخراب مآله وهكذا يحصر العقل نظره في أمر اضمحلاله وانحلاله وتستغرق التفاته هذه الرواية المحزنة حتى لا يبقى لسائر أمور الدنيا من هذا الالتفات والنظر إلا فضلة خسيسة لا تريه من الدنيا وأشيائها إلا أشباه الأشباح الضئيلة، فلا غرو أن كانت الدنيا تتراءى لمثل هذا العقل المصاب مثلما تتراءى للعين الرمدة أعني عالماً مملوءاً تشوشاً واختلاطاً وظلمة، فشعروا التشاؤم والتبرم قد كانوا ولا شك مراض العقول، فالمشاعر لينو مات مجنوناً، والشاعر ليوباردي كان يشتكي علة في عضو التناسل قد عرفها الأطباء من أمراض العقل، والشاعر (هاين) بدت(26/6)
في نظمه آيات السخف والخلط لما أخذت علة فقاره تؤثر على دماغه، والشاعر (بيرون) كان فيه ذاك الشذوذ الذي تسميه العامة (نبوغاً) ويسميه علماء النفس (مرض الذهن) حقاً أن ذلك التشاؤم الذي ترى صاحبه يغمى عليه إذا هو أبصر حبيباً يغازل حبيبه وتراه يسكب الدموع لرؤية الشمس ساطعة في صباح يوم صحو بلا سبب ولا قصد ولا فائدة ولا سلوى - مثل هذا التشاؤم هو بلا أدنى نزاع مرض خبيث لا يتمناه امرؤ وبه ذرة من العقل.
والآن نسطر كلمة في التشاؤم المتكلف الكاذب وأربابه الذي يجعلون انتقاص الطبيعة وانتقاد العالم وذم الدنيا ذريعة إلى تمييز أنفسهم عن سواد الناس فترى أحدهم يرهف حد لسانه ويريش سهام القذف والهجاء ليقال ذو حنكة وتجربة قد خاض أهوالاً وغمرات، واقتحم أخاطاراً وعقبات، وتراه يردد الزفرات والأنات ليقال أنه من الفئة القليلة التي أفردتها الأقدار دون سائر الناس بالنفاذ إلى خبايا الأحزان، فمثل هذا التشاؤم ليس له علة فسيولوجية ولا سبب بسيكولوجي إذ لا أصل له إلا التصنع والرياء وأحسن ما تستقبل به صاحب هذا المذهب هو أن تغمز جنبه مداعبة وتناديه يقول الفرنس ويحك يا خبيث! (أو بقول عامة المصريين اطلع من دول يا لئيم).
وهنا ننتقل إلى نقطة أخرى وهي شكوى المتشائمين من وجود الألم في الدنيا فيا للضلال بل للجحود ونكران الجميل. أما أنه لو كانت الدنيا خلواً من الألم إذن لوجب على الإنسان أن يحدثه ويبدعه! فإنه لعمرك من أجزل حسنات الطبيعة وأجل آلائها! وهل هو إلا دليل على صحة الجهاز العصبي ودقة تركيبه وأحكام صنعه، وصحة الجهاز العصبي وأحكامه ودقته هي علة إدراك الملاذ واصل الإحساس بالمسار التي لا يجرأ امرؤ على إنكار وجودها في هذا العالم، فالكائنات الحية السفلى هي ضعيفة الشعور بالألم ولكنها أيضاً ضعيفة الشعور باللذة، أولاً يكون من المنكر أن يصبح الجهاز العصبي في الإنسان من حدة الشعور باللذة بحيث ينتشي أحدنا من عبق الأزهار ورنين الأوتار ونشيد الأشعار ودمية الحفار وهو مع ذلك من بلادة الإحساس بالألم بحيث لا تؤذيه الأرواح الخبيثة والضوضاء المزعجة والمناظر الكريهة، هلا سألت مفلوجاً مشلول أحد الشقين أو كليهما، أيسره ما هو فيه من عدم الشعور بالألم؟ نعم أن الدنيا لا تصيبه بأدنى أذى ولكنها لا تهدي إليه كذلك(26/7)
أدنى مسرة، وما هي إلا برهة من الوقت حتى تراه يود من صميم قلبه لو يصبح بحال تغشاه معها الآلام وتنتابه الأوجاع، وكم من مرة شاهدت المفلوج وقد نقه من علته يستقبل بأشد فرح والحبور عودة إحساس الألم لوخز إبرة، والألم هو نعم نذير الخطر وبريد الشر يؤذن باقتراب البلاء لنقوم للمكروه على قدم فنصده أو نراوغه، فحق علينا لذلك أن نعد الألم أصدق صديق وأحوط راع وكالئ ومصدر كل إحساس ممتع وشعور لاذ، إذ الألم هو الذي يبعثنا على مكافحة الشيء المسبب له وهذه المكافحة هي بمثابة أشد رياضة لقوانا العقلية وأقصي إجهاد لمواهبنا الفطرية والكسيبة وفي ذلك السرور الأعظم الأجل - أعني الفرح الذي لا يزال نتيجة إظهار فضلنا الكمين بالعمل وإبراز شخصيتنا، ولولا إلا لم لمْ تكد حياتنا تبقى لحظة إذ لا يكون معنا حينئذ ما يدلنا على عوامل البوار والتلف فننتقيها.
وبعد فإنه مهما سخط الساخطون على الدنيا فإنهم ليرونها مع ذلك مما يطاق احتماله، والإنسان بفطرته مجبول على الاستسلام - راضياً أو كارهاً - إلى ما ليس في وسعه تبديله، بل مجبول على إلفة ما قد يحيط به من المحتوم حتى يجد فيه ضرباً من المتاع واللذة، ويتعلق منه بسبب لا يحب أن يصرمه وعروة لا يرغب في فصمها فهو لا يبغى بقسمته بديلاً ولا يريد بحظه عوضاً، وإنما السر في ذلك أن النسيج الذي هو أساس حياة الإنسان والذي فوق رقعته يدبج الذهن نقوش الأحزان وتصاوير الأشجان - هذا النسيج هو التفاؤل لا التشاؤم.
ألا ترى المتشائم نفسه يسلم بجمال الطبيعة ويهتز ليوم الصحو تتألق شمسه في لازورد السماء ولليلة الأضحيانة يسري بدرها في حاشية الدراري، ومع كل ذلك فغنه لو هبط ساكن الزهرة فجأة إلى أرضنا هذه لأبصر نفسه في قفر موحش كله ظلام وقر، وذلك أنه لاعتياده في وطنه الضوء الباهر المعشى للبصر والحر اللافح المحرق للبشرة تراه إذا قام في أرضنا هذه أحس أنه في زمهرير وظلمة وبدت لعينه أبهج ألوان هذا العالم كامدة نافضة وأزهى أضوائنا كاسفة ضئيلة، وكذلك لو هبط إلى أرضنا ساكن زحل فقارن بين سمائه المشرقة بأقمار ثمانية وسمائنا ذات القمر الفرد إذن لأوحشه من أقفار خضرائنا وظلمتها قدر ما كان يؤنسه من لألا، خضراته الساطعة المنيرة لا تبرح أقمارها بين أفول وطلوع تتشكل في فلكها الرحب أشكالاً لا ترى مثله في سمائنا عين المنجم أو مقلة الساهر، ونحن(26/8)
مع ذلك لا نتوق إلى شمس الزهرة الوهاجة ولا ننزع إلى سماء زحل الباهرة وأقمارها راضين عن فلكنا المتواضع لا نريد تحولاً عنه إلى غيره وأن كان أشرف منزلة وأعلى قدراً، ولكن مالنا ولاستهباط الأمثال من العوالم العلوية والتحليق إلى الأجرام السماوية، بل حسبنا نظرة نحو الأقطار القطبية، أن في هذه البقاع أناساً يضرب المثل بطلاقتهم وبشرهم وبفرحهم وبمرحهم قد اغتبطوا بحالهم وسروا بعيشهم لا يكادون يحسبون أن في الأرض شيئاً أحسن من بيوتهم المغلقة بالثلج وأمتع من ليلهم السرمدي، وهم لو كان فيهم الشعراء لمدحوا قفارهم الثلجية المجدبة بما لم يمدح به شعراؤنا المنظر الأنيق من ضفاف وادي الرين والعيش الأفانين في ظلاله الرطاب بين ماء من اللجين وكرم من العسجد وبساط من الزمرد، وأن في سرور أولئك القوم بحياتهم الثلجية مضيعة لما ينتابنا من الخوف عند ذكر العصر الثلجي الذي يزعم أرباب مذهب البرودة أنه سيجيء في مستقبل الزمان، نحن إذا تخلينا هذا العصر الثلجي تراءت لأوهامنا أهله وكأنهم يلتحفون فرو الدببة جاثين إلى نار ضئيلة قد أذكيت من آخر بقايا الفحم يلقون شعاعها المضمحل بأبدان مضمحلة قد شفها السقم وبراها الضنى كأنهم لشدة الإحراق والحزن والقردة في المتحف الحيواني ببرلين، على أن هذه الصورة المتخيلة خطأ محض بدليل أنه إذا اتخذنا حياة ساكن الثلوج القطبية الاسكيمو معياراً نقيس به ما سيكون من ذريتنا أهل المستقبل الثلجي إذن لاتضح لنا أن هذا الجيل القادم سيكون أشد بني الدنيا سروراً وأكثرهم حبوراً، فسوف تقوم لهم الأعياد الهزلية (الكرنفال) والأسواق اليومية في ميادينهم الشهباء وسوف يطردون القر من مفاصلهم بآداب الرقص على أناشيد الشراب وسوف يلذون من زيوت الحوت ما تلذه أنت من الرحيق المختوم والعسل المصفى وإذا حضرت الوفاة أحدهم وتقلصت عنه ظلال الحياة قضى وهو مفتر عن نواجذه وأنامله مطوية على العدد الأخير من صحيفة العصر الهزلية.
وعلى الرغم مما يؤكده لنا الشعراء من أن الحياة ليست هي النعمة الكبرى والمتاع إلا كبر فقد نرى ونحس أنها لكذلك. وأنه ليس شيء أهول وأخوف من فكرة الهلاك - فقدان الشعور وفناء الشخصية. والموت آلم شيء حتى ولو تعدى نفوسنا إلى أنفس عزيزات علينا حبيبات إلينا. ولعل خير ما يتمناه امرؤ لنفسه وأهل وده من قريب أو نسيب أو حبيب هو العمر الطويل والأجل المديد وحده الأعلى هو مائة أو مائة وعشرون حجة. وأن(26/9)
قال الشاعر:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
وفي أكر من مائة وعشرين لا يطمع امرؤ في البقاء. فأخو المائة محسود ومن يغتبط في زهرة الشباب في العشرين أو الخامسة والعشرين يحزن عليه ويبكي فهذه الوجدانات وجدانات الأمل والحسد والحزن والرحمة التي تنبع من ثرى أفئدتنا عفواً لا نطيق لها رداً ولا نقداً إنما هي فيض الكامن العتيد في نفوسنا من التفاؤل.
أما رضانا بالمائة وعشرين غاية لأعمارنا فذلك لأنه قلما نرى ذلك الأمد يتجاوز ولو كان متوسط عمر الإنسان هو كعمر الغراب أو الفيل أو بعض أنواع السمك مشتى عام أو ثلاثمائة لطلب أحدنا أن يبقى هذه المدة ولساءه نبأ من يعلمه أنه قد قدر له الموت في سن أقصر من هذا مائة وخمسين سنة مثلاً مع أنه لا يطمع فيما فوق المائة والحال كما هي، وعلى عكس ذلك لو كان متوسط العمر البشري هو كعمر الحصان ثلاثين أو خمسة وثلاثين عاماً إذن لما رغب امرؤ قط في البقاء أكثر من ذلك ولأصاب الذي يموت في هذه السن من حسد الناس إذ ذاك قدر ما يصيبه في الحال الحاضرة من الرثاء والرحمة.
هذا ولو أنه قد حدث مرة - مرة واحدة - أن آدمياً أفلت من حبائل الموت إذن لأمل الخلود كل إنسان ولما طابت نفس امرئ قط عن الروح تفارق جسده ولو بعد ألف عام - ولرأي الناس في الموت إذ ذاك من الهول والبشاعة مثلما يرون في أفظع قتلة وأشنع ذبحة مما يتقيه كل فرد بأقصى جهده. فأما والخلود لم يعرف قط عن آدمي فليس من الناس إلا من طاب نفساً عن الحياة وأخلد لفكرة الموت راضياً مستسلماً غير متوجع ولا محزون قانعاً من دنياه بتأميل امتداد الأجل إلى أقصى الممكن من الغابات أو ليس من المستطاع أن يمتد عمر الإنسان إلى بضع مئات أو بضع آلاف؟ نحن لا نعرف برهاناً قاطعاً على استحالة ذلك. ولكننا على كل حال لا نطمع في هذا الأمر وما ذلك إلا لأنه ليس الواقع. أفمن الضروري أن تختم بالموت حياتنا؟ نحن لا نرى في ذلك ضرورة ولزوماً بالرغم من اجتهاد الأستاذين ويزمان وجوتي في إثبات أن الموت حكمة عليها تقوم أكبر مصالح الإنسان. ومع ذلك فقد ترانا نوطن النفس على فكرت الموت المرعبة ولا علة إلا يقيننا بأنه ضرب لازب والحقيقة أنه قد ركبت في طباعنا غريزة قبول القدر المحتوم بنفس طيبة(26/10)
وأحشاء مطمئنة ثم نعتق الفؤاد من رق التوجع لهذا القضاء وننفي عن ساحة الصدر ما عساه ينتابها لذلك من الهموم. وفي هذا بيان جانب من علة حدوث ما يسميه الناس (سرور المشنقة) أعني ما يعتري بعض المجرمين أحياناً من الابتهاج أثناء أخذه إلى مكان الإعدام. وهذه حقيقة لا يطعن فيها لتواتر شهادة الثقاة بصحتها فخاطب الموت يهتدي إلى التوفيق بين نفسه وبين الهلاك متى تشبع باعتقاد أنه قضاء بلا مفر منه.
وفرط قوة الأمل في الإنسان أنصع دليل كذلك على أنه متفائل لا متشائم. وهل تحسب أنه كان يوجد في الناس من يجرأ على الاشتغال بأية حرفة لولا ما ركب فينا من التفاول. وبيان ذلك أن السابقين المتفوقين في جميع الحرف والصناعات هم الشواذ النوادر. فالمرتقي إلى رتبة القيادة في الجيش واحد في المائة والمعتلي إلى منزلة الرآسة في الطلب واحد في المائتين أما الباقون فينبذون في زوايا الإهمال ويطرحون في ظلمات الخمول وغالباً ما يذوقون مرارة الأملاق والفقر وهكذا لا يزالون يصيبون من صناعاتهم محنها وآفاتها ويخطئون منها نعمها ومسارها حتى يغشاهم الموت. ومع ذلك فإن أحدنا إذا جلس يفكر في اتخاذ مهنة لم يخطر بباله شيء من آفاتها وسواتها ولم يدر بخلده حالات الخبيثة والتأخر وعددها كما قلنا تسع وتسعون أو مائة وتسع وتسعون بل كان ما يراه في المهنة المختارة هو الحالة الفردة الشاذة فيعتقد أنه لا محالة بالغها ولو كان الوصول إليها هو مما يراه الفطن اللبيب من أبعد الأشياء احتمالاً. وتلك هي حالنا في كل ما نحاول من المسائل. فإنه بالرغم من أن المآكل قد يكون للخيبة وقد يكون للنجاح بل ربما كانت الخيبة أشد احتمالاً ترانا مع ذلك نهجم على الأمر واثقين بالفوز. وإن العامل الذي يطرد من صدورنا وساوس الريب وينفي عن ضمائرنا هواجس الشك ويسبل الستار على النوافذ التي ربما شوهد من خلالها آفات المشروع ويعلق على الحائط صورة النجاح البعيدة الاحتمال، هذا العامل هو التفاؤل.
ولا يفوت القارئ أن ما قد ذكرناه من الثقة بالنجاح أمر مقصود على أغراضنا الذاتية وغاياتنا الشخصية فإذا وقفنا موقف المستشار الناصح لغيره في أمر اشتغاله بمهنة أو صناعة أو الحكم على مستقبله في عمل من الأعمال إذن لرأيتنا نستفرغ الجهد في درس المسألة درس دقيقاً ورأيت منا حذقاً عظيماً في استكشاف ما هنالك من العقبات والعراقيل(26/11)
والمصاعب وميلاً شديداً إلى سوء الظن بالعاقبة مما يثبط همة المستنصح المستشير، فما هي العلة في ذلك؟ هي أنه في مثل هذه الحال ينعدم ذلك العامل القوي - عامل التفاؤل الذاتي الكامن العتيد الذي من شأنه أن يقطع لسان العقل ويخرس صوت البرهان ويجري عملية الحساب كما شاء الميل والهوى، ولذلك ترانا نبصر العقبات والمشاق بعين جلية مع فقدان ذلك التحمس الذي يثور في الفؤاد لتذليل هذه المشاق بعين العقبات والذي لا يجده ولا يحسه إلا صاحب المشروع وطالب الأمر وهذا يرى فيما يحاول ويريغ خلاف ما يراه النصيح المستفتى، إذ النصيح إنما يرى من الأمر أحد جوانبه وليس يبصر طول خط الهجوم الذي تعده همة صاحب المشروع وعزمه لهزيمة الصعاب وبلوغ المدى.
وأقاصيص الجان وهي القوالب المفرغ فيها آراء العامة الأميين في الكون والحياة هي حجة مستمرة على عنصر التفاؤل في تركيب الإنسان. لقد ذكرت لك إخلاد الفرد لفكرة الموت واستسلامه لحقيقة الفناء، على أن الأمة تصنع ما هو أكثر من ذلك إذ تحول الشر المحتوم خيراً وتستخرج من السيئة حسنة فتخترع القصة ترمى إلى أنها منة وموهبة وأن الحياة الأبدية شقاء وبؤس، وهذا مغزى حديث اليهودي التائه الذي يجعله واضع القصة يشتهي الموت في شدة يأسه تخلصاً من الحياة فلا يجد إلى الهلاك سبيلاً، ومثل هذا مغزى الفكاهة الحلوة عن الرجل المسكين الذي بهره ثقل صليبه فابتهل إلى الله أن يعطيه به بدلاً، فساقه الملك الحفيظ إلى مكان فيه عدد جم من الصلبان بين خفيف وثقيل: ودقيق وجليل، ومرهف وكليل، فجربها جميعاً فلم يجد بينها ما يوافقه، حتى إذا كاد أن ييأس منها حانت منه التفاتة فأبصر صليباً منبوذاً جانباً فتناوله وجربه فألفاه أحسنها ملاءمة له، أيها القارئ حدثني عن مبلغ عجبك حين أعلمك أن الرجل وجد هذا الصليب صليبه الذي استقال الله منه! وهكذا لا تبرح الإنسانية تكرر في شتى الصيغ وفنون الأساليب هذا المعنى الواحد وهو:
لن يجد امرؤ أحسن مما قيض له والخير في الواقع وقد ذلك من رام من حظه بدلاً، وأن الأحدب - كما جاء في بعض الأقاصيص - يجد من حلاوة العيش مع حدبته وشوهته مثل ما يجد ذو الشطاط (2) مع حسن قده واعتدال قامته (3).
وخلاصة القول أن أساس الوجدانات البشرية هو تفاؤل راسٍ راسخ وطيد عتيد فالتفاؤل إذن هو اسم آخر لشعور الحياة وإحساس الوجود وقدرة الإنسان على التوفيق بين نفسه(26/12)
وبين الظروف والأحوال - تلك القدرة التي أولاها ما استطاع الإنسان أن يبقى - ورغبته في الإصلاح الباعثة له على التدرج في معارج الرقي، هاتان قاعدتا التفاؤل، وأنا لا أرى الهمم الصادقة المبذولة في سبيل بلوغ الكمال وتدليل ما يعترض في هذه السبيل من الصعائب والمشاق واقتحام العقبات ولا أرى التقدم والأمل والحياة إلا مرادفات للفظة تفاؤل ولقد أحسن الحكيم الروماني كل الإحسان إذ أودع في هذا اللفظ الصغير وهو لا يفارقني حتى تفارقني الروح فلسفة الحياة بحذافيرها، وأبرز هذه القاعدة البيولوجية الكبرى في إحدى حلل البديع.(26/13)
الشرائع الاجتماعية والسياسية
في الإسلام
يقول الدكتور جوستاف لوبون: إن الشرائع الاجتماعية والسياسية تختلف باختلاف الممالك والشعوب، وما يصلح منها ويستقيم في الأمة الواحدة قد لا يصلح ولا يستقيم في الأمة الأخرى، وما يقع موقع القبول منها في شعب قد ينزل منزلاً سيئاً مكروهاً في شعب آخر، وهذه الحقيقة تحتاج ولا ريب إلى عدة من الأمثلة والشروح لأنها لا تدخل سريعاً على العقل، ولا تنساب إلى الفهم، فقد يعترضها ما يبدو لأول وهلة حقيقة جلية مقررة، وهو أن الشرائع التي تنسب إليها عظمة أمة من الأمم خليقة ولا شك بأن تصير للإنسانية جمعاء مثالاً حسناً ونموذجاً طيباً مقرراً، ومن ثم فليس أحكم ولا أسد ولا أرشد من اختيارها لأمة أخرى، حتى وأن استوجب نشرها القوة والإكراه. . . وهذا هو الرأي الذي ظل زماناً طويلاً يجري في أذهان السياسيين والمؤرخين، ولا يزال يأخذ به حتى اليوم سوادهم.
ولكنا قد بدأنا نتبين ما وراء هذا الرأي وأشباهه من الأخطار والأضرار، ونحن لو تعمقنا قليلاً في دراسة حياة الأمم والشعوب، لوجدنا أن شرائعهم ليست إلا خلاصة عواطفهم وحاجياتهم الزمنية الموروثة التي خلقها ماض طويل بعيد وأن ليس من الهين أن نهذبها أو ندخل عليها من الإصلاح ما نشاء ونريد. . . وقد يقول لنا المؤرخون أن بعض المتشرعين أمثال موسي وليكروجوس وصولون ونوما وغيرهم قد سنوا لشعوبهم شرائع لم تخرج كل قطعة منها إلا أدمغتهم، ولم تكن إلا وليدة ابتكارهم ونتاج أذهانهم ولكنهم لو تبصروا لعلموا أن هذه الشرائع لم تكن في الحقيقة في شيء من ذلك، وأن ليس في الأرض كلها متشرع واحد يملك في يديه مثل هذه القوة العظيمة وأن أشد الفاتحين صولة وحولاً، وأن أعظم الانقلابات هدماً ونسخاً لم تستطع أن تعمل بهذه القوة إلا زمناً غير طويل، ونحن قد نستطيع ولا ريب أن نكره أمة على أن تأخذ زمناً ما بطائفة من الشرائع المختلفة جد الاختلاف عن شرائعها التي تعيش عليها كما نستطيع أن نريد حيواناً على أن يتخذ شكلاً من الحياة يخالف طبيعته وغريزته، ولكن سرعان ما يعود الماضي إلى نصابه، إذا رفعنا يوماً هذا الضغط، وأن الشرائع القديمة في الأمة لم تتجدد ولم تتحول ولم تتبدل وإنما جعلت تعود إلى الظهور وفي كل حين تحت أسماء جديدة، ولم يحدث ثمت أدنى تغير إلا في(26/14)
الأسماء والمصطلحات والموصوفات.
وقد يبدو لأول وهلة أن هناك عدة من الحوادث التاريخية، تناقض كل ما قدمنا ولكنا لو تعمقنا في دراستها وبحثها لم يلبث هذا التناقض الظاهر أن يزول، فقد يظن أن العرب مثلاً قد نشروا شرائعهم التي اشترعوها في شعوب تختلف عنهم كل الاختلاف ولكنا لو درسنا الأمم الأسيوية والإفريقية التي بسط العرب فوقها عقيدتهم وملكهم لرأينا أن الشرائع الداخلية في أكثر هذه الأمم لم تكن تختلف بعضها عن بعض إلا قليلاً جداً، وأن القرآن في الأحوال التي كانت تختلف فيها شرائع العرب عن شرائع الأمة المغلوبة اختلافاً جوهرياً، كالشرائع التي كانت عند المغاربة مثلاً، ولم يستعمل إلا نفوذاً ضعيفاً، غير مكره ولا قاهر، ولقد كان العرب أعقل من ساسة هذا العصر وعلمائه فعرفوا أن شرائعهم لن تلائم جميع الممالك التي فتحوها فأخذوا دائماً على أنفسهم أن يبيحوا الأمم المهزومة البقاء على شرائعها والاستمساك بأنظمتها وآدابها وعاداتها ومعتقداتها.
ولما كانت الشرائع - كما قدمنا - هي المعبرة عن حاجيات الأمة وعواطفها فما كانت لتتغير إلا إذا تغيرت هذه الحاجيات وهذه العواطف نفسها، وقد أظهر التاريخ أن تطور الحاجات والعواطف لا يكون إلا بعد سلسلة متطاولة من الطوارئ الوراثية والإحساسات المتعاقبة المتلاحقة، وهذه لا تكون إلا بعد تراخ من الزمن طويل، فإن بين البرابرة الذين أغاروا على الدولة الرومانية وبين أخلافهم وأعقابهم في النهضة العلمية فرقاً عظيماً، ولكن هذا التطور العظيم لم يحدث إلا بعد أن انصرف ألف عام، ومن ثم يتقرر أن النواميس التي يجري عليها تطور جميع الكائنات الحية هي نفسها التي يجري عليها تطور الشرائع الاجتماعية فإن بعض الحيوانات الحية التي كانت تعيش في أعماق الماء، في العصور الجيولوجية الأولى قد انتهت على ممر الزمن بأن اكتسبت الحواس والأعضاء الضرورية التي استطاعت بها أن تعيش في الهواء.
إن العوامل الهامة في تكوين الشرائع هي طبيعة الشعب، ثم الوسط، ثم وجوه المعيشة وأساليب الحياة، وطائفة أخرى من العوامل، أهمها الضرورة، وآخرها رغبة الناس، وللزمن وحده القوى الكبرى على تحديد هذه جميعاً، فإذا رأينا أمة تعيش على شرائع ظلت عليها الدهر الأطول، فلنا أن نقرر أن هذه الشرائع هي أشد الشرائع ملاءمة لها واتساقاً مع(26/15)
عواطفها وحاجاتها، وإذا كانت الحرية تصلح لبعض الشعوب فإن الأنظمة الجافة الصلبة التي يسنها الفرد المطلق قد تكون أفضل منها وأجدى على شعوب أخرى، ونحن خلقاء بأن نقتنع بهذه النظرية، حتى لا نتصور أن الشرائع التي استطاعت مجهودات القرون الطوال وتطوراتها أن تلائم بينها وبين حاجات إحدى الأمم، يمكن أن تطبق على حاجات أمة أخرى، إذ ليس من السداد ولا من رجاحة العقل أن تكره السمكة على أن تتنفس في الهواء، بحجة أن التنفس الهوائي عام بين الحيوانات، فإن في الوسط الذي تجد فيه ذات الثدي الحياة، لا تجد فيه السمكة إلا الموت.
وإن التراخي الزمني الطويل الذي تتكون فيه شرائع الأمم وتتطور يجعلنا لا نشعر بهذه التطورات إلا عندما يتصدى لتقريرها مشرع عظيم، ونحن ننسب دائماً إلى المشرع العظيم إنشاء الشرائع وخلق القوانين، على حين أنها في الحقيقة لم تكن إلا نتيجة فعل داخلي طويل، وليس للمشرعين من عمل حقيقي إلا أنهم يقررون للأمة عادات وآداب قررها شعور الأمة من قلبهم بعض التقرير، وينسخون ما أصبح منها عقيماً أو سيئاً أو ضاراً ولكنا لا ننكر أن لهم تأثير في الأمم هاماً عظيماً، ولكن تأثيرهم هذا مقصور على تقرير التغيرات لا ابتكارها، وليس لابتكارهم في الشرائع إلا أثر طفيف ضعيف. فهم حريون أن يقولوا قول المشرع صولون إني لم أعط الأثينيين خير ما يكون من الشرائع، ولكني أعطيتهم خير ما يستطيعون احتماله منها على أن هذه الشرائع الصالحة التي جاءهم بها صولون لم يستمدها من ذهنيته، بل من العادات والشعائر والآداب التي كانت إحساسهم ومعتقداتهم ورغباتهم قد شرعت من قبله في تقريرها.
كذلك كان شأن محمد، فقد عرف كيف يختار من بين شرائع العرب القديمة، شرائع كانت خيراً منها وأجدى على الأمة، ثم عمد إلى شرائعه التي اختار فكفل لها من سلطانه الديني ضماناً قوياً، على أننا لا نستطيع أن نقول أن شرائعه هدمت جميع العادات والشعائر التي كانت للعرب قبله، إلا إذا قلنا أن قوانين الاثني عشر لوحة قضت على جميع القوانين القديمة التي كانت عند الرومان، وإذا كان قد عرض للنبي أن يقضي على شيء من العادات القديمة، كوأد البنات مثلاً، فقد جاء تحريمه إياها تعبيراً عن رغائب وعواطف كانت قد بدأت تنتشر بينهم وتسود، ولهذا لم يلبث تحريمه لها أن وقع منهم موقع الاحترام(26/16)
والقبول.
وعلى هذا نقول أن شرائع محمد، - من الوجوه التي لا تتعلق بالدين - ليست إلا مقتطعات من شعائر وعادات كانت قديمة بين العرب، وهذا الشرائع المحمدية - ككل الشرائع الأخرى - تظهر لنا الحالة الاجتماعية التي كانت تعيش عليها أمة العرب، وإذا كانت كتب التاريخ لا تتعرض غالباً لدراسة شرائع الشعوب، فإن من الهين أن نخرج من معرفة الحاجات التي دعت إلى اشتراع هذه الشرائع، والأمور التي حرمتها، وتلك التي أباحتها، برأي صحيح عن الحالة الاجتماعية التي ولدتها.(26/17)
حضارة العرب في الأندلس
أقاليم الأندلس ومشهور بلدانها
تنقسم الأندلس إلى أقاليم عدة وفي كل إقليم من المدائن الكبار والقواعد الممصرة والقرى والحصون والقلاع ما يخطئه العد والإحصاء، ونحن ذاكرون هنا من هذه الأقاليم والبلدان ما لا بد منه للاستبصار بهذا القطر الأندلسي إن شاء الله.
فمن أقاليم الأندلس إقليم جليقية ويقال غليسية أيضاً وهو ناحية كبيرة تطل على البحر المحيط في أقصى شمال الأندلس من جهة الغرب - وصل إليه موسى بن نصير أوائل الفتوح، وغزاه لعهدنا هذا الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر أدام الله ملكه. وأشهر مدائن هذا الإقليم مدينة شانت ياقو أو ياقوب ومعنى هذه الكلمة بلسان الإشبانيين يعقوب المقدس لأن ياقو في لغتهم يعقوب وشانت معناه المقدس، وذلك أن يعقوب الحواري زعموا أحد الاثني عشر وأخصهم كان بالسيد المسيح جعل يستقري الأرضين داعياً لمن فيها وما زال حتى انتهى إلى هذه القاصية ثم عاد أدراجه إلى أرض الشام فمات بها وله مائة وعشرون سنة شمسية فاحتمل أصحابه رمته فدفنون في هذا البلد وبنوا له كنيسة هي عندهم بمنزلة الكعبة عندنا فيها يحلفون وإليها يحجون من أقصى بلاد روما وما وراءها.
ومن أقاليم الأندلس إقليم البشكنس وقشتالة ونبره وسردانية وألبه وقطالونية وأرغون وجميعها في شمال الأندلس خلف جبال وادي رامة التي تمتد بين مدينة قبره وبين مدينة سرقسطة وقد غزى المسلمون جميع هذه الأقاليم واستولوا على كثير من بلدانها كما سيمر بك في التاريخ.
وهذه الأقاليم هي أردأ أقاليم الأندلس، فإن أرضها قفر يباب هدف للبرد القارس والرياح الهوج والمطر الثر - أرض صالحة للمرعى ولكنها في كثير من أنحائها لا تصلح للزرع، ومن هنا لم يحفل بها العرب وإنما كانوا يغزونها من حين إلى حين رغبة في كسر شرة أهليها ومرغمة لأنوفهم، وقد جادوا بها للبرابرة الذين يمتلكون أكثرها لعهدنا هذا أعتاباً لهم وتقية لشرورهم. ومن بلدان هذه الأقاليم ليون وبرغش وبنبلونة ووشقه وبربشتر واسترقة تطيلة
وخلف هذه الأقاليم الشمالية للجنوب سائر بلاد الأندلس الحلوة الجميلة المريعة الكريمة(26/18)
البقعة الطيبة التربة الخصبة الجناب، المنبجسة الأنهار الغزار والعيون العذاب التي جمع الله فيها الشآم بطيبها وهوائها، واليمن باعتدلها واستوائها، والهند بعطرها وذكائها والأهواز بعظم خراجها وجبايتها، والصين بكثرة معادنها ودفائن ترتبها.
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
ومن هنا كانت كما أسلفنا مستبحرة العمران كثيرة المدن والقرى والحصون والقلاع حتى لقد أخبرتني ثبت ثقة أن بها ثمانين مدينة من القواعد الكبار وثلاثمائة ونيفاً من المتوسطة وأما القرى والحصون والقلاع والضياع فلا تحصى كثرة، ولقد قيل لي أن عديد القرى التي على نهر اشبيلية اثنا عشر ألف قرية.
لاحت قراها بين خضرة أيكها ... كالدر بين زبرجد مكنون
ولقد سلف لنا في الرسالة الثانية - وعنوانها من المرية إلى قرطبة - أنا كنا نجد في اليوم الواحد ثلاث مدن وأربعاً، وكنا لا نكاد نقطع فرسخين دون أن نرى الماء وحيثما سرنا نرى الحوانيت في الفلوات والصحارى والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والسمك وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة وهذا لعمري ما لا يكاد يوجد في صقع من معمور الأرض.
وهذه الأندلس الجنوبية التي نحن بصدد من وصفها يمكن تقسيمها إلى وسط وشرق وغرب، فالوسط فيه عدة أمصار لكل منها أعمال ضخام، فمن هذه الأمصار قرطبة وطليطلة وجيان وغرناطة والمرية ومالقة - أما قرطبة فهي سيدة بلاد الأندلس - وقد وفينا القول عليها في الرسالة الثالثة من كتابنا حضارة العرب في الأندلس - ومن أعمالها استجة وهي مدينة جميلة على نهر شنيل لها من الرساتيق ما لا يحصى وقد زرتها فبهرتني قنطرتها العجينة المبنية من الصخر المنجور وقد رأيت فيها من البساتين والحدائق والأسواق العامرة والمتاجر القائمة ما أخذ يلبي وإليها ينسب محمد بن ليث الأستجي المتوفي سنة 328 - ومن أعمال قرطبة قبرة ويتبعها رساتيق ومدن كثيرة ومنها محمد بن يوسف بن سليمان الجهني تخذه أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر إماماً في قصره وولاه بعد ذلك قضاء قبره مات رحمه الله سنة 372 (انظر بقية الموضوعات الأدبية بعد عالم الحرب).(26/19)
عالم العلم
ضؤولة العقل في الأجسام الكبيرة - تحليل علمي جديد
قد تقع على صنف من الناس، ضخم البدن، متين الأعصاب موفور الصحة كان يظن فيه العقل الوافر ولكنك تعجب لسخفه ورعونته وضؤولة عقله، ثم تعجب أشد العجب لتناقض المثل السائر القائل (العقل السليم في الجسم السليم) بإزاء هذه المشاهدات، والحقيقة أن ضخام الجسم هم غالباً فقراء العقول، وقد كشف العلم عن خافية هذه المسألة، وحللها تحليلاً علمياً مقبولاً.
يقول الدكتور مرسيير - وهو من أكبر الأطباء الثقاة في الأمراض العقلية - أن النقص العقلي ينشأ دائماً من وقوف نماء المخ بغتة، وهذا إما أن يكون راجعاً إلى استعداد طبيعي أو أن يكون أثر حادث خارجي، ولكي نظفر بعقول قوية يجب أن نعمل على تغذية الجسم تغذية كافية لكي لا يتلف المخ من الفقر البدني، ثم يجب أن نعمل تضطرد العناية بالجسم في كل أدوار العمر، فإذا انقطعت هذه العناية أجلاً معيناً فقد تمضي الحياة دون أن يرجع للمخ شيء من القوة، لأن اكتمال العقول هو نتيجة اكتمال المخ في سن معينة قد تختلف باختلاف الناس والأوساط والتربية والوراثة ولكن من المؤكد أن المخ إذا استكمل نموه واتخذ شكلاً ثابتاً وحجماً ووزناً ثابتين بدأ العقل يستكمل ثم تتسع حدوده باطراد العمر وتتم قواه.
ونمو المخ محدود مهما بلغ من الكبر وذلك بخلاف الجسم إذ لا حد لنموه، وهذه هي المسألة التي حلها العلم (إذا كانت وسائل التغذية في بدء تكوين الجسم مقصورة على البدن وحده ظل المخ فقيراً في نموه، وإذا تحولت كلها إلى إمداد المخ نما الجسم نمواً ضعيفاً، وقد تجد إنساناً معتدل الجسم صغير العقل، وذلك لأن تغذية بدنه كانت قليلة وآخر كبير الجسم وصغير العقل أيضاً، وذلك لأن كل الغذاء تحول إلى بدنه فافتقر المخ وآخر معتدل البدن وعقله كبير وهذا كان لمخه كل وسائل التغذية الصالحة، فضخامة البدن فوق المعتاد إنما تجور على المخ.
غرائب العمران
لعل أغرب مملكة في العالم جمهورية جبل (أثوس) تلك الجمهورية الهادئة الساكنة التي لا(26/21)
يزيد عدد سكانها عن ستة آلاف نفس كلهم رهبان من رعايا الكنيسة، وأغرب ما في أمر هؤلاء المعتزلة أنهم يقيمون حراساً على حدود مملكتهم حتى لا تخطو امرأة إلى أرضهم فتفسد عليهم طقوسهم وآدابهم وطهارة أنظمتهم، وأغرب من هذا كله أنهم يحرمون، على أنفسهم اقتناء الحيوانات الإناث وليس عندهم إلا الذكور من كل حيوان أو طير داجن.
وعاصمة هذه المملكة الصغيرة قرية (كرياس) تبعد قليلاً عن مدينة سالونيك وفي العاصمة ينعقد برلمان الجمهورية وأعضاؤه أربعة وعشرون راهباً ينتخبون من بين الستة آلاف، ورئيس البرلمان راهب ينتخب كل أربع سنوات، وللرئيس أربعة وزراء من الرهبان يسيطرون معه على شؤون المملكة ويديرون الحكومة تحت إشراف البرلمان.
ولم تكن الاضطرابات التي وقعت أخيراً في البلقان لتنتهي إلى هؤلاء المترهبين المنقطعين عن الإنسانية الصاخبة المزدحمة، وكل ما اتصل بهم أنهم خرجوا من سلطة الأتراك إلى سلطة اليونان. . . ولعل هذا المجتمع الغريب أبدع مثال للعصور الوسطى في هذا العصر.
قوة العالم على تغيير العالم
نحن لا نزال نئن تحت ثقل المدنية ولا نزال نتسخط ونرجو أن لا يطول للإنسانية هذا العمر المحزون المبدد المضيع - بلى. لم يستطع العلم إلى الآن أن يخفف من آلام الناس ولكن لا يجعلنا نيأس ولا يوقع في قلوبنا الشك في مستقبل النوع. ومهما يكن من نقص الإنسانية فإن العلم كفيل بأن يمشي بالناس إلى الكمال.
لما اخترع أديسون - العالم الكهربائي الكبير - آلة الفوتوغراف تنبأ نبوءات علمية لم يصدقها الناس يومذاك ولكنه آخذ الآن في تحقيق نبوءاته وقد اخترع أخيراً (التليسكريب) وهو مخترع يجمع بين التلفون والفونوغراف في آلة واحدة، ومزية هذا الاكتشاف الحديث أن طرق المعاهدات والتوصيات التجارية وغير التجارية اللفظية الكلامية ستتغير وتتبدل فإن هذه الآلة ستقلل من أكاذيب الناس ووعودهم وعقودهم وعهودهم اللفظية الفارغة الباطلة، فإذا أراد تاجر أن يقاضي عملاءه المماطلين الكثيري الوعود استطاع ذلك بأن يجمع أحاديثهم التي دارت بينه وبينهم في هذا التليفون الفونوغرافي فيأخذها إلى المحكمة وهو رابح القضية لا محالة إذا كان الفونوغراف أصدق شاهد.
هذا وقد تنبأ أديسون بأن العلم سيزيد خصوبة الأرض، وأن الناس سيستخدمون النيتروجين(26/22)
في التسميد وسيولدون الكهرباء من الهواء لاستغلال الطبيعة استغلالاً نافعاً، فلم يمض زمن قليل حتى نحقق كل ما قال، فإن هذه الوسائل العلمية الآن مستعملة في بلاد السويد فهناك يزرعون على الطرق العلمية ويستغلون بالعلم.
قال أديسون الآن صرنا بفضل العلم ذوي حواس خمس حقيقة، ولكنا سنتابع الارتقاء حتى نصير ذوي ثمان حواس! وهذه النبوءة ولا ريب محققة على مدى الأيام.
أغرب علاج. . لو صح
نرجو من قرائنا ومن الأطباء أن يجربوا العلاج الآتي ويكتبوا إلينا بنتائجه، لأنه لو صح لكان أغرب علاج عرف إلى الآن. . لقد استعصى الروماتيزم على الأطباء ولكن عالماً أميركياً قال أخيراً بعلاج جربه فصح، ذلك أنه تعاطي مقداراً من الجبير مذوباً في الماء، وإليك ما قال.
كنت أشكو الروماتيزم وقد أيست من أشافي الأطباء فخطر لي يوماً أن أتناول ملعقة من الجبير مذوبة في قدح من الماء فوجدت الألم قد خف كثيراً، ثم كررت هذا الدواء فزالت عوارض الروماتيزم تماماً، ولما كنت أنقطع عن اتخاذ الجير كانت تعاودني بعض الآلام فكنت أعاود استعمال الجير.
البيوت المتحركة
لعلنا سنذلل سيئات المدن، ونقتل أخطار ازدحامها - نعم ونتغلب على الأمراض التي تتولد من الزحام وضخامة الأبنية في المدن الغاصة الكبيرة الآهلة، فقد توفق أحد الفرنسيين إلى ابتناء شكل من البيوت يتحرك ويدور حول نفسه فيستقبل الشمس أيا ما اتجهت فقد وجدوا أن أغلب أمراضنا تفتك بنا لأن النور والهواء لا يدخلان بيوتنا فهذا النوع الجديد سيكون كزهرة عباد الشمس يستقبلها في كل ناحية تتولى إليها.
لماذا نعطس؟
هل من فائدة للعطاس؟ هذا هو السؤال الذي قد لا يجيب عليه كثيرون، لأنهم يجهلون التداوي بالعلاج الطبيعي، فالعطاس علاج للبرد فإن العطسة الواحدة ليست إلا هزة تعم الجسم كله ولا تقتصر على الأنف والرأس وحدهما، وفي أثر هذه الهزة ينبعث الدم بقوة في جميع شرايين البدن وبذلك تتغلب حرارة الهزة على تأثير البرد الدفين في أثناء الجسم،(26/23)
ونحن لا نعطس بأنوفنا إذ كانت رجة العطس تبتدئ في داخل الجسم وتنتهي إلى الأنف فتخرج هذا الصوت العنيف، وإذا مللت العطس وأردت أن تنتهي منه فتنفس بقوة مرتين أو ثلاثة فيزول العطس.(26/24)
شذرات عن الحرب
عشيقة بسمارك
رجل الدم والحديد يعشق
لا نريد أن نكتب عن بسمارك، رجل الدم والحديد - كما يسمونه - كرجل سياسي، عظيم الدهاء، مدهش التدبير، ولا كحكومي قوى السلطان، جبار العقل، بل جئنا لنكتب عنه من ناحية الجزء الروحاني فيه، من الناحية الإنسانية الحساسة التي تهزأ أبداً بحجج العقل، وتسخر من خشونة التفكير، ولا تستمع لقسوة العمل، هي عاطفة الحب - جئنا لنكتب عن بسمارك، ذلك الرجل الحديدي القاسي العملي كعاشق ذاقت روحه الخشنة لذة الحب، وليس في هذا شيء من العجب، فإن عاطفة الحب ليست إلا عاطفة روحانية عامة، لا حد لها ولا وسط ولا بيئة ولا صنف، هي تشمل الزنوج المتوحشين، كما تعم المتحضرين المتهذبين، وتنزل في القلب القاسي المغلق الأصم، كما تقع في الفؤاد المتفتح.
وأول حادثة وقعت له في حب النساء كانت وهو في السادسة والعشرين، جندياً حار القلب، مضطرم الوجدان، وكان قد خرج إلى ميترباد، بلدة صغيرة في النمسا من بلدان الحمامات المعدنية المشهورة، ولعله كان في هذه السن مغرماً بالنساء، ميالاً إلى مغازلة الحسان، جناحاً إلى التقرب إلى ظبائهن، فلما نزل ميترباد، جعل يمشي متنزهاً في طرقاتها ودروبها ومتنزهاتها، يتبع الجميلات ببصره، ويملي على العين من وجوه المليحات حتى إذا كان ذات يوم، والعام 1841، وأنه ليخطر في إحدى طرق المدينة، إذ وقعت عيناه على فتاة رشيقة ذهبية الشعر أثيلة الخد ناعمة الوجنة، حلوة الوجه مبتسمته فما كادت تقع عليها عينه حتى وقع معها قلبه، ومنذ تلك الساعة وهو مهتاج النفس، مضطرب القلب، حتى تبعها يوماً، وعرف مقرها، ثم تعرف بعد إليها.
وكانت الفتاة التي أسرت فؤاده تسمى جوزيفاً ابنة صاحب حمامات بلدة ميتر باد كلها، وغني من أوائل أغنياء مقاطعة التيرول بأسرها، وقد سره وقع موقع الغبطة منه أن اهتدى إلى أن الفتاة لم تكن تغضب من تقربه إليها، ولم تكن تشعر إلا بالإعجاب بمشرق وجهه الجميل ونجوي عينه العاشقة، فتشجع وجعل يلتقي بها كل يوم في ساعات معينة محدودة وقد بدأت الفتاة تلتهب حباً للفتى الغريب وبه إعجاباً.(26/25)
ومضى أسبوع، ومر أسبوعان، وهما يلتقيان ويجتمعان على خفية من السيد هولزنر، والد الفتاة وصاحب الحمامات، حتى إذا بلغ الحب من بسمارك شدته، وأعجزه أن يصطبر لحرارته، عزم على أن يفاتح والدها في الزواج، ويسأله يد ابنته، ولكن الرجل لم يكن يعرف أن في أثواب هذا الضابط الفتى الشاب، تلك العظمة الهائلة المخيفة الرائعة التي كانت ستتجلى بعد حين في أكبر جلالها، وكانت ستغير وجه التاريخ الإنساني الحديث بأجمعه، بل لم يكن يدري أن هذا الشاب الذي لا يحمل إلا اسم أرثر بسمارك، اسماً صغيراً عادياً، سيضع بعد قليل من الزمن لقب (البرنس) إلى جانبه وسينادي به في التاريخ رجل الدم والحديد، فما كان من الرجل إلا أن قابل سؤاله بأشد ما يقابل من القحة والأنفة والاستنكار، بل راح يهجم عليه بالشتائم والسباب، ويسمى هذا الرجل العظيم الجبار وقحاً، ودعياً، ورقيعاً وصرح له بأنه يؤثر أن يرى ابنته ملحودة موؤدة، على أن يشهدها امرأة دعي مثله، وعبثاً حاول بسمارك أن يحتج ويغالب ويدافع عن نفسه، ولكن أبى الوالد القاسي إلا أن يصر على عزيمته وانتهى الحديث بينهما بأن أشار الوالد إلى الباب، يريد أن يطرده!!!
وكذلك لم يكن يدري هذا الرجل أن في تلك الدقيقة التي أقفل فيها بابه وراء بسمارك، كانت هي الدقيقة نفسها التي فيه أغلق بيديه الشرفة التي كان سيطل منها على المستقبل الأبدي الخالد. . .
كيف تكتم أسرار الحروب
(اللورد كتشنر لا يأمن المتزوجين من الجند على أسرار الحرب!)
لا ريب في أن للحكومات خلال زمن الحرب عدة من الأسرار الهامة الخطيرة يجب أن تحرص عليها كل الحرص، وتعمل جهدها على كتمها، ولذلك لا تني تضع الوسائل المختلفة والطرائق الكثيرة، والأساليب الغريبة في الاحتفاظ بها من الذيوع والسرقة والانتشار، ومن هذه الوسائل أن الكتابة في الدواوين المختصة بهذه الأسرار والرسائل والتقارير الهامة فيها لا تجفف بأوراق (النشاف) المعتادة بل قد استعاضوا عنها بآلات مجففة تتألف من اسطوانات متحركة مغطاة بورق من النشاف مبلل بالمداد، أسود الأديم، حتى لا يمكن أن تنطبع الألفاظ والسطور على أديمها، لو كانت بيضاء، وهم في أغلب(26/26)
الأحيان يستعملون الورق النشاف الأسود بدلاً من الأبيض أو القرمزي، أما الرسائل البرقية الخطيرة فهم يستعملون في تطييرها رمزاً مفهوماً بينهم معروفاً.
وقد كان من عادة اللورد كتشنر في الحروب التي حضرها أن لا يأمن على أسراره الخطيرة إلا الأعزاب غير المتزوجين، حتى أنه في السنوات العدة التي قضاها في السودان يعمل على مهاجمة المهدي والغلبة عليه لم يجعل في ديوان حربه وكتماء سره رجلاً منهم متزوجاً فإذا أراد أحد الجند الذين في خدمته وديوان حربه أن يتزوج أمر اللورد بنقله إلى مكان آخر، وذلك مخافة أن يعجز عن كتم الأسرار الحربية عن زوجته!.(26/27)
العدد 27 - بتاريخ: 15 - 5 - 1915(/)
مستقبل العالم
مقال للفيلسوف الألماني ماكس نوردو يتنبأ فيه عماذا عسى يكون مستقبل الأمم نشرناه على علاته دون نقد أو تعليق.
على لوح الغيب وصحيفة المجهول أنقش بريشة الحدس والتخمين قصة المستقبل فإني كلما أرسلت الطرف في ذلك اللوح فألفيت فراغاً واسع الأنحاء صبوت إلى التكهن واهتز القلم في يدي وولعاً بأن يسطر في إحدى زوايا اللوح ما يوحي إليه التصور عن مستقبل العالم.
سترى الأجيال القادمة حل مشكلة القومية إذ تختفي الأمم الصغيرة الضعيفة وأقصد باختفائها أنها تفقد لغاتها الخاصة وشخصياتها كما حدث لأمة الفندال في لوزاتيا وميكلنبرج ولأمة الكلت في ويلز وبريتاني وسكوتلاندة. فيما سلف وستنضم الشعوب المتجانسة لتؤلف أمة فردة كبرى كما فعلت جرمانيا العليا والدنيا وكما فعل سكان بروفانس والفرنس الشماليون وكما فعل السلاف تحت قيادة الروس وكما شرعت تفعل اسكاندنيفيا وسوف نرى طوائف المهاجرين من أبناء الأمم العظمى إما هالكين وأما بمعونة دولهم متغلبين على أهالي المستعمرات فسائدين ثم ملحقين ببلادهم ما أحرزوا وما كسبوا. وسينجم عن هذا التزاحم العام وعن هذا التواثب والتكالب تشوش بين الأمم يلبث حيناً ثم ينجلي عن أقوى الأمم - وهي بضع قلائل - كاملة البنيان محكمة العقدة. وهكذا ينقص عدد الممالك في أوروبا إلى أربع أو خمس ولكنها دول ضخام كل واحدة منها ربة بيتها وسيدة منزلها قد نبذت أو امتصت جميع العناصر الأجنبية والمكدرة فهي لا تمد الطرف إلى ما لاصقها من الدول إلا بإشرافه الصديق الملاطف أو الجار المحادث. أما الحكم في فناء ما سوف يفنى من الشعوب بعد المعركة الكبرى وفي تاء ما سوف يبقى فليس إلى البرلمانات مرجعه ولا إلى كفاءات الأفراد من ساسة ولا إلى تقصير أو بلاغة أو عجز أو كياسة من أحد قادة الأفكار وزعماء الرأي بل قوة الشعب الحيوية الفطرية البادية في شتى صورها ومظاهرها كشدة الأبدان وقوة التناسل والتفوق في ميادين القتال والسبق في مضامير العلوم والفنون والآداب والنعرة القومية والحمية العصبية. ولست ممن يرى أن كثرة عدد الأمة أو قلته نتيجة الاتفاق والصدفة بل أرى أن مجموع أفراد الأمة هو في عالم الحيوان أحد الخواص الجوهرية - أحد مميزات الأمة. فزوال أمة الكلت من كافة أنحاء بريطانيا العظمى. وقصور أمة اليونان عن مجاوزة بضعة ملايين من الأنفس. وبقاء الألبانييين والباسك(27/1)
والمجر شعوباً صغيرة ليس له سبب سوى عجز هذه الشعوب عن بلوغ منزلة الأمم العظمى. لقد كان عدد الأمة الانكليزية في عهد الفرد إلا كبر مليونين من الأنفس ولعل سكان اسكاندينفيا في هذا العهد كانوا لا يتجاوزون هذا العدد. فاليوم قد بلغ سكان انكلترا أربعة وثلاثين مليوناً على حين أن جميع سكان اسكاندنيفيا لا يعدون ثمانية ملايين. ولا يمكن أن تكون الأحوال الجوية وطبيعية الأرض هي سبب هذا البون البعيد. بدليل أنه ليس هنالك فرق أساس في الجو والتربة بين انكلترا من جهة وبين الدنيمارك وجنوب النروج والأسويج من جهة أخرى. أضف إلى ذلك أن الانكليز لم يحصروا أنفسهم في جزيرتهم ولكنهم فاض فائضهم على وجه المعمور وعمر طوفان قوتهم الجم العديد من أرجاء الدنيا فاستعمروا من العالم أضخم جزئيه، وأجزل شطريه، وكذلك ليس إلى عوامل الجو والتربة مرجع هذه الحقيقة وهي أن في أوائل القرن التاسع كان عدد سكان فرنسا اثنين وعشرين مليوناً وهو الآن ثمانين وثلاثيون مليوناً إلى تسعة وأربعين مليوناً. فالفرنسيس أكرم تربة وأحسن جواً وأوسع متقلباً. ولكنهم قصروا مع ذلك عن مساواة الألمان في كثافة العدد. وعلى ذلك فمسألة العد راجعة إلى ظاهرة جوهرية وخاصة فسيولوجية متأصلة في الأمة من مبدأ أمرها وهذه الخاصة وأن أثرت فيها عوامل الدم الدخيل والأحوال المعاشية السيئة تأثير تبديل أو فساد إلا أنها تستعيدت مع صلاح الأحوال قوتها وتؤدي في النهاية إلى هذه النتيجة التاريخية المحتمة وهي أن إحدى الأمم تنتشر في مساحة فسيحة من الأرض وتزداد على ممر القرون عدة وعدة إلى أن تحكم القارات العظيمة بحذافيرها على حين أن قرائتها ولداتها في الصبا اللواتي لم تك تفضلين بادئ بدء يصبحن قد تبلدن وراءها ونكان ونيا ووهنا وفتوراً ثم لا يزال في تناقص وتضاؤل حتى يعدن خيالات لما كن من قبل أو يمتن فينقرضن البتة.
وكذلك يؤول الأمر إلى قارة أوربية خلاف أوربا الحالية - قارة أوربية قد وفقت إلى التوازن الداخلي الصحيح، وشعوبها القليلة الباقية قد بلغت من القوة والوحدة والمساحة أقصى ما يستطاع بلوغه ببذل غاية مجهود قواها الحيوية. حينئذ ترى إحدى الدول الأوربية تحترم الأخرى وتعدها ظاهرها مخلدة من الظواهر الطبيعية التي لا يعروها تغير ولا تبدل فهي أبدية سرمدية. حينئذ نعد الحدود بين الممالك أشياء ثابتة كالحد بين اليابس(27/2)
والماء. ولا يفكر روسي في غزو جرمانيا أو جرماني في دخول إيطاليا إلا إذا فكر عصفور في أن يعيش تحت الماء أو فكر حوت في الإقامة على رأس جبل، حينئذ تتوجه كل أمة إلى إصلاح شؤون معاشها وتحسين أحوال بقائها وإزالة كل عقبة تعترض في سبيل استرسال الفرد في جميع مناحي الرقي وبلوغه أقصى الغايات في كافة أغراض الحياة وتمنع من إدراك أسمى منازل الخير والسعادة للفرد والجماعة. ثم تتوسل أخيراً سواء بطريق الرقي السلمي التدريجي أو بالثورات العنيفة إلى أن تشيد من النظامات الحكومية والاجتماعية وتنشئ من نواميس المسائل والشوؤن المعاشية ما يعد في رأيها أو في رأي أغلبيتها أنه الأصلح. فالتوسع العظيم في استخدام قوى الطبيعة (الكهرباء والبخار والماء الخ) واختراع الآلات العجيبة يمكن الأمة من الاستغناء عن تسعة أعشار العمال المشتغلين الآن في المصانع فبفضل النظام الاجتماعي المؤسس على الشركات المسؤولة تتحول طوائف عما المصنوعات إلى طوائف لاستهلاك هذه المصنوعات أعني أن طوائف الصناع وأرباب المصانع الصغرى تخلو أيديهم من العمل بتعطل وظائفهم لمزاحمة الشركات إياهم فيصبحون هم الذين تعمل لهم المصنوعات ليستهلكوها بعد أن كانوا هم أرباب المعامل والعمال. وبناء على ذلك فإنهم يرجعون إلى المزارع والحقول ليستدروا بالفاس والمحراث أقوات الأمة من أخلاف الثري ويستمحنوا الطبيعة رزق اليوم فالغد والأمة في أثناء كل ذلك لا تزال ترقى وتكثر فتزدحم الناس وتكثف وتحتشد ويضيق مجال الفرد ويقل نصيبه من مساحة البلاد ويزداد معترك الحياة حرجاً وضنكاً ويشتد الكد والكدح فترتقي وسائل الزراعة وتربية الأنعام وتستحيل البلاقع القفار جنات ناضرة والأنهار والبحيرات صهاريج للسمك وتخرج الأرض من مكنون خيراتها ما لم يكن في الحسبان. ولا خطر في حلم وسنان. غير أنه كما قبل في الأمثال لكل سائلة قرار ولكل راكض غاية ولا بد أن تجيء ساعة يبلغ الفلاح منتهي مجهوده من الكد وتبلغ الأرض أقصى طاقتها من الجزاء والمكافأة وهنا تقوم مسألة التموين في وجه الأمة كشبح عفريت أو خيال جان - من أين يجلب القوت لأمة تكاثف على الإصلاح والرقي عددها وطالت بفضل تقدم العلوم والفنون أعمارها؟ كيف يرزق أولئك الجموع المحتشدة من صغار يحملون عنوان النجابة والفلاح وكبار يجودون بثمرة الفوز والنجاح؟(27/3)
لقد أصبح من ضروب المحال أن تتعدى الأمة حدودها فتفيض في سلام على جاراتها وذلك لأن الحال واحدة جميع أوربا ومشكلة إحدى الأمم هي عين مشكلة جارتها. وكذلك استعمال القوة لا يجدي ولا يفيد. إذ أن المدنية تكون قد ارتفعت في جميع الأرجاء إلى مستوى واحد وقد تشابهت العادات والنظامات. والمواصلات السهلة الرخيصة الجمة قد عقدت بين الشعوب للألفة والصداقة ألف ألف آصرة وعروة. حتى لقد يعن من أكبر الجرائم مد الأيدي إلى الأملاك الأجنبية - بل هو فضلاً عما فيه من الإجرام يرى ضروباً من المخاطرة الحمقاء والمجازفة الخرقاء. وذلك لاشتمال كافة الدول الأوربية على عين الأسلحة الفتاكة المبيدة وعين أساليب الدفاع والقتال، فإذا اشتبكت أمة مع أخرى في ساحة الوغى لتسلبها جزأ من أرضها فمعنى هذا أن الأمة المذكورة إنما تقدم فضلة أبنائها جزراً لحد الحسام وطعمة الفوهة المدفع وقرباناً لإله الحرب، وفضلاً عن ذلك فلن يكون ثمة بين الشعوب عداوة جنسية لأن استواء الأمم في التفقه والتأدب ودوام تبادلهم الأفكار والآراء يريهم أنهم أفراد أسرة واحدة، فكما أن إحدى المقاطعات من فرنسا أو انكلترا لا يخطر ببالها أن تشن الغارة على إحدى جاراتها من المقاطعات لتطرد أهلها وتستولي على أرضهم كذلك لا يخطر قط ببال أمة أوربية في المستقبل أن تفعل مثل هذا بإحدى جاراتها.
إذن فماذا يصنع لحل مشكلة التموين؟ هنا يتقدم إلى حل العضلة قانون معروف من قوانين الطبيعة، وذلك أن فضلة أهالي أوربا تفيض من القارة الأوربية في الاتجاه الذي هو أدنى مقاومة من غيره أعني تلقاء الأمم الملونة السوداء والصفراء والحمراء، وهؤلاء بحكم الضرورة يقضي عليهم بإخلاء أماكنهم للأمم البيض ثم يعقب ذلك اضمحلالهم فانقراضهم، فإن استواء طبقة الحضارة والمدنية الذي بفضله ترى الأمم الأوربية متشابهة متماثلة لن يوجد بين هؤلاء وبين الشعوب الملونة، فاستعمال القوة العديم الفائدة في أوربا يأتي بأجزل الفائدة وأسرعها في أراضي الأمم الحمراء والسوداء والصفراء، فينزل الأوربي بهذه الأقاليم في المنطقة المعتدلة التي هي أصلح المناطق له وأليقها به، ثم لا ينزل وراءها أبعد مما تضطره إليه الحاجة، فأول ما يستعمر أمريكا الشمالية واستراليا ثم جنوبي أمريكا وأفريقيا فيما يلي المنطقة الحارة، وبعد ذلك يستولي على ساحل بحر الروم الجنوبي وينفذ إلى الترب الكريمة من آسيا، فيحاول الأهالي المقاومة أولاً مثل يرون أن لا حيلة سوى(27/4)
الهرب، فيتقهقرون أمام الجنس الأبيض آخذين ثأرهم من أرباب الأراضي الذين هم أضعف حولاً وأوهن صولاً، يلقونهم بمثل ما لقوا من البيض المستعمرين، إلا أن أوربا لا تزال تنتج في كل جيل فضلة من الخلق المهاجرين فيرتفع بسبب الفيض الجديد عباب الاستعمار في بحاره، وتسمو عقب اليسل الأخير غوارب ذاك الزاخر الخضم في تياره، فيندفع متدفقاً في الأقاليم الحارة من أقطار الأمم الملونة مقترباً من خط الاستواء، وكذلك لا تلبث هذه الأمم أن تهلك فتفنى، على أن اندفاع الرجل الأبيض بعامل الجوع إلى خوض أحشاء الأقاليم الحارة واصطلاء جمرة القيظ في بقاع خط الاستواء ونزوله تلعات منابع الكونغو وضفاف الأمازون والجانج وهلاك الرجل الأخير من همج تلك الأحراج والأدغال تحت وطأة الأبيض ربما لا يكون إلا بعد مضي آلاف من السنين على أنه مهما تأخر أمر لا بد منه.
أفبعد ذلك تثبت الدنيا على حال لا تتغير؟ أيقف نمو الإنسانية وارتقاؤها؟ كلا إن تاريخ الدنيا دائم السير والحركة، وهو يجري متغلغلاً في ظلمات المجهول وغياهب الغيب، بل سيستمر الجنس الأبيض بعد وراثته الأرض واستئثاره بالدنيا على الرقي والنماء في أوطانه الأصلية بأوربا وفي المنطقة المعتدلة من سائر قارات الكرة، وسيتمادى في الازدياد والتكاثر ولا يزال يخرج له نسل يبتغي تحت ظل السماء مقيلاً، وفي مذاهب الأرض سبيلاً، وعلى خوان خيرات الله موضعاً، ولدى منهل اللذات مشرعاً ومكرعاً فعلى ممر العصور لا تزال تنشأ هنالك ضرورة الهجرة عن الأوطان وانسلاخ بعض الشعب والفروع عن أصولها، غير أن في هذا الحين لا يبقى على أديم الأرض شعوب منحطة يسهل اقتلاعها وإبادتها ويكون افناؤها غير مشفوع بالألم الحاد الذي لا بد أن يصحب اعتداء الرجل على أخ وصديق، فحيثما حللت من الأرض وجدت صوراً واحدة وأشكالاً واحدة، وفي كل بقعة لغات بعينها وآراء بعينها، وأخلاقاً متماثلة، وعادات متشاكلة، وفي كل مؤطئ قدم قام رجل من الأمم البيضاء فسجل على الثرى حق الملكية بأخاديد المحراث المشرفة وحفائر الفاس المقدسة فأين يذهب المهاجرون؟ وماذا تصنع المقادير بباقي السكان في أقدم مواطن الحضارة؟ أقول أنه لا يزال هنالك قانون فعال طبيعي يتقدم لتفريج هذه الغمة وتنفيس تلك الكربة، ذلك أن ذرية الجنس الأبيض التي نزلت عند خط الاستواء أو قرابه(27/5)
يعروها الانحطاط في هذه الأصقاع الحارة فما هي إلا بعضة أجيال حتى تراهم أمة دنيئة ونوعاً سافلاً ينزلون من إخوانهم الساكني البقاع المعتدلة منزلة الزنجي أو الأحمر من الأبيض، وهذه حقيقة لا ريب فيها فإن أوفر الشعوب البيضاء رجولة وأعظمهم فروسية ينالهم الاضمحلال في البلاد الحارة في ظرف أجيال قليلة فإذا هم لم ينقرضوا البتة بعوامل العقم والمرض فإنهم على كل حال يصبحون من الضعف والبلادة والجبن والغباوة بحيث لا نخالهم إلا خيالات لآبائهم وأجدادهم، كذلك مآل أولئك الفاندال الأقوياء الجسام الذين غزوا قرطاجنة رجالاً ضخاماً فلم يك قرن أو زهاؤه حتى أخرجهم البيزانطيون الأدنياء من تلك الديار نعاجاً وأنعاماً.
وهذه العملية بعينها تشاهد حتى اليوم في الأقاليم الحارة التي يستعمرها الجنس الأبيض، فلقد ذكر أحد الاختصاصيين أن عدد الزيجات التي وقعت بين ذكران وإناث من الجنس الأبيض في مستعمرة غينينا الفرنسية فيما بين 1859 و1882 هو أربعمائة وثمان عشرة فمئتان وخمس عشرة من هذه بقيت عقيمة، والمائتان والثلاثة الباقية أنتجت أربعمائة وثلاثة أطفال.
ومن هذا النسل أربعة وعشرون ولدوا أمواتاً، ومائة وثلاثون وثمانية هلكوا فيما بين عامي 1861 و1882 على أعمار متفاوتة، وعلى ذلك فإن مائة وواحد وأربعين ولداً هم جميع ذرية طائفة أوربية من المتزوجين عددها ثمانمائة وستة وثلاثون في مدة ثلاثة وعشرين عاماً، وما أفسدها مع ذلك ذرية، وما أحطها سلالة، وماذا عسى أن تقول عن نسل قصار دمام ضعاف عجاف صغار الهام، ضئال الأجسام، خلا عدة غير ذلك من النقائص والمعايب، والمساب والمثالب.
وهكذا نرى أن نازلي الأقاليم الحارة عرضة للانحطاط والتقهقر فلا يزالون يسلبون محامد السلف الصالح حتى لا يبقى لهم من آبائهم إلا لغة فاسدة وزهو بالنسب والمحتد فأمثال هؤلاء الضعاف الضئال لا يستوجبون من المهاجرين الأقوياء احتراماً ولا مودة ولا إنصافاً ولا رعياً لحرمة ولا وفاء لذمة.
لذلك لا يلبث هؤلاء الأقوياء الذين قد ضاقت بهم أوطانهم وشحت أرزاقهم وأقواتهم أن ينقضوا على أولئك الأصاغر الأدنياء فيفنونهم ويقوموا مكانهم ليكافحوا من ذلك الجو عدواً(27/6)
مبيناً.
وهكذا تصبح المنطقة الحارة الاستوائية تشغل في تاريخ البشر عين الوظيفة التي تشغلها في الدورة الجوية، فكما أن مياه القطبين الباردة تنحدر تلقاء خط الاستواء وهنالك تتبخر ثم ترد إلى القطبين في هيئة بخار وسحاب، وكما أن هذا التبخر يحدث بالمنطقة الحارة هبوطاً في سطح الماء لابد أن يسد القبطان بسيول جديدة من مياههما الباردة، وكما أن مياه البحار لا تزال هكذا في حركة دائمة والأنواء والأمطار في سائر أنحاء العالم تدبر وتنظم وأقصى بلاد الأرض تمنح الخصب والبركة فكذلك ستفيض في المستقبل فضلات الأقاليم الباردة والمعتدلة إلى المنطقة الحارة وهنالك تهلك فتتبخر ثم يحل محلها السيل الدائم الفيضان.
وهكذا سيكون خط الاستواء مرجلاً شنيعاً يذاب فيه لحم الإنسانية فيبخر، هكذا يقف أهل الأرض فضلة أبنائهم في حلق هذا الفرن المحتدم فيفسحون بذلك مجالاً لنموهم وسعيهم.(27/7)
جوسلان
أو
صفحة من فلسفة الحياة
ما كان الشاعر الذين يستعين بقوة خياله، ويستنزل وحي تصوره، لكي يلقي إليك بصورة مكبرة من عواطف الناس ووجداناتهم، ويطلع عليك بنماذج متخيلة مفتعلة من أخلاق العالم وغرائب طبائعهم، ليبلغ مبلغ الشاعر الذي لا تجد في ديوانه إلا ترجمة حياته، ولا تشتم من قصيده إلا رائحة حقيقته، ولا تقع على قطعة من شعره إلا كنت واقعاً على قطعة من روحه، ولا تقرأ جزاء من كتبه إلا كنت قارئاً جزءاً من تاريخه، وإنك لتتصفح قصائده فكأنما تتصفح أحداث حياتك، حتى لتشعر إذ ذاك أنك إنما تقرأ أفكارك وتشهد مشاعرك، وتحس ساعتذاك أن الشاعر إنما كان يكتب لك وحدك، أو كأنه كان يكتب عنك، وكأنما كنت تملي عليه خواطرك، وتعترف له بمكنونات عواطفك وأنت فلا تجد أمثال هذا الشاعر الصادق إلا قليلين، إذ كان أكثر شعراء الدنيا قوماً ثرثار مالقين كاذبين، يرسلون دواوينهم فلا يظهرون لك إلا أيدياً مرتعشة، وسوقاً مرتجفة، وعيوناً باكية، ووجوهاً كاسفة، وقلوباً دامية، وأنت بين ذلك لا تجد لكل هذه العوارض الشعرية أثراً في نفسك، ولا تحس لها لهيباً في عواطفك، وما أعجب إلا من أولئك الذين يقولون باستجازة الكذب للشعراء، فإن هؤلاء لا يريدون أن يفهموا معنى الجمال، وعندهم أن المرأة المتبذلة في مساحيقها وأدهانها، وكواذب حليها وخوادع يواقيتها تقع من نفوسهم موقع الحسناء الخفرة في أبسط أثوابها وحقائق تقاطيعها، وهؤلاء لا يضيرهم أن يدخل عليهم الشاعر بأكاذيب الحياة كلها، ما دامت في ثوب جميل، وظهارة حلوة، وصيغة مقبولة.
ومن بين شعراء العالم الصادقين المخلصين يقف الشاعر لامارتين فقد وضع كل روحه في أشعاره، واعتصر قلبه فألقى بخلاصته في كتبه وديوانه، فلا تقرأ له من رواية، ولا تستمع له من شعر إلا وجدت قلبه يطفر في خلال سطوره وأجزائه، هذه رواية روفائيل وهذه رواية جرازييلا وهذا كتاب الاعترافات، وهذه قصائده جميعاً وأبياته، لا تحتوي غير وقائع حياته ووصف عواطفه وآلامه ومباهجه وأحزانه، فهي من هذه الناحية كتاب الحياة البشرية كلها، وخلاصة ترجمة عواطف الجنس البشري بأجمعه، إذ كان البحث في تاريخ إنسان(27/8)
واحد، كما يقول الشاعر بوب هو البحث في تاريخ النوع الإنساني كله.
ونحن نعرب له منذ هذا العدد - بعد أن نقلنا في الأعداد الماضية ثلاث قصائد من أبدع قصائده - رواية جوسلان، وهي قصة شعرية مستفيضة، تجيش بكل معاني الحياة وفلسفتها، وتصف في أبلغ وصف ضؤولة الإنسان وحقارته، إزاء عظمة الأقدار الإلهية وقوتها، وكان الشاعر قد بدأ ينظمها منذ شبيبته، ولم يفرغ منها إلا في أيام كهولته، كان ينظم القطعة منها إذا التهبت فيه حرارة الشعر، ثم يتركها فلا يعاودها إلا في عاصفة أخرى من عواصف شاعريته، وليست رواية (جوسلان) هذه من المخترعات الشعرية ولا من نسيج الخيال، وإنما هي قصة واقعية استمدها الشاعر من تاريخ أسرته، وقد وقعت حوادثها في خلال الثورة الفرنسية، وكان لامارتين ولد قبل نشوب تلك المجزرة بثلاثة أعوام، أما جوسلان بطل الرواية، فهو قسيس من أهل الريف، وقد استمد الشاعر وصف خلق الرجل من قسيس صديق له، يدعي الأب ديمونت، كان من أهل بلدة ميلي، مسقط رأسه، وقد حشد فيها الشاعر كثيراً من ذكرياتها الشخصية، وحوادث حياته، وعواطف قلبه، وعدة من آرائه الفلسفية ومبادئه.
وقد قسم الرواية إلى تسعة أعصر ومقدمة وخاتمة، وجعلها مذكرات كتبها القسيس جوسلان في أيام حياته، ثم وجدت بعد مماته، وسنقتصر في هذا العدد على تعريب المقدمة والعصر الأول، ذاهبين في التعريب إلى شيء من التصرف، وسنوالي تعريب كل عصر منها في كل عدد من الأعداد القادمة حتى تكون قطعة كل عدد منها كأنها موضوع مستقل.
المقدمة
كنت صديقه الوحيد في هذا العالم بعد شائه وغنمه. . فغدوت إليه كعادتي في الكنيسة سعياً على القدم. . أسير صاعداً في طريق ضيقة، أحمل بندقيتي فور منكبي وأقبض في كفي على مقود كلبي، أتسنم متعباً تلك الروابي المشتبكة المتناوحة المتقابلة، مفكراً في تلك البهجة الحلوة التي سأنعم بها عند المغيب، إذ أطرق بابه، وأرقى درج سلمه، وإذ أجلس إلى ناحية من موقدته المشتعلة المتوهجة، وإذ أشهد الغطاء الأبيض الناصع قد أمتع فوق خوانه، وأرى المائدة قد صفت فوقها ألوان الخضر والفاكهة، متأملاً مجلسنا ونحن نتحدث تحت جنح الليل ونسمر، وكأنني أسمع صوته الحنون الرقيق، وجرسه الخفاق الناعم،(27/9)
وأحس كأن قلبه يشير إلى بالتحية، فإن اليد تعين القلب، إذا لم يتكلم اللسان، وعزت الألفاظ والعبارة.
فلما بلغت الرابية التي تشرف على ذؤابة بيته، ألقيت بندقيتي فوق صخرة هنالك غيراء، ووقفت أمسح العرق عن جبيني المبلل الذابل، ثم أرسلت الطرف في ذلك الموضع المنبسط الفسيح، فاندهشت إذا لم ألمح بين أشجار البستان وسرحاته قباءه إلا فحم الأسود، وكنت أعرف أنها الساعة المقدسة عنده، إذ يجلس وحيداً منفرداً في ظلال المغيب يقرأ في كتاب صلواته، وازداد دهشي إذ لم أبصر كعادتي ذوائب دخان ناره تصعد من قمة داره وما أخذ عيني من منزله إلا نافذة دون ضياء الشمس مغلقة، وطيف حزن عميق، وظل كآبة واجمة، فمرت فوق صفحة قلبي رعدة مؤلمة، كما ترتعد صفحة الجدول المتدفق الفضفاض ولكني لم أشأ أن أدع سبيلاً إلى رعبي، بل انطلقت في طريقي، موسع الخطي مسرعاً.
وراحت عيني تبحث عمن تسأله وتستفسر، فلم تر في تلك الحقول المقفرة الصامتة أحداً، لا إلا نعام ولا راعيها، ولم يقع في مسمعي عن كثب إلا صيحة الصراصير، وكنت من قبل أشرف على ضوضاء عظيمة وأصوات جهيرة عالية. . . وهبطت فطرقت الباب. . ولكن لم أسمع جواباً. . حتى كلب الحارس لم يأت على وقع أقدامي ودقاتي علوياً كما كان يفعل نابحاً، فضغطت على القفل بيد قوية غليظة مسرعة، ودخلت الفناء فإذا الدار ساكنة مقفرة،. . كلا، واأسفاه، بل أبصرت عند نهاية السلم المفضية من الفناء إلى صميم الدار، شبحاً أسود جالساً هناك كما يجلس السائل المسكين عند عتبة المعبد، لا يعير حركة، ولا يرفع طرفاً، قد دفن جبينه بين ركبتيه، وأخفى وجهه في وقاء ثوبه لا يخرج أنة لوا عولة ولا رنيناً، بل مشتملاً في ثياب سوداء متجهمة، وهنا قام في نفسي جلال الموت عند رؤيتي هذه الشارة الصامتة الخرساء، فدانيته وإذا بي أرى خادمة صديقي الشيخ تبكي مستعبرة قلت أحقاً ما تقولين يا مارتا، فنهضت على صوتي تمسح عينيها بأطرف أناملها، ثم أجابت نعم، هو الحق يا سيدي، هلا صعدت إليه فأنت مستطيع الساعة أن تراه، وأنا لدافنوه غدا عند مطلع الفجر، إن روحه الحزينة ستروح إلى ربها في هدوء وبهجة إذا أنت ودعتها الآن بآخر ضراعاتك لها وابتهالاتك، ولشد ما تكلم عنك في ساعة احتضاره، وكثر ما ذكرك، وجعل يقول لي، أي مارتا، إذا كان الله أراد أن يتوفاني إليه إذن فانبئيه عني أن(27/10)
صديقه قد ترك له كل متاعه، ليرعاك أن وطيوري وأنعامي وكلبي متاعه. .!. . يا الله. . . وهل كان أكبر فخره إلا أن يبذل كل متاعه، وأن لا يبقي على رفوف خزانته طعاماً ولا رزقاً. . ولقد كانت عنده فضلة من المال فصرفها درهماً بعد درهم في مطعمه وشرابه، وفي وجوه خير وإحسان يعرف الله خبرها. . ومنذ تعثر في علته الكبرى وهو ينفق كل ماله على الناس وحياته يا سيدي وروحه. . وها هو قد ظفر آخر أمره بالموت. . فقلت في أثرها. . . نعم. . . وبالسماء!.
وصعدت سلم البيت
وكانت الحجرة مقفرة خالية مظلمة، وليس فيها إلا شمعتان ضئيلتان، وقد ازدحمت فوق جبين الميت أشعتهما الرهيبة المحزنة وضياء المساء المتورد الذهبي وهو ينفذ من خلال تضاعيف النافذة، وكأنما يتقاتل عليها في عذاب الموت البريء الطاهر، نور الأمل الخالد وظلمة ليل الحياة الفانية. . .
وعثر صديق جوسلان على هدى خادمته مارتا في مخزن الكنيسة ببقايا مذكرات كتبها بقلمه القسيس الراحل، فنظمها ورتبها في الصفحات الآتية، وإن كان يتخللها صفحات بيضاء ضائعة.
العصر الأول
جوسلان الآن في السادسة عشر، وقد أحس في أعماق نفسه ببوادر الحب وطلائعه. . ولكنه لم يلبث أن علم أن أخته ستضطر إلى الامتناع عن الزواج ممن تحب لأن نصيبها من ميراث أبويها لم يكن ليكفل لها مهراً طيباً مقبولاً، وقد اهتاجت هذه الفكرة روح جوسلان، وكبرت في عينه فأجمع على تضحية نفسه ونصيبه من مال أبيه في سبيل هناء أخته. . .
18 مايو سنة 1786
هذا ما قلته اليوم لوالدتي - أماه. . إني أحس كأن الله يدعوني إليه ويستقدمني. . . أن التقوى العظيمة والإيمان الحي العميق، والظمأ الطاهر المقدس، إلى مناعم العالم الأقوم الأبقى، وهي التي اغتذيت منك طفلاً، أدرج في حجرك، وأرتع عند ركبتيك، قد بدأت يا أماه تخرج اليوم ثمرها، وإن كان ثمراً مريراً يا والدتي في فمك. . مريراً لشبيبتي(27/11)
وصبابتي، ولكن ما أعذبه على الروح، وما أسوغه وأبرده. . . أن ظل المعابد يستهويني إليه ويجتذبني، أريد أن أقف لله، وأنا في طراوة العمر، أيامي الآتية الذاهبة الفانية، كما توقف الآنية المطهرة لحياض المذبح، ليس في هذا العالم الأرضي ما يخدعني، وليس في الأرض ما يغريني، إني لا أريد أن أضرب خبائي في هذا الريح الأهوج الفاسد، ولا أريد أن ألطخ قدمي في مناكب الأرض وسيلها، حيث ترتطم القطعان الإنسانية وتنحدر. . . بل أني أؤثر يا أماه أن أنحرف عن منافذ هذه الدنيا فأتبع إذا أسفر الصبح طريقي الساكن الجبلي الموحش القفر، أوثر أن أجلس إلى ظلال جدران الهيكل، وأفياء أبنية المعبد، وأن أخلص بنفسي منذ شبابي الناضر إلى حضرة الله وقربه. . . إني أحس أنني لم أخلق لزحمة هذه الحياة وصراعها، حيث الناس يصرخون على مطالب العيش ويصطخبون ويتقاتلون. . إني أحمل روحاً لا نستطيع أن تقف هنيهة في ساحة هذه الحرب المتوحشة المخيفة، نفساً مفعمة بالحنان، وقلباً لا يدفع إلا نفساً صاعداً راجعاً، إني ولا ريب سأخرج من هذه الحرب قتيلاً، إن رفيقاً رحيماً، وإن متكبراً مزهواً عزيزاً، من النصر أن فائزاً منصوراً، ومن الهزيمة أن منهزماً مدحوراً. . أن العالم يا أماه ليس إلا مقامرة، وليست الحياة إلا مادة هذه المقامرة ولعبتها، وما أنا مستطيع أن أضع شيئاً فوق مائدتها ما أثقل عبء الحياة. . وما أشق رحلتها، وما أغلظ سفرتها وشقتها. . فخير لنا أن نقطعها مخفين من المتاع. . من الأحمال والأوزار، من الهموم والأطماع، ومن روابط الحب، وأواصر الحياة المتفككة الرثيثة الواهنة، من الأولاد والأعقاب، ومن المصائب والويلات والأحزان. . وإذن فأية طريق إلى وجه الله نأخذ، وأية سبيل إلى سمائه نصعد، فنحن إليه يومذاك أقرب وأسبق وإذا نحن توسدنا فراش التراب، واضطجعنا في أحضان القبر، فلا هم يجري في أثرنا، ولا عبرة تراق عند رحيلنا، أواه. . . لا ترفضي يا أماه أنشدك الله توسلاتي، ولا تمنعيني آمالي وأمنياتي، فأنت يوماً، لو تبصرت، مزهوة بتلك اللفظة التي تبدو لك اليوم وداعاً محزناً، وفراقاً شجياً مبكياً، وماذا أنت ترجين من الخير للطفل الذي يتضرع إليك الآن ويبتهل، إلا أن يكون السلام في الأرض مرتعه، والسموات العلي موطنه ومرجعه. . يا للرحمن. . حقير اسم المتعبد. . . وضيع لقب المتزهد!. . . أواه. . . لا تخجلي أماه منه ولا تأنفي فليس في الأرض أنبل منه اسماً، ولا أعز لقباً، إن الله الذي(27/12)
خلقنا وصورنا عرف وحده سر الحياة، ومعنى الأرض، فقسم الحظوظ بين أطفالها وأولادها فخص قوماً منهم بالتربة الخصبة يحرثونها ويفلحونها، وبالحقول يزرعونها ويبذرونها، وآخرين منهم بالبنين يحبون ويعزون، والنساء يعشقون ويتصبون، وهؤلاء وهؤلاء باللذة العاجلة المسرعة يحتسون ويرتشفون، وقوماً غيرهم بالضوضاء العظيمة إذ يخطون فوق الأرض ويخطرون ولكنه قال للقلوب المؤمنة الصابرة المتعذبة لا تأخذي من متاع العاجلة شيئاً فستنعمين غداً منه وتبتهجين. . . نعم يا أماه، إن الرجل المؤمن المتعبد هو الآنية المقدسة الموقوفة للقبة المشرفة العالية، لا تفسد ماءها خمرة الناس، ولا تقتل نميرها العذاب لذاذاتهم، أنه في صمته إزاء ضوضاء الأحياء كقيثارة المعبد إزاء كل المعارف والمصادح والأعواد. . لا تسمع صوته العميق المنفرد الخفاق يمتزج خارج المعبد بأشتات أصوات الأرض المبددة، وضوضائها العقيمة الضائعة. . أنه ليرسل وهو في هدأة المعبد صوته العظيم المتدفق المتموج، يحمل إلى عرش الله ترنيمة الطبيعة وأنشودة الإنسانية.
ولكن لعلك قائلة يا والدتي. . أنه يعيش وحيداً معتزلاً منئبذاً. . أن روحه لن تلتهب يوماً بحرارة الحب، ولن تتقد بلهيب المرأة، ولذلك ستذبل في هذه العزلة وتجف وستضق في الوحدة وتضؤل. . أنه لا يشعر بنعمة الأسرة، وبهجة حياة البيت، وسيقسو لذلك قلبه وييبس. . ولكن قولي أنه يجد في الناس بيته وأسرته، وسيجعل له من محاويج الأرض وفقرائها أما وامرأة وطفلاً. . أنزل الله على قلبه عطفه العظيم فأصبح كل من يرى يتألم، وكل من يرى يبكي ويتعذب، صديقاً له وصاحباً وعشيراً إذن فلا تخافي يا أماه ولا تظني أن حبي لك سيزول أو يفنى، فإن الله الذي أحب ليس رباً حاسداً غيوراً، وأن العهد الذي عاهدته سيقربني من جنابه ويدنيني. . ولكن لن يبعدني عن قلبك ولن يقصيني،. . . إذن فلا تمسكي شفتيك عني، ولا تنظري إلى نظرة حزن ويأس، ولكن قولي يا أماه. . لقد حقت عليك رغبة الله! قولي يا أماه ما قالت سارة لربها. . ثم باركيني!. . .
26 مايو سنة 1786
وبكت سبعة أيام، كما بكت في الجبال ابنة يفتاح وفي أثرها صويحباتها الفتيات والأبكار، وإذ هي تسأل الله أن يمهلها ليالي وأياماً تبكي فيها ربيع الشباب، ونضارة الجمال الوديع الجميل، ثم تذهب بنفسها فتقدم عنقها إلى المذبح، وكذلك بكت والدتي ثم قالت ليكن يا بني(27/13)
ما تشاء. . . . .!.
ومضت أيام فزفت أخت جوسلان إلى خطيبها، وفارق الشاب الدار ليدخل الدير. . . .(27/14)
الانحطاط
مقال مستفيض حار مؤثر تضطرم جوانبه اضطراماً كأنه نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. . . . لكاتب مصري كبير لم يشأ أن يذكر اسمه، ألم فيه بجميع ضروب الانحطاط المستبد بأخلاقنا وآدابنا وجميع معاني الحياة اليومية التي هي قوام الأمم وسياجها والتي ينهد بناؤها ويتقوض دون الاحتفاظ بها والتفوق فيها، ونحن فأنا نعتقد صدق ما جاء في هذه الكلمة من الحقائق، وكل ما يؤخذ على الكاتب أنه صرح بالحقيقية التي قلما يجرأ كاتب عندنا أن يصدع بها وإذا اجترأ كاتب على ذلك في الندرة أصاب من القراء سخطاً عظيماً وعدوه كأنه اقترف جرماً كبيراً.
ليس في أحط شعوب الإنسانية الموحشة الضئيلة الإحساس من عوارض دناءة الحياة وبلادة الذهن والوجدان ما في هذا الجيل المجرم، المتحدر إلى الموت، المتطلب للفناء، هذا القطيع المتشتت المتقاطع الذي لا نخجل من أن ندعوه بالأمة، ونناديه في العرف بالشعب. وليس يه من مدلول كلمة الأمة إلا ضرب قاس من التهكم، ومعنى مر من السخرية. نحن نعيش في أكبر مظاهر المدنية، وننعم بأبدع مستخرجات الحضارة، ونتمتع بآخر ما وصل إليه ابتكار العقل الحي من وسائل الترف، ولكنا إذا استقصينا روح الحياة نفسها وجدنا أنا إنما نعيش في أكثف أحراش القارة المظلمة، وتتقاتل على الطعام بأشد مما يتقاتل عليه الزنج وأشباه الزنج من الحيوانات الدنيئة، ولقد ساد الانحطاط في حياتنا فلم يترك ناحية منها إلا استبد بها فنحن واجدوه في الأسرة والمدرسة وفي الحياة العملية وفي أساليب التهذيب وفي كل ما تمتد إليه أيدينا، وكذلك نعيش عيشة متكلفة خداعة دنيئة، بل لقد اكتسبنا من تسويد الانحطاط عدة من الطبائع الغريبة التي أبادت ضروباً من الأنواع الحيوانية الأولى، ونحن مهما احتلنا لمخادعة الطبيعة القاسية التي لا تشفق على كل عنصر غير صالح للأرض، ومهما موهنا ورأينا وارتدينا شمائل الأحياء وظهرنا في مظهرهم فإن معاني الانحطاط والتقهقر تعمل ولا ريب في صمت، وتقذف بنا إلى هوة العدم والفناء، وليس ثم من شيء أعجب من خصائص الأوساط المتقهقرة والبيئات المنحطة، إذ كنا نحصن أنفسنا بكل وسائل اللؤم والجبن، والجمود من أن يدخل على حياتنا الضعيفة دليل من دلائل الإصلاح والانتعاش والقوة، لأنا نخشى أن نفيق من لذة الانحطاط وتخديره وبهجته، ولذلك لا نفتأ نقاتل النهوض، ونحشد قوانا لمحاربة المفكر، ونبتكر أحط أساليب اللؤم لتأييد التأخر(27/15)
والتراجع والفساد، وأصبحنا لا نستطيع نرى دلائل الحياة القوية الناهضة تقترب منا أو تدنو من أنظمتنا وآدابنا وآرائنا ومبادئنا، ولا شك في أن مؤرخي الأجيال القادمة سيحارون في إيجاد اسم جديد لهذا الانحطاط المدهش المخيف.
وبعد فإنا آخذون في شروح مستفيضة نتناول فيها بعض فروع هذا الانحطاط، ونصدع بالحكم الأخير على هذا الجيل المتراجع المتقهقر، وكذلك أبى التاريخ إلا أن يسجل العار على هذا الشعب المسكين، ويعطي لأبنائنا صورة تامة لأبنائهم، وكذلك يشيع هذا الجيل إلى المقبرة. . . ويدرجه في صمت وحزن وألم. . . .
1 - انحطاط الآداب
إن أكبر مقياس تقاس به روح الأمة وعقليتها ومبلغ ما يجري فيها من دلائل الحياة والإحساس هي مجموعة الآداب التي تتجلى في تواليفها وندواتها وصحفها وكل وجوه تفكيرها، وما كانت دراسة الآداب التي نعيش في أمة من الأمم إلا دراسة لحالتها الاجتماعية، هي بحث مستفيض في مقدار عقليتها وحيويتها، وليس الشاعر والكاتب والمفكر والخطيب إلا النبض الخفاق الذي تستطيع أن تلتمس فيه شعور الأمة أو خمودها، وليست قصيدة الشاعر إلا مظهراً من أكبر مظاهر الحياة للوسط الذي خرجت فيه، ولهذا كان التطور في الآداب هو في ذاته أكبر تطور في الاجتماع وكان العمل على النهوض بالآداب هو العمل على النهوض بالحياة، إذ كانت الحياة الإنسانية المتحضرة تعيش على الفكر أكثر مما تعيش على الخبز، وفي تهذيب الفكر تهذيب لأساليب العيش، وليس هناك أجدى على الأمة المتأخرة المتقهقرة من العمل على تغيير قيمة آدابها، لأن الآداب يجب أن تتجدد كالأزياء، يجب أن يقتل القوى منها الضعيف، ويخنق الصالح منها الفاسد، وليس في الحرب الخفية الناشبة بين الأدباء وأهل الفنون إلا أكبر عامل على تنقية الآداب ورقيها، لأن ما يجري على الناس من التنازع على الحياة يجري على آدابهم من التنازع للسمو والانتصار.
وأنت فلا تجد وسطاً من الأوساط ينحدر ويتقهقر إلا إذا قذف بالآداب - وهي خلاصة الماضي وروح الحاضر ومبلغ ما أخذ الناس من العقل والإحساس بالحياة - إلى هوة الغفلة والتهاون والاحتقار، وليس الفارق الأكبر بين المتحضرين وبين الذين يعيشون في طفولة(27/16)
الحياة إلا الجزء التفكيري في حياة المتحضرين، إذ كان المتحضر يعيش بروحه أكثر من معدته. وكان المتبربر رجلاً لا يضيره أن يغالب الحيوانات كلها على رزقها، وأن يفوتها في صلابة التركيب، ووحشية البدن، ولا يفوته أن يدخل في صف الفصيلة القوية الضخمة منها، وما كانت الأمة التي لا آداب لها إلا خليطاً من الأنعام يعيش في غفلة وذهول، ويمشي إلى العدم والانقراض.
ومن ثم فهل يكون الاقتراح الذي جاء أخيراً في شأن الآداب وأنصاف أهلها دليل حياة قوية تختلج في جسم هذا الوسط الخامد النائم. الذي جعل من الكتاب والآداب وكل ما يتعلق بأسباب التفكير شارة خجل ومعنى تافهاً ضئيلاً. . أترانا واجدين بعد هذا الركود الطويل والجمود القاتل أن العقل انتصر على الحماقات. وأن روح التطور والرقي غالبت قوة الانحطاط الذي ركمته فوقنا الأجيال المستطيلة المتلاحقة وأيدته العادات الحمقاء الفاسدة.
نحن قد قتلنا النبوغ وقضينا على فضيلة التفوق. . تلك هي خلاصة السلسلة الطويلة التي تلحقنا بالماضي وتربطنا به. . . حلقة متراخية من الآباء والأجداد. متلاشية فإنه ليس لها من الشأن إلا أن نذكره نحن ثم نصمت. . . وكذلك نؤرخ من أعمارنا طائفة من القرون مرت خرساء صامتة.
والآن. . . هل نعيش، وهل لنا سمات الأحياء ودلائل الوجود، وهل تجيش فينا حرارة الحياة وقوتها وأطماعها وكبرياؤها. . .
لقد تعاقب علينا خمسون عاماً ونحن نعمل أعمال المتحضرين، ونطبع أنفسنا على غرارهم، لنا صحافة وأدب ومدرسة ومعهد، ونشأ فينا أديب، وراح منا أديب، وقام كاتب وتولى كاتب، ولكن أين نحن من حياة النهوض والسمو والقوة، بل لقد قتلنا النبوغ، وطبعتنا الحياة المتقهقرة بغرائز المتقهقرين الكامنة في أعصابنا، فقد شئنا إلا أن يكون لنا مظهر الجماعات العاملة المتمدنة، ولم نكن ندري بأننا نستر لؤم الطبيعة المتكسبة البلهاء وراء أنظمة وطقوس كاذبة. . . أردية من الزور والتمويه والباطل نسميها آداباً، وما كنا لنخجل من أن نجعل من الأديب والكاتب ما يجعل الزنج من الكهنة والسحرة والعزامين، كنا ولا نزال نتطلب رقياً أدبياً ثم لا نفتأ نقتل في الأدباء كل فضيلة طيبة، فنرسلهم شرداً ونطاردهم ونعسفهم، ونريدهم على اللؤم، وكذلك أنشأنا من المفكرين والأدباء طائفة من(27/17)
المسترزقة، وكذلك عشنا بمعد المتمدنين وعقول البرابرة.
ثم هم يريدون الآن أن يعمدوا إلى المدرسة ليتخذوا من التلاميذ وطلاب النجح زعماء تفكير وآداب عقلية راقية، وكأنهم لم يعملوا أن المدرسة قل ما تخرج رجلاً واحداً متفوقاً في صناعة من الصناعات، نعم بذلك ستكثر المدارس من عداد المتعلمين والناجحين في الحياة، ولكنها لا تعمل مطلقاً لتهذيب الفنون وخلق النبوغ، أو ليس تطلبنا من المدارس نوابغ الأدباء والكتاب إلا كتطلب الأمم من حكوماتها نوابغ السياسيين ومهرة القواد والحاكمين، في حين أن أرقى الحكومات لا تستطيع أن تخلق سياسياً عظيماً واحداً، وأن الحكومات كلها ليست إلا عمل أفراد نوابغ، هم منحة الطبيعة، وخلاصة التقدم الذي لا ينهض على الأنظمة المشترعة الموضوعة، ولكنه نتاج عقليات كبيرة، وأذهان مفكرة، وإرادات عاملة، ومبادئ قوية، وهل كانت المدارس إلا حظائر مهذبة لتربية النوع الإنساني، وإعداده لأن يعيش ويفتن في أساليب المعيشة، ثم تجود الطبيعة لا المدرسة بفرد واحد فيغير على كل وجوه التهذيب في الأمة فيمسخها. . أن النابغة أكبر من الأمة كلها. . . أكبر من القرون والشرائع والمبادئ والمدارس. . . هو الخلود.
أنريد أن نتطلب العظمة التاريخية من بين تلك الجدران التي يسمونها المدارس، وفي الأمة ذلك الوسط الفسيح الكبير نوابغ تقتلهم غباوة الشرائع وجهل القوانين وغفلة الأمة وتجعلهم دواعي الرزق ومطالب الكسب مغمورين مضيعين، ثم لا نظفر من وراء كل هذه المجهودات المتكلفة العمياء إلا خسارة التاريخ نفسه، يقولون أن الطبيعة ضنانة علينا بالنوابغ ولكن لمّ لا يقولون أن معاملتنا للنوابغ هي نفسها تعجيز للطبيعة واستئصال للنبوغ. . إننا نرتقب ظهور الرجل الذي قد يكون مظنة الخير فلا نزال نغري به حتى نلحقه في زمرة العدادين والحاسبين ونسجل اسمه بين القعدة والمتكسبين، وكذلك في خمسين عاماً لم نستطع أن نظفر برجل فاضل كبير، لأن مبادئنا لم تكن على شيء من الفضل، ولم تكن فيها قوة السمو وفضيلة العظمة. . .(27/18)
حوادث البلد
الوزير الجديد
إن مقاعد الوزارات كالمقاييس الزئبقية، تجري مع أحوال الجو. وتتقلب بتقلباته وتهبط أو ترتفع مع هابطات درجاته ومرتفعاتها، فقد يطلع اليوم عليها بجو ساج هادئ ولكن لا يكاد يغيب اليوم حتى يقصفها من السياسة عاصفة هوجاء قاسية، ولذلك كان المقتعدون مقاعد الوزارة كالجالسين فوق كراسي المصاعد الكهربائية ليس أسرع من حركات صعودها وهبوطها، فقد كان الشهر الماضي شهر الاستقالات الوزارية، فاستقال فنزيلوس - أو كما يسمونه جراي الثاني في اليونان، واستقالت الوزارة في إيطاليا، وأوشكت الوزارة أن تستقيل في انجلترا، وبوغتت الأمة المصرية باستقالة وزير من وزرائها. . .
هذا وقد وقعت خيرة الحكومة المصرية لمقعد وزارة الأوقاف على حكومي كبير عرفه الشعب في جميع الوظائف التي أسندت إليه، رجل حاد لروح، حي الوجدان صريح الكلمة، يجري في جميع عمله على مبدأ احترام النفس، والإخلاص إلى العمل والعمل في صمت وهيبة وسكون، ويستمد من الروح الجندية التي فيه روح النظام المتين التام المتماسك، وروح القوة العملية التي لا بعتاقها شيء من مغريات الضعف والتلكؤ والتكاسل وبرودة الإحساس، فأنت لا تراه في عمل من الأعمال إلا رجل عمل يحترم كل ما يعمل لأنه يحترم نفسه، ويقدر المنصب المسند إليه لأنه أشد الناس تقديراً لشخصيته. . ونعني به صاحب المعالي إبراهيم فتحي باشا وزير اليوم ومدير الأمس.
ولقد كان عهده في مديرية الغربية من أشد العوامل في تطهير أدرانها من عناصر الضعف ومهلكاته، إذ كان الرجل الكبير الشخصية إنما يرفع إليه العمل الذي يعطاه ويأبى أن ينزل هو إليه، وكانت الأعمال لا تسمو بنفسها بل بالقائمين عليها وليس تأثير الحكوميين على المناصب إلا أعظم من تأثير نفسها عليهم، ولهذا نتوقع أن ستكون وزارة الأوقاف تحت هذا الوزير الجديد في طليعة الوزارات انتعاشاً وسمواً وقوة، وقد كنا نريد أن ننشر للقراء صورة حقيقية من أخلاق هذا الرجل الكبير وآدابه ومميزاته لو لم يضق نطاق هذا العدد دون ذلك ولكنا موافو القراء بها في أحد الأعداد القادمة. . .
الإصلاح الاقتصادي الكبير(27/19)
اقتراح فليني فهمي باشا
إن من أكبر ما نعاني من ضورب الارتباك والفساد في حياتنا الاجتماعية أمر تدبير المال وطرق الاقتصاد والتنظيم وجوه العيش إذ كانت المسألة الاقتصادية في هذا العصر هي الأساس الذي تقوم عليه كل حضارة قوية ناهضة وليس الفارق الذي يفصل شعباً عن شعب ويميز عنصراً من عنصر، إلا مقدار ما بينهما من قوة الاحتفاظ بالاستقلال في العمل ومعرفة أساليب الاستثمار ومناهضة العوامل التي تجوز على الحرية الشخصية فتقتلها، وقد بدأنا نفقد شخصيتنا يوم فقدنا استقلالنا في المسائل المالية بل لقد كانت الغلطة المالية الأولى هي التي وضعتنا تحت ظروف مرة قاسية وأصابت مجموعنا بالشلل الاجتماعي وجعلت منا عنصراً مستخذياً مرتبكاً في أمره. ولهذا كان البحث في تدبير المال وابتكار أساليب الإصلاح فيه أكبر عمل يمكن أن يفيد شعباً منتشراً عليه أمره مثلنا وكان المصلح الذي يتوفر على هذا العمل من أكبر الإصلاحيين الاجتماعيين.
ونحن فإذا قلنا أن الاقتراح الذي صدر في هذه الأيام من ناحية عطوفة قليني فهمي باشا من تنظيم الديون والعمل على الاستقلال الاقتصادي من أكبر المشاريع الإصلاحية الحاضرة فلا نقول شيئاً كثيراً، وهو إذا تم على وجهه فأنا ولا شك ظافرون بخير الإصلاحات التي ترفع عنا نير الماليين والعاملين على سلب كل قوة فينا.
وهذا المشروع على خطورة شأنه وجليل أثره في حياتنا سهل ميسور مع بعض التضحية والنشاط، وخلاصته أن تضرب على كل فدان ضريبة مقدارها خمسة قروش لمدة خمس سنوات، وتعفى من هذه الضرائب الملكية التي لا تزيد على اثني عشر فداناً وبذلك نستطيع أن ننشئ مصرفاً مالياً وطنياً أكبر عمله إسعاف البلاد بفوائد قليلة.
ولم نعجب من شيء عجبنا للمناهضات والمعارضات التي جاءت تصدم هذا المشروع الحيوي الكبير وتخطئ الوجه المفيد منه ولكنا نعلم أن المعارضة والتخطئة خلق ركب فينا يريد أن يهدم أكبر مجهودات أذهاننا ونعلم أيضاً أن قوماً يرتزقون من وراء المتاجرة بالتخطئة والمعارضة التي يمكن أن تغتفر في الشعوب الناهضة الحية ولكنها في شعب فقير لا يزال في أول مدارج الحياة تعد أشد العوامل في تأخره وتعطيل كل مشروع مفيد وليس الصحافي الذي يجلس وراء مكتبه ويناول كل فكرة بالاستنكار إلا رجلاً مأجوراً على(27/20)
مقاتلة المبادئ الصالحة الكبيرة الأثر.
هذا وربما عدنا إلى هذا الموضوع وبسطنا وجوه الرأي فيه من مخالف ومحبذ ونشرنا رأي الباشا الأخير مكتوباً بقلمه في الأعداد الآتية.
حول جمعية الهلال الأحمر
من بين الفكر الإنسانية الصالحة التي أخذها الشرق اليوم عن الغرب وتبعه في العناية بأمره واستنداء الأكف والقلوب والسواعد والأرواح إلى عونها وغوثها، فكرة إسعاف جرحى الحروب ومواساتهم وضمد جراحاتهم والاحتيال لتوفيرهم على النوع الإنساني والاجتهاد في رد قوات الحياة والنشاط والعمل التي كانت ستفقدها الإنسانية بفقدهم، وهذه الفكرة تعد من أحسن حسنات العالم المتحضر وأبلغ ما انتهت إليه وجدانات الأمم والشعوب ونحن لا نزال نسمع كل يوم بنبأ الملوك والأمراء والأكابر والكتاب والعلماء، بل والأميرات والكاتبات وفضليات السيدات وخلاصة أهل الجنس اللطيف، مسارعين جميعاً إلى أسرة الجرحى يمرضون ويطببون ويأسون، ويرضخون بالأموال والأعطية والأكسية والأطعمة والعقاقير، وليس من شك في أن جمعيات الصليب الأحمر كانت في هذه الحرب القاسية الموحشة المفترسة أكبر عامر على تخفيف خسائر الجنس البشري من جرائها وتلطيف ما يخيف من قسوتها ونكرها.
ذاك وليست جمعية الهلال الأحمر التي قامت في هذه البلاد بأقل أثراً في خدمة العالم من أخواتها الجمعيات الغربية الأخرى، فهي أبداً مخلدة إلى عملها السامي الشريف دائبة على الإخلاص في واجبها الروحاني العظيم، ولعل الفضل الأكبر في جلالة أعمالها لا يقع إلا لرجل واحد، اشتهر من قبل بين طبقات هذه الأمة بسماحته وكرم روحه وجود يده على كل فكرة أو مشروع أو مهمة يستمد الناس منها حاجهم من غذاء النفوس واطمئنان القلوب واستثمار الأذهان، وتهذيب المدارك، وقتل آلام الحياة، والتغلب على هموم العيش، والظهور على عناء السعي وراء الرزق ومنهكة الكد لسد الرمق، من مدرسة أو معهد أو مسجد أو ملجأ أو دارغوث أو أشباه هذه جميعاً، ذلك هو وكيل هذه الجمعية، والعضو بالجمعية التشريعية، صاحب السعادة حسين واصف باشا الرجل المحسن الكبير. فهو لا يرى في الموطن العظيم إلا عظيم الروح، متدفق الإحساس، فياض اليد والقلب، والناس في(27/21)
كل عصر أحوج أبداً إلى المواسي والمطعم والمثقف والمربي والمرض والطبيب والعائل والوصي والقيم، لأن قسوة الحياة تريد أن تصرع كل من لا يشبعها ويواتيها ويصدع بأمرها ويقومن على مطالبها ورغائبها. فإذا اجتمعت كل هذه في فرد واحد، وكانت روحه تنطوي على ألف رجل لكل واحدة منها، فهو ولاشك عائش يد الدهر في أذهان الناس وحبات قلوبهم وهذا هو أسمى ضروب الخلود الإنساني، لأنه جاء من ناحية الحياة نفسها، ولأنه جعل الناس ينتصرون على الآلام والجهل والهموم ومتاعب الوجود، وهي كل ما يقتل الروح، ويخنق النشاط، ويستأصل جذور الراحة والهناء.
كذلك يجب أن يعمل الناس، وعلى مثل هذا يجب أن يتزاحم سراتهم. . .
رجل عظيم
يحيي ذكرى أديب
إن في تكريم رجل من أهل الآداب والاحتفال بذكره بعد موته لمعنى يلقي الروعة والإجلال في قلب كل المشتغلين بالفنون ويدخل على كل أديب العزاء والنشاط والأمل، ولكن أروع من ذلك وأجل وأعظم أن يكون العمل على إجلال الأديب صادراً من غني وجيه رب أموال وفضل وأعمال ومكانة مرموقة لا تحتاج إلى الشهرة أو الإعلان، فلئن كانت فكرة تأبين المأسوف عليه جورج زيدان رائعة وجميلة فإن أجمل منها أن يكون سعادة ميشيل لطف الله بك ذلك الرجل النبيل الإحساس، العظيم المبدأ، الكبير الثراء، الذي يرجح في اعتقادنا بألف غني من أغنيائنا والذي يحق للعرب عامة والسوريين خاصة أن يفخروا به الفخر كله والذي أعاد بأعماله المجيدة ذكر المأمون ومعن بن زائدة وأمثالهما من أجواد العرب ومعضدي العلم والأدب صاحب الفكرة والقائم في رأس المحتفلين لها. . . وما ذاك إلا لأننا نعيش في عصر مقفر مجدب من الأغنياء الكبرى النفوس، وإن اختنق بكثير من المتمولين اللؤماء الشعور، المثلجي العاطفة، ومن الصيارفة البارعي الحيلة في الحشد والكنز، والطائفة الكبيرة صاحبة الجاه المزور المموه الأجوف وأن في ظهور رجل غني عظيم المبدأ، متوقد العاطفة بين أرباب الفنون لحادثاً تاريخياً كبيراً وظفراً للمفكرين المتألمين الغرباء في هذا البلد المائت المحتضر.
وليست أمراض الجيل ومساويه ومخازيه الإنتاج فقر الأغنياء من كل معنى جليل وأثر(27/22)
نافع، بل لقد كنا في حياتنا الأدبية أعرف الناس بنفوس الأغنياء وقوة برودة العواطف فيهم، نعم نحن الضحية الكبرى في هذا العصر الأشل، نعرف عن أصحاب الأموال ما لا يعرفه الجمهور، لطالما عرفنا فيهم فقر الإحساس وجمود الذهن وبلادة النفس وانحطاط الضمير والبلية الكبرى على الآداب وسائر ما يتعلق بها ويكون منها الخير لصالح المجموع.
وما كان التشنج الاجتماعي والفساد والفقر والجمود التي تشوه وجه الحضارة وتعوقها وتقتل فضائلها إلا نتيجة، الارتباك الذي يوقعه الأغنياء في صفوف المجتمع بفضل أموالهم - فإذا ظفرنا برجل كبير فاضل نبيل الروح يأبى من جميع جهاته إلا شرفاً وكرماً وهمة ومروءة وإحساساً خفاقاً مثل ميشيل لطف الله بك فإنما نظفر بالحجة الدائمة على الطائفة المثرية الدائمة التخريب الجامدة الأثر، التي تتمتع بمناعم الحضارة كلها وتأبى أن تعمل لها شيئاً.
فإن قلنا رحم الله ذاك الأديب فإنا نصرخ اليوم بكل قوى العواطف المخلصة الشاكرة - ليحي الرجل العظيم، نصير الآداب المتمرد على المتمولين المشرق الصحيفة بين طائفة كل تاريخها أسود مظلم خبيث. . .(27/23)
عالم الحرب
الجنرال جوفر
قائد جيوش الحلفاء في الميدان الغربي للحرب
لئن كان هذا الاسم يغدو كل يوم مع أنباء الحرب وصحفها، ويروح مع بلاغاتها ومنشوراتها، فإن القراء بعد لا يعرفون إلا قليلاً عن قوة هذه الشخصية الكبيرة المدهشة التي يتعلق عليها مستقبل الحلفاء في الساحة الغربية، وبها تتشبث النتيجة الرهيبة لهذه الحرب الفاجعة.
ولد هذا القائد العظيم في اليوم الثاني عشر من شهر يناير عام 1852، فهو اليوم قد جاز حدود الكهولة، متاخماً أسوار الشيخوخة، في الرابع والستين من العمر، ولعل والدته كانت ملهمة متنبئة، يوم الحت على زوجها - وكان دناناً فقيراً في قرية ريفيزالت من أعمال فرنسا - أن تضيف على اسم المولود الجديد كلمة قيصر وأبت إلا أن ينادي باسم جوزف جاك قيصر جوفر.
على أنه وإن كان المعجبون بالقائد المتحمسون له لا ينعتونه بما ينعتون به يوليوس قيصر سميه، من تلك الصفات العظيمة السبرمانية المدهشة، صفة مؤسس الدول، وفاتح الأقطار، وسيد السياسيين، ورأس القواد، فإن المنصفين لا يستطيعون ولا ريب أن ينكروا أن بين القائدين وجوهاً من الشبه عدة، يؤول إليها نجحهما في الحياة، وتحور إليها عظمتهما وبعد ذكرهما، فإن لجوفر ما كان ليوليوس قيصر من هدوء الأعصاب ورباطة الجأش، ورصانة الحزم، وبرودة الحلم، ولد مثله عبقرياً حربياً، منشئاً للجيوش، مهذباً للقوى، مثيراً للأرواح، معبوداً من الجند، ولقد كان المتشائمون يهمسون منذ ثلاث سنين، يوم رفع إلى منصب القيادة العامة للجيش الفرنسي (إن المهمة صعبة شموس. . . إن جوفر ليس من أهلها. .) ولكن وزارة الحربية كانت تثق بالرجل وتعرف قوته وكفايته، فلم تصخ لطيرتهم هنيهة واحدة، بل كان من الجنرال بو، هذا القائد المعبود الأكتع، إن قام في الاجتماع المعقود يومذاك لانتخاب القائد العام فأشار إلى الجنرال جوفر وهو يقول (هذا هو الرجل الوحيد الخليق بالمنصب!)
ومنذ ذلك اليوم وهو يدأب على العمل والتأهب ليوم الحرب العصيب، فأصلح من شأن(27/24)
الجيش الراجل. وهذب الكتائب الخيالة الراكبة، ونقى القواد من العجزة وغير الأكفاء وأعاد التحسين في التحصينات والمعاقل والاستحكامات.
وكان جوفر ثاقب النظر فتنبأ بأن الحرب ستكون على خلاف الحروب السابقة كلها لأنها ستنشب في ميدان متطاول عريض ممتد، يكون فيها الصبر أعظم نفعاً من الإقدام ورباطة الجأش أفعل أثراً من المجازفة، فكان يقول الآن لن يعود القائد العام بعد هو الذي يكسب الموقعة بل سيكسبها منذ الآن صغار القواد والضباط، ومنذ الآن ستقع الوقائع على خطوط تربى في طولها على ثلثمائة ميل، وأين قبضة رجل واحد أن تلم على مسافة هائلة كهذه وستكون الجيوش التي اختلق بالنصر هي التي تكون أطولها صبراً وأشدها احتمالاً، وأرفعها نشاطاً، وأقواها إيماناً بالفوز الأخير.
وهو على ما به من دأب وطول عمل، وكثرة مشاغل، تراه في حياته الخصوصية، بين أسرته وأصدقائه وصحبه وديعاً طيب المحضر، عذب المجلس، يميل إلى المشي في دروب حديقته في القرية، يصحب زوجته إلى السوق، ويشارك فتاتيه مارسل وأنيت في التوقيع على المعزف البيانو وينزل على أمرهما فيرفع الصوت صادحاً منشداً، ويركب هو والفتاتان الجياد يروحون النفس في غاب بولون ومسارحها.
وأعجب ما في خصاله أنه لا يرضى أن يتداخل أحد في نظامه اليومي الذي اختطه لنفسه، فقد حدث في ذات ليلة من ليالي هذه الحرب، أن ضابطاً من أركان الحرب جاء إلى مضارب الجنرال جوفر بنبأ مستعجل ضروري محتم وكان الجنرال قد أوي إلى فراشه فأخبر الضابط أن القائد لا حاجة إلا إيقاظه، فإنه قد ترك التعليمات اللازمة إذا عرضت أمور في ثلاثة أغلب موضوعة هنا، فاكتفى الضابط بأن فض أحدهما فوجد فيها ما يتعلق برسالته وفي الحال طير التعليمات.
وتراه يتبع إلى اليوم أسلوب حياته الذي يعيش عليه منذ زواجه، وذلك منذ ربع قرن مضي، فهو يستيقظ - وذلك قبل نشوب الحرب - مبكراً فيشتمل في ملابسه فيقضي عشرة دقائق في الألعاب الرياضية، يعقبها بالاستحمام بالماء البارد، فإذا مضت ساعة من الزمان رأيته على ظهور الجواد نشيطاً يسير الهوينا بين صفوف الأشجار الفنيانة. عند غابات بولون ورياضها، حيناً في رفقة أصحابه من الضابط، وأكثر الأحيان في صحبة إحدى(27/25)
فتياته، يتبعهما عادة جنديه الحارس.
وهو لا يحضر المجالس ولا يميل إلى المجتمعات والندوات، وإنما يجنح إلى العزلة فإذا سئم الموسيقى والغناء عمد إلى كتبه وأسفاره. فقضى ساعات في القراءة. أما في الكتب الحربية الفنية. وأما في قراءة روايات هوجو وبلزاك وديماس وزولا وديكنز وأحبهم إليه القصصي الأخير، فإذا نزل بهم ضيف عمد إلى لعبة من ألعاب الأسرة، ولم تكن أبهة المنصب لتغير فيه من شخصيته أو تعدو فيه على طبيعته، بل لا يزال هو جوفر الصغير الوديع، وقد حدثت أخته مدام أرتي عنه فقالت أنه يأبى إلا أن يناديه أصدقاؤه حتى اليوم باسم جوزف جوفر لا غير، وهو لأبني يزور قريته التي ولد فيها، حيث يجد السرور كله في لعب الورق، إذا حان المساء مع أبيه وأصدقائه.
جاء إلى مضارب الجنرال جوفر بنبأ مستعجل ضروري محتم وكان الجنرال قد أوي إلى فراشه فأخبره الضابط أن القائد.
لا حاجة إلى إيقاظه فإنه قد ترك التعليمات اللازمة إذا عرضت أمور في ثلاثة أغلف موضوعة هنا فاكتفى الضابط بأن فض أحداها فوجد فيها ما يتعلق برسالته وفي الحال طير التعليمات.
وتراه ينبع إلى اليوم أسلوب حياته الذي يعيش عليه منذ زواجه وذلك منذ ربع قرن مضى فهو يستيقظ - وذلك قبل نشوب الحرب - مبكراً فيشتمل في ملابسه فيقضي عشرة دقائق من الألعاب الرياضية يعقبها بالاستحمام بالماء البارد فإذا مضت ساعة من الزمان رأيته على ظهر الجواد نشيطاً يسير الهوينا بين صفوف الأشجار الفينانة. عند غابات بولون ورياضها حيناً في رفقة أصحابه من الضباط وأكثر الأحيان في صحبة إحدى فتاتيه يتبعهما عادة جنديه الحارس.
وهو لا يحضر المجالس ولا يحضر المجتمعات والندوات وإنما يجنح إلى العزلة فإذا سئم الموسيقى والغناء عمد إلى كتبه وأسفاره فقضى ساعات في القراءة أما في الكتب الحربية الفنية وأما في قراءة روايات هوجو وبلزاك وديماس وزولا وديكنز وأحبهم إليه القصصى الأخير فإذا نزل بهم ضيف عمد إلى لعبة من ألعاب الأسرة ولم تكن أبهة المنصب لتغير فيه من شخصيته أو تعدو فيه على طبيعته بل لا يزال هو جوفر الصغير الوديع وقد حدثت(27/26)
أخته مدام أرتى عنه فقالت أنه يأبى إلا أن يناديه أصدقاؤه حتى اليوم باسم جوزف جوفر لا غير وهو لا ينى يزور قريته التي ولد فيها حيث يجد السرور كله في لعب الورق إذا حان المساء مع أبيه وأصدقائه.
وأولى ما ظهرت كفاءته في حرب السبعين وكان يومذاك ملازماً ثانياً وقد ألحق بفرقة المهندسين في حصار باريس فلما عقد الصلح عين في اصلاح أستحكاماتها وقد أغتبط المارشال مكماهون يومذاك عند ما جاء لرؤية الأصلاحات الحربية التي قام بها في حصون باريس حتى انه عين من ساعته ضابطاً كبيراً على أن هذه الرتبة وإن كانت قد جاءته وهو في الثانية والعشرين فلم تكن تقنعه إذ جعل يقول إني لا أريد أن أقطع أيامي في بناء الأستحكامات وتشييدها. . . أريد أن أقود الجند وأشهد الحرب
وإذ ذاك أنفذوه إلى التونكين وكانت الحرب ناشبة بين الفرنسيين هناك والأهلين وهناك تمت له طلبته فقاد الجند وأمتشق السيف وبلغ قمة النصر وهو جندي صلب العود باسل القلب مستبد الرأي، وقد حدث أنه كان في رحلة إلى تمبكتو في أواسط أفريقية فاصابت عينه اليسرى علة شديدة من أثر لذعة أحدى الهوام السامة وكان يوشك أن يشرف على المدينة ويبلغ مأربه من هذه الرحلة الأكتشافية وكان الطبيب الذي في صحبة الرحالة يخشى أن يفقد القائد جوفر بصره فاشار عليه بضمادة ولكن العليل أبى إلا الرفض قائلاً إني لن أستطيع أن أقود جنودي إذا مشيت معصوب العينفقال الطبيبإذن فيجب عليك أن تلبس منظاراً أزرق ولكن الصحراء لم تكن أرض المنظار ولا مكان الصيدليات وقد بدأت عين الجنرال جوفر تشتد وجعاً وألماً وتنبأ الطبيب بأن عقبى العلة ذهاب ضياء البصر ولكن جوفر لم يستطيع إلى أن يبتسم وهو يقول إن الحظ ولا ريب غير مفارقه ومضت أيام والعلة تشتد والبصر يحسرحتى أذلبهم ذات يوم قد جاء أحدهم طردفي (البريد) ولم يكد صاحبه يفتحه حتى وجد فيه منظاراً أزرق!!!
وكذلك شفى الجنرال من علة نظره،
توزيع مرتبات الجند البريطانية في الخنادق
إن لمرتبات الجند البريطانية في ميدان الحرب ديواناً مخصصاً لها منظماً ولذلك أستطاع الجنود ان يتناولوا مرتباتهم في أوقاتها دون تأخير أو أمهال أو تريث فقد وضعوا في كل(27/27)
فرقة من الفرق في الميدان الغربي أدارة لدفع مرتبات جندها يرأسها رئيس مخصوص وتحته عدد كبير من الصرافين يتنقلون محروسين بين الخنادق ليوزعوا المرتبات على أهلها فإذا كانت الفرقة متفانية في القتال طول يومها مشتغلة بالمناجزة طول أسبوعها فهم ينتظرون حتى يفتر اطلاق النار أو تحين فترة فيوزعون المرتبات على المقاتلين وإذا لم يستطيعوا توزيعها نهاراً أستطاعوه ليلاً وكا جندي يحمل دفتراً صغيراً يدون فيه ما يتقاضاه من ديوان المرتبات وديوان المرتبات يقيد مرتبات الجند فيرسل مذكراتها على الأدارة العامة في أنجلترا وتري الجندي البريطاني يحرص على هذا الدفتر الصغير حرصه على أعز الكنوز لانه إن فقده لم يسمح له بتناول شئ من مرتباته السابقة قبل تاريخ أعلانه فقده وترى الجنود يستعينون بدفاترهم هذه في كتابة وصاياهم في ساحات القتال مخافة أن يقتلوا ولهذه الأدارة المنظمة الكبيرة سبعمائة ضابط وسبعة آلاف كاتب من المهرة الحاذقين فن الكتابة والتدوين والحسابات وهذه الأدارة تستطيع أن تدفع إلى زوجات الجنود وأسرتهم ما يريد رجالهم.
قائد الجيوش البريطانية في مصر
من أكبر القواد الذين يعملون تحت الجنرال جون مكسويل في هذا البلد رجل من كبار الحربيين الذين أزدانت بهم صفحة تاريخ إنجلترا في الحرب وهو الجنرال السير جورج جون يانجهزبند وهو الذي يقود الجنود البريطانية عند قناة السويس وقد قضى هذا الرجل في عالم الحروب نحوا من ست وثلاثين سنة وأول ما تجلت عبقريته الحربية في الحرب الأفغانية حيث ظفر منها بأحد الأوسمة الكبيرة ثم حضر فتح السودان فحرب بورما في الهند فالحرب الأسبانية الأمريكية ثم حرب البوير وقد أبلى في الأخيرة أحسن البلاء حتى حمل من الموقعة جريحاً وأنعم عليه وهو في المستشفى بوسام الملكة.
وكان في صباه بين رفقائه الضباط الفتيان يعرف في ندواتهم ومجتمعاتهم (بالمفراح) وذلك لأنه كان مزاحاً من أحسن الناس نكتة وأرقهم مزاحاً ومجوناً ثم أشتهر بأنه من أمهر المصورين الهزليين يضع صوراً حربية هزلية من أبدع الصور وأكثرها إغراء على الضحك والإعجاب وبه ولع بالسياحة حتى أنه قضى ستة أشهر يجوب مقاطعتي برما وسيام في جنوب الهند حتى قطع يومذاك نحواً من ثمانمائة ميل وهو من الكتاب المجيدين(27/28)
وضع في رحلته هذه كتاباً التقت فيه الفائدة بالمجون إذ صور أخلاق سكان البلاد أحسن تصوير على أنه ألف كذلك عدة من الكتب الحربية الفنية.
وقد وقعت له حادثة في الهند غريبة وذلك أنه كان معسكراً في أحدى القرى فجاءه أهلها وهو في خيمته بقطع كثيرة من الأحجار تشبه الياقوت وهم يقولون أنهم قد عثروا عليها وهم يحتفرون في بقعة لا تبعد كثيراً عن القرية فظن السير جورج أنه وقع على كنز كبير ومنجم عظيم فلم يكن من فرط سروره إلا أن أشترى كل قطعة منهم وأستعلم منهم عن حدود تلك البقعة الجميلة ومواقعها وقد قص بنفسه ما كان يخطر له ساعتذاك فقال. . لقد كنت أحلم يومذاك بالغنى الطائل والثروة العظيمة فاندفعت شاخصاً إلى كلكتا أريد أن أقدم ثمن تلك الأحجار وما كان أشد حزني ساعة دفعتها إلى صيارفة المهرة الحاذقين وسمعتهم يقولون (لون زاه جميل وضياء ساطع ومظهر بهي تستحق كل قطعة منها أن تشتري بخمسين جنيهاً. . ولكن واأسفاه أنها ليست إلا عجينة من خليط المعادن الصناعية المموهة!!)
أخاديع الرصاص
أن للقذائف التي تخرج من فوهات البنادق العادية ضروباً من الحيل والأخاديع تعد من أغرب الغرائب فقد حدث احد الضباط الذين حضروا حروب السودان أيام الفتنة المهدية عن عدة من هذه الخدع فقال (حدث أن ضابطاً مريضاً نقل قبل واقعة أم درمان في أحدى القوارب على النيل إلى الضفة الأخرى حيث وضع في خيمة تبعد عن حدود ميدان القتال بنحو أربعة أميال وكان في هذه الخيمة ولا ريب بنجوة من كل خطر وفي عاصم من متناول الرصاص ولكن لم يلبث أن انطلقت رصاصة ضالة هائمة فقطعت الأربعة أميال في الصحراء وبلغته نافذة إلى جمجمته فقتلته. . . وأتفق كذلك في واقعة أخرى أن الجنرال السير هنتر من كبار قواد الحملة السودانية وضابطين من ضباطه خرجوا يستكشفون مواقع الأعداء على مسافة بعيدة وقد عمدوا إلى ثغرة في حائط ساقية هناك وأخذوا ينظرون بالمرقب وكانت هذه الثغرة نهاية في الصغر والضيق حتى لم يسع الثلاثة غلا الوقوف الواحد خلف الآخر وكانت الشمس تؤذن بالمغيب وقد استقرت حمرة الشفق على زجاجة المرقب فكان لها وهج مضيء لفت أحد الدراويش وكان يمشي في جماعة معه على شاطئ(27/29)
النيل فلم يلبث أن وقف ثم سدد مرماه وكان حسن الرماية إذ انطلقت فنفذت من عدسة المرقب إلى مخ الضابط الأول فقتلته في مكانه ثم خرجت فنفذت إلى كتف الضابط الثاني وأخيراً استقرت في صدر الجنرال هنتر وهي لا تزال فيه إلى اليوم(27/30)
مطبوعات جديدة
ذكرى الماضي
محمد أفندي صبري أديب معروف تخرج من المدارس الثانوية وحصل على شهادتها ويمم أوربا لإتمام الدراسة هناك والتوسع في آداب الغرب ونحن نعرف شاعراً جزلا قوياً مبتكراً وقد علمنا أخيراً كاتباً غزلاً رقيقاً وكذلك يجب أن يكون الكاتب شاعراً وهذا كتابه ذكرى الماضي يشهد له بعلو كعبه في الكتابة على أنه لم يتجاوز الربيع العشرين وذكرى الماضي قصيدة نثرية مؤثرة يصف فيها بعض المشاهد التي رآها في فرنسا - وثمن الكتاب 15 مليماً ويطلب من مكتبة البيان.(27/31)
العدد 28 - بتاريخ: 1 - 12 - 1915(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فهذا هو العدد السادس من السنة الرابعة لهذه المجلة - وهو العدد الذي يلي العددين السابع والثامن من نظامنا الجديد الذي كنا نحونا بالبيان نحوه وحسبناه أردَّ علينا بالفائدة، وأوفى بحاجة الناس، وأوفق لطلبة القراء على اختلاف طبقاتهم، فأخذنا نُصْدره على ذلك ونتسع فيه نفتنُّ في رسومه ونبْسط له اليدين جميعاً وقلنا لعل الناس يقدرون هذا النحو وعسى يكون من ورائه ما نرجوه ذيوعاً وإقبالاً ولعل ثم لعل وعسى ثم عسى، بيْد أنا رأينا إثم ذلك أكبر من نفعه، والخسارة فيه متحققة بين بصر البيان وسمعه، فكأن باب التجربة في مصر لا يفتح على غير الخسارة، ولا يفضى منه إلى غير النعت، ولا يفصل - كسائر التجارب - بين ما هو حق وبين ما هو باطل ولكنه يفصل بين صاحب الحق وبين حقه لا غير. . ومن هنا انتشر علينا الأمر، وتفرق بنا الحزم، وكادت تعصف الحوادث بالبيان عصفاً لولا أن الله لطف في قضائه، وألهمنا صواب الأمر بعد خطائه، فاعتزمنا أن نرجع بالبيان إلى خُطَّته الأولى فنؤثر به المشتركين، لا المشترين، ونخصه - إلا ما لا حفل له - بالعلم والأدب، لا بالحَرْب والحَرَب، ونجعله للأدباء الأخيار، لا لأهل الروايات والأخبار، ثم تممنا الأمر بأن فصلنا وكلاء البيان جميعاً وهم كانوا أصل البلاء، ولم نرا بداً من التطواف بأنفسنا في البلاد مهما تجشمنا في هذه السبيل من التعب ولو إلى حد الأضناء، وكان مما أفدناه في هذه الفترة أن جُلنا في بعض أنحاء القطر ولقينا طوائف كثيرة من قرائنا الأفاضل فتلقونا بصدور يفيض سرورها، وقلوب يسطع نورها، ووجوه تبسم ثغورها، ولقينا منهم الكرم كله، ومن عوارفهم ما لم نكن لننتظر قُلّه، ومن سجاياهم ما أطلق اللسان، ومن مروءتهم ما مكن البيان، ومن محامدهم ما شد هذا البنيان. ثم كان من ذلك أن علمنا الذين صدقوا من المشتركين وعلمنا الكاذبين وجعلنا الخبيث بعضه على بعض فركمناه جميعاً فبترناه من سجلاتنا بتراً، وحذفناه حذفاً. والله المستعان على ما نلقي في هذا الأمر، وبه سبحانه القوى على ما نضعف عنه، ومنه التوفيق لما نسعى إليه، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.(28/1)
روح الطفولة
في
الأدب المصري
إن أخلاق الناس وقوة نفوسهم وأعصابهم وأذهانهم، وأساليب العيش الذي يعيشونه، وروح الفن الذي يحملونه في كل وجوه العمل، ومطالب الحضارة، لا يمكن أن تتجلى في صورة واحدة، إلا في الآداب التي تخرج من الناحية السامية فهيم، وهي كتابهم وشعراؤهم وأهل التفكير منهم. وأنت فإنك تستطيع أن تدرك طرفاً من عواطف الفرنسي ونظام بيته وأخلاقه وقوة الروح الفنية عنده من قراءتك كتب فيكتور هوجو وحدها، وإن لم تنعم برؤية فرنسا آخر حياتك، ولم تتقلب في بلادها وتدخل مغانيها وبيوتها، وتظفر بصداقة جميلة مع طائفة، من أفرادها، وكذلك تستطيع أن تفهم من الأدب العربي أي نفوس كانت تحمل العرب، وأي أعصاب كانت لهم، وأي أخلاق كانت تختلق، بل أنك قادر أن تتبين مثلاً من طرازهم في العمارة وهذه التعاريج والتثنيات والمتداخلات التي كانوا يزينون بها. شرفات قصورهم ومطلاتها وقبابها، روح الجاحظ في ثرثرته وزيغاته، ومعرجاته، واستفاضاته. ومن أدبهم الذي لم يكن يحتوي غير حكايات قصار ونوادر موجزة وأبيات أفذاذ وكلمات طيبة مقتضبة، تستطيع كذلك أن تعلم أنه قد كانت لهم نفوس قلقة، وقلوب وثابة، وأعصاب حارة ملتهبة، فلم يكونوا ليطيقوا الصبر على البحث الأدبي المستفيض والكتابة التفكيرية الممتدة، اللهم إلا في حدود الفقه والحديث وعلوم التربية وأشباه ذلك. وهذه كانت لا يطيقها إلا شيوخ منهم يحسبون فتور العلم ويحملون في أعصابهم العلمية برودة القطب.
وإذا تقرر ذلك فإن الأدب المصري الحاضر لا يزال يحمل مفاسد الجيل وطبائعه، وأخلاقه وعوارض الانحطاط السائد في كل ناحية من هذه الحياة المريضة التي نعيشها، ونحن واجدون في كل ما يخرج من أفواه شعرائنا، وتقذفه علينا المطابع من أقلام كتابنا وأدبائنا، صوراً شتى من غرائب الطبائع المصرية التي نشهد أثارها في البيت والشارع والمكتب والديوان، إذ كان أكثر كتابنا وشعرائنا وأدبائنا لا يكادون يمتازون عن سائر الشعب في عامية النفس وجمود الروح وضؤولة التفكير، فكل ما يكتبون وينشئون يجري مع مطالب الجمهور وينزل على حكم السواد الأعظم، ويدخل على قلوب العامة وأشباههم من ناحية ما(28/2)
يحبون ويطالعهم من ناحية ما يفكرون ويعتقدون، ومن ثم كان الجمهور العادي في هذا البلد هو الذي يقود الفكر ويسيطر على الذهن ويستبد بكل منتجات القرائح، وثمرات العقول، وما كان الكتاب الذين تأبى عليهم مطالب الربح والذكر والشهرة إلا أن يتابعوا هذا الجمهور الذي لا يزال في طفولة الحياة، ولا يزال يعيش بروح الماضي، ولا تزال تحركه مبادئه وعقائده، إلا أكبر عقبة في سبيل تهذيب الجيل، وقتل حماقات العصر، وهم الذين لا ينون يفسدون على المهذبين العبقريين من أهل الناشئة الجديدة عملهم، وهم الذين أثاروا حقد الجمهور على كل ذهن جديد وعقل متوقد وروح متمردة من آثار الجمود، وهم الذين لا يفتأون يتلطفون للجمهور ويملقونه وينتصرون له، ويهجمون إلباً واحداً على كل كاتب نبيل الروح مفعم الذهن بكل ضروب التهذيب ووسائل الخروج بالحياة من كل غل من أغلال العبودية الاجتماعية، فلا يزالون به أو يفسدوه ويبددوا كل أثر من آثار إخلاصه. ويجتمعوا بعد ذلك على تركته، يتقاسمون الربح ويتشاطرون الابتهاج بالنصر، ولقد تكاثر في هذا العصر جموع هؤلاء الألفاف، وانتشرت زمرهم واستحصد شرهم، فراجت بذلك حالهم وطالت مكاسبهم وهم بعد خلقاء بهذا التشجيع من الجمهور لأنهم قطعة منه وهم ألسنته وصنائعه، ولأن المصانعة والمداهنة والتدليس من الطبائع المصرية العميقة في أرواحنا، الظاهرة في كل وجه من وجوه أعمالنا.
ولا يتلجلج في خاطرك أن مجرد وجود لمحة من الآداب في الأمة هو دليل الحياة وأنه أثر من آثار التقدم والانتعاش، وعنوان على روح الحضارة والرقي، فإنك لو عمدت إلى أحط قبائل الزنج وأغلظ أهل الأحراش والغاب إذن لوجدت لهم شاعراً مغلقاً يضج بالقصيد تلو القصيد على أصوات المزمار، ونقرة الدف، ورقصات القيان، ولرأيت لهم خطيباً مصقعاً يصرخ فيهم إذا عرض خطب، ويستنفرهم إذا نشبت حرب، ولأبصرت لهم كتبة ومشايخ جلَّة يعلمون ويؤدبون ويهذبون، وما أنت بمستطيع أن تمنع شاعرهم هذا من أن يشترك في لقب الشاعر مع شكسبير وهوجو والمتنبي، ولا خطيبهم هذا من أن يقاسم في لقب المصقع شريدان وجوريس والحجاج، ولكن هذا بعد ليس مقياساً صحيحاً للآداب، بل إنما تقاس الآداب بقوة ما فيها من روح السمو والنضوج وما نشعر من قوة ذهنية أهلها ومبلغ ما أخذوا من التهذيب والحضارة والعلم، والضروريات الأولى للأدب، وهي روح الفن. وقوة(28/3)
الخيال. ودقة الشعور. وقوة الملاحظة.
فإذا نحن أردنا أن نتلمس هذه أو بعضها في هذه الطائفة التي اصطلحنا على تسميتها بالأدباء فما نحن واجدون ثمت أثراً لها، بل لرأينا أكثر أدبنا، أو ما نسميه أدبنا، خلواً من روح الفن، وإذا افتقرت الآداب إلى هذه الضرورية الأولى فلن تعد من الآداب في شيء، بل هي في الحقيقة ليست إلا وسائل يستعان بها على العيش، ومطالب الأكل والشراب، للذين خابوا أن يجدوا في الحياة غيرها، وهي إذ ذاك مهنة تسد جوع الجائعين وتطعم أفواه الضعفاء في الحياة العملية والمهزومين، لأن الكتابة والشعر وسائر الفنون الرفيعة ليست تعتمد في كل روحها على مستلزمات الحرف والصنائع من وجوه التعليم والتمرين والحفظ والرياضة وممر الزمن، وإنما هي تتغذى قوتها من إحساس داخلي عميق يولد مع الشاعر والكاتب والأديب والمصور والنحات، وما كان الكتاب والشعراء في هذا البلد إلا يتابعون في افتقارهم إلى روح الفن، سائر أفراد الأمة، لأننا جميعاً مفتقرون إلى روح الفن، فلو أنت زرت قصوراً أكبر أغنيائنا وأهل الرقة والترف فينا ونظرت إلى الصور الأنيقة التي تشرف عليك من جدران حجراتها والنقوش والرسوم والنفائس التي ترنو إليك في مقاصيرها، إذن لأدهشك النُّبُوّ الظاهر في الترتيب وفساد الذوق البادي في التنسيق، على نفاسة الأثاث، وفخامة الرياش، وغلاء أثمان المتاع، وذلك لأن الجمال كما يقول الإفرنج ليس في الصورة وإنما في كيفية تعليقها ووضعها، وكذلك نحن من الغني إلى الفقير فقراء من روح الفن ورفعة الذوق.
ثم يلي هذا افتقارنا إلى سمو الخيال، ولا يزال أكثر أدبائنا وشعرائنا يستمدون تخيلهم الشعري من صور الماضي ومحسات العصور الذاهبة ويستعينون بأثر من روح العرب في كل المواقف الشعرية وأشباهها، وليس سمو الخيال إلا دليلاً من دلائل صفاء الذهن وخصوبة الخاطر ونقاء الروح ولطف الشعور ونحن لا ننعم بشيء من هذه لأننا نعيش عيشة مريضة بلهاء فاسدة ونعاني في البيت والشارع ضروباً من الانحطاط والفوضى سائدة، ولأن حياة أدبائنا - صَنَع الله لهم - إنما هي سلسلة متطاولة من معاسف العيش ومنغصات الهم والفقر والتشرد والإهمال، وهذه أدعى إلى أن تبدد صفاء الذهن، وتضعف حاسية الروح، وتفسد صحة الذهن وتطفئ شعلة الإحساس ونحن من جرَاء هذه جميعاً(28/4)
فقراء في قوة الشعور والملاحظة. وقوة الملاحظة من أكبر الأسباب التي تعمل على تهذيب الآداب وتقدمها ونمائها لأنها تفتح أبواباً شتى من البحث وتحدو إلى نواح طيبة من التفكير، وتفضي إلى مطارح بعيدة من الاستنباط والاستنتاج، ولهذا كان الأدب المصري خلواً من أسمى فروع الأدب المنتعش الصحي المتحضر، وهو فن الرواية والقصص، وهو قد أصبح في الغرب جماح علومه وأدابه وفلسفاته ومبادئه، لأن فلاسفة العصر وكبار الأدباء والمفكرين من أهل الغرب آثروا اليوم أن يضعوا أفكارهم وفلسفتهم وآراءهم في أساليب حلوة من الرواية وموضوعات سهلة من القصص، حرصاً عليها أن تروح مستثقلة على أذهان الجمهور مستغلقة الفهم باردة الروح، مستكرهة الطعم، فترى أمثال برناردشو وويلز وبورجيه وأنا طول فرانس وأضرابهم يعدون في طلائع الروائيين وهم مع ذلك من أكبر المفكرين والفلاسفة.
على أن من طبائع الفوضى التي ركبت في نفوسنا وتأبى إلا أن تظهر كذلك في أدبنا أن أدبائنا وكتابنا ليسوا إلا نَشَراً لا يجمعهم نظام، ولا تحكمهم قاعدة، فهم لا يحورون ناحية من المذاهب المقررة إلى مذهب ثابت، ولا يرجعون إلى منحى معروف وأنت فلا تستطيع أنتحصر من بينهم الفريق الذي يذهب في الكتابة مذهب الرياليزم وهو المذهب التقريري الذي يعمد فيه إلى بسط الحقائق على علاتها دون تحلية أو تهذيب أو تجميل، ولا أن تعرف من بينهم كتاباً إيدياليين، وهم الذين يجنحون إلى السمو في أطباق الإيدياليات، وهي الأمثلة العليا للحياة، وأنك لترى الكاتب منهم إنما يخرج لك في المقال الواحد خليطاً من الجميع، فبينا تلتقي بقطعة من الرياليزم إذ تهاجمك الفقرة التي تليها بروح الإيدياليزم، وهذا ضرب من الفوضى، وعلة من علل التقلب. وعارض من عوارض كراهية المصري لروح النظام.
وإذا وعيت هذا ثم علمت أننا لم نأخذ بعد بنصيب من العلم الحديث، وأن نصف أدبائنا وشعرائنا لا يعرفون لغة من لغات الغرب، بل هم يسكنون في دواوين الشعراء الذين تقدموهم ويعيشون في بُرد الكتاب الذين سبقوهم وهم بعد لا يستطيعون أن يستمدوا منها شيئاً غير حظ من الأسلوب، وجملة من موفق اللفظ، وطائفة من بدائع الكلم وهذه ولا ريب لا تخلق الأديب، ولا تنضج الشاعر، ولا تفتق الذهن، ولا تفتح مغاليق الفكر، وإنما هي(28/5)
أداة من أدوات الزينة وسيلة من سوائل التجميل، وأن النصف الآخر العارفين بلغة الفرنجة ليسوا صنفاً واحداً في الإطلاع، ولا سماطاً واحداً في الفهم والبراعة والذكاء، بل ما يبرح كثيرون من إغفالهم يهجمون علينا بكل غث وخم من الكتب وكل عقيم تافه الفائدة من الأسفار من كل ما يقع تحت أيديهم أو يعثرون به فوق رفوف المخازن وألواح المكاتب، إذ كان قد قام في أذهانهم أن كل ما يخرج من كتاب الغرب قمين بالقراءة، خليق بالنقل، وكأنهم لم يعلموا أن كل مملكة في الغرب تحوى الألوف المؤلفة بالخلود وعظمة الشأن إلا القليلون. ومن هذه الملايين من الكتب إلا القلائل وإن كان كلهم رائج المكسب في بلهنية من العيش وغفراء من النعم لأن كل ما يخرج للجمهور في تلك البلاد المهذبة لا يلبث أن يلتهم إذ كان كل فرد منهم قارئاً، وكل قارئ منهم يحتفل بمطالب ذهنه احتفاله بمطالب معدته.
ومن ثم كان التعريب في هذا البلد كالتأليف لا يزال يجري أكثره في سبل من الفوضى ويطرد في مضطرب واسع من السخف والحمق، وأكثر ما نقل إلينا لا يكاد يجدي علينا في فرع من شؤون التهذيب ولا يقرب لنا طرفاً من علوم العصر في كل أبواب الاجتماع والتربية والفلسفة والأدب والعلوم الطبيعية بأنواعها، هذا على كثرة النافجين منا بمعرفة لغات الغرب والمزهوين بأنهم تلقوا تهذيبهم في جامعاته، وأخذوا آدابهم عن أساتذته، وعاشوا طويلاً بين ظهراني أهله. ولكن أكثر هؤلاء إنما نفقدهم ساعة تحتويهم الباخرة خصة بهم إلى الأرض المقدسة لأنهم يذهبون وهم على شيء من الفطنة والذكاء والتوقد والنشاط فما يلبثون أن يعودوا ضعفاء الأعصاب خامدي الأذهان مرضى الأرواح من أثر إفراطهم في حيوانيات الغرب ومقاتل لذائذه، ثم نحن بعد لا ننال منهم لا كثيراً ولا قليلاً من نتائج العلم الذي درسوه وجملة الآداب التي تلقوها وحلزوا درجاتها، وذلك لأن الجامعة لا تستطيع وحدها أن تخلق كاتباً واحداً أو شاعراً واحداً أو أديباً واحداً، إذ كان التعليم في الجامعة مدرسياً بحتاً لا يدخل في أغراض الحياة، ولا ينفذ إلى صميم العيش، وهو إنما يكون سبيلاً إلى إظهار النبوغ، وتجلى مطالع العبقرية، وفي الغرب ملايين عظيمة من خريجي الجامعات وحملة الشهادات والألقاب العلمية، ولكن ليس منهم إلا قليلون هم الذين استطاعوا أن يكونوا كتاباً ويظفروا بشيء من الذكر في دائرة الكتابة والأدب، وإذا كان ذلك(28/6)
فلا عجب إذا رأيت شباننا الذين نالوا بركة الحج بمشاهدة أرضهم المقدسة لا يلبثون أن تشتمل عليهم مكاتب المحامين أو كراسي النيابة أو مقاعد الإدارة.
على أنه لا ينبغي أن يتملكنا روح اليأس من انتعاش أدبنا الحاضر وخروجه من حدود الطفولة إلى أدوار الحياة القوية المكتملة. إذ كنا لا نزال نرى جمعاً قليلاً من شباب هذا الجيل قد جاؤوا يدخلون على هذا الأدب الطفولي الضعيف روحاً جديداً من التهذيب وسبلاً عدة من التفكير العميق. وهم، وإن كانوا لم يتحرروا بعد من بعض نقائص العصر وأخلاقه وأعراض انحطاطه وطفراته، لا يخلون - إلا قليل منهم - من دلائل النضوج وسموا الذهن وبواكر العبقرية. ولعلنا مفردون لهم مقالاً طوالاً فنتناولهم جميعاً فيه ونشرح للقراء كل ما نراه في مذهبهم الجديد.(28/7)
الإسلام في الصين
الحياة مد وجزر. ومستقبل العالم يضطرب الآن في جوف الزمن، والمجزرة المفترسة في الغرب اليوم قائمة، والغربيون يتقاتلون الساعة على الحياة، ويتصارعون على سيادة الأرض، وكل أمة من أممه تسوق أشد فتيانها وأصلح شَبَابها للمذبحة، وتدفع بسلسلة ماضيها ومجهوداتها وأذهانها وحضاراتها وآدابها إلى المقبرة، والحرب ولا ريب طاحنتهم وقاتلة مدنياتهم وملتهمة كل أثر قوي في الحياة عندهم، وسيذبل الغالب والمغلوب، نعم وستبيد الحرب قواهم المنتجة، وستنهك أعصابهم الصلبة، وتذوي أذهانهم المضطرمة الجبارة، وسوف لا تبقي ولا تذر إلا الضعفاء والولدان والشيوخ والمهازيل والأقزام من أهلها، ولن يحدث هذا الجزر المخيف في الغرب إلا مداً طاغياً فياضاً في الشرق، لأن سكون ريح القوى يرسل النشاط والحرارة وأعراض الحياة القوية في الضعيف، وسينهض الشرقيون بعد هذه الحرب الغريبة من ضجعتهم عند أقدام الغرب، وسينتبهون للحياة ويحسونها، وستثور نفوسهم عظمة الماضي المتطاول البعيد، وستشد أعصابهم وأذهانهم التي ابتردت من آثار الخمول والاستنامة والفتور، ومن يدري فلعل هذا الشرق المستضعف الساكن اليوم، المطل من ضجعته على الغرب في مجزرته، مخرج بعد زمان تيمور لنكاً جديداً، وجنكيز خاناً عصرياً، وعمراً ثانياً، وخالداً وعلياً وهاروناً وقتيبة وصلاحاً آخرين، وكذلك تأبى الحياة إلا أن تكون مداً وجزراً، والزمان دول، والمدنيات كمحدثيها يجري عليها من نواميس الطبيعة ما يجري على الناس.
وإذا كان كذلك فنحن خلقاء أن نُعني بالبحث في حاضر أمم الشرق وشعوبه، وما يمس الحياة فيها، ولا سيما ما يتعلق بالمسلمين وأحوالهم، ومن هنا فقد عزمنا على أن نجيء في كل عدد من الأعداد القادمة ببحث مستطيل في حاضر إحدى أمم الشرق حتى يكتمل الكلام عليها جميعاً، وحتى يلم القراء بشؤون الشرق وأحواله وأسباب ضعفه واستكانته، والقوة الكامنة في حاضره وما يمكن أن يكون من مستقبله.
ونحن اليوم بادئون بالكلام على المسلمين في المملكة الصفراء وحالهم الحاضرة.
يقول ستانلي لين بول، وهو من كبار مؤرخي الإسلام والشرق في هذا العصر - وهو الذي نلخص عنه هذا البحث - إن تاريخ الإسلام هو سلسلة مستطيلة من المدهشات، فإنه منذ خرج إلى الأرض وفاض فيضه، حير الألباب وأدهش العالم جميعاً، ولم يفتأ الإسلام منذ(28/8)
ذلك اليوم يعمل على إدهاش العقل الغربي وتحييره، ولقد كان الغربيون في السنين الأخيرة يذهبون إلى أن الدين الإسلامي قد أسند في حدود الشيخوخة فلا يرتقب له تقدم جديد، ولكن لم يلبث هؤلاء الذين أغمضوا أعينهم عن هذا الدين من أهل الغرب أن انتبهوا فجأة إلى حقائق مدهشة من أمره فقد دلت الشواهد على أن الدين الإسلامي يتقدم ويخطو خطى واسعة في غرب إفريقية، وهو يزاحم المسيحية ويطاردها في تلك البلاد، وأن المسلمين هناك قد أخذوا يدخلون على البلاد إصلاحاً اجتماعياً جديداً بعد أن عجز رسل المسيحية ومبشروها عن أن يضعوا شيئاً من الإصلاح، وأن جزءاً كبيراً من بلاد الصين قد دان بالإسلام، وأن هناك قري. وبلداناً وأقاليم قد اكتظت بالمسلمين من أهل الصين يعيشون جنباً إلى جنب مع عبدة بوذا وشيعة كونفوشيوس.
على أن الذين يعرفونه رسيساً من تاريخ العرب لن يجدوا شيئاً من الغربة في دخول الإسلام بلاد الصين فقد كانت تجارة الصين في أيدي العرب يجيئون بها إلى الشام قبل أن يقوم دين الإسلام بسنين، وقد اتسعت بينهما أسباب التجارة في القرن السادس الميلادي وكانت تأتي عن طريق سرنديب - جزيرة سيلان - ولم يكد يدخل القرن السابع حتى نمت التجارة بين الصين والعرب وفارس، وكانت مدينة سيراف الواقعة على الخليج الفارسي هي محط المتاجر الصينية، إذ كان تجار الصين لا يتعدون هذا الثغر إلى داخلية البلاد، ومن ثم كان تجار العرب من مسقط والشام يلتقون بهم هناك ويحملون بضائعهم إلى أنحاء الجزيرة وبلدانها، وكان من بين الذي جاؤوا الصين في أوائل عهد أسرة تانج المالكة، أي في ذلك العهد الذي كان يدعو فيه محمد العرب بمكة إلى الإسلام، طائفة من أهل المدينة.
وإليك ما ذكرت التواريخ الصينية في صدد ذلك - إن مملكة المدينة تقع قريبة من الهند وفي تلك المملكة قام دين هؤلاء الغرباء وهو دين مخالف جد المخالفة لدين فو - أي بوذا - فهم لا يأكلون لحم الخنزير ولا يشربون الخمر ويعدون قذراً غير مبارك كل لحم لم يذبحوه هم بأيديهم، ولهم اليوم معبد في كانتون يسمى معبد الذكرى المقدسة وقد ابتنوه في عهد أسرة تانج وكان لهم بجانب المعبد مأذنة شاهقة تبلغ في ارتفاعها مائة وستين قدماً، وقد اعتاد هؤلاء لغرباء أن يذهبوا كل يوم إلى المعبد فيؤدوا فيه فرائض دينهم، ولما استجازوا الإمبراطور المقام بكانتون فأجازهم، شادوا بيوتاً طيبة ومنازل شاهقة على طراز(28/9)
من الهندسة جد مخالف لطراز مملكتنا، وكانوا على أنعم حال من الثراء، وكانوا كُيْراً عديدين، ولهم من ثرائهم نفوذ وسلطان حتى لقد كانوا على أنعم حال من الثراء، وكانوا كُثْراً عديدين، ولهم من ثرائهم نفوذ وسلطان حتى لقد كانوا يستطيعون أن يؤذوا الرجل من أهل المملكة ولا يصيبهم سوء أو عقاب، وكانوا يرجعون في أمرهم إلى وال منهم استعملوه عليهم.
يقول ستانلي لين بول - ولكن سلالة هؤلاء الذين حملوا الإسلام إلى الصين لم يستطيعوا أن يدلونا على شيء من أنبائهم، ولكن الذي لا ريب فيه أنهم من العرب، لأنهم تركوا معالم وجوههم في وجوه ذريتهم وأخلافهم، ولكنا عاجزون عن أن نعرف من أية ناحية من العرب جاؤوا، ومن الجائز أن محمداً هو الذي أنفذهم عام أنفذ البعوث والرسل إلى الممالك والأصقاع ليدعوهم إلى الدين الحق، أو لعلهم كانوا طائفة من الهاربين المُشَرَّدين كأولئك الذين هاجروا إلى الحبشة بإذن النبي، ولكن لا شك ثمت في تاريخ دخولهم المملكة الصينية، ولا مراء في أن الصين رأت قوماً من المسلمين في الربع الأول من القرن السابع أي بعد عام الهجرة بعشر سنين.
أما عن واليهم الذي كان يقودهم ويحكم فيهم فنحن في ظلمة شديدة من التكهن والريب، ولكن لا شك في أنه كان رجلاً ذا خطر كبير لأنهم حفظوا عنه بعض القصص والأساطير وقد جاء في إحدى المدونات المؤرخة عام 1351 من الميلاد أنه كان في الصين رسول وفد من العرب، ولكن الاسم الذي جاء في تلك الأسطورة لا يدل على شيء غير أنه كان من الصحابة، ولقد تكهن الكثيرون في أمر هذا الرسول والأسماء العديدة الغريبة التي سمي بها في الأساطير حتى قالوا أنه رجل يدعى وهب أبا كبشه من أخوال النبي.
قال المؤرخ - فلما استقر بالإسلام المقام في تلك الأرض لم يلبث أن نما وانتشر وقويت شوكته وتكاثر التجار العرب الذين نزلوا أول أمرهم بمدينة كانتون وزاداد عديدهم بالوفود التي التجأت إليهم من جزيرة العرب وبالتزاوج وأهلَ الصين وبالذين دخلوا منهم في دينهم، وقد جاءهم عام 755 من مولد المسيح مدد من الخليفة المنصور في أربعة آلاف مقاتل كان أنفذهم أمير المؤمنين لعون الإمبراطور سوه تيسنج - على الخارجي الذي شق عصا الطاعة عليه، فلما قاتلوا وظاهروا الإمبراطور على عدوه أذن لهم الإمبراطور بالمقام في(28/10)
الصين وبالزواج من نساء مملكته، وليس في هذه المحالفة التي قامت بين الخليفة العباسي في بغداد وبين عاهل الصين ما يلوح لأول وهلة من الدهشة والغرابة فقد كانت حدود دولة العرب قد صارت على مسافة غير بعيدة من حدود دولة الصين، إذ كان قتيبة بن مسلم قد اجتاز - وذلك في القرن الأول من الهجرة - نهر جيحون وفتح بخارى وسمرقند وجاوزهما إلى كشغر وغيرها حتى دانى تخوم الصين، وإذ ذاك أرسل نفراً من كبار رجاله إلى الإمبراطور الصيني يعرض عليه ود الخليفة وأمانه، ويخيره بين دفع الجزية عن يد وهو صاغر، وبين السيف والنار وحرق المدائن وقتل لرجال وسبي النساء والأطفال، وقد رفع قتيبة بهذه الرسالة الجريئة الدهشة إلى بُرُده في هدوء العربي ورباطة جأشه، فلما نزلوا على الملك أدهشه لباسهم وملامحهم وأخذت بلبه جرأتهم وفخامة كلامهم فتلقاهم أحسن اللقاء وأغدق عليهم الرتب والألقاب ونزل على دفع الجزية إلى الخليفة ومنذ ذلك اليوم والخليفة وحليفه على أحسن الود وأطيب السلم، يتهاديان الهدايا يتوادان بالتحف والنفائس، ولقد كان الباعث على هذه المحالفة بين هذين الأمير بن المتباعدين ما كان يحدق بدولة كل منهما من غوائل عدوهما المشترك وهم أهل تبيت وغاراتهم على حدود الدولتين.
وكذلك أخذ المسلمون يزدادون في الصين ويتكاثرون وزادهم عدداً من كانوا يرحلون إليهم لو إذا من أهل التتر، بعد أن ثار جنكيز خان في الشرق ثورته، ولم يكونوا بحاجة إلى الامتزاج بأي عنصر غير عنصرهم، إذ كانوا في نماء وتناسل مستمرين، وكانوا يتسرون السراري من نساء الصين، ولم يقتصروا في الإكثار من عددهم على ذلك بل كانوا يشترون أطفال الأهلين في زمان القحط والمجاعات والجدب فيدخلونهم في زمرتهم ويقومون على تربيتهم وتهذيبهم وتزويجهم إذا بلغوا حُلُمَهم، حتى كان لهم بعد زمان قرى عديدة من هؤلاء الذين كانوا يشترونهم أطفالاً، وظلوا كذلك أربعة قرون وهم محسودون من الأهلين على نفوذهم وثرائهم.
يقول دي تير سانت في كتابه الإسلام والصين، ولم يلبثوا أن أخذوا يفقدون طبائع وجوههم وأجسامهم التي كانت تميزهم عن أهل الصين في أول عهدهم بتلك المملكة، وكذلك خرج منهم جيل مخالف في شكله وهيأته لأهل الصين وليس عليه كذلك سمات العرب الأقحاح الأصليين فمسلمو الصين اليوم خفاف الأجسام صلابها أرفع قامة من الصينين الأصليين(28/11)
وأضخم منهم خلقة وأصلب منهم أعصاباً ولهم عيون أهل الصين وإن اختلفت عنها في حدة بصرها، ونساؤهم أصغر منهم جسوماً مكتملات النهود دقيقات الأرجل، يتبعن في ذلك عادات نساء الصين في تصغير أرجلهن، والمسلمون أقرب في ألوان بشرتهم إلى البياض والسمرة من صفرة أهل الصين وشعورهم على الأكثر سوداء، وإن كنت قد تلتقي من بينهم بشعور صفراء.
أما عن أخلاقهم فهم أودع من الصينيين وأنعم آداباً وأقرب إلى الصدق منهم، وهم في التجارة أمناء لا ظل للخيانة على معاملاتهم، وهم إذا ارتفعوا إلى منصات القضاء عدول لا يظلمون ولا يتحيزون، وموقرون مبجلون، وهم بطبيعتهم أنشط وأخف إلى العمل، ويؤثرون القتال والتجارة على الصناعة والأدب، وليسوا من المتعصبين بل إنهم ليعدون في التسامح إلى أقصى حدوده فيتركون من سنن الدين ما يغضب أهل الصين أو يصطدم مع أفكارهم وعاداتهم، وهم يعيشون معاً مؤتلفين متضامنين كأهل العشيرة الواحدة، يدافعون بعضهم عن بعض ويحسنون إلى فقرائهم وهم بطبيعة الحال مضطرون إلى أن ينزلوا في بعض الأمور على قوانين البلاد وأن يستمسكوا في غيرها بشرائع الإسلام بعد أن يتمشوا بها كما تتطلبه أديان المملكة وعاداتها، فإن قانون الزواج في الصين لا يعسف المسلمين هناك ولا يرهقهم لأن على المسلم أن يتخذ زوجة واحدة ولكنه يستطيع أن يتسرى - وذلك بعد استئذان الزوجة - بعدد من السراري والإماء، وهن يعملن في الدار كجوار للزوجة ووصائف، ومن أغرب الحقائق أن الزوجة هي التي تستحث الزوج في أغلب الأحيان على تسري السراري واتخاذ الإماء، وذلك لأنها إما تكون عقيماً وأما لأنها تريد أن تزيد في حاشيتها ووصائفها.
وقد انتشر الإسلام في الصين انتشاراً لم يظفر به دين آخر غريب في تلك البلاد إلا الديانة البوذية، وليس ذلك يرجع إلى شيء من المقاربة والمماثلة بين الإسلام وأديان الصين كما كان يقول ملوكهم في أوامرهم وقراراتهم إذا أرادوا أن يرسلوا السكينة والود والهدوء بين المسلمين وبين أهل مملكتهم، ولكن لأن المسلمين هناك فهموا واجب الأقلية إزاء الأكثرية، وإنك لتندهش إذ تسمع بأن مسلمي الصين استطاعوا أن ينزلوا عن بعض شعائرهم ويتمشوا مع عادات الوسط الذين يعيشون بين ظهرانيه ويرضوا بآدابه ومصطلحاته(28/12)
وقوانينه فهم لم يقتصروا على الأخذ بعادات الصين بل أخذوا كذلك عنها زياها ولباسها وتخلوا عن شيء من عصبيتهم فعاشوا بينهم على محض الحب والسلام والرخاء وأنهم ليشتركون في أعيادهم ومحافلهم ويسلكون سلوك الصينيين بل هم خير منهم في ذلك وأنعم أخلاقاً، وهم يتجنبون بكل حزم وحكمة كل ما يغضب الأهلين كطوال المآذن مثلاً.
وقد كانت هذه الطاعة وهذا الإخلاص مدعاة إلى معاملتهم بالحسنى واللين والعرف من ناحية الإمبراطرة - يوم كانت الصين إمبراطورية - وأنك لتلتقي في كل قرارات هؤلاء الامبراطرة وأوامرهم ومنشوراتهم إلى الشعب الصيني بعبارات رفيقة تحث الأهلين على الترفق بالمسلمين والتحبب إليهم وملاينتهم وملابستهم والعمل على الإحسان إليهم واستتباب السلم والسكينة بين الأهلين وبينهم.
وأما المشاحنات والمقاتلات والمذابح والثورات التي قامت في خلال القرن الماضي بين المسلمين وبين الصينيين فلم تكن للسلطات العليا في حكومة الصين يد في فيها، ولم تكن هي الباعثة عليها، وإنما هم الموظفون الأصاغر الذين كانوا يوقدون نارها، لأنهم كانوا يكرهون المسلمين وينفسون عليهم حب الحكومة، ولقد كانت نخوة العرب وحميتهم وتمردهم على الضيم والذل وإباؤهم المختفي في أرواح هؤلاء المسلمين أخلافهم وورثتهم، تدفع مسلمي الصين إلى مقابلة الأذاة بمثلها والمذبحة بأشد منها، فكانت المشاجرة التافهة بين الأفراد لا تلبث أن تسوق إلى المذابح المخيفة الموحشة بين الفريقين ففي سنة 1860 مثلاً قامت مذبحة كبرى في مدينة كبوتشو ذبح فيها مسلمو المدينة عن آخرهم، ولم يكن الباعث على ذلك إلا قضية شخصية بين أسرة مسلمة وبين أسرة كونفوشيوسية، فلما رأى مسلمو المدينة المجاورة لكيوتشو ما فعل الأهلون بشركائهم في الدين أغاروا على المدينة فذبحوا من سكانها الوطنيين خلائق كثيرة حتى لقد امتلأت الطرق بجثث الموتى وأشلاء الهلكى والقتلى والجرحى فكانوا يحملونها أكواماً وركاماً واختلطت الجرحى بالقتلى فقضت نحبها دون أن يحس بأمرها، وكان من هذه المذبحة أن جاءت في آثارها بمجاعة كانت أشد منها هولاً، فكان الناس يأكلون لحمان البشر ولم يكن يجسر رجل من الفريقين أن يخرج وحده ويبعد في الطريق مخافة أن ينقض عليه الجائعون فيلتهموه التهاماً، وكان أكبر حظ الرجل منهم أن يقع على جثة إنسان فيأخذها إلى مكان قصي وهناك يقطعها إرباً ثم يجففها(28/13)
في حرارة الشمس ويختزنها كأحسن ما يختزن من المآكل واللحوم القديدة وكانوا يعملون من عظامها المرق والحُساء، ولقد اشتدت هذه المجاعة المخيفة حتى صاروا يبيعون اللحوم الآدمية جهرة في الأسواق.
وكذلك مضى نصف القرن الأخير على هذه الحال من الثورة والمذابح والشحناء حتى فني من المسلمون وباد خلق كثيرون يعدون بالملايين، ثم عادوا آخر الأمر إلى العيش في ظل السكينة والطاعة والسلم، كما يجب على الأقلية إزاء سواد الأهلين.(28/14)
آخر زمن
-
آخر زمن كلمة سيارة بيننا شائعة، ترددها ألسنة الخاصة، وتتشدق بها أفواه السوقة، وتجري كل يوم بين المذهبين، تدور كل حين في حلقات الغوغاء والأميين، وهي تقال في معرض التبرم والتسخط، عند ما يشهد الناس أمراً مستنكراً خارجاً عن سنن المألوف، متمرداً على حكم العرف، منشقاً على مبادئ الأخلاق والآداب، وإذا صح ما يذهب إليه علماء الفيلولوجيا، أي علم اللغات، إن الفكرة تستمد لفظها وأسلوب التعبير عنها من لغة الأمة التي نشأت أول أمرها فيها، فإن كلمة آخر زمن التي خلقتها روح العصر في هذا الجيل الحاضر، هي أكبر دليل على أنا مصابون بالمرض الذي ينطوي تحت معناها، والعلة العُضال التي تدل عليها حروفها، ولكننا في ذلك إنما نتبع أمم العالم وشعوبه، ونئن من الداء المتسود في أقطار الأرض المتحضرة وممالكها، إذ كان الغربيون قد ابتكروا قبلنا للتعبير عن هذا المرض. العصري الذي استبد بكل فروع حياتهم ومدنيتهم كلمة - ومعناها الحرفي (آخر الزمن) ويراد بها في الغرب المعنى الذي يريده المصريون في هذا العصر منها والكلمة كما يتبين للقارئ فرنسية، لأن فرنسا هي التي ظهرت فيها أعراض المرض قبل غيرها، ثم لم تلبث أن انتشرت في أمم الغرب بأجمعها، واجتازت الإقيانوس إلى العالم الجديد ففشت في لغاته، مما يدل على أنها تعبر عن حال المجتمع الإنساني المتحضر في كل بقاع الأرض، ولكن الكلمة في فرنسا مسقط رأسها تتجلى في أتم معانيها وأغراضها، وليست باريس إلا الحاضرة الكبرى لمرض (آخر زمن).
ونحن فإذا بحثنا في قيمة التعبير من حيث لفظه ومبناه فلا نلبث أن نتبين خطأه وفساده، لأن القرن من الزمن لا يجري عليه من مراحل العمر وأدوار السن ما يجري على الناس، فهو ليس مثلنا يبدو وضيعاً في العام الأول من مأته، ثم يشب ويترعرع ويمتلئ ويكتمل، ثم يكتهل ويشيخ ويهرم، ثم يحتضر في آخر يوم من العام المتمم للمائة، اللهم إلا في عالم التخيل والوهم والمجاز، ولكن الناس قد اعتادوا أن يحيلوا انحطاطهم وفشلهم وأمراضهم ومصائبهم ونكباتهم إلى الزمن، متنصلين من تبعة أغلاطهم، رداين إلى الزمن جريرة مفاسدهم، فهم في التبرم من انحطاطهم يقولون (آخر زمن) وكان أوجب أن يقولوا (آخر(28/15)
ناس).
على أنه مهما كان من خطأ التعبير وفساده فإن الغرض الذي يقصد به إليه قد عم العالم وتجلت مظاهره في كل حياة الجيل الحاضر ومعيشته، فقد اشتد الاضطراب بين الناس، وعظم الفساد، واستتب الانحطاط، وفشت المتاعب والهموم، وقست الحياة، حتى ساد الوهم بين الناس، إن العالم موشك على الانطفاء والخمود والفناء وإن العصر الحاضر هو آخر ما يطلع على العالم من العصور، وختام ما يدور به الزمان ومن ثم ترى كلمة (آخر زمن) ليست فقط اعترافاً بفساد الجيل، بل تسخطاً كذلك من هذا الفساد وشكاة وتبرماً.
ولكن إشفاق الناس اليوم وتخوفهم من وقوف دورة الزمن، وفناء عالم الأرض، ليس بالأمر المستحدث الجديد، فقد استولى نفس هذا الخوف على الأمم المسيحية عند حلول عام 1000 من الميلاد ولكن هناك فرقاً بيناً بين فزع أهل ذلك الزمان وبين فزع أهل (آخر زمن)، فإن قلق أولئك وفزعهم من مقدم ذلك العام لم يثر فيهم إلا لأنهم كانوا يحسون نعمة الحياة وبهجتها وانتعاشها، وكانت لهمه قلوب حساسة خفاقة، وأرواح متوثبة ومناعم حلوة بهيجة، فعز عليهم أن يلقى في روعهم أن الأرض عما قليل مُسفَّة بهم، ولا يزال فيها كؤوس تحتسي، ورضاب شفاه يرتشف، وهم يحسون أنهم لا يزالون قادرين على التمتع بالخمرة والحب، وأما فزع (آخر زمن) فليس فيه شيء من هذا، بل هو يأس رجل مريض، يحس أنه يحتضر ويدنو رويداً إلى الموت، في وسط هذه الطبيعة الجميلة الزاهرة المتفتحة.
ونحن نجيء إليك بطائفة من الأمثلة التي تقال فيها كلمة (آخر زمن). . . . ملك يعتزل الملك ويرحل عن بلده فيعيش في باريس في مغنى جميل، ويحتفظ عند الحكومة التي خلفته على الملك ببعض الحقوق والرتب والامتيازات، ثم يمضى زمان فيخسر على مائدة القمار أكثر أمواله، فيقع في معسرة شديدة، فلا يجد مخلصاً له إلا أن يخابر حكومة بلده في أن تعطيه مليوناً من الفرنكات، في سبيل تنازله آخر الدهر عن حقوقه وألقابه وامتيازاته. . . هذا ملك (آخر زمن).
قاتل شرير يحكم عليه بالإعدام ثم تشرح جثته بعد الوفاة، فيجيء مفتش الشرطة فيقتطع له قطعة من جلد الجثة بعد تشريحها فيدبغها ويصنع له منها محفظة للفائفه وبطاقاته. . . شرطي (آخر زمن).(28/16)
شاب يخطب له عروساً، ثم يأخذها يوم العرس فيزف معها في منطاد. . . زفة (آخر زمن).
ثلاث بنات من أسر طيبة، يتحدثن إلى صواحبهن، فتتنهد إحداهن فتسألها الأخرى، ماذا بك؟ فتجيبها - إني أحب فلاناً. . . وفلان يحبني، فتقول لها صاحبتها وهي تحاورها، ما أطيب هذا الحب. إني أعرف فلاناً فهو شاب جميل ورشيق وحلو القوام، ولطيف الحديث، ولكن علامَ إذن هذا الحزن؟ فترد عليها الأولى قائلة، ولكنه فقير لا يملك شيئاً وليس من أسرة مذكورة، وأبواي يريدان أن أتزوج بالباشا الفلاني، وهو بطين، عظيم الكرش، وأصلع، ودميم، وثقيل، ولكنه مع ذلك كبير الغنى، عريض الثراء، وإذ ذاك تقول لها محدثتها، إذن فتزوجي الباشا يا بلهاء دون تأخير، ثم اعملي بعد ذلك على أن يتعرف الباشا إلى حبيبك ويصاحبه يا غبية. . . بنت (آخر زمن).
ومن ثم ترى أن كلمة (آخر زمن) في هذه الأمثلة التي ضربناها ليس يراد بها إلا الانحراف عن أحكام العرف والعادة والانشقاق على سلطة الأخلاق والآداب والتحرر من سيطرة القوانين الأدبية التي نعيش عليها، فهي عند الشهواني مطاوعة اللذة إلى أبعد حدودها، والاسترسال مع الشهوة إلى أقصى مطالبها وإطلاق الجزء الحيواني في الإنسان، وهي من ناحية الأناني احتقار كل ما يتعلق بالناس والسخرية من شأنهم، وهدم الأسوار التي تحول بينه وبين طماعيته وشهواته، ولذائذه وحيواناته وهي عند المكذب بصلاحية الحياة المؤمن بسخافتها التمرد على الفضيلة، والسخرية بالآداب، ومتابعة النفس ووساوسها ومختلجاتها، وهي عند الجميع هدم الآداب، وقتل الحاسة الأخلاقية، وتسويد الإباحة في كل معالم الحياة.
ولكن عوارض هذا المرض قل ما توجد بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة لأنها لا تتجلى إلا في طائفة قليلة من الناس يرونها في الطريق السوي إلى المستقبل والباعث الأكبر على ترقية الحياة وتهذيبها، والافتتان في إصلاحها والسمو بها، ولكن هذه الطائفة الصغيرة هي التي تنشر ظلها على المجتمع كله، لأنها طائفة الأغنياء الظرفاء، وطائفة المتهوسين، فالأولون يتبعهم من بقية الشعب الأدعياء والمتظاهرون والحمقى والمغفلون، والآخرون يؤثرون في الضعفاء والجهلاء والعجزة والعصبيين والجميع يمشون إلى الانحطاط والفساد.(28/17)
أعراض المرض ومظاهره
أدخل قصور الأغنياء وذوي البسطة في العيش، والمترفين من سكان الحواضر والمدن، وأخطر في دروبها ومنافذها وحجراتها، ونبئني. ماذا نجد؟
أن أول ما يهجم عليك من مظاهر هذا المرض، أزياء النساء والرجال والأطفال، هذه الأثواب الغريبة الأشكال والألوان، هذه الحواشي والقُوارات والمزركشات والمتعرجات، وهذه الشرائط والأكمام والمخرمات، وهذه الربْطات التي تظهر لك ألوان الطيف الشمسي ومخاليطها وأصباغها، وهذه الأفرع المعقوصة والذوائب المرسلة، والسوق السمينة اللطيفة، والنحور الناصعة الجميلة، وهذه الحواجب المزججة المكتحلة، والخدود الأرزية الطلاء، والوجنات الوردية الدهان، والشفاه المحمرة المصبوغة، ثم دع ثياب النساء وبزاتهن، وانظر إلى الأطفال وهم في غرائب أثوابهم وفساتينهم بين سترة حمراء كسترة الجلاد في القرون الوسطى إلى سترة مذهبة كسترة القائد العظيم، وبعد ذلك تحول إلى بزات الرجال تر العجب العجاب، تشهد ضروباً شتى من الغرائب والمضحكات، بينا ترى السترة المتقاصرة لا تكاد تحجب الإعجاز، إذ تصدمك السترة الطويلة تنزل إلى أسفل من الركبة، ثم لا تنس الشعور الملواة، والمفروقة والمدهونة، والمفرق المقصوص، والطرة المسترسلة، والفود المتأود، والمنديل المطل من الجيب، والعصاة الذهبية، والمنشة البيضاء العاجيَّة.
وهذا وأنت إذا دققت البصر رأيت أن كل فرد من هؤلاء يحاول بما يبتكر من الأغراب في التفصيل والتقطيع والخياطة واللون، أن يهتاج التفات الناس واندهاشهم وإن كل فرد منهم - الرجل سواء في ذلك والمرأة - يريد أن يحدث للناس ضرباً من التهيج العصبي الشديد، وغاية الجميع من هذه البزات الغريبة أن يحدثوا تأثيراً ما، مهما كان الثمن، ومهما كانت التضحية.
ثم يأتي من بعد ذلك نظام البيت وأثاثه ورياشه، فإن كل شيء في هذه المغاني والقصور بهيج الأعصاب، ويذهل الأبصار، ويزيغ الحواس، فإن هذا التنافر الظاهر في كل نفائس الحجرات وطرائفها، وهذه المعارضة البينة في الألوان والأشكال والترتيب والوضع والتنسيق - كل ذلك يراد به إدهاش الناس وتهييج أعصابهم، وتضليل أبصارهم وحواسهم.
ثم تعال نلتمس أصحاب هذه البيوت في مجتمعاتهم وملاهيهم والأمكنة التي يختلفون إليها،(28/18)
ويطلبون فيها اللهو والمسرة والمراح، نجدهم في دور الأوبرا والمراقص ومسارح الغناء لا يصفقون إلا للشهوى من الأغنيات، والمهيج من الأناشيد، والعارية من الراقصات، والمومس من المغنيات، ولا يضجون بالمديح والإعجاب إلا للرواية السخيفة الغرض، والقطعة التمثيلية البلهاء القذرة العفنة، ولا تؤثر الموسيقى في أعصاب أحدهم إلا إذا اختلطت نغمات الأوتار كلها وامتزجت أصواتها، فاستحالت زوبعة من النغم صخابة داوية، ولا غرض له من اللهو ولا مأرب إلا أن تهتاج أعصابه، وتتبعه حيوانيته، ويستعيد في منتصف الليل شبابه ونشاطه وقوته.
وأعمد بعد ذلك إلى تصفح الكتب التي يطالعها سواد الجمهور بطبقاته ومراتبه ليجد فيها مسرته وتهذيبه فإنك ولا ريب ستحمي أنفك أن تؤذي من هذه الرائحة المستنكرة الدفرة التي تتصاعد منها، إذ لست واجداً غير كتب فاسدة عن النساء والعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، وعن اللصوصية وغرائبها والشرطة وأسرارها، وحوادث الزنا ووقائعه، والكتاب الذي يريد أن يكون محبوباً من الجمهور، جارياً مع روح العصر، متمشياً مع مودة الجيل، يجب أن يكون قبل كل شيء حيوانياً والجمهور يميل إلى الأقاصيص، على شريطة أن تطبع بطابع العلوم العصرية، كالتنويم المغناطيسي ومناجاة الأرواح، واستحضار الموتى، وأصابع اليد، والحركة في النوم، وقراء الكتب ينتشون اليوم من الشعر الرمزي المظلم المختنق بالاستعارات والرموز والكنايات والمجازات، وإن لم ينطو تحت هذا شيء من الغرض الشريف، أو مسحة من المعنى النبيل فإذا خرج من بين هذه العاصفة الكتابية كتاب فلسفي ممتع، عليه كل ظواهر الصحة والقوة والسلامة، أو رسالة نقية الروح، كبيرة المقصد، أو ديوان شعر حار القصيد، ملتهب الشاعرية، جديد المنحى، فلا يكون نصيبها إلا البقاء فوق رفوف المكاتب، وفي مخازن المطابع، وفي بيوت أصحابها، وعند طائفة معدودة من المهذبين، ومن ثم كان الأصحاء المبدعون من الكتاب والأدباء والشعراء لا يجدون من الإقبال والمكانة والرواج ما يجده السخفاء والزمني والحمقى والأدعياء، وليس ذلك إلا أكبر دليل على أن أعصابنا وأذهاننا لا تقبل إلا السخيف والحيواني والغامض والمظلم والبليد.
وصف المرض وأسبابه
أما وقد وصفنا لك طائفة من الوجوه التي تلتمس فيها أعراض آخر زمن ومظاهره، فنحن(28/19)
منتقلون إلى تشخيص المرض، ثم إلى العوامل التي أحدثته وعملت على نمائه وانتشاره.
أنا نعيش الآن ضعاف الأعصاب، مرضى الأذهان، خائري القوى، مفقودي الرَوْح والنشاط، مخدرين بكل أنواع التخدير، مقتولين بكل ضروب الضعف والزمانة والذهول والفتور، والعالم يئن اليوم من مرضين عضالين يريدان أن يستبدا بكل مظاهر الحياة، ويفتكا بالجيل والناشئة وينحدرا إلى السلالة والذرية، وهما يزدادان كل يوم شرة وتفاقماً وخطراً، وهذان المرضان هما الانحطاط والهستيريا بمراتبهما، ولا نريد بالانحطاط إلا الأمراض العقلية المختلفة التي تدخل في حدود الجنون، وقد عرف الأطباء هذا الضرب من الانحطاط بأنه اختلال في الأجهزة المخية وانحراف فيها عن مستوى العقل الصحيح، وليست الهيستريا وغيرها من الأمراض العصبية بأقل في أحداث آخر زمن من الانحطاط الذهني ودرجاته، ولا يذهبن أحد إلى أن الهيستريا لا توجد إلا بين النساء فإنك لتلتقي بها أحياناً بين الذكران، وهذان المرضان الخطيران سائدان بين الجمهور في البلاد المتحضرة ذائعان، يطبعان أعراضهما على كل عمل يعمل، وكل أسلوب من الحياة يعيش، ويمتزجان بأكثر ما يكتب ويقرأ ويقول.
وقد أرجع أكبر أطباء الغرب هذا الانحطاط إلى التسمم، فإن جيلاً قد اعتاد سواده أن يلح على المخدرات والمنبهات المختلفة الوسائل والأنواع، كالخمور والتبغ والأفيون والحشيش والمورفين، ويكون عرضة للسموم العضوية كالحمى والزهري والسل الرئوي والحنجري وغيرها، سينزل ولا ريب منها حيل منحط مريض، وإذا ظل هذا الجيل المنحدر يأخذ من هذه المخدرات ما أخذ الجيل الذي كان قبله، فأنت واجده ولا شك هاوياً إلى أحط أنواع الانحطاط الذهني، إلى البلاهة والحماقة والعته والذهول وأشباهها، ولو اطلعت إلى الإحصائيات لعرفت مبلغ التسمم الذي يجري كل عام في أجسام الشعوب المتحضرة، ولا تزال المقادير التي يتناولها العالم من المخدرات والمنبهات كل عام في ازدياد مطرد وارتفاع مستمر، ولاسيما الحشيش والأفيون وإن كانت مصيبة مصر وبعض أمم الشرق منهما أشد من مصيبة الغرب.
والعامل الثاني الذي عمل على إنماء مرض الانحطاط، وهو أكبر أسباب مرض العصر - آخر زمن - هو سكنى العواصم والمدن الكبرى، فإن ساكن المدينة الكبيرة - حتى الغني(28/20)
العريض الثراء في قصره الفخيم، محوطاً بكل وسائل الترف والنعمة - لا يزال دائماً معرضاً للمؤثرات الخطيرة التي تنقص من حيويته ومقدار قوته ونشاطه، فهو يتنفس هواء مشبعاً بالجراثيم، ويأكل طعاماً فاسداً ملوثاً مغشوشاً ويحس أنه أبداً هدف للاضطرابات العصبية المختلفة، حتى لا تكاد حاله تفترق عن حال ساكن المستنقعات ومغاشي الحمَّى، ومن ثم كانت درجة الوفيات في المدينة الكبيرة تزيد بمقدار الربع عن باقي سكان المملكة وهي ضعف ما هي عليه في الريف والبلاد الخلوية، وكان ينبغي أن تكون أقل منها، لأن درجة الوفيات في المدينة الكبيرة من الشباب والفتيان ومتوسطي الأعمار أقل منها في الأطفال والشيوخ، هذا وأنت تجد أطفال المدن الكبرى يترعرعون وينمون ويخرجون من أكمامهم حتى الربيع الخامس عشر وتظهر إذ ذاك عليهم علائم النشاط والفتوة والمستقبل. الزاهي المجيد. ولكنك لا تلبث أن ترى أن ذلك النماء قد وقف وأن ذلك الذهن المتوقد السريع البديهة والفطنة قد بدأ يفقد توقده وسرعة بديهته، ويعود متراخياً بارداً بليداً وإذا بك ترى الصبي الذي كان بالأمس مثال النشاط في المدرسة قد أصبح أحمق مفلول القريحة غبي الذهن متكاسلاً.
ونحن نعلم أن الولع بسكنى المدائن والعواصم قد اشتد في هذه السنين بالناس وأنه قد أصبح ضرباً من المرض، حتى أصبحت المدن اليوم غاصة بالسكان مختنقة بالوافدين عليها من القرى والبلاد، ومن ثم أصبح جزء كبير من سكان المملكة هدفاً لهذا التأثير الخطير الذي يسوقه الولع بالمدن، ولم تكن الحال كذلك منذ خمسين عاماً، ومن هنا جعل عدد الضحايا يزداد في كل سنة زيادة جلية فاحشة مخيفة مدهشة، واطرد معها الزيادة المستمرة في عدد المرضى المصابين بالأمراض العقلية، كالمجرمين والمعتوهين والمجانين وسكان مستشفيات المجاذيب.
هذا ولا يزال هناك سبب ثالث أعم من السبب الذي قدمنا، وهو سبب وإن كان غير كاف وحده لإحداث مرض الانحطاط، إلا أنه سبب كاف لأن يبعث على تفشي الأمراض العصبية الخطيرة كالهيستيريا والنيروستانيا وأضرابهما، وهذا السبب الثالث هو التعب الذي يستشعره أهل الجيل الحاضر من قسوة الحياة وتكاثر مطالبها ومشاغلها، والعالم المتحضر يشكو من هذا التعب منذ نصف القرن الأخير، فقد كثرت المخترعات(28/21)
والمكتشفات وتغلغلت جميعها في حياة كل فرد منا ونفذت إلى صميم عيشه، وأثرت أكبر الأثر في أعصابه وقواه، فإن البخار والكهرباء في أيامنا هذه قد غيرا حياة الفرد كل التغيير وطمسا معالم العيش الذي كان يعيشه آباؤنا وأجدادنا، والآن دعنا نقارن بين حال العالم منذ أكثر من سبعين سنة ثم حاله منذ عشرين سنة.
فقد كان في أوروبا عام 1840 ثلاثة آلاف كيلو متر من السكة الحديد فأضحت في سنة 1891 218 ألف كيلو متر وكان عدد المسافرين في هذه السكك الحديدية عام 1840 مليونين ونصف المليون فلم تكن سنة 1891 حتى أضحي 614 مليوناً، وكان مجموع الخطابات التي دارت بين ممالك الغرب في سنة 1840 هو 92 مليوناً من الرسائل، وذلك بخلاف الرسائل الداخلية التي دارت بين سكان المملكة الواحدة، فلم تكد تقبل سنة 1909 حتى صارت 2759 مليوناً، وكان في ألمانيا 305 من الصحف اليومية سنة 1840 فصارت 6800 في سنة 91، وكان منها في فرنسا 776 فصارت 5182، وكان في انجلترا منها سنة 1846 551 صحيفة فأضحت 2255، وناهيك بعد هذا بإحصائيات المطبوعات والمؤلفات وحركة المطابع والمكاتب، فإذا كان ذلك كذلك منذ أكثر من عشرين عاماً فليتصور القارئ مقدار النمو المدهش الذي حدث في هذه الأرقام إلى يومنا هذا، ولا يفوتنه أن يتبين لنفسه النسبة بين حال الغرب من هذه الوجوه وبين حال مصر، فليست هذه إلا صورة مكبرة لازدياد نسبها عندنا، فقد كادت السكة الحديدية اليوم تشبه في هذه البلاد خيوط الشباك ونسيجها، وأضحت مصلحة البريد أكبر من قبل وأكثر عملاً وفروعاً وحركة ونشاطاً، وكثرت عندنا كذلك المطابع والصحف والكتب والمطبوعات.
ومن ثم كان هذا النمو المدهش المسرع وهذا التغير المطرد في وسائل الحياة يتطلبان من الفرد في هذا العصر نشاطاً أشد من قبل، وحركة أكبر، وعملاً أكد، ونصباً أطول، لأن هذه الصحف المتكاثرة تريد كلها أن تقرأ، وهذه المجلات والكتب والمؤلفات ومستخرجات المطبعة والمكتبة تريد أن تطالع، وهذه الرسائل العديدة يجب أن تكتب، ومصالح السكة الحديد والبريد والتلغراف تريد كلها أن تأتي بإيرادها وأرباحها، ثم أن للفرد فوق هذه مشاغل العمل الذي يرتزق منه ومطالب الأكل والنوم وجميع حاجيات العيش، حتى لقد أصبح لساكن القرية الصغيرة في الغرب اليوم من مشاغل السياسة وموضوعات الصحف(28/22)
والتجارة ما يزيد على مشاغل حاكم ولاية من الولايات الكبرى منذ مائة عام، فهو يريد أن يفهم مجاري السياسة في مملكته وفي كل دول العالم وأقطاره، ويهتم بآلاف الحوادث التي تجري في أنحاء الأرض وأركانها، يهتم بالقراءة عن ثورة في تشيلي، أو تمرد في إفريقيا، أو مذبحة في الصين أو مجاعة في روسيا، أو مظاهرة في إسبانيا، وقد أصبح الطاهي في الغرب يرسل من الخطابات والرسائل أكثر مما كان يفعل الأستاذ في الجامعة قبل هذا العهد، وأصبح التاجر الصغير يسافر أكثر مما كان يفعل الأمير.
وهذه المشاغل الكبيرة، حتى التافه منها، تجهد ولا ريب الجهاز العصبي وتضعف الأنسجة وتنحلها، فإن كل سطر نقرأ أو نكتب، وكل وجه نبصر، وكل حديث نتحدث، وكل منظر نشهد من خلال نوافذ القطار الطائر، تحرك فينا أعصابنا وتؤثر في مراكز مخنا، بل إن أقل هزة من القطار - وإن لم نشعر بها - والضوضاء الدائمة المستمرة، والمناظر المتتابعة التي تأخذ أعيننا في شوارع المدينة الكبيرة، وترقبنا للحوادث الهامة الخطيرة، وتلهفنا الدائم على موعد ظهور الصحف، ومجيء ساعي البريد، وقدوم الأضياف والزائرين تكد في أذهاننا وأعصابنا وتهيجها وتضعفها، ولقد أصبح الرجل المتحضر اليوم يؤدي من العمل أكثر مما كان يطلب إليه أن يعمل منذ قرن بمقدار يتراوح بين خمسة أضعاف وخمسة وعشرين ضعفاً.
وأنت ترى أننا على فرط ما نتعب وننصب ونجهد أعصابنا وأذهاننا لا نتناول من الطعام ما يزيد في كميته وجودته عن مقدار طعامنا منذ خمسين سنة إلا الشيء اليسير ولكن هذا المقدار لا يكاد يوازي المتاعب التي تتطلب منا اليوم، ولو أنا عنينا بالطعام واحتفلنا له وأخذنا منه أجوده نوعاً وأكثره مقداراً، لما أغنى عنا ولا أفادنا لأننا لا نستطيع له هضماً، فإن معدناً لا نستطيع أن تمشي مع متاعب أذهاننا وأعصابنا، ومن ثم كنا نسوق بأنفسنا إلى عسر الهضم وأخطاره.
وكان من هذا التعب الذهني والإجهاد العصبي أننا اكتشفنا في السنين الأخيرة عدة من الأمراض العصبية وسميناها بأسماء محدثة، ولا يذهبن أحد إلى أن هذه الأمراض الجديدة كانت موجودة في العالم قبل أن يهتدي إليها وأننا إنما كنا عُمي البصائر عنها، فإننا إذا كنا لم نعثر بها فإنما لأنها لم تكن قد وجدت من قبل، ولأنها من نتائج العصر وويلات الجيل(28/23)
وأمراض المدنية الحاضرة، وكثير من هذه الأمراض يحمل اسم العوامل التي أحدثتها، وهنا نعود فنقول أن ازدياد المقادير التي تناولها الجيل الحاضر من الشراب والمخدرات لا منشأ له في الحقيقة إلا أن الجيل متعب منهوك القوى خائر الأعصاب، ولذلك راح كثير من أهله يتلمس في الكأس طيف الراحة والخمود والهروب من المتاعب والآلام، ويطلب روح النشاط والانتعاش والمراح، حتى إذا وجدوا أن الشراب لا يزيدهم، إلا تعباً وخوراً واهتياجاً للأعصاب، عمدوا إلى متابعة الشراب والإلحاح على الكأس، وهذا هو السبب الذي يجعل من أهل الشراب مدمنين وسكيرين ومخمورين.
وقد دلت الملاحظات على أن هذا التعب اللاحق بالإنسانية في هذا العصر يعمل على تعجيل المشيب وبكور الشيخوخة فقد كان الشيب لا يأتي قبل الآن إلا إذا ألمَّ الإنسان على الخمسين ولكنك لو درت بعينيك في حلقات أصحابك لرأيت أن من بينهم كثيرين قد وخط الشيب مفارقهم وأفوادهم وهم في الثلاثين ومنهم من شاب وهو قبل هذه السن، وقد قرر كبار أطباء العيون أن الناس كانوا قبل اليوم يبدأون بوضع المناظر في الخمسين فأصبحوا يضعونها اليوم في الخامسة والأربعين، وذكر أطباء الأسنان أن أسنان الناس تسقط في هذا العصر أو تختل قبل السن التي كانت تختل فيه في الجيل الماضي.
والخلاصة أن الإنسانية منتهكة القوى، ضعيفة الأعصاب، مريضة الأذهان وأن هذا المرض المخيف يبعثنا على التمرد على الآداب، والهزوء بما يسمونه أحكام العرف والأخلاق، وأن كلمة أخر زمن هي الطابع الذي نطبعه على كل قطعة من مدينتنا الحاضرة.(28/24)
التصوير في الإسلام
لعل تاريخ فن التصوير في الإسلام موضوع من أحدث الموضوعات وأروحها للقراء إلا أنه وعر شاق يبهظ من يتصدى للكتابة فيه لقلة مصادره وضياع أخباره وتجنب بعض قدماء المؤرخين والكتاب البحث فيه لعد بعضهم إياه مكروهاً أو على الأقل غير مستحب للاختلاف في تحليله وتحريمه، ومن هنا وهم كثير الباحثين في المدنية الإسلامية حتى العصر السابق فصاروا يعجبون من أن الحضارة بلغت عند المسلمين شأواً بعيداً على حين أنهم لم يهتموا بالتصوير ولم يكن لهم هوى فيه كما لأهل أوروبا الآن فيحكم أولئك الباحثون ضرورة أنهم لم يستقصوا ضروب المدنية الإسلامية بأن هذا الفن (أي التصوير) كان من الفنون المهملة في الإسلام للسبب المتقدم، مع أن الإسلام لم يحرم التصوير المعروف الآن كالتصوير بالزيت والأصباغ والصور المنقوشة على الورق وتصوير الكتب وكل الصور التي ليس لها ظل، وإنما حظر الإسلام صنع التماثيل ورسم الأشخاص مجسَّمة على الأحجار وغيرها خشية أن يرجع العرب إلى الوثنية وعبادة الأصنام التي قضى عليها الإسلام، فهذا الخطر كان لحكمة سامية في ذلك الوقت، أما التصوير والرسم الذي يمثل الأجسام إلى حد ما هو مباح فلا حظر فيه ولا وزر على فاعله وسنبين ذلك بعد.
فترى مما تقدم صعوبة هذا البحث ووعورته، بيد أن العلماء في هذا العصر غيروا نظرهم ورجعوا عن ما كان شائعاً في العصر الماضي من القول بأن المسلمين لم يحفلوا بفن التصوير بتة وتبين لهم المخطوطات وتفقد الآثار أنهم عنوا به بعض الشيء.
إلا أننا إذا تعمقنا في البحث ودققنا النظر فيما كتب العرب ووقفنا على كل أقوال فطاحل مؤرخيهم المبعثرة في بطون مؤلفاتهم تبين لنا أكثر من ذلك وعلمنا أنهم عنوا به العناية كلها وسنثبت في هذا المقال إجادتهم لهذا الفن وبلوغه عندهم مبلغاً عظيماً من الإتقان وكثرة المصورين منهم وتنافسهم في صنع أنفس الصور واحتفال أمراء الإسلام وعظمائه بها كما هي الحال في أوروبا وأمريكا الآن إلى مثل ذلك من الأبحاث، وسنمهد بلمحة في تاريخ فن التصوير في الإسلام والاستشهاد بما يثبت استعماله في العصور الأولى أي قبل أن نضج عندهم هذا الفن فنقول:
التصوير من الفنون الجميلة التي كانت تعرف عند العرب (بالآداب الرفيعة) وهي ثلاثة: التصوير والشعر والموسيقى، فالتصوير كان معروفاً عند العرب ولم يكونوا يتأثمون في(28/25)
صدر الإسلام اقتناء الصور والدليل على ذلك أنه كان يرد على الصحابة أقمشة من بلاد الروم وفارس رسمت عليها صور أشخاص وغيرهم فاستعملوها في لباسهم وفرشهم وأثاثهم، بل قد استعمل في صدر الإسلام الأثاث والرياش المزركش وعليه الصور والرسوم ومن جملة ذلك أبسطة عليها صور ملوك وحوادث تاريخية إسلامية، ذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب أنه كان في دار الخلافة ببغداد في أيام المنتصر العباسي المتوفى سنة 248 بساط عليه صور ملوك شتى في جملتهم يزيد بن الوليد وشيرويه بن أبرويز، وقد كتب تحت صورة الأول: صورة يزيد بن الوليد بن عبد الملك، قتل ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ملك ستة أشهر وتحت صورة الثاني: صورة شيرويه القاتل لأبيه أبرويز الملك ملك ستة أشهر.
التصوير على الأبنية بالألوان
وكان في القصر العظيم الذي بناه أحمد بن طولون في القطائع وزاد فيه ابنه خمارويه مجلس اسمه (بيت الذهب) طلى خمارويه حيطانه كلها بالذهب المجاول باللازورد المعمول من أحسن نقش وأظرف تفصيل وجعل فيه على مقدار قامة ونصف. صوراً في حيطانه بارزة من خشب معمول على صورته وصور حظاياهُ والمغنيات اللاتي تغنينه بأحسن تصوير وأبهج تزويق وجعل على رؤوسهن الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين والكوادن المرصعة بأصناف الجواهر في وآذانها الأجراس الثقال الوزن المحكمة الصنع وهي مسمرة الحيطان ولونت أجسامها أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة.
هذا ومما يثبت اشتغال العرب بالتصوير إبان التمدين الإسلامي ما روته مجلة لغة العرب عن تنقيب الدكتور هرسفيلد في سامرّا (سر من رأى) وما عثر عليه من الصور البارزة والملونة في آثارها فقد ذكر هذا الدكتور أنه وجد على جدران الجامع الأعظم الذي بناه المتوكل على الله نقوشاً مطبوعة وتصاوير ملونة وفسيفساء وأنه وجد في جملة تنقيبه غرفاً وحجراً وردهات قد زينت جدرانها وغشيت حيطانها بتصاوير شرقية منقوشة نقشاً بارزاً أو غائراً في الجص وهي في غاية البهاء والجمال، وكلها محفوظة أحسن الحفظ كأن البناة قد غادروها قبل أن يدخلها أهل البحث، هذا ولا ترى النقش على الجص. فقط بل أنك تشاهد تصاوير ملونة في مواضع الجص الفارغة من النقوش، وهناك أيضاً تصاوير(28/26)
مختلفة الألوان وصور أناس كلها ملونة على أبدع مثال وهو أمر في غاية الندرة في تاريخ الصناعة الإسلامية إن فنية أو بنائية وقد عدوا هذا الاكتشاف خطوة واسعة في معرفة تاريخ فن التصوير عند العرب، والراجح أن هذه الرسوم من صنع القرن الثالث للهجرة عند بناء سامرا لأن هذه المدينة أهملت في زمن المعتضد بالله سنة 289 وخربت من ذلك الحين وغشيها التراب حتى أخذ أهل هذا العصر في التنقيب عن أطلالها.
المصورون وارتقاء فن التصوير في العراق ومصر
فمنذ أواخر القرن الثالث للهجرة نضج فن التصوير عند العرب ولاسيما التصوير على الأبنية بالألوان فقد أجادوه وانتقلوا به من طور التقليد إلى طور الابتكار والإبداع سواء أكان في المشرق أم في الأندلس، ففي المشرق امتاز العراق ومصر بمشهوري المصورين وإجادة فن التصوير في عهد حضارة الدولتين العباسية ببغداد والفاطمية بالقاهرة أما العراق فاشتهر بنبوغ كثير من المصورين والمزوقين الذين صنعوا أنفس الصور وأفخر الصنائع ومن أشهرهم (ابن عزيز) المصور الكبير وقد كان في العراق مثل القصير في مصر وسنقص حكايتهما بعد. (أما البصريون) فكانت صنعتهم مشهورة في ذلك العهد لا يضارعها شيء من صنائع سواهم وقد اشتغل منهم كثير في مصر التي كانت وقتئذ كعبة الطلاب والقصاد يتبارى فيها رجال هذا الفن الجميل فيجدون من يعضدهم ويعجب بأعمالهم من المغرمين بفن التصوير من كبار رجال الإسلام، وقد اشتهر فيها (بنو العلم) شيوخ هذا الفن وشيوخ أشهر مصوري عصرهما أعني (الكتامي) و (النازوك) ثم (القصير) وقد كان في التصوير كما ذكروا عنه مثل ابن مقلة في الخلط أما ابن عزيز فكان كإبن البواب، هؤلاء بعض مشهوري المصورين في الإسلام وكلهم كانوا في مصر أو جاءوا إليها. وقد وضع لهؤلاء المشهورين وغيرهم من المصورين كتب طبقات مثل طبقات الفقهاء والشعراء والأدباء والأطباء وغيرهم وذلك مثل كتاب طبقات المصورين المسمى ضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس فهذا يدل ولا شك على كثرة المصورين في الإسلام والاهتمام بهمه حتى وضعوا فيهم كتب طبقات، نعم ومما يدل على شغف الناس ولاسيما الخاصة بالتصوير ما سنورده من وصف بعض صنائع هؤلاء المصورين أمثلة لنبوغهم وصورة مصغرة لعصرهم ذلك العصر الذهبي للتصوير، ليقف القارئ بنفسه على(28/27)
مبلغ رقي هذه الصناعة عندهم، وقد وقفت على هذه الأوصاف الهامة عرضاً في المقريزي فقد ذكر مناظرة القصير وابن عزيز ومنافستهما في التصوير أيام وزارة البازوري سيد الوزراء الحسن بن علي بن عبد الرحمن وزير المستنصر الفاطمي فقد كان كثيراً ما يحرض بينهما ويغريهما بعضاً ببعض لأنه كان أحب شيء إليه كتاب مصور أو النظر إلى صورة أو تزويق، ولما استدعى ابن عزيز من العراق فأفسده - وكان قد أتى لمحاربة القصير كان يشتط في أجرته ويلحقه عجب في صنعته وهو حقيق بذلك، وكان الباروزي قد أحضر مجلسه القصير وابن عزيز فقال ابن عزيز أنا أصور صورة إذا رآها الناظر ظن أنها خارجة من الحائط فقال القصير لكن أنا أصورها فإذا نظرها الناظر ظن أنها داخلة في الحائط فقالوا هذا أعجب ثم أمرهما الوزير البازروي أن يصنعا ما وعدا به فصورا صورة راقصتين في صورة حنيتين مدهونتين متقابلتين هذه ترى كأنها داخلة في الحائط وتلك كأنها خارجة من الحائط، فصور القصير راقصة بثياب بيض في صورة حنية دهنها أسود كأنها داخلة في صورة الحنية، وصور ابن عزيز راقصة بثياب حمر في صورة حنية صفراء كأنها بارزة من الحنية، فاستحسن البازوري ذلك وخلع عليهما ووهبهما كثيراً من الذهب.
أما صنعة (البصريين وبني المعلم) في التصوير والتزويق فقد وصفهما المقريزي عند كلامه على أبواب جامع القرافة قال: وعدتها أربعة عشر باباً. . . . أمام كل باب قنطرة قوس على عمودي رخام ثلاثة صفوف وهو مكندج مزوق باللازورد والزنجفر والزنجار وأنواع الأصباغ وفيه مواضع مدهونة والسقوف مزوقة ملونة كلها والحنايا والعقود التي على العمد مزوقة بأنواع الأصباغ من صنعة البصريين وبني المعلم المزوقين. . . وكان قبالة الباب السابع من هذه الأبواب قنطرة قوس مزوقة في منحني حافتيها شاذروان مدرج وآلات سود وبيض وحمر وخضر وزرق وصفر إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها رافعاً رأسه إليها ظن أن المدرج المزوق كأنه خشب كالمقرنص وإذا أتى إلى أحد قطري القوس نصف الدائرة ووقف عند أول القوس منها ورفع رأسه رأى ذلك الذي توهمه مسطحاً لا نتوء فيه، وهذه من أفخر الصنائع عند المزوقين، وكانت هذه القنطرة من صنعة بني المعلم وكان الصناع يأتون إليها ليعملوا مثلها فما يقدرون.(28/28)
أما (الكتامى) فأنفس ما صنعه صورة يوسف عليه السلام في الجب وهو عريان والجب كله أسود إذا نظره الإنسان ظن أن جسمه باب من دهن لون الجب وكانت هذه الصورة بدار النعمان بالقرافة.
ومما يدل كذلك على تفننهم في التصوير إبان حضارتهم واهتمام الخلفاء أنفسهم به في هذا العهد ما جاء في المقريزي عن الآمر بأحكام الله الخليفة الفاطمي أنه لما بنى المنظرة على بركة الحبش جعل فيها دكة من خشب مدهونة فيها طاقات تشرف على خضرة البركة صور فيها كل شاعر وبلده واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح كتبها عند رأس ذلك الشاعر. وبجانب صورة كل شاعر رف لطيف مذهب. فلما دخل الآمر وقرأ الأشعار أمر أن يحط على كل رف صرة مختومة فيها خمسون ديناراً وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته، ويشبه ذلك الرفرف الذي بناه الأشرف خليل بن قلاوون وكان عالياً يشرف على الجيزة كلها وصور فيه أمراء الدولة وخواصها وعقد عليه قبة على عمد وزخرفها وكان السلطان يجلس فيها.
وكان الحكام يستعملون التصوير بمثابة المنشورات الآن لتحذير الناس من عمل أو لحضهم عليه فمن ذلك ما رواه المقريزي عن نساء القاهرة من استعمالهن طرزاً جديداً من الثياب (مودة) كن يسمينهه البهطلة وكان فاضحاً جداً فأسرفن في عمله حتى كان يبقى من القميص كثير على الأرض وسعة الكم ثلاثة أذرع فيكلفهن مبالغ فاحشة، فأمر الوزير منجك بقطع أكمام النساء وقبض على جماعة منهن وركب على سور القاهرة صور نساء لابسات (مودة البهلطة) بهيئة نساء قد قتلن عقوبة.
أما الأندلس فكان التصوير فيها زاهياً شأنه في المشرق. وأقدم ما وقفوا عليه من الصور الآدمية على الأبنية صورة مجلس قضاء وجدوه مصرواً على جدران قصر الحمراء في غرناطة ويظن أنه من صنع القرن الثامن للهجرة.
أما تصوير الكتب ورسم المسائل العلمية كالنبات والبيطرة والحيوان والهندسة وغيرها فقد استعمله المسلمون حسب الحاجة إليه. نرى مثلاً من إجادتهم في هذا الشأن من صور ورسوم كتب أبقتها لنا الأيام. وهذه الصور تختلف باختلاف موضوعات الكتب فمن ذلك الصور التاريخية والأدبية. وأقدمها كتاب كليلة ودمنة الذي عرب في القرون الأولى وشاع(28/29)
بين الطبقات كافة مزيناً بصور الأشخاص. ثم مقامات الحريري ومنها ثلاث نسخ مصورة: الأولى في مكتبة باريس وهي مصورة بأبدع الصور وكتبت في القرن السادس للهجرة: الثانية في المتحف البريطاني وفيها 81 صورة ملونة وكتبت سنة 654 هـ. أما الثالثة فمسوداتها في مكتبة المستشرق شيغر.
ويضاهي هذه المقامات في القدم مخطوطة عربي في مكتبة شلومبرجر من القرن السابع للهجرة (13 للميلاد) فيه عدة صور تاريخية بينها صورة جنود عربية خارجة إلى الحرب بجمالها وأفراسها وأبواقها.
ويلي ذلك صور كثيرة في كتب المخطوطات بعد هذا التاريخ بينها صورة حصار بني النضير مرسومة في القرن الثامن للهجرة في كتاب مخطوط في المتحف البريطاني وهناك غير الصور التاريخية والأدبية الصور الطبية - كما فعل رشيد الدين الصوري المتوفى سنة 639 بتصوير الحشائش في كتابه الأدوية المفردة. وأقدم الصور التشريحية صورة تشريح العين لحنين بن إسحق مرسومة في كتابه المسمى تركيب العين وعللها وعلاجها على رأي أبقراط وجالينوس وفي في الخزانة التيمورية وفيه بضع صور ملونة تمثل أشكال العين.
الصور الجغرافية - أي الخرائط ورسوم تخطيط الأقاليم والبلدان وهي كثيرة في مؤلفات العرب فقد استعملوها في أقدم مؤلفاتهم الجغرافية كما في كتاب الأقاليم للاصطخري. ويدخل في هذا النوع من الصور تصوير الحركات الحربية وغيرها.
الصور الميكانيكية - وهي كثيرة في كتب الميكانيكا التي كانت تعرف عندهم بكتب الحيل وفيها صور الآلات الرافعة أو المحركة بين ملونة وغير ملونة كما في كتاب الحيل الروحانية وميخانيقا الماء الذي نشره المستشرق كارداي فو عن نسخة مخطوطة في مكتبة باريس فيها كثير من الرسوم تمثل آلات مدهشة كالتنين الصناعي والطيور الصافرة، إلى غير ذلك من الصور العديدة في أصناف الكتب العربية مما يضيق المقام عن سردها إذ ليس قصدنا في هذا المقال أن نفصل الكلام على تصوير الكتب عند العرب وسرد أسماء مؤلفاتهم المصورة فإن لها مجالاً آخر وفي دور الكتب في مدائن العالم الكبرى أمثلة كثيرة من هذه الصور ملونة تلويناً بديعاً تشهد بإجادة العرب لهذا الضرب من التصوير وبكثرة(28/30)
استعمالهم له حتى استعملوه في تمثيل بعض الرسوم الخيالية أو الدينية كصورة المعراج وصورة الصراط وغيره من الصور التي أتى بها الشعراني في كتابه الميزان.
(وبعد) فإنك متحقق مما أجملناه هنا رقي فن التصوير عند المسلمين وتفوقهم فيه على أنواعه على خلاف ما كان يظن قبلاً ونزيد على ذلك الآن أنهم قد أثروا في أهل هذا الفن في هذه العصر وما قبله ونعني بهم الطليان فإنه نظراً لاحتكاك أهل إيطاليا بالعرب وقد كانت لهم مدنية عظيمة في إيطاليا وصقلية اقتبسوا عنهم كثيراً من المجهودات والمبتكرات العربية في التصوير والرسم والحفر وقد كان الطليان في ذلك العهد متخلفين في المدنية. وما زالت الآثار التي أقاموها هناك مثاراً لإعجاب علماء الآثار والفنون وقد قال بعض علماء أوروبا أن الفن العربي على أنواعه الذي دخل إلى بلاد ايطاليا وغيرها من أوروبا إنما كان من جملة العوامل المؤثرة في ترقية فنونهم الجميلة.
هذا وسنعود إلى طرق هذا الموضوع ثانياً فنتمم الكلام في الأعداد القادمة من البيان على تاريخ فن التصوير في الإسلام عند المغول والفرس والأتراك وسائر الأمم الإسلامية إن شاء الله.
عبد الفتاح عبادة
البيان زارنا منذ شهرين صديقنا عبد الفتاح أفندي عبادة صاحب هذه الكلمة وكان فيما جرى بيننا من الأحاديث أن له كلمة متسلسلة على التصوير في الإسلام وأنه يود لو نشرت في البيان فلم نر بأساً من ذلك. إذ أن مثل هذه المباحث مما يُعنى به البيان وإذ أن البيان يرحب بكل كاتب. ولكنا أخذنا ميثاقه أن لا ينشر كلمته هذه في غير البيان لأن خطة البيان أن لا ينشر إلا الجديد فلا ينشر شيئاً قد نشر في كتاب أو في صحيفة أو في مجلة أو ألقي في نِدى ثم تسلمنا منه هذه الحلقة الأولى من كلمته وقدمناها فيما قدمنا من الموضوعات إلى المطبعة: بيد أنا لم نطبع منها نصفها حتى علمنا أنها نشرت في أحد المجلات العربية فأدهشنا هذا الأمر ونال منا كل النيل فسألنا عبادة أفندي في ذلك فاعتذر إلينا أنه إنما أقدم على ذلك حين رأى البيان قد تأخر ظهوره، أما وقد ظهر البيان فإنه لا محالة مختصه بما بقي من هذه الكلمة.
ومن هنا نعتذر إلى قرائنا الأفاضل عن نشر هذه الكلمة في البيان مع أنا سُبقنا إليها وإن(28/31)
كنا نظن أن قراء البيان كلهم أو جلهم غير قراء المجلة التي نشرت فيها هذه الكلمة.(28/32)
جوسلان
أو
صفحة من الحياة
العصر الثاني
في الدير
. . . مضت ستة أعوام وجوسلان لم يكتب في خلالها حرفاً واحداً. . . قضى هذا الدهر وراء حائط الدير متوفراً على العبادة والتفكير والدرس. . . .
إذا امتد ظل الليل، وانتشرت في أركان الدير ظلمته، وفرغنا نحن سكان المعبد من طعام العشاء، وانتثرنا ملتمسين المقاعد في رحاب الدير وأفنائه، كل يطلب من الجمع صاحبه، وكل يبحث فيه عن رفيقه، يتهامسون في هدأة الليل ويتناجون، حيث يفيض القلب، ويتفتح الضمير، ويتدفق الحب، إذ ذاك أروح أنا الغريب الذي لم يجد بعد من أهل المعبد صديقاً، المنقطع الذي لم يجن له منهم وليّاً ولا خليلاً، لأن القلب المترع المفعم لا يميل إلى بعض الحب ولا يرتضي منه نصفه أو قليلاً، أنطلق منتبذاً مجالس القوم أطلب قرب الصديق العظيم ونجوي الوليّ السامي الأشم، باب معبده الخفي، ألقي عند قدميه حبي في وحشه الليل وهجعته.
أي أو سْيَان. . أوسيان لطالما زرت لأجلك سحائب أنيستور وأجبالها أحمل في قلبي شعرك، وفي يدي قيثارتك ممعنا في صميم الشتاء، أضرب في قلب الغابة الكثيفة العذراء لشدَّ ما استمعت لأنين الشمأل، وحشرجة الريح الباردة وهي تحف بفروع الشجرة الفنيانة المورقة، ولطالما مست طرة شعري جبيني المتبلل المتدفق، ولكم رأيت الريح العاصفة هاربة متولية، كأنما من خوف ورعب، إلى حدود الوهاد البعيدة المترامية، تجري من السماء مذعورة عاجلة هوجاء، تضرب وجه الصخرة الغضبى المزبدة، حاملة إلى أذنيّ صيحاتها وعولاتها وزبدها وعزيفها، فإذا انتفضت جذوع السرحات وأفنانها، كما تنتفض في ملعب الريح القصبة الجوفاء، وثارت الزوبعة المثلجة فنالت من أعاليها الشم الموحشة، وخفضت من رأسها المشرف المتطاول، وأنا أمشي مشتملاً في بُردَة العاصفة، مؤتزراً إزاره العاتية، وإني لأنظر فإذا شعاعة متوثبة تبدد غيم النوء المتكاثف، تمشي في أثرها(28/33)
الشمس مشرقة من مكمنها، تنظر إليّ وتطالعني في إشراق وانتعاش وبهجة، تفتح لي طريقي بين المنحدر والهاوية. . . إن قلبي ليخفق إذ ذاك في ناحيته، وإن دموعي لتطفر من مختزنها، وإني لأسير متفتح الأذن، منتشر الذراع، مسرعاً كالمجنون موسع الخطى، أسير كأني أبصر ظل الله في ظل العاصفة، وكأني أسمع العظيم في زفيف الريح ورجع أصدائها، وما أشدني إذ ذاك بهجة وما أحرني حباً للطبيعة ووجداً، وما أبعدني إمعاناً في قلبها وصميمها.
تلك كانت لحظات نعمة أين لي بوصفها، تلك كانت برهات غبطة أدمع الله كأسها، أشعة مراح، وظل نعيم، يخلطان بين الحياة وبين الأبد. . . أن روحنا لتذكرها فتمر بنا الذكرى كخطرة مسرعة في حلم مسرع مبعد. . . يا الله. . . لقد ذقتها فما شككت في أن نبعة من نبعات الأبدية ما أن تزال تتدفق في هذه الأرض وتسح وتفيض.
والآن. . وقد قامت بيني وبين العالم تلك الجدران الشاهقة، التي شادها الإيمان ورفعتها القرون والأجيال، والآن وأنا أطوف في رفق وصمت بأجنحة الدير البعيدة. . . هذه الجدران المعتزلة الجامدة الصليبة، بيت الله ومسكنه ومقامه، حيث يعيش السكون والرهبة والجلال والأبد، وضياء المساء ينتشر فوق زجاج النوافذ آخر أشعته، وفي المحراب نار مشبوهة تسطع كالعين المشرقة في ظلمة الليل، وصوت الناقوس يتبدد في نعومته ويتشتت، وأنا أعتمد جبيني بعامود من أعمدة الدير فأسمع من جوفه صدى متردداً فيه متمشياً يهتز كما يهتز مفتاح العود الطروب الشجي، وإني لأرسل بصري في فضاء هذه الدار فأحس في فراغها كأن أذنا تصيخ إليّ وتستمع، وكأن صديقاً خفياً يشارفني في صحن الدير وباحته، يستهويني إليه ويجتذبني، وإنه ليكلمني في لغة غريبة، لا يقع معناها إلا للروح، ولا يدركها إلا القلب، وأنه ليخاطبني في أعماق صمت مرسل منشور وأنه ليحتويني في صدره ويواريني، وركبتاي عاطفتان على أرض الدير راكعتان وأنا أنشر على عيني طرف قبائي كالمبهوت المذعور، أسكن إلى ظل الرحمن العظيم، أنصت له واستمع، حديثاً روحانياً لا تستطيع كنهها لغات هذه الأرض، ولا تعيها بابل ألسنتها.
وكذلك يسلخ الليل ساعة فساعة. . والآن وقد أقفلت أبواب هذا البيت المقدس ومنافسه، وأنا أبتعد عن موقفي في رفق وتؤدة، أمسح بيدي الباردة القطرة المتحيرة فوق جبيني من دموع(28/34)
السماء. . .
الآن قامت الثورة. . . وقد بلغت أخبارها الدير فضج لها أهله، وتولى الجميع الرعب والخوف، وراع قلب جوسلان مقتل الملك ومذابح سنة 1793، ثم انتهى إليه أن بيته الذي درج فيه وليداً قد أحرق واندكت جدرانه، وإن والدته وأخته قد ركنتا إلى الهرب، ثم سمع بعد ذلك بأيام أنهما قد هجرتا أرض فرنسا، ولكن لم يلبث الدير كذلك أن انقض عليه الغوغاء فذبحوا من سكانه من ذبحوا، واعتصم الآخرون برؤوس الجبال ومعاصم الكهوف، وقدر لجوسلان النجاة من شر الثوريين وجنتهم، فلاذ بقمة مهجورة متناهية في وهاد الألب، عند كهف هناك يسمى كهف النسور دل عليه كان شيخاً متهدماً، وكان مكمناً لا يقتحم ولا يدانى، ينفذ إليه فوق هاوية متحدرة غائرة الأعماق، تشقها قنطرة من الصخر المعشوشب، وفي ذلك المكان الموحش الجليل قدر لجوسلان أن يقضي بقية عيشه، منقطعاً عن العالم مقصياً. . .
العصر الثالث
جوسلان ولورانس في الجبل
. . . لئن كان مشهد المكان رائعاً جليلاً يأخذ على اللب نواحيه، ولئن كان قلب جوسلان مفعماً بسكون المؤمن وتقواه، إلا أن وحشة المعتصم لم تلبث أن نزعت من فؤاده مراحه وبهجته، وأنه لفي ذات يوم خارج الكهف، إذ لمح عن كثب منه سجينين، رجلاً وفتى، يعدوان وفي أثرهما جنديان، متدانين جميعاً إلى الهاوية يطلبون طريقاً ومخلصاً، فصرخ جوسلان، وقد ثار في روحه إحساس طبيعي غريب، صرخة عالية، وأشار يدل السيجينين المطارَدين على القنطرة الصخرية، فعمدا إليها فاقتحماها مخاطرين مجازفين، والجنديان في آثارهما يعدوان، وإذا ذاك ضج في الفضاء من الناحيتين دوي الرصاص، فنهادي الجنديان مرتطمين في الهاوية، وأما أكبر الطريدين فأصيب بجرح بالغ شديد فلم يكد يحمل إلى الكهف حتى جاد بأنفاسه بين ذراعي جوسلان، بعد أن أوصاه الخير بفتاه.
وكان الغلام يدعى لورنس، في الربيع السادس عشر، وكان وحيداً في العالم، لا نصير له بعد أبيه ولا كفيل، فلم يلبث جوسلان أن فتح لرفيقه الصغير قلبه، وأحله منه محل العطف والحب والحنان، وكذلك اقتسما وحشة العزلة في الجبل، فأضحت عند جوسلان حلوة(28/35)
المبتسم طيبة الجناب. . . . .
في الكهف 25 سبتمبر سنة 1793
وكنت إذا عدت أدراجي عند المغيب منحدراً من مقانصي المتجافية النائية، كليل القدمين، مجروح الأصابع من أثر الثلوج، محتقباً الظبي الأرن، أو الشاة الجبلية، وأنا مشرف من الرابية في أبعد حدود البصر على البحيرة الزرقاء المتصاغرة، كالقطرة المرتجفة المتحيرة في راحة الطفل الغرير، والعشب الأخضر المزهر يحف بساحلها الصلد، والسنديانات من حولها مائلة الأعناق ذابلتها، وألمح سطع الموقدة المشبوبة متوهجاً من ناحية الكهف البعيد، وإذ ذاك يطير لبي في عالم التفكير ومسارح الخاطر، أسير أقول لنفسي. . . . . هناك عند هذه الناحية المستنيرة التي لا تبلغها عين الفهد، هناك تقيم القطعة الطاهرة مني، هناك الجزء الآخر من روحي ومهجتي. . .، هناك العين المشرقة تتشوف مقدمي، والأذن المنصتة تتسمع مقتبلي، والذاكرة النقية التي تحبني، هناك الصديق الذي يخفق فؤاده لموقع قدمي، والمخلوق الذي أرسلتني السماء لحمايته ورعيه، وهناك الإنسان الذي أرى فيه كل شيء في الحياة، ويراني عنده كل شيء في الأرض، كل منا عند صاحبه الوطن والصحابة والأحباب والأب والأم والأخ والأخت، هو الذي يعد خطواتي بخفقات فؤاده، ويطالعني وأنا أنحدر إليه فكأنما اليوم المستطيل الذي قضى بعيداً عني كان برهة من الزمن، وطرفة من العين، وأنه ليقبل علي إذ ذاك متشبثاً بنحري متوثباً، باسطاً ذراعيه إلى محاضنتي، عادياً كالرشأ من مرح، طافراً من بهجة، يجري أمامي إلى الكوخ وأنا في أثره. . . .
فإذا فرغت من تفكيري، أسرعت الخطى في طريقي الثلجي الأشهب، وأنا أتبع ببصري الممر الذي يفضي إليه، نافذاً من بين ربي الثلج أجباله، منزلجاً مع المنحدر هاوياً، وإذ ذاك أجد لورنس عند سفح الجبل مرتقباً رؤيتي مستطلعاً، وأنه ليأخذ ذراعي الضعيف في ذراعه، وأروح أقص عليه حديث يومي وخبره، ويتلو عليّ هو وقائع نهاره ونبأه، ونعود أدراجنا يحدثني كيف أن يماماتا نقفت البيض تحت أجنحتها وكم أعطت العنزة من لبانها، وكم من السمكات اصطادت حبائلها، ثم يأخذني فيريني ما جمع من أوراق الطحلبات وأغصانها، وما ركم من غثاء الأشجار ولحائها، يفرش به أرض الكهف قبل وفدة الشتاء وقرسة الزمهرير، وما اقتطف من أبّ الغابة وفاكهتها وما شاك أصابعه الدامية من إبرها(28/36)
وأشواكها، وما مَد ولوى من دوالي الكروم، وعواسج اللبلاب، فوق جوانب المغارة وجدرانها، وما أمسك من العصافير بمخادعتها بالحبوب ومداعبتها، والظباء الجائعة يلقطها الحب بيده ويؤكلها، لأن كل شركائنا في عزلتنا، ظباء الجبل وأيلها، وعصافير الغابة وأطيارها، أما من حب له، وأما من رضي واعتياد، تتسابق عند رؤيته، وتجتمع لمطلعه، وتطير على صوته ومشيئته. .
وكنا نأكل ما أصبناه في نهارنا، تحلو لنا الألبان وتوافه الطعام وتطيب، ونلتهم بعدها غرائب الفاكهة، ونوادر الثمر، وحينا نشرب ماءها، ونؤثر عليها عصيرها، وتختزن للفصل المحتضر ما تجفف الشمس ويحفظ الزمن، وينوه أحدنا بفكرة أخيه ويصفق لمبتكره، ويطفر لأملوحته، ونقتل السماء المتطاول في النادرة أثر النادرة والطريفة تتلوها الطريفة، والضحكة الحلوة في أعقاب الضحكة، وحينا نشهد القمر في صميم الليل بازغاً مستهلاً، ساطعاً على صفحة البحيرة منبسطاً، فنسجد فوق الصخر إلا هم خاشعين ضارعين، نستقبل مطلع ذلك النور، ومتألق ذلك الضياء وقد أمال لورانس جبينه المؤمن الطاهر فوق الضريح متفجرة عينه بالعبرة المهراقة، ندية وجنته بالدمعة المسفوحة، نشكر الله اليوم الذي أعطانا، ونحمد له الليلة التي وهبنا، ونسأله الشمس تطلع علينا بالغد الهنيء، والأيام الحلوة الراغدة، ونرسل ضراعاتنا ودعواتنا للذين على الأرض، مبتهلين للمتوسدين بطونها ولورانس يجاهد الدمع ويغالبه، متهدج الصوت في حزن، ناشجاً في شجن، يرسل من عينه ما بقي من عبرات الابن لذكرى الوالد، ويروي يديه المشتبكتين فوق صدره من شؤونه ودموعه. . . . . .
كذلك نختم يومنا، نمضي في سلام لنهجع في رفق، ملتحفين كثيف اللحاء متوسدين غليظ أوراق الشجر، حتى يصدح صوت الذي يصحو قبل رفيقه مع نشائد القنبرة، ويمتزج بأغاني البلبل، فيطرب أذن صاحبه، ويوقظه من هجعته.
هذا ولورانس ينمو ويفرع، ويزداد في كل يوم روعة وجمالاً، وفتنة ونضرة شباب، وتشتد بينهما أواصر الود والحب والعطف والإعزاز.
العصر الرابع
الشتاء في الجبل(28/37)
مضى عام. . . والفصول تتابع
هنا هبط الشتاء متعجلاً باكراً قل زمن مهبطه، وقد انتشرت فوق جسم الأرض أكفانها، والرياح من حولنا ترمي بآكام من الثلج الأشهب. . . الله لنا، ورعيا للصخرة التي تضمنا، وبركة للثغرة الت تكنفنا وتعصمنا، فالآن لم نعد نستطيع أن نخرج من ظلمة كهفنا ومنفنانا، ولم نعد نتبين الوديان من القمم التي كانت تعلوها، والذوائب التي كانت تزينها، ولا جسور الصخر التي كانت تحوطها، ولا الروابي التي كانت تسامي وهادها ونجادها، وقد حجب الطوفان المتجلد مناحر الجبل ومنافسه، وعواليه ورؤسه، وسهوله وحزونه، وأن الظبي ليرتجف مثلنا ويرتعش، لا يفارق الكهف ولا يخرج إلى الجبل كما كان يفعل متوثباً ممراحاً لاعباً، وقد سمت على القنطرة التي تعوج بالجبل إلى الوادي ركام من الثلج شماء عالية، ونحن الآن في جزيرة لا تبلغها العين، ولا يشارفها البصر، مسجونين حتى مرحل الشتاء وهجرته. . . يا الله لشد ما أحييت أيام الشتاء وأشهره، إنه لتذكرني بحال الأرض وتعلّمني أن القلب لينزوي وينكمش إلى دفئه، ويمسك عليه في هذا الموت الأصغر مهجته، وعصارة قوته، مقتصدها للربيع الرنوان الجميل، وعلائل نسيمه السجسج الساكن، ليجري فيه أخف من قبل نشاطاً وأشد روحاً، أن الروح المنزوية في خلاله المنقبضة من جهامته لتخرج عند الربيع من حجبها ووسائدها هاربة من هدأة المشتى وظلماته ومحازنه وما الشتاء للروح إلا كالملح للطعام يرفع شهوتها ويصلح مذاقها ولقد كنا ننعم إذ نحس بأننا نحب، ونشعر بأنا نعيش، بينا كل شيء في الطبيعة يحتضر تحت الجليد ويموت. . .
ولكن ما لبث أن عدا على هذه السعادة المعسولة ظل من الحزن. . . إذ وقع للورانس حادث مزعج ألقاه جريحاً مريضاً، فدأب جوسلان على تطبيبه والعناية به، وأسكنه لم يلبث أن اكتشف أن لورنس ليس إلا فتاة، فثار فيه عند ذلك إحساس مخيف، يمتزج فيه الرعب بالخجل، وكان إخفاء لورانس جنسها عن أمر من أبيها، واشتدت الحيرة بجوسلان، وتملكه الاضطراب، ولكنه ظل يحوط لورانس بالحب والعطف والإجلال. . .(28/38)
الطلاق
تمهيد
أحب شيء إلى الإنسان حريته والمثل الأعلى للحياة أن يكون الإنسان مطلق السراح لا يصده عن أغراضه صاد. ولو تقطعت الأوصال الاجتماعية وعاش كل إنسان في عزلة لتمتع الناس بنصيب وافر من الحرية لا يعوقهم شيء غير العقبات الطبيعية وما يعتو نفوسهم وجسومهم من النقص والفساد، ولو كان الزواج لا يهم غير الزوجين لترك كل إنسان وشأنه في الطلاق، متى أحب امرأة وأحبته تزوجا، ومتى دَبّ بينهما الشقاق أو مال قلب كل منهما عن الآخر أو انتفت بينهما عاطفة الحب افترقا ولكان الاقتران الحر خير كفيل لسعادة النوع الإنساني.
الحب عماد العائلة والأساس الذي يجب أنا يبني عليه كل زواج، وعلى قدر حرارته وفتوره يكون نصيب الزوجين من السعادة والشقاء، غير أنه يشيخ مع الزمن ثم يلحقه الموت فيفنى، ومهما اشتد كلف الزوجين فسيتلاشى حبهما طال الزمن أو قصر، ويحسن بهما حينذاك أن يفترقا ليبحث كل منهما عن عشيق يسكن إليه.
قد لا تتفق أخلاق الزوجين ويشجر بينهما الخلاف وتصبح الحياة سلسلة نزاع يفوت معها غرض الزواج، وما أشد تعرضنا لهذا الخطر لما في الخطبة عندنا من المقامرة بالمستقبل والمقامر على حافة الإفلاس إن لم يدركه حسن الحظ هوى به سوى البخت إلى حضيض الشقاء، ودين القمار لا يلزم المدين كذلك زواج القمار لا يرتبط به الزوج الذي لو أراد ألقى حبل زوجته على غاربها، فالطلاق والحال هذه خير دواء لفوضى الزواج ومتى كان الزواج فوضى فأخلق بالطلاق أن يكون فوضى.
هذا هو ملخص ما يقول حماة الطلاق تأييداً ولكنه قول بعيد عن الصحة، ومنشأ الخطأ عدم الاعتداد بالتاريخ في تعليل الأمور والاعتقاد بأن القوانين صنع الروية والعقل، والحقيقة أن الضرورات والطقوس والعادات والأوهام والخرافات هي الموجدات للقانون بفعل الأجيال فيها وتأثيرها عليها وصياغتها إياها في قالب كيماوي. فيجب إذن على من يحب الوقوف على حقية قانون أن يرجع إلى نشأة هذا القانون ويعرف تاريخه فإن وجد العناصر المكونة له باقية على حاله لم تتغير حكم بأنه صالح وإن رأى أنها اندرست حكم بأنه ضار يجب(28/39)
العدول عنه إلى قانون آخر يتفق والعادات الحديثة.
وإذا رجعنا إلى العصور القديمة نجد أن الزواج كان ضرباً من ضروب الرق إذ كان الرجال لا يتزوجون إلا من النساء اللاتي كانوا يسبونهن من القبائل الأخرى أو من اللائي كانوا يشترونهن، وما زال لكل من هاتين الطريقتين في الزواج أثر بيننا وأن كان هذا الأثر ضعيفاً، ففي بعض القرى إذا خرجت عروس لقرية أخرى ففي الغالب يحدث شجار بين القريتين كأن أهل الزوج يحاولون سبي المرأة فيدافع عنها أهلوها، وما حفلة الزفاف في بعض القرى ولدى البدو وما فيها من ضرب على الطبول وسباق خيل كراً وفراً ولعب بالحطب وطلقات البارود وإحاطة العروس برجال أشداء إلا تمثيل للحفلة التي يدخل بها المنتصر دياره بالغنائم والأسرى، والمهر الذي يدفعه الزوج لزوجته أثر لشراء النساء ليكن زوجات. والمهر في عرف الفقهاء ثمن لبضع المرأة، وكما ينعقد الزواج بالإيجاب والقبول ينعقد أيضاً بلفظ البيع والشراء.
ولما كان الزواج مرتبطاً بالطلاق ارتباطاً متيناً وقد أبنَّا أن الزواج كان نوعاً من الرق فمن المعقول أن ينفرد الرجل بالطلاق دون المرأة كما انفرد السيد بالعتق دون العبد والطلاق كالعتق تسريح للمرأة وتمليكها حريتها أما الآن فقد تغيرت الحال وأصبح مركز المرأة الاجتماعي أحسن نوعاً وفقد الزواج صبغة الرق والاستعباد وصار عقداً لا يتم إلا بالإيجاب والقبول كبقية العقود الأخرى، وإتباعاً لهذا التطور لا يستحسن بقاء الطلاق على حاله وإرخاء العنان لشهوات الرجل كلما عاف امرأته نبذها كما ينبذ نعله القديم بل يجب أن يكون بحال تتفق وأخلاقنا وعاداتنا الحاضرة.
على أن ذبول الحب وحده غير كاف لتبرير الطلاق فإن طول المعاشرة وإن يطفئ من شعلة الوجد إلا أنه ينشئ بين الزوجين جملة عواطف لا تقل قوة وصلابة في شد أزر العائلة، إذ بعض مضي زمن من الزواج بألف الزوجان بعضهما البعض ويعتاد كل منهما معاشرة الآخر وتندمج مصالحهما في مصلحة واحدة فيتعاونان في المشورة والعمل ويأتمن كل منهما الآخر على سره ويخلصان النصيحة وجملة القول يتحول الوجد إلى عاطفة أخرى لذيذة، عاطفة الصداقة والصحبة، وما أعز على النفس من فراق صديق حميم فما بالك إذا كان هذا الصديق ربة بيتك وشريكتك في أطفالك.(28/40)
لا شك عندنا في مشروعية الطلاق وضرورته للهيئة الاجتماعية ولكن لا شك أيضاً في أنه من كبريات المصائب التي تنزل بالعائلة فيفصم عراها ويدك أركانها ويفك روابط الألفة والوداد ويغرس بين الناس بذور الحقد والضغينة فلا يحسن الالتجاء إليه إلا إذا استفحل الشقاق بين الزوجين واستحال التوفيق بينهما، ألا ترى أن الجراح لا يقدم على بتر عضو مريض إلا إذا استعصى الداء ويئس الطبيب من معالجته وخاف على بقية الجسم من الهلاك. وإذا لم نتقصد في الطلاق جهد الاستطاعة اختل ميزان الأمة واعتلت صحتها، وإذا لم يكن الجراح ماهراً أنزل بمرضاه مصائب جمة وأودى بحياة كثيرين منهم. ولو كان الطب مباحاً لجميع الناس يحترف به من أراد وإن كان جاهلاً لفتكت الأمراض بالنفوس وحصد الجهل حياة كثيرين من الأقوياء. ومتى كان الطلاق فوضى يقع بمجرد صدور لفظه من أي إنسان بقصد وبغير قصد فأخلق بالأمة أن تكون هزيلة القوى مفككة الروابط.
الطلاق شر عوامل الفساد وتحليل للعائلة. والعائلة للأمة بمثابة الخلاية للجسم الحي. وإن يكن في الخلاية قوة تدفع بها عادية الفساد عن نفسها غير أنه يستحسن اتقاء الخطر قبل وقوعه واستئصال جذوره قبل أن تنمو وتشتد. والقوة الحافظة لكيان العائلة الأطفال وتحاب الزوجين وتقاربهما في الأخلاق والمشارب. ولكن السآمة وإتباع الهوى وضعف الأخلاق والوقوع في حب شخص غريب عوامل حرب وتفريق إن لم نقطع عليها طريقها ولم يقلم الشارع من أظفارها فإنها قد تتغلب على عوامل الألفة وتقتلع الروابط العائلية فتذر العائلة أنقاضاً وتمسي الأمة واهية القوى.
يقول أحد الفقهاء الطلاق سم قليله دواء وكثيره قتال وأول ما يقتل نفوس الأطفال ينتزعهم من أحضان أمهاتهم ويلقبهم بين مخالب الضرات فينشبن فيهم أظفارهن. ويمزقن قلوبهن الصغيرة ويقتلن أخلاقهن الطاهرة بما يرهقن به أجسامهن من الضرب المبرح والكلام القارص وسوء الغذاء وقذارة الثياب وحقارتها. ولا أضر على الأفراد والأمم من تربية الذل والإرهاق ولا أدعي إلى الجبن والكذب من القسوة مع الأطفال.
والحسد أشد ما يكون بين الأقارب وكلما دنت القرابة ازداد سعيراً فهو بين الأخوة فيما لو وجدت أسبابه على قمة غليانه، وهل يثير الأحقاد مثل التفرقة في المعاملة؟ يشقى أولاد المطلقة وينعم أولاد الأخرى.(28/41)
(لهذا الموضوع بقية)(28/42)
نصيحة شاعر
إذا درس المرء التاريخ ونظر في حياة الأمم التي بادت ولم يبق منها غير أسمائها وجد في الطور الأخير من أطوارها والعصر الأخير من عصور حياتها صفات معروفة ذا رآها في أمة حية علم أن مصيرها مصير تلك الأمم التي بادت وانقرضت وليس انقراض العناصر البشرية مما يستدعي الدهشة فإن ذلك سنة لا مناص منها وإذا نظرنا في حياتنا وجدنا في أمتنا تلك الصفات التي تبدو في حياة كل أمة قبيل انقراضها مثل العجز والملل والكسل والتوا كل والضعة.
والزمان وحده هو الذي يحكم على صفات أمتنا أهي عوارض تزول أم عوامل تؤدي إلى الهلاك.
لا الدهر غر ولا الأيام ظالمة ... وإنما العيش فينا والردى علل
كل له أجل يسعى ليبلغه ... وليس يفلت أمَّأ جاءه الأجل
لولا التنافس في الدنيا لما صلحت ... ولا الحضارة والأيام والدول
زاوين إلا عن الفحشاء أنفسهم ... وفوقهم من بوادي خزيهم حُلَلُ
يا بارك الله مقدروا يعاجلهم ... فتطهر الأرض لا رجس ولا خطل
ما باشروا الصديق في قول ولا عمل ... فكُذبَ الأصدقان القول والعمل
إذا أصيبوا بشْر هيّن خنعوا ... وإن أصابوا منالاً هيّناً جذلوا
ويغضبون على من رام نفعهم ... فما يشجعه في السعي محتفل
فلا حكيم ولا نَدْب ولا فَطِن ... ولا عظيم ولا ثَبْت ولا بطل
إذا هممتم بأمر نفعه عممِ ... ألهاكم العجز والذلات والملل
وإن بدهتم بخطب ضره أمم ... ضاقت لديكم به الغايات والسبل
وصاحب الجهل فيكم آمن فَرح ... وصاحب العقل فيكم حاذر وَجِلُ
إذا نطقتم بحق فيكم حَصَر ... والبُطْل مبتدر منكم ومرتجل
فإن رقدتم فإن النوم عادتكم ... وليس تصحو لكم روح ولا مقل
تهافتون على الأدناس ما نتنت ... مثل الذباب على الأدناس ينتقل
أفهامكم مثل أفهام الفراش إذا ... حام الفراش على مصباحِ يشتعل
فإن دعيتم إلى خير ومكرمة ... حكيتم البُهْم لا عقل ولا حيل(28/43)
فما طبيب يداوي داءكم أبداً ... إلا الهلاك وهذا ريثه عجل
ومن دلائل هذا الهُلْك أن لنا ... فخرا فنحسب أن الفضل متصل
إذا خُشِيتم فأنتم مشعر جبُن ... وإن رُجِيتُم فأنتم معشر خُذُل
كم من نصيح لكم بالرشد ينصحكم ... كأنما حظه من نصحه الصَّحلُ
كلوا وناموا ونالوا حظكم أبداً ... من التثاؤب لا لوم ولا عَذَل
وعاقروا الخمر والأفيون في دعة ... فعيشكم مثل ظل سوف يرتحل
واستخبروا عن هوى اللذات قاطبة ... أمَّا عن العز والعليا فلا تسلوا
وملء أشداقكم ضحك أأسكركم ... من حسن حالكم خمر هي الجذل
أم ضحكة الرجل المجنون من حَزَنٍ ... لشد ما نال منك البؤس يا رجل
أم ضحكة الخنث الموهون أضحكه ... أمر معيب فلا تقوى ولا خجل
أنا النذير إليكم والنصيح لكم ... وليس يؤثر نصحاً عاجز مَذِل
يمضي الزمان فلا عزم فيُسْعِدكم ... وليس يزداد إلا العجز والخبل
وفيكم من صفات السوء أخبثها ... حتى لقد صار فيكم يضرب المثل
أشعلتم نار يأسي وهي خابية ... وقد قتلتم ذكائي وهو مشتعل
هيهات هيهات إني مِقْول أبداً ... حلق الزمان به الناس يرتجل
أنتم بفيّ كطعم المر أمضغه ... حتى تساوى لديّ الصاب والعَسَلُ
فإن فهمتم فمالي فيكم أرب ... وإن جهلتم فشر العادة الجهل
إذا هجوت فما أهجوكم أبداً ... إلا ودمع على الخدين ينهمل
أنتم أحق بتأبين ومرثية ... والرزء بالحي جرح ليس يندمل
أنتم عليّ وإن طالت مهانتكم ... أعز ذي قدم يسعى وينتعل
فنحن في أمرنا طرا سواسية ... وأن تفاوتت الأخلاق والنّحَلُ
ليس لي فيكم حظ ولا أمل ... وليس لي في الورى من دونكم بدل
إني رأيت حياة الناس أولها ... يدعو لآخر ما يأتي ويُقْتَبَلُ
لقد ورثنا كلها كمد ... مور على القلب مثل النار يشتعل
فنحصد الشوك مما ذَرّ أولنا ... لقد ورثنا عن الأسلاف ما فعلوا(28/44)
فمن خمول ومن جهل ومن كسل ... وأعظم الخطب ما يأتي به الكسل
ثقل على النفس نُمضيه ونصرفه ... حتى يصح وحتى يصدق العمل
ونجتني العز غضا كله ثمر ... ونشرب العيش ريا كله جذل
أن الأماني دون القلب ما برحت ... في القلب منزلها مُسْتَمْرأ خَضِل
نستخبر القوم أني وجهة سلكوا ... فبلغتهم إلى عليائها القلل
هم زاولوا الجد قد دانت تجاربه ... لهم فعزوا بها والدهر مقتبل
قوموا اجعلوا السعي في الأطماع رائدكم ... ما أضيع المرء لولا السعي والأمل
بعض العلوم إلى الأعمال منتسب ... وأحسن العلم ما يجدي به العمل
هذا السلاح الذي يدع لهم سبلا ... في مجدهم لا ألقنا الخطية الذُبُل
يا قوم هذا سبيل لا خفاء به ... فيه الحياة لأقوام إذا عقلوا
أنا بمنزلة الفصل يتبعها ... أما الحياة وأما الموت والأجل
حتام ننكر حقاً غير مشتبه ... لا يكره الحق إلا من به دخل
لا يصلح العلم مضنوناً به أبداً ... فأين شؤبوبه إلا ينفع البلل
هذا الذي يدعى الأقوام قادرة ... فكل فرد كعضو ما به شلل
أذلك المال مضنون به أبداً ... إن العزيز لدى الأوطان مبتذل
والعلم مثل عصا السحار يبسطها ... فيصبح المال قد ضاقت به السبل
والعلم والمال مقرونان في قَرَن ... لا نجتني المال حتى يصدق العمل
وإنما لغة الأقوام مِيْزَتُهُمْ ... فإن تولت فمجد القوم مرتحل
قد أصبح العلم والآداب ضائعة ... وأصبح الشعر فوضى كله ذلل
يرقى الوجود بعيش الصالحين له ... من ليس يدركهم عجز ولا كلل
ليس الحياة بمستشفى لمن سَدِكَت ... به الزمانات والأمراض والعلل
بل الحياة جهاد لا خفاء به ... فليس يفلح إلا الأغلب البطل
إن الحياة كَتَنُّور ومعركة ... يَصْلَى الشجاعُ ويصلى العاجز الوكل
وكلكل الدهر لا يُبْقي على ضَرع ... وليس يخدعه جود ولا بَخَل
نلهو عن العيش والأقدار نافذة ... كأنهن مطايا تحتنا ذُلُلُ(28/45)
إن المقادير أجناد مُجَنَّدة ... تصول بالحق لا ظلم ولا خطل
لا رحمة عندها ترجي ولا مِقة ... ولا الشفاعة تُقْصيها ولا الخَوَل
عبد الرحمن شكري(28/46)
أفكار بليدة
لمفكر بليد
هذا اسم كتاب بديع حلو الأماليح يمتزج فيه الجلد باللهو وتختلط الفلسفة فيه بالدعابة، يحتوي طائفة من الأفكار الجديدة والآراء الصائبة المستملحة، وقد اشتهر مؤلفه الكاتب الانجليزي الماجن جيروم. ك. جيتروم بأنه من أبدع الكتاب الفكاهيين في العصر الأخير، ونحن نقتطف منه قطعاً صالحة لتفكهة القراء.
1 - الغرور
إن الرجل الطيب في نظرنا هو من كان طيباً لنا، والرجل السيء هو الذي لا ينزل على ما نريده منه، والحق الذي يقال إن كل إنسان منا يحمل في قلبه عقيدة ثابتة راسخة، هي أن هذه الدنيا العريضة كلها بناسها وجماداتها ما خلقت إلا له وحده فرجال الأرض ونساؤها لم يخلقوا إلا ليعجبوا بنا وليشبعوا شهواتنا وليسدوا مطالبنا، وأنا وأنت أيها القارئ العزيز كل منا يعتقد أنه مركز الكون كله وقطب رحاه، فأنت - كما أفهم - جئت إلى هذا الوجود لكي تقرأني وتدفع ثمن ما قرأت، وأنا - في نظرك - لست إلا شيئاً أرسل إلى هذا العالم لكي يكتب لك شيئاً تقرأ. والنجوم لم تنتثر في صفحة السموات إلا لتجعل منظر السماء في الليل مبهجاً لنا جميلاً، وهذا القمر البازغ الحلو لم يطلع إلا لكي نتحاضن تحته ونقبل ونعانق ونشاغل.
وإني لأخشى أن نكون مثل ديك جارتنا إذ ظن أن الشمس تطلع كل صبح لكي تستمع لصيحاته، بل إن الغرور هو الذي يحرك هذا العالم ويسيره، وما أظن أنه عاش على هذه الأرض إنسان واحد لم يكن مغروراً، ولو وجد إذن لكان يكون رجلاً لا قبل لنا به ولا طاقة لأحد منا على احتماله، ولقد كان يكون ولا شك رجلاً طيباً جداً، رجلاً يوضع في زجاجة ويطاف به على الناس للفرجة والمشاهدة، رجلاً يوضع فوق قاعدة تمثال ونلتف به نرسمه كما يفعل التلاميذ في كراسات الرسم. نعم إنه ليظفر منا إذن بالاحترام ولكن لن يظفر بالحب، لن يكون عندنا الأخ الآدمي الذي نأخذ يده في أيدينا ونشد عليها في حرارة ود وحب، وذلك لأن الملائكة قد تكون في نفسها حلوة المحضر طيبة ولكنا نحن بني الموت لعلنا وأجدوها غير لذيذة العشرة ولا رقيقة السمر، بل إن الرجال الطيبين طيبة مجردة لا(28/47)
يشوبها شيء من نقائص البشر ثقال الظل ولا مؤاخذة، لأن عيوبنا ونقائصنا - هي التي تمزجنا بعضنا ببعض وتجعلنا نتواد ونتحاب، ونحن نتباين كثيراً في سجايانا ومحاسننا ولكننا مجتمعون مشتركون في مساوينا، فمنا البررة الأتقياء، ومن الأكرمون الأجواد، وقليلون فينا الأمناء، والأقلون بيننا الصادقون، ولكنا جميعاً والله الحمد مغرورون، والغرور هو ولا ريب من مراحم الطبيعة التي تؤلف ما بيننا وتقرب مسافة الفروق، فنحن بجمعنا من الهندي الفارس المزهو بحزامه ومنطقته إلى الجنرال الأوروبي المنتفخ تحت نجومه وأوسمته، ومن الصيني الفَرح بضفائره الصفراء إلى الحسناء المتكلفة تتحمل العذاب والآلام لكي تعجل خصرها أشبه بحلقة الكعكة، ومن المرأة الفقيرة تخطر في الشارع تحت مظلتها المتخرقة البالية إلى الأميرة وهي تتثنى في حجرة الاستقبال تجر وراءها ذيلاً يربي في طوله على أربعة أمتار، كلنا نعيش ونتشاجر ونجرح وندمى ونموت تحت علم الغرور المرفرف الخفاق.
نعم. إن الغرور هو ولا شك القوة الدافعة التي تحرك الإنسانية وتجرها والملق هو الشحم الذي تدهن به عجلاتها، فإذا كنت تريد أن تغنم الحب والاحترام في هذا العالم فأنت خليق أن تملق الناس وتمتدحهم، إذن فأملق الرفيع والوضيع والغني والفقير والمغفل والعاقل والأحمق والرزين فأنت ولا ريب ظافر بحياة بين الناس حلوة راغدة أمدح فضائل هذا ونقائص ذاك، وحي كل إنسان وأمدحه على كل شيء، ولاسيما على ما لم يؤتَه وما ليس فيه، أمدح المشوهي الخلقة القباح الوجوه الملعوني الشبه بالجمال والرشاقة والحسن واستحسن من الحمقى ذكاءهم وأبد إعجابك من الوقحاء الأراذل لتربيتهم وكرم أدبهم، وإذ ذاك يرفعون دقة بصرك وذكاءك ولطافة ذوقك إلى السموات.
ثم إن للملق طرقاً مختلفة وأساليب عدة، وأنت ولا ريب حري بأن تتخذ لكل موضوع الأسلوب الذي يلبسه، فكثيرون يحبون أن يقدم الملق إليهم بالمعالق وهذا النوع لا يطلب شيئاً من البراعة والتفنن، وهناك جماعة من العقلاء يحبون أن يكون التملق لهم بالإشارة لا بالكناية والعبارات، وآخرون يحبون أن يكون ملفوفاً في غطاء من الشتيمة كأن تقول لأحدهم - يا لك من أحمق مغفل، إنك لترمي بآخر قرش معك لأول سائل يلقاك! - ثم إن هناك جمعاً غير هؤلاء لا يتذوقون الملق إلا إذا قدم إليهم عن يد رجل ثالث فإذا أراد أحمد(28/48)
مثلاً أن يستأسر لب علي - على شريطة أن يكون على هذا من هذه الماركة نفسها - فعلى أحمد أن يسر إلى أحد أصدقاء عليّ أنه يرى في علي هذا رجلاً بديع الخلق كريماً طيب القلب ويأخذ عليه إلا ما كتم عن هذا عن الناس ولاسيما عن صديقه علي، ولكن المتملق أن يحذر أن يكون هذا الوسيط الذي ألقى إليه الملق رجلاً موثوقاً به كتوماً وإلا خابت الحيلة.
وأما هؤلاء الأكياس الصلاب العود الذين يقولون لك أبداً إننا نكره الملق والمديح يا سيدي وإننا لا نسمح لمخلوق أن يتغلب علينا بالملق الخ. . الخ. . فلا تخفنك منهم هذه الطنطنة الحلوة. . . أمدحهم أملقهم فقط على فقدانهم حب الملق والمديح. ثم افعل بهم بعد ذلك ما شئت.
وأخيراً أن الغرور فضيلة. . . ولكنك تستطيع بكل سهولة أن تجيء بكراسة طويلة في ما قيل ضدها من الأمثال السائرة، ولكنها بعد عاطفة وثابة تدفعنا إلى المحامد كما تدفعنا إلى المذام، ثم أليست الآمال الكبيرة إلا ضرباً مهذباً من الغرور، ونحن نريد أن نظفر من الناس بالإعجاب والاستحسان أو بالشهرة كما تحبون أنتم أن تسموها، ومن ثم نكتب كتباً ممتعة طيبة ونرسم صوراً فخمة جميلة ونغني أغنيات لذة مطربة، ونكد ونتعب ونعمل بأيدينا وأجسامنا في المكتب والمعمل والمصنع.
نحن نود أن نكون أغنياء، لا لكي ننعم بالراحة ورغد العيش ونعومة الحياة فهذه كلها يمكن أن تشتري بثمن بخس حسب الصنف والمقدار، وإنما لكي تكون بيوتنا أبر من بيوت جيراننا وأفخم رياشاً وأجمل مظهراً، ولكي تكون جيادنا وغلماننا أكثر عدداً من جيادهم وغلمانهم، ولنستطيع أن نكسو أزواجنا وبناتنا ثياباً ليست بالفخمة وإن كانت الثمينة الغالية، ولكي نؤدب المآدب الكبرى وإن كنا نحن لا نأكل من أطعمتها ما يساوي خمسة قروش، وبهذا نعين متاجر الدنيا ونصرفها، وننشر التجارة ونروجها على أهلها، ونمد في المدينة إلى أبعد حدودها وتخومها.
لا تسخطوا إذن على الغرور، ثم لا تسيئوا استعماله، وخير لكم أن تحسنوا القيام عليه، بل إن الشرف نفسه هو أبدع وجوه الغرور وأسمى نواحي الزهو. نعم إن الأدعياء مغرورون ولكن لا تنسوا أن الأكفاء والأبطال أيضاً مغرورون. إذن تعالوا أيتها الطواويس الصغيرة الحسناء نكن معاً مغرورين. هلموا نتعاون وننمي غرورنا. لنكن إذن مغرورين ولكن ليس(28/49)
بسراويلنا وفروع شعْرنا ولكن بالأفعال الكبار والمحامد العظام، وبالحق والجمال والطهر والشرف. تعالوا نزهى بأننا لا ننحني لأي أمر حقير خسيس، وإننا لا نقول لأحد كلمة قاسية ولا لفظة خشنة. دعونا نزهى بأنا نعيش قوماً مهذبين في وسط من اللصوص والإخساء والأشرار، ولنفخر ونعتز بأننا نفكر أفكاراً حلوة، ونعمل أعمالاً ونعيش عيشة باردة راغدة. .
2 - القناعة
إن أهل الطيبة والخير هم على الباطل - وهم أبداً كذلك عندي لأنني لم أتفق يوماً معهم في شيء - إذ يقولون أن الطمع من أكبر الشر. ولكن ماذا كان يكون أمر الدنيا بغير أهل الطمع أكثر الله منهم. إذن لما عدت أن تكون في رخوتها ونعومتها ولينها كعجين العجانة. ثم أليس أهل الطمع هم الخميرة التي ترفع العجين حتى يخرج منه خبز جيد صالح وبغير ذوي الأطماع لا ينهض العالم ولا ينمو ولا ينتعش.
باطل أن نكون من أهل الأطماع! يا حلاوتكم أهل الخير. .! أيكون أهل الأطماع على الباطل وهم بظهورهم المنحنية وجباههم المتصببة عرقاً يوطئون الطريق للإنسانية لتسير فيه جيلاً بعد جيل، وهم لا ريب يطلبون النفع لأنفسهم ولكنهم في طلبهم نفعهم يعلمون لنفعنا. لأننا مرتبطون ببعض حتى لا يستطيع أحدنا أن يعمل لخيره وحده دون خيرنا، إن النهر في تدفقه ومسيله متصاعداً فياضاً يدبر طواحين الدقيق ويسقي الزرع ويصل ما بين الأرض والأرض والبلد والبلد، وكذلك الرجل المطماع في إقامته تمثالاً لنفسه يترك أثراً صالحاً للجيل المنحدر بعده، وإن الإسكندر وقيصر قد حاربا لأغراضهما وأمانيهما بذلك قد مدا أنطقة من المدنية حول هذه الأرض، وإن ستيفنسن أراد أن يكسب له رزقاً طيباً فاخترع الآلة البخارية وشكسبير لم يكتب رواياته إلا لكي يملك بيتاً أنيقاً دافئاً لمسز شكسبير والشكسبيرات الصغار.
إن القانعين الراضين هم محمودون نوعاً ما. . هم يصلحون ليكونوا في هذه الدنيا ألواحاً ترسم فوقها الصور الفخمة العظيمة. وإني أعدهم إني لن أتكلم عنهم أبداً ما داموا معتصمين بالسكوت، ولكن بحق السماء لا تدعوهم يمرحون في الأرض - كما يحبون أبداً أن يفعلوا - صارخين إنهم الأسوة الحسنة التي يؤتسى بها والمثال الحق الذي يحتذى، لأني لا أراهم(28/50)
إلا كذكور النحل في الخلية الكبرى، والغوغاء في الشارع يتلكؤون وينظرون في الحوانيت إلى الذين يعملون ويكدون.
ثم لا تدعوهم كذلك يتوهمون - كما هي عادتهم - إنهم عقلاء وفلسفيون وإن من أكبر الحزم أن يكونوا راضين قانعين، فقد يكون الذهن القانع الراضي سعيداً في أي الأحوال كذلك الحمار الأورشليمي، والنتيجة من ذلك أن كليهما يوضع حيث تضعه ويرضى حيث تعامله.
فإذا كنت من الحماقة بحيث ترضى بالرضى والقناعة فبالله عليك لا تظهرها، ولكن تسخط مع المتسخطين ووسوس بالشكوى مع الشاكين وإذا استطعت، أن تعيش على القليل فلا تطلب إلا الكثير، لأنك إن لم تفعل فلن تظفر إلا بالقليل ولا بالكثير إذ ينبغي في هذا العالم أن تسير على المبدأ الذي يسيطر عليه المطالبون بالحق المدني في ساحات القضاء تعويضاً عن الخسائر التي لحقتهم إذ يطلبون عشرة أضعاف ما يظنون أنه يرضيهم، فإذا أحسست من نفسك أن مائة فلست بظافر إلا بعشرة.
وهذا ما وقع فيه المسكين جان جاك روسو، فقد حدد أوج سعادته الأرضية بأن تمني أن يعيش في بستان أغن وأن تكون إلى جانبه امرأة محببة وأن يكون له جاموسة. . . فلم يظفر حتى بهذه نفسها، فقد أحرز البستان، أو ما يجوز أن يسمى بستاناً، ولكن المرأة التي وجدها لم تكن محببة، ولكي تكون المصيبة تامة جاءت معها بوالدتها، ثم لم يظفر بالجاموسة، ولو كان روسو المسكين أقر في ذهنه أن يكون رب ضيعة واسعة في الريف وبيت حافل بالظباء العين ومعرض من البقر والجاموس، إذن لما عتم أن عاش لكي ينعم على الأقل بقطعة من الأرض، وبرأس واحد على الأقل من الماشية، ولعله كان واقعاً على ممر الزمن بأندر النادر. . . وهي المرأة المحببة حقيقة.
هذا وما أبلد ما تكون الحياة لهؤلاء القانعين الراضين، وما أثقل عبء الوقت على رؤوسهم وأكتافهم، ثم أية خواطر وأفكار بعيشك تجول في أذهانهم، إذا فرضنا أن لهم خواطر وأفكاراً، وما أظن إلا أن قراءة الصحف وتدخين اللفائف هي كما يلوح لي الغذاء الذهني الذي يزدرده سوادهم، وأما الباقون وهم أقل بلادة وخمولاً وفتوراً فيضيفون إلى هذه التوقيع على القيثار والكلام في حق الجيران!(28/51)
أفيقو إذن أيها الناس. . أفيقوا. . أفيقوا. أيتها السيدات، أيها السادة أفيقوا انهضوا يا رجال ويا أطفال ويا بنات، اظهروا براعاتكم وكفاآتكم وجربوا قواتكم ومجهوداتكم، أن معرض الحياة مفتوح ولعبة الحياة أبداً قائمة، أفيقوا يا سادة وضعوا أيديكم في أيدي رفقائكم الناس، إن لألعاب الحياة جوائز أيها الناس ومكافآت للجميع، والجميع يستطيعون أن يلعبوا ويتسابقوا، الذهب للرجل يا سادة والشهرة والمجد للشاب، والحب للعذراء، والراحة واللذة للأحمق، إذن أفيقوا، جوائز ومكافآت، القليلون يربحون وأما الباقون فيتمتعون بلذة السعي والكد.(28/52)
آداب الإنجليز وآداب الألمان
إن الحرب قاسية منكرة، ولكن أقسى منها أن يكون كل من الفريقين المتقاتلين المتصارعين يحمل في أعماق قلبه احتراماً خفياً صامتاً لعدوه، وكل منهما يريد أن يخنق صاحبه ويكتم أنفاسه ويهدم منزله ويرسله مدرجاً في أكفان الهزيمة إلى المقبرة، ولكنه ولا ريب واقف ساعتذاك على قبره خاشعاً لجلاله متهيباً، يصلي من أجل عدوة القوي الذي صارعه وناهضه، ويحوطه بكل مظاهر الشرف والإعجاب والاحترام وهذه الحرب هي حرب الغريزة، حرب الزنجي الشجاع للزنجي المقدام المغوار، حرب السبع للسبع، والنمر للنمر، كل منهما يجالد الآخر ليقتله، ولكنه يمجد في عدوه قوته، لأن القوة تحترم القوة التي مثلها، لأنها تخشى أن لا تحترم نفسها، والكفوء لا يحتقر الكفوء وإن كان يحقد عليه أو ينفس، والحقد غير الاحتقار، لأن الاحتقار ينحدر من ذروة الرجل الأشم العظيم إلى وهدة المخلوق الضعيف الهزيل، والحقد هو أكبر مظهر من مظاهر الإعجاب بالقوة والتمجيد لشأنها، وهو من أكبر فضائل الغريزة، وهو من أسمى منعشات الصحة ومقوياتها، لأنه يرسل الحرارة في نواحي الروح وأجزاء النفس ويبعث النشاط إلى الجسم ويزيد في خفقات القلب ويشد الساعد ويحرك اليد ويلهب الذهن، ولهذا يقول نيتشه: أحبوا أعداءكم وخير منه أن تكرهوا أصدقاءكم.
وخلاصة هذا أن الانكليزي يحمل في قلبه الاحترام للألماني وأن الألماني لا يستطيع إلا احترام الانلكيزي، وإن كان هذا الضرب من الاحترام قاسياً مخيفاً مرعباً، وكل منهما ولا ريب يحترم في عدوه قوته، وإن كان يريد أن يصرعها ويزهق روحها ونحن الضعفاء المهازيل لا يسعنا إلا الاحترام للجميع، نحن نقف على مشهد من القتال الناشب بينهما المستحر صارخين كما يفعل الأطفال والولدان عند رؤية الشجار العنيف معولين، مهيبين بالمتقاتلين متوسلين، نصيح بهما أن يكفا عن القتال المستميت، ونضرع إليهما أن يزجرا هذا الصراع الدموي الرهيب، لأننا نخشى ان يميت أحدهما الآخر، لأننا نريدهما جميعاً. لأننا لا نريد أن يفقد العالم قوتهما أو قوة أحدهما. لأن حياة الإنسانية ومدنية العالم تطلبهما معاً، إذ كنا نعيش في كل ألوان العيش من عقل الانكليزي ودأب الألماني، نحن في البيت وفي الشارع وفي القهوة وفي المنتدى وفي القاطرة وفي العجلة وفي الملهى نتنعم بمبتكرات الانكليز ومنشآت الألمان، نحن نمرض ونجرح ونصاب فنشفى ونعافى ونصح بعقول ارلخ(28/53)
وكوخ ورونتجن وليستر وجنر مساي، نحن نبتهج بأن الإنكليز أعطتنا شكسبير، وأن الألمان وهبونا جوت، نحن نتهذب بأذهان شيللر وهايني وشوبنهور وكانت ونيتشه وواجنر الألمانيين ونحن نسمو بعقول هوبز ولوك وجبون وكارليل وديكنز وولز وبرنارد شو.
نعم لا يسع الانكليز إلا احترام الألمان وليس في أعماق قلوب الألمان إلا احترام الانكليز، وإن كل منهما يريد أن يفترس الآخر ويرديه، ذلك لأن مدنية كل منهما تمس الأخرى وتلاحقها وتتشبث بها والمدينتان في كل فروع الحياة والآداب متداخلتان متلازمتان، فإن أرنست هيكل الألماني هو وليد دارون وخريج وُلّلس وجوت وشيلر ابنا شكسبير، وهكسلي وجالتون ولييل وفراداي ودالتون وهامفري دافي هم الذين أنتجوا أكبر علماء ألمانيا وكيماوييها وحشرييها وبيولوجييها، وانجلترا استفادت من ألمانيا كذلك أكبر أساتذتها وجبابرة عقولها في السياسة والمال والجغرافية والهندسة والطب والفلك واللغة وغيرها، فإن آل بارنج - ومنهم لورد كرومروهو من أكبر أقطاب السياسة في الغرب - يمتون إلى أصل ألماني، وكذلك روتشلد أكبر ماليي هذا العصر وأرنست كاسل المحسن المالي العظيم وسر ويليم هرشلي الفلكي الكبير وماكس موللر المستشرق الفيلولوجي الذائع الصيت وسير موريس دي بونزن سفير انجلترا في برلين قد نزلوا جميعاً من سلالة ألمانية، وكثيرون غيرهم يخطئهم الحصر والعد قد أفادوا انجلترا أكبر الفائدة في الاكتشافات الجغرافية وفي البيولوجيا وفي التصوير والموسيقي والصحافة والمصارف والتشريع والجندية والبحرية، وكانوا من الألمان دماء، وإن كانوا من الانكليز جنسية وموطناً.
ولقد كان العالم الإنساني قبل نصف قرن الماضي يغتبط بالألمان ويبتهج بألمانية جوت وشيللر وهيجل وكَنْت وشوبنهور، لأنها كانت ألمانية إنسانية رفيقة صامتة حلوة وديعة تعمل للعالم في هدوء وتلقى بنظرياتها وفلسفاتها وعلومها وآدابها بين أهل الأرض، وهي في لباس الأستاذ الهادئ الحدب المخلد إلى العزلة العلمية المطربة، وهي في بردة لافوازييه وهو يحنو على الدرس العلمي في مكتبه، وضوضاء الثورة الكبرى ضاجة في الفضاء صخابة متعالية، ولكن حرب السبعين جاءت فأسكرت ألمانيا وأثارت عزتها وزهوها فماتت ألمانية كَنْت وشوبنهور، وطلعت ألمانيا الصخابة المزهوة المتعاظمة، نظرت إلى حاضرها ثم التفتت إلى ماضيها فرأت كل شيء أمامها بهيجاً، حاضر المنتصر الثمل وماضي(28/54)
الفيلسوف الساكن المعتزل، وإذ ذاك قالت في نفسها. . . هذا أنا حاربت فرانسة البديعة، فرانسة الفلسفة والشعر والقانون والمودة والمجد والزهو والحمية، فرانسة الجمال والرقة والحرية وحقوق الإنسان، فرانسة لويس الرابع عشر وريشيليو وروسو وفولتير وميرابو ودانتون ومارات وروبسبير ونابليون وموسيه. . وهذا أنا انتصرت، وربحت الموقعة. . إذن فلأغزون الأرض وأملكن عين الشمس. . أيها الناس. كونوا ألماناً. كونوا ألماناً. . . تعالوا يا ألمان نطلب السيادة على الأرض. . وأما السقوط - عند ذلك بدأ العالم الإنساني يكره ألمانيا وينفر منها وكان يحبها من قبل ويجلها، ومنذ ذلك اليوم راحت ألمانيا تحول كل قوتها إلى خدمة نفسها ومصلحتها، وكل فلاسفتها ومفكريها وعلمائها ومخترعيها أصبحوا منذ ذلك اليوم يحملون فوق صدورهم ماركة واحدة وهي صنع في ألمانيا ولا جل ألمانيا ولم نعد نحن العالم الإنساني نسمع من ألمانيا التي كانت مهد الفلسفة الإنسانية الجميلة إلا صوت تريتشكي الصخاب الأصم يصرخ فينا. . أيها العالم الإنساني. . نحن الذين هذبناك ورفعناك وربيناك. . نحن أنبياء هذا الزمان. . . نحن العنصر المختار من الله. والشعب المجتبى. أن كلتورنا هو أسمى آداب العالم وأرفعها. . السيادة على العالم أو السقوط ولم نعد نرى غير القائد المتفلسف فون برناردي يعد ويحسب، ويضع الخطط لحرب العالم وغزاته وامتلاكه، بعد أن كنا نسمع نيتشه الإنساني السبرماني المهذب، وكَنْت الفيلسوف النظري الوديع، وشوبنهوَر السوداوي الحزين، وهيجل الخيال الرقيق، وجوت الشاعر الجزل المستفيض، وعند ذلك انقبضت صدورنا عن الألمان، ونفرنا من ألمانيا، لأنها جاءت تمن علينا بمدنيتها وتؤذي إحساسنا بتعداد صنائعها علينا وفضائلها، لأنها تريد أن تقتل حرية العالم. . تريد أن تبتلعه، وتأكله كما يأكل القط الفأرة.
إن الألماني رجل عصبي قوي حاد المزاج والانكليزي رجل هادئ الأعصاب متين الخلق وصلب الروح، وما أظن الألماني عند المدفع إلا صاخباً لاعناً شاتماً، وهو يحرك إدارة المدفع ولولبه، ولكن الانجليزي يدير المدفع ولفافته في فمه وهو في أتم هدوءه، حتى لقد وصف القائد الانكليزي بأنه ليقف أمام فوهة المدفع العظيم كما يقف عند باب حجرة الحسناء الناعمة.
وهذه الأعراض الأخلاقية تتجلى في آداب الأمتين ووجوه تفكيرهما ومبادئهما، فإن الآداب(28/55)
الألمانية تشبه نوعاً من الشجار الحار المضطرم، كل ما فيها ينم عن نفس جياشة متوثبة متجهمة، وكل آدابها في هذا العصر التسليحي الأخير يتبع فكرة واحدة. . . فكرة القوة والشدة. . . فكرة ترتشكي المتلخصة في كلمة كونوا حكوميين ونصيحة نيتشه كونوا قساة يا صحابتي.
وهذه الحدة المزاجية تبدو في حب الشعب الألماني للكلمات المنتفخة الفخمة الغليظة وكل طفل في المدرسة لابد من أن يحفظ كراسة مطولة منها، يحفظ عن ليست وبسمارك ومكيافللي وكلوسويتز ومولتكي وترتشكي والإمبراطور، وكل من يزيد في مجموعة هذه الكلمات الكبيرة يغدق عليه المجد والاحترام والشرف والتبجيل، كما أعطى الشاعر ليساور وسام الصليب الحديدي من أجل قصيدة نظمها هي قصيدة الحقد.
وهذا الضرب من الآداب في نظر الفلسفة الحرية الصحيحة ليس من الآداب في شيء. . . هو نظام عسكري متين أكثر منه أدباً وشعراً وتصويراً ونقشاً وموسيقى. . هو خطة إسبارطية خشنة. يختفي فيها الفرد في جوف المجموع، وينزوي الفكر الإنساني عند أقدام الحكومة والإمبراطور، ولكن الألمان أنفسهم لا ينكرون هذه الحقيقة ولا يجحدون، لأنهم يعتقدون أن الفكر الجنديّ المنظم هو خلاصة التاريخ الألماني، إذ كانوا يعيشون على الطاعة والنظام منذ أبعد حدود الماضي وعهوده، هم لا يعرفون إلا أن الطاعة منهم وأن الأمر والنظام من الإمبراطور، وهذا الأسلوب التفكيري، وإن كان قد خلق الوطنية الألمانية، لا تقره الإنسانية ولا تمتدحه، ولا تعترف به غريزة الإنسان، لأنها تعيش على الحرية الشخصية وتغتذي من حرية الرأي والكتابة والتفكير، وتسخير كل قوى التفكير والعلم والآداب والحضارة لغاية أهلية واحدة ليست من مطالب مدنية الأرض، لأن الأرض لا تريد أن تحكم بأمة واحدة، أو تساد بعقل واحد، أو يسيطر عليها سيف واحد، والفكر الذي يسخر نفسه لخدمة فكرية جنسية مستقلة غير عامة، لا يسعنا إلا أن ننحني له احتراماً وإعجاباً. ولكنا لا نكتب اسمه في سجل مصلحي الأرض، ولا نضعه في قائمة الإنسانيين الناهضين بحضارة الدنيا، والشعب الذي يطمع في أن يسود العالم ويقوده، هو شعب حيوي وثاب مطماع، ولكنه غير خليق منا بالحب والاحترام، لأنه يريد أن يقتل في الإنسانية فكرة الحمية للجنس وروح العصبية للعنصر، والحب الغريزي للوطن.(28/56)
وعلى نقيض آداب الألمان تعيش آداب الانكليز، فإن كل انكليزي يأبى إلا أن يكون عالماً مستقلاً من الأدب والتفكير، ودولة مترامية من الرأي المطلق الحر، وليس للانكليز شعار واحد أو فكرة واحدة يتبعونها ويسخرون قواهم لها، بل إنك لتلتقي عندهم بضروب من الشعائر المتباينة والأفكار المتضاربة المتعارضة، فإن للارستقراطية شعاراً ومبادئ تختلف عن شعار البحرية ومبادئها وهذه تختلف عن الجندية، والجندية تختلف عن التجار. وشعار التجار ومبادئهم لا تشبه شعار الدينيين ومبادئهم. والدينيون لا يتبعون في ذلك أصحاب الألعاب الرياضية، حتى لقد بالغوا في هذا الأسلوب التفكيري الحر المستقل فأصبح شعار لندن ووجهة تفكيرها غير أدنبرج، وأدنبرج تباين منشستر، ومنشستر لا تحكي بلفاست وهلم جراً، بل إن للشرطة من ذلك غير ما لموظفي الحربية والأشغال والمستعمرات، وليست هناك حكومة حقيقية - بالمعنى التام الذي يفهم من هذا اللفظ - يحس الانكليزي بها أو يشعر بوجودها، اللهم إلا في دائرة القضاء والقانون وسوى المحاكم، والتاج في كل مظهره وقوته صورى لا سيطرة له على الفرد ولا أمر ولا نهي. والمدنيون يرأسون الجيش ويتقلدون المناصب العسكرية والوظائف البحرية كالعسكريين، ولو سألت الانكليزي العادي أن يعرف لك انجلترا لقال لك في الحال هي الفوت بول لأن وطنية الانكليزي أرضية صامتة تستمد قوتها من الغريزة والإحساس الداخلي العميق، ومن ثم لا تجد لانجلترا شعاراً أهلياً ولا وجهة تفكير أهلية واحدة عامة، وليست لها فلسفة حياة خاصة بها، والانكليز يفخرون بذلك ويعتزون، لأن وطنيتهم وعصبيتهم الجنسية مستأصلتان في أعماق قلوبهم، لا يتعلمها إنسان منهم ولا يلقنها معلم ولا يستحث عليها كاتب أو خطيب. اه.
منقولة عن كاتب انكليزي منصف كبير، بعد أن حذف منا وزيادة وتصرف كثير.(28/57)
المساكين
للنفوس الكبيرة وثَبات في شوط النبوغ تقطع في الوثبة الواحدة منها ما يقضى غيرها العمر في التعلق بأسبابه وبلوغ الغاية منه ولهذا لا يعجب النوابغ بأعمالهم بعض ما يعجب الناس من قدرتهم على هذه الأعمال، والنابغة هو الذي يستطيع أن يجعل كل سنة من عمره أو كل طائفة من العمر أثراً ظاهراً في التاريخ الذي يعاصره لأنه أحد الأفراد المعدودين الذين ينشأ من أدمغتهم هذا التاريخ.
على هذه القاعدة يجري نابغة الأدب العربي الشهير مصطفى صادق الرافعي فلا يكاد يصدر كتاباً حتى يأخذ في غيره فهو أبداً يبحث ويفكر وينظم وينثر كما تعرفه الأمة وإنما هي نفسه المضطرمة تحاول أن تبعث من أشعتها في الأفق لتظهر على الأرض قطعة من جمال السماء.
وقد وضع أخيراً كتاب المساكين - وهو تحت الطبع - يكشف به عن الحقيقتين الغامضتين في الحياة حقيقة الغني وحقيقة الفقر، لا يقرؤه الفقير حتى يرحم الغني ولا الغني حتى يرحم الفقير فكأنه مؤاخاة بين الخصمين المتنافرين في الإنسانية.
وقد أسند الكلام فيه إلى رجل اسمه (الشيخ علي) والشيخ علي هذا رجل أنعم الله عليه بالبلاهة والراحة والمَترَبة وليس في الأرض أشد منه على ذلك مرحاً واغتباطاً.
وسننشر في عدد آخر الترجمة الخيالية البديعة التي وضعها له الرافعي وربما نشرنا صورته.
والآن نقدم للقراء هذه القطعة من فصل عنوانه التعاسة - وأسعد الله قراءنا.
قال الشيخ علي:
وأنت يا بنيّ ما إن تزال تصبغ الدنيا بلون لا أدري كيف أسميه، فلا هو من وجوه أهل الحسد فأقول أصفر ولا من قلوب أهل البغض فأقول أسود ولا من صدور أهل الدم فأقول أحمر ولا من شيء أعرفه لأنه ليس شيئاً يسمى. وعلم الله أن من يهوي في جهنم سبعين خريفاً وعيناه تدوران في رأسه لا يبصر من حيث ابتدأ إلى حيث ينتهي شراً من وجه دنياك.
إنك يا بنيّ تصور الأرض لا أرضاً ولا ماءاً بل قلوباً ودموعاً وتراها لا دوَلاً ولا أمماً بل آلاماً وحوادث فكأن هذه الأرض العظيمة تحتاج إلى نارين من قلبك ومن الشمس وإلى(28/58)
نفحتين من خيالك ومن الفضاء وإلى قدرين من حزنك ومن الأبد. ومن ثم فلا عجب يا بني إن كان مركز الثقل فيها على وهمين: على محورها وعلى. . . ظهرك.
لقد أسرفت على نفسك الضعيفة وجعلت هذه الحصاة تحت مطرقة الزمن فما تزال رخواً منبعثاً مسترسلاً في اندفاق ولين، كأنك ترى رجل من العجين. وكم تقول لي (فلانن) وجاهه العريض، ودهره المريض، وانظر إلى (فلان) كيف جعله الكبر يذكر منا وينسى، وكيف أصبح من الغني وأمسى، (وفلان) كيف تمر من فُرَج أصابعه سفن الآمال، في تيار المال، كأن يده قنطرة على نهر الأقدار، أو جسر تعبره حظوظ السماء إلى أهل هذه الدار، أو (فلان) قبحه الله كيف سار شيطانه في إنسانه، وطول عمره في لسانه، وكثرة ماله في قلة إحسانه، وأخزاه اله فما برّ ولا نفع، بل تفرّق بالحرص على ما جمع، وطمع في كل شيء حتى في الطمع، (وفلان) الذي جمع وعدّد، وخلقه الله واحداً وهو في الرذائل يتعدد، وقد انتفخ كأنه شدق إسرافيل، وامتد كأنه يد عزرائيل، واستلقى كأنه فرعون على النيل، (وفلان) وما أدراك ما فلان: جبل شامخ والناس في سفحه رمال، ومجد باذخ ولا مجد لمن ليس له مال، وهو في أهل الغنى الألف والباء، وإن قيل في غيره (ابن نعمة) فهو في أهل النعمة أو الآباء، على رأس كأنه من الرجل ركن الكعبة الذي يتوجه عباد الغني إليه، وقامة كأنها لجاه صاحبها قطعة من المحور الذي تدور هذه الأرض عليه، وهناك أنف أما في السماء فله منزله، وأما في الأرض فعطسته زلزلة، ينفض الناس من رهبته نفضاً، ويفرش الوجوه من هيبته أرضاً، وكأنه في تلك الكبرياء ميزان معلق يرفع من ناحية ويخفض من ناحية، بل كأنه في ذلك الوجه القفر جحر للنحس تختبئ فيه الداهية.
قال الشيخ علي: وما أنت يا بني وهذه (الفلانات) وأمثالها؟ إن هؤلاء الناس بعض أعمال الله في أرضه فهو يخلقهم وينشئهم ويديرهم لتعلق طائفة من الأقدار بنتائج أعمالهم طرداً وعكساً فما أشبههم بدابة الطاحون تلزم دائرتها ولا تفتأ تدور إلى غير انحراف ثم هي لعلها تسمع الجعجعة تحسبها نشيد الاحتفال بها.
فهو قوم مسخرون وقد يسرهم الله لما خلقوا له فضربهم بالحرص والطمع ضربة جبار ولو نالت السماوات والأرض والجبال لأشفقن منها، وجاءهم الحرص بهذا المال أما الطمع فجاءهم بماذا جاءهم بماذا؟ يا بني؟ لو قلت بصدأ القلوب وهرم النفس ودناءة الطبع، لو(28/59)
قلت بكل ما في الحشرات من القذر وبكل ما في السباع من الضراوة وبكل ما في الدبابات من السموم لكنت عسى أن أقارب الوصف ولكن المعنى الذي يتلجلج في نفسي أكبر من ذلك كله. ولكني أقول لك يا هذا إن ثلاثة من المتشابهات يفسر بعضها بعضاً الحرص مع الطمع، ثم المال ورذائله، ثم ما في المعدة وما في الأمعاء. . .
أنحسب أن هذا العالم يحفل برجل من الأغنياء قد أجحف به الدهر وطحنته النوائب بأرحائها. وتركته الأقدار أسود الحظ لا بيضاء ولا صفراء؟ فلم لا يعدون الغني شيئاً دون المال ويحسبونه كل شيء مع المال؟ لعل الحقيقة أيضاً ذات وجهين في الناس.
المال. المال وحده لا غيره فنحن نحتاج إلى الغني صاحب المال كما نحتاج إلى بائع الملح. وما أشبهنا في إطرائه وفي الزلفي إليه بأطفال القرية إذ يتزلفون إلى بائع الحلواء التي تلف على العصا وإذ هو واقف بينهم بعصاه وحلوائه كأنه الهبل الأعلى. وهو من تعلم دس الثوب ترب اليد قذر التفصيل والجملة يصلح أن يكتب على وجهه متحب المكروبات المصري ولو رآه طبيب لجعل عصا الحلواء على رأسه تفاريق، ولكن أين لا أين الطبيب في هذا الاجتماع؟ كل أطباء الاجتماع ألسنة وأقلام ومحابر؟ أما اليد التي تزيل المنكر أو تغيره فلا أراها تمتد إلا من جانب الأفق ولا تعمل إلا بعون من الله وملائكته وقد انقضى عصر الأنبياء.
قال الشيخ علي: فإن لم يكن الغني إنساناً من الناس يواسيهم ويسعدهم ويتخذ من المال سبيلاً إلى أفئدتهم بالإحسان والمساعفة، ويأخذ لنفسه بقدر مالها ويعطي من نفسه بقدر ما عليها، وإن لم يكن وجهه عند قدمي الفقير وعند رأس المريض ولم يكن ذهبه عند دموع البائسين وعند أنفاس المحزونين ولم يكن اسمه في دعوات المحتاجين وفي ألسنة الشاكرين فقد أصبح عندي كأنه لا شخص له، وإن كان اسمه (فلان باشا) مثلاً فلا فرق بينه وبين صندوق من صناديق الحديد يسميه صانعه استهزاء (فلان باشا). . . .
فالمال آلة من آلات القتل لأنه يميت أكثر من أصحابه موتاً شراً من الموت - إلا من عصم الله - موتاً يجعل أسماءهم قائمة على ألواح من العظام ويرسلها كل يوم إلى السماء في لعنات لا عداد لها ثم يثبتها في التاريخ أخيراً لا بأعيانها ولكن بعددها أو كما تثبت الحكومة في كل سنة عدد المواشي التي نفقت بالطاعون. . . فهذا الشخص الميت وهو في(28/60)
الأحياء لا يبلغ نفسه على الحقيقة أكثر من مقدار حجمه من. من. . من جيفة حمار. . .
يا بني! ربما كان الرجل نبات نعمة الله لأنه سيكون حصاد نقمته فهذه منزلة من البؤس والخذلان يستعاذ الله منها. وكم رأينا من أناس تخصب أبدانهم حتى ليضيق بهم الجلد كدنةً وسمناً ويكاد أحدهم ينشق فرحاً ونشاطاً ثم لا يكون هذا الخصب الذي استمتعوا به شطراً من العمر إلا سبباً في أمراض مهلكة تستوفي الشطر الآخر فذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون.
وإن خطأ كبيراً أن تحكم لفلان من (فلاناتك) بمتاع الدنيا فإنك لا تدري أشر أريد به أم الخير وكيف تحكم على غناه بفقرك وعلى آماله بيأسك وعلى شخصه بظلك وعلى نهاره بليلك وعلى عمره كله وهو بعد حي لا تدري ما عسى أن يكون له فيما بقي؟ دعه حتى يستنفد أيامه المكتوبة ويستوفي أنفاسه المقدرة فلعل مصيبته قادمة في الغيب وكان غناه من مقدماتها وعلى قوة المقدمة تقاس قوة النتيجة. فإذا مات الغني ولم تعرف في مجموع عمره هما ولا غما يعدل بؤس الفقر فكفى حينئذ بالموت، وإنما الحياة مدة ستنقضي فسواء انقطع الخيط من أوله أو من وسطه أو من آخره فقد انقطع.
تقول لهم أن متاع الحياة ولو أنصفت لقلت أن لهم بؤسها الممتع. .! فإنهم يجمعون المال من طرق لا تؤتيه إلا نكداً ثم يرسلونه في طرق أخرى ليجمعوه أيضاً ثم يجمعونه ليرسلوه ثم يرسلونه ليجمعوه وهلم كما تدور دابة الطاحونة. وهب أنهم لا يألمون فإن يد الله قد غمزتهم من مكان قريب غمزة مؤلمة، وما أحسب الضجر من اللذات قد خلق إلا للأغنياء وحدهم وناهيك من بلاء يغمر النفس بالنعم صنوفاً وألواناً حتى يتنكر لها معنى النعمة فتراها وقد ثابر عليها الضجر متكرهة ولكن لا تريد الكراهة ومتسخطة ولا ترغب في السخط ومتألمة ولا تعرف مم ألمها ولا تبرح تتلمس نعمة لم يخلقها الله لتحدث منها لذة لم يعرفها الناس.
ولولا هذا البلاء وأنه ما وصفت لك لما أصبت على الأرض غنياً كهؤلاء الوارثين تضرب به كل لذة وجه أختها فتسلمه الواحدة إلى الأخرى ويجذبنه بكل حروف الجر: من الكأس وإلى القمار وفي الإسراف وعلى الفسق وللمنافسة وهكذا حتى تسلمه اللذة الأخيرة إلى الفقر.(28/61)
ولو أن (ضجر اللذات) يصنع بكل الأغنياء هذا الصنيع لفسد الكون بيد أن الله أراد عمر أنه فجعل في طباع أكثر الأغنياء لؤماً خاصاً. لؤماً ذهبياً يكسر من سورة هذا الضجر كما يفتأ الماء البارد من الماء الحار حين يمتزجان.
فالقوم إما كريم يضجر فيسرف وإما لئيم يضجر فيمسك وكلاهما يجد لذته ويضجر من لذته. فلا تقل يا بني أن العصا لظهور الفقراء وحدهم فإن هناك السوط أيضاً وهو رتبة عالية فوق رتبة العصا ولذلك خص بشرفها. . الأغنياء.
وانظر إذن هل ترى الفرق بعيداً بين الضجر من شيء لأنه موجود وبين الضجر من ذلك الشيء لأنه غير موجود. بين عدم الشعور باللذة وبين الشعور بعدم اللذة. بين ألم الغني الذي لا تجده أبداً إلا على شك في أنه سعيد وبين ألم الفقير الذي لا تجده أبداً يشك في أنه تعيس؟.(28/62)
الأرق
فوائده - أسبابه - أنواعه - دواؤه
نحن أهل هذا العصر مصابون بالأرق، حتى لقد كان يغلبنا الوهم أنا مصبحون عما قليل جيلاً مسهداً مؤرقاً وإن الأرق ومنهكة الذهن ومتعبة الأعصاب سائقتنا ولا ريب إلى مستشفيات المجاذيب، ولكنا في وهمنا مخطئون لأن الأرق الرقيق المتقطع الذي يعرض في الحين بعد الحين ليس مرضاً أو خطراً. إذ كان أكبر آراء الدنيا البدائع التي عملت على تهذيب الإنسانية ورقيها وأبهم مشكلات العلم ومستغلقات المسائل، لم تخطر ولم تحل إلا في ساعة يقظة غير محبوبة ولا مطلوبة وخلال سهد مكروه مسترذل، والذهن القوي الذي يأرق هو غالباً الذهن الحاد الفعال المفكر وإن كان ثمت أذهان لا تكاد تنام أو تهجع لأنها أذهان فارغة مختلة مجنونة.
فإذا وجدت إنك لا تستطيع نوماً لأن ذهنك يأبى إلا أن يفكر ويسير في تفكيره فدعه مسترسلاً فيه ولا تقطع عليه عمله وثق أنه لن يصيبك أو يصيب ذهنك كذلك ضر أو سوء. ولعلك تخرج في هذا المأزق الملعون طائفة من الآراء الصائبة النافعة. فإذا تعب الذهن وأجهد قواه بعد حين فأنت واجده ولا ريب مذعناً عند ذلك إلى الرقاد والنعاس.
هذا ولا ينبغي أن يضطرب بالك إذا رأيت أنك قد اعتدت أن تأرق مرة في الأسبوع ومرتين أو ثلاثاً في الشهر ولا تظن أنك مقدم على مرض، وإنك سوف تصاب بالميلا خوليا والاضطرابات العصبية العديدة فإن جميع الذين يسهمون في حركة العالم ويأخذون نصيباً ذهنياً من مشاغل النهار وأعماله ويعيشون على التفكير والتدبير معروضون ولا شك لأوقات تنبه فيها قواهم المفكرة وتأرق أداة تفكيرهم. وهم مع ذلك يطلبون الراحة والنوم. ومن ثم فلا ينبغي لهم أن يظنوا ذلك إعراض مرض أو ضعف أو اضطراب، بل على النقيض منها دلائل صحة وقوة وانتظام.
ولا يجب أن يندهش القارئ إذا قلنا أن الأرق الرفيق المتقطع في الحقيقة لا يحدث أدنى ضر أو سوء، لأن للذهن القوي السليم من القوة الاحتياطية المختزنة ما يكفل له أن يحتمل خسارة ساعتين أو ثلاث أو أربع من النوم في الأسبوع، بل ليال معدودات في أوقات الشدة والكرب، دون أن يكون عليه من ذلك ضير أو شر، غير ضعف وقتي وفتور يذهبان بنوم(28/63)
طيب هنيء مكتمل.
ولا يخشى من الأرق إلا إذا كان عارضاً من أعراض مرض مقبل قادم، أو إذا جاء من ناحية نوع المعيشة نفسها ويكون الضرر منه محساً منه صاحبه بينا له. وهذا النوع من الأرق لا يحدث من فقد النوم، ولكن يرجع إلى أحوال خفية أخرى فإن الكلى المريضة والقلب الضعيف والجهاز الهضمي المختل الفاسد تذهب النوم وترنق العيش وتحدث الأرق.
وسواد الذين نلتقي بهم في مستوصفات الأطباء من الذين يشكون الأرق هم في الغالب أصحاء البدن أقوياء لا يعتور صحتهم شيء من المرض أو الاعتلال ولكنهم إما أن يكونوا قد عرضوا بأنفسهم إلى انهماك شديد ثم لم يستعيدوا ما فقدوه وأما أن يكونوا قد اعتادوا أن يأخذوا بأسباب معيشة فاسدة غير صحية تمنعهم من أن يستوفوا قسطهم من الراحة والنوم الهنيء الرفيق، وفي هذه الحال لا يحتاج في تخفيف آلامهم إلا إلى معالجة هذه المعيشة نفسها وردهم إلى معيشة صحية صالحة، من ناحية الطعام والعمل واللهو والرياضة.
ثم هناك طائفة من المصابين بالأرق يكون أرقهم عارضاً من أعراض مرض من الأمراض إما من ناحية الأعصاب أو المخ وغالباً الكلي أو القلب أو الهضم. وهم لا يحتاجون إلى معالجة أرقهم وإنما إلى وسائل تمنع ازدياد الأرق واشتداده.
ويلي هؤلاء جماعة هم أشد عناداً وإصراراً وإرهاقاً من بقية الشاكي الأرق، لأن أرقهم لا وجود له إلا في أذهانهم وهؤلاء لا وسيلة للطبيب معهم إلا أن يداويهم بأذهانهم نفسها، وذلك بأن يجعلهم يعتقدون أنهم ليسوا مصابين بالأرق. وهذا الضرب من العلاج يدخل في حدود علاج الوهم.
هذا وتصور إنك في ليلة صاحية أضحيانة وقد اضطجعت في فراشك وأسندت رأسك إلى وسادتك واستقبلت طائف النوم. ثم مكثت كذلك بضعة دقائق، ثم أوفت الدقائق على نصف الساعة، تنتظر وفادة النوم ولم يفد. إذن فماذا أنت صانع؟
لقد دلت طبيعة الأرق على أن الوقت المناسب الواجب لمعالجة الأرق وتلافيه ينبغي أن يكون قبل حدوثه لأن الأرق ليس إلا نتيجة اضطرابات ومتاعب وأسباب حدثت قبله بساعات بل بأيام - وفي هذه الحال لا يفيدك أن تعد جدول الضرب أو تحسب على(28/64)
أصابعك عدد ما في كيسك من النقود أو ما في مكتبتك من الكتب أو تقوم إلى أدوات الزينة فتصلح من شعرك أو تشرب قدحاً من الماء وإنما يجب عليك أن تلتمس الأسباب التي أرقتك وأسهدت جفنيك إما في كثرة العمل أو قلة الرياضة واللهو أو في فساد هواء الحجرة أو في خلو المعدة من الطعام، فإذا وجدته في شيء من ذلك فاعمل على إصلاحه وتلافيه من غدك، وأما في الحالة الراهنة فتحمل عقوبة إفراطك أو تفريطك بسكون الفيلسوف، واثقاً من أن الأرق لن يحدث لك ضرراً.
فإذا لم تجد سر الأرق في هذه فالتمسه في الأشياء التي حولك، وانظر إذا كان فراشك موضوعاً في موضع غير صالح، كأن يكون في زاوية من الحجرة بعيدة عن مجرى الهواء محتبسة عن التنفس، كما هي الحال في وضع السرر في المنازل، وفي هذه الحال يجب أن تضطجع بحيث تستقبل بوجهك النافذة حتى تحس علائل الهواء تجري فوق جبينك الملتهب، ولا تخف فلن يصيبك برد من ذلك أو رطوبة.
والكثيرون منا لا يعنون العناية الواجبة بالوسائد والمضاجع وفراش السرور وإن كنا نصرف في مضاجعنا ثلث يومنا، وكم من وجع وألم مستطيلين يحدثهما الاضطجاع فوق فراش خشن صلب غير ممهد، ولذلك كان خليقاً بك أن تتحرى مضاجعك وتتناولها بالإصلاح والتنجيد والتوثير كل سنة وتغيرها كل خمس فإن إغفال وثارة المضاجع ولينها يفسدان على كثير النوم ويحدثان الأرق.
ويلي ذلك في الأهمية الاحتفاظ بتوازن مجرى الدم بين طرفي الجسم، وطرفا جسمك هما رأسك وقدماك، وكأن بين الرأس وبين القدمين ضرباً من المنافسة والمزاحمة لأن كلاً منهما يحاول أن يجتذب إليه جزءاً من الدم أكثر من الآخر فإذا كانت قدماك باردتين فأنت واجد رأسك في الأكثر ملتهباً حاراً والعكس بالعكس ولا يحدث الاضطراب في هذا التوازن إلا من الرأس غالباً ولاسيما عقب الاشتغال أو القراءة أو التفكير في مسألة معضلة، فإذا أويت إلى مضجعك لم تلبث أن تجد أن رأسك قد اجتذب إلى أوعيته كثيراً من الدورة الدموية ولم يترك القدمين فقط باردتين بل اليدين كذلك والجلد وكثيراً من أطراف البدن وأجزائه، وقد يحدث غالباً أن تكون القدمان قد اعتمدتا على بلاط الحجرة أو كانتا حافيتين أو في جوربين خفيفين وإذ ذاك ينسحب الدم إلى أوعية المخ فيلتهب الذهن وتشتد حرارته، وهنا يجب(28/65)
تدفئة القدمين بأية الوسائل الممكنة حتى ينزل الدم من الدماغ ويعود إلى القدمين.
ومن أكبر الأسباب المجلبة للأرق خلو المعدة من الطعام ونحن قد حذرنا كثيراً من أن ننام ونحن ممتلئون بالطعام، مخافة أن يعتور نومنا الأحلام المخيفة والأشباح المرعبة والرؤيا المفزعة. ولكن خلو المعدة كذلك يحدث اضطراباً في النوم يفضي إلى الأرق ولهذا ينبغي أن تدرأ عنك عواقب الطرفين. الامتلاء بالطعام والخلو منه.
وحركة الهضم تنتظم في خلال النوم على شريطة أن تكون كمية الطعام التي تناولتها صغيرة حتى تتمكن المعدة من هضمها، وإن يمكث الإنسان ساعتين متيقظاً قبل أن يأوي إلى مضجعه إذا كان المقدار كبيراً. حتى يتيسر للمعدة أن تأخذ من الدم ما يكفيها، وحتى يسير الهضم بانتظام قبل الاضطجاع. والسبب الوحيد للامتناع عن الرقاد عقب الطعام أن الرقاد يجعل المعدة الممتلئة تضغط على الرئتين والقلب فتعطل عمل التنفس وحركة الدورة الدموية.
وكثرة العمل - ولاسيما الذهني منه - وما يكون ضيق المضطرب مترادف الوتيرة يجلب الأرق لأن سموم التعب السارية في الدم تقتل النوم كما يقتل السم الحقيقي، وشغل الساعات الطوال يحدث الأرق، لأنه يجهد ناحية واحدة من المخ أو نواحي واحدة من البدن، والملاذ العمومية كالمراقص والتمثيل وحفلات الغناء والملهى من أبدع المنومات، لأنها ترقد الناحية المتعبة من الذهن وتشبع الناحية الجائعة ومن ثم ينبغي لك أن لا تجعل عملك يحول بينك وبين ملهاتك الصالحة الطاهرة، لأن الدأب على العمل والسكون له والانقطاع عن الرياضة تؤدي إلى الأرق وتطرد النعاس ليلاً أو نهاراً، ومن هنا اندفع كثيرون من أصحاب الأعمال الكبيرة الشاقة إلى اتخاذ العقاقير المنومة وآخرون إلى الإدمان على الشراب ومعاقرة الكأس.
والناس اليوم يتشددون في التساؤل عن مقدار الساعات الكافية ولكن لا يجدي التساؤل عن المقدار لأنه لا يقاس إلا بنتائجه فالسواد الأعظم من الناس يجدون الراحة في نوم ثماني ساعات، ولكن كثيرين من كبار الرجال والمفكرين والعلماء يكتفون بساعات قلائل من النوم فإن توماس أديسون أكبر شيوخ العلم في هذا العصر يصرح بأنه لا ينام أكثر من أربع ساعات، ولكن الحقيقة التي لا ريب فيها هو أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف بالضبط(28/66)
الوقت الحقيقي الذي نام فيه وأخذ النعاس عينيه، فقد ذكر كثيرون ممن يشتغلون تحت أديسون أنه كثيراً ما يكون في ذهول ذهني شديد مغمض الجفنين مُهوماً مما يدل على أنه في سِنة.
وأما العقاقير التي يستعان بها على قتل الأرق فيجب أن يحكم عليها بالإعدام لأنها أقتل للبدن من الأرق ومتاعبه وآلامه.(28/67)
قطعة من كتاب رسائل الحب
تأليف الكاتب الأديب عبد الرحمن شكري
(مقدمة)
إن العواطف لا الآراء هي القوة المحركة في الحياة ومن أجل ذلك ينبغي أن لا يكون أدب اللغة ألفاظاً ميتة بل ينبغي أن يكون كالكهرباء يسري في النفوس فيزيدها قوة.
إن أدب الأمة في دور قوتها يظهر لك صفات القوة التي في عواطف نفوس أفرادها ولكن أدب الأمة في دور ضعفها ميتة وتصنع فاتر ومن أجل ذلك كنا أحوج الناس إلى أدب يزيل عن نفوسنا ما يعلوها من صدأ الدهور ويقوي عواطفها.
هذا الذي دعاني إلى تأليف كتاب رسائل الحب وشرح عاطفته.
(رسائل الحب)
لقد رأيتك أمس أول رؤية فصرت أعتقد أن المعجز غير مستحيل الوجود لأني ما كنت أعتقد وجود مثل جمالك ولا مثل ما أحس به من الحب، لقد كان لي عينان فصار لي بعد رؤيتك ألف عين وكان لي قلب فصار لي ألف قلب وكان لي سمع فصار لي ألف سمع.
إن أسمع نبضات قلبي وكنت لا أكاد أحسها قبل رؤيتك وصرت أحس الدم يتدفق في عروقي وأسمع له خريراً وصرت أجد في الهواء الذي أنشقه حرارة الحب، آه أنت جميل مثل النجوم الزاهرة والأزهار الناظرة أنت جميل مثل ضوء القمر على صفحة الماء جميل مثل الفجر جميل مثل الشمس جميل مثل النسيم جميل مثل الغدير بل أنت أجمل من هذه الأشياء لأنك جمعت في شخصك جمال الشمس والقمر والماء والفجر والنهار فأنت عنوان جمال الطبيعة وآيتها الكبرى وما يدريك لعل هذه الكواكب المضيئة إنما تضيء كي ترى فيها لمحة من جمالك وهذه الأزهار إنما تنضر كي تعرف فيها طرفة من حسنك وهذا النسيم إنما يرق كي ترى فيه شيئاً من رقتك وهذه الطبيعة إنما خلقت كي تكون مرآتك.
إني أحبك في كل دقيقة من حياتي وفي كل نبضة من نبضات قلبي وفي كل نظرة من نظراتي وفي كل كلمة من كلماتي وفي كل حركة من حركاتي، أنا تمثال حبك تقرأ فيه آية الحب والولاء والشقاء واللذة والألم.
أنت كالزهر جميل وأخشى أن تقتلك لفحة من لفحا حبي فإن حبي مثل ريح السوء التي(28/68)
تذبل الأزهار وتذهب بنضارتها، لا تخف يا حبيبي فإن أستزيد بهذا القول من رحمتك وإشفاقك وأضحك فإن الحياة نكتة باردة غثة قبيحة جميلة يضحك المرء من برودتها وغثاثتها، اضحك فإن في ضحكك ألحاناً وأنغاماً، إني أسمع في كل ضحكك نغمة تهتز لها أوتار القلب فأسمع فيه تغريد العصافير وأنغام العود والمزمار وغيرها من آلات الطرب، إني أتمنى أن أنشئ من أنغام ضحكك أنغاماً تفوق أنغام بيتهوفن وفردي ووجنر.
لقد كنت أستمد وحي الشعر من الهواء والماء والضياء وغير ذلك من مظاهر الطبيعة ولكني صرت أستمده من حبيك الذي صار لي بمكان الهواء والماء والضياء فهو الهواء الذي أنشقه والماء الذي أروى به ظمأي والضياء الذي يملأ عيني، إن حبك هو عندي حجر الفيلسوف الذي ما مس معدناً خسيساً إلا جعله نفيساً وكذلك حبك ما مس نفساً خسيسة إلا جعلها نبيلة، إن حبك ليريق ضياءه على ظلمات عيشي وظلمات نفسي كما يريق القمر ضوءه على الماء فيضيء ذلك النور أمواج العواطف التي تتضارب في صدري، إن حبك يسري فيّ مسرى الكهرباء في الأجسام، إن حبك هو العين التي أبصر بها واليد التي أبطش بها والسلاح الذي أصول به والعزيمة التي أناهض بها الأمور، آه ما أتعس الحياة لولا الجنون جنون اللذة والألم جنون الحب والبغض جنون العواطف والمطامع جنون الأمل واليأس والثبات والجبن والجود والبخل، يا حبيبي أنت سبب من أسباب الجنهون، إن الله لم يخلقك عبثاً، إن الله خلقك كي يزين بك الحياة ويجعلك سبباً من الأسباب التي تثير العواطف وتستفز المطامع وتبعث الجنون وتوحي بالشعر، إن حبك قد علمني الرحمة ولكنه علمني أيضاً القسوة وقد علمني الشجاعة ولكنه علمني الجبن وعلمني الأمل ولكنه أيضاً قد علمني اليأس وقد بلغ بي جنون اللذة ولكنه بلغ بي جنون الألم، إنك لا يمكنك أن تعرف مقدار جمالك لأن ذهنك لا يقدر أن يحيط به كما أن البصر لا يمكنه أن يرى من أول الفضاء إلى آخره، إنك لو عرفت مقدار جمالك لأصابك الجنون وسكرت منه وقمت ترقص سكراً وجنوناً، أنت جمعت في شخصك بين جمال السماء والأرض وجمال الجنة والنار وجمال الحياة والموت وجمال الخير والشر وجمال الصحة والسقم وجمال الصباح والمساء وجمال الليل والنهار، أنت جمعت في شخصك بين جمال الملائكة وجمال الأبالسة بين الجمال الإلهي المقدس والجمال الذي يحرك الشهوات، أنت جمعت في شخصك بين(28/69)
جمال الأطفال والفتيان والفتيات والرجال والنساء، أنت جمعت في شخصك بين جمال البرق في السحاب وجمال المصباح بين الأشجار وجمال النجم في السماء وجمال الحريق الهائل والشرارة الصغيرة وجمال الفكر وجمال العاطفة وجمال التقوى والورع وجمال الخالعة، أنت جمعت في شخصك جمال الأشكال كلها والمطاعم اللذيذة والأشربة الحلوة المسكرة وجمال الفواكه وجمال الأزهار وجمال الأشعار والآداب وجمال سائر الفنون الجميلة، أنت جمعت في شخصك طرفة من كل شيء جميل، سمعته أو قرأته أو رأيته أو فكرت فيه أو هفا إليه قلبي ونبضت له أوتاره فأنت تارة مثل الربيع عليل النسيم كثير التغريد وتارة مثل الصيف المكسال ذوي اللفحات والحر الذي يغلي له الدم في العروق، ومن أجل ذلك أشعر بحبك كما أشعر بالصيف، وتارة أنت مثل الخريف الكثير الثمار، ولكنك أحياناً كالشتاء البارد القلب من عواطف الحنان والرحمة والحب، أنت كالسراب فالسراب جميل مثلك مطمع مثلك ولكنه مثلك يغر ويخدع.
سأوحي إلى البلابل بأشعاري وأرسل الطيور المغردة إلى نافذة غرفتك في الليالي المقمرة التي تروق فيها الأحلام فتمتزج في روحك أحلام الصيف التي تراها في نومك أو يقظتك بأشعاري التي هي مثل أحلام الصيف وأناشيد البلابل التي هي مثل أشعاري وأشعة القمر الفضية التي تشبه أناشيد البلابل ولكن خيراً من ذلك كله سحر جمالك الذي هو أجل من أشعار الغزل والنسيب وأحلام الصيف وأناشيد البلابل وأشعة القمر الفضية فاذكرني في أحلامك فإني ليس لي نصيب من يقظاتك وأرسل إلي في تلك الأحلام شعاعة من أشعة نور وجهك كي تضيء ظلمات نفسي وظلمات عيشي وإذا قرأت في شعري شيئاً يسرك فاعلم أنه مستمد من جمالك وإذا رأيت فيه ما لا يسرك فاعلم أنه من نظم تلك الساعات من عمري التي لم تضئها شعاعة من أشعة نور وجهك فإن نفسي في تلك الساعات كظلمات فوقها ظلمات تجري في سمائها السحب التي تحمل الويل والدمار ومن تحتها لج متلاطم كله أشلاء ورمم وبين السحب واللج رياح هوج تعوي عواء الثكلى المجنونة وأكثر حياتي مثل هذه العاصفة لولا ما يضيؤها أحياناً من أشعة نور وجهك ما يتاح لها أحياناً من السكينة الكاذبة الخادعة التي هي أشبه الأشياء بالسكون والكاذب الذي يأتي قبل العاصفة وينذر بها.(28/70)
انظر إلى النجوم فإني أنظر إليها عسى أن تلتقي روحاناً هناك في لحظة من تلك اللحظات البطيئة التي نرسلها إليها، إني أحب النجوم وأحب الليل وسكونه وجلاله، إني أحب أن أقف وحدي أنا والليل فأحس كأن الليل مخلوق حزين كبير الروح واسعها عظيم القلب وإنما سكون الليل وإطراقه إطراق المفكر الذي ينظر في الكون وأحواله وما يعتوره من التغيير، أيتها النجوم أما بعتورك حزن أو ملال، يا عيون الليل أما آن لليل أن يفيق من حزنه وتفكيره وإطراقه، أيتها العيون النعسانة أنت تطلين من سمائك علينا فتقع لحظاتك على ما نعانيه من الآلام والجرائم والمصائب، أيتها العيون أبريقك بريق القسوة والغلظة أم بريق الحزن والرحمة وأنت ماذا يهمك يا حبيبي من بريق النجوم وسواد الليل أنت أخو الفجر الباسم والعصافير المغردة والضياء والأزهار فانتهز فرصة جمالك وامرح فإن الدنيا جميلة بك ولا تفكر في جمال الحياة فإن من كان يضيء لنا الحياة بجماله خليق أن تكون الحياة في عينه جميلة.(28/71)
جبريل داننزيو
مثير إيطاليا إلى الحرب مع الحلفاء
من أكبر العوامل التي بعثت إيطاليا على الخروج من شملة السلم وارتداء لباس الحرب - بعد أن لبثت أشهر لا تدري ماذا يراد بها ولا ماذا تريد - قول شاعر، والشعراء لا يزالون يحفظون عظمة الماضي في هذا العصر العملي الغريب، يثيرون الشعب بالقصيد ويوقدون سعير الحرب بالقصيد، لأنهم سادة القلوب، وسلاطين العواطف، والعواطف البشرية نزاعة وثابة خوارة، وإذا كان ذلك هكذا فليس إذن من الغرابة أن يكون السنيور جبريل داننزيو، شاعر الطليان في هذا العصر، هو الذي دفع الجنود إلى البنود، وأقام إيطاليا وأقعدها، وأرسل نبض المملكة في أشد خفقانه وضربانه، وذلك لأنه مولع بفرنسا ومدنيتها ورقتها، ومن أكبر المدافعين المتحمسين للمدنية اللاتينية، إذ قال بعد أن ظفر بتحريك إيطاليا إلى الحرب. . لقد دق ناقوس الحرب. . . وصيحات الجماهير تصيح في فضاء السموات الحلوة الجميلة. . إني الآن أكاد أجن من الفرح. إن معجزة النهضة اللاتينية ستعاد. الآن سيشهد العالم معجزة إيطالية.
والشاعر داننزيو اليوم في الثانية والخمسين، وقد ولد في بصقرة في شمال إيطاليا، وهو ابن دوقة، وربيب النعمة والترف والرقة والأبهة، وقضى عهد طفوليته يمرح في الحقول يمرح في الحقول والمراعي والمزارع والأمكنة العراء، ولعل هذا هو الذي أحدث شاعريته، فلما كان في السادسة عشر دفع إلى الجامعة في ولاية تسكانيا، ولم تمض سنة حتى نشر ديوان أشعاره الأولى، وسماه الشعر الجديد، وكان يحتوي عدة مترجمات من الأدب اللاتيني القديم. وكان أسلوبه فيها على الرغم من حداثة سنه طيباً رائقاً، حتى أن أحد كبار كتاب ذلك العهد نشر عنه مقالاً مستفيضاً في الصحف.
وذهب داننزيو بعد ذلك إلى رومة وبدأ ينشر قصائده ورواياته وكان أسلوبه الخفيف الروح، والعاطفة الشهوية الحيوانية المتجلية في شعره قد بدآ يدهشان نقادي الشاعر ومقرظيه، وقد أعرض عنه أولئك الذين قد التفوا حوله بادئ بدء واستمعوا لأغنياته، ذاهبين إلى أن شعره يحمل أكبر مفسدة لآداب العصر، ولكن الشهويين أخذوا يمجدونه ويحيونه ويصفقون له ويحيون فيه الشاعر الجديد الذي جاء يرسل روحاً جديدة في الآداب.(28/72)
ودخل بعد في الصحف فاشتغل في جريدة التريبونا الإيطالية فكان عهده فيها أكبر العهود، ولئن كان شعر في دانونزيو محبوباً اليوم من هذا الجيل مقدساً من أهل العصر، لأنه يمجد اللذة والشهوة ويتغنى بهما، إلا أن دانونزيو قد ظفر بأكثر مما يستحق، وأما رواياته فتدور حول النفسيات وهو قد استمد أبحاثه النفسية من الكتاب البسيكولوجيين من الفرنسيين والروس والاسكندناويين والألمان، وقوة الابتكار في تواليفه كبيرة فياضة، ولكنها لا تستمد نفسها إلا من المعلومات الشخصية ولذلك فهي ضيقة الحدود.
والشاعر يميل إلى فرنسا ويتعشقها، لأن كل شاعر يميل إلى فرنسا ويعبدها، ودانونزيو، ومعناها في الإيطالية الرسول يعيش في إيطاليا كأمير، ويحب اللذائذ والمناعم، ولا يشتغل إلا ليلاً، ومن عادته أن يتعشى في الساعة السابعة عشاء فاخراً منوعاً غالياً، فإذا جاءت الثامنة جلس إلى مكتبه منزوياً إلى تأليفه، وهو من أشد الكتاب سرعة في الكتابة واستفاضة، فلا يترك مكتبه حتى التاسعة صبحاً من الغداة فإذا تناول القهوة واستحم أوى إلى مضجعه فلا يصحو حتى الأصيل، ولا يكتب إلا إذا ارتدى في شملة مزركشة بالذهب، وقد جمع بيته بين القصر والمتحف معاً.(28/73)
السينما توغراف
في الفاتيكان
البابا لم يشهد الصور المتحركة إلا في سنة 1914
لقد عدوها إحدى الغرائب يوم صرح أحد علمائنا بأن التصوير محرم ممنوع شرعاً ولكن أغرب من ذلك أن البابا - الرئيس الديني للمسيحية كلها - لم يكن شهد السينما توغراف حتى العام الفائت، وكان هذا اللهو العلمي البريء قد لحقه شيء من سخط رجال الدين ككل المسائل التي استحقت سخط ساكن الفاتيكان. .
ولهذه الحيلة التي دخلت بها آلة الصور المتحركة هذا القصر الديني الحرام قصة لذيذة نرويها عن أحد الأمريكيين كان قد أنفذ من ناحية إحدى الشركات الكبرى للحصول على عدة صور للبابا أجمعت على إبرازها فوق لوحة السينماتوغراف.
ذلك أنه في فبراير سنة 1913 أنفذ جيمس سلفن من قبل بعض الشركات الأميركية إلى مدينة رومة مزوداً بأموال طائلة وتوصيات عديدة من أساطين رجال السياسة والدين في أميركا، وكان سلفن هذا يعرف عن البابا كراهية شديدة لدور التمثيل وما يتصل بها وإن كثيرين حاولوا أن يظفروا بصورته فخابوا، فلما نزل هذا الرجل رومة وجد أنه يستحيل عليه أن يظفر بطلبته أو بعضها من قصر الفاتيكان إلا إذا حذق اللسان الطلياني، لأن العقبة الكؤود الوحيدة التي كانت تقوم في وجهه هي إفهام البابا أن الصور المتحركة طاهرة بريئة وأنها خليقة بأن لا تنال منه هذه القسوة الدينية المؤلمة، فتوفر على تعلم الطليانية حتى أتقنها، وهنا قامت في وجهه عقبة أخرى وهي كيف يتوصل إلى البابا في حين أن الدخول على ملوك أوروبا كلهم أسهل من اقتحام باب واحد من أبواب الفاتيكان، ففكر في استئذان وزير خارجية الفاتيكان في أن يعرض بعض المناظر الطبيعية والتاريخية أمام البابا ولكي يحصل على مشاهد طبية تستحق عناية البابا ذهب إلى مدينة فينسيا - البندقية - وكانت مسقط رأس البابا فأخذ مشاهد كثيرة من صفوة مشاهدها ثم سافر إلى مالطة فأخذ صورة مجمع كاثوليكي كان منعقداً هناك ثم انحدر إلى بلاد الانجليز فأخذ صورة الملك جورج ثم عاد آخر الرحلة إلى رومة فطلب إلى الكاردينال القائم بمنصب وزارة الخارجية الباباوية أن يقدمه إلى حضرة الرئيس الديني الأكبر لكي يعرض أمامه بعض المناظر الشائقة وكان(28/74)
هذا الوزير الكردينال رجلاً متعلماً على شيء من توقد الذهن وحدة الخاطر فسأله أن يعرضها أمامه هو أولاً وكذلك فعل الأميركاني واستطاع أن يظفر بثقة الوزير الأول لخليفة المسيح في الأرض!
وصادق البابا أخيراً على الطلب وكان يوم 11 يونيو من العام المنصرم يوماً مشهوداً في رومة البلد الخالد، واهتزت لهذا الحادث التاريخي العظيم كل دوائر السياسة والعلم وطلب كل عظيم أن يشهد الحفلة التي فيها سيقف الزعيم الديني على إحدى غرائب العلم، ولكن البابا لم يشأ أن يأذن لأحد أياً كان بأن يطأ الفاتيكان وقرر أن تكون الحفلة الأولى مقصورة على موظفي بلاطه الكبير وأن لا يشهدها من النساء إلا أختاه الراهبتان وابنة أخيه ليس غير.
وبدأت الحفلة. .
فتقدم سلفن الأميركي وركع فقبل أطراف ثوب البابا ثم بدأ يخطب وقد أظهر كل عواطف الرجل المتدين فقال إن أعظم منحة يمكن أن تعطي الكاثولكيين في العالم أن يشهدوا صورة زعيمهم المقدس الأكبر وتكون هذه المنحة أكبر تعزية لهم عن آلام الحياة وقسوتها ثم أفاض في هذا المعنى، وابتسم البابا لهذا المديح ابتسامة واهنة وأمر أن تعرض الصور.
فلما عرضت أمامه صورة البلد الذي ولد فيه صفق بيديه طروباً أشد الطرب وهو يصيح - مرحى. . . مرحى. . . إنها لإحدى الغرائب. . . إنها لمناظر متقنة كما لو كنا نشهدها من نوافذ بيوتنا. وظل صاحب الصور يعرضها عليه صورة صورة حتى أدهش الحضور وختم الصور بأن عرض صور إمبراطور الألمان وملك الانكليز وبعض كبار رجال الغرب.
وعاد الرجل بعد هذا الفصل إلى خطبته فقال أن ثلثمائة مليون من الكاثوليك ينتظرون أن يروا عظيمهم وقائدهم وكيف يعيش وظل يتكلم مدة طويلة في حرارة وإخلاص وقد استطاع أن يخفي نيته التجارية وراء برقع الكثلكة والعقيدة الدينية.
وانصرف البابا صامتاً. . .
وانقضت أشهر طويلة ولا جواب. . وسئم الذين في أمريكا غياب رسولهم فطلبوه، ومن ثم سافر وقد خاب الخيبة كلها، ولكنه استطاع أن يقنع الأميركيين بوجوب الانتظار والثبات،(28/75)
وألف شركة بلغ رأس مالها ألوفاً من الجنيهات ورجع إلى العاصمة الدينية الكبرى، فظل ينتقل بين الأندية السياسية الخطيرة ويتعرف إلى رجال الكنيسة، فلما ذاع في أوربا أن شركة أميركية تحاول أن تحتكر صور البابا فوق لوحة السينماتوغراف، أوفدت شركات كثيرة رسلاً لها ومبعوثين لهذا الغرض وكذلك صعبت الوسائل في الحصول على رسوم البابا، وخابت الشركات كلها وأخيراً خطر للأميركي أن يهدي مجموعة ثمينة من المناظر والآلات السينماتوغرافية، ليستطيع رجال الفاتيكان أن يتمتعوا بشيء من اللهو داخل قصرهم، وبهذه الهدية استطاع الرجل أن يظفر بصور البابا وأن يقدم إلى العالم للمرة الأولى في سنة 1914 عدة مناظر لرب الفاتيكان واستطاعت الشركة أن تربح ملايين الجنيهات!!!(28/76)
مختارات
قال الصحفي الوزير الأندلسي يصف الخمر
صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت ... في الجسم دبت مثل صل لاذع
خفيت على شرابها فكأنهم ... يجدون ريا من إناء فارغ
وقال صُرّدُر يصف جارية سوداء
علقتها سوداء مصقولة ... سواد قلبي صفة فيها
ما انكسف البدر على تمه ... ونوره إلا ليحكيها
وقال ابن قلاقس السكندري في سوداء أيضاً
رب سوداء وهي بيضاء معنى ... نافس المسك عندها الكافور
مثل حب العيون يحسه النا ... س سواداً وإنما هو نور
وللمأسوف عليه أمام المعبد
وسوداء كالليل البهيم عشقتها ... لأجمع بين الحظ واللون في عيني
إذا ضمنا ليل تبسم ثغرها ... فلولا سناه بت في جنح ليلين
وقال القاضي الفاضل من كلمة له في قلعة نثر
وهي عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة، لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة.
وقال ناصح الدين الأرجاني
شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماوان كنت من أهل المروآت
فالعين تنظر ما منها دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة
وقال بعضهم
يقصد أهل الفضل دون الورى ... مصائب الدنيا وآفاتها
كالطير لا يحبس من بينها ... إلا التي تطرب أصواتها
وقال أبو الفتح البستي
وقد يلبس المرء خز الثياب ... ومن دونها حالة مضنيه
كمن يكتسي خده حمرة ... وعلتها ورم في الريه
وقال ابن الرومي(28/77)
رأيت الدهر يرفع كل وغد ... ويخفض كل ذي شيم شريفه
كمثل البحر يغرق فيه حيي ... ولا تنفك تطفو فيه جيفه
وقال
لولا علاج الناس أخلاقهم ... إذا لفاح الحمأ اللازب
وقال التهامي
قالت أسود عارضاك بشعر ... وبه تقبح الوجوه الحسان
قلت أشعلت في فؤادي ناراً ... فعلى وجنتي منها دخان
وقال
وإذا جفاك الدهر وهو أبو الورى ... طرا فلا تعتب على أولاده
وقال أبو نواس
ألا كل حيي هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وقال أعرابي يصف الليل والنهار نثر
الليل والنهار، فرسان يركضان بالبشر إلى انقضاء الأعمار.(28/78)
مطبوعات جديدة
الخريطة التاريخية للممالك الإسلامية والفتوحات العربية
كنا نقرأ في الكتب وفيما انتهى إلينا من آثار الغرب أن اللور هولدين وزير الحربية الانكليزية نقل تآليف الفيلسوف شوبنهور الألماني إلى اللغة الانكليزية فيبهرنا هذا الأمر ويتركنا حائرين نتلدد لا ندري من أي عنصر كريم خلق هؤلاء الناس ومن أي طينة خلقنا نحن حتى نرى رجالات الحرب فيهم يُعنَوْن بالنقل والتأليف وليس بشاغلهم عن ذلك مدفع ولا سيف، ثم ننظر فنرى الرجل منا يكون منهوماً بالعلم معروفاً بأنه في طليعة أهل الفضل حتى إذا ما انتظم في سلك الحكومة طلق العلم وجعل حبله على غاربه فكأن المنْصب في الحكومة ابنة الكرم لا يزدردها المؤمن حتى يطير طائر الإيمان من قلبه، وكأن الحكومي منا يرى قرارات الحكومة ومنشوراتها هي آخر ما وصل إليه العلم والأدب على أن أداة اليبريتر قد تغنى عنه في ذلك الغناء كله وكل أولئك اللورد هولدين وكلنا والأسف ملء قلوبنا ذلك الرجل! اللهم إلا أفراداً منا معدودين هم في الحقيقة من النوابغ الذين لو ظهروا في بيئة من تلك البيئات لعدوا من نوابغ العالم وأبطال الدنيا وإلا لما استطاعوا أن يخالفوا سنة القوم، وفي طليعة هؤلاء فتحي زغلول وقاسم أمين ومحمد عبده وأمين واصف بك مفتش وزارة الأوقاف اليوم ومدير الجيزة بالأمس، فقد رأينا من هذا الرجل الحكومي نابغة يواصل ليله بنهاره في وضع الكتب الأخلاقية والاجتماعية وفي التوفر على كل ما هو بسبيل من العلم والأدب على أنه من رجال الحكومة المعروفين بالحذق والمهارة وحسن الإدارة، ولكن نفسه الثائرة الطموح تأبى عليه إلا أن يكون قوة في هذه الدنيا مفكرة عاملة تترك وراءها آثاراً خالدة، فقد أهدى إلينا أخيراً خريطة تاريخية كبيرة صور فيها الممالك الإسلامية والفتوحات العربية فسد بذلك ثلمة في العربية كان تركها من أكبر العار علينا. ولعل القراء يعرفون أنه وضع بالأمس كتاباً نافعاً جليلاً قررته وزارة المعارف على طلابها وكذلك سيرى العالم العربي من نابغتنا المصري ما يكون من رجل العقل كبير الزوج لا يهدأ أو يملأ الدنيا ذكراً ومجداً وخلوداً - أما ثمن هذا المصر التاريخي فهو.
وهو يطلب من إدارة هذه المجلة.
ديوان شكري(28/79)
أهدى إلينا صديقنا الكاتب الشاعر الأستاذ عبد الرحمن أفندي شكري الجزء الثالث من ديوان شعره، أما الأستاذ فهو كما نعتقد من أدبائنا الأفذاذ الذين لا يكادون يبلغون أصابع اليدين عدا غير أنا نأخذ عليه بعض المعاني الغريبة التي ينبو عنها الذوق العربي وينكرها الإنكار كله وإن كانت ليست محالاً وكان لها متأوَّل نبيل، وذلك مثل تشبيهه النهدين بالجبلين وجعله صنماً للحب وقوله يخاطب حبيبه في رسائل الحب التي نشرنا منها قطعة في هذا العدد وفيك جمال الأبالسة إلى أشباه من ذلك على أنه كفى المرء نُبلاً أن تعد معايبه. والديوان يطلب من إدارة هذه المجلة.
تقويم مسعود
ظهر تقويم الكاتب الفاضل المشهور محمد أفندي مسعود لهذا العام الهجري وقد تصفحنا تقويم اليوم فأصبناه مفعماً بالموضوعات المتنوعة الممتعة المفيدة كسائر التقاويم الماضية، والحق يقال أن تقويم مسعود هو موسوعات عربية ودائرة معارف كبيرة على صغر حجمه. فنحث كل قارئ على اقتناء هذا التقويم النافع الذي قلما يتيسر لإنسان أن يظفر بما فيه من الفوائد الأدبية والتاريخية والفلكية والصناعية وما إلى ذلك في كتاب أو خمسة أو عشرة. ومع هذا كله ومع أنه يقع في 400 صفحة فإن ثمنه 5 صاغ وهو يطلب من إدارة البيان ومن سائر المكاتب.
الإسعاف الطبي
وأهدى إلينا كذلك الدكتور الفاضل عثمان لبيب عبده كتيباً أسماه الإسعاف الطبي - وموضوع الكتاب يدل عليه عنوانه وهد كتيب لابد منه في كل بيت ولذلك نحث كل إنسان وكل إنسانة على اقتنائه وثمنه خمسة قروش وهو يطلب من إدارة البيان.(28/80)
العدد 29 - بتاريخ: 5 - 1 - 1917(/)
مذكرات بكويك
لأكبر الروائيين شارل دكنز
اشتهر دكنز بتفوقه على سائر الروائيين في باب الفكاهة والمراد بهذه اللفظة هنا المضحك فليس من رواية له إلا وتتخللها المضحكات كالبستان تشقه الجداول والأنهار على أن أثري. ولذته من الفكاهة هو الكتاب المسمى مذكرات بكويك فهذا بلا خلاف أضحك كتاب في الإنكليزية وحسبه أنه في باب المضحكات هو ثاني دون كيثوت الإسبانيولي - أضحك كتاب أخرج إلى الناس منذ بدء تاريخ البشر إلى وقتنا هذا.
وأبطال الكتاب الإنكليزي خمسة أسماءهم منزلة الخادم صموئيل ولر (مختصر سام ولر) والثاني هو سيده المستر صموئيل بكويك رئيس نادي بكويك.
ثم الأعضاء الثلاثة ناثانيل ونكل تراسيي تبمان وأغسطس سنودجراس وأساس هذه القصة هو أن النادي المسمى باسم رئيسته نادي بكويك نظراً إلى ما قد عهده في الرئيس صموئيل بكويك من الفطنة الثاقبة والذكاء الحاد والخبرة التامة بأخلاق البشر والغيرة الشديدة على نصرة العلوم ورفع منارها ولما عرف في تلاميذه الثلاثة الآنفى الذكر من جليل المواهب والمزايا كطبيعة الشعر في المستر سنودجراس وعبارة الجنس اللطيف في المستر تيمان والفتوة والفروسية في المستر ونكل قد أسند إلى الرئيس الجليل وتلاميذه الفضلاء مهمة عظيمة الخطر وهي عمل سياحة طويلة في أنحاء إنكلترا لإستكشاف الخفى المجهول من آثار القدماء ومن طبائع النفس وغرائزها فيمن يصادفون أثناء هذه التجولات من مختلف صنوف الناس وشتى ضروبهم. وإرسال التقارير بذلك إلى إدارة النادي من حين إلى آخر.
المدهش العجيب في ذلك هو أن أولئك الأربعة الذين عهد إليهم النادي بهذه المهمة الكبرى ووصفهم بهذه الصفات الجليلة النادرة هم أعجز خلق الله عن القيام بالمهمة المذكورة لحملهم من الصفات عكس ما نسبه إليهم النادي فالمستر بكويك الذي وصف بالفطنة الثاقبة والخبرة التامة بأخلاق البشر هو في الحقيقة أجهل الناس بأخلاق البشر لشدة غفلته الناشئة عن سلامة النية والسذاجة المتناهية والمستر سنودجراس الموصوف بالنزعة الشعرية هو رجل رقيق الشعور ولكنه أسخف من نظم قافية والمستر ونكل المنعوت بالفروسية والألعاب الرياضية رجل نحيف ضعيف ثقيل الحركة يصلح لكل شيء إلا لما ألصق به من تلك(29/1)
التهمة الكاذبة والمستر تيمان زير النساء هو في الحقيقة لا تتجاوز منزلته عند النساء منزلة زير قناوي تمر به الواحدة عطشى إلى الضحك حتى إذا أخذت منه نصيبها من المضحكات تركته أزهد الناس فيه. ولكن البطل الأول أعني الخادم سام ولر هو غير هؤلاء البتة. فهو وإن كان خادمهم لكنه في الحقيقة سيدهم. وذلك أنه أمرؤ لم تمنعه عاميته من أن يكون سريع الخاطر حاضر الجواب نادر الذكاء مزاحاً ثاقب المعرفة عظيم البصر واسع التجربة شديد الدهاء حتى لقد قال عنه جماعة النقاد أنه هو في الحقيقة صورة شارل دكنز نفسه لو كان أمياً.
وقد صحت عزيمتنا على أن نتحف القراء بفصول عدة من هذه القصة العجيبة ولن نقيد أنفسنا بترتيب فصول الكتاب بل نختار من ههنا وههنا حسب ما نراه أوفق للقراء وبالله التوفيق
(1)
المستر بكويك في فراش إحدى السيدات
نزل المستر بكويك في بعض جولاته بفندق من فنادق لندوة وكان من المباني القديمة الكثيرة الدهاليز والمتائه، الجمة السلالم والدرج. فبعد أن أقام ساعة في غرفة الجلوس العامة بأسفل النزل صعدت به الخادمة في عديد من السلالم والدهاليز مما يضل في متاهاته الجن إلى غرفة كانت أعدتها لنومه في الدور الأعلى من الفندق فأدخلته تلك الغرفة وتركته وعادت أدراجها. فلما بدأ بكويك ينزع ثيابه رأى أنه قد نسى ساعته بغرفة الجلوس ولم يشأ أن يزعج الخدم فعزم على أن يأخذ الشمعة وينزل وحده ليبحث عن ساعته.
فخرج من الغرفة والشمعة في يده وهبط في السلام وكلما انتهى من سلم بدا له سلم وكلما سلك دهليزاً اعترضه دهليز. وما زال تتقاذفه الدهاليز وتتلقفه السلالم ويطل من ثقوب الأبواب حتى عثر أخيراً بطريق الصدفة على الغرفة المنشودة وهنالك وجد ساعته. وبدأ يصعد من حيث نزل. ولا غرو إذا قلنا أنه وجد المرتقى أصعب ألف مرة من المنحدر. لقد جعل عشرات المرات يلوى أكر الأبواب بمنتهى الرفق والخفة يحسب أنع عثر بباب غرفته فيصيح به من الداخل صوت أخشن أبح ماذا تريد! باسم أبليس من الطارق، فينقلب على مشطي قدميه مثلاً بأسرع ما لديه. ومازال ذلك شأنه حتى قطع الأمل من العثور على(29/2)
حجرته فإنه لكذلك إذ جذب بصره باب مفتوح فأطل فقال في نفسه. لقد اهتديت إلى الغرفة أخيراً. وذلك أنه وجد السرير بالموضع الذي يتذكر جيداً. ووجد الموقد لا يزال يتقد. فدخل وأغلق الباب وكانت شمعته لكثرة ملاعبتها للريح قد أشرفت على النفاذ ولكنه قال في نفسه لا بأس أن في ضوء النار ما يكفي
ثم أنه رفع كلة السرير وجلس على كرسي أمامه وأقبل فصاحت المرأة صيحة مذعورة رجل! قال بكويك في نفسه قضى الأمر! وصاحت المرأة رجل غريب! قال بكويك في نفسه وابلواه! - صرخة أخرى وأجد أهل الفندق على الباب
وأحس بكويك خشخشة ثياب المرأة وهي تهرع ناحية الباب
قال بكويك وأخرج رأسه وهو في أسوأ حالات اليأس والجزع سيدتي! سيدتي!
وقد كان لظهور رأس المستر بكويك خارج الأستار أحسن الأثر وذلك أن منظر هذا الرأس في قبعة النوم ذات الزر أزعج المرأة وهي في طريقها إلى الباب فأثبتها في منتصف الطريق كأنما قد سمرت في الأرض قدماها. فوقفت تنظر إلى هذا المنظر العجيب فاغرة فاها (فاتحة فمهاـ وهو شأن المندهش) المنظر العجيب (أعني المستر بكويك) ينظر كذلك إليها فاغر فاه وصاحت المرأة مغطية عينيها بيديها (أيها الشقي! ماذا يدههنا؟)
قال بكويك بإخلاص وتضرع (لاشيء يا سيدتي لا شيء مطلقاً)
قالت السيدة رافعة بصرها (لاشيء!)
قال بكويك وهز رأسه بما ترك زر قبعته يدور في الهواء يرقص (لاشيء يا سيدتي وشرفي! إني ليكاد يغمى علي يا سيدتي وتكاد الأرض تخف بي من مضاضة مشافهتي سيدة نبيلة وأنا لابس قبعة النوم (هنا أسرعت السيدة إلى نزع قبعة النوم من فوق رأسها وكانت لابستها) ولكني لا أطيق نزعها (وهنا جذبها جذبة شديدة برهاناً على مقالته) الآن قد وضح لي يا سيدتي أني أخطأت غرفتي فدخلت غيرها. ولم تمر علي خمس دقائق ههنا يا سيدتي حتى حضرت أنت على بغتة قالت السيدة وقد خنقتها العبرة إذا كان هذا القول الذي لا يكاد يصدق هو في الواقع حقاً فأخرج من ههنا في الحال
قال بكويك سأفعل بكل سرور يا سيدتي
قالت السيدة في الحال(29/3)
قال بكويك بكل سكينة وتؤدة (بلا شك يا سيدتي بلا شك - ولكن اسمحي لي أن أبدي لك عظيم أسفي واستيائي يا سيدتي - وهنا ظهر خارج السرير - لما سببته لك عن غير قصد من هذا الرعب والأسى.
لم تفه السيدة بشيء ولكنها أومأت بإصبعها نحو الباب في هذه الظروف الحرجة لم تخن المستر بريك مزاياه الجليلة من رقة الآداب ومعرفة واجبات التحية والتسليم فرغماً من أنه كان في هذه اللحظة يسير حافي القدمين حاملاً خفيه في يده مع الجوربين واضعاً كسوته وصديريته فوق كتفه كدلالي الثياب وباعة الخرق القديمة في الأسواق. جاعلاً قلنسوته فوق قبعة النوم على رأسه - نقول بالرغم من كل ذلك لم يكن شيء قط ليمنع المستر بكويك من تقديمه إلى السيدة واجب تحية الوداع بإحنائه رأسه بكل أدب واحترام وقوله بأرق لهجة وأرخم نغمة (اسمحي لي يا سيدتي أن أظهر عظيم أسفي واستيائي وجزيل شكري)
فقاطعته السيدة قائلة (إن كان ذلك حقاً فاخرج في الحال يا سيدي)
قال بكويك في الحال يا سيدتي في الحال
ثم فتح الباب فسقط الخفان من يده على الأرض بصوت شديد فتناول الخفين وبعد خروجه من الباب التفت إلى السيدة فقال (أملي وطيد يا سيدتي في أن ما يؤثر عني في جميع أنحاء العالم المتأدب من العفة والنزاهة ومن إجلالي جنسكم اللطيف ومغالاتي بقدره سيشفع لي عندك ويقوم ببعض) ولكن السيدة لم تمله حتى يكمل خطبته بل قذفته في الدهليز وأغلقت الباب في وجهه يخلع نعليه وجوربيه على رسله ثم نضا ثوبه وصديريته ووشاحه ولبس قبعة النوم ذات الزر الطويل وربطها جيداً من تحت ذقنه بزناقها. وبعد ذلك أخذ يتذكر ما كان أصابه من الحيرة والإرتباك عند إضلاله غرفته وشرع يضحك من نفسه لنفسه ما أعجب ضلالي بين هاتيك السلالم والدهاليز التي كأنها أبدية لا مبدأ لها ولا نهاية. عجيب عجيب عجيب ثم عاد إلى الضحك وشرع ينضو بقية ثيابه وإذا بحادث فجائي أوقفه وسط عمله. وما أدراك ما هو؟ دخول إنسان من الباب يحمل في يده شمعة. وهذا الطارئ بعد إغلاق الباب سار إلى منضدة اللبس فوضع الشمعة عليها.
فاختفت ابتسامة المستر بكويك تحت ما غشي وجهه إذ ذاك من سيما الإندهاش التام. لقد كان دخول هذا الطارئ بمنتهى المباغتة والخفية والخفة حتى أن المستر بكويك لم يجد(29/4)
أدنى فرصة للإستغاثة أو للمقاومة. من ترى هذا القادم؟ لص؟ شرير بصر به صاعداً وفي يده ساعة بديعة قيمة؟ ربما كان ذلك ماذا يصنع؟
رأى المستر بكويك أن أحسن طريقة لرؤية الطارق دون أن يراه الطارق هو اختفاؤه في السرير والنظر من خلال الستائر. ففعل ذلك وضم فرجة الكلة بأصابعه بحيث لم يظهر منه سوى وجهه وقبعته. ثم لبس نظارته واستجمع قواه وجعل ينظر.
وهنا كاد يغمى عليه من الخوف والدهشة إذ أبصر أمام المنضدة سيدة نصفاً (متوسطة السن) تسرح ضفائرها وقد ظهر له من حركاتها أنها تنوي البقاء في الغرفة طول ليلتها لأنها وضعت الشمعة التي كانت معها في إناء خاص بذلك.
قال بكويك في نفسه أعوذ بالله الرحمن الرحيم ما أهول ذلك وما أفظعه!
هنا تنحت السيدة فاختفى وجه السيد وراء الستائر بسرعة البرق اللامح. وقال في نفسه ما رأيت أهول من هذا الموقف، وتحلب العرق البارد من جبينه. ما أخوف وما أهول!، لم يكن في طاقة بكويك أن يمنع نفسه من تأمل هذا المنظر فأخرج رأسه ثانياً فأبصر ما هو أفظع وأبشع. فرغت السيدة من تمشيط شعرها ولبست قبعة النوم وأقبلت تتأمل النار مطرقة تفكر.
قال بكويك في نفسه الأمر يزداد بشاعة وهولاً ليس في وسعي أن أدع الأمر يستمر في مجراه هذا. يلوح لي منن ثبات هذه المرأة وهدوء بالها أني دخلت غرفتها بطريق الخطأ. فماذا أفعل؟ إني إذا ناديتها صاحت فأزعجت الفندق. وإذا سكت كانت العاقبة أسوأ.
لا حاجة بنا أن نذكر هنا أن المستر بكويك كان من أرق الناس عاطفة وأطهرهم ذيلاً وأحسنهم أدباً. وإنه يرى في مجرد ظهوره أمام إحدى السيدات لابساً قبعة النوم المصاب الأكبر والخطب الأجل. ولكنه قد عقد زناق قبعته عقدة لا تحل. ثم لا بد له من كشف هذا الأمر. إذن فليس أمامه إلا طريقة واحدة. فاتخذ هذه الطريقة وذلك أنه انكمش وراء الستائر وصاح بملء فيههوه! هوه!.
لا حاجة بنا أن نقول أن السيدة ذعرت من هذا الصوت فتقهقرت نحو الشمعة. غير أنها نسبت هذا الصوت إلى تأثير الوهم والخيال الكاذب. وكان المستر بكويك حسب أن صوته هذا سيفقدها الصواب فاختفى وراء الستار ولكنه لما عاد فأطل رآها جالسة أمام النار(29/5)
مطرقة تفكر كحالتها من قبل قال بكويك ما أعجب شأن هذه المرأة هوه! هوه لقد كان الصوت هذه المرة أبين وأوضح حينئذٍ صاحت المرأة واخطباه! ماهذا؟
قال بكويك من وراء الستارهذا - هذا - رجل يا سيدتي(29/6)
الأخلاق والاجتماع
مختارات من آراء ليوباردى
الكونت جيا كوموليوباردى من أكبر كتاب الدنيا الذين قسموا الناس شيعاً بعدهم وأحزاباً. وهو اليوم أمام نصف العالم أو أكثر. لأنه يقود وراءه جميع المتشائمين في الأرض وهو في آرائه في الحياة والموت والناس أبدع من المعري وشوينهور. بل أنهما ليعدان متفائلين بالنسبة إليه. وكانت وفاته عام 1833 في التاسعة والثلاثين. وقد عاش أكثر عمره مريضاً حزيناً متألماً. وسننشر تباعاً في البيان مختارات آرائه.
إن العالم ليس إلا مؤتمراً من الأشرار حرباً للأخيار. وطائفة من اللئام أعداء للكرام. وإذا تلاقى شريران للمرة الأولى في حياتهما لم يلبثا أن يعرف أحدهما الأخر على حقيقته في صمت وسكون، كأن بينهما دلائل لا تبدو لغيرهما، ولم ينويا أن يصبحا أخوين حبيبين في التو والساعة، وإذا لم تسمح مصلحة كل منهما بالإخاء والحب، فلا يسع أحدهما إلا الإحترام صاحبه والإطمئنان إليه. وإذا كان لشرير شأن مع جماعة من الأشرار أو وقعت بينه وبينهم معاملة، فلا يكون ملكه معهم إلا الإخلاص والصدق، ولا يفكر يوماً في خديعتهم، ولكنه إذا ارتبط بمثلها مع نفر من أهل الشرف والخير، فيستحيل عليه أن يتركهم دون الغدر بهم. وإذا رأى الفرصة سانحة له، خرب بيوتهم تخريباً، وإن يكن يعلم مع ذلك أنهم من أهل البأس والشهامة وأنهم قديرون على أن يثأروا لأنفسهم، لأنه يعلل نفسه إذ ذاك بأنه سيهزم بحيله وخدعه شجاعتهم وبأسهم ولقد رأيت كثيرين من الضعفاء الجبناء وجدوا أنفسهم في مأزق بين شرير أضعف منهم وبين رجل خير شهم، فآثروا أن ينحازوا إلى الشرير مخافة منه ورهباً، لأن الحياة أهل الوفاء والشهامة ظاهرة واضحة، وأما الأشرار اللؤماء فشأنهم الأسرار والغموض، والمجهول أبداً أدعي إلى أحداث الرعب من المعلوم والإنسان يستطيع بكل سهولة أن يحتمي من ثأر الأخيار. ولكن لا تستطيع الحيل والألاعيب والمكامن أن تدفع عنك شر غموض اللؤماء من أعدائك، وكذلك ترى الشهامة في العالم قلما يخاف منها أو يحذر شرها، لأنها تحتقر الخداع والكذب والغش، ومن ثم لا تحاول أن تتخذ مظهراً مخيفاً مرعباً، على حين ترى الأشرار مخوفين، يظن بهم الشهامة لأن الناس ينخدعون بهدوئهم الرهيب.(29/7)
وأنت قلما ترى الأشرار اللؤماء في نكد من العيش، وإذا وقع شهم في الفاقة فلا ترى إنساناً يمد يد العون والغوث، بل كثيرون يبتهجون بفاقته، ولكن إذا تعثر لئيم يوماً في شدة، فلا تلبث أن تنهض المدينة كلها لإنقاذه وإغاثته والسبب بلا ريب بين واضح، وهو أننا بطبيعتنا نحزن لمصائب رفيق لنا، لأن متاعبه لا تزال في نفسها تهديدات لنا ونذراً، وحيث أن الأشرار هم الفريق الأكبر من العالم، وهم الذين في يدهم القوة، ويعدون غيرهم من اللؤماء الأشرار - وإن لم يعرفوهم - رفاقاً لهم وأحباباً، فهم يجدون من الواجب عليهم أن يتعاونوا في الشدائد، إذ يظنون من الفضيحة في حقهم أن يري الناس لئيماً في شدة!
لا يجد الإنسان قط في المحادثة لذة أو بهجة إلا إذا انطلق يتحدث عن نفسه أو مهنته أو ما يشغله من شؤونه ومزاياه، فإذا انحرف الحديث عن هذا السبيل انقبض وثارت في نفسه السآمة والملل، وإن كان السرور الذي يداخلنا ونحن نعلن عن أنسفنا هو البلاء كله على المسامع، فإذا أردت أن نشهر بأن تكون محبباً مؤنس العشرة فاعلم أنك ولا شك ستقاضى عن هذه الشهرة أشد الصبر والألم، لأن الذي يشهر بلطف العشرة هو من يصبر على أنانية الناس في حديثهم، ويؤثر الصمت على الكلام، وهذا لعمري شديد الوطأة على النفس وفيه البلاء والعذاب.
فإن جلست إلى إنسان فاجتهد في أن تسوقه إلى الكلام عن نفسه. وعن شؤونه ما شاء حتى يفارقك وهو راضٍ عن نفسه كل الرضى، وأنت ضائق الذرع مقتول مما عانيت.
إن الرجل الذي يظفر بحاجة كان يطلبها بعد متعبةٍ أو طول عناءٍ أو مضض تطاول وتسويف، يحس بأشد الغضب والسخط إذ يري غيره ظفر بها في سهولة ورفق، وإن كان ذلك لم يفقده شيئاً من حاجته، ووجه غضبه وحقده أن حاجته تبدو له كأنها قد خسرت شيئاً من قيمتها إذ يراها قد وقعت إلى رجل لم يكدح كدحه، ولم يشق شقاءه.
لا مناص للإنسان من أمرين، فإما أن يضيع شبابه تضييعاً وإن كان الشباب هو الزمن الذي يدخر فيه الإنسان شيئاً لشيخوخته وعجزه عن العمل - وإما أن يقضيه تأهباً وكدحاً على أمل أن ينعم ويبتهج في زمن لا يستطيع فيه النعمة والبهجة.
مركز المرأة الإجتماعي
1(29/8)
الضعيف لدى الجمعيات الساذجة مهضوم الحقوق وذلك لضعف العاطفة الأدبية في نفوس المتوحشين وفقدان السلطة العمومية أو عجزها - إن وجدت - عن كبح جماح القوى. وعلى قدر رقي الأمة يحترم الضعيف، والمرأة أضعف من الرجل تسوء معاملتها بين المتوحشين ويعلو قدرها بين المتمدنين ومن معاملة الرجل للمرأة نقدر أن نحكم على نصيب الأمة من التقدم والتأخر. ولو تصفحنا الأمم لوجدنا أقلعا مدينة أشدها قسوة على المرأة. وكلما ارتقت الأمة ارتخت قيود المرأة وخف عبؤها ففي أستراليا حيث الوحشية ضاربة أطنابها بين السكان الأصليين تقاسي المرأة أشد أنواع العذاب، تكاد تكون حيواناً داجناً ومتاعاً للرجل، يلهو بها ويسخرها في أشق الأعمال وأكثرها تعباً ونصباً. فهي التي تحمل الأثقال العظيمة وتقوم بجميع مهام الحياة ما عدا الصيد والقتال، لا تأكل حتى يمتلئ الرجل شبعاً ويرمي لها فضلات طعامه. هي والكلب في مستوى واحد. إذا مات زوجها تصبح بعد ثلاثة أيام من موته ملكاً لأخيه. قل أن تموت ميتة طبيعية إذ في الغالب يعجل عليها ويقضى على حياتها من قبل أن تشيخ وتصير عالة تستنفد طعام القبيلة من غير مقابل. وإذا انتابت القبيلة مجاعة تذبح النساء لتقتات بلحومهن.
وفي فيجى للرجل أن يبيع زوجته، وإن شاء فله أن يقتلها. وغالباً ما ترى مشدودة على خشبة أو مصلوبة على شجرة وزوجها نازل عليها بالسياط. وفي كلدونيا الجديدة لا يحق للمرأة أن تؤاكل زوجها أو تساكنه. ويحل بها كل يوم من الآلام والعذاب ما يبغضها في الحياة ويحملها على الإنتحار فتنتحر غير آسفة على عيش عبوس.
وفي إفريقيا لا تقل المرأة تعاسة عن أختها في أوستراليا غير أنها لا تؤكل إلا نادراً لكثرة الصيد في إفريقيا. بيد أن السير بيكر شاهد في جوندوفرو وليمة كبيرة كبيرة من لحوم الجواري والفتيات تعامل المرأة في إفريقيا بأشد أنواع القسوة وتلاقي من الظلم ما يفتت قلب المتمدن ويقشعر منه جسمه. يحتقرها جميع الناس حتى أولادها لا يطيعونها ولا يصغون إليها. لا تأكل مع زوجها وينهال عليها بالرفس واللطم لأقل هفوة. ترفق بالبقر ودواب الحمل. وتستخدم في حرث الأرض وحمل الأثقال من غير أن يكلف الرجل نفسه مؤونة مساعدتها.
مسكينة المرأة تنصب من غير حمد ولا شكر. وينهال عليها زوجها وسيدها ضرباً ولكماً(29/9)
من غير أن يرثي لحالها أو يصغي لأنينها أحد. يعدها الرجال من سقط المتاع فلا تستحق منه رأفةً. ويظهر أن هذه حالها لدى جميع المتوحشين مع تفاوت في الشدة حسب الطبائع والأمزجة. ففي (بولونيزيا) لا يسوغ للمرأة أن تنضج طعامها مع طعام زوجها على نار واحدة ولا يحق لها أن تأكل في الكوخ الذي يأكل فيه ويحرم عليها بتاتاً أن تلمس قبعته وسلاحه بيدها لئلا تدنسها ويجب عليها أن تطيعه وتسلم نفسها لمن يريده من ضيف أو صديق وتحمل أجر عفافها.
ولا يقل متوحشو أمريكا قسوة وفظاعة عن بقية المتوحشين ففي (فيجي) إذا شاخت المرأة تقتل خنقاً بدخان خشب أخضر ويؤكل لحمها. وإذا سئل الرجل لماذا لا يبقى على امرأته ويذبح كلبه قال الكلاب أنفع لنا من النساء فإنها تجلب إلينا الصيد. وهذا هو جزاء المرأة على شقائها ونزولها الماء الزمهرير لصيد السمك والمحار وتعرضهن لجميع الأخطار والمتاعب لخدمة زوجها مدة شبابها.
أما في بقية القارة الأمريكية حيث العيش أقل ضنكاً لا تؤكل كل النساء ولكن مقضي عليهن طول الحياة بأشق الأعمال فهن اللاتي يحملن الأطفال والأمتعة حينما تنتقل من مكان لأخر ويحرثن الأرض ويحصدن الزرع ويهيئن الطعام ويسحبن العربات إذا لم تتوفر الخيل.
أما في آسيا فأرق طباعاً من القارات التي سبق ذكرها. والمرأة فيها أحسن حالاً ولكنها لا تعد سعيدة على كل حال ففي الصين حيث المدينة أرقى وأرسخ فدماً تساس المرأة بنوع من الشفقة غير أنها أقل قدراً واحتراماً من الرجل. إذا ولد لأحدهم بنت ولم يكن له ابن حزن وأعد نفسه عقيماً، وتباع الفتيات الصينيات في الأسواق كالسلع. ولا يسوغ للصينية أن تأكل مع زوجها وأبنائها الكبار ويجب عليها أن تقف في أدب وسكون لخدمة زوجها أثناء طعامه.
وفي (برماني) شهادة المرأة وحدها غير كافية وإذا طلبت الشهادة أدتها على باب المحكمة من غير أن تدخل خوفاً من أن تدنس المحكمة. والأب بمقتضى شريعة (مانو) قيم على ابنته إلى أن تتزوج فإذا تزوجت أصبح زوجها القيم عليها فإن مات فإبنها أو أحد أقارب زوجها فإن لم يوجد واحد من هؤلاء فالملك. ويتحتم عليها كلما قابلت زوجها أن تقابله ببشر وبشاشة ويجب عليها أن تحترمه وتقدسه ولو خانها ولا تذكر اسم رجل آخر إذا(29/10)
ترملت وما زالت هذه الشريعة إلى الآن أس التشريع في الهند.
وفي غرب (أفغانستان) تعد البنت وحدة النقود وفي كثير من الشرائع القديمة (كشريعة مانو) لا ترث المرأة. وفي روسيا إلى يومنا هذا لا ترث البنت من أبيها إلا جزءاً من أربعة عشر من العقار وسبع المنقول. للكلام بقية(29/11)
أفكار بليدة لمفكر بليد في أوقات بليدة
للكاتب الأخلاقي الفكه جيروم ك. جيروم
الحياء
إن جميع كبار الكتاب والمفكرين حييون، وأنا لهذا السبب رجل حي خجول، وإن كان الناس لا يفتأون يقولون لي أن حيائي لا يكاد يبين، ولكني والحمد لله مسرور بذلك الآن مثلج الصدر، إذ كان حيائي شديداً لدي، وكان لي يومذاك مدعاة شقاء وتعب، ولأصدقائي وصحباتي باثع ضيق واستثقال، ولا سيما عند صديقاتي السيدات، وصواحبي الآنسات، فقد كن يشكون من حيائي أمر الشكوى.
إن نصيب الرجل الحيي في هذه الحياة نصيب سيء مرير، فمعشر الرجال يكرهونه، والنساء يحتقرنه، وهو أيضاً يكره نفسه ويحتقرها، ولكن الرجل الحيي مع ذلك يثأر لنفسه من المجتمع بعض الثأر، فهو يستطيع أن يخيفهم كما يخيفونه لأنه لا يكون في الحجرة الممتلئة بالسمار والأصحاب إلا كصمام المدخنة يخنق نفسه، ويمنع سريان الهواء، فيترك أمرح الأرواح وأبهج الصدور بوجوده حزينة، ضائقة، مضطربة الأعصاب وهذا الضيق الذي يعرو الناس من حضرة الحيي في وسطهم، لايبعث عليه إلا سوء التفاهم، فكثيرون من الناس يخطئون فهم الحيي فيحسبونه زهواً وكبرياء، ولهذا يشعرون بأنهم يتلقون منه إهانة لا تسعها المغفرة، وإذا رأوه وقد أخذه الرعب لأول كلمة توجه إليه منه، وقد تصاعد الدم إلى رأسه، وخذلته الألفاظ والعبارات، وفقد قوة النطق، عدوه مثالاً فظيعاً على نتائج الإنهماك في الشراب والملذات.
وهو لا يصيب إلا سوء التفاهم في كل مجلس ومكان، ومهما حاول أن يظهر من التأثير، فالناس لا تدرك إلا نقيض المعنى الذي يريد، فلو أرسل نكتة في المجلس، أخذوها نوعاً ثقيلاً من الجد، وحكموا بها على ضعف قوته في قول الجد، وإذا ألقى دعابةً تلقوها منه رأياً من أرائه، وعدوه من أجلها حماراً، وإذا أراد يوماً أن يستعطف بعض القوم فأنشأ يقول شيئاً من المديح، فظنوه منه تهكماً، وكرهوه من جراء ذلك.
هذه وغيرها من آلام الحي كانت أبداً باعث الضحك والمجون عند كثيرين من الناس، وكثيراً ما أمدت الأدباء بموضوعات طيبة للتفكهة، ولكنا إذا نظرنا بعد نظراً أبعد من(29/12)
مرمى، وجدنا لهذه الصورة ناحية محزنة، بل قل مبكية، فإن الرجل الحيي يعني رجلاً واحداً، قطع ما بينه وبين الرفقة، وحيل بينه وبين الجماعة، يمشي ويتحرك في العالم، ولكن لا يختلط به ولا يمتزج، يقوم بينه وبين الناس سور منيع شاهق، يحاول أن ينفذ منه، فلا يصيب منه إلا البطح فهو يرى الوجوه الصبيحة، والمطالع المتهللة، ويسمع الأصوات الغريدة، من الناحية الأخرى التي تقوم وراء هذا الجدار الخفي، فلا يستطيع أن يمد ذراعه ليلمس ذراعاً آخر،، ويقف يشهد الجماعات المبتهجة الفرحة، ويود لو يكلمها، وينعم بحديثها، ويطالبها بحقوق القربى، ولكنها تمر به غير ملتفتة ولا آبهة، يكلم بعضها بعضاً، ويضاحك رجالها نسائها، فلا يجد في نفسه القدرة على أن يستوقف أحداً منهم، ويحاول أن يصل إليهم، ولكن سجنه يتحرك معه حيث ذهب، فهو يمكث عن كثب من القوم كالمجذوم أو المبروص، وإن صدره ليفيض حباً وحناناً ورقة وعطفاً، ولكن العالم لايشعر بذلك ولا يدري ولا يعلم، لأن قناع الحياء يحجب وجهه، ويدع الناس لا يبصرون منه الرجل الحقيقي المسكين، وقد تثب الكلمات الرفيقة والتحيات الصديقة إلى شفتيه. ثم تتبدد فجأة في خفوت وهمس، والناس بعد يرون في المخلوق الخجول اللاهث المرتعش الركبتين المتشنج الأطراف، منظراً مؤلماً لهم، وإذا لم يستطع هذا المخلوق أن يطيب من هذا المرض فخيرٌ له أن يذهب ويشنق نفسه.
على أن العزاء الوحيد الذي يستطيع أهل الحياء أن يتعزوا به بينهم وبين أنفسهم هو أن الحياء ليس ولا ريب دليل الحماقة، ومن السهل جداً للمجانين المغفلين المعاتية أن يهزأوا بالأعصاب واضطرابها، ولكن الطبائع السامية لا يجب أن تكون هي التي تحتوي مقداراً كبيراً من هذا النحاس الأخلاقي الذي يوجد في وجوه المتبجحين، فالجواد ليس حيواناً أقل مكن الخطاف، وليس الغزال أقل من الخنزير، وليس معنى الحياء إلا تناهياً في الإحساس، ولا علاقة بينه وبين الزهو والكبرياء، وإن كان الثرثارون من مدرسة الفلسفة يصرون على القول بأن العلاقة بينهما متينة.
وفي الحقيقة أن الزهو هو أحسن الأدوية للشفاء من الحياء، فإذا أنت يوماً خطر لك أنك أبدع وأفضل وأشطر من غيرك فلان وفلان وفلان، فلا يلبث الخجل أن يمتنع عنك ويتركك، وتصبح متبجحاً، وأنت إذا استطعت أن تدير بصرك في الحجرة الغاصة(29/13)
بالجلوس، وتظن أن كل واحد من هؤلاء القاعدين ليس إلا طفلاً من الذكاء بالنسبة إليك، فلن تشعر بشيء من الحياء إزاءهم، اللهم إلا إذا كنت تستحي من مجلس من الأورانج تانج أو الغوريللا!!
والفضيلة الكبرى للحيي إخلاصه في الحب، وأنا مستعد للسماح له بهذه الفضيلة، لأنه ثابت أبداً في حبه، ولكن السبب ليس خفياً دقيقاً، فإن إخلاصه لم ينشأ إلا لأن النظر إلى امرأة واحدة في وجهها يستفد منه كل شجاعة، ويستحيل عليه بعد ذلك أن يكرر العملية نفسها مع امرأة ثانية، حسبه امرأة واحدة وأنت ترى الناس أبداً لا يفتأون يقولون للشاب الحيي احتثاثاً له وتشجيعاً أنه خليق بأهن يتخلى عن حيائه، وينكرون عليه أنه أشبه بالفتاة في حيائها ولكني لا أعرف شيئاً يقال له إمرأة حيية، أو على الأقل لم ألتق يوماً بواحدة، ولن أحول عن اعتقادي هذا حتى ألتقي بها، وأنا أعلم أن هذه العقيدة المتفق عليها هي عقيدة مخطئة معكوسة، والناس يتصورون أن النساء جميعاً يتغلب عليهن الحياء، وأنهن يجفلن وتتورد وجنتهن وتتراخى أجفانهن، إذا نظر إليهن، وإنهن ينطلقنا مفلتات إذا خوطبن، وإننا نحن الرجال معشر متبجحون جسورون - هذه نظرية جميلة يا سادة، ولكنها ككل النظريات المتفق عليها، كلام فارغ ليس إلا، فإن الفتاة في الثانية عشرة تكون هادئة النفس، مطمئنة الأعصاب، بينما أخوها ذو العشرين يتلعثم بجانبها ويتمتم، والمرأة تدخل الملهى والرقص متأخرة تعطل التمثيل وتعكر سكون الجمهور، ولا تهتز منها شعرة واحدة، وترى الزوج في أثرها، يتعثر من حياء، ويتمتم بالمعاذير، ويهمس بالشفاعات.(29/14)
الأدب والتاريخ
الشاعر جوت
أغلقوا بيرونكم وتعالوا نسمع جوت الجديد
كارليل
1ـ مكان جوت من تاريخ
مات جوت عام 1832، أي منذ ثمانين حولاً وأربعة أحوال، مات في السنة التي قضى فيها الروائي والتر سكوت، وقبل عامين من وفاة الشاعر كولوريدج، وقبل ثمانية عشر عاماً من نعي الشاعر وردسورز، وبعد عشرين عاماً من ذهاب بيرون، وسبعة وعشرين عاماً من متوفى صديقه شيللر، فلما مات، كان ملك الشعر الألماني، وسيد الأدب الغوطي، ورأس الأدب الغربي، وكان كارليل القيثار الحلو لاغاريد الذي يتغنى باسمه، وينشد الأرض بطولته، ويترنم الناس بشاعريته، وكان يصيح في العالم أن في جوت الدواء الناجع من أمراض الحياة، والأشفية الصالحة من علل العصر، وأن جوت أمير الأدب والشعروالفلسفة والفكر، وغن الشباب الذين لا يزالون في دور الحيرة من أمور حياتهم، والذين يعانون من هموم العصر ومساوئه، ينبغي لهم أن يتبعوا هذه الوصفة الطبية، وهي أغلقوا بيرونكم وافتحوا جوتكم ومنذ ذلك اليوم أصبح جوت رأس كتاب ألمانيا، وفي طلائع كتاب الغرب بأسره، وإن ثنا كثيرون من الكتاب يتغنون في أثر كارليل باللحن الجوتي ويضجون بأنشودته وأنت تعلم أن جبابرة الكتاب وعظماء الذهن يمرون في طريقهم إلى الخلود بأدوار عديدة بين موتهم وبين ظفرهم بهذه الخاتمة، إذ يتسآءل الناس بعدهم عما إذا كان الجيل الذي جاء في أعقاب وفاتهم. سيحبهم كما أحبهم الجيل الذي شهد موتهم. وعما إذا كانت كتبهم وتواليفهم ستصلح بعد الجيل قد تطورت أراؤه في الحياة والدين والعلم والفلسفة، ووثب فيه إلى مكانهم شعراء مغلقون غيرهم، ونحن نرى أنه قد لا تمضي عشرون عاماً أو ثلاثون على وفاة الشاعر الكبير، أو الكاتب المبدع، حتى ينساه الناس، ويجهله العصر، إذ تخرج إلى العالم صحيفة جديدة من الفكر تذهب برواء صفحاته، وتفقده البهجة والجدة والبهاء التي كانت جميعاً في كتبه، وإذا بك ترى الكاتب الذي كنت تظنه موفضاً في سبيله إلى الكواكب قد عاد فهوى إلى الأرض، وغاب في غمار الناس، واختفى(29/15)
في مقابر العامة - وإذا كان الناس لا يفتأون يشبهون الشعراء والكتاب بالكواكب، فنحن نطرد معهم في تشبيههم فنقول أنهم في أدوارهم الأولى لا يظلون في سماء الشعر كواكباً ثابتة بل إنهم ليختفون حيناً وحيناً يظهرون، شأن الكواكب والنجوم ويعد عليهم ما يعد عليها من الكسوف والخسوف والأبدار والمحاق، ولا يزال الخلود بين هذا معلقاً غير محقق. وكذلك نقول عن الشاعر جوت فقد مضى الآن ثمانون عاماً وتزيد على العهد الذي كان ينادي فيه ملك الأدب الألماني وسيده، فهل تراه كذلك إلى اليوم بعد أن أخرجت ألمانيا كثيراً من الشعراء، وأخرجت جمعاً عظيماً من الكتاب والفلاسفة، وهل يظل كذلك بعد أن طلع في الغرب غيره من الشعراء الجبابرة وبعد أن تغير العصر وتغيرت أمراضه وعلله. إن هذه المسائل تستحيل إلى سؤالين وهما، ماذا يرى الألمان أنفسهم في جوتهم بعد أن انصرم ثمانون عاماً وأربعة. وماذا يرى العالم فيه الآن، أما عن الأول فإن جوت عانى بعد وفاته بسنتين شيئاً من النقض والطعن والإنتقاص، فقد انطلق الشاعر هايني العظيم يعيبه ويتزري عليه ويتناوله بالنقد ولكن هايني عاد فأبدى لنا الباعث الذي ابتعته على ما كان منه إذ قال أما البواعث التي بعثت على هذه المطاعن التي قذف الناس جوت بها فإني أعرف على الأقل سرها من ناحيتي. . . . . وقد كان الحسد! ولكنه لم يلبث الناس أن نهضوا إلى إعلاء شأن جوت والتنويه باسمه، وانطلق أهل ألمانيا يمجدونه ويكبرون ذكره، لأن نهضة الأمة الألمانية منذ عام 1870 حملت معها اسم شاعرها الأكبر إلى مكانة أسمى من سابقة مكانته، وصار الكتاب يمدحونه وينوهون به ويعدونه من بين شعراء الإنسانية والأبد، أما أهل الغرب فلا يزالون يحبونه ولا يزال عند ذاكرتهم، يطالع إلى اليوم كأنه كتاب قائم على الزمن، جديد لا تضيع جدته، ولا يذهب رواؤه (انتظروا الباقي من تاريخه وحسنات أدبه في الأعداد القادمة).(29/16)
مذكرات شبلي شميل
الدكتور شبلي شميل معروف مشهور لإخفاء به، وهل يخفى القمر؟ والدكتور - وليس يدافع في ذلك اثنان - ذو عقل كبير جبار كعقول الفلاسفة، وذو قلب سليم طاهر كقلوب الأطفال. لذلك نحبه جداً ونحترمه جداً. والدكتور خليق منا نحن الناطقين بالضاد بالحب والإحترام، وأن ننافس به الغربيين رافعين أصواتنا إذا كان عندكم معشر الغربيين أمثال هيكلوولس ودارون فعندنا شبلي شميل، وليس ينقصنا أن يكون عندنا أمثاله ولكن ينقصنا فقط أن جمهورنا ليس كجمهورهم في تقدير النوابغ والعبقريين.
والدكتور وان كنا نحبه ونحترمه كما أسلفنا بيد أنا لا نتفق وإياه في كثير من أرائه الدينية وبعض آرائه الأخرى وهذا لا ينافي حبنا احترامنا وأن ننتفع بعمله وأدبه وبكل ما يفيض علينا عقله وتجاربه وملاحظاته - ونحن نقدم اليوم إلى قرائنا مما لم ينشره الدكتور مذكراته التي رأيناها كالمرآة يرى فيها الناظر تاريخ مصر ونهضتها العلمية والأدبية والسياسية والإجتماعية منذ منتصف القرن الماضي إلى اليوم مما لا يكاد يظفر بمثله في كتاب أو مجلة، ذلك إلى كثير من تعليقات الدكتور التي لا نغالي إذا قلنا أنها جماع فلسفته وآرائه وسننشرها تباعاً في البيان إن شاء الله.
اليوم الأول
حتى سنة 1875 وهي السنة التي اتخذت فيها مصر موطناً لي بعد تخرجي من المدرسة الكلية في بيروت ورجوعي من فرنسا لم يكن في كل القطر المصري جريدة عربية عمومية سوى جريدة أسبوعية اسمها (الإسكندرية) لمنشئها سليم حموي وكان مركزها مدينة الإسكندرية. وهي التي انتقلت بعد ذلك إلى القاهرة وتحول اسمها إلى (الفلاح) ثم ماتت. فسليم حموي شيخ الصحافة العربية في القطر المصري لو برَّ الصحافيون.
وفي هذه السنة قدم إلى مصر سليم تقلا وأخوه بشارة تقلا من كفرشيما من أعمال لبنان وأنشأ جريدة الأهرام في الإسكندرية أسبوعية أولاً ثم يومية ثم انتقلت إلى القاهرة ولا تزال حية حتى اليوم. ولقد أظهرا من الثبات وحسن الإدارة وصادفا من المساعدة ما سهل لهما النجاح وحبب للآخرين الإقتداء بهما.
وفي هذه السنة عينها قد الإسكندرية أديب إسحق وسليم نقاش من مدينة بيروت وفي(29/17)
عزمهما أن يمارسا فن التمثيل وقد مثلا بعض الروايات في تياتروزيزينيا في الإسكندرية وأثنى الجمهور عليها كثيراً لأنهما كانا مقتدرين في فن الإنشاء والتمثيل معاً.
ومن الروايات التي شخصاها رواية أندرومارك لراسين المؤلف الفرنسوي نقلها إلى العربية أديب اسحق واقتفى مؤلفها في كل ما التزمه من المحسنات اللغوية فجاءت في العربية محكمة كما هي في الفرنساوية. وكأنهما رأيا كثرة نفقات التمثيل وليس لهما سند مالي فانفصل أديب ونوى أن يلحق بالصحافة ففي ذات يوم ورد لي كتاب من أخي أمين شميل المقيم في الإسكندرية يقول فيه أن أديب اسحق متوجه إلى القاهرة وفي نيته أن يشترك مع أنيس خلاط صاحب جريدة الجريدة العربية الوحيدة التي كانت تطبع فيها. وقد وصف لي براعته وكنت قد سمعت بها. فلما تعرفت به فتنت بمقدرته في فن الإنشاء مع اتساع مقتبساته مما كان له شأن عظيم في تلك الأيام والنهضة اللغوية في أولها. ومما قرأه لي حينئذٍ مقالة في غاية الإحكام كل عباراتها مقتبسة وليس له فيها غير التنسيق والربط فأسكنته معي وعرفته ببعض نوابع تلك الأيام كالشيخ محمد عبده واللقاني ولطيف سليم وغيرهم ممن كانوا يجتمعون كل مساء تحت لواء الشيخ جمال الدين الأفغاني في قهوة بالقرب من البوستة القديمة.
ولما أبدى لي أنه آتٍ ليشترك في تحرير جريدة أنيس خلاط لم أستصوب رأيه لعلمي أن الجريدة المذكورة ليس لها شأن فخفت أن تؤثر على مطلعه فلا تبدو حينئذٍ مواهبه كما يجب. ووددت له الإستقلال في العمل. فأشرت عليه أن ينشئ جريدة باسمه وكأنه استصعب الأمر جداً فقال ومن أين لي المال اللازم وذكر لي أن تقلا كلفته الرخصة نحو مائة ليرة. فشجعته وقلت له لعلي أستطيع أن آخذ لك رخصة بلا نفقة تذكر. وأما الطبع فيكون في أول الأمر بالأجرة المؤجلة. وفي الحال قمت معه إلى نظارة الداخلية وكانت الأعمال يومئذٍ تجري بالنفوذ أكثر منها بالنظام. وقابلنا أدوار اليأس من مفتشي الداخلية فعرفته به وأوصيته أن يساعده للحصول على الرخصة فوعدنا الرجل خيراً وبراً بوعده.
فقدم أديب حينئذٍ طلباً بإنشاء جريدة أسبوعية اسمها (مصر) ومركزها القاهرة. ثم تركته يمشي وحده لأني رأيته في أمر المداخلة مع الناس أقدر مني جداً فحيث أخطو أنا خطوة يخطو هو خطوات. ولم يمض أسبوع حتى جاءني يقول أن الرخصة جاهزة ويلزم نصف(29/18)
جنيه فقط لدفع الرسم في المحافظة فنقدته القيمة وكنا حينئذٍ في الطريق متوجهين إلى المطعم للغذاء ومعنا أخي أمين وكان قد قدم إلى القاهرة زائراً في شغل.
قلت عن أديب أنه كان مقتدراً جداً في أمر الإختلاط بالناس واجتذابهم إليه فكان يفتن من يجانسه ممن يجالسه فتعرف في هذه المدة القصيرة بكثير من أهمهم له كان بلا ريب عبد السلام المويلحي وكان في إبان نفوذه يومئذٍ فأعجب بأديب جداً وأصبح له صديقاً حميماً وسنداً مالياً عظيماً كما كان له بعد ذلك جبرائيل مخلع من وجهاء التجار السوريين في الإسكندرية فلم يصادف صعوبات كثيرة في إصدار جريدته في القاهرة ولا في نقلها بعد ذلك بأشهر قليلة إلى الإسكندرية.
ومن أول ما ظهرت جريدة مصر انتشرت انتشاراً عظيماً والتف حولها أشهر كتاب مصر في تلك الأيام من مصريين وسوريين. وقد تمكنت الصداقة بين أديب وجمال الدين ورجاله حتى صارت جريدة مصر لسان جمال الدين وحزبه بل صارت معروفة بين الجميع أنها لسان الحزب الوطني. وهذه أول مرة ذكر فيها اسم هذا الحزب في مصر فيما أعلم. وكانت مرامي هذا الحزب ضد. وهي التي انتهت بعد ذلك بالثورة العرابية.(29/19)
أمالي أدب
بين ظهرانينا أديب فضل لا يكاد يتخلف عن كثير من أدبائنا الذين ملأو الدنيا شهرة، وهو محمد عزت أفندي الذي تكفل للبيان بأن يوافى كل عدد من أعداده بقطعة وافية الأدب العربي يضمنها أطيب ما عثر عليه اختياره من منظوم المتقدمين ومنثورهم مع الشرح والضبط والتعليق، وقد قدم لهذا العدد نبذة طيبة افتتحها بالقول على تفشي العجمة بين الناطقين بالضاد لعهدنا هذا وأن ذلك إنما نشأ من أعراض القوم عن فصيح اللغة والاحتفاظ بالمأثور من بلاغات العرب التي بإدمان النظر فيها والدربة عليها تستقيم الألسنة وتتهذب ملكات البيان ويبقى هذا الدين كتابهم وسنته وشرائعه ومدنياته قائماً محفوظاً معمولاً به، إلى كثير من الأفكار الصائبة التي أودعها مقدمته ثم هجم بعد ذلك على ما قصد إليه من هذا الأملى. قال فمما هو غاية في الإبداع وجمال الأسلوب قول الحارث بن خالد في طول الليل
تعالوا أعينوني على الليل أنه ... على كل عين لا تنام طويل
ويقال أنه أول من ذكر العلة في طول الليل ذم تبعه الشعراء فقال الفرزدق واسمه همام بن غالب وكنيته أبو فراس
يقولون طال الليل والليل لم يطل ... ولكن من يهوى من الوجد يسهر
واحتذى أبو معاذ بشار بن برد حذوه فقال
أظن الدجى طالت وما طالت الدجى ... ولكن أطال الليل هم مبرحِ
وقال الوليد بن يزيد
لا أسأل الله تغييرا لما صنعت ... سعدي وإن أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيءٍ حين أفقدها ... والليل أقصر شيءٍ حين ألقاها
فذكر العلة في طول ليله وزاد عليها العلة في قصره وجاراه مؤيد الدولة الطغرائي فقال
ليلي وليلي نفي نومي اختلافهما ... حتى لقد صيراني في الهوى مثلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالوصل ليلي وإن جادت به بخلا
ثم جاء من امتثل قول الفرزدق وثنى بقول الوليد فقال
أخو الهوى يستطيل الليل من سهر ... والليل من طوله جار على قدره
ليل الهوى سنةٌ في الهجر مدته ... لكنه سنةٌ في الوصل من قصره
أما علي بن العباس الرومي خواص الشعراء فقد رمي الغرض الأقصى في طول يوم(29/20)
الهجر فقال:
يحول الحول في الوصل ... ويبقى لي تذكاره
ويوم الهجر والبين ... كيوم كان مقداره
يشير إلى قوله تعالى (كان مقداره خمسين ألف سنةٍ)
وربما ضربوا صفحاً عن ذكر العلة في طول الليل أو اليوم وقصره لأن الحال تقتضيها أو أن ذكرها من قبيل الإتيان بما لا يشك فيه ما دام الإجماع على سرعة انقضاء ساعات السرور وبطء مرور مضاداتها واقعاً في النفوس ومن ذلك قول امرئ القيس بن حجر الكندي
ألا أيها اليل الطويل ألا انجلي ... بصبحٍ وما الأصبح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مضائها ... بأمراس كتان إلى صم جندل
ويذبل اسم جبل ببلاد الحجاز وكثيراً ما يسمى بيذبل الجوع لأنه مجدب أبداً. والأمراس جمع مرس. وهو الحبل. وصم. صلاب واحدها أصم والأنثى صماء والجندل الصخرة والجمع جنادل. وهذا معنى لطيف ظريف لم يتفق لكثير بعده أما بلاغة الأبيات فهي النهاية في الإبداع. فإنه لما توهم أن النجوم مشدودة بالحبال في الجبل جعل الحبال محكمة الفتل وأنها من الكتان ليدل على متانتها وعجز النجوم عن قطعها وخص الجبل بيذبل لأنه صخري والصخر قوي يصعب نزع الأمراس المشدودة عليه. ثم أفرد الثريا بالذكر من بين النجوم ليدل على شرفها وتقدمها. وكانت هذه عادة العرب في تعظيم الثريا وأنهم إذا ذكروا جملة أن يفردوا أشرفها عندهم وأعظمها وقعاً في نفوس ويخصون بالذكر كما في قول إمرئ القيس. وقد جاء في القرآن الشريف مثل هذا ومنه قوله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان والنخل والرمان من جملة الفاكهة.
أما أصرم بن حميد فقد جعل الكواكب مقيدة ولم يتعرض لبيان نوع القيد كما فعل إمرؤ القيس. قال
وليل طويل الجانبين قطعته ... على كمد والدمع تجري سواكبه
كواكبه حسرى عليه كأنها ... مقيدة دون المسير كواكبه(29/21)
ومن الشعر المليح الخفيف الروح قول كشاجم في قصر الليل
وليلةٌ فيها قصر ... عشاؤها مع السحر
صافيةٌ من الكدر ... تقضي ولم يقض الوطر
في مثلها ألتذ السهر ... تمحو إساآت القدر
وتترك الدهر أغر
وقول كشاجم - عشاؤها مع السحر - من قول ابن المعتز ملك الشعراء في التشبيه
يا ليلةً كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسحر
وأبلغ ما قيل في سرعة انقضاء ليلة السرور قول محمد بن أحمد العلوي المشهور بابن طباطب
وليلةٌ مثل أمر الساعة اقتربت ... حتى تقضت ولم نشعر بها قصرا
لا يستطيع بليغ وصف سرعتها ... كانت ولم تعتلق وهماً ولا نظرا(29/22)
تاريخ سعد زغلول باشا
سنستأنف من العدد القادم تاريخ رجل مصر العظيم ووكيل الأمة الأوحد حضرة صاحب المعالي سعد زغلول باشا - وقد كنا نشرنا كلمات إضافية من هذا التاريخ - الذي كأنه روح تاريخ مصر الحديث والذي تكفل البيان بكتابه - في عدة أعداد من البيان الشهري - وسنستمر في نشر هذا التاريخ حتى يتم بعون الله ثم نظهره بعد ذلك في سفرٍ قائمٍ بنفسه إن شاء الله.
دقات قلب المرء قائلةٌ له ... إن الحياة دقائق وثواني
شوقي
رأيت الدهر يرفع كل وغدٍ ... ويخفض كل ذي شيمٍ شريفه
كمثل البحر يغرق فيه حيٌ ... ولا تنفك تطفو فيه جيفةُ
ابن الرومي(29/23)
العلم والفلسفة
ميت يصف العالم الآخر
السر أوليفر لودج علم من أكبر علماء هذا العصر. وكان رئيس المجمع العلمي البريطاني. وهو الآن مدير جامعة برمنجهام وقد أحدث في هذه السنين ضجة كبرى بين أساطين أهل العلم الحديث. وانتصر للمتدينين والمؤمنين. إذ لا يزال يؤيد مذهبه الجديد في وجود الروح والعالم الآخر وتحضير الأرواح ومخابرة الموتى. وقد استطاع إلى الآن أن يقف أمام أعدائه العلماء الآخرين ويناضل إزاءهم بحجج قوية وأدلة مدهشة. وقد وضع في هذه الأيام كتاباً أسماه (رايموند أو الحياة والموت) فكان للكاتب رجفة أخرى بين العلماء الطبيعيين - ورايموند هذا هو ابن أوليفر لودج نفسه. مات قتيلاً في هذه الحرب في ميادين فرنسا في شهر سبتمبر من العام - 1915 - والكتاب يدور حول رسائل ومخابرات تلقاها أوليفر لودج من ابنة في العالم الآخر. على لسان (وسيط) من الأحياء نومه تنويماً مغناطيسياً.
وكان بدء تلقيه هذه الرسائل في الثالث والعشرين من سبتمبر أي بعد انصرام عشرة أيام من وفاة نجله وفحوى هذه الرسالة أن حياة رايمون لم تنته بموت جسمانه بل قد أنبأ أباه أنه نام بادئ ذي بدء بضعة أيام ثم أخذ يتبين شيئاً فشيئاً أنه في عالم جديد وأنه اندهش لأول وهلة أن رآه يشبه في مظهره مظهر العالم الذي تركه ولم يكن يظن أول الأمر عن ما تيقظ من سباته أنه سيكون سعيداً بعيشه. ولكن هذا الإحساس لم يلبث أن زال بتة وألفى له عملاً يقوم به. وقال أنه التقى بأصدقاء كثيرين له وأنهم جعلوا بعينونه على عمله الجديد.
أما عن وصف هذه الحياة فقد قال أنه كان أولاً في حيرة واضطراب فلم يستطع أن يدرك أين هو. ولا المكان الذي وجد فيه ولكنه لم يلبث أن شرح له ذلك وقال أن القادمين الجدد من الكوكب الأرضي يؤخذ أولاً في تفهيمهم ومواساتهم وتهدئة اضطرابهم. وعرف بعد ذلك أن عمله الجديد هو أن يعين في ميادين القتال لا الجرحى ولكن المنتقلين من الأرض إلى عالمه. وقد رأى أن المقاتلين الذين ينتقلون إلى العالم الآخر يظلون بادئ الأمر بإحساسهم الأرضي. وإن بعضاً منهم عند يقظتهم يتقاتلون ويتضاربون أو يريدون ذلك.
قال رايمون بعد ذلك ما نصه. والذي هدأ من اضطرابي وجعلني آلف مكاني الجديد هو أن الأشياء كانت تبدو لي حقيقة مادية محسوسة بل إن الأشخاص الذين التقى بهم ظاهرون(29/24)
يلمسون وأول شخص ألتقي به جده ثم آخرون عرفهم في هذه الحياة وآخرون سمع بهم وقال أن الليل لا يتبع النهار. كما هي الحال في الأرض بل أن الظلام لينتشر إذا أحببنا أن يكون ظلام. وليس الوقت الذي بين النور والظلام واحداً في جميع الأحوال. وقال رايمون أنه يسكن بيتاً مبنياً من الأجر. وإن هناك أشجاراً وأزهاراً وكتباً وموسيقى. وقال أنه لا يأكل لأنه لا يريد ذلك. ولكن هناك كثيرين يأكلون متى يريدون وهم يطاف عليهم بما يلوح شبيهاً بأطعمة الأرض.
وكان ريموند هذا في الدنيا ماجناً مزاحاً، ولذلك لا يزال يمزح في بعض رسائله، فقد جاء في إحداها ما يأتي جاءنا شخصٌ منذ أيام. فلم يلبث أن افتقد السجاير وكان يدخنها في الأرض، فظن أن ذلك قد زال الآن وأنهم لا يستطيعون هنا أن يجيؤه بلفافة من التبغ. ولدينا هنا مصانع ومعامل يصنعون فيها أشياء كثيرة. ولكن ليس من المادة كما تفعلون بل من الأبخرة والأثير والهواء. وهكذا جيء إليه بما يشبه السيجارةوإذا رآها الرجل وثب فرحاً بها. غير أنه لم يكد يدخنها حتى طابت نفسه، وبعد السيجارة الرابعة لم يعد إلى طلب التبغ مرة أخرى.
والأجسام لا تزل كما كانت. لأنه يتحرك ويمشي كما كان هنا بيد أن الأجهزة الداخلية في البدن قد تغيرت وتبدل نظامها عن نظام جسومنا في هذا العالم. وقال أنه لم ير إلى الآن دماً، وأن له وجهاً وحاجباً وهدباً ولساناً وأسناناً، وأنه قد نبت له سن جديد في موضع السن التي كانت فاسدة في الدنيا. وقد عرف رجلاً كان في هذا العالم مقطوع الذراع. ولكنه الآن ذو ذراعين صحيحتين، وأنه إذا كان البدن مهشماً عند الوفاة، فلا يلبث حتى يستقيم ويعود تاماً مكتملاً. وأنه أحب في أول الأمر أن يلبس أثواباً تشبه الأُواب التي كان يرتديها في الدنيا، فكان ذلك. ولكن الناس هنا تلبس سرابيل بيضاء. فلم يسعه إلا أن يحتذي حذوهم.
وقال أخيراً أن الناس في العالم الجديد لا يتزوجون ولا يلدون، وأن العاطفة بين الرجال والنساء قد تغيرت، ولاسيما بين المرء وزوجه، ولكن لا تزال العاطفة باقية بين الأم وابنها والأب وابنته. وأنبأ ريموند أباه كذلك أنه يسكن في الطبقة الثالثة وتسمى أرض الصيف وفي هذه الطبقة طرق ومنازل وأشجار وأزهار، وأنه يوجد طبقات فوقها وأخرى دونها، وأن أرض الصيف هذه قريبة من الكوكب الأرضي، وأن النجوم لاتزال ترى كما كانت(29/25)
ترى في الأرض، ولكنه فقط يحس أنها أقرب إليه وأوضح مما كانت، وكذلك الشمس وأن الإنسان يساق إلى المكان المعد له. فإذا أردت أن تنتقل إلى حال أحسن من الحال التي أنت بها، فعليك أن تظهر الكفاءة لإحرازها.(29/26)
الزراعة والصناعة
حتى تتوفر في هذه المجلة جميع مطالب القراء فتحنا هذا الباب - باب الزراعة والصناعة - فبادر أستاذان أخصائيان في هذا الفن هما الأستاذ نعمان محمد مدرس علم الحشرات في مدرسة الزراعة العليا والأستاذ محمد مختار الجمال الموظف بوزارة الزراعة وكتب لنا الأول موضوع الدودة القارضة وكتب الأستاذ مختار موضوعاً في الألبان سننشره في العدد القادم.
الدودة القارضة
أو
دودة البرسيم
الدودة القارضة - وهي الدودة المعروفة عند الزراعيين باسم دودة البرسيم وسميت بالدودة القارضة تبعاً لعاداتها لأنها تقرض النباتات وتتغذى بالأجزاء المقروضة منها، والإسم العلمي لهذه الدودة هو هي إحدى الحشرات الضارة التي تفتك بمزروعاتنا فتكاً شديداً فتصيب القطن الحديث الزرع وتقرض سيقانه عند سطح الأرض وكذلك تصيب البرسيم والذرة الصفراء.
وقد انتشرت الدودة القارضة هذا العام انتشاراً عظيماً وفتكت بمحصول البرسيم فتكاً ذريعاً حتى اضطر الفلاحون لإعادة زراعته أكثر من مرة وفي بعض الجهات استعاضوا عنه بزراعة مخروط من البرسيم والشعير أو الشعير وحده حتى لا يعدموا غذاء للمواشي زمن الشتاء.
وقد كثر الكلام في الجريدة اليومية عن وصف هذه الآفة وما تسببه من الضرر فوصفها بعضهم بأن لها فمين تلتهم بهما المزروعات وبالغ في طولها لدرجة كبيرة. وسآتي في هذه الرسالة الصغيرة على وصف الحشرة في أطوارها المختلفة وتاريخ حياتها وطرق إبادتها.
تتولد الدودة القارضة من فراشات كبيرة الحجم نوعاً يبلغ طول جسمها سنتيمترين وهي أكبر من فراشات ديدان القطن المعروفة، ولون هذه الفراشات أسود مسود وكذلك لون أجنحتها الأمامية أما أجنحتها الخلفية فهي بيضاء مسمرة، تظهر هذه الفراشات بالليل وتضع إناثها بيضها مفرداً على النباتات فيوضع على سيقانها والسطح الأسفل من أوراقها(29/27)
وتضع الأنثى مئات من هذا البيض، ويفرخ البيض بعد أربعة أيام أو خمسة وتخرج منه يرقات صغيرة ذات لون مخضر تتغذى بأوراق النباتات في الإبتداء فإذا كبرت أخذت تقرض سيقانها وتتغذى بها، وتظهر اليرقات في الليل لتتغذى وتختفي بالنهار بين كتل الأرض والحشائش النامية وغيرها وتستمر اليرقة في عملها المتلف مدة عشرين يوماً حتى يتم نموها ويبلغ طولها إذ ذاك أربعة أو خمسة سنتيمترات ويكون لونها أخضر معتماً وعند ذلك تنزل إلى باطن الأرض وتصنع حول نفسها شرنقة من الطين وتتحول داخلها إلى عذراء وهي صغيرة الحجم يبلغ طولها سنتيمتراً ونصفاً ولونها أحمر غامق ويمكن الحصول عليها بالبحث تحت النباتات على بعد ثلاثة أو أربعة سنتيمترات من سطح الأرض وتمكث الحشرة في هذا الطور أسبوعين تقريباً إلى أن يخرج منها الفراش السابق الذكر فتتزاوج الذكور والإناث وتضع الأخيرة بيضها كما سبق الوصف.
للدودة القارضة عدة أجيال في السنة أي أنها تظهر في أوقات مختلفة تصيب النباتات كالقطن والبرسيم والذرة وغيرها من المحصولات.
ولمقاومة هذه الآفة تتخذ الطرق الآتية:
(1) عند إصابة البرسيم يجب أن يحش ويروى أو تمرر مندالة على الأرض أثناء الليل لقتل اليرقات، ويجب قبل ذلك أن تحاط الأرض المصابة بخنادق صغيرة تملأ بالماء ويوضع عليه قليل من غاز البترول لمنع اليرقات من الإنتقال من قطعة لأخرى وإذا لم يتيسر وجود البترول فيرش على الحافة الخارجية للخنادق قليل من الجير حتى إذا عبرت اليرقات الماء ووقعت في الجير ماتت حالاً.
(2) عند ظهور الإصابة في غيط يمكن حصره كما سبق القول وتوزيع طعم سام به لقتل اليرقات عندما تتغذى به. ويتركب الطعم السام من جوهر سام كزرنيخات الرصاص يخلط مع مادة أخرى كالنخالة وبعد عجنهما بالماء يضاف إلى المخلوط قليل من العسل الأسود ثم يوزع المخلوط في الغيط وعندما تظهر اليرقات بالليل تتغذى به أولاً لأنها تحب المواد العسلية فتموت قبل أن تحدث تلفاً. ويمكن الاستعاضة عن النخالة بنبات أخضر كالبرسيم أو الذرة بعد تقطيعه قطعاً صغيرة ويتركب الطعم السام بهذه النسبة: - رطل من الجوهر السام وخمسةٌ وسبعون رطلاً من النخالة وقليل من العسل الأسود.(29/28)
وعند استعمال هذا الطعم يجب الاحتراس من وجود المواشي والأغنام
بهذه الجهة.
(3) إذا كان البرسيم التحريش (القلب) مصاباً فيحسن حشه وحرث الأرض جيداً لتعريض اليرقات والعذارى للنظر حتى يسهل إلتقاطها باليد وكذلك تتعرض للطيور فتلتقطها، وللمؤثرات الجوية كالشمس تأثير عليها كذلك.(29/29)
الطب وتدبير الصحة
من بين أبواب البيان الأسبوعي كما بينا في المقدمة باب الطب وتدبير الصحة. وقد أحسنت إلينا الأقدار وهدتنا إلى حضرة النابغة الدكتور محمد عبد الحي الطبيب بالمستشفى العباسي والأخصائي في الأمراض الباطنية والعصبية والأطفال فتعهد حفظه الله وأكثر من أمثاله الصادقين المخلصين أن ينهض بهذا الباب وأن يقدم لكل عدد من أعداده شذرات مفيدة في تدبير الصحة وأخر ما وصل إليه الطب الحديث.
فتاوى طبية
وزادنا الدكتور معروفاً وعم قراءنا جميعاً بفضله بأن أخذ على نفسه أن يجيب في البيان على كل سؤال طبي يرسل إلى البيان مهما كان موضوعه ومصدره.
نصيحة إلى القراء
ومن هنا ننصح إلى جميع قراءنا أن لا يتأخروا عن إرسال أي سؤال طبي يريدون الاستفتاء عنه ومتى وصل إلينا السؤال عرضناه على الدكتور ونشرنا السؤال والجواب معاً في عدد واحد - وهنا ننشر النبذ الأولى التي أهداها الدكتور إلينا.
تأثير عصير الفاكهة في الأطفال
يصل الأطفال في بعض الأحايين بل في كثير منها إلى حال من الضعف والهزال ليس معها رجاء إذ يبدو الطفل هيكلاً عظمياً يكسوه جلد رقيق متجمد مندمل فغي أكثر من موضع ومع الضعف الشديد إسهال أشد وأرق ملازم وسهد. ولقد جرب الدكتور جلادستون أخيراً عصير الفواكه في هذه الأحوال المستعصية فأتى بفوائد جمة ونجح في تجربته نجاحاً تاماً وقرر أن جزأين من عصير البرتقال وجزءاً من عصير التفاح يعطي الطفل من مزيجهما ما يقارب ثلثي اللتر يومياً مع إضافة غذاء صالح بعد اليوم الأول يحوي قليلاً من الزلال والدهن وكثيراً من السكر هو خير علاج، وقال في إحصائيته أن الطفل ربما فقد قليلاً من وزنه في المبدأ ولكنه سرعان ما يستعيض ذلك في أواخر الأسبوع الأول من العلاج، وقال أن تأثير العصير يرجع إلى حمضيته التي تمنع الميكروبات من النمو في الأمعاء إذ هذه لا تنمو إلا في وسط قلوي وقال أن العصير مقوي ومنظف للأمعاء ومدر للبول ومعرق، وطريقة تحضير العصير سهلة للغاية إذا وجد البرتقال فيؤخذ عصيره(29/30)
ويضاف إليه عصير التفاح الذي يؤخذ فيغسل ثم يقشر ويضغط حتى يخرج العصير إذا لم يوجد البرتقال يستعاض عنه بعصير البطيخ وإن يكن الأول أفضل ولقد جرب أيضاً عصير الشليك والكرز والموز بنجاح أيضاً لكن يستحسن في هذه الحالة إضافة قليل من عصير الليمون لعمل الحمضية اللازمة ولقد جربت هذه الطريقة مع كثيرين فنجحت تماماً.
الدواء تحت اللسان
كثيراً ما تدعو حالة المريض إلى الحقن تحت الجلد أو في العضلات وتلك طريقة لا شك أن في سبيلها بعض الصعوبات ولقد شوهد أخيراً أن الإستعاضة عن الحقن بوضع أقراص من الدواء المطلوب استعماله تحت اللسان حيث يذوب ويمتص قد أتت بنفس الفوائد التي تنجم عن الحقن كالسرعة وحسن التأثير.
البيضة السليمة السامة
ذكر الدكتور أدلستون أنه عرف فتاة شاهدها لأول مرة وعمرها سنة واحدة وظن ما عندها نزلة معدية حادة فأمر لها بماء زلال البيض حدث عن أثره هبوط عام فأدرك أن السر ربما كان في البيض وإن التسمم نتج عنه لاستعداد خاص فأوقفه ولم يعط غذاء لبضع ساعات ثم أعطاها مرق فرخة صغيرة فتحسنت حالتها وشفيت ومن ذلك العهد منع عنها البيض وما يصنع منه حتى حدث أنها تناولت قطعة كعك بالبيض (روانه) فانحطت قواها وأغمي عليها في الحال وهكذا تكرر ذلك كلما حدث أنها تناولت بيضاً عن خطأ أو من غير قصد.
وحكى الدكتور فقال إنها تبلغ الآن (أكتوبر سنة 96) أحد عشر عاماً ولا تزال حالتها كما هي كلما أخذت نوعاً من البيض.
كل هذا ليس بالغريب إذا علمنا أن لكل شخص استعداداً خاصاً لكل شيء فما يكون علاجاً لشخص قد يكون سماً لآخر ولقد ذكر الطب كثيراً من أمثال هذه الشواهد.(29/31)
تقويم العالم
نبي زيلنده
وأورشليم الجديدة
إن أعجب ما في الأرض اليوم أنها لاتزال في عدة أصقاع منها تحتفظ بصورتها القديمة التي خلقها الله فيها. فنحن اليوم أهل القرن العشرين، ولكن لا يزال على وجه هذه الأرض التي تحملنا أمم وشعوب وقبائل لم تبلغ بعد في التقدير التاريخي حدود القرن الأول:
إن هذه الذوائب مقدسة، وإنها لم تقص إلى الأبد، وستبقى متراخية آخر الحياة، ولهذا أعد غلاماً خاصاً به يمشي ورائه دائماً للعناية بضفائره، وهو يقول أنه في ذلك مثل يوحنا المعمدان (يحيى بن ذكريا) إذ كان يعيش في البرية، مسترسل الشعر، مرخى الذوائب، وإنه مثل شمشون الذي كانت قوته في شعر رأسه، ثم عمد إلى تقليد سليمان فأعلن أنه يريد أن يكون له أكثر من زوجة واحدة وجاء بدليل من التوراة وهو الإصحاح الرابع من سفر أشعيا إذ جاء فيه أن سبع نسوة يمسكن رجلاً واحداً، وأنه هو هذا الرجل، وأن هؤلاء النسوة يجئنا إليه دون أن يبحث هو عنهن، وكذلك جاء إليه القوم بهن، ومن كل قبيلة واحدة.
وطلب إليهم كذلك أن يكون له معبد، لأن سليمان كان له معبد.
ويجب أن يكون مكانٌ لحرمه ومقامه، فبنى المعبد والمكان والحرم وأحضرت إليه أموالٌ طائلة لنشر دعوته وتوطيد دعائم ملته.
وله الآن إثنا عشر من أئمته وصحابته، يتخذون حذوه في إرسال شعر رؤوسهم، ولا يشربون مثله التبغ، والذي من أمره أن اعتاد أن لا يخرج يده اليسرى من جيبه. وهو يقول أن قوته في هذه اليد، ومن ثم ينبغي أن يحميها من أعين الناس.
وهو يعيش في أورشليم الجديدة عند سفح جبال روكى في أبهة الإمارة والسطوة والجلال الديني، وقد حاول كثيراً أن يجيء بمعجزات له، فقد حدد منذ سنين يوماً إدعى أن الملك إدوارد السابع سيزور فيه زيلنده وينزل ضيفاً عليه، فلما لم يحضر الملك بالطبع عرف النبي روا كيف يعتذر لأصحابه إذ قال أن إدوارد السابع كان سيحضر بالتأكيد. ولكنه منعه لأنه شهد أن إيمانهم به لم يصر بعد قوياً كما يريد.(29/32)
ووعدهم يوماً بأن يمشي على الماء فاجتمع خلق كثير عند البحر ليرقبوا المعجزة.
فلما كان الميعاد جاءهم فقال أتعتقدون أنني أستطيع أن أمشي على الماء؟. .
فأجاب الجميع نعم
فلم يكن منه لا إن قال حسن جداً. إذاً فلا لزوم لذلك ما دمتم تعتقدون أنني سأفعل وامتطى صهوة جواده. وانطلق عادياً.(29/33)
تفاريق
كم عدد أجدادك؟
لا أظنك من النبلاء فتستطيع أن تفخر بسلسلة طويلة من الأجداد والآباء، ولكننا جميعاً في الحقيقة من الرفيع إلى الوضيع متساوون في عدد أجدادنا، وهناك سؤلا يدهش صحابتك وأصدقائك إذ تسأل يوماً كم عدد أجدادك الذين انحدرت منهم مباشرة منذ عشرين جيلاً؟ وجواب ذلك أن لك في الجيل الأول أبوين (أمك وأبيك) وفي الجيل الثاني أربعة آباء (جدان من ناحية الأب وجدان من ناحية الأم) وفي الجيل الثالث ثمانية وفي الجيل الرابع ستة عشر. وهلم. وإذا استرسلت في حساب ذلك وجدت أن عدد أجدادك في هذه المدة هو 1. 048. 586 وإذا اعتبرنا أن كل قرن يحتوي ثلاثة أجيال - وهذا تقدير على التقريب - نتج من ذلك أنه كان لك حول عام 1250 من الميلاد مليون وثمانية وأربعون ألفاً وخمسمائة وستة وسبعون من الناس تجري دماؤهم لآن في عروقك.
إحدى خرافات اليابان
إذا حدث يوماً أن رجلاً متزوجاً وقع في حب امرأة غير زوجته وتملكته فتنتها، حتى ثارت الغيرة في فؤاد امرأته، فماذا يظن هذه مانعة؟
إنها لا تلبث أن تصنع صورة عشيقة زوجها من القش فتأخذها في صميم الليل إلى المقابر أو غيرها من الأماكن المقفرة النائية وتصلبها في جذع شجرة، ثم تعاودها كل ليلة فتدخل في الصورة مسماراً وهي ضارعة إلى الآلهة أن يجعل بموت مزاحمتها، وأهل اليابان يعتقدون أن وضع هذه المسامير في الصورة لا يلبث أن يأتي بالمرض للعشيقة، وأنها تأخذ بعد ذلك في الضمور والهزال والمرض حتى تفارق الحياة.(29/34)
حوادث الأسبوع
مات اليوم فيلسوف الشرق
مات الدكتور شبلي شميل. مات اليوم فيلسوف العرب بل الشرق كله في القرن التاسع عشر. مات الرجل الحر الذي صدع أغلال الجمود وأمعن في حرية الفكر وحرية القول بين أقوام عرفوا بالجمود والتنطع في المحافظة على القديم، الأمر الذي سبب مغالاة هذا الرجل الكبير في تمرده على الذين فإن الضغط الشديد يحدث دائماً الانفجار الجديد الشديد. مات الدكتور شبلي شميل والموت حتى وكل من عليها فان ولكنها الأثرة وحب الإنسان نفسه وخوفه من الغيب كل ذلك جعله يتثبت بهذه الحياة الدنيا على الرغم من تزاحم كدارها، وأعماه عن هذه الحقيقة الملموسة (الموت) التي نراها بأعيننا وآذاننا كل يوم بل كل ساعة بل بين كل غمضة عين وانتباهتها ومع ذلك لا تعتبر ولا تنفع الذكرى فمثلنا في ذلك مثل قطيع من الغنم تهجم عليه الذئاب من حين إلى حين وكلما هجمت ذعرت الأغنام وطارت شعاعاً حتى إذا توارت الذئاب عنها تضامت واطمأنت ومضت لطيتها كأن لم يكن ثمت شيء. غريب مع ذلك أمر هذه الحياة التي هي أشبه برواية تمثيلية مرسخها الأرض وليلها الستر والنهار الملعب. غريب أمرها جداً - أمرها المضحك ولكنه الضحك الذي كالبكاء فقد لقينا الدكتور قبل نعيه بيومين - يومين فقط - وقد كان ممتلئاً صحة وعافية ومرحاً على الرغم من شيخوخته وإسناده في حدود السبعين. وأخذ يسمعنا إحدى روايات الشاعر راسين وقد نقلها إلى العربية شعراً منسجماً يقطر عذوبةً وقد كان في عزمه أن يطبعها ويقدمها إلى الأجواق العربية لتمثلها في مراسحها ثم انتقلنا بعد ذلك إلى حديث مذكراته التي وضعها في أيامه الأخيرة وضمنها كل شيء وأبى إلا أن ينشرها في البيان الذي كان يحبه ويحترمه ويعجب به الإعجاب كله ويحنو عليه حنو الأم الرؤم على وحيدها فأخذنا منه المذكرات التي يرى قراؤنا اليوم الأول منها منشوراً في هذا العدد - وأول الغيث قطر ثم ينهمل - ثم فارقناه على أن نتقابل اليوم الاثنين أول يناير سنة 1917 فما جاء اليوم حتى كأنا أحسسنا موته واستحالة لقياه فصادف أن حال عملنا دون مقابلته وكان ذلك حوال الساعة العاشرة صباحاً فاكتفينا بأن نكلمه بواسطة التلفون فما كدنا نضع السماعة على الأذن ونسأل عن الدكتور حتى سمعنا هذه الكلمة لقد توفى الدكتور الساعة فما كان(29/35)
أهولها من ساعة، وكان ذلك بعد أن طبعت المذكرات وجميع موضوعات العدد وكانت الملزمة الأخيرة في المطبعة فما كان إلا كلاً ولا حتى أوقفنا العمل، وكتبنا هذا النعي على عجل والنية إن شاء الله أن نعيد الكرة ونوفي هذا النابغة حقه.(29/36)
النقد
أرسطو ولطفي السيد بك
نحن نعلم وكل الناس ولا ريب يعلمون، أن العلم الجديد قد نسف جميع آداب القديم. وأن الفلسفة العصرية قد جاءت فهذبت فلسفات اليونان. وإن أرسطو وأفلاطون وتلاميذهما قد اضطجعوا الآن فوق رفوف المكاتب، ولا نهضة لهم إلى الأبد، وأنهم لا يجدون فتيلاً في تهذيب حياة هذا الجيل الذي خرجت فيه عدة من الأذهان القوية التي جمعت في أدمغتها جميع أدمغة الذين جاؤوا قبلها، وإن شوبنهور وسبنسر ونيتشه وروسو وفولتير وستندال وأضرابهم من الفلاسفة المتأخرين قرأوا أرسطو وجميع أدب اليونان وفلسفتهم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً مما وضعوا من الآراء والفلسفات.
هذه قضية لا تحتاج إلى الجدال، ولكن لطفي بك السيد، الذي يجلس في وسط أكثر من مائة ألف مجلد من الكتب الحديثة والقديمة، أبى إلا أن يذهب فينبش عظام رجل ميت رضي بنصيبه من التاريخ ونام إلى الأبد، وأصر على أن يذهب على رفوف كتبه فيسحب أول كتاب من كتب الدنيا ليطلع به إلى آخر ناس وجدوا اليوم على الأرض، ونسي الكتب البديعة التي تحف من حوله والمؤلفين العصريين الذين يطلون عليه من الدواليب، يتلهفون على نظرة منه.
إن ترجمة أرسطو يا سيدي البك أو محاولة ترجمته فقط فضيحة كبرى للعصر الذي نعيش فيه، وسيخرج أرسطو للناس على يديك فيصيح بالقراء. . معذرة أيها السادة. إنني لم أكن أبداً أريد أن أطلع إليكم، ولم أكن أريد أن أفارق أكفاني. ولكن صاحبكم هذا أبى إلا أن يقلقني في ضجعتي، وينتزعني من مكمني لفرجة الناس علي. أنا لا أفيدكم الآن شيئاً يا سادة. لأنني قديم. قديم. جداً. وكنت أهذي في أول عهد الناس بالهذيان فسموني فيلسوفاً. إذن أقفلوني أيها القراء وافتحوا تلاميذي فلاسفة المدينة والنور.(29/37)
اسمعوا أيها الأطباء
نحن نحترمكم أيها الأطباء ونؤمن بضرورة صناعتكم، وكثيراً ما لزمنا الفراش ثم أبللنا على أيديكم، وكانت لنا نساء وصبية وأفراخ نخاف عليهم الموت فآمنتمونا من خوفنا بحقائبكم ومشارطكم وسماعاتكم وأدوات طبكم، وكنا نصر على أن لا تظهر أزواجنا وفتياتنا وقريباتنا على الغرباء، فاضطررنا إلى أن نأذن لكم في دخول مقاصيرنا وخدورنا ومخادعنا لثقتنا بنفعكم، واطمئناننا إلى عونكم، ولكن ماذا تقولون يا سادة إذا كنا قد سمعنا اليوم عنكم كلاماً سيئاً، وقرأنا في حقكم نقداً مؤلماً، ورأينا لكم اليوم عدواً رهيباً، لا من السوقة، ولا من العاديين، ولا من المتفلسفة الكاذبين، عدواً يستحق الإعجاب والإكبار، عدواً يهاجمكم جميعاً على كثرة عديدكم، ويثب إليكم في وجوهكم، وأنتم قوةٌ لا يستهان بها.
أتعرفون من هو هذا العدو الجديد؟ هو اكبر كتاب إنجلترة في هذا العصر، هو فيلسوف من مشورى الفلاسفة، وروائي من خيرة الروائيين، هو برناردشو صاحب رواية الإنسان والإنسان الأعلى، وقيصر وكيلو بطره، ورجل الأقدار وغيرها، وقد اجترأ على أن يضع عنكم رواية مسرحية، تمثل غي دور التمثيل، وتقدم لتفكهة الجماهير، هي رواية ورطة الطبيب ولم يكتف بذلك بل وضع عنكم كتاباً صغيراً شرحاً لروايته، ونقد المسائل كثيرة تخصكم.
فماذا أنتم صانعون يا سادتي الأطباء؟ أتظلون صامتين، مادامت عياداتكم حافلة بالمرضى، وجيوبكم ممتلئة بالفوزيتات والجراثيم والعدوى والإهمال والطبيعة تعمل لصالحكم، أم نراكم غاضبين من هذا الرجل الذي يريد أن يفقدكم ثقة الناس بكم. وتاركين المشرط ساعة واحدة، تتمسكوا بدله القلم فتدافعوا عن أنفسكم وصناعتكم الشريفة وتحطموا حجج شو وسفسطاته، وتخرجوا من المعركة منتصرين مبتهجين. هذا ما هو خليق بكم يا سادة.
والآن. نحن نقتصر على أن نقتطف شذرات من الكتاب، وإذا أحببتم نقلناه برمته. وإذا شئتم عربنا الرواية بجملتها.
اسمعوا الآن ماذا يقول برناردشو
الطب وضمائر الأطباء
أسمع أصواتاً مغضبة تتمتم أمثالاً قديمة في نبل صناعة الطب وشرف أهلها. وضمائرهم،(29/38)
وأنا أجيب هؤلاء أن صناعة الطب لا تظفر بالمكانة العالية، بل إن لها مكانة مذمومة ممقوتة، وأنا لا أعرف رجلاً واحداً أوتى نصيباً من العقل والخبرة لا يشعر بأن متعبة المرض اليوم تسلمك إلى أيدي صناعة أنت في أعماق نفسك تشك فيها كل الشك، لأنها تستعمل أشد أنواع القوة والفظاعة سعياً وراء المعرفة والعلم والتحقيق، وتبرر ذلك بحجج واهية كما قد تبرر أنت إحراق لندن بأسرها لاختبار نوع جديد من المطافئ، ثم لا تكتفي بذلك بل إنها لتزعج الناس ثم تواسيهم وتهدئ روعهم بأكاذيب من السخافة والحمق.
هذه هي حال صناعة الطب اليوم، وقد نستحقها وقد لا نستحقها، ولكن هذا هو مكانها وحسب، والأطباء الذين لم يعرفوا ذلك بعد، في غفلة من أمرهم. أما عن شرف الأطباء وضمائرهم فيهم قد أصابوا منهما ما أصاب بقية الناس، لا زيادة ولا نقصان، وهل تظن أحداً من الناس يستطيع أن يدعي الإخلاص والبعد عن الغرض في أمر له فيه الفائدة المادية الكبرى وإنه لفوق احتمال الطبائع البشرية أن تقدم إلى طبيباً أدفع إليه ثمن فحصه على شريطة أنه إذا أخطأ موضع الداء أو غلط في الدواء لا يمكن أن يمسك إليه شيء، ومن الخطأ العلمي أن تعتقد أو تذهب إلى أن الأطباء لا يعمدون إلى عمل عمليات جراحية لا لزوم لها ولا حاجة، ويختلقون أمراضاً لا توجد بالمريض، ويمدون في عمر المرض ما شاءوا، ثم لا تنسى هذه الحقيقة النفسية الغريبة، وهي أن مرضاً خطيراً أو موتاً يعلن عن الطبيب كما يعلن الشنق عن المحامي الذي كان يدافع عن المشنوق. تصور أن ملكاً أو فرداً من الأسرة المالكة تألم يوماً من حنجرته أو من معدته، فإذا وصف الطبيب له دواء بسيطاً مثل أقراص من النعناع أو مكمدات باردة، فلن ترى أحداً يحفل به، وأن يذكر الناس كلمة عنه، ولكنه إذا فتح له ثغرة في حنجرته أو قتله، أو استأصل عضواً داخلياً من أعضائه، وجعل الأمة بأسرها متلهفة ليالي وأياماً، هذا والمريض يعاني الأمرين، بين الحياة والموت، فقد ضمن السعادة إلى الأبد، فإن كل غني ينسى أن يستدعيه إذا ظهرت أعراض المرض نفسه في أهل بيته، يعد في نظر الناس أنه لم يؤد الواجب لمريضه.
والعجيب بعد هذا أن يترك على الأرض ملك أو أمير حياً إلى الآن.(29/39)
ماجدولين الجديدة
الفصل الأول
المرأتان
في ليلة ممطرة شديدة الظلام، وقد تولى المساء، وانحدرت المغرب مبعدة، التقت فرقة من الفرنسويين على غرة بفرقة من الألمان على مقربة من قرية لاجرانج، بلد صغير يداني الحدود الألمانية.
هناك استحر بينهما القتال واشتدت الملحمة، وخدم التوفيق الفرنسويين وتراجع الأعداء إلى حين منكفئين إلى تخومهم.
هذا وقد جلس الضابط أرنولد قائد الفرقة الفرنسوية في كوخ من أكواخ القرية كان لطحان الناحية، وكان في تلك الساعة يقرأ على ضوء مصباح ضئيل عدة رسائل ومخابرات انتزعوها من العدو، وكانت الموقدة مخنوقة الأنفاس هادئة اللهيب، وعلى أرض الحجرة بعض غرائر الطحان وأكياسه، وفي ناحية منها سريره الخشبي الخشن. وبين الحجرة والمطبخ باب قد انتزع خشبه، واستعيض عنه ستر من الخيش، وقد أفرد المطبخ لتمريض الجرحى بعناية جراح الفرقة وممرضة إنكليزية من نسوة الصليب الأحمر، وكان للحجرة باب آخر يفضي إلى فناء الدار فأغلقوه، وعمدوا إلى النافذة فأوصدوا خشبها، وقامت الحراس على منافذ القرية ومناحرها ترقب وتحرس، ولم يترك القائد وسيلة من وسائل الحذر إلا أقامتها ليكفل له ولرجاله ليلة راضية هادئة.
وبينما هو مستغرق في تلاوة أوراقه وكتابة ملاحظاته عليها، إذ دخل الجراح سيرفيل وتقدم إلى مكتب القائد فابتدره الضباط في لهجة خسنة، ماذا تريد؟
فأجاب الجراح - سؤال أريد أن ألقيه إليك - أنحن في أمان الليلة؟
قال الضابط مستر بيا ولماذا تريد أن تعلم؟
فأشار الجراح صوب حجرة الجرحى ثم أجاب إن هؤلاء المساكين في خوف ورعب من الساعات الباقية من الليل، وهم مشفقون أن تطلع علينا داهمة من العدو ويسألون لا ما كانت لهم الليلة ضجعة هانئة طيبة، فهل تعلم من الأمر شيئاً؟
فهز القائد كتفيه(29/40)
قال الجراح وهو يصر أنت ولا ريب تعلم أجاب الضابط إني لا أعلم إلا أننا أصحاب القرية هذه الساعة، ولا أعرف أكثر من ذلك، وهذه أوراق العدو ورفع الأوراق بيده وهزها مستطرداً في حديثه لا أكاد أرى من خلالها ما أستطيع أن أعتمد عليه وإذ ذاك قام القائد وأرخى عصابة معطفه فوق رأسه وأشعل لفافته من المصباح وتمشى يريد الإنصراف.
قال الجراح إلى أين أنت ذاهب؟
أجاب لكي أزور مرابط الحراس!
قال الجراح وهل أنت في غنى عن هذه الحجرة برهة من الزمن؟ فأجاب القائد بل ساعات طوالاً. فهل تريد أن تنقل إليها نفر من جرحاك؟ فأجابه الجراح إني كنت أفكر في أمر السيدة الإنكليزية فإن المطابخ ليس بالمكان الخليق بها ولعلها تكون أنعم حالاً في هذه الحجرة وستجالسها الممرضة الإنكليزية.
فابتسم الضابط أرنولد وغمر بعينيه ثم قال. إنهما لغادتان جميلتان والجراح سيرفيل عافاه الله بالغانيات شغوف، إذن فدعهما يقيمان هنا إن كانتا جريئتين إلى حد الثقة بالجلوس إليك وحدهما.
ثم تحفز للذهاب ولكنه التفت وراءه إلى المصباح متخوفاً وهو يقول وحذر السيدتين أن يطمعا في معرفة ما وراء هذه الجدران؟
قال الجراح لم أفهم ماتريد.
فأشار القائد إلى النافذة الموصدة وقال إن النساء يتقن إلى فتح النوافذ، فقل للسيدتين أني لا أريد أن ينم نور المصباح عن مرابضنا فيهتدي إليها الألمان. . . وما حال الجو الآن. ألا تزال السماء تسح بالمطر؟
قال الجراح نعم بل إنها لتعصف بع عصفاً
أجاب القائد. ذلك خير لنا. فلن يستطيع العدو اكتشاف مقرناً.
وانطلق ففتح الباب الموصد المؤدي إلى فناء الكوخ وخرج، وإذ ذاك رفع الجراح طرف الستر ونادى قائلاً يا مس مريك. ألديك وقت للراحة الآن؟ فأجابه صوت ناعم يختفي في نبراته حزن عميق. نعم لكما وحدكما.
وأزاح الستر، فظهرت المرأتان وكانت الممرضة أولهما، تمشي في رفق ممشوقة القد(29/41)
متثنية رائعة الجمال في لبسها الأسود وأكمامها البيضاء، وعلى كتفها شارة الصليب الأحمر. وكانت شاحبة اللون واجمة الوجه تنم هيئتها عن ألم وحزن صامتين، وفي إطراقة رأسها الجميل ورنوة عينيها النجلاوين السوداوين شيءٌ من السمووالنبل. نريك تقاطيع وجهها وتناسب معالمها جمالاً رائعاً فاتناً، حتى ليدور في خاطرك أنك لتتطلع عليها بهذا الجمال، في أي لباس تلبس وأي موطن تقف وأما رفيقتها فكانت أقصر منها قداً ولا تكاد تدانيها في صباحتها، عليها فواتن من الجمال كانت كافية لأن تحدث هذا الإهتمام الشديد الذي ظهر على الجراح. كانت متشحة في رداء أسود كبير يعم جميع جسمها ورأسها، وكان يدور من ضعف صوتها وتراخي مشيتها أنها متعبة فلما دخلتا قال الجراح، عليكما أن تتذكرا أمراً واحداً أيتها السيدتان، وهو أن تحذرا من فتح النافذة مخافة أن ينفذ منها نور الصباح. وأما بعد ذلك فنحن هنا في راحة طيبة ودفئ، ألا تمالكي يا سيدتي العزيزة جأشك واعتمدي أعلى حماية رجل فرنسوي مخلص إليكي وراح يؤكد كلماته الأخيرة بأن رفع بكل جسارة يد السيدة شفتيه فطبع عليها قبلة حارة. وفي تلك اللحظة أزيح الستر وظهر أحد الممرضين فقال إن ضمادة من الضمادات انفكت وإن الجريح في حالة تنذر بالخطر، فوضع الجراح يد السيدة كمن يستسلم إلى أمر القضاء وانطلق ليباشر واجبه في المطبخ وخلت الحجرة للسيدتين.
قالت الممرضة، هلا أخذت لك مقعداً يا سيدتي؟
فأجابتها رفيقتها بلطف لا تدعيني بالسيدة، إن اسمي جريس روزبري وأنت فما اسمك؟
فترددت الممرضة ثم قالت ليس لي اسم جميل كاسمك وترددت ثانيةً ثم عادت فقالت بعد تفكير. نادني بهذا الإسم مرسي مريك!
قالت مس روزبري في لهجة حلوة كيف أستطيع أن أشكر لك حنانك وبرك بإمرأة غريبة مثلي؟
فأجابت مس مريك بشيءٍ من البرود لم أعمل غير واجبي فلا تتكلمي عنه
قالت الأخرى كيف لا أتكلم عنه. . ما كان أسوأ حالتي يوم لقيتني لما طردت الجنود الفرنسوية الألمان، فقد أوقف العدو مركبة السفر التي كنت فيها وأخذوا الجياد وسرقوا نقودي وأمتعتي وابتلت أثوابي من المطر، وإني لمدينة لك بوجودي في كنف هذا المكان(29/42)
وها أنا مشتملة في ثيابك. لقد كنت ولا شك سأقضي من الخوف والبرد لولاك. فأي جزاء أستطيع أن أجزيك!
فوضعت مرسي مقعداً لرفيقتها بإزاء مكتب القائد وجلست هي عن كثب، على صندوق قديم كان في زاوية من الحجرة ثم قالت ألا تسمحين لي أن أسألك سؤالاً عن نفسك؟
ولم يكن من خلق جريس أن تفتح قلبها لكل غريب، ولكن الموطن الذي التقت فيه بالممرضة والأخطار التي تشاركتها في احتمالها ووجودهما معاً وهما من بلد واحد في موطن غريب كانت أدعى إلى أن لا تكتم عنها شيئاً ولذلك أجابتها عن ود ولطف، وبلا تردد، بل مائة سؤال إن شئت - ثم نظرت إلى المصباح الخافت وقالت إن هذا المصباح الضئيل لايكاد يرسل نوراً، وما أظن أنه سيستمر كثيراً، ألا نستطيع أن نجعل المكان أبهج منظراً، تعال من مجلسك هذا البعيد ومري لنا بوقود ونور.
ولكن مرسى ظلت في مكانها وهزت رأسها قائلة إن المصابيح والوقود من الأشياء النادرة هنا، وعلينا أن لا نجزع وإن تركنا في الظلام. ثم استمرت قائلة في صوت أرفق من الأول ألا أنبثيني كيف أقدمت على اجتياز الحدود في زمن الحرب.
وإذ ذاك تغيرت ملامح الفتاة وذهبت عنها البهجة ثم أجابت. كان يبعثني على العودة إلى إنجلترة بواعث شديدة.
فقالت الأخرى وأنت هكذا وحيدة، لا رجل ولا رفيق معك يحميك.
فأطرقت جريس برأسها حزينة وقالت لقد تركت نصيري الوحيد. والذي. في مقبرة الإنجليز برومة وأما والدتي فقضت نحبها منذ سنين في كندا.
فتحركت الممرضة في مجلسها عند الصندوق وقد ارتجفت عند سماع الكلمة الأخيرة التي خرجت من بين شفتي مس روزبري.
قالت جريس وهل تعرفين كندا؟ فأجابت متململة جيداً ولم تزد قالت مس روزبري ألم تسكني يوماً قريباً من بورت لوجان
قالت نعم عشت دهراً على بضعة أميال منها فسألتها ومتى كان ذلك؟.
قالت منذ زمان وكأنما أحزنتها الذكرى فخرجت بالحديث إلى موضوع آخر. قالت إن أقاربك الذين في إنجلترة ولا ريب في جزع عليك اليوم(29/43)
فتنهدت جريس ثم قالت ليس لي فيها قريب، وأنا أوحد الناس في هذا العالم وقد انحدرنا من كندا يوم مرض أبي إلى إيطاليا وذلك بإشارة الطبيب - وأحزاناه أن موته لم يتركني وحيداً فقط بل فقير أيضاً، وتوقفت هنية فأخرجت من جيب معطفها الفضفاض محفظة جلد صغيرة.
ثم قالت. ولم يبق لي من أمل في هذه الحياة إلا هذه المحفظة الصغيرة. هذا هو الكنز الذي اجتهدت في إخفائه عندما سرقني الألمان كل شيء.
فسألتها مري وهل يحتوي شيئاً من النقود؟
أجابت كلا. إن هي إلا بضعة أوراق شخصية ورسالة من أبي يقدمني بها إلى سيدة كهلة في إنجلترة كانت بينه وبينها علاقة مصاهرة، ولم تقع عيني عليها إلى اليوم وقد رضيت السيدة أن تقبلني في خدمتها كوصيفةٍ لها ومقرئة فإذا لم أرجع الآن إلى إنجلترة على أجنحة السرعة فقد تهجم على المكان امرأة سواي.
قالت مس مريك. أوليس لك من مورد آخر للحياة غير هذا المورد.
أجابت الأخرى. كلا. لقد أغفلوا في زمان طفولتي أمر تعليمي وتربيتي. كنا نعيش في العالم الجديد عيشةً خشنة موحشة فلست بالتي تصلح لشيء إنما أنا أركن إلى عون هذه السيدة فهي التي ستدخلني في خدمتها من أجل أبي.
وهنا أعادت المحفظة إلى جيب المعطف وختمت قصتها بهذه الكلمات إن قصتي لفاجعة محزنة، أفهل ترينها كذلك؟.
فأجابتها الممرضة في صوت شجي محزن مرير إن في الحياة لقصصاً أفجع من قصتك. وإن في هذا العالم لألوفا من التعيسات المنكوبات لا يسألنا من علالة أو سعادة إلا أن يبادلنك مكانك. . .
فارتجفت جريس وقالت وأي شيء يغبطن في حظ كحظي فانطلقت رفيقتها تقول يغبطن اسمك العف الطاهر، يحسدن خلقك النقي البريء. ينظرن إلى مقامك شريفةً في بيت شريف فتحركت جريس في مجلسها ونظرت إلى ناحية الممرضة نظرة عجب ودهشة وهي تقول ما أعجب ما تقولين.
فلم تجب الأخرى ولكن جريس أخذت تدني مقعدها من مجلس الممرضة وقالت أفي حياتك(29/44)
من سر غريب. وما أعجب إلا من تضحية نفسك واندفاعك إلى هذا الموطن المفزع المخيف، إنك لتثيرين فيَّ اهتمامي، فمدي إليَّ يدك.
فانزوت عنها مرسى منقبضة ورفضت أن تعطيها يدها فقالت جريس مندهشة أولسنا صديقتين.
فأجابتها كلا. فلن نستطع أن نكون يوماً صديقتين قالت ولم. فظلت الممرضة صامتة. فتذكرت جريس ترددها في ذكر اسمها ففكرت قائلة ألست مصيبة في حدسي إذا قلت أنك لا بد من أن تكوني سيدة نبيلة جئت متخفية؟
فضحكت مرسى في سريرتها. ولكن كان ضحكها مراً صامتاً مبكياً ثم عادت تقول هازئة وأنا سيدة نبيلة، لك الله. دعينا نأخذ في حديث آخر.
فازداد فضول جريس وثارت دهشتها فقلت وهي تصر لنكن صديقتين يا عزيزتي. ثم وضعت يدها البضة الناعمة على كتف مرسى من لطف ورقة فنزعتها الأخرى عنها من خشونة وغلظة. وأغضب ذلك رفيقتها فنفرت عنها مغضبةً وهي تقول يا لك من قاسية! فأجابت الممرضة في لهجة أغلظ من الأولى. إني لرفيقة ولست بقاسية فردت عليها الأخرى أليس من القسوة أن تنفري عني وتبعديني هكذا عنك. لقد خرجت لك عن قصتي فاخرجي عن قصتك.
فازدادت خشونة الممرضة فرفعت صوتها وقالت بقسوة لا تصري على إغرائي على الكلام وإلا كنت نادمة!
فلم يفلح هذا التحذير بل استرسلت جريس في إلحاحها تقول لقد وثقت بك أول أمري، أفضيت إليك بسري فهل تغفلين بعد ذلك أبواب قلبك في وجهي!.
قالت مرسى مريك أما وقد أصررت على إغرائي فستعملين إذن كل شيء. ستعلمين كل شيء فاجلسي.
وإذ ذاك بدأ قلب جريس يشتد في خفقاته توقعاً لما سيهجم على مسمعها وأخذت مقعدها على مقربة من الصندوق الذي اقتعدته الممرضة - ولكن مرسى مدت يدها فأرجعت المقعد بعيداً عنها قائلة بغلظة لا تقتربي كثيراً مني!.
قالت ولماذا! أجابت. انتظري حتى تسمعي ما سأقول فأطاعت جريس دون أن تنبس ببنت(29/45)
شفة. وكان سكوت.
وطفر من المصباح المختنق شعلة ضعيفة كانت آخر أنفاسه فتجلت على أشعته مرسى وهي فوق الصندوق وقد دفنت وجهها في راحتيها ولم تلبث الحجرة أن راحت في ظلمة حالكة.
ولما غابت المرأتان في أحناء هذا الظلام انطلقت الممرضة في حديثها.
الفصل الثاني
مجدولين هذا العصر
كان أول ما فاهت به مرسى من قصتها هذا السؤال لما كانت أمك على قيد الحياة ألم تكوني مرة معها بعد منتصف الليل في طرق المدينة.
فأجابت جريس إني لا أفهم ما تريدين؟.
وإذ ذاك تغير صوت الفتاة وعاد شجيَّ النبرات فياض الأسى. قالت. أنت ولا ريب تقرأين الصحف كبقية الناس فهل قرأت يوماً عن أولئك النسوة الشقيات المكدودات، طريدات المجتمع وشريداته، أولئك النسوة اللاتي ساقتهن الحاجة إلى الخطيئة.
فقالت جريس وهي لا تزال في عجب ودهشة أنها قرأت عن ذلك كثيراً في الصحف وفي الكتب.
فاسترسلت الفتاة تقول وهل سمعت بأمر الملاجئ التي تحمي هذه النسوة وترعاهن؟
وإذ ذاك بدأت الدهشة تتبدد وتتقلص من ذهن جريس ويحل مكانها ريبة مخيفة ولذلك أجابت تلك أسئلة غريبة فماذا تعنين؟
فعادت الفتاة إلى سؤالها الأول قالت أجيبي هل سمعت بتلك الملاجئ، وهل علمت بأمر أولئك النسوة؟
أجابت جريس نعم قالت في حزن. إذن فأزيحي عني مقعداً قليلاً. وهنا تمهلت هوناً، ثم رجعت إلى الحديث في صوت خافت ساكن فقالت بهدوء، فقد كنت أنا يوماً إحدى أولئك النسوة.
وإذ ذاك وثبت جريس من مجلسها وقد خرجت من بين شفتيها صرخة ضعيفة - ووقفت جامدة - لا تستطيع كلاماً واسترسل ذلك الصوت المحزن المبكي يقول، نعم أنا ربيبة(29/46)
الملجأ وكنت من قبل رهينة السجن. فهل لا تزالين تودين أن تكوني صديقة لي. ألا تزالين تصرين على أن تجلسي قريباً مني وتأخذي يدي في يدك، وانتظرت الجواب فلم تسمع جواباً فاستطردت مترفقة، ألا فانظري الآن. لقد كنت مخطئة إذ دعوتني قاسية وكنت مصيبة إذ قلت لك أنني لرفيقة.
وهنا تمالكت جريس جأشها فقالت ببرود، أني لا أود أن أنقبض عنك أو أهينك؟
قالت مرسى متلطفة، لقد اعتدت أن احتمل فضيحة الماضي من حياتي وقذارته، لطالما سألت نفسي أعليَّ تقع جريرة سقطتي، ولطالما سألت ألم يكن لي حق على المجتمع يوم كنت طفلة أجوب الطرق، أبيع أعواد الكبريت ثم يوم كنت فتاة دؤباً أنكب على إبرتي مهزولة من الجوع.
وهنا اهتز صوتها فوقفت عن الكلام ولكنها لم تكن أن عادت تقول، ولكن قضي الأمر. أن المجتمع يستطيع اليوم أن يجمع المال لإصلاحي. ولكنه لا يستطيع أن يردني كما كنت. واللآن أنت ترينني في هذا المكان أعمل الخير صبوراً دؤوباً غير جازعة. ولكن ضلة لي وبعداً. ماذا يجديني الخير وماذا يغني عني. إن في كل مكان من هذه الأرض لا يستطيع حاضري أن يمحو ما كان من ماضيَّ. لقد تلاحقت ثلاثة أعوام وأنا أصنع كل خير ومحمده ولكن لا سقياً لخيري ولا رعياً، في لحظة واحدة يستطيع ظل الماضي أن يغثاني أنا وكل خير سقته، إذ ذاك ينزوي عني من كان أحدب الناس علي وينقبض عن ناحيتي أعطف الأكباد وأحن الأفئدة وتمهلت قليلاً، أمن كلمة طيبة أو لفظة عطف تجئ عزاء لها وتأسياً من شفتي رفيقتها.
كلا، فقد ظلت مس رزبري مذهولة حائرة لا تعرف ماذا تقول، وبعد جهد تمالكت نفسها فقالت إني آسفة لك، ثم لم تزد.
فقالت الممرضة، وكل إنسان يأسف لي وكل إنسان علي حدب رفيق ولكن مكاني مفقود من المجتمع لن يرد علي، لن أستطيع أن أعود كما كنت، لن أستطيع أن أعود كما كنت.
وعند ذلك انفجر حزنها بكاءً حاراً مؤيساً ثم مضت تقول أتريدين أن أنبئك بما عناني من شقوة الحياة، أتريدين أن تسمعي قصة ماجدولين في هذا العصر.
فتارجعت جريس خطوة واحدة أدركت رفيقتها معناها فقالت لا تنزوي ولا تتراجعي لإغن(29/47)
سيدة في مكانتكي لن تستطيع أن تدرك معنى الآلام والمتاعب التي عانيتها. إن قصتي تبدأ من الملجأ فقد سرحتني مديرة الملجأ يوماً إلى العمل خارج الدار كخادمة في أحد البيوت فحققت ثقتها بي فكنت خادماً أمينة برة مخلصة ففي ذات يوم نادتي ربة الدار وكانت إمرأة حنوناً صالحة فقالت لي مرسى - إنني أسفة لك. فقد انتهى إلى أنك من أهل الإصلاحية وسأسرح كل خدمي فاذهبي. .
فعدت إلى مديرة الملجأ وكانت إمرأة رقيقة كذلك فتلقتني كما تتلقى ابنتها فقالت لي لنحاول مرة أخرى يا مرسى فلا تحزني ولا تيأسي. ثم ألم أقل لك أنني كنت في كندا؟
وشعرت جريس أنها بدأت تهتم لحديث المرأة على الرغم منها فأجابتها بالإيجاب في لهجة حادة مشجعة وعادت إلى مقعدها القريب من الصندوق.
وأخذت الممرضة في قصتها.
كان مقامي بعد ذلك في كندا في خدمة ضابط وزوجته وكانا من قوم صالحين انحدرا من البلاد الإنكليزية، فنزلت رحماً ولقيت رحمةً وحدباً، وتفتحت فرحة الحياة لي فجعلت أقول لنفسي يا نفس هل رد إليك مكانك المفقود، هل رجعت إلى سيرتك الأولى واختطفت المنية سيدني وجاء الحي قوم جديدون وكانت بينهم سيدة شابة حسناء فبدأ يفكر سيدي في الزواج وقد قضى علي سوء الحظ أن يعدني الناس امرأة حسناء فثار فضول الغرباء فجعل سكان الحي يسألون عني الأسئلة ويتغامزون ويتسارون ولم تكن تشفي غلة فضولهم أجوبة سيدي، فانتهى فضولهم إلى أن اكتشفوا حقيقة أمري فجاءني رب الدار فقال. إني آسف لك جد الأسف يا مرسى. إن ألسنة الناس ترتع اليوم في لحمنا والناس بالأقاويل مفتونون. إننا بريئان ولكن لا حيلة ولا مرد، فيجب أن نفترق، فتركت المكان في الحال.
فسألتها جريس وهل رجعت إلى لندن؟ فقالت مرسى بحزن وإلى أين أذهب وفضيحتي في أثري، وعدت إلى رئيسة الملجأ فرأيت المرض قد نزل بأهله فأقمت بينهم ممرضة فوقع أحد الأطباء في حبي وكان يوشك أن يتزوج بي ولكن ربة الملجأ أبى عليها شرفها لا أن تكاشفه بحقيقتي فانصرف ولم يعد بعدها أبدأً فتوالني اليأس، ذلك اليأٍس الذي يوصد مغاليق القلب ويرسل الخشونة في تضاعيف الروح وقد كنت أهم بالإنتحار أو أندفع إلى حياتي القديمة لو لم يعرض لي رجل واحد.(29/48)
وإذ ذاك ارتجف صوتها قليلاً كأنما أشجتها الذكرى فسألتها جريس، ومن الرجل، وكيف تودد إليك؟
قالت تودد إلي؟ إنه لا يدري حتى الآن بأمري ولا يعلم بوجود امرأة مثلي.
قالت عجباً وكيف ذلك؟
فانطلقت مريك تقول في يوم أحد تغيب القسيس الذي كان يعظنا في الملجأ فناب عنه رجلٌ غريب وكان شاباً في عنفوانه وقد أخبرتني الرئيسة أن اسمه جوليان جراي فلما جاءت ساعة الوعظ انتبذت مجلسي في الصف الأخير من المقاعد تحت ظل الصور المعلقة على الجدران بحيث أستطيع أن أراه ولا يراني.
ولو سألتني عما يكون من شعور السعيدات لو يسمعنا إلى موعظته لما استطعت أن أعرف عنه شيئاً ولكني أقول أنه يبق في الملجأ من عين لا راحة ثرة بالدموع متفجرة.
وأما أنا فقد بلغ صوته أعمق أعماق روحي حتى لقد جعل يأسي يذوب في كل نبرة من نبرات جرسه الممتلئ العميق ومنذ ذلك اليوم وأنا بالحياة راضية قانعة، بل لقد كنت أكون سعيدة راغدة العيش لو كنت استطعت أن أكلم جوليان جراي.
فسألتها جريس ما الذي حبسك عن مكالمته؟ قالت كنت خائفة فسألتها جريس ومم خفتي أجابت كنت خائفة من أن أجعل بحديثي إليه حياتي الخشنة أخشن وأفجع.
ولو كانت المرأة التي نسمع لها تشاركها في حزنها ونكتبها لاستطاعت أن تفهم معنى ما قلت ولكن جريس لم تدرك غرضها فما زادت على أن قالت أني لا أفهم ما تريدين.
فلم يسع مرسى إلا أن تفضي بالحقيقة فتنهدت قائلة كنت خائفة أن أجعله يهتم لأحزاني فأجزيه على ذلك قلبي وحبي.
قالت زميلتها في دهشة وبرودة أنت.
وهنا نهضت مرسى من مجلسها وهي تقول إنني حقاً أدهشت ولكن لك الله يا سيدتي الشابة الجميلة فأنت لا تعرفين أن القلب وإن يأس وتعذب يأبى لا أن يخفق أبداً وينبض، كنت قبل أن يقع بصري على جوليان جراي لا أعرف الرجال إلا مخوفين مرعبين ولكن لنأخذ في شجون أخرى من الحديث، إن ذلك الواعظ ليس إلا الذكرى الحلة المعسولة بين ذكريات الحياة المؤلمة. والآن ليس عندي ما أقوله لك أكثر مما قلت فقد أصررت على(29/49)
معرفة قصتي وها أنت قد عرفتها فقالت جريس بوقاحة ولكني لم أسمع كيف استطعت أن تجدي عملك هنا.
فتمشت مرسى إلى النار المشبوبة في الحجرة فحركت رمادها ثم أجابت أن لرئيسة الملجأ أصدقاء في فرنسا وصاحبةً لهم علاقة بالمستشفيات الحربية فلم يكن من الصعب أن أجد مكاني هنا ولا سيما في حربٍ عصيبة كهذه. إن المجتمع ليستفيد مني في هذا الموطن، إذ يجد في اليد الناعمة والراحة الحنون والكلمة الرفيقة لهؤلاء المساكين، وأشارت بيدها نحو حجرة الجرحى، فإذا أصابتني رصاصةٌ هوجاء قبل أن تخمد نار الحرب، فمرحباً بها وأهلاً - إن المجتمع يكون قد تخلص مني بأسهل الوسائل. .!
وشعرت جريس بأن الإنسانية تقضي عليها بأن تقول كلمة عزاء فظلت هنيهة تفكر ثم تقدمت خطوةً واحدة ولكنها وقفت فعمدت إلى أتفه العبارات العادية التي تقال في أي موطن بأن قالت إذا كان ثمت شيء أستطيع أن أصنعه لك. . ولم تتم جملتها.
وإذ ذاك رفعت الممرضة رأسها الجميل ودلفت إلى الستر تريد أن تعود إلى عملها، ووقفت مس روزبري عن كثب لا تدري أي عبارة تقول.
وأغضب مرسى هذا الإحساس البليد فقالت وماذا تستطيعين أن تفعلي لأجلي؟ أتستطيعين أن تغيري أمري أتستطيعين أن تعطني اسم إمرأة نقية ومكانها. وأهالي لو كان لي في الحياة حظك. وواهلي لو كانت لي سمعتك وآمالك؟
وعند ذلك وضعت يدها على صدرها متأوهة ثم تمالكت جأشها وعاودت الحديث تقول والآن فامكثي هنا حتى أعود إلى عملي. وسأرى إذا كانت أثوابك قد جفت وستشتملين بثيابي برهة من الوقت.
وبعد أن فاهت بهذه الكلمات المحزنة الرقيقة تحفزت للانصراف ولكنها لم تكد تبلغ الستر حتى استوقفتها مس روزبري بأن سألتها هل ترين الجو تغير فإني لا أكاد أسمع صوت المطر على لوح النافذة. .
وقبل أن تستطيع الممرضة أن تمنعها خطت إلى النافذة ففتحت ألواحها.
فصاحت مرسى بها أغلقي النافذة. لقد حذرنا من فتحها عندما جئنا إلى الحجرة.
ولكن جريس أصرت على أن تطل منها.(29/50)
وكان القمر ينهض في صفحة السماء خافت الوجنة مظلمها وقد انقطع انهمار المطر والظلام يتبدد رويداً في ظل الفجر المقبل، فبعد ساعات تستطيع مس روزبري أن تواصل سفرها وفي ساعات قلائل يطلع السحر على الأرض.
وجرت مرسى فأغلقت لوح النافذة بيديها ولكنها لم تكد توصد مزلاجاً حتى صرخ في الجو صوت رصاصةٍ داوية بلغت الكوخ من ناحية أحد المرابض، وأعقبتها رصاصة أخرى أشد دوياً منها.
فوقفت مرسى تستمع مرتقبة دوي رصاصةٍ ثالثة.
الفصل الثالث
القنبلة
وانطلق في كبد الليل صوت رصاصة أخرى قريبة من الكوخ فذعرت منها جريس وتراجعت عن النافذة مشفقة خائفة قالت. . ما هذه الطلقات؟
فأجابتها الممرضة في هدوء هي إشارات من المرابض.
قالت الآنسة. . أمن خطر يحدق بنا. أترين الألمان قد عادوا؟
وقبل أن تجيب الممرضة ظهرت جراح من خلال الستر فتطلع إلى الحجرة فأجاب إن الألمان يتقدمون نحونا وقد ظهرت طليعتهم للإبصار.
فسقطت جريس في مقعدها مرتجفة وتقدمت مرسى إلى الجراح فسألته وهل نحن مستطيعون دفاعاً عن مكاننا؟
فهز الجراح رأسه ثم قال ذلك يستحيل فهم أكثر منا عديداً.
وارتفعت أصوات الطبول فقال الجراح وهذه أصوات الطبول تأمر بالقهقرى والقائد رجل صريم العزيمة فقد مضى بفرقته وتركنا نحن نهتم بأنفسنا ويجب علينا الرحيل من المكان.
وضاع صوته في وسط الطلقات العديدة الداوية فتشبثت جريس بذراع الجراح وقالت متوسلة ألا خذني معك. ويلاه يا سيدي لقد عانيت من الألمان كثيراً. فنشدتك الله أن لا تتركني إذ هم أقبلوا.
وكان الجراح رجلاً خليقاً بالموطن فوضع يد المرأة فوق صدره ثم قال لا تخافي شيئاً وكأنما خيل إليه أنه بذراعه مستطيع أن يصرع جيش العدو عن آخره - ثم عاد يقول. إن(29/51)
قلباً فرنسوياً يا سيدتي يخفق الآن تحت كفك. اطمئني يا آنسة فإن إخلاصي سيحميكي.
وعند ذلك مال رأس جريس إلى كتفه فشعر سيرفيل أنه قد أحسن تزكية نفسه فدار بعينيه يلتمس رفيقتها، وطاب له أن رأى إزاءه حسناء أخرى وله كتف آخر تتطلب إطراقة رأسها.
وكانت الحجرة قد أظلمت فلم يستطع أن يتبينها، وكانت واقفة تفكر في أمر الجرحى فقالت تذكره بواجبه.
وماذا سيكون من أمر المرضى والجرحى؟
فهز سيرفيل كتفه، ثم قال نأخذ معنا الأقوى فأما الآخرون فيتركون وأنت يا سيدتي لا تخافي شيئاً فسيكون لك في مركبة الأمتعة مكان.
قالت جريس متلهفة، ولي أنا أيضاً؟
فامتدت ذراع الجراح حول خصر الفتاة وأجابها عن سؤالها بضمه.
قالت مرسى. خذها معك فإن مكاني سيكون بقرب الذين تتركهم!
فقالت جريس مندهشة ولكن فكري في أي خطر أنت مقبلة عليه لو أنت تخلفتي عنا! فأشارت مرسى إلى ذراعها اليسرى وقالت لا تجزعي علي فإن هذا الصليب الأحمر يحميني.
ودوى صوت طبلة أخرى لتنذر الجراح بأن يتولى عمله دون تأخير فأخذ جريس إلى مقعد هناك ووضع هذه المرة يديها الإثنتين فوق فؤاده لمكي يعزيها عن غيابه ثم همس إليها انتظري هنا حتى أعود إليكي ولا تخافي شيئاً يا صديقتي الفاتنة.
قولي لنفسك إن سيرفيل هو روح الشرف، إن سيرفيل سيحميني - ثم ضرب صدره بكفه ورنا لي فتاته رنوة الإخلاص والجلال ثم قبل يدها وهو يقول الوداع إلى القريب واختفى.
وما كاد يغيب وراء الستر حتى تلاحقت طلقات البنادق بقنابل المدافع ولم تمض هنيهة حتى سقطت قنبلة في بستان الكوخ منفجرة على بضعة أمتار من النافذة.
فسقطت جريس على ركبتيها وصرخت صرخة رعب ووجد وأما مرسى فخطت هادئة السرب إلى النافذة فأطلت منها قالت إن القمر قد ارتفع والألمان يدمرون القرية فنهضت جريس ووثبت نحوها مذعورة تطلب النجدة صارخة. . خذيني من هذا المكان لنبتعد. نحن(29/52)
ولا شك مقتولتان لو مكثنا هنا - ونظرت إلى رفيقتها فوجدتها واقفة في مكانها ساكنة هادئة فاسترسلت تقول وأنت أفلا تخافين من شيء. فتبسمت مرسى ابتسامة حزينة وقالت لماذا أخاف فقدان الحياة وليس لي شيء يستحق الحرص عليه.
واهتزت القرية على صوت قنبلة سقطت في ساحة الكوخ من الناحية المقابلة.
واشتد الفزع بالفتاة فتشبثت بنحر الممرضة تضمها إليها من وجل ورعب، وكانت منذ دقائق قد أنفت من إعطائها يدها وصاحت أمن عاصم نعتصم به، وفي أي مكان تختفي فأجابت مرسى بهدوء وكيف أستطيع أن أعلم أين تقع القنبلة الثانية؟. . وكاد سكون الممرضة يذهب بلب الأخرى فتخلصت منها وجعلت تجري في الحجرة تلتمس طريقاً للنجاة والفرار من الكوخ واندفعت في المطبخ ولكن أوقفتها حركة نقل الجرحى الأقوياء وضوضائهم فعادت في الحجرة تريد مخلصاً فوقع بصرها على الباب المؤدي إلى الفناء فطفرت نحوه ولكنها ما كانت تبلغه حتى دوى صوت قنبلة أخرى.
فتراجعت على عقبها خطوة واحدة وقد وضعت أصابعها في أذنيها، وفي تلك اللحظة انقضت القنبلة فنفذت من سقف الكوخ فانفجرت في بهرة الحجرة قريباً من الباب فجرت مرسى من موقفها عند النافذة فلم تمس بسوء وأصابت شظاياها النار الخابية فأشعلتها وعلى نورها أبصرت مرسى رفيقتها طريحة لا حراك بها.
فوثبت إلى ناحيتها فركعت بجانبها ورفعت رأسها أتراها جرحت. أم تراها ماتت.
ورفعت مريك يدها لتجس نبضها وبينما هي تتحسس مكان النبض إذ أطل الجراح سيرفيل من خلال الستر ليعلم ماذا ألم بالسيدتين الجميلين.
فأشارت إليه مرسى أن يقترب وقالت وهي تخلي له مكانها إني أخشى أن تكون القنبلة قد أصابتها فانظر هل الجرح مميت.
فوثب صوبها وهو يلعن العدو ويشتم وصاح بالممرضة وقد رفع يده إلى جيد الغانية فقال انزعي عنها معطفها - وأحر قلباه عليك يا ملاكي العزيز. لقد التوى حول جيدها خيط المعطف.
فنضت عنها الممرضة المعطف فقذفته جانباً وأخذ الجراح الفتاة بين ذراعيه وقال وهو جارع علي بمصباح. اذهبي إلى المطبخ تجدي مصباحاً هناك.(29/53)
وأحس النبض فارتجفت يده وصاح يا إله السموات إن عواطفي لتتفجر حزناً عليك يا غاليتي وأسفاً.
وجاءته مريك بالمصباح فرأى على الضوء فعل القنبلة في رأس الفتاة. فتغيرت في الحال ملامح وجهه وأظلم جبينه وإذ ذاك شعر انه لا يحمل بين ذراعيه الآن إلا جثة هامدة.
وظلت مرسى ترقبه ثم قالت أترى الجرح قاتلاً
فأجابها الجراح في صمت وحزن أزيحي عنها المصباح فلست بحاجة إليه بعد. قضى الأمر. . . لن أستطيع شيئاً
قالت - وهل ماتت؟
فأطرق الجراح رأسه وهز قبضته في الفضاء صوب المرابط وصاح لعنة الله على الألمان، ثم نظر إلى الوجه الخامد الساكن الذي يطل من بين ذراعيه فهز كتفيه مستسلماً خاضعاً وقال وهو يضع الجثة فوق السرير الخشبي هذه سنة الحرب ومن يدري يا صديقتي الممرضة فلعلنا مقتولان في أثرها من ذا يعلم يا الله. أن مسألة القضاء والقدر لتذهب بلى. وليس لنا إلا أن نتركها هنا. وقلباه. لقد كانت بالأمس حسناء فاتنة والآن ليست شيئاً مذكور. لننصرف يا صديقتي قبل أن تأزف الآزفة. ومد ذراعه إلى الممرضة وفي تلك اللحظة سمع صوت عجلات مركبة لأمتعة وهي تهم بالرحيل ودقات الطبول تخفق في الجو تؤذن بأن القهقرى قد بدأت.
فرفعت مرسى الستر فرأت الجرحى الضعفاء لا يزالون في أسرتهم بعد أن تخلي عنهم إخوانهم.
فرفضت ذراع الجراح قائلة لقد قلت لك من قبل أنني سأمكث هنا فرفع مسيو سيرفيل يده محتجاً ولكن مرسى عمدت إلى الستر فرفعته. وأشارت إلى باب الكوخ وقلبت فلتذهب فقد صحت إرادتي.
وإذ ذاك دنا الرجل منها وبكل احترام وخشوع وأدب رفع صوته قائلاً سيدتي أنت امرأة عظيمة! وهنا أخذه شغفه بالنساء فانحنى واضعاً يده على قلبه وترك الكوخ.
وانسدل الستار على الجرحى فخلت الحجرة بالممرضة والقتيلة.
وأخذت أصوات العجلات ومواقع الأقدام تتبدد عن بعد في ظل السكون وانقطع عزيف(29/54)
القنابل إذ عرف العدو أن الفرنسويين يعودون أدراجهم.
وكان السكون مخيفاً موحشاً. وقفت مرسى وحيدة في وسط تلك الحجرة الهادئة وفي الحال استقر بصرها على السرير.
فمشت إليه والمصباح في يدها فوقفت عند زاوية منه تنظر في وحشة ذلك السكون إلى ذلك الوجه الذابل الهادئ وكان وجهاً فتاناً في الحياة والموت، ذلك الجبين لا يزل كما كان عريضاً متهللاً وهاتان العينان لا تزالان نجلاوين والفم صغير حلو رقيق. يا للرحمن!
ورفعت مرسى يدها فهذبت شعر الجثة المنتثر الأشقر وأصلحت ثوبها المتجعد الملتوي، وهي تقول لنفسها منذ لحظات كنت أمني النفس أن أبادلك مكانك؟ وإ ذاك تولت عن السرير متنهدة. والآن لوددت كذلك أن أبادلك؟. . .
واستوحشت من السكون السائد حولها.
فتمشت إلى الناحية الأخرى من الحجرة وكان المعطف لا يزال مطروحاً فوق الأرض، ذلك المعطف الذي أقرضته مس روزبري، فالتقطته من مكانه وألقته فوق أحد المقاعد ثم وضعت المصباح فوق المكتب ودلفت إلى النافذة تنصت إلى صوت تقدم الألمان. ولكن لم يقع في أذنها إلا حفيف الشجر فعادت عن النافذة فجلست إلى المكتب تفكر.
تذكرت مرسى الحديث الذي جرى بينها وبين رفيقتها المسكينة وأن مس روزبري حدثتها عن غرضها من العودة إلى إنجلترة وأنها كلمتها عن سيدة كان بينها وبين أبيها رابطة نسب وإن لم تكن قد رأتها من قبل وهي في انتظار وصولها.
وإذ ذاك دار في خاطر الممرضة أنه لا بد من الكتابة إلى السيدة بنبأ فاجعة الفتاة ووفاتها. فمن ترى يقوم بذلك. ليس لأحد أن يكتب عن الحادثة إلا من كان شاهدها. ولم يكن هناك شاهد إلا مرسى نفسها.
وعند ذلك رفعت المعطف إليها فأخرجت من جيبه المحفظة التي رأتها مس روزبري إياها ورأت مرسى أنه لا بد من معرفة عنوان السيدة وأنه لا بد لذلك من فض المحفظة ففضتها ولكن لم تلبث أن توقفت وقد شعرت بشيءٍ من الأنفة والإستنكار لإقدامها على أسرار غيرها ولكن لم يطل ترددها لأنها بعد التفكير لحظة واحدة اقتنعت بأنه لا داعي إلى الإستنكار والتردد فأفرغت جميع ما في المحفظة.(29/55)
وكذلك كان هذا العمل التافه هو الذي مهد لها الطريق إلى حياتها المقبلة.
الفصل الرابع
التجربة
كان أول ما أخذ عينها من أوراق المحفظة عدة رسائل مربوطة بشرائط حريرية وكان المداد الذي كتبت به قد جف وذبل وكان بعض الرسائل معنوناً باسم الكولونيل روزبري والبعض الآخر بعنوان مسر روزبري زوجته، رسائل دارت بينهما يوم كان الزوج يغيب عن زوجته في أسفاره الحربية، فأعادت مرسى الرسائل إلى رباطها وتناولت الأوراق التي تليها. فوجدت بضعة أوراق مشبكة بعضها في أذيل بعض وفي رأسها مكتوب بقلم امرأة مذكراتي في رومة فتصفحتها فعلمت أن هذه المذكرات كتبتها من روزبري لنفسها دونت فيها حوادث الأيام الأخيرة من حياة والدها.
فبعد أن أعادت الرسائل والمذكرات إلى المحفظة لم يبق إلا خطاب واحد وكان الغلاف مغلقاً قد كتب عليه إلى اللادي جانيت روى، دارمابلثورب بلندن فأخرجت مرسى الخطاب من غلافه ولم تكد تقرأ السطور الأولى منه حتى علمت أنه خطاب التوصية الذي كتبه والد الفتاة إلى السيدة المقيمة بلندن.
فقرأت مرسى الخطاب إلى آخره وقد وصفه الكاتب بأنه آخر مجهود رجل يجود بنفسه على سرير الموت، وقد كتب الكولونيل بحرارة عن ابنته، ثم ختم رسالته بهذه الكلمات إني الآن أقضي نحبي هادئ البال من أمر مستقبل ابنتي العزيزة - إلى حمايتك وكنفك وظلك أدفع بكنزي الوحيد الذي خلفته في هذه الأرض.
كذلك كان ختام الوصية.
فوضعت مرسى الرسالة بقلب محزون. أشد ما فقدت تلك الفتاة المسكينة امرأة من أهل النبل والثراء كانت ترتقب قدومها. امرأة حنوناً كريمة يطيب الوالد نفساً من ثقته بعطفها وهو على فراش الموت. والآن هذه هي الفتاة طريحة هامدة الأنفاس دون منال اللادي جانت وعطفها. ولم يبق بها حاجة إلى حنانها أو برها!
وكانت أدوات الكتابة التي كان يكتب بها القائد لا تزال فوق المائدة فعمدت إلى صفحة بيضاء لتكتب فيها خبر وفاة الفتاة، وبينما هي تفكر في العبارات التي تثبتها في خطابها إذ(29/56)
بعولات الجرحى الضعفاء تضج من ناحية المطبخ وهم يصرخون ويبكون جزعاً واستنجاداً.
فانطلقت إلى المطبخ فتلقاها الجرحى بالتهليل والفرح، مطمئنين لمقامها معهم فمشت بين الأسرة تشجعهم وتواسيهم فجعلوا يقبلون أطراف ثوبها ويتوسلون إليها ويتضرعون. وهي تحنو على وسائدهم بوجهها الرحيم وصفحتها المشرقة العاطفة وهي تنادي فيهم الشجاعة يا صحابتي. عزاء يا أخوتي وصبراً فلن تهجركم ممرضتكم.
فضج الرجال في أثرها. . . نعم عزاءً وصبراً. وليباركك الله، والآن فلو أن قنبلة تنطلق من مدافع العدو فتنقض على تلك المرأة فتضرجها بدمائها، إذن باركتها الإنسانية وأعدت لها مكاناً في السماء، أما إذا خمدت نار الحرب وهي لا تزال في الحياة باقية فأي مكان لها في الأرض. أي أمنية لها في العيش. أي وطن لها. أي معصم.
وعادت إلى الخطاب ولكن بدلاً من أن تجلس للكتابة ظلت واقفةً على مقربةً من المائدة شاردة البصر في أنحاء الرسالة وسطورها.
وفي تلك اللحظة فقط ثارت في خاطرها فكرة غريبة لم تنو أن ابتسمت هي نفسها من غرابتها، وهي ماذا يكون لو هي سألت اللادي جانيت روي أن تحل منها محل مس روزبري. إنها التقت بالفتاة في موطن مخيف ومركب خشن ولقد أحسنت إليها وأعانتها وواستها بل هي خير وصيفةٍ لها وقارئة ولكن ماذا يكون من اللادي إذا كتبت إليها ترجوها هذا الرجاء إذن أفلا تجيبها قائلة ابعثي إلي بشيءٍ عن سيرتك وماضيك ومزاياك وسأرى بعد ذلك رأييسيرتها. يالله. وماضيها ومزاياها. . . . .!
وهنا ضحكت مرسى ضحكةً مرة ثم جلست تكتب بضعة أسطر موجزة تصف فيها نكبة الفتاة.
كلا. . . لم تستطع أن تكتب حرفاً واحداً. إن تلك الفكرة الغريبة لم تزل تدور في خاطرها وتغريها.
والآن بدأ ذهنها يتخيل جمال دار مابلثورب، وحسن ذلك المغنى الزاهر وحديقته الأنف الغناء، ولذاذة الحياة وبهجة العيش وفخامته، في ظل اللادي جانيت وتحت سقف دارها، وأذكرها ذلك مرة أخرى حظ مس روزبري الضائع. يا لها من تعيسة. أية دار كانت مفتحة(29/57)
الأبواب في وجهها، وأي عيش نضير كان في انتظارها. لو لم تقض عليها شظايا القنبلة.
وعند ذلك رفعت مرسى الخطاب بعيداً عنها ونهضت تخطر في الحجرة جازعة قلقة.
وتلاحقت الأفكار في خاطرها وتزاحمت، ففكرت بعد ذلك في المستقبل الذي سيهجم عليها. أية آمال لها ومطامع إذا الحرب وضعت أوزارها؟ وهنا عادت مآس الماضي وآلامه تطال إلى ذاكرتها في ذلك الموقف الخشن الصامت، في أي طريق تذهب أو بلد تقيم أو عمل تعمل، ستكون النتيجة واحدة، الإعجاب بجمالها يؤدي إلى الفضول. والفضول ينتهي بالبحث والبحث يهتك حجاب الماضي، سيقول الناس كلهم نحن آسفون لك ثم يطردونها من رحمتهم نافرين. هي الآن لم تتم بعد الربيع السادس والعشرين. إنها اليوم في غلواء شبيبتها، ممتلئة صحة وقوة ولعل الأقدار تمد في صفحة أجلها فتعيش خمسين عاماً كذلك.
إذ ذاك وقفت مرة ثانية بجانب السرير ونظرت نظرة أخرى إلى وجه المائتة.
يالرحمن. أية حكمة قضت أن تصيب القنبلة المرأة التي كانت تحمل في قلبها آمال الحياة وتترك المرأة التي ليس في قلبها ظل أمل؟
هنا عادي إلى ذاكرتها الكلمات التي قالتها للفتاة لو أن لي في الحياة حظك. لو أن لي سمعتك وآمالك؟ ولكن هذا هو حظها ملقى ضائعاً مبدداً وهذه آمالها قد أصبحت طريحة منثورة. وكاد هذا الخاطر يذهب برشدها وهي في موقفه، وإذ ذاك انحنت بابتسامة اليأس فوق الجثة وألقت إليها هذه الكلمات كأنها تهمس بها إلى أذن واعية واأسفاه. . ليتك تكونين مرسى مريك. وليتني أكون جريس روزبري الآن!. .
وفي ومضة البرق أخذ فكرها يجري إلى ناحية أخرى نعم في ومضة البرق سرت إليها فكرة أخرى كما تسري الكهرباء في الأجسام. قالت في نفسها أنت تستطيعين أن تكوني جريس روزبري إن أقدمت.
نعم أي حائل يمنعها من أن تقدم نفسها إلى اللادي جانيت روي باسم جريس وشخصيتها.
ولكن أين الموضع الضعيف من هذه التجربة الخطيرة لقد قالت جريس نفسها أن السيدة لم ترها في حياتها، وأن ليس لها أقارب في إنجلترة، بل انحدرت من كندا حيث كانت تسكن بورت لوجان. ومرسى تعرف المكان جداً.
إذن فلم يبق عليها إلا أن تقرأ المذكرات والرسائل لتعرف كيف تجيب لو سئلت عن وفاة(29/58)
الكولونل روزبري في رومة وما يتعلق بذلك من الحوادث والمعلومات.
ثم إن جريس لم تكن خليقة بأن تصبح وصيفة لسيدة نبيلة مهذبة ولا أن تكون لها صاحبة وقارئة وذلك باعترافها واعتراف أبيها في خطابه بأنها لم تأخذ بحظ كبير من التربية والتهذيب فكل شيء إذن في جانبها ورجال الإسعاف قد ارتحلوا ولن يعودوا وهذه ثيابها قد اشتملت جريس فيما هو عليها اسم مس مريك. وأما ملابس مس روزبري المطرزة بدمها ففي الحجرة الثانية جافة من أثر الأمطار!
إن طريق الفرار من شقوة حياتها الحاضرة قد ظهر الآن لعينيها متفتحاً ممهداً ما أبهج ذاك الأمل. وما أحسن هذه الصدفة. اسم جديد لا ريبة فيه بل دون منال كل ذم وقدح وماضٍ جديد يقرؤه العالم بأسره فيرحب به ويبارك طهارته!!.
هنا تورد وجهها وتلألأت عيناها. لم تكن يوماً أفتن منها في تلك الساعة عندما تفتح في وجهها المستقبل الجديد المشرق البهجة الوضاح الأمل. . . .
وظلت هنيهة تفكر عساها ترى موضعاً آخر ضعيفاً من هذه المجازفة الهائلة ولكن أين الضرر الذي يكون منها، وماذا يقول في ذلك ضميرها؟
أما عن جريس فأي ضر وأي أذى لإمرأة مائتة. لا أذاة ولا ضر. بل أي ضر لأقاربها. لاضر كذلك ولا سوء فإن أقاربها كذلك ماتوا.
أما من جهة اللادي جانيت فلعلها إن أخلصت في خدمة سيدتها الجديدة وعاشت عنها في ظل الطهر والشرف وأبدت لها النشاط والأمانة والحب، فأي ضر يلحق اللادي جانيت من رواء ذلك وأي مساءة؟
فأجابها صوت ضميرها ليس من ضر ولا مساءة، فلعلها ستنزل من اللادي جانيت منزلاً تحمد به اليوم الذي أدخلتها فيه دارها وعند ذلك أخذت خطاب الكولونل روزبري فوضعته مع الأوراق الأخرى في المحفظة.
الفرصة أمامها سانحة، والصدفة في جانبها، وضميرها لا يؤنبها ففكرت هنيهة ثم قالت. إذن سأفعل!.
وتولاها شيءٌ من الإستنكار آذى طبيعتها الحلوة النقية عندما وضعت المحفظة في جيب ثوبها، فهي وإن كانت قد أجمعت عزيمتها على القيام بهذه الخطة لم تزل في حيرةٍ من(29/59)
ناحية ضميرها، ولكن ماذا يحدث إذا وضعت المحفظة جانباً وانتظرت حتى يهدأ الإضطراب روحها ثم تبدأ عملها؟
فكرت مرة أخرى ولكن ترددت، لأنها لم تلبث أن سمعت صوت مواقع الأقدام وحوافر الخيل يقترب من الكوخ وفي بضعة دقائق يدخل الألمان القرية وسيأمرونها أن تكاشفهم بأمرها فلا سبيل إذن إلى الإنتظار. أي الحياتين خير لها، هل الحياة الجديدة باسم جريس روزبري. أم الحياة البالية القديمة باسم مرسى مريك؟
فنظرت للمرة الأخيرة ناحية السرير. إن مستقبل جريس الآن في يديها. وإن اسمها النقي البريء في خدمتها فماذا يمسكها. عند ذلك قررت عزمها فأصرت على أن تأخذ مكان جريس روزبري. . . . .
وأخذت مواقع الأقدام تدنو رويداً رويدا وأمست أصوات الضباط واضحة.
فجلست إزاء المائدة تنتظر ما سيكون ونبهتها غريزتها النسائية قبل كل شيءٍ إلى ثوبها فنظرت إليه فوقع بصرها على شارة الصليب الأحمر فوق ذراعها اليسرى فخطر لها في الحال أن لباس الممرضة قد يضعها في مأزق حرج إذ قد يؤدي إلى البحث عن أمرها فتكتشف حقيقتها.
فنظرت حولها فاستقر بصرها على المعطف الأسود الذي كانت قد أعطت جريس إياه فتناولته واشتملت به فعم جميع بدنها. ولكنها ما كادت تنتهي من ارتداء المعطف حتى طرق أذنها صوت الباب الخارجي وهو يفتح وسمعت أصواتاً غريبة تتكلم وأسلحة تقعقع.
أتنتظر حتى يهتدي إليها أم تظهر نفسها من تلقائها فأجمعت على أن تتقدم هي بنفسها فخطت نحو الستر تريد الدخول ولكن قبل أن تبلغ يدها طرفه أزيح الستر جميعه. وظهر من خلاله ثلاثة رجال.
الفصل الخامس
الجراح الألماني
وكان أصغر الثلاثة يلوح من تقاطيعه وصفحة وجهه وهيأته أن إنجليزي الجنس، يلبس فوق رأسه قلنسوة حربية وينتعل حذائين من أحذية الجنود وأما بقية أثوابه فلا تختلف في شيءٍ عن ثياب السلميين، وقد وقف إلى جانبه ضابط في ردائه البروسي وعلى مقربة منه(29/60)
كان الثالث وكان أكبرهم سناً، مرتدياً لباس الحرب وإن لم تبد عليه سمات الحربيين، وكان قصير القامة لا يكاد يبلغ أكتاف رفيقه يحمل في يده عصاً لا سيفاً.
فبعد أن نظر من خلال منظاره إلى مرسى ثم إلى السرير دار بعينه في الحجرة والتفت إلى الضابط البروسي فقال هذه امرأة طريحة فوق السرير وامرأة أخرى بجانبها وليس في الحجرة أحدٌ غيرهما، فهل من ضرورة يا سيدي الضابط إلى وضع الحراس؟
فقال هذا لا ضرورة إلى ذلك. ودار على عقبه فغادر المكان إلى المطبخ أما رفيقه فتقدم قليلاً وكأنما قادته غريزة صناعته فعمد إلى السرير. وأما الشاب الإنكليزي فنظر إلى مرسى نظرة الإعجاب وخاطبها بكل تأدب بالفرنسوية. أتسمحين لي بأن أسأل هل أنا في حضرة سيدة فرنسية؟
فأجابت مرسى كلا. أنا إنجليزية الجنس. وبلغ الجواب أذن الجراح فوقف مشيراً إلى الجثة الطريحة فوق السرير وقال مخاطباً مرسى بالإنكليزية الفصحى وهل يحتاج إلى مساعدتي؟.
وكان صوته خشناً فظاً يشعر الإشمئزاز والنفور فلم يسع مرسى إلا أن قالت لا حاجة يا سيدي إلى عونك. فإن السيدة قد سقطت قتيلاً تحت قنبلة من قنابل جنودكم. فارتجف الشاب الإنكليزي ونظر نظرة حزن وأسى نحو السرير وأدنى الشيخ عطاسه من أنفه وعاد يسأل وهل فحص أحد الأطباء الجثة؟.
فلم تستطع مرسى أن تقول إلا كلمة واحدة وهي نعم ولم يكن الجراح يحفل بغضب امرأة أو برضاها فاسترسل في أسئلته قال ومن الذي فحصها؟.
فأجابت مرسى قد فحصها الطبيب الملتحق بالفرقة الفرنسوية.
فتسخط الشيخ وانتهز الشاب الإنكليزي سكوت الجراح فقال مخاطباً مرسى في رفق ولطف وهل السيدة من أهل بلادنا؟
ففكرت مرسى قبل أن تجيب ثم أجابت أظن ذلك. . . لقد التقينا هنا صدفةً ولا أعلم عنها شيئاً؟.
فانبرى الشيخ الجراح يسأل حتى ولا اسمها؟. فترددت مرسى ثم اعتصمت بالتجاهل. فقالت ولا اسمها.(29/61)
فتفرس الشيخ في وجهها متهجماً وأخذ المصباح فتقدم به إلى السرير وجعل يفحص الجثة في صمت. واستمر الشاب في حديثه دون أن يخفي الإهتمام الذي بدأ يظهر عليه نحو المرأة الجميلة الواقفة بإزائه.
قال مغفرةً يا سيدتي وسماحة. إن شابة مثلك في ريعان العمر ليست خليقة بأن تكون في هذا المكان وحدها ونحن في زمان الحرب.
وأنقذها من الجواب على سؤاله ضجيج قام في الحجرة الثانية إذ سمعت أصوات الجرحى ترتفع بالإحتجاج والشكوى وأصوات الضباط الخشنة تأمرهم بالسكوت، فأنساها ذلك موقفها وتملكتها الرحمة فرفعت الستر تريد أن تدخل المطبخ وإذا بها أمام حارس ألماني قد اعترض طريقها عند الباب يمنعها من الخروج. وتقدم الشاب الإنكليزي منها متأدباً فسألها عن غرضها من دخول المطبخ.
فقالت بلهجة مؤثرة محزنة واهاً للجرحى المساكين. واهاً للجرحى المساكين وقبل أن يقول الشاب كلمة مشى الجراح الشيخ نحوها فواجهها بغلظة وخشونة لا شغل لك بالجرحى المساكين. فهذا شغلي أنا. إنهم أسرانا وسينقلون إلى مستشفياتنا. أنا اجنتياس ويتزل رئيس القسم الطبي. أقول لك هذا. فامسكي عليك لسانك، ثم دلف إلى الحارس فقال أسدل الستار وإذا أصرت المرأة على الخروج فادفعها بيديك. فحاولت مرسى أن تحتج ولكن الشاب الإنكليزي أخذ ذراعها بأدب وابتعد بها عن الحارس فقال لا تنفع المغالبة الآن يا سيدتي ولا ينشغلن بالك من أمر الجرحى الفرنسويين فسيعنى ولا ريب بحالهم.
ورأى الدموع تفيض من عينيها فأخذ إعجابه بها يكبر ويزداد وهو يقول في نفسه رحيمة وحسناء معاص. يا لها من فاتنة.
وحدجها الجراح بنظره من خلال زجاجته وقال والآن هل اقتنعت وهلا أمسكت عليك لسانك؟ فاستسلمت إذ عرفت أنه لا يجدي الإحتجاج فمشت مقطبة الجبين إلى مقعد هناك فجلست فوقه وتبعها الشاب مسترسلاً في حديثه.
قال ولا تظني أني أريد أن أزعجك بل إني أكرر القول بأن لا حاجة إلى القلق على الجرحى الفرنسويين وموقفك أنت أدعى إلى القلق. . إن القتال ولا ريب قائم غداً على نور النهار فينبغي أن تكوني منه في معصم. إني ضابط في الجيش الإنكليزي واسمي - هو(29/62)
راس هولمسكرفت - ويسرني أن أكون ذا نفع لك وأنا على خدمتك قادر لو كنت تسمحين، فهل تغفرين لي جرأتي إذا سألتك هل أنت مسافرة؟
فلمت مرسى شقتي معطفها المحتجب وراء لباس الممرضة وتجلدت لتعتزم أول خطوة من خدعتها فلأحنت رأسها علامة على الإيجاب.
قال وهل كنت في طريقك إلى إنجلترة. فأحنت رأسها ثانيةً.
قال إذا كان ذلك فإني أستطيع أن أمشي بك بين صفوف الألمان وأمهد لك الطريق إلى مواصلة السفر.
فنظرت إليه متعجبة، فهل تراه جاداً فيما قال؟
قالت مندهشة أصحيح ما تقول - إن لك نفوذاً ولا ريب كبيراً إذا كنت تستطيع ذلك؟
فابتسم هوراس ثم قال نعم فهو ذلك النفوذ الذي لا يناهض ولا يغالب. نفوذ الصحافة يا سيدتي. إني مكاتب حربي لإحدى صحفنا وإني إذا سقت إلى القائد هذا الرجاء فلن يبخل علي به. وهو قريب الآن من الكوخ. فماذا تقولين؟
إذ ذاك أجمعت عزيمتها فلم تتمالك أن قالت إنني أقبل صنيعك مع الشكر يا سيدي وتقدم خطوة نحو المطبخ ثم وقف فقال لنا أن نسأل رجاءنا في خفية وصمت وإني ولا شك مسؤول إذا مررت من هذه الحجرة، فهل من مخرج آخر لهذا الكوخ فأرته مرسى الباب المقضي إلى الفناء فانحنى مودعاً وتركها.
فيما بقيت وحدها مع الجراح نظرت إليه عن حقد وغضب وكان لا يزال عند السرير منحنياً فوق الجثة مشغولاً بفحص الجرح الذي أحدثته القنبلة، ولم تستطع أن تغلب اشمئزازها من منظر هذا الشيخ فتولت إلى النافذة فأطلت منها لترى القمر.
هل أقدمت على كذبتها بعد. كلا. هي لم تقل أكثر من أنها تريد أن تعود إلى إنجلترة. إذن فلا يزال لديها الوقت الكافي لأن تكتب إلى اللادي جانيت بوفاة فتاتها وتبعث بالخطاب مع المحفظة. ولكن ماذا يكون إذن من أمرها إذا هي وجدت نفسها في إنجلترة ثانيةً. لا سبيل لديها إلا الرجوع إلى نصيرتها ربة الملجأ ولا دار غيره.
الملجأ. . . وربة الملجأ. . . والماضي المظلم. البعيد. أية خواطر تجول الآن بذهنها، وفيمن هي تفكر في تلك اللحظة وهذا الموطن؟ تفكر في الرجل الذي لمس بكلماته أعماق(29/63)
قلبها وواساها وضمد جرح فؤادها في مصلي الملجأ. في جوليان جراي وموعظته. لقد أفرد يومذاك قطعة من عظته في النهي عن الكذب والزور والخديعة. والآن عادت كلماته التي كان يلقيها إلى النسوة، كلمات الرحمة والجد والمواساة، إلى ذاكرة مرسى كأنما لم تكن سمعتها إلا من ساعة مضت. وهنا همست لنفسها وهي تفكر فيما عزمت على فعله. ويلاه ماذا فعلت ويلاه ماذا فعلت.
وانصرفت عن النافذة تريد أن تتبع هوراس فترجعه فلما واجهت السرير التقى بصرها ببصر الجرح وكان يوشك أن يمشي إليها ليكلمها وفي يده منديل أبيض. المنديل الذي قرضت جريس إياه.
قال: لقد وجدت هذا المنديل في جيبها. وهذا اسمه مطرز عليه. إنها ولا ريب إنكليزية مثلك. . وأخذ يقرأ الحروف المكتوبة على المنديل بصعوبة شديدة وأخيراً قال مرسى مريك.
إن شفتيه هما اللتان نطقتا به. لا شفتيها. لقد أعطى جريس روزبري الإسم المطلوب.
واسترسل الجراح ويتزل يقول وهو ينظر إليها هذا الإسم إنكليزي. أليس كذلك؟
وهنا بدأت ألفاظ جوليان جراي عن الكذب والخداع تتبدد وتضيع ولم يبق في خاطرها إلا سؤال واحد، هل ينبغي أن تصحح الخطأ الذي وقع فيه الجراح الشيخ؟ ها قد جاء الوقت الذي يجب فيه غما أن تتكلم فتعلن اسمها الحقيقي وإما أن تعتصم بالصمت فينسدل الستار على الماضي بفضيحته.
وفي تلك اللحظة دخل الحجرة هوراس هولمكرفث ولم تزل عينا الجراح مستقرتين عليها ينتظر جوابها.
قال هوراس وهو يشير إلى ورقة صغيرة في يده - لم يخب ظني. هذا هو الجواز. أليس لديك قلم ومداد لأملأ الفراغ الذي به.
فأومأت مرسى إلى الأدوات الكتابية الموضوعة فوق المكتب. فمشى هوراس إليها وجلس في مقعد إزاءها وغمس القلم في الداوة وقال أرجو أن لا تظني أني أريد أن أهجم على شؤونك ولكني مضطر أن أسألك سؤالاً واحداً أو سؤالين ما اسمك؟
فولتها رعشة. فاعتمدت بإحدى أرجل السرير. إن مستقبلها يتوقف الآن على جوابها.(29/64)
وكانت عاجزة عن النطق بكلمة واحدة.
وإذ ذاك عاد ويتزل الجراح يكرر الإسم الذي تبينه على ظرف المنديل إن مرسى مريك اسم إنكليزي. أليس كذلك؟ فرفع هوراس رأسه عن الجواز فقال مرسى مريك! ومن تكون مرسى مريك.
فأشار الجراح إلى الجثة الساكنة فوق السرير وقال إني وجدت هذا الإسم فوق طرف المنديل. وكأني بهذه السيدة التي أمامك ليست من أهل الفضول لأنه لم يخطر لها اسم رفيقتها.
فأشاحت عن الرجل وجهها باحتقار ولم تستطع أن تصحح الخطأ الذي فاه به.
ورجع هوراس إلى كتابة الجواز فرجه إليها هذه الكلمات مغفرةً وصفحاً إذا عدت فكررت السؤال. ما اسمك. فأجابته بدون إكتراث وبدون أن تشعر بما هي قائلة جريس روزبري. . . . . .
على أنها لم تكد تفه بالكلمات حتى حاولت أن تسترجعها ولكن هوراس بدرها بسؤال آخر، قال وهو يبتسم ألا أكتب الآنسة.
فلم تستطع أن تجيبه إلا بإيماءة من رأسها.
فكتب مس جريس روزبريثم فكر هنيهة وعاد يسألها وهل أكتب عائدة إلى أصدقائها وأقاربها في إنجلترة؟ يا للرحمن. أصدقاءها وقرابتها في إنجلترة. إذ ذاك خفق قلبها. فأجابت في صمت بإطراقة ثانية.
فكتب الكلمات في أثر الإسم وبدأ يجفف الماد ثم نهض فذفع بالجواز إلى مرسى قائلاً. أظن هذا كافياً وسأرافقك حتى تجتازي الصفوف واجتهدي في أن تسافري في القطار. فأين أمتعتك؟
فأشارت مرسى إلى باب الكوخ الخارجي ثم أجابت هناك تحت خميلة خارج الكوخ. وليست شيئاً مذكوراً وإني أستطيع أن أجيء بها لو تركني الحارس الحارس أنفذ إلى المطبخ.
فأشار هوراس بإصبعه إلى ورقة الجواز وقال. بل تستطيعين أن تذهبي الآن حيث تشائين. فهل أنتظرك هنا أم خارج الكوخ فنظرت مرسى إلى الجراح أجنياس ويتزل(29/65)
بنظرة مستريبة وفكرت ثم أجابت انتظرني خارج الكوخ يا سيدي.
وتراجع الحارس محيياً التحية العسكرية عند رؤية الجواز فلما دخلت مرسى المطبخ وجدت الجرحى الفرنسيين قد نقلوا جميعاً وليس في الحجرة إلا بضعة جنود من الألمان بين مهوم ونائم ومضطجع فأخذت مرسى ملابس جريس روزبري من مكانها الذي علقتها عنده لتجف وانثنت تريد الخميلة خارج الدار فالتقت عن الباب بجندي آخر فأرته الجواز وسألته إذا كان يفهم الفرنسية فأجاب أنه يعرف طرفاً منها فنفحته مرسى بقطعة من النقود وقالت إني ذاهبة لأجمع ملابسي المنشورة تحت الخميلة فهلا حرستني حتى أنتهي من جمعها.
وأدى الجندي التحية إشارة إلى أنه فهم غرضها. واختفت مرسى في صميم تلك الخميلة.
فلما ترك هوراس وحده مع الجراح ويتزل لاحظ أن الشيخ لا يزال منحنياً فوق جثة القتيلة يفحصها بدقة وأدب فقال هل من شيءٍ يستحق هذا الإهتمام في مقتل هذه المرأة. فأجابه الجراح الخشن الفظ وهو لا يزال مسترسلاً في فحصه ليس من شيءٍ يصح أن يكتب في الصحف. فسأله هوراس. إذن. فلا يهم إلا الأطباء. أليس كذلك قال في لهجته الخشنة الموحشة. نعم. لا يهم إلا الأطباء وأدرك هو رأس الغرض المختفي في هذا الجواب الخشن فغادر الحجرة من الباب المغضي إلى الفناء وظل ينتظر الفتاة الإنكليزية الحسناء كما قال خارج الدار. فلما ترك ويتزل لنفسه نظر حوله نظرة فاحصة وانثنى ففك أزرار قميص الفتاة ووضع يده اليسرى فوق قلبها ثم أخرج بيده الأخرى من جيب صداره سلاحاً دقيقاً من أسلحة الجراحة وتحسس به في رفق مكان الجرح ثم رفع به قطعة من عظمة الجمجمة المتهشمة ولبث ينتظر ما يكون.
وفي الحال صاح بفرح مخيف يخاطب الجثة الهامدة تحت يديه. وي! لقد قال الجراح الفرنسوي أنك ميتة فهل صدق يا عزيزتي. . . يا له من سخيف. الله لهذا الأحمق.
ورفع رأسه فصاح منادياً ماكس وإذ ذاك أزيح الستار فظهر شاب ألماني متبالد قد وضع فوق صدره منشفة طويلة ووقف ينتظر أوامر سيده.
قال ويتزل علي بجعبتي السوداء.
فلما اختفى الخادم أخذ الشيخ يهز نفسه من فرح ونشاط كما يفعل الكلب ويفرك راحتيه عن(29/66)
رضى وانطلق يقول ناظراً إلى السرير من وراء منظاريه الآن لشد ما أنا سعيد مسرور يا سيدتي الإنكليزية العزيزة. لكان أهون على أن أخرج عن أموالي كلها من أن أحرم من لقائك. أيها الجراح السخيف لقد سميته موتاً لجهلك وضعف بصرك. وأسميه أنا تغيباً مؤقتاً عن الحياة من تأثير الضغط الحادث فوق الرأس. وظهر ماكس يجمل الجعبة.
فأخرج الشيخ منها سلاحين مخيفين فضمهما ضمة حارة إلى صدره وجعل يخاطبها في رفق بهذه الكلمات كأنما كان حقاً يخاطب صبيين صغيرين يا طفليَّ العزيزين. يا ولديَّ الصغيرين. هيا بنا نشتغل إلى العمل يا طفليَّ الجميلين والتفت إلى مساعده فقال أتذكر يا ماكس واقعة سالفرينو والجندي النمسوي الذي قمت له بعملية جراحية من أثر جرح في رأسه. ففتح المساعد جفنه المغمض وأجاب نعم أذكر ذلك ولا أنساه.
فمشى الأستاذ الجراح إلى السرير والخادم في أثره بالمصباح قال السيد والآن أنظر يا ماكس إلى هذه السيدة الشابة العزيزة النائمة فوق هذا السرير فإنها قد كفلت لي اليوم ما كنت أطلب هذه حادثة سالفرينو مرة أخرى. فارفع المصباح جيداً يا فتاي الأمين وقف هنا وأنظر إليَّ وانتبه أني سأرى إذا كنت مستطيعاً أن أنقذ الحياة والعقل معاً في هذه المرة!. .
وعند ذلك شمر عن ساعديه وبدأ علمه، وفي تلك اللحظة التي مس فيها سلاحاه رأس الفتاة سمع صوت الحارس يصرخ بالألمانية بهذه الكلمات التي أجازت لمرسى أن تخطو الخطوة الأولى في طريق السفر إلى انجلترة.
وهي دع السيدة الإنكليزية تمر.
وابتدأت العملية الجراحية، وانطلق في أثر ذلك الصوت صوت مثله ولكن كان خافتاً ضعيفاً دع السيدة الإنكليزية تمر.
وهنا رفع يده ليسود السكوت ثم انحنى فوضع أذنه عند فم العليلة. وفي الحال بدأت شفتا جريس تتحركان.
فصاح الشيخ وى! يا فتاة. أنت تتنفسين. أنت على قيد الحياة!
وبينما هو يقول هذه الكلمات كان صوت الحارس يكاد يسمع وهو في أبعد حدود الخطوط الألمانية يقول - دع السيدة الإنكليزية تمر! (انتهى الجزء الأول)(29/67)
العدد 30 - بتاريخ: 20 - 1 - 1917(/)
باب الأخلاق والاجتماع
مختارات من ليوباردى
الفيلسوف المتشائم
أغنية الديك
قالوا أنه يوجد بين الأرض والسماء ديك بري، ساقاه يلمسان أديم الأولى ومنقاره وعرفاه ينطحان صفحة الثانية، وقد أوتى هذا الديك العظيم قوة العقل والمنطق، ولقن كما يلقن الببغاء علم الكلام، وإن كنت لا أعلم الذي لقنه، ولا أدري عمن أخذ هذا العلم، ولقد إعتاد هذا الديك فغي نسمات السحر، ومقتبل هجمة الصباح، أن يصيح بأغنيةٍ له غريبة، وترنيمةٍ مدهشة. وقد عثرت بها مكتوبة بالعبرانية، فحدثت نفسي أن أنقلها إليكم. وأفكهكم بمعانيها، وقد نجحت في ذلك بعمد البحث الطويل والجهد الشديد، ولكني لم أستطع أن أعرف إذا كان هذا الديك لا يزال يغني كل صباح أغنيته، أم قد أمسك اليوم عنها.
والآن هذه أغنية ديك الصباح فاسمعوا.
أيها الناس، أفيقوا، أيها الأحياء انهضوا، هذا هو اليوم يعود إلى دورته، هذه هي الحقيقة تراجع إلى الأرض، إن الأحلام الكاذبة تختفي الآن وتحتجب، أنهضوا أبناء الموت إلى عبء الحياة، دعوا جانباً عالم الأحلام، وتعالوا إلى عالم الحقيقة.
هذه هي الساعة التي فيها تذكرون آراءكم في الحياة وظنونكم، وتستعرضون في أذهانكم أمور عيشكم، وتستعيدون ما كان يجول في خواطركم من نياتكم وشؤونكم وآمالكم، وتتوقعون المسرات والمتاعب التي قد يسوقها يومكم الجديد إلى ناحيتكم، وإنكم لتودون جميعاً أن تستشعروا المشاعر السارة والأماني العذبة، والعلالات الفرحة الناضرة، ولكن هذه الرغبة لا توهب إلا للقليلين، لأن اليقظة مؤلمة للجميع، إذ لا يكاد المنكوبون المتألمون يفيقون من نومهم حتى يفيق معهم إحساسهم بشقائهم وعذابهم، ولئن كان لا شيء أعذب من ذلك النوم الذي يحبئ به الفرح والراحة والأمل، ويمتلئ بالرؤيا البديعة، ويبارك بالحلم الذهبي، فإن تأثيره لا ينى أن يضمحل ويزول برجعة اليوم ومهب الصبح.
فلو أن نوم الناس كان دائماً، ولو أن الحياة كانت نوماً، ولو أن الأحياء تحت كوكب النهار يظلون في سبات عميق ساكن فلا أحد يذهب إلى العمل، ولا إنسان ينطلق إلى الكدح(30/1)
والدأب، نعم، فلو أن لا ثور يخور في المرعى، ولا وحش يزأر في الأجمة، ولا أطيار تغني في الفضاء، ولا تطنين للنحل، ولا تمتمة للفراش، أجل، لو أن جميع الكائنات على الأرض كانت صامتة جامدة، وليس في العالم إلا المياه والرياح والعواصف والأنواء، إذن لأصبح الكون عقيماً تافهاً، ولكن أتكون السعادة أقل منها الآن، أو يروح الشقاء أكبر منه اليوم، أيتها الشمس، يا منشئة النهار والرقيب على الليل هل رأيت دوة القرون العديدة التي تقاس بمطلعك ومغيبك، إنساناً واحد كان سعيداً، وهل تعرفين من جميع أفعال الناس، فعلا واحداً ظفر بالغرض الأكبر الذي يطلبه صاحبه وهو الرضى والبهجة الدائمة، هل ترين اليوم أو رأيت بالأمس أو عثرت من قبل بالسعادة على الأرض؟ أنبئيني أين تسكن وأي مكان تحل، في أي حقل أو أي غاب وأي واد، وعلى أية ربوة وأي جبل، وفي أي إقليم كانت تقطن وفي أية صحراء، وفي أي كوكب من هذه الكواكب التي تستضيء بلهبك وسطعتك، ألعلها تختفي منك في أعماق الكهوف ومكامن البر، ومخابئ البحر، أي حي وأي نبات وأي مخلوق يتمتع بنصيب منها، وأنت التي تجرين النهار والليل دون نوم أو راحة أو ترفيه، عادية في الطريق المستطيل الذي أعد لك ووضع، أتراك سعيدة ناعمة البال أم تراك محزونة معذبة.
أيها الناس. أفيقوا. أفيقوا. إنكم لم تتخلصوا بعد من الحياة، وسيأتي الوقت الذي فيه لا قوة ولا إحساس ولا نبأة تزعجكم من سكون النوم وهدأته، وإذ ذاك تهجعون إلى الأبد دون ملل أو سآمة، إن الموت منحة لم تمنحوها بعد، وهبةٌ لما توهبوها. وإنما تعطون من حين إلى حين شبيهاً له وصورة منه لأن الحياة بدون فترات من الراحة لا تستطيع احتمال نفسها ولا تستطيع الصبر والبقاء، ولذا كان الحرمان من النوم شراً مخيفاً وداعياً إلى النوم المستطيل الأبدي، وما أحقر الحياة وما أضأل، إنكم لأجل حفظها تضطرون إلى طرحها حيناً حتى تستجمع قواها، وتستردوها بعد أن تذيقوها طعم الموت.
إن الساعات الأولى من الصبح لا تزال وإن لم تكن سعيدة أخف احتمالاً على الناس من بقية ساع اليوم ورحلاته. إن الناس جميعاً يحاولون أن يختلقوا لأنفسهم الفرح ويميلون إلى الشعور بالإبتهاج، وإن لم يكن لديهم من أمورهم ما يستحق ذلك، وفي الصباح يقل ألمهم من عبأ الحياة وأوزار العيش، فالرجل الذي كاد اليأس يلتهم روحه قبل أن يتولاه النوم في(30/2)
الليلة الماضية، لا يلبث إذ يفيق أن يعود إلى التعلل والأمل، وإن كان تعلله باطناً، وأمله كاذباً طائشاً، وإن المتعب والمخاوف والأحزان والمناكد لتبدوا في مشرق النهار ومطلع الفجر أقل وحشة وإرعاباً منها في ليلة الأمس ومسائه، بل إن المرء لهزأ بالآلام التي عاناها البارحة، والأحزان التي أحسها العشية الفائتة وأنه ليضحك من نفسه لحزنه وألمه ويعدها أوهاماً كاذبة، ومخاوف تافهة.
وإذا كان الماء أشبه شيء بالشيخوخة، فإن الصباح أقرب ما يكون إلى الشباب. لأنه أكثر ما يكون ضحوكاً مطمئناً واثقاً، على حين يكون المساء حزيناً كئيباً متوقعاً للشر مشفقاً من السوء. ولكن هذا الشباب الذي تشهدونه أيها الأحياء في مطلع كل يوم ليس إلا صورة من شباب أعماركم القصيرة المتعبة. وكما تسرع الحياة إلى خاتمتها يجري النهار إلى المساء.
خواطر أخرى للفيلسوف
على قدر حاجة الإنسان يكون شره، فإذا رأيت رجلاً يعيش هادئاً طيب السيرة، محمود السلوك، فثق بأنه مكفي الحاجة، لا يجد ضرورة للشر. ولقد رأيت أناساً من اطهر الناس قلوباً، وأعفهم طبيعة، وأرق القوم حشية، عمدوا إلى ارتكاب أفظع الكبائر لكي يتخلصوا من خطر كان محدقاً بهم أو حاجة كانت تمسهم.
إذا رأى القوم في مجلس سمر جليسين يتحدثان ويضجان بالضحك في جذل غير عادي، دون أن يعلموا موضوع هذا الحديث وباعث هذه الضحكات المتطاولة، فلا يلبث أن يتولى الحضور طائفة من الخوف وينتشر في وجوه الندى ظل من الرعب، ولا تلبث أحاديثم أن تتغير فمنهم من يصاب بالصمت ويعتصم بالخرس والسكوت، ومنهم من يعمد إلى الإنصراف وترك المجلس، وأما أهل القلوب الجريئة فمنهم ينضمون إلى الضاحكين يسألونهما الإشتراك في هذا الضحك والإسهام في هذا الجذل المتدفع، كأنما هذه الضحكات قنابل انطلقت من مكان قريب، لا يعرف مصدرها، ولا يعلم الحضور أين تقع منهم هذه القذائف ومن تصيب، ومن تحطم وكذلك ترى الضحك يبعث على احترامنا وإكبار شأننا حتى عند الغرباء، ويلفت أنظار الحافين من حولنا، ويهبنا رفعة وتفوقاً وسمواً على الجالسين في مجلسنا، فإذا ألفيت نفسك يوماً في مجمع لا يحفل بك أهله، أو يتلقونك ببرود أو كلفة أو جفاء، فليس عليك إلا أن تتخير منهم الجليس الذي تظنه يلائم مقصدك، ثم(30/3)
أهتف معه بالضحك. وانطلق من التهليل والاستخفاف والجذل، ولكن عليك أن تحاول جهدك أن تجعل ضحكك يبدو صادقاً غير متكلف، وإذا رأيت منهم قوماً يريدون أن يقابلوا ضحكك بمثله، فليكن ضحكك أطول من ضحكاتهم وأشد صيحة وارتفاعاً، فإنك لا تنوي أن ترى أشجع الحضور وأكبرهم إباء وأربطهم جأشاً. والذين كانوا من قبل يتهاتفون بك ويتضاحكون منك قد عادوا ينهزمون أمامك ويتراجعون إزاء قوتك، ويميلون إلى مهادنتك ومصالحتك، وعقد أولوية السلام معك، وتقديم آداب الصداقة والود إليك، وكذلك فلتعلم أن الضحك قوة كبرى لا يستطيع أشجع الناس أن يناهضها أو يستخف بها، فالذي يريد أن يكون سيد الأرض، فليضحك من العالم بأسره.
إن الدنيا إزاء العظماء والأبطال أشبه بالمرأة، فهي لا تعجب بهم فقط، بل تحبهم كذلك، وتتعشقهم، إذ يفتنها منهم قوة خلقهم وشدة بأسهم، والدنيا المرأة، لا يكون حبها للعظماء، إلا على قدر ما يظهرون نحوها من الإحتقار والقسوة، والرعب الذي يدخلونه عليها.
لقد كانت فرنسا تحب نابليون أشد الحب، وكان نابليون معبود القوم، ومع ذلك كان يسميهم طعاماً للمدافع، وغذاء للبنادق.
كتاب المساكين
هو الكتاب الفلسفي القيم الذي وضعه الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي وأشرنا إليه في بعض أعداد البيان منذ أشهر ونقلنا منه فصلين تركا الأدباء وأهل الرأي يستبطؤون دورة الفلك من شوقهم إلى هذا الكتاب. وقد كان أديبنا الرافعي عدل عن طبعه بعد أن صحت نيته على الطبع إذ وجد سوق الورق كلها تسوق بنفسها في هذه الأزمة ثم كان مع العسر يسر فأصبح هذا الكتاب النفيس وشيكاً أن يظهر. ونحن نتحف قراءنا الأفاضل بهذه القطعة الرائعة من مقدمة الكتاب وقد اختص الرافعي بنشرها البيان.
وأنت فربما رأيت الرجل من الناس وبه من جمال الدنيا مسحة الدينار، وعليه من نضرة هذه الحياة ألوان الجنة والنار، وما تشك في أنه واسع البسطة عريض النعمة طيب المكسبة وهو على ذلك رقعة خلقة في أذيال الفقر يجررها على أقذار الحياة وأدناسها ولو نطق له الغني لقال دعني فما كل ذي متربة فقير ولا كل ذي مثراة غني والفضائل قائمة في الدنيا بالصغار والفقراء ولكن من نكد الدنيا أن عنوانها هم الكبراء وحدهم، على أن أكثر هؤلاء(30/4)
لا تكون منهم في كل أمة إلا الطبقة المنحطة انحطاطاً. . عالياً. . . فالناس مخطئون فيما اعتبروا به معنى الفقر إذ حصروه من جهاته الأرضية وقد ترامت، وضيقوا من حدوده السماوية وقد تراجت وإنما هو طبقة معنوية فوق الأرض، وإنما هو أسلوب خاص في نظام الكون ولا سبيل إلى التنقيح والتحرير في أساليب لله نصرفها عن معانيها أو نتكذب في تأويلها أو نرد عليها ما ليس منها، وإنما الشأن كله أن نحسن الفهم عن أوضاع القدرة الإلهية بمقدار ما نستبين فيها من الحكمة فإن في ذلك صلاح أنفسنا، وما جعل الله سبيل المصلحة والمفسدة إلا من أفهامنا حتى أن الأدمغة لتعد من أكبر العلل في أمراض التاريخ الإنساني، وربما كانت العلة الكبرى في طائفة من الطوائف صورة أثرية لأكبر المثراة ما يكون سبباً لتكثير المال ترامت وتراجعت بمعنى اتسعت رأس. فيها فإن نحن أسأنا الفهم أو ذهبنا به المذاهب أو أفسدنا من تأويل حكمة الله أو غيرنا أو بدلنا فذلك واقع بنا لا يعدونا، وما يستولي على الكون من جهلنا اضطراب ولا تلحق به آفة في وضع من أوضاعه وإن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وما دام في هذه الدنيا شيءٌ من المادة أو المعاني يحتاج إليه أو يتوهم أحد أنه محتاج إليه ففي الدنيا الفقر.
وما دام للناس رغبة يتنافسون فيها أو يرفعون من شأنها بالمنافسة فلم الحسد. وما دام في الغيب أيام وآمال وفي الدنيا فقر وحسد فهناك الطمع.
وما دام هؤلاء الناس من أشيائهم ما تحملهم أخلاقهم على الظن به أو يكون سبيله من الطبيعة أو يضن به، وفيهم الفقر والحسد والطمع فلم خبء السوء والرذيلة الماحقة وثم البخل. وإن البخل وحده لفي حاجةٍ إلى نبي يصلحه.
وهذه أخلاق أعرقت فيها الإنسانية ولا بد منها ومن فروعها حتى يظل الناس ناساً لا ملائكة ولا شياطين فإن من عجيب حكمة الله أنه لا صلاح للعالم إلا بالفساد الذي فيه.
بيد أن في كل شر جهة من الخير أو جهة تتصل بالخير فإذا صلح فهمه صلح هو أيضاً أو كأنه صلح لظهور حكمته والوقوف به عند حد الشر الطبيعي وهو الشر الذي لا بد منه.
فليكن الفقر والحسد والطمع والبخل ولكن برضاً يمنع السخط وسكون يكسر شرة النفس ورفق لا يعنف على الحق واعتدال يقر كل شيءٍ على حده. يومئذٍ يجد الإنسان في كل(30/5)
نزوة من نزوات جنونه شيئاً من الحكمة أو على الأقل شيئاً يمكن من بعض الوجوه أن يسمى في باب المنفعة الإنسانية حكمة.
ولقد كان الفقر عريان يوم كان آدم في الأرض وليس عليه إلا ما خصف من ورق الجنة وعاش دهراً تحت السماء يلبس من ضياء كل كوكب ويمرح في ثياب بيضاء من أشعة القمرين إذ لم يكن يعرفه أحد بعد ولا استطربه سماع السوء في الأحياء، بل كان عنصراً مجهولاً في غيب الطبيعة. ولم يكن لهذا الإنسان يومئذٍ من المعاني الفقرية. . . غير شعور طبيعي لا زيغ في تأويله عن الطبيعة وهو شعور المعدة القوية المعصوبة التي لا تحتمل الشعر والخيال وفنون الكذب العقلي ولا تشعر إلا لتطلب ولا تطلب إلا ما تجد، ومتى وجدت وإنطفأ نهمها فليس إلا قوة الجسم وانبساط النفس وحمد الله في كل ضرب من ضروب الجمال في الخليقة.
ثم كانت عداوة ابني آدم إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وفتحت الصفحة الأولى من تاريخ الدم الإنساني في الأرض فكان البغض أول سطورها وجاء من بعده الفقر وخطت بعد ذلك سطور وسطور كلها يلتقي إلى هذين المعنيين. يومئذٍ عرف هذا الفقر وأصبح يتلبس في كل إنسان بمعنى يلائمه إذ لم تعد الحياة هي الحياة بل الوسائل التي يدفع بها الموت ومنها الموت نفسه، فصار البغض وسيلة والحسد وسيلة والطمع وسيلة والقتل وسيلة وكل ذلك لأن الإنسان فقير بمعنى من معاني الفقر وما البغض إلا فقر من المحبة ولا الحسد إلا فقر من الثقة ولا الطمع إلا فقر من الرضا ولا القتل إلا فقر من القتل.
وإن أردت العجب فاعجب لهذه الطبائع الإنسانية إذ يحاول كل امرئٍ أن لا يفهم من معنى الفقر إلا ما يمكن أن يجريه على الناس كافة حتى هو وحده المبتلى في نفسه الممتحن في سعادته وحتى يجد مادة العزاء من حيث التمسها.
فالفقر على ذلك هو العوز إلى المال، وهذه بلية عليها يحيى الناس وعليها يموتون. ولقد كان الفقر قبل أن يكون المال ثم وجد المال فما منع أن يلتقي أهله الأغنياء من هموم الدنيا وبأس الحياة ما لو استطاعوا لافتقدوا من عذابه بكل ما في أيديهم ولو أن لهم طلاع الأرض، ذهباً ووجدنا المال فما منع الفقراء أن يخولهم الله من رحمته التي لا تفارقهم(30/6)
طرفة عين ما لا يحبون أن لهم به من الدنيا ولا الدنيا كلها.
دخل بعض الفقراء على رشيد العباسي وتاجه يوم إذن سبيكة العصر الذهبي في تاريخ الإسلام والإسلام يومئذٍ ترتجف به دفتا الشرق والغرب وكأن الشمس والقمر يتلألآن عل أرجاء ملكه ذهباً وفضة، وكانت في يد الرشيد كأس ماء وقد رفعها إلى فمه فلما أبصر ذلك الملك الذي لا يملكه شيء أمسك ثم قال له عظني. قال أرايت يا أمير المؤمنين لو منعت عنك هذه الشربة التي في يدك أكنت تطلبها بكل ملكك؟ قال بلى. قال أفرأيت لو شربتها ثم امتنع خروجها منك أكنت تفتدي من عاقبة ذلك يا أمير المؤمنين ما قيمة ملك لا يساوي عند قدر الله شربة ولا. . . . ولا بولة!
كذلك يحاول الناس أن لا يخطئوا الرأي فيما يستحبونه أو يطمئنون به وكأنهم لذلك يحاولون أن لا يصيبوا الحق فيما يكرهونه أو ينفرون منه، فكلهم سواء في ابتغاء السعادة المتوهمة التي لا يستحيل أن تتفق ولكنها لا تتفق إذ يزيدها كل امرئ على غير ما يناسب تكوينه الإنساني. وهم بعد على سواء من خشية الفقر لا تبرح أوهامهم تنتجي بمعانيه وهمومه ثم لا تبرح تنمي بها حتى صار الفقر في أنفسهم غير الفقر في نفسه وقد علم الله أنه ما من لسان إلا وفي تكوينه معانٍ كثيرة منه.
لهذه القطعة بقية
مركز المرأة الإجتماعي
(2)
من أحسن من نفسه الضعف لا يخجل من الدنايا، ومن تربى على الذل هانت عليه نفسه، ومن اعتاد احترام الغير له عزت نفسه عليه، واحترام النفس خير درع يقي الإنسان شر الخبث والرذيلة فإذا تربت البنت على الأنفة وإباء الضيم عميت عيناها عن السفاسف وغرست في أولادها مكارم الأخلاق، فخير حارس للآداب وأحسن شرطي يقي الناس الرذيلة هو احترام المرأة.
إن مصير الأمة بيد المرأة فلا تستصغروا شأنها وأقدروها حق قدرها أماً وبنتاً وزجة، وأنزلوها مكاناً رفيعاً من الإحترام ترده لكم في أنفسكم وتكافئكم عليه بطيب العيش ومكارم والأخلاق.(30/7)
يعامل الأوروبي امرأته معاملة حسنة يحترمها ويجل قدرها ولا يثقل عاتقها بالأشغال المتعبة. يحمل عنها حقيبتها في السفر ويساعدها على المشي وصعود القطار وهلم جراً، لا ينظر إليها بالعين التي يرمقها بها الشرقي، تؤاكل زوجها وتقاسمه الحياة ويستصحبها زوجها في النزهة وزيارة الأصدقاء ويستشيرها في مهام أعماله ويأتمنها على أسراره.
للمرأة أثر في تربية الأطفال أطيب من الرجل فإنها لشفقتها وحنانها تسوسهم من غير عنف. أما الرجل وخصوصاً إذا كان قوي العزيمة فإنه يبطش بإرادتهم ويسلبهم الثبات إذا تولى تربيتهم لا ينفك عن إعلاء إرادته ولو بالقوة فلا يدع لهم مجالاً كافياً لنمو إرادتهم، فيحسن بالآباء إذا أرادوا بأولادهم خيراً أن يعهدوا بتربيتهم إلى الأمهات ليقوين فيهم الإرادة والعزيمة باستكانتهن الأنثوية، ويكتفوا بالإشراف فلا يتدخلون إلا إذا خافوا جموح الطفل.
وهذا هو شأن معظم الأوروبيين فإن المرأة الأوروبية هي الآمرة الناهية في بيتها وأطفالها تدير شؤونها المنزلية على استقلال يحترمها أولادها ويطيعونها ويرجعون إليها في قضاء حاجياتهم ولكن لا تزال إلى الآن أقل قدراً من الرجل فإن الأوربي ولو أنه يحسن معاملتها إلا أنه لا يعدها مساوية له في الحقوق والكفاءة فلا يعتبر صنيعه معها احتراماً بمعنى الكلمة وإنما رأفةً بضعفها وإشفاقاً عليها. لو تطاولت إلى مقامه بعض ونازعته الحقوق والحرف المستأثر بها لظهر لها بثوبه الحقيقي مستخفاً بها وما برحت المرأة إلى يومنا هذا محرومة من معظم الحقوق السياسية وحجة القوم أنها أقل من الرجل علماً وقوة وإرادة، وتراها في وظائف الحكومة والأشغال التجارية والصناعية أقل مرتباً وأجراً من الرجل. والمرأة المتزوجة بمقتضى القانون الفرنساوي محرومة من بعض الحقوق المدنية ومحتم عليها أن تطبع زوجها.
أولع الناس بحب المقارنة في كل ما يحيط بهم من علم وأرض وسماء وأشخاص فيفضلون هذا على ذاك ويحكمون بتفوق عالم أو شاعر على آخر ويوازنون بين الرجل والمرأة فمنهم من يتحيز للمرأة فيرفعها على الرجل. والمقارنة توقع المرء في أغلاط كثيرة وتعميه عن كثير من الحقائق فإنها تحمله على أن يجرد المفضول من كل الصفات الموجودة لدى الفاضل. والحقيقة أن من الرجال من يشبه النساء خلقاً وذوقاً ومن النساء من هن رجال في أميالهن وصفاتهن فكم من رجل رقيق العواطف هين الخلق يحب الزينة(30/8)
والتبرج وكم من إمرأة شديدة البأس قوية المراس والمخنثون من الرجال غير قليلين كما أن من بين النساء كثيرات مترجلات وفي كل من النوعين الذكر والأنثى يوجد رجال ونساء في الأخلاق والقوى فلا معنى لحرمان الأنثى من بعض الحقوق بحجة أنها أقل من الذكر عقلاً وكفاءة. نعم إن النبوغ بين النساء أقل منه بين الرجال ولكن الوظائف والحقوق السياسية لا تسند خاصة إلى النابغ والرجال النوابغ قليلون أيضاً ومعظم الناس رجالاً ونساء وسط في المدارك ولا نقدر أن نسلم أن كل امرأة أقل إدراكاً من كل رجل.
ولا معنى لتحتيم القانون الفرنساوي على المرأة إطاعة زوجها فإن الرئاسة في الواقع ونفس الأمر لا تكون إلا في جانب الأقوى فإن الزوج هو الأقوى كان هو الرئيس وإن كانت المرأة هي الأقوى كانت الرئاسة لها بطبيعة الحال. وإن كان أولا بد من النص في هذا الصدد فالأجدر بالقانون الفرنساوي من يحث المتزوجين على التشاور والتعاون في الرأي.
لها بقية
الدكتور عبده البرقوقي المحامي(30/9)
باب الأدب والتاريخ
مذكرات شبلي شميل
اليوم الثاني
أما جمال الدين فكان من نوابغ عصره، عالماً واسع الإطلاع في علوم الأقدمين وفلسفتهم، ذا ذكاء مفرط وأدب رائع، مع شجاعة في القول لا تصدر إلا من نفوس مستقلة كريمة وكان ذا حديث طلى شهي لا يمل منه سامعه مع فصاحة عربية في التزام القواعد واختيار الألفاظ ولكنها ممزوجة ببعض لكنة أعجمية تنم عن أصله الغريب، وإنما وقعها على الأذن كان محبوباً ونظره كان جذاباً، وله عينان إلى إلى السواد غائرتان قليلاً تتقدان ذكاء. وهو لم يكن يعرف لغة من لغات الإفرنج الحافلة بالأفكار الجديدة والعلوم الحديثة ولكنه كان ذا مقدرة عجيبة في التحصيل حتى أنه ليستفيد منك الشيء الجديد ويصبه في قالب المعلوم المختمر ويوهمك أنه معروف له منذ زمان طويل. وجمال الدين لم يكتب فيما أعلم شيئاً وإنما كان يلقي على آخرين مقالات إضافية نشرت في جريدة مصر تحت أسمائهم. ولولا الشيخ محمد عبده يده الكاتبة لما كان لصوته صدى، ولبقيت تعاليمه في صدور أكثر الذين تلقوها منه وماتت معهم، إذ كانت كل تعاليمه حديثاً يلقيه حسب مقتضى الحال. فهو فيلسوف من الفلاسفة المشائين الروائيين ورواقه كان رواق القهوة التي بجانب البوستة القديمة المتقدم ذكرها. ولعل تلاميذه لا ينسون في مستقبل الأيام أن يحيوا ذكره بينهم في ذلك المكان. وقبل جريدة مصر كانت شهرة جمال الدين مقتصرة على الأخصاء وأعماله محصورة في دائرة مريديه، وأما جريدة مصر فكانت سبباً كبيراً لإذاعة صيته ونشره في الآفاق.
ولما عرفت أديب بجمال الدين كانت معرفتي بهذا الأخير حديثة العهد. فقد كنت أسمع به وأنا في الإسكندرية فلما أتيت إلى مصر وددت أن أتعرف به. وكان يتردد كثيراً على بيت حنا عيد قنصل دولة البلجيك. فلما أبديت رغبتي هذه لعيد المذكور ضرب لي موعداً للإجتماع به عنده في إحدى السهرات. ولما تعارفنا أخذنا ننتقل من حديث إلى حديث إلى أن ابتدرته بالسؤال الآتي (ولم يكن سبق لي كتابة أو تصريح في هذا الموضوع بعد) قلت - ما قول سيدي الشيخ (لفظة الأستاذ لم تكن قد جرت بعد على الألسنة كما هي اليوم) في(30/10)
المعبود الأول الذي اتخذه الإنسان من بين أشياء هذا الوجود؟
وكأني لحظت أنه أخذ بهذا السؤال على غرة كأنه لم يخطر له ببال من قبل. فتقلقل قليلاً كأنه يريد أن يتمكن في مجلسه ولم يطل به ذلك حتى دخل في مقدمة مستفيضة أغنته عن التزام الصمت طويلاً للتفكير وأعانته على تصوير الحكم بما له من سرعة الخاطر وحدة الذهن. ولا أذكر شيئاً من هذه المقدمة وإنما أذكر أنه انتهى بها إلى القول إن المعبود الأول للإنسان الأول كان يقتضي أن يكون في ثنايا الغيوم المتلبدة أو هي نفسها.
أما أنا فلم أكن من رأيه وكأني نظرت إلى الإنسان نظراً أعرق في الحيوانية. فاعتبرت الإنسان الأول لاصقاً بأرضه يتخبط فيما أمامه متخوفاً من كل شيءٍ إذ كان يجهل كل شيءٍ فاتخذ معبوده الأول من أشيائها ولم يرتفع ببصره إلى ما فوق إلا بعد ذلك بكثير. واعتبرت حينئذٍ العبادة الفتشية أول عبادات الإنسان وجعلتها في الغابات الكثيفة ذات الشأن في الميثولوجية القديمة وفي الاشجار الكبيرة المفردة القائمة في العراء يستظل بها. للمذكرات بقية
أمالي أدب
2
وهنا يحس أن نأتي على بلاغات العرب في الليل وظلمته والكواكب والنجوم وما يتصل بهذا المعنى، فمن أعجب ما وصفت به ظلمة الليل قول عبد العزيز بن خلوف أحد شعراء إفريقية:
واسود لا تبدو به النار حالك ... وبيداء لا يجتازها الريح مطلق
فإن قوله - لا بدو به النار - أي لا يظهر ضوءها في سواده مبالغة فائقة مع اختصار اللفظ وجزالة المعنى ولا ينقص من قيمته أنه مأخوذ من قول محمد بن إبراهيم القيروان - بني القيروان عقبة بن عامر الصحابي رضي الله عنه ـ
تأملوا ما دهاني تبصروا قصصاً ... ظلامها ليس يمسي فيه بالسراج
فكلاهما أجاد وأحسن ابن خلوف كل الإحسان في تعميم قصور الضوء بذكر النار التي هي سبب كل ضوء ولم يخصه بالسراج حتى يقطع الوهم في ضعف نور السراج وحده عن الإضاءة في هذه الظلمة.(30/11)
وإليك قطعة سنية من شعر إبن طباطبا في الليل والنجوم قال:
وتنوفة مد الضمير قطعتها ... والليل فوق أكامها يتربع
ليل يمد دجاه دون صباحه ... آمال ذي الحرص الذي لا يقنع
باتت كواكبه تحوط بقاءه ... في كل أفق منه نجم يلمع
زهر تثير على الصباح طلائعاً ... حول السماء فهن حسرى ضلع
متيقظات في المسير كأنها ... باتت تناجي بالذي يتوقع
متنفساً فيه جناناً واهناً ... في كل لحظة ساعة يتشجع
حتى انزوى الليل البهيم لضوئه ... وقد استجاب ظلامه يتقشع
وبدت كواكبه حيارى فيه لا ... تدري بوشل ريالها ما تصنع
منها دلات النور في آفاقها ... مستعبرات في الدجى تسترجع
وكواكب الجوزاء تبسط باعها ... لتعانق الظلماء وهي تودع
وكأنها في الجو نعش أخي ولا ... يبكي ويوقف تارةً ويشيع
وكأنما الشعرى العبور ورراءها ... ثكلى لها دمع عزيزٌ يهمع
وبنات نعشٍ قد برزن حواسراً ... قدامهن إخواتهن الأربع
عبرى هتكن قناعهن على الدجى ... جزعاً وآلت بعد لا تتقنع
وكأن أفقاً من تلألأ نجمه ... عند افتقاد الليل عين تدمع
والفجر في صفو الهواء مورد ... مثل المدامة في الزجاج تشعشع
يا ليل مالك لا تجيب كواكباً ... زفراتها وجداً عليك تقطع
لو أن لي بضياء صحبك طاقةً ... يا ليل كنت أوده لا يسطع
يتبع محمد عزت
قصيدة اغتصاب الضفيرة
لزعيم شعراء الإنكليز
في القرن الثامن عشر
اسكندر بوب
أكبر شعراء الإنكليز في القرن الثامن عشر اسكندر بوب ولد في 21 مايو 1688 ومات(30/12)
30 مايو 1740 ودرة تاريخ شعره هي قصيدة اغتصاب ضفيرة التي نشرها عام 1712 وهو في الرابعة والعشرين من عمره. ولها أصل حقيقي وهو أن أحد السراة اللورد بطرس أساء أشد الإساءة إلى سيدة من الأشراف الآنسة فرمور بأن تربص للغانية المذكورة في إحدى ليالي اللهو فقص ضفيرة من شعرها غيلةً واغتصاباً.
فشبت العداوة بين الأسرتين وحينئذٍ مشى بالصلح بينهما وسيط متلطف وهو صديق للساعر اسمه كاريل فتقدم إليه بأن يعمل قصيدة يحول بها الحادث عن طوره الجدي إلى طور هزلي حتى يمحو بذلك اسم ذلك الحادث وينتزع شوكته.
فقام بوب بالأمر خير قيام وأظهر ملحة الملح - قصيدة اغتصاب الضفيرة التي فضلاً عن إتيانها بالغرض المقصود أعني الإصلاح بين الأسرتين كانت غرة شعر بوب وأبدع منظوماته وها هي:
الفصل الأول
كم حادث جلل جره الوجد والهيام، وصغير من الأمر أحدث الخطب الجسام، وكم السبب التافه حازب الشر. ومعظم النار من مستصغر الشرر. أيها الملأ عوا نشيدي. وامعوا سجعي وتغريدي. هاكم شعري أرفعه إلى كاريل. ولي الحسناء بيلندا عله يفوز بقبول. لا أكذب الله - موضوعي تافه. ولكن ما أجل حظه من هتاف الجماهير. إذا فزت من العذراء بالوحي ونلت الثناء من الرجل الطرير.
شيطانة الشعر! خبريني ماذا يعزي السيد المهذب بإيذاء الحسناء. وماذا يحمل الحسناء على مقابلة السيد المهذب بالجفاء وكيف يجرأ ظرفا. الرجال على هذا الإثم الأكبر. بل كيف تحمل أفئدة الحسان مراجل الغيظ ذات السعير.
لما حدر الصباح نقابه أرسلت الشمس شعاعاً رعشاً خلل بيض السجوف. ففتحت تينك العينين اللتين لا بد أن ترمي سراج الزرقاء بالكسوف. في هذه الساعة ينفض الكلب الأليف غبار الرقاد. وينفض من مضجعه حليف الغرام بعد طول السهاد. على مثل جمر الغضا أو شوك القتاد، ودقت الجرس ثلاثاً فلما لم تجبها الخادمة دقت بالحذاء على أرض المكان، ثم جست لولب الساعة فنطق بالوقت لسانها الرنان، كل ذلك والعذراء لم تزل ملصقة بالوسادة وردة خدها المصقول، وقد أغرى ملكها الحافظ بعينها سنة ذات حلم(30/13)
معسول، فرأت فيما يرى النائم أن فتى أزهى من الطاووس، وأبهى من العروس، قد أدني من أذنها لسانه الخلاب فقال يا أجمل الحسان وأملح الغوان، وموضع عناية الآلاف المؤلفة من الملائكة البراقة سكان الهواء إذا كنت قد آمنت مرة في طفولتك بما كان يرويه لك الحاضنات والقساوسة من رؤيا الجان والعفاريت السائحات في ظلال القمرآء - إذا كنت آمنت مرة بآياتهم الفضية ومناطقهم الخضراء، وبزيارات الملائكة الأطهار مراقد الأبكار، وعلى رؤوسهن (أعني الملائكة) تيجان الذهب وباقات الأزهار، إذا كنت آمنت مرة بذلك فاسمعي مني وصدقي! فاعرفي رفعتك وعلو قدرك ولا تقصري نظراتك على الشؤون الأرضية ولكن ارمي ببصرك العالم العلوي فلربما انكشف ثمت لأعين الأطفال والعذارى من محجبات الأسرار ما ليس ينكشف لغيرهم من الباذخين بالعلم والعرفان. فاسمعي الآن وحي حافظك الكريم وأنزليه من صدرك منزل اليقين، مهما كذب أولو الشك من حضنة العلم البارعين، فاعرفي حرسك الله أنك محفوفة بما لا يحصى ولا يعد من طاهرة الأرواح - كتائب الجو السراع الخفاف، وجيوشه المتكاثفة اللطاف، هذه وإن خفيت عن الأبصار فإنها أبداً طيارةٌ في الفضاء تغشى دار التمثيل فترنق فوق اللوج وتحوم حول المسرح. وأقسم لو رأيت حاشيتك وبطانتك من أولئك الأرواح لحقرت وصيفتيك التين تخدمانك، واعلمي أنا معشر الأرواح أو الملائكة قد كنا حيناً ما بشراً مثلك وكنا نتقمص بديع صورة المرأة ثم تحولنا بقدرة لطيف خبير عن المطية الترابية إلى مطية هوائية الجوهر. فلا تحسبي أنه بموت المرأة يموت زهوها وتيهها، فهي وإن هجرت لعب الورق بعد الوفاء، لكنها لا تزال تشرف على اللاعبين ولا يزال يبقى لها شديد ولوعها بالمركبات المذهبة ولعبة الباشكاه ذلك أن النساء بموتهن تستحيل أرواحهن إلى عناصرها الأول. فروح المشاغبة الصخابة النارية المزاج تصعد فتندمج في زمرة الزبانية. والروح الهادئة المطمئنة تنساب فتنغمس في القناة الجارية. حيث ترشف مع أترابها بنات الماء شاي الجن من أقداح خافية. وروح الماكرة تهبط في صورة عفريتةٍ فتسعى في جوانب الأرض بالشر وتمشي بالنميم كدأبها أيام حياتها. وروح المتظرفة المغناج تسمو على هيئة ملك فلا تزال تمرح وتعبث في مراتع الهواء.
واعلمي كذلك أن كل غادة طاهرة حصان لا يصيدها شرك الغواية ولا تحتلبها مصايد(30/14)
الخداع. ولا يستخفها ثناء مفلق، ولا يزدهيها مديح مزوق، فلا فضل لها في ذلك وإنما الفضل لملكها الحفيظ الساكن بين جبينها، والملائكة تعلمين لتجردها من النواميس البشرية تلبس من أشكال البشر وأجناسهم ما تشاء، فالملك الحارس هو الذي يحفظ عفاف الغادة المشوقة المتيمة بين جدران المراقص والملاعب ويقيها شر خلسات اللحظ نهاراً وهمسات اللفظ ليلاً. في ساعة الخلوة حينما تشب الفرصة نار الشهوة، وينطق لسان الموسيقي فيذيب المهج ويرقق القلوب في مثل هذه الساعة إنما يحفظ الحسناء حارسها الأمين، وإن سماه أهل هذا الوجود الشرف الحصين.
ومن الغانيات المتاح لهن الشقاء من تغرهن حارساتهن فتوهمن أنهن أجمل الأنس، وأملح من طلعت عليه الشمس، غيرة عليهن من الرجال واستئثاراً بهن، وكذلك ترى هؤلاء الحارسات يصغون قيم الرجال في أعين غاداتهن حتى يرفضن كل خاطب ثم يرخين لنفوسهن أعنة المطامع ويلقين بأزمة عقولهن في كف الخيال المخادع، والوهم المخاتل فيمنين النفس يتزوج الأمراء والسراة من الرؤوس والأعيان والأئمة والقادة، وتصوغ لهن أيدي المنى الكاذبة أزواج المستقبل رافلين في خلع الإمارة خفاقة فوقهم أعلام المج والسؤدد.
بيض الوجوه كريمة أحسابهم.
شم الأنوف من الطراز الأول تخشع الأبصار وتنكس الهام في حضرتهم، وتخرس الألسن وتلجم الأفواه في مجالسهم، ويخاطب أحدهم بلبيك وأبيت اللعن وسموك وفخامتك، هذه الأباطيل وأمثالها هي ما يلوث نقاوة قلب الغادة ويعلم لحظها الساحر كيف يعبث بالقلوب ويلعب بالنهي، ويعلم خدها الأسيل كيف يتصنع الخجل فيكتسي إحمراراً باطلاً، ويعلم قلبها المداهن كيف يتكلف الوجل فيتعمل خفقاناً كاذباً.
والحارسات هن اللواتي يعصمن الغادة من الزلل في مزالق الأهواء ومداحض الشهوات فيدفعن عنها كيد هذا المخاتل بكيد ذلك ويرددن عنها قحة هذا المغازل بقحة ذاك. وأي فتاة ناعمة كانت تسلم من حبائل محاباة زيد لولا مجاملة عمرو، وأي غادة رود كانت تنجو من إيناس خالد لولا تودد بكر، وإذ نطق عبيد فأي حسناء تستطيع مقاومة خلابته لو لم تلهها غمرة من جانب زياد، وهكذا لا تبرح العفريتة الحارسة تنقل قلب الفتاة بين مختلف(30/15)
الأضاليل - تنقل بين شتى الأباطيل هذه القلب الذي لشدة امتلائه بالسفاسف كأنه حانوت الألاعيب. ذها السلوك يسميه الناس خفة ونزقاً. ضلة لهم ولجهلهم! إنه في الحقيقة قضاء من الجنة وتدبير.
قال العفريت. فأحد هؤلاء الجنة الحراس هو أنا - حافظك ورقيبك - واسمي آريل. فاعلمي أيتها الحسناء أني بينما كنت أطوف في صفاء السماء الصاحية قرب السحر نظرت في مرآة نجمك المشرق فرأيت في صحيفتها آية خطب مهدد وبلاء منذر يكون نزوله بك قبل مغرب شمس اليوم. ولكن ستر الغيب لم ينكشف عن كنه هذا الشر فلا أعرف ما هو ولا كيف يكون ولا أين. فتحرزي أيتها الغانية وحاذري. وتحذيري هذا يا غادتي هو كل ما أقدر عليه. فحاذري أيتها الحسناء وليكن معظم حذرك من الإنسان!
هنا ختم الحارس الأمين كلامه. ووثب الكلب فأيقظ الغادة سيدته فهبت من المنام وكان أول ما فتحت عليه عينيها هو صندوق مضمن رسائل الحب الواردة من ضروب عشاقها ففتحته وفضتها وما كاد طرفها يستوعب ما قد حوته هذه الرقع من الوجاع والأسقام والقرح والجراح والسحر والفتنة إلا وكانت قد نسيت رؤيا الملك الحافظ فلم يبق لها أدنى أثر في دماغها.
ثم تمشت الفتاة إلى المزدن (التواليت) حيث آنية الفضة مصفوفة. وأوعية البلور مرصوفة. وهنالك جلست الغادة وأقبلت تمتحن فضيلة كل دهان. وقوة كل طلاء. وتطالع في المرآة خيالها الفتان تقبل عليه وتصوب طرفها إليه. فكانت الناشطة جاثية بين أيدي ولاتها كأنها قسيسة هيكل الجمال بمحراب الحسن راكعة. ثم فتحت كنوزاً عدة وبدت للعيان تحف الأرض ونفائس الوجود مهداة لربة الجمال فأخذت الماشطة من كل صنف قبضة وزينت الفتاة بفنون شتى من الزخرف. فعلبة يتوهج بها لؤلؤ الهند اللامع. وجونة يفوح منها عطر دارين الساطع. وهنا تبصر السلحفاة والفيل قد مسخا أمشاطاً بين بيضاء ورقشاء، وصافية ورقطاء. وتبصر الدبابيس صفوفاً مشرقة والمداري سموطاً متألقة، هنا يلبس الجمال الرائع درعه ولامته ويتقلد الحسن سلاحه وشكته. وكلما ازدادت من الزينة ازداد جمالها شوكة وبأساً. وهي أثناء ذلك تثير كوامن المحاسن وتظهر مكنونات الفتن وتنقح من ابتساماتها. وترهف من نظراتها. والجنة الحراس في هذه الأثناء تحف الفتاة - قرة عيونها - فطائفة(30/16)
ترجل وترطل. وطائفة تحسن وتجمد. صنع الجنة المهرة - هم يأدون هذه الوظائف. والناس جهال الحقائق يعزونها للوصائف. انتظروا بقية هذه القصة الغريبة في العدد القادم.(30/17)
العلم والفلسفة
غرائب العلم - العلم يدنو رويداً رويداً من الدين - وبعد ذلك - وبعد ذلك سيكونان شيئاً واحداً بعد أن يندمجا بعضهما في بعض ويتجليا في مظهر واحد هو الحقيقة.
هل نستطيع مخابرة الموتى
لا يزال سير أوليفرلودج، العالم الإنكليزي الكبير، يدافع عن مذهبه الروحاني العلمي الجديد بكل قوى حججه وأدلته، ويناضل معارضيه من العلماء بأسلحتهم، أي من ناحية العلم والتدليل العلمي، وقد نشر أخيراً في مجلة استراند المشهورة رسالة جديدة يريد أن يقنع العالم بأن الموتى يستطيعون أن يراسلوا الأحياء ويخابروهم، وأنهم فعلاً لا يزالون يرسلون إليهم الرسائل والمخابرات، وبين فيها الطريقة التي تتبع في ذلك، ولاكتشافات التي يهتدي إليها عن الحياة الأخرى وأحوالها ونظامها، وما يمكن أن يجدي ذلك على الحياة الدنيا وأهلها، ونحن نقتطف منها بعض فقرات صالحة.
قال سير اوليفرلودج، إذا صح أن الموتى لا يعرفون شيئاً فلا يكون من ذلك إلا أن نقول أنهم قد فنوا وإنهم لا يوجدون ومن ثم لا نستطيع أن نخابر العدم، ونراسل ماهو في حكم الفناء ولكن هذه الطريقة في الجدل والبحث ليست منطقية وليست إلا طريقة معكوسة خلفية، والوجه الصحيح المعقول في البحث أن تحاول أولاً أن نثبت بالتجاريب والملاحظات إذا كان التراسل ممكناً، فإذا تقرر ذلك وثبت، خرجنا منه بأن الموتى يعلمون شيئاً وإن لهم وجوداً حقيقياً.
وهنا يثبت في وجوهنا سؤال آخر، وهو كيف يستطاع مخابرة شخص ليس له أداة جثمانية لإخراج صورة الأفكار التي لديه، وليس في وسعنا إلا أن نحيل المتعرضين إلى رد جزئي وصلنا إليه اليوم، وهو اكتشاف علم التليبائي أي انتقال صور الأفكار من ذهن إلى ذهن بدون واسطة الحواس أو الوسائل الخارجية، ولكن هناك من يقولون أنه لابد من وجود ميكانيزم أي جهاز جثماني لنقل هذه الأفكار التي يبعث بها الموتى. ونحن نقول أننا نتمشى معهم ونوافقهم في وجوب وجود هذه الأداة ملكاً للقوة المراسلة (الميت) فإن الموسيقار الذي تحرمه من قيثاره، قد يستطيع أن يتعلم كيف يوقع على قيثار موسيقار أخر، وإذا عزت عليه الآلات، فلا تزال روحه حافلة باللغم، ممتلئة باللحن، ولكنها موسيقى صامتة غير(30/18)
مفهومة، ولا محسوسة، ولا يستطاع نقلها من أضعاف روحه أو كتابتها، ولهذا يجب أن يكون هناك آلة أخرى يستعين بها على إخراج الموسيقى الكامنة فيه.
وهناك أناس كثيرون يفيدوننا في توسيع معارفنا دون أن يشعروا، وهم يسمحون أن يستخدم جزءهم الجثماني في حمل الرسائل - وهم لا يشعرون ـمن أذهان غير أذهانهم، أما شخصيتهم فتظل في هذه الحالة معلقة أو معطلة أو في غيبوبة وذهول، بينما يظل جثمانهم وذهنهم عاملين نشيطين وهكذا تنتقل الرسائل بواسطتهم وهي تحوي معلومات لم يكونوا يعرفونها من قبل، ولا تترك بعد رجوع شخصيتهم أثراً في ذاكراتهم.
ونحن نسمي هذا الشخص المستخدم أداة لذهن غيره وسيطاً وهذا هو السبيل إلى مراسلة الموتى، ونحن نرى أن المعلومات التي تتلقى بهذه الواسطة تكون في أغلب الأحيان حوادث عائلية تافهة، لا تفيد الجميع ولكن حسبها أنها تثبت شخصية الشخص اللذين يراسلونه، ولا نعتقد أن المعلومات الهامة الخطيرة تفيد فائدة كبرى، لأنها إما أن تكون مستحيلة الإثبات، وإما أن تكون معروفة للناس من قبل، ولكن الذي يهم من هذه المعلومات هي المعلومات التافهة المنزلية لأنها تظهر شخصيات الموتى للأحياء المحزونين عليهم.
وأنا أشرح للناس أنواع الرسائل التي تتلقى من الموتى فمن هذه الرسائل ما يشرح الحقائق والمشاهدات التي ترى في العالم الآخر، كالحياة التي يعيشونها والمكان الذي يحوطهم، واهتمامهم بأحوال الأرض والصعوبة التي يجدونها في التراسل، ولكن هذه المخابرات لا يمكن أن تعرض في الكتب أو تنشر للناس لأنه ليس لدينا وسائل لفحصها والتأكد من صحتها، وحسبنا أن نقول أن هذه المخابرات تدور جميعاً حول نقطة واحدة، وهي أن الحياة هناك أشبه بحياتنا مما كان يظن المراسلون أو يتوقعون. وهم كثيراً ما يتكلمون عن الأزهار والحيوانات والكتب والجمال، ويؤكدون لنا أنهم لا يعرفون أكثر مما نعرف إلا الشيء النذر اليسير، وإنهم لم يتغيروا عنا في شيء كثير، ويقولون كذلك أن كل ما حولهم محسوس ملموس، وإن المادة التي كانت في الأرض أصبحت لديهم ظلاً مضمحلاً، ومن ثم لا يشعرون بما يجري في الأرض، إلا إذا وكل إليهم أن يعينوا الذين ينتقلون إليهم منها، وإلا إذا حاولوا أن يشرفوا على أحبابهم الذين تركوهم وصحابتهم الذين يعيشون بعدهم.
وأما الرسائل الأولى فلا تحوي شيئاً من هذا الوصف وهم لا يحاولون فيها إخبارنا بل(30/19)
إقناعنا بأن الذين نفقدهم لا يزالون أحياء فرحين سعداء، وأنهم ينعمون بالبهجة إذا نحن أردناها لهم ولم نقلقهم، وإنهم يحزنون لأحزاننا وإن كانوا يرون حياتهم الجديدة حافلة بالإبتهاج والغبطة والنعيم.
ومن ثم تعلم أن الرسائل الأولى التي نتلقاها من الموتى، هي أكثر ما تكون رسائل عواطف، ثم يأتي بعدها الرسائل الحاوية لطائفة من الذكريات التي ترضي الذين يريدونها من أقاربهم الأحياء، أو تدور حول إزالة شك أو سوء فهم أو ريبة تتعلق بحوادث خطيرة وقعت للأحياء من ذوي قرباهم، وقد لاحظنا أن المراسلين في العالم الآخر يجتهدون في أن يرسلوا العزاء والراحة لأهلهم من هذه الناحية.
ونحن لا نعرف كيف يستطيعون علم ذلك، ويلوح لنا لغزاً غامضاً، ولكن هذه الأشياء، لا تزال تقع لكثيرين في هذه الحياة، إذ يحدث لهم أن يهتدوا إلى أسرار غريبة بطريقة غريبة الهامية.
وقد أصبحت هذه الرسائل ضرورية في هذا الوقت وهذا الزمن الحافل بالأحزان والآلام، وهذه الرسائل تأتي تباعاً من كل سبيل، فالشبان الذين قتلوا في هذه الحرب، وهم في غضارة الشباب، وطراءة السن، لا يستطيعون أن يستريحوا في العالم الآخر وهم يحسون حبائبهم في حزن شديد لفقدتهم، وإنهم في بادئ الأمر لا يرتابون في أماكن مخابرة الأحياء الذين خلفوهم ورائهم، فإذا حدث أنهم علموا أن السبيل ممكنة لهم، فلا يزالون يجتهدون كل الجهد في إثارة الرغبة الشديدة في أرواح الأحياء إلى مخابرة موتاهم.(30/20)
باب تدبير الصحة
في الطفل
يندر أن يبتسم الطفل قبل مضي ثلاثة أسابيع من عمره وفي الأيام الأولى تتحرك عيناه في جميع الجهات بدون أن تتعلق بشيء مما تراه إلى مضي شهرين.
صياح الطفل
يصيح الطفل في الأشهر الأولى من أقل مؤثر ويكفي لسكوته إزالة ذلك المؤثر وإذا لم يعلم السبب يعرض للضوء أو يمس على بطنه أو تمرر اليد على رأسه جملة مرات فإن ظل يصيح كان سبب الصياح ألماً لا محالة.
الخوف الليلي
قد يحصل لبعض الأطفال إنزعاج وفزع شديدان يستيقظون معهما بحالة خوف شديد ويحصل ذلك عادةً بعد نوم الطفل بساعتين أو ثلاث ساعات فيستيقظ صائحاً منادياً باكياً مغطى بعرق غزير غير ملتفت لمن حوله متأثراً بتصور كاذب أزعجه في نومه كرؤية كلب أو هر أو رجل بشع الهيئة ولا يمكن تسكين روعه إلا بعد جهد جهيد عندئذٍ يعرف من حوله فيرجوهم في بقائهم معه وأن لا يطفئوا النور ثم ينام إلى الصباح إذ يندر تكرر الخوف في ليلة واحدة وإذا ما أصبح الصباح استيقظ هادئاً خالي البال مما حصل في الليل - يعالج أمثال هؤلاء بتنظيم الهضم وتجنب الإمساك وكل ما يهيج عقل الطفل خصوصاً وقت النوم ويعود من ابتداء ولادته على النوم ف6ي الظلام.
السل الرئوي
يظن الكثيرون أن السل الرئوي مرض فتاك لا محالة ليس ينجو منه واحد ممن استضافه ونزل داره - هذا لا شك مبالغ فيه إذ ثبت من جملة إحصائيات أن السل الرئوي يصيب أكثر من عشرين في المئة من الأحياء يشفى من هؤلاء في ظرف ثلاثة أشهر من بدء المرض أكثر من تسعين في المائة وهم لا يعلمون مرضهم ويسمى النوع الإجهاضي أما الباقون والذين تظهر عليهم علامات السل منهم فيشفى منهم الكثير ممن يدرك العلاج الناجع في الدور الأول للمرض وربما في الدور الثاني إذا استعمل الطبيب شيئاً من ذكائه ومن هذا يظهر أن ليس كل سل قاتلاً.(30/21)
فتاوي طبية
فتحنا هذا الباب كما بينا في العدد الفائت بعد أن تكفل صديقنا النابغة الدكتور محمد عبد الحي بالإجابة على كل سؤال طبي ويصل إلينا من أي مشترك من مشتركي البيان - ولنا على السائل أن يبين اسمه ولقبه وبلده وعنوانه وأي حرفةٍ يحترف وله علينا أن نصرح باسمه أو نرمز إليه بالحروف إذا أحب وسننشر الأسئلة وأجوبتها حسب ترتيب وصولها إلينا وبالمقدار الذي يتسع له العدد.
ـ سؤالان من حضرة صاحب الإمضاء
أولاً ما هو الضرر الذي يسببه غشيان الرجل زوجه عقب الأكل مباشرةً وما هي الطرق التي يسلكها إذا عراه شيء من جراء ذلك حتى تنتظم حاله؟
ثانياً ما هي أسباب الإغماء وما هو علاجه؟
إبراهيم علي الشمردل بالفشن
الجواب أما عن السؤال الأول فهو يتلخص في عمل مجهود جسماني وعقلي بعد الأكل وذلك أنه بعد الأكل مباشرةً يعرو الإنسان شيء من الخمول والتعب من جراء تحول الدم بكثرة إلى الجهاز الهضمي ويأخذ القلب في العمل بهمة وتتزايد دقاته ومن هنا كان الهضم مجهوداً قائماً بنفسه فإذا أضيف إليه مجهود آخر ترتب على ذلك أن القلب يؤدي مجهوداً مضاعفاً يتغلب على لوازم المجهود الجديد وهنا ضرر محقق عند المسنين الضعفاء ومن هم معدون لعلل القلب أو من هم مصابون بها إذن ربما نجم عن ذلك شلل عام أو موضعي أو سكتةٍ قلبية أو مخية أو ضعف عام - وفي الوقت نفسه بسبب عدم كفاءة القلب القيام بمجهودين في وقت معاً يتحول جزء من المجهود الهضمي للمجهود الجديد فينشأ عن ذلك عثر في الهضم وإذا تكرر ذلك حصل تمدد في المعدة ولعلاج هذه الحال يجب الراحة التامة بعد الأكل مباشرةً مدة ثلاثة أشهر مع تنظيم مواعيد الأكل بدقة وكذلك مواعيد قضاء الحاجة.
وأما عن السؤال الثاني فسنفرد له مقالاً في العدد القادم لأن الكلام عن الإغماء قد يطول.
الدكتور محمد عبد الحي(30/22)
تفاريق
نباتي غريب ونبات أغرب
إذا فرضنا أننا نستطيع أن نزرع في حديقتنا شجرة من أشجار الفاكهة مختلفة الثمر متنوعته، حتى لنذهب فنقطف منها جميع أنواع الفاكهة والأزهار والخضروات التي نريدها لطعام الغذاء، ومائدة العشاء، فما أبهج ما يكون العيش. وما ألذ ما يكون الخوان.
ولعل الناس يظنون هذا الغرض وهماً مضحكاً، ومستحلاً من المستحيلات، وتخيلاً من تخيلات الجوع، ولكن الحقيقة هي أنه يوجد في مدينة بنسلفانيا من أعمال الولايات المتحدة رجل نباتي يسمى مستر والتر، يثبت لمن في المكان زرع هذه الشجرة، وقد عمد إلى إثبات ذلك بالدليل والبرهان فإن لديه الآن في حديقته، أو قل في بستانه العلمي، شجرة لا تقل في الغرابة عن هذه الشجرة الذهبية المتخيلة.
ولا يجب الذهاب لي أن هذا الرجل من المحتالين البلافين فإنه من العلماء المعروفين في الولايات المتحدة وقد وضع كثيراً من الكتب العلمية المختلفة،
وهو يشتغل أستاذاً بالفلسفة في جامعة هارفرد وقد قصر كل اهتمامه ووقف أبحاثة منذ سنين على الاشتغال بما يسميه الفلسفة النباتية ولديه في بستانه أغرب ما شوهد من التجاريب النباتية وهي دائماً في سبيل النجاح.
مثال ذلك أن لديه أكماماً من السوسن طعمت في شهر أكتوبر سنة 1915 بشجرة من الخوخ، فشوهدت حية يانعة مزهرة عليها في مايو سنة 1916 ويوجد فوق هذه الشجرة كذلك فروع من الورد كانت قد طعمت في ذلك التاريخ وعليها أيضاً أغصان من الدفلي والتوت ونوع آخر من الورد وهي ناضرة مثمرة ناحجة، ولشد ما تثور في صدر الإنسان البهجة والمسرة إذ تقع عينه على شجرة وهي تحمل جميع هذه الألوان، وهذه الطائفة المختلفة المتنوعة من الأزهار والأثمار.
وأكبر مقاصد المسترولتر أن يتوصل إلى زرع شجرة يسميها فواكه المائدة وتعريشة تجمع كل أزهار الدنيا، والذي يزور هذا البستان العلمي يعتقد بأن الرجل لن يخيب في مقصده.
الآلهة في الأسطحه
في إحدى قرى اليابان اعتاد جميع السكان أن يضعوا فوق أسطحه منازلهم للإله شوكي(30/23)
وهو في لباسه الحربي يحمل سيفاً في يده. يحرس أهل البيت. وليس هناك منزل يخلو سطحه من تمثال هذا الإله. وهم يعتقدون أنهم يظلون في مأمن من اللصوص والأمراض والأوبئة والنكبات، مادام هذا التمثال منصوباً على أسطحتهم. فماذا ترى يفعل لصوصهم؟(30/24)
ماجدولين الجديدة
يرى القراء في غلاف هذا العدد الصفحات الأولى من ماجدولين الجديدة وهي الرواية البديعة الرائعة الحوادث والأسلوب المغذي التي سننشرها تباعاً في البيان. وحسبنا أن نقول عن مجدولين الجديدة أنها إحدى بدائع الروائي الطائر الصيت ويلكي. كولنز صاحب رواية ذات الثوب الأبيض ولعل المطلعين على آداب الغرب يعرفون مقدار الجلال الفني الذي يبدو في جميع روايات كولنز وقصصه والروح الفلسفية الفياضة التي تتجلى في كل قطعة من أدبه، وإنه ليس من الروائيين العاديين الذين يقعون على التافه من الموضوعات فلا يزالون يدخلون به في شعاب متعرجة ودروب مترامية، ويزيدون في تعقيد الحوادث ومزجها حتى إذا بلغوا بها النهاية من التعقيد، عادوا يحلون عقدها، ويبسطون شعابها ثم لا يخرج القراء من ذلك إلا بلهو وقتي لا يبقى في الذاكرة منه شيء إذا انتهوا من تلاوة السطر الأخير منها، ولكن دأب كولنز أن لا يقتصر على الاحتفال بحوادث الرواية وإظهار كل قوى الفن الذي أوتيه في سبكها، وإنما يجتهد في أن يبث في روايته كل فكر جديد أو مغزى اجتماعي صالح، أو تحليل نفساني غريب. ولا نذكر أننا وجدنا من بين رواياته رواية خلت من هذه المزية الفريدة.
ومجدولين الجديدة هذه هي الرواية التي أراد بها أن يظهر قسوة المجتمع في معاملة المرأة البغي ومطاردتها واحتقارها وإن عمدت بعد إثمها إلى التوبة والتكفير عن ماضيها، والإحسان إلى الناس كل جهدها، إذ لا يزال ظل الماضي يجري في أثرها أين ذهبت.
وقد استعار لروايته اسم مجدولين من مريم المجدلية التي جاء ذكرها في الإنجيل، وكانت بغياً فجاء بها إلى عيسى يريدون أن يرجموها، فقال لهم السيد المسيح، من كان منكم بلا خطيئة فليأخذ حجراً وليرجمها فكف القوم عنها لواذا منهزمين.
ونحن نطلب إلى القراء أن يصبروا ويتمهلوا لهذه الرواية البديعة. حتى يستطرد الموضوع وتنبسط الحوادث في الأعداد القادمة إذ كان ما نشر منها في الغلاف لا يكاد يجاوز سطوراً معدودات.(30/25)
العدد 31 - بتاريخ: 5 - 2 - 1917(/)
باب الأخلاق والاجتماع
مختارات من آراء ليوباردى
لعل أندر الأمور في هذا العصر أن تجد رجلاً ظفر بمدح الناس، وشاع ثناؤه على أفواه الجماعة ولم يكن هو أول مادحيه، ولم يظهر الثناء أول مرة على شفتيه. ولقد اشتدت الأنانية بالناس. وطال التحاسد بينهم، حتى أنك إذا أردت أن تكسب لنفسك اسماً جميلاً، فلا يكفيك أن تقوم فقط بالأعمال الكبار، والمكرمات الجسام، ولكن ينبغي لك كذلك أن تمتدحها أنت وتغالي في الثناء عليها، أو أن تجد لك مطيباً أو بوقاً لا يسكت لحظة واحدة عن تفخيم أعمالك وتعظيمها والصراخ بها في أذان الجمهور، حتى يكرههم بالقحة والجرأة والمثابرة على ترديد جزء منها أو كلها، وأنت فلا يدور في خلدك أن إنساناً سيمدحك إذا أنت لم تستحثه على المديح، أو تغريه بالثناء، فإذا تركت ذلك، ألفيت أكثر الناس ينظرون إليك صامتين واجمين، بل قد يحاولون أن يمنعوا غيرهم من رؤية فضلك. إذن فمن أراد أن ينوه بنفسه أو يسمو باسمه، فلينفض عنه الحياء، وليمسك عن التواضع. فإن العالم أشبه في ذلك بالمرأة، لا تستطيع أن تظفر منها بشيء. لو جنحت إلى الحياء، والصمت والانزواء.
إن أنجع دواء تستشفي به من اغتياب الناس إياك واتهامك والرتع في لحمك، هو الزمن، فإذا عابك الناس بمبادئك، أو تقول في سلوكك، واتهموك التهمة النكراء، فإن خير سبيل لك أن لا تأبه بهم، وأن لا تحفل بسبابهم، وأن تسترسل فيما أنت فيه مسترسل، وتأخذ فيما أنت فيه آخذ، ولذلك لا تلبث حتى تجد الموضوع قد أصبح تافهاً قديماً، والمغتابين المتهمين قد كفوا عنك منطلقين إلى البحث عن فضيحة جديدة لغيرك، وأنت كل ما أظهرت الثبات والمثابرة والإصرار في متابعة سبيلك، غير آبه بالإشاعات. ولا مكترث بالأقاويل ولا تلبث أن ترى سلوكك الذي قد عابوه عليك وشؤونك التي عدوها نزقاً منك وطيشاً ونكراً قد عادوا ينظرون إليها نظراً آخر. ويعترفون بسدادها وحكمتها ووجوبها. وهكذا شأن الناس أن يعودوا آخر الأمر إلى آراء الذين يصرون على متابعة سبيلهم، وينحازون إلى مبادئ العنيدين منهم، ومن هنا ترى الضعفاء يعيشون كما يريد العالم، وأما الأقوياء فكما يريدون هم ويشاءون.
لا يخجل الناس من الأذى الذي يحدثونه أو يصيبون به غيرهم، وإنما أكبر خجلهم من(31/1)
الأذى الذي يصيبهم، فالسبيل الأقوى لإخجال المسيئين وفضح الأشرار. أن تكيل لهم بصاعهم.
إذا أردت أن تعلم مقدار الحب الذي وضعته الطبيعة في فؤاد الإنسان لأبناء جنسه، فعليك أن تنظر ماذا يفعل الحيوان أو الطفل الرضيع إذا لمح صورته في المرآة، إذ يظنه في الحال مخلوقاً مثله، ولهذا يجن جنونه، ويبلغ منه الغضب مبلغه، فيحاول جهده أن يؤذي هذا المخلوق الذي يطل عليه أو يقتله، أما الأطيار الأليفة الداجنة، على فرط رقة طبيعتها ونعومة أظافرها، فتلطم صفحة المرآة مغضبة، وتقذف بنفسها فوقها حانقة، ضاربة بأجنحتها، عارضة بمناقيرها، وأما القرد فيرمي بالمرآة إلى الأرض، ويحطمها تحطيماً، إذا مكنته الفرصة من ذلك.
إذا قدموك إلى إنسان للتعرف به، فدع المعرف - إذا أراد حقاً أن لا يسيء إليك - أن لا يذكر شيئاً عن أكبر فضائلك، وأخص مزاياك ومواهبك، بل حسبه أن يقتصر على العرضى من شؤونك، والدنيوي من صفاتك، فإذا كنت ذا جاه عريض في الأرض، فليقل ذلك ولا يزد، وإذا كنت غنياً. فعليه أن لا ينسى ذكر غناك، وإذا كنت عظامياً شريف الأعراق فليذكر عظاميتك، ولكن إياك أن تأذن له في الكلام عن عظمة روحك، ونبل وجدانك، وفضائلك، أو نبل أدبك أو رقة حاشيتك، اللهم إلا قليلاً، أو من باب الإضافة إلى صفاتك العرضية الأخرى، أما إذا كنت أديباً وكنت قد ظفرت بالشهرة والصيت البعيد، فلا تدعه يمدحك بروعة معانيك. وبلاغة أساليبك، واتساع معارفك، وعمق تفكيرك، وجلال نبوغك. بل حسبه أن يقول عنك مشهوراً لأن الكفاءة في هذا العالم للشهرة لا للفضل.
في كل بلد من بلاد الدنيا، وكل إقليم من أقاليم العالم، نرى الناس يعدون النقائص العامة والشرور الطبيعية التي تشترك فيها الإنسانية كلها، معائب خاصة مقصورة على بلدهم وحده، فما نزلت أرضاً إلا رأيت أهلها يقولون هنا النساء صلفات متقلبات، جاهلات، قليلات الأدب، والناس في بلدنا هذا فضوليون ثرثارون، مغتابون، نمامون. هنا السلطان للذهب، والنفوذ للوساطة، والقوة للدناءة واللؤم. هنا يسود الحقد، ويستبد الحسد، ولا تصفو الصداقة، ولا يخلص الود، وهلم جراً.
كأن الحال ليست كذلك في البلاد الأخرى، وهكذا ترى الناس فاسدين لؤماء، بالضرورة(31/2)
والحاجة والقصد، ويأبون إلا أن يعتقدوا أنهم فاسدون لئام. عرضاً وصدفة واتفاقاً. . .
مركز المرأة الإجتماعي
3
أتينا في المقالين السابقين على مجمل أحوال المرأة في مختلف الأمم والشعوب المتمدنة وغير المتمدنة توطئة لما سنتكتبه على المرأة المصرية ولفتاً للقارئ إلى بعض عاداتنا ومنزلة المرأة عندنا من الرقي والإنحطاط.
ولما كانت المدنية الإسلامية هي المدنية السائدة في بلادنا المصرية فلا يسعنا الكلام على مركز المرأة المصرية من غير أن نتكلم على حقوق المرأة في الإسلام.
انتشل الإسلام المرأة العربية من وهدة الإنحطاط التي كانت فيها ورفع عن كاهلها كثيراً من المظالم ورد إليها بعض حقوقها المسلوبة وصعد بها إلى مستوى الإنسانية وخولها حقوقاً لم تحصل عليها بعد المرأة الأوروبية. وكفاه مجداً وفخراً أن انقضى على العادة الوحشية عادت وأد البنات التي لا تزل الإنسانية تقشعر منها فزعاً وتذوب منها ألماً وكمداً كلما مر بخاطرها ذكراها. وقرع الناس أشد التقريع على حزنهم وانقباض نفوسهم حينما تولد لهم بنت.
ولم يهمل الدين الإسلامي شأن المرأة ولم يقض بفناء روحها بعد الممات بخلاف بعض الأديان الأخرى بل اعتبرها مثل الرجل وفرض عليها من الواجبات الدينية ما فرضه عليه وأعد لها في الآخرة من النعم والعذاب ما أعده للرجل.
وأوصى الإنسان خيراً بوالديه على السواء فلم يميز الأب عن الأم بل على العكس خصها بالنصيب الأوفر من الرعاية والإحترام وزاد من قدرها حتى جعل الجنة تحت أقدامها.
وسبقت الشريعة الإسلامية الشرائع الأخرى في منح الزوجة حق الإرث عن زوجها مع أنه إلى يومنا هذا لا تزال بعض القوانين الأوروبية تنكر على الزوجين حق التوارث بينهما ولم تحرم الشريعة الغراء البنت من أن ترث أبويها وأقاربها في العقار المنقول على حد سواء.
غير أن الشرع الإسلامي لم يسو بين المرأة والرجل في مقدار الإرث بل ميز الرجل وجعل نصيبه ضعف نصيب المرأة وقدم في الإرث الأقارب الذين ينتسبون إلى الميت(31/3)
برجل عن اللذين ينتسبون إليه بإمرأة.
ولكن من جهةٍ أخرى أنصفت الشريعة الإسلامية المرأة حيث قضت على الرجل أن ينفق على زوجته ولو كانت غنية وأن يقوم بأداء كل ما تحتاج إليه ولم تكلف المرأة بخدمة زوجها ولا بالقيام بأي عمل من الأعمال إلا إذا كان ذلك برضاها وعن طيب خاطرها.
وقد عمم الفقهاء قاعدة لإرث في كل شيء حتى في الدية والشهادة فقرروا أن دية المرأة نصف دية الرجل وإن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل بل ذهبوا في الشهادة إلى أبعد من هذا حيث قالوا إن شهادة المرأة وحدها غير كافية إلا فيما هو خاص بالنساء كالحيض وما أشبه وفيما عدا ذلك اشترطوا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين أي أن شهادة أربع نسوة غير كافية في نظرهم.
ولا ينعقد الزواج إلا بإيجاب وقبول من الزوجين غير أن للرجل دون المرأة أن يحل عقدة الزواج ويطلّق زوجته بغير رضاها.
والرجال قوامون على النساء. بيدهم الأمر والنهي وعليهن الطاعة والانقياد إلا فيما حرمه الله. فإن عصين فلهم حق تأديبهن ولو بالضرب ولكن الضرب البسيط الذي لا يترك أثراً على الجسم. وعلى النساء أن يلتزمن بيوتهن ولا يخرجن بغير إذن إلا إذا كان ذلك لزيارة آبائهن ومحارمهن بحيث لا تزيد الزيارة عن مرة واحدة في كل شهر بالنسبة للآباء وعن مرة في كل سنة بالنسبة للمحارم الآخر.
وهذه الرآسة قاصرة على الشؤون الزوجية. فلا سلطان للرجل على المرأة فيما هو خاص بإدارة ثروتها فلها أن تتصرف فيها حسب ما تريد من بيع وشراء ورهن وهبة من غير أن يكون لزوجها حق الاعتراض عليها ولها أن تعين وصية أو قيمة وتوكل غيرها وتتوكل عن غيرها وبالاختصار لها كل الحقوق المدنية التي للرجل بخلاف المرأة الأوربية التي لا تتمتع من الحقوق المدنية إلا بالنذر اليسير ما دامت متزوجة فهي في مرتبة القاصرة أو المحجور عليها لا يسوغ لها أن تتصرف في مالها بدون إجازة وليها وهو الزوج.
وسنرى في ما يلي أن الأمة المصرية وإن اتبعت الشريعة الغراء في كثير من هذه الأحكام إلا أنها ما زالت تغمط قدر المرأة وتعاملها في بعض الأمور معاملة سيئة لا تتفق مع ما اتصفت به من الوداعة واللطف وما لها من المجد المؤثل في المدينة.(31/4)
الدكتور عبده البرقوقي المحامي(31/5)
آراء في المرأة ومكانها من المجتمع
(1) رأي فردريك نيتشه
تريد المرأة أن تتحرر وتنطلق من سلطة الرجل، ولهذا تحاول أن تفهمنا نفسها على حقيقتها، وهذا لعمري أكبر وسيلة لتشويه أوروبا ومسخها، إذ ماذا أنت مستنتج من هذه المحاولات المنكرة السقيمة الشوهاء التي تريد المرأة بها أن تظهر لنا تفلسفها وتكشف لنا عن نفسها. إن المرأة يجب أن تخجل وتستشعر الخزي والفضيحة، لأن أكبر صفاتها الادعاء، والتظرف، والسطحية، والرياء، والخلاعة، والطيش الخفي، وهذه الصفات لم تستطع أن تكتمها أو تقهرها وتغالبها الأمن - خوفها من الرجل ولكن صيحاتها ولا ريب تبعث الآن على الخشية والخوف، إنها تريد أن تكون عالمة، ولكن العلم كان ولا يزال من شؤون الرجال وموهبة من مواهبه، ونحن يجب أن نشك في هذه الرغبة التي تنزع إليها المرأة، وهي أنها تريد التنوير والتهذيب والعلم، لأن المرأة إذا كانت تريد حلية جديدة لها، والحلي هي أبداً مطلب النساء - فلماذا إذن تريد أن تجعل نفسها مخوفة مرهوبة. ألعلها تريد أن تظفر بالسيادة. ولكنها لا تريد الحقيقة، بل إن الحقيقة هي أعدى أعداء المرأة وأشد الأمور إرعاباً لها - إذ كان أكبر فنونها الكذب. وأشد مزاياها التظاهر والجمال. ونحن الرجال يجب أن نعترف ونقر بأننا نحب هذا الفن منها، نعم ونعجب بهذه الغريزة فيها، نحن الذين علينا الكد والعمل والواجب الأشق نتطلب الرياضة والنزهة في رفقة مخلوقات، إزاء نظراتها وحماقاتها وخلاعاتها تبدوا رزانتنا ووقارنا وجدنا كأنها إحدى الحماقات، وأنا أسألكم أخيراً، هل رأيتم يوماً امرأة شهدت لامرأة أخرى بقوة الذهن ونيل الروح، أليس الواقع أن المرأة كانت ولا تزال تحتقر وتزدرى من المرأة نفسها، وليس منا نحن الرجال.
لقد كانت المرأة - ولا تزال - تعامل من الرجال كالأطيار، التي فقدت طريقها فهبطت إليهم من حالق، وكانوا يعدونها شيئاً ضعيفاً سهل الانكسار، غريباً، حلواً مخيفاً، منعشاً، ولكنه يجب مع ذلك أن يقص جناحاه، حتى لا يستطع الفرار.
إن من أكبر دلائل السخف وبساطة الذهن أن تجهل المكانة الطبيعية للرجل والمرأة وتتنامى العداء الشديد الطبيعي بينهما، وتتمنى أن تجد التساوي في الحقوق، والتساوي في التعليم، والمركز، والعمل، إن المفكر الذي يرى ذلك يعد سطحياً تافه الذهن، يجب أن يعد(31/6)