العسكرين هو أنهم علينا. قال: فافعل فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا وجمعنا أرجلنا على معارفها وجعلنا نأكل والناس قد غلبوا ضحكاً. فلما استوفينا ودعني فقلت له إن هذا الجاهل إن أقمت على طلب المبارزة ندبني لك فتتعب وتتعبني فإن رأين أن لا تبرز اليوم فافعل قال قد فعلت ثم انصرف وانصرفت فقلت لروح أما أنا فقد كفيتك قرني فقل لغيري يكفيك قرنه.
وخاصم رجل أبا دلامة في داره فارتفعا إلى (عافية) القاضي فقال أبو دلامة:
لقد خاصمتي دهاة الرجال ... وخاصمتهم سنة وافية
فما أدحض الله لي حجة ... ولا خيب الله لي قافية
ومن خفت من جوره في القضا ... فلست أخافك يا عافيه
فقال له عافية أما والله لأشكونك إلى أمير المؤمنين ولأعلمنه أنك هجوتني فقال إذن يعزلك قال ولم قال لأنك لا تعرف المديح من الهجاء. فبلغ المنصور ذلك فضحك وأمر لأبي دلامة بجائزة.
ودخل أبو دلامة على المهدي وسلمة الوصيف واقف فقال: إني قد أهديت إليك يا أمير المؤمنين مهراً ليس لأحد مثله فإن رأيت أن تشرفني بقبوله فمر بإدخاله فقال أدخله فخرج أبو دلامة وأدخل فرسه الذي كان تحته فإذا هو برذون محطم أعجف هرم فقال له المهدي أي شيء ويلك هذا ألم تزعم أنه مهر فقال له أو ليس هذا سلمة الوصيف بين يديك قائماً تسميه الوصيف وله ثمانون سنة وهو بعد عندك وصيف فهذا مهر فجعل سلمة يشتمه والمهدي يضحك. ثم قال لسلمة إن لهذا منه أخوات وإن أتى بمثلها في محفل يفضحك فقال أبو دلامة إي والله يا أمير المؤمنين لأفضحنه فليس في مواليك أحد إلا وقد وصلني غيره فإني ما شربت له الماء قط قال فقد حكمت عليه أن يشتري نفسه منك بألف درهم حتى يتخلص من يدك قال سلمة قد فعلت على أن لا يعاود قال أبو دلامة أفعل ولولا أني ما أخذت منه شيأ قط ما استعملت معه مثل هذا فمضى سلمة فحملها إليه.
ودخل أبو دلامة على المهدي وهو يبكي فقال له مالك قال ماتت أم دلامة وأنشد:
وكنا كزوج من قطافي مفازة ... لدى خفض عيش مونق ناضر رغد
فأفردني ريب الزمان بصرفه ... ولم أر شيأ قط أوحش من فرد(10/52)
فأمر له بثياب وطيب ودنانير وخرج. فدخلت أم أبي دلامة على الخيزران فأعلمتها أن أبا دلامة قد مات فأعطتها مثل ذلك وخرجت فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلينهما فجعلا يضحكان لذلك ويعجبان منه.
وخرج أبو دلامة مع المهدي في مصادٍ لهم فعن لهم ظبي فرماه المهدي فأصابه ورمى علي بن سليمان فأخطأ وأصاب الكلب فضحك المهدي وقال لأبي دلامة قل فقال:
قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده
فهنيأ لهما كل ... امريء يأكل زاده
وقيل لأشعب لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر لكان أولى بك قال قد فعلت قالوا له فما حفظت من الحديث قال حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان فيه خصلتان كتب عند الله خالصاً مخلصاً قالوا إن هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان قال نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى.
وضرب الحجاج أعرابياً سبعمائة صوت وهو يقول عند كل سوط شكراً لك يا رب فلقيه أشعب فقال أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة صوت قال ما أدري قال لكثرة شكرك لله تعالى حيث يقول لئن شكرتم لأزيدنكم فقال:
يا رب لا شكراً فلا تزدني ... باعد ثواب ا
فأمر له بثياب وطيب ودنانير وخرج. فدخلت أم أبي دلامة على الخيزران فأعلمتها أن أبا دلامة قد مات فأعطتها مثل ذلك وخرجت فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلينهما فجعلا يضحكان لذلك ويعجبان منه.
وخرج أبو دلامة مع المهدي في مصادٍ لهم فعن لهم ظبي فرماه المهدي فأصابه ورمى علي بن سليمان فأخطأ وأصاب الكلب فضحك المهدي وقال لأبي دلامة قل فقال:
قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده
فهنيأ لهما كل ... امريء يأكل زاده
وقيل لأشعب لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر لكان أولى بك قال قد فعلت قالوا له فما حفظت من الحديث قال حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان فيه خصلتان كتب عند الله خالصاً مخلصاً قالوا إن هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان قال نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى.
وضرب الحجاج أعرابياً سبعمائة صوت وهو يقول عند كل سوط شكراً لك يا رب فلقيه أشعب فقال أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة صوت قال ما أدري قال لكثرة شكرك لله تعالى حيث يقول لئن شكرتم لأزيدنكم فقال:
يا رب لا شكراً فلا تزدني ... باعد ثواب الشاكرين عني
ونظر أشعب إلى شيخ قبيح الوجه فقال ألم ينهكم سليمان بن داود عن أن تخرجوا بالنهار.
وكان ديوجانس الكلبي أحد فلاسفة اليونان صاحب نوادر فلسفية مستطرفة - قيل له يوماً أين تريد أن ندفنك إذا أنت مت قال اطرحوني في الفلاة قالوا ألا تخشى أن تكون طعاماً للسباع قال ضعوا عندي عصا لأطردها إذا هي جاءت قالوا وكيف تقدر على ذلك وأنت ميت قال فإذن كيف أخشى أن تأكلني وأنا لا أشعر.
واجتمع عليه جماعة وهو يأكل وصاروا يقولون هذا ديوجانس الكلب فقال بل أنتم الكلاب لأنكم اجتمعتم على من يأكل.
وعوتب على الأكل في الطرق والشوارع فقال كما يدركني الجوع في البيت يدركني في السوق فحيثما أدركني أكلت.(10/53)
ورأى رجلاً مسرفاً فقال له أعطني ديناراً فقال الرجل لم تطلب من غيري درهما ومني ديناراً قال لأني آمل من غيرك أن آخذ مرة أخرى وأما أنت فأخاف أن لا يبقى عندك حتى تعطيني.
ودخل الحمام يوماً فرأى الماء قذراً فقال الذي يغتسل هنا أين يطهر بدنه - ومر به الإسكندر المقدوني وهو جالس في الشمس قرب برميله فقال له أنا الإسكندر فقال هو وأنا الكلب ديوجانس قال أماتها بني قال انت صالح أو شرير قال صالح قال أو أهاب الصالح فعجب الإسكندر منه ثم قال له سلني حاجتك قال تحول من هذه الجهة فقد حلت بيني وبين الشمس فزاد تعجب الإسكندر ثم قال ديوجانس أبنا أغنى أصاحب العباءة والخرج أو الذي لم يقنع بعظم سلطانه وسعة مملكته بل اقتحم الأخطار لزيادة حدودها. واستقل الليل والنهار في إصلاح شؤنها فتعجب خواص الإسكندر من احترامه لهذا الرجل الحقير مع قحته وجرأته عليه وشعر الإسكندر بذلك فالتفت إليهم وقال لو لم أكن الإسكندر لاشتهيت أن أكون ديوجانس.
حديث المجرد - حدث إسحاق بن ابراهيم الموصلي قال: قال لي وهب الشاعر والله لأحدثنك حديثاً ما سمعه مني أحد قط قال وهو بأمانة أن يسمعه احد منك ما دمت حياً قلت (أنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها) قال يا أبا محمد إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه قلت كم هذا التعقيد بالأمانة آخده على ما أحببت قال بينا أنا بسوق الليل بمكة بعد أيام الموسم إذ أنا بامرأة من نساء مكة معها صبي يبكي وهي تسكته فيأبى أن يسكت فسفرت فأخرجت من فيها كسرة درهم فدفعتها إلى الصبي فسكت فإذا وجه رقيق كأنه كوكب دري وإذا شكل رطب ولسان فصيح فلما رأتني أحدّ النظر إليها قالت اتبعني فقلت إن شريطتي الحلال قالت ارجع في. . . أمك ومن يريدك على حرام فخجلت وغلبتني نفسي على رأيي فتبعتها فدخلت زقاق العطارين فصعدت درجة وقالت اصعد فصعدت فقالت أنا مشغولة وزوجي رجل من بني مخزوم وأنا امرأة من زهرة ولكن عندي. . . ضمن عليه وجه أحسن من العافية في مثل خلق ابن سريج وترنم معبد وتيه ابن عائشة أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأشقر سليم قلت بدينار واحد يومك وليلتك فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة وتزويجاً صحيحاً قلت فذلك لك إذا جمع لي ما ذكرت قال(10/54)
فصفقت بيدها إلى جاريتها فاستجابت لها قالت قولي لفلانة البسي عليك ثيابك وعجلي وبالله لا تمسي غمراً ولا طيباً فحسبك بدلالك وعطرك قال فإذا جارية أقبلت ما أحسب أن الشمس وقعت عليها كأنها دمية فسلمت وقعدت كالخجلة فقالت لها الأولى إن هذا الذي ذكرته لك وهو في هذه الهيئة التي ترين قالت حياه الله وقرب داره قالت وقد بذل لك من الصداق دينار قالت أي أم أخبرتيه شريطتي قالت لا والله يا بنية لقد نسيتها ثم نظرت إليّ فغمزتني وقالت أتدري ما شريطتها قلت لا قالت أقول لك بحضورها ما أخالها تكرهه. هي والله أفتك من عمرو بن معد يكرب وأشجع من ربيعة بن مكدوم ولست بواصل إليها حتى تسكر ويغلب على عقلها فإذا بلغت ذلك الحال ففيها مطمع قلت ما أهون هذا وأسهله قالت الجارية وتركت شيئاً آخر قالت نعم والله أعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها وتراك مجرداً مقبلاً ومدبراً قلت هذا أيضاً أفعله قالت هلم دينارك فأخرجت ديناراً فنبذته إليها فصفقت صفقة أخرى فأجابتها امرأة قالت قولي لأبي الحسن وأبي الحسين هلما الساعة فقلت في نفسي أبو الحسن وأبو الحسين هو علي بن أبي طالب قال فإذا شيخان خاضبان نبيلان قد أقبلا فصعدا فقصت المرأة عليهما القصة فخطب أحدهما وأجاب الآخر وأقررت بالتزويج وأقرت المرأة فدعوا بالبركة ثم نهضا فاستحييت أن أحمل المرأة شيئاً من المؤنة فأخرجت ديناراً آخر فدفعته إليها وقلت اجعلي هذا لطيبك قالت يا أخي لست ممن يمس طيباً لرجل إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت قلت فاجعلي هذا لغذائنا اليوم قالت أما هذا فنعم فنهضت الجارية وأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه ثم عادت وتغدينا وجاءت بداوة وقضيب وقعدت تجاهي ودعت بنبيذ فأعدته واندفعت تغني بصوت لم أسمع مثله قط فإني ألفت القينات نحواً من ثلاثين سنة ما سمعت مثل ترنمها قط فكدت أجن سروراً وطرباً فجعلت أربع أن تدنو مني فتأبى إلى أن غنت بشعر لم أعرفه وهو:
راحوا يصيدون الظباء وإنني ... لأرى تصيدها عليّ حراما
أعزز علي بأن أروّع شبهها ... أو أن تذوق على يديّ حماما
فقلت جعلت فداك من يغني هذا قالت اشترك فيه جماعة هو لمعبد وتغني به ابن شريح وابن عائشة فلما نعى إلينا النهار وجاءت المغرب تغنت بصوت لم أفهمه للشقاء الذي كتب علي فقالت:(10/55)
كأني بالمجرد قد علته ... نعال القوم أو خشب السواري
قلت جعلت فداك ما أفهم هذا البيت ولا أحسبه مما يتغنى به قالت أنا أول من تغنى به قلت فإنما هو بيت عابر لا صاحب له قالت معه آخر ليس هذا وقته هو آخر ما أتغنى به قال وجعلت لا أنازعها في شيء إجلالاً لها فلما أمسينا وصلينا المغرب وجاءت العشاء الأخيرة وضعت القضيب فقمت فصليت العشاء وما أدري كم صليت عجلة وشوقاً فلما صليت قلت تأذنين جعلت فداك في الدنو منك قالت تجرد وأشارت إلى ثيابها كأنها تريد أن تتجرد فكدت أن أشق ثيابي عجلة للخروج منها فتجردت وقمت بين يديها قالت امض إلى زاوية البيت وأقبل وأدبر حتى أراك مقبلاً ومدبراً قال وإذا حصير في الغرفة على الطريق إلى زاوية البيت فخطوت عليه وإذا تحته خرق إلى السوق فإذا أنا في السوق مجرداً وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا نعالهما على قفاي واستعانا بأهل السوق فضربت والله يا أبا محمد حتى نسيت اسمي فبينا أنا أضرب بنعال مخصوفة وأيد مشدودة فإذا بصوت يغني به من فوق البيت وهو:
ولو علم المجرد ما أردنا ... لحاربنا المجرد بالصحاري
فقلت في نفسي هذا والله وقت هذا البيت فنجوت إلى رحلي وما فيّ عظم صحيح فسألت عنها فقيل لي امرأة من آل أبي لهب فقلت لعنها الله ولعن الذي هي منه.(10/56)
حديث البيان مع قرائه الأفاضل
يرى قراؤنا أيدهم الله بعد تصفحهم هذين العددين من البيان أنا لا نألو جهداً ولا نذخر وسعاً في تجويد البيان وإتقانه. واختيار موضوعاته وتقديم ما كان أجدى على القارئين وأرد وأجم للنفس وألذ مع حسن الطبع وجودة الورق وما إليهما وزيادة صفحات البيان في كثير من أعداده عن القدر المفروض له إذا استدعي الأمر ذلك في رأينا فإن القارئ يرى أن العدد الأول لهذه السنة قد بلغ نيفاً ومائة صفحة مع أن المقدر للعدد الواحد ثمانون صفحة ويرى هذين العددين وقد وقعا في 192 صفحة مع أن المفروض لهما كان 160 صفحة وسبب ذلك هو ما أجمع عليه رأينا في روايات البيان أن تكون الرواية في العدد الواحد تامة أي تبتدي وتنتهي فيه مع الحرص على أن لا يؤثر ذلك على أبواب البيان الأخرى التي لها المحل الأول عندنا فيضطرنا ذلك إلى زيادة صفحات البيان مهما جلب علينا ذلك من النفقات - ومن هنا نشرنا في هذين العددين رواية نشيد الميلاد للكاتب القصصي الإنكليزي شارلز دكنز صاحب قصة المدينتين التي ترجمها الكاتب محمد السباعي لمكتبة البيان كما ترجم شقيقتها الصغيرة نشيد الميلاد لمجلة البيان - أما نشيد الميلاد هذه فلسنا بحاجة إلى تقريظها والقارئ الكريم على مرأى منها ومسمع - ولقد اضطرنا فضل هذه الرواية ومكانها من اللذة والفائدة أن ننشرها كلها على طولها في هذين العددين بل نقول إن حرصنا على تقديمها كلها للقارئ مرة واحدة كان السبب في نشر العدد الثاني والثالث معاً على الرغم من منافاة ذلك لخطتنا التي رسمناها للبيان في هذا العام - وأنا ننشر عدد كل شهر في إبانه. ولا نضمه إلى آخر من إخوانه. . .
وبعد فقد يهجس بنفس بعقرأة البيان ما يأتي - وهو كيف يعنى البيان هذه العناية بالروايات على قلة جدواها وعلى أن هناك من الموضوعات الأدبية ما هو أجل وأفخم وأعود على القارئ وأنفع وبالجملة ما هو أولى بعناية البيان الذي رصد نفسه للأدب العربي وترقيته - فدفعاً لهذا الهاجس نقول - لو علم صاحب هذا الهاجس أن الروايات الأدبية - الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية والشعرية - كالروايات التي ينشرها البيان هي آخر ما وصل إليه الأدب عند الغربيين وبعبارة أخرى هي الحلقة الأخيرة التي ارتقت إليها آدابهم حتى أن الأديب منهم لا يكون روائياً بالفعل أو بالقوة لا يؤبه به ولا يحفل أو بالحري لا يعد أديباً - ولو علم كذلك أن مثل هذه الروايات إنما وضعها واضعوها لغرض هو أنبل وأسمى مما(10/57)
يظن بالروايات فهم إنما يقصدون برواياتهم إلى بث فكرة صالحة في الأخلاق أو الاجتماع أو التاريخ أو ما إلى ذلك مما كان من حقه أن تنشأ له المقالات الحافلة أو الأسفار العريضة الطويلة ولكنهم آثروا هذا النوع من القول لما يمتاز به من معاني التشويق والاستهواء حتى يكون ذلك أدعى إلى استكمان ما يقصدون إليه من نفوس القارئين - ولو علم أن أفضل خدمة تقدم إلى هذه اللغة وتزكيها وتنمي ثروتها. وتضاعف بركتها. هو نقل ما تعده الأمم الراقية أنفس آدابها. وأطيب ثمرات ألبابها. نقول لو علم صاحب هذا الهاجس ذلك كله لما لامنا على عناية البيان بمثل هذه الروايات بل ولاستحال لومه تحبيذاً. ونقده مدحاً وتقريضاً.
هذا ولقد أخذ علينا نفر من القراء أنا صرفنا وجهتنا في البيان إلى الموضوعات الأدبية وأنا لا نعنى ولو بعض العناية بالمباحث العلمية البحتة حتى يكون البيان لكل قارئ ومغنياً بما يحتويه عما عداه وهذا الرأي فيما نرى حق ووجيه وقد صادف منا موقعاً حسناً ولذلك شرعنا في هذين العددين بترجمة كتاب اسمه جمال الطبيعة للكاتب الإنكليزي اللورد فبري بقلم محمد السباعي بعد أن علمنا أنه من الكتب العلمية الشائقة كما يظهر ذلك من مقدمة الكتاب التي نشرناها في هذين العددين ومن سائر أبوابه التي هذا بيانها: - حياة الحيوان - حياة النباتات - الغابات والحقول - الجبال - المياه - الأنهار - البحيرات - البحر - النجوم والسيارات - وكل باب من هذه الأبواب ينطوي على أبحاث ضافية.
وقد رأينا من تمام الفائدة أن ننشر هذا الكتاب بأرقام منفصلة عن أرقام البيان حتى إذا تم كذلك بمعونة الله أمكن القراء أن يفصلوه عن البيان ويجعلوه في جلد وحده - وليس الأمر قاصراً على هذا الكتاب بل قد عزمنا على نشر كتاب آخر من العدد الرابع اسمه النزاع بين العلم والدين وهو من الكتب الجليلة الممتعة وسيكون له شأن بين الناطقين بالضاد وليس ذلك فقط بل قد أحضرنا كثيراً من الكتب والمجلات العلمية الجليلة حتى نقل منها من الفصول والمباحث ما يقع عليه اختيارنا ونراه أعود على عشاق العلم الحقيقيين.
وكذلك سنفي بما وعدنا من باب أخبار العلوم والفنون والمخترعات الحديثة وتقويم العالم والحوادث التي تتجدد من حين إلى آخر في سائر الممالك والأقطار وموعدنا العدد القادم إن شاء الله.(10/58)
وقبل أن نختتم هذا الحديث يجمل بنا أن نبين ما قد يستبهم على بعض القراء من مغزى كلمة (أدب) وما يقصد إليه البيان من نعته نفسه بأنه (مجلة أدبية) وأنه يعنى بالموضوعات الأدبية قبل كل شيء وذلك أن بعض الناس قد يظن أن الأدب هو الكلام البليغ من المنظوم والمنثور ليس غير وليس الأمر كذلك فإنا نعني بالأدب في قولنا (البيان مجلة أدبية) ما يعنيه الغربيون بقولهم (لتراتور) أي العلوم والفنون التي تخاطب القلوب وتناغي الوجدان وتبث روح الفضيلة بين أجزاء النفس وترقى بالإنسان إلى أوج الكمال مثل (الشعر المنظوم منه والمنثور) والتاريخ (الأدبي والديني والسياسي) والأخلاق والاجتماع والتربية وما إلى ذلك من سائر العلوم التي تبين بمقابلتها بالعلوم المادية المحضة كالزراعة والطب والطبيعيات وما يداخل ذلك - هذا هو ما نعنيه بقولنا (أدب) والبيان مجلة أدبية وما نصرف إليه همنا أكثر من غيره في هذه الصحيفة يبد أن ذلك لا يحول بيننا وبين التعرض للمباحث العلمية البحتة التي نراها قد تفيد قراء البيان كما أسلفنا والله وحده هو المعين والموفق والهادي إلى سواء السبيل.(10/59)
مطبوعات جديدة تطلب من مكتبة البيان
1 - في التربية والتعليم. مجموعة مقالات مفيدة كان قد نشرها الفاضل محمد أفندي أمين في الجريدة الغراء وقد أظهرها مجموعة في جلد واحد مصدرة بمقدمة للأستاذ أحمد بك لطفي السيد مدير الجريدة - وثمنها خمسة غروش وتطلب من مكتبة البيان.
2 - أمثال الشرق والغرب - مجموعة أمثال مأثورة عن مشاهير فلاسفة العرب واليونان والرومان والألمان والإنكليز والفرنسيس والروس والطليان جمعها الفاضل المجتهد يوسف أفندي توما البستاني - ثمنها ثلاثة غروش وتطلب من مكتبة البيان.
3 - كتاب مسك الدفاتر للزارع والتاجر - تأليف سعادة محمود خاطر بك سكرتير ناظر المالية المصرية وقد أقرته نظارته المعارف العمومية ليدرس في مدارس التجارة وثمنه سبعة غروش ويباع في مكتبة البيان.
4 - شرح وظيفة سيدي أحمد زروق المسمى بالفوائد اللطيفة في شرح ألفاظ الوظيفة تأليف سيدي الشيخ أحمد السجاعي وقد التزم طبعه حضرة الفاضل الشيخ أحمد عبد الرحمن الساعاتي - وثمنه خمسة وعشرون مليماً ويطلب من مكتبة البيان.
5 - التصوير الشمسي والزنكوغراف - أوفى كتاب ظهر حديثاً في فن التصوير مزين بثلاثين رسماًو نحن نعد ظهوره دليل تقدم المصري في فهم أهمية الفنون الجميلة ومؤلفه حضرة شكاري أفندي صادق جنير بشكر المصريين جميعاً وثمن الكتاب عشرة غروش ويطلب من مكتبة البيان.
6 - مرآة التاريخ لحضرة الأستاذ الشيخ محمد أحمد حبيب من خريجي مدرسة المعلمين الناصرية ومدرس بالمدرسة الإلهامية وهو يحتوي مقرر السنة الأولى من المدارس الثانوية ويقول الذين طالعوه أنه أوثق كتاب في نوعه جدير بتعويل الطلبة عليه وثمنه ستة غروش ويطلب من مكتبة البيان.
7 - حضارة القيروان وتاريخ الشاعر ابن رشيق بقلم الأستاذ حسن حسني أفندي عبد الوهاب مدرس التاريخ بالكلية الخلدونية بتونس وهو يشتمل خلاصة التمدين الإسلامي بإفريقية وما وصلت إليه القيروان من الحضارة العربية في أوج رقيها وفي آخره ترجمة ابن رشيق شاعر القطر التونسي وأديبها الفذ.
8 - الاكتشافات الجغرافية - أوفى كتاب علمي حديث في هذا الفن وهو أول كتاب في(10/60)
اللغة العربية لمؤلفه الفاضل محمد أفندي حمدي على مدرس علم الجغرافية في مدارس الحكومة ويحتوي على جميع الاكتشافات التي حصلت من ابتداء القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر وقد أقبل عليه الطلاب لسهولته وفائدته وثمنه ستة غروش ويطلب من مكتبة البيان.
9 - ورده رواية جميلة تمثل أخلاق وعادات المصريين في عهد رعمسيس الثاني وترسم للقارئ نظام حكومتهم وما وصلوا إليه من التقدم في العلوم والمعارف - أبرزها من الآثار القديمة وأوراق البردي الدكتور جورج إيبرس الألماني ونقلها إلى العربية الكاتب المشهور محمد أفندي مسعود أحد كبار الصحفيين في مصر والمحرر الفني بنظارة الداخلية وهي واقعة في جزئين تبلغ صفحاتهما نحواً من 830 صفحة وثمنها عشرة قروش عدا أجرة البريد وهي ثلاثة قروش.
أغلاط مطبعية
وقع للأسف في هذين العددين من البيان أغلاط مطبعية في مواطن عدة وكان سبب ذلك أن وكلنا تصحيح البيان هذه المرة إلى أحد المصححين لتزاحم الأشغال علينا فحصل ما حصل - فنطلب إلى قرائنا - قبل أن يقرأوا حرفاً واحداً - أن يصححوا هذه الأغلاط حسبما يأتي:
صفحةسطرخطأصوابالموضوع الذي فيه الغلط5413ويعد أن فرغوبعد أن فرغحضارة العرب في الأندلس6010أن لا يرجعواأن لا يرجوامستقبل الدولة العثمانية. . 13نظارأنظار==. . 14لقدونيةمقدونية== 7110يامنهيامنّةوصف الناقة7202ذونهادونها== 10912الغدرةالقدرةليالي الشباب11201قائمقائماً==. . . 14صامتصامتة== 11106القضاءالمضاء== 11214ودارسوداس== 11702المستظرفةالمستطرفةنوادر وملح. . . 06وقد كان متعطفاًوقد كان منقطعاً== 12002حيليهماحيلتيهما== 12002يضكانيضحكان==. . . 03مصادّمصادٍ== 12212من زهرمن زهرة==. . . 14قلت بدينارقلت وما أشقر سليم قالت بدينار== 12303ربيعة بن مكرمربيعة بن مكدم== 12406جلالا لهاإجلالاً لها== 00507يهدها الود تهدهيهديها الود تهديهجمال الطبيعة00605مرجع الأسمرجع الأمس== 01012بقامرةبقاصرة==(10/61)
1221سخينةسخنة== 1416مرّامرّ== 1712زمرا أحدنازمراً وأحدانا==. . . . في سجوَّهفي سجوّه== 1914عماقأعماق== 2002كالسجنلكالسجنجل== 0220الزيدالزند== 0304تخاولتحاول== 086و7مطقاً إنما أريدمطلقاً - أتريد أن تكتم اسمك إنما أريد==. . 24ببرحببرج== 1924مازيارمازيارتي== 2216يحسنيحسنشيد الميلاد2411وإنما هو كاتموإذا هو كأتم== 269و10خافت ثم طلبخافت أنه ورم خفيف ثم طلب== 2710دجاحدجاج== 3701زوزتزوت== 4617بشيربنثير== 4814لثمهاللثمها== ولعل هناك هنات أخرى اقتحمتها العين وقد يفطن إليها القارئ الكريم.(10/62)
مطبوعات البيان
عربت مكتبة البيان إلى الآن الكتب الآتية:
1 - الأبطال للفيلسوف الكبير توماس كارليل تعريب محمد السباعي وهو يتناول مقالات عدة في صفات البطل كإله ونبي وشاعر وقسيس وكاتب وملك وبحسبه مقالته عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وكل من طالع هذا الكتاب شغف به لبلاغته وقوة حجة المؤلف وقد تناقلت الصحف أغلب موضوعاته سواء في الهند وسوريا ومصر وثمنه عشرة غروش وكل من يأخذ منه عدداً كبيراً يخصم له خصم موافق.
2 - بلاغة الإنكليز - لطائفة من أكبر كتاب الإنكليز كباكون وأديسون وستيل وديفد ولي هنت وهزلت وجونسون وجولد سمث معربة بقلم محمد السباعي وقد نفدت أغلب أجزائه الأولى وهو ثلاثة أجزاء وثمنه عشرة غروش.
3 - الحكمة المشرقية - يحتوي على ثلاثة كتب جليلة حكم فتاحوتب وجولستان أو روضة الورد للشاعر الفارسي سعدي الشيرازي وتربية المرأة في اليابان ترجمة الكاتب محمد لطفي جمعة وثمنه خمسة غروش.
4 - خلاصة اليومية مجموعة خطرات في الأدب والتاريخ والأخلاق والفلسفة للكاتب عباس محمود العقاد وثمنها ثلاثة غروش صاغ.
5 - حديث القمر للشاعر الكاتب مصطفى صادق الرافعي وهو قصيدة نثرية آية في الإبداع وثمنه خمسة غروش.
6 - قصة المدينتين - وهي أفضل رواية للكاتب الإنكليزي القصصي الأشهر شارلز دكنز تمثل عصر الثورة الفرنسية في فرنسا وإنكلترا بأسلوب لذرائع كل ذلك في قالب عربي ساحر بقلم السباعي وقد أقرتها نظارة المعارف العمومية المصرية لتدرس في المدارس الثانوية وهي في ثلاثة أجزاء ظهر منها جزآن ونصف الثالث وباب الاشتراك مفتوح فيها إلى 20 فبراير سنة 1913 وقيمة الاشتراك خمسة عشر قرشاً أما بعد هذا التاريخ فيكون خمسة وعشرين غرشاً وهي تقع في سبعمائة صفحة.
7 - نشيد الميلاد - الرواية الثانية لشارلز دكنز نشرت في مجلة البيان ونشرناها على حدة وقد أعجب بها قراؤها كل الإعجاب وطلبوا إلينا أن نعرب كل روايات دكنز إذا كانت من طراز هذه الرواية ويقول الكثيرون أنها أفضل من عشرين كتاباً في الأخلاق وثمنها ستة(10/63)
غروش صاغ.
8 - روايات البيان - الحلقة الأولى. مجموعة روايات نشرت في مجلة البيان وأعيد طبعها إجابة لطلب القراء الكثيرين في أمريكا والغرب وسوريا وثمنها ستة غروش.
9 - ليالي الشباب للشاعر عبد الحليم حلمي المصري وهو تحت الطبع الآن ويطلب الاشتراك فيه من مكتبة البيان وثمنه خمسة غروش ويكفي أن يطلع القارئ على ما نشر منه في هذا العدد عنواناً على الكتاب.
10 - جمال الطبيعة - لفيلسوف الإنكليز العصري اللورد أفبري وهو أحسن أسلوب علمي في قالب أدبي بليغ يتناول أبحاثاً شتى في الفلسفة الطبيعية - قيمة الاشتراك فيه ثمانية غروش.(10/64)
روايات البيان
الرواية الأولى
النبأ العجيب
في اليوم الرابع من شهر مارس عام 1867 وكنت إذ ذاك في الخامسة والعشرين كتبت في مذكرتي هذه الكلمة - وهي نتيجة اضطراب نفساني وحرب ذهنية:
يسير النظام الشمسي وسط عدة من أشباهه وأمثاله في هدوء وسكينة في رحب الفضاء وليس في أجرامه العظام ما هو دائب الدوران في خفوت وصمت فمن بين أضأل هذه الجسوم وأحقرها ذلك المزيج المركب من يابس وماء المسمى الأرض تلك التي ما زالت تجري ولم أكن ولن تزال وقد فنيت - سر دائم لا نعلم من أين جاء ولا أيان يذهب يدب على جلدتها جم عديد من ذرّ دقيق أحدها أنا - جون ميفيتي العاجز الضعيف أركب منها ظهر جماحة هوجاء. هيامة في الفضاء. لا نؤم قصداً ولا تضرب إلى غاية. غير أن نظام الأحوال مع ذلك يقتضي أن كل ما أملك من عقل ضعيف. وعلم نزر لطيف. يصرف في استجلاب أقراص من المعدن أشتري بها من المواد ما أشيد به من أركان جسدي ما لا تزال تهدمه الدهور. وأدعم بها فوق رأسي سقفاً يقيني القر والحرور. لذلك أصبحت وليس لي من عقلي فضلة أنفقها على جلائل ما يحفني من المسائل والأمور.
تلك الكلمات كتبتها في مذكرتي فكانت أنمّ شيء على ما رسخ في نفسي من الأفكار التي أبت طارئات الوجدان وسانحات الخاطر أن تؤثر فيها تأثيراً ما وأخيراً قبض الله عمي ميفيلي صاحب ضيعة جلنسارن وكان قد وزع تراثه على أقارب كثر فأصبت ما فيه فضل عن الكفاف وزيادة على الحاجة. وأصبت كذلك أرضاً يباباً جرداء على ساحل البحر شماليّ اسكوتلاندة. أحسب أن الشيخ ما أورثنيها إلا عن احتقار لي وانتقاص مني وكيف ولم تك رملة ملساء. لا شجر ولا ماء. فلعلها كانت من الشيخ مزحة ولكنها مزحة لا تورث السرور وكان رحمه الله كريه المزاح ذميم الدعابة. وكنت حتى ذاك الوقت أكتسب بالمحاماة ببلدة بأوسط أقاليم إنكلترا فرأيت أني قد صرت بحيث يمكنني الانصراف عن كل مقصد حقير إلى التماس أسرار الكائنات من ثنايا العلوم العالية. وأسرع بي إلى ترك تلك البقعة أني كدت أقتل رجلاً في عراك قام بيني وبينه فإني امرؤ ناريّ المزاج جدير أن أنسى إذا(10/65)
ملكني الغضب ما أوتيت من فرط الأيد والبطش ولم ترفع فيّ إلى القانون شكوى بذلك ولكن الصحافة أغرت بي نباحها. وواصلت صياحها. وجعلت لا أمر بأحد إلا رمقني شزراً. فلعنت البلد وأهلها وشخصت إلى ضيعتي الشمالية أبغي بها دعة وسلاماً وفراغاً أملؤه بالدرس والتأمل. وقد حملت معي إلى ذلك المثوى الجديد نخبة من أحدث الآلات والكتب العلمية إلى ما أحتاجه غير ذلك من المواد الكيماوية.
وكانت تلك الأرض التي نزلت مستدقاً طويلاً من الرمل تمتد مع شاطئ خليج مانسي ميلين في مقاطعة كانثيس وكان بهذه الرملة بناء قديم أغبر فأصلحته وجعلت إحدى غرفه معملاً وأخرى مجلساً وثالثة مرقداً وكان به ثلاث غرف غير هذه تركتها خاوية إلا واحدة أعطيتها للعجوز التي تخدمني ولم يكن لي جيران سوى أسرتين من صادة السمك. وكان أمام الدار الخليج ووراءها تلان دونهما تلال أشمّ وأسمى. وبين التلين شعب إذا جاءت الريح من قبل التلال عصفت فيه فكان لها بين حضنيه زفيف ورنة ثم هبت على ما دون نافذتي من الدوح فتناجت الأغصان وسواساً وهمساً.
وليعلم القارئ بعد أني رجل أسيء بالناس ظناً. وأضمر لهم ضغناً. مطوي الجوانح لهم على بغضاء. مثني الأضالع على شحناء. والحق أقول أن عندهم لي مثل ما عندي لهم يجزونني بالحقد حقداً. وبالصد صداً. فأنا أمقت منهم التدني والتحاقر. والتسفل والتصاغر. والاصطلاحات الكاذبة والاعتبارات الباطلة ويسوءهم مني صراحتي المتناهية وانتهاكي حرمة قوانينهم الاجتماعية وجزعي من كل ما فيه تضييق على النفس وحبس لعنان الشهوة واستباحتي كل حريم في اعتبارهم واستحلالي كل محظور وانتزاعي كل طوق وصدعي كل قيد وخروجي من كل أمر ونهي. وكذلك أصبحت في معتكفي هذا بين أسفاري وأخلاطي مليئاً أن أدع تيار الحياة الزاخر يمر بي جياشاً بما بحت لجه من سياسة واختراع وقيل وقال راكداً دونه بمثواي ذاك آجناً آسناً. ولكني سعيد بين ذلك رخيّ البالي. بل مالي أقول أني كنت آجناص آسناً وما آليت تحثاً وفحصاً وتحصيلاً وطلباً أديم الجد وأدمن الكد.
وكنت أنضو سحابة اليوم في تجاريبي العلمية ويا طالما كنت أٍسهو عن الغداء فإذا دعتني العجوز مادج للشاي ألفيت الطعام على المائدة برمته. وكنت أقرأ بالليل فلسفة باكون ودسكاتيز وشينوزا وكانت وسائر من تطلع في عوالم المجهول. ولقد وجدت أقوالهم جميعاً(10/66)
مجدبة عقيمة لا ثمرة لها ولا جني. ولا طائل تحتها ولا جدى. وجل بضاعتهم ألفاظ ضخمة وكلم طويلة يذكرك أحدهم طالب الهب يجس في سبيله كبد الأرض ويفضي إلى أعماق ضميرها ابتغاء الجوهر النفيس فلا يخرج إلا دوداً يغرّ به فيقول للناس هاكم ذهباً!
وكنت أثناء ذلك يعروني الضيق فأضرب في الفضاء أربعين ميلاً لا أنال أثناءها راحة ولا طعاماً. فإذا كنت فيبعض هذه الروحات أعسف السبل أشعث أغبر هزيلاً غير محلوق اللحية مشوّش الذوائب جرت الأمهات إلى سراة الطريق فاختطفن الصبية خشية مني عليهم وخرج الفلاحون طوائف يرمقونني عجباً وكنت معروفاً في طول تلك البقاع وعرضها بالسيد المجنون صاحب مانسي غير أني قلما كنت أجول تلك الجولات في نواحي الأرياف إنما كانت رياضتي على ساحلي أنعش النفس بالتبغ الأسود وأرشح بيني وبين المحيط أسباب الصلة والألفة.
وأي خلّ آنس من البحر الأفيح الخفّاق؟ أي حالة من أحوال النفس لا يوجد لها في طبيعة البحر شكل وشبيه؟ فما من أحد قد رنّح المراح عطفيه. وأوقد السرور عينيه. إلا سامع في زجل موجه المصطفق. وناظر في لمع آذيّه المؤتلق. ما يزيد سروره. ويرفد حبوره. حتى إذا أربد لجه. وأغبر ثبجه واكفهرت حواشيه واقشعرت نواحيه. وانتطحت أوعاله احتراباً. وتزآءرت آساده غضاباً. فناحت فوقها رياح عواصف. وزمجرت لها رعود قواصف. حينئذ يرى المحنق المغتاظ نهب أحزانه وأشجانه. وفريسة أحقاده وأضغانه. الذي أكلت قلبه الإحن. وصهرت كبده المحن. أن بفؤاد الطبيعى لحزناً كالذي بفؤاده. وأن بذهن الطبيعة من سود الخواطر ما يجعل لها مثل ظلمة ذهنه وسواده. وإذا كان في الصحو رأيت الخليج كمرآة القين مصقول الجوانب أو كصرح ممرد من قوارير أو كأنه صحيفة من اللجين إلا هناة على متنه سوداء كأنها خط لام أو امتداد طول مارد جعل صدر المحيط فراشه وكان هذا أعلى الصخور المخوفة المعروفة لدى السماكين بصخور مانسي فإذا هبت الريح شرقية حطمت على تلك الجلامد رؤس الأمواج محدثة أشد من ضجيج الرواعد وأدوى. وتطاير الدفّاع حق لطم جبين داري ونال نواصي التلال المجاورة. وكان الخليج رائع المنظر متين الساحل لكنه عرضة لهبات الشمال والصبا مرهوب لصخور مانسي فكان يتحاماه الكثير من السماكين مهابة واستيحاشاً وكان يرفرف على أرجائه روح شعري(10/67)
ومعنى غرابة. تجلوهما الوحشة والوحدة وكم يوم من الصحو صافي الأديم طويت غلالته راقداً في زورقي انظر السمك الكبار في ضمير الماء كأنها خيالات الشياطين ولقد سمعت في بعض وقفاتي بالشاطئ وقد سجا الليل صيحة من جوف المحيط فكأنها لحزنها وشجاها جاءت من فؤاد ثاكل ولهى. .
في هذه البقعة العجيبة خلفي التلال الأبدية وأمامي الأمواه الأبدية أمضيت عامين بحثاً ودرساً بمعزل عن الناس لا يكدر صفو عيشتي رجل ولا مرأة وكان عندي عجوز خادمة فما زلت آخذها بالسكوت وأروضها على الصمت حتى لكان يمر بها الشهر فالشهر فلا تكاد تحرك بحرف لسانها. وكذلك قضيت أيامي بذاك الديدن حتى كدت أنسى أنني من فصيلة الإنسان وحتى أصبحت إنما أعيش مع من أقرأ كلامهم من الموتى. فإنني لكذلك إذ حدث ما صرف عنان حياتي عن هذه السبيل القفرة والخطة الصامتة.
جاء في شهر يونيه ثلاثة أيام ريّحة أعقبها يوم ناعم الأنفاس رقيق الحواشي كان ماؤه أخرس الريح وأجم الهواء. ثم غربت الشمس وراء صف من سحاب صهب وتوشح صدر المحيط قطعاً من الشفق حمراء. وكان ما تركه المد على أديم الساحل من ثغب وغدران يحمر كأنه مجاجات الدم المهراق فكأن مارداً جريحاً قد خاض مكدوداً هذه الأماكن فوسمها بآيات جراحه النجل وطعناته الجوفاء ولما اعتكر الليل وتكاثف الغيهب حشدت بالأفق الشرقي سحاب كانت قبل مفترقة فصارت عارضاً ركاماً يؤذن بالشر والبلاء وفي الساعة التاسعة صعد من البحر أنين ضعيف كأن موجعاً دنفاً أحس معاودة الألم فجزع وارتاع. وفي الساعة الحادية عشرة أعصاراً. فلما نصف الليل كان تحت أرواق الظلام زوبعة كأفظع مامزق أديم الجو وزلزل جوانب الفضاء ثم ذهبت إلى المرقد والبحر يحصب زجاج نوافذي بإجذام عشب الماء والحصا. والريح تعول. في كله هبة روح حائر. ولكني ما درجت في أثناء الفراش حتى عاد ضجيج العناصر في أذني غناء منيما ولا جرم فلقد كنت من شاهقة جدراني في أحرز حرز وأحصن حصن ومعقل يهزأ بصولة الماء وسطوة النكباء على حد سواء. فأما ما ينوب الخلق خارج داري فذاك ما لا أحفل ولا أبالي. ولا يقع في نفسي ولا يخطر ببالي. وكذلك كانت جفوة العجوز مادج وقسوتها. فلما كانت الساعة الثالثة صباحاً ما راعني إلا قرع على بابي شديد متوال نفر عني أسراب الكرى(10/68)
وصيحات ملء فم العجوز فوثبت من مضجعي وسألتها بغلظة ما الخبر؟
فصاحت: مولاي مولاي! انزل مسرعاً يا رجل أسرع نازلاً! فلقد والله صدمت الصخور مركباً وإن أهله ليندبون ويستغيثون وأخشى أن يغرقوا فاعجل إليهم سيدي بمدد من عندك وادركهم بغياث من لدنك!.
اخرسي أيتها الورهاء! لا حياك الله ولا حرسك! ماذا يعنيك لو ينجو القوم أو يهلكون. انقلبي إلى فراشك ودعيني وشأني ثم تغطيت أمتري النوم ثانياً. وأنا أقول لنفسي لقد تجرع هؤلاء الثوم نصف غصص الموت وكابدوا نصف أهواله فإذا هم أنقذوا فإنما هي سنين قلائق ثم يجرعهم الدهر تلك الغصص ويريهم القضاء هذه الأهوال ثانياً. فأما وقد عانوا ارتقاب الموت الذي هو أشد ما في الأمر وأصعبه - وتوقع المكروه آلم من وقوعه - فأولى لهم والله أن يقطعوا بقية هذا المجاز ثم يستريحوا. قلت هذا وشرعت أمتري النوم. ولكني وجدت بسماء نفسي من عاصفات الهواجس أشد مما بسماء الله ذات البروج فجعلت أتقلب وأتململ وقد أنبت الأرق ضوك القتاد تحت جبيني وأوقد السهد جمر الغضا. فنبا الوساد وأقضّ المضجع ثم سمعت ضجيجاً غامضاً بين صياح الزوبعة فعلمت أنه صوت بندقية المستغيث فثرت بدافع من النفس لا مرد لسلطانه فلبست ثيابي وأشعلت متبغي ثم خرجت إلى الشاطئ.
وكان الظلام حالكاً وقد عنفت الريح حتى لأصدمها بكتفي وأزحمها بمنكبي وهي تجمش وجهي بحاصبها وقد علق من متبغي بأذيالها الشرر والرماد لمّا يخبو وأوشك. ثم انحدرت إلى حيث الموج العظيم ينهمر هدراً مزمجراً وأظللت ناظري بيدي أتقي طامح الدفاع الملح فنظرت من تحتها إلى اليمّ فلم أكد أستبين شيئاً غير أنه خيل إليَّ أن أصواتاً مهمة وصيحات غير مبينة تأتي من اليم على جناح الريح. ثم شب نور أزرق أضاء الخليج والساحل. وكانوا يوقدون بالمركب ضوءاً آية على الخطر فنظرت فإذا السفينة مقلوبة بين الصخور على جنبها حتى لأبصرت كل ما بها من الألواح. وكانت كبيرة ذات شراعين أجنبية تنزل من الشاطئ على مائتي ذراع أو نحوها. ووراء السفينة كانت الأمواج تواتر من كبد الظلماء جياشة دافقة لا تستريح ولا تنتهي على أعرافها خصل بيض من الزبد وكلما دنت من الأضواء الزرق موجة خلتها تزداد قوة وحجماً وبطشاً وجمحاً ودفعة(10/69)
وانصلاتاً وطمحاً. ولها أثناء ذلك صرير وزئير. وشقشقة وهدير. ثم تثب على فريستها. ورأيت عشرة أو اثني عشر ملاحاً قد ملكهم الروع فلاذوا بالشراع حتى إذا النور من مركبهم إذا عني لووا إليّ السوالف استشرافاً. ومدوا الأبصار استعطافاً. وأتلعوا الأجيادا تشوّفاً. ثم أعقب ذلك في نفسي شعور آخر وهو مقتي منهم ذلك الجبن وإنكاري ذلك الجزع والهلاع - كيف يحجمون عن تلك العقبة التي ما برح يجتازها من خلق الله كل ذي بهاء وجمال. وشرف وجلال. وكان بينهم رجل أعجبت بجلده وثباته. وهو طوال سبط القوام قد قام بمعزل عن القوم يقيم أود قامته ويعدل ميزان جسمه على ذاك المركب المترجح المتمايل كأنما يترفع عن التشبث بالحبال أنفة وكبرياء وكانت يداه معقودتين وراء ظهره ورأسه على صدره منكساً بيد أنه كان يلمح في وقفته هذه الدالة على الأسى معنى من الشمم والعزة والعزم والقوة يدل على أنه ليس ممن يخلد إلى اليأس ويذل للخطوب. أجل لقد علمت من سرعة كرّه الطرف أحياناً وبثه اللحظات حوليه أنه يتلمس مسارب النجاة في مجاهل هذا الخطر المحدق. ومنافذ الحياة في حجب ذلك الحمام المغلق. وبوارق الرجاء في دجنات ذلك اليأس المطبق. وإنه وإن أكثر رجع البصر إلى حيث يرى من دون مزبدات اليّم شخصي على الساحل قائماً فلقد كان والله في إبائه ما منعه أن يستغيثني بأية صورة. ولكنما بقي ثابتاً مكانه صامتاً مظلماً مستبهماً مطرقاً إلى اليمّ صابراً متجملاً يرقب من المقدور كلما جاء به.
وهنا آذن المشكل أن يحل نفسه. فبينا أنا كذلك إذا موجة عظمى تشرف على سائر الموج وتحدو به حداء السائق بالقطيع فغمرت المركب فانحطم شراعه الأمامي وطاح من كان متمسكاً به كما طاح الجراد زهته ريح طاغية. ثم أخذ المركب ينصدع شطرين حيث متون الصخور تحز في مؤخره. فهرع الرجل الطوال المنفرد فاجتاز عرض المركب إلى شيء أبيض فأمسكه وكنت قد رأيت ذلك الشيء من قبل ولم أستبن ما هو؟ فلما رفعه أصابه الضوء فإذا امرأة قد وشحت جلدة مما يتقى به الغرق فحملها إلى جانب السفينة وخلته يحدثها دقيقة أو نحوها كأنما يبين لها استحالة بقائها بالمركب. فكان جوابها من أعجب ما رأيت. وذلك أنها رفعت كفها متعمدة فلطمته على وجهه. فأسكتته اللطمة ولكنه عاود القول ورأيت من حركات يديه أنه يريها ماذا يجب عليها أن تفعل إذا احتواها الماء فانزوت عنه(10/70)
ولكنه أمسكها بين ذراعيه ورأيته يحنو عليها كأنه يقبل جبينها فإنهما لعلى هذا إذا بموجة عظيمة تقبل حتى صافحت عطف المركب فتقدم الرجل فوضع المرأة على غارب الموجة مترفقاً كما تستودع الأم الرؤم المهد طفلها. ورأيت حلتها البيضاء ترفل على بيضاء الزبد ثم أقبل الضوء يتطامن إلى أن غابت الشفينة وراكبها الفرد في ملحود من اليتم.
فلما رأيت هذه الأحوال تغلبت على فلسفتي عواطفي ودفعني إلى العمل دافع لا يرد فنضوت عني جمودي نضو الثوب يخلعه صاحبه حين يشاء ثم يلبسه بعد ذلك متى شاء وأسرعت إلى قاربي وكان ضعيفاً كليلاً واهياً ولكن هل مانعي من الفعل الجميل والعمل الجليل ذلك؟ وهل كنت وأنا الذي طالما حن إلى الموت واشتاق القبر لأخاف الهول أو أخشى الخطر؟ فعمدت إلى قاربي فجررته إلى الماء بقوة ذي جنة ووثبت فيه وفي الدقيقة الأولى خامرني الشك أفي طاقة القارب البقاء على ذلك اللج الثائر يغلي فوقه الزبد أم ليس في طاقته؟ ولكنها لم تك إلا بضع تجذيفات حتى خرجت من تلك الغمرة قد نصف الماء قاربي وأنه برغم ذلك لطاف تخفضه لجة وترفعه لجة يعلو من هذه رأس هضبة شماء، وينزل من تلك قعر حفرة وهداء وتارة.
إذا ما انكفى في هبوة الماء خلته ... تلفع في أثناء برد محبر
وكنت أسمع من ورائي مسافة ولولة عجوزي مادج التي عدتني مع الموتى وما زلت أزجي الزورق في مهمه من الماء خوّار الجانبين منهال الجالين إلى أن حبتني إحدى الأمواج المرأة البيضاء فأشرفت فاحتملتها إلى قاربي وإنها لتكف بالماء وما كان بي إلى تزجية الزورق نحو الساحل حاجة إذ أقبلت إذ ذاك موجة فأهدته إلى البر في طفرة فوضعت القارب بمأمن ثم حملت المرأة إلى داري خلفي العجوز تزف أحسن التهنئة وأجزل الثناء.
وكنت إذا أحمل المرأة أسمع لفؤادها نبضاً فاتراً فعلمت أنها حية ثم ذكرت أنها ستكون في عيني منظراً غير محبوب (وكنت أبغض الناس طراً ولا أطيق رؤيتهم) وكانت العجوز قد أوقدت ناراً فطرحت المرأة قربها وكأني لقلة الرحمة أطرح حملاً من الحطب ولم ألتفت قط نحوها لأرى جميلة هي أم قبيحة وكيف أنا من قبض طرفه دون النساء منذ أعوام غير أني بعد ما ذهبت إلى المرقد واحتواني الفراش سمعت العجوز تتمثل وهي تدلك أوصالها قائلة:
إنما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان(10/71)
فعلمت أن المرأة فتية السنّ حسناء.
وأسفر الصبح غب هذه الزوبعة مؤتلق الغرة وضاح الجبين فخرجت أسير والشاطئ وكان قلب البحر يخفق وموجه يصارع الجلاميد ويجالدها ونظرت أطلب للقارب أثراً فلم أجد ولكنني رأيت طائرين من بنات الماء ترفرفان على مهلك السفينة كأنما تبصران تحت جلدة الماء ما غاب عن سائر الأبصار وطوراً تتصايحان كأنما تتحادثان عما تريان.
ولما عدت من جولتي رأيت المرأة بالباب فما وقعت عيني عليها حتى وددت أني لم أنجها إذ بوجودها في منزلي انقضى عهد عزلتي وانقرض ملك خلوتي وكانت حديثة غضة السن - لا تجاوز التاسعة عشرة شديدة بياض الوجه صهباء الضفائر زرقاء العينين ملتهبة الألحاظ دريّة الثغر وضاحة الثنايا. وكانت لفرط رقتها وبياضها وضيائها يخيل إليك أنه شبح لا جسد وأنها طيف الخيال لذاك الزبد الأبيض الذي منه أخذتها فلما دنوت منها أومأت إليّ بيديها إيماءة الطفل الصغير كأنها تشكر إليّ نعمتي عليها. وكانت قد لبست حللاً من ثياب العجوز لكن على صورة عجيبة مستغربة تسر الناظرين. ثم دنت مني فمدت يديها كما يفعل الطفل تقصد بذلك الشكر لي ولكنني أومأت لها أن تبعد عني فبعدت ومضيت قدماً. عند ذلك صاحت كالمتوجعة واغرورقت عيناها ولكنها تلت أثري حتى دخلت معي غرفة الجلوس وأخذت ترقبني متأملة.
وسألتها فجأة من أي البلاد المرأة؟
فتبسمت صامتة وهزّت رأسها.
قلت: إفرنسية أم نمساوية أو أندلسية أم ماذا؟ فلم ترد على أن هزت رأسها ثم رطنت طويلاً بلسان لم أفقه منه حرفاً واحداً.
ولما فرغت من الإفطار وفقني الله إلى معرفة جنسها وذلك أني بينما أعيد الكرة على الساحل نظرت بالصخور التي انحطمت عليها السفينة خشبة قد نشبت في بعض ثلمها فامتطيت الزورق نحوها ثم عدت بها إلى الشاطئ فإذا مكتوب عليها بحروف بديعة غريبة أرشانجيل فقلت في نفسي وأنا عائد إلى الدار وهكذا هذه الغادة البيضاء روسية خليقة أن تكن من رعايا القيصر الأبيض وسكان البحر الأبيض! ثم عجبت أن من كان مثلها رقة ونعمة يذرع أجواز المحيط ويطوي مراحل الماء في ذلك الوعاء الواهي الضئيل ولما(10/72)
دخلت الدار نطقت أمامها بكلمة أرشانجيل على عدة صور من اللفظ فلم تفقه له معنى.
وبقيت في خلوتي بين البحث والدرس حتى الظهيرة فلما قمت للغذاء ألفيتها عند المائدة تخيط خروقاً في ثيابها وكانت جفت فساءني حضورها ولكني ما كنت لأردها إلى الساحل القفر الموحش تموت فريسة الجوع والبرد ثم أنها نظرت إليّ فأومأت أولاً نحو مهلك السفينة من اليم ثم إلى شخصها ثم رفعت إصبعاً واحدة فعلمت أنها تسألني ألم ينج من الغرق غيرها فأومأت لها برأسي نعم عند ذلك وثبت من الكرسي وأرسلت صيحة جذل ثم رفعت ما كانت تخيط فوق رأسها وانبرت وهي ترجح الثوب من جهة إلى أخرى ترقص كأنما هي ريشة في مهب الريح تجوب أنحاء الغرفة ثم خرجت إلى الضح تراقص الشعاع بأقلق من الشعاع وأمرح وجعلت وهي ترقص تشدو بلحن فيه حزن ورقة ينم على فرط السرور والطرب فناديتها ويلك أيتها الشيطانية ادخلي وكفى! ولكنها أبت إلا تماديا ثم أنها هرعت إلي بغتة واختطفت يدي وإني لعلى غرة فأوسعتها لئماً ولما كنا على الخوان بصرت بقلم فتناولته وكتبت على ورقة سوفي راموسني ثم أومأت إلى شخصها كما لو كانت تقول هذا اسمي وردت إلى القلم وهي تحسب أني سأصنع صنيعها ولكني أغمدته في جيبي آية على أني لا أريد أن تمتد بيني وبينها صلة من حديث أو غيره.
وجعلت بعد ذلك لا آلو أسفاً على ما أتيت من الخطأ المبين بإنقاذي تلك المرأة ومالي ومالها وأين تقع مني أو أقع منها وماذا عليَّ أن تموت أو تبقى؟ وما أنا والله بالفتى الغزل ذي الصبوة فآتي مثل هاتيك الفعال أو لم يكفني وجود العجوز في بيتي حتى أشفعها بهذه المرأة بيد أن العجوز هرمة شمطاء. سمجة شوهاء. لا أربة فيها لشهوان. ولا معشق لولهان. وهذه حديثة ناعمة صاغها الله من طينة الحسن ومائه. وصقلها بسنا الجمال ولألائه. وجعلها ملهى عن الجد ومشغلة عن العمل فأين أرسلها وماذا أصنع بها؟ وأما لو استعنت رجال الشرطة لأقبلوا عليَّ بجمعهم ينظرون في أوراقي ويفحصون أشيائي ويملأون فراغ الدار لغطاً وهذراً وما أبشع والله ذاك وما أشده. ولأهون عليَّ منه احتمال المرأة.
وليت هذا كان آخر البلية فلم يردفها النحس بأخرى. ويا الله ما أغرى هذا الخلق بهارب منهم وما الهجهم بعارف عنهم وما أملأ كل بقعة بهذا الناس الذي منه أفرّ وعنه أذهب فلما أرنقت شمس الأصيل ونفضت على أكناف الرمل ورسا علا صفرته بصفرة وأشعلت(10/73)
جنبات البحر ناراً خرجت أسعى على الساحل في يدي كتابي حتى أتيت دعصاً من الرمل فافترشته وأخذت أقرأ فإني لكذلك إذ لاح ظل حال بيني وبين الشفق فالتفت فإذا رجل طوال شديد الأسر مدمج المفاصل قد وقف لا يشعر بي وإنما يتوجه بجمعه إلى الخليج يرعى الصخور الناتئة بصدر الماء كاسف البال واجما وكان أسمر اللون أسود الشعر قصير القامة كث اللحية أشمّ المعطس مرعث الأذنين على محياه سيما البداوة الهمجية وملامح الشرف والنبل. وكان عليه قطيفة زرقاء وقميص أحمر ونعلان تضربان إلى شطري فخذيه فعرفت في الحال أنه الرجل الذي رأيته أمس على ظهر القارب الغريق.
فصحت بصوت ملؤه الكمد يا هذا أو قد نجاك الله ووطئت الشاطيء مسلماً؟.
فقال بالانكليزية نعم غير أني ما حاولت أن أنجو ولا كان ذاك من صنعي. ولكنها الأمواج رمت بي الساحل. فيا ليتها ما صنعت ويا ليتني. ولوددت والذي خلقك لو أن المحيط غيبني في جوفه وكتمني في ضميره! وكان يرتضخ لكنة أجنبية فيها لذة للأذن وحلاوة في النفس وقال لقد انتاشني رجلان من صادة الأسماك ينزلان تلك الناحية فعنيا بي بيد أني لا أكاد أشكرهما على ذلك. .
قلت يا سبحان الله! هذا رجل من فصيلتك وقبيلتك. ولماذا آثرت الغرق على النجاة يا هذا؟.
فقال ومد ذراعيه بهيئة الواجد الملتاع اليائس لأني فقدت هنالك كنزي الثمين وعلقي النفيس. هنالك حيث اليمّ ضاحك الثغر وضّاء الجبين تثوى منية النفس وقوت الفؤاد منه في حشا خائن غدّار. لا رعى عنده لحرمة ولا جوار. ولا ذمة ولا ذمار. قلت له ما برح الناس يفقدون الأهل والخلان فلا يصنعون صنعك وما في ذاك من ثمرة. فهوّن عليك ولا تذهبن نفسك شعاعاً. ولتعلم بعد أن ما تطأه الآن من أرضى وأسرع ما تكون مضياً من هنا أدناك إلى السلامة وأولى لك. ففي واحدة منكما كفاية.
فصاح واحدة منا؟.
قلت أجل إن استطعت أن تريحني منها فافعل أعدها منك منة غراء.
فنظر إلى هنيهة كأنه لا يفهم مرادي ثم صاح صيحة شديدة وانطلق يعدو والريح في أعقابه حسرى كليلة يؤم منزلي فلا والله ما رأت عيني منذ خلقني الله رجلاً يغدو عدوه واندفعت(10/74)
في أثره مغضباً لهجومه علي مثواي واستباحته حمى حراماً ما وطئته قط قدم غريبة فلم أشق له غباراً. ورأيته بعيني يلج الباب وكان مفتوحا ثم سمعت صرخة ولما دنوت صافح أذني صوت رجل حثيث اللسان مخفوض القول ثم دخلت الدار فإذا الغادة سوفي راموسيني جاثية في زاوية من المكان منقبضة من الرعب قد التقى على صحيفة وجهها صورة البغض بسيما الغضب وإذا الرجل وعيناه مشبوبتان تضطرمان. وذراعاه ممدودتان ترعشان. يهضب لسانه بألفاظ الاستعطاف هضبا. وتسكب شفتاه كلم الاستغفار سكباً. فلما رآني دخلت دنا منها خطوة فتقهقرت خطوات وصاحت صيحة الشاة ساورها الذئب.
فجذبته إليّ عنها قائلاً مهلا! ماذا تفعل وماذا تريد؟ أحسبت هذا قارعة الطريق أم نزلا أم حانة؟.
عفواً سيدي وغفرانا. هذه المرأة زوجي وكنت أخالها غرقت. مولاي أثابك الله فقد رددت علي نفسي.
فقلت في غلطة ومن أنت؟.
قال رجل من أرشانجيل. رجل روسي.
قلت له ما اسمك؟
قال أورجانيف.
قلت أورجانيف. وهذه سوفي راموسيني. ما هي زوجتك. أما معها خاتم منك؟.
قال ونظر إلى السماء نحن زوج وزوجة بشهادة الله ذي العزة والجلال ما زوجنا قيس ولا شهد عقدنا مطران. بل زوجتنا العناية الأزلية بمشهد من الملائكة الأبرار.
وبينما هو يتكلم طفرت الفتاة حتى صارت خلفي وشدت يديها على يدي تضغطها كالمستغيثة.
وقال الرجل ماضيا في قوله أعطني زوجتي يا مولاي كي أحملها إلى موطني قلت له بشدة التفت يا هذا! أنا لا يهنأني بقاء هذه الفتاة عندي وإني والله فيها لزاهد ولو وددت أني ما نظرتها قط ولو أنها هلكت ليلة العاصفة ما ساءني. فأما إعطاؤك إياها مع ما أرى من بغضها إياك وخوفها منك فهذا ما لست فاعلا أبد الدهر فامنحنا هداك الله كتفيك ودعني وشأني. ولعلك لا تريني وجهك هذا قط فقال بصوت أبحّ أولست معطيني الغادة؟.(10/75)
لا أفعل ذلك حتى أراك ميتاً.
قال وأربد وجهه هبني أخذتها برغمك.
عند ذلك احتدم الدم في عروقي وفار تنّور غيظي فاختطفت عصا من جانب المصلى ثم قلت بصوت شديد منخفض امض من هنا مسرعا وإلا صببتها على أم رأسك.
فنظر إليّ خائر العزيمة هنيهة ثم ترك الدار وعاد بعد لحظة فوقف بالباب يرمقنا ثم قال انظر ماذا تصنع وأعلم أن الغادة غادتي ولا بد لي منها. ولعله إذا بلغ الأمر المقارعة كان الروسي كفء الانكليزي.
فصمت قائلا سنرى! ثم وثبت ولكنه مضى ونظرت شخصه الطويل ينغل في حشا الظلماء.
وسلس عنان الدهر لي ولان جانبه مدة شهر أو زهاءه إذ اطرّد بنا نهر الحياة وانسجم مجراه فلا عثرة ولا عقبة ولا كدر ولا قذى وكانت الغادة ربما ولجت عليّ باب معملي أثناء شغلي فجلست عنده ترنو إليَّ بنجلاويها فأضجرني في أول الأمر ذلك حتى إذا لم أرَ منها أدنى ما يشوش عليّ أو يلهبني اتسع لها فناء صدري. وانفسح لها نطاق صبري. وشجعها ذلك فانبسطت واستأنست وجعلت تدنو على توالي الأيام مني رويداً رويداً حتى آل بها الأمر إلى الجلوس بجانبي ما زاولت العمل ثم جعلت في مقامها الجديد هذا تؤدي إليّ وهي كأصمت ما تكون جملة منافع كأما كها أقلامي وقواريري وأنابيبي ومناولتي كل ما أبتغيه في أتم نشاط وخفة. وكذلك بفضل إنكاري آدميتها وعديها آلة من الآلات الصامتة آل بي الأمر إلى أن صرت أفقدها إذا هي غابت واجدا لها نوعاً من الوحشة. وليعلم القاريء أن من عادتي إذا كنت في عملي أن أكلم نفسي جهاراً أستعين بها على تثبيت نتائجي في ذهني فلعل الفتاة كانت قوية الحافظة قفلة لأنها كانت تعيد ما تسمع مني من الألفاظ دون أن تعرف ولا مشاحة شيئاً من معانيها وطالما ألهاني منها أمطارها العجوز صوبا من المعادلات الكيماوية والرموز الجبرية وضحكها من العجوز إذ تهز رأسها وكأنما ترى لفظ الفتاة شتما موجهاً لها بالروسية.
وكانت إذا خرجت من باب البيت لم تتجاوز أذرعاً قلائل ولا تعدو عتبة الدار إلا وقد أشرفت من كل نافذة لتتثبت من خلو الجوار فدلني فعلها ذاك على أنها تتوجس أن يكون(10/76)
الرجل الطويل لا يزال كامناً لها في بعض تلك الجهات وتخشى أن يختلس غرتها فيحتملها ويذهب. ومن عجيب ما صنعت أنها كانت عثرت على مسدس لي كنت قد فقدته فأقبلت عليه تمسحه وتجلوه وتزينه وعلقته قرب الباب إلى جانبه جعبة ملئت بندقا. فكلما رأتني خاجا ألحت عليَّ أن آخذه. وكانت لا تزال تغلق الباب أثناء غيابي وكانت لولا خوفها باهنأ عيش وأغبط حال قد قسمت مجهودها بيني وبين العجوز أن لم تعني ساعدتها وكانت تنجّز أعمال البيت بفطنة أسرع من اللمح وراحة أخف من الريح.
ولم يمض إلا قليل حتى وجدت لها في تخوفها عذرا. وأن هذا الرجل الغريب ما زال يكمن في جوار الدار. وذلك أني أرقت ذات ليلة فقمت إلى النافذة أشرف منها على أفنية البيت وكان الجو مضباً فلم أكد أبصر سوى حافة البحر ومؤخر قاربي على شاطئه. حتى إذا اعتاد طرفي الظلمة آنست بالرمل شبحاً آخر حيال بابي ولم أك رأيته بالأمس وبينما أطل من النافذة أنعم النظر لأستبين ماذا كان ذلك الشبح انحسرت عن صفحة القمر سحابة عظيمة وتساقط النور أبيض صافياً غضّاً رطيباً على أديم الماء الساكن الأرجاء الصامت النواحي وعلى سواحل القفرة الموحشة. وحينئذ علمت من ذاك الكامن عند بابي وهل كان إلا الروسي؟ لقد كان قاعداً كأنه ضفدع جسيم. قد عقد رجليه تحته جلسة المغولي وعقد طرفه بالنافذة التي قام دونها الفتاة والعجوز وكان نور القمر يهبط على وجهه فرأيت مرة أخرى شرف تلك الصورة ونبل هذه الخلقة ورأيت ناظري الصقر يلتهبان فوق عرنين أشمّ ورأيت غضن الهم محفوراً في أديم ذاك الجبين الأغرّ فقلت في نفسي يا لك من أحمق عاجز الرأي! أفبعد أن رأيتك تلاقي الموت وجهاً لوجه أسكن ما تكون أوصالاً. وأهدأ ما تكون بالاً. أراك قد سبت حجاك. وسلبت نهاك. فتاة شختة عجفاء. نحيلة صفراء. تفرّ منك فرار الصحيحة من الجرباء. ضلة لك ما أحيدك عن السداد. وأبعدك من الرشاد. لقد كان لك لو شئت مندوحة عن هذه المهزولة في ذوات البيوتات والأحساب ممن هن أعرق نسباً. وأبرع أدباً. وأرشق قدّاً. وأقرب ودّاً. وأبهى جمالاً. وأسبى دلالاً. ولكنك تأبى إلا هياماً بتلك الصبية ولجاجاً. وتمادياً في حبها وإلهاجاً. وهي لا تجزيك إلا الصد. ولا تهديك غير سوء الرد. كلما دنوت منها إصبعاً ندّت عنك ميلا. أو وصلتها لحظة هجرتك دهراً طويلاً. ثم عدت إلى مضجعي وأنا أضحك سخراً من أمر هذا السفيه. ولم أخشه وكيف وقد كنت(10/77)
من جدران بيتي وأبوابه بأمنع معقل وأحرز حصن فسواء عليّ قضى ذلك الرجل ليلته على عتبة داري أو ببلاد الصين ما دام سيذهب مع الظلماء. وقد كان ذلك فلما خرجت الغداة إلى ذرا بيتي لم أجد له أثراً.
ولم يمض إلا قليل حتى رأيته ثانياً وذلك أني ركبت اليمّ مرة وكان بي دوار سببه أولاً إدامة الأكباب على الورق وثانياً شمي عقاقير خبيثة الرائحة يفغم ذفرها الخياشم فزجيت الزورق على الشاطئ بضعة أميال ثم أصابتني غلة فحسبت مطية الماء عند مصب جدول ونزلت إلى الساحل لأرد وكان ذلك الجدول يشتق أرضي ولكن مصبه في أرض أخرى. فوردت حتى إذا هممت أن أصدر وجدتني أمام الروسي وجهاً لوجه وقد استبحت من حماه مثل ما استباح سالفاً من حماي فعراني الخجل وقطن إليها، قال لي في وقار وجد عندي لك حديث قصير.
فقلت ونظرت إلى ساعتي إذن فلتسرع فليس في وقتي للهراء مجال.
فقال مغضباً الهراء! ما أعجب أحوالكم معشر الاسكوتلانديين إن لكم لظواهر فظة تحتها قلوب رقيقة. وأنت من القوم ففيك ولا شك مع هذه القسوة والشدة لين وهوادة.
قلت باسم الشيطان إلا ما قلت قولك وخليتني وشأني فلقد والله سئمت رؤيتك فصاح قائلاً أوقد أبى الله أن ألين من قلبك القاسي وأذيب من حصاة فؤادك أنظر ثم استخرج من جيبه صليباً هذا. إنهُ ربما خالفت ملتك عقيدتي. وباين مذهبك نحلتي. ولكنه يجمعنا عواطف وآراء مشتركة إذا نظرنا هذا.
فأجبته لست من قولك على ثقة.
فنظر إليك متفكرا ثم قال ما أعجب والله شأنك وأني لي بأن أفهمك فأنت لا تزال حائلاً بيني وبين سوفي فاعلم يا رعاك الله أنك لتحرجن موقفك ولتخطرن دمك فانتبه إلى ذاك قبل أن يتفاقم الخطب ويبلغ السيل الزبى. ومن لي يبلغك ماذا خضت في سبيل تلك الغادة من الهول وماذا ركبت من أجلها من الخطر أشق غمار البحار. وأجوب. أقطار القفار، وأقذف فحمة الليل بجمرة النهار. معرضاً في خلال ذلك جسمي للدمار ونفسي للبوار. فأين أنت مما قد اجتزت من العقبات. وخضت من القحم والهلكات يا من لو شئت سللت روحه على ظبة مديتي. واختلست حياته على غرار صفيحتي. ولكن أبى لي الله والتقي أن أفعل(10/78)
ذلك!.
أولى لك أن تعود إلى موطنك من أن تكمن بهذا الساحل لتكدر صفائي. حتى إذا تثبت من ذهابك أسلمت الفتاة إلى دار السفارة الروسية. فأما قبل ذلك فإنا جار الفتاة منك وملاذها وموئلها أقيها المكروه بطارفي وتلادي ولا أدخر سبيل صونها نفسي. وليس في قدرتك ولو عزز جانبك ألف من أهل جلدتك أن تغلبني عليها قال وماذا تريد بمنعها مني؟ أفتحسب أني كنت نائلها قط بأذى. أصلحك الله إني ما بخلت بروحي في سبيل وقايتها. فماذا فعلك هذا؟.
قلت هو حق المستجير على جاره.
قال وتأجج الغضب في نظراته ودلف إلى مشعانّ الرأس ممدود الذراعين مقبوض اليدين وأما وربك لو أنه رابني منك في شأنها ربية وإنك تضمن بها لأمر غير صالح إذاً والله قلبك من حشاك بأظفاري وكأن مجرد توهمه ذلك الوهم قد أطار عقله حتى انقلبت سحنته وراحت كفاه بين قبض وبسط راجفتين تجفان. فخلت والله أنه سيأخذ بكظمي.
لذلك صحت به مكانك وقلت ويدي على المسدس مسني بإصبع منك أفرق بين روحك وجسدك!.
فوضع يده في جيبه هنيهة فحسبت أن يستخرج سلاحاً ولكنه ما لبث أن أخرجها بيضاء من غير سوء اللهم إلا من تبغة أشعلها وأقبل يشرب أنفاسها ولعله كان يرى هذه خير كابح لجماح شره.
وقال بصوت أرق ولهجة ألين لقد خبرتك أن اسمي أوجانيف وإني من أهل فنلاندة ولكني وزعت عمري بين أنحاء الأرض طراً. ولقد خلقني الله قلقاً متوقداً لوذعياً يكاد يسرب في الخرت وينغل في مجاري السموم لا طاقة لي بالسكون ولا قدرة لي على الدعة بنفس متفشية لا يكاد يسعها عرض الفضاء. وتكاد تضيق بها رقعة الأرض وأديم السماء.
ليس يخلى مني مكان مكانا ... أنا شيء خصوصه كالعموم
أنا طيف الخيال يطرق أهل ال ... أرض من بين ظاعن ومقيم
فلما ورثت مركب أبي لم أدع مرفأ ما بين أرشانجيل وأستراليا إلا وقد طرقته. وكان لي على غلطتي وخشونتي وجفاء طبعي مهجة لا تزال تحن إلى حبيبة لي بديار قومي وكبد(10/79)
إليها نزاعة فلما كنت في بعض أسفاري ازدلف إليها غلام مصقول العارضين أمرد ناعم البنان معسول اللسان. طين بما يستهوى قلوب الغانيات. ويطبي أهواء الفتيات. من حلو الكلم ولطيف الإشارات. فسلبني هذا الغلام بحيلته ودهائه الغادة التي ألقيت عندها مراسي الأمل ونطت بها أسباب الهوى والتي أرعيتها بارض الحب وأمطرتها وسمى المدامع. والتي لم تك لتضن عليّ بالحب أو تجزيني بالود كرهاً. فلما أبت من رحلتي خبرت غادتي وفلذة كبدي ستتزوج من ذاك الغلام الغض الأهاب. البض الشباب. وأن الزوج قد ذهبا إلى الكنيسة. ولتعلم يا سيدي أني في حال كهذه يذهب رشدي فآنى من الأمر ما لا أكاد أعرف أقول فلما بلغني ذلك النبأ نزلت الشاطيء بالنوتية وكانوا رهطاً أولى بأس ونجدة كلهم كالحسام عضب المضارب ماضي الغرارين لم يؤت من نبوة ولا كلال فعمدنا إلى الكنيسة فدخلناها وإذا الزوج واقفان حيال المطران قد كاد يعقد لهما ولما يفعل. فاندفعت بينهما فطوقتها ذراعي وأثخن رجالي الضرب في الفتى وسائر القوم واحتملتها حتى أتيت ورهطي المركب فأقلعنا بها نمخر العباب إلى أن رأينا ذوائب المنار تذوب في قصوى الفضاء. وبوأت الغادة غرفتي وخولتها أسباب الراحة طراً وأخذت مضجعي بين النوتية وأنا أرجو أن يلين الله يوماً ما عليَّ قلبها ويجذب إليَّ عطفها. ويمنحني عطفها. فترضى أن أعقد عليها في فرنسا أو ألمانيا مثلاً وكذلك ما برحت تتقاذفنا البحار. وتتهادانا الغمار. وتطوح بنا كفّ التيار، حتى رأينا الرأس الشمالي يموت على مهاد الأفق وتلحد له الأمواج في ضميرها جدثاً. ثم تقصينا ساحل النرويج وهي لا تزال مصرة على الصد لاجة في النفور لا تغفر لي تفر بقي بينها وبين عاشقها وأخيراً رمانا الله بتلك العاصفة التي ألوت بمركبي وآمالي وحرمتني حتى النظر إلى الغادة التي ركبت في حبها من الهول ما ركبت. فعسى الله ينزل على قلبها بعد كل ذلك حبي ويلهمها رقة لي ورحمة. ثم رنا إليَّ طويلاً وقال وإني يا سيدي أتوسم فيك أخاً حنكة وابن تجارب قد حلب أشطر الدهر وأطال على الأمور توقافاً. أفليس في فراسنك أنها ربما نسيت بي حبيبها ذاك واجدة فيَّ بدلاً؟.
قلت وزويت عنه وجهي قد والله سئمت حديثك. فأما إذ سألتني رأيي فرأيي أنك معتوه أحمق. وإنك إن كنت تؤنس من نفسك أن حبك هذا خطب لا يلبث أن يهون ومصاب لا ينشب أن يخف فيزول فعلل نفسك حتى يكون ذلك بكل ما استطعت فأما إن كان داء عياء(10/80)
وضربة لازب فليس أجمل والله بك من أن تنتحر فتستريح.
ما قضى الله للجهول بستر ... يتلافاه مثل حتف قاض
وهذا ما عندي والسلام.
ثم هرعت إلى زورقي فركبته لا ألتفت إلى الرجل غير أني ما لبثت أن سمعته يقول لقد حدثتك بادئة نبأي فأما الخاتمة فلسوف تعلمنها يوماً ما.
فلم أجبه وإنما زجيت القارب والتفت بعد برهة فإذا هو ما زال واقفاً على الشاطىء يتبعني نظرة ولهى طويلة. ثم التفت ثانية فإذا هو قد مضى.
واطمأن جانب العيش لي بعد هذا الحادث وركدت نواحيه فلا عثرة ولا عقبة. وجعلت آمل أن يكون الرجل قد رحل عن جواري فيدلني على كذب آمالي آثار أقدامه في الرمل ولا سيما كثيب من رماد التبغ على كثيب قبالة النوافذ من غرفة الفتاة فعلمت أن الرجل ما برح لنا كامناً. وبقيت منزلة الفتاة مني على عهدها لم تقربها زلفي ولم يقصها جفاء. وكانت العجوز في باديء الأمر قد نالها شيء من الغيرة مخافة أن تغصبها الفتاة بعض نفوذها البيتي حتى إذا رأت إعراضي عن الغادة وانقباضي زالت عنها الوحشة وعلودها الأنس والراحة ووجدت في بقاء الفتاة ربحاً لا خسارة إذ أصبحت لها عوناً على عملها وظهيراً.
وها قد أشرفت على نهاية هذا القصص الذي ما كنت لولا لذة أجدها في تدويني لأدونهُ. وكانت خاتمة هذين البشرين من الفجاءة والعجب كالفاتحة وإنما هو حادث ليلة فذة خلصني من شرهما وأطلقني من أذاهما وأفردني بأسفاري ومباحثي مثلما كنت قبل طروئهما. وهاك بيان الحديث.
خرجت إلى الشاطيء ذات مساء نضو مذاكرة طليح بحث وتنقيب لأروّح عن النفس وأريح مكدود الخاطر فما برزت من باب الدار حتى لفت ناظري مشهد الخليج وهيئة الماء. وكان بأكمل حال من الركود تحسبه صحيفة من البلور جامدة الأنحاء يابسة الأرجاء فما به حبك ولا تكسر. ولكن الهواء كان مع ذلك مفعم بذاك الصوت الذي وصفته آنفاً وهو صوت كأن أصداء من طواهم البحر في أحشائه ترسل أنينه تنذر به إخوانهم الأحياء شرّ يوم عصيب. وكانت نساء الصيادين يعرفن ذلك الصوت ويمددن ألحاظاً لهفى سراعاً نحو القوارب التي لا تزال باليم. فلما سمعت ذاك الصوت دخلت الدار ونظرت في مقياس(10/81)
الحرارة فإذا هو عند 29 تحت الصفر. حينئذ علمت أنا بعرض ليلة مرهوبة نكراء.
وكان القر في سفح الجبل قارساً لذاعاً على حين قد عمم الأصيل ذؤابته بمعصفرات الوشى اليماني وأسال على جبينه نضاراً. ولم يك على صفحة السماء من السحاب إلا بدد عباديد. ولكن أنين اليم ما برح يشتد ويتزايد. ثم لمحت من جانب الشرق قارباً يضرب إلى قرية ويك فكأن ربه قرأ آية الجو كما قرأتها ووراء القارب كان ينتشر ضباب قد طوى خط الأفق. قلت في نفسي ما أجدرني الساعة بالعودة وإلا ثارت الريح ولما يحوني البيت.
فلما صرت على نصف ميل من المنزل وقفت بغتت أنصت. وكنت لطول ما اعتادت أذني وألف مسمعي أصوات الطبيعة من زفيف النسيم إلى هدير الماء أسرع الناس أذناً إلى إنكار ما يجئ بين هذه الأصوات من غريب الأجراس ولو كان من أقصى مدى. فوقفت وكلي آذان تسمع وإذا بالصوت المنكر قد علا ثانية وكان صيحة رفيعة مديدة حادة تنم عن أوجع الحزن وآلم اليأس لها بأنحاء الرمل رنة ومن جانب الجبل رجع صدى - يالها صرخة حائر مستجير. وكانت تصدر من ناحية منزلي فاندفعت نحو الدار أنهب الأرض نهباً وقد لاحت الحقيقة لخاطري في ضباب من اللبس. وكان على ربع ميل من الدار ربوة يشرف منها على جميع أرجاء البقعة. فلما فرعت هامة تلك الربوة وقفت هنيهة أنظر فإذا كل شيء على ما تركته عليه. فإني لكذلك إذ عادت الصيحة أشد ما كانت وما هو إلا كخطف البرق حتى برز من جوف الدار شخص الروسي يحمل على عاتقه الغادة البيضا. لم تمنعهشدة العجلة أن يرفق بها كل الرفق وإنها لتمزق أوداجها صياحاً وتكد أوصالها ابتغاء الخلاص جهاداً وعلى أثرهما العجوز تدب ظلماء ترسف في قيد الكلال والونى وجلّ مجهودها صراخ متوال كاللبوة الهرمة قلم الكبر أظفارها وفضّ لزمان أنيابها فليس بها إلا عولة لا يعينها بطش أو زأرة لا تؤيدها سطوة. ورأيت الرجل يعمد نحو القارب فنبع في صدري أمل مبادر رجوت معه أن أدرك الرجل قبل فراره فاحتثث قدميّ إلى الشاطيء فدرّتا بشو بوب من السير وألقمت فم المسدس وأنا أعدو بندقة يكمن في لبها الموت الزؤام وتلوذ بحقوبها حشاشة أملي وآخر رمق من رجائي.
ولكني تأخرت ةاستعجل القدر. فلما بلغت الشاطئ كان الرجل قد أوضع في الماء مائة وعشرين ذراعاً قد راش بمجذافيه قادمتي القارب لكل هبة من المجذاف طفرة من الزورق(10/82)
كما طفر في حيزوم الجبان فؤاده
فكأنها والماء ينطح صدرها ... والخيزرانة في يد الملاح
جون من العقبان ببتدر الدجى ... يهوى بصوت واصطفاق جناح
فصرخت صرخة خائب حنق ورحت أقبل على الرمل وأدبر كالذي خولط في لبه والتفت الروسي فرآني على هذه الحال فقام فحيّاني بأطراف بنانه تحية والله ما شفّت عن شماتة ولا سخرية ولكنها عنوان قلب ضمّن الإخلاص وطوى على الإجلال والشكر. ثم اطمأن في مجلسه وحث أجنحة القارب فطار بأشباه الأربع الرياح حتى قبضته المسافة وقد توارت الشمس بالحجاب ومد الشفق بنانة مخضوبة توميء إلى حيث خبأت يد الطفل لؤلؤة النهار.
ومالي أجول في أنحاء تلك الرملة وأدور. وما لصدري يجيش بنار الكرب ويفوز. أمن شغف بالفتاة فعلت ذاك؟ كلا! وليس مثلي من أضناه حب الحسان. وأبلاه صد الغوان.
ولم يلهني دار ولا رسم منزل ... ولم يتطربني بنان مخضب
ولا أنا ممن يزجر الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية ... أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضب
كلا والله لم تكن المصيبة في معشوقة لي ولا وقع السهم في كبدي وإنما كانت في عرضي وثلمت جانب شرفي ومجدي. وطامنت عنقي وذلّلت أنفي. وكلما ذكرت أني عييت بحفظ جارتي من العدو الموائب. وعرضتها للطواريء والنوائب. عيل صبري وراح عرض اليمّ أضيق في عيني من كفة حابل.
وهبّ من جانب البحر تلك الليلة ريح هوجاء فأرغت الأمواج بالشاطيء وجرجرت كأنما تود لو انتسفته فعادت به إلى العباب فكان ثمت ملاءمة بين فوران اليم وفوران صدري وبين غليان الماء وغليان ذهني وأبليت شباب الليل جيئة وذهاباً بين هجمات طلائع الأمواج. وحذار الصواعق من متأجج الجنبات وهّاج
وسماء عليَّ أوكفت القط ... وأطارت كراي بالأرزام
وعصفات زعزع نكباء تعتسف دوّ الفضاء. ونمزق جلدة الماء. وتكاد تختطف الرداء.
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالمصائب
أقول وأبليت بين هذه الأهوال شباب الليل حتى شابت ذوائب الظلماء. وجرّد الفلق على(10/83)
هامة الغسق أسياف أنوار وأضواء. واستراح الماء والهواء. وأخذ أعين الكواكب الأغفاء. ولا راحة لي ولا هدوء وأين الراحة ممن راح بين قلب هائم. ونفس دائم. وشجو دخيل. وحرقة وغليل. قلت في نفسي أولا يرجع الله هذا الروسي إلى هنا؟ أما والله لو عاد!.
وقد عاد وحانت مني التفاتة إلى اليمين فإذا على بعد مني جرم طويل أسمر قد قذفته كف الموج الخرقاء على الشاطيء فتأملته فإذا هو قاربي قد عنف به البحر ورضه التيار. وعلى مسافة منه شيء مبهم الهيئة مشكل الشكل يجيء ويذهب في وشل بحافة الماء قد اختلط بعشب البحر وحصبائه فعرفت فيه لأول وهلة الرجل الروسي مكبوباً على حُرّ أوجهه جسداً بلا روح فخضت إليه ذلك الضحضاح فسحبته إلى اليابس ثم قلبته فإذا هي تحته قد التفت حولها ذراعاه الهامدتان وحالت جثته بينها وبين الزوبعة التي كانت تثور بالفضاء وكأنما ليس في طاقة البحر العنيف أن يسلبه تلك الفتاة وإن سلبه روحه. وكان فيهما أمارات تدلني على أن هذه الصبية الطائشة الرأي قد علمتها أهوال تلك الليلة المهيبة أن تفهم الفضل في أهله وتفطن إلى المروءة في أربابها وتستشف القشر الخشن عن اللباب الدمث والظاهر الوعر عن الباطن السهل. وأن تميز الصادق من الخلّب والحق من الغرور والزلال من السراب. وأن تعرف قدر ذلك القلب الكبير الذي وقاها في الروع بمهجته. وذاك الساعد السلط الذي حماها في الكريهة بصولته. وإلا فما معنى توسد رأسها اللطيف مهاد صدره الرحب والتفاف فرعها الأصهب بلحيته المنسدلة؟ وما معنى ضياء تلك الابتسامة المتألقة في صحيفة وجهه - يضحك في أثنائها فم النصر - التي لم يك في طاقة الموت أن يطفي رونقها ويخمد سناها؟ رحم الله مصرعه لقد كان الموت والله له أمتع من الحياة وأشرق جانباً وأبرد ظلاً وأصفى هواء. وأخضل الله ترابه لقد كانت حياته موتاً وكان موته حياة.
وجاءت العجوز فلحدنا لهما على سيف البحر الشمالي وواريناهما فهما الآن رهنا حفرة بذلك المكان المقفر الجذب والبقعة الحزينة الصماء. وكم أمور ستحدث حولهما بهذا الكون وكم شؤون ستجري فمن دول تهدم ودول تشاد. وعاد تزول وتجيء عاد وأجداث تبيده وأجداث تباد. وهما بمعزل عن كل ذلك لا ينظران ولا يسمعان. ولا يعبآن ولا يحفلان. ولكنهما ملتزمان محتضنان. بتلك القفرة تحت ذلك الموج المرنان. وكم خيل إليَّ إن(10/84)
روحيهما قد لبسا صورة الطير وأنهما ليرفران بين بنات الماء على صدر المحيط. وطالما خيل إليّ أني أسمع أنين صداهما بين تحنان البحر وعويل الرياح هاك قبرهما على الساحل الموحش لا نصب فوقه ولا تمثال ولكن العجوز ما برحت تكسوه حلل الزهر والريحان. وشفوف النور والأقحوان. فكلما مررت بذاك الضريح تذكرت ذينك الذين اغتربا عن الديار والأوطان ليلاقيا المنون بدار الغربة على قدر فعجت على تلك العظام البالية متمثلاً
ولا علم لي من أي جنبيّ مصرعي ... وفي أيما أرض يخط لجانبي(10/85)
العدد 11 - بتاريخ: 6 - 4 - 1913(/)
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية
وهذه الجزيرة جِدُّ خصيبةٍ وكلأها لا ينقطع في صيف ولا شتاء وهي كثيرة الأمواه والعيون والفواكه والأرزاق. وجبالها كلها مثمرة بالتفاح والشاه بلّوط والبندق والأجاص. ومنها يجلب الجوز والقسطل إلى بلاد إفريقية ويجلب منها كثير من القطن - وفيها معادن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والزيبق - وهي مستبحرة العمران كثيرة المدن والقرى والضياع فقد أخبرني ثَبَت ثقة أن بهذه الجزيرة مائة وثلاثين بلداً بين مدينة وقلعة عدا ما فيها من الضياع والمنازل والبقاع - وكلها مسكونة بالمسلمين ملأى بالمساجد والفنادق والحمامات. وفيها من العلماء والفلاسفة والأدباء، ما لا يكاد يدركه العد والإحصاء - ومن مشهور مدائنها مدينة بلَزْم قصبة هذه الجزيرة وسيأتي القول عليها مفصلاً عند ذكر وصولنا إليها إن شاء الله. وبين مدينة بلزم هذه ومدينة مسيني توجد المدن الآتية واقعة على ساحل البحر غربي هذه الجزيرة وهي مدينة ثرمة وليبري وبقطش وجفلوذ والقارونية وقلعة القوارب وميلاص وجطين وشنت ماركو. وسنصفها لدى ذكر مرورنا بها - وبين مسيني وبارم على سيف البحر شرقي الجزيرة وجنوبيها تقع البلدان الآتية. على الترتيب الآتي هكذا. مدينة طبرمين بشرقي مدينة مسيني على مرحلة منها وهي مدينة أزلية قديمة من أشراف البلاد وأعيانها، وقلعة حصينة من أصول القلاع وأركانها، وهي على جبل مطل على البحر يسمى جبل الطور وفيها كما حدثني أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف ملعب من ملاعب الروم القديمة كأنه: زعم أبو عبد الله: شِعب بوّان الذي يقول فيه أبو الطيب المتنبي:
مغاني الشعب طيبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان
ملاعب جِنة لوسار فيها ... سليمان لسار بترجمان
طَبَت فرساننا والخيل حتى ... خشيتُ وإن كرمن من الحران
غدونا تنفض الأغصان فيه ... على أعرافها مثل الجمان
فسرت وقد حجبن الشمس عني ... وجئن من الضيا بما كفاني
وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان(11/1)
لهَا ثمر تشير إليك منها ... بأشربة وتفن بلا أواني
وأمواه يصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني
وقد فتح المسلمون هذه المدينة أيام إبراهيم بن أخمد بن الأغلب وكان عادلاً حازماً في أموره آمن البلاد، وعصف بأهل البغي والفساد. وبني الحصون والمحارس على سواحل البحر حتى كان توقد النار من سبتة فينتهى الخبر إلى الإسكندرية في الليلة الواحدة وذلك لسبع بقين من شعبان سنة تسع وثمانين ومائتين الموافق أول أغشت الرومي سنة اثنتين وتسعمائة. وكان لفتح هذا البلد أسوأ وقع في نفس الأنبرور صاحب القسطنطينية حتى بقي سبعة أيام لا يلبس التاج وقال لا يلبس التاج محزون - ثم مدينة قطانية على ستة أميال من مدينة لياج الواقعة بينها وبين طبرمين وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر في سفح جبل النار وتسمي الآن مدينة الفيل لأن فيها طلسما من حجر على صورة فيل كان منصوباً فيما غبر من الأيام علي بناء شاهق ثم نقل ونصب داخل المدينة وبهذه المدينة الأسواق العامرة، والديار الزاهرة، والمساجد والجوامع والفنادق والحمامات - ثم مدينة سرَقوسة شرقى مدينة قطانية على مرحلتين كبيرتين منها. وهي من مشاهير المدن وأعيان البلاد، تضرب إليها أكباد الإبل من كل حاضر وباد، وهي على ساحل البحر والبحر محدق بها من جميع جهاتها وبها مابأ كبر المدن من الأسواق والخانات والمساجد والحمامات والمباني الرائقة، والأفنية الواسعة المونقة، ولها إقليم كبير طوال كله مزارع وجنات وأثمار. وقِد ما كان بها سرير ملك الروم فلما ملك المسلمون بعض الجزيرة نقلت دار الملك إلى مدينة قصريانه إلى أن امتلك المسلمون سائر الجزيرة. وقد فتح المسلمون سرقوسة هذه رابع عشر رمضان سنة أربع وستين ومائتين الموافق عشرين مايه الرومي سنة سبع وسبعين وثمانمائة - ثم مدائن نوطس وشكلة ورغوص وبثيرة وكركِنت وشاقة وملزَر ومرسي على وطرابُنشُ ومدائن أخرى كثيرة وكلها على ساحل البحر كما أسلفنا عدا مدينة رغوص فإن بينها وبين البحر نحواً من اثني عشر ميلاً - أما ميدنة فَصرُيانِه فهي في وسط الجزيرة على سن جبل وهي مدينة أزلية قديمة وقد كان فيها سرير ملك الروم نقل إليها كما أسلفنا بعد أن ملك المسلمون مدينة سرقوسة لحصانّها وقد فتح المسلمون هذه المدينة يوم الخميس منتصف شوال سنة أربع وأربعين ومائتين الموافق سلخ يناير الرومي سنة تسع وخمسين وثمانمائة(11/2)
ولما فتحها العباس الأغلبي بني فيها في الحال مسجداً ونصب فيه منبراً وخطب فيه يوم الجمعة وذل الروم بصقلية يومئذ ذلاً عظيماً.
وبعد فهذا الذي ذكرنا من بلدان هذه الجزيرة إنما هو غيض من فيض ونحسن إذا حاولنا ذكر سائر المدن والقرى والقلاع المعروفة في هذه الجزيرة، لاحتجناك عَمْرَك الله إلى أسفار كثيرة، وفي القدر غناء.
وقد رأينا من تمام الفائدة أن نصور للناظر في هذه الرسالة جزيرة صقلية وبعض بلدانها المشهورة وبلاد قلورية ومدينة ريو وجزائر أقريطش وسردينية قرشقة وميورقة ومنورقة ويابسة ومدينتي الإسكندرية والمرية وبالجملة كل ما جاء له ذكر في هذه الرسالة.
وقد آن لنا أن نرجع إلى ما نحن بصدد منه.
مدينة مسيني
أما مدينة مسيني فهي في ركن من الجزيرة بشرقيها مستندة إلى جبال قد انتظمت حضيضها وخناديقها والبحر يعترض أمامها في الجهة الجنوبية منها ومرساها أعجب مراسي البلاد البحرية كما أسلفنا لأنو المراكب الكبار تدنو فيه من البر حتى تكاد تمسكه ولا يحتاج إلى زواريق في وسقها ولا في تغريفها إلا ما كان مرسيا على البعد منها يسيرا فتراها مصطفة مع البر كاصطفاف الجياد في مرابطها وإصطبلاتها وذلك لإفراط العمق فيها.
وهذه مسيني هي رأس جزيرة صقلية وهي كثيرة العمائر والضياع وأرضها طيبة المنابت وبها جنات وبساتين ذات أثمار كثيرة ولها أنهار غزيرة عليها أرجاء جمة.
ولما نزلت إلى هذه المدينة سلمت أمتعتي إلى أحد الحمالين وقصدت معه أحد الفنادق فذهب بي إلى فندق قائم على جبل مطل على المدينة وكان لأحد مغاربة إفريقية فاحتفى بي صاحبه وبالغ في إكرامي واحتفل في راحتي حتى أنساني برقة حاشيته وطيب أنسه مجاشم السفر وذل الاغتراب - وقد صادفت في هذا الفندق أبا عبد الله الصقلي الفيلسوف وكان قد نهد أيده إليه من بلرم إلى مسيني لما علم بقدومي فكمل أنسى به وعراني من الغبطة والسرور ما لا يقوم بالعبارة عنه بيان. ولا يروم اطلاع فجه لسان. ولا سيما حين أخبرني أبو عبد الله أن ينتوي الذهوب إلى الأندلس وهي منتواي ومقصدي.(11/3)
أبو عبد الصقلي الفيلسوف
ولما رأيت أبا عبد الله وكنت لم أره قبل ذلك بيد أني سمعت عن فضله الجم وعلمه الغزير حتى شغفت برؤيته - والأذن تعشق قبل العين أحياناً - رأيت منه رجلاً تشد إليه الرحال، وتضرب إلى علمه أكباد الآبال، ويصاب عنده مقطع الحق واليقين، ويلقى لديه مفصل الداد في علوم الحكمة والدين
من مبلغ الأعراب أني بعدها ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
ولا جرم فإن أبا عبد الله فيلسوف عصره. وواحد قطره. وهو في علم الطب والحكمة منقطع النظير لا تكاد تفتح العين على مثله. وقد حذق اللسان الإغريقي وأحكم معرفته حتى كأنه من أهله. وهو في الأدب منظومه ومنثوره نادرة الفل وبكر عطارد.(11/4)
مذكرات إبليس
بقلم الأستاذ عباس محمود العقاد
إغواء فتاة
قال إبليس: كنت أتمشى في بعض أحياء القاهرة وقد نهكني الفكر وأمضني أعمال الرأى. وكنت مشتغل البال بوضع مكيدة جهنمية أوقع بها سلسة الأمم في طامة مشكلة وحرب زبون. فبينما أنا أسير في طريق عامرة بالقصور آهلة بأصحاب الثراء والجاه القديم حانت مني التفاتة إلى نافذة في دار قوراء فلمحت فتاة عذراء مفرغة في قالب بديع الحسن ينسجم على جسدها الغض غلالة بيضاء كأنها نسجت من رغوة الماء أو خيوط الضياء، تشف من بدنها عن بشرة صافية بضة، ونهدين قاعدين كأنما ينفذان من خلال ذلك الشف الرقيق. وقد اتكأت على النافذة تنظر إلى الطريق وتتنسم الهواء.
وما كنت أجهل مريم ولا أنا غافل عنها. ولكنها كانت طفلة تمرح في حراسة ملائكة الطفولة، فلا أجرأ على الدنو منها، وكانت زهرة في كمام الفضيلة فلا تمتد يدي إلى اقتطافها - وللطفولة حرم تحوم حوله الشياطين ولا تتخطاه.
فأما اليوم فإنها كاعب ينبض قلبها بدم الشهوة، وتجري في عروقها حرارة الهوى، وقد تفرقت عنها ملائكة الطفولة فلا شيء يعصمها مني، وتفتحت زهرتها فامتزج عرفها الطاهر بهواء الدنيا، وسوف يكون لي معها شأن كالذي كان لي مع غيرها من بنات حواء. ثم لا أترك فيها إلا كما يبقى في الزهرة الذابلة من شذي أحرقه في مباخر الجحيم.
ورأيت أن أعرج عليها في طريقي بها وأرفه عن نفسي ساعة بهذه الفكاهة اللطيفة، فأريح ذهني من جد الخبائث الكبيرة، والشرور المستطيرة وإن كان أغواء مثلها لا يحتاج إلى أكثر من دعابة شيطان صغير، من تلاميذي المبتدئين في صنعة الفساد.
وكانت مريم بنت رجل من ذوي المكانة والثراء، ظللت أضارب بعقله في المضاربات حتى خسر عقله وماله. ولم يبق له من الضياع والنشب إلا هذا القصر الذي يقيم فيه، فحجروا عليه وأقاموا له قيماً يتولى تأجير جانب من ذلك القصر وينفق من أجرته في مؤنة العائلة وتربية الصغار، فعكف الرجل على بيته لا يريم عنه، وقد هجره أصدقاؤه وتسلل حشمه من خدمته واحداً بعد واحد إلا خصياً منحوساً حفظ عهد سيده كما يقول، ولو علم(11/5)
الخبيث مرتزقاً أوسع جناباً، وأوطأ رحاباً من بيت سيده لفر منه فراره من المأسدة وكنت قد وكلت بمريم ولدى الأعور. فصرفته في دعوة فتي أنسى أستعين به أحياناً على خلب قلوب العذارى، وصعدت إلى مريم، فدخلت وإن نظرات النساء لمغناطيس يجذب إليه من قلوب الرجال حديداً صلداً. وإن كان ذلك الحديد ليكونن عليها في بعض الأحيان حداً ماضياً، أو نصلاً قاضياً.
ورأيتها عارية الشعر، عاطلة النحر، مجردة المعصم. فقلت ما كان أجمل هذا الليل لو زانته زواهر الجواهر، وما أليق الحلى الذهبية بهذه الترائب البلورية!! أو ما كان قرط الماس أجمل في هذه الأذن منه عالقاً بأذن جارتك مرجانة؟؟ وهو في أذنها السوداء كأنه شرارة طارت من فحمة!! وما بال هذا النحر لا تكسوه لبة ربما فاضت على صدر أسمر فلاحت فيه كما يلوح وضج البرص في الأديم الأسود، وما لهذا المعصم لا يزينه سوار ربما التوي على ذراع مهزول فكأنه مسعر قد التف عليه ثعبان!! وهل استخرج النضار إلا ليلمع على هذه الصدور؟؟ أو التقط الجوهر إلا ليسطع في ضياء الجمال الفضاح؟؟
وتلك رقية ما رقيت بها فتاة فقويت عليها وما دسست في صدر أنثى خدعة هي أسرى فيه من هذه الخدعة. بل لقد كنت أهجس بها في قلب المرأة فتؤثر لو أنها تصبح بغير جيد من أن يكون لها جيد لا تطوقه الحلى والعقود.
فما تلوت تلك السورة على مريم إلا وقد امتعضت وزال عنها ذلك البشر الذي كان منذ برهة يترقرق في أسارير وجهها. وكأنها تقول: إني لي هذه النفائس وهي نعمة قد حرمتها وأباها على الله أن يمتعني بها.
قلت أولاً يغنيك أبوك عن هذا التمني؟!
قالت إن أبي لكالضيف في المنزل، بيد أنه لا يكرم إكرام الضيف. وهذا القيم قد بات يقتر عليه في النفقة. وهو يستقطر من كفه الدرهم بعد الدرهم فإذا ظفر منه بعلبة التبغ حسبها منه غنماً كبيراً ومنة عظمي.
قلت: فخطيبك!! فبكت الفتاة وقالت لقد كان لي خطيب يزورنا أحياناً فيتودد إلي ويلاطفني. فلما تضعضعت حالنا وقعد بنا الدهر هجر الرخاء منزلنا وهجره في يوم واحد. فما سمعنا عنه منذ ذلك اليوم إلا أنه عقد خطبته بالأمس على إحدى قريناتي في المدرسة. ولو أنها(11/6)
كانت أملح مني خلقاً أو أصبح صورة لحسدتها على ملاحتها وصباحتها. ولكني لست أحسدها إلا على أب أكثر من أبي مالاً وأدنى إلى القبر قدماً.
قلت لا يعدم هذا الجمال عاشقاً يتقرب إليه بحياته، ويذال المال في سبيل مرضاته.
فانتفضت الفتاة وراعتها كلمة العشق. وما كانت تعرف إلا أن العشق والفسق شيء واحد. وكانت تسمع العجائز يقلن عن بنات اليوم أنهن فطح القلوب تتكشف نفوسهن لعيون الرجال وهي سر من أسرار الجنس المكنونة لا يجوز إفشاؤه، وخطة مدبرة يحرم إعلانها لغير بناته. ويأخذن على فتيان هذا العصر أطماعهن الرجال في جنس النساء. ثم يتذاكرن الأيام الخوالي وكيف كن يتمنعن وهن الراغبات، ويحرقن قلوب أزواجهن تيهاً ودلالاً، وتجنياً وصدوداً. ويخدعنهم بالتباعد حيناً وبالقرب أحياناً ثم يعطفن من ذلك إلى التوجع لسوء حظ بنات اليوم ويقلن لمن حضر منهن: لقد نعمنا بزماننا فاستقبلن اليوم زمانكن المعكوس. كأنما يضعن من شأن الصبا بعد أن فارقهن، ويأسفن على حظ الصبيات من الشباب لئلا يأسفن على فاتهن منه. أو كأنما يحسبن الفتيات ضرائر لهن في هذا العاشق المتقلب فينتقمن منه فيما يوليه أولئك الفتيات من تحفه ولطائفه.
وشوه وجه العاشق في عينيها ما كانت تقرأ وتسمع في المدرسة من وصف الفضائل وصفاً كوصف الأكمه لنجوم السماء، وتعريف العفة تعريفاً يشبه أن يكون معنياً به أن تتمثل لها العفة مناقضة لكل صلة جنسية غير تلك الصلة التي يسجلها الشيخ المأذون في دفتره، ولعمري أنها فضائل هوائية، أو هي نقائض متقنعة، وما مثلها إلا كمثل العواهر اللائي يخرجن في زي الحرائر، فيكون هذا الزي أغرى للأنظار بهن. ولا تعيش تلك الفضائل إلا بمعزل عن الرذائل. فهي لا تجالد الشهوات في ميدان ولكنها تمتنع عنها في حصن بعيد، فإذا اقتحمته الشهوات مرة أصبحت فضائله أسرى في يدها، بل ربما تقلدت سلاحها وحاربت به في صفها، وليست الثقة بهذه الفضائل إلا كثقة هاروت وماروت بنفسيهما في السماء. فلما هبطا إلى الأرض سكرا وفسقا وقتلا في لحظة واحدة.
يضع حمقى الأنس فضائلهم هذه عثرات في طريقي فأتناولها وأجعلها معالم يهتدي بها الناهجون فيها. ولا شيء يهون عليّ إغواء الفتاة الشرقية إلا عفة هي بصدور الكتب أجمل منها بصدر الفتاة.(11/7)
ليس لإغواء الفتاة الشرقية عندي إلا طعمة واحدة. فأما فتاة الغرب فإني أنصب لها أحبولة بعد أحبولة حتى تقع في يدي، وتصبح فريسة لي. فإذا انتقلت بالشرقية من الصيانة إلى العشق أبصرت نفسها قد انتقلت إلى حال ينكرها أهلها وذووها، ويستهجنها الناس من حولها، وعلمت أن ما هي فيه رجس لا يرضاه إلا هي. فخلعت العذراء وأرسلت نفسها في التيار، فذهبت إلى الغابة من التبذل والاستهتار.
فأما أختها الغربية فلا بأس بها من العشق ولا إنكار عليها فيه. فإذا أحبت لم ينته منها أربي. بل لا أزال أتنقل بها من العشق في أدوار شتى، وأتدرج بها من السائغ إلى المحظور ومن الطيب إلى الخبيث حتى يفضي بها الأمر إلى الفساد.
وكذلك أستفيد من غلو الشرقيين في فضائلهم ما لا أستفيده من تفريط سواهم. فكلما ضيقوا دائرة الفضيلة اتسعت دائرة الرذيلة، أو حصروا حدود الحسنات، انفرجت حدود السيئات.
وآنست من مريم استعصاء وتثاقلاً. فأخذت بيدها إلى نافذة تطل على حديقة جارهم. وكان في القصر الذي فيه الحديقة فتاة من لداتها قد سبحت في الغواية سبحاً، وتقلبت في المقابح ردحاً، وكانت يوم ذاك في هوى فتى هو ثالث عشاقها، والفتاة في العشق على مذهب أولئك الذين يخجلون من أن تراهم اليوم مع عاشق الأمس، ويحسبون أن الدوام على عاشق واحد كالدوام على لباس واحد. هذا ينم عن فقر إلى المال، وذاك يبين عن فقر إلى الجمال.
وكان الفتى يختلف إليها في الحديقة. وتعلم أمها من شأنها ما تعلم، ولكنها كانت تبادلها غض النظر. ولعلها لا تكره زيارة الفتى لأن عين بنت الثلاثين قد ترى كما ترى عين بنت الخمس والعشر!!
وكان مجلسهما في الحديقة تحت سرحة فرعاء، فيقضيان هنالك ساعة أو ساعات لا مقدار لها في تقويم العاشقين، لأن إله الحب وربات الزمن لا يتلاقون في مكان واحد، فإذا شغل الحب موضعاً فزمنه الزمن، وإذا خلا موضع من الحب تمطي به الوقت وتطاولت فيه الساعات.
وجلسا في تلك اللحظة وقد تعاقدا بالأيدي، وتجاذبا بالنظر فكأنهما يعالجان التنويم المغناطيسي، أو كأن كلاً منهما قد جمع روحه في عينيه لتتعرف من وجه صاحبه روحاً لقيتها في عالم الذر، فيطول أمد النظرة لطول العهد، ثم تختم بقبلة لا يدريان أهي راحة(11/8)
الذاكرة من هذا الإمعان والاستقصاء. أم هي بين الروحين تصافح المعرفة واللقاء.
فلما رأتهما مريم على هذه الحال، تضرمت في نفسها شعلة الصبا، وسرت في عروقها حميا الهوى، فقالت ليت لي عاشقاً!!
قلت أو تعشقين؟؟
قالت ولم لا؟؟ بل إني لعاشقة الساعة. وكأنني أجد نفسي بين يدي فتى أجلس منه مجلس هذه الفتاة من ذلك الفتى، وإننا نتلاحظ كما يتلاحظان، ونتعانق كما يتعانقان، ونقطف من زهر المنى في روض الهوى مثلما يقطفان قلت فاذهبي إلى عين الشمس. . . فهنالك تجدين عياناً ما تتوهمين خيالاً. واستقبلي عصاري اليوم في وديانها حبيبك المأمول ونعيمك المعسول.
وكان الأعور قد جاء بالفتى الأنسى وأرصده من منعطفات عين شمس بحيث أمرته. فوقف يتشاغل بالصفير ويغازل الغاديات والرائحات أما هذا الفتى فهو ممن طمست على بصائرهم وأضللت ألبابهم، وطوحت بهم في الفساد إلى حيث لا يبلغ صوت الضمير أو نداء الوجدان، فأصبح كسول النفس، بارد القلب، لا يخف إلى غير المخازي، ولا يرتاح إلى حديث في غير الشراب والنساء، ولا يرى إلا أن العالم حان أو ماخور.
وذهبت مريم إلى أمها فاستأذنتها في الخروج أصيل ذلك اليوم، وكانت أمها تخاف عليها مغبة ما بها من الكمد وتشفق أن تتلاشى نفسها غماً من غدر خطيبها، وانصرافه عنها إلى صاحبتها، فكرهت أن تجمع عليها بين ضيق الصدر وضيق الأسر، فأذنت لها ونادت بالخصي جوهر ليصحبها إلى حيث تشاء.
ولم يبق الأرَيْم من النهار فنوردت الشمس وتزينت مريم بأحسن زينتها وبرزت تتهادى في الطريق كأنها طاقة الزهر تترك بعدها عبقاً في حينما صافحت الهواء.
وطفقت كلما نقلت قد ما سمعت كلمة إطراء وغزل، وكلما أرسلت نظرة تعثرت في نظرات المقل، وهي ترى ذلك وتسمعه ولا تعيره نظراً أو سمعاً. وإنها لكذلك حائرة النظر، مشردة النفس بين الغرابة والخجل. إذ رمقت الفتى على قرب. فرأت قواماً قويماً، ومشية رشيقة ووجهاً تشرق فيه بشاشة الصبا، وفما تبتسم فيه الملاحة، وعينين ألاّقتين كأنما تضاحكان الضياء. فأحست كأن طائراً نض جناحيه بين جوانحها، ومشت قبالته وهي(11/9)
تنجذب إلى ناحيته على غير عمد، وقد علمت أنها ستسمع من ذلك الفم الجميل ما قد سمعت من أولئك الثراثرة المتعشقين. فخفق قلبها وتوهج خداها. وإذا هي على قيد باع منه، فسمعت صوتاً رخيماً ولكنها لم تتبين ما قال.
وحاولت أن تنحرف عنه فخانتها قدماها. ثم همت أن تنظر إليه فلم تطعها عيناها. ورأى الفتى ترددها ووجومها فأقبل عليها بكياسة الأمراء، وقال بلباقة الخطباء: ألست أنا أولى بمصاحبة هذا الملك السماوي من ذلك العبد الأدلم؟؟ وأشار إلى الخصي جوهر - وكان على بعد يحادث بعض أصحابه - فضحكت. وأدارت عينيها إليه ولكنها لم تلبث أن إدارتهما عنه. وما كان فتاي ليجهل أن أعراض الخجل والدلال إنما هو عين الإقبال؟ وإن انثناء الروعة إنما هو هزيمة في هذا المجال، فأسرع إليها بجرأة أفادته إياها ممارسة هذه المواقف. وأمسك يدها وهي ترتجف بين يديه. وأذهلتها هذه المفاجأة فلبثت هنيهة يخيل لها أنها تتأهب للحركة ولا تتحرك، وأنها تنبس بالكلام ولا تتكلم. كأن القلب الذي يوحى إليها الكلام والاعتزام قد طار منها في ملكوت الحب والهيام. فلم يبق منها إلا بصر شاخص كما ينظر الصبي في أثر العصفور أفلت من يده وإلا بدن مستسلم كأنه بين راحتي الكرى.
وأدركهما جوهر وهما على هذه الحالة. فأرسل يدها وأفاقت إلى نفسها وهي تقول: وا فضيحتاه! هذا جوهر أغا!!
وسمعاه يحر نجم ويطمطم بما لا يفهمانه. وكأن كلماته من اللكنة والعجمة أصوات بغير حروف. ثم قال: عيب يا بك! لا يليق بك أن تتهجم على الحرائر في قارعة الطريق! وليست هذه من أولئك اللائي تعرفهن!!. . . .
فاستقبله الفتى باسماً. وقال بما يعهد في هؤلاء الفتيان من الظرف وتزويق الكلام: سامحك الله يا أبي جوهر. فقد بالغت في إساءة الظن بنا. ولسنا نحن كما ظننت من السوقة الهمل. ولكننا أبناء قوم كرام والحمد لله. وأنت تعلم أن الآنسة أبعد من أن تكون مظنة ريبة لا سيما وهي ربيبتك وفتاتك ووالله ما كنت لا تصدي لمحادثَتها لولا أنها زميلة أختي في المدرسة، وأنها كانت تزورها في منزلنا فعرفَها وعرفتني هناك وامتد بينهما الاستسماح والاعتذار ثم دس في يده ديناراً أطال عهد الخصى بأمثاله، فطار له لبه وقال: وإلى أين تذهبان الساعة؟؟(11/10)
قال: نتمشى قليلاً حول هذه الحدائق ثم نعود. قال إذن أدع الآنسة في صيانتك ريثما أذهب إلى هذه القهوة ثم ألحق بكما بعد ذلك. قال مع السلامة!
وكذلك تصنع الدنانير والدراهم. فإنها - بارك الله لي فيها - قد سكها الناس ليجعلوها ثمناً لما تتداوله أيديهم من متاع الدنيا. فما زلت بهم حتى اشتروا بها المحاسن والمواهب، والأعراض والمذاهب. بل حتى لقد جعلتها في أيدي بعض الناس ثمناً للفردوس وبراءة من النار.
فما شعر الزنجي بالدينار في كفه حتى رأيته كأنما قد انعكس بريقه على وجهه، واعتدل ما التوى من خراطيمه. ثم تذكر موائد القمار وقد ودعها منذ سنين، فحن إليها وذهب يمتع نفسه باللعب، وهو حظ الخصيان من الدنيا ولذتهم فيها، بعد الطعام والشراب.
أما أنا فقد استدرجت الفتى والفتاة إلى حيث اختليا في بعض تلك الأماكن المنزوية عن الأنظار. . . ثم مضيت في سبيلي.
عادت مريم وهي لا تطيق الصبر يوماً عن عين شمس. ولذت رنات الذهب والفضة للخصى فأصبح يشتاق تلك النغمة كل أصيل. فإذا تأخرت آنسته عن الموعد قليلاً صعد إليها مستعجلاً. حتى خامر الشك قلب الأم.
فأبت عليها الخروج يوماً وما نعتها يوماً ثانياً وأغلظت لها يوماً ثالثاً. ولكنها انتظرت في اليوم الرابع على مضض، وألظ بها القلق فلبثت تتحرق حيرة وشوقاً. إلى أن حان موعد العصر فعزمت على موافاة عاشقها - سمحت أمها أم لم تسمح - فبينما هي تتهيأ للخروج قابلتها أمها فاستغربت منها هذه الجرأة. وقالت إلى أين يا مريم؟؟
قالت: إلى عين شمس!!
قالت: ألست تعلمين أنني أخاف عليك من هذه المدينة المشؤمة؟؟
قالت: أما أنا فأعلم أنه لا خوف عليَّ منها. . .
قالت: حسناً ولكنني لا أريد أن تذهبي إليها
قالت: ولكنني أريد ذلك. . . ألست حرة فيما أريد؟؟
هذه هي الكلمة الجديدة التي تعلمتها الفتاة. وكانت تعرفها من قبل، ولكن كلمة الحرية لم تكن تؤدي في قاموس الطفولة معنى عقوق الأم الرؤم، وإيلام ذلك الحنان الطاهر.(11/11)
ألست حرة فيما أريد. . .؟؟ نعم أيتها الفتاة أنت حرة فيما تريدين. . .!! وكل فتاة حرة أيضاً. . . . هكذا قال فلاسفة الحرية أكثر الله من أمثالهم.
إن حرية النساء مبدأ قويم، ولكن في الهيئة الاجتماعية منعرجات ومنعطفات لا تنطبق عليها المبادئ، القويمة إلا إذا التوت عندها بعض الالتواء، وليس من شأن الشريعة أن تجد مواضع هذا الالتواء، فإن الشرائع العامة لا تضع إلا القواعد العامة، وإنما هو من عمل البيئة والعائلة. وما دامت هذه الأزقة في الهيئة الاجتماعية فالمبادئ القويمة لا تخترقها كلها. فلا زال الحكماء يرسمون هذه المبادئ لإصلاح الناس فتتخذها نحن ذريعة إلى إفسادهم في بعض الأحايين. . . .(11/12)
نوابغ العالم
ابن الرومي
(تابع)
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لا ريب إن كثيراً من فصول هذه الرواية الإنسانية قد استسر خبرها، وأمحى أثرها، وأصبح عند الله علمها، ولكن ذلك لم يغلل أيدي الناس عن التنقيب والبحث، ولم يحل بينهم وبين ما يرومون من تفحّص أخبار الإنسان، والمبالغة في استخبار آثار عنه، وإن كانوا بعدُ لم يتمكنوا من الحجة، ولم يجدوا رائحة الكفاية، ولا ثلجوا ببرد اليقين،. . ألا ترى الناس على عجزهم الظاهر، وقصورهم البادي عن الإفضاء إلى حقيقة الأمر لا يزالون يجمعون ما تصل إليه أيديهم من آثار أبطال العالم وعظمائه، وإن كانت في ذاتها تافهة لا قيمة لها ولا وزن، علّهم يستشفون منها نفوسهم، ويستجلون أحلامهم وهواجسهم؟، إلا أنا اليوم على قلة الوسائل، ونزارة الذرائع، وضعف الأسباب، أفطن لمعاني العظمة والبطولة في الإنسان وأشد إدراكاً، وأحسن في الجملة تقديراً لها من أسلافنا. . فإنهم وإن كانوا قد رفعوا أبطالهم إلى مراتب الآلهة، ومنزل الأرباب، غير أن الناقد المتأمل ليجد في عبادتهم هذه شيئاً من خشونة حياتهم، وشظف عيشهم، ولكنا اليوم وإن كنا لا نسكن عظماءنا جبال (أولمب) أو (ولهلا) ولا نعتقد أن الشمس من مظاهر (أو رمزد) غير أنا على ذلك ألطف حساً، وأصفى نفساً، وأصح نظراً، وأوسع إدراكاً، وأحسن انتفاعاً. .
وليس معنى هذا أن آباءنا كانوا لا يفطنون للعظمة والبطولة ولكن معناه أن صلتهم بعظمائهم ونسبتهم إليهم كانتا على غير ما ينبغي أن تكونا، ولو نحن أردنا أن نثبت ذلك من طريق البرهان القيم، والدليل المقنع، لا حوجنا ذلك إلى التطويل، وإلى تكلف ما لا يجب، وإضاعة ما يجب، ولكنا نستغني بالاختصار عن التطويل، وبالإجمال عن التفصيل، ثقة منا واستيقاناً بأنها مسألة يجلوها أيسر النظر، ويكشفها أهون التأمل.
الإنسان مطبوع على الإيمان بالعظيم إيمانه بالحياة، وليس ثمة ما يعين على احتمال الحياة، ويجلى من وحشتها مثل هذا الإيمان، لأن العظيم في كل عصر كوكبه اللامع، ونبراسه الساطع، وبدره الزاهر، وبحره الزاخر، وليت شعرى هل الناس لولا العظماء الأجبال من(11/13)
النمال، أو تلال من الذباب؟؟
وكما أن الوردة لا يعييها أن تسطعك تفتحها، ويتثوّر إلى أنفك نسيمها، والجميل لا يشق عليه أن يتمثل لعينك حسنه، وترتسم في قلبك ملاحته، كذلك لا يرهق العظيم أن يسوغك من صفاته، ويضفى عليك مما أفاض الله عليه، وأسني له، وآثره به، ولكن ذلك لا يتهيأ حتى يكون بينه وبين الناس اتصال، وله إليهم انتساب وانتماء، وحتى يحس الناس أنهم واجدون عنده ما يحبون وبالغون منه ما يطلبون،. . فإن من الناس من يسدي إليك مالا حاجة بك إليه، أو يجيبك إلى ما لم تسأله، وهذا لا طائل وراءه، ولا ثمرة عنده، ولا خير فيه، وإنما العظيم من فطن إلى حاجة الناس فسدها، وأدرك مواضع الافتقار والضعف فراشها، ومن عرف موضعه وبلغ الناس ما في نفوسهم، وأمكنهم مما يطلبون. وليس يخطيء العظيم موضعه، أو يخفى عليه موقعه، لأنه كالنهر يحفر لنفسه مجراه، ويكوّن له ميلاً أينما تحدر، وأنت فإذا رجعت إلى نفسك ونظرت في تاريخ العصور التي ظهر فيها العظماء علمت علماً يأبي أن يكون للشك فيه نصيب، وللتوقف نحوك مذهب أن العظيم لا يظهر في عصر إلا إذا كانت الحاجة إليه ماسة، والافتقار إلى مثله شديداً، وأنه لو لم تلد آمنة محمداً صلى الله عليه وسلم لولده غيرها من نساء العرب، ولو لم يهرب شكسبير من بلده إلى لندره لنبغ من غيره هذا الشعر الذي تقرأ له اليوم، ولا يقنت أن العصر الواحد قد لا يسع أكثر من عظيم واحد، أو هو يسعه ويسع نقيضه في مذهبه، وعكسه في منزعه.
وكما أن النبات يحول معادن الأرض غذاء صالحاً للحيوان، كذلك العظيم يتناول الطبيعة فيستخدمها ويجيء الناس منها برجعة صالحة، والطبيعة إذا صادفت كفؤاً حقيقاً بها، ووالياً مطيقاً لها. وناهضاً مستقلاً بأعبائها أضفت عليه ملابسها، وكشفت له عن نفائسها، وأما علت عن سرها الحجب، ونقت عنه معتلج الريب، وكانت له رائداً فيما يطلب، وهادياً حيث يؤم ويذهب، فإنما تفضح الطبيعة عن مضمونها، وتظهر مكنونها، لمن تعرف فيه القدرة على فهمها وتوسعها من معاريض رموزها، واستشفافها من وراء لئامها. وتظن فيه الإيفاء في الوفاء. وتستشعر فيه الأبرار في الحفاظ، فإن دقائق الطبيعة وأسرارها، وخصائص معانيها، ليست مبذولة لكل أحد، ولا مذللة لكل من يبسط لها كفها، أو يرفع إليها طره، ولكن لمن إذاً ما نظر كان وما ينظر شيئاً أحداً، فإن الشيء لا يعرفه إلا شبيهه، ولا(11/14)
يحيط به إلا ضريبه أو ما فيه منه شناشن، كما يعرف الحديد الحديد ويجتذبه إليه، والإنسان من طينة الأرض فليس ينسى منبته. أو تختفي عليه طينته وجرثومته والطبيعة كتاب مطوى تعلن منه في كل عصر صحائف يتلوها على الناس أناس هدوا إليها، ودلوا عليها، وكشف لهم عنها، ورفعت الحجب بينهم وبينها، وكما أن الماء إذا بلغت حرارته المائة لم يزده إلحاح النار شيئاً، واستوي عند هذه الدرجة كل ماء، كذلك لعظمة الإنسان غاية ليس وراءها زيادة لمتزيد، ولا فوقها مرتقى لهمة، يستوي عندها كل من بلغها.
ترى في كل عصر ثلاثة من العظماء أو أربعة يحاولون أن يبلغوا هذه الغاية ويرتقوا إلى هذه النهاية، والناس من حولهم يرمونهم بعيونهم، ويتبعونهم بأبصارهم، وهم مجدون في الأصعاد، مندفعون في التوقل، لا يكترثون لم نظر ولا لمن لم ينظر، ولا يبالون بما يعترضهم في سبيلهم، حتى تتعاظم أحدهم عقبة فيَهِن، ويتعلل بأن لو كان على الجهد مزيد لبلغه، ويثبط الثاني تعاقب الموانع، وتواصل العقل، فينكل عما شمر له، والناس بين مبتئس له عاذر، وضاحك به ساخر، ويمضي الآخران حتى تكتنفهما السحب، ويغيبا عن عيون الناس، وترمقهما النسور، ثم يشتد البرد، ويعظم الخطب، وتثور الرياح، وتهيج العواصف، ويتوعر المرتقى، وتنصدع الأرض فيهوي أحدهما، والمجد خوان وغرار، وينطلق الآخر متخطياً رقاب الموانع، مذللاً ظهور العوائق، بين بروق السحاب ورعودها، وثورة العواصف وهجودها حتى ينتهي إلى الغاية، ويبلغ النهاية، فيصافح كونفوشيوس، وبوذا، وموسى، وعيسى، ومحمداً، وهومر، وشكسبير، وابن الرومي وغيرهم ممن لا حاجة بنا إلى حصرهم.
وهنا شبهة ضعيفة عسى أن يتعلق بها متعلق ممن لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا يفوتون أطراف بنانهم، وهي أن يدعي أني قد أسرفت في القول، وجاوزت الحد فيما زعمت من أن للعظمة غاية لا مزيد عليها، ولا متجاوز وراءها، وأن من بلغها من العظماء متكافئون في المزية لا فاضل بينهم ولا مفضول. وهي شبهة سائرة على الأفواه، وإنما دخل الغلط على الناس فيها من جهة حسبانهم أن العظمة تقاس كما تقاس الأرض طولاً وعرضاً وتحد كما تحد الدار شرقاً وغرباً، وخلطهم بين ما يحتمل النسبة والقياس وما لا يحتملهما، ونسيانهم أن الشاعر الفحل مثلاً لا يخمل أخاه الفحل، إذا أخمل العالم العالم، وأنه(11/15)
وإن كان كل روائي مديناً (لهومر) إلا أن هذا ليس بمانع أن يدرك شأوه أحد من غير أن يزري به، كما أزري (جاليليو) بدائنه (متزو) وكما أزري (كبلر) (بجاليليو) و (ديكارت) بالجميع وإنما كان هذا كذلك لأن العلم لا يقف عند حد، ولا يطمئن إلى حال فهو أبداً في تقدم، ولعل خير الكتب العلمية أحدثها، فالجديد منها ينسخ القديم، والمتأخر من العلماء يبني على ما أسس المتقدمون، ويشيد على ما وضع الأولون، والأصل في كل شيء أن يزيد ويقوى ويتقدم، ولكن جمال الشعر في أنه ليس قابلاً لشيء من ذلك، لأنه ابن الإرادة، ولأن العلم اكتسابي والشعر وحي وإلهام، فإن امتريت في هذا فأرجع البصر في القرون الخالية هل ترى شكسبير غض من دانتي، أو دانتي من هومر؟ وليس معنى هذا أن الشعر جامد لا يطرأ عليه تغير، ولا يلحقه تحول، وإنما معناه أنه يتحول ولا يتقدم، فإن شعر أبي تمام غير شعر المتنبي وإن كانت الأغراض واحدة، ولا الثاني بعد لا يفضل الأول ولا الأول الثاني. .
ولكن ما عسي دهشة صولون تكون إذا علم أنّا لا نعتمد اليوم في حساب السنة على القمر، أو زينون إذا رآنا نسخر من قوله أن الروح مقسمة إلى ثمانية أجزاء، أو أفلاطون وهو من تعلم إذا قيل له أن ماء البحر لا يشفى كل داء، أو أبيقور إذا علم أن المادة تتجزأ إلى مالا نهاية له من الأجزاء، أو أرسططاليس إذا قيل له أن خامس العناصر ليس له حركة كروية، لأنه ليس ثمة عنصر خامس، أو أيمنيد إذا علم أن اختلاط الشاء والنعم بيضائها بسودائها وتقديم بعضها قرباناً للألهة لا ينفع من الطاعون ولا غيره، أو كريسباس إذا قيل له أن الأرض ليست سطحاوان الكون ليس مستديراً محدوداً، وأن لحم الإنسان خير طعام للإنسان، وأن الأب لا ينبغي أن يتزوج من ابنته، وأنه رب كلمة لا تقتل الحية ولا تذلل الدب، ولا توقف النسور في الجو، وأنه وإن كان سيف (جوبتر) مصنوعاً من خشب السروفليس يجب من أجل ذلك أن لا يصنع النعش منه، وأن العنقاء لا تعيش في النار ولا في غيرها، وأن الهواء لا يحمل الأرض كما تحمل العربة الأثقال، وأن الشمس لا تشرب من البحر ولا القمر من الأنهار، وأنه لا يعرف شيئاً وإن كان أهل (أثينا) قد نصبوا له تمثالاً نقشوا عليه:
إلى كريسباس الذي يعرف كل شيء.(11/16)
أما في الشعر فالأمر على خلاف ذلك، لأن الآتي لا يفوق الفائت، ولكن يبلغ شأوه، ولا خوف على متقدم من متأخر، فإن المتنبي لم يخمل اسم النابغة، ولا صغر المعري قدر البحتري، ولا أنزل الشريف من رتبة ابن هانئ، ولا ابن الرومي من بشار، ولقد أعجبتني كلمة كتبها (جويتى) إلى معاصره (شيلر) قال:
لقد عادت النفس فحدثتني أن أجعل قصة (وليام تل) ملحمة شعرية، ولست أخشى على من روايتك، ولا بأس عليك مني ولا بأس عليَّ منك.
وهذا صحيح لأن الشعراء لا يركب بعضهم أكتاف بعض ولا
يدفن بعضهم بعضاً ويمشي ... أواخرهم على هام الأوالي
وليس الأصل في الشعر التقليد والحكاية والطبع على غرار من سبق، إذ لو كان هذا كذلك لاستوجب ذلك أن يظهر الفحول من مثل هومر وشكسبير وابن الرومي في آخر العصور ولا في أولها، ولكنك ترى الشعر في جاهلية الأمم وبداوتها كالشعر في حضارتها، لطف تخيل، ودقة معنى، وسداد مسلك، وقصداً للغاية، لأن شاعرية الإنسان لا يلحقها نقصان، ولا يعروها فتور في عصر من العصور، كالبحر، وليس يزيد البحر صوب الغمام، ولا يضيره احتباس الغيث، وأنت فلا يغرنك ما ترى من الكلال في الأوقات، والضعف في الأحيان، فإن المدّ في جهة يستلزم الجزر في أخرى،. . وكما أن البحر إمّا جاش يبثك ما في صدره مرة واحدة، ويفيض لك بجميع سره موجه الملتطم، وأذيه المصطفق، ولجه المربد، وثَبَجُه المغبر، كذلك يستريح إليك الشعراء بمكنون سر النفس الإنسانية، وباطن أمرها، ويفرشونك ظهرها وبطنها، في كل عصر، وكتتابع الأمواج تتابع الشعراء: تسكن الإلياذة فتثور (الرومانسيرو) ويرسب الإنجيل فيطفو القرآن، وتأتي بعد نسيم النواسى زوبعة ابن الرومي وبعد صبا البحتري صرصر المعري،. . . ورب مستفسر يقول إذا كان هناك كذلك أفليس كل واحد صورة معادة لمن سبقه وهذا خطأ وهو أيضاً صواب فإن الشعراء جميعاً أشكال متشابهون على أنهم بعد يتفاوتون التفاوت الشديد، فالنفس واحد، والأصوات مختلفة، والقلوب متطابقة، والأرواح متباينة، وكل شاعر يطبع الشعر بطابعه ويسمه بميسمه.
كذلك الرياح نسيم وعواصف، وصرصر وحرور، وهي بعد كلها رياح،. . والأيام سبت(11/17)
وأحد واثنين ولكل يوم حوادثه ومميزاته وهي بعد كلها أيام، والشعراء هومر وفرجيل وشكسبير وابن الرومي والمتنبي ولكل صفته التي تميز بها وهم بعد كلهم شعراء وكلهم هومر وكلهم شكسبير وكلهم ابن الرومي.
وبعد فأنا كما يعلم القارئ مما أسلفنا عليه القول في صدر كلامنا على البطولة لا نرى رأي كارليل الذي بسطه في كتاب الأبطال وعبادة البطولة حيث يقول هذه حقائق كان الأقدمون أسرع إلى إدراكها منا نحن. . . . . . . . كانوا بدلاً من اللغو واللغط في شأن الكائنات ينظرون إليها وجهاً لوجه والروع والإجلال حشو قلوبهم أولئك كانوا أفهم لآيات الله في كونه وأدرك لسر الله في عبيده - كانوا يعرفون كيف يعبدون الطبيعة وأحسن من ذلك كيف يعبدون الإنسان!.
بيد أننا لم نذهب إلى أن الأقدمين كانوا أضعف منا إدراكاً للعظمة والبطولة ولا أقل فطنة لمعانيهما ولا أبطأ حساً، وإنما قلنا إنا أحسن تقديراً لهذه المعاني منهم، وأقل غلواً وأدق استشفافاً لها واستبطاناً لكنهها وهذا مالا ينكره علينا كارليل في كتابه الذي أشرنا إليه، فإن الناظر في كتاب الأبطال يعرف من تبويبه وتنسيق فصوله كيف تطور معنى البطولة كما تطور كل شيء في العالم، وكيف أن الإنسان كان في بادئ الأمر يعبد الأبطال ثم عرف أن الألوهية ليست للإنسان، وهنا مسألة عجيبة الأمر لطيفة المأخذ وهي أن الأنبياء هم أول من صرف الناس عن عبادة الناس وصححوا أخطأهم في ذلك وكسروا من غلوائهم وأقاموهم على طريقة هي لا ريب أمثل وأفضل، ثم أدرك الناس بعد ذلك أن البطولة ليست قاصرة على الأنبياء وأنهم لم يختصوا بها وحدهم دون غيرهم وأنه رب قسيس كلوثر هو في المنزلة الأولى بين الأبطال ثم فطنوا إلى أن الأنبياء والقساوسة ليسوا كل العظماء وأن الشاعر عظيم والفيلسوف عظيم والملك عظيم، فهل يدعي بعد ذلك أحد أنّا اليوم لسنا أوسع من الأقدمين مجال فكر وأبعد مرمى نظر وأننا لسنا أفطن للعظمة في جميع مظاهرها؟ ثم ألست ترى كيف أن الأقدمين كانوا يتوجهون إلى العظماء بقلوبهم دون عقولهم وإنّا نتوجه إليهم بقلوبنا وعقولنا معاً!
وبعد فإن مجال الكلام ذو سعة، ونحن نخشى أن يطول عنان القول ويمتد بنا نفس الكلام فنخرج عما قصدنا إليه ولحسبنا هذه المقدمة الوجيزة. وإن كنا لم نستوعب فيها أطراف(11/18)
الموضوع وأغراضه المتشعبة ولكنا حريون أن لا نمتحن صبر القارئ وأن ندخره لما يأتي،. .(11/19)
ثورة النفس
أرسل الأديب عبد الرحمن شكري إلى صديقيه الأديبين عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني قصيدة بهذا العنوان من القافية المزدوجة فأجاباه كل بقصيدة من القافية والبحر وهذه هي القصائد الثلاث:
قال شكري:
للنفس في بعض الأحايين ثورة ... يكاد لها جسم الفتى يتمزق
فيا نفس كم تبغين ما ليس حادثاً ... وحتام آمالي لديك تحرق
هياج كما هاجت قطاة تعلقت ... بأحبولة الصياد إذ ليس مهرب
أما في سكون الليل يا نفس واعظ ... أما في سكون الروض ملهى ومطلب
فهل تحسبين نائماً كلَّ ساكن ... وهل تحسبين ميتاً كل هاجع
نعم إن للشلال روعاً وهيبة ... ورب جلال للعواصف رائع
نعم للرياح الهوج هول وقسوة ... وللبحر أمواج تهيج فتحرب
أغرك من هذي الطبيعة أنها ... تثور فلا يقوى عليها المغلب
وما أحسب اليمّ الخضم بثائر ... إذا كان هذا اليم يشقى ويألم
وما القلب إلا لوعة تأكل الحشا ... وما الجسم إلا ذلك اللحم والدم
نعم أنت فيما تبغضين مصيبة ... ويا حسن ما تبغين من خير مطلب
ويا حسن ما تملى الخيالات أنها ... حلّى على جيد من الدهر أجرب
تريدين أن الجسم يغدو كأنما ... يضيء به منك الضياء المحجب
إذاً لأراقت كل نفس ضياءها ... على ظلمة للعيش والعيش غيهب
سأبذل جهدي في تعلم رقصة ... لأرقصها إن الحوادث تطرب
فيا نفس قومي فارقصي في جوانحي ... كما رقص المجنون يهذي ويلعب
فلا تعذلوني إن لليأس رقصة ... تعلمها المحزون من نشوة الأسى
وللنفس آهات من اليأس والجوى ... تحقر آهات الأناشيد والهوى
فيا ليت أني في فم البرق كامن ... فيودعه الأشجانَ قلب معذب
ويا ليت أني مثل (زوس) مسيطر ... على الرعدان يغضب كذا الرعد يغضب
ولكنني أما صرخت كصارخ ... غريق له صوت من الماء خافت(11/20)
ورب بليغ راجح الرأي والحجا ... ولكنه بين الحوادث صامت
وقال العقاد:
شكوتَ الذي أشكوه فاعلم بأنني ... وجدت من الأيام ما أنت واجد
أضر بعيني النقع حتى حسبتني ... أكابد وحدي في الوغى وأجاهد
أتحسب أن اليمّ يسكن إن شكا ... نظائر ما نشكوه من الثوران
ولو كان يلقى ما نلاقي من الأذى ... لطاف على الأرضين بالفيضان
أهابت بنفسي وثبة بعد وثبة ... كما نهض الرئبال لم يرأم الأسرا
وقد روضّها الحادثات فأخلدت ... إلى القيد حتى ما تهم به كسراً
لقد كنت أرجو في الحياة لبانة ... فعدت ومالي في الحياة رجاء
وكنت أظن الناس إلا أقلهم ... كراماً إذا هم كلهم لؤماء
وكان خيالي في السماء محلقاً ... فهاض جناحيه الزمان المغرر
إذا استل منه ريشة بعد ريشة ... جرى دمه في أزهار يتحدر
وكنت إذا هبّ الرجاء ابتدرته ... وساورت تيار الحياة بلا جدوى
فأسلمت نفسي للزمان فأشبهت ... سواحله الخضراء أغواره القصوى
عجيب من الدنيا توالى صروفها ... وأعجب منه حبنا لدوامها
هو العيش داء والنفوس مريضة ... ولكنها تأبى شفاء سقامها
إذا جهل المرء الحياة أحبها ... وقد يعشق الإنسان ما ليس ينظر
يشوّقنا من يحجب الشك حسنه ... وقد نؤثر السلوان ساعة يسفر
يلذ لنا مطل الرجاء كأنه ... حبيب يروق المطل منه ويعجب
ونعرض عن صدق القنوط لأنه ... عبوس المحبة شاحب الوجه أشيب
على أنني أحيا كأني عائش ... لغيري فلا نفعاً أُصيب ولا ضرا
وقد كنت أُزْهَى بالأمور فإنني ... لأخجل مما كنت أزهي به دهراً
وآدم في الفردوس ما زال عارياً ... يهش لريحان النعيم ويقطف
فلما جنى غرس الحقيقة راعه ... من الأمر ما قد كان من قبل يألف
أصوغ على ضرب الحوادث نغمة ... وليس لأنغام الزمان تناسب(11/21)
فأرقص محزوناً وأرقص راضياً ... وأُرقص هذا الكون والكون غاضب
يجيش ضميري بالهموم فتغتدي ... سواكن هذا الملك وهي تمور
إذا شبت النيران باتت ظلالها ... تميل على جدرانها وتدور
فيا ويح للنفس التي يكبرونها ... وأكبر منها في البقاء الجوامد
أيشعلها قوت ويطفئ نارها ... نسيم سري من عالم الموت بارد
أتشرق حتى يملأ الكون نورها ... وتخمد حتى في ضريح تغيّب
سراج ولكن ما احتمى أن يدوسه ... من الموت طفل بالعوالم يلعب
كذاك ترى المصباح ينشر حوله ... أشعة نور لا يحيط بها الطرف
فإن حطمته الكف آض زجاجة ... مفرقة الأجزاء تحملها الكف
ولو أن بالإنسان جسماً كروحه ... وكان سواء بطشه ومواهبه
لنادي الضحى قف يا نهار فلم يسر ... ونادي الدجى هيا فسالت غياهبه
وقال المازني:
أخا ثقتي كم ثارت النفس ثورة ... تكلفني مالا أطيق من المض
وهل أنا إلا رب صدر إذا غلا ... شعرت بمثل السهم من شدة النبض
لبست رداء الدهر عشرين حجة ... وثنتين يا شوقي إلى خلع ذا البرد
عزوفاً عن الدنيا ومن لم يجد بها ... مراداً لآمال تعلل بالزهد
تراغمني الأحداث حتى إخالني ... وجدت على كره من الحدثان
فلا هي تصمي القلب مني إذا رمت ... ولا ترعوي يوماً عن الشنآن
أبيت كأن القلب كهف مهدم ... برأس منيف فيه للريح ملعب
أو أني في بحر الحوادث صخرة ... تناطحها الأمواج وهي تقلب
أدور بعين حيّر العيش لحظها ... وأرجعها محمرة كالشقائق
كأن فؤادي بين شجو وترحة ... أديم تفريه أكف الخوالق
أكن غليلي في فؤادي ولا أرى ... سبيلاً إلى إطفاء حر جوى الصدر
أعالج نفساً أكبر الظن أنها ... ستذهب أنفاساً أحراراً على الدهر
إذا اغتمضت عيناي فالقلب ساهر ... يظل طويل الليل يرعى ويرصد(11/22)
وما إن تنام العين لكن أخالها ... تدير بقلبي نظرة حين أرقد
وهل نافعي أن الرياض حَليّة ... منورة النوار هادلة الطير
وما فرحي أن الرياح رواقد ... إذا كنت سهران الفؤاد مدى الدهر
نسيم يرد النفس حيناً لناشق ... وأي أوام بعده وأوار
تطول ظلال النبت والشمس طفلة ... فإن هي جدت صرن جد قصار
سأقضي حياتي ثائر النفس هائجاً ... ومن أين لي عن ذاك معدى ومذهب
على قدر عرفان الحياة شقاؤنا ... وللسعد جو بالبلادة مشرب
خليلي مهلاً بارك الله فيكما ... فما في سكون الليل يستثير رواقدي
وإن سكنت نفسي فليس بضائري ... رياح تجر الذيل حولي وتعصف
فليس يضير الحوت في البحر إنه ... يهيج وإن الموج يطغي ويعنف(11/23)
فصل من كتاب سر تطور الأمم
ننشر هنا الفصل الأخير من كتاب سر تطور الأمم الذي عني بنقله إلى العربية شيخ الكتاب الاجتماعيين في مصر العالم أحمد فتحي زغلول باشا - وهذا الفصل هو كالفهرس لسائر أبواب الكتاب وموضوعاته وبقراءته يلم القارئ بنظريات هذا الكتاب إلماماً. قال:
لكل أمة خواص نفسية ثابتة خواصها الجسمية تقريباً. والنوع النفسي كالنوع الجسمي أي المادي لا يتغير إلا على طول السنين ومر الأجيال.
يوجد بجانب الخواص النفسية الثابتة الوراثية التي يتكون منها المزاج العقلي لكل أمة خواص ثانوية تنشأ من تغيرات البيئة وتتجدد على الدوام فيخيل لذلك أن الأمة في تحول مستمر كبير.
المزاج العقلي لكل أمة هو خلاصة أفرادها الأحياء وأسلافهم الذين كونوها. فالشأن الأول في حياة الأمم للأموات لا للأحياء لأنهم هم الذين خلقوا شعورها الأدبي وهيأوا الأسباب البعيدة في سيرها.
تمتاز الأمم بعضها عن بعض بفروق كما امتازت بفروق نوعية. والأولى ملازمة للثانية. والفرق ضعيف بين أفراد المثال الوسط في أمة ومثلهم في أمة أخرى وعظيم جداً بين أفراد الطبقات الراقية. ومن هذه المقارنة يتبين أن الفارق بين الأمم الراقية وبين الأمم المنحطة هو في احتواء الأولى عدداً غير قليل من ذوي العقول الكبيرة وفي أن ذلك غير موجود في الثانية.
يتساوى أفراد الأمة المنحطة فيما بينهم مساواة واضحة وكلما ارتقت الأمة وجدث الفروق بينهم. فأثر الحضارة الذي لا بد منه هو إيجاد الفروق بين الأمم وبين الأفراد وعليه فهي سائرة نحو التفاوت لا نحو المساواة.
حياة الأمة ومظاهر حضارتها مرآة روحها تدل على أمر خفي لكنه موجود. فالحوادث الخارجية أثر ظاهر النسيج خفى هو الفعال.
ليس الشأن الأول في حياة الأمم للاتفاق ولا للأحوال الخارجية ولا للنظامات السياسية على الأخص بل لخلق كل أمة.
لما كانت عناصر مدنية كل أمة هي للدلالة الخارجية على مزاجها العقلي أعني ممثلة حال تلك الأمة من حيث الكيفية الخاصة بها في شعورها بالمحسوسات وتصورها إياها فمن(11/24)
المتعذر نقل تلك العناصر إلى أمة أخرى من دون تغيير فيها. وإنما الذي يمكن نقله هي الصورة الظاهرة السطحية التي لا قيمة لها.
اختلاف المزاج العقلي بحسب الأمم يجعل كل واحدة تتصور الوجود بصورة خاصة فهي إذن تختلف في الحس والعقل والعمل. ويقوم النزاع بينها على جميع المسائل متى احتكت ببعضها. وهذا التنازع هو سبب جميع الحروب المدونة في التاريخ. فحروب الفتح والحروب الدينية وحروب العائلات المالكة كلها في الحقيقة حروب جنسية لا يتكون من مجموع أفراد مختلفي الأصل شعب مستقل. أعني أنهم لا يكون لهم روح يشتركون فيها كلهم إلا إذا كثر تبادل النسل بينهم مدة طويلة. واتحدت معيشتهم في بيئات متحدة. وصارت مشاعرهم واحدة ومنافعهم مشتركة. ومعتقداتهم عامة لا يكاد يوجد في الأمم المتحضرة شعوب أصلية بل ليس هناك إلا شعوب صناعية تكونت من أحوال تاريخية.
لا يؤثر تغيير البيئة تأثيراً شديداً إلا في الشعوب الجديدة أعني التي تكونت من أخلاط شعبية تفككت أخلاقها الموروثة بكثرة التناسل. فلا يفل الوراثة إلا الوراثة. وإذا لم يكن للتناسل من القوة ما يكفي لزعزعة الأخلاق وتشتيتها كان تأثير تغيير البيئة قاصراً على التخريب. وقد يموت الشعب القديم ولا يقبل التغيير الذي تقتضيه ضرورة انطباعه على بيئة جديدة.
تبلغ الأمة ذروة مجدها متى تم لها روح قوى قام وتسقط متى تحلل هذا الروح. وأهم العوامل في هذا التحليل دخول عنصر أجنبي في الأمة.
تتأثر الأنواع النفسية كالأنواع المادية بالزمان كلاهما يهرم ويموت. وتحتاج كلها في تكوينها إلى زمن طويل. وقد تزول في وقت قصير. إذ يكفي أن تضطرب وظائف أعضائها ليحدث فيها تطور نحو السقوط وقد تكون نتيجة الدمار العاجل. فالأمم تقطع قروناً طوالاً قبل أن يثبت لها مزاج عقلي خاص. وقد تفقده في برهة يسيرة. فالشقة التي تسير فيها إلى الحضارة بعيدة. ومنحدر السقوط قصير غالباً.
المبادئ من أهم عوامل الحضارة بعد الخلق ولكنها لا تؤثر إلا بعد أن تتطور على مهل حتى تصير شعوراً وتصبح جزءاً من الخلق نفسه وتخرج بذلك من دائرة البحث والنظر. ولا تزول المبادئ إلا بعد مرور دهر طويل. وكل حضارة ترجع إلى بعض مبادئ أساسية(11/25)
مسلم بها من الكافة.
أهم المبادئ المؤثرة في الحضارة المبادئ الدينية واختلاف الأديان هو السبب البعيد في أعظم حوادث التاريخ. فتاريخ الإنسانية مقترن على الدوام بتاريخ آلهتها. وهؤلاء أبناء خيالنا ولهم مع ذلك سلطان كبير حتى أن تتغير أسمائهم كاف وحده في قلب نظام العالم بأسره. وظهور آلهة جديدة كان على الدوام طليعة لحضارة مقبلة واختفاؤهم كان على الدوام نذيراً بزوال حضارة مدبرة.(11/26)
أخبار العلم
ننشر في هذا الباب كل ما نعثر به في صحائف الغرب من أخبار العلم والمكتشفات وما إلى ذلك من كل ما يفيد قراء البيان ويوقفهم على الحركة العلمية في العالم وهذه طرف من هذا الباب أهداها إلى البيان الكاتب الفاضل السيد صالح بك حمدي حماد.
مطارحات علمية
ابني نجيب - محصول الذهب في العام الماضي - اللؤلؤ - كارثة الكبتن سكوت - الذباب ومضاره - النساء - تحويل القوة إلى مادة - عيون النبات.
من عادة ابني نجيب ذلك الفتى الألمعي إذا قدم من المدرسة أن يلزم مجلسي ويشرع يتصفح ما عندي من المجلات الفرنسية والصحف العلمية وينظر فيها بشوق فخطر لي يوماً أن أختبره فيما يطالع منها فقلت له وأنا أبتسم:
ـ لعلك يا بني تفيد من هذه المطالعة وتزداد منها معلوماتك ولا تعوق عليك سيرك في علومك المدرسية، قال: أجل إني أميل إلى اجتناء ثمار هذه الصحف في بعض ساعات الفراغ وأؤكد لك أيها الوالد الشفيق أنها لا تضر بي بل هي تزيد معلوماتي، قلت: وما الذي أفدته اليوم وهل يمكنك أن تقول لي شفهياً خلاصة ما جنيته من المطالعة في هذا الأسبوع وما علق بذهنك من الحقائق العلمية، قال: نعم ولكنني أطلب إليك فقط أن تذكرني الموضوع وذلك أن تفتح إحدى هذه المجلات التي لدينا وتلقي عليّ في شكل سؤال ما تريد وما أذكره أنا يكون الجواب المختصر المفيد.
فعظم نجيب في عيني وأعجبتني قوة ذاكرته فقلت وأنا نشوان من الفرح:
ـ حسناً يا بني رأيت ثم مددت يدي إلى إحدى المجلات وفتحتها فوقع بصري على موضوع الذهب في العام الماضي فقلت: ماذا تقول هذه الصحيفة في مستخرج الذهب في العالم في السنة الماضية أي عام 1912م.
قال: لقد دل الإحصاء الأمريكي أن مستخرج الذهب من مناجم أمريكا قد زاد في العام الماضي عما قبله بمقدار عشرة ملايين وربع من الريالات تقريباً وإن قيمة المستخرج منه من بلاد الترنسفال في تلك المدة بلغ ثمانية عشر مليوناً ومائتين وخمسة وعشرين ألف ريال ودل إحصاء البلاد الأخرى كرودبسية وغرب إفريقية ومدغسكر وأمريكة الوسطى(11/27)
والجنوبية وكندة ومناجم أوربة والهند وكورية واليابان على أن زيادة المستخرج من النضار قد تضاعف في العشرين عاماً الماضية إلا ما حصل فيه من العجز سنتي 1900 و1902 بسبب تعطل العمل في مناجم الترنسفال أبان حرب البوير، والزيادة الحاصلة في المستخرج من الذهب إنما حصلت من اكتشاف مناجم جديدة للنضار في إفريقية وأمريكة وسيبيرية.
ثم أن للقارة الإفريقية السوداء المقام الأول في استخراج الذهب لأن ما يستخرج منها يبلغ 45 في المائة مما يستخرج من العالم كله ويبلغ ما يستخرج من مناجم الترنسفال وحدها 40 في المائة من ذهب العالم.
ويلي الترنسفال الولايات المتحدة الأمريكية وإن كان قد نزل محصولها الذهبي إلى النصف وهبط عنه قليلاً في العام الماضي، أما أوسترالية فقد ظهر العجز أيضاً في المستخرج من مناجمها في العام الماضي وتدل الأحوال على أن التقصير راجع إلى تقصير تلك البلاد نفسها.
وبلغ المستخرج من النضار من مناجم روسية في السنة الماضية ما قيمته سبعة وعشرون مليوناً من الريالات على أن هناك من محصول تلك عجزاً سببه قلة المياه في المناجم وثورة العمال في مقاطعة لينا وفيها أعظم مناجم سيبيرية الذهبية. ولم تستكشف في العام الماضي مناجم جديدة للذهب وإنما يظن الباحثون أنه قد يوجد منها في الكونغو بإفريقية وفي بلاد منشورية ومنغوليا بالصين وفي بعض جهات أمريكا الجنوبية - والذهب كما لا يخفى عليك يوجد في مناجمه على هيئة تراب أي تبر أو قطع وسبائك ويوجد منه في جهات أسوان والسودان وهكذا تفتح كنوز الأرض لأهل الجد والنشاط قلت أوترى ذلك يا بني قال وهل ثم برهان أكبر من المحسوس.
فسررت من جوابه واسترسلت في تقليب المجلة حتى عثرت على فصل في اللؤلؤ فقلت له أرجو يا بني أن تغوص مع غواص هذا اللؤلؤ وتقص علي مضمون هذا الفصل فقال:
ـ لا يخفى عليك أن اللؤلؤ من أنفس الجواهر التي يتنافس فيها الناس ولقد اختلف الناس في تكوينه فالهنود يزعمون أنه قطرات من الندى تدخل أصدافه ويزعم غيرهم أنه بيض لحيوانه أي محارة يبقى في مبيضه أو يبرز عنه لامتلائه فيغطي بالمادة اللؤلؤية. وقال(11/28)
سواهم أنه حبات من الرمل أو بقايا من نباتات بحرية تدخل محار اللؤلؤ فتجمد فيها وتصير إلى هذا الدر النفيس. وهناك رأي رابع وهو دخول بعض الحيوانات الطفيلية محارة عند تفتحه فيغطيها بالغشاء اللؤلؤي ويستحيل إلى هذا الدر، وعند كاتب هذه المقالة على ما أذكر أن محار اللؤلؤ إذا تفتح وأصاب جسمه الرخو جسم آخر سواء كان حيواناً أو رملاً تأثر به فانطبق عليه وغطاه بغشائه فكان من هذه العملية هذا اللؤلؤ العجيب.
ويتمثل اللؤلؤ للناظرين في أربعة أشكال لؤلؤ مستدير ولؤلؤ مستطيل وكمثري الشكل وآخر يشبه الزورق في شكله، فالمستدير ما وجد عادة داخل المحارة ووسطها والكمثري الشكل ما كان في أطرافها والمستطيل بقسميه ما كان على حافتيها، ولقد كان يعتقد بعض الناس إلى عهد قريب أن اللؤلؤ كائن حي قابل للموت ثم إن الفرق بين اللؤلؤ الصادق واللؤلؤ الكاذب أن الصادق منه كثير المادة اللؤلؤية قليل الماء في تركيبه وأنه شديد الصلابة صعب المكسر وإن كان سهل التخطيط والثقب وتؤثر فيه بعض الأحماض حتى أنه ليؤثر في عقوده حول النحور وعلى الصدور كثرة تعطر الغانيات وما يضعن حول أنماقهن وعلى صدورهن من الدهان والطلاء، فهو وإن ازداد حسناً في أعناق رباته بما تكسبه إياه حرارة أجسامهن من لمعان وبريق فإنه قد يخبو ويطفأ لونه إذا كان من الشغفات بعقاقير الطلاء والأصباغ، غير أنه مهما يكن حال هذا اللؤلؤ الصادق فإنه سهل التنظيف والصقل كالمرآة الصادقة يسهل جلوها وبهذه الوسيلة بل لتلك المزية سهل على الناس الاحتفاظ بألوان عقود اللؤلؤ التاريخية.
واللؤلؤ تؤثر فيه النار بسرعة حتى أنه يصير فحماً في أقرب وقت لأنه سريع الالتهاب فلهذا ينبغي الحرص عليه إذ كم من عقود من الدر ذهبت طعمة للنار.
ولنفاسة اللؤلؤ عنيت الممالك بمغاصاته، فالانكليز يمنعون صيده في جزيرة سيلان إلا كل سنتين أو ثلاث سنوات مرة، وفي بلاد فنزويلة وجزيرة مرغريتة شرعوا ينظمون طريقة صيده، وفي بلاد تاهيتي التابعة لفرنسا بدأت الحكومة تتخذ الاحتياطات في تنظيم مغاصاته وكذلك في جزيرة مدغسكر، وهناك مغاصات كليفورنية الجديدة غير أن مغاصات هذه الجهة قد تركت الآن لرداءة لؤلؤها وصغر جسمه، وأهم مغاصات اللؤلؤ مغاص الياز في كليفورنيا حتى لقد تنشأ فيها الأحواض الكبيرة فيدخلها محار اللؤلؤ فيترك حتى ينمو ويعظم(11/29)
ثم يصاد ويستخرج جمانه، ولا يخفى عليك أيها الوالد شهرة مغاص اللؤلؤ بالبحرين وجهات العجم.
ومحار اللؤلؤ وصفه يتكاثر بإخراج بيضه ثم إن أجود اللؤلؤ ما وجد في البحار على عمق عشرة أو خمسة عشر متراً من سطح الماء.
ولقد اجتهد الناس من قديم الزمان في عمل اللؤلؤ الصناعي ولكن إلى الآن لم ينجح الصناع لحسن حظ المتغالين في اقتناء عقود اللؤلؤ وجمانات البحار الأصلية في إتقان ما أتقن الباري صنعه وإخراجه زينة للناس من تلكم الأصداف.
واللؤلؤ يباع الآن في أسواق أوربا بوزنه بالقيراط وهو متفاوت الحجم والثمن على أن من اللآلئ وعقودها ما قد تقدر قيمته بآلاف الدنانير ولقد بيع بالأمس في باريس عقد من اللؤلؤ من عقود السلطان عبد الحميد فبلغ ثمنه مليوناً ونصفاً من الفرنكات وفي متاحف أوربا وعند ملوكها وملوك الهند أولئك الراجات الفخام من الدرر الغوالي وعقود اللآلئ ما يعجب ويطرب من عظم حجمه وغلو ثمنه وجمال شكله.
فقلت لنجيب حينئذ لأفض فوك على ما صغت لي من هذه الدرر التي تزري بتلك. ثم قلبت في الصحيفة التي أمامي حتى استوقف نظري فاجعة الكبتن سكوت ذلك الرحالة الإنكليزي الذي مات هو ورجال بعثته في نواحي القطب الجنوبي على ما ذكرته الصحف في الشهر الماضي وحزن عليه الإنكليز حزناً شديداً وجعلوا من حادثه درساً لصبيانهم يعلمهم الثبات والصبر على الشدائد فقلت له ما هي كارثة الكبتن سكوت فقال وقد تأثر عند سماع هذا الاسم:
ـ الكبتن سكوت بحري إنكليزي لم تنجب الأمم مثله إلا قليلاً ولقد أكرم الشعب الإنكليزي شأنه بعد وفاته حتى أنه لما أقيمت في كنيسة القديس بولس بلندن الصلاة على روحه وروح رفاقه في ظهر يوم الجمعة 15 فبراير الماضي جمعت مدارسها في عموم بريطانيا العظمى طلبتها وألقت عليهم سيرة ذلك البطل الذي راح شهيد الاكتشاف وأعلن أولئك النشء أن اسمه يجب أن يقرن باسم غيره من الأبطال الإنجليز الذين لم يهابوا الشدائد وقابلوا الموت بصدور رحبة وثغور باسمة وأنه يجب عليهم أن يذكروا على الدوام قبره المنفرد بتلك الأصقاع القصية مطموراً في ظلامات ثلوج القطب الجنوبي كأعظم مفخرة(11/30)
لهم.
وكانت بعثة الكابتن سكوت قد سافرت لتحقيق اكتشاف القطب الجنوبي على السفينة ترنوفا التي غادرت لندن أول يونيو سنة 1910 ووصلت زيلاندة الجديدة في شهر نوفمبر في تلك السنة وأقلعت منها في 29 منه بحر الروس في 30 ديسمبر وفي 3 فبراير سنة 1911 أشرفت تلك السفينة على خليج ماك مود الذي يمتد في القارة الجليدية ثم ألقت البعثة عصا التسيار في رأس إيفان لتمضية فصل الشتاء وتقدم الكابتن سكوت نحو الجنوب براً ومعه ثمانية عشر من الخيول الصغيرة وسيارات زحافة وثلاثون كلباً ليضع بالقرب من القطب مستودعاً للمؤن فتم له ذلك في شهر أبريل ثم سافر سفرة أخرى حتى وصل إلى أطراف الجليد العظيم في جهة القطب وهناك أقام مستودعاً آخر للمؤن حيث في تلك النقطة يبدأيبدأ سيره إلى القطب كما عول عليه في خطة سيره على ما ذكر في الخطبة التي فاه بها قبل رحلته حيث قال أني سأجعل تلك النقطة آخر محطة لي في سفري إلى القطب في شهر أكتوبر عام 1911 فلا يبقى على من المسافة إليه سوى ثمانمائة من الأميال يحتمل أنّا لا نقطع منها إلا عشرة أو خمسة عشر ميلاً في اليوم وربما وصلنا بهذا السير البطيء إلى القطب في أواسط شهر ديسمبر من تلك السنة حيث يكون الصيف قد بلغ منتصفه في جهة القطب في 22 ديسمبر.
ووصلت أخبار بعثة الكابتن اسكوت لأول مرة بواسطة سفينة مستر نوفا حيث جاءت تلك السفينة إلى (أكروا) في زيلاندة الجديدة يحمل ربانها رسالة من الكابتن سكوت إلى قاعدة أعماله في ماك مود ولقد جاء في هذه الرسالة أني (سأبقى في جهات القطب شتاء آخر حتى أتمكن من إتمام عملي) وحملت السفينة ترنوفا من أخبار الكابتن سكوت في 3 يناير سنة 1912 وأنه لم يبق بينه وبين الوصول إلى القطب سوى مائة وخمسين ميلاً وهو مطرد السير لبلوغه على أن تعجيله بالأخبار عن ذلك دون الانتظار حتى يصل إلى القطب ثم يعلن وصوله إليه إنما سببه ضرورة التعجيل في سفر السفينة ترنوفا من تلك المنطقة الجليدية قبل أن يداهمها الشتاء القطبي ويتجلد حولها فمخافة ذلك هي التي اضطرت الكابتن اسكوت أن يرسل رسوله إلى السفينة ويحملها تلك الرسالة قبل مغادرتها ذلك الصقع المتجمد.(11/31)
ولقد كتب الكابتن اسكوت صحائف في رحلته هذه سطر فيها ما لقيه هو ورفاقه من الصعاب والمشاق التي لم تكن في حسبانه مستسلماً للأقدار دون أن يثني العنان قائلاً في بعض تلك الرسائل التي تركها وعلى الرغم من كل تلك الصعوبات فإني لم آسف لها ولم أندم على مقاساتها لأنّا بما أظهرنا من الجلد ورباطة الجأش إنما أدرعنا بما لقومنا الإنجليز من الثبات والصبر على تحمل الأهوال والتعاون في الشدائد إلى النهاية ومقابلة الموت بشجاعة ثم ختم هذه الرسالة بحكاية ما وقع له ولرفاقه عند ما جاءهم الموت من كل مكان تحمله عواصف الثلج فقال أول من مات منا الكبتن إيفان في 17 قبراير وبعده بشهر جاء دور الكابتن أوط فالتزم باقي الرفاق وقد صار الطقس رديئاً جداً إلى السير بلا نظام ثم اضطررنا أن نقف في 31 مارس بين الدرجة 70 و30 من العرض الجنوبي والدرجة 69 و23 من الطول الشرقي ولقد وجدنا على بعد أحد عشر ميلاً من مستودع المؤن ولكنا لم نقدر أن نصل إليه لهياج عواصف الثلج الشديدة التي ظلت ثائرة تسعة أيام. . . . . . . . ونفذت كل المؤن ومواد الوقود التي كانت مع البعثة في تلك المرحلة غير أن ذلك لم يمنع من متابعة السير إلى هون بوان وهناك علمت بخبر عودة بعثة الفومندان كمبايل إلى قاعدتها في رأس إيفان.
ودام ما ذاق سكوت ورجال بعثته من العذاب قبل أن يلحقهم الموت ستة أشهر وقد وجدت عندهم رسائل ومكاتيب كتبوها يفتت إلا كباد ما وصفوا فيها ولقد وجدت بينها رسالة استغاثة بملك النروج كتبها الكبتن أمندسن أحد رجال البعثة.
وهاك نص آخر رسالة خطباً بنان الكبتن سكوت يخاطب فيها قومه الإنكليز وقد أطنب القوم في بلاغتها قال:
لم تكن هذه الكارثة التي نزلت بنا لتقصير في معداتنا وإنما سببها الوحيد سوء الطالع الذي حاق بنا فأولاً جاء هلاك دوابي ضربة شديدة على اضطرتني إلى التأخر عن السفر والتعويق في الطريق بما لم يكن في حسباني حتى التزمت أن أخفف من أحمالنا وأثقال مؤونتنا.
ثانياً اضطرنا رداءة الطقس في هذه الرحلة إلى التأخر ولا سيما بعد الدرجة 83 عرضاً.
ثالثاً ليونة الثلوج التي نمشي عليها مما جاء ثالثة الأثافي في استفراغ قوانا وإبطاء سيرنا(11/32)
وكنا نعاني الصعاب في مقابلة تلك المشاق حتى استنفد هذا الجهاد جميع مؤننا ثم قال ولا نظن أنه قد أصاب إحدى البعثات ما أصابنا أو عاني قوم ما عانينا مدة شهر من الزمان حتى لم يبق معنا سوى شيء قليل من الوقود لتهيئة طعامنا الذي كان قد نفد هو أيضاً ولم يبق معنا منه ما يكفينا يومين كاملين.
وها قد مضت علينا أربعة أيام لم نقدر على الخروج من مضربنا بسبب هياج العواصف الثلجية والزعازع الزمهريرية التي تحيط بنا من جميع الجوانب.
لقد صرنا ضعافاً وخارت قوانا حتى لم تعد لنا قدرة على الكتابة أما أنا فلست بآسف ولا حزين الفؤاد على خروجنا لهذه الرحلة التي أظهرت أن في الإنكليز اليوم من يقدرون على مقابلة الصعاب ومقارعة الشدائد والصبر على الأهوال ثم التعاون في ساعة الشدة وعدم المبالاة في ملاقاة الموت ومقابلته على نحو ما سبق لبعض سلفهم وهذه الملاحظات التي أكتبها على عجل ثم جثثنا التي سيعثر عليها ملقاة على الثرى ها هنا كل هذا لعمري يقص عليّ من يأتون للبحث عنا تاريخنا ولا أخال بلاداً كبلادنا تترك آلنا وذوينا في أوطاننا عالة بعدنا.
فقلت لابني كفى يا بني أثار هذا الحديث أشجاني وكنت أحب أن لا يموت هذا الرجل ولكن هل تحقق للكبتن سكوت أمر القطب الجنوبي الذي كان قد قام باكتشافه منذ سنتين الرحالة روالد أمندسن وهل عمل الإنكليز بوصية سكوت قال أجل إن سكوت وصل القطب الجنوبي في 18 يناير سنة 1912 ورأى القلم الذي نصبه هناك أمندسن وقد رتب الإنكليز لأرملته وابنه معاشا بل نشرت الجرائد أنهم قاموا يكتتبون بالأموال الطائلة إعانة لأرامل رجال هذه البعثة وأولادهم وتخليد ذكرهم وقد رأيت كيف جعلوا أيها الوالد العزيز سيرته بين سير أبطالهم وهو وأيم الحق خليق بكل إكرام وهل الشرقيون يكرمون عظماءهم مثل هذا الإكرام. .
وبينما نجيب يتكلم دخلت علينا أخته الصغيرة زكية وفي يدها قطعة من الحلوى وهي تبتسم ابتسامة الساذج فرأى بعض الذباب على وجهها ويدها بها حلوى فاستشاط غضباً وصاح ألقي هذه الحلوى واذهبي فاغسلي يديك ووجهك ولا تتركي الذباب يحط عليك مرة أخرى لأنه أكبر موصل للأمراض والأوصاب فتبسمت لكلامه لأني تذكرت أن بعض(11/33)
مجلاتنا أو صحفنا نشرت فصلاً في الذباب ومضاره وأن نجيباً لا بد أن يكون قد تشرب من أفكارها فقلت كالممتحن له ولم كل هذا الخوف يا بني من الذباب ولو كان من الضرر بمثل ما يقول هؤلاء العلماء لما يبقى على ظهر الأرض حي!.
فاحتدم وقال (وهل تشك أيها الوالد في صدق ما يقال عن الأضرار للذباب وهو أعدى عدو للإنسان لأنه ينقل إليه كثيراً من الأمراض سواء بالحط عليه أو على طعامه بأرجله التي قد تكون ملوثة بجراثيم الأرض أو بسرعة إبرازه بذوره على ما يحط عليه من الأجسام فتتحول دوراً في بعضها خصوصاً أجسام القذرين المهملين لنظافة أبدانهم فلقد ثبت أن الذباب لا يهاب الدخول في أفواه النائمين وإلقاء بذوره فيها فقد شوهدت هذه الديدان في مبرزاتهم كما شوهدت في قروح بعض المرضى وعيون بعض الصبية على قدر الإمكان في تنظيف أبداننا وأفنية دورنا وأماكن أقواتنا حتى لا يتكاثر عندنا هذا العدد الجم من الذباب).
فلما سمعت أخته هذا الكلام انسلت من الغرفة بلطف ثم عادت إلينا وقد طرحت الحلوى وغسلت يديها ووجهها وجلست إلى جانبنا وهي تبتسم كأنها تقول ها أنا ذي قد صرت نظيفة لا يمكن الذباب أن يحوم بكثرة حولي أو يحط عليّ طويلاً فقال أخوها وهو يقهقه لقد أحسنت يا أختي واعلمي أنك لسماعك النصح وإطاعتك والديك تصيرين زينة أبويك بين بنات مصر اللائي سينهضن نهضة شريفة يصلحن بها حال الأمة المصرية ويرقيها إن شاء الله تعالى كما رقت بنات الغرب هيئته حتى قامت فيهن اليوم فكرة الرغبة في الحصول على حق الاشتراك مع الرجل في الحقوق العامة لتولي الأحكام فحصلن ذلك في بعض بلاد أمريكا وأوروبا ويسعى إليه الآن جهدهن النساء الإنجليزيات على أننا في مصر لا تطمع النساء عندنا في ذلك بل لا يحب المصريون أن يروا نساءهم طامعات فيه وغاية ما يتمنى لهن أن يتعلمن ويتهذبن ويدرن البيوت وبعض الأعمال الحيوية اللائقة بهن وأن ينلن احترام الرجال لهن ومحبتهم بتلك الوسائل الجليلة لا بالحمق والرعونة والزينة الكاذبة وإنّا في كل نزداد قرباً من الوقت الذي ستعرف فيه نساؤنا وهيئتنا قيمة ذلك وتقدره قدره ما دام الشباب راغبين فيه.
وأحب أن يطيل في هذا الموضوع فاعترضته قائلاً:(11/34)
ـ تلك مسألة فيها نظر وإنّا لنتمنى يا بني قرب ذلك اليوم على أنه لن يأتي على أحسنه إلا إذا عرف الرجال عندنا قيمة الحياة الصحيحة والنظام العائلي الحق لا نظرياً فقط بل عملياً ثم عملياً.
ثم قلت لتطرق موضوعاً آخر يا نجيب قال وما ذاك يا أبي قلت ما هو اكتشاف السر وليم رمزي الذي يقول بتحويل المادة إلى قوة فقال بعد أن سكت برهة استجمع فيها فكره خلاصة هذا الاكتشاف أن السير رمزي قال في الجمعية الكيماوية الملوكية بلندن أنه أحمى بعض أنابيب قديمة من أنابيب أشعة أكس إلى 200 فحصل منها على غازات وبتحليلها وفحصها بواسطة المكروسكوب وجد من بينها عنصري الهليوم والنيون فهذا يترجح معه تحول القوة إلى مادة إذا صحت هذه التجربة العلمية وثبتت بواسطة معامل أخرى لأنه من أعظم الاكتشافات في ديوان العلم من حيث تحول العناصر على أن كفاءة السير وليم رمزي وعظم تدقيقه في تجاربه حمله على التثبت من اكتشافه وهل النيون الذي وجده في الأنابيب آت من الخارج أم لا أي لم ينفذ من زجاجها فغطس الأنبوبة في جو من النيون والهليوم ثم أخرجها وفحصها فثبت له أن هذا العمل لم يزد في مقدار الغاز الموجود منها داخل الأنبوبة هذا ولقد حملت الصحف الأخيرة ثناء أحد أساتذة السربون المسيو هاليير على السير وليم رمزي الذي له أياد بيضاء في مسائل الطبيعيات والكيمياء.
فقلت وهل ترى يا بني أمثال هذا الاكتشاف مما يزعزع أركان الحقائق الروحية على ما تزعم الصحف ففكر قليلاً وقال وما رأيك أنت قلت رأيي أن مسئلة تحول العناصر والقوة مما أشير إليه قديماً ومهما كان الحال فإنه لا يدل إلا على عظم إبداع الخالق تعالى ثم قلت لابني وهل قرأت ما حملته إلينا المجلة في هذا الشهر من أن للنبات عيوباً يبصر بها كما تبصر الحيوانات الدنيا فصاح نجيب عجباً إنني لم أطالع ذلك ولا أعرف منه إلا ما تخيله جماعة الشعراء والأدباء من عيون الزهر وغيره من الأزهار وهل رأوا عيون النبات تختلف كعيون الظباء بين عسلية وزمردية وأخرى سوداء ثم استدرك مجلسي ومقامي معه فقال إني لا أخال هذا الذي يزعمونه مهما قالوا إلا من قبيل الخيال.
قلت - بل إنه قد قام بالأمس الأستاذ غوتلب هاير لأن أحد علماء النبات في البلاد النمسوية وصرح بأنه قد ثبت له بعد تجارب عديدة وملاحظات دقيقة أجراها أن في بعض النباتات(11/35)
أعضاء للبصر تشبه على نوع ما أعضاء البصر في الحيوانات الدنيا وأن الخليات السطحية في النبات هي العدسات المحدبة التي تشاهد في صفائح عيون الحشرات ومن المعلوم أنها فيها كثيرة العدد فهي في الذباب تبلغ 4000 وفي النمل 17000 أما الخليات المشابهة لتلك في أوراق النبات فلا يحصيها عد في عدد الصور التي يسببها العكس البصري ويحدثها فيها وأن خميلة من الشجر تنشر أما الشمس عطرها النباتي قد تجمع على هذا مالا يدخل تحت حصر من الصور المنعكسة لأن كل خلية قشرية فيها لها نفس الخواص التي للعدسات البصرية المميزة في الحشرات، على أن أبصار النبات ليس بالذي يحس به النبات إحساس الحشرات ببصرها فتميز كل الصور المرتسمة على صفائح عيونها بل هو يكون على الكيفية التي يرتئيها ذلك العالم بما أخذه من الصور الفوتوغرافية. . . . . . . . . . . للأجزاء الطرفية الدقيقة في بعض الأشجار.
ولقد أيد هذه التجارب الدكتور لونال من لندن والدكتور هارول واجر فتحقق لهما أن كل خلية من خليات سطوح ورق الشجر منطبع فيها كثير من الصور الخارجية الواقعة على أبعاد متفاوتة منها وهي تمثل صور أشخاص ودور إلخ فيستخلص من هذا على ما قال هؤلاء العلماء أن للنبات أي الأشجار أعيناً بسيطة كأعين النحل والذباب ونحوهما من الحشرات وإن اختلفت عنها وأن ليس لها مادة مركبة، ولقد عدد الأستاذ غوتلب هابرلان ما عرف له أعيناً من الشجر فذكر منه الجميز والجميز النروجي فهذا يا بني حاصل ما ذكروا في أعين النبات وبصره على أن من العلماء من ينكر ذلك ويقول كما قلت أنت الآن إن الأمر خيالي لا حقيقي.(11/36)
حديث البيان
موضوعات هذا العدد
هذا هو العدد الرابع من المجلد الثاني للبيان. وأن من أجال نظره في صفحاته يرى أن قد ابتدأناه بنبذة من كتاب حضارة العرب في الأندلس لصاحب هذه المجلة ولعل القارئ علي ذكر مما أسلفنا نشره من هذه الرسالة الأولى من هذا الكتاب حتى لا تنقطع عليه سلسلة المعاني التي يجمل أن تكون متصلة بعضها ببعض في ذهن القارئ. وهذه النبذة كما يرى الناظر تتضمن بقية الكلام على تقويم جزيرة صقلية وذكر المشهور من بلدانها والمعروف من علمائها وأدبائها وقد أطلنا في ذلك إلى الحد الذي لا يعدو ما نقصد إليه من ذلك وهو بيان ما كان للعرب في هذه الجزيرة من الحضارة المتمكنة حتى نبغ فيها من العلماء والأدباء أمثال من ذكرنا وهو كما قلنا غيض من فيض وقليل من كثير ونحن لو كان لدينا فسحة من الوقت ولو حصلنا على سائر الأسفار التي تعرضت لتراجم أهل جزيرة صقلية مثل خريدة العماد الكاتب ودرة بن القطاع ومختار ابن بشرون الصقلي وما إليها لكان حقاً علينا أن نتقصى هذا الباب الذي لم نعلم أحد من أهل عصرنا قد ألم به إلماماً فضلاً عن إيفائه حقه من القول وقد رأينا من تمام الفائدة أن نضع (خريطة) تصور هذه الجزيرة وبلدانها كما كانت أزمان العرب وكذلك البحر الأبيض المتوسط وجميع البلدان التي جاء لها ذكر في هذه الرسالة وقد أعاننا على وضع هذه المصور صديقنا الفاضل الشيخ محمد علي فخر أستاذ علم تقويم البلدان في مدرسة دار العلوم فجزاه الله عن العلم وأهله خير ما يجزى به المخلصون ثم أردفنا هذه النبذة الصقلية بالنبذة الثانية من الكلام على الشاعر ابن الرومي للكاتب الأديب السيد إبراهيم عبد القادر المازني يلي ذلك المقامة الأولى من مذكرات إبليس وعنوانها أغواء فتاة للكاتب الحكيم السيد عباس محمود العقاد وبعد ذلك يرى الناظر ثلاث مقطعات شعرية موسومة بثورة النفس للأدباء شكري والعقاد والمازني ثم باب أخبار العلم وفيه أبحاث جديدة في أبواب من العلم عدة اختارها للبيان الأستاذ صالح بك حمدي حماد - ومما نشرنا في هذا العدد ثمان صفحات من كتاب التربية الطبيعية أو اميل القرن الثامن عشر للفيلسوف جان جاك روسو ترجمة الكاتب المازني - وقد نشر من هذا الكتاب فيما سلف من أعداد البيان اثنان وثلاثون صفحة وهذي ثمان. ومما نشرنا كذلك(11/37)
ثمان صفحات من قصيدة دون جوان لشاعر الانكليز الأكبر اللورد بيرن ويقوم بترجمتها الكاتب السباعي وقد نشر منها إلى الآن، مائة واثنا عشرة صفحة بأرقام منفصلة عن أرقام البيان وقد عثرنا أثناء بحثنا عن الأسفار القديمة النافعة في المكتبة الخديوية على رسالة للفيلسوف العربي أبي علي ابن مسكويه أسماها كتاب السعادة وهي رسالة جليلة مفيدة في هذا الباب كما يرى القارئ ولذلك رأينا نشرها في صحائف مستقلة بأرقام غير أرقام البيان. وهي فيما نظن لا تتجاوز الثلاثين صفحة نشرنا منها في هذا العدد ثمانياً - أما رواية البيان فقد كنا عزمنا على أن ننشر في كل عدد من البيان رواية تامة لا تبتدي حتى تنتهي فيه بيد أن حرصنا على أن تكون روايات البيان من الروايات الأدبية المفيدة الباقية على الزمن الباقي - كثيراً ما يحول دون هذا العزم لندرة الروايات الأدبية القصيرة التي لا تتجاوز الست عشرة صفحة أو الأربعا وعشرين كما هو المقدار الذي يتسع له البيان. ومن هنا ابتدأنا في هذا العدد بنشر رواية وسط ليست بالقصيرة ولا بالطويلة غير أن البيان لا يتسع لنشرها كلها في عدد واحد. وهذه الرواية هي من الروايات الخالدة التي تعد في صف البؤساء واضرابها - قال الأستاذ أحمد الخازندار وهو مترجم (وليم تل) هذه وأحد خريجي مدرسة الحقوق الخديوية والمحترف بالمحاماة الآن وأحد رجالات الأقلام المفكرين في مصر.
وليم تل رواية تمثل جهاد أهالي سويسرة في طلب الاستقلال في القرن الرابع عشر وضعها الكاتب الألماني فريدريك شيلر وهي آخر مؤلفاته وأحسنها وقد نقلت إلى سائر اللغات الأوربية وهي وليدة شاعرين وثمرة فكرين ناضجين، فقد ولدها خيال شلر عمدة الكتاب، وحضنها جويتي نابغة الأدباء، نشرها الأول من محشر الأرواح ونفخ فيها روحاً من عنده، وهيأ الثاني مادتها وزار البقاع التي حدثت فيها مواقعها التاريخية شاء جويتي أن يصوغها ملحمة على الطراز الهوميري وشاء القدر غير ذلك فأبى إلا أن يتناولها شيلر بلباقته المعروفة ويخلق من حوادثها رواية تمثيلية من أندرما أخرجته القرائح
الرواية خالية من العواطف الكاذبة والتشبيه الصناعي ولكن الطبع يجري فيها وفي أشخاصها حتى لا تكاد تجد الشاعر يتطفل بعواطفه ليفسد شخصية أبطال الرواية.
وقد قال عنها المستر سايم أنها قوبلت بإعجاب واستحسان أشد من سابقاتها من مؤلفات(11/38)
شيلر وكانت ألمانية في دور انتقال من أظلم عصورها التاريخية فكان نور هذه الرواية يهب في سمائها نور أمل تجتمع إليه الأبصار وهي ليست خصيصة بعصر من العصور ولا خاضعة لأحداث الزمان والمكان ولكنها متأصلة في طبع الإنسان.
وكذلك نشرنا في هذا العدد الفصل الأخير من كتاب سر تطور الأمم وهذا الفصل هو كالفهرس لسائر أبواب الكتاب وموضوعاته: وربما نشرنا في العدد القادم مقالاً طوالا في تحليل نظريات هذا الكتاب وتطبيقها على مصر والمصريين إن شاء الله.
(اعتذار)
نعتذر إلى قرائنا الأفاضل عن تأخر هذا العدد الرابع عن موعده بما طرأ على المطبعة من الخلل الذي أفضي إلى ذلك. وهنا نجدد القول بأن موعد كل عدد من البيان هو آخر الشهر العربي لا أوله فيكون موعد العدد الرابع هو 30 ربيع الثاني واليوم (أي يوم يظهر هذا العدد) هو يوم الخميس 10 جمادى الأولى الموافق 17 إبريل فيكون قد تأخر هذا العدد عن موعده 10 أيام فقط لا كما يظن بعض الناس الذين لا ينظرون إلى كل مشروع مصري إلا بالعين السوداء وتراهم يسيئون الظن بكل عامل مصري وينعون عليه ويشيعون المنكر عنه فلا تأذن من ناحيتهم أمام مثل البيان إلا قولهم: متى ينجح المصري؟ ها هو ذا قد تأخر البيان عن موعده؟ أنا لا أشترك في البيان لأنه غير منتظم! أين المصري من غير المصري؟ - إلى أمثال ذلك مما لا يدل للأسف إلا على القصور والتقصير وقلق الفكر وملل الذهن وعدم ثقة المصري بنفسه فلا يثق لعمري بأخيه.
فيأيها الساخطون مهلاً بعض هذا التشنيع وأولى بكم ويمين الله أن ترجعوا على أنفسكم باللوم والتأنيب ولتعلمن أن البيان كغيره ليس إلا بقرائه وإذا كان للبيان فضل فهو من الله وحسن توفيقه وإن كان ثمت نقص فهو من أنفسكم وسوء تقديركم وليت شعري كيف ينجح البيان وغير البيان إذا لم تنجحوه أنتم وتسعدوه. وكيف يتسق أمره مع تشويشكم عليه بالكلم العور فضلاً عن المماطلة في تأدية الحقوق.
ثقوا أولاً أيها الساخطون بأنفسكم وأشعروها الواجب وقوموا بواجب البيان عليكم ثم طالبوا البيان بواجبكم عليه والسلام على من اتبع الهدى.(11/39)
مطبوعات جديدة
سر تطور الأمم
كتاب جليل لمؤلف جليل - فالكتاب يبحث في روح الشعوب وبحسبك هذا موضوعاً وقد وضعه فيلسوف أوربا في هذا العصر الدكتور جوستاف لوبون صاحب روح الاجتماع وحضارة العرب وروح الاشتراكية وروح السياسة - ونقله إلى العربية شيخ الكتاب الاجتماعيين في مصر العالم المخلص أحمد فتحي زغلول باشا وكيل نظارة الحقانية: قال سعادة المترجم في مقدمته لهذا الكتاب:
نقلت إلى العربية منذ ثلاث سنين كتاب روح الاجتماع للدكتور جوستاف لوبون فاستقبله القراء بالحسنى وكان واضعه قد سبقه بمؤلف من نوعه سماه سر تطور الأمم رجع إليه في مواضع كثيرة من روح الاجتماع - فلما قرأته رأيت من الواجب أن أقدمه لقراء الكتاب الأول حتى يجتمع لديهم الفرع بأصله. وقد لا يمضي زمن طويل فأعرض عليهم كتابين جديدين لهذا العالم الكبير: روح السياسة وروح الاشتراكية: فالكتب الأربع سلسلة أفكار واحدة كل كتاب يبرزها في صورة خاصة تمتاز بفائدتها عن البقية - انتهى.
ومن هنا يعلم الناظر أن سر تطور الأمم هذا هو وشقيقه روح الاجتماع هما رضيعا لبان، وفرسارهان، وأن من قرأ الثاني لا يستريح أو يقرأ الأول والحق نقول انا نحن المصرين بحاجة إلى مثل هذه الأسفار النافعة كحاجة البلد الجديب إلى المطر الجود أما لغة الترجمة فهي لغة فتحي باشا زغلول المعروفة بالسهولة ورونق الطبع حتى أنه ليخيل إلى قارئ منقولات سعادة المترجم لصدق الترجمة واشتباهها بالأصل أنه أوتي علم الغيب وألهم علم اللغات فهو يقرأ الكتاب بلغته الأصلية الأولى لا بلغة أجنبية أخرى: ونحن فلنا كلمة ضافية على منزلة سعادة المترجم ومكانته الأدبية سوف ننشرها في كلمة لنا أسميناها (كتاب العربية اليوم) إن شاء الله.
نشوء الاجتماع
خير ما تهتدى به الأمم الطامحة إلى الرقي والراغبة في الحياة هو إدراك السنن الطبيعية التي يجري عليها الارتقاء واكتناه الظواهر الاجتماعية التي تظهر في كل مجتمع يتنازع البقاء وقد كان الكشف عن ذلك أكبر ما يرمي إليه العلماء في أبحاثهم وتحليلاتهم غير أن(11/40)
مؤلف هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم لفراء العربية نزع إلى نمط جديد في البحث. نظر في المجتمع فإذا هو صورة مكبرة من الفرد تجري نشأته وارتقاءه على ذات السنن الطبيعية التي تجري عليها حياة الفرد مع اعتبار النسبة بين الاثنين ولذلك لم يتردد في الاعتداد بأن المجتمع كائن حي ثم امتحن الظواهر الاجتماعية على هذا الاعتبار الخ الخ كذلك قال مترجم هذا الكتاب الفاضل محمد زكي صالح في مقدمته ومؤلف الكتاب هو بنيامين كد أحد الباحثين في علم الاجتماع من أبناء هذا الجيل ولغة الترجمة في المنزلة الوسطى لا هي بالمبتذلة ولا هي بالجزلة الفصحى - وثمن الكتاب خمسة قروش صاغاً وأجرة البريد قرش واحد.
الأدب المصري
رسالة صغيرة تقع في 160 صفحة من القطع الصغير كان قد قدمها الأستاذ الشيخ محمد سليمان أحد خريجي القسم العالي بمدرسة القضاء الشرعي وهو ظالب فيها حسب عادة لهم في ذلك - وقد تعرض الأستاذ في هذه الرسالة إلى الكلام على الفنون الأدبية من الشعر والكتابة والغناء في هذا العصر. وأنا أستميح الأستاذ عذراً عن قولنا أن لغته للأسف ضعيفة وأسلوبه الانتقادي أضعف فقد أصعد بأناس ليسوا هناك إلى منازل الأملاك، وأهوى بآخرين أفضل من أولئك إلى مقر الأسماك، ونوه بقوم ليسوا من الأدب ولا قلامة ظفر، وأغفل آخرين هم من أركان الأدب في هذا العصر وثمن الكتاب خمسة قروش وأجرة البريد قرش واحد ويطلب من مكتبة البيان.
مبكر الغيث
كناشة لحضرة الأديب محمود رمزي نظيم أثبت فيها طائفة صالحة من منظومه ومنثوره - ولم يتيسر لنا لضيق الوقت قراءة هذه الكناشة ولكنا نرجو أن تكون عند ظننا بصاحبها الأديب.(11/41)
العدد 12 - بتاريخ: 5 - 5 - 1913(/)
نوابغ العالم
عبد الرحمن الداخل
مؤسس الدولة الأموية بالأندلس
فريدريك الأكبر
مؤسس الوحدة الألمانية
هو معلوم مالتراجم نوابغ العالم عُرْباً كانوا أم من العجم، وكانوا من أرباب السيف أو من أرباب القلم، من الفائدة والأثر المحمود في نفس الناظر، وما هنالك من اللذاذة والفكاهة وترويح النفس واستجمام الخاطر.
ومن هنا رأينا أن ننشر في كل عدد من أعداد البيان ترجمتي نابغتين من نوابغ العالم المتقدمين منهم والمتأخرين، بقلم كاتبين من كبار الكتاب وثقات المؤرخين، وهاتان ترجمتا نابغتين عظيمين أولهما نابغة من نوابغ العرب وثانيهما نابغة من نوابغ الإفرنج، الأول صقر قريش - كما سماه الخليفة أبو جعفر المنصور - الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك رأس الدولة الأموية في الأندلس ومحييها بعد موتها - والثاني رجل بروسيا فردريك الثاني الملقب بالأكبر بن فردريك غليوم بن فردريك الأول بن فردريك المعروف بالأمير العظيم - مؤسس الوحدة الألمانية.
والأول بقلم مؤرخنا العظيم الفيلسوف عبد الرحمن بن خلدون والثاني بقلم أكبر مؤرخي الانجليز اللورد ما كولي - ونحن الآن بادئون بترجمة الأمير عبد الرحمن.
عبد الرحمن الداخل
تمهيد
وفي هذا التمهيد نقتطف من الرسالة السادسة من كتابنا حضارة العرب في الأندلس نتفاً تتعلق بجغرافية الأندلس وتأريخها قبل فتح الإسلام وبعد إلى دخول المترجم به ثم نسرد سيرة الأمير عبد الرحمن بقلم العلامة ابن خلدون مع الحذف والزيادة والتقديم والتأخير إن شاء الله.
وصف الأندلس(12/1)
جزيرة الأندلس ويسميها العجم اشبيلية هي قطر كبير متصل بالأرض الكبيرة التي هي بلاد إفرنجة العظمي إلى جنوبيها الغربي - وهي على مثال الشكل المثلث حيث تعتمد على ثلاثة أركان فركنها الواحد فيما بين الجنوب والغرب عند ضم قادس حيث يتلاقى البحر المحيط المعروف ببحر أقيانس والبحر المتوسط الشامي - وركنها الثاني بشرقيها بين مدينة أربونة لعلها تربون إحدى مدائن فرانسا الآن ومدينة برديل (بردو الآن) حيث يقترب البحر المحيط من البحر الشامي فيكادان يجتمعان فتصير الأندلس جزيرة بينهما لولا جبل البرت (البرنات) الذي قام ثمت وفصل الأندلس من بلاد افرنسة - والركن الثالث هو في بلاد جليقية حيث الجبل الموفى على البحر المقابل جزيرة برطانية كما تتحقق ذلك إذا أنت نظرت المصور الجغرافي الذي صورنا لك فيه هذه الجزيرة.
ومن هنا تعلم أن الأندلس ليست بجزيرة على الحقيقة لاتصال أرضها بالأرض الكبيرة وأن حدها الجنوبي هو الخليج الرومي الخارج من البحر المتوسط مما يقابل طنجة في موضع يعرف بالزقاق - وسعة هذا الخليج اثنا عشر ميلاً - وحدها الشمالي والغربي البحر المحيط. وحدها الشرقي جبل البرت الواصل ما بين البحرين - ومسافة ما بينهما في هذا الجبل ثلاثة مراحل - ووسط الأندلس مدينة طليطلة التي كانت في القديم قاعدة القوط وعرضها 39 درجة و50 دقيقة وطولها 28 درجة فصارت بذلك في القريب من وسط الإقليم الخامس ومعظم الأندلس في هذا الإقليم الخامس وطائفة منها كأشبيلية وقرطبة وغرناطة والمرية في الإقليم الرابع. أما أن العرب سموها الأندلس فذلك لما سيمر بك أن قوماً يعرفون بالأندلوس سكنوا قديماً شطرها الجنوبي فسماه من بعدهم من أعجام رومة والقوط أندلوشيا فلما فتح العرب هذه الجزيرة سموها كلها الأندلس تسمية للكل باسم البعض كما تسمى الأرض الكبيرة بلاد افرنجة وفيها افرنجة وغير افرنجة - أما تسمية العجم إياها اشبانية فلم نعلم لذلك سبباً على التحقيق ويلتحق بجزيرة الأندلس جزائر أخرى منثورة في البحر المحيط والبحر الشامي المتوسط وهي جزيرة قادس من كورة شريش من أعمال اشبيلية - وهذه الجزيرة في البحر المحيط، وهذا البحر المحيط فيه جزائر أخرى كثيرة، صغيرة وكبيرة. ففيه الجزائر الخالدات السبع وهي غربي مدينة ستلا تلوح للناظر في اليوم الصاحي: وفيه بجهة الشمال جزائر السعادات، وفي هذه الجزائر من المدن والقرى(12/2)
مالا يُحصى، ومنها يخرج قوم يقال لهم المجوس على دين النصارى، أو لها جزيرة برطانية - وفي البحر الرومي جزائر ميورقة ومنورقة ويابسة، وقد مضى وصفها في الرسالة الأولى من كتابنا حضارة العرب في الأندلس.
وهذه جزيرة الأندلس هي بلد كريم البقعة طيب التربة خصب الجناب، منبجس الأنهار الغزار، والعيون الثرار. بل هو لتفوقه على سائر البلدان، كأنه قطعة انفصلت من الفردوس واستقرت في هذا المكان. ومن هنا كانت مستبحرة العمران، كثيرة المدن والقرى والحصون والقلاع، حتى لقد بلغني أن بها ثمانين مدينة من القواعد الكبار وثلاثمائة ونيفاً من المتوسطة وفيها من الحصون والقرى والبروج مالا يُحصى كثرة حتى قيل أن عدد القرى التي على نهر اشبيلية اثنا عشر ألف قرية - ولقد ذكرنا في الرسالة الثانية من كتابنا حضارة العرب في الأندلس - وعنوانها من المرية إلى قرطبة - أنا كنّا نجد في اليوم الواحد ثلاث مدن وأربعاً، وكنا لا نكاد نقطع فرسخين دون أن نرى الماء، وحيثما سرنا نرى الحوانيت في الفلوات والصحاري والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة وهذا لعمري مالا يوجد في صقع من معمور الأرض.
ومن مشهور مدائن الأندلس مدينة قرطبة وهي لعهدنا هذا قبة الإسلام، ومجتمع أعلام الأنام، بها استقر سرير الخلافة المروانية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية، وإليها الرحلة في رواية الشعر والشعراء، إذ هي مركز الكرماء ومعدن العلماء، فهي لعمري تملأ الصدور منها والحقائب، ويباري فيها أصحاب الكتب أصحاب الكتائب، وترى ساحاتها مجر عوالي ومجرى سوابق، ومحط معالي وحمى حقائق، وهي من بلاد الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، والزور من الأسد، ولها الداخل الفسيح، والخارج الذي يمتع البصر بامتداده فلا يزال مستريحاً وهو من تردد النظر طليح - وقد وصفنا فيما سلف لنا في الرسالة الثالثة من حضارة العرب مسجدها الكبير والزهراء وقنطرة الوادي الكبير وما إلى ذلك من سائر أرياضها ومنتزهاتها ومدارسها وعلمائها وأدبائها وشعرائها وفلاسفتها وجملة القول أنا وصفنا هنالك كل شيء في قرطبة.
ومن مشهور مدائنها كذلك غرناطة واشبيلية وطليطلة والمرية وسرقسطة وجيان ومالقة(12/3)
ومرسية وبلنسية ودانية وماردة وأشبونة عاصمة البرتغال الآن وشلب وهذه من القواعد الكبار. وشنت باتو (سانتياجو إحدى مدائن البرتغال) وشريش وطركونة (تراجونة في شرق الأندلس) وبرشلونة وبنبلونة (بمبلونة) وشلمنقة (سلمنكا) ومجريط (مدريد عاصمة إسبانيا الآن) وتلمرنة كوامبرة إحدى بلاد البرتقال وقرطاجنة. (وهنا وصفنا هذه البلدان وصفاً شافياً وذكرنا من أنجبته من علماء المسلمين وأدبائهم وفلاسفتهم وما إلى ذلك وكذلك ذكرنا معادن الأندلس وحيواناتها وشارات ملوكها وشعار أهلها في كل شيء وربما ننشر هذه الرسالة كلها في أحد الأعداد القادمة إن شاء الله).
تاريخ الأندلس
كانت جزيرة الأندلس في القديم يسكنها أمم شتى من أفرنجة المغرب كأمة الأندلوش التي سميت البلاد باسمها كما أسلفنا، وأمة الجلالقة وهي أشد بأساً وأعز نفراً وأمة القوط الفيزيغوط وهذه هي التي استوسق لها أمر الأندلس ودال إليها من يد الروم (الرومان) الذين امتلكوها حيناً من الدهر كما امتلكها اليونان والأفارتة (القرطاجنيون).
وقد تملك هؤلاء القوط جزيرة الأندلس وغلبوا أهلها على أمرهم لمتين من السنين قبل الإسلام بعد حروب كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها رومة ثم عقدوا معهم السلم على أن ينصرف القوط إلى الأندلس فساروا إليها وملكوها - ولما أخذ الروم واللطينيون بملة النصرانية حملوا من وراءهم بالمغرب من أمم أفرنجة والقوط عليها فدانوا بها - وكان ملوك القوط ينزلون طليطلة وكانت دار ملكهم وربما تنقلوا ما بينها وبين قرطبة واشبيلية وماردة وأقاموا كذلك نحواً من أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح - وكان ملكهم لذلك العهد يسمى رذريق أو لذريق وهو سمة لملوكهم.
الأندلس من حين الفتح إلى دخول بني أمية
وكان لهؤلاء القوط خطوة وراء البحر في عُدوته الجنوبية خطوها من فرضة المجاز بطنجة ومن زقاق البحر إلى بلاد البربر واستعبدوهم. وكان ملك البربر بتلك البلاد يسمى يليان فكان يدين بطاعتهم وبملتهم وكان مقامه بسبتة - وكان أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك رحمه الله قد استعمل إذ ذاك موسى بن نصر مولى عمر عبد العزيز بن مروان - واضطربت كلمة المؤرخين فيه فقيل أنه لخمي وقيل بكري وذلك أن أبا نصير أصله من(12/4)
علوج أصابهم خالد بن الوليد في عين التمر فادعوا أنهم رهن وأنهم من بكر بن وائل فصار نصير وصيفاً لعبد العزيز فأعتقه. وعقد الوليد لابنه موسى على أفريقية وما وراءها فخرج موسى لطيّته في نفر قليل من المطوعة حتى إذا ورد مصر أخرج معه من جندها بعثاً وأتي أفريقية عمله ونزل بالقيروان قصبة أفريقية فأخرج موسى معه من أهل ذوي القوة والجلد وصير على مقدمته طارق بن زياد الليثي البربري وأخذ يقاتل البربر ويفتح بلادهم ومدائنهم وأماكن فيها حتى بلغ طنجة فحصرها حتى افتتحها وأسلم أهلوها وخطها قيرواناً للمسلمين وخلف مولاه طارقاً والياً عليها بعد أن استنزل يليان عامل سبتة لطاعة الإسلام - قالوا وكان من ديدن أكابر القوط بالأندلس وقوادهم أن يبعثوا أولادهم يقصدون إلي منفعتهم والتنويه بهم إلى مليكهم بطليطلة ليصيروا في خدمته ويتأدبوا بأدبه ويصيبوا حظاً من جاهه حتى إذا بلغوا زاوجهم بعضاً ببعض استئلافاً لآبائهم، فاتفق أن فعل ذلك يليان عامل سبتة، ركب الطريقة بابنة له بارعة الجمال عزيزة عليه فلما صارت عند رذريق وقعت عينه عليها فأعجبته ولم يملك نفسه حتى استكرهها فاحتالت حتى أعلمت أباها بذلك فأحفظه شأنها جداً وقال ودين المسيح لأزيلنّ ملكه وسلطانه ولأحفرنّ تحت قدميه فأجاز إلى لذويق وأخذ ابنته منه ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلهم على عورة فيهم أمكنت طارقاً فيها الفرصة فانتهزها لوقته وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو من ثلاثمائة من العرب، واحتشد معهم من البربر زُهاء عشرة آلاف فصيرهما عسكرين أحدهما على نفسه ونزل به جبل الفتح فسمي جبل طارق به، والآخر على طريف بن مالك النخعي ونزل بمكان مدينة طريف فسمي به، وأداروا الأسوار على أنفسهم للتحصن وانتهي الخبر إلى لذريق فنهد إليهم يجر أمم الأعاجم وأهل ملة النصرانية في زهار أربعين ألفاً ومعه العجل تحمل الأموال والمتاع وهو على سريره بين دابتين وعليه مظلة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد فلما بلغ طارقاً دنوه قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم، ثم قال: أيها الناس أين المفر. البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر - وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا(12/5)
لكم أمراً ذهب ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة - واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً - وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات يونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم لمجالدة الأبطال والفرسان. ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصاً لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم - واعلموا أنني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله فاحملوا معي فإن هلكت بعه فقد كفيتكم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عيه واكتفوا من فتح هذه الجزيرة بقتله فإنهم بعده يخذلون.
فانبسطت نفوس القوم وتحققت آمالهم وهبت رياح النصر عليهم وقالوا لقد قطعنا الآمال مما يخالف ما قد عزمت عليه فاحضر إليه فإننا معك وبين يديك فركب وأصحابه وباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح، وكان ذلك يوم الأحد لخمس خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين للهجرة الموافق اثنين وعشرين يوليه سنة تسعمائة وعشرة رومية (ميلادية) فلما أصبح الفريقان تكتبوا وعبوا جيوشهم وحمل لذريق وهو على سريره وقد حمل على رأسه رواق ديباج يظلله وهو مقبل في البنود والأعلام وبين يديه المقاتلة والسلاح وأقبل طارق في أصحابه عليهم الزرد من فوق رؤوسهم العمائم البيض وبأيديهم القسي العربية وقد تقلدوا السيوف واعتقلوا الرماح والتحم الجيشان وكان ذلك في فحص شريش.
ولما رأى طارق رذريقاً قال هذا طاغية القوم فحمل وحمل معه أصحابه فتفرقت المقاتلة من بين يدي رذريق فخلص إليه طارق فضربه بالسيف على رأسه فقتله على سريره وكان كما قيل:
فمساهم وبسطهموا حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب(12/6)
ومن في كفه منهم قناة ... كمنفي كفه منهم خضاب
قُتل العلج الذي فت في عضده الترف وأفسد إنسانيته النعيم. قُتل الظالم الغشوم فقُتل بقتله الجهل والظلم، واستأصل شأفة الضلال والإثم، وأراح على عباد الله حقهم الضائع، واستنقذهم من بين أنياب الحية وفي أنيابها السم ناقع، وهل يكون رذريق ومن يشبه رذريقاً إلا مصدر شقاء لأمته، وجالب عناء إلى رعيته، ومتى كان الظلم إلا طالع نحس وشؤم، والترف إلا رائد كرب وهم.
أي رذريق أحسبت حين كنت تعبث ببنات الناس وتفض إغلاق ما ختم الله، أن الله لا يبعث بك ويفض إغلاق ملكك ويؤتيه من هو خير منك. وقد ما لعمري كان الفسوق بالدمار نذيراً، وقد قال ربك وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا - وليت شعري ماذا ظننت إذ تريد أن تذود عن بلادك، وتنضح عن ملكك، وتقاتل أبناء الصحراء، أولئك الذين تسير المنايا حيث سارت منهم الركاب، وتغتبط بحروبهم جياع الطير وخمص الذئاب، إذ هي ضامنة أن ترتع إذ ذاك في لحوم الأعداء، وكذلك ضريت بلحوم الناس حتى تراها تهم أن تختطف منهم الأحياء، فذهبت إلى لقائهم محمولاً على السرير، رافلاً في الدمقس والحرير، كأنك عروس تُجلى إلى الرجال، لا فارس تراد على الطعان والنزال. فلما رأى القوط مصرع صاحبهم التحم الجيشان فهزم الله القوط ونقل للمسلمين أموالهم ورقابهم وكتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح والغنائم فحركته الغيرة وكتب إلى طارق يتوعده أن توغل بغير أذنه ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به وحتى يتمم هذا العمل العظيم عظيم مثله. وإن كان طارق كذلك عظيماً، بيد أن فوق كل ذي علم عليماً، وليت شعري كيف يلومون ابن نصير على ذلك ويقرفونه بالحقد والحسد، وهل يكون رئيس حازم، ليس بالحاقد ولا الناقم، وهل رأيت صفقة أخسر من غفلة رئيس أحقده غيره فنسى ذلك أو تناساه وعدوه لا يغفل عنه، وحاسده لا يكفيه إلا الراحة منه، ولستُ عمرك الله ممن يقول وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا ولكني أقول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
ومن الحزم كما قيل أن يكون الرأي ميزاناً لا يزن الوافي لناقص ولا يزن الناقص لواف فاستخلف موسى على القيروان ولده عبد الله وخرج ومعه حبيب بن مندة الفهري ونهض(12/7)
من القيروان سنة ثلاث وتسعين للهجرة في عسكر ضخم من وجوه العرب الموالي وعرفاء البربر ووافي خليج الزقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء فأجاز إلى الأندلس وتلقاه طارق فانقاد واتبع وأتم موسى الفتح وتغلغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق وأربونة في الجوف وصنم قادس في الغرب ودوخ أقطارها وجمع غنائمها وكتب إلى الوليد فيما هاله من ذلك إنها ليست الفتوح ولكنها الحشر وأجمع أن يأتي المشرق من جهة القسطنطينية ويتجاوز إلى الشام دروب الأندلس ويخوض إليه ما بينهما من أمم الأعاجم النصرانية مجاهداً فيهم مستلحماً لهم إلى أن يلحق بدار الخلافة فأجفلت ملوك النصارى بين يديه واجتمع الإفرنج إلى قارله (شارل مارتل) ملك افرنسة وقد كان إذ ذاك من أعظم ملوكهم فقالوا له ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب، كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتوا من مغربها واستولوا على الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد بجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم، فقال لهم ما معناه الرأي عندي أن لا تعترضوهم في خرجتهم هذه فإنهم كالسيل يحمل من يصادره وهم في إقبال أمرهم ولهم نيات تغني عن كثرة العدد وقلوب تغني عن حصانة الدروع ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ من الغنائم أيديهم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرياسة ويستعين بعضهم على بعض فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر ونمي الخبر إلى الوليد فاشتد قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب ورأي أن ما هم به موسى غرر بالمسلمين فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف وأسر إلى سفيره (واسمه مغيث) أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع وكتب له بذلك عهداً ففت ذلك في عزم موسى وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة والحامية بثغورها وأنزل ابنه عبد العزيز لغزوها وجهاد عدوها وأنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة واحتل موسى القيروان سنة خمس وتسعين وارتحل إلى المشرق سنة ست بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظهر يقال أن من جملتها ثلاثين ألف رأس من السبي وولى على إفريقية ابنه عبد الله وعلى المغرب الأقصى ابنه عبد الملك وقدم على سليمان بن عبد الملك الذي ولى الخلافة بعد أخيه الوليد.
(نكبة موسى بن نصير)
ولما قدم موسى بن نصير على سليمان بن عبد الملك وجده كالمرجل غضباً فأنزل به من(12/8)
العذاب والتنكيل ما جعل بطن الأرض أحب إليه من ظهرها، وذلك أنه حبسه وعزله عن جميع أعماله وأمر بتقصي حسابه فأغرمه غرماً عظيماً كشفه فيه حتى اضطر إلى أن سأل العرب معونته فيقال أن لخماً حملت عنه في أعطيتها تسعين ألفاً ذهباً وهم سليمان بقتله فاستجار بيزيد بن المهلب لمكانه من سليمان وطلب منه أن يكلمه في أن يخفف عنه فاستوهبه من سليمان فوهبه إياه.
وما أحكم الحديث الذي دار بينه وبين يزيد حين لجأ إليه، قال له يزيد: أريد أن أسألك فأصغ إلي، ثم قال لم أزل أسمع عنك أنك من أعقل الناس وأعرفهم بمكايد الحروب ومداراة الدنيا فقل لي كيف حصلت في يد هذا الرجل بعد ما ملكت الأندلس وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزخار وتيقنت بعد المرام واستصعابه، واستخلصت بلاداً أنت اخترعتها، واستملكت رجالاً لا يعرفون غير خيرك وشرك، وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في يد من لا يرحمك ثم أنك علمت أن سليمان ولي عهد وأنه المولى بعد أخيه وقد أشرف على الهلاك لا محالة وبعد ذلك خالفته وألقيت بيدك إلى التهلكة وأحقدت مالكك ومملوكك (يعني سليمان وطارقاً) وما رضي هذا الرجل عنك إلا بعيد ولكن لا آلو جهداً - فقال موسى ليس هذا وقت تعديد، أما سمعت إذا جاء الحين غطي على العين، فقال يزيد ما قصدت بما قلت لك تعديداً ولا تبكيتاً وإنما قصدت تلقيح العقل وتنبيه الرأي وأن أري ما عندك فقال موسى أما رأيت الهدهد يرى الماء تحت الأرض عن بعد ويقع في الفخ وهو بمرأى عينه.
ثم كلم فيه سليمان فوهب له دمه ولكن لم يرفع العذاب حتى يرد ما غل - زعم سليمان - من مال الله. وآلت حاله إلى أن كان يطاف به ليسأل من أحياء العرب ما يفتك به نفسه وفي تلك الحال مات - حدث أحد غلمانه ممن له في أيام محنته فقال: لقد رأيتنا نطوف مع الأمير موسى بن نصير على أحياء العرب فواحد يجيبنا وآخر يحتجب عنا ولربما دفع إلينا رحمة بنا الدرهم والدرهمين فيفرح بذلك الأمير ليدفعه إلى الموكلين به فيخففون عنه من العذاب، ولقد رأيتنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ السلوب من قصور الإفرنج فنفصل منها ما يكون فيها من الذهب وغير ذلك ونرمي به ولا نأخذ إلا الدر الفاخر. فسبحان الذي بيده العز والذل والغنى والفقر أي وربك أيها الغلام، إذ الأمر كما قيل:(12/9)
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سُوقة ننتصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تاران بنا وتصرف
أف لهذه الدنيا، بل أف لجبابرة الملوك، ما أغدر وما أخون. فبيناهم يلينون للناس لين فراء السمّور، إذا هم يلبسون لهم جلود النمور، وأنت أيها الغلام ما أكرمك إذ وفيت لسيدك وقت نكبته، وفرجت عنه بعض كربته، وما ألأم ذلك المولى الذي عزم على أن يسلم سيده الأمير موسى وهو بوادي القرى في أسوأ حال ففطن موسى لذلك فذل له وقال يا فلان أتسلمني في هذه الحال فقال له اللئيم قد أسلمك خالقك ومالكك الذي هو أرحم الراحمين، فدمعت عيناه وجعل يرفعهما إلى السماء خاضعاً مهيناً بشفتيه فما سفرت تلك الليلة إلا عن قبض روحه رحمة الله - وقد اختلف المؤرخون في سبب هذه النكبة فقال بعض أن موسى إنما قدم على الوليد وأن سليمان ولي العهد لما سمع بقرب موسى من دمشق وكان الوليد مريضاً كتب أي سليمان إلى موسى يأمره بالتربص رجاء أن يموت الوليد قبل قدوم موسى فيقدم موسى
على سليمان في أول خلافته بتلك الغنائم الكثيرة التي ماريء ولا سمع مثلها فيعظم بذلك مقام سليمان عند الناس فأبي ذلك موسي ومنعه دينه منه وجد في السير حتي قدم والوليد حى فسلم له الأخماس والمغانم والتحف والذخائر فلم يمكث الوليد إلا يسير أبعد قدوم موسي وقضى واستخلف سليمان فحقد عليه وكان منه ما كان، وذهب آخرون إلى أن طارقاً لما هزم القوط وفتح طليطلة أصاب في كنيستها مائدة من أعجب ما صنع الأنس قالوا وأصل هذه المائدة أن القوط في أيام ملكهم كان أهل الحسبة منهم إذا مات أحدهم أوصي بمال للكنائس فإذا اجتمع عندهم ذلك المال صاغوا منه الآلات الضخمة من الموائد والكراسي وأشباهها من الذهب والفضة تحمل الشماسة والقساوسة فوقها مصاحف الأناجيل إذا برزت في أيام المناسك ويضعونها على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها فكانت تلك المائدة بطليطلة مما صيغ في هذه السبيل وتأنقت الأملاك في تفخيمها يزيد الآخر منهم على الأول حتي برزت على جميع ما اتخذ من تلك الآلات وطار الذكر مطاره عنها وكانت مصوغة من خالص الذهب مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزمرد لم تر الأعين مثلها وكانت توضع على مذبح كنيسة طليطلة فأصابها المسلمون هناك وطار النبأ الفخم عنها فلما قدم موسى إلى طليطلة طالب طارقاً بأداء ما عنده من مال الفىء وذخائر الملوك واستعجله المائدة فأتاه(12/10)
بها وقد خلع من أرجلها رجلاً وخبأه عنده فسأله موسي عنه فقال لا علم لى به وهكذا أصبتها فجعل لها موسى رجلاً من ذهب جاء بعيد الشبه من أرجلها فأخل بها ولما قفل موسي إلى المشرق وأصحابه سأل مغيثاً سفير الوليد إليه أن يسلم إليه العلج صاحب قرطبة الذي كان في أساره فامتنع عليه وقال لا يؤذيه للخليفة سواي وكان يدل بولائه من الوليد فهجم عليه موسى فانتزعه منه فقيل له أن سرت به حياً معك أدعاه مغيث والعلج لا ينكر قوله ولكن أضرب عنقه ففعل فاضطغنها عليه مغيث وصار ألباً عليه مع طارق فلما قدم موسى على سليمان وجد طارقاً ومغيثاً قد سبقاه إليه بالشكية منه ورمياه عنده بالخيانة وأخبراه بما صنع بهما من خبر المائدة والعلج وقالا له أنه قد غلّ جوهراً عظيم القدر أصابه ولم تحو الملوك من بعد فارس مثله فلما رافى سليمان وجده المغيظ المحنق وسأله عن المائدة فأحضرها وقال له زعم طارق أنه الذي أصابها دونك قال لا وما رآها قط إلا عندى فقال طارق فليسأله أمير المؤمنين عن الرجل التي تنقصها فسأله فقال هكذا أصبتها وعوضتها رجلاً صنعتها لها فحول طارق يده إلى قبائه فأخرج الرجل فعلم سليمان صدقه وكذب موسي فحقق جميع ما رمى به عنده وأنزل به ما أنزل وعندى أن السبب الأول الذى حمل سليمان على نكبة موسى هو خوفه من امتداد سلطانه بالمغرب وإفريقية والأندلس، واستبداده بالأمر دونه.
ولاة الأندلس
من حين الفتح إلى دخول عبد الرحمن الداخل
أسلفنا أن موسي بن نصير لما قفل عن الأندلس إلى المشرق ولى عبد العزيز ابنه مكانه وأن عبد العزيز هذا كأنه خيراً فاضلاً. وأقام والياً على الأندلس مدي عامين فتح فيهما مدائن كثراً بيد أن سليمان بن عبد الملك لم يكفه أن نكب موسى بل أغرى عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز هذا فقتلوه لسنتين من ولايته.
قال ابن خلدون:
وولى من بعده أيوب بن حبيب اللخمى وهو ابن أخت موسى بن نصير فولي عليها ستة أشهر. ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس تارة من قبل الخليفة وتارة من قبل عامله بالقيروان وأثخنوا في أمم النصرانية وافتتحوا برشلونة من جهة المشرق وحصون قشتالة(12/11)
وبسائطها من جهة الجوف وانقرضت أمم القوط وأوي الجلالقة ومن بقى من أمم العجم إلي جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب فتحصنوا بها وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلوا البسائط وراءها وتوغلوا في بلاد الفرنجة وعصفت ريح الإسلام بأمم النصارى من كل جهة وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجد للعدو بعض الكرة فرجع الإفرنج ما كانوا غلبوهم عليه من بلاد برشلونة لعهد ثمانين سنة من لدن فتحها واستمر الأمر على ذلك: وكان محمد بن يزيد عامل إفريقية لسليمان بن عبد الملك لما بلغه مهلك عبد العزيز بن موسي بن نصير بعث إلى الأندلس الحر بن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي فقدم الأندلس وعزل أيوب بن حبيب وولي سنتين وثمانية أشهر. ثم بعث عمر بن عبد العزيز على الأندلس السمح بن مالك الخولانى على رأس المائة من الهجرة وأمره أن يخمس أرض الأندلس فخمسها وبنى قنطرة قرطبة واستشهد غازياً بأرض الفرنجة سنة ثنتين ومائة. فقدم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقى إلى أن قدم عنبسة بن سحيم الكلبي من قبل يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية فقدمها في صفر سنة ثلاث ومائة فاستقام أمر الأندلس وغزا الفرنجة وتوغل في بلادهم واستشهد سنة سبع ومائة لأربع سنين وأربعة أشهر ثم تتابعت ولاة الأندلس من قبل أمراء إفريقية فكان أولهم يحيى بن سلمة الكلبي أنفذه بشر بن صفوان الكلبي والى إفريقية لما استدعى منه أهل الأندلس والياً بعد مقتل عنبسة فقدمها آخر سنة سبع وأقام في ولايتها سنتين ونصفاً ولم يغز وقدم إليها عثمان بن أبي نسعة اللخمى واليامن قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية وعزله لخمسة أشهر بحذيفة بن الأحوص القيسى فوافاها سنة عشر وعزل قريباً يقال لسنة من ولايته. واختلف هل تقدمه عثمان أو هو تقدم عثمان. ثم ولى بعده الهيثم بن عبيد الكلابي من قبل عبيدة بن عبد الرحمن أيضاً قدم في المحرم سنة إحدي عشرة وغزا أرض مقوشة فافتتحها وتوفي سنة ثلاث عشرة ومائة لسنتين من ولايته وقدم بعده محمد بن عبد الله الأشجعي فولى شهرين ثم قدم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقى من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية فدخلها سنة ثلاث عشرة وغزا الإفرنجة وكانت له فيهم وقائع وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة في موضع يعرف ببلاط الشهداء وبه عرفت الغزوة وكانت ولايته سنة وثمانية(12/12)
أشهر. ثم ولى عبد الملك بن قطن الفهرى وقدم في رمضان سنة أربع عشرة فولى سنتين وقال الواقدي أربع سنين وكان ظلوماً جائراً في حكومته وغزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة ومائة فأوقع بهم وغنم ثم عزل في رمضان سنة ست عشرة وولى عقبة بن الحجاج السلولى من قبل عبيد الله بن الحبحاب فأقام خمس سنين محمود السيرة مجاهداً مظفراً حتى بلغ سكني المسلمين أربونة وصار رباطهم على نهر ردونة ثم وثب عليه الملك بن قطن الفهري سنة إحدى وعشرين فخلعه وقتله ويقال أخرجه من الأندلس وولى مكانه إلى أن دخل بلج بن بشر بأهل الشام سنة أربع وعشرين فغلب عليه وولى سنة أو نحوها وقال الرازي ثار أهل الأندلس بأميرهم عقبة في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك وولوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية فكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر وتوفى بقرمونة سنة ثلاث وعشرين واستقام الأمر لعبد الملك ثم دخل بلج بن بشر القشيري بجند الشام ناجياً من وقعة كلثوم بن عياض مع البربر بملوية فثار على عبد الملك وقتله وهو ابن سبعين سنة واستوسق له الأمر بعد مقتل عبد الملك وانحاز الفهريون إلى جانب فامتنعوا عليه وكاشفوه واجتمع إليهم من أنكر فعلته بابن قطن وقام بأمرهم قطن وأمية ابنا عبد الملك بن قطن والتقوا فكانت الدائرة على الفهريين وهلك بلج من الجراح التي نالته في حربهم وذلك سنة أربع وعشرين لسنة أو نحوها من إمارته، ثم ولى ثعلبة بن سلامة الجذامي غلب على إمارة الأندلس بعد مهلك بلج وانحاز عنه الفهريون فلم يطيعوه وولى سنتين أظهر فيهما العدل ودانت له الأندلس عشرة أشهر إلى أن مالت به العصبية في يمانيته ففسد أمره وهاجت الفتنة وقدم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن صفوان عامل إفريقية ركب إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين فدان له أهل الأندلس وأقبل عليه ثعلبة وابن أبي لسعة وابنا عبد الملك بن قطن فلقيهم وأحسن إليهم واستقام أمره وكان شجاعاً كريماً ذا رأي وحزم وكثر أهل الشأم عنده ولم تحملهم قرطبة ففرقهم في البلاد وأنزل أهل دمشق البيرة لشبهه بها وسماها دمشق وأنزل أهل حمص إشبيلية وسماها حمص وأهل قنسرين جيان وسماها قنسرين وأهل الأردن رية ومالقة وسماها الأردن وأهل فلسطين شدونة وهى شريش وسماها فلسطين وأهل مصر تدمير وسماها مصر. وقفل ثعلبة إلى المشرق ولحق بمروان بن محمد وحضر حروبه. وكان أبو(12/13)
الخطار عربياً عصبياً أفرط عند ولايته في التعصب لقومه من اليمانية وتحامل على المضرية وأسخط قيساً وأمر في بعض الأيام بالصميل بن حاتم كبير القيسية وكان من طوالع بلج وهو الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ورأس على المضرية فأقيم من مجلسه وتقنع فقال لع بعض الحجاب وهو خارج من القصر أقم عمامتك يا أبا الجوشن فقال إن كا لى قوم فسيقيمونها فسار الصميل بن حاتم أميرهم يومئذ وزعيمهم وألب عليه قومه واستعان بالمنحرفين عنه من اليمانية فخلع أبو الخطار سنة ثمان وعشرين لأربع سنين وتسعة أشهر من ولايته وقدم مكانه ثوابة بن سلامة الجذامي وهاجت الحرب المشهورة وخاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب إفريقية فكتب إلى ثوابة بعهده على الأندلس منسلخ رجب سنة تسع وعشرين فضبط الأندلس وقام بأمره الصميل واجتمع عليه الفريقان وهلك لسنة من ولايته ووقع الخلاف بإفريقية والتاث أمر بنى أمية بالمشرق وشغلوا عن قاصية الثغور بكثرة الخوارج وعظم أمر المسوّدة فبقى أهل الأندلس فوضى ونصبوا للأحكام خاصة عبد الرحمن بن كثير ثم اتفق جند الأندلس على اقتسام الإمارة بين المضرية واليمانية وأدالتها بين الجندين سنة لكل دولة وقدم المضريون على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن الفهرى سنة تسع وعشرين واستتم سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة ثم وافته اليمانية لميعاد أدالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم فيتهم المروانى وكان وفد عليه من المشرق وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر فلما دخلت المسوّدة أرض مصر خرج عبد الملك يؤم الأندلس في عشرة رجال من قومة مشهورين بالبأس والنجدة حتى نزل على عبد الرحمن سنة أربعين فعقد له على أشبيلية ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور وسار يوسف إليهما وخرجا إليه ولقياه وتناجز الفريقان فكانت الدائرة على يوسف وأبعد المفر واغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة واحتز رأسه وتقدم به إلى الأمير عبد الرحمن فاستقام أمره واستقر بقرطبة وثبت قدمه في الملك. (للكلام بقية)
استدراك
أسلفنا عند الكلام على جزائر السعادات التى منها جزائر بريطانية (ومنها كما يظهر السويد والنرويج) والتى كان يخرج منها ناس يفال لهم المجوس يغيرون على الأندلس - إن(12/14)
هؤلاء المجوس لعلهم قدماه الإنكليز ولكن بعد البحث العميق ظهر لنا أن هؤلاء الذين يسميهم العرب المجوس هم النورثمان.
(سكان السويد والنرويج).(12/15)
أمرسون في إنكلترا
زار أمرسون أكبر كتاب الأمريكان إنكلترا وكتب عن زيارته رسالة وصف فيها البلاد وأهلها وصفاً وافياً شافياً ينم عن نظر ثاقب وبصيرة نافذة معلم غزير واطلاع واسع وقد أحب البيان أن لا يخلو من بعض فصول مبحث كهذا. ومازال البيان مولعاً بالإشراف الأبرع. كلفاً بالأطرف الأبدع.
كالعين منهومة بالحسن تتبعه ... والأنف يطلب أقصى منتهى الطيب
فلما صحت عزيمة البيان على ذلك ترجم تلك الرسالة وأظهر في هذا العدد أحد فصولها وهو هذا الذى بين يدى القارئ وسينشر سائر الفصول في أعداد قادمة وبالله التوفيق.
آداب الإنكليز وعاداتهم
لقد بحثت الإنكليزي فوجدته أثبت الناس قدماً. وأمضاهم عزماً. إذا هم مضى وإذا مضي لم يثنه دون الغاية عائق. ورأيت للقوم من فرط النشاط والحدة والذكاء مثل ما يمتدحون به جيادهم وأفراسهم. وقد وصف لى رجل منهم والى أيرلندة أول نزولى مدينة لفربول فقال اللورد كلارندون فيه سورة الديك وهو إذا نازل القرن صدق القتال حتى يفني هذا أول ما سمعته عن خلق الإنكليزى وهو كذلك آخر ما سمعته. ولعل رأس مفاخر الإنكليزي وهو الحدة والجرأة فهي بينة في الحوذى بينة في التاجر بينة في القسيس بينة في المرأة بينة في الجرائد حتي رأيتهم يقولون ليس فى إنكلترا طولها وعرضها ما هو أشد جرأة وأصدق حملة من صحيفة التيمس.
وقد قال سيدنى سميث وذكر الوزير اللورد جون راسل أنه لو شاء لقاد الأسطول من غده.
والإنكليز يريدونك على أن تصرح برأيك غير موارب ولا مراء ويمقتون كل المقت الجبان الهيابة الذي إذ سئل عن الشئ وقف فلم يقل لا ولا نعم.
ومتانة أخلاق الإنكليزي وشدة استبداده برأيه أظهر ما تكون في قلة اكتراثه الناس وعدم تطلعه إليهم حتى كأن أحدهم إزاء الآخر الصخرة الصماء. والدمنة الخرساء. وحتى ترى كل واحد يسير ويجلس ويأكل ويشرب ويلبس وينزع ويشير وينطق ويحدث الحدث ويلقاه. ويفعل الفعل ويتلقاه. غير ما ملتفت إلى الناس ولا حافل بالعالم إلا اجتنابه الدخول في شؤون الغير وتحاميه إيذاءهم. وما ذلك أنه قد مرن ودرب على احتقار الناس كلاً إنما هو(12/16)
اشتغال بأمره عن أمورهم وانصراف عن شؤونهم إلى شؤونه. وكل امريء في هذه البلاد لا يستنصح إلا نفسه ولا يترك ما فيه رضاه لا رضاء غيره ولا أعلم على ظهر البسيطة مصراً خلاف هذا المصر يصفح فيه عن الشواذ والعجائب من العادات والأعمال حتى لا يكاد يلتفت إليها أو يفطن لها. فالإنكليزي يمشى في الوابل الهتان مغلقاً مظلته بهزها هز العصا. ويلبس على منكبيه رداء أو سرجاً وعلى رأسه قلنسوة أو مخلاة ويمشى على رجليه أو يسعى على أم رأسه أو يتدحرج على جنبيه ولا يقال فى ذلك حرف واحد. وإذ كان قد طال عهده بهذا الأمر وتقادمت العصور على تلك العادة فقد أصبحت قد مزجت بدمه. ورسبت فى عظمه وجالت بين جلده ولحمه.
وجملة القول كل امريء من هؤلاء الجزائريين جزيرة فى نفسه هادئ صامت مطمئن منقطع عن سائر أهل جلدته. وإنك إن تلقه وسط جماعة من الأجانب حسبته أصم. فهو لا يرسل الطرف في نحاء المجلس ولا يرتعه في أشخاص القوم بل لا يزال عاقده بمائدته أو صحيفته ثم لا يبدو عليه للتطلع والقلق أدنى أثر. ثم لا تراه يمد للمصافحة راحة ولا تراه يلقى لحظك بلحظه
ورابني منه أنى لا أزال أرى ... في طرفه قصراً عنى إذا نظرا
ونظرك في وجه أجدهم قبل التعارف ذنب لا يغتفر. والإنكليز لا يحدون التعارف بين الأفراد في حفلات الأعيان ولا في الحفلات المختلطة شدة اهتمام بمسألة التعارف كأنهم يرونها صنفاً من المعاهدات والمبايعات والإنكليزي ضنين باسمه لا يكاد يبوح به لصاحب النزل الذي هو وافده والخان الذي هو وارده. ولئن ظفرت منه ببطاقته فلقد ظفرت ولا ريب بمودته. وإذا قدم إليك ألفيته منقبضاً جافياً. مزوراً نائياً. على حين أنه الراغب في صداقتك. المؤمل لمودتك. الباغي سعادتك وفلاحك. الطالب نفعك وإصلاحك.
والإنكليزي جاد ماض محب للنظام والنظافة شديد التمسك بالرسوم والاصطلاحات. والسنن والعادات. محب لدين والصدق مع الإقامة على القديم والتشبث بالرسوم. وقد أجمع الناس على مدح المطاعم والبيوت الإنكليزية وما جمعت من أسباب النعيم والراحة وكل نزل بتلك الديار أو منزل ضمان على أهله إكرام مثوى الضيف يقري هنالك مع الطعمة الطيبة والجرعة السائغة عذوبة اللقاء وحسن الإقبال والإصغاء. وجميل التلطف والاحتفاء. وقد(12/17)
يكون الفرنسي نظيفاً. ولا يكون الإنكليزي إلا نظيفاً. بادي النظافة والنظام في ثوبه وسائر متاعه.
ولما كان الإنكليزي قد أقامه الله بأرض هطالة الأنواء. مغيمة الأجواء. قارسة الهواء. تسجنه بداره وتغله إلى سريره وكان مع ذلك ودوداً وفياً. وبراً تقياً. أصبح شديد الحب لداره. فإذا كان موسراً ابتنى إيواناً. واقتنى غلماناً. وإذا كان متوسط الحال لم يدخر دون تنميق داره شيئاً. فأما ظاهر الدار فيطلي دهاناً. وأما الباطن فيكسى الخشب الصقيل جدراناً. وتفرش أرضه خزاً وكتاناً. ويزان بالصور والنقوش ألواناً. ويملأ بسائر أنواع الفرش الوثيرة والتحف المونقة. وتحلية البيت وزخرفته هي آخر ما يبقى من شهوات الإنكليزى بعد ذهاب سائرها. فهو لا يزال يسوق إلى داره كل ما طاب ولذ. ولما كان مع ذلك محباً للبقاء بالدار عينها يرثها عن سلفه فيورثها خلفه
كالحسام الجزار يبقى على الدهر ويفني في كل عصر قرابه
فلا جرم إذا رأيت الدار قد أصبحت على كر العصور متحفاً جامعاً قد ضمن جميع مآثر السلف منذ أول ساكن ومخلفات أولئك الآباء والجدود ومفاخرهم - شواهد وقائعهم ودلائل أفاعيلهم. والإنكليزى مولع بآنية الفضة. وهو وإن أعوزته الصفائف المعروضة من صور الآباء والأجداد لم تعوزه الصفائف المعروضة من أكواب مدامهم وأواني فطائرهم.
وإن بديار الموسرين من آنية الفضة مالا يكاد يصدق بمقدار بشر. وليس يخلو أحقر البيوت من ملعقة أو قدر - هدية عمة أو جدة ونقيذة من نقائذ الدهر وعنواناً على ما درس من عهود النعيم وانقرض.
التربة الإنكليزية تنبت في صفاء صحو الدعة وسقيا مياه الأدب الصريح. والعلم الصحيح. أكرم النساء وفضلياتهن. ولا يعلم فى الوجود شيء قد أصاب من الرقة في غير تصنع والخفر في غير تكلف ومن الفضائل الفطرية والمحاسن الغريزية ما أصابت المرأة الإنكليزية ولا شيء أصدق وأطهر وأرق من تبادل الحب والوفاء بين الإنكليزي والإنكليزية لقد جاء في بعض أناشيد 1569 ليس أعظم من حظوة الإنكليزية بزوجها إلا حظوة الإنكليزى بزوجته والمرأة العفة النقية المذكورة في رواية شاكسبير سمبيلين مستعارة ولاشك من المرأة الإنكليزية وكذلك بورشيا زوجة بروتاس وكيت برسي ودزدمونا.(12/18)
ورعاية حرمة البيت هي أساس قوتهم وهي الجذر الذى عنه تتشعب فروع الأمة وتسمو صُعُداً. فهم يمسون ويصبحون وأول أغراض تجاربهم ودولتهم هو صيانة استقلال بيوتهم وحفظ حريتها. ورعاية حرمة البيت وقضاء حقوقه غريزة تجرى مع النفس يحملها الإنكليزي بين جنبيه أينما حل وارتحل سواء نزل المعسكر أو البلاط. ولقد كان ولنجتون وهو قائد الجيوش البريطانية في اسبانيا لا يكاد يبرح مكانه حذراً من غرماء دولته. وزعم المستر كوبيت أن الوزير السير برسفال لم يكتسب رضا الناس طراً إلا بفضل حضوره الكنيسة كل أحد يحمل في يمينه إنجيلاً مذهباً وفي يساره عضد امرأته يتبعه من أنجاله كسرب الظباء أو كالربرب.
والقوم شديدو المحافظة على عاداتهم وأزيائهم وشعائرهم فمن أنعم النظر لمح شبح العصور الوسطى يمشى الضراء في شوارع لندن وكأنما يبصر فرسان تلك القرون يتبايعون على حماية النساء كما كانوا يفعلون أيام الفتوة والنجدة. ولما كان يوم تتويج الأميرة الحاضرة جدد الشعب شعائر القرن الحادى عشر. ومن عاداتهم وراثة المستأجرات والمهن يتوارثون الوظائف والحرب والضياع المستأجرة ويتوارثون كذلك الروايات والأنباء. وربما امتدت مدة التأجير هنالك ألف عام واستمرت الوظيفة والشركة طول العمر أو أورثت قال وردذورث وذكر مزارعى ناحية وستمورلانه كان الكثير من صغار هؤلاء المزارعين يعتقدون أن ما يحرثون من الأرض مازال منذ خمسمائه عام في حوزة أناس من ذوى قرباهم وأرحامهم ولو سألت عن نجار السفن بالمرسى أو غارس البستان بقصر الوزير أو بواب ذلك الأمير لعلمت أن كل واحد من هؤلاء قد ورث عمله أباً عن جد منذ أعوام عديدة.
والقوم يمقتون التغيير والتبديل فطرة جبلوا عليها وقواها في نفوسهم تعاليم فلاسفتهم فلقد قال لهم باكون الوقت خير مبدل وأحسن مصلح وقال لهم شاتام الثقة غرس بطىء النمو وقال لهم كانتج سيروا مع الوقت وقال لهم ولنجتون العادة أرسخ من الطبع.
والإنكليزى شديد الوقار سواء في الكوخ والقصر. كان الموسيقى الشهير ثالبرج يضرب بالبيانو ذات ليلة في حضرة الملكة في حفلة خاصة فأصحبته الملكة صوتها رافعة بالغناء عقيرتها فذاع الخبر فاقشعرت بريطانيا من الذؤابة إلى القدم اشمئزازاً من هذا العمل وأنفة.(12/19)
فلم تعد الأميرة قط بعد ذلك إلى إتيان ذلك المنكر. والإنكليز أشد الناس انقباضاً وحشمة ولا مسوغ عندهم لإبداء الطرب إلا التمثيل والموسيقى ولا يجيزون من الصوت إلا الخفيض الخفي الذي لا يسمع إلا من خوطب به. ومنهم من تدرك في صوته رنة يأس كأنما تناجيك قائلة اقطع الرجاء من كل شيء.
والادعاء والزهو والمفاخرة أبغض الأشياء إليهم حتى نراهم إلى عكس ذلك يجنحون يخشوشنون الثوب والصوت والهيئة. يكرهون التصنع ويعمدون إلى أكباد الحقائق وما برحوا - منذ كانوا - يرذلون اللغو والهذر ويمقتون تكلف الرقة والظرف والأطناب والمبالغة ويسلكون القصد قولاً وفعلاً ويجرون على الفطرة والغريزة من السذاجة والخشونة حتي غدا خليعهم بروميل قد عرف بسذاجة لباسه. وأحسن ما يمتدحون به قلة التكلف والتصنع في شؤونهم العامة والدقة والأحكام والعمد إلى لب الحقيقة في أمورهم الخاصة.
في أمة أرسطوقراطية كأمة الإنكليز ليس عجيباً أن يكون أجل الاحتفالات حفلة العشاء. لا حفلة القضاء. ومجلس الطعام. لا مجلس الأحكام. ودعوة الغريب عدهم هي الآية على تبجيله وتكريمه - وما انفكت كذلك منذ غابر الأعصر. قال الرحالة الإيطالى في عام 1500 والإنكليز يرون دعوتهم الغير إلى موائدهم ودعوة الغير إياهم إلى موائد الغير أجل ما يعطى يؤخذ وإنهم لأسرع إلى بذل العشرة الدنانير في صنع المآدب منهم إلى بذل الدرهم الواحد في صنع المآثر وإغاثة الملهوف. ونعيم المائدة يستبقي إلى أول ساعة من الليل وله لباس مخصوص سواء كان بدار الرجل أو بدار آدبه. وقبل العشاء بنصف ساعة يحضر الضيفان وليس سوي الموت أو السجن من حائل دون الحضور. ويجلس القوم على الخوان ساعتين ثم تقوم السيدات في غرفة السمر. وهذه الولائم تولد عند القوم ملكة البيان وخلابة الحديث فتري ما يلقي هنالك من الحكايات منظماً مصقولاً لعله من طول إعادة وتكرار. وهنالك تلقى إليك الكنوز الأفكار ما أودعت من درر وغرر وتبرز إليك خزائن الصدور ما ضمنت من تحف وطرف وتصطادك حبائل الحديث كل شاردة شموس ونافرة جموح من ملحة أدبية إلى مسألة عملية إلى فائدة أخلاقية إلى كلمة جامعة وحكمة بارعة وكناية رائعة إلى مثل سائر وبيت من الشعر نادر وتشبيه معجب باهر. وأخبار وقصص ونوادر.(12/20)
والحكايات الإنكليزية والأمثال والحكم والمأثور عن أدبائهم وظرفائهم من أحاديث المائدة لا تقل عن أطيب ما يماثلها في الأدب الفرنسي ونحن أمة الأمريكان لنا أدب وبراعة وعندنا بيان وفكاهة ولكنا لم نبلغ رتبة الإنكليز في ذلك. لأن كثرة العناصر التي يتألف منها الشعب الإنكليزي وكثرة المصادر التي جاء منها سكان لندن وشدة الخلاف وبعد المسافة بين شتى الطبقات ثروة ومنزلة وسلطه وجاهاً كل ذلك محدث في المجتمع من تنوع الهيئات والمظاهر واختلاف الآراء والخواطر مثلما تحدثه وعورة الأرض واختلاف سطحها صعوداً وهبوطاً من تنوع المناظر فيها واختلاف المشاهد. وإنك لتلقين أحياناً في هذه المآدب رجال الدهر وأبناء التجارب من كل مصقول الخاطر حافل المجم غمر البديهة عالم بكل شىء مجرب لكل شيء قادر على كل شىء قد سبق به الفضل الغريزى غاية شأو المتعلمين وفاتت به السليقة السليمة مبلغ جهد المتأدبين فبات بطبيعته وراء مرمى الأدب وأصبح بتجربته فوق مطمح الحكمة. أي شيء لا نستطيعه مثل هذا القدير لو شاء.(12/21)
اعترافات ألفرد ده موسيه
ألفرد ده موسيه بلبل غرد شدا على أيكة الأدب الفرنسوى فبز أترابه الأطيار، وغني فأخذت عنه الأعواد والأوتار، وصدح والشباب من سامعيه، والبيان في شدوه والسحر في مسامع سامريه. ده موسيه هو الطائر المستجر قوادمه رائعات المعاني ورشيق الألفاظ من خوافيه.
أنزل الرحمن على قلبه حكمة الحب فتنقل بين أفنانه وتنزي فوق أغصانه وخاض فى أشواكه وذاق من مر نباته فبات مضنى الفؤاد جريحاً يبكي حبائب أسامهن قلبه وأسلمته هجراً، وخلص إليهن بروحه فألقى ودهن غدراً.
شاعر طاهر النفس. شبت الغوانى في جوانحه نار حب ما خبت حتى خبا. ولطالما شبب بهن. وآثر عذابات الهوي العذري على لذاذات الحب وعبث لصبا.
ونحن نعرب له اليوم اعترافاته وهي صفحات من آلام روحه وسمها بعنوان (اعترافات صبى من صبية العصر) وصف فيها ما كابد من عذاب وقاسى من أحزان.
وقراء البيان سيجدون في (ألفرد ده موسيه) مهبط حكمة ومحط صدق ومعانى تأخذ بمجمع النفس ودروس عفاف تطهر أرواح فتياننا وتهذب عواطف شباننا وإن فيها لبلاغاً للناس.
ونحن اليوم بادئون بالفصل الثالث مرجئين الأول والثانى اللذين هما مقدمة يذم فيها الزمان ويشكو العصر حتى إذا أتممنا الاعترافات عطفاً عليهما والله هادينا والقراء مناصرونا إن شاء الله.
علىّ أن أقص كيف أوقعني القدر فنابني من داء هذا الزمان ما نابنى. كنت جالساً إلى عَشاء لذ وقد عدنا من مرقص مخنمر، وصَحبي حافَون من حولى في باهرةِ شُمَلهم وبديع أثوابهم، وفى الجمع شباب تساموا للصبا، وشواب رحن مع الهوي، والكل مشرقون بالمراح واللهو، متألقون بالجمال والزهو. وعلى أيمانى وشمائلى أطعمة فاخرة وأباريق صهباء ومصابيح تجلو الدجي وثريات وأزهار وفوق رأسى نغم الموسيقي وصدحها وإزائي خليلتي، إنسانة شيمتها العجب والدل، تدلهتُ في حبها وتعبدت.
كنت يومئذ في الربيع التاسع عشر. ما نابني يوماً مكروه ولا شفني مرض.
كانت الصراحة والشمم معامن خلقى، أحمل المني وأرود الآمال جمعاً، وبين جنبي قلب مترع فضفاض.(12/22)
تمشت حمياً الكأس في مفاصلى فكانت ساعة نشوة وطرب إذ كل شئ عند ناظرك وفى مسمعك يحدثك عن صاحبتك ومحبوبتك، وبدت الطبيعة مشرقة كأنها يتيمة ذات ألف محياً نقش على كل محيا اسم الحبيب.
كنا نعانق كل من نرى يبتسم ونشعر أننا أخدان لكل مرزوق حى.
وقد اتعدنا أنا وصاحبتى إلى الليل فأدنيت الكأس مترفقاً إلى شفتىّ وأنا أنظر إليها وأجلو في صفحتها العين.
وإنى لأتلفت أريد صفحة إذ سقطت (شوكتى) فملت لآخذها فلم أجدها فرفعت غطاء المائدة أنظر أين تدحرجت فإذا قدم صاحبتي فوق قدم فتى نشأ كان جالساً إلى جنبها وقد التفت الساق بالساق، وتعاطف الجسمان، وهما يلتحمان فى رفق بين آن وآن. فأخذت مجلسي ساكناً وطلبت غيرها وعدت أبلغ العشاء.
هذا وخليلتي وجنيبها هادئان وادعان قل ما يتخاطبان ولا يتلاحظان واعتمد الفتى بالمائدة وهو يداعب امرأة أخرى أبدت له من عقده وأساورها.
جلست خليلتي فى دعة آمنة وعيناها مستقرتان ولحاظها مراض فاترات وراقبتهما آخر العشاء فلم أر من حركاتهما ولا اكتشفت فى معارفهما أثراً يفضحهما.
حتى إذا رفعت المائدة وانبسطت الأيدى للنقل جعلت المنشفة تسقط متعمداً وملت أطلبها فإذا هما مشتبكان ملتصقان.
لقد كنت وصاحبتى على موعد أن أصحبها الليلة إلى مغناها إذ كانت عزباً تروح كما تشاء وتغتدي تساكنها عجوز كوصيفة لها.
وإني لأجتاز البهو نافراً إذ نادتني من جانب الشرب تقول أى أوكتاف، تعال نرحل. فها أنا عند عينيك!.
فتضاحكت من قولها وانطلقت غير مجيب وما كدت أمشي بضع خطوات حتى تهالكت على ثنيسة هناك ولا أعلم ماذا اختلج في تلك الساعة بخاطرى.
لكأنى أصابنى مس من الجنون أو لكأنى عدت أبله ممروراً من أجل خيانة هذه المرأة وما كنت يوماً عليها غيوراً ولا أدركت عليها غدراً ولا رابنى من فعلها ريبة أما وقد رأيت فلا سبيل إلى الريب ولا موضع للتجنى.(12/23)
ولبثت ساهماً سليباً كأنما أثخنني امرؤ ضرباً ولا أدرى مما جرى حولى شيئاً حتى رفعت إلى السماء بصري وأنا شارد اللب فاستقر على كوكب مبعد يتولى.
حييت ذلك الضياء الهادئ حيث الشعراء مبصرون عالماً قفراً خراباً وانطلقت حاسراً لتحيته رأسى ثم أخذت سمتى مولياً.
عدت إلى دارى وأنا مطمئن السرب، لا شعور ولا حس ولا فكر، وجعلت أتفضل من لبستي ثم أويت إلى سريري على أننى ما كدت أضع رأسي على الوسادة حتى نهضت في نفسى فكرة الانتقام فاستويت في مهادي جالساً كأنما أشلائي وأعراقي ارتدت خشباً.
ثم نزلت عن سريرى صارخاً وذراعاى ممتدان وتشنجت أعصاب قدمي فبعد لأ] استطعت أن أمشي على كعبي وتمكثت ساعة على هذه الحال حانقاً مغضباً صلب الأوصال.
ذلك الرجل الذى تحرج مع خليلتي حبيب متمكن بين أحبابى وخليص من صفوة خلصانى.
فلما بكرت مصبحاً انطلقت إلى داره في رفقتي محام فتى يدعى (ديزينيه) متزوداً بمسدسين واستصحبنا شاهداً آخر ويممنا غابة فنسان جميعاً.
فلما كنا في الطريق مصعدين تحاميت أن أتحدث إلى خصمي أو أقترب منه وغالبت هوى نفسي فما تضاربنا ولا تباهلنا فإن ذلك ده لا يغني والقانون يبيج المناجزة ويحل لها شرعاً ولكنني ما استطعت أن أحمي عنه عينى أو أرد عن وجهه طرفي، كان صديق شبيبتى ورفيقي في الطفولة والصبا، وتبادلنا العوارف أعواماً وهو بغرامي لخليلتى عليم محيط بل لكثر ما سمع عنى أن علاقتى بها حرام على الصديق وهواى لها ممتنع على الولى وأنه لن يستطيع أن يخلفنى في حب، وإن أحب المرأة التي أنا بها صب.
كنت واثقاً به جهد يميني، بل ما شددت على يد مخلوق أحر من شدى على يده، بل ما حييت أحداً بتحية أحسن من تحيتى له.
والآن أنظر مندهشاً متحيراً إلى هذا الرجل الذي طالما سمعته يتكلم في الصداقة كأحد أبطال العهود المتصرمة وقد رأيته بالأمس يضم خليلتى! هذا أول عهدي برؤية الخلقة الممسوخة. .!
كنت أنظر إليه بعين مستوحشة لأعلم كيف ركب. ذلك الذي تعرفت له وأنا ابن عشرة أحوال ثم عشنا على محض المودة والصفاء. بدا اليوم كأني ما رأيته في حياتي من قبل.(12/24)
إليك مثلي.
هناك حكاية اسبانيولية يعرفها الناس جميعاً وهي أن دمية من الصخر هبطت من المكان الأرفع على فاسق من أهل الدنيا فلما رآها جاهد يريد تجلداً وابتساماً ولكن سألته الدمية أن يمد لها يده فلما فعل أحس ببرد قاتل وأخذته الرعدة وتشنجت أطرافه.
ما جعلت يوماً عند حبيب أوغانية ثقتي ثم وجدتنى بعد ذلك مخدوعاً إلا قارنت تأثير حزني بقبضة هذه الدمية.
أجل - ذلك تأثير المرمر. كأنما الحقيقة في زمهريرها المميت جمدتني بقبلة، بل ذلك لمسى للإنسان الجلمود!
وا لهفاه، لطالما طرق بابى ذلك النديم المخيف، ووا حسرتاه أكل من طعامى وجلس إلي خوانى!
فلما تهيأ للمناجزة كل شئ. وطلعت لعدوى وبرزت. ومشى إلى فى تؤدة ومشيت. قذف القذيفة الأولى فأصابت ذراعي اليمنى فأخذت مسدسى في يدي الأخرى ولكني لم أستطع أن أرفعها وخانتنى قوتي فسقطت إلى ركبتىّ جاثماً ورأيت غريمى يخطو إليّ مسرعاً وهو مضطرب شاحب وهرعت إلىّ شهودي إذ رأوني كليماً ولكنه أقصاهم وأخذ يدي الجريحة وقد صر بأسنانه فما استطاع تكلماً.
ولما رأيت ألمه وأحسست بوقع الأسى في أضالعه صحت به أن أنطلق فامسح يدك في أثواب. . . . . . .
وهنا احتبس صوتي فلم أتم. . وحملوني مرتثّاً إلى مركبة فإذا هناك طبيب. لم يكن جرحي بالغاً لأن القذيفة لم تنفذ إلى العظم على أنني كنت في أشد حالات الاضطراب فما قدرت في تلك الساعة أن أجمع شوارد خواطري فلما مضت العجلة بنا رأيت عند بابها يداً متشبثة راجفة تلك يد خصمي الألد جاء مستنفراً مسترحماً. . ولكنى هززت رأسي عصياً إذ أخذتنى سورة الغضب فلم أحله من ذنبه أو أسبل على ذلته ستر مغفرتي وإن كنت أشعر أن ندامته على ما فرط كانت نصوحاً صدقاً.
فلما بلغت بنا الدار تروح عنى لأن الجرح ذرف كثيراً وخفف الضعف من حدة موجدتى وكانت أوجع لدي من كلمي وأشد صباً.(12/25)
وانزويت في سريرى مرجعاً رخياً وإنى لأشهد أنني ما شربت يوماً أسوغ من قدح الماء الذى آتوني به في تلك الساعة ووعكتني الحمى وشرقت بالدمع عيناى.
والله ما حزنني أن صاحبتى خلاء من حبي ولا أخذ بنفسي أنها لم تعد بعد تصبو إلىّ بل لهفتي أنها خدعتنى.
غام على قلبى فلم أفهم بأية سنة تكذب امرأة في الحب رجلاً وتخادعه نازعة إلي حب سواه وما يغريها واجب ولا يدفعها إلى كذبة في الهوى مال.
لقد سألت (ديزينيه) عشرين مرة في اليوم كيف جاز الكذب في أهل الحب كنت أقول لو كنت زوجها بل لو كنت أنقدها مالا لأدركت أنها خدعتني. لماذا تكتمني الصدق إن انصرف فؤادها عن غرامي، بل لم تخدعني؟.
ما كنت أدري يومئذ أن الكذب في أهل الهوى عرف، لأني كنت غلاماً حدثاً وأقسم أنني حتي اليوم لم أزدد بكذبات الغرام فهماً وكنت كلما علق القلب بهوى امرأة أصدقها حبي بل ما خرجت من هوى إلا معلناً هجري لأني كنت أحسب أن العاشقين لا يستطيعون لإراداتهم قياداً وأن ليس في الوجود جريمة أشد نكراً من الكذب وكان ديزينيه يقول لى إنها امرأة شقية مطروفة العين إلا عدنى أنك لن تراها آخر الدهر.
فأقسمت له مغلط الأقسام ونصح لى أن لا أكتب إليها أو أعتبها وأن لا أجيبها إن أرسلت تراجعني فانتصحت وأنا أعجب كيف يسألنى ذلك وكيف يكون بى ظنيناً.
فلما اندمل الجرح وأبللت كان أول شئ فعلت أنني أفضت إلى دارها مسرعاً ألفيتها وحيدة قد انتبذت زاوية في مخدعها مضطربة الحال ساهمة المحيا.
فأوسعتها مر اللوم وقد مالت شمول الحزن بأعطافي وجعلت أصيح والدار تدوى بصيحاتي واستهلت شؤوني وفاضت أدمعى حتى أفخمنى البكاء فتراميت فوق سريرها لأجعل لماء عينى مسلكاً وطفقت أقول باكياً:
آهة لى، يا كاذبة، آهة لى يا شقية، إنك لتعلمين أن نفسى لتفيض من غدرك كمداً فهل ترضيك منيتى وهل تجدين برد السرور في موتى، ماذا صنعت بك؟.
فألقت بنفسها بين ذراعي وتشبثت بنحرى وقالت لى أنها فتنت ونزغت لها من الغواية نازغة فاقتادوها تلك الليلة وإن خصمي كان فى العشاء منزوفاً ما يبت وأنها ما كانت يوماً(12/26)
له وأنها فرطت فى ساعة نسيان وأنها ما اجترحت إنما بل هفوة من لمم وأنها رأت ماجر على حبها من ألم وأنها لتموت غماً إن لم أغفر لها ما تقدم من ذنبها.
استنفدت لغزائي كل ما فى الندامة الصادقة من عيون ودموع، وكل ما فى الأسى من بلاغة وسحر بيان!.
بهارية الوجنتين شاردة الخاطر مشتملة في ريطة ذات شقتين وشعرها مرسل منتثر فوق كتفيها وهي راكعة في بهرة المخدع، فى روعة ما رأيتها من قبل أجمل ولا أفتن سحراً.
وارتجفت من رعب وأضرم مشهدها بين عواطفى نار حرب طاحنة وانطلقت من لدنها نافراً وأنا لا أكاد أمسك علىّ مشاعري وأجمعت أمرى أننى لن أراها بعد اليوم أبداً.
ولكن ما مضت ربع ساعة حتي عطفت عائداً إلى مغناها ولا أعلم أى قوة تحدوني إليه كأنما نفث الحسد في قلبى سمه يحرضني أن تكون لى وحدي وأن أشرب فوق جسمها اللدن الرخص تلك الدموع المرة السخينة ثم أقتلها وأهلك نفسى معها.
شهد الله أننى اجتويتها وهى حبة نفسي، وكرهتها وهى معبودي، وشعرت أن في حبها متلفتى وخسرانى ولكن كيف تطيب الحياة بدونها. .
صعدت إلى طابقها كأنني البرق في خطفه ولم أسائل أحداً من خدمتها بل تجاوزت، وأنا أعرف الناس بحجراتها، إلى غرفتها ودفعت الباب فإذا أنا في حضرتها.
ألفيتها جالسة إلى زينتها ساكنة حالية تحملت من لآلئها ودراريها وجاريتها تعقص لها جدائلها وهي تحمل في يدها خماراً أحمر تضعه برفق فوق خديها والله لكأنى كنت في حلم.
كلا، ليست هذه المرأة التي كانت منذ ربع ساعة رهينة الحزن وأكفة العين. .
فلزمت موقفى ولا حراك كأنني التمثال. والتفتت مبتسمة لما فتح الباب تقول هل أنت المحب الطارق؟
لقد كانت تنظر غريمى ليصحبها إلى المرقص فلما تبينتني أمسكت عابسة فخطوت أريد الانصراف.
رأيت جيدها بضاً ناعماً عبقت منه أنفاس العرف وقد عقدت فروعها ثم زانتها بمشط من الماس.
ذلك الجيد مركز سلطان الجمال وأريكة الحسن كان أحلك من جهنم ناطت به سمطين(12/27)
يلمعان وقلدته سنابل عقد من العقيان.
وبدا فوق منكبيها وعنقها زغب جثل غزير ولا أدرى أي جمال في تلك الجدل الفارعة خدعني أول مرة.
تقدمت فجاءة وأهويت فوق ذلك الجيد بقبضة يدي فخرّت فوق الأرض صريعة وفارقت الدار آبقاً فلما اشتملت علىّ دارى عاودتني حمى راجفة ألزمتني الفراش.
انتفض جرحى وأخطفنى ألمي وأقبل (ديزينيه) يعودني فقصصت القصة عليه وهو واجم يخطر في الحجرة حيران عجباً.
وراح يسألنى أتلك أولى حبائبك؟.
قلت لا. بل أخيرتهن!.
فلما كان الوهن متروحاً وأنا في نومة المضطرب سمعت كأنما في حلم نفساً صاعداً راجعاً ففتحت عينى فإذا هي جالسة بقرب سريري وذراعاها مشتبكتان كأنها شبح من الأشباح.
فصحت غير مغالب صيحة فرق ورعب إذ حسبتها أحد خيالات رأسى الملتهب ووثبت من سريرى إلى الناحية الأخري من الحجرة وأقبلت علىّ تقول وقد أخذتنى في أحضانها ومشت بي هذا أنا!.
فصحت بها ألا دعينى فإنى على ذبحك الساعة لقادر!
قالت مرحباً بالحبيب يذبحنى. لقد هجرتك وكذبتك وأنا فاجرة أثيمة، ولكننى أهواك ولا قدرة لى على نقدك.
فنظرت إليها لله ما كان أجملها!
رأيتها ترتجف وعيناها من ذهول الحب تفيض في سح وتسكاب وجيدها عار وشفتاها تلمعان.
فرفعتها بين ذراعى وقلت لها ليكن ما تشائين ولكنى أشهد الله المطلع إلينا وروح أبى أننى أذبحك الساعة وأقتل نفسى معك.
وأخذت سكيناً كانت فوق المدخنة فوضعتها تحت الوسادة. فقالت ضاحكة وهى تضمنى إليها، تعال يا أوكتاف، ولا تأت أمراً نزقاً، تعال يا طفلي الصغير، فإن مخاوفك لتردك وجعاً مهيضاً وأنت محموم، هلا أعطيتني السكين.(12/28)
ورأيت أنها تريد أن تأخذها فقلت لها استمعى لى، إنى لأجهل أمرك هذا والفكاهة التي تمثلين، وما بى من مزاح علم الله أني أحببتك حباً ليس يحمله مثلي، وفيك كان شقائى وفيك كانت منوني، واعلمي أنى لا أبرح الدهر أهواك مفرطاً جوياً وقد قلت إنك كذلك تحبيننى. ألا فليكن، ولكن أقسم بكل مقدس في الأرض أننى إن كنت اليوم عشيقك فلن يكون غداً غيري. وعدت أقول، يشهد الرحمن أننى لا أراجعك لتكونى خليلتى، فإن كراهتي لك شديدة كحبي وإنك إن تراوديني عن نفسك قتيلة غدا!.
وتولانى عند ذلك ضعف شديد وأما هى فتنكبت مرطها وانطلقت تعدو هاربة. فلما علم (ديزينيه) بما كان منى قال لى، هلا كنت راودتها عن نفسها فهى غادة جميلة وأنى لأحسبك فظاً غليظاً!
قلت أتراك ممازحى! أتظن أن امرأة مثل هذه تكون ربتى، أم تعتقد أننى أرضي أن أقتسمها بيني وبين رجل سواي، أم تحسب أنها نفسها تعترف بأنها نهب لغيري، أم تريد أن أنسى حبها لتكون من قسمتك بعدي؟ لعمري إن كان هذا في الحب شأنك فلك مني الرثاء والرحمة!
فأجاب بأنه لا يحب غير العذارى الصبيات ثم أنشأ يقول، أي أوكتاف العزيز، أنت في عفرة الصبا وطراوة الشباب تود لو يكون لك مناعم كثيرة ومباهج ولكنها لا توجد في الدنيا وتعتقد في مرتبة واحدة من الحب ولقد تكون قادراً على أن تنهض بها ولكننى لا أرتضيها لك.
أيها الصديق، ستكون لك عشيقات وخليلات وستتحسر يوماً على ما فاتك الليلة إنها سعت إليك لتراك، وكانت في تلك اللحظة تهواك، وعساها الآن قد نسيت غرامك، ولعلها بين ذراعي سواك.
ولكنها كانت تحبك الليلة وفي هذه الحجرة شغفتها حباً، وماذا يهمك الباقى؟ لقد كانت لك ليلة زهو ومبهجة فنفرت عنها وستتلهف عليها زماناً واعلم علم اليقين أنها لن تأتى إليك بعد اليوم.
تصفح المرأة عن هنات الرجل وتتجاوز عن كل شيء إلا خيبة الوصال! لقد كان غرامها بك جوي إذ دفعت إلى دارك وهى عليمة بسحرها وتأثيرها متوقعة أنك ستشيح بوجهك(12/29)
عنها وتعرض عن وصلها.
إلا صدقني. . ستعود نادماً لهفاً على الليلة الضائعة وها أنا أقول لك لن تمر بك مثلها إلا لماماً.
وكانت تلوح على (ديزينيه) علائم الوثوق والخبرة الساكنة الهائلة حتى لقد كنت أرتعد عند سماعها وشعرت وهو آخذ فى قوله بقوة شديدة تستحثنى على زيارتها مرة أخرى أو أن أكتب إليها أستقدمها ولم تكن بى قوة على النهوض كأنما أنقذني فتور جسمى من عار لقائها وأشفقت أن تضمنى وخصمي دارها.
ولكنى كنت أستسهل الكتابة إليها وجعلت أسائل نفسي كرهاً أتراها تأتى إن بعثت إليها.
فلما رحل ديزينيه تملكني الاضطراب فأجمعت أمري على أن يكون بينى وبينها فصل الخطاب فبعد كفاح شديد بينى وبين فؤادي غلب الرعب على الحب فكتبت إليها أنى لست بعد الآن ناظرها وسألتها أن لا تعود أبداً إلىّ إن رامت أن لا يغلق بابي دونها. دققت الجرس حانقاً ودفعت الرقعة إلى غلام من غلمانى وأمرته أن يحملها إليها ويسرع ما أمكنته ساقاه. على أنه ما كاد الخادم يغلق وراءه باب حجرتى حتى ناديته مسترجعاً فلم يسمع وما جسرت أن أكرر النداء بل جعلت وجهى بين راحتي ولبثت كذلك رهين يأس شديد. . .
عباس حافظ(12/30)
لا شئ تحت أديم السماء جديد
الاختراعات الحديثة وقدم عهدها
إن المثل القائل لا شيء تحت أديم السماء جديد قد يكون مبتذلاً ولكنه رغماً من ذلك سديد وإننا لنفتخر بعجيب مخترعاتنا الجديدة ونعتز بها غافلين عن الحقيقة القائلة إن جميع هذه الاختراعات ليست إلا تهذيباً وإصلاحاً لأفكار قديمة لها عمر الرواسى والجبال.
وقد عزز هذا الرأي اليوم برهان جديد إن صح أن هذه الحقيقة تريد دليلاً ينهض عليها إذ صرح الأستاذ (بونى) وهو في رحلته إلى رومة ينقب عن آثارها إن في ذلك المكان الذى كان في غابر القرون موضع قصر القياصرة المشيد فوق ربوة (البلاتين) آثاراً تدل على أنه كان فى ذلك القصر ثلاثة مصاعد أعدت لقياصرة الرومان يصعدون فيها من السوق العمومية إلى قنة البلاتين ووجد أن إحدى الحفر التى كان يرفع المصعد منها لا تقل فى غورها عن مائة وعشرين قدماً وإن كانت الأقذار المركومة فيها لم ترفع بعد كلها. .
ومنشأ كل ذلك هو المخيلة. ولعمرى لقد سخر الناس من أول رجل فكر فى الطيران ووسائله في العهود الخالية وخالوه واهماً وعدوه متخرفاً ونحن نرى اليوم قوماً يطيرون حولنا في كل ناحية ومكان.
وذلك واقع فى كل مستحدث مكتشف حتي أن ريشارد بروكتور ذلك المفكر المدقق كان على شيء من الاعتقاد بإمكان اختراع مطارات سهلة السوق والدوران إذ كتب لقد تحقق الطيران في الجو ولكي يطمئن الطائرون على سلامتهم ليست هناك إلا طريقة واحدة أحسبها عسيرة لا تدخل في دائرة الإمكان وهى أن المطارات قد تدار في الهواء كالسفن في الماء اه.
والحق يقال أن ما كان بالأمس مستحيلاً ليصبح اليوم من الممكنات وغداً يكون أمراً مقضياً!
وإن استخدام الكهرباء في زرع الأشجار والنباتات قد يدهش القارئ فيظن أنه أحدث اختراع ذلل للناس في زراعة بساتينهم وأزهارهم ولكن نظرة واحدة إلى الشذرة التي ننقلها من كتاب طبع في أواخر القرن الثامن عشر تدل على أننا مسبوقون في هذا الشأن وسنا نحن السابقين وإن كنا لم نستطع بعد أن نقف على مصدر هذا السفر التليد الذي وقع لنا(12/31)
اليوم فحسبنا أننا اكتشفنا الحقيقة الهامة الآتية: رسالة ممهورة بإمضاء (ستيفن ديمانبري في أيدنبره لعشر خلون من فبراير عام 1747 نشرتها مجلة (ذي جنتلمان القديمة) يقول فيها كاتبها - بما أن الاكتشاف الآتي قد يؤدي في المستقبل خدمة جليلة للمجتمع فإنى لا أعارض في نشرك صورة استخدام الكهرباء في ترقية لزراعة وأنا أعلم علم اليقين أنها الأولى في نوعها إذ لم ينشر للناس مثلها حتي اليوم.
في اليوم العشرين من شهر ديسمبر الماضي (أى سنة 1746) أخذت من بستان المستر بوتشر عوداً من شجر الريحان وجعلت الكهرباء تسرى في أجزائه نحواً من سبعة عشر مرة وصرت كل أربعة أيام أسقى العود نصف (بينت) من الماء ووضعت العودة في حجرة هي أكثر حجرات داري ترداداً وتعرضاً لأذى الهواء الذي يسببه فتح النوافذ والأبواب وإغلاقها فكان من هذا العود بعد سريان الكهرباء فروع وأغصان أطول ما فيها يبلغ ربع قدم على حين أن كثيراً من هذه الأعواد نفسها تركت في البستان فما نمت طول تلك المدة اه.
كان هيرو الاسكندرى (حوال عام 125 قبل مولد المسيح) مخترعاً حاذقاً ومستحدثاً ماهراً في عمل لعبات الأطفال وصف في كتابيه أى علم الخصائص الميكانيكية للغازات وأى فن الآلات المتحركة بذاتها نحواً من مائة آلة ولعله لم يعمل إلا نماذج منها بينها آلة بخارية يقال أنها تماثل النوع الجديد المعروف وكذلك آلة رافعة للماء كمطفأة الحريق.
وهيرو هذا هو أول مخترع لآلة التوزيع المتحركة بذاتها وقد وصف آنية ماء مقدس لا يفيض الماء منها إلا إذا أسقط المستسقى في هذه الآلة نقوداً فإذا سقط الدرهم من ثقب تلك الآلة انحدر إلى أحد طرفي (مخل) أفقى فضغط عليها وانفتح من ذلك مصراع معلق بسلسلة من الطرف الثانى وانسكب الماء.
وتركيب تلك الآلة القديمة وفعلها لا يخالفان الطريقة الحديثة في شيء بل إن الأولى لأسهل من الأخري وأكثر إحكاماً.
وكتب ريشارد كارليل (1790ـ1843) في تصنيفه معجم التراجم الأهلية أنه لما تعددت من عماله وغلمان مكتبه حوادث السرقة جعل يبيع الكتب بواسطة آلة كالساعة وطريقته في ذلك أنه كان يكتب فوق وجه هذه الساعة (المينا) اسم الكتب المعروضة في كل يوم للبيع(12/32)
فإذا دخل المشتري أدار المينا حتي موضع الكتاب الذي يريد ابتياعه وإذا أسقط الثمن انحدر كتابه إلى يديه.
وما كنا لنصل إلى اختراع هذه الأسلاك البرقية وتهذيبها اليوم إلى حد الكمال ألا بعد أن أمعنا في فهم منافع الكهرباء وأضفنا على معلوماتنا شيئاً كثيراً.
ولكن المخيلة قديماً أقامت ظلها وسعت لها سعيها، وبين أيدينا الآن كتاب صغير يسمى (فسحات رياضية) وضعه هنري فان إيتن - لندن عام 1633 - نقرأ فيه هذه السطور يقول بعض القوم أنه بواسطة المغناطيس يستطيع الغيّاب أن يعلموا خواطر صحابهم كأن يعلم مثلاً من سكن لندن أفكار من هو حل ببلدة (براج) في ألمانيا إذا كان لدى كل منهما إبرة مغناطيسية الطرف وأهمية ذلك أن إبرة المقيم في لندن تتحرك بتحرك إبرة الساكن (براج) ولكن يشترط أن يكون بين الرجلين حروف معروفة ورموز موضوعة وأن يرصدا الجو فى ساعة من الليل أو النهار مخصوصة فإذا أراد أحدهما أن يخاطب الآخر فليحرك إبرته إلى هذه الحروف فتنقلها إليه وليحرك هذا إبرته فتفضي إليه بكلم صاحبه، وذلك الاختراع نهاية فى الدقة على أننى لا أصدق أن في الدنيا حجراً عظيماً كهذا له هذه المميزة ولا أحسب استعمال هذه الطريقة ممكناً ولو ذللت لازدادت الجرائم وفشت الجنايات اه.
تلك هى معالم (التلغراف) الحديث وهذه آثاره الأولى بل إنها لآثار التلغراف اللاسلكى ومباديه!
وكتب جون ويلكنس أسقف شيستر (المتوفى عام 1672) طائفة من الأسفار التكهنية العلمية ككتاب (اكتشاف دنيا جديدة) و (حديث عن نجم جديد) و (عطارد) و (سحر الرياضة) وغير ذلك من الأسفار وذكر في كتاب (عطارد) أن فكرة (فان أيتن) التي ذكرناها آنفاً مأخوذة من مؤلف قديم يسمي فاميناس استرادا ثم استطرد يقول إن هذا الاختراع خيال متخيل لا أساس له في أى تجربة من التجارب ولكن ويلكنس المذكور وضع للأنباء البرقية قانون رمز سبق به قانون (مورز) وهو المتداول اليوم أخذه عن طريقة النقط ذات الحرفين التي اخترعها (باكون) والتي تكاد تشابه طريقة النقطة تتبعها الشرطة لواضعها (مورز) غير أن كل حرف فى الأولى يرمز له بخمسة رموز بترتيب(12/33)
مختلف مثلاً يرمز لحرف الألف بخمس نقط وللباء بأربع نقط ثم شرطة وللحرف بثلاث نقط وشرطة ثم نقطة وهكذا. وقال أن هذا القانون يجوز أن يستعمل بناقوسين مختلفى الصوت. . اه.
وقد يعد القارئ قاطرات وذوات القضبان الفردية اختراعات طريفة ما قدم لها أثر ولا شهدها من قبل عهد على أن الأمر غير ذلك فنحن ننشر له صورة إحدى تلك القاطرات (وهنا نشرت المجلة التى ننقل عنها تلك الصورة) صنعها سنة 1833 فى باريس مهندس فرنسى يدعى وعرضت فى ساحة السباق بباريس ثم اختفي أثرها دهراً حتى كان عام 1865 فعادت إلى الظهور فى باريس باسم اكتشاف جديد.
وقد يكون القاريء رهن الظن بأن الجاريات الغائصات في الماء هى نتاج فكرة محدثة ومصدر خاطرة جديدة على أن الأمر بخلاف ذلك فقد بحث في الموضوع مرسن في كتابه المطبوع فى باريس سنه 1644 وأفرد له ويلكنس فصلاً شائقاً فصل البحت في فوائده ومصاعبه.
وكتب عمانويل سويدنبرج صاحب المذهب المنسوب إليه بين عامى 1710 و1714 مقالاً في الطريقة التي تستطيع بها سفينة بربانها أن تغوص تحت الماء كما تشاء وترمى أسطول العدو بشرر كالقصر وتنزل بجواريه الخراب والدمار ولكننا نستطيع أن نعود بالقارئ إلى قرن خلا قبل ذلك فنشهد جارية غواصة أنزلت فى نهر التاميز سنة 1625 تقل الملك جيمس الأول وفي أوائل القرن الماضى وضع فلاتون طرقاً كثيرة للغوص في أمواه البحار. .
أما عن المطارات المدارة فيظهر أن م. ج تيساتديير فى سنة 1883 كان أول من وضع في المطارات آلة كهربائية متحركة بنفسها وإن كان بروكتور كما ذكر ناذهب في العام التالي إلى أن الملاحة في أجواء الفضاء مستحيلة الوقوع ولكن هناك صورتين لفكرتين قديمتين فى شأن هذه المطارات وضع أولاهما جرين فى سنة 1840 أساساً لسياحة فى بحر المحيط الإطلنطى وثانيتهما هي تلك التى حلقت فوق حدائق فوكسهول فى سنة 1843 والتى اشتهر ذكرها للشبه بينها وبين المطارات الحديثة فى أن لكل منهما دفة ترشدها وآلة تبعثها على الطيران.(12/34)
ونحن نميل الآن بالقاريء إلى الكلام عن المطارات التى هى أثقل من الهواء وزناً والتى يعدها القوم أحدث ما أخرج للناس من الاكتشاف وأرقى ما ظهر حتي اليوم من الاختراع.
لقد فكر الناس فى الأحقاب المنصرمة والسنين الخوالي أن يطيروا بأجنحة كالأطيار وليس هناك سبب يدعونا إلى الريب بأن (أرشيتاس) من أهل تارنتام (وكان ذلك قبل مولد المسيح بأربع وتسعين وثلاثة آلاف حول) صنع آلة على شكل الحمائم تسبح فى الجو ويقول الرياضى الشهير 1510 - 1576 - لا سبب يمنع مثل هذه الآلة من التحرك لاسيما في عليل النسائم ورخية الرياح وإن خفة الجسم كضخامة الأجنحة وقوة العجلات هو الباعث لها وإن الحمامة لتطير بهيئة مخصوصة ولكنها تتراوح فى الهواء وتتمايل كنور المصباح فتعلو أحياناً بنفسها وترفرف حيناً بجناحيها ثم تترك ذلك فجأة فتسقط لأن قوتها الباعثة لم تساو وزنها اه.
وقد صنع آلة على هيئة نسر وطيرها على أن الطيارة التي ابتدعها صانع ساعات في (ويانة) اسمه عام 1809 تشابه من عدة وجوه مطارة اليوم المسماة ثم بدا للناس المزلج وهو ما يعرف عند الفرنسيين بلعبة كاختراع جديد منذ أربعين عاماً وما كان إلا تهذيباً لأن منشأه كان قبل ذلك العهد بخمسين عاماً على الأقل.
ومن ذلك يستنتج أننا نقلنا حتي ألعابنا عن أجدادنا أهل العصور السالفة وقلّ ما أحدثنا وندر ما اخترعنا!
ألا لقد أصاب المثل السائر (لا شيء تحت قبة السماء جديد) اه.(12/35)
نوادر الأطباء
حدّث طبيب من الإنجليز عن النوادر التي تقع بين الأطباء وبين مرضاهم قال:
خلق فريق من الناس والمزاح طبيعتهم وأن أحدهم ليقهقه بالنكتة فى أرهب المواقف وأدعاها للسكوت كالرجل الذي قال له طبيبه إن سعالك لم يتحسن اليوم فأجابه إنه لم يفهم لأنه كان يتمرن على السعال طول الليل! أو كالآخر الذى وضع الطبيب على جسمه النحيف (لبخة) من (الماسترد) فما كان منه إلا أن قال (كثير من الماسترد على قليل من اللحم!).
وقد قال لى بعض المرضى لما رأونى أفحص عليلين معاً أنني كنت أقتل عصفورين بحجر!
والجمهور يعطى الأطباء ميزة في القتل. مثال ذلك أن ثلاثة من الأطباء دنوا من فراش مريض فصرخ قائلاً وهو يقول كلا. دعونى أموت موتة طبيعية. وسئل ولد ما علة المرحوم والدك؟ فأجاب لم يكن لديه طبيب. بل مات من نفسه!.
وقد دعيت مرة أنا وأحد زملائى لفحص شئ من اللحم لم يصرح به طبيب الصحة فلما كنا فى المحكمة سئل شاهد من كان حاضراً ساعة فحص اللحم؟ فأجاب الدكتور روبنسن والدكتور بورتريت و (جزارون) غيرهم.
وبعضهم يدعي أن الأطباء لا يشتغلون.
دعي طبيب وكان قد قضى الليل كله في عيادة أحد المرضي إلى فحص رئتى عليل وطريقة الفحص أن يعد العليل (واحد. اثنين) إلخ والطبيب يستمع. فجلس الطبيب بقرب سرير المريض وكان متعباً فلم يستطع أن يستعمل (سماعته) بل أدنى رأسه من صدر العليل وأمره أن يعد حتى يأذن له بالسكوت.
فبدأ المريض يعد (واحد. اثنين. ثلاثة. . .) وأخذ الطبيب النوم فلم ينتبه إلا والعليل يعد 6121، 6122، 6123!
واعتذر بعض الأطباء عن قلة مفعول أدويته إلى سيدة فقال أنت تعلمين أننى لا أستطيع أن (أصغرك) يا سيدتى فأجابته نعم. إنني أعلم ذلك ولم أرسل إليك من أجل ذلك بل جئت لتجعلني أقترب من ساحل الأبدية.
ويقال أن طبيباً من (ليدس) بإنجلترة وصلته الرسالة الآتية:(12/36)
أنت لا تعرفنى أيها الطبيب ولكنك كنت تعود كثيراً من أقاربى. عدت والدتى فماتت. وعدت أختي فقضت. وعدت ابنة عم لى فتوفيت. وعدت شقيق زوجتى فمات. وحماتى اليوم مريضة ونرجوك أن تأتي لتعودها!.
وأرسل شخص رقعة إلى طبيب يسأله أن يحضر ليفحص إصابة (بالجدرى) فأسرع الدكتور إلي دار العليل فوجد أن العلة هى (الروماتيزم) فسأل لم قلت أنها الجدرى؟ فكان جوابه إذا أردت الحقيقه أيها الدكتور فاعلم أننا لم نجد في البيت كله من يقدر أن يتهجى لفظة روماتيزم فظننا أن لفظة الجدرى تؤدي حتى تحضر وربما أتت بك مسرعاً.
ولا أنسى يوم سألت امرأة عن العلة التي مات بها والدها فنظرت إلى صديقها وسألته أن يخبرني فقال. مات مشنوقاً. يا سيدي! وكان أبوها من القتلة.
وعرفت رجلاً من أكثر الناس عملاً كان يحمل في جيبة قطعة من البطاطس النئ ويقول أنها تمتص (الروماتيزم).
وزارت سيدة رجلاً كان في أشد المرض فرأته في دور النقاهة وذهبت وهي تؤمل أنه سيبرأ سريعاً ولكنها زارته بعد أيام فإذا هو في فراشه فاستفسرت من زوجته فأجابتها إنه لما يئس الطبيب منه ورأى أن صحته لن تتحسن بعنا ثيابه! اه.(12/37)
البيت والحياة المنزلية
للكاتب أمرسن أكبر كتاب الأمريكان
لا شيء أظهر من كمال عناية الله بالطفل. والله الذي يصون بذرة النبات بغلافها الكثيف ووعائها المتين يقدر للنبات الآدمي صدر الأم وبيت الوالد. عجباً للضيف الطارق والوافد الجديد الطالع علينا من ثنايا الغيب ما أضحك هيئته. وأصغر جثته. مرحباً بالمجتهد الضعيف والمجاهد الضئيل القوى في ضعفه الجلد في وهنه الذى يلقاك بذراعين أسد علاجاً وأصعب مراساً من ذراعي جندي مقاتل. أو نابل مناضل. والذى يحول بين شفتيه من سحر الإغراء. وفتنة الجاذبية والاستهواء. ما لم يؤته المصقعان شاتام وبريكلير. أليس في دمعه الفياض ورنته الحزينة وانتحابه كأن وجهه حزن مذوب ولوعة سائلة وإنه ليرد أنفاسه ويسيغ شجاه. ويبلغ كمده ويجير أساه. ما يلين أغلظ فؤاد. ويذيب قلب الجماد؟ ألا تعجب للجبار الضئيل ما أخس ما يطلب وما أزهد ما يسأل حتى جميع الخلق مؤيدوه والناس كلهم في صفه؟ أما أن جهله لأحلى فى النفس وأشهى إلى القلب من علم العالم النحرير. وإن ما ثمه الصغيرة لأحسن من كل فضيلة ومكرمة. وجسمه من مادة الملائكة إذ كان روحاً كله وتراه طول اليوم ما بين هجعاته الأربع يهتف كأنه قفص الحمام ويهدر ويصفق بجناحيه ويرفرف ويلبس وجهه الجلال والعظمة. وإذا صام برهة رفع صوت بوقه إنذاراً. وإذا كان بالليل سرّه أشباح الظلال على الحائط وإذا كان بالنهار سرّه الأصفر والأحمر. وإذا حمل إلى خارج الدار بهره النور وكثرة المرئيات فصمت. وبعد ذلك يبدأ استعمال اليدين فيتعلم القوة - درس سائر بني جنسه فهو من قطع الصابون ومن الحجارة وفن قطع الخشب والخيط والورق اليابس يبنى كنسيته أو قصره أو هرمه وكأنه لفرط الجد والوقار نوح يصنع الفلك وإبراهيم يبني الكعبة. وقواعد الأصوات يكتشفها من مزماره وجرسه وودعه. والطفل الأمريكي اقتداء بآبائه لا يني ينقب عن أسهل طرق السفر والانتقال فتراه لا يبصر أحداً الأهمّ أن يركبه فليس من عنق ولا كتف ولا ظهر إلا أضحى له مهما عز صاحبه وعظم ربه مركباً رّيضاً ذلولاً. ومن ذا الذي يطبق عصيان ذلك الملك القادر أو يستطيع مقاومة ذاك الكاهن الساحر ولو شاء أن يركب الأسد الرئبال لذلله أو أعصم الجبال لاستنزله فما هو إلا يرغب حتى تري العمات والأعمام والخالات والأخوال(12/38)
والجدات والأجداد على قدم وساق. ذلل الشكائم. خضع الأعناق. يذعنون له جميعاً وهو لا يذعن لإنسان. يركب عاتق البطل الكبير ويأخذ بناصية ذي التاج والصولجان.
قال ملتون الطفولة عنوان الرجولة كما أن الصباح عنوان النهار والطفل يذكرك بأيام الصغر فتحن إليها حتى تخال ذياك العهد قد عاد فتلمح شعاعاً من ذلك السنا اللماح وتشم عبقاً من ذاك الشذا الفياح.
وبينما الأبوان في عجب وأعجاب بفتنة هذا الوجه ولثغة هذا اللسان - بذاك المنظر الأبلج. والمنطق اللجلج. إذا بالطفل قد عاد - وما كادا يشعران غلاماً؟ ولله الحياة ما أعجبها فى عين الطفل وما أروع أثرها في نفسه يمسى ويصبح بين ملح بدائع، وآيات روائع: النار والنور والظلمة والقمر والكواكب وأثاث البيت واللعب والزخارف. والخدم تحميه وتصونه والمراضع تغذوه وتمونه، والأهل تحفه وترفه وتحسوه وترشفه، مدهشات كلها جلائل. ومحيرات هوائل، ولكن الملك الصغير يتقلب بينها وادعاً مسروراً ناعماً محبوراً، فلا يلبث أن يذللها فيمتلكها من حيث لا يشعر. يدب فيه العلم الجديد مع حياة هذا اليوم فيكون الوسيلة لإدراك علم الغد فالوردة الناضرة حادث جديد في حياته والبستان شرقاً بالورد هو جنة الخلد أعادها الله إلى آدم الصغير. والمطر والجليد والثلج آيات أطوار جديدة في عيشته. أي عيد عظم ذلك اليوم الذي فيه يدلى بذي النعلين الصغيرتين إلى متن الطريق المثلوج لأول مرة.
أي صباغ حاذق يستطيع أن ينفض من بدائع ألوان قلمه على الأشياء مثل تلك اللمعة التي تزين بها يد الله لعب الطفل وأمتعته؟ ما أظن شائقات المشاهد في كنيسة سانت بطرس لها في نفوسنا من الروعة مثلما للبلورة المضيئة أو الطيارة الشفافة أو مجموعة الصور التي كانت أول هدايا الوالدين وزخارف الدنيا. لشد ما والله يحن الفؤاد إلى هذه اللعب وتسيل النفس إلى تلك الألوان المشرقة. والأشكال المونقة، وشد ما يتشبث الخيال - الآن وقد شابت الذري. وخارت القوي - بأذيال تلك العهود وتعانق النفس في وهمها محاسن تلك اللعب وهاتيك البلورات والصور! أي لذات ومناعم تقصر اليوم للرجل الجديد وتملؤه رونقاً وبهاء! ما أقدم الشارع فى ظنه وما أقدس الناس! كذلك يكسو وخياله كل شيء جمالاً. ويلبس وهمه كل شيء جلالاً. ثم لا يدع ركناً مظلماً حتى يملأ بالجان والمردة - لله ذاك(12/39)
الخوف ما ألذه تلك اللذة ما أخوفها! لقد سمع بالأغوال والسحرة فهو يقف. وهنا على باب داره فيرتب مرور هذه الخلائق وكأنه يلمح فى الظلام أشباحها ويسمع من أقصى الليل أجراسها. وكذلك أول نزهة فى الريف وأول غمسة في النهر وأول انسيابة فوق الثلج وأول عدوة في القمراء كل هذه فصول جديدة من الفرح واللذة في كتاب الحياة. وماذا في الكتب الممتعة: ألف ليلة وأبطال المسيحية السبعة وروبنسن كروسو وسفر الحجاج من كنوز الفكر ومعادن الطرب! لهى والله البرد المحبر يلف الطفل فيه الدنيا حتى العالم كله في عينه كوشي الطاووس أو أبهج! وكذلك يمضي السائح الصغير بين مشاهد الطبيعة ذلك السفر الذى بدأه فرحاً مسروراً له من محاسن فتنته وجواذب خلابته. وسذاجته التي تخال منتهى الحكمة والعقل. وخلاعته التى تفوق غاية الكمال والنبل. أقوى باعث ومثير لحب الأهل والأقارب الذي هو كالؤه وراعيه. ومهذبه ومربيه. وهكذا يشب وينمو تحفة البيت ولذته والبيت ترن جوانبه بصدى ندائه. وضحكه وغنائه. ونَصوَّغ حجراته. وتأرج ساحاته. بشذا تلك الوردة الناضرة - الطفولة.
والدار موطن الرجل كما هي موطن الصبي. والذي يحدث بالدار من الأمور. ألصق بنفوسنا وأمس بأرواحنا مما يقع بمجالس البرلمان. ومعاهد العلم والعرفان. والشؤون المنزلية هي حقاً شؤوننا أنا ما يدعونه الشؤون العامة فقد لا يكون من شؤوننا. وكأني بمن أراد أن يعرف حقيقة تاريخ البشر ويفقه روح العصر قد أخطأ الصواب وجار عن الهدي إذا هو قصد إلى البرلمان أو إلى البلاط لينشد هناك ضالته. ويبتغى نمت طلبته. وإنما بين جدران البيت يطلب سر الحياة ويلتمس روحها. وما همنا قط ولا عناناً كالذي يفعل بالبيت ويكابد والذي يجرى على المرء من نعمة ومحنة وكربة وفرجة وعلة وشفاء. وشقوة ورخاء. والحقيقة خير من التزويق لو نعثر على الحقيقة. وهل ترى في أبدع صحف المنشئين. وأعجب قصص المحدثين. شيئاً هو أملك للسمع وأسبي للقلب من حديث العراف الصادق الذي يستطيع أن ينبئك على الفور بحقيقة أحوال الإنسان. وما جرت به الأقدار مما يكون وكان. الذي يستطيع إيجاد علة كل حادث وسبب كل واقع والتأليف بين إرادة الخير الكائنة فى روح الطبيعة وبين ما يجرى على يدي الطبيعة من الشر والأذى وبين تاريخ الإنسان الطبيعي والأخلاقي. الذي يستطيع أن يشرح أحوال محنك ومصائبك(12/40)
وأمراضك وهمومك ومزاجك وديونك وأساليب رأيك وفكرك وأذواقك وأميالك ثم لا يفصلك في أي هذه التفاسير عن سائر بنى جنسك بل ينوطك بهم ويقرنك إليهم؟
أفلا تري بعد أنه ليس في مجالس البرلمان ولا في مقاصير الملوك ولا في غرف التجارة بل في بيوت الناس تعرف أخلاق الجيل الحاضر وآماله! على أنه مطلب عويص - قراءة أخلاق الجيل وآماله من صحائف الدور والمنازل وأسهل منه ولا شك إحصاء سكان البلاد ومساحة أرضها وانتقاد سياستها وإدارتها وكتبها وصورها وأبنيتها. أجل ذلك أهون من إتيان الدور وأهلها واستطلاع أخلاقهم وآمالهم من أساليب معايشهم.
فمل بنا إذن عن المحافل والمجامع إلى البيوت والمنازل وادخل بنا غرفة الجلوس وحجرة المائدة نسمع أحاديث الخوان والسمر وننظر نفقات الناس في مساكنهم. هم يزعمون أن من مزايا هذا العصر الجنوح إلى ملاذ الروح والحياة السامية الجميلة. فلننظر هل بلغ الناس من هذه الحياة سرها ولبابها أو وقفوا عند القشور والظواهر. أترى البيوت تجري في معيشتها على نظام ومبدأ؟ هل تشف لك نفقات الرجل عن طبعه ومزاجه وخلقه وروحه وأمياله وآماله؟ هل نظام نفقة الرجل شفاف مضيء؟ والمرء واجب عليه أن يطيع في نفقاته وحى ضميره ويجرى فيها على غريزة ميله حتى يصبح وليس في بيته وضيعته إلا ما هو عنوان على طبعه ودليل على ميله. ولا يكون المرء مستقلاً نام الرجولة إلا إذا خدم ماله إرادته. وتبعت نفقته مشيئته. فأما من أسلك ماله سبيل مال جاره وقصد بنفقته إلى ما قصد إليه غيره تقليد القرد وحكاية الببغاء فعاجز الرأي ساقط القدر ميت الهمة. وليس الرجل وماله شيئين مختلفين إنما الرجل ماله.
لا يسترين امرؤ إلا ما أحب. ولا يبذلن إلا فيما طلب. ولا ينفقن مجاراة لغيره فإن ذلك مال ضائع. وكذلك ترى. . . . . الأدب أساساً من أسس الأدب كل ماله مبذول في سبيل أفلاطون وأرسطو وفرجيل وسسرو ودانتي. لا تسله إن يرفد بماله ثروة البزاز والبقال لا تسله إن يدخل في شركة لبناء مصنع أو فتح حانوت. تلك أشياء أعلم أن لا بد منها ولكن أدعو إليها غيره. أتحسب إن كتاباً كمحاورات أفلاطون كان يهبط إلينا من أفق الزمان الأول لولا درهم الأديب وغرامه بالكتب؟
ومن الناس الصانع بفطرته مبدع الماسج وباني السفن - فهذا أساس من أسس الصناعة أن(12/41)
ينصرف إلى الكتب لم تجن منه سوى الخيبة. وآخر فلاح - أساس زراعي. وغيره كيماوي - تسري عليه عين القاعدة. فلتكن في بذل مالك المخلص الجاد لا اللاعب ولا الهازل ولتبخلن بدرهمك أن تنفق في غير ما فيه لذتك أو نفعك وبنفسك أن تسف بها إلى مساقط الحمق والسفه.
وإني لأخشى إن نحن طبقنا على بيوتنا هذه القاعدة إن نجدها منحرفة عن القصد حائدة المنهج غير مطابقة البتة لطبائع أربابها وأميالهم.
ولكن ماذا يصنع في بيوتنا وماذا يتبع؟ لا أري البيوت تقدمت وارتقت إلا من وجهة النظافة والصحة واستكمال آلات النعيم الجسمي من مأكل ومشرب ومتكأ - أغراض حقيرة وأغراض فانية. فلو أزلت أسقف الدور فنظرت إليها من عل لألفيتها جميعاً مطاعم فطير ودكاكين حلوى ولم تلف بينها معبداً لغير إله الأكل. ولوجدت بكل منها بكاساً. يعمل طاساً وكأساً. فما أقل عنصر الجمال الحق في سنة كهذه. وما أبعدها أن تطهر نفوس السكان وتحبوهم الرخاء والحبور من والد ووالدة وأنجال فهو مجدب من هذه النعم للضيف وصاحب الدار متعب للمرأة شاق بلا فرح. كاد بلا سرور. وكذلك البيت الذي جل القصد منه إعجاب الناس بالزينة والوفرة متعذر إلا على القلائل من بنات حواء ثم لا ينال إلا بثمن غال من العافية والراحة.
إنه إن ينظر المرء إلى هذه المسألة من وجهتها المادية هاله الأمر وراعه وحيره تعدد المطالب والمرافق لاسيما في الأصقاع الشمالية حيث الجو عاق والطبيعة قاسية فأقل حساب لحاجياتنا في هذه النواحي الوعرة يروعنا بكثرة الأشياء الصعبة الملتمس البعيدة المنال حتى نكاد نحسب صلاح البيت من المحال ونري حسن النظام أمراً أسمى من أن ترقى إليه همة بني آدم. فانظر إلى البيوت الحائزة للثروة وسلامة الذوق كيف ترى شدة احتفاظها ببعض أركان النظام مدعاة إلى تعطيلها سائر الأركان. فإن تمت عناية الأبوين بأمور الأنجال من ملبس ومأكل وتربية وتثقيف ورقابة قصرت تلك العناية بحقوق الضيفان واختلت بواجب القري فأفسدت المروءة وآذت الحسب. وإذا وظب على أوقات الطعام أسئ تنضيد الأمتعة وتنظيم الأماكن. وإذا عُنى بالحجرة أغفل البستان وإذا مدحت الساحة ذم الفناء وإذا صلحت جميع هذه فسد نعيم رب الدار وربته لشدة اشتغالهما بإصلاح البيت عن(12/42)
إصلاح ذاتيهما.
إنه لا يسعنا إلا التسليم لكثرة ما يجب تذليله من الصعاب قبل الوصول إلى حالة مرضية وما أظن ذلك ممكناً بمجرد النقد أو إصلاح الجزئيات واحدة أثر أخري. بل بأن نجعل للحياة غرض أسمى وأشرف ويكون القصد من بناء الدار وفرشها أعلى وأمجد. وهل تعلمون خطباً أعظم. ومصاباً أجسم. وآفة أحق أن يشمر لإزالتها. وينهض لإراحتها. من أن يذهب أحدكم في بيته أو بيت أخيه من غرفة لأخري فلا يرى حقاً ولا جمالاً ويتوسم وجوه الساكنين ويتصفح أعمالهم فلا يري مبدأ ولا قصداً. وينصت فلا يسمع إلا هذراً ولغواً وصخباً ولجباً. وإن يجد نفسه مرغماً على النقد ولا يقبل نقده مدفوعاً إلى عظة من لا يسمع وعظه. وإن لا يرى في القوم من يجود بثمار لبه ويقبل ما يهبه الغير من ثمار ألبابهم - من يعطى الحكمة ويأخذ الحكمة ويقرض ويقترض الحب والرحمة. أي خير فى الدار إذا كانت كذلك. وأي ثمرة بعد هذا الفساد والنقص في صلاح الزاد وكمال الأثاث. وماذا تجدي حلاوة السكر مع مرارة العشرة وعذوبة الزلال مع ملوحة العيشة!
إن من أكبر الخطأ أن يعزو الناس هذا البلاء إلى قلة المال فتقول الزوجة لزوجها أعطني المال تحمد بيتك ولا تجد ما يسوءك إلا ترى في هذا القول معني الإيمان بقوة المال وأفراده بالسلطة المطلقة دون ما هو أحق منه بهذه السلطة أعنى إرادة الإنسان! إلا إنما الثروة في النفس لا فى النشب. وإن الغني لبالعقل لا بالذهب. ماذا تريدين بالمال؟ أنت تريدين عيشة الملوك والأمراء. وبذل الأجواد والأسخياء. أبهة القياصرة. ونعمة الأكاسرة. وقدراً لا تنزل الأرض مهداراً وكفا بالعسجد واللجين مدراراً. وأنى يستطيع ذلك من لم يؤت سعة الوقت والحال.
أعطنا المال تصلح البيوت لبئس هذا الجواب حلاً لذلك المشكل. وساء فكاً لذاك المعضل. أعطنا المال لجل ما طلبت وعظم ما سألت. ومن ذا يملك المال إلا الفئة القليلة بيد أن كل الناس لا غنى له عن البيت. والخلق لا يخرجون إلى العالم فى كساء من الذهب. وطلب المال مهلكة يبلى الطالب وما فاز بطلبته.
على أن حل المشكل بالمال على تعذره حل باطل. والمال آلة العاجز ووسيلة الناقص. فأما العاقل فإنه يحمى أنفاً أن يلتمس البغية إلا برجاحة لبه. أو يستفيد مودة الخلق إلا بثروة(12/43)
نفسه وقلبه وليست الهبات والعطايا حقيقة خير بل خيال الخير وظله وتعلة من الخير الحق وبلغة إلى حين. أو إن شئت فقل هي رشوة السكوت عن أداء الدين الواجب وورقة تنوب مناب المبلغ المطلوب لا قيمة لها حتى يؤدي. فإن لابن آدم علينا حقاً أعظم من الدفء والزاد. وإنما دين الرجل لدينا رجل مثله وحق النفس الآدمية علينا نفس مثلها. وإذا رأيت أخاك ضجراً متبرماً مهموماً متألماً فذلك لأنك أكلت حقه عليك من بنات صدرك وذات نفسك ولويت دينه لديك من مادة روحك التي تفيض وروحه من عين واحدة. لقد كان حقاً عليك أن تعوده في مرقده تسليه وتؤيده وتعطيه لا من مالك فإنه حقير وإنما من بطولتك وطهارتك ومن إخلاصك وأيمانك. لقد كان حقاً عليك أن تسوق إليه تلك الروح التي هي النور والعافية والقوة فأما هبتك المال إياه بدلاً من هذه النفائس فذلك من الغبن والظلم بمنزلة ما تأتيه الزوجة الفارك من اشتراء طلاقها بالمال من زوجها. وقدماً كان اعتماد العظيم على قلبه ورأسه لا على جيبه وكيسه. وكما أن الماس أشرق ما يكون في إطار الرصاص فكذلك العظمة والفضيلة أنصع ما تكون في الفقر والخلة وقد كان أعظم خلق الله وسيد الناس طراً معسراً فقيراً. وهل كان إلا كذلك قادة اليونان وسادة الرومان. قال بلوتارك (فلوطرخس) عن أرسطيديس وكان أرسطيديس قد ولي الخراج يجيبه من عامة الأقطار اليونانية لقد ولى الخراج فقيراً وتركه أشد فقراً وكيف كانت حال أرسطو وأميلياس وأبيموننداس وكاتو؟ وأى دار كان يسكن الحواريان يوحنا وبولس؟ وأي منزل كان يقطن جون ملنون وصموئيل جونسون؟ بل أي منزل كان يقطن صموئيل آدم في بوستون وجان بول ريتشارد في بيريث؟
هذا مشكل عويص لا يصاب فيه الحقيقة ولا يطبق مفصل السداد إلا بشيء واحد ألا وهو إدراك معنى الحياة وغاية الوجود والسمو لنيل هذه الغاية. فليعلم الناس أنه لا يكون البيت بيتاً حتى ترى كل ما فيه يشهد بأنه ما شيد ولا زخرف لأمر سوي التربية والتهذيب. وأنه ما قام ثمت تحت السماء والشمس والقمر إلا لمثل أغراض هذه الكائنات رفعة وشرفاً. وإنه ليس للهو أقيم ولا لنوم ولا للمآدب والأعياد والمزاهر والأعواد ولا للذائذ الخوان. ومناعم بنت الحان. وإنما تقلع الأدواح من غاباتها لتدعم سقوف أناس لا ينبغي أن يكونوا أقل جزالة من دعائم بيوتهم ولا يليق بهم أن يؤتوا من خور ولا خور في معاجم النبع والغرب.(12/44)
ضلة للإنسان أن بات وهو دون الحجر صلابة ومتانة. وأصبح وهو دون الشجر رزانة ومكانة. وظل وهو دون هذا وذاك وفاء وذمة وأمانة. أجل إنما تقلع الأدواح لتدعم بيتاً هو مأوى الكرام في كل حين ومقرى الطارق المستنبح إذا استكلب القر:
وعزت الشمأل الرياح وقد ... أمسى كميع الفتاة ملتفعاً
وهو موطن الجود ومثوي البر. على جباة أهله ونازليه آية الهدوء والطمأنينة وفى وجوهم نضرة النعيم وفي عيونهم نور اليقين وعلى رؤوسهم ترفرف ملائكة القناعة والإيمان والرضا لا يسألك أهله عن دارك ما نظامها. ولا عن مائدتك ما طعامها. كل له غرضه في الحياة ومقصده. وما سؤالهم عن ذلك وليس نعيم البيت في خوانه ولكن في أخلاق أهله وعرفانهم وصالحات أعمالهم وكأني بالبيت الذي يجمع هذه الخلال في غير حاجة إلى الحلوق. وكذلك يحدث تغير القصد تغييراً في قيم الأشياء عندنا حتى نراها بعين جديدة ونقيسها بمقياس آخر. إذن مفهم معنى الفقر والغنى فنعلم أن الفقر هو الشعور بالفقر وكم من فقير في نظر الناس وهو لا يشعر بفقر وكم من غنىّ في نظرهم وهو أن نظرته بعين البصيرة وسبرته بمسبار الفطنة المترب المعدم والعظمة النفسية والعناية بالمال لا تجتمعان في صدر قط وما أن رأينا من عظيم يعنى بالمال ولو يعنى لأخل ذلك بعظمته وذلك أن العظمة النفسية توقظ المدارك السامية وترقد الدنيئة غير أن السامية تجد أغراضها في كل مكان. ولا تجد الدنيئة أغراضها إلا في المرقص والخوان.
ناشدتك الله أيتها الزوجة الكريمة أن لا تكلفي نفسك من أجل هذا الضيف فوق وسعها وأن تأخذي من دمك ودم زوجك وأنجالك لتصنعي له مأدبة إمبراطور وفراش سلطان. فإن كانت حاجة الضيف في ذلك ففي ليرة ينفقها بهذا المطعم وذاك النزل قضاء حاجته. ولكن أر الطارق إن شاء في صحيفة محياك وفي لحظ عينيك وفى جرس شفتيك وفي لطف شمائلك آية برّك وإحسانك. وعطفك وحنانك. وليكن وجهك دليل قلبك. ولحظك عنوان نيتك. والوجه المشرق الطلق آية القلب المخلص والضمير الطاهر:
وإذا ما مخابر الناس غابت ... عنك فاستشهد الوجوه الوضاء
فذلك خير له من المصفق في الأكواب. ومن المرقق والصناب وذلك لا يباع ولا يشتري والصناب يباع ويشترى. وهو الذى تشد إليه الرحال، وتضرب إليه أكباد الآبال، ويحتمل(12/45)
من أجل بلوغه السفر المهيب والجوع والظمأ. أنا لا أقول لا تفرش الخوان للضيف ولا تهيّء له الفراش ولكني أقول لا تودع هذين جل سخائك وكرمك بل اجعل معظم ما لديك من ندى وجود فيما قد ذكرت الآن من شريف الخصال. وكريم الخلال. الأشرف الله كل دار أمات الفقر فيها الشهوة والهوى وأحي اليقين والهدى وأيقظ الفكرة والنهى. ونبه الفطنة والحجي. وأولع النفس بالتقى. فقرأ الذهن شرائع الطبيعة وعرف أسرار الكون وعبدت الروح الحب والحقيقة وجرت المروءة وسرت الفضيلة في كل عمل من أعمال الأسرة.
كم رأينا الفقر سر النجاح. وسبب الفلاح. وأس الصلاح. وأصل المجد والفضيلة والشرف. ولم تر حكومة قط عنيت بتعليم أبناء فقرائها وتقريب كنوز الأدب والحكمة من أطماعهم مثلما عنيت بذلك حكومتنا فكم من دار حقيرة راح فيها الذكاء والعلم والنبوغ مقرونة بالفقر والكد. أين الذي لا يؤثر في حصاة قلبه أن يرى أولاد الفقراء وقد فرغوا من أداء خدمة البيت يطيرون بأجنحة الشوق إلى مجلد رث الغلاف من أسفار بترارك أو جولد سمث يسترقون من ذلك الظالم الجبار - الوقت - ساعة عسجدية يغيبون أثناءها عن شعورهم في ظلال بساتين الأدب وشعاب أودية الخيال والشعر؟ وأن يرى فرح بعضهم ببعض إذ يتناشدون الأشعار ويتراوون الآثار. طوراً بالحقل وتارة بالحظيرة وأخرى بالساحة. ويتبادلون آراءهم في موضوع خطبة الأمس ودرس اليوم ومحاضرة الأستاذ وموعظة القسيس أو يتناولون بالنقد الأليم أحوال المدرسة والمدرسين وفتيات الدار مصغيات فاتحات الشفاه اشتياقاً. خافقات الصدور إشفاقاً. وإن يرى فرحة الغلام بإنجازه أول عمل من ترجمة أو إنشاء إذ يضحك لنفسه منفرداً في سطح الدار كالعابد في صومعته. أو يرى رؤية الغلام وأناته إذ يقرأ إعلاناً عن محاضرة الخطيب ماكريدي أو بوث أوكمبل بمكان كذا في ليلة كذا فيجعل يقارن بين غنم الذهاب وغرمه. وإن يرى فرط سرورهم باللقاء بعد تفرق ونطق وجوههم بالحبور قبل الألسن. وحرصهم أثناء الفراق على ادخار كل معسولة من القصص والأنباء ليصبوها في مسامع خلانهم عند اللقاء وينفثوها في قلوبهم. وارتياحهم لطرح ما حملوه أذهانهم من ذخائر العلم يتعارضونها عند المقابلة. بالله قل لي أي آصرة هذه التي تؤكد عقد ما بينهم أليست هي آصرة الفقر والحاجة آصرة الكدح والكد التي تبعد عنهم من الشهوات الخسيسة والملاذ الخبيثة ما يفسد أحساب أمثالهم من الأغنياء ويذهب(12/46)
مروتهم ودينهم ويبلي جدتهم. ويذوى زهرتهم. ويوبس عودهم ويقوس عمودهم. ويمتص منهم من ماء الشباب وماء النعيم وماء الحياء وماء الحياة. ويتركهم أنقاضاً بالية. وأطلالاً عافية. فأضحى الفقر في أولئك الفقراء قد وجه هممهم إلى طرق الصواب والأمن وصرف عزائمهم إلى سبل الصلاح والتقوى فباتوا برغم أنوفهم عباد الجليل عشاق الجميل طلاب النبيل شيعه الهدى. لا در دركم معشر الغلمة الفقراء أتشكون الفقر وأنتم الأغنياء. والبؤس وأنتم السعداء لشد ما أصغرتم نعمة ما أجلها. وحقرتم عطية ما أجزلها. ألم تؤتوا وفرة الحظ في ثلاث هن ما هن. قراءة الكتب وقراءة الطبيعة وقراءة السريرة الإنسانية. ماذا تريدون؟
أركوب الفاره تبتغون. وليس القشيب تطلبون. ورؤية التمثيل تودون. وإلى سبل الغواية تجنحون. ومواطن الإثم لو أمكنتكم الفرصة تجمحون. ما أجشم الخطب وأعظم الكرب لو أسعفكم الدهر بهذه المطالب. وأسعدكم القدر بهاتيك المآرب! كلا إنكم لفي حرز من ذلك. وإن حولكم ملائكة حراساً ما إن يزلن يكالمن جباهكم بأكاليل الحياة. تلك الملائكة هي الكد والفقر والجد والإخلاص.
وهذا فصل من رواية كلارندون ينعت فيه المؤلف أجمل مثال من العيشة المنزلية أسرده هما لما فيه من عظة وعبرة وهو ولما كان منزل الرجل على مسيرة ساعة من أكسفورد أصبح صاحباً وعشير العلماء هذه الجامعة وأدبائها وذلك أن هؤلاء وجدوا عنده من احتفال البديهة وشدة العارضة وذرابة اللسان وخلابة البيان وسعة الاطلاع وغزارة العلم لا يسألونه عن فن إلا حسبوه أنه لم يتقن غيره:
إلى أى ما فيه عمدت حسبته ... هو الغرض المقصود فيه الميمم
مع فرط حياء وشدة تواضع كأنه بكل شيء جاهل ما أغراهم به فصاروا يختلفون إليه فيحدقون به إحداق الحلقة بالأستاذ وظل بيته لهم مدراساً صغيراً كبيراً. قليلاً كثيراً يغشونه للدرس لا للراحة وليصفوا بالبحث ويهذبوا بالفحص تلك المسائل التي أبقاها الكل والمجاراة أغلاطاً شائعة.
أنا لا أقدس الرجل الذي جل أمله أن ينال منزلة في البرلمان أو في الجيش ولا الذي أكبر أمنيته أن يكون ذاك الخطيب المصقع أو ذلك الشاعر الفحل إنما أقدس الذي يرمي إلى أن(12/47)
يكون أستاذاً في حسن نظام العيشة عارفاً بالذي له وعليه مؤدياً حقوق السيد أو الخادم وواجب الزوج والأب والصاحب وذاك لعمر الله أمر أعوص مطلباً من التفوق في الشعر والكتابة. والحرب والخطابة. يستلزم من قوة العقل أكثر مما يستلزمه التبريز في تلك العلوم والفنون. والسبب الذي من أجله يخيب معظم من يتصدى للفن والعلم هو عين الذي يخيب من أجله. معظم الخلق فى بلوغ الرتبة المرضية في فن المعيشة. وإني أحسب أن خطيئة الناس في فن المعيشة هو أنهم لا يرون الإنسان مقدساً. وهي عين خطيئة الحكومات والمدارس والديانات جميعاً.
لقد جاء في أساطير الأولين أنه جيء مرة إلى بلاط الملك أرثار من عالم الجن بكساء هدية لأجمل أهل البلاط منظراً. وأطهرهم مخبراً. ولكن من ذاك الذي الأجمل الأطهر؟ هو من إذا لبس الكساء كان محكماً عليه لا نقص ولا زيادة. فجعل كل من البلاط يجربه فلا يراه محكماً. وإذا هو أوسع على هذا من عرض الفضاء وأضيق على هذا من سم الخياط طويل على البعض قصير على البعض. فقالوا جميعاً إبليس في الكساء وباطلاً قالوا إنما إبليس فيهم وليس فى الكساء إلا الحق وما فيه من عيب ولكنه يظهر عيوبهم ويبين عوراتهم فأحجموا عن الكساء مذعورين وجلين حتى جربته ذات الكرم والعفاف جنلاس فإذا هو عليها محكم. وكذلك في دماغ كل امرئ مقياس يقيس به قيم الرجال من كل غاد ورائح فلا يكاد يجد في الألف واحداً يبلغ هذا المقياس ويساوى ذلك النموذج كلا ولا نفسه ولا من كان يحسن بهم ظناً ويراهم من الشرف في الذروة والسنام:
نزلوا من مباءة المجد قدماً ... في مناديحها الطوال العراض
أولئك الذين كان من يراهم أطواداً وبحاراً. وأبطالاً جلة كباراً. لقد قلوا فى عينه بعد أن نظرهم بذاك النبراس. ودقوا فى نفسه بعد أن قاسهم بذلك المقياس رآهم أدنياء المقاصد سفلة الأغراض. خبيثي العلل معضلي الأمراض. يقنعون من عليا ذؤابة المجد بأدنى مراتبه ومن أجزل مرابح الشرف بأخس مكاسبه. يكفيهم من حديقة الكرم نفحة. ومن أنوار الحقيقة لمحة. لكل مطمح دنيء لا يري في الوجود غيره فإذا هو ناله ظنه قد نال الدنيا بحذافيرها فيقعد لا يصنع بعد ذلك شيئاً إلا أنه يجعل هذا الأمر الذي بلغه أصلاً يرجع إليه كل ما يقع له في سائر عمره وتاريخاً لقياس الزمن. وهذه الغاية المطلوبة تكون عند المرأة(12/48)
الحب والزواج (وهى أفضل من غيرها) وعند الرجل الجامعة التي خرجته مثلاً أو حرفته بعد ذلك أو استقراره في بعض المدن أو رحلته إلى بعض مدائن المشرق أو المغرب أو غير ذلك من تافهة مجسمة وحقيرة معظمة يعدها قطب حياته ومحورها وكل أمر يقع له بعد ذلك وكل حادث يحدث فلا يكون عنده ذا قيمة إلا إذا كان له نسبة وصلة بذلك القطب والمحور الذي يصبح تدور حوله جميع أفكار الرجل وأحاديثه حتى يهلك. ومن ثم ترانا نقطن في كل إنسان لي خصيصة تميز أسلوب فكره وحديثه ونعرف الموضوعين أو الثلاثة التي تشغل جميع لبه وذهنه لا يكاد يعني بشيء غيرها ثم لا يزال في كل حديث له يذكرها فإذا طرأ موضوع جديد تنبأنا برأيه فيه وتوقعنا ما سوف يقول عنه. وهذه حالة عامة ونقص شامل يستوي فيه العالم والجاهل والعاجز والبارع. وخريج الجوامع وخريج الشوارع فلقد شهدت في حفلات أعياداً الجامعات الرجل العالم الأديب الذي قد ترك الجامعة منذ العشر السنين أو العشرين قد عاد إليها عين ذلك الصبي الذي تركها لم يزد الله في عقله مثقال ذرة تضحكه عين تلك الأمازيح الباردة وتعجبه نفس هاتيك الحقائر التافهة.
وكل ما يرى له من تلك الرجولة وذاك المنصب إنما هو زخرف باطل وطلاء مموه إذا امتحنته تكشف لك عن ذاك الصبي القديم هو هو بعينه. كأني والله بنا لن نكون مدنيين قط بل نبقى ما شاء الله قرويين نرى أن كل شيء بقريتنا الحقيرة خير مما يماثله بكل بقعة أخري والمفاخرة تختلف ولكن كل مفخرة هي في نفس صاحبها وقود لنار من الغرور لا تخبو. فمفخرة هذا أنه ركب البحر ومفخرة ذاك أن لاقى المصاعب في دخول الجامعة ومزهاة الآخرا. سافر إلى جزر الهند الشرقية وخامس يفخر بأنه خرج من الماسونية. وسادس يفخر بأكلته وشربته، وسابع بحلته وحليته. إنما هي حياة لعب وزخارف وعيشة خدع وسخائف. والإنسان بينها يولد طفلاً ويعيش طفلاً ويموت طفلاً.
ما أبعد البون والخلاف بين ما نرى من الناس وبين ما يجب أن يكون الناس. نري أناساً سراعاً إلى الغرض الحقير خفافاً إلى الغرض اليسير كأنما يساقون فى طريق الحياة ضرباً بالسياط ونخساً بأطراف الإبر. قوماً معجلين لهني قد غضن إلهم وجوههم وخدد العناء لحومهم وغل الحرص أعنانهم يخيل إلى أنهم أفراس تعدو سراعاً على متونها فرسان لا تراها الأعين. أين السكينة والهدوء والطمأنينة؟ لقلما نبصر هذه المكارم. لقلما نبصر من(12/49)
يستحق أن يدعى رجلاً:
إني أغمض عين ثم أفتحها ... على كثير ولكن لا أري رجلاً
ليس بيننا أبراراً متقون. ولا أرى الناس إلى البر والتقى يهرعون. وترانا مع ذلك نعتقد بوجود البر والأبرار والتقى والأتقياء بوجود الحياة الطاهرة والعيشة المقدسة على أنا لم نرها إلا قياساً ولم نجدها إلا إحساساً. والحقيقة أنه ما كانت الطبيعة لتعمل كل هذه الوسائل الجمة العظيمة. وتبذل كل هذه القوي الجسيمة. لتحصل على مثل هذه الثمرة القليلة والنتيجة الخسيسة. بل إن آمال الناس وطماحها نحو الجمال والفضيلة أجل ومالا نبرح نراه في خلال حركات الناس وفي أسارير وجوههم من لمحات الجمال والجلال والطهارة تكاد تمهد السبيل إلى حياة أرقى.
لكل فرد من الناس جماله الخاص ولكل نفس حلاها. وإن أحدنا ليشهد المحافل والسوامر فتروعه ثروة الطبيعة البشرية وغنى النفس الآدمية عندما تلتقي في خرت أذنه نغمات الأفراد ضروباً وأشكالاً لكل منها موسيقي خاص مميز. ويجتمع في مرآة نفسه أخلاق الأفراد صنوفاً وألواناً لكل منها فتنة خاصة مميزة ويري وجوهاً غريبة ذات معان غريبة. فيجد أن الطبيعة قد وضعت لكل من أبنائها قواعد بناء مقدس لو أنه شاد عليها فأعلى. وليس من صورة آدمية إلا وهي كفؤ أن تكون موطناً لعقل رجيح. أو خلق سجيح ومسبكنا لفطنة ذاكية. أو روح سامية.
وكما أن محاسن الطبيعة وملامح الحق والجمال في الإنسان تنبهنا للسمو إلى حياة أصدق وأرقي. ومنزل أطهر وأنقى. - منزل يضارع جلاله روعة السكون وبهجة الدنيا - فإن فيما لم نزال نجده في نفوسنا من الميل إلى مصادقة الأخيار وصحبة الأبرار. حاد آخر يحدونا إلى تلك الحياة السامية. لله ما أسعد الدار التي تبني فيها المودات والصداقات على أساس من الأخلاق وقاعدة من الآداب ما أسعد الدار التي تزوج فيها الروح بالروح والقلب بالقلب وتقترن فيها الطباع والشيم لا التي تكون متلقى القلوب المتنافرة. والنفوس المتناكرة وخليط مشوش من متناقضات أفكار وآراء وعقائد. ومتضاربات أخلاق وأحوال وعوائد. في مثل هذه يكون الزواج نعمة جلي. ولذة كبري. إذ يصبح كل من الزوجين مرآة أخيه. يصلحه ويرنيه. ومصباحه يرشده ويهديه وكنزه يمده ويغنيه. وعماده يؤيده ويعليه. ومجنه(12/50)
يصونه ويقيه.
زينة البيت خلانه الذين يختلفون إليه. ويكثرون التردد عليه. ولا نعلم فى الوجود شيئاً هو أعظم من ظهور وجوه جديدة حول مائدة الدار إلا تلك المكارم والشيم التي استهوت هؤلاء الضيوف الجدد ونزعت بهم من مواطنهم حتى أوفدتهم هذه الدار وأجلستهم حول تلك المائدة وقد أضاف الكاتب لا ندور إلي الكلمة التي عرّف بها الرجل العظيم هذه اللفظة وهى وهو أيضاً الذي في استطاعته استجماع نخبة الناس وصفوة القوم متى شاء وأحب وقد بقى لنا على كر الزمان قافية من قريض الشاعر اليوناني القديم مياندرا في مدح الصداقة هي خير نقيذة الدهور. ووديعة العصور.
ما الجنة الغناء تسجع طيرها ... في ناعم لدن القوام وريق
والمسمعات المحسنات صوادحاً ... والراح في طاس وفى إبريق
أشهي وأعذب في النفوس على ظمأ ... ودخيل همّ من خيال صديق
هذه هي السعادة التي أن تعرف حقيقتها أزرت بكل سعادة غيرها وأرخصت قيمة الحكومة والتجارة والسكنيسة. وأي سعادة أنعم وأي يوم أعظم من يوم يتقابل الناس وكل لسائرهم مؤيد ونصير ومنعم يستهل بشؤبوب من النجوم وكاف بالنور والحيا بالبر والهدى. بالرأي والندى.
هذه كلمات على سبيل العزاء وأمان يزجيها الرجاء هده درس الحياة والغاية التي خلق الناس لها. وأقيمت دعائم البيت من أجلها. وأرانا اليوم أحوج إلى مدبر وفاتح منزلي. منا إلى مدبر وفاتح حربي. فمن كان من الشجاعة والبطولة بحيث يقدر أن يخضع لنا جبار العادة والاصطلاح ويهدى الناس إلى سبيل المعيشة الطاهرة النقية. الماجدة السنية. ويعلمنا كيف نأكل ونستريح ونعامل الناس من غير أن نحدث ما فيه معزة ومخزاة فذلك هو المعيد إلى حياة الإنسان عزها وجلالها. الراد عليها رونقها وصقالها. الخالد اسمه ما اصطحب الفرقدان. واختلف الجديد أن إطليلاً لهامة الدهر. وغرة في جبهة الزمان.(12/51)
مطرح الهموم
لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع
كلمة من أعيان كلمات الكاتب الإنكليزي أديسون
مما يؤثر عن الحكيم سقراط أنه قال إذا جمعت مصائب البشر كلها في وعاء ثم قسمت على جميع الناس بسواء. لأصبح من كان يحسب نفسه أشقى الناس وأخسرهم يفضل أولى الحالتين على الثانية. وجاء بعد سقراط الشاعر الروماني هوراس فعدّل هذا المعني فقال إن ما يكابد أحدنا من المصائب أخف عليه من مصائب أي إنسان آخر إذا وقع بين الرجلين تبادل.
فبينا أنا ذات يوم متكئ في خلوتي أفكر في هاتين الحكمتين وقد أخذتني سنة من النوم إذ خيل إلىّ أنه بأمر إله الآلهة قد نودي في الناس أن يحمل كل امرئ مصائبه فيأوابها جميعاً فيطرحوها بعضها فوق بعض في سهل فسيح فوقفت وسط ذلك السهل وسرني أن أرى الناس طراً يأتون واحداً بعد واحد يلقون أثقالهم العديدة حتى ارتفع من مجموعها جبل طالت ذؤابته السحاب.
وكان هنالك امرأة نحيلة خفيفة قد شمرت عن ساعد الجد وسط هذه الشعائر تحمل في إحدى يديها مجهر أو عليها ثوب فضفاض هفهاف سابغ الذيل موشي بعدد عديد من تصاوير الجان والعفاريت كلما ضربت الريح الجلباب تلونت وتشكلت تلك التهاويل أشكالاً وألواناً وكان في عينها وله ولهف وحيرة وكان اسمها الوهم وهى التي كانت تسوق كل فرد من البشر إلى المكان المعين بعد إعانتها إياه على ربط حزمته وحبكها وإلقائها على عاتقه فأذاب قلبي رؤية أخوتي وأبناء أمي وأبي ينؤون بأحمالهم. ويئنون تحت أثقالهم. وفتت كبدي أن أبصر ذلك الجبل الباذخ الذي من أحزانهم تكوّن ومن آلامهم تألف.
على أنه ألهاني عند ذلك. وسلاني هنالك. عدة من القوم لغريب أحوالهم وعجيب هيئاتهم. فمن بين هؤلاء رجل في حلة مطرزة أقبل يسعى حتى جاء المكان فأخرج من تحت حلته الموشاة المزركشة حملاً فألقاه فحددت البصر أتبينه فإذا هو الفقر. وأقبل آخر يرزح تحت ثقله وبعد كثير من التنفس والزفير أقي حمله فنظرت فإذا هو زوجته.
ورأيت عدداً عديداً من العشاق على كواهلهم أثقال عجيبة من سهام وشمل. ولكن أعجب(12/52)
من ذلك أنه برغم ما رأيته يكاد يمزق قلوبهم من غلواء الوجد وبرحاء الكمد وبرغم زفرة لهم ترقي. وعبرة لهم لا ترقا. كانوا لا يستطيعون مطاوعة عقولهم على الماء تلك الأثقال عند ما بلغوا الكثيب. ولكنهم بعد قليل من المحاولة - محاولة المشاقل المتكرد - هزوا رؤوسهم ورجعوا بأثقالهم أشد ثقلاً. وأفدح حملاً. وأبصرت كثيراً من العجائز يلقين تغاضين وجوههن وكثيراً من الفتيات يلقين سمر جلودهن. ورأيت كوماً من أنوف حمراء. وأسنان قلحاء. وشفاه فلحاء. والعجب العجاب أنى رأيت معظم الجبل مؤلفاً من عاهات بدنية. وآفات جسدية. ثم لمحت من بعيد رجلاً على ظهره حمل لم أر في سائر الأحمال ما يدانيه عظماً فألعمت النظر فإذا هي حدبة فألقاها فرحاً بذلك بين سائر البلايا الآدمية. ورأيت كذلك عللاً وأمراضاً من كل ضرب وصنف غير أنى رأيت الوهمي من ذلك أكثر من الحقيقي. وشاهدت بين هذه نوعاً قد ألف من جميع الأمراض والعلل يحمله في الأكف عدد عظيم من ذوي النعمة والرفاهية واسم هذا الداء الملل. وأعظم عجبي وحيرتي أنى لم أر أحداً قط ألقى بين هذه الآفات والمصائب شيئاً مما ابتليت به نفوس البشر من الرذائل والحماقات والأضاليل. والنقائص والسخافات والأباطيل. فأدهشني ذلك أيما إدهاش إذ كنت قد ظننت أنها فرصة لا يدعها أحد حتى يطهر نفسه من أدران الأهواء والشهوات. ويخلص طبعه من أكدار العيوب والعورات.
ورأيت في الجماعة رجلاً فاسقاً لم أشك في أنه جاء مثقلاً بأوزاره وآثامه. فلما أقبلت على ما رماه أفتشه ألفيت أنه لم يرم شيئاً من تلك الذنوب والحوب وإنما رمى ذاكرته وتبعه رجل ساقط جاهل فنظرته فإذا هو قد نبذ حياءه لا جهله.
ولما فرغ الناس من طرح أثقالهم وفرغت الجنية النحيلة الخفيفة من عملها وكانت قد رأت مني رجلاً ينظر ولا يعمل دنت منى فقلت لذلك فلم يرعني إلا رفعها المجهر إزاء عيني وكنت أعرف في وجهي القصر فإذا هو قد تناهي قصراً حتى عاد أبشع شيء فساءني منظره فألقيته كما يلقي القناع. وكنت قبل ذلك ببرهة أبصرت رجلاً رمى بوجهه لفرط طوله وكان أطول وجه حتى لذقنه وحدها تطول وجهي بأكمله فاستراح من مصيبته واسترحت واستراح الخلق طراً. وأطلق لكل امرئ أن يستبدل ببلواه محنة غيره.
على أنه لم يبق في الجمع إلا متعجب من هذه المحن كيف عدّها أهلها محناً وكيف كان قد(12/53)
غرّ بها وخدع فيها فحسبها نعماً وفوائد وبينا نحن نتأمل خليط المصائب. ومزيج النوائب. صدر أمر إلا له الأكبر أن يستبدل كل امرئ بمصابه ويرجع إلى مثواه بحظه الجديد.
عند ذلك تحركت الوهم وقسمت الكثيب في أخف نشاط وأكمل سرعة فأعطت كلاً نصيبه وكأني باليراع يعجز أن ينعت ما حدث إذ ذاك من هرج ومرج ثم كانت أمور كثيرة أذكر الآن بعضها:
رمي شيخ كبير على كثيب المصائب علة كانت في بطنه وكان عاقراً يتمني ولداً يكون عماد شيخوخته ووارث ثروته فمدّ يده ليعتاض من دائه الذي طرحه فاختطف ولداً فاجراً عاقاً كان آفة أب له وكان ذلك الأب قد نبذه في النبائذ يريد به بدلاً وقد أخذ بدله مرض البطن الذي رمي به الرجل الأول. فلم تمض إلا برهة حتى رأيت ذلك الغلام قد ثار بالشيخ الكبير فأخذ بلحيته وناصيته وهم أن يفلق رأسه. فما هو إلا أن أبصر الأب الأصلي وكان يسعي نحوه ممسكاً بحشاه من وجع المعدة حتى صاح به يرحمك الله وإيانا خذ ولدك بارك الله لك فيه وأعطني علتي ولكن قضى الأمر وكان مالا يكون تبديله. ولا يستطيع تحويله.
يا ابن بوران لا مفرّ من الله ولا من قضائه المحتوم
ورأيت أسيراً مقيداً خلع قيده. وقلع صفده. فاعتاض منه النقرس. ولكن أبدى من التأوه والتأفف والتلوّي والتنزي ما دل على أنه لم يكن في تجارته تلك بالرابح الصفقة.
ولقد كان من الممتع اللاذ أن تبصر ما وقع إذ ذاك من المبادلات والمقايضات من علة بخلة وجوع بفقدان شهوة وهم وتسهيد بأسر وتقييد. أما النساء فكن من تبادل الأعضاء - أعضاء الوجه والجسم - في شغل شاغل فواحدة تستعيض لمة شمطاء من جلدة سمراء. وثانية تأخذ عنقاً قصيراً وتعطى أنفاً كبيراً. وثالثة ترمي عرضاً مفضوحاً. وتلتقط وجهاً مقبوحاً. وما منهن إلا من تدرك في الحال أنها اعتاضت من سيء أسوأ ومن رديء أردأ وكذلك حال سائر الجمع في كل بلية وآفة لعله لأن ما أصابنا به الله مناسب لمقدار صبرنا واحتمالنا أو لأن كل مصيبة تذللها العادة.
فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت
ولقد رحمت من صميم مهجتى ذلك الأحدب الآنف الذكر إذ راح معتدل القامة وافي الشطاط لكن بداء في كلاه. وعلة في حشاه. كما رحمت معاقده ومبايعه الذي راح محدودب الظهر(12/54)
يظلع وسط سرب من الفتيات كن قبل ذلك به مولعات. وفيه هائمات.
ولست ناسياً ذكر شأني وشأن ذي الوجه الطويل فإن ذلك الرفيق ما كاد يأخذ وجهي القصير حتى أضحى فيه أعجوبة الأعاجيب فاستلقيت ضاحكاً من وجهي حتى أخجلت وجهي وأدرك الرجل المسكين خطيئته. وعرف غلطته. فخجل واستحي. غير أنى ما لبثت أن فئت إلى نفسي فعلمت أنه ليس لي أن أزهي وأختال وأسخر من الغير وأنا سخرة وأضحك منهم وأنا ضحكة وإن لى في غرابة هيئتى لشغلاً عن اللهو بهيئات الناس ومندوحة وذلك أيها القارئ أنى رفعت يدي أريد في وجهي أريد إحدى عيني صكت يدي أنفى لبروزه وضخامته مراراً.
ثم نظرت ناحية منى فأبصرت رجلين في مثل حالنا من السخرية قد أحدثا تبادلاً فى زوجين من الأرجل زوج غليظ أعوج قصير. وزوج طويل نحيل. فكان صاحب الرجلين النحيلتين كأنما قد رفع في الهواء على عمودي بيت فهامته تدور مع الريح حيثما دارت وأما صاحب الرجلين العوجاوين القصيرتين فكلما حاول السير دار في مكانه لا يبرحه. ولما رأيت على محياه سيما الحلم والظرف والفكاهة أقبلت عليه أمازحه فقلت له سأجعل لك كذا وكذا إن استطعت أن تبلغ هذا ورسمت له خطاً على مسافة ذراعين مرسى قدميه في مدة نصف ساعة.
وأخيراً تم توزيع كثيب المحن والآفات على أهلها من ذكر وأنثي. وأقبلوا جميعاً تحت أثقالها الجديدة رزحاً حسرى. ولها حيرى. وقد ملؤا السهل والحزن ضجة وأنيناً ورنة وحنيناً. ثم أدركتهم رحمة الله فأمرهم بطرح أثقالهم كرة أخرى فألقوها فرحين بإلقائها مسرورين. وأمر الوهم تلك الشيطانة التي غررت بهم وضللتهم أن تنصرف فانصرفت وأرسل الإله بدلها ملكاً كريماً جد مخالف لها هيئة وشكلاً. مباين لها خلقاً وخلقاً. رزين الحركة ثابت الحال قد جمع في هيئته بين الطلاقة والجد والوقار والبشر لا ينفك من حين إلى آخر يرفع نحو السماء طرفه ويسمو إلى عرش الإله بأمله واسم هذا الملك الصبر. وأعجب ما رأيت أن هذا الملك ما قام بجانب جبل الآلام إلا وأخذ الجبل يهبط ويضؤل حتى لم يبق منه أكثر من ريعه ثم أعاد ملك الصبر إلى كل حظه الأول وألهمه الصبر الجميل وأشعر قلبه قوة الجلد ونور اليقين فراح مغتبطاً سعيداً يحمد الله على كل ما أعطاه.(12/55)
تائباً مما اقترفه من الجهل وجناه.
فمما أفدت من هذه المقالة مع سائر العظات والعبر أني لست حقيقاً أن أتبرم لشئ مما يصيبني به الله على امرئ هبة أو نعمة إذ كان مستحيلاً على امرئ أن يعلم حقيقة جاره ويعرف سر صاحبه ويقف على مبالغ أحزانه وأشجانه وكربه وَنُوَبه وبلاياه ورزاياه. فكل لكل سر غامض وخزانة مقفلة وسفر مطبق. ولكني آليت على نفسي أن آخذ نفسي بثلاث كتمان العلة وكتمان الفاقة وكتمان المصيبة مع الصبر عليها جميعاً وأن لا أحسد امرأ على شيء وأن أكون أبداً حاضر الصفح للناس واسع العفو إذا كان أعقل الناس أعذرهم للناس.(12/56)
العزوبة والزواج
للفيلسوف باكون
من كان ذا زوج ورب عيال فقد وضع عند الدهر رهوناً، لأنهم حوائل تحول دون الأعمال الخطيرة، وعقبات تأخذ على المرء طريقه إلى الأفعال الجسيمات، شراً كانت أم خيراً.
إن خير الأعمال وأنفعها للشعب وأصلحها للجماعة هي حسنات العزاب ونتاج الأعقام الصادرة عن حب الشعب وخدمته وكان أولى بأولئك المذاكير أن يفكروا فى المستقبل القادم ويتزودوا للزمان المقبل، ويعلموا أنهم يرهنون لديه أفلاذ أكبادهم ويضعون في ذمته أعز الرهون.
وإن من الأعزاب من لا يفكر إلا في عيشه ولا يهتم إلا بنفسه ويعد القصد إلى الأيام المتهادية وقاحة وطيشاً.
بل إن من الناس من لا يعد الزوجة والعيال إلا سفاتج ووثائق، بل هناك أغنياء أنهام مجانين يفخرون بأن ليس لهم أطفال كي يظن الناس عنهم أنهم أوفر مالاً وأجم قدحاً وأوفى سجلاً، ولعلهم سمعوا إنساناً في الحي يقول فلان موسر كبير فرد عليه آخر نعم ولكنه رب عيال. كأنما أصبحت الخلفة انتقاصاً للغنى وحطة في الثراء.
والحرية أحسن ما في المعيشة العزب والحياة الوحيدة لاسيما عند المفاريح ذوى الألباب النزاعة إلى الفكاهة الجانحة إلى اللهو الذين يتبرمون بأقل شيء حتى ليكادون يحسبون أن مناطقهم وأربطة سوقهم سلاسل وقيود.
والعزاب خير من يسلم إليهم ود، وصفوة من يرعون العهد، والعزاب خيرة الأسياد، وخير الموالى والخدام، على أنهم ليسوا أبداً فى الرعية لمخلصين، لأنهم خفاف في الهرب، سراع في الفرار، والفارون من طوائل القانون، الناشزون عن بلدهم النازحون، أكبر ما يكونون عزاباً لا زوج ولا طفل ولا لهم عند الزمان رهون.
والعزوبة أليق ما تكون بقواعد الكنائس وأهل الأديرة، فإن الصدقات لا تروى أرضاً ينبغي أن تتفجر من الإحسان عيوناً.
والزواج والعزوبة للقضاة وأهل الحكومة بين الناس سواء، فإنهم إن يصبحوا أغراراً يسلس قيادهم، ويغلب على أمرهم، ويغمز بالمال جانبهم، ليجدون لهم خادماً أسوأ من(12/57)
أزواجهم مرات، وليقعون على صنيعة شر من نسوانهم عوناً على الرشوات.
أما الجنود فإني أرى القواد في مواعظهم يذكرونهم بأزواجهم وبنيهم ويوصونهم بهم خيراً وإني لأحسب احتقار الأتراك الزواج يجعل جنديهم أحط قدراً وأعيب شأناً أجل. إن الزوجة والولد نظام من نظامات الإنسانية والعزاب وإن كانوا أكثر تصدقاً وأنمي إحساناً لقلة ما ينفقون فهم أغلظ أكباداً، وأقطع رحماً، وأنضب عين رحمة، لأن رقتهم لا تسترعي وحنانهم لا يزار.
وأهل الطبائع الساكنة الذين اعتادوا الجسد واطمأنوا له ليكونون أزواجاً رحماء محببين، كما قد قيل عن (يلوسيس) أنه آثر على الخلود زوجته العجوز.
والنسوة العفيفات فى الغالب فخورات تياهات، وطائشات مستبدات كأنما يدللن بعفافهن، ويفخرن بنصيبهن من الطهر.
والعفة والطاعة خير ما اجتمع عليه زوجان، وأوثق ما ارتبط به قلبان وأحبك ما ائتلف به روحان، والمرأة لا تأخذ نفسها بهما إلا إذا رأت من زوجها رجلاً عاقلاً وشهدت فيه صاحباً أريباً، ولن تفعلهما إذا ألفته قلقاً غيوراً إلا أن الزوجات لسيدات في عهود الشباب، صواحبات في الزمان المكتهل، مراضع إذا صاح نهار المشيب.
لقد نوه الناس برجاحة لب الرجل الذي سئل عن أى العهود أصلح للزواج فقال إن كان فتي فليس أوانه، وإن شيخاً فأبداً.
والمشهود أن شر الأزواج يرزقون بطيبات الروجات، فإن وقع ذلك فقد عز ثمن رحمة الزوج إن رحم، وغلا أجر رأفته إن رأف وعلا شأن عطفه إن عطف، بل حسب الزوجة لصبرها على رجلها وغلظته دلاً وفخراً.
فإن عصين صحابهن، وطاوعن هوي قلوبهن، فتزوجن من رجال سوء فهن مجزيات بطيشهن، مصلحات جنونهن.(12/58)
كاتبة إنجليزية من المطالبات بحق الانتخاب
تدافع عن أترابها
أنشأت المس كريستابل بنكهرست في إحدى المجلات الفرنسية الكبرى مقالاً ضافياً تذود فيه عن حقوق الإنجليزيات المطالبات بحق الانتخاب وتدافع عن تلك الحركة التى نالت إعجاب كل من يعمل لحق أو يكافح لمطلب أو يناضل لرأى ينزل عليه وفكرة يريد لها تحقيقاً.
والمس كريستابل بنكهرست اليوم على رأس المطالبات وفى طليعة أترابها المتحمسات وهي تبالغ في إطراء الحركة الشديدة التي تقوم بها النساء وتنادى في الملأ باستحسانها متبعة في ذلك خطة أمها المسز بنكهرست التي حكم عليها منذ عهد قريب بالأشغال الشاقة ثلاثة أعوام سوياً لاتهامها بأنها من الفوضويات ونحن نعرب للقراء ذلك المقال الرائق في السطور الآتية. .
أكثر الناس ويكثرون من الكلام في شأن المطالبات بحق الانتخاب ولكن مهم مثلوهن فأساؤوا وصوروهن فشوهوا وسخروا مما يسمونه (عظيمة فعالهن) فلن تصرف نحن النساء عن نهضتنا ولن نميل عن مطلبنا.
إنهم يخدعون أنفسهم ويغررون بها فإن النساء يعرفن حقهن ويعلمن ما يردن. وإنهن ليستخدمن لتحقيقها مختلف الوسائل وقد يعيبونهن عليها ولكن لن يتهمن أحد بما يسميه الفرنسيون (نقصان العقل) بل إني لأصرح أن نقصان الوسائل لدينا تهمة لا يرمينا امرؤ بها.
لقد طلبنا حق انتخاب النساء فأنكروه علينا وما نجح سؤلنا ثم كررنا الطلب ورفعنا الصوت عالياً فأعدوا وأبرقوا، وأغضبنا أمرهم فثرنا وأجمعنا فيما بيننا أن لا يحول دوننا حائل أو يردنا عن حقنا راد.
أجل. إنني أعلم أن في فرنسا حيث الأمثال شائعة والحكم كثيرة مثلاً يقول إن الصبر والسكون لا يسخطان المرء بل يزيدانه قوة على قوة.
على أن للصبر حدوداً لا يجمل عندها وقد انتهينا إليها والدليل على ذلك سخطنا. نريد إصلاحاً كبيراً. وما من إصلاح تحقق لأهله إلا بعد ما رسموا خطته وأحكموا أمرهم فيما(12/59)
بينهم حتى إذا ملوا عصفت بينهم ريح الثورة فثاروا وفى ثورة الرجال المذابح والمعارك الدموية.
نريد أن يبحثوا في مطالبنا ويدققوا البحث. ولذلك نحن نسترعى اهتمام الناس يحدونا الأمل بأن سيأتي يوم فيه يعلم الجميع حقنا لأن الضوضاء التي أقمنا قد أصمت مسامعهم. ولكن هل يكفى هذا لنصرتنا؟
نود لو اطلعنا إلى الغيب فعرفنا عاقبة أمرنا. ولكن لن يخفت للمطالبات صوت، ولن يكسر من حدتهن شيء. لا السجون ولا العقوبات بل إنهن ليفخرن بها ويعتززن.
ويوجد الآن أربعمائة عضو في مجلس النواب من 670 قد أجازوا إعطاء النساء حق التصويت ولكن لم يعمل حتى اليوم شيء. ويتساءلون. أذلك الخلاف بين الأعضاء!
ونجيبهم. كلا. بل هو عدم الاكتراث.
فلا يعجبون إذن ولا يدهشون إذا رأونا ننتصح بنصيحة السير كامبل بانرمان التي قالها لجمع من المطالبات كنت بينهن وقد سألناه ماذا ينبغي لنا أن نعمل؟
قال. أذهبن وأثرن العالم!
ونحن اليوم صادعات بما نصح. .
بدأت حركة المطالبات منذ سنين طوال على أنها لم تأخذ شكلها الحاضر ولم تكتسب قوتها إلا منذ اليوم الثالث عشر من أكتوبر سنة 1905 إذ انتدى في ذلك اليوم جمع من المطالبات في حضرة السير إدوار جراي فلما خطب الجمع ذلك الموظف الكبير وتكلم عن مطالب العمال قمت أنا والمس كنى وألقينا السؤال الآتي:
هل ترضى لجماعة النساء حق الانتخاب؟ فوجم ذلك الخطيب المفوه وجمد في موقفه ولكننا لبثنا في مكاننا ننتظر جواباً على أنهم طردونا من جنابه أفظع الطرد.
وكنا في كل اجتماع عقد بعد ذلك ورأسه لويد جورج أو آخرون نكرر على الخطباء سؤالنا.
هل يرضي الخطيب لجماعة النساء حق الانتخاب؟
فكان جوابهم كجواب السير إداورد جراي في وجومه وأخذت قسوتهم في معاملتنا تشتد، ووحشيتهم في لقائنا تزداد.(12/60)
ولكن صيحاتنا التي وقروا مسامعهم دونها وكلماتنا الموجزة التي جعلوا أصابعهم في آذانهم منها أثارت ضجة في الناس واهتاجت الجمع.
ووددنالو نعلم السبب الذي يمنعنا حقنا ويغريهم بنا ويحرضهم على قتالنا. ولذلك عجنا على السير كامبل بانرمان واستأذنا في مقابلته وترددنا عليه مرات متواليات فرفض لقاءنا ولما كانت النساء إلى الجزع أجنح وعن الصبر الطويل أميل اجتمع أمرنا على أن ننصرف عن القول إلى الفعل ورسمنا لحركتنا خطة تثير ضجة كبرى.
وكنا ثلثمائة. فاحتلنا أن ندخل بالقوة مجلس النواب واشتبك القتال وحمي الوطيس فزجوا في السجن منا إحدى عشرة.
وكان لهذا الهجوم تأثير كبير وكانت الحكومة حتى ذلك العهد في ريب من قوتنا ولا تظن أن مسعانا سيصادف أعجاب الشعب الإنجليزي وهو أكثر الشعوب تقديراً لكل حركة ناهضة وأعطيت الأوامر للمستر تشرشل بمصادرتنا وحركاتنا من غير أن يقبض علينا.
فلما كنا بأبواب مجلس النواب نريد الدخول أمر المستر تشرشل أمره فإذا الجنود تبالغ في مقاومتنا وتشتد في معاملتنا حتى أن عضوين من أعضاء المجلس هما اللورد روبرت سسل وهو في الوزارة الحالية وأليس جريفيس خطباً نأنحيا باللائمة على المستر تشرشل ونقدا خطبته.
وجملة القول إن كان يجب على أن أتبع سير الحوادث التي تنقلت بينها حركتنا وأخرج منها بنتائج هذه الحرب الناشبة قامت أن نهضتنا لم تجر بعد شوطاً بعيداً وإنما استرعت الاهتمام وأصح مطلبنا. موضوع حديث الطبقات جميعاً وينبغى إن أردف ذلك بقولي أننا قد ربحنا في هذه الحركة ضربات شديدة ولكن ذلك لن يصرفنا عما نريد.
يجب علينا أن نخرب. .
لما لم تجد مجهوداتنا السلمية شيئاً ولم يقر حقوقاً أولئك الذين هم أسعد منا نحن النساء حظاً وأوفر قسطاً كان حقاً علينا أن نكثر من مساعينا وحيلنا فانقطع رأينا أن نحطم الزجاج وانتهى تخريبنا بنكسير نوافذ الدور العمومية والصحافة والمجلات فلم يكترث القوم بادئ بدء بتحطيمنا الزجاج ولكن أرباب المجلات وأصحابها الذين نزل بهم التخريب صاحوا محتجين واستصرخوا معارضين وقفت على آثارهم شركات التأمين وكان لزاماً عليها أن(12/61)
تدفع تعويض ما خربنا هذا والصحف تكتب ألا عاقبوهن! ألا خذوهن بتخريبهن!
ولكنهم لما رأوا أن وعيدهم لا يهدئ لنا ثائرة ولا يسكن فينا جأشاً بل دفعنا إلى زيادة التحطيم والسلب جعلوا يقولون في أنفسهم إننا سنزاحمهم وننافسهم إذا نزلوا على حقنا المطلوب وطفقوا يقولون أعطوهن حق التصويت فيسود السلام! ولسنا اليوم وحدنا المطالبات بحق النساء بل إن الفكرة سائرة في طريقها.
ما سكتنا عن مطلبنا بل بالعكس عمدنا إلى صناديق البريد فأحرقناها وتأثرت حركة التجارة وازداد الاضطراب.
وإن نهضتنا التي سخروا في أول الأمر منها وضحكوا أصبحت في كل يوم مدار البحث والمناقشة.
ونحن اليوم قد أقدمنا على تخريب الأملاك الخصوصية وقد سطونا على بعض القري وكانت الضجة كبري.
لا نبغي شيئاً غير ذلك فقد عرف الناس في كل مكان وجه النهضة التى أقمناها بل إني لأستطيع أن أقول إننا نلقى تشجيعاً وظهيراً من كل فج.
وماذا نحن صانعات غداة الغد؟
إني لأشفق أن تأخذنا سورة الغضب ويزداد سخطنا فيرمي بالويل والثبور ولا أعجب من تسمية بعض الجرائد مستقبل حركتنا (بخسائر جديدة).
أجل. إننا لا نعارض في تسميتها كذلك ولكن ألا يشفع لها بكم الذين نخاطبهم وخرس إلا لي نطالبهم بحقوقنا؟
ألا يعلمون السورة التي تقوم فى نفس المطالب بحق مهضوم لا يجاب له سؤال؟
إنهم ليجدون فى أنفسهم المعاذير لهذه الحركة الوحشية التي أثارها الجزع ثم أضرم الغضب نارها بعد ذلك.
هذه حالنا. نسألهم فلا يحيرون جواباً حتى أساءنا سكوتهم وإني لأخشى أن يفضي بنا إلي غضب شديد.
لماذا نترك أنفسنا تقضي من الجوع؟
إن شجاعة أترابنا لا تنكر وشهامتهن لا تجحد وقد استطاع فريق منهم أن يصرح أن طائفة(12/62)
كبيرة من المطالبات اللاتي قبض عليهن وأودعن ظلمات السجون رفضن كل طعام يقدم إليهن.
لذلك نريد أن نحتج على القانون الذي يبيح للرجال ما ينكره على النساء ويلزم الأولين حقوقاً يحرمها على الأخريات.
أبوا أن يعطونا حق الانتخاب ولكن لا قانون عندهم لنا. .
ما يكاد يشاع بين الناس أن إحدى المطالبات السجينات رفضت الطعام حتى تسمع قوماً يصيحون دعوها تقضى نحبها جوعاً!.
نصيحة ليست من السداد في شيء. إذ لو ماتت إحدانا في سجنها جوعاً لجر عليهم موتها ضجة كبرى وألحقهم موتها عاراً لا يمحى.
ونحن نعتمد على اشتراك الكثيرين في شعورهم معنا ورحمتهم بنا وقد وجد مطلبنا أعواناً كثيراً يحتجون لنا ويغضبون ورأت الحكومة أنها من أمرها في مأزق حرج فأصبحت من حزمها تتجنب أن تدع السجينة تموت كما تشاء من الخصاصة والطوى.
وقد احتالوا على قبول السجينات الطعام بالحث أولاً والنصح لهن ثم الإكراه أخيراً فما أفلحت الأولى ولا نجحت الثانية بل إن إكراههن علي الطعام جر خطراً شديداً وطريقتهم في الإكراه هي أن يدخلوا في أنف السجينة أو فمها أنبوبة من اللبن بشكل أترك للقارئ تخيله.
وزهدهن في الطعام وهن يرين في الإمساك عنه الفخر كل الفخر قد أثر على هؤلاء البائسات تأثيراً بليغاً وأنحف جسومهن حتى أننا رأينا المس ليتون تترك السجن كأنها من الهزال هيكل عظمى.
وقد عرفت في السجن عن رضي مني ألم الظمأ ولست وحدى التى رفضت الشرب والري. فقد كتبت سيلفيا أختي وهي اليوم طليقة السراح فى سجنها تقول: أماه العزيزة. إنني أناضل وأجاهد. ويحرسني كل يوم نفر من الحفاظ ويعودني طبيبان وقد تماوت مرتين في اليوم فجعلوا يفتحون فمي (بخابور) من الصلب ينفذونه بالقوة بين فكي. وأنا أقاوم جهدي كل يوم ولثتاي تدميان كل حين. وكتفاي مرضوضان من طول ما كابدت في مقاومتي وعانيت. أذيد خلون الأنبوبة في حلقي كرهاً. وليلة أمس الأول أحسست بألم في(12/63)
القلب بعد ما أكرهوني على الطعام وبت ليلتي مريضة موجعة وكذلك كانت حالي بالأمس وكنت أحسبني سأجن وأروح مخلوطة العقل أما اليوم فأنا قادرة على التغلب والنضال. . . . . . . أخشي أن أفقد معدتي طول الحياة.
إذا كان هناك فريق يحرض على تركنا فريسة الجوع والخصاصة فهناك فريق آخر ينصح للحكومة أن تنفينا إلى (سانت هيلين) كما نفى نابليون. ولو انتصحت الحكومة بهذا الرأي لدلت على ضعفها إزاءنا وإن رغبتهم في أبعادنا ستظاهر مطلبنا وتنصر حقنا إذ يعلم الجميع أننا خطيرات مهيبات الجناب.
نفى نابليون إلى (سانت هيلين) خشية أن ينسل إليه أنصاره وأعوانه ويلتف حوله فتيانه وكأني بهم يخافوننا خوفهم (نابليون) وحسبنا ذلك فخراً.
ولكن (سانت هيلين) لتضيق بنا سهلها وحزنها ونحن في كل يوم نزداد عدداً وقوة ورباطة. وهم يستحسنون لنا قانون لينك بتهمة أننا نجمع الجماهير حولنا ولو صح ما يقولون لكان أيضاً عملاً إذ لو قتلت إحدانا لانقلبت الضوضاء ضجة تصم الأسماع ولن يزجرنا قانونهم عن حركتنا.
وقد اتهموا الحكومة بالضعف لاقتصارنا في عقابنا على السجن وهم على خطأ مبين فليس التشدد في العقوبات والإرهاق بالمثلات الدواء الناجع لهذه الضائقة الجائحة ويتجنون علينا بأننا نستخدم مالا يتفق وطبيعتنا ويقولون أن الشدة ليست من شأننا ونحييهم بأن جان دارك كانت امرأة مثلنا ولا حاجة بنا إلى طالة الكلام على شهامة أترابنا.
لما تناقش رجال حكومة النرويج في حق انتخاب النساء قامت على سداده حجة انتهت بتقريره.
قال الخطيب صاحب الحجة انظروا ما يحدث في إنجلترة واجتنبوه فاجتمع الرأي على إعلان حق النساء في تلك البلاد.
سننشر مطلبنا في البلدان والأصقاع لاسيما في فرلسة ولست أريد بمقالي هذا أن أذيعه اليوم هنا بل جئت لأعرض على الناس رغبات المطالبات ووسائلهن في تحقيقها ولا أود الآن بحثها فهي إنجليزية محضة ونحن في إنجلترة نعمل مالا يتفق مع روح النساء في الممالك الأخرى. وعسى أن يمشى على أسوتنا ويقي على آثارنا وسيبقى علماً علينا أننا(12/64)
أقمنا حركة أعجبت العالم والتي أستميح القراء عن إطالة الكلام عنها أجمل المعاذير. اه.(12/65)
شذرات من كتاب حديث المائدة
حديث المائدة كتاب جليل. وسفر نبيل. لواضعه أوليفار وندلهولمز الأمريكاني من فحول شعراء الطبقة الأولى وكتابهم وجملة علمائهم وفلاسفتهم. قد جمع بين العلوم والآداب على قلة الجامعين بينهما فأشبه في ذلك جيتا الألمانى وفولتير الفرنسي وراسكين الإنكليزي. وكتابه حديث المائدة من أملح المؤلفات نادرة وأبدعهم طرفة وأغربهم أسلوباً قد طبعه على غرار لم يسبق إليه ونسجه على منوال لم ير في عالم التأليف من قبل. وذلك أنه تخيل ربة نزل قد اجتمع عندها في حين من الدهر زمرة من الناس أشكالاً وأصنافاً فيهم الشاعر والأديب الفلكي والحشري (عالم الحشرات) والطبيب والماليّ والعاطل الذي لا عمل له والقسيس وفيهم كذلك نساء مختلفات الأحوال والأشكال الفتاة والعجوز والقبيحة والمليحة واللينة والشكسة. وإن جميع هؤلاء يجتمعون كل صباح على مائدة الإفطار فتجرى بينهم أحاديث فهذه الأحاديث قد جمعها الكاتب وسردها في ذلك الكتاب الذي سماه حديث المائدة. هذا ما تخيله الكاتب وهو خيال بديع وأسلوب مخترع ولقد أجاد في هذه الأحاديث ما شاء فجاءت كأنها السحر أو أدق. في ألفاظ تخالها الماء أو أرق. ولما كانت تدور حسب تخيله بين أناس من كل شكل وصنف وحرفة وصناعة فلا جرم أن حوت كل نوع من الكلام وكل ضرب من الفن كأنها حديقة ضمنت فنون الثمر ألواناً. وأنواع الزهر نرجساً وحوذاناً. وضروب الطير مثني ووحداناً. ولا جرم أن سميناه دائرة معارف لا سفراً. وقد رأينا أن لا يحرم قراء البيان من مؤلف كهذا فشرعنا نعرب لهم أطيب ما فيه وها هي نخبة من ذلك نطرحها الآن بين أيديهم.
(1)
الحديث
مازال ذوو القرائح السمحة والخواطر الحافلة والأذهان الخصيبة ينفرون كل النفور من ذوى الجمود ممن قد تمسكوا بطائفة من الآراء جعلوها القواعد التي لا يشذون قط عنها مهما كانت الأسباب والدواعي حتى لكأنما الآراء والإنكار شيء مقيس محدود كنظريات الهندسة والجبر والحساب - كأن كل رأي في الدنيا هو كقولك 2 2=4 والخطان المتوازيان لا يلتقيان أبداً - مع أن الآراء والأفكار لا تخلو قط من عناصر الوهم والتمويه(12/66)
والشك ثم هي شيء ذو وجوه مختلفة ينظر إليها من جهات مختلفة. ولكن ذوي الجمود لا يفهمون ذلك ولا يريدون ولا يستطيعون وقد أبوا إلا أن يجعلوا من نظرياتهم وقواعدهم آفات لذوى الأفكار الحرة والخيالات الواسعة. وإلا أن يرسلو من نظرياتهم هذه في مجالس الأنس ومحافل السمر وحوشاً ضارية تزعج الندىّ وتسوء الحفلة فلا غرو أن سميت نظرياتهم هذه وحوش ميادين الذهن والخيال. وأيكم لم ير فى حياته أمثال هؤلاء الثقال ممن قد تشبث بنظرية أو اثنتين يسحبها وراءه كلما دخل مجلساً كأنهما كلبان عقوران قد تأهب واستعد أن يرسلهما على كل من يسوقه سوء الحظ إلى أن يبدى رأياً جديداً أو فكرة مبتكرة أو خيالاً مستملحاً.
الحديث من أجل الشؤون وأخطر الأمور. وإن في الناس من يلحقك من ساعة تقضيها بالحديث معهم من الضعف أضعاف ما يلحقك من صيام يوم والخير لك أن تفقد قدحاً من الدم من عروقك من أن يقطع بعض أعصابك فتراق منه قوتك العصبية. فإنه ليس هناك من أحد يزن قوتك العصبية وهي تسيل فتذهب كما يفعل الطبيب بدمك إذا سال وليس من أحد هناك يضمد دماغك ويربط مخك كما يفعل بجراحك.
من الناس من يأخذ علىّ أنى ربما أعدت بعض بنات أفكاري في مجالس مختلفة كأنهم يرون الأفكار كطوابع البريد لا يعاد استعمالها. بيد أنى لا أرى الرجل الذي يتحاشى إعادة أفكاره إلا عاجزاً مأفوناً. فلتفرضن أيها القارئ أن صاحب حكمة بالغة وعظة ثمينة مثل اعرف نفسك أمسك طول عمره الطويل عن ذكرها والإشارة إليها! كيف ترى ذلك! إلا إنما آراء المرء وأفكاره آلاته وأدواته. أفتحسب النجار محرم عليه أن يستعمل منشاراً بعينه بعد نشره عوداً من الخشب أم تراه حتم عليه أن ينبذ قادومه بعد دقه أول مسمار؟ أنا معك في أنه ليس لي أن أعيد حديثاً. فأما تحريمك على إعادة الفكرة فذلك ما ليس لك أن تفعله. والفكرة ربما تقولها المرة التسعين وهى الجديدة بعد. لأنها قد عادت إليك من طريق جديد على قطار جديد من القرائن.
وربما عثر بالمرء يعيد حديثاً له بعينه ثم لا يعد مليماً ذكروا أنه كان خطيب مصقع وعالم نحرير ممن يتنقلون في البلاد يلقون المحاضرات فلما كان في بعض المدن أدبته إلى مائدة الشاي سيدة من ذوات العلوم والآداب وأشارت وهم على المائدة إلى كثرة تطوافه وتجواله.(12/67)
وحله وترحاله. فقال أجل إنى لكذلك الطائر الدائم الجولان لا يقع أبداً فأنا أبداً على العجلات كما ذلك الطائر أبداً على الجناحين. ثم تصرمت بعد ذلك العصور. وتجرمت الدهور. وعاد الخطيب إلى عين ذلك البلد لعين ذلك الغرض. وعادت السيدة إليه بالدعوة. وعادت مائدة الشاي وحفلة الشاي لا تزال فى تطواف وتجوال. وحل وترحال. كذلك قالت السيدة فأجاب الخطيب أجل إني لكذلك الطائر ـ وأكمل الجملة بعينها.
ولكن ماذا كان ألمه وضيقه حينما خطر بباله أنه قد قال هذه العبارة بحروفها مرة قبل ذلك! ولا يحسبن القارئ - ولعله قد ألقى في روع السيدة - إن الخطيب قد جعل طول هذه المدة - أي فترة ما بين الزيارتين لا يمر به يوم من الأيام إلا ويذكر تلك الجملة يحلى بها كلامه ويزخرف بها حديثه. كلا. فإنه ما سنح بخاطره ذلك الطائر الجوالة إلى أن أثارت تلك الظروف الخاصة تلك الفكرة الخاصة. ولعله قد كان أخلق به أن يسر ويفخر بدقة حساب ذهنه فإن الذهن المحكم المتين إذا أعطيته عوامل بعينها مرة بعد أخرى لم يعطك إلا نتيجة بعينها شأنه في ذلك شأن المكينة الحسابة ويكون أدني اختلاف في نتيجتها - إذا أعطيتها العوامل بعينها - آية على فسادها.
ما هي آفات الحديث الكبرى؟ قلة المعاني وقلة الألفاظ وقلة الآداب هكذا تقول ويقول الناس وما كنت لأعترض على قولكم هذا ولكنى سأعلمكم أي شيء وجدته أفسد للحديث الصالح من كل ما عداه. وأتلف للسمر الطيب من كل شيء سواه. هذا هو المجادلات الطويلة في نقط خاصة بين أناس يختلفون في المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها هذه النقط.
لا تحمد العلائق ولا تصلح المعاملات بين فئة من الجلساء حتى يتفقوا على أساس من العقيدة لا يكون عرضة لأن تزعزع أركانه رياح المناقشة والمحاورة. وحتى يكون عندهم من العقل ما يمكنهم من تتبع المسائل الثانوية المرتكزة على تلك المبادئ الأساسية إلى مصادرها وأصولها. والكلام كالضرب بالعود ليست الحاجة إلى إسكات الأوتار أحياناً بأقل منها إلى إنطاقها.
أرأيت شيئاً أقدح في كرامتك وأجرح لشعورك وآذى لعزتك من أن يعترض أحد المجلس جدك بمزحته ويستقبل حكمتك بنكتة. السب الصريح والشتم المهين أهون والله من ذلك. وهل ذلك إلا منتهي الاحتقار. والازدراء والاستصغار. للكلام على خطارته. وصاحب(12/68)
الكلام على كرامته. مثال ذلك أن تذكر في سياق حديث لك كلمة (معناها بالعربية سقوط القدر أو الخسة) فتحمل النكتة أحد الجلوس على أن يعترض تيار جدك يقول لك كل ما قلته في هذا الغرض هو (معناه هذيان محض) ماذا أصنع مع ذلك الوحش؟ إني لأود أن ألقيه في أعماق السجون لأنه بلية وآفة ولكني لا أقدر. لقد أعدمت كرامتي بتحدثي إليه فمن لي بأن أعدمه!
مثل قالة النكت كمثل أشرار الصبية الذين يلقون الحجارة على قضبان السكك الحديدية يأتونها ملهاة لهم ولأندادهم وربما كانت متلفة للجم العديد من مصالح العباد وأرواحهم بقلبها القطار أعلى لأسفل وكذلك قائل النكتة لا يخجل أن يقلب قطار الحديث من أجل نكتة يلهو بها.
إني لأعلم في الناس من يضن على الاستماع أثناء الحديث بنخبة أفكاره اعتقاداً أنها أغلى قيمة وأعلى من أن تبذل في المحاورات والمحادثات. ولقد كان أحد الفصحاء ينثر الدر منذ أيام في بعض المجالس
يطلق الحكمة البليغة في عرض حديث كالجوهر المنثور
فدنا منه بعض الجلوس وقال له - أتدرى ماذا قال له؟ قال: عجباً لك أنك لتضيع مقداراً جماً من بضاعة رائجة وتطرح على أديم الأرض ما يقدر ثمنه بعشرة جنيهات في كل ساعة فإذا استمررت على هذه الحال خمس ساعات بلغت خسارتك خمسين جنيهاً أفتدري ماذا كان جواب الرجل الفصيح على ذلك.
كان جوابه أنه أخذ الرجل إلى نافذة المكان وسأله أن يشرف ثم قال له ماذا تبصر؟ قال الرجل لا أبصر إلا طريقاً ترباً يسوق فيه أحد الناس آلة رشاشة. قال الفصيح لم لا تنه الرجل عن صب الماء فتقول له أنه يضيعه سدي؟ إلى أية حال من اليبس وقلة الرطوبة وكثرة التراب يصير سبيل الحياة إذا نحن لم نسحب فوقها رشاشات أفكارنا مفتوحة الثقوب أحياناً؟ هذا ولذلك النوع من الحديث فائدة أخرى قد سهوت عنها وعي أن ذلك الحديث يصب أفكارنا في أحكم قوالبها وأبدع أشكالها. فترى أمواج الحديث لا تزال بالأفكار تدحرجها وتقلبها حتى تتركها مدورة مصقولة كما تفعل أمواج البحر بالذي على سواحله من الحصي. وكذلك أصوغ أفكاري بالحديث والمحاورة كما يجرب النحاس تمثاله في الطين(12/69)
قبل صوغه من الحجر لأن الطين لين يشكله الصوغ أشكالاً يعجبه ويدحوه ويدوره ويمطه ويكسبه ويملؤه ويجوفه ويلزقه. ونحو هذه الأفعال كلها ما يفعله المحدث بالحديث حين يصوغ فيه أفكاره قبل أن تبرزها الكتابة في القالب النهائي والشكل الختامي. - قبل أن تراها فى الكتاب الخالد دمية من العاج أو نحيتة من المرمر. ولي في هذا الموضوع تشبيه آخر. وهو أن الكتابة والطبع كالرمي بالنشاب قد تصيب من ذهن قارئك موضع الفهم وقد لا تصيبه. ولكن الحديث كالتمرين على الرمي متى كان الغرض أمامك وفى الوقت متسع ضمنت لنفسك الإصابة. ليس من السهل على اثنين يتحادثان أن يتفاهما لأنهما كثيرون (هنا نظر أصحاب المائدة بعضهم إلى بعض متعجبين من كلمتي يريدون شرحاً لها وتفسيراً).
قلت إذا كان جون وتوماس مثلاً يتحاوران فسيكون لا شك بين الستة شيء من الخلط وسوء التفاهم.
(هنا اصفرّ وجه ربة البيت. لا ريب لقد حسبتني خولطت في عقلي وذلك أمر يستلزم نقلي من دارها إلى المستشفي ففيه عليها خسارة مادية. فلا غرو أن اصفر وجهها إشفاقاً وقلقاً. أما سائر القوم فرفعوا رؤوسهم دهشة. وخاف الشيخ الذي كان جالساً أمامي أن أتناول سكين الفاكهة فأطعنه فزحزحها جانباً كالذي لا عمد عنده.) قلت أنا كفيل أن أفهم هذا الصبي الصغير كيف أن في كل محاورة تجرى بين اثنين - جون وتوماس - يوجد ستة أشخاص يتنازعون أهداب الحديث.
(3) جون جون الحقيقي الذي لا يعلمه إلا الله
(2) جون الموجود في مخيلة جون. هو دائماً مخالف لحقيقة جون مغاير له
(3) جون الموجود في مخيلة توماس مخالف دائماً لحقيقة جون مخالف كذلك لجون الموجود في مخيلة جون مغاير الاثنين
(3) توماس توماس الحقيقي
توماس الموجود في مخيلة توماس
توماس الموجود في مخيلة جون
لا يدفع ضريبة إلا واحد من الثلاثة ولا يمكنك أن تزن بالميزان إلا واحداً من الثلاثة. حتى(12/70)
إذا جري الحديث أصبح للاثنين الآخرين مثل أهمية الأول فالثلاثة كلهم سواء. فلنفرض أن جون الحقيقي كبير السن قبيح الخلقة بليد الذهن. ولكن بما أن الحكمة الإلهية لم تمنح ابن آدم مزية النظر إلى نفسه بعين الحقيقة فأكبر الظن أن جوناً يرى نفسه حديث السنّ جميل الخلقة حديد الذهن ثم يتكلم كمن هذا شأنه وهذه مزاياه. وتري توماساً من وجهة أخرى يعتقد أن جوناً ماكر محتال فجون في نظر توماس محتال ماكر ولا شك مع أنه ساذج غبيّ. ومثل هذا جمعيه يقال في توماس. فمن ثم ينتج أنه سيكون بين كل متحادثين ستة يتنازعون المحاورة إلى أن نجد الرجل الذي يعرف نفسه كما خلقها الله أو يبصرها بالعين التي يبصرها بها الغير. هذا ولا تنس أن أقل الثلاثة أهمية هو ذاك الذي سميناه الشخص الحقيقي. فلا عجب أن تري المتناظرين يتغاضبان ويتشاجران بعد أن علمت أن المشتركين في الحديث ستة.
وكان بجانبي فتى يدعى جون فطبق هذه النظرية على نفسه تطبيقاً غير فلسفي وذلك أنه أدير عقب الأكل على الجماعة وعاء فيه خوخ - فاكهة نادرة قلما يعرفها أمثالنا نحن سكان الفنادق - فلما بلغ الوعاء جوناً هذا ولم يبق فيه إلا ثلاث خوخات واحدة له واثنتان للاثنين الباقين من إخواننا وكان جون أمياً لا يفهم الفلسفة أخذ الثلاثة لنفسه قائلاً أنه سيعطي كل جزء من أجزائه الثلاثة واحدة. فطفقت أبين له أن هذا الاستنتاج العملي خطأ وسفسطة ولكن الخوخات الثلاثة ذهبت أثناء الشرح والتفسير في بطنه واحدة أثر أخري.
(2)
نظرية بسيكولوجية
حاسة الشم أقرب طريق يوصل الإدراك إلى دائرة الذكرى والخيال والإحساسات الغابرة والقرائن القديمة.
ولا شك أن الروائح التي تعمل في مشاعرنا تختلف باختلاف الأشخاص فما يؤثر في هذا لا يؤثر في ذاك. إنما ذلك بحسب ما كان من ظروف أحوال الشخص وتاريخه الخاص. وسأخبرك ببعض الروائح التي تؤثر فيّ والسبب في ذلك منها رائحة الفوسفور. وأصل ذلك أني أولعت بعلم الكيمياء عامين من زمن صباي جعلت أثناءهما لا أسمع بمعمل كيمياء إلا ذهبت إليه فكنت معظم أوقاتي بين الأدوية والعقاقير والقناني والأنابيب واتفق أني كنت(12/71)
في هذا الوقت عاشقاً أيضاً فكانت عاقبة ذلك أن حدث اشتباه واختلاط بين عوامل الكيمياء وعوامل الحب بين أبخرة حمض الآزوت البرتقالية اللون وبين أحلام الغرام وهي أزهي لوناً وأبهى صبغة: بين ورق عباد الشمس الأحمر وبين حمر الخدود وآسفاه لقد رثت ديباجة تلك الخدود ونصلت صبغتها وغاض ماؤها وذهبت نضرتها. ومهما يكن من قدرة الكيمياء على تجديد الخلق وتنضير الذليل فلا طاقة بها على تجديد رونق هذه الخدود وقسمتها! أقول حدث التباس واشتباه بين عوامل الكيمياء وعوامل الحب فامتزجا في وعاء الذهن واختلطا واصطحبا في إناء الذاكرة واقترنا فكلما ضربت أنفي رائحة الفوسفور (وكانت أحدّ روائح ذلك العصر الكيماوي الغرامي) أشعلت في الدماغ سلسة هذه القرائن للتو واللحظة وأوقدت في صميم الأحشاء ذكرى الغرام والجوي حتى أروح منها في غشية وفي حلم وكأنما طلع على ذاك البخار بضبابتين ضبابته المشرقة البرتقالية وضبابة الحب القديم والعهود الذهبية. فللفوسفور بذلك على اليد البيضاء كلما أشعلت عوداً من الكبريت فالتهب فوسفوره وأضاء التهب قلبي شغفاً وأضاء في سويدائه ظلام الغابر وحسبت عود الكبريت زهرة من بساتين الحب أو كوكباً يضيء لي منهج الهوى. كل الكبريت عندي كذلك إلا النوع المسمى كبريت فينا ذلك الخالي من الفوسفور لا رعاه الله ولا قدسه فإنه لا يذكرني عهداً ولا يهيج لي صدى. وإني أراني منذ استعملته غليظ الكبد كثيف الظل مظلم الهواء جامد النسيم.
ومن الروائح المؤثرة في نفسي أيضاً البهار وأصل ذلك أنى لما كنت طفلاً صغير الجرم كان أبى إذا ركب في بعض أسفاره حملني بين ركبتيه فكنا ربما عبرنا قنطرة إلى القرية المجاورة فعجنا على كوخ متطامن السقف حقير الهيئة لريفيّ مسكين شاحب اللون ملوّح فتخرج من الكوخ الحقير أخت له مثله مسكنة وشحوب لون وتلويح. لها فوق ذلك صوت حزين ونغمة شجية فتحنو على شجيرات لها فتلقى صفرة البهار بصفرة وجهها فتجنى بهارة للغلام الصغير هكذا كانت تسميني. وهي الآن ثاوية بمدفن الكنيسة تحت نصب من حجر الإردواز تعلوه أعشاب قد أمالته العصور بعد تطاول الأمد فجنح. وقد ذهبت هذه الأيام وذهب الكوخ وربه وذهبت الأخت المسكينة وشجيرات لها.
فيها شموس للبهار وارسة(12/72)
كل ذلك قد ذهب ولكن نفحة من البهار ترجعه إلى جميعه بأسرع من لمح البصر.
وعسي أن هناك سبباً مادياً لما يوجد من تلك الصلة الغريبة بين حاسة الشم وبين العقل. قال لي أستاذ مائدة الإفطار أن عصب الشم هو العصب الوحيد الذي يتصل مباشرة بالدماغ - والدماغ - كما أثبت العلم - هو مقر العقل ومجال حركاته. وهذا مخالف لتركيب عصب الذوق الذي لا يتصل بالدماغ مباشرة وإنما بنهاية العمود الفقري ومن ثم تري حاسة الذوق أضعف بكثير من حاسة الشم إيقاظا للذكري واستحضاراً للقرائن.
يا الله! ماذا يخفق في حشاي وينبض في أوتار قلبي من نغمات الشعر الصامت إذا أنا فتحت غرفة مخصوصة في المنزل الذي ولدت فيه! - الغرفة التي أبليت فيها جلباب الصغر ونضوت فيها حلة الحداثة التي عققت بها تمائم الطفولة وبها ألقيت ثنايا الرضاع. - إذا أنا اقتحمت هذه الغرفة فقلت لنفسي على هذا الرف كانت توضع أواني القرنفل والعنبر ولطائم العطر وفأرات المسك وقوارير ماء الورد. وفي هذه الخزانة كان يدخر التفاح كأنما يراد به أن يبقى إلى أن تسوّد بذوره ولكن يمنعه من أن يصل إلى هذه الغاية أن في البيت عيوناً صغاراً قلقة يقظى ماتني تفتش وتعقب. وأنياباً صغاراً مرهفة حداداً مضاءة في شأنها من القرض والقضم كرحا الطحان ما تنفك تدأب وفي ظلمة تلك الخزانة لبث الخوخ أياماً وليالي يتذكر الشمس التي فقد حتى أصبح كقلوب النسكة الأبرار الموجهين جلّ أفكارهم - بين حسرة وتندم - إلى السموات والعرش والجنة. أصبح كهده القلوب قد فاح له أرج كأنفاس الملائكة إلا أن بأركان هذه الغرفة يتردد صدي عبق - هو صدى عشرين خريفاً قد بادت فانقرضت.
2
نظرية أخلاقية
المزاح والجد
إن فيكم من يبلغ به حب المزاح أنه يود أن يراني أسعى على أم رأسي ولا يود أن يراني واعظاً على منبر استخدم هذا الرأس - بدل السعي عليه الذي لا يجدي أكثر من إثارة الضحك - للإرشاد والنصيحة.
ألم تعلم أنه ليس من أسبوع يمر على صديقي أستاذ مائدة الإفطار إلا ويرد عليه كتابان أو(12/73)
ثلاثة من أناس من نخبة أهالي الولايات المتحدة وبريطانيا وسائر قراء الإنكليز يعلمونه أنه قد صدئت قلوبهم من قلة الضحك وأنه ليس أحد أولى بأن يضحكهم منه حتى لأوشكت أن أحسب الأستاذ الجليل مجاناً عمومياً لا حكيماً وواعظاً وحتى هجس ببالي أنى سأراه يوماً في رداء مجان - ذلك الرداء الذي ألف من كل لون وصبغة - وأن أري برأسه الأجراس والجلاجل كلما تحرك رن وطن كأنه معمل الحديد أنا لا أمقت منكم ميلكم إلى الضحك ولا أظن عليكم بالكلمة تضحككم متى قدّر لي الله على ذلك فإما أن تطلبوا إلىّ أن لا أقول إلا ما يضحك وإلى أنفسكم ألا تفعل شيئاً غير الضحك فذاك مخالف لسنة الطبيعة وجدير بمن كان هذا شأنه أن ينقلب قرد التوه وساعته فيكون أستاذاً في فن المضحك. ولكن الإنسان حيوان ضاحك باك. وقد خلق الله الضحك والبكاء قوتين تديران مكينة الشعور في الآدمي فالضحك هو القوة الهوائية والبكاء هو القوة المائية. وقد سمعت أستاذ حديث المائدة يقول أن الهستيرية (نوبة عصبية يتردد أثناءها الإنسان بين البكاء والضحك) هي أوضح تمثيل تبين به الطبيعة سرعة تحوّل الحالتين النفسيتين - اللتين عنوان واحدتهما الضحك وعنوان ثانيتهما البكاء - كل إلى الأخرى. وهذا مالا تزال تراه في الأطفال كل ساعة. فإذا أردت أن تري كيف يكون هذا في الكبار فانظر الممثل الحاذق المستر بلاك في دور جمس رورال فإنك لن تملك البكاء لهول ذاك المنظر.
إن من البلية على الكاتب أو الشاعر أن يسترسل في باب المضحك فإنه يعوّد الناس بذلك على ألا ينتظروا منه إلا المضحك وأن لا يعرفوه إلا مزاحاً فهم يضحكون معه مادام يضحكهم فإذا أراد الجد فشرع ينطق العلم والحكمة ضحكوا منه وهزأوا به على أن هناك سبباً أغمض من ذلك. ألا تشعر أنك ترى نفسك فوق كل إنسان يتصدى لإضحاكك سواء بحركات جسده أو بحركات قلمه. ألا تشعر أنك تفيض عليه من برك وإحسانك إذ تمن عليه بتقبلك منه الوثابات الحقيقية أو الشعرية؟ فإذا لزم أدبه ووقف عند حده فخيراً يفعل وإذا أساء الأدب وتعدي طوره بأن حاول أن يعلو إلى مقامك الرفيع فينزلك عنه إلى منزلته الوضيعة عاكساً الحال قالباً الوضع ثم أخذ يدلى إليك من منبر عظته نوابغ الحكم فبئس ما صنع وساء ما أتى وإنما جاء ما لم يكن في الحساب ولا جرى بخاطر.
لذلك أنصح لكل ذي يراع أن يدخر مجونه إلى أن ينال في العلم والحكمة رتبة وإلى كل(12/74)
ممثل أن يكون هامليت أولاً ثم تاتشتسون بعد ذلك. ولكن لا تحسبن إذا بدأت حياتك التمثيلية بمظلة بول براي ثم أمسكت بعد ذلك خنجر ماكبيث أن الناس يرونك مجيداً بعد المظلة أعمال الخنجر.
قلت لك أنى لا أستحي أن أضحكك أحياناً. بل إني سأسمعك شيئاً من مضحكاتى يوماً ما إن أنت أحسنت الإصغاء إلى عظاتي ومبكياتي. والمضحكات كائنة في الطبيعة ليست من مبتدعات البشر ولكنها أمر إلهي تمثله النكات العملية من القطط والقردة قبل ظهور المزاحين الكبيرين موليير وشاكسبير. وإني لأعجب للناس أنى تطرق إلى عقولهم هذه العقيدة الغريبة وهى أن الحياة الأخرى - حياة الأبرار في الجنة - أرفع وأشرف من أن يدخلها الضحك والمضحك. حقاً لقد جردوا الأبرار سكنة الجنان من نصف إنسانيتهم. ولقد رأيت كثيراً من هؤلاء الأبرار يهيئون نفوسهم في هذه الحياة إلى تلك العيشة العابسة (حياتهم في الجنة الخالية على زعمهم من الضحك) بطردهم من ساحات صدورهم كل ميل إلى السرور ومن صحائف وجوههم كل لمحة من سنا البشر والطلاقة.
وكثيراً ما أصادف في غدواتي أحد هؤلاء الأبرار العابسين فينظر إلىّ - كمن عرفني - نظرة موحشة ثلجية كأنما هو قاض سماوي قد هبط إلى هذا العالم ليحكم بأقصى العقوبة على كل من يعرف - أقول ينظر إلىّ النظرة كأنما أخذتني سحابة من برد فأسعل في الحال وأحمل إلى دارى من تلك اللحظة برداً يفكك مفاصلي ويوهي عظامي. مثل هذا الرجل يقطع ولا شك ذنب هرته إذا هو عثر عليها تعبث به. بالله سله من علم الهرة أن تعبث بذنبها؟
3
وصف الشاعر
والنبوغ والعبقرية
إذا نظرت إلى الشاعر من بعض الوجوه رأيته أبداً شيخاً. ورأيت أن أذنه الحديدة تسمع من همسات الأبدية ما ليس تدركه الآذان البليدة إلا بعد أن تقطع نحوه المسافات البعيدة من الوقت. وربما كانت اللمحة الدالة خيراً من النظر الطويل وخطفة البرق من البصيرة النافذة أنفس من تجربة دهر. وكثيراً ما رأيت في صغار الصبية من تطاول عليه البؤس وتمادى(12/75)
به الهمّ حتى لاح وجهه علائم الهرم ولا تعدم الملاجئ والإصلاحيات أمثال هؤلاء الغلمة. كان الله للفئة المساكين! إن بوجوههم من سيما الحزن والجوى. ومن غضون الرثاثة والبلى ما يخيل إليك أن أعوامهم القلائل ستون عاماً.
وكائن رأينا من شاعر كان إذا نفثت كلماتهن قلب شاخ قبل أوانه. وكأنما صباح شبابه لحزنه وبرودته ووحشته مساء الشيخوخة في غيره. ومن تأمل الشاعر الشاب شلى حيث يقول
لهممت من فرط الأسى ... ومضاضة الحزن الأليم
القي بنفسي في الثرى ... وأصيح كالطفل اليتيم
وأميت نفسي بالبكا ... ء فأستريح من الهموم
وأرى حشاشة مهجتي ... تنثال في الدمع النظيم
أعذب بانداء الردى ... في حبة القلب الكليم
من تأمل هذه الأبيات وتدبر ما تنطوي عليه من شدة الجوي علم أنها خرجت من فؤاد هو كما قال ذلك الشاعر قد شاخ قبل أوانه_من فؤاد عمره_وشد ما يخطئ الناس إذ يقدرون عمر الشاعر كما يقدرون أعمار سائر البشر كأنهم لم يعلموا أن دقيقة الشاعر يوم غيره - من فؤاد عمره ست وعشرون.
كلا النبوغ والعبقرية زيادة في العقل على مقدار المتوسط على أن العبقرية أكثر وأرجح. هذا من جهة المقدار فأما من حيث النوع فإنها صنف آخر خلاف النبوغ.
النبوغ ملكة إنسانية. والعبقرية ملكة فوق الإنسانية. فإن تشأ فقل جنية (وهو مطابق لاشتقاق اللفظة) أو ملائكية أو إلهية. النبوغ ينقاد للإرادة فهو أشبه بالصفات الإنسانية كما قلنا ولكن العبقرية ضرب من الغريزة والإلهام كالذي نراه في الحيوانات السفلى يدبر بارع أفاعيلها ويضبط بديع حركاتها فعليها لذلك صبغة بهيمية. ولكن الغريزة في الحيوان هي كما شاهدناها أصدق من أسمى محاولات البشر. ألم تنظر إلى الطير كيف تجري في أسفارها على نظام لو سئل المجمع الجغرافي الملوكي أن ينقح فيه لما وجد للتنقيح فيه مجالاًً. وكذلك الشاعر (العبقري) يسافر بلا خريطة وبلا أعلام إلى بقاع من عالم الحقيقة غير مطروقة لم تهتد إليها الفلسفة بعد ولم تضعها على خريطتها. ذلك أن الفيلسوف يهتدي(12/76)
إلى منهاجه بالنظر والبحث ولكن الشاعر يفوّض أمره إلى غريزته فيبلغ المدى بطريق أقصد وأقرب.
نقول أن على العبقرية لصبغة بهيمية كأن ذلك عيب ومنقصة. كلا! أو ليست الغريزة حتى في أسفل الحيوان أكثر آلهية من أعلى وأفضل ما أملاه عقل الإنسان ورويته؟ ماذا ترى ببيت النحلة إلا أنه فكر إلهي محض صريح وماذا تري قانون أعظم المهندسين إلا أنه فكر إلهي كدر مشوب - نسخة ممسوخة من قانون محكم سنته الحكمة الإلهية فأخذته نفس بشرية ثم عكسته مشوهاً كما تعكس المرآة الكدرة الصورة.
النبوغ كثير والعبقرية نادرة. والنبوغ صفة قد تشمل الأسرة معظمها أو جميعها والعبقرية من مزايا الأفراد. مثلما ترى في العشيرة مارداً واحداً أو قزماً واحداً ولكنك لا ترى عشيرة كلها مردة أو كلها أقزام.
والنبوغ مسلط عليه العقل يقوده - كما أسلفنا_بالإرادة. والعبقرية مسلطة على الشخص بأجمعه تفعل به كما تشاء. والناس يرحبون بالنبوغ في أي إنسان ويمشون له ويفرحون به. ولكنهم كثيراً ما يضيقون ذرعاً بالعبقرية وصاحب العبقرية ويحارون فيه ماذا يصنعون به. وذلك أن النبوغ سهل ذلول. كأنه بين يدي الدنيا حيوان مذعان يحنو لها رأسه وهي (الدنيا أي الناس) تلبسه الرسن وتلقي عليه الحمل فيستقل به في نشاط وروح صبوراً على الشكيمة جلداً على السوط. ولكن العبقرية تجزع من اللجام وتقلق من السرج. ويمنعها غليان الدم في عروقها أن تسكن للسائس وتذعن للمرتاض والنبوغ في كافة الأحوال محسود. وقلما ترى صاحب العبقرية إلا بالرحمة جديراً. وكيف وما زلنا نرى صاحب العبقرية عرضة لأن يموت في مستشفى أو سجن أو مثقلاً بالدين أو موصوماً بسبة.
ولكن مالي أزن الكلام في مقارناتي كأني بين ذخائر البلاغة يقال. في يدي الموازين والأثقال. وأراك بعد لست إلى كل ذلك في حاجة. وفي تجاربك ما يكفيك. ألست تعرف عشرين من ذوي النبوغ يرقون في سلم الحياة؟ وربما تعرف عبقرياً واحداً. فإن صح ذلك فما أراك تحب أن تعرف عبقرياً آخر. لأن العبقرية وعلى صاحب صاحب العبقرية أن يعالجا تلك الغريزة الإلهية المشاق التي تجدو الطائر نحو الجنوب وتحدو الشاعر نحو السماء. لقد كان حقاً من أصعب أن رزق بعض الناس صاحباً مثل شاترتون أو بارنز.(12/77)
نوابغ العالم
فريدريك الأكبر
بقلم كبير كتاب الإنكليز ومؤرخيهم اللورد ماكولى
تمهيد
هذه المملكة البروسيانية، أحدث أمم الغرب عمراً، وأنضرها شباباً وخامسة أترابها خلائق وسكاناً، ووفرة وغناء، وثالثتها إن لم تكن ثانيتها أدباً وعلماً ومدنية وعمراناً، وثبت من منشأ وضيع، وطفرت من أصل خفيض، وتسنمت ذروة المجد، وكانت من قبل في الحضيض.
أنعم الإمبراطور (سجسماند) على أسرة هوهنزلرن، العريقة في النهل المتمكنة في الشرف، بمركيزية برندنبورغ، وكان القرن الخامس عشر لا يزال بعد وليداً، فلما قضي ذلك الجيل وأقبل القرن السادس عشر يمشي الخيلاء، دخلت هذه الأسرة الكريمة في دين لوثر، واعتنقت مذهبه، وفي أوائل القرن السابع عشر خلع عليها ملك بولونيا دوقية بروسيا وقلدها ذلك المنصب.
على أن هذه الأرض التي تملكتها، والولايات التي تقلدتها، ما نهضت بها إلى مرتبة أمراء سكسونيا، ولا رفعتها إلى مقام سادة (بافاريا).
كانت أرض (برندنبورغ) جرداء، لا يطيب فيها زرع ولا يصلح فيها نبات بل كانت جنبات برلين، وهي عاصمتها، وجوار بوتسدام، وهي مقام حكامها المحبوب ومقر ولاتها الأمين، عراء خلاء.
وكان يحصل في بعض أصقاعها، من كثبان رمالها، على شيء نزر من الحنطة والدخن، بشق النفس، ومشقة الحرث.
وفي نواح أخر بقيت الغابات القديمة والأجمات التي جازها الفاتحون من الدولة الرومانية إلى ضفاف (الطونة)، لم تمسها يد الإنسان، ولا عملت فيها معاوله.
وما كان من هذه الأرض غنياً خصيباً فشت فيه المستنقعات وأفسد هواؤها صحة السكان حتى تولى الزارع عنها بعد ما غرهم خصبها وخدعتهم جودة تربتها. وكان فريدريك غليوم الملقب بالأمير الكبير السيد الذي اجتمع خلفاؤه على أنه واضع أساس عظمتهم، ومعلى بناء(12/79)
مجدهم، نال من معاهدة (ويستفاليا) أملاكاً واسعة كثيرة، ومن بينها مقاطعة (مجديبورغ) وبلدها الغني، وترك لأبنه (فريدريك) من بعده أمارة لا تقل في شيء عن تلك الإمارات التي لم ينل حاكمها لقب الملك.
وطمحت نفس فريدريك هذا إلى الملك والملكية وكان مفتوناً بالمظاهر سخياً مبذراً، غافلاً عن فوائده الحقيقية، قاعداً عن واجباته، قلقاً يحتال للشهرة التي لا قيمة ولا وزن يقام لها، فلم تتسع على يديه أملاك الحكومة التي هو واليها، ولا ترامت أرض لرعية التي هو راعيها، بل لعله أورثها بنيه وقد حط من شأنها ولم تزدد به قدراً، ولكن نجحت غاية عيشه وفاز بأمنيته فنال لقب الملك في عام 1700 واتشح بوشاحه ونودي بجلاله.
وكان يجب عليه عند ذلك أن يحتمل المتاعب التي تصيب الطامعين الحديثي عهد بالسلطة والنعمة.
وكان بين الرؤوس المتوجة في أوروبا أشبه بالإنجليزي التاجر الذي أثرى في الهند وطال هناك غناه فاشترى بالمال لقب الشرف فبدا بين جماعة الأشراف الذين تآمر أجدادهم على أسرتي (يورك) و (لانكستر) المتنازعين على الملك المتقاتلين.
وكان حسد الطبقة التي فارقها، واحتقار الوسط الذي سلك نفسه بين ملوكه، ظاهرين أوضح ظهور.
رفض أمير سكسونيا في أول الأمر أن يقر لذي الجلالة الجديد، بمنصبه السامي البعيد، وجعل لويس الرابع عشر ينظر إلى أخيه المليك مزريابه نظر الكونت في رواية موليير إلى السيد (جوردان) وقد حاز مظهر السيادة لا حقيقتها، وابتزت النمسا منه أشياء طائلة ونفائس كثيرة لكي تعترف له باللقب الحديث، وترضى له بالملوكية واسمها، ثم جادت عليه بعد ذلك باعترافها، من غير ما رقّه ولا أدب.
وخلف م بعده ابنه (فريدريك غليوم) وكان على شيء من المقدرة على الإدارة والنظام، وإن شوه خلقه تلك الشرور المنكرة التي ركبها والرذائل التي لبسها، بل أن الأفعال الشواذ التي كان يأتيها لا ترى إلا في مستشفى المجاذيب.
وكان في تصريف وجوه الأمور دقيقاً نشيطاً. وهو أول من فكر في جعل بروسيا أمة ذات قوة وسلطان بين أمم أوروبا بتعبئة جيش عرمرم شديد وساعده اقتصاده المعنت أن يكفل(12/80)
في السلم ستمائة ألف مقاتل وكانوا على نظام لو وضعت كتائب (فرسايل) بجانبه أو جنود (سان جيمس) لبدت إزاء جيوشه شرذمة قليلين، ورَب قوة كهذه يرهب جانبه ويخاف بأسه، ويطمع في صداقته، وينتفع من محالفته، وترى فيه الجيران عدواً لا تكسر له حدة، أو حليفاً قيماً غالياً.
ولكن عقل فريدريك غليوم كان مختلاً فانقلبت أمياله غراماً وكان ذلك الغرام نتيجة مرض عقله ونقص أخلاقه.
وأصبح ذلك المقتصد شحيحاً مغلول اليد، وبات حبه أبهة الجيش ووراءه جنوناً، كجنون شيخ البلدة الهولاندي بزهر الخزامى، فبينا أهل بلاط (برلين) في الفاقة يتضورون، وأهل العواصم الأخرى يضحكون من حالهم ويسخرون، وبينما طعام أمراء الأسرة وأميراتها لا يسمن ولا يغني من جوع، بل لتمتنع عنه النفس والنفس طاوية، لم يعز على الملك أن يصرف الأموال الطائلة في جمع الجند الطوال.
وكان غاية الملك أن يؤلف فرقة من الجنود الطوال النجاد فأرسل رسله يبحثون في كل مملكة وينقبون عن طوال رجالها ولم يقصروا البحث على البلاد الغريبة، بل ما ارتفعت على رؤوس الجموع رأس في أسواق حلب والقاهرة وسورات ولا طالت على الهام هناك هامة واستطاع صاحبها أن يفر من أيدي رجال فريدريك ولقد نال (ايرلاندي) تبلغ قامته أكثر من سبعة أقدام التقطه سفير بروسيا في لندن، جائزة مقدارها ألف وثلاثمائة جنيه، وهي تربى بكثير على مرتب السفير نفسه.
ذلك إسراف طائش، وتبذير مجنون فلعل فتي شديد الأسر لامتناه في القصر ولا في الطول بريالات معدودات يكون خيراً من هذا وأحسن عملاً. . . .
وعجيب أن يكون فريدريك غليوم أحب الملوك للمسلم، وأكرههم في الحرب، وهذا مطمعه في القوة الحربية، وهذا عهده المأثور في تاريخ النظام الحربي، وهذا حبه لرواء الحرب.
ونحن نخشى أن كراهيته للحرب لم تكن أثراً من أثار الإنسانية فيه بل إن هي إلا وهم من أوهامه، وخيال من خيالاته. وكان خوفه على جنده خوف البخيل على ماله. هام الملك بجمع الجنود وعدهم وازدياد عددهم ولكن لم يطاوعه قلبه يوماً أن يباغت ذلك القطيع العزيز.(12/81)
وكان ينظر إلى المستقبل قيمني النفس بأن جنوده ستسوق راجلة العدو سوق الأغنام. على أن ذلك اليوم الذي كان يتعلل به، والحرب التي يتوقع نشوبها، كانت تعدو هاربة من أمام عينيه، ولو كان الله مد في فسحة أجله ثلاثين حولاً لما ألفى أصعب ملمة، ولا أعصب شدة، من قتال بسيط في سهول برلين.
ولكن قضى الله أن تستخدم هذه المعدات التي أعدها، والوسائل التي ادخرها، روح أصدق منه لقاء، وأثبت جرأة، وأعلى في النظام كعباً. .
ولد فردريك، الملقب بالأكبر، ابن فردريك غليوم، في يناير سنة 1712.
ونحن نقول أمنين، أن الله رزقه فهماً ثاقباً، وذكاءً حديداً، وحلماً قليلاً وعزمة راسخة.
أما معالم أخلاقه الأخرى فلا ندري أهي من متممات الطبيعة، أم هي تأثير التربية الغريبة التي ترباها.
وتأريخ نشأته وعهد شبيبته مؤلم يشوق المستطلعين.
فلا أوليفر توست في معمل القرية، ولا (سميك) في معمل الصبيان، بأشقى حالاً من ذلكم الوريث المسكين.
كانت شيمة أبيه فردريك غليوم الغلطة والشر وقد صيره استبداد الملك وحشاً فتاكاً ضارياً.
وامتد أذاه في كل مكان، عن اليمين وعن الشمال، باللكمات واللعنات كان إذا خرج إلى الرياضة والنزهة فر الناس من طريقه، وعدوا هاربين ما يحتمون كأنما من نمر انطلق مفلتاً من قفصه.
إن لقي امرأة في الطريق رفسها ثم أمرها أن تتولى إلى بيتها فترعى أطفالها، وإن صادف قسيساً يعظ الجنود نصح له أن يعمد إلى صلاته وقراءته ويأخذ في تضرعه ومطالعته، وأتبع النصيحة بالعصا.
أما في داره فهو الأحمق الذي لا يراض، والوحش الذي لا يسكن. كان قصره جهنم وكان هو أرجم الشياطين. وكان ابنه فردريك وابنته ولهلمينة موضع كراهيته وتعذيبه، وكان جاهلاً ما هذبه علم ولا أخصب من قلبه ما أجدبه الجهل، يكره الأدب ويزرى به، ويمقت الملحدين وشيعة البابا والفلاسفة الباحثين فيما وراء الطبيعة، ولا يعرف الفرق بينهم جميعاً.
شأن الحياة لديه أن يريض جنده وأن يتريض، وألذ رياضات ذلك الأمير وأبردها على(12/82)
كبده، أن يدخن حتى يمتلئ هواء الحجرة بالدخان، وأن يحسو من جعة السويد، بين ذوائب غليونه، وأن يلعب (الطاولة) مراهناً بقطعة من المطاط لا تساوي ثلاثة فلوس، وأن يقتل الخنازير البرية، وأن يصيد من الحجل بالألوف.
وولى عهده فردريك راغب عن أمور أبيه وملاهيه، لا يميل إلى استعراض الجند، ولا يحب رائحة التبغ ولا (لعب الطاولة) ولا يرغب في القنص، فجنح إلى المزمار فأفتن فيه، وكان أول ما أخذ ذلك عن فئة من لفرنسيين الطريدين حببوا إليه الأدب الفرنسي وحببوه في مجتمعه وأيقظوا ما هدأ من عواطفه.
وكان فردريك غليوم يعد كل ذلك مخنثاً مزرياً، وكلما ازداد على ابنه نكيراً وتضييقاً، ازداد هذا ميلاً إليها ورغباً فيها.
وحان الوقت الذي فيه يتطور عقل الشباب وتثور في القلب الثورات، فاشتد ما بين الابن والوالد من العلائق جفوة وفتوراً.
وارتكب فردريك بعض هفوات من هفوات الصبا ونزقه مما يحسن بالأب العاقل الأريب أن يغض عنها بصره، ولا يأخذ بها ولده.
ولقد اتهموه بعد حين، إن صدقا وإن كذباً، بارتكاب شرور يحمي التاريخ عنا ناظريه، بل ليخجل النقد أن يذكر اسمها، شرور تتحاماها الطبيعة الحيوانية في الإنسان وهي التي تجر إلى عظائم الذنوب وتقود بابن آدم إلى كل جرم.
على أن هفوات صباه لم تكن نهاية في المنكر، ولا اختلفت عن الذنوب الأخرى الشائنة، ولكنها اهتاجت غضب الملك وزادت سخطه وكان يكره الهفوات إلا ما كان منها حظه ونصيبه، ويحسب أنه طالما تضرع إلى الله يحمده إذ كرهه في العواطف الرقيقة وحببه في الجفوة والقسوة ولم يكن فردريك ممن يأخذ المسائل الدينية قضية مسلمة، لا بحث فيها ولا جدال، فجعل يلقي الأسئلة المعضلة في الدين، وطفق يأتي بحجج تشتم منها رائحة المروق عن مذهب لوثر وشيعته، وظن الملك أن ابنه سيصبح ملحداً، زنديقاً كان أم (كالفينيا) فرأى أن القسوة على ابنه أمست واجبة لأنه مسيحي يغار على مسيحيته، فعمد إلى مزماره فحطمه، وإلى الكتب الفرنسية فأمر بإخراجها من قصره، وانحنى على الأمير رفساً وضرباً وتقريعاً وتأنيباً.(12/83)
وإذا جلس إلى الغداء رمى بالصحاف في وجهه، وكان لا يقدم إليه حيناً إلا الخبز والماء، وحيناً يلجئه إلى ازدراد طعام خبيث فاسد لا تكاد المعدة تسيغه ولا تكاد تمسكه، ولقد رماه أبوه إل الأرض ثم جعل يجره حتى النافذة يريد أن يخنقه بحبال الستائر!
هذا والملكة في أشد الغضب تشفق من زوجها على ابنها، وأخته ولهلمينا انحازت له فلقيت ما يلقى كل يوم من عذاب.
وبلغ بفردريك الشاب اليأس فاحتال للهروب، وبلغ بأبيه المستبد الغشوم الغضب فاستحال جنوناً.
وكان الأمير ضابطاً في الجيش، وفراره يعد في العرف نكولاً، والنكول في قانون فردريك غليوم أكبر الجرائم نكراً، وقد كتب ذلك الملك المتدين في إحدى رسائله الهوجاء النكول من الجحيم، عمل صبية الشياطين وأطفال الأبالسة، لا يقع في جريرتها عبد من عباد الله.
وكان مع فردريك شريك يرى رأيه، ويذهب مذهبه، فأمر الملك بقتله، ولم تأخذه فيه رحمة، ولم يستمع لنصيحة المجلس الحربي له أن يأخذه بالعفو.
وكاد فردريك نفسه يلحق بشريكه، وكاد ينفذ فيه حكم أبيه بالموت، لو لم يقيض الله له حكومات هولاندة، وملوك بولونيا والسويد، والإمبراطور فتداخل الجميع في أمر ذلك الحكم، وبعد تعب وجهد سكنت حدة الملك وأنقذ آل براندنبورج من وصمة كادت تعلو جباههم، وعار قتل أوشك أن يلبس شرفهم.
وعلم فردريك بعد قلق عدة أشهر أن حياته قد أنقذت من مخالب الموت، ولكنه لبث في السجن طويلاً، وقد رأى أن لا مناص من غياباته.
ووجد في حبسه من الحراس رحمة لم يجدها في أبيه، وألفي بين الحفاظ قلوباً رحيمة أين منها قلب والده ومليكه.
ولم تكن مائدته في السجن فاخرة، ولا الطعام لذيذاً، لكنه صحي مفيد، يقتل الجوع ويسكن ثائرته، واستطاع أن يقرأ (الهنريات) ولا يرفس من أجلها، ويعبث بمزماره، وينفخ بالألحان والنغم، ولا يكسر فوق رأسه.
فلما انقضت مدة حبسه، خرج من محبسه رجلاً وقد أوشك أن يتم الحول الواحد بعد العشرين، فلا يستطيع أحد، حتى وإن بلغ من القسوة مبلغ والده، أن يضيق عليه أو يصرفه(12/84)
عن وجهة هو موليها.
خرج وقد أصبح أنضج الألم فهمه وذكاءه، وأقسى العذاب فؤاده، وأمر الهم طبيعته وأخلاقه.
تعلم ربط النفس وحكمها، وملابسة الناس وخديعتهم، وادعى أنه منتصح ببعض آراء أبيه وقبل يد المرأة التي أحب والده أن يزوجها منه، ولم تكن في الحقيقة زوجته إلا اسما واشتغل تحت أمرة الأمير (أوجين) في حرب ما اشتهر عنها شيء ولا حدث في نقعها للشجاعة خارقة ولم يكن لفردريك فرصة فيشرق في وطيسها ذكره.
وسمح له والده أن يعيش في دار منفصلة واستطاع بذلك أن يكفل ملاهيه ويطفئ كلما استعرت جذوة أمياله سراً لا علانية.
وصرف جزءاً من وقته ينظر في الأمور الحربية والمسائل السياسية وذلك لإرضاء الملك وعن ميل في نفسه ورغبة تنازعه وكذلك كان فردريك يدرج في معارج المقدرة على تصريف هذه الشؤون دون أن يعلم بذلك أخلص أصدقائه، ولا أصدق المخلصين.
وكان مقامه المحبوب رينسبورغ، على مقربة من الحدود التي تفصل أملاك بروسيا عن دوقية ميكلنبورغ.
درينسبورغ موضع خصيب، ومكان ضاحك، وخميلة طيبة، في وسط رمال المركيزية المترامية الأطراف.
وكان يحوط الدار أجم السرو والسنديان، تشرف على بحيرة واسعة هناك كان يلهو، وفي هذه البقعة الجميلة كان يمرح، يزرع البساتين في طرق متشعبة وغير متشعبة: ويبني المسلات والمعابد والمتاحف، ويقطف الأثمار والأزهار.
وكان يخفف عنه عزلته صحاب جمعهم إليه وأدناهم منه، وآثر الفرنسيين منهم مولداً وأصلاً.
وكان يأكل مع هؤلاء جميعاً ويشرب، ويقيم للهوه المراقص، وحيناً يقرأ في كتاب ديني سماه (عهد بايارد)، ولكن في الأدب كان كل هواه.
وتعلم كل شيء بالفرنسية، وأن العلياء التي نعم بها لويس الرابع عشر، والنبوغ العظيم الذي رزقه شعراء ذلك الأمير الكبير وكتاب مآسيه ومضحكاته وأهاجيه والشأو الذي حازه(12/85)
خطباؤه ودعاته، تركت اللغة الفرنسية شائعة في أوربا منتشرة في كل فجاجها ذائعة في كل أقطارها، حتى في البلاد التي لها أدبها، والتي تستطيع أن تفخر برجال أعظم من راسين، وأقدر من موليير، وأبدع من ماسيون - بلد دانتي، وأرض سرفانت وموطن ملتون وشكسبير، اختار القوم أذواق باريس وأدبها وآثروا رقة لغة الفرنسيين وبدائع كتابهم.
ولم تخرج ألمانيا في ذلك العصر شيئاً من محاسن الشعر وعقائله، ولا نشرت للناس من آيات الفصاحة البينات ولا من فرائد النثر المترقرقات، ولذلك شاع الأدب الفرنسي في أرضها لا يزاحمه مزاحم ولا يقف في سبيله حائل.
فكان كل شاب ذي مكانة أو يافع رب وجاهة يتعلم اللسان الفرنسي كلاماً وكتابة، أما تعلمه الكلام بلسانه الأصلي والإنشاء بلغته الوطنية، أو تعلمه أدبها، وإن لم يستطع فسهولتها وصحتها، فكان غير مهم.
حتى فردريك غليوم نفسه على خواطر في اللغة السكسونية بالية، وفكر ذاوية، كان يرى لزاماً لأبنائه أن يعرفوا الفرنسية، أما التمكن في الألمانية والتبحر في آدابها فأمر غير ذي بال، ومسألة لا ينظر فيها وليست من اللزوم في شيء.
وأما اللاتينية فكانت ممنوعة محظورة.
وقد كتب الملك أن ابني لن يتعلم اللاتينية، وفوق ذلك فأني لن أحتمل أن يذكر أحد ذلك أمامي.
وقد جسر يوماً أحد الأساتذة على قراءة العجل الذهبي في الأصل اللاتيني مع ولي العهد وباغتهما (فردريك غليوم) فصاح بالمعلم في لهجة الملوك:
ماذا تعمل، أيها الشقي
فأجابه المعلم. ليهدأ ثائر ذي الجلالة فقد كنت أفسر العجل الذهبي لسموه.
فصرخ ملك بروسيا، لأردنك أيها المجرم عجلاً، وارتفعت العصا، وجرى المعلم المسكين هارباً، وكان ذلك آخر عهد فردريك بالعلوم القديمة. ولكنه كان يتبجح في بعض الأحيان فيتشدق ببعض كلم سيشرون وكلامه.
أما حظه من اللغة الطليانية فلم يك بالأكبر الأوفر بل ليصعب عليه أن يقرأ صحيفة من صحف (متاستاسيو).(12/86)
أما في الاسبانيولية والإنكليزية، فلم يعرف على ما تعلم حرفاً واحداً.(12/87)
سر تطور الأمم
مبحث ضاف جليل في نقد نظريات كتاب سر تطور الأمم
للكاتب الحكيم عباس محمود العقاد
كتاب من الكتب القيمة وضعه عالم فرنسي جليل، وعربه وزير مصري عامل. والكتاب على صغر حجمه وإيجاز أبوابه من الأسفار التي قل أن يلج مثلها إلى عقول المصريين من جانب اللغة العربية. وأيسر ما يقال فيه أنه سيعوّد القراء أسلوب البحث الجديد فلا يركنون إلى تلك المباحث التي مدارها على التلفيق، وهي براء من المعنى براءتها من صدق النظر والتحقيق. فما أكثر الكتاب الذين كانوا ينظرون عندنا إلى أعضل مسائل الاجتماع وأغلق أبواب المستقبل بعين تتخيل الأفكار كما يتخيل الناظر الواهم صور الجمال والثعابين والحيتان في قطع السحاب المذعذعة في السماء. وحسب الواحد منهم أم تتم في ذهنه صورة ملفقة على هذا النمط فيبرزها للناس قضية مسلمة، ويبني عليها النتائج البعيدة والنظريات الخطيرة.
أفرد المؤلف أكثر فصول الكتاب لتجلية الفكرة التي يحوم حولها في أكثر كتاباته. وهي أن لكل أمة روحاً تسير أعمالها، وهذه الروح هي التي تكيف أطوار الأمة وتشكل ملامحها الطاهرة. وإليها يرتد سبب كل حركة من حركاتها. وقد غالى في وصف ما لهذه الروح من الأثر في كافة أحوالها، إلى حد يوهم أنه ينكر ما للعوارض الطارئة من الأثر الثابت في حياة الأمة، والحقيقة أن لهذه العوارض شأناً في تاريخ الأمم لا يحسن إغفاله ولا سيما من وجهة النظر السياسي، كما أن الربان الحاذق لا يجلس مجلسه من السفينة إلا ليرقب ما يهب عليها من الأعاصير، ويثب إليها من الأمواج، ولا يغنيه علمه بأدوات سفينته وفجاج البحر الذي يسلكه عن الدربة على قيادة في تلك الأهوال، وإلا فإن ثورة واحدة من تلك الثورات قد تهوي بالسفينة إلى القرار. وما العوارض الطارئة إلا الخيوط التي ينسج منها روح الأمة، ويتكون من مجموعها سلسلة اختباراتها وذكرياتها الماضية، وهي لا تجعل في الأمة شخصاً غير شخصها، ولكنها تغير بنية ذلك الشخص، فليس لروح الأمة دخل في تاريخها إلا بقدر ما للإرادة في تاريخ الفرد، وكثيراً ما تكون الإرادة منفعلة بما يطرأ عليها ولا تكون هي الفعالة إلا إذا جاءت الحوادث بما يوافقها. وقد بالغ المؤلف في تقدير طول(12/88)
الزمن الذي يرسخ فيه المبدأ فيصير عقيدة موروثة وجزءاً من أجزاء تلك الروح، وهي مبالغة غير محمودة لأنها توقف المصلحين موقف الحذر الشديد عند كل حركة جديدة، وتصغر من قيمة الفرص الوقتية في حسابهم ولا سيما إذا كان لا سبيل إلى تشخيص روح الأمة ومزاجها تشخيصاً يقطع الشك باليقين. ذلك ما هو واضح من غموض الفكرة نفسها في الكتاب فإن المؤلف لم يستطع إلا أن يلم بها إلماماً غير محيط بها ولا ضابط لدقائقها.
حتى أن القارئ ليخرج من الكتاب وهو لا يدري حد الفارق بين روح الأمة الإنكليزية والأمة الفرنسوية. هذا على أنه يكاد يكون موضوع الكتاب الذي جاهد المؤلف غاية الجهد لتبنيه وتفصيله، ولا ريب أن مثل هذه الفوارق التي لم يلمسها المؤلف إلا بيد الحس لا يصح أن تكون أساساً للأحكام العريضة التي سجلها على أكبر مبادئ العصر بل على الدين الجديد في عرفه. فإذا كان الغرض من تقدير تلك الفكرة المبهمة الإشارة إلى اختلاف الأمم في الأمزجة فذلك مالا نزاع فيه أما إن كان يرمي به إلا أبعد من ذلك فالحق يقال أن قدمي هذه الفكرة لا تحملانها إلى أبعد من تلك الغاية. إذ ليس في الكتاب ما يبين بياناً جازماً أن الحادث الذي يقع في هذه الأمة لن يقع مثله في أمة أخرى، وليس فيه حجة دامغة تنفي القضايا التي قررها علم مقابلة التواريخ وأيد بها قولهم أن للأمم أطواراً تمر بها كل أمة حية، وأنه إن اختلفت الأزمان بعداً وقرباً فذلك لاختلاف المناسبات والطوارئ ولشيء قليل من تباين الأمزجة، ولكن هذا التباين لا يمنع أمة من أن تعتنق كل رأي في حينها المقدور لها، وإن كانت ربما دعته بغير ما يدعي به في الأمم الأخرى، تبعاً لاختلاف اللغات، وتفاوت الأحوال والعادات.
فليس في مجلس انكلترا مثلاً حزب اشتراكي كحزب فرنسة الاشتراكي ولكن فيها حزباً للعمال. وكلا الحزبين غايته واحدة ومطالبه متشابهة. وهي أنصاف طبقات العمال من أصحاب الأموال. والدكتور لوبون يقول مع ذلك أن الاشتراكية شاعت في فرنسه لأن مزاج أهلها يميل بهم إلى الاعتماد على الحكومة ولم تشع في انكلتره لأن الإنكليز أهل استقلال لا يعولون إلا على أنفسهم - دع ذلك وانظر صوب ألمانية فإنك ملاق فيها شعباً اشتراكياً صريحاً وحزباً يمثل الاشتراكية في مجلسها هو أقوى الأحزاب وأوسعها نفوذاً والألمانيون كما تعلم شعب سكسوني قريبٌ مزاجه من مزاج الأمة الإنكليزية فما باله في(12/89)
هذه الحالة أشبه بفرنسه اللاتينية منه بإنكلتره السكسونية؟؟ وكأن الدكتور يحس بركة تعليله في هذه النقطة فجعل الاشتراكية آفة أوربية عامة، وعبر المحيط الأطلسي ليجد له في الدنيا الجديدة برهاناً يدعم به رأيه. فانظر كيف يقول في ذلك: وإذا أردنا أن نعرف بكلمة واحدة ما بين أوربا والولايات المتحدة من التفاوت قلنا أن الأولى مثال ما يمكن أن تنتجه الأمة التي قامت فيها الحكومة مقام الفرد. والثانية مثال ما يمكن أن تنتجه همة الأفراد الذين خلصوا من كل ضغط رسمي. وليس لهذه الفروق الكلية منشأ إلا الأخلاق ومن المحقق أن الاشتراكية الأوربية لا تجد لها مكاناً تنزل به في البلاد الأميركية. لأن الاشتراكية آخر دور من أدوار استبداد الحكومة فلا عيش إلا في الأمم التي شاخت بعد أن خضعت قرونا طويلة إلى نظام أفقدها الأهلية لحكم نفسها. . . . . اهـ.
ولكنا نقول للدكتور أن الاشتراكية قد سبقته إلى الولايات المتحدة أيضاً. وأنها ليست في بلد من البلدان أجهر صوتاً مما هي هناك. فليس في الدنيا حكومة تضطهد الشركات كما تضطهدها جمهورية الولايات المتحدة. وقد طاردت هذه الحكومة منذ سنوات أكبر شركات الاحتكار فحلتها وألزمتها غرامة فادحة. فكان الجمهور الأميركي يهلل لها ويثني عليها. وإذا قرأت أيام الانتخابات برنامج كل حزب من أحزاب السياسة هناك رأيت كيف تتبارى في إرضاء طوائف العمال ومهاجمة كبار الماليين. وكيف تحبر الصحف الفصول الطوال في تقبيح مطامع الأغنياء والعطف على الفقراء. فإن كان الدكتور يعني بالاشتراكية غير هذا. فليهدأ بالاً فليس في أميركا ولا في أوربة. لا بل ولا في الدنيا بأجمعها اشتراكية.
وفيما خلا وصف روح الأمة وشرح ما لهذه الروح من التأثير في تكوينها. فالكتاب بجملته حملة منكرة على المساواة والاشتراكية. يخيل إليك أن الدكتور لوبون يكتب عن المساواة بقلم شارل الأول أو لويس السادس عشر. وأنه يكتب عن الاشتراكية بإيعاز من روتشيلد أو روكفلر فتراه ينعى على مبدأ المساواة ولكنك لا تعلم منه كيف يكون عدم المساواة. وتراه يتشاءم من الاشتراكية كما يتشاءم الناس من نعيب البوم. لا يعلمون لذلك التشاؤم سبباً. ولعل في الاشتراكية شيئاً من ثقل الدم لا يقبله مزاج بعض الناس ومنهم الدكتور لوبون؟؟
فمن أقواله عن المساواة: غاب عن بعض الفلاسفة تاريخ الإنسان وتقلب ماهية قوته العاقلة وتغير قوانين تناسله الطبيعية فقاموا ينشرون في الناس فكرة المساواة بين الأفراد وبين(12/90)
الشعوب.
خلبت هذه الفكرة أذهان الجماعات فارتكزت في عقولهم ارتكازاً قوياً وآتت أكلها بعد زمن يسير فزعزعت أسس الجمعيات الأولى وولدت أعظم الثورات ورمت أمم الغرب في اضطرابات شديدة لا يعلم مصيرها إلا الله ثم يقول إلا أن العلم تقدم وأثبت بالبرهان بطلان مذاهب المساواة وأن الهوة التي أوجدها الزمان في عقول الأفراد والشعوب لا تزول إلا بتراكم المؤثرات جيلاً بعد جيل ثم يقول بعدما تقدم: ما من عالم نفسي ولا من سائح ذي نظر ولا من سياسي مجرب إلا وهو يعتقد الآن خطأ ذلك المذهب الخيالي أعني مذهب المساواة الذي قلب الدنيا رأساً على عقب وأقام في القارة الأوربية ثورة أرتج الكون منها وأذكى في القارة الأميركية نار حرب الأجناس وصير جميع المستعمرات الفرنساوية في حالة محزنة من الانحطاط ومع ذلك فقلما يوجد بين أولئك المفكرين من يقوم في وجهه بمعارضة ما. . . . .
كل ذلك جرى من سريان مذهب المساواة!! على أن دعاة المساواة لم يشطوا في مذهبهم. وقد علموا أن الناس ليسوا على غرار واحد في العقل والفضل. فالعجب للدكتور ما باله يبادر فيمسك بألسنتهم ويأخذهم بشهادتهم كأن هناك تناقضاً بين قولهم ودعوتهم!! فإن دعوتهم إلى تساوي الناس في الحقوق أمام القانون لا تعطل تنازع البقاء بينهم ولا تذهب بمزايا التفاوت بين قادرهم وعاجزهم. بل هي تفسح المجال لهذا التنازع وترفع العوائق التي يضعها في طريق المنافسة استئثار بعض الناس ببعض المنافع بلا موجب للاستئثار. وبغير هذا المبدأ لا يكون تمت معنى للنظام والقانون إلا إذا كان الغرض من إبطال المساواة الدعوة إلى إطلاق الناس أقويائهم على ضعفائهم. وتحقيق مذهب الفوضى.
يحق لأعداء المساواة أن ينكروا على دعاتها كل الإنكار. ويحق لهم أن يحتجوا عليهم بأن العلم تقدم وأثبت بالبرهان بطلان مذاهب المساواة هذا إذا كان دعاة المساواة في شك من ذلك. أو إذا كان قد قام منهم قائم يمني العامل الجاهل بأن يتبوأ منصة الفيلسوف في الجامعة أو يسول له أن يطالب بوظيفة الطبيب أو المهندس. ولكننا نعلم أن داعياً كهذا لم يقم ولن يقوم لأن مديري البيمارستانات لا يفرطون في مثله إذا ظهر. وكل ما يمنى به الداعي إلى المساواة ذلك العامل أنه يكون متساوياً مع سائر الناس في الأمن على حياته.(12/91)
وهل في ذلك من ضير؟؟ وإذا كان مبدأ المساواة لا يمنع إنساناً حق التمتع بثمرة تفوقه في المعارف أو المواهب العقلية على سواه فأي ضير فيه؟؟
إن كان الدكتور يصم هذا العصر بأنه عصر الجماعات وأنه يبيح للفرد الجاهل من الحقوق السياسية ما يبيحه للفرد المتعلم. وأن صوت الدكتور الفيلسوف كصوت الزارع الغبي في إنابة النواب وانتخاب الحكام فهذا أمر لا محيص عنه ولا سبيل إلى إبداله بما هو أصوب منه. على أن التساوي في أصوات الانتخاب ليس إلا تساوياً صورياً. والحقيقة أن لكل إنسان من الأصوات بقدر ماله من العقل والقدرة على إقناع سواه باختيار من هو أفشل من غيره للنيابة، وذلك ما يجعل أكبر الناس عقلاً أكبرهم قسطاً في سياسة بلاده، فإن بعض الموسرين يستعين بالمال على شراء الأصوات ويستخدم تلك الأصوات المتعددة في غرض واحد. فذلك ما يشكو منه الاشتراكيون الذين ينقم عليهم الدكتور لوبون.
وهب أننا اليوم أبطلنا مذهب المساواة. فمن يا ترى يحكم بين الناس ويقدر لكل منهم ما هو أهل له من الحقوق السياسية والأدبية؟؟ أترانا نلجأ في ذلك إلى الحكومة؟؟ ذلك ما يأباه الدكتور لأنه يريد أن يقصر عمل الحكومة على الضروري الذي لا يسع الأفراد القيام به. فأولى به وهذه إرادته أن لا يدعها تتداخل بين الناس حتى في ترتيب أقدارهم وتمييز درجاتهم كأنما هم كلهم موظفون في دواوينها - فلم يبق إذن إلا أن تترك الناس يدع كل منهم ما يقدر على تحصيله بذراعه_وبمثل هذا النظام نأمن شر مبدأ المساواة ولا نكون قد تركنا أضغاث أحلامنا بالمساواة العامة تغشي بصائرنا لأننا إذا تركنا أضغاث أحلامنا بالمساواة العامة تغشي بصائرنا كنا أول ضحاياها فما المساواة إلا بين المنحطين وهي مطمح آمال صعاليك العقول يحلمون بها وهم بأحلامهم من التعساء الخ.
ذلك حديث صاحب الكتاب عن المساواة. أما الاشتراكية فهو كما يظهر من الشذرات التي نقلناها عنه شديد الطيرة منها. وهو يمثلها تمثيلاً مشوهاً. ويعمد إلى شر مذاهبها فيعرضه على القارئ في حالة مشنوعة ثم يعمم حكمه على مذاهب الاشتراكية بحذافيرها. فتارة يحكم بأنها ستؤدي بالأمم إلى أرذل الانحطاط حيث يقول: نعم لا حاجة لأن يكون الإنسان ضليعاً من علم النفس ولا من علم الاقتصاد لينبئ بأن العمل بمقتضى مبادئ الاشتراكية يفضي بالأمم إلى أرذل درك الانحطاط وأخزى صور الاستبداد.(12/92)
وتارة يصورها لك كما هي في أذهان الجهلاء الواهمين. فيسبق إلى ظنك أن هذه الاشتراكية صنف من الأفيون استورده أئمة الاشتراكية من بكين. فهي كما يقول الدكتور تمثل في ذهن النظري الفرنساوي صورة جنة تساوي الناس فيها فتمتعوا بالسعادة الكاملة في ظل الحكومة. وتمثل للعامل الألماني حانة طبق دخانها وطفق رجال الحكومة يقدمون لكل قادم أطباقاً من لحم الخنزير والكرنب المملح ودناناً من الجعة الخ.
وأما والله لو كانت هذه هي كل الاشتراكية لما عز على الدكتور علاجها فما هو إلا حمل من النشادر يحتسبه على نفقة أحد المرابين أهل الخير - والمرابون كلهم يشفقون على الناس من سكر الاشتراكية_ثم يسعطه أولئك المساكين فيفيقون من ذلك الخدر العميق_ولكن هذه الأحلام ليست الأشق الاشتراكية الذي قد يلوح لبعض السذج من العامة ويبقى منها بعد ذلك مبادئها العملية وقواعدها وهي للأسف لا تدحض بالسفسطة ولا تنقض بالتعوذ والحوقلة لأنها مذهب مست إليه الحاجة وشعر به الناس قبل أن يعلنه الفلاسفة وأهل النظر. ولا سيما إذا كان بطلان مذهب الاشتراكية سر الدنيا لا يعرفه إلا علماء النفس الواقفون على أحوال الحياة وكانت الأدلة التي تقنع به لا تأتي من طريق العقل.
الاشتراكية التي يراها الدكتور آفة الأمم ومباءة الفناء والاضمحلال هي رجاء الإنسانية ومعقد آمالها في التعمير والبقاء.
ليست اشتراكية اليوم أسطورة من الأساطير. ولا هي وعد خيالي يبشر الناس بالتعادل في الأقدار والتشاكل في المنازل والأرزاق. كلا فليست المساواة بين الناس من همها ولكنها إنما تدعو إلى المساواة بين الأجر والعمل وتطلب أن يعطى كل عامل ما يستحقه بعمله، وأن ينتفع المجموع بأكبر ما يمكن الانتفاع به من قوى الأفراد.
إن كانت الدنيا قد حم أجلها وكارب يومها لأن جائعاً يريد أن يشبع، ومنهوكاً يتمنى أن يستريح، ومظلوماً يود لو ينتصف، فلشد ما هزلت هذه الدنيا ونحف مزاجها بعد أن احتملت في ماضي العصور طغيان الجبابرة وبطر النبلاء، ووطأة الدعاة والدجالين.
ومن العجيب أن الدكتور لا يستقبح من أنظمتنا الحاضرة شيئاً إلا كان دواؤه في الاشتراكية. فإذا أراد استنباط الدواء من غير هذا المذهب وقع في التضارب والحيرة.
فاقرأ رأيه وهو يصف الدواء لنهوض الأمم المائلة إلى السقوط ويحيلها إلى النظام الجندي(12/93)
يقول فأهم الشروط التي تلزم لنهوض الأمم المائلة إلى السقوط تعميم نظام الجندية وجعله قاسياً جداً وأن تكون الأمة على الدوام مهددة بحروب طاحنة.
يريد الدكتور ليتخذ من نظام الجندية جبارة يشد بها عظام تلك الأمم التي رض الزمن عزائمها وكسر أعضاد همتها. وهو يعتقد أن الجندية سوق ترجع للرجل المتحضر رجولته واستقلاله وتشفيه من مرض الاشتراكية التي هي فناء الفرد في الدولة والتي تفضي بالأمة إلى أخس درجات الاسترقاق وتقتل في نفوس من خضعوا لحكمها كل همة وكل استقلال. يقول المؤلف قوله هذا على أن الناس يعلمون والمؤلف لا يجهل أن الرجل أضيع ما يكون استقلاله في الجندية، وأن الجندي في الجيش ليس إلا آلة تتحرك بإشارة من القائد وليس لها أن تعرف إلى أين هي مسخرة ولا في أي غرض يسخرونها. فإن كان في الجندية شيء من الخشونة فليس كل خشونة رجولة واستقلالا.
قال الدكتور في الفصل الرابع من الباب الأول: أشار توكفيل إلى تدرج الفروق الذي نبحث فيه بين طبقات الأمم في زمن لم تبلغ الصناعة فيه من الارتقاء مبلغها في الوقت الحاضر فقال كلما وسع الناس في تطبيق قانون توزيع العمل ضعفت قوة العامل وحد عقله وزادت تابعيته لغيره. فالصناعة تتقدم والصانع يتأخر والفرق ينمو كل يوم بين العامل ورئيسه.
وهي ملاحظة صادقة من توكفيل. فأن النظام الاقتصادي الحاضر قد أصار العامل قوة آلية وسلبه كل وسيلة إلى استخدام ذكائه وحذقه. فبعد أن كان العامل يصنع الأداة وحده فيفرغ ذكاءه في تجويدها ويتفنن في تكميلها وتحسينها، إذا هو الآن يتناول الجزء الصغير من تلك الأداة فيصنعه بلا روية، ويجيء المهندس أو رئس الصناع فيؤلف من تلك الأجزاء تلك الأداة على الوجه الذي رسمه فإذا خرج الصانع من المعمل لم ينتفع بصنعته وعجز عن العمل على انفراد ففقد مزية الاستقلال.
هذا النظام الاقتصادي المودي بالمواهب، المعطل للعقول، هو النظام الذي تثور عليه الاشتراكية. فما قامت الاشتراكية إلا لترقي مدارك العامل وترفع عنه حيف صاحب المعمل، وتجعله إنساناً ذا رغبة في عمله وغيرة عليه، وليس كما هو الآن آلة تدير آلة. فإن كان الدكتور يفتش عن الاستقلال فلا يبحث عنه في ثكنات الجنود ولكن ينشده في مبادئ الاشتراكية.(12/94)
وليست الاشتراكية سبباً في هذا الاضمحلال الذي يعتور الجيل الحالي من جوانبه الرئيسية. ولا هي من أعراض ذلك الداء التي لا تتخلف عنه. ولكنها حال تلازمه في بعض الأحيان وتظهر معه كما تظهر رغبة النجاة في الغريق عند الغرق.
فما هي من مصطنعات هذا الجيل ولكنها قديمة وجدت في كل مكان يحرم فيه العامل ويغنم العاطل. إلا أن هذا العصر قد ترقى في فهمها وتوسع في تطبيقها تبعاً للرقي الشامل لكل مرافق الحياة.
كانت الأمم الغازية تفتتح البلاد فيستأثر قواد الجيش الفاتح وجنوده بأطيب الأرزاق ويميزون أنفسهم عن سائر الأمة بمزايا يحرسونها بالقوة ويذودون عنا بالسلاح. ثم تؤل هذه المزايا بالوراثة إلى أعقابهم فتصير حقوقاً ثابتة. ويجنح هؤلاء الأعقاب إلى الدعة والكسل جيلاً بعد جيل فيجنون ثمرة ما لا يزرعون، ويجشمون غيرهم مشقة السعي وهم نائمون. وتفسدهم البطالة فيتمادون في اللهو والخلاعة ويتهالكون على المجون واللذة. ولا يزالون ذلك دأبهم حتى يضجر الناس منهم ويحنقوا عليهم، فتنقض عليهم في هذه الآونة جارة ترقب غفلتهم. فلا تصادف فيهم الأسراة لاهين ورعة ساخطين.
كذلك ثار أرقاء الرومان على سادتهم، وكذلك ثار الفرنسويون على نبلائهم فقال المؤرخون عن الأولى عبيد تمردوا، وقالوا عن الثانية سوقة عربدوا - وما هي إلا الاشتراكية تبدو وتخفى في تاريخ الناس من حين إلى حين _.
لسنا نحن في عصر يتحكم فيه سادة على عبيد، أو يستبد فيه شرفاء على سوقة. ولكن المسألة ظهرت في طور جديد. ظهرت بين أصحاب الأموال وطوائف العمال.
أخرج العلم تلك الآلات الضخمة، فأصبح كل صاحب معمل يتمتع بتعب الألوف من الصناع الذين يستخدمهم في معمله. فكان التعب والحرمان من نصيب فريق والراحة والربح من نصيب الفريق الأقل. فتجددت الشكوى القديمة. وعادت الاشتراكية في هذا الثوب العصري. وقد عادت مرافقة لعهد الاضمحلال أيضاً. ولكنها ستكون في هذه المرة أطول منه عمراً.
لأننا اليوم في مأمن من غارات القرون الأولى. ولأن العلم والنظام قد أصبحا ملكاً للإنسانية عامة وليسا من خواص أمة يذهبان بذهابها.(12/95)
وإذا صح رأي نورد في كتابه التأخر والاضمحلال فهذا الضعف الذي استولى على الجيل الحاضر أثر من أثار النظام الاقتصادي فلقد أفرط الناس في إجهاد أبدانهم إفراطاً حط من قواهم وأتلف أعصابهم. وهم كلما أحسو بالضعف انكبوا على المنبهات من خمر وحشيش وتبغ وقهوة إلى أشباه ذلك فزادتهم ضعفاً على ضعف. فلو أن ساعات العمل أنقصت قليلاً وزيدت الأجور زيادة تمكن العامل من تعويض خسارته اليومية بالطعام وأسباب الراحة، لكانت الاشتراكية قد أنقذت الجيل القادم من غوائل هذا الاضمحلال. وبهذا الرأي - أي رأي نوردو_يسهل تعليل قول الدكتور في ختام الفصل الأول من الباب الثاني إذ يقول فالأمم تموت متى ضعفت صفات خلقها التي هي نسيج روحها. وضعف هذه الصفات يكون على قدر حظ الأمة من الحضارة والذكاء إذ لا تخفى علاقة بعض أنواع الضعف العصبي بالذكاء.
قال عبد الله بن معاوية ما رأيت تبديراً قط إلا وإلا جنبه حق مضيع وغريب أن يهتدي كاتب من كتاب القرن الثاني الهجري إلى هذه الحكمة الجامعة. ولو شاء زعيم من زعماء الاشتراكية اليوم أن يتخذ لمذهبه شعاراً لما زاد على تلك الحكمة حرفاً. فالاشتراكية تقوم اليوم لتسترد ذلك الحق المضيع ولا مطمع لها في العدوان على إنسان.
يتذمر الدكتور لوبون تارة من انحطاط الخلق العام وفقدان أفراد الأمة ملكة ضبط نفوسهم وانصرافهم عن المرافق العامة إلى حب الذات ويأسف حيناً لتلك الحقائق القاسية التي جلبت على أهل العقول الصغيرة فوضى الأفكار التي يمتاز بها المرء في هذا الزمان. وغيرت تلك الشكوك أطوار الشبيبة المشتغلة بالآداب والفنون. فغرست فيها جموداً مشوباً بالكآبة وذلك أفقدها الإرادة. ونزع منها القدرة على الاهتمام بأي أمر. وجعلها تعبد المنافع الذاتية الوقتية دون سواها.
وقد تكلم ماكس نوردو في كتابه المتقدم عن هذا الخلق الذي دعاه الدكتور لوبون عبادة المنافع الذاتية. ومن رأيه أنه ناشئ عن أمراض الاضمحلال التي ألمعنا إليها وأنه شعبة من جنون الأنانية ونقول أن حب الذات ينشأ عن ضعف حاسة الواجب وهو مرض من الأمراض العقلية. ولكن يزيده إعضالاً تأكد الناس من عدم التوازن بين حقوق العاملين وواجباتهم، فيرون كيف يثري الوسيط ويعدم التاجر، وكيف يكرم القواد الوضيع ويهان(12/96)
العامل الأمين، وكيف أن الكسب المباح يحسب بالدانق والسحتوت وأن ربح الاحتيال يعد بالدنانير والبدر، ولقد تدلينا في هذه الأيام إلى هذه الوهدة، وتلك مغبتها التي نعانيها.
لا أمل في الخلاص من هذه السوآت إلا إذا ساد اعتقاد الناس بتضامن الإنسانية. وأيقن كل فرد أن على حقوقه حارساً من أمته، وأنه موضع عناية الإنسانية جمعاء. وبذلك تثوب الخواطر ويرعى الناس حرمة الواجب. وإلا فلو ظن الإنسان أنه ليس ثمة ضمير عام يؤنب الناس أجمعين على ما يحل به من الغبن والأذى. وأنه لا حق له في الرحمة أينما يمم وجهه. فقد مات ضميره وغلبه الحرص فتعلق بالجشع ونبذ المبادئ والفضائل إلا ما وافق منها هواه وفشت فوضى الأخلاق فارتفعت الحدود واندثرت معالم الشرائع إلا في الدفاتر والأوراق.
يقول الدكتور لوبون: اليوم تميل الأمم القديمة إلى السقوط فهي تهتز من الوهن ونظاماتها تتداعى واحداً أثر واحد وعلة ذلك فقدانها كل يوم شيئاً من أيمانها الذي قامت عليه حتى الآن فإذا فقدته كله قامت حتماً مقامه حضارة جديدة مؤسسة على معتقد جديد.
نعم فلا بد للأمم من معتقد جديد. أفتدري ما هو هذا المعتقد؟؟ هو وحدة الإخاء أو هو التضامن الإنساني أو هو الاشتراكية.
ازرع في قلب الإنسان ثقته بعطف الإنسانية تكبره في عين نفسه وترفع من قلبه ذلة المخلوق الذي نبذته السماء ولم تعبأ به الطبيعة إلا كما تعبأ بأحقر المخلوقات.
وينبغي أن يعتقد الإنسان أنه يعمل للإنسانية لا ابتغاء المثوبة أو خوفاً من العقوبة ولكن مسوقاً بمحرض من غرائزه التي لا طاقة له بالخروج عنها. فإذا عمت هذه العقيدة رضي كل إنسان بحظه ولم يطلب الجزاء على عاطفته النوعية إلا في إرضاء تلك العاطفة ومطاوعتها فيما توحي به.
للضمير العام لعهدنا هذا حرم في كل أمة لا يحتمي فيه إلا أبناء تلك الأمة. وقد أشار الدكتور إلى ذلك في قوله أنك لا تجد بين ساسة الإنجليز واجداً لا يرى جواز استعمال أمور في جانب أمة أجنبية لو أتاها في بلاده لأنزلت به السخط من كل ناحية والحقيقة أن ذلك دأب ساسة الأمم كلها وليس الإنكليز وحدهم. ولكن ذلك الحرم تمتد حدوده يوماً بعد يوم حتى يشمل في زمن من الأزمان كل أمة جديرة بالدخول في لحمة تلك الأخوة العامة.(12/97)
وكذلك كانت عهود الأخلاق في مبدأ أمرها غير مرعية إلا بين أبناء القبيلة. قال دارون في كتاب أصل الإنسان ولكنها - أي أصول الأخلاق_لم تكن معتبرة إلا فيما بين أبناء كل قبيلة على حدتها وما كانوا يعدون مخالفتها في حق أبناء القبائل الغريبة جريمة مستنكرة فما زالت هذه الأصول تنداح من نطاق إلى نطاق أوسع منه حتى شملت بناء الجنس الواحد ثم شملت أبناء كل دين على تباين أجناسهم ثم أصبح الناس يسلمون بها نظرياً في حق نوع الإنسان بأسره ولكنهم يخلقونها عملاً. وهم سائرون في طريق الوحدة. والطبيعة تقوم بعملها لهذه الغاية فتقرض الشعوب الذابلة ولا تذر منها إلا ما هو أهل للرعاية والبقاء. تمهيداً لوحدة الإنسانية وشمول أحكام الضمير العام.
هذه هي العقيدة الجديدة فإذا ما سكن الناس إليها واشتاعوا عليها كانت مناطاً لا مالهم وتأسية لآلامهم. وكان لهم فيها نعيم وعزاء وفي الحيدة عنها عذاب وشقاء.
لا يفوتنا بعد أن نقدنا ما خلنا فيه شيئاً من الغلو أن نقول أن في كتاب سر تطور الأمم من الآراء الصائبة والأفكار القويمة ما هو حقيق بإنعام النظر وطول التدبر. وأن المؤلف لو أخلاه من الأحكام والنتائج وقصره على الملاحظات والآراء لما كان فيه مأخذ ينتقد. فأن العلم والفن والأدب لم تجمع حتى الساعة الأدلة والمقدمات التي تكفي لأصدر تلك الأحكام المبرمة والنتائج المحتمة.
ومن تلك الملاحظات والآراء ما يهمنا نحن المصريين لأنه ينطبق على حالتنا تمام الانطباق.
فيظهر أننا لا نفهم بعد معنى الوطن حق الفهم. قال الدكتور كان وجود الروح أولاً في العائلة ثم انتشر منها في القرية ثم في المدينة ثم في الإقليم ولم يعم جميع السكان إلا في أزمان قريبة منا. هنالك وجدت فكرة الوطن بالمعنى المفهوم لنا في هذا العصر لأنها لا تصير واضحة إلا إذا تم تكوين الروح ولهذا لم تترق فكرة الوطن عند الإغريق إلى أبعد من فكرة المدينة ودامت مدائنهم في حرب مستمرة لأن كل واحدة منها كانت أجنبية في الواقع عن البقية. كذلك لم تعرف الهند منذ ألفي عام غير وحدة القرية فعاشت من ذلك الحين تحت حكم الأجنبي تقوم فيها ممالكه بسهولة كما تدول بسهولة.
وذلك شبيه بمعنى الوطنية في مصر فإنها لا تعرف غير وحدة القرية وما أظن أن أمة غير(12/98)
الأمة المصرية تقام فيها المناحات لسفر قريب أو صديق من مديرية إلى مديرية تجاورها. ويقسم فيها الرجل بغربته وهو في عاصمة وطنه. ولا أحسب أن لهذه الحالة دواء أنجع من نشر الكتابة والقراءة وذيوع الأدب المصري بين قراء المصريين في كل قرية ومدينة.
المصريون لا يكاد يوجد بينهم شيء من وحدة المشاعر ويكاد يكون أبناء النيل اثني عشر مليون فرد وليس هناك أمة. ولا ريب أن ذلك ناجم عن اختلاط العناصر وتوالي الأمم الفاتحة كما أنه يعزي إلى سوء فهم الوطنية الذي قدمنا ذكره. ومن الحكمة استحياء أشد العصبيات أخذاً بقلوب هذه الشراذم المبددة. ولا فرق بين أن تكون عصبية مصلحة أو عصبية تاريخية أو عصبية وطنية مادامت تفضي إلى لم شعثهم وتوجيه نفوسهم إلى وجهة واحدة.
ومن عيوب الأمة المصرية فقدان التخصص وشدة التقارب بين الصنائع والصناع وهو نقص بين فأن مستوى العقل - كما يقول الدكتور يكاد يكون واحداً عند جميع أفراد الأمم الدنيا ذكوراً وإناثاً. . . . . . وأما عند الأمم الراقية فالقاعدة هي اختلاف الأفراد وكذا النوع اختلافاً كبيراً.
ولا نرى إلا أن للخصوبة دخلاً في هذا النقص، فإن الزراعة لا تبعث الحاجة إلى المنافسة كما تبعثها الصناعة. والمنافسة هي باب التفاوت والتنوع في الحرف والمصنوعات. وستضطر الأمة إلى الصناعة لأن الزراعة لا تقوم في هذه الأيام بمطالب الناس. ولقد أحجم أغنياء الأمة عن فتح باب المنافسة بإنشاء المصانع وتبادل النفع مع الأمة لأنهم غرباء عن البلد. وظل أكثرهم إلى زمن غير بعيد ينظر إلى القطر المصري نظرة المهاجر إلى دار هجرته، ويعامل المصريين معاملة الأجانب عنه، وكان أهل الثروة من أبناء النيل في الجيل الماضي أقل شأناً من أن يستقلوا بعمل وأجهل من أن يقدموا على غير الزراعة. ولكنا أصبحنا نرى سراة مصر وقد استوطنوها وارسخوا أقدامهم فيها وارتبطت مصلحتهم بمصلحتها فلا يبعد أن يكون شأنهم في المستقبل غير شأنهم في الماضي ولا سيما إذا عمت الوطنية سكان مصر على السواء وعد من أبنائها كل من ينفعها وينتفع فيها من الوطنيين والنزلاء فأن مصر بحاجة إلى تآلف الأغراض ألفة تشبه ما يعوزها من وحدة المشاعر.
ولا ننس الأخلاق فقد لحقتنا كل أضرار المدنية الغربية ولما نصل إلى شيء من مزاياها.(12/99)
ولا جرم فقد سهل على حواسنا أن تدرك ملذاتها فانغمست فيها. وقصرت عقولنا عن أدراك معانيها فحيل بيننا وبينها ولو أنك حملت زنجياً حقيراً إلى باريس لتمتع بكل رذائلها في اسبوه واحد ولكنه لن يتمتع بمعارفها وآدابها لأن الفرق في الحواس قريب بين أرفع الناس وأحطهم ولكنه بعيد جداً في العقول والأذهان.
فنحن اليوم نعب من إباحية المدنية الأوربية ومنكراتها، ولا نذوق قطرة من عظمتها وطيباتها وما كنا لننتظر أن نجني ثمرة المدنية بغير شوكها. فإن المدنية شباب الإنسانية. وفي سن الشباب تتولد الشهوات كما تتفتح القوى وتنمو المدارك. ليست طهارة الفطرة إلا كطهارة الطفولة التي لا تأثم لأنها فارغة من الشهوات كما أنها فارغة من القوى والمدارك. ولكن الرزيئة أن نضيع سلامة الفطرة ولا نبلغ رقى المدنية. وذلك ما صنعناه.
ولقد أصاب الدكتور لوبون كل الإصابة إذ يقول: الخلق لا العقل هو الذي تقوم عليه الجمعيات البشرية وتؤسس الديانات وتبني الممالك وهو الذي يجعل الأمم تحس وتعمل وما كان كسب الأمم كثيراً من شحذ الأذهان والتعمق في التفكير.
أي والله. فأن الإنسان بغرائزه. وأن الحياة بزوبرها لا شيء إذ لمحناها من ناحية العقل ولكنها من ناحية الغرائز كل شيء، بل لا شيء سواها وليست الفضيلة ما سلم به الإنسان بتعليل عقله. ولكن الفضيلة ما نشأ عليه وتضمنه طبعه وزجلته إليه فطرته.
فلتكن عنايتنا بالعلم بعض عنايتنا بالأخلاق. وهذا عمل تتكفل به المدارس والمحاكم والكتب. ومما يهون الأمر أن الإصابة محصورة في طائفة قليلة من ناشئة المدن. فإذا وقيت الأمة من عدواها كان الأمل في الجيل القادم وثيقاً.
ولا ننكر أن الأمر يلزمه شيء غير يسير من التضحية والمفاداة. ولا بد له من قادة من عظماء الأخلاق والنفوس يقفون في وجه أهل الفساد وأنهم على التفافهم لتسرح فيهم كلمة الحق كما تسرح شرارة النار في الفاف الأجمة اليابسة.
يقول الدكتور لوبون إن الفارق بين الأوربيين وبين الشرقيين هو اختصاص أولئك بفريق راق من العظماء دون هؤلاء.
كلا. بل لكل نصيبه من العظماء. فللغرب عظماء العقول وللشرق عظماء النفوس. ومن للشرق اليوم بعظيم من أولئك العظماء الذين كان يجود بهم أحياناً. فيقوّم من أوده. ويعزر(12/100)
من أيده. ويأخذ في طريق الحياة بيده؟؟(12/101)
أثر القوانين الطبيعية
في نظام الجماعة وأخلاق الفرد
إذا بحثنا في أمر العوامل الطبيعية أيها أشد تأثير في نظام الجماعة وأخلاق الفرد وجدنا أن هذه هي الجو والغذاء والتربة والمناظر الطبيعية. ولنبدأ بالثلاثة الأول ثم نتكلم بعد ذلك عن الرابع فنقول.
أما الجو والطعام والتربة فبعضها مرتب على بعض أي أن هنالك سبباً قريباً وصلة متينة بين جو إقليم وبين غذاءه النابت به كما أن ذلك الغذاء يتأثر بالتربة التي تنبته وبارتفاع الأرض أو بانخفاضها وبحالة الهواء. وقصاري القول بجميع تلك الأحوال التي يطلق على مجموعها لفظة الجغرافية الطبيعية.
وإذ كانت الصلة بين هذه العوامل الثلاثة الطبيعية على ما ذكرنا من القرب والمتانة - فهي تعمل معاً وتؤثر مشتركات_كان الأجمل بنا أن لا ننظر فيها على انفراد بل ننظر إلى النتائج الناشئة من عملها المشترك وبذلك يكون نظرنا في هذا الموضوع أسمى وأشمل باجتنابنا الإشكال واللبس الناشئ من تفريقنا بين أشياء هي بطبيعتها مجتمعة لا تنفصل. وبذلك يزداد لنا وضوحاً وبياناً مبلغ ما كان للقوى الكونية والعوامل الطبيعية في أقدم العصور من الأثر العظيم في حياة الإنسان.
فمن أهم وأقدم النتائج التي يحدثها الجو اجتماع الثروة والطعام والتربة في أمة من الأمم فإن اجتماع الثروة وإن كان بطبيعة الحال يتبع رقي العلوم ولكنه من الثابت الذي لا شك فيه أنه (اجتماع الثروة) في مبدأ تكوين الأمم يكون سابقاً لنشأة العلوم. وما دام كل فرد من أفراد الشعب مشغولاً بتحصيل المواد اللازمة لقوامه واستمراره فلن يوجد فراغ ولا ميل للمطالب السامية من الفنون والمعارف. فمثل هذه الظروف غير خليقة أن تحدث علماً أو تنتج فناً. بل كل ما يسطاع إذ ذاك هو محاولة اقتصاد العمل بفضل تلك الآلات الخشنة الناقصة التي لن يعدم القدرة على اختراعها أشد الأمم همجية وأكثرهم توحشاً.
في مثل هذه الحالة الاجتماعية يكون جمع الثروة أول خطوة لأنه لا يكون الفراغ بلا ثروة ولا يكون العلم بلا فراغ. ثم ما دام مقدار المستهلك من الزاد في أمة من الأمم مساوياً لمقدار ما يملكونه فلا يكون هنالك ذخيرة وعلى هذا لا يكون للأمة رأس مال وإذ كان ذلك(12/102)
كذلك فلن يكون هنالك مادة تعيش منها الفئة التي لا تشتغل. فأما إذا زاد الحاصل على المستهلك تكون من ذلك فضل لا يزال - حسب المعروف من مبادئ الاقتصاد يزداد وينمو حتى يصبح ذخيرة يستمد منها_من طريق قريب أو بعيد كل أمريء لم يخلق الثروة التي يعيش منها. بهذه الوسيلة وفي هذه الحالة يتسنى وجود فئة علمية يمكنهم التفرغ لتلك المسائل التي كان يحجزهم عنها في أول أمرهم شدة الاشتغال بإحراز لوازم المعيشة.
من المعلوم أن في الأمة الجاهلة تكون سرعة جمع الثروة على حسب مالبلادهم من الخصائص الطبيعية، نحن لا ننكر أنه إذا فات هذا الدور الأول وجاء الدور الذي فيه تتمول الأمة يكون هناك أسباب أخرى لسرعة جمع الثروة. ولكن ما دام هذا الدور لم يبلغ فإن تقدم الأمة في سبيل الثروة يكون وقفاً على أمرين: أولهما ما يجري عليه العمل من النشاط والاطراد، ثانيهما جزاء الطبيعة من خيراتها على هذا العمل. على أن هذين الأمرين هما بعد نتيجتان من نتائج القوى الكونية والعوامل الطبيعية. فأما جزاء الطبيعة من خيراتها على عمل الأمة فذاك رهن بخصوبة التربة وتلك رهن كذلك بما تحوي من المواد الكيماوية وبما تنال من ريّ الجداول أو سقياً الغيوث وبمقدار حرارة الهواء ورطوبته. وأما ما يجري عليه العمل من النشاط والاطراد فذاك رهن بالحالة الجوّية. وهذا باد في صورتين. الأولى - وهي أوضحهما_أنه إذا كان الحر شديداً فإنه يسلب رغبة الناس في العمل ويقلل كفاءتهم له على حين لو يرزقون جوّاً سجسجاً وهواءً معتدلاً لأبدوا رغبة وكفاءة. الثانية - وهي أقلهما وضوحاً وإن لم تكن أقلهما أهمية_هي أن تأثير الجو ليس قاصراً على تنشيط العامل أو تثبيطه بل يؤثر كذلك من حيث إكسابه العامل أو حرمانه إياه فضيلة الثبات والمواظبة. وهذا هو السبب في أنك لا تجد من أمم الشمال من أوتي من المضاء والمثابرة والجدّ ما قد امتاز به سكان البقاع المعتدلة. وسبب ذلك بين إذا تذكرنا أن قسوة البرد ونقصان الضوء في أقاصي البلدان الشمالية مما لا يزال يعوق أهل تلك الجهات عن المضاء في أعمالهم والاستمرار في أشغالهم. نتيجة ذلك أنه لما كان هذان العائقان يضطران العامل إلى الانقطاع عن عمله فلا جرم أن يصبح هذا الانقطاع لكثرة التكرار عادة ثم يصبح بحكم العادة طبيعة. ولا جرم فلقد انقطع نظام أعمالهم وانبت سلك أشغالهم ففقدوا ذلك المضاء الذي هو من مضمون ثمرات الشغل الدائم والعمل المستمر.(12/103)
ومن ثم ينشأ في الأمة طبيعة قلق وملل يبرئ الله منها أهل العمل المستمر الدائم. وهذا مرض قوي حسبك برهاناً على قوته أنه يظهر في البلدين المتفاوتي الأحوال المتناقضي الطبائع. فإنه ليس أعظم من الفرق بين السويد والنرويج من وجهة وبين اسبانيا والبرتغال من وجهة أخرى حكومة وشريعة وديناً وآداباً. ولكن هذه الأربع متحدة تمام الاتحاد في نقطة واحدة. وذلك أن الزراعة فيها جميعاً متقطعة غير متصلة. فالحرّ والجفاف في اسبانيا والبرتغال والبرد وقصر الأيام في السويد والنرويج تعوق العمل وتوقف سير الشغل. فمن ثم تري أن أهل هذه البلاد الأربعة على اختلافها في كثير من الأحوال والشؤون قد اتحدت في هذا الخلق أعني نوعاً من الملل والقلق وقلة الثبات والخور مما هو جِدُّ منافٍ لما لأهل البلاد الخالية من عوائق العمل من صفات الحزم والعزم والمضاء والمواظبة.
ونحن إذا أجلنا الطرف في تاريخ الأمم القديمة لم نجد أمة أحرزت بنفسها حضارة وتمديناً إلا وكان ذلك بفضل هذين السببين (الهواء والتربة) أو أحدهما. فالمدنية في أسيا ما زالت قاصرة على تلك البقعة العظيمة التي ضمن خصبها لأبن أدم هذه الثروة التي لولاها لا تسرع الأمة قط في سبيل العلم وهذه البقعة العظيمة تمتد ما بين ساحل الصين الجنوبية شرقاً وساحل الأناضول وفلسطين غرباً. وفي شمال هذه المنطقة الفسيحة أرض مستطيلة جرداء مملحة لم تبرح موطن قوم همج رحالة ما زالوا من جدب أرضيهم في فقر وفاقة وقد رأيناهم لا تفارقهم الهمجية ما برحوا بهذه البقعة. فأوضح الأدلة على أنه لا علة لهذه الهمجية إلا الأسباب الطبيعية أن هؤلاء القوم بعينهم وهم أمم المغول والتتر - أسسوا في أوقات مختلفة دولاً عظيمة في الصين والهند وفارس بلغوا بها منزلة في الحضارة لا تقصر عن أسمى ما أدركته أفخم الدول القديمة. لأن بلاد الهند أرض حباها الله بكل ما يقر الأعين وتشتهيه الأنفس فجر أرضها عيوناً وسربلها حدائق وجنات وملأ تربها زاداً وقوتاً، وزبرجداً وياقوتاً، وشحن أنهارها سمكاً وحيتاناً، وبحارها دراً ومرجاناً، وأسكن آجامها ضروب الحيوان ذات الفراء الملس المرقوشة. وصنوف الطير ذات الأجنحة الموشية المنقوشة. في هذه الأرض الطيبة الكريمة كان أول ما نال أولئك الهمج شيئاً من الرقي والحضارة وأول ما أحدثوا علوماً وآداباً وطنية. وهي أمور لم يطيقوا إدراكها في أوطانهم ومساقط رؤوسهم وكذلك إذا نظرت إلى العرب ترى أنهم لم يكونوا في أوطانهم إلا قوماً(12/104)
أجلافاً جفاة همجاً لشدة أمحال أرضهم، وقد قلنا أن الجهل ثمرة الأمحال والفقر. ولكنهم فتحوا فارس في القرن السابع. وفي الثامن فتحوا أكرم بقاع اسبانيا. وفتحوا في التاسع أرض السند ثم أوغلوا في بلاد الهند حتى استولوا على معظمها ثم لم تكد العرب تطمئن في ولاياتها الجديدة حتى حدث تغير عظيم في أخلاقهم فبعد أن لم يكونوا إلا همجاً جوالة في أوطانهم أمكنهم لأول مرة أن يجمعوا ثروة وبالثروة استطاعوا لأول مرة أن يخطوا خطوة في سبيل المدنية ويضربوا بسهم في جميع فنون الرقي والحضارة وهم في بحيث جزيرة العرب لم يكونوا إلا رعاة رحالة فأصبحوا في مساكنهم الجديدة بناة دول عظام، شادوا المدائن والمدارس وجمعوا المكاتب ولا تزال آثار سلطانهم باقية وآيات عزهم بادية بالبلاد التي كانت حواضر أملاكهم وقواعد ممالكهم قرطبة وغرناطة وبغداد ودلهي ومثل تلك الأراضي الجديدة المستطيلة الممتدة - في شمال الأراضي الخصبة_من شرقي آسيا إلى غربها. أرض أخرى تماثلها جدباً وامحالاً ومنطقة تمتد من شرق شمال إفريقيا إلى أقصى غربها عند ساحل الأطلانطيقي_ويفصلها عن بلاد العرب مضيق مياه البحر الأحمر. فلأن هذه الأرض مثل بلاد العرب جدباً ومحلاً فأهلها كأهل بلاد العرب ما زالوا بربراً همجاً لا علم عندهم لغير سبب سوى أنه لا ثراء عندهم. بيد أن في شرق هذه الصحراء يتدفق نهر من أكرم أنهار الدنيا. قد كسا تلك البقعة طبقة كثيفة من الثرى الجعد تجزي على العمل فيها أكرم الجزاء. وتعطي على الكد بها أجزل العطاء. فكانت نتيجة ذلك أن جمعت الثروة لأهل هذا البلد وجاء على أثر ذلك العلم وأصبحت هذه البقعة الصغيرة مقر المدنية المصرية القديمة. وهذه مدنية كانت على كثرة ما قيل فيها باطلاً من المبالغات تدهش المتأمل بشدة مناقضتها لما كان يشمل الأمم الإفريقية الأخرى من البربرية والتوحش مما قد غمرها غمراً وسد دونها كل منفذ من ظلمات الجهل إلى نور العرفان وأخذ عليها كل مخرج من بيئة الانحطاط إلى ميدان الرقي.
فمن هذه الأمثلة نرى أن من السببين الأوليين في الرقي أعني خصوبة التربة واعتدال الجو كانت خصوبة التربة هي العامل الأكبر في مدنية الشعوب القديمة. بينما ترى أن العامل الأكبر في المدنية الحديثة أعني المدنية الأوربية هو السبب الآخر أي اعتدال الجو. وتأثير هذا هو كما ذكرنا تأثير في كيان العامل وتركيب جسده وعقله بمنحه الكفاءة التامة(12/105)
للعمل مشفوعة بفضائل المثابرة والنشاط والجد. فجاء الفرق بين الحضارتين القديمة والحديثة مطابق للفرق بين سببيهما أعني بين خصوبة التربة واعتدال الجو. فإنه وإن كان أول أسباب كل مدنية هو اجتماع الثروة فإن كل ما يقع بعد ذلك للأمة مترتب من عدة وجوه على الطريق التي جاءت الثروة منها. ففي آسيا وإفريقيا جاءت الثروة من طريق تربة خصيبة تدر على العامل بالكثير الطيب من الخيرات. وجاءت الثروة في أوربا من طريق جو معدل يزيد كفاءة العامل فيمكنه من أن يبلغ من إجادة العمل وإتقانه غاية ينكل عنها ويحسر دونها من أوتي نعمة الخصب ولكن حرم نعمة الجو المعتدل. في الحالة الأولى ترى الأمر متوقفاً على علاقة التربة بالريع أو بعبارة على تأثير بعض أجزاء الطبيعة في بعض آخر. والأمر في الحالة الثانية متوقف على علاقة الجو بالعامل أعني على تأثير الطبيعة لا في نفسها بل في الإنسان. ولما كانت أولى هاتين العلاقتين أعني علاقة التربة بالريع أعني تأثير بعض أجزاء الطبيعة في بعض هي أبسط العلاقتين كانت لذلك أقلهما تعرضاً للعائقات والموانع وعلى هذا كانت أول الأمرين ظهوراً في الدنيا. ومن ثم كان لأخصب البقاع الآسيوية والإفريقية السبق والتقدم في ميدان التمدين والحضارة. ولكن مدنيتهم وإن كانت الأسبق الأقدم. فإنها للبعيدة من أن تكون الأفضل الأدوم. فإن الرقي الثابت ذا الأثر الدائم الفعال لا يكون بخصوبة الأرض بل بهمة الإنسان وجده ونشاطه. لذلك ترى أن المدنية الأوربية التي كان أكبر عواملها في طورها الأول جودة الهواء قد بلغت مبلغاً لم تسم إليه همم تلك المدنيات التي كان الخصب أكبر عواملها. وما ذلك إلا لأن القوى الطبيعية هي على ما يرى لها من العظمة محدودة ثابتة وعلى كل حال فليس عندنا أدنى دليل على أن تلك القوى قد زادت قط عن أصولها أو أنها ستزيد يوماً ما. بينا نجد القوى الإنسانية بناءً على المشاهدات والتجارب والمقارنات لا حد لها ولا غاية. ثم لا دليل يثبت لنا أنه سيكون لرقي العقل الآدمي غاية ينتهي إليها ويقف عندها. وبما أن ملكة النمو الذاتي هي مما خص به الآدمي وامتاز به عما نسميه الطبيعة فقد وضح لنا أن العامل الجوي ذلك الذي يؤتيه الثروة من طريق تنشيطه للكد وإنهاضه للجد هو أنفع له في مسيره نحو الكمال واعون له على بلوغ عليا الدرج والمراتب من العامل الأرضي ذلك الذي يمنحه الثروة لا من طريق استنهاضه وإرهاف حده ولكن بمجرد علاقة جمادية بين(12/106)
طبيعة الأرض التي يسكنها ومقدار أو قيمة ما تنتجه عفواً بلا عمل منه ولا نصب.
والآن ننتقل إلى مسألة أخرى ليست أقل أهمية مما سلف وهو توزيع الثروة بعد جمعها أو بعبارة أخرى ماذا يكون نصيب الطبقة العليا من الثروة وماذا يكون حظ الطبقة الدنيا. أما في الشعوب التي بلغت في الحضارة مبلغاً فذلك يترتب على عدة أمور دقيقة عويصة لا محل لها في هذه الصحائف وأما في الطور الأول من حضارة الأمة قبل أن تنشأ فيها المعضلات والمشكلات فتوزيع الثروة كجمعها يكون طبقاً لقوانين طبيعية. ثم هذه القوانين الطبيعية من القوة والسلطان بحيث قد قضت بالفقر المدقع وقيدت بسلاسل الفاقة السواد الأعظم من سكان أطيب بقاع الأرض فإذا أمكنا إثبات ذلك ظهر لنا مبلغ ما لهذه القوانين الطبيعية من الحضارة. لأنه ما دام قد ثبت لنا أن الثروة منبع من منابع السلطة فإن البحث في كيفية توزيع الثروة هو بمعنى البحث في كيفية توزيع السلطة فلا جرم أن يكون في ذلك البحث شرح وإيضاح لمنشأ تلك الفروق الاجتماعية والسياسية التي ما زال لها دخل عظيم في تاريخ كل أمة ذات مدنية. ولنذكر الآن ما هي تلك القوانين الطبيعية التي بناء عليها يكون توزيع الثروة بين الطبقتين العليا والدنيا أو طبقة العمال وطبقة المدبرين والساسة - الفئة العديدة والفئة القادرة.
بما أن الأجور هي أثمان العمل فمقدارها كثمن أي بضاعة يختلف باختلاف أحوال السوق. فإذا زاد عدد العمال عن الحاجة هبطت الأجور وإذا قلّ عدد العمال عن الحاجة ارتفعت الأجور. فإذا كان في بلد من مبلغ من الثروة ليقسم بين العمال وأرباب الأعمال فإن كل زيادة تنشأ في عدد العمال تقلل متوسط الأجر الذي يناله كل واحد منهم. فمسألة الأجور إذن هي مسألة تتعلق بعدد السكان. ونحن الآن نريد أن نعرف ما هي تلك الأسباب الطبيعية التي تحدث زيادة في سكان البلد فتسبب بذلك نقصان الأجور.
فأهم هذه الأسباب وأفعلها وأقواها وأكثرها انتشاراً هو أمر الغذاء. فإذا كان هناك بلدان متحدان في كل شيء إلا الغذاء - فالذي يكون الغذاء فيه رخيصاً وافراً يكون أملأ بازدياد السكان من الذي ترى الغذاء فيه أقل وأغلى. وبناء على ذلك ترى الأجور في البلد الأول أنقص منها في الثاني. فليس أمامنا الآن أهم من البحث في أمر القوانين الطبيعية لتي عليها تترتب الأغذية في البلاد المختلفة. وهذا لحسن الحظ مبحث قد أصبح بفضل ما وصلت(12/107)
إليه الكيمياء والفسيولوجيا في هذا العصر جديراً أن يوصلنا إلى أصدق النتائج وأحكمها.
الغذاء الذي يستهلكه الإنسان هو ذو أثرين - أثرين فقط_لازمين لحياته. وهما الغذاء يعطيه أولاً تلك الحرارة الحيوانية التي لولاها تعطلت وظائف الحياة ويعطيه خلاف ذلك بدل الذي لا يزال يفقده من مادة جسده. ولكل غرض من هذين غذاء مخصوص. فأما حرارة الأبدان فتصان بالمواد الخالية من الأزوت تلك التي تسمى اللاأزوتية وأما تعويض خسارة الأبدان فبالمواد الأزوتية التي نتغذاها يتحد مع ما نستنشقه من الأكسوجين فيتولد من اتحادهما ذلك الاحتراق الداخلي الذي تتجدد بواسطته االحرارة الحيوانية. أما في الحالة الثانية فإن قلة الألفة بين الأزوت والأكسوجين تحفظ الأغذية الأزوتية من الاحتراق فتتمكن بذلك من أن تعوّض البدن من مستهلكاته خيراً.
هذان هما صنفا الغذاء الأعظمان. فإذا بحثنا عن تلك العوامل التي تدبر العلاقة الكائنة بين هذين الغذائين وبين الإنسان وجدنا أن أعظم تلك العوامل هو الجو. فإن الإنسان إذا كان عائشاً ببلد حار فحفظ الحرارة في بدنه يكون أسهل عليه مما لو كان يسكن بقعة باردة فتقل إذن حاجته إلى الأغذية اللأزوتية التي ليس من شأنها إلا أنها تبقي حرارة البدن عند درجة مخصوصة وكذلك تراه أعني ساكن الأرض الحارة أقل حاجة إلى الأغذية الأزوتية لأنه مذ كان على العموم أقل تحريكاً لجسده من ساكن البقاع الباردة فهو أبطأ استهلاكاً لمادة جسده.
وبما أن سكان البلاد الحارة يستهلكون في حالهم العادية الطبيعية من الغذاء أقل مما يستهلكه سكان البلاد الباردة فينتج من ذلك أنه إذا تساوت في البلادين - الحارة والباردة_سائر الأحوال غير ذلك فإن زيادة السكان تكون في البلاد الحارة أسرع منها في الباردة. وأنه لا فرق بين أن تكون وفرة الغذاء في بلد ما ناشئة من كثرة الحاصلات وبين أن تكون ناشئة من قلة الاستهلاك. فإنه إذا كانت أمة من الأمم أقل استهلاكاً للغذاء فذلك ككونها أوفر نصيباً من ذلك الغذاء. لأن القليل في هذه الظروف يفعل فعل الكثير. وكذلك المقدار الغذائي بعينه يحدث من سرعة ازدياد السكان في الأرض الحارة ما ليس يحدثه في البقعة الباردة.
ومما يؤيد هذا القول الأخير أن الغذاء في البلاد الباردة أصعب منالاً منه في البلاد الحارة يبذل في سبيل الحصول عليه من الكد والعمل أكثر مما يبذل في البقاع الحارة وسأوجز القول في بيان ذلك الأمر متجنباً الجزيئات والتفاصيل إلا ما كان ضرورياً لفهم هذا المبحث(12/108)
اللاذ.
وقد قلنا أن للغذاء غرضين توليد الحرارة الحيوانية في الجسد والإعاضة بدل المستهلك من مادته. فالأول يحدث بدخول أكسوجين الهواء في الرئتين واتحاده أثناء مروره في الجهاز الحيوي بالكربون الذي نتعاطاه في أطعمتنا. وهذا الاتحاد بين الكربون وبين الأكسوجين لا بد أن يحدث مقداراً عظيماً من الحرارة وبهذه الواسطة نضمن للجسد الحرارة التي لا يبقى بدونها. واتحاد الكربون والأكسوجين لا يكون إلا على نسبة محدودة وهو قانون كيماوي يسري على سائر الاتحادات بين العناصر. فبناءً على ذلك لا يستقيم أمر البدن إلا إذا كان مقدار ما يؤكل من الغذاء الكربوني مناسباً لما يستنشق من الأكسوجين. ثم واجب أيضاً أن يزداد مقدار ما يتعاطى من المادتين إذا خفضت حرارة الجسم زيادة في برودة الهواء. ولما كان الهواء في الأرض الشديدة البرد جم الكثافة لذلك كان التنفس يدخل في الجوف من الأكسوجين أكثر مما يدخله في البلاد الحارة وكذلك لما كان البرد الشديد يستعجل التنفس فيزيد حركة الاستنشاق سرعة أصبح ذلك سبباً آخر لازدياد مقدار المستنشق من الأكسوجين في البلاد الباردة عنه في الحارة. ولذلك كان من الضروري في البلاد الباردة أن يكثر الغذاء الكربوني حتى تحفظ بين الأكسوجين والكربون النسبة التي ليس إلا عليها يتحدان ليحدثا تلك الحرارة الضرورية للحياة.
من هذه المبادئ الكيماوية والفسيولوجية نستنتج أن أكثر ما يكون البلد برودة أكثر ما يكون غذاؤه كربونية. وهذه النتيجة العلمية هي عين ما أثبتته التجارب العملية - أعني أنها عين الواقع وهي حكمة آلهية. عليها مدار إصلاح الكون. فترى أن أهل البقاع القطبية يستهلكون مقداراً عظيماً من زيت الحوت ودهنه. وهو غذاء إن يعطه أهل البقاع الحارة هلكوا لا محالة لذلك جعل الله لأهل البقاع الحارة الفاكهة والأرز والبقول والخضر. ولقد ثبت على الفحص الكيماوي أن في الأغذية القطبية وفرة من الكربون وفي أغذية البلاد الحارة وفرة من الأكسوجين وحسبي من التفاصيل التي أخشى أن لا تسر القارئ قولي جملة أن في الزيوت (الأغذية الكربونية) من الكربون ستة أمثال ما في الفواكه (الأغذية الأكسوجية) فأما الأكسوجين فيها فقليل جداً. بينا ترى النشا - وهو في عالم النبات أغذى وأعم غذاء_نصفه أكسوجين.(12/109)
والغذاء الكثير الكربونية أغلى ثمناً وأصعب منالاً من الغذاء القليل الكربونية الكثير الأكسوجية. فإنك ترى فواكه الأرض - وهي التي أكبر عناصرها الأكسوجين_وفيرة جداً تنال بلا ملاقاة أخطار ويوشك أن تنال بلا تعب. ولكن الغذاء الكثير الكربونية الذي تتوقف عليه الحياة في البلاد الشديدة البرد لا ينال بتلك السهولة والراحة. فهو لا يخرج من الأرض عفواً كالفواكه. ولكنه يستخرج من جثث أبطش الحيوانات زيتاً ودهناً وشحماً وليس يحصل عليه إلا بملاقاة الأخطار ومكابدة الأهوال وكلال البدن كدا وتحلب الجبين عرقاً. ومن الواضح البين أن أبرد ما يكون البلد أكثر ما يكون الغذاء كربونية وأحر ما يكون البلد أكثر ما يكون الغذاء أكسوجية. وقد قلنا أيضاً أن الغذاء الكربوني لما كان مصدره من عالم الحيوان فهو لذلك أصعب منالاً من الغذاء الأكسويدي المأخوذ من عالم النبات لذلك ترى أن أهل البقاع الباردة الذين تضطرهم البرودة إلى انتزاع أطعنتهم من أيدي الحيوانات المفترسة الضارية. ومن بين أنياب الوحوش الفتاكة العاتية. وما زالوا أجرأ وأشجع من أكلة الأغذية الأكسيدية التي تحبوهم بها الطبيعة عفواً بلا تعب. ومن هذا الفرق الأصلي تنشأ نتائج أخرى لا موضع هنا لذكرها. ونما غرضي الآن أن أرى مالاختلاف الغذائين من الأثر في النسبة التي توزع الثروة على حسبها بين الطبقتين العليا والسفلى. المدبرين والعمال. .
ولعل فيما أسلفت من الكلام بيان لكيفية تغير هذه النسبة على أنه يحسن بنا لضمان الوضوح والفهم أن نذكر على وجه الإجمال ملخص هذا الكلام وهو. يتغير مقدار الأجور بتغير عدد السكان. فيزيد عند قلة العمال ويقل عند ازديادهم. ثم عدد السكان يختلف نقصاً وزيادة باختلاف مقدار الغذاء. يزيد بزيادته وينقص بنقصانه. ثم الغذاء اللازم للحياة أقل في البلاد الباردة منه في البلاد الحارة. وليس أمر الغذاء قاصراً هنالك على القلة بل يحتاج منه إلى مقادير عظيمة - أعظم بكثير مما يحتاج في البلاد الحارة. وهما سببان داعيان إلى قلة نماء السكان الذين منهم تتألف طبقة العمال. نتيجة ذلك بعبارة موجزة واضحة أن الأحوال في البلاد الحارة تدعو دائماً إلى انحطاط الأجور وفي البلاد الباردة إلى ارتفاعها.
ونحن إذا طبقنا هذه القاعدة العظمى على تاريخ الأمم لم نلق إلا شاهداً على صحتها. ولم نلق قط شاهداً واحداً على بطلانها. ففي آسيا وإفريقيا وأمريكا كان مركز المدنيات القديمة(12/110)
جميعها في المنطقة الحارة. وكانت الأجور فيها زهيدة جداً ولذلك كانت طبقات العمال في ضنك وفاقة. وفي أوربا كان أول ما ظهرت المدنية في جو أبرد. فلذلك ارتفعت الأجور وقل الفرق العظيم بين نصيب الطبقة العليا من الثروة ونصيب طبقة العمال - وهي مزية لا تدرك في البلاد الحارة حيث وفرة الغذاء مدعاة إلى زيادة السكان. وهذا الفرق_فرق ما بين توزيع الثروة في المدنيات القديمة وتوزيعها في المدنية الحديثة الأوربية قد أحدث كما سنرى عدة نتائج اجتماعية وسياسية عظيمة الأهمية. ولكن قبل التكلم عن هذه النتائج أقول أن في المدنية الأوربية مسألة يحسبها من لا يحقق شذوذاً عن القاعدة حتى إذا أنعم النظر وجدها معززاً للقاعدة ومؤيداً للحجة. إن في أوربا أمة واحدة تملك غذاء مفرط الرخص. وهذه أمة الأيرلنديين وذلك أنه في أوائل القرن السابع عشر أدخلت في أيرلندة زراعة البطاطس وقد مضى على الأيرلنديين أكثر من مائتي عام وأهم أغذيتهم هذا المأكول وخاصته أنه أرخص من كل ما يماثله من الأطعمة جودة وطيباً. فملء فدان منه يكفي من الأكلة ضعف ما يكفي ملء فدان من الحنطة. نتيجة ذلك أنه إذا تساوت سائر الأحوال في بلدين فزيادة السكان في البلد الذي غذاء أهله البطاطس تكون ضعفها في ذلك الذي غذاء أهله الحنطة وهذا هو الواقع فإن عدد السكان في ايرلندة كانت زيادته قبل حدوث الوباء بها والهجرة ثلاثة في المائة كل عام بينما كانت الزيادة في انكلترا واحداً ونصفاً في المائة فنتج من ذلك اختلاف كبير بين البلدين في توزيع الثروة فإنه رغماً من أن زيادة السكان في انكلترا كانت على كل حال أكثر من اللازم وأن الأجور لذلك كانت منحطة لا توازي أتعاب العامل فلقد كان حال العمال في انكلترا أنعم حالاً بالنسبة للحال في أيرلندة. ولسنا ننكر أن مما زاد حال العامل الايرلندي شراً جهل الولاة وتلك الحكومة الفاسدة التي كانت أسود صحيفة في تاريخ انكلترا وأقبح وصمة في رونق مجدها. ولكن أفعل الأسباب كان ولا شك انحطاط الأجور الذي حرمهم مناعم العيش بل كثيراً من ضرورياته. وتلك آفة لم يكن لها سبب سوى رخص الغذاء الذي أسرع في نمو السكان حتى زاد عدد العمال عن الحاجة. ولقد قال أحد الأذكياء وكان قد ساح في ايرلندة منذ عشرين عاماً لقد هبطت الأجور حتى صار متوسطها أربعة بنسات في اليوم (ثلاثة قروش تعريفة) وأشد نكبة من ذلك أن هذا القدر الخسيس لا يضمن استمراره.(12/111)
وكذلك كانت عاقبة رخص الغذاء في بلد هو على العموم أكثر البلاد الأوربية مصادر ثروة طبيعية. ونحن إذا بحثنا أحوال الأمم الاجتماعية والاقتصادية وجدنا هذه القاعدة سارية في كل بقعة ومكان - وجدنا أنه إذا تساوت بين الأمم سائر الأحوال فازدياد السكان راجع إلى الغذاء ومقدار الأجور راجع إلى ازدياد السكان. ووجدنا أنه إذا انحطت الأجور اتسع البون بين نصيب الطبقة العليا ونصيب الطبقة العاملة من ثروة البلد فاتسع لذلك البون بين نصيبي الطبقتين من السلطة والنفوذ الاجتماعي أو بعبارة أخرى العلاقة بين الطبقتين تترتب في أصلها ومنشئها على تلك الخواص الطبيعية التي حاولت أن بين آثارها وأوضح أفعالها. وبإضافة هذه الأشياء بعضها إلى بعض أرجو أن نهتدي إلى ما هنالك من دقيق الصلة وغامض النسب بين العالم الطبيعي والعالم الأخلاقي وإلى ما تجري عليه هذه الصلة من القواعد. وإلى سبب انحطاط المدنيات القديمة بعد ارتفاعها، وانقراضها بعد مجدها وسلطانها.(12/112)
قريبك الفقير
بقلم شارل لام
أمرّ شيء في الدنيا عليك قريبك الفقير، تكاتبه غير مبال به ولا حافل وترى في قربه مضاضة وفي جواره أشد الأذى.
الله في عون المسكين، أنك لترى في ترداده وخز وجدانك وتحس في زوراته ألم سريرتك.
قريبك الفقير هو الظل الشارد الممتد في ضحى سعادتك. هو المذكر المكروه، لا مرحباً به ولا تكريما، هو ثقب يسيل منه نضارك وينحدر ذهبك.
رحمة للرجل، أنه لديه الدائن المرذول يلح على عزتك، والمطالب البغيض يلحف على أبائك، وهو الحائل دون نجاحك، الواقف حجر عثرة في سبيل توفيقك.
قريبك الفقير هو وصمة في جبينك، وشائبة في دمك، ولطخة فوق درعك، ورقعة في أثوابك، ورأس ميت فوق مائدتك.
قريبك المعسر هو الليث راصد لك في طريقك، والضفدع ينق في منامتك، والذبابة تسقط في مرهمك.
لا بل هو قذي في عينك، وفرحة لعدوك، ومعذرة لأحبابك، وتنصل منه لأهل ودك.
هو العطية التي لا حاجة بك إليها وهو المطر الهامل في موسم الحصيد، هو المر الكثير في الحلو القليل.
وارحمتا للبائس، معروف لدى بابكم بدقته.
وآسوه! هذا فلان لدى الباب.
وما دقته إلا مزيج بين الدالة والتهيب، يطرق بابكم يسأل الحفاوة والترحيب وهو منهما يائس، ويدخل الدار ضاحكة أسرته بسام المحيا فلا يلبث أن يروح حيران مذهولاً.
يمد إليك يده ليصافحك ثم يردها متهيباً، ويهبط عندكم صدفة في وقت الغذاء ومائدتك حافلة وقد كثرت على طعامكم الأيدي وأنت محتفل بضيفك فيريد لو ينصرف إلا أن شيئاً يضطره إلى البقاء.
ويسقط في مقعد هناك وولدا زائرك جالسان إلى مائدة بجانب الجدار.
لا يزوركم في أيام الزيارات، إذ تقول زوجتك، أيها العزيز لعل فلاناً منحدر إلينا اليوم،(12/113)
ويذكر حفلات ميلادكم، ويعترف أنه سعيد أن تعثر بواحدة منها.
مرحمة أيها الناس، حتى خدمكم يعدونه لغزاً من الألغاز ويشفقون أن يكونوا لديه خافضي الجناح من أدب وهيبة، ويتهامس الضيفان بينهم أنهم رأوه من قبل، ويتمعن كل منهم في حالته وكلهم يحسبه من مستخدمي الجمارك!
ويدعوك باسمك دون الكنية ليدل الأضياف أن اسمه مثل اسمك، ويأنس لك قليلاً، ويتدلل بقرابتك واثقاً، وتود لو لم تكن هذه الثقة ليده وأن قلة اطمئنانه لك واحتشامه في حضرتك يظهر أنه أمام ضيفانك كأنه تابع اصطنعته لنفسك وصنيعة استخدمته لحاجتك، ولو تشجع لديك بعض التشجع لبدت للناس مكانته منك وعصبيته.
هيئته أمامك لا تليق حتى بالصديق ومظهره لا يجمل بالولى.
تدعونه لمائدة الميسر فيأبى محتجاً بفقره، وتأخذه العزة بالحق وقد تركتموه في الحجرة وحيداً.
فإذا انتثر عقد جمعكم وتفرق عنك ضيفك رأيته يسارع ليأتيكم بمركبة ولكنه يدع الخادم مستبقاً.
انه ليذكرك بأجدادك ويرمي في المجلس بحكاية تافهة عن أسرتك ويقص القصص عن أهلك، ويحيي عهوداً نقضت، ويسترجع زماناً ليس له رَجعُ، ويتفهم منك عن ثمن رياشك بلهجة المهنئ المقرظ، ويهينك بمديح أستار نوافذك وحُجُب شرفاتك، ويتجرأ عليك فيقول أنك تجد الراحة كلها في اقتناء مركبة ويسأل زوجتك في ذلك رأيها.
وأنت ترى في المسكين ذاكرة شاردة هائمة وتحيات فاسدة باردة وتجد في حديثه غصة ألماً، وفي مقامه عناداً وتشبثاً، وفي مكثه إصراراً وثقلاً.
فإذا انطلق من لدنك فلا احتفال ولا توديع، بل أنك لترمي بكرسيه إلى زاوية هناك وأنت تشعر أنك تخلصت من أذية كبرى.(12/114)
الوقت
إن بالشرق ويا للأسف لآفات جمة ذهبت بسابق مجده، وأفضت به إلى نقيض شأنه وعهده، وكل تلك الآفات فادح غير أن أفدعهن جميعاً وأقلهن مع ذلك خطوراً على البال إنما هي
آفة الإسراف في الوقت
الوقت! ذلك الشيء الثمين. . . ذلك الشيء الذي لا يقوّم بقيمة، اللهم إلا إذا جعل في كفة من الميزان وجعلت المدنية بجُمّاع ما أتت به المعجزات في العالم كله منذ مبدأ الخلق في كفة أخرى.
ذلك الشيء النفيس لولاد للعجائب، الجالب لضروب السعادات من عقلية وجثمانية المرقي للإنسان، العارف بقدره إلى أسمى درجات العز والمجد هو الذي نفنيه الدقيقة فالدقيقة والساعة فالساعة واليوم فاليوم والعمر فالعمر بلا غلة ولا فائدة، بل هو الذي نعكس آيته عكساً فاحشاً فنقضيه في اللهو والفراغ والأباطيل لنلف بها ألبابنا ونضعف عزائمنا ونصغر همومنا ونقرب آماد آجالنا إلى أن يبلغ أحدنا الكهولة فيشعر ونشعر جميعاً منه بأن الصدأ قد ثلم فطنته تثليماً، وأن الوبالة قد هدت قواه هداً.
يعيش صاحبنا السبعين أو الثمانين من طوال السنين فإذا قضى وجمعنا أعماله النافعة فكأنه عاش سبعين أو ثمانين ساعة من مثل هذا الانهماك في اللذائذ والجهل العميم الذي أوخمه عاقبة جهلنا لقدر الوقت وتبديدنا لكنوزه الخلفية بلا حساب. إلى أية نتيجة أفضينا؟ وعند أية نهاية وقفنا؟
خذوا مصر مثلاً وما هي فيه الآن من كل ما ليس يرضى وقابلوا بين تأخرها وتقدم أدنى أمة راقية شرقاً أو غرباً تتبينوا الجنايات الكبرى التي جناها علينا الإسراف في الوقت.
أيها السادة
لعله ساءكم مني أن أسمعكم عن أمتنا العزيزة وبلادنا المحبوبة ما سمعتم من الحقائق الأليمة في القسم الأول من خطبتي ولكنني تسامحت في ذكرها رعاية لهذا المقام وضنا في الاجتماع الجليل أن نخرج منه ولم نستفد ما يستفيده الحصناء من حقيقة سيئة يكشف عنها النقاب ولا سيما إذ تبدو علامة واضحة الجلاء تبشر بأن في المجموع العظيم من القوم الجثوم القعود نفراً قد أخذوا ينهضون نهضة تشرفهم ومن نتائجها المحققة إن شاء الله أن(12/115)
تكون داعية لسائر أفراد الأمة إلى الإقتداء.
ليس من شأني ههنا أن أعدد ذلك النفر - على أنكم تعرفونهم_وهم اليوم قادة الشعب إما سلطاناً أو علماً أو رأياً بل حسبي أن أتكلم على رجل واحد منهم هو في تلك الطليعة وأراكم قد أدركتم بالبداهة من عنيت فلا حاجة بي إلى تسمية المحتفل به.
أيها الأستاذ
كان في وسعي امتداحك بكثير لأن فيك شيئاً كثيراً مما يمتدح.
ولأن المادة لو أعوزت لا سمح الله فف الشعر على طريقته القديمة متسع للتلفيق المعجب غير أنني رقبت إتضاعك أن أعرض عليه مناقبك جميعها وأكرمت عقلك حين تخيرت بين كرائم شمائلك عن أيثار غير المأثرة التي أردت بها قبل كل شيء أن تمجد وأنت نافع لقومك.
كل المحاسن التي جمعها الله في أخلاقك وصفاتك من أسطع الذكاء إلى أذرب ما يكون اللسان الفصيح محاسن خصيصة بك لا تتعدى ذاتك إلا إلى محيط قريب.
أما سيدة تلك المحامد وهي التي بكل شعاع مرسل منها تشيع ذكرك وتنير أمتك في آن معاً. تلك هي التي جعلتها محور مقالي وتلك هي التي اعتقدتها أجدر أخواتها بأن تؤثر عنك وتبقى لك جيلاً بعد جيل.
عرفت قدر الوقت فحرصت عليه حرص الضنين ولست بغيره ضنيناً فإذا مرت بك الساعة وقبست من جهدك ما قبست فصلت من خلوتك فصال الشهاب من سماء الغيب وقد حمل عظة للمتعظين، وهدي للعالمين.
رقيت مناصبك مبطئً أحياناً بجناية من ذكائك عليك، ومسرعاً أحياناً بموافقة الزمان لهمتك على أنك في الحالتين من تمهل وتعجل، وفي المنزلتين من مُعِدّة ومُبِلغة، كنت لأتفرغ من أداء الواجب الذي وظنت عليه كأحسن ما يؤدي حتى تجيء خلوتك وتعرى إلى نفسك من مطامع المهنة وتستريح إلى ضميرك من متاعب ذلك القسم الأول من الكفاح وتقول كما يجب على كل حي أن يقول أن الوقت وديعة الله عندي تحت تصريف عقلي وأن العقل لمعاهدة معنوية بيني وبين ربي على أن أخدم به أخوتي من أبناء نوعها كافة وأبناء جنسي وموطني ولغتي خاصة فلأف بالعهد ولأحسن تصريف الوديعة.(12/116)
تقول هذا وتجل إلى مائدتك وقد تكون مريضاً فتتغلب على مرضك وقد تكون نصباً فتقوى على نصبك.
وقد تشتاق الهواء النقي في الحدائق النضرة التي تطل عليها. ومركبتك على بابك فتلبث.
وقد تسمع طرفاً من أحاديث المارة المتنادمين وتود لو متعت بساعات تقضيها في معاشرة أخوان من الظرفاء فلا تنشط لذلك اللهو الطاهر وإن تكن في حاجة إليه بل تمكث يد تقلب الكتب وقلم يصر ولفيفة مشعلة وجبين تكاد غضونه تتحاك من التفكير إلى أن يؤدي فرض النهار.
ما أصحك وأنت في تلك العلة، ما أقولك وأنت في ذلك الضعف ما أملأك للمدينة بل للبلدة وأنت في تلك الخلوة ما أصفى مجدك من كل شائبة حين يخرج من ذلك السأم ما أطهر سمعتك وأبعدها عن الريب حين تصدر عنه ذلك السكوت مجوهرة بمصقل ذلك التعب.
يجيئنا كتابك تلو الكتاب فيقول أهل القانون هذا خير ما كتب فيه تفسيراً لغوامضه وحلاً لمعضلاته.
ويقول السهار على أخلاق الأمة وتحولها الحادث هذا خير ما تعلم منه الجماعة قدرها وتتبين منه طيبها فتحتفظ به أو خبيثها فتقلع عنه آخذة عنه ما حسن عند غيرها تاركة بين يديه ما ساء من أمور سواها ويقول أهل التاريخ هذا سرد مضبوط وهذه مطالعات مثمرة وهذه نتائج ليست بملقاة الحبال على الغوارب وليست بعقيمة ويقول أهل الأدب هذا بيان صاف وكلام عربي تنسجم له آية ينفرد بها وهي أن كل كلمة فيه موضع ولا شيء في خلاله من كذب السراب الملمع.
أيها الأستاذ
هكذا تعي الحياة الفانية مدي الأدهار الطوال بآثارها الباقيات. . أنه إن لم يكن لك غير هذا ليجل تدرك ويعلو شأنك بين قومك فحسبك هذا.
ولكن لك ما عدده الخطباء وما أخفاه على الناس اتضاعك فلست بمحصيه ولست بمستقصيه لكنني أقول للأمة المصرية الكريمة بل لأمم الشرق كافة من على هذا المنبر أن اليوم الذي يعز الوقت فيه على كل فرد في طبقته ورتبته ومهنته كما عز عليك فلا يبدده تبديد السفه بل يصرفه تصريف الحكيم العاقل لأنفس ما بين يديه فذلك اليوم هو مبدأ عهد الفتح للشرق(12/117)
وأهليه، هو مبدأ استئناف المدنية العربية التي أمتد نورها في الخافقين، هو مبدأ عهد العمران المجدد، والفخر المستعاد، ينضاف فيه أنفس طريف إلى أقدس تلاد.(12/118)
علموا الأمة علموا الأمة
سادتي
رجعت إلى المعاجم التمس منها كلمات تسمو معانيها إلى سماء فضلكم أو صيغة حمد تفي بقليل من واجب شكركم، فما راقني لفظ ولا شاقني معنى ورغبت عن التنقيب والاستفادة، إلى الإقرار والشهادة.
أنا عاجز، نعم عاجز عن إيفائكم حق الثناء لقاء صنيعكم لكني لن أعجز عن الاحتفاظ بعهدكم، والبقاء على الدوام متأثراً بجميلكم.
شرفتم هذا المكان لتكريم خادم ظننتم به خيراً وما خيره إلا منكم وأردتم أن تولوا له فضلاً والفضل أنتم مواليه، ولا أرى في اجتماعكم هذا إلا حركة نفيسة من حركات الأمة تقطع دور السكون وتعن يقظتها وشخوصها نحو الرقي بعد أن اختمرت الأفكار وتمكن اليقين بأن لا حياة إلا بالحضارة ولا حضارة إلا بالعلم، وما أنا إلا ذريعة اتخذتموها للقيام بهذه الحركة المباركة.
هذا مظهر خلق جديد كمن حتى اكتمل وسكن حتى نما وتم، خلق لا تقوم أمة بدونه، وهو عماد كل رق وهو محبة الكل خير الكل في كل فرد من الأفراد، وظهور هذا الخلق دليل على ما للأمة من الصفات الكريمة الأولية، ومن الأخلاق الفطرية الاجتماعية، مما إذا عولج صفا وأعلى مكانتها ووصل بها إلى الدرجة التي يستحقها في هذا الوجود.
من يخبر حال هذه الأمة ويقف على كنه خلقها ويعرف جيداً حقيقة خصالها، ويدرك الصحيح من آمالها، وينعم النظر في أعمالها، ويقتنع بأن التربة زكية لا يفسد زرعها إلا شيء من البذور الرديئة، وبأن الخلق كريم يغشاه ستار من عدم العلم التام بالواقع، وبأن الآمال كبيرة شريفة لكنها مشوبة بشكوك وأوهام تطوح بنا يوماً ذات اليمين ويوماً ذات الشمال، أما أعمالنا فثمرة هذا وذاك، نهتاج والسكون واجب، ونلهو وكل النجح في العمل وما كان شيء من كل هذا يكون لولا خطأ في تقدير حقيقة حالنا، وعدم التفات إلى حركة البيئة التي نحن فيها، ونسيان لشيء كثير من الماضي ولهو عن الحاضر وعدم اهتمام بما هو آت، ومحال أن تدوم هذه الحال فلا بد لنا من إعداد العدة اللازمة لذلك التحول وما هي إلا العلم.
العلم هو سلم الأمم إلى حضارتها، فهو كاشف ظلمات الجهل، ومسدد الآراء، ومنجح كل(12/119)
مجهود، هو الذي اخترق الأرض فأخرج مكنوناتها، وحكم في المادة فاستلب منها كنوزها، وتسلط على البحار فسادها، ورمي إلى الجو فحلق في القبة الزرقاء طالباً للناس علواً وكمالاً، وقرب الأبعاد فأضاف إلى الوقت أوقاتاً، وضم إلى حياة الناس حياة وحياة، بهذا أنار البصائر، وشد العزائم، وقوى الهمم، فأنهض الأمم وأعلى كلمة التي كان حظها منه وفيراً.
أرجو أن يكون في مظهركم هذا دليل على أننا قطعنا دور التنافر والتفرق وعرفنا الصواب بعد أن حجبته عنا الأوهام زمناً طويلاً، ودخلنا من باب العمل الصحيح النافع، واقتنعنا بأن الضعف وما الضعف إلا الجهل يطمس على القلوب ويجعل القوم يرون حسناً ما ليس بالحسن، يظنون أن التأخر آت من عارض خارجي، وأنهم إذا قعدوا عن التماس وسائل التقدم فالمقصد يجذبهم إلى الوراء، لكنهم متى علموا أن العلة ذاتية، وأن الدواء في اليد، وأن قتل الوقت في الظنة والاتهام مضيعة لما يفيد، وداع جديد من دواعي الضعف والتأخر.
أرجو أن يكون في اجتماعكم هذا دليل على السآمة من هذه الحال بل على الفزع من أخطارها الاجتماعية الكبرى، وعلى أن العلم الذي ينبث فينا أخذ ينقي الضمائر، ويجمع شمل المتفرقين، ويطهر السرائر، ويوحد كفة المتنافرين، وينير البصائر فيهدينا إلى أن التآزر شرط النجاح، وأن يد الله مع الجماعة وأن التباغض مجلبة الشر، والتنابذ يمهد سبيل الذل، وأن في التضاعن تهلكة للناس.
لعل رجائي محقق بإقبالكم على هذا المكان ملتفين حول راية واحدة مع اختلاف العناصر والمعتقدات، ومنبعثين من روح واحد ألف بين قلوبكم جميعاً تعارفتم وجئتم أخواناً فرحين بوجه باسم يحيي موجد هذا الروح وباعثك الشعور - العلم.
سادتي
ماخيم الجهل في أمة إلا أذلها، وما انبلج ضوء العلم بين قوم إلا عزوا أيها العلماء أيها العظماء أيها الشعراء والأدباء قادة الأفكار دعاة الأمة، أربأوا بها فالسبيل واضحة، علموا الأمة، علموا الأمة.(12/120)
نوابغ العالم
ابن الرومي
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
الفصل الأول
في تاريخ ابن الرومي
لقد كان هذا الفصل بغير هذا العنوان أحق، لانالا نرجو أن نؤدي للقارئ ترجمة لهذا الشاعر محكمة الحدود، مد محبة التأليف، واضحة الطريقة، ولا نستطيع أن نخرج به من هذه الظلمات التي أرخاها عليه إهمال المؤرخين السابقين من العرب، وأسبلها على حياته حظ الأعمى، وجده العاثر.
لست أعرف رجلاً أصابه ما أصاب ابن الرومي ولا عظيماً تهاون به النا حياً وميتاً وتناسوا ما يجب له إلا هو، بل لست أعرف قوماً هم أشد استصغاراً لكبرائهم، وأقل إجلالاً لرجالاتهم، وأعظم تهاوناً بحقوقهم، وأضأل تنبهاً لأقدارهم من العرب. وليس يخفى علينا أنّ هذا القول سيقع من نفوس البعض موقعاً سيئاً ويصادف منهم كل السخط وأشد النفور، لأن للقديم روعة وجلالاً وقدراً في النفوس، ومهابة في الصدور، وللجديد المباغت صدمة يضطرب لها الذهن، ويتبلد لها العقل حتى إذا سكنت الطبيعة واطمأن الروع وثابت النفس تبين المرء مبلغة من الصواب وحظه من السداد، ومن أجل ذلك قالوا ينبغي أن يكتب الكاتب على أن الناس كلهم أعداء وكلهم خصوم بيدان من راض نفسه على توخي الصدق والتجافي عن قول الزور ومن شأنه التوق إلى أن تقر الأمور قرارها، وتوضع مواضعها. ويربأ بنفسه عن مرتبة المقلد الذي يجري مع الظاهر ولا يعدو الذي يقع في أول الخاطر سيتابعنا في رأينا هذا ويؤاتينا على ما نقول وإن آلمته الصدمة، فإن الحق وإن كان صادق المرارة إلا أنه حق. ولنحن خلقاء أن لا تدفعنا العصبية الباطلة والتشرف الكاذب إلى وصف الزور ونسج الأفك وتمويه الحق وتلبيسه بالمين والبهتان، وماذا علينا إن فارت بعض النفوس من الغضب وثارت بها الحمية المصطنعة والحفيظة الملفقة وشهوة المباهاة الكاذبة؟ وما نبالي من سخط ممن رضى إذا نحن اخترنا كل ما فيه للتاريخ رضوان، وهل ترى غضبهم يغير الحق الصراح المعلوم في بدائه العقول؟ أم هل ينفي تسخطهم أن(12/121)
مؤرخي العرب مقصرون وأن تفريطهم قد ألبس ابن الرومي برداً كثيف النسيج غليظ السرج لا تنفذ العين فيه؟
وليس ينزلنا عن رأينا هذا ماعسى أن يحتج به خصومنا في المذاهب من أن البيت الواحد من الشعر كان يرفع القبيلة أو يحط منها وأن القبيلة من العرب كانت إذا نبع فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر وتباشر الرجال والولدان وأن أمراء العرب وخلفائهم كانوا يقربون الشعراء ويملأون أكفهم بالعطيات، وأيديهم بالجوائز والصلات، وينزلون منهم في أمرع جناب وأصدق منزل، أو غير ذلك من الحجج والشواهد والنصوص التي لا تدفع قولنا ولا تديل منا وإن كانت في ذاتها مما لا يماري فيه ولا ينكر صحته.
وذلك أن الهجاء والتشهير وخبث اللسان أوجع ما يتجرعه المرء وتتوجره النفس وما زال الناس في كل عصر يتفزّعون من ذلك ويتوقونه بكل ما في الوسع والطاقة تارة بالعطاء الجزل والنائل الغمر وأخرى بالمصانعة والمداراة أو الوعد أو الوعيد، ومن ذا الذي يرضى أن تشتهر له شهرة فاضحة وسمعة قبيحة، بل من ذا الذي لا يتقي الذم ولا يحفل بالغضاضة ولا يبالي ما قيل فيه؟ أو ما ترى كيف أن الكلمة الواحدة تخرج من فم الرجل قد تعطل تجارة أمة بأسرها وتفقدها ثقة غير هابها؟ والعرب قوم أولو سذاجة شأن كل البدو وسكان الخيم فليس بمستغرب أن يتخذوا من أبسطهم لساناً، وأقواهم عارضة، وأوراهم زنداً، وأسمحهم قريحة، درعاً يحمون بها أعراضهم ويذبون بها عن أحسابهم وسلاحاً يستظهرون به على خصومهم ويستطيلون به على أعدائهم كما كانوا يتقنعون في الحديد لصيانة جسومهم وأموالهم وحريمهم وكما كانوا يعدون الخيول للملاحم والزحوف، وليس بعجيب أن يبسط الخلفاء أكفهم للشعراء بالنوال والمبرات فإن ذلك أطلق لألسنتهم بالمديح وأكفّ لها عن القدح والطعن وأصون للملك وأحفظ له من الضياع.
هذه هي حقيقة الحال، وواقع الأمر، وليس في ذلك ما يدل على أكثر من أن الشعراء كانوا بمنزلة الخيول والسيوف والدروع أو ما يُتفكه به على الشراب من النقل وما تزين به مجالس اللهو من الريحان والورد.
مهما قيل في الاحتجاج للعرب والنضج عنهم والتنصل لهم مما نحدجهم به فإنه لا ريب(12/122)
عندي في أن الشعر كان عندهم في منزلة دون التي هو فيها عند غيرهم من الأمم والشعوب ولا شك أنهم لم يكونوا من سعة الروح بحيث يفطنون إلى جلالة الشعر ويدركون ماهيته وحقيقة وعظم وظيفة الشاعر وإلا لكانوا انصرفوا عن هذه السخافات التي أولعوا بها وأمعنوا فيها ولتناولوا من الأغراض الشعرية ما هو أشرف من المدح وأنبل من الهجاء.
وهذا باب من القول له اتساع وتفنن لا إلى غاية ولم نكن نحب أن نفتحه لئلا تستفتح أبواب من اللداد خير لنا أن تظل موصدة لأن عهد الناس بأمثال هذه الأبحاث ما زال حديثاً وما زالت عقول السواد الأعظم غضة ناعمة وليس الداء بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كل أحد مسعفاً والعي منجحا فانك لتلقى الجهد حتى تميل أحدهم عن رأي يكون له ثم إذا أنت قدته بالخزائم إلى النزول على رأيك والصدور عن فكرك عرض له خاطر يدهشه فعاد إلى رأس أمره ولكنا خلقاء أن لا ننكص عن أمر نحن أثرنا غباره وهجنا دفينه، وأحسب أن كثيراً من الناس تهجس في صدروهم هذه الآراء وإن كانوا يشفقون من إبرازها والمعالنة بها، والبلاء، والداء العياء، أنهم ربما ماروك ولا جّوك بألسنتهم، وهم بقلوبهم يطابقونك، جرياً وراء الجمهور وذهاباً إلى رأي الغوغاء والإسقاط.
أظهر عيوب الأدب العربي في تقديرنا أثنان فساد في الذوق، وشطط في الذهن عن السبيل السواء، وليس بخاف أن هذين العيبين متداخلان وأنك تستطيع أن ترد الثاني إلى الأول والأول إلى الثاني ولكنهما على تداخلهما واضحا الحدود.
وذلك أن العرب وإن كانوا بطبيعتهم شديدي الإحساس، لطاف الشعور، دقاق الإدراك، ككل البدو، إلا أن فيهم جفوة الأعراب وعنجهية البادية، فهم يجمعون بين فضائل البوادي ورذائلهم، وحسناتهم وسيئاتهم، ودماثتهم وتوعرهم، وهم لما ألفوا من الحرية لا يستطيعون أن يكسروا من غلواء نفوسهم، أو يحسبوا من أعنة عواطفهم، ففي كل حركاتهم وانفعالاتهم حدة جامحة بغير لجام، وشرّة ماضية بغير عنان، يبكون ويضحكون، ويثورون ويسكنون، ويحبون ويبغضون في غير رفق ولا أناة حتى لتكاد تلمح في كل أقوالهم وأفعالهم جميع مظاهر الغلو وآيات الحدة ولوائح الطغيان،. . . فكأنهم استعاروا من الشمس وقدتها، ومن الأرض حزونتها وشدتها، وكأن شعرهم العود النابت في الخلاء، لا الزهرة الزهراء في(12/123)
الروضة العذراء، وكأنما ألفاظهم فهرس للمعاني التي في نفوسهم تشير إليها إشارة البنان، وكأن قائلهم لجلاج تحتشد في خاطره المعاني فيجيل بها لسانه في شدقه ثم يخرجها مزدحمة بعضها في إثر بعض وقد تخرج متصادمة وبينها وقفات يشقي بها صبره.
وتعجبني كلمة لصديق لي في وصف الميوز العربية قال:
الفرق بين عروس الشعر الإفرنجية وعجوز الشعر العربية أن الأولى تسكن السماء والثانية لا تألف إلا الرسوم المحيلة، والأطلال البوالي، ولا تغشى إلا الأربع الأدراس، فإذا أراد الشاعر أن يستمد منها الوحي ركب إليها ظهور الإبل ومتون النياق، حتى إذا أنثني عنها شغله وصف ما رأى في طريقه إليها من النجوم وكيف كان اهتداؤه بها، وما هب عليه من الرياح، وأومض من البروق خلبها وصادقها، وأظله من السحاب جهامها وماطرها، وكيف أذكره القمر وجه حبيبته المتألق، وجفلة السرب في الظلام نفرتها ليلة السفح، ثم لا يزال يذكره الأمرُ الأمرَ، ويفضي بك من حديث إلى حديث حتى ينسى ما أوحي إليه من بنات الشعر فيجتزئ بما قال!.
وهذا القول صحيح لا يدفعه أن قائله رمى به إلى الدُّعابة والمزح، فرب هزل ترجم عن جدّ، والناظر في شعر العرب يجد أن الشعراء جمعاً قد ساروا في طريق واحد، وأن المتأخر منهم يقلد المتقدم ويجري على منهاجه وأن أكثر الفرق أنما هو في اللفظ والأسلوب لا في الأغراض وحسبك ذلك دليلاً على ضيق الروح والحظيرة والعجز عن التصرف في جميع فنون الشعر.
لسنا نحاول الزراية على العرب أو الغض من شعرهم وإنما نريد أن نقول أن الشعر العربي لم يجاوز حد الطفولة، ولو أن الله فسح في البقاء للدولة العربية، وزادها نفساً في أجلها وسعة - ولكنه لم يشأ، وأن أحدنا ليقرأ آثار الغرب فيملك قلبه ما تبين فيها من سمات الصدق والإخلاص، ومخايل النبل والشرف، ويستشفه من دلائل الحياة والإحساس بالجمل وحبهما وعبادتهما في جميع مظاهرهما، ويتوسمه من ذكاء المشاعر، ويقظة الفؤاد، وصدق النظر، وصفاء السريرة، وعلو النفس، وتناسبها وتجاوبها مع ما يكتنفها من مظاهر الطبيعة.
هذه حقيقة لا موضع فيها للشبهة وما ينكر أنّ الشعوب الآرية أفطن لمفاتن الطبيعة وجلالة(12/124)
النفس الإنسانية وجمال الحق والفضيلة إلا كل مكابر ضعيف البصيرة أو رجل أعمته العصبية الباطلة عن إدراك ذلك - نقول العصبية الباطلة لأن الحق غاية الوجود، وكلنا سواء في التماسه، فأيما رجل فاز منه بنصيب فهذا السعيد الموفق، وإلا فهو معذور ومشكور، وليس يغض من أحد أنه انصرف عن هذه الدنيا غير منجح.
وأنت إذا تأملت شعراء العرب وكتابهم وكبار رجالهم، لتعرف منازلهم من العظمة ومواقعهم من العبقرية، وجدت أولاهم بذلك وأولهم هنا لك، وأسبقهم في استيجاب التعظيم، واستحقاق التقديم، قوم ينتهي نسبهم إلى غير العرب من مثل بشار بن برد ومروان بن أبي حفصة، وأبي نواس، وابن الرومي، ومهيار، وابن المقفع، وابن العميد، والخوارزمي، وبديع الزمان، وأبي إسحاق الصابئ، وأبي الفرج الأصفهاني، وأبي حنيفة النعمان، وغيرهم ممن لا ضرورة إلى حصرهم،. . . وأنت فقد تعلم أنّ للوراثة أثراً لا ينبغي أن يستهان به في تركيب الجسم والعقل، فليس بمستغرب أن يرث مثل أبن الرومي وهو آري الأصل كثيراً من شمائل قومه وصفاتهم، وأن يكون في شعره أشبه بهم منه للعرب، وحسب القارئ أن يقارن بين قصيدة لأبن الرومي وأخرى لغيره من صميم شعراء العرب في أي باب من أبواب المعاني ليعلم الفرق بين المنزعين وكيف أن ابن الرومي أقرب إلى شعراء الغرب وبهم أشكل، وكيف أنه يطلق للقلم العنان فلا يوقفه إلا حيث يقف الخيال، وكيف أنه ربما تناول الغرض فاندرجت تحته أغراض أخرى كالسيل المتحدر فيه من كل أرض غشيها أثر، إلى أخر مزاياه وخصائصه التي سيمر بك الكلام عليها تفصيلاً.
ولد علي بن العباس بن جريح وقيل جرجيوس الشاعر المعروف بابن الرومي بمدينة بغداد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين في الموضع المعروف بالعقيقة ودرب الختلية في دار بازاء قصر عيسى بن جعفر بن المنصور من نسل العباس بن عبد المطلب.
هذا جل ما ذكره المؤرخون من ترجمة (المبسوطة) في ما وصلت إليه أيدينا من الكتب، وليتنا جهلنا ذلك وأحطنا بغيره مما طووه عنا ودفنوه في زوايا الغيب، وليت شعري أي نفع لنا من علمنا أنه ولد بعد طلوع الفجر أو قبله ولليلتين خلتا من رجب أو بقيتا منه وبالعقيقة أو بغيرها من المواضع التي طمست أشراطها، وعفت رسومها، وأنه كان مولى(12/125)
عيسى ابن جعفر أو جعفر بن عيسى ما دمنا لا ندري كيف كان منه أو من غيره من الناس، وكيف كانت صلته بأهل زمانه، وكيف كانت مؤالفتهم له ومعاشرته لهم، كأن ابن الرومي لم يكن شاعراً كالبحتري أو المتنبي اللذين امتلأت من أخبارهما الأسفار أو كأنه لا يستحق من عناية المؤرخين مثل ما استحق عمر بن أبي ربيعة وأضرابه مثل كثير وجميل. أو المجنون الذي ينكره بعضهم وينفي وجوده، أو مثل ما استحق مركوب أبي القاسم.
ولد في خلافة المعتصم وأدرك الواثق والمتوكل والمنتصر والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد - فلم يؤاسوه بأموالهم ولا أسهموا له في هباتهم ولا استحيوا أن يكون في عصورهم شاعر مثله في الحضيض الأوهد من الفقر والخصاصة ورقة الحال. ولسنا نظن أنه كان مولى رجل من العباسيين وكان متصلاً بالوزير أبي الحسين القاسم بن عبد الله وزير المعتضد وقد روى المسعودي في مروج الذهب عن محمد بن يحيى الصولى الشطرنجي قال كنا يوماً نأكل بين يدي المكتفي فوضعت بين أيدينا قطائف رفعت من بين يديه في نهاية النضارة ورقة الخبر وأحكام العمل، فقال هل وصفت الشعراء هذا، فقال له يحيى بن علي نعم قال أحمد بين يحيى فيها:
قطائف قد حشيت باللوز ... والسكر الماذى حشو الموز
تسبح في أزي دهن الجوز ... سررت لما وقعت في حوزى
سرور عباس بقرب فوز
قال وأنشدت لأبن الرومي
وأتت قطائف بعد ذاك لطائف
فقال هذا يقتضي ابتداء فأنشدني الشعر من أوله فأنشدته لأبن الرومي
وخببيصة صفراء دينارية ... ثمناً ولونا رفَّها لك جؤذرُ
عظمت فكادت أن تكون أوزّة ... وثوت فكاد إهابها يتفطر
يا حسنها فوق الخوان وبنتها ... قدامها بصهيرها تتغرغر
ظلنا نقشر جلدها عن لحمها ... وكأن تبرا عن لجين يقشر
وتقدمتها قبل ذاك ثرائد ... مثل الرياض بمثلهن يصدر(12/126)
ومرفقّات كلهن مزخرف ... بالبيض منها ملبس ومدثّر
وأتت قطائف بعد ذاك لطائف ... ترضي اللهاة بها ويرضى الحنجر
إلى آخر الأبيات، فاستحسن المكتفي الأبيات وأومأ إلى أن أكتبها له فكتبتها اهـ
وفي موضع آخر من الكتاب قال محمد بن يحيى الصولي وأكلنا يوماً بين يديه بعد هذا بشهر فجاءت لوزينجة فقال هل وصف ابن الرومي اللوزينج فقلت نعم فقال أنشدنيه فأنشدته:
لا يخطئ منك لوزينج ... إذا بدا أعجب أو أعجبا
لم تغلق الشهوةُ أبوابها ... إلا أبت زلفاه أن تحجبا
لو شاء أن يذهب في صحفه ... لسهل الطيب له مذهبا
يدور بالنفحة في جامه ... دوراً ترى الدهنَ له لولبا
عاون فيه منظرٌ مخبراً ... مستحسنٌ ساعد مستعذبا
كالحَسَنِ المُحسن في شدوه ... تم فأضحى مغرباً مطربا
مستكثف الحشو ولكنه ... أرق جلداً من نسيم الصبا
كأنما قدت جلابيبه ... من أعين القطر الذي طنّبا
لو أنه صور من خبره ... ثغراً لكان الواضحَ الأشنبا
من كل بيضاء يود الفتى ... أن يجعل الكف لها مركبا
مدهونة أرقاء مدفونة ... شهباء تحكى الأورق الأشهبا
دين له اللوز فلا مرة ... مرت على الذائق إلا أبا
وانتقد السكرَ نقاده ... وشارفوا في نقده المذهبا
فلا إذا العين رأتها نبت ... ولا إذا الطرس علاها نبا
فحفظها المكتفي فكان ينشدها اهـ
وفي مكان آخر من الكتاب عن أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي المعروف بنفطويه قال أخبرنا محمد عبد بن حمدون قال تذاكرنا يوماً بحضرة المكتفي فقال فيكم من يحفظ في نبيذ الدوشاب فأنشدته قول ابن الرومي
إذا أخذت حبه ودبسه ... ثم أخذت ضربه ومرسه(12/127)
ثم أطلت في الإناء حبسه ... شربت منه البابلي نفسه
فقال المكتفي قبحه الله ما أشرهه لقد شوقني في هذا اليوم إلى شربه اهـ
وإنما استكثرنا من إيراد هذه الأخبار لتعلم أن اسمه كان مذكوراً في مجالس الخلفاء وذكره فاشياً على ألسنة ندمائهم - ولكنه على تصرفه في كل فنون الشعر المعروفة وإجادته في جميع أبوابه وكثرة ما سار عنه من ذلك كان من الفاقة وحقارة الشأن وسقوط الجاه بحيث كان يستجدي من أخوانه الكساء فلا يصيب منه قصاصه، وله في ذلك شعر كثير فمن ذلك قوله لأبي جعفر النوبختي
كساء بني نوبخت مهلا فأنني ... أراك تناغي طيلسان بني حرب
أعيذك أن تأتي مسيرة ليلة ... وتصبر للتسيير في الشرق والغرب
كسآي كساي أنه الدرب بيننا ... فلا تدع الثغر المخوف بلا درب
ولا تحسبنّي لا أغرد بالتي ... تليني بها في الحفل طوراً وفي الشرب
فاعف بحقي في الشتاء فلن أري ... قبول كساء منك في الصيف ذي الكرب
وصبراً فإن الحر باللوم تبتغي ... أنابته والعبد بالشتم والضرب
وقوله أيضاً
طلبت كساء منك إذا أنت عامل ... على قرية النعمان تعطي الرغائبا
فأوسعتني منعا أخالك نادماً ... عليه وفي تمحيصه الآن راغبا
فإن حق ظني فاستقلني بمترص ... يقيني إذا ما القر أبدى المخالبا
وقوله
يابن حرب كسوتني طيلسانا ... يتجني على الرياح الذنوبا
طيلسان إذا تنفست فيه ... صاح يشكو الصبا ويشكو الجنوبا
وتهب الرياح في أرض غيري ... فتهب القرور فيه هبوبا
تتغنى إحدى نواحيه صوتاً ... فتشق الأخرى عليه الجيوبا
فإذا ما عذلته قال مهلا ... لن يكون الكريم إلا طروبا
طال رفوي له فأودى بكسبي ... يابن حرب تركتني محروبا
(للفصل بقية)(12/128)
فصول في الزراعة
اللغة العربية والزراعة
بين ظهرانينا الآن أفراد مخلصون يعملون في السر ولا تعنيهم الشهرة وهم عند النصفة أولى العاملين بالشهرة والذكر لأنهم مخلصون وعاملون بحق وممن نعرف من هذه الطائفة الصالحة حضرة الأديب الفاضل أحمد أفندي الألفي أحد الذين انقطعوا لعلم الزراعة وتوفروا على ترقيته في مصر وهي لعمري أحق البلاد بهذا العلم وأولى بأن يكثر فيها العاملون عليه - وقد تحفنا حضرة الألفي أفندي بفصول عدة في الزراعة نشرناها فيما سلف من البيان لمكانها من جودة الموضوع وجودة الأسلوب واليوم ننشر لحضرته فصلين عنوان الواحد اللغة العربية والزراعة وعنوان الآخر أنواع الأرض، وهما عند أنعام النظر ينمان على قدم راسخة في الأدب والزراعة معاً - قال
التربة. ظاهر الأرض بقدر ما يثيره الحرث أي يقلبه ويعبر عنها بالأرض أو أرض الزراعة أو سطح الأرض أو الطبقة الزراعية.
الرُفدة. تحت التربة، الذي لا يصل إليه غور الحرث عادة ويعبر عنه بتحت سطح الأرض.
الثرى. التراب الندي الذي لم يصر طيناً.
التراب. مادة التربة أو الأرض التي تقوم بالرمل والطين (بالمعنى العلمي) وغيرهما.
الطين. أحد العناصر المعدنية المقوّمة للتربة أو الأرض والطين لغة التراب المجبول بالماء يقال جبل التراب إذا صبّ عليه الماء ودعكه طيناً.
الرَدَغة. ثرى وجه التربة المشبع بالماء وتسميه العامة (روبة).
الطُفَال. الطين اليابس خاصة ويقال أرض طفائية أي طينية.
المدر. قطع الطين اليابس وتسميه العامة قلقيل.
الابليز. الأرض ذات الملوحة والنز.
(وتوصف الأرض بأنها)
دمثة. إذا كانت سهلة لينة كالأرض التي تعرف بالأرض الخفيفة.
مستحصفة. إذا كانت صلبة من شدة اليبوسة خاصة.(12/130)
ولازبة أو علكة أو لزجة. هذه أوصاف للأرض الطينية التي إذا ترطبت تتلزّج طينتها وإذا يبست تشتد صلابتها.
غَمِقة. الأرض المرطوبة برطوبة راكدة أي لم تصرف وهي أرض مكروهة.
غَدِقة. الأرض الندية بماء الري خاصة أو إذا كانت ريا النبت أي مروية.
(ملحوظة) استعمل معربوا كتاب الزراعة كلا من هذين اللفظين لأحد هذين المعنيين كأن اللفظين مترادفان والمعنيين متحدان وكل ذلك منهم وهم.
أريضة. إذا كانت كاملة الخصال للنبات أي إذا كانت طبائعها جيدة.
طبائع الأرض أو خصالها. يعبر عنها بقولهم صفات الأرض الطبيعية أو خواصها الطبيعية. والكلمة المستعملة في اللغة هي لفظة (خصال) يقال أرض كاملة الخصال وكذلك لفظة (طبائع) في استعمال فصحاء المعاصرين.
ويقال أرض سمينة. إذا كانت جيدة قوية على ترشيح النبت أي تربيته ويقال عنها في العرف أرض سخية.
زهاد أو شحاح. للأرض التي يسرع غيض الماء فيها ولا يعود يترشح منها.
جَلد. للأرض التي يضعف نفوذ الماء فيها لصلابتها.
ريا. للأرض الندية بماء الري خاصة.
ثرية. يقال ثريت الأرض إذا نديت ولانت يبسها. (يتلي)
أنواع الأرض
تقوم الأرض بالطين والرمل معاً وتسمى طينية إذا كان الأول هو الأغلب في تربتها.
وتسمى رملية إذا كان الثاني هو الأغلب في تربتها.
وتسمى طميية إذا كانا متعادلين ومتكافئين معاً.
وتسمى طينية رملية إذا كانا متقاربين تقارباً امتاز فيه الطين.
وتسمى رملية طينية إذا كانا متقاربين تقارباً امتاز فيه الرمل.
وقد تزيد ملوحة الأرض حتى تفسد تربتها فتعرف بـ الأرض الملحية ومتى نقيت من ملوحتها عرفت بنوعها الطيني أو الرملي * (الأرض الطينية وتعرف بالأرض السوداء) *
وهي صنفان ثقيلة وخفيفة(12/131)
فالخفيفة لينة التربة وسهلة الخدمة يرى ثراها أكدر اللون ووجها ترابي كامد.
والثقيلة أغلب طيناً وأكدر لوناً وأصعب خدمة. لزجة إذا رويت شديدة الاستحصاف إذا يبست.
* (الأرض الطينية الرملية وتعرف بالأرض الكحلاء) *
الين تربة وأسهل خدمة وأفتح لوناً من الأرض السوداء الخفيفة.
* (الأرض الطميية وتعرف بالأرض الصفراء) *
سلسلة التربة والخدمة غبراء الأديم أما ثراها فهو أغبر بصفرة خفيفة وحينما تيبس عقب الري يعلوه بياض أكثر وأزهى مما يرى في غيرها كما أنه يكون في الأرض الكحلاء أظهر منه في الأرض السوداء.
* (الأرض الرملية الطينية وتعرف بالرملية الصفراء) *
هشة التربة خفيفة الخدمة رملية اللون بغبرة وصفرة خفيفتين.
* (الأرض الرملية) *
تعرف بلونها الرملي البحت وبعدم تماسك تربتها حتى أن خدمتها لا تحتاج إلا لمجهود قليل جداً فيما عدا الري والتسميد.
* (الأرض الملحية) *
ترى ملوحة تربتها أما ذات لون أسمر أو أبيض كامدين والأولى اردأ تأثيراً وأصعب إزالة وتصير التربة صلبة علكة وتعرف بالأرض المرة بينما الثانية تصيرها رخوة.
مراتب الأرض
من حيث ريها وزراعتها
تقسم إلى
(أ) أرض رواتب وهي التي تروى دواماً وتزرع بدورة كاملة وهي أرض الدلتا أي الوجه البحري وبعض أرض الصعيد.
(ب) أرض مستجدة وهي التي عمرت حديثاً من أرض البراري ونحوها وتروى وتزرع كالأرض الرواتب ومتى تم تنويعها وتحسينها وعمرانها ألحقت بالأرض الرواتب.
(ج) أرض الحياض وهي أرض الصعيد التي تروي غمراً مدة الفيضان ولا زرع إلا(12/132)
زروعاً شتوية وقد تحول كثير منها شمالي الصعيد فصار من الأرض الرواتب.
(د) الأرض الموات وهي التي لم تعمر ولم تزرع كأطراف الدلتا الشمالية ومتى عمرت ألحقت بالأرض المستجدة.
من حيث موقعها
تقسم إلى
(هـ) الأرض الجنوبية العالية من الصعيد إلى جنوب الدلتا ونظراً لنقاوتها من الملوحة وازدياد عمق الرواسب النيلية فيها تعرف بالأرض العميقة الحلوة.
(و) الأرض البحرية الواطئة شمالي الدلتا.
خصب الأرض
خصب الأرض في تربتها وكميته بها كبيرة إلا أن الفعّال منه لتغذية النبات حالاً قليل. أما سائره فكامن ومستعد. وبإتقان الفلاحة تزيد مادة الخصب ويتحول الكامن مستعداً والمستعد فعالاً فيزكو خصب الأرض في جميع حالاته. أما إذا أهملت الأرض فإنها تضعف ثم تمحل.
ويختلف سمك التربة من نحو 15 سنتمتراً في الارض الضعيفة إلى ضعف ذلك في الأرض الجيدة. أما الرفدة أي تحت التربة وإن كانت مثلها تقوم بالطين والرمل معاً إلا أنها عقيمة لبعدها عن تأثيرات الفلاحة والجو ولكنها تعد وطناً تنمو فيه الجذور الطويلة ومورداً تستعد منه التربة ما استفرغه الزرع من عناصرها المعدنية فضلاً عن شأنها أي الرفدة في تقويم بعض خصال الأرض كدورة الماء مثلاً وقد تكون مفيدة للتربة إذا كانت أي الرفدة سهلة الثرى تحت تربة علكة أو كانت طينية تحت تربة رملية فإنها تعدل مزاج التربة في الحالتين ففي الحالة الأولى تساعد على تصريف رطوبة التربة وفي الحالة الثانية تمنع غيض الماء في الثرى بعيداً عن التربة وقد تكون الرفدة مضرة كما إذا كانت علكة تحت تربة سهلة فإنها تصعب دورة الماء في الأرض فتؤدي به التربة. (يتلى)(12/133)
القطب الشمالي
الرحالة بيرى يصف عودته من القطب الشمالي
بعد ربع قرن قضيته في كفاح وجهاد ومساغ ضائعة متتابعة أبى القدر إلا أن أنجح أخيراً فرفعت علم وطني، ذلك العلم الأمريكاني، في بقعة من ذلك القطب يحسدنا عليها العالم طرا.
لقد أقمت بالقطب ثلاثين ساعة عصيبة رأيت في خلالها مناظر ومشاهد كثيرة واستطعت فيها أن أجد وسيلة لكتابة رقعة إلى زوجتي استلمتها في سدني.
فلما كان اليوم السابع من شهر ابريل سنة 1909 في الساعة الرابعة من المساء بدأنا نعود أدراجنا من المخيم الذي ضربناه في ذلك القطب.
ولقد يخطئ من يحسب أن المتاعب قد انتهت بعودتنا وأن ما لاقيناه من الرهق في سفرنا لا نلقاه في رجوعنا. إذ العود أشق والرجوع أصعب أنكد. ومصاب الكبتن سكوت ونحس طالعه في عودته دليل محزن مروع. وبرهان ناصع مجيد.
أما أنا فلم يؤبه لعودتي لأني ما كدت أعود إلى أمريكا حتى أهملت ذكر ما حدث لي بعد ما رفعت العلم الموشى بالأنجم الزهر. فوق تلك الثلوج البكر. حتى وصلت إلى موطني.
وقد جئت اليوم أروي للقراء تفاصيل ذلك الرجوع. وهم سيجدون أن الرحلة إلى القطب تشابه بعض المشابهة مسألة الطيران في صعوبتها وأخطارها.
قبل الرحيل جمعت رجالي إلى حديث سريع ثم أفهمتهم ضرورة الوصول إلى الأرض قبل مد البحر القريب الحدوث. ووجوب استعمال جميع قوانا في تحقيق ذلك الغرض. وألقيت في روعهم أنه يجب أن نجد في المسير وننام النوم القليل وأن نسرع من غير توقف أو تمهيل.
فأحدثت خطتي هذه همة كبرى عند أولئك الرجال وجعلنا نطوي المراحل مضاعفة إذ كنا نقطع المرحلة الواحدة ثم نقف ريثما نتناول الشاي وطعام الإفطار وبعد ذلك نواصل المسير فنطوي مرحلة أخرى ثم ننام بضع ساعات فإذا انقضت عاودنا على أننا والحق يقال لم نستطع أن نلزم هذه الطريقة في رحيلنا بل جعلنا نقطع تسع مراحل من ذهابنا في ثلاث من عودتنا وكل يوم يروح عنا بعض ما يعتادنا إذ كنا نشفق أن تندرس آثارنا الأولى(12/134)
ويمحو تأثير الأرواح على الثلوج مواقع أقدامنا. وكان هناك بعد درجة 87 منطقة متسعة الأرجاء مترامية يبلغ محيطها سبعة وخمسين ميلاً وكنت مضطرب النفس أخشى أن لا نستطيع اجتيازها.
ومضت اثنا عشرة ساعة والريح تزف زفيفاً شديداً وتهب هبوباً عنيفاً من كل مكان مذيبة هناك بحراً يجتاز.
فتنهدت من أعماق نفسي تنهدة الخلاص بعد تلك الدرجة.
ووجدنا في كل مكان آثار المرابط التي كنا نقف بها ورأينا معالم المواقع التي كنا ننزل عندها لم تمح ولم تمس.
أما الزاد فكان لدينا وفراً يكفي رجالنا وكلابنا وكنا ننطلق كأنما كنا في حلبة السباق. ولا أنسى تأثير ما كان يخالج أرواحنا من نشاط وهدوء.
وجملة القول كان كل شيء في جانبنا وكنا نتسلل وراء بعضنا مسرعين مولين في خلال خمسة الأميال الأولى من سياحة عودتنا.
ووصلنا بعدها إلى صدع هناك ضيق امتلأ ثلجاً حديثاً ورأيناها فرصة سانحة نستطيع فيها أن نسبر غور تلك الثلوج ولم نكن فعلنا ذلك من قبل في القطب لكثافة الجليد المتراكم.
أما في ذلك المكان فقد سهل علينا أن نحفر حتى الماء.
وأرسلنا في ذلك الصدع حبالنا فغابت في الجليد نحواً من مترين وثلاثة أرباع متر دون أن نجد القاع.
فلما كان خدمنا وهم من (الاسكيمو) يشدون تلك الحبال انكسرت منهم فهوت إلى القاع بخيطها ورصاصها فتركناها ومضينا في سبيلنا فوصلنا المخيم الأول مبكرين.
وحل يوم الجمعة (9 ابريل) فكان يوماً عبوساً قمطريراً أذهبت من الشمال الشرقي ريح عصيبة استحالت عاصفة وإن كان ميزان الحرارة يتراوح بين درجتي 18 و 20.
ولحسن الحظ كنا نمشي قبل هبوب الريح إذ يستحيل علينا أن نسير ضد تلك العاصفة الهائجة.
ومهما كنا نفعل فإن العاصفة كانت تسوق كلابنا سوقاً وتدفعها إلى العدو دفعاً مستمراً.
ولاحظنا أن الثلوج تسير معنا إلى الجنوب وقد ساعدنا ذلك على زيادة سرعتنا. ولم نر(12/135)
ركام الثلج يتحرك ولا مناطقه تنحدر وإلا لو فعلت لكان لنا شأن محزن وفاجعة كبرى.
فلما ضرب الليل خيامه سكنت الريح هونا ما ثم لم تلبث أن مضت تاركة الجو كدراً معكراً ولم نستطع مع الضوء صبراً ولم تطق أعيننا رؤيته وكدنا لا نتبين مواقع آثارنا الأولى. ولم نقطع في ذلك اليوم إلا مرحلة واحدة وإن كانت درجة الحرارة لم تزد عن 10 ولم نحاول أن نجد في السير ونلج في الرحيل إذ رأينا الكلاب قد أنهكها العدو وشعرت بتأثير جريها المتواصل ولزمنا أن نرفه عنا بعض ذلك الجهد ونتهيأ للغد إذ كنت أتوقع في غد متاعب ومحازن - على أنها بحمد الله لم تقع_من ذلك الجليد الذي سنلقاه في طريقنا.
ورأينا لزاماً علينا أن نسرح بعضاً من كلابنا فاقتصرنا منها على خمسين كلباً. وكان الأحد (11 ابريل) يوماً صحواً جميلاً طلعت شمسه وبزغت غزالته من بين الغيوم والسحب بعد أن هدمنا خيمتنا وأنزلنا طنبها وكان الهواء رخياً هادئاً ولمشرق الشمس حرارة لذيذة ولبزوغها تألق متوهج ولو لم يكن لدينا مناظيرناالقاتمة اللون لسبب لنا وهج ضيائها مر ضافى أعيننا.
وآثر فينا حسن ذلك اليوم وجدد من همتنا ما أخلقه التعب فسرنا بأسرع من قبل حتى قطعنا مرحلتين.
فلما ضربنا خيامنا وألقينا بالليل عصانا كنا بمقربة من خط 87.
وإلى القراء ما كتبته عن تلك الليلة في مذكرتي فهو يغني عن وصفها مرة أخرى.
(نؤمل أن نصل غداً إلى النقطة التي خلفنا عندها مارفان. ولا يسعد خاطري وينعم بالي إلا أن أكون هناك فوق الثلج الكثيف. فإن هذه المنطقة تكون في شهر فبراير ماء غديراً ولا تزال كذلك أودية تسيل حتى أواخر مارس. أما تلك النقطة فمغطاة بثلج صغير يسهل السعي عليه ويحمد المسير فيه. على أنه ليس بالطريق الآمن ولا الوسيلة المثلى للرجوع. اللهم إلا قليلاً) وأقبل يوم الاثنين فقطعنا مرحلة مضاعفة طويلة الشقة انتهينا عندها إلى درجة 86، 38 وأفضينا منها إلى مخيم (أبريز) وإنما سميت كذلك تخليداً لذكرى أبعد نقطة شمالية وصل إليها دوق أبريز. وكانت مواقع الخطى في بعض الأماكن دارسة لا أثر لها. متقطعة لا ترى. على أننا لم نجد كثير عناء في تتبعها.
وكان اليوم التالي عصيباً سيئاً سرنا فيه مواجهين ريحاً باردة شمالية ترمينا في وجوهنا(12/136)
بقطع محددة من البرد كأنما وخزها وخز الإبر بل كانت تنفذ من بين فتحات أثوابنا. على أننا وجدنا في المسير فوق ذلك الجليد الصغير راحة وسروراً. وما همنا شأن ذلك البرد بل حسبناه معاكسة بسيطة ومزاحاً من القدر وخيمنا عند نقطة نانس. وما سميت هذه أيضاً بهذا الاسم إلا لإبقاء ذكرى نقطة شمالية سحيقة انتهى إليها الرحالة نانس فبعد نوم هنيء انطلقنا إلى مرحلة أخرى وهنا بدأنا نشعر بتأثير الرياح الشديدة الهوج وقد سمعنا ونحن نهدم خيامنا صوت الثلج المتكسر وانكسر عن كثب منا ركام من الجليد فانفتحت هناك فوهة كبرى فلم نجد مندوحة من اجتيازها في قوارب صغيرة كانت لدينا.
فلما ارتحلنا للمرحلة الثانية اكتشفنا آثاراً جديدة هي ولا ريب آثار الحيوان الذي أنقذناه في سفرنا إلى القطب ولاقينا في الطريق فوهة تبلغ نحواً من ميل.
وانحدرنا من جانب القطب نمشي الهوينا إلى مرحلة أخرى.
وقد وصلنا في السابع عشر من شهر ابريل المخيم الحادي عشر على مسافة مائة وواحد وعشرين ميلاً من رأس كولومبية ومررنا بأخاديد من الثلج كثيرة كنا نقضي ست عشرة ساعة متوالية في المسير إذا استحال علينا أن نتبين آثار أقدامنا الدارسة.
ولما طلع علينا يوم الأحد الثامن عشر من شهر ابريل سرنا ست عشرة ساعة أخرى وهبت في بدئها ريح رخاء لينة وانتهت ببرد يلفح وجوهنا شديد الأذى وابتلت أثوابي من العرق وامتد بنا المسير حتى ذر قرن الشمس فأشرقت في عين حمئة وهبت الريح من تلقاء الجنوب الغربي فتألمت من آثرهما ولفحت الشمس وجهي ولكنني تسليت عنا بالتفكير وجعلت أعلل نفسي عن الألم بأننا أصبحنا على مسافة لا تزيد عن مائة ميل من الأرض.
وحاولت نسيان ألم الحمى الموجع من تأثير الشمس والهواء بتسريح النظر في تلك الغيوم الأرضية التي كنا نتبينها ونحن في خيمتنا فلما كان الغدر رأينا الأرض رأي العين ومات ثلاثة من كلابنا وأما الأخرى فبدت عليها علائم الموت.
وأما المدة التي بين 18 ابريل والاثنين (19 ابريل) فقد استمر الهواء جميلاً واستطعنا أن تلمح الأرض البراح ووصلنا في سحر اليوم التاسع عشر الساعة الثالثة إلى المراكز التي وضعها الرحالتان مكملان وجود سل في عودتهما وقد قطعنا ثلاث مراحل في خمس عشرة ساعة ونصف وفي اليوم التالي طوينا مرحلة مضاعفة وانطلقنا لدى الأصيل فوصلنا لمخيم(12/137)
السادس عشر وهناك غلينا القدر وأعددنا طعاماً خفيفاً حتى إذا انتهينا اعتزمنا طريقنا حتى صباح اليوم العشرين من شهر ابريل نريد المخيم الخامس عشر.
وفي ذلك الوقت وصلنا إلى منطقة محفوفة بالأذى يعتورها الأخدود الكبير تسلمنا إلى المخيم الخامس عشر ومنه إلى رأس كولومبية.
وقضيت ليلة ما كان أمرها وأصعبها إذ أخذتني فيها عوارض كثيرة منصبة جعلتني استدل منها على أنني مصاب باحتقان في الحنجرة على أن مواصلة السير والإسراع فيه خففا ما انتابني من ألم.
وبعد يومين أو ثلاثة من مسيرنا لم يحدث فيها شيء غير مألوف وطئت أقدامنا أديم الأرض ورغماً من آلام حنجرتي وليلتي المسهدة فتنني ذلك الخاطر وسحرتني نعمته.
أما في باقي سياحتنا فقد اضطررنا إلى إتباع أثر (بارتلت) بدلاً من اقتفاء الأثر الكبير الذاهبة معالمه وليس هنا موضع الشكوى فقد وصلنا إلى نقطة تبعد عن الأرض بنحو خمسين ميلاً أما أنا فقد كانت هذه المرحلة أوجع لي وأشد ألماً أذبت ليلة نبا فيها النوم عن جفني في خيمة شديدة القر وكانت أثوابي مبتلة ندية بالعرق وكنت أشعر بحرقة مستمرة وألم شديد في رأسي وفكي ولكننا ما كدنا ننتهي من المرحلة حتى بدأت أحس بتأثير جرعة الكينا ثم أخذ ذلك الألم يخف رويد حتى زالت أخيراً عوارضه الموجعة.
ولم نحسب في ذلك اليوم حساباً لكلابنا إذ رأيناها كأنما فقدت همتها واسترخت لا تستطيع مسيراً.
وبدأنا المسير الأخير قبل انتهائنا إلى أديم الأرض في الساعة الخامسة من المساء في ذلك الجو المتألق الهادئ والوقت الساكن الصافي والتقينا بأخدود لم يجتز من قبل وبعد جهد كثير ومحاولة غير مجدية لم نر وسيلة غير إسقاط بعض متاعنا في الماء لنتخفف منها وانقفل الأخدود من جهة الشرق فأتبعنا أثرنا حتى اجتزنا ذلك الشق الكبير.
قال روبرت بيري بعد وصف بسيط.
لقد أنجزت بغيتي في الحياة وهمي. وأديت للعالم همامتي وشغلي. تلك الهمامة التي كنت أجزم بتحقيقها وأعتقد في انجازها وها أنا قد وفيت بعهدي الذي أبرمت.
وصلت إلى القطب بجهدي وحيلتي بعد أن قضيت ثلاثة وعشرين عاماً في سعي ومشقة(12/138)
وخيبة وحرقة وهم وأخطار.
ووضعت في ذمة الولايات المتحدة أكبر ثمن جغرافي ذلك هو القطب الشمالي.
ذلك العمل الذي صرفت الأمم المتحضرة له ثلاثة قرون وأضاعت لتحقيقه منهج أبنائها وأنفقت عليه غالي أموالها لم يتذلل إلا لأمر يكا وأنا بذلك قانع راض. . .(12/139)
تكريم النوابغ
يقول اللورد تنيسون ذلك الشاعر الانجليزي الغَزِل مخاطباً ملتن سيد شعراء البريطان، أي ملتن، يا واضع اللحن المؤتلف ومنشد النغم المنسجم، ومغنياً في الدهر والأبد، يا مزهرَ سِحر أنعم الله به علينا، أن اسمك سيتردد صداه في العصور المقبلة
وكذلك مكن الله لملتن وكذلك كان شأن الرجل العظيم.
وأنت ترى الناس يقدسون العظيم طوعاً أو كرهاً ويعلمون أن لا غناء لهم عن عظيم، وكل شعب فرح بعظمائه يقدر فيهم جلالة الأخطار، ويمشي إليهم بالإعظام والإكبار، وما العظمة إلا نوع من السحر يجمع بين روح العظيم وأرواح بني وطنه، بل هي نار مشوبة في الزمان القر تؤمها النفوس المقرورة والأرواح الصاردة لتصطلي من حرها ولتجد على النار هدي، ولكل رجل منا عظيم يسكنه فؤاده وينزله ربع قلبه، ولا بدع إذا رأيت الشعب الانجليزي الفخور يجد في شكسبير الآية الكبرى ويأبى أن يساوم فيه بالهند، أجمل درة في التاج البريطاني كما قالت مليكتهم، بل يراه أرجح من الهند كفة. وأغلى ثمناً وأعلى شأناً.
وقد تذيع في الخافقين عظمة العظيم فيصبح ملكاً شائعاً ليس لأمته فيه غير حق (التسجيل) فإنك ترى فيكتور هوجو في كل مكان وتسمع بشكسبير في كل بلد وتلتقي بجايتي في كل أرض. وقد تتبادل أمتان عظيما بعظيم فترى الأمة الفرنسية تقدس جولد سمث وتنوه بذكره وتتغنى وتؤثره على كثير من شعرائهم ونوابغ كتابهم بينا تجد الأمة الانجليزية تكبر موليير وتعلي شأن مؤلفاته.
وأهل الغرب أعرف منا أهل الشرق بحق العظماء، وقدر النوابغ والعلماء فالعظمة عندهن في كل فن، فالموسيقار النابغة فيهم عظيم، والراقص المبدع منهم عظيم، والمغني الغرد لديهم عظيم، وكل نوابغهم عظماء، وكلهم من ذلك يبغي العظمة ويسعى لها.
وتراهم يغارون على آثار نوابغهم فيقيمون بعد موتهم دورهم التي كانوا بها يسكنون، ومكاتبهم التي كانوا إليها يجلسون. ويحفظون الرياش والمتاع ليري الأجنبي كيف يقدسون الأبطال وكيف يعبدون البطولة، وقد قدرت براعة ديماس ذلك الروائي الذائع الصيت بالجم الكثير من الدنانير.
ونحن اليوم قد بدأنا نهتدي بهدي الغربيين ونأخذ بطريقتهم ونعرف لنوابغنا وأعيان علمائنا حقهم المطلوب. إذا احتفلنا في السابع والعشرين من الشهر الماضي (يونيه) في دار(12/140)
الجامعة المصرية بصاحب السعادة نابغتنا العظيم أحمد فتحي زغلول باشا لوضعه سفره الحديث شرح القانون المدني ذلك المرجع الجليل والأثر الباقي ما بقي القانون. وكان المحتفلون به أفاضل المصريين وكرام أدبائهم وعلمائهم وسرواتهم. وكانت اللجنة المنوطة بالتكريم مؤلفة من صاحب السعادة محمد باشا شكري وفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت وأصحابه العزة الأستاذ الكبير النابغة أحمد بك لطفي السيد والأستاذ محمود بك أبو النصر والأستاذ عبد العزيز بك فهمي والدكتور يعقوب صروف. فلما اكتمل الجمع وآذنت ساعة التكريم قام الخطباء الكرام يتلون على المدعوين روائع خطبهم ويشهدون للنابغة بنبوغه ويعترفون بجليل أسفاره وجميل مآثره على أن الوقت لم يتسع لتلاوة الخطب النفائس جميعاً، فأشرق على المدعوين سعادة المحتفل به يشكرهم وهو بالشكر أحق، ويثني عليهم وهو بالثناء أجدر، ثم انتثر عقد الجمع وكلهم عالم بمكان المحتفل به من النبوغ والفضل وقد نشر نافى موضع آخر من البيان ما وسعنا أن ننشره وأننا نتقدم إلى سعادة النابغة بالثناء الجزل والشكر الأوفر وندعو الله أن يهيئ من وقته فرصاً يخرج فيها آثاراً خالدة أخرى لمصر والمصريين. . . .(12/141)
الملانخوليا
السوداء أو الجنون الساكن
تكفل حضرة الطبيب المصري النابغة الدكتور حسن إبراهيم أن يوالي البيان في سائر أعداده بكلمات نافعة في الطب وكذلك وعد أن سيجعل في البيان باباً للفتاوى الطبية إذا أحب القراء أن يبعثوا إلينا بأسئلتهم الطبية فجزاه الله عن العلم وأهله خير ما يجزي به المخلصون - قال حفظه الله تحت هذا العنوان.
السوداء أو الملانخوليا مرض عصبي نفساني ينتقل بالوراثة بنسبة ثمانين في المائة وينشأ من تهيجات عصبية مختلفة بنسبة عشرين. والنساء يصبن بهذا الداء أكثر من الرجال، ويحدث في سن الخامسة والعشرين وقد أصابت السوداء صبية وهم في العاشرة من أعمارهم، وله كذلك أسباب أخرى مثل التسمم من الخمور سواء كان وراثياً أم غير وراثياً والانفعالات النفسانية والرعب والخوف والاهتمام الشديد، وتتمشى هذه العلة في المريض بالتدرج لا سيما إذا كان العليل من والدين عصبي مزاجهما، وفي بعض الأحيان يصيب الإنسان دفعة واحدة أثر انفعال نفساني شديد، والانهماك في الشراب يحدث جنوناً ساكناً لدى الأشخاص الناشئين في أسرة عصبية.
عوارضه
يأخذ هذا المرض عادة دوره تدريجياً وقد يأتي في بعض الحوادث دفعة واحدة ففي الحالة الأولى يشعر المصاب بخمول وفتور في همته وهمود في حركته ويشكو من صداع وأرق ورغبة عن الأكل وعسر هضم وهزال، وعلامته الخاصة أن يشعر المريض بحزن شديد غير مألوف ولا يستطيع التمييز بين الأشياء ويحس أولاً بارتخاء في عضو التناسل وعدم المقدرة على التفكير وضعف الإرادة والعجز عن القيام بأعماله ويرى في كل شيء يفكر فيه صعوبة ومشقة زائدة ويظن أن قوة عقله قد ضاعت واضمحلت وإذا أحس بأن عقلاً يفكر رآه ضئيلاً.
يتكلم قليلاً وإذا سئل عن مسألة أجاب بجمل متقطعة محاولاً أن يجعل جواباً مختصراً ما أمكن الاختصار ويقف بين كل كلمة وكلمة برهة من الزمان وتراه لا يشعر بلذة الحياة ولا يجد للسرور ولا للفرح أي ارتياح ويرى كل شيء أمامه أسود مظلماً وينقطع في كل شيء(12/142)
أمله ويتصور أنه أضحى فريسة لكل المصائب وإلاكدار ونهباً للأفكار المزعجة وقد يهتم أحياناً بأشياء تافهة وهو في ذلك تام العقل قوي الذاكرة
وإذا أراد الاهتمام بأمر شق ذلك عليه ويجسد كل أمر متعباً شاقاً فهو لا يقوى على العمل ويهمل أشغاله وواجباته الضرورية حتى نفسه ويشكو بأنه مريض بأمراض عصبية نفسانية كالآلام والهذيان والصداع والاحتقان وتضعف لديه الرغبة في الأكل بل قد يرفض الطعام بتاتاً وتغشى لسانه طبقة بيضاء ويصير لعابه لزجاً ونفسه أبخر ويصيبه أمساك شديد ويقل نومه وكذلك وزن جسمه وتدل هيأة وجهه على حزن وهم مستمر وتفقد عيناه لمعتهما ويجف جلده وتظهر فيه الغضون ويصاب غالباً بضعف الدم ويصير تنفسه بطيئاً وربما يشكو من اختناق أو خفقان، وتضعف قواه التناسلية.
وفي الإصابات الشديدة الوطأة التي تعقب الانفعالات النفسانية تكون قوته العقلية منزعجة جد الانزعاج إذ يتوهم المصاب بأنه ارتكب ذنباً لا يغتفر ون الناس لا تنصح له ولا تزجره وأنه سيبدأ عملاً يخالف القوانين والشرائع ويغضب الله العلي العظيم وتراه من ذلك يبكي بكاء مراً.
وفي حالات أخرى يحسب نفسه قد أصبح من العجزة المساكين وأن عيلته لا بد أن تلتجئ إلى ملجأ الفقراء ويتوهم أن لا شيء يسد رمقه.
وتجد بعض المرضى يتصور أنه مصاب بمرض عضال لا شفاء منه أبداً كالسرطان أو أن أمعاءه التصقت ببعضها وانسدت أو أنه فقد أعضاءه التناسلية وربما أنكر وجودها إنكاراً.
ونتيجة جميع هذه التصورات أن المصاب يتوقع من وهمه حلول عواقب وخيمة عليه إذ يظن أنه سيقتل أو يسجن وفي بعض الأحيان ينتحر المريض أو يموت لامتناعه عن الأكل.
ويوجد نوعان من هذا الجنون الشديد الوطأة فالنوع الأول أن المريض يضعف كثيراً ويتخذ شكلاً مخصوصاً في جلوسه ويلبث ساعات طوالاً ساهماً كئيباً ويبدو حزيناً مغموماً وإذا خوطب أظهر خوفاً وجبناً لا سيما إذا تحرك في مقعده وأما النوع الثاني فيكون فيه المريض هائجاً يصرخ ويخطر ويأتي بحركات غريبة ويشد شعر رأسه ولحم وجهه ويعض أظفاره وهو لا يشعر من ذلك بألم وكثيراً ما يلقي بنفسه في الأقذار والأوساخ ويبلغ(12/143)
به الضعف مبلغه فيموت جوعاً أو تسمماً أو من جروح بليغة.
نتيجة المرض
يشفى المريض في مدة تتراوح بين أربعة أشهر وسنة وقد تلبث العلة طويلاً فتزمن أما من يصاب بها ثم يشفى فتعاوده نوبات تختلف في شدتها وتمكث النوبة الواحدة من أسبوعين إلى أربعة أسابيع وفي بعض الحوادث تأتي النوبات في أوقات معلومة محدودة حتى أن المصاب لينتظرها وهو متأكد من حدوثها، وأغلب الذين يعرفون أوقات نوباتهم يسارعون إلى المستشفيات(12/144)
متفرقات
غرائب الزواج
من العادات الذائعة بين المتوحشين والهمج في هذا العصر عادة تسليف الزوجات عنواناً على الكرم والسماحة والجود.
وبين قبائل النير من أهل الملابار تتزوج المرأة من أزواج عديدين وهي تعيش مع أمها وأخوتها أو تنتبذ عنهم مسكناً قصياً حيث يزورها أزواجها متتابعين.
وفي هذه القبيلة لا يعرف الرجل أباه ويعد أبناء أخته ورثته من بعده. ومن آداب المتوحشين أن ابنة الزوجة لا يحل لها أن تكلم زوج أمها وأن زوجة الأب لا تظهر على ابن زوجها بل ينبغي أن يكون بينهما حجاب مضروب وأن النساء لا يعتدون بأزواجهن ولا ينادينهم بأسمائهم.
المجاعات
قد أحصى التاريخ من المجاعات والسنن الشهب التي أثرت في المجتمع أكبر تأثير ثلثمائة وخمسين مجاعة.
وأهم الأسباب التي دعت إلى هذه المجاعات ولأنتجت أثرها السيئ على ترتيب أهميتها هي المطر والزوابع والأجرام السماوية والحشرات والهوام والحرب والجدب ونقص المواصلات والقوانين والمضاربة والإسراف في الغلال.
المراوح
يرجع استعمال المراوح في الأقاليم الحارة إلى زمن متأبد بعيد. وفي المتحف الانجليزي مروحة تمثل الملك سنكريب وحوله نسوة يحملن مراوح من الريش.
وكانت المراوح شارة الملك ورسم العظمة عند قدماء المصريين وكذلك كانت في الهند شعار أهل النفوذ وفي بعض الأحايين كانت شارة مقدسة.
والمراوح المطبقة مصدرها اليابان ثم ظهرت بعد ذلك في الصين.
ومن التحيات وعلائم الود الخالص عند الصينيين أن تدعو صديقاً لك أو ضيفاً ذا فضل إلى كتابة شيء مما يخالجه من العواطف والحب لك على مروحتك.
الصوم(12/145)
تختلف فريضة الصيام باختلاف المناخ والجنس والمدنية واعتبارات أخرى ولا تجد ديناً أو شرعاً إلا فرضه وقد ذكر هربرت سبنسر أن كثيراً من القبائل المتوحشة في مشارق الأرض ومغاربها يصومون لموتاهم ويدخرون الزاد الوفر الكثير يضعونه بجانب جثث الموتى أو في أجداثهم.
وكان قدماء المصريين يصومون في أعيادهم الدينية لا سيما عيد ايزيس على أن الصوم لم يكن عندهم كرهاً.
السيف
أول سلاح امتشقه الإنسان دفاعاً عن نفسه أو عداء على أخيه الإنسان هو السيف وكانت السيوف في غوابر الأزمان من الخشب مثل تلك التي كان أهل المكسيك يشهرونها عندما فتح الاسبانيون أرضهم.
وكان سيف الرومان قصيراً عضباً له حدان للقطع والضرب.
الإمساك
مرض يصيب النساء كثيراً حاداً ومزمناً وسببه بطء حركة الأمعاء لا سيما الكبيرة منها وذلك ينشأ من أحوال كثيرة كفقر الدم وأمراض المعدة والكبد والرئتين والقلب والجهاز العصبي وغير ذلك أو يكون السبب في ذلك الضعف تلك الأغذية التي لا تنبه الأمعاء أو لقلة الرياضات الجثمانية أو أثر مرض معوي بالأغشية أو مرض بالجهاز العصبي كالنخاع الشوكي.
وقد يكون الإمساك عادة لا أثر لمرض ولا نتيجة لعلة بل لطعام لم ترتح له النفس أو أكل كثير لم يشرب عليه وأما سببه عند النساء فقلة الحركة والرياضات ولبس المشدات وقد يكون نتيجة الكسل والإهمال والخوف من ضياع الوقت.
وعوارضه رغبة عن الأكل وتغيير في طعم الفم ووساخة في اللسان وعسر هضم وتجشئة وضيق في الصدر وخفقان في القلب وتراخ في الجسم وضعف في الدم وصداع ونقط سوداء تلوح للإنسان أمام ناظريه وحدة الطبع وأحلام مزعجة.
حمى الملاريا(12/146)
معدل حرارة الجسم في حال صحته يتراوح بين درجتي 98، 4 و 99، 5 من مقياس الحرارة لفهرينايت (أي نحواً من 37 سنتجراد) وقد يختلف عن ذلك اختلافاً طفيفاً ما لعسر هضم أو قلة رياضة أو لجو البيئة التي يعيش الإنسان بينها.
وعوارض الحمى (نريد حمى الملاريا) رعدة تأخذ الجسم وبرودة شديدة وقد يشتد عارض الحمى فيستحيل إلى رجات عصبية كما يحدث ذلك للأطفال غالباً ومع أن الأطباء يسمون هذه الحالة التي تعتري المريض بالدرجة الباردة للحمى فإن حرارة المصاب تأخذ في الازدياد ثم تعقب ذلك الدرجة الحارة فيسخن الجلد ويجف وتزداد الحرارة لدى الغروب وتهبط عند الصبح.
وأنجع العقاقير للحمى هي عقار الكينا وبعض الأطباء يصف الكحول على أن الإسراف فيه مضر وأن كان تناوله في جرعات كبيرة يأتي بالشفاء العاجل للمريض.
أما الحمى السوداء التي موطنها أرض السودان فأنجع دواء لها خمرة الشمبانيا.
فاس
كانت مدينة فاس في الأعصر الماضية كعبة زاهرة للعلم وكان بها سبعمائة مسجد وجامعة كبيرة ومعاهد دينية كثيرة ومكتبة من خيرة مكاتب الدنيا وأبهجها وأبرعها علم وأدباً وقد أندرس معلم تلك المدينة وغاب أثر تلك العظمة وتولى ذلك المجد المؤثل وانكمشت فاس إلى عمل الطرابيش وإن كانت النمسا وفرنسا وتركيا تزاحمها في هذه الصناعة. والصبغة التي يستعملونها في صنع الطرابيش إنما يأخذونها من ثمر التوت وهو قيات يستجم في ضواحيها وينبت كثيراً في أطرافها.
وكان بناء فاس على المشهور في عام 793 ميلادية شادها أمير مسلم يسمى إدريس.
الجميز
هو ذلك الثمر المصري الشامي المعروف. وقد كان القدماء يضعونه في الماء أياماً كثيرة قبل أكله أما في الهند يزرعونه لغرض ديني إذ يعده البراهمة والبوذيون نباتاً مقدساً.
الفرنسيات والفرنسيون
للنساء الفرنسيات الحسان رقة في وجوههن يمازجها شيء من ضعف البشرة وذلك ما(12/147)
دعاهن إلى استعمال المساحيق ولا تلبث المساحيق أن تحدث الغضون.
وانك لترى الحسناء الشابة تبدو عجوزاً شمطاء وهي في الثالثة والعشرين والمرأة الجميلة تخرج لصيد القلوب وقد أربت على الستين وتتصابى وتدل دلال العذراء الغريرة وتروح بمروحتها وتلعب بعينها وترسل لخطبها وتتكلم في العواطف والقلوب الجريحة الدامية والأعين القريحة المسهدة وتقول أنها تموت في الحب والحقيقة أنها تموت من الكبر وطول العمر.
ومن غرائب آداب الفرنسيين أن الفرنسي يكلمك بلغته ويطول به نفس الكلام من غير أن ينظر إن كنت بالفرنسية عليماً بل يمضي في حديثه ويلقي عليك ألف سؤال وسؤال ويجيب عنها بنفسه.
ولعل الفرنسيين أحسن الناس طهاة ويبجحون بأن كل شيء لهم عظيم فكل حديقة جنة وكل دار قصر وكل امرأة ملاك!
ثم تسمع الفرنسي يصبح طروباً يا إله السماء ما أبدع هذا الحسن وما أفتن ذياك الجمال! يا نفس ما هذه العظمة هل ساوانا قوم في علانا وهل في الدنيا أناس مثلنا؟
الجولان في النوم
يقوم بعض الناس وهو في سباته ويروح ويغدو غير مستشعر شيئاً ثم يعود إلى فراشه حتى إذا صحا من نومه لم يذكر من ذلك شيئاً بل أن من الناس من يأتي أفعالاً عجيبة تتعلق بشؤونه اليومية ومشاغل نهاره وقد روى أن طاهياً كان ينهض من فراشه فيعمد إلى دلوه فيدلي الرشاء في البئر فيخرج من عينه ماء ثم يعود به إلى الدار فيملأ الأوعية دون أن تسقط من الدلو قطرة ثم ينقلب إلى مهاده فإذا طلع الصبح عليه لم يذكر من ذلك شيئاً ومنهم من يكتب الرسائل وينشر التقارير ويرسم الرسوم ويقع على المعازف والمزاهر وآلات الموسيقى.
وقد دلت الملاحظات على أن المشتغل بالكتابة مثلاً وهو في النوم مستغرق إنما تتمثل أمامه صورة خيالية لرسالته وللحروف التي يخطها على القرطاس دون أن يرى حقيقة ما يكتب.
لمحة في تاريخ الاشتراكية
يرجع تاريخ الاشتراكية إلى عام 1817 إذ وضع الكاتب الانجليزي (أوين) خطة يريد بها(12/148)
إنشاء مجتمع اشتراكي ثم عرض خطته على مجلس النواب، وفي ذلك العام أخذت آراء سان سيمون وفوربيه وجهتها الاشتراكية ثم بدأت حركة كبيرة في فرنسة وانجلترة واستمرت كذلك حتى عام 1850 وكان بطلا تلك الحركة في فرنسة برودهون ولويس بلانك وقد أخذا الاشتراكية عن سان سيمون وفوربيه أما في انجلترة فقد تبع (أوين) موريس وكنجلي، ومذهب الاشتراكية الحديث يعود إلى فلاسفة الألمان والروس على أنها اليوم تكاد تشيع في كل بلد وقطر.
الجعة
كان عمل الجعة معروفاً عند المصريين الأقدمين قبل مولد المسيح بمئات السنين ثم عرفها بعدهم الرومان والإغريق والغال القدماء ثم انتقلت من أهل الغال القدماء على مطية العصور إلى عهدنا هذا.
وكل الممالك المتحضرة منها والمتبدية في كل عصر وزمان لها خمرة مخصوصة وراح أهلية وقد روى هيرودوت في كتابه أن المصريين لما أعوزتهم خمرة العنب أخذوا يجعلون من القمح راحاً لهم أما اليونان فكانت خمرتهم من الحنطة يشربونها في يومهم وأعيادهم وحفلاتهم وكان باكوس آله الخمر عندهم ومما لا ريب فيه أن اكتشاف الجعة كشراب ترتاح له النفس وتطيب به الروح، أمر قديم له عهد العنب وخمرته، وقبائل جنوب افريقية يعملون من عهد بعيد شراب الجعة من غلة الدخن وجعة الصين من الأرز وخمرة التتر هي حامض لبن أفراسهم.
موسم الانتحار
شهرا مايو ويونيه في أغلب البلدان هما موسم الانتحار على أن في بافارية وسكسونة يغلب الانتحار ويكثر في شهر يوليه واختلاف فصول السنة بين حر وقر يؤثر في المنتحرات أكثر من المنتحرين لا سيما في ايطالية ودليل ذلك أن تعيسات النساء يؤثرن الانتحار غرقاً وفي الأيام العصيبة الشديدة الحر يزداد عدد المنتحرين وأسهل الطرق في انجلترة للانتحار بين الرجال هو الشنق وأما بين النساء فالغرق وفي ايطالية ينتحر الرجال بمسدساتهم وقلما يخنقون أنفسهم وشقيات الايطاليات يؤثرن إغراق أنفسهن في النهر حتى لقد بلغت الغريقات خمسين في المائة من مجموع المنتحرات واستعمال السم شائع بين الانجليزيات(12/149)
البائسات.(12/150)
نبذ من ديوان شكرى
ضوء القمر على القبور
إذا رأى الإنسان ضوء القمر على الزهور خشع من جلالة ذلك المنظر ولكنه إذا رأى ضوء القمر على القبور امتلكه الفزع من قساوة ذلك المنظر الذي يحكي له فناء الجمال في الموت وفناء الموت في الجمال
أني رأيت بياض ضوئك موهنا ... فوق القبور كعارض يتهلل
ففزعت من ذاك البياض كأنه ... لون المشيب على الذوائب يثقل
ولربما كره الفتى صور الردى ... وهو الجريء على الحمام المقبل
ولقد رأيتك والقبور كأنها ... أشباح ساكنة النواظر مثل
نظر البريء إلى القتيل مجندلا ... والروع في أنفاسه يتعجل
ولقد رأيت على الهلال سآمة ... سأماً يعالج مثله المتأمل
فكأنه الحسناء يطرقها الردي ... فتبيت تذوي في الفراش وتذبل
طورا يريك الموت في لحظاته ... حتى كأن الحسن داء معضل
ويبيت طورا في الرياض يعلها ... مما يريق على الفضاء وينهل
ابتسامات
وميض ابتسامات يضيء جوانحي ... ويجلو ظلام الهم واليأس من صدري
إذا ابتسمت ضاء بعيني ابتسامها ... كما ضاء وجه البدر في صفحة البحر
يكاد يضيء الغيب في مستقره ... وميض ابتسام فعله صادق السحر
واسمع في نفسي أغاريد جمة ... يهيج صداها في الجوانح والصدر
كأن بها من صادح الطير شاديا ... يغرّد في روض من الحب والشعر
واني لكالبذر الدفين ولحظها ... غذاء كلحظ الشمس للزهر والبذر
ويوقظ آمالي ضياء ابتسامها ... كذاك شعاع الشمس يزخر بالذر
شعاع ابتسام كالغدير خواطري ... نوازل فيه كالكواعب في النهر
فجر الشباب
إني لأذكر أياماً لنا سلفت ... كما تذكر صوت اللجة الصدف(12/151)
فكان للفجر قلب خانق أبداً ... من الحياة ووجه كله لطف
والضوء يرقص في الأنهار موقه ... فقدّه مائس فيها ومنقصف
وناظر ونجوم الفجر مائلة ... نحو الغروب كما يرنو لها الدنف
وكلمتني الرياح في فمها ... سر الطبيعة مخبوء ومنكشف
الكسل وصاحبه
يحجم حتى كأنما خشيت ... أعضاؤه أن يموت في غده
فيدرك الشيء غير طالبه ... ولا ينال المكسوب في يده
وراعه أن ينال ما ضمن ال ... سعي فيشقى بقول حاسده
يود أن الأقدار تسعده ... فيغتدي شاكراً لمسعده
يحسب أن الأقدار ما خلقت ... إلا لتجري بنسج سؤدده
شفة
شفة تحلت باللمى ... فتبيت تحلم بالقبل
غالى بها رغد النعيم ... وفوقها هبط الأمل(12/152)
مطبوعات جديدة
عكاظ
ظهر في هذا الشهر (يوليه سنة 1913) صحيفة أسبوعية تطلع الناس صباح كل أحد أسماها صاحبها الفاضل (عكاظ) والشيخ فهيم قنديل هو أحد خريجي الأزهر الذين احلولى لهم أن يحترفوا بالصحافة فانتظم في سلك كتاب اللواء حيناً من الدهر حتى إذا انتثر عقد تلك الجريدة أبى الشيخ فهيم لما آنسه في نفسه من الكفاءة الصحفية إلا أن ينظم للناس قلادة أدب. في لغة العرب. يود المطلعون إليها أن تكون كما ترجو مصر. من أبناء هذا العصر. فتكون مثال أدب النفس. وأدب الدرس. إن شاء الله.
شرح القانون المدني
لسنا الآن بسبيل تقريظ هذا الكتاب الجليل الذي أقام الدنيا وأقعدها وبسبب ظهوره في مصر احتفل رجال القانون من قضاة ومحامين بمؤلفه النابغة العظيم سعادة أحمد فتحي زغلول باشا. وهذا الاحتفال وحده من رجال القانون دليل فيه غناء عن تفريط الكتاب - أما الكتاب فيباع بمكتبة البيان وثمنه مائة قرش وأجرة البريد ثلاثة قروش.
واجبات الرجل
أهدانا حضرة الفاضل محمد أفندي بشير الموظف بجمرك الإسكندرية الجزء الأول من كتابه واجبات الرجل للنابغة العظيم يوسف مازيني والكتاب جليل مشهور يفيد القارئين. وهذا الجزء الأول يحتوي الكلام على حياة مازيني ويقع في نيف وتسعين صفحة وثمنه ثلاثة قروش وأجرة البريد قرش ويطلب من مكتبة البيان.
تقويم البلدان
كتاب نافع محكم في علم تقويم البلدان الجغرافية للفاضل الأستاذ محمود أفندي مراد المدرس بمدرسة الناصرية بالقاهرة وقد أهدى إلينا حضرته نسخة من هذا الكتاب فوجدناه عند ظننا بصاحبه الفاضل إذ عني فيه بضبط الأعلام وتنسيق الأبواب وإتقان خرائطه التي تبلغ نحو من ستين وهو يطلب من مكتبة البيان.
سر تقدم الانجليز السكسونيين(12/153)
طبعت مكتبة البيان هذا الكتاب الاجتماعي النفيس للمرة الثالثة وثمنه عشرة قروش و15 و 20 حسب نوع الورق وأجرة البريد قرشان.
محاسن الطبيعة وعجائب الكون
يعلم قراؤنا أننا كنا شرعنا في ترجمة كتاب جمال الطبيعة للورد أفبري ونشرنا منه في العددين الثاني والثالث من السنة الثانية أربعاً وعشرين صفحة ولكن عاقنا عن إتمام الكتاب أن علمنا قيام جناب المترجم البارع وديع البستاني بترجمة هذا الكتاب وكذلك ترجمه فأحسن ما شاء. وأسماء محاسن الطبيعة وعجائب الكون وقام بطبعه أحسن قيام الرجل المجتهد متري صاحب مكتبة المعارف ومطبعتها. وثمن هذا الكتاب 6 قروش صاغاً ويطلب كذلك من مكتبة البيان.
التصريف الملوكي
كتاب جليل في علم الصرف لإمام النحويين أبي الفتح عثمان بن عبد الله بن جني النحوي. عني بتصحيحه وطبعه ووضع فهرس له مع إضافة فوائد من هذا العلم إليه الفاضل السيد محمد سعيد بن مصطفى النعسان الحموي. وقد زارنا السيد محمد سعيد القائم بطبع هذا الكتاب فرأينا منه رجلاً مخلصاً متوفراً على ترقية هذه اللغة والعمل على تسهيلها وتقريبها لمدارك الناشئين. وهذا الكتاب يحتاج إليه الناشئ وطالب العلم والأديب.(12/154)
مجلة البيان
بعث إلينا أحد كبار الكتاب في مصر الكلمة الآتية تحت هذا العنوان - وكلها كما يرى القارئ مدح وإطراء لهذه المجلة ولصاحبها_ونحن فلا نرى أننا أدينا لأمتنا الكريمة من الواجب ما نستأهل له بعض هذا الحمد والثناء. ولولا ما نجتليه أثناء سطور هذه الكلمة من آيات الإخلاص والغيرة الصادقة والحمية الشريفة لكنا اجتزأنا عن نشرها بالشكر لصاحبها المفضال_قال غفر الله لنا وله.
الأزمنة كالأمكنة فيها المثمر العشيب، والممحل الجديب، وأعشاب الزمن وأجدابه، إنما هو بإثرائه من العلوم والأخلاق أو بأنفاضه. ولقد قدر لي والحمد لله أن أقضي حياتي بأحسن الأماكن وأسوأ الأزمان.
وأنفق ساعاتي بألأم العصور وأكرم البلدان. فأنا أعيش في روضة (مصر) من أخصب رياض الدنيا. ولكن في صحراء من أفقر فيافي الزمن. تمتد فيها رمال الجهل إلى غير نهاية، ويستعر فيها هجير اللؤم والقسوة تحت سمائم الشغب والصخب. في مثل هذه البيداء الزمنية لا يجد الإنسان - ولا يرجو أن يجد_أدنى ظل لأكرومة، ولا أحقر غرس لمحمدة ولا أضأل منهل لعرفان. وأن تواتر على عينه سراب هذه الفضائل بالغرور والخديعة. وصادف هنا وهنالك وشلا من علم وضحضاحاً من أدب. وكذلك كل ما لقيت بهذه الصحراء الزمنية. إذ أسافر فيها على مطيتي الليل والنهار. وأنا أقول في نفسي أما آن أن نفضي إلى عين من الطبع الكريم جارية، وبئر من الخلق العظيم صافية، وشجرة من ورق العرفان حالية، وقطعة من ظل المروءة ضافية - أعلل النفس بهذه الآمال وأمثالها إلى أن سرى إليّ في أواسط عام سنة 1911 نسيم طيب شممت فيه ريح الأستاذ الإمام محمد عبده وإذا مهب ذلك النسيم من أوراق شجرة أنبتها نهران غزيران أحدهما يفيض من ذهن الشيخ عبد الرحمن البرقوقي والثاني ينبع من جيبه. وسألت عن اسم هذه الشجرة البرقوقية فقيل هي مجلة البيان.
ألا حيا الله هذه المروءة وأيد الله تلكم الهمة، لقد راعني والله ما رأيت وحير لبي وهالني حتى رابني الأمر واشتبه عليّ الزمان والمكان أين أنا؟ في أية جهة أنا! ألست في عصر الجمود واللؤم؟ ألست في عصر المادة والجوع والشره، واصطدام الذئاب على تلك العظمة النخرة، والجيفة القذرة التي يسمونها الدنيا؟ ألست في عصر المعدن - عصر الحديد الذي(12/155)
شاع فيه الحديد وفشا حتى لكأنه دخل في الأجساد فاغتصب مكان الأفئدة بعد أن طردها من أبدانها فلا قلب إلاَّ من حديد. ولا كف إلاَّ من حديد. بئست القلوب والأكف. وكأنما الناس آلات من الحديد وقد كف الله لأمر ما عن أن يخلق البشر وأحال ذلك العمل على فابريقات برمنجهام ومانشستر. ألسنا في عصر الذهب، ذلك الأصفر الخداع الذي تفض صفرة الهم والذل على متداوليه وطلابه - ذلك المفتر عن شبيه ابتسامة المعشوقة المومس تقود من تشاء إلى حيث تشاء من مهالك الخسران والندامة. ألست في عصر الاقتصاديين والأنانيين الناهين عن البذل والمعروف، الآمرين بالشح واللؤم. بلغوا غاية الرذيلة بمذهبهم استبقاء الأجود وإعدام الأردأ واشتغال المرء عن جميع المخلوقات بذاته. أما زال في هذا العصر. أم قد عدت إلى عصر النجدة والبطولة وأيام صلاح الدين وريكاردوس وعهد دون كشوت وسانكوبانزا؟
بلى لا أزال في عصر لتمدين الوحشي ولكن الأرض لا تخلو البتة من روح صلاح الدين وايفانهو.
لقد لأتى على انطانيوس قيصر وقتان ضدان بلغ في احدهما منتهى الذم والنعمة، وفي ثانيهما غاية الحمد والمحنة، أما الأول فذلك حين كان يتقلب في أحضان ملكة الجمال - كليوبترا_وأما الثاني فذلك حيث كان يأكل الحنظل والمرار في بعض غزواته. والمحنة مع المجد أحلى ولا شك في نفس العظيم من النعمة مع الضؤولة. والعظيم لا يطيق الضؤولة إلا ريثما يتحول عنها.
أيها الناس أرأيتم غير السيد البرقوقي رجلاً انفسحت له نعمة، وصفا له مورد العيش. فما راقه هذا إلا أن يشمر للمجد وينجرد في سبيل العلاء فأنش المجلة وأنفق عليها المال الجم. وليس بأقل من ذلك. ما أنفقه على مطبوعات البيان وكثير هي. ولعمر الله لو أن شركة قامت بكل هذه الأعمال لخارت قواها وكلت عزائمها مع ما هنالك من المثبطات والعوائق ولكن الفرد العظيم كالملك العظيم. هذا خير من الشركة وذاك خير من الجمهورية.
والشيخ أيده الله قد أظهر أكبر الفضل في براعة أسلوبه وجودة إنشائه ولطف تخيله ودقة تصويره بما لا يترك أدنى مجال للشك في أنه كاتب جليل ومفكر قدير. ثم في اصطفائه للمجلة صفوة كتاب العصر ومصاصة ادبائه ثم تخير الموضوعات التي لا ترى بينها إلا(12/156)
جلائل المسائل وبدائع الفن. ثم في تعريب نخبة ما كتب الإفرنج. كل ذلك في أجمل قالب وأرشق معرض وأحسن سياق، فقد أودع أحسن المعاني أحسن المباني. فكأن هذه في تلك عتيق السلاف، في القدح الشفاف، ثم المثابرة والمواظبة وارتخاص المال وامتهان الجسد والروح في هذه السبيل. وذلك مالم نره في آخر من أهل هذا العصر ولا ما سلفه. اللهم إلا عصور النجدة والبطولة تلك التي ذكرت آنفاً.
وعندي أن مجلة البيان ومطبوعاتها فتوحات جديدة في تاريخ الأدب العربي. وثروة حقيقية أضيفت إلى مادة ذلك الأدب. وللمتنقل بين أبواب المجلة ومطبوعاتها لذة المتجول في أرض جديدة يملأ عينه من جمال بهجتها، وكفه من جزيل خيرها وبركتها، وقد جمعت المجلة فنون الأدب بحذافيرها. وبلغت غاية الإتقان في كل ما جمعت. ففيها النقد الأدبي وفلسفة النقد الأدبي. لا أريد التقريظ والهجاء كما يفعل معظم الناقشين بالمداد على الورق. ولكن النقد على الأسلوب العربي القديم. والأسلوب الإفرنجي الحديث. ذلك الذي هو أولى أن يلقب تشريحاً إذ كان أشبه الأشياء بالتشريح الجراحي يكشف عن خفايا الكتاب المنقود وغوامضه، فكأنه للقارئ مجهر يريه ما لطف ودق عن أن ينظر إلا ببصيرة نقادة جهبذ.
وفي المجلة كذلك التاريخ الروائي ذلك الذي يكتبه صاحب البيان بعنوان حضارة العرب في الأندلس والذي حاز إعجاب القراء على اختلاف ضروبهم وأشكالهم وتعدد مشاربهم وأميالهم وهي طريقة جديدة في كتابة التاريخ، وخطة بكر لم يحاولها غير السيد قبل، ومع ذلك فقد ذلل السيد صعابها، واقتحم عقابها، وألف الله على يديه بين التاريخ والرواية، وهي غاية في التوفيق ليس دونها غاية.
وفي المجلة كذلك الرواية وقد كانت تنقل عن الإفرنجية ثم شرع كتاب البيان أخيراً أن يكتبوها بأقلامهم وابتدأ العقاد فبرهن بمذكرات ابليس على أن ملكة الروائي ليست مما توحد به الغربيون. ولكنها كامنة في المصري تنتظر من كف الزمن قادحاً ومثيراً.
وفي المجلة كذلك الرسائل الأخلاقية والاجتماعية والفكاهية والهزلية وفيها القصائد والمقاطيع وفصول التربية والتعليم والفلسفة والعلوم الطبيعية والزراعية والنبذ الوصفية. ذلك إلى ما ينشر فيها من غير المطبوع من نفيس آثار العرب تحت عنوان صحائف مهجورة ولعمر الحق لست أدري أي باب في الأدب لم تطرقه المجلة.(12/157)
إن مجلة هذا شأنها كان فرضً على كل قارئ من المصريين أن يقتنيها مغتبطاً بها مقتنعاً أنه غانم رابح بل أنها أربح صفقة وأكبر غنيمة أأقول كان ذلك فرضاً على كل قارئ من المصريين؟ ضلة لي، لشد ما بان مني الصواب. وكأني لم أدر بالذي يفرضه على نفسه الناشئ. بل خريج المدارس من الواجبات؟ كأني لم اسمع بالكسل والغرور ومعاداة العلم وأهله وتطليق الكتب والتجرد من المحامد والتعري من المكارم وكأني لم أسمع باللهو واللعب وسهر الليل ونوم العصر والعصي الآبنوس والمنشات والكتاين والمركبات والجزيرة والحلويات ومصر الجديدة.
كراهة الاطلاع ومعاداة العلم مع النفخة والغرور. هذا داء مصر الذي لا نجاح لها إلا بعد الشفاء منه ومتى يرجى الشفاء والداء عقام؟
ولكن اليأس سم الحياة، وما أعلم شيئاً أقتل منه للهمم والعزائم. فدعنا من اليأس وأمل خيراً وأنشد عصبة المتخرجين والطلاب وسائر القراء.
أي عذر لكم في عدم قراءة جيد الكلام مجلة كان أو كتاباً أو رسالة قديمة أو حديثة عربية أو أجنبية وقل لهم هل أنتم - معاذ الله_من السذاجة بحيث تحتاجون إلى معلم يعرفكم أن أنفس الموجودات طرا هو الكتاب؟ وإذا كان ذلك كذلك فما بالهم يأتون كل أمر إلا اقتناء الكتب أين الأذهان والعقول ألا أن بالإبصار عن حكمة عمى * ألا أن بالإسماع عن عظة صم
الخ الخ(12/158)
موضوعات البيان
من بين موضوعات البيان التي لم يستيسر لنا نشرها في هذه الأعداد وسننشرها في العدد القادم مقالة (تمصير اللغة) لأديبنا الكبير النابغة السيد مصطفى صادق الرافعي، وكذلك رسائل اللورد شيسترفيلد ترجمة الكاتب الفاضل عز العرب أفندي علي، وكلمات للسيدة الفاضلة (فتاة النيل)، وهنا نقول أن من بين موضوعات العدد القادم كذلك تاريخ الأندلس، ومبحث يليه مباحث في الاقتصاد السياسي، وثروة الأمم لكبير كتاب الاقتصاد الأستاذ آدم سمث ترجمة الكاتب عباس حافظ، وفصل جليل في سر انحطاط المدنيات القديمة من كتاب مدنية انكلتره للعلامة بوكل، وموضوعات أخرى كثيرة تشوق القارئين.
اعتذار
نتقدم إلى قرائنا الأفاضل بالمعذرة عن تأخر هذه الأعداد الثلاثة عن مواعيدها إذ كان موعد العدد الخامس سَلخ جمادى الأولى، والسادس جمادى الثانية، والسابع سلخ رجب الأصم، فأظهرناها معاً في هذا اليوم (20 شعبان) وكان من حق القراء المقدس لدينا أن نظهرها متفرقة في أوقاتها لولا ما طرأ في البين من اشتغالنا بنقل إدارة هذه المجلة ومكتبتها ومطبعتها من مكانها الأول إلى مكان رحيب بشارع غيط العدة أمام دار الجريدة.
على أننا عوضنا على القراء بأن زدنا هذه الأعداد صفحات أخرى علاوة على صفحات الثلاثة الأعداد تبلغ نحواً من أربعين صفحة وبذلنا الجهد في انتقاء الموضوعات المفيدة للقراء كما يرى الناظر إذا هو دقق النظر وأنعم الروية. وكذلك شأننا منذ أنشأنا هذه المجلة لا نألو جهداً في إتقانها وتخير موضوعاتها وبذل النفس والنفيس في هذه السبيل إلى الغاية التي لا ورائها والله الهادي إلى سواء السبيل.
استدراك
ذكرنا من بين وكلائنا خطأ حضرة الفاضل السيد عبد العزيز بن عبد الرحمن والحقيقة أنه السيد عبد الله بن عبد الرحمن في بندرمهاراتي - جوهر بالهند.(12/159)
العدد 13 - بتاريخ: 1 - 10 - 1913(/)
تمصير اللغة
نريد بهذا التمصير ما ذهبت إليه أوهام قوم من الفضلاء يرون أن تكون هذه اللغة التي استحفظوا عليها مصرية، بعد أن كانت مضرية، وأن نطّرد لهم مع النيل بعدد الترع وعداد القرى حتى ترسل الكلمة من الكلام فلا يجهلها في مصر جاهل ويصدر الكتاب من الكتب فيجري من أفهام القوم في طريقة واحدة ويأخذ منهم مأخذاً معروفاً غير متباين بعضه من بعضه ولا ملتو على فئة دون فئة ومن ثم يزين لهم الرأي أنه لا يبقى في هذا الجمّ الغفير. . . من علمائنا وكتابنا وأدبائنا من لا يعرف أين يضع يده من ألفاظ اللغة ومستحدثاتها إذا هو كتب أو مصَّر عن لغة أجنبية - ولا نقول عرّب فإن هذه بالطبع غير ما نحن فيه_بل يأخذ من تحت كل لسان ويلقف عن كل شفة ولا يبعد في التناول إلى نضطرب واسع ولا يمضي حيث يمضي إلا مُخِفّاً من هذه القواعد وتلك الضوابط العربية إذ تتهادن يومئذ العدوتان هذه العامية وهذه الفصحى وتصلحان بينهما صلحاً أن لا ترفع إحداهما في وجه الأخرى قلماً ولا لساناً وعلى أن تبيح كلتاهما للثانية حرية الانتفاع بما يشبه حرية التجارة إلا في المواد المضرة التي يعبر عنها دهاة السياسة اللغوية بالألفاظ العامية المبتذلة والألفاظ العربية الغريبة - ثم على أن تحفل إحداهما ما تركت الأخرى مما سوى ذلك فتستمر العامية على ما هي وتذهب الفصحى على وجهها.
يقولون أن هذه هي شروط الصلح بين اللغتين أو هي المعاني التي ترجع إليها وتترادف بها متى أرادوا أن يبسطوا من هذه الشروط ويخرجوا بها إلى التعدد والكثرة، وإنما تلك آراء كان يتعلق عليها بعض فتياننا إفراطاً في الحمية ومبالغة في الحفيظة لمصر وأملاً مما يكبر في صدورهم على ما ترى من تهافتها وضعف تصريفها واضطراب أولها وآخرها لأنهم لا يثبتون النظر فيها ولا يحققون خطوة ما بين الإرادة والقدرة وفَوتَ ما بين الأمل والعمل ثم لا يعرفونها إلا أحلاماً قريبة الأناة ساكنة الطائر فكان ذلك عذر العقلاء إذا مروا بها لماماً وتروحوا بالأعراض عنها سلاماً حتى تناولها الأستاذ مدير (الجريدة) فحذفها وسواها وأخرج منها طائفة من الرأي تصلح أن تسمى عند المعارضة رأياً. فقال بالإصلاح بين العامية والفصحى على طريقة تجعل هذه تغتمر تلك وتحيلها إليها فعسى أن يأتي يوم لا تكون العامية فيه شيئاً مذكوراً.
بيد أنه أخرج هذا الرأي البليغ من غير بابه، وتسبب إليه في النظر بما ليس من أسبابه،(13/1)
وجاء به قولاً أن يكن فيه صواب فهو ما آثره من تقريب ما بين العامة والخاصة وإزالة الجفوة بين هؤلاء وهؤلاء، وتوثيق العقدة المنحلة بين الألسن والأقلام، أو بين لغة الكتابة ولغة الكلام، ثم ما رآه من التخطي بالعربية إلى الأمام، وإن يكن فيه خطأ فهو ما وراء ذلك مما أرسله في أقواله البليغة سناداً لرأيه وتثبيتاً لحجته.
وإن مَجَم هذا الرأي ومستجمعه أن الأستاذ يرى (أخذ أسماء المستحدثات من اللغة اليومية وإمرارها على الأوزان العربية بقدر الإمكان فإن لم يكن لها ثمة أسماء فمن معاجم اللغة وكتب العلم لأن هذه عنده دون اللغة اليومية - فإن لم يصب ذلك في هذه أيضاً وضع لها الواضع ما شاء. وإن في استعمال مفردات العامة وتراكيبها إحياء للغة الكلام وإلباسها لباس الفصاحة إذ يكون من ذلك رفع هذه اللغة إلى الاستعمال الكتابي والنزول بالضروري من اللغة المكتوبة إلى ميدان التخاطب والتعامل. ذلك وإن ما استعملته العامة إنما هو قرارات الأمة في هذه الكلمات التي لا تريد النزول عنها. وأن الطريقة الوحيدة لإحياء اللغة هي إحياء لغة الرأي العام من ناحية وإرضاء لغة القرآن من ناحية أخرى. وأننا إذا أردنا الصلح بين اللغتين فأقرب الطرق إلى هذا الصلح أن نتذرع إلى إحياء العربية باستعمال العامية ومتى استعملناها في الكتابة. . . اضطررنا إلى تخليصها من الضعف وجعلنا العامة يتابعون الكتاب في كتاباتهم الخ الخ.
هذا هو تحصيل رأي الأستاذ وأكثر ما أوردناه إنما هو من ألفاظه بحروفها فإن طال عليك ذلك السرد وبرمت به جملة فإن لك أن تدمجه في كلمتين ثم لا تكون قد أخللت من جميعه بشيء وذلك أن الأستاذ يرى تمصير اللغة لأننا إذا تابعناه فإنما نلتمس كل ما أشار إليه من العامية المصرية وحدها ونعطي هذه العامية سعة أنفسنا وبذل أقلامنا (طاقتها) فنلبسها بالفصيح ونخلط منهما عملاً صالحاً وآخر سيئاً ولعل هذا الرأي أن يشيع من ناحيتنا ويطمئن في كل أمة لها عربية فتأخذ مأخذنا في عاميتها وتنزع إلى ما نزعنا إليه فإذا أمكن أن يتفق ذلك وأن تتوافى عليه الأمم كان لعمري أسرع في فناء العربية وجدا عليها شؤم هذا الرأي مالا يجدو تألب الأعداء لو استأصلوا أهلها. وبلغ منها مالا يبلغه الفاتحون ولو ملكوا تلك الأرض كلها، ثم نحن نتسامح في استعمال المفردات والتراكيب العامية. وسينقاد لذلك من بعدنا ثم من بعدهم إلى أجيال كثيرة يتراخى بعضها عن بعض فيوشك أن يأتي(13/2)
يوم تكون فيه تلك اللغة الفصحى ضرباً من اللغات الأثرية في كتابها الكريم لأننا لا ننظر فيما نترخص فيه الآن من كلمات معدودة صدرت بها قرارات الأمة أن لا تزال على وجه الدهر عامية ولكنا ننظر إلى الأصل في قاعدة التسامح والترخيص فإذا ثبتناه وأخذ به غيرنا ولم يكن عندنا لذلك نكير فما أشبهها أن تكون كالقاعدة الاستعمارية التي تبتدئ بالتسامح للمستعمرة والغزاة في أخذ الشيء القليل ثم تنتهي بالتسامح في كل شيء.
ونحن فإن كنا نفهم رأياً من هذه الآراء الحاضرة فإننا لا نفهم كيف يكون إحياء العربية باستعمال العامية وكيف نرضي لغة القرآن التي تأبى إلا أن تتقيد بها اللهجات الأخرى كما محت من قبل لغات العرب جميعها على فصاحتها وقوة الفطرة في أهلها وردتها إلى لغة واحدة هي القرشية ثم نرضى من جهة أخرى هذه اللهجات العامية التي تأبى أن تتقيد بشيء وهي أبدا دائمة التغير بالأسباب المختلفة التي تؤثر فيها وتديرها في الألسنة حتى صارت في بعض قرى مصر كأنها مالطية (متمصرة) وصار بعض هذه القرى لا يفهم عن بعض. وإذا حاولنا مذهب الإصلاح العامي فليت شعري من أي لهجة نأخذ وأي لهجة في مصر هي غير مصرية فننبذها. وإذا ابتغينا بهذا الإصلاح استدراج العامة ليتابعوا الكتاب والخطباء فيما يكتبون ويخطبون فهل يتابعونهم على العامي وحده حين يُنزَّل في الفصيح إذ يستمرؤنه ويسيغونه حتى إذا عرض لهم الفصيح خالصاً أنكروه وغُضّوا به أم تكون المتابعة على العامي والفصيح جميعاً. إذا جاز على القوم أن يتابعوا الكتاب والخطباء على الفصيح الممزوج بالعامي فلم لا يكون ذلك إذا كان الفصيح خالصاً مأنوساً وكانت القرائن قائمة على ما فيه من جديد أو غريب وكانت ألفاظه لا تبرأ من معانيه ولا هذه تشق على تلك؟
نحن لا نماري في وجوب الإصلاح اللغوي ووجوب أن يكون للغة في هذه النهضة مجمع يحوطها ويصنع لها ولو على الأقل كمصلحة الكنس والرش. . . ولا نقول أن هذه العربية كاملة في مفرداتها ولا أنه ليس لنا أن نتصرف فيها تصرف أهلها فإن من يذهب إلى ذلك لا يعدو باللغة وسيلة من وسائل العيش وأداة من أدواة الاجتماع الفطري. وليت شعري ما يصنع أولئك إذا صارت العربية لغة العلوم والفنون الحديثة وجاؤا إلى طائفة واحدة من الحشرات يقسمها العلماء إلى عشرين ألف ضرب اعتبروا في وضع أسمائها تباين ما بينها(13/3)
في طبقات التشريح ثم ماذا يصنعون بضروب سائر الحيوانات وبالنبات وغير النبات مما لا يأتي عليه الإحصاء من متعلقات العلوم وفروعها وهل تجزئ في ذلك كله ألفاظ لسان العرب وكتب الحيوان والنبات العربية وما إليها مما أطلقت ألفاظه واضطربت أوضاعه واختلفت معانيه واستفاضت حدوده حتى ليصبح أن تعم اللفظة الواحدة بكثرة ما تطلق عليه في هذه اللغة شطراً من معاني العلم التي هي فيه؟
ألا وأن أعجب ما في أمرنا من المعروف والمنكر أن تختلف الأمم في معاني الألفاظ واختراعها وتحديدها ووجوه الانتفاع بها ولا نختلف نحن إلا على ألفاظ هذه المعاني وأنها عربية أو معربة وهل نتقبلها أو نردها ونثبتها أو ننفيها ونقرها أو ننكره وننسخها أو نمسخها. . . وقد فاتنا أالعرب أنفسهم لم يكونوا يعرفون شيئاً يسمى لغة إنما كان همهم استيعاب أجزاء البيان في كل ما ينطقون به على أصول الفطرة اللغوية التي يُنشّؤن عليها وقد ضبطت هذه الأصول فيما انتهى إلينا من قواعد اللغة وما نقل من ألفاظها فصار لنا حكمهم إذا نحن تدبرناها ونفذنا في أسرارها وأحسنا القيام عليها. وليس عندنا في وجوه الخطأ اللغوي أكبر ولا أعظم من أن يظن امرؤ أن اللغة بالمفردات لا بالأوضاع والتراكيب فإن اللغات المرتقية هي تلك التي تمتاز بوجوه تركيبها ونسق هذه الوجوه ولا يمكن البتة أن تكون لغة من اللغات ذات وفر وثروة من الألفاظ إلا أن تدعو إلى ذلك وجوه أوضاعها وتراكيبها. ولا تجد عندنا من الإنكار على من يقول بإباحة التصرف في تراكيب العربية والتكذيب له والاستعظام لما جاء به إلا كما عندنا من الرد لقول من يمنع التصرف في مفرداتها - بالتعريب وغير التعريب_ما دامت الحاجة إلى ذلك ماسة وما دام ذلك لا يخرج اللفظ الموضوع عن الشبه العربي الذي يجريه في اللغة ويجعله إليها ويلحقه بمادتها ثم ما دمنا نعمل هذا العمل فنقضيه صريحاً محكماً ونستن فيه سنة العرب في طريقة الوضع اللغوي وحكمة هذه الطريقة ووجه هذه الحكمة.
فأنت ترى أنه لا ينقصنا من اللغة شيء وهي على ما هي من أحكام الأوضاع والتراكيب والاتساع للمفردات ولو أقبلت كأعناق السيل. ولكن ينقص هذه اللغة رجال يعملون ويحسنون إذا عملوا ويعرفون كيف يتأتى عملهم إلى الإحسان وكيف يكون عملهم عملاً. ولقد كان من سوء الصنع لهذه العربية أن قامت لإحيائها (مجتمعات) كلها كان يكدح في هذا(13/4)
العمل الجديد على قاعدة قديمة فلا يعدون في طريقة العمل وجهة القصد منه أن يبدلوا لفظاً وحرفاً بحرف وينبهوا إلى الخطأ في بعض الاستعمال وصواب في بعض الإهمال مما يستخرجونه أو يقفون عليه أو يتفق لهم اتفاقاً. وهذا عمل تكون الجماعة فيه مهما اعتزمت واشتدت كأنها فرد واحد ويقوم الفرد المضطلع بالجماعة بل قد يفي ويمسح وجهها (بتقدمها) ويكون منها مكان الإمام ممن خلفه وإن كانوا صفوفاً متراصّة متقابلة، وهو أمر كان قديماً فإن العلماء والكتاب كانوا يتلقون الرواة والحفاظ بالمسئلة عن صواب الكلمة وعن وجه استعمال الحرف من اللغة وكان المأمون العباسي قد أرصد من هؤلاء طائفة في دار الحكمة ليرجع إليهم المعربون ثم ليتصفحوا عليهم فيصلحوا خطأ أو يقيموا وزناً أو يغيروا كلمة وكذلك فعل بعض الأمراء المتأخرين في دواوين الإنشاء حين ضعف الأدباء عن اللغة والتوت الألسنة وغلبت العامية وقد تولى ذلك للفاطميين طاهر بن بابشاذ في القرن الخامس وابن بري في القرن السادس وتولاه غيرهما من بعد إلى هذه الغاية في عصور ودول مختلفة على أن كل ذلك قد مضى مع أهله وبقيت اللغة تضرب في حدودها مقبلة مدبرة لم يزد فيها ما زادوا ولم ينقص منها ما نقصوا.
ولسنا نرتاب على حال أنه لو قام في صباح كل يوم مجمع لغوي على هذه الطريقة لانتقض في مساء كل يوم مجمع منها لأن القوم يدعون الجهات الملتبسة إلى الصريحة ويتخطون الأصول إلى الفروع ويعملون في سدخلة محتملة ويتكلفون لضرورة في الوسع واللغة وافية بكل ما يأتون به لا يصدّ عنها إلا الجهل والإهمال وإلا سوء طلب الطالب وتحصيل المحصل وهذا أصلحك الله أهون الخطب. وأخف الضرر، وأيسر ما التاث علينا من أمر هذه العربية. فإن المحنة فيها باقية أبداً ما بقي في الأرض معنى ليس له فيها لفظ، وما دمنا لا نُطرّق فيها لهذه الألفاظ المحدثة بقواعد ثابتة، وعلى طرق نهجة، وما دامت في أيدينا جامدة لا نغمز منها، ولا نعيدها سيرتها الأولى في الوضع والاشتقاق بما لا يفسدها ولا يضارّ أصولها ولا يأتي بنيانها من القواعد.
وإن ذلك لأمر أول التبعة فيه على متقدمي العلماء، ممن دونوا الأمهات في اللغة، وممن كتبوا في العلوم أو عرّبوا من كتبها. لأنهم عفى الله عنهم لم ينظروا لمن بعدهم. فلم يضعوا في ذلك ديواناً جامعاً، ولا أمضوا فيه بإجماع معروف ينتهي إليه علم. أو يقف عليه طريق(13/5)
من طرق الرواية. إنما كان لكل واحد منهم رأيه ونظره ومبلغ علمه وإحاطة روايته. فإن اضطر أحدهم إلى ما يعجله عن الأناة، وإجالة الرأي في اختيار اللفظ وتعريبه، ودُفع إلى الكتابة والتأليف من هذه المضايق، لم يبال أن يتناول اللفظ كما هو في لسان أهله ولغة واضعه، ما دام لا يرسله إلا في أسلوب محكم من اللغة، ولا يحيطه إلا بالتركيب العربي المبين، وهم كانوا أبصر بما قررناه من أن اللغة بالأوضاع والتراكيب، لا بالمفردات، بالغة ما بلغت. وأن الشأن فيما ينتظم الكلمة الأعجمية انتظاماً عربياً لا في الكلمة نفسها.
وهذا الجاحظ عالم كتّاب هذه الأمة، وفرد بلغائها، تتصفح كتبه فتعثر بالشيء من أسماء الأدوات ومصطلحات الفنون. وبعض ذلك لا سبيل إلى فهمه ومعرفة مدلوله إلا بالرجوع إليه في الفارسية والهندية والرومانية ونحوها وإلا أن اتفق للباحث أن يعثر على بيانه وتفسيره في بعض الموسوعات العربية أو كتب الفنون. وقد كان دأب هذا البليغ أن لا يتوقف عند اللفظة المحدثة يقلبها ويشققها، ولا يتردد عند الكلمة الدخيلة ينظر فيها ويحققها. وهو قد نص على ذلك في موضع من كتابه الحيوان، فقال: بعد أن ساق ألفاظاً من مصطلحات الزنادقة كالساتر والغامر والبطلان وغيرها، وأنكر غرابة الدلالة فيها، وأنها مهجورة عند أهل دعوته وملته، وعند العوام والجمهور إن رأيي في هذا الضرب من هذا اللفظ أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها والمادة فيها - أن ألفظ بالشيء العتيد الموجود، وأدع التكلف لما عسى أن لا يسلس ولا يسهل إلا بعد الرياضة الطويلة، وأرى أن ألفظ بألفاظ المتكلمين ما دمت خائضاً في صناعة الكلام مع خاص أهل الكلام. فإن ذلك أفهم عندي وأخف لمؤنهم على. ولكل صناعة ألفاظ قد جعلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت بينها وبين معاني تلك الصناعة مشاكلات. وقبيح بالمتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين في خطبة أو رسالة، أو في مخاطبة العوام والجار، أو في مخاطبة أهله وعبده وأمته، أو في حديثه إذا حدث أو خبره إذا خبر. وكذلك من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب وألفاظ العوام وهو في صناعة الكلام داخل. ولكل مقام مقال ولكل صناعة شكل.
على أننا لا نستقصي القول في هذه الجهة، فإن موقع النية أن التكلم في تمصير اللغة، وإنما أفضينا إلى الكلام من هذه الناحية إذ كانت هي سبيلنا إليه. فإن القائلين بهذا الرأي،(13/6)
والغالين فيه، والمكابرين عليه، إنما يدعون به الإصلاح ويذهبون إلى أنه خير ما ينتهي إليه الصواب من رأي، وخير ما يمكن لهم في جانب تلك الغاية، فإنهم زعموا يريدون الإصلاح من أقرب السبيل، ويطلبون الحاجة الراهنة، والمنفعة الدانية، وقد رأوا سواد الأمة عامياً، فلا بأس أن يكون من هذا السواد ظل في اللغة أو على اللغة أو قريباً من اللغة. وفاتهم أن من دون هذه السبيل سبيلاً أخرى هي أقرب في منحاهم، وأدنى إلى غايتهم، لو كانوا يرمون إلى تعليم الأمة وإلى الغاية من هذا التعليم. فإن الزمن الذي تعرب فيه الكتب أو تمصر ثم تطبع وتنشر، ثم تقرأ وتدرس، لا يذهب باطلاً إذا هو ذهب في تعليم لغة أجنبية من لغات العلوم، ثم إلقاء هذه العلوم بها. ويكون من ذلك أن الأمة تستفيد العلوم والفنون محققة وتربح معها فضلاً كبيراً. إذ تربح لغة برمتها وتجمع إليها آدابها وفوائدها. وهذا مالا يتيسر بعضه إذا مصرنا لها العربية لتلك الغاية التي زعموا، وما يطلبون بها من الكفاية والإصلاح.
وقد أخذت بهذا الرأي جمهورية الصين الحديثة فإنها فرضت اللغة الانكليزية على كل من يطلب علماً أو صناعة حرصاً على الوقت أن تضيع به الترجمة والطبع والدرس، وتفادياً مما تدخله الترجمة على مصطلحات العلوم والفنون من الضيم في الشرح والتعيين وتحديد الدلالة ونحوها مما ليس منه بد في النقل بين اللغات المتباينة لغة إلى لغة.
على أنه إن يكن في رأي التمصير خير فليس يقوم خيره بشؤمه. وهب أن أمراً من ذلك كائن. وأننا أجرينا التراكيب العامية في الفصيح، وأقحمنا مفردات القوم في اللغة، ومكنا للعامة على ما يتوهمون من مقاليد الكلام وأتبعناه مقادتهم، فما جداء ذلك عنهم، وماذا يرد على الأمة! ونحن نعلم أن جمهورها إذا احتاجوا إلى الكتب في العلم فإنما هي كتب ألف باء تاء. . . . قبل كتب المصطلحات العلمية والفنية. وأنه لعجيب أن نبدأ بالتربية من آخرها وأن نجيء إلى حال من الضعف فنتوهم فيها القوة، ثم نمضي على ما نخيل نعتده حقاً فنقرر الأحكام، ونؤصل الأصول، ونقابل شيئاً بشيء، ونستخرج حالاً من حال. وليس لنا مما قبل ذلك جميعه إلا أنه ظن توهمناه يقيناً، وفرض حسبناه قياساً. وإلا أنها العامية جعلنا نسومها ما ليس في طبيعتها، وحسبناها أصلاً بائناً بنفسه متميزاً من سواه بالصفات التي تجعل الأصل أصلاً وتنفيه من صفات فروعه. مع أن أصل هذه العامية لا يزال في(13/7)
ألسنتنا وأقلامنا. ولا نبرح نردها إليه، ونحكمها به، ونقيمها على طريقه. ومع أن هذه العامية لا تصلح في تراكيبها وصيغها للكتابة ما لم تفصّح على وجه من الوجوه. وهي بعد لا وزن لها في كل ما ابتعدت به عن الفصيح. إلا في عبارات قليلة مما يكون أكبر حسنه أنه أخرج على نسق معروف في البلاغة العربية. كضروب المجاز والكناية وما إلى ذلك. فإذا هي نافرت الفصيح لفظاً أو نسقاً، فلست واجداً فيها إلا أطلالاً من كلمات عربية يأباها من يعرفها صحيحة ماثلة، ويعدها من النقص من يقيمها سوية كاملة. وكيفما أدرتها لا تعرف لها إلا رقة الشأن وسقوط المنزلة بإزاء أصلها الفصيح الذي خرجت منه، ولا تزال فيها مادته. فما اختلافنا في لغة هي في طبيعتها اللغوية تأبى أن تكون أصلاً، وأن تعد لغة، ومهما جهدت بها لا تتحول إلا إلى أصلها المعروف المتميز. فإذا أريدت على غير ذلك التاثت واضطربت، وفرت إلى الأسواق والسبل؟
فإن عارضنا القوم بأنهم يريدون تقريب الفصيح من العامة لا من العامية ليسهل عليهم أن يتأدبوا وأن يتعلموا، قلنا ذلك وجه، وسبيله غير ما يقولون به من تمصير هذا الفصيح العربي. فإن لهم مندوحة في طريق مختلفة يفصحون بها العامية نفسها بردها إلى أصولها القريبة، على نحو ما كانت عليه أيام الأمويين والعباسيين. فأني لأحسب أن العامي من أهل ذلك الزمن لو بُعِث اليوم لرأى أكثر أساليبنا الفصيحة دون عاميته. وقد كنا بسطنا جانباً من القول في مقالتينا اللتين نشرتا في (البيان) عن الرأي العامي في العربية الفصحى، والجنسية العربية في القرآن وأبنا ثمت فساد الرأي في إحالة الفصحى عن وجهها فلا نعيد شيئاً مما بسطناه. وإنما نرسل كلمة في تحقيق استحالة هذا الرأي، وأن القائلين به مهما عملوا فإنهم لا يعدون أن يجتذبوا إليهم طائفة من ضعاف شبابنا المتفرجين يناصرونهم بما تعده الأمة خذلاناً، ويزيدون فيهم بما لا تشعر به الأمة زيادة أو نقصاً. وذلك أنهم يغفلون عن الروح الدينية التي عليها ينشأ المسلمون - أهل هذه العربية_في جهات الأرض، وأن هذه الروح قائمة على نفي العصبية الوطنية كالمصرية وغيرها. فقد كان هذه العصبية عامة في قبائل العرب حتى محاها الإسلام. فأنزل الله سكينته على رسوله والمؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وجعلهم أخوة. ثم نفاها النبي صلى الله عليه وسلم. زنفى المؤمنين منها بقوله ليس منا من دعا إلى عصبية الحديث. وما عصبية قبيلة وقبيلة في المعنى إلا(13/8)
كعصبية بلد وبلد ومصر ومصر. وما يقولون به من تمصير اللغة لا يعدو أن يكون وجهاً من وجوه هذه العصبية الممقوتة. فإنك لتجد المسلمين يختلفون في كل شيء حتى في الدين نفسه. ولا تجدهم إلا شعوراً واحداً بالروح الدينية العربية التي مساكها الكتاب والسنة في عربيتهما الفصيحة. التي لا سبيل إلى التغيير أو التبديل فيها لا على وجه التمصير ولا على وجه آخر، وسواء كان في ذلك إصلاح بين العامية والفصحى أو لم يكن.
فإن شذ عن الجماعة فئة من شباننا قد أخذوا بغير أخلاق هذا الدين ونشؤا في غير قومه وعلى غير مبادئه فرأوا فيه بظنونهم وقالوا برأيهم ورضوا له ما لا يرضاه أهله، فهم مهما كثروا لا يستطيعون أن يحدثوا حدثاً، بل يفنون والجماعة باقية، وينقصون والأمة نامية، ويذهبون إلى رحمة الله ومن رحمة الله أنهم لا يعودون ثانية. ولن تجد ذا دخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة. وإن كنا لا نقول بالعكس. فإن فينا من الفضلاء من يخطئ في الرأي يراه أو يعجل به دون أن يطيل ترديده وتقليبه. فإذا بصرته بما فيه أعانك على نفسه، وأحكم ناحية الصواب منها، وأعطاك عن رضا وكأن في عمله خليقاً أن تعرفه بالحكمة وأن ترى تحوله عن الخطأ صواباً إن لم يكن أحسن من صوابك فليس بدونه.
هذا وإن أصحابنا لا يجهلون أن الأصل في التربية العامة بالحمل على الأخلاق لا على العقول، وعلى روح الأمة التي تتميز بها وتتفق فيها، لا على صفاتها الأخرى. ونحن لا نجد من ذلك شيئاً في المسلمين كافة من المصريين وغيرهم إلا ما أومأ إليه من الروح الدينية التي تشملهم جميعاً والتي هي أساس هذا الدين. فلا سبيل لتمصير العربية واعتبار هذه المصرية أصلاً لغوياً مجمعاً عليه، إلا بتمصير الدين الإسلامي الذي يقوم على هذه العربية. فإن بعض ذلك سبب طبيعي إلى بعضه. فمن كشف لنا عن الوجه الذي يكون به الدين مصرياً وطنياً. . . وبصرنا بأسباب ذلك ونتائجه، قلنا له أخطأنا وأصبت كذلك أَخذُ ربك إذا أخذ القُرى وهي ظالمة.(13/9)
حال الإسلام الحاضرة
أهدى إلى البيان حضرة الكاتب المشهور محمد أفندي مسعود هذا المبحث الجليل، وهو خاتمة أبواب كتاب حضارة العرب للدكتور جوستاف لوبون الذي ينقله إلى العربية. ولعل قراء البيان يعرفون من هو جوستاف لوبون صاحب كتابي روح الاجتماع وسر تطور الأمم وغيرهما من الأسفار النافعة، وأن هذه اللغة بحاجة ماسة إلى مثل حسنات هذا العالم البحاثة ولا سيما ما كان منها خصيصاً بشؤون الإسلام وحضارة العرب مما يستبصر به المسلم في مدنية المسلمين وسر عظمتهم الماضية، وضعفهم الحاضر، ولا يكاد يظفر بمثله بين دفات تواليفنا العربية - وإنا نزجي خالص الشكر إلى مسعود أفندي على حسن اختياره، وتوفره على نقل هذا الكتاب القيم، وندعو الله أن يهيء له من ساعة حتى يخرج للناس هذه الدرة الثمينة.
أهالت القرون على العرب غبار الزوال، وأدرجت حضارتهم في أكفان التاريخ. فلم يبق منها إلا سيرتها العطرة، وأثرها المائل. ولكن زوالهم هذا لم يكن موتاً سالباً للروح، ومورداً للجسد موارد الفساد والفناء. لأن الدين واللغة اللذين قام العرب بينهما في أرجاء العالم، أصبحتا لعهدنا الحاضر أكثر انتشاراً منهما أيام كانت الحضارة العربية متألقة السنا. فإن اللغة العربية يتكلم بها الصادر والوارد، والغادي والرائح، بين مراكش والهند. كما أن الدين الإسلامي لا يزال نطاقه يزداد كل يوم ترامياً إلى أبعد الآفاق والأقطار.
يقول علماء تخطيط البلدان: إن عدد مسلمي الأرض ينتهي إلى مائة وعشرة ملايين: ولكن انحطاط هذا العدد عن حقيقة الواقع أمر لا ريب فيه. لأن تقديره إنما كان في زمن لم يخطر ببال أولئك العلماء فيه ما ترامى إليه انتشار الدين واللغة في الصين وافريقية من الأفق القصي والأمد البعيد. وإلا فالدين الإسلامي هو الدين الذي تخفق أعلامه على ربوع الشام وديار مصر وبلاد تركيا وأصقاع آسيا الصغرى وفارس وسواد الروسيا وافريقية والصين والهند. وقد بلغ من سعة انتشاره وعليا كلمته أن تناول جزيرة مدغشقر ومستعمرات افريقية. دع ذيوعه بين جزائر ماليزيا (الملايو) وإن سواد أهالي جاوه وسومطرة وغينية الجديدة يدينون به ويهتدون بهديه. ولقد تخطت عقائد وأصوله معتلج لجج الأقيانوس فبلغت امريكا على يد زنوج افريقية.
ومما يسترعي نظر المتأمل سهولة انتشار الإسلام في نواحي العالم قاصه ودانيه فإنه ما(13/10)
وقف مسلم على صقع ولا نزل بنجع ولا بَلَد بحلة إلا وترك فيها أثراً من دينه باقياً. ثم انظر إلى الأقطار التي لم يدخلها العرب قائمين بل انتجعوا إليها متجرين كبعض ولايات الصين وجهات افريقيا الوسطى والروسيا. فلقد بلغ من انتشار الدين الإسلامي فيها أن المسلمين أصبحوا يعدون فيها بالملايين. واذكر أن اتخاذ أهلها هذا الدين عقيدة لهم ما كان كرهاً ولا قسراً، وإنما كان رضي واختياراً. إذ لم ينته إلى سمع أحد، ولم يدون في التواريخ شيء من أبناء تجنيد الجند لقسرهم على الإسلام وإلزامهم اتخاذه ديناً يدينون له مكرهين، ويذلون أعناقهم لكلمته مرغمين. وقصارى ما في الأمر أن أولئك التجار كانوا يؤدون غير عامدين عمل المبعوتين في البلدان التي مروا بها لترويج سلعهم، وكانوا في كل خطوة خطوها يبذرون بذور الدين الإسلامي فزكا نبته وفرعت أفنائه واشتدت أصوله حتى أصبح استئصالها بعد ذلك أمراً وعراً آد أولئك الذين عالجوا ذلك من أعداء هذا الدين واخصامه المتألبين. ففي بلاد الروسيا التي أخ له فيها مقاماً طيباً لم يوفق الروسيون لاستئصاله من أرضهم على الرغم من سعيهم المتواصل في هذه السبيل. وهذه بلاد الهند قد أصبح حزب المسلمين فيها لا يقل عن 50 مليوناً ولطالما أفتن مبشروا البروتستانت في أساليب السعي والعمل لمناوته بل كثيراً ما أيدتهم الحكومة في خطتهم ومالأتهم على قضاء إربتهم فكانت العاقبة لها ولهم الفشل فيما أرادوا. أما عددهم في افريقية فما برح مجهولاً حتى اليوم ولكن الحقيقة الثابتة هي أن الرحالة والمستكشفين من أهل هذا الجيل لم تطأ أقدامهم ثرى بلاد ظنوا أنهم أول طارق لها ألا والتقوا فيها بقبائل تدين على بكرة أبيها بالإسلام، والإسلام في افريقية ينقل المستمسكين منه بالعروة الوثقى إلى حظيرة الحضارة، بعد أن كانوا في بيداء الهمجية هائمين، أو يترك بين أهلها أثراً من حميد آثاره في نفوسهم.
كتب الموسيو دوفال: بفضل الإسلام وصدق تأثيره في نفوس من دانوا به، سقطت الأنصاب والأصنام، ودرس من بلاد العرب رسمها، فزالت عادة تقريب القرابين من الآدميين، وأكل اللحمات البشرية، واستقرت حقوق المرأة على الأساس الوطيدة، ووضعت الحدود لتعدد الزوجات وقيد بالقيود الكثيرة، فتوثقت العرى بين أفراد الأسرة، ومنح الرقيق المستعبد حق الإندماج في أسرة مولاه الذي هو ملك يمينه، فانفرجت أمامه مسالك الحرية، واستقامت طرقاتها واضحة النهج. ثم أن من معالم الصلاة والزكاة وغيرهما من أركان(13/11)
الإسلام، تطهير العادات والأخلاق من درن المفاسد، وبث عاطفة العدل والإحسان في النفوس. وما من سيد في قومه، أو ملك في أمته، ألا وهو عليم بأن عليه من هذه الواجبات ما على رعاياه. فلا جرم إذا رست قواعد المجتمع عند المسلمين على أمتن الأسس، وكفلت الشريعة بما جاء فيها من الأحكام الرادعة عقاب المسيء في تصرفه أو الحائد عن جادة الحق. أما الذين رماهم الزمن بسهم صائب كأن أدركهم من طاغية جور فيساورهم أبداً الأمل في الحياة الأخرى وأن سيكون لهم من نعيمها وخيرها أحسن البدل عما فاتهم من عرض العاجلة ولهم من أملهم سلوان يجلوا لهم عن نفوسهم ويقويها على احتمال الضيم. تلك هي المزايا التي يقترن بها الإسلام إذا لاحت لوائحه بين الأمم غير المتحضرة
والصين من أخص البلدان التي ينتشر الإسلام فيها كالضياء إذا انبثق أو الزيت إذا انساح. فإنك لا تمر بمدينة منها بان فيها شأو المبشرين المسيحيين، وقامت أعمالهم على أرسخ القواعد، إلا وسمعتهم يعترفون بعجزهم وجمودهم حيال ما يشاهدون من تقدم الإسلام، واتساع نطاقه على الدوام ولقد سبق لنا القول بأن عدد المسلمين الصينيين يبلغ الآن عشرين مليوناً وأنهم يعدون في مدينة بكين وحدها مائة ألف نسمة.
كتب الأستاذ فازييليف: غشي الإسلام بلاد الصين من نفس الطريق الذي غشيتها منه الديانة البوذية. ومما لا يشك المسلمون الصينيون فيه أن ديانتهم سوف تحل محل مذهب ساكياموني أي المذهب البوذي وهي مسألة من الخطورة بما لا يخفي على الناقد البصير، لأنه إذا تحقق ذلك القول وترامى الصينيون الذين يعادل عددهم ثلث مجموع عدد الجنس البشري فلا بد من انفصام عرى الروابط السياسية التي تربط أجزاء العالم القديم بعضها ببعض. ومتى تم للديانة المحمدية الانتشار فيما بين جبل طارق والمحيط الهادي فهنالك الخطر على المسيحية والمسيحيين.
وهنا نمسك عن الخوض ونلقي باليراع في مكانه إلى جانب الدواة لأننا بلغنا من كتابنا هذا الشوط الأخير والشأو الأبعد، فلنلخص كل ما جاء فيه في السطور التالية.
إن أمماً قليلة بذت العرب في ميدان الحضارة والعمران، وبلغت إلى ما بلغوا إليه من المرتبة السامية والمنزلة المرموقة في مثل الزمن القصير الذي وصلت إليهما فيه. فإنهم رفعوا قواعد دين من أقوى الأديان التي دانت لها الأمم وبسطت سيادتها على العالم ولا(13/12)
يزال تأثيرها مشهوداً بالعين حتى الآن. ومهدوا دولة من أكبر الدول التي عرفت في التاريخ وأوسعها أرجاء وأوفرها قوة وتولوا تمدين الأمم الأوربية ورفعها إلى أسمى ذري التقدم علماً وأخلاقاً. ولكن إذا كان القليل من الأمم قد تسامى إلى تلك الغاية العلياء فقليل منها تدهور إلى مثل الحضيض الذي تدهوروا فيه متنسكين بل ليس على وجه البسيطة أمة دلت على قوة تأثير العوامل والأسباب الباعثة على ظهور الدول وحياتها وموتها كالأمة العربية فيما تناولها من هذه العوامل والأسباب.
(البيان) للدكتور جوستاف لوبون مبحث جليل في سر تدهور العرب وبيان الأسباب والعوامل التي سببت ذلك وقد وعدنا حضرة مسعود أفندي بإهداء البيان هذا المبحث وسننشره في العدد القادم - هذا والذي نعرفه من الإحصائيات يخالف ما جاء هنا عن عديد المسلمين في الهند والصين وخلافهما وسننشر إحصائية صحيحة عن ذلك إن شاء الله.(13/13)
عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين (*)
بين ظهرانينا الآن، وبمرأى منا ومسمع، رجل من نوابغ المشرق. بل من نوابغ العالم جميعاً. وبحسبه أنه زعيم طائفة كبيرة تعد بالملايين منثورة في مصر والفرس والهند وأوربا وأمريكا وأكثر أنحاء المعمورة تقدسه تقديس الأنبياء والمرسلين. وبحسبه كذلك أن الجرائد والمجلات في أوروبا وأمريكا، بَلةَ الكتب والأسفار وقفت له صفحات تنوه به وتشرح دعوته، وتجله إجلال الأبطال. ذلكم هو مولانا عباس أفندي الملقب بعبد البهاء زعيم البهائيين، وبطل الإصلاح الديني في هذا العصر بل سيد المصلحين.
منذ ثمان سنين سمعنا بأن في القاهرة عالماً فارسياً يسمى أبا الفضل هو قبلة طلاب العلم، وكعبة يحج إليها رواد العرفان. فبحثنا عن هذا الرجل حتى اهتدينا إلى منزله فوجدنا ثمة رجلاً مخطف البدن نحولاً، رَبعه لم يبلغ قصراً ولا طولاً، كهلاً ينيف على السبعين، ولكنه كابن الثلاثين قوة ونشاطاً، وحدة وذكاء. ورأينا بين برديه روحاً لو كنا ممن يقول بتناسخ الأرواح لقلنا أن تلك روح المأسوف عليه جمال الدين الأفغاني تناجينا بين أثوابه، وتخلب عقولنا بسحر بيانه وحلو خطابه. فملك الرجل علينا أمرنا، وصار لا يحلو لنا الجلوس إلا إليه، ولا الحديث والسمر إلا معه. وكلما زدناه خلطة وامتحاناً، زادنا أدباً وعرفاناً. وفي أثناء ذلك سمعنا بالباب والبابيين والبهاء والبهائيين. ولكن لا من ناحية أبي الفضل أفندي، بل من ناحية بعض المصريين الذين رأيناهم يذكرون البهائيين على غير هدى، ويقرفونهم بم هم منه براء، شأن الحمقى الممرورين الطائري العقول الذين لا يستطيعون الصبر على البحث والاستقصاء والتنقيب. فلفتنا ذلك إلى النظر في أمر هؤلاء البهائيين من وقتئذ. ثم ضرب الدهر من ضَرَباته وسافر أبو الفضل أفندي إلى أمريكا وأخذنا نحن نفتش عن كتاب عربي تعرض للقول على البهائيين، إلى أن عثرنا بتلك النبذة الصغيرة التي كتبها البستانيون في دائرة معارفهم تحت عنوان البابية ثم بكتاب تاريخ البابية للدكتور مهدي ثم بما كتبه المستشرقون مثل العالم الإنكليزي برون في كتابه تاريخ آداب الفرس، وفي كتاب له كبير وضعه باللغة الفارسية خصيصاً بالقول على البهائيين ثم بما كتبته الصحف والمجلات الإنكليزية والأميريكية. فما ذلك إلا شغفاً بمعرفة أمرهم من مصدره الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأن الناس في الغالب الكثير إما مفرّط وإما مفرِط، وإما متعصب لك وإما متعصب عليك.
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: البرقوقي لم يكن بهائيا، لكنه الانخداع (المؤقت) بكل مستجد يدعو إلى الإصلاح، كما حصل مع بعض الكتاب في مصر مع أتاتورك .. ثم عرفوا حقيقته.
وقد سارع البرقوقي إلي توضيح ذلك في العدد 14 (التالي لهذا العدد مباشرة) فقال:
«وهنا نقول أن بعضهم غاب عنه غرضنا من الكلام على أبطال العصر وزعموا أنا نقصد بكلامنا على زعيم البهائيين إلى الحوم حول نحلته ولم يريدوا أن يفهموا أنا إنما كتبنا وسوف نكتب عن الرجل كما كتبنا ونكتب عن فولتير ونيتشه وسبنسر وأرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا وابن رشد وأضرابهم من رجالات العالم إن موافقين لنا في الدين وإن مخالفين. لأنا لسنا في هذا الباب بصدد من الدين وإنما بصدد من العظمة والنبوغ».(13/14)
وعين الرضا عن كل عين كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
وما زلنا بهذه الحال من الشغف والاستهتار (الولوع بالشيء لا يتحدث بغيره) إلى أن ابتسمت لنا الأيام وأديل لنا اليسر من الإعسار. وقدم حضرة زعيم البهائيين الأكبر عبد البهاء عباس أفندي المترجم به إلى وادي النيل. وقطعت جهيرة قول كل خطيب.
فكدنا نخرج من جلودنا فرحاً واغتباطاً بقدوم الرئيس الأكبر إلى بلدنا، وشغفنا كله بلقياه حتى أتاح لنا القدر أن حظينا بزيارته في الشهر الماضي بمنزله في رمل الاسكندية.
وقبل أن نصف هذه الزورة المباركة وما جرى من الحديث بيننا وبين جنابه. نمهد لذلك بذكر ما كتبته جريدة الكرونكل الانكليزية عن حضرة عباس أفندي إذا زار انجلترا في هذا العام واحتفل به العلماء الانكليز وأدباؤهم الاحتفال اللائق بمقامه الكريم - قالت الكرونكل.
نحن في زمان اشتد فيه الضجيج، وعلت الضوضاء من كل مكان. فلا تكاد تسمع فيه دعوة للكمال، إذ أصبحت الشعوب المتحضرة رهينة الهزاهز والاضطراب، يقدح في ساقها الجهاد في سبيل الحياة، وتُصميها سهام الخلافات ونبال المنافسات، وتنقض ظهرها أثقال الاستعدادات الحربية، ويؤودها جهاز القتال. وترى الأمم المتجاورة يرمق بعضها بعضاً شذراً. وتنظر خشية وحذراً. وعالم الصناعة كشجار الديكة ذاهلة أربابه. تدمدم من حولهم الاضطرابات، وتؤاذنهم بوعيدها الثورات، وفي بهرة هذا العراك وذاك الصراع اللجب يسمع نداء المعلم الروحاني يدعو إلى السلام العام.
ذلكم عباس أفندي الملقب بعبد البهاء، قد لفت الأنظار بسياحته في انجلترا إلى تلكم الحركة السريعة الانتشار التي تزداد نفوذاً وتنمو قوة لما جمعت بين كثيرين من أتباع الطوائف المتباينة، ووصلت بينهم على مبدأ الإخاء العام تؤلف بينهم عروة وثقى لا انفصام لها.
فالبهائية - كما شرحها المستر (ارك همند) فأبدع في شرحها، في كتاب صغير من سلسلة كتب (الحكم المشرقية) _هي كمال حي، هي الكاثوليكية الصادقة يتبعها المسلمون والنصارى واليهود والبوذيون، وليست مذهباً متفرداً بل هي مستجمع المذاهب ومستجمَها، تردها إلى أصولها، وتحيلها إلى صادق مبادئها - كما لها أن الله واحد، إله كل شعب ورب كل دين، ودعواهم فيها سلام.
المعلمون الثلاث(13/15)
ولد عباس أفندي في طهران من أعمال فارس في الثالث والعشرين من شهر مايو عام 1844، في نفس اليوم الذي أسست فيه الدعوة البهائية، فأول دعاتها ميرزا علي محمد، إذ كان المبشر بهذه الدعوة المنادي بهذه العروة ولكن لم تخرج دعوته من بلاد فارس. وكانت دعوته في الحقيقة دعوة إصلاح ورقي للإسلام، إذ استخرج أسمى تعاليم القرآن فنقاها مما علق بها مما ليس من الدين الصحيح في شيء، وأخرج للناس مبادئ دينه ترمي إلى توحيد عقائد الناس في الله والخلوص بالروح لى عبادته، على أن أصحاب السلطة جعلوا يضطهدونه وكذلك نَفِس عليه علماء الذين لاعتدائه على دائرتهم. أما الحكام فلازدياد نفوذهم على رعيتهم، فما كان ذلك إلا ليؤازر حركته ويعين دعوته، وأدى اضطغانهم عليه وظلمهم له إلى أن قتلوه وصلبوه وذبحوا من رجاله خلقاً كثيراً. وكان قتلهم إياه سبباً في ازدياد الحركة قوة وانتشاراً وفي سنة 1863 خلف الباب بهاء الله في القيام بالدعوة - شريف من الأشراف انجذب منذ حداثته إلى هذه الكمالات الدينية، إذ حملوا أعلامهم إلى جميع الممالك ونادوا بالمؤاخاة بين بني الإنسان، ولكن اشتد عليهم العسف فنفي بهاء الدين مع سبعين من أتباعه وسجنوا في محبسين عامين، وعلى الرغم من شدة التضييق عليهم وعسفهم فقد تدرعوا بالصبر واعتصموا بمكارم الأخلاق حتى رق لهم كل حاكم جديد تولى سجنهم. ولبث حضرة بهاء الدين في السجن أربعين عاماً قضاها في الكتابة والتعليم دون انقطاع ولا يأس ولا فتور. وفي سنة 1892 صعد إلى جوار ربه فخلفه أبنه الأكبر عباس أفندي معلم هذا الزمان. قالت سيدة انجليزية أقامت في منزله المبارك ثمانية أشهر: أن إعجابها بحضرة عباس أفندي وإكبارها لشأنه ومقامه كان يزداد يوماً فيوماً: أما صحة تلقيبه بعبد البهاء فقد أثبتته خدماته لبني الإنسان. أما حياته فكانت دليلاً واضحاً وبرهاناً جلياً على هذه الحقيقة وهي أنه على الرغم مما يحف بنا من الجهاد في سبيل الحياة والمجد والثروة والسلطة الدنيوية فالحياة الروحية مع ذلك ممكنة بل أمر واقعي مشهود. فلينظر الذين يصلون لملكوت الله في الأرض ليروا في عباس أفندي رجلاً ساكناً في هذا الملكوت شاعراً به يفيض من حوله سلام يعلو على مدارك إفهامنا.
أغراض البهائيين
ذلكم عباس أفندي وتلكم مكانته. أما تعاليم البهائية فهي ظاهرة وصوفية باطنية في آن واحد(13/16)
ولا جرم أنها تشبه من وجوه كثيرة ما كان ينبعث في العصور الوسطى من فرنسيس أُف أسبي من جمال الإحسان والخدمة العامة والنور. فها كم اليوم شيئاً من ذلك التأليف القريب بين الصفات الإلهية والخضوع الإنساني العظيم والقيام على الخدمة. فعباس أفندي ينهج في طليعة أتباعه طريقة تسمى عند بعض الناس طريقة الصوفية لكنهم أنّى ذهبوا يسيرون على طرق عملية، وإليكم مثلاً منها.
أن هذا المعلم لا يدعو إلى الرهبنة بل يأمر أتباعه أن يتعلم كلٌّ حرفة كما كان بولص يصنع الخبز ويحضهم على النظافة والصناعة والاقتصاد فآمالهم تسمو إلى ما في السماء وعقولهم لا تلهو عما في الأرض. وإننا نجتزئ بقول من أقوال حضرة عباس أفندي نفسه في أغراض البهائيين.
لا تسمحوا لأنفسكم أن تنم بكلمة على أحد ولو كان عدواً لكم ولتسكتوا من ينم لكم على عيوب غيركم، ولتتحلوا بالصدق والوقار، ولتملؤا صدوركم بالآمال. كونوا مرهماً لكل جرح، وماءً عذباً لكل ظامئ ومائدة سماوية لكل جوعان، ومرشداً لكل باحث، وغيثاً لكل حارث، ونجماً في كل أفق، ونوراً لكل مشكاة، ومبشراً لكل نفس مشتاقة إلى ملكوت الله.
هذا مبدأ من مبادئ البهائية السامية فلا تطرف في الزهد ولا تعذيب للنفس أملاً في أوهام التنعم في الآخرة بل حال سرور ورياضة للنفس على الخدمة والمساعدة والتضحية وآخر دعوى البهائيين قولهم، اللهم ارحمني من نفسي.
السياحة الروحية
أما الطريقة الصوفية فيجب الأخذ بها وهذا يفسر بالسياحة في الأودية السبعة التي شرحها وفسرها المستر همند وهذا العدد الرمزي عام. فكما أننا نصعد مع دانتي درجات الطهارة السبع ونخلف في كل درجة إحدى خطايانا المميتة فأننا كما يرشدنا بهاء الله في كتاباته نمر في سير ترقينا بالأودية السبع التي أولها وادي البحث يركب فيه السائح مطية الصبر باحثاً عن الله جل شأنه فيجب أن ينشده في كل مكان حتى في التراب فهو في كل شيء. ثم يصل إلى وادي الحب ومطيته التضحية فيلزمنا أن نتناسى أنفسنا ونطرحها ظهرياً. فالحب الأناني لا يعد حباً وهكذا نستمر فوق تلال هذا الوادي المفرقة حتى نبلغ وادي المعرفة الإلهية فنخرج من الشك إلى اليقين، من تيه الآمال الدنيوية إلى الحكمة الربانية. فهذه(13/17)
الأودية الثلاث درجات يعرفها كل من سار في الرحلة الروحانية في كل زمان. أما الوادي الرابع فيتميز بائتلافه مع آمال البهائيين. وادي الوحدة الإلهية. ولما كانت أغراض الناس مختلفة متباينة حق علينا أن نعترف بالوحدة الإلهية الموجودة في كل الوجود وأن نتحقق بمجرد وجودنا اتحاد الإنسانية وهذه - الوحدة الإلهية.
وإذا تم ذلك استنارت أمامنا ظلمات الطرق وسهل حزنها فيصل السائح إلى وادي الرضا حيث كل شيء سار جميل ويجد طالب السعادة فيه ثوابه ويلي ذلك وادي الحيرة حيث تتحلى فيه المظاهر الأولى على حقيقتها وتخلص الأفكار من الأوهام والخرافات التي كانت تحوطها وينبلج الحق فنعترف به مع الخشوع والذهول اللذين يظهران على الطفل لو أوتي عقلنا وننظر إلى معجزات الكون التي عميت عنا أبصارنا على تقدم أعمارنا ثم نبلغ أخيراً وادي الفقر حيث نوقن أن كل مجد دنيوي تالد وطريف وكل شرف وفخار وحلية ونعمة ما هي إلا أسماء سميناها واتبعناها ما أنزل الله بها من سلطان. وفي ذلك أيضاً تظهر روح البهائية قريبة جداً من روح فرنسيس. إذن فلا شك في أن العقائد البهائية ليست جديدة في ذاتها ولا حديثة في تفاصيلها بل أقدم عهداً من شم الجبال ولكن تطبيقها في هذه الأيام المضطربة الكثيرة الضوضاء واللجب والجلبة تجعلها جديدة. فهلا يسمع العالم ذلك الصوت العالي المنادي بالمساواة المطلقة. والمؤذن بالأخوة الروحانية العامة هلا سمع العالم نداء الأنبياء؟
هذه هي كلمة جريدة (لندن كرونكل) عن البهائيين وزعيمهم الأكبر المقيم اليوم في رمل الإسكندرية - عباس أفندي الملقب بعبد البهاء_وسنأتي في العدد القادم على وصف زورتنا لهذا الرئيس الديني الكبير وما جرى من الحديث بيننا وبينه إن شاء الله.(13/18)
نوابغ العصر
1
أحمد بك شوقي
الجمال أمر يدرك بالذوق والبصيرة، وسرّ يفهم بالوجدان والسريرة. وإنما العين باب إلى القلب، والحس مسلك إلى النفس. ولما كان الجمهور في البلاد المتأخرة غير ذوي بصائر، أو ذوي بصائر رمداء يحسن لديها القبيح. ويقبح الحسن. وذوي أذواق فاسدة تزدرد الخبيث وتلفظ الطيب. أصبح حكمهم على الأشياء متهماً ظنيناً لا ينبغي أن يعتد به أو يلتفت إليه. والجمهور في الممالك المنحطة كالطفل مقلد سريع التقليد، وكالصدي يقول ما لا يفهم، أو كالريح لا تدري أين تذهب. وقد رأيت المكابرين من أهل هذه الديار قد تمسكوا بعرى حجة واهية تخذوها مخرجاً لهم من مأزق الخصام. إذا حاول أحد إقناعهم بالدليل القاطع قالوا لكل إنسان مشرب أو الأذواق تختلف بلى قد صدقتم معشر لمكابرين الأذواق تختلف حسناً وقبحاً، وصحة واختلالاً، وسلامة ومرضاً. وطالما رأينا الرجل الذي ليس بالأعمى يتعشق المرأة القبيحة الشوهاء، والرجل الذي ليس بالأصم يطرب للغناء الفاسد الغث. ورأينا كذلك من تضحكه الكلمة السمجة الباردة، ومن تسره الفعلة السيئة المنكرة. فهل يقوم لهم حجة قولهم لكل إنسان مشرب والأذواق تختلف اللهم لا يكون ذلك ما دام القبيح قبيحاً، والمرذول مرذولاً، والغث غثاً. وأني لأطلب إلى أمثال هؤلاء أن ينسلخوا منا بأذواقهم ومشاربهم، وبكل ما قد اصطفوه واختاروه من محتويات هذا العالم طعاماً كان أو شراباً أو شعراً أو نساءً. وأقسم أن الدنيا ستكون بعد زوالهم أكثر وأغنى، وأملح وأسنى.
في خراب البلدان، تكثر البوم والغربان. وفي خراب الأذهان تكثر كذلك البوم والغربان من قالة الهذر والهذيان. فيا ويل عشاق الغناء يومئذ ويابؤسهم، يدورون ويطوفون، وينصبون الآذان، ويرهفون الحواس، علهم يسمعون صوتاً يلذهم، أو نغمة تطربهم. ولكن ماذا تنتظر من البوم وما ترجو لدى الغربان!
في هذا الخراب المؤيس إذا طاب السحر، ومرض النسيم، قد يسمع من حين إلى حين بلبل غريد، حلو الأرانين، عذب الأهازيج، يستوقف عاشق الغناء، ذلك التائه الحيران، والهائم الولهان. فيحي بصوته الشجي ملحود الرجاء، ويهدي بلحنه الشهي منشود الرخاء. يسترق(13/19)
الأسماع. ويسترجف الأضلاع. ويستثير الأدواء، ويستطير الأحشاء. هذا البلبل الشجي، والطائر المحكي. هو مثل أمير الشعراء، وسيد الفصحاء. أحمد بك شوقي.
لقد طالما قلت في نفسي ماذا كانت تكون حالنا إذا لم يكن بيننا أمثال شوقي. ماذا كانت تكون حالنا وسط أولئك الوزانين الرصاصين الذين يصنعون أشعارهم بالأيدي والبراجل،_أولئك الصخابين الذين يسمعوننا بدل الألحان والانغام، قرع المطارق فوق السناديل، وقد حولوا غابة الشعر (روشة) بل ماذا كانت تكون آذاننا إذ ذاك إلا آفات لنا_أبوابنا تطرقنا منها صيحات تلك المطارق وضجات هاتيك السناديل. بئس مسالك الشر ومناهج العذاب!
لولا أمثال شوقي لكانت مصر بلدة خرساء غير ذات لسان يعبر عن وجدانها ومقول يبسط مطوى إحساساتها. ولكن شوقي هو ترجمان هذا الجيل وبوقه، وهو مزهر تبعث منه الطبيعة رناتها. وتخرج الإنسانية منه أناتها.
ولولا شوقي لاستحيينا أن ننتسب إلى آبائنا من العرب، وكيف ولا صلة لدينا ولا نسب. ولكنه السبب الذي به نمت إليهم، والآصرة التي تربطنا بهم على تقادم العهد وتطاول الأمد. أجل أنه منذ انحطاط آداب العرب بانحطاط دولتهم لم ينهض بدولة الأدب إلا شوقي. ومنذ أفول شعر العرب بأفوال سلطانهم لم يلح بأفق القريض إلا شوقي. فهو مسلم هذا العصر ونواسيه. وحبيب هذا الوقت وبحتريه. تبصر في شعره جزالة الجاهليين ورقة المولدين ورشاقة الأندلسيين وعذوبة العباسيين. ويلذك من ديوانه اعتذارات النابغة وأماديح زهير وافتخارات الفرزدق وزهديات أبي القاسم وغزليات الوليد ومراثي الطائي وأوصاف ابن المعتز وبدائع ابن الرومي.
وزاد شوقي على ذلك الشيء الذي هو أول شرائط الشاعر الحق وألزم لزومياته، والذي لولاه لا يكون شاعراً، أعني التعبير عن روح عصره وبذلك يعرف فق ما بين الشاعر الفطري الذي يعبر به العصر عن معانيه، ويكشف به الوقت عن مغازيه. فيكون مرآة العصر وصدى الجيل. وبين الوزان المقلد، الذي لا يجيء بشيء من عنده وإنما يردد أقوال الماضين مع المسخ والتشويه، ويسرق معاني الغابرين مع الطلاء والتمويه.
ولقد طالما شق علينا أن نرى العلوم تدرس بالمدارس والكتب تفسر ثم لا نرى بينها ديوان(13/20)
شوقي. وأن نلقي الناس يخرجون للسياحة في الأقطار الغريبة ذات المناظر الشائقة ولا يصنعون سياحة في ديوان شوقي. وأن نجد للأهرام والهياكل والأبراج القديمة وسائر عجائب الكون ونوادر العالم شرّاحاً ومفسرين، ولا نجد ذلك لديوان شوقي. وإن ديوانه لأعجب من كل هذه وأبدع، وأغرب من كل هاته وأروع. وأحق بالدرس والمذاكرة، والبحث والمناظرة.
ونحن فقد رأينا أنه ليس من الحكمة أن نقضي الوقت بالأسف على تقصير القوم في حق العظماء، فإن الأسف ضرب من التقصير. وإنما الحزم أن نعمل نحن ما لا يدعو إلى الأسف فنهضنا لهذا العمل الجليل، ونحن نسأل الله القدرة عليه. وأخذنا له أهبه ورأينا من الواجب قبل تناول ديوان شاعرنا الكبير أن نقول كلمة في ماهية الشعر والشاعر لكاتب غربي كبير.
قال ذلك الكاتب: الشاعر هو الفصيح المفوه بين قوم بكم، أو الوصيّ بين أحداث. يعبر عما في صدور الخرس، أو ينفق على الصبيان من ميراثهم فأني أرى سواد الناس صبياناً لم يستولوا بعد على تراثهم (أعني محاسن الخليقة وجمال العالم) أو خرساً لا يستطيعون نقل ما يجري من الأحاديث بينهم وبين الطبيعة. وأنه ليس من إنسان إلا وهو يشعر أن للشمس والنجوم والماء والتراب فائدة روحانية - فائدة خلاف الظاهر من فوائدها. وإنها تتأهب لتؤدي له خدمة خاصة. ولكن في طباعنا من الظلمة والكثافة ما يحول دون اجتناء كل الثمرة المنتظرة. وأثر هذه الكائنات في نفوسنا أضعف من أن يهيجنا إلى حدّ الشاعرية وأوهن من أن يفجر على ألسنتنا ينبوع القريض. وكان الواجب أن تعرونا لكل لمسة من الطبيعة هزة، ولكل نغمة منها رجفة ورجة. وكان الواجب أن نكون من حدة الجنان وحدة اللسان بحيث يمكننا التعبير عن كل ما وقع لنا من الطبيعة وجرى. ولكن رنات موسيقى الطبيعة تبلغ الحواس ولا تصل إلى الصميم، وليس دون بلوغها الصميم ما يستردّها لفظاً ويستعيدها كلاماً. فالشاعر هو الرجل الصافي الطبع الذي يرى ويلمس من بدائع الوجود ما يحلم به الغير. فهو معلم القوم وخطيبهم لأنه أشدّهم أخذاً وإلقاءً، وأكثرهم تناولاً وإعطاءً.
ليس في الدهر حادث أعظم من ظهور شاعر، وليس في الدهر حادث أندر من ظهور شاعر. وكأن بابن أدم يترقب طلوع امرئ يكشف له قناع الحقيقة، ويركزه على أساس(13/21)
متين من الصدق، ويخلصه من ربقة الشك وظلمة الشبهة. ويرفعه فوق هذا الجو المغيم وإن خاله صحواً، وهذا اليوم خير من يوم ميلاد. ففي ذلك اليوم صار حيواناً وفي هذا يتجلى نور اليقين ويبصر وجه الحقيقة. هذا أمله وذاك ما يرقب وينتظر. ولكن ما أكثر ما يخيب أمله ويضيع انتظاره. إذ يجد ذلك الرجل المجنح لا يصعد به إلى سماء وإنما ينغمس به في غيوم ثم يطفر به من سحابة إلى سحابة وهو أثناء ذلك يؤكد له أنه صاعد به إلى السماء. ويصدقه الآخر لقلة خبرته وتغيب عنه الحقيقة، وهي إن ذلك المجنح لا يعرف الطريق إلى السماء، وكل ما لديه هو أنه يعلو قليلاً كالسمكة أو الدجاجة ثم يهوي.
الشاعر يصف الأشياء فيزيد الجمال جمالاً والحسن حسناً. لأن لكل شيء حسن ظاهراً جميلاً وباطناً أجمل. وذلك الباطن الأجمل لا يبدو إلا لعين الشاعر التي هي أنفذ وأمضى، وأثقب وأذكى. وكما أن أشكال الكائنات ينطبع لها في إنسان عين الناظر وصور أجمل من الحقيقة وأبدع. فكذلك أرواح هذه الكائنات أو كما قلنا الآن بواطنها ينطبع لها في ذهن الشاعر صور أملح كذلك من الأصول وأبرع. وهذا من قبيل تطور الأشياء من حال إلى أرقى، ومن جوهر إلى أنقى. وإن لكل شيء روحاً تحوم فوقه فكما أن عين الناظر تعكس صورة ذلك الشيء، فكذلك ذهن الشاعر يعكس تلك الروح في هيئة غناء - أعني شعراً. أجل إن للبحر والجبل والنهر والزهر في الحقيقة أنغاماً تجري مع النسيم كالروائح العطرة لا يسمعها إلا ذوو الآذان التي هي أحدّ وأرهف_أعني الشعراء. ثم هم يحاولون كتابة هذه الأنغام فأكتبهم لها أشعرهم: وكذلك لا ينبغي أن تكون القافية في أي القصائد بأقل حسناً من النقش في الصدفة، ولا من تشابه الأشكال في طائفة الزهر. وأني أرى ازدواج العصافير ضرباً من الرباعيات. وأرى الزوبعة قصيدة حماسية. والصيف بزرعه وحصاده وخزنه قصيدة قصصية حسنة التقسيم مطردة السياق. فلم لا يتسرَّب إلى أرواحنا شعبة مما نراه في هذه الظواهر الطبيعية من الصحة والصفاء والنظام؟
أيها الشاعر! قد كان الفرسان في سالف الأزمان ينالون المجد والعلاء بالانقطاع إلى حماية عقيلة ذات حسب وجمال، وكانت مواطنهم يومذاك القلاع، وسوح الحرب والصراع. فأصبحت غاية المجد تنحاز لك بانقطاعك إلى آلهة الشعر بالمروج الخضر والغابات. فاعتزل رعاك الله الأوقات والعادات، والاصطلاحات والسياسات، والآراء والاعتبارات.(13/22)
وخذ كل ما تحتاجه من آلهة القريض ودع لغيرك الحرف والصناعات والأعمال والأشغال. واترك لهم عجلات الحكومة يديرونها والبرلمانات والخطب والمحاكم والقضاء والحرب وزلزاله، والخوف وبلباله. واستتر عن هذه وهاتيك في زوايا الطبيعة ملتحفاً أبراد الظلال، على خرير الزلال. مستهدفاً لقاذعة الذم والهجاء. وقارعة السخر والاستهزاء. فهذا عمرك الله هو الستار الذي صان به بان زهرته المحبوبة وتعز بتشجيع أخوانك. وتأييد خلانك. ولك الأرض بعدُ مجالاً وممرحاً. والبحر مغاصاً ومسبحاً. ولك العيون والأنهار. والسيول والأمطار. وكل ما استعاره الغير أو استأجره فأنت صاحب حوزته. ومالك ربقته. ولأنت رب الخضراء والغبراء والدأماء. وحيثما سقط الثلج أو جرى الماء. وغنى الهزار وصاحت المكاء وأسفر القمر ولاحت الجوزاء. واختلط الظلام في مطلع الفجر بالضياء. وامتزج الغناء من حمائم الأيك بالبكاء. وحيث كان الحب والولاء. والكره والبغضاء. والخوف والرجاء. وجدت أيها الشاعر مسبحاً ومجالاً. وانهالت عليك الخواطر الحسان انهيالاً. (يتبع)(13/23)
نوابغ العالم
فردريك الأكبر
بقلم كبير كتاب الانجليز ومؤرخيهم اللورد ماكولي
تعريب عباس حافظ
وأكثر ما اقتني من خيرة الكتب وأعيان المؤلفات، هو ما صاغه الكرام الكاتبون من الفرنسيين، وما وضعه كتاب ذلك البلد الأمين، فلا عجب أن رأينا إعجابه بهم غير محدود، واستحسانه محاسن ما أنشأوا، وبدائع ما خطوا، متناهياً مترامياً.
واستحثته شيمة الطمع والشوق التي فيه على أن يقلد ما أعجبه، ويحاول نسج ما قد حبكوا، وأحب الأماني إلى قلبه وأنداها على فؤاده أن يروح معدوداً بين سادة أهل الشعر في فرنسا، ورؤوس أهل البيان والفصاحة فيها.
وطفق ينثر وينظم بجد وصبر للنثر والنظم، كأنه أديب متضور، ولكن الطبيعة التي أتمت عليه مواهب القائد والمنظم أمسكت عنه تلك النعم الأكبر شرفاً، الأسمى مكاناً، الأندر وجوداً، التي تجدّ الصنعة الكتابية سدى لتخرج مثلها بياناً يبقى على الدهر، وحلاوة يطيب بها فم لزمان، ولحناً خالداً في مسمع الأيام.
ولو كان منح خيالاً أرق، وذكاءً أنضج مما يظهر، وخاطراً أخصب مما يبدو، لظل مع ذلك رهين نقص كبير يمنعه إلى الأبد أينال مكانة عالية بين الكتاب والأدباء.
لم يأخذ من أية لغة بزمامها، ولا راضت له مطيتها، ولا ذلت له أعنتها، ولم يكن له من خواطره ما يستطيع به أن ينهر غلمانه ويزجر خدمه ويأمر رؤساء كتائبه، ولم يُعن بالقواعد ولا اهتم بالنحو، بل ساءت مخارج ألفاظه ونبرات نطقه.
وكان يشق عليه أن يفهم أوضح المعاني الشعرية في الأدب الألماني، أو يستخرج مرامي أسلس بيوت الشعر، أو يفقه أريض معاني القريض.
وقرئت عليه يوماً ترجمة (افيجيني) للشاعر راسين، فأمسك الأصل الفرنسي في يده، ولكنه اضطر أن يعترف أنه لم يستطع أن يفهم الترجمة حتى وإن راجع الأصل.
على أنه وإن كان ترك لسان بلده وأعرض عن لغة موطنه، وأقبل على اللغة الفرنسية، ووضع لديها كل اهتمامه، فلم يفضل نصيبه منها على مرتبة الأجنب عنها، وما طال حظه(13/24)
على علم الدخيل فيها. لزمه أن يكون في ناديه أدباء باريس وكتابها، ويخطر في جنابه أعيان الآداب وأعلامها، ويمرح في ندوته فحولها وساداتها، ينبهونه إلى ضعف التأليف الفاشي في كتاباته، والأبيات المتهدمة والقوافي العاثرة والأناشيد الضالة الخاطئة، التي تحيرت في نظيمه، وغلبت في قريضه.
ولو كانت له روح شعرية - وكان منها عاطلاً جد العطل_لمنعته حاجته إلى اللغات وضعفه أن يكون شاعراً فحلاً يروح الناس بأشعاره ويغدون.
ولا نذكر أن فريدة من فرائد الخيال أو عقيلة من عقائله لم يكتبها كاتبها إلا بلغة حفظها ووعي دخيلتها أو تكلم بها في سهولة تامة وبيان نطق قبل أن يعلم مبانيها ويعرف أسرارها ومناحيها.
لقد نظم بعض نوابغ الرومان وسادة كتابهم أشعاراً وقصائد باليونانية، فكم من تلك القصائد يستحق الخلود والبقاء؟ وعمل أهل المواهب السامية والألباب الكبيرة في العصور الحديثة أشعاراً لاتينية، ولكن ليس في تلك القصائد والأشعار، حتى ولا في تلك التي نسج (ملتون) بردتها، ووشى حواشيها، ما يصح أن يعد في المرتبة الأولى من الصنعة، أو يكون في رأس الطبقة الثانية وطليعتها.
فلا غرابة إذن إن لم نجد في أبيات فردريك وقصائده الفرنسية ما يعلو على شعر (نيوديجيت) طبقة ومظهراً، أو يفوق نصيب أي امرئ أوتي صنعة وكفاءة لا بأس بهما.
ولعل أحسن مقطعاته وأبدع أبياته، تعادل أسوأ ما نظم (دورلى) وجمع في منتخباته.
ما في التاريخ فكان نجاحه أبهر، وخيبته أقل، ونحن لا نكاد نجد في أي مكان من مذكراته الضخمة، خاطراً بعيد الغور، أو نقع على فكر رائع، ورأي ثاقب، أو نلقي وصفاً حياً وتصويراً خفاقاً مترقرقاً تتحير الحياة في أثنائه وتجري الروح في خلاله.
على أن الكتاب ممتاز بوضوحه وإيجازه، ومعانيه، ولهجة صدق وسذاجة هي أروع ما تشهد في رجل جلس إلى دواته يقص أفعالاً جسيمة قضاها ويروي للناس أحاديث أعماله العظيمة.
وجملة القول ليس فيما جرى به قلمه أجمل من رسائله أو أظهر حسناً لا سيما تلك التي أنشأها بجد لم يوشها بشعر ولا زركش حفا فيها بقريض.(13/25)
ولا غرو أن رأيت شاباً حدثاً تفرد للأدب وتفرغ، وقصر اطلاعه على الأدب الفرنسي وسكن إليه وحده أن ينظر إلى نبوغ (فولتير) نظر الموقر المتعبد، بل ليس من العدل أن يلام على عاطفته أو يؤنب على حبه.
يقول كالدرون في إحدى (كوميدياته) الفاتنات إن رجلاً لم يشهد الشمس ووضحها، لا يلام إذا حسب أن القمر لا يداني فخره فخر، ولا يبز ضياء ضياءه، بل أن امرءاً لم ير الشمس ولا القمر لا يعذل أن تحدث بضوء نجمة الصبح ونورها الذي لا يبرزه نور.
ولو استطاع فردريك أن يقرأ هوميروس وملتون أو فرجيل وتاسو، لعلم أن إعجابه بالهنريات دليل على فساد ذوقه وجهله الأكبر بخالص الصناعة الشعرية وبهرجها، وحسنها وزيفها.
ولو اطلع شكسبير وسوفو كليس لترقبنا منه في رواية (زير) حكماً عدلاً ومقدراً منصفاً.
ولو أمكنه أن يدرس تاريخ (ثيوسيديد) و (تاسيتاس)، لعلم أن للفصاحة تلعات، وللبيان رامات وذروات، تقصر دونها مقدرة صاحب تاريخ (حياة شارل الثاني عشر) وتعز عليه وتطول.
ولكن خير ما قرأ م شعر حماسي ووعى من مآس موجعة فاجعات وتاريخ عليه غلالة الحسن وروعة الجمال هو ما خطه يراع فولتير.
ولقد شغفت الأمير الشاب حباً تلك المآثر، وتيمته المحاسن وكاد يروح لها عابداً.
ولم تكن آراء فولتير في الدين ومسائله الفلسفية قد نشرت للناس بعد وبسطت للجمهور.
فلما نفي من وطنه وأنشب على الكنيسة حرباً قلمية صرح بها للناس وأذاع. ولما كان فردريك يسكن رينسبورغ كان فولتير لا يزال في حاشية الملك وبطانته. ولئن لم يستطع أن يمنع روحه الفياضة ويعصي هوى ذكائه، وينشر بعد ما يخرجه من فرسايل ويطرده من جناب مليكه، فقد نشر شيئاً قليلاً لا يجد فيه لذة رجل ديني أخذ عن (جروتياس) و (تلستون).
وتري التقوى المسيحية تتمثل في هنرياته وتتجلى في روايتي (زير) و (ألزير) بأرق مظاهرها وخير أنواعها ولقد تنزل بعد سنين من الزمان الذي نحن في صدده أحد الباباوات فقبل إهداء روايته في (محمد).(13/26)
وعواطف ذلك الشاعر الحقيقية ومراميه لتبدو لذي العين البصيرة والنظر الحديد من خلال ذلك القناع الذي تقنع به والخمار الذي أرسله عليها، والحجاب الذي ضربه لها، ولم يفت على فردريك فهمها، إذ كان يرى رأيه ويذهب مذهبه وكانت شيمته المواربة والنفاق. (يتلى)(13/27)
شذرات من كتاب حديث المائدة
5
الريحان
جاءت الفتاة تحمل بين أفنان شعرها وردة وكانت قد بكرت الغداة على البساتين تستنثي نسيم الصبح وعادت بثلاث وردات تلك التي ذكرت ووردتين واحدة على كل وجنة. فقلت لها ذلك بعبارة تناسب المقام فتحولت وردتاها ارجوانتين.
وقلت ما أحببت شيئاً قط حبي الورد وأحب الورد إليّ ذاك الذي كان ينمو حول دارنا فيطل علينا من نوافذنا يحيينا بحمرته ونضرته ونفحته. وإني لأوصي صحابّي وأهل ودي وقرابتي إذا أنا هاج بي الغضب أو ثارت بي لوثة أو جنة أعيت كل مداوية. وأعجزت كل راقية. أن يقربوا من أنفي شيئاً من الريحان تسكن بأذن الله سورتي: وتخمد نار ثورتي. مثلي في ذلك مثل الوحش الذي حدثتنا عنه بعض الصحف في كلمة تحت عنوان رياضة العاديات. وسياسة العاتيات. قالت:
ذلل رائضنا المشهور بحيلته. وأخضع بفضل حذقه ومهارته. أمام جمع حافل من الخلق وحشاً من أفتك الضاريات. فأخرج للمحفل كالغول يكاد يقطع أصفاده. من شدة النشاط والقوة، يخور ويجرجر في تلك السلاسل الوهاجة كما غل الرعد في سلاسل برقة تخال عينيه جمرتين أو شعلتين.
يدير حجاحاه إذا الليل جنه ... شهاب لظي يعشى له المتنور
فأخذ الرائض ورقاً طيب الرائحة فسحقه تحت حوافر الوحش لتذيع رياه ثم جعل ذلك المسحوق في طرف عود وأدناه من خرطوم الوحش فتبدلت في الحال هيئته فاستنشق الطيب بشغف وقوة وحاول أن يمسكه بين شقي حافره. حتى إذا زال الرائض بعمله هذا الريبة من نفس الوحش عقد ريحانة من ذلك الصنف بطرف القضيب وأدناها من الوحش فعملت فيه كالسحر فاغرورقت عيناه بمثل قطرات السحاب وضغط على الريحانة بشفتين رجافتين. ثم وقف بعد ذلك مطمئناً ساكناً ومضى فجلب لرائضه صاعاً من الحنطة ولم يجنح إلى وثب ولا هيج ولا جماح.
أرى بعض الناس يأخذون على الشعراء أنه ليس من شاعر يظهر إلا ويقول في الورد على(13/28)
كثرة ما قيل فيه. لم يأت شاعر منذ برأ الله الخليقة إلا قال في الزهر وأكثر. حتى للذي بدواوين الشعر من حدائق الريحان أكثر بكثير مما بظهر البسيطة. أسمعت بشاعر لم ينعت الزهر؟ أو ليس الشاعر بوق الطبيعة ولسانها. ومفسر الطبيعة وترجمانها. أو العبارة أبلغ أليس الشاعر مرآة الطبيعة وهل تأخذ المرآة شيئاً وتترك شيئاً. هل تراها تعي اليوم ولا تعي غداً. هل رأيت مرآة مضياعاً غير مأمونة. إذن فكيف يطلع الورد في جميع أنحاء الأرض ويتفتح وينضر ويشرق ف كل آن ولحظة ويسكت الشاعر فلا ينطق؟ كيف تلد الأرض بناتها الحسان ولا يصدع البشير؟ كيف تجلو الأرض عرائسها ولا يصدح الشادي؟ كيف تجود الطبيعة وتبخل المرآة؟ كلا! ستشرق الأزهار. وتضيء الأنوار في دواوين الشعراء ما أضاءت وأشرقت في دواوين الطبيعة أعني البساتين - قديمة على الأيام جديدة. لمَ نهاب تكرار القول ولا تهاب الطبيعة. لمَ نضعف عن الإعادة ولا تضعف الطبيعة. لم نمتنع عن النطق بالأفكار، ولا يمتنع الليل عن النطق بالنجوم الدراري، ولا الأرض عن النطق بالعيون والجواري، والجداول والأنهار؟ أنظر إلى الطبيعة أتراها قط ملت أن تتلو النشيد النباتي. وإلى السحاب أتراها قط سئمت أن تتلو الحديث القطري والثلجي؟ ما خلا قط من هذه الصلاة الخفية العلنية شبر في الأرض ولا في السماء. وآمين الطبيعة - أثر كل دعاء_زهرة.(13/29)
اعترافات ده موسيه
الفصل الرابع
فلما رأى ديزينيه أن اليأس قد بلغ بي حتى عز الدواء، وتوارى الرجاء، وأنني بت لا أريد أن استمع لنصيحة الناصحين، أو أقبل على أحاديث اللائمين، وأني أصبحت لا أفارق حجرتي، همته حالي وأشغله أمري.
جاءني في ليلة مرسلاً على معارفه سيمياء الجد، وفي أسارير وجهه علائم الحزن، ثم جعل يحدثني عن خليلتي في لهجة المتهكم، وطفق يرمي النساء بكل نكراء سيئة، وأما أنا فتحاملت حتى استويت في سريري أسمع له وأرى.
وكانت ليلة مظلمة، تئن فيها الريح أنين المحتضر، والسماء رذاذاً يتناثر على زجاج النوافذ، تاركاً بين آن وآن سكوناً كسكون الموت، وكل شيء في الطبيعة محزون يتوجع، فالشجر يتمايل من ألم، مطرقة أعاليه من حزن، وأطيار الحقول انزوت في الدغل والوكن، وأقفز الشارع من الناس، وعاد جرحي يؤلمني.
بالأمس كانت لي خليلة، وكان لي صديق، فنفرت الخليلة وتولت وألزمني الصديق سرير الوجيعة والألم.
ولا أكاد أعلم ما خطر في نفسي، ولا أظن إلا أنني كنت في حلم مروع مخيف، وأني أغمضت عيني لأنهض في الغد سعيداً ناعم البال، مشرق الأمل، وبدت لي حياتي في تلك الساعة حلماً مضحكاً باطلاً، أشبه بأحلام الصبية الصغار، انكشف باطله، وبدا كذبه، وكان ديزينيه جالساً إزائي بجانب المصباح رزيناً ساكناً، تلوح على فمه ابتسامة لا تفارقه.
ذلكم ديزينيه، رجل كله قلب، على حين أن فيه جمود الصفاة الملساء وخشونة الصخرة الصماء، رجل بكرت في الحياة تجاربه، وغرب نهار مشاهده، على أن شمس حياته لا تزال في مشرقها، وأحفى مر الغداة شعر رأسه فبان أصلع قبل الأوان.
لقد عرف ديزينيه الحياة وبكاها في حينها، وجرت دموعه في همها، ولكنه اتخذ لحزنه درعاً من الصبر، وكان دهرياً، وكان يرتقب الموت.
وأنشأ يقول: أني أراك تذهب في الحب مذهب أهل الخيال والشعراء ومذهبك يمنعك من الرجوع إلى رشدك، ويقودك إلى هموم كثيرة ومتاعب.(13/30)
إن الشعراء يمثلون الحب كما يمثل المصورون الجمال، كما يبتدع الموسيقيون أصوات الغناء، كما يختلقون الأنغام والألحان.
إن لهم أمزجة عصبية، وطبائع رقيقة شفافة، فهم لذلك يمثلون أطهر عناصر الحياة، ويرسمون في صنعة التصوير أفتن معالم الحسن، وأزهى صفحات الجمال، ويصدحون بأحلى نغم الطبيعة وأعذب نشائد الكون.
قالوا كان في أثينة ترب من الفتيات الحسان فرسمهن (بركستيل) جميعاً واحدة في أثر واحدة، فلما أتم تصوير مختلف حسنهن، وعلم من صورهن عيوبهن، مزج بديع الحسن برائع الجمال، وجعلها في صورة واحدة، كانت هي صورة الزهرة آلهة الجمال.
وأن أول رجل صنع آلة للموسيقى، وجعل لصنعة الغناء قواعد، ووضع للألحان قوانين، كان من قبل يستمع لخرير الجدول، وينصت لسجعات البلبل، وكذلك الشعراء، علماء الحياة، شهدوا غراماً طال وغراماً مضى، ورأوا حباً عاش وحباً قضى، وأحسوا في أعماق قلوبهم، وحرارة مشاعرهم السامية، أن عاطفة الهوى تثور في الفؤاد يوماً وتسكن، وتعلو في جنبات القلب حيناً وتهن، وترهف من طبيعة الإنسان تلك العناصر التي تحط من قدرها، وتنزل بها من كل مكان، ولذلك ابتدعوا هذه الأسماء الغريبة، التي تنتقل من عصر إلى عصر، وترتحل من زمان إلى زمان، وهي في أفواه الرجال، وعلى شفاه المحبين تلكم الأسماء: دافنيس وشلو، وهيرو ولاندر وبيرام وتسبا.
وأنت إن أردت أن تبحث في حياتنا الدنيا عن هوى أبدي مطلق كنت كالباحث في بيوت البغايا عن حسان كالزهر فاتنات، أو المتطلب من البلبل أن يغني مقطعات (بتهوفن) ويصدح بأناشيده المستعذبات.
لا كمال في الدنيا، وإن اعتقاد ذلك انتصار للذكاء الإنساني، ومجد للعقل الآدمي، وما تطلب الكمال إلا شر الجنون، وما رغبه إلا أخطر الحمق.
افتح نافذتك وانظر هل ترى بعينك اللانهاية، ألا تشعر بأن السموات لا حدود لها ولا أطراف، وهل يحدثك بذلك قلبك، وهل أنت للانهاية مدرك؟ إنك تذهب في أمر لا نهاية له، أنت المولود بالأمس والميت غداً.
والناس من روعة الكون في جنون، ومن روعة الكون نشأ الدين، بل أن رغبة امتلاك(13/31)
اللانهاية هي التي جعلت (كاتو) ينحر رقبته، وهي التي حرضت المسيحيين على تسليم أنفسهم إلى الأسد تنهشهم، وهي التي ألقت البروتستانت إلى الكاثوليك يسومونهم سوء العذاب.
كل شعوب الأرض تمد للكون أكفها وتثب له وثبتها، والأحمق يريد أن يمتلك السماء، وأما العاقل فيعجب بها، ويجلو عينه في كبدها، ويركع من رهب لها، ولا يفكر في طلبها.
الكمال أيها الصديق، لم يخلق لنا نحن الناس، فلا ينبغي أن نطلبه في شيء، أو نبحث عنه في حب أو جمال أو سعادة أو فضيلة، بل حسبنا أننا نحب الكمال لنكون ما استطعنا قوماً أخياراً حساناً سعداء.
هب لديك في حجرتك صورة لرفائيل، ترى فيها كمال الصنعة ودقة التصوير، وجئت تتطلع إليها ليلة الأمس فاكتشفت فيها عيباً كبيراً كأن رأيت مثلاً عضواً مكسوراً أو عضلاً ناتئاً دون طبيعته، إذن لشد ما يروح حزنك، ويا عظم ما يكون أسفك، على أن نفسك لا تسول لك أن ترمي في النار بصورتك، بل تقول أن الصورة ليست كاملة في صنعة التصوير، ولكن هناك رسوماً وصوراً غيرها تستحق الاستحسان والإعجاب.
وهناك نساء يأبى عليهن كرم طباعهن، وتمنعهن صداقة قلوبهن أن يكون لهن عاشقان في وقت معاً، وأنت كان عهدك بخليلتك منهن ولا لوم في الحقيقة عليم ولا عتب، ثم بدا لك أنها تخدعك وتغرر بك، فهل يؤدي بك ذلك إلى احتقارها والإساءة إليها، واعتقادك أنها تستحق كراهيتك ونقمتك.
ألا هبها كانت تهواك دون سواك فما أبعد ما بين حبها وبين الكمال، حب إنساني تافه، يتبع سنة نفاق العالم وأخاديعه.
وأذكر أنها كانت متاعاً لرجل أو رجال قبلك، وستكون من بعدك في حوزة رجال آخرين، وأن الذي يرمي بك في أحضان الأسى، تطلبك الكمال في خليلتك، فلما رابك من أمرها ما رابك، أنزلتها عن مكانها الأول من فؤادك، ولو علمت أن رأيك في الكمال رأي إنساني حقير، لرأيت أنها ليست إلا درجة واحدة من ذلك السلم الكبير الذي أفسده النقص الإنساني.
ألست ترى أن خليلتك كان لها من قبل عشاق وأحباب، وسيكون لها من بعد متحببون وأصحاب، وأنت لا ريب تقول أن معرفة هذه الحقيقة لا تهمك ما دامت تصبو إليك ولا(13/32)
تصبو إلى سواك، وأنا فأقول لك، إذا علمت أنه كان لها عشاق كُثر فماذا يهمك إذا كان ذلك أمس أو قبل هذا العهد بعامين، بل ماذا يهمك أن تعلم أنها في غد أو بعد غد أو بعد أحوال، نازعة إلى أصحاب أغرار، وإذا كانت اليوم تهواك غير منهومة العين بالهوى، فماذا يهمك أن تعرض عنك بعد ليلة أو بعد سنين.
ألست رجلاً، ألا ترى أوراق الشجر تسقط عن غصونه، والغثاء يفترق عن أفنانه، ألا ترى الشمس تشرق ثم تغرب وتطلع على الناس بوضحها فتزاور إلى طَفَلها، ألا تسمع صوت ساعة الحياة الراحلة في كل دقة من دقات قلبك، إذن فهل ترى ثمة من فرق بين حب يأفل في ساعة وحب يدور دورته في عام.
إنك تصف بالوفاء المرأة التي تصدق عامين في حبك، كأن لديك (تقويماً) أعددته لتحديد الوقت الذي تجف فيه قبلات الرجال من ثغور النساء، وتزول فيه لثمات الفتيان من شفاه الحسان، أنت لا تفرق بين المرأة التي تهب نفسها من أجل المال، وتلك التي تهبها من أجل الشهوة والإلتذاذ، وبين تلك التي تهبها من أجل العزة والإعتزاز، وتلك التي تهب الروح من أجل الحب المُصَرّد والتضحية الخالصة، وإن من بين النساء اللائي اشتريت، من دفعت إليهن ثمناً أغلى من أترابهن، ومن اللاتي التمست في هواهن لذة حواسك، وطلبت في عشقهن مسرة مشاعرك، من خلصت إليهن، وسكنت أكثر من سكونك لغيرهن، وكذلك ظهرت للواتي تعشقت لأجل الترف وروعة المظهر، في أبهة وحسن مقتبل ما ظهرت بهما لدى أية امرأة أخرى، وفي العشيقات اللاتي صادقت وأحببت من وهبتها ثلث قلبك، وأخرى ربعه وثالثة ألزمتها النصف من فؤادك، وذلك على قدر أنصبتهن من الأدب والأخلاق والأسامي والمولد والجمال والسجية وتبعاً لظروف الأحوال والساعة التي أنت فيها والشراب الذي أنت معاقر والمشمولة التي أنت حاسيها.
أي أوكتاف، أنت لدى النساء العزيز المحبب والعشيق المرحب، لأنك ما تزال بعد الفتى الشاب والغيساني الصب، وأنت ذو الكبد الحَرَّى والقلب الخفاق. لك الوجه المستدير والصفحة المشرقة الجميلة، والشعر المنظم المهذب، ولكنك يا صاحبي لا تعلم ما المرأة؟
إن الطبيعة قبل كل شيء تريد من المخلوقات نتاجها ذلك لأن الحياة الدنيا تخاف الموت في كل مكان من قلال شم الجبال إلى قيعان الأوقيانوس، ولكي يحفظ الله ما أبدع ويخلد ما(13/33)
صنع شرع تلك الشرعة الخالدة، أن أكبر لذاذات الحيوان في نسلها، وأمتع نعيمها في ولدها، وأحفل هناءها في ذراريها.
إن الذكر من النخل يؤخذ منه غبار شماريخه الكثيرة التوليد فتلقح به أنثاه، فيهتز من حب، ويتمايل من طرب، في رياح الهاجرة وأهوية الظهيرة، والوعل يصوت للسفاد ويُهتاج فيبقر بطن الأنثى إذا تمنعت عن سفاده، والورقاء تنتفض تحت جناحي صاحبها، كما يرجف العاشق الصب وتنتفض العاشقة الوالهة والرجل يأخذ زوجه بين ذراعه فيمشي بها في بهرة الطبيعة القادرة فيحس بذلك السنا المتألق المقدس الذي بعثته صبابته، يثب في نواحي قلبه ويطفر في حنايا ضلوعه.
رويداً أيها الصديق، إذا ضممت ذراعيك العاريتين غادة حسناء المتجرَّد عذبة الميسم، ورأيت لذتك تهجم عليك بالدموع وشهوتك تستبكي عينيك وألفيت شفتيك تدميان بأقسام الحب الأبدي وعهود الهوى الخالد ووجدت اللانهاية قد هبطت من مكانها العلي إلى فؤادك فلا تخف أن تسلم نفسك وتخلص بروحك، ولكن حذار أن تخلط بين الخمرة والنشوة أو تمزج الصهباء بالثمل أو تعتقد أن الكأس التي تحسو منها مطهرة كجمامها، ولا تعجب لها أن تراها في المساء فارغة محطمة، بحسبك أنها امرأة، إنها آنية سريعة التحطيم، صنعها من تراب الأرض خزاف.
واحمد الله الذي أراك السموات، ولا تظنك عصفوراً لأنك تنتفض وترتجف، فأن الأطيار نفسها لا تستطيع أن تجوز السحب أو تعبر الغمائم لأن في السموات العُلى أفقاً يعز فيه الهواء، وأن القنبرة تصعد في الأجواء صادحة شادية في غيم الصبح وضباب السحر فتسقط على الأرض ميتة، خذ من الحب قدر ما يأخذ من الخمرة الرجل المعتدل، ولا تعدُ في الدنيا سكيراً، ولا تغدُ في الحب مدمناً، فإن كانت خليلتك صادقة العهد مطمئنة الهوى فأحبها لصدق عهدها واطمئنان هواها. فإن لم تكن كذلك وراحت لعوباً واغتدت حسناء تياهة، فأحبها للعبها وتيهها، وإن كانت رشيقة المتقبل وخفيفة الروح فأحبها لخفتها ورشاقتها فإن لم تكن لا هذا ولا ذاك وكانت تحبك فأحبها لحبها، ولا تغضب ولا تسخط ولا تقل أنا قاتل نفسي لأن لي مزاحماً ينفس عليّ حبي ويستخلص مني خليلتي، وتقول أنها تخادعني نازعة إلى هوى غيري، وتعذبك عزتك ويجرحك إباؤك ولكن ما بالك لا تقول أنه(13/34)
المخدوع بي فتمسك بذلك عليك عزتك.
لا تقل أريد أن يكون كل الحب لي، قاصيه ومبعده، فإنك رجل والرجال هواء لا يقيمون على حال، وإنك لا بد زائد على قولك - ما أمكن _.
خذ المان كما يقبل والريح كما تسفر، والمرأة كما تكون، واعلم أن الاسبانيوليات، سيدات النساء، صادقات الحب وفياته، طيبات القلب مدلهاته، ولكن يحملن طوال المناكب أوفياء الشطاط، والانجليزيات ساميات عاليات، ساكنات رزينات ولكنهن باردات الدم متكلفات، والألمانيات رقيقات خفيفات على أن في أخلاقهن مللاً وفي طبعهن سآمة، وللفرنسيات رشاقة متناهية وحسن مظهر وجري إلى شهوة ولكنهن أكذب من سراب.
لا تتهم النساء ولا ترمهن بعيوبهن، فنحن الرجال شوَّهنا ما أبدعت الطبيعة، وأسأنا ما أحسنت وابتذلنا ما صانت.
إن الطبيعة التي تعمل لكل شيء وتدبر، خلقت الفتاة العذراء لتكون معشوقة محبوبة، على أنها لا تكاد تحمل حملها وتضع طفلها حتى يسقط فرع لها وذؤابة ويشوه ذلك الخصر الأهيف ويبدو في جسمها الناعم آثار القروح وذلك لأن المرأة خلقت لتكون أماً ولتروح والدة!
وأن الرجل ليتولى عنها إذ ذاك ويعرض، نافراً من جمال ضائع، مشمئزاً من حسن مفقود، هذا وطفله متشبث به في بكاء ودموع.
تلكم الأسرة، ذلكم القانون الإنساني، والشرعة الآدمية، فكل من تنحى وحاد فهو وحشي مسيخ.
وفضيلة الريفيين أن نساءهم آلات للولادة والرضاع، وأنهم آلات للعمل والكدح، ليس لهن ضفائر مصطنعة ولا ذوائب مستعارة ولا لبان الأبكار، ولكن ليس على حبهن برص أو جذام.
آخذون في ود صادق، وحب فطري ساذج، فلا يعلمون أن هناك عالماً جديداً اهتدينا إليه يسمى أمريكا، استعاضت نساؤهم عن رقة العاطفة وحدَّة المزاج، صحة الأبدان وسلامة الجسوم.
لا ناعمات الأكف بل خشنات. لابضات الراح بل شثنات على أن ليس لقلوبهن خشونة(13/35)
أكفهن.
إن المدينة تعمل على عكس الطبيعة فإن العذراء المخلوقة لتجري مع الشمس. ولتعجب بالمتصارعين. ولتختار وتحب، نلزمها الدار فلا تخرج، ونحبسها في عقر البيت فلا تظهر، على حين أنها تخفي قصة غرام تحت نوطها.
الله لجمالها، لشد ما تعود صفراء عاطلة أما مرآتها، وواهاً لها تُذبل في سكون الليل جمالاً يختنق. وتُذوي تحت أنفاس الظلام حسناً يعوزه الهواء.
ثم نخرجها فجأة من مضربها جاهلة كل شيء لم تحب أحداً وتطلب الجميع، فتقع على عجوز تعلمها دروسها وتلقي عليها تعاليمها، ويأتي إليها فاسق فيهمس في أذنها بكلمة سوء فتنقاد إليه، إلى سرير رجل لا تعرفه
أكفهن.
إن المدينة تعمل على عكس الطبيعة فإن العذراء المخلوقة لتجري مع الشمس. ولتعجب بالمتصارعين. ولتختار وتحب، نلزمها الدار فلا تخرج، ونحبسها في عقر البيت فلا تظهر، على حين أنها تخفي قصة غرام تحت نوطها.
الله لجمالها، لشد ما تعود صفراء عاطلة أما مرآتها، وواهاً لها تُذبل في سكون الليل جمالاً يختنق. وتُذوي تحت أنفاس الظلام حسناً يعوزه الهواء.
ثم نخرجها فجأة من مضربها جاهلة كل شيء لم تحب أحداً وتطلب الجميع، فتقع على عجوز تعلمها دروسها وتلقي عليها تعاليمها، ويأتي إليها فاسق فيهمس في أذنها بكلمة سوء فتنقاد إليه، إلى سرير رجل لا تعرفه يسرقها عذريتها، ويهتك حجابها.
ذلكم زواج المدنية، وتلكم العيلة المتحضرة، وانظر الآن إلى تلك الفتاة البائسة التي تزوجت فأصبحت حاملاً، وانظر إى شعرها المتساقط وخصرها المتثاقل، فقدت حسن العاشقات ولم تعشق، وضيعت فتنة المحبين ولم تحب.
حملت ثم وضعت وهي تسائل لمَ الحمل وعلام الوضع؟
ويجيبونها: أنت اليوم أم.
وتقول كلا، ما أنا بأم، ادفعوا بالرضيع إلى مرضِعة ترضعه، فليس في حلمتيّ من لبن.
ويجيبها زوجها أنها على حق، فلعل وليده يأبى أن يرضع من ثدي والدته.
ويروح أهلها ويغدون، يزينونها ويجملونها، ويضعون الغلائل الرقاق فوق سريرها الغارق بالدماء ويُعنون بالنفساء، ويتعهدونها بالدواء، حتى تتماثل إلى الشفاء، ولا يمر شهر حتى تراها في (التويلري) أو في المرقص أو في دار (الأوبرا)، وطفلها عند المرضع، وزوجها في أحضان المومس والبغيّ ويتلقاها عشرة فتيان شباب، ينفخون بكلم الحب في أذنيها، ويرسلون عبارات الهوى إليها، ويكلمونها عن الإخلاص والعاطفة والعناق الخالد، ويوحون إليها بكل ما يسكن ربع قلبها وينزل في ناحية من فؤادها.
فتتخذ لها منهم عشيقاً، تضمه إلى نهديها، وتلقيه فوق كاعبيها، وتمكنه من عفافها فيبدده، وتسلم إليه صونها فيبتذله، وتعود إلى دارها بخزيها، وتنقلب إلى زوجها بعاره وعارها.
ثم تنزوي في الدار مهجورة منتبذة، تبكي الليل، وترى أن جفنيها عادا قريحين من طول ما(13/36)
بكت، فتنزع إلى فتى آخر ترود في عشقه عزاءها، وتطلب في حبه سلوتها، ثم تفقده فلا تني تبحث عن عزاء في غيره حتى يبلغ عشاقها الثلاثين أو يزيدون.
وتعيش بعدهم جريحة قريحة، لا حب ولا رقة ولا جمال ولا غم ولا نفور، فرُب ليلة تلتقي فيها بشاب من الأحداث، له شعر فاحم وعين يطل من بين جفنيها الحب والعطف والحنان، وقلب بعلالات الآمال خفاق، وعلائل الرجاء نبّاض، فتذكر شبيبة لها ضاعت، وآلاماً تكبدت، ولوعة ذاقت، فتفيض عليه من دروس حياتها وعبر شبابها وتنصح له ألا يحب أبداً.
ذلك مثل المرأة التي أخرجنا، هؤلاء خليلاتنا وضجعائنا، ولكن على رسلك، بحسبك أنهن نساء، وفيهن للذة سوانح وللنعيم فيهن فرص.
فإن كان فيك صلابة وكنت حقاً رجلاً فاسمع نصيحتي إليك، ألق بنفسك في غمار العالم، واقذف بها دون خشية في لججه وعواصفه، واتخذ حبائب لك، خليلات وراقصات، وحضريات ومركيزات، وكن ثبتاً ومتحولاً، وفياً وغادراً، حزيناً ومفراحاً، مخدوعاً أو محترماً، واعلم أنه لا يهمك شيء ما أحببنك الساعة التي أنت فيها.
وإن كنت امرأ وسطاً عادياً فرأي لك أن تتمهل في ريبك زماماً حتى يستقر، ولا تعتد بشيء تظنه في عشيقتك.
وإن كنت رجلاً ضعيفاً تنزع إلى إسار المرأة وتنزل على سلطانها وتريد أن تنبت حيث ترى أية قطعة من الأرض. فاجعل لنفسك درعاً يقيك، وحرزاً يحميك، فإنك أن تُترك لطبيعتك الضعيفة الناحلة لن تنمو ولن تذكو ل تعود هشيماً كالإنبات الباطلة فلا زهر ولا ثمر، وتنتقل عصارة حياتك ونخوتها إلى شجرة غريبة، وتغدو أعمالك صفراء كأوراق السرو والصفصاف، لاريَّ لك إلا من دموعك ولا غذاء لك إلا من قلبك.
ولكنك إن كنت ذا طبيعة سامية تهيم في الخيال وتطير تريد تحقيق أحلامك فأقول لك بكل صراحة - الحب غير موجود _.
وهبني قلت لك أحب، أفليس الحب أن تهب الروح والجسم وإن شئت فقل تجعل من مخلوقين اثنين مخلوقاً واحداً، أليس الحب أن تمشي تحت ذُكاء، في الهواء المطلق الساجي، بين السنابل والمراعي، وألاعواد والمرج بجسم ذي أربع أذرع ورأسين وقلبين(13/37)
اثنين!
الحب هو الأيمان، هودين السعادة الأرضية، هو مثلث من النور استقر في سماء هذا المعبد الذي نسميه العالم!
وأن تحب هو أن تمشي كيف تشاء في ذلك المعبد، يخطر إلى جانبك مخلوق يعلم لمَ تستوقفك الخطرة، وتستملك الكلمة، وتستلفتك الزهرة، لترفع رأسك إلى ذلك المثلث السماوي.
إنفاذ المواهب السامية في وجودها حسنة كبرى. ولذلك كانت العبقرية نعمة محمودة، وأن تضم إلى موهبة وتجمع إلى قلب قلباً وإلى ذكاء ذكاء سعادة أسمى ونعيم أمتع، ولكن الله لم يكثر لنا منها، ولذلك كان الحب خيراً من العبقرية وأغلى قدراً وأعز شأناً.
ولكن رويدك، أهذا الحب لدى نسائنا؟ كلا. فليس الحب لديهن إلا أن يخرجن مختمرات، ويكتبن مبهمات مُلغزات، ويخطرن مائسات، ويمشين على أطراف أصابعهن متهاديات، ويُبكين ويُضحكن ويظهرن للرجال بأعين مراض، ولحاظ فاترات، ويرسلن عفيفة التنهدات من أزار مصَنَّع مُرجَّل.
الحب لديهن أن يذللن مزاحماً، أو يخدعن زوجاً، أو يهجرن حبيباً، أو يعرضن عن العشاق.
الحب لدى نسائنا هو التلهي بالكذب، تلهي الصبية بالاستخفاء في اللعب.
قلوب فاجرة، ونزعة إلى شهوة أين منها شهوة الرومان إلى أعياد برياب، واستخفاف بالشر كاستخفاف بالخير، ورواية هزلية ثقيلة الروح يتهامس الجميع فيها ويرمين بالنظرات، كل شيء فيها صغير بهيج، وكل شيء فيها شنيع، كمثل لعبات الخزف التي نجلبها من أرض الصين، سخرية بالجميل والدميم، وأزراء بالرائع والمروع والطيب والخبيث والطاهر والكدر، ظل ولا عرض، وهيكل لكل ما خلق الله. . .(13/38)
واجب المرء نحو نفسه
وواجبه نحو الله
ما الغرض الذي ينتهي إليه الحق والواجب. وأين يستكن المطلب السامي البديع الذي كان حقاً علينا تحقيقه.
والبحث في أن العدل يتجاوز تلك الحدود الضيقة التي وضعناها، ويعدو على تلك الرسوم التي رسمناها وإن الإحسان في دائرة العدل وتحت سلطانه أمر يشق علينا أن نأتي به في كلمة أو كلمتين بل بحسبنا أن نقول أن الواجب هو العدل، وسنرى بعد أن لا غنى لنا عن عنصر آخر هو الحرية فإنه وإن كان الظلم شراً مستطيراً وأن لا خير إلا في العدل فإن من الشر ما يكون عدلاً.
وقبل الخوض في هذا البحث ينبغي لنا أن نشرح معنى ما يسمى بالواجبات الشخصية والواجبات الدينية، ولما كانت تلك الواجبات والحقوق علاقات بين الناس وروابط بين الأفراد كان صعباً علينا أن ندرك قولنا أن للمرء حقوقاً تخصه وواجبات تلزمه. ولما كان الواجب هو العدل والمساواة ركنه المكين وكانت المساواة في حق الله غير جائزة كان أشق علينا أن نفهم ما نعني بقولنا واجب المرء نحو الله.
إن الآداب كلها آداب اجتماعية وقبل أن تذهب بك بعيداً ينبغي لنا أن نبحث فيما إذا كان هناك آداب دينية وآداب شخصية والمعنى الجدير بكليهما.
الفصل الأول
واجب المرء نحو نفسه
هل لأنفسنا حق علينا؟
قالوا أن رجلاً اعتزل العالم وعاش في نجوة منه. في جزيرة مقفرة كما كان ربنسن كروزو، ملزم باحترام الإنسانية في شخصه ولكن هل يتصور العقل فرضهم أو يقبل منهم قولهم. فأين لإنسان بعيد عن الحياة الاجتماعي لا يدركها ولا تربطه بها رابطة ولا تجمعه بها آصرة أن يحترم الإنسانية ويوقرها.
ما كان ربنسن كروزو منقطع الأمل من الرجوع إلى الإنسانية والمعيشة بين قومه بل قد عاد إلى الناس وآب إليهم وكان لربنسن كلب وقط وببغاء والتقى في معتزله (بجمعة)(13/39)
إن من يحترم الإنسانية في شخصه حق عليه أن يعد نفسه جزءاً منها، ومن انفرد عن العالم وانتبذ مكاناً من المجتمع وانقطع منه كل رجاء في الرجوع إليه ولم يرتبط به في شيء فقد أصبح غريباً عن الإنسانية خارجاً عنها ولو أمكننا أن ندرك أن في وسعه أن يحافظ على كرامته وشرفه وقد فعل لما كان فعله إتباعاً لآداب عمومية وقياماً بواجبات اجتماعية وإنما هو إحساس شريف ونزعة جميلة.
الواجب دَين، والإنسان لا يكون مديناً لنفسه ولا يملك لها إبراء ولا صرفاً فلا وجود إذن للواجب الشخصي بالمعنى الحقيقي.
من كان مديناً لغيره فحق عليه العمل لسداد دَينه وكلنا مدينون للمجتمع فيلزمنا إذن أن نعمل لتوفيته دَينه وأن نقف بحيث يتسنى لنا العمل وما واجبنا على أنفسنا في الحقيقة إلا حقوق للمجتمع وعهود وخلاصة هذه الواجبات أن يحافظ المرء على كيانه ويسلم من الأذى.
إن الشقي الذي ناء بالحياة حملاً وضاق بها ذرعاً وأقفر من الفرح ولأمل فأجمع أمره على فراقها والتخلص بالانتحار من همها أحق بالرأفة وأجدر بالرثاء والرحمة وعلينا أن نكم أفواهنا إزاء بأسائه ونمسك عن القول أمام شقائه ومن كان في رغد من العيش لا يشقى بعبء الحياة فلا يحق له أن ينقم على المسكين ويحكم فيه بأمره فإنه لا يدري ماذا كان يفعل لو كان في مكانه وهذه حقيقة لا يقل عنها ثبوتاً ووضوحاً أنه لا يجوز لأحد منا أن يستل روحه ويجهز على نفسه هرباً من واجب الإنسانية وتخلصاً مما عليه من الحقوق.
إن المجتمع في حداثة أعمالنا يقوم بجميع حاجاتنا ولا نقوم في مقابل خدمته بشيء إلى أن يبلغ الفرد منا خمس عشرة سنة إن كان صانعاً أو العشرين أو الخمسة والعشرين إن كان محترفاً بإحدى المهن الحرة كالطب والمحاماة فهو قبل تلك السن ثروة إلى حين ومتاع مدخر لم ينتج بعد شيئاً للمجتمع ونبت لم يزهر وغرس لم يثمر وهو ملك للجماعة بكليته.
المحافظة على النفس غير مقصورة على الاحتفاظ بالوجود بل على جميع قوى الحياة الأدبية والمادية من صحة وعقل وذكاء ولب وقلب وحرية وليست قوانين الصحة إلا قواعد أخلاق واجب على المرء إتباعها أضف إلى قوانين الصحة قواعد تثقيف العقل وإنماء المدارك فلا يسوغ له أن ينهك ذكاءه أو يخمد وهج نوره أو يقسي قلبه بل يجب عليه أن يتعهده بأنواع الحب والشفقة ولا يميل به إلا إلى كل حسن جميل وإذا جاد لامرئ بقلبه(13/40)
فليجد دون قيد ولا شرط.
والغيرة على الحرية واجبة قبل كل شيء فلا يجعل المرء لأحد سلطاناً عليه فإن مصيبة المصائب ونكبة النكبات أن يكون الإنسان آلة في أيدي غيره وأنني إذا ما خامرني شك في استقلال امرئ بيني وبينه خلطة وعمل ورأيت منه أنه لا يعمل بإرادته ولا يفكر بعقله عراني لحاله ألم شديد وتضاءل أمامي حتى لأتلمسه فلا أجده وإنما أجد مكانه خيالاً يدعو إلى الرعب والفزع كلما قام أو قعد ظننت أنه يخفي وراءه شباكاً نصبت لاغتيالي.
أعمل بإرادتك واختيارك وإذا ما أحرجتك الصيحة فلا تستثر إلا ذا بصيرة وعقل ولكن احرص كل الحرص على حقك في إهمال رأيه إذا أنت لم تجده سديداً وأن في تخيلك عن حريتك تركاً لحقك في قضاء واجبك ولا تضع شيئاً فوق ضميرك ووجدانك.
وجملة القول واجبك نحو نفسك أن تكون صالحاً لأمر ما وذا قيمة ونفع للبيئة التي تعيش فيها وقد تضطر بعض الأحيان إلى تضحية النفس في سبيل خدمة قومك فافعل ولا تحجم إن كانت هذه التضحية من واجبك ولا يلتبس عليك الانتحار بالتضحية وما تضحية الروح إلا أن تقذف بنفسك إلى حظيرة الموت أو أن لا تطير على الأقل من الموت رعباً وجبناً فإن كان الدافع لك صالحك الشخصي بأن اعتقدت أن في مفارقتك للحياة سعادة لك وهناء لروحك أو نهاية لآلامك وأحزانك وخلاصاً من بؤسك وشقائك فهذا هو الانتحار. أما التضحية فالعمل بشجاعة وثبات على قضاء واجب يكون الموت خاتمته وقد يدعوك واجبك إلى اقتحام المخاوف وتعريض حياتك إلى الأخطار وبذل صحتك وراحتك أو ترك شيء من آمالك وما ترتجيه من مستقبلك أو إلى تمزيق قلبك وإطفاء وجدانك، ومن الجائز - وإن كان من أندر الأمور_أن يقضي عليك صالح الجماعة بتنازلك عن جزء من استقلالك وحريتك فأقدم ولا تجبن إن كان هذا واجبك فإن ما في جسمك من لحم ودم وعظم وما في رأسك من ذكاء وعقل وبصر وسمع وما فيك من قوة وصحة وشعور وإحساس متاع للمجتمع وثروة لست إلا مديرها وأنك لم تعط هذه المواهب لتحبسها وتضن بها كالبخيل الذي يشح بماله ويحتفظ بكنوزه فتذهب فائدتها وإنما لتحسن تصرفها وإنفاقها في صالح أمتك ووطنك.
الفصل الثاني(13/41)
واجب المرء نحو الله
وهل لله حق على الإنسان؟
وهل من حقوق الله أن نؤمن به ونسلم بوجوده؟
ليست العقيدة كرهاً لأنها خارجة عن إرادة المرء فليس في وسع الإنسان أن يحمل نفسه رغماً منها على التصديق بدعوى يعلم باطلها أو يرغم شعوره على إنكار حقيقة أقتنع بصدقها أو يكره عقله على تصديق ما لم يكن مصدقاً، ومن ذا الذي يستطيع أن ينتزع من مخيلته صورة شيء ماثل أمام عينيه يلمسه ويراه، ولكن لا يجوز له أن يعارض في الحق أو ينصر الباطل أو يرضى بحجة لا يرى سدادها، وإنما الجائز له أن يبحث دون غضب أو تحيز.
لا إكراه في الدين، وإنما الإكراه على حسن النية، ولقد يدعي المتدينون أن إخلاص النية يؤدي حتماً إلى الأيمان ولكن من لم يهده نور الإنجيل فلا هادي له من نفسه وإن من استرشد بتعاليم المسيح فلن يضل السبيل إلا إذا استبدت به شهواته وميوله الفاسدة.
لا ننكر عليهم أن كثيرين من الملحدين ساقهم إلى الإلحاد أسباب غير شريفة ولا وجيهة وإن الطفل الذي يتربى في أحضان الدين يضن بعقائده الساذجة عن أن تعرض إلى المناقشة والبحث حتى إذا ثارت شهواته وتيقظت مداركه شرع يبحث في عقيدته وأخذ في نقدها وتحليلها وفك قيودها وأغلالها وقل ما يكون عادلاً أو دقيقاً ولا يكاد يفسد أيمانه حتى تنهار أخلاقه وتسقط آدابه وكذلك كل بناء يرتكز على أساس غير متين لا يلبث أن ينهار لا محالة.
ما أضعف التربية المرتكزة على الدين المحض وما أشد خطرها على الأخلاق بل ما أبلغ ضررها على الدين نفسه فإن فكرة الناشئ في التخلص من عقيدته والخروج عليها تحدث غالباً من ميل فيه إلى التخلص من الآداب والأخلاق.
وإذا نبذ الشاب الحدث معتقداته الدينية خفة منه وتسرعاً فإن الرجل الناضج قادر على نقدها واختبارها دون ميل أو تحيز ولا يسعنا أن ننكر عليه رزانة فكره وسداد رأيه أو أن ننسب عجزه عن مقاومة شكوكه إلى نقص في صدقه وأمانته فإن العقيدة هي التي تنقصها الأمانة في البحث.(13/42)
أليس من الأمانة أن يتنزه المرء عن الأغراض ولا يضع نصب عينيه نتيجة معلومة له من قبل يروم الوصول إليها ويتطلب كل دليل يقوم على صحتها وما العقيدة إلا دعوى مسلم من قبل بصدقها أو تحيز إلى طرف مخصوص.
وحب المتعصب دينه أكثر من حبه الحقيقة فلا يعرض دينه لخطر المناقشة ويعمل جهده على الابتعاد عن الجدل ويحرم قراءة بعض الكتب ويحكم على مناظره بأنه عدو للدين لدود فكأني به غير متثبت من يقينه أو لا يريد الإقرار بهزيمته وضعفه.
إن المعرفة شيء والاعتقاد شيء أخر ولا جامعة بين العلم والدين فكل بمعزل عن الأخر إذ الدين عبارة عن التشبث بأمر لم يقم الدليل على صحته.
إن وجد المرء عقيدة أفضل من عقيدته فإخلاصه يقضي عليه بالخروج عن عقيدته واعتناق الأخرى وأن يشك فيما هو موضع للشك وأن يقول لا أدري فيما لا يدري.
أجل إن من المتدينين من ليس مقلداً ولا متبعاً أسلافه إتباعاً أعمى وإنما آمن بدينه لاقتناعه بصحته ونهوض الدليل لديه على صدقه غير أن اليقين المطلق الذي لا يقبل نقضاً ولا شكاً غير موجود إلا في بعض نظريات رياضة وفيما عدا ذلك فكل م نعلمه ونعرفه معتمد على أساس من الريب والظنون وقد أرجع سبينوزا أسباب الاقتناع إلى أمرين فالأول أن يدرك الذهن بنور ذكائه متانة البرهان فيذعن له والثاني أن يعمى المرء لجهله أو لغباوته عن ركاكة الدليل وأوجه الطعن فيه فلا يرى بداً من التسليم.
فالدليل لا يكون ناهضاً قاطعاً إلا لمتانته أو لعدم إدراك مواضع ضعفه ولكن لا يمضي يوم ويظهر لنا فساد بعض الأراء والأدلة التي كنا مقتنعين بصحتها مخدوعين في متناتها وذلك بفضل البحث والمناقشة.
من بذل لنا جهده فقد قام بواجبه ولا لوم على من سعى وأخطأ.
إذن فلا إكراه على العقائد وإنما المرء مكره على أن لا يبحث في المسائل الهامة بنزق وطيش بل عليه أن يبلوها بصدق وثبات.
ومن عمل جهده في مسألة وجود الله واليوم الآخر وكان رائده الإخلاص والأمانة فلا يستحق اللوم والتأنيب مهما كان الحل الذي يصل إليه فلا حجر على الآراء والمبادئ ولا واجب بإزائها غير الدقة والأمانة.(13/43)
لا حقوق لله على أولئك الذين ينكرونه، ولكن على المتدينين أن يعلموا بدينهم ويصدعوا بعقيدتهم.
ومن المدهش تسامح المتدينين مع من يظهر الأيمان ولا يعمل به وتشددهم في معاملة الملحد وعظيم كراهتهم له مع أن الاثنين سيان لأن المهمل لقواعد دينه في الواقع لا دين له والأيمان عنده ولا يعلق أهمية كبرى على عقائده حتى يفكر في خلعها ويستهتر بها ويعتدها ميثاقاً محلولاً فلا يهتم لنبذها. ومن نظر إلى الأديان نظرة اعتبار واهتمام فألقى حبلها على غاربها وأخلى عقله منها بعد أن فكر فيها كثيراً أقرب رجوعاً إلى الله وأكثر استعداداً لقبول المعتقدات الدينية.
ليس لنا أن نبحث في الطقوس الدينية والشعائر الخاصة بنظام الكنيسة لخروجها عن موضوع هذا الكتاب وعدم تعلقها بالآداب والأخلاق ونقصر القول على المبادئ الدينية العامة التي يشترك فيها جميع الأديان والتي يسميها بعضهم بدين الفطرة.
أول واجب لله عز وجل إطاعة أوامره وتنفيذ إرادته والمتدينون يعتبرون الوازع الأدبي بمثابة إرادة الله ووحي منه إلى القلوب والأفئدة ويرون أن واجب الله هو أول الواجبات وأعظمها فقد قال السيد المسيح أول الواجبات محبة الله ثم أعقبه بقوله أحب لغيرك ما تحبه لنفسك لا فرق بين الآداب عند المتدينين وغير المتدينين فما يعمله الفريق الأول طاعة منه واحتراماً أو خوفاً ورهبة يعمله الفريق الثاني لدواع اخر وسواء كانت الحكمة المحصنة هي التي ألهمت الضمائر الوازع الأدبي أم ذات عليا هي التي أوحت به إلى القلوب فالوازع واحد لا فرق فيه.
إن أهم التكاليف الدينية بعد محبة الله ولب الدين ومحوره الذي يدور عليه هي الصلاة.
وليست الصلاة بركوع وسجود وترتيل وتمتمة وإنما هي صعود بالروح إلى الله وتمثله في مخيلتك والإخلاص في حبه بل هي هتاف ذاكرتك وخفقان قلبك وأنعام فكرك، وإن أردت الصلاة فأحب الله واستحضره في ذهنك، إنه يقرأ ما يكنه صدرك وما يجول في خاطرك.
يستمد الحب نوره من العطف والحنين وذلك أن تتجاوب القلوب بخفقانها وتتناجى الأرواح بمكنوناتها وجدانها على لسان من الانفعالات النفسية التي تظهر على الوجوه والأطراف، والحبيب في حديثه وأفعاله ونظرات طرفه وتقاسيم وجهه وابتسام ثغره يزيدنا تعلقاً به(13/44)
ويحمل روحنا على الامتزاج بروحه والله سبحانه وتعالى لم يتجل لنا إلا في صنعه ومخلوقاته أعني الكون والطبيعة فبالكون يتسنى لنا الإفصاح عن محبتنا لله عز وجل. والإعجاب بالطبيعة في جلال منظرها وعظيم اتساعها وحسن نظامها ودقيق سيرها صلاة وعبادة هذا إذا لم يكن استخدام أسرارها في منفعتنا واستدرار خيراتها هو الباعث لنا على ذلك.
أجل إن نفوسنا لا تتجه إلى الله عز وجل إذا كان همنا من التأمل في مخلوقاته استثمارها والانتفاع بأسرارها لأنا حينئذ لا نحب إلا أنفسنا ولا نفكر في غيرنا ولا نعطف على أحد سوانا إنما الصلاة أن تطيل نظرك في محاسن الطبيعة وتتغلغل بفكرك في عجائب الكون لتبع طرفك من الجمال ونفسك من الهيبة والخشوع. إن الله هو الكمال والدوام والغيب والخفاء لا تدركه الأبصار ولا تحيط به العقول، مهما حثثنا السير إليه وأجهدنا قوانا للاقتراب منه لا نقطع غير مرحلة صغيرة لأن مواهبنا محدودة ومحصورة يستحيل فك قيودها وإطلاقها من سجنها وإنما في قدرتنا أن نباعد بين جدران سجنها بأن نعيش لغيرنا ولا نفكر في أنفسنا ولا نتفانى في حب ذاتنا وأن نعني من شؤون الناس بمثل ما نعني بشؤوننا ونفسح المدى لقلوبنا ونزيد دائرة اهتمامنا ونمتزج بالمجموع حتى تفنى شخصياتنا.
الإنسان بطبعه ميال إلى الاعتزاز بنفسه والاعتداد بشأنه والاهتمام بشخصه والاعتقاد بأنه ركن العالم وقطب الرحى وهذا خلق مناف للدين والتقى إنما الدين في كل ما يكبح من جماحك ويقصر من غلوائك ويخمد من كبريائك ويردك إلى منزلتك ويعرفك بحقيقة قدرك وقيمة نفسك كما يقول بسكال وفيما يمر بنا من الهواتف الداعية لنا بالرجوع إلى الصواب وعدم النظر إلى الأمور بعين الأثرة وحب الذات وفيما يحملنا على الاعتقاد والشعور بأنا لسنا ذرة صغيرة في الكون لا قدر ولا أهمية لها في الوجود وفي كل ما يكشف لنا الغطاء عن واجبنا ويهدينا إلى العمل الصالح.
إن الفنون الجميلة تعد من قبيل الصلاة ولا أعني الفنون الدنيئة التي تثير اللذائذ وتوقظ الشهوات بل الفنون الراقية التي بخيالها وجمالها وخداعها للعين تصور الطبيعة وتمثل الحقيقة وتبعت في النفوس (كما يقول كانت) سروراً عاماً لا قصد له.(13/45)
ولا يعشق الطبيعة إلا من عرفها وألم بأسرارها ومن تعمق في دراسة صنع الله وأنعم النظر للوقوف على أسرار خلقه كان أقرب إلى الله.
ولذلك كان العلم ضرباً من ضروب التعبد والتسبيح ولكن ليس ذلك العلم الذي يسعى في إذلال الطبيعة لخدمة الإنسان بل العلم الذي نتطلبه حباً في العلم وتوقداً للذهن وإطفاء لظمئنا إلى الحقيقة واليقين فهذا أجل العبادات وأطهرها. أليس الله كما يعتقد المؤمنون هو الحكمة الخالصة واليقين المطلق وإذا كان الأمر كذلك فهل يوجد أنقى من صلاة يتزلف فيها المرء إلى ربه بنور الحقيقة وضياء اليقين. وما أحسن ما قاله مالبراتس في ذلك من يعرف الحقيقة يرى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتجلى لنا في النتائج ويظهر في البديهيات هو نور ذكائنا وشعاع عقولنا.
ليست الصلاة مقصورة على التأمل والنجوى وتسريح الظن في صنع الله بل تشمل الاستغاثة والاستعانة به سبحانه وتعالى فإن الله كعبة المؤمن ومحط آماله ورحاله ومصدر الخير ومنبع الاحسان ولكن ماذا يجمل بنا طلبه منه عز وجل؟ هل نبتهل إليه ليرفع عنا البلاء ويعافينا من الأمراض والأسقام ويسدد مساعينا وينجح مقاصدنا ويسبغ علينا من نعائمه وينزل علينا الغيث ويسخر لنا الشمس لحرث الأرض وإنبات الزرع؟ ألا أنه لا يحسن بالمؤمن أن يتضرع إلى ربه ليؤثره بخبراته فإن طلباً كهذا أساسه الأثرة وحب الذات والأثرة قارورة الشر ومن الجنون والحمق أن ندعوا الله إلى خرق ناموس الطبيعة وتغيير نظام الكون وقد جاء في انجيل متى أن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه بدون أن تسألوه إياه. وإنما الذي يحسن بنا أن نطلبه من الله أن يهدينا السبيل ويرشدنا إلى الخير ويوفقنا إلى الإحسان ويهبنا القوة والشجاعة في أداء واجبنا فإن هذا لا يستلزم إظهار المعجزات ولا يدعو سبحانه وتعالى إلى خرق نظامه ولأن صلاة كهذه تقوي فينا العاطفة الأدبية وتقتلع من أفئدتنا أصول الشر وتحملنا على بذل الخير وعمل الإحسان. وخليق بالصلاة أن تعد من ضمن ما علينا من الواجبات لأنفسنا لا من حقوق الله علينا فأن الله قائم بذاته غني عن العالم غير مفتقر إلى أحد لا تؤثر عليه أفعالنا لا في قدرته وإرادته ولا في جلاله وكبريائه تعالى عن النقائص وتنزه عن الفقر لا تعوزه صلاتنا وإنما نحن الذين تعوزنا الصلاة إليه فإن في الصلاة وصعود الفكر وتوجيه القلب إليه تزكية للنفوس وتطهيراً(13/46)
للضمائر وتقوية للعزائم وتنويراً للأذهان.
إذا تقرر كل ذلك علمنا أن في طاقة الملحد بل من المحتم القيام بواجب المؤمن قبل ربه فإن الأخير وإن صف يديه وثنى ركبتيه غير أن ما يخفيه بين أحشائه ويكنه في ضميره قد يخالج الأول ويستقر في أعماق نفسه.
إننا إذا صعدنا بنفوسنا قبل الله فإنما نصعد بها قبل العدل والجمال والحقيقة والملحد غير عاجز عن ذلك. إن المؤمن وإن رأى ضرورة تمثيل الكمال والجمال والحقيقة والعدل في ذات الإله إلا أنه لم يتقدم عن الملحد خطوة ولم يسبقه قيد شيء لأن مواهبه محدودة فلا يقدر أن يحيط بغير المحدود ولا يدرك شيئاً من الحقيقة إلا بواسطة العلوم ولا يحظى بالجمال من غير الفنون والطبيعة ولا يتسنى له العدل إلا بالعمل.
ومن هنا يتضح لنا جلياً أن الواجبات الدينية هي في الحقيقة واجبات شخصية وقد أثبتنا أن جميع الواجبات الشخصية في الواقع واجبات اجتماعية والخلاصة أن الآداب النفسية والدينية داخلتان ضمن الآداب الاجتماعية التي هي الكل في الكل.(13/47)
ابن زيدون
أو صفحة من مجالى الأنس في ليالي الأندلس
هذه هي المحاضرة الجلية التي ألقاها سعادة العالم البحاثة الثقة أحمد زكي باشا سكرتير مجلس النظار في نادي موظفي الحكومة بالاسكندرية - وقد أتحف بها سعادته مجلة البان فنشكر لسعادته الشكر كله طرفة غالية ستعيها إن شاء الله أذن صاغية
1
تمهيد
قلبي بأندلس مدله وعقلي بأطلاله موله. وهيامي بأهليه حديث قديم، وغرامي بساكنيه مقعد مقيم. وحنيني إليه يحبب لي فيه الأسى والحنين.
فلا غرو إذا كنت أتصيد الفرص السوانح ولا عجب إذا كنت أتقنص الشوارد والبوارح، لأترنم بذكرى المحبوب. فإن الذكرى بلسم القلوب.
أفليس المصدور يروح نفسه بنفثه؟ وهل يلام المستهام إذا تحين خلسة لبثة؟ فاعذروني على هذا الهوى العذري! فقد خانني شعري ولم يساعدني نثري على أنني أعلل نفسي بأن تستمعوا لهمسي وتعاونوني على إحياء أندلسي فذلك الهوس هوسي قد لازمني في حلمي وفي حسي واستمكن من عقلي واستولى على نفسي فهل أحظى بشارقة يكون بها أنسى قبل أن أدخل في رمسي.
ناشدتكم الله أن تسمحوا لهذه الزفرات أن تتصاعد على مسمع منكم! وأن تبيحوا لهذه العبرات أن تتحدر على مشهد منكم! فلعلي أجد في هذا الأنين راحة مما يجده قلبي الحزين! ولعلي أتوصل لإيصال صورتي إلى أعماق قلوب الحاضرين ولإرسال صداء إلى غاية مداه بين الغائبين! ولعلي ولعلني. ولعلني أرى الكثيرين من أبناء أمتي يشاركونني في صبابتي ولوعتي! فو الله أن الشرك في مثل هذا الغرام ليس فيه شيء من الحرام لا في شرع الهوى ولا في شرع النهي، ولا في شرع الهدى، فكل شرك مذموم: اللهم إلا ما كان فيه تعاون على البر والتقوى. وليت شعري أي تعاون أفضل من وضع الأيدي ومن توازر العقول بالعقول ومن تجاذب الأرواح إلى الأرواح للتناصر على إحياء كلمة الأدب بين العرب حتى يزدان هذا العصر الجديد بما كان للشرق من فخر قديم ومجد تليد.(13/48)
لعمري إذا ما سرى هذا التيار تيار الكهرباء المنبعث من ذياك الغرام في صدور أبناء العرب الكرام، فلا جرم أن تتوقد في قلوبهم تلك الحمية التي امتلكوها بها نواصي الأيام. ولا ريب في أن يشتعل في نفوسهم ذلك الحماس الذي سادوا به على الناس فالأيام دول ومن سار على الدرب وصل!
كنت آليت على نفسي في هذه السنة أن لا أناجي هذا النادي، وأن لا أحاضر هذا السامر بما أتلقفه من بطون الطوامير وما أهتدي إليه بين دفات الدفاتر مما ينضاف إليه شيء من علمي القاصر وخاطري الكليل الفاتر وكنت أردت أن أحقق في نفسي ما قاله حكماء العجم والعرب. إن كان الكلام من فضة: فالسكوت من ذهب فلزمت الصمت ولازمت البيت: وعكفت على خدمة الدفاتر والطوامير. ولبثت منتظراً انهيال القناطر من الدنانير: ولكن حرفة الأدب لا نسبة ولا نسب بينها وبين الذهب. فلم أحظ بذهب السكوت وانفضت عني فضة الكلام فكان حظي صفقة المغبون.
وكأن الأقمار حكمت علي بفضة الكلام لا غير فأثارني من مكمني. وهزني بشدة عنيفة لمعاودة المحاضرة في هذا النادي.
ذلك أن جريدة النوفيل التي تصدر في الإسكندرية كتبت ذات يوم فصلاً عن المسيو بوانكاريه رئيس الجمهورية الفرنسية أثناء زيارته لعاصمة الأنقليشيين (كما يقول الأندلسيون) أو الأنكتار (كما كان يقول المصريون في أيام الحروب الصليبية) أو الانجليز (كما نقول نحن اليوم) تلك العاصمة التي كان أهل الأندلس يسمونها لوندرس وعلى منوالهم جرى الاسبانيون إلى الآن، وهي لوندرة في اصطلاحنا عن الفرنسيين أو لندن في عرفنا أيضاً عن أبناء جلدتها.
قالت جريدة النوفيل أن المسيو بوانكاريه استقبل عشرين وفداً من طوائف الانجليز ورجالاتهم المعدودين، وكلهم قدّم له خطبة للترحيب بمقدمه إلى بلادهم. فأجاب كل خطبة بعبارة من الشكر تخالف ما أجاب به الأخرى. وهكذا استعمل الرئيس عشرين صيغة مختلفة في الشكر. فدل بذلك على تضلعه من لغته وتبحره في آدابها. وكانت هذه البراعة سبباً لإعجاب الناس بهذا الاقتدار. تلقف الإخباريون هذه النادرة فأطنبوا في مدحها وأعجبوا بالرئيس إعجاباً ما وراءه من مزيد.(13/49)
رأيت ذلك فأخذتني العصبية لقومي، والحمية للغتي. فأمسكت القلم وكتبت في الحال لجريدة النوفيل فصلاً باللغة الفرنسية تكرمت بنشره في اليوم الثاني. أظهرت في هذا الفصل ما تذكرته من أوجه الشبه بين الوزير ابن زيدون وبين الرئيس بوانكاريه ثم ذكرت ما رواه ابن بسام صاحب الذخيرة في محاسن الجزيرة أي جزيرة الأندلس. قال عن ابن زيدون: فاما سعة ذرعه، وتدفق طبعه؟ وغزارة بيانه، ورقة حاشية لسانه: فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد، والرمل الذي لا يحصى ولا يعد. أخبرني من لا أدفع خبره من وزراء اشبيلية، قال: لَعهدي بأبي الوليد قائماً على جنازة بعض حُرَمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم، فما سمع يجيب بما أجاب به غيره لسعة ميدانه، وحضور جنانه قال الصلاح الصفدي: وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنن في أساليب الكلام. وهو أمر صعب إلى الغاية وأقل ما كان في تلك الجنازة - وهو وزير_ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يشكر له، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر. وهذا كثير إلى الغاية، ولا سيما من محزون فقد قطعة من كبده.
ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب
أظهرت للجريدة الفرنسية أن ما صنعه ابن زيدون أكثر بكثير مما فعله الرئيس بوانكاريه، ولا سيما إذا نظرنا إلى الموقفين فإن المثكول بالأولاد، المحروق الفؤاد، يستعصي عليه الكلام، ويحتبس لسانه دون البيان، ولو كان في بلاغة قس وفصاحة سحبان.
ثم ذكرت في تلك الرسالة أن ابن زيدون ممن يستأهل التعريف به في هذه الأيام، وأنني ربما اختلست فرصة من وقتي وتملصت من الأشغال الكثيرة التي تستفرغ جهدي وفكري لتحضير محاضرة أتحف بها أخواني في نادي الموظفين بالإسكندرية. ولكنني لم أختم الرسالة دون الاستطراد إلى ما فعله بعض المشارقة مما ينطوي تحت هذا الباب واخترت ثلاثة شواهد أوردتها لأولي النهي من الإفرنج والجاهلين أو المتجاهلين من المصريين المتفرنجين ليعلموا أن في العربية كنوزاً لمن يطلبها، وذخائر تجعل لها ولأهلها فخراً باقياً. اخترت المثال الأول من العراق، وأشرت إلى الحريري صاحب المقامات وذلك أنه كلما جمع بين الحارث بن همام وبين أبي زيد السروجي واحتاج إلى التفريق بينهما وإلى القول فلما أصبح الصباح تراه يعبر عن هذا المعنى في كل مقامة بعبارة تغاير الأخرى.(13/50)
والمقامات بيننا تنطق بهذا الشاهد الصادق.
واخترت الشاهد الثاني من مصر. فإن الخطيب ابن نباتة (الذي شرح إحدى رسائل ابن زيدون) أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها أيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه ترجعون وهذا أمر بارع معجز والناس يغفلون عن هذه النكتة فيه.
والشاهد الثالث اخترته من لشام وهو الصلاح الصفدي (الذي شرح رسالة أخرى لابن زيدون) فإنه ألف كتاباً كبيراً في تاريخ المشهورين في عصره وسماه أعيان العصر وأعوان النصر وهو يقع في اثني عشر مجلداً: فكلما ذكر وفاة أحد المترجمين استعمل عبارة تخالف الصيغة التي استعملها عند كلامه على وفاة غيره وهلم جراً.
هذه خلاصة الرسالة التي نشرتها في جريدة النوفيل في اليوم التالي لليوم الذ أوردت خبرها عن براعة الرئيس الفرنسي.
فأنتم ترون أن الفضل الأول يرجع إلى هذه الجريدة في محاضرتي الليلة. والفضل الثاني يرجع إلى مؤلفي العرب الذين رجعت إليهم في تلقف هذه الشوارد التي سأقصها عليكم: وهم:
أولاً_ابن بسام صاحب الذخيرة (وقد أحضرنا في دار الكتب الخديوية نسخة منها بخط مغربي نقلناه إلى الخط المشرقي بواسطة العلامة فقيد اللغة والأدب لعهدنا هذا المرحوم الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي)
ثانياً_قلائد العقيان للفتح بن خاقان الأندلسي.
ثالثاً_المعجب بتلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي.
رابعاً_البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذارى المراكشي (وترجمته للغة الفرنسية للموسيو فانيان
خامساً_سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة المصري.
سادساً_تمام المتون من رسالة ابن زيدون التي كتبها لابن جهور وهو لصلاح الدين الصفدي (وتوجد منه نسخة جليلة في الخزانة الزكية).
سابعاً_أعيان العصر وأعوان النصر لصلاح الدين الصفدي أيضاً (وليس لهذا الكتاب أثر في القطر المصري سوى الجزء الأول الموجود بالخزانة الزكية).(13/51)
ثامناً_مسالك الأبصار لأبن فضل الله العمري.
تاسعاً_تاريخ مسلمي الأندلس للعلامة دوزي الهولاندي في أربعة أجزاء إلى غير ذلك من الكتب والرسائل الأخرى الموجودة بلغات متعددة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها:
ومما يحسن ذكره أنني حينما شرعت في هذا المبحث رأيت أن اثنين من أفاضل العلماء المستشرقين قد سبقوني إليه. وذلك أنني كنت أبحث في قوائم الكتب المعروضة للبيع في بعض أسواق ألمانية فرأيت كتابين عن ابن زيدون لم يكن لي بهما علم قط قبل ذلك اليوم.
فأولهما - كتاب صنفه دكتور في العلوم اللاهوتية وهو الاستاذ هَندرك أنجلينس بن ويَّرس الهولندي اقتضر فيه على نقل ما كتبه الفتح بن خاقان عن ابن زيدون ثم ترجمه للغة اللاتينية مع شروح كثيرة وتفاسير عدة وطبعه في مدينة ليدن سنة 1831 (وقد أحضرت هذا الكتاب).
وثانيهما - هو المستشرق بستورن طبع رسالة ابن زيدون إلى ابن جهور وترجمها باللاتينية وصدرها بحياة ابن زيدون وعلق عليها كثيراً من الحواشي والشروح باللاتينية وطبعه سنة 1889 (وقد سبقني غيري إلى اقتنائه ولكنني سأجتهد في الحصول على نسخة منه أضمها إلى الخزانة الزكية).
فأنتم ترون أن رجلاً كابن زيدون يُعنَى به العلماء من العرب وغير العرب على كر الغداة ومر العشي واختلاف المذاهب جدير أن يكون موضوع السمر في هذا النادي.
2
كلمة صغيرة عن الأدب الأندلسي
فتح العرب الأندلس في أواخر المائة الأولى للهجرة، ثم أخذوا ينثالون على تلك البلاد الجميلة من جميع بلاد الإسلام، هنالك راجت سوق الحضارة الإسلامية، واستبحر العمران العربي، ونفقت بضاعة الأدب، وارتفعت رايات العلم، فبلغ القوم شأواً بعيداً، وأبقوا لهم فخراً مجيداً، فكانت لهم تلك الآثار التي تلعب بالعقول، ولا لعب الشمول، وسحروا الألباب، بما أتوا من العجب العجاب، حتى أقر بفضلهم ابن فضل الله العمري مع شدة تعصبه عليهم في كتابه المشهور مسالك الأبصار فقد اعترف بأنهم لطفوا مسالك الأدب، وأفادوا شرف الحضارة محاسن العرب، وقلبوا الأعيان، وسحروا الألباب بالبيان، فجاؤوا بأعجب(13/52)
العجيب، وزادوا بحسن السبك خالص الذهب، وإن كان المشرق قد أنتج من طبقة أهل الأندلس من لا يُحجم به المُفاخر، ولا تحجب به المفاخر. ولكن للأندلسيين لطائف أعلق بالقلوب، وأدخل على النفوس في كل أسلوب. وستسمعون مصداق ذلك مما سأسرده عليكم من نقثات تلك الآيات البينات، التي تدلكم على أن كلام الأندلسيين ذهب بين رقة الهواء وجزالة الصخرة الصماء.
فكان كما قال شاعرهم الأندلسي عبد الجليل بن وهبون المرسي:
رقيق كما غنّت حمامة ايكة ... وجزل كما شق الهواء عقاب
أولية ابن زيدون
كان في جملة القبائل التي ذهبت إلى الأندلس رهط من بني مخزوم توطنوا في جهات قرطبة وما إليها. وناهيك بهذه القبيلة ذات الشرف الصميم، واللسان القويم. فكان بنو زيدون من رجالاتهم المعدودين، خصوصاً في الفقه والأدب. واشتهر منهم ثلاثة حفظ لنا التاريخ أسماءهم وهم:
أولهم_أبو بكر غالب بن زيدون.
ثانيهم_أبو الوليد أحمد بن زيدون (وهو قطب الدائرة في هذه المحاضرة).
ثالثهم_أبو بكر بن زيدون.
كان مولد الأول سنة 304 ومات سنة 405 بعد أن بلغ من العمر مائة سنة. توفي في ضيعة له، ثم نقلوا تابوته إلى قرطبة، فدفن بالربض (أي الضاحية). وهنالك رثاه أبو بكر عبادة الشاعر الأندلس بما يعرفنا بمقامه في قومه:
أي ركن من الرياسة هيضا ... وجموم من المكارم غيضا
حملوه من بلدة نحو أخرى ... كي يوافوا به ثراه الأريضا
مثل حمل السحاب ماء طبيبا ... لتداوي به مكاناً مريضا
وأما ثانيهم فهو واسطة العقد، والذي سيدور عليه كلامنا فيما بعد.
والثالث هو الذي تقلد بعد أبيه (أبي الوليد) وزارة المعتمد بن عباد. وقد انتقم لأبيه من ذي الوزارتين ابن عمار على ما سنراه في آخر الكلام. وكان أبو بكر هذا هو الذي تولى السفارة عن أبن عباد إلى يوسف بن تاشفين صاحب المغرب الأقصى حينما تنمر(13/53)
الاسبانيون مع ملكهم الأذفونش (الفونس السادس) لملوك الطوائف، وخصوصاً لبني عباد في خطب يطول شرحه، ولا يسع المقام تلخيصه.
من هو ابن زيدون
عني خذوا أخباره وتلقفوا ... أشعاره وتتبعوا آثاره
فالحر من أمضى لنيل تراثه ... عزماً وأسهد ليله ونهاره
وبيمن عباس تهيأت النهى ... للعلم واقتنت الورى أسفاره
عباس قد غرس الفخار بأرضكم ... فتعهدوه لتجتنوا آثاره
هو ذو الوزارتين أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب ابن زيدون المخزومي الأندلسي. كان مولده بقرطبة في سنة 394 أعني في الوقت الذي سرى فيه الانحلال في جسم الخلافة المروانية بالأندلس بعد أن بلغت من المجد نهاية النهايات، وأدركت من الفخامة مالا تصدق معه الروايات. في ذلك الوقت تحللت عرى الدولة، فانقسم المسلمون على أنفسهم، وتخاذلوا، واستنصروا أعدائهم على بعضهم بعضاً، وسلموا البلاد والقلاع والحصون واحداً تلو الآخر إلى أعدائهم ليمدوهم بالمعونة على إخوانهم. وهكذا حتى أودت تلك الفوادح بذلك الملك الكبير، ثم أتت على القوم بأكملهم فأصبحوا خبراً بعد عين. نتساءل عنهم بقولنا كيف وأين؟ في تلك الأيام استظهروا على شهواتهم بجر ذيولها، وامتروا بطالاتها من أخلاف أباطيلها. حتى انشقت عصاهم، ودارت بدائرة السوء على الجهالة رحاهم.
كان ابتداء الاضمحلال والانحلال من أول يوم جلس فيه المستعين على عرش الخلافة في منتصف ربيع الأول سنة 400.
فقد كانت أيامه كلها كما وصفها ابن حيان الأندلسي شداداً نكرات، صعاباً مشئوومات. كريهات المبدأ والفاتحة، قبيحات المنتهى والخاتمة. ما فقد فيها حيف، ولا فورق خوف. ولا تم سرور، ولا فقد محذور. مع تغير السيرة، وخرق الهيبة، واشتعال الفتنة، واعتلاء العصبية، وظعن الأمن وطول المخافة. دولة كفاها ذماً أنها تمخضت عن الفاقرة الكبرى، وآلت من التي بعدها إلى ما كان أعضل وأدهى. مما طوى بساط الدنيا، وعفارسمها وأهلك أهلها. وإذا أراد الله شيئاً أمضاه.(13/54)
وكذلك لم يكن في المستكفي أدنى كفاية للخلافة. وإنما أرسله الله على الأمة محنة وبلية. إذ كان منذ عرف منقطعاً إلى البطالة، مجبولاً على الجهالة، عاطلاً عن كل حلية تدل على فضله. عضته الفتنة فأملق، وهان حتى أهانه أهله ولقد رآه أبو حيان مؤرخ الأندلس المشهور أيام الخسف بأهل بيته في الدولة الحمودية، ولم يكن ممن لحقه الاعتقال منهم لركاكته. كان يقصد أهل الفلاحة يومئذ بقرطبة أوان ضمهم لغلاتهم يسألهم من زكاتها. قال وقد أجمع أهل التحصيل أنه لم يجلس في الأمارة منذ تلك الفتنة أسقط منه، ولا أنقص. إذ لم يزل معروفاً بالتخلف والركاكة، مشتهراً بالشرب والبطالة، سقيم السر والعلانية، أسير الشهوة، عامل الخلوة.
ذلك الوقت هو الذي أشار إليه ابن حزم بقوله:
فضيحة لم يقع في الدهر مثلها! أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، يسمى كل واحد منهم بأمير المؤمنين، ويخطب له في زمن واحد: أحدهم خلف الحصري باشبيلية على أنه هشام بن الحكم المؤيد. والثاني محمد بن القاسم بن حمود بالجزيرة الخضراء والثالث محمد بن علي بن حمود بمدينة مالقه والرابع إدريس ابن يحيى بن علي بسبته تلك هي الأيام التي كان العرب والبربر فيها في خصام مستديم، وكان كل من الفريقين منقسماً على نفسه، وكان الجميع في خلاف مع أهل المغرب الأقصى من الجنوب، وفي حروب وخطوب مع بقايا الأمم الاسبانية من الشمال والغرب. في ذلك الوقت العصيب تفرق أهل الأندلس فرقاً، وتغلب في كل جهة منها متغلب. وهم الذين عرفهم التاريخ باسم - ملوك الطوائف_وقد أرادوا أن يفخموا أنفسهم وممالكهم فتقسموا ألقاب الخلافة، كما تناهبوا أشلائها. فكان منهم المعتضد والمأمون والمؤتمن والمستعين والمقتدر والمعتصم والمعتمد والموفق والمتوكل. إلى غير ذلك من الألقاب الخلافية. حتى قال في ذلك أبو علي الحسن بن رشيق بيتين سارا سير الشمس، وبقيا بقاء الدهر. وهما:
مما يزهدني في أرض أندلس ... سماع مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فكانت طرطوش وسرقسطة وافراغه ولاردة وقلعة أيوب في يد بني هود. وكانت بلنسية في يد عبد الملك بن عبد العزيز. وكان الثغر، أي ما فوق طليطلة من جهة الشمال(13/55)
في يد بني رزين وكانت طليطلة في يد بني ذي النون. وكانت قرطبة في يد أبناء جهور. وكانت اشبيلية في يد بني عباد. وكانت ملقة والجزيرة الخضراء وغرناطة في يد بني برزال من البربر - وأما المرية فكانت في يد زهير العامري الخادم ثم خيران العامري الخادم. ثم أبن صمادح. وكانت دانية وأعمالها والجزائر الشرقية (الباليار) في يد مجاهد العامري. وكانت بطليوس ويابرة وشنترين والاشبونة في يد بني الأفطس. فلا عجب إذا كثر الوزراء في تلك الأيام، ولاعجب إذا كثر أيضاً ذوو الوزارتين. فالناس على دين ملوكهم. فكان كل من امتلك مائة كيلو متراً مربعاً في مثلها يعد نفسه سلطاناً كبيراً، ويتخذ من الحاشية ما يضارع به أبهة الخلافة - وقد كان عهدهم بها قريباً_فكثر عندهم الوزراء. وكثر بينهم الذين يسمون أنفسهم بذي الوزارتين.
ومن الطبيعي أن الرئاسة إذا انحطت عن جلالتها تبعها المرؤوس في السقوط. فلما تدلت الخلافة في الانحلال، صارت الوزارة أيضاً في درجات الهوان. فإن المستعين الذي ذكرناه قال بعد أن جلس على عرش الخلافة للناس أجمعين: ارتعوا كيف شئتم وارتسموا بما أحببتم من الخطط فتسمى بالوزارة في أيامه مفردة ومثناة أراذل الدائرة، وأخابث النظار. فضلاً عن زعانف الكتاب والخدمة (عن ابن بسام).
وصارت هذه الرتبة تنحط مع انحطاط الدول، حتى نزلت في أواسط القرن الثامن للهجرة إلى الدرجة التي وصفها لنا ابن فضل الله العمري حيث قال:
سألت الشيخ العلامة ركن الدين أبا عبد الله بن القويع عن رتبة الوزير بالمغرب فقال: ليست بطائل، ولا لصاحبها شيء من الأمر. بل هو كالجاويش يخرج قدام السلطان يوم الجمعة: حقيقة دون السمعة
وقد استبد هؤلاء الرؤساء بتدبير ما تقلبوا عليه من الجهات. وانقطعت الدعوة للخلافة. فلم يبق لخليفة هاشمي أو أموي ذكر على منابر الأندلس خلا أيام يسيرة دعى فيها باشبيلية لهشام المؤيد بن الحكم (أو لشخص شبه لهم) حسبما اقتضته الحيلة، واضطر إليه التدبير. ثم انقطع ذلك. فأشبهت حال ملوك الأندلس بعد الفتنة حال ملوك الطوائف من الفرس بعد قتل دارا. وحال قواد الاسكندر بعد وفاته. ولم يزل هؤلاء الرؤساء في اقتتال وتخاذل. ويستعينون بعدوهم جميعاً فيميل تارة إلى هذا وطوراً إلى ذاك حتى اختلت الأحوال إلى أن(13/56)
تولاهم الضعف. فاستنصروا بالمرابطين فانتظم الشمل، وعادت المياه لمجاريها. ولكن إلى أجل معين. ثم عاد الانشقاق والانقسام. فانمحت كلمة الإسلام، وانطفأ ذلك النور، وباد القوم عن آخرهم في سنة 897 للهجرة، بعد أن أقاموا فيها ثمانية قرون. لأن دخولهم كان في سنة 92 للهجرة على يد طارق بن زياد.
رفعت الستار عن هذا المنظر المحزن ليكون لكم ولأمم المشرق تذكرة وعبرة، خصوصاً في الأوقات الحاضرة. والآن أقول لكم أنه على الرغم من توالي الفتن واضطراب الأحوال كانت سوق الأدب رائجة وبضاعته نافقة. فكل أمير وكل وزير وكل كاتب وكل وجيه كان له من الأدب نصيب وافر.
عرفنا من تقسيم الأندلس بين ملوك الطوائف أن بني جهور استبدوا بقرطبة، وأن بني عباد استأثروا باشبيلية.
في المملكة الأولى درج ذو الوزارتين ابن زيدون وتربى وظهر فضله. وفي الثانية قضى بقية أيامه في العز والكرامة. وكانت بها وفاته في محرم سنة 463 على التحقيق الدقيق كما نص عليه معاصره ابن بسام ولا عبرة بالأقوال الأخرى عن وفاته، لأن الذين قالوا بوفاته في سنة 405 خلطوا بينه وبين أبيه غالب بن زيدون. وقد قدمنا الكلام عليه وعلى مولده ووفاته.
اشتغل ابن زيدون بالأدب، وفحص عن نكته، ونقب عن دقائقه، إلى أن برع وبلغ من صناعتي النثر والنظم المبلغ الطائل. حتى قال فيه ابن بسام:
كان أبو الوليد غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء مخزوم، أحد من جر الأيام جراً، وفات الأنام طراً، وصرّف السلطان نفعاً وضراً، ووسع البيان نظماً ونثراً. إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم الزهر اقترانه. وحظ من النثر غريب المباني، شعري الألفاظ والمعاني.
وما عتم أن أصبح في الأندلس متيم ذلك الحي، وعاشق ولاّدة لامى. زاد عل مجنون ليلى، وقيس لبنى، وابن أبي ربيعة صاحب الثريا. تركه هواه أنحف من قلم، وأشهر من نار على علم، وله مع ولادة أخبار ما حكى مثلها ابن أبي عتق، ولا الأصفهاني عن سكان وادي العقيق، ولا الأصمعي عن أهل ذلك الفريق. أندى من نسيم الصباح، وأرق من ريق(13/57)
الغوادي في ثغور الأقاح.
وإذا تصفحنا دواوين الأدب عند الأمم الأخرى لا نجد له شبيهاً سوى تيبولسشاعر الرومان.
وتنقسم حياة ابن زيدون إلى قسمين مهمين في قرطبة في اشبيلية.
أولاً_في قرطبة: برع ابن زيدون في الأدب، حتى كان أبو الوليد في الأندلس شبيهاً ومثيلاً لأبي الوليد في دولة المتوكل العباسي. وقد سماه الناس بحتري الأندلس. ولقد صدقوا. فمن جملة المحفوظ عنه في صباه قوله:
أخذت ثلث الهوى غصباً ولي ثلث ... وللمحبين فيما بينهم ثلث
تالله لو حلف العشاق أنهم ... موتى من الوجد يوم البين ما حنثوا
قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا ... ماتوا فإن عاد من يهوونه بعثوا
ترى المحبين صرعى في عراصهم ... كفتية الكهف ما يدرون مالبثوا
ثم هام بعد ذلك بحب ولاّدة بنت المستكفي الخليفة الأموي بالأندلس. وكانت أديبة، شاعرة، جزلة القول، حسنة الشعر. تناضل الشعراء وتساجل الأدباء. وعمرت عمراً طويلاً ولم تتزوج قط. جاءت على خلاف أبيها في كل أوصافها، فكانت مصداقاً لقوله تعالى يخرج الحيّ من الميت وقد ابتذل حجابها بعد نكبة أبيها وقتله، فصارت تجلس للشعراء والكتاب وتعاشرهم وتحاضرهم، ويتعشقها الكبراء منهم. وكانت على خلق جميل، وأدب غض. وكان لأبن زيدون معها أخبار تطرف القلوب، وتشغف المسامع. لأنه خلع في هواها العذري عذاره. وقد شهد المؤرخون كلهم لها بالعفة والصيانة. ولكن الشعراء في كل واد يهيمون، فكيف لا يهيم بولاّدة أبو الوليد بن زيدون. والمقام لا يتسع لأشعاره فيها وأشعارها إليه، ولكني آتيكم براموز ومثال، واترك الباقي لغير هذا المجال.
ودّعها ذات يوم فأنشدها مرتجلاً
ودّع الصبر محب ودعك ... ذائعاً من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطى إذ شيعك
يا أخا البدر سناءً وسنا ... حفظ الله زماناً أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك
ثم قال(13/58)
يا نازحاً وضمير القلب مثواه ... أنستك دنياك عبداً أنت دنياه
ألهتك عنه فكاهات تلذ بها ... فليس يجري ببال منك ذكراه
علّ الليالي تبقيني إلى أمل ... الدهر يعلم والأيام معناه
ولما كان مجلس ولاّدة بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر. يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهافت أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة مسامرتها. وهي مع ذلك محافظة على علو النصاب، وكرم الأنساب، وطهارة الأثواب. ولقد طمع بعضهم في الاستئثار بها دون ابن زيدون. فنازعه على حبها، وزاحمه في ودها، رجل من رجالات عصره. وهو أبو عبد الله البطليوسي. فكتب إليه ابن زيدون يزجره بهذا الرجز:
أيا عبد الإله اسمع ... وخذ بمقالتي أو دع
وأنقص بعدها أو زد ... وطر في أثرها أو قع
ألم تعلم بأن الده ... ر يعطي بعد ما يمنع
فإن قصارك الدها ... يز حيث سواك في المضجع
ومنهم الوزير أبو عامر بن عبدوس الملقب بالفار، وكان ممن أكابر رجالات قرطبة، فاغتاظ ابن زيدون وبعث له بهذه الأبيات:
أثرت هزبر الشرى إذ ربض ... ونبهته إذ هدا فاغتمض
وما زلت تبسط مسترسلاً ... إليه يد البغي لما انقبض
أبا عامر أين ذاك الوفا ... إذ الدهر وسنان والعيش غض
وأين الذي كنت تعتد من ... مصافاتي الواجب المفترض
حذار حذار فإن الكريم ... إذا سيم خسفا أبي فامتعض
وإن سكون الشجاع النهو ... ش ليس بمانعه أن يعض
عمدت لشعري ولم تتئد ... تعارض جوهره بالعرض
أضاقت أساليب هذا القري ... ض أم عفا رسمه فانقرض
لعمري لفوقت سهم النضال ... وأرسلته لو أصبت الغرض
وشمرت للخوض في لجة ... هي البحر ساحلها لم يخض
وغرك من عهد ولادة ... سراب تراآى وبرق ومض(13/59)
هي الماء يأبى على قابض ... ويمنع زبدته من مخض
ونبئتها بعده استحمدت ... يسرى إليك لمعنى غمض
أبا عامر عثرة فاستقل ... اتبرم من ودنا ما انتفض
ولا تعتصم ضلة بالحجاج ... وسلم فرب احتجاج دحض
وحسبي أني أطبت الجنى ... ل يأبه وأبحت النفض
ويهنيك أنك يا سيدي ... غدوت مقارن ذاك النفض
ثم كتب له رسالته المشهورة على لسان ولاّدة، وقد عبث فيها به كما عبث الجاحظ في رسالته التربيع والتدوير بأحمد بن عبد الوهاب الكاتب في بغداد. فاشتهرت رسالة ابن زيدون في المشارق والمغارب. وهي التي شرحها كثير من أدباء المشارقة، كابن نباتة والصفدي. وشرح ابن نباتة قد طبع في مصر مراراً. وهو في غاية الحسن ونهاية الفائدة. وأما شرح الصفدي لهذه الرسالة فلم يصلنا.
على أن ابن عبدوس لم ينثن عن محاولته، حتى تمكن من أيقاع الجفوة بين أبن زيدون وولاّدة واستأثر بها دونه، فاغتاظ ابن زيدون والتجأ إلى قريضه القارص، فلسع الرجل بقوله:
أكرم بولادة ذخر المدخر ... لو فرقت بين بيطار وعطار
قالوا أبو عامر أضحى يلم بها ... قلت الفراشة قد تدنو من النار
عيرتمونا بأن قد صار يخلفنا ... فيمن نحب وما في ذاك من عار
أكل شهي أصبنا من أطايبه ... بعضاً وبعضاً صفحنا عنه للفار
ولقد فاز ابن زيدون بمناه، من إقاء الفار عن حماه، بل أن ولاّدة أخذت تعبث بذلك الوزير، حتى أنها مرت به ذات يوم في تربها وسربها وكان الوزير ابن عبدوس جالساً على باب داره يستنشق الهواء العليل، وكانت أمام داره بركة تجمعت فيها مياه المطر، وانساق إليها شيء من أقذار الدار. كان الوزير جالساً في أبهته وعظمته وقد نشر كميه، ونظر في عطفيه، وحشر أعوانه إليه. فلما قربت منه ولاّدة نادته باسمه فهش إليها وبش، واقترب من البدر، فقالت له وهي تشير إلى البركة: يا ابن عبدوس
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر(13/60)
ثم نفرت كالظبي الشارد وتركته حائراً بائراً، باهتاً صامتاً. لا يحير جواباً، ولا يعي خطأ ولا صواباً. وهذا البيت لأبي نواس تمثلت به ولاّدة ونقلته هذا النقل الحسن من المدح إلى الهجاء.
غير أن هذا الوزير صبر حتى خلا جو قرطبة من ابن زيدون على ما سيأتي. فاستأثر بولاّدة وعاش وعاشت حتى بلغا الثمانين وهما يتراسلان ويرتعان في بساتين الأدب، ورياض العفاف.
لم يبلغ ابن زيدون الخامسة والعشرين من عمره حتى نَبُه ذكره، وعم صيته. اصطنعه أبو الحزم ابن جهور المتغلب على قرطبة ونواحيها وضواحيها ونوه به لأنه رآه فتى الآداب، وعمدة الظرف، والشاعر البديع الوصف. ولما له بقرطبة من الأبوة السنية، والوسامة والدراية، وحلاوة المنظوم والسلاطة، وقوة العارضة، والافتنان في المعرفة. فكانت الكتب تنفذ من إنشائه إلى شرق الأندلس فيقال تأتي اشبيلية كتب هي بالنظم الخطير أشبه منها بالمنثور. ثم ترقى في وظائف الدولة القرطبية حتى صار إليه النظر على أهل الذمة، ثم رآه ابن جهور أهلاً للوزارة فرقاه إليها، بل جعله ذا الوزارتين. فكان منه بمنزلة السمير والوزير، والمشير والسفير. فكم أنفذه إلى ملوك الطوائف لأمور سياسية، ولمخابرات تقتضيها المعاملات والمجاملات التي يوجهها الجوار، أو تدعو إليها علاقاته معهم أو مع ملوك الاسبانيين الذين كانوا يتربصون به وبهم دوائر السوء. فأحسن ابن زيدون التصرف في ذلك، وغلب على قلوب الملوك. حتى كان كل ملك يخطب وده، ويتمنى أن يقيم عنده. ولكنه كان بعد انقضاء مهمته يرجع إلى صاحبه بقرطبة وإلى مجالس أنسه بها، ولهوه بأهلها.
في ذلك الوقت المضطرب بالفتن الداخلية، والخطوب الخارجية كانت الجاسوسية لها أثر في مصالح الدولة، وفي أحوال الأفراد.
نترك أمور الدولة وسياستها جانباً ونقتصر على الدائرة التي ارتضينا لأنفسنا الجولان فيها وهي ميدان الأدب، ونذكر حكاية تدل على الجاسوسية الفردية في تلك الأيام.
كانت قرطبة جارية تتعشق فتى من القرشيين، وكانت لوجدها كاتمة. لكن الخبر وصل إلى الوزير ابن زيدون فلم يعبأ به لأن القوم كلهم كانوا متغلغلين في هذه السبيل. وكانت(13/61)
الجارية تقول الشعر فجاشت نفسها ببيت فذ وامتنع عليها ما تريد وهذا لبيت هو:
يا معطشي عن وصل كنت وارده ... هل منك لي غلة إن صحت واعطشي
فجاءت إلى كبير الوزراء، وأمير الشعراء، وسألته أن يزيد عليه شيئاً وهي تظن أنه لا يعلم بما هي فيه من الغرام، فأمسك القرطاس، واغتنم فرصة الروىّ، وما يعلمه من السر المطوى. فكتب:
كسوتني من ثياب السقم أسبغها ... ظلماً وصيرت من لحف الضنى فرشي
أني بصرف الهوى عن مقلة كحلت ... بالسحر منك وخد بالجمال وشى
لما بدى الصدغ مسوداً بأحمره ... أرى التشاكل بين الروم والحبش
أوفى إلى الخد ثم أنصاع منعطفاً ... كالعقربان انثنى من خوف محترش
لو شئت زرت وسلك الليل منتظم ... والأفق يختال في ثوب من الغبش
جفا إذا التذت الأجفان طيف كرى ... جفنى المنام وصاح الليل يا قرشي
ومن تأمل أحوال الأندلسيين رأى أنهم كانوا يبالغون في التشبه بالشرقيين في كل ما اشتهروا به أو اشتهر من أحوالهم. فمدائنهم وعمائرهم وقصورهم ومنازلهم سموها بما اختاره الشرقيون في بلادهم. كذلك حاكوهم في مجالس أنسهم. وأنا اقتصر على ما يتعلق بابن زيدون وصحبه، وأمهد لذلك بما كان في بغداد.
كان في دار السام الوزير المهلى المشهور، والقاضي التنوخي، وقد بلغا من الكبر سناً عالياً، ولهما ذقون بيضاء تنهال على صدروهما، وكانا يتعاطيان في النهار أمور الدولة بغاية الحشمة والوقار. حتى إذا جن الليل اجتمعا في مجلس العقار، وخلعا العذار، فكانا يشربان في أواني من البلور والنضار، ولا يكتفيان بلذة الشراب، بل يغمسان أذقانهما في الأواني، ثم يرش كل منهما الشراب بتلك الرشاشات الغريبة على صاحبه لتتم لهما لذة السكر حساً ومعنى، باطناً وظاهراً. ويستمران على ذلك طرفاً من الليل. حتى إذا جاء الصباح عادا إلى أشغالهما: الوزير في تدبير الدولة، وقاضي القضاة في النظر في الخصومات والحكم على مقتضى الشرع. واستمرا على هذه الحال في معاقرة المدام، حتى وافاهما الحمام.
فاسمعوا نظير ذلك في قرطبة كان القاضي ابو بكر بن ذكوان من الجلالة بأسمى مكان.(13/62)
أدركته حرفة الأدب، وله في العلم باع طويل. وكان يتشبه في خلوته مع ابن زيدون بالقاضي التنوخي مع الوزير المهلى. وهنالك ما شئت من دعابات ورقاعات، وما تخيلت من فكاهات ومجانات. حتى إذا أصبحا ذهب ذو الوزارتين إلى شأنه في ديوانه، وبكر أبو بكر إلى مجلس الحكم بمقتضى الحق. ومتى اقترب المساء عادا إلى القصف، وتجاوزا في ميدانهما كل وصف. إلى أن سطا الدهر، على أبي بكر. واتفق أن مرّ لبن زيدون يوماً بقبر ابن ذكوان في لمة من أخوانه، وجماعة من عمار ميدانه، فعطفوا عليه مسلمين، فقال أبو الوليد ابن زيدون مرتجلاً:
انظر الحال كيف تحال ... ولدولة العلياء كيف تدال
من سر لما عاش قل متاعه ... فالعيش نوم والسرور خيال
ولى ابو بكر فراع له الورى ... هول تقاصر دونه الأهوال
يا قبره العطر الرى لا يبعدن ... حلو من الفتيان فيك حلال
ما أنت إلا الجفن أصبح طيه ... نصل عليه من الشباب صقال
ما أقبح الدنيا خلاف مودع ... غنيت به في حسنها تختال
يا منشئ الأمثال منه أوحد ... ضربت به في السودد الأمثال
نقصت حياتك حين فضلك كامل ... هلا استضاف إلى الكمال كمال
من للقضاء يعز في أثنائه ... إيضاح مظلمة لها أشكال
من لليتيم تتابعت أرزاؤه ... هلك الأب الحافي وضلع المال
زرناك لم تأذن كأنك غافل ... ما كان منك بواجب إغفال
أين الحفاوة روضها غض الجنى ... أين الطلافة ماؤها سلسال
هيهات لا عهد كعهدك عائد ... إذ أنت في وجه الزمان جمال
فاذهب ذهاب البدء أعقبه الغنى ... وإلا من وافت بعده الأوجال
حيّ الحيا مثواك وامتدت على ... ضاحي ثراك من النعيم ظلال
وإذا النسيم اعتل فاعتلت به ... ساحاتك الغدوات والآصال
ولئن إذا لك بعد طول صيانة ... قدر فكل مصونة ستذال
ولقد أفاض في مدح ابن جهور وأهل بيته بأمداح تزري بالقلائد ولا تحتملها هذه(13/63)
المحاضرة، فاقتصر على هذه الأبيات:
إن الجهاورة الملوك تبوؤا ... شرفاً جرى معه السماك جنيبا
فإذا دعوت وليدهم لعظمة=لباك رقراق السماح أريبا
هم تعاقبها النجوم وقد تلا=في سؤدد منها العيب عقيبا
ومحاسن تندى دقائق ذكرها=فتكاد توهمك المديح نسيبا
فتى أديب حر يصل هذه المكانة قبل أن يصل إلى الثلاثين من العمر، فكيف لا يكون كما قال المتنبي حرب الزمان والدهر. نعم فقد دبت عقارب الغيرة بينه وبين حاسدي نعمته وسعادته، والمناظرين والأنداد فتألبوا عليه وتآمروا حتى انتهوا بإيقاعه في شراكهم، ونجحوا لدى الأمير ابن جهور فحبسه حبساً طالت مدته فكانت تلك السجون مثاراً لشجونه.
فبعد أن صاغ لبني جهور لا سيما لأبي الحزم قلائد وخرائد، كتب إليه من السجن أشعاراً ورسائل مختارة، فاضت بها نفسه في التنصل والاعتذار والاستشفاع والاستعطاف. ولكن المزاحمين له على مركزه في الدولة، وعلى حب ولاّدة، كانوا دائماً يفوزون. فبقي في السجن مدة تنيف على الخمسمائة يوم.
كتب لابن جهور تلك الرسالة البديعة التي طبعها أحد المستشرقين في سنة 1889، وهي التي شرحها العلامة صلاح الدين الصفدي. وعندي في الخزانة الزكية نسخة جليلة من هذا الشرح. وختمها بقصيدة فريدة يقول في تضاعيفها:
أيهذا الوزير، ها أنا أشكو! ... والعصا بدء قرعها للحليم!
ما عناء أن يألف السابق المر ... بط في العتق منه والتطهيم
وثواء الحسام في الجفن يثنى ... منه بعد المضاء والتصميم
أقصير مئين خمسٌ من الأ=يام؟ ناهيك من عذاب أليم!
فلم يفد ذلك شيئاً. ومنظوماته في هذا الباب كثيرة جداً، أذكر منها قيدة قصيرة:
إيهٍ، أبا الحزم اهتبل غرة! =ألسنة الشكر عليها فصاح
لا طار لي حظ إلى غاية ... إن لم أكن منك مريش الجناح!
عتباك بعد العتب أمنية، ... مالى على الدهر سواها اقتراح!
لم يثنني عن أمل ما جرى، ... قد يرقع الخرق وتؤسى الجراح(13/64)
ولقد زارته أمه في سجنه، فخانتها دمعتها، فقال يخاطبها من قصيدته اللاّمية التي وجهها إلى ابن جهور مستعطفاً:
ألم يأنِ أن يبكي الغمام على مثلي ... ويطلب ثأري البرق منصلت النصل؟
وهلا أقامت أنجم الليل مأتماً ... لتندب في الآفاق ما ضاع من نبلي؟
فلو أصفتني، وهي أشكال همتي، ... لألقت بأيدي الذل لما رأت ذلي!
ولا افترقت سبع الثريا وغاضها ... بمطلعها ما فرق الدهر من شملي
لعمر الليالي، إن يكن طال عمرها، ... لقد قرطست بالنَبل في مقتبل النُبل!
تحلّت بآدابي وإن مآربي ... لسارحة في عُرص أمنية عطل
أخص لفهمي بالقلى؟ وكأنما ... يبيت لذي الفهم الزمان على دخل!
وأجفى على نظمي لكل قلادة ... مفصلة السمطين بالمنطق الفصل؟
ولو أنني اسطيع كي أرضى العدا ... شريت ببعض العلم حظاً من الجهل
أمقتولة الأجفان، مالكِ والهاً؟ ... ألم تُركِ الأيام نجماً هوى قبلي؟
أقلى بكاءً لست أول حرة ... طوت بالأسى كشحاً على مضض الثكل
وفي أم موسى عبرة إذ رمت به ... إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي
ولله فينا علم غب وحسبنا ... به عند جور الدهر من حكم عدل
وإن أردنا أن نتعرف حالته الروحية، وهو في سجنه، فهذه شذرات من قصيدة وجهها إلى أبي الحزم ابن جهور، يعاتبه فيها على عدم الإصغاء إليه. قال يصف نفسه:
جواد إذا استن الجياد إلى مدى ... تمطر، فاستولى على أمد الخصل
ثوى صافنا في مرابط الهون، يشتكي ... بتصهاله ما ناله من أذى الشكل
وأني لتنهاني نهاي عن التي ... أشار بها الواشي، ويعقلني عقلي!
أأنقض فيك المدح من بعد قوة؟ ... فلا أقتدي إلا بناقضة الغزل!
هي النعل زلت بي فهل أنت مكذب ... لقيل الأعادي؟ أنها زلة الحسل!
ألا أن ظني بين فعليك واقف ... وقوف الهوى بين القطيعة والوصل!
وإلا جنيت الأنس من وحشة النوى ... وهول السرى بين المطية والرحل
وأين جواب منك ترضى به العلا، ... إذا سألتني عنك ألسنة الحفل؟(13/65)
ومن السجن خاطب صديقه أبا حفص بن برد، وقد حار لم يجد هادياً، وصار رهيناً لا يرجو فادياً، وعلم أن الناس متقلبون، وعلى من انقلب به الدهر منقلبون، لا يدينهم في الشدة إخاء، ولا يثنيهم عن ذي الخطوة زهو ولا انتماء:
ما على ظني باسُ ... يجرح الدهر ويأسو!
ربما أشرف بالمر ... ء على الآمال يأسُ!
ولقد ينجيك أغفا ... لٌن ويرديك احتراس!
والمحاذير سهام، ... والمقادير قياس!
ولكم أجدى قعود، ... ولكم أكدى التماس!
وكذا الحكم إذا ما ... عز ناس، ذل ناسُ
وبنو الأيام أخيا ... ف: سراة وخساس
نلبس الدنيا، ولكن ... متعة ذاك اللباس
يا أبا حفص، وماسا ... واك في فهم إياس!
من سنا رأيك لي في ... غسق الخطب اقتباس
وودادي لك نص ... لم يخالفه القياس!
أنا حيران وللأم ... ر وضوح والتباس
لا يكن عهدك ورداً، ... إن عهدي لك آس!
وأدِر ذكرىَ كاسا، ... ما امتطت كفك كاس
فعسى أن يسمح الده ... ر، فقد طال الشماس
واغتنم صفو الليالي، ... إنما العيش اختلاس
ما ترى في معشر حا ... لوا عن العهد وحاسوا؟
ورأوني سامرياً، ... يُتَّقى منه المساس
أذؤبٌ هامت بلحمي: ... فانتهاب وانتهاس
كلهم يسأل عن حا ... لي وللذئب اعتساس
إن قسا الدهر، فللما ... ء من الصخر انبجاس
ولئن أمسيت محبو ... سا، فللغيث احتباس(13/66)
ويُفَتُّ المسك في التر ... ب: فيوطاً ويداس
وما ألطف وصفه لنفسه ولوشاته في إحدى قصائده الطنانة:
كأن الوشاة، وقد منيت بأفكهم، ... أسباط يعقوب، وكنت الذيبا
هذه الأحوال مضافة إلى نفس كبيرة تتعب في مرادها الأبدان، شيبت رأس ابن زيدون وجعلته هرماً قبل الأوان. فقد رأى الشيب في رأسه وعاضيه، فبكى على نفسه وقال قصيدة أخرى يستعطف بها ابن جهور أيضاً:
لم تطو برد شبابي كبرة وأرى ... برق المشيب اعتلى في عارض الشَّعَر
قبل الثلاثين إذ عهد الصبا كثب ... وللشبيبة غصن غير مهتصر
وفيها يقول بما يعرفنا بأنه عارف قدر نفسه:
أحين رف على الآفاق من أدبي ... غرس له من جناه يانع الثمر؟
وسيلة سبباً أن لا تكن سبباً ... فهو الوداد صفاء غير ما كدر
فدلنا بذلك على أن الشيب ألمَّ برأسه وبلحيتهن قبل أن يصل إلى الثلاثين من عمره. وذلك مصداق لما ذكرناه من أنه بلغ مراتب العلا وهو في سن الفتوة وريعان الصبا. وذكر الصفدي أنه كان يخضب بالسواد. وأنا لست ممن يرى الخضاب للرجال، فإنما هو في رأي خليق برباب الحجال. لأن الطبيعة لا تغالب ولا تقهر، وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر. ويعجبني بهذه المناسبة قول تلك العجوز المشرقية:
وصبغت ما صبغ الزمان، فلم يفد ... صبغي. ودانت صبغة الأيام
ولا استجيز رواية البيت الثاني لكم. . . فإذا كان منكم من يعرفه فليهمس به لأخيه الذي بجانبهن وليطلب منه أن يلقيه في أذن صاحبه. وهكذا حتى يدور الدور، فأكون كأنني ألقيته عليكم وما ألقيته. ولكن الذي أسألكم العفو في إيراده، أن ابن زيدون كان كأنه نظر إلينا في هذه الليلة وتفرس أن سيكون من بني مصر رجل يعرف فضله، وينشر ذكره، فأشار بما أفاضته الحكمة الربانية على لسانه إلى هذا العاجز الواقف بين أيديكم يناجيكم في ناديكم. فقد قال في ضمن استعطافه لابن جهور بيتاً هو أشبه بالوحي الذي يفيض على ألسنة الشعراء:
سيُعنى بما ضيعت مني حافظٌ ... ويغلي لما أرخصتَ من خطري مغلِ(13/67)
ولكن ابن جهور أصر على القعود عن إقالته، من كبوته. فلما رأى ابن زيدون أن كل ذلك لم يجده نفعاً قال يخاطبه:
قل للوزير وقد قطعت بمدحه ... عمري، فكان السجن منه ثوابي
لا تخش لائمتي بما قد جئته ... من ذاك فيّ ولا توقَّ عتابي
لم تُخطِ في أمري الصواب موفقاً ... هذا جزاء الشاعر الكذاب
ثم أنه تحيل في الهرب ونجح. فلما خرج من السجنن اختفى بقرطبة وأقام فيها متوارياً. م نظم قصيدة طويلة يخاطب فيها ولاّدة ويستنهض الأديب أبا بكر بن مسلم للشفاعة ويستنزل أبا الحزم بن جهور. وفيها يعرفنا أن مدة حبسه بلغت خمس سنوات. قال:
سنون من الأيم خمس قطعتها ... أسيراًن وأن لم يبد شدٌّ ولا ربط
والقصيدة طويلة جميلة جليلة. ثم أنه ما زال بأبي الوليد بن جهور يستشفع به إلى أبيه أبي الحزم، حتى شفع له وانتشله من نكبته وصيره في صنائعه. ولما ولي الأمر بعد والده نوّه به وقدمه في الذين اصطنع لدولته وجلله كرامة لم تقنعه، زعموا.
فلا غرابة إذا بكى واستبكى حينما مات أبو الوليد بن جهور الذي أذاقه من الحبس والعذاب ألواناً. فقد وجد ابن بسام بخط ابن حيان هذه المرثية البديعة لأبن زيدون في أبي الحزم:
ألم تر أن الشمس قد ضمها القبر، ... وإن قد كفانا فقدها القمرَ البدر؟
وأن الحيا إن كان أقلع صوبه ... فقد فاض للآمال في أثره البحر؟
إساءة دهر أحسن الفعل بعدها، ... وذنب زمان جاء يتبعه العذر
فلا يتمنى الكاشحون، فما دجا ... لنا الليل إلا ريثما طلع الفجر
وإن يك ولى جهور؟ فمحمد ... خليفته العدل الرضا وابنه البر
همام جرى يتلو أباه كما جرى ... معاوية يتلو الذي سنه صخر
فقل للحيارى: قد بدا علم الهدى ... وللطالع المعروف قد قضى الأمر
أبا الحزم قد ضاقت عليك من الأسى ... قلوب ومنها الصبر لو ساعد الصبر
دع الدهر يفجع بالذخائر أهله ... فليس لنفس مذ طواك الردى قدر
مساعيك حلى الزمان مرصع ... وذكرك في أيام أردانها عطر
أمامك من حفظ الإله طليعة ... وحولك من آلائه عسكر مجر(13/68)
وما بك من فقر إلى نصر ناصر، ... كفاك من الله الكلاءة والنصر
ولكننا نعود إلى ولاّدة ونتساءل هل نسي أبو الوليد ولاّدة؟ كلا بل عاد إلى التودد إليها والتقرب منها، وكان يذكرها في قرطبة وغير قرطبة ويراسلها بأشعاره الرائقة الفائقة.
ذهب مرة إلى الزهراء يتأمل في محاسنها فوصفها بقوله:
أني ذكرتك بالزهراء مشتاقا، ... والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله، ... كأنما رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائه الفضيّ مبتسم، ... كما حللتِ عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت ... بتنا لها حين نام الدهر، سراقا
تلهو بما يستميل العين من زهر ... جال الندا فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه، إذ عاينت أرقى، ... بكت لما بي، فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته، ... فازداد منه الضحى في العين إشراقا
سري بنا فجة نيلوفر عبق ... وسنان نبه منه الصبح أحداقا
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا ... إليك، لم يعد عنها الصدر إن ضاقا
لو كان وَّفي المنا في جمعنا بكم، ... لكان من أكرم الأيام أخلاقا
لا سكن الله قلباً عنّ ذكركم، ... فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملى نسيم الريح حين هفا، ... وافاكم بفتى أضناه مالاقا
كان التجازي بمحض الود من زمن ... ميدان أنس جرينا فيه إطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم ... سلوتم؟ وبقينا نحن عشاقا
ثم أرسله ابو الوليد بن جهور سفيراً إلى حضرة إدريس الحسني بمالقة، فأطال الثواء هنالك واقترب من إدريس وخف على نفسه وأحضره مجالس أنسه فعتب عليه ابن جهور وصرفه عن السفارة بينه وبين أمراء الأندلس فيما يجري بينهم من التراسل والمداخلة.
2_إلى هنا انقضت أيامه في قرطبة. فلقد خشي أبو الوليد أن يلاقي من الوليد ما لاقاه من الوالد. وحينئذ صحت عزيمته على الهجرة من قرطبة والذهاب إلى المعتضد بن عباد باشبيلية. فلامه بعض اخصائه على ما اعتزمه من التحول عن وطنه وهجرة أهله وخلانه فكتب إليه رسالة ضافية يعتذر فيها لنفسه ويقول من جملتها ما نصه:(13/69)
وكنت أول حبسي قد وُضعت من السجن في موضع قد جرت العادة بوضع مستوري الناس وذوي الهيئات منهم فيه. وفي الشر خيار، وبعضه أهون من بعض. ثم اقتضى نقلي إلى حيث الجناة المفسدون، واللصوص المعتدون. وشكوت ذلك إلى الحاكم الحابس لي. . . فانتفى من الرضا به وأظهر الامتعاض. وتقدم إلى الموكل بالسجن في اختيار مجلس، أباين فيه من لا تليق بي ملابسته، وأنتبذ عمن لا تُرضى لي مجالسته. ثم لم ألبث أن أحضره (أي الموكل بالسجن) مجلس نظره وأمر بتأديبه على امتثاله فيما أمره به وانتهائه إلى ما حده له. واستأنف العهد في التضييق عليّ، زمنع من اعتاد صلتي من الوصول إلي. فأصعدت إلى غرفة في السجن أقنعني بها مع خساستها وامتلأت بالكون فيها على مضاضتها انفرادي من لفيف الأخلاط ومن ضمه السجن من السفلة والسقاط. فحين استوائي إليها عهد بحطي إليهم وخلطي بهم ووضعي بينهم فنقلت على أقبح النصب وأسوء الرتب. ودخل إلي في هذه الحال من أبلغ إليّ عن ابن الحكم رسالة جامعة من فنون مشتملة من الوعيد. فتبين لي أن ايحاشي نفسي بايناس أهلي، وقطعها في مواصلة وطني غبنٌ في الرأي وخور في العزم. ووجدت الحر ينام على الشكل ولا ينام على الذل. ولم استغرب أن أسأم بمثل هذا الخسف في مسقط رأسي، فقد ضاع المرء الفاضل في وطنه. فاستخرت الله عز وجل، واضح وجه العذر، ثابت قائم الحجة، عند من غصن عين الهوي، وخزن لسان التعسف. والله يصيب غرض الصواب برأي، ويقرب غاية النجاح على من سعى، حسبما ذلك في علمه أني مظلوم، مبغي علي، منسوب ما لم آته إلي ولعمرك يا سيدي أن ساعة العذر لتضيق عنك، وما تكاد تتسع لك في إسلامك تلميذك وابن جارك وشيخك الذي لم تزل آخذاً عنه مقتبساً منه، مع إكثارك من ذكر هذا والاعتداد به وادعاء الحفظ له. وقد رويت أن حسن العهد من الأيمان، ولكن من لك بأخيك كله؟ وما حم واقع، ولا حذر من قدر، وقد سبق السيف العذل! وتقدم من فعلي ما جف به القلم. وأنا الآن بحيث أمنت بعض الأمن، ألا إن نذراً من وعيد سقط إلي بأن السعي لم يرتفع، وأن مادة البغي لم تنقطع، وأن البصيرة مستحكمة في استرجاعي من الأفق الذي أحل به، والجناب الذي أحط فيه. وأكد ذلك ف ظني ما كان إشارة لي إليه بعض من كنت آوي إلى الثقة بعهده، وأبني على الوثاقة من عقده، من الفقهاء الموسومين بالثرة عند لحكم المذكور والمكانة منه. وقد(13/70)
عاتبته على تأخره عن مضافرتي، وتقصيره في مؤازرتي. فاعتذر بأن ذلك لا سبيل إليه، ولا منفذ للحيلة فيه. إذ المحرض علي لا تتأتى معارضته، ولا يتهيأ الاستبداد عليه، وأنه وصفني بالبذاء، وعابني بالتسلط على الأعراض. ووالله! ما استنجزت هذا، بعد أن هتك من ستري ما هتك، وأنهك ما انتهك، إن كنت أقول معذوراً، وأنفث مصدوراً. فكيف قبل ذلك، إذ لم يحدث سبب ولا عرض موجب؟ ومالي وهذا الجني تم مالياً! وستكتب شهادتهم ويسألون. . .
ووالله ما توهمت أني أوتي ممن أوتيت منه، مع اتصالي به وانقطاعي إليه واتسامي بالتأمل له والتعويل عليه. أن المعارف في أهل النهي ذمم. . .
لقد كان من محاسن الشيم، وشروط المروءة والكرم، أن يهب لي ما أنكر لما عرف، ويغفر ما سخط لما رضي، ويدفع بالتي هي أحسن، ويؤثر الذي هو أجمل وأرفق، ويتوقف عندما نص له من سعاية، وزف إليه من وشاية. فإن كان باطلاً ألقاه وفضح المخبر المتقرب به وأقصاه. ون كان حقاً صبر صبر الحليم. وأغضي إغضاء الكريم. وقبل إنابة المعتب، واقتصد في مؤاخذة المذنب. فقدم التوقيف قبل التثقيف، والتأنيب قبل التأديب. فإن الرفق بالجاني عتاب. والحر يلحى والعصا للعبد. . .
وهو يرى ويسمع أن بالحضرة قوماً لا يحصرهم العد، تحتمل سقطاتهم وتغتفر هفواتهم، وتقال عثراتهم. . .
وما أعلم أنهم يدلون بوسيلة إلا شاركتهم فيها، ولا يمتون بذريعة ينفردون دوني بها. . .
فإن كانت مسامحتهم لسابقة سلفت فقد أحرزت منها الحظ الأعلى أو لكمال أدب فقد ضربتُ فيه بالقدح المعلى، أو للطف تودد فما قصرتُ في الاجتهاد غير أني حرمت التوفيق. والأمر لله رب مجتهد ما خاب إلا لأنه جاهد والله لقد أظهرت مدحه، وأضمرت نصحه، وتممت على الصاغية له، وجريت ملء العنان إلى الاعتلاق به، اسقيه السائغ من مياه ودي. واكسبه السابغ من برود حمدي، وأجنبه الغض من ثمرات شكري، وأهدي إليه العطر من نفحات ذكري. لا يفيدني التحبب إليه، إلا ضياعاً لديه. ولا يزيدني التقرب منه. إلا بعداً عنه.
والذي أحبه منك وأثق ف المسارعة إليه بك، لقاؤه مجارياً ذكرى، مفاوضنا في امرئ،(13/71)
معلماً له بالذي لا يذهب عنه من أن الذي اخترته لنفسي غاية ما يسيء العدو به ويساء المولى منه. فالجلاء أخو القتل، والغربة أحد السباءين: قال الله تعالى: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم
وقد هجرت الأرض التي هي ظئري، والدار التي كانت مهادي، وغبت عن أم أنا واحدها، تمتد أنفاسها شوقاً لي، وتغض أجفانها حزناً علي، والله يرى بكاءها ويسمع لي على من ظلمني نداءها. فالاستجابة مضمونة للمخلص وللمظلوم، وقد حملت السمتين، واستوجبت الصفتين ولتكن بغيتك التي دخرها عليها كلمة تأمين وإشارة إلى تأنيس وتذكير، تراجعني بها فأظهر بحيث أنا آمنا، وألقي العصا مطمئناً. فإن وجدت محر الشفرة فالعوان لا تعلم الخمرَة فإن اشبهت الليلة البارحة، أعلمتني بذلك، فطلبت الأمن في مظانه، وتقريت السلامة في مواطنها. وصبرت حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. كل يوم هو في شأن. ومع اليوم غد ولكل حال معقب. ولربما أجلى لك المكروه عما تحمد. ولك يا سيدي في انتدابك لما ندبتك إليه الفضل، والأيادي قروض، والصنائع ودائع، لا يذهب العرف بين الله والناس. والتحية الطيبة والسلام المردد على سيدي
ولكن ابن زيدون كان قد ذاق من الدهر حلوه ومره، فلم يرض لنفسه بالذهاب إلى اشبيلية دون أن يكون على ثقة من أمره. فلذلك كتب رسائل بديعة إلى بعض المقربين من المعتضد، قم إلى المعتضد نفسه، ليمهد السبيل إلى الهجرة حتى إذا تحقق أنه سينزل في اشبيلية على الرحب والسعة أزمع الرحيل إليها. وكان ذلك في سنة 441 للهجرة.
واتفق في وقت فراره من قرطبة إلى اشبيلية أن صادفه عيد الأضحى فرأى الناس مبتهجين بالعيد، وهم يتزاورون ويتبادلون التهاني، وهو شريد طريد، ففاضت نفسه بوصف حاله:
خليليّ لا فطر يسر ولا أضحى! ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى!
لئن شاقني شرق العقاب، فلم أزل ... أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا
وما انفك جو في الرصافة مشعري ... دواعي بث تعقب الأسف البرحا
ويهتاج قصر الفارسي صبابة ... بقلبي لا يألو زناد الهوى قدحا
وليس ذميماً عهد مجلس ناصح ... فأقبل في فرط الولوع به نصحا(13/72)
كأني لم أشهد لدى عين شهدة ... نزال عتاب كان آخره الفتحا
وقائع جانيها التجني فإن مشى ... سفير خضوع بيننا، أكد الصلحا
وأيام وصل بالعقيق اقتضيته ... فا لا يكن ميعاده العيد، فالفصحا
وآصال لهو في مسناة مالك ... معاطاة ندمان إذا شئت أو سبحا
لدى راكد تصيبك من صفحاته ... قوارير خضر خلتها مردت صرحا
معاهد لذات وأوطان صبوة ... أجلت المعلى في الأماني بها قدحا
مقاصر ملك أشرقت جنباتها، ... فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحاً
يمثل قرطيها لي الوهم جهرة ... فقبتها فالكوكب الرحب فالسطحا
هناك الحمام الزرق تندى خفافها ... ظلال عهدت الدهر فيها فتى سمحا
محل ارتياح يذكر الخلد طيبه ... إذا عزّ أن يصدى الفى فيه أو يصحا
تعوضت من شدو القيان خلالها، ... صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا
ومن حملى الكاس المفدى مديرها، ... تقحم أهوال حملت لها الرمحا
فلما وصل اشبيلية، نزل على كنف المعتضد، وأصبح من خواصه وصحابته يجالسه في خلواته، ويرسله في مهم رسائله. وولاه الوزارة، وحفظ له لقبه ذا الوزارتين.
كان المعتضد جعل مجلسه منحطاً عن مجلس ابنه وولي عهده المعتمد بن عباد. فكتب المعتمد لابن زيدون:
أيها المنحط عني مجلساً! ... وله في النفس أعلى مجلس!
بفؤادي لك حب يقتضي ... أن تري تحمل فوق الأرؤس!
فأجابه ابن زيدون يشكره:
اسقيط الطل فوق النرجس ... أم نسيم الروض تحت الحندس
أم قريض جاءني من ملك ... مالك بالبر رق الأنفس؟
يا جمال الموكب الغادي إذا ... سار فيه، يا بهاء المجلس!
شرفت بكر المعالي خطبة ... بك، فانعم بسرور المعرس!
وارتشفت معسول ثغر أشنب ... تجنيه من مجاج ألعس!
واغتبق بالسعد في جفن المنى ... يصبح الصنع دهاق الاكؤس!(13/73)
فاعترض الدهر فيما شئته ... مرتقي في صدره لم يهجس!
ولكن هل أنساه ذلك ولاّدة ومحاسنها، أم قرطبة ومساكنها؟
كلا! فلم يزل صاحبنا مشغوفاً بهذه وبتلك، وأشعاره أكبر دليل على ذلك. فكلما حانت له فرصة، أو هزته نشوة، قال فيها أقوالاً تذيب الفؤاد.
فلقد تشوق إلى قرطبة وساكنيها بقصيدة تدل على حنينه لها ولمن فيها، فقال:
على دارة الشرقي مني تحية ... زكت وعلى وادي العقيق سلام
ولا زال روض بالرصافة ضاحك ... بأرجائها يبكي عليه غمام!
معاهد لهو لم نزل في ظلالها ... تدار علينا للسرور مدام
زمانٌ رياض العيش خضر نواعم ... ترف وأمواه النعيم جمام
فإن بان مني عهدها فبلوعة ... يشب لها بين الضلوع ضرام
تذكرت أيامي بها فتبادرت ... دموعي كما خان الفريد نظام!
ومن أجلها أدعو لقرطبة المنى ... بسقي ضعيف الطل وهو رهام!
محل نعمنا بالتصابي خلاله ... فأسعدنا والحادثات نيام!
فما لحقت تلك الليالي ملامة، ... ولا ذم من ذاك الحبيب ذمام!
وكان يبلغه عن بني جهور ما يسوءه في نفسه وقرابته في قرطبة، فقال يخاطبهم:
بني جهور أحرقتمو بجفائكم ... فؤادي؟ فما بال المدائح تعبق!
تعدونني كالعنبر الورد، إنما ... تفوح لكم أنفاسه حين يحرق!
وأما أمداحه في المعتضد بن عباد فشيء كثير جليل. وأذكر فقط بيتين أرسلهما إليه مع هدية من باكورة التفاح، وهما:
يا من تزينت الريا ... سة حين ألبس ثوبها!
جاءتك جامدة المدا ... م، فخذ عليها ذوبها!
وقد كتب عنه إلى صهره الموفق أبي الجيش بن مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية المعروفة الآن بجزائر الباليار:
عرفت عرف الصبا إذ هب عاطره ... من أفق من آنا في قلبي أشاطره
أراد تجديد ذكراه على شحط ... وما تيقن أنى الدهر ذاكره(13/74)
ينأى الزار به، والدار دانية ... يا حبذا الفال لو صحت زواجره
خلي، أبا الجيش، هل يدنو اللقاء بنا ... فيشتفي منك طرف أنت ناظره
قصاره قيصر أن قام مفتخراً ... لله أوله مجداً وآخره
قلت فيما تقدم أن ملوك الطوائف كانوا منقسمين على أنفسهم، وأن الحرب كانت دائرة بينهم. فإليكم مثالاً واحداً مما يتعلق بابن زيدون. وذلك أن الحرب وقعت بين المعتضد صاحب اشبيلية، وبين ابن الأفطس صاحب بطليوس، فانهزم ابن الأفطس هزيمة فظيعة، وخسر خسارة جسيمة، فقال ابن زيدون يهنئ المعتضد:
ليهن الهدى إنجاح سعيك في العدا ... وإن راح صنع الله نحوك واغتدى!
وبشراك دنيا غضة العهد طلقة ... كما ابتسم النوار عن أدمع الندى!
دعوت فقال النصر. لبيك ماثلاً، ... ولم تك كالداعي يجاوبه الصدى!
وأحمد عقب الصبر في درك المنى، ... كما بلغ الساري الصباح فاحمدا.
ولما اعتضدت الله كنت مؤملاً ... لديه بأن تحمي وتكفي وتعضدا.
وجدناك أن ألقحت سعياً نتجته، ... وغيرك شاو حين أنضج أرمدا.
سل الخائن المغتر: كيف احتقابه ... مع الدهر عاراً بالفرار مخلدا؟
رأى أنه أضحى هزبراً مصمماً! ... فلم يعد أن أمسى ظليماً مشردا!
يود إذا ما جنه الليل أنه ... أقام عليه آخر الليل سرمدا!
وأصبح يبكيه المصاب بثكله ... بكاء لبيد حين فارق أربدا.
هذا مع أن ابن زيدون سبق له مدح ابن الأفطس بمديحة غراء في قصيدته التي يقول فيها:
لبيض الطلى ولسود اللمم ... بقلبي مذبن عني لمم!
ففي ناظري عن رشادي عمم، ... وفي أذني عن ملامي صمم!
مليك إذا طاولته الملوك ... حوى الخصل، أو ساهمته شهم.
فأطولهم بالأيادي يدا ... وأثبتهم ف المعالي قدم.
وأروح، لا مبتغي رفده ... يخيب ولا جاره يهتضم.
أبوه الذي فل غرب الضلا ... ل ولاءم شعب الهدى فالتأم.
فلا سامي الطرف إلا أذل ... ولا شامخ الأنف إلا رغم.(13/75)
تقيل في العز من حمير ... مقاول عز جميع الأمم.
نجوم هدى والمعالي بروج، ... وأسد وغى والعوالي أجم.
أبا بكر أسلم على الحادثات ... ولا زلت من ريبها في حرم!
وأني لأصفيك محض الهوى ... وأخفي لبعدك برح الألم!
ولا غرابة في ذلك. فالملك عقيم، وتصاريف السياسة تقضي بالتغيير من حال إلى حال، خصوصاً إذا انقسمت أمة من الأمم على نفسها، وخاضت في غمار الخطوب والفتن. وفوق ذلك أفليس التقلب من مديح إلى هجاء ومن ملام إلى سلام، هو سجية من سجايا الشعراء الكرام وغير الكرام.
فلما مات المعتضد بن عباد وتولى الملك ابنه المعتمد ابن عباد كان لابن زيدون عنده تلك الكرامة وهذه الحفاوة، تدلنا على ذلك شهادة التاريخ ويؤيدها قول ابن زيدون نفسه في رثاء المعتضد ومخاطبته روحه بعد دفنه.
أعباد، يا أوفى الملوك لقد عدا ... عليك زمان من سجيته الغدر!
فهلا عداه أن علياك حلية ... وذكراك في أردان أيامه عطر؟
أأنفس نفس في الورى أقصد الردى ... وأخطر علق للهدى اقبر الدهر؟
فهل علم الشأو القدس أنني ... مسوّغ حال ضل في وهمها الفكر؟
وإن متاتي لم يضعه محمد ... خليفتك العدل الرضا وابنك البر
وأرغم في بري أنوف عصابة ... لقاؤهم جهم ومنظرهم شزر؟
إذا ما استوى في الدست عاد حبوة ... وقام سماطاً خلفه فلى الصدر،
ومن المعلوم أن ابن زيدون هو الذي دبر دولة المعتضد واظهر صولته وأغراه بأعدائه وزين له الإيقاع بعماله، ووزرائه فغدا شجا في صدورهم، ونكداً في سرورهم، فلما آل الأمر إلى المعتمد. قام حساده وخصومه وسعوا لديه في النكاية به، ثم رموا إليه برقعة فيها قصيدة طويلة أولها:
يا أيها الملك العلي الأعظم ... اقطع وريدى كل باغ ينئم!
واحسم بسيفك داء كل منافق ... يبدي الجميل وضد ذلك يكتم!
وهي قصيدة طويلة تتألف من 27 بيتاً كلها إغراء بابن زيدون، على سبيل التصريح(13/76)
المفهوم. ولكن المعتمد كان أعقل من ابن جهور، فلم يصغ لتلك النميمة، ولم تنفع لديه تلك السعاية، فقل في صدهم ورد كيدهم في نحرهم.
كذبت منا كم صرحوا أو جمجموا ... الدين أمتن والسجية أكرم!
خنتم ورمتم أن أخون وربما ... حاولتم أن يستخف ململم
وأردتم تضييق صدر لم يضق ... والسمر في ثغر النحور تحطم
وزحفتم بمحالكم لمجرب ... ما زال يثبت للمحال فيهزم
أني رجوتم غدر من جربتم ... منه الوفاء وظلم من لا يظلم
أنا ذلكم، لا البغي يثمر غرسه ... عندي ولا مبنى الصنيعة يهدم
كفوا وإلا فارقبوا إلي بطشة ... يلقى السفيه بمثلها فيحلم
فلما بلغ ابن زيدون ما راجعهم به وتحقق حسن مذهبه وعلم أن حياته قد أخفقت، وسعايتهم ما نفقت، وسهامهم تهزعت، ومكائدهم تبددت وتوزعت.
قال ينمدح المعتمد ويعرض بإعاديه بقصيدة طويلة مطلعها:
الدهر، إن سأل، فصيح أعجم ... يعطي اعتباري ما جهلت فأعلم
ومنها
ولكم تسامي بالرفيع نصابه ... خطراً فناصبه الوضيع الالأم
ومنها
قل للبغاة المنبضين قسيهم ... سترون من تصميه تلك الأسهم
ثم مدح المعتمد - إلى أن قال:
امطيتني متن السماك برتبة ... علياء منكب عزها لا يزحم
وتركت حسادي عليك وكلهم ... شاكي حشى يدوي وأنف يرغم
نصح العدا في زعمهم فوقمتهم ... والغش في بعض النصائح مدغم
وثناهم ثبت قناة أناتهم ... خلقاء يصلب متنها إذ يعجم
وزهاهم نظم الهراء فكفهم ... نظم عقود السحر منه تنظم
أشرعت منه إلى لغواة أسنة ... نفذت وقد ينبو الطرير اللهذم
فرق عوت فزأرت زأرة زاجر ... راع الكليب بها البسبنتي الضيغم(13/77)
ياليت شعري هل يعود سفيههم ... أم قد حماه النبح ذاك الأكعم
لي منك، فليذب الحسود تلظياً، ... لطف المكانة والمحل الأكرم
وشفوف حظ ليس يفتأ يجتلي ... غض الشباب وكل غض يهرم
لم تلف صاغيتي لديك مضاعة ... كلا ولا حق اصطناعي الأقدم
بل أوسعت حفظاً وصدق رعاية ... ذمم موثقة العرى لا تفصم
فليخرقن الأرض شكر منجد ... منى تناقله المحافل متهم
عطر هو المسك السطيع يطيب في ... شم العقول أريجه المتنسم
فإذا غصون المكرمات تهدلت ... كان الهديل ثناءها المترنم
الفخر ثغر عن حياضك باسم ... والمجد برد من وفائك معلم
فاسلم مدى الدنيا فأنت جمالها ... وتسوغ النعمى فإنك منعم
واستقر المعتمد به في وزارته فكان أحد وزرائه الثلاثة الأكابر المثناة وزارتهم (أي أحد الثلاثة الذين يلقب كل واحد منهم بذي الوزارتين) والآخران هما ذو الوزارتين ابن عمار وذو الوزارتين ابن خلدون (جد صاحب التاريخ المشهور).
خرج الثلاثة في أحد الأيام من اشبيلية إلى منظرة (قصر خلوى) لبني عباد بموضع يقال له الفُنت (تعريباً للفظ اسباني وهو متنزه تحف به مروج مشرقة الأنوار، متنسمة الأنجاد والأغوار، متبسمة عن ثغور النوار. في زمان ربيع سقت الأرض السحب فيه بوسميها ووليها. وجعلتها في زاهر ملبسها وباهر حليها. وارداف الربى قد تأزرت بالأزر الخضر من نباتها، وأجياد الجداول قد نظم النوار قلائده حول لباتها، ومجامر الزهر تعطر أردية النسائم عند هباتها. وهناك من البهار، ما يزري على مداهن النضار، ومن النرجس الريان، ما يهزأ بنواعس الأجفان. وقد نووا الانفراد للهو والطرب، والتنزه في روضي النبات والأدب. وبعثوا صاحباً لهم يسمى خليفة هو قوام لذتهم، ونظام مسرتهم، ليأتيهم بنبيذ يذهبون الهم بذهبه في لجين زجاجهن ويرمونه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه. فجلسوا الانتظار، وترقب عوده على آثاره. فلما بصروا به مقبلاً من أول الفج بادروا إلى لقائه، وسارعوا إلى نحوه وتلقائه. واتفق أن فارساً من الجند ركب فرسه فصدمه، ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه، وكسر قمصالالنبيذ الذي كان معه، وفرق(13/78)
من شملهم ما كان الدهر جمعه. ومضى على غلوائه راكضاً حتى خفي عن العين، خائفاً من متعلق به يحين بتعلقه الحين. وحين وصل الوزراء إليه تأسفوا عليه وأفاضوا في ذكر الزمان وعدوانه، والخطب وألوانه، ودخوله بطوام المضرات، على تمام المسرات، وتكديره الأوقات المنعمات، بالآفات المؤلمات.
فقال ابن زيدون:
أنلهو والحتوف بنا مطيفه ... ونأمن والمنون لنا مخيفه؟
فقال ابن خلدون:
وفي يوم وما أدراك يومٌ ... مضى قُمصالنا ومضى خليفة!
فقال ابن عمار:
هما فخارتا راح وروح ... تكسرتا فأشقاف وجيفه.
ولابن زيدون مدائح في المعتمد بن عباد كلها درر وغرر، وآيات بينات، وله معه مداعبات، ومطارحات ومساجلات. فتارة يشوقه إلى تعاطي الحميا في قصوره البديعة، وتارة يرسل له التفاح ويكتب عليه الأشعار، يدعوه إلى تناول العقار، وتارة يهينه، وأخرى يمدحه. وله بيتان قد بلغا حد الإبداع في هذا الباب. قال يخاطبه:
مهما امتدحت سواك قبل فإنما ... مدحي إلى مدحي لك استطراد
يغشى الميادين الفوارس حقبة ... كيما يعلمها النزال طراد
فما أحسن هذا التنصل بالتمرن على المديح، حتى إذا جاد وبلغ المراد أهدى ثمرته إلى ابن عباد.
هذه قطرة من بحر من بحور شعر ذلك الفرد. وأما نثره، فشيء بعيد حصره. ومما يجهله كثيرون أنه ألف كتاباً في التاريخ، جعله ابن حزم من مفاخر الأندلس، وقال أن أبا الوليد بن زيدون ألف كتاب التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس على منزع كتاب التعيين في خلفاء المشرق للمسعودي. وقد نقل صاحب نفح الطيب سطراً أو سطرين عن هذا الكتب الذي لم يبق له أثر ولا عين.
وما زال ابن زيدون يتشوق لقرطبة ولمن فيها ويعمل لدى المعتمد بن عباد حتى جعل قرطبة منتهى أملهن فسعى في مداخلة أهليها، ومواصلة ذوي الكلمة فيها. لأنه رأى عدم(13/79)
الفائدة، في غير الحيلة والمكايدة، لاستمساك أهلها بدعوة الخلافة وأنفتهم من زوالها عنهم وانطماس رسومها في بلدهم فلما فاز بالمرام وانتظمت تلك العاصمة الضخمة في ملكه. ذهب إليها مسرعاً واهتم بتدبير شؤونها. هنالك جاشت نفسه بالفخر على سائر ملوك الطوائف. فقال:
من للملوك بشأو الأصيد البطل، ... هيهات جاءتكم مهدية الدول!
خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت ... من جاء يخطبها بالبيض والأسل
وكم غدت عاطلاً حتى عرضت لها ... فأصبحت في سرى الحلي والحلل.
عرس الملوك لنا في قصرها عرس ... كل الملوك به في مأتم الوجل.
فراقبوا عن قريب! لا أبالكم، ... هجوم ليث بدرع البأس مشتعل
أما ابن زيدون، فقد عاد قرير العين إلى وطنه وأهله وكانت له شيعة كبيرة في قرطبة، فارتفع جده، وزاد إقبال الدنيا عليه، وبلغ حظوته عند المعتمد درجة لا يطمع فيها.
فحينئذ سعي في هلاكه صاحباه ابن مرتين وابن عمار، وتلطفا في إبعاده وإبعاد ابنه من بعده ليخلو لهما الجو، ولينفردا بالاستئثار بابن عباد. ولقد ساعدتهما الظروف.
فقد وقعت فتنة في اشبيلية واضطر ابن عباد للتعجيل بإرسال جيش كثيف إليها تحت قيادة ابنه سراج الدولة بن عباد. فسول ابن مرتين وابن عمار لابن عباد أن يرسل ابن زيدون مع سراج الدولة وتلطفا في تفهيم السلطان أن ذهاب ذي الوزارتين فيه حقن للدماء، وحفظ للنظام، لما له من المكانة العالية والجاه الرفيع، ولأنه محبوب لدى جميع القلوب. ثم وسوسا له بأن المصلحة كل المصلحة هي في وجود ابن زيدون الوزير العاقل المدرب المحنك المجرب بجانب سراج الدولة الذي هو قرة عين الملك، ومطمح الأنظار لبقاء البيت العبادي.
وما زال الرجلان ينسجان على هذا المنوال حتى أفلحا خصوصاً لغياب ابن زيدون في مرض ألزمه البيت.
صدر إليه الأمر بالذهاب ولم يعذره السلطان في التوقف لما ألم به من الآلام. فخرج منها مع الحاجب سراج الدولة بن عباد والجيش متوجهين إلى اشبيلية. وكان ذلك في يوم 13 ذي الحجة سنة 462. وخلف في قرطبة ابنه الوزير الكاتب أبا بكر بن زيدون، ولكن(13/80)
صاحبينا (بن مرتين وابن عمار) ما زالا يعملان لدى ابن عباد حتى صدر الأمر إلى أبي بكر بن زيدون أيضاً بأن يلحق بأبيه في اشبيلية. حينئذ خلا لهما الجو فاستأثرا بالأمور كلها وانفردا بتدبير الدولة بلا مشارك لهما في أهوائهما ولا معارض لهما في أغراضهما.
وكأن زوال دولة ابن عباد كان مقدراً على يد هذين الرجلين. فابن مرتين، يكفي في التعريف بمراميه أنه ابن مرتين أي أنه من أصل غير عربي، فإن جده رجل اسباني يسمى وأما ابن عمار فقد أنكر فضل ابن عباد وشق طاعته وسعى في الفساد والخراب وخرق العهود وخان واتعب ابن عباد حتى أوهي دولته، على ما هو معروف ومشهور.
أما ابن زيدون وهو في اشبيلية، فلم يطل الأمد به بعد لحاق ابنه به. فكأنه جاء ليكفنه ويدفنه بها في صدر رجب سنة 463 حينئذ تولى منه كهل لن يخلف الدهر مثله جمالاً وبياناً وبراعة وظرفاً.
وهو عند أولي التحقيق في النظم أمد طلقاً وأحث عنقاً، فلا يلحقه فيه تقصير، ولا يخشى رهقاً. ولما وصل خبره إلى قرطبة، وله فيها عشرة كبيرة وأشياع كثار، تناعوه وحزنوا عليه لأنه كان منهم، هاوياً إليهم، حدباً عليهم، وليجة خير بينهم وبين سلطانهم الحديث الولاية.
فأراد السلطان أن يترضاهم فأرسل لأبنه (أي أبي بكر بن زيدون) وقربه إليه، ورقاه في مراتب والده، حتى أحظاه بالوزارة. وقد اغتنم هذا فرصة ما وقع من ذي الوزارتين بن عمار من الخروج على ابن عباد فأوغر صدر ابن عباد عليه وما زال يعمل لديه حتى كان سبباً في هلاك ابن عمار على ما هو معروف ومشهور.
يقولون مات ابن زيدون. فهل تظنون أن هذا قد كان أو يمكن أن يكون.
أنا لا أقول بالرجعة ولا أذهب إلى الخلود. ولكنني لا أصدق بأن ابن زيدون قد مات. لأن المؤرخين اختلفوا في موته، والاختلاف مدعاة للشكوك والظنون. فشمس الدين الذهبي يقول أنه مات سنة 463. وأما ابن بشكوال فإنه يجعل ذلك سنة 405. فإن صدقنا هذا الثاني لأنه أندلسي، فإننا نرى ابن بسام (وهو أندلسي) أيضاً يؤيد قول الذهبي الشرقي. فهذا شك أول.
ثم أنهم اختلفوا في موضع وفاته. فقال الذهبي أنها حدثت باشبيلية. وقال ابن بشكوال أن(13/81)
ذلك كان بالبيرة (وهي مدينة كبيرة بقرب غرناطة).
نعم إنهما اتفقا على دفنه بقرطبة. ولكن الرجل لا يمكن أن يكون قد مات في موضعين مختلفين وفي وقتين متباعدين. فذلك شك ثان نؤيده باستدلالات واستنباطات. وفوق ذلك فإن ابن بسام يؤكد لنا أن دفنه كان باشبيلية 0فهذا شك ثالث).
كيف يموت ابن زيدون وأقواله لا تزال ترن في المسامع وتدور في الأفواه؟
كيف يموت ذلك الذي لا يصح لأديب أو متأدب أن لا يروي له شيئاً من الأشعار؟
كيف يموت ذلك الذي نظم القصيدة النونية التي افتتحها بقوله:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا؟
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي حكم بعض الأدباء بأن من رواها ولبس البياض وتختم بالعقيق وقرا لأبي عمرو وتفقه للشافعي فقد استكمل الظرف.
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي سارت في البلاد، وطارت بين العباد، واشتهرت حتى صارت محدودة، فقيل ما حفظها أحد إلا مات غريباً.
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي تهافت كبراء الأدباء على معارضتها في حياة صاحبها وبعد موته (الذي يزعمون) ولم يقاربها أحد منهم إلى الآن بل بقيت الشهرة لها كما بقي الصيت لصاحبها (الباقي إلى الآن).
كيف يموت صاحب هذه النونية التي عارضها أبو بكر بن الملح وأراد أن ينازعه الراية، فقصر عن الغاية. وهذا مطلع قصيدته:
هل يسمع الربع شكوانا فيشكينا ... أو يرجع القول مغناه فيغنينا
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي أراد الصفدي أزمان الشباب أن يعارضها بمرثية لبعض أصحابه في صفد، وأولها
تحكمت بعدكم أيدي الثوى فينا ... وقد قامت بنادينا تنادينا
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي قصر عنها الأدباء فاحتمى بعضهم في ظلالها: واقتبس كلامها، فقد سدسها أحد علماء المغرب وهذا مطلع التسديس:
ماللعيون بسهم الغنج تُصمينا ... وعن قطاف جنى الأعطاف تحمينا(13/82)
تألق كان يحيينا ويضنينا ... تفرق عاث في شمل المحبينا
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ... وآن عن طيب دنيانا تجافينا
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي تلطف الشاعر المصري اللطيف وأعني به صدر الدين ابن الوكيل المتوفي سنة 706 بالقاهرة، فاقتبس من جواهر ذلك العقد النفيس ما حلا به موشحاً لطيفاً.
وأني أترك إلقاء هذا التوشيح لبعض أعضاء النادي الكرام ليكون في صوتهم الشجي وتلحينهم الرخيم. تشنيف للأسماع يحسن عنده الختام، والسلام.(13/83)
مشاهدات وخواطر
تسعة أشهر بمستشفى الهلال الأحمر البحري الباخرة بحر أحمر
بين الجرحى والمرضى والمهاجرين
بقلم سعادة العالم الدكتور محجوب ثابت بك المدرس الثاني لعلمي الأمراض والبكتريولوجيا بمدرسة الطب ومستشفى القصر العيني سابقاً والخبير في الأعمال الطبية أمام محكمة الاستئناف الأهلية العليا.
وَمَن لَم يَذُد عن حوضِه بسلاَحِه ... يُهَدَّم وَمَن لاَ يَظلِم النَّاس يُظلَم
تلكم حقيقة نطق بها ذلكم الشاعر الجاهلي الكبير زهير بن أبي سلمى المازني منذ مئات السنين، يثبت فيها أن الاعتداء طبيعة ثابتة في التكوين الحيواني يقضي بها ناموس الاحتفاظ بالبقاء، كما شرح ذلك العالم البيولوجي شارلس داروين في نظريته المشهورة أي ناموس الاقتتال للحياة أو ناموس تنازع البقاء. وقد أعان على هذا الناموس مختلف الآلات الحادة والأسلحة القاطعة التي اكتشفت في دفين الأرض منذ آلاف السنين. سواء كان ذلك في العصر المعروف بعصر الحجر أو بعصر النحاس أو البرنز أو الحديد مما هو مدون في أسفار علمي الجيولوجيا الطبقات الأرضية والباليونتولوجيا المتحجرات النباتية والحيوانية (أي علم الهَلك) وكأنما كتب عليها بقلم الزمان، أي التعدي على الضعيف ومحاربة الكفؤ للكفؤ، وقتال القرن للقرن، طبيعة ثابتة في الإنسان.
وقد أثبتت ذلك أيضاً الكتب السماوية بما هو معروف من قتل قابيل هابيل، فكأنما ولدا جد البشر قدسنا جريمة القتل وعلما منازعة الأقران للأقران وعصيا ربهما كما فعل من قبل أبوهما.
قال في ذلك جل شأنه وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضُكم لبعض عدوٌّ ولكم في الأرض مستَقَر ومتاع إلى حين
مما ضمنه شاعر المعرة وفيلسوف الإسلام في بيته المشهور:
أبوكم آدم سنَّ المعاصي ... وعلمكم مفارقة الجنان
قامت الحروب من قديم الزمان بين مختلف الأمم والأجناس وأهل الأديان المتباينة، ولتجدن(13/84)
كل صفحة من صفحات التاريخ قد كتب السيف فيها أغلب السطور، وكم قيت هذه الغبراء بزكيّ الدماء، وكم جالت في أوديتها الوحوش والأوابد، وكم سرحت العقبان والطيور والبوارح، تلتهم لحمان القتلى، وتأكل من أشلاء الشهداء.
وقديماً تحارب أعتق الأمم مدنية وأسبقها حضارة، وقديماً أغاروا على جيرانهم، فتلكم حروب الفراعنة مع الرعاة، وتلكم أغارات أشور وفارس على مصر، وتلكم حروب اليونان والفرس والتتار مع الصين والهند والعجم والعراق، والحروب البيونوكية بين رومه وقرطاجه، وهذه فتوحات الإسلام ومحاربة العرب للمعارضين من اليونان والرومان والعجم والفرنجة، وهذه الحروب الصليبية وحروب الترك من آل سلجوق وآل عثمان، وفتوح القسطنطينية وحروب نابليون التي أثارها في بادئة أمره باسم حقوق الإنسان، ثم انقلبت بعد إلى توسيع سلطانه وإخضاع الرؤوس المتوجة لكلمته. وقصارى القول أنه لم يمر على الإنسان حين من الدهر إلا وكان فيه للسيف وأسنة المران وقذائف النيران، القول الفصل لبلوغ المطامع، وإطفاء لهيب التعصبات الدينية والجنسية، قول عمد إليه الأولون فيما اختلفوا فيه، واقتدى به الآخرون، على حين وجود ما يسمونه محاكم التحكيم، وستذهب السنون وقصر الهاي قائم يزينه ذلكم الاسم الجميل قصر السلام ولكن للأسف لا يلجأ إليه إلا في نادر الظروف، ولا يغاث فيه مجتاح ولا ملهوف، حتى لقد حق قول أبي تمام:
السيف أصدق إِنباَء من الكتب ... في حدّه الحدُّ بين الجِدّ واللّعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والرّيب
تتوالى السنون وتتقادم العصور وفي كل يوم نشهد لقول أبي تمام آلاف الأمثال الناهضة على صحته، فكل يوم نسمع زمجرة القوى الغضبية الراسخة في النفوس وتسلحها بمتقن المدمرات، فكم أفتنّ القوم في آلات التدمير، وكم اخترعوا من وسائل إزهاق الأرواح مما يحصد بين غمضة العين وانتباهتها آلاف النفوس.
وقد نازع الشرقي عديد السنين محله في الحياة إزاء الغربي المهاجم ورأي يوماً له ويوماً عليه، وأخضع ما أخضع من مختلف الجنسيات والمذاهب، ودوّخ ما دوّخ من شاسع الأقطار والممالك، وخفقت أعلامه فوق متعدد البحار ومختلف الأقطار، حتى ظن المسلمون في وقت من الأوقات أنهم بلغوا من السلطان أعلى مكانه، وكنت ترى الفاتح العثماني(13/85)
والسيف في يده مطلاً على أسوار (ويانة) والعربي والرمح متنكباً به، غير هياب ولا وكل، قد بلغ أعالي مجرى الرون، لا يفصله عن أخيه التركي إلا قمم جبال الألب، حتى لم يبق إلا اليسير لإتمام قوس الهلال، ويضع الفاتح الأندلسي يده في يد الفاتح البيزنطي، ولكن لم تتم نعمة الله، ووقف المسلمون حيال أمم الغرب وشعوبه، وقفة الليث يحمي عن عرينه، لا يرتد عن قرنه إلا مخضباً بدم فريسته وذلك ما فعله بعض ملوك الأندلس كابن الأحمر ومن قبله الخليفة الكبير عبد الرحمن الناصر والفاتحون العثمانيون. وقبر السلطان مراد الخامس الذي صار منذ سنة مضت يخفق عليه العلم الصربي بسهل قصّووه يعد تمثالاً حياً لها الكفاح وذياكم النضال.
ولكن قضى القضاء على الدولة الإسلامية في الأندلس منذ خمسمائة عام وأخرج المسلمون من ديارهم، وتركوا الأموال والبنين بين أيدي العدو فنهب منها ما نهب، وسبي ما سبي، واستباح ما استباح، وعمّد ما عمد، وفرق بين المولود ووالده، وحال بين رضيع ومرضعه، وشيخ وعشيرته، ووضع السيف في الرقاب، وحول ما شاء أن يحول من بيوت كانت بالإسلام حافلة، ومدارس كانت بفلاسفته زاهرة، ومصائب حلت بالإسلام غرباً منذ خمسة قرون لا يزال (ناسور) جرحها يفرز صديد الأسف، ونواح أبي البقاء الرندي على الأندلس في مرثيته المشهورة لا يبرح يتردد صداه لدى كل ناطق بالضاد، وحوادث البلقان في العام المنصرم، وما حل بالإسلام في الرومللي، قد جددت تلكم الذكرى واهتاجت النفس، واستوقدت الضلوع، فليسمع المسلمون عولة أبي البقاء
دهي الجزيرة أمر لا عزاء له ... هوى له أحد وأنهد ثهلان
أصابها العين في الإسلام فارتزأت ... حتى خلت منه أقطار وبلدان
فسل بَلنسِية ما شأن مُرسيةٍ ... وأين شاطبة أم أين جَيان
وأين قرطبة دار العلوم فكم ... من عالم قد سما فيها له شان
وأين حِمصٌ وما تحويه من نُزَه ... ونهرها العذب فياض وملآن
وما يقوله أبو عبد الله بن الآبار القضاعي كاتب الأمير زيان صاحب بلنسية وقد أوفده مستنجداً بصاحب أفريقية أمير المؤمنين أبي زكريا بن أبي حفص:
يا للجزيرة أضحى أهلها جزراً ... للحادثات وأضحى جدها تَعسا(13/86)
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما ينسف النفس أو يستنزف النفسا
مدائن حلّها الإشراك مبتسماً ... جذلان وارتحل الأيمان مبتئسا
فمن دساكر كانت دونها حرسا ... ومن كنائس كانت قبلها كنسا
لهفي عليها إلى استرجاع فائتها ... مدارس للمثاني أصبحت دُرُسا
تلكم مصيبة كانت أعظم درس وأكبر عبرة، ولكن عميت بصائر القوم، فنسوا أسبابها، وراحوا على تخاذلهم وتنافروا وتنازعهم حتى دالت دول الإسلام إثر بعضها، فَدُر بعينك وقل أين بعدُ سلطان قرطبة وسلطان مراكش، وأين أمارة الجزائر، وأين تونس، وأين لا أين، زال الكل ولم تبق إلا أسماء مملكة في غير موضعها، ولولا أن اختار لهذه الأمم الإسلامية جماعة من الأغوار المساعير، فوقفوا بشطلجة وقفة مشهودة، لازدحمت دار الخلافة بخيل البلغار ورَجلهم، ولوطئوا مسجد أيا صوفيا بنعالهم، وتوجوا فردينند ملكهم بالتاج القسطنطيني كما كان وكانوا بذلك يحلمون، هذا وجماعة من الأمة منقسمون على اخوانهم يتمنون فوز العدو ونصرته، ولو كان في الخطب الأعم، كما كان بالأمس ملوك الطوائف ورؤساء العشائر بالأندلس كل يريد الملك لنفسه والسيطرة على الآخرين، فما كان في ذلك إلا هلكهم جميعاً، فما أشبه الليلة بالبارحة!!
ذاك وأنا نجتزئ بهذه الكلمة عن الإفاضة والاسترسال مع نفس تنفث ألماً.
وتسيل أسى. وتنقطع حسرة. وذكرى تجيش بالصدر. لغلطات ساسة كان في استطاعتهم أن يتلافوا هذا الاتحاد البلقاني الذي كادت ريحه تعصف بالدولة والخلافة. وكثيراً ما مدت أحدى دول هذا الاتحاد يدها طالبة إليهم الاتفاق على المسألة الكريدية مع حفظ الكرامة العثمانية وإبلاغ سكتهم الحديدية إلى سلانيك فما أصيخ لها ولا استمع. فحدث ما حدث وتعجل القوم خوض غمار حرب غشوم. على حين أن أولياء الأمور إذ ذاك سر حوا مائة وخمسين ألف جندي نظامي مستجمعين كل شرائط النصر وما النصر إلا من عند الله.
ونحن نقول أن ما وقع كان عاقبة تلكم الغلطات الفاضحة. وأي غلطات هناك بعد سياسة ولدت الاتحاد البلقاني ذلكم الاتحاد المدهش الذي لم يقع في حسبان أحد ما. حتى أن السلطان المخلوع لما انتهى إليه نبأ هزيمة الجيش العثماني أمام اليونان عند مفارقته قصر(13/87)
ألاتين بسلانيك ليقيم بقصر بكلربك سجيناً على ضفاف البوسفور وبلغه نبأ خفوق علم الصرب فوق مقبرة السلطان مراد الخامس وازدحام خيل البلغار بسهول لولو برغاس واستيلائهم على قرق كليسة وباقات الرياحين يقابلهم بها أهلوها بدلاً من مقذوفات البنادق والمدافع أخذه العجب واستولت عليه الدهشة وجعل يقول: كيف تركوا البلغار واليونان يتحدون؟
ولعمري لقد أصاب في تساؤله فإن الضغائن والأحقاد أيبست الثري منذ اثني عشر قرناً بين هاتين الأمتين. وقد أجمع مؤرخوا الإمبراطورية البزنطية على أنه لم يبق لها عدو غير البلغار على الرغم م كثرة أعدائها. ولذلك كان كل همهم وأول واجب على قياصرتهم أن يضربوا هذه القبائل البلغارية حتى لقد كان أكبر لقب يفخر به إمبراطرتهم هو لقب قاتل البلغار
نقول ولكن أبى الله إلا أن ينزل بدولة الخلافة هذه الكارثة النكراء والداهية الدهماء. فانبعثت نفوس المسلمين في جميع الأقطار. ونفضوا غبار الغفلة عنهم. ودبت روح الحمية فيهم. ورأوا أن من واجب الخلافة عليهم أن يعرفوها وقت الشدة. ويمدوا إليها يد المساعدة. وكان في طليعة الجميع المصريون ثم إخواننا الهنود. والفضل كله في همة المصريين راجع لسلالة تلك الأسرة العلوية الكريمة فقد قام أمرؤها قومة مباركة وتركوا مشيد قصورهم ليالي وأياماً. واستعاضوا عنها بحجرات القاطرات أصباحاً وإمساء.
وجابوا القطر طولاً وعرضاً ى يعرفون سآمة ولا تعبا. نخص بالذكر منهم دولتي الأميرين الجليلين البرنس عمر طوسون باشا والبرنس محمد علي باشا إذ كانت رياستهما احتفالات التبرعات أكبر داع للنجاح. وكانت للأموال التي جمعت أكبر معين للمجاهدين على استمرار جهادهم وأحسن عزاء، وأعظم آس لجرحاهم ومرضاهم.
كل الناس يعلمون ما قامت به لجنة الإعانة للمجاهدين التي رأسها الأمير الجليل البرنس عمر طوسون باشا من جليل الأعمال. وكذلك ما قامت به جمعية الهلال الأحمر المصرية برئاسة دولة الأمير شقيق الجناب العالي الخديوي.
والتي يرأس لجنتها التنفيذية الأمير الكريم البرنس يوسف كمال باشا. وترعاها أم المحسنين الموقرة والدة سمو الجناب العالي حفظهم الله فقد بعثت متعدد البعثات إلى(13/88)
الأستانة وغيرها لتخفيف ويلات هذه الحرب ومواساة جرحى ومرضى المجاهدين. وقد كان من بين هذه البعثات بعثتنا التي كان مركزها الباخرة 0بحر أحمر) وكانت هذه الباخرة من قبل نقالة للجيش العثماني والتجأت إلى السويس أثناء الحرب الإيطالية العثمانية. فرأى سمو الخديوي استعمالها كمستشفى لمداواة الجرحى والمرضى ونقلهم والمهاجرين من سلانيك إلى الجهة التي تعينها الدولة لجمعية الهلال الأحمر وقد طلب سموه إلى صاحب الدولة شقيقه رئيسها المفضال أن يعين للقيام بهذا العمل بعثة خاصة ويحول هذه الباخرة إلى مستشفى مستوف شرائط الصحة الحديثة. فكان لنا الشرف بأن عهد إلينا دولته القيام بذلك في أخريات أيام نوفمبر من العام الماضي فأتمرنا مسارعين لتحقيق رغبتين ساميتين. وتنفيذ إرادتين جليلتين. مهما كلفنا ذلك. وأمكننا بعون الله ثم بمساعدة حضرات أعضاء لجنة إدارة جمعية الهلال الأحمر وسعادة محافظ القنال أن نحول هذه الباخرة التي مكثت بمياه السويس عاماً كاملاً حتى كادت تبلى إلى مستشفى بحري تام المعدات.
ونكتفي بإيراد ما كتبه جناب الدكتور كاربنتر جراح المدرعة الدريدنوط الأمريكانية (تنسي) التي كانت راسية بثغر أزمير لحماية المسيحيين والمصالح الأمريكية حيث شرح حال المستشفى شرحاً وافياً في مجلة الجراحة العسكرية ذاكراً ما قامت به من الخدم نحو جرحى ومرضى ومهاجري الحرب البلقانية.
(البيان): انظر صفحة 550 فقد ترجمنا ثمت هذه الكلمة - ولكلمة الدكتور محجوب بك ثابت بقية سنأتي عليها في الأعداد القادمة:(13/89)
اكتشاف مصري
حول اكتشاف الدكتور رياض
(هذه أولى رسائل الدكتور أحمد رياض مكتشف (الفتوغرافية المخية) التي وعد أن يشرح بها اكتشافه وينشرها في مجلة البيان - وقد وعدنا كذلك أن سيتحف البيان في كل عدد من أعداده مبحثاً من مباحث العلوم الطبيعية والفلسفية النافعة فنشكر له الشكر كله هذه الهمم الكبار أكثر الله من أمثاله العاملين
1
تاريخ الأثير
شاهد العلماء في جميع مباحثهم عن الكائنات وأصلها أن الطبيعة لا تجيز العدم، وأن كلمة (فراغ) إنما هي كلمة نظرية لا تطابق الواقع.
ولما وجدوا أن بعض التغيرات التي تطرأ على بعض الأجسام من حركة تؤثر في أجسام أخرى على بعد منها من غير وجود الهواء بين الاثنين قالوا أنه لا بد من وجود مادة غير الهواء تتحرك حركة مستمرة بين الأجسام فتحدث التجاذب والتنافر بينهما، وهي السب في التوافق المشاهد أحياناً بين عملي جسمين غير متماسين.
وقد ضرب العلماء لتفسير هذه الحقيقة أمثالاً كثيرة، منها أن سفينتين على سطح البحر لا يمكن تأثير إحداهما على الأخرى إلا بتوسط المادة وما فيها من طاقة. وذلك بأن تتحرك إحداهما فتحدث أمواجاً متسلسلة في الماء يضرب آخرها السفينة الأخرى فتتحرك حركة في اتجاه مماثل. أو بأن تقذف مادة من أحدهما على الأخرى فتحدث فيها تغيراً. ومن غير هذين لا يمكن تأثير أية سفينة في البحر على أخرى فيه بعيدة عنها. وكذلك لا يمكن تأثير أي جسم على آخر بعيد عنه إلا بواسطة مادة تتحرك بين الاثنين فتصل بينهما. فإن لم يكن الهواء هو الواسطة في النقل فلا بد من وجود مادة أخرى تقوم بهذا العمل.
ولما كان التجاذب بين القطبين المتضادين، والتنافر بين القطبين المتجانسين في الكهرباء والمغناطيس واقعين بدون وجود الهواء بين الأجسام، فلا بد من أن هناك مادة كفيلة بهاتين الظاهرتين.
وقد سموا هذه المادة بالأثير نسبة إلى استمرار حركتها، وقالوا أن هذا الأثير موجود بين(13/90)
ذرات الأجسام، وفي جميع أنحاء العالم حتى فيما وراء القبة السماوية المكونة من غازات علمت للعام والخاص، وأنه هو البيئة التي فيها تسبح الكواكب وبدونه ما كانت تستطيع حركة.
وقد تغلغل بعضهم إلى القول بأنه هو أصل كهرباء الجو وافلوفيا المغنطيس بعدما أثبت ذلك ببراهين شتى.
وعندما انتهى هذا الاكتشاف إلى مسامع علماء علم النفس جعلوه أساساً لحركة الأعصاب التموجية، ونسبوا غليه نقل الرسائل من الجسم والحواس إلى المخ، وكانت نتائج أبحاثهم على هذا الفرض كلها معقولة.
وفي حداثة هذا الاكتشاف كان كل فريق من العلماء يعتقد أن هناك أنواعاً كثيرة للأثير، وأن الأثير الذي يحرك الضوء غير الأثير الذي ينقل الرسائل إلى المخ، إلى حد أنهم كانوا يتكلمون عن أثير الضوء وأثير الكهرباء وأثير الجسم كأنها أسماء تدل على أشياء مختلفة.
ومن ذلك أن الفيلسوف (اسحق نيوتن) قال أن هناك نوعاً من الأثير يتغير الضغط عليه فيسبب جاذبية الأرض، وأن هذه الجاذبية لا تترتب على غير ذلك. ولا أصل لها ألا هذا التغير في الضغط على الأثير ولكنه ترك هذه الفكرة حبراً على ورق ولم يذكرها في مؤلف له، وإنما نقلت هذه الفكرة عن الذين أطلعوا على بعض كتابته الخصيصة، أو عمن حادثوه من العلماء المعاصرين له.
وكان أتباع نيوتن لا يذكرون الأثير في تفسير جميع الظاهرات لطبيعية مثل تجاذب الأجسام وتنافرها، لشكهم في حقيقة ما فرضه أستاذهم من وجود جوهر يملأ العالم يسمى بالأثير.
أما العلماء الحديثون فيعتقدون أن الأثير هو جوهر متجانس في جميع أنحاء الكون، وأن أعماله هي التي تتغير على حسب الوسط الذي يعمل فيه أو على حسب مقدار تكثفه، وقد أثبت وجوده إثباتاً محسوساً في كيفية نقل الضوء. والذي اكتشف هذه الحقيقة هو العالم (هيوجينس). وقد أثبت غيره وجود الأثير من ظاهرات التشعع والضياء بأن أشعة الضوء لا تسير في مستقيمات بل هي مجموعة أقواس صغيرة جداً.
وأهم ما وصلوا إليه من هذا القبيل هو إثباتهم أن الضوء ليس بمادة بل عمل ناشئ عما في(13/91)
المادة من طاقة، وأن الهواء ليس بناقل الضوء من محل إلى آخر، وذلك بأنهم أحضروا ينبوع ضوء تخرج منه حزمة من الأشعة تمر داخل عدسات مرتبة بشكل معروف في علم الضوء، فتنقسم إلى حزمتين تضيء إحداهما أي لوحة إذا وقعت عليها مفردة، وتفعل الأخرى كذلك وحدها، وأما إذا وقعتا كلتاهما معاً على اللوحة وجد بينهما على اللوحة نقط غير مضاءة. ولا شك في أن عدم الضياء ناشئ من اتحاد ضياء الأولى بالثانية.
فاستنتجوا من هذه التجربة أن الحزمة الأصلية كأية حزمة ضوئية أخرى تتكون من حزمتين متضادتين في التأثير، فإذا سمينا إحداهما موجبة كانت الثانية سالبة.
ما دام لا يوجد في العالم بأسره مادتان إذا اتحدتا أعدمت إحداهما الأخرى فإنه لا يكون الضوء المكون من شيئين متضادين مادة أبداً لأن السلب والإيجاب من عوارض المادة.
وعلى أثر هذه التجربة ونتائجها قال (فريزنيل) أن الضوء هو نتيجة تنازع مادتين إحداهما الأثير. ووافقه على روح فكرته العالم المشهور (نيومان) ولكنه اختلف عنه في اتجاه التنازع. وقد عملت بعد ذلك تجارب كثيرة لإثبات هذه الحقيقة فأسفرت عن نجاح تام.
أما عدم قدرة الهواء على نقل الضوء فهذه فكرة واقعية أثبتوها بقولهم أن الهواء لا يستطيع أبداً نقل شيئين عملهما متناقض كما هي الحال في الضوء إنما يقدر فقط على نقل تذبذبات متجانسة كما هي الحال في الصوت.
ومن جهة أخرى ترى سرعة الضوء تساوي ملايين عدة من سرعة التموجات العادية التي يقوم بنقلها الهواء مهما كبرت سرعته في نقلها ولذلك لا يكون الهواء أبداً ناقلاً للضوء، وإنما يقوم بذلك غيره وهو ما أطلقنا عليه لفظة الأثير.
وقد شوهد أن سرعة الضوء تزيد إذا مر داخل أجسام غير الهواء وسببه أن هذه الأجسام تتحرك ذراتها حركة مستقلة بأكثر من سرعة حركة الهواء، فلذلك تعجل من سير الضوء وقد تنقص سرعته إذا كانت سرعة حركتها أقل من الهواء، وللأثير طاقة تقاس (في حال قيامه بنقل الضوء) بمقدار الحرارة التي تمتصها الأجسام من أشعة الضوء. لأن هذه الحرارة ناشئة من مقدار عمله. وله مرونة وكثافة محدودة أثبتت بتجارب شتى، وتوجد في كثير من الكتب العلمية الراقية التي تبحث في هذا الموضوع.
ومما روي عن (فاراداي) العالم المعروف إزاء هذا الاكتشاف أنه قال أن كل ما يشاهد من(13/92)
عمل في مناطق تأثير المغناطيس الكهربائية يحمله على القول بأن الأثير هو أصل قوى التجاذب والتنافر ومن غيره لا تكون.
وقال (تلفر بريستون) في كتاب له أن الأثير موجود بشكل غاز، وأنه مكون من جزيئات لكل مادة ولكنه لم يثبت ذلك غير أن بعض الفلاسفة استنتج من قيامه بالتجاذب والتنافر بين الأجسام أنه مكون من جزيئات.
والفكرة الغالبة أنه مادة متصلة متجانسة موجودة ككتلة واحدة مالئة للكون وقد بنيت جميع الاختراعات والاكتشافات الحديثة على حقيقة أن الأثير هو أصل كل حركة وتأثير وهو موجد العلاقة بين الأجسام، وأن له طاقة لا نهاية لها وأن أغلب الأجسام تحسن توصيله، بمعنى أنه يمكنه اختراقها والتجوال بين ذراتها. وفي فلسفة النشوء والتكوين أن العالم مكون من مادة وقوة أو مادة وطاقة وأن تحول الطاقة وانتقالها من نقطة إلى أخرى هو سبب كل ما في هذا الوجود من حركة، مهما كان نوعها وأن الأثير هو الموصل للحركة والتأثير الناشئين عن عمل الطاقة من جسم إلى جسم.
فالأثير إذن موجود في كل موضع، وداخل أي جسم وفيه تنتقل ذرات الجسم من نقطة إلى أخرى داخله لتكوين الحرارة أو للمغطسة أو للتكهرب كما هو معلوم في علم الطبيعة والكيمياء الطبيعية.
ومن ذلك أن الأثير موجود داخل جسم الإنسان، وكل حركة داخل الجسم تحدث فيه ذبذبة ينشأ عنها أمواج فيه تخترق الجسم إلى الخارج.
أما عمل المخ فليس إلا حركات تتحركها ذراته بنظام فتؤدي إلى العلم والشعور بصور ومعان والفضل في هذا الشعور للخلقة أو الطبيعية ويثبت حركة ذرات المخ احتياجه إلى التغذية ومرضا احتقان المخ وفقر الدم فيه، لأن التغذية لا تكون إلا لتعويض ما فقده من طاقة على العمل.
وعلى حقيقة تحرك ذرات المخ بنيت فنون كثيرة منها قراءة الضمير وتفسيره أن تذبذب المراكز المخية المنوطة بالتخيل يحدث ذبذبة في الأثير كما قلنا ينشأ عنها أمواج فيه تخترق الجسم حتى إذا وصلت إلى مخ ساكن مستعد لقبول الرسائل الخارجية تحدث في ذراته ذبذبة تؤدي إلى نفس المعنى المنقول لأن الطبيعة واحدة وخلقة المخ واحدة. وهذا(13/93)
مشاهد كثيراً في حياتنا العادية حيث يطرأ على فكر الإنسان شعور بما يفكر فيه غيره بدون قرينة أو أفكار متداعية فيسميه الإنسان إلهاماً ولكن الحقيقة ما ذكرت.
هذا هو الأثير وهذه بعض أعماله ومن لم يعتقد وجوده وأعماله فإنه لا مشاحة غير مستعد لقبول أية حقيقة
(يتبع)(13/94)
كشكول البيان
تفاريق - علمية، وأدبية، وتاريخية، وفكاهية_ونظرات_في سير مشهوري العلماء، والمخترعين - وشذرات_في أخبار العالم وأحداثه الحاضرة.
أرمينياس فامبري
لقد فقد عالم السياسة رجلاً عظيماً، وصحفياً مجرياً قديراً. كان معدوداً بين أساطين الصحافة. ونعني به أرمينياس فامبري الذي توفي منذ أيام قلائل وقد ناز الثانية والثمانين. ولا والله كان صمويل سميلز، المشهور بين الناس بكتابته عن حياة الأبطال وسر عظمتهم، يعيش اليوم بيننا، وينعم بالحياة مثلنا. لما ونى في التنويه بذكر رجل بدأ الحياة مجاهداً مناضلاً. وما فتئ يقطع كل عقبة، ويجوز كل كأداة، ويحمل في سباق الحياة على نفسه. حتى استطاع بقوة الدأب وروح المثابرة، أن يذلل دونه المصاعب والمشاق، إلى أن عد أخيراً في طليعة أبناء عصره.
كان لفامبري ولع غريزي بتعلم اللغات، فلم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى كان عليماً بكل لغات الغرب. ولكنه لم يقف عند ذلك. بل مابرح يقبل على تعلم اللغات الشرقية، حتى حذق عدة منها، ولا ننسى سياحاته الكثيرة في آسية الوسطى. وكان في كل أدوار حياته مدققاً بصيراً، وسياسياً ماهراً. وكثيراً ما هز أعصاب الأندية السياسية بنقده وحملاته. وقد زار فامبري انجلترة عدة زيارات، لقي في كلها دلائل الترحاب، وأمارات الود والإعجاب. وكان مقامه في أخريات أيامه مدينة بست عاصمة المجر، ومن هذا المعتزل كان يكاتب رجال السياسة ويقف على ماجرياتها وكان لدفاعه عن سياسة انجلترة ضد مطامع الروسيا أثر كبير في البلاد الانجليزية. وأن أنعام الملك إدوارد السابق في عام 1902 على فامبري بلقب قائد دليل واضح على عظم أعمل الرجل في سني حياته الحافلة بالحوادث.
الفوضى في الصين
لقد انتهت الثورة التي كانت في الصين بعد ما احتلت الجنود الشمالية مدينة نانكنج في أول سبتمبر الماضي، ولو لم يحدث بين القواد خلاف في أمر الزحف ووسائله لدخلت الجنود المدينة قبل ذلك بأسابيع عدة على أن الجنود إذ فتحت المدينة بدأت تقتل وتنهب، وراحت تفتك وتسلب، والضباط يشجعونهم ولا يبدون اعتراضاً ولا منعاً. ولم تكن الحرب ضد(13/95)
الثوار على شيء من النظام حتى ترفع في عين أوروبا من شأن حكومة الصين. وقد حدث في خلال فتح نانكينج حادث كاد يكون سيء العاقبة على الصين، وهو أن الجنود قتلت ثلاثة من اليابانيين، وداست العلم الياباني بالأقدام، ووقع غير ذلك من الأحداث الشبيهة بهذه، مما ألجأ حكومة اليابان إلى طلب غرامة تكون بمثابة اعتذار عما فرط من الجنود الصينية، وتقديم ديات إلى عشائر القتلى، وعقاب الجناة، فكفلت الحكومة الصينية الغرامة والديات ولكن القائد شينغ هسان الصيني في نانكينج رفض أن يقدم اعتذاره الشخصي على تفريط جنوده وكان اعتذاره مطلوباً، فلم يكن من اليابان إلا أن أرسلت بعض سفائنها الحربية إلى جوار نانكينج، وكان يخشى من حدوث شغب بين الفريقين لو لم يذعن لقائد إلى تقديم اعتذاره، وعاد السكون كما كان. أما حكومة اليابان ففي موقف صعب. فإن الشعب الياباني يظهر في كل يوم رضاه عن ثوار الجنوب، وقد حاول أخيراً أن يلجيء حكومته إلى اتخاذ خطة عدائية ضد حكومة الصين، ولم يستحسن منها طلباتها، وهو يحرضها على طلب جزء من الأراضي الصينية، ولعل حكومة الميكادو وشعبه ألب على الصين. ولكن الحكومة تعلم أنه لم يحن بعد الوقت الذي تلحف فيه وتتشدد، لأن ذلك يدعو إلى تداخل حكومات أوروبا في الأمر، وقد أدت حمية أنف الشعب الياباني إلى هديد حكومته وقتل كبير من كبارها، عرفوا عنه أنه يحابي الحكومة الصينية.
الحكومة في شخص
كتب كاتب انجليزي في إحدى الصحف التي تصدر في انجلترة يصف أخلاق إمبراطور الألمان. كيف أن الإمبراطور يفطن إلى كل شيء يجري حوله وإن تظاهر بأنه لا يرى منها شيئاً. ودليل ذلك أنه ذات مرة بينا هو عائد من أحد وجوهه، كان جماعة من العمال وقوفاً في طريقه فتعمدوا أن يدعوه يمر بهم في سكوت. ليثبتوا له سخطهم على الحكومة، ولكن الإمبراطور كأنما تبين سوء نيتهم، إذ خرج من بين جنود موكبه وقصدهم محيياً، ولبث على هذه الحال ينظر إليهم ويحدق فيهم البصر حتى اضطرهم إلى مقابلة تحيته بمثلها فحسروا عن رؤوسهم محيين، فلما عاد إلى مكانه من محفله هتفوا له.
قال الكاتب والإمبراطور جدُّ متقلبٍ، ولكن للتقلب حدوداً، والإمبراطور أطمع ما يكون في التألق في جو السياسة على حين أنه أخيب نصيباً منها وهو لا يني يؤكد للناس أنه يريد أن(13/96)
يعرف في الأجيال المقبلة بأنه غليوم السلمي ويؤكد لجيرانه أنه يود أن يعيش وإياهم في ظل السلم، ومع ذلك يوعدهم ويحذرهم ويقول لهم أنه لا يتأخر عن لقائهم في الميدان إذا أرادوا حرباً، وأنه ليخطب خطبه الدينية، والسيف إلى جنبه، وحمائله في نطاقهن وفي هيئته ما يدل على أنه يتجهز لتجريده.
الجراثيم
كتب السير ويليم رامزي ذلكم العالم الكيماوي المشهور موضوعاً في تحويل الجراثيم إلى العمل لصالح الإنسانية، وقد استشهد بأعمال الأستاذ روبرت براون أمير علماء النبات ومساعي الأستاذ لوب، وكذلك بمجهودات باستور وكثيرين ممن يجتهدون في تحقيق هذا الموضوع. وقال أن غرض العلماء من تحديد الجراثيم النافعة والجراثيم الضارة هو تقليل الوفيات، ولكن ليس ذلك كل ما في الأمر، فإن كانت حمى الملاريا من جراثيم في البعوض وكذلك الحمى الصفراء قد ثبت بالفحص أنها تنشأ من البعوض، ومرض النوم قد دلت الأبحاث على أن سببه جراثيم قتاله تنفذ إلى جسم المريض من عضات ذباب (التستسي) الفاشي في أفريقية، والوباء قد عرف اليوم أنه يحدث من عضة برغوث يعدى الجرذان، بلى أن كان كل ذلك قد اهتدى إليه اليوم، فلم يقف العلماء بعدُ عن السعي في اكتشاف الوسائل لقتل هذه الجراثيم وجعل سكان الأصقاع الكثيرة الجراثيم من ويلاتها آمنين.
الآلهة في أفريقية
في مقاطعة بحر الغزال قبيلة تسمىقريش أجا تدين بآله لها: أسد يعيش دائماً في البحر، شديد البأس، حتى يستحيل على أهل هذه القبيلة أن ينقذوا من يقع في قبضته دون أن يقدموا له ذبحاً أو ضحية، وقد اعتاد أهل القبيلة خوفاً من غضبه أن يقربو له قربانين في كل عام، الأول في بدء الفيضان، والثاني عند هبوطه، وقد روي أن شرطياً من رجال الحكومة هناك وقع في قبضة الأسد الله وكان يسبح في عرض البحر ولم يتركه حتى قربوا له القربان المطلوب.
الكلب البائع
مما يروى في مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية بائع صحف له كلبان يخدمانه الخدمة الكبرى إذ ينوبان عنه إذا غاب في بيع الصحف فيجلس أحدهما على مقعد في(13/97)
الدكان وبين فكيه غليون تبغ ويحمل نسخة من الجرائد اليومية ويلزم صاحبه مقعداً آخر ويحمل بين أسنانه قبعة صغيرة يحفظ فيها النقود، فإذا ابتاع أحد السابلة نسخة من إحدى الصحف استوى الثاني واقفاً يطلب النقود، ويبدو على الكلبين استعداد كبير للبيع ومهارة فائقة. وأما سيدهما فيركن لهما كل الركون.
مجمع الشيوخ
انعقد في الولايات المتحدة منذ أيام مجمع كبير للشيوخ الذين بلغو أرذل العمر، وقد بلغ مجموع أعمار الحاضرين عشرة آلاف عام، ولم يكن بينهم إلا شخص واحد لم يجز بعد السبعين وفيهم امرأة عجوز لها من العمر مائة وثلاثة أعوام، وكان هذا المجمع معداً لقضاء النزهة والرياضة، وهو يقام مرة في كل سنة في تلك البلاد إذ تؤلف جماعات تنفذ إلى كل مقاطعة لتدعو شيوخها وعجائزها وهم يعطون كل شخص شارة من الحرير فمن كان في سن السبعين أعطي شارة حمراء ومن كان في سن الثمانين أعطي زرقاء وتعطى شارة بضاء لمن تجاوزت أعمارهم التسعين.
وتكفل هذه الشارات لحامليها السفر والأكل وجميع اللوازم دون مقابل، وخادماً إذا استدعت الحال، حتى إذا اكتمل جمعهم وانتدوا شيوخاً وعجائز في ناديهم، قضوا اليوم في عيد يجمع الغناء والألعاب والقصف بأنواعه، وتعطى مئات الجوائز لأكبر الرجال سناً، وأكثر النساء عيالاً، وأصغر الرجال الجند الذين شهدوا الحرب بين الولايات المتحدة وانجلترة، وأصغر النسوة اللاتي قطعن الصحاري وجبن الموامي، وأشد الرجال صلعاً أو قرعاً وغير ذلك، ويشترك الحضور في الألعاب الرياضية، وتعمل مقارنات في الرقص للنساء اللاتي بلغن السبعين أو الثمانين.
برنارد شو ورواياته
كتب كاتب في صحيفة ألمانية عن برنارد شو الفيلسوف والروائي الانجليزي الأوحد، فقال: إن في صدر المستر شو روحين تترددان، فهو في رواياته الشاعر الذي ينظر إلى الحقائق بالنظر العادي، أما في مقدماته ومقالاته فهو المحرك السياسي الذي اضطربت مخيلته من حركات الأحزاب. وأنك لتجد في حال المستر شو صورة مضحكة فبينا تراه يحارب المذاهب الكمالية الخيالية وهو الشاعر، إذ به يؤيد: وهو السياسي: مذهباً منها ونعني به(13/98)
الاشتراكية نعم وقد يقولون أن السياسة والدين - وما الاشتراكية إلا جامعتهما_قد يزيغان في البحث أكبر العقول، ماذا يهمنا من برنارد شو سياسياً إذا كنا ننعم بثمرات قريحته شاعراً؟
وكتبت صحيفة فرنسية عن برنارد شو موليير القرن العشرين تقول دقق البصر في أية رواية من رواياته الجديدة يتبين لك أنها لا غضب الجمهور ولكن تسخط الناقدين، وطريقة المستر شو في رواياته أن يبسط للناس آراءه ويعرض عليهم مذاهبه، ويدعوهم إلى التفكير فيها، ثم يترك لهم الحرية في تحللها، فهو في ذلك ينحو منحى موليير، وقد أنشأ روايات هي آيات في الكوميديا.
الشرق والغرب
جاء في مجلة الشرق والغرب بقلم كاتب اجليزي كبير نبذة في تقدم المدنية هذه خاتمتها: إن مساعي السير ويليم جون ومونيير ويليم وماكس مولر قد أحدثت ثورة ساكنة في عالم الحياة الغربية وتطوراً كبيراً في أفكارها وإن (تغريب) الشرق ليظهر بأجلى مظاهره في نظام اليابان الحربي وهيئة حكومتها وكذلك (تهنيد) الغرب ليبدو لنا إذا نحن استطعنا أن ندقق التحليل والبحث في أفكار الغرب وأدب الغربيين لا سيما في دولة جوت وعالم شوبنهور والشرق لا يزال بعد سراً مجولاً وإن كانت شمسه لا تبرح تطل على العالم الغربي وتنفذ بضيائها من نوافذه. والحقيقة التي لا لجاج فيها هي أن المدنية الغربية قد أنهكت نفسها، وأن العالم قد أصبح اليوم على أبواب ثورة كبرى - كما قال فيلسوف هندي عظيم_ثورة ستسترد فيها أفكار الشرق القديمة ونماذج الكمال الماضية مكانتها الأولى. وستظهر على عظمة أوربا المادية والاقتصادية، وستسمو على سلطة الغرب الروحانية والفلسفية.
الشرطة والمظلات
في مصر وغيرها من البلاد لا يزيد لباس رجال البوليس الرسمي في الشتاء والأيام المطيرة عن (البدل السوداء) وفي أيام الصيف وحروره عن الأثواب البيض. على أن القائمين بنظام البوليس في هذا البلد قد اخترعوا لوقاية الشرطة من حرارة الشمس تلك القبعة التي تلبس فوق (الطربوش) ولكنها لا تغني كثيراً ولا تفيد أما مدينة (كلكتا) عاصمة(13/99)
الهند القديمة فإن الشرطي يعطى من إدارة البوليس مظلة كبيرة يتقي بها حرارة الشمس ولفحاتها، فضلاً عن بدلة بيضاء لا تمتص الحرارة. وليس في الأمر عجب. على أن عامة المصريين لو شهدوا رجال البوليس في الطريق وهم يحملون المظلات لاجتمعوا ضاحكين معجبين مهللين.
مأساة في البحر_حريق فولترنو
النار تلتهم، والعاصفة تعصف، في الليل الأحلك، وفي وسط بحر الظلمات - الأوقيانوس الأطلانطي_على مسافتين متساويتين من ثغري الهافر ونيويورك، والتلغراف اللاسلكي يقود إلى مواقف الخطر عشر سفن من سفائن البريد، تحاول - ولكن عبثاً_كل حيلة للإنقاذ. . . ذلكم تاريخ حريق فولترنو سفينة من سفن البريد. تحمل 3000 طن، ملك شركة انجليزية تسمة (يورا نبام)، تركت ثغر روتردام في هولانده في اليوم الثاني من شهر اكتوبر وتريد ثغر هليفا كس من أعمال كندا تحمل اثنين وعشرين مسافراً وثمانية وثلاثين وخمسمائة مهاجر، وثلاثة وتسعين من موظفيها وبحارتها.
فلما كان يوم الخميس التاسع من شهر اكتوبر شبت النار في مقدمتها وكان السبب كما يعتقدون طيش طائش رمي غير متعمد بقايا (سيجارته) فلم تلبث أن اشتعلت النيران في البضائع المختلفة وسلع المهاجرين ودنان الكحول. وفي الساعة الثامنة صبحاً طيرت السفينة بواسطة التلغراف اللاسلكي نبأ فاجعتها فلبي نداءها واستجاب لها عشر سفن مختلفات الأعلام أسرعن إلى مكان الخطر. هذا وفولترنو ترقص في الماء وفي النار، والمهاجرون فيهم خلق كثير من النساء والأطفال مكدسون في المؤخرة قد ذهبت نفوسهم هلعاً ورعباً، ولى القراء تقرير الربان كوسان قبطان سفينة (تورين) الذي لم تكد تصل إليه دعوى الإنقاذ من فولترنو في الساعة الثامنة والنصف حتى دفع إلى مكانها وغير سبيله في البحر سرباً. وفي هذا التقرير يصف القبطان رعب الغرقى وألم السفن التي ذهبت تطلب إسعاف السفينة وشجاعة الضباط وبأس البحارة. قال:
في الساعة الثالثة وربع أبرقت فولترنو تسأل الإسراع في نجدتها. أن النار كادت تبلغ سطح السفينة. تريد الأحتيال بكل الوسائل، وقد وصلت إليها سفينتا (سيدلتز) وكيرزست:
إن السفن الحاضرة لا تستطيع إرسال الزوارق لأن البحر خضم مضطرب فقد حاولت(13/100)
(سيدلتز) ولكنها اضطرت أن تترك حيلتها، وأنزلت السفينة (كرامانيا) زورقاً إلى البحر ولم ترسل فيه نوتياً ولا بحاراً بل حاولت أن تربطه بحبل حتى تبلغه إلى فولترنو، ولكنها رأت هذه الحيلة صعبة شاقة فاجتنبتها وقد عملت سيدلتز وكيرزست مجهودات كثيرة وحيلاً مختلفة فلم يجد ذلك كله نفعاً.
وفي الساعة الثامنة مساءً أرسلت فولترنو هذه الإشارة أنقذونا بأية تضحية فإن النار تضطرم وتنتشر وعلمنا من السفن الأخرى المستنجدة أن سطح فولترنو قد التهمته النار وأن تلغرافها اللاسلكي قد فسد فلا يصلح بعدها.
وفي منتصف الساعة التاسعة ليلاً كانت كرامانيا تشك في أن فولترنو ستعيش بقية اليوم.
وفي الساعة التاسعة رأيناها شعلة من النار وفي منتصف الساعة الحادية عشر قطعنا كل أمل في أصراخها وبلغ منا اليأس من إنقاذها، ولم يعد أحد منا يستطيع أن يخاطبها وقذف جماعة من الرجال بأنفسهم في لجج الأقيانوس فلم ينج إلا واحد انتشلته كرمانيا وهوى في اللج المتقاذف زورقان من زوارق فولترنو أنزلا إلى البحر يحملان خلقاً من ركابها، فانقلبا بمن فيهما واحتواهما الماء.
وفي الساعة الحادية عشر إلا ربعاً قبل وصول السفينة الفرنسية (ترانس اتلانتيك) بخمسة عشر دقيقة ابتعد قارب من قوارب الصيد عن سفينة (تورين) يحمل قبطانها الثاني مسيو روسلوت بعد شجار بين الضباط والبحارة وخلاف في إحراز هذا الشرف وذهب الملازم (ايزينيك) في زورق آخر، وانطلق الزورقان مختفيين في ظلمة ذلك الليل البهيم.
ومضت ثلاث ساعات، فلما كانت الساعة الواحدة ونصف بعد منتصف الليل رأينا مصباحاً يلوح هناك وإذا بمسيو ايزينيك قد عاد يحمل في الزورق خمسة من المسافرين وقد استطاع أن يخاطب السفينة فولترنو وقد حدثنا بما رأى، قال: أن المنظر رهيب مخيف لأن مقدمة السفينة ووسطها ليسا إلا شعلة من اللهب، والسفينة تهتز وتضطرب، وقد نقل المسافرون الأمتعة إلى الطرف الأقصى من المؤخرة وقد علا الضجيج واشتد الصريخ وقد اصطدم زورق الصيد الذي أرسله للنجدة من غير إرادته بجنب السفينة لإنحرافها واضطرابها، وفي الحال ترامى على الزورق بعض المسافرين ووثب إليها آخرون، واستشهد اثنان كانا يحاولان النجاة وتواريا تحت السفينة!!(13/101)
وأراد مسيو إيزينيك أن يعود إلى فولترنو مرة أخرى ولكن القبطان آثر أن يلزم الزورق ضابطاً آخر وهو المسيو كوتيه.
ولم تمض عشر دقائق حتى رجع المسيو روسلوت بثلاثة من المسافرين وقفل راجعاً إلى نجدة غيرهم واقترب من زورق وقف على جنبه خلق كثيرون وإذا بهم قد ترامو مثل حب الغمام على زورقه، ولم يسع المسيو روسلوت إلا ن يبتعد منقذاً سبعة عشر نقل إلى الزورق الآخر سبعة منهم وفي الساعة الرابعة سحراً كان مجموع من أنقذتهم (تورين) اثنين وعشرين هذا وقد اضطرب البحر وتقاذف لجه ونحن مرتقبون طلوع النهار لنواصل الإسعاف والإنجاد.
فلما أشرق النهار - وكانت الساعة السادسة_اقتربت السفن جميعاً من فولترنو وقد قل الفزع، وسهل بعض السهولة إنقاذ المنكوبين، وفي منتصف الساعة الثالثة حيت السفن حطام فولترنو ومحترق آثارها وملتهب معالمها وأخذت كل سفينة طريقها يحملن ثلاثة عشر وخمسمائة مسافر.
وشهداء هذه المأساة يبلغون المائة والأربعين، ولو لم يقم بين المسافرين ذلك الفزع الأكبر والرعب الأشد اللذان استوليا على النفوس لاستطاعت السفن أن تنقذ الجميع.
وهؤلاء المهاجرين جمع مختلف من كل الأجناس والشعوب فيهم الروس والبلغار والنمساويون والبولانديون والجاليشيون (من أهل جاليشيا) وكانوا يحملون معهم كل ثروتهم ومتاعهم. وقد اعتاضوا عن العرض المتحول المتغير بنعمة الحياة، وكلهم يخاطب زميله بالبيت المشهور:
ورأس مالك وهي الروح قد سلمت ... لا تأسفن لشيء بعدها ذهبا
غش البرتقال
حكمت محكمة السين في باريس منذ أيام على بائعة حكماً صارماً إذ قبض عليها وهي تلون قشر البرتقال الفج بلون صناعي لا يختلف عن اللون الطبيعي المشاهد في البرتقال الناضج.
ولعمري أنها مهارة غريبة من البائعة تستوجب حكماً خفيفاً لا صارماً وماذا كان قضاة باريس يفعلون إذا رأوا باعتنا يغشون في أبسط السلع غشاً فاضحاً؟(13/102)
واعجباً، لقد فاقونا حتى في الغش!(13/103)
حول المرأة
قام بين الجرائد المصرية ضجة جديدة حول تحرير المرأة ننتهزها نحن الآن فرصة للكلام على المرأة ومستقبلها، مع بيان مختصر عن حال النساء المسترجلات في انجلترة التي توافينا التلغرافات كل يوم عن مشاغباتهم للحكومة.
قد يتساءل الناس عند البحث عن حال المرأة ما هو مركز الأنثى مطلقاً في العالم الحيواني؟ وهذا ضروري لنعرف إذا كانت الطبيعة ترمي إلى تفضيل الذكر على الأنثى كناموس عام لها، أو هي الظروف فقط تفضل أحياناً الأنثى على الذكر في بعض الأنواع، وأحياناً أخرى تفضل الذكر على الأنثى.
بحث سير لانكاستر في هذا الموضوع، وخرج منه بأن الأنثى في الجملة أقوى وأكبر جثماناً من الذكر على عكس ما يعهده القارئ. وقد ذكر ضرباً من الأسماك بالغت الطبيعة في إظهار أنثاه على الذكر حتى صيرت الأنثى تزن ألف ضعف ما يزنه الذكر. وهناك نوع آخر من السمك يتضاءل فيه الذكر حتى يصير في حجم الخراطين على حين أن أنثاه تكبر إلى حد كبير.
وأنثى العقرب أكبر وأقوى من الذكر. فهي إذا شعرت أنها تلقحت منه انقضت عليه أكلته من رأسه إلى قدمه. وكذلك تفعل أنثى العنكبوت بذكرها. ولكنه أحياناً ينجو منها لأنه لا يكاد يشعر بانتهاء السفاد حتى يقفز عنها هارباً ناجياً.
وليست الحضانة وتربية الأولاد من واجبات الأنثى الطبيعية كما يتوهم بعض الناس ذلك.
فقد ذكر الجاحظ وحقق قوله العلماء الآن أن الظليم يرخم على بيض النعامة (يحضنه) كالدجاجة الرنقاء حين تسعى هي لمعاشها.
وجملة القول أن الطبيعة لا تؤيد من يذهبون إلى تفضيل الذكر على الأنثى في القوة الجسمية أو العقلية. أما في النوع الإنساني فالذكر أقوى من المرأة مطلقاً في القوة الجثمانية وهي أقوى منه نسبياً في القوة العقلية. لأن حجم دماغ المرأة بالقياس لجسمها أكبر من حجم دماغ الرجل بالقياس إلى جسمه.
وقد أثبت التاريخ أن الرجل كان القائم عليها في القرون الماضية مع شذوذ قليل ومثال ذلك أن في بعض القبائل الألمانية حكمت النساء الرجال حقبة طويلة من الدهر.
وكانت المرأة المصرية القديمة تنعم بكل حقوق الرجل على أن ذلك كان في عصر التمدن(13/104)
ولكن لا مراء في أن الرجل استعبد المرأة في كل زمن وحشيته وبربريته كما يفعل المتوحشون والمتبربرة الآن. فقد كانت المرأة ملكاً لرئيس الأسرة يتصرف فيها بيعاً وشراءً وقتلاً وعقاباً مثلما يتصرف في عبيده وأولاده وما ملكت يمينه.
وإذا نظرنا إلى المدنية الغربية الحديثة وجدنا أنها بدت بتحرير أفراد الأسرة التدريجي من سلطة الوالد.
فقد تحرر أولاد رئيس الأسرة من سلطته ثم تلاهم في ذلك العمال الذن يعملون في أرضه وتلا هؤلاء مواليه وتلا هؤلاء أخيراً المرأة.
وقد شاع النقاب والحجاب عند بعض الأمم الشرقية مثل العرب والروس. فلما أراد بطرس الأكبر قيصر روسيا أن يدخل المدنية بلاده التزم أن يحتم على أمته رفع النقاب إذ عده منافياً للمدنية في القرن السابع عشر. وبهذه المناسبة أقول أن بعض البرتقاليات ما برحن بعدُ يلبسن الحبرة غير منتقبات، وما زال الأسبانيول يحجبون المرأة عن ضيفانهم ويفردون لها مقاعد في دور التمثيل حتى لا تجالس الرجال. وهذا أثر من آثار المدنية الإسلامية الموروثة فيهم.
ويختلف شأن المرأة اليوم باختلاف الأوساط فهي عبد رق لزوجها أو أبيها بين المتوحشين ولكن مقامها يرتفع شيئاً عند الأمم المتبربرة، فلها شيء من الحقوق المدنية في الصين. وفي بعض بلاد التبّت حيث يشيع الضماد - وهو أن تتخذ المرأة أكثر من زوج واحد في وقت واحد_ترأس الأسرة وتتصرف في متاعها وأملاكها تصرفاً تاماً دون تداخل من أزواجها. أما عند الأمم المتحضرة فيختلف مقامها ولكنها سائرة يراُ حثيثاً نحو الحرية وإليك مثلاً المرأة الانجليزية فأنها كانت حتى عام 1882 لا تستطيع التمتع بأملاكها بعد الزواج. لأن عقد الزواج كان يسلبها هذا الحق وينقله إلى زوجها وقد عاش الأوروبيون كل هذا الزمن الطويل وهم لا يقرون للمرأة بحق الملك وذلك بخلاف المسلمين لأن الإسلام نص على حقوق المرأة في الملكية. وفي سنة 1886 منحت حق الوصاية على أولادها وكانت محرومة منه من قبل.
وفي سنة 1884 اعترفت لها المحاكم بجواز تمنعها من الذهاب إلى بيت زوجها. وهذا الحق غير معترف به للمرأة المصرية مسلمة كانت أم مسيحية. وأقبلت المرأة الانجليزية(13/105)
على دخول الجامعات من نحو سنة 1850 ولاقت من الصعوبات في ذلك ما لاقت، لأن مجالس الجامعات كانت تأبى دخول النساء وإذا أجازت دخولهن حرمت عليهن الامتحان ونيل الشهادات. ولكن دأب النساء ومثابرتهن وحميتهن وإقبالهن على العلوم، رفع عن أعين هذه المجالس غشاوة الجمود، ودفع أعضاءها إلى الإقرار بحق المرأة في دخول الجامعة. ومن ذلك العهد كثر خريجات الجامعات في الأدب والفلسفة والعلوم والحرف كالطب وغيره.
والدافع الأكبر لإقبال المرأة على التفوق في العلوم والآداب والصناعات التي قامت تزاحم فيها الرجال اليوم ليس مجرد حب العلم أو الغيرة من الرجل ومزاحمته في صناعاته. بل الحقيقة أن الحالة الاقتصادية في القرن التاسع عشر هي التي نبهت النساء إلى وجوب نزولهن في ميدان أعمال الرجال ومزاحمتهم.
وذلك لأن المرأة كانت إلى ما قبل هذا القرن تصنع بيديها كل المصنوعات التي احتكرتها الآلات في القرن التاسع عشر. فكانت تنسج المنسوجات وتحيك الثياب وتطحن الغلات إلى غير ذلك من الأعمال التي كانت تعملها بيديها وتعيش منها وحرمتها منها الآلات في هذا القرن. فوجدت نفسها على أثر اختراع هذه الآلات وانتشارها خالية اليد لا عمل لها في الدنيا يملأ فراغها ويكسبها مرتزقاً. لأن أصحاب المعامل والآلات يستعملون الرجال في إدارتها وقليلاً ما يستخدمون النساء. فنشأ من هذه الحالة جماعات من النساء عاطلات من كل عمل حاقدات على المجتمع ناقمات عليه نظامه. ومن هنا تجد أن الحركة النسائية اليوم بالغة أشدها في البلاد التي كثرت فيها المعامل مثل انجلترة وأمريكا. ولا تجد لها أثراً ضعيفاً في البلاد الزراعية مثل هولاندة والمجر.
ففي انجلترة تطالب النساء بالمساواة التامة بالرجل في حقوقه وواجباته. يطلبن حق الانتخاب في البرلمان والتوظف في وظائف الحكومة.
وللمرأة حق الانتخاب للمجالس البلدية في انجلترة، وللبرلمان وحق التوظف في الحكومة في السويد والنرويج وفنلاندة. فمنهن الأن عاملات في مصلحة البريد والتلغراف في أكثر الأمم الأوربية، ومنهن قاضيات وطبيبات ومحاميات في الولايات المتحدة وفرنسا.
وبين فئة من نساء أوروبا المتعلمات حركة غريبة متناهية في التطرف. فأنهن لا يكتفين(13/106)
بمطالبة المساواة بالرجال، بل يطلبن إلغاء الزواج الشرعي إذ يعدونه أثراً من آثار عهد الاستبداد بالمرأة أولاً ولأنه لا يتفق مع شرف الحب ثانياً.
يقلن أن المرأة التي تربط نفسها بعقد شرعي مع زوجها مكرهة على المعيشة معه ولو لم تحبه. وهذا في رأيهن بيع صريح للعرض. أما إذا تزوجت زواجاً حراً فإنها تبقى مع زوجها ما دام الحب مكيناً بينهما، فإذا انفكت عراه انفصلا.
ومن العلماء من يوافق على هذا الرأي، وقد ألف جرانت ألن في هذا المبدأ - وكان من دعاته - روايته المرأة التي فعلت.
ومنذ نحو أربع سنوات قرأت في جريدة انجليزية إعلاناً هذه مجمله فلان وفلانة تزوجا اليوم زواجاً حراً وبدآ المعيشة معاً في دار واحدة.
هذا مبلغ ما وصلت إليه الحركة النسائية في العالم المتمدن، فما هي العبرة التي نستخرجها من هذه الخلاصة؟
قبل البحث في ذلك يجب أن نبحث فيما إذا كانت الأسرة الأوروبية أسعد حالاً من أسرتنا، وفيما إذا كانت المرأة هي السبب الوحيد أو أحد الأسباب التي تدعو إلى ذلك.
أما عن المسألة الأولى فحسبنا دليلاً على ذلك أن عدد وفيات الأطفال أقل مما هو عندنا بكثير كما تثبت ذلك إحصائيات حكومتنا عن وفيات القاهرة. وبيوتهم أنظف من بيوتنا. والطلاق غير شائع بينهم شيوعه بيننا.
وقد تكون سعادة الأسرة في غير ذلك ولكن وجودها أرجح في هذه الشروط مما لو فشي الموت بين الأطفال وقذرت دورنا وكثر الطلاق بين الأزواج كما هي الحال بيننا.
والمرأة الأوروبية هي سبب هذه السعادة. فهي على شيء من العلم تعرف به كيف تجمع بين جدران دارها كل مستلزمات الصحة فتقتل الأمراض وتزول منها. ويصبح بيتها بما فيه من ترتيب ونظام مبهجة زوجها وداعية سروره فلا ينفر سارباً إلى (القهوات والبارات) كما نفعل نحن الآن. وقلة الطلاق عندهم ليست ناشئة من الدين كما يتوهم البعض بل من حسن تخير الرجل لزوجته وتخير المرأة لزوجها قبل الزواج وذلك بفضل التزاور.
وحجاب المرأة عندنا يمنع استيفاء هذه الشروط. فضلاً عن أن ذلك يضر بالمرأة نفسها لأن جسمها يحتوي على عضلات تحتاج إلى كثرة التمرين لكي تبقى سليمة صحيحة. فعضلات(13/107)
جسمها تضعف وتهن لقلة حركتها إلا بين جُدُر الدار، ودماغها يقف عن النمو لقلة ما يشغله من الأعمال العقلية، وأن إغفال وظيفة عضو في الجسم يعود بالضعف عليه.
ودليل ذلك أن الحشرات التي تعيش في الأمكنة المظلمة لا ترى في الضوء.
والديدان التي تعيش في أمعاء الإنسان لا تأخذ طعامها بفيها وتهضمه بأمعائها بل تمتصه بجلدها ويذبل جهازها الهضمي ويزول بالتدريج.
والأعضاء الأثرية التي في الإنسان الآن تدل على صدق هذه النظرية. فإن الزائدة الدودية هي بقية أثرية من المعي الذي كان يهضم الأطعمة النباتية وأصبح الآن ضئيلاً عاطلاً لا عمل له. لأن الإنسان استغنى عنه باستعماله المأكولات اللحمية المطبوخة. وما يحل بالمرأة من الضرر الناشئ من الحجاب يحل بأولادها أيضاً تبعاً لناموس الوراثة وأولادها إناثاً وذكراناً هم أفراد الشعب فالضرر إذن عائد على الشعب بأسره من جرّاء الحجاب.
ولقد خبط الكتاب وهرفوا في مسألة الحجاب. قام الرجعيون منا يؤيدونه بدعوى أن الدين الإسلامي يأمر به.
والحقيقة أن الحجاب ليس منشؤه الدين بل هو ناشئ من حاجات بيولوجية وفسيولوجية سيكولوجية. فإنه من العادات التي فشت قديماً بين أمم المنطقة الحارة من قبل أن تدين بأديانها الحاضرة. وإذا كان الحجاب قد تعدى هذه الأمم إلى أمم المناطق الباردة فإنما كان ذلك عن طريق التقليد لا غير ولذلك لم يطل عمره عندها كما حدث في روسية.
وسبب ذيوع الحجاب بين أمم المناطق لحارة أن الفتيات في هذه الأمم يدركن سن البلوغ الجنسي قبل أن تنضج عقولهن. أي وهن في الثانية أو الثالثة عشر من عمرهن. فتتنبه شهواتهن الجنسية قبل أن يكون لهن من عقولهن رادع يردعهن عن الوقوع في أشراك الشهوة. فأصبح من دواعي بقاء هذه الأمم أن يحجبن بناتهن عن الخروج والاختلاط بالرجال حتى يحفظن فروجهن. ولذلك لم ينتشر الحجاب في أوروبا مطلقاً إلا عند الأتراك والأندلسيين.
ولهذا أيضاً تزيد حرية المرأة كلما قربت من القطب الشمالي وتقل بقربها من خط الاستواء.
فليس الدين إذن هو منشأ الحجاب. وكل ما فعل أنه شرط لهذه العادة شروطاً تخفف مما(13/108)
عساه أن ينشأ عنها من الإضرار بالمرأة.
ونظامنا الحاضر يزيل حاجتنا إلى الحجاب، لا لأن الطبيعة البشرية تغيرت بل لأن القوانين الحاضرة تكفل بعقاب من يهتك عذراء عقاباً ليس وراءه عقاب.
ثم أن تربية البنت التي يرى لزومها حتى أنصار الحجاب تستدعي مخالفة مبدأ الحجاب إلى ما بعد سن البلوغ لأن البنت تضطر فيه أحياناً للذهاب إلى المدرسة في كل يوم إلى أن تبلغ الخامسة عشر أو السادسة عشر. وهذه هي السن التي قلنا أن الطبيعة دفعت الإنسان في أدوار همجيته إلى سن الحجاب فيها للبنات.
ولا بد أن القرئ قد أدرك الآن أن الحجاب قد اخترع لصيانة لبنت لا لصيانة الأن عدم لزومه للمرأة ظاهر لأنها كاملة العقل ولأنها متزوجة. فليس هناك خطر عليها من شهواتها. بل على العكس قد تتنبه شهواتها الجنسية أكثر بواسطة الحجاب لما ينجم عنه من الإنفراد والوحدة وخلو اليد من العمل.
والمعروف أن الاستنماء عند الذكور هو إحدى عادات الوحدة والراحة. فيجب إذن أن نخاف على المرأة من حجابها ونعده مثيراً لشهواتها الجنسية أكثر مما لو سمح لها بالخروج والاختلاط والاشتغال في الهواء الطلق بين مختلف الأعمال التي تفتح للأعصاب منفذاً تصرف فيه قواها.
وإذا صح ما ذكره مؤرخو العرب من أن النساء كن يجالسن الرجال وأن أحد الخلفاء منع ذلك صدقت نظريتنا من أن الحجاب كان يقصد به في الأصل صيانة البنت ل المرأة الراشيدة.
ونحن كدنا نعكس الغرض من الحجاب. فبينا نحجب نساءنا وهن الراشدات، إذ نسمح لبناتنا بالذهاب إلى المدارس سافرات.
والسبيل المعقولة لمعاملة نسائنا هي منحهن الحرية التامة وهن أزواج راشدات مثل أترابهن الغربيات. ومراقبة طبائعهن وهن صغيرات، فيمنعن من الاختلاط مع الشباب بين سني العاشرة والخامسة عشر مثلاً. ولكن مراقبتهن لا يجب أن تصل إلى ملازمتهن البيت ولا يخفى أن ما تحتاج إليه بنات الوجه البحري من الرقابة أقل مما يحتاج إليه بنات الوجه القبلي لأن اختلاف الطبائع يستدعي اختلاف المعاملة. فمن بين البنات من تصل إلى سن(13/109)
البلوغ عندنا وهي في الحادية عشر، وبينهن من لا تصل إلى هذه السن إلا بعد أن تجوز السادسة عشر.
وقد زرت أيام كنت بانجلترة مدارس يعلم فيها الفتيان والفتيات معاً في حجرات واحدة يجلس فيها الفتى بجانب الفتاة بغير ماريبة تمر بخاطر المعلم. ويبقيان كذلك إلى سن الخامسة عشر. والغرض من هذا الاختلاط أن تدمث أخلاق الفتيان وتشذب، وتخشن أخلاق الفتيات قليلاً وترجل. حتى إذا تزوجا في المستقبل لم تكن فرجة الخلاف في الأخلاق بينهما متسعة.
وأني أذكر هذه قصد إثبات تأخر سن البلوغ عند الغربيات وخلاف طبائعهن لطبائعنا. فإن مثل هذه المدرسة المختلطة لا تنجح أبداً عندنا.
وأعوذ فأبرئ الدين الإسلامي من الحجاب وأقول أنه أصبح غير لازم لمجتمعنا المصري.
سلامة موسى(13/110)
مستشفى الهلال الأحمر المصري البحري بالباخرة
بحر أحمر
بقلم الدكتور كاربنتر الجراح باسطول الولايات المتحدة
نقلاً عن مجلة الجراحة العسكرية عدد شهر سبتمبر مجلد 33 نمرة 3
على الرغم من أن الأسطول العثماني لم يقم بأي عمل يذكر في حربه الحاضرة مع الدول المتحالفة، فإن هناك مركباً واحدة جعلت مستشفى بحرياً قامت بخدم جلى وأدت فوائد عظمى. وذلك أن نقالة من نقالات الجيش سلمت إلى جمعية الهلال الأحمر ببورت سعيد، فكانت مدى اسبوعين لا غير مستشفى كاملاً تسبح بيضاء الطلاء في وسطها منطقة خضراء وتحمل في قمتها العليا راية ذات صبغة بيضاء يتوسطها هلال أحمر. ولقد تم ذلك بمباشرة همة الدكتور محجوب ثابت استاذ علم البكتريولوجيا بمدرسة الطب سابقاً. وهو لا يزال رئيس هذا المستشفى، وتحت أمرته قبطان تركي مع جماعة من بحارته.
وجمعية الهلال الأحمر في مصر معادلة عندنا لجمعية الصليب الأحمر، وعلى رأس الجمعية شقيق خديوي مصر البرنس محمد علي باشا، وقوام هذه الجمعية هي الأموال التي تجمع من تبرعات المحسنين، وجماعة الوطنيين المصريين.
وهذه المركب بنيت في انجلترة عام 1893 وهي باخرة حمولتها ثلاثة آلاف طن، وقبل أن تصير نقالة تركية كانت تسمى. س. س. رولاند وطول هذه الباخرة (357) قدماً وعمقها 43 قدماً والمنغمر منها في الماء 24 قدماً وقوتها 2250 حصاناً بخارياً تجعلها في سرعة 14 عقدة وإن كانت قوتها البحرية هي 12 عقدة ليس غير.
وسطح المركب العلوي منقم إلى قسمين سطح أمامي وسطح خلفي وفي كل منهما محل للبضاعة ينتهي إلى مخازن كبيرة سفلية وفي مقد السطح الأمامي محل صغير مغطى، فيه قمرات للبحارة.
وفي السطح الأوسط محل يحتوي على وابورين لطبخ الحساء والخضروات وفوق ذلك سطح فيه عدة للتطهير ويوجد بالسطح العلوي محل البوصلة وغرف القبطان الفنية أما السطح الأسفل ففيه عدة حجر خاصة بالشؤون الجراحية وذلك لقربها من حجرة العمليات وقد اقترح وباشر الدكتور ثابت عمل غرفة العمليات وعدة سرر خشبية بعضها بجوار(13/111)
بعض وبكل واحدة منها مرتبة ووسادة لنوم الجرحى كما أنه أوجد المتبرزات المصنوعة صنعاً بحيث توافق العادة التركية، وبجانبها الحمامات التي لكل منها حنفية وحوض صغير - هذا في وسط المركب، وبجانب المركب توجد حجرة الدكتور ثابت وحجرات أخر لخمسة من أطباء جمعية الهلال الأحمر وغرف للمرضى من الضباط.
وبهذه الجهة الصيدلية وحرة العملياتن وتحتوي الأولى على كمية وافرة جداً من الأدوية من بينها مجموعة وافية من مصل كمصل التيتوس (الكزّاز) والحمى الشوكية (التهاب السحايا الشوكي) والدفتريا والتقيحات ذات الميكروب السبحي والعنقودي ومادة التطعيم للحمى التيفودية والجدري أما حجرة العمليات فإنها وإن كانت صغيرة إلا أنها تشتمل طاولة عمليات جيدة وجهازاً للتعقيم والتطهير وجميع أدوات الجراحة وأدوات غسل الجروح ولوازم الضمادات المختلفة التي يحتاج إليها. وبين الصيدلية وحجرة العمليات مستحم بحوض كبير ومتبرز وهما خصيصان بالضباط.
أما السطح الخارجي العلوي ففيه غرف لضباط المركب وبالسطح الباقي وتحته عنابر عديدة للعساكر ينفصل بعضها عن بعض وذلك لكي يكون بعضها معداً لنساء وأطفال المهاجرين الذين كان معهم غالب الأحيان ما يلزمهم لفراش الممرضين من رجال الجيش التركي ولخمس وثلاثين ممرضاً من مرضى جمعية الهلال الأحمر وعلى نفس ذلك السطح يوجد جزء صغير ينفصل عنه به حجرات خاصة بالبحارة.
وبعد أن وصف آلة السفينة البخارية ومراجلها الثمانية ووسائط تخلل الهواء إليها قال حضرته: أن الباخرة في الحقيقة ما بنيت لتكون مستشفى حديث الطراز في كل أجزائه بل هي في الحقيقة نقالة عسكرية حولت إلى مستشفى وصارت مستجمعة لكل ما جعلت له من نقل جرحى ومرضى ومهاجرين والعناية بتمريضهم وبذلك أدت خدماً عظيمة.
وبعد أن أخذت اليونان والبلغار والصرب سالونيك أخذوا كل الجرحى والمرضى في مانستر وما جاورها أسرى فاعتني بهم في مستشفياتهم وقام على تمريضهم جراحون من الأتراك أيضاً وكان يوجد بسلانيك أيضاً نحو المائتين من الجنود التركية الذين أصيبوا بإصابات مختلفة في حادثة فرقعة بمخزن بارودها فأخذوا أسرى جميعاً.
وقد سمح لبعثة الهلال الأحمر المصري أن تنقل هؤلاء الجرحى وغيرهم من سالونيك إلى(13/112)
أزمير وأن تنقل أيضاً ما يربو على الثلاثين ألفاً من المهاجرين الآتين من الحدود، وقد كان سواد هؤلاء من الأولاد والعجزة. الذين البستهم هذه الحرب الغشوم برداً سميكاً من الحزن العرم. قدم هؤلاء وهم بين خمصان وعار وبين شاك وحاك لانتهاك عرض أو مقتل زوج أو ثكل بنين أو فقد رؤوم أو ضياع متاع أو ذهاب نعمة وليس بعجيب أن يعجز المرء عن معرفة أعداد أولئك الذين دهبوا طعمة لهذه الحرب بين ميت وقتيل ولكن الدكتور ثابت قدر ذلك بأكثر من مائتي ألف مسلم ذبحوا ذبحاً وقال أن هؤلاء ذهبوا ضحايا التعصب فأما المسيحية وأما السيف والنار والعارفون بتاريخ الحكم التركي في الأربعة القرون الأخيرة لا يعجبون إذا عمد البلغار والصرب بعد أن قاسوا ما قاسوا إلى استئصال مسلمي الرومللي ولو باسم المسيحية والدين:
ومما لا يزال في الآذان صداه ما يقال بأن كثيرين ممن كانوا في اطنه كانوا أعضاء لما يسمى بالعصابة البلغارية وهي قوة غير منتظمة تزحف وراء الجيش ويعزي غليها كثير من الأهوال وانتهاك الحرمات.
والحقيقة التي لا ريب فيها أن هؤلاء النسوة الأيامي والأطفال اليتامى أبرياء لا ذنب لهم ويجب أن يلقوا منا حناناً وعطفاً. ولقد قامت بعثة الهلال الأحمر بعمل جليل إزاء هؤلاء فعاملتهم معاملة البار الرحيم. وأنعشتهم بأنواع الغذاء هم وأولئك الجنود المرضى والمجروحين إذ أمكن الباخرة أن تنقل 1800 إلى 200 من المهاجرين و300 إلى 500 جرحى ومرضى من الجنود في نقلة واحدة مما لا حاجة الآن إلى بيان ما كان يبقى من الأوساخ والقاذورات بعد خمسة أيام تستغرقها في كل نقلة كهذه ونقل هذا العدد الجسم - أما في الأحوال المعتادة فيمكن هذه الباخرة حمل ثلثمائة من المرضى إلى خمسمائة من الجنود الجرحى والمرضى بدون ازدحام ولقد كان الدور الأعلى خصيصاً بالرجال وأما النساء والأولاد فكانت في الدور الذي يلي الدور الأعلى ولقد كان بين هؤلاء كثير من المرضى بالجدري والألتهاب الرئوي والروماتزم والتيفوس الطفحي بل كان بين المهاجرين نساء حبالى وضعن أثناء السفر حتى كان أطباء بعثة الهلال الأحمر في شغل دائم يبدأونه باكرين ولا يفرغون من العناء حتى تنقضي ساعات من الليل.
وقد اضطر أطباء بعثة الهلال الأحمر إجراء العيادات اليومية لعدة مئات من الجرحى(13/113)
المصابين بجروح ملوثة وبتر حديث إلى الإستعانة بسبعة من الجراحين بالجيش التركي ونحو ثمانين ممرضاً من الذين قدموا من سالونيك مع الجنود.
ولم يشاهد بين الجنود مرض الكوليرا على حين كانت بينهم اصابات كثيرة بالإسهال الدموي الدسونتاري الشكل ولما كان غذاء هؤلاء بسيطاً في العادة، لم يكن هناك أدنى خطر عليهم. وكان غذاء الباخرة فوق الكفاف ولا يعدو الزبدة والشاي والقهوة والحساء والعدس والأرز والفواكه والخضروات وأحياناً قطع من اللحم والسمك.
وأما أطباء الهلال الأحمر فهم رجال قديرون بلغوا مراتبهم الطبية من مدارس القاهرة أو بروت أو باريس ولكنهم لاقوا جم الصعوبات في المحافظة على القوانين الصحية مع جماعة ليس لديهم أقل فكرة من مبادئها.
أما الباخرة فكان يعتنى بنظافتها وتطهر بعد كل نقلة تطهيراً فنياً مستجمعاً كل الشروط اللازمة وبكل اعتناء.
ولما كانت اللغة المصرية هي العربية وهذه لا يفهمها الأتراك فقد كان التخاطب بين أطباء الهلال الأحمر والجراحين والأتراك باللغة الفرنسية، حتى إذا وصلت الباخرة ثغر أزمير كان المهاجرون الجنود ينقلون إلى الشاطئ بواسطة ماعونات يجرها زورق بخاري من مصلحة المينا فكان الجنود المرضى والجرحى يرسلون إذ ذاك إلى المستشفى الحربي أو المستشفى العثماني الملكي في المدينة وأما المهاجرون فيودعون في المساجد الكثيرة العدد لتوزيعهم على المملكة يسعون وراء عمل أو مرتزق وكانت الحكومة التركية تعطي كل مهاجر في اليوم ثمانية أو عشرة سنتات وهي قيمة تكفي تقريباً قوتهم اليومي وإنا لنشكر الجالية الأوروبية بأزمير على ما قدمته من الأموال المجتمعة من التبرعات والمشروعات الخيرية لمشتري ملابس وبطاطين وسائر لوازمهم وسينقل كل المهاجرين من سالونيك إلى آسيا الصغرى. في الأستانة نحو سبعين ألفاً أعتني بهم مثل هذا الاعتناء وهؤلاء قدموا إليها من تراقيه ووزعوا في شمال الأناضول وللهلال الأحمر المصري بعثات في الأستانة مكونة من أطباء وممرضين وممرضات تعتني بالجرحى ومرضى الكوليرا اعتناءها بالمهاجرين وإن أكثر ما يفتت الفؤاد في هذه الحرب هم أولئك المهاجرون الذين سيجهل التاريخ حقيقة ما أصابهم من ويلات هذه الحرب الطاحنة.(13/114)
ويجب أن يكون الفخر كله لأعمال جماعة الهلال الأحمر المصري ومستشفاهم البحري بحر أحمر في تخفيف ويلات منكوبي هذه الحرب.
(انتهى ببعض تلخيص)(13/115)
من وصية أرسطو للاسكندر
وأعلم أنه ليس أحد أصلح للناس من أولي الأمر إذا صلحوا ولا أفسد لهم منهم ذا أفسدوا وأن الوالي من الرعية مكان الروح من الجسد الذي لا حياة له إلا بها وبموضع الرأس من سائر الأعضاء فإنه لا بقاء لها إلا معه فبالوا إلى مع فضل منزلته من الحاجة إلى إصلاح الرعية مثل ما بالرعية من حاجة إلى إصلاح الوالي وقوة بعضهم زيادة في قوة بعض ووهن بعضهم سريع في وهن بعض وبعد الوالي من القدرة على إصلاح نفسه مع استفادة رعيته كعبد الرأس من البقاء مع هلاك سائر البدن غير أنه أجدر بإصلاح الرعية الصالحة من الرعية بإصلاح الوالي الفاسد وإفساد الوالي الصالح لفضل قوته عليها ووهن قوتها عن قوته. وقد قال هوميروس الشاعر أن الأئمة يصلحون المؤتمين بفضل قوتهم فأما الأئمة فلا يصلحهم مؤتم.(13/116)
اختزال الكتابة العربية
الإختزال فن قديم يرجع عهده إلى الرومان. فقد زاولوا الخط المختزل في عهد شيشرون خطيبهم الشهير، وأول من كتب به نيرون الروماني. وقد عثر الدكتور أرثور هنت بمصر على ورقة من البردي (البابيرس) كتبت سنة 155 بعد الميلاد بالخط المختزل وهي عبارة عن عقد بين تلميذ ومعلم. ويستفاد من ذلك أن الإختزال كان يعلم في بلاد مصر ولكنه زال بزوال الرومان كما أن الديمطوقي أي الخط العامي المصري وهو عندهم في مقام الإختزال للخط الهيروغليفي القديم قد اندثر على مر الأيام.
وكانت أول خطوة لانتشار الكتابة المختزلة ببلاد أوربا سنة 1174 بانكلترا ثم أخذ هذا الفن يذيع بتلك البلاد ويدخل في طور الإتقان إلى أن استعمل في فرنسا وعلم في مدارسها حتى وصل بين هاتين الأمتين إلى ما نراه اليوم من الكمال والإتقان. أما في ألمانيا فلم يوجد بها من وضع طريقة للإختزال ولم يظهر أثره فيها إلا في أواخر القرن السابع عشر. ولقد عمت فائدة هذا الفن وانتشر استعماله في أغلب البلاد الأوروبية فبدئ باستعماله في البرلمان الانكليزي سنة 1780 وفي مجلس الأمة بفرنسا سنة 1790 وفي مجالس النواب الألماني سنة 1890.
وقد نشرت مجلة المقتطف في أواخر القرن الماضي مقالة في فن الإختزال ولخصت طريقة قد ابتكرها حضرة العلامة سليمان بك البستاني وهو أول من وضع أساس هذه الفكرة وقدر الفوائد التي تعود منها على البلاد العربية قدرها ولكنا نقول مع الأسف أن تلك الطريقة في بدئها لم تأت بنتيجة مرضية على الرغم من أن الإشارات التي استعملت لها كانت من أبسط العلامات الهندسية ولا شك عندنا أنه لو كان العالم البستاني بذل جهده ووجد متسعاً من الوقت كافياً لنجحت طريقته وعمت هذه البلاد. وقد جاء من بعده آخرون ووضع كل منهم طريقة للإختزال العربي ولكنها لم تف بالغرض المقصود إذ ظهر في بعضها نقص وعجز استحال معهما انتشارها.
ولما شعرت الحكومة المصرية بحاجتها إلى وضع طريقة للكتابة العربية المختزلة قصد تعليمها في مدارسها التجارية وإدخالها في مصالحها أخذت تنشط الكثيرين وتمهد لهم السبيل حتى كثرت المساعي في السنين الأخيرة واتجهت الهمم إلى وضع طرق شتى. بيد أن القائمين بهذه الفكرة لم يتوخوا استنباط طريقة اختزالية خاصة باللغة العربية بل طبقوا(13/117)
بعض الطرق الأوروبية واقتبسوا منها ما أدخلوه على الكتابة العربية فلم يوفقوا إلى إنجاح مشروعهم. فمنهم من استعمل في طريقته أشكالاً مبهمة ورموزاً غامضة، ومنهم من أدخل الشكل في الكتابة فزادها بذلك صعوبة وغموضاً ومنهم من استعمل أشكالاً مشتركة لحرفين أو ثلاثة أو أربعة حتى كانت تصعب القراءة على المختزل بعد كتابتها، وقد استنبط أحدهم طريقة أخرى ورأى كتابتها من اليسار إلى اليمين فمسخ بذلك روح الكتابة العربية المأخوذة عن الكتابة الأرامية وهي كما لا يخفى تكتب دائماً من اليمين إلى اليسار، ولم تتغير عن هذه الصورة منذ إنشائها إلى الأن.
وقد قام سعادة المفضال أحمد باشا زكي سكرتير مجلس النظار وحث على الاهتمام بهذا الفن ورضخ من ماله (تبرع) بمبلغ خمسين جنيهاً وأعلن توزيعها على الفائزين في امتحان قام به نظارة المعارف في 18 ديسمبر سنة 1912 وقد بلغ عدد المتبارين عشرة فأستقرت النتيجة عن فشلهم جميعاً ولم ينل الجائزة المفروضة أحد إذ كان القدر المحدود تسعين كلمة في الدقيقة وهذا ما يدل على صعوبة الطرق التي كانوا يدرسونها.
وقد اهتدى المسيو راوول بينكردي المختز لسكرتارية نظارة المالية إلى وضع طريقة إختزالية باللغة العربية بعد أن قضى زمناً طويلاً في بحث وتنقيب وذلل ما صادفه من الصعوبات الجمة في هذه السبيل ثم نشر كتابه في شهر يوليو الماضي إجابة لإلحاح الكثيرين ممن يفضلون طريقته على غيرها فطبع الجزء الأول منه مصدراً بمقدمة تاريخية مسهبة في تاريخ الكتابة عموماً والكتابة المختزلة خصوصاً ثم أخذ من ذلك الحين يدرس طريقته هذه مجاناً في مدارس برلتز ويلقيها على نفر ممن يرغبون في تعلمها ويسرنا أن نقول أن المجتهدين منهم يكتبون اليوم بسرعة كادت تسبق سرعة من سبقهم من الطلبة في هذا الفن منذ الأربع السنوات الأخيرة وذلك على الرغم من حداثة عهدهم وهي بلا شك نتيجة مرضية تنبشر بنجاح باهر. وقد تمتاز هذه الطريقة أيضاً بأنها لا تقتصر على وضع رموز وخطوط وأقواس ودوائر كما هي الحال في أغلب الطرق المختزلة بل أنها مبنية على قواعد معقولة مطابقة لروح اللغة العربية، وموافقة لأسلوب الكتابة بها كجمع الحرفين أو الثلاثة معاً وجعلها صوتية إذ أن الكلمات العربية تكتب غالباً كما تنطق وهذه ميزة قد لا تجدها في أية طريقة أخرى، ولقد تصفحنا كتابه هذا فوجدناه محكم الوضع سهل المأخذ،(13/118)
فقد أعطي لكل حرف من الحروف الهجائية علامة هندسية خصيصة به ثم أتى بعلامات إضافية لبعض الحروف ليسهل بذلك اتصالها واستغنى بذلك عن الشكل لأنه من العبث استعماله في الكتابة المختزلة ثم اتخذ من ذلك كله قاعدة عامة ثابتة لا تتغير يسهل على الطالب إدراكها فجاءت طريقته أفضل ما ظهر (في رأينا) من نوعها حتى الآن. وقد طلبنا إلى المسيو راوول بينكردي نموذجاً من خطه المختزل فقدم لنا نبذة من المقامة العاصمية للشيخ ناصيف اليازجي نشرنا صورتها هنا (أنظر صورة المقامة) على الرغم من أن أغلب الكلمات العربية الموجودة في هذه النبذة لغوية ونادرة الاستعمال إلا أنك تجد لها علامات في غاية من البساطة لا يوجد بين الواحدة والأخرى أدنى غموض ولا إبهام وبعض هذه الكلمات كما ترى متصل بعضه ببعض وذلك مما يزيد السرعة في الكتابة فيتيسر بذلك مجاراة أذلق الخطباء لساناً. وأسرعهم بياناً. فحبذا لو نظرت الحكومة إلى طريقته بعين الإهتمام، وأخذت بناصره تشجيعاً له وتنشيطاً لغيره من الذين يعالجون الاستنباطات العلمية المفيدة شأن سائر الحكومات المتمدنة التي لا تفتأ تمديد التشجيع لمساعدة أفرادها النبغاء على أن اللغة العربية في أشد الافتقار إلى هذا الفن المفيد والحاجة ماسة إلى هذا الاختراع ولاسيما في نظارات الحكومة ودوائرها المختلفة مثل المجالس والمحاكم حيث تلقى الخطب والمرافعات والمحاورات بسرعة يتعذر على الكاتب تدوينها كما هي فيضيع معظمها سدى ويهمل في زوايا النسيان. ولما كانت الأمة المصرية قد دخلت في طور جديد من الرقي وخطت خطوة واسعة في سبيل العلم فنحن نرحب بهذا الاختراع المفيد ونطلب لى حكومتنا السنية تقريره في مدارسها التجارية حتى تعم بذلك الفائدة ونصل إلى الغاية المنشودة إن شاء الله.(13/119)
مطبوعات جديدة
آداب اللياقة
كتاب لم يكد يصدر حتى انتشر. ولم يكد ينتشر حتى علم الناس مكانته من النفع ومحله بين الكتب الممتعة التي نحن المصريين شيوخاً وشباباً بمسيس الحاجة إليها. ومما زاد جمهور القراء ثقة بجمام نفعه وكبير فائدته أن واضعه ذلك الكاتب اللبق والمطلع الباحث محمد أفندي مسعود الذي كثر ما عرفوا فضله وشهدوا مقدرته وتبينوا حذقه وسعة اطلاعه واجتهاده في البحث في سني تقويمه وغير ذلك من عقائل براعته ومحاسن قلمه. وقد زان الكتاب في كثير من موضوعاته بالأحاديث النبوية وروائع الكلم ومأثور الحكم وكثير من الاستشهادات والحكايات مما جعل الكتاب آية في بابه نفعاً وفائدة. وقد أحسنت نظارة المعارف صنعاً بتقريره في مدارسها، وعى أن يقرأه المعلمون على تلاميذهم، ويأخذوا النشئ بآدابه، ويحثوهم على العمل بقواعده، حتى تتهذب الآداب وتستقيم النفوس، وتطيب الأخلاق، فذلكم عماد الرقي ونهجه، والكتاب كفيل بأن يأخذ من النفوس مكانه، ويدلها على سامية الآداب ومحمود الأخلاق. وثمنه ستة قروش.
الخلق
اهدى إلينا حضرة الفاضل حسين أفندي فتوح الموظف بنظارة المعارف - وهو من أفاضل المصريين المشهورين بالألمعية والذكاء_مؤلفاً له سماه الخلق، وهو من خير ما وضع في هذا الغرض حيث لم يقف صاحبه الفاضل عند سرد الحكم والأداب مجردة عن البحث والتعليل والاستقصاء بل ترى الكتاب على صغر حجمه ووجازة كلمه شاملاً علمي النفس والأخلاق معاً وليس ذلك لعمري ببدع على مثل فتوح أفندي ومكانه من العلم والفضل مكانه أما الكتاب فيباع بمكتبة البيان وثمنه خمسة قروش عدا أجرة البريد.
تهذيب الألفاظ العامية
كتاب قيم وسفر جليل وضعه الأستاذ الفاضل الشيخ محمد علي الدسوقي المدرس بالمدارس الأميرية والعضو بجمعية التأليف المصرية وقد صدره مؤلفه الفاضل بمقدمة ضافية ألمّ فيها بشرح أدواء اللحن والتحريف والمولد والدخيل وأعراضها ووصف أدويتها وطرق التعريب في زمن العرب والإسلام ثم الكلمات العامية ومرادفاتها من العربية وقد جمع فيها طائفة(13/120)
صالحة تسد حاج الكتاب الذين برموا بالكلمات العامية وضاقت بها نفوسهم وأنا نثني على الأستاذ المؤلف خيراً ونشكر له هذه العناية الكبرى والخدمة الجليلة التي أسداها إلى اللغة فسد بها حاجة كانت بنا ماسة أكثر من أمثاله العاملين، وثمن الكتاب خمسة قروش.
القاموس العصري
أخرج في هذه الأيام لجماعة المشتغلين باللغة الانجليزية وفئة المعربين جناب الفاضل الياس أفندي أنطون صاحب كتابي التحفة المصرية والهدية السنية قاموساً انجليزياً عربياً أسماه القاموس العصري وهو معجم مفيد ضاف تفرد بصحة المعاني العربية ودقة تعريب المفردات مما يقوم بحاجة الطلبة وكل من يعنون بالإطلاع والاستقصاء وهو عمل مبرور ويستحق الاستحسان والإعجاب وهو خليق بأن يكون في كل خزانة وقمين بأن يدخر في كل مكتبة ونحن لا يسعنا إلا أن نشكر واضعه الفاضل على اجتهاده وعنايته ونرجو لمعجمه الذيوع والانتشار.
والقاموس يباع في مكبة البيان وثمنه ثلاثون قرشاً صاغاً عدا اجرة البريد وهي أربعة قروش.
هنري الخامس
هي تلك الرواية الذائعة الصيت الطائرة الذكر الخالدة الأثر التي دبجتها براعة ذلكم العبقر النادر ونعني به ويليم شكسبير الذي شهد له قومه بأن أرض انجلترة بل العالم بأسره لن تنبت مثيل شكسبير، والرواية تعد من محاسن رواياته التاريخية، ضمنها الحرب التي كانت ناشبة بين انجلترة وفرنسا وقد جمع شكسبير في هذه الرواية بين روعة التاريخ وبهجة الفكاهة. وقد قررتها نظارة المعارف على طلبة البكالوريا في هذا العام وعربها لمكتبة البيان محمد السباعي ليستعين الطلبة بدقيق التعريب على تفهم دقيق معانيها في الانجليزية فندعو كل مجد للإطلاع إلى اقتنائها وهي تباع بمكتبة البيان وثمنها عشرة قروش.
مجلة العلوم الاجتماعية
صدرت في بيروت في شهر يبتمبر الماضي مجلة باسم مجلة العلوم الاجتماعية وقفت صفحاتها على البحث في المسائل القانونية والاجتماعية والاقتصادية، أنشأها حضرة الفاضل المحامي توفيق أفندي الناطور الحائز على شهادة الحقوق من كليتي باريس(13/121)
والأستانة وعهد بتحريرها إلى لجنة من الحقوقيين والاقتصاديين والاجتماعيين ويدير تحريرها محمد أفني منيب الناطور، واشتراكها السنوي ريالان في البلاد العثمانية وعشرة فرنكات في الأقطر الأجنبية، فنتمنى لها الرقي والرواج.
المنهل
اسم مجلة ظهر العدد الأول منها في شهر رمضان أنشأها محمد أفندي موسى المغربي في القدس الشريف وعني فيها بموضوعات الأدب والتاريخ والاجتماع وقيمة اشتراكها في السنة ريال مجيدي ونصف في البلاد العثمانية وعشرة فرنكات في البلاد الخارجية. ولعلها آخذة في سبيل التحسين وعسانا نراها بعد قليل على ما نحب لها من التقدم والرقي.
الحكمة
مجلة في بضع صفحات تصدر في ماردين من أعمال سوريا، مديرها المسؤول حنا القس ومحررها ميخائيل حكمت حقي وقد كتب تحت أسمها أنها مجلة دينية أدبية تاريخية أخبارية وهي تصدر مرتين في الشهر، فترجو لها النجاح.
زينب
لا نرى في عالم الكتابة في هذا البلد نقصاً أعيب ولا عاباً أفضح من خلونا من الكتاب الروائيين. ولعل مدعاة هذه النقيصة أننا قليلو الملاحظة حتى في أبسط المحسوسات ولو سألت أي رجل منا عن عدد نوافذ داره أو أبواب حجراته أو درج سلمه لتردد في الجواب غير عليم، ولا حجة لمن يدعي بأن بلادنا متناسبة المناظر متناسقها، لا ينبسط لها خيال الكاتب، ولا تمرح في معالم حسنها المتشابهة خاطرة الروائي، فليست الروايات مقصورة على وصف جلال الطبيعة وبديع مناظرها، ونحن نريد كتاباً روائيين يأخذون من حالنا الحاضرة وأدوائنا وعللنا ومبدأ المحافظة على القديم المتأصل في نفوس شيوخنا وبعض شبابنا والحال التي كان عليها آباؤنا وصالحة عاداتهم وفاسدتها موضوعات يصيغونها في أسلوب روائي على مبدأ (الرياليزم) ولا ضرار في وضع روايات خيالية يرمي كتابها بها إلى مبدأ سام أو فكرة رشيدة يهذبون بها العواطف، ويقومون بها أود الأخلاق فليس مبدأ (الرومانتزم) في فن وضع الروايات بأقل فائدة من الروايات القائمة على الحقائق.
نقول ذلك وفي يدنا رواية صالحة، هي بدأ عهد جديد في عالم الكتابة نستقبله بالغبطة(13/122)
والروح، تلكم رواية 0زينب) وضعها صاحبها يصف فيها حال الريفيين في طهرهم وعفافهم وسلامة قلوبهم وشريف حبهم وجمود كبارهم وتقوى كهولهم وضمنها مبادئ له عصرية ليس فيها إلا الرشيد القويم، متبعاً في ذلك مذهب ديكنز ولزاك وثكرى.
ذلكم محمد حسين هيكل، رجل شديد العارضة، شديد الذكاء قوي الحجة، قوي المبدأ حاضر الذهن. سريع الخاطر. وقد جمع إلى ذلك مبدأ إنكار الذات في سبيل الخدمة العامة فاكتفى بكتابة (فلاح مصري) على غلاف روايته. وأنا نجل هذه منه كما نجل هذه الرواية البديعة النافعة ونرجو أن يفرغ الدكتور حسين هيكل إلى وضع الروايات فنحن بحاجة شديدة إليها وإلى ما يخرجه ذلك العقل الكبير ونتوقع أن تقل حاجتنا إلى معربات ديكنز وديماس ودوديه. وأمثالهم بما ينشئ من جلائل الروايات.
(والرواية تباع ف مكتبة البيان وثمنها 10 قروش)
مصر الجديدة
هي الرواية الجليلة المحزنة التي مثلت على مسرح جوق جورج أبيض فكان لها أكبر تأثير في نفوس من شهدها وأعظم وقع من عواطف من حضرها، فهي مجموعة من أمراضنا الاجتماعية التي لا نهضة لنا ولا رقي ولا انتعاش إلا بالشفاء منها وقتل جراثيمها. وقد بدي فيها واضعها فرح أفندي أنطون عليماً بفن (الدراما) - أي فن وضع الروايات التمثيلية بعد ما عرفناه صحفياً قديراً تتجلى في كل موقف مقدرته. ومعرباً مبدعاً يتخير لتعريبه. ومطلعاً جم الإطلاع غزيره. وقد سرنا أن يطبع (مصر الجديدة) حتى يجمع الناس بين لذة القراءة ولذة المشاهدة. فتكون أرسخ أثراً. وأعم نفعاً وأنا نحث كل محب للإطلاع على اقتنائها. ونرجو لها مطبوعة الإقبال التي حازته على المسرح.
(وهي تباع بمكتبة التأليف وسائر المكاتب)
اعتذار اعتذار
قد كنا أعددنا لهذين العددين موضوعات جمة وأبحاث كثيرة خلاف ما جاء فيهما، مثل خطاب السير أولفر لودج في المجمع البريطاني عن بقاء الروح مع نشر صورته الفتوغرافية. ومذكرات أميرة من أميرات الأسرة المالكة في أسبانيا وهل نستطيع أن نتنبأ بالمستقبل. وعادة أهل الصين في عقاب العشاق. إلى غير ذلك من الموضوعات الشائقة(13/123)
المفيدة. ولكننا وجدنا أننا لو طاوعنا النفس على رغبتها. وخففنا لنشرها. وأخرجنا هذين العددين في حجم أضخم مما قرر لهما. لظلمنا أنفسنا وغبناها. وذهب أمرنا فرطاً ويرى القراء أنا أدخلنا على البيان باب التصوير. وليست النفقات عليه بالشيء اليسير وبينا نحن نبعد في الإنفاق على وسائل التحسين. إذ أكثر المشتركين يأبي إلا أن يمطلنا ويجعلنا في مأزق من أمرنا ويضيع علينا بمطله ثمين وقتنا. وكأني بهم يظنون أننا (بيت روتشلد) أو روكفلر أو أرنست كاسل غنى وثراء. على حين أن هؤلاء لا يرتضون أن يخسروا (بنساً) واحداً في عمل لهم. ونحن ننفق الكثير من حر المال وحر الجهد فلا نرى حتى مالنا.
ماذا يريد منا وبنا المماطلون؟ أيريدوننا على أن نجعل لهم الإشتراك بقيمة مسح أحذيتهم؟ أيريدون أن نخرج لهم بدل مجلة البيان (حسن أبو علي سرق المعزة) أو سلسلة من سنكلر وكارتر وتلك التي لم يقف ضررها عند حد الجناية على الأخلاق بل تعداه إلى الجناية على اللغة؟
لقد ضقنا ذرعاً بهذه الإستهانة وذلكم المطل. ولا حيلة لنا إلا أن نطبع من البيان بمقدار المشتركين المهذبين ليس غير.(13/124)
أبطال العالم
مشروع جليل جديد في العربية
(إلى كل قارئ وكل قارئة)
قال توماس كارليل صاحب كتاب الأبطال: أن تاريخ الدنيا: أي تاريخ ما أحدث الإنسان في هذا العالم: إنما هو تاريخ من ظهر الدنيا من العظماء. فهم الأئمة، وهم المكيفون للأمور، وهم الأسوة والقدوة، وهم المبدعون لكل ما وفق إليه أهل الدنيا: وكل ما بلغه العالم وكل ما تراه قائماً في هذا الوجود كاملاً متقناً فاعلم أنه نتيجة أفكار أولئك العظماء الذين اصطفاهم الله وأرسلهم إلى الناس ليؤدي كل ماناطته به القدرة الإلهية من الخير. فروح تاريخ العالم إنما هو تاريخ أولئك الفحول.
ومن هنا أجمعنا النية على القيام بعمل عظيم سوف يصادف في اعتقادنا موقعاً حسناً من نفس كل ناطق بالضاد ومن نفس كل قارئ وكل قارئة وكل الرجال وكل الشباب وبالجملة كل من يهمه أن يمتع نفسه ويشحذ ذهنه ويرهف حسه ويقوي مداركه ويقف على روح العلم والأدب والفلسفة والتاريخ وحياة العظماء في أحسن أسلوب وألذه وأمتعه أما هذا العمل العظيم فهو حلقات من الكتب والأسفار كل حلقة خصيصة ببطل من أبطال العالم كتاباً كانوا أو شعراء أو فلاسفة أو علماء أو روائيين أو قواداً أو روحانيين وسواء كانوا عرباً أو غير عرب. وهذه الحلقة تصدّر بفذلكة في تاريخ البطل ثم يلي ذلك أطيب ما قاله.
وذلك أن نظهر في كل أسبوع أو كل أسبوعين أو كل شهر - حسب رواج هذا العمل وإقبال القراء عليه_جزأ يقع في ثمانين صفحة. عشرون منها أو قريب من ذلك في تاريخ البطل (وليكن فكتور هوجو مثلاً) والستون الباقية نثبت فيها أحسن ما كتبه في كتبه ورواياته فإن لم تكف الستون صفحة أردفنا هذا الجزء بجزء آخر في حجمه ننشر فيه بقية مختارات هوجو وهلم جراً أي أننا سنرصد لكل بطل حلقة قد تبلغ الخمسة أجزاء وقد لا تتجاوز الجزء الواحد،_وقد أسلفنا أننا سنكتب عن كل بطل في العالم شاعراً كان أو كاتباً أو روائياً أو فيلسوفاً أو عالماً أو مخترعاً أو قائداً روحانياً. وكان مصرياً أو تركياً أو عربياً أو انكليزياً أو فرنسياً أو ألمانياً أو روسياً أو صينياً أو هندياً أو فارسياً الخ_ومن ثم سيرى القراء من هذا العمل أعجب العجب، ولب لباب التاريخ والعلم والأدب بل سيرون، دائرة(13/125)
معارف عربية جامعة لكل ما تشتهيه الأنفس وتقر به الأعين ويصبحون بقراءته أدباء وعلماء وفلاسفة ومؤرخين وكل شيء.
أما القائم بكتابة هذه الأسفار النافعة فهو صاحب هذه المجلة وصفوة العلماء والأدباء في مصر - وأما القائم بطبعه ونشره والذي يخاطب في شأنه فصاحب هذه المجلة وحده.
هذا وسيكون ثمن الجزء الواحد قرشان مصريان وللمقيم بعيداً عن القاهرة أن يشترك في خمسة أجزاء ثم في خمسة أجزاء أخرى وهكذا وقيمة الإشتراك في الخمسة أجزاء 12 لأننا سنرسلها إلى حضرته مسوكرة (مسجلة) والقيمة تدفع مقدماً (طبعاً) وسنظهر الجزء الأول من هذه الأسفار في أوائل يناير القادم ومن أحب أن يشترك فليرسل إلينا الخمسة عشر قرشاً حوالة على البريد والله الموفق.(13/126)
العدد 14 - بتاريخ: 1 - 12 - 1913(/)
حول الدين
نبذة فلسفية جليلة حول الدين من كتاب حديث المائدة
الذي يعنى البيان بنقل أطيبه إلى العربية
حدث شاعر المائدة قال: زرت الأستاذ في داره ذات صباح فألفيته مكباً على أنبوبة من الزجاج محبوكة الطرفين فيها سائل كدر، وقال لي انظر فخبرني كيف ترى هذا السائل.
قلت كدر
قل إن هذا السائل سخن مدة ثلاث ساعات وما زال صافياً حتى منذ أيام قلائل ثم أخذ بعد ذلك يتكدر
ثم أن الأستاذ فض أحد طرفي الأنبوبة فأخذ مقداراً يسيراً من سائل على قضيب زجاجي فوضعه فوق قطعة من الزجاج للفحص الميكروسكوبي ثم نظر في المجهر وصاح هاك دلائل الحياة. انظر
فنظرت فإذا أشياء تشبه هذه العلامات
فأما الأجسام التي هي كالخطوط المستقيمة فقد كانت تذهب وتجيء مسرعة في كل ناحية، وأما المنكسرة فكانت تتلوى كالأراقم، وكانت المستديرة تدور حول محاورها. والكل في حركة ذائمة كأنما لا تبرح تلتمس مالا تجد.
قال الأستاذ إن عناصر هذه الأجسام لمتينة، فلقد غليت ثلاث ساعات فلم تمت، ولكني سأنظر ماذا كانت نتيجة الغلي مدة ست ساعات. ثم عمد إلى بعض أوعيته.
ولعل القارئ قد أدرك ماذا كان يفعل الأستاذ، وإنما يزاول بعض تجارب تلك النظرية الشهيرة تولد الحياة من الجماد.
وعاد بأنبوبة كالأولى ولكنها تعي سائلاً صافياً ثم قال غليت ست ساعات، أترى بها أدنى كدر.
قلت كلا أنها لأصفى من قضيب بلور فقال ما أظن أن بها دليلاً واحداً على الحياة ثم فعل بها كما فعل بسالفتها، فإذا السائل خال من كل شيء ولا يكشف المجهر منه إلا عن قطعة من النور.
قال الأستاذ لقد قتلها غلي ست ساعات. حسن هذا. أفتدري ماذا كان يحدث لو أنا وجدنا(14/1)
هذه الأنبوبة كدرة، وأصبنا بها دلائل الحياة؟ إذن لاهتز قصر البابا وزلزلت أركانه، وتساءل القوم عن النبأ العظيم في أنحاء العالم الديني. إذن لارتجفت العقائد والروايات والملل والنحل والمذاهب، تطلعاً إلى نتيجة تجاربي وتشوفاً إلى ثمرة مباحثي، ليعرفوا تكدر السائل في زجاجتي أم صفا. ولا والله لا أعلم أأضحك من هذه الحال أم أبكي فأنتحب.
فلما كان الغد وقد لفنا الصباح حول المائدة طرح الأستاذ مسألة الأمس على بساط المحاورة قلت لا بد من التسليم بأن تلك الجراثيم لم تحتمل غلي ست ساعات.
قال الأستاذ: هذا من حسن حظ البابا، وكل من راعه وأزعجه لفظة العلوم الطبيعية فإنه إذا ثبت أن الأشياء الميتة قد تحي من تلقاء أنفسها كبر الأمر، وعظم الخطب، وانبرى لك بعض الناس يقول: إذا استطاع الشيء الميت أن يحي نفسه، فلا يبعد أن تكون الأرض قد ملأت نفسها بالخلائق من غير واسطة. على أنه لو كان ذلك حقاً لما كان ذلك من المعجزات الصعائب. والمعضلات الغرائب. ولأمكننا مع ذلك أن نجد في قلوبنا منفسحاً للاعتقاد بآله خالق. بدليل أننا قد نصدق الآن بوجود الآله، مع أنا نرى البذرة الضئيلة لا تزال تنمو حتى تمتص عصارات نصف فدان من الأرض، وكل ذلك تفعله بقوتها الذاتية الكامنة، بلى أن الحياة لتتولد في هذه الدنيا بأية كيفية.
وما أظن أن جرثومة البرص قد خلقت مع آدم، ولكنما تولدت في هذه الدنيا بعد خلقته.
قلت وهذا أيضاً اعتقادي وإلا فإذا كان آدم قد جمع في جسده كافة العلل والأمراض التي ابتلى بها ذريته ونسله، إذن فلقد كان والله مستشفى متحركاً.
قال الأستاذ إذن فكيف تسنى لذاك الحيوان جرثومة هذا الداء أن يظهر في العالم؟ أتظن ذلك قد كان بناء على لائحة سماوية أصدرت بمنح ذلك المخلوق الخبيث هدية للإنسانية؟
فرأيت أن أجعل الصمت الجواب على هذا السؤال فسكت.
وكان الفتى الفلكي (هو أحد أعضاء مائدة الأفطار) جالساً يسمع فتحرك فقال أني أيها الأستاذ وإياك نزاول مسألة بعينها. نعم لقد نظرت من وقت إلى آخر في مجهر فرأيت ارتجاج الذرات المتواصل في ذاك السائل وهو ما تسميه الحركة الذرية. وهذا وأبيك هو عين ما أبصر حينما أنظر في مرقبي إذ أرى تراب النجوم يدور دائباً في فضاء الأثير. وحيث لا أرى حركته أوقن بوجوده معللاً خفاءه ببعد المسافة. فالحركة والمادة في كل(14/2)
مكان. ولا فراغ ولا سكون مطلقاً. ثم أراك تسأل عن ذراتك المضطربة لم لا تتجمع فتصبح أجساماً حية ذاتية الحركة: وأراني أسأل عن تراب النجوم لم لا يتجمع فينمو فينتظم حتى يصير عوالم مأهولة ودنامعمورة. والناس يروعهم بعد أن يسمعوا بتكون العوالم من غيوم النجوم (تراب النجوم) وليس يروعهم أن يروا العوالم المائية (كرات الماء: يريد بذلك قطرات المطر) تكوّن أنفسها بأنفسها من الغيوم السارية فوق أرؤسنا. ولكن إذا استطاعت العوالم أن تتألف من تلقاء ذاتها كهيئة تألف القطرات من المطر، إذن لتفاقم الأمر. واستفحل الشر.
وكانت الفتاة جالسة معنا على المائدة، وقد راعها هذا القول المستقل والرأي الحرّ، فارتسم على وجهها أوضح آيات الإندهاش والخوف. وما أحسن وجود العنصر الأناني في مثل هذه الحفلات والمجالس. والنساء أتقى من الرجال وأورع، وأقوى إيماناً وأرسخ عقيدة. ولست بقائل لك ما يقوله ذوو البت في المستقبل من أنه إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فسيكون ربع سكان الخلود ذكوراً والثلاثة أرباع أناثاً. والسبب في فضل إيمان النساء وزيادة تقواهن أنهن أحوج من الرجال إلى أيمان يعضدهن، واعتقاد يؤيدهن. لأنهن شديدات الاحتجاز، لا تدعوهن إلى الخروج من أنفسهن تلك الدواعي التي تدعو الرجال إلى ذلك. وهن لما جبلن عليه من التوكل والاعتماد أسرع إلى الأيمان الذي إنما هو الثقة والتوكل والاعتماد على الغير. وخلق الاستقلال الفكري قد يخرج من النفس الرائع الحسن من كوامن الفضائل، غير أنه لا يبعث على الورع والتقى.
فلما كان بعد يومين من انفضاض هذا المجلس جاءني البريد بالرسالة الأتية من الفتاة
سيدي. وددت لو تعرف أني لست من قبيل أولئك النسوة الهيابات اللائي يذعرهن الخوض في المسائل الدينية والمباحث العلمية كالتي طرحتها على بساط المناقشة ذياك الصباح ونحن على المائدة. وما زلت اقرأ أمثال هذه الأبحاث تارة في الكتب وآونة في الجرائد فلا أرجف ولا أرتعد. وقد كنت أسمع أيام طفولتي أن الشعرة توضع في الماء فتصير بعد يومين ثعباناً فلا يهولني ذلك، لأني أرى البيضة تتحول فرخاً فلا أنزعج ولا أهال. وإنما أقول صنع قادر جل الخالق وتعالى شأنه. وكذلك أقول إذا أبصرت في أنبوبة الكيماوي حيوانات صغاراً، أو ما يخيل إلىّ حيوانات صغاراً. وما أراك تحسب أني أطوي أنجيلي،(14/3)
وأهجر محرابي، لرؤيتي مشهداً عجيباً في عالم كله عجائب، ولغزاً مبهماً في كون كله ألغاز غير مفهومة.
وكذلك أرى أنه يمكن التوفيق بين الكتاب المقدس وبين نظرية داروين في أصل الإنسان بحجة أنك ترى الرجل الدميم يلد المليح والأبن الصالح يولد للطالح، وهذا دليل على أن الرقى العظيم قد يحدث في فصائل النوع البشري إذا ساعد أمتداد الأمد. وسنوح الفرص، ولقد قرأت في بعض الأسفار أن الكلاب ينتهي نسبها إلى الذئاب. وأني كلما تذكرت كلبي الرفيق الرقيق ذلك الذي يخلص لربه الحب، ويمحضه المودة، ويكون في الدعة أمينه. وفي الشدة معينه.
وهو إذا ما ناجاه صاحبه ... يفهم عنه ما تفهم الأنس
وجدت أن مابينه وبين أسلافه الذئاب أبعد بكثير مما بين الهمج المتوحشين لسكان نمنم وبين أسلافهم القردة.
قد ترى من غصون كلماتي هذه أني ممن يطلقون للعقل حرية النظر في أمثال هذه المسائل. ونحن معشر النساء نستطيع أن نجري مع تيار الزمن نصغي صامتات إلى ما يدور حولنا من المناقشات في المحاورات والكتب ونغير أسلوب حديثنا وتفكيرنا بأسهل مما نغير أزياءنا من عام إلى عام. وما أحسب أنكم عصبة الرجال تعلمون ما لتلك العادة - أعني عادة التوفيق ما بين أذواقنا وبين الاوضاع المتجددة والسنن المتبدلة_من الأثر في نفوسنا. فإنه والله لا يثبت على تلك العادة شيء في نفوسنا، ولا يستقر معها رأي في عقولنا. والتقلب كما تعلمون هو قاعدة الذوق. وظني أننا نتعلم من خاطة ثيابنا كيف نخلع عن عقولنا أرديتها القُدم فنطرح عليها الأكسية الجدُد في أتم سهولة، وما ذاك إلا لاعتيادنا تغيير الأزياء كل فصل وموسم.
(وبعد) فقد أطلت جداً في مقدمتي هذه وأخشى أن يكون قد انتابك الملل قبل بلوغك جوهر القول وزبدته.
تعلمّ سيدي أن الدين في نظرنا معشر النساء ليس هو بعض هذه المسائل التي يجعلها عشاق الكلام موضوعات للذة الجدل وسرور المحاجة. وإنما هو أمر غير ذلك. هو حياتنا بل هو أكثر من حياتنا. إذ أن حياتنا إنما تقاس بدقات قلوبنا، ولكن شعورنا الديني شيء(14/4)
أبديّ ما أن يزال يهفو إلى الأبدية، ويطمح نحو العالم الروحاني. أنه لا يبعد أن تصبح أشكال الديانات بعد مضي بضعة قرون وقد نالها من التغير ما لا نكاد نعرفها معه. ولكن مهما يطرأ على أشكال الديانات من التغير فإن حاجة النفس إلى الاعتماد على القدرة الألهية وتلمسها الأتصال بذلك السر الخفي الأبدي - هذا أمر ثابت دائم لا يزول ولا يتغير. وما كان في قدرة مجهر الكيماوي أو مرقب الفلكي أو قادوم الجيولوجي أن ينزع من النفس حاجتها إلى تلك الصخرة الراسية تستقر عليها_إلى تلك النجمة التي لا تغرب_إلى ذلك الموجود الواهب الحياة لأدنى ذرات هذا الكون الواسع.
والناس على الإطلاق لا غنى بهم عن الدين، من لم يحتج إليه صغيراً احتاجه كبيراً، ومن لم يعتقده مختاراً اعتقده مقهوراً. فإنك لتبصر الرجل الضعيف العقيدة يسترسل في جحوده ما شاء فيرميه الله بالمصيبة فإذا هو مؤمن. وأني لمن أدركوا سر الحياة الباطنية بطول مكابدة أهوال الحياة الظاهرة. ولقد كنت قبل أن يبتليني الله أكثر اهتماماً بلون قطيفتي ومقدار ملائمتها للوني مني بالدين وكافة شؤونه فأراد الله أن أفهم معنى قولهم المؤمن مصاب.
ولما تأدبت في مدارس الشقاء، وسبكت بنار المحنة، علمت أنه لا ذخر أنفس من الأيمان، ولا حرز أمنع من اليقين. وذلك أني وجدتني غنية بذلك إذ أنفضت من متاع الدنيا. وكان إيماني كالعود الخوار فإذا هو كالنبعة الصلبة ألفيتها نعم المتكأ في الضراء. والمعتمد في النكراء. وكان يقيني واهناً ضعيفاً كخامد الجمر، فإذا هو كالضرام المتأجج جلى غيهب الشكوك وحندس الشبهات، وأوضح منهج الرشد فعلوته مسددة الخطوات مأمونة العثرات. ولست في ذلك إلا واحدة من آلاف آلاف كلهم قد لقي من هذه الأحوال ما لقيت. كلهم غمس في حياض البلاء ورسب في أعماق الكرب فعرف حاجة النفس إلى الإيمان والتوكل - إلى بث شكاياتها ونفث أشجانها ورفع دعواتها إلى أذن سميع مجيب يفهم حاجاتها ويرثى لبلواها.
هذا حق لا يضر به ولا يؤثر فيه تداول الألسن إياه بالمناقشات والمباحثات وهل يعرف الناس شيئاً أثبت على الجدال وأرسى على المحاورة ولا أبقى على المعارضة وأدوم على المحاربة من الحق؟ وما أحسن ما نطق به الأستاذ في هذه الصدد إذ قال أحد الجلساء ألا(14/5)
تخشى من إيراد المسائل الدينية في عرض الحديث الاعتيادي؟ فقال الأستاذ أخشى على م؟ فأجاب صاحبه على الحق قال الأستاذ ما كنت أحسب أن الوهن والمرض قد بلغا بالحق هذا المبلغ. متى كان الحق من شدة الضعف بحيث لا يستطيع الخروج إلى الناس إلا متلففاً في كسائه مختفياً في جوف مركبته خشية مس الهواء والشمس. دعني أضرب لك في هذا الصدد مثلاً يسر الصغار ولا يضر الكبار.
يحكى أن صبياً كان له طيارة مملوءة غازاً ولها حبل يعقد طرفه بكفه خشية أن تندّ في الفضاء فتضيع، وكان للغلام أخ خبيث فأتاه ذات يوم فقال له أي أخيّ أنزل طيارتك أرها، فجذبها الغلام وكان في يد الأخ الخبيث إبرة فشك بها الطيارة فخرج من جوفها الهواء فتقلصت فإذا كل ما هنالك جلدة متقبضة.
فلما كان ذات مساء وأبو الغلام واقف لدى النافذة نادى ابنه لينظر القمر ففعل فسرّه الكوكب المتألق غير أنه ما لبث أن قال أبي. لا تجذب الحبل فيهبط القمر لأني أخشى عليه أخي الخبيث أن يخرقه فيتقلص ويذهب فلا نراه أبداً.
عند ذلك ضحك أبوه وأخبره أن القمر ما برح مشرقاً على الدنيا منذ أقدم العصور وأنه سيبقى كذلك أمداً طويلاً. وأم كلّ ما علينا هو أن ننظف زجاج نوافذنا فلا ندع التراب يتراكم عليها، وأن نبقي أعيننا مفتوحة ولكنا لا نستطيع أن نجذب إلينا القمر فنشكه فنخرقه. ولتعلمنّ كذلك أن القمر ليس ملكاً خاصاً بفرد من الأفراد وإنما متاع مشاع ينعم برؤيته كل من شاء.
الحق صلب يابس ليس كالفقاعة يفقؤها اللمس. ولكنه كالكرة تركلها طول النهار بقدميك فلا تجدها لدى المساء إلا متينة منتفخة. وما أحسن قول المستر برينت حيث يقول. الحق متين لو مر فوقه قطار البخار ما ضرّه. والباطل سقيم يميته أدنى الخدش. وما أن رأيت ولا سمعت برياضيّ راح قلقاً على نظرية من نظرياته أن يبطلها مبطل أو يدحض برهانها داحض. ورأي أن خوفك المناقشة دليل قاطع على وهن اعتقادك.(14/6)
لماذا لا نتزوج
من الأخطار التي تحدق بالمجتمع الحاضر أحجام الشبان والشواب عن الزواج، فقد قلت نسبته اليوم في البلد الغربية، وفي مصر وغيرها من الأقطار عما كانت عليه منذ عشرين أو ثلاثين عاماً، وقد سئل في سبب ذلك كثيرون من مشهوري الفرنسيين والانجليز، وكثيرات من مشهوراتهم زفيهم فتيان وآنسات وكهول وعجائز. فآثرنا أن نأتي بآراء هؤلاء الأفاضل والفضليات في هذه المسألة الحيوية الخطيرة.
قالت مدام ساره برنارد الممثلة الذائعة الصيت.
أني على يقين من أن سبب قلة النسبة الحاضرة للزواج راجع إلى تغير في العادات والآداب والأطوار عما كانت عليه قديماً، فلما كنت فتاة لم يكن يسمح للآنسات من الحرية والإباحة عشر معشار ما ينعمن به اليوم، ولم نكن نعرف في شبيبتنا الأكل في المطاعم والفنادق بأن لا وسيلة للقاء إلا بالتزوار، وأحسن سبيل للخلاص من عناء الزيارة في المنزل، أن يسرعوا إلى الزواج ولكن تغيرت الحال في هذه الأيام، فإن الفتيات ينعمن في كثير من الوجوه بالحرية التي للرجال، نعم قد يصادف أن يكون الآباء على غيرة شديدة فلا يسمحون لفتياتهم بالخروج إلا مع الوصيفات، ولكن أغلب الوصيفات قد أصبح في هذه الأيام أقبل للخداع عما كن عليه في السنين الماضية. فنشأ من ذلك أن الفتى والفتاة قد أصبح لهما الآن من الحرية أكثر من أمس، فهما يستطيعان أن يلتقيا كل يوم بالطبع، فلا يكاد يمضي عليهما وقت كبير حتى يشعرا بأنه من الغبن أن يتخليا عن شيء من هذه الحرية، ويضحيا تلك العادات الطائشة التي لهما.
وكلما تدبرت هذه المسألة من وجوهها، ورأيت هذه التغيرات الكثيرة التي عدت على العادات التي كنا نأخذ بها منذ خمسة عشر أو عشرين سنة، لا يسعني إلا أن أرى أن نسبة الزواج الآخذة في القلة لم تصر إلى مثل هذه الحال إلا لأن امتزاج الرجال بالنساء اليوم قد أصبح مستهاناً فيه، ومباحاً أكثر من قبل أضعافاً مضاعفة.
وقال المستر أرثر بور شير وهو من الشبان:
إن في رأيي أن سبب قلة الزواج راجع بأجمعه إلى خطأ المرأة، فإن المرأة العصرية هي بلا ريب أقل صبراً ورزانة من جدتها أو جدة جدتها، وهي أبداً تميل إلى عادة من اسوأ العادات وأقبحها وهي الماعبة، وأكبر شيء يعجز عن احتماله كل رجل هو أن تنتقده المرأة(14/7)
وتسخر منه، فإذا لم يجد الرجل من النساء سخرية ودعابة فإني لا أرى هناك ما يمنعه من الزواج، فإن أوثق ما يرتبط به زوج وزوجة هو اتفاق اخلاقهما.
وقالت مسز هنري دودنيت الروائية المشهورة
ليس منشأ قلة الزواج خطأ أحد الفريقين أو كليهما، وإنما يرجع إلى شجاعة هذا العصر وإخلاصه، وفوق ذلك إلى روح المصادقة النامية بين الجنسين، وليست كما يظن البعض دليلاً على الأثرة والانحطاط، وإنما هي برهان جليّ على تقدم (الإِدياليزم) أي المثل الأعلى.
لقد كانوا يظنون في الماضي أن اختلاف الجنس وتساوي المركز في المجتمع خير قاعدة يؤسس عليها الزواج، ولكن المحبين اليوم والحبائب يطلبون أكثر من ذلك، ويظهرأن الجيل الحاضر يريد زواجاً لا انحلال له.
وتغير مركز المرأة في المجتمع له مساس كبير بالموضوع من الوجهة الاقتصادية، على أني أقدم العامل الأول وهو المثل الأعلى على العامل الثاني وهو السبب الاقتصادي، فإن الأول أبدي والثاني عرضي.
وقالت الآنسة هيلدة تريفلان:
أني أرى السبب الأكبر ف الإحجام عن الزواج هو غلاء المعيشة ويلي ذلك حب الملاهي والملذات، وهذا من أكبر معالم الفتيان والفتيات اليوم، وهناك سبب ثالث كسابقيه في أهميته، وهو اكتساب المرأة تلك الحرية لكبيرة التي رخصتها لها سنن المجتمع الحاضر، وأرى أن هناك شعوراً عاماً بين الشبان والشواب وهو أن الزواج لا ينبغي أن يفهم من معناه اليوم القيام بما ينتظره العالم من كل فتى أو فتاة، وأعرف كثيرات من الفتيات العوازب كما أعرف كثيرين من الفتية العزّابن يجدون في العزوبية والبقاء عليها كل الرضا، ويخال لي أن العزبة حال راضية، فلما وجد كل من الفريقين أن من الممكنات أن يكون سعداء ناعمي البال وهم وحدان عزاب فضلوا ما عدّوه السعادة العزبية المحققة على السعادة الزوجية المحتملة.
وأرى أنه ما دامت النساء يتمتعن بنصيبهن الحاضر من الاستقلال، فلا بد من أن تظل نسبة الزواج أقل مما كانت عليه في تلك الأيام التي كانت تعيش فيه الفتاة عيشة النسك(14/8)
والاعتزال.
وقال الآنسة فانبروج:
إن تساؤلنا لم لا يتزوج اليوم إلا القليلون ليبدو لي من أصعب المسائل التي يشق على فرد محاولة الجواب عليها، وأنا أميل إلى الظن بأن السبب الهام في قلة نسبة الزواج يرجع إلى الترخيص للنساء بهذه الحرية التي لهن اليوم.
لقد وضعت مسز جراندي في الأيام الماضية طريقة صعبة وهي أن المرأة ينبغي أن يكون لها وقت فراغ طويل، ولايجب عليها أتلعب شيئاً من الألعاب إلا ما كان منها هادئاً، وأن تتعلم الخياطة والتطريز وتشتغل بهما في كل يوم، ولا ينبغي لها أن تخرج وحدها إلا نادراً، فنتج من ذلك أن الفتاة العانس رأت نفسها سجينة ما بقيت على عزبتها. فوجدت أن السبيل الوحيدة التي تستطيع بها أن تنال قسطاً أكبر من الحرية. هي أن تتزوج.
أما اليوم فقد سمح للنساء بحرية أكبر من قبل. ورياضات أكثر. فنشأ ولا ريب من ذلك أن كثيرات منهن يشعرن بأنهن سعيدات مستقلات وهن في العزوبة. ومن الغبن أن يخاطرن بسعادتهن وحرّيتهن في سبيل الزواج.
وقالت مسز ويليمسن الروائية المشهورة:
أرى أن إحجام الناس عن الزواج كثيراً راجع إلى هذا الغلاء الآخذ في الأزدياد حتى لقد أصبح الحب في كوخ أغلى من قبل وأكثر نفقة، وقد زادت الحاجيات عن ذي قبل، ولذلك يعوز الفقير لخطبة الفتاة الحسناء شجاعة أكبر مما كانت في تلك الأيام التي كان الروائيون فيها يختمون رواياتهم بعرس أو خطبة. وفضلاً عن ذلك فإن النساء قد سنحت لهن فرص العمل عن قبل. وازدادت الأجور عما كانت في السنين المنصرمة. فلا حاجة بالنساء إلى أن يتزوجن لغرض الزواج ليس غير. وإذا كان الناس يتزوجون اليوم أقل من قبل فلعلهم يرون في الزواج حالاً أسعد مما رأى آباؤهم.
وقال المستر تمبل ثيرستون الروائي المشهور، وهو من الشباب:
من الخطأ الفادح أن نلقي سبب قلة الزواج على أحد الفريقين، وإذا كان هناك شجار في هذا الموضوع بين الجنسين، فلا بد أن يكون من الأثنين، ولعل النساء يعرفن رجالهن أكثر مما عرفن، والرجال يعرفون نساءهم أكثر مما عرفوا، ومن المحتمل أن يكون هناك شيء(14/9)
من المثل الأعلى في الحياة متلجلجاً في صدور الرجل والنساء، ومنشؤه شدة الصحف اليومية، وليس في عصبة الرجال من رجل، ولا في جماعة النساء من امرأة، لا يكونان بالزواج السعيد أسعد حالاً وأنعم عيشاً، ولذلك نحن نؤمل أن تكون قلة النسبة عرضية لا تلبث أن تزول، وقد أصبحت هذه الأيام الحاضرة أيام حقائق، ولكن لا يسعني إلا أن أظن أننا لن نسمع بعد شيئاً عن قلة الزواج، إذا لم يتشبث الخطيبان بالحقائق جد التشبث، واعتقدا ما هو حق اليوم كما كان من قبل، وهو أن الزواج يقضي في السماء، ولا دخل في قضائه للأرض.
وقالت مسز بي رينولدز من مشهورات الكتاب الروائيين وهي من العجائز:
أن هناك أسباباً كثيرة لقلة نسبة الزواج الحاضرة، فمنها الروح الجديدة السارية بين الناس لطلب السعادة، والسعادة من الكلمات التي أسيء استعمالها جد الإساءة مثل كلمة الحب، وإذا تكلمنا اليوم عن السعادة كشيء ينبغي لنا اقتناؤه، فلا نقصد بذلك كلمة اللهو، ذلكم اللهو الذي يشترى بالمال ويتمتع بع في العطلة والفراغ، والزواج الذي يلازمه دخل قليل هو على نقيض هذه السعادة، إذ يستلزم الجهد والسعي والاستقامة وتضحية النفس، وكلها من الأشياء التي يكرهها هذا العصر ويدعي أنه يحتقرها ويزري بها.
وهناك سبب آخر يعمل في أذهان المبصرين والعقلاء، ذلك أن الجيل الذي تقدمنا - آباؤنا وأجدادنا وجداتنا_كانوا يتزوجون دون تفكير أو استبصار، فكان من ذلك أن بلغت الأسرة عشرة أفراد أو أثني عشر فرداً، على حين أن دخل الأسرة لا يكفي لتعليم أربعة منهم تعليماً نافعاً، ونحن لا نزال نذكر نتيجة ذلك، ولهذا نريد أن نكون أحزم من آبائنا وأبعد نظراً ونريد فوق ذلك أن نكون أحراراً مستقلين، لنستطيع أن نكفل عيشنا ونضمن لأبنائنا ما يستعينون به على جهادهم في هذا العالم، فكان من المستحيل أن نتزوج ونحن في ربيع العمر وحداثة السن، فأما أن ننتظر حتى يتهيأ لنا أمرنا، ونأخذ للزواج عتاده، وأما أن نعجل بالزواج فنهبط في المجتمع، وننزل من مكانتنا التي درجنا فيها، ولا يستطع المقاومة والمصارعة إلا القليلون الأشداء.
وفي الغالب ترى الأنتظار يقلل من رغبتنا التي غالبتنا في زمان الصبا، ويضعفها، ويذهب بها، ونصبح أكثر انزواء عن الزواج وإشفاقاً منه، واعتياداً للعزوبة والعمل تبع أهوائنا،(14/10)
ويأخذ تأثير الزواج في الضعف ما انتظرنا حتى ينتهي غالباً بالرفض.
وقالت مدام كلارت:
أظن أن قلة الزواج ترجع كثيراً إلى فكرة الجيل الحاضر واختلافها عن فكرة أجدادهم وجداتهم، فإن لهذا الجيل أفكاراً أكبر، ومطامع اوسع وأكثر تبايناً، وأشد طماعة مما كان عليه آباؤهم. وكلما فكروا في الجهاد الذي لقيه آباؤهم في السنين الأولى من حياتهم الزوجية، وكيف كانوا يقتّرون ويقتصدون ويحرمون أنفسهم حتى من ضروريات الحياة، لكي يكفلوا لأبنائهم وسائل التربية الصحيحة، ساءل كل نفسه أيليق بمثلي الزواج، أن لي الآن دخلاً صغيراً، فهل يحق لي أن اسأل امرأة يدها لتعيش معي عيشة التضحية التي عاشتها أمي في الأعوام الأولى من زواجها؟. .
ويذكر كيف كانت والدته وهو صغير تشتغل في الدار أبداً وتعمل، تصلح جوارب زوجها، وترقع أثواب أطفالها، وتجدد أخلاق ثيابها. فيقول بلى أني لأوثر أن أتزوج، ولكن يظهر أن الزواج لا يليق بي أو بحياتي.
ويذكر بعد ذلك السؤال الذي يريد لو يلقيه على الفتاة الجميلة فلا يستطيع عليه إقداماً. وتمضي السنون عليه فيفقد ذلك الميل الذي كان يشعر به وتفقد فتاته الجميلة رونق الشباب.
فإذا نظرنا إلى المسألة من هذه الجهة فمن ذا الذي يستطيع أن يقول أمصيباً كان في بقائه على العزوبية أم مخطئاً.
أما أنا فلا أستطيع أن أجيب عليه ولا أرى لي فيه رأياً.(14/11)
نوابغ العصر
أحمد بك شوقي
2
تكلمانا في العدد الماضي - وكنا بصدد من اعرية شاعرنا النابغة أحمد بك شوقي_عن الشاعر ومكانه من الجماعة، وجئنا بكلمة طيبة في ذلك لكاتب شاعر من خيرة كتاب المغرب الشعراء، ولما كنا قد اعتزمنا أن نكتب فصولاً عدة في شاعرية أمر الشعراء ونبوغه وآرائه وشعره وأدبه مما ليس في مكنتنا أن نلم به في فصل أو فصلين، رأينا من الفائدة أن نبدأ بفصل في الشعر وماهيته وتاريخ تطوره، وموازنة الشعر العربي بالشعر الغربي، وتقدير الأمم قدر شعرائها، حتى ينبسط لنا الكلام في موضوعنا الذي اجتمع رأينا على الاستفاضة فيه وتناوله من أجزائه وصميمه.
الشعر هو ذلك الفن الوجداني الذي يصور أدق شعور النفس، ويمثل كامن مشاعرها، وعظيم وجداناتها، ويبسط أحوال العالم بمظاهره الكامنة، ومعالمه الظاهرة، ويمرح بالفكر بين وادي الحس ووادي الخيالن ويظهر للعيان أرواح العصور والأجيال، بين أنة يصعدها موجع، ودمعة يذرفها محزون، ونغمة يصدح بها مبتهج، وشكاة يبديها مظلوم، وكلمة كبيرة يصدرها حكيم، وضحكة ظهرها طروب، ولوعة يجدها عاشق.
ولا تجد في تاريخ الإنسانية عصراً خلا من شعر له، فإن المخيلة أبداً تعملن ومشاعر النفس أبداً تنفّس عنها بالظهور، مما يثبت أن الإنسان خلق بطبيعته شاعراًن وأن الشاعرية كامنة فيه كمون النار في الصفاة، لا يعوزها للظهور إلا ما يعوز صاحب الجرس الحلو من توازن النبراتن وانتظام النغم، وخفة التقطيع وطيب الأوزان. ومن المعاني المستنبطة من توليد القريحة وابتكار المخيلة، والإفتنان في التعبير بما يقع من المجاز والكناية، فإن في انتظام النبرات ما في أغاريد الهزار وخرير الأمواه وحمحمة الجياد من تأثير، كما أن في بواكر المعاني أثراً غريباً في النفس، شأن كل جديد غير مرتقبز وكذلك فإن في أساليب الإستعارة والمجاز والكناية أعمالاً للفكر ينطبع له المعنى في الذهن بأشد مما لو كان صريحاً لا يحتاج الفكر في فهمه إلى شيء.
وقد تبع الشعر سنة التطورن وكان تطوره من التماثل إلى التباين، فقد كان الشعر(14/12)
والموسيقى والرقص أجزاء لشيء واحد، فصارت على ممر العصور كما نراها الآن منفصلة بعضها عن بعض، وأصبح كل منها فناً قائماً بذاته، وأنك لتجدها حتى اليوم متماثلة متحدة بن القبائل المتوحشة، فإن رقص الهمجيين لا بد من أن يصحبه نشيد متشاكل النغم، وتصفيق بالأيدي وقرع الدفوف، أي أن هناك حركات موزونة وكلمات موزونة ونغمات موزونة، ومن نظر إلى تاريخ الشعوب القديمة الأثرية رأى هذه جميعاً متحدة في الأعياد الدينية، وقد جاء في المدونات العبرية أن نشيد النصر الذي نظمه موسى في هزيمته للمصريين تغنوا به على الرقص وقع الطبول. وكان بنو اسرائيل ينشدون ويرقصون ويتغنون يوم اتخاذهم العجل الذهبي.
ولما كانوا قد أخذوا العجل الذهبي عن (آبيس) معبود المصريين فلا جرم أن المصريين كانوا يفعلون فعلهم في الحفلات الدينية، وكذلك كان اليونان في أعياد آلهتهم وأبطالهم، وكان للرومان أعياد دينية يقيمونها رقصاً وإنشاداً وغناء، وفي بعض الشعوب المسيحية التي جاءت بعد هؤلاء كان الأهلون يقيمون حفلة راقصة منشدة تبركاً بالقديس، وقد بدأت هذه الفنون تنفصل بعضها عن بعض، ثم تنفصل عن الدين في عهد اليونان، فقد اتخذوها بعد ذلك في حروبهم، وابتدأ الشعر والموسيقى مجتمعين ينفصلان عن الرقص.
وأنشأ الشاعر ينظم القصيدة فإن كانت مطولة ألقاها إلقاء، وإن كانت قصيرة غناها.
وكان الشعر مع ذلك يتطور في نفسه ويتدرج تبعاً لتطور العالم وارتقائه، فقد كانت اشعار الإنسان بل الشاعر الأول أناشيد روحانية تدور حول الخالق والخلق. وكان العالم قفراً يباباً، وكان فكر الإنسان مذهولاً متلدداً بين السماء والأرض، فلما زادت الخيرات وخرج الإنسان عن أنانيته وحيوانيته فأصبح حيواناً اجتماعياً، وامتدت حدود الاجتماع فصارت العشيرة قبيلة وصارت القبيلة أمة، وتطورت جماعات المدينة إلى جماعات الأقليم، وتطورت جماعات الأقليم إلى جماعة الشعب، وشرع الكاهن والملك يلعبان دورهما في تاريخ الأنسلية، فأنشئت الأمارات وقامت الممالك، ثم بدأ العالم من جراء التكاثر يزدحم، وراح كل شعب يصطدم بجيرانه، فوقعت من ذلك الحروب والغارات، وولدت الحروب أمثال هوميروس، فكان الشعر هو مرآة لكل تلك الأمور، وانتقل من حد بيان الخواطر والمشاعر إلى وصف الحوادث وتصويرها، فكان منه التاريخ، وتدوين الوقائع، وتسطير(14/13)
الحكايات والخرافات، ثم دخل العالم بعد ذلك في حال جديدة فتوارت الآلهة أمام العقائد الصحيحة، ووضعت آساس المدنية الحقة، فتحولت أخلاق الإنسان وتهذبت مداركه وأصبح الشعر بعد ذلك أقرب إلى الحقائق وأدنى إلى المعقول.
وكأنما العالم راح بعد ذلك منهوك القوى من أثر المدنيات الأولى، فأقبلت عليه العصور المظلمة، وأرخت عليه سدولها، فنام الشاعر وسكنت أغاريده وتنوسى هوميروس وإلياذته، وفرجيل وإينيادته، وهوراس وشاعريته، وتتابعت عشرة قرون خرس كما يقول كارليل، حتى أنبتت أرض إيطالية دانتي، فأنشأ (الكوميديا المقدسة) وكان في منحاه صدى لفرجيل، وجاء بعده بترارك فنظم ملحمته (أفريقيا) وبوكاسيو وجيوتو ونكولر بيزانو، فكانوا جميعاً طلائع الشعر الغربي، ومرددي الشعر الروماني واليوناني، وتقوضت بهم حكومات الإقطاعاتن وبدأت عبادة جديدة للجمال، وأخرى للعلمن وثالثة للسياسة والمُلك، وأحدثت الآراء الجديدة في الإنسان والحياة ومقاصدها وحقوقها وواجباتها، ومباهجها وآلامها، وفي الدين والعلم وما إليهما مما له مساس بتاريخ الإنسانية، فنشأ من تلكم الآراء الإصلاح الديني الذي قام به مارتن لوثر وكالفن وجون نوكس واراسماس، ونجم عنها النظريات والآراء التي أضرمت نار الثورة الفرنسية الكبرى، ولا يزال أثر هؤلاء الشعراء باقياً في آداب الغربيين حتى يومنا هذا.
وعن هؤلاء أخذ شعراء الانجليز والفرنسيين، واقتفوا آثارهم وآثار الشعر الروماني واليوناني اللذين أخذ عنهما هؤلاء الطليان. وكان معاصراً لهم أول شعراء الانجليز شوسر، فكان له من الأدب الطلياني عالم جديد سمت فيه شاعريته إلى أوجها، وتعلم من جحيم دانتي كيف تكون الروح الشعرية، وتلقن من مقطعات بترارك صناعته، وأخذ عن قصص بوكاسيو وإبداعه في السرد، وكان شوسر يأخذ عناوين قصائد هؤلاء فينسج على منوالها، في أحسن قالب ومكانة شوسر عند الانكليز مكانة امرئ القيس عند العرب، بل أن روحيهما تكادان تتفقان من أغلب الوجوه.
فأنت ترى من ذلك أن الشعر الغربي يرجع مصدره إلى الشعر اليوناني والشعر الروماني. ولم يكن لشعراء الغرب في بادئة أمرهم إلا نوعان من الشعر أخذوهما عن اليونانية أيضاً، وهما الشعر القصصي، وهو ما يعبر عنه في الانجليزية بلفظة والشعر الغنائي، وهو ما(14/14)
يعبر عنه بلفظة والكلمتان مأخوذتان من اليونانية أيضاً، ومرمى النوع الأول التعبير عن مشاعر الناس وأحوالهم ومرمى النوع الثاني التعبير عن مشاعر النفس، ولكل من هذين أنواع وأقسام. فمنها الشعر الروائي واسمه في الانجليزية كقصيدة شارل هارولد أودون جوان للشاعر بيرون، والشعر الديني كقصائد ملتن، والشعر الفلسفي مثل قصيدة (الأوكسترا) للشاعر ديفس وفيها يصف العالم ويشبهه بالمرقص، وقصائده التي عنوانها أعرف نفسك وقصيدة خلود الروح. والشعر التهكمي كأشعار الشاعر سبنسر، والشعر الصوفي مثل قصيدة إبراهيم كولي عن نفسي والشعر الوطني مثل قصائد درايتون ودانيل وصامويل، والشعر الغرامي كقصيدة امورتي للشاعر درايتون، وأغنية لودج في روسالين، والشعر الحربي كقصيدة موقعة البالطيك للشاعر كامبل، والشعر السياسي كتلك الأشعار التي كانت تنظم في أيام الثورة الانكليزية، والشعر الأخلاقي مثل قصيدة الواجب للشاعر كوبر، والشعر الثوري كشعر روبرت سونى - الشاعر الحمي الأنف الأسم_في الثورة الفرنسيةن وشعر اليأس والحزن مثل قصائد الشاعر القنوط كولوريدج. وجملة القول لم يدع شعراء الغرب فرعاً من فروع الحياة إلا وجالت فيه ناضجة قرائحهمن ومرحت فيه مريعة مخيلاتهم.
ثم أدخلوا على هذين البابين وفروعهما باباً ثالثاً سموه الدراما ومعناه الشعر التمثيلي. ولهذا الباب أقسام وهي الكوميديا ومعناها الروايات المفرحة أو المضحكة. وكان يصحبها في بادئ الامر الرقص والغناء، والتراجيديا وهي الروايات المحزنة، والهستوريك أي الروايات التاريخية.
ولم تكن الدراما أواخر القرن الثالث عشر في شيء من هذه الأقسام بل بدأت في انجلترة بنوع يسمى وهذا النوع يدور حول تمثيل حوادث التوراة والانجيل وأعمال المسيح، وكانوا يمثلونها غالباً في الكنيسة أو بجوارها. ولم يكن الممثلون إلا الكهنة، ثم أخذوا بعد ذلك يمثلونها في القرى، ثم توسعوا في هذا النوع وتصرفوا فيه وسموه وأدخلوا عليه تمثيل بعض قصص عن قديس أو شهيد وكانوا يمثلون هذه جميعاً في يوم عيد الميلاد والأعياد الدينية الأخرى.
وتطور هذان النوعان المرتبطان بعد ذلك حتى كان عهد أدوارد الثالث بين 1327 و(14/15)
1377 فأنشأوا نوعاً أخلاقياً جديداً سموه
وأشخاص الروايات التي من هذا النوع هي الفضائل والرذائل مثل الثبات والإرادة والكذب والنميمة وغيرها، ثم أضافوا بعد ذلك أشخاصاً أخرى مثل الغني والفقير والموت، وكان المؤلفون يربطون هذه جميعاً ويصوغونها في قصة بسيطة تنتهي بفوز إحدى الفضائل. ثم توسعوا في ذلك فجعلوا يمثلون هذه في أبطال اشتهروا بها، فيجعلون مثلاً لتشخيص العدل أريستايديس اليوناني المشهور وللقوة هيركيوليس وللفصاحة ديموستنيس وأمثال ذلك، فأنشأوا بذلك مبادئ الدراما الحقيقية.
ثم أشأوا لملهاة الجمهور قطعاً مضحكة يمثلون بها الحياة العامة وسموها ومنها تفرع النوع الهزلي الذي نشاهده في قهاوي الرقص اليوم، ويسمونه
وقد يجمعون كل هذه الأنواع في رواية واحدة، كما جمع شكسبير فروع الشعر القصصي والشعر الغنائي في رواياته التمثيلية.
ثم بدأت الدراما الأصلية، وكانت تنظم شعراً مقفي، يتخللها قطع نثرية، ثم بدأ الشاعر الانجليزي مارلو نظمها شعراً مرسلاً وجاء بعده ويليم شكسبير أنبغ نوابغ الشعر التمثيلي فأفتن في ذلك.
وسما الشعر التمثيلي في انجلترة بشكسبير كما سما في ألمانية بجيث وشيلر وضعفت مكانته بوفاته، وجعل الشعراء بعده يقلدون بدائعه فلم يظفروا. حتى كان عهد ويليم الثالث بعد كرومويل ورجوع الملكية فأخذ مؤلفو الدراما ذلك أسلوب كابرناد وسكوديري من رجالات القرن السابع عشر واقترضوا روايات كورني وراسين مزاحمه وصاحب رواية الأدعياء وموليير أشعر شعراء الكوميديا، وأخذوا عن كورني أسلوبه المسمى بالإرتباطات الثلاث وهي المكان والزمان والحدوث ومعناها أن المناظر يجب أن تكون في مكان واحد، وأن حوادث الرواية يجب أن لا تحدث في أكثر من يوم واحد، وأن لا يدخل في الرواية مالا يختص بإظهار خاتمتها. وتركوا الشعر المرسل ونظموا رواياتهم شعراً مقفى. ولكن الشاعر دريدن وهو أشعر شعراء الملكية في انجلترة عاد فاستعمله.
ولم يشتهر في انجلترة من لروايات بعد ذلك إلا رواية كاتو في عام 1713 وكان مؤلفها الكاتب المشهور ادين وقد امتدحها فولتير وأثنى عليها خيراً وقال أنها أول تراجيديا فلسفية.(14/16)
واشتهر القرن التاسع عشر بنوع جديد سموه (الأوبرا) تلازم فيه الموسيقى التمثيل. وتفننوا فيه فاستعملوا نوعاً معروفاً عندهم باسم يتتابع فيه الكلام والغناء والنشيد. ونوعاً آخر اسمه اوبرابوف وهو نوع من الكوميديا.
ومن الذين اشتهروا (بالأوبرات) أمثال فردي وأشهر رواياته ارناني وعائدة وترافياتا. وكانت وفاته عام 1901 وولد سنة 1813 ولذلك عمل له في هذا العام التذكار المئيني. وجو نود ودوزنتي وبرليوز وكثيرين.
هذا ما وسعنا اليوم وسنعود في العدد القادم فنكتب في الموازنة بين الشعر العربي والشعر الغربي ثم نأخذ في موضوعنا الذي اعتزمنا إن شاء الله.(14/17)
نوابغ العالم
عبد الرحمن الداخل
مؤسس الدولة الأموية بالأندلس
وفردريك الأكبر
مؤسس الوحدة الألمانية
عبد الرحمن الداخل
أسلفنا في العدد السابع أن الأمير عبد الرحمن الأموي الذي أفلت من العباسيين ونهد إلى الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة في خلافة أبي جعفر المنصور، وأسس الدولة الأموية الثانية بعد أن عثر الدهر بالأمويين في المشرق عثرته - نقول أن هذا الأمير بعد أن ذهب إلى الأندلس وظفر بولاتها ثبت قدمه في الملك واستوسق له الأمر واستقر بقرطبة، قال ابن خلدون: ومهد الدولة بالأندلس وأثل بها الملك العظيم لبني مروان وجدد ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها واستلحم الثوار في نواحيها على كثرتهم هناك وقطع دعوة العباسيين من منابرها، وسد المذاهب منهم دونها وقضى سنة ثنتين وسبعين ومائة وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل لأنه أول داخل من ملوك بني مروان إلى الأندلس، وكان أبو جعفر المنصور يسميه صقر قريش لما رأى ما فعل بالأندلس وما ركب إليها من الأخطار وأنه صمد إليها من أنآي ديار المشرق من غير عصابة ولا قوة ولا أنصار فغلب على أهلها وعلى أميرهم وتناول الملك من أيديهم بقوة شكيمة وامضاء عزم حتى انقاد له وجري على اختياره وأورثه عقبه، وكان يلقب بالأمير وعليه جرى بنوه من بعده فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين تأدباً مع الخلافة بمقر الإسلامومنتدى العرب حتى كان من عقبه عبد الرحمن الناصر وهو ثامن بني أمية بالأندلس فتلقب بأمير المؤمنين على ما سنذكره لما رأى من ضعف خلفاء بني العباس بعد الثلاثمائة وغلبة الأعاجم عليهم وكونهم لم يتركوا لهم غير الأسم وتوارث ذلك بنوه واحداً بعد واحد. وكان لبني عبد الرحمن الداخل هذا بالعدوة الأندلسية ملك ضخم ودولة متسعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة. وعندما شغل المسلمون بعبد الرحمن الداخل وتمهيد أمره قوي أمر الجلالفة واستفحل سلطانهم وعمد ملكهم فرويلة بن أدفونش (ألفونس الكاثوليكي ملك استوري) إلى ثغور البلاد فأخرج(14/18)
المسلمين منها وملكها من أيديهم فملك مدينة لك وبرتقال وبورتور (إحدى مدائن البرتقال) وسمورة وقتشالة (كستيلية) وشقوبية وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور بن أبي عامر آخر الدولة.
ولما استقر قدم الأمير عبد الرحمن بالأندلس أخذ في بناء المسجد الجامع والقصر بقرطبة وأنفق نحواً من ثمانين ألف دينار وبنى مساجد أخرى كثيرة.
قال ابن حيان: ولما ألفى الداخل الأندلس ثغراً قاصياً غفلاً من حلية الملك عاطلاً أرهف أهله بالطاعة السلطانية حنكهم بالسيرة الملوكية وآخذهم بالآداب. فأكسبهم عما قليل المروءة وأقامهم على الطريقة وبدا فدون الدواوين وعقد الألوية وجند الأجناد حتى اعترف له بذلك أكابر الملوك وحذروا جانبه وتحاموا حوزته ولم يلبث أن دانت له الأندلس واستقل له الأمر فيها.
وخاطب عبد الرحمن قارله (شارل مارتيل) ملك الأفرنج وكان من طغاة الأفرنج بعد أن تمرس به مدة فأصابه صلب المكسر تام الرجولية فمال معه إلى المداراة ودعاه إلى المصاهرة والسلم فأجابه للسلم ولم تتم المصاهرة قال ابن حيان: وكان الداخل يقعد للعامة ويسمع منهم وينظر بنفسه فيما بينهم ويصل إليه من أراده من الناس: قالوا: وكان عبد الرحمن أصهب خفيف العارضين بوجهه خال طويل القامة نحيف الجسم له ضفيرتان أعور أخشم والأخشم الذي يشم ولما ذكر الحجاري أنه أعور قال ما أنشد فيه إلا قول امريء القيس:
لكن عوير وفي بذمته ... لا عور شأنه ولا قصر
قال ابن خلدون: وفي سنة ست وأربعين سار العلاء بن مغيث اليحصبي من أفريقية إلى الأندلس ونزل بباجة الأندلس داعياً لأبي جعفر المنصور واجتمع إليه خلق فسار عبد الرحمن إليه ولقيه بنواحي أشبيلية فقاتله أياماً ثم انهزم العلاء وقتل في سبعة آلاف من أصحابه وبعث عبد الرحمن برؤوس كثير منهم إلى القيروان ومكة فألقيت في أسواقها سراً ومعها اللواء الأسود وكتاب المنصور للعلاء فارتاع المنصور لذلك وقال ما هذا إلا شيطان والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر أو ما هذا معناه.
وغزا عبد الرحمن بلاد الأفرنج والبشكنس ومن وراءهم ورجع بالظفر وكان في نيته أن(14/19)
يجدد دولة بني مروان بالمشرق فمات دون ذلك الأمل وكانت مدة ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وكان موته في خلافة الرشيد وأمه أم ولد بربرية اسمها راح ومولده سنة ثلاث عشرة ومائة بدير حنا من أرض دمشق وقيل بالعلياء من تدمر ومات أبوه في أيام أبيه هشام سنة ثمان عشرة عن إحدى وعشرين سنة وكفله واخوته جدهم هشام وخلف عبد الرحمن من الولد عشرين منهم أحد عشر رجلاً وتسع إناث.
تلك هي ترجمة عبد الرحمن الداخل كما ذكرها ابن خلدون مع الحذف والزيادة والتقديم والتأخير. ومن وقف على ترجمة هذا الأمير العظيم تجلى له كالشمس في وضح النهار أنه من نوابغ العالم وأعاظم الرجال العصاميين الذين سودتهم نفوسهم، وأهابت بهم إلى العلياء هممهم. بقي علينا أن نصف حال الأندلس في عصر هذا الأمير والممالك الاسبانية التي كانت تجاوره وتناوئه العداء، وحال العرب الاندلسيين في ذلك الوقت وما ندر منهم من الأغاليط التي سببت ضياع هذا القطر الكبير من أيديهم بعد ذلك. وموعدنا العدد القادم إن شاء الله.
فردريك الأكبر
بقلم كبير كتاب الانجليز ومؤرخيهم اللورد ماكولي
3
وكتب الأمير فردريك كتاباً إلى معبوده فولتير في لهجة العابد، وأجابه فولتير بأجمل أسلوب وأحسن أدب، وتبع الرسالتين رسالات، وأن الرسائل التي دارت بينهما لتعد روساً نافعة لمن يريدون أن يمهروا في صنعة الملق. ويحذقوا فن الإطراء. ولم يكن ليضارع فولتير أحد في إهداء الأماديح. ولم يكن ليسبقه في تقديم التزكيات سباق. وكان يجعل لأماديحه أبداً طعماً شهياً منبهاً. يلذ الأفواه التي سئمت من جاف الثناء. وبرمت بأنماط المادحين.
ومن يد فولتير وحده يستطيع الأمير أن يزدرد سكراً كثيراً دون سآمة ولا ملل.
وكان الصديقان يتبادلان القصائد. ويتهاديان الموائد. ويتقارضان الطرائف. وهذا وفردريك يدفع بكتاباته إلى فولتير. وفولتير يصفق لها. معجباً بها. ويهتف لها مستحسناً. كأنما جمع الله راسين وبوسويه في واحد.
ومن بين منشآت الأمير كتاب له عارض به كتاب ماكيافلي. ونقد حججه. ونقض أدلته.(14/20)
وتعهد فولتير لعابده أن يحمله إلى المطبعة. وسمياه ضد ماكيافلي فكان كتاباً ممتعاً. حمل المؤلف فيه على سيئات الأغتصاب والأنتهاب والأغتيال والأستبداد والحروب الغاشمة الظالمة. وخلاصة القول أن المؤلف أنكر المساوئ التي ما يبرح يذكر عليها اسمه. وما يفتأ يشهر لها بين الناس أمره.
والملك الشيخ يبرم بين فترة وفترة بملهاة رينسبورغ ويضيق بين آونة وآونة ذرعاً بقصف وريثه وملاعبه. ولمنه كان متخاذل القوى. ضارع الجسم. قد ذهبت مرته. وحانت منيته. ولم يبق له من مباهجه إلا مبهجة واحدة وهي رؤية الأماليد من جنده. وطوال المناكب من عسكره. وهين على المبعد أن ينال قربته. وعلى المسيء أن يظفر بحظوته. إذا هما أتحفا الشيخ بجندي طويل. ومن ثم كان فردريك ابنه يوافيه بين حين وحين بهذه التحف. ويكثر له من تلكم الطرف.
ولقي الشيخ ربه في أوليات عام 1740 برباطة جأش وسمو نفس يليقان برجل أحفل فضلاً وأمتع عقلاً. وأصبح فردريك. وكان قد ناهز الثامنة والعشرين من سنه. ملك بروسيا ورأسها. ولم يفهم أحد في بادئة تتويجه معالم أخلاقه. ولكن لم يتلجلج في خاطر امرئ جلس إليه واستمع لحديثه وسمر في ناديه. أو كانت بينه وبين فردريك مراسلة. أن ينكر حفل نصيبه من الكفاءة. ومتع حظه من المقدرة. ولكن الحياة السهلة الشهوانية التي كان يتابعها. وحبه لذَّ المآكل وطيب الشراب. وميله إلى الموسيقى والسمر والحديث والأدب. جعلت الناس يعدونه امرأ شهوة ينبعث في أثرها بروحه وجثمانه. وأن ترنمه بمديح الأعتدال والسلام. وتغنيه بفضل الحرية والسعادة التي ينالها ذو العقل الكبير من إساد غيره. قد غررا ببعض القوم. وكان ينبغي لهم أن يكونوا بأمره أوسع علماً.
أما الذين أحسنوا الظن به فقد كانوا يتوقعون منه (تليماك) آخر. على غرار (تليمام) فنيلون. وتنبأ آخرون بأنهم على أبواب عصر جديد يضارع العصر المديسي. عصر تنتعش فيه دولة الأدب. وتزهر فيه دولة العلم. وتدول به دولة اللهو. ولم يشك إنسان في أن الصاعد أريكة الملك. المتبوىء عرش بروسية. مليك مطلق، له كفاءة حربية خارقة، ومقدرة في السياسة غير مألوفة، ومهارة في الصناعة غير معهودة، ولا خوف يساوره، ولا أيمان يطاوعه، ولا حدب يخالجه.(14/21)
وأن موجدة فولستاف على تتويج صديقه القديم لم تكن أكبر من الموجدة التي لاقاها صحب فردريك وشربه، وكانوا من قبل ينظرون يوم تتويجه كأنه اليوم الذي يبدأ فيه تاريخ نعيمهم، وعظمتهم ونباهتهم، فلما متع النهار الذي كانوا به يحلمون، ونزلوا بالأرض التي كانوا يظنون أنها حافلة بأنهار من لبن، فياضة بأنهار من عسل ماذى إذ هم عند صحراء تسوخ في فدافدها القدم.
ولقد أهاب فردريك يوماً بأحد أصحابه ناهراً، كفاك مجوناً، وحسبك دعابة! وبدا لهم أن الملك الجديد يشبه أباه في كثير من الأمور، والحقيقة أن هناك فروقاً كبيرة بين الوالد وولده في حدة الذكاء وعظمة الفكر وسرعة الخاطر وحب الملاهي والمناعم والمذاكرة والإطلاع والمظهر والمخبر، ولكن أساسي أخلاقهما متشابهان متماثلان، وأن فردريك ليحكي والده في حب النظام والعمل والشح، ويشابهه في آرائه الحربية وزهوه وخيلائه، وحدثه واحتدامه، وتلهيه بإيلام الناس وإذلال أنوفهم.
وما كانت هذه في الوالد إلا عن سخف في الرأي وضعف في الفكر. وما كانت في فردريك إلا عن حكمة وحزم وسداد، وإليك المثل.
كان فردريك كأنداده الملوك الصيد في عنايتهم بتهذيب جيوشهم وتنظيم كتائبهم، ولكن هذه العناية لم تبلغ إلى حد الجنون، ولم تؤد به إلى فارط الأعطية التي كان يحبو بها طوال الجنود، وكان فردريك في الاقتصاد كما ينبغي لكل أمير أن يكون، ولكنه لم ير كوالده القصد في العيش، والحرص على المال، والغناء بفاسد الأطعمة، من أجل توفير ستة شلنات في العام أو تزيد.
وإنا لنشفق أن يكون فردريك مثل أبيه نزاعاً إلى الشر. وميلاً إلى الأذى، ولكن ذكاء فردريك أعانه على أن يظهر ميله إلى الشر في سبل قواصد وأشكال متقنة.
ولبث قومه وجيرانه في شك من أمره حتى وقعت بعد ذلك أحداث، تجلى فيها صادق خلقه وظهر للناس ما خفي من دخيلته، وبدا لهم ما احتجب من سريرته، إذ لم يكد يمر على ولايته بضعة أشهر حتى لقي ربه شارل السادس، إمبراطور جرمانيا، وآخر أسرة النمسا من الذكران.
لم يعقب شارل السادس ولداً، وكان قبل وفاته في بأس من تخليف أبن يكون وريثه في(14/22)
الملك. فمن ثم جعل كل همه أن يضمن لأبنته تيجان أسرة هابسبورغ وأرائكها فأصدر لذلك قانوناً جديداً، وسن شرعة حديثة، في وراثة الملك، طبق ذكرها الآفاق، كفل بها لأبنته الأرشيدوقة مارية تريزة، زوجة فرنسيس لورين، حق الخلافة على أملاك آبائه الأولين.
ومكث وزراء النمسا وأساطين ساستها يعملون لمقصد واحد، هو تحقيق توليتها، فلم يتركوا أميراً يعلمون أن له حقوقاً تتأثر بتحقيق هذا القانون إلا استخلصوا منه تنازلاً، وارتضى القانون الشعوب والإمارات التي تنزل على سلطان النمسا وتدخل في حوزتها واجتمعت انجلترة وفرانسة وأسبانية وروسية وبولونية و (بروسية) والسويد ودانيماركة وولايات جرمانيا، على أن يكفلن جميعاً تحقيق هذه المعاهدة، وهكذا عهد بحمايتها إلى شعوب العالم المتحضر، وهكذا اتعد ملوك أوروبا، وتعاهدوا على ميثاق يجب أن يحفظوه وأبرموا عهداً لا ينبغي لأمثالهم أن ينكثوه.
وما كان مركز مارية وسجاياها إلا لتثير في قلب كل رجل كريم الرحمة واعطف والنجدة والإعجاب، وكانت قد بلغت الرابع والعشرين ربيعاً، يزينها الجلال. وتحف من حولها العظمة، وكانت حسنة المعارف قسيمتها، وسيمة الطلعة رقراقتها، حلوة الملامح عذبتها، ناعمةالجرس، مستملحة الأغاريد، جميلة المختلق، كريمة الخلق.
وكانت عفة الثوب، طاهرة الجيب، ما في زواجها لوم ولا عتب، تزوجت من رجل أحبته، وكانت قبل أن يحول الموت بينها وبين أبيها، توشك أن تضع وليداًن فكان فقد الوالد وأعباء الملك وزراء تنوء بحمله وهي في نفاسها وضعفها فشفها من ذلك الحزن وانتابها الأسى، واصفرت وجنتها وذبلت وردتها ولم يكن يجمل بها أن تبتئس، بعد ما ظهر لها أن العدل والإنسانية ورعى الذمم ووفاء العهود ستظهر جميعاً كلمتها وتسأل حقها ومكانتها، وأن العهد استخلصته في رهبة وسكون سيوفي لها في دعة واطمئنان.
وكتبت انجلترة وروسية وهولاندة وبولونية أنهن قائمات على عهدهن، مستمسكات بمواثسقهن، وقال وزراء فرنسة مثل ذلك، ولكن سيدة المجر لم تر في الملوك أخف من ملك بروسية إلى نصرتها ومودتها.
على أن ملك بروسية، مؤلف (ضد ماكيافلي) لم ينشب أن اجتمع رأيه على الخنث بمؤكد أيمانه، ونقض مغلظ أقسامه، وحزم أمره لسرقة الحليف الذي استؤمن عليه، وسلب(14/23)
الخليص الذي استنصر له، وإلقاء أوربة جمعاء في غمرات حرب دموية. طويلة الآماد، ذهابة بالطارف والتلاد، ولا مطمع له إلا أن يوسع عليه أرجاء سلطانه ويمد في أكناف مملكته، ويرى أسمه في الصحف منشوراً، ويقرأ خبره في الأسفار مسطوراً.
واعتزم أن يؤلف جيشاً عرمرماً في خفية وسكون قبل أن تعلم الملكة بخدعته، وتتهيأ لمناجزته، وتتخفف للقائه، يدفع به على فتح سيلزيا، ليجمع إلى أرضه، تلك الولايات الغنية، المريعة الجناب.
(يتلي)(14/24)
فصول في التعليم
مسألة التعليم هي اليوم موضوع بحث قادة الأفكار وجبابرة العقول، الذين وقفوا حياتهم، وعصارة ألبابهم، ومهب خواطرهم، على النهوض بشعوبهم إلى أرفع مستوى لتأخذ من الرقي والسعادة الأهلية والمكانة السامية بين متنافس الشعوب ومتزاحمة الأمم، فلا بدع إذا رأينا علماء أوربا ومصلحيها قد تفرغوا اليوم إلى درس مسائل التعليم وتمحيص باطلها، وتوخي أصلح الطرق لها، ووضع أنفع السنن لتهذيبها، وسواد المصلحين مجمعون على مسألة تعميم التعليم العملي ومحو فكرة تقسيم العمل التي سنها الأستاذ آدم سمث أبو الاقتصاد السياسي، والأعتياض عنها بوجوب الرابطة بين العلم والعمل حتى يكون المجتمع جمهوراً من علماء صناع وصناع علماء - ولما كانت سنة البيان أن ينقل أنفع ما كتب كتاب الغرب في أمهات المسائل الاجتماعية والعلمية والاقتصادية وغيرها فقد أخذ على نفسه أن يقف صفحات منه يتناول فيها أهم ما يذهب غليه المصلحون الغربيون في مسألة التعليم وها نحن أولاء بادئون بتخليص مبحث مستفيض نقتطفه من كتاب وضعه مصلح روسي كبير هو البرنس كروباتكين، فقد ألم بهذه المسألة وذهب بها مذهباً صالحاً وإليك مجمل ما تناوله في هذا المبحث الجليل.
الطلاق الحاصل بين العلم والعمل - التعليم العملي_التعليم العام_طريقة جامعة موسكو واستعمالها في مدارس شيكاغو وبوسطن وابردين_تضييع وقت الطلبة من جراء فساد التعليم الحاضر - العلم والصناعة_الفوائد التي تنتج من ارتباط العمل الفكري بالعمل اليدوي. وهذا هو الموضوع.
العلم والعمل
ووجوب اقترانهما
للبرنس كروباتكين المصلح الروسي الكبير
لم يستهن أحد من العلماء في العصور الماضية بقيمة العمل اليدوي، ولا سيما أولئك الذين بذلوا كل جهدهم في تقدم الفلسفة الطبيعية. بل أن منهم من كانو يصنعون عددهم ومراقبهم (تلسكوباتهم) بأيديهم أمثال جاليليه ونيوتون ولايبنتز، ولم يكن العمل اليدوي عند كبار العقول عائقاً لهم عن أبحاثهم الفكرية وإنما كان عوناً لهم عليها، وإذا كان عمال الماضي لم(14/25)
يجدوا فرصة لتحصيل العلم فقد تنبهت على الأقل عقولهم إلى تنوع الأعمال التي كانت تؤدي في المعامل التي كانوا يشتغلون فيها، وكثيرون منهم جلسوا إلى العلماء ودارت بينهم أبحاث ومناقشات أمثال جيمس وات وريني وبرندلي وغيرهم.
ولكن تغير الآن كل شيء، فقد فرقنا بن العامل بديه بحجة تقسيم العمل، وكان نصيب فئات العمال من التعليم نصيب أجدادهم، وأما العلماء فهم مستهينون بالعمل اليدوي على أنهم يعجزون عن عمل آسهل الآلات. وقد بلغ من احتقارهم العمل اليدوي أنهم يقولون أن ليس من المهم أن يفهم العمال حقيقة الآلات التي يشتغلون بها والقوانين التي صنعت بها وأنه يكفي أن العلماء والمهندسين الفنيين هم الذين يعُنَون وحدهم بتقدم العلم والصناعة.
ولا يفوتنا أن نقول أن هناك من العلماء من يخالف هذا الصنف منهم بل فيهم من كانوا وهم في حداثة أعمارهم صناعاً ولكن ساعدتهم الظروف فنالوا قسطاً من علم وحظاً من معرفة فجمعوا بذلك بين العلم والعمل، ولكن للأسف قليل منهم.
وما معنى هذا الصوت العالي الذي نسمعه في انجلترة وفرنسة وألمانية والولايات المتحدة وروسيا ينادي بالتربية العلمية ويدعو إليها إلا أن يكون مظهراً من مظاهر سخط عام على تقسيم المجتمع إلى علماء ومهندسين فنيين وصنَّاع؟
وخلاصة هذه الشكوى أن تقسيم العمل قد أفقد العامل قواه المفكرة وسلبه قواه المخترعة، وكثيراً ما اخترع في الأزمان الماضية، وقد اخترع العمال في خلال القرن الماضي كل هذه الآلات التي غيرت عالم الصناعة كل التغيير ولكن أصبحت اليوم كل السلطة في أيدي أصحاب المعامل فلم يعد العامل يخترع شيئاً.
إن ما يخترعه المهندسون إن لم يكن خلواً مما يدل على عقل كبير وفكر عبقري فأغلبه غير صالح.
إذن فقد أصبح تعميم التعليم العملي ضرورياً لرقي المخترعات وتعددها ولا مخرج لنا من هذه الضائقة إلا أن نقرن العلم بالعمل ونعتاض عن تقسيم العمل بتعميم التعليم.
تلك هي خلاصة الحركة الحاضرة ومطالبها، ولكن قادة هذه الحركة لم يحسنوا تمحيص المسألة فذهبت آراؤهم شتيتاً من هذر، ونحن نقول أن صالح كلا العلم والصناعة، بل صالح المجتمع بأسره يلزم كل إنسان رجلاً كان أم امرأة أن يتلقى نصيباً من التربية تعينه(14/26)
على أن يجمع بين إلمام بالعلم وإلمام بالعمل، ولا نريد بذلك أن ننكر ضرورة الإخصاء في فرع من العلوم، ولكننا نقول أن الإخصاء لا بد أن يتبع التعليم العام وأن التعليم العام يلقى علماً فكرياً وعملاً يدوياً، وأن تقسيم في الجماعة إلى عمال بالأيدي وعمال بالأفكار تفريقاً لكلتا القوتين.
والطريقة التي ننادي بها هي أننا نريد من المدرسة أن تكفل للفتى والفتاة نصيباً وافراً من العلم يعينها إذا غادر المدرسة في سن الثمانية عشر أو العشرين على أن يكونا عاملين نافعين للجماعة، وأن تجعلهما ينالان من كل علم نصيباً يساعدهما على أن يأخذا مكانهما في هذا العالم العملي.
ولعل هناك كثيرين يظنون أنني أشتط في الطلب وأتعسف، ويرون أن ما أدعو إليه ليس إلا من قبيل المستحيلات، ولكن أقول لهؤلاء أن ما يتوهمونه مستحيلاً قد تحقق فعلاً ولا يريد إلا التوسع فيه إذ جربت هذه الطريقة في مدرسة الصنائع في موسكو عشرين سنة متتابعة لتعليم مئات من الطلبة، وقد شهد بنجاحها ثقات كثيرون في معارض بروكسل وفيلادلفيا وويانة وباريس.
والطريقة التي سنتها المدرسة هي أنها لا تقبل إلا من تجاوز عمره الخامسة عشر، ولم تطلب منهم إلا أن يكونوا على شيء في الهندسة والجبر واللغة الروسية، وأما الذين تقل أعمارهم عن هذا الحد فقد قبلتهم في فرقها التحضيرية ثم قسمت المدرسة إلى قسمين قسم الميكانيكا وقسم الكيميا وما إليها. وإنا سنقصر الكلام على القسم الثاني والتعليم الذي يتلقى فيه.
ترك الطلبة المدرسة بعد مكثهم خمسة أعوام أو ستة وهم على علم تام بالرياضيات العالية وعلوم الطبيعة والميكانيكا وغير ذلك من العلوم المرتبطة بعضها ببعض ولم يقل نصيبهم منها عن نصيب طلبة أكبر المعاهد الأوروبية وجامعاتهت وكانوا يصنعون بأيديهم دون مساعدة الصناع آلات بخارية وزراعية وعلمية وكلها تعرض للبيع وينالون أكبر الجوائز على صنع أيديهم في المعرض الدولية فكانوا من ثم عمالاً متعلمين تعلماً عملياً، عمالاً تلقنوا علوم الجامعة واكتسبوا ثقة أصحاب المعامل في روسيا.
أما الطرق التي اتبعت في تخريجهم كذلك فهي أن المدرسة لم تشجع طلبتها على حفظ(14/27)
الدروس والاعتماد فيها على الذاكرة بل كانت تشجعهم على البحث والتقصي المستقلين، وكانت تعلمهم االعلم جنباً لجنب مع وجوه تطبيقه فما يتلقى في حجرة الدرس يطبق في المعمل، وعنوا العناية الكبرى بجعل علم الهندسة الوسيلة إلى ترقية المخيلة والأبعاد في البحث والاستقصاء.
أما التعليم اليدوي فكانت طرقه مختلفة الإختلاف كله عن طرق أغلب المدارس الصناعية إذ اعتبروا الرسم أول خطوة في التعليم العملي حتى إذا أتقنه الطالب نُقل إلى قسم النجارة حيث يتعلم جميع أنواع النجارة الدقيقة منها وغير الدقيقة، ولم يغفلوا أية وسيلة تعين الطالب على أن يفتنّ في هذه الصناعة التي هي أساس كل الصناعات، ثم ينقل الطالب بعد ذلك إلى قسم الخراطة ثم إلى معامل الحدادة ولا يسمح له بدخول قسم الهندسة والميكانيكا إلا إذا جاز هذه الأقسام كلها - وقد أدخلت هذه الطريقة المثلى في مدارس شيكاغو وبوسطن في أمريكا ولكن اقتصر فيها على الجزء العملي. فترى من هذه التجارب سهولة اقتران التعليم العملي الراقي بالتعليم الذي لا بد منه في إخراج عمال مهرة أكفاء.
أن أهم مَعلم من معالم تعليمنا الحاضر - هو تضييع أوقاتنا جزَافاً_فأننا لا نتلقى في المعاهد والجامعة إلا مجموعة من السفاسف والسخافات وإذا كان هناك منها شيء نافع ضيعنا في تحصيله جزءاً كبيراً من وقتنا.
ولا يخفى أن سني الطفولة لا ينبغي أن تروح عبثاً وتذهب باطلاً، فقد أظهر المعلمون الألمانيون أن لعبات الأطفال يسهل أن تصنع بطريقة هندسية حتى تحمل إلى عقول الأطفال شيئاً من المعرفة المادية بالهندسة والرياضيات وأن المسائل التي أتعبتنا أيام المدرسة ليسهل حلها على الاطفال الذين لا يبلغون من العمر أكثر من ثمانية أعوام إذا وضعت في شكل ألغاز لذيذة وفي الواقع لا يستطيع أحد أن يتصور أن كثيراً من العلوم الطبيعية سهلة التلقين إلى الأطفال بل من المستطاع أن تعلم الأطفال قبل سن العاشرة أو الثانية عشر مبادئ العلوم ما عدا علم الاجتماع (طبعاً) ليكتسب الطفل فكرة عامة في الكون والأرض وسكانها وعجائب المخلوقات من كيماوية وحيوانية ونباتية - وتترك قوانينها إلى زمن آخر.
نحن نعلم ما للأطفال من الميل إلى عمل اللعبات بأيديهم وتقليد الكبار إذا شهدوهم في(14/28)
المعمل أو المصنع ولكن إما أن يريد الآباء أن يعطلوا هذا الميل وأما أن يكونوا بوجه الانتفاع به جاهلين. فإن سواد الآباء يستهينون بالعمل اليدوي ويحقرونه ويؤثرون أن يرسلوا بنيهم إلى دراسة تاريخ الرومان أو تعاليم فرانكلين في التوفير (!) على أن يروهم يشتغلون في عمل (لا يفيد الطبقات الدنيا) كما يقولون.
ثم تأتي سنو الدراسة فيضع مسرعاً سدى - خذ لك مثلاً من تعليم الرياضيات التي يجب على كل إنسان أن يتعلمها لأنها الأساس الذي ينهض فوقه كل تعليم. فترى أن سواد طلبتنا لا يتعلمونها في مدارسنا العليم الحقيقي النافع، وكذلك ترى الوقت يذهب هباءً في تعليم الهندسة على طريقة الاعتماد على الحافظة فلا يكاد التلميذ يخرج من المدرسة حتى ينسى كل شيء ويعجز عن حل أبسط المسائل الرياضية وكذلك الحال في سائر فروع التعليم.
من العين واليد إلى العقل ذلكم هو المبدأ الحق لاقتصاد الزمن في التعليم، وإن في إكراهنا ابناءنا على دراسة العلوم من غير اقترانها بالعمل والتطبيق إكراهاً لهم لهم على تضييع زمانهم، وقتلاً لاستقلال أفكارهم، وخيبة لتعاليمنا. وأن المعرفة السطحية وإعادة الدروس كالببغاء وجمود الفكر - كل ذلك من نتائج طريقتنا الحاضرة في التعليم.
ولسائل أن يسأل إذا كانت هذه الطريقة التي ندعو إليها تأتي بالسرعة المطلوبة للعمل أم لا، ونحن فنقول أنه مهما يكن من بساطة العمل فإن العامل المتعلم قادر على إجادته والإسراع في إنجازه أكثر من العامل الجاهل - تلكم هي السرعة التي تنشدها الإنسانية ويطلبها صالح الجماعة.
حقاً أنني لا أقول أن صلاح التعليم على هذا الطراز التام سهل التحقيق ما دامت الأمم المتحضرة باقية تنوء تحت هذا الظلام الأناني المتبع في الاستثمار والاستغلال. وكل ما تتوقع من ذلك أن نبذل الجهد لتأدية بعض الإصلاح. لنتصور أن جماعة أو مدينة أو أقليماً - يبلغ سكانه على الأقل بضعة ملايين قد سن هذه الطريقة في تعليم أحداثه دون تمييز بين ذكور وإناث. ومن غير أن يسألهم شيئاً في مقابل تعليمهم إلا ما يؤدونه يوم يصبحون من العاملين على ثروتها_لنتصور ذلك ثم دعنا نحلل نتائجها!
أنا لا أصرّ على زيادة الثروة التي تنتج من أحراز جيش صغير من المستثمرين المتعلمين، ولا على الفوائد الاجتماعية التي تحدث من استئصال هذا التمييز الحاصل بين الصناع(14/29)
المفكرين والصناع اليدويين، ولا أتمسك برغد العيش الذي يضمنه الفرد الواحد إذا لأعين على أن ينعم بقواه العقلية وقواه الجثمانية معاً، ولا على المنافع التي تأتي من تقدير العمل قدرته ورفعه إلى المكان اللائق به في المجتمع بدلاً من أن نطبعه بطابع الاستهانة والتحقير كما نفعل اليوم ولا أريد أن أتناول البحث في زوال الشقاء الحاضر وما يتبعه من شرور وجرائم وسجون وغير ذلك، وجملة القول لا أريد أن أبحث اليوم في هذه المسائل الاجتماعية الكبيرة وإنما أريد أن أبين الفوائد التي تعود على العلم من هذا الإصلاح.
قد يقول فريق من الناس أن في النزول بالعلماء إلى مصاف الصناع انقراضاً للعلم وفناء للعبقرية، ولكنهم إذا تدبروا الاعتبارات الآتية وجدوا أن الأمر على عكس ما يقولون - أي أن في ذلك أحياء للعلوم وانتعاشاً للفنون وتقدماً للصناعة أشبه بنهضة العلوم التي قامت في القرن الخامس عشر ولقد شاع على الأفواه أن القرن التاسع عشر كان زمان تقدم العلوم ونهوضها وأن للقرن الحاضر ما يفخر به، ولكن إذا تدبرنا أن أغلب المسائل التي حلها هذا القرن وضعها وتنبأ بحلها القرن الماضي، ولذلك يلزمنا أن نعترف بأن التقدم لم يكن سريعاً كما كان متوقعاً وأن شيئاً هناك عاقه عن سبيله.
إن نظرية الحرارة ارتآها في القرن الماضي رامفورد وهامفري دافي ثم مضي أكثر من خمسين حولاً قبل أن تعود هذه النظرية إلى عالم العلم ثانية ألم يكن لامارك وجفروي وسانت هيلير وارسماس ودارون وكثيرون غيرهم اعلم بتطور النوع؟ ألم يمهدوا السبيل إلى تأسيس (البيولوجيا) - علم الحياة_على قاعدة التغير والتحول، ولكن مضي نصف قرن قبل أن يتناول أحد مذهبهم. وكلنا يذكر كيف كان طلبة الجامعة يكرهون على آراء دارون إكراهاً، ولقد مضت أعوام وعلم الفلك يتطلب إعادة النظر في نظريات كَنت ولابلاس ولكن لم تظهر حتى اليوم في هذا العلم نظرية أتفق عليها الجميع.
وجملة القول أن كل فرع من فروع العلم ينقصه بحث الآراء الماضية وإعادة النظر فيها وإذا كانت إعادة النظر يعوزها تلك العبقرية التي حركت جاليليه ونيوتون فإنها في حاجة أيضاً إلى جمهور من الصناع العلماء.
وهناك دليل من العلم الحديث يشهد بصلاح الطريقة التي نطلبها للتعليم وهو أنه بينمت الصناعة لا سيما في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر قد أكثرت من(14/30)
المخترعات حتى غيرت وجه الأرض كان العلم يفقد بالتدريج قواه المخترعةن والعلماء لا يخترعون اليوم أو قل ما يخترعون.
أو ليس من المدهش أن تكون الآلة البخارية - حتى في مبادئها الأولية_والقاطرة والقارب البخاري والتليفون والفونوغراف وآلة الغزل والنسيج والتصوير بالألوان وغير الألوان وآلاف من دقائق المخترعات لم تخترعها علماء فنيون، وإن لم يكن فيهم من يرفض أن يضع اسمه على أي مخترع منها؟
إن أولئك الرجال الذين لم يتلقوا شيئاً من التعليم وإنما التقطوا من موائد الأغنياء فتاتاً من المعرفة، أمثال سميتون وجيمس وات وستينفن وغيرهم هم - كما يقول سميلر_مؤسسو المدنية الحديثة وواضعوها الحقيقيون.
وتفسير هذه الحقيقة المدهشة أن هؤلاء الرجال عرفوا شيئاً جهله أولئك العلماء - ذلك أنهم عرفوا كيف يعملون بأيديهم.(14/31)
الحرية
هذا هو الفصل الثاني من الباب الثاني وعنوانه العدل الاجتماعي من كتاب (العدل والحرية) للستاذ جوبلوت الذي أتحف به البيان الدكتور عبده البرقوقي - وعنوان هذا الفصل (الحرية) وهو مبحث جليل مفيد ضمّنه الأستاذ أحدث الآراء العلمية في الحرية:
العدل وحده غر كاف لبلوغ الخير والرفاهية. إن هو إلا كالإناء الفارغ لك أن تملأه بالطيب وبالخبيث. أو تكيل به الشر والخير. أجل لا إحسان من غير عدل ولكن قد يعدل في الشر فما العدل إلا تقسيم الأنصبة بدون جور ولا إجحاف.
البلاء إذا عم صار عدلاً ولكنه لا يزال خبيثاً، والجدب شقاء ولو تساوى جميع الناس في مقاساة آلامه واحتمال مضضه، وإذا ألقي في النهر نصف غذاء مائة رجل وقسم النصف الباقي عليهم وروعيت شهوة كل منهم إلى الطعام عد هذا العمل عنتاً وجنوناً ولكنه لا يعد من الجور والظلم. أجل، لهم أن يضجعوا من الألم ويستغيثوا من الجوع ولكن ليس لهم أن يشكوا الظلم حيث لم يميز بعضهم عن بعض بل كلهم في الآلام سواءن لم ينل كل منهم إلا نصف غذائه. وإذا روعي في الضرائب الفادحة درجة كل إنسان من الفقر والغنى تصبح عادلة ولكنها تظل آخذة بالرقاب محرجة للصدور. ونحن مهما أسهبنا في ذكر منافع العمل وبالغنا في تعداد فوائده من أنه يشرف الإنسان ويعلي من شأنه ويؤتيه بالخير الجزيل إلا أن العمل المكره عليه ولو كان ضرورياً عناء وبلاء حتى ولو كنا عائشين في المجتمع الذي يحلم به الإشتراكيون حيث كل إنسان يعمل حسب قدرته فلا يوجد فيها فريق ينصب ويشقى وفريق يرفه وينعم. ولقد انحسم الظلم في التجنيد لخدمة الجيش إذ جعلوها الآن إجبارية لا يفلت منها إنسان على أنها ما برحت إحدى المصائب البالغة التي رزئت بها الأمم والأفراد ولو أمن الناس هول الحروب وعاشوا متآخين متحابين لربحت الإنسانية تلك القوى العظيمة التي تستنفذها خدمة الجيوش الدائمة.
وخلاصة ما تقدم أنه لو كانت الآداب مقصورة على العدل لما ساغ لنا أن نرفع أصواتنا بالشكوى من التكاليف التي تنوء بها كالخدمة العسكرية والضرائب المالية إذا روعي العدل في توزيعها. ومما لا شك فيه أنا لا نكتفي بالسعي لتقسيم ما بين أيدينا من السعادة والرخاء وتوزيع الفروض والأعمال حسب ما يقتضيه العدل بل نسعى جهدنا للإكثار من دواعي تلك السعادة وتخفيف الويلات والآلام.(14/32)
لقد أضاف هربرت سبنسر على العدل وكنا في الحقيقة غريباً عنهز إذا ضرب زيد عمراً فاقتص منه عمرو بضربه أو لو أتلف زيد مزرعة عمرو فجازاه عمرو بإتلاف مزرعته لما كان في هذا شيء من العدلز ن الإنتقام من المشيء ومجازاة الجرم بالإجرام أفكار الجمعية الإنسانية الساذجة التي كانت ترى من الظلم عدل. أخذت الإنسانية بأسباب الرقي وسارت في طريق التقدم ونشأ في العقول رأي ما زال ينمو ويشرق حتى ظهر أخيراً على لسان فيلسوفنا الكبير هربرت سبنسر إذ يقول كل إنسان حر في أن يعمل تبع إرادته بشرط أن لا يعتدي على حرية غيره ومعنى ذلك أن العدل لا يكون إلا مع الحرية الملتزمة حد الإعتدال وأن التضييق على الحرية غير جائز إلا إذا دعت إليه ضرورة التوازن والمساواة بين الناس. يشدد هربرت سبنسر النكير على تلك البدعة الحديثة في تعريف العدل بالمساواة ويرى أن للعدل ركنين أيجابياً وسلبياً فالأول كل ما كان ضرورياً لحياة الإنسان على وجه الإجمال والثاني يقلل من تلك الحاج ويجدد من قيمتها بسبب أن الإنسان غير عائش بمعزل عن الناس.
ومن رأينا أن هذا المذهب صالح مكين غير قابل للنقد إلا في شكله فأنا لا نرى أن نجعل الحرية داخلة في كيان العدل بل نؤثر أن نعدها الغاية القصوى التي ينتهي إليها العدل فنحن وهربرت سبنسر مجتمعون على أن العدل وحده غير كاف لتحديد الواجب وتشخيصه.
آداب المرء نوعان بصفته فرداً منعزلاً عن العالم وآدابه بصفته عضواً متمماً للمجتمع. فالعدل هو ما يجب عليه التمسك به على الاعتبار الثاني وينبغي لنا أن نبحث عما يلزمه على الاعتبار الأول.
يرى هربرت سبنسر أن غرض الإنسان في الحياة الحرية. أي أن يكون مطلق السراح رخي العنان لا يعوق أعضاءه عن الحركة عائق ولا يمنع فكره عن الرقي مانع وهذا رأي صائب نوافقه عليه ونرى فيه رأياً جامعاً لما يجب على الإنسان باعتباره فرداً وقد خالفنا بعض الكتاب في ذلك حيث قال أن السعادة هي غرض الإنسان في الحياة ومحط رحاله والغاية التي تنتهي إليها آماله.
وهذا رأي مردود فاسد واهي الأساس دعامته تلك النظرية القائلة بأن غرض جميع الأجسام(14/33)
الحية الحساسة اقتناص اللذائذ والابتعاد عن الآلام وهذا خطأ بين فما للذة والآلم إلا وسيلتان يستعين بهما المرء كما يستعين بهما الحيوان لبلوغ أغراضه الحقيقية وسبب هذا الخطأ ألتباس الإحساس الجثماني بالشعور النفساني على كثيرين من الناس وعدم إدراك أي فارق بينهما.
إنا لا نرى أصح ولا أدق من الرأي القائل بأن حكمة الألم واللذة تسهيل العمل على أعضاء الجسم للقيام بواجبها أحسن قيام.
ينشأ الألم من فساد إحدى الأجهزة الحساسة أو عن هيجان شديد لا يصبر له والخوف من الألم هو الذي يحمل الحيوان والإنسان على الابتعاد عن العوامل المتلفة وفي أكثر الأحايين لا يكاد الألم يحدث حتى يزول بحدوث حركة مخصوصة فمثلاً ذا أحس الإنسان باحتراق يديه أسرع إلى قبضها وإذا شم رائحة مكروهة حبس أنفاسه. ويغمض عينيه أمام باهر الضوء.
يستعين الحيوان بحاستي الذوق والشم على اختيار غذائه والتفريق بين النافع له والضار فتراه يشتهي النافع ويلتذ بطعمه ورائحته أما الضار فيعافه ولا يقبل رائحته ولا يطيق ذوقه وكذا يفعل الإنسان غير أنه كثيراً ما يرى الإنسان يتجرع السم على حين يصدف عن العقاقير النافعة الصحية ويتألم من تناولها وسبب ذلك أن السموم والعقاقير مواد صناعية ليست بطبيعية ولم يمض عليها زمن كاف لتطور حواس الإنسان حتى تصبح قادرة على نقدها ومعرفة النافع منها والضار ولو أحاطت الكحول بنا كماء الينابيع والأنهار أو كثمر الأشجار وغلات الأرض لفني النوع الإنساني من شربها وانقطع دابره من الأرض فإنها سم قاتل. أو لكانت طبيعة أجسامنا مخالفة لما هي عليه الآن وقادرة على هضمها والإنتفاع بها أو لطبعنا على كراهتها والنفور منها وكم في العصر الحاضر من أمم وأفراد على أبواب الفناء لتفشي شرب الخمرة فيهم إلا أن الطبيعة لا تبقي على غير الصالح القوي والإنسان ذو عقل وإرادة قد يمنعه عقله من تجرع سموم الكحول كما قد يمنعه منها عيافه عنها وكراهته لها ولا يبقى في الوجود إلا رجلان أحدهما مجبول بطبيعته على شرب المسكرات. إن المدمن مهدد في شخصه ونسله؟ تنتابه الأمراض والأسقام، ويقضي عليه بالموت العاجل وأبناؤه يولدون ضعافاً مرضى معرضين لقبول الأمراض فإذا لم يكن العقل(14/34)
ناهياً للإنسان عن الشراب قضي عليه بالموت والفناء أو يعافها كما يعاف ماء البرك والمستنقعات.
يتخذ بعض الناس لذتي الحب والطعام غرضين يتطلبونهما لذاتهما ويقصرون سعيهم على الإبعاد في طلبهما ولا هم لهم إلا الإلتذاذ والتنعم بيد أنه قد أثبت الطب أنهما وسيلتان يستعين بهما بعض الأعضاء على إنجاز وظائفها فالغرض الذي من أجله وجدت لذة الحب هو المحافظة على بناء النوع الإنساني والغرض من لذة الطعام هو حفظ حياة الفرد ومن قصر أغراضه على هاتين اللذتين وتطلبهما لذاتهما غير معني بتحقيق الغرض منها عرض نفسه وأمته إلى الموت والفناء ولذا ترى بعض الأمم سائرة الآن في طريق الفناء والإنقراض.
هنا انتهينا من الكلام على الحاسة الجثمانية ونحن بادئون الآن بالبحث في الشعور النفساني من ألم ولذة وقبل أن نخوض في هذا الموضوع لا يفوتنا أن نلاحظ أن الألم النفساني نوعان تعب وملل فالأول حينما يجهد الإنسان قواه لإدراك غرض له ولم ينله والثاني حينما لا تجد مداركنا شيئاً يشغلها ويحملها على القيام بواجبها.
الإنسان مسوق بطبعه إلى الحركة والعمل وإعمال الفكر وهذا ينبيء بأن للحركة قصداً تنشده وللفكر غرضاً يسعى إليه. يفيض القلب حبنا بالعواطف الشريفة ولا يجد من يبذلها له ألا ترى الناس يعمدون إلى أمور تكون ملهاة لقلوبهم وعقولهم إلى أخرى تكون مسرحاً لحواسهم وأعضائهم فالطفل يتخذ من الألعاب ما يدعو إلى الركض والوثب والصياح والفتيان والكهول يلهون بإجهاد عقولهم في اللعب بالورق والشطرنج والفتيات والزوجات اللاتي لا ولد لهن يقتنين الكلاب والقطط لسد فراغ قلوبهن.
يغتبط الإنسان بالعمل وتزداد غبطته إذا وفق إلى الفوز والنجاح. فما أعظم السرور لذي يجده المرء وهو يحاول حل إحدى المعضلات وشعوره بأنه سائر في الطريق القويم يتخطى العقبات ويزيل الشبهات ويستضيء بنور الحقيقة التي أخذت في الإشراق إزاء عينيه ومن أسعد حالاً وأنعم بالأمن من عاشق التقى بمعشوقه يبث إليه وجده وشوقه فيجيبه هذا بالتودد له والعطف عليه ومن جاهد في الحياة وغالب العقبات والصعوبات ونال منها مأربه أحس بالغبطة والسرور فما السرور مقترن بالعمل وإن كان غير داخل في كيانه وأن(14/35)
الإنسان ليجد لذة في العمل حتى ولو كان العمل في طلاب اللذة ولكن شتان ما بين اللذتين فلذة اللعب غير لذة الفوز.
لا تعرف النفس إلى السرور سبيلاً إذا كانت طامحة إلى غرض وكان غرضها شيئاً آخر غير السرور قال استورت ميل السعيد من رام غير السعادة بأن سعي مثلاً إلى إسعاد من سواه أو وقف حياته على تحسين حال الإنسانية والتخفيف من ويلاتها وآلامها أو وضع نصب عينيه عملاً نبيلاً يفرغ فيه قواه ومجهوداته لا كوسيلة يتذرع بها إلى غرض آخر بل طلبة سامية وأمنية شريفة. لا تأتي ملذات الحياة إلا عرضاً ولا يقصد إليها قصداً وإنما تقابلنا عفواً في طريقنا حين يكون سعينا مقصوراً على غيرها ألا شد رحالك إليها. وبجميع قواك ومواهبك للحصول عليها ولا تدخرن شيئاً في وسعك إلا بذلته لاقتناصها ومتى بلغتها فستراها من أول وهلة إنها غير مشبعة ولا مقنعةن إنها تتضاءل أمامك كلما دققت فيها النظر وأمعنت في اختيارها. سل نفسك هل أنت سعيد تر السعادة قد ولت مدبرة وإذا أردت السعادة فلا تعمل لشهواتك وملذاتك بل أنشد غرضاً آخر غريباً عنهما وافرغ فيه قواك الجثمانية والعقلية وقف عليه ضميرك ووجدانك وأبذل فيه دمك وحياتك ومتى فعلت ذلك تر السعادة مقبلة عليك مرقرقة فوق رأسك من غير سابق انتظار ولكن أحذر من أن تتخيلها في ذهنك أو تسعى لإدراك كنهها وحقيقة أمرها أو تسائل نفسك عن نصيبك منها فإنها لا تلبث أن تفلت من يديك وتفر من وجهك.
وخلاصة القول أن متاع النفس في الحياة حريتها في إظهار قواها والانتفاع بمواهبها وأن اللذة ما هي إلا وسيلة لذلك حتى ولو عكسنا الأمر واتخذنا اللذة مما لنا أفلا تكون السعادة في أن نكون في حل من أمرنا وسعة من إرادتنا لا عارض يمنعنا عن الذهاب مع شهواتنا! وهل هناك أهنأ من حياة ينال الإنسان فيها أو في حظ من سعة المدرك وسمو الفكر، وأوسع مكان وأخصب بقعة لإنماء مواهبه؟
وقد قوبل هذا الرأي بكثير من الاعتراضات. يقول المعترضون إنا نسلم بأن الحرية تكسب المرء أباء وأنفة وتعلي من منزلته في عينه وترفع من أخلاقه وتهديه إلى واجبه وتسوقه إلى التضامن الاجتماعي. أما كونها تسعده فلا نقول به ولا نذهب إليه وحسبك من آلامها أنها تضطرك إلى العمل وتلتقي عليك مؤنة البحث عن أفضل الأعمال وتثقل كاهلك(14/36)
بتحملك نتيجة عملك وإلقاء المسؤولية فيه عليك.
وقد أبان ويستوفسكي هذا الرأي بإسهاب وتبيين في رواية له ومضمون هذه الرواية أن المسيح ظهر في أسبانيا أيام محكمة التفتيش وأخذ في دعوة العامة والغوغاء فتبعه عدد عظيم منهم كما كان شأنه في جليلة وظهرت على يديه معجزات كثيرة فأحيا ابنة وردها إلى أمها ولما بلغ خبره محكمة التفتيش أمرت بالقبض عليه وحكمت بإحراقه. وقبل الذهاب به إلى موقد النيران زاره رئيس المحكمة وقال له وحتى لو كنت حقيقة المسيح بنفسه فلا بد من إعدام حياتك وإزالة وجهك من على الأرض إلا لا يمكنك أن تزيد شيئاً على ما قلته لو فعلته أيام كنت في جليلة إذ لا حق لك في ذلك فقد نزلت عن كل شيء للكنيسة وخولت لها الحل والعقد والتحليل والتحريم أن ما تبشر به الآن وتنشره بين الناس يفسد عليك عملك الأول الذي خلفته لنا وهي الأساس والبناء فرفعنا أركانه وقومنا أوده نعم إن الفضل في ذلك لتلك السلطة الواسعة التي منحتها إيانا ألست أنت الذي وهبت الناس الحرية وهم لا يستحقونها ما أشد ألم المرء وعذابه من تركه حراً وسلبه ما كان يخضع له ويذعن إليه أنك لا تعرف الإنسان ولا تدري حقيقة أمره وتظن فيه فوق ما يستحقه إن الإنسان ضعيف خوار أأنت الذي تحبه أكثر من نفسك: إلا أنه لا يوجد في قلبك ذرة من الرأفة به والرثاء لحاله. الشك والقلق والشقاء تلك هي الحظوظ التي نالها من جراء آلامك وعذابك فعلى من يرجع باللائمة إذا لم تطق النفوس صبراً على منحك وعجزت عن النهوض بها والقيام بأعبائها! إن من حسن حظ الإنسانية أننا وبيدنا ذلك السلاح القوي وتلك السلطة الواسعة التي خلفتها لنا فأصلحنا خطأك وقومنا بناءك على أساس متين من الرهبة والجبروت وخلب العقول بالمعجزات فأسرع الناس إلينا أفواجاً لائذين بنا مستصرخين مما انتابهم من الجور والأذى فأمرنا بإلقاء الحرية عن كواهلهم فطرحوها تحت أقدامنا ورجعوا خفافاً فرحين مستبشرين وعادوا إلى سيرتهم الأولى من الخضوع والخشوع والإنقياد الأعمى كأنهم قطيع من الغنم وبهذا خلصوا من هبتك الملعونة التي أورثتهم الغم والهم: فسكت المسيح ولم يحر جواباً.
أجل إن من يقطع مرحلة كبيرة من عمره في الأسر والاستعباد ثم يرى نفسه بعد ذلك مرخي العنان مطلق السراح يجد في الحرية حملاً ثقيلاً ينوء به ولا يستطيع النهوض به(14/37)
من اعتاد تسليم غيره ذمام عقله لا يفكر بنفسه ولا يسير خطوة إلا بمشورة سواه وبدون سابق وعيد ونذير يتخلف عنه قواده ومرشدوه ويتركونه وحيداً تجمع به الحرية وتلقيه في الردى ويشعر بألم عظيم وعذاب شديد ولا يجد له مندوحة عن البحث عن سيد آخر ليلقي عن كاهله عبء البحث والاختبار ويحمل عنه تبعة عمله أنه لا يكفي لتحرير الإنسان كسر قيوده وأغلاله ولا يدهشك من سجين قضى حياته موثق الساقين أن يتخاذل في مشيته حين إخلاء سبيله أتأخذه فجأة وعلى غرة من الليل الدامس الذي كان فيه مدة سجنه إلى النور الساطع ثم نقول أنه لا يبصر ولا يرى إلا أن الحرية ليست أمراً سلبياً فقط وليس بكاف لتحرير الناس تخليصهم من الأسر. أن الحرية تضاعف من قوى المرء وتزيد من كفاءته وتجعله يشعر بلذة في العمل ويرى الشرف كله في تحمل أوزار عمله.
لندع الناس أحراراً يعملون على إسعاد أنفسهم بأنفسهم ولا نأخذ على عاتقنا عبء هنائهم وسرورهم ويجب علينا أن نمدهم بمعونتنا ونقرضهم قوانا ومداركنا ولا ندع لنفسنا سبيلاً إلى منافرتهم والأخذ بتلابيبهم وسوقهم إلى السعادة مكرهين بل يجب علينا أن نقف عند حد المساعدة فندعهم وشأنهم يعملون لسعادتهم وسرورهم فما كان الحامل لتلك المظالم الي حلت بالعالم على يد النبلاء ومحاكم التفتيش والأرزاء التي رجم الناس بها الملوك الطغاة المستبدون إلا إسعاد النوع الإنساني والسعي لراحته ورفاهته.(14/38)
فكاهات
التذكرة الصفراء
بقلم أحد كبار روائي الانكليز العصريين
منظر القصة في موسكو هناك عند ملتقى الشارع الكبير بميدان تفرسكايةز هناك حيث تمثال بوشكن قائم وعلى ميمنته الدير الكبير.
تلكم هي البقعة الطيبة، والممرح السهل، يخرج إليه عصافيره، ويختلف إليه مع الظلام أطياره، في حسن ريش، وجمال مظهر، يتراوحن في الشارع، على أنوار الحوانيت، ثم يخترقنه دافعات إلى الشارع الكبير، كأشباح تخرج من الظلمات إلى النور ثم تعود.
ذات ليلة في بكرة الشتاء وإبانه، شتاء عام 1912، كانت تروح بين هؤلاء فتاة قاصرة في ثوب دافئ بسيط، كأثواب الريفيات. مشت ممدودة الطرف إلى السابلة، منهومة العين بالمارة، كأترابها عصافير الليل، تمشي الهوينا مشيهن، وتسير متباطئة سيرهن، وإن لم يكن الوقت وقت الهوينا، ولا الحين حين بطء.
بكر الشتاء الأشهب في مقدمه. وأقبل في غير مقتبله. حتى لقد كان الهواء في نوفمبر يقذف بالجليد هذا والكواكب تتألق في صحيفة السماء. هذا والنجوم تستطع في أديم القبة الزرقاء.
ولم ينشب أن أقبل في الشارع فتى نشأ، يمشي مسرعاً مهطعاً. حتى إذا جاءها وقع البصر على صفحة وجه الفتاة وعينيها. وهي تخطرأزاء نافذة حانوت.
فاستوقفه مرآها وأقبل عليها يسأل. هل تنظرين واحداً؟
فأجابته في سكون - لا أنظر واحداً معيناً.
فعاد يسألها مبتهجاً طروباً. وهل ترضيني؟
فرنت بنظرها إليه ثم أطرقت راضية.
على أن قبولها غير في الحال هيأته. فوقف لديها لحظة حيران متردداً. ومد إليها يده. كأنما يريد أن يأخذ بذراعها. على أنه قبضها وهو يقول. يحزنني أن أكون مضطراً إلى تناول العشاء الليلة مع قوم من عشيرتي. ولقد تأخرت ولكن يجب أن ألقاك. يجب أن نتعدز فإني لم أر حسناً مثل حسنك. وأنا لا أستطيع أن أقضي الليلة معك. يجب أن أذهب الآن. فلا مناص من موعدي. فهل تقبلين أن نلتقي مساء الغد؟(14/39)
فهزت الفتاة رأسها مترددة؟
قال متعجباً: ولمه. أني والله أريدك. فقد وجدت لي فيك فتنة. وأنا أريد أن أعرف كل أمرك فعديني أنك ستذهبين الآن إلى بيتك ثم نلتقي ليلة الغد. فعادت تهز رأسها وتقول. لا أستطيع أن أعدك. قال ولماذا ل تستطيعين. أتقبلين أن أدفع إليك ثمن هذه الليلة.
ثم فك أزرار معطفه وأخرج بعض أوراق مالية. فلما رأته الفتاة ارتدت عنه وتراجعت تقول كلا لا أسألك عليه مالاً.
فأجابها كيف لا تطلبين مالاً. حسبك حماقة وسخفاً. وماذا غير المال أتى بك إلى موقفك. هذه عشرة روبلات فاذهبي إلى منزلك وسألقاك غداً الساعة السابعة ونصف من المساء.
فهزت برأسها. ولكنه أمسك بيدها ودفع بالورقة في راحتهاز ثم قال: أنني ذاهب واثقاً من لقائك هنا غداً ولا أظنك. وأنت بهذه السنز تخدعين.
وانطلق مفلتاً ولم تلتفت إليه الفتاة بل وقفت برهة مترددة. ثم أخرجت كيساً لها ودفعت بالورقة في أثنائه وواصلت مشيتها. فتارة تلحظ السابلة. وتارة تقف بخلاعة مصطنعة وخلابة متكلفة. أزاء نافذة حانوت. في باهر الأضواء وساطع الأنوار. ثم لا تلبث أن تتابع مشيتها.
ومضت برهة وإذا برجل آخر يسألها: ماذا تصنعين؟ فرفعت إلى الرجل بصرها وأجابت: لا شيء.
فاسترسل يسألها وهي يماشيها إلى نور الحانوت. ما اسمك؟
قالت وهي تنظر إليه (ربكة)
فأجابها: أنت والله يهودية؟ قد كان يحق لي أن أتوسم يهوديتك في لونك وعينيك النجلاوين. على أن ليس في مظهرك ما يدل على يهوديتك وهذا الأنف الأقنى وأنت لعمري حديثة عهد بهذه الصناعة. أليس كذلك؟
فتقابل النظران
قالت بلى
فسألها هل تأتين لنتعشى سوياً؟
فأطرقت ملبية. قال: وهل أنت خالية الليلة؟(14/40)
فأطرقت ثانية. قال إذن فتعالي إلى عشاء طيب وسمر.
ولم تمض لحظة أخرى حى استوقف مركبة يجرها جواد أدهم. وساعد الفتاة على أن تنأخذ مكانها منها. ثم أهاب بالسائق إلى دار الرهبنة. وانطلقت بهما المركبة.
ودار الرهبنة هذه فندق مستجمع شروط الرفاهة والراحة فيه نحو مائتي نوع من الحجرات تتراوح أجورها بين خمس روبلات وبين خمسين في الليلة الواحدة. وتختلف درجاتها من حجرة ذات سرير وأدوات الزينة اللازمة إلى طابق فيه قاعة للجلوس وحجرة للنوم وحمام رحيب. ولهذه الدار ستة عشر مدخلاً لتقل فرصة لقاء من لا تود لقاءه.
وكان الرجل تاجراً ناعم الحال طيب المرتزق. ولذلك تخير طابقاً فخماً. وبينما هما يسيران في أثر الغلام إلى البهو إذ بهما يسمعان دق جرس صغير واستمر في دقه حتى احتوتهما قاعة الجلوس ثم سكت الجرس.
فسألت الفتاة رفيقهاز ما أمر هذا الجرس؟ فأجابها الرجل وهو ينزع عن يديه قفازاته ويبتسم للخادم تلك إحدى عادات هذا المكان. أليس كذلك يا أيفان. إن الجرس يدق ليلفت الزوار إلى أن لا يتركوا حجراتهم حتى يستقر الأضياف الجدد في أماكنهم ولئلا يرى الزائر في طرقات الدار وممشيها ناساً لا يحب أن يراهم. والحق أقول لك. ن كل شيء في دار الرهبنة على أبدع نظام.
فأطرقت الفتاة برأسها مبتسمة ووقفت في بهرة لقاعة. وأمر الرجل متعجلاً كأنه من (زبائن) الدار. بتهيئة الطعام. ولم يكد الخادم يترك الحجرة حتى التفت إليها متعجباً وهو يقول كيف ذلك ألم تنزعي بعد قبعتك. وربطتك؟ وتقدم نحوها كأنما ليعينها.
وأسرعت هي إلى مرآة هناك ورفعت القبعة عن رأسها وأخذت تنظم شعرها. ثم جعلت تنضو عنها ربطتها في رفق. ثم طبقتها بعناية. ووضعتها على المقعد.
وشرع الرجل في الحديث قال. إن لقائي بك الليلة لنعمة عين. فلقد كنت هذا المساء في حيرة من أمري. حتى اهتدى بصري إلى وجهك الجميل فكم سنك يا ربكة؟
قالت ست عشرة.
قال لقد كنت أظن أنك في الربيع التاسع عشر. على أنكن اليهوديات تفرعن أكثر منا نحن الروس. أليس كذلك؟(14/41)
فهزت الفتاة منكبيها وأجابت أني لاأظن ذلك.
وقطع عليهما الحديث دخول الخادم بالعشاء. فلم يتكلما إلا قليلاًز فبدئ الطعام باللحم ثم أعقب بالسمك كعادة الروس في موائدهم. فلما انتهيا من السمك. وكانت شهوة الرجل إلى الطعام قد هدأت قليلاًك لاحظ أن الفتاة لم تمس الطعام بعد.
قال: يجب أن تأكلي.
فأجابته لا استطيع فأني لا أشعر بجوع.
قال وهو يصر. ليس هذا بسبب معقول. نحن الناس نعيش بالأكل. ويجب أن تشربي أيضاً. فهل تحبين خمرة الشمبانيا؟
قال ذلك وملأ كأساً منها. ولكن الفتاة قالت بعد أن جرعت منها أن طعمها لشديد ولقد تصاعدت رائحتها إلى أنفي. ولم أر هذه الخمر من قبل.
فقال متعجباًز إذن فأنت قريبة عهد بهذه الصنعة. ومتى كان نزولك بموسكو؟
فبدأ على الفتاة التردد والحيرة ونظرت إليه ثم أطرقت.
قال لا حاجة بك إلى اخباري إذا كنت لا ترغبين.
وقاطعهما الخادم ثانية. ومضت بضع دقائ. ورفعت المائدة. واشعل الرجل لفافة تبغ. وترك الخادم الحجرة لأخر مرة واختلى الإثنان.
وبدأت المداعبة بينهما والمغازلة والمماجنة.
قال الرجل أخيراً. ألا حدثيني متى نزلت بهذه المدينة؟
وكانت الفتاة واقفة إزاءه مشتبكة اليدين كأنها من فتيات المدارس وبدأ عليها أنها قد جمعت أمرها على الكلام.
قالت (في هذا المساء)
فسألها: ماذا تقولين. وللمرة الأولى؟
أجابت: نعم. وللمرة الأولى.
قال: وأين تقيمين؟
فأجابت: هنا
فسألها: وماذا تقصدين؟(14/42)
قالت وقد فصلت ديها عن بعضهما ثم شبكتهما. إن لي قصة طويلة وحديثاً عجباً.
قال قصيها. فلا يزال لدينا من الوقت سعة. وأحب أن أعلمها بحذافيرها.
وأدناها منه وشرعت تقص قصتها: قالت جئت من مدينة جورود في القطار والقصة طويلة وكنت أريد من رحيلي من جورود إلى موسكو أن أدخل الجامعةن ولم يسمح بالسفر من جورود إلى هذه العاصمة إلا لثلاث من اليهوديات، وكانت اليهوديات الثلاث اللاتي أُذن لهن قد لازمن الدرس منذ أعوامن وكانت صغراهن في الثلاثين أو تزيد، ولا يؤذن إلا لثلاث على حين أن في جورود آلافاً من الفتيات اليهوديات. وكنت أنا الرابعة، فكان لزاماً عليّ أن أمكث عاماً أو أكثر من عام، ولما كانت والدتي امرأة أرملة، جعلت أحتال عليها واغريها، حتى دفعت إليَّ المال الذي سألت وأذنت لي في السفر إلى موسكو للمذاكرة وطلب العلم.
فسألها الرجل: ولم تطلبين المذاكرة، ولم ترغبين في التحصيل؟ وما فائدة الكتب، وما نفع الأسفار؟ والله ليس في الكتب إلا تعب لساجيات العيون ومريض الألحاظ.
فحدقت الفتاة بصرها في الرجل عجباً ودهشة، إذ لم تتوقع مثل هذا السؤال، فجعلت تفكر في الجواب ثم شرعت تقول: أريد أن أعلم من العلم كثيراً، أريد أن أكون من لدات عظيمات النساء اللاتي أحدثن في العالم أموراً كبرى، ولا أدري ماذا يجول في خاطري من حلو الأمانيّ، وإنما أعلم أن الجهل في هذه الأيام أمر منكر معيب.
قال: وهكذا جئت إلى موسكو؟
فاسترسلت تحدثه بحديثها قالت أجل. في هذا المساء. وكان الليل قد بدأيرخي على العالم سدوله، فذهبت إلى فندق واتخذت حجرة ولوازمها، ولكن قبل أن يرسل أهل الفندق غلمانهم إلى المحطة ليأتوا بحقيبتي وجعبي، جعلوا يسألونني عن جواز سفري (الباسبورت)، فلما أنبأتهم أن ليس في يدي من جواز، تغير رأيهم وقالوا أن ليس لي حجرة عندهم وخير لي أن أذهب. . . فذهبت إلى نزل أرخص أجرة وأريتهم ما لدي يميني من مال، ولكن ما كادوا يعلمون أن ليس لدي جواز السفر حتى لفظوني من نزلهم، وطاردوني إلى بهرة الطريق. . . . فحرت في أمري ولم أدر ماذا أعمل، فأقبلت على سيدة أكلمها. فنهرتني وعاملتني كما تعامل السائلين، وانتهى بي أمري إلى أن كلمت امرأة من أولئك اللاتي(14/43)
يخطرن في الطرق ويمرحن، فرقت لحالي، ورثت لأمري، وأنبأتني أني لن أجد في موسكو طولاً ولا عرضاً، مقاماً من غير الجواز، ولما علمت مني أني يهودية أيضاً، حدبت عليّ وعطفت وقالت أني في سوء حال. وأني لن استطيع أن أحصل على (جواز السفر) لأن الشرطة لا تحب اليهوديات، وليس لي من وسيلة إلا أن استخلص (تذكرة صفراء) وهي كما تعلم رخصة البغايا والمومسات.
وقالت لي أنها تستطيع أن تصحبني إلى إدارة الشرطة إذ لا يزال هناك وقت. فلما كنا في الطريق قالت ليس في موسكو شيء أسهل من استخلاص تذكرة صفراء. ولا يتطلب ذلك إلا أن أدخل غير متخاذلة إلى إدارة الشرطة وأدفع خمسة عشر روبلاً وأسألهم تذكرة صفراء ثم أتولى عنهم، وبهذه الرخصة أجد آلافاً من الدور والفنادق تفتح لي أبوابها. وترضى بمقامي بين أهلها. وبدونها أُترك في الطرق إلى برد الشتاء وجليده.
وتوقفت الفتاة إلى الحديث ونظرت إليه ثم تابعته كأنها تحدث نفسها. يرحب بالبغيّ. ولا يؤهل باليهودية في موسكو. في موسكو المسيحية!
فضحك الرجل من قولها وطوق خصرها بذراعيه. ثم قال وهو ضاحك السن. يالك من فاتنة. ثم ماذا حدث لك بعد ذلك؟
فاسترسلت تقول: ذهبت إلى إدارة البوليس وسألت شرطياً هناك عن مكان الحصول على التذكرة الصفراء، فحاول أن ينال قبلة مني. ثم أدخلني حجرة المفتش وجاء المفتش فجعل يسألني عدة أسئلة. فلما قلت أني لم أصل موسكو إلا في المساء حاول أن يقبلني. فأبيت عليه ذلك. ولكنه قال أنه لن يعطيني التذكرة الصفراء إلا إذا سمحت له بقبلة. فسمحت له ولكنه طلب مني أن. . . .
فتوليت هاربة من المكان. من غير التذكرة الصفراء. فوجدت أن صاحبتي قد ذهبت. ولم ألبث أن التقيت ببغيّ أخرى. فحدثتها بما حدث وقال أنها لا ترى وسيلة أحسن من أن أذهب مع رجل إلى خلوة لنا واسأله أن يصحبني ضحى إلى إدارة الشرطة. فأُعطى التذكرة الصفراء في الحال. ثم أردفت ذلك بقولها: وإذا كنت تستطيعين أن تدفعي مالاً. فكل شيء في موسكو على حبل الذراع. وكل لبانة في موسكو سهلة ذلول.
ثم استطردت تقول في سكون. كأنما التذكرة الصفراء جائزة تنال على الخلوة.(14/44)
قال الرجل غير مكترث. استطيع أن أضمن لك التذكرة الصفراء. ولكن أصدقيني الخبر. هل أنت حقاً بالبغاء حديثة العهد؟
فأطرقت الفتاة.
وراح يسألها. . وهل تريدين أن لا تعودي إلى هذه الصناعة؟
فأطرقت ثانية. ولكن في هذه المرة بسرعة وشوق فمد إليها ذراعيه وهو يقولك يا لها من قصة عجب! أنت يا ربكة سعيدة الحظ بوقوعك في أيد طاهرة وأنا بأمرك في شغل. ولكن من غريب أمري أني لا أميل إلى تقبيل من لا تميل إلى تقبيلي. أليس في ذلك غرابة؟
قال: كلا. با أنها لتبدو لي أمراً طبيعياً. فأجابها مبتسماً. ذلك لأنك لا تزالين بعد صبية. إن ذلك ليس بطبيعي عند سواد الناس. وهل تريدين أن تدخلي هذه الحجرة وتنامي حتى الصباح وحدك؟ وماذا تريدين بي أن أصنع؟ هل أتركك تنامين وحدك. حتى إذا تنفس الصبح أعنتك على نيل التذكرة الصفراء؟ أم تريدين أن أدخل الحجرة معك؟. . .
قال ذلك وهو يشير إلى حجرة النوم.
قال: كلا، ولكن أين تنام أنت؟
أجاب وهو يشير إلى غرفة هناك، أنام هنا، لطالما نمت في مضاجع أسوأ حالاً، وأنبي فراشاً، سأقرأ الصحف التي أتيت بها في جيب معطفي. ولك أن تذهبي فتلزمي سريرك.
قال قوله كأنما يطردها. وأما الفتاة فتقدمت إلى باب الحجرة مترددة. فلما بلغته أنثنت فرنت إليه. فأطرق مبتسماً. ولوّح بيده إليها.
قال: ليكن ذلك. وليهنك النوم.
ولك تلبث أن اختفت في الحجرة وأقفلت الباب ومكث الرجل برهة ينظر إلى باب المخدع وهو يبتسم. ثم تقدم إلى معطفه فأخرج بعض الصحف اليومية. وأشعل لفافة تبغ. وجلس في مقعده يتصفحها.
ومضت ساعة. فساد السكون. وأما الرجل فنضا عنه سترتهن وخلع نعليه. واشتمل في معطفه الكثيف. ثم تقدم إلى باب المخدع وتسمع. فإذا الحجرة في سكون.
ثم وقف برهة ولكنه لم يلبث أن تولى إلى النمرقة فاضطجع. وما مضت بضع دقائق حتى ضرب الله على أذنيه. فإذا هو في سبات عميق.(14/45)
واستيقظ الرجل عند الساعة الثامنة. فقام إلى النوافذ ففتحها. ثم دق الجرس. وطلب طعام الفطور. ثم تولى إلى الحمام فاغتسل. وخرج من الدار مسرعاً. في حين أن الخادم يهيء المائدة.
ومضت ساعة فعاد. وعند ذلك تقدم فطرق باب مخدعها. وسمع في الحل صوتها. فدخل الحجرة. فإذا هي إزاءه في كل أثوابها.
فسألها: هل كان نومك الليلة هادئاً؟
فأطرقت ثم رنت بعينيها النجلاوين وقال: أشكر لك مبرتك.
فقال: وهل استيقظت باكرة؟
فأجابت: استيقظت منذ ساعتين.
قال: ياللطائر الباكر في صحوه! ألا تعالي إلى طعام الفطور. فأني آتيك الساعة بنبأ غريب.
ومد إليها يده. فأقبلت عليه طوعاً. وأدنت رأسها الجميل إلى رأسه. فقبلته.
قال: تلك قبلة خير من قبلاتك الأولى. يالله. لقد علمت في أربع وعشرين ساعة كيف تجيدين التقبيل.
فأجابت بجرأة. ما أسهل ذلك وما أهون. إذا علم القلب الشفتين.
فسألها إذن فأنت تحبينني؟
فاستقر لحظها عليه. وأجابت موجزة: أجل. وكأنما أراد أن يتخلص من باعث يتلجلج في صدره. إذ استوى واقفاً. وقال في صوت عادي:
لقد خرجت من الدار أحاول أن أنفعك بشيء
ثم أخرج محفظته وأوراقه فوضعها على المائدة.
واسترسل في حديثه يقول: لقد همتني حالك ليلة الأمس. فأردت خدمتك وأقبلت عليك. وودت لو تميلين إليّ بقلبك. ولا أعلم السبب.
فجاءت إليه ووقفت بجانبه ثم قالت: والله أنها لمكرمة منك. ولكنك تعلم أني إليك أميل؟
فطوق خصرها بذراعيه. وقال: كان ذلك يخطر في بالي. فأردت أن تكوني في هذا البلد طليقة سراح. لا يعسفك من عسفها عاسف. ولذلك خرجت فعمدتك. يا يهوديتي الصغيرة.(14/46)
بإسم غير اسمك.
وأخذ في يديه وجهها المشرق الوسيم. فقبلها في شفتيها.
واسترسل يقول. فلست الآن ربكة. بل أنت من هذه الساعة (فره نوفيكوف) فأخذتها الدهشة. ورددت الأسم الجديد.
فأخرج ورقة من بين ثنايا محفظته وقال: أجل. كل شيء في موسكو يشترى بالمال. ولقد ذهبت إلى إدارة الشرطة لأبتاع جواز سفر لك. وقد استخلصته باسم فره نوفيكوف فإنك بهذا الأسم الجديد تستطيعين أن تعيشي في موسكو أين تشائين. وكيف تشائين. لا عسف ولا إحراج ولا إرهاق.
فصاحت تقول: ما أطيب قلبك وما أرق فؤادك!
ولكن لا بد من أن ذلك قد كلفك مالاً كثيراً
قال وهو يبتسم لها. كلا. بل أن الجواز لأرخص ثمناً من التذكرة الصفراء. فقد قلت أنها تساوي خمسة عشر روبلاً. على أني لم أدفع من أجل الجواز إلا أثني عشر روبلاً. فأنت ترين أن جواز السفر أرخص من تذكرة البغاء.
ثم دفع بالجواز إليها.
فأخذته في يدها وقالت في هدوء وسكون. كأنما تخاطب نفسها
بلى. أنه أرخص ثمناً. وأن جواز السفر لا يكلف المرأة ما تكلفه التذكرة الصفراء. . .(14/47)
اعترافات سكير
ليس في مناحي الأدب وأبوابه منحى أشد تأثيراً وأعظم وقعاً في نفوس القراء من ذلك المنحى المعروف بالاعترافات، ولقد صدق الشاعر بوب حيث قال: أن أصدق بحث في شؤون الإنسانية هو البحث في شؤون الإنسان: أو ليس معنى الاعترافات أن الكاتب يستقبلك بين ثنايا ضميره. ويرحب بك في أعماق سريرته. ويقبل عليك بأسراره ويفتح لك صدره لتطلع إلى خباياه وأخباره. إن كاتب الاعترافات لا يكتب للساعة التي هو فيها وإنما يكتب للعصور والأجيال. ولا يخاطب رجلاً واحداً وإنما يخاطب الجميع.
وكتابة الاعترافات على نوعين، فالنوع الأول بدأ به روسو فالتزم فيه الحق، ولم يستعن فيه بأبواب الأدب. فكان مطلع اعترافاته.
إذا نفخ في الصور. وقام يوم الحساب. سأذهب وكتابي هذا في يدي. فأمثل في خضرة الملك الأعلى. فأقول عالي الصوت. أي ربي هذا ما صنعت. وهذا ما فكرت وهذا ما كنت. لقد كنت في قول الخير صريحاً كما كنت في قول الشر. لم أقتل من الشرور شراً. ولم أضف على الخيرات خيراً
والنوع الثاني نحاه جوت. فلم تكن له شدة روسو. ولك تكن له صراحته بل جنح فيه إلى شاعريته. واستعان فيه بمخيلته.
ونحن نقدم لقرائنا هذه الاعترافات التي كتبها الكاتب الفكه شارلز لام. فلم يلتزم فيها النوع الثاني كل الالتزام. ولئن بدا في اعترافاته شيء من الأدب والفكاهة. فلا يكون ذلك إلا راجعاً إلى شخصية الكاتب وروحه.
وأن في هذه الاعترافات لعبرة وتذكرة لشاربي الخمر. المكثرين منها والمقلين.
لا حديث للمقلين من الشراب. الصادفين عن الخمر. الراغبين عن الراح إلا النصح للمكثرين باجتنابها. وحث المدمنين على احتوائها. وحضهم على كرهها. ولقد صادفت أحاديثهم وعظاتهم اعجاباً كثيراً. واستحساناً كبيراً. لدى معاقري الماء القراح.
أما المريض الذي له ينصحون. والعليل الذي يطلبون له الشفاء من برحاء العلة، فما بلغت ضوضاؤهم مسمعيه. ولا طرقت أصواتهم أذنيه. أما وقد عرف الداء. فقد ذل الدواء. وهو فليمتنع المكثرون!
وليس ثمت قوة تكره المرء على رفع الكأس إلى شفتيه. وليس من سلطان في الأرض(14/48)
يجعل المرء يدني القدح من فمه دون إرادته. وامتناع الناس عن الشراب أمر هين سهل. كالامتناع عن قول الكذب. واجتناب السرقة والانتهاب.
ليس من طبيعة اليد أن تسرق. ولا من شأن اللسان أن يحمل أفكاً. أو يشهد زوراً. أو يقول بهتاناً. وأن زجرة واحدة من الإرادة المهذبة. تكفي لرد اليد عن متاع الناس. وكف اللسان عن الرتع في لحومهم. وتقول الزور والبهتان.
هين على لسان الكاذب أن يخف للحق خفته للباطل. ويبتهج بقول الصدق ابتهاجه بقول الكذب. الذي اعتاد أن ينثر بذوره. وينثر أخاديعه وأحابيله.
ولكن إذا راح الإنسان مدمناً، وغدا في الحياة سكيراً. . . فعلى رسلك. أيها الأخلاقي، الشديد الأسر، المجتمع الخلق القوي الأعصاب، المنيع الرأس، السليم الكبد، ولا تعجل، ولا ترفع عقيرتك لما كتبت، قبل أن تعلم دخيلة الأمر، (وتستطلع) طلع الداء، فإنك ستمزج، إن علمت، بكراهيتك للرجل الرحمة له، وتخلط باشمئزازك من حاله الحدب عليه، وتعارض أنفتك منه بالرأفة به، وهوناً ولا تمش على أطلال المسكين، ولا تطأ بقدميك بقايا الرجل. ولا تكرهه - وهو في مثل عذابه وآلامه_على إحيائه من حالة موت. أشبه بالحال التي لم ينشر منها لعازر إلا بمعجزة.
لو كنت بدأت بتطبيبه. قبل إدمانه. لأفلج الله سهمك. ولكن ليس لك بعلاجه يدان، وكان بدء شرابه كخوض في مستعر النيران. وماذا يجدي القول. وأجهزة الجسم لا بد من أن تتغير تغيراً شديداً يشبه التغير الذي نشهده في أجسام بعض الهوام والحشرات، وماذا ينفع الوعظ. وبدن المريض يسام عذاباً. لا يقل عن عذاب الذي يسامه الحي الذي يغري أهابه. ويسلخ جلده. وأين الاستسلام لهذه العذابات من الإقبال على تلك الشرور التي لم تؤثر في جسم المقبل عليها تأثيراً يصبح من ضرورياته. ولم تغيره تغيراً يعود من لوازمه. ولم تستول على جسم رهينها وروحه؟
لقد عرفت سكيراً في هذه الحال. حاول أن يكف عن الشراب ليلة واحدة. بعد ما فقدت الصهباء لديه تلك النشوة التي كانت تأتي بها. وخلت الشمول من تلك البهجة التي كانت تحدثها، بعد ما وثق من أن الخمر لن تذهب بشجوه بل تثيره. ولن تضع عنه همه بل تزيده، أجل. لقد عرفته في شدة صراعه. ومحاولته التخلص من ميله إلى معاودة الكأس.(14/49)
ومراجعة الشراب. يصيح من ألم. ويصرخ من عذاب.
ومالي لا أقول أن ذلك السكير الذي عنه أحدثكم هو أنا، ولا عذر أتقدم به إلى الناس ولا شفيع، بل أنا الذي جررت على طبيعتي هذه النكبة النكباء.
أني اعتقد أن هناك أجساماً قوية. ورؤوساً منيعة، ومعداً حديدية، لا يضيرها إدمان على شراب، ولا يؤذيها اعتياد اصطباح واغتباق، ولا أثر لمعتق الراح، ومصفق النبيذ، وأن جرع أصحابها منها كؤوساً، واشتفوا منها أقداحاً، إلا أن ترنق مشاعرهم، وتكدر مداركهم. ولعلها لم تكن يوماً في صفاء.
لا أريد هؤلاء بحديثي. فالحديث لديهم هباء مضيع. بل أنهم ليضحكون من أخ لهم ضعيف، رام أن يوازن قوته بقوتهم، ويقارن شدته بشدتهم، فرجع من معمعة الكؤوس مذموماً مدحوراً؟ بل عبثاً أريد أن أنصح لهم. وباطلاً أطلب أن أحذرهم خطر الإدمان. وعقبي الإكثار.
بل أسوق الحديث إلى فئة غير فئتهم. وشرب ليسوا من حزبهم. إلى الضعفاء والعصبيين. إلى أولئك الذين يحسون بأنهم بحاجة إلى مقو خارجي يرفع أرواحهم في المجتمع إلى مستوى أرواح الناس، ويكسبهم البهجة التي يرونها بادية على وجوه الجماعة.
ذلكم هو سر جنوحنا نحن الضعفاء إلى الخمر. وتلكم حكمة ميلنا إلى الشراب.
منذ اثنتي عشر سنة. كنت قد أتممت الربيع السادس والعشرين. ولقد عشت منذ تركي المدرسة إلى تلك السن في معزل عن الناس. لا صحب لي إلا كتبي. وإلا رفيق أو رفيقان من عشاق الكتب ورواد العزلة. وكنت أبكر في صحوي وفي نومي. ويخال إليّ أن المواهب التي أتمها الرحمن عليَّ لم تترك فيَّ لتصدأ.
وحوال ذلك الحين وقعت في غمار أصحاب ليسوا على شاكلتي، وليسوا من طبيعتي، رجال ذوو أرواح متقدة مضطربة. ونفوس مهتاجة مستعرة. سهر ليال، وحلفاء أسمار. يقيمون الليل في نزاع وجدل. ويقطعونه في نشوة وثمل. على أن فيهم مخائل نبل. ودلائل كرم. وديباجة شرف.
كنا ننتدي بعد هدأة من الليل سامرين. ونجتمع ضاحكين ماجنين. وكان نصيبي من سعة المخيلة أربي على أنصبة نداماي. وأجزل من أقسام أصحابي. فكنت أرمي بالنكتة(14/50)
فيصفقون لها. وألقي بالمزحة فيعجبون بهاز فلم ألبث أن رحت بينهم مزاحاً صناعاً وغدوت فيهم منكتاً بارعاًز والحال أني أقل الناس استعداداً للمجون، وأبعدهم عن المزاح. لعي يصيبني إذا أردت كلاماً. وحصر يلازمني إذا رمت حديثاً، وعارض عصبي يبدو على إذا تكلمت.
أيها القارئ إن كنت عصبياً مثل. فنشدتك الله كن كيف شئت. ولكن حذار أن تصير مزَّاحاً. فإذا جنحت بك شهوة للنكت. ونزعت بك نزعة إلى المزاح. ورأيت الخواطر تهجم عليك، وشهدت طريق الأفكار تتنازعك، وإزاءك كؤوس وقوارير. فاجنب نفسك شرها، واحذر ويلها، حذرك أفجع النكبات. وأخش ضرها، خشيتك أفدح المثلات. فإن لم تستطع أن تستحق سلطان مخيلتك، فانزع بها منزعاً قصداً، وارسلها في غير هذا المنحى، أكتب مقالاً، أو أنشئ فصلاً، أو دبج وصفاً، ولكن حذار أن تطاوعها، فتكتب كما أكتب الآن، والدموع تنحدر على خديك، وشؤونك تفيض فوق وجنتيك.
وأن تكون موضوع رحمة الصديق، ورهين سخرية العدو، وأن يلحظك الغرباء، بالعين النكراء، وأن تروح مطمح أنظار السخفاء، وملقى أبصار الأغفال السفهاء، وأن تظن غبياً، في حين لا تستطيع أن تكون ذكياً، وأن يصفق لذكائكن ويهتف لظرفك، على حين وثقت من غباوتك، وتبينت في نفسك برود نكتتك. وأن تدعي للمزاح، وما بك من مزاح، ويطلب إليك المجون وما بك من مجون. ويغرر بك. ليسخر منك، وأن تنطلق تطلب للناس الفرح، فتجر عليك أشد البغضاء، وتنبعث تبحث عن اللهو فتعود بأعظم الشحناء، وأن تمشي إلى الناس بالسرور. فيؤجروك شراً ويهمزوك حقداًز وأن ترهن أصباح آلام من أجل إمساء جنون، وتضيع فسحت زمانك، وخلوات أيامك، لتؤجر عليها نزراً من تصفيق. وقليلاً من أعجاب - تلك هي الأجور التي تنالها على مزاحك. والجعول التي تعطاها على موتك.
ولكن الدهر. له ضربة صدق تنقض كل رابطة لا يمسكها إلا سبب مثل الخمر واه، كان أحنى عليّ من نفسي، وأعطف علي من حزمي، فرفع عني غطائي، فابصرت بأخلاق صحبي. وشاهدت خلالهم، فمضيت عنهم. وانصرفت عن ندواتهم. واحتجبت عن سمرهم. ولم يبق لهم عندي إثارة ود. ولا أثر عهد. إلا شروراً أخذتها عنهم. وإلا عادات تلقنتها منهم. ما برحوا على تلك الشرور متوفرين. وما زالوا بتلك العادات قائمين.(14/51)
ولم ألبث أن كان لي أصحاب غيرهم. أناس أهل فضل مضمر ومشهود. وقدر باطن ومعدود. ولئن بدا لي أن تعرفي لهم قد كان شراً على وويلا. فلا أدري أن يقضي الله أن تعود حياتي سيرتها الأولى. هل استطيع أن أفر من أذى ودهم. متنازلاً عن مغانمه. مضيعاً مرابحه.
لقد جئتهم يعلوني لهب أبخرة الصحبة الأولى. فكاد أقل وقود يدفعون به إلي كافياً لإشعال ناري. لأرود بها حالة أخرى.
ولم يكونوا حلفاء مدام. ولا جلساء ندمان. بل كان فيهم إثنان بالتبغ مولعان. الأول من عادة لزمته. والآخر من عادة ورثها عن أبيه. وكأنما تخير الشيطان للموجع من ذنبه. التائب من إثمه. أحسن الأحاييل لأيقاعه. وأخدع الأشراك لاصطياده. وكأني كنت بانتقالي من تجرع كؤوس تلك النار السائلة. واشتفافي أقداحاً لها وعساسا. إلى نفخ ذوائب من دخان التبغ. أخدع الشيطان وأتغفله. وأكيد له وأماكره.
ولكن الشيطان يظلم لنا إذا أردنا خلوصاً من شديد العقاب إلى خفيفه. ومن مبرح الألم إلى طفيفه. وأنه ليسعفنا إذا أردنا من آلامنا بديلاً. وإننا لنطلب الإنصراف عن منقصة لنا قديمة، إلى معجزة، فيكيل لنا الكيل كيلين. ويلزمنا منها ضعفين. وكذلك أقبل على شيطان التبغ. يسعى وراءه سبعة شياطين. كلهم ألعن منه. وكلهم أعظم شراً.
ولولا أني أشفق من سأم القارئ. لتنقلت معه بين الحالات التي اعتدت. والعادات التي التزمت. من ولع بالتبغ والجعة. إلى تدرج في معاقرة خفيف الشراب. ومن أقبال على المشعشعة بالماء. الشديدة السورة. إلى شرب خمور ممزوجة تحتوي مقداراً كبراً من خمرة (العرق) أو من سم شبهها. وكنت أقل من مزاجها حتى صرت أجرعها صرفاً.
بل أني لأعنت القراء. وأخشى أن أكون عندهم غير مصدق. لو قصصت عليهم فعل التبغ وتأثيره. وأنبأتهم باستسلامي لسلطانه. وذلتي لمفعوله. كيف أني وكنت أشعر بعد اعتزامي الخلاص منه. وإجماعي على الخروج عليه. أن في ذلك جحوداً لنعمته. وكفراناً بصداقته. وخيانة لعهده. وكيف كان يقبل علي يسألني حقاً ضيعته. ويمشي إلي يطلب وداً صرفته. وكيف كنت أنكب على إصرار الأسابيع على مقاومته. إذا التقيت بذكره اتفاقاً في رواية، أو قرأت له عرضاً وصفاً في كتاب، وكيف كان يتمثل لي بعد منتصف الليل خياله، ويتراءى(14/52)
لي شبحه، ويلزمني حلمه، حتى ألجأ إلى تحقيقه، وأعمد إلى إرضائه، وكيف كان متصاعد دخانه، ولطف رائحته ولذات شربه، تنزع عني ألم غيابه. وتزيل عني برحاء عتابه، وكيف أشعر الآن وأنا أعترف بالقصة كلها، وأقر بحقائقها المروعة. أن بيني وبينه رابطة شديدة، وعلاقة ليس في وسع القلم وصفها.
سيعرض على قولين كأنه صورة مبالغ فها، جماعة لم يعتادوا البحث في دواعي أفعالهم، ولم يشهدوا سلاسل العادة وأغلالها، ولم يرسفوا يوماً في أسار عادة غلابة، لا عاصم اليوم منها. وملا مهرب من أسرها. كتلك التي في أغلالها سلكت. وأنا اليوم من ويلاتها اعترفت. ولكن أين المفر. من أسر لم تجد فيه عظات الخلصاء. ولا عولات الزوج. ولم يغن عنه شقاء الحياة. ولا نكد الدنيا. بل كم من بائس. لم يكن نزاعاً بطبيعته إلى الشر. ولم يكن رغاباً بسجيته عن الخير. دفع به العادة إلى الكأس والغليون.
شهدت صورة لكوريجيو. رسم فيها ثلاث نسوة وقفن أزاء رجل مقيد في جذع شجرة. أولاهن (اللذة) تعزبه وتبهجه. وثانيتهن (العادة) تسلكه في غصن الشجرة وتربطه. وثالثتهن (التوبة) تضع حية بجانبه. ويبدو على وجه الرجل بصيص من بهجة. ويظهر عليه انصراف إلى ذكرى الماضي عن الشعور بلذائذ الحاضر ومناعمه وابتهاج بالشر. واستخفاف بالخير. وتخنث أشبه بتخنث أهل صباريس. ورضى بالأسر. واختلال في الإرادة كاختلال أداة الساعة. وجمع بين اللذة والألم. وندامة بعد اقتراف. وتوبة ولا انصراف.
فلما رأيت كل ذلك عجبت بمهارة المصور وحذاقته. ولكني رجعت فبكيت نفسي. وعدت فرثيت لحالي.
لا أمل لي في تحول أمري. ولا رجاء عندي في انصراف بليتي.
وقد اصبحت غريقاً في لج نكبتي. وأني لأصيح. لو يسمع الغريقُ النداء. بأولئك الذين وضعوا رجلهم في سيلها العرم. وألقوا بأنفهم في لجها المتقاذفز ولو شهد حالي ذلكم الشاب الذي لذته أول كأس علها. وارتاح لطعم أول خمرة ذاقها. فرأي كأن مناظر الحياة تجلت لعينيه، ومثلت أمام ناظريه، وأحس كأنه قد دخل جنة اكتشفها، وخطر في دروب روضة لقيها، ولو استطاع أن يفهم ألم السكير وعذابه، إذ يشعر بأنه مرتطم في هاوية سحيقةن(14/53)
بعينين مبصرتين، وإرادة متخاذلة، ويرى الويل دافعاً إليه، ولا قوة له على رده على حين يعلم أنه محدثهن ويشهد روحه خلاء من الخير ونفسه قد ذهب عنا التقى، وهو لا يستطيع أن يتناسى زماناً كان قلبه بالخير فياضاً، وروحه بالتقوى مترعة.
ولو رأى ذلكم الشاب عيناً لي محمومة، من أثر شراب الليلة الماضية، وشهد شوقاً بي إلى رجعها، وولعاً بعودها. وميلاً إلى تكرارها. ولو رأى جسمي المهزول. وسمع صحاتي وعولاتي. لما وسعه إلا أن يقذف بالكأس إلى الأرض. عزة وأباء.
ورب قوم يعترضونني سائلين. إذا كنت هكذا تمتدح الرغب عن الخمر. وتريدنا على أن نفهم فهمك. ونرى رأيك. ونشعر بشعورك. وإذا كانت لذات العقل في سكونه. ومبهجة الرأس في هدوئه. خيراً من الاحتدام الذي تصف. والحرارة التي منها تتأوه. فما يمنعك أن ترجع إلى كراهيتك الخمر. وما ضرك أن تعود إلى رغبتك عنها. وإذا كانت النعمة تستحق الحرص عليها والاحتفاظ بها. فماذا يمسكك عن استردادها وماذا يؤخرك عن العود إلى احرازها؟
لى والله لو أنني بأمنيتي أعود إلى أيام الصبا. وزمان الشباب. أيام كانت نهلة من العين الصافية الصادرة. تكفي لشفاء غلتي. وإرواء ظمئي. هناك حيث شمس الصيف وملاعب الحداثة توقد الأجسامز وتحدث الغليل.
أي ماء تلك العين. أي منهل الأطفال والزهاد. ما أشوقني إلى الرجوع إليك. وما أبهجني بالعل من نميرك. والنهل من سلسالك. أني لأتمثلك في أحلامي. وأتخيلك في علالات آمالي. وعذب ماءك يبرد لساني المحترقز وقلبي الصديانز وجوفي الملتهب. ولمعدتي المتيقظة في الأحلام تمجه. وفمي المتقد يعافه.
ولكن أليس لك من سبيل قصد وطريق وسط بين جد الامتناع وهذا الإكثار القاتل؟
إليك أيها القارئ. حتى لا تبلغ يوماً إلى مثل حالتي. وحتى لا تخبر من هذه النكبة خبرتي. وتجرب من هذه البلية تجربتي. أسوق الحقيقة الهائلة. وهي أني لم أجد يوماً بين الحالتين طريقاً وسطاً!
إن الإقلال من الشراب عن ذلك القدر الكافي لتهميد جسم السكير وإرسال النوم إلى عينيه. ذلكم النوم الذي يحكي الخمود في سكونه. لا يُغني عنه شيئاً. وأني أوثر أن يصدقني(14/54)
القارئ على أن يدع معرفة ذلك إلى تجاربه. بل وف يعلم الحق إذا بلغ يوماً إلى تلك الحال التي يرى فيها أن التفكير لا يعوده إلا وهو منزوف نشوانز ولا تأتي إليه الخواطر سراعاً إلا وهو ثمل سكران.
والحق المروع المخيف. هو أن الإدامن على الشراب ينقل المواهب العقليةز من دائرتها الطبيعيةز ويسلبها نشاطها. ويحرمها عملها. حتى لا تعمل إلا بمعاودته. ولا تسترد نشاطها إلا بمراجعته. وأن السكير ليفقد نفسه في ساع صحوهز ويتجرد عن روحه في أوقات أفاقه. وأن في الأذى لخيراً له.
فأنظر في الآن أيها القارئ وأنا في غلواء الشباب. وروق العمر. قد عدت أبله ممروراً. ورحت ضارعاً مهزولاً. وأسمعني أعد الأرباح التي جنيتها من كؤوس الليل. والفوائد التي اكتسبتها من أقداح السحر.
كنت منذ أثنتي عشر سنة صحيح العقل. سليم البدنز ولم أكن مرير القوى. بل أني لأظن أن جسمي كان في نجوة من الأمراض. ولم أكن أعرف الشراب ولا احتساءه. ولم أكن أعرف الخوان ولا أصحابه.
أما الآن فلا يفارقني الألم. إلا إذا فقدت نفسي في بحر من الشراب.
كنت في صيفي وشتائي أصحو من نومي. قبل أن تؤذن الساعة السادسة صبحاً. كنت أقوم ناعم البال. منتعش القوىز لا تكاد تغيب عني عذب الخواطر وبهيج الأفكار. ولا تكاد تفوتني نجوى لليوم الوليد. أو أنشودة للصبح المشرق. أو أغنية للضحى الساجي. واليوم أنفض عني ساعات الرقاد. وأنا ضائق الذرع باليوم المقبل. يسعى في أثره العناء. ويماشيه الجهد والشقاء. وأنا منتفخ السحر بمقدمه. أود لو أني أستطيع ملازمة الفراش. وأوثر أن يطول بي أمد الإغفاء.
وأن لحياتي في اليقظة ما في مخيف الأحلام من متعبة وتردد واضطراب. وكأني في غداة اليوم أتعثر بربى مظلمة وجبال.
أما في عملي. ولم يكن ملائماً طبيعتي جد الملاءمة. بل لحاجة ينبغي أن تنفذ. وضرورة يجب أن تنجز. بل يستعان على قضائها بالابتهاجز ويستنصر في إتمامها بالفرح. فقد اعتدت أن أبدأه في سآمة وتبرم. وأصبحت اليوم أجد فيه عناء. وألقي منه رهقاً. وأشهد(14/55)
منه عسفاً وتكلفاً. وأستعين عليه في مخيلتي بأنواع التثبيط. وأعتصم منه بضروب التخاذل.
بل أن أتفه مهمة يدفع بها إلىّ صديق. وأي واجب أريد أن أنجزه لنفسي. كتوصية تاجر بعمل يء، أو شبيه ذلك، ليتمثل لي عملاً شاقاً يستحيل عليّ إنجازه، وهكذا اختلت فيّ أداة العمل.
ولقد صحبني هذا الجبنن ولازمني هذا الخور، حتى في معاملتي الناس ومواعدتهم، وحتى في معاهدتهم وموالاتهم، فلا أجسر أن أفي بعهد مسؤول، أو أصون ذماماً يجب أن يصان، أو أرعى آخية ينبغي لها أن ترعي، وهكذا مات سلطان الفضيلة فيّ.
ولقد كانت لي في زمان التصابي منازع فتولت. وكانت لي في الأيام الماضية ميول فذهبت. وأصبحت لا يذل لي عمل. ولا يهون لدي شغل. بل أني لأجد في الأشتغال برهة من الوقت وصباً قاتلاً. ولقد كتبت هذا الاعتراف على مرات كثيرة. وفي فسحات طويلةز وعانيت في جميع شوارد خاطري عناء شديداً.
بل أن تلك الشذرات الرائعة التي كنت أقرؤها في كتب التاريخ أو الروايات الشعرية فأبتهج برشاقتها. وأنعم بحلاوتها. لا تصادف مني الآن عبرة مهراقة. ودمعة متحذرة. ترسلها رقة عاطفة. ويجريها ضعف وكأني بطبيعتي المختلة المهملة تنزوي أمام كل عظيم. وتضؤل إزاء كل جليل.
وأني لأنظر أبداً في بكاء ودموع لأي سبب أو لغير ما سبب. ولا أعلم ما تجمع هذه المنقصة من خجل. وما تدل عليه من تخاذل وضعف.
تلكم بعض عوارضي وحوادثي. وإن أردتم إلا الحق قلت أنها لم تكن كذلك على الدوام أتريدون أن أبعد في رفع الحجاب المضروب بين ضعفي وبينكم. معشر القراء. أم بحسبكم هذه الخاتمة؟ أناني بائس. ومغمور شقيز لا يريد بإعترافاته فخراً. ولا ينشد القارئ. أن كان له فيها نصيب. أو رأى له فيها مساساً.
لقد أنبأته بعقبى أمري. وخاتمة خمري. فليمتنع من ساعته. وليمسك ف حينه. ومن أنذر فقد أعذر.(14/56)
كشكول البيان
تفاريق علمية. وأدبية. وفكاهية. وتاريخية: ونظرات - في سير مشهوري العلماء. والمخترعين: وشذرات في أخبار العالم وأحداثه الحاضرة
ألفرد رَسّل وُلَّس
إن الحق. في عالم مثل عالمنا هذا. أنشأه خير غير محدود. وخلقته حكمة لا نهاية لها. هو عون الأفراد. وناصر الشعوب. وقوام الغني. وسناد المقل. وأن الباطل. إن عاجلاً. وإن آجلاً. عقباه الشقاء. وخاتمته الدمار.
لقد كنا نعتصم طول القرن الماضي بالباطل. فجنينا - ولا نبرح نجني_الشقاء والدمار. وقد حان الوقت الذي يجمل بنا فيه أن نغير طرقنا الباطلة في أساسها. الظالمة في أصولها. السقيمة في مجموعها.
الفرد رسل ولس
كتب أحد أصدقاء فقيد انجلترة العظيم. بل فقيد العالم الإنساني. الدكتور الفرد رسل ولس. مقالاً شائقاً في مجلة المجلات الانجليزية. ألم فيه بعظمة الرجل. وترجمة حياته. والرسائل التي دارت بينه وبين دارون وكثيرين من أصدقائه العلماء. قال أن اسم دارون قد أخذ بين الأسماء الطائرة الذكر. التي زانت عصر فكتوريا المكانة الأولى. والمحل الأرفع. وهناك أسماء أخرى أنبه ذكرها. وأعلى مكانها. تيار مذهب النشوء. نخص بالذكر (لايل). الذي كان دارون وولس يركنان في أول أمرهما إلى مساعدته. ويسألان معونتهز وجالتون الذي ترك بعده أثراً باقياً. لتأسيس مجتمع جديد لا يبنيه إلا إنسان جديد. وهكسلي. المدافع عن مذهب دارونز الرافع شأنه. الذي لقبه دارون. بناصري الجليل. وهربرت سبنسر صاحب الفلسفة التركيبية التي يجدر بها أن تكون أثراً خالداً. ومعلماً أبدياً. ورب ذلك العقل المبتكر. والرأي المدبر. الذي لا يقارن بخصبه خصب. ولا يوازن بثروته ثراء.
هؤلاء الأعلامز أهل العظمة المتألفة. والروعة المشرقة. هم قادة تلك الحركة المأثورة في تاريخ العالم. تلك الحركة التي بدأتها مجهودات لامارك وبافون وكثيرين غيرهما. لا تنسى آخر الدهر أسماؤهم. والذين مهدوا السبيل للمذاهب الطبيعية. وذللوا الطريق لاكتشاف أسباب النشوء والتطور وقوانينهما.(14/57)
وأن من بين هؤلاء العلماء النابهين. والأعلام الذائعي الصيت. عظيماً لا يدانيه أحد في عظمة الشأنز ونعني به ألفرد رسل ولس. ولقد قال لي يوماً وهو يبتسم (أني أعيش في زمن قبل زمني. وجيل غير جيلي).
ولقد انتهى بوفاته عصر الأبحاث في مذهب النشوء.
دخل ولس المدرسة فلم تظهر فيها مواهبه الطبيعيةز ولم تتجل بين جدرانها عبقريته. فخرج منها واشتغل مساحاًز يقيس الأرض ويذرعها. وكان يقضي أوقات الفراغ في الاشتغال بعلم النبات. فلما شب عن الطوق. وصار رجلاً. ذهب إلى لندن. لا عمل له ولا صناعةز فكانت هذه النكبة داعياً له إلى اعتزام سفر بعيد. وباعثاً على اتخاذ خطة شاقة. وهي الرحيل إلى مجاهل الأمازون وغاباته. ليشهد الطبيعة ويخرج أسرارها. وليسعى على رزقه محتطباً. وقد قال بعد ذلك الحين بستين عاماً لقد كان بي ولع شديد وشوق كبير إلى معرفة أسرار المحسوسات وأسبابها، وغرام بالجمال في كل أشكاله وألوانه ولقد وجد لروحه شبيهاً في هنري والتربيتس وفي مذكرات دارون، وجيولوجية لايل. ورحلات همبولت. وآثار شامبر. فأخذ أسفارهم في جعبته. وبدأ طوافه وتجوابه في مجاهل الأمازون وأجمه. ثم في جزر الملايو الهندية. بعيداً عن المدنية وروائها. ماثلاً في كل حين بين أيدي الطبيعة وجلالها. مراقباً عجيب تغيراتها وغريب أحوالها. شاهداً مثل دارون. وهو مبتهج طروب. حال الهمج وطبائع الوحشيين. في صفائها وطهرها. سكان الكهوف. وأهل غاب الأمازون. نائماً بين الأحراش والأدغال. جامعاً عدداً كبيراً من الفراش والخنافس والأطيارز وعلماً أكبر وأوسع لم يسبقه إليه أحد. فكان منه مثل دارون عالم طبيعي مبتكر. وكان ذلك أساس حياته وأعماله.
هناك جمع الحقائق التي تجلت له. والتي وضع بها سفره الرائع في فائدة الألوان في حماية الحشرات والطيور والحيوان من التلاشي والفناء. وهناك بدأ ذلك البحث الذي أدى به إلى وضع كتاب في توزيع الحيوان والنبات الجغرافي. وهناك في تلك الأصقاع النائية رأى الطبيعة في أبهى مناظرها. وأروع محاسنها وأجمل معالمها. هناك حيث لا يكاد ينفذ إلى وارف ظلال الغاب. ومظلم أفياء الأجم أشعة الشمس الحارة. حيث الشجر باسقة أفنائه. فارعة أغصانه. وأن منها لما يطول كأنه العمد الممدة. وأن منها لما يبلغ مائة من الأقدام.(14/58)
ولا فروع له مهصورة. ولا صون له متأودة. . . . . حيث تخلق أغرب الطيور. وتدب لطف الحشرات، وتزحف الأفاعي وذوات الأثدية. وتعدو في أكماتها الأثمار. وتنساب في مسارحها العاصرات من البوّاء. هناك عند وريف الظل كان يسمع ولس تغريد الأطيار.
وفي أثناء رحلاته. تفرغ إلى التفكير في موضوع نشوء الأنواع. وفي سنة 1855 كتب ولس مقالاً في (القانون الذي به تتولد الأنواع الجديدة) وبعد ذلك بثلاثة أعوام ظهر مقاله الطنان الذي قرن أسمه باسم دارون. وجعله شريكه في اكشاف نظرية الانتخاب الطبيعي.
أما أصل مذهب (نشوء الأنواع) فيظهر أن دارون سبق ولس إلى إعلانه. وإن كان اسم الثاني يجب أن لا ينسى إذا ذكر ذلك المذهب.
وقد كتب دارون إلى هوكر لقد عزمت على أن أجمع على غير هدى كل حقيقة تدور حول الأنواع وسرها. . . . . . وقد اهتديت أخيراً إلى بصيص من النور. وأكاد أوقن (وفي ذلك مناقضة لما كتبت في مطلع الخطاب) أن الأنواع قابلة للتغير (وكأن اعترافي هذا اعتراف بجريمة قتل). . . . . . . . وأظنني قد اكتشفت الطريقة السهلة في تذليل الأنواع إلى مقاصد كثيرة.
هكذا تجلى سحر الحق على دارون، فكتب ما كتب. وصرح إلى هوكر ولايل ما صرح.
وحوال ذلك الحين. كان ولس في غابات (ترنات) البكر. قد أدنفته حمى الملاريا. وأوهنت جسمه. ولكنه كان يفكر في نفس الموضوعز ثم سطع عليه نور الحقيقةز فلم تكد تذهب عنه الحمى قليلاً. حتى كتب مقالة إلى دارون في شأن الموضوع. وقد قال دارون بعد قراءتها أن هذه المقالة في جلاء معانيها. وأوضح مراميها. تحوي تماماً ما كتبت أنا في مقالي. ولو كانت عند ولس مسوداتي المكتوبة في سنة 1842 لما استطاع أن يخرج منها مختصراً أحسن من مختصره. وأن اصطلاحاته ليست الآن إلا رؤوساً لموضوعاتي وعناوين لفصولي. إذن فسيضيع ابتكاري هباءً منثوراً. وقد سبقت إلى اكتشافي جد السبق
وأن سلوك الرجلين لهو مثال واضح ودليل جلي على ما سمي بعد ذلك (تلك الفضيلة السامية. وذلك الكرم العالي والسماحة الكبيرة. التي لن يضعف أبد الدهر وقعها من نفوس الناس).
كتب ولس إلى دارون يقول أما عن النظرية فأني سأكفل دائماً أن تكون لك. ولك وحدك. .(14/59)
وكل ما استحق من الفضل هو أني كنت الوسيلة التي جعلتك تكتب وتبادر بطبعها.
فكتب دارون إلى العالم الطبيعي هنري بيتس، صديق ولس الحميم. يقول ما أجمل العقل الفلسفي الذي يحمل صديقك ولس. لقد فعل من جهتي ما يفعله الرجل الصادق ذو الروح النبيلة.
تلكم شذرة من تلك القصة العطرة التي لم أذكر منها لا لمعاً. أما الرجلان في نفسهما فقد كانا أعظم شأناً من نظرية النشوء والارتقاء التي أنارت العالم بهديها. وأشرقت على الدنيا بنورها. ولم يحدث بينهما في مدى السنين التي عرف كل فيها صاحبه أدنى ظل للتنافس أو الحقد. وقد كان كل منهما على جانب عظيم من ذلكم الهدوء الذي يكسبه العلم الصحيح. ويورثه التوفر على الحق وخدمته لذاته. على حين أصبح الحق يخاف عليه أن يضيع في هذا العصر اللجب. ويفقد في هذا الجيل المتحاسد المحموم.
فلما فرغ من رحلاته وجولاته، تزوج في سنة 1866 من ابنة المستر ميتن. ذلك العالم النباتي المشهور. وبدأ بذلك تلك الحياة المنزلية الناعمة. وخلالى الكتابة. وفرغ إلى البحث.
ولعل القارئ يلذه أن يرى شيئاً من حياة ولس اليومية في مدى العشر سنين الأخيرة من عيني أبنته. قالت.
كان ينهض من نومه الساعة الثامنةز فيتناول طعام الافطار في مكتبه وحده. وطعام أفطاره لا يزيد عن فنجان من الشاي وشيء من الكاكاو. وكان يصنعه بيده. ثم يأخذ في قراءة الصحف. فإذا فرغ من ذلك. ذهب إلى الحديقة ليتعهد شجيراته. ويرى نجماً له يكون مهتماً به في ذلك الحين
ثم يكتب عادة الرسائل أو يشتغل بكتاب له يريد أن يتمه. وفي الساعة الحادية عشر أو منتصفها يشرب ماءً ساخناً. ثم يعقبه ببرتقالة. وكان يحب البرتقال حباً جماً. وبعد ذلك يخرج إلى الحديقة. ويزور نباتاته الخصوصية. ولا يتناول طعامه التام إلا عند الساعة الواحدة. وهو يتركب من قطعة من اللحم البقري. يقطعها نتفاً صغيرة. ولم يكن يأكل الخبز ولا الخضر، بل كان يؤثر الفاكهة. وكان يلذ تلامذتي مرآه وهو يأكل اللحم بالموز والبرتقال. وكان يستريح بعد الغذاء حتى الساعة الثالثة. فإذا نهض جال جولة أخرى في الحديقة. وإن زارنا زائر قابله.(14/60)
وفي الساعة الرابعة والنصف يتناول الشاي. وكان يصنعه كذلك بيده. ولا يأكل شيئاً. وكان يتناوله في مكتبه عادة. إلا إذا زارنا أصدقاء لنا مقربون. أو جاء لزيارته من يحب رؤيته. فقد كان يأتي إلى قاعة الاستقبال. وكان دائماً في استعداد للقاء الناس في ذلك الوقت من النهار. وإذا لذه الحديث. ووجد في محاضرة الزوار روحه وسروره. لم يأبه للوقت مهما أقاموا. فإن لم يكن هناك أضياف. أخذ في أي عمل له حتى الساعة السابعة ونصف مساءً وهو موعد العشاء. والطعام خفيف. شيء من الأرز والفاكهة المعتادة. ثم يشرب ماء سخناً ممزوجاً بعصير البرتقال. وقدر (ملعقة) من خفيف النبيذ.
وبعد العشاء يعمد إلى قراءة رواية. ولا يقرأ في غير ذلك الوقت. وكان يؤثر في اختياره الروايات التي تدور حوادثها حول المنزل والأسرة. ولكنه كان يحب أيضاً الروايات التي تحوي الغرائب والمخاطر.
وكان يأوي إلى فراشه بين العاشرة والحادية عشر. وهذا نظام أغلب أيامه. ولكنها لا تخلو بطبيعة الحال من تغير واختلاف. ففي بعض الأحيان كان يشتغل أكثر من عادته. ولا سيما إذا كان يضع كتاباً له. وفي أوقات أخر. إذا لم يكن عنده ما يكتبه. يجعل كل همه في العناية بنباتاته. يغير أمكنتها. أو يبذر بذورها ولقد ذكا لديه مئات من أنواع النبات. كانت تبعث بذورها إليه من جميع أنحاء العالم وأرجائه.
وكان طول حياته مستقلاً. معتمداً على نفسه. يصنع كل شيء لنفسه بنفسه. يقرأ ولا يقرأ عليه. وكان يكتب رسائله بيده. ولم يستعن فيها بعون أحد. لا في أخريات أيامه. وكان نشيطاً. يتخطى المقاعد ليرفع ما سقط من الكتب. ويمشي بخطوات واسعة. ولساقه اليمنى هزة خاصة. وكان يحتذي في جولاته في الحديقة أحذية طويلة. خشبية الكعب. يبلغ طولها ثلاثة عشر (بوصة). وأن الإنسان ليعجب له كيف كان يمشي بها. وكان المشي في أوليات أيامه أحدى مباهجه. وكثيراً ما خرجنا جميعاً إلى الرياضة وترويح النفس طول اليوم. ونأخذ معنا الطعام والزاد. كنا كلما كان لنا أيام عيد أو عطلة. نمشي معه كل يوم. نخبر الأقليم المجاور ونطوف بجنباته. ونجول بأرياضه. مهتدين بمصور جغرافي نأخذه معنا في جولاتنا. ولم يكن يخشى الجراثيم أو يرهب أذاها. بل كان يطلق عليها كلمة أي (كلام فارغ). حتى لقد كان يشرب أي ماء يبدو لعينه صافياً، لا أذى فيه ولا كدر، وأني لأذكر أنه(14/61)
كان يحمل دائماً في جولاته قدحاً، ففي إحدى جولاته البهيجة التي لا أنسى أبداً ذكراها، وكنا نروح النفس في إحدى الغابات أخرج من جيبه أنبوبة من المطاط، وولى وجهه وأنا أتبعه شطر غدير كان على عدوة الطريق، وسألني أن أعل بواسطة أنبوبته من ماء ذلك الغدير، وإذا جرح لنا إصبع، ضمده بأوراق الطوابع.
أما عن مزاياه العمومية. فقد كان أبداً مغتبطاً مبتهجاً. يظن بالحياة خيراً ويعلق عليها الآمال. وكان يكره مذهب التشاؤم. وأما عن معارفه وعلومه فكانت جعبته منها حافلة. حتى لقد كان يستطيع أن يتكلم في كل موضوع. وقد كان لنا دائرة معارف حية ممتعة تحبونا في كل شيء بالمعلومات الوافية الضافية. وكان يحب الطفل الصغار، وطالما استحثني على أن أعلم طفلاً أو طفلين. وإذا غاب الأطفال التلامذة. سألني إن كان أحد منهم مقبلاً. ولا أظنه كان يحب الحيوانات. ولكنه لم يكن يتأفف منها. ولم يكن ليعيرها كبير اهتمام. على أنه كان يسمح للهرة أن تجلس فوق مكتبه. ما دامت لا تقلقه. وكان يلتذ برؤية صغار القطط وهن يلعبن ويتداعبن. وكان بينهن قط عجوز. لا تجده في أغلب الآحايين إلا نائماً في حجرته الخصوصية بين القماطر والأسفار.
نما عنده الدين جنباً لجنب مع الأسرةز وكان سراً كالحياة غامضاً. وأحسن اسم نطلقه على دينه هو قول كارليل العقيدة الطبيعية في وجود قوة خارقة للطبيعية وقد كتب إلى كاتب هذه الأسطر قبل وفاته بقليل يقول إن ذلك العقل المادي الذي كنت أحمله في زمان الصبا والشباب أخذ يتشكل في رفق ويتحول إلى أن صار الآن ذلك العقل الاشتراكي الروحاني. المؤمن. ذلك العقل الذي يظنه أصدقائي العلماء قد بلغ منه الضعف في متهدم العمر وأخذت منه البساطة حتى يعتقد أن الفاكهة والأزهار ومستأنس الحيوان وعظيم الطير والهوامز والصوف والقطن والسكر والمطاط. والمعادن واللآلى والدر. خلقت من قبل خلقنا وأنشئت لتهذيب الإنسان وتنعمه
وقال في خطاب له آخر: أن القول بقوانين الطبيعة مع إنكار وجود كائن هناك يعمل ويدبر. قول هراء وكلم لا معنى لها. وسواء كان الحق المجهول كائناً فرداً يعمل في كل مكان من الكون بنفسه وهو الخالق والمنظم والمدبر لأدق حركة في العالم والعوالم الأخرى الممكنة أو يعمل. وهو ما أرى بواسطة طبقات لا تحصى من الكائنات. فالأمر في كلا(14/62)
الرأيين. ولعل رأي هو الجلي المعقول. هو تعاليم الإنجيل وسويدنبرج وملتون
وكان يدافع ويناضل قائلاً أن هناك قوة خارقة وعقلاً مدبراً. ومقصداً سامياً إلى خلق هذا العالم الحيواني المتسع. وإلى هذا التطور الذي تبعه من عهد خلقه. وذلكم المقصد هو ترقية الإنسان.
وكان يعتقد إمكان مناجاة الأرواح. ويحتج بأن تكاثر الأدلة والشواهد على حدوث هذه المناجاة كاف لإقناع المكذبين.
وكان يقول لمحاجيه وأخصامه المنكرين مذهب وجود قوة خارقة لقوى الطبيعة ما قاله كارليل إذا كنا لم نعلم بعد من فعل الطبيعة وأحوالها في هذا العالم الذي لا يكاد يكون جزءاً صغيراً من كوكب إلا العلم القليل. فمن يعلم ما وراء هذا الفعل من قوة أخرى يركن إليها ويسير بمشيئتها. ومن يعلم ما تدور حوله هذه الدائرة من دوائر لا تعد ولا تحصى؟ يجوز للسمكة أن تعلم كل حصاة. وكل ركن. وكل ضرب من الأسماك. ولكن هل تفهم هذه السمكة الصغيرة مدالاوقيانوس وجزرهز ولججه وتياراته المنتظمة والرياح التجارية. وأرواح المونسون وخسوف القمر. تلكم الأحوال التي بها تنتظم حال كل جزيرة في الأقيانوس الخضم. ومنها تتغير في كل حين وتنعكس. مثل تلكم السمكة الصغيرة هو الإنسان. ومثل هذه الجزيرة كوكبه الأرض ومستقره. وما أوقيانوسه إلا الكون الذي لا يقاس ولا يحد. وما رياحه وتياراته إلا أقدار العناية الآلهية الرهيبة من آباد الآباد
على أن العلم والدين لم يستنفدا كل ميوله. ولم يستبدا بكل معارفه. بل شغل في أعوامه الأخيرة بأرائه الاشتراكية وكأنما كان يكتبها وقد أبدى هذه الآراء في كثير من مقالاته نخص بالذكر الكتاب الأخير الذي وضعه في الوسط الاجتماعي والتقدم الأخلاقي وقد حمل فيه على الوسط الاجتماعي الحاضر. وأظهر في نقائضه وعيوبه. وأثبت فيه بالأدلة الجائزة أن أخلاق الإنسان وأحواله الملازمة له عقلية كانت أو نفسية أو أدبية. هي ملاصقة له من يوم مولده. وأنها نهرضة للتغير قابلة للتحول. ويختلف تغيرها في الأشخاص. ومن السهل تهذيبها بتأثير الرأي العام. ونفوذ التربية. بما أنها ليست وراثة فمن ثم لا ترتقى الأخلاق ولا تهذب الآداب. إلا إذا كان هناك قوة انتخابية أو مشتركة تساعد على رقيها. وقال إن التاريخ يدل على أن ازدياد الثروة ووفرة الخيرات لم يراع في تقسيمها العدل.(14/63)
وصرح بأن أول واجب على الحكومة الراقية هو أن تعمل على جعل الجميع يتساوون في الانتفاع بثمرات العمل. وأن تسارع إلى منع تفشي الموت جوعاً. وانتشار الأمراض الناتجة من الإقامة بالمساكن المضرة بالصحة ومن الأشتغال بالأعمال الخطرة. وكان يرى رأي كارليل وهو أن الظلم يعقب خسارة فادحة (بفوائد) باهظة.
وإلى القراء خاتمة الجملة التي حملها على المجتمع الانجليزي ونقد بهاز قال: إذا اعتددنا بهذا الحقائق المترادفة المتعددة الصادقة، وكثير منها هائل مخيف حتى لا تمكن المبالغة فيه. كان لنا أن نقول أن نظام مجتمعنا فاسد من عاليه إلى سافله. وأن الوسط الحاضر في مجموعه هو أسوأ الأوساط الاجتماعية التي رآها العالم.
وأنجع دواء يراه الدكتور ولس هو أن النظام الحاضر يجب أن ينقض ويغير. إذ يجب أولاً - أن يكون هناك تعاون عام بدلاً من هذا التنافس العام،_وثانياً_أن يعتاض عن هذا النظام الاقتصادي العدائي بنظام اقتصادي أخوي. وثالثاً أن تعطي الحرية لاشتراك الجميع في الأرض وفي رأس المال. وأخيراً. أن ينعم الجميع بالمساواة في فرص العمل أو في أملاك الحكومة المودعة عندها على ذمة الشعب.
ويقول الدكتور ولس: نحن أنفسنا الذين أنشأنا وسطاً اجتماعياً مجرماً فاسداً. فلكي نمنع نتائجه اللازمة يجب أن نعكس وجوه النظام الحاضر. ينبغي أن يكون كل إصلاح اجتماعي نبديه أو قانون اقتصادي نسنه على نقيض أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية الحاضرة.
كذلك كان ولس عالماً بيولوجياً طبيعياً جغرافياً اجتماعياً وكان كذلك على علم بالعلوم الفلكية. فتراه في كتاب له محللاً رأي العالم الفلكي لويل في إمكان وجود سكان في عطارد. ومركز الإنسان والأرض من الكون، وفي سفر له آخر باحثاً عن نتائج التطعيم. ثم في التنويم المغناطيسي، وكان له به معرفة واسعة، ثم تراه شاغلاً وقتاً من زمنه في إعادة النظر في ذلك المذهب الذي أبت عليه سماحته إلا أن يسميه (الدارونية)، وكان يصح أن يدعى (الولسية)، وفي كتاب آخر باحثاً في (علم التقليد المجوني) وتشهده بعد ذلك باحثاً في شؤون القرن التاسع عشر وغرائبه، وقد استعان أخيراً بك معلوماته ومعارفه ومعتقدات وجدانه على الدفاع عن الموجعين والمناضلة عن البائسين المظلومين ولقد يصح أن يكون شعاره تلك الكلمة المأثورة التي جاءت في مذكرات سلى وهى لا يثور الشعب حباً في القتل(14/64)
والسلب. بل عجزاً عن احتمال العذاب والآلام.
وكان ولس جريئاً مقداماً على ابداء آرائه وإظهار الحقائق التي تنكشف لهز مهما كانت نتائجها وعواقبها.
وكان لجثمانه قوة روحه وسلامتها ولقد قالت زوجتي وكانت معي في إحدى زوراتي الأخيرة له لو نظرت إليه منذ بضعة أشهر لما صدقت أنه قد جاوز التسعين.
وكان جميل الطلعة، مستوي القامة، مشرق المحيا، ثابت الخطا، وكان لرأسه الجميل وقد جلله المشيب، ولحيته البيضاء وقد تدلت إلى صدره، روعة وجلال. وكان يضع منظاراً أزرق لا تبدو من خلال زجاجه عيناه. وإذا تكلم بدت على معارف وجهه ابتسامة لا تغيب. وإذا جلس وضع رجلاً فوق رجل. وشبك يديه أمامه. وكانت نبرات صوته حلوة عذبة كالموسيقى. حتى ليستمع إلى الحديث جليسه وهو مقبل عليه مبتهج ويصغي وهو طروب إلى ذلك السيل المتدفق العذب. الذي لا يشوبه للضعف أثر.
وكان قد بدأ يضع كتاباً جديداً ولكن عاجلته المنية فجأة. وكانت وفاته. وأن شئت فنومه الهادئ. في يوم الجمعة لسبع خلون من نوفمبر. بعد الساعة التاسعة من المساء بخمس وعشرين دقيقة. وهو في الواحد والتسعين.
وشيعت جنازته يوم الإثنين العاشر من ذلك الشهر في لفيف من العلماء، وسار خلفه أبنه وأبنته وأخت زوجته. فأدرج في قبره في رفق وأسى.
فلما كنا بالقبر وقوفاً ذهبت نفوسنا حسرات على زوجه المقيمة في البيت التي لن يعود إليها ذلكم الزوج العظيم آخر الدهر. وقد أخلي له في الكنيسة موضع بجانب قبر دارون. ولكن رغباته ورغبات أسرته لم تسمح بذلك.
على أن زوار الكنيسة لم يلبثوا أن رأوا اسم ولس منقوشاً على وسام تحت صورة له في الجمعية الملوكية. وأخرى في متحف الصور. وإذا سمحت الميزانية أقيم له تمثال في متحف الآثار.
وكذلك راح دارون وولس. كما كانا في الحياة. مرتبطين مصطحبين. وكذلك كانا من أبطال العالم في الحياة وفي الممات.
تأثير الكحول على النسل(14/65)
كلفت الحكومة الألمانية جماعة من العلماء بعمل مقارنة بين تأثير الكحول على نسل المدمنين السكيرين وبين تأثيره على المعتدلين. وقد أجرى العلماء أبحاثهم في الموضوع في عشر أسرات من كل فريق من الفريقين وخلصوا من بحثهم على أن نسبة الوفيات في الشهر الأول من حياة الأطفال الذين أدمن آباؤهم على الشراب وسكنوا إلى الكأس هي 43 في المائة، وثمانية في المائة عند أطفال المعتدلين وأن نسبة الأطفال الذين أصيبوا من مفعول الشراب في آبائهم بالعته والجنون 10 في المائة وبالصرع 8 وليس من بين أطفال شاربي الخمر إلا سبعة عشر في المائة تنمو مداركهم النمو العادي.
معرض سان فرنسيسكو القادم
سيقوم في ربيع سنة 1915 معرض دولي في سان فرنسيسكو سموه معرض بناما والباسيفيك (المحيط الهادئ) وقد تخيرت سان فرنسيسكو هذا الموعد وهو كما يعرف القراء موعد إتمام قناة بناما الواصلة بين المحيطين لتؤكد للناس مبلغ رقي الأمريكي وعظمته، وسيشترك في المعرض سبعة وعشرون شعباً وسيقام في بقعة فسيحة يبلغ طولها نحواً من خمسة كيلو مترات.
شكسبير في نظر المقتطف
يقول المقتطف في بضعة أسطر كتبها تقريظاً لرواية هنري الخامس تأليف أكبر شعراء الدراما وأنبغ نوابغ العالم ويليم شكسبير، تلك التي قررتها نظارة المعارف العمومية على طلبة البكالوريا في هذا العام، والتي عربها على نقتنا الكاتب المعروف محمد السباعي. (لم تكن لغة شكسبير حينما وضع رواياته من الفصاحة في شيء لكنها صارت عند الانكليز مقياس الفصاحة).
ونحن فإنا نعجب للمقتطف كيف يعجل بكلمة مثل هذه لا تتفق مع الحقيقة في شيء، فضلاً عن أنها تناقض لم يكن ليفوت صاحبيه الفاضلين ومكانهما في الفضل والفلسفة مكانهما، والذي يدور الآن في خلدنا هو أن صاحبيه لم يشتغلا دهرهما بروايات شكسبير، بل استنفدت الفلسفة كل أوقاتهما، فكان حظ شكسبير من المقتطف حظ مواطنه الكاتب الحكيم توماس كارليل صاحب كتاب الأبطال الذي عربناه إلى العربية وكتب المقتطف عنه في حينه وانتقصه إذ ذاك، ولو نحن أقدمنا على ترجمة أصل الأنواع لشارلز دارون لأشفقنا(14/66)
من تقريظ المقتطف وخفنا على داروين من أن يقول رصيفنا المقتطف أنه ليس من العلم في شيء وأن كتابه (أصل الأنواع) لم يكن له أدنى أثر في الفلسفة الطبيعية، ولو خطر لنا أن ننقل كتاب رسل ولس في الانتخاب الطبيعي لما ظفر ولس من المقتطف بكلمة مديح.
يقول المقتطف أن لغة شكسبير لم تكن في شيء من الفصاحة ويخال لنا أن المقتطف لم يقرأ شيئاً عما كتب الانجليز عن أسلوب شكسبيرن ولم يفرغ للبحث في أدبه، كما يظهر من كلمته المخالفة للحقيقة فإن شكسبير كان على علم قليل باللغة اللاتينية، ومعرفة أقل باللغة اليونانية، ولكنه كان حافل الجعبة من الانجليزية وقد استعمل 15000 كلمة وكان يكتب بالانجليزية الصميمة الصحيحة ففي كل خمسة أفعال أو ظروف أو أسماء أربع منها (تيوتونية).
وإذا كانت لغة شكسبير ليست من الفصاحة في شيء، كما يقول المقتطف، فكيف يجوز لها أن تصبح بعد ذلك مقياساً للفصاحة؟
وإذا صح قوله أن لغة شكسبير أصبحت مقياساً للفصاحة لكان يكون إذا أراد الكاتب العصري من الانجليز أن يروح بين جيله فصيحاً فليس عليه إلا أن ينحو منحى شكسبير ويقلد أسلوبه ولغته؟
وهل لغة الكاتبين العصريين المشهورين، ويلز وتشترتون تتفق مع لغة شكسبير؟ نحن نعلم أن في روايات شكسبير كلمات كثيرة لها معان مخالفة لمعانيها اليوم، ولكننا لا نتصور أن ما يكون بالأمس غير فصيح يصبح اليوم وهو الحد الذي تقاس به كل فصاحة!
هذه كلمتنا نسوقها إلى المقتطف حتى يتثبت مما يكتب، وحتى لا يعجل في أمره فيكتب كما شاء القلم وشاء له الهوى.
اللغة العربية والزراعة
للفاضل أحمد أفندي الألفي
(تابع لما في الجزء 5 و 6 و 7)
النجل والنز والأمدان
النجل الماء المستنقع. والنز الذي يتحلب من الأرض. يقال استنجل المكان كثر فيه النجل(14/67)
- أي النز ويقال استنقع الماء أصفر وتغير من ركوده في الأرض.
النز - ما يتحلب من الأرض من الماء يقال نز المكان صار ذا نز ويقال للأرض السبخة النشاشة ذات ملح ونز.
الأمدَّان - هو الماء الناقع في السبخة خاصة.
ويعرف من ذلك أن النجل أو النز هو ما يعبرون عنه الآن بالماء السفلي أو ماء الطبقة السفلية أو الماء الأرضي أو ماء تحت الأرض أو الرطوبة الراكدة في الأرض التي تصيرها غمتة والمختار عندي لفظ النز لأنه أعرف وأكثر استعمالاً.
الغمر
الغمر ماء الأرض والماء الغمر هو الماء الكثير ومعلوم في فن الزراعة أن الماء الأرضي نوعان الأول هو النز الذي تنشأ منه عماتة الأرض كما مرّ بيانه والثاني أعمق من الأول ولا ينشأ منه ضرر للأرض ويسمونه الآن بالماء الأرضي العميق أو الأعمق. وعندي أن لفظ الغمر ينطبق عليه فهو أحسن لفظ يستعمل له.
الماء الخاثر
ماء خاثر أي كثير الطين (كمياه النيل أبان الفيضان) ويعبر عنها في العرف وغيره بالمياه الحمراء أو العكرة وفي اللغة أن تقانة الماء خثورته وتقنوا أرضهم أرسلوا فيها الماء الخاثر لتجود كما يقال في العرف (نيلوا الأرض أي أصلحوها بماء النيل أو التنييل)
السيح: الماء الجاري على وجه الأرض.
العين: الماء الجاري من العيون.
الآبار المنبثقة هي ما يسمونه الآن بالآبار الارتوازية خطأ
أو الآبار المتفجرةولا أدري أخطأ مشهور خير أم صواب مهجور؟؟
البعل من الزرع: ما شرب بعروته (أي بجذيراته) من الأرض من غير سماء (أي من غير مطر) ولا شقي وهو ما يعرف في العرف الزراعي بالزراعة البعلية في أرض الملق أي حياض الصعيد.
المسقوى من الزرع - ماسقي بالماء وهو ما يعرف في هذا العرف بالزراعة المسقاوي(14/68)
العفر - أول سقية يسقاها الزرع بعد بذر الحب مباشرة ومنه (زراعة العفير) إحدى طرق الزراعة المعروفة في زراعة الحبوب وهي المقابلة لزراعة التخضير.
السد - الردم لسد الماء.
الرصف - السد المبني للماء وأيضاً الحجارة المرصوف بعضها ببعض في مسيل الماء المنزفة - الشادوف. وقد وهم معربو كتاب الزراعة المصرية فحسبوه (الدالية) وليست هي إياه (راجع المخصص).
المحوض - ما يصنع حول الشجرة كالشربة لسقيتها.
الأخدود - الحفر المستطيلة في الأرض ج أخاديد وتوجد الأخاديد بكثرة في أراضي الملق التنبيث. التطهير (أي ما يعرف في العرف بتطهير الترع ونحوها) يقال نبث النهر استحدث حفره والنبائث التراب المستخرج الملقى على شط النهر.
الزريعة. التقاوى سواء كانت حباً أو غيره.
البذر
البزركل حب يزرع أو يبذر
المحفر: آلة الحفر المعروفة في العرف بالكريك.
المسحاة - هي الفأس.
المعزقة - أو المعزق فاس العزق خاصة فهي أخص من الفاس.
العزاقة - آلة العزق - إحدى الآلات المستحدثة.
أرض مبكار - أي معجلة بالنبات وضدها الأرض المئخار.
كدت الأرض - كدوا أبطأ نباتها أو قل يقال كدأ الزرع ساء نبته ونبت كدى قليل الريع الأرض الموات - وهي التي لم تعمر ولم تزرع بعد.
إحياؤها - أي عمارتها وإصلاحها. (للحديث بقية)
العقائد القديمة والحديثة في الصين
يقول أهل الغرب أن السببأكبرقدم المدنية الغربية هو انقراض سلطة الكنيسة، وإن كان الذين يريدون أن يهموا من أنفسهم معنى الأديان يزيدون في كل يوم عدداً وتأثيراً فلا يصح للكنيسة بعد ذلك أن تدعي أنها تهدي القلوب الراغبة في الأيمان، ثم يقولون أن الصين(14/69)
واليابان في حاجة إلى الانتفاع بتأثير الشعور الديني في تحقيق تقدمهم، ولكن بينا ترى اليابان تحاول أن تدين بشيء من المسيحية، إذ بك تجد الصين تجتهد في إحياء الدين القديم، إذ يرجع أهل الصين الآن إلى عبادة كونفوشيوس، والغرض من ذلك أن يربطوا الأقاليم المختلفة برباط وثيق من النزعة الدينية، ولئن كان تأثير ذلك المعلم الديني قد ضعف في خلال القرن الماضي، فلم يصر بعد عند أهل الصين نسياً منسيا، كما يشهد بذلك الاحتفال الذي أقاموه يوم عيد ميلاده الأخير، وكان في السابع والعشرين من شهر سبتمبر الماضي وقد كتبت قبل يوم العيد نشرة عامة بعثت إلى كل حكام الأقاليم وضمنت كل فضائل كونفوشيوس، وكان العزم أن تقدم هذه النشرة لقضاة البلاد ليقدموها إلى الجمهور، وبذلك تتمهد السبيل لكونفوشيوس فيصبح قائد الجمهورية الصينية الحديثة، ورجال حزب الصين الفتاة يرون أن البلاد في حاجة ماسة إلى قائد يحكمها أو دين يهديها. وإن هذه الحاجة يجوز أن تسد بإحياء دين كونفوشيوس. ولكن في شكل حديث. وقد أقيمت لكونفوشيوس في كثير من بلاد الصين الاحتفالات وأنشدت الأناشيد مما يجعلنا نتوقع أن نهضة الصين ستكون في بادئ أمرها دينية. ثم تنقلب بعدها إلى نهضة سياسية. ولكن من ذا الذي يعلم نتيجة الرجوع إلى دين كونفوشيوس؟
الآي آي
إن الحيوان الذي ترى أمامك صورته هو من حيوانات جزيرة مدغشقر الإفريقية، وهو أحط أنواع فصيلة القردة وأشدها اختلافاً عن بقية الأنواع، ولقد جاء الانجليز به إلى نجلترة ووضعوه في حدائق الحيوان، فلم يعش طويلاً.
وقد كتب كاتب يصفه قال: رأسه أشبه من القرد بالدب، وذنبه غزير الشعر جثله، يحكي ذنب الذئب، وأسنانه الأمامية كبيرة الحجم حادة الطرف كأسنان الفأرة، وقدماه كأقدام القردة، لأن للأصبع الكبير ظفراً مسطحاً، يخالف الأصابع الأخرى ولها أظلاف طوال، وأما الأصبع الأوسط فنهاية في الطول والرفع، ويقولون أن الحيوان يستخدمه في إخراج الحشرات والديدان من أصول الشجر. ويقول ثقة أنه يستخدمه أيضاً إذا قدم إليه طعام سائل. إذ يدني شفتيه من السائل المقدم إليه. ويدخل هذا الأصبع في فمه ويضعه خلف أسنانه. ويجعل يقدمه ويؤخره كلما ارتشف من الماء. وكذلك يفعل في أكل البيض.(14/70)
ويقول الكاتب أنه لا ينفع في حدائق الحيوان. لأنه يقضي طول النهار في زاوية مظلمة من قفصه. ولا يخرج منه إلا إذا اشتدت ظلمة الليل.
فكاهة
أراد صاحب مطعم أن يداعب ماركوني مخترع التلغراف اللاسلكي. وقد جاء إلى مطعمه لتناول العشاء. فكتب في قائمة الأصناف التي أكلها بدلاً من (فصولية خضرة بالزبدة) فصولية خضرة ماركوني فلما قرأها المخترع سأله لم فعلت ذاك. مع أن الفصولية من النوع الفرنساوي المعروف فسأله صاحب المطعم وهل كان فيها شيء من الخيوط؟ قال لم يكن فيها أدنى خيط
ثم ضحك الرجل وقال أذن فنسميها الفصولية اللاسلكية وإن شئت قلنا فصولية ماركوني!
فابتسم ماركوني وابتسم الرجل.
فكاهة
حدث أن الصحف الانجليزية نعت كذباً وفاة رجل. فلما وقعت في يده الصحيفة وقرأ المنعي أسرع إلى مكتب التلغراف فأرسل إلى زوجته تلغرافاً في الحال يقول فيه لا أزال على قيد الحياة. فلا تتزوجي!
الفلسفة الساذجة
كم في حدائق الأدب من زهور. ولكن كم من هذه الزهور نراه رقيق الغلالة بديع اللون طيب الشذى. وهو القاتل السام.
هل تظن أن من الفلسفة في شيء قول فوفينارج يولد الناس كلهم أوفياء. ويموتون جميعاً خونة غادرين
أو قول سافارين قل لي ماذا تأكل أنيئك من أنت أوكلمة ميرابو أقتل ضميرك. فهو أعدى عدوك. إن طلبت النجاح أو كلمة جيلرت (من يح رذيلة. وقع في حب الرذائل جميعها)
أو قول شاملور إن الطمع يتغلب على الارواح الصغيرة أكثر من تغلبه على الأرواح الكبيرة. كالنار تأكل سقوف الأكواخ أكثر من سقوف القصور أو كلمة باسكال (في الروح العظيمة كل شيء عظيم)
أو أغنية الشاعر بونستد (كل عين دعجاء خداعةز. وكل عين ظمياء فاسقة خوانة. أما(14/71)
العين الزرقاء فدليل الطاعة!)
واسمع ما جاء من المتناقضات
يقول ليسنج (الحياء في العظماء) ويقول جوت (الحياء في المجرمين) ويقول جان بول (الحي من خجل إذا أنب قبل أن يخجل إذا مدح)(14/72)
أخبار وحوادث
عيد الجلوس الخديوي
احتفلت الأمة المصرية قاطبة في اليوم الثامن من هذا الشهر بعيد مشهود في تاريخ سعادتها وتقدمها. وذكرى يوم بدأت منه تسير في سبيل الرقي بخطوات واسعة. ذلكم هو عيد جلوس مولانا سمو الجناب العالي الخديوي الحاج عباس حلمي الثاني - حرسه الله وأبقاه_على أريكة كنانة الله في أرضه.
وسننشر صورة سموه الكريمة متيمنين في مستهل عامنا الثالث ونكتب عن عهده الخصيب وأيامه الزاهرة.
جورج أبيض وجوقته
عاد من البلاد السورية بعد غياب أشهر عدة الممثل النابغة الكبير جورج أبيض وسيبدأ التمثيل في الأوبرا الخديوية أوائل مارس وقد بدأ في هذه الأيام بتمثيل رواية نابوليون في مرسح برنتانيا وهي رواية شائقة جليلة الموضوع تدور حول المؤامرات التي كان يعقدها الملكيون لقتل نابوليون أيام القنصل الأول. وكان أفراد الجوقة وكلهم من الممثلين الأكفاء يمثلون أدوارهم في غاية من الدقة والافتتان وكان الأستاذ جورج أبيض يمثل دور نابوليون وقد تجلى فيه آية في الإبداع. وكانت حركاته التمثيلية غاية في المهارة والإتقان، ولهجته نهاية في التأثير. وقد كانت الجوقة في هذه الرواية موضوع أعجاب الحضور، ونحن نشكر للأستاذ جورج أبيض عنايته بانتقاء القديرين من الممثلين. واهتمامه الكبير بترقية فن الدراما في مصر. ونرجو أن يتخير أيضاً الأكفاء من المعربين حتى ينهض التمثيل على يديه بجملته. وتلازم الأساليب السهلة الراقية الصناعة التمثيلية العالية. وندعو المصريين جميعاً إلى أن يقبلوا الإقبال كله على روايات ممثلنا النابغة وأن يكبروا شأن التمثيل. فليست النهضة التمثيلية بأقل شأناً من النهضة العلمية أو النهضة الأدبية أو غيرهما من النهضات النافعة. وليست دار التمثيل بأقل خدمة للشعب من المعهد أو المدرسة. وليست الروايات التمثيلية إلا محاضرات عالية يقدمها الممثل لتزكية أفراد الشعب بأجمعه. وأن الإقبال على الدراما الراقية دليل على أن الأمة متنبهة تطلب الرقي من مصادره وتبحث عن منفعتها من مكانها.(14/73)
هذه كلمة مجملة اليوم وسنعود إلى تفصيل الكلام على الأستاذ جورج أبيض وترجمة حياته ورواياته ونشر صورته في الأعداد القادمة.
علي باشا أبو الفتوح
ليس الموت هو الذي يخيف ويفزعن بل هي اشراكه وحبائله. بل إن غمرات الموت وسكراته، وعويل الخلصاء، وبكاء الأقارب، والأثواب الغدافية، والمناعي والمناحات. هي التي ترينا الموت رائعاً هائلاً.
وإذا كنا لا نرهب الموت ولا نخاف وقعه، فإننا نأسي على الذين يختطفهم الموت، وهم ركن شديد لنا، وحمى منيع لدينا، بل كم من مئات من الناس يموتون في اليوم الواحد، لا يبكي الشعب عليهم، ولا يعلم عن موتهم إلا أرقاماً في الإحصائيات الأسبوعية، وكم في الأحياء من ألوف يحسبون في التعداد، وما كان أحق أن تحتويهم جداول الموتى، وكأني بالموت لا تخدعه الكثرة، ولا يغره العديد، وإلا لما رأيت الجيوش تعود من الميدان بكتائب منها، بل كم من جندي ثابت اللقاء راح في المعمعة قتيلاً، على حين عاد منها إلا كتع الهيابة يبتهج بالنصر، ويلهو بالظفر، وإلا لما رأيت العظيم ينتشل من بين شعبه وفيه الآلوف من الرذالة والغوغاء الذين يحسبون إلى شعبهم بموتهم.
وإذا كان في حياة العظيم فرح أمته وابتهاجها، فإن في موته أسى لها يزيد على قدر ذلك الفرح، لأن الأسى على العظمة المفقودة أشد من الفرح بالعظمة الموجودة، وإذا كان الفرد يبتئس بموت صديقه النافع، فما بالك بأسى مجموع الشعب على صديقه القائم على خدمته ونصرته.
تلك كلمة جالت بخاطرنا إذ ذكرنا فقيداً لنا اختطفته المنية من بيننا في الشهر المنصرم، وإذ ذكرنا فقده شهماً لا يهم بأمر إلا أمضاه، ورجلاً جمع بين النبوغ الفطري، والعزمة الراسخة والعلم الواسع. وأنا لنذكره ما دامت مجلة البيان أنه الذي عني بها ولم تك بيننا وبينه صداقة مؤكدة ولا غير مؤكدة. إذ أرسل إلينا خطاباً دون سابقة عرفان بيننا يقول أنه قد قرر اشتراك نظارة المعارف العمومية في مجلدات من البيان. ولقد زرناه في النظارة قبل مرضه بأيام فاحتفل بنا ووعدنا أن سيكتب في البيان ويعطينا صورته. فخرجنا من لدته ونحن أعلم من قبل بنبوغه وفضله ووطنيته. وأنه الرجل الكبير الفذ الذي يقدر كل مشروع(14/74)
مفيد قدرهز
ذلكم هو فقيد الشعب المصري ألا سيف المرحوم علي أبو الفتوح باشا وكيل نظارة المعارف السابق. فلا حول ولا قوة بالله. . .
الجمعية التشريعية
كان موعد الانتخاب العام لأعضاء الجمعية التشريعية يوم السبت 13 ديسمبر الماضي وما كان المساء حتى عرف الناس أسماء بعض المنتخبين الذين كانت مصر تعلق على فوزهم في الانتخاب الأهمية الكبرى ومن ذلك الأعضاء النائبون عن القاهرة، ولم يكد يرتفع ضحى اليوم الثاني حتى عرف أغلب المنتخبين الفائزين وأجل انتخاب البعض ليوم إعادة الانتخاب، وقد أعيد الانتخاب فظفر به من ظفر، وسيكون افتتاح الجمعية التشريعية في اليوم الثاني والعشرين من هذا الشهر (يناير سنة 1914) وسيحضر النواب بالملابس الرسمية والنياشين.
وقد نشرنا في الصحف أننا سنصدر عدداً خاصاً بحضرات الأعضاء وتراجم حياتهم ومبادئهم وآرائهم حتى يكون ككتاب خالد، وسيصدر في القريب العاجل إن شاء الله.
التنقلات الإدارية في الحكومة
حول ديوان عموم الأوقاف إلى نظارة وانتقلت شؤونه إلى أيدي الحكومة المصرية فسبب هذا التحويل تنقلات كثيرة في الإدارة فقلد وزارة الأوقاف سعادة الوزير العامل أحمد حشمت باشا وحل محله في وزارة المعارف سعادة أحمد حلمي باشا وقد كان ناظراً للمالية وأصبح على وزارة المالية سعادة سعيد ذو الفقار باشا الذي كان مديراً للدقهلية. وأحيل على المعاش سعادة إبراهيم باشا نجيب الذي كان مديراً للأوقاف وعين سعادة الأستاذ المحقق محمد بك أمين واصف مدير الجيزة مفتشاً عاماً لنظارة الأوقاف.
وكذلك حولت مصلحة الزراعة إلى نظارة وقلد وزارتها سعادة محمد محب باشا مدير الغربية وزيد في اختصاصاتها فانتقلت جميع المدارس الزراعية العالية والابتدائية من رعاية نظارة المعارف إلى رعايتها وكذلك أخذت اختصاصات أخرى من نظارة الأشغال وأعدت لها مكاناً لها بسراي فاضل باشا بالقرب من نظارة الأشغال لتكاثر الأشغال عليها وعين في وكالة المعارف سعادة إسماعيل باشا حسنين ناظر مدرسة المعلمين الخديوية.(14/75)
وبذلك أصبحت نظارات الحكومة تسع نظارات يشغلها ثمانية وزراء.
ومن هنا حدثت تنقلات في المديديات ووكالاتها.
النبأ العظيم
حول مشروع أبطال العالم
علم القراء ما هو مشروع أبطال العالم. ونزيد هنا أنا سنفتتح هذا المشروع الجليل بسيرة سيد العالم سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم - وذلك كما يأتي:
ستقع هذه السيرة المحمدية المباركة في ستة أسفار كل سفر مانون صفحة (وهذه الثمانون صفحة هي أقل صفحات فرضناها للكلام على كل بطل) لا تظهر هذه الأسفار الست الخصيصة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم متتالية بعضها إثر بعض ولكن سيظهر السفر الأول منها مبتدأً الخمسة الأسفار الأول ثم تظهر أربعة أسفار عن أربعة أبطا منوعين. وبعد أن تنتهي الخمسة الأسفار الأول (ومنها السفر الأول في السيرة المحمدية طبعاً) يظهر السفر الثاني من السيرة المحمدية ثم أربعة أسفار عن أربعة أبطال منوعين. وهلم جراً إلى أن تنتهي السيرة المحمدية على هذا الترتيب. أما طريقتنا في الكلام على المصطفى صلى الله عليه وسلم فهي على الجملة طريقة أهل البحث والنظر وبالحري طريقة المؤرخين الباحثين لا طريقة المؤرخين الذين يسردون الحوادث سرداً (أنظر النبذة الأولى من المقدمة الأولى لتاريخ الإسلام في العدد الأول من السنة الأولى للبيان) وسيكون معولنا في ذلك كتب مؤرخي العرب ومؤرخي الافرنج وكل كتاب عربي أو غربي يتعرض لمسألة عمرانية أو فلسفية أو تاريخية أو جغرافية أو أدبية تعترضنا في هذه السبيل. ومن هنا أحضرنا مكتبة جامعة تحتوي كل كتاب عربي وغربي له صلة كبيرة أو صغيرة بموضوعنا هذا. وسنشير إلى هذه المصادر ف هوامش صفحات السيرة وسنبدأ السيرة بمقدمات في صفة جزيرة العرب وتاريخ العرب وأديانهم وعاداتهم وما إلى ذلك مع الصور والخرائط. وفي ضفة سائر الدول التي كانت تعاصر المصطفى عليه السلام وفي القول على سائر الأديان التي كان الناس يدينون بها في تلك الأعصر. ثم يلي ذلك تاريخ العالم بأسلوب نرجو أن يكون عند رجاء القارئين إن شاء الله والله وحده هو الموفق والمعين.
الشيء يذكر بالشيء(14/76)
وإذ قد كنا جعلنا من بين أبواب البيان باب تاريخ الإسلام - وكان القسم الأول من هذا التاريخ وهو تاريخ المصطفى صلى الله عليه وسلم ومقدماته سنفرد له أسفاراً من بين أسفار أبطال العالم، وكان من حق القراء علينا أن نستمر في هذا الباب باب تاريخ الإسلام لمكانه من الفائدة واللذة. رأينا أن نستأنف القول على تاريخ الإسلام من وقت أن استأثر الله بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك في العدد القادم إن شاء الله.
موضوعات العدد القادم
قد انتهت بهذا العدد العاشر السنة الثانية من البيان وسيستقبل عامه الثالث وكله أمل أن يكون فيه عند تعضيد القراء وإقبال المشتركين على دفع اشتراكاتهم المتقدم منها والمتأخر حتى لا يمسكنا عن إصدار العدد في موعده مطل الماطلين.
ومن بين موضوعات العدد الأول من السنة الثالثة مقدمة العام وباب تاريخ الإسلام وفصل في التعليم من كتاب روح التربية للعلامة الدكتور جوستاف لوبون، والعلم والمدنية الحديثة من كتاب النزاع بين العلم والدين بقلم أكبر منصفي الإسلام الفيلسوف الأميركي ويليم دريبر، وفصل في سر تطور المادة يتضمن الآراء الحديثة عن فناء المادة بقلم جوستاف لوبون. ورواية بديعة تامة للكاتب الفرنسي العصري المشهور أناطول فرانس وتابع مقدمة الكلام على نابغة الشعراء أحمد بك شوقي وغير ذلك من الموضوعات الجليلة الشائقة وهذا عدا التصوير وكشكول البيان والمطبوعات الجديدة الخ الخ.
حالنا الأدبية في شهر
عزمنا أن نضيف على أبواب البيان من بدء السنة الثالثة باباً جديداً تحت هذا العنوان نتناول فيه نقد كل ما نقع عليه في الصحف من قصائد الشعراء أو مقالات الكتاب والأدباء وكل ما يصدر من الكتب المؤلفة والمترجمة، وما صدر منها مما لا نرى السكوت عليه وسنأخذ فيه بالنقد الصحيح حتى يتبين منها الجيد والبهرج. فنلفت إليه أنظار القراء.
صحيفة الأشرار
الحقيقة ضالة الناقد العدل. الصحيح القلب. الشريف المبدأ. فهو يمضي في طلبها غير منثن ولا مرتد. وإن علم أنه سيسيء في إعلانها إلى نفسه. أو إلى أمته. أو إلى شعوب الأرض.(14/77)
والناقد العدل هو الذي لا يضع إزاءه عاطفته وعاطفة منقوده فيعارض بينهما. ولا ينقص من هذه ليزيد في تلك. ولا يستعين على نقده بجيوش الباطل من سياب وافتاء واتهام. ولا يقدم عليه قدوم المتهور على قتالز ولا يعمد إلى مواهب الناس فيجعلها عوناً له على ظهور بعد خمول. ولا يدعي أنه يحنو على القراء. ويحوطهم برعايته. ويعلمهم كيف يحكمون. وكيف يمدحون. ولا يزهي عليهم بأنه عريفهم وولي أمرهم. وأعرف منهم بالبهرج. وأخبر بالزيف. ليشهد له كما يشهد للصيني الذي يقيس مبلغه من الحكمة بطول أظفاره.
فإذا اجتمعت هذه الأسباب كلها في الناقد. وكثر عدد الآخذين بها في وسط من الأوساط. فاعلم أن الجمهور فيه محترم القدر. لا يجترأ على خدعته. ولا يقدم على الكذب عليه. ولا تنال الشهرة على حسابه.
أما إذا قام الجاهل المطرح فاستمع له. وانبري الدعى المنبوذ فأصغي إليه. واستوي الشتام البذيء فأصاب الشهرة ببذائته. ودب الخسيس الفاسد الدخلة فتعرف بين الناس بخسته. فثق أن الرأي العام في الأمة قائل. وأن الجمهور فيها غير محترم.
ولقد كان حظ هذا البلد من الأولين سيئاً. وكانت نكبته بالآخرين فادحة. فقد تخاذل الأدب بالأدباء. وتشابه الادعياء بالأكفاء. وأصبح الأديب يرى في الأديب مزاحماً منافساًز وعدواً مكاشحاً. وأصبح كلهم يمشي بالسعاية لأخيه. والأذية له. والزراية به. والسخرية منه. واندس بينهم الدعي الجاهل. يرفع عقيرته بالشتائم ويصرخ بما توحي إليه نفسه الصغيرة وروحه القذرة. ويتصيد الشهرة بالصياح. ويفرغ من فمه بالكلم العور. لسد ببذر المال. ويحقد عليك مقدرتك ويدعي أنك الحاقد. وينفس عليك كفاءتك ويصيح بأنك النافس. ويصفك بطيب السريرة ليتفرد هو بسوءها وينعتك بسلامة النية. ليحتكر هو عليلتها. فإذا أسرعت من سفهه إلى السكوت. كان كالكلب يرى الرجل يعدو في سبيله. فيظن من خوف منه وخشية. فيتبعه نباحاً وعواء. وإن خرجت إليه. فجاريته في سبابه. سجلت عليك شتمتك. ونزلت بمجاراته عن مكانتك. ولم تسلم من عتب العقلاء.
وأنت فتعلم أن أمثال هذا كثيرون. كلهم يعيشون من خداع الجمهور. ويسدون أرماقهم من الرتع في لحوم الناس.
وكلهم المعني بقول الفيلسوف نيتشه انظروا! هذا هو جحر العنكبوت (الترنتي) فهل(14/78)
تريدون أن تشهدوه. هذا هو نسجه فهزوه تروه مهتزاً مقبلاً. هذا هو الحيوان جاءكم طواعية واختياراً، فمرحباً ياذا العنكبوت السام، إن فوق ظهرك بثوراً سوداء، وأني لأعلم ما في روحك.
ألا أن في روحك يختلج الحقد وأنك كلما عضضت بدت على ظهرك قرحة سوداء. وأن سم حمتك ليجعل الروح ذاهلة.
إليكم أيها الأناسي العناكب. أسوق القول وأني مخرجكم من مكامنكم وأجحاكم إلى النور. وأني لأضحك السمو والعلاء. وسأهدم نسيجكم. وأبدد خيطكم. حتى يبعثكم الغضب والسخط على ترك جحر الأكاذيب
إن قلوب العناكب تحدثها فتقول اعمدوا إلى الانتقام. وخذوا بشتم من ليس في درككم. وارفعوا الصوت في وجوه أهل المقدرة والقوة
إن في كل حسراتهم ولهفاتهم يصوت الحقد. وفي كل أماديحهم يكمن الشر والويل
بل هم. كما يقول نيتشه في موضع آخر. يمدحونك كما يمدح الله. وما هم إلا المالقون الصارخون. ويعاقبونك على فضائلك. ويغفرون لك في أعماق قلوبهم هناتك. وأنت تقول من كرم فيك وعظمة شأن. لا عتب على الأقزام المجاهيل. وتصرخ فيهم نفوسهم. لا عتب إلا على العظمة. بل أنت لتكرمهم. وتوادعهم. وتلابسهم. ومع ذلك يشعرون أنهم عندك المرذولون المحقورون. ولا يرضون أبداً عن عزتك الصامتة. ويبتهجون بالحقد المحتجب. ألم تر إليهم كيف يروحون خرساً إذا دنوت منهم. وكيف تتخلى عنهم خفتهم كدخان النار الخابئة.
فاعمد يا صاحبي إلى العلة عنهم. فهم الذابا السام. وأنت لم تخلق لكون مروحة
وهل رأيت أفضح أمراً من أن يقوم أجهل الجهلاء. وأظهر الأدعياء. فيخرج للناس صحيفة يقصرها على شتم من يحقرونه. ويعرفون مبلغ جهله. ويقيمها لنهش أعراض الأخيار. ويخرجها حافلة بالأغلاط التي يخجل منها طلاب المدارس الابتدائية. ويصدرها بأقلام المتقاعدين من الأدباء. الذين يودون لو تلصق مقالاتهم وقصيدهم فوق جدران الطرق. والذين يغلب فيهم حب الشهرة على الشعور بالعزة. فيسارعون إليه بكتاباتهم وخواطرهم. خشية من شره. وجبانة من قحته. ويهجم على قرائه. وما أقل عدادهم. بالهجر من القول(14/79)
الذي تأنف منه النسوة الرادحات في ثنيات الطرق. ويبعث بصحيفته إلى المبصرين من الكتاب. فيردونها لسخفها ولوثتها. ويخاطب فيها قلم المطبوعات وقلم المطبوعات يعرف أمره. ويدعي أنه يوجه القول إلى إدارة الشرطة. وإدارة الشرطة تعلم دخيلته!
وماذا عسى ينتظر الناس من خبيث فاسد الروح. خرج من بلده في أطمار وأسمال. وجاء إلى الأزهر، فكان حرباً على نفسه وذويه وأخوانه. ولم يلبث أن مشى بين الأزهريين بالفتنة، وسعى بينهم بالحطب الجزل. وخطر في صفوفهم بالأراجيف. حتى كاد الأزهر ينقلب إذ ذاك من شؤم هذا الحيوان ميدان تضارب وقتال، ورأت إدارة الأزهر فيه جرثومة أين منها حمة التستسي فطردته أشنع الطرد، ولفظته من رحمتها، فخرج ولم يقض في طلب العلم. وإن شئت الحق. فقل في أحداث الفتنة، إلا شهوراً معددات، وكأن الأقدار أبت إلا أن يجد ثمن طعامه. فاشتغل مصححاً في مطبعة أحدى الصحف اليومية فلم تهدأ دناءته. بل ما فتيء يدس الدسيسة. ويصوغ الفتنة. وينسج الفرية حتى إذا كشف لمدير تلك الجريدة بعض أمره. بادر بطرده. ومن ذلك الحين راح متبطلاً شريداً. وصار قعيدة القهاوي. وجوابة الطرق. يغشى المجالس فيتهافت به أهلها. ويختلف إلى جمعيات الخطابة فيطرد من على المنبر. ويزور إدارات الصحف. فيأمرون الخدم بمنع دخوله. فلما قعدت به الحال. وأزرى به الدهر فوق أزرائه. ورأى آلام الجوع والإفلاس. فكر في الحصول على أداة تجلب المال. وسلاح ينفس الكربة. فطفق ينكفئ كل يوم إلى نظارة الداخلية. ليستخلص ترخيصاً له بإصدار صحيفة أسبوعية. وطفق الموظفون يشتدون في أهانته. ويأمرونه في كل مرة بترك المكان. ومضي على هذا الهون بضعة أشهر. يهدد في خلالها من يزري به. ويوعد في أثنائها كل من يسخر منه. أما نحن فكنا نظن أنه لن يظفر بالترخيص أبداً مما كنا نسمع منه عن سوء المعاملة التي كان يلقاها من كبار الموظفين وصغارهم. ومما كنا نعتقده من أن الحكومة تعرف من هو طالب هذا الترخيص وتذكره في فتنة الأزهر. وحادثة المؤامرات. وتعلم مرماه من إصدار صحيفته ومبتغاه. وكنا مثق أن الحكومة تحرص على كرامة أفراد شعبها حرصها على كرامة كبارها ولكن شاءت الأقدار أن يفوز بالترخيص. وأقبل يوم حصوله عليه فرحاً متهللاً. وطلب إلى صاحب البيان. وطالما أكرمه وأحسن مثواه. أن يبتاع له الورق. وينفق على إصدار الصحيفة. وجاء(14/80)
باسمها ليخرج له صاحب البيان (كليشتها) على نفقته ولكن السيد البرقوقي. المسلم الأزهري كما يقول. كان يعرف دخيلة الخبيث ويعلم مستقبل صحيفته وغرضه من إظهارها. فلم يشأ أن يعينه على أعراض الناس. أو يشجعه على النيل من مقدرة الأكفاء. ولذلك رفض سؤله ولم يبض له بدرهم واحد. فأسرها في نفسه. ورأي الناس منه بعد ذلك في حق مكرمه ما رأوا.
هذه ترجمة حياة هذا الشاب مفصلة. لم نرد أن نمسكها. إشفاقاً على أخلاق قراء صحيفته. ولا سيما طلبة المدارس. من عدوي هذا المتشنج المحموم. الذي لا يكتب كلمة مديح إلا ليسأل الممدوح. ولا يرمي بالكلمة العوراء إلا وهو فاغر فاه من الجوع. والذي يدعي أن به نعرة دينية. والحقيقة أنها نعرة (معوية!). فلا بدع إذا قرف هذه المجلة الشريفة المبدأ. الشريفة الجيب، بقبول الأجور. فهو على حد قول المتنبي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
على أني أقول أن السيد البرقوقي لا يستطيع أن يكفل فوق الإنفاق على المجلة وإدارتها ومطبوعاته ومشروعه. أبطال العالم ثمن طعام الجائعين. وإنقاذ المنكودين. والمحرويين. فليغضب هذا السباب وليسخط. وليشتم وليصرخ. فإن أفشل الأشياء أجهرها صوتاً.
ذلكم هو السباب الذي يود أن يكتسي من سبابه بعد عري. ويشبع بعد مسغبة. وينتعش بعد متربة ولو شئنا أذاه لقلنا كلمة واحدة تسرع بقلم المطبوعات إلى تعطيل صحيفته. وإلقائه في غيابات السجون. ولكنا لا نحب أن نقطع عنه مرتزقه، ولا نود أن نغلق في وجهه باب عيشه. وإن كنا لا نرى الركون المطلق. ولا التزام المجاراة المطلقة. وإنما نعرف كيف نزع كل سفيه. ونرد كيد كل كائد. ونرغم أنف كل مكابر وإنا لفاعلون.
غيور
(البيان) جاءت إلينا هذه الكلمة من ناحية كاتب مخلص. حدا به إلى كتابتها صدقه وغيرته على الأخلاق والأعراض إذ رأى تحت سماء مصر بلد المضحكات.
وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا
نوعاً غريباً من عجائب المخلوقات. ذئاباً في جلود أناس. قد حشروا أنفسهم غصباً واقتسارا بين جماعة الصحفيين. وأبت عليهم خستهم ولؤم غرائزهم. ونضوب معينهم من العلمز(14/81)
وإجداب ثراهم من الفضل. وإخصابه عوض ذلك بالحماقة والجهل. إذ هم. كما يعرف ذلك من وقف على جلية أمرهم. ليسوا من العرفان ولا قلامة ظفر. إلا أن يتحرشوا بنا كما تحرشوا بأكبر أفاضل المصريين. ويريدونا على أن نسقط إليهم. وكأنهم لم يسمعوا لا سمعوا ذلك الأدب الآلهي الكريم خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ثم قول إبراهيم بن العباس الصولي بعد ذلك في مثل هذا الواغل البذيء
قل كيف شئت وأنى تشا ... وأبرق يميناً وأرعد شمالاً
نجا بك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقاذيره أن ينالا
عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين
سننشر في العدد القادم وتواليه في باب أبطال العصر بقية كلامنا على زعيم البهائيين عبد البهاء عباس أفندي.
وهنا نقول أن بعضهم غاب عنه غرضنا من الكلام على أبطال العصر وزعموا أنا نقصد بكلامنا على زعيم البهائيين إلى الحوم حول نحلته ولم يريدوا أن يفهموا أنا إنما كتبنا وسوف نكتب عن الرجل كما كتبنا ونكتب عن فولتير ونيتشه وسبنسر وأرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا وابن رشد وأضرابهم من رجالات العالم إن موافقين لنا في الدين وإن مخالفين. لأنا لسنا في هذا الباب بصدد من الدين وإنما بصدد من العظمة والنبوغ.
وبعد فإنا لا نأبه بعويل هؤلاء ما دامت قلوبنا مطمئنة بالأيمان وما دمنا في شغل بما هو أجدى وأراد على القارئين. عن إضاعة الوقت في مناظرة المكابرين. وإن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى.
الغرفة التجارية المصرية
يرى القارئ في غير هذا المكان صورة سعادة عبد الخالق باشا مدكور رئيس الغرفة التجارية المصرية وهي ذلك المشروع الجليل الذي طالما كانت التجارة المصرية في حاجة إلى تحقيقه وكذلك صورة رئيس الأمة التجارية الانجليزية ونود أن تصبح أهمية الأولى لهذه البلاد أهمية الثانية للشعب الانكليزي في علائقها التجارية وسنعود إلى الموضوع في العدد القادم إن شاء الله.(14/82)
مطبوعات جديدة
ديوان المازني
نعرف صديقنا الأستاذ المازني من نوابغ كتابنا المعدودين، ونعهده كذلك من أكفأ المترجمين، وأشدهم استمكاناً من أدب العربية والانجليزية، وكذلك عرفه قراء البيان مما رأوا له من روائع المقالات، وبدائع الموضوعات، ولعلهم يذكرون معنا جزالة أسلوبه وفخامته في ترجمته كتاب (أميل) ومقال الشخصية والأخلاق ورواية صريع الكأس وكلمته عن ابن الرومي إلى غير ذلك من آثار قلمه.
ولقد كنا نقرأ له في الصحف بين حين وحين مقطعات وقصائد كثيرة في أغراض شتى فلم نكن نتأول في خلالها تلك المكانة السامية التي نالها الأستاذ لدى القراء بمقدرته الكتابية واضطلاعه بالترجمة. إلى أن ظهر ديوانه وقد كنا انتهينا من العددين الثامن والتاسع فوعدنا القراء أن سنكتب في هذا العدد العاشر كلمتنا.
ونحن على ما بيننا وبين الأستاذ المازني من فرط الود وشدة الإخلاص ومتانة الصداقة وارتباطه البليغ بالبيان، على اعترافنا بفضله ونبوغه. وإقرارنا بأنه من أركان الأدب في مصر، ولا يسعنا إلا أن نبدي رأينا غير مريدين أحداً على أن يراه، إذ لكل إنسان رأيه، ذلك أن ديوان المازني ظهر قبل أوانه، وخرج من كمه قبل أبانه، وكان أحق بأن يختمر في نفس صديقنا ويطمئن في وجدانه. وكان أولى بالأستاذ أن يأخذ في نظمه، ويسكن إلى وصف مشاعره حتى يسكن سواد القراء إليه وإلى قصائده، ويرتقبوا اقتناءها، وينتظروا بشغف احتواءها، ويلهجوا بمديحها والاستهتار بها على نحو ما فعل شوقي وحافظ والرافعي لعهدنا هذا، وعلى ما نحو ما يفعل شعراء المغرب، إذ يسارع الشعب إلى جمع دواوين الشعراء، ولا يسارعون هم إلى طبعها على غرة من الفراء.
ولو لم يكن الأستاذ المازني قد أصاب مكانة سامية من نفوس الناس قبل طبع ديوانه، ولو لم تكن قد تجلت لهم شخصيته وكفايته من قبل، ولولا ما في شعره بعض الآحايين من المعاني السرية التي يخيل إلى القارئين أنها من توليد الأستاذ وابتكاره، والألفاظ النقية التي هي متاع مشاع لجميع الشعراء ولا تكاد تتفاضل فيها الشعراء، لما أقبلوا على الديوان ينقدونه ويقرظونه ويحتفلون به هذه الاحتفال الذي نرى.(14/83)
هذه كلمتنا لم نشأ أن نكتمها عن صديقنا، وإن كنا نشهد للأستاذ بالفضل والكفاية والنبوغ ونتوقع له أكثر من ذلك وأسمى. هذا وربما كان لنا عودة تكون كالتفصيل لما أجملناه هنا نرجو أن ننشره في أحد الأعداد القادمة إن شاء الله.
وللديوان مقدمة من أبدع ما كتب الكاتبون في الشعر ونقده تقع في نحو من ثلاثين صفحة ولا جرم فهو الكاتب المجيد المبدع عباس محمود العقاد. أكثر الله من أمثاله المفكرين.
والديوان يباع بمكتبة البيان وثمنه خمسة قروش.
الوساطة بين المتنبي وخصومه
كتاب جليل، وسفر أدب رائع. ونقد عدل. يعد أحسن درس لجماعة الناقدين في هذه الأيامز أولئك الذين يكتفون في النقد بتحليل العرض دون الجوهر. ولا يتغلغلون إلى صميم الأشياء. ليقفوا على مراميها الصحيحة. ويظهروا الصحيح من بين أثناء الباطل. ويخرجوا الحق من معتزله. لأن الحق يميل أبداً إلى العزلة والسكون. وإذا كانت اللغة الانجليزية تفخر بكتاب النقادة صمويل جونسون في الموازنة بين شعرائها. فخليق بالعربية أن تفخر بهذه الوساطة التي عقدها النقادة العدل أبو الحسن الجرجاني بين المتنبي وخصومه. ولقد كنا نتمنى أن يوفق هذا الكتاب إلى الطبع. حتى حقق أمنيتنا رجل فاضل. وكاتب غيور. هو حضرة المفضال أحمد أفندي عارف الزين. صاحب مجلة العرفان. إذ قام بطبع الكتاب وتصحيحه وشرحه وتبويبه. فأحسن في جميعها. وناهيك بما في ذلك من نفقات ومجهودات. والكتاب يقع في أكثر من أربعمائة صفحة من القطع الكبير. متقن الطبع جيد الورق وإن كان فيه بعض أغلاط مطبعية يفطن إليها القارئ. وهذه أكبر سيئات المطابع في الشرق. ونحن نشكر لرصيفنا الفاضل هذه الخدمة الكبرى التي أسداها إلى اللغة والأدب والنقد. ونحث القراء على اقتناء هذا السفر الجليل.
هذا والكتاب يباع في مكتبة البيان وثمنه 16 قرشاً وأجرة البريد ثلاثة قروش.
الموازنة بين أبي تمام والبحتري
هذا كتاب آخر. هو خزانة أدب ونقد دقيق. وحكومة عادلة. وضعه شيخ الناقدين أبو القاسم الأمدي. وما يقال في الوساطة يقال في الموازنة. فإن الكتابين في رفعة الشأن أخوان. وفي نصفة المنحى صنوان. وقد طبع للمرة الثانية. ومع ذلك لم يخل من أغلاط مطبعية كثيرة(14/84)
يكاد القارئ يختنق من وقعها. وحبذا لو كان الطبع أكثر نظافة. وحبذا لو كان الورق أجود. على أن الكتاب ليس بصغير الحجم. تزيد صفحاته على المائتين وهو بالحرف الصغير. وفي طبعه على غير هذا الغرار. تكلف الكثير من النفقات. فنستحث كل قارئ على قراءة هذا الكتاب القيم. ونرجو له الرواج والانتشار وقد أعاد طبع هذا الكتاب المكتبة الأنسية في بيروت وهو يباع بمكتبة البيان وثمنه خمسة قروش.
على مسرح التمثيل
هو اسم لسلسلة تلخيصات روائية ونتف أخلاقية اختيرت من أشهر كتاب العالم وقد بدأها واضعها الكاتب الأديب إسماعيل أفندي عبد المنعم في الجزء الأول من هذه السلسلة بتلخيص أشهر مآسي شاعر الدراما الأوحد ويليم شاكسبير، وأسلوب التلخيص رائع واضح، ولعل الكاتب رجع فيه إلى تلخيصات شارلز لام، وحبذا لو عمد في جزئه الثاني إلى ما كتبه ويليم هازلت عن أشخاص هذه المآسي حتى يجمع بين فائدة التلخيص وفائدة التعليق ونحن نشكر لحضرة الملخص عنايته وندعو كل محب للإطلاع إلى اقتناء هذا السفر الجليل.
الشرائع
صدر في طنطا مجلة بهذا الأسم وقفت صفحاتها على الأبحاث القانونية وما إليها ومديرها حضرة الفاضل الأصولي سعاده بك المحامي وقد ظهر منها حتى الآن ثلاثة أعداد وقيمة اشتراكها في السنة خمسون قرشاً ولطلبة الحقوق بنصف هذه القيمة وتطلب من المطبعة العمومية بطنطا ومن المكاتب المشهورة فنرجو لها الذيوع والانتشار.
العائلة المصرية
يسرنا أن يقبل الآنسات المصريات المتعلمات على الكتابة في المسائل المصرية والاجتماعية والحيوية، ويتضامن مع الرجال في الحركة الكتابية الحاضرة، وقد قرأنا للآنسة أوليفيا الأقصرية كتاباً أسمته العائلة المصرية جمعت فيه خواطر لها منظومة ومنثورة في موضوعات كثيرة تحوم حول التربية المنزلية والمدرسية وقسوة الآباء وعقوق الأبناء والمرأة المصرية في جميع أدوارها إلى غير ذلك من الموضوعات مما يجعلنا نغتبط بهذه النهضة الشريفة التي تقوم بها فتياتنا وندعو الآنسة المؤلفة إلى متابعة التفكير والكتابة(14/85)
والاسترسال في القراءة والبحث والإطلاع ونرجو لباكورتها هذه كل الرواج والنجاح. وهي تباع بمكتبة البيان وثمنها أربعة قروش.
الاشتراكية
لا يألو حضرة النابغة المطلع سلامه أفندي موسى جهداً في انتهاز أوقات الفراغ لإخراج كتب جليلة الشأن وإن كانت قليلة الحجم يرمي بها إلى تنوير الرأي العام في المسائل الاجتماعية الكبيرة والمذاهب العصرية وقد أردف كتابيه مقدمة السبرمان ونشوء فكرة الله لجرانت ألن، بكتيب جديد في الاشتراكية صدره بلمعة في تاريخها وأفكار مؤسسيها ثم أعقبها بكلمات في مفاسد النظام الحاضر وماهية الاشتراكية وتسلطها على الفكر السياسي في أوروبا فنحمد إليه كتيباته وندعو كل قارئ إلى قراءتها.
ميزان الذهب
وضع حضرة الاستاذ الفاضل الشيخ أحمد الهاشمي مراقب مدارس فكتوريا الانجليزية وصاحب كتاب جواهر الأدب المعروف بين الطلبة ورواد الإنشاء من التلاميذ كتاباً جديداً سماه ميزان الذهب في صناعة شعر العرب قرب فيه لطلاب علم العروض والمشغوفين بتعلم الأفاعيل والأوزان مثالاً سهلاً يساعدهم على تحقيق طلبتهم ويعينهم على مأربهم من العروض فنرجو له الذيوع الذي هو أهله وثمنه أربعة قروش ويطلب من مكتبة البيان.(14/86)
العدد 15 - بتاريخ: 31 - 3 - 1914(/)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير
واللهم لك الحمد على كل نعمة عندنا أوليتها، وعلى كل درجة لنا أعليتها، وعلى ما وفقت من الفضل وأعنت عليه، وما فتحت من العلم ويسرت إليه. فإنه لأفضل إلا ما أسيت وأسديت، ولا هدي إلا ما أرشدت وهديت.
واللهو صلاتك وسلامك على سيدنا محمد أفضل من خلقت، وأفصح من أنطقت، وأكمل من سويته في الخلق إنساناً، وأحكم من أوليته قلباً ولساناً. وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، ومن أخذ بشريعته من الأخيار.
ونضرع إليك اللهم بالدعوات ظاهرةً وباطنة، ونتوجه إليه بالنيات بادية وكامنة، أن تنزل نصرك وتأييدك، وتجزل عونك وتسديدك، لأميرنا المفدى حمي العلم والأدب، وقبلة لغة العرب، (الحاج عباس حلمي الثاني) الذي رفعت فضائل عصره لدولة الأدب أعلامها، وأحيت فواضل مصره في أيدي الكتاب أقلامها.
أما بعد فإنا نتقدم لقرائنا بالثناء على ما لقينا منهم إقبالاً وكرماً ومروءة، والحمد لما شدوا منا معونة وإسعافاً ومؤازرة حتى خطا البيان إلى عصره الثالث أشد ما كان ركنا وأثبت ما كان عزماً وأفسح ما كان خطوة، وهو اليوم يغلق باب دهر ويفتح باب دهر، لأن العام الواحد في حياة المجلات العربية إنما هو آجال وأجيال، وما تقطع المجلة منها عاماً ونبتدئ عاماً إلا ما كانت بحول الله وقوته كأنها تبعث بعثاً جديداً، لتحاسب حساباً شديداً، فإن القراء عندنا وإن كانوا جموعاً غير أنها جموع قلة لا ترد ولا تجدي.
وأعجب ما في أمرهم أن أكثرهم يستمرئ حقوق المجلة ويهضمها ويصيبه العسر كله إذا طولب بها أو بما تيسر منها ولكن لا يصيبه شيء من عسر هذا (الهضم). . . فكيف لعمري يجد صاحب المجلة العربية ما يُغنى من جوع فضلاً عما يسمن من شبع؟.
ولقد خبرنا القراء على طبقاتهم، وداخلناهم على أنواعهم، وبلوناهم بحسناتهم وسيآتهم، فرأيناهم لا يتشابهون إلا في صفة واحدة هم فيها سواسية وإن الذي بينهم في كل ما عداها لمختلف جداً. فأما هذه الصفة فهي الحرص على المجلة وطلبهم إياها بهذا الحرص، وإلحاحهم علينا في هذا الطلب، والتوطئة لما يلحون بما يلبس الأمر علينا من الثناء مستطابا، والدعاء مستجابا، وملء الكتاب فخراً بنا وإعجاباً،. . . وأما بنعمة ربك فحدث.(15/1)
ثم المواعيد العريضة من تأييد (البيان) وشد أزره، (والاشتراك) في أمره، ولولا التقي لقلنا على طبله وزمره. . . ثم ما شاء الله من قليل وكثير على هذه الوتيرة مما لو صح بعضه واستقام بعضه وفسد الباقي لرأيت (البيان) يدور حول الأرض دورة فلكية مع الشمس في أفق ومع القمر في أفق ولكن متى يستقيم الظل والعود أعوج؟.
ولو أن صاحب مجلة عربية (كالبيان) يجمع مثل هذه الكتب بعضها إلى بعض لقد كان يجمع منها مؤلفاً ضخماً وافر الحشد ممتلئاً من حساب نعمته وثروته، ولكن من ذا الذي يسره أن يجمع على نفسه مع الخسائر التي تذهب عليه حساب هذه الخسائر بالتواريخ والأسماء. . .؟.
تلك هي الصفة التي تسع القراء جميعاً ولا تضيق إلا على صاحب المجلة وحده، وأما الذين يختلفون فيه فأصناف كثيرة إذا نحن مخصناها جميعاً لم نجد زبدتها غير فئة واحدة هي التي يقوم بها العلم والأدب، وهي التي تمثل الروح والمبدأ، وهي التي تمشي بالحاضر إلى المستقبل، وهي التي يضرب بها قلب الأمة وينبض لها نبض التاريخ، وهي طائفة الفضلاء الأجواد التي (يأكل) سائر المشتركين على (حسابها). . .
والفرق بين هؤلاء وهؤلاء أن الفاضل لا ينفك أبداً يعمل على أن يزداد به الفضل وأن يزداد هو فضلاً فلا يدع مجلة أو صحيفة مرجوة الفائدة إلا اشترك فيها (دافعاً) لا مدافعاً ليعين أصحابها على تهيئة المزاج التاريخي الصحيح للأمة، وليكون عاملاً لنفسه مع نفسه ولأمته مع العاملين لأمته. وهو لا يشعر من طبعه بهذا الحس ويعتقد في نفسه هذا الواجب إلا إذا كانت سامي الأخلاق عالي النفس بعيد الهمة. فإن الأخلاق لا غيرها هي التي يشعر بها المرء أنه قطعة من أمته فتأبى له نفسه أن يكون قطعة من تلك القطع الرنة البالية التي تتمزق بكل سبب واه من الأسباب الاجتماعية لأنها أو هي منه فيكون مرآها في الأمة دليلاً ظاهراً من أدلة العدم. وهو يأنف من ذلك ويدعه لمن لا نفس له إلا النفس الحيوانية، تلك التي لا تحس المعاني والعواطف، والتي نعرفها في كثير من قومنا في بعض أدبائنا أيضاً، والتي هي أقوى ما تكون حين تكون في الجلود السميكة. . .
هذا الطائفة - طائفة الفضلاء - هي رأس مال العلم والأدب في كل أمة. وما الربح إلا بنسبة رأس المال كثيرة وقلة، وقد ترى أن صاحب المجلة العربية يستنفد وسعه في الإنفاق(15/2)
عليها من كحر ماله ويدأب في العناية بها لا يتني ولا ينثني من اعترضته العقبات وناوأته الصعاب من أمور نفسه ولا يهن ولا يحزن من اعتراه الضعف والتخذيل من أمور الناس، ثم هو مع هذا كله لا ينال من عاقبة الصبر ولا يفيد من جزاء العمل شيء يسمى عوضاً مما بذل، ولا شيء يسمي ربحاً لما أنفق، لأنه إنما يتاجر بعقله في سوق تقل فيها العقول قلة واضحة، وأستغفر الله بل فاضحه.
وما المال الذي يسخر به ويبسط يده فيه ويقرضه ولا يقرضه ليجعل عمله بذلك عملاً إلا إحدى الوسائل في إظهار العقل الذي يتاجر في سوق الأدب بعلمه وتفكيره ونشاطه وقوته، وليس له من وراء ذلك ربح أوفي من أن يوجد في القراء العلم والفكر والنشاط والقوة، أو في القليل حب هذه الصفات العالية، أو في الأقل حب الانتفاع بها، أو في العدم لا حبها ولا بغضها. . . . حتى لا يشكو أصحاب المجلات من أهل المطل وهم الذين لا يحسون شيء من كل ذلك وإن أحسنوا فقهم من الغلظة وخديعة الطبع كأنهم لا يحسون.
وأكثر الناس عندنا: إما ذو مال لا عقل له أو لا عقل له إلا في المال - وذانك بائسان كلاهما في سوق العلم والأدب أفلس من الآخر. وإما ذو عقل ولا مال له وهو حزب الهبوط في سوقنا فلا يتألف إلا من قوم ذوي (عقول وإحساس) وهم الكرام، وهم القليلون، وهم طبقة الفضلاء. فالعقول سبيلهم إلى الرغبة في المجلة النافعة. والإحساس فهو سبيل صاحب المجلة إليهم لا يرهقهم ولا يعنتونه، ولا هو يشكوهم ولا هم يمقتونه، وكلاهما في عون الآخر، وهما جميعاً وهما جميعاً في عون الأمة، وليس بعد الأمة غاية تنتهي إليها محاسن الأخلاق الاجتماعية.
أما غير هذه الطبقة فهم همج هامج، وهم نشر لا نظام لهم وما دخلوا في عمل إلا أفسدوه على صاحبه وكانوا فيه القوة السلبية التي يجهد في رفع إساءتها أكثر مما يجهد في إحسان عمله، ويبتلي من دخائلها بما يغمر ظاهره وباطنه، فلا هم يدعونه يمضي لشأنه خفيفاً مستجمع النشاط مستحصد العزم رخي البال، ولا هم يرفهون عنه بعض أمره بالمعونة. وهم أثقل أمره بقل هم البلاء الحتم والقدر المقضي، وكلما كثروا على صاحب المجلة فسد نظامه واختل أمره وضعفت مادته وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء، وابتلى بالقلة في كل شيء ولا يكون بلاء القلة إلا من كثرة القراء. . .(15/3)
نحن نعتقد أن قراء (البيان) خاصة هم في الجملة خلاصة الأمة وإن أكثرهم من ذوي الإحساس الشريف المتفضل فليس في مصر مجلة كبرى غير (البيان) وليس في العربية وآدابها مجلة تسد مسده، ومن أجل ذلك لا يكون عجيباً أن نعد من قراء البيان خلاصة الأمة، بل يكون عجيباً أن لا نعدهم، وما خلاصة الأمة إلا ذوو العقول والإحساس فيها.
غير أننا نعلم أن أكثرهم يستهين بأمر الاشتراك استخفافاً منه بالقيمة لضعفها في بذل يده وكرم نفسه وسخائه وأريحيته فقليلاً ما يجد من تلقاء نفسه باعثاً على المبادرة بها فلا يزال على ذلك ناسياً مستخفاً. وبعضهم على وفائه وشرف نفسه لم يألف بعد نظام الأمم الراقية في معونة صحفها وادخار قيمة الاشتراك مما ينفقون، واعتبارها مما لابد من إنفاقه على أنها من غذاء العقل ومن مؤنة التاريخ الذي تعوله الأمة كلها، فإذا جاء وقتها لا تستأخر عنه ساعة وكانت حاصرة في يد صاحب المجلة أو الصحيفة فلا تنقطع مادته ما بقي في عمله ولا يفتر في عمله ما بقيت مادته وبهذا ينصرف عن الفكر في القراء إلى الفكر فيما يرضيهم، وعن العمل في الطلب منهم إلى العمل في الطلب لهم، فلا يجد في نفسه ما يضطرب له ولا يعدم من نفسه بعد ذلك الحزم في النية وإنما الأعمال بالنيات.
هذان صنفان من قراء (البيان) وكان عندنا ثالث هو الذي لا يحس ولا يستحي ولا يبالي، وكان في عملنا كأنه عضو أشل فبترناه بتراً، وحذفناه حذفاً وطمسنا على آثاره طمساً، وما هو إلا شر لاحق، أو بلاء متلاحق، ولأن نتقدم خفافاً خير من أن نتأخر ثقالاً، ولأن تكون العدة على الأدب فئة قليلة ثابتة خير من أن تكون فئة كثيرة منهزمة.
ونحن نعلن أنه لم يبق للبيان من قرائه غير من يعتز بهم ويستند إليهم ويعتمد بعد الله عليهم من أديب سنى، وفاضل سري، وكريم سخي، غير أننا نسألهم متأدبين سؤال ذي رجاء وثقة، وذي محبة ومقة، أن يذكروا أطال الله بقاءهم أن قيمة الاشتراك ليست من ضرائب المواريث والتركات وأن يعرفوا وقاهم الله أنها ليست من ديون بعض المرابين، وأن يحفظوا أسعدهم الله أنها ليست أموالاً في التجارة، وأن يستيقنوا أغناهم الله أنها ليست مما يشق على أحد أن يجمعه، ولا يفقره أن يدفعه، ولا يغنيه أن يمنعه بل هي على قلتها مادة (البيان) وأساس نظامه، والذريعة إلى تمامه، وهي كل ما نستوجبه على القراء ولا تكاد تفي ببعض حقهم علينا من تحسين المجلة وإتقان موادها وتوفير أصنافها واطراد(15/4)
التجويد في نسقها وكتابها وترتيبها وما إلى ذلك مما يضي إلى حد العلة، ويستغرق الوقت كله، ولا تنفع فيه من الجهد ولا من المال قلة.
وليس بين القراء وبين أن يروا من (البيان) نظاماً كنظام المجلات الأوروبية الكبرى إلا أن ينتظم كل واحد منهم في جمع ستين قرشاً من نفقات عامة، لا من نفقات طعامه، ومن حذق يده، لا من رزق غده، وإلا فمما ينفقه على حذائه، لا على غذائه، وما يبذله في لهوه وسرفه، لا ما يدخره لعزه وشرفه. وإلا - وأكرم الله قراءنا - فليس إلا ما قال الأول لعنة الله على الأدب إن كان بائعه مهيناً لن ومشتريه مما كسا فيه.
وهذه المجلة رعاكم الله لا تقوم بعصبية دينية ولا بعصبية قومية تجمع إحداهما عليها أيدي المشتركين غيرة على الدين أو غيرة على الجنس كسائر المجلات العربية الأخرى فليس لها إلا قوة مبدئها ومادتها ولغتها وهي كفيلة لنا بخواص القراء من أهل العقول والألسنة وفيهم الغناء كله والحمد لله لو يأخذون في أمرهم وإن قل بالحزم، ولو يدعون من أنفسهم هذا التهاون بالقليل وهم يعلمون أن السحابة صاعدة غير السحابة هابطة ولكنها إن لم ترتفع قطرة إلى قطرة وذرة إلى ذرة لم تهبط بالرحمة في وابل ولا طل.
و (البيان) فقد عرف الأدباء كافة أنه خزانة الأدب الحديث، وأنه لبس لهم في معناه ما يسده مسده، أو يرد مرده، وأنه على ذلك من حاجة المتأدبين يقوم من ألسنتهم ويرهف من أقلامهم ويشحذ من أذهانهم ويطرح نظرهم مطرحاً بعيداً في التفكير والنقد بما يقلب عليهم من فنون الأدب وأنواع المعاني، وما يهديهم إليه من مناحي الرأي وما يجلوه عليهم من قرائح الفلاسفة وخواطر الأدباء في عصور الدنيا وجهات الأرض. ثم هم منه أبداً في طرائف ممتعة. وعلى موائد مشبعة. يجمعون به أدباً إلى علم وعلماً إلى سلوة وسلوة إلى تفكهة، ويخرجون منه بالكثير الطيب والجيد البارع من كل ما تستقل به الطرقة وينضج الأسلوب وتتهيأ الملكة ويصح الرأي ولذلك كله أنشأناه، وعلى ذلك أدرناه، ومن أجل ذلك بذلنا في العمل ولم ندخر وجهدنا ولم نأل، وعانينا ولم نفتر، وصبرنا ولم نضجر، ومضينا ولم نلو، وكنا عند ما قدر أهل الفضل من الثقة بنا وحسن الظن فينا على ما اعترضنا من كلال المهنة وعلى ما حاق بنا من مطل بعض القراء. وعلى ما لقيناه من كفران الصنيع في بعض الأدباء. وعلى أشياء كثيرة مما تخر به العزائم هداً. وتخور عنده القوى جداً. ولا(15/5)
يملك له المرء دفعاً ولا رداً.
وها نحن اليوم نبتدئ عامه الثالث على بركة الله ونستأنف عملنا على تيسير الله، والنية فيه ما قد نوينا من قبل من التشمير والجد في خدمة العلم ونشر الأدب وإحياء اللغة على أنا لا نألو في ذلك جهداً ولا ندع فرصة ننتهزها إلى الإحسان. في الإتقان. ولا نغفل طريقة نتخذها إلى الزيادة. من الإجادة وسيرى القراءان المزيد إن شاء الله مما بلغناه ميسور. وأننا نقطع إلى غايتنا البعيدة بأجنحة النسور. فإنه لنا لعز ما لا يكل مهما (جري)، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً.(15/6)
شذرات
من حديث المائدة:
لا نعد مبالغين إذا نحن قلنا أن ما تنقله من كتاب حديث المائدة هو خير ما أخرج لقراء العربية - ومن هنا كان خليقاً بقراء البيان أن يقرؤه ويمعنوا النظر فيه مرةً مرة ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً.
7
قال أستاذ مائدة الإفطار:
قد شاهدنا كثيراً أن المرء المتوسط الذكاء أنهض بواجبات الحب والصداقة من النابغة العبقري، ولنضرب لذلك مثلاً ساعتين (آلة قياس الوقت) إحداهما بسيطة الكيان، والثانية مركبة. فالبسيطة التي تريك الساعة والدقيقة جديرة أن ترضيك فتستصحبها ما حييت، وإن لم يك بها عقرب بريك الثواني أو كانت غير دقاقة ولا موسيقية ولا محلاة بالذهب والجوهر، وقصارى القول إنك لترضى هذه الساعة صاحبها مستديماً وإن هي لم تشتمل على غير بضع عجلات ويدين نافعتين ووجه طلق صريح. وأكثر ما يكون عدد العجلات في الساعة أو في الذهن أصعب ما يكون مراسهما وأشد ما يكون سياستهما. ولا تزال وثبات الخاطر الطموح وطفرات الخيال الجموح، مشفوعة بشيء من الأنانية ولكن خير أساس الحب والصداقة إنما هو نفس ساكنة مطمئنة وذهن مستنير صاف غير عرضة لما يصيب ذوي العبقرية عادة من الانفجارات والأزمات النفسية، وإنك تري الذهن الجبار إذا ثار لنظم قصيدة أو تأليف مقالة أقبل على القلب فامتص منه خلاصة دمه ولا يستطيع القلب في آن واحد أن يبذل دمه في تأليف الكلم الرائع ويبذله كذلك في اجتذاب فؤاد الصديق وتنعيم روح الرفيق.
وليس على الخل الوفي والصاحب الحميم أن يكون من المعرفة بالعلوم والفنون بحيث يشرك المرء في أميال ذهنه ومطالب نفسه من الأدب والمعارف. فإنك إن أردت مثل هذا الشريك فحبك بالكتب والعلماء (وبعد) فإن معظم ما جرى ويجري بالعالم من حوادث الحب والصداقة إنما كان بين من لا يعرفون القراءة والكتابة.
أما أن يتهافت المرء على غير ذي ود ويلقي بنات قلبه على كتلة تأخذ ما يلقي عليها ولا(15/7)
تعطي ويرمي بأشعة روحه على صخرة لا يؤثر فيها ضوء الابتسام ولا ضغط إلا كف والشفاه، فهذا والله تضحية الأنفس البارة واستشهاد الأرواح الودودة، وأكثر ما يبتلى به أرق الجنسين وألطفهما - النساء.
لعلك لاحظت ما قلته آنماً من أن معظم ما جرى ويجري بالعالم من حوادث الحب والصداقة إنما كان بين من لا يعرفون القراءة والكتابة - وهل هؤلاء إلا النوع الإنساني إلا أفراداً قلائل هنا وهنالك. لا أقول إني أكره الكتب، كلا إني لأحبها ولي بها كشغف السمك بالماء. والطير بالهواء. وأحسبها نعم الأستاذ والرفيق. ولكني أعلم برغم ذلك أن أكابر رجال العالم لم يكونوا عادة من ذي البسطة والرسوخ في العلم. ولا كان ذووا الرسوخ في العلم عادة من أكابر رجال العالم. وكأني بزعماء الطائفة العبرانية كانوا لا يكادون يملكون بضعة أسفار وهم مع ذلك يمثلون لك أثم صورة من الرجولة. ولعلنا لو نستطيع نحن جماعة الأدباء أن ندعو إبراهيم لينازعنا الغداء أو العشاء يوماً ما عددنا ذلك مفخراً عظيماً وغنماً كبيراً.
وكل ما أردت أن أذكره عن الكتب هو أنه ما من إنسان ذي مفكرة قوية إلا ويرى نفسه أحياناً فوق الكتب والأسفار الإنسانية.
عند ذلك انبرى الفقيه فقال معترضاً ما أري الرجل الذي يجسر على حسبان نفسه في أية ساعة فوق شكسبير إلا مغتراً.
قال الأستاذ أعلم سيدي أن الرجل الذي لا تعتريه قط حالة نفسانية يحس أثناءها أنه مفعم الصدر بوجدانات ومعان فوق طانة التعبير ودون منال اللسان ولو أنه ملك أعنة البلاغة وأخذ بناصية البيان - إنما هو لا يعدو أن يكون عباد ألفاظ، على أني لا أكاد أحسب أنه يوجد مثل هذا الإنسان وما عليك يا سيدي إلا أن تذكر قوة الموسيقى وسلطانه فإن الأعصاب التي تتأثر بالأنغام تتشعب من مجاري النخاع في أحدها إحساساً، أعني حيث تنفرج لتسمو إلى خلايا الدماغ، فالموسيقى إذن يسري إلى موطن الإحساس من النفس لا إلى موطن التعقل. ولكنه (الموسيقي) يحدث برغم ذلك سلسلة عواطف وأفكار حسنة الانسجام مطردة السياق إلا أنها أفكار جد مخالفة للأفكار الاعتيادية المعهودة من حيث أنها تعجز اللسان المعبر وتعيي البيان المفسر. ثم ماذا تجد يا سيدي من البون البعيد إذا أنت(15/8)
قابلت بين عواطف الإنسان وألفاظ اللسان! أتراك سمعت بامريء أنحله وأضناه قراءته قصة روميو وجوليت أو آخر انتحر أسفاً لما حل بامرأة عطيل من دنيسة زميله أياجو؟ وإني لأعرف من الرموز والعلامات ما هو أفصح بكثير من الكلم وأذكر حادث عن زوجة فتية السن وقفت لوداع زوجها وكان مزمعاً سفراً فلم تهيئ لموقف الوداع قصيدة ولا خطبة وإنما أعلنت بها وأبدت شكواها بطريقة أخرى - وذلك أنه امتقع لونها واكتسى وجهها من الألم الكمين والداء الدفين صبغة برتقالية، وفي الناس جانب عظيم لا يملكون من البلاغة والبيان إلا أسلوباً واحداً وهو أنهم يضنون ويهزلون حتى يدركهم الموت.
في هذه الأحوال التي تبلغ فيها العواطف أقصى منتهاها كيف يستطيع المرء القراءة؟ إن استطاعته القراءة دليل على أن إحساسه الشديد قد بدأ يفتر وأن تفكيره قد أخذ يتراخى، أنت تعجب أنى تبلغ القحة بإنسان عادي يحسب أنه قد يسموه به فكره أحياناً حتى يفوق فكر أكبر العقول - عقل شكسبير. على رسلك، وتدبر معي هذا الأمر في روية تعلم أن فرقاً عظيماً بين قراءة أحد الصبية كلام شكسبير وقراءة الأستاذين الجليلين كولوريج وسكليجل آيات هذا الشاعر الأكبر! فإذا كان ديوان شكسبير البحر الزاخر فقراءة الطفل فيه كالغرف باليد وقراءة الأستاذين الجليلين كالغوص على كل لؤلؤة بكر ودرة يتيمة، فسواء كان القارئ صبياً أو فيلسوفاً فإن ما قد يجول بخاطره ويفعم صدره أحياناً من شديد العواطف وجليل الأفكار لأسمى بكثير لا من حقيقة قول المؤلف بل من تأويل ذهن القارئ لقول المؤلف.
وكأني بمعظم قراء شكسبير تسمو بأذهانهم كلما هذا الشاعر أحياناً إلى طبقة من الإحساس والتفكير كالتي يرفعنا إليها الموسيقي. حينئذ يلقون ديوان شكسبير من أيديهم ثم يفضون إلى عالم الأفكار الذي لا يبلغ إليه اللفظ وقد نكون أنا وأنت من طائفة الأغبياء ولعلها الحقيقة إلا أن يوجد البرهان على ضد ذلك. ولكني وإياك قد ندرك أحياناً لمحة من ذلك العالم الروحاني حيث ترانا على ما بنا الآن من غباوة نمعن في أودية التفكير إلى ما وراء أبعد غايات الذهن الآدمي.
وإني أشهد أنه لتمر بي أوقات أكره فيها الكتب حتى لا أطيق أن أراها. وأحياناً أشعر أن من حاجة البدن وأسباب صحته ودوافع علته أن أنفث مكنونات الضمير قبل أن أضع فيه(15/9)
شيئاً جديداً إذ أنه من أضر الأشياء أن تكتم في الضمير أفكار أو وجدانات كان ينبغي ظهورها اكتتام العلل والإدواء التي كان من حقها أن تبدو على ظاهر الجسد.
إني ما زلت أرى للحياة من جسامة الشأن وعظم الخطر مالا أراه للكتب وأحسب أن يوماً واحداً من هذه الحياة الدنيا بما بها من مئات آلاف المواليد والمنايا وما فيها من المودات والعداوات والانتصارات والهزائم والنعم والنقم - أحسب أن يوماً واحداً من الحياة الدنيا هو أوفر نصيباً من الإنسانية من كافة ما حبر وحرر من القراطيس والصحف. والأسفار والرسائل، وأعتقد أن ما يفوح للأزهار النابتة الآن على وجه البسيطة من الطيب هو لا محالة أذكى شذاً مما فاحت به الغوالي المقشرة منذ بدء الخليقة إلى وقتنا هذا.
8
قال شاعر المائدة: وعن شمالي من المائدة كان يجلس مخلوق ما رأيت أغرب هيئة منه إلا في معرض أو متحف، لردائة الأسود لمعان كأنما خرج من أيدي الصياقله لتوه وساعته، وكان مقوس الظهر، دليل على شدة انكبابه وفرط انصبابه على دقيق من العمل، وله أطراف ضئيلة آية على قلة السعي وطول القعود، ذو مفاصل كمفاصل الجراد يخيل إليك أنه ربما نشر مطوى جسده وطفر في الهواء لا يمشي، يلبس نظارتين يقول إنهما تريحان بصره بعد كده في استبانة الدقائق واكتشاف الغوامض، لصوته صرير ضئيل كأن في حلقومه آلة صغيرة بعيدة العهد بالزيت، ولم أدر ما حرفته، فقلت خليق بالمرء أن يعرف عمل جاره، ففاتحته الحديث وفي نيتي ذلك وكان موضوع كلام الناس يومذاك انتخاباً تؤخذ له العدد، فقلت:
من ترى يحرز الأغلبية غداً؟.
قال ليس غداً وإنما الشهر القابل.
فصحت متعجباً الشهر القابل! عجباً لك. أي انتخاب تقصد؟.
قال مندهشاً أريد انتخاب الرئيس لجمعية الحشرات وفي وجهه ولهجته دليل على شدة تعجبه وإنكاره أن يكون في الناس رجل يفكر في انتخاب آخر قال شد ما اشتدت المنافسات يا سيدي بين الذبابيين والفراشيين كلاهما يرجو إحراز الرئاسة.
قلت أحسبك من علماء الحشرات يا سيدي.(15/10)
قال كلا أنا أشد تواضعاً من أن أطمح إلى مثل ذلك. ومن لي بأن أرى الرجل الذي يجرأ على إدعاء هذه الدعوى! أنا لا أنكر أنه قد يتأتى وجود جمعية تسمي نفسها جمعية علم الحشرات فأما الفرد الذي يدعي لنفسه ذلك فهذا لعمري دعى محتال وكاذب دجال، إنه محال يا سيدي أن يوجد الفرد الذي تسميه بحق عالماً حشرياً إذ علم الحشرات، أوسع نطاقاً وأبعد مدى من أن يحيك به فرد.
قلت وبي من أثر قوله ولهجته نوع من الهيبة هل لي أن أسألك يا سيدي ما موضوع دراستك من هذا العلم؟.
قال لقد قصرت مطامعي وحبست أيامي على مذاكرة باب الخنافس لا كل أصنافها - بل الخنافس الأصلية، وحسبك بهذا الباب درساً طويلاً يستنفد العمر المديد ليله ونهاره في البحث والفحص والمذاكرة فسعني إن شئت الخنفسي أو الجغرافي والثانية أولى. وقصاراي يا سيدي أن أفعل ما استحق به هذه التسمية.
وكان بيننا شاب فلكي يقضي زمنه بين المريخ والزهرة، بمعزل عن هذا العالم الأرضي، فدعانا ذات صباح إلى غشيان مرصده في ليلة صافية الأديم ساطعة الأفلاك، فكلنا أجاب الدعوة إلا صاحبنا الجغرافي فسألته عن السبب فقال:
كثرة العمل يا سيدي - بحث علمي لا يسمح لي بالنظر إلى الكواكب ولو كلمح البصر.
قتل حقاً؟ وهل لي يا سيدي أن أسألك عن موضوع ذلك البحث؟.
قال مع مزيد الارتياح يا سيدي. وأنه لم أهم الأبحاث وأصعبها وهو تحقيق ماهية الحشرة الطفيلية بيدوكيولوس ميليتا التي تركب ظهور النحل. .
يا للعجب العجاب! أيكون في هذا الكون شيء أعجب من هذه الدنيا، حقاً إن هذا العالم لفي جنة أيها الناس هاكم إنساناً مثلي ومثلكم يدعى إلى مرصد تدني له فيه بدائع السموات وروائع الأفلاك فيمنعه من انتهاز هذه الفرصة اشتغاله بحشرة دنيئة مما يركب ظهور النحل أما والله لا بد لي من نظرة في مجهر ذلك الجغرافي لأنظر هذه الحشرة التي تشغل من ذهنه ولبه مالا يشغله مشهد النجوم الباهر. وموكب السماء الفاخر.
قلت أتبيحني نظرة في مجهرك أتبين بها هذه الحشرة الطفيلية؟.
عند ذلك نشط الجغرافي وارتاح لي وهش واكتست عيناه نظرة إنسانية وسربل محياه(15/11)
سمياء آدمية وخيل إلي أن ذراعيه تمتدان لمعانقتي. ولا غرو فهو الذي ما زلت أراه مهجوراً من أصحاب المائدة مهملاً منبوذاً لا يؤبه له ولا يعني به ولا يحس وجوده، ولا أبدي هو قط أدنى دليل على أنه من الأنس. فما هو إلا أن لمست منه ذلك الموضع الذي انحصرت فيه حيويته واجتمعت فيه إحساساته حتى أقبل عليَّ حاسراً لي عن وجه إنسانيته وإخائه.
وقال جئني عقب الإفطار مباشرة. جئني أراك الحيوان الذي ارتجت له أنحاء العالم الحشري ودوت له بكثرة التسآل أركانه.
وعلى ذلك غشيت غرفة الجغرافي ومرقده ومعمله ومعرضه - حجرة واحدة تؤدي هذه الوظائف جميعها.
قلت وددت لو أن في الوقت متسعاً فأنظر جميع نفائسك وكنوزك ولكني أخشى أن لا يكون لدي من الوقت أكثر مما يسع رؤية طفيلي النحلة. ولكن ما ألمح هذا الفراش المثبت في هذا الوعاء!.
قال الجغرافي: أجل أجلْ إنه لحسن ولقد جاءنا من أمريكا الجنوبية مع هذه الخنفساة. انظر إليها. واعلم أن الخنفساوات ملوك طائفة الحشرات والأفرشة فيها بمثابة الرجال والذباب الصبية.
وكانت الخنفساة التي لقتني إليها حيواناً قذراً خبيثاً أشد سواداً من عرض إبليس تشمئز منه النفس ويزوي دونه الوجه ونقدي برؤيته العين وأهون ما يستحق من المار به أن ينبذه بقدمه إن لم ينزل به ما هو أشد وأنكى. ولكن الجغرافي جعل يرنو إليه رنو الفرح المرتاح ويعيره نظر المحب إلى الحبيب المقبل.
وصاح ملحة وأيم الله وطريفة إبليس لها في طول هذه البلاد وعرضها من مثيل درة يتيمة ولؤلؤة فذة ثم في امتلاك الشيء المقطوع القرين للذة أية لذة. ولن تجد والله يا سيدي نظيرها دون أن تذهب إلى أمريكا الجنوبية.
فسرني جداً أن البلاد خلو من مثل هذه البلية معتقداً أن في الذي بالقطر من الخنافس المعتادة خير عوض من الحيوان المذكور، يغني غناءه ويؤدي وظائفه كافة.
قال الجغرافي هناك طفيليات النحل وأراني صندوقاً مملوأ بقطع من الزجاج قد أثبت على(15/12)
كل منها طفيلي النحل معداً للفحص الميكروسكوبي فكان أكثر اندهاشي من حيوان ضئيل الجثة قد بسط وفرطح ذي أرجل ست تنتهي كل واحدة منها بمخلب كمخلب الأسد وأفظع.
قلت هذا هو الذي يمتطي صهوة النحلة ويأكل من لحمها ومن دمها جاعلها مركباً ومسكناً ومرقداً ومطعماً ومشرباً؟.
فلم تلح على وجه الجغرافي أدنى ابتسامة، وأكبر ظني أن الابتسام لا يعرف وجهه، وما أحسبه أنه سمع كلمتي هذه أو حاول أن يسمعها.
يعيش على النحلة هذا إن فكرت أنعم عيش وأرغده وأي عيشة ألذ من أن يظل ذلك الطفيلي على ظهر النحلة يسبح في الهواء ولا يتجشم مؤنة الطيران، ويدخل كل مكا تلجه النحلة ولا يتكلف أجرة الدخول ثم لا خوف عليه أن يزل من فوق تلك المطية أو يزيله عن ذلك المركب الوطيء مزيل، بل كيف وتلك مخالبه تسد نشبت في متن النحلة نشوب المنية في الآجال، ثم يمتص من عناصر جسد النحلة ما شاء، تأكل النحلة أطايب الجنان ويأكل هو أطايب النحلة، ويعيش في الهواء، وطوراً في سرادقات الزهر النضير، وأروقه النبت العشيب. وحيثما سار حفت ركابه مغردة الذباب تشنف أذنيه بأعذب النغمات، فما أحسب إلا أن دوى النحل وإن دق في مسامعنا هو في أذن ذلك الطفيلي أجهر من سمع المسمعات وعزف الضاربات. كل ذلك جال بذهني ودار بخلدي بينما الجغرافي يحسب أني أتأمل دقائق صفات الحشرة الخطيرة الشأن وخواصها.(15/13)
عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين
أسلفنا في العددين الثامن والتاسع من السنة الثانية من البيان أن قد أتيح لنا في الخامس عشر من شهر أكتوبر سنة 1914 زيارة زعيم البهائيين في منزله برمل الإسكندرية كما زاره كثير من أمرائنا وعلمائنا وصحفيينا، وكما يجمل بصاحب مجلة شرقية أن يستطلع طلع زعيم ديني شرقي له من المريدين والأتباع ما يعد بالملايين منثورة في الفرس وأمريكا وأوروبا وغيرها من أنحاء المعمور. وعنى بالكتابة عليه والتنويه به كثير من علماء المسلمين واليهود والمسيحيين - شرقيين وغربيين - وأفردوه بالتواليف والمصنفات وأفسحت له كبار اصحف والمجلات في مصر وأوروبا وأمريكا بين أنهارها. ـ. وأن قد دري بيننا وبينه حديث هام وعدنا بنشره، ومهدنا له بكلمة عن جريدة الكرونكل الإنكليزية.
بيد أنا لم تنشر هذه الكلمة حتى رأينا بعض ذوي الغايات الذين هم في الحقيقة واحد من اثنين - رجل ينفس علينا هذا الأمر مجلة البيان وأعمالها وقد أكل الحقد صدره أن رأى مجلة البيان قد ذاعت وتغلغلت في جهات الأرض، وأقبل عليها جميع الناطقين بالضاد بالإكبار والإعجاب والغبطة والسرور فهو يهتبل الفرص للنيل منا وتسوئ سمعتنا وتهويش ما بيننا وبين قرائنا. - وذاك خلق فاش - وا أسفا علينا - بين المسلمين. بين الرجل وزوجه. وبين الرجل وابنه - وبين أفراد الأسرة الواحدة وبين أهل الضيعة الواحدة. وبين أهل البلد الواحد - وبين أهل المملكة الواحدة. وبين أهل الحرفة، الواحدة حتى لقد وقعنا فيما خافه علينا الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم إذ قال عليه السلام ما معناه إني أخاف عليكم داء الأمم قبلكن والحسد والبغضاء فاللهم لطفاً.
ذاك أو رجل جاهل غبي ليس من العلم في قليل ولا كثير. ولا من الفهم والفطنة في فتيل ولا نفير. فليس في مكنته أن يفهم مرامي الكلام ومناحيه وإنما يأبى ذهنه المجدب إلا أن يحرف الكلم عن مواضعه ويفهم الشيء فهماً سلبياً حتى يتساوق مع طبعه البليد:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
وكلا الاثنين قبل كل شيء ماكر لئيم أسود النية، سيئ الطوية. فهو يأبى إلا أن يقيس الناس وأعمالهم بنفسه وأعماله على حد ما يقول أبو الطيب:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
ومن هنا قام هؤلاء المساكين وظنوا بكلمتنا الظنون ورجموا الغيب وألصقوا بنا كل سواة.(15/14)
واتهمونا بكل شنعة. وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل أمعنوا في الهجر والسباب وافتروا على الله الكذب - وما أجرأهم على الكذب والبهتان ولم لا وهو بضاعتهم وهم منه لا من غيره يرتزقون - حتى صورونا للناس في وهمهم. . . كأنا لسنا من الناس، فاللهم حوالنا ولا علينا.
ونحن فلو أرخينا للقلم العنان لأخللنا بما أخذناه على أنفسنا أنا لا نسف إلى هؤلاء المساكين ولا نسقط إلى حضيضهم الأوهد إذ لو فعلنا لكان ذلك مضيعة منا للوقت على قرائنا فضلاً عن أن ذلك لا يرد ولا يجدي - وإنما الذي نقصد إليه بهذه الكلمة هو أن نبين للمنصفين من الناس أنا لسنا أول من ذكر زعيم البهائيين. وأن ما قلنا إنما هو غيض من فيض بالقياس إلى ما قاله غيرنا ومن بينهم أمراؤنا وصحفيونا وكبار العلماء في أوروبا وأمريكا. فإذا كنا بما قلنا قد صبأنا، أو زلت في سبيل العفة قدمنا كما يقول هؤلاء المساكين - فقد صبأ - معاذ الله أن يصبأوا بذلك أو أن يصبأ مسلم من أحقر عباد الله - الأمير الجليل محمد علي باشا والأستاذ الإمام محمد عبده وشيخ الصحافة الإسلامية المصرية المرحوم السيد علي يوسف. والمسلم الغيور محمد أفندي الكلزة صاحب جريدة وادي والنيل المصرية، إذ قالوا ما نحن ذاكرو بعضه الآن.
قال دولة الأمير الجليل محمد علي باشا شقيق سمو الجناب العال الخديوي أمير مصر المفدى في رحلته إلى أميركا الشمالية.
في صباح يوم (الاثنين 22 يوليه) ركبنا عربة وذهبنا لشراء كتب هندسية. . وهند عودتنا إلى الفندق أخبرت أن فضيلة العالم الشرقي الجليل عباس أفندي زعيم البهائيين يريد مقابلتي فضربت له موعداً في الساعة الثالثة بعد ظهر هذا اليوم. إلى أن قال دولته.
حضر بعد ذلك عباس أفندي فقابلته مرحباً به معظماً له ولم تؤثر الشيخوخة في ذكائه المفرط فإنه مكث معي نحو ساعة من الزمن وهو يحدثني في موضوعات شتى مفيدة جداً دلت على سعة إطلاعه وكثرة اختباره. فهو إذا رجل العلم وعظيم من عظماء الشرق.
ثم قال دولته. أما خطاباته الكثيرة المؤثرة فإنها أخذت دوراً عظيماً في أمريكا وقد كانت إذ ذاك حديث الجرائد ينشرونها ويعلقون عليها آراء علمائهم الدينيين. وبالجملة قد توصل باقتداره إلى بلوغ الدرجة التي يحسده عليها الحاسدون. وقد مكثت معه زمناً أحادثه(15/15)
ويحادثني فيطربني بلذيذ كلامه. ثم انصرفت من عنده وأنا أحفظ له في قلبي المودة والاحترام.
وقال المرحوم اليد علي يوسف في المؤيد عدد 6194 الموافق يوم الأحد 16 أكتوبر سنة 1910 تحت هذا العنوان:
الميرزا عباس أفندي
وصل إلى ثغر الإسكندرية حضرة العالم المجتهد ميرزا عباس أفندي كبير البهائية في عكابل مرجعها في العالم أجمع. وقد نزل أولاً في نزل فيكتوريا بالرمل بضعة أيام ثم اتخذ له منزلاً بالقرب من شتس (صفر) وهو شيخ عالم وقور متضلع من العلوم الشرعية ومحيط بتاريخ الإسلام وتقلباته ومذاهبه يبلغ السبعين من العمر أو يزيد على ذلك.
ومع كونه اتخذ عكا مقاماً له فإن له أتباعاً يعدون بالملايين في بلاد الفرس والهند بل وفي أوروبا وأميركا. وأتباعه يحترمونه إلى حد العبادة والتقديس حتى أشاع عنه خصومه ما أشاعوا. ولكن كل من جلس إليه يرى رجلاً عظيم الإطلاع حلو الحديث جذاباً للنفوس والأرواح يميل بكليته إلى مذهب (وحدة الإنسان) وهو مذهب في السياسة يقابل مذهب (وحدة الوجود) في الاعتقاد الديني. تدور تعاليمه وإرشاداته حول محور إزالة فروق التعصب للدين أو للجنس أو للوطن أو لمرفق من مرافق الحياة الدنيوية.
جلسنا إليه مرتين فأذكرنا بحديثه وآرائه سيرة المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني في إحاطته بالمواضيع التي يتكلم فيها وفي جاذبيته لنفوس محدثيه إلا أن هذا يتسع حلماً ويلين كتفه لحديث مخاطبيه ويسمع منهم أكثر مما يسمع السيد جمال الدين - ثم نقل المؤيد عن عباس أفندي كلاماً في شأن إقامته في مصر وأنه لا يحب أن يتعرض للسياسة. . . الخ.
وجاء في جريدة وادي النيل في العدد 890 الموافق يوم الأربعاء 22 مارس سنة 1911 قال أثناء مقالة افتتح بها هذا العدد تحت عنوان: عباس أفندي بهاء الله.
وقد خلط الكتاب على صفحات الجرائد في الكلام عن هذا الرجل الموقر بين البابية والبهائية في حين لا جامعة بين الأمتين ولا رابطة تربط الدعوتين.
وما البهائية التي نحن في صددها سوى أنموذج الفضيلة. جوهرها وحدة الإنسان وتعاليمها إزالة فروق التعصب للدين أو للجنس أو للوطن أو لمرفق من مرافق الحياة الدنيوية. . .(15/16)
إلخ إلى أن قال ومن هنا يتضح أن هذا الشيخ الجليل كثير التسامح جميل المقاصد حسن العقيدة. ولاشك أن كتاب والده المسمى الكتاب الأقدس مملوء من هذه التعاليم الطيبة التي ترمي جميعها إلى الفضيلة. وما أحلى دين الفضيلة والمعروف.
فقد قال كاتب في جريدة المقطم. إني كنت أطالع في الكتاب الأقدس وهو ذلك الكتاب الذي ذكر فيه انبهاء زعيم الطائفة البابية. قال كاتب وادي النيل (وهنا خلط أي كاتب المقطم بين البابية والبهائية) تعاليمه. . . فوجدت في هذا الكتاب أقوالاً وتعاليم عديدة تدل على أن البهائية هي أكثر المذاهب دعوة إلى الدستور. . . الخ مما يريد بيانه الكاتب من أن بهاء الله غير ما أشاع عنه خصومه وأعداء مبادئه الصالحة ـ.
ثم قال كاتب وادي النيل. أما انتشار دعوته فمما لا مرية فيه ويدلنا عليه إقبال الناس إلى زيارته من كل فج وبينهم كثير من ذوي المقام الرفيع والعقل الراجح واليسار الأكيد ودليل ذلك ما جاء في (الجريدة) بتاريخ 3 يونيو الماضي بعنوان البهائية والإسلام مترجماً عن الجرائد الإنكليزية. قالت (أي الجريدة المصرية التي يديرها الأستاذ المفضال أحمد لطفي السيد).
خطب المستر تمبل خطبة في إيران وتجدد الإسلام على جمعية الفنون الملكية الإنكليزية التي عقدت جلستها في 25 مايو سنة 1910 برئاسة الأستاذ برون أستاذ الفارسية في كلية كمبردج.
ومما قال في خطبته أن أوروبا غير مبالية الآن بنشوء الحركة الدينية الجديدة في إيران والمسماة بالبهائية (نسبة إلى بهاء الله منشئها) فقد بلغ عدد البهائيين في الدنيا منذ ابتداء هذه الحركة مليونين أو أكثر مع أن مؤسسها كان حياً في أواخر القرن الماضي. والناس يقبلون عليها أفواجاً من غير المسلمين وهي تنتشر في روسيا وألمانيا وفرنسا وإنكلترا وعدد البهائيين في لندن كثير ولهم دوائر صغيرة في مانشستر وليفربول وأدنبره وغلاسكو.
وينتظر أن تصبح الولايات المتحدة الأمريكية مركزاً كبيراً للبهائية. والاعتقاد الشائع أن البهائية دين يراد به أن يكون دين العالم كله كلغة الأسبرات والتي يراد جعلها لغة عمومية ولكنه ليس في واقع الأمر ديناً بل حركة دينية. وقد جيء به لتجديد آسيا وأهلها وروحه مضادة للبابوية وللكنيسة الإنكليزية ولسائر الآكليروس. وهو عامل قوي ينتظر أن يكون ذا(15/17)
تأثير عظيم في التطهير والتجديد.
ونشرت جريدة (الأديشيان غازت) التي تصدر في الإسكندرية عدد 34 سبتمبر الماضي تحت عنوان: (الأستاذ فامبري والبهائية) مقالاً للسيدة ستنادر العالمة الإنكليزية المشهورة التي كانت تلقى محاضرات جليلة حول علم النفس في دار الجريدة هذا نصه.
قالت مسز ستنارد:
لما كانت وفاة ذلكم البحاثة المشهور والمستشرق الكبير الأستاذ أرمينياس فامبري، لم يتضمن عليها إلا أيام قلائل. رأيت أن خطابه الذي بعث به قبل وفاته ببضعة أسابيع إلى عبد البهاء عباس أفندي قد أصبح رسالة تدون في التاريخ. وكتاباً مأثوراً. ذا مكانة عظيمة وأثر كبير. ويسرني أن قد أذن لي في نشر ذلكم الخطاب. ولم يكن قد نشر بعد للناس.
وأن في حسن أسلوبه. وأدب عباراته. لدليلاً واضحاً على تمكن ذلكم الأستاذ المبدع من فهم قلب المشرق المتدين. وبرهاناً جلياً على توافره على تعضيد كل مقصد نبيل حق ومطلب شريف صدق، ولعل كثيرين لم يروا في فامبيري إلا عالماً طبيعياً. لا يفتر عن البحث. ولا يرهقه الاستقصاء. وبحاثاً مكتملاً. يبحث في أصل الحيوان والإنسان. وآخرون يعلمون ما يجري في الشرق الأدنى من مشاكل في الحياة وفي الفكر. ويرون في الأستاذ رجلاً أعظم شأناً مما يظن هؤلاء. وأطول باعاً مما عرفوا وأسمى شأن مما عهدوا. وإن حياته المتوقدة نشاطاً وهمة وعزماً. تجمع خبرة أوسع. وعلماً أكبر وأحفل. استمده من تجاربه. واستخرجه من مشاهده. وكان نصيبه منها يربي على أنصبه ثلاثة من الساسة مجتمعين. وكانت معرفته باللغات عجيبة الشأن. فقد كان عليماً بخمسة عشر لغة. كتابة وقراءة. ومن ثم كان حكمه على الرجال والأشياء يمتد به. ويرجع إليه. لقيامه على نظر ثاقب. ونصفه نافذة. وقد لبث في بطانة عبد الحميد السلطان المخلوع أربع سنين. كان في خلالها مستشاره الخصوصي. وقد قضى شباباً له عسراً في أوساط غربية مثل تركيا وفارس والبلقان كسبته فرصاً لم تسنح لأحد وقد فرغ فيها إلى البحث والاستقراء.
أما عن الفلسفة الدينية فقد كان يخبر أحسنها ويبحث عن أسماها وكان يتكلم في المذاهب الإسلامية. سواء العربية منها أو الفارسية. عن خبرة واسعة وعلم صميم. فكان فيها موضوع احترام علمائها.(15/18)
وكثيراً ما كتب عن ترجمة حياة ذلكم العبقري النادرة في المجلات الغربية من حين إلى حين. وسيكتب عنه أكثر مما كتب. على أننا لا نستطيع أن نصدق أن ما كتب أو يكتب عنه سيكشف لنا عن روح ذلكم العالم البحاثة. ويبدي لنا قرارة نفسه ومواهبه السامية في زمان شيخوخته. كما تكشف لنا عبارات خطابه الآني. وكأنى بنا نشهد منه ضوء مشكلة سطع من قلب رجل كان يبحث أبداً ويجد ليهتدي على حقيقة كبيرة. واعتقاد يتنازعه. حتى ظفر أخيراً بطلبته من الحق والخبرة فكان بهما راضياً.
وكان اللقاء المأثور الذي جرى بين عبد البهاء والأستاذ فامبيري في بودابست في أبريل الماضي. وقد لقي الزعيم البهائي العظيم من عصبة العلماء والبحاثة المستشرقين والمصلحين الاجتماعيين حفاوة وترحيباً. فلما عاد عبد البهاء إلى مصر كتب إلى فامبيري كتاباً وبعث إليه بهدية. فكان جوابها الخطاب الآني. ولكي يعلم من لم يسبق له علم بالأساليب الكتابية في الشرق أقول أن أسلوب الخطاب لا يكتب به في الإسلام إلا علماء الدين، ولا يستعمل إلا في مراسلة معلم عظيم المكانة أو زعيم جليل القدر.
وإلى إلغراء ما كتب فاميري إلى عبد البهاء:
أرفع هذا العرض الحقير إلى حضرة عبد البهاء عباس أفندي، وسدته الطاهرة المقدسة إلى قطب العالم الذائع الذكر في الخافقين والمحبوب من الناس جميعاً.
أي صديقي الكريم. وهادي الناس إلى سواء السبيل، لو أن حياتي تروح لك فدى، قد وصلا غلي سالمين. فعاودتني ذكرى لقائي بفضيلتك. وتبركي بحضرتك. وأني لأحن إلى لقائك. وأشتاق إلى رؤيتك.
وقد جبت كثيراً من ممالك الإسلام وبلدانه، فما رأيت خلفاً سامياً مثل خلقك، ولا شخصية عالية مثل شخصيتك. وإني لأشهد أن ليس من الممكنات أن يقع المرء على نظيرك. وأؤمل أن تكون مبادئك الكمالية وأعمالك قد توجت بالفوز والنصر. وأثرت على أية حال. فإني ألمح من وراء مراميك الكمالية وأفعالك. الخير الأبدي والنعيم المقيم لعالم الإنسانية.
إن خادمك أراد أن يجتبي العلم والخبرة من مصدرهما فدخل في أديان كثيرة فصار في مظهره يهودياً ومسيحياً وزرودشتيا. على أني رأيت أن المتمسكين بهذه الأديان لا هم لهم إلا التباغض والتنافر والتباهل والتلاعن. وإن هذه الأديان قد أصبحت آلات للظلم(15/19)
والطغيان في أيدي الولاة والحكام. وأنها أسباب تعمل على خراب العالم الإنساني وفنائه. وتفادياً من شر هذه النتائج كان حقاً على كل إنسان أن يكتب اسمه في سجل أنصارك. ويرضى مبتهجاً بمقصدك إلى تأسيس قاعدة ينهض عليها دين عام. وكنت أنت واضع أساسه بمجهوداتك وأعمالك.
لقد رأيت عن بعد أيا فضيلتك، ثم شهدت كرم نفس ابنه وشجاعته وتضحيته فرحت بكما معجباً.
وإني أقدم احترامي الأكبر وإخلاصي الأشد إلى مبادئك ومراميك وإذا مد الله تعالى في عمري وتنفست بي السن استطعت أن أخدمك على كل حال. وإني أدعو الله وأضرع إليه من أعماق فؤادي أن يحقق أمنيتي.
خادمك فامبري(15/20)
ل
النبأ العظيم
العلم يؤيد الدين في مسألة المسائل
لا شيء يخلق نفسه وكل شيء يفنى
جوستاف لوبون
كان المذهب السائد بين علما الطبيعة حتى في هذه الأيام أن المادة لا تنعدم. وهذا المذهب هو أحد المذاهب العديدة التي أخذها العلم الحديث عن العلم القديم دون تغيير ولا تحوير. ومعنى قولنا أن المادة لا تنعدم، إنه لا يمكن إعدامها بأية وسيلة كانت، وإن شكل المادة وهيأتها ومظهرها وخصائصها من الممكن تغييرها بوسائل مختلفة، ولكنا لا نستطيع بحال من الأحوال أن نفني المادة نفسها، وقد ترى في الظاهر أن المادة تختفي في كثير من الأحوال، ومثل ذلك الماء في حال تبخره، ولكن هذا التلاشي الظاهر لا يدل إلا على تغير في شكل المادة، وليس علينا إذا أردنا أن نردها إلى أصلها إلا أن نبرد بخارها بمختلف الوسائل.
ولقد مضى على هذا المذهب العتيق مئات القرون من عهد الشاعر الروماني لوكريس، واضع تلك القصيدة المشهورة في طبيعة الأشياء والمتوفى سنة 51 قبل مولد السيد المسيح، إلى عهد العالم الكيماوي الطائر الذكر لافوزييه واضع الكيمياء الحديثة، وصاحب تلك النظرية القائلة لا شيء يفنى، ولا شيء يخلق نفسه والمتوفى عام 1794 من الميلاد، ولم يفكر أحد في نقد هذا المذهب وتمحيصه، بل أخذوه قضية مسلماً بها. حتى قام في أيامنا الحاضرة العلامة المحقق والفيلسوف النادرة الدكتور جوستاف لوبون، صاحب كتب روح الجماعات وسر تطور الأمم وحضارة العرب وروح الاشتراكية وروح السياسة وغيرها من الأسفار، فوضع كتاباً سماه سر تطور المادة خالف فيه كل العلماء الكيماويين المتقدمين منهم والمتأخرين، ونقض دعائم المذهب القديم وأتي بآرائه الحديثة في المادة ودعمها بالحجج والشواهد والتجارب الكيماوية، ففاق بكتابه هذا العلامة هيكل وإن لم يكن فاق به دارون ولامارك فقد أصبح في مصافهما، وقد أحدثت هذه الآراء الجديدة ثورة علمية بين علماء أوروبا، لأن كل عقيدة جديدة تجتاز ثلاث عقبات، الأولى أن يقوم الناس لمعارضتها محاربتها والتصريح بأنها طائشة فاسدة، والثانية أن يعترفوا بأنها حقيقية ولكن مبهمة،(15/21)
والثالثة أن يشهدوا بأهميتها العظمى، ويطالب معارضوها وأعداؤها بشرف اكتشاف تلك الأهمية. ولقد جازت آراء جوستاف لوبون هذه الخطوات الثلاث، وكان انتشارها سريعاً جداً، ولم تمكث معارضة العلماء لها زمناً طويلاً، بل أخذها جماعة من مشهوري العلماء الكيماويين وأعادوا عمل التجارب التي عملها جوستاف لوبون، وتوسعوا فيها، ومن بين الجماعة السير ويليم رامزي أشهر مشهوري علماء إنجلترا، ووضع كتاباً له قال فيه أنه وقفه على إعلان الأبحاث التي قام بها لتحقيق التجارب المذكورة في كتاب الدكتور جوستاف، ولم تخالف نتيجة أبحاثه آراء صاحب المذهب الجديد إلا في شدتها وجرأتها.
والكتاب منقسم إلى قسمين قصر في القسم الثاني على تفاصيل تجاربه الكيماوية، وفي القسم الأول الكلام عن أبحاثه ونتائجه وآرائه، وبذلك تسهل على سواء القراء مطالعة الكتاب، والقسم الأول مجزأ إلى أبواب فالباب الأول عنوانه الآراء الحديثة في المادة، وهو مقسم أيضاً إلى فصول نريد أن نلم هنا بما يسعنا ذكره منها، وفي الأعداد القادمة نسترسل في بسط جميع أبحاثه للقراء:
بدأ الدكتور الكلام في نظرية انحلال المادة فقال إن المادة قابلة للانحلال وإن انحلالها يغيرها إلى أشكال أخرى تفقد فيها كل صفاتها وخصائصها الأصلية. وإن الأدلة على ذلك كثيرة اليوم، ونخص بالذكر جعل ذرات المادة تتفرق وتنبعث بسرعة شديدة تصير الهواء موصلاً للكهرباء، وتحترق كل الموانع التي تقف في سبيلها، ولما لم يكن في القوى التي عرفتها الكيمياء الحديثة ما يستطيع أن يحدث هذا الفعل، ولاسيما الانبعاث الذي تقرب سرعته من سرعة انبعاث الضوء، فقد أخذ العلماء الكيماويون يضعون نظريات عديدة لشرح كيفية ذلك، لفلم تفلح واحدة منها، ولم يقف في وجه كل نقد أو معارضة إلا نظرية تفريق الذرات التي وضعها الدكتور جوستاف لوبون منذ بدأ أبحاث مذهبه الجديد، فهي بذلك قابلة لتصديق الجميع عليها.
وقد مضت أعوام كثيرة منذ أثبت الدكتور عملياً أن المفعول الذي يشاهد في الأجسام التي تسمى المحدثة لفعل الراديوم مثل عنصر الأورانيوم ولم يعرف غيره من قبل من الممكن أن يشاهد في جميع الأجسام المادية وليس هناك تفسير لهذا المفعول إلا أنه نتيجة انحلال ذرات هذه الأجسام، وإن الأجسام المحدثة لفعل الراديوم لا تدل إلا على أن لها درجة في(15/22)
المفعول أكبر من درجة أية مادة أخرى.
وليس معنى انحلال المادة انقسامها إلى أجزاء صغيرة تكون بمثابة ذريرات، بل معناه أن المادة تنحل ذراتها وتنتقل إلى أحوال متتابعة تفقدها خصائص المادة حتى تعود في النهاية إلى الأثير الذي يظهر أنها منه خرجت.
ثم انتقل الدكتور من ذلك إلى البحث عن تلك القوة الكبرى اللازمة لانبعاث الذرات في القضاء بسرعة الضوء فقال إن المادة ليست شيئاً جامداً عديم الحركة لا يمكنه إلا إظهار القوة الصناعية التي تعطى إليه، بل إن المادة تحتوي كنزاً كبيراً من القوة، القوة الكامنة في الذرات!.
ولكن مذهباص مثل هذا يصطدم مع كثير من المبادئ العلمية الأساسية، التي قررت بالإجماع، ولما كان العلماء قد اعتادوا أن يعدوا مبادئ علم الثرمودينامك أي علم العلاقة بين الحرارة والميكانيكا طأنها حقائق مطلقة لا يتسرب الخطأ إليها، ويفهموا أن المادة لا تستطيع أن تملك قوة غير تلك القوة التي تأتي إليها من الخارج، فقد أصر سواد العلماء، ولا يزال بعضهم مصراً، على البحث من الخارد عن مصادر القوة الحادثة من انحلال ذرات المادة، ولن يجدوها بالطبع، لأنها في المادة نفسها وليست خارجة عنها.
وهذا النوع الجديد من القوة - القوة الكامنة في الذرات - لا يعتمد في إثباته الدكتور جوستاف لوبون على النظر ولكن على نتائج تجارب له عديدة، ولئن كانت تلك القوة قد جهلت حتى اليوم، فهي أعظم من كل القوى المعترف بها، بل هي مصدر أغلبها، ولئن كان وجودها لم يعترف به في أول الأمر فقد بدأت اليوم تسير في سبيل التصديق.
وقد خرج الدكتور من تجاربه الكيماوية بالنتائج الحديثة الآتية:
[1] إن المادة التي كان العلماء يتوهمونها لا تفنى، تنعدم ببطء من جراء الانحلال المستمر في الذرات التي تتركب منها.
[2] إن نتائج انحلال المادة مواد هي من خصائصها وسط بين المادة والأثير، أي بين عالمين لا يزال العلم حتى اليوم يفصل بينهما.
[3] إن المادة التي أجمع العلماء على أنها جامدة عديمة الحركة، ولا تستطيع إلا أن ترد القوة الصناعية التي تعطاها، هي على العكس من ذلك هي كنز قوة هائلة تستطيع أن(15/23)
تتوزع من نفسها.
[4] إن من هذه القوة الكامنة في ذرات المادة، الظاهرة من انحلال هذه الذرات، ينتج أغلب قوات الكون ونخص بالذكر الكهرباء والحرارة الشمسية.
[5] القوة والمادة نوعان مختلفان لشيء واحد، فالمادة تمثل نوعاً ثابتاً من القوة الأنتراأتوميك أي الكامنة في الذرات، وأما الحرارة والضوء والكهربائية. . . الخ فتمثل أنواعاً غير ثابتة ولكنها من نفس هذه القوة.
[6] تفريق الذرات وبعبارة أخرى انحلال المادة ليس إلا تحويل النوع الثابت من القوة المجتمعة المتجمدة التي نسميها المادة إلى تلك الأنواع غير المتجمدة المعروفة باسم الكهرباء والضوء والحرارة. . . الخ.
[7] من الممكن إذن تحويل المادة العلمية إلى أنواع مختلفة من القوة ولا ريب إن طبيعة الأشياء هي التي جعلت القوة متجمدة في شكل مادة.
[8] إن توازن القوى الهائلة المتجمدة في الذرات يكسبها صلابة شديدة، ويكفي لتفريق هذه الذرات وانفصالها اضطراب هذا التوازن بواسطة (كاشف) أي مادة تحدث رد فعل يوافقها.
[9] إن الضوء والكهرباء وأغلب القوى المعروفة تحدث من انحلال المادة، ويتبع ذلك أن المادة المتشععة تفقد من تشععها جزءاً من جرمها فإذا تشعع كل طاقتها توارت بكليتها في الأثير.
[10] إن قانون التطور المسنون للمخلوقات الحية هو أيضاً القانون الذي يجري على الأجسام المادية وإن الأنواع الكيماوية لا تختلف في شيء عن الأنواع الحية.
هذه هي النتائج التي استنتجها الدكتور. وقد استطرد بعد هذا الاستنتاج إلى البحث في التغيرات التي تحدثها هذه النتائج في فكرتنا العامة عن حركة الكون، فقال إن مسألة طبيعة المادة وطبيعة القوة هي إحدى المسائل التي استنفذت ذكاء كثير من الفلاسفة والعلماء ولم يظفر أحد بحلها التام، لأن ذلك يتطلب في الحقيقة معرفة السر الأول للمحسوسات وهذه المعرفة لم تجتمع لأحد حتى الآن ولذلك كانت الأبحاث التي يعرضها الدكتور ولا تضمن هذا الحل التام وإنما تؤدي إلى رأي في المادة والقوة مخالف جد الاختلاف للرأي المجمع عليه في هذه الأيام.(15/24)
وقد استنتج الدكتور من بحثه في تركيب الذرة أنها مختزن هائل لقوة متركبة من عناصر اثيرية متماسكة من التوازن بدورات الأجزاء التي تتألف منها جاذبيتها وضغطاتها ومن تباين هذا التوازن تنشأ الخصائص المادة للأجسام من ثقل وشكل ومظهر.
ومن هذا نعتبر أن المادة ليست إلا نوعاً بسيطاً من الطاقة أو القوة، ونضيف إلى تلك القوى المعروفة من حرارة وضوء وغيرها قوة أخرى هي المادة أو القوة الكامنة في الذرات.
فإذا أحدثنا تغيراً في هذا التوازن، وكان هذا التغير شديد السرعة سميناه كهرباء أو ضوء. . . الخ وإذا كان هذا التوازن شديد الثبات سميناه مادة، ولنذهب بعيداً فنقول مع كثيرين من العلماء أن الأجسام المتماسك أجزاؤها من توازن قوى ذراتها تتركب من تموجات متكونة في الثير، ولهذه التموجات شخصية توهم العلماء حتى اليوم أنها أبدية، وما هي إلا وقتية، وإن هذه الشخصية تفني، وهذا التموج يقف في الأثير بمجرد وقوف القوات التي تضمن وجوده عن عملها، وإن الحرارة والضوء والكهرباء هي الخطوات الأخيرة التي خطتها المادة في طريق اختفائها في الأثير، وإذا اختلف جسم عن جسم فلا سبب هناك إلا أن يحوي أكثر أو أقل منه في القوة الذرية الكامنة.
وقال الدكتور بعد هذا أنه يجوز توهم قوة من غير مادة، لأنه ليس هناك ما يدل على أن القوة يجب أن تستند بالضرورة على عون، ولكن هذه الفكرة لا نستطيع أن نصل إليها، وإنما نحن نفهم الأشياء بإدخالها في الدائرة التي اعتدنا أن تمرح فيها أفكارنا، وإذا كنا نريد أن نبلو كنه القوة المحجوبة عنا فمن اللازم انحلالها حتى يتم لنا ذلك.
وقد تخلص الدكتور من ذلك التعاريف الآتية:
إن الأثير والمادة يمثلان جوهرين من نوع واحد، وإن الكهرباء والحرارة والضوء والمادة أدلة على ذلك، وأنها إنما تختلف بعضها عن بعض باختلاف طبيعة التوازن الموجود في الأثير وصلابته.
وكثيرون من العلماء وفيهم العلامة المشهور (فراداي) كانوا يجتهدون حتى الآن في محو فكرة الثنائية بين المادة واللطاقة، وكذلك اجتهد بعض الفلاسفة فقالوا إن المادة لم نلمسها ونحس بوجودها إلا بتوسط قوى تؤثر على حواسنا، ولكن كل هذه الآراء وشبيهتها(15/25)
اعتبرت أنها استنتاج نظري، وعارضهم سواد العلماء فقالوا إنه من المستحيل تحويل المادة إلى طاقة وإن من طبيعة الثانية أن تحرك الأولى وتعمل فيها.
ثم بدأ الدكتور في فصل آخر يتكلم عن نتائج فناء المادة فأعاد قوله ممهداً أن المادة ليست أبدية وأنها تحوي مجتمعاً هائلاً من القوة، وإنها تختفي متحولة إلى قوة أخرى قبل أن تعود إلى ما نسميه العدم، ثم قال إنه يجوز لنا أنا نقول أنه إذا ظللنا عاجزين عن خلق المادة فإنا عارفون على الأقل كيف نعدمها من غير أن يكون لها عودة: وإن الشعار القديم لا شيء يخلق نفسه، ولا شيء يفنى يجب أن يغير بشعار جديد، هو لا شيء يخلق نفسه، وكل شيء يفني.
وقال إن الأهمية النظرية الناشئة من هذه الآراء خطيرة ذات بال فإن آراءه التي يدافع عنها اليوم ويسندها بالحجيج، لم تكن في العصر الذي اهتدى فيه إليها متينة الحجة والدفاع، وقد أمسك كثيرون عن إعلان مبلغ الأساس العلمي الضروري الذي يكفله مذهب بقاء المادة ومن ثم ترى هربرت سبنسر في فصل له عنوانه استحالة انعدام المادة يقول إذا استطعنا أن نتصور أن المادة يمكن أن تصير غير موجودة، كان لزاماً علينا أن نعترف بأن العلم والفلسفة أمران محالان ولا يخفي أن في هذه الجملة شيئاً من المبالغة والمغالاة فإن الفلسفة لم تتكلف يوماً أن تلقي بنفسها في عالم الاختراعات الحديثة، بل إن الفلسفة تتبع هذه الاختراعات، ولكن لا تسبقها.
وليس الفلاسفة وحدهم الذين يصرحون باستحالة نفقد فكرة أبدية المادة، بل كتب منذ سنين العالم الكيماوي باكويه وكان أستاذاً في جامعة الطب بباريس ما يأتي.
لم نر يوماً أن القابل للوزن يريد المادة يتحول إلى غيرها القابل للوزن أي الأثير بل إن عالم الكيمياء بأسره قائم على قانون عدم وجود مثل هذا التحول، أما إذا كان له وجود، فقل إذن السلام على النسب الجبرية الكيماوية!.
ويقول الدكتور رداً عليه أنه مصيب في تخوفه لأنه إذا كان انتقال المادة إلى الأثير شديد السرعة، وجب علينا أن نتخلى لا عن النسب الجبرية للكيمياء وحدها، بل عن النسب الجبرية للميكانيكا معها، ولكن هذه النسب لا تتأثر، لأن فناء المادة يسير ببطء شديد غير محسوس، وإن فقد ما يقل عن واحد من مائة من المليجرام، لا يمكن أن يظهر في كفة(15/26)
الميزان ولذلك لا يحسب الكيماويون له حساباً.
أما الأهمية الحقيقية لمذهب فناء المادة وانتقالها أولاً إلى القوة، فلا تظهر إلا عندما نجد الوسائل التي تساعد على الانحلال السريع، فإذا جاء ذلك اليوم الذي يحصل الإنسان فيه عفواً على مصدر قوة لا نهاية لها، مهيأة لخدمته، فإن العالم ستتغير لاشك معالمه، ولكنا لسنا الآن عند ذلكم اليوم.
وفي الحقيقة ليس لهذه الآراء إلا أهمية علمية بحتة، وستظل في الحالة الراهنة مفتقرة إلى استعمالات كثيرة افتقار الكهرباء في عهد فولتا إلى مثلها.
ومع ذلك فإن أهميتها العلمية كبيرة لأنها تدل على أن محسوسات الكون التي حكم لها العلم بالبقاء والثبوت، ليست في الحقيقة ثابتة ولا قابلة للبقاء.
تعتقد الكيمياء منذ عهد لافوازييه أنها قد أظهرت لنا أنه من الممكن أن نجرد المادة من جميع خصائصها وصفاتها إلا واحدة منها - يعني أبديتها - وأنه من الهين أن نزيل الصلابة والشكل واللون والخصائص. وأن أشد الأجسام صلابة يمكن أن يتحول إلى بخار، ولكن كل هذه التغيرات لا تؤثر على جرم هذه الأجسام، بل يبقى جرمها على ما كان عليه من قبل في الوزن، فكأنه لم يمس.
وعدم تغير الأجرام في المادة هو المسألة الوحيدة المقررة الثابتة في عالم النظريات - ذلك العالم المتحرك المتحول - وهو الذي يجعل الكيماوي والعالم معاً يتبعان المادة في كل تحولاتها كأنها شيء متحرك متحول، ولكن مع ذلك غير قابل للانعدام، وبعبارة أخرى أبدي.
وقد تحاشى العلماء والفلاسفة البحث عن تعريف دقيق صحيح للمادة، لأن عدم تغير جرمها يقف عقبة دون ذلك، وإذا قطعوا النظر عن هذه النقطة الضرورية. فكل ما يستطيعون قوله هو أن المادة هي ذلك العنصر الغامض المتحول الذي تنشأ منه العوالم والمخلوقات التي تعيش فيها.
أما ثبات الجرم أو بقاؤه فراجح الأهمية، لأن عليه ينهض عالماً الكيمياء والميكانيكا.
وقد أضافوا إلى ذلك فكرة أخرى وهي انه لما كانت المادة لا تستطيع أن تخرج بنفسها من جمودها فقد استعين على تحريكها بجوهر مجهول عرفوه باسم القوة. ولذلك فصل علم(15/27)
الطبيعة بينهما حتى اليوم، ولكن العلم الحديث جمع بينهما في اسم واحد هو الطاقة، وهكذا قام على أنقاض المذاهب العتيقة، بعد اجتهاد قرن كامل قوتان كبيرتان، أولاهما المادة وثانيتهما الطاقة لتحريكها.
هذه هي الآراء والنظريات الأساسية الذي ينهض عليها العالم الحديث، والتي تؤدي أبحاث سر تطور المادة إلى تقويض أركانها ونقض دعائمها.
وقد ختم الدكتور جوستاف لوبون الفصل الأول بقوله إذا كان قانون بقاء المادة سيهدم من هذه الضربات التي تزعزع ركنه، كان حقاً علينا أن نقول أن ليس في العالم شيء أبدى، وسيحكم على العلم بالنظر في تلك الآراء التي تعمل في كل المحسوسات، وهي النشوء والنمو والانحطاط والموت. . .
هذا هو العلم يضع يده في يد الدين، ويشهد له في مسألة ذات مكان وخطورة عندهما، وليطمئن علماء الدين، ولتقر أعينهم وليمضوا في دينهم مضي العلماء في علمهم، فإن الدين والعلم دائرتان مشتركتان في المركز، وذلكم المركز المشترك هو الحق.(15/28)
تاريخ النزاع بين العلم والدين
من بين أنصار الإسلام من الفرنجة - وكثيرهم - والشهور العدول على تقدم العرب وسبقهم الغرب في تأسيس بناء المدينة الحديثة واكتشاف أغلب العلوم المصرية، فيلسوف أميركي طائر الذكر بين أمريكا وأوروبا والشرق، وهو الفيلسوف دريبر صاحب ذلك الكتاب الخالد وهو تاريخ النزاع بين العلم والدين الذي طالما استشهد به أستاذنا الإمام محمد عبده رضي الله عنه في دفاعه عن الإسلام وردوده على منكري فضله، وكان لذلكم الكتاب أثر كبير في البلاد الغربية وطبع نحواً من ثلاثين مرة، وقد دافع فيه المؤلف عن الإسلام، وشهد بأسبقية العرب، وفي الكتاب فصول جليلة شائقة في منشأ العلم ومنشأ المسيحية، والنزاع بين العلم والدين في مسائل الروح وعمر الأرض وطبيعة العالم وقانون الكون، والمسيحية وعلاقتها بالتمدين الحديث. وكذلك علاقة العلم به، والأزمة الدينية المتوقع حدوثها في أوروبا وهو آخر مباحث الكتاب.
ونحن نقتطف اليوم الفصل الخاص بالعلم وعلاقته بالمدينة الحديثة، وسننقل إلى قراء البيان كل فصول هذا الكتاب القيم، في كل عدد فصل يكون كأنه موضوع مستقل.(15/29)
العلم وأمريكا
إذا كنا نجد في تاريخ أوروبا في عصر إصلاحها الديني آثار العوامل التي أحدثتها المسيحية الكاثوليكية لرقي المدينة وتقدمها، فإن في تاريخ أمريكا إذا نحن خبرناه اليوم آثاراً كثيرة من آثار العلم.
في مدن القرن السابع عشر أقبل شتيت من الفرنجة وشراذم من أهل الغرب يستوطنون الساحل الغربي للمحيط الأطلانطي، فأما الفرنسيون ففتنتهم أسماط نيوفوندلاند وحيتانها فاتخذوا لهم مستعمرة صغيرة شمال نهر سانت لورانس، وأما إخوانهم الإنجليز والهولانديون والسويديون فاحتلوا ساحل القسم المعروف بإنجلترا الجديدة وفي الولايات الوسطى، وأقام قوم من الهوجينوت في ولايات الكارولينا وأهطع جمع من الأسبان إلى شبه جزيرة فلوريدا أثر إشاعة مفادها أن هناك عيناً تكسب الشارب منها الشباب المقيم.
وكان وراء تخوم تلك القرى التي بناها أولئكم الجوابون أرض واسعة مجهولة يسكنها قوم من الهنود شأنهم التجواب والتجوال، ولم يكن يزيد عددهم من خليج المكسيك إلى نهر سانت لروانس عن مائة وثمانين ألفاً، ومنهم علم أولئك الأوروبيون أن في تلك الأقاليم النائية بحيرات ذات ماء عذب، ونهراً عظيماً يسمونه الميسيسيبي ومنهم من قال أنه يجري في إقليم فرجينيا إلى المحيط الأطلانطي، وقال آخرون أنه يشق شبه جزيرة فلوريدا، وقال غيرهم أنه يدفع إلى المحيط الهادي، واعتقد البعض أنه يدفع إلى خليج المكسيك.
وكأنما هؤلاء المستعمرة إذ خرجوا من بلادهم، وفصلهم المحيط العاصف المزبد، وقطعوا في اختراقه أشهراً عدة، فقد فقدهم العالم، وأضاعتهم معارف الأرض.
على أنه لم يكد ينتهي أجل القرن التاسع عشر حتى أصبح نسل أولئكم المستعمرة الضعفاء قوة من أعظم قوى الأرض.
أسسوا جمهورية جمع سلطانها بين المحيطين. وهزموا مهاجماً من عصرهم، ومحارباً من أهليهم، بجيش يبلغ عديده أكثر من نصف مليون رجل، لا على الورق، بل ساحة الحرب، وميدان القتال، وأجروا في البحر ما يقرب من سبعمائة من جواري الحرب تحمل خمسة آلاف مدفع منها ما هو أثقل مدافع الأرض وزناً، وتبلغ حمولتها نصف مليون طن، ولقد صرفوا في سبيل الذود عن حياتهم القومية في أقل من خمسة أعوام ما يربي على أربعة ملايين من الريالات، وقد ظهر من تعدادهم أنهم يزيدون بمقدار الضعف في كل خمسة(15/30)
وعشرين سنة فلا جرم إذا توقعنا أن يصبح عدادهم في نهاية هذا القرن نحو من مائة مليون.
لقد استحالت تلكم الأرض الساكنة إلى أرض صناعية كثيرة الجلبة والضوضاء، وأصبحت تدوي بأصوات الآلات وتضج بحركات العمال والرجال، وتبدلت الغاية الكثيفة بمئات المدن، وتحولت الأجمة الملتفة بعشرات البلدان، وكفلت للتجارة المقادير الوافرة من الأقوات والمحصولات مثل القطن والتبغ والمأكولات، وأخرجت الأرض أثقالها من الذهب والفحم والحديد، وجمعوا إلى هذه القوة المادية قوة أخلاقية فأنشئت الكنائس، وأقيمت المعاهد، وفتحت المدارس ومدت السكك الحديدية. وفاقت في طوله أطول خطوط أوروبا جميعاً إذ بلغ في سنة 1873 مجموع طول سكك حديد أوروبا ثلاثاً وستين ألفاً وثلاثمائة وستين ميلاً. على حين أن قد بلغت في أمريكا سبعين ألفاً وستمائة وخمسين من الأميال. ولقد وصلت سكة واحدة منها بين المحيط الأطلانطي والمحيط الهادي.
ولا ينبغي أن نقتصر على التنويه بهذه النتائج المادية بل هناك نتائج أخلاقية تلفت الأبصار. فقد أطلقوا سراح أربعة ملايين من الزنوج. وأخرجوهم من أسار الرق والاستعباد وإذا كانت القوانين الأمريكية تجنح إلى خدمة طبقة من الطبقات فهي طبقة الفقراء إذ أرادت أن ترفعهم من فقرهم وتحسن حالهم. ومن ثم تمهدت للنبوغ كل سبيل وذل كل شيء أمام العلم والجهد. ولقد شغل أعظم الوظائف رجال نهضوا بأنفسهم من أحقر مراتب الحياة وأسفل درك العيش. وإذا كانوا قد فقدوا المساواة الاجتماعية. إذ لا تتفق المساواة الاجتماعية للجماعات الغنية. فقد اعتاضوا عنها بالمساواة المدنية.
وقد يقول قائل إن هذه السعادة نتجت من أحوال خاصة إذ لم يتوفر مثلها لعشب قبلهم. ونديب لقد كان هناك عالم فسيح ممهد للعمل. وقارة بأسرها ذلول لمن يريد امتلاكها لا تطلب إلا الكد والناس للتغلب على قوى الطبيعة والاستحواذ علي ثمرات هذا التغلب.
ولكن أليس من اللازم أن يكون هؤلاء القوم على مبدأ عظيم وهم يحولون المجاهل الساكنة إلى مقام للمدينة، ويمشون في تلك المناكب لا تروعهم مظلمة الغابات ولا الأنهار ولا الصحارى ولا الجبال، ويدفعون على سبيل الفتح في مدى قرن واحد فيصلون بين الأوقيانوسين، ويمتلكون ما بينهما امتلاكاً؟.(15/31)
دعنا نقارن هذه النتائج بنتائج فتح الأسبان بلاد المكسيك وبلاد بيرو فقد هدم الأسبان في هذين البلدين بناء مدينة عجيبة، كانت في كثير من الوجوه أعلى من مدنيتهم قدراً وأسمى، مدينة اكتملت بغير الحديد، وتمت دون البارود، مدينة نهضت بالزراعة التي لا يعينها جهد الجواد ولا الثور ولا المحراث.
لقد دخل الأسبان هذين البلدين من غير حرب ولا قتال، ولم يعقهم دون الفتح عائق، ولكنهم هدموا كل ما شاد أهلوهما، وطاحوا بملايين منهم، وقذفوا في لجة الفوضى بأمتين عاشتا قديماً في ظل الرضى والرخاء وتحت حكومة شهد تاريخهما بأنها ألزم لهم وأوفق حالاً، وروجوا بينهما الأوهام، ونشروا الخرافات، وانتقل ملكهم وأنعمهم وخيراتهم إلى حوزة الكنيسة الرومانية!.
هذا مثال من أمثلة تأثير العلم أخذته من تاريخ أميركة، ولم أشأ أن أختار مثله من تاريخ أوروبا، لأن هذا المثال يصور لنا قيمة المبدأ العملي الحر الذي لا تخالجه حال لا ضرورة لها وقبل البحث في تأثير العلم ونتائجه، أريد أن آتي هنا بكلمة مجملة في تاريخ دخول العلم أوروبا.(15/32)
تاريخ العلم في أوروبا
لم تقتصر الحروب الصليبية على جلب طائل الأموال إلى روما، تلك الأموال التي كانت تدفعها كل أمة مسيحية من خوف أو من تقي. بل كانت تزيد في سلطة البابا ونفوذه إلى حد كان شديد الخطر. وقد تغلبت السلطة الروحانية على أختها السياسية في كل مملكة من ممالك الغرب. وانزوت السلطة السياسية وأصبحت خادمة للأولى. وكان يفيض على روما من كل فج ومكان جداول من الذهب. وينابيع من المال. ومن ثم وجد الملوك والأمراء السياسيون إنهم لم يبق لهم من خير ممالكهم إلا الدخل النزر الطفيف. فرأى فيليب الجميل ملك فرنسا في عام 1300 من مولد السيد المسيح أن يمنع خروج هذه الأموال الطائلة من مملكته. وذلك بتحريم تصدير الذهب والفضة من البلاد الفرنسية دون ترخيص منه. ولم يقف اعتزامه عند ذلك بل أجمع على أن يجعل طبقة الكهنوت تدفع إليه الأتاوات والضرائب. فقام من جراء ذلك بينه وبين البابا حرب طاحنة. إذ حكم عليه البابا بالطرد من الكنيسية ولكي يكيل الملك له بكيله اتهم البابا بونيفاس الثامن بالالحاد، وطلب أن يتألف لمحاكمته مجلس عام، وأنفذ عصبة من رجاله الأوفياء إلى إيطاليا، فقبضوا على البابا وهو في قصره بأنا جني، وعسفوه عسفاً شديداً عجل بموته، وخلفه على كرسيه بنديكت الحادي عشر فلم يمض عليه إلا الزمن اليسير حتى مات مسموماً.
وعزم الملك فيليب علي أن يتقي الباباوية ويصلح فاسدها حتى لا تصبح بعد ذلك نهباً مقسماً بين بعض الأسرات الطليانية التي كانت في ذلك الحين تصوغ من دين أوروبا وتخرج من عقيدتها ذهباً وهاجاً، وأجمع أمره على أن يكون لفرنسا في هذه السلطة نصيب، ومن ثم صلحت ذات البيت بينه وبين كرادلة الباباوية، وارتقى أسقف من الفرنسيين إلى منصب رئيس الكهنة وغاب عليه اسم كليمنت الخامس، ونقل بلاط البابا من روما إلى أفينيو في فرنسا، ولم تعد روما حاضرة المسيحية.
ومضى بعد ذلك سبعون عاماً قبل أن تعود الباباوية إلى روما المدينة الأبدية، وكان ذلك في سنة 1376، وأن تقلص سلطاتها في إيطاليا أفسح المجال لنهضة فكرية مشهودة، ظهرت معالمها في مدن شمال إيطاليا التجارية وحدث في ذلك العهد أحداث أعانت على تقدم هذه النهضة. فإن خاتمة الحروب الصليبية قد أضعفت الإيمان بالمسيحية والركون إليها. إذ كان نتاجها التخلي عن الأرض المقدسة. أي أورشليم وأرباضها وتركها في أيدي العرب. ولقد(15/33)
رجع من وطيس القتال آلاف المسيحيين فلم يترددوا في الشهادة لأعدائهم العرب. بأنهم ليسوا كما صورتهم الكنيسة ووصفهم أحبارها وكهانها. وإنما هم قوم مساعير حرب كرماء عدول. وانتشرت في جنوب فرنسا ومدنها المشرقة الزاهية. أريحية للأدب. وخفة للقصص الغرامية. أعان عليها أغنية الرحالة. وشجعتها نشائدهم. ولم تكن أغانيهم مقصورة على التشبيب والنسيب والبطولة والمعامع والحروب. بل كثر ما احتوت وصف المنكرات والفظائع التي كان رجال البابا وصنائعه يرتكبونها مثل المذابح الدينية التي وقعت في لانجويدوك. بل كثر ما قصدت إلى تمثيل المحرمات التي كان الكهنة يحتقبونها. من عشق غير مشروع. وصبابة غير مسموحة. وأخذت الفروسية والبطولة عن أسبانيا. وجاء معهما تلكم الفكرة النبيلة والعاطفة المحمودة. ونعني بها كلمة الشرف الذاتي التي قدر لها دهراً أن تستن لنفسها قانوناً في أوروبا.
ولم تكن رجعى الباباوية إلى روما ليرد لها سلطانها في شبه جزيرة إيطاليا. بل مضي جيلان على انتقالها ولم تسترجع بعض نفوذها ولو كانت قد عادت إلى حاضرتها الأولى بقوتها الأولى وبأسها السابق لما استطاعت أبداً أن تحارب تلك النهضة الفكرية التي كانت آخذة في التقدم في غيابها ولم ترجع الباباوية إلى روما لتحكم بل لتنقسم على نفسها، وقد خرج من هذه الضائقة وهذا الخلاف باباوان مزاحمان، وخرج إليهما ثالث يريد المنصب لنفسه وطفق كل منهم يطلب حقه ويسال منصته، ويبهل الآخر ويلعنه فأثار ذلك في أوروبا شرقها وغربها سخطاً عاماً وغضبة مسيحية وإجماعاً على إنهاء هذه المآسي المعيبة والمناظر الشائنة وتساءل المسيحيون كيف تصدق فكرة قبول قسيس لله على الأرض بل كيف تصدق فكرة بابا معصوم لا يخطئ ولا يأثم وهذه المضحكات المنديات، ولذلك عزم أشد رجال الدين قوة وبأساً على تأليف مجلس عام يكون هو المجلس الديني القائم على شؤون أوروبا بأجمعها ويكون البابا رئيسه المنفذ لقوانينه وأحكامه ولكن هذا الرأي لم يحقق ولو فعلوا لما كان حتى اليوم نزاع بين العلم والدين ولما نتج الإصلاح الديني ولما كان هناك شيع البروتستانت وشنشنتهم ولكن المجلس الذي عقد في كونستانس من أعمال سويسرا والمجلس الذي قام أيضاً في مدينة بازل لم يفلحا في تقويض سلطات البابا ولم ينجحا في الإتيان بهذه النتيجة المرضية.(15/34)
وكذلك كانت الكاثوليكية في ضعف وتقهقر، وكلما رفع تأثير ضغطها، وانتزع منها بعض سلطانها، كان النبوغ الفكري في ارتقاء وظهور، وحوال ذلك الحين كان العرب قد اخترعوا طريقة صنع الوق من إطمار النيل وأخلاق القطن. وكان البندقيون أهل فينسيا قد نقلوا إلى أوروبا فن الطباعة من الصين. وكانت ضرورية لاختراع العرب. ومن ثم أصبح بين العالم تبادل فكري عام. لا يقف في سبيله عائق أو رصد. ولقد كان اختراع الطباعة ضربة قاضية على الكاثوليكية. وكانت من قبل تنعم بفائدة كبرى لا تقدير لها. وهي احتكار كل صلة بين الناس وكل تبادل. إذ كانت تنفذ من مقر أمرها في روما كل ما تسن من شريعة وتأمر من أمر إلى رجالاتها وصنائعها. وهؤلاء يدفعون بها إلى الناس من فوق المنابر ولكن جاءت المطبعة فأفقدتها هذا الاحتكار، وهدمت منها كل سلطة، وضاع في هذه العصور الحديثة تأثير المنابر، واستعيضت الصحيفة عن المنبر، ولكن الكاثوليكية لم تشأ أن تدلي بنعمتها القديمة دون حرب ونزاع، ولم ترض أن تنزل عن احتكارها دون مقاومة وقتال، بل لم تكد تكتشف عقبى ذلك الفن الجديد فن الطباعة حتى حاولت أن تضع له حداً، وتنشئ عليه رقابة، فوضعت قانوناً يقول بعدم جواز طبع كتاب دون ترخيصها، ومن ثم كان لزاماً على كل مؤلف أن يقدم كتابه إلى الكهنة فيقرؤه ويختبروه ويروا فيه رأيهم، وكان يجب أن يشهدوا له بأنه كتاب ديني قويم، وأصدر الباب اسكندر السادس سنة 1501 أمراً بحرم أصحاب المطابع الذين يطبعون التعاليم النكراء، وأمر المجس العام في عام 1515 بأن لا يطبع من الكتب إلا ما اختبره النقاد الدينيون، والأعوقب الطابع بالحرم والتغريم وقد وصى النقاد بأن يعنوا العناية الكبرى بأن لا يسمحوا بطبع كتاب يخالف الدين القديم وكذلك كانوا يرهبون كل بحث ديني ويخافون أن يخرج إليهم الحق من معتزله.
ولكن ما كانت قوي الجهل ومقاومته للحفق لتظفر بالغلب بعدما كفل الناس بينهم وسيلة للتبادل الفكري وهكذا انتهى الصراع وخرجت للعالم الصحف العصرية ولكنها لم تكن بادئ بدء حرفة قوم كثيرين وإن المجتمع الحاضر يرجع ارتقاءه ومزاياه إلى هذا التغير.
هذه هي نتيجة نقل صناعة الورق وفن الطباعة إلى أوروبا وكذلك كان إدخال بيت الإبرة أوروبا إذ تبعه كثير من النتائج المادية والأدبية وهي: كشف أميركا على أثر المنافسة التي قامت بين أهل فينسيا وأهل جنوه على تجارة الهند واجتياز داجاما ساحل الكاب وبلوغه(15/35)
الهند من طريق ساحل أفريقيا ودوران ماجلان حول الأرض في سفينته فيكتوريا وعلى ذكر هذه النتيجة الأخيرة وهي أعظم عمل في تاريخ الإنسان نقول إن الكاثوليكية كانت تعتقد اعتقاداً لا رجوع عنه ولا رد له إن الأرض مسطحة والسماء مهاد الجنة والجحيم في العالم الأسفل وقام بعض رجالاتها ممن لهم المكان الأسمى فأتى بحجيج فلسفية دينية يرد بها على فكرة كروية الأرض ولكن انتهى النزاع فجأة اليوم ووجدت الكنيسة نفسها على خطأ.
ولم تكن هذه وحدها النتيجة الكبرى التي تبعث تلك السياحات الثلاث بل أن روح كولومب وداجاما وماجلات سرت بين رجال الغرب وأبطاله وكانت الجماعة الإنسانية تعيش حتى ذلك العهد على ذلك المبدأ القائل: الإخلاص للملك والطاعة للكنيسة وبذلك كانت تعيش لغيرها لا لنفسها وكان أثر هذا المبدأ قد جر على الجماعات تلكم الحروب الصليبية وطاحت هذه الحروب بآلاف لا عديد لهم من قوم لم تكن لتكسبهم كسباً أو ترد لهم ربحاً بل كانت عقابها الهزيمة الكبرى والخيبة الواضحة وقد دلت التجارب على أن الرابحين منها هم الكرادلة والأحبار والكهان في روما والسفانون في البندقية، ولكن لما رأى الناس خير بلاد المكسيك وثراء أرض بيرو وبركة الهند، وعلموا أن لكل إنسان أوتي حظاً من البطولة والبأس أن يدلي فيها دلاءه ويفوز منها بقسمه، لم تلبث أن تغيرت الدواعي التي تحرك الغريبين وتستنيرهم، إذ وجدت قصة كورتيز وأخيه بزار وأريحية المستمعين في كل مجلس وندوة، وهكذا غلبت الأريحية البحرية الحمية الدينية القديمة.
وإذا كنا نريد أن نستخرج المبدأ الذي قامت عليه كل التغيرات التي حدثت في المجتمع بعد ذلك؟ لم يكن ذلك من الصعب علينا، فقد كان كل إنسان يحبو من هو أعلى منه بكل مجهوداته، ولكنه أجمع منذ ذلك الحين على أن يتنعم هو وحده بثمرات عمله، وهكذا نهضت الشخصية، وتوارى الإخلاص للملك ولم يعد بعد إلا عاطفة حسية، أما عن الدين فدعنا ننظر ماذا ألم به.
إن الشخصية تنهض على مبدأ أن الإنسان سيد نفسه. وإن له الحرية في تكوين آرائه ومبادئه، والسراح في إنجاز كل ما يريد، ومن ذلك فهو أبداً في منافسة وتسابق مع بني جنسه وما حياته إلا بمظهر من مظاهر القوة.(15/36)
وإن نقل حياة الغرب من ذلك الركود الذي أسنت فيه زهاء قرون وأجيال وأحياء مواتها وإدخال مبدأ الشخصية عليها هو تحريضها على نزاع يقوم بينها وبين المؤثرات التي كانت تعمل فيها وتظلم لها ولقد مر القرن الرابع شعر وولي على أثره القرن الخامس عشر فقامت فيهما منازعات ومناوشات كانت عنواناً على ما أتت به الأيام ونبوءة لما وقع من الأحداث بعد ذلك حتى إذا كان القرن السادس عشر في أوائله أعنى حوال عام 1517 نشبت الحرب الكبرى وقامت الموقعة المأثورة إذ تجسم مبدأ الشخصية في راهب جرماني صلب العود رابط الجأش وأعلن حقوقه في شكل ديني وكان منحاه هذا ضرورياً في بادئة الأمر وقامت إذ ذاك منازعات في مسألة بيع المغفرة وغيرها من المسائل التافهة ولكن لم يلبث أن وضح الصبح لدي عينين وعرف السبب الجوهري الداعي إلى هذا النزاع وهو أن مارتن لوثر أبى أن يفكر كما أمر رجال الدين ورفض أن يرضى بآراء أحباره وكهانه وأصر على أو له حقاً قائماً لا حول عنه وهو تفسير الإنجيل لنفسه.
ولم تر روما في مارتن لوثر إذ ذاك من النظرة الأولى إلا راهباً سوقه ضعيفاً صخاباً، لا خشية منه ولا أذى، ولو استطاعت محكمة التفتيش أن تقبض عليه يومئذ لانتهت منه ومن صخبه، ولكن مضى النزاع واستمر الخلاف، ورأت الكنيسة أن مارتن لوثر ليس واقفاً إزاءها وحده بل أن وراءه آلافاً من الرجال، لهم عزيمته وثباته، كلهم وقف على عونه ونصرته فهو يمضي في القتال بقلمه وكلمه، وهم يؤيديون آراءه وينصرون مبادئه بحد المشرفيات وغرب السيوف.
وقد انهال على مارتن لوثر من أفواه رجال الدين صيب من المثالب والشتائم كانت من كثرتها مضحكة. إذ قالوا أن أباه لم يكن زوج أمه بل عفريت مسيخ فسق بها، وإن مارتن مضى في حرب مع ضميره عشرة أعوام صار بعدها زنديقاً كافراً، وأنه ينكر خلود الروح. وإنه نظم في التغني بالسكر والخمر أغنيات وأناشيد، إذ كان بهذه المأثمة مولعاً، وأنه يسب الكتب السماوية. ويفرد كل السباب لموسى وأنه لم يكن يعتقد كلمة واحدة مما كان يخطب به الناس. وفوق ذلك إن الإصلاح الذي ينويه ليس من عمله وإنما من تخرص منجم. ولقد شاع على ألسنة أحبار روما أن أراسماس وضع بيضة الإصلاح ولوثر تقفها.
ولقد وهمت روما بادئ بدء في ظنها أن لا شيء في تلك الحركة إلا ضجة عرضية ما(15/37)
تنشب أن تزول. وغاب عنها أن ترى أنها في الحقيقة خاتمة حركة داخلية كانت تعمل وتسري مدى قرنين في قلب أوروبا وتجمع لها في كل ساعة قوة وظهيراً. ولم تفكن إلى أن وجود ثلاثة باباوات يتبعهم ثلاث شيع يكره الناس على التفكير لأنفسهم. ويعلمهم أن هناك قوة أسمى من قوة البابا وأشد ركناً ومن ثم ما نشب أن قامت حروب ووقائع كان ختامها معاهدة ويستفاليا. ونزعت بذلك الممالك التي في شمال أوروبا ووسطها عنها الاستبداد الفكري الذي كان لروما عليها، وفكت الأسار الذي كانت تتقيد به أذهانها، وتقرر كذلك مبدأ الشخصية، وأسس حق الناس في حرية التفكير.
ولكن لم يستطع هذا المبدأ ولا الحق الذي أسسه أن ينفرا عن الكاثوليكية، ولما كان حزب البروتستانت لم يقم إلا بالنزاع والانفصال وجب أن يأخذ دوره منهما، ولذلك خرجت منه شيع وفرق. ورأت هذه الفرق أن لا خوف عليها من عدوها الأزرق يريد روما أن بعبارة أخرى الكاثوليكية فبدأت تضرم نار الخلاف بينها، وكان من ذلك أن جعلت كل طائفة منهم تنهض بالسلطة ثم تتدهور، لتأخذ مكانها طائفة أخرى، حتى حدث من هذا التقاتل مظالم وفظائع كثيرة أدت في خاتمة الأمر إلى التسليم بمبدأ التسامح الديني، ولكن التسامح ليس إلا حالاً وسطاً، وما دامت البروتستانتية سائرة في ذلك الانقسام الفكري فإنها ستصل إلى حال أسمى وأعلى شأناً، إلى ذلك الغرض الذي ترمي به الفلسفة في كل عصر من عصور التاريخ، ونعني به تلك الحالة الاجتماعية التي تتنعم من حرية التفكير بنصيب لا تحويل له ولا انقطاع.
والتسامح، إن لم يكن عن رهبة أو خوف، لا يأتي إلا من أولئك الذين يشعرون إنهم قادرون على قبول آراء غيرهم واحترامها. ولذلك كان التسامح نتاج الفلسفة وقد علمنا التاريخ أن التعصب الديني يضرم ناره، ولا يطفئها إلا الفلسفة.
ولم يكن غرض الإصلاح الديني إلا أن يذهب عن المسيحية تلك الآراء والأعياد الوثنية التي أدخلها عليها قسطنطين وخلفاؤه، إذ أرادوا أن يصلحوا بينها وبين الدولة الرومانية، وما كان غرض البروتستانت إلا أن يرجعوا بها إلى نقائها الأول، ومن أجل ذلك خلصوا بها من مثل عبادة العذراء وشفاعة القديسين.
وأقبل أدب العرب على المسيحية من طريقين، جنوب فرنسا، وصقلية، وجاء على أثره(15/38)
علومهم، فكان لها من غياب البابا في أفينيون وحركة الإصلاح، فرصة سانحة، جعلتها تستقر في إيطاليا، وجاءت فلسفة أرسطو أو الفلسفة الاستنباطية مرتدية شملة عربية خلعها عليها ابن رشد، فاتخذت لها في السر أعواناً كثيرين، وفي الجهر أتباعاً ليسوا بالفئة القليلين. ووجدت أذهاناً تائقة إلى قبولها ومن بين هؤلاء الأعوان ليناردو دافنشي الذي نادى بذلك المبدأ الأساسي وهو أن التجربة والنظر هما الأساس الثقة في تحليل العلوم، وإن التجربة هي العمدة في تفسير أسرار الطبيعة، وهي ضرورية لتحقيق القوانين العلمية.
حتى إذا اطمأن بالعلم القرار في شمال إيطاليا لم يلبث أن بسط نفوذه في جميع أرجائها ونواحيها، وأخذ أعوان العلم وأنصاره يزدادون بازدياد تأليف المجامع العلمية وتكاثرها، ونحواً في إيطاليا نحو المغاربة في إسبانيا فألفوا مجامع لهم تشبه مجامع قرطبة وغرناطة ولتجدن مجمع طولوز الذي قام في سنة 1345 باقياً في فرنسا حتى يومنا هذا، كأنما ليكون دليلاً ناهضاً على السبيل التي جاءت المدينة منها، وكان هذا المجمع يمثل دولة الأدب الزاهية التي كانت قائمة في جنوب فرنسا، وأسس في مدينة نابلى أول مجمع لترقية العلوم الطبيعية، وكان مؤسسة العالم بورتا ولكن انفض هذا المجمع طوعاً لأوامر الكنيسة، وأقام البرنس فردريك ده سيزي في روما جمعية سماها جمعية الفهد، ويدل على غرضها شارتها، وهي فهد رافع عينيه إلى السماء، وهو يفتك بين مخالبه بكلب ذي ثلاثة أرؤس وقام في سنة 1657 مجمع في فلورنسا كان ينتدى أهله في قصر دون فلورنسا نفسه، ولبث عشر سنين فأمرت حكومة البابا بتعطيله فعطل، ولكن رفع أخو الدوق إلى مرتبة الكردينال تعويضاً لأخيه، وكان في هذا المجمع كثيرون من علماء ذلك العصر مثل توريسللي وكاستللي، وشروط الانخراط في سلك المجمع أن ينزع طالب الدخول كل عقيدة أو دين ويعتزم البحث عن الحقيقة، وقد أخرجت كل هذه المجامع كثيرين من العلماء من المعتزل الذي كانوا مخلدين إليه، ووصلت بينهم وقوت رابطتهم وأزكت فيهم هذه الرابطة نار القوة والعزيمة.
هاتان كلمتا الفيلسوف دريبر في تأثير العلم في أمريكا وتاريخ دخول العلم بلاد العرب، وسنبسط للقراء كلامه في تأثير العلم من الوجهتين الفكرية والاقتصادية في العدد القادم إن شاء الله.(15/39)
كشكول البيان
تفاريق علمية. وأدبية. وفكاهية. وتاريخية: ونظرات في سير مشهوري العلماء. والمخترعين: وشذرات في أخبار العالم وأحداثه الحاضرة.
أيها البحر
اللورد بيرن أكبر شعراء الإنكليز في القرن التاسع عشر وله قصيدة اسمها (تشايلد هارولد) من أبدع ما جادت به قريحة شاعر وفي هذه القصيدة قطعة رائعة يخاطب بها البحر آثرنا نقلها إلى العربية وهي هذه.
أيها الأزرق الرجراج جش كما تشاء، وتدفع في وشى الحباب، فعبثا تعلوك الأساطيل في عددها العديد، إنها لن ترك بك أثراً. إنما على وجه الصعيد يمرح الإنسان، وفوق الثرى يترك الرسوم والأطلال آيات علا مساعيه والمآثر. ودلائل على معاليه والمفاخر. ويترك الأربع الخاوية. والدمن العافية.
لا يدري البلا فيها سطور مبينه ... عبارتها أن كل بيت سيهدم
ولكن سلطانه عند شاطئك محدود. وعن حرمك المنيع مردود ومصدود.
أيها البحر! على قفارك السيالة وبطاحك اللجية جل فعلك التحطيم والأغراق وفي جوفك الرغيب وصدرك الرحيب، جل آثار البشر أنقاض سفين. وأشلاء مسكين، ثم لا يبقى عليك من مطامع الإنسان ومفاتكه ظل ولا شبح إلا خياله، إذ يطفو في لجك الفوار ويرسب برهة ثم يهوى في ظلماتك الحالكة له زفرة تحت أروقة الماء راغية. هنالك يثوى لا جدث ولا صلاة ولا كفن ولا جنازة ولا آية ولا أثر.
لا مضطرب للإنسان على ظهرك، ولا متصرف له في مناحيك، ولا حماك بمستباح له ولا مطاك بمذلل، ولا سوحك بمرتع، ولا عرضاتك بمعرح، وليس من ميادينك يستفيد الغنائم ويأخذ الأسلاب. يأبى ذلك أنفك وحميتك وسورة لك كسورة الأقعوان الصل والضيغم الضايرم. يجرأ عليك الإنسان ويبسط القدم في سبلك وتغره من وجهك الطلق ابتسامة وضاءة فيراه في مأمن حتى إذا رنح الزهر عطفيه، ولوى التيه ليتيه، ترث به فنفضته عنك كما ينفض الليث البعوض عن لبده. محتقراً منه تلك السطوة التي يفسد بها الأرض ويسطو بها، على البر كلما أقدم عليك وظن أنه قد استمكن من صهوتك هجت عيه فحذفته(15/41)
من فوق ظهرك كما يحذف الوتر سهمه تضرب به جبهة السماء وإنه ليرتعد في دفاعك الطماح. ويرعش ويرتجف في آذيك الممراح. ثم يهوى فتتلقاه على أعناق موج كالجبال وترمي به البر جثة هامدة. وجمرة خامدة.
إن الأساطيل التي ترمي بالصواعق كل حصن حصين ومعقل منيع فتزلزل بالأمم الطاغية. وتزعزع من الشعوب العاتية. وتطفر أحشاء الملوك على عروشها. وتطير ألباب الصناديد في جيوشها. هذا المدائن الحديدية التي تغر صانعها حتى يسمى نفسه أميراً عليك. ما هذا أيها البحر إلا لعبك تذوب. كأنها أفلاذ الجليد في تيارك المزبد متلف الأرمادا ومبيد الجواري المنشآت في ترافلجار (الطرف الأغر).
هذه سواحلك هل كانت إلا دولاً كباراً فزالت وأنت باق لم ت
من فوق ظهرك كما يحذف الوتر سهمه تضرب به جبهة السماء وإنه ليرتعد في دفاعك الطماح. ويرعش ويرتجف في آذيك الممراح. ثم يهوى فتتلقاه على أعناق موج كالجبال وترمي به البر جثة هامدة. وجمرة خامدة.
إن الأساطيل التي ترمي بالصواعق كل حصن حصين ومعقل منيع فتزلزل بالأمم الطاغية. وتزعزع من الشعوب العاتية. وتطفر أحشاء الملوك على عروشها. وتطير ألباب الصناديد في جيوشها. هذا المدائن الحديدية التي تغر صانعها حتى يسمى نفسه أميراً عليك. ما هذا أيها البحر إلا لعبك تذوب. كأنها أفلاذ الجليد في تيارك المزبد متلف الأرمادا ومبيد الجواري المنشآت في ترافلجار (الطرف الأغر).
هذه سواحلك هل كانت إلا دولاً كباراً فزالت وأنت باق لم تزل أيها البحر وهل كانت إلا ممالك فطاح بها الدهر وأنت ثابت، وأودى بها البلي وأنت في أولاك وآخرتك الغض الجديد. وماذا كانت أشوريا ويونان وروما وقرطاجة إلا بعض سواحلك أفدتها المجد والقوة. وأورثتها اليأس والفتوة أيام حريتها. ومنحت فاتحتها السلطة والجبروت أيام أسرها. ورقصت أمواجك طرباً على أعطاف هذه الدلو إبان عزها ونضرتها، وبكت أمواهك على لبانها يوم ذلها ونكبتها.
ثم بادت كأنها ورق جف ... ف فأودت به الصبا والدبور
وحول فناؤها العمران خراباً. وبدل عقاؤها المخصب العشيب يبايا. ولكن هيهات منك ذلك، ويا بعد ما بينك وبين التحول والتدبل، ولا سبيل عليك للتغير إلا ما يكون من تقلب موجك القلق الرجاف، وتكسر متنك المرج الوجاف. وإن الزمن الذي لا يترك جبيناً حتى بغضه لم يجد تغضين جبينك اللازوردي سبيلاً. فأنت اليوم مثلك يوم بدء الخليقة.
أيها البحر. إنك المرآة العظيمة تتجلى فيها قوة الخالق عواصف وزوابع. لانت تمثال الأبدية وصورة الخلود وعرش الله في كل زمان ومكان ساكناً أو ثائراً تحت النسيم العليل، أو الصرصر العاتية، لدى القطبين منجمداً أو عند خط الاستواء فائرا. أنت الفسيح بلا حد الممتد بلا نهاية. تطيعك الأقاليم وتدين لأمرك المناطق. متدفق الأمواه هائم التيار مرهوباً مخوفاً منفرداً وحيداً.
أيها البحر لقد أحببتك طفلاً ويافعاً ورجلاً. وإن علي صدرك الحنون كانت ملاهي طفولتي(15/42)
وملاب صباي. وجل مسراتي من مائك تولد تولد الحبب استدار فانفقاً، واستنار ثم انطفأ. وما زلت منذ طفولتي أعيث بتيارك أيها البحر ويعبث بي فإن طغا منك العباب فأرهب. وكما لجك الزخار فأرعب. فيا طيب ذاك من رعب وحبذا تلك رهبة. وماذا مخافتي إياك أيها البحر وإنما كنت كبعض سلالتك وبنيك أخلد لك وأسكن. وأطمئن إليك وأركن. وأمسح بيدي يا شبيه الأسد الزؤور. والليث الهصور. لبدك المتكاثقة كما أفعل الآن وسلام عليك.
اليوجنية
للفاضل سلامة موسى
علي أثر القنبلة التي قذف بها داروين في كتابه أصل الأنواع سنة 1859 انبعثت مخيلات الفلاسفة والكوبويين (أي طلاب الكمال الإنساني) تمرح في مضاربات شتى عن مستقبل الإنسان. فإن داروين قرر أن الإنسان حيوان تجري عليه نواميس الطبيعة كما تجري على الطلب والفأر والقرد.
وإذا كان الناس قد استأنسوا الفرس والثور والكلب ونزعوا عن هذه الحيوانات وغيرها وحشيتها القديمة بعدما أحثدوا فيها كفاءات جديدة فخليق بالحكومات أن تنظر للأمم بالعين التي نظر الناس بها للحيوان فتضع أمام عينيها معياراً للكفاءة الإنسانية فتستحث الأكفاء وتجازيهم على التناسل وتمنع أو تعرقل الزواج بين غير الأكفاء بأية طريقة.
إن الإنسان خلق كفاءات جديدة بين الحيوان فإنك ترى بين البقر الآن ما تكفل لصاحبها أكثر من رطل زبد كل يوم على حين أن البقرة الوحشية لا تزيد كمية الزبدة الموجودة في لبانها عن ثلث رطل في اليوم ولم يصل الإنسان لهذه النتيجة في البقر إلا بعد انتخات طويل ومراقبة دائمة بين ذكور البقر وإناثه. فكان كلما لاحت له بقرة كبيرة الضرع كثيرة اللبن استولدها وحفظ نسلها.
وبين الخراف الآن ما يكاد يعد معملاً لعمل الأصواف. فلا يكاد يجز صوفه حتى ينبت جثلاً طويلاً. وبينها ما تكبر البته وتتدلى إلى الأرض حتى يستعصي عليه المشي. وبين الخنازير ما يتناههي في السمن حتى ليقع ويلزم مكانه فلا يستطيع حركة ما فيتغذى وهو راقد كأنه نبات.
فالإنسان الأول وجد بعض مزايا في الحيوانات التي استأنسها كالصوف في الغنم والزبدة(15/43)
في البقر والشحم في الخنزير فعمل على استيلاد هذه الحيوانات واستبقاء كل ماله قدر كبير من هذه المزايا وإفناء غيره. حتى أصبحت حيواناتنا الداجنة بعيدة الشبه عن أخوانها المتوحشة، بل بلغ اهتمام الأمر المتمدينة باستيلاد هذه الحيوانات أنها أنشأت أنواعاً جديدة لم تكن موجودة قبلاً.
مثال ذلك ما فعله مربو الكلاب الإنجليزية من إنشاء الكلب المعروف بـ بول تربر فإنه نتيجة الانتخاب الصناعي بين الكلب المعروف بـ بول دوج وتربر وقد أصبح الآن نوعاً قائماً بذاته.
بل بلغت قدرة مربي الحمام أن أحدهم يراهن على أن يوجد بعد عامين أو ثلاثة نوعاً يكون ريش قوادمه محبراً أو منمتماً على شكل مخصوص فيسعى لذلك باستيلاد ما هو أقرب إلى غرضه ولا يزال مجداً حتى يصل إلى غرضه.
فإذا كان مربو الدواجن يفعلون ذلك بالحيوانات يراقبون تلاقحها وينظرون إلى نسلها فينتقون وينفون حسب رغائبهم فما ضرنا أن نستعمل هذا الانتخاب بين الناس؟.
كذا يقول اليودجنيون. فاليوجنية هي علم تربية الشعوب وتأصيلها حتى يرقي الإنسان ويخطو نحو الكمال.
والرأي قديم تكلم عنه فلاسفة اليونان ومن أقوال أحدهم المسمى ثيوجنس إن الناس يعنون بتأصيل الخيول أكثر مما يعنون بتأصيل أنفسهم فلا يسمحون للهجين من الخيل أن يلقح كراثم الأفراس مع أنهم يسمحون لكل هجين من الناس بالزواج.
وقد قام غلتون الإنجليزي بعيد وضع داروين لنظريته وألف كتاباً عن اليوجنية استقرى فيه مدى انتشار العبقرية الإنجليزية مهما كان نوعها فوجد أن الكفاءات العالية تتوارث أباً عن جد على الرغم من نوع الوسط الذي ينشأ فيه الإنسان. وارتأى من ذلك أن العمدة في الكفاءات على الوراثة أي على ما يرثه الإنسان من أبويه لا على نوع التربية التي يربى عليها أو الوسط الذي يعيش فيه.
ومع ذلك قال بضرورة ألا تتزاوج العائلات الأصلية إلا من عائلات في مرتبتها نسباً وأصالة حتى يبقى الدم نقياً لا يشوبه أدنى هجنة.
وفي العالم المتمدين الآن مجلات يوجنية تستقرى نواميس الوراثة وتحض الحكومات على(15/44)
الاشتراع اليوجني.
إن الإنسان نشأ من الحيوان. وكان أهم عامل في نشوئه وترقيه وفوزه على العالم الحيواني الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي ولعل الأخير أقوى من الأول.
فالانتخاب الطبيعي وفي الإنسان إذ أباد منه كل ضعيف لم يقو جسمه على المرض أو لم يقو عقله على الاحتيال للمعاش.
والانتخاب الجنسي رقى الإنسان بأن أباد منهم كل دميم أو قليل الحيلة لم يستطع اجتذاب الأنثى إليه فيخلف منها نسلاً.
وكان آباؤنا في زمن الهمجية الإنسانية يعيشون من غير ما ذرائع طبية تحفظ صحتهم من الأمراض تجتثهم ولا تبقي منهم غير القوي ذي المناعة الجسمية.
وكانوا لا يعرفون رحمة أو إحساناً أو صدقة. فكان يموت منهم أول أول كل من ضعف عن كسب حياته.
وكانوا يتقاتلون على حيازة الأنثى ويحتالون عليها لاجتذابها إليهم، فكان يفوز منهم قوى الجسم كبير الحيلة وينهزم منهم النكس الجبان.
فارتقى الإنسان بهذا الانتخاب لأن الذين أمكنوا من التناسل كانوا كبار الحيلة والعقل أقوياء الجسم.
أما الآن فقد استنت لنا المدينة سننا عرقلت الانتخابيين الطبيعي والجنسي فنحن نحافظ على المريض بكل أصناف العلاجات. ونحافظ على الضعيف بكل أصناف الصدقات والإحسانات. ونحافظ فوق ذلك على نسلهما بسماحنا لهما بالزواج. حتى لقد حقت علينا كلمة نيتشه إننا كلنا مرضى الآن.
لهذا السبب لاح للعلماء الأوربيين أن يعتمد الزواج لا على العتاق من الناس كما نفعل في الخيول بل على الأصحاء عقلاً وجسماً. لأن معرفة العتق في الإنسان أو توخيه ليس سهلاً هيناً ظاهراً كما هو في الخيول.
فالعتيق من الخيل في نظرنا السريع الرشيق ولكن كيف يكون العتيق من الناس؟. لهذا السبب يقتصر اليوجنيون على توخي الصحة الجسمية والعقلية فيشترطونها على من يريد الزواج.(15/45)
وترى الولايات المتحدة الآن قد اشترعت مجالسها شرعاً حرمت بواسطتها الزواج على المسلولين والمعتوهين وأمثالهم حتى يأتي النسل سليماً صحيحاً.
على أن مما يعرقل تزاوج الأكفاء الآن انحصار الثروة في طبقة من الناس وفقر الطبقات الأخرى بحيث صار الزواج يعقد بقوة المال لا بقوة الكفاءات التي في المتزاوجين. فالشابة الغنية تضطر إلى التزوج من الشيخ الهم المتهدم لمجرد غناه فيذهب جمالها وشبابها سدى على الأمة. أو تضطر لهذا السبب أيضاً إلى التزوج ممن هو أقل منها كفاءة عقلية أو جسمية.
ولكن لا يجب أن ننسى مع ذلك أن وجود الكفاءات في الطبقة الغنية أرجح من وجودها في الطبقة الفقيرة بوجه عام مع كل ما في نظامنا الاقتصادي الحاضر من الظلم.
ومن هنا أظن أن الإسلام أفاد الأمم التي دانت به بسماحة بالضرار - تعدد الزوجات - لأنه زاد كفاءاتها بذلك.
واليوجنيون يتوخون الآن اشتراع شرعة جديدة للزواج يصير فيها الزوجان حرين يعيشان معاً أو ينفصلان بعض من بعض إذا أراد أحدهما ذلك. أي يبقيان معاً ما بقي الحب. لأن الحب أهدى قائد للزواج الصحي الصحيح فانتفاؤه من بين الزوجين يدل على انتفاء الصحة من هذا الزواج أيضاً فيصير مضراً بهما وبالأمة.
هذا هو الزواج الحر الذي يتوخون. ولعمري لقد سبقهم الإسلام إليه. فعندنا يجوز للمرأة أن تحفظ عصمتها بيدها فتطلق وقت ما تشاء وتبقي ما بقي الحب لزوجها. ولقد كانت إحدى الأميرات متزوجة من زوجها حافظة بيدها عصمتها على هذا النحو.
وإني بإزاء الكلام الذي كثر حديثاً عن ضرورة إنشاء الحكومة المصرية للزواج المدني أرى أن يجعل هذا الزواج الإسلامي قاعدة له على نحو ما فعلت الحكومة أيضاً بقانون المواريث. فإن الطوائف الغير المسلمة تجري عليها راضية به.
أعجب المخترعات
من بين المخترعات الحديثة التي توالت على العالم بفضل العلم اختراعان مدهشان اهتدى إليهما عالمان من أكبر علماء أمريكا، وعضوان في مؤتمر الجمعيات الأميركية لتحقيق علم الحياة، المخترع الأول فجهاز يخرج الدم من الجسم فينقيه من أكداره ثم يرده على الحركة(15/46)
الدموية ثانية كما كان. والثاني آلة تدل الإنسان عما إذا كان حقيقة جائعاً أم لا، وقد جرب الأول في كثير من الفيران البيض للتحقق من صحته. وذلك بأن أدخل في جسمها صبغة مخصوصة وتركت بضع دقائق حتى دارت مع الدورة الدموية، فلم يظهر على هذه الحيوانات أدنى ألم، بل تغير من تأثير الصبغة الخضراء ذيل أحدها وصار مخضراً، وبدا على إنسان عينه لون الزمرد وأحمر لون فأر آخر من أثر الصبغة الحمراء.
أما الاختراع الثاني فقد جربه صاحبه في نفسه ذلك وذلك أن ابتلع بالوناً صغيراً مستطيل الشكل مصنوعاً من المطاط، وصله بأنابيب مطاطية طويلة، ثم جعل ينفخ في البالون ويكبره وهو في معدته بواسطة هذه الأنابيب وألصق بها ورقاً حساساً ثم قال إن الجوع يجعل عضلات المعدة تقبض على البالون وتضغط عليه فتطرد الهواء إلى الأنابيب، فيظهر في الورق الحساس مبلغ جوعها. فمتى يذيع هذان المخترعان العجيبان؟.
روح الاشتراكية
لم تعد الاشتراكية اليوم حلماً ولا خرقاً كما كان الناس يتوهمون من قبل، بل هي اليوم سارية في كل بلاد المغرب فلا يكاد يطبع كتاب في فرنسا أو ألمانيا أو إنجلترا حول صلاحية الاشتراكية حتى ينفذ ويعاد طبعه، وقد نقحوا في المذهب وتصرفوا، وأصبح غرض الاشتراكية الحديثة هو كما يأتي:
إن غرض الاشتراكية الأكبر هو عدم حرمان العمال من المصادر الطبيعية للحياة ومن التعليم، ومذهب الاشتراكية يرتكز على قاعدة أن سير التطور الاجتماعي كل هذه القرون كان مفضياً بالتدريج إلى فصل طبقات العمال عن امتلاك الأرض ورأس المال، وتأسيس نوع جديد من الرعية وهي رعية العمال الذين لا يملكون من حطام الدنيا ما يعتمدون في الحياة عليه إلا أجوراً زهيدة لا تغنى ولا تجدي، والاشتراكيون اليوم يقولون أن النظام الحاضر (أعني النظام القائم على أن رأس المال والأرض في حوزة أفراد مخصوصين يدأبون في جمع الثرة وادخارها) لابد أن يؤدي إلى فوضى اجتماعية اقتصادية، وإلى شفاء العامل وأسرته، وإلى ذيوع الشرور والبطالة بين طبقات الأغنياء وتابعيهم وإلى فساد العمل وتقهقره، وإلى ذيوع الشرور والبطالة بين طبقات الأغنياء وتابعيهم وإلى فساد العمل وتقهقره، وإلى الدمار والاضطراب والقحط. بل إن النظام الحاضر يفضي إلى تقسيم(15/47)
المجتمع إلى طبقتين. إلى أصحاب ملايين. يقف وجوههم جمهور من الفقراء المعدمين. وليس لذلك من عاقبة إلا الخراب الاجتماعي أو الاشتراكية.
ولتجنب هذه العواقب الوخيمة ولضمان المساواة في توزيع مصادر السعادة ووسائلها يرى الاشتراكيون أن الأرض ورأس المال يجب أن يوضعا تحت حماية المجتمع وفي حوزته.
وأهم التغيرات التي حدثت بين صفوف الاشتراكيين هو أن سوادهم لم يعودوا بعد يعترفون بأنهم يستشهدون بنظريات الاقتصاد السياسي ويرتبطون بمسائله. لأن قواعد كارل ماركس أفسحت المجال للأخذ بالمذهب القائل بأن لا توضع القوانين والقواعد إلا بما يلائم الظروف وقد استعاض الاشتراكيون اليوم عن غرضهم من أحداث انقلاب في النظام بالتغلغل في صميمه، وقواد هذه الحركة رجال أوتو النشاط بعد النظر والاستشهاد في سبيل تحقيق مذهب يستعين برحمة الإنسانية وشفقتها.
وإليك صورتي زعيمين من زعماء الاشتراكية أولهما المسيو جوريس وهو في طليعة السياسيين، والآخر هو المسيو بردوهون من الفلاسفة.
وصايا الموتى وغرائبها
الشواهد كثيرة على غرائب الوصايا التي يتركها الناس لتنفذ بعد موتهم، ومن ذلك أن اللورد بورتار لنجتون أمر أن يدرج في قبره وكل خواتمه في أصابعه، ووصي اللورد أوركني أهله أن يشيعوه فوق نعش قديم حتى لا يشهد جنازته أحد، وأن لا يضعوا زهوراً على قبره، وأعلم ابن أخته بأنه سيجد وسامه مرمياً في أحد مخازن القصر. ومن بين الذين قضوا نحبهم في هذه الأيام رجل من أرباب الملايين في ويانة عاصمة النمسا، فأفرد مبلغاً من المال وطلب أن يدفع منه على إنارة ضريحه، بل وصندوقه الموسد فيه. بالأنوار الكهربائية عاماً كاملاً. وطلب رجل من الفرنسيين أن يرموا جثته على مسافة ميل من السواحل الإنجليزية. إذ كان ساخطاً على أمته، حانقاً على الشعب الفرنسي، حتى أنه لم يرض لنفسه أن يدفن تحت ثرى فرنسا، ولا أن يسمح لأحد من أقاربه أو بني جلدته بالانتفاع من موته، بل ترك جميع ماله وثروته إلى فقراء مدينة لندن.
حظوظ المخترعين
لم تكن أغرب الاختراعات لتجلب دائماً لصاحبها أعظم الثروات. يقولون إن المزالج جلبت(15/48)
لصاحبها ستمائة ألف جنيه، وأن أول رجل صنع أربطة الأحذية كسب منها نحو نصف مليون من الجنيهات، وإن مخترع الدبابيس الحديثة ربح مليونين من الجنيهات، كل هذا بينما ترى شارل بورسيل الذي اكتشف قانون التلفون عام 1855 ووصفه، مات شيخ الفقراء، وميشو مخترع الدراجة البسكلت قضي دهره في أسوأ حال وأنكد عيش، وفردريك سوفاج الذي ينسب إليه اختراع الدفة البخارية حكم عليه بالسجن ومات مفلساً مجنوناً.
هل يشفي البرد من الصلع؟
سؤال يخطر لنا إذا ذكرنا الحقيقة القائلة إن البرد يعمل على نمو الشعر، وقد أكد السير شاكلتون ذلك المكتشف العظيم أن كثيرين من رجال رحلته كانوا قبل سفرهم معه إلى أقاليم القطب المتجمد صلع الرؤوس ولكن لم يكد يمضي عليهم بضعة أسابيع في القطب الجنوبي حتى بدأ شعرهم ينبت ويأخذ في الغزارة والنمو. فلما عادوا من سياحتهم كانوا ذوي شعور جثلة غزيرة كثيفة.
وانظر إلى الحيوانات تر أن ليس في بلاد الدنيا بأسرها ما يشبه الأقاليم القطبية في غزارة فرى حيوانها، وقلما تجد في النساء امرأة صلعاء! ولا في الخصيان خصياً أصلع وذلك لرطوبة أمزجة الفريقين.
أصحاب ملايين مغمورين
لما علم الناس فجأة بأن رجلاً من الإنجليز يدعى المستر هلابي ديلي ابتاع ضيعة دوق بدفورد بنحو من ثلاثة ملايين من الجنيهات. تردد على شفاههم هذا السؤال من هو المستر ديلي؟ فلم يعرفه أحد من الجمهور الإنكليزي. ولم يعلم بأمره إلا القليلون من أرباب المصارف وأمثالهم. وإذا كانت مدينة لندن تفخر بفئة من المتادرين بالملايين مثل المستر ديلي هذا. فإن فيها جماعة من الناس يدفعون في أغراضهم وحاجاتهم مئات الألوف من الجنيهات (بصفة سمسرة) ليس غير. هذا رجل اسمه المستر برش كرسب في لندن يكاد يكون أحمل أهلها أقرض الجمهورية الصينية عشرة ملايين من الجنيهات. ولم يسمع به قبل ذلك الجمهور ولا علم بخبره ولا بوجوده ولكنه وثب إلى النباهة بغتة بقرضه الذي أدى إلى خلاف بينه وبين الحكومة الإنجليزية بل والدول العظمى إذ أرادوا أن يمنعوه من إقراض الصين. ولكنه أبى إلا أن يقرضها قرضاً حسناً.(15/49)
ولم تكن دهشة الشعب الإنجليزي قليلة يوم مات المستر شارلز مورسن تاركاً أحد عشر مليون جنيه إذ لم يكن مورسن هذا رجلاً معروفاً من الجمهور، وكذلك مضى في حياته يجمع هذه الثروة الطائلة. ولا يدري بشأنه أحد.
شهر العسل في قاع البحر
لما رأى الكولونيل فلمنج وهو من أرباب الملاين في أمريكا وخطيب ابنة الدكتور ويلسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة أن أرباب الصحف والمجلات ستتهافت على عروسه ويسدون عليهما المنافس أجمع أمره على أن يأخذها يوم الزفاف إلى مركب غواصة له ويقضيا جزءاً من شهر العسل في قاع البحر.
وكانت العروس موافقة على اقتراحه ولكن وجدا مانعاً واحداً وهو أن العروس لا تستغني عن وصيفة لها ووجودها من صعائب الأمور. ولكن وجد أخيراً خادمة رضيت أن تأخذ ست جنيهات في الأسبوع وتذهب معهما واشترطت عليهما أن يؤمنا على حياتها بمبلغ وفير. فأخذها معهما تجربة على أنها لم تستقر في الغواصة وهي تمخر العباب تحت أديم الماء. حتى تشنجت وأصابها الإغماء. فلما طفت بهم الغواصة فرت لا تلوى على شيء.
أما العروسان فلا يبرحان مصرين على قضاء شهر العسل تحت أديم البحر.
ملك الأوز
إن في تربية الأوز غنى طائلاً وثروة كبرى لو بدئت برأس مال صالح وصبر كاف على متابعتها.
ولعل أكبر مرب للأوز الآن. وإن شئت فقل ملك الأوز، هو رجل من أهل ولاية الأللينوا في الولايات المتحدة. رأى أن تربية هذه الأطيار وتسمينها خير له وأجدى عليه من امتلاك مصرف مالي. وكان من أصحاب المصارف. ومعدل عدد الأوز الذي في مزرعة عشرة آلاف. وقد أعد لها مستشفى خاصاً ومحبساً يحبس فيه ما كان منها شكساً متلافاً. وإذا كسر لواحدة منها جناح أو أصابها أذى أخذت إلى المستشفى لمعالجتها.
متفرقات في بضعة أسطر
سبع وفيات العالم من داء السل. معدل خطوط الترام في مدينة لندن ميل واحد لكل ثلاثين ألف من السكان أما ثغر مانشستر فميل واحد لكل خمسة آلاف.(15/50)
يشتغل في لندن بالليل من الشرطة والصحفيين والخبازين ومستخدمي مصلحة البريد وسماسرة الأسواق المالية مائة وعشرون ألف رجل.
في زيلاندة الجديدة كل رجل يخلو من مرتزق أو عمل له الحق أن يطلب التوظف في أية خدمة في الحكومة بالأجور الحاضرة.
في موكب زفاف في مدينة واشنطن عاصمة الولايات المتحدة زف اللورد داونشير مدير المطافئ عروساً في إحدى مطافئه حتى بلغت الكنيسة.
أكبر مزرعة في الدنيا لتصدر اللبن والزبدة هي ضاحية من ضواحي مدينة وينبج من أعمال كندا فيها نحو من ألفين وخمسمائة رأس من الغنم. منها ألف وخمسمائة حلوب ومجموع ما يخرج منها من الزبدة واللبن يبلغ ثلاثة ملايين من الجالونات.
قتل فتى في الصين أباه فحكم عليه بالإعدام وكذلك حكم على معلمه لأنه لم يؤدبه أكثر مما أدب.
وجد طبيب مذبح في معدة بقرة، مصراعاً من الحديد يبلغ طوله ثلاث بوصات ونصف بوصة وقبل هذه الحادثة بعامين وجد طبيب آخر في معدة حيوان ستاً وثلاثين شلناً.
معلومات جديدة عن داء الزهري
إن اكتشاف داء الزهري في الأرانب قد فتح باباً جديداً للبحث في استئصال هذا الداء، ومن الجائز استعمال الاكتشاف الذي اهتدى إليه الأستاذ إدوارد جينر لمنع داء الجدري وإتباعه في منع داء الزهري. لأن طفيليات الجدري وجدري البقر والزهري البشري والحيواني يظهر أنها من نوع واحد من المعقول إذن أن نتصور أن الزهري الذي يصيب الأرانب إذا طعم بها المصابون من الناس قد يمنع هذا الداء الوبيل عنهم. ولا شك أن تطعيماً من هذا القبيل قد يأتي بالأمل الكبير في الشفاء. ولكن ما دام اسم الزهري مخجلاً عند الناس إلى هذا الحد. وما داموا يلتزمون فيه السكوت. ويركنون إلى الصمت. ويأخذهم الحياء الكاذب في البحث علناً ويسمع الجمهور. فإن الصعوبات ستكون ولا ريب شديدة.(15/51)
موضوعات العدد القادم
سيظهر العدد القادم (العدد الثاني من السنة الثالثة) مفتتحاً بمقالة ضافية في تاريخ المجالس النيابية في العالم والمجالس النيابية في مصر وتاريخ طائفة كبيرة من أعضاء الجمعية التشريعية المصرية الحالية وهكذا في كل عدد نكتب تاريخ جماعة من أعضاء الجمعية التشريعية مع نشر صورهم. يلي ذلك المقال الأول لمقالات عدة للكاتب المشهور أحمد بك حافظ عوض عن كتاب جليل في تاريخ آداب العرب لمستشرق إنكليزي كبيير. ثم رسالة من كتاب (نصائح للشبان) للكاتب الإنكليزي كوبت عنوانها (إلى الزوج) وفي باب الاقتصاد السياسي كلمة ممتعة عن آدم سميث شيخ الاقتصاديين وثمان صفحات من كتاب أميل القرن الثامن عشر للفيلسوف جان جاك روسو ورواية جميلة للكاتب الأمريكي واشنجطون أرفنج، يلي ذلك كشكول البيان وفيه من النبذ العلمية والأدبية وما إليها ما فيه الغناء ثم باب الأخبار والحوادث وباب النقد والتقريظ.
إعلانات البيان
سنفرد لإعلانات البيان صفحات عدة علاوة على صفحات البيان المقررة. والذي يخاطب في شأن الإعلانات الفرج شيفر للو بشارع كامل نمرة / 5 / ونمرة التلفون 2935.
الصحافة العربية
يباع كتاب الصحافة العربية للفيكونت دي طرازي في مكتبة البيان وثمنه (100) وسنكتب عن هذا الكتاب الجليل كلمة وافية في العدد القادم.
نصيحة
إلى الشبيبة المصرية ومكاتبي الصحف وكتاب المحاكم وما إليها. لسنا بحاجة إلى شرح الفوائد التي تنتج من تعلم اختزال الكتابة العربية، فكل من يشغل بمكاتبة الجرائد وموالاتها بما يدور في المجالس النيابية ومرافعات القضايا ذات الشأن. والحفلات الأدبية الخصوصية، وكذلك كل من مارس وظائف السكرتاريات على اختلاف أنواعها. وبالجملة كل من يحتاج إلى نقل موضوعات يصعب نقلها بأجمعها بطريقة الكتابة العادية - نقول إن هؤلاء جميعاً قد عرفوا أن هناك حاجة شديدة إلى تعلم اختزال الكتابة العربية على آخر طراز وأسهله وأسرعه وأحسنه، تلك هي طريقة الأستاذ راوول بينكردي، فمن أراد أن(15/52)
ينتهز الفرصة ويتعلم تلك الطريقة النافعة الجليلة الفوائد فليقصد مدرسة برليتز بشارع عماد الدين بالقاهرة وهناك يلقى دروساً عملية في هذا الفن الجليل. يقوم بإلقائها الأستاذ مخترع هذه الطريقة البديعة.
الطبيعية أو أميل القرن الثامن عشر
يعرف قراء البيان أنا شرعنا مذ السنة الأولى في ترجمة هذا الكتاب الجليل الذي وضعه الفيلسوف الاجتماعي الأكبر جان روسو وبه اشتهر وعلا صيته إذ كان هذا الكتاب من أهم أسباب الثورة الفرنسية الكبرى وأكبر مرشد لعلماء التربية على آثاره بطرسون. وعلى نظرياته يعولون. ومن حسنات الترجمة التي ننشرها في البيان أنا ننقلها لا عن النسخة الفرنسية الأصلية بما فيها من الآراء المنقوضة اليوم وإنما عن الترجمة الإنكليزية لأكبر علماء التربية الحديثة الأستاذ (بين) مع تعاليق المترجم التي صحح بها كثيراً من نظريات روسو ووازن بينها وبين الآراء الحديثة علاوة على ما فيه من خفة روح روسو وظرفه وطلاوته، والكتاب في الواقع كتاب تربية وأخلاق واجتماع وفلسفة وقد كان القائم بترجمته إبراهيم عبد القادر المازني وبلغ ما ترجمه (40) صفحة من طراز البيان، وآخر صفحاته نشر في العدد الرابع من السنة الثانية. ولأمر ما سكت الأستاذ المازني عن إتمام ترجمته. بيد أن البيان يأبى إلا أن يتم عملاً شرع فيه. لذلك كلفنا الأستاذ محمد السباعي بإتمام ترجمته من الموضع الذي وصل إليه الأستاذ المازني وهذا الذي يراه القارئ اليوم منشوراً من هذا الكتاب في هذا العدد إنما هو من ترجمة محمد السباعي. وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه الخير والسداد.(15/53)
مواد أرجئت إلى العدد القادم
إذا كنا نحن في اختيار الموضوعات النفائس إلى الغاية التي ليس بعدها، ونحتفل للإجادة في انتقاء مادة البيان إلى الحد الذي لا نرى للإجادة بعده سبيلاً، فإنا كذلك نعمل على إصداره في مواعيده، وإخراجه في مواقيته، وإن غالبتنا طلبتنا الأولى وكادت في بعض الأحايين تنسينا الثانية. وأنا تقدم الآن إلى قراء البيان العدد الأول من السنة الثالثة مستوفياً حق القراء عليه، مكتملاً الصفحات المطلوبة منه، وقد كنا مسترسلين في الزيادة عليه، وإضافة موضوعات كثيرة إليه. ليس فيها إلا الجيد المستطاب، والجليل المستحسن، مثل باب أخبار وحوادث، وفيه كلمة طيبة في مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأبلغ ما قيل في وصف مولده الكريم، وقصيدة أمير الشعراء أحمد بك شوقي في يوم المولد، وكلمة مستوفاة في تاريخ الطيران وقصيدة شوقي في ذلك وتأبين فقيد مصر والمصريين المرحوم علي أبي الفتوح باشا، وقصيدتا شوقي وحافظ وتتمة رواية ويليم تل، لشيخ شعراء الألمان جون فردريك شيلر ترجمة الأستاذ أحمد الخازندار، وكثير من المتفرقات الأدبية والعلمية وفصول في الزراعة! يلي ذلك باب النقد وفيه الكلام على رحلة الأمير الجليل البرنس محمد علي باشا، وتاريخ الصحافة العربية وكتاب الواجب، وغير ذلك من جديد التوليف والمعربات.
هذا وقد كنا طبعنا الكثير منها وأخذنا في طبع الباقي. إلا أننا فطنا إلى وجوب الاحتفاظ بموعد البيان، فأرجأنا ذلك كله إلى العدد الثاني.
وكلاء البيان
وكيل البيان العام في القاهرة وضواحيها الشيخ عبد الوهاب القاضي ولا يعتمد في القاهرة غيره أبداً وليس لنا وكلاء الآن في سائر أنحاء القطر - ونرجو حضرات المشتركين عموماً أن لا يعولوا على الشيخ عبد السلام منصور أبو حمزة ومن رآه منهم فحبذا لو تفضل على البيان بأخبار الإدارة. ونحن ننره بأننا شكوناه إلى الجهات المختصة. وكذلك عبد العزيز فهي الجبالي ومحمد محمد جوهر وحسن محمد ومحمود أبو النجا. كل هؤلاء لا يعتمد عليهم في شيء. أما وكيلنا في حلب فهو حضرة الفاضل عبد الودود أفندي الكيالي وفي تونس حضرة الأمثل محمد أفندي المقدم وفي دمشق محمد أفندي سليم لحام وفي(15/54)
بيروت محمد أفندي جمال.
حول أبطال العالم
نبشر قراء أبطال العالم - ذلك المشروع الجليل الذي عرف قراء البيان ما هو أنا شرعنا مذ أسبوعين في طبع ثلاثة أبطال لكل بطل سفر خصيص به - أقل سفر منها تبلغ صفحاته مائة وعشرين صفحة وبعضها تبلغ صفحاته مائة وستين - فأول هذه الثلاثة بطل الأبطال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بقلم صاحب مجلة البيان - والثاني الفيلسوف الاجتماعي الكبير فردريك نيتشه بقلم الكاتب المشهور فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة - والثالث شاعر الإنكليز الأكبر نابغة القرن التاسع عشر اللورد بيرون بقلم الكاتب محمد السباعي.
هؤلاء هم الأبطال الثلاثة الجاري طبع أسفارهم الآن. أما أول بطل يقدم إلى القراء من هؤلاء الثلاثة ففي الغالب سيكون اللورد بيرون لأنه تم وضعه وكاد زعامة ولولا تزاحم الأشغال لدينا وإلحاح القراء علينا أن نسرع بإظهار أبطال العالم لكان بين الرأي أن نفتح هذا المشروع الجليل بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم ثم بطائفة صالحة من أبطال العرب وكثيرهم وفي اعتقادنا أنهم في مقدمة أبطال العالم شعراء كانوا أو كتاباً أو فلاسفة أو ملوكاً. ومن هنا نقول إن مسألة تقديم بعض الأبطال على بعض ليس لفضل في المتقدم على المتأخر وإنما ذلك لأنه وجد من كتب على المتقدم وليس يصح أن تؤخر المكتوب حتى يتم غيره - أما موعد ظهور أول بطل فليس في استطاعتنا أن نعد القراء وعداً محدوداً باليوم الذي سيظهر فيه لأننا نبذل جهدنا في إتقان الطبع وشكل الكثير من الحروف وشرح الكلمات التي قد يستبهم معناها وذلك كله يحتاج إلى زمن كثير وجهد غير أنه مهما تأخر أول بطل فلن يتأخر عن أوائل أبريل القادم إن شاء الله.(15/55)
الزوج المنكود
واشنجطن ارفنج كاتب أمريكي يعد في مقدمة كتاب الأمريكان، إذ امتاز برشاقة الأسلوب وخفة الروح، وملاحة الفكاهة، وهو من أقدر الكتاب على وصف أخلاق الناس وصورهم وأنماطهم، وهو في طليعة عشاق الطبيعة والمولعين بالسياحة والتجوال، وقد انحدر من العالم الجديد إلى إنكلترا فوصف أروع مناظرها، وصور أخلاق أهلها وتنقل بين أحقر أكواخها وأفخم قصورها، وجمع ذلك كله في كتاب سماه الصور أو الكشكول. وفي كتاب له آخر وصف أخلاق أسرة إنكليزية نزل عندها ضيفاً وصور أخلاق أفرادها حتى الخدم والوصائف فأبدع في ذلك كل الإبداع.
وإلى القراء قصة بديعة مستملحة الفكاهة قال أرفنج أنه وجدها بين أوراق مؤرخ هولندي مشهور بصحة تاريخه وشهد بأنها حقيقة لا يمازجها أدنى نصيف من الخيال وفي هذه القصة يرى القارئ الحذق في الوصف، والمهارة في إدخال الفكاهة، ويجد في كل فقرة منه مغزى جميلاً، ونكتة مستعذبة.
وكانت وفاة أرفنج في عام 1859، وقد قضى نحبه شيخاً كبيراً تنفس به العمر حتى جاز السابعة والسبعين.
كل من ساح على ضفاف الهدسون لابد أن يذكر جبال كاتسكل، حلقة منفرطة من سلسلة جبال الأبلشيان، وأنه ليراها عند العدوة اليسرى من النهر ناهضة شامخة الذرى تناطح أعاليها النجوم تشرف من ارتفاع عظيم على الإقليم السهل المنبسط.
كل تغير في فصول العام، أو في حال الجو، بل كل ساعة من ساعة النهار، تحدث تغييراً في ألوان تلك الجبال وأشكالها، حتى لقد عدتها النسوة الصالحات في نواحي الإقليم قاصيها ودانيها، أضبط (بارومتر) يقيس الجو ويرقبه.
فإذا صحا الجو وأشرقت السماء رأيت الجبال مكتسية لوناً ناضراً بنفسجياً، طابعة في صفحة الجو عند المساء تأوداتها وتعاريجها، وقد تراها إذا غابت الغمائم عن سماء الإقليم تجمع ذؤابة من الأبخرة فوق ذراها تبدو عند الطفل زاهية قانية كأنها تاج النصر والفخار. وعند سطح هذه الجبال الحسناء يلمح السائح دخاناً مصعداً من قرية هناك تطل سطوحها من خلال الأشجار، حيث ترى زرقة الربى قد بدأت تفني في نضرة السهل وخضراته.
قرية صغيرة قديمة العهد، بناها قوم من مستعمرة الهولنديين، أيام كانت الولاية في(15/56)
حوزتهم، وقد شدوا لهم هناك مساكن من الآجر الهولندي، وجاءوا إليها بالنوافذ والأبواب.
في هذه القرية، في بيت من هذه البيوت، كان يعيش منذ سنين، أيام كان الإقليم ملك إنجلترا، رجل ساذج طيب القلب رقيق الحاشية، يدعى باسم رب فنان ونكل.
وكان جاراً محمود الجيرة، وزوجاً طيعاً، يمشي عبداً لزوجه، ولعل استعباد زوجه له أورثه ذلك الاستحواذ الذي أكسبه محبة الجيران وعطف أهل القرية، ذلك لأن الأزواج الذين يجدون في الدار زوجات آمرات، عاصفات ناهيات، يروحون خارج الدار مستضعفين خاضعين، ويقبلون على الناس متضامنين محبين، فإن أخلاقهم ولا ريب تخرج من نار النكبة الزوجية مرنة لينة، ولعمري أن عتاب الزوجة زوجه حين يضمهما السرير خير من خطب الدنيا بأجمعها، وأجدى على الرجال من المواعظ التي تعلم الناس الصبر والاضطلاع بالمتاعب، ولا لجاج في أن الزوجة الشكسة المتوحشة قد تعد من بعض الوجوه نعمة طيبة، وإذا صح ذلك فإن رب كل من زوجته في ثلاث نعم.
وكان محبوباً من نساء القرية وبمولاتها الصالحات، وكن يجنحن إلى الانتصار له، إذا ثار الخلاف بينه وبين زوجته، ولم يترددن مرة إذا ضمهن حديث الليل وندوة المساء في إلقاء كل اللوم على مدام ونكل، وكان أطفال القرية يهتفون من فرح إذا لمحوه مقبلاً عليهم، وأنهم ليصيحون لمجيئه مغتبطين، وكان يحضر ألعابهم، ويقاسمهم لهوهم، ويصنع اللعب لهم، ويعلمهم عمل الطيارات وتطييرها، ورمي الحصى وتسديد رميته، ويقص عليهم قصص العفاريت، ونوادر الساحرات، وحكايات الهنود، وكلما مر بالقرية منطلقاً، أحاط به جماعات الأولاد، يتشبثون بأذيال ثوبه، ويعلتون ظهره ويتسنمون كاهله، ويمزحون معه ويضحكون منه كما شاؤوا وشاء مراح الأطفال، وإنه ليجوب منافس القرية وسبلها ويمر على دورها ومساكنها، فلا يهر إليه كلب، ولا يزعجه نباح.
وأكبر عيب فيه كرهه كل عمل يعود عليه بالكسب، ولا تحسبن كراهيته من عوز فيه إلى الكدح والدأب، فقد تراه معتقداً عند ضفة النهر صخرة ندية رطبة وفي يده قصبة أشبه شيء في طولها وثقلها برمح الترتر، وكذلك يمضي في صيد السمك يومه، لا يمل ولا يسأم وإن لم تشجعه سمكة واحدة. وإنه ليتنكب بندقته الساعات الطوال متنقلاً بين الغاب والإجم، متروحاً بين المستنقعات والأكم، طالعاً الجبل، وهابطاً الوادي، في صيد بضعة حمائم أو(15/57)
سناجب، ولا يتأخر أبداً عن إعانة جار له حتى في أشقى الكدح وأصعب الأعمال، وهو إذا حان حين اللهو كان السباق إليه، وإذا اجتمع أصحاب القرية للمراح واللعب، كان في طليعة اللاعبين، واعتادت النسوة أن يستقضينه شراء حوائجهن وقضاء مشاويرهن، ويستعن به في إنجاز الأعمال الخفيفة التي لا يرضى أزواجهن إنجازها وجملة القول كان رب معداً لخدمة كلة إنسان إلا خدمة نفسه، أما عمل واجب الدار وتعهد زرعه، والعناية بأمره، فقد وجد ذلك عليه مستحيلاً. وقد صرح يوماً بأن لا جدوى من العمل في مزرعته، والحق يقال إنها كانت أسوأ أرض في كل أرجاء الإقليم.
كل شيء فيها سيء فاسد، أسوارها أبداً متهدمة، وبقرته يوماً تهيم ويوماً تخوض في الزرع فتهصره، والعشب أكثر طلوعاً في حقله، والغيث يقع في غيبته.
وأما أولاده ففي أطمار بالية وتشريد، كأنما فقدوا عهائلهم، وإن منهم صبياً قزماً له ملامح أبيه، ورث عن والده عاداته كما ورث بالى أثوابه، يمشي دائماً في أثر أمه ظالعاً كالمهر، مرتدياً (بنطلوناً) خلقاً كان لأبيه، يرفعه بيده، كما ترفع السيدة المتأنقة ذيل ثوبها في اليوم الممطر.
على أن رب فإن ونكل كان واحداً من أولئك الرجال الناعمي البال ذوي الطبائع القانعة الحمقى، أولئك الذين يرون الحياة أمراً سهلاً، سيان عندهم في الرزق الخبز الأبيض والخبز الأسمر، وكل ما ينال من أقل فكر أو عمل، الذين يؤثرون أن يتبلغوا بفلس على أن يعملوا من أجل دينار، ولو ترك رب لنفسه، وأرخي له لببه، لنفخ الحياة كالصفير في قناعة تامة ورضى، ولكن زوجته كانت أبداً تطن في أذنه، زاجرة له على تجلده واستهتاره، والويل الذي يجره على بيته، والمصيبة التي ينزلها بأسرته، وكان لسانها يلوك صباح مساء الكلم الزواجر دون (انقطاع)، وكل قول يقول أو فعل يفعل لابد أن يرسل بلاغتها وسحر بيانها. ولم يكن له إلا سبيل واحدة في الجواب على محاضرات زوجته وخطبها. وهو أن يهز كتفيه ورأسه ويرفع عينينه ولا يفوه ببنت شفة. ولم يكن ذلك إلا ليبعث زوجته على رشقه بالكلم النبال كرة أخرى. حتى ليود أن يستجمع قواه وينفلت إلى خارج الدار. وما خارج الدار إلا الحمى الوحيد الذي يحتمي فيه التعساء من المتزوجين. بل هو الكنف الذي ينطاق إليه عبيد الزوجات.(15/58)
وكان خليط رب الوحيد في البيت كلبه وولف وهو شبيه سيده تخاذلاً وخضوعاً. وكانت مدام ونكل تعدهما متحالفين على البلادة. مصطلحين على البطالة. بل تنظر إلى الكلب بالعين الغاضبة الساخطة. كأنه السبب في تبلد سيده وتشرده. والحقيقة أن الكلب من كرام الكلاب روحاً. وأشجعها نفساً. ولكن أية شجاعة تقف إزاء بذاءة امرأة. وأي باس يغني من أذى لسانها ويدها. ولا يكاد يدخل الكلب الدار حتى تنتكس هامته. ويتساقط ذنيه أو يلتيو بين ساقيه. وأنه ليختلس الخطي في فنار الدار كالمجرمين. ويلحظ سيدته شرزاً. فإذ لمح أقل إشارة منها بالمكنسة أو المغرفة جرى إلى الباب نابحاً عاوياً.
هذا والزمان يدور على رب ويزيد في نكده وشقائه. كلما تقادمت السنون على حياته الزوجية. فإن الخلق الحاد الذميم لا يعود بمر الدهر ناعماً ليناً. وإن اللسان السليط هو السلاح المشحوذ الذي يزداد من كثرة الاستعمال رهافة ومضاء. ومكث زماناً يعزي نفسه إذا طرد من داره. ويتلهى عهن برحاء همسه. بالتردد على ندوة في القرية تجمع عقلاءها وفلاسفتها وعاطليها. تعقد جلساتها عند مقعد هناك إزاء نزل صغير. تدل عليه صورة حمراء تمثل جورج الثالث. ملك بريطانيا في ذلك العصر.
هناك يجلسون في ظلال اليوم الصائف الطويل الشقة البليد. يتحدثون عن القرية وأحوالها. ويتكلمون في شئونها وشؤون أهلها. ويقصون حكايات منومة لا نهاية لها ولا معنى. ولو علم السياسي بأمرهم وهم يتناقشون في المجلس ويتجاذبون أطراف الحديث حول أنباء صحفية قديمة نفحهم إياها سائح مر بتلك الانحاء. لما ضن على هذا المنظر بشيء من ماله. وما أشد وقار المجلس وسكونه إذا انطلق فإن بومل. معلم القرية. يتلو عليهم الصحيفة في رفق وتؤدة. وفان بومل هذا أستاذ تنبال نشيط. لا تخيفه أضخم كلمة في قاموس اللغة. وما أعظم رزانة القوم وهم يتباحثون في شؤون سياسة مضى عليها بضعة أشهر.
أما رئيس المجلس وعريفه فرجل منهم يدعى نقولا فيدر وهو كذلك قسيس القرية ورب النزل. يأخذ مجلسه إزاء نزله من مطلع الشمس إلى غسق الليل. لا يبرحه إلا هارباً من حر الهاجرة إلى ظل الدوحة الباسقة. ومن جلساته وحركاته يعرف أهل القرية أوقات النهار. عوضاً من ساعاهم. ولم يكن يتكلم إلا نادراً. ويدخن بغليونه طول يومه. على أن أتباعه وخلطاءه. ولكل عظيم إتباع وخلطاء كانوا أكثر شيء علما بأمره وما يدور في خلده.(15/59)
فإذا قرئ عليه نبأ. أو قصت عليه حكاية فلم ينشرح لها ولم يبتهج. رأوه قد بدأ ينفخ من غليونه أنفاساً قصيرة متتابعة. فإذا خف للقصة وأعجب بها. تنفس الدخان في دعة وسكون. وبعثها سحائب خفيفة غير معتمة. وحيناً يخرج لغليون من فمه ويدع ذؤابة الدخان تدور حول أنفه. ويطرق في سكون برأسه دليلاً على استحسانه التام.
ومن هذا الحمى الأمين كان رب الزوج المنكود عرضة لمطاردة زوجته له ومباغتتها، فقد كانت تنقض عليه وهو في الحفل مطمئن وادع. قاطعة على المجلس هيبته. مرسلة فيهم قحتها. حتى رئيسهم الرجل المهيب الوقور لك يكن لينجو من شر لسان المرأة المسترجلة المتوحشة. إذ كانت تهجم عليه بالتهمة. وترميه بأنه المشجع لزوجها على البطالة والكسل.
وبلغ برب المسكين اليأس. وجدية الحزن. فلم يكن يري وسيلة للفرار من بحث مزرعته وتعهدها. وصيحات زوجته وصرخاتها. إلا أن يأخذ بندقيته ي يده وينطلق في الغاب هائماً طائفاً.
هناك كان يجلس عند أصل شجرة. يقاسم كلبه ما في جعبته من رزق. وكان يعطف على الكلب ويحدب. كرفيق له في نكد الدنيا. وحليفه في عذاب البيت. وكان يخاطبه فيقول أي وولف المسكين. أن صيدتك لا تطلب لك من الحياة إلا حياة الكلب. ولكن هون عليك يا فتاي ولا تبتئس. فلن يعوزك الصديق الرحيم. ما دام في نفس صاعد. .
إذ ذاك يهز وولف ذنبه. وينظر إلى وجه سيده واجماً. وإن صح إن الكلاب تشعر بالرحمة. فإن معتقدي أن وولف كان يبادل سيده عطفه وحنانه.
ففي طوفة من طوفانه. في يوم خريف جميل. انتهى برب التجوال إلى ربوة من أعلى ربى تلك الجبال. وكان كعادته يتعزى بصيد السناجب. والسهل والحزن يضجان بقصف بندقيته. حتى إذا جاء الأصيل. حل به التعب واللهاث من أثر التيار والتطواف. فارتمى يرفه عن نفسه على ذروة في الجبل قد كساها العشب الأخضر ثوباً سندسياً يتوج جبين الهاوية. وقد أشرف من فرجة بين السرحات الباسقات على السهل المنخفض الممتد بضعة أميال من باسق أشجار الغاب. ورأى من كثب نهر الهدسون يجري في سكون وجلال. تعلوه غمامة اكتست حمرة الشفق. وتلوح عنده جارية تمخر العباب نائمة فوق صدره الزجاجي. ثم تغيب وراء الجبال الزرقاء.(15/60)
وعلى الجانب الآخر واد منخفض وحش قفر انتثرت فوق أديمه صخور انحدرت من جواب الجيل وهضابه، تضيئه أشعة الشمس المنعكسة الراحلة، وكذلك جلس رب ساعة يفكر في هذا المنظر ويجلو عينه من روعته، والمساء مقبل متقدم، والجبال تمد ظلها الأزرق المترامى فوق البطاح والوديان. ورأى أن الظلام سيرخي لا ريب سدوله قبل أن يبلغ القرية. وذكر امرأته وهول نقائها فتنهد تهده الموجع الملتاع.
ولكنه كاد يهم بهبوط حتى سمع صوتاً من كثب ينادي رب فإن نكل. رب فإن ونكل! فدار بعينه ولكنه لم ير إلا غراباً محلقاً فوق الربى وحيداً. فظن أن مخيلته قد خدعته وأنبعث في سبيله منحدراً هابطاً. ولكنه سمع الصيحة نفسها ترن في سكون ذلك المساء وهدوئه رب فان ونكل! ورأى كلبه وولف راح يهر هريراً منخفضاً. ويقترب من جانبه مذعوراً. وينظر خائفاً إلى ناحية الوادي المنخفض. فاستشعر رب من ذلك رهبة خفية بدأت تستملكه، فنظر إلى جهة الوادي فلمح شبحاً غريباً صاعداً في رفق صخور الجبل. وقد أنقض ظهره شيء يحمله. فأدهشه أن يرى آدمياً في هذا المكان المبعد المتوحش. وظنه رجلاً من أصحاب القرية بحاجة إلى عونه. فأهطع إليه يريد أن يحمل عنه وزره.
وكلما اقترب منه ازدادت دهشته لغرابة مظهر الرجل وثوبه. رأي شيخاً قصير القامة ضخماً. يجلل هامته شعر وحف جئل. وتنحدر تحت ذقنه لحية كثة. يلبس لباس أهل هولندة القدماء. صداراً من القماش حول خصره. وسراويل كثيرة أعلاها عريض طويل. تزين حفافيها صفوف من الأزرار. وعند ركبته عدة منها. يحمل فوق كاهله دنا ضخماً. كأنما يحوى شراباً.
حتى إذا جاءه أشار إليه الغريب أن يقترب ويرفع عنه حمله. فأطاع رب وهو خجل من صاحبه الجديد مستريب. ثم تعاونا على الدن. وصعدا وادياً ضيقاً. لعله مجرى نبع من الجبل ناضب. وكلما انبعثا مصعدين سمع رب بين حين وحين صيحات داوية كأنها قصف الرعد البعيد. صادرة من واد عميق القاع. بين صخور شاهقة. يفضي إليه طريقهم الصعب. فوقف رب عن السير برهة متردداً. ولكن ظن أنها حنين من الرعد الممطر الكثير الحدوث عند ذروات الجبال الشم. فواصل السير منطلقاً وصاحبه بين عدوتي الوادي حتى أشرفا على أخدود يحف من حوله هاويات أفقية. قد نبتت على حافلها أشجار باسقة(15/61)
الأفنان. منتشرة الأغصان. حتى لا ترى القبة الزرقاء إلا بين فرجات فروعها. ولا تشهد غمائم المساء إلا من أضعاف أعوادها. هذا وهما يسيران صامتين لا يتخاطبان. وإن كان رب في دهشة بالغة وعجب يذهل القلب. يسأل نفسه ترى أي غرض هناك من حمل دن فيه خمر إلى هذا الجبل الموحش. ولكن شيئاً غريباً غامضاً حول ذلك الرجل المجهول يثير الرعب ويحسم عرق التخاطب والتفاهم.
فلما بلغا الأخدود رأى حالاً عجباً. رأى في بقعة سهلة من بهرة الأخدود. جماعة من الرجال في مظاهر منكرة. يلعبون لعبة الدبابيس التسعة. مشتملين في أزياء غريبة منكورة. منهم من اتشح في سترة قصيرة. ومنهم من تسربل بسراويل طويلة. وفي مناطقهم الخناجر. يلبسون سراويل عدة. كلها على نمط سراويل الدليل. أما وجوههم فما شئت من غرابة ونكر. وإن فيهم رجلاً طويل اللحية مرسلها. عريض الصفحة ضخمها. متخازر العين خنزيريها، وفيهم رجل آخر يكاد وجهه لا يحوى غير أنف. تعلوه قلنسوة بيضاء أشبه بقمع السكر. حليتها ذيل ديك حمراوي. وللكل لحى مختلفة ألوانها. متباينة أشكالها. وفيهم رجل عليه مظهر الزعيم. شيخ عبل أسمر الملامح من أثر الجو. مشتمل في سترة مقفلة. ومنطقة عريضة. يتدلى منها سيف قصير. فوق رأسه قلنسوة عالية رائشة. وحول ساقيه جوارب حمراء. ينتعل حذاء عالي الكعب. حلاه نوع من الورد.
والذي زاد في عجب رب ودهشته أن القوم يتلهون ويلعبون. وهم متجهمون مكفهرون. في أرهب صمته. وأرعب هدوء. ورأى فيهم جماعة لهو محزنة لم يشهد قبلها شبيهة لها في تاريخ حياته. هذا وسكون المشهد لا يقطعه إلا صوت دحرجة الكرات وهي تدوي في الجبال كأنها زمجرة الرعود.
فلما دنا وصاحبه من الجماعة. وقفوا برهة عن لعبهم وحملقوا إليه جميعاً. بنظرات ثاقبة ثابتة ثابتة كنظرات التماثيل. بوجود دميمة ومعارف جهمة. طارت نفسه من هولها شعاعاً. واصطكت ركبتاه من رهبتها فرقاً. وشرع رفيقه يفرغ الدن في قواوير كبيرة. ثم أشار إلى رب أن يطوف على الجماعة بها. فأطاع وهو يرتعد خوفاً ووجلاً. حتى إذا جرعوها صامتين. عادوا إلى الكرات يلعبون. شجعها نفسا
وبدأ يذهب عن رب الروع. حتى أنه جسر في خلسة المختلس. ولا عين تراه. أن يتذوق(15/62)
الشراب. وكان من طبعه ذا روح ظامئة صدياً. حرضته على معاودة اختلاس الجرعة بعد الجرعة. وكلما اشتف رشفة منها طالبته الأخرى. وما زال بالفوارير يعاودها حتى لعبت بحواسه سورة الخمر: وزاغ منه البصر. وتدلى رأسه فوق صدره ولم يلبث أن راح في سبات عميق.
فلما صحى من سكره، وجد نفسه عند الربوة الخضراء في البقعة التي رأى فيها شيخ الوادي ففتح عينيه فإذا الصبح مشرق والشمس ساطعة. والأطيار متزية فوق أرائك الشجر وفروع الدوح. وإذا النسر محلق في الجواء، طائر في نسمات الضحى العليلة، فقال في نفسه لا شك إنني لم أثم هنا طول الليلة الماضية وأخذ يذكر ما وقع له قبل سباته. يذكر الشيخ الغريب ودنه. والوادي وصخوره، وجماعة الدبابيس التسع وهو لهم. وقوارير الشراب وحمياها. ودعل يقول ويح هذه القوارير. ولعنة الله عليها. أي عذر أقدم لزوجتي. وأي شفيع يشفع؟.
والتفت حوله يلتمس بندقيته. ولكنه وجد بدل البندقية النظيفة الناعمة اللامعة بندقية عتيقة مرمية بجانبه. علتها طبقات من الصدأ. وقد تساقط زنادها: ونخرت الأرضية خشبها. فظن أن جماعة الجبل أرادوا مداعبته ومماجنته. فأسكروه من شرابهم. ثم سرقونه بندفيته.
ومالو ولف قد احتفى عنه واحتجب. أم لعله في أثر الستجاب أو طراد الحجل. فجعل يصفر له ويناديه باسمه. ولكن سدى. وردد الصدي صفيره وصريخه. على حين لا كلب ولا هرير.
فاستقر رأيه على أن يعود إلى ملعب الأمس فإذا لقى أحداً من الجمع أهاب به أن رد على كلبي وبندقيتي. ثم استوى واقفاً يريد مسيراً. فإذا به يشعر بتوتر في مفصله. وتراخ في قواه، فأخذ يحدث النفس ويقول أن نضاجع هذه الجبال لا تصلح لي ولا أصلح لها: ولئن رجعت من ملهاتي هذه بعلة النقرس. فسيكون لي شان مع مدام ونكل. وأي شأن!.
فبعد لأي هبط الوادي فاهتدى إلى الطريق الذي كان بالأمس يركبه في صحبة الشيخ. ولكنه عجب اذرأى غديراً مزبداً فضفاضاً ينبع هناك، طافراً من صخرة إلى صخرة. واثباً من ثنية إلى ثنية. مالئا الوادي خربراً وهدبراً. فتنكبه. وانطلق يسير في طريق غير سوى ويمشي بين دوح الصفصاف والبندق والغار. ويعارض سبيله عروش الأعتاب البرية.(15/63)
تلوى فروعها وأعراشها. وتمدها من دوحة إلى دوحة. وسرحة إلى سرحة. وتحول بينه وبين طريقه بشباكها وحبائلها.
وانتهى به السير حيث الوادي يتفتح عند قرجة بين الصخور مقتضية إلى الأخدود على أنه لم ير لهذه الفرجة أثراً باقياً. بل رأي الصخور متطالة الأعناق قائمة كأنها السور المنيع. يتحدر فوقها النبع متعثراً في صفحة مزبدة من الماء، دافعة إلى حوض غائر القيعة تبسط أشجار الغاب فوقه رواق ظلالها.
هناك وقف رب لا متقدم له ولا متأخر، ينادي كلبه صريخاً وصفيراً، فلا يجيبه إلا نعيق سرب من الغربان صافات في الجو حول شجرة يابسة. قائمة فوق هاوية متألقة. كأنها من أمانها تنظر إلى المسكين وتسخر من حيرته.
وماذا هو لعمرك صانع؟. . هذا الصبح يتولى مظهراًَ. وهذا الجوع يقتله ألماً أحزنه أن يحتجب عنه كلبه وتتبدل بندقيته غير البندقية. ولئن هاله أن يلقي زوجته. فلا يغني عنه جوعه بين الجبال والربى.
فأطرق رأسه حزيناً، وتنكب البندقية الصدئة، وعاج على طريقه إلى الدار حزين الفؤاد مهموماً.
فلما اقترب من القرية. لقي جمعاً من الناس. ولكنه لم يعرف فيهم أحداً. فأخذت منه الدهشة مأخذها. فقد كان يظن أنه ما من رجل في هذه النواحي إلا وله به معرفة. ورأى زيهم غير زيه. ولباسهم غير لباسه. وكلما استقرت عليه أبصارهم. وضعوا أيديهم على لحاهم. حتى اضطر أن يفعل فعلهم. ولكن لشد ما كان عجبه إذ بصر بلحينه قد بلغت قدماً!.
وهذا هو الآن ملم على أرباض القرية. يمر على ترب من الأطفقال يعدون خلفه ضاحكين. ويشيرون إلى لحيته الشائبة مازحين. والكلاب. وكان عهده بها تعرفه. نهر إليه وتنبح في أثره.
رأي القرية نفسها قد تبدلت معالمها وحلت رسومها. وأصبحت أعمر من قبل حالاً. وأكثر نفيراً. ورأى صفوفاً من المنازل لم يرها. وبيوتاً طريقة لم يعرفها. ولم يجد المقام القديم. والدور المعهودة. وقرأ فوق الأبواب أسماء غريبة، ولمح في النوافذ وجوها جديدة وإذا كل شيء في البلد غريب.(15/64)
فأخذ ذهنه يتيه في شعاب الوهم. ويفقد الرشد. وأخذ يسائل أأصابه مس من الجن أم تغيرت الأرض غير الأرض.
ولكن هذه قريته لم يتركها إلا عشية أو ضحاها. هذه جبال كاتسكل ممتدة الأعناق وهذه صفحة الهدسون الفضية تعج هناك. وهذه الأباطح والأودية والربى كما كانت.
ذلك ما حيره وأذهل لبه. وجعله يمضي متلدداً متحيراً يقول لنفسه ويحي أن قوارير الأمس قد ذهبت برشدي.
وانبعث يطلب السبيل إلى داره. فوجدها بعد عناء وتعب، ودلف إلى داره في خوف ورهب. متوقعاً أن يسمع في كل خطوة صوت زوجته وصياحها. ولكنه رأى عندها رسماً محيلاً وطللاً عافياً، سقوفاً متهدمة؟ ونوافذ متدنية متكسرة. وأبواباً متخلعة متداعية يطوف بها كلب جائع غائر الوجه كأنه كلبه. فناداه باسمه. ولكنه نأم إليه وكشر عن نابه منطلقاً. فكانت منه الطعنة النجلاء. والنكبة النكباء. وتابع رب طريقه متنهداً يقول لنفسه وأهالي. حتى كلبي قد نسيني. .
ودخل داره. وكانت مدام ولكل نقوم على تنظيفها وتعهدها. فإذا هي خاوية على عروشها. خالية من أهلها. فغلب خراب الدار على مخاوفه الزوجية. فصرخ بأعلى صوته ينادي زوجته وبنيه. فدوت الحجرات المهجورة بصدى صرخاته. ثم عاد السكون كما كان.
فخرج مسرعاً يريد معهده القديم إزاء النزل. فإذا هو قد عفت آثاره. واندرست رسومه. وقام في مكانه بناء خشبي يريد أن ينقض. كثير الشرفات كثير النوافذ. سدت ثلماتها بالقلانس الخلقة. والأوشحة البالية. وقد كتب على الباب فندق الاتحاد لصاحبه جوناثان دولتل ووجد بجل السرحة التي كانت تظل النزل الهادئ القديم بأفيائها. عموداً ممدواً. في رأسه شيء أشبه بقبعة حمراء. يلوح فوقه علم خفاق رسمت عليه نجوم وخطوط.
كل ذلك كان غريباً عند رب غير مفهوم. على أنه تبين عند الشارة وجه الملك جورج الثالث القرمزي. وطالما دخن تحت صورته وجلس. ولكنه رأى هذه أيضاً تغيرت وتطورت وتبدلت السترة الحمراء سترة زرقاء. واستحال الصولجان في قبضته سيفاً، وجللت الرأس قبعة هرمية الشكل، وكتب تحت الصورة بحروف كبيرة الجنرال واشنطن!.(15/65)
وكان حشد من الناس حول الباب. ولكن ليس فيهم من يذكره. حتى لقد تغير خلق القوم وتحول. رآهم في جدال وصخب. وعهده بهم أهل دعة وحلفاء تهويم. وطفق يبحث بينهم غير مهتد عن نقولا فيدر. رب النزل وقسيس القرية. بوجهه العريض. وذقنه المزدوج. وغليونه المستطيل. ينفخ الذوائب من فمه بدلاً من الكلم الفارغة. وفان بومل المعلم والمقرئ يقرأ الصحف ويتلوها.
ولكنه رأى بدلهما رجلاً مقضوماً مهزولاً صفراوياً. امتلأت بالإعلانات جيوبه. يصيح بصوت جهوري. متشدقاً بحقوق الوطنيين. والانتخابات. وأعضاء المؤتمر والحرية. وموقعة بانكرزهل. وأبطال عام 76. وأسماء لا تحصى. لم تكن في أذن رب إلا الألسن البابلية.
وإن ظهور رب بلحيته المتدلية الشعناء. وبندقيته الصدئة الشوهاء. وأثوابه البالية النكراء. وفي أثره جيش من الأطفال والنساء. لم يلبث أن لفت أنظار ساسة ألحان ورجاله. فأقبلوا عليه يتقصون أنظارهم في الرجل مندهشين. وداناه خطيبهم فأخذه ناحية وجعل يسأله: لأي حزب أنت مصوت؟ فأفلت منه رب ولم يفهم مما قال حرفاً. وعمد إليه رجل من عرض الجمع. قصير القامة. خفيف الروح. فشده من ذراعه. وتطاول إلى أذنه فهمس أأتحادي أنت أم ديمقراطي؟ فازدادت دهشته ووجومه. وإذا برجل شيخ جليل. تخطى الجمع المزدحم إليه. واضعاً إحدى راحتيه في خصره. ومعتمداً بالأخرى على عصاه. حاد النظر ثاقبة فسأله في لهجة العابس الغاضب ماذا جاء بك إلى مكان الانتخاب. متنكباً بندقيتك يسعى في أثرك الغوغاء؟ ألفتتة في القرية أم مقتلة؟.
فقال رب وقد توجس منهم خليفة معاذ الله. يا سادتي. ما أنا إلا رجل وديع مسكين. ربيب هذه القرية ووليدها. ورعية مخلص لجلالة الملك. أصلح الله حاله!.
وإذ ذاك علا الصياح من كل مكان.
وصرخ الجمهور. . ملكي جاسوس؟ طريد - انقضوا عليه. . تألبوا. سيروا به! ولم يستطع ذلك الشيخ الوقور أن يعيد سكون الحفل إلا بعد مشقة كبيرة. فلما تم له ذلك زاد في تقطيب جبينه وتجهيم معارفه. وعاد يسأل الجاني المجهول عن سبب مجيئه إلى القرية. وعمن يريد فطفق رب يؤكد له وهو خاضع متذلل إنه لا يريد بأحد ضراً. وإنما بلغ مكانهم(15/66)
باحثاً عن فئة من عشيرته وجماعة من جيرته كانوا يختلفون إلى ألحان. ويجلسون إزاء النزل؟.
فسأله الشيخ. ومن يكونون؟ سمهم. د
فأخذ رب يسترسل في الذكرى برهة. ثم سأل. أين نقولا فيدر؟.
فكان صمت. ولكن لم يلبث أن أجاب شيخ كبير. في صوت ضعيف خافت. . نقولا فيدرا عمرك الله لقد قضى نحبه منذ ثمانية عشر عاماً. لقد كان فوق قبره تاريخ حياته.
وأين بروم دوتشر؟.
ذهب إلى الجيش. في أول العهد بالحرب. فقال قوم إنه استشهد فيب هجمة (ستوني بوينث) وقال آخرون مات من رياح هوج عند سفح جبال (أنفانطنيوس) ولا أعلم من الأمر شيئاً. فإنه لم يعد من بعدها أبداً.
وأين فان بومل؟.
ذهب إلى الجيش. فكان قائداً. مغواراً. ومسعر حرب. اسلا. وهو اليوم في المؤتمر.
فلما سمع رب ذلك. طار لبه حزناً وأسى. على تحول داره وتغير صحابته وكاد يبخع نفسه حسرات على تغير الزمان وتبدل الأحوال. وماذا يريد هؤلاء بقولهم الحرب. . . المؤتمر. . . ستوني بوينت!.
لم يعد له من الشجاعة ما يجرئه على السؤال عن أصحاب غير هؤلاء. بل صاح من يأس قائلاً وهل فيكم من يعرف رب فان ونكل؟.
فقال اثنان منهم أو ثلاثة وكيف لا نعرفه. هذا رب فان ونكل جالس هناك عند أصل الشجرة.
فالتفت رب فرأى عندها فتى يحكيه يوم صعد الجبل بؤسه وتراخيه.
فاختلط الأمر عليه وبدأ يشك في نفسه ويستريب بشبيهه. وإنه ليتيه في مهامه الحيرة إذ أقبل الشيخ عليه يسأله من هو وما اسمه.
فقال رب من ذهول. . . الله يعلم! لست نفسي. بل ما أنا إلا رجل غيري. ذلك الجالس هناك. كلا. بل هذا رجل تقمصني. . لقد كنت ليلة الأمس رب ولكن ضرب على أذني فنمت. فغيروا بندقيتي. وتغير كل شيء وأين لي أن أعلم من أكون. وما اسمي.(15/67)
فبدأ الحضور يتناظرون ويتلاحظون ويضعون أصابهم فوق جباههم. وتهامس بعضهم فيما بينهم أن يأخذوا منه بندقيته. لئلا يأتوا أمراً أدا. وعند ذلك أسرع الشيخ الوقور إلى لزوم مكانه الأول. وفي هذه اللحظة الرهيبة دافعت الجمع المتألب امرأة صبوح الوجه حسناء تريد أن تشهد الرجل ذا اللحية الشهباء يعني رب وكانت تحمل بين ذراعيها وليداً غضاً سميناً. أخذ يتشنج ويبكي خائفاً من هيأة الرجل فأهابت به المرأة. . علام البكاء يا رب. ولم التشنج أيها الصغير الأحمق. لا تخف فالشيخ ليس بذي أذى!.
وإن اسم الوليد. وسمعت أمه. ونبرات صوتها. وتضاعيف جرسها. كل ذلك أيقظ في ذهن رب نواعس الذكرى. وهواجع الماضي فأنشأ يسأل.
ما اسمك أيتها المرأة الرؤوم؟.
فكان جوابها. جودت جاردينيار.
واسم أبيك؟.
قالت. . واحر قلباه على المسكين. لقد كان اسمه رب فان ونكل. وها قد مضي عشرون عاماً على ذلك اليوم الذي خرج فيه من داره متنكباً بندقيته ولم نسمع بخبره أبداً.
رجع كلبه وحيداً. ولا يعلم أحد إذا كان قتل نفسه أم اختطفته الهنود. ولم أكن إذ ذاك إلا شابة صغيرة.
لم يبق لرب إلا سؤال واحد. فألقاه بصوت مرتجف. . . وأين أمك؟.
قالت. . لم تلبث بعده أن قضت. . قطعت شرياناً لما في ساعة غضب. من موجدة على بائع!.
فكان في هذا الجواب سلوة له ونعمة عين. ولم يستطع كتمان ما به. وفاضت في قللبه عاطفة الوالد فاخذ ابنته ووليدها بين ذراعيه وصاح باكياً. . هذا أنا أبوك. بالأمس رب فان ونكل الفتى. واليومك رب فان ونكل الشيخ. أوليس منكم رجل يعرف رب فان ونكل القديم؟.
فوقف الجمع مندهشين حائرين. حتى خرجت من بينهم عجوز. فجاءت تدلف إليه ووضعت يدها فوق جبينها تستعين على الذكرى. وتتشوفه من تحت يدها. وما نشبت أن صاحت. أجل يا قوم. هذا رب فان ونكل بعينه. مرحباً بمقدمك. وأهلاً بك. أبهذا الجار(15/68)
العزيز القديم. لقد طال بك وبنا العهد. وبعد الأمد. فأين كنت يا جارنا طول هذه السنين العشرين؟.
فقص عليهم قصته. فكان عشرون عاماً لديه ليلة واحدة، فمضى يقص عليهم القصة، فلم تكن عشرون عاماً طوالاً في نظر رب إلا ليلة واحدة، وجعل الجيران يستمعون له. وهم يحدقون فينه الأبصار، وكان جماعة منهم يتغامزون ويتهامزون. وأما الرجل الوقور ذو القلنسوة الهرمية فرجع مطمئن السرب إلى الحفل ونهو يطبق شفتيه ويهز رأسه. وافتدى به الجمع فانطلقوا يهزون الرؤوس ويطرقون الهام.
واجتمعوا على أن يأخذوا رأى بطرس فاندروك الشيخ. وقد لاح لهم يمشي الهوينا عائجاً على الطريق، وكان هذا الشيخ من سلالة ذلك المؤرخ الهولندي الكبير المسمى بهذا الاسم.
وقد وضع تاريخاً عن الإقليم يعد من أقدم تواريخها. وبطرس هذا أقدم سكان القرية عهداً، وأوفاهم سناً، وأوسعهم علماً بعجائب هذه الانحاء وأساطيرها وموروث أنيابها وأخابيرها. فلما عرضوا القصة عليه وسألوه رأيه، عرف رب وتذكره، وأقر على صدق حكايته. وأكد للقوم أنه الحق ورثه كابرا عن كابر إن جبال كاتسكل كانت أبداً معاج قوم منكورين. ومعاد أشباح غريبة، وقد أثبتوا أن هندريك هدسون أول من كشف النهر واهتدى إلى الناحية. كان يقيم في الجبال عبداً على رأس كل عشرين عاماً، وإن أباه رآهم مرة في أثوابهم الهولندية القديمة يلعبون لعبة الدبابيس التسع في أخدود بين الجبال، وأنه نفسه سمع بأذن ذات أصيل من أصائل الصيف صوت كراتهم يدوي كأنه قصف الرعود.
وجملة القول إن الزحام تفرق، والحشد انتثر، وعاد إلى مسائل الأعقاب، وأخذت رب ابنته إلى دارها ليعيش في ظلها ويطمئن في جنابها، وكان لها دار صغيرة دافئة حسنة الرياش، وكان لها زوج من الفلاحين ناعم البال رخى الحال، وقد ذكره رب بين الأطفال الذين كانوا يتشبثون قديماً بأذياله. ويعقلون كاهله، وأما ابن رب، ووريثه وشبيهه، ذلك الذي كان جالساً عند أصل الشجرة، فقد أرادوه على أن يعمل في الأرض ويبحث في المزرعة ولكنه أبى إلا أن يميل إلى ما ورث عن أبيه وأخذ.
وراجع رب عيشه الأول، وعاد إلى ملاعبه الأولى، ومعاهده الماضية، وعاداته النائية، ووقع على جماعة من صحابته القدماء. وخلصائه الأولين. فإذا هم قد طحنهم الدهر بكلكله،(15/69)
وأضعف من مرتهم بحدثاته، وأرهن من بأسهم بضرباته، فآثر أن يصطفي لنفسه أصحاباً من الشباب، وأخداناً من عصر الشباب، ولم يكن إلا حين حتى اكتسب مقتهم، وظفر بحبهم.
ورأى أن لا عمل لديه، وعلم أنه قد بلغ تلك السن التي يجوز للمرء أن يبلد بعدها ولا ضرار عليه ولا ذام، فأخذ مجلسه القديم إزاء النزل، وأكبره قومه ونادوا به رأساً من رؤوس القرية، وشيخاً من مشايخها. وعمدة يرجع في التاريخ إليه. ويعتمد في الرواية عليه. ومضى زمان قبل أن يستطيع أن يجاذب المجلس أطراف الحديث المردد. وقبل أن يعلم منهم غرائب الحوادث التي حدثت في غشيته. وكيف نشبت حرب زبون خلعت بها البلاد عنها سلطان إنجلترا عليها. وإنه لم يعد بعد رعية الملك جورج الثالث بل أصبح اليوم وطنياً حراً من الولايات المتحدة الأمريكية. وما كان رب سياسياً وما كان بالسياسة مشغوفاً. وقد تدل الدول. وتدور الممالك. وتستحيل الحكومات. فلا تترك لديه إلا أضعف الأثر. ولكن هناك نوعاً من الحكومة المطلقة. طالما تأوه من نيره. وكثر ما تكبد من سلطانه. وتوجع من سيطرته، وأعني به - حكومة ذات الوشاح.
والآن لشد ما كانت سعادته. إذ دالت هذه الدولة. وتقوضت هذه الحكومة. وأنقذت رقبته من ربقة الزوجة. وأعتق من أسار المرأة، وأصبح يدخل الدار كما شاء ويخرج كما يشاء لا يخشي من زوجة عسفاً ولا يرهب من مدام ونكل استبداداً ولا عنفاً. وكلما ذكر اسمها هز راسه. ورفع كاهليه. وحدق البصر، وهذه تحتمل أن تكون دليلاً على نكبته بفقدها أو برهاناً على غبطته بنجاته.
واعتاد أن يقص القصة على كل قادم ونزيل، ولاحظ السامعون أنه كان يتغير في بعض مواقع منها. وذلك لا ريب لأنه كان لا يزال إذ ذاك حديث عهد باليقظة وقد استقر به السرد على هذه القصة التي كتبتها. وما من رجل في القرية. ولا امرأة. ولا صبي إلا ويحفظها عن ظهر القلب. وادعى فئة من الجماعة أنهم يشكون في صحتها. وأصروا على أن رب كان ممروراً. وذلك ما جعله يظل في السرد متردداً متغيراً. ولكن الهولنديين من أهل القرية أجمعوا على أن القصة لا يشوبها من الكذب شائبة. وهم حتى اليوم كلما سمعوا في أصائل الصيف صوت المطر الراعد فوق الجبال قالوا هذا فندربك هدسون ورجاله في لعبة(15/70)
الدبابيس التسع. وكان كل زوج متطامن لزوجته مستعبد. إذا نقل عليه عبء الحياة. وناء بالعيش حملاً يمني النفس برشفة من قوارير رب فان ونكل!. (تمت)(15/71)
العدد 16 - بتاريخ: 30 - 4 - 1914(/)
رحلة دولة الأمير الجليل محمد علي باشا
شقيق سمو الجناب العالي الخديوي
كان شعار الأرستقراطية بالأمس الاحتجاب والاختفاء، وكان المبدأ السائد بين الأرستقراطيين اختفوا واحتجبوا!.
تلكم هي العظمة السجينة، وتلكم هي الأرستقراطية المحتجبة، عظمة لا يشهدها إلا خدمها وحرسها كما يشهد السجين سجانه، وأرستقراطية لا يستمد منها التاريخ الاجتماعي، وإن كان يستمد منها التاريخ المالي للأمة فإن من حسنات الرفاهية أن في إسراف الأغنياء مصلحة الفقراء، وفي ملاذ النبلاء معايش للتجار والباعة وإضرابهم ممن تحتاج الرفاهية وأبهة الإمارة إلى متاعهم وسلعهم ومباهجهم ومناعمهم. ولو أصبح نصف الأمة أغنياء مبذرين مسرفين، لأصبح سواد النصف الآخر قصابين وبدالين، ويومذاك لا يكون تاريخ الأمة إلا جداول وكشوفاً بحساب المصروفات والمقبوضات، وحسبك من مغبة ذلك أن الأمة لا تعيش إلا على أيدي المبذرين، وفي جيوب التجار، وأما العقول وأصحابا، والنبوغ وأربابه، والعلم وذووه، والأدب وأنصاره، فسلام عليها وعليهم، فهي وهم ثقال الظل في جناب الأغنياء، وحضرة الكبراء وهي وهم ليسوا من مستلزمات الرفاهية، ولا من متطلبات التبذير والإنفاق!.
على أن التطور الاجتماعي لم يدع سبيلاً إلى ذلك، وشاء التاريخ أن يكون كاتباً لا حاسباً، ومقرراً لا طارحاً ولا قاسماً، فأصبح الأمراء والنبلاء وجمع من الأغنياء يعملون لحياة الأمة وغذائها الفكري، مثل ما يعمل ذلك رجال الأمة، فقراؤها وأذكياؤها وعلماؤها وأدباؤها، بل إن في الأمراء الكرام الأماجيد، كثيرين يعملون بعقولهم الخصبة، وأرواحهم الكبيرة ونفوسهم الحارة الأبية، وجيوبهم الفياضة، وعزماتهم الثواقب الماضية، وهممهم البعيدة النائية، على خدمة الأمة أكثر من علمائها، لأن خدمتهم تطرد طردين، وتنساق مساقين، من عقولهم - وما أمتعها - ومن أيديهم - وما أسخاها وأسرعها - ومن ثم كانت عظمتهم عظمتين، ونيلهم نيلين، بل الروج ونبل الدم، وذلك لأنه إذا جرت الروح الديمقراطية في دماء الأرستقراطيين فعملوا على خدمة الأمة واكتساب حبها وثقتها، ومزجوا تاريخهم بتاريخها وخلطوا حياتهم بحياتها، ارتفعت عظمتهم، كمقياس الحرارة،(16/1)
ترتفع درجاته بتأثير الحرارة الخارجية، ولا تسمو العظمة ولا تزداد إلا أن يكون هناك ارتباط بين العظيم، بل ينبغي أن يجمع إليه حبهم، فإن الاحترام نوع جاف من الحب فإذا ظفر العظيم من الناس بالاحترام والحب، واستقر منهم في أسماعهم وأبصارهم وذاكرتهم وأفئدتهم، فسيطفر ذكره من جيل إلى جيل، ويثب من عصر إلى عصر، ويوصي به القرن الذي يمضي أخاه القرن الذي يقبل، وسيجري اسمه بين العصور المتعاقبة المترادفة حتى ينتهي إلى الأبدية، وهو أقوى ما يكون ساقاً، وأشد ما يكون عصباً، وأطول ما يكون نفساً، وكذلك يكون الخلود.
وقد ظفر بجملة ذلك الأمير الجليل محمد علي باشا شقيق الجناب العالي التكريم، فقد رأى من نبوغه ونشبه مادتين عظيمتين، وألقى من علمه وماله قوتين كبيرتين. فوقفها جميعاً على رقي الأمة وتقدمها، ورأى الأمة مفتقرة في كل فروع الحياة وأصولها، فأعانها في كلها، وأخذ بيدها في جميعها.
رأى رأي الشاعر تومبسون أن استخدام الجهد في شريف الأعمال ومجيد الأفعال، وحميد الآثار، والنهوض بأهل بلده من مهاوي الجهل إلى مراقي العلم، هو عنصر الحياة، فكان منه الخطيب والكاتب والأديب والبحاثة والمفكر والرحالة، فهو يعيش عيش أهل النبوغ وجبابرة العقول في الأجيال الماضية والأجيال المستقبلة، ينعم من الأولي بالبحث والتنقيب، ومن الأخرى بالعمل للمستقبل وتخليد المآثر والمكرمات. ووجد أن العمل على ترقية الأمة الغريرة، وتزكية الشعب الصغير، يتطلب السفر والتجواب في البلاد العظيمة، والممالك المتحضرة الراقية، ليعلم سر تقدمها وأسباب تأخرنا، فزار بلاد الغرب ثم بلاد اليابان، وجعل يبحث في شؤونها تارة بنظرة الفيلسوف، وطوراً بنظرة البحاثة، وطوراً آخر بنظرة الاجتماعي وحيناً بنظرة الأنثربولوجي ثم عاج بعد ذلك على الولايات المتحدة، ليرى مبلغ مدينة العالم الجديد ويشهد عظمة الأميركان، ويصور لنا أخلاقهم وعاداتهم، وعجائب مدينتهم، وغرائب أمورهم، ويعلم الفروق الاجتماعية والسيكولوجية، التي ترجع إليها عظمتهم وانحطاطنا.
وقد كان لنا الشرف الجزل أن زرناه في الشهر الماضي بقصره في الروضة شاكرين له إهداءه إلينا رحلته الجليلة، فوجدنا من لدنه أخلاقاً ديمقراطية عذبة، وشمائل عالية، يمتزج(16/2)
فيها أدب العثمانيين، بوداعة المصريين، وحديثاً جذاباً رقيقاً، لا أثر فيه للتكلف، بل تتجلى فيه شخصيته، ونفسه وعقله، وخلقه، وتلك مزايا الرجل النابغة، فإن النبوغ يجري في تضاعيف النفس مجراه في أوعية الذهن، وما النفس والذهن إلا ليتغذيا من بعضهما ويستمدا. ولو جئت بانبغ النوابغ، وأذكى الأذكياء، وكان مضطرب النفس، مكدر الروح، مربد العواطف، ثم أردته على أن يظهر نبوغه وذكاءه، لا تطبع اضطراب نفسه، وكدر روحه، في قوله وكتابته.
وصفاء وجدانات سمو الأمير الجليل، وحلاوة أخلاقه، دلائل على عظمته، إذ يقول استرابو الشاعر أنك لا ترى عظيم الذهن إلا وهو عظيم النفس، عظيم الخلق، عليم بالنظر إلى قلبه ونفسه، وإلا فكيف يعرف النظر إلى قلوب الناس واستقراء ضمائرهم ووجدانهم، من تكدرت نفسه واحتجبت وراء سحائب من الأكدار والأقذاء؟.
وقد قرأنا رحلة الأمير فما رأينا إلا الوصف الدقيق، والنقد المتين، والاستنتاج الراجح، والملاحظة الدقيقة، والفكاهة المستملحة، بل رأينا روحاً شرقية وثابة، قد خلصت من أغلال الجمود، وقيود المحافظة، تعجب بالجليل من مدينة الغرب، وتلفظ السخيف منها، وكم فيها من سخيف، وتستحسن الصالح من عادات الغربيين، وتعيب على الغث منها، وكأين فيها من غث.
رأينا رسوخ العقيدة، وصدق البأس، وشدة الإيمان، وشدة العارضة والغيرة على الشؤون المصرية والمصالح الشرقية، والحرص على الشرائع الإسلامية، والقوانين الدينية، والأبحاث البسيكولوجية، والاستنتاجات الأنثربولوجية.
وقد أعجبنا من سمو الأمير أن تخير لمقدمته قلم العالم الكبير والقانوني المفكر، سعادة المفضال عثمان مرتضى باشا، فقد أبدع صاحب المقدمة في وصف التطورات المادية والفكرية والاجتماعية التي تقلبت فيها الجماعات البشرية، وعظمة الشرق الماضية، وما ظهر فيه من المدنيات القديمة وأنواعها واستطر إلى الإسلام ومبادئه وأغراضه وتأخر الشرق وتقدم الغرب، ومصر الحديثة وأيادي الأسرة الخديوية الكريمة عليها وختم المقدمة بماهية الرحلة ومزاياها.
ونحن فلو أردنا أن تقتطف للقارئ ما جاء في عرض الرحلة من الآراء الناضجة والأبحاث(16/3)
الجليلة، والملاحظات الجميلة، لاستنفذ ذلك صفحات كثيرة ولكنا نجتزيء هنا بالشيء اليسير منها، ومن مقدمتها الجليلة:
يقول دولة الأمير في مسألة أصل الهنود الأمريكيين لما رأيت في منشوريا اليورجوت وقارنتهم بصور الهنود الأمريكيين التي رأيتها في بطاقات البريد (الكارات بوستال) التي اشتريتها في مكدن، علمت وقتئذ أنه لا بد أن تكون هنود أمريكا من هؤلاء اليورجوت، ومن سكان شمال آسيا وليس ببعيد أنهم هاجروا إلى هذه البلاد في الزمن القديم من طريق كامتشتكا، وعلى ذلك يكون الآسيويون هم البادئين في كشف أمريكا قبل كريستوف كولومب، ولكن لما كانت حالتهم وحشية ومعارفهم قاصرة، واختلاطهم بباقي العالم معدوماً. ولا توجد بينهم وبين الأوروبيين مواصلات ولا مكاتبات فإن اكتشافهم لم يعلم به أحد، ومع ذلك لا يمكن تأييد هذا الرأي بإقامة برهان عليه من معلومات هؤلاء الهنود أنفسهم لأنهم لا يعرفون هم أنفسهم أصلهم ولا يدرون تاريخهم فإذن لا يمكن الاتيان ببراهين قاطعة على صحة هذا الرأي الأمثل هذا الاستنتاج الذي وصلت إليه أثناء زياراتي منشوريا ومقارنتي سكانها بأولئك الهنود الأمريكيين، والشيء الغريب الذي لفت نظري في هذه المعروضات وجود (رأس لجام) مكسيكي بد رسم الهلال وحديدته عربية فقلت إن ذلك من مخلفات العرب وآثارهم فإننا نعلم أن الإسبانيين هم الذين أتوا أولاً وحاربوا مكسيكا، وبما أن أسبانيا كانت ملكاً للعرب وبعد نزعها من أيديهم لابد وأن تبقى فيها آثارهم الحربية والاسبانيون الذين حضروا لفتح مكسيكا ربما كان بينهم من أحفاد العرب أو من المعجبين بأدواتهم الحربية من أحضروا معهم هذه المخلفات التاريخية وبعدها انتقلت من مكسيكا إلى هنا على أنها تحف تباع للسائحين والذي أيد فكرتي هذه وجود سروج عربية بكامل أدواتها معروضة أيضاً للببيع وهي بلا شك من مخلفات الأندلسيين المغاربة.
ويقول حفظه الله في خطبة بليغة عصماء ألقاها بين أعضاء جماعة الاتحاد السوري في نيويورك:
لست ممن يودون المعيشة الهادئة بدون أداء واجبات الأمة، لأني أرى عدم الالتفات إلى هذه الحقوق المقدسة من أكبر الذنوب وأعظم العيوب والنقائص. إن مهمتنا ليست في الحقيقة من الصعوبة بمكان أن اجتمعت كلمتنا وقويت الإرادة في الحصول على المركز(16/4)
العالي الذي نريد أن نختاره بين الأمم. والطريقة الوحيدة التي أعتقد أنها توصلنا إلى غايتنا هي أن يعتقد كل فرد منا أنه قادر على خدمة بلاده بصدق وأمانة، يتحمل الصعوبات مهما كبرت، والمشقات مهما كثرت.
واسمع ما يقوله دولة الأمير غيره على الشرق وغضبه للآداب الشرقية، والأخلاق الإسلامية:
إن التهتك والتبرج بلغا أقصى غايتهما، ومما يملأ القلب أسفاً إن ذلك لم يبق مقصوراً على البلاد الغربية فإنه أخذ يتسرب إلى بلادنا وينتشر فيها بسرعة مدهشة، فأين آدابنا الشرقية وأخلاقنا الإسلامية، إني أرى إهمالاً شديداً في المحافظة على عوائدنا القديمة، وقد التبس الأمر على الشرقيين في فهم معنى الحرية وأساؤوا التصرف في الانتفاع بها وتذرعوا بها إلى هتك حرمة الآداب وتقويض دعائم الأخلاق الكريمة، ولو تيقظوا لعلموا أن الحرية حق من حقوق الرشيدين من عباد الله جل شأنه، منحهم إياها ليتسعينوا بها على تنظيم أحوالهم وترقية شؤونهم واستعمال مواهبهم فيما خلقت لأجله والتمتع بما أباحه الله لهم، فليس في معنى الحرية الخروج عن حدود الآداب وخرق سياج الفضائل، فإن ذلك سائق إلى مهاوي الهلاك، إن كلمة حرية كان يقصد بها أولاً تخليص الإنسان من أطوار العبودية والرق يوم كان القوى يتغلب على الضعيف فيأخذه أخذ عزيز مقتدر ويسخره في مصالحه كحيوان أعجم مملوك له يتصرف فيه كيفما شاء، فلما استنارت العقول رأت أن ليس لمخلوق حق السيادة على آخر، وإن كل عبودية من الإنسان للإنسان حطه ودناءة وإن الإنسان سيد نفسه إلا أمام خالقه، ولا تفاضل بين بني آدم إلا بمقدار ما لهم من المدارك وفضائل الأخلاق ومحاسن الآداب.
هذا هو معنى الحرية التي جعلها الحق جل شأنه من حقوق عباده، وهي بهاذ المعنى أكبر أركان سعادة الإنسان، فيها يحيا العدل ويموت الظلم، وبها يتخلص الإنسان من قيود الذل إلى بحبوحة العز، بها تكون للحياة قيمة، وبدونها لا معنى للحياة، فإذا خرج الإنسان بالحرية عن هذه الدائرة إلى انتهاك الحرمات والانغماس في الشهوات، وإطلاق العنان للنفس، انقلبت إلى حرية العجماوات السائحة في بواديها، فهام في ظلمات الضلال، وإذا كانت هذه الحرية المطلقة هي غاية المدينة الحديثة فجدير بها أن تسمى همجية. .(16/5)
ويقول سعادة عثمان مرتضى باشا في مقدمته الجليلة:
ظهر في الشرق مدنيات كثيرة ترجع كلها إلى مصدرين:
أحدهما رقي تدريجي وراثي في الهيئات الاجتماعية.
ثانيهما: رقي منبعث عن الفكرة الدينية.
فمن النوع الأول مدنية المصريين القديمة التي من أهم مميزاتها رقي الفكر وتوجيهه إلى إتقان الصناعة واتجاه العقول إلى نور العلم في عصور مطبقة الظلام.
ومن الأول كذلك مدنيات اليونانيين المقتبسة من المدينة المصرية ثم مدنيات الآشوريين والفينيقيين والقرطاجنيين.
أما مدينة النوع الثاني فقد ظهر في الشرق ثلاثة خضع لمبادئهم الدينية القسم المتمدين في العالم.
ظهر أحدهم في مصر وهو موسى عليه السلام، أرسله الله تعالى ليضع للعالم القوانين التي تلائم ذلك العصر هداية من الخالق ونوراً لبني البشر.
وظهر الاثنان الأخيران في الشام وبلاد الشام.
أحدهما عيسى عليه السلام، أقام للناس قبساً سطع نوره حتى بهر العالم إذ كان سراج هذا القبس مستخرجاً من معدن الآداب العالية والأخلاق الكريمة هداية كذلك من الخالق ونوراً لبني البشر أجمعين.
ثم ظهر بعده هذا العربي الهاشمي الذي فاق الأنام في علو المدارك وسمو الأفكار. كما كان أكبر وأقوى من خدم الإنسانية بأسرها بإرشاد الناس بالحكم القويمة والتعاليم الراقية الكريمة التي بعثه الله لنشرها في كل الكون سلاماًَ وبركة ورحمة للعالمين.
بزغ نور تعاليمه الإسلامية من سماء بلاد العرب ثم انتشر في أرجاء آسيا، وسرعان ما انتقل إلى أفريقية الشمالية مبتدئاً بمصر ماراً ببلاد المغرب مجتازاً بحر الروم حتى وصل إلى أوروبا من مطالع الأندلس. ففك المقول من أسرها، وأرشدها إلى أن لها حقوقاً وعليها واجبات، وأضاء لها مناهج الحياة العلمية والعملية، وعلمها كيف نتيجتها فخرجت بذلك من الظلمات إلى النور ومن الموت إلى الحياة بتلك الروح الجديدة روح التمدين الإسلامي والزكاء الشرقي.(16/6)
طافت هذه الروح على البشر منذ ثلاثة عشر قرناً تدعو الناس إلى الإخاء والتعارف بين جميع أفراد المعمور على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم وتباين مذاهبهم ومشاربهم، وتدعوهم إلى التضامن الإنساني في كل أطوار حياتهم. وتدعوهم إلى جعل العدل أساساً لمعاملاتهم الاجتماعية والسياسية كما تدعوهم إلى استعمال الرحمة والحنان. حاثة على مكارم الأخلاق حاضة على التمسك بوسائل العمران، وقد رسمت لهم طريقاً جديداً لم يسبق له مثال في السواء والسهولات وتقريب المسافة في تحقيق وصول الآمال للسعادة الدنيوية والنعيم الأبدي.
تنادي تلك الروح الجنس البشري بأعلى صوتها.
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا.
وتقول لهم:
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
وتقول:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
كما تقول حاضة على الحركة والعمل:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وإن سعيه سوف يرى.
وتقول مهبط تلك الروح صلوات الله عليه واطلبوا العلم ولو بالصين وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
دين كله تعارف وإخاء وعدل وعلم ورحمة وحركة وعمل وفكر وتنبيه كان من شأن انتشاره في أرجاء الدنيا أن تيقظ لحكمة الناس أجمعين المؤمنون به وغير المؤمنين وليس من الغريب إن هذه الحركة الإسلامية كما مدنت الشعوب المتبربرة وأكسبتهم مدنية أقر لهم بها التاريخ كان لها صدى في الغرب الذي كان حينذ تائهاً في ظلمات الجهالة، غارقاً في لجج الهمجية، لا يبصر الضوء إلا من سم الخياط ولا يتنسم الحياة إلا من مطالع الشرق لأن تلك الحركة الإسلامية لم تجيء لتخلص بمزاياها أقوى معينين بل هي جاءت لسعادة الإنسان من حيث هو إنسان.(16/7)
أفاقت كل هذه الحركات التمدينية الشرقية الغرب من رقدته الطويلة التي كان تائهاً فيها، كما أيقظت عزيمته التي طال عليها الفتور فارتحل النشيطون من أبنائه إلى بلاد المشرق واغترفوا من بحاره العذبة ومناهله الرطبة كل ما كان غريباً منهم مجهولاً لديهم من أنواع المصنوعات والحرف وأخذوا من ذلك الحين يشمرون عن ساعد جسدهم مشتغلين على الأخص في الماديات متنقلين في الصناعة والتجارة والزراعة والملاجة من سيء إلى حسن ومن حسن إلى أحسن ومن كامل إلى أكمل.
سار الغرب على هذا النمط المرغوب فيه جداً في جميع مرافق الحياة الضرورية والحالية والكمالية حتى نال من المنعة والقوة والسلطان الدرجة التي هو عليها ألان وسبق الشرق في الماديات بعد أن كان مسبوقاً، وساده بعد ان كان مسوداً وحقق الحكمة الشرقية لكل مجتهد نصيب وعجيب إن الغرب في سيره إلى الحضارة لم يطرق الأنفس الطريق الذي بذل الشرقيون وأجدادهم الكرام مهجهم الغالية في تمهيده وتنسيقه، وهم لوقوف السفكر الشرقي عند الحد الذي وصلت إليه مصنوعاتهم ومتاجرتهم وملاحتهم وعدم تقدمهم فيها إلى الإمام بنفس الخطى السريعة التي خطوها في الأدبيات بوجه أعم، وفي علوم الفلسفة والبلاغة والمنطق وعلم الكلام بوجه أخص، مضافاً إلي ذلك تفريط الخلف في المحافظة على متروكات السلف سيما الماديات منها كانوا قد ضلوا عنه وجعلوا غيرهم من هؤلاء الغربيين الذي كانوا وراءهم فيه بمراحل يسبقونهم إليه واكتفوا بقبول تعويض بسيط تاريخي عما فقدوا بأن نالوا من الغربيين إقراراً لهم بفضل السبق عليهم فيه.
كبا الشرق في الماديات أو وقف ساكناً عند حد جهاد أبنائه الأولين. وخصص النفيس من أوقاته الغالية في الاشتغال بتلك الأدبيات مهملاً الماديات التي عليها قوام الحياة، والتي هي موارد الثروة الحقيقة، فبعد أن كان مطلع شمس الفنون وينبوع الصنائع والعلوم، وبعد أن كان أستاذ الغرب فيها من غير مراء انقلب حاله من أحسن إلى حسن ومن حسن إلى سيء على العكس تماماً من الخطة العمرانية الحديثة التي اختطها الغرب لنفسه، بل أصبح الشرق يلتمس نوره من زهراء الغرب. كل ذلك لأن الشرق وجه التفاته للأدبيات دون الماديات التي أهملها كل الإهمال ولأنه خفف سيره إلى الأمام في وارد الرزق والثروة في حين أن الغرب كان ينهب الأرض نهباً طلباً للاتساع في الممتلكات والمقتنيات لا يعرف(16/8)
للقناعة حداً ولا تحجبه عن نيل غاياته ومطامعه شم الجبال ولا لجج البحار بل حملق إلى السماء يريد استخدامها أيضاً حتى خضعت لمشيئته الأرض وما فيها وما عليها.
بعد ذلك كان حقاً على الشرق أن يترك للغرب تراثه القديم تراث العز والسلطان تراث العلم والعرفان والثروة والسعادة في اليوم الذي تخلى فيه عن تلك الصفات والمميزات التي ضمنت له قديماً جمع هذا التراث.
نعم نام الشرق نوماً عميقاً واستغرق فيه حتى أيقظه من أوروبا ومن أمريكا حركة قوية تحمل عجائب المصنوعات وغرائب المخترعات براً وبحراً وهواء، وأرهقه مناد يناديه كيف حلا لك النومة وهو مر علقم ولذلك الرقاد وهو السم الزعاف، ثم ذكره بنظرية تنازع البقاء وبقاء الأنفع فلقي هذا الصوت في بلاد اليابان آذاناً صاغية وقلوباً واعية في أمة نشيطة كانت خير مثال بتمنى كل شرقي أن يحذو حذوه وأن يتبع خطاه.
رن هذا الصوت في مصر فتداركه هذا الرجل الكبير الجليل القدر المعدود واحداً من اثنين نبغاً في عصره. هو الحاج محمد علي باشا رئيس عائلتنا المصرية الملوكية الكريمة فالتفت للأدبيات والماديات على السواء، ووجه لهما عنايته الفائقة النادرة المثال فانتشل الأمة مما كانت واقعة فيه من المهاوي السحيقة. فالمدارس أنشأها والإرساليات العلمية قررها وتعهدها، والفاويقات من جملة أنواع أسسها وبناها وأنجحها، والترسانات والأرصفة والجسور والترع والقناطر وكل شيء حيوي في البلاد باشره بنفسه واستخدمه لقائده بلاده، والجيش والبحرية قواهما بعد أن رباهما على النسق الحديث المتين، وبأصالة حكمه وحسن درايته وطد الأمن في البلاد وافتتح القسم العظيم من الأقطار السودانية وضمها على بلاده العزيزة. وعليه فإن مصر مدينة بتمدينها الحديث لتلك العائلة الخديوية الكريمة، وتاريخ مدينتها الحديثة مقترن بتاريخ الحكم العلوي من غير مراء ولا نزاع على آخره إلى آخره.(16/9)
سر عظمة العرب
بقلم الدكتور جوستاف لوبون
بينا نحن نقرأ في كتاب حضارة العرب. ذلك الكتاب القيم الذي أخرجه الفيلسوف البحاثة الدكتور جوستاف لبون. والذي يدأب اليوم في نقله إلى العربية الكاتب المشهور محمد أفندي مسعود. إذ عثرنا في أخريات صفحاته بمبحث ضاف يكاد يكون فلسفة الكتاب وزبدة مباحثه تناول في القسم الأول منه البحث في الأسباب التي عملت على عظمة العرب وارجع منها ما أرجع إلى القوانين البسيكو لوحيه وأحال ما أحال منها إلى النواميس الطبيعية والاجتماعية. وأفرد القسم الثاني للكلام على أسباب سقوطهم. فآثرنا أن ننشر في هذا العدد القسم الخاص بسر عظمة العرب وفي العدد الثاني القسم الآخر الخصيص بسر سقوطهم: قال الدكتور تحت العنوان المذكور سر عظمة العرب.
نختتم تاريخ حضارة العرب بإلقاء نظرة عامة نجمل بها القول على أسباب عظمة العرب وسر تدهورهم.
فأول عامل مهد السبيل لعظمة العرب وسؤددهم، هو الظروف التي فيها نبغوا، والزمن الذي فيه ظهروا، فإن للظروف عاملاً تمهيدياً يجري على الأفراد جريانه على الشعوب، وله في تكوينهما أكبر الأثر. وإن كثيراً من الصفات والمميزات لا تستطيع ظهوراً ولا رقياً إلا في ساعات مناسبة لها، وظروف موافقة لرقيها. ولا مراء في أن نابوليون ما كان ليصبح سيد أوروبا وعظيمها، لو كان ولد تحت لويس الرابع عشر، ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم خرج إلى العالم في عصر عظمة الرومان وإقبال دولتهم وضخم قوتهم، لما استطاع العرب آخر الدهر أن يخرجوا من جزيرة العرب، بل ولأنكرهم التاريخ وظلوا في الخمول يضربون.
ولد محمد الزمان المقرر، والساعة الموافقة، وقلنا أن بظهوره تداعي العالم القديم، في جميع أرجائه، وجملة نواحيه، وما كان ليعوز عصبة النبي ورجاله إلا أن يلمسوا بنيان هذا العالم، فإذا هو أطلال بالية، ودمن عافية.
على أن هدم كيان أمة لا يكفي لتأسيس بناء مدنية، وإن في عجز البرابرة الذين خلفوا على المدنية الرومانية في المغرب، كما خلف عليها العرب في المشرق، الدليلا على صعوبة هذا(16/10)
الأمر ومشقته، وليس في مكنة الظروف إلا أن تذلل السبيل إلى إنشاء دولة جديدة، وأحداث مدنية طريفة، وينبغي أن يكون من وراء الظروف عوامل أخرى ضرورية نحن الآن آخذون في تقريرها.
ففي رأس هذه العوامل تأثير الجنس، وقد أثبتنا أن خير ما يشخص الأمة ويميزها أن يكون لها مقدار معين من العواطف والاستعدادات والأميال المشتركة، تتغلغل في أفرادها، وتسوق سعيهم وجهدهم إلى مطلب واجد، ومعنى فذ. ومجموع هذه العواطف المشتركة، الناشئة من تراكم الصفات المتوارثة، وأعني بها الخلق الأهلي، هو الوراثة عن ماض لكل من آبائنا وأسلافنا يد في إنشائه، ونحن كذلك نعمل على تكوينه لولدنا وأخلافنا، والخلق بالأهلي وإن اختلف في كل أمة، فقليل الاختلاف بين بنى الجلدة والواحدة، وأهل البلد الواحد.
ولا مراء في أن على هذه العناصر الأساسية للخلق الأهلي، يبني كل جيل، وينشئ كل عهد، ويشيد كل عصر، ولكن بنسبة هي من الضعف والقلة بحيث تحتاج إلى تصرم القرون والأجيال التي ينتج تكاثر هذه التطورات تغيراً محسوساً، وقد يبدو للناس في بعض الأحايين أن التربية والوسط والظروف تحدث بجملتها تغيرات سريعة، ولكنها في الحقيقة لا تلبث أن تزول، لأنها عرضية.
على أن المميزات الأخلاقية والخصائص الفكرية لشعب من الشعوب هي كخصائص الأنواع ومميزاتها الطبيعية ثبوتاً ورسوخاً، ونحن نعرف اليوم أن خصائص الأنواع تنتهي على مر الزمان بالتغير والتحول، ولكن تغيرها نهاية في البطء حتى عدها علماء الطبيعة كأن لا تحويل لها ولا تبديل.
وقد حاولت في مؤلف لي أن أثبت أن ليس بقوة الذهن، وإنما بارتباط العواطف وتوحدها، يتألف الخلق، وما الخلق إلا الأساس الذي تبنى عليه الأمة، ومن ثم كان حقاً على من أراد أن يتوصل إلى شرح الأدوار التي يلعبها الأفراد والشعوب على مسرح التاريخ أن يبدأ بفحص خلقهم واستقرائه، فإن الحكم الذي أدلى به قيصر، ووسم به أبناء فرنسا الأولين، وهو حب الثورات، والميل إلى خوض غمرات الحروب، من غير داع ولا سبب، والاستسلام لأحداث الزمان ليشرح الحوادث التي وقعت لها في ماضينا.
وإن من السهل الرجوع إلى التاريخ للاستشهاد بأن نتائج الخلق تختلف تبعاً للظروف وإن(16/11)
المحاسن والمساوئ التي تنسب إليها عظمة أمة من الأمم في عصر من العصور ليصح أن تصبح منشأ سقوطها في عصر آخر. وفي حال العرب مثال لذلك، وإذا حللنا اختلاف النتائج تحليلاً وافياً دقيقاً، لكشف لنا هذا التحليل أن الأسباب واحدة، فقد يبدو لنا من أول وهلة أن بين اليوناني في عهد بريكلين. وبين البيزانطي في أخريات دولة الرومان هوة سحيقة. وبوناً شاسعاً، وذلك هو الواقع لو نظرنا إليهما من الوجهة الاجتماعية. على حين أن أساس الخلق فيهما لم يتحول ولم يتبدل. وإنما هي الظروف وحدها التي عدا عليها التحول والتبدل. فلما انتقلت نعومة اليوناني ورقته ودهاؤه الفلسفي وعذوبة لغته. إلى بيئة غير بيئته. ووسط غير وسطه وزمان غير زمانه. إذا هي قد راحت في البيزانطي غدراً خلاباً. ودهاء دينياً. وثرثرة حمقاء. وإن التفتيشي في القرون الوسطى. في طبائعه الجامدة الصلبة: واليعقوبي الحديث. في الحادة الوحشي. وطبائعه الثورية الهائجة. ليكادان يكونان جد مختلفين. على أننا لو أنعمنا النظر لحظة واحدة. لبدا لنا أن الثاني ليمت إلى الأول بلحمة القرابة والشبه. ولم يتغير فيهما إلا اسم العقيدة.
ويرتبط بهذه العناصر الأساسية لخلق الأمة. وهي في رسوخها وثبوتها كالفقار في الحيوانات الفقارية. طائفة من العناصر الثانوية. وهي في تباينها كالقامات والهيئات والألوان في تلك الحيوانات: على أنا لنصيب إذا قلنا أن الآراء والأذواق هي التي تتغير وتتحول. ولكن تغيرها لا يمس العناصر الأساسية لخلق الأمة. فإن هذه أشبه بالصخرة الصماء. تتقاذف فوقها الأمواج،. وتعتلج أبداً عليها اللجج. دون أن تزعزعها عن مكانها المسكين. وما أشبه الآراء والأذواق بأطباق الرمال. ومهيل لسباسب. وركام الخرزات. ومنثور الأعشاب. التي ترمي بها الأمواج فوق هذه الصخرة. لتنهض عليها وترتفع:
ومن ثم كان المرجع في الموازنة بين الشعوب هو البحث في العناصر الأساسية لخلقها الأهل. وقد وفينا هذه العناصر في خلق العرب حقها من الوصف فلا حاجة بنا الآن إلى ذكرها. بل نترك الآن ما قلناه عن قوة أذهانهم. . وحمية نفوسهم. وأميالهم الأدبية والفنية. مما لا تقوم المدينة بسواه. ولا تسموا الحضارة بدونه. ونقتصر هنا على ذكر ما يخص عاداتهم القديمة في الحرب. فإن في هذه العادات مثالاً بيناً على ما ذكرناه من قبل. وهو أن الاستعدادات والأميال المتشابهة قد تؤدي تبعاً للظروف إلى نتائج مختلفة بعضها عن بعض(16/12)
كل الاختلاف. فهذه عادات العرب في الحرب كانت مستمكنة من نفوسهم. متأصلة في أعراقهم. حتى لقد كانت جزيرة العرب قبل النبي ساحة حرب ما يبرد هنا وطيس. ولا ينفض قتال. فلما انضووا تحت دين واحد. وخضعوا لسلطان عقيدة عامة. إذا بهم قد صاروا ألباً واحداً على الأعجمي. فكانت عاداتهم الحربية سبباً من أعظم أسباب انتصاراتهم: حتى إذا دانت لهم الأعداء. وخضعت الرقاب. ولم يبق منهم من يساجلونه الحرب والقتال. عادوا إلى مطاوعة خلقهم الحربي ومتابعته. فشهروا رماحهم في وجوههم، وامتشقوا أسلحتهم على أنفسهم. فكانت طبائعهم التي ضمنت عظمتهم ومجدهم، هي نفسها التي أفضت إلى سقوطهم وتدهورهم.
ولا يفي من قولنا أن خلق الأمة قد يحدث تبعاً للظروف نتائج مختلفة جد الاختلاف، إن الظروف وحدها لا ينهض فوقها تطور الأمة بل إن من الظروف عوامل أخرى لها أثر مشهور في هذا التطور.
وفي طليعة هذه العوامل التي بقي علينا الآن بحثها، ذلك العامل الذي ألف بين شعوب العرب وقبائلهم وبطونهم، ودمجهم في أمة واحدة، وكانوا من قبل منقسمين متباعدين، وذلكم العامل هو الدين الذي جاب محمد، فقد أتى هذا الدين بالمثل الأعلى إلى قوم كانوا من قبل خلواً منه صفراً.
أجل. جاء هذا الدين بمثل أعلى يثير في قلوب عصبة المستمسكين به حمية تدفع بهم أجمعين إلى تضحية نفوسهم في سبيله.
ولقد سبق لي أن أعدت القول وكررت أن دين المثل الأعلى من أقوى العوامل على تطور الجماعات الإنسانية، وحسبك من قوته أن ينشئ للأمة عواطف عامة، وأماني مشتركة، وإيماناً حياً، فلقد كان المثل الأعلى في أمة الرومان عظمة روما. وكان عند المسيحيين الأمل في حياة أخرى حافلة بالمناعم والمباهج، وقد صور الإنسان العصري آلة له جديدة، على غرار الآلهة القديمة في عدم عصمتها، وإن كان يقيم لها التماثيل بحق. ويرفع لجلالها الدمى، وإن لهذه الآلهة لتاثيراً صالحاً. يكفيك منه أنه قد يوقف الجماعات الهرمة والشعوب المتدهورة عن الانحطاط والفناء حيناً من الدهر.
وما التاريخ إلا رواية الأحداث والأفعال التي قام بها الناس سعياً وراء المثل الأعلى. ولولا(16/13)
هذا المطلب لظل الإنسان عن بربريته. ولما كان له من المدينة نصيب. وانحطاط الأمة يبتدي يوم لا تملك الآم لنفسها مثلاً أعلى تحترمه بجملتها. يدفع كل فرد منها بنفسه في سبيل حمايته والذود عنه.
وقد كان المثل الأعلى الذي أنشأه محمد مثلاً دينياً من كل وجوهه. وامتازت الجولة التي أسسها العرب بهذه الميزة المنفردة. ذلك أنها كانت الدولة العظيمة الفذة التي قامت باسم الدين ومن الدين استخلصت جميع أنظمتها السياسية والاجتماعية.
ولكن أيكفي هذا العامل الأكبر. ونعني به المثل الأعلى. وتلك العوامل التي جئنا بها من قبل. لبيان عظمة العرب؟.
كلا. فنحن لم نستغرق في كل ما قلنا إلا لحظة واحدة. لقد قلنا تداعى العالم القديم. تاهبت لفتحه أمة حافلة بالصفات الحربية مجتمعة عصبة واحدة برباط دين عام بقي عليها أن تقوم بالفتح المبين. وأن تعمل فوق ذلك على حراسة هذا الفتح وحمايته.
ونحن رأينا كيف كانت فتوحات العرب. وكيف كانت غزواتهم. كيف خرجوا من بلاد العرب فانهزموا بادئ بدء إزاء وراث العظمة اليونانية الرومانية. فلم يهن بأسهم ولا تولت شجاعته. بل تعلموا من غالبيهم. وأخذوا عن هازميهم. حتى إذ أصبحوا من الوجهة الحربية أكفاءهم. ومضوا بعد ذلك في الوغى أقرانهم وأضرابهم. لم يعد هناك موضع للشك في فوزهم.
ذلك لأن كل جندي في جيش العرب كان على أهبة أن يهب روحه ومهجته في سبيل انتصار الفكرة التي كان يقاتل في الهيجاء ويجاهد تحت درعها. على حين كانت التضحية وبذل المهج والحمية والعقيدة قد أسلمت الروح في جيوش الروم منذ أمد مديد.
لقد كان من الجائز أن تطمس الانتصارات الأولى على أبصار العرب وتضرب على أعينهم. فتقودهم إلى التطرف شأن كل غالب. وحال كل منتصر فائز. ويحملهم فوق ذلك على أن يسيئوا معاملة المهزومين. ويكرموهم على اعتناق الدين الجديد الذي نهدوا النشرة في أرجاء العالم وفجاجة التي لم تخضع بعد لحكمهم. ولم تذل لصولتهم.
ولكن العرب أصابوا الحزم في تجنب هذا التألب الداهم. وتحامي هذه التهلكة الجلل. التي لم يعرف الصليبيون كيف يتجنبونها ويتفادون من شرها. يوم جاء دورهم فنفذوا إلى الشام.(16/14)
فإن الخلفاء الراشدين فطنوا ببراعتهم السياسة التي أندر ما توجد بين أشياع دين جديد وصحابة عقيدة حديثة إلى أن الشرائع والأديان لا يتهجم بها على الناس. ولا تدخل عليهم بالعنف والإكراه. وقد شهدنا العرب في كل مكان دخلوه. وكل بلد فتحوه. في الشام وفي مصر وأسبانيا. يعاملون أهلها بالحسنى. ويأخذونهم بالعرف. ويداورونهم بأعظم اللين وأحسن الوداعة. تاركين لهم شرائعهم وقوانينهم ودياناتهم. غير ضاربين عليهم في مقابل السلم. الذي ضمنوه لهم والأمان الذي أحلوهم فيه. إلا أتاوة زهيدة. وحزبة طفيفة. كانت في أغلب الأحوال أقل من تلك الضرائب التي كانوا يرفعونها من قبل. ولم تشهد هذه الأمم فاتحين يوماً بهذا التسامح. ولا غالبين بهذا اللين وذاك الحدب. ولا عرفوا من قبل ديناً بهذه العذوبة وهذا اللطف.
وكان هذا التسامح وهذا اللطف. وإن تجاهلهما المؤرخون وبالغوا في إنكارهما، سبباً من أسباب السرعة التي بها امتدت فتوحات العرب. وداعياً من أهم الدواعي التي ذللت في كل مكان نشر دينهم وشرائعهم ولغتهم. ونحن نعلم أنها استقرت واشتدت أصولها بين الأمم التي اعتنقتها وسارت على هديها وأنها وقفت بعد ذلك حيال كل هجوم ونهضت إزاء كل غارة. وقام منارها بعدما ذهبت ريح العرب من مسرح العالم.
وأنت لا تجد هذه الحقيقة الرهيبة إلا في حال مصر. فإن الفرس واليونان والرومان الذين تسودوا عليها. وبسطوا فوق أرضها أروقة نفوذهم، لم ينجحوا يوماً في هدم مدينة الفراعنة القديمة. ولم يتوقفوا إلى إسقاطها وإقامة مدنياتهم على آثارها.
ثم ننتقل إلى أسباب أخرى غير تسامح العرب. وعذوبة سلطانهم. وحسن ملكتهم. وما رجع إلى ذلك من نجح دينهم وثبات الأنظمة التي استخلصت من هذا الدين. فنقول إن هذه الأنظمة كانت من السهولة بحيث توافق حاجات الطبقات المتوسطة في الأمم التي استكانت للعرب. فإذا حدث أن هذه الأنظمة لم تلائم كل الملائمة هذه الحاج. كانت العرب أعلم بتحويرها وتذليلها كما تقتضيه الضرورات. ولذلك ترى بين الأنظمة الإسلامية في الهند وفارس وبلاد العرب وبلاد المغرب ومصر فروقاً. هي في بعض الأحيان كبيرة. وإن كانت ترجع إلى قرآن واحد. وتائم بهدى كتاب فذ.
والآن وقد بلغنا بك حيث انتهى العرب من فتح العالم. فلم ننته بعد من بحثنا الذي أخذناه(16/15)
على أنفسنا. لأن عصر هذا الفتح لم يكن إلا وجهاً واحداً من وجوه تاريخ عصبة النبي ورجاله. ولم يقف أمر العرب عند فتح أقطار الدنيا وغزو ممالكها. بل لقد أسسوا مدينة جديدة لا دخل فيها للعوامل المتقدم ذكرها. فلا بد أن يكون لها نمت دواع وأسباب.
هناك سببان قاطعان جازمان. يؤول إليها أصل هذه المدينة الجديدة. أولهما الوسط الجديد الذي وجد فيه العرب. وثانيهما استعدات فرائحهم وإفهامهم.
فأما الوسط فقد ذكرناه لك آنفاً وصفناه. وقلنا ما كاد العرب يخرجون من مهامه جزيرتهم وينسلون من فدافد أرضهم. حتى ألفوا أنفسهم إزاء بدائع المدينة اليونانية الرومانية. وما كان أغربها لعيونهم وأشدها أخذاً بمجامع أفئدتهم فلما تبينوا تفوقها الذهني. كما تبينوا من قبل تفوقها الحربي. جاهدوا في مضاهاتها. ودأبوا في مساواتها ومجاراتها.
ولكن مجاراة مدينة مستبقة متفوقة ينبغي لها بادئ بدئ روح قابلة خصبة. إذ حسبك بياناً لصعوبة هذا العمل تلك المجهودات المضيعة الخائبة التي حشدها البرابرة زهاء قرون وأجيال لانتحال آثار المدينة اللاتينية والانتفاع بها. وما كان العرب بحمد الله أمة بربرية. وما كانوا قوماً همجيين. ونحن وإن كنا لم نعلم ما كان من مدينتهم في العصر الذي تقدم عصر محمد، حين إذ كانت بينهم وبين سائر الأمم رابطة المتاجرة. فقد أثبتنا لك إنهم كانوا يوم ظهر النبي فيهم على رقى في الأدب بالغ. ومعلوم أن العالم أو الأديب إذا جهل كثيراً من الأشياء أعانته استعداداته الذهنية على استظهارها ووعيها. وكذلك استعان العرب على فهم العالم الجديد في أعينهم. الطريف لأنظارهم. بنفس الحمية التي جاؤوا بها إلى فتحه. وعين الأريحية التي أقبلوا بها لغزوه.
ولم يأت العرب في بحث هذه المدينة التي ألفوا أنفسهم بغتة إزاءها. بشيء من مؤثرات الخرافات التي انقضت ظهور البيزنطيين دهراً طويلاً وأثقلت كواهلهم أمداً مديداً. ولذلك كانت حرية أرواحهم. وخلوصها من قيود الخرافة. وأسار الأوهام سبباً من أسباب ارتقائهم السريع. وكثيراً ما يحدث في حياة الشعوب إن تأثير الماضي قد يفيد الأمة دهراً. ويؤتيها من لدنه خيراً. ثم لا يعدو بعد ذلك أن يستبد بها. ويجعلها تنزل على حكم الخرافات الماضية. ويحول بينها وبين كل تقدم ورقي.
وإن الاستقلال الطبيعي الذي نشأت عليه أرواح العرب. وتصورهم وابتكارهم. لتتجلى في(16/16)
تلك البدائع الجديدة التي أحدثوها. وقد أبنالك أن العرب لم تلبث طويلاً إن وسمت عمارتها وفنونها. وفي نفس الوقت علومها. بذلك الطابع الشخصي الذي يتبين في أعمالها وآثارها من النظرة الأولى. ولما كانت الفلسفة النظرية التي جاء بها اليونان قل ما تلتئم مع طبيعة أرواحهم. لم يأخذوا عنها إلا النزر القليل وكان أحب الأشياء إلى نفوسهم الفنون والعلوم والأدب وقد وصفنا لك الرقي الذي كان على أيديهم في هذه الفروع المختلفة. بما فيه الكفاية والغناء.
تلك هي الأسباب الهامة التي تؤول إليها عظمة العرب. فهلم الآن نبحث في سر تدهورهم.(16/17)
صفحة في الأدب
حدث أبو سعيد الخدري قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله فقال: إني أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها - قال - فقال رجل أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله - قال - فسكت عنه رسول الله ورأينا أنه ينزل عليه فأفاق يمسح عنه الرحضاء وقال أين هذا السائل وكأنه حمده. فقال إنه لا يأتي الخير بالشر. وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا الويلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى المسكين واليتيم وابن السبيل (أو كما قال رسول الله) وإن من يأخذه بغير حقه فهو كالآكل كل الذي لا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة.
قال الأزهري: في هذا الحديث مثلان ضرب أحدهما للمفرط في جمع الدنيا مع منع ما جمع من حقه: والمثل الآخر ضربه للمقتصد في جمع المال وبذله في حقه - فأما قوله صلى الله عليه وسلم وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا فهو مثل الحريص والمفرط في الجمع والمنع وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب التي تحلو ليها الماشية فتستكثر معها حتى تنفتخ بطونها وتهلك كذلك الذي يجمع الدنيا ويحرص عليها ويشح على ما جمع حتى يمنع ذا الحق حقه منها - وأما مثل المقتصد المحمود فقوله إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتلأت خاصراتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم وقعت - وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول التي تستكثر منها فتهلكه أكلاً ولكنه من الجبنة التي ترعاها بعد هيج العشب ويبسه - قال - وأكثر ما رأيت العرب يجعلون الخضر ما كان أخضر من الحلى الذي لم يصفر الماشية ترتفع منه شيئاً فشيئاً ولا تستكثر منه. فلا تحبط بطونها عنه - قال - وقد ذكره طرفة فبين أنه من نبات الصيف في قوله:
كبنات المخر يمأدن إذا ... أنبت الصيف عساليج الخضر
فالخضر من كلأ الصيف في القيظ وليس من أحرار بقول الربيع والنعم لا تسترسله ولا تحبط بطونها عنه - قال - وبنات مخر أيضاً وهي سحائب يأتين قبل الصيف: فضرب النبي آكلة الخضر مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها ولا يسرف في فمها والحرص عليها وأنه ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر إلا تراه قال فإنها إذا أصابت من الخضر استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت وإذا ثلطت حبطها وإنما تحبط الماشية إذا لم تثلط ولم(16/18)
تبل وأتطمت عليها بطونها. وقوله إلا آكلة الخضر معناه لكن آكلة الخضر وأما قول النبي إن ذها المال خضرة حلوة ههنا الناعمة الغضة. وحث على إعطاء المسكين واليتيم منه مع حلاوته ورغبة الناس فيه ليقيه الله وبال نعمتها في دنياه وآخرته.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الدين متين فأوغل فيه يرفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
قال صاحب اللسان في مادة وغل وذكر الحديث - يريد سرفيه برفق وأبلغ الغاية القصوى منه بالرفق لا على سبيل التهافت والخرق ولا تحمل على نفسك وتكلفها مالا تطيقه فتعجز وتترك الدين والعمل. وقال في أمثال الميداني وذكر بين أمثاله قول النبي إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى - قال المنبت المنقطع عن أصحابه في السفر والظهر الدابة قال هذا رسول الله لرجل اجتهد في العبادة حتى هجمت عيناه أي غارتا.
ومن كلمة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:
ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل. ولباب هذا القمح. ونسائج هذا القز. ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز وباليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع. أو أبيت مبطاناً وحولى بطون غرثي وأكباد حرى. أو أكون كما قال القائل:
وحسبك عاراً أن تبيت ببطنه ... وحولك أكباد تحن إلى القد
أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش. فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها. أو المرسلة شغلها تقممها. تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها. أو أترك سدى. أو أمهل عابثاً. أو أجر حبل الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة.
وقال الحسن البصري حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، وأقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة وإنكم أن لا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية.
قوله حادثوا مثل ومعناه أجلوا واشحذوا نقول العرب حادث فلا سيفه إذا جلاه وشحذه. والدثور الدروس يقال درس الربع إذا انمحى. ومعنى ذلك تعهدوها بالفكر والذكر. وقوله فإنها طلعة يقول كثيرة التشوق والتنزي إلى ما ليس لها. ويقال للجارية إذا كانت تبرز(16/19)
وجهها لترى حسنها تخفيه لتوهم الحياء خبأة طلعة.(16/20)
تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية
(تمهيد)
المجالس النيابية وتطورها
ـ 1 ـ
من الأغلاط المتداولة التي ورثها العصر الحاضر أن المدينة كلما تقدمت قضت على شخصية الأفراد وعبثت بحريتهم وجعلتهم آلات متحركة تخدم المجموع بالشكل الذي يريده المجموع من غير إرادة لأي فرد منهم في ذلك. وأساس هذا الخطأ راجع إلى ظهور المجاميع على أشكالها المختلفة ظهوراً واضحاً، وإلى شيوع مبدأ الجبر الذي يعد الحرية الفردية خيالاً لا حقيقة له، وإلى فكرة علم الاجتماع الجديدة الذاهبة إلى أن الصفة الأولى والظاهرة لكل أمر اجتماعي هي إكراه الجماعة من يخرج على هذا الأمر ليرجع إليه. والحقيقة التي تنتجها الملاحظة واستقراء الحوادث والرجوع إلى التاريخ هي أن المدينة يتقدمها إنما تعمل لإظهار شخصية الفرد ولتكميل حريته ولتوسيع دائرة العمل أمامه. وتعمل لذلك بوسائل كثرة كنشر التعليم وإكثار الصناعات وتحرير الطوائف الوضيعة من رق ملاك أرزاقها: وتسير في عملها على أسس ثابتة وإلى الأمام وكل أنصارها أمل بأنها ستصل من هذا الطريق لتعميم الحرية والإخاء على الأرض ولتقديم أكبر حظ ممكن من السعادة للإنسانية.
وإنما ساعد المدينة على هذه التقدم الذي وصلت إليه - وتؤمل أن تبلغ به غايتها العليا - اطمئنان الناس على حريتهم التي جاهدوا لنيلها طويلاً بعد أن تمكنوا من الانتصار الفكري على الاعتقادات التي كانت راسخة في الأذهان، والتي تولدت على الزمان بمقتضيات الحياة القديمة من وجوب الطاعة لصاحب السلطان، ثم بعد ان انتقل هذا الانتصار الفكري إلى الوجود العام ظهر في العمل فحرك الشعوب وأقام الأمم وبعث فيها جميعاً روج التشبث بالحرية والإخاء والعدالة، واعتبرت هاته الصفات حقوقاً يجب المطالبة بها ويجب الوصول إليها ونيلها ولو بالقوة. وفعلاً لم تكف حركة التنبه الأولى ليتنازل الملوك والمستبدون عن أطماعهم ويسلموا للأمم بحقوقها، بل استلزم الأمر حركات عنيفة وثورات طاحنة سالت فيها دماء وطارت رؤوس وارتكبت فظائع ومظالم حباً في العدل والإخاء(16/21)
اللذين بقيا دفينين تحت عسف الاستبداد وتحكمه. بعد ذلك كله توجت الحرية الفردية والسياسية القوانين، واطمأن الناس للحياة وللعمل فيها، وقامت في العالم هذه الحركة السلمية المدهشة بعظمتها التي نرى اليوم بأعيننا، وأيقن كل إنسان إن نقص الحرية مؤد لا محالة إلى نقص أهم أجزاء الحياة.
والمدهش في كل هذه الحركة نحو الحرية أنها لم تصل لتحد بالمعنى المضبوط الذي نفهمها به اليوم إلا بعد قرون طويلة من الجهاد لها. وكأنما كانت الحركة نحوها حركة فطرية تدفع إليها ظروف الوجود وتريد هذه الظروف أن تخلص بالناس من قيود الوهم الاستبدادي الذي كان أصل شقاتهم إلى الحرية لأنها مصدر سعادتهم الثابتة. وفي كل تطور من هاته التطورات كانت كلمة الحرية تأخذ معنى جديداً أمام أهل الزمان الذي حصل فيه هذا التطور.
وليس من الممكن أن نرجع في التاريخ لنصل إلى فكرة أول مجتمع إنساني في الحياة حتى نبدأ من هناك ملاحظاتنا على التغيرات التي طرأت على معنى الحرية وقيمتها ذلك بأن المجتمع الإنساني أقدم بآلاف السنين من التاريخ المعروف لنا. كما أنا لا نستطيع أن نصدق النظريات الخيالية التي وضعت في هذا الباب ونفترض ما يسميه جان جاك روسو بالحالة الطبيعية حال الإنسان المنفرد المستكمل كل الحرية بمعناها المادي. فإن ما نعرفه عن حال الإنسان لا يسمح لنا بتصور وجود لهذا الإنسان المنفرد. لذلك يكفينا أن نلاحظ ما كانت تعتبر به الحرية في الأمم المعروفة في التاريخ القديم والتطورات التي انتابت حكوماتها لنصل من ذلك إلى العصور الأخيرة وظهور وجود الرق.
فكان العبيد في كل أمة من أمم تلك الأيام جماعة غير معترف لهم بأي حق من حقوق الحياة الإنسانية.
بل كانوا في منزلة الأشياء الجائز التصرف فيها بكل أنواع التصرف إلى درجة استهلاكها. وبما أن هذا النظام كان عاماً قبلته الأذواق واطمأنت إليه النفوس وكان من مستلزمات مدنية ذلك العصر. وكان العبيد يملكون لأرباب العائلات الذين كانوا أصحاب الشأن والتصرف في كل شيء حتى في أفراد العائلة الذين لم يكونوا من طائفة العبيد. ولقد كان آباء العائلات حينئذ معتبرين ملوكاً لعائلتهم يتوارثون الملك ويقومون بحماية كل من كان(16/22)
تحت رعاياتهم من أصل العائلة أو من العبيد. واجتمع أرباب العائلات من بعد وكونوا المدائن وصاروا يتشاورون فيما بينهم في أمرها. وأدى هذا الاجتماع إلى خروج بعض أفراد من العائلات ممن ثقل عليهم حمل سلطة رب الأسرة وكونوا جماعة الشعب الغير المتمتع بالحماية. ووجودهم وتعدد الأسر استلزم قيام سلطة مركزية للنظر في مصالح الجميع. وكانت هذه السلطة أغلب الأحيان في يد ملك مطلق أو حاكم مستبد، وقيام هذا الملك أو الحاكم من شأنه أن يستعد جماعة الأشراف أرباب العائلات. فيقوم من بينهم الأغنياء وينفقون من أموالهم ويتهددون مدينيهم ويصلون من ذلك للتسلط على الشعب تسلطاً استبدادياً. ويلجأ الملك للشعب فيقوم الشعب ثائراً ويعاونه بعض الأغنياء ممن انفصلوا عن جماعة الأشراف أو ممن جاءتهم ثروتهم من طريق الاتجار. هنالك يجرد الأشراف من حقوقهم ويخذل الملك وتقوم حكومة الشعب اسما وإنما يتمتع بها في الحقيقة جماعة الأغنياء الذين نصروه. فإذا كان الأشراف قد وصلوا إلى حالة الضعف المطلق سارت الأمور إلى ناحية المساواة العامة. أما إن كانوا قد حفظوا شيئاً من القوة سواء بثروتهم أو باستحياء الشعب منهم أو بأي سبب آخر رجعت الخصومات حتى تنتهي أغلب الأمر إلى حكومة استبدادية. لكن هذه الحكومة قصيرة العمر أغلب الأحيان كذلك. ومن بعدها تسير الديمقراطية في تقدمها نحو الارتقاء الاقتصادي والفكري.
هذه الملاحظة العامة التي تنقل عن المسيو كروازيه صادقة عند التطبيق على الأمم القديمة وهي صادقة كذلك في قسمها الأخير فيم يتعلق بالأمم الحديثة وسيرى القارئ ذلك حين كلامنا عن ظهور الفكرة النيابية وتطورها في إنكلترا وفي فرنسا.
أما عن الزمن القديم فنكتفي بذكر تطور الحكومة في روما وآثار الفكرة النيابية فيها بعد أن تجيء بكلمة عن الحياة السياسية في البلاد العربية.
ـ 2 ـ
كانت العرب قبل الإسلام قبائل تجمع كل قبيلة منها عصبية العائلة وترجع إلى جد واحد يكون هو أبا العائلة الأول. وكان لكل قبيلة رئيس يرجعون إلى رأيه ويخضعون لحكمه. وكان هذا الرئيس عالي المكانة بينهم عظيم الشأن مسموع الكلمة. فلما جاء الإسلام أخذ يجمع تحت لوائه أشتات هذه القبائل المتفرقة ويضم له ما تآلف منها وما تنافر ويوفق بينهم(16/23)
باسم الدين الجديد وبعقيدة التوحيد التي امتلكت أفئدتهم. وبقي السيد الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث من أعماله وأقواله إلى الأمة العربية الجديدة ما يزيد انضمامها وتضامنها. وكان الحكم يومئذ لله يجيء عنه بطريق الوحي إلى مختارة والمختار يبلغه للناس ويقوم بتنفيذه بينهم فكان ناقل الشرع إليهم وكان قاضيهم وكان المدبر لسياستهم. لكنه كان لا يستبد بالأمر دونهم، وكان يرجع إلى رأيهم في المسائل الكبيرة وبالأخص في مسائل الحرب والسلم. وكانوا راضين حكمه محبين له، فلما استأثر الله برسوله لم يوص بالخلافة إلى أحد من بعده. واجتمع المسلمون بالسقيفة يتشاورون فيمن يكون له الأمر، وإنما ضم هذا الاجتماع بالطبع عدداً من الرؤساء ومسموعي الكلمة. وبعد خلاف حصل بين المهاجرين والأنصار تمت البيعة لأبي بكر، ولما اجتمع له الأمر خطب الناس وكان من بعض ما قاله: أطيعوني ما أطعت الله. فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. ثم دعا عمر وأعيان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما ترون لي من هذا المال فقال عمر أنا والله أخبرك ما لك منه، أما ما كان لك من ولد قد بان عنك وملك أمره فهمه كرجل من المسلمين. وأما ما كان من عيالك وضعفة أهلك فتقوت منه بالمعروف وقوت أهلك فإنك قد شغلت بهذا الأمر عن أن تكسب لعيالك يراجع الإمامة والسياسة جزء أول صحيفة 28.
هكذا كانت الحال أيام الإسلام الأولى فكان الناس يتشاورون وينتخبون خليفة من بينهم. فإذا ما انتهوا من ذلك انتهوا من الأعمال العامة وصاروا يأتمرون بأمر هذا الرئيس وهو مكلف طبعاً بأن يسير على مقتضى أوامر الكتاب والسنة وأن ينفذها. وطبيعي أنه كان يسعى دائماً لكسب عطف الكبراء من الرجال بأن يصغي لمشورتهم لكن الأمر كان بعيداً جداً عن الحالة النيابية التي نتصور اليوم. تلك كانت حال هذه العصور. وسيرى القارئ أن هذه الحال نفسها كانت حال المملكة الرومانية حتى في أعز ما صلت إليه، وسبب ذلك أن الحرية الفردية على ما نتصور اليوم لم تكن ذات وجود ظاهر بل كانت الأكثرية العاملة تعطي حكم القطيع يساق ولا رأي له. ولهذا الاعتبار ولأن مسألة الرئاسة ونفوذ كلمة الرئيس كانت مستأصلة في الأخلاق يومئذ كان رؤوس الناس أنفسهم يرون طبيعياً وجود رئيس صاحب سلطان.
ولم يكن هذا الرئيس يستمد سلطته من منتخبيه إلا يوم انتخابه. أما بعد هذا الانتخاب فإن(16/24)
سلطته يكون مصدرها الإله الذي هدى الناس لاختياره. ولقد كان هذا الاحتقار سائداً آخذاً بقلوب الرئيس والمرؤوسين جميعاً. على أن سيادته لم تكن لتمنع وجود التشاور وخصوصاً في مسألة الحرب والسلم. وسبب التجاء الجمعيات القديمة إلى الشورى في هذه المسألة وجوب رضي العاملين في الحرب عنها حتى تكون طاعتهم لرئيسهم ساعة الحرب طاعة بالغة حد التفاني لأن أساسها الرضى.
لما حضرت الوفاة أبا بكر أوصى بالخلافة لعمر ووضع وصيته في غلاف ودفعه لعمر نفسه وقال له: خذ هذا الكتاب واخرج به إلى الناس وأخبرهم أنه عهدي وسلهم عن سمعهم وطاعتهم. فخرج عمر بالكتاب وأعلمهم فقالوا سمعاً وطاعة. فقال له رجل ما في الكتاب يا أبا حفص، قال لا أدري ولكني أول من سمع وأطاع، قال الرجل لكني والله أدري ما فيه. أمرته عام أول وأمرك العام الإمامة والسياسة جزء أول ص 23. وبهذا العهد من أبي بكر تمت البيعة لعمر على غير رضى من كثير من الناس وخصوصاً من أهل الشام. فعمل عمر عشر سنين بعد أبي بكر فو الله ما فارق الدنيا حتى أحب ولايته من كرهها وكان في غضون هذه المدة يؤمر الأمراء ويولى القضاء ويبعث بالفؤاد للفتح والغزو ويعمل كل ما يحتاجه صلاح الأمة والملة راجعاً إلى أحكام الله وسنة نبيه. وما كان لأحد أن يدخل في الأمر بأكثر من المشورة وإبداء الرأي.
وقتل عمر رضي الله عنه وخلفه عثمان بعد بعض خلاف. وبعد أن عمر طويلاً في الخلافة سائراً على منهج حسن زين له أصحابه من بني أمية الأثرة فخصهم دون غيرهم بالأمر وأصبحوا حوله حزباً وبلغ من شأنهم أن استضعفوه لكبره فكان لا يولى وال ولا يقام قضاء إلا بأمرهم ورأيهم. وزادوا في ذلك إلى حد خرج عن الذوق المعقول واستفز أبناء أبي بكر وعمر وعلي. وكان ذلك سبب قتل عثمان وذيوع الفوضي في البلاد العربية على الشكل الفظيع الذي يعرفه القارئ.
وابتدأت الحروب بين علي ومعاوية وتدرجت الحكومة بذلك من استمداد رأى الشعب كما كان أيام أبي بكر وعمر وأول خلافة عثمان ودخلت العصبيات الحزبية يحيط بكل جماعة غوغاء من الأفراد الذي لا يعرفون الحرية ولا الحق المبنية هي عليه وانتهت بظهور الاستبداد الملكي في زمن معاوية ومن خلفه من أبنائه وأقربائه. وانطفأت بذلك الشعلة(16/25)
الوقتية التي أوجدها صاحب الشريعة وبقيت من بعده زمناً، ولكنها لم تجد أرضاً مستعدة لتخليدها ولا نفوساًَ تفهمها فتحتفظ بها وتنميها لتصل منها إلى حال نيابة حقيقية، ونشر الاستبداد أعلامه ونما وترعرع ولكنه بقي مختفي الأثر تحت سلطان القوة العظيمة التي كانت مظهر الدولة العربية يومئذ وبقي اسم الخليفة قروناً عظيم الرنين، وامتدت الفتوحات وكبرت الإمبراطورية العربية. هنالك بنأت تظهر عيوب الاستبداد الدخيلة من عدم استطاعة حكم البلاد الواسعة لتمكن خصوم المستبد من القيام في أطراف نائية عنه وجمع أنصار حولهم والتوصل لمغالبته وإرسال الفوضى بذلك إلى قلب المملكة. ونشأ عن ذلك نتائجه من تجزئة السلطة ومن انقطاع سير المدنية التي كانت قائمة ومن التقهقر والاضمحلال.
هذه نظرة عامة عن حال الفكرة النيابية في البلاد العربية في أيام الإسلام الأولى ومنها يرى القارئ. أن هذه الفكرة لم تكن موجودة إلا بشكل غير واضح وغير منظم لذلك سرعان ما ذهبت واختفى أثرها تحت سلطان الاستبداد. على أن العرب لم يكونوا منفردين بهذه الحالة فإن مدينة الزمان عموماً كانت بعيدة عن سيادة مثل هذه الفكرة. وذلك ما سيظهر الآن عند بحث تطورها في الأمة الرومانية.
ـ 3 ـ
تخبرنا الأقاصيص أن روما أنشئت على تل كان قبل إنشائها سوقاً يجتمع إليه الناس من (أترسك) الشمال و (لاتين) الجنوب، وأن الذي أسسها روموليس سنة 753 قبل الميلاد وتولى هو الأمر عليها ثم عقبه جماعة اعتبروا ملوك المدينة ولكنهم لم يكونوا من نسله ولا عقبه بل كان منهم الأترسكي والسابيني وغيرهم وكان الملك يأخذ بمشورة السناتو الذي كان يتألف من آباء العائلات ورؤساء العشائر. وإنما كانت السناتو صاحبة الرأي الغالب فيما يتعلق بمسائل الحرب والسلم فقط. وكانت تتألف من عدد معين من كبار رؤساء العشائر وذوي الأهمية منهم يختارهم الملك ليكونوا أصحاب مشورته.
وفي درجة تحت الملك وتحت العائلات المكونة يوجد الشعب وكان الشعب يومئذ هو المجموع المختلط الغير المنظم المكون من جماعة الخارجين عن عائلات الأشراف كالمهاجرين والمغلوبين الذين أتى بهم إلى أرض روما أو صغار التجار الذين اجتلبهم أمل(16/26)
الكسب. كما يجب أن يضاف إلى هؤلاء جميعاً عدد من الذين كانوا يعيشون أولاً في حماية الأشراف ثم رأوا الانفصال عنهم والعيش الحرفي مدينة أصبحت وافرة العدد. وقد كان عدد هؤلاء يزداد على الزمان باتساع المدينة ويقلل بذلك من شأن عائلات الأشراف فيها. وساعد الملوك هؤلاء الجماعة من الناس مساعدة جدية لأن مصلحة الملك كانت يومئذ متفقة مع مصلحة العدد الأكبر لما كانت في روما من الحاجة للجند لحمايتها من أعدائها الكثيرين الذين كانوا يحيطون بها. وكان من أكبر المساعدات التي نالها الشعب اعتراف الملك بوجود اجتماعي لهم تمكنوا معه من إيجاد جماعة يمثلونهم إلى جانب السناتو. لكن صوت هؤلاء كان بادئ الأمر صوتاً خافتاً غير مسموع. ثم ازداد هؤلاء الممثلون مع الزمان وبتكرار المطالبة في العدد وازدادوا كذلك في السلطة. فابتدأوا ثلاثاً وبلغوا خمساً وثلاثين. وعلا صوتهم حينئذ حتى لم يكن بد من سماعه ومن الإذعان له - غير أن هذه القوة لم يصل إليها الشعب إلا بعد أن أسقط جماعة الأشراف الملك وتربعوا في دست الحكم نحو القرنين وأقاموا من بينهم قنصلين ينتخبان لعام يكونان فيه صاحبي السلطة المطلقة فلا يحد من نفوذهما إلا الضرورات الملجثة التي ترى فيها السناتو لزوم تعيين مستبد (دكتاتر) لمدة ستة أشهر. وكان شأن الشعب في هذين القرنين ضئيلاً تابعاً لأحكام السناتو وسلطة القناصل فلم يكن لجمعياته أن تجتمع إلا بأمر القنصل كما لم تكن قرارات هذه الجمعيات إلا استشارية. أما الأشراف فكانوا يومئذ أصحاب الحول والطول من الجهات السياسية والحربية والدينية فهم الذين اختصوا بتقديم القربانات للآلهة وهم الذين كانوا يقرون الحرب ويقرون بالسلم وهم الذين كانوا يعملون كل شيء. ولقد كان سلطانهم هذا مبنياً على فضائل عندهم أساسها الثقة بالنفس واحترام العقائد المتوارثة. وكانوا يعيشون على جانب عظيم من بساطة العيش وحب العمل فلا يأنفون أن يشتغلوا بأيديهم ولا يرون أن ينفصلوا عن أهلهم بفاصل من الرفاهة والكسل فكان عندهم بوجه عام ما يلزم أن يكون عند الرئيس من الفضيلة.
وفي هذا الوقت كان الشعب الذي يحكمون مكيفاً بطبيعة الحياة بحيث يحتمل آثار كل هذه القوى المجتمعة. فلقد كان العامي - كما كان الشريف - غاية في التدين شديد الانتباه إلى كل العلائم التي تظهر إرادة الآلهة لا يتقدم خطوة من غير رضاهم. يملؤه برق السماء أو(16/27)
بروح الطائر خوفاً وهلعاً، ويعتقد طائعاً في كل هذه الأمور تفسير العارفين بأفكار الآلهة. يمضي حياته في المزرعة أو في الجيش ولا يبقى من بني طائفته في المدينة إلا عدد قليل لم تكن حياتهم التافهة الوضيعة لتبعث إليهم رأياً من الآراء الحرة أو الصريحة، فلاحهم في المزرعة كفلاح كل القرون قوي مجد صابر مهتم للفائدة العاجلة قليل الميل للأحلام والآمال خاضع لما لا بد منه محافظة بفطرته. وجنديهم معتاد النظام مطواع، على العموم لم يكن في حياة ابن الشعب ما يدفع خياله للحركة بل كان عقله عملياً متجهاً لتقدير الوقائع أكثر من اتجاهه للمسائل الفكرية ولهذا لم يكن مستعداً لابتكار نظام حكومي يريد تحقيقه، كما أنه لو أراده كان يجد أمامه خصوماً لا يتنازلون له إلا مرغمين ركروازيه، الديمقراطيات القديمة ص308 لهذا كان سعي الشعب إلى جهة الحرية بطيئاً جداً، لكنه كان موجوداً دائماً لإحساس الشعب بضغط الأشراف عليه، وظهر أخيراً بالمظهر الوحيد الممكن النجاح حيث اضرب الشعب عن الاشتراك في الحرب مقرراً ذلك في اجتماع عقده فوق الجبل المقدس، ولما رأى السناتو ما في الأمر من حقيقة الخطر اضطر للإذعان واعترف بجماعة ممثلي الشعب الذين أعطوا رآسته، والذين كانوا يتكلمون بصوته على أن سلطتهم أول الأمر كانت قليلة حيث كانت ممتدة على الشعب وحده فكانوا يجمعونه ويأخذون رأيه ورأيه لا يكون نافذاً إلا بعد أن يقره السناتو. لكنهم وصلوا أخيراً ليكون لهم من الحق بحيث يستطيعون تعطيل أي قرار تريده السلطة، فلا ينفذ رأيها على الشغب إلا برضاهم، ولما كان ذلك مما يعطل حتماً كل القرارات لجأ هؤلاء الرؤساء إلى استعماله ميل حقوق جديدة لمن يمثلونهم، فكانوا كلما طلبوا للموافقة على أمر جديد عرضوا حقهم في الرفض وطالبوا بحق جديد ليوافقوا على الأمر المعروض عليهم. ومن هذا تدرجوا إلى المساواة بين الأشراف والشعب.
وبعد الوصول إلى هاته المساواة السياسية فرغت روما إلى فتوحاتها الخارجية واتسع نطاق ملكها وغلبت قرطاجنة وظهرت بمظهر العظمة الذي يخلده التاريخ لها وتجلت أمام العالم قادرة لم تدنس فيها الأخلاق بعد بالترف، قسمت الأعمال العامة بين أهلها بشكل منتظم، واحترمت القوانين وحفظ الدين الأفراد في دائرة الواجب ودفع شرف الاسم الروماني الناس للعمل الجد والشجاعة الحقيقية وكان نظامها السياسي يومئذ متوازناً بحيث تظهر معه(16/28)
كل الفضائل وتتلاشى السيئات. فكان القناصل يعملون بكل القوة التي يمكن أن تصدر عن ملك من غير أن يكونوا مستبدين لوجود الرقابة عليهم، وكانت السناتو تدير المالية وترعى السياسة الخارجية وتتمكن بذلك من حد سلطة القناصل كما كانت تنظر في القضايا العامة. ولم يكن دور الشعب بأقل أهمية من ذلك فإنه كان ينتخب القضاة ويقرر مسائل الحرب والسلم. وكانت هذه السلطات كلها مرتبة غير متضاربة ترمى لغرض واحد هو عظمة روما. وهذا الغرض الذي رمت إليه قد بلغته.
لكن هذه العظمة نفسها كانت تحمل في ثناياها بذور المرض والفساد. ذلك بأن التوازن في السلطات لم يكن مبنياً على احتفاظ كل منها بحق تعتقده ولكنه كان نتيجة محتومة للمجهودات التي صرفت من جانب الأشراف والشعب للحصول على المساواة السياسية. فلما ترامت أطراف المملكة انهالت إليها الثروة فكان الأشراف أول من يتلقاها بما لهم من تالد العز والثروة، وعلى هذا ابتدأ التوازن يختل وابتدأت المدينة ينخر فيها سوس الترف من جانب الأشراف ويقابله ألم التعس من جانب الشعب، ولم يكن الشعب يقدر لنفسه حقوقاً يريد أن يحتفظ بها حتى يجعلها موضع نظره كما أن اختلاط الأجانب المهزومين بالغزاة الفاتحين جر إلى النتيجة عينها من زيادة فوضي الشعب وضياع نظامه، وبدل ذلك المجموع المرتب الذي كان عضواً عاملاً في عظمة روما أصبح غوغاء أميل إلى التجمهر على غير جدوى من العمل المرتب المنتج وأصبح بذلك ألعوبة في يد كل قوى يغريه بالوعود أو ينثر له المال ويجود عليه بالملذات، وبكلمة أخرى أصبح مستعداً للاستبداد لا ينقصه إلا الحاكم المستبد.
ولقد كان قيصر على باب أن ينادي به ملكاً لولا أن عوجل بالقتل، وبعد قيصر بأيام ليست بالطويلة حكمت روما بالاستبداد واستمرت فيه.
في تلك العصور دخلت المسيحية بلاد الرومان وابتدأ قانونها يأخذ مكان القانون الروماني أو يأخذه إليه، ومهما كانت هي في أصلها ديانة عبادية صرفة فقد جعلت تمتد وتضم إلى جناحها وتحت سلطاتها المعاملات الدنيوية شيئاً فشيئاً، وحرض رجالها على ذلك ضم السلطة الدينية والسلطة الزمنية في شخص البابا، فكان بما له من السلطان على الملك أكبر مشرع، ومتى أصبح القانون دينياً لم يبق في يد الناس طبعاً أن يشرعوا لأنفسهم، لهذا(16/29)
يدخل إلى نفوسهم شيء من معنى الاستسلام والتواكل واعتقاد بالجبر غريب، وتطمئن نفوسهم إلى شيء من الذل، فإذا وجد صاحب سلطان قوي وجد منهم خضوعاًَ وطاعة، ولقد كان ذلك شأن الأمم في القرون الوسطى، واختلطت هذه الطاعة للسلطان بالطاعة لأوامر الدين حتى أصبحت تعتبر جزءاً من الدين وأصبح الملك مستمداً سلطته من الله.
ولهذا لم تكن برلمانات الزمن القديم وخصوصاً في فرنسا برلمانات تشريعية بل كانت هيئات قضائية تعرض عليها المسائل لتحكم هي فيها على حسب ما تأمر به القوانين التي وضعها ممثل السلطة العليا وهو الملك. وإن مراجعة تاريخ القرن الخامس عشر لتدلنا على أن الأمة لم تكن لتستدعى في شيء إلا في أوقات القحط والإفلاس حين كان يحس الملك من نفسه العجز المطلق عن الإحسان في الحكم. وظل الأمر كذلك إلى سنة 1614 ومن بعدها استبعدت الأمة من المناقشات إلى بزوغ فجر الثورة الفرنساوية.
أما إنكلترا فلم يكن الحال فيها على ما كان عليه في القارة ويظهر أن عزلة هذه الجزيرة عن باقي أوروبا كانت ولا تزال سبباً في إعطاء سكانها شخصية ثابتة معينة لا يجدها أهل أوروبا القريبة كل أمة فيها لتتأثر بما يقع في الأمم الأخرى. وهذا هو الذي يجعلنا نفسر إسراع الإنكليز على ما هو معروف عنهم من المحافظة ليهبوا إلى طلب الحرية قبل أن يجول ذلك بنفس أية أمة أخرى. ولكأنهم سرت إليه العدوى من نظامات الرومان القوية بعد أن ارتكست روما في درك الاستبداد وتورطت في حمأة الترف من جانب الأغنياء وفي رجس المذلة من جهة الفقراء فنبهت الإنكليز هذه العدوى ليقوموا مطالبين تحديد تصرف الملك المطلق. ولقد وصلوا فعلاً في عهد إدوارد الأول ليكونوا برلماناً تألف من مجلسين مجلس للنواب وآخر للوردات على نظام السناتو ومجلس الشعب. وكان مجلس اللوردات يومئذ صاحب الحول الأكبر. ثم توالت الأيام بعد ذلك حتى جاء شارل الأول وأراد أن يعبث بالنظام الحاضر ويستبد بالملك وادعى لنفسه الحق الإلهي في الحكم هنالك ثارت إنكلترا ثورتها الكبيرة التي ظهر فيها أوليفر كرومويل بمظهر الرجل المريد والتي انتهت بقطع رأس شارل الأول بعد أن أخذت منه عهدة بحقوق الأمة الإنكليزية.
وما كان أشبه هذه الحركة بما حصل في روما. تحزب الأشراف أول إلا مرضد الملك وتمكنوا بما لهم من السلطات على عامة اشعب أن يسثيروه معهم بإظهار مظالمه وإدعاء(16/30)
الميل للعدل. فلما ثار معهم وأسقطوا سلطة الملك قام من بينهم كرمويل مستبداً بالسلطة ممتهناً حقوق البرلمان ناسياً فضل الشعب. ولما كانت الحرية يومئذ لا تزال في مهدها لم تمتلئ بها النفوس لتكون بذلك على استعداد دائم لدفع كل معتد عليها ولما أن البلاد نالها جهد شديد من أثر هذه الحروب رضخت لسلطة هذا الرجل الذي كانت تعد فيه صديقاً لها. ومهما تكن فترة السكون هذه طبيعية كالتي تعقب كل رجة شديدة فإن ما لاش فيه أن نفوس الأغلبية يومئذ كانت لم تبلغ من التحفز إلى جهة الحرية درجة عليا. بل كانت آثار الحركة الدينية لا تزال ذات أثر مستقر في القلوب غطته حركة الثورة التي استثارها الظلم الشنيع فلما خفض من ذلك الظلم بعض الشيء ظهر ذلك الأثر من جديد وبانت للعالم نتائجه.
على أن إنكلترا لها بما نادت به يومئذ من الأفكار أكبر الفخر. فإنها كانت تنادي بالحرية السياسية من رق الملكية المطلقة في حين كانت أوروبا لا تزال تموج بالدماء من جراء الحروب الدينية التي قامت على أثر ما أعلنه لوثر وكلفني وأعوانهما من حركة الإصلاح الديني. وإذا كانت هذه الحركة نفسها وامتدادها إلى إنكلترا عن طرق كسوث وأخذ كرومويل وأعوانه بنصرتها مما ساعد إلى حد كبير على تحرير الأفكار من ربقة الوهم وتقويض ما دعمت به ملكية يومئذ وجودها من أساس الحق المقدس فإن تعدي الإنكليز نطاق الحركة الدينية البحتة وخروجهم بالفكرة إلى دائرة حياة البلاد السياسية أمر يستدعي الإعجاب. ومن ذلك اليوم ظلت إنكلترا تتقدم في طريق الحياة النيابية ويرتقي برلمانها على قواعد أرستقراطية متينة حتى وصل إلى النصف الأخير من القرن التاسع عشر. وفي هذا النصف ابتدأت المبادئ الديمقراطية تجد إليه مدخلاً. وذلك لأن إحساس الشعب خرج من المحافظة القديمة وهبت عليه من جهة القارة نسمات جديدة بعثت بها المبادئ التي أعلت الثورة الفرنساوية شأنها - مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.
من هذا التطور الذي أوصل البرلمان الإنكليزي إلى موقفه الحاضر يظهر لنا أن جماعة الإنكليز ساروا على نظام التدرج المتتابع من حكم الفرد إلى حكم الأرستقراطية وهاهم يتقدمون إلى حكم الشعب بخطى واسعة. وكانوا في سيرهم يتأثرون بما يقع في الأمم الأخرى فيأخذونه إليهم ولكنه يدخل إلى جزيرتهم رويداً رويداً ويأخذ دائماً في دخوله الصبغة الإنكليزية. ولهذا كانت حركاتهم في التقدم من أيام كرومويل إلى اليوم دائمة الحياة(16/31)
ولكنها كذلك كانت دائمة الهدوء مالكة روعها هي أشبه شيء بحركات الرجل القوي العاقل مملوءة نشاطاً ومملوءة رزانة. ولسنا ندري إذا كانت إنكلترا ستقدر على أن تتخطى الأزمات الحاضرة التي هي فيها بمثل ذلك النشاط وتلك الرزانة المتين عرفهما لها التاريخ أو أن شيئاً جديداً دخل إلى جسمها وربما يغير من نظامه.
قدمنا أنه بينما كانت إنكلترا ثائرة ضد ظلم الملك كانت أوروبا مخضبة بدماء المجازر الدينية غير ملتفتة إلى سلطة الملك السياسية ولا مهتمة لها. وكان الملك هو كذلك متحزباً مع أهل مذهب علي أهل مذهب آخر. وكأنما فرغت الأمم يومئذ من كل همومها الدنيوية فانصرفت إلى هم الدين تريد أن ترتب ما يضمن لها سعادة الدارين وكأنها كانت دائمة الجزع للمستقبل الغير المعروف فتلهت بالنظر في أمره عن النظر في أمور دنياها. واستفاد الملوك طبعاً من ذلك المركز وتعززت سلطتهم المطلقة ووجد استبدادهم المجال فسيحاً ليظهر بأقسى مظاهره. لذلك كانت الحركة النيابية معدومة أو تكاد ولم تهتم حكومات ذلك الوقت بالالتجاء إلى رأي المجموع الأسني القحط والضنك. وساعد على بقاء هذا الاستبداد الملكي أن جماعة الأشراف كانوا هم الآخرون في مركز ملوط يحكمون اقطاعاتهم الواسعة بمثل الاستبداد الذي يحكم به الملك الأمة. لهذا ولأن الشعوب كانت لا تزال مرتكسة في الجهالة ولأن الإحساس بالحرية لم يكن وجد في النفوس السبيل بقيت الفكرة النيابية غريبة عن أوروبا كل تلك العصور الوسطى.
لكن تلك الحال لم يكن من شأنها أن تدوم. فإن سلطة الملك وصلت إلى حد من الاستفحال غير معقول، كما أن الحركات الدينية هدأت بعد القرن السادس عشر وفكر الناس في الحياة المطمئنة. وابتدأت الحركة الاقتصادية تنمو على أثر هذا الهدوء وتزيد في فخامة سلطان الملك. ولقد كان أكبر ملوك القرن السابع عشرة لويس الرابع عشر ملك فرنسا. فلما رأى عظمة سلطانه وامتداد ملكه وأبهة جلاله أفسح لنفسه مجال الترف وضم الأشراف إلى جانبه فتركوا مقاطعاتهم واستحبوا القربى منه وتوسلوا بالزلفى إليه وإلى محظياته لينالوا عطفه ورضاه. تركوا مقاطعاتهم ونزلوا فرساليا حيث قصره الفخيم وتركوا بذلك لمن دونهم من أصحاب الأطماع وعشاق السلطة أن يبث في الناس روح الحزبية ضد هؤلاء الملوك الجزئيين. وتعاون هذا الداء مع الأدواء الأخرى التي تلزم الاستبداد حتى يتسع ملك(16/32)
سلطانه. كما ابتدأ الاتصال الذي أوجدته ضرورات الوقت الاقتصادية بين القارة وإنكلترا ينقل إلى أمم أوروبا صور الأفكار والنظامات الإنكليزية ويبعث إلى النفوس شيئاً من معنى الاعتداد بذاتها وطلب الاعتراف بوجود شخص لها وبالتالي الملال من هذا الحكم المستبد الجائر. وتعاونت الأسباب الداخلية والخارجية وابتدأت تظهر على النظامات الاستبدادية علائم القلق والاضطراب.
وساعد على ظهور نتيجة هذه الأسباب كلها أن الملك العظيم لويس الرابع عشر كان قد أغرق في الاستدانة ليستزيد إلى حد الخيال من ملاذ الترف ويزيد ما أمكن في أبهة ملكه وجلاله. ونتيجة الاستدانة في البلاد المحكومة بالاستبداد زيادة الضرائب إلى حد يجهد أهلها. ومتى كان ذلك أحس هؤلاء الأهالي بالضغط وابتدأوا يضجرون من الحكم وينادون ضده. وذلك هو ما حصل. وهذا الضجر شجع الأسباب الأولى على أن تنتج نتائجها. وكان ذلك كله أساس الثورة الفرنساوية.
بعد حكم لويس الرابع عشر وفي مبتدأ ظهور نتائجه ابتدأت عدوى النظامات الإنكليزية تنتقل للقارة بشكل واضح. وكانت هذه النظامات قد بلغت يومئذ في رقبها مقاماً محموداً. استتب النظام النيابي على قواعد أرستقراطية ثابتة وقامت حكومة أبوية تلحظ الشعب بعين الرعاية كما يراقبها الشعب وهو يقظ لما تعمل مستعد للتمسك بحقوقه عند الحاجة. وانتقلت هذه العدوى من طريق المكاتبة الخاصة بين الأفراد أولاً ثم من طريق الملاحظة العامة والنشر. ولقد تشبع بمبادئها جماعة غير قليلين من كتاب فرنسا في القرن الثامن عشر وأكبر هؤلاء مونتيسكيو وبمجموع الملاحظات التي عمل وضع كتابه روح الشرائع، ضمنه نظام الحكومات وقرر فيه قاعدة فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وظهر مع كتابه عدد من الكتب الأخرى أخذت منه بعض الشيء وأظهرت ملاحظات أصحابها كذلك في القسم الأكبر منها. ومن أهم تلك الكتب وأكثرها أثراًَ كتاب العقد الاجتماعي الذي وضعه جان جاك روسو، وإذا كان المقام الآن لا يسع تقرير المبادئ التي وصفوا فإن نتيجة ما كتبوا تهمنا هنا جداً. ذلك بأنها قررت بشكل صريح وواضح معنى الحرية على معنى ما نفهمها به الآن. إطلاق قوى كل فرد في حدود الإضرار بالغير.
ولقد كان روسو أظهر أثراً من مونتسكيو لأنه كان من عامة الشعب وكان ذا روح مملوءة(16/33)
ثورة وخروجاً على قواعد جمعية يومئذ وكان ذا أسلوب في الكتابة مملوء لوناً وقوة. أما مونتسكيو فكان من طائفة الأشراف كما كان ذا أسلوب علمي هادئ. لهذا لقيت كتابات روسو رواجاً وانتشاراً، وزادها رواجاً أنها لقيت من جانب الحكومة معارضة شديدة. كما أن نظام جمعية القرن الثامن عشر الذي قام على أنقاض نظام جمعية لويس الرابع عشر من وجود صالونات العائلات الكبيرة واجتماع الكتاب والعلماء في هذه الصالونات زاد أفكار روسو انتشاراً وجعل خطابه عن عدم المساواة وآرائه في الحرية وثورته ضد الملكية والأشراف مضغة في الأفواه وموضعاً للنقد وللتحبيذ من جانب فولتير ودلمبير وعدد كبير غيرهم.
ولقيت هذه الروح الثورية أرضاً مستعدة لاستقبالها لما ترك القرن السابع عشر بعده من الآثار التي قدمنا ذكرها. وما كادت الأسباب تتهيأ حتى قامت الثورة الكبرى في فرنسا طاحنة شنيعة تنادي بأجمل المبادئ فأسقطت الملك والأشراف وأقامت حكومة الشعب بأكمل معانيها. فلم يك شيء يتم إلا بالانتخاب ولم يك مرجع إلا صوت الأمة. ونقشت كلمات الحرية والإخاء والمساواة في كل مكان واحتلت من القلوب حباتها. وازداد حدب الناس على هذه الحقوق إلى حد مخيف وصاروا يخشون عليها كل موضع ظنه. ولا يعرفون إلى إعلائها سبيلاً إلا بالقتل وإراقة الدماء.
هذه النفوس الملتهبة الشيقة للعظمة والحرية قضت على حرية أشخاص كثيرين وعلى حياتهم أشبه بسيطة ومقابل ذلك كانت ترفع من تعتقد فيه الإخلاص لها والصدق في العمل إلى مقام الملوك وانتهت بأن رضيت أعظم رجالها ملكاً عليها وأسلمته مفاتيح الحكم،. ذلك الرجل هو نابليون. وقام هو مخوفاً مستبداً دائساً تحت قدمه معاني الحرية طامعاً في الإمبراطورية العظيمة - إمبراطورية العالم أجمع.
وأنتج عصره من المبادئ والآراء مالا يزال الأكثر منه خالداً تشخص له الأبصار معجبة مقدسة. ولكن هذه المبادئ جميعاً تلاشت في حكمه وفنيت أمام عظمة سلطانه وهمدت الحرية بعدما أحدثت رجتها الهائلة وبعد أن انتشرت مع الجيوش الفرنسوية في أنحاء أوروبا. لكن هذا الهمود كان وقتياً. ولم تمض بعد نابليون إلا سنين قلائل حتى ثارت فرنسا من جديد محتجة على اغتصاب حقوق نالتها بثمن غال من الدماء والأرواح وكان ذلك في(16/34)
سنة 1848. وسرت عدوى هذه الثورة إلى أنحاء أوروبا وحركت من نفوس أهلها جميعاً وظهرت بذلك حقوق الأمم واضحة قوية وقامت الديمقراطية تأخذ المكان الأول وأصبحت حقوق الشعب مقدسة لا تمس لا استثارات أصحابها، وإلا ردت الغاصب على عقبه.
ـ 5 ـ
لما ابتدأت فرنسا فتوحاتها من بعد الثورة الفرنساوية على يد نابليون كانت مصر من بين البلاد التي توجهت إليها أنظار ساسة ذلك العصر. فجاءها نابليون بجيشه وبطائفة من علماء بلاده معه. ولما نزلوها أرادوا أن يقيموا شيئاً من آثار مبادئ الثورة الفرنساوية بين ربوعها فألفوا مجلساً يمثل طوائف الأمة المختلفة وينظر في أمورها الداخلية. ولاشك أن إيجاد هذا المجلس يعد من باب حسن السياسة في الاستعمار فإن حكم الأمم أمر غير يسير لتباين ما بين المستعمر والمغلوب من الأخلاق واللغة والعقائد. فلأجل أن يكون هذا الحكم على شكل غير مشوش يجب أن يستعين الحاكم الغالب بجماعة من بين المغلوبين ليرشدوه إلى طريق السلطة على أهل بلادهم. وتؤلف هذه الجماعة طبعاً على النظام الذي يفهمه ذلك الحاكم في بلاده. لذلك ألف نابليون ومن معه هذا المجلس الجامع لمختلف الطوائف في مصر. ألفوه في حين كانت البلاد أبعد ما يكون عن الإحساس بالحاجة إليه لطول ما توالى عليها من ظلم الأتراك والمماليك. لذلك ما لبثوا أن انجلوا عنها حتى انحل عقد المجلس ورجع الحال إلى نصابه القديم.
ولطول ما ألف الناس الخضوع لم يفكر أحد في اغتنام فرصة وجود الفرنساويين وجلائهم ليسعي في إدخال فكرة الاستقلال إلى البلاد. بل لقد استقبل محمد علي ومن معه بصفتهم مبعوثي الباب العالي على الرحب والسعة. وبوصول هذه البعثة العثمانية أبدأ عصر الدسائس فجاهد جماعة المماليك من ناحية ومحمد علي من ناحية ليكسبوا عطف العلماء وبالتالي عطف الأمة. ولم يجل بخاطر أحد من أهل تلك الأمة أن يلقي دلوه في الدلاء وأن يدس مع الدساسين ويرمى بمطمعه إلى ما كان يرمي إليه أحد الفريقين وكأنما صدقت في مصر يومئذ نظرية أفلاطون من أن هناك قوماً خلقوا ليحكموا وجماعة خلقوا ليكونوا محكومين. وانتهت هذه الدسائس بولاية محمد علي برضي العلماء وبمذبحة المماليك وأرسل محمد علي إلى السلطان يخبره أن عبيد الباب العالي قبلوه ملكاً عليهم. ورأت(16/35)
حكومة تركيا أن لا مناص من الاعتراف برأي جماعة العلماء فأقرته في الملك واستتب له الأمر وحكم على أرقى نظامات الاستبداد فجعل الأرض كلها ملك الحكومة وما على الأرض من بني آدم ونعم يتبعها طبعاً. وتمكن بذكائه المفرط وحسن حظه وبمعونة من استوفدهم من أوروبا ليعينوه بعلمهم في حكم ملكه الجديد من توسيع ذلك الملك وإعلاء شأنه. وعلى الرغم من نظام الاحتكار الذي أوجده فقد تسني له من طريق المجهودات الصناعية التي أدخلها أن يبعث إلى البلاد حياة وحركة اقتصادية لم تكن تعرف من قبل. وعلى العموم كان حكمه حكم المستبد الذكي ولم تكن الأمة تعرف لنفسها أي حق.
وولى من بعده إبراهيم وعباس وسعيد ولم تكن ولايتهم ذات شأن إلا فيما يتعلق باتفاق سعيد مع المسيو دلسبس على إنشاء قناة السويبس. ثم جاء إسماعيل بأفكاره الجميلة التي أراد البلاد عليها. فلما لم تتمكن من السير معه تركها وجعل هو يعمل ما يخيل له أنه حسن. وأحاط به جماعة أقاموا أنفسهم مشيرين له. ولقد كانوا أغلب الأمر ذوي أطماع شرهة أكثر من أن يكونوا مخلصين محبين للمصلحة العامة. فزينوا لإسماعيل أن يتوسع في أعماله مكبرين له ثروة البلاد على مقياس لو دقق هو في ملاحظته لعلم أن فيه من الغلو والإغراق مالا مثيل له. وتوسع في الأعمال وتوسع على أثر ذلك في الاستدانة وأثقلت الحكومة الأمة بالضرائب. والشعب المصري هو دائماً ذلك الشعب الهادئ المستسلم الكثير الاحتمال. فلما زاد الدين عن النصاب الممكن لحال البلاد الاقتصادية على ما كانت عليه من الفوضى يومئذ أن تقوم بسداده علت ضجة الدائنين من الأوروبيين في سنة 1875 وطلبوا من أممهم التداخل. هنالك فكر إسماعيل في أن يلجأ إلى أمته هو الآخر وأن يؤلف من بين أهلها مجلساً يعرضه لأورا ويتقى به خطر النقد المر لشخصه. فألف مجلس شورى النواب وجعله يجتمع ليصادق على أعمال المليك المطاع الكلمة. ولم يكن هذا المجلس إلا شورياً بحتاً فقد كان على حسب نص لائحته إلا في الأمور التي ترى الحكومة أنها من خصائصه فيدرسها ويبدي رأيه فيها للحضرة الخديوية فينظر فيه المجلس الخصوصي وتتذاكر فيه الأقلام والقومسيونات ثم يعاد إلى مجلس الشورى ويرجع أخيراً إلى الجناب الخديوي وهو صاحب الأمر فيه، فإذا كان الجناب الخديوي على ثقة من أن هذا المجلس سيوافق دائماً رغباته ويقر أوامره ويرى رأيه فإنه يحفظ لنفسه الحق في أن يكون له الأمر الأخير حتى(16/36)
إذا صادف من باب الاستثناء أن خرج المجلس على أمره كان خروجه عبثاً غير مطاع.
وأدرع إسماعيل بالمجلس ضد تداخل أوروبا وحاربها به زمناً لكن قناصل الدول الأوروبية كانوا يعتدون أن هذا المجلس صورة عملها إسماعيل لخدمته لا تجيب شيئاً من أطماع الأمة التي كانت في نظرهم دائمة الأنين من عمل الخديو ودائمة الطاعة لكل متسلط لذلك استمروا في محاربة إسماعيل حربهم الشعواء والتجأ هو في سنة 1878 لتأليف الوزارة النسئولة التي ضمت بين وزارتها أوروبيين هما المستر ريفرس ولسن والمسيو دبلتير والتي كانت عليه أكثر مما كانت له. ومن الأسف أن الأمة كانت أبعد ما يكون عن أن تفكر في كل هذه الحركات السياسية بل كانت تعتقد بسلطان الخديو المطلق اعتقادها بسلطان القوى السماوية وترى أن أسلم الطرق عاقبة التسليم له بكل ما يطلب وطلب رضاه دائماً. ومهما يكن من جهاد إسماعيل للاستنجاد بها في هذه المدة الأخيرة فإن أخلاق الضعف والخوف لم تكن تسمح لها بنصرته مع أن موقفه كان ادعي ما يكون للنصرة. واستحسن هو ذلك منها فلم يلجأ لمعاكسة أوروبا إلا بمسائل شكلية نظرية صرفة وبمجلس شورى النواب الذي لم يكن ذا حول مطلقاً فلما بلغت معاكسة أوروبا حداً قصياً لجأ إلى الباب العالي بطلب نجدته. فأجاب الباب العالي طلبه بأن عزله وولى مكانه ابنه توفيق.
وكان توفيق أميراً مستقيماً حسن المقاصد كامل الأخلاق مقتصداً لكنه كان لا يستطيع أن يتصرف في المركز العسير الذي وجد فيه (ريسنييه، مسألة مصر ص179) لذلك لم تلبث حركات القلق وعدم الرضى عن حال الحكم إن ظهرت بعد أن كانت مستترة خائفة في حكم إسماعيل. وابتدأت الفتنة العسكرية في سنة 1880 وكبرت رويداً رويداً حتى صارت الثورة العرابية. وتحت هذا الاسم طالب رؤساؤها حاكم البلاد بأن يسلم الأمة مفاتيح الحكم ويشرع لها مجلساً نيابياً كامل السلطة، وكبرت هذه الفكرة وامتدت وتألف حولها حزب وطني يناصرها. وأقرها توفيق ووضع لمصر برلماناً نيابياً بالمعنى الكامل وحسب القائمون بالحركة أنهم وصلوا إلى كثير مما يبتغون وانتظروا اجتماع مجلسهم وحياته الطويلة التي أملوا أن تبعث للبلاد إحساساً كاملاً بمعنى الحرية وحباً متناهياً لها يقتضى الاستماتة في الدفاع عنها. لكن آمالهم مع الأسف لم تلبث أن انكسفت أمام حوادث الثورة وهزيمة العرابيين في التل الكبير وبدأ احتلال الإنكليز للبلاد في سنة 1882.(16/37)
ولما هدأت الثورة أوفد إنكلترا اللورد دفرن سفيرها في الآستانة يومئذ ليدرس أحوال البلاد وليضع لها نظاماً حكومياً. ولم يلبث دفرين أن قدم تقريراً طويلاً حكم فيه بموت مجلس النواب الذي عقد في سنة 1881 وبإحياء النظام الذي انقضى أجله صيف سنة 1913 والذي كان مؤلفاً من مجالس المديريات ومن مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية. ولم يكن رأي أي من هذه المجالس قطعياً في أية مسألة من المسائل. بل وضعت أولاً للغرض الذي وضع له المجلس الذي عقده الفرنساويون سنة 1898 أي لمساعدة الحكام في الحكم وثانياً لتكون صورة تحركها الحكومة على ما تحب وتجد من هذه الحركات ما تلهي به أنظار المتطلعين من أنصار الإنسانية من أهل أوروبا.
وفي هذه السنين ابتدأت الصحافة تنتشر في مصر وتذكر الناس بالحرية وتعلمهم معانيها وقام من بين من قصدوا للصحافة أو كتبوا فيها رجال نوابغ هزت كلماتهم البلاد وأدخلت إلى نفوسنا الميتة شيئاً من الإحساس بالحياة وشوقاً وتطلعاً للحرية. وساعدت الحوادث هؤلاء الرجال ونما بذلك هذا الإحساس وطالبت البلاد مطالبة هادئة بأن تشترك مع الحكومة في الحكم وأن تكون ذات رأي قطعي فيه. وأسمع المتكلمون حكومة مصر وحكومات العالم المتمدين صوت هذه الأمة. وعلى أثر كل هذه المجهودات فكرت القوى الحاكمة في أن تجيب هذا النداء وكان أثر هذا التفكير القانون النظامي الحاضر الذي أنشأ الجمعية التشريعية.
اهتمت الأمة لهذا القانون قدر ما يستحق وكان كل اهتمامها موجهاً لانتخاب الأكفاء من الرجال. وفعلاً انتخب جماعة ذووا كفاءة عالية وعقل راجح وصوت مسموع ترجو أن يبعثوا إلى أمتنا من روحهم ما تزداد معه شوقاً للحرية وتلهفاً على جهتها وأن يسيروا وإياها إلى الحكم الديمقراطي الكامل.
إلى هنا انتهينا من مر النظر سريعاً على تطور النظامات النيابية من جهة تكوين معنى الحرية على مختلف العصور وفي مختلف الأمم بالقدر الذي يسمح ليكون مقدمة لما سيكتبه البيان عن حياة النواب الذين شرفوا كرامى الجمعية التشريعية. // محمد حسين هيكل(16/38)
صفحة من سيرة عمر
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثال الإمام العادل. فقد كان تقياً زاهداً ورعاً وقد كان شديد السياسة لا يحابى أحداً ولا يراقب شريفاً مشروفاً. وقد كان يلين في موضع اللين ويقسو في موطن القسوة. وكان جريئاً في التشريع ومن ذا الذي يفهم أسرار الشريعة الإسلامية أكثر من عمر، وهو الذي جعل الطلاق الثلاث في لفظ واحد طلاقاً باتاً بعدما كان كالطلقة الواحدة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر بالصديق وصدر من خلافته. وهو الذي أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله تحتها بيعة الرضوان في عمرة الحديبية لأن المسلمين بعد وفاة النبي كانوا يجيئونها فيصلون فيقيلون تحتها فلما تكرر ذلك أوعدهم عمر فيها ثم أمر بها فقطعت. وقال المغيرة بن سويد خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ولإ يلاف قريش فلما فرغ رأى الناس يبادرون إلى مسجد هناك فقال ما بالهم قالوا مسجد صلى فيه النبي والناس يبادرون إليه فناداهم فقال هكذا هلك من كان قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً من عرضت له صلاة في هذا المسجد فليصل ومن لم تعرض له صلاة فليمض - ونحن ذاكرون هنا طرفاً من نوادر هذا الإمام العظيم لعل فيها عبرة لمن اعتبر.
روي الزبير بن بكار قال لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق وصامت فكتب إليه: أما بعد فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك ولا كان لك مال قبل أن استعملك فأني لك هذا فو الله لو لم يهمني في ذات الله إلا من اختان في مال الله لكثر همي وانتثر أمري ولقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك ولكن قلدتك فاكتب إلي من أين لك هذا المال وعجل، فكتب إليه عمرو: أما بعد فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين فأما ما ظهر لي من مال فأنا قدمنا بلاداً رخيصة الأسعار كثيرة الغزو فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها ووالله لو كانت خيانتك حلالاً ما خنتك وقد أئتمنتني فإن لنا إحساباً إذا رجعنا أليها أغنتنا عن خيانتك وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني فإذا كان ذاك فو الله ما دققت لك يا أمير المؤمنين باباً ولا فتحت له قفلاً فكتب إليه عمر: أما بعد فأني لست من تسطيرك الكتاب وتشقيقك الكلام في شيء ولكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال ولن تعدموا عذراً وإنما تأكلون النار وتتعجلون العسار وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة فسلم إليه شطر مالك(16/39)
فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاماً ودعاه فلم يأكل وقال هذه تقدمة الشر لو جئتني بطعام الضيف أكلت فتح عني طعامك وأحضر لي مالك فأحضره فأخذ شطره فلما رأي عمر وكثرة ما أخذ منه قال لعن الله زماناً صرت فيه عاملاً لعمر والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزررات الديباج فقال محمد أيها يا عمرو فعمر والله خير منك وأما أبوك وأبوه فإنهما في النار. ولولا الإسلام لألقيت معتلفا شاة يسرك غزرها ويسوءك بكؤها قال صدقت فاكتم على قال أفعل.
قال الربيع بن زياد الحارث كنت عاملاً لأبي موسى الأشعرى على البحرين فكتب إليه عمر بالقدوم عليه هو وعماله وأن يستخلفوا جميعاً فلما قدمنا المدينة أتيت يرفا حاجب عمر فقلت يا يزفا مسترشد وابن سبيل أي الهيأت أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله فأومأ إلى بالخشونة فاتخذت خفين. مطرقين ولبست جبة صوف ولنت عمامتي على رأسي ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه فصعد بصره فينا وصوب فلم تأخذ عينه أحداً غيري فدعاني فقال من أنت قلت الربيع بن زياد الحارث قال ما تتولى من أعمالنا قلت البحرين قال كم ترزق قلت ألفا قال كثير فما تصنع به قلت أنفوت منه شيئاً وأعود بباقية على أقارب لي فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين قال لا بأس ارجع إلى موضعك فرجعت إلى موضعي من الصف فصعد فينا وصوب فلم تقع عينه إلا على فدعاني فقال كم سنك قلت خمس وأربعون فقال الآن حيث استحكمت ثم دعا بالطعام وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش وقد تجوعت له فأتى بخبز يابس وإكسار بعير فجعل أصحابي يعانون ذلك وجعلت آكل فأجيد وأنا أنظر إليه وهو يلحظني من بينهم ثم سبقت مني كلمة تمنيت لها أنى سخت في الأرض فقلت يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا فزجرني ثم قال كيف فقلت يا أمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز قبل إرادتك إياه بيوم ويطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز ليناً وباللحم غريضاً فسكن من غربه فقال أههنا عرب قلت نعم فقال يا ربيع إنا لو نشاء إلانا هذه الرحاب من صلائق وسبايك وصناب ولكن رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ثم أمر أبا موسى بإقراري وأن يستبدل بأصحابيث.(16/40)
وكان عمر رضي الله عنه يعس بالليل فسمع صوت رجل وامرأة في بيت فارتاب فتسلق الحائط فوجد امرأة ورجلاً وعندهما زق خمر فقال يا عدو الله أكنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصيته قال يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت فقد أخطأت في ثلاث قال الله تعالى ولا تجسسوا وقد تجسست وقال وأتو البيوت من أبوابها وقد تسورت وقال إذا دخلتم بيوتاً فسلموا وما سلمت.
ذكر عمرو بن العاص يوماً عمر فترحم عليه وقال ما رأيت أحداً أتقى منه ولا أعمل بالحق منه لا يبالي على من وقع الحق من ولد أو والد أني لفي منزلي بمصر ضحى إذ أتاني آت فقال قدم عبد الله وعبد الرحمن ابنا عمر غازيين فقلت أين نزلاً قال في موضع كذا لأقصى مصر وقد كان عمر كتب إلى إياك وأن يقدم عليك أحد من أهل بيتي فتجيزه أو تحبوه بأمر لا تصنعه بغيره فافعل بك ما أنت أهله فضقت ذرعاً بقدومهما ولا أستطيع أن أهدى لهما ولا أن آتيهما في منزلهما خوفاً من أبيهما فو الله أني لعلي ما أنا عليه وإذا قائل يقول هذا عبد الرحمن بن عمر بالباب وأبو سروعة يستأذنان عليك فقلت يدخلان فدخلا وهما منكسران فقالا أقم علينا حد الله فأنا أصبنا الليلة شراباً فسكرنا فزبرتهما وطردتهما وقلت ابن أمير المؤمنين وآخر معه من أهل بدر فقال عبد الرحمن إن لم تفعل أخبرت أبي إذا قدمت عليه أنك لم تفعل فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر وعزلني فنحن على ما نحن عليه إذ دخل عبد الله بن عمر فقمت إليه ورحبت به وأردت أن أجلسه في صدر مجلسي فأبى على وقال أن أبي نهاني أن أدخل عليك إلا أن لا أجد من الدخول بداًَ وإني لم أجد من الدخول عليك بداً أن أخي لا يحلق علي رؤوس الناس أبداً فأما الضرب فاصنع ما بدا لك قال وكانوا يحلقون مع الحد فأخرجتهما إلى صحن الدار وضربتهما الحد ودخل عبد الله بن عمر بأخيه عبد الرحمن إلى بيت من الدار فحلق رأسه وحلق أبا سروعة والله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان وإذا كتابه قد ورد من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاصي عجبت لك يا ابن العاصي ولجراءتك علي ومخالفتك عهدي أما أني خالفت فيك أصحاب بدر ومن هو خير منك واخترتك وأنت الخامل وقدمتك وأنت المؤخر وأخبرني الناس بجراءتك وخلافك وأراك كما أخبروا وما أراني إلا عازلك فمسى عزلك ويحك تضرب عبد الرحمن بن عمر في داخل يفتك وتحلق رأسه في داخل بيتك وقد(16/41)
عرفت أن في هذا مخالفتي وإنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين ولكن قلت هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عز وجل فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع قال فبعثت به كما قال أبوه وأقرأت أخاه عبد الله كتاب أبيهما وكتبت إلى عمر كتاباً اعتذر فيه وأخبرته إني ضربته في صحن الدار وحلفت بالله الذي لا يحلف بأعظم منه أنه الموضع الذي أقيم فيه الحدود على المسلم والذمي وبعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر فذكر اسلم مولى عمر قال قدم عبد الله بأخيه عبد الرحمن على أبيهما فدخل عليه في عباءة وهو لا يقدر على المشي من مركبه فقال يا عبد الرحمن فعلت وفعلت السياط السياط فكلمة عبد الرحمن بن عوف وقال يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد مرة فلم يلتفت إليه وزبره فأخذته السياط وجعل يصيح إنا مريض وأنت والله قاتلي فلم يرق له حتى استوفى الحد وحبسه ثم مرض شهراً ومات.(16/42)
باب تدبير المنزل
(إلى الزوج)
ويليم كويت من كتاب إنجلترا المعدودين، وساستها المشهورين، ونقادها الأشداء، كان معاصراً للشعراء بيرلون وكولوريدج وسكوت وشلى، وتوفي قبل تتويج الملكة فيكتوريا بعامين. وكان ذلك عام 1835، وقد ولد من أبوين فقيرين. فكان فقر الوالد مدعاة له على الكد والسعي، وسلك نفسه في الجندية عام 1780. ثم عاد فخرج من الجندية بعد ثمانية أعوام من دخوله، وأخذ من ذلك الحين يكتب في السياسة فكان من أشد المحافظين في أول الأمر، ثم انقلب من أشد الراديكاليين، وحمل حملة شعواء على مذهب الجمهورية في فرنسا ومذهب الديمقراطية في أميركا، وأنشأ عام 1800 صحيفة سياسية يومية، ولكنها لم تلفح فعطلها، على أن لم ينشب أن أصدر صحيفة أسبوعية سياسية استمرت حتى وفاته، وكانت في بادئ أمرها على مبدأ المحافظة، ثم صارت من أشد أعداء الحكومة وخصومها، وحوكم مرتين على شدة تهكمه ومطاعنه على بعض رجال الحكومة الإنجليزية، ثم حوكم مرة أخرى بدفع غرامة، مقدارها ألف جنيه وسجن عامين. وكذلك مضى يفر من انجلترا ثم يعاودها، ويصدر صحيفة ثم يعطلها، حتى رشح للنيابة في البرلمان ولكن سقط في الانتخاب بادئ بدء، ولكنه عاد فظفر به، على أنه لم يظهر في البرلمان مقدرته، ثم ضعفت صحته حتى لقى ربه في الثالثة والسبعين من عمره.
أما أسلوبه فما شئت من بيان ووضوح، وما طلبت من خفة وروح، وكان في النقد والتهكم شديداً جريئاً، وكان المعاصرون من الكتاب لا يجترئون على الحكم في أسلوبه أو التعرض لنقد مقاله، خشية من شدة قلمه وهيبة من حدة كلمه، وكان آخر الدهر ثابتاً على مبدئه، فما أيد رأياً إلا ووقف حياته على تأييده، ولا مدح أمراً إلا ومضى على مديحه، وما هجا خصماً إلا وانطلق آخر الحياة في هجائه، وكان صديقاً للشعب ونصيراً، يطلب للجائعين شبعاً، وللمرأة كساء، وللقواعد ملجأ، ولليتامي عائلاَ، وللمظلومين عدلاً.
ونحن نختار لهذا الكاتب الكبير فصلاً جليل الشأن في موضوعه. نقتطفه من كتابه نصائح للشبان وهو الفصل الخاص بنصيحته إلى الزوج، فعسى أن يتدبر شباننا وشوابنا قوله، وينتصحوا بنصيحته، ويعملوا بقواعده، لأن أغلب ما جاء فيه يكاد يكون موقوفاً على(16/43)
وصف الأدوية الناجعة لدرء المرض الاجتماعي الذي يعمل في جسم الأمة المصرية، وكرب أن يصبح عضالاً، ونعنى به أحجام الشبان عن الزواج. وسوء حال المتزوجين وفساد لأسرة. وإن في هذا المقال لعبرة للمعتبرين.
سلوكك في المعيشة الزوجية. هو العامل الأكبر في سعادتك وهناء عيشك. ولكن ذلك يتوقف على كيفية بدنك. فإذا كنت قد أحسنت الاختيار - ولا أظنك إلا قد فعلت - فاعلم أن المرأة الشابة الصالحة تصبح امرأة سوء وأما خبيثة. إذا كان زوجها رجلاً ضعيفاً خواراً. وفظاً غافلاً: ومتلافاً مبذراً. وشريراً فاجراً. لأن ما في الزوجة بعد تربيتها وأميالها الطبيعية يكاد يكون جميعه من عمل زوجها.
فأول واجب عليك: مهما كانت حالك من عسر أو رخاء. أن تعرف زوجتك ضرورة القصد في النفقة، وتريها وجوب ارتقاب ذرية ضعفاء. وأفراخ ينبغي لهم الحضانة والكفالة والتربية: وإن لذرارى المستقبل لحقاً عليها في الاشتراك معك على الإدخار لكل هذه التكاليف: ونحن لنا الحق في إنفاق أموالنا وأرزاقنا كما نشاء ونحب، وصرف أنعمنا ومتاعنا كما نريد ونطلب. على أن هذه لا تكون ملك يميننا إلا إذا فضلت على ديوننا، هذا من الوجهة القانونية، أما من الوجهة الأخلاقية فأنا مع زواجنا نعقد قرضاً مع ثمرة هذا الزواج ونتاجه، ومن ثم ينبغي أن يكون إنفاقنا من الاعتدال بحيث يلائم مركز الزوجين في الحياة.
والضرر الأكبر أن تبدأ باستخدام خادمة أو خدمات، فإذا كنت في ثراء نضير وعيشة راضية، أو كان عمل البيت شاقاً يحتاج إلى معونة الخادمة، فبحسبك خادمة أو خادمتان، أما إذا كانت خدمة الدار لا تطلب إلا يدين اثنتين، فليت شعري لم تكون أربعة، ولاسيما أنك لا تستطيع أن تستخدم اليد دون الفم، بل وما هو مثل الفم في التكاليف والأذى، وأعني به اللسان. فإذا أصبحت يوماً رب بنين وأطفال فأنت إذ ذاك ملزم أن تطلب ردحاً من الدهر عون الخادمة، أو خدمة الحاضنة، ولكن ما حاجة زوجة العامل أو المزارع أو التاجر (إلا إذا كانت الأسرة كبيرة) إلى عون الخادمة وإذا كانت الزوجة شابة فتية، فلم لا تعمل وتجد مثل زوجها، وأي عدل هناك في طلبها إليك أن يكون في بيتك امرأتان لا واحدة. إنك لم تتزوجهما معاً، ولكنهما إذا تلازما وتشابها فقد تزوجتهما فعلاً، ولو نجوت بنفسك من(16/44)
جريمة الجمع بين الزوجين، فإنك عرضة لأشد نتائجها خطراً وويلاً.
ولعمري لا تستخدم الخادمة إلا بأجور غير تافهة، وهي مع ذلك تجلس إلى الزوج والزوجة. وتسمع كل كلمة تدور بينهما، أو بينهما وبين أصدقائهما وأين أن تكم فاها، أو تسكت لسانها، وإذا كانت الخادمة أجمل من الزوجة وأسحر من السيدة وما أكثر ما يحدث ذلك فإنها ستعرف كيف تجيب على النظرات والرنوات التي لابد أن تلقاها من ذلك الذي تدعوه بسيدها دعابة وهزؤا.، وهذا لعمرك الجمع بين الزوجين في أتم أشكاله ومعانيه، ولكن رتواتك إليها لا تكفيها ولا تغنيها، فهي تطلب دفؤاً وموقداً، وهي تروم فوق جمره وفحمه نوعاًَ آخر من الدفء، وضرباً آخر من النار. . . وإن كانت لا تستغني عن الفحم، ولا تتخلى عن الوقود. وإنها لتنعم ملك بالمأكل والكن، ومع ذلك تمنى النفس بنار الحب، ونحن إلى أجيج العشق.
ووجود خادم واحد شر من وجود خادمين أو خدام، فإن من حسن حظ سيدهم ومولاهم أنهم لا يتفقون ولا يتواتون، وأكثر ما يثقل عبء الزواج على أعجز الناس حملاً له، أشباه الكتبة ومن يحاكيهم لأن زوجاتهم يحسبن أنهن خليقات بأن يعشن عيش الأميرات، لأن عمل رجالهن في نظرهن خفيف لا رهق فيه ولا نصب ولكن رحمة الله لهؤلاء المساكين، نعم أن عملهم ليس بالشاق الجاف ولكنه لم يخرج عن كونه عملاً بل وشغل ساعات طوال فيها من الكد والعناء ما فيها، ولا نجد معدل دخلهم يربى على ضعف دخل النجار أو البناء أو الحائك.
وفضلاً عن ذلك فإن الزوجين ينفقان على طعامهما وشرابهما أقل مما لو تخدما خادماً، ومهما تكن زوجتك من الاعتدال في النفقة والقصد. فإن اقتصادها لا يجديها كبير نفع لو اتخذت جارية لها، إذ ليس في مكنتكما أن تقتصدا مع بقاء الخادم، وملازمة هذا الحائل، حتى وإن اجتمعتما على ضرورة الاقتصاد. بل لا تستطيعان أن توفرا عليكما شيئاً يكون تعلة لأيام النفقة المقبلة فليت شعري لم أذن تجلب إلى دارك مثل هذه المتعبة. وتجعل زوجتك عليها حارساً ورقيباً. بل لم تقلقها، وتقطع عليها خير مراميها، وصالح مقاصدها وتفسد عليها خلقها، وتمر عليها حلاوة طبعها. أجل ليت شعري لم تأتي هذا الأمر المنكر الطائش؟.(16/45)
ذلك لأنك تريد أن تجري في عيشك مجري المودة الفاسدة، وتتبع طراز الناس، أو لخجل فيك كاذب وزهو غير محمود،
لعلك تقول ليس في وسع الزوجة أن تنهض بخدمة الدار وشأنها، يا سبحان الله!، وكيف يكون ذلك، أتعجز المرأة اشابة العبلة أن تطهو الطعام، وتغسل الثياب، وتحيكها أو ترفوها، وتنظف البيت وتتعهده، وتهيئ مهاد زوجها ومهادها، أصلحك الله، وكيف إذن قدرت على الزواج، إن لم تكن جلبت إليك ثروة كبرى، أو كنت غير ذي ثروة. إذن فاسمع ما أدلى به إليك. . إن الدخل الصغير لا يضع الزوجة المخدمة والزوج المختدم في مستوى واحد.
أما إذا عمل البيت أشق في الحقيقة على الزوجة الفتية وأتعب لها وأكثر رهقاً. أو خفت عليها منه، وأشفقت أن يضعف صحتها، أو يذوي حسنها، فلك حينئذ أن تتردد، على أن العمل ليس من المشقة والصعوبة بحيث خفت، بل أنه ليحفظ صحتها، ويكسبها روحاً ونشاطاً، ويصون جمالها.
وإنك لتسمع الفتيات يغنين وهن يغسلن الثياب حتى يسأمن الغناء، ولكنك لا تسمع لهن غناء، ولا يبلغ مسمعيك منهن تغريد، وهن آخذات فيما يسمين بشغل الإبرة. وفي نساء الأمريكان أسوة حسنة، ومثال طيب إذ لا يأخذهن ذلك الزهو الكاذب الذي يمنع آلافاً من الزوجات في إنجلترا مما تتطلبه المنفعة الزوجة، وتدعو إليه الحكمة والسداد، وتحث عليه حتى أميالهم الخصوصية، فترى الأميركيات دائبات لا عن حاجة ولا عن إكراه وكيف يكون الإكراه، والأمريكان أعطف أهل الدنيا قلوباً. وأحدب أهل الأرض أفئدة. وأليهم خلقاً، وإنك لتراهن في الريف يقمن بخدمة لدار. فإذا أتممنه عجن على البستان أو الحقل، يزرعن الشجر ويشذبنه ويقطعن الكلأ وينقلنه، ويعملن في الأرض ويحرثن، ويجمعن الأثمار والأعشاب. وكل ذلك في جو لا يخف المرء فيه للعمل خفته له وهو في إنجلترا وهن يجنين من ذلك ويستفدن، إذ يتحفهن أزواجهن مما اقتصدوا لهن ووفروا، وما أندي يد الأمريكي في مثل هذه الحال، وما أخفه إلى تكريم زوجته وإتحافها.
ثم يجب أن تعنى بسمتك ومظهرك أمام الزوجة الشابة، فإن العجائز من الأزواج والثيبات قد فلت الأيام من غربهن، وأطفأت من جذوتهن، حتى لا يكسر قلوبهن تقطيب من زوج، ولا يثير شجنهن تجهيم من بعل، أما الشابة الحدثة الغفل فعلى النقيض من ذلك. وأعلم أن(16/46)
أول تجهيمة منك سيف إلى قلبها، وسهم إلى جوانحها، وكذلك أرادت الطبيعة أن يصبح الرجال أقل شغفاً وصبابة بعد ليلة العرس، وأن تكون النساء على العكس يزداد حبهن ويتعاظم وجدهن، وأعجب ما فيهن أنهن حديدات البصر، مستطلعات دخائل القلوب، نافذات إلى أعشار الأفئدة، فإذا وضعن أول طفل. انقسم هذا الوجد قسمين فقسم للأب وقسم للابن، وأنت قبل هذا موضوع هذا الحب بحذافيره، فإذا طمحت إلى السعادة فنشدتك الله إلا ما بادلتها هذا الحب، وتجنبت كل ما يغضبك من الناس، ويسلبك بشرك وطلاقتك. ودع كل ما يغضبك منها أو يحبسك عن السرور والتهلل واجعل عباراتك وألفاظك ونظراتك كما كانت قبل أن تسميها زوجتك.
وأظهر لها في كل حين حبك وإعجابك، لا بالتودد الفارغ ولا بالتحبب المتكلف، كأن ترفع عن الأرض منديلها أو قفارتها، أو كأن تحمل عنها مروحتها أو مظلتها، ولا بأن تنوط بعنقها القلائد، وتحبوها بالعقود والقلب والحلي، ولا بأن تكلف البلاهة والحمق فترنو وعليك سمة السرور إلى هنأتها وهفواتها ومناقصها، ولكن عليك أن تبدي دلائل الحب في أفعالك، وسمات الحنان في طيب معاملتك، وأظهر لها في أفعالك مبلغ اهتمامك لصحتها وحياتها وراحتها وهنائها، واجعل مديحك إياها يشمل جميع فضائلها، والتزم الصدق في المديح والتأثير حتى تعتقد أن لا إطراء فيه فإن الرجل الذي شأنه أطلق لزوجته إنما يعد أذنيها الاستماع ملق الناس وخداعهم ونفاقهم، واجعل أفعالك وأقوالك تحمل لها في كل ساعة وحين ضماناً على أنك تقدر صحتها وحياتها وسعادتها قبل كل شيء، وأظهر لها ذلك في أبين مظهر، ولاسيما في أزمنة الشدة، وساعات البلاء.
كانت داري أول عهدي بالزواج بمدينة فلادلفيا، وإن شئت فقل على مقربة منها ففي يوم من هاتيك الأيام، في صميم شهر يوليو القائظ، أصاب زوجتي بعد نفاسها أرق طويل، فما أخذت جفنيها إغفاءه، ولاران على عينيها الكرى مدة يومين كاملين. وأنت تعلم أن المدن الكبرى في البلدان الحارة والأقطار المصيفة أكثر ما تكون مملوءة بالكلاب، فإذا اشتد القيظ في الليل سمعت لكلاب المدينة عواء منكراً، ونباحاً طويلاً، وعراً كالجبا ففي تلك الليلة التي أنا بصددها، اشتد عواء الكلاب، حتى ليشق على امرئ صحيح الجسم غير موجع ولا عان، أن يظفر بالإغفاء لحظة وجيزة، وإني لجالس في فراشي، وكانت الساعة التاسعة، إذ(16/47)
قالت زوجتي إني لأستطيع الآن نوماً، لو لم يكن عواء هذه الكلاب، فما كان مني إلا أن نزلت مسرعاً درج السلم وانطلقت في الشارع، في قميص وسراويل، عاري القدمين، لا نعل ولا جوارب، وانحرفت إلى ناحية من الطريق عند ركام من الأحجار، وجعلت أقذف بها هذه الكلاب، وأعدو في أثرها، حتى أبعدتها عن الدار بمسافة طويلة وكذل قضيت تلك الليلة بجملتها عاري القدمين، خشية أن يبلغ أذنيها صوت وقع نعلى، وكان اجر الطريق من وديقة الحر لذاعاً موجعاً، ولكن مجهدتي هذه أحدثت الغرض المبتغى، والمقصد المطلوب، إذ هنأ النوم زوجتي ساعات طوالاً، فلما كان الصباح انبعثت إلى عملي، وما كنت أعود منه إلا إذا أذنت الساعة السادسة من المساء.
وما كنت يوماً بالذي يتبع ظل امرأته، ويمشي في أثر زوجته وقلما تنزهت معها، ولو فعلت لما كان لمجرد المماشاة والمتابعة، بل لمقصد غير المشي وطلبة غير المتابعة، بل لمقصد غير المشي وطلبة غير المتابعة، وأنا فوق ذلك رجل ضرب لا أحتمل الهوينا ولا أحب المشي الوئيد وهيهات لها أن تجاريني في مشيتي، ولم نمش معاً في الأربعين عاماً من زواجنا إلا مرات معدودات، ولعمري أنني رجل أبغض الزوج التابع لزوجته المماشي لها، إذ أغده خادماً أكثر منه زوجاً.
واعلم أن أكبر دليل على أنك تحبها هو أن تهب لها فراغ وقتك وخلوات ساعاتك فليت شعري ماذا عسى يقال في زوج اعتاد أن يترك داره ويغادر أهله وموقده، طالباً صحابة له في الحان أو القهوة.
وقد نبئت أنك فلما تلتقي في فرانة طولها وعرضها، شرقها والمغرب، بزوج لا يصرف المساء في القهوة أو الحن، وإني ليحزنني أن أقول أن كثيراً من الأزواج في هذا البلد ينضجون في هذه المنقصة على منوال الفرنسيين، فترى لهم أندية الشراب، وأندية التدخين وأندية المغنين، وأندية الميسر وأندية المزاح والهزل، والحال لا مبرر هناك لهذه ولا موجب. وهي سخف وحماقة وسفه في الأغراب. فكيف بالأزواج. وماذا هم قائلون لنسائهم وأبنائهم في هذا النجافي عن مراقدهم، وهذا الهجر لبيوتهم، وهذا الخفر لعهد الزوجات. وهذا المثل السيئ للأبناء.
إن في هذا لمستجمع النكبات ومستجم البلايا، وأول هذه النكبات الرزء في المال وفاتحتها(16/48)
السرف في النفقة، وإن ما يضيع في هذه السبيل من دخل الرجل لكاف - لو اجتمع لإدخار ثروة طيبة لولد من ولده، ثم يأتي من بعد ذلك تلف الصحة من جراء ملاهي الليل وطوفانه، ثم المشاجرات والمشاحنات، فاعتياد خبيث الكلام ومستر ذله فالسعاية بين الناس، فاستحسان النكتة الفاحشة، والمزحة المستبردة. فاستخفاف بكل رزين. وسخرية من كل وقور.
وهل ترى الزوج المتجافي عن زوجته وأولاده يحسب أنها لا تحذو حذوه في قليل ولا كثير، إنه لو فعل لكان مخدوعاً في أمره. واهماً في حسبانه. إذ لو قلدته مثلاً في الشراب لما كان له عذر في الشكوى ولا شفاعة. وهنا يكون التبذير مزدوجاً. والإنفاق مضاعفاً. وإذا كان في الدار خدم. فهم أعلم ذ ذاك بموعد غيابه. وأوان حضوره. وهم بين الموعدين ومطلقو السراح. يمرحون ويلعبون. وذلك أمر أن لم يكن عدلاً كان طبيعياً. وما أصدق المثل القديم القائل كما يكون السيد يكون خادمه وليس من العدل في شيء أن يخدم السكير الفاجر كما يخدم العزوف المتيقظ المنتبه. ولا عذر إذا رأيت الخدم في غياب المولى آخذين في السمر ولعب الورق والميسر. ولم لا يكون ذلك والسيد قد اختط لهم الخطة وضرب ذلك المثل. وهذه أصلحك الله تجيء بالفسقة من الزوار والفجرة من الأضياف وتعقب الخسائر الفوادح. والتكاليف البواهظ، وتجر فساد أخلاق البنين وعاداتهم. وليس فوق ذلك الأسوء معاملة الزوجة. والناس تؤثر صحبة من تحب وترضى، وتستحب مخالطة من ترى في مخالطته أكبر السرور وأعظم البهجة ولكاني بمن يصرف فراغ وقته وغفلات عيشه. في صحبة غير زوجته ومجالسه غير بنيه. يقول لهم إنه يرى الغبطة في مجالسة الناس ولا يراها في مجالستهم. وترى الأبناء يبادلون آباءهم على ذلك استهتاراً واستصغاراً. أما الزوجة الخفيفة الرقيقة الفؤاد فإما أن تكون هذه الفعال سيفاً في حشاها. وسهماً في كبدها. وأما غضبه الانتقام، أو فترة لاقتصاص. وحسبك أنه ضرب من الانتقام لا يعز على المرأة الشابة ولا يطول. وما على الذين استهدفوا لنشر هذه العادة واستناموا لها إلا أن يذكروا ما جاء في كتاب فاركيهار - خدع العاشقين - إذ قالت السيدة (صالن) لخادم اتخذته عاشقاً لها وخليلاً. إن زوجي يأتي الدار بعد منتصف الليل مترنحاً منثنياً فيرتمي فوق السرير بجانبي كالسمكة العظيمة في شبكة الصائد. يهدم نظام فراشي ويزفر أبخرة الشراب في وجهي ثم(16/49)
يلتوي في أضعاف اللحاف. ويتركني بين ملتحفة وغير ملتحفة. ويسمعني حتى الصباح صوت ذلك البلبل المغرد. . . منخاره! ولئن كان هذا الضرب من الانتقام شديداً غليظاً. فإنية لو قعدت مقاعد القضاء لما كان حكمي على السيدة إلا رقيقاً خفيفاً. إذ بأية سنة أم بأي حق يرتقب زوج هذه حاله أخلاصاً من زوجته ووفاء من بعله. يعد ما خفر ذمة قضاها. ونكث عهوداً أبرمها. وفك آخية عقدها. أم بأية شرعة ترتبط هي بعهدها وتستمسك منه بموقفها، لقد كانت تظن أنها قد بنت بإنسان. فإذا به قد تكشف لها عن إحدى العجماوات. بلى. لم يأت أمراً بخدش قانون البلاد. أو يهتك حرمان الشرائع. ولكنه نقض العهد الذي به امتلكها. واليمين التي بها تزوجها. ومن ثم فإن العقد الذي بينهما في نظر العهد مفسوخ. والرباط مفكوك.(16/50)
كشكول البيان
(تفاريق علمية - وأدبية - وتاريخية - وفلسفية - وأخلاقية - وفكاهية - ونظرات في سير مشهوري العالم - وشذرات في أخبار العالم وأحداثه الحاضرة).
آدم سميث
(شيخ الاقتصاديين)
ولد آدم سميث في الخامس من يونيه سنة 1723 بمدينة كركلدي من أعمال اسكوتلندا. ومات أبوه - وكان مديراً للجمارك في هذه المدينة - قبل ولادته ببضعة أشهر فكلفته أمه وحدها وقامت على تربيته.
ولما كان ضعيف البنية وهو في سن الطفولة ازدادت أمه عناية به. ودأبت في السهر على راحته. والقيام بكل ما يحتاج إليه. وما كان سميت ليجحد نعمة أمه عليه بل قابلها بالشكر والحنان والرأفة والطاعة وكل ما يمكن للابن عمله إزاء أمه مدة ستين سنة طويلة.
ويروى أنه خطف في سن الثالثة من عمره إذ كان ذاهباً لزيارة خال له في بلدة استراشنري في صحبة أمه إلا أن الله لم يشأ أن يحرم العالم من شيخ الاقتصاد السياسي وواضعة فسرعاه ما افتقد واقتفى أثر الجانبين فرد إلى أهله.
تلقى سميت دروسه الأولية بمدرسة كركادي وكان يمنعه ضعف صحته من الاشتراك مع إخوانه في ألعابهم يومذاك. وكان محبوباً لديهم مشهوراً بشغفه بالكتب وركونه إلى الهدوء والسكون ومخاطبته نفسه منفرداً وكثرة تفكيره حتى لقد كثر ما كان يذهب فكره عن الجماعة وهو بينهم جالس. ولبث بكركادي حتى سنة 1737 ثم ألحق بجامعة جلاسكو ومكث بها ثلاث سنوات وانتقل منها إلى أكسفورد حيث درس على أساتذة جامعتها سبع سنوات متوالية. وكان شديد التعلق بالرياضيات والفلسفة الطبيعية مدة وجوده بجلاسكو إلا أن أمياله تغيرت عن انتقاله لأكسفورد فتحول ميله إلى الأديان والعلوم الأخلاقية والسياسية وكثيراً ما كان يشغل نفسه بالترجمة من اللغة الفرنسية قصد تحسين عبارته وإجادة أسلوبه.
وحدث وهو بأكسفورد ما أظهر أمياله الشخصية فإن رؤساء الجامعة دخلوا حجرته ذات يوم على غير علم منه فوجدوا لسوء حظه على مكتبه رسالة في الطبيعة البشرية لهيوم فحرموه من الكتاب بعد أن أوسعوه تأنيباً على قراءته مثل ذلك الكتاب الذي تكلم فيه(16/51)
صاحبه عن الأديان بطريقة توافق واجب احترامها والحرية التامة في الكلام عليها وبحثها.
ولما عاد من أكسفورد سنة 1747 وقد كان ذهب إليها ليهيء نفسه للاندماج في سلك القسس مكث بكر كادي مسقط رأسه مع أمه سنتين. ثم استوطن أدنبره بعد أن غير قصده فعدل عن دخول الكنيسة لاحتوائه البحث في الديانات وكرهه بيئة القساوسة وشغف بدرس الآداب ودفعه بعض أخوانه وخلصائه في أخريات سنة 1748 إلى إلقاء محاضرات في البلاغة والأدب ففعل وكان يحضرها جم غفير من طلبة الحقوق والدين وإنه وإن عز الآن وجود شيء من هذه المحاضرات إلا أن شهادة معاصريه من الأساتذة ومن قرأوا عليه تدلنا على أنها كانت غاية في الجودة والمتانة وكثير منهم رجع إليها في حياة سميث ولا ننسى أن نذكر أنها كانت الأولى من نوعها في اسكتلندا (أيفوسيا) حتى أن الجامعة لما رأت ميل الناس لسماع أشباه هذه الموضوعات عينت أستاذاً لها سنة 1760.
وقد كسب من وراء هذه المحاضرات طيب الأحدوثة وساعده ذلك ووساطة بعض أصحابه في نيله رتبة أستاذ للمنطق بجامعة جلاسجو سنة 1751 ثم رقي في السنة التالية إلى مركز أستاذ الفلسفة الأخلاقية وكانت هذه الوظيفة أوفق لأميال آدم سميت واستعداده الطبيعي.
وقد ساعدته الأبحاث التي استدعتها هذه الوظيفة إلى إنضاج معلوماته وأفكاره الخاصة هذا وقد كان سميت يعد الأيام التي قضاها في دراسة الفلسفة الأخلاقية من ارغد أيام حياته وأهنأ زمان عيشه. لأنه كان يقضي أغلبها في درس موضوعات كانت بطبيعته مشغوفاً بها وقسم دروسه هذه إلى أربعة أقسام الأول منها يبحث في الدين الفطري وأدلة وجود الآلة وصفاته. والثاني درس فيه الأخلاق وتكلم فيها عن آرائه التي ضمنها كتابه نظرية الأميال الخلقية والثالث درس فيه بتوسع الجزء الخاص بالعدل والفضاء وعلاقة الخلق متبعاً في ذلك طريقة منتسكيو التاريخية والرابع درس فيه الأنظمة السياسية التي لم يراع العدل عند سنها بل روعي فيها من وجهة ثروة الحكومة وقوتها مثل الأنظمة الدينية والعسكرية التي كانت من أهم موضوعات كتابه ثروة الأمم.
وبدأ سميث حياة التأليف بمقالين أرسلهما نقلاً إلى مجلة أدنبرة ضمن الأول نظره في قاموس الدكتور جونسون وهو من أشهر كتَّاب الإنجليز والثاني خطاباً لمدير المجلة فيه(16/52)
بعض ملحوظات على أدب الأمم الأوروبية المختلفة وهذا يدلنا على سعة إطلاع سميث في وقت كان درس أدب اللغات الأجنبية فيه مطرحاً.
وفي سنة 1759 أخرج للناس كتابه (نظرية العواطف الأخلاقية) وكان قضى وقتاً طويلاً في تأليفه والعناية به.
وعلى الرغم من أن أكثر نظرياته التي ذكرها في كتابه هذا دحضها بعده كثير من الفلاسفة كروسو وغيره فإن ذلك لا يحط من قيمة الكتاب من وجهة الآراء وتعدد الأمثلة والشواهد ورقة التعبير وجزالة الأسلوب ولا يزال معدوداً من أعظم كتب الفلسفة والأخلاق في الأدب الإنجليزي.
وقد أكسبه هذا الكتاب شهرة عظيمة ورفع مكانه في أعين المشتغلين بالموضوعات الأخلاقية والفلسفية. وعدوه من أعظم علماء الأخلاق وأبلغ الكتَّاب حتى أن فولتير كان ينفذ إليه بعض الطلبة ليقرؤا عليه دروسه.
ثم أن سميت بعد طبع كتابه توسع في الكلام على الجزئين الثالث والرابع من محاضراته الخاصين بالمسائل القانونية والاقتصادية والمالية فأجمع مجلس إدارة جلاسكو على منحه لقب دكتور في الحقوق اعترافاً بفضله وشكره له على الموضوعات المفيدة والأبحاث الجليلة التي يلقيها في الجامعة.
وقد أفاده كتابه السابق الذكر فائدة أكبر مما سبق وذلك أنه لما عم ذكر اسمه بالمدح والثناء وذاع صيته دعته الكنتيس أوف دلكيث سنة 1763 لمصاحبة ابنها الدوق في سياحته إلى القارة الأوروبية مانحة إياه في الوقت نفسه شروطاً حسنة جعلته لا يتردد في إجابة طلبها والاستقالة من جامعة جلاسكو وابتدأ رحلته ميمما فرنسا يصحبه تلميذه سنة 1764 فقصدا باريس وبرحاها بعد أربعة أيام وذهبا إلى طولوز مقر البرلمان يومئذ ومكثا بها ثمانية عشر شهراً درس سميث في خلالها آداب فرنسا وحالتها السياسية والاقتصادية وتركاها إلى جنيف حيث مكثا لمدة شهر هناك التقى في غضونه بفلتير إذ كان يقطن فرثي في ذلك العهد ثم قصدا باريس ومكثا بها زهاء عام تمكن سميث في خلاله من الاجتماع بكبراء الفرنسيين أصحاب العقول الراجحة والآراء السديدة التي كان لها الأثر الأكبر في كتاباته ونعني بهم ده كسنى وترجو عزاء الفيزوقراطيين أصحاب المبادئ الحرة.(16/53)
وقد كان لهم عنده منزلة عظيمة حتى أنه كان يوده أن يهدي كتابه ثروة الأمم إلى ده كسني لو لم يحل موت الأخير دون ذلك.
وفي سنة 1766 رجع سميث إلى لندن في رفقته تلميذه دوق بيكلك وانتقل منها إلى عهوده الأولى بكر كلدي حيث أقام عشر سنوات يحوطه السكون وترفرف حوله الدعة والراحة عشر سنوات خالية من المشاغل والمتاعب قضاها في الدرس والتحصيل وتأليف كتابه الكبير (ثروة الأمم) ولم يكن عمله هذا شاقاً بل دفعه إليه حبه لهذا الموضوع فكان عملاً لذيذاً يدلنا على ذلك كتاب بعث به إلى صديقه دافيد هيوم سنة 1767 جاء فيه يشغلني هنا الدرس في موضوع توفرت عليه منذ شهر وليس لي من سلوة إلا النزهة منفرداً والمشي طويلاً على ضفاف البحر ومن ذلك يمكنك أن تحكم كيف أقضي أوقاتي على أني أشعر بالسعادة واللذة وصفاء الذهن وما أظنني نعمت بأيام أسعد من هذه وإنك لتحسن إلى لو كتبت من آن لآخر تنبئني عما يفعله إخواني في لندن أليس في هذا دليل كاف على أن المؤلف يدفعه إلى عمله لذة خاصة ومحرك آخر غير عامل المال والشهرة؟.
ولبث سميت على تلك الحال إلى سنة 1776 إذ بدء عصر جديد في تاريخ الاقتصاد السياسي والعلوم المالية والاجتماعية والسياسية ـ. عام ظهور كتاب ثروة الأمم ظهر الكتاب فلم ينشب أن انتشر وسرعان ما ترجم إلى جميع اللغات الأجنبية في مؤلفه والسبب في ظهور كتاب سميث على غيره من الكتب وانتشاره راجع إلى:
[1] القيمة الأدبية الكبرى التي كانت لكتابات سميث كما مر ذكره.
[2] أن آدم سميث اقتبس أفضل آراء من سبقه من العلماء ومما استفاده بالخبرة أو وصل إليه بالدرس ومن معاشرته للفيزوقراطيين أثناء إقامته بباريس سنة 1765.
وليس لنا أن نفحص كتاب سميث ونأتي على كل ما ذكره فيه بل نكتفي بذكر أهم المسائل التي تؤثر عنه وما قبل فيها.
تكلم على تقسيم العمل فقال يلزم أن يقسم كل عمل من الأعمال إلى أجزاء صغيرة يختص كل عامل بجزء منها وبذلك تحصل على الفوائد الآتية:
[1] مهارة العامل في حرفته وسهولة العمل عليه لاختصاصه بشيء قليل يمكن إجادته بسرعة.(16/54)
[2] مهارة العامل تؤدي إلى سرعته في عمله وبذلك تقتصد كثيراً من الوقت.
[3] إن كثيرين ممن يختصون بعمل من الأعمال يهتدون إلى اختراعات تسهل عليهم مشاق العمل وبذا تكثر الاختراعات المفيدة واستشهد لذلك بصناعة الدبابيس فقال إن عمل الدبابيس قبل تقسيم العمل كان شاقاً وما كان العامل يصنع أكثر من عشرين دبوساً في اليوم مهما كان مقدار مهارته وحذقه - أما الآن فبفضل تقسيم العمل أصبح صنع الدبابيس من أيسر الأمور ولا بصير السلك دبوساً قبل أن يمر بأيدي عشرة من العمال على الأقل فعامل بعد السلك وآخر يقومه وثالث يقطعه إلى أجزائه الصغيرة ورابع يحدد (أو يجدد) طرفه وخامس بعد الطرف الآخر ليضع الرأس عليه ولا توضع الرأس قبل أن يعمل فيها ثلاثة من العملة على الأقل وعلى ذلك يقول إنه رأى مصنعاً صغيراً به عشر رجال أمكنهم أن ينجزوا بالتضامن صنع نحو 48000 دبوس أي أن معدل عمل الواحد منهم 4800 مع أنه لو اشتغل منفرداً لا يستطيع إنجاز عمل أكثر من 20 كما قدمنا.
ولم يخف على سميث المضار التي تنشأ من تقسيم العمل فذكر مضاره مثل:
[1] جهل العامل المختص بشيء واحد بسيط بكثير من الأمور الاجتماعية الخاصة بحياته وصعوبة وجده عملاً يعيش من روائه لو أمكن الاستغناء عنه أو كثر أمثاله.
[2] بلادة العامل وانتقاله من الإنسانية إلى الوحشية لا نكافه على عمل خاص ولكنه رأى أن الفوائد تربى على المضار فحكم بوجوب اتباع المبدأ ووصف علاجاً لبعض المضار التي ذكرناها وهو التعليم الأولى المجاني الإجباري حتى يصير عند العامل المعلومات الكافية لفهمه ما يدور حوله وما يجب عليه فعله بعد عمله اليومي.
وكان سميت أول من خطأ الفيزوقراطيين في مبدئهم الأول وهو أن الأرض المنتجة الوحيدة للثروة فقال إن أحداث الثروة يعتمد على العمل ورأس المال اعتماده على الأرض وخيراتها ولو أنه ترك للأرض المكان الأول وقد زاد الأستاذ مارشال هذه العوامل الثلاثة عاملاً رابعاً هو التنظيم فللمنظم أو المدبر دور مهم غير دور العملة ورأس المال والأرض.
وخصص سميث جزءاً كبيراً من كتابه للكلام عن السياسة التجارية الحرة قد حض فيها رأى المركانتايلست وهم القائلون بعدم ضرورة النجارة الدولية وأنها تقلل من ثورة المملكة فبين أن التجارة يلزم أن تكون حرة لا تعوقها عوائد جمركية ولا خلافها وبني ذلك على(16/55)
نظرية تقسيم العمل السباقة الذكر قائلاً إننا إذا ما اتبعنا السياسة الحرة إنما بإكراه كل مملكة على الاشتغال بالعمل الذي وضعتها الطبيعة له أي التي تحسنه أما بمنح الطبيعة ميزة فيها على غيرها أو بعادة قديمة موروثة. . . فالمملكة التي يكثر فيها الحديد والفحم تكون صناعية والتي هي غنية التربة كمصر لا تحترف بغير الزراعة وهنا يلزمنا أن نذكر شيئاً عما أثر في سميث حتى أخذ بالتجارة الحرة ونشرها فنقول أنه عاش في جلاسجو البلد الصناعية الكبرى معاشراً كثيراً من رؤساء المصانع فيها دارساً النظامات المقيدة للصناعة من جماعات عمال وقوانين تخرج (أوتمرن) وضرائب على الصادرات والواردات فأثر كل ذلك فيه تأثير دعاه لأن يكون شديد الحملة على التقييد ثم أنه ذهب إلى فرنسا وبه ذلك البغض للنظامات الصناعية والتجارية الموجودة فاجتمع مع الفيزوقراطيين وأدى ذلك إلى زيادة رسوخ المبدأ عنده فقال أنه ما دام الإنسان لا يخرق قوانين العدل فينبغي أن يترك وشأنه باحثاً عن منفعته التي وجدها ومزاحماً للناس بماله وحذقه وبعبارة أخرى أنه ينصح بعدم تداخل الحكومة في المسائل الاقتصادية. ويظهر لنا أن الأيام تعمل على تحقيق مبدئه هذا فقد قرأنا في الجرائد أخيراً أن الطيارات ابتدئ في استعمالها لتهريب البضائع الممنوع دخولها بين بلجيكا وفرنسا. وأنه ليصعب بل ليستحيل على الحكومات مراقبتها. وسيأتي يوم تضطر فيه الحكومات إلى رفع الأعمال الجمركية من اختصاصها.
وخصص سميث الجزء الخامس من كتابه لدخل الملك والحكومة وهو ما يدخل في بحث علم المالية الحديث وله فيه أربعة قوانين في موضوع الضرائب لا يخلو منها كتاب مالي:
[1] كل فرد يلزمه أن يمد الحكومة على قدر ما يمكنه وبنسبة دخله الذي يحصل عليه تحت ظل الحكومة ورعايتها.
[2] يجب دفع الضريبة في الوقت المناسب ففي مصر تدفع ضرائب الأرض بعد جمع محصول القطن مثلاً.
[3] يلزم أن يعرف دافع الضريبة مقدارها ويوم دفعها وطريقة ذلك.
[4] يجب تقليل مصاريف الجباية جهد الاستطاعة حتى لا يزيد المال المجموع عما دخل في خزينة الحكومة (بعد مصاريف الجباية) قليلاً جداً.
وقد مات دافيد هيوم صديق سميث بعد ظهور ثروة الأمم ببضعة أشهر فكتب سميث وهو(16/56)
في لندن مقالة وصف فيها خلق صاحبه ومدحه مدحاً دعى كثيراً من أعدائه إلى الطعن فيه والشك في عقيدته لكنه لم يعرهم التفاتاً بل تركهم غير مصغ لما يقولون.
وفي سنة 1778 عين سميث بمساعدة تلميذه دوق بيكلك مديراً للجمارك في اسكتلندا فعاد ليعيش في جلاسكو متمتعاً باجتماعات أصدقائه الأول وبصحبة أمه وابنة عمه. ويقال أنه كان يصرف أغلب دخله في ذلك الوقت على أعمال خيرية سرية يأتيها بدون أن يعلم به أحد.
وفي سنة 1787 عين رئيساً لجامعة جلاسكو فقبل المنصب بالشكر وسر قلبه لذلك الفخر العظيم.
وابتدأت صحته في الاضمحلال من ذلك الحين ومما عجل به أسفه على موت أمه سنة 1784 ولها من العمر تسعون سنة وموت ابنة عمه 1788 فمات عقب مرض أنهكه بعد ذلك بسنتين أي سنة 1790 ويقال أنه تحمل مرضه بصبر عجيب أدهش جميع أخوانه وأحزنهم.
قلنا في مبدأ الكلام على سميث أنه كان شديد الولوع بالكتب وقراءتها وقد ازداد معه هذا الشغف يكبر سنة وكانت نتيجة ذلك أنه أخلف بعد موته مكتبة هائلة تحوي ما لا يقل عن خمسة آلاف مجلد من الكتب النفيسة القيمة.
ومن الغريب أن سميت أوصى قبل موته بأن تحرق كل أوراقه إلا ما أراد بقاءه منها لذلك لا نجد الآن محاضراته التي كان يلقبها بايدنبرغ ولا الخاصة بالخلق والمنطق التي كان يلقبها بجلاسكو.
علينا الآن أن نذكر كلمة بشأن ما يقال عن سميث من أنه موحد علم الاقتصاد السياسي وخالفه كما يدعى ذلك بعض الاقتصاديين الإنجليز: إننا لا نجحد أن العلم كان قبل سميث بعض آراء مبعثرة ما جمعت ولا رتبت إلا في كتاب ترجو المسمي التأملات فأخذ سميث عنه بعض الشيء وأضاف عليه أشياء كثيرة من معلوماته وآرائه الخاصة إلا أن الكتاب كما يقول جان بيست ساي الاقتصادي الفرنسي غير منظم به كثير من الحشو. فسميث في الحقيقة ليس خالق الاقتصاد وإنما جامع متفرقه وأول من وضعه في شكل علمي منظم.
ألبانيا وأميرها الجديد(16/57)
إذا كان في طول أوربا وعرضها، مجاهل ومفاوز، فتلك لعمري ألبانيا أجمل مقاطعة في جميع أرجاء القارة الغربية، ولو أنه قد تصرم ما ينيف على مائة عام منذ وصفها المؤرخ الإنجليزي الأوحد إدوارد جيبون بأنها مملكة تشرف على إيطاليا تكاد تكون مجهولة كصميم أمريكا فلم تزدد معلومات الناس عن هذا البلد العجيب ولا عن أهله، وإن طبيعة المملكة الوحشية، وهمجية سكانها وبربريتهم، والفوضى البادية في أنظمتهم الاجتماعية، والصعوبات التي تمنع من تعلم لسانهم، وعجز الولاة العثمانيين عن مساعدة السياح على التغلغل في صميم تلك البلاد، كل هذه الأسباب كانت الحائل دون معرفة هذه المجاهل الغريبة.
ولعل لفظة ألبانيا هذه، وتلك التي في بلاد القوقاز، وأرمينيا، والباني في بريطانيا / وأرفينيا في فرنسا. مأخوذة جميعها من مادة ألب ومعناها الهضاب البيضاء.
وعدد سكان البابا يقدر بما يربي على مليون ونصف مليون من النسم، ومن هذا المدد نحو من مليون ومائتي ألف من الألبان، والباقي من الصرب والبلغار، والأتراك واليونان، فالصرب يحتلون الجهات الشمالية من البلاد والأتراك يقطنون النواحي الجنوبية الشرقية، وللبلغار مستعمرة كبيرة على مقربة من مدينة دبرة وأخر بدة وفي جنوب هذه المستمرة يسكن قوم في الجبال يسمونهم ولاك وفي أبروس عدد من اليونانيين ليس بالقلييل، ويبلغ عدد سكان ولاية أشقودرة. / 257000 / نفس وولاية يانينا / 000ر552 /.
ولعل الألبان هم أقدم أهل الجنوب الشرقي من أوروبا، وليس في التاريخ ولا في الأساطير، ولا في موروث الأنباء ما ينبئ عن كيفية وصولهم إلى أوروبا، ولعلهم سلالة المهاجرين الأقدمين من الآريين وإن العدد الأكبر من الأسماء السلافية الموجودة في ألبانيا حتى في المقاطعات التي لا يوجد بها أدنى أثر للسلافين يدل على كثرة مهاجرة أقوام الصرب والبلغار إلى ألبانيا في أوائل العهد بالقرون الوسطى، ولكن السكان الأصليين طردوا هؤلاء المهاجرين من أرضهم، وبينا ترى شجاعة الجبلين - أهل الجبل الأسود - قد نوه بها كتاب الأرض جميعاً. ترى الألبانيين لا يذكرون بمديح ولا يشهد لهم بثناء ما عدا مديح الشاعر بيرون. على أنه مما يستأهل الذكر والتنويه أن المهاجرين من الألبانيين والشراذم المنثورة في بقاع الأرض، ولا سيما في اليونان وإيطاليا ومصر، لا يزالون(16/58)
محتفظين بشخصياتهم ومميزاتهم ولغتهم وعاداتهم وأساطيرهم، وترى الألبانيين المستوطنين البلاد الإيطالية واليونانية قائمين كالصخرة الثابتة لا يزعزعهم تيار المدينة الإيطالية ولا يذهب بهم سبلها، على حين مضي على بقائهم بها نحو من ستمائة عام،
والألبانيون يسمون أنفسهم شكبنار وأرضهم شكبيريا وقد اختلف المؤرخون في ترجمتها فالمؤرخ هان يقول إنها مأخوذة من شكيبوج ومعناها أنا أعلم وهي إذن تؤدي معنى الذي يعلم وبعضهم يذهب إلى أن مؤداها ساكن الصخر من لفظة شكب ومعناها في الألبانية الصخر.
طبائع أهلها ومميزاتهم - من السكان الأولين لشبه جزيرة البلقان من دخل في الجنس اللاتيني فكان لاتينياً، ومنهم من فني في الجنس اليوناني فكان يونانياً، ومنهم من امتزج بالعنصر السلافي فأضحى سلافياً، إلا أن الألبان وقفوا أمام كل جنس من هذه الأجناس، فلم تستطع أن تؤثر على شخصيتهم ولا على جنسيتهم وطبائعهم، ومن ثم فهم مختلفون جد الاختلاف عن سائر سكان شبه الجزيرة، وهم ينقسمون إلى نوعين، النوع الأول يسمى الحج والثاني يدعى النوسك فأما الحج فرغماً من وحشيتهم وهمجيتهم وشيوع الخرافات بينهم وتفشي الجهل فيهم، على صفات بالإعجاب خليقة بالاستحان، بل يندر أن توجد في أهل أوروبا الشرقية، وجملة هذه الخصال السذاجة وطيب القلب والبسالة والأمانة والتضحية وهم في الحرب خير الجنود وأبسل المغاوير، وكثيراً ما استخدمهم سلاطين آل عثمان حراساً لسدتهم وحفاظاً، وكثيراً ما يكونون للسفارات في الشرق حجاباً. وقد كان من تزاوجهم باليونان وامتزاجهم ما أصلح من حالهم وقوي من عنصرهم وكفاآتهم. وهم هؤلاء الفتك والسلب والنهب والرعي. وأما النوسك فهمهم التجارة والزراعة والصناعة. وصفات الأولين العبوسة والكسل والكبر والغطرسة. وصفات التوسك الوداعة والثرة والابتسام.
وواجب الانتقام للثأر والأخذ للثرة يتوارثونه كابراً عن كابر ووالداً عن والد. وهو كذلك ورائه في أهل الأسرة الواحدة. وسكان الضيعة الواحدة. وعشائر القبيلة الواحدة. وإن حادثة واحدة لتجر في أغلب الآحايين إلى أحداث كثر وجرائم متعددة وحروب طاحنة بين أهل الأسر المتجاورة، وترى القائل يأوى عادة إلى الجبال مخافة من المنتقم، أو يضرب في داره لا يبرحها الأعوام الطوال. وقد بلغ من هذه الحروب والخصومات والأحن أن عدد من(16/59)
يموتون موتاً طبيعياً لا يكاد يبلغ 75 في المائة كل عام.
وقد يقيمون صلحاً بين القبيلتين المتخاصمتين. وقد يقيمون هدنة أيام. والمفوضون في مثل ذلك هم أهل الدين. وهم يرعون حق الضيف على المضيف إلى الحد الأبعد والغاية القصوى. ولا يجرأ سائح أفاق على التغول في داخلية البلاد إلا بذمة أحد السكان ووساطته. فإذا ضمن من الباني عهداً فهو المرحب به المكرم. وفي بعض الولايات يجعلون حداً مقرراً لثمن الدماء والديات فمثلاً في بلدة أرجيرو كسترو لا تزيد الدية عن (1200) قرش وفي خيماره (2000) قرش. فإذا دفعت الديات وأخذها أهل القتيل عاد الوئام بين الأسرتين واستتب السلام. والألبانيون يوقرون نساءهم وينظرون إليهن بالتبجيل والإكرام حتى ليستعينون بهن في قضاء الصلح بين المتخاصمين وإنفاذ المهادنة بين المتكاشحين. وإن المرأة منهم لتجوب الولاية كلها لا خوف يأخذها ولا خشية. وإن عهداً منها ليحمي السائح. ويرد أمان الخائف. ويسكن سرب الغريب. وهن يرافقن رجالهن إلى ميادين القتال. ليواسين الجرحى ويغمدن جراح المرتشين ويحملن جثث الموتى.
ولباس التوسك جد مخالف للباس الحج وأشهر أثوابهم الفستان الأبيض وقد اتخذه اليونانيون حديثاً. والحج يلبسون سراويل حمراء مزركشة بأربطة سوداء وسترة قصيرة ضيقة والأغنياء منهم يزينون السترة بأشرطة من الذهب وكلهم يلبس الطربوش وأهل الشمال يتمنطقون (بالطبنجة) والمسدسات.
ديانتهم وشؤون التعليم عندهم - السواد الأعظم من الألبان وهو يبلغ ثلاثة أخماس مجموع السكان يدينون بالشريعة الإسلامية. وأكثر من نصف سكان ولاية أشقودرة من المسلمين. والبانيا الوسطى تكاد تكون بجملتها بلداً إسلامياً وفي الجنوب عدد غير قليل من المسيحيين.
أما شؤون التعليم فتكاد تكون مطرحة مهملة وسواد السكان أميون سواء في ذلك المسيحيون والمسلمون وكانت الحكومة العثمانية تمتع الأهلين من التعلم باللغة الألبانية وبذلك لأسباب سياسية. وفي بعض البلدان مدارس ابتدائية وثانونية عثمانية. وفي الجوامع يدرس القرآن. والأسر الكبيرة من الألبان ترسل بنيها للتعلم في مدارس القسطنطينية أو ويانة (فينيا). وفي أشفودرة كلية للجزويت تحت رعاية الحكومة النمسوية. وللفرنسسكان عدة مدارس ابتدائية.(16/60)
والحكومة الطليانية ترعى شؤون ثلاث مدارس عمومية والتعليم فيها بالطليانية وفي جنوب البانيا عدة مدارس لليونان. وفي يانينا مدرسة للألعاب الرياضية، وأسرات النجار في هذه المدينة على جانب من العلم والتربية. واللغة التي يتكلمون بها في يانيا اليونانية المحرفة. .
جئنا بهذه الكلمة مجملة لتستطرد بها إلى وصف أمير الألبانيين الجديد وكيف كان دخوله مقر الإمارة. وحاضرة الملك. بعد ما انسلخت هذه الولاية عن الدولة.
في أوائل شهر مارس المنصرم ركب البرنس ولهلم ده ويد - وإن شئت ففل غليوم الأول أمير ألبانيا الجديد - الباخرة طورس من ثغر تريسته يريد دورازو وحاضرة أمارته وفي حاشيته أسطول دولي، يتألف من الباخرة الفرنسية (بروي) والطليانية كوارتو والإنجليزية جلوستر وبذلك بدأ عهداً جديداً تحفه الأخطار، عهد الإمارة، ورعاية شؤون أمة أولية تستحب الفوضى على النظام.
وكان قد استقبل قبل ذلك باسبوع في قصره بتويد الوفد الذي جامعن ألبانيا لتقديم التاج إليه، والبرنس كما ترى من صورته في لباس جديد على الزي التركي الألباني، أما الأميرة صوفيا زوجته فقد أعدت لنفسها قبل دخولهما دورازو أثواباً إسلامية. سراويل من الحرير واسعة. وجعلت تستقبل المرحبين والمهنئين وهي جالسة جلسة الأتراك على أنها احتفظت بالزي الغربي وكانت تلبسه تحت برنسها الفروي، وكانت تزين شعرها الفاحم بدرة من الماس وكانت صفراء اللون بهاريته.
ولما مثل أسعد مثل رئيس الوفد في حضرة الأمير. كان يدعوه بلفظة موريت ومعناها الأمير والملك معاً ولئن كان الناس لا يزالون في حيرة لا يدرون أي لقب يطلقون على البرنس دمويد اليوم فلعل لفظة موريت تصلح له كما يقولون على فردنياند ملك البلغار تزار وهي لغة في قيصر.
وألقى أسعد باشا بين يديه خطبة موجزة أجاب عليها الأمير بمثلها فلما فرغ من خطبته تصافح الخطيبان وشد كل يد الآخر وهما يتناظران. وإذ ذاك هتف الحضور هتافاً عالياً.
وقد بالغت حاشية البرنس وبلاطه في إظهار التودد والانعطاف نحو نواب الشعب الأرناؤودي إذ سمحوا لهم يتفقد قصر الأمير وزيارة ضياعه ودعوهم إلى رؤية الصور المتحركة حتى إذا رافقوا الأمير وزوجة من قصرهما بنويد إلى مدينة والدتبرج مثلوا في(16/61)
حضرة والدي الأميرة ومن هناك انحدروا إلى ويانة ومنها إلى تريستة حيث ارتقبوا وصول الأمير.
ولن تمضي بضعة أيام حتى ترى ألبانيا في نظام جديد وستنزل الدول أعلامها الخفاقة فوق أشقودرة. ولم يبق إلا لجنة المراقبة الدولية والجندرمة التي نظمت لحفظ النظام والأمن.
ولم يخف البرنس دويدر في خطابته التي رد بها على أسعد باشا أنه لم يقبل التاج فرحاً مبتهج القلب. إشفاقاً من الصعوبات التي تتور مركزه السياسي.
وقد كتب كاتب مقالاً طويلاً يصف فيه ألبانيا نجتزئ منه بهذه السطور الآتية إنك لا تلقى في كل ألبانيا كيلو متراً واحداً لا بل ولا متراً واحداً من الطرق الصالحة أو ما يصح أن يقال له كذلك. فليس بها إلا شقوق في الجبال ودروب. وبقاع مستنقعة، وليس في داخلية البلاد إلا بلدان كبيران لهما قنطرتان، وأهل البلاد مشتتون منتشرون ومن الشاق في أغلب الأحيان أخذ معلومات عن الأماكن المأهولة. والنواحي المطروقة وليس فيها حوانيت ولا حانات ولا فنادق بالمعنى الغربي. وإنما ترى هنا وهناك خاناً أو أكثر من خان.
ثم انتقل إلى وصف قرى الألبان قال:
ودار الفلاح الألباني تشبه أكواخ الزنوج. وفي ألبانيا مثلت القرى كلها مؤلفة من الأكواخ. وهذه الأكواخ يشيدونها من فروع الشجر وأحراش القش. وفي الجهات الجبلية يبنون بيوتاً من الحجارة تشبه من جميع أجزائها القلاع والحصون. وهم يجعلون الطابق الأسفل مرابط لخيولهم ومحابس لشائهم وإهراء لغلاتهم ويفردون الطابق الأعلى لمسكنهم ومنامهم. ويصعد إلى الطابق الأعلى بدرج عمودية. وتري فتحات النوافذ صغيرة جداً. وليس لها زجاج. وهم يحتمون من أشعة الشمس والمطر والريح بقفلها بألواح من الخشب وللمنازل المبنية من الحجارة سقوف خشبية. وأما سقوف الأكواخ فمن الآجر ولا يعرفون المقاعد ولا الكراسي ولا السرر ولا غيرها من الرياش. بل يأكلون وينامون على الأرض.
الطيارات والطيارون
ليس في عديد أمهات المسائل في هذا العصر العملي مسألة ذات خطر وبال مثل مسألة السياحة في الهواء. وهي من قديم العصور وغابر الأجيال أمنية الإنسان ومطمح نظره على أنها من الصعوبات بمكان. أوليس معنى ذلك أنا نمشي على الهواء وندوس بأقدامنا(16/62)
فوق الفضاء ونتخطى نافذين في صميم الجواء.
وينقسم فن الطيران إلى قسمين. يسمى الأول منها أي فن تطيير الآلات التي حجمها أخف من الهواء. مثل البالونات. ويسمى الثاني أي فن الطيران الصناعي بواسطة الطيارات الآلية وهي التي أثقل حجماً من الهواء مثل الأروبلانات ويتضمن هذا القسم المجهودات التي احتال بها الناس من قديم الزمان لتطيير جثمانهم.
والنوع الثاني أقدم تاريخاً من الأول فقد دل عليه علم الميثولوجيا وذكرته الخرافات القديمة. وهناك حكايات كثيرة تنبئ عن أناس حاولوا الطيران بجسومهم. فقد ثبت أن أول رجل فكر في تطيير جثمانه أبو القاسم عباس بن فرناس إذ كسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة ولكنه لم ينشب أن سقط فتأذى في مؤخره لأنه لم يعمل له ذنباً. على أن مؤرخي الإفرنج والمصادر الإفرنجية لم تذكر أبا القاسم لا بالأولية ولا بغيرها. بل تقول أن أولهم جون ويلكنز. المتوفى عام 1672. إذ بحث في عام 1640 عن إمكان الوصول إلى القمر طائراً. وقد كتب في مذكراته أن قسيساً إنجليزياً يسمى الماراس في عهد الملك إدوارد الملقب بالمعترف طار من بلد في اسبانيا إلى مسافة جزء من ثمانية من الميل ويقال أن جيوفاني باتستا دانتي من مقاطعة بيرون في فرنسا طار فوق بحيرة ترازمين في إيطاليا عدة مرات. وفي أول العهد بالقرن السادس عشر أخذ طلياني من الكيماويين على عاتقه الطيران من سواحل إنجلترا إلى سماء فرنسا وفعلاً أنجز ما وعد ولكنه لم يكد يطير حتى سقط وتهشم فخذه. وحوال ذلك العهد بحث المسألة العالم ليناردو دافنشي وأخذ يطبق عليها القواعد العلمية وترى في مذكراته كثيراً من الصور التي تمثل أجنحة صناعية تلصق بالسوق والسواعد على نحو الخوافي والقوادم.
وفي كتاب للفيلسوف الإنجليزي المعاصر لشكسبير فرنسيس باكون نبذتان تدوران حول الطيران وإمكانه.
ولعل اليمامة الطائرة التي صنعها أرشيتاس من أهل ترانتام هي أقدم أثر لفكرة الطيران وكانت هذه الآلة على شكل يمامة أو حمامة من الخشب مصنوعة على قواعد علمية وتحوي كمية من الهواء في جوفها ولعل هذا الهواء هو الهيدروجين أو الهواء الساخن اللذان استعملا بعد ذلك بقرون وأجيال.(16/63)
على أن أول اختراع للبالون يرجع إلى ميشيل مونتجولفييه المولود عام 1740 والمتوفى عام 1810 وإلى جاك أيتين مونتجولفييه أخيه المولود عام 1745 والمتوفى عام 1799 وهما ولجا بيير. ونتجولفييه وكان وراقاً مشهوراً بين أهل مدينة أنوناي على بعد أربعين ميلاً من مدينة ليون وكان الأخوان قد لاحظا تعلق الغمائم في الفضاء فاهتديا إلى أنهما لو استطاعا أن يخزنا هواء ساخناً يشبه بطبيعته أبخرة الغمائم والسحب في كيس كبير خفيف الحجم لارتفع بالكيس في الجو ففي أخريات عام 1782 خزنا مقداراً من الهواء الساخن في عدة أكياس فلما تم لهما ذلك وجدا أن الأكياس بدأت تصعد في الهواء حتى إذا تأكد لهما نجاح تجربتهما هذه أزمعا عمل بالون كبير وتطييره على مشهد من الجمهور ففي الخامس من شهر يونيه عام 1783 بحضور جم غفير من المتفرجين ملأ كيساً من التيل يبلغ محيطه نحواًَ من 105 أقدام بالهواء الساخن فلما ترك ارتفع ارتفاعاً عظيماً ثم هبط بعد عشر دقائق على مسافة ميل ونصف وبذلك كان اختراع البالون.
على أن الأخوين مونتجولفييه توهما أن الكيس صعد لخفة حجم الهواء الساخن وفي البالون لم يكن شيء من الحرارة ولذلك لم يلبث أن ابترد الهواء الساخن المختزن وتبع ذلك هبوط البالون.
وأثارت هذه التجربة أهمية كبرى في باريس حتى أن بارتلميه فوجاس ده سانت فويد المولود سنة 1741 والمتوفى سنة 1819 أستاذ الجيولوجيا بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس فتح باب الاكتتاب لإعادة عمل التجربة ومن ثم صنع الأخوان وبرت بالوناً جديداً تحت مراقبة العالم الطبيعي شارل وارتأوا في بادئ الأمر إعادة تجربة مونتجولفييه بحذافيرها. ولكن العالم الطبيعي شارل ارتأى استعمال غاز الهيدروجين وصعد به إلى نحو 3000 قدم حتى إذا مكث محلقاً في الجو ما يقرب من ثلاثة أرباع الساعة سقط في حقل قريب من بلدة جونس على مسافة خمسة عشر ميلاً من مكان صعوده وقد ذعر الفلاحون منه فمزقوه إرباً.
وعاد مونتجولفييه فعمل في سبتمبر عام 1783 تجربة في فرساليا بحضور الملك والملكة ورجال البلاط ونسائه وجمع عظيم من المتفرجين وعلق بالبالون قفصاً ووضع به شاة وديكاً وبطة فكانت هذه الحيوانات أول السياح في الهواء. وارتفع بها البالون إلى علو(16/64)
1500 قدم ثم سقط على مسافة ميلين من مكان الحفلة فتهشم ركابه وكانت الضحايا الأولى لهذا الاختراع العظيم.
وأول رجل ركب البالوان جان فرانسوا المتوفى عام 1787 وكان من أهل مدينة ميتز. وقد ركب مع رفيق له يدعى جيرون ده فيللت في بالوان أسير. وهو نوع من البالونات يشد بالحبال.
ومن ثم تقدم عمل البالون. وكذلك هذابوا هذا الاختراع وتصرفوا فيه حتى استعملوه في الحروب. ولم تكد تبدأ الثورة الفرنسية الكبرى حتى أسسوا مدرسة في مدينة ميدون من أعمال فرنسا لتعليم فن البالونات ولم يلبثوا أن بنوا أربع بالونات فرقوها على الحدود الفرنسية وفي يونيه عام 1794 صعد القائد كوتل في واحد منها الاستكشاف مواقع العدو وقبل واقعة فليرس وقد أجمع المؤرخون على أن انتصار الفرنسيين على الأعداء في غلوا الثورة الفرنسية كان راجعاً إلى فضل هذه البالونات، وفي الحرب التي نشبت بين فرنسا وإيطاليا عام 1859 عاد الفرنسيون إلى استعمال البالون في استكشاف مرابض الطليان ومرابط جيشهم ولاسيما في واقعة سالفارينو.
وفي الحرب الداخلية الأمريكية التي نشبت في سنة 1861 كان الاتحاديون يستعينون بالبالونات ولكن لم تنجل قيمتها في الحرب إلا في حصار باريس (1870) إذ كانت هي الوسيلة الوحيدة بين أهل باريس والولايات الفرنسية وكانوا يحبسون فيها الحمائم لتأتي بأخبار المقاطعات وقد بلغ عددها في أيام المحاصرة نحواً من (64) بالوناً وكان فرار غميتا من باريس في أحد هذه البالونات.
على أن البالون لم يقرر كأداة لازمة في الحروب إلا حوالي عام 1884 إذ اتفق أغلب الدول على استعمالها. وقد استعان بها الإنجليز والفرنسيون في فتوحهم وحروبهم في أفريقيا والشرق الأقصى.
وكان البحث السائد بين الطيارين منذ بدئ الطيران هو هل في الممكنات تدبير حركات البالونات بصنع دفة لها تديرها كما يشاء الطيار. ومن ثم أخذوا يعدون لذلك العدد ويحاولون الحيل ويقيمون التجاريب وأول هؤلاء هنرى جيفرد في عام 1852 إذ طار في بالون تدير حركاته في الجو آلة بخارية. واقتفى آثاره كثيرون فمنهم ديبوى ده لوم في سنة(16/65)
1872 وتيساندييه في عام 1884 وشوارتز في عام 1897 ومن تلك السنة بدأ الكونت فرديناندفون زبلن من رؤساء الجيش الألماني ينشيء بالوناً ضخماً وإن شئت فمركباً هوائياً عظيماً يحمل على الأقل خمسة رجال وعمل تجربة في شهر يوليه عام 1900 فكانت سرعته في الساعة 18 ميلاً وفي سنة 1905 بنى زبلن مركباً ثانياً ولكنه لم يلبث أن تهشم في ريح هوجاء. فكان ثالث طار فوق بحيرة كونستانس من أعمال سويسرا وكانت سرعته ستة وثلاثين ميلاً في الساعة يحمل أحد عشر رجلاً. فلما كانت سنة 1908 صنع مركباً رابعاً سار في أطباق الجو نحواً من مائتين وخمسين ميلاً في إحدى عشرة ساعة ولكنه تكسر واحترق فرجع الألمان إلى الاكتتاب وعلى رأسهم الإمبراطور فأنشؤوا مركباً خامساً.
ومن ذلك الحين بدأت الدول تلقي الأهمية الكبرى على إنشاء المراكب الهوائية الحربية وبلغ اهتمامهم اليوم الغاية القصوى فإن لألمانيا من المراكب الهوائية اليوم نحواً من ستين طيارة ولإنجلترا مائة وخمسين ولفرنسا خمسمائة وللولايات المتحدة مائة وعشرين وإيطاليا خمسة وثلاثين ولروسيا أربعة عشر ومائة وللنمسا عشرين.
أما فكرة الطيران بالأجنحة فقد طبقوا القواعد العلمية عليها وبحثوا توازن الطير حتى كان منها اختراع الطيارات الهوائية وهي التي تطير بمحرك يدير أجنحتها ويرف بها ويجري هذا المحرك أما بالكهرباء وأما بغاز البترول أو البنزين.
وقد تقدموا في هذه الطيارات فاخترعوا الطيارات المونوبولان أي الموحدة الجناح والطيارات البيبلان وهي المزدوجة الجناح والطيارات التريبلان وهي المثلثة الجناح. ولم تتجل للعالم عجائب الطيران ومدهشاته ولم تبد شجاعة الطيارين وصدق بأسهم ورباطة جأشهم إلا في هذه السنين الأخيرة والفرنسيون سادة هذا الفن ومرقوه. وإن منهم من حاز قصب السبق في مبلغ الارتفاع. ومنهم من ظفر بالأولية في سرعة الطيران. ومن الفريق الأول لاثام إذ بلغ في سنة 1909، هو العام الذي أخذ فيه العالم يهتم أكثر من قبل بفن الطيران إلى ارتفاع 1000 متر وممن استبقوا في السرعة الكونت دي لامبير وقد طار في نفس ذلك العام فوق برج إيفل بباريس.
وجرت في عام 1909 مسابقة ورهان بين بلريو ولاثام على تعدية مضيق المانش محلقين فنجح الأول. وعثر حظ الثاني إذ سقط فوق أديم الماء ولكنه لم يصب بأذى وأما بلريو(16/66)
فاستغرق في اجتياز المانش من بولونيا في فرنسا إلى ثغر دوفر في الأرض الإنكليزية نحواً من ثمانية وعشرون دقيقة وقد بلغ بيريون رفيق بليريو في الحادي عشر من شهر مارس من العام الماضي إلى ارتفاع 5850 متراً في مسافة تقرب من ساعة وهذه هي المرة الأولى التي بلغ بها الطيار إلى مثل هذا الارتفاع الشاهق على أن لوكانيو تقوى عليه وبرز في ديسمبر من العام الماضي إذا ارتفع بطيارته إلى علو 6150 متراً. وقد كان في العام الذي قبله ارتفع إلى 5810 أمتار.
وجاز الطيار الفرنسي دوكور ما بين مدينتي باريس وبرلين في ثماني ساعات إلا قليلاً بينما القطار السريع يجوزها في ثلاث وعشرين ساعة إذ تبلغ مسافة ما بين الحاضرتين نحواً من 900 كيلو متراً. فإذا حسبنا ذلك استنتجنا أن دوكور كان يطير في الساعة ما يربي على مائة كيلو متر وأغرب من ذلك وأدعي إلى العجب أن الطيار برنديجون استغرق في طيرانه من باريس إلى مدينة فرسوفيا في بولونيا من أعمال الروسيا يوماً واحداً لم يرفه عن نفسه فيها إلا سبع ساعات.
وبعد كتابة ما تقدم وقعت إلينا رسالة صغيرة باللغة الفرنسية بقلم سعادة الأستاذ المحقق أحمد زكي باشا الكاتب الأول لمجلس النظار. أثبت فيها خطبته التي ألقاها في حفلة إقامة التمثال تخليداً لذكرى الطيار الفرنسي المشهور مويار في مدينة الشمس (هليو بوليس) وأضاف إلى الخطبة المكاتبة التي بعث بها إلى مجلس المعارف الأعلى ووسمها بعنوان (الطيران عند المسلمين) وفيها حقق الكلام على طائري العرب ابن فرناس والجوهري ورجع في ذلك إلى كتب العرب وأسفارهم ونحن نقتطف منها نبذا صالحة لمقالنا هذا: ندع جانباً السير المصرية المعروفة. والأقاصيص اليونانية الشائعة. ونكتفي بأن نذكر مع الأبحار تلك الأقاصيص التي جاءت في تاريخ العرب.
ألم يستعمل النمرود لحرب الله أربعة من النسور أزمع بها صعوداً. تحف به الأخطار وتحدق به التهلكة فوق سطح جهزه بقطع من اللحم الغريض. لكي يحرض هذه الطيور الجوارح على متابعة الصمود والارتفاع.
أولم يكن لسليمان في رحلاته وطوفانه ونقلاته، بساط تسيره الأرواح مسخرة لمشيئته. يطوف فوقه على آسيا وأرجائها؟.(16/67)
وفضلاً عن ذلك ألم يتخيل الروائيون. في جميع الملل والنحل. قديمها وحديثها اختراعات هي أبعد ما يكون من الاحتمال والتصديق.
أولم نشهد بعد كل ذلك أن ما كان بالأمس حلم حالم وخيال متخيل. قد أصبح اليوم وهو الحقيقة الملموسة؟.
إن مؤلفي القصص العربية ومن بينها قصص ألف ليلة وليلة. قد وجدوا لهم. حتى في عصرنا هذا. جماعة من المتممين المنفذين. ولو شئنا أن نسرد لك أسماءهم لطال بنا السرد. وإنما نكتفي بذكر جول فرن. فقد أتيحت له السعادة الكبرى فشهد تحقيق بعض أحلامه وخيالاته.
وإليك ما قال سعادة المحقق في الجوهري: هو أبو نصر إسماعيل بن حماد المعروف بالجوهري. ولد بقري فاراب من بلاد تركستان وهي تسمى اليوم أطرار. وقد كان أبو نصر في شبيبته وروق صباه. مولعاً بالسفر والتجواب. تواقاً إلى الارتحال والاغتراب اخترق أواسط بلاد العرب، وتنقل بين أفصح قبائلها. وأبلغ بطونها، في طلب الأدب وإتقان لغة العرب وجاء جافل الجعبة بالشروح القيمة. والدقائق الغالية. وساعده ذلك على وضع أثر كبير في اللغة. لا يبلى ولا ينسى - ويعني بذلك كتاب الصحاح. حتى إذا استوسق له ذلك اندفع مع ولعه إلى زيارة أعمر الحواضر. وأزهر البلدان في الشام وفارس والعراق. واكتسب قربة العلماء. وأخذ عن الأئمة منهم والمتبحرين وتعلم الخط حتى حذقه وأبدع فيه. واقترن فيه اسمه بابن مقلة. ومهلهل واليزيدي. ولم يقصر سعيه على ذلك. بل ضرب بسهام في الأدب والفقه والفلسفة الدينية.
وأقام حتى وفاته بمدينة نيسابور. وتقاطرت عليه الطلاب من كل مكان. يأخذون عنه في حلقات الجامع الكبير بنيسابور اللغة والخط. وفرغ إذ ذاك إلى تنسيق صحاحه وترتيب تآليفه في النثر والنحو وغيرهما. وكان ينسخها بخطه المونق: إلى أن قال سعادة المحقق. وصعد يوماً سطح الجامع الكبير في نيسابور فأهاب بالقوم أيها الناس. لقد استنبطت اليوم للعالم عملاً لا مثيل له ولا قرين. وأنا محدث للخلف أمراً ما تقدمني إلى اختراعه أحد قط.
ثم أخذ دفتين فشدهما إلى جثمانه بالحبال. بدل الأجنحة. وقال للناس إنه طائر في أطباق الفضاء. وإذ ذاك رف بجثمانه في الجو. ولكنه لم ينشب أن سقط سقطة قاتلة طاحت(16/68)
بحياته. وكان ذلك عام 393 من الهجرة الموافق عام اثنين بعد الألف من مولد السيد المسيح. وبعض المؤرخين يجعل ذلك بعد هذا العهد بخمسة أحوال أو سبعة.
ولكن جهلاء القوم الذين حضروا مقتل أول شهداء الطيران وضحاياه ألقي في روعهم أن الرجل مجنون مختلط العقل.
ثم قال: ومضي بعد ذلك ستون عاماً فقام يومئذ مقلد للجوهري في إنجلترا. إذ جاء في جريدة الطان الفرنسية مقال نقلته عنها جريدة الريفورم التي تصدر في الإسكندرية في 18 يوليه عام 1901 وهذا ما جاء فيه:
إن المذكرة التي ألقاها الموسيو مونجيز في مجمع ليون في الحادي عشر من شهر مايو سنة 1875 تدلنا على أول تجربة عملها الكاهن الإنجليزي أولفييه ده مالمسبوري إذ بدأ بتطيير جسمه بواسطة أجنحة صناعية ألصقها بساقيه وساعديه. ولكنه سقط فتهشم ساقاه ومات من جراحة عام 1060.
وعملت بعد ذلك تجربتان. لم يكن حظهما من النجاح بأكثر من حظ أولفيبيه هذا أقام بالأولى في هد لويس الرابع عشر اللار إذ تعهد أن يطير من سانت جرمان غابة فيزينه. ولكنه سقط على مسافة أمتار من مكان طيرانه. وأصابته من ذلك جراح بالغة. وقام بالتجربة الثانية بزنييه. كما جاء في مقال مسهب نشرته جريدة العلماء في 18 ديسمبر عام 1875.
ثم انتقل سعادة المحقق إلى الكلام عن ابن فرناس فقال إنه أول طيار. وأنه أسبق من الجوهري. ففي النصف الأول من القرن الثالث الهجري نبغ في قرطبة حاضرة الأندلس: رجل خليق باهتمامنا، حرى با كبارنا، يستأهل اسمه أن يكون في سجل الطيران، وقد ورد ذكر أبي القاسم عباس بن فرناس في أربعة مصادر؟ في يتيمة الثعالبي ولم يذكر له فيها الايتين باسم بن فرناس؟ وفي العقد الفريد لابن عبد ربه. وأثبت له شعراً فخماً مؤثراً قاله في انتصار أميره عبد الرحمن بوادي سليط. وفي البيان المغرب لابن عذاري المؤرخ المراكشي المشهور جاء بنفس القصيدة التي في العقد. باسم ابن مرداس. وقد كتب عنه المقري في نفح الطيب وهو المصدر الذي رجع إليه زكي باشا في الكلام عن أبي القاسم. وبعدما أسهب سعادته وأطال في تحقيق التحريف الذي وقع في الاسم واختلاف هذه(16/69)
المراجع في فرناس ومرداس ومرناس وقرناس. انتقل إلى ما كان من مؤمن بن سعيد من شعراء قرطبة. وسخريته من أبي القاسم يوم قال للأمير محمد من أبيات:
رأيت أمير المؤمنين محمدا ... وفي وجهه بذر المحبة يثمر
فقال له مؤمن قبحاً لما ارتكبت. جعلت وجه الخليفة محرثاً يثمر فيه البذر فخجل وسبه، وكان ابن فرناس من قبل ذلك نحوياًَ وأثبت ذلك السيوطي واعتمد على المؤرخ الأندلسي أبي بكر الزبيدي. وكان أول من فك بقرطبة كتاب العروض للخليل. وأول من فك الموسيقى وأول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة. وصنع الآلة المعروفة بالثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ولا مثيل.
وصنع في بيته هيئة السماء. وخبل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود فلم يسلم أبو القاسم من سخرية مؤمن بن سعيد. ولا نجا من بذاءة لسانه.
واحتال في تطيير جثمانه فكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافات بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في مؤخره. وقال المقري إنه لم يدر أن الطائر يقع على زمكه. ولم يعمل له ذنباً، وفيه قال مؤمن بن سعيد:
يطم على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كسا نفسه ريح قشعم
وفي هذا البيت شهادة لأبي القاسم لا تدفع ولا ترد. إذ جاءت من عدو حانق مهتاج ومن ذلك نستخلص أن أبا القاسم في القرن التاسع من التاريخ المسيحي لم ينجح فقط في تطيير جثمانه في القضاء بل استطاع كذلك أن يقوم بسياحة هوائية.
فليسمع الغربيون. ولتطب نفساً أبناء العرب!.
وأعجب ما كان في هذه الأيام من الرحلات الجوية. رحلات الطيارين الفرنسيين دوكور، وفدرين، وبونييه، من باريس إلى القاهرة عن سماء الشآم. ورحلة الطائر الإنجليزي ما كان عن سماء البحر المتوسط. وكلتا الرحلتين تعد من المهارة الفائقة كل حد.
والآن اسمع ما كتب الطيار دوكوريصف ما عاناه في جبال طوروس قال:
بدأت أسير بضعة أمتار محاذياً هذا الطود الأشم. كما تحوم البعوضة حول ثغرة في السقف. ولكن لم ألبث أن وجدت صدعاً في الصخور قد اختفى عاليه في السحاب المركوم والغيم المتكاثف فلما عرفت أني في الوادي الذي يحاذي الخط الحديد الذي يجري الألمان(16/70)
اليوم عمله. اندفعت إليه ولكني ما كدت أدفع في هذا الصدع الضيق حتى هبت ريح هوجاء جعلتني أهتز وأترنح وأميد وأنا أنساق مع الريح إلى الأمام. وكانت طيارتي تسير بسرعة شديدة تقرب من 110 كيلو مترات في الساعة ولكن قوة الريح جعلتها تقطع ضعف هذه السرعة ولم أنشب أن فقدت كل تدبير وصرت أميل مع الريح كالورقة في الرياح المعصرات. فآونة أعمد إلى هذا الجناح. وأونه إلى ذاك وكنت أرى الأرض تحتى تطوي طي السجل للكتب وكانت المراكز التي في طريقي حيث ينام العمال الذين يعملون في النفق والخط الحديد. ترسل إلى بعضها الأبناء البرقية تنبيهاً لها بمقدمي وممري، وقد علمت أني كنت أقطع 350 كيلو متراً في الساعة.
وكنت أنسل في طباق السماء كالبرق الخاطف مصطدماً في كل حين بطبقات الغيم وركام السحائب هذا والصدع يأخذ في الارتفاع والتطاول، حتى صرت كأني في درب مسدود يشق عنده الهبوط ويستحيل لدنه الارتفاع والتحليق فتبينت أن ختام الرحلة قد آن، وإن قد أزفت الأزفة. ليس لها من دون الله كاشفة. وإن الموت مني قاب قوسين أو أدنى. ولكني حمدت الله إن لم أصحب معي رفيقي. بل جعلته يجتاز دروب الجبل وإذا بثغرة في السحاب قد انشقت وفرجة في الغيم قد انجلت. فانبعثت أطير فيها حتى بلغت مكاناً أشبه في شكله (بالقمع) متوجاً أعاليه بالسحب وانفتح في الجهة اليمنى صدع جديد. آتياً من صوب البحر الأبيض تلتقي عنده ريحان متناوحتان قد نشأ من تناوحهما. دوامة هوائية جعلت منها اهتز وأميل.
ومضت بضع دقائق. وأنا لا أعرف ماذا أصنع والطيارة منطلقة بسرعة 250 كيلو متراً. ولمحت أخيراً على جوانب الجبل. وقد اكتست ثوباً سندسياً من العشب. مكاناً فضاء منكشفاً، فيممته مواجهاًَ الريح وأنا أؤمل أن سرعة الزوبعة وسرعة الطيارة سيتوازنان ويتعادلان وذلك ما حدث ولكن ريحاً أخرى هبت من تلقاء البحر الأبيض انحرفت بي وانعطفت. وجعلت أهبط بسرعة 100 كيلو متر في الساعة. وارتميت على جانب الجبل على مقربة من الموضع الذي اخترت لهبوطي واصطدمت بشجرة هناك فحطمتها تحطيماً وسقطت بطيارتي على خمسين متراً من الموضع.
حتى إذا أفقت من غشيتي. وجدتني لا أزال في مكاني. قابضاً على سيور طيارتي وازائي(16/71)
جذع الشجرة المحطمة وما بي من خدش ولا جرح! ولكن شاء القدر لطيارة دوكور بعد أن جازت هذه القحم وتخطت هذه العقاب واحتملت هذه اللأواء إلا أن تحترق بعد ذلك بساعات. وأما فدرين ورفيقه بونيبه فقد تعلما من صاحبهما دوكور. وعاينا ما عاين من هول وعرفا ما نال من عذاب. فتحاميا أن يلقيا بنفسهما وطيارتيهما إلى مضايق الجبل وصعابه ومن ثم كان النجاح حليفهما والتوفيق نصيبهما.
فأما بونييه وميكانيكيه بارنبيه. فوصلا المقدس بين هتاف. واكيهم الفرنسيين. وابتهاج السوريين وخفقات الأعلام وازدحام الجماهير. وتألب الناس من جميع الطبقات والأجناس.
وبلغ فدرين يافا ولكنه لم يلج على المقدس. بل انطلق في طريقه. لا يلوى على شيء حتى بلغ القاهرة واحتفل به المصريون أيما احتفال.
وهنا يجمل بنا أن نتحف القراء بما جادت به قريحة أمير الشعراء أحمد بك شوقي في استقبال هؤلاء الطيارين - وإذا كان للعلوم الطبيعية أن تفخر بالطيارات وهؤلاء الطيارين، فإن خليقاً بالآداب الرفيقة أن تفخر الفخر كله بأميرها المفدى - وإذا كانت الماديات قد أزعجت النسور في الجواء. فقد رحبت بشعر أمير الأدب ملائكة السماء - قال شوقي:
يا فرنسا نلت أسباب السماء ... وتملكت مقاليد الحواء
غلب النسر على دولته ... وتنحى لك عن عرش الهواء
وأتك الريح تمشي أمة ... لك يا بلقيس من أوفي الإماء
روضت بعد جماح وجرت ... طوع سلطانين علم وذكاء
لك خيل بجناح أشبهت ... خيل جبريل لنصر الأنبياء
وبريد يسحب الذي على ... برد في البر والبحر بطاء
تطلع الشمس فيجرى دونها ... فوق عنق الريح أو متن العماء
رحلة المشرق والمغرب ما ... لبثت غير صباح ومساء
بسلاء الأنس والجن فدى ... لفريق من بنيك البسلاء
ضاقت الأرض بهم فاتخذوا ... في السموات قبور الشهداء
فيه يمون جيران البها ... سمراء النجم في أوج الغلاء
حوما فوق جبال لم تكن ... للرياح الهوج يوماً بوطاء(16/72)
لسليمان بساط واحد ... ولهم ألف بساط في الفضاء
يركبون الشهب والسحب إلى ... رفة الذكر وعلياء الثناء
يا نسوراً هبطوا الوادي على ... سالف الحب ومأثور الولاء
داركم مصر وفيها قومكم ... مرحباً بالأفريين الكرماء
طرتموا فيها فطارت فرحاً ... بأعز الضيف خير النزلاء
هل شجاكم في ثرى أهرامها ... ما أرقتم من دموع ودماء
أين (نسر) قد تلقى قبلكم ... عظة الأجيال من أعلى بناء
لو شهدتم عصره أضحى له ... عالم الأفلاك معقود اللواء
جرح الأهرام في عزتها ... فمشى لقبر مجروح الإباء
أخذت تاجاً بتاج ثارها ... وجزت عن صلف بالكبرياء
وتمنت لو حوت أعظمه ... بين أبناء الشموس العظماء
جل شأن الله هادى خلقه ... يهدي العلم ونور العلماء
زف من آياته الكبرى بنا ... طلبة طال بها عهد الرجاء
مركب لو سلف الدهر به ... كان إحدى معجزات القدماء
نصفه طير ونصف بشر ... يا لها إحدى أعاجيب القضاء
رائعاً مرتفعاً أو واقعاً ... أنفس الشجعان قبل الجبناء
مسرج في كل حين ملجم ... كامل العدة مرموق الرواء
كبساط الرياح في القدرة أو ... هدهد السيرة في صدق البلاء
أو كحوت يرتمي الموج به ... سابح بين ظهور وخفاء
راكب ما شاء من أطرافه ... لا يرى من مركب ذي عدواء
ملأ الجو فعالاً وغدا ... عجب الغربان فيه والحداء
وترى السحب به راعدة ... من حديد جمعت لا من رواء
حمل الفولاذ ريشا وجرى ... في عنانين له نار وماء
وجناح غير ذي قادمة ... كجناح النحل مصقول سواء
وذنبي كل ريح مسها ... مسه صاعقة من كهرباء(16/73)
يتراءى كوكباً ذا ذنب ... فإذا جد فسهما ذا مضاء
فإذا جاز الثريا للثرى ... جر كالطاووس ذيل الخيلاء
يملأ الآفاق صوتاً وصدى ... كعزيف الجن في الأرض العراء
أرسلته الأرض عنها خبراً ... طن في آذان سكان السماء
يا شباب الغد وأبنائي الفدى ... لكموا أكرم وأعزز بالفداء
هل يمد الله لي العيش عسى ... أن أراكم في الفريق السعداء
وأرى تاجكمو فوق السهى ... وأرى عرشكمو فوق ذكاء
من رآكم قال مصر استرجعت ... عزها في عهدها خوفو ومناء
أمة للخلد ما تبنى إذا ... ماني الناس جميعاً للعفاء
تعصم الأجسام من عادي البلى ... وتقى الآثار من عادي الفناء
إن أسأنا لكم أو لم نسيء ... نحن هلكي فلكم طول البقاء
إنما مصر إليكم وبكم ... وحقوق لابر أولى بالقضاء
عصركم حر ومستقبلكم ... في يمين الله خير الأمناء
لا تقولوا حطنا الدهر فما ... هو إلا من خيال الشعراء
هل علمتم امة في جهلها ... ظهرت في المجد حسناء الرداء
باطن الأمة من ظاهرها ... إنما السائل من لون الإناء
فخذوا العلم على أعلامه ... واطلبوا الحكمة عند الحكماء
وافرأوا تاريخكم واحتفظوا ... بفصيح جاءكم من فصحاء
أنزل الله على ألسنهم ... وحيه أعصو الوحي الوضاء
واحكموا الدنيا بسلطان فما ... خلقت نضرتها للضعفاء
واطلبوا المجد على الأرض فإن ... هي ضاقت فاطلبوه في السماء
ولما رأى سكان المقدس طياراً فرنسياً يهبط لأول مرة مدينتهم، أخذتهم الغيرة القومية، ونهضت في نفوسهم الحمية، فاجتمعوا على تقديم طيارتين إلى الجيش العثماني، ليطير بهما ضابطان فوق سماء البوسفور نافذين إلى سماء الأرض المقدسة، فقرر القائد أنور باشا ناظر الحربية العثمانية أن ينفذ طيارة من الآستانة إلى مصر حتى لا يكون العثمانيون(16/74)
متخلفين عن الفرنسيين في مسألة المسائل في هذه الأيام.
فلما كان يوم الأحد لثمان خلون من فبراير الماضي، برحت طيارتان من نوع المونوبولان الفرنسي، أي الطيارة المنفردة الجناح، تقل الأولى الطيار فتحي بك وسواقه الميكانيكي الملازم صادق بك رفيق أنور باشافي بني غازي وتقل الأخرى الملازم نوري بقك ورفيقه إسماعيل حقي بك، وأقيمت لهم قبل رحلتهم حفلة شائقة في الآستانة، حضرتها ابنة السلطان مراد، وقد قدمت بيدها باقة من الزهر إلى القائد فتحي بك، وانبعث الطيارتان في ذلك اليوم شاخصة إلى القاهرة.
وحدث في الطريق لنوري بك ما عطله كثيراً، ولكن الطيار فتحي بك انطلق محلقاً لم يسف ولم يتأخر، فوصل إلى قونية في اليوم العاشر من فبراير، ثم بلغ طرسوس في الحادي عشر منه وجاز جبال طوروس على ارتفاع 3500 متر واستراح يومين كاملين ليملأ طيارته بحلب، فلما كان اليوم الخامس عشر من ذلك الشهر، حلق في سماء بيروت في هتاف البيروتيين وتهليلهم، وقد احتفلوا به وبرفيقه احتفالاً عظيماً.
وحدث له في 19 فبراير حادث، لعله كان سبب الفاجعة الكبرى التي نزلت به في السابع عشر منه، إذ سقط الطيار في أحد الغدران التي تجري في أرباض بيروت واختلت طيارته اختلالاً كبيراً فاستغرق في إصلاحها خمسة أيام سوياً.
وعاود الطيران في الرابع والعشرين فبلغ دمشق بعد ساعة وعشر دقائق. بعد ما جاز جبال لبنان كرة أخرى، في احتفال كبير، وعيد أكبر، ولم يسلم أحد عنهما بعد ذلك أمراً. بل لم يلبث الناس أن رأوا إطلال الطيارة وبقاياها، وأشلاء الطيارين الشهمين على مقربة من بحيرة كبريا نضج أول مصابهما العالم الإسلامي وتقطعت عليهما الأكباد، وشقت الجيوب، وفاضت الشؤون، وسحت العبرات، على أن المصاب وأن يكن عظيماً فقد كان فخراً للعثمانيين وكيف لا يكون الفخر، والشهيدان راحا ضحية للعلم، وأكثر الضحايا من أبطال الدولة العثمانية ورجالاتها راحوا ضحايا للحروب ومدمراتها.
وقد دفن الفقيدان في حظيرة ضريح صلاح الدين الأيوبي. ونعم هذا الجوار.
أما الطيار نوري بك ورفيقه إسماعيل حقي بك، فقد سقطت الطيارة فوق أديم البحر، فغرق الطيار نوري بك، وقار الله النجاة لإسماعيل حقي بك، وقد دفن الشهيد الثالث جانب رفيقيه(16/75)
الشهيدين الأولين - قال شوقي يرثي:
انظر إلى الأقمار كيف تزول ... وإلى وجوه السعد كيف تحول
وإلى الجبال الشم كيف يميلها ... عادي الردي باشارة فتميل
وإلى الفراقد كيف تنثر في الثرى ... أشلاؤهن حجارة ونصيل
وإلى الزياج تخر دون قرارها ... صرعى عليهن التراب مهيل
وإلى النسور تقاصرت أعمارها ... والعهد في عمر النسور يطول
في كل منزلة وكل سمية ... قمر من الغر السماة قتيل
يهوي القضاء بها فما من عاصم ... هيهات ليس من القضاء مقيل
(فخ السماء) و (نورها) سكنا الثرى ... فالأرض ولهى والسماء ثكول
سر في الهواء ولذ بناصية السهى ... الموت لا يخفى عليه سبيل
واركب جناح النسر لا يعصمك من ... نسر يرفرف فيه عزرائيل
ولكل نفس ساعة من لم يمت ... فيها عزيزاً مات وهو ذليل
ما الميت من همل الأنام كهالك ... زالت به دنيا وباد قبيل
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها ... فالذكر عمر لو علمت طويل
لا تذهب الحسنات في أثر الفتى ... إن الزمان بنشرهن كفيل
أإلى الحياة سكنت وهي مصارع ... وإلى الأماني يسكن المسلول
لا تجفلن ببؤسها ونعيمها ... نعمى الحياة وبؤسها تضليل
ما بين نضرتها وبين ذبولها ... عمر الورود وأنه لقليل
هذا بشير الأمس أصبح ناعياً ... كالحلم جاء بضده التأويل
يجري من العبرات حول حديثه ... ما كان من فرح عليه يسيل
ولرب أعراس خبأن مآتما ... كالرقط في ظل الرياض تقيل
يا أيها الشهداء لن ينسى لكم ... فتح أغر على السماء جميل
والمجد في الدنيا لأول مبتن ... ولمن يشيد بعده فيطيل
لولا نفوس زلن في سبل العلي ... لم يهد فيها السالكين دليل
والناس باذل روحه أو ماله ... أو علمه والآخرون فضول(16/76)
والنصر غرته الطلائع في الوغى ... والتابعون من الخميس حجول
كم ألف ميل نحو مصر قطعتمو ... فيم الوقوف ودون مصر ميل
طوروس تحتكمو ضئيل طرفه ... لمت طلعتم في السحاب كليل
ترخون للريح العنان وإنها ... لكمو على طغيانها لذلول
اثنين أثر اثنين لم يخطر لكم ... إن المنية ثالث وزميل
ومن العجائب في زمانك أن يفي ... لك في الحياة وفي الممامات خليل
لو كان يفدى هالك لفداكمو ... في الجو نسر بالحياة بخيل
أي الغزاة أولى الشهادة قبلكم ... عرض السماء ضريحهم والطول
يغدو عليكم بالتحية أهلها ... ويرفرف التسبيح والتهليل
إدريس فوق يمينه ريحانة ... ويسوع فوق يمينه إكليل
في عالم سكانه أنفاسهم ... طيب وهمس حديثهم انجبل
إني أخاف على السماء من الأذى ... في يوم يفسد السماء الجيل
كانت مطهرة الأديم نقية ... لا آدم فيهخا ولا قابيل
يتوجه العاني إلى رحمانها ... ويرى بها برق الرجاء عليل
ويشير بالرأس المكلل نحوها ... شيخ وباللحظ البريء بتول
واليوم للشهوات فيها والهوى ... سبل وللدم والدموع مسيل
أضحت ومن سفن الجواء طوائف ... فيها ومن خيل الهواء رعيل
وأذيل هيكلها المصون وسره ... والدهر للسر المصون مذيل
هلعت (دمشق) وأقبلت في أهلها ... ملهوفة لم تدر كيف تقول
مشت الشجون بها وعم غياطها ... بين الجداول والعيون ذبول
في كل سهل أنة ومناحة ... وبكل حزن رنة وعويل
وكأنما نعيت أمية كلها ... للمسجد الأموي فهو طلول
خضعت لكم فيه الصفوف وأزلفت ... لكم الصلاة وقرب الترتيل
من كل نعش كالثريا مجده ... في الأرض عال والسماء أصيل
فيه شهيد بالكتاب مكفن ... بمدامع الروح الأمين غسيل(16/77)
أعواده بين الرجال وأصله ... بين السهى والمشتري محمول
يمشي الجنود به ولولا أنهم ... أولى بذاك مشى به جبريل
حتى نزلتم بقعة فيها الهدي ... من قبل تاو والسماح نزيل
عظمت وجل ضريح (يوسف) فوقها ... حتى كأن الميت فيه رسول
شعري إذا جبت البحار ثلاثة ... وحواك ظل في فروق ظليل
وتداولتك عصابة عربية ... بين المآذن والقلاع نزول
وبلغت من باب الخلافة سدة ... لستورها التمسيح والتقبيل
قل للإمام محمد ولآله ... صبر العظام على العظيم جميل
تلك الخطوب وقد حملتم شطرها ... ناء الفرات بشطرها والنيلد
أن تفقدوا الآسادا أو أشبالها ... فالغاب من أمثالها مأهول
صبراً فأجر المسلمين وأجركم ... عند الإله وإنه لجزيل
يا من خلافته الرضية عصمة=للخلق أنت بأن يحق كفيل
والله يعلم أن في خلفائه ... عدلاً يقيم الملك حين يميل
والعدل يرفع للممالك حائطاً ... لا الجيش يرفعه ولا الأسطول
هذا مقام أنت فيه محمد ... والرفق عند محمد مأمول
بالله بالإسلام بالجرح الذي ... ما أنفك في جنب الهلال يسيل
ألا حللت عن السجين وثاقه ... إن الوثاق على الأسود ثقيل
أيقول واش أو يردد شامت ... صنديد (برقة). وثق مكبول
هو من سيوفك أغمدوه لريبة ... ما كان يغمد سيفك المسلول
فاذكر أمير المؤمنين بلاءه ... واستبقه أن السيوف قليل
وصف مصر
للفاضل أحمد أفندي الألفي
لعمرو بن العاص القائد العربي الشهير، وفاتح مصر، وأميرها في صدر الإسلام، كتاب في وصفها والإشارة إلى السياسة الصالحة لعمادها وحكم أهلها أرسله إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين. ويعد هذا الكتاب من أفضل المأثور عن سلفنا الصالح(16/78)
فصاحة وحصانة، وقد وفقت إلى تفسير ما تمس الحاجة إلى تفسيره من ألفاظه ومعانيه تفسيراً يستشف منه القارئ على إيجازه ما فيه من بلاغه الوصف وسمو المبدأ قال:
اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تربة غبراء وشجرة خضراء طولها شهر وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر مبارك الغدوات ميمون الروحات يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان تظهر به عيون الأرض وينابيعها فيدر حلابه ويكثر عجاجه وتعظم أمواجه، فيفيض على الجانبين فلا يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب وخفاف القوارب وزوارق كأنهن المخايل ورق الأصايل فإذا تكاملت زيادته نكص على عقبه كأول ما بدا في جريته وكما في حدته فعند ذلك تخرج ملة محقورة.
وذمة مخفورة يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، ويرجون النماء من الرب فإذا احقل الزرع ورف سقاه من فوقه الندى، وغذاه من تحته الثرى.
فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء إذ هي عنبرة سوداء فزمردة خضراء فديباجة زرقاء فتبارك الفعال لما يشاء.
والذي يصلح هذه البلاد ويميرها ويقر قاطنها فيها، أن لا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وأن لا يستأدي خراج الثمرة إلا في أوانها وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا جرى العمل على هذا المنوال تضاعف ارتفاع المال والله تعالى الموفق في الحال. والمآل.
سر تطور اليابان
إن للمرء وطنين. وطنه واليابان
تلك هي الكلمة الجديدة التي يجب أن توضع بجانب الكلمة المأثورة عن رديارد كبلنج. أكبر شعراء إنجلترا في هذا العصر وهي (إن للمرء وطنين. وطنه وفرنسا).
ذلك لأن كل من ساح في بلاد اليابان وزار أرض الشمس المشرقة افتتن بحسن تلك البلاد وأعجب بأدب أهلها وحسن أخلاقهم وتربيتهم. وقد كتب أحد كتاب فرنسا المشهورين عدة مقالات شائقة يصف بها اليابان وأخلاق اليابانيين. وقد آثرنا أن نأتي بنبذ منها.
قال الكاتب: أن جميع من شاهدوا بلاد اليابان قد صرحوا بأنهم غادروها والحزن يغالبهم(16/79)
لفراقها. كأنهم قد فارقوا وطناً لهم محبوباً.
والحقيقة المقررة أن الياباني بوجه عام أكثر حضارة ومدنية من أي أوروبي يشابهه في طبقته وبيئته. وهذه الحقيقة تتجلى لعين السائح من أول خطوة يخطوها في الطرق.
والأدب عام في اليابان في أحقر الناس. فإن السائل منهم ليسأل أحدهم ولا يخطر في باله أن مخاطبه سيرفض الإجابة عما طلب. واليابانيون يجيبون على تحيات الخدم كما يجيبون على تحية أكفائهم وصحابتهم وأقرانهم. وفي المتاحف يلقون التحية إلى الحارس. وترى الرجال الذين يتساوون في مركزهم الاجتماعي مع سائقي المركبات في فرنسا والبلاد الغربية على جانب عظيم من الأدب والتهذيب وقد نبئت أن اللغة اليابانية لا تتسع لألفاظ الشتائم والسباب. ومن يريد أن يكون منهم خشناً في القول جافاً في الكلام لا يستطيع لذلك سبيلاً. ولقد قضيت شهرين في تلك البلاد صرفت أكثرها في طرقها وشوارعها فلم أر أحداً مغضباً صاخباً. ولا سمعت يوماً صوتاً ارتفع بسباب.
والحارس يقف إذا داناه الزائر. وأنت تستطيع أن تجاذبه أطراف الحديث. لأنه على جانب عظيم من التربية بل والعلم. وربما كان من الملمين بفروع العلوم.
نحن نعيش في قرافة تحت الجمهورية. ولكن اليابانيين يعيشون في ظل المساواة الاجتماعية. وفي فرنسا ولاسيما في المدن الكبرى ينظر إليك من هو دونك كأنك خصم له وعدو كأنما أنت سبب فقره وانحطاطه. ويتقبل منك العطايا وعليه سيما الذلة أمارات الاستهانة والاستهتار. أما في اليابان فإن خادمة الحان لتؤثر أن تنفحها بحلوان زهيد. ملفوف في غلاف. مصحوب بتحية. على أن ترمي البها بعطاء كبير تتبعه غلظة ويصحبه جفاء وفي أغلب الأحيان ترى الحلوان المعطي بجفاء مرفوضاً أدباً وحياء. وقد كانوا قبل اليوم بقليل لا يضعون حداً لأجور المقام في فنادق الريف بدل يدعون ذلك إلى كرم النظيل وأدب المقيم. فإذا حان وقت الرحيل دفع صاحب الفندق إلى السائح مروحة بمثابة تبادل للضريبة التي يسمونها ثمن الشاي.
ولا تزال هذه العادة موجودة إلى الآن. ولكنها بدأت تزول لكثرة السياح والنزال.
وفي أوروبا تجد فروقاً بين الطبقات المختلفة ونفوراً بين العامة والخاصة. وكلاهما يرجع إلى زهو الأغنياء من جهة. وخشونة الفقراء من جهة أخرى. والاختلاف في التربية أكثر(16/80)
في التنفير من الاختلاف في الثروة. ولكني لم أر بلداً قلت فيه الفروق وندر فيه النفور بين الناس غير اليابان. فكلهم مهذب. وكلهم مؤدب. ولا حاجة هناك إلى مركبات تعد لركوب السيدات خاصة. حتى يكن في نجوة من أية خشونة محتملة الوقوع من الرجال. بل ترى في السفر السيد الياباني والسيدة اليابانية يتخاطبان دون تكلف لعبارات التأدب المصطنعة. بل يتكلمان كأنهما من أسرة واحدة. من غير غلظة أو قحة. حتى إذا افترقنا تبادلا التحية وسار كل في سبيله.
واليابانيون بأسرهم يعرفون القراءة والكتابة. وهم بقرضون الشعر جميعاً. وقد قامت في أثناء الحرب الأخيرة جمعية أخذت توزع على الجند والمجاهدين في سوح القتال غلفاً محتوية بعض جوارب ورسائل و (فرش) للأسنان وتبغ وحلوى. وكانوا يكتبون على كل غلاف اسم المهدي. فكان الجندي المتقبل للعطية يشكر مهديها ببضعة أبيات من الشعر.
والياباني في نظر الغربي الذي لم تسبق له به صحبة يظن غليظ الطباع غضوباً ولكنه لو تعرف له وصاحبه رأى منه رجلاً محبباً بشوشاً كريماً ومثال ذلك أنه في محط من محاط السكة الحديد وقفت قاطرة بجانب الأخرى وكانت حجرات الدرجة الأولى للقاطرة الأولى بإزاء حجرات الدرجة الثالثة للقاطرة الأخرى. وكان في الأولى سفر من الغربيين وكان في الثانية ركب من عامة اليابانيين. وكان الفريقان ينظرون إلى بعضهما شذراً متجهمين. ولكن لم يلبث أن لوح بغتة أحد الغربيين بيده إلى طفل ياباني بين المسافرين في القاطرة الأخرى وابتسم له وعلا وجهه علائم البشر. وإذا بوابل من التحيات قد اندفع من اليابانيين. وما لبثوا أن تبادلوا باقات الزهور وطاقات الرياحين.
الأرمادللو
لعمري أن أمريكا لعجيبة في كل شيء حتى في حيوانها. هذا هو الأرمادللو كما يسميه الأسبان، حيوان عجيب، له غطاء عظمي فوق ظهره يتألف من أطواق تختلف في عددها وكثافتها باختلاف أنواع الأرمادللو، وهذا الحيوان يتغذى من الجذور والحشرات والديدان والأفاعي والعظام والنمل والرمم، وأغلبها وإن لم يكن كلها من الحيوانات الليلية، وهي لا تؤذي ولا تضر ولا تحاول أدنى مغالبة إن مسكت أو صيدت، وأهم الوسائل التي تتخذها للهرب سرعتها الغريبة في حفر الحفر في الأرض وصبرها على الاستكنان في الحجر(16/81)
الذي تأوى إليه وهي رغماً من صغر أطرافها وقصر سوقها، سريعة الجري والعدو، ويستطيب أكل لحمها أهل البلاد التي تكثر بها، وهي تسكن السهول الشاسعة والغابات المترامية في النواحي الحارة والمعتدلة من جنوب أمريكا، على أن في ولاية تكساس شمال خليج المكسيك، نوعاً منها وأكبر أنواعها النوع المسمى الأرمادللو المارد إذ يبلغ طوله نحواً من ياردة.
ويوجد في غابات سورينام والبرازيل. ومنها نوع يسمى الببا لها أطواق متحركة في غطائها.
وهذا النوع الذي ترى أمامك صورته يتألف غطاؤه من سبعة أطواق وأرجله وأذناه نهاية في القصر.(16/82)
مطبوعات جديدة
تاريخ آداب العرب
صدر المجلد الثاني من هذا الكتاب النفيس الذي يضعه أديبنا النابغة مصطفى صادق أفندي الرافعي، وليس من أدباء العربية كتاباً وشعراء، ولا من قرائها متعلمين ومتأدبين، إلا من عرف (تاريخ آداب العرب) وما كان له من الشأن عند ظهور المجلد الأول منه، وكيف طار صيته وكيف عده العلماء فتحاً جديداً في تاريخ الأدب العربي حتى إننا لا نزال نذكر فيه كلمة الأستاذ البحاثة الكبير أحمد زكي باشا من مقالته التي نشرها عنه يومئذ وهي قوله ولو كان كتابه مخطوطاً من أعلاق الدفائن، وقد ضربت عليه أغلاق الخزائن، أو كان في بلد يعسف دونه الباحث الأديب أتباج القفار، ويخوض إليه أمواج البحار، لكان من شعائره أن يسعى إلى مكانه، ويطاف بأركانه، ولكان فتح خزائنه من الفتوح في جهاد العالم المجتهد بيقينه، أما إذا نحصل عليه فذلك عنده من الظفر كأنما أوتي كتابه بيمينه. .
فما نحن الآن بمحدثين عن الرافعي ولا عن كتابه ولكنا نوجز الكلام فنذكر للقراء أن هذا الجزء الذين بين أيدينا يقع في زهاء 370 من قطع البيان وهو مقصور على البحث في إعجاز القرآن وصفه بلاغة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك مسألة المسائل العربية في الدين والأدب والتاريخ وقد كان يلم بها علماء الكلام قديماً ويتكلم في بعض جهاتها طائفة من علماء البلاغة بسط الرافعي تاريخ كل ذلك في كتابه، ولكنهم جميعاً إنما يتناولونها من ناحية التسليم لا من ناحية البحث، ومن جهة ضرب الأمثلة لا من جهة تقرير القواعد وقد أغفلوا المعاني الاجتماعية وفلسفة البلاغة من كلامهم وهما طرفا المحور الذي تدور عليه هذه الرحي.
أما أدباء هذا العصر فما منهم إلا من يتحاشى جهده أن يتكلم في هذه المضلة وهم في الجملة يخرجونها من تاريخ الآداب إلا كلمات قليلة لا خير فيها وما هي من قدر الموضوع في شيء يستحق أن يسمي شيئاً. وما كان ذلك عن تهاون منهم ولا عن إنكار لإعجاز القرآن ولا عن جهل بأن هذا الباب أصل الأصول في تاريخ الأدب الإسلامي كله وأن كل كتاب في تاريخ الأدبيات يخلو منه فإنما هو يخلو من جمال التأليف ومن فلسفة الأدب ومن سر تاريخه - لم يكن إهمالهم عن شيء من ذلك، ولكن المعنى في نفسه دقيق جداً محرج(16/83)
للغاية وهو لا يخرج نقلاً وتلفيقاً من كتب التراجم ودواوين الأدب ولكنه يخرج من الرأس المحيط والعقل الجبار والقلم الهائل فما القرآن بشعر شاعر ولا كتابة كاتب ولا خطابة خطيب ولا تأليف مؤلف ولكنه كلام إلهي بائن بنفسه متميز بإعجاز نظمه وأسرار تركيبه، فمن كتب عنه لا يكتب إلا مبتكراً وهذا الابتكار ليس علماً ولا صنعة ولا حفظاً ولا إحاطة ولكنه حظوظ ومواهب ورب ألف عالم مجتهد يحملهم عالم واحد قد رزقه هذه الموهبة.
ولا يفوتنك عناء الصبر الطويل الذي لابد منه لمن يقتحم هذه العقبة في الآداب العربية حتى يأكل الفكر أكلاً وحتى كأنما يحترم العمر فلا توفق إليه إلا موفق ولا يصبر عليه الصبور إلا بعون من الله. ولولا هذه العلة - علة الصبر الطويل والوقت الممدود - لكان أحق الناس بتحقيق هذا البحث أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله فقد خرج من الدنيا وليس له في إعجاز القرآن إلا الفصل الذي كتبه في (رسالة التوحيد) أما في تفسيره فقد مر عليه مراً غير ملم ولا متوقف. وهو رحمه الله لم يكن يشكو من أمر شكاته من ضيق وقته وتزاحم أعماله وأنه لا يستطيع أن يتفرغ لشيء من أصناف التأليف كما يحب وبمقدار ما يقتضيه تجويد العمل.
وهذا الأستاذ المفكر الكواكبي رحمه الله قد أشار إلى إعجاز القرآن إشارة مقتضبة في كتابيه (أم القرى) و (طبائع الاستبداد) لم يثبت بها عجزاً ولم يحقق إعجازاً وكان رحمه الله دائم الفكر طويل النظر واسع الوقت متوفراً على أعماله، وما نظن أن شيئاً صرفه عن هذا الحث إلا معضلة البلاغة.
ولو شئنا لعددنا كثيراً ولكننا نقول في الجملة أن أديبنا الرافعي لا ينقصه شيء من الصفات التي لا بد منها في أحكام هذا الوضع، فهو بحيث يعرفه قراء العربية من بعد النظر وتوقد لذكاء وموهبة الابتكار وشدة النفس وصرامة العزيمة وسعة الإطلاع وقوة البلاغة والوقوف على أسرار البيان، وقد لبث يعمل في هذا الجزء سنتين من لدن أصدر الجزء الأول إلى الآن فلا يدع أن جاء كتابه من وراء الغاية، وخرج من الدقة والأحكام كما تخرج الآية.(16/84)
العدد 17 - بتاريخ: 31 - 5 - 1914(/)
الجمال والجلال
قد رأينا أن نتحف قراء البيان بنبذ وشذورات مختارة من أنفس كتاب تناول هذا الموضوع الجليل الذي جرت في مضماره حلبة الأقلام فانثنت عنه حسرى، ولم يسبق إلى الغاية سوى قلم الفيلسوف الكبير والخطيب المصقع أدمند برك واضع هذا الكتاب الذي نحن بصدده. وكان الفيلسوف المذكور قد أوتي نفاذ البصيرة ودقة التفكير، مع سحر البيان وخلابة التعبير، فجاء كتابه آية الآيات، ومعجزة المعجزات، وأصبح على قلة حجمه قد لا تساويه الخزائن المشحونة، وسيرى القارئ مصداق هذا القول إذا ذاق ما نحن مقدموه بين يديه من محاسن ألوان هذا الخوان البديع. أو تنسم ما نحن مهدوه إليه من أطايب أفانين هذا الروض المريع. وقبل أن نطرق هذا الباب يجدر بنا أن نذكر كلمة موجزة عن المؤلف ليعلم القارئ من هو أدمند برك فنقول:
أدمند برك هو خطيب الإنكليز المفوه وحكيمهم الجليل، كان إيرلندياً ولد في دبلن عام 1728 ونال شهادة أستاذ في الآداب عام 1751 وأبدى في سنى دراسته ميلاً شديداً لقراءة أنواع العلوم وصنوف الفنون وأبدى كذلك سرعة بديهة وقوة ذاكرة وولوعاً بالشعر وما وراء المادة. وبعد نيل شهادة أستاذ في الآداب درس القانون ولكنه لم يحترف به بل انصرف للتعمق في الآداب والفلسفة وكان يستظهر كل ما راقه من ملح الكتاب وطرف الشعراء وحكم الفلاسفة، ثم شرع يفكر في ترشيح نفسه للخدمة العامة أعني خدمة الوطن من الوجهتين السياسية والاجتماعية. وفي ذلك يقول ولما وجدت أن دستورنا وتجارتنا هما منبع مجدنا وسعادتنا لم آل جهداً في تفهم هذين الركنين وتوطيدهما فكان سفر القانون لكثرة ما قلب أوراقه وطول ما نظر في سطوره رث الغلاف خلق الصحائف.
وفي عام 1757 تزوج ابنة الأستاذ نيوجنت فكانت ريحانة قلبه وسلوة همومه طول عمره. ويحسن بنا في هذا الموضع أن نسأل ذوي الحرص على الشهرة والمجد والمنصب من الفتيان أن يردوا من مطامعهم، ويكفوا من حدة حرصهم، وأن يؤثروا الصبر والقناعة والزهد أسوة بهذا الرجل العظيم (برك) الذي كان مع بلوغه الثلاثين من عمره ومع ما كان قد أوتى إذا ذاك من جليل المواهب الآلهية والعلوم الاكتسابية عاثر الجد أسود الحظ يعول زوجة وهو لا منصب له ولا عمل وليس في سعة من الرزق ولا في ذروة من المجد ولا جاه له ولا ذكر. ففي ذلك يقول في كتاب له لبعض أصدقائه إنما منعني من الرد عليك(17/1)
صروف الدهر ودول الأيام واضطرابي بين هذا البلد وذاك بينا تراني في لندن إذ أنا بالريف، ثم لا تلبث أن تراني في بلاد الفرنس وكأنك بي بعد أيام أطأ تربة أمريكا:
يوماً بحزوى ويوماً بالعقي ... ق وبالعذيب يوماً ويوماً بالخليضاء
ولكن الله أراد بالأمة الإنكليزية خيراً فلم يقدر لفيلسوفها العظيم مناخاً في غير أرضها، ولم يبشنف بأنغام مزهر بيانه إلا مسامع بني أوطانه. وفي عام 1758 اقترح على أحد الساسة دودزلي كتابة تاريخ سنوي لإنكلترا يستوعب أهم حوادث الحياة الاجتماعية والسياسية والأمور الأخلاقية، فوافق الاقتراح هوى في نفس ذلك السياسي، وظهر التاريخ السنوي واستمر برك يكتب القسم السياسي أو الخلاصة حتى عام 1788 بأجر سنوي قدره مائة جنيه.
وفي عام 1761 ذهب السياسي هاملتون إلى إيرلنده ليشغل بها وظيفة كاتب أسرار الحاكم العام وهو اللورد هاليفاكس إذ ذاك واستصحب معه بيرك كاتباً له وهنالك انتفع هاملتون أشد الانتفاع بمواهب بيرك ومعارفه وأجرى عليه رزقاً قدره ثلاثمائة جنيه في العام، ثم حدث خلاف بينهما فاستقال بيرك وعاد إلى إنكلترا وقد بلغ السابعة والثلاثين من عمره، وأصبح ذا ذرية وأنه لصفر من المال والوظيفة، بعيد من مناطق الحرف وميادين العمل. ولكن أعاظم الرجال لابد لهم من عصور محنة وأيام شدة وأوقات فراغ وعزلة تنضج فيها قرائحهم وتجم فيها بدائههم وتحتفل اثناءها خواطرهم ويتهيأون في خلالها لملاقاة الخطوب الجسيمة وإمضاء الأمور العظيمة. فيخرج أحدهم من غيابة العزلة والخمول والمحنة وقد سله الله للخطوب من الغمد كسل المهند المغمود.
فلما كان عام 1765 رأس الوزارة اللورد روكنجهام رئيس الأحرار إذ ذاك فاتخذ بيرك كاتب أسراره، فكان هذا العمل الجديد مدعاة لظهور فضل بيرك فعرف القوم قيمته وأحبوه حباً جماً حتى إذا كان انتخاب أعضاء البرلمان في عام 1765 انتخب بيرك عضواً من حزب الأحرار، ومن ذلك الحين فصاعداً بزغ نجمه وأزهرت دولته وهبط على مجلس البرلمان من فيه ذلك الوحي الجليل السنين الطوال، وتساقط عليهم ذلك الدر البهي الذي لا معدن له إلا بحر علمه الفياض، ولج خاطره الزاخر. وكم له في مجلس البرلمان من موقف كان يأخذ فيه بمجامع القلوب وأزمة النفوس إذ يرسل القول متدفقاً عذباً حتى تظل الألباب(17/2)
عليه حائمة، والأرواح عاكفة، ترف عليه رفيف النور والأقحوان على صافي النطاف سلسال، وإذ أوتار القلوب في يديه يعزف عليها أنغام السرور، وآونة ألحان الترح يحزن ويفرح ويبكي ويضحك.
ولكتابات بيرك وخطبه المكان الأعلى لدى طالب العلوم السياسية والاجتماعية. فأما كتابات شبابه وأوائل خطبه فتمتاز بدقة التفكير والتعبير مع الإيجاز المعجز، وأما كتاباته وخطبه المتأهرة فتمتاز بكثرة المحسنات اللفظية وشدة الاحتفال والتأنق، وتنفرد بما يشبه حذاقة يد المصور وإشراق ألوانه وتنوع صبغه. وإن كتاباته وخطبه الأخيرة هي التي شبت أنكى الحروب وأفظعها حين أثار الرأي العام الإنكليزي ضد الثورة الفرنسية وبعث إنكلترا على مقاتلة فرنسا قمعاً لها وردعاً واستئصالاً لما نشرت من تلك المبادئ الخبيثة والمذاهب الممقوتة، ولئلا تنتقل منها العدوى إلى إنكلترا ويسري إليها الداء، ففي هذا يقول حذار مما نحن هاجمون عليه من الخطر العظيم - خطر إعجاب الشعب الإنكليزي بما قد أتته حكومة فرنسا من الجرائم والآثام فيقلد فظائع ديمقراطية نهابة سلابة فتاكة مفترسة سفاحة مغتصبة حمقاء هوجاء مجنونة لا مبدأ لها وليس فيها ذرة من المروءة والإنسانية ونحن مع شدة احترامنا آراء بيرك فلا يسعنا إلا مخالفته في رأيه هذا واستهجان هذا الحكم الجائر الذي أصدره على حكومة فرنسا إذ ذاك وعلى معظم الفرنسيين.
وفي 1790 نشر بيرك سفره المسمى خواطر عن الثورة الفرنسية وهو الذي أثار الشعب الإنكليزي ضد الثورة الفرنسية وحدا به إلى ما لم تحمد عقباه من تلك الحرب العوان الحطمة. ولو ترك الفرنس وشأنهم لأسسوا حكومة نظامية ثابتة لا تقل جودة ونظاماً عن حكومة الولايات المتحدة أو حكومة الإنكليز. وكان رئيس حزب الأحرار في إنكلترا فوكس لا يرى هو وحزبه في الثورة الفرنسية إلا نزعة إلى الانتصاف، ونهضة إلى الإصلاح، ولكن بيرك خالف رأي الأحرار على أنه منهم وأبى أن يقعد معهم في المجلس وأن يضمه صفهم فانتقل إلى ناحية الحزب المضاد وجلس إلى جانب الوزراء المحافظين متحملاً مسؤولية عمله هذا. وجعل يحث الوزارة على قتال فرنسا قائلاً إذا اجترأت إحدى الحكومات على قلب كيان الشرائع والأديان عامة وسلكت من الضلال سبيلاً يخشى معها حدوث الفتنة والفوضى في ممالك أخرى وجب على الشعوب والأمم أن تحارب هذه الأمة.(17/3)
فهذه هي حال فرنسا. وماذا يقي بلادنا سريان هذا الداء إليها وانتقال هذه العدوى؟ الحرب لا غيرها.
فرأى اللورد جرانفيل المسالمة في مبدأ الأمر ورآها كذلك بيت. والواقع إن المسألة كانت تكون إذ ذاك خير خطة وكان عليها ضمان ازدياد ثروة البلاد وقوتها. وكانت شواهد الحال كلها تغري الساسة باتباع خطة المسالمة. بل كانت المسالمة غاية كبار الساسة الفرنسيين والغرض الذي كانوا يرمون إليه حتى جعلوا يحاولون توثيق عرى الوداد بين فرنسا وإنكلترا وتوكيد أسباب السلام بين الإنكليز وبينهم فجاهر باتباع السلام ميرابو وتايواند وبيسيون حتى روبسبير نفسه الملقب بالسفاح وشارب الدماء. ولكن تشنيعات بيرك ومطاعنه قامت عقبة في سبيل المحافظة على السلم، وقد ذكر ميرابو في تقرير رسمي كتبه في ذلك الصدد أسباب إيثاره خطة السلم وقد أعدبنا أحد هذه الأسباب لقوة حجته وهو قوله: إن أقل آفات الحرب على فرش أن للفرنسيين الفوز والظفر هو أن جماعة القواد تأخذ من رؤوسهم نشوة النصر وتزهوهم أبهة الحياة الحربية فإذا وضعت الحرب أوزارها أنفوا أن يتركوا عظمة الجندية إلى تواضع العيشة الملكية فيطلبوا سن القوانين لإبقاء الجيوش وهذه طلائع أسوأ الحكومة أعني الحكومات الحربية.
وأخيراً تمكن بيرك عام 1793 من حمل إنكلترا على التداخل في شؤون فرنسا وساعده على ذلك ما ارتكبه الفرنس من إعدام ملكهم لويز السادس عشر. فذكر الإنكليز مقتل مليكهم شارل الأول فثاروا وأقسموا ليوقعن أقصى العقوبة على الفرنسيين وليرغمهم على إعادة العرش إلى أسرة البوربون وأعقب ذلك حرب استمرت اثنين وعشرين عاماً كابدت إنكلترا أثناءها من الكرب والبلاء والمحنة والشقاء ما يعني به الوصف ويعجز عنه البيان. وطالما حاول فوكس إيقاع الصلح واستجلاب السلم ولكن بيرك كان يكتب ضده بقلم من نار ويرد عليه بلسان شيطان. وعلى هذه الحال أمضى بيرك السبع السنين التي تبقت من عمره ثم قضى نحبه في الثامن من شهر يوليه 1797.
وكتابات بيرك وخطبه مملوءة من الحكم والأحكام والمبادئ بما يجدر أن يسترشد به السياسي في التشريع العملي وتأسيس الحكومة الصالحة. وإذا اضطر إلى تعضيد حزب الأقلية وتوريج الآراء الكاسدة والمذاهب المكروهة قدرة على ذلك اقتداؤه بذلك الخطيب(17/4)
المفوه والمنطقي البليغ الذي استطاع أن يدحض حجة الخصوم ويعلي كلمته مدة ثلاثاً وعشرين حجة.
أما كتابه قواعد الجلال والجمال هذا الذي نريد أن نتحف القراء بأطايبه فهو من مؤلفات صباه ولكنه كهل الحكمة مشحون بالفلسفة يهدي القارئ إلى أسرار الجلال والجمال بعيدها وقريبها فيصبح له في أنحاء الوجود وأرجاء الطبيعة الجامدة والناطقة نظرة الفيلسوف النقاد والحكيم البصير. ذلك إلى ما يمتاز به موضوع الكتاب من دواعي الإمتاع واللذة، وأي شيء أروع في الفؤاد وأعذب في النفس من الجمال والجلال.
الفصل الأول
الجدة
أول وأبسط ما يبدو لنا من حركات النفس الإنسانية هو الوجدان المسمى التطلع وأعنى بالتطلع الميل إلى استكشاف الجديد والتلذذ به. ونحن لا نزال نرى الصبيان يعدون من مكان إلى مكان لتصيد الشيء الجديد يتهافتون على كل ما يصادفونه لا يتخيرون ولا ينتقون فكل شيء يجذب أبصارهم لأن كل شيء جديد في عصر الطفولة، ولكل جديد لذة تستميل وتستهوي ولكن لما كانت هذه الأشياء التي لا سبيل لها إلى النفوس البشرية إلا مزية الجدة لا تلبث أن تزول بالتكرار جدتها لذلك كان التطلع أسرع الوجدانات النفسانية زوالاً وأكثرها انتقالاً وأقلها من النفس استمكاناً. فهو ذو شهوة حادة ولكنها سريعة الاكتفاء. سهلة الاشتفاء. وهو أبداً مشفوع بخلتي القلق والشوق. والتطلع بطبيعته حركة دائبة. سريع المر على ما يصادف من الأشياء فما هو إلا زمن قصير حتى يستوعب صنوف الموجودات التي يلقاها المرء في هذا الكون. ثم يكثر تردد هذه الموجودات على الحواس وكلما كثر خواص ممتعة وصفات معجبة خلاف صفة الجدة لأصبح الإنسان بعد مضي عصر الطفولة لا يبصر في هذه الدنيا إلا ما يكره ولا يرى إلا ما يمل ويسأم. بيد أن هذه الأشياء المؤثرة في النفوس بقوى خلاف عامل الجدة نرى أن الحكمة الإلهية لا تخليها بتاتاً من نوع ما من الجدة فإنه لا يخلو البتة من الجدة إلا ما أخلقه الابتذال وأبلاه الامتهان وسلبه طول الصحبة والمزاولة كل بهجة وطلاوة.
الفصل الثاني(17/5)
الألم واللذة
فمن ذلك نرى أن تحريك الوجدانات في نفوس الكبار يستلزم أن تكون الأشياء المراد منها ذلك التحريك تحتوي - فضلاً عن شيء ما من الجدة - عوامل أخرى محدثة أما ألماً ولذة. والألم واللذة هما وجدنان سبطان لا يمكن تعريفهما والإنسان لا يخطئ قط معنى ما يعتريه من الوجدانات ولكنه كثيراً ما يخطئ في تسميتها وفي الكلام عن أسبابها ونتائجها فيذهب البعض إلى أن مصدر الألم إنما هو زوال لذة ما، كما أن منشأ اللذة إنما هو انقطاع أو تخفيف ألم ما. فأما الذي أذهب إليه أنا فهو أن كلا الألم واللذة القوى منعهما والضعيف هو أمر حادث ووجدان إيجابي لا سلبي وليس أحدهما متوقفاً وجوده على زوال الآخر. ورأيي أن النفس الإنسانية تكون في معظم أوقاتها بحال ليست هي بالألم ولا باللذة أسميها حالة فتور فإذا انتقلت من هذه الحال إلى حالة لذة واقعية فما أحسب أن ذلك يستلزم أني أعاني أولا شيئاً من الألم. فإذا كنت في مثل هذه الحالة من الفتور أو الراحة أو السكون أو كما شئت أن تسميها ففوجئت بالغناء المطرب أو المنظر المونق ذي اللون المشرق والشكل المعجب أو صافح أنفك شذى المسك ونفح الطيب. أو تشرب لذيذ الراح على غير ظمأ إليها، أو تذوق الحلوى على غير سغب، فإنك لاشك تجد في كل من هذه الأحوال لذة مع أنك لم تكن قبل الاستمتاع بهذه المناعم في شيء من الألم. وهل إذا أمتعت حواسك بهذه المناعم المختلفة ثم زالت عنك لنسها تستطيع أن تقول أن زوال هذه اللذة قد أعقبك ألماً. ومن جهة أخرى إذا كنت في حالة فتور فأصابتك لطمة شديدة أو تجرعت شراباً مراً أو خدش سمعك صوت منكر أفتقدر أن تقول إنك لم تجد لهذه الأشياء ألما محتجاً على ذلك بأنها لم تكن نتيجة زوال لذة. فإذا قيل أن الألم في هذه الأحوال إنما نشأ من زوال لذة ولكن هذه اللذة كانت من شدة الخفاء بحيث أنه لم يكن ليظهرها إلا زوالها، قلت أن هذا القول تكلف ليس له أساس من الحق فإنه لا شيء قط يدعوني إلى التسليم بوجود مالا أجد ولا أحس فإن اللذة لا تكون لذة إلا إذ شعر بها لذلك لا أستطيع حمل نفسي على الاعتقاد بأن الألم واللذة هما أمران متعلق أحدهما بالآخر وأ، هما لا يوجدان إلا بمضادة أحدهما للآخر. ولكني اذهب إلى أن هناك آلاماً وملاذ إيجابية لا يتوقف بعضها على بعض. وهذا ما يدلني عليه الشعور الصادق والإحساس الصحيح. ولا أكاد أميز بين ثلاثة أشياء متباينة مستقلة(17/6)