العدد 1 - بتاريخ: 24 - 8 - 1911(/)
الكتاب والآداب
الحمد لله أودع الكتاب صوت الماضي وروحه بعد أن فنيت مادته وانعدمت ذاته فأصبح كحلم مضى وعهد انقضى انظر كم يشيد البناؤون من المدن والدور والهياكل والقصور والقلاع والحصون والساحات والصحون وماذا يوسعون فيها ويفسحون ويعلون من ذراها ويشرفون فما مسير كل ذلك وأين يذهب يغوله صرف الزمان وبيده طارق الحدثان ويلتهمه من الوقت بحر شديد الصولة على الإنسان وآثاره يسطو بها فيفنيها أو يكاد الله إلا شيئاً واحداً أعني الكتاب فإنه الخالد الباقي السالم على عواصف الدهر اللائح من خلال أمواج الزمن كخيال النجم في جوف المحيط.
أين أمة الأعراب - وصيدهم (ملوكهم) والقواد وأين أندلسهم وبغداد عصف الدهر بها إلا رسوما دارسات وطلولا داثرات ولكن أعمد إلى صحائفهم وافتح إحداها فهنالك العرب ومجدها والدولة وسؤددها تحي في تلك الصحف وتخفق وتتحرك وتكاد تنطق فلله من يرى شبراً من الورق يضم أمة ورجالها ودولة وأعمالها ويستوعب آراءها وأفكارها ونتائجها وآثارها فما أصغر الكتاب وما أكبر وما أعظم وما أحقر وما أضعف وما أقوى وما أفقر وما أغنى.
ويعجبني ما قاله أحد الحكماء إن مخلفات الماضي ثلاث المدن والمزارع والكتب وليست الكتب كالمدائن لا يبرح الدهر ينال منها ويتخون ولكنها أشبه بالمزارع إلا أنها مزارع ذهنية أو ما ترى الكتاب كشجرة روحانية تنمو على الزمن أصولها وتسمو فروعها وتطلع كل عام أوراقها الجديدة من الشروح والحواشي والانتقادات والردود وما إلى ذلك - فيا أيها القادر على إظهار كتاب لا تحسد الملك بأني المدن ولا الفاتح الغازي مخربها فأنت كذلك فاتح منصور مظفر ولكنك منصور على الضلال هازم للشر والباطل وأنت كذلك رب بناء ولكنه بناء أبقى على الزمن من الصخر والحديد والمرمر - بناء العقل ومدينة العلم وكعبة اليقين التي يحج إليها بنو البشر وسكان الأرض كافة.
والكتاب أيدك الله أكبر قوة لترقية المدينة والأخذ بيدها لأنك تراه مصدراً للعلم والعرفان ومنبعثاً لنور التقى والإيمان ولساناً يذيع حجة الحق وسلاحاً ينتصف من القوي للضعيف فأما أنه مصدر العلم فذلك لأنه متى حذق الطالب أوليات فن من الفنون وبلغ شأوا يدرك معه كل ما كتب في ذلك الفن فأي حاجة هناك إلى المدارس والجامعات إنما أستاذه اذذاك(1/1)
الكتاب وكل بقعة صلحت وطابت سواء بين المائدة والسرير والروضة والغدير أو على ظهر الماء أو في ذروة شاهقة شماء فهي مدراسه وجامعته.
وأما أن الكتاب منبعث لنور التقى والإيمان فذلك لأن كل كتاب صالح إنما هو منبر تسمع منه داعى الخير وصوت الحق وخطيب الحكمة والموعظة الحسنة فأنت من كتابك الصالح في محراب ومسجد ومعبد وأنت منه بحضرة ملك كريم أجنحته تلك الصحائف المنقوشة وهل ترى الشعور الشريف بحلوه لك الكاتب الكبير في أكرم حلة من اللفظ فيدب في نفسك دبيب الغناء - إلا من قبيل العبادة وباب الصلاة والتسبيح: وهل ترى الشاعر يظهر لك من جمال زهرة البستان ما كان من قبل غامضاً عنك إلا دالا إياك على فرع من ينبوع الجمال الكلى وعلى سطر خطه القلم العلوي في صحيفة الوجود وحلية صاغتها يد الصانع الأكبر وآية جديدة من آيات الله تدل على أنه الواحد.
وأما أن الكتاب لسان لإذاعة حجة الحق وسلاح ينتصف به من القوي للضعيف فذلك لأن الكتاب صوت الشعب يحامي عنه وينافح ويعرب عن مطالبه ويبين عن حاجه ومآربه فهو برلمانه قبل البرلمان ودستوره قبل الدستور وما القلم في ذلك إلا خطيباً يسمع الشعب أجمع فهو لهذا قوة عظيمة وفرع من فروع الحكومة له شأن في وضع القوانين والشرائع وفي كل عمل ذي بال ومما لا شك فيه أن كل شعب لا محالة محكوم أو سيكون محكوماً بأرباب الأقلام من أبنائه وذوي الصوت من أهله.
والكتابة نوعان علمية وأدبية فالأولى ما كان أساسها الفحص والتنقيب للوصول إلى الأصول والنظر في الجزئيات لاستنتاج القواعد العامة كعلوم طبقات الأرض والطبيعة والكيمياء والطب والهندسة ما إليها وأما الثانية فهي ما كان محورها وصف الأشياء وصفاً يراعى فيه لذة القارئ قبل كل شيء ثم النصيحة والفائدة بعد ذلك ويكون الوصف من الدقة وحسن البيان بحيث يمثل لك الغائب حتى يقلب سمعك بصراً فإن كان الموصوف إحساساً أثار الوصف نفس هذا الإحساس في قلبك وإن كان شهوة هيجها بعينها في نفسك ولا بد من أن يكون الكاتب رجلاً عظيماً يبصر من أسرار الموصوف وبدائعه ما يخفي على معظم الناس فإن قدم لك الشيء أعارك عينيه لتبصر بها فأنت هو ما دمت تقرأ آياته وتتأمل معجزاته ومن هذا النوع الشعر منظومه ومنثوره والقصص والروايات والسير والتاريخ(1/2)
والخطب والمواعظ وكلام المتصوفة وكل مارقق الكبد واهتاج الفؤاد.
ولقد ذاع في هذه الأيام بين العامة وأشباههم من الخاصة مذهب مأفون أن للعلميات الفضل الأول والمنزلة العظمى وإن الأدبيات قليلة القيمة عديمة الجدوى ذلك أن الأولى مثمرة للمال والثروة مجلبة للسعادة والرفاهية وما الأدبيات إلا ملهاة للعقول ومروحة للنفوس وما الشعر إلا داعية لعب وباعث طرب وإن ليست الفكاهات إلا حامل على السخف ومسقطة للمروءة - وقد فات هؤلاء أن للإنسان شعوراً كما أن له معدة وإن له روحاً كما أن له أنياباً وأضراساً وأنه يحتاج إلى غذاء مادي من الحنطة والبقول والحلوى وإن أقدس واجبات الإنسان وأول غرض خلق لأجله هو معرفة الله في مصنوعاته وذلك ما لا يكون حتى يكشف له الشاعر والكاتب عن بدائع هذه المصنوعات ومعجزاتها وإن الإنسان في الأرض كناسك في معبد وراهب في صومعة يقرأ في النجوم إنجيلاً وفي سطور الزهر توراة ويسمع في ترنم النسيم مزامير وفي تغريد الطيور زبوراً وليس الإنسان في هذه الأرض كالحيوان الأعجم لا شأن له إلا الخضم والقضم.
لشد ما أخطأ الناس معنى الحياة فحسبوا الحياة مجرد الوجود وإنما هي لعمري الشعور والفهم والتمييز وإن يجعل الإنسان عقله ميزاناً يزن الخير والشر وإن يشعر نفسه الصدق والكرم والحياء والعفة والإخلاص والتقى واليقين.
ولا ننكر أن في الماديات شيئاً من النعيم وإن الرجل الذي تنتهي آماله في المعدة وتقف مآربه عن الحلق ولا تطمح روحه إلى ماوراء ستار مزركش أو سقف مزخرف ينعم بنوع من اللذة ولكني أحسب الإنسان فوق ذلك: قال أحد المزاح: لا ريب في أن المرتب الضخم لذة كما من اللذة أن يدعم الإنسان عيشه بأساس متين من الذهب ومن اللذة أن يكفي المرء حاجه ويروح بعيشة راضية ونعمة فسيحة ومن اللذة أن يتكئ المرء في كرسي الوظيفة ويقبض ألفا في العام ولا ريب في أن اللحم والفاكهة والسمك تقوي البنية وتبعث في الوجه حمرة العافية ولكني مع ذلك أرى أن النصب في ابتغاء المجد الصحيح أشهى والفقر في طلاب الحق أعذب وأحلى.
ما سرني اللؤم والغضارة في العي - ش بديلا بالمجد والقشف
أجل هناك مطمحاً وراء حشو المعدة وتلبية الشهوة والناس الآن أحوج ما يكونون إلى(1/3)
نهضة أخلاقية نتيجة نهضة أدبية فلقد أوشك الإنسان كما قال أحد المزاح أن يقع في المعدة حتى أصبح من الواجب أن يرجع إلى مكانه من العقل ويثوب إلى مثابته من القلب. وأصبح الأمر الأهم والمسألة الكبرى النظر في شرف الإنسان وعظمته وذلك مالا يكون إلا بالشاعر وكاتب الأدب.
الآداب مصدر المدنية الصحيحة والشعر مبعث الشرف والعظمة ومن ثم كانت الآداب إحدى حاجات الأمم وكان الشعر أمنية الروح ومطمح الأنفس ومن ثم كان الشعراء أول أساتذة العالم ومن ثم وجب أن ينفث الشعر في أفئدة الخلق وأن يترجم إلى العربية شعراء الغرب قديمهم وحديثهم وشعراء الفرس والديلم والهنود وتصب أبياتهم وأبيات العرب في روح هذا الشعب صبك الماء في المكان الجديب.
قال أحد كتاب الفرنسيس: من كان ينكر أن الآداب مصدر المدنية فليلق نظرة في إحدى إحصائيات السجون وإليك مثالاً: كان في سجن طولون عام 1862 عشرة وثلاثة آلاف مجرما ألف وسبعمائة وتسعة وسبعون منهم كانوا أميين وتسعماية وأربعة لا يجيدون القراءة والكتابة ومائتان وسبعة وثمانون يقرأون ويكتبون وأربعون يعرفون شيئاً طفيفاً فوق الكتابة والقراءة فكان معظم هؤلاء الأشقياء من ذوي الحرف المنحطة الدنيئة وكان العدد يقل كلما سموت إلى الحرف المستنيرة حتى يصل لك الأمر إلى هذه النتيجة: كل من في السجن ذو مهنة منحطة إلا أحد عشر أربعة من باعة الجواهر وثلاثة من خدمة الكنائس واثنان من الأطباء وممثل واحد وموسيقي واحد ولا متأدب ولا أديب: هذا الدليل قاطع إذا كانت المدنية كما نفهم نحن هي رقي النوع عقلاً وخلقاً مع ما ينجم عن ذلك من الهناء والسعادة ولكن الماديين المتعصبين للعلميات الذين إن تسلهم عن المدنية قالوا إنما هي الكهرباء والفونوغراف والمنطاد والتلغراف لا يرون النعيم إلا في هذه الأشياء فهل خيل إليهم أن السعادة أمر لا يدرك إلا بالقطار والكمال غاية لا تبلغ إلا بالبخار أو حسبوا أن البالون يعرج إلى الجنة فيما يعرج: ولا يسعني في هذا المقام إلا ذكر كلمة للحكيم راسكين هي أبدع ما قيل في هذا الصدد قال:
أيظن الماديون أن الانتقال من مكان إلى آخر بسرعة مائة ميل في الساعة أو نسج الأقمشة بمقياس ألف متر في الدقيقة زائد في سعادة الإنسان فتيلاً أو قطميراً وكيف وأرض الله من(1/4)
امتلائها بالطيبات والمحاسن بحيث لا يكاد المرء يلم ببعضها ماشيا الهوينا فماذا عساه يدرك منها طائراً بأجنحة البرق أو جامحاً في عنان البخار فلا يحسب الماديون أنهم استعبدوا الزمان والمسافة بمخترعاتهم فإن المسافة والزمن يأبيان بطبيعتهما الاستعباد ثم لا حاجة بالإنسان إلى استعبادهما إنما الحاجة والثمرة حسن تصريفها ومن ذا يرغب في تقصير الزمن والمسافة إلا أحمق فأما العاقل فيود لو طالت له المسافة والوقت نعم ويحب الأحمق أن يقتل الزمان والمسافة ولكن رغبة العاقل في أن يحرزهما ليحييهما وما السكة الحديدية إن فكرت إلا أداة يراد بها تصغير الدنيا ثم لا بأس على المرء إن كان حراً مخلصاً أن يسير على مهل لأن مجده ليس في السير إنما هو في العمل فإذا قال قائل القطار نافع لأنه يعيننا على نقل العلم والعرفان إلى الأمم المتوحشة قلنا له قد صح قولك لو كان لديك علم ينقل أما إذا لم يكن لديك سوى السكك الحديدية والبخار والبارود فماذا تصنع أتزعم أنك تريد نشر الدين بين التوحشين. ولو كان ذلك غرضك لقد أمكنك تنفيذه بلا بخار مدة ألف وثمانمائة عام أي منذ ظهور النصرانية إلى وقت اختراع القطار غير أني رأيت أحسن التعليم الديني ما أحدثه أهله على القدم ولعل القدم في مثل هذا الأمر أسرع من القطار. أو تزعم أنك تريد تعليم المتوحش العلم - علم الحركة والطعام والدواء - فهبك لقنته سر البخار فطار بعجلاته وسر الأكل فأجاد السلق والشي والخبز وسر الطب فعرف كيف يأسو الجرح ويجبر الكسر فماذا بعد ذلك؟ أتراك بعملك هذا قد أدنيت المتوحش خطوة من السعادة أو قربته قيد شبر من المدنية الصحيحة. كلا. بل إن أسباب السعادة أقرب إلينا من كل هاتيك الأشياء ولكنا لا نفقه ولا نبصر ووالله ما أبعدنا عن الصواب حين نحسب أن المدنية والسعادة هما في مناعم الخوان واللباس وفي ملاذ الصيد والسباق وفي مسرات الحفلات الليلية وما بها من الغناء الممل المضجر والملابس المثقلة المتعبة وفي التنافس في المنصب والسلطة والثراء والصيت وما أبعدنا عن الصواب وأضلنا عن الجادة حين نظن أن مثل هذه الحقائر هي مما يجوز لنا أن نفخر بإذاعته بين الشعوب المتوحشة والأمم البربرية.
ولعل المتوحش حين يتعهد غرسه ... ويجتذب على المحراث والمعول نفسه
ويصبو إلى حبيبه كلفا ويحن إلى عهد الصبا شغفاً ويملأ صدره رجاء ويتهل إلى ربه دعاء(1/5)
أقرب إلى المدنية وأدنى إلى السعادة - فهذه هي أسباب الهناء ودواعي الصفاء وعلى عرفاننا بها وتعليمنا الناس إياها يتوقف نعيم العالم وسعادته فأما على الحديد والزجاج والكهرباء والبخار فلا.
وإني من حسن الظن وجميل الرجاء بحيث آمل أن يهتدي الناس يوما ما إلى هذه الحقيقة فإنهم قد التمسوا السعادة من جميع الوجوه إلا الوجه الصواب وضربوا في كل طريق إلا الطريق الأسد. وكأني بهم سيجربون الوسيلة الصحيحة والطريقة المثلى بطبيعة الحال إلا تراهم قد جربوا الحرب والتجارة ومظاهر الأبهة والفخامة وجربوا البخل والكبرياء والتحاقر والتصاغر وكل أسلوب للعيش وطريقة للحياة توقعوا من ورائها فضل الهناء والسعادة. وشموا من تلقائها رائحة الغبطة والنعيم - نعم وبينما هم يمتطون كل صعب في سبيل السعادة ويركبون كل عوصاء إذا بالسعادة قد أوجدها الله بمرأى عيونهم في سحب السماء. وبمنال الفهم في نبات الروضة الفيحاء وكثيراً ما رأينا الملك الجليل والسلطان الكبير قد كثرت عليه آفات الملك وفدحته أعباء الدولة فخرج هارباً على وجهه ثم ما لبث أن وجد المملكة العظمى والراحة الكبرى في قيراطة من الأرض وذراع من الظل ولكن الإنسان لم يصدق ذلك وما يزال يضرب صفحاً عن السحاب ويقتلع النبات يقيم مكانه الصانع والمداخن ويطلب السعادة من غير وجهها حتى عثر أخيراً على العلوم الطبيعية فحسب ضلة وخطأ أن السعادة في مكتشفات الكيمياء ومخترعات الطبيعة فشحن السحاب في الأوعية الحديدية وأرسلها تجري مجرى السحاب واستخرج من النبات خيوطاً فنسجها ثياباً له جيدة رخيصة وظن أن هذه هي السعادة - ظن أن المسير بسرعة السحاب ونسج كل شيء من أي شيء منتهى الهناء والنعمة.
ولما كذبت في ذلك أيضاً ظنونه ورأى أن السعادة ما زالت منه كأبعد ما كانت أصبح يفتش عن غلطة جديدة يرتكبها ولكني أحسب أنه قد استنفد في هذا الأمر جميع الغلطات فلا غلطة هناك بعد فأما وقد نفدت حيله وعلم أنه لا فرق بعد الاعتياد بين السير الحثيث وبين البطيء وأنه ليس في استطاعة مصانع مانشستر وما تخرج من الأقمشة والثياب أن تكسب الإنسان راحة النفس ورخاء البال فرجائي أنه سيعلم بعد ذلك أن الله ما صبغ حواشي السحاب وألبس السندس مناكب الغاب إلا ليسعد الإنسان برؤية الخالق في آثاره وبتنفيذ(1/6)
أوامره تعالى من نشر الأمن والسلام وبث الخير والبر بين جميع مخلوقاته على السواء وليس إلا بهذا يبلغ الهناء وتدرك السعادة.
هذا مذهب راسكن ومذهب كل مؤمن بالله طاهر النفس صادق النظر بعيد الرأي شغلته محبة الله عن حب ذاته وصرفته دواعي المروءة والبر والرحمة عن خدمة الشهوات وإطاعة الأهواء ورأى في عجائب الكائنات وروائع الأرضين والسموات مندوحة عما يشغل الجهلة الأغرار من زخرف الدنيا وزبرج الحياة ولعبات الأطفال والصبية: ولعل في كل إنسان مقداراً من الإيمان صغيراً أو كبيراً بحسب فطرته تبديه التربية الحسنة والتفقيه في الدين وعلوم الأدب وليس أبعث لهذا الإيمان من الشعر الكريم الفاضل فإن نفس الحر لتشعر بشغف عظيم إلى أشياء مجهولة ومعاني مبهمة وتحن حنيناً شديداً إلى روح ذلك الجمال الخفي فهي كالأعمى الذي يعشق الحسان من غيران يراها ولا تزال تتلهف على ذلك السر الغريب وتهيم حتى ينشد الشعر الرائع النفيس فيجلو عمى النفس فتبصر الجمال الغريب الذي طالما اشتاقته ونزعت إليه: هذا الجمال هو أثر الله الذي لا تخلو منه ذرة من الوجود والذي يراه أهل اليقين وذوو القلوب المبصرة والذي قد كان يراه الجهلة الكفار الأغبياء لولا ما ضرب الشيطان (حب الذات) على قلوبهم وأبصارهم ويعجبني جداً ما قاله الحكيم الإنكليزي وليم هازلت في هذا الموضوع
من فضل التربية الأدبية إنها تلطف الحسن وتهذب الذوق وتفسح مدى النظر وتبعد مسافة الرأي وتعود النفس أن تعني من شؤن الخلق وأحوال العالم بمثل ما تعنى به من شؤنها وأحوالها وأن تحب الفضيلة لذات الفضيلة وأن تؤثر المجد على الحياة والشرف على الغنى ومن فضل التربية الأدبية أنها تبعث أفكارنا إلى ما بعد عن مدارك البشر من معاني الجمال ونأى عن مشاعر الخلق من آيات الشرف والجلال فتعقد الصلة بين نفوسنا وبين أسرار الأبد وتمزج أرواحنا بروح الله ومن فضلها أن تنزع الجبن من قلوبنا وتسل من أفئدتنا مهابة الملوك والجبابرة فتعتق رقابنا من رق الخضوع للسلطة الظالمة والألقاب الكاذبة.
نعم إن بالنفس الإنسانية مهما كانت نزعة إلى الجمال أينما كان وحنينا إلى أن ترى عيشاً نعم مما يكون عادة في هذه الدنيا وحياة ألذ وسنة أعدل ونظاماً أكمل والإنسان لا يزال يتمنى الأماني العذبة ويحلم الأحلام المعسولة ثم لا يجد إلا حقائق مرة ونتائج سيئة وأحوالاً(1/7)
كريهة فيصبح لذلك من نفسه في سجن وظلمة وفي كرب وغمة فمن له بمنقذ من ذلك الحبس والوحشة وكاشف لذلك الضيق والغصة ومن له بمن ينقل ذهنه إلى عالم مصور من اللذة والنعيم والصفاء والرخاء لا سنة فيه إلا العدل والإنصاف تثاب الفضيلة فيه أحسن الثواب ويحل بالرذيلة أنكل العقاب من للإنسان بذلك إلا القصصي والشاعر ألا ترى الطفل إذا فرغ من آفات النهار ومكارهه زحف في العشاء إلى أمه أو أبيه أو جديه يسألها حكاية أو قصة ثم يراها مهما حقرت مملوءة باللذائذ والرجل يأتيك يستعير منك رواية يقرأها أعني يستعير منك بضع ساعات يتحول أثناءها شاعراً يصور الأمور والأحوال كما ينبغي أن تكون لا كما هي كائنة أو ما ترى الرعاع والغوغاء يذهبون أفواجاً أفواجاً ليسمعوا من المحدثين أقاصيص عنترة وأبي زيد وكيف يذوبون رقة وصبابة عند أحاديث الحب والغرام وتغرورق عيونهم عند ذكر الأشجان وسماع المراثي وتحمى الدماء في عروقهم عند الحماسيات والمفاخر ألا ترى الموسيقى الذي هو شعر الأفئدة لا يصدح بمكان حتى يعود كعبة القصاد ومنهل الوراد فبربك أيها العود ماذا تقول وبماذا تحدث القلوب حتى تنصاع إليك هذا الانصياع وتسرع نحوك هذا الإسراع وبربك أيها الصوت الرخيم من أين جئت حتى كان لك من اللذة في الروح مالم يك لشيء غيرك فلا شيء في هذه الدنيا كلذتك إنما تلك لذة قدسية تصف لنا نعيم الجنة.
ولقد سمي أدباء العرب أمتع الشر وألذه المرقص وما عدوا في ذلك عين الصواب فإن الشعر الجميل ضرب من النغم لا يكتفي بأرقاص الأعضاء حتى يرقص أجزاء النفس بعد إذ هي جامدة فتنطلق انطلاقاً لا تعود قط بعده إلى حالها الأولى من الجمود وما من إنسان إلا وفي طبعه ميل إلى عالم الجمال واللذة أعني إلى عالم الشعر والقصص وهذا الميل يشتد في ذوي الأمزجة الحارة حتى يكون غليلاً فأما أن يروي من مناهل الرواية والنظم وإلا نزع بصاحبه إلى مواطن الإثم والجريمة أو طوح به في مهواة الجنون وهذه حقيقة لا نعلم كيف يقف أمامها الماديون القائلون بأن الشعر والأقاصيص ومحدثات الخيال آخذة في الاضمحلال مشفية على الانقراض: رأي فائل ومذهب باطل لا نرى في تفنيده أبلغ من الكلمة الآتية لفيكتور هوجو وبها نختم هذا المقال الذي قد تنفي عظاته ما يحدث طوله من الملال.(1/8)
يزعم الكثيرون ولا سيما سماسرة الأسهم والسياسيون أن الشعر يتلاشى ويضمحل فهذا كقولهم أن جمال العالم يتلاشى ويضمحل وأن الرياض قد خلعت وشي برودها وحلى ورودها وأن الشمس قد أضلت مشرقها بعد أن فقدت رونقها وأنك قد تجوب جنات الأرض فلا يباسمك ثغر إقحوانة ولا يفغمك عبق ريحانة وإن القمر قد قوض خيام نوره بعد أن طوى أطناب شعاعه والبلبل قد وجم بعد طول ترتيله وتسجاعه وإن الليث قد خرست زماجره وقلمت أظافره والنسر قد هيض جناحه وكف طماحه والسحاب قد حبس ودقه وأطفأ برقه وإن البطون قد ضنت بالحسن والمليح وجادت بالسيء والقبيح فلست ترى وجهاً جميلاً أو طرفاً كحيلاً أو خصراً نحيلاً أو خداً أسيلا وإن الرأفة ضاعت فلست ترى باكياً على قبر أو واقفاً بطلل تفر يبكي عهود الأحباب والحبائب ومنايا الأصحاب والأقارب وإن الحنان قد زال فلا أم ترأم ولدها ولا ابنة تجب والدها وإن المروءة قد قضت نحبها وأسلمت الإنسانية رمقها.(1/9)
تاريخ الإسلام
مقدمات
المقدمة الأولى
قدم التاريخ - التاريخ فطرة في الإنسان - ماهو التاريخ - الطريقة المثلى في التاريخ - أركان التاريخ - عطمة التاريخ الإسلامي - واجبات مؤرخ الدين - ما هو التاريخ الإسلامي - طريقتنا في تاريخ الإسلام - ماذا نقصد إليه من تاريخ الإسلام - المصادر التي اعتمدنا عليها في تاريخ الإسلام -
التاريخ علم قديم وجد مع الإنسان وليست أمة في أقصى غايات التوحش إلا عالجت إثبات تاريخها على حين أنها من الجهل بالحساب بحيث لا يمكنها أن تعد خمساً - وقد كتب الأقدمون التاريخ بالخيوط الملونة وبالريش المجعول في شكل صور وبالخرز والصدف وبالحجارة أهراماً وهياكل - ذلك لأن الزنجي والرومي والأصفر والأحمر كلهم يعيش بين أبدين ويخشي إذا ما مات أن يمسح الدهر ذكره ويمحو البلى أثره فلذا تراه يبذل الجهد في إثبات عهده في صحيفة الوقت وعقد طرفي سيرته بالماضي والمستقبل.
ولعل ملكة التاريخ فطرة في الإنسان فكل إنسان مؤرخ ألا ترى أن ذاكرة المرء إنما هي صفحة تاريخ مشحونة بالأخبار والروايات بعضها للأفراح وبعضها للأتراح وشطرها للفوز وشطرها للخيبة فكأن في كل نفس دولة قد سجلت في لوح الحافظة حظوظها من سعد ونحس وحالاتها من بؤس ونعيم وشؤنها السياسية خارجية وداخلية - وهل ينطق أغلب الناس إلا ليقصوا ويحكوا ويلقوا عليك لا ما جادت به قرائحهم بل ما لاقوا وما جربوا وما قاسوا وما كابدوا ثم تصور ماذا يكون لو حيل بين الناس وبين حكاية الحوادث وذكر الأخبار والنوادر إذن لجفت أنهار الحديث ونضبت عيون القول وعاد الكلام خطرات تخطر بين ذوي الألباب من حين إلى حين وتلاشي بتة بين العامة وأشباه العامة وكذلك ترى أن كل أعمالنا تاريخ وكل أقوالنا تاريخ.
وكذلك ترى أن علم التاريخ أي علم معرفة الحوادث الجسام وما أثرت في أحوال البشر من أجل العلوم قدراً وأردها نفعا وهو في عصرنا هذا أجل منه وأرد في سائر العصور لأنه لما كان الأقدمون أقل علماً وفلسفة وأكثر سذاجة وقوة خيال كان التاريخ عندهم مجرد سرد(1/10)
المدهشات واقتصاص الأعاجيب لا يتوخى في ذلك سوى اللذاذة وتفكهة النفس أما الآن فوظيفة التاريخ هو التعليم في قالب حلو شائق وعرفوه بأنه الفلسفة تعلم الناس بالمثال والتجربة في أسلوب جميل وكذلك ترى أن أكبر صفات المؤرخ أن يجمع بين ملكتي الخيال والحكمة أي أن يكون شاعراً وحكيماً معاً حتى يأتي كلامه فلسفة في صورة قصص خلاب يأخذ بمجامع القلب فإن استبدت فيه قوة الخيال خرج قوله خرافة وإن ذهبت به ملكة الفلسفة جاء كلامه نظرية وكلاهما انحراف عن المحجة
ولقد درج المؤرخون قديما وفي الحديث على أن يقصروا كلامهم على الأمراء والقواد وما يكون في قصور الملوك ومواطن الحروب كأن ذلك هو كل ما يوجد في أرض الله الطويلة العريضة وكأن ليس في العالم إلا القواد والملوك وإلا حفلات القصر الملوكي ودسائس البلاط وإلا صليل السيوف وصهيل الخيل وقعقعة المدافع وإراقة الدماء وغاب عنهم أن بعيداً عن هذه المواطن يتدفق نهر الفكر وبحر الإنسانية الطامي في مجراه العجيب طوراً في ظلمة وتارة في ضياء وانتصر الجيش أو انهزم ونجحت المكيدة أو خابت كل ذلك عنده سواء وأن هنالك عالما من الإنسانية يزهر وينضر ويثمر في شمس السعادة والرخاء أو يصوح ويذبل ويموت في ظلمة البؤس والشقاء فمن اللائق بالمؤرخ النافع ولا سيما في هذه الأجيال أن ينصرف عن وصف الأفراد ونعت ماكان من الحوادث ليس له الأثر العظيم في تعديل هيئة المجتمع وتحوير حاله - إلى وصف المجتمع نفسه وتحليل أجزائه وفحص مكينته حتى يصبح القارئ منه كالذي ينظر إلى دخيلة مكينة ساعته لا كالذي يظل من ذلك على جهل ويكتفي بسماع الدقات.
والحق أقول أن من دقق النظر وجد أن أجهر الحوادث التاريخية صوتاً وأعظمها جلبة ليس في الحقيقة شيأ وإنما أخطر الحوادث وأشرفها ما وقع في سكينة وصمت فإن الشجرة العظيمة تحطم فتدوي لهول مصرعها أنحاء الغابة وتبذر كف النسيم ألف حبة فلا تحس لذلك أدنى حركة وكذلك الحروب والوقائع وضجيج الفوارس وقعقعة السيوف تصم الآذان ساعة كونها وتدير كأس الفوح فريق وقدح الغم على آخر ثم لا تلبث أن تزول كأنها لم تكن فهي كالأعراس والمآتم.
* سحائب صيف عن قليل تقشع *(1/11)
وبعد فعلى المؤرخ إذا أراد أن يكتب تاريخاً نافعاً أن يطرقه من جميع أبوابه ويتسرب إليه من سائر وجوهه وهي (1) الوجه السياسي وهو ذكر إدارة الحكومات وعلاقاتها من حروب ومعاهدات و (2) الوجه الديني وهو أهمها من حيث أنه يهمنا من صلاح سريرة الإنسان وطهارة نفسه أكثر مما يهمنا من صلاح جسمه وصحة علانيته لأن الأصح جسماً لا يعدو كونه الأشد قوة وأمناً والأمن والقوة وحدهما ليسا من الخير المحض والسعادة الصريحة في شيء إنما الخير المحض في التقى والإيمان وكذلك كان الأمر الأهم للإنسان هو العقيدة التي يراها ما يرجى أن يبلغ من مراتب الفضل في الدين لا مذهبه السياسي ومبدأه الحكومي وعلى المؤرخ الديني إذا أراد أن يبلغ الغاية أن يعدل بنظره عن مصطلحات الملل والنحل وظواهرها إلى أعماق سرائر الناس يستشفها من وراء أعمالهم وأقوالهم فيعلم في ارتقاءهم أم في هبوط وانحطاط و (3) الوجه الفلسفي وهو آراء الإنسان ونظرياته في ماهية خلقه وخلُقه وفي صلته بالكون الظاهر والخفي - وهذا النوع من التاريخ إذا صلح فرع من التاريخ الديني لأن الدين والعبادة جسم يجب أن تكون روحه الفلسفة وقدماً كان الفيلسوف والكاهن رجلاً واحداً: ولكن الفلسفة قد انحرفت عن هذا الطريق وما كان بين المؤرخين من عمل على تقريب المسافة بين المذهبين حتى أصبحت عبادة آيات الله (الدين) وفحص آيات الله الفحص العلماني (الفلسفة) يسيران في منهجين متباينين و (4) الوجه الأدبي والشعري وهو تأثر الإنسان ببدائع صنع الله من حيوان ونبات وجماد وكيف يتغير هذا التأثر بتغير الزمان والمكان وكيف أثر في النفوس والطباع رقة وتهذيباً وتثقيفاً وتنويراً وما حدث عنه من التطورات والانقلابات والثورات وكيف أن وجود الشعر والأدب وغيرهما من الفنون الجميلة في أمة ما كان يهذبها ويرفعها ويقربها درجات من الله ومن عيشة الملائكة وإن عدم وجوده كان يضع الأمة ويتركها تدب كالحشرات على مساحف الجهل في هواء ملم قفر من النغم والألحان: ويلي ذلك الوجه التشريعي وهو ما يبحث في وضع القوانين والشرائح وهيئات الحكومات ثم الوجه الطبي والرياضي والفلكي والتجاري والصناعي - هذه هي أركان التاريخ الصحيح التي يجب على من يتعرض لتاريخ أمة من الأمم أن يوفيها حقها من البحث والتحليل وإلا فليس هناك تاريخ وإنما هي أرقام وتقويم أيام.(1/12)
نعم وإذا كانت الأمم تتفاوت في الأولوية بهذا الواجب فأولى الأمم بذلك وأجدر هي تلك الأمة الحافل تاريخها بالعبر والعظات والأعاجيب والمدهشات تلك الأمة التي أسست على أعظم دين نبغ في هذه الأرض وقام للشرائع والعلوم والآداب فيها دولة بل دولات تلك الأمة التي تحسر دون عظمتها الظنون وتفحم بنعتها قرائح الشعراء وتخرس عن العبارة عنها شقاشق الخطباء ويركع أمام هيكل تاريخها المقدس أكبر المؤرخين إعظاماً وإكباراً تلك الأمة بل الأمم الإسلامية التي. . . آه يا رب ماذا أقول لا أقول إلا أني لا أقول فالصمت أبلغ ما يكون في مثل هذا الموقف الرهيب تاريخ الإسلام كله مفارقات ضحك وبكاء ويأس ورجاء وقرب ومنعة وضعة ورفعة وعلم وجهل وحزن وسهل ونعيم ورخاء وبؤس وشقاء وتعاليم صحيحة سماوية في أعلى عليين وتعاليم فاسدة أرضية في أسفل سافلين.
تاريخ الإسلام عظيم - عظيم جداً - وعلى عظمته هذه لم يكتب فيه مؤرخ عظيم وإني يكون ذلك والقائل فيه أما مسلم أي متعصب للإسلام أو غير مسلم أي متعصب عليه وكلاهما لا يمكن أن يكون منصفاً أي عظيماً أي عظيما ويعجبني ما قاله المؤرخ الحكيم ارنست رنان في مقدمة تاريخ السيد المسيح: يجب على الذي يتصدى لتاريخ دين من الأديان أمران (الأول) أن يكون قد آمن به أولاً وإلا فإنه لا يفهم شيئاً من محاسنه ولا يدرك ما فيه من مطمنات النفوس ومرضيات الضمير البشري (الثاني) أن يكون قد صار ممن لا يؤمنون به إيماناً مطلقاً من غير شرط ولا قيد: لأن الإيمان المطلق لا ينطبق على العلم والتاريخ لكونه يوجب التسليم والعلم والتاريخ لا يعرفان تسليما: (وبعد) فلقائل أن يقول ما هو التاريخ الإسلامي وماذا تعني به وماذا عسى أن تقول فيه وماذا تقصد إليه من التعرض له وما هي المصادر الذي ستعتمد عليها فيه - فجواب ذلك ما يأتي
التاريخ الإسلامي هو تاريخ الأمم الإسلامية جميعاً على اختلاف صنوفهم أي تاريخ العرب والفرس والترك والديلم والبربر (المغاربة) والسود والقبط (المصريين) ومن إليهم وذلك يستدعي تاريخ مؤسس هذه النهضة العظيمة السيد الرسول عليه السلام والنظر في حياته الطاهرة وشمائله والربانية وما جاء به من التعاليم السماوية نظرا فلسفياً دقيقاً وذلك يستدعي النظر في حال العرب قبل الإسلام ولاسيما قريش الذين بينهم ظهر الإسلام وسطع(1/13)
نوره وذلك يستدعي النظر في الأديان عامة وأديان العرب خاصة وذلك يستدعي القول في التاريخ وما هو والطريقة المثلى فيه فكان لذلك ما رسمناه لنفسنا أولاً وهو أن جعلنا التاريخ الإسلام ثلاث مقدمات (الأولى) في التاريخ وماهو (الثانية) في الأديان وتاريخها ونظرة فلسفية فيها (الثالثة) في العرب وقريش وصفة مكة وجزيرة العرب ثم كسرنا التاريخ بعد ذلك على كتب وكل كتاب على فصول - أما طريقتنا في التاريخ الإسلامي فهي العمل بما أسلفنا القول فيه من شرح الشؤون السياسية والدينية والأدبية والفلسفية والتشريعية لكل عصر عصر من العصور الإسلامية مع الإشباع والتطويل والتزام خطتي العدل والإنصاف - أما ما نقصد إليه من التعرض لتاريخ الإسلام فاعلم أيها الناظر في كلامنا أن لكل قائل في التاريخ أحد غرضين إما تدوين الحوادث التاريخية كما هي لا لغرض سوى طلب الفن لذاته وأما إصلاح الجمعيات الإنسانية بما يتضمنه التاريخ من العبر والعظات وجميل المثلات حتى يكون الغابر مزدجرا للحاضر وفي الماضي لمن بقي اعتبار أما نحن فغرضنا من القول في التاريخ الإسلامي الأمران معاً أي ذكر حوادث التاريخ الإسلامي كما هي وتوخي الحقيقة فيها جهد الاستطاعة وتذكير الأمم الإسلامية الحاضرة بماضيهم وما فيه من مجد وسودد وتدهور وانحطاط وما في ديننا من آداب عالية هي أرقى ما يصل إليه العقل البشري وما طرأ عليه من التحريف ودخل من التعاليم الفاسدة التي ليست من الحقيقة في شيء - علّ في ذلك تذكرة لمن تذكر وتبصرة للمبصرين - أما المصادر التي سنعتمد عليها في التاريخ الإسلامي فهي مصادر عدة (1) القرآن الكريم (2) الأحاديث الصحيحة (3) كتب الفقه وأصول الفقه (4) كتب السير والتاريخ (5) كتب الأدب كالأغاني واضرابه (6) كتب فلسفية وأخلاقية قديمة وحديثة (7) مقالات ورسائل شتى في موضوعات مختلفة (8) كتب تقويم البلدان (9) الرحلات (10) العقل أي الميزان الذي يوزن به غث القول وسمينه والمجس الذي يجس به صحيح المعنى وعليله.
هذه هي طريقتنا في تاريخ الإسلام وموعدنا لمقدمة الأديان العدد الآتي إن شاء الله(1/14)
الفكاهات والملح
التطفيل
سئل رجل أي الشراب ألذ فقال ما لم تبذل فيه درهما. وكم في الناس مثل هذا الرجل ممن تتنازعه الرغبة من جهة والبخل من جهة وكلم فيهم الفقير الذي تدفعه الشهوة إلى ما في أيدي الغير ثم لا يزعه حياء ولا تردعه عفة.
قال رجل لآخر أراد سفراً إن لكل رفقة كلباً يشركهم في فضلة الزاد فإن استطعت أن لا تكون كلب الرفاق فافعل.
على أني طالما عجبت ورأيت الناس يعجبون للبخيل الشحيح أو المسكين العديم الكسب كيف تراه حسن الجال يروح ويغدو بظاهر كالمرآة مجلو وباطن كالمخلاة مشو وكيف يحتال إلى معاشرة الأغنياء ويتلطف حتى يخلص إلى موائدهم ويفضي إلى عقد أكياسهم فلعلها صناعة دقيقة ومطلب عويص وسر لم يهتد إليه إلا القليلون من ذوي الحذق والذكاء. فكم من أناس حاولوا هذه الغاية فأخفقوا وأناس نجحوا في بادئ أمرهم فاستولوا على عدد عظيم من موائد الأغنياء ثم أدبر أمرهم وذهبت ريحهم فجعلت تلك الموائد تنفلت من أيديهم واحدة واحدة حتى أشفقوا على موائدهم العارية أن تزول وأصبحوا في الفقر وقلة الخير ينوحون على ما كانوا فيه من الكثرة والنعيم.
ولا أعلم في الطفيليين من هو أشد جرأة وأكبر أمنية من الأديب الذي يحسب أن منزلته من الأدب شفيع له عند صاحب المال وأنه يدفع من مجونه وأدبه ثمن ما يتناول من طعام الغني وذهبه بل لقد تبلغ من قحة ذلك الأديب أنه يشفع التسول بالكبرياء والتكفف بالتيه والخيلاء حتى كان له على الأغنياء حقاً يبغيه وديناً يقتضيه يفعل الأديب المتطفل ذلك مع من يستطيع خدعه من المنتسبين إلى الأدب فينزل نفسه منهم منزلة الأستاذ من الطالب ولكن هؤلاء قليلون فأما معظم أهل الترف من أعداء العلم والأدب الذين لا يميزون بين الشعر والشعير ولا يفرقون بين المعارف والمغارف فلا يجرأ المتطفل الأديب أن يبدي لهم حركة تنم إلا عن تأدب وخشوع وتواضع وخضوع.
وصناعة التطفيل فن دقيق كما قدمنا قد ينال جزء منه بالمزاولة ولكن لا ينبغ فيه إلا من خلقه الله طفيلياً بالفطرة وللفن قواعد كثيرة أهمها.(1/15)
أولاً: أن تكون وقاحاً صفيق الوجه. تفاتح الناس الكلام بلا مناسبة ولا تستحي ويعرضون عنك احتقاراً واستنماجا لك فلا تخجل ولا ترعوي
ثانياً: الذلة وذلك أن تكون جباناً مهيناً لا نخوة لك ولا إباء ولا عزة فترضى معاشرة الغنى مع علمك أنه شفيه وله ساعات جهل وبطر ينحط فيها عليك بصنوف الإساآت وضروب الشتائم من غير علة ولا سبب وساعات يريد أن يضحك الحاضرين فلا يجد غيرك هدفاً للضحك وغرضاً للسخرية والطفيلي لا يرى في ذلك باساً ولا عاراً بل يحسب أن ذاك يزيده اتصالاً برب نعمته واستمكانا لمنزلته عنده ويقول لا جرم فإنه يدفع ثمن الضحك والشتم وأراني ساعة يملأ شدقيه ضحكاً أملأ جوفي طعاماً ثالثاً: أن تكون منافقاً متلمقاً. تظل ولا شأن لك إلا حمد كل ما يأتي به رب نعمتك وأبو مثواك حسناً كان أو قبيحاً ثم تجاريه في جميع أمره فتحمد ما يحمد وإن كان مذموماً وتذم ما يذم وإن كان محموداً تنظر بعينيه وتسمع بأذنيه وتذوق بلسانه وتحب بجنانه وتكره بقلبه وتغضب لغضبه وتكون إجابتك ابتسامة بالابتسام وعبوسة بالعبوس وضحكة بالضحك وبكاءة بالبكاء أسرع من رجع صداه وعكس مرآته. وكان أحد المتملقين يقول: إن الرجل الغني ليقول الكلمة الغثة الباردة فاغرب في الضحك وإنما ضحكي بمقدار ما انتظر من العطاء لا بمقدار فكاهة الكلمة. وكان آخر يقول كنت أجلس بين الغنيين فيشتبك بينهما الجدال ويتناضلان بالحجة فلا أزال أميل بالاستحسان إلى هذا تارة وإلى ذاك أخرى فيعجب كل منهما بنفسه ويفتن بحسن قوله ويشغله ما يداخله من الفرح بأصالة رأيه من التمادي في المناظرة ويحمله التيه بذلاقة لسانه. وقوة برهانه. على رحمة مناظره حتى يترك كل منهما المناظرة فيؤول إلى الأمن الوئام والسكينة ما كان يؤذن بالشر والخلاف والخوف. وقال آخر ما خشيت قط شيئاً مثل أن يسألني صاحب الدار عن أمر لا أعرف رأيه فيه فإني أخاف أن أذهب مذهباً لا يراه وفي ذلك من مخالفة أصول التملق ما فيه. ومن أهم صفات المتملق أن لا يكون له مبدأ ولا رأي بل يستعير مبادئ الغنيّ الذي يجالسه مادام في داره فيلبس لكل بيت زياً. ويتلون كل ساعة لوناً كأنه الماء الذي لا شكل له في ذاته وإنما يأخذ شكل ما يحيط به من الوعاء فإذا أبى المتملق إلا أن يكون ذا مبدأ فعليه أن يخلع مبدأه مع حذائه على عتبة كل دار يدخلها فلا يلبسهما إلا ساعة الانصراف.(1/16)
رابعاً: الاشتغال بعلم صناعة الأطعمة فإذا آكل الطفيلي جماعة على خوان أحد الأغنياء جعل همه أن يفرد صنفاً من بين الأصناف فيغري به القوم إغراء خبير واثق مما يقول حتى لا يجرأ أحد على مخالفته وكذلك ينال الطفيلي على الخوان منزلة أشبه بمنزلة رؤساء الأقلام بين عمالهم والمدرسين وسط أطفالهم ويقال عنه هو حاذق بالمشويات كما يقال الشيخ فلان حاذق بالأدبيات وهو أخصائي في التربية والكباب كما يقال فلان أفندي أخصائي في التربية والحساب ويصبح ذوقه ميزاناً للسلطات والمربات ويشهد له عشاق فن المأكل بأنه الفذ المفرد الذي عرف دقائق الفن ووقف على أسرار الصناعة.
وعلم الأطعمة علم صعب المراس بعيد المنال لا تنال دبلومته إلا بعد اثني عشر عاماً من السعي والجد والطلب المشفوع بالإخلاص والاحترام والتفاني - الإخلاص لجانب المعدة. والاحترام لعظمة الخوان وأبهته والتفاني في حب ما يزف عليك من عرائس الألوان وابكار الزجاج التي لم تفض أختامها.
فمن فعل ذلك صار أستاذاً في الفن وآيته أنك لا تسمع له كلاماً إلا في شأن الأكل ولو اطلعت على ذهنه لم تجد له خاطراً يجزي إلا على صدور الأخونة ولا هاجساً يهجس إلا بين الكوانين والحلل ولا فكراً يرسب إلا في قوارير الزيت والخل ولا أملا يعلق إلا بذيل دجاجة أو جناح أوزة وتجده لا كتب له إلا قوائم الأكل ولا يذكر الأمور والحوادث إلا بمواعيد الأكلات وتواريخ الولائم فإذا سئل متى وقع ذاك الأمر جعل يفكر أكان عقب أكلة سمك أم طعمة بقول وهل جرى قبل وليمة ديك أو مأدبة شاة. هذه علائم أستاذ الطفيليين فاعرفها والسلام.
من طريف مايروى في باب التطفيل ما حكي أن طفيلياً بالبصرة مر على قوم وعندهم وليمة فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي فأنكره صاحب المجلس فقالوا له لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك فقال إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها ووضعت الموائد ليؤكل عليها وما وجهت بهدية فأتوقع الدعوة والحشمة قطيعة وطرحها صلة وقد جاء في الأثر صل من قطعك وأعط من حرمك وأنشد:
كل يوم أدور في عرصة الدا - ر أشم القتار شم الذباب
فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخان أو دعوة الأصحاب(1/17)
لم أعرج دون التقحم لا أر - هب طعن أو لكزة البواب
مستهيناً بمن دخلت عليهم ... غير مستأذن ولا هياب
فتراني ألف بالرغم منهم ... كل ما قدموه لف العقاب
(وكان) أشعب الطماع المدني المولود سنة تسع من الهجرة ظريفاً وله نوادر في هذا الباب من أملح ما يكون فمن ذلك أنه وقف مرة إلى رجل يعمل طبقاً فقال له أسألك بالله الا ما زدت في سعته طوقاً أو طوقين فقال له وما معناك في ذلك فقال لعل تهدي إلي فيه شيء (وبينا) قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون حيتاناً إذ استأذن عليهم أشعب فقال أجدهم إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية ويأكل معنا الصغار ففعلوا وأذن له فقالوا له كيف رأيك في الحيتان فقال والله أن لي عليها لحردا شديداً وحنقاً لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان قالوا له فدونك خذ بثأر أبيك فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير ثم وضعه عند أذنه وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس فقال أتدرون ما يقول لي هذا الحوت قالوا لا قال إنه يقول أنه لم يحضر موت أبي ولا أدركه لأن سنه يصغر عن ذلك ولكن قال لي عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت فهي أدركت أباك وأكلته.(1/18)
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية
كان انفصالي عن الإسكندرية للوفود إلى الأندلس بسحرة يوم من أيام سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة عدوليّه لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر لم ترقط عيني مثلها وكان عبد الرحمن فيما بلغني مولعاً بإنشاء السفن والأساطيل فأنشأ هذا المركب الكبير الذي لم يُعمل مثله وسير فيه أمتعة وبضائع إلى بلاد المشرق لتباع هناك ويعتاض عنها فمر بكثير من ثغور البحر الشامي وكان آخر ما مر به الإسكندرية
ولما نزلت هذا المركب رأيت فيه كثيراً من أهل بغداد والموصل والشام ومصر يريدون الوفود إلى الاندلس - وممن عرفت منهم عالم لغوي أديب من أهل بغداد يعرف بأبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون القالي وفقيه مصرأحمد ابن أبي عبد الرحمن القرشي الزهري من ولد عبد الرحمن بن عوف وفقيه مقرئ يسمى أبا الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر التميمي الأنطاكي وتاجر رحلة من أهل الموصل يعرف بابن حوقل وقينة اسمها فضل المدينة - وأصل هذه القينة كما أخبرتني لأحدى بنات هرون الرشيد ونشأت وتعلمت ببغداد ودرجت من هناك إلى المدينة المشرفة فازادت ثم طبقتها في الغناء ثم اشتريت للأمير عبد الرحمن مع صاحبة لها تسمى علم المدينة وصواحب أخرى: وقد عقدت الغربة بيني وبين فضل صحبة - لأن الغريب كما قيل للغريب نسيب - فرأيت منها أديبة ذاكرة حسنة الخط راوية للشعر حلوة الشمائل معسولة الكلام ذلك إلى حذقها في الغناء ولباقتها به مع الظرف الناصع والجمال الرائع فكانت ضنع الله لها سلوتنا في سفرنا وكانت تجلو هموم السفر ومرض البحر بما تنفثه بيننا من حين إلى آخر من سحر الحديث الذي يأخذ بالألباب ويرتفع له حجاب القلوب فهو كما قال أبو حية النميري فيمن يقول:
حديث إذا تخش عيناً كأنه ... إذا ساقطته الشهد أو هو أطيب
لو أنك تستشفى به بعد سكرة ... من الموت كادت سكرة الموت تذهب
ولما أقلعت بنا السفينة من مرسى الإسكندرية تحركت الريح الشرقية نسيماً فاتراً عليلاً ثم غثى البحر ضباب رقيق سكنت له أمواجه فعاد كأنه صرح ممرد من قوارير فبقينا لاعبين(1/19)
على صفحة ماء تخاله العين سبيكة لجين كأنا نجول بين سماأين فكان لذلك منظر قيد النواظر وشرك العقول تجلى لنا فيه جمال الكون وصانعه فكنت ترى السماء صافية الأديم زاهرة النجوم وكوكب الزهرة مقبلاً من ناحية المشرق يحفه الجمال والجلال فلولا التقى لقلت جلت قدرته وترى البحر كأنه مرآة مصقولة تنظر السماء فيها وجهها فكأنما الماء سماء وكأن السماء ماء وترى النوتية مجدين في التجذيف على حال لو هممت بتشبيهها بشيء حسن لاضطرك حسنها إلى رده إليها
مجاذف كالحيّات مدت رؤسها ... على وجل في الماء كي يروى الظما
كما أسرعت عدا أنامل حاسب ... بقبض وبسط يسبق العين والفما
وفيما بين ذلك تسمع فضل المدينة تغني مواليا بغدادية مؤثرة وبين يديها مزهر تقلدته أطرافها.
تميت به البابنا وقلوبنا ... مراراً وتحييهن بعد همود
إذا نطقت صحنا وصاح لنا الصدى ... صياح جنود وجهت لجنود
ظللنا بذاك الديدن اليوم كله ... كأنا من الفردوس تحت خلود
ومضى على ذلك ثلاثة أيام بلياليها كنا من أوقاتها في بلهنية من العيش وغفلة عن أعين الدهر ووصال أخضر ونعمى لا يشوبها بؤس ولا كدر فلما كان اليوم الرابع ولا كان هبت علينا ريح عاصف رمتنا بها الأقدار من حيث لا ندري فأرغى البحر وأزبد وأبرق وأرعد وتلاطمت الأمواج واهتاجت أيما اهتياج وصار بها لعمري مثل الجنون وتراءت في صورها المنون.
وقد فغر الحمام هناك فاه ... وأتلع جيده الأجل المتاح
فانقلب يسرنا عسراً وأدال الله من الحلو مراً وعظم الخطب وعم الكرب ونحن في ذلك قعود كدود على عود وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا وخرست من الفرق ألسنتنا وتوهمنا أنه ليس في الوجود أغوار ولا نجود إلا السماء والماء وذلك السفين ومن في قبر جوفه دفين.
البحر صعب المرام جداً ... لا جعلت حاجتي إليه
أليس ماء ونحن طين ... فما عسى صبرنا عليه
ولبثنا على هذه الحال من ظهر اليوم الرابع إلى سحره وبعد ذلك فترت الحال بعض فتور(1/20)
ثم جاءت ريح رخاء زجت السفينة إلى بر جزيرة أقريطش (كريد) أهنأ تزجية وأخذنا نسير في محاذاتها فما كان إلا كلا ولا حتى وصلنا على مدينة الخندق (كندية) إحدى مدنها ومرافئها العظيمة فارسينا بها ريثما نشتري منها ما يعوزنا من الخبز واللحم والماء والفاكهة.
اقريطش
وهذه الجزيرة من جزر المغرب الكبيرة فيها مدن وقرى كثير يقابلها من بر أفريقية لوبيا وجميع سكانها الآن مسلمون وأميرها يسمي عبد العزيز بن شعيب من ولد أبي حفص البلوطي الأندلسي وذلك فيما علمت أن الحكم بن هشام أمير الأندلس كان قد أمعن صدر ولايته في اللذات فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة مثل يحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك واحد رواة الموطأ عنه وطالوت الفقيه وغيرهما فنقموا عليه وثاروا به وبايعوا بعض قرابته وكانوا بالربض الغربي من قرطبة - محلة متصلة بقصره - فقاتلهم الحكم واستلحمهم وهدم ديارهم ومساجدهم فلحقوا بفاس من أرض العدوة وبالاسكندرية - وبعد أن أقاموا في الإسكندرية حيناً من الدهر تلاحى رجل منهم مع جزار من سوقها فنادوا بالثار واستلحموا كثيرا من أهل البلد وأخرجوا بقيتهم وامتنعوا بها وولوا عليهم أبا حفص عمر بن شعيب البلوطي ويعرف بأبي الفيض من أهل قرية مطروح من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة فقام برياستهم وكان على مصر يومئذ عبد الله بن طاهر من جهة المأمون فزحف إليهم وحصرهم بالإسكندرية فاستأمنوا له فأمنهم وبعثهم إلى هذه الجزيرة (أقريطش) فعمروها وأضاؤها بنور الإسلام وشيدوا بها المعاقل والحصون والمدن العظيمة مثل الخندق التي اشترينا منها خبزنا ولحمنا وبهرنا ما رأينا فيها من حضارة العرب وعز الإسلام ولم يزل أميرها إلى اليوم وهو سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من ولد أبي حفص البلوطي وهو الأمير عبد العزيز بن شعيب أدام الله ملكه وأبعد عنه كيد الأعداء.
ولما أقلعنا عن بر جزيرة أقريطش أسعدت الريح وأصحت السماء ونام عنا البحر وأخذت السفينة تشق اليم شق الجلم وأخذنا في سمت جزيرة صقلية وما زلنا حتى قطعنا سبعمائة ميل في مدى أربعة أيام بلياليها وقار بنا صقلية وسرنا منها أدنى ظلم (قريبين جدا) فأخذت أعيننا أشباحاً كالأعلام تسير على وجه الماء تنضم إلى بعضها تارة وتنصاع أخري(1/21)
فتساءلنا فقيل لنا أن هذا أسطول المعز لدين الله أبي تميم معد العبيدي يغدو ويروح بين صقلية وبين قلورية (كلابره) من بر الأرض الكبيرة (أوروبا) فانتشى من هذا المنظر تاجر مغربي أديب من أهل المهدية نزل معنا من أقريطش بنية الوفود إلى صقلية وأخذت منه هزة الطرب حين رأى أسطول بلده ورفع عقيرته قائلاً لله أبو القاسم محمد الأندلسي شاعر المعز لكأنه يرى ما يرى الآن حين يقول في هذا الأسطول:
أما والجوار المنشآت التي سرت ... لقد ظاهرتها عدة وعديد
قبابٌ كما ترحني القباب على المها ... ولكن من ضمت عليه أسود
ولله مما لا يرون كتائب ... مسومة يجدى بها وجنود
أطال لها أن الملائك خلفها ... كما وقفت خلف الصفوف ردود
وإن الرياح الذاريات كتائب ... وإن النجوم الطالعات سعود
عليها غمامٌ مكفهر صبيره ... له بارقات جمة ورعود
مواخر في طامي العباب كأنه ... لعزمك بأس أو لكفك جود
أناخت به آطامها وسما بها ... بناء على غير العراء مشيد
ولي بأعلى كبكب وهو شاهق ... وليس من الصفاح وهو صلود
من الراسيات الشم لولا انتقالها ... فمنها متان شمخ وريود
من القادحات النار تضرم بالصلى ... فليس لها يوم اللقاء خمود
إذا زفرت غيظاً ترامت بمارج ... كما شب من نار الجحيم وقود
تعانق موج البحر حتى كأنه ... سليط له فيه الذبال عتيد
ترى الماء منه وهو قان خضابه ... كما باشرت ردع الخلوق جلود
فأنفاسهن الحاميات صواعق ... وأفواههن الزافرات حديد
يشب لآل الجاثليق سعيرها ... وما هي عن آل الطرير بعيد
لها شعل فوق الغمام كأنها ... دماء تلاقتها ملاحف سود
وعين المذاكي نحرها غير أنها ... مسومة تحت الفوارس قود
فليس لها إلا الرياح أعنة ... وليس لها الحبال كديد
ترى كل قوداء التليل كما انثنت ... سوالف غيد أعرضت وخدود(1/22)
رحيبة قد الباع وهي نتيجة ... بغير شوى عذراء وهي ولود
تكبر عن نقع يثار كأنها ... موالٍ وحر الصافنات عبيد
لها من شفوف العبقري ملابس ... مفوفة فيها النضار جسيد
كما اشتملت فوق الأرائك خرد ... أو التفعت فوق المنابر صيد
لبوس تكف الموج وهو غطامط ... وتدرأ بأس أليم وهو شديد
فمنها دروع فوقها وجواشن ... ومنها جفانين لها وسرود
وأنا لفي ذلك إذ رأينا قلورية من بر الأرض الكبيرة عن يميننا وبر
جزيرة صقلية عن يسارنا ثم دخلنا المجاز الذي بينهما فرأينا بحراً صعباً ينصب انصباب السيل العرم ويغلي غليان المرجل لشدة انحصاره وانضغاطه فاستمر مركبنا في سيره والريح الجنوبية تسوقه سوقاً عنيفاً فلما شارفنا مدينة مسينى وقد كان الليل مظلماً ربوض النواحي ضربت في وجوهنا ريح انكصتنا على الأعقاب وحالت بين الأبصار والارتقاب وتتابعت علينا عوارض ديم صرنا منها ومن الليل والبحر في ثلاث ظلم وعباب الموج تتوالى صدماته وتظفر الألباب رجفاته فقطعنا هذه الليلة البهماء في مقاساة أهوال تجعل الولدان شيباً ثم تداركنا صنع الله مع السحر ففترت الريح ولأن متن البحر وجاءت ريح رخاء زجت المركب تزجية حسنة إلى مدينة مسينى فأرسينا فيها على مرسى عجيب يأخذ بالألباب وذلك إن أكبر ما يكون من السفن العظام يرسي من الشاطئ بحيث يتناول ما فيها من البر بالأيدي.
وهنا إذ وصلنا إلى مسينى إحدى مدائن جزيرة صقلية يجمل بنا أن نذكر لك عن هذه الجزيرة شيأ تكون به على بينه من أمرها ومن حضارة العرب وعز المسلمين فيها.
صقلية
هي جزيرة في البحر كبيرة على شكل مثلث متساوي الساقين زاويته الحادة من غربي الجزيرة بينها وبين ريو وبلاد قلورية من بر الأرض الكبيرة مجاز مسينى حيث يتراوح البحر بين ستة أميال وعشرة أميال وبين ذنبها الغربي وبين تونس نيف وستون ميلاً وزاويتها الجنوبية تقابل بر طرابلس من أقريقية وبالقرب من زاويتها الشمالية جزيرة صغيرة فيها بركان النار الذي لا يعلم في العالم أشنع منظراً منه وهذا بركان اسم لجبلين(1/23)
أحدهما هذا والثاني في صقلية نفسها في أرض خفيفة التربة كثيرة الكهوف ولا يزال يصعد من ذلك الجبل لهب النار تارة والدخان أخرى ومن هنا كانت كثيرة الزلازل بحيث يكثر تهدم أبنيتها منها.
وقد كانت هذه الجزيرة قبل الفتح خاملة قليلة العمارة وكانت من عمالات الروم وأمرها راجع إلى صاحب قسطنطينية فلما كانت سنة ثنتي عشرة ومائتين جهز لها زيادة الله بن الأغلب وهو يومئذ الوالي على أفريقية من جهة أمير المؤمنين المأمون بن هرون الرشيد أسطولاً عظيماً في تسعمائة فارس وعشرة آلاف راجل واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان ومن أصحاب مالك رضي الله عنه وهو مصنف الأسدية في الفقه على مذهب مالك فذهب إلى الجزيرة وسار إليها من سوسة وافتتحها بالتنقل بعد أن شبت بينه وبين أهلها من الروم معارك كثير لا يتسع لها صدر هذه الرسالة وبقيت الجزيرة بيد بني الأغلب يتناوبها عمالهم إلى أن أدال الله منهم للعبيديين ودانت لعبيد الله المهدي أفريقية وما إليها فأخذوا يبعثون عمالهم عليها إلى أن كانت فتنة أبي يزيد وشغل أبي القاسم القائم والمنصور العبيدي من بعده بأمره.(1/24)
الروايات والقصص
العاشق المخدوع
للقصصي الأشهر وليم مكبيس ثكرى
كان في مدينة بون إحدى مدن ألمانيا يهودي من أولئك الذين يأكلون الربا اسمه موسي لو وكانت له فتاة تدعى الآنسة مينالو ولقد كنت أتيت هذه المدينة لقضاء حاجة لي عام أول أعني بعد مضي خمسة عشر عاماً من حدوث الحوادث التي أنا ذاكرها في هذه القصة فقيل لي أن موسي قد سجن لدعوى إفلاس زورها فعلمت أنه أهل لما نزل به من الجزاء والعقوبة.
لقد كانت الآنسة مينا وايم الله أجمل من وقع عليه نظري وأما وربكن يافتيات النصرانية لا تسخرن من كلمتي هذه ولا تهزأن فما قلت إلا الحق رأيتها أول ما رأيتها جالسة إلى نافذة عطف عليها الكرم حواشي أوراقه العسجدية تلوح من خلالها العناقيد محمرة كأنها كسيت خدود الملاح صبغها الحياء وشوابك العيدان قد لفها التعانق أشكالاً فكأنها صغار الحيّات ملتفة أو كأنها نقوش صناع أبدع من تأليفها ما أبدع وعلى وجهها الحلو الجميل وعلى ثوبها الأبيض الشفاف ألقى الورق دنانير ظله وكانت حاسرة الذراعين على خصرها النحيل نطاق من الحرير الأزرق وكانت تغزل شأن سائر النسوة الألمانيات وفي زاوية الغرفة كانت تجلس أختها إما - امرأة شديدة البأس - لها صوت أشد وأجهر وكانت جالسة إلى البيانو تغني غناء قبيحاً وكنت وافداً إلى بيت أبيها لتحويل صك وقد وقفت أنظر أين باب الخزينة.
قالت الآنسة مينالو وأمالت رأسها في دلال وعلا وجهها احمرار ورفعت إلي نجلاوين تريانك زرقة السماء ثم خفضتهما كأنما أتعبهما رؤية أجنبي مثلي وقالت لنكس سيدي أعني شمالاً.
فوقع لفظها من كبدي موقع الزلال على أنه لفظ عادي لا شأن له ولا سر وما هو بذي لفظ حلو ولا لحن لذيذ وكل ما فيه أن الآنسة أخبرتني أن أذهب شملة إذ رأتني حائراً أتردد ولو أن فتاة غيرها قالت لي لنكس ألف مرة لما كانت محركة مني ساكناً ولكن شفتي منا لدن فاهتا بتلك اللفظة افترتا عن ثغر منضد وضاح ونغمة عذبة رخيمة مما فتنني وبهرني.(1/25)
فقلت في نفسي ايه أيها الفم المليح بل أيها الجرس الحلو. شنف بهذه النغمة الرخيمة مسمعي ما غرد في الأيك عصور! فما أحبها إلى نغمة وما أثلجها لصدري وأنداها على كبدي أقول قلت ذلك في نفسي ولم أقله بلساني لجهلي بالألمانية أولاً ولشدة ارتباكي وهيبتي ثانياً. فلم أزد على أن خجلت واصطكت قدماي ورفعت قلنسوتي وانحنيت بهيئة تدل على الحمق المفرط ثم ملت إلى الباب فاستلمت الحلقة أقلبها.
ثم دخلت فوجدت المسيو موسى والمسيو سليمان في غرفة النقود وسليمان هو ابن موسي وشريكه فقضيت معهما حاجتي فأما كونهما خدعاني وغشاني فهذا من البديهيات. فإنه لا غنى لليهودي المرابي عن الغش أبداً - ولو لم يكن إلا من أجل درهم - أأقول من أجل درهم كلا من أجل دانق - من أجل سحتوت إنه ليغشك أولا في تحويل ورقتك. ثم في أبدال فضتك ذهباً. وأنه وإن أولم لك بعد ذاك وأدبك إلى خوان حافل فإنما يصنع لك ذلك كي يسرق ساعتك أو كيسك وما كان ليرغب عن هذا ولو كنت أباه أو أخاه.
إن موسي وابنه الآن في السجن كما خبروني حينما كنت في مدينة بون عام أول. ولا أكذب الله شد ما خفق قلبي إذ مررت بالبيت الذي فيه رمتني لحاظ منا.
وليقل القائلون ما شاؤا فمذهبي أن المرأة التي كنت تعشقها حيناً ما فمهما صحوت عن حبها وأفقت من غرامها فلن تزال تنزل من حشاك منزلة لا تكون لغيرها. مثل هذه المرأة إذا دخلت علي في مجلس صبغت وجنتي وهاجت صبوتي. فرنوت إليها مرتاحاً. وانجذبت نحوها ملتاحاً هذه المرأة هي التي كنت تهوى وتعشق. وتخب إليها روحك وتعنق. هي هى. وليست هي. هاتان عيناها اللتان كنت تهوى. ولكن أين ذلك النظر الفاتر واللحظ الساحر هذا هو الصوت الذي كنت تحب. ولكن أين المنطق الشهي. وحديث هو الزهر الجني. مثل هذا كمثل غرفة كان بها ليلة عرس وحفلة أنس أشرق بهاؤها. وسطع ضياؤها. وضحكت زهورها ورقت ثغورها. ثم أصبحت فإذا هي قد ذبلت نضرتها. وصوحت زهرتها ونضب ماؤها. وغاض رواؤها. ومثله كمثل دفتر أموال كان فيه من الورق مقدار خمسة آلاف فذهبت تلك الأوراق. والدفتر باق. تراه فتذكر متاعاً مضي. وخيراً تقضي. وكنزاً فنى. وذخراً تولى ثم تأخذك للدفتر المسلوب رقة ورأفة وتعطفك عليه إيما عاطفة. ولا يسعك أن تنظر إليه نظراتك إلى غيره من الدفاتر العادية وكيف وما ينفك(1/26)
تذكر أنه كان زمناً ما قرة عين وعلق مضنة.
وهذا شأني في الحب. إن لي بأوربا في كل واد أثر محبة. وذكرى صبابة. أعني امرأة كان لي معها وقتاً ما شأن من الشؤون. عفت عليه السنون. أو كما شبهت لي دفاتر مالية فارغة بأنحاء أوربا مبثوثة وبأرجائها منثورة وما إن أزال اذهب إليها. وأعوج عليها.
مافي وقوفك ساعة من باس ... تقضي حقوق الأربع الأدراس
فتتمثل لعيني تلك العصور الخالية. والحقب الماضية. وتمثل لعيني عوين الأحباب. قد فترت ألحاظها رقة الشكوى ولين العتاب. ويصافح سمعي صدى تلكم الأصوات العذبة. وانشق شذا تلكم العهود الطيبة. وقال لي المسيو موسي وهو يعد لي الدنانير سيدي إذا كنت ممضياً في بلدنا هذا برهة من الدهر فلا تحرمني وبناتي طلعتك البهية وصحبتك الهنية.
قلت المدينة آية الحسن ومتعة الناظر وإذا كانت الجامعة هنا تشتغل بتأليف تاريخ الدولة الرومانية الشرقية وكنت ممن أولعوا بهذا التاريخ فما أراني إلا مقيماً هنا مدة طويلة
ذلك ما قلته للرجل والله يعلم أنها علة كاذبة ودعوى باطلة. وإنما الحامل لي على الإقامة بالبلد هو جمال الآنسة منا وسحر مقلتيها ولولاهما لبت في بلدة كوبلنز تلك الليلة. وفيها أصلح الله القارئ فندق البريد وهو من أحسن فنادق العالم.
وكان يصحبني إذ ذاك صديق لي من الجند ممراح لعوب عليم بالألمانية وكنا تشاجرنا مرتين في الطريق مرة بمدينة (روتردام) وأخرى ببلدة (كولونيا) فلما حدثت بيننا المشاجرة الثالثة هنا علمت أنها فرصة فعاجلتها بالانتهاز وكلما دنا صابي من الصلح خطوة أبعدت عنه فرسخاً حتى انفرجت مسافة الخلاف وصاح قائلاً: لأذهبن إلى بلدة (مايانس) فأجبته ولأمكثن هنا. ثم عمدت إلى أقرب فندق من بيت اليهودي وصورة ابنته نصب عيني. وبين جفني فاخترت لي مثوى به وقال لي صاحبي الجندي اسكن أين شئت فما أنا بمغادر مثواي بين الجنود وقد صدقت قوله عند ما رأيته في نفر من ضباط الألمان عقد معهم صحبة جديدة يدخن على باب الثكنة.
أما أنا فما كنت قط ممن خصوا بسهولة الجانب وأنس الناحية فابذل الصداقة لكن من لقيت وامنح المودة كل من صادفت وأدع نفسي حمى مباحاً لكل مرتاد. وفؤادي منزلاً حلا لكل من أراد. ولكني كأهل بلادي وعر المرام مخوف الناحية. شامس العطف. شامخ الأنف.(1/27)
سامي الطرف. طامح العنان تياه متكبر مختال في برديه. نظار في عطفيه. فكنت إذا دخلت مجلساً رميت ببصري أقصى القوم نظرة الساخط المختقر. والناقم المستنكر. ثم عزفت عنهم بناظري ترفعاً وكبرياء. وزهوا وخيلاء. وكأن لسان حالي يقول ما هؤلاء الغوغاء السفلة. وأي شأن لهم هنا. بل بأي حق وأية علة يوجدون في هذا العالم! تلك شيمتي. وهي أظهر ما تكون بين الأجانب. والحق يقال إني لا يسعني إلا احتقار الأجانب حقاً كان أم باطلاً. وبسبب هذه الخصلة المحبوبة والخلة المألوفة زهدت في طعام الفندق الذي يتنازعه عدة ويتناوله رهط واعتبرته حطة وسفالة أشبه بالسوقة وأبعد من الأمراء. وجعلت من دأبي وديني أن لا أخاطب سائلا قط بل أحدد في وجه سائلي نظر إصغار واحتقار وكذلك لم يبق إنسان إلا وتركت لي في فؤاده هيبة ومخافة. استبدلت المطعم بمنزلي مما حمل صاحبي الجندي ويلدار على مخاطبته إياي ذات يوم بقوله قبحاً لك وتعسا إذا كان قصدك الصمت فلم لا تستمر تأكل معنا فإنه لطعمتك وأسوغ لجرعتك فأما من يث خوفك كلامنا معك فلعن الله من يخاطبك ولتوقن أنه لن يفاتحك والله أحد مناولو أدى ذلك إلى انتحارك.
قلت ألا دعني آكل ما اشا كما أشاء.
قال فتفعل ما بدا لك وعليك العفاء وهكذا استبددت بمذهبي وانفردت بنفسي.
ثم أردت أن أدرس الألمانية واسترشدت المسيو لو فدلني على أستاذ من معارفه وتبرع لي من ذلك بكاتبه يجالسني كل يوم ساعتين ليصلح من لساني ويقوم لهجتي فأدرك بفضل ذلك صحبة المخارج وحسن المنطق.
وكان ذلك الكاتب - واسمه هرش - فتى بشع الخلقة أبيض الشعر أحمر العينين له شاربان بلون اللهب وحلقان في أذنيه بلون شاربيه. وكان جاحظ العينين بارز الشفتين غليظهما شديد حمرتهما. وما هي إلا برهة قصيرة حتى كثر ترداد الفتى المذكور على غرفتي فلا تكاد تراه إلا خارجاً منها أو داخلاً فيها حاملاً إلى الرسائل من كل صوب وذاهباًَ من عندي بأمثالها إلى كل حدب. وكنت إذا ناديته لم أقل إلا هرش! يا هذا الوغد النكس والكلب الدنس هات حذائي هرش أيها العبد نظف ردائي (أجر أيها الذئب فضع هذا الكتاب في صندوق البريد) إلى ما يماثل ذلك من ألفاظ المدح والتقريظ. وكان الخبيث أطوع إلى من(1/28)
بناني لا يبالي ما أدعوه وبماذا أسبه.
ورغبني فيه أيضاً أنه من لدن حبيبتي (منا). نعم إنه ليس بالحبيب ولكنه من عنده. إنه ليس بالوردة ولكنه يحمل طيبها وشذاها ويهديك أرجها ورياها. وهل ببطحاء ألمانيا وسهلها وقاعها وجبلها وردة أبهى من (منا)؟
أنا لو لم أقصد إلى تهذيب النفوس وأرم إلى تثقيف الطباع ما كنت قائلاً كلمة عن الفتاة (منالو) ولا ذاكر لفظاً عما أتيته من الهفوات في ذلك الصدد وما أحدثته من السقطات. وما كابدته من المنغصات بسبب جهلي وكبريائي. والحق أقول أن للإنكليزي لاسيما في ديار الغربة كبرياء وغطرسة هي أثقل على النفس وأمقت في الحس من جعجعة الفرنسيين وتيههم فالفرنسوي يمشى مرحاً. ويتمايل مرنحاً. ويفاخر في المجالس بحسبه ونسبه. ولا يدع فرصة حتى يصم أذنيك بذكر مآثره وسرد مفاخره. ولكن طنطنة الفرنسوي وجعجعته ليست وأيم الله أشد كراهة وأثقل وقعاً مما يظهر الإنكليزي من عظمة في جمود. وأبهة في جفاء وركود. وغطرسة خرساء. وصمت في كبرياء وغرور في صعر. وغفلة في صور. والإنكليزي يعتقد أن أمر فضله على غيره من الشعوب. وسبقه لسواه من الأمم أمر ظاهر لا يختلف فيه اثنان. فهو لا يحتاج إلى برهان. فيرى من حقه ومن شأنه أن يحتقر الأجنبي أياً كان. وينثر على خلق الله الاحتقار والازدراء أينما كان. مما يجر عليه بغض الناس ومقت العالم ولا غرو فلو أي شعب آخر رمقنا بالعين التي نرمق بها الغير لا بغضناه بغض الغير إيانا.
(وبعد) فلما تركت بلادي إلى القارة الأروبية جعلت أتوهم أني خيرمن مشى على ساق وقدم. وأحسن من طلع عليه شمس ونجم. فإذا دعيت إلى حفلة ادعيت رئاستها أو أتيت حلقة توسطت دائرتها ثم غمرت سائر الأصوات بصوتي وفي المجلس أئمة الفضل وأعلام العلم وجعلت أضحك من أقوالهم وهي عقائل الأقوال. واسخر من حديثهم وإنه السحر الحلال. فلله درى حينذاك من مؤنس مطراب. وفاتن خلاب.
ومن العجب أني وهذه حالتي وتلك أرائي أجلس إلى الفتاة (منا) ساعات متواليات فلا انفك أضجرها بهذياني. وأسئمها بممقوت أقوالي ومرذولها وأسخر بعادات بلادها وأحول أوطانها وما في إلا موضع سخر ومجال هزء أما الفتى (هرش) فكنت أقصده بمعظم تنديدي وأرميه(1/29)
بأكثر سخريتي بحصرة الحسناء (منا) تفكهة لها وترويحاً لنفسها حتى قررت لها أن الفتى لا يصلح إلا لبيع البرتقال والخبز في مركبات السفر.
وكانت الحسناء تقول لي (لله دركم شبان الإنكليز ما أخف أرواحكم وأرق ظرفكم) وكنت أجيبها جواب الأبله المعتوه (إي وربك نحن كما تصفين وأخف أرواحاً من الألمان وأظرف) ثم أقارب بين أجفاني وأصوب نحوها نظرة أحسب أنها ستذيب مهجتها.
أأذكر لك أيها القارئ ماذا كانت عاقبة محاوراتي معها؟ في المحاورة الأولى سألتني الفتاة أما تستطيب ذلك الشاي الذي اسقيك منه وتستلذه؟ ثم ذكرت أنه من واردات الصين وأنه ليس بألمانيا ذرة منه عند ذلك أيقنت أنه لكما تصف ولما كان صباح الغد دخل (هرش) علي باسما يحمل ستة أرطال من الشاي المذكور في صرة وتشرفت بأن دفعت له ثمنها ثلاثة جنيهات إنكليزية على الفور.
فلما زرت القوم بعد ذلك قال لي المسيو موسي لتشربن معي زجاجة من خمرة قبرص قائلاً نها لا توجد إلا عند أخيه المقيم في الاستانة ولم يمض على ذلك أربعة أيام حتى سألني المسيو لو كيف وجدت النبيذ الذي بعثه إلي بناء عن طلبي وهل أريد مقداراً آخر؟ قلت عجباً ماذا تعني وأي نبيذ طلبت منك فأرسلته إليّ ومتى كان ذلك؟ قال أرسلته منذ ثلاثة أيام وهو في خزانتك ثم أقترح أن يبعث إليّ بصنف آخر اسمه (نبيذميدوك) ولم تمض ساعتان بعد ذلك حتى كان في منزلي صندوق من ذاك النبيذ مشفوع بحوالة معنونة باسم جناب الكونت فون فيتسبودل (اسمي) وقد كان في الذي أبدته هذه الأسرة من الولوع بخدمتي ما رد قليلاً من ولوعي بهم وكف بعض الشيء من تهافتي عليهم حتى قالت لي (منا) لما زرتها بعد ذلك وتنهدت آه يا عزيزي هل أسأنا إليك حتى حرمتنا لقاءك.
قلت لها (سآتيك غداً) ثم لحظتني لحظة وأومضت لي إيماضة واغوثاه ويالله - إني أحمق مغرور! وقبلي ما حمق العاشقون واغتروا ومنهم أولو الألباب. وذوو الأحساب. أو لم ينخدع من قبلي قيصر انطانيوس وسامسون وهرقل؟ أقول لما قدمت على دارها من الغد وجدتها بين أوراق الكرم فتبسمت وقامت فمدت إلي يداً بضة وبنانا لدنا. عليها قفاز أصفر هو عندي إلى الآن! وقد كنت ألفت أثناء الطريق عبارة غزل وتشبيب أردت أن أحييها بها وحسبتها آية في الخلابة فلما مثلت أمامها عاقتني الهيبة أن أقول ما كنت هيأت وأصابني(1/30)
العيّ والحصر فما استطعت بعد الجهد إلا قولي لها اليوم حر؟
قالت هنيئاً لك يا مسيو جورج ما بلغت في الألمانية. لقد جريت في مضمارها شأواً وكأن بين فكيك لسان ألماني.
ولكني لأمر ما آثرت أن أسوق الحديث بالافرنسية ودخل علينا أبوها فوجدني أعبث بحاشية قطيفة حمراء وألحاطي عاكفة على وجه ابنته تقطف ورد خديها وهي مطرقة أعارت الأرض مقلتيها السحورين.
في ذلك اليوم لم تبع لي الأسرة من بضائعها شيئاً ثم رآني الغد بينهم والرجل يجتذب أنفاس انبوبته.
قالت الآنسة تنح عنايا أبتاه. فسادة الإنكليز يؤذيهم التبغ. والسيد لا شك يمقته.
فأجاب خادمك المطيع بقوله (بلى قد أدخن أحياناً)
فصاح الرجل قائلاً: هات لجنابه أنبوبة يا قرة عين أبيك
صاحت الآنسة نعم تلك الطويلة التي جاءتنا من تركيا ثم وثبت من مكانها وما لبثت أن عادت تحمل عصا طويلة من العناب مغشاة بنسيج أحمر مطرز بالذهب بإحدى طرفيها فوهة من الكهرمان المرصع بالصدف، وبالآخر أنبوبة مذهبة. ودخلت علينا الفتاة تميل وتترنح كأنها ملك يحمل عوداً من أعواد الجنة.
وقالت لا بد من أن أوقدها للمسيو جورج. الله أكبر. لقد كانت الفتاة تنطق اسمي جورج بنغمة أجارك الله من وقعها في الفؤاد وأثرها في الأحشاء.
وبعد أن أمرت أختها أن تقبس لها ناراً وقفت ما رأيت قط أجمل منها ولا أفتن.
قدم لطيفة ممدودة إلى الأمام ورأس ملقاة إلى الوراء ويد غضة صغيرة ممسكة عصا الأنبوبة بين إبهامها وسبابتها. وشفتان كالعقيقتين تلثمان فوهة العصا وابتسامة كأفتن ما طل دما. وقتل مغرما. وجاءت أختها تقهقه فأشعلت التبغ وإذا بدخان أبيض دقيق الحجم يتصاعد من بين هاتين المرجانتين الباسمتين عن سمطي لآلئ نحو السقف تتضوع له أرجاء الحجرة أرجا ويفغم عبقه الخيلثيم.
وإذ كيت الأنبوبة وقدمت إلي برشاقة وبنظرة كان من أثرهما أني دفعت إلى اليهودي في الحال أربعة عشرة جنيهاً ثمن الأنبوبة. فأما الفوهة التي لثمتها شفتاها فما لبثت أن أخذتها(1/31)
فلففتها في قفازة الفتاة وجعلتهما معاً لصق أحشائي. ولما كان صباح الغد وقد دخل عليّ صديقي الجندي بغتة وجدني مستوياً في فراشي أمامي القفازة الصفراء وفي فمي الفوهة المعهودة الوكها وأمضغها كأنها قطعة من الحلوى في شدق غلام أو حلمة ثدي في فم رضيع.
فوقف وحدق إلي ثم قهقه ضاحكاً وأسرع نحو القفازة وكنت أقرأ في ديوان الشاعر توماس مور: لست ممن ينزع إلى السعر ولكنيوجدت بذلك الديوان قصة تصف حالي: فلما رأيت صديقي يهرول إلى القفازة ثار غضبي وأرسلت (توماس مور) في وجهه فأخطأه بلطف من الله وتناول هو وسادة فرماني بها وكان من حسن حظه أنه لم يلجأ إلا إلى هذا السلاح العديم الأذى لأني كنت في أشد ثوران الغضب حتى لو قد بدا منه أدنى إساءة لأزهقت روحه لتوه وساعته.
علم القارئ إذن أني لم أزهق روح صاحبي ولكني خلفت له لأفعلن به ذلك لو فاه بكلمة في هذا الشأن وكان يعرف أني فعال لما أقول: وكان غير جاهل بحديث علاقتي فأراد أن يجعل أمر غرامي غرضاً لمزحاته الخشنة العسكرية ولكني زجرته.
فقال: لم تصدني عن هذا الباب وما أظنك ستقترن بالفتاة.
قلت: وهبني يا سيدي سأقترن بها.
قال: ماذا تقول! تتزوج ابنة ذاك السوقي الحقير ويحك! إن جنود فرقتي ما زالوا يتهمونك بالجنون فأكذب عنك. فأما وقد قلت ما قلت فقتلني الله إن لم تكن كذلك.
قلت: سيدي من مس كرامة الآنسة (منا) فهو نذل ساقط ومن تناول اسمها الكريم بغير التحميد والتمجيد فهو كذاب أشر:
وبعد محادثة قصيرة مضى ويلدر وتركني للقفاز والأنبوبة
وكان فيما ذكره صديقي (ويلدر) من أمر الاقتران بالفتاة ما أدهشني. أأقترن بابنة إسرائيلي! وأنا جورج فيتزبودل! هذا لا يكون أبداً اللهم إلا أن يكون لها مليون من الذهب وما كان مثل المسيو لو حقارة ليهب ابنته مليوناً ولكني سواء تزوجتها أم لم أتزوجها فقد أبيت إلا التلذذ بحبها والتمتع بهواها وعدم التوقع لما يأتي به الغد قانعاً بلذة اليوم.
ما مضى فات والمؤمل غيب ... ولك الساعة التي أنت فيها(1/32)
وما لبثت إلا هنيهة بعد ذهاب ويلدر حتى جاءني هرش كعادته. فأحببت أن أستطلع منه مقدار ثروة منا وأجعله رسولي إليها.
قلت أي هرش يا أسد اليهود. لعلك أتيتني بعصا الأنبوبة
فأجاب نعم يا سيدي وبسبعة أرطال من التبغ الذي قلت أنك استطبته. إنه من أكرم بضاعة الشام وصفقتك في رابحة.
قلت - وتصنعت الارتياح وعدم الاهتمام - خيراً فعلت أتدري يا هرش أن صغرى بنات المسيو لو المسماة الآنسة حنة فيما أظن -
قال هرش وابتسم ابتسامة دهاء ومكر لا بل منا
قلت ليكن كما تقول منا - أتدري يا هرش أن (منالو) فتاة قتالة العينين خلابة الهوى، أي وربي إنها لكذلك وفوق ذلك
قال هرش أذلك اعتقادك
قلت أجل ذلك اعتقادي. وما كانت قط أجمل منها أمس وهي تشعل لي التبغ. لقد والله تامت لي حينذاك ولاعت فؤادي
قال لشد ما تشرف وطننا بحبك إحدى بناته
قلت أغني أبوها وكم يهب ابنته إذا هي زوجت
قال قليل جداً لا يبلغ مقدار ما تنفق في أسبوع واحد يا سيدي
قلت مهلا مهلاً! إنك ما تزال تتهمني بالغني وأنا بعد رجل فقير. أجل وعريق في الفقر
قال هرش: أنت فقير! ليت لي ابراد عام من أعوامك. إذن لكنت مثريا؟ والله يعلم انه أكثر مني مالاً وثروة ولكنه يكذب
قلت وهل بلغ بك الفقر هذا الحد؟
فأجاب إنه لا يملك درهما وإن المسيو (لو) رجل شحيح وإنه (أعني هرش) ليفعل مهما آمر به ابتغاء شيء من المال
قلت له: هرش. أتحمل مني إلى منا رسالة؟
لم يكن هناك أدنى ما يدعوني إلى اتخاذ الفتى بريداً بيني وبين الغادة إذ كان من أسهل السهل أن أسلم رسائلي إليها يداً بيد. وكيف لا وقد كنت أجالسها الساعات إثر الساعات(1/33)
وكانت الخلوة بها من أقرب الأشياء فما كان أسهل أن أدس لها ورقتي في قفازها أو منديلها. ولكني كنت بمسائل الحب أجهل من طفل واخترت هرش رسولاً لأني رأيت فيما قرأت من الروايات أن الحيل والتدابير ليست من شأن العاشق وما تنبغي له وإنما يقوم بها خادم أو رسول. ولذلك سألت هرش السؤال المتقدم وهو من يحمل الرسالة إلى (منالو)
قال مبتسماً أنا
ولكن الرسالة لم تكتب بعد. وما كتابتها إلا خطب من الخطوب ومحنة من المحن. أأكتبها نثراً أم نظما؟ بل نظماً إنكليزياً إذ أن منا كانت تعرف قليلاً من هذه اللغة. ولكن ليس في الإنكليزية جميعها قافية على روى منا والخطب أكبر في لقبها لو فعلمت أني سأركب الصعب في تأليف الرسالة بالإفرنسية وتم لي ذلك مع العار والفضيحة لأتيانها مملوءة بالأغلاط النحوية مشحونة باللغو والسخف وأخذ هرش الكتاب ورأيت من الحزم أن أرشوه على الصمت والكتمان فاشتريت منه سلسلة ساعة بشعة المنظر أولى بها أن تكون سلسلة مجرم نقدته فيها أربعة جنيهات وكان طالما عرضها علي من قبل فأرفضها وخبرني الفتى أن رسالتي صادفت أيما قبول. ولكن الغادة لم تستطع وقد اجتمعنا مساء أن تفاوضني في شأن الرسالة لحضور أهلها. إلا أني آنست من لين لحظها عطفاً وتودداً بينما كنت أقامر سيدة سمينة (امرأة أخ الفتاة) وأخسر لها الدينار إثر الدينار حتى اقفر جيبي. وفي تلك الليلة باع لي المسيو لو عشرين ثوباً من التيل ليفصل أقمصة ولا ينس القارئ أن المسيو لو يبيع كل شيء ولو أنه شم منى رائحة ميل إلى كيلو متر طوب أو جراب ثعابين أو كفن لوجدته من الغد على باب داري
وأقمت أرسل الرسائل إلى منى أنسخها كتاب صغير نافع عنوانه الغزليات الفرنسوية فادخل علي ما أنسخ من التبديل والتعديل ما يترك العبارة المنسوخة مطابقة لحالي ملائمة لأمري. وطال تردادي إلى دارها وكثر ثمت تمكثي وتريثي. وتمادى هنا لك تلبثي وتشبثي. وما ساءني الآن أكثر من أنها أصبحت لا ترى الأصحبة بعض أقاربها وإذ كن يتكلمن بالألمانية طبعاً لم أجد سبيلاً إلى إمضاء الوقت إلا بالتنهد والنظر والصمت. ومرت الليالي كلها سواء في الشقاء والكرب وما أشبه الليلة بالبارحة. والمسيو لو يبيعني كل أسبوع عشر سلع على الأقل من أطباق وسكاكين وخواتم وشمع وأساور وصابون وحلة(1/34)
حرير مبطنة بفروة للشتاء ومصباح بنصاب من الذهب ومؤلفات شعراء الألمان وختم المصائب بقاموس
ولا يفوتني القول إني لم أستلذ التبغ الذي اشتريته من اليهودي رغماً من قوله أنه أجود أصنافه ورغماً من أني تلقيت دروس شربه من شفتي الحسناء (منا) فاشتريت تبغاً خلافه وضميري يلومني على ما ارتكبت من سوء الظن وقلة الثقة.
الآن انتهيت من قصتي إلى جزئها المحزن وشطرها المشؤوم
جاءني صديقي (ويلدر) ذات يوم صحبة رجل من باعة التبغ يدعى المسيو رور وأذاقني بضاعته فاستطبتها ورأيت من الدهاء والحيلة أن أحمله على استبدال مقدار مما لديه بما لدي من التبغ فأخذت أفخر ببضاعتي ثم دخلت خزنتي وعدت بكمية منها فرماها المسيو رور بنظرة ازدراء وقال عندي من هذا الصنف كميات عظيمة.
قال صاحبي ويلدر وعلى وجهه ابتسامة خبث. لا تقل ذاك في مثل هذا التبغ فقد اشتراه صاحبي من رجل صادق مخلص ومالي شهير.
قال رور بلهجة الساخر هل اشتراه من المسيو لو؟
قلت ما عدوت الحقيقة. وهو مما ورد إليه من أخيه المقيم بالأستانة.
قال رور كلا بل ورد إليه من عندي وكنت بعثت سبعة أرطال منه لابنته لو والمسيو هرش أخذاه منى ذات يوم سعر. . . . . . . . في الرطل وهذا ختمي ثم سل من إصبعه القذرة خاتماً له ذلك النقش المطبوع على صرة التبغ.
قلت وفي صوتي رنة المحزون وفي قلبي كمد الخائب: هل بعثت هذا للآنسة منا.؟
قال نعم: وخدعتني بخلابتها عن جزء من ثمنه كان لك الله يا سيدي. إن الفتاة هي التي تعقد لأبيها مساومات البيع. لأن لها فتنة وسحراً لا طاقة لنا به.
قال ويلدور وهو مسرور بمصيبتي مغتبط ببلائي. وهل تبيع الخمر أيضاً يا مسيو رورو؟
فأجاب الرجل مبتسماً عن أفظع الخبث اليهودي يصنع خمرته بيده. ولكن عندي من نبيذ ميدوك لو يمن عليّ اللورد بطلبه: أرسل إلى سيدي خابيه منه.
فصحت بالرجل اخرج من هنا والتهب في عيني الغضب وطار المسيو رور من حضرتي مذعوراً وضحك ويلدر ضحكة شيطان.(1/35)
وقال أما ترى كيف خدعتك هذه الأسرة؟ فلتعلمن يا أخي أن للقوم سيرة عار وسمعة سوء وما من شاب في المدينة إلا ويحدثك نبأ الأسرة وتاريخها. فأما المسيو لو فساقط القدر لئيم الأصل والفرع وأما ابنته فمصيدة الأحمق وشرك الأبله وإنك يا صاحبي لو تدرك الحقيقة لعلمت أنك هدف مطاعن الناس وغرض أمازيحهم. وكم قبلك وقع الأغرار في تلك الحبالة وختلهم ذلك السراب. وذلك الجندي هيربوك عشق الفتاة وتمادى به الأمر حيناً ثم انجلت عمليته وحدث مثل ذلك للشاب فون تومل ثم تداركه أهله وشغف القائمقام بلتز بالكبرى حتى كاد يطلق امرأته ولم يكن الداء بين جماعة الطلبة بأقل تفشياً منه بين طائفة الجند. وما أبصر اليهودي في فتى من الطلبة مظنة ربح أو مخيلة مغنم إلا استدرجه بحيله وانحط عليه بأساليب مكره ودهائه حتى انكشف أمره عند الجميع وما عنه الشبان قاطبة فلا أحد منهم يقبل على ابنتيه مع مالها من القسامة والوسامة. وإن شئت أن تعرف صدق كلامي فاذهب بنفسك الليلة إلى مرقص جودزبرج تبصر ما أقول لك بعينك فأجبته نعم أنا ذاهب بدعوة من السيدتين ثم انطرحت على المقعد وألححت على أنبوبة التبغ أستثير ضبابها سحابة اليوم وأتململ كالملذوع وقد رسخ في عقيدتي أنه لا بد من أن يكون في كلام ويلدر شيء من الحقيقة. وأقسمت بخالق السموات والأرض لأذبحن كل من لقيت من الجند لسخرهم مني وطعنهم عليّ.
ذهبت تلك الليلة مع السيدتين إلى المرقص بحديقة جودزبرج حيث وجدت الطلبة في القلانس الصغيرة والشعور المسدولة بين جالسين إلى الموائد وراقصين الوالز وهو صنف من الرقص أمقته غاية المقت لأني لست من الرقص في شيء ورأيت كذلك طائفة السلاح في ملابسهم المزرورة وشواربهم الملوية يدورون في المرقص ويجولون كالأبالسة لا رعاهم الله ولا قدس أرواحهم!
وخيل إليّ أني مرموق من جميع العيون إذ ولجت باب الحديقة متأبطاً يمين الآنسة منالو ولعل الغيظ كان بلغ بي منتهاه في تلك اللحظة لأن ويلدر خبرني فيما بعد أن وجهي أزرق من شدة الغضب وكادت عيناي تشتعلان ومن نظر إلي أنذاك أيقن أني لا محالة قاتل من الجند من صادفت.
وكانت منا في حلة شفافة بيضاء كأنما قدت من جلدة الماء. أو قميص الهواء. تريك ذراعها(1/36)
في قفازتها أحسن بياض في سواد. قد أجاع خصرها النطاق وأشبع الأساور ذراعان عبلتان. وكنت جالساً إلى جانبها لا ينطق فمي. ولكن وجهي ينطق ما بين آيات الغضب ويتلو سورة الرعد وقد نسيت في حضرة جمالها الباهر جميع ما ألم بي في الصباح من الظنون والشكوك.
ولم يجئ إلى منا أحد يدعوها لترقص معه وذلك ما كنت أبغي لأني أحد المصابين بداء الغيرة وهو داء لا يكاد يخلو من عاشق - نعم لم يدعها إلى الرقص إنسان إلا هرش وكان قد عاد من السوق حيث كان يشتري لنا سمكاً فإني لأصب في أذن الفتاة شكوى الحب وأسألها الرد على رسائلي وكتبي إذ أقبل هرش على الفتاة فانحنى لها مسلماً فبهمت ونظرت إلى الفتى فنظر إليّ ووضع يداً على ذراعي ورفع إبهام الأخرى إلى شفتيه يأمرني بالصمت ثم اختطف الغادة من جانبي وشرع ينساب بها في زمرة الراقصين.
وكان النذل قد هيأ للحفلة أحسن ثيابه فخرج في أجمل شارة وجعل يدور بها في المرقص كاللولب. ويبدع في فنون الرقص ويغرب حتى استوقف سائر الراقصين فتنحوا جانباً ومثلوا ينظرون منه السرعة ومنها الرشاقة.
أما أنا فمع اعتقادي أن الكلب (هرش) أحط من أن تتسفل إليه غيرتي فقد وددت لو انصببت عليه بالعصا فأرسلته يطوف الرقص على نغمات الموسيقى من شدة الوجع لا من شدة الطرب.
ولكنهما ما لبثا أن عادا وعلى منا أثر الارتباك وحمرة الخجل
والتفت هرش إلى أختها إما وقال ألا ترقصين معي طلقا أيتها السيدة؟ فأجابته وسارا إلى المرقص. فما كان أعظم اندهاشي إذ رأيت الراقصين جميعاً قد تركوا المرقص لهرش وصاحبته! فرقصا طلقا ثم رجعا بحال من الكآبة والأسف. وصدح الموسيقى لرقص الجماعة (نوع من الرقص يأتيه عدد كثير مثنى مثني) فسألت منا أن تقوم إلى المرقص وجعلت تعتذر إلى عن القيام بألف علة فلم أصغ لها وأبيت إلا قيامها. فأذعنت والتفت إلى هرش فقلت سربا لمدام سليمان (لمرأة أخ منا) إلى المرقص. ثم سرنا نحن الأربعة.
وكان بالمرقص لدن أتيناه عشرون نفساً على الأقل يتهيأون للرقص. فتورد وجه منا وعرتها رجفة فحسبت ذاك لما نالها من الفرح لرقصها مع اللورد الإنكليزي وأقبل هرش(1/37)
برفيقته الجسيمة فوقفا إزاءنا وعلمت أنه عار ولا شك على اللورد جورج فيزبودل (أنا) أن يراقص حيواناً مثل هرش ولكنها الضرورة!
فصفق المسيو هرش لرجال الموسيقى أن ابتدؤا وكنت مقبلاً على وجه حبيبتي أغازلها ثم التفت وإذا المرقص قد خلا من كل مخلوق إلا نحن الأربعة.
فدهشت الفتاة وتحول جلنار خدها بهارا وكانت لا محالة ساقطة من قامتها لولا اعتمادها على وقالت دعني أذهب إلى أبي فإني مريضة قلت لها بل لترقصين ثم صوبت قبضتي نحو وجه هرش لأني أنست منه رغبة في الذهاب فاضطر إلى الوقوف واندفعنا نحن الأربعة في الرقص.
وخيل إلي من شدة الخجل والارتباك أن الشوط الأول من الرقص استمر مائة ألف عام وعجبت للفتاة منا كيف لم تخر مغشياً عليها. ولكنها استجمعت قواها دفعة واحدة وقذفت القوم من ألحاظها بجمرات الجحيم وعيدا وتهديداً فلو اطلعت عليها إذ ذاك لرأيت شيطاناً بعد ملاك ولكنه شيطان حلو لذيذ ثم مضت في رقصها مضاء الكوكب الوقاد. أما أنا فتوهمت بادئ بدء أن الهواء مملوء بوجوه مساخرة هازئة وجعلت أسير وملء صدري حنق وغيظ ثم طفئت نار الغضب وهدأ بالي حتى استطعت أن أتصفح وجوه القوم. ولم يك بينهم رجل يفرح بي ويبتهج ولكني سمعت أحدهم يوجه إلى منا لفظة برافو مشفوعة بسخرية. والتفت فعرفت القائل دلني عليه احمرار الخجل. ونظر أحدنا إلى أخيه فكان مجرد التقاء الأعين اتفاقا على المبارزة حتى لم تبق هناك حاجة إلى أدنى مفاوضة في الأمر. وفي هذه اللحظة أي بعد إصراري على مبارزة الجندي هيربوك سكن هياجي وهدأ روعي فشكراً لذلك الجندي الذي لولاه لإصابتي الفالج (النقطة) أثناء الرقص.
والتفت منا إلى نظرة أعتاب وملاطفة وأحسست قدها المعشوق يرتجف على ذراعي إذ أرجع بها نحو أبيها. وقالت أسمعت - أسمعت يا عزيزي هذا الصوت؟ (تعني بالطبع الصوت الذي قال برافو) عند ذلك برح الخفاء ووضح الحق فلم أشك في أن الفتاة تعشقني فهي ترتجف خشية أن تكون قد هممت بركوب أخطار المبارزة. فتلجلج من فرط الطرب والوجد لساني ولم يك إلا بعد جهد المنطق أن أقسمت لها بالله إليه غراء أني ما سمعت شيئاً على حين أني حلفت في ضميري يميناً ضخمة لأمزقن ذاك النحر الذي خرجت منه(1/38)
لفظة برافو فتركت غادتي وعمدت إلى ويلدز فأومأت له نحو الرجل.
قال هذا هيربوك ماذا تريد منه؟
قلت له بحماس وحدة صاحبي! أريد أن أنفذ جنبيه برصاصة. فاذهب إليه فقل ذلك فلما صحت بصاحبي - وقد رأيته يتردد - أما والله إن لم تنفذ للحال كلمتي لأذهبن إلى الوغد فأنزعن أنفه من وجهه أذعن منقاداً ووعدني إمضاء أمري وانقلبت إلى جماعتي.
واقترحت عليهم أن نزور قبل العودة إلى منازلنا قلعة قديمة خربة في ذاك الجوار تشرف على قيعان النهر ذات المياه والأعشاب. فاستلمت ذراع منا وسار اليهودي مع ابنته الأخرى وهرش مع السيدة سليمان. وكانت لحيمة ثقيلة الخطو وكان اليهودي شيخاً ضعيفاً فكان سيرهم لذلك بطيئاً حتى سبقتهم بغادتي سبقاً مبيناً. وعلمت أنها فرصة وأرت انتهازها فجعلت أقول لها أشياء لا تكون إلا من عاشق لحبيبه كقولي لها في أرق لهجة وأعذب لحن قلبي يذوب كلما رآك محزونة ولا جواب فقلت آخذاً في معنى آخر انظري إلى إشراق الليل في سواده إنه يكاد يمثل لي عينيك ولا جواب أيضاً ولعلها كانت في هم مبرح مما جرى تلك الليلة.
فلما تمادى بها السكوت قلت منا! إني أحبك وأراك تعلمين ذلك منذ عهد بعيد كلا يا حبيبتي لا تنزعن يدك من يدي. فإنه إن لم تفاوضني في هذا الشأن شفتاك فقد فاوضتني فيه عيناك وناجاني فؤادك. فكوني زوجة لي إذن! ثم أخذت يدها فأوسعتها تقبيلاً وكنت ولا شك منتقلاً إلى خدها لولا أنها لطمتني أشد لطمة ونفرت مني ثم سقطت من قامتها وطفقت تصيح بأرفع صوتها.
فسمعت صوت اللعين هرش ينادي من ورائنا (منا! منا! منا زوجتي! ثم أقبل يصعد نحونا وألقت الفتاة بنفسها بين ذراعيه صائحة (لورنزو! زوجي أنقذني!).
وأقبل أهلها وصاحت (منا) تسبني والغضب يلتهب في مقلتيها (ويلك يا جبان! يا لقومي لفتاة يهينها وغد لئيم! يا للرجال لوهن النساء من صولة السفلة الجهال!)
عند ذلك صاح هرش (يالك من جبان فاسق. لقد أطلعتني وما استحبيت على حبك الحرام لهذه الشريفة الطاهرة - أطلعتني وأنا عريسها وقرينها. ووقحت حتى جعلت ترسل إليها كتب الصبابة وإن لم يصلها بعد من تلك الكتب لفظة واحدة. وبغيت خداعنا نحن اليهود(1/39)
فبغيت وكان عليك بغيك. فقبحاً لك وويلا! إني لأمقتك وأزدريك!) ثم جعل يمناه نطاقاً للحسناء وساروا جميعاً.
وبقيت كالذي ذهب عقله ثم تراجع إليّ رشدي ولحقتني لوعة وحرقة وذهبت إلى منزلي فبت بليلة السليم: ولما كان الصباح جاءني رسول من قبل هرش له سحنة بائع الثياب البالية يحمل إليّ ظرفاً ففضضته فإذا فيه جميع الرسائل التي كنت بعثت بها إلى (منا) ورسالة من هرش يدعوني فيها إما إلى المبارزة أو إلى الاستغفار من زلتي.
فقلت للرسول أما المعذرة والاستغفار فله ذلك مني متى شاء أن يحضر قلت ذاك وأشرت إلى عصا غليظة بأقصى الغرفة ثم ليسرع إليّ إن كان آتياً فقد أزمعت الرحيل غداً فلما سمع الرسول ذلك سألني ألست أرغب في شراء تبغ جيد أقصر به مسافة زحلتي فإن لديه صنفاً جمع إلى غاية الجودة منتهى الرخص فأشرت إلى الخادم أن يشيعه إلى باب الدار وحمدت الله على ذهابه.
وما زال يجيئني من هرش كل عام رسالتان يسألني فيهما أن أقبل منه على سبيل الهدية إما قصراً فاخراً ببلاد بوهيميا أو أستريا وإما مبلغ مائة ألف جنيه إن كنت أوثر المال وقد رأيت زوجته (منا) عام أول في دار التمثيل مثلقة بالماس والياقوت والشحم واللحم.
فقلت في نفسي. أي منا! اسمني ما شئت واقبحي فعندي الأنبوبة التي ذاقت الشهد من أعذب ثغر في طوائف موسى.
(تمت)(1/40)
شذرات
العاصفة
(نبذة في الوصف من أبلغ ما كتب الكاتبون عربناها عن الإنكليزية) لقد جعل الله ضبط حركات النفس وتدبير شؤون الحياة إلى عاملين قويين - محبة الله ومخافة الإثم والموت. وبينا ترى الكثيرين قد اهتدوا إلى ما أودع الله نواحي الوجود من دواعي العجب والإعجاب والتكبير والتهليل إذا بهم قد أغفلوا أن الله قد جعل كذلك من هائل المناظر ما قصد به إلى إخافة الإنسان وترويعه - لا أريد ذلك الخوف الفجائي الحقير الناشئ من خطب ملم وخطر مشرف بل الخوف الناشئ من تأمل المرء قوى العناصر ثائرة ثوران إتلاف وتدمير يروع مسمعيك بصوت المنون ويلقى في جنانك وحشة البلى. وبذلك يبلغ الرعب من نفوس البشر مبلغاً لا غاية وراءه على حين لا خوف عليهم ولا بأس اللهم إلا رجلا أو اثنين قد يمسهم الضر وقد لا يمسهم فانظر مثلاً إلى عاصفة الصاعقة. ماذا هنالك من تجنيد كتائب السحاب وتعبئة جيوش المزن وحشد جحافل الأنواء وماذا هنالك من سكتة الأشجار قبل هبوب الريح وتهامس الأوراق تتساءل من أين مهبها وأين تضرب؟ وماذا هنالك من دمدمة السحاب في أقصى الأفق وهمهمته قبل أن يسل سيوف نيرانه. وماذا هنالك من تقدم جنازة الدجن في حداد ظلمة اليوم المربد. وماذا هنالك من قعقعاع قبة السماء كأنما تهم أركانها أن تتصدع وهذا رعب لاتقاس مسافته بالدقيقة وإنما روعة تنزل الفؤاد فلا يبرح منه أثرها ومايزال يتردد في المخيلة صداها. ويتمثل في لوح الخاطر خيالها
من ههنا وههنا
الآداب الإنكليزية: منح أحد نبلاء بريطانيا كلية كمبرج عشرين ألف جنيه لتؤسس بها درساً في الآداب الإنكليزية تسميه درس الملك إدوارد السابع: وأنشأؤا في إنكلترا جمعية دخلها الناس في كل البلاد التي يتكلم فيها بالإنكليزية غايتها إشراب القلوب حب الشعر إذ ثبت أن المدينة المادية الحالية لاتحلو إلا إذا احتفظ الناس فيها بالخيال في الحياة.
وكذلك نعتذر إلى قرائنا الأفاضل عن تأخر العدد الثاني من البيان عن موعد (30 رمضان) بأمرين قاما في الطريق أولهما اشتغالنا بكتاب الأبطال الذي نرى في سرعة إنجازه فائدة لا تقل عن أظهار العدد الثاني في إبانه وثانيهما شؤون مطبعية لم نحسب لها حساباً وكانت لنا(1/41)
نعم الدرس علمنا كيف نأخذ حذرنا ونحتاط لأمرنا حتى لا نقع فيما وقعنا فيه ولا نؤخر البيان لحظة من الزمن - على أنناقد عوضنا ذلك على القراء بإظهار العدد الثالث مع أخيه وإن كان لما يجئ موعده فلعل ذلك يكون عذيراً لنا إلى المنصفين إن شاء الله.
حجم البيان وزيادة أبوابه
يعلم قراؤنا الأفاضل أن البيان ظهر أول ما ظهر في 80 صحيفة وفي النية مع ذلك أن نزيد حجمه على مر الأيام كلما رأينا تنشيطاً من القارئين وها نحن أولاء قد زدنا هذين العددين عشر صحائف حيث وقع العددان في مائة وسبعين صحيفة وسنستمر على هذه الزيادة كلما زادنا الأنصار إقبالاً ومسعدة - وكذلك رغب إلينا كثير من القراء أن نزيد أبواب البيان (علي كثرتها) أبواباً أخرى تمس إليها الحاجة فطائفة رغبت أن يكون في البيان أمالي في الأدب تلم ما تبدد في كتب الأدب والتاريخ من سير الشعراء والأدباء. والظرفاء والمغنين والمجان وأخبار العرب المستطرفة واقترحت أخرى أن يكون في البيان أمالي في الدين تقرب للناس أبوابه من الفقه والتفسير والحديث والتوحيد والأخلاق الدينية بأسلوب سهل مقبول وثالثة استحثتنا على أن نعني بنشر المباحث العلمية والفلسفية الحديثة - أما الاقتراحان الأولان فقد وقعا من نفسنا موقعاً حسناً وأجمعنا النية على إدخالهما بين أبواب البيان وقد ابتدأنا في الأمالي الأديبة من هذا العدد وسنبتدي في الأمالي الدينية من العدد التالي وأما الاقتراح الثالث فهو من موضوعات البيان التي أخذ على نفسه العناية بها.(1/42)
العدد 2 - بتاريخ: 23 - 9 - 1911(/)
الأبطال وعبادة البطولة
يعلم قراء البيان أن مما أخذنا على أنفسنا وجعلناه في مقدمة أعمالنا التي اختار الله لنا العمل عليها: أن نعني بنقل أطيب مؤلفات الإفرنج إلى لغتنا العربية حتى يكون هناك مادة غزيرة مؤاتية لهذه اللغة وآدابها وعلومها وحتى لا يحرم أبناؤها أن يجتنوا ثمار قرائح أولئك القوم الذين سبقونا في كل شيء وبلغوا ولاسيما في العلوم والمعارف والآداب مبلغاً لا يكاد يكون بعده مطمع لطامع ولا مطمح لمستزيد
وقد عثر بنا الاختيار أثناء بحثنا عن الأسفار النافعة على كل جليل من أفيد وأمتع وأحكم وأبدع وأبين وأبلغ وأفخم وأنبغ ما كتب الكاتبون وأبان المفصحون ونصح الناصحون - كتاب التقي فيه التاريخ بالفلسفة والأخلاق بل تلاقت فيه العلوم جميعاً وتآخت فبينا ترى كلاماً في سيرة البطل وترجمة حالة إذ تراك تقرأ مبحثا من أجمل وأدق المباحث الفلسفية واذهجم عليك موضوع من أطيب الموضوعات الأخلاقية وإذ مر بك نظرة اجتماعية وطرفة أدبية وما شئت من فصاحة هاشمية وحكمة لقمانية وعلم صحيح وإخلاص صريح.
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد
أما ذلك الكتاب فهو كتاب الأبطال وعنوانه بالإنكليزية هكذا
-
أي الأبطال وعبادة البطولة - وضعه الكاتب الإنكليزي الأكبر والفيلسوف الأشهر توماس كارليل المولود - سنة 1795 والمتوفي سنة 1881 والذي سنفرد لترجمته مقالاً مشبعاً - وموضوع هذا الكتاب الكلام عن عظماء الرجال وسيرهم وسر عظمتهم والدعوة إلى احترامهم والتشنيع على أولئك الذين مرضت قلوبهم وأمعن الخبث في نفوسهم وفت الكفر في أعضادهم فلا يأبهون بعظيم ولا يحفلون ببطل أياً كان وعلى أية حال وجد رسولاً كان أو نبياً أو مصلحاً أو تقياً أو شاعراً أو كاتباً أو ملكاً أو قائداً - وأبطاله الذين كتب عنهم وأفاض في سيرتهم أطيب إفاضة هم سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم و (أودين) معبود أهالي السويد والنرويج وأمم الشمال في القديم ولوثر ونوكس المصلحان الدينيان ودانتى وشا كسبير الشاعران العظيمان والكتاب جونسون وبارنز وجان جاك روسو والقائدان الكبيران نابوليون بونابرت وكرومويل - فكتب في هؤلاء كتابة مشبعة عميقة منصفة لم يسبقه إليها سابق ولا يكاد يلحقه فيها لاحق كتابة لو قرأها قارئ ولم(2/1)
يخرج منها مؤمناً صادقاً ومخلصاً صريحاً وبطلاً عظيماً فلا كتب كاتب ولا قرأ قارئ.
وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية أخونا الكاتب النابغة الضليع محمد السباعي واحتفل في هذه الترجمة إيما احتفال وتأنق أيما تأنق حتى تشابه الأصل والترجمة وتشاكل الأمر.
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وقد طبع هذا الكتاب على نفقة مكتبة البيان ووقع في نيف وأربعمائة صحيفة وهذه فاتحة الكتاب
إنما يضمني وإياكم هذا المقام وتواليه للكلام شيئاً عن عظماء الرجال ومظاهرهم في مسارح الحياة والأشكال التي تشكلوها في تاريخ البشر وآراء الناس فيهم وماذا أحدثوا من الأعمال - للكلام عن الأبطال وعما استقبلهم به أهالي أزمانهم وعما صنعوا هم من جلائل الأمور - ولعل هذا مبحث عويص لا أرانى موفيه حقه - مبحث لعمر الله قصى الغاية يشق على نزع الخواطر مرماه ويقع وراء جهد الأوهام منتهاه وما ظنكم بمبحث هو التاريخ بحذافيره إذ في اعتقادي أن التاريخ العام - تاريخ ما أحدث الإنسان في هذا العالم - إنما هو تاريخ من ظهر في الدنيا من العظماء فهم الأئمة وهم المكيفون للأمور وهم الأسوة والقدوة وهم المبدعون لكل ما وفق إليه أهل الدنيا وكل ما بلغه العالم وكل ما تراه قائماً في هذا الوجود كاملاً متقناً فاعلم أنه نتيجة أفكار أولئك العظماء الذين اصطفاهم الله وأرسلهم إلى الناس ليؤدي كلٌّ ما ناطته به القدرة الالهية من الخير. فروح تاريخ العالم إنما هو تاريخ أولئك الفحول وظني أنه مبحث لن يسعه هذا المقام!
بيد أن من أسباب العزاء أن في ذكرى العظماء كيفما كانت نفعاً وفائدة والرجل العظيم لا يزال بعد موته ينبوع نور يتدفق فليس أحسن من مجاورته شيء - نور يضيء وكان يضيء ظلمات الحياة وليس هو كسراج أشعل ولكنما نجم شبته يد الله بين أشباهه من كواكب الأفق هو كما قلت ينبوع نور يتدفق بالحكمة ومعاني الرجولة والشرف الكبير وهو الذي شعاعه أنس الأرواح وروح النفوس ومتعة الخواطر واليس في ظني أن أحداً منكم يحجم برهة عن ورود تلك المناهل العذبة كيفما كان طريق المورد ويقيني أن نظرة في تواريخ الأبطال الشتي الصنوف الذين أنا آخذ الآن في سرد سيرهم جديرة أن تكون بمثابة نظرة في مخ تاريخ البشر وصميم لبابه. وما أسعدني لو أستطيع في مثل هذا العصر الذي(2/2)
ضعف فيه إجلال الرجل للرجل أن أفهمكم شيئاً من معاني عظمة الأبطال وجلالهم أي من معاني البطولة والبطولة في مذهبي هي العروة المقدسة التي تعقد ما بين الرجل العظيم وبين سائر الناس ما أسعدني لو أتيح لي ذلك ولكني محاول وباذل مجهودي
ولما كان كلامه عن المصطفي عليه الصلاة والسلام من أنصف وأعدل وأفخم وأنبل ما كتب كاتب في هذا الشأن وكان من بين أبواب البيان باب تاريخ الإسلام آثرنا أن نبادر بنشر هذا المبحث الرائع الذي هو في الحقيقة قطب التاريخ الإسلامي ونجتزئ به في هذا العدد عن مبحث الأديان الذي أجلنا نشره إلى العدد الآتي - قال توماس كارليل بعد مقدمة الباب الثاني الذي عقده للكلام عن السيد الرسول عليه السلام.
لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب وإن محمداً خداع مزور وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا خلقهم الله الذي خلقنا أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها وما عليها هذه الملايين الفائتة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج ويصادفان منهم مثل ذلك التصديق والقبول فما الناس إلا بله ومجانين وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة كان الأولى بها أن لا تخلق.
فوا أسفاه ما أسوأ مثل هذا الزعم وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة (وبعد) فعلى من أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات أن لا يصدق شيئاً بتة من أقوال أولئك السفهاء! فلنها نتائج جيل كفر وعصر جحود وإلحاد وهي دليل على خبث القلوب وفساد الضمائر وموت الأرواح في حياة الأبدان ولعل العالم لم يرقط رأياً أكفر من هذا والأم وهل رأيتم قط معشر الإخوان أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً وينشره عجباً والله إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب! فهو إذا لم يكن عليماً بخصائص الجير والجص والتراب وماشا كل ذلك فما ذلك الذي يبنيه ببيت وإنما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد.
نعم وليس جديراً أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرناً يسكنه مائتا مليون من الأنفس ولكنه(2/3)
جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأن لم يغن بالأمس وإن لأعلم أنه على المرء أن يسير في جميع أمره طبق قوانين الطبيعة وإلا أبت أن تجيب طلبته وتعطيه بغيته كذب والله ما يذيعه أولئك الكفار وإن زخرفوه حتي خيلوه حقا وزور وباطل وإن زينوه حتى أوهمو صدقاً ومحنة والله ومصاب أن ينخدع الناس شعوباً وأمماً بهذه الأضاليل وتسود الكذبة وتقود بهاتيك الأباطيل وإنما هو كما ذكرت لكم من قبيل الأوراق المالية المزورة يحتال لها الكذاب حتى يخرجها من كفه الأثيمة ويحيق مصابها بالغير لا به وأي مصاب وأبيكم؟ مصاب كمصاب الثورة الفرنسية وأشباهها من الفتن والمحن تصيح بملء أفواهها هذه الأوراق كاذبة!.
أما الرجل الكبير خاصة فإني أقول عنه يقيناً أنه من المحال أن يكون كاذباً فإني أرى الصدق أساسه وأساس كل ما به من فضل ومحمدة وعندي إنه ما من رجل كبير - ميرابو أو نابليون أو بارنز أو كرمويل - كفء للقيام بعمل ما إلا وكان الصدق والإخلاص وحب الخير أول باعثاته عل محاولة ما يحاول أعنى أنه رجل صادق النية جاد مخلص قبل كل خواص الرجل العظيم كيفما كان لا أريد أخلاص ذلك الرجل الذي لا يبرح يفتخر للناس بإخلاصه كلا فإن هذا حقير جداً وأيم الله هذا إخلاص سطحي وقح وهو في الغالب غرور وفتنة إنما أخلاص الرجل الكبير هو مما لا يستطيع أن يتحدث به صاحبه كلا ولا يشعر به بل لا حسب أنه ربما شعر من نفسه بعدم الإخلاص إذ أين ذاك الذي يستطيع أن يلزم منهج الحق يوماً واحداً نعم إن الرجل الكبير لا يفخر بإخلاصه قط بل هو لا يسأل نفسه أهي مخلصة وبعبارة أخرى أقول أن إخلاصه غير متوقف على إرادته فهو مخلص على الرغم من نفسه سواء أراد أم لم يرد هو يرى الوجود حقيقة كبرى تروعه وتهوله - حقيقة لا يستطيع أن يهرب من جلالها الباهر مهما حاول هكذا خلق الله ذهنه وخلقة ذهنه على هذه الصورة هو أول أسباب عظمته هو يرى الكون مدهشاً ومخيفاً وحقاً كالموت وحقاً كالحياة وهذه الحقيقة لا تفارقه أبداً وإن فارقت معظم الناس فساروا على غير هدى وخبطوا في غياهب الضلال والعماية بل تظل هذه الحقيقة كل لحظة بين جنبيه ونصب عينيه كأنها مكتوبة بحروف من اللهب لا شك فيها ولا ريب ها هي! ها هي! - فاعرفوا هداكم الله أن هذه هي أول صفات العظيم وهذا حده الجوهري وتعريفه وقد توجد هذه في الرجل الصغير(2/4)
فهي جديرة أن توجد في نفس كل إنسان خلقه الله ولكنها من لوازم الرجل العظيم ولا يكون الرجل عظيماً إلا بها.
مثل هذا الرجل هو ما نسميه رجلاً أصلياً صافي الجوهر كريم العنصر - فهو رسول مبعوث من الأبدية المجهولة برسالة إلينا فقد نسميه شاعراً أو نبياً أو الهاً وسواء هذا أو ذاك أو ذلك فقد نعلم أن قوله ليس بمأخوذ من رجل غيره ولكنه صادر من لباب حقائق الأشياء نعم هو يرى باطن كل شيء لا يحجب عنه ذلك باطل الاصطلاحات وكاذب الاعتبارات والعادات والمعتقدات وسخيف الأوهام والأراء وكيف وإن الحقيقة لتسطع لعينه حتى يكاد يعشى لنورها ثم إذا نظرت إلى كلمات العظيم شاعراً كان أو فيلسوفاً أو نبياً أو فارساً أو ملكاً ألا تراها ضرباً من الوحي والرجل العظيم في نظري مخلوق من فؤاد الدنيا وأحشاء الكون فهو من الحقائق الجوهرية للأشياء وقد دل الله على وجوده بعدة آيات أرى أن أحدثها وأجدها هو الرجل العظيم الذي علمه الله العلم والحكمة فوجب علينا أن نصغي إليه قبل كل شيء.
وعلى ذلك فلسنا نعد محمداً هذا قط رجلاً كاذباً متصنعاً يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغية أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان أو غير ذلك من الحقائر والصغائر وما الرسالة التي أداها الأحق صراح وما كلمته إلا صوت صادق صادر من العالم المجهول كلاما محمد بالكاذب ولا الملفق وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع ذلك أمر الله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وهذه حقيقة تدمغ كل باطل وتدحض حجة القوم الكافرين.
وهب لمحمد (عليه السلام) غلطات وهفوات - وأي إنسان لا يخطيء إنما العصمة لله وحده - فإنه ليس في طاقة أية هفوات أو غلطات أن تزرى بتلك الحقيقة الكبرى وهي أنه رجل صادق ونبي مرسل.
وأرانا على العموم نجسم الهفوات ونجعل من الجزئيات حجباً تستر عنا الحقائق الكلية. الهفوات؟ أيحسب الناس أنه يخلو منها إنسان أن أكبر الهفوات عندي أن يحسب المرء أنه برئ من الهفوات ما بال الناس لا يذكرون نبي الله داود؟ ألم يرتكب داود أفظع الجرائم وأشنع الآثام إلا ما أهون أمر الذنوب وأصغر خطر الأغلاط - الجزئيات والقشور - إذا(2/5)
كان لبلبها كريماً وسرهاً حراً شريفاً وكان في التوبة النصوح والندم الصادق ووخز الضمير ولذع الذاكرة أكبر مكفر للسيئات ومطهر لاردان الروح من أدران الشوائب أليست التوبة أكرم أعمال المرء قاطبة وأقدس أفعاله؟ إنما ألام الذنب هو كما قلت حسبان المرء أنه برئ من كل ذنب وكل نفس هذا شأنها فهي في نظري مطلقة من الوفاء والمروءة بعيدة عن التقى والبر والحق أو هي ميتة أو إن تشأ فقل هي نقية نقاء الرمل الجاف الميت وإني أحسب أن سيرة داود وتاريخه كما هو مدون في مزاميره لا صدق آية على ارتقاء المرء في معارج المكرمات وعلى حرب العقل والهوى - حرباً طالما يهزم فيها العقل هزيمة تضعضع جانبه وتتركه لقي مشفياً على الانقراض ولكنها حرب بغير نهاية مشفوعة أبداً بالبكاء والتوبة واسنهاض العزم الصادق الذي لا يبرح يتجدد بعد كل هزيمة يا ويل النفس الإنسانية ما أشد خطبها بين ضعفها وقوة شهواتها! أو ليست حياة الإنسان في هذه الدنيا سلسلة عثرات؟ وهل في استطاعة المرء خلاف ذلك وهل يطيق في ظلمات هذه الحياة إلا الاعتساف والتخبط؟ فما ينهض من عثرة إلا لأخرى وبين هذه وتلك نحيب وعبرات وشهيق وزفرات وإنما الأمر إلهام هو أيظفر على هواه بعد كل هذه المجاهدات وأنا لنصفح عن كثير من الجزئيات مادام اللباب حقاً والصميم صحيحاً وما كانت الجزئيات وحدها لتعرفنا حقيقة إنسان
كانت عرب الجاهلية أمة كريمة تسكن بلاداً كريمة وكأنما خلق الله البلاد وأهلها على تمام وفاق فكان ثمت شبه قريب بين وعورة جبالها ووعورة أسلافهم وبين جفاء منظرها وجفاء طباعهم وكان يلطف من قسوة قلوبهم مزاج من اللين والدماثة كما كان يبسط من عبوس وجوه البلاد رياض خضراء وقيعان ذات امواه واكلاء وكان الأعراببي صامتاً لا يتكلم إلا فيما يعنيه إذ كان يسكن أرضاً قفراً يباباً خرساء تخالها بحراً من الرمل يصطلى جمرة النهار طوله ويكافح بحر وجهه نفحات القر ليله.
رأت رجلا اما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وإما بالعشى فيخصر
ولا أحسب أناساً شأنهم الانفراد وسط البيد والقفار يحادثون ظواهر الطبيعة ويناجون أسرارها إلا أنهم يكونون أذكياء القلوب حداد الخواطر خفاف الحركة ثاقبي النظر وإذا صح أن الفرس هم فرنسويوا المشرق فالعرب لا شك طليانه والحق أقول لقد كان أولئك(2/6)
العرب قوماً أقوياء النفوس كأن أخلاقهم سيول دفاقة لها من شدة حزمهم وقوة إرادتهم أحصن سور وأمنع حاجز وهذه وابيكم أم الفضائل وذروة الشرف الباذخ وق كان أحدهم يضيفه ألد أعدائه فيكرم مثواه وينحر له فإذا أزمع الرحيل خلع عليه وحمله وشيعه ثم هو بعد كل ذلك لا يحجم أن يقاتله متى عادت به إليه الفرص وكان العربي أغلب وقته صامتاً فإذا قال أفصح: ويزعم أن العرب من عنصر اليهود والحقيقة أنهم شاركوا اليهود في مرارة الجد وخالفوهم في حلاوة الشمائل ورقة الظرف وفي ألمعية القريحة وأريحية القلب وكان لهم قبل زمن محمد (عليه السلام) منافسات في الشعر يجرونها بسوق عكاظ في جنوب البلاد حيث كانت تقام أسواق التجارة فإذا انتهت الأسواق تناشد الشعراء القصائد ابتغاء جائزة تجعل للأجواء قريضاً والأحكم قافية فكان الأعراب الجفاة ذووا الطباع الوحشية الوعرة يرتاحون لنغمات القصيد ويجدون لرناتها أي لذة فيتهافتون على المنشد كالفراش ويتهالكون.
وأرى لهؤلاء العرب صفة من صفات الإسرائيليين واضحة فيهم وأحسبها ثمرة الفضائل جميعها والمحامد بحذافيرها إلا وهي التدين فإنهم مذ كانوا ما برحوا شديدي التمسك بدينهم كيفما كان وكانوا يعبدون الكواكب وكثيراً من الكائنات الطبيعية يرونها مظاهر للخالق ودلائل على عظمته فهذا وإن يك خطأ فليس من جميع وجوهه فإن مصنوعات الله ما برحت بوجه ما رموزا له ودلائل عليه ألسنا كما قدمت نعتدها مفخرة للشاعر وفضيلة أن يكون يدرك ما بالكائنات من أسرار الجمال والجلال أو أسرار الجمال الشعري كما اصطلح الناس على تسميته؟ قد كان لهؤلاء العرب عدة أنبياء كلهم أستاذ قبيلته ومرشدها حسبما يقتضيه مبلغ علمه ورأيه ثم أليس لدينا من البراهين الساطعة ما يثبت لنا أي حكمة بليغة ورأي مسدد وأي تقوى وإخلاص قد كان لهؤلاء البدو المفكرين؟ وقد اتفق النقاد أن سفر أيوب أحد أجزاء التوراة كتابنا المقدس قد كتب في بلاد العرب. ورأيي في هذا الكتاب فضلاً عن كل ما كتب عنه أنه من أشرف ماسطر يراع ودونت يد كاتب ولا يكاد المرء يصدق أنه من آثار العبرانيين لما فيه من عمومية الأفكار مع شرفها وسموها - عمومية تخالف التعصب والتحيز وحسب الكتاب شرفاً أن يكون يضرب بعرف في كل نفس ويمت بصلة إلى كل قلب ويكون كالبيت يفضى إليه منتهى السبل وكالأرج الضائع تتنازعه جميع(2/7)
الأنوف والكتاب المذكور هو أول ما جاءنا عن مسألة المسائل - حياة الإنسان وفعل الله به في هذه الدار وقد أتانا بذلك في أنصع بيان وأشد إخلاص وأحسن سهولة وإني لاتبين فيه العين البصيرة والقلب النافذ الفهم الجم الخشوع فهو الحق من حيث جئته والنظر الراسب في قراره كل شيء وصميم كل أمر - مادي وروحاني ألا تذكرون ما جاء فيه من ذكر الفرس الله الذي أودع الرعد حنجرته فهل ترى صهيله إلا قهقهة لرؤية الرماح؟ هذا والله أجود الاستعارة وما أحسب أن في عالم التشبيه كله ما يماثل ذلك أو يقاربه ذلك إلى ما في الكتاب المذكور من آيات الحزن الشريف والتوكل الحسن الجميل وما قرأت فيه قط إلا حسبت قلب الإنسانية يترنم شجى ووجداً ودمع الإنسانية يفيض حرقة وكمدا فيالها من رقة في شدة ورأفة في قوة وما أشبهها إلا بسحر الليلة الصائفة - رقة نسيم في جلال مشهد عظيم وإلا بالكون وكل ما فيه من أنجم وبحار وليل ونهار وما أحسب في جميع التوراة شيئاً يدانيه فضلاً قيمة.
والحجر الأسود كان من أعم معبودات العرب ولا يزال للآن بمكة في البناء المسمى الكعبة وقد ذكر المؤرخ الروماني سيسلا الكعبة فقال إنها كانت في مدته أشرف معابد العالم طرا وأقدمها وذلك قبل الميلاد بخمسين عاماً وقال المؤرخ سلفستاردي ساسي أن الحجر الأسود ربما كان من رجوم السموات فإذا صح ذلك فلا بد من أن إنساناً قد بصر به ساقطاً من الجو! والحجر موجود الآن إلى جانب البئر زمزم والكعبة مبنية فوقهما والبئر تعلمون منظر حيثما كان سار مفرح ينبجس من الحجر الأصم كالحياة من الموت فما بالكم بها إذا كانت تفيض:
بديمومة لا ظل في صحصحانها ... ولا ماء لكن قورها الدهر عوم
ترى الآل فيها يلطم الآل مائجا ... وبارحها المسموم للوجه الطم
أظل إذا كافحتها وكأنني ... بوهاجها دون اللثام ملثم
وقد اشتق لها اسمها زمزم من صوت تفجرها وهديرها والعرب تزعم أنها انحبست تحت أقدام هاجر وإسماعيل فيضاً من الله وشفاء وقد قدسها العرب والحجر الأسود وشادوا عليهما الكعبة منذ آلاف من السنين وما أعجب هذه الكعبة وأعجب شأنها فهي في هذه الآونة قائمة على قواعدها عليها الكسوة السوداء التي يرسلها السلطان كل عام يبلغ ارتفاعها سبعاً(2/8)
وعشرين ذراعاً حولها دائرة مزدوجة من العمد وبها صفوف من المصابيح وبها نقوش وزخارف عجيبة وستوقد تلك المصابيح الليلة لتشرق تحت النجوم المشرقة فنعم أثر الماضي هي ونعم ميراث الغابر هذه كعبة المسلمين ومن أقاصي المشرق إلى أخريات المغرب - من دلهي إلى مراكش تتوجه أبصار العديد المجمهر من عباد الله المصلين شطرها وتهفو قلوبهم نحوها خمس مرات هذا اليوم وكل يوم نعم لهي والله من أجل مراكز المعمورة وأشرف أقطابها.
وإنما من شرف البئر زمزم وقدسية الحجر الأسود ومن حج القبائل إلا ذياك المكان كان منشأ مدينة مكة ولقد كانت هذه المدينة وقتاما ذات بال وشأن وإن كانت الآن قد فقدت كثيراً من أهميتها وموقعها من حيث هي مدينة سيء جداً إذ هي واقعة في بطن من الأرض كثير الرمال وسط هضاب قفرة وتلال مجدبة على مسافة بعيدة من البحر ثم يمتار لها جميع ذخائرها من جهات أخرى حتى الخبز ولكن الذي اضطر إلى إيجاد هذه المدينة هو أن كثيراً من الحجيج كانوا يطلبون المأوى ثم إن أماكن الحج مازالت من قديم الزمان تستدعي التجارة فأول يوم يلتقي فيه الحجيج تلتقي فيه كذلك التجار والباعة والناس متى وجدوا أنفسهم مجتمعين لغرض من الأغراض رأوا أنه لا بأس عليهم إن يقضوا كل ما يعرض لهم من المنافع وإن لم يكن في الحسبان لذلك صارت مكة سوق بلاد العرب بأجمعها والمركز لكل ما كان من التجارة بين الهند وبين الشام ومصر بل وبين إيطاليا وقد بلغ سكانها في حين من الأحيان مائة ألف نسمة بين بائعين ومشترين وموردين لبضائع الشرق والغرب وباعة للمأكولات والغلال وكانت حكومتها ضرباً من الجمهورية الأرسطوقراسية عليها صبغة دينية وذلك أنهم كانوا ينتخبون لها بطريقة غير مهذبة عشرة رجال من قبيلة عظمى فيكون هؤلاء حكام مكة وحراس الكعبة وكانت لقريش في عهد محمد وأسرة محمد من قبيلة قريش وكان سائر الأمة مبدداً في أنحاء تلك الرمال قبائل تفصلها بين الواحدة والأخرى البيد والقفار وعلى كل قبيلة أمير أو أمراء: وربما كان الأمير راعياً أو ناقل أمتعة ويكون في الغالب لصاً وكانت الحرب لا تخمد بين بعض هذه القبائل وبعضها ولم يك يؤلف بينهم حلف علني إلا التقاءهم بالكعبة حيث كان يجمعهم على اختلاف وثنياتهم مذهب واحد. وإلا رابطة الدم واللغة وعلى هذه الطريقة عاش العرب دهوراً طوالاً خاملى(2/9)
الذكر غامضى الشأن - أناساً ذوي مناقب جليلة وصفات كبيرة ينتظرون من حيث لا يشعرن اليوم الذي يشاد فيه بذكرهم ويطير في الآفاق صيتهم ويرتفع إلى عنان السماء صوتهم وما ذلك ببعيد وكأنما كانت وثنياتهم قد وصلت إلى طور الاضمحلال وآذنت بالسقوط وقد حدثت بينهم دواعي اختلاط وفوران وكان قد بلغهم على مدى القرون غوامض أنباء عن أكبر حادثة وقعت على وجه البسيطة - أعني حياة المسيح ووفاته وهي التي أحدثت انقلاباً هائلاً في جميع سكان العالم - فلم تعدم هذه الأنباء تأثيرها من الفوران في أحشاء الأمة العربية.
وكان بين هؤلاء العرب التي تلك حالهم أن ولد محمد (عليه السلام) عام 580 ميلادية وكان من أسرة هاشم من قبيلة قريش وقد مات أبوه عقب مولده ولما بلغ عمره ستة أعوام توفيت أمه - وكان لها شهرة بالجمال والفضل والعقل فقام عليه جده شيخ كان قد ناهز المائة من عمره وكان صالحاً باراً وكان ابنه عبد الله أحب أولاده إليه فأبصرت عينه الهرمة في محمد صورة عبد الله فأحب اليتيم الصغير بملء قلبه وكان يقول ينبغي أن يحسن القيام على ذلك الصبي الجميل الذي قد فاق سائر الأسرة والقبيلة حسناً وفضلاً ولما حضرت الشيخ الوفاة والغلام لم يتجاوز العامين عهد به إلى أبي طالب أكبر أعمامه رأس الأسرة بعده فرباه عمه - وكان رجلاً عاقلاً كما يشهد بذلك كل دليل - على أحسن نظام عربي.
ولما شب محمد وترعرع صار يصحب عمه في أسفار تجارية وما أشبه وفي الثامنة عشرة من عمره نراه فارساً مقاتلاً يتبع عمه في الحروب غير أن أهم أسفاره ربما كان ذاك الذي حدث قبل هذا التاريخ ببضع سنين - رحلة إلى مشارف الشام إذ وجد الفتى نفسه هنالك في عالم جديد إزاء مسألة أجنبية عظيمة الأهمية جداً في نظره - أعني الديانة المسيحية وإني لست أدري ماذا أقول عن ذلك الراهب سرجياس (بَحيرا) الذي يذعم أن أبا طالب ومحمداً سكنا معه في دار ولا ماذا عساه يتعلمه غلام في هذه السن الصغيرة من أي راهب ما فإن محمداً لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشرة ولم يكن يعرف إلا لغته ولا شك أن كثيراً من أحوال الشام ومشاهدها لم يك في نظره إلا خليطاً مشوشاً من أشياء ينكرها ولا يفهمها ولكن الغلام كان له عينان ثاقبتان ولا بد من أن يكون قد انطبع على لوح فؤاده(2/10)
أمور وشؤون فأقامت في ثنايا ضميره ولو غير مفهومة ريثما ينضجها له كر الغداة ومر العشى ونحلها له يد الزمن يوماً ما فتخرج منها آراء وعقائد ونظرات نافذات فلعل هذه الرحل الشامية كانت لمحمد أوائل خير كثير وفوائد جمة.
ثم لا ننسى شيئاً آخر وهو أنه لم يتلق دروساً على أستاذ أبداً وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمداً لم يكن يعرف الخط والقراءة وكل ما تعلم هو عيشة الصحراء وأحوالها وكل ما وفق إلى معرفته هو ما أمكنه أن يشاهد بعينيه ويتلقى بفؤاده من هذا الكون العديم النهاية وعجيب وأيم الله أمية محمد نعم إنه لم يعرف من العالم ولا من علومه إلا ما تيسر له أن يبصره بنفسه أو يصل إلى سمعه في ظلمات صحراء العرب ولم يضره ولم يزر به أنه لم يعرف علوم العالم لا قديمها ولا حديثها لأنه كان بنفسه غنياً عن كل ذلك ولم يقتبس محمد من نور أي إنسان آخر ولم يغترف من مناهل غيره ولم يك في جميع أشباهه من الأنبياء والعظماء - أولئك الذين أشبههم بالمصابيح الهادئة في ظلمات الدهور - من كان بين محمد وبينه أدنى صلة وإنما نشأ وعاش وحده في أحشاء الصحراء ونما هنالك وحده بين الطبيعة وبين أفكاره.
ولوحظ عليه منذ فتائه أنه كان شاباً مفكراً وقد سماه رفقاؤه الأمين - رجل الصدق والوفاء - الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره وقد لا حظوا أن ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة وإني لأعرف عنه أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة لا يتناول غرضاً فيتركه إلا وقد أنار شبهته وكشف ظلمته وإبان حجته واستثار دفينته وهكذا يكون الكلام وإلا فلا وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهم كريماً برا رؤوفاً تقياً فاضلاً حراً - رجلاً شديد الجد مخلصاً وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة جم البشر والطلاقة حميد العشرة حلو الإيناس بل ربما مازح وداعب وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق لأن من الناس من تكون ابتسامته كاذبة ككذب أعماله وأحواله - هؤلاء لا يستطيعون أن يبتسموا وكان محمد جميل الوجه وضي الطلعة حسن القامة زاهي اللون له عينان سوداوان تتلألآن وإني لأحب في جبينه ذلك العرق الذي كان ينتفخ ويسود في حال غضبه (كالعرق المقوس الوارد في قصة القفازة الحمراء لوالترسكوت) وكان هذا العرق(2/11)
خصيصة في بني هاشم ولكنه كان أبين في محمد وأظهر نعم لقد كان هذا الرجل حاد الطبع ناري المزاج ولكنه كان عادلاً صادق النية كان ذكي اللب شهم الفؤاد.
لو ذعيا كأنما بين جنبي ... هـ مصابيح كل ليل بهيم
ممتلئاً ناراً ونوراً رجلاً عظيماً بفطرته لم تثقفه مدرسة ولا هذبه معلم وهو غني عن ذلك كالشوكة استغنت عن التنقيح فأدى عمله في الحياة وحده في أعماق الصحراء.
وما ألذ وما أوضح قصته مع خديجة وكيف أنه كان أولا يسافر في تجارات لها إلى أسواق الشام وكيف كان ينهج في ذلك أقوم مناهج الحزم والأمانة وكيف جعل شكرها له يزداد وحبها ينمو ولما زوجت منه كانت في الأربعين وكان هو لم يتجاوز الخمسة والعشرين وكان لا يزال عليها مَسحة ملاحة ولقد عاش مع زوجه هذه على أتم وفاق وألفة وصفاء وغبطة يخلص لها الحب وحدها ومما يبطل دعوى القائلين أن محمداً لم يكن صادقاً في رسالته بل كان ملفقاً مزوراً أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة لم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوي مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطة ولما يك إلا بعد إلا بعين أن تحدث برسالة سماوية ومن هذا التاريخ توفيت خديجة نعم لقد كان حتى ذاك الوقت يقنع بالعيش الهادئ الساكن وكان حسبه من الذكر والشهرة حسن آراء الجيران فيه وجميل ظنونهم به ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب إن فار بصدره ذلك البركان الذي كان هاجعاً وثار يريد أمراً جليلاً وشأناً عظيماً.
ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدون أن محمداً لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسلطان كلا وأيم الله لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير - ابن القفار والفلوات المتوقد المقلتين العظيم النفس المملوء رجمة وخيراً وحناناً وبراً وحكمة وحجي وإربة ونهى - أفكار غير الطمع الدنيوي ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه. . وكيف تلك نفس صامتة كبيرة ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين فبينما ترى آخرين يرضون بالاصطلاحات الكاذبة ويسيرون طبق الاعتبارات الباطلة إذ ترى محمداً لم يرض أن يلتفع بمألوف الأكاذيب ويتوشح بمتبع الأباطيل لقد كان منفرداً بنفسه العظيمة وبحقائق الأمور والكائنات لقد كان سر الوجود يسطع لعينيه كما قلت بأهواله ومخاوفه وروانقه ومباهره لم يك هنالك من الأباطيل ما يحجب ذلك عنه فكأن لسان(2/12)
حال ذلك السر الهائل يناجيه ها أنا ذا فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى إلهي مقدس وما كلمة مثل هذا الرجل إلا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة فإذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية وكل القلوب واعية وكل كلام ما عدا ذلك هباء وكل قول جفاء وما زال منذ الأعوام الطوال - منذ أيام رحله وأسفاره يجول بخاطره آلاف من الأفكار: ماذا أنا؟ وما ذلك الشيء العديم النهاية الذي أعيش فيه والذي يسميه الناس كونا؟ وما هي الحياة؟ وما هو الموت؟ وماذا أعتقد؟ وماذا أفعل؟ فهل إجابته عن ذلك صخور جبل حراء أو شماريخ طود الطور أو تلك القفار والفلوات كلا ولا قبة الفلك الدوار واختلاف الليل والنهار ولا النجوم الزاهرة والأنواء الماطرة لم يبه لا هذا ولا ذاك وما للجواب عن ذلك إلا روح الرجل وإلا ما أودع الله فيه من سره!
وهذا ما ينبغي لكل إنسان أن يسأل عنه نفسه فقد أحس ذلك الرجل القفري أن هذه هي كبرى المسائل وأهم الأمور وكل شيء عديم الأهمية في جانبها وكان إذا بحث عن الجواب في فرق اليونان الجدلية أو في روايات اليهود المبهمة أو نظام وثنية العرب الفاسد لم يجده وقد قلت أن أهم خصائص البطل وأول صفاته وآخرها هي أن ينظر من خلال الظواهر إلى البواطن فأما العادات والاستعمالات والاعتبارات والاصطلاحات فينبذها جيدة كانت أو رديئة وكان يقول في نفسه هذه الأوثان التي يعبدها القوم لا بد من أن يكون وراءها ودونها شيء ما هي إلا رمز له وإشارة إليه وإلا فهي باطل وزور وقطع من الخشب لا تضير ولا تنفع وما لهذا الرجل والأصنام وإني تؤثر في مثله أوثان ولو رصعت بالنجوم لا بالذهب ولو عبدها الجحاجح من عدنان والاقيال من حمير أي خير له في هذه ولو عبدها الناس كافة؟ إنه في واد وهم في واد هم يعمهون في ضلالهم وهو ماثل بين يدي الطبيعة قد سطعت لعينيه الحقيقة الهائلة فإما أن يجيبها وإلا فقد حبط سعيه وكان من الخاسرين فلتجبها يا محمد! أجب لا بد من أن توجد الجواب أيزعم الكاذبون إنه الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمداً وأثاره حمق وأيم الله وسخافة وهوس أي فائدة لمثل هذا الرجل في جميع بلاد العرب وفي تاج قيصر وصولجان كسرى وجميع ما بالأرض من تيجان وصوالجة وأين تصير الممالك والتيجان والدول جميعها بعد حين من الدهر؟ أفي مشيخة مكة وقضيب مفضض الطرف أو في ملك كسرى وتاج ذهبي الذؤابة منجاة للمرء ومظفرة؟ كلا إذن(2/13)
فلنضرب صفحاً عن مذهب الجائرين القائل أن محمداً كاذب ونعد موافقتهم عاراً وسبة وسخافة وحمقاً فلنربأ بنفوسنا عنه ولنترفع.
وكان من شأن محمد أن يعتزل الناس شهر رمضان فينقطع إلى السكون والوحدة دأب العرب وعادتهم ونعمت العادة ما أجل وأنفع ولاسيما لرجل كمحمد لقد كان يخلو إلى نفسه فيناجي ضميره صامتاً بين الجبال الصامته متفتحاً صدره لأصوات الكون الغامضة الخفية أجل حبذا تلك عادة ونعمت فلما كان في الأربعين من عمره وقد خلا إلى نفسه في غار بجبل حراء قرب مكة شهر رمضان ليفكر في تلك المسائل الكبرى إذا هو قد خرج إلى خديجة ذات يوم وكان قد استصحبها ذلك العام وأنزلها قريباً من مكان خلوته فقال لها إنه بفضل الله قد استجلى غامض السر واستثار كامن الأمر وإنه قد أنارت الشبهة وانجلى الشك وبرح الخفاء وإن جميع هذه الأصنام محال وليست إلا أخشاباً حقيرة وإن لا اله إلا الله وحده لا شريك له فهو الحق وكل ما خلاه باطل خلقنا ويرزقنا وما نحن وسائر الخلق والكائنات إلا ظل له وستار يحجب النور الأبدي والرونق السرمدي الله أكبر ولله الحمد: ثم الإسلام وهو إن نسلم الأمر لله ونذهن له ونسكن إليه ونتوكل عليه وإن القوة كل القوة هي في الاستنامة لحكمه والخضوع لحكمته والرضا بقسمته أية كانت في هذه الدنيا وفي الآخرة ومهما يصبنا به الله ولو كان الموت الزؤام فلنتلقه بوجه مبسوط ونفس مغتبطة راضية ونعلم أنه الخير وأن لا خير إلا هو ولقد قال شاعر الألمان وأعظم عظمائهم جايتي إذا كان ذلك هو الإسلام فكلنا إذن مسلمون نعم كل من كان فاضلاً شريف الخلق فهو مسلم وقد ما قيل أن منتهى العقل والحكمة ليس في مجرد الإذعان للضرورة - فإن الضرورة تخضع المرء برقم أنفه ولا فضل فيما يأتيه الإنسان مكرها - بل في اليقين بأن الضرورة الأليمة المرة هي خير ما يقع للإنسان وأفضل ما يناله وإن لله في ذلك حكمة تلطف عن الأفهام وتدق عن الأذهان وإنه من الافن والسخف أن يجعل الإنسان من دماغه الضئيل ميزاناً لذلك العالم وأحواله. بل عليه أن يعتقد أن للكون قانوناً عادلاً وإن غاب عن إدراكه. وإن الخير هو أساس الكون والصلاح روح الوجود والنفع لباب الحياة نعم عليه أن يعرف ذلك ويعتقده ويتبعه في سكوت وتقوى.
أقول وما زالت هذه الخطة المثلى والمذهب الأشرف الأطهر: وما زال الرجل مصيباً(2/14)
وظافراً وحراً وكريماً وسائراً على المنهج الأقوم وسالكاً سبيل السعادة ما دام معتصماً بحبل الله متمسكاً بقانون الطبيعة الأكبر الأمكن غير مبال بالقوانين السطحية والظواهر الوقتية وحسابات الربح والخسارة نعم هو ظافر إذا اتبع ذلك القانون الكبير الجوهري - قطب رحى الكون ومحور الدهر - وليس بظافر إذا فعل غير ذلك وحقاً إن أول وسيلة تؤدي إلى اتباع هذا القانون هو الاعتقاد بوجوده ثم بأنه صالح بل لا شيء غيره صالح! وهذا يا إخواني هو روح الإسلام! وهذا هو أيضاً روح النصرانية والإسلام لو تفقهون ضرب من النصرانية والإسلام والنصرانية يأمراننا أن نتوكل على الله قبل كل شيء وأن نفطم النفس عن الشهوات وننهى القلب عن الهوى وإن لا نجمع في عنان المنى وأن نصبر على البث والأسى وأن نعرف أنا لا نعرف شيئاً وأن نرضى من الله كل ما قسم ونعدها يداً بيضاء ونعمة غراء ونقول الحمد لله على كل حال وتبارك الله ذو الجلال والإكرام ونقول إنا بقسمة الله راضون ولو كان ما قسم لنا المنون.
فمن فضائل الإسلام تضحية النفس في سبيل الله وهذا أشرف ما نزل من السماء على نبي الأرض نعم هو نور الله قد سطع في روح ذلك الرجل فأنار ظلماتها هو ضياء باهر كشف تلك الظلمات التي كانت تؤذن بالخسران والهلاك وقد سماه محمد (عليه السلام) وحيا وجبريل وأينا يستطيع أن يحدث له اسماً ألم يجئ في الإنجيل أن وحي الله يهبنا الفهم والإدراك؟ ولا شك أن العلم والنفاذ إلى صميم الأمور وجواهر الأشياء لسر من أغمض الأسرار لا يكاد المنطقيون يلمسون منه إلا قشوره وقد قال نوفاليس أليس الإيمان هو المعجزة الحقة الدالة على الله؟ فشعور محمد إذ اشتعلت روحه بلهيب هذه الحقيقة الساطعة بأن الحقيقة المذكورة هي أهم ما يجب على الناس علمه لم يك إلا أمراً بديهياً وكون الله قد أنعم عليه بكشفها له ونجاه من الهلاك والظلمة وكونه قد أصبح مضطراً إلى إظهارها للعالم أجمع - هذا كله هو معنى كلمة محمد رسول الله وهذا هو الصدق الجلي والحق المبين.
ويخيل إلينا أن الصالحة خديجة أصغت إليه في دهشة وشك ثم آمنت وقالت إي وربي إنه لحق ونتوهم أن محمداً شكر لها ذلك الصنيع ورأى في إيمانها بكلمته المخلصة المقذوفة من بركان صدره جميلاً يفوق كل ما أسدت إليه من قبل فإنه ليس أروح لنفس المرء ولا أثلج لحشاه من أن يجد له شريكاً في اعتقاده ولقد قال نوفاليس ما رأيت شيئاً قط آكدليقيني(2/15)
وأوثق لاعتقادي من انضمام إنسان آخر إلي في رأيي نعم إنه لصنيع أغر ونعمة وفيرة وكذلك ما انفك محمد يذكر خديجة حتى لقي ربه حتى إن عائشة - زوجه الصغيرة المحبوبة تلك التي اشتهرت بين المسلمين بجميع المناقب والفضائل طول حياتها - هذه السيدة البارعة الجمال والفطنة سألته ذات يوم ألست الآن أفضل من خديجة؟ لقد كانت أرملة مسنة فقد ذهب جمالها وأراك تحبني أكثر مما كنت تحبها. فأجاب محمد كلا والله لست أفضل منها وكيف وهي التي آمنت بي والكل كافر ومنكر ولم يك لي في هذا العالم إلا صديق واحد - وهذا الصديق هي وآمن به مولاه زيد (بن حارثة) كذلك وعلي وهؤلاء الثلاثة أول من آمن به.
وجعل يذكر رسالته لهذا ولذاك فما كان يصادف إلا جموداً وسخرية حتى أنه لم يؤمن به في خلال ثلاثة أعوام إلا ثلاثة عشر رجلاً وذلك منتهى البطء وبئس التشجيع ولكنه المنتظر في مثل هذه الحال وبعد هذه السنين الثلاث أدب مأدبة لأربعين من قرابته ثم قام بينهم خطيباً فذكر دعوته وإنه يريد أن يذيعها في سائر أنحاء الكون وإنها المسألة الكبرى بل المسألة الوحيدة فأيهم يمد إليه يده ويأخذ بناصره؟ وبينما القوم صامتون حيرة ودهشة وثب علي وكان غلاماً في السادسة عشرة وكان قد غاظه سكوت الجماعة فصاح في أحد لهجة أنه ذاك النصير والظهير ولا يحتمل أن القوم كانوا منابذين محمداً ومعادينه وكلهم قرابته وفيهم أبو طالب عم محمد وأبو علي ولكن رؤية رجل كهل أمي يعينه غلام في السادسة عشرة يقومان في وجه العالم بأجمعه كانت مما يدعو إلى العجب المضحك فانفض القوم ضاحكين ولكن الأمر لم يك بالمضحك بل كان نهاية في الجد والخطر! أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونتعشقه فإنه فتى شريف القدر كبير النفس يفيض وجدانه رحمة وبراً ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة وكان أشجع من ليث ولكنها شجاعة ممزوجة برقة ولطف ورأفة وحنان جدير بها فرسان الصليب في القرون الوسطى وقد قتل بالكوفة غيلة وإنما جني ذلك على نفسه بشدة عدله حتى حسب كل إنسان عادلاً مثله وقال قبل موته حينما أومر في قاتله أن أعش فالأمر إلي وإن أمت فالأمر لكم فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة وأن تعفوا أقرب إلى التقوى!
وكان في عمل محمد هذا إساءة ولا شك إلى قريش حراس الكعبة وخدمة الأصنام وانضم(2/16)
إليه منهم رجلان أو ثلاثة أولوا بأس ونفوذ وسرى أمر محمد ببطء ولكنه سريان على كل حال وكان عمله بالطبع سيء الوقع لدي كل إنسان حيث جعلوا يقولون من هذا الذي يزعم أنه أعقل منا جميعاً والذي يعنفنا ويرمينا بالحمق وعبادة الخشب! وأشار عليه أبو طالب أن يكتم أمره ويؤمن به وحده وأن يكون له من نفسه ما يشغله عن العالم وأن لا يسخط القوم ويثير غضبهم عليه فيخطر بذلك حياته فأجابه محمد والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته كلا فإن في هذه الحقيقة التي جاء بها لشيئاً من عنصر الطبيعة ذاتها لا تفضله الشمس ولا القمر ولا أي مصنوعات الطبيعة ولابد لتلك الحقيقة من أن تظهر برغم الشمس والقمر ما دام قد أراد أن تظهر وبرغم قريش جميعها وبكره سائر الخلائق والكائنات نعم لا بد من أن تظهر ولا يسعها إلا أن تظهر بذلك أجاب محمد ويقال أنه اغرورقت عيناه اغرورقت عيناه: لقد أحس من عمه البر والشفقة وأدرك وعورة الحال وعلم أنه أمر ليس بالهين اللين ولكنما أمر صعب المراس مر المذاق.
واستمر يؤدي الرسالة إلى كل من أصغى إليه وينشر مذهبه بين الحجيج مدة إقامتهم بمكة ويستميل الاتباع هنا وهنالك وهو يلقى أثناء كل ذلك منابذة ومناوأة ومناصبة بالعداوة ومجاهرة وشرا بادياً وكامنا وكانت قرابته تحميه وتدافع عنه ولكنه عزم هو وأتباعه على الهجرة إلى الحبشة فوقع خبر ذلك العزم من قريش أسوأ موقع وضاعف حنقهم عليه فنصبوا له الأشراك وبثوا الحبائل وأقسموا بالآلهة ليقتلن محمداً بأيديهم وكانت خديجة قد توفيت وتوفى أبو طالب وتعلمون أصلحكم الله أن محمداً ليس بحاجة إلى أن نرثى له ولحاله النكراء إذ ذاك ومقامه الضنك وموقفه الحرج ولكن اعرفوا معي أن حاله إذ ذاك من الشدة والبلاء كما لم ير إنسان قط فلقد كان يختبئ في الكهوف ويفر متنكراً إلى هذا المكان والى ذاك لا مأوى ولا مجير ولا ناصر تتهدده الحتوف وتتوعده الهلكات وتفغر له أفواهها المنايا وكان الأمر يتوقف أحياناً على أدنى صغيرة - كأجفال فرس من أفراس أتباع محمد - فلو حدث ذلك لضاع كل شيء ولكن أمر محمد - ذلك الأمر العظيم - ما كان لينتهي على مثل تلك الحال.
فلما كان العام الثالث عشر من رسالته وقد وجد أعداءه متأليين عليه جميعاً وكانوا أربعين(2/17)
رجلاً كل من قبيلة أتمروا به ليقتلوه وألغى المقام بمكة مستحيلاً هاجر إلى يثرب حيث التف به الأنصار والبلدة تسمى الآن المدينة أي مدينة النبي وهي من مكة على مائتي ميل تقوم وسط صخور وقفار ومن هذه الهجرة يبتديء التاريخ في المشرق والسنة الأولى من الهجرة توافق 622 ميلادية وهي السنة الخامسة والخمسون من عمر محمد فترون أنه كان قد أصبح إذ ذاك شيخاً كبيراً وكان أصحابه يموتون واحداً بعد واحد ويخلون أمامه مسلكاً وعراً وسبيلاً قفراً وخطة نكراء موحشة فإذا هو لم يجد من ذات نفسه مشجعاً ومحركاً ويفجر بعزمه ينبوع أمل بين جنبيه فهيهات أن يجد بارقات الأمل فيما يحدق به من عوابس الخطوب ويحيط به من كالحات المحن والملمات وهكذا شأن كل إنسان في مثل هذه الأحوال وكانت نية محمد حتى الآن أن ينشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة فقط فلما وجد أن القوم الظالمين لم يكتفوا برفض رسالته السماوية وعدم الإصغاء إلى صوت ضميره وصيحة لبه حتى أرادوا أن يسكتوه فلا ينطق بالرسالة - عزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه دفاع رجل ثم دفاع عربي ولسان حاله يقول وأما وقد أبت قريش إلا الحرب فلينظروا أي فتيان هيجاء نحن! وحقاً رأى فإن أولئك القوم أغلقوا آذانهم عن كلمة الحق وشريعة الصدق وأبوا إلا تمادياً في ضلالهم يستبيحون الحريم ويهتكون الحرمات ويسلبون وينهبون ويقتلون النفس التي حرم الله قتلها ويأتون كل إثم ومنكر وقد جاءهم محمد من طريق الرفق والاناة فأبوا إلا عتوا وطغيانا فليجعل الأمر إذن إلى الحسام المهند والوشيج المقوم والى كل مسرودة حصداء وسابحة جرداء! وكذلك قضى محمد بقية عمره وهي عشر سنين أخرى في حرب وجهاد لم يسترح غمضة عين ولا مدر فواق وكانت النتيجة ما تعلمون!
ولقد قيل كثيراً في شأن نشر محمد دينه بالسيف فإذا جعل الناس ذلك دليلاً على كذبه فشد ما أخطأوا وجاروا فهم يقولون ما كان الدين لينتشر لولا السيف ولكن ما هو الذي أوجد السيف؟ هو قوة ذلك الدين وإنه حق والرأي الجديد أول ما ينشأ يكون في رأس رجل واحد فالذي يعتقده هو فرد - فرد ضد العالم أجمع فإذا تناول هذا الفرد سيفاً وقام في وجه الدنيا فقلما والله يضيع وأرى على العموم أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة حسبما تقتضيه الحال أو لم تروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن نستخدم السيف أحياناً وحسبكم ما فعل شارلمان(2/18)
بقبائل السكسون وأنا لا أحفل أكان انتشار الحق بالسيف أم باللسان أم بأية آلة أخرى فلندع الحقائق ننشر سلطانها بالخطابة أو بالصحابة أو بالنار لندعها تكافح وتجاهد بأيديها وأرجلها وظافرها فإنها لن تهزم إلا ما كان يستحق أن يهزم وليس في طاقتها قط أن تفني ما هو خير منها بل ما هو أحط وأدنى فإنها حرب لاحكم فيها إلا الطبيعة ذاتها ونعم الحكم ما أعدل وما أقسط وما كان أعمق جذراً في الحق وأذهب أعراقاً في الطبيعة فذلك هو الذي ترونه بعد الهرج والمرج والضوضاء والجلبة نامياً زاكباً وحده.
أقول الطبيعة أعدل حكم بلى ما أعدل وما أعقل وما أرحم وما أحلم أنك تأخذ حبوب القمح لتجعلها في بطن الأرض وربما كانت هذه الحبوب مخلوطة بقشور وتبن وقمامة وتراب وسائر أصناف الأقذاء ولكن لا بأس عليك من ذلك وألق الحبوب بجميع ما يخالطها من القذى في جوف الأرض العادلة البارة فإنها لا تعطيك إلا قمحاً خالصاً نقياً فأما القذى فإنها تبلعه في سكون وتدفنه ولا تذكر عنه كلمة وما هي إلا برهة حتى ترى القمح زاكياً يهتز كأنه سبائك الذهب الابريز والأرض الكريمة قد طوت كشحاً على الأقذاء واغضت بل أنها حولتها كذلك إلى أشياء نافعة ولم تشك منها شجواً ولا نصباً وهكذا الطبيعة في جميع شؤونها فهي حق لا باطل وهي عظيمة وعادلة ورحيمة حنون وهي لا تشترط في الشيء إلا أن يكون صادق اللباب حر الصميم فإذا كان كذلك حمته وحرسته أو كان غير ذلك لم تحمه ولم تحرسه فترى لكل شيء تحميه الطبيعة روحاً من الحق أليس شأن حبوب القمح هذه والطبيعة هو واأسفاه شأن كل حقيقة كبرى جاءت إلى هذه الدنيا أو تجيء فيما بعد؟ أعني أن الحقيقة مزيج من حق وباطل نور في ظلام وتجيئنا الحقائق في أثواب من القضايا المنطقية ونظريات علمية من الكائنات لا يمكن أن تكون تامة صحيحة صائبة ثم لا بد من أن يجيء يوم يظهر فيه نقصها وخطؤها وجورها فتموت وتذهب نعم يموت ويذهب جسم كل حقيقة ولكن الروح يبقى أبداً ويتخذ ثوباً أطهر وبدنا أشرف وما يزال يتنقل من الأثواب والأبدان من حسن إلى أحسن وجيد إلى أجود سنة الطبيعة التي لا تتبدل نعم إن جوهر الحقيقة الكريم حيٌ لا يموت وإنما النقطة الهامة والأمر الوحيد الذي يعرض في محكمة الطبيعة ومجلس قضائها هو هل هذا الروح حق وصوت من أعماق الطبيعة؟ وليس بهام عند الطبيعة ما نسميه نقاء الشيء أو عدم نقائه وليس هو بالسؤال النهائي ليس الأمر(2/19)
الهام عن الطبيعة حينما تقدم إليها أنت لتصدر حكمها فيك هو أفيك أقذار وأكدار أم لا وإنما هو أفيك جوهر حق وروح صدق أم لا أو بعبارة تشبيهية ليس السؤال الهام عند الطبيعة هو أفيك قشور أم لا بل أفيك قمح؟ أيقول بعض الناس أنه نقي إني أقول له نعم نقي - نقي جداً ولكنك قشر - ولكنك باطل وأكذوبة وزور وثوب بلا روح ومجرد اصطلاح وعادة وما امتد بينك وبين سر الكون وقلب الوجود سبب ولا صلة والواقع أنك لا نقي ولا غير نقي وإنما أنت لا شيء والطبيعة لا تعرفك وإنها منك براء.
نحن سمينا الإسلام ضرباً من النصرانية ولو نظرنا إلى ما كان من سرعته إلى القلوب وشدة امتزاجه بالنفوس واختلاطه بالدماء في العروق لأيقنا أنه كان خيراً من تلك النصرانية التي كانت إذ ذاك في الشام واليونان وسائر تلك الأقطار والبلدان - تلك النصرانية التي كانت تصدع الرأس بضوضائها الكاذبة وتترك القلب ببطلانها قفراً ميتاً! على أنه قد كان فيها عنصر من الحق ولكنه ضئيل جداً وبفضله فقط آمن الناس بها وحقاً أنها كانت ضرباً كاذباًَ من النصرانية كالدعي بين الأصلاء ولكنها ضرب حي على كل حال ذو حياة قلبية وليست مجرد قضايا قفرة ميتة.
ونظر محمد من وراء أصنام العرب الكاذبة ومن وراء مذاهب اليونان واليهود ورواياتهم وبراهينهم ومزاعمهم وقضاياهم - نظر ابن القفار والصحاري بقلبه البصير الصادق وعينه المتوقدة الجلية إلى لباب الأمر وصميمه فقال في نفسه الوثنية باطل وهذه الأصنام التي تصقلونها بالزيت والدهن فيقع عليها الذباب أخشاب لا تضر ولا تنفع وهي منكر وفظيع وكفر لو تعلمون إنما الحق أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له خلقنا وبيده حياتكم وموتكم وهو أرأف بكم منكم وما أصابكم من شيء فهو خير لكم لو كنتم تفقهون.
وإن ديناً آمن به أولئك العرب الوثنيون وأمسكوه بقلوبهم النارية لجدير أن يكون حقاً وجدير أن يصدق به وإن ما أودع هذا الدين من القواعد هو الشيء الوحيد الذي للإنسان أن يؤمن به وهذا الشيء هو روح جميع الأديان - روح تلبس أثواباً مختلفة وأثواباً متعددة وهي في الحقيقة شيء واحد وبأتباع هذه الروح يصبح الإنسان إماماً كبيراً لهذا المعبد الأكبر - الكون - جارياً على قواعد الخالق تابعاً لقوانينه لا محاولاً عبثاً أن يقاومها ويدافعها ولم أعرف قط تصريفاً للواجب أحسن من هذا والصواب كل الصواب في السير(2/20)
على منهاج الدينا فإن الفلاح في ذلك (إذ كان منهاج الدينا هو طريق الفلاح): وجاء محمد وشيع النصارى تقيم أسواق الجدال وتتخابط بالحجيج الجائرة وماذا أفاد ذلك وماذا أثمر إما أنه الأهم ليس صحة ترتيب القضايا المنطقية وحسن إنتاجها وإنما هو إن خلق الله وأبناء آدم يعتقدون تلك الحقائق الكبرى لقد جاء الإسلام على تلك الملل الكاذبة والنحل الباطلة فابتلعها وحق له أن يبتلعها لأنه حقيقة خارجة من قلب الطبيعة وما كاد يظهر الإسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب وجدليات النصرانية وكل ما لم يكن بحق فإنها حطب ميت أكلته نار الإسلام فذهب والنار لم تذهب.
أما القرآن فإن فرط إعجاب المسلمين به وقولهم بإعجازه هو أكبر دليل على اختلاف الأذواق في الأمم المختلفة هذا وإن الترجمة تذهب بأكثر جمال الصنعة وحسن الصياغة ولذلك لا عجب إذا قلت أن الأوربي يجد قراءة القرآن أكبر عناء فهو يقرؤه كما يقرأ الجرائد لا يزال يقطع في صفحاتها قفاراً من القول الممل المتعب ويحمل على ذهنه هضاباً وجبالاً من الكلم لكي يعثر في خلال ذلك على كلمة مفيدة أما العرب فيرونه على عكس ذلك لما بين آياته وبين أذواقهم من الملاءمة ولأن لا ترجمة ذهبت بحسنة ورونقه فلذلك رآه العرب من المعجزات وأعطوه من التبجيل ما لم يعطه أتقى النصارى لأنجيلهم وما برح في كل زمان ومكان قاعدة التشريع والعمل والقانون المتبع في شؤون الحياة ومسائلها والوحي المنزل من السماء هدًى للناس وسراجاً منيراً يضيء لهم سبل العيش ويهديهم صراطاً مستقيما ومصدر أحكام القضاة الدرس الواجب على كل مسلم حفظه والاستنارة به في غياهب الحياة وفي بلاد المسلمين مساجد يتلى فيها القرآن جميعه كل يوم مرة يتقاسمه ثلاثون قارئاً على التوالي وكذلك ما برح هذا الكتاب يرن صوته في آذان الألوف من خلق الله وفي قلوبهم اثني عشر قرناً في كل آن ولحظة ويقال إن من الفقهاء من قرأه سبعين ألف مرة!
إذا خرجت الكلمة من اللسان لم تتجاوز الأذان وإذا خرجت من القلب نفذت إلى القلب والقرن خارج من فؤاد محمد فهو جدير أن يصل إلى أفئدة سامعيه وقارئيه وقد زعم براديه وأمثاله أنه طائفة من الأخاديع والتزاويق لفقها محمد لتكون أعذاراً له عما كان يرتكب ويقترف وذرائع لبلوغ مطامعه وغاياته ولكنه قد آن لنا أن نرفض جميع هذه الأقوال فإني(2/21)
لأمقت كل من يرمي محمداً بمثل هذه الأكاذيب وما كان ذو نظر صادق ليرى قط في القرآن مثل ذلك الرأي الباطل والقرآن لو تبصرون ما هو إلا جمرات ذاكيات قذفت بها نفس رجل كبير النفس بعد أن أوقدتها الأفكار الطوال في الخلوات الصامتات وكانت الخواطر تتراكم عليه بأسرع من لمح البصر وتتزاحم في صدره حتى لا تكاد تجد مخرجاً وقل ما نطق به في جانب ما كان يجيش بنفسه العظيمة القوية هذا وقد كان تدفع الوقائع وتدفق الخطوب يعجله عن روية القول وتنميق الكلم ويا لها من خطوب كانت تطيح به وتطير فلقد كان في هذه السنين الثلاث العشرين قطباً لرحى حوادث متلاطمات متصادمات وعالم كله هرج ومرج وفتن ومحن - حروب مع قريش والكفار ومخاصمات بين أصحابه وهياج نفسه وثورانها - كل ذلك جعله في نصب دائم وعناء مستمر فلم تذق نفسه الراحة بعد قيامه بالرسالة قط وقد أتخيل روح محمد الحادة النارية وهي تتململ طول الليل الساهر يطفو بها الوجد ويرسب وتدور بها دوامات الفكر حتى إذا أسفرت لها بارقة رأى حسبته نوراً هبط عليها من السماء وكل عزم مقدس يهم به يخاله جبريل ووحيه أيزعم الأفاكون الجهلة أنه مشعوذ ومحتال كلا ثم كلا! ما كان قط ذلك القلب المحتدم الجائش كأنه تنور فكر يفور ويتأجج ليكون قلب محتال ومشعوذ لقد كانت حياته في نظره حقاً وهذا الكون حقيقة رائعة كبيرة.
والإخلاص المحض الصراح يظهر لي أنه فضيلة القرآن التي حببته إلى العربي المتوحش وهي أول فضائل الكتاب أياً كان وآخرها وهي منشأ فضائل غيرها بل لاشيء غيرها يمكنه أن يبعث للكتاب فضائل أخرى ومن العجب أن نرى في القرآن عرقاً من الشعر يجري فيه من بدايته إلى نهايته ثم يتخلله نظرات نافذات - نظرات نبي وحكيم أجل لقد كان لمحمد في شؤون الحياة عين بصيرة ثم له قدرة عظيمة على أن يوقع في أذهاننا كل ما أبصره ذهنه أنا لا أحفل كثيراً بما جاء في القرآن من الصلوات والتحميد والتمجيد لأني أرى لها في الإنجيل شبيهاً ولكني شديد الإعجاب بالنظر الذي ينفذ إلى أسرار الأمور فهذا أعظم ما يلذني ويعجبني وهو ما أجده في القرآن وذلك كما قلت فضل الله يؤتيه من يشاء.
وكان محمد إذا سئل أن يأتي بمعجزة قال حسبكم بالكون معجزة انظروا إلى هذه الأرض التي خلق الله لكم ونهج لكم فيها سبلاً تسعون في مناكبها وتأكلون من رزقه وهذا السحاب(2/22)
المسير في الآفاق لا يدري من أين جاء وهو مسخر في السماء كل سحابة كمارد أسود ثم يسح بمائه ويهضب ليحي أرضاً مواتاً ويخرج منها نباتاً ونخيلاً وأعناباً أليس ذلك آية والأنعام خلقها لكم تحول الكلاء لبنا وهي فخر لكم والسفن - وكثيراً ما يذكر السفن - كالجبال العظيمة المتحركة تنشر أجنحتها وتحتفز في سواء أليم لها حادٍ من الريح وبيننا تسير إذا هي قد وقفت بغتة وقد قيض الله الريح معجزات الله كل هذه وأي معجزات بعدها تريدون ألستم أنتم معجزات؟ لقد كنتم صغاراً وقبل ذلك لم تكونوا أبداً ثم لكم جمال وقوة وعقل ثم وهبكم الرحمة أشرف الصفات وتهرمون ويأتيكم المشيب وتضعفون وتهن عظامكم وتموتون فتصبحوا غير موجودين ثم وهبكم الرحمة لقد ادهشتني جداً هذه الجملة فإن الله ربما كان خلق الناس بلا رحمة فماذا كان يكون أمرهم! هذه من محمد نظرة نافذة إلى لباب الحقيقة وكذلك أرى في محمد دلائل شاعرية كبيرة وآيات على أشرف المحامد وأكرم الخصال وأتبين فيه عقلاً راجحاً عظيماً وعيناً بصيرة وفؤاداً صادقاً ورجلاً قوياً عبقرياً لو شاء لكان شاعراً فحلاً أو فارساً بطلاً أو ملكاً جليلاً أو أي صنف من أصناف البطل.
نعم لقد كان العالم في نظره معجزة أي معجزة وكان يرى فيه كل ما كان يراه أعاظم المفكرين حتى أمم الشمال المتوحشة وهو أن هذا الكون الصلب المادي إنما هو في الحقيقة لا شيء - إنما هو آية على وجود الله منظورة ملموسة وهو ظل علقه الله على صدر الفضاء لا غير وكان يقول هذه الجبال الشامخات ستحلل وتذوب مثل السحاب وتفنى وكان يقول الجبال أوتاد الأرض وأنها ستفنى كذلك يوم القيامة وإن الأرض في ذلك اليوم العظيم تنصدع وتتفتت وتذهب في الفضاء هباءً منثورا فتنعدم وكان لا يزال واضحاً لعينيه سلطان الله على كل شيء وامتلاء كل مكان بقوة مجهولة ورونق باهر وهول عظيم هو القوة الصادقة والجوهر والحقيقة وهذا ما يسميه علماء العصر القوي والمادة ولا يرونه شيئاً مقدساً بل لا يرونه شيئاً واحداً وإنما أشياء تباع بالدرهم وتوزن بالمثقال وتستعمل في تسيير السفن البخارية فسرعان ما تنسينا الكيماويات والحسابيات ما يكمن في الكائنات من سر الله وما أفحش ذلك النسيان عاراً وأكبر هذه الغفلة إثما! وإذا نسينا ذلك فأي الأمور يستحق الذكر إذن فمعظم العلوم أشياء ميتة خاوية بالية - بقول ذابلة نعم وما أحسب العلوم(2/23)
لولا ذلك إلا خشباً يابساً ميتاً وليس بالشجرة النامية ولا بالغاية الكثيفة الملتفة التي لا تبرح تمدك بالخشب إثر الخشب فيما تمدك وتعطيك! ولن يجد المرء السبيل إلى العلم حتى يجده أولاً إلى العبادة أعني أنه لا علم إلا لمن عبد وإلا فما العلم إلا شقشقة كاذبة وبقلة كما قلت ذابلة.
وقد قيل وكتب كثيراً في شهوانية الدين الإسلامي وأرى كل ما قيل وكتب جوراً وظلماً فإن الذي أباحه محمد مما تحرمه المسيحية لم يكن من تلقاء نفسه وإنما كان جارياً متبعاً لدى العرب من قديم الأزل وقد قلل محمد هذه الأشياء جهده وجعل عليها من الحدود ما كان في أمكانه أن يجعل والدين المحمدي بعد ذلك ليس بالسهل ولا بالهين وكيف ومعه كل ما تعلمون من الصوم والوضوء والقواعد الصعبة الشديدة وإقامة الصلاة خمساً في اليوم والحرمان من الخمر وليس كما يزعمون كان نجاح الإسلام وقبول الناس إياه لسهولته لأنه من أفحش الطعن على بني آدم والقدح في أعراضهم أن يتهموا بأن الباعث لهم على محاولة الجلائل وإتيان الجسائم هو طلب الراحة واللذة - التماس الحلو من كل صنف في الدنيا والآخرة! كلا فإن أحسن الآدميين لا يخلو من شيء من العظمة والجلال فالجندي الجاهل الجلف الذي يؤجر يمينه وروحه في الحروب بأجر بخس له مع ذلك شرف يحلف به فتراه لا يبرح يقول: لأفعلن ذلك وشرفي: وليست أمنية أحقر الآدميين هي أن يأكل الحلوى بل أن يأتي عملاً شريفاً وفعلاً محموداً ويثبت للناس أنه رجل فاضل كريم ليعمد أيكم إلى أبلد إنسان فيريه سبيل المكرمات والمحامد فإذا هو قد تأجج قلبه حماساً واتقدت نفسه غيرة وصار في الحال بطلاً وما أظلم الذين يتهمون الإنسان بقولهم أنه ميال بفطرته إلى الراحة وأنه يستهوى بالترف ويستغوى باللذة إنما مغريات الإنسان وجاذباته هي الأهوال والصعائب والاستشهاد والقتل أقدح ما بنفس المرء من زناد الفضل تذك ناراً تحرق سائر ما فيه من الخسائس والنقائص وما كان قط اعتناق الناس لدين من الأديان لما يرجون من متاع ولذة بل لما يثور في قلوبهم من دواعي الشرف والعظمة.
وما كان محمد أخا شهوات برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً وشد ما نجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوياً لا هم له إلا قضاء مآربه من الملاذ - كلا فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أية كانت لقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره وأحواله وكان(2/24)
طعامه عادة الخبز والماء وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار وإنهم ليذكرون - ونعم ما يذكرون - أنه كان يصلح ويرفو ثوبه بيده فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة؟ فحبذا محمد من رجل خشن اللباس خشن الطعام مجتهد في الله قائم النهار ساهر الليل دئباً في نشر دين الله غير طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان غير متطلع إلى ذكر أو شهرة كيفما كانت رجل عظيم وربكم وإلا فما كان ملاقياً من أولئك العرب الغلاظ توقيراً واحتراماً وإكباراً وإعظاماً وما كان ممكنه أن يقودهم ويعاشرهم معظم أوقاته ثلاثاً وعشرين حجة وهم ملتفون به يقاتلون بين يديه ويجاهدون حوله لقد كان في هؤلاء العرب جفاء وغلظة وبادرة وعجرفية وكانوا حماة الأنوف أباة الضيم وعر المقادة صعاب الشكيمة فمن قدر على رياضتهم وتذليل جانبهم حتى رضخوا له واستقادوا فذلكم وأيم الله بطل كبير ولولا ما أبصروا فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا له ولا أذعنوا وكيف وقد كانوا أطوع له من بنانه وظني أنه لو كان أتيح لهم بدل محمد قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه لما كان مصيباً من طاعتهم مقدار ما ناله محمد في ثوبه المرقع بيده فكذلك تكون العظمة وهكذا تكون الأبطال!
وكانت آخر كلماته تسبيحاً وصلاة - صوت فؤاد يهم بين الرجاء والخوف أن يصعد إلى ربه ولا نحسب أن شدة تدينه أزرت بفضله كلا بل زادته فضلاً وقد يروي عنه مكرمات عالية منها قوله حين رزئ غلامه: العين تدمع والقلب يوجع ولا نقول ما يسخط الرب: ولما استشهد مولاه زيد (ابن حارثة) في غزوة مؤتة قال محمد لقد جاهد زيد في الله حق جهاده وقد لقي الله اليوم فلا بأس عليه ولكن ابنة زيد وجدته بعد ذلك يبكي على جثة أبيها - وجدت الرجل الكهل الذي دب في رأسه المشيب يذوب قلبه دمعاً! فقالت ماذا أرى قال صديقاً يبكي صديقه مثل هذه الأقوال وهذه الأفعال ترينا في محمد أخا الإنسانية الرحيم - أخانا جميعاً الرؤوف الشفيق وابن أمنا الأولى وأبينا الأول.
وإني لأحب محمداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع. ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي لا يعول إلا على نفسه ولا يدعى ماليس فيه. ولم يك متكبراً ولكنه لم يكن ذليلاً ضرعاً. فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراد. يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم يرشدهم إلي ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة. وكان(2/25)
يعرف لنفسه قدرها. ولم تخل الحروب الشديدة التي وقعت له مع الأعراب من مشاهد قسوة ولكنها لم تخل كذلك من دلائل رحمة وكرم وغفران. وكان محمد لا يعتذر من الأولى ولا يفتخر بالثانية. إذ كان يراها من وحي وجدانه وأوامر شعوره ولم يكن وجدانه لديه بالمتهم ولا شعوره بالظنين. وكان رجلاً ماضي العزم لا يؤخر عمل اليوم إلى غد. وطالما كان يذكر يوم تبوك إذ أبى رجاله السير إلى موطن القتال واحتجوا بأنه أو أن الحصيد وبالحر. فقال لهم: الحصيد! أنه لا يلبث إلا يوماً. فماذا تتزودون للآخرة؟ والحر؟ نعم إنه حر ولكن جهنم أشد حراً. وربما خرج بعض كلامه تهكماً وسخرية. إذ يقول للكفار ستجزون يوم القيامة عن أعمالكم ويوزن لكم الجزاء ثم لا تنجسون مثقال ذرة.
وما كان محمد بعابث قط ولا شاب شيئاً من قوله شائبة لعب ولهو. بل كان الأمر عنده أمر خسران وفلاح ومسألة فناء وبقاء. ولم يك منه إزاءها إلا الإخلاص الشديد والجد المر. فأما التلاعب بالأقوال والقضايا المنطقية والعبث بالحقائق فما كان من شأنه قط. وذلك عندي أفظع الجرائم إذ ليس هو إلا رقدة القلب ووسن العين عن الحق. وعيشة المرء في مظاهر كاذبة. وليس كل ما يستنكر من مثل هذا الإنسان هو أن جميع أقواله وأعماله أكاذيب بل أنه هو نفسه أكذوبة. وأرى خصلة المروءة والشرف - شعاع الله - متضائلاً في مثل ذلك الرجل مضطربا بين عوامل الحياة والموت. فهو رجل كاذب لا أنكر أنه مصقول اللسان مهذب حواشي. الكلام محترم في بعض الأزمان والأمكنة. لا تؤذيك بادرته لين المس رفيق الملمس كحمض الكربون تراه على لطفه سما نقيعاً. وموتاً ذريعاً.
وفي الإسلام خلة أراها من أشرف الخلال وأجلها وهي التسوية بين الناس. وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي. فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض. والناس في الإسلام سواء. والإسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنة محبوبة بل يجعلها فرضاً حتماً على كل مسلم. وقاعدة من قواعد الإسلام ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل. فتكون جزءاً من أربعين من الثروة. تعطى إلى الفقراء والمساكين والمنكوبين. جميل والله كل هذا. وما هو إلا صوت الإنسانية - صوت الرحمة والإخاء والمساواة يصيح من فؤاد ذلك الرجل - ابن القفار والصحراء.
وينكر البعض تغلب الحسية والمادية على جنة محمد وناره فأقول إن العيب في ذلك على(2/26)
الشراح والمفسرين لا على ما جاء في الكتاب فإن القرآن قد أقل جداً من إسناد الحسيات والماديات إلى الجنة والنار وكل ما فيه عن هذا الشأن إيماء وتلميح وإنما المفسرون والشراح هم الذين لم يتركوا لذة حسية ولا متعة شهوية حتى ألحقوها بالجنة ولا عذاباً بدنياً وألماً اجتماعياً حتى أسندوه إلى النار ثم لا تنسوا أن القرآن جعل أكبر ملاذ الجنة روحانياً إذ قال وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها آمنين فالسلام والأمن هما في نظر كل عاقل أقصى أماني المرء وأعظم الملاذ قاطبة والشيء الذي عبثا يلتمسه الإنسان في الحياة الدنيا وقال أيضاً ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين وأي رذيلة أخبث من الغل مصدر المحن والمصائب والنقم والآفات وأي شيء أهنأ من التآلف والتصافي؟
وأي دليل أشهر ببراءة الإسلام من الميل إلى الملاذ من شهر رمضان الذي تلجم فيه الشهوات وتزجر النفس عن غاياتها وتقدع عن مآربها وهذا هو منتهى العقل والحزم فإن مباشرة اللذات ليس بالمنكر وإنما المنكر هو أن تذل النفس لجبار الشهوات وتنقاد لحادي الأوطار والرغبات ولعل أمجد الخصال وأشرف المكارم هو أن يكون للمرء من نفسه على نفسه سلطان وإن يجعل من لذاته لا سلاسل وإغلالا تعيبه وتعتاص عليه إذا هم أن يصدعها بل حليا وزخاف متى شاء فلا أهون عليه من خلعها ولا أسهل من نزعها وكذلك أمر رمضان سواء كان مقصوداً من محمد معيناً أو كان وحي الغريزة وإلهاماً فطرياً فهو والله نعم الأمر.
ويمكننا القول على كل حال بأن الجنة والنار هاتين هما رمز لحقيقة أبدية لم تصادف من حسن الذكر قط مثلما صادفت في القرآن وماذا ترون تلك الجنة وملاذها وهاته النار وعذابها وقيام الساعة التي يقول عنها يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ماذا ترون كل هذه إلا ظلاً تمثل في خيال ذلك النبي الشاعر للحقيقة الروحانية الكبرى رأس الحقائق أعني الواجب وجسامة أمره لقد كان هذا الرجل يرى الحياة أمراً جسيماً ويرى لكل عمل إنساني مهما حقر خطارة كبرى فما كان من سيءٍ فله من السوء نتيجة أبدية وما كان صالحاً فله من الصلاح ثمرة سرمدية وإن المرء قد يسمو بصالحاته إلى أعلى عليين ويهبط بموبقاته إلى أسفل سافلين(2/27)
وإن على عمره القصير تقوم دعائم أبدية هائلة خفية كل ذلك كان يلتهب في روح ذلك الرجل القفري كأنما قد نقش ثمت بأحرف النار وكل ذلك قد حاول في أشد إخلاص وأحد جدان يخرجه للناس ويصوره لهم فأخرجه وصوره في صورة تلكم النار والجنة وأي ثوب لبسته هذه الحقيقة وأي قالب صبت فيه فلا تزال أولى الحقائق مقدسة في أي أسلوب وأي صورة.
وعلى كل حال فهذا الدين ضرب من النصرانية وفيه للمبصرين أشرف معاني الروحانية وأعلاها فاعرفوا له قدره ولا تنجسوه حقه ولقد مضى عليه مئتان وألف عام وهو الدين القويم والصراط المستقيم لخمس العالم وما زال فوق ذلك ديناً يؤمن به أهله من حبات أفئدتهم ولا أحسب أن أمة من النصارى اعتصموا بدينهم اعتصام المسلمين بإسلامهم - إذ يوقنون به كل اليقين ويواجهون به الدهر والأبد وسينادي الحارس الليلة في شوارع القاهرة أحد المارة من السائر؟ فيجيبه السائر لا اله إلا الله وإن كلمة التوحيد والتكبير والتهليل لترن آناء الليل وأطراف النهار في أرواح تلك الملايين الكثيفة وإن الفقهاء ذوي الغيرة في الله والتفاني في حبه ليأتون شعوب الوثنية بالهند والصين والمالاي فيهدمون أضاليلهم ويشيدون مكانها قواعد الإسلام ونعم ما يفعلون.
ولقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور واحي به من العرب أمة هامدة وأرضاها مدة وهل كانت إلا فئة من جوالة الأعراب خاملة فقيرة تجوب الفلاة منذ بدء العالم لا يسمع لها صوت ولا تحس منها حركة فأرسل الله لهم نبياً بكلمة من لدنه ورسالة من قبله فإذا الخمول قد استحال شهرة والغموض نباهة والضعة رفعة والضعف قوة والشرارة حريقاً وسع نوره الأنحاء وعم ضوءه الأرجاء وعقد شعاعه الشمال بالجنوب والمشرق بالمغرب وما هو إلا قرن بعد هذا الحادث حتى أصبح لدولة العرب رجل في الهند ورجل في الأندلس وأشرقت دولة الإسلام حقباً عديدة ودهوراً مديدة بنور الفضل والنبل والمروءة والبأس والنجدة ورونق الحق والهدى على نصف المعمورة وكذاك الإيمان عظيم وهو مبعث الحياة ومنبع القوة وما زال للأمة رقي في درج الفضل وتعريج إلى ذري المجد ما دام مذهبها اليقين ومنهاجها الإيمان ألستم ترون في حالة أولئك الأعراب ومحمدهم وعصرهم كأنما قد وقعت من السماء شرارة على تلك الرمال التي كان لا يبصر بها فضل(2/28)
ولا يرجى فيها خير فإذا هي بارود سريع الانفجار: وما هي برمل ميت: وإذا هي قد تأججت واشتعلت واتصلت نارها بين غرناطة ودلهي ولطالما قلت أن الرجل العظيم كالشهاب من السماء وسائر الناس في انتظاره كالحطب فما هو إلا أن يسقط حتى يتأججوا ويلتهبوا.(2/29)
نوابغ العالم
ابن حمديس - جولد سميث
من بين أبواب البيان باب نوابغ العالم وتراجم عظماء الرجال من علماء وفلاسفة وأدباء وملوك وقواد - وقد رأينا أن نترجم في العدد الواحد: الذي يكون من نصيبه هذا الباب: اثنين من النوابغ نابغة عربياً ونابغة من غير العرب وهذان أعزكم الله نابغتان من نوابغ العالم الأول الشاعر الكبير أبو محمد عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمد يس الأزدي السرقوسي الصقلي (من صقلية) والثاني الكاتب الانكليزي الأكبر والشاعر الأشهر ألفر جولد سميث - ولقد يعلم قراء البيان أن طريقته في ترجمة النوابغ التطويل اللذ والإشباع غير الممل فلذلك سنفيض في ترجمة هذين النابغتين ونأتي على الغاية من كل ما يتعلق بهما ونبدأ بشاعرنا العربي الصقلي.
ابن حمديس
ترجمته إجمالاً - ترجمته بتفصيل - سرقوسة مسقط رأس الشاعر - صقلية في عصر ابن حمديس - وفوده إلى الأندلس - تشوقه صقلية - حب الوطن - المعتمد بن عباد - مدائح الشاعر في المعتمد - نكبة المعتمد - رثاء الشاعر له - سائر شعره في غيره - يحيى بن تميم بن المعز بن باديس وابنه أبو الحسن علي - المنصور بن الناصر بن علناس - شعر ابن حمديس - منزلته من الشعر
ترجمته إجمالاً - ولد ابن حمديس حوالي سنة 445 في سرقوسة إحدى مدائن صقلية (التي يسميها الإفرنج الآن سِسَلي والتي هي الآن إحدى الايات إيطاليا) ثم انتقل إلى الأندلس سنة 471 ومدح المعتمد بن عباد صاحب اشبيلية حتى إذا نكب المعتمد نكبته المعروفة وتوفى باغمات رحل شاعرنا إلى إفريقية وامتدح يحيى بن تميم بن المعز بن باديس وابنه أبا الحسن علياً والمنصور بن الناصر بن علناس بن حماد بن يوسف بلكين بن زيرى ثم قضي في جزيرة ميورقة وقيل في بجاية سنة 527.
ترجمته بتفصيل - ولما كان القارئ الكريم قد يتشوق معرفة الأماكن والبلدان التي ولد فيها الشاعر وتنقل فيها وامتدح أصحابها وماذا كانت أحوالها أيام المترجم به رأينا أن نلم بها إلمامة تجعل القارئ على بصيره تامة بشؤن هذا الشاعر العظيم(2/30)
صقلية في عصر ابن حمديس
أما سرقوسة التي ولد فيها الشاعر فهي فرضة بجرية شرقي جزيرة صقلية على 30 ميلاً من قطانية إلى جنوبي الجنوب الشرقي و 81 ميلاً عن مسيني إلى الجنوب الغربي وتسمى الآن سيراكوسا (وسيمر بك كلام وافٍ عنها في الرسالة الأولى من كتاب حضارة العرب في الأندلس) وقد جاء ذكرها في شعر لابن قلاقس الاسكندري المتوفي سنة 567 قال يصف سفينة سار بها إلى صقلية:
ثم استقلت بي على علاتها ... مجنونة سبحت على مجنون
هو جاء تقسم والرياح تقودها ... بالنون إما من طعام النون
حتى إذا ما البحر أبدته الصبا ... ذا وجنة بالموج ذات غضون
ألقت به النكباء راحة عائث ... قلبت ظهور مشاهد لبطون
وتكلفت سرقوسة بأماننا ... في ملجأ للخائفين أمين
وأما صقلية عموماً في عصر ابن حمد يس فقد جاء في الكامل لابن الأثير ما يأتي: كان الأمير على صقلية سنة ثمان وثمانين وثلثمائة أبا الفتوح يوسف ابن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين ولاه عليها العزيز العلوي صاحب مصر وأفريقية فأصابه في هذه السنة فالج فتعطل جانبه الأيسر وضعف الجانب الأيمن فاستناب ابنه جعفراً فبقي كذلك ضابطاً للبلاد حسن السيرة في أهلها إلى سنة خمس وأربعمائة فخالف عليه أخوه علي وأعانه جمع من البربر والعبيد فأخرج إليه أخوه جعفر جنداً من المدينة (بلرم) فاقتتلوا سابع شعبان وقتل من البربر والعبيد خلق كثير وهرب من بقي منهم وأخذ علي أسيراً فقتله أخوه جعفر وعظم قتله على أبيه فكان بين خروجه وقتله ثمانية أيام وأمر جعفر حينئذ أن ينفي كل بربري بالجزيرة فنفوا إلى أفريقية وأمر بقتل العبيد فقتلوا عن آخرهم وجعل جنده كلهم من أهل صقلية فقل العسكر بالجزيرة وطمع أهل الجزيرة في الأمراء فلم يمض إلا يسير حتى ثار به أهل صقلية وأخرجوه وخلعوه وأرادوا قتله وذلك إنه ولي عليهم إنساناً صادرهم وأخذ الأعشار من غلاتهم واستخف بقوادهم وشيوخ البلد وقهر جعفراً واستطال عليهم فلم يشعر إلا وقد زحف إليه أهل البلد كبيرهم وصغيرهم فحصروه في قصره في المحرم سنة عشر وأربعمائة وأشرفوا على أخذه فخرج إليهم أبوه يوسف في محفة وكانوا له محبين فلطف(2/31)
بهم ورفق فبكوا رحمة له من مرضه وذكروا له ما أحدث ابنه عليهم وطلبوا أن يستعمل ابنه أحمد المعروف بالأكحل ففعل ذلك وخاف يوسف على ابنه جعفر منهم فسيره في مركب إلى مصر وسار أبوه يوسف بعده ومعهما من الأموال ستمائة ألف دينار وسبعون ألفاً وكان ليوسف من الدواب ثلاثة آلاف حجرة (لعلها حجرا قال في اللسان الحجر بدون هاء الفرس الأنثى خاصة جعلوها كالمحرمة الرحم إلا على حصان كريم وإنما كانت بدون هاء لأنه اسم لا يشركها فيه المذكر) سوى البغال وغيرها ومات بمصر وليس له إلا دابة واحدة ولما ولى الأكحل أخذ أمره بالحزم والاجتهاد وجمع المقاتلة وبث سراياه في بلاد الكفرة وجنوب إيطاليا فكانوا يغنمون ويسبون وأطاعه جميع قلاع صقلية التي للمسلمين وكان للأكحل ابن اسمه جعفر كان يستنيبه إذا سافر فخالف سيرة أبيه ثم إن الأكحل جمع أهل صقلية وقال أحب أن أشليكم على الأفريقيين وأهجم بكم عليهم لطردهم (يقال شل الإبل يشلها فانشلت طردها ومن المجاز يشل الصبح الظلام) فقد شاركوكم في بلادكم والرأي أخراجهم فقالوا صاهرناهم وصرنا شيئاً واحداً فصرفهم ثم أرسل إلى الأفريقيين فقال لهم مثل ذلك فأجابوه إلى ما أراد فجمعهم حوله فكان يحمي أملاكهم ويأخذ الخراج من أملاك أهل صقلية فسار من أهل صقلية جماعة إلى المعز بن باديس وشكوا إليه ما حل بهم وقالوا نحب أن نكون في طاعتك وإلا سلمنا البلاد إلى الروم وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة فسير معهم ولده عبد الله في عسكر فدخل المدينة (بلرم) وحصر الأكحل في الخالصة (أنظر الرسالة الأولى من حضارة العرب في الأندلس) ثم اختلف أهل صقلية وأراد بعضهم نصرة الأكحل فقتله الذين أحضروا عبد الله بن المعز ثم إن الصقليين رجع بعضهم على بعض وقالوا أدخلتم غيركم عليكم والله لا كانت عاقبة أمركم فيه إلى خير فعزموا على حرب عسكر المعز فاجتمعوا وزحفوا إليهم فاقتتلوا فانهزم عسكر المعز وقتل منهم ثمانمائة رجل ورجعوا في المراكب إلى أفريقية وولي أهل الجزيرة عليهم حسنا الصمصام أخا الأكحل فاضطربت أحوالهم واستولى الأراذل وانفرد كل أنسان ببلد وأخرجوا الصمصام (حسبهم الله) فانفرد القائد عبد الله بن منكوت بمأزر وطرابنش وغيرهما وانفرد القائد علي بن نعمة المعروف بابن الحواس بقصريانة وجرجنت وغيرهما وانفرد ابن الثمنة بمدينة سرقوسة وقطانية وتزوج باخت ابن الحواس ثم إنه جرى بينها(2/32)
وبين زوجها كلام أغلظ كل منهما لصاحبه وهو سكران (ما شاء الله) فأمر ابن الثمنة بفصدها في عضديها وتركها لتموت فسمع ولده إبراهيم فحضر وأحضر الأطباء وعالجها إلى أن عادت قوتها ولما أصبح أبوه ندم واعتذر إليها بالسكر فأظهرت قوبل عذره ثم أنها طلبت منه بعد مدة أن تزور أخاها فإذن لها وسير معها التحف والهدايا فلما وصلت ذكرت لأخيها ما فعل بها فحلف أنه لا يعيدها إليه فأرسل ابن الثمنة يطلبها فلم يردها إليه فجمع ابن الثمنة عسكره وكان قد استولى على أكثر الجزيرة وخطب له بالمدينة (بلرم قصبة صقلية) وسار وحصر ابن الحواس بقصريانة فخرج إليه فقاتله فانهزم ابن الثمنة وتبعه إلى قرب مدينة قطانية وعاد عنه بعد أن قتل من أصحابه فأكثر فلما رأى ابن الثمنة أن عساكره قد تمزقت سولت له نفسه الانتصار بالإفرنج لما يريده الله تعالى فسار إلى مدينة مالطة (جزيرة مالطة) وهي بيد الإفرنج قد ملكوها لما خرج بردويل الفرنجي (بغدوين الرابع ملك بلاد فلاندر) سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة واستونها الفرنج إلى الآن وكان ملكها حينئذ رجار (روجر النورمندي) فوصل إليهم ابن الثمنة وقال أنا أملككم الجزيرة (حسبه الله) فقالوا إن فيها جنداً كثيراً ولا طاقة لنا بهم فقال أنهم مختلفون وأكثرهم يسمع قولي ولا يخالفون أمري فساروا معه في رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة فلم يلقوا من يدافعهم فاستولوا على ما مروا به في طريقهم وقصد بهم إلى قصريانة فحصروها فخرج إليهم ابن الحواس فقاتلهم فهزمه الفرنج فرجع إلى الحصن فرحلوا عنه وساروا في الجزيرة واستولوا على مواضع كثيرة وفارقها كثير من أهلها من العلماء والصالحين وسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس وذكروا له ما الناس فيه بالجزيرة من الخلف وغلبة الفرنج على كثير منها فعمر أسطولاً كبيراً وشحنه بالرجال والعدد وكان الزمان شتاء فساروا إلى قوصرة جزيرة صغيرة بالبحر المتوسط تابعة لإيطاليا تبعد عن شواطئ أفريقية بنحو ستين كيلو متراً تسمى الآن عند الإفرنج وقديماً ومنه أسمها عند العرب فهاج عليهم البحر فغرق أكثرهم ولم ينج إلا القليل وكان ذهاب هذا الأسطول مما أضعف المعز وقوى عليه العرب حتى أخذوا البلاد منه فملك حينئذ الفرنج أكثر البلاد على مهل وتؤدة لا يمنعهم أحد واشتغل صاحب أفريقية بما دهمه من العرب ومات المعز سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وولى أبنه تميماً فبعث أيضاً أسطولاً وعسكراً إلى الجزيرة وقدم عليه ولديه أيوب وعلياً(2/33)
فوصلوا إلى صقلية فنزل أيوب والعسكر المدينة ونزل عليٌّ جرجنت ثم انتقل أيوب إلى جرجنت وأقام فيها فأحبه أهلها فحسده ابن الحواس فكتب إليهم ليخرجوه فلم يفعلوا فسار إليه في عسكره وقاتله فشد أهل جرجنت من أيوب وقاتلوا معه فبينما ابن الحواس يقاتل أتاه سهم غرب فقتله فملك العسكر عليهم أيوب ثم وقع بعد ذلك بين أهل المدينة وبين عبيد تميم فتنة أدت إلى القتال ثم زاد الشر بينهم فاجتمع أيوب وعليٌّ أخوه ورجعا في الأسطول إلى أفريقية سنة أحدى وستين وصحبهم جماعة من أعيان صقلية والأسطولية ولم يبق للفرنج ممانع فاستولوا على الجزيرة ولم يثبت بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت فحصرهما الفرنج وضيقوا على المسلمين بهما فضاق الأمر على أهلها حتى أكاوا الميتة ولم يبق عندهم ما يأكلونه فأما أهل جرجنت فسلموها إلى الفرنج وبقيت قصريانة بعدها ثلاث سنين فلما اشتد الأمر عليهم أذعنوا إلى التسليم فتسلمها الفرنج سنة أربع وثمانين وأربعمائة وملك رجار جميع الجزيرة وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين ولم يترك لأحد من أهلها حماماً ولا دكاناً ولا طاحونا ومات رجار بعد ذلك قبل التسعين والأربعمائة وملك بعده ولده رجار فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب والسلاحية والجاندارية وغير ذلك وخالف عادة الفرنج فإنهم لا يعرفون شيئاً منه وجعل له ديوان المظالم ترفع إليه شكوى المظلومين فينصفهم ولو من ولده وأكرم المسلمين وقربهم ومنه عنهم الفرنج فأحبوه انتهى (وهذا روجر النور مندى هو الذي ألف له الشريف الإدريسي كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق أو في أخبار الآفاق)
وإذ علمت هذا تعلم أن ابن حمد يس إنما رحل من صقلية بعد أن تملك معظمها رجار النورمندي وكان وقت اغترابه عن بلده في سن الحداثة فإنه كان حوالي الخامسة والعشرين فلا جرم بعد ذلك إنا نسمع من الشاعر الشاب هذه الأبيات المبكية من قصيدة يتشوق بها صقلية:
ذكرت صقلية والهوى ... يجدد للنفس تذكارها
فإن كنت أخرجت من جنة ... فإني أحدث أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكاء ... حسبت دموعي أنهارها
نعم فالاستهتار بالوطن والحنين إليه أمر فطري وخلق كريم ينم عن كرم أصل ولطف في(2/34)
الطبيعة ولله أبو الحسن علي بن الرومي حين يقول في هذا المعنى
ولي وطن آليت أن لا أبيعه ... وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسد لولاه غودرت هالكا
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهموا ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وحين يقول أيضاً:
وإذا تمثل في الضمير وجدته ... وعليه أفنان الشباب تميد
وقد قالوا أن الأم بيت قالته العرب قول القائل:
لا يمنعنك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد أنت ساكنها ... أهلاً بأهل وجيرانا بجيران
وربما يقصد صاحب هذين البيتين إلى الحث على الاغتراب في سبيل المجد والرفعة أو الاسترزاق والنجعة وهذا معنى آخر قد قال فيه شعراؤنا كثيراً ومن أحسن ما قيل فيه قول أبي تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
ولما وفد ابن حمد يس إلى الأندلس قصد المعتمد بن عباد واختص به وقصر مدائحه عليه وهذا المعتمد بن عباد له حديث طريف لشاعرنا فيه شأن فلا جرم إنا ذاكرون لقراء البيان طرفاً من ذلك (للكلام بقية).(2/35)
أوليفار جولد سميث
الشاعر البريطاني الكبير والكاتب الشهير
ولد لعشر خلون من شهر نوفمبر سنة 1728 في قرية بالاس بمقاطعة لونجفور أكثر البلاد الايرلندية وحشة وأقلها انيسا. وكان أبو شارل جولد سميث قسيس القرية وكان فقيراً. وكان يتمنى إلى أسرة حظها من كرم النفوس وسلامة القلوب أوفر من سهمها في الحزم والتدبير. أصلها من جنوبي انكلترا ومذ هاجرت إلى ايرلندة لم يتخذ أبناؤها سوى القسوسية حرفة فكانت فيهم ميراثا يتلقاه ولد عن والد.
وكان قد ولد القسيس قبل ظهور ولده أوليفار صاحب هذه السيرة ثلاث بنات وغلاماً أسمه هنري وجاء بعده ثلاث بنين - موريس وشارل وجون وقبض الله إليه طرفي هذه الحلقة (ابنته الكبرى والأصغر جون) وهما في عهد الطفولة فشب أوليفار في ذرية عددها ستة ثلاث منها أسن منه واثنان أصغر.
ولما بلغ الغلام السابعة انتقل أبوه بالأسرة إلى قرية ليسوى بمقاطعة كلكني فنزلوا منها مكاناً آنق وأبهج حيث أخذ الوالد يعول ولده ويقوم عليهم بمال زهيد كان يحصل له من زراعة قليلة. وكان ذلك الوالد: كغلامه الطائر الصيت: شاذ الأحوال جم الشفقة بمن أحاط به شديد التقوى مضطرب الأحوال كثير الخلط في الأمور ولكن جميع ما أوجده الله في تلك الأسرة من غرابة طبع وشذوذ حال واختلاط أمر قد تجمع في صاحب هذه السيرة الغلام أوليفار. فأما من جهة الدرس والتحصيل فقد كان منذ أوله بليداً مكسالا بإقرار السيدة اليصابات ديلاب من أقارب الأسرة: وكانت قد تكلفت تعليمه الهجاء: ثم بإقرار توماس بيرن أحد معلمي المدرسة الابتدائية بقرية ليسوى.
وكان ذلك المعلم قد صحب القائد الإنكليزي الكبير مارلبرا في حرب الولاية الاسبانية وشهد معه عدة مواقع وأبلى في غير موطن ثم عاد إلى حرفته من التعليم فكان لديه ذخر عتيد من قصص ونوادر يلقيها عليك عن مشاهد تلك الحرب غير حكايات جمعها من دواوين القدماء وأخبارهم وآثارهم وغير شيء من ملكة النظم كان يستعمله في الترجمة عن شعر فرجيل (الشاعر الروماني) واحسب أن من هذا العلم استفاد جولد سميث أول علمه بالشعر والكتابة. ولكن الغلام كان سيء الحظ فما كاد يعرف منزلة أستاذه في الأدب وما كاد الأستاذ(2/36)
يستشف ما كان يكمن من معاني الذكاء واللوذعية تحت ظاهر الغلام من الجفاء والبلادة حتى ضرب الدهر بينهما فأصيب أوليفار وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره بالجدري فأقصي عن المدرسة ولما أبل من علته أرسل إلى مدرسة بقرية الفين على مسافة ثلاثين ميلاً من ليسوى وكان الجُدرى قد ترك بوجهه من قبيح الأثر ماصيره ضحكة الناظرين. ومكث بهذه المدرسة عامين كان يعيش أثناءهما مع عم له مقيم بتلك القرية ولكنه ما لبث أن أعيد في عام 1739 إلى مدرسة في قرية أثلون على خمسة أميال من دار أبيه بقرية ليسوى فمكث عامين هناك ثم أربعة أعوام بمدرسة ثانوية بقرية أدجورثتون على سبعة عشر ميلاً من قرية الأسرة ولما ترك هذه المدرسة كان قد أتم التعليم الثانوي والعام السابع عشر من عمره.
وفي ذلك الوقت كان قد ركب الأسرة دين فادح وذلك أن زوج إحدى بناته من فتي شريف غني ولم يرد أن يتهمه الناس بأنه فعل ذلك طمعاً في ثروة الرجل فاقترض أربعمائة جنيهاً جعلها مهراً لابنته فأصاب الأسرة من جراء ذلك فاقة ماسة وعسر مقيم. ولم يعد في قدرة الوالد أن يرسل ابنه إلى الجامعة بعد ذلك إلا على أنه فقير معدم يلبس ثوباً خشناً ويؤدي عمل خادم مقابل التعليم والمأوى، فأنف جولد سمث من حال كهذه واستنكف وآثر أن يحترف حرفة ولكنه ما لبث أن رضي بدخول الجامعة على الصورة المتقدمة بإغراء قريب له كان يبجله وستصوب رأيه. ذلك هو العم كونتريني وكان جد هذا الرجل من أهلي فينيس من أعمال إيطاليا قد هاجر إلى ايرلندة قسيس قرية اوران قريب قرية ليسوى. وكان هذا الرجل الفاضل زوجاً لأحدى عمات جولد سميث. وكان أشد الناس محبة للفتى ومبرة به وأعرفهم لكامن فضله ومستسر ذكائه. ولما لم يكن له بعد وفاة زوجته إلا ابنة واحدة خص الفتى من وداده بما كان جاعله لولده لو كان رزقه الله ذاك. فأقسم على جولد سميث إلا ما ذهب إلى الجامعة على اية صورة قائلاً عن نفسه أنه أقام بالجامعة حين أقام بهيئة خادم. فهل كان عليه في ذلك من بأس؟ اللهم لا.
ودخل جولد سميث جامعة دابلين عاصمة ايرلندة بعد ان أجاز امتحاناً مع سبعة طلاب كان آخرهم في جدول القبول. ومع أن الكاتب الكبير والخطيب البعيد الذكر أدموند بيرك كان وجولد سميث طالبين بالجامعة في وقد واحد إلا أنه لخمول أوليفار وخفائه تحت ظلال(2/37)
الفقر والمسكنة لم يكد يلفت إليه نظر بيرك الذي كان إذ ذاك من نباهة الصوت وسمو المكانة بعكس ما كان عليه صاحب هذه السيرة من غموض الأمر ودقة الشأن فكان بوقوفه على أبواب الجامعة واندماجه في كل مشاجرة تحدث وبقتله الوقت بين الكأس والغناء أشهر لدى طلاب الجامعة منه بالبراعة في مواقف الدرس ومواطن التحصيل. وزاد الخطب شدة وفاة أبيه فانقطع عنه ما كان أجراه عليه من الرزق على قلته. وتبدد شمل الأسرة فرحلت أمه إلى قرية باليماهون وذهب أخوه الأكبر هنري إلى قرية بالا سمو قتولى بها القسوسية بمرتب سنوي قدره أربعون جنيهاً خلاف ما كان ينتظر من رزق يجريه عليه تعليم الأطفال فأصبح جولد سميث وليس أمامه من يؤمل ويرجو سوى العم كونتريني ولكن ماذا عسى أن تبقى إمدادات ذلك الرجل الكريم على تبذير جولد سميث الإبقاء نضحات الماء على الغربال. وكذلك عادت عيشة الفتى سلسلة محن وخطوب وفي شهر مايو من عام 1747 وذلك بعد شهرين من وفاة أبيه ثار نفر من الطلبة ضد الشرط وحاولوا أن يكسروا السجن وكان بين الثوار أوليفار جولد سميث فعوقب بالتوبيخ العلني والتهديد بالرفت وفي الشهر التالي تقدم للامتحان فسقط ولكنه أعطى جائزة مقدارها جنيه ونصف في العام ثم ما لبث أن أضاعها بإهماله وجعل لا يمر عليه أسبوع إلا احتال لبضعة قروش أما برهن بعض كتبه أو بأية حيلة أخرى ولكن الله أنعم عليه بنعمة الأمل والأمل رفيق مؤنس إن لم يبلغك فقد ألهاك ومن جملة كراسته كراسة لا تزال محفوظة للآن عليها كتابات تشهد بما كان لجولد سمث إذ ذاك من قوة الأمل وأنه سيكون يوماً ما غنياً موثوقاً به لدى المصارف المالية: خالص: أوليفار جولد سمث - أعد بالدفع: أوليفار جولد سميث وكان مما احتال به لكسب الدراهم نظمه أغاني يبيع كل واحدة منها لكتبي بعينه بمبلغ خمس وعشرين قرشاً ثم تطبع وتباع للمغنين بدابلن فقد كان في ربع الجنيه ثمن كل قصيدة لذة ولكن ألذ من ذلك وأمتع أن تخرج موهناً من الليل فتقف مستنداً إلى بعض العمدان تحت مصباحه وتسمع قصيدة من شعرك يهتف بها ويترنم ثم تدخل يدك في جيبك فتجد به جزأ من ثمنها وقد بقى لك بعد ما أنفقه أليس في هذه اللذة ما يرجع بمضض الفقر وغضاضة الامتهان والخدمة وقسوة عشرة أساتذة كلهم كالمستر ويلدار أستاذ الجامعة بينما كان جولد سميث يرى ذلك إذ أصابته من ويلدار نكبة راح معها يرى أن الأستاذ وحده آفة لا ترجع بها لذة مهما عظمت(2/38)
وذلك أن جولد سميث أصاب مرة شيئاً من الدراهم فأولم في حجرته لخلان له وخلات واستحث الكؤس حادي المزمار ووزنت حركات الرقص بميزان الأوتار وإن القوم لكذلك إذ دخل الأستاذ عليهم مغضباً ولم يكتف بتوجيه أفحش السباب إلى أوليفار حتى انحط عليه فأخذ بتلابيبه أخذة الموت بالكظم فهاجر جولد سميث الجامعة من غده وباع في الطريق كتبه وبعض ثيابه ومكث في العاصمة (دابلن) ينفق الساعات بين الحان والمرقص حتى لم يبق معه إلا شلن فنهض يضرب إلى ناحية كورك (ثغر بحري في أقصى جنوب ايرلندة) يريد أن يرحل منها إلى أميركا وتقوت بالشلن ثلاثة أيام وبعد ذلك جعل يسيح في البلاد والله أعلم كيف كان يعيش وانى يأتيه رزقه وما عندنا بذلك علم إلا ما جعل يتحدث به هنو بعد من أنه ما ذاق طعمه ألذ من حفنة حمص أتته بها جارية صغيرة في جولته هذه قب استيقاظه من هجمة تم بها صوم أربع وعشرين ساعة ثم ثاب إليه رشده ورأى أن يذهب إلى دار أخيه وبعد أن تقابلا وأقاما معاً برهة من الزمن رجعا إلى الجامعة وعقد الصلح مع الأستاذ وأعيد أوليفار إلى مركزه من الجامعة ولكن الأمر رجع إلى ما كان وعليه تتابعت الإنذارات والمغارم من قبل الجامعة على الفتى حتى بلغ مدى الدراسة وأعطي الإجازة النهائية وكان آخر الناجحين والعجب العجاب أنه مع اسوداد صحيفته بمالا يحصى من السوءات والأثام استطاع أن ينال الإجازة.
وبعد ترك الجامعة أمضى عامين عالة على أكتاف أقاربه وكان معظم مقامه بدار أمه وكان بجوارها حان فكان يباشر السرور والطرب به كل ليلة بين تغني الأغاني وقص الحكايات والنوادر على نخبة من أبناء الريف كانوا يلتفون به وتارة كنت تراه ضيفاً لأخته وزوجها في ليسوى يقضي الوقت بين اصطياد السمك والوحش والجلوس مع الفلاحين. وطوراً يذهب إلى دار أخيه القسيس بقرية بالاسمور فيعاون أخاه شيئاً في تعليم تلاميذه ولعل اضطراب أمر جولد سميث وركوبه ذلك العيش المثرد كان نكبة على أهله وكانوا يرجون أنه متى نال الإجازة التفع ببرد القسوسية. ولكن خاب هذا الرجاء وكان في خيبته ماسر جولد سميث فأضمر الفرح وزعم نفر أن سبب الخيبة هو ما كان بلغ الأسقف (لقب لأحد رؤساء الكنيسة) عن سوء سيرة الفتي وقال قوم إنما غضب الأسقف عندما دخل عليه جولد سميث فرأى عليه كمين أحمرين في لون الجلنار وفي هذا من الغلو في الزينة وترك الزهد(2/39)
والتورع ما فيه. واقترح عليه العم كونتريني حرفة التدريس في الأسرات وما لبث أن أوجد له وظيفة معلم في أسرة بإحدى القرى. فاطمأن به العيش في هذا البيت عاماً كاملاً ولعله عرض له الملل أو شجر بينه وبين الأسرة خصام فخرج على جواد عتيق وفي جيبه ثلاثون جنيهاً وعمد نحو ثغر كورك يريد الرحلة إلى أميركا مرة أخرى. ومضت ستة أسابيع بعد ذلك لم يسمع في خلالها خبر جولد سميث وإن والدته لجالسة في دارها ذات يوم اذا بالفتي قد طلع عليها فجأة على حصان بادي العظام مهزول وهو صفر الكف نظيف الجيب فقص على أمه قصة عجباً وذلك أنه ذهب إلى كوك فاشترى تذكرة السفر وبعث بصندوقه إلى السفينة ثم غدا على أثر الصندوق وإذا بالسفينة قد رحلت فاضطر إلى بيع الجواد الكريم واشتراء ذلك الحصان المهزول والعودة إلى دار أمه بحال من الفقر أشرفت به الشحذ والتسول إلى أن قال والآن يا أماه يدهشني أن لا يكون في سلامة عودتي بعد استمرار الخطب ونطاول البلاء ما يقر عينك ويشرح صدرك ولا غرو أن تكون الأم قد فتر حبها لولدها مذ تلك اللحظة وودت لو يريحها الله منه بأية طريقة وكذلك كان تبرم أخيه به وملله. فلم يبق له إلا العم كونتريني فإنه أبى ألا حدبا عليه وتحنيا. فاقترح على الفتي أن يذهب إلى لندن لدرس القانون فقبل جولد سميث وأعطى خمسين جنيهاً نفقة الرحلة والمقام ريثما يأتيه مبلغ آخر ثم مضى في رحلته ولكنه لم يتجاوز مدينة دابلن. حيث وقع في خلطاء السوء فخسر كل ما لديه بين الشراب والميسر إلى غير ذلك وعاد إلى أهله يحمل على رأسه ثقل كل موبقة وفي عنقه طوق كل مخزية ومأثم. وسومح بعد ذلك كله تجوفي عن جميع ذنوبه ثم أرسل بشيء من المال إلى أدنبرج (قاعدة اسكوتلاندة) ليدرس الطب: وبهذه الرحلة استراح من جولد سميث أهله - استراحوا منه طول الدهر! وكان عمره إذ ذاك أربعاً وعشرين - وعاش بعدها عشرين أخرى. ولكنه لم يعد قط إلى بلاده ولا أبصر طول عمره وجه وطنه المرموق ولا وجوه أهله وخلانه إلا مرة واحدة إذ مر به وهو في غرفة حقيرة بلندن أخوه الأصغر شارل أثناء رحلته إلى جزيرة خاميكا (من جزر الهند الغربية) فأمضى معه يوماً وذلك بعد هذه المدة بخمس سنين: وما برح جولد سميث حتى لقى الله يحن إلى أوطانه حنين الإبل وقد أخلى لذكرى الشباب وعهد الصبا موضعاً في حشاه وزاوية في قلبه جعلها كالضريح المقدس دفن فيه شبح الماضي وصداه وكأني به(2/40)
يتمثل:
بلد خلعت به عذار شبيبتي ... ولبست ثوب اللهو وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد
نعم لقد كان يذكر أمه وأخوته وعمه حتى تدمع عيناه وطالما أمل أن يعود إليهم ويقرعينه بمنظر ليسوى وظلالها الخضر:
أحب بلاد الله طراً لمهجتي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وقبل أن يمكنه الله من تحقيق رجائه ماتت أمه وعمه كونتريني وأخوه هنري فأصبح لا فائدة له في العودة.
ومكث جولد سميث يتلقى علوم الطب في جامعة أدنبرج عاماً ونصفاً كان يستعين أثناءها على النفقة بالتدريس ونظم الأغاني وربما طلب المعونة من العم كونتريني. وكان آخر مطالبه إلى ذلك الرجل الكريم في شتاء 1753 فأرسل اليه عشرين جنيهاً زوده بها للرحلة التي كان أزمعها إلى باريز ليتم الدراسة الطبية.
وإذ كان مقصده باريز نزل بطبيعة الأمر أولاً بمدينة ليدن من أعمال هولاندة وقد قارن بين هولاندة وبين واسكوتلاندة في رسالة له فقال: البلدان على طرفي نقيض فأينما طرحت البصر في اسكوتلاندة عرضت هضاب واشمخرت أطواد. وتسرح طرفك من هولاندة في سهل منفسح الرقعة منبسط الأديم وفي الأولى قد تبصر الأميرة في الخز والديباج تبرز من بيت قذر حقير وفي الثانية يتلقاك الرجل القذر من القصر المنمق وبعد أن أقام ببلدة ليدن عشرة أشهر تركها ومبضى يضرب في آفاق أوربا ترفعه نجاد وتحفظه وهاد:
أخا سفر جواب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر
وكان قبل وصوله بلدة ليدن مات بها البارون هولبرج الكاتب الدنماركي الكبير وكانت الناس تتحدث بسيرته الغريبة وما كابد من الأهوال والمشاق وكان من أهالي نرويج تركها غلاماً بعد أن قاسى في بلاده آلام الفقر إلى عاصمة الدنيمارك مدينة كوبنهاجن وما زال يكافح الدهر حتى بلغ من زمنه مشتهاه قال جولد سميث وكان ذلك الكاتب صارم العزيمة ينجرد في الأمر فلا يقف أو يبلغ الغاية منهوماً بالعلم لم يكفه دون السياحة في جميع البقاع شيء فتكلف أن يطوف على القدم جميع الأمطار الأوربية بلا مال وولا رفقة ولا وصية(2/41)
ولا شفاعة إلا شفاعة صوته الرخيم وطرف من صنعة الغناء فجعل النهار للسير والليل للغناء يلتمس به المبيت في مساكن الفلاحين ثم يأخذ في سرد البلاد التي زارها ذلك الكاتب الكبير وكيف أنه عاد أخيراً إلى عاصمة الدنيمارك وأصبح كاتبها المحبوب. ونال من أميرها اللقب والثورة فختم الله بالشهرة واليسر عيشة كان مبدأها الخمول والعسر وأراد جولد سميت أن يسلك هذا الطريق لتكون عيشته صورة لعيشة ذلك الكاتب فترك ليدن في فبراير سنة 1755 وتمكن لا ندري بأية وسيلة من زيارة مدائن لوفين وانتورب وبروكسيل وماستركت وغيرها من بلاد الفلمنك على التوالي ثم ولج بلاد فرنسا واعتمد على مزماره في قطع المسافة إلى باريز فجعله آلة لبلوغ الرزق والمأوى بين جماعات الفلاحين الذين أروه من البر والإكرام ما رفع عنه حجاب الحشمة وأرسل نفسه على سجيتها فكان ينعم بينهم بأنس الأهل والوطن ولما وصل باريز أقام بها بضعة أشهر حضر أثناءها دروساً في الكيمياء وتشرف برؤية الفيلسوف فولتير وسماعه منه مقالاً بليغاً في مناظرة كانت لذلك الفيلسوف مع رجال تنقصوا الإنكليز وكتابتهم وشعرهم فانبرى لهم بعد طول سكوت بلسان عضب وحجة غراء بطلت أمامها أقوال المناظرين ودحضت براهينهم ورحل جولد سميث عن باريز إلى سويسرا ماراً بجنيفاً وبازل وبرن وكان يستطرد عن طريق سفره فيطوف في أنحاء الجبال والأودية موغلاً في أعماقها كل ذلك على قدميه ثم عبر جبال الألب منحدراً إلى سهول إيطاليا وزار بلاد فلورنس وفرونا ومانتوا وميلان وفينيس (البندقية) وبادو وقد ذكر جولد سميث أنه لم يجن من مزماره كبير فائدة في إيطاليا وذلك أنه لم يكد يوجد بين أهلها إلا من هو أحذق منه بالزمر فالتمس الرزق من باب آخر وهو باب المناظرة الفلسفية في معاهد العلم والدين وكانت تعقب المناظرة بالأكل ويكافأ الغالب ببضعة دراهم (وبعد) فطريقة ارتزاق جولد سميث أثناء هذه الرحلة المدهشة سر غامض وربما كان يقترض ممن كان يصادف أثناء سياحته من أصدقائه الايرلنديين وربما كان يكتسب أحياناً بالمقامرة وأحسب أنه تعلق مرة أو مرتين بأحد من عرف من السائحين أثناء رحلته وأخيراً عاد جولد سميث إلى انكلترا مخترقاً فرنسا على قدميه يحتلب الرزق من ثقوب مزماره حتى بلغ لندن لخمس عشر بقين من شهر فبراير لا يملك فتيلاً ولا قطيراً (للكلام بقية)(2/42)
شذرات
الجبل والبحر
لقد سكنت الجبل والشاطئ فلا والله لست قائلاً أيهما أحسن بيد أن ما كان فيه منزلك فذلك خير لك ثم اعرف بينهما هذا الفرق وهو أنك قد تروض الجبل وتذلله فتقتعد من ذروته مهاداً ليناً وتفترش من غاربه مجلساً وطيئاً فأما البحر فذاك الأبي الجامح العنان لا يمكنك من ظهره ولا يخولك من جانبه والجبل تستطيع أن تتخذ به كوخاً أو تعرف به صاحب كوخ وقد تبصر به مع المساء مصباحاً فتعرف أن هناك أناساً قد تضيفهم فيحسنوا قراك وقد تبصر بسفحه أشجاراً وأعشاباً وبقلاً وريحاناً تجري من تحتها مياه وأنهار إن شئت كان لك في جنابها سعة مرتع وتحت ظلالها حسن مستمتع ومن أغاريدها حلاوة مسمع فأما البحر فليس وراءه إلا الخديعة والخب يلحس قدمك ويلقاك من ترجيع الخرير بمثل مواء الهر حتى إذا وجد الفرصة لم يدع أن يحطم عظامك فيلتهمك ويزيل عن فكيه محمر الزبد فكأنما لم يكن شيء والجبل يرزق الحائر الضال ماء وفاكهة والبحر يسخرمن ظمأ ركابه ويسلمهم إلى الموت وللجبل جرم هائل الجسامة ولكنه مأمون المضطرب سليم المنقلب والبحر يملس من قطع أديمه حتى لا ترى مفاصلها ولكن لمعانها لمعان بطن الافعوان والجبل ينقص من سلسلة النسل الإنساني ويقصر من حبل ذريته ولكن البحر يغرق الإنسان والزمن ماله بأحد هذين من صلة ولكنه أخو الأبد وخريره الدائم إنما هو نشيد يرجعه احتفالاً بالأبد آخر الدهر وأنا بعد لا أكره أن يكون لي كوخ على شاطئ البحر ويسرني أن أشرف من نافذتي على العباب الزاخر كما يسرني أن أقف ناظراً إلى سبع في قفصه ويلذني أن أبصر البحر يمط صلبه الملتمع ويطوي من جانبيه ويبسط ثم لا ينشب أن يهيج ويحنق فيرغي ويزبد ويثب على شاطئه وثبة السبع على قضبان قفصه ويروح مجنون العباب يضج ويصرخ بما لا خوف على منه وأين الذي سرح في الطرف فلم يجد في سعة انفساحه وجلال مرآه مشغلة عن حقائر الحياة وضغائر شؤونها حتى ينسى في عظمة منظره من الحاكم والرئيس ومن أي شعب هو (الناظر إلى الماء) وأي لسان يتكلم وبأي مصابيح السماء مناط حظه وجده ومدار نحسه أو سعده أين الذي يعلم ذلك ثم لا يقبل برهة على جانب البحر فيصغى إلى دقات موجه على ساحله تتابع على ميزان الطبيعة منذ(2/44)
أوجد الله الإنسانية ولا تزال كذلك حتى تنقطع دقات قلبها ويصبح الإنسان صدفة على شاطئه.
الكذب
للحكيم جونسون
من غريب أمر هذه الرذيلة أنها من الخسة والمقت بحيث يترفع عنها الأشرار والفجار من كل صنف وطائفة فقلما تجد في السوءات والمعايب التي تصم الإنسانية إلا ما وجد فيه صاحبه اتباعاً له وأعواناً فهاتك أعراض العذارى قد يجد الحساد من الرجال والنصائر من النساء والسكير يحيط به نفر من المعربدين يعجبون به ويحتفلون بسبقه المبين للذين لم يبلغوا شأوه في مضمار الشراب ويفتخرون بأنهم خدام دولته. وعشاق بأسه ونجدته ويحدثون عن ضعفاء المناظرين الذين ساقهم غرور المساجلة والطمع - في اللحاق إلى قبورهم. بل إن اللص وقاطع الطريق لا يخلوان من الشيعة والأنصار يستحسنون جرأتهما وإقدامهما وما يدبران من أبواب الفكر والشر ويفتقان من حيل السلب والنهب
فأما الكذوب فذلك الذي وقف بملتقى سبل الذم والهجاء واجتمعت عليه الخلائق طرا بالبغض والازدراء. وتحاماه الأقرباء. وتناذره البعداء. فليس له من نصرة الحميم والولي. ما يقوم لخذلان الغريب والأجنبي ولا من حمد الخدن والنظير ما يوازن إزراء الشعب والجمهور. وماله من عصبة يأوى إليها ويرجع ولا شيعة يعتز بها ويمتنع.
ولا نفر يرون شره خيراً. وخزفه دراً. وتربه تبراً وعقوقه براً. وإنما يسلم إلي عداوة العالم أجمع. وينصب غرضاً لكل نابل. وصيدا لكل حابل وضريبة لكل سائف ورامح. ومشما لكل غاد ورائح وقد قال أحد الحكماء أن الشياطين لا يكذب بعضها بعضاً. والصدق لازم لكل فئة ولو كانت من سكان جهنم وقد كان المظنون في مثل هذه النقيصة أن يكون انصراف الناس عنها بقدر بغضهم لها أو على الأقل أن لا يكون يبعث عليها إلا باعث قوى وإن رذيلة لها من سهولة الانكشاف والجلاء وشدة العقوبة والجزاء مثلما للكذب لا يكون الحاصل عليها إلا بعيد الوقوع نادراً
ومع هذا فالأمر على خلاف ذلك حتى أصبح من يخالط الناس لا يقيه أشد الاحتراس والحذر أن ينخدع في كل حين لأكاذيب أناس ما كان يتوهم قط أن يكون منهم أدنى ميل(2/45)
إلى التذرع بالكذب لنفع أنفسهم أو إضرار الغير ثم يكذبون في الموضوعات ليس في طبيعتها ما يبعث على الكذب وفي الأحاديث الفاترة لا تتحرك رياحها بما فيه حركة للطبائع والاريحيات وهزة للنفوس والشهوات من مطمع أو مطمح. أو مفرح أو مترح: أو مطرب أو مغضب. أو مرهب أو مرغب. أو بالاختصار تراهم يكذبون حيث لا تجد من الأسباب ما يستحق أن تخطر له السمعة مهما حقرت في عين ربها وتنتهك من أجلها حرمة المروءة مهما هانت وإلى رذيلة حب الذات رجع معظم الأكاذيب التي تصادف آذانا صاغية. وقلوباً واعية. وذلك لأن كذبة التاجر أو كذبة الحسود تكون دائماً ظاهرة العلة. حتى لقلما تسوغ على المكذوب أو تروج عنده. وكيف والتهمة أبداً منتبهة. والنفس يقظة عند كل مالها به علاقة أو فيه مصلحة ومهما أثبته التاجر أو الحسود. بوحي الطمع الحرام أو إملاء الفؤاد الدغل كان خليقاً أن ينفيه المكذوب عن ساحته ويمحوه من صحيفته بأسباب أقوى ودواع أشد. ولكن المحب لذاته المفتون بنفسه تراه يفرح بأن يدعي لنفسه حقائر صفات وتافهات مما لا علاقة له بأحوال مجالسيه. ولا دخل له في أمور شؤون معاشريه. حتى إن أكاذيبه لا تهيج خوف إنسان ولا تغرى أحداً باستقرائها لاكتشاف أمرها. ولو حاول محاول أن يتتبع بالتهمة أكاذيب حب الذات يشغل صاحبه ما كان وأين كان. ولا جرم فمن أخطأ في الواقع والحقيقة مناه كان حرياً أن يلتمسها في الزور والباطل.
قال أحد الحكماء لا أحد إلا ويرغب أن يراه الناس فوق غيره ولو لم يكن إلا في امتيازه برؤية مالم يروا وهذه الميزة لخلوها من المجد وبراءتها من الفضل قد كان يجب ألا يكون إليها مطمح طامح ولا دعوى مدع ولكنها على حقارتها وخستها أبى عشاق الذات إلا أن يجعلوها منبع حكايات كاذبة لا تحد ولا تحصى نصيها من تصديق السامعين بمقدار حذاقة الكاذب أو ثقة السامع فكم بين الكذابين الثرثارين من يعد لك في أصحابه كل مخاطر فتاك ملء حياته أهوال ومهارب من مضايق يرى الموت فيها عياناً وتراءت له الحياة ماردا وشيطاناً وكل كاهن ساحر حشو أيامه غرائب وآيات وعجائب ومعجزات قد تلببت لخدمته الطبيعة لا تفتأ تصور له من المدهشات مالا يراه غيره وما ذاك إلا التحدث بأحاديث الكذب ومقالات الأفك والزور.
السعادة(2/46)
من قصيدة للشاعر الروماني مارشال
أما وقد سألتني يا صاح أن أنسق لك من فرائد السعادة نظاماً وأؤلف لك من أجزاء النعيم صورة فهاك سؤلك قد هيأته لك جهد المستطيع ولست أدعي له الكمال ولكني أقول أنه إن لم يستوف جميع أسباب الهناء فقد حوى أعيانها أو شذ عنه بعض فروع السعادة فقد أحرز أصولها وأركانها فاعلم علمت الخير أنك إن بغيت السعادة فاتخذ ضيعة وسطاً لا الكبيرة ولا الصغيرة تكفيك ولا تؤدك ولتكن ميراثاً لك عن أبوين صالحين وإلا أنفقت الطيب الكثير من عمرك في اقتنائها ولتكن من كرم التربة وبركة الثمرة بحيث تدعوك إلى استثمار نتاجها وابتغاء المزيد بخيرها وحاصلاتها وإذا أشتيت فارفع النار تكفكف بها من حدة البرد واضرب بها الشتاء في اخدعيه ضربة تدعه منقاداً ذلولاً واجعل لهيب مطبخك بها الشتاء في اخدعيه ضربة تدعه منقاداً ذلولا واجعل لهيب مطبخك كلسان الشمعة صافياً نقياً ونزه عن الحرام الخبيث أطرافك وساحتك ولا تجعل من قضايا الخصوم جاذبات لك من سكينة الريف إلى ضوضاء المدينة وقلل ما استطعت من دواعي الشغل هنالك وأنزل عقلك منزلة بين القلق المبرح والنوم المميت وابغ الصحة من الرياضة البدنية فهي وحدها الكفيلة بذاك وسو بين نصيبك من الحذر ونصيبك من حسن النية أعني لا تسيء الظن بالناس واحذرهم ولا تستكثرن من الصحاب ولا تأخذ منهم إلا من وفقت بينك وبينه طبيعة وحال واجعل زينة خوانك وحليته ارتفاع الكلفة واستفاضة الأنس والفكاهة لا وفرة الطعام والتأنق في صناعته وإذا جاءك النهار بهم فامسحه عن حشاك بكف الهجوع في الليل ولا تستعن على الهم بالكاس فإنها بئس المعين واستصحب الراحة حليفة الظلام إلى فراسك ولا تركض الكأس في سبل الغواية وترسل لها من شعاع الزجاج عنانا وتجعل لها صنوف الغناء حداة.
وصية التاجر
للبديع الهمذاني من إحدى مقاماته على لسان أبي فتحه يوصى ولده
يا بني إني وإن وثقت بمتانة عقلك وطهارة أصلك فإني شفيق والشفيق سيء الظن ولست آمن عليك النفس وسلطانها والشهوة وشيطانها فاستعن عليها نهارك بالصوم وليلك بالنوم إنه لبوس ظهارته الجوع وبطانته الهجوع وما لبسها أسد إلا لانت سورته وكما أخشى(2/47)
عليك ذاك فلا آمن عليك لصين أحدهما الكرم واسم الآخر القرم فإياك وإياهما أن الكرم أسرع في المال من السوس وإن القرم أشأم من البسوس ودعني من قولهم إن الله كريم أنها خدعة الصبي عن اللبن بلى أن الله لكريم ولكن كرم الله يزيدنا ولا ينقصه وينفعنا ولا يضره ومن كانت هذه حاله فلتكرم خصاله
فأما كرم لا يزيدك حتى ينقصني ولا يريشك حتى يبريني فخذلان لا أقول عبقري ولكن بقري إنما التجارة تنبط الماء من الحجارة وبين الأكلة والأكلة ريح البحر بيد أن لا خطر والصين غير أن لا سفر أفتتركه وهو معرض ثم تطلبه وهو معوز أنه المال عافاك الله فلا تنفقن إلا من الربح وعليك بالخبز بالملح ولك في الخل والبصل رخصة مالم تذمهما ولم تجمع بينهما واللحم وما أراك تأكله والحلو طعام من لا يبالي على أي جنبيه يقع والوجبات عيش الصالحين والأكل على الجوع واقية الفوت وعلى الشبع داعية الموت ثم كن مع الناس كلاعب الشطرنج خذ كل ما معهم واحفظ كل مامعك يا بني قد أسمعت وأبلغت فإن قبلت فالله حسبك وإن أبيت فالله حسيبك.
فضل التجارة وذم عمل السلطان الوظائف
(من فصل للجاحظ)
وهذا الكلام (ذم التجارة) لا يزال ينجم من حشوية اتباع السلطان فأما عليتهم ومصاصهم وذوو البصائر والتمييز منهم ومن فوقته الفطنة وأرهفه التأديب وأرهقه طول الفكر وجرى فيه الحياء وأحكمته التجاريب فعرف العواقب وأحكم التفصيل فإنهم يعترفون بفضيلة التجار ويتمنون حالهم ويحكمون لهم بسلامة الدين وطيب الطعمة ويعلمون أنهم أودع الناس بدنا وأهناهم عيشاً وآمنهم سرباً لأنهم في أفنيتهم كالملوك على أسرتهم يرغب إليهم أهل الحاجات وينزع إليهم ملتمسوا البياعات لا تلحقهم الذلة في مكاسبهم ولا يستعبدهم الضرع لمعاملاتهم وليس هكذا من لابس السلطان بنفسه وقاربه بخدمته فإن أولئك لباسهم الذلة وشعارهم الملق وقلوبهم ممن هم لهم خول مملوءة قد لبسها الرعب وألفها الذل وصحبها ترقب الاحتياج فهم مع هذا في تكدير وتنغيص خوفاً من سطوة الرئيس وتنكيل الصاحب وتغيير الدول واعتراض حلول المحن فإن هي حلت بهم وكثيراً ما تحل فناهيك بهم مرحومين يرق لهم الأعداء فضلا من الأولياء فكيف لا يميز بين بين من هذا ثمرة اختياره.(2/48)
وغاية تحصيله. وبين من قد نال الوفاء عنه والدعة وسلم من البوائق مع كثرة الأثر أو قضاء اللذات من غير منة لاحد ولا منة يعتدي بها ومن هو من نعم المفضلين خلى وبين من قد استرقه المعروف واستعبده الطمع ولزمه ثقل الصنيعة وطوق عنقه الامتنان واسترهن بتحمل الشكر * وقد علم المسلمون أن خيرة الله من خلقه. وصفيه من عبادة والمؤتمن على وحيه من أهل بيت التجارة وهي معولهم وعليها معتمدهم وهي صناعة سلهم. وسيرة خلفهم. ولقد بلغتك بسالتهم. ووصفت لك جلادتهم. ونعتت لك أحلامهم. وتقدر لك سخاؤهم وضيافتهم وبذلهم ومواساتهم. وبالتجارة كانوا يعرفون ولذلك قالت كاهنة اليمن لله در الديار لقريش التجار وليس قولهم قرشي كقولهم هاشمي وزهري وتيمي لأنه لم يكن لهم أب يسمى قريشاً فينتسبون إليه ولكنه اسم اشتق لهم من التجارة والتقريش فهو أفخم أسمائهم. وأشرف أنسابهم. وهو الإسم الذي نوه الله تعالى به في كتابه وخصهم به في محكم وحيه وتنزيله فجعله قرآناً عربياً يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ويجهر به في الفرائض ولهم سوق عكاظ وفيهم يقول أبو ذؤيب:
إذا ضربوا القباب على عكاظ ... وقام البيع واجتمع الألوف
وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم وآله برهة من دهره تاجراً وشخص فيه مسافراً وباع واشترى حاضراً والله أعلم حيث يجعل رسالته ولم يقسم الله مذهباً رضياً ولا خلقاً زكياً ولا عملاً مرضياً إلا وحظه منه أوفر الحظوظ وقسمه فيه أجزل الأقسام ولشهرة أمره في البيع والشراء قال المشركون ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فأوحى الله إليه وما أرسلنا قبلك من المرسلين - إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق فأخبر أن الأنبياء قبله كانت لهم صناعات وتجارات.
والذي دعا صاحبك إلى ذم التجارة توهمه بقلة تحصيله أنها تنقص من العلم والأدب وتقتطع دونهما وتمنع منهما فأي صنف من العلم لم تبلغ التجار فيه غاية أو يأخذوا منه بنصيب أو يكونوا رؤساء أهله وعليهم هل كان في التابعين اعلم من سعيد بن المسيب أو أنبل وقد كان تاجراً يبيع ويشتري وهو الذي يقول ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضوان الله عليهم قضاء إلا وقد علمته وكان أعبر الناس للرؤيا وأعلمهم بأنساب قريش وهو من كان يفتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه(2/49)
وسلم وآله وهم متوافرون وله بعد علم بأخبار الجاهلية والإسلام مع خشوعه وشدة اجتهاده وعبادته وأمره بالمعروف وجلالته في أعين الخلفاء.
ذم الغيرة
للشاعر مسكين الدارمي من شعراء الدولة الأموية
إلا أيها الغائر المستشيط ... علام تغار إذا لم تغر
فما حير عرس إذا خفتها ... وما خير بيت إذا لم يزر
تغار على الناس أن ينظروا ... وهل يفتن الصالحات النظر
فإني سأخلي لها بيتها ... فتحفظ لي نفسها أو تذر
إذا الله لم يعطه ودها ... فلن يعطي الود سوط ممر
ومن ذا يراعى له عرسه ... إذا ضمه والمطي السفر
وقال أيضاً في ذلك:
وإني امرؤ لا آلف البيت قاعداً ... إلى جنب عرسي لا أفرطها شبراً
ولا مقسم لا أبرح الدهر بيتها ... لا جعله قبل الممات لها قبراً
إذا هي لم تحصن أمام قبابها ... فليس بمنجيها بنائي لها قصراً
ولا حاملي ظني ولا قيل قائل ... على حائط حتى أحيط بها خبراً
فهبني امرأ راعيت ما دمت شاهدا ... فكيف إذا ما سرت من بيتها شهراً
وقال:
ما أحسن الغيرة في حينها ... وأقبح الغيرة في غير حين
من لم يزل متهماً عرسه ... مناصباً فيها لوهم الظنون
يوشك أن يغريها بالذي ... يخاف أو ينصبها للعيون
حسبك من تحصينها ضمها ... منك إلى خلق كريم ودين
لا تظهرن منك على عورة ... فيتبع المقرون حبل القرين
صفة بركة
عليها أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعها المياه في قصر المنصور بين علناس من قصيدة لابن حمديس الصقلي المترجم في هذا العدد من البيان(2/50)
وضراغم سكنت عرين رياسة ... تركت خرير الماء فيه زئيراً
فكأنما غشي النضار جسومها ... وأذاب في أفواهها البلورا
أسد كأن سكونها متحرك ... في النفس لو وجدت هناك مثيرا
وتذكرت فتكاتها فكأنما ... أقعت على إدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلو لونها ... ناراً وألسنها اللواحس نورا
فكأنما سلت سيوف جداول ... ذابت بلا نار فعدن غديرا
وكأنما نسج النسيم لمائه ... درعاً فقدر سردها تقديرا
وبديعة الثمرات تعبر نحوها ... عيناي بحر عجائب مسجورا
شجرية ذهبية نزعت إلى ... سحر يؤثر في النهى تأثيرا
قد سرجت أغصانها فكأنما ... قبضت بهن من الفضاء طيورا
وكأنما تأبى لوقع طيرها ... أن تستقل بنهضها وتطيرا
من كل أقعة ترى منقارها ... ماء كسلسال اللجين نميرا
خرس تعد من الفصاح فإن شدت ... جعلت تغرد بالمياه صفيرا
وكأنما في كل غصن فضة ... لانت فأرسل خيطها مجرورا
وتريك في الصهريج موقع قطرها ... فوق الزبرجد لؤلؤاً منثورا
ضحكت محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغورا
ومصفح الأبواب تبراً نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيرا
تبدو مسامير النضار كما علمت ... تلك النهود من الجنان صدورا
وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضاً في السماء نضيرا
وعجبت من خطاف عسجده التي ... حامت لتبني في ذراه وكورا
وضعت به صناعها أقلامها ... فأرتك كل طريدة تصويرا
وكأنما للشمس فيه ليقة ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا
وكأنما اللازورد فيه مخرم ... بالخط في ورق السماء سطورا
وكأنما وشوا عليه ملاءة ... تركوا مكان وشاحها مقصورا
صفة الليل(2/51)
قال أعرابي:
خرجت في ليلة حندس قد ألقت على الأرض أكارعها فمحت صور الأبدان فما كنا نتعارف إلا بالآذان.
وقال آخر:
سريت ليلة حين انحدرت أيدي النحوم وشالت أرجلها فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر.
صفاء الخمر ولطافة الكأس
قال المصحفي الوزير:
صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت ... في الجسم دبت مثل صل لاذع
خفيت على شرابها فكأنما ... يجدون رياً من إناء فارغ
وقال غيره في هذا المعنى:
وزنا الكأس فارغة وملأى ... فكان الكأس بينهما سواء
أثر الخمر
قال بعض شعراء الفرس ما تعريبه:
مازلنا نشربها حتى بحنا بأسرارنا وكأننا بها أشفقت أن نبوح بسرها فعقدت ألسنتنا(2/52)
المقالات والرسائل
معرفة أخلاق الناس
للكاتب الانكليزي الكبير وليم هازلت
ما أقل ما نعرف من هذا الأمر مع كثرة الفرص وطول الدربة فكلما زاد فيه المرء علماً قل فهماً وزاد حيرة.
وإني لأذكر في حديث جرى بين جماعة منذ سنين أن أحدهم ذكر رجلاً تزوج امرأة بعد أن عاشرها ثلاث عشرة سنة فقال له آخر لعله استطاع في هذه المدة الطويلة أن يعرف أخلاقها. فأجابه الأول كلا فلعلها تظهر له في صبيحة العرس بصورة هي عكس ما أبصرها عليه أثناء السنين الثلاث عشرة. فسرني ذلك الجواب جداً وأخذني العجب لما ذكرت شدة صعوبة ذلك الأمر وأنه من المحال على المرء أن يقول لنفسه يوماً ما لقد انكشفت لي مغيبات صدر فلان. وقد خضت بنظراتي النافذات بين جوانح هذا الإنسان.
وهناك ثلاثة طرق للوصول إلى معرفة الأخلاق - من لوائح الوجه ثم من الحديث ثم من الفعال. والأولى أصدق الثلاث على ما يظهر للناس من ضعفها وبعدها من الحقيقة. وهي التي يجب أن يعتمد عليها مع إنكار الناس إياها وبراءتهم منها. فأما حديث الرجل وكلماته فطالما تكون دعاوي كاذبة لا معول عليها وأما أفعاله فربما كانت متكلفة غير حقيقية. ولكن لوائح الوجه هي ما لا طاقة للمرء بتكييفه كما يحب ويشتهي ولقد قال رجل من مشاهير الأدباء ما وهب الله المرء لسانه إلا ليستر به نواياه وأفكاره. وإنك إن تنظر إلى صورة كرومويل رأيته قد زر فمه كأنه يخشى عثرات اللسان إذا هو أرسله. وقد نصح إلينا اللورد شستر فلد في رسائله أنا إذا شئنا أن نعرف كوامن وجدان من نحادثه فلننظر إلى وجهه فإنه أشد سلطاناً على لسانه منه على أعضاء وجهه. وربما نافق الرجل طول عمره وتصنع حتى أصبحت حياته خدعة للناس ولنفسه. ومع ذلك فلو أتيح له مصور بارع فصوره لأثبت على الرقعة أخلاقه الحقيقية لإبصار الخلف والذرية وأبرزه بظهر اللوح عارياً من ثياب نفاقه واضحة للعيان حقيقته ما وضحت الشمس في رابعة النهار. وقد كانت آراء الناس في الأمير شارل الخامس شتى لعله من اختلاف الأهواء والأغراض ثم من تناقض أعماله وتباين أحواله ولكن من ألقى نظرة في صورة ذلك الأمير كما أبدعتها ريشة(2/53)
المصور الكبير تيتان عرف لأول وهلة من حقيقة أخلاق شارل الخامس ما تفرقت فيه ظنون من جالسوه وحادثوه وجهاً لوجه وفماً لفم. ولخير لي من أن يرثيني الشاعر بعد وفاتي بالكلام المنمق ويكتب سيرتي المؤرخ أن أخلف صورة لي من ريشة مصور صناع. فإن وجه هذه الصورة لينطق للناس بما جال في خاطري وحك في وجداني فأما ما جرى به لساني وفعلته يداي فهذا ما لا قيمة له بجانب الفكر والإحساس وصورة الشاعر دون أدل عندي على فضله من جميع ما نظمه. ولو أن صورة يولوس قيصر أشبهت صورة الدوق أوف ولنجتون لما رفعته في عيني أماديح المؤرخين والشراح. وقد قال صديقي فوسيت أنه لو سمع العالم الكبير اسحق نيوتن يلثغ في نطقه لما حفل به ولا رآه ذلك العظيم النابغة. وعلى كل حال فلست حاملاً نفسي على أن تشهد بالعظمة والبطولة لمن حمل وجهه صورة الحمق. وبدت في أساريره آية الغباء والخرق. وقد أكون في ذلك مخطئاً ولكني لا أبالي.
وبوادر الوجه (أعني أول ما تحدثه في نفسك هيئة الرجل وسحنته) هي في الغالب أصدق الشواهد. فإن سيما الوجه هي نتيجة السنين المتوالية وقد طبعتها على صحيفته أيدي الحوادث والصروف بل يد الطبيعة والفطرة فيتعذر على المرء أن يمحوها من وجهه. وقد يرى أحدنا الرجل لأول مرة فيشعر له بكراهة لا يعلم لها سبباً ثم تبدو من الرجل أفعاله جميلة وأحوال حسنة فتنسي في أثنائها تلك الكراهية حتى تكشف ظواهر الرجل عن باطنه فإذا هو قبيح خبيث وحينئذ نعلم أن الكراهة التي وجدناها له أول ما رأيناه كانت بحق وكان أهلها وجديرا بها. ومن الناس مننحس لهم كراهة وإن كنا قد عاشرناهم طويلاً ثم لا نذكر لهم عيباً. فنقول عن هؤلاء أن وجوههم أعداء لهم. وهذا خطأ لو دقتنا النظر. وما كان الوجه قط ليكون عدواً لصاحبه وإلا كان ذلك تناقضاً في مذهب الطبيعة. والطبيعة فوق كل هفوة وخطيئة. وإنما هناك سبب حقيقي لشعورنا نحو هؤلاء بنوع من الكراهة وهو إما جفاء في طباعهم أو أثرة (أنانية) أو قلة إخلاص لا نراها في فعلة أو كلمة معينة من أفعالهم أو أقوالهم ولكنا نراها في الرجل كله وفي شخصه أجمع. ومحاولة الرجل إخفاء هذه النقيصة بكل ما يمكنه هو أحد الأسباب التي تمنعنا أن نراها في شيء معين من أفعاله أو أقواله. وهذه نعمة من الله أن جعل لنا على أخلاق الناس فراسة تنظر بظهر الغيب إلى خبيات الصدور فتراها قبل أن تفشيها أعمال الرجل وأقواله وقد كنت أرى في بعض(2/54)
المنتديات رجلاً دمث الطباع لين الجانب حسن المنظر ولكن لعينيه معني منكراً تخاله ينظر إليك من خلال أهدابه ثم يفر منك بلحاظه فلا تكاد تراه. وقد كان هذا الرجل غشاشا ولصاً فأما من فاق أهل الرياء جميعاً وحمل لواء النفاق والخداع فتلك فتاة صغيرة حسناء حيية خجول منكسة الرأس في غالب الأحيان خاشعة البصر لها رقة كأنها السحر. وإنما كان يحدوني إلى اتهام أخلاقها أني كنت أرى في عينها نظرة ساجية شاخصة كأنما غشيت حدقتها طبقة من لماء أو الزجاج ثم كانت تقبل بهذه النظرة على الفضاء كأنها قد عزمت على أن لا تناقش عينها عينك ولا تتفاهم ألحاظها وألحاظك وكأني كنت أرى تحت سطحيهما (سطي عينيها) اللامعين الراكدين ما يكمن لي من الصخور والأوعاث.
ولا أرانا في تمام أنس وراحة مع ذوي العاهات وذلك لأنهم إذ كانوا ساخطين على أنفسهم فهم بالسخط على الجلساء أخلق وأولى. وبأن يأخذوا من الخلطاء والعشراء ثأرهم عند الطبيعة أجدر وأملى.
ومعرفة الأخلاق أمر شاق ومطلب عويص يحار فيه ويصدر عنه بالعجز والجهل. وجهلنا به ليس بقاصر على الأمم الأجنبية والطبقات التي هي فوقنا أو دوننا على الأصدقاء والأهل والأقارب بل أنا لنجهل من أنفسنا مثلما نجهل من الغير. وضلالنا في شأن الغير بسبب بعدنا من الموضوع كضلالنا في شأن أنفسنا بسبب شدة القرب منه.
فترى أهل الطبقة العليا والوسطي في معظم الأحيان على جهل تام بأخلاق من هم دونهم من الخدم وسكان القرى. وإني لأرسلها قاعدة عامة في هذا الموضوع أن جميع غير المتعلمين أهل نفاق ورياء. ولا هم لهم في الدنيا إلا الغش والخداع. لأنهم يرون أن بينهم وبين الطبقات العالية شبه عداوة وحرب ويرون أن الحرب خدعة وللخدم ملكات إبداعية وقوى اختراعية لا بد أن تصيب أهدافاً وأغراضاً والخال تقتضي أن تكون هذه الأهداف والأغراض هي أغراض أسيادهم ومن يشابهونهم ويشاكلونهم ويجرون مجراهم من الدرجة والحال والمنزلة. نعم إن مواد ذكائهم وأجزاء فطنتهم وبديهتهم لا تطرد بها مجاري القصص ولا تستقل بها مسايل الشعر والرواية وإن قرائحهم لا نغمس في غمرات الكتب ولا تشتمل عليها غيابات الأسفار ولكنها تبقى يقظة تتوقد منتصبة كأنها شوك القنفد أما تري تيار حديثهم يتقاذق بزبد الفكاهة ويتدافع بحباب المجون والمزح ويرمي بكل درة(2/55)
عذراء من جيد القول ولؤلؤة بكر من بارع الكلم. وما يزال أسيادهم يرفعون أنفسهم فوق هاماتهم وما يزالون هم يغضون من أقدار أسيادهم ويحطون من مقاماتهم لكي يلتقوا وإياهم في صعيد واحد ويجمع الفريقين طرفاً سواء. ويفعلون ذلك بتأليفهم من سقطات العائلة ومعايبها وعوارتها رواية يومية يمثلها بعضهم أمام بعض زائدين فيها من مخترعات قرائحهم وبنات أفكارهم ماشاؤا ثم يقلبون أخلاق أسيادهم وسيداتهم ظهرا لبطن ويبرزون مخبات ضمائرهم ومهما يصطنع لهم السيد من حسنة تكن أغرى لهم به وأهيج لهم عليه. وما كنت لتغلبهم بسلاح الحسنة ولا لتستبيهم بمصايد العرف والجميل. وما من حيلة لك تدفع بها احتقارهم إيالك واستخفافهم بك. وإنما يكون المعروف أبعث لهم على النقص من قيمته وعلى تسويد عرضك. وإنهم ليشعرون بأنهم فئة قد انحطت درجتها ظلماً وعدواناً وهضمت حقوقها بغياً وجوراً ثم لا يفهمون لماذا يذهب الأسياد بجميع النعم والمزايا ويبؤون هم بالذلة والحاجة والضعة من كل جانب. ثم لا تستطيع قط أن تصلح ما بينك وبينهم وترضيهم عنك وعن منزلتهم منك. ولو حاولت لاتهموك بأنك تخدعهم. فهم لا يتحلون قط عن إساءة الظن بك. فمن المحال أن ترجو لديهم الشكر وحسن النية وإرادة الخير لك. وكيف وما بينك وبينهم رابطة إخاء وعقد مساواة. فلا ثقة لهم بك ولا استئناس إليك ولا سكون لك. هم يرون أنك تنال منهم بتسلطك عليهم فينالوا منك بخديعتهم إياك وبالحيلة والكذب والمرواغة حتى يستردوا منك مسلوب حقوقهم ثم لا يمنعهم عن طرق الغش والنفاق مانع وما تألفت إلا من ذلك حياتهم. وأين منهم الصدق وهم لا يعرفونه. وإنما حب الصدق شأن من جعل الصدق ديدنه ومبدأه ممن انقطع لفن من الفنون أو لعلم من العلوم حيث يكد الذهن وينصب فيعتاد أن يتمسك بدقة الحساب ويفخر بصحة النتائج. ولا يمكن أن يتولد للنفس حب للصدق خال من الغرض حتى يكون المرء قد طال مزاولته للصدق وتأمله إياه في الأمور العقلية والمسائل البعيدة. والجاهل المنحط لم يزاول من الأمور والمسائل إلا ما اتصل بمنفعته. واختلط بمصلحته فكل أفكاره محلية شخصية ولذلك كانت خسيسة وضيعة. وكل ما سنح بخاطره جرى به لسانه لا ينظر حسناً كان أم قبيحاً. ويحول مجرى كل حادثة في طريق فائدته ولا يبالي أي أكذوبة يصوغون وأي باطل يزخرفون ما دام يلائم غاياتهم ثم لاذمة لهم ولا ورع ولا تقى ولا حياء من العار ولا خجل(2/56)
من الفضيحة ولا يقنعون بالبرهان ولا يذعنون للحق وإذا ناقشتهم بالحجة ضحكوا منك سخرية واستهزاء وليس لك عليهم من سبيل إلا أن تأتيهم من جهة مصلحتهم عندك كأن تطردهم من خدمتك فإذا تظاهروا لك بشيء من الندم ورجوك الصفح فإنما هو رياء منهم يضمرون وراءه شراً كبيراً. وهكذا يظل ذوو اللب والفضل والمروءة ولا حيلة لهم على أولئك المتوحشين اللابسي أزياء المدنية. وكيف وإنك لا تدري ماذا يهجس لك بخاطرهم ولا مبدأ هنالك ولا علامة تدل على ذلك. وليس بينك وبينهمز أدنى اتفاق في رأي أو فكرة. بل كل تناقض وتباين في الإحساس والنظر والمصلحة. وأنت تبني أعمالك على مبادئ ثابتة في الأخلاق. وعلى غاياتهم وأغراضهم لا على غيرها يبنون أعمالهم طرا. فإذا عناهم أمر أخلاقهم والتفتوا إلى تهذيب آدابهم كان باعثهم الوحيد على ذلك هو طلب المنفعة والفائدة لا حباً في الكمالات ورعياً لحرمة الأدب والواجب. فهم أبداً يكدون القرائح في أمرين - تصحيح السمعة وامراض الضمائر. وجملة القول أنك لن تصل معهم إلى حال من التفاهم والتوافق حتى لكانهم في ذلك صنف غريب من الحيوان وليسوا أبناء أبيك آدم. فإن وثقت بهم كذبوك. أو ائتمنتهم خانوك. ثم لا يغرنك منهم ملق وخضوع وطاعة وخشوع. فلقد تتفضل على خادم أحد المطاعم بمحادثتك إياه وعطفك عليه ثم لا تكاد تعطيه كتفيك حتى تسمعه ينبذك باللقب الخبيث. وإذا أهديت ابنة المرأة التي أنت نازل عندها هدية كان جزاؤك منها أنها تغالطك في الحساب وتشتط عليك في الأثمان. حتى لكان الذي بينك وبين أولئك اللؤماء حرب عنيفة وقتال. والحقيقة أن الإنسان مفطور على كراهة أن يكون عليه لأحد عليه رئاسة أو سلطة فهو أبداً يدأب في أن يزيل عن نفسه آثار فضل الغير ويحط عن عاتقه أعباء سلطتهم ويمحو ما بينه وبين من فوقه من آيات التفاوت الظاهر والفرق المشاهد وإذا ساقت الظروف بعض هؤلاء السفلة إلى الاحتكاك بالعلية لم يعدموا وسيلة إلى إيجاد نوع ما من المساواة بينهم وبين - سادتهم - وبئست المساواة! ولقد جاء في الحكمة أنه لا بطل يكون بطلاً في عين خادمه. لأنه لا يفهم البطولة إلا من كان به شيء من البطولة فهو إذن يفهمها ويجلها ويكبر ربها بما أنه أعلى منه واشرف وأعظم. ولكن الخادم الخسيس الذي لم يوفق إلى إدراك معني العظمة لا يعرف ما هي العظمة ولا يظن أن الله قد خلق إنساناً خيراً منه وأشرف.(2/57)
ولقد كانت السيدة الأديبة العالمة المسز سيدونز تلقى محاضرة لنخبة من عيون المتأدبين وخلاصة المهذبين في شعر شاكسبير وكان المحفل بكلامها معجباً. ولبديع آياتها مرتاحاً طرباً. وهي تنثر الدر بين الهتاف والتصفيق وإذا بأحد الخدام في الحجرة الخارجة يصيح مستهزئاً عجباً يا إخواني! أما ترون ما نحدث العجوز بين القوم من الصياح والضجة! عجباً من العجائز عجباً! وكذلك ما أقل الشبه بين بعض طبقات المجتمع وبعضها وما أبعد الأمل في التوفيق بين شتى العادات والأخلاق وأي هوة سحيقة بين جهل أولئك ومعارف هؤلاء.
ومما يعرض في هذا المبحث آراء الرجال في النساء وآراء النساء في الرجال فأقول إذا بنينا الحكم في هذا الموضوع على أمر اختيار الرجل زوجته والمرأة زوجها كان لنا أن نحكم على الفريقين بفساد الذوق وخطل الرأي وسوء الحكم وقد جاء في المثل أن الحب أعمى. وما هو إلا استبداد الهوى بالرأي وذهاب الخيال بالعقل. ولا شك في أن أحب الرجال إلى النساء هم الذين لا ينزلون من نفوس إخوانهم الرجل منزلة سامية ولا فازوا من احترام الذكور بالقسط الراجح. ويظهر لي أن النساء لا يثقن في أمر الحب بأرائهن وأذواقهن بل ينظرن إلى رأي الرجل في نفسه فيتخذنه رأياً لهن ولذلك كان أكثر الفائزين بحبهن هم ذووا الغرور والادعاء والوقاحة. ولا يخطب ود النساء ولا يستجلب رضاهن واستحسانهن بتلك المعالي التي يتنافس فيها الرجال كالفصاحة مثلا والنبوغ والعلم والعبقرية والشرف والنزاهة. ولا أنكر أنه يستمال جانب المرأة بقوة الذكاء والجرأة وما كان حسن الشباب ورونق الجمال وحدهما بكافيين لاستجلاب محباتهن والطريق إلى قلوبهن عسير الاهتداء إليه وأعسر منه ركوبه. على أنه لا بد أن يكون هناك حل لتلك العقدة ومفتاح لذلك القفل وسبب لهذا الأمر إذ كنا نرى أن الكروهين من النساء أشباه كأنهم صنف واحد. وكذلك نرى المحبوبين إليهن. أو ليس أكبر الأسباب التي تدنى منهن وتحبب إليهن وتستجلب ودادهن وشغفهن هو شدة إقبال الرجل عليهن وعنايته بهن وإيثاره إياهن على كل ما عداهن من الأمور والأشياء؟ فالحظى عندهن المقرب هو تبيعهن الخاضع وزيرهن الطيع المنقاد. الذي إذا تحدثن فكله آذان أو سكتن فكله أعين. أو غبن فكله خيال وذكرى وأين هذا من رجل مثلي يسمع حديث المتناظرين وهو ران إلى الكاعب الحسناء(2/58)
فتلفت المناظرة طرفه عنها وتلوى عنقه فلا غرو إن كنت في سوق الجدال والمحاججة اربح صفقة وأنفق سلعة مني في سوق الحسان والغواني.
والعلوم العالية والملكات الكبيرة لا تفهمها الغواني فهي لهن من قبيل الألغاز والمعميات وما استرسالك في الشيء لا يفهمه جليسك؟ أليس هو الحق بعينه؟ والأديب المحض الذي لم ير الدنيا إلا من خلال السطور في الصحف ضائع عند الفتيات على كل حال فهو إن تكلم لهن في العلميات كلمهن فيما لا يفهمن وإن طرق من الموضوعات ما يفهمن طرق مالا يفهم. فهو خاسر الصفقتين. خائب الكرتين. وقد جاء في إحدى القصص عن عاشقين أنه بينهما كان الفتي يكد اللسان أمام الفتاة في شرح صورة لشهير من المصورين كانت الفتاة تجرب على أديم الأرض بقدمها حركة من حركات الرقص.
ولقد نعي على الشعراء أنهم لا يحسنون اختيار الغواني. ورأيي أن الأمر ليس باختيار. وإنما اضطرار. ولو أجاد الشعراء الانتخاب لأرونا الملائكة لا الفتيات. ولا بصرناهم مع الحور العين لا الغادات. ولكن الشاعر الذي امتلأ خياله بخواطر الحب والجمال وفاض لا يكاد يبصر من إحدى الفتيات دلائل الود والعطف حتي يفيض عليها من كنز خاطره ملاحة موهومة ويصب عليها من مغاصة وهمه لآلئ حسن سرابي. من مصاغة خياله حلي جمال خلبي. وماذا يضر الشاعر الذي هذا شأنه أنه يعشق باطلاً ويلذ خدعة كاذبة ما دام يلذ ويعشق ومادام طرفه من البرق الخلب في بهجة ومتاع. وصدره في ثلج من المنظر الباطل الخداع؟
وثمت غلطة أريد أن أنبه إليها الناس. وهي أن الأدباء والمصورين ومن يشاكلهم من أهل الفنون السامية ربما يتسرب إلى ظنونهم إن رفض الغانيات إياهم يرجع إلى نقص في ثروتهم أو جاههم وإنهم قد يبلغون آمالهم عند نساء الطبقات الأدنى حيث ينظر إلى أدبهم ويحفل بطيب خلالهم وقوة ملكاتهم. وهذا منتهى الضلال وغاية الخطأ لأن رفض الغانيات إياهم راجع إلى عدم رضاهن عن أشخاصهم لا ثرواتهم ومنازلهم - راجع إلى سخطهن على غريب أفكارهم وشواذ أحوالهم. والمرأة العالية قد تفطن بعض الشيء إلى مراميهم وفحوى كلامهم. وتهتدي بعض الاهتداء إلى فهم أخلاقهم وطباعهم فأما نساء الطبقات المنحطة فلن يكن من أحوالهم إلا على عمياء. وفي ظلمة طخياء. وإذا استقبل المرأة(2/59)
المهذبة غرائب أقواله وأحواله بابتسامة السخرية فلن تستقبلها المرأة الجاهلة إلا بالقهقهة العالية. وليس ببعيد أن تقذفه بالماء استهزاء واحتقاراً ثم تنادي أختها لترى تلك الأعجوبة والنادرة. وتحيل عليك حبيبها يسألك ماذا تعني بأقوالك تلك. وتهيج ليك القرية بأجمعها. حتى يصبح أمرك بينهم وكأنه رواية مضحكة وفكاهة تمثيلية ونادرة عجيبة يفنون في الضحك منها الليالي والأيام والعام فالعام فأولى بك أيها الفيلسوف والأديب والشاعر أن تصد عن الخادمات وبنات الطبقة المنخفضة إلى السيدات والعقائل وذوات البيوتات والاحساب فإن هؤلاء من محاسن الظن بأنفسهن ما قد ينطق عليه بعض أوصافك البديعة. وإن علوهن عن سائر النساء كعلو أفكارك عن سائر الأفكار! فأما الطبقة المنحطة والعيشة السافلة والخبث والجهل والمكر والخداع والخيانة فليس بينك وبينها شبه ولا تجمعك وإياها جامعة. ويا من يحسب أنه قد يبلغ إلا وطار ويدرك المنى من أهل هذه الطبقات بعقله وحكمته. وظرفه ورقته حذار من نزولك ذلك المعترك وأسلم بنفسك من وبال ذلك المرعى!
ولا أحسب أن الحب لأول وهلة هو كما يزعم الناس نوع من الخرق والطيش لأن من عادة الإنسان أنه يصور لنفسه (قبل أن يعشق) - صورة الفتاة التي يود أن تكون محبوبته - يصورها في وهمه بيضاء أم سمراء. مكتنزة أم هيفاء. لعوباً أم خفرة. حتى إذا صادفتنا غادة قد اجتمعت لها تلك الصفات التي قد شغلبت أذهاننا وملأت مخيلاتنا أعطيناها الحب لأول وهلة واسكناها سويداء القلب للتو واللحظة. وكيف وإنها لضالتنا المنشودة وفيها تحققت تلك الآمال التي لم تك قبل رؤيتها إلا أضاليل أوهام. واضغاث أحلام. وإنها وإن لم تبد لنا إلا الآن فإن صورتها ما برحت نصب عين الذهن في كل لحظة وآن. وحشو ضمير الفؤاد وفراغ النفس في كل موضع ومكان. في اليقظة والمنام. والرحلة والمقام. ألا أيتها الغانية التي تامت فؤادي بأول نظرة وسحرت لبي لا تحسبي أن سلطانك على نفسي قد أزرى به أنه أتى فجاءة وجاء بغتاً. لأني وجدت في شخصك الحسن الجميل كل ما قد تمنيت من محاسن النساء وملائح المرأة!
انفيليس
لوليم هازلت
لا تكاد المرأة الوضيعة النسب تنسى أصلها أو تحسب الناس ينسونه ولا ضير عليها من(2/60)
لؤم الأعراق إذا حملت كرم الأخلاق ولا يشينها خبث المغرس إذا زانها طيب النفس ومن هذا القبيل منية الروح وريحانة القلب انفيليس وأما ويمين الله - حلفاً مؤكداً - لئن زينت بحضرتك السنية يوماً ما غرفتي وطيبت بوجودك العطر حجرتي وأضأت بغرتك المنيرة ظلمتي وآنست بنغمك الرخيم وحدتي وبجرسك الحلو وحشتي وبخصب حسنك وثمار جمالك وثروة بدائعك وملاحاتك جدبي وعدمي وفاقتي مثلما أنضرت بستان أملى وأكدت عريي أمنيتي لاروحن أسعد الناس طراً وأكثرهم نعمة وخيراً ولأصبحن بك داري كعبة ومنهل ومراد وذخر وكنز وروضة وفلك وليرين الناس فيك ماقرؤا من أقصى منتهي الشرف النسائي في تصوير شاكسبير وأبصروا في مبتدعات رافاييل وليطمح الطامحون بأبصارهم نحو الأميرات والشريفات فأنا الذي لا يتلع جيده إلا إلى بنات الرعاة والمتلببات وذوات الضراعة والتواضع وذرني من المسبلات الذيول الناعمات البنان الصادفات الاجياد المصعرات الخدود ولو ثنيت الأنامل على يراع شاعر كبير أو جعلت راحتي صهوة لريشة مصور شهير فجريت شوطاً في مضمار الوصف ونعت أولئك الفقيرات المتواضعات بما هن أهله لأنسيت رومير حب جوليت وأذهلت دون جوان عن جولياه! ثم لا أحب العالمات من النساء ولا أعبأ بمثقال ذرة بمن تعرف ما معنى التأليف والمؤلفين لأنه لا قيمة عندي بمعارفها الأدبية وإنما هي في نظري كمن يهدي القطر إلى البحر والثمر إلى هجر ولا أحب أن تقول لي الغانية أن كتاب كذا وكذا من وضعي وتأليفي لأنه شيء أنا به أعلم الناس ليس يزيد فتيلاً في قوتي وثقتي ببراعتي كلا أنا لا أريدها تفضي إلى فؤادي من هذا الطريق وإنما أود أن تقرأ صحيفة قلبي وما سطرت ثمت أقلام الهوى وتنظر إلى شغاف مهجتي وتبصر ما خرقت هنالك سهام الجوى إنما أريدها أن تحبني لذاتي من غير ما علة ولا سبب لأني أحب ذاتي من غير ما علة ولا سبب وكما أني أعشقها عاطلة من حليها عارية من حليها فكذلك أريد أن تعشقني عاطلاً من حلى الأدب عارياً من حلل الفصاحة والفلسفة! إنما حجتي على تقاضها العطف علي والميل إلي. هو عطفي عليها وميلي إليها. وإن صورتها أبداً نصب عيني. وبين جنبي. وإنه يخيل إلي أن الورد شبيه خدها والأقحوان نظير ثغرها ينبتان تحت قدميها. وإن عذب النعم يفيض من عذبات الأفنان عليها. فإن غابت فكل بقعة قفر. وكل منزل قبر.(2/61)
كذاك أرى الأشياء إما حقيقة ... بدت لي وإما حلم مستيقظ حلم
بذلك أشعر ولكن هل بحت به لها؟ كلا. وهل لو بحت به استطاعت أن تفهمه وتدركه؟ كلا. إنما أطلب العنقاء. وأخاطب الهواء وأصيح بالصحراء. وأعكف على دمية خرساء. وما كان نظر المرء إلى الجمال بجاعله جميلاً ولا ضناه في الحب بمستجلب عليه حب من يهوى. ولقد طالما جنحت إلى تعظيم قوة الحب وسلطانه وحسبت أنه ليس من شأن تلك القوة اللذيذة إلا الجمع بين الجميل والجميل والظريف والظريف. والمغرم والمغرم والمشغوف والمشغوف. وإنه لا يمتع بمناعمه. ويفوز بغنائمه إلا من يحمل في حشاه وجدانه وفي وجهه عنوانه. عشقاً مضمراً. وحسناً ظاهراً. ووجداً مستوراً. وجمالاً مشهوراً. وإذ كنت لست بالقسيم الوسيم وقفت أنظر إلى مواقف الحب ومواطن الغرام من بعد ويحجم بي أني لست من رجاله وأنه لم يك لمن أوتى قبح صورتي أن يدخل في زمرة القوم الحسان وما كان للغراب أن يندمج في سلك الطواويس. ولا للحنظل أن يرى نابتاً بين ريحان الفراديس وإني لا أريد أن أشوه بوجودي ذلك النادي البهي. والمحفل الوضي. أقول كان ذلك ظني زمنا ما. حتى علمت أني في ضلال وأن بعض الظن إثم.
ثم دنوت من مواطن العشق والعشاق فإذا فيهم المقعد والزمن والضرير والمجذوم والأجذم والأبرص والدميم والمشوه والهرم والموهون وقانص اللذات وطالب الدنيا والمبذر الشحيح. والجبان والنذل والدجال واللص والأحمق والغر والغبي والجاهل وكل وغد لئيم أبعد الناس من ذوي الإحسان والحسن وجمال المنظر والمخبر. فلما وجدت كل هؤلاء ينزلون ساحة الحب ومر بخاطري أنه قد يجوز لي أن أحل ذلك الجناب. وألج ذياك الباب. مختفياً به في غمار تلك الجموع المزدحمة والوفودة المحتشدة ثم صممت فمضيت وما بلغت الباب حتى رفضت ورددت. حينئذ علمت أن رفضي وإرجاعي ليس لأني دون القوم بل لأني فوقهم. ولا أنكر أني أسفت (وإن كان أسفي هذا جديراً أن يعد عاراً وسوأة) لحرماني ورفضي عند ما رأيت أن أسفل النوع وأخس الناس الغوغاء والبغاث والحثالة والنفاية كانوا يقدمون علي ويلجون باب ساحة الحب دوني. عند ذلك خيل إلى أني جنس وحدي وإني عالم بذاتي مخالف لهذا العالم السافل. وصرت أفخر بالذي لقيت من الاهانة وأحس اللذة في الألم. وأذوق الشهد في العلقم. وعلمت أن لي مجالاً آخر. وإن حظي ومغنمي في غير تلك(2/62)
السبيل! ومصداق ذلك أن خير ما كتبت. وأجود ما ألفت. والشيء الذي أنا جدير أن أفخر به وأتيه هو مقالتي في موضوع قواعد الأعمال الإنسانية وهو كتاب ما قرأته قط امرأة ولن تستطيع فهمه امرأة أبداً. ولماذا يسوءني أن أروح صفر اليد من النساء وليس عندي مصايدهن. وما لي أزرع الشوك وأنتظر العشب وأبذر القتاد وأرجو التفاح. لقد محت الفلسفة من ذهني الحب وأباد الفكر الهوى. وجبهتي المكفهرة هذه المقبلة على الحكمة والحق إنما هي الصخرة الصماء قد تحطمت عليها سفينة الغرام في ملتطم أمواج الفكر وطامي عباب الرأي والذكرى ومع ذلك فإني لآسف على حرماني ملاذ الهوى ومطايب تلكم المواقف! وتذهب نفسي حسرات وأنفاسي زفرات. فدهري مأتم وعمري مناحة وقلبي فريسة وجفني لطول التهطال غمامة. وقلمي لترجيع البكاء حمامة ونهاري من اسوداد الحداد دجى وليلي من اضطرام اللوعة ضحى. وكذلك قضيت أربعين من عمري أتلهف على نعيم العشق ولا أعطاه. وأشتاق طيب وصال ولا أملاه. وأتمنى وجه حبيب ولا أراه. حتى من به الله بعد الأربعين. ولكن مالي أشكو هذه الأربعين وأتهمها بالخلو من نعمة الجمال والحب إذا كان هذا الوجه الحسن الجميل المشرق المنير يعكس أضواءه على ظلمة تلك الأربعين حتي يرى وجه ماضي وهو من الفرح الجديد والحزن القديم مبتسم في دموعه.
ثغور ابتسام في ثغور مدامع ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما
إني في ذكرى انفليس في لذة لا توصف. وطرب لا يكيف وكأنما يخفق حوالي نور أرجواني. وضياء وردي وكأنما يهب في الحجرة صبا الغرام ونسيم الحب. وكأنما إذا نظرت إلى صورة الحبيبة تلك التي رسمتها بيدي توامضت على الرقعة أشعة ذهبية كعهدي بها يوم كنت أنقشها. وكأنما ينبت في ثرى نفسي أزهار الأمل والسرور كعهدي بها أول ما نبتت. فاذكر العصور الأول وتكر الاويقات السالفة راجعة. وتزدحم على داري السنين الخالية وتقرع الباب وتدخل. وكأني بمتحف اللوفر ثانياً. وكأن شمس أوسترلتز لم تغرب وكأنها لا تزال تشرق في قلبي وكأن فتى المجد وابن الفخار لم يمت وكيف وإنه ليحيى بين جنبي وسويداء مهجتي وكأني في شرخ الشباب وميعة الصبا وكأن الروض قد عاود زخرفه وأخذت الأرض زخاريها وعاد في السماء قزح وكأني أبصر بالعين أذيال(2/63)
أثواب السنين الماضية وأكاد ألمس باليد حواشي أبراد الأزمن الخالية ولم يذهب سدى ولا مضى عبثاً كل ما أحسه قلبي وأجراه خاطري وقد أقف الآن على قبر الحرية فأنظم في ذكري الغرام نشيداً وأنضد في تجديد عهد الهوى قصيداً ويا أيتها الغانية إن كان ما أبديته لي من شواهد الحب خداعاً فأخدعيني به ما حييت ومنيني ما عشت أضاليل الأماني.
علليني بموعد ... وامطلي ما حييت به
دعيني أعش في ظل وصلك السجسج وأكتحل بسنا جبينك الوضاح وبروق ثغرك اللماح اقتليني باللثمات وأحييني بالبسمات واسحريني بالنظرات ولكن لا يزل هواك عابثاً بقلبي لاعباً بلبي هازئاً بحالي ساخراً من آمالي فالخديعة في الحب خير من الفطنة في النهى.
سياحة النزهة
من أمتع لذائذ الدنيا أن يسيح المرء للنزهة ولكني لا أجد تمام تلك اللذة إلا إذا سحت منفرداً ولا أنكر أني قد أنعم بمجالس الإخوان بين جدران البيوت فأما خارجها فحسبي بالطبيعة جليساً ورفيقاً فإن وحدتي بين أعطاف الطبيعة اجتماع وأنا بانفرادي هنالك أبعد ما أكون من الانفراد ثم لا أفهم معنى الجمع بين المشي والكلام وإني متى صرت بين الرياض والأرياف أحببت أن أنسى خواطري وأفكاري وهواجس وهمومي وأنزع شخصيتي وأخرج من إنسانيتي وأصير وسط النبات نباتاً أنا لا أريد أن أكون بين الشجر والبقول ذاك النقاد المعروف بأتناول الكرنب والكراث بذلك النقد الذي أتناول به الشعراء والكتاب وأجيل ملكة البحث والفحص بين البقر والشاء كما أجيلها في ذلك الفصل وذياك الباب وإنما خرجت من المدينة لأنسى المدينة. وما فيها من الزينة والشينة وقد أعرف من الناس من إذا ذهبوا للاصطياف بالأرياف والسواحل نقلوا معهم المدينة بجميع محتوياتها وأحوالها إلى تلك المصايف ولكني من يؤثر الوحدة متى ذهب إلى أماكن الوحدة ويحب العزلة إذا أوى إلى العزلة ولا التمس في الخلوة صديقاً أبث له ما أجد من لذة الخلوة.
ورأيي أن روح السياحة هي الحرية التامة في الفكر والشعور والحركة والعمل حسب مشيئة الإنسان من حيث لا يحذر رقيباً ولا يخاف حسيبا وإنما نلجأ إلى السياحة من منغصات المجتمع وعوائقه وعقباته ولكي نفر من الناس ولكي أجد فسحة لفكري ومجالاً لخاطري ومتنفساً لأحساسي. حيث ينطلق من عنان التأمل ما كان قبل محبوساً ويرتاش من(2/64)
جناح الوهم ما كان في المجتمع مقصوصاً إلا ذرنى برهة من أحاديث الخلان وأقاصيص الإخوان وأعطني سماء زرقاء وأرضاً خضراء وفجاً عريضاً وروضاً أريضاً وثلاث ساعات قبل الغداء ثم دعني وخاطري يسبح في آفاق التأمل ما شاء فلا أخالني إلا مطلقاً عنان المرح بين هاتيك الأودية والمروج أعدو وأثب كالطفل الصغير وأغرد من الطرب كالعصفور وأصعد على سلم الوهم إلى السحابة الوطفاء فأتعلق بأهدابها ثم ألقي من ثمت بنفسي في أعماق الزمن الماضي كما ينغمس الهندي الأحمر في هبوة اللجة الطموح فتقذف به إلى وطنه العزيز وتهديه إلى مسقط رأسه وعند ذلك تثير يد الذكرى دفائن الماضي وتخرج من بحاره غرقى الحادثات الخالية وكسور الآمال التي تحطمت سالفاً في زوابع الشسقاء على صخور النحس في جو قد خبت مصابيح هداه وغارت نجوم سعوده فتخرج تلك الحوادث الغرقى وكسور هاتيك الآمال واللذات والأماني من تحت أمواج الغابر وتبدو لعيني اللهيفة رافلة في أقشب حلل الجدة وأبهى رونق البهجة نعم وتستريح أذني من لجب الجدال وضجة المناظرة ويعوضها الله من سكوت المجالس تتخلله كواذب الفصاحة ومتصنعات الحكمة سكوتاً عميقاً محضاً هو في مذهبي عين الحكمة والفصاحة وليس أحد أميل مني إلى التورية والكناية وسائر صنوف البديع وإلى المحاججة والمحاورة والنقد والتحليل ولكني قد أسأمها أحياناً واللذة تحب وتسأم ولقد أقول مع القائل دعوني هينهة أسترخ! إنكم في شان وأن في شان فإن عبتم ما أنا فيه وقلتم باطل وغى وخمود القريحة ورقدة الذهن قلت لكم هكذا تحسبون وإنكم لفي ضلال وما كنت قط أحبى شعوراً مني الساعة وأيقظ وجداناً وأشد توقداً وأذكى ذكاء أوليست هذه الوردة لذيذة المجتلى من غير شرح ولا مناقشة؟ أولم يشرب إحساسي جمال هذه الزهرة من غير مساعدة برهان ولا معونة نظرية؟ إن قلبي ليطفر نحو هذه الريحانة وإن تلك الريحانة لتطفر نحو قلبي! فإن تسلني سبب ذلك فبينته لك سخرت منه وضحكت مني (وإنما السبب هو أنها تذكرني بحادث لذة مضى ربما احتقرته أنت ولكنه كان عندي مكان الروح قيمة ومقدارا) أفليس إذن من العقل أن أكتم السر في حشاي فأصونه عن مهانة سخرك منه واستهزائك؟ وأجعله لنفسي ذكرى لذيذة أقطع بها الساعات والمسافات ومن ثم لا أكون للمساير ذلك الرفيق المؤنس والصاحب الممتع فأولى بي أن أترك لنفسي فأسير منفرداً وقد يقول قائل لم لا(2/65)
تجمع بين مسايرة الغير ومحادثة نفسك - بين مرافقة الصديق ومناجاة الخاطر والذكرى فلذلك القائل أقول إن هذا من سوء الأدب وانتهاك حرمة العشرة وإنه لمن الرياء وضرب من الخديعة وإنما يجب على المرء أن يترك نفسه إما لمشيئة الرفقاء مطلقاً وإما لمشيئة نفسه وقد سرني من المستر كوبيت إنكاره من الفرنسيين الجمع بين الغداء وشرب الراح في الوقت بعينه وكذلك أنا لا أقدر على الجمع بين الكلام والتأمل - بين المحاورة الحثيثة والتفكير العميق ولا أقول مع الكاتب ستيرن إن لم يكن في استصحاب الرفيق إلا أني أذكر له كيف يطول الظل على انحدار الشمس لكفي بذلك علة. لي على استصحابه. هذا قول بديع من ستيرن ولكني لا أوافق على الفكرة. لأن التحدث في شأن مناظر الطبيعة يضعف من روعة تأثير تلك المناظر في الشعور ويفسد من حسن وقعها في النفس. فإذا اكفتيت من الاسهاب في شرح جمال تلك المناظر بالاختصار ومن العبارة بالإشارة جاء قولك مقتضباً أبتر جافاً مبهماً. وإن شرحت وأفضت جولت لذة المنظر تعباً. وعفوه نصباً. وكتاب الطبيعة أن تنظر في سطوره يغرك بأن تفسر للرفيق آياته. وتشرح للمساير عباراته. ومن ثم إيثاري الانفراد في النزهة حتى لا أحمل على تنغيص لذة السكينة بالكلام وتكدير منهل الفكر باعتلاج دلاء المحاورة والمناقشة. وإنما للجمع والادخار تلك الساعة. وغيرها للتفسير والرأي والمناظرة.
وإنما أريد أثناء النزهة أن أرى خواطري تطفو وترسب في ذهني كأنها نتف زغب الطائر تهفو على حاشية النسيم ولا أريد أن تنشب فيها أشواك الجدال والمباحثة. وإني لا آبي على أي امرئ أن أطوي معه عشرين فرسخاً بالمناظرة ولكني أعلم أنه لا لذة في ذلك. فإني إن ذكرت للرفيق أن ذلك الحقل طيب الرائحة جازان يكون مزكوماً أو معدوم حاسة الشم. أو أومأت إلى شيء قصى لم يبعد أن يكون قصير النظر فيستعين بمرقبه ثم قد تحس في الهواء لذة خفية أو تبصر في لون إحدى السحب بهجة غير معهودة تملأ وجدانك ثم يعيبك أن تصفها أو تبين سببها. فيصبح ليس بينك وبين الرفيق ائتلاف إحساس واتحاد خاطر. متلاصقين جثماناً متباعدين وجداناً وتحاول أن توجد تلك الألفة الاحساسية فيعييك فتساء وتختم بالسخط نزهتك. ولو أن في يدي مفاتيح خزائن اللفظ الأنيق وقد تفجرت على لساني ينابيع البلاغة والبيان لحاولت أن أوقظ تلك الخواطر التي ترقد على مذهب رداء الشفق(2/66)
ومعصفر ملاءة الغروب. ولكن خيالي الضعيف متى واجه عروس الطبيعة أغضى هيبة وأطرق حيرة وطوى إبراده كبعض الزهر ساعة الأصيل وكذلك أعجز كل العجز عن صفة تلك المشاهد وأنا حيالها وبين أيديها. فأما بعد ذلك بزمن - بعد الادكار والاستحضار والروية - فذاك شيء آخر.
وعلى كل حال فالصمت والسكينة للنزهة والطبيعة. وبديع الوصف وغريب التصوير للغرفة والمحفل. ولذلك كان صديقي الكاتب الممتع شارلس لام أسوأ رفيق في النزهة لأنه أحسن جليس في الغرفة ولا أنكر أن هناك موضوعاً واحداً يرتاح المرء إلى طروقه أثناء السياحة - وهو الكلام في شأن طعام العشاء وماذا نتناول من الألوان في المطعم الذي نحن قاصدوه بأقرب قرية. فإن هذه المحادثة لتستعير لذة وتستفيد حلاوة من الهواء الفضفاض من حيث أنه يشحذ الشهوة ويسن أنياب الجوع. وكل فرسخ يطوي بهذا الحديث يحسن طعم الطعام المنتظر ويطيب مذاق الألوان المتوهمة ثم ما أمتع أن يطرق الإنسان لدى مسقط ظلال الليل بلدة قديمة ذات أسوار وحصون أو يأتي قرية متاطمنة الذرى تتعثر أشعة أضوائها فيما يلفها من ملاحف الظلماء فيلقى بها عصار التسيار ويتبوأ دمثاً ليناً وثيراً. هذه يا سيدي نعم جليلة ولذات يجب أن لا تكدر بالشريك الذي لا يذوقها حق مذاقها ولا يلذها تمام اللذة. ولذلك أرى أن أصونها عن المزريات المجحفات وأن أخص بها نفسي وأتنزه فيها عن الشريك والمنازع.
وأن أشرب كأسها الروية فأشتف صبابتها وبعد ذلك إن من الله بالفراغ والقدرة وصفتها باللسان ثم بلسان الدواة وما ألذ أن نتناقش بعد شرب الشاي - ذاك الشراب الذي يسر ولا يسكر - وبعد أن نترك أوعية العقول مجالاً ومرتقى لدخانه وضبابه - أن نأخذ في حديث ماذا نأكل للعشاء - بيضاً وشواء أم أرنباً دفيناً في البصل والأرز أم ماذا؟ وقد أذكر أن سانكو صمم في مثل هذه الحالة على كوارع وهو طلب ألجأته إليه الضرورة وليس بمنتهى الحطة. ثم ما ألذ أن تسمع في خلال نجواك. واثناء ذكراك. صليل المراجل والمغارف وآلات المطبخ وهرولة الخدام ولك ما يصحب ذلك من الحركة وأصوات الاستعداد والخدمة (لنصب الخوان للسيد الضيف) هذا والله العيش وتلك الرفاهية والخفض! وأنها لساعات من حقها أن تصان في هيكل الصمت وتقدس في محراب الخيال وتدخر في وعاء الذكرى(2/67)
لتكون منبع طرب يغذي جداول الخواطر الضاحكة ومجاري الأفكار الهنية. وما كنت لا بد مدنساً طهارة الخيال بالمحادثة فلتكن مع أجنبي غريب. لا صديق قريب. ومع ابن سبيل. لأولى وخليل فإن الغريب ينتحل طباع المكان الذي تلقاه فيه ويأخذ صبغة الساعة التي تجمعك وإياه. وكأنما هو حلس من أحلاس النزل وبعض أثاثه وآلاته وهبه دجالاً فإنه أمتع لي وليس من المحتوم علي أن أنتحل خلقه وأتطبع بطباعه (وإن كان نفر من المشعوذين والمتشردين فذلك ألذ لي وأنا الذي طالما تمني أن يكون أحد هؤلاء وكيف ترى يكون إنكار الناس لهذا الرأي إن أنا أعلنت به وصرحت) هذا وإن منظر الأجنبي لا يذكرني شيئاً مما هربت منه من شؤوني وأحوالي. ولا يكون مقروناً في ذهني إلا بما يحيط بي من الأشياء والحوادث وجهله بي وبجميع أمري يعديني فأكاد أنسي نفسي وشخصيتي ولكن الصديق يذكرني بأمور كثيرة وينبش قبور الألم ويفسد سحر المقام والحال. ويحول بين الذهن وبين ما قد تخيله المرء لنفسه من الشخصية الوهمية بما قد يعرض أثناء الحديث من ذكر وظيفتك ومهنتك وأحوالك وشؤونك. أو بما قد يتفق من أن صديقك من القوم الذين يعرفون أخبث جوانب تاريخك وأقذر نواحي عرضك وسيرتك فيخيل إليك أن سائر سكان النزل والخدم والطباخين يعلمون ذلك أيضاً فتظل وما أنت بابن العالم وأخي الدنيا الذي تخيلت وتوهمت وإنما فلان القاطن بكذا الذي شأنه كيت وكيت. فيضيق بك ما كان انفسح حولك من دائرة الوهم ويرتد مغلولاً ما كان طم لك من شعاع الخيال. ويتضاءل ما كنت حسبت أنك أصبت من بذخ المكانة امتداد شأو الحال. أجل ما ألذ أن يصدع المرء عن نفسه أغلال المجتمع والرأي العام - وأن ينسى ذاته وشخصيته وهمومه بين عناصر الكون وأجزاء الطبيعة ويصبح ابن الساعة واللحضة خالصاً من كل قيد وربقة - لا صلة له بالعالم إلا لوناً من الحلوى أو صحفة من الفاكهة ولا دين عليه إلا ثمن مأكل اليوم ومبيت الليلة - غير مكترث لمدح ولا ذم ولا مبال بسخط ولا رضا ولا مسمى إلا بالسيد الضيف.
فأما الآثار والخرائب والمتاحف ومعارض الصور والدمى والتماثيل فإنه يؤثر في زيارتها صحبة الرفيق أو الرفقاء على الانفراد والوحدة. وذلك لأنها مشتركة الفهم عند جميع المتأدبين متحدة المواقع في كافة النفوس ففيها للكلام متسع وللمناظرات مجال. وما يشعر نحوها من الإحساس والوجدان ليس بأخرس مستحيل النقل والبيان. بل ناطق طوع(2/68)
الشفتين واللسان. وإن كانت بطاح سالسبرى وربى سلسكس مجدبة من شجر الانتقاد وأغراس المناظرة فما خرائب كنيلورث منها بمجدية. وعندي أن أول ما يجب السؤال عنه إذا أريد أن يخرج للتنزه مع الرفاق قصد السرور هو أين يذهب؟ فإذا كان خروج انفراد قصد التأمل والذكرى فالسؤال هو ماذا عسى المرء يصادف في طريقه فليس يراد في حالة الانفراد مكان بعينه. لأنها سياحة الذهن والذهن غني بنفسه عن ذلك المكان أو هذا. وهو بذاته إقليم ودولة في نفسه. وليس همنا أن نبلغ آخر السياحة.
وأما السياحة في البلاد الأجنبية فهذا مالا أستطيعه إلا في صحبة رفيق من أبناء جلدتي وأهل وطني. وكيف ولا بدلى أن أسمع نغمة لغتي ولسان أمتي من حين إلى آخر. وإن في طبيعة الإنكليزي لكراهة غريزية للعوائد والأراء الأجنبية يحتاج أبداً إلى أن يداويها ويمحو أثرها بضدها من ذلك العطف الذي يجلده لابن جلدته ووطنه. وكلما بعد الإنسان عن وطنه اشتدت تلك الحاجة إلى الرفيق حتى تصير ضرورة شديدة وغليلاً مشتعلاً بعد أن لم تكن إلا تعلة وسلوة. ولقد يخيل إلى أني كنت أموت اختناقاً لو قد أصبحت يوماً ما وسط صحارى نجد أو قفار حضرموت بلا رفيق من أبناء وطني ولا ينكر أحد أن منظر روما أو أتينا ليس يخلو من شيء مدهش غريب على النفس والعين لا يصح أن يضن عليه بلفظة ويمر به اللسان راقداً. كما لا ينكر أحد أن الأهرام أضخم من أن تكتفي بتأملات خاطر واحد. وأبعد أقطاراً من أن يذرع مساحتها باع ذهن منفرد. هذا وإن المرء وحيداً بين المشاهد الأجنبية ليخيل إليه أنه نوع من الخليقة مغاير لمن يحيط به من الناس أو أنه عضو قد فصل عن جسم المجتمع فيحس وحشة أيما وحشة إلا أن يصادف إنسا من رفيق يشاكله وصديق يماثله. على أني لم أجد كل هذه الوحشة لدن مس قدمى شاطئ فرنسا الضاحك لأول مرة فوجدت بلدة كاليز غاصة الأرجاء بالزينة والبجهة وكان صوت حركة الإنسانية وأنس الحياة يتحدر كمنبت عقود الجمان ومرفض أسلاك الدر في مسمعي. ولم يشذ عن أذني غناء الملامح بفرع سفينة عتيقة السن قد شاب فؤداها ومسها من أولق الموج اولق ومن لوثة البحر خبال. وإنما كنت هناك أنشق نسيم الإنسانية ولما بسطت القدم في بساط تربها الدمث العبق وثراها المفوف قد نمنمته أيدي الأنواء ورشته لله كف صناع بسطت قدماً وثابة ممراحا وهززت عطفاً ملكته نشوة السرور وتقاذفته أريحيات الطرب(2/69)
وما ذاك إلا لأنها أرض الحرية قد ضربت بها خيامها. ورفعت عليها أعلامها. ولم تحن فيها رقاب الأمم للظلمة والجبابرة!
إن في السياحة بالبلاد الأجنبية لاحساسا لا يجده الإنسان في غير ذلك ولكنه أجدر بأن يكون لذيذا في وقته منه بأن يكون باقي الأثر. وذلك أنه لبعده عن أحوالنا العادية ليس حرياً أن يعترض في سياق أحاديثنا ومجرى كلامنا. ولا يلتئم بديباجة حياتنا كأنه كان قطعة من حياة غير الحياة الإنسانية أو كان حلماً من الأحلام وخيالاً توقد برهة ثم خبا. وأنه لمن أشد العناء على الذهن أن يتوهم ذلك الإحساس الغريب بعد زواله وعسير على المرء أن يخلع شخصيته الحقيقية فيلبس شخصية وهمية وصعب عليه أن يوقظ نبض اللذة التي ماتت وقبرت اللهم إلا أن استطاع أن يثب من فوق أسوار الحاضر في حشا الماضي. والشخصية الخيالية الغريبة وحش لا يصاد. وظهر لا يراض والوقت الذي أمضيناه في السياحة الأجنبية مقطوع عن عمرنا. مفصول من حياتنا لا سبيل إلى وصله ولا وسيلة إلى إدماجه والمرء ما دام خارج وطنه رجل آخر خلاف الذي كان هنالك. حتى أن المسافر ليودع نفسه فيمن يودع ولله در القائل خرجت من موطني ومن نفسي فمن أراد أن ينسي الحزن والشجن فليذهب إلى غير بلده من بلاد الله يجد في عجب المناظر وغريب الأحوال سلوة وروحاً. وتغب من عينه مذكرات الهموم وباعثات الأسى ولذلك كنت أنفق حياتي خارج بلادي لو وجدت من يقرضني حياة أخرى أنفقها في وطني حتى أقضى حقوقه.
الصانع المسكين
(رسالة في قالب قصصي)
للروائي الكبير تشارلس دكنز
هذا الصانع المسكين يعيش على ضفة نهر زاخر التيار طامي العباب اسمه الزمن يصب في اقيانوس عظيم مجهول اسمه الأبد وما زال ذلك النهر منذ بدء الخليقة يجرى ويطرد وكان ربما غير مجراه وانحدر في مسايل جديدة ومسائل حديثة تاركاً مجاريه القديمة غبراء يابسة ولكنه رهن الانحدار والمسيل حتى يفني الله الزمن ثم تراه لا يقف في وجهه شيء ولا يثبت أمام سيله الجارف ناطق ولا صامت بل كان ما على الأرض منقاد طوع تياره محمول على متنه إلى ذاك الاقيانوس المجهول -.(2/70)
هذا الصانع المسكين يعيش في مكان ليس فيه إلا عاملاً كادحاً وهو من أكدح العاملين وأدأب الجاهدين. عيشه اليابس الوعر. ودهره العلقم المر. ورزقه ينفذ إليه من سم الإبرة. ويدر عليه من جانبي صخرة. ومع ذلك فقد كان قانعاً بقسمته. راضياً عن عيشته. يستقبل اليوم باسط الوجه منشرحاً. وينصرف عنه شاكر القلب مرتاحاً. وكان هو وسائر أهل طبقته. أناساً يكدون من لدن يرتفع النهار. إلى أن يقبض الليل الأبصار. ولم يكن لهم دون ذلك من مطمح ولا هم يريدون.
وكانت دار الحكومة ناحية من مسكن هذا الصانع وكان لا يزال بها خطابة ولجب. وجلبة وصخب. ولم يكن للرجل بذلك علاقة اللهم إلا أن ينظر ويتعجب وكان يراهم (أعني رجال الحكومة) يقيمون التماثيل حديداً ومرمراً ونحاساً أمام مسكنه الحقير فيأخذون عليه منافذ النور والهواء بأشباح هذه الأفراس النحاسية. وأشخاص تلك الصور الحديدية وتمادي على تعجبه من هذه الأشياء وماذا يراد بها ثم ابتسم ابتسامته الساذجة ومضى في عمله.
وكانت الحكومة (وهي مؤلفة من أضخم رجال البلد وأكثرهم جلبة وضوضاء) قد تكلفت أن تحمل عنه أعباء الإدارة ومؤنة التفكير فتدبر له شؤونه وتنظم أحواله. وكان الرجل يقول نعم ما تصنع بي الحكومة. ستعنى بأمري جزاء شيء من المال أجعله لها (والحكومة أيها القارئ ليست فوق مال الرجل) وذلك أنعم لي وأنفع ومن ثم ما ترى من تلك الخطب في دار الحكومة والصياح والضوضاء وما ترى من تلك التماثيل التي يكلف الرجل المسكين أن يسجد لها من دون الله.
ويقول الرجل ويحك جبينه حيرة وعجباً أنا لا أفهم كل هذا. فعسى أن له معني يدق عن فهمي ويلطف عن إدراكي.
فتجيب الحكومة معناه إن أعظم المجد والشرف للأعظم أعمالاً وآثارا.
فقال أهو كذلك؟ وسره ما سمع. ولكنه نظر في التماثيل فلم يجد بينها صورة رجل فاضل ممن يعرف ولا صورة ذلك الرجل العظيم تاجر الأصواف الذي توفى آنفاً. ولا صورة رجل من كبار الأطباء الذين بفضلهم نجا هو وبنوه من آفة الداء ولا تمثال شجاع ممن أطلقوا العباد من رق الجبابرة وتركوهم أحراراً بعد أن كانوا عبيداً وأسرى ولا تمثال شاعر أو قصصي ممن أوجد للفقراء والمساكين من الخيال حياة أجمل وأعلى كلها لذائذ وعجائب(2/71)
على حين أنه كان يجد بين تلك التماثيل صور أناس لم يعرف عنهم كثيراً من الخير وصور آخرين ما عرف عنه إلا النكر والضير.
قال الرجل أنا لا أفهم ذلك.
ثم ذهب إلى بيته وجلس إلى النار يصطلي ويحاول نسيان ما رأى.
وكان بيته حقيراً تحفه طرقات مسودة ولكنه كان عزيزاً عليه حبيباً إليه وكانت زوجته قد كبرت قبل أوانها وخشن العمل كفيها وأيبس أناملها ولكنها كانت قرة عينه وكان اصيبيته قد انحلهم سوء الغذاء وحبس البؤس شبابهم ولكنهم كانوا زينة بصره وثلجة صدره وكان أبعد غايته وأقصى أمنيته أن يرى العلم لهم قريناً والعرفان الفا وخدينا حتى لقد كان يقول إذا كان الجهل منشأ خطأي وخطلي فليكفهم التعليم غلطي وزللي وإن تعذر على أن أقطف ثمار الكتب من الفائدة واللذة فليصبحن ذلك عليهم من السهل.
ولكن الحكومة لم تر مارآه من حاجة اغيلمته إلى التعليم فأهملت تهذيبهم وتنويرهم فأبصر الرجل شيطان الجهل قد نبغ وسط داره فاستحوذ على بنيه ورأى ابنته قد أصحبت خرقاء رخوة متثاقلة وراح غلامه يركض أفراس الشهوة في سنن الغواية ويحدو اينق الباطل في سبل الجرم والجناية وأبصر نور الفطنة في أعين أطفاله يتحول مكراً وريبة حتى جعل يتمنى أنهم كانوا بلها وحمقى.
وقال أنا لا أفهم هذه الأشياء ولكني أعلم أنه ما يراد بها خير وأما وهذه الأرض المقشعرة والسماء المكفهرة والجو المغيم والأفق المظلم أني لأنكر هذه الأعمال ولا أراها جوراً وظلماً!.
ولما سكت عنه الغضب (وكان غضبه كالبرق الخاطف لا يهيج حتى يزول) نظر إلى الآحاد أيام فراغه والى الأعياد أيام بطالته ولهوه فلم يجدها إلا أسباب ملل ودواعي سأم وإلا السكر وما يعقب من المحن والمصائب فالتفت إلى الحكام وقال لهم نحن معشر العمال والمهنة أرانا قد ركب الله في طباعنا حاجة إلى اللذة النفسية واللهو الذهني فانظروا ماذا نقع فيه من الإثم والجريمة لحرماننا لذة الأنفس ومتاع الأذهان ألا فأبيحوا اللهو الحلال واستشلونا من هذه الوهدة وأطلقونا من ذلك الضيق.
فضجت الحكومة وصاحت وهاجت وماجت عند ما نادى نفر قليلون يطلبون للرجل نعمة(2/72)
التعليم كيما يبصر بدائع الوجود وعجائب الفنون حتى بهت الرجل وقال حائراً مندهشاً:
أنا الذي أحدثت هذا؟ وهل كل ذلك لأني أعلنت حاجة نفسي والتمست المخرج من غمي وكربتي؟ ليت شعري ماذا يراد بنا وإلى أي طريق نحن مسوقون.
وأنه ذات يوم لمكب على عمله إذ بلغته أنباء الطاعون يفتك في العمال ويصرعهم بالآلاف فخرج يستوثق من الخبر فإذا هو صحيح وإذا الموتى والذين في سكرة الموتى مختلطون هؤلاء بأولئك قد غصت بهم تلك المساكن الضيقة التي يعيش في أحدها فياله من سم جديد أضيف إلى ما قد أفعم به ذلك الهواء المنتن الخبيث ويا لها ضربة صعقت الأبناء والآباء والأقوياء والضعفاء ونكبة اجتمع فيها العقلاء والسفهاء والأعداء والأولياء.
وماذا لديه من أسباب الهرب وسبل الفرار؟ الحمد لله لا منجى ولا مهرب ولا منفذ ولا مذهب ومكث الرجل حيث هو ومات أحبابه بعينيه وأتاه قسيس يحاول أن يخفف عنه ويرقق فؤاده في تلك المحنة التي تنسى المرء أخلاقه وتخرج الإنسان من سجيته ولكن الرجل أجاب قائلاً:
أي فائدة في كلامك لرجل كتب عليه المقام في هذا المكان الخبيث فعادت نقمة وعذاباً كل حاسة أرادها الله له باب نعمة ولذة وأصبحت كل لحظة من عمره عبأ يضاف إلى ما يفدحه من الأعباء ويهد كاهله من الاثقال أعرني نظرة إلى السماء ونفساً من خالص الهواء وأكحل عيني بمرود الضياء واسقني جرعة من سائغ الماء وأعني على النظافة وخفف عني ثقل هذه الحياة ورقق من كثافة هذا الهواء وترفق بهذه الجثث وأحملها من هذه الغرف الضيقة فلقد ألفنا صورة الموت حتى كاد يذهب من نفوسنا جلاله وهيبته.
كل ذلك والرجل منكمش في عمله ونه كذلك ذات يوم وبه من الحزن والوحشة ما به إذ وقف عليه رئيسه في ثوب حداد وكان قد فجع بزوجته وكانت جميلة وبرة كريمة ورزء كذلك ابنه ولم يكن عنده سواه.
قال الرجل أيها الرئيس أنك قد رزئت جليلاً وفارقت خليلاً فعزاء حسناً وصبراً جميلاً وقد أعطيك السلوان لو أملكه ولكن أين مني ذلك.
فشكره الرئيس ولكنه قال ويل منكم معشر العمال. منكم نبع الداء ونجم البلاء. ولو أنكم أطبتم معايشكم وعنيتم بأسباب النظافة والصحة لما بت أندب غلامي ثاكلا وأبكي زوجتي(2/73)
أرملاً.
فهز الرجل رأسه قائلاً إنه لن تصلح الأحوال حتى تشركنا الحكومة معها في الحكم والإدارة وأنا لا نستطيع إلى الصحة والنظافة سبيلاً حتى يهيء لنا ولاة الأمر أسباب ذلك ولا نجد الطريق إلى العلم حتى يأخذ ولاة الأمر بأيدينا ولا نهتدي إلى سبل اللهو الحلال حتى يهدينا ولاة الأمر إليها وإن مضار هذا الإهمال والتفريط وإن لم تنجم إلا بيننا ولكنها لا تنتهي عندنا بل تتعدانا إلى سائر الطبقات غيرنا حتى يفشو المصاب وتعم البلوي.
ولكن الرئيس قال ويحكم معشر العمال ما نكاد نسمع ذكركم إلا مقروناً بإحدى المصائب!.
فأجاب قائلا: ما منا تبتدئ ولا فينا تنتهي المصائب.
وقد كان في قوله هذا من الحق في نازل الوباء من البؤس والضر ما حمل الحكومة على عزيمة إشراكه في شيء من الأمر - على الأقل في الاحتياطات اللازمة لأبادة الوباء ولكنه ما زال خوفهم حتى أنحوه عن زمرتهم واستبدوا بالأمر دونه فعاد الوباء أشد طغياناً وأحصد فتكاً.(2/74)
أمالي البيان
أقترح على البيان بعض أهل الفضل والأدب إدخال باب جديد بين زمرة أبوبه يكون موضوعه جمع ما هو مبدد في كتب الأدب - كالأغاني وكامل المبرد والعقد الفريد وزهر الآداب وإضرابها - من مستملح الأخبار ومستعذب الآثار. وسير الأدباء والشعراء والظرفاء والمغنين والمجان وأيام العرب وحكاياتهم المستطرفة حتى يكون ذلك مغنياً عن شتى الكتب ومطولات الأسفار وحتى يجد قارئ البيان من سير الماضين وأحوالهم ما فيه تفكيه للنفس وترويح للخاطر وتثقيف للفكر وأدب للناشئ وذكرى للمنتهى ولقد وقع هذا الاقتراح من نفسنا موقعاً حسناً وأصاب منها ما يصيب البارد العذب من الصديان فأجمعنا النية على أن نثبت في هذا الباب كل لذ ممتع من سير الماضين وآدابهم ونوادرهم مما تفرق في تضاعيف الكتب وثنايا السطور حتى يكون هناك شجرة أدب يانعة الثمر قريبة المتناول يهتصر قارئ البيان أغصانها ويجتني من كثب أثمارها وحتى تبلغ مسامع الكثير من شبابنا أخبار أسلافنا التي طال احتجابها عليهم وعز وصولها إليهم وهي عند النصفة أولى المعلومات بالعلم والمدارسة كيما نكون دائماً على ذكر من شؤن آبائنا الأولين وكيما يتصل السبب بينهم وبين نشئنا المولع بالغريب والمستهتر (المولع أشد الولوع) بالأجنبي الذي ليس بيننا وبينه لحمة جنس ولا لغة ولا دين مع أعراضه عن سلفه ورضائه بوصمة الجهل بشؤنهم وهي كما قلت نعمت المحصولات العلمية التي إذا جهلها منتسب لهذه اللغة استبدت به عجمة الأعجام وتقطعت حبال ما بينه وبين قومه وأنكرته آدابهم. ومحبته أذواقهم وكذلك ترى الكثير من أولئك في المحافل الحافلة على جانب عظيم من النكر وركود الريح ويبس الطبيعة فلا تأذن من ناحيتهم إلا كل قول أبنز عار لا تحليه ملحة ولا يزينه استشهاد ولا يتخلله أدب: كل ذلك لجهلهم بآداب أسلافهم وطرائفهم واحتقارهم إياها وهم بذلك إنما يجنون على أنفسهم ويسيئون إليها من حيث يدرون ولا يدرون
فيا أيها النشء أبناء الماضيين عليكم أدب أسلافهم قبل أدب غيرهم وليس يجعل بكم وأنتم سلالتهم أن تجهلوا ما هنالك من أدب باهر. وظرف ظاهر. وفكاهات ونوادر ولا والله لن تغني عنكم آداب الأغيار مالم تبتن على أدبكم أنفسكم الذي به تعتزون. وبجهله تذلون. ولتعلمن أن من أجنى ما تجنون على قوميتكم أن تجهلوا ماضي آبائكم وتستبدلوا بهم من لا شبه بينه وبينكم وإنكم إن فعلتم ذلك واسترسلتم ولم تتداركوا نسيتم ما ضيكم فأنساكم الله(2/75)
حاضركم ونسيتم سلفكم فأنساكم الله أنفسكم. وإذا كانت أمم المغرب لا تزال تعنى العناية كلها بآداب يونانهم ورومانهم وتعتمد في آدابهم أنفسهم عليها على نزارة آداب أولئك إذا قيست بآداب العرب وبعدما بين الجلين (الإفرنج - واليونان والرمان) من النسب والقرابة أفلا يليق بكم أنتم وأنتم أبناء العرب وبدينهم تدينون وبلغتهم تخاطبون أن تعنوا كذلك بآدابهم وتحرصوا على معرفتها كل الحرص.
- نعم ولا نخالكم بعد أن سيبذل البيان جهده في تقريبها اليكم وجعلها منكم على طرف الثمام وحبل الذراع إلا فاعلين.
أما هذه الأمالي فهي كشكول جامع يتنقل فيه القارئ بين جد وهزل وأدب وحكمة وخبر نادرة فمن أخبار شاعر إلى مجون ما جن إلى ظرف خليع إلى أدب مليك إلى كل ما تلتقى فيه الفائدة باللذة والفكاهة من أخبار الماضين ونوادر الأولين إن شاء الله.(2/76)
أخبار السيدة سكينة
بنت الحسين رضي الله عنهما
كانت السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب سيدة نساء عصرها وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقاً وكانت عفيفة سلمة برزة من النساء تجالس الجلة من قريش وكان يجتمع الشعراء في فناء دارها ولها مع الشعراء والمغنين والمجان حكايات ونوادر تدل على أدبها وبصرها بالشعر وظرفها ولطف غريزتها فلا جرم أنا ذاكرون من أخبارها ما لا يخرج عن شريطتنا في هذه الأمالي إن شاء الله.
كان اسم السيدة سكينة آمنة وقيل أمينة وقيل أميمة وسكينة لقب لقبت به وكانت أمها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي الكلبي وفيها يقول الحسين رضي الله عنه:
لعمرك أنني لأحب داراً ... تكون بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي ... وليس لعاتب عندي عتاب
وكانت السيدة آية في الجمال وكانت تصفف جمتها تصفيفاً لم ير أحسن منه حتى عرف ذلك وكانت تلك الجمة تسمى السكينية وكان عمر بن عبد العزيز إذ وجد رجلاً يصفف جمته السكينية جلده وحلقه - وتزوجت السيدة عدة أزواج وكان أول ما تزوجت عن عبد الله بن الحسين بن علي وهو ابن عمها وأبو عذرتها ثم خلفه عليها مصعب بن الزبير زوجه إياها أخوها علي ابن الحسين ومهرها مصعب ألف ألف درهم ولما حملها أخوها إليه رضخ إليه بأربيعن ألف دينار قالت السيدة دخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة في الليلة القراء وولدت من مصعب بنتاً سمتها الرباب فلما قتل مصعب ولى أخوه عروة تركته فزوج الرباب ابنه عثمان فماتت وهي صغيرة فورثها عثمان بن عروة عشرة آلاف دينار.
حدثت سعيدة بنت عبد الله بن سالم قالت لقيت سكينة بين مكة ومنى فقالت قفي يا ابنة عبد الله فوقفت فكشفت عن بنتها من مصعب وإذا هي قد أثقلتها الحلي واللؤلؤ فقالت ما ألبستها إياه إلا لتفضحه.
ثم تزوجت السيدة من عبد الله بن عثمان الخزامي ثم من زيد بن عمرو ابن عثمان ثم من الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان ولم يدخل بها ثم من إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف(2/77)
ولم يدخل بها وقيل في ترتيب أزواجها غير ذلك وكان أحد أزواجها زيد بن عمرو بن عثمان كما حدث أشعب (وكان قد اتخذته السيدة سميرا لها) انجل قرشى قال أشعب فخرج حاجاً وخرجت معه سكينة فلم يدع أوزة ولا دجاجة ولا بيضاً ولا فاكهة إلا حمله معه وأعطتني مائة دينار فخرجت ومعها طعام على خمسة أجمال فلما أتينا السيالة نزلنا وأمرت بالطعام أن يقدم فلما جيء بالأطباق أقبل أغيلمة من الأنصار يسلمون على زيد فلما رآهم قال أوه خاصرتي ارفعوا الطعام وهاتوا الترياق والماء الحار فجعل يتوجرهما حتى انصرفوا ودخلنا وقد هلكت جوعاً فلم آكل إلا مما اشتريته من التسوق فلما كان من الغد أصبحت وبي من الجوع ما الله به عليم ودعا بالطعام فأمر باسخانه وجاءته مشيخة من قريش يسلمون عليه فلما رآهم اعتل بالخاصرة ودعا بالترياق والماء الحار فتوجره ورفع الطعام فلما ذهبوا أمر بإعادته فأتى به وقد برد وقال لي يا أشعب هل إلى أسخان هذا الدجاج سبيل فقلت له أخبرني عن دجاجك هذا من آل فرعون فهو يعرض على النار بكرة وعشيا - وحكى أن أحد أزواجها زيد بن عمرو استأذنها أن يحج مع سليمان بن عبد الملك وأعلمها أنها أول سنة حج في الخليفة وأنه لا يمكنه التخلف عن الحج معه وكانت لزيد ضيعة يقال لها العرج وكان له فيها جوار فأعلمته أنها لا تأذن له إلا أن يخرج أشعب معه فيكون عيناً لها عليه ومانعاً له من العدول إلى العرج ومن اتخاذ جارية لنفسه في بدأته ورجعته فقنع بذلك وأخرج أشعب معه وكان له فرس كثير الأوضاح حسن المنظر يصونه عن الركوب إلا في مسايرة أمير أو يوم زينة وسرج يصونه لا يركب به غير ذلك الفرس وكان معه طيب لا يطيب به إلا في مثل ذلك اليوم الذي يركب فيه وحلة موشية يصونها عن اللبس إلا في يوم يريد التجمل فيه بها فحج مع سليمان وكانت له عنده حوائج كثيرة فقضاها ووصله وأجزل صلته وانصرف سليمان وكانت له عنده حوائج كثير فقضاها ووصله وأجزل صلته وانصرف سليمان من حجه ولم يسلك طريق المدينة وانصرف ابن عثمان يريد المدينة فنزل على ماء لبني عامر بن صعصعة ودعا أشعب فأحضره وصرصرة فيها أربعمائة دينار وأعلمه أنه ليس بينه وبين العرج إلا أميال وإن أذن له في المسير إليها والمبيت عند جواريه غلس إليه فوافى وقت ارتحال الناس فوهب له الأربعمائة دينار فقبل يده ورجله وأذن له في السير إلى حيث أحب وحلف له أنه يحلف(2/78)
لسكينة بالإيمان المحرجة أنه ما صار إلى العرج ولا اتخذ جارية منذ فارق سكينة إلى أن رجع إليها فدفع إليه مولاه الدنانير ومضى قال ابن أشعب حدثني أبي أنه لم يتوهم أن مولاه سار نصف ميل حتى رأى في الماء الذي كان عليه رحل زيد جاريتين عليهما قربتان فألقتا القربتين وألقتا ثيابهما عنهما ورمتا بأنفسهما في الغدير وعامتا فيه ورأى من مجردهما ما أعجبه واستحسنه فسألهما عند خروجهما من الماء عن نسبهما فأعلمتاه أنهما من اماء نسوة خلوف لبني عامر بن صعصعة بالقرب من ذلك الغدير فسألهما هل يسهل على مواليهما محادثة شيخ حسن الخلق طيب العشرة كثير النوادر فقالتا وأني لهن بمن هذه صفته فقال لهما فأنا ذلك فقالتا له انطلق معنا فوثب إلى فرس زيد فأسرجه بسرجه الذي كان يركبه ودعا بحلته التي كان يضن بها فلبسها وأحضر الفسط الذي كان فيه طيبه وتطيب منه وركب الفرس ومضى معهما حتى وافى الحي فأقام في محادثة أهله إلى قرب وقت صلاة العصر فأقبل في ذلك الوقت رجال الحي وقد انصرفوا من غزواتهم وأقبلت تمر به الرعلة بعد الرعلة فيقفون به فيقولون ممن الرجل فينتسب في نسب زيد فيقول كل من اجتاز به ما نرى باساً وينصرفون عنه إلى قرب غروب الشمس فأقبل عليه شيخ فان على بجير هرم هزيل ففعل مثل ما كان يخبر من تقدمه فقال مثل قولهم قال أبي ثم رأيت الشيخ وقد وقف بعد قوله فأوجست منه لأني رأيته قد جعل يده اليسرى تحت حاجبه ورفعها ثم استدار ورأى وجهي وركبت الفرس فما استويت عليه حتى سمعته يقول أقسم بالله ما هذا قرشي وما هذا إلا وجه عبد فركضت فرسي وهو يقول من أنت واتبعني فلما يئس من اللحاق بي انتزع سهماً فرماني نه فوقع في مؤخرة السرج فكسرها ودخلتني روعة من ضربة أحدثت لها الحلة ووافيت رجل مولاي فغسلت الحلة ونشرتها فلم تجف ليلاً وغلس مولاي من العرج فوافاني في وقت الرحيل فرأى الحلة منشورة مؤخرة السرج مكسورة والفرس قد أضربه الركوب وسفط الطيب مفضوض الخاتم فسألني عن السبب فصدقته فقال لي ويحك أما كفاك ما صنعت بي حنى انتسبت في نسبي وسكت عني فلم يقل لي أحسنت ولا أسأت حتى وافينا المدينة فلما وافاها سألته سكينة عن خبره فقال يابنت رسول الله وما سؤالك إياي ولم يزل ثقتك معي وهو أمين على فسليه عن خبرى يصدقك عنه فسألتني فأخبرتها أني لم أنكر عليه شيئاً ولم أمكنه من ابتياع جارية ولم أطلق له الاجتياز بالعرج فاستحلفتني(2/79)
فلما حلفت لها بالإيمان المحرجة فيها طلاق أمك (يخاطب ابنه) وثب فوقف بين يديها وقال والله يا بنت رسول الله لقد كذبك العلج أقمت بها يوماً وليلة وغلست بها عدة من جواري وها أنا تائب إلى الله مما كان مني وقد جعلت توبتي منهن وتقدمت في حملهن إليك وهن موافيات المدينة في عشية هذا اليوم فبيعهن وعتقهن إليك وأنت أعلم بما ترين في العبد السوء فأمرتني بإحضار الأربعمائة دينار فلما أحضرتها أمرت بابتياع خشب بثلثمائة دينار وليس عندي ولا عند أحد من أهل المدينة علم بما تأمر به ثم أمرت بأن يتخذ بيت من عود وجعلت النفقة عليه من أجر النجارين من المائة الباقية ثم أمرت بابتياع بيض وتبن وسرجين بما بقي من المائة دينار بعد أجرة النجارين ثم أدخلتني والبيض والتبن والسرجين في البيت وحلفت بحق جدها لا أخرج من ذلك البيت حتى أحضن ذلك البيض كله إلى أن يفقس ففعلت ذلك ولم أزل أحضنه حتى فقس كله فخرج الفراريج وربيت في دار سكينة وكانت تنسبهن وتقول بنات أشعب
وحدث الرواة قالوا اجتمع في ضيافة السيدة سكينة جرير والفرزدق وكثير وجميل ونصيب فمكثوا أياماً ثم أذنت لهم فدخلوا عليها فقعدت حيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم ثم أخرجت وصيفة لها وضيئة قد روت الأشعار والأحاديث فقالت أيكم الفرزدق فقال لها ها أنا ذا قالت أنت القائل:
هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما انحط بازٍ أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحي نرجي أم قتيل نحاذره
فقلت ارفعوا الأمراس لا يشعروا بنا ... وأقبلت في إعجاز ليل أبادره
أبادر بوابين قد وكلابنا ... وأحمر من ساج تبص مسامره
قال نعم فما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك هلا سترت عليك وعليها خذ هذه الألف والحق بأهلك ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت أيكم جرير قال ها أنا ذا فقالت أنت القائل:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
تجري السواك على أغر كأنه ... برد تحدر من متون غمام
لو كان عهدك كالذي حدثتنا ... لوصلت ذاك وكان غير ذمام
إني أواصل من أردت وصاله ... بحبال لا صلف ولا لوام(2/80)
قال نعم قالت أولاً أخذت بيدها وقلت لها ما يقال لمثلها أنت عفيف وفيك ضعف خذ هذه الألف والحق بأهلك ثم دخلت إلى مولاتها وخرجت فقالت أيكم كثير قال ها أنا ذا فقالت أنت القائل:
وأعجبني ياعز منك خلائق ... كرام إذا عد الخلائق أربع
دنوك حتى يدفع الجاهل الصبا ... ودفعك أسباب المنى حين يطمع
فو الله ما يدري كريم مماطل ... أينساك إذ باعدت أو يتضرع
قال نعم قالت ملحت وشكلت خذ هذه الثلاثة آلاف والحق بأهلك ثم دخلت على مولاتها ثم خرجت فقالت أيكم نصيب قال ها أنا ذا فقالت أنت القائل:
لولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشأ الصغار
بنفسي كل مهضوم حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتصار
قال نعم فقالت ربيتنا صغاراً ومدحتنا كباراً خذ هذه الألف والحق بأهلك ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت يا جميل مولاتي تقرئك السلام وتقول لك والله مازلت مشتاقة لرؤيتك مذ سمعت قولك:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذاً لسعيد
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل عندهن شهيد
فجعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء خذ هذه الألف دينار والحق بأهلك.
ورووا أن الفرزدق خرج حاجاً فلما قضى حجه خرج إلى المدينة فدخل على السيدة مسلماً فقالت له يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنبه عزيز ... علي ومن زيارته لمام
ومن أمسى وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
قال والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه قالت فاخرج عني ثم عاد إليها من الغد فدخل عليها فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت صاحبك أشعر منك حيث يقول:
لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
كانت إذا هجر الضجيع فراشها ... كتم الحديث وعفت الأسرار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار(2/81)
فقال والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه فأمرت به فاخرج ثم عاد إليها في اليوم الثالث وحولها مولدات كأنهن التماثيل فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن فأعجب بها وقالت يا فرزدق من أشعر الناس فقال أنا فقالت كذبت صاحبك أشعر منك حيث يقول:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
فقال يا بنت رسول الله إن لي عليك حقاً عظيماً ضربت إليك من مكة إرادة السلام عليك فكان جزائي منك تكذيبي ومنعي من أن أسمعك وبي ما قد عيل معه صبري وهذه المنايا تغدو وتروح ولعلى لا أفارق المدينة حتى أموت فإن أنا مت فأمري أن أدرج في كفني وأدفن في حر تلك الجارية: يعني الجارية التي أعجبته: فضحكت السيدة وأمرت له بالجارية فخرج بها آخذاً بريطتها (ملاأتها) وأمرت الجواري أن يدففن في أقفائهما ثم قالت يا فرزدق أحسن صحبتها فإني آثرتك بها على نفسي.
ووقفت السيدة مرة على عروة بن أذينة فقالت له يا أبا عامر أنت الذي تقول:
قالت وأبثثتها سري وبحت به ... وقد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطى هواك وما ألقى على بصري
وأنت القائل:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم ابترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
قال نعم قالت هن حرائر وأشارت إلى جواريها أن كان خرج هذا من قلب سليم وهذا عروة بن أذينة كان من كبار العلماء وفحول الشعراء سمع ابن عمر وروى عنه مالك في الموطأ وهو القائل:
لقد علمت وما الأشراف من خلقي ... إن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعنيني تطلبه ... وإن قعدت أتاني لا يعنيني
لا خير في طمع يدني إلى طبع ... وغفة من قوام العيش تكفيني
كم من فقير غني النفس تعرفه ... ومن غني فقير النفس مسكين
ومن عدو رماني لو قصدت به ... لم آخذ النصف منه حين يرميني(2/82)
ومن أخ لي طوى كشحاً فقلت له ... إن انطواءك عني سوف يطويني
إني لأنظر فيما كان من إربي ... وأكثر الصمت فما ليس يعنيني
لا أبتغي وصل من يبغي مقاطعتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
واتفق أن عروة وفد هو وجماعة من الشعراء إلى هشام بن عبد الملك فتبينهم فلما عرف عروة قال ألست القائل: لقد علمت: الأبيات
فاظرق عروة ملياً ثم خرج من فوره ذلك فركب ناقته وخرج إلى الحجاز فافتقده هشام فلم يره وسأل عنه فقيل له راح إلى الحجاز فندم على ما كان منه وقال أنه شاعر ولسنا نأمن أن ينالنا من لسانه شيء فأرسل إليه بصلة جزيلة فوافاه الرسول بها حين وافى منزله بالمدينة فقال للرسول قل لأمير المؤمنين كيف رأيت صدقه في قوله - ومن شعر عرووة بن أذينة:
إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوىً لها
فيك الذي زعمت بها فكلاكما ... أبدى لصاحبه الصبابة كلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها ... وقد ضحيت إذاً لاطلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فادقها وأجلها
لما عرضت مسلماً لي حاجة ... أخشى صعوبتها وأرجو ذلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها
فدنا فقال لعلها معذورة ... في بعض رقبتنا فقلت لعلها
رجع ما انقطع من أخبار السيدة سكينة (البقية تأتي).(2/83)
الفكاهات والملح
كاره الدنيا
ما زال المستر اندرو ترفرتون منذ دب على صدر الوجود غريب الأحوال عجيب الأطوار تناقض أخلاقه أخلاق الخلق ويناقض بعضها بعضاً تحت ظلها الضئيل تلك المعاني الجمة والأمور الكثيرة - أعني كلمة شاذ والناس لحمقهم وجهالتهم ولضؤولة أذهانهم وضيق أفكارهم يرون كل ما خالف طريقتهم ونافى عادتهم أفناً وسفهاً ويحسبون غروراً وضلالاً أنهم على المنهج القويم والصراط المستقيم. فكل من حاد عنهم جار عن القصد. وما عن الرشد. والناس حيوانات عمي مقلدون من غير تأمل ولا استبصار. فهم كقطيع الضأن جلودها من أديم واحد وألوانها متشاكلة ويرى كل واحد منها حتم عليه أن يشبه سائر القطيع في كل أطواره وأحواله فيرد حيث ترد الجماعة ويصدر حيث تصدر ويقبل متى أقبلت ويدبر إذا هي أدبرت. فإذا أزعجها كلب فخافت وجب عليه أن يخاف معها فإن فرت حتم عليه أن يفر أيضاً. فإن بدأت الفرار بالظلف الأيمن وبدأه بالأيسر كان في نظرها جانياً مجرماً بل مختلط العقل به مس ولوثة.
وقد اتفق أن المستر أندرو ترفوتون بدأ السير بين قطيع الآدميين بقدم مغايرة لتلك التي بدأ بها سائر القطيع فاضطغن عليه الجماعة هذه الغلطة وقاموا له بالمرصاد لا يدعون فرصة للتشهير به والنقمة عليه حتى ينهزوها ولا يتركون خصاصة للاقتحام عليه بالإيذاء أو يلجوها. فكان عندهم أعجوبة المهد هدف المدرسة. كرة القذاف في الكلية حيث جعل الأستاذ يشبه رأسه بسقف خلع منه حجر وإن سقفاً فقد أحدى لبناته لجدير أن ينهار إذا هو لم يصلح في أوان الإصلاح. والناس إن يبصروا سقف دار ينهدم لم يعجبوا وقالوا نتيجة إهمال: فما لهم إذا أبصروا سقف دار ينهدم لم يعجبوا وقالوا نتيجة إهمال. فما لهم إذا أبصروا سقف عقل ينقض - ملكهم العجب واستحوذت عليهم الدهشة ولم يفطنوا إلى أن السبب في ذلك هو إهمالهم وعدم مداواتهم خلل الذهن المعتل بأدوية الرأفة واللطف والمحاسنة والمعذرة والتجاوز والملاينة؟
ولم يكتف المجتمع بأنحائه بتلك المظالم على رأس أندرو ترفرتون حتى خيب آماله في كل عزيز ومحبوب - في الصديق والأخ والحبيبة. أعطاهم صفو الوداد وجزوه أقذاء البغض(2/84)
وخولهم حسن الوفاء وأهدوه سوء الغدر وأنزلهم من قلبه مرعى كريماً. وارتعوه من لؤمهم مراداً وخيماً فلا غرو أن كره الناس وحنق على البشر وأصبح يقذى طرفه بصورة الإنسان وعاد نسخة أخرى لذلك البطل الخيالي الذي ألف عليه شاكسبير إحدى مصنفاته تيمون اتينا وإنما الفرق بين بطل الشاعر الأكبر وبين أندرو ترفرتون تيمون لندن هو أن الأول فر من لؤم العالم إلى شاطئ البحر وفر الثاني إلى كوخ منفرد بعراء لندن. وإن تيمون اتينا نفث حنقه وغيظه في إبداع الشعر وقذف تيمون لندن مراجم غضبه نثراً.
وسكن قرية قد احتجبت عن الدنيا بأسوار عالية وانقطعت عن العالم بحائلين: حائل من الطوب والحجارة وحائل من النفرة والقطيعة. وأشيع عنه أنه أصبح أبخل الناس يشح بالسحتوت والدانق وليس الأمر كذلك ولكنه كره كل ملذة وزهد في كل منعم ومترف فأصبح لا يعرف فيم ينفق المال وأين وإن كان في العالم رجل يبغض المال. بغض الداء العضال. ويرى رنين القطع الذهبية كرنين ناقوس المنية فذاك هو اندور نرفرتون.
واتخذ خادماً يدعى شرول كان أشد نقمة منه على العالم وبغضاً للدنيا ومنع داره أن تمس تربها قدم آدمية وتزعزع هواءها نغمة انسية. وأرسل لحيته وليحة خادمه وكان حمل اللحية إذ ذاك يرى آية على الجنون ولو عاش ترفرتون اليوم لما وصمت اللحية عقله وألقت الريبة على لبه ولكنها كانت تشين ولا شك سمعته وتلوث اسمه وكنيته وليست أنكر أن آراءنا في موضوع اللحية قد ارتقت اليوم وتحسنت وإن كان ينتظر لها رقي فوق ذلك ومنزلة أسمى. أو يحسب أحدكم أنه يتأتى لأحد موظفي المصارف المالية أن يجمع في وقت واحد بين لحيته ووظيفته؟
وكانت عيشة هذا الرجل وخادمه أشبه ما يكون بعيشة الرجل المتوحش في أوائل الزمن وطفولة الدهر. وكان مذهب المستر ترفرتون أن يقلل ما استطاع من معوله في شؤون الحياة والعيشة على معونة الناس الذين إنما يدعون المعونة في نظره دعوى كاذبة ويتخذونها ذريعة إلى الأذى والغدر والخديعة وكذلك أستغني عن خدمة الخضري بقطعة من الأرض وراء داره زرعها خضرا وبقولا. ولو فسح له الله في تلك القطعة لاستغني عن الفلاح وزرع حنطته بيده. ولكنه إن أعياه الاستغناء عن الزارع فلم يعيه عن الطاحن والخابز. فاستحضر رحي وقسم العمل بينه وبين خادمه فأخذ الطحين وأعطي الخادم العجن(2/85)
والخبز. وجريا على هذه السنة كان يجلب اللحم قطعاً ضخمة فيأكلون منها جديدة ما شاء أو يقددان الباقي برغم أنف كل جزار: بقرى وضاني. وأما الشراب فقد رشيا منه بنبيذ الشعير وكانا يصنعانه بأيديهما وبهذا الأسلوب استطاع ذانك الرجلان - راهبا العصور الحديثة - أن يعطيا العيشة كل حق ويحرما معظم الباعة والتجار كل درهم.
وكان كل منهما منفصلاً في جميع أمره عن أخيه لكل منهما مائدته وكرسيه ومجلسه ومتبغه وعباءته وكانت المراجل والقدور والصحاف مشتركة بينهما. ولم يكن لهما مواعيد غذاء ولا بسط ولا زرابى ولا مناضد ولا أسرة ولا صناديق ولا أدنى شيء من تحف الدور وآلة الزينة ولا خادمات للغسل والتنظيف والتنظيم والتأليف وكان أحدهما إذا أراد أكلاً أو شرباً تناول رغيفه وأخذ فلذة من اللحم فطبخها ولف هذه بتلك ثم نظف ثغره وارتشف ثغر كاسه من غير أن ينبس لرفيقه ببنت شفة أو يوميء إليه بنظرة وإذا جرى بخاطر أحدهما أنه في حاجة إلى غسل قميصه (وذلك نادر جداً) قام بنفسه إلى الحوض فغسله. وإذا اكتشف أحدهما أن جانباً من الدار قد تراكمت أقذاره عمد إلى سجل من الماء ومكنسة ثم اندفع يغسله كأنه وجار كلب. وإذا أراد أحدهما النوم تلفف في عباءته ثم انطرح على أحد مقعديه ونال من النوم ما شاء فربما كان ذلك في أوليات الليل وربما كان في أخرياته سيان عنده ذلك وذلك.
وإذا لم يكن هناك عمل من طحن أو خبز أو غرس أو طبخ أو غسل أو كنس. جلسا متقابلين يطويان رداء الزمن بالتدخين من غير أن يتبادلا لفظة واحدة أو يقرع مسمع أحدهما صوت أخيه. فإذا فتح الله عليهما بالكلام تشاتما وكان حديثهما حرب رهان ومعركة لجائزة ختامها السب الصريح والقذع الفاحش. فمثلهما في ذلك مثل المتلاكمين يبدآن بالمصافحة ثم لا يلبثان أن يتقارضا من اللكزات ما يذهب عن وجه كل منهما صورة آدم. وكان شرول المنصور في كل هذه المعارك لانطلاق لسانه مما تقيد به لسان سيده من أغلال الآداب وآثار التعليم المدرسي. ولقد كان شرول وإن حمل لقب الخدمة السيد الآمر الناهي. بفضل سبقه المبين لرئيسه في جميع ميادين السباب والفحش وفضله عليه في آلات الاغتصاب والعنف. إذ كان أطول لساناً وأجش صوتاً وأعظم لحية. وعندى أن أضمن العقوبات وقوعاً عقوبة التياه الفخور. وقد كان ترفرتون أسرع الناس إلى الفخر(2/86)
باستقلاله فلما وافته العقوبة أتته في صورة بشرية اسمها شرول.
نزل المستر ترفرتون من أعلى غرف الكوخ ذات صباح إلى غرفة بأسفل الدار مما يسميه المتمدينونمنظرة ولكنه بلا اسم عند هذين المتوحشين. نزل إلى أسفل الكوخ يحمل على وجهه أشنع صور السخط والنكد وفي عينيه أصرم نظرات الكره والحنق. وكان طول الغم والحزن والبغضاء والحقد والمقت قد أنضب ماء محياه وعرق لحم صدغيه. وأخلق ديباجتيه. وأغار عينيه. وسربل وجهه سفعة وشحوباً وطوح بهيئته وراء سنه بمراحل فخيل شيخاً بالياً وما طوى بعد مسافة الشباب. نزل إلى أرض الدار أشعث أغبر غير مغسول الوجه متلبد خصل اللحية في جلباب كتان وسخ يضطرب عليه من فرط السعة وقلة الإحكام كأنه الجوالق. فكان ذلك الرجل الشريف المحتد الناصع النسب نجل العلية الأمجاد. وسليل السادة الأجواد. يبدو كأنه خرج إلى العالم في أعماق السجون وجعل حرفته بيع الأطمار الخلقة والأسمال الرثاث.
وكان مغلقاً فوق المدفئة بالموضع الذي تعلق فيه المرآة في دار متمدينة قطعة من فخذ شاة. وعلى المائدة رغيف خشن غليظ أسمر وفي ركن الغرفة راقود من نبيذ الشعير. يتدلى فوقه من مسمارين على الحائط قد حان من الخشب مثلمان مشققان وكان ملقى تحت التنور شباك شواء كأنما قد نبذ النواة عقب استعماله آخر مرة. فأخرج المستر ترفرتون من جيب جلبابه سكيناً وضراً فأخذ فلذة من اللحم ثم ألقى الشباك على النار وأنشأ يشوي طعامه. وما هو إلا أن قلب الفلذة على الجمر حتى فتح الباب ودخل شرول في فمه متبغه يحتثه سائق الجوع مثل سيده.
وكان شرول قصيراً لحيماً رهل اللبات أصلع بطيناً. قد عوضه الله من ناصيته لحية وحفة كثيفة حقق الله في فرعها الجثلين السبطين البالغين ثندوتيه آمال زارعها وغارسها (هو السيد ترفرتون). وكان عليه (الخادم) رداء مزدوج الذيل أصابه في سوق الاطمار وقميص كأنه صفحة من تاريخ الأولين وأزار قد لبسه الدهر طفلاً. وجذاء لا عهد له باليرندج منذ نفض منه اليدين الصانع قد قلصت شفتاه حنقاً على البشر. بين محاجره جذوتان تتقدان:
يدير حجاجاه إذا الليل جنه ... شهاب لظى يعشى له المتنور
ولو أن مصوراً أراد وجهاً آدمياً قد جمع بين لوائح البطش والقوة والقحة والقبح والفظاظة(2/87)
والغلظة والمكر والحيلة لما وجد أجمع لرغباته. وأوعى لطلباته من وجه المستر شرول.
ولم تخطر بين الرجلين كلمة تحية ولا مر بينهما صوت السلام ولا شعاع البصر. ووقف شرول صامتاً مفكراً ينتظر نصيبه من النار ليطبخ طعامه. ولما فرغ السيد من شي فلذاته أتى بها المائدة وأخذ نصف الرغيف وشرع يأكل ولم بلع أول لقمة تنازل لأن ينظر في وجه شرول الذي كان إذ ذاك يجرد نصل سكينه ويدنو من فخذ الشاة المعلق بخطوات ثعلب وعيني ذئب.
فقال ترفرتون وأشار إلى قميص شرول إشارة المندهش المنكر قبحك الله أتلبس قميصاً نظيفاً!
فتصنع شرول الرقة وتكلف الظرف وأظهر أنه حمل كلام ترفرتون أحسن محمل فقال أنا إن لم ألبس لهذا اليوم قميصاً نظيفاً فلا لبسته أبداً. أما تدري يا سيدي أن هذا هو اليوم الذي تستأنف فيه عدد سنيك أبقاك الله لأمثاله بأكمل خير وعافية وعساك حسبت أني ربما نسيت يومك هذا؟ كلا. وما كنت لأفعل.
ولو نسيت نفسي. أبقى لي الله وجهك الحسن الجميل ما عمرك اليوم يا سيدي؟ ألا في سبيل الله عهد طفولتك إذ أنت مشرق الديباجة غض الاهاب مكتنز التنين حاظي البضيع يتلألأ قمر محياك فتبدو نجوم ثغرك وإذ رداؤك ومئزرك قطعة واحدة وفي جيدك طوق زينة تغرد فيه كما سجع في طوقه الهزار. وإذ يحيى بك الأضياف كما يحيون بالريحان وتتهادى الشفاه خدك المنتقب بالشفق كما تتهادى خد الصهباء في نقاب الزجاج. وإذ بين شفتيك من قطعة الحلوى الحمراء شفة ثالثة وإذ ي يدك اللعبة وفي جيوبك البلى! في سبيل الله أو في سبيل الشيطان ذلك العهد وتلك العصور! ثم لا تخش على هذا القميص أن أبليه بكثرة اللبس فإني أريده ليوم جنازتك الذي قد حم أو كاد. أو ليس كذلك؟
فأجاب ترفرتون قائلاً: لا تخسر قميصاً نظيفاً من أجل جنازتي فما تركت لك في تركتي نصيباً ولا ذكرت اسمك في وصيتي. فمتى سير بي إلى القبر سر بك إلى ملجأ المساكين.
فقال شرول متصنعاً شدة الاهتمام والعجب أو قد كتبت وصيتك يا سيدي معذرة أيها الهمام إذا قلت لك أني ما زلت أراك تذعر من هذا الأمر.
فأصاب شرول بكلمته هذه موقع ألم من نفس سيده حتى قرع السيد المائدة ونظر إلى شرول(2/88)
مغضباً. وقال:
أذعر أن أكتب وصيتي أيها الأحمق! أنا لا أذعر من ذلك ولا من الحمام فاغراً فاه متلعاً جيده. بيد أني لم أكتب وصية قط وما كان ذاك من مذهبي.
وكان قد فرغ شرول من غذائه وأخذ يصفر وعاود ترفرتون الكلام فقال بلى ليس من مذهبي أن أورث دانقاً من ثروتي رجلاً من البشر.
فإن الأغنياء الذين يتركون وراءهم تراثاً للورثة هم زرعة الشر وغرسة السوء. وإذا كان لامرئ جذوة مروءة تلتهب في قلبه فأردت إخمادها فأورثه مالاً. أو رأيت شريراً فأحببت أن تزيد شره فأورثه مالاً أوشئت أن تجمع فئة يكون عملها الفساد وشأنها الفسق والفجور والنكر فأورثهم مالاً وسمه إمدادا خيريا. أو كان لك فتاة فوددت أن تزوج من شر الناس طرا فأورثها مالاً. أو أردت بالفتيان والشباب الداهية الدهياء فأورثهم مالاً أو سرك أن تترك الشيوخ مصايد لقاذورات الخليقة وحشرات الأنس وبغاث الناس وأراذلهم فأورثهم مالاً. وإذا أردت أن تقطع الرحم وتفصم عرى المودات وتجذم أسباب القرابات. وتترك حرباً عواناً بين الابن وأبيه. والأخ وأخيه. والصهر وحميه. ورب البيت وكل من فيه. فاترك لهم مالاً. اكتب وصيتي! تظن أن كراهتي للنوع قد بلغت كل هذا؟ كلا إني وإن كنت قد نزعت في قوس تلك الكراهة فإنه ما زال بعد في القوس منزع. وإن اك قد كرعت في كاس تلكم البغضاء نهلاً وعلا فما اشتففت بعد الصبابة. وما كنت مهما بلغ حنقي على أبناء آدم لأنزل بهم مثل ذلك البلاء!
وهنا أخذ المستر ترفرتون الزق وملأ قدحاً فشربه.
وأرث شرول النار وقلب عليها فلذة الضأن وضحك في خفية.
فسمع ضحكة ترفرتون وقال مغضباً لمن ترى أيها السفيه أترك ثروتي؟ ألاخي وهو الذي يحسبني وحشاً ضارياً؟ أم لابنة أخي - القينة الممثلة شمعة المسارح ومحط أبصار الرجال؟ - تلك الابنة التي تشأت على كراهتي فإن لبست على الحداد أسود حالكاً لبس فؤادها السرور أبيض ناصعاً؟ أم لك أترك ثروتي يا أيها القرد في جلدة إنسان! أنت الذي لا تكاد تنفض يديك من تراب قبري حتى تبني حول ذهبي وفضتي مصرف مرابي شره يمتص دماء الناس مع أموالهم وينشب مخلبيه في الأرملة واليتيم والشقي والمنكوب ويترك(2/89)
عباد الله يئنون من وطأة الدين تحت جبل راسي وحز مواسي على صحتك يا مستر شرول واعلم أن الذي من عليك بنعمة الضحك لم يدعني منها عطلا - ولاسيما حين يلهمني أن أخرجك من ثروتي صفر اليدين أو بخفي حنين.
وهنا أخذ الغيظ يسري في أحشاء شرول وانكشفت تلك الدماثة التي تصنعها عندما دخل الغرفة عن حقيقة خلقه من القسوة الخشونة والجفاء ونضا صوته ما كان قد تنكر فيه من غلائل الرقة عن حقيقة تكوينه من الغلظة والشدة وقال وقد جلس إلى طعامه حسبك مزاحاً وهزلاً وأي فائدة هناك في تكلمك عن مالك كلاما لا يعمل به ولا يسري؟ فسوف يرثك فيه ولا شك الوارث.
قال ترفرتون سأتركه لمن أجده للمال مبغضاً محتقراً فلا قبل للمال بإفساد خلقه.
فقال شرول أعني تتركه لغير أحد.
قال السيد بلى قد أعلم ذلك.
قال شرول ملحاً ولكن ذلك لا يكون أبداً ولا بد للمال من وارث.
قال ترفرتون أترى ذلك مستحيلاً؟ عجباً! ألست حراً أفعل بمالي ما أشاء؟ أليس يمكنني أن أحوله جميعاً أوراقاً مالية أشعلها ناراً قبل ممات فأخرج من الحياة أحمد الله الذي مهد لي أن أتركها وما تركت بها ما يزيد شرها شراً؟ - وحسبي من العزاء ذلك!
نقلاً عن قصة السر الميت
للقصصي الشهير ولكي كولنز(2/90)
المستر دير
أو منتهى الذهول
كادح صديقي دير من طول صحبة الكتب يصير كتاباً ولقد بصرت به منذ أيام واقفاً إلى جنب وعاء فيه كتب وهو صامت ساكن لا حراك به فوددت والله لو حملته إلى مكان التجليد فجلدته في أنفس الجلد المسكوفى ووضعته في المكتبة إذن لازدانت به المكتبة وحسبه الناظر قاموس جونسون أو إحدى مجلدات دائرة المعارف.
وهو كثير الذهاب إلى معاهد العلم يقضي كثيراً من زمنه في التردد بينها وبين نزل كليفورد حيث يقطن بين أشابه خبيثة من المحامين وكتبة المحاماة والسماسرة - أفاعي القانون وذئابه - كأنه الحمامة المخفوضة الجناح في عش الغربان وقد نجاه صمته وانقباضه من شر ذلك الخليط وأنزله بنجوة من مخالب القانون وبمأمن من ابره وحماته تهب من فوق رأسه زوابع القضاء فلا تضيره وماذا تنال الضائرات من رجل لو زلزلت الأرض حوله وقامت الساعة ما أحس وما شعر فكان سكان النزل يرونه صباح مساء ولا يخطر ببال أحد أن يمسه بسوء اللهم إلا إذا استطاع الإنسان أن يمس بالسوء معنى من المعاني قد جرد حتى من اللفظ والصوت.
وارتاع صديقي دير عند ما طلعت عليه في دار الكتب وليس ارتياعه لبغت المقابلة أو لأنه لم يك يتوقع لقائي بمثل ذلك المكان بل لأنه أشد الناس ذهولاً والرجل الشديد الذهول يروعه كل ما يهيب بعقله من عوالم الخيال ويوقظه من غفلة الذهن ومن آيات ذهوله أنه قصد منذ أيام دار صديقنا في ميدان بدفورد ولما بلغ الدار علم من الخادم أن أهلها قد رحلوا إلى مصيفهم بالريف ثم سيق إلى غرفة الجلوس بالمداد والقلم فدون اسمه في دفتر الزوار وحي الخادم معلناً أسفه وغمه ومضى وما هي إلا ساعة أو اثنتان حتى عادت به تجولاته إلى جوار تلك الدار فذكر أهلها وطيب عيشهم واشتعل خياله بتلك الذكرى فعمد نحو الدار مرة أخرى من حيث لم يشعر أنه قد زارها منذ ساعتين وقال له الخادم ما كان قاله قبله من غياب الأسرة وأبدى هو من الأسف والغم ما أبداه قبل وطلب من المداد والقلم ما كان قد طلبه قبل وجيء بالكتاب الذي جيء به قبل وإنه ليضع شفتي القلم على خد الطرس ليكتب اسمه وإذا بنفس ذلك الاسم ينظر إليه نظر الساخر الضاحك! فأصابه من الرعب ما يصيبك(2/91)
إذا باغتك شخص نفسك وفاجأك خيالك من غير مرآة وقد عاهد دير نفسه أن لا يسترسل في الذهول إلى هذا الحد وأملي أن لا يكلف نفسه مؤنة الوفاء بعهده.
وذلك لأن غياب المستر دير عن نفسه إنما هو حضوره بين يدي الله فإذا مر بك وعيناه تلقاء وجهك فلم يرك ومضي في طريقه كأنه لم يعثر بإنسان فاعذره واعلم أنه في تلك الدقيقة بمحراب الله في بيت المقدس أو طائف يدور بأضرحة الأنبياء ومقابر الأولياء والشهداء أو ربما كان في هذه اللحظة مع أرواح الفلاسفة أفلاطون وأرسطو وهارنجتون يفكر فيما عسى يرفع أمتك وبني جنسك جميعاً في مرقاة التمدين والسعادة.
وكان المستر دير بدأ أعماله بعد تدآب الدرس وجهد المذاكرة مدرساً مع ناظر مدرسة فظ غليظ القلب جامد الكف جعد الأنامل مظلم الجناب موحش الكنف لا تندى راحته ولا يبض حجره بمرتب شهري قدره ستون قرشاً خلاف الأكل والشرب والمسكن وما حدث قط أنه أخذ أكثر من نصف ذاك المرتب البخس مدة إقامته مع ذلك الناظر السافل الوغد وكان إذا أثخن الدهر في ثيابه وأطل الفقر من خروق سراويله لدى الركبتين ومن نوافذ ردائه عند المرفقين فاضطر برغم خجله واحتشامه إلى التعريض بذكر المرتب النزر تشاغل عنه الناظر اللئيم وتغافل حتى إذا قام بعد العشاء بين التلاميذ واعظاً وخطيباً لم ينس أن يذكر في عرض كلامه جملة عن فوائد الفقر ومزاياه ومضار المال وبلاياه خاتماً مقالته بقول الإنجيل اللهم اكف عبادك الصالحين شر الثراء ونقمة الطمع! وما يماثلها من الآيات والجمل - فكانت لسائر الطلبة حكماً وعظات وكانت لصاحبنا دير وصلا كاملاً بجميع المتأخر له لدى الناظر.(2/92)
مطبوعات جديدة
تاريخ حرب فرنسا مع ألمانيا
أهدى إلينا الفاضل يوسف أفندي توما البستاني نسخة من كتاب بهذا العنوان فتصفحناه فوجدناه أوفى كتاب عربي لتلك الحرب المعروفة بحرب السبعين التي نشبت بين فرنسا وألمانيا سنة 1870 وكان قد وضع تلك المقالات الممتعة الفاضل البحاثة جرجي أفندي يني الطرابلسي صاحب مجلة المباحث ونشرها تباعاً في مباحثه فنهض اليوم يوسف أفندي توما وجمع مفرقها وطبعها على حدة في سفر تبلغ صفحاته نيفاً ومائتين فحبذا لو أقبل عليه محبوا الاطلاع على أسباب تلك الحرب ونتائجها ووقائعها وقيمة الكتاب عشرة غروش مصرية عدا أجرة البريد ويوجد في مكتبة البيان وفي سائر المكاتب.
ديوان القاياتي
يوجد بين ظهرانينا الآن شعراء مجيدون لا يكادون يتخلفون عن أولئك الذين ملأوا الدنيا شهرة والله يعلم أن شهرتهم هذه إنما كانت على الأكثر من ناحية أنهم هم أنفسهم يتكالبون عليها ولا يدعون وسيلة يتوسلون بها إليها وليست الشهرة عند العاقلين دليل الفضل كما أن الخمول ليس دليل التخلف - ومن بين أولئك الشعراء المجيدين الذين لم ينالو من الشهر كفاء استحقاقهم الأديب الكريم السيد حسن القاياتي (بالقاف لا بالغين) أحد خريجي الأزهر والمنقطعين إلى الأدب - وقد أهدى إلينا أخيراً ديوان شعره فنظرنا فيه فوجدنا الشاعر كثير الغوص على المعاني غير غافل مع ذلك عن اللفظ وإلى القراء قطعاً مختلفة من شعره.
من قصيدة وهو في الوصف:
ثم تقدمت في توق ... كواطي صفحة اليماني
أرى نجوم الظلام فيه ... شتى رقاع بطيلسان
ومنها في الترام:
يرمى بأشباحنا إليها ... جم التلوى كافعوان
يسوقه قائد خفي ... كأنه الحب في الجنان
ومنها:(2/93)
مجلسنا مسرق أنيق ... حديثنا فيه ذو افتنان
يضفو علينا بديع نبت ... ككلة رقشت لباني
يخال والطير فيه شاد ... ستور خزٍ على قيان
كأنما الورد في ذبول ... جفون سكرى من الغواني
وفي وصف الساعة:
ومضمرة لهذا الدهر بغضاً ... يزيد على الزمان ولا يبيد
تعدد ساعه حقداً عليه ... كذلك يصنع الحنق الحقود
وما تنفك عن أنات صبٍ ... أقام بصدره وجد شديد
وإن أحشاؤها اضمرن سراً ... يشافهني به وجه ودود
ينم على الذي تخفيه فيها ... كما نمت على الخجل الخدود
ويفضي بالسرائر من حشاها ... لسان ذو براعات حديد
فكانت مثل ذي ود حميد ... يفوز بسره أخٌ حميد
وتقضي الليل تسبيحاً بحمدي ... ترن وكافروا نعم رقود
ومن ثانية في وصف التصوير:
سمت لك بعد النوى صورتي ... كما واصل المولع المولع
بعثيت بها لا تريب الرقيب ... وليست كعهدك بي تجزع
تناجيك وهي صموت اللسان ... بما يشتكيه الحشا الموجع
كذى الحب كتمه جاهدا ... فأظهر تبريحه المدمع
حكتني لديك كما تنظري ... ن مرآة معجبة تلمع
هي الجسم أثأر منه الجفا ... خيالاً مرائيه يسترجع
لقد طلب الدهر مثلي علا ... فأتعبه النادر المبدع
فأطلع من صورتي حاكياً ... وأعجزه خلقي الأرفع
شهدت على ربها أنه ... ليحكي يد الله إذ يبدع
إذا شاء صور طيف الخيال ... على أنه مجفل مفزع
ولو شاء صور سرى الذي ... تكن الضمائر أو تودع(2/94)
وطبٌ بتصوير وحي العيون ... تشكو جوى الحب أو تضرع
يكاد يمثل في صورتي ... خفوق فؤادي كما يسمع
ويجلو عليك ندوب الفؤاد ... ونار حشاي التي تلذع
ويجلوك ماثلة في الضمير ... يحنو على شخصك الموضع
ومنها في وصف آلة التصوير
وحاكية من صنيع الفرنج ... ة أبدع في صنعها المبدع
أظل إذا زرتها ساكناً ... لديها وقوف الذي يخضع
وتقبل مني طويل الخشوع ... قبول صلاة الذي يخشع
أهابت بظلي فلبى الدعاء ... مطيعاً كما يؤمر الطيع
يقيم بأحشائها كالجنين ... إذا حان مولده يوضع
ومن ثانية في وصف الفنوغراف:
إيه رفيقي والرفيق مساعد ... في الصدر هم قد أقام وخيما
فأذن لمسمعه الغناء تداوه ... إن شئت أن يحي بأن تترنما
أشتاقها فكأن فيها مغرما ... ذهبت حشاشته يطارح مغرما
ومنها:
تصغي إلى قول المحدث مثل من ... يصغى لسر جليسه متفهماً
وتصونه في القلب نقشاً لا كمن ... يلفي بسر خدينه متبرماً
فمتى ترد يكن الحديث مسيرا ... ومتى ترد يكن الحديث مكتما
ليست تعاب إذا حكتك بكذبة ... أويكذب الرسل الكرام على السما
نقل الهواء لها الغناء فأقبلت ... تقرى المسامع منه درا نظما
كالنحل يجني النور غضاً يانعاً ... فيرده أريا يلذك مطعما
تقريك صوتاً لست تبصر ربه ... كالمنشد المطراب حين تلثما
تتلوها تلك الصحائف إبرة ... هي غادرتها كالكتاب منمنما
فعل الوليد إذا تقري لوحه ... أوحى بأصبعه إليه ليحكما
ومن أخرى في وصف التليفون:(2/95)
رب بشرى قد ساقها لقلوب ... مقفرات من السرور يباب
فكان كالريح إذ تحمل الطل ... ع إلى عاطل من الثمار العذاب
قرب الموقف الذي أنت فيه ... للمكان القصي كل اقتراب
فغدا كالهوى يضم قلوب إلا ... حباب ضماعلي نوى الأحباب
ومن ثانية في وصف راقصة
والردف منها ناهد ... مثل الكثيب الملبد
يزيد أحياناً وتن ... هاه عن التزيد
تقلب الأمواج ب ... ين رائح ومغتدى
يتبعها في رقصها ... خفق فؤادي الموقد
فنفسي مردداً ... كرقصها المردد
وجمر قلبي موقداً ... كخدها المورد
رفيقة المس فهل ... تكحل عين أرمد
تلقى الثرى بأخمص ... ما قر بل لم يكد
فهل تدوس منصلاً ... عضب الشبا لم يغمد
وفي وصف الطيران والطيارات
ولو كنت لاثام لم أحتمل ... صنيعه ما طار من جنده
شهدت له طيرة أوشكت ... تريني المجرة من ورده
تعالى فأية نفس هناك ... عثايا المباراة لم تفده
ترى كل قلب يطيل الخفو ... ق كأيدي المصفق في حمده
ألا ليت شعري ماذا ابتغي ... من النجم أو شاء من عنده
رآنا نصوغ عقود الثنا - ء فود الدراري في عقده
هذا ما وقع عليه النظر بعض ما عثر به الاختيار من ديوان السيد القاياتي فنحتث المتأديين على اقتنائه وثمنه خمسة قروش مصرية ويباع في مكتبة البيان.(2/96)
العدد 3 - بتاريخ: 21 - 11 - 1911(/)
تاريخ الإسلام
المقدمة الثانية
في الأديان
نحن الآن بمعرض تاريخ الإسلام بمعرض تاريخ الإسلام دين من الأديان وقد نبع بين أمة كانت تدين قبله بدين وكان لكل جيل من العالم وقتئذ دين كذلك فجاء الإسلام واشتهرها وسفه أحلام أهليها ومحاها كما يمحو النور الظلام فكان حقاً علينا لذلك أن نلم إلمامة بالأديان التي كانت معروفة قبل الإسلام ولاسيما ما كان منها ذائعاً في جزيرة العرب وما ضاقبها حتى نكون على بصيرة تامة بالحركة الدينية في تلك الأعصر ونعلم هل كان هناك حاجة إلى دين صحيح ينتاش أهل تلك الأوقات مما هم مرتطمون فيه ويهديهم إلى صراط مستقيم - وحتى يتجلى لنا كثير من تلك الاصطلاحات الدينية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وعلى لسان السيد الرسول عليه الصلاة والسلام وفيما يمر بنا من التاريخ الإسلامي من مثل يهود ونصاري وصابئة ومجوس ومشركين ومن مثل بد وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وهبل ومن مثل بحيرة ووسيلة وحام إلى أمثال تلك الأسماء التي نجهل كثيراً من مسمياتها كما هي في الواقع وفي عرف الإسلام.
إن الدين عند الله الإسلام وهو الذي أوصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى وأوتي النبيون من ربهم وأوحي بعد ذلك إلى خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
فدين الله واحد وإنما تتفاوت صوره وتتباين أشكاله بتباين استعدادات الأمم وما تمثله به أمزجتها وتكيفه به طبائعها وتدخله عليه من ضروب البدع وأفانين الأوهام.
دين الله واحد وكذلك الحقيقة واحدة وإنما تتعدد ظواهرها بتعدد الأزياء التي تتزياً بها وكثرة ما تحلى به من صنوف الزخارف وأنواع الزينة (وإن كانت زينة كشينة) حتى تتوارى الحقيقة بالحجاب ولا يكون هناك إلا الزخرف والثياب.
دين الله واحد لأن ينبوعه واحد - ينبوعه ذات الإله المقدسة وما الأنبياء والمرسلون إلا مبلغون عنها ما فيه صلاح الإنسان متضافرون على طريق هذا الصلاح لأنهم من عند الله الواحد لا من عند أنفسهم مرسلون.
دين الله واحد وهل هو غير الفضيلة وكما الإنسان وأن يكون بحال من التقى والصلاح(3/1)
تستدر عليه أخلاف السعادة وبلهنية العيش وتنفى عنه أكداره.
ما هو الدين؟ هو كما أسلفنا وبعبارة أوجز وأجمع (الإسلام) وليس قولنا الإسلام كقولنا الإسلام والنصرانية واليهودية والمجوسية والصابئة والبوذية وما إلى ذلك وإنما هو كما جاء في القرآن الكريم وكما يشعر مدلول اللفظ أن تسلم وجهك لله وتخلص إليه التوحيد والعبادة وما يستتبع ذلك من الخلوص والتقى والصلاح وفعل الخير والتنكب عن الأذي والضير: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعن وقل للذين اؤتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد: لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه - والإسلام هكذا هو الدين الحنيف دين إبراهيم وموسى وعيسى وسائر النبيين بل هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبوراً ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك} {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
أما ما أصار الدين أدياناً وجعله فرقاً وألواناً وأوجد هذا الاختلاف المبين وذلك التعدد المشين فإنما هو ضيق الفكر الإنساني وما جبل عليه البشر من الطمع والأثرة وما يريده القائمون بأمر الدين لأنفسهم من الهيمنة والسلطان والاستبداد بالعقول وما يصيب العقول في بعض الأحايين من الانحطاط والوهن وما يتسرب إلى الأذهان من الأوهام والأفن حتى يستحيل كل ذلك على كر الغداة ومر العشى ديناً وما هو بدين.
لذلك كانت هناك ملل ونحل ومذاهب وأديان: ولا يزالون مختلفين الأمن رحم ربك
أسلفنا أن الدين عند الله الإسلام وأنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها فكان من البديهة لذلك إن الدين وجد مع الإنسان إذ لا حياة للإنسان بلا دين كما لا حياة له بلا قلب - وجد الدين مع الإنسان الأول ولكن لا في تلك الصورة التي نعرفها نحن وإنما في صورة هي أبسط وأليق بعقل الإنسان الموحش القديم وللعلماء في ذلك أي في ما هو أول معبود للإنسان وما الذي دفعه إلى التدين آراء مضطربة ومذاهب متناقضة لصعوبة أن يعرف(3/2)
المؤرخ ذلك معرفة يقين وأن يعلمه علماً ليس بالظن فمن قائل أن أول ما عبد الإنسان آباؤه وأجداده وذلك أنه لما رأى ريب المنون يتخطف من كانوا معه من أهليه وذوي قرباه ولم يدرك ما هنالك من بعث ونشور خاف موتاه ثم عبدهم - ومن ذاهب إلى أن الإنسان استهول قوي الكون وخافها فساقه خوفه إلى التماس آلهة يذهبون عنه الروح فجعل يعبدها في الأنهار والأشجار والشمس والقمر وسائر الكواكب وما إلى ذلك فأفرخ ذلك من روعه وسكن من خوفه - وقريب من هذا ما قاله آخرون من أن الإنسان لما أحس ضعف نفسه وضؤولته حيال هذا الوجود وضخامته حاول التماس المعونة فيما يعالج من شؤون الحياة فطفق يقدس ما يظنه الها أو ما فيه روح من عند الله ويتقرب بالقرابين والذبائح وكل ما يظنه مجتلباً رضاء الآلهة ومعونتهم - أما ما ذهب إليه أكثر النظار من المتقدمين والمتأخرين وكات تتفق عليه كلمتهم فهو هذا.
فرض الفلاسفة أنه لو ولد إنسان في جوف الأرض فترك ثمت حتى بلغ أشده وكمل عقله ثم اخرج بغتة إلى ظاهر الأرض فإذا الشمس بارزة في موكب لألائها نهاراً وإذا الكوكب الوقاد قد طلع له ليلاً كأنه ماسة تلتهب بلألاء أبهر مما نرى نحن - نحن الذين حجبت الألحاد والكفريات - فيشرق الكوكب في نواحي نفس ذلك الإنسان كما يشررق في نواحي الأفق ويظهر كأنه مقلة في وجه السماء تنظر إليه من أعماق الأبدية وتنم له عن رونق السر الأزلي القديم - ألا ينظر هذا الموحش إلى هذا المنظر الباهر كما ينظر الشاعر وإن لم يقدر على القصيد ثم ينفذ بصره الثاقب إلى ما أودع الله ذاك المشهد من روعة الجلال فيخر له ساجداً.
فهذا هو أصل غريزة الدين وهذا هو ما كان من الإنسان الموحش القديم حتى إذا دبت الأيام ودرجت الليالي وجاء اللاحق على أثر السابق وتلقي عنه دينه وتقاليده محرفة غير منظور فيها إلى اللب والجوهر كما هو الشأن في التقليد والمحاكاة وتلوثت فطرة الإنسان وضعف إدراكه ونمت فيه غريزة الطمع والأثرة أخذ هذا السر يتضاءل وذلك الشعور الفطري السليم يختفي وقامت الأصنام والتماثيل مقام هذه المخلوقات السماوية القدسية فإذ ذاك يرسل الله أناساً ذوي بصائر نافذة وقلوب ذكية ثاقبة يفطنون إلى انحراف الإنسان عن الجادة ويقيمونه على الطريق المتسقيم وهكذا أرسل الله الأنبياء والرسل تترى لئلا يكون(3/3)
للناس على الله حجة بعد الرسل فمن الناس من استرسل في غوايته وتشبث بتقاليده وعادته ومنهم من أنار الله بصيرته وعرفه الحق فانتهج محجته ومنهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن هنا بقيت على الأرض أديان كثيرة وعاشت أدهاراً طويلة وقصيرة (متلو).
{وتلك الأيام نداولها بين الناس}
بالأمس كانت العرب تغزو إيطاليا وتفري في أحشائها
واليوم تغزو إيطاليا بلاد العرب وتعالج امتلاكها
وليس يعلم إلا الله ماذا تلده الليالي فربما غزى العرب إيطاليا كرة أخرى.
(للبيان كلمة بهذا العنوان ألم فيها بما كان بالأمس من فتوحات العرب في إيطاليا وما يكون الآن من إيطاليا في بلاد العرب وكلمة في تقويم طرابلس وتاريخها وقد كانت النية أن تنشر في هذا العدد بيد أنه لم تتسع لها صفحاته فأرجأناها إلى العدد الخامس واجتزأنا بنشر خريطة طرابلس وبرقة في هذا العدد وكذلك أرجأنا موضوعات وفيرة كثيرة من بينها شذرات فلسفية وباب النقد والتقريظ وتدبير الصحة وأخبار العلم ومقالات مختلفة لكتاب كثيرين - أرجأنا كل ذلك للأعداد التالية).(3/4)
فصول من كتاب الأبطال
فصل من مقدمة الباب السادس
الذي عقده كارليل للكلام عن كرومويل ونابوليون بونابرت
وقد تعرض هنا مسائل خطيرة ومباحث معضلة يمنعنا من طروقها ضيق المجال. وإنما نذكر كلمة شبيهة بكلمة (بيرك) حيث يقول (إسناد القضاء إلى نخبة من القضاة يشتركون في إصدار الأحكام هو روح الحكومة) فكذلك نقول نحن أن خلاصة أعمال المجتمع الإنساني سواء سارت على طريق الخطأ أم على منهج السداد هو الاهتداء إلى أعقل رجال بلدك وأفضلهم وأحزمهم ثم تقليده الحكومة والسلطة وإعطاؤه الخضوع والطاعة حتى يستطيع بذلك أن يهدي الناس حسبما يلهمه عقله ويوحي إليه فؤاده وإنما إلى ذلك قصدت البرلمانات وخطبها ولوائح الإصلاح والثورات فرنسية وغير فرنسية. اهتد إلى أعقل رجال بلدك وأكفئهم وأرفعه إلى المكان الأعلى وبجله وأكبره تحرز لبلادك خير حكومة. وإنك إن تفعل هذا فقد بلغت المدى وكل شيء بعد ذلك فضول ولغو. فإن أعقل الرجل هو أيضاً أكرمهم وأبرهم وأرحمهم. وليس فوق نصحه نصح. وقول الإمام امام القول. وكل ما يأمرنا به فهو ولا شك أحكم وأليق وأعلى ما نستطيع أن نجده تحت قبة الفلك. وهو ما يجب علينا أن نأتمره ونصدع به مع الحمد والشكر! وتلك الحكومة هي الضالة المنشودة والغاية القصوى.
أقول الغاية القصوى والله يعلم أن الغايات تبلغ بالأمل. ولا تنال بالفعل وللأماني جياد سابحات تسبق وفد الرياح يرسلها الفكر في مضمار الوهم فتطير بأجنحة الرجاء إلى كل غاية أبعد منالاً من الثريا فإذا طلبت تلك الغاية بافراس العمل في ميدان الحقائق قامت العقبات. واعترضت النوب والآفات وسقطت الجياد أثناء المضمار طلحاً أنضاء جسرى من الجهد والإعياء. دامية السنابك من الحفا مهزولة الأعطاف من الأين والوجى. وكذلك تبقى الغايات من طعمة المنى سخرة الواقع كالخيال في المرآة يبيح العين ما يمنع الكف.
أو كالسماء وكل ما زينت به ... وكبعدها وكقربها من لاق
وأنا وإن استحال علينا أن نبلغ الغايات. فحسبنا أن نأخذ في سمتها أو نقع منها على مسافة ترضي وتسر! ولا يفعل أحد من الناس ما نهى عنه الشاعر الألماني (شلر) إذ قال (المرء(3/5)
تلقاء الحوادث ضعيف فلا يقس أحد منكم مجهوده النزر القليل بمقياس الكمال) ومن خالف هذا القول كان مريض العقل بداء السخط مأفون الرأي مصدوداً عن الحق. ولكن لا ينس المرء مع ذلك أن تجعل الغاية نصب العين فإنه لا يقوم عمود صلاح الدين والدنيا على أساسه ويستقر في نصابه حتى ينزل الإنسان قريباً من الغاية فإذا لم يتم له ذلك انهارت دعائم الصلاح وتقوض رواقه. ونحن نعلم أنه ليس في العالم بناء يمكنه أن يشيد جداراً فيجعله في أقصى درجة العمودية أي أن يجعل الزاوية الحادثة بينه وبين سطح الأرض تسعين درجة بالضبط لا تنقص درجة ولا تزيد درجة كلا! فهذا مستحيل علينا فكيف باستحالته عملياً! ولكن إذا لم يدن البناء بالجدار من هذه الغاية بعض الدنو فأحر بجداره أن تنهار أركانه. وينهدم جثمانه. نعم إذا استهان بقانون العمودية وطرح مقياسه ومعياره وجعل يراكم الطوب بعضه على بعض بلا نظر ولا حساب كيفما اتفق فأجدر به أن تسوء عقباه ويشقي فإنه قد أغفل أمره ونسي نفسه. ولكن قانون التوازن - ناموس الطبيعة - لم ينس أن يسري عليه وعلى بنائه. وما هي إلا برهة حتى يسقط هو وبناؤه فيرتدا كثيباً مشوشاً ومعهداً خرباً! -
وهذا هو أصل كل فتنة وتاريخ كل ثورة وحديث كل انفجار اجتماعي في الأزمان القديمة والحديثة أجل إنما سببها هو أنك وليت الرجل العاجز وجعلت غير الكفؤ على رؤس الأعمال! - الرجل الخسيس السافل الدنيء الكاذب. ونسيت أن هنالك قانوناً أو ضرورة طبيعية تستدعي تولية القادر الكفء وظننت أنه لا بأس عليك أن تراكم الطوب بعضه فوق بعض كيفما جاء واتفق بلا قاعدة ولا حساب. والرجل الكاذب إذا وليته كان جديراً أن يتخذ كل كاذب خبيث مثله ومن ثم يروح أمر الناس مختل النظام مبدد الشمل. تأكل جوفه الخيبة ويهدم أركانه الشقاء والبؤس. وترى الملايين من خلق الله قد اضطربت عليهم أمور دينهم ودنياهم واسودت في عيونهم ظلمات اللبس والحيرة فهم يمدون الأيدي استهداء ولا هادي ولا مرشد ويبسطون الأكف استعطاء ولا مانح ولا رافد. حينئذ ينفذ قانون التوازن حكمه وتسري نواميس الطبيعة وهي التي ما غفلت عن العمل طرفة عين. فتثور الملايين ويجن جنونهم. ويسقط البناء والبناء.
إن من يفتش الآن المكاتب العامة والخاصة يلق بها أسفاراً ضخاماً. ومؤلفات جساماً.(3/6)
تفيض في موضوع (حقوق الملوك المقدسة: ومعناه أن كل ملك مهما كان هو خليفة الله في الأرض قد ولاه الملك القدوس زعامة خلقه بعقد مقدس خفي فعقدت في رقاب العباد بيعته. ووجبت عليهم طاعته. واستحكمت في نفوسهم مهابته وخشيته) تلك هي عقيدة القرون الغابرة. ورأى آبائنا الأول. عقيدة دفنت معهم في قبورهم ورأي بان ببينهم. ومذهب عفت رسومه وطمس الدهر أعلامه ومجلدات كالقبور تبلى فيها أفكارها. وتنخر في أجوافها عظام محتوياتها. لا يزورها إنسان ولا يعوج بها مخلوق. وباطل لاح في ظلم الجهل ثم محا آيته نور اليقين. ودولة زور استقل نجمها ثم خوى واشمخر طودها ثم هوى. وأكذوبة أديل منها الحق. وإني مع ذلك لا أرى من كرم الطبع وشرف الشيمة أن نتبع ذلك الباطل المدبر لعناتنا. ونلحقه أهاجينا وشتماتنا. فحسبه هزيمته. وكفاه خزيه وفضيحته. بل أرى (ولا يعجب القاريء ولا يرع) أنه لا يحسن بنا أن نترك هذا الزور والمحال يمضي من غير أن نفتش أجزاءه ونفحص أنحاءه وأرجاءه. ونقلبه بطناً لظهر علنا نجد في ثناياه معنى من الحق وإن فيه لحقاً يجدر بنا وبسائر الناس ذكره. أما قول هذه المؤلفات أن أي إنسان تأخذه عينك من بين الناس وتمسكه يدك فتجعل على رأسه صفيحة من الذهب مكللة بالياقوت والزبرجد وتسميه ملكاً يرسل الله عليه في الحال شعبة من نوره ويمده بروح من عنده ويعمر فؤاده بأسراره القدسية ويؤهله في التو واللحظة لأن يحكم عليك حسبما تقتضي مشيئته فذلك حمق وخرافة وحسبه منا أن نتركه يبلي ويعفن في أجواف كتبه أو بعبارة أصدق أجواف قبوره. ولكني أقول - وهو ما عناه وأراده أرباب مذهب حقوق الملوك المقدسة وهو أنه يوجد في الملوك وفي جميع العلائق والمسؤوليات والسلطات التي تكون بين الولاة والرعية أما حق مقدس أو منكر شيطاني. لا بد من أحد هذين! إذ أنه من أفحش الخطأ والكذب ما قاله القرن السالف الكافر من أن هذه الدنيا آلة ومكينة. بل أن في الكون لألها وكل ما يجري بهذا العالم من حكومة وال وطاعة رعية بل كل عمل وحركة لا بد أن يبوء إما برضى وإما بغضب من الله. وأشرف ما يجري بين الرجل والرجل هو لا شك الحكومة والطاعة. والويل لمن يطلب من طاعة الناس ما لا يستحق ولمن يأبى أن يؤدي من الطاعة ما أوجبه الله عليه لزعيم أو أمير! بذلك يجري قانون الله المقدس مهما سنت شرائع البشر ونهجت نواميس الحكومات. نعم إن في كل دعوى يدعيها الرجل على أخيه(3/7)
إما حقاً مقدساً أو منكراً شيطانياً.
هذا أمر جدير بالنظر والتدبر. وخليق أن نذكره في جميع شؤوننا ولاسيما في أمر الزعامة والولاء أهم تلك الشؤون. وعندي أنه شر من مذهب حقوق الملوك المقدسة هو ذاك المذهب القائل أن العالم يدور على محور المصلحة الذاتية وتدبير الثورة وأنه لا معنى هناك مقدساً في تعاشر الناس وتخالطهم. وإني أكرر عليك قولي إنك إن تأتني بالملك القادر الكفء لأجعلن له عليَّ حقاً مقدساً. ولعل دواء أدواء الأمم في هذه العصور هو أن يوفقها الله بعض التوفيق إلى إيجد الملك الكفء وإن يلهمها طاعته والانقياد إليه إذا وجد! وإني أرى في الملك القادر - هادي الأمة في سبيل الأعمال الدنيوية - خلة الدين كذلك ومعنى القسوسية فهو أيضاً هادي الأمة في سبيل شؤونها الروحانية التي هي مصدر الشؤون الدنيوية فالملك لذلك رئيس الكنيسة أيضاً. ولندع بعد مذهب حقوق الملوك المقدسة يبلى في أجواف مؤلفاته أو قبوره لا نوقظ صداه ولا نستثير هامته.
وحقاً إن التماس الرجل الكفء والحيرة في ذلك لمن أشق الأمور وأجسمها! وتلك هي آفة الأمم في هذه العصور والأزمة الحرجة. هذه أوقات ثورات. وإني أرى بناة شؤون الدنيا قد اطرحوا المقاييس والمعايير وأغفلوا قانون التوازن فانهار البناء بهم فإذا هم والبناء خليط أنقاض مشوش! وليست الثورة الفرنسة هي مبدأ هذا التهدم والسقوط بل لعلها الغاية والنهاية ولا نخطىء إذا قلنا أن المبدأ كان منذ ثلاثة قرون أي منذ نهضة لوثر. وكان داء العالم إذ ذاك تحول كنيسة الله أكذوبة ووقاحتها وصفاقة وجهها إذ تدعي لنفسها القدرة على غفران ذنوب العباد بالدرهم والدينار. وكان هذا مرضاً في الدين - داء في الروح والجوهر ومتى أدوى الجوهر واعتل الروح فأحر بالحسم والظاهر أن يفسد ويدوي - ثم تزداد فساداً ومرضاً. لقد كان الإيمان قد فني وباد وفاض الشك وتفشى الجحود والإلحاد. وطرح البناء معياره ومقياسه وقال لنفسه أي قيمة لقانون التوازن وأي فضل في الحساب والنظام. ضع الحجر على أخيه كيفما جاء واتفق ولا يعنيك أن نجشم النفس مراعاة قانون أو حساب! وكانت العاقبة يا للأسف كما تعلمون! -.
وإني لأتبين اتصالاً طبيعياً والتئاماً تاريخياً ما بين مقالة لوثر إذ قال للبابا أنت أيها الملقب نفسه البابا أفكاً وزوراً ما أنت بأب في الدين ولا والد لنا في الله. إنما أنت أكذوبة يعجز(3/8)
اللسان أن يجد بين الألفاظ المهذبة الرقيقة ما يليق بنعتك وصفتك! وبين صيحة الثورة الفرنسوية إذ علا بها ضجيج الثوار في قصر الإمارة يصيحون إلى السلاح: إلى السلاح. ولا يحسب الحاسبون أن هذه الصيحة الزعجة الجهنمية كانت شيئاً حقيراً أو باطلاً! كلا إنما كانت صوت الأمم النائمة هبت من رقاد كاد يخنقها أثناءه الكابوس - نعم صوت الأمم هبت من حالة بين الرقاد والموت. فبدأت تشعر أن الحياة شيء حق. وأن عالم الله ليس بمكينة تساس بالدهاء والمكر وتدبر بعلوم الاقتصاد والرياضة. نعم لقد هبت فأرسلت صيحة جهنمية - وإنما أتت جهنمية لأن طغاة الملوك وعتاة الحكام أبو ألا أن تكون كذلك. لقد هبت الأمم وقالت لا بد للأباطيل والأضاليل أن تنتهي ويخلفها نوع من الإخلاص كيفما كان. ولا بد لنا من عودة إلى الحق ولو جرت علينا أهوال ثورة فرنسية وجلبت على رؤسنا شر الفظائع وأشنع البلاء. هذه هي الثورة الفرنسوية - هي كما ترون حق ولكنه حق ملتفع في شواظ الجحيم ولظي جهنم! -.
وكان قد ذاع لدى جماعات كثيرة من أهالي إنكلترا أن الأمة الفرنسوية كانت في تلك الأوقات (أوقات الثورة) قد جنت. وإن الثورة الفرنسوية كانت صنفاً من الجنون تحولت فرنسا وفرق عظيمة من سكان المعمورة أثناءه مارستانا. ذلك كان رأي العدد العديد من الإنكليز وفلافستهم أن الثورة كانت حريق جون شب ثم خمد وأصبح الآن في عالم الأحكام والأوهام والقصص والعجائب. والنوادر والغرائب! فليت شعري كيف كان وقع الثورة الثانية - ثورة 1830 في نفوس هؤلاء الفلاسفة الذين حسبوا أن الثورة الأولى كانت فلتة جنون وبيضة الديك وإن حديثها أصبح كحديث الخرافات لا يكاد يصدق؟ ماذا كان شعورهم حينما رأوا فرنسا قد ثارت ثانية إلى السلاح تكافح كفاح المستميت تذبح وتُذبح. وكل ذلك لتؤيد الثورة الأولى وتحفظ آثارها وأجدادهم ويأبون إلا تمسكاً به وإصراراً عليه. هم لا يبرأون منه إلى الله. بل يعملون على حفظ أثره. واستنتاج ثمره. باذلين الدماء والأرواح في سبيل ذلك. ولعل في هذا الحادث (حادث الثورة الثانية) أكبر مصاب لأولئك الفلاسفة الذين أسسوا مبدأهم وشادوا مذهبهم على أن الثورة الفرنسوية فلتة جنون تبرأ منها فرنسا ولا يعود بها الزمن أبدا. نعم إن في ذلك الحادث نكبة لأولئك الفلاسفة حتى لقد ذاب قلب الأستاذ المؤخ الألماني نيبور كمداً وتقطعت نفسه حسرة لما بلغه نبأ هذا الحادث. ثم اعتل(3/9)
على أثر ذلك وقضى نحبه قتيلاً بداء الأيام الثلاثة (هو اسم ثورة 1830) وما هكذا تموت الرجال! ولست أشبه هذه الموتة إلا بموتة الشاعر الفرنسوي الكبير (راسين) الذي قتله أن لويز الرابع عشر تجهمه مرة ورمقه شزراً فياليت الأستاذ الألماني علم أن الكرة الأرضية صلبة جلدة وأنها طالما تحملت صدمات الدهر وضربات القضاء وأنه ليس من البعيد أن تعيش وتبقى وترى دائرة حول محورها بعد ثورة (الأيام الثلاثة) ولقد جاءت تلك الثورة الثانية لتعلم الناس جميعاً أن الثورة الفرنسوية لم تكن قط فلتة جنون ولكنها ثمرة حرة من ثمار هذا العالم - عالم الله. وإنها كانت حقاً يحسن بكل إنسان أن يعده حقاً لا باطلاً ولا جنوناً.
فصل آخر من مقدمة الباب الخامس
الذي عقد للكلام عن الكتاب جونسون وروسو وبارنز
كثرت الشكوى الآن مما يسمونه اختلال نظام المجتمع وكيف أن كثيراً من العوامل الاجتماعية تسيء أداء وظائفها. وكيف أن كثيراً من القوى العمرانية الشديدة تكدح في غير مكدح وتكد في غير مكد. وتلك شكوى لا شك في صحتها. ولكن من نظر جهة الكتاب والكتب وجدها أشد الجميع اختلالاً وفساداً بل أصل كل اختلال وفساد - وجدها كأنها قلب يصدر عنه ويرجع إليه كل اختلاط وتشويش في العالم! ولست أرى حالاً أنكر من سوء ما يجزى به الكتاب على جليل ما يسدونه إلى الملأ. ولو غمسنا القلم في هذا المبحث غمسناه في بحر لا قرار له ولكن لابد لنا أن نمس شاطئ الموضوع إذ كنا غير خائضين عبابه إتماماً للفائدة. وأسوأ ما كان من أمر هؤلاء الثلاثة الكتاب أنهم وجدوا عملهم في هذه الحياة ومركزهم ضرباً من الفوضى. والسائح إذا صادف طريقاً مذللاً ومنهجاً واضحاً مضي في سننه وأمعن في قصده. فإذا أصاب طريقاً مذللاً ومنهجاً واضحاً مضي في سننه وأمعن في قصده. فإذا أصاب عقبة لا تقتحم وسداً لا يفتح فجعل يطعن فيه يبغى نفاذاً فأحر به أن يظل من عمله هذا في مصاب جلل وأوشك أن تمر به فريسة بين مخالب الهلاك!
أدرك آباؤنا ما هنالك من الفائدة العظمى في خطاب الرجل للرجال وعظة المرء لأخوانه فأسسوا الكنائس والمساجد لذلك الغرض. فما من بقعة في العالم المتمدين إلا بها منبر يستطيع منه الرجل أن يعظ باللسان أخوانه في الله. وكانوا يرون ذلك من أهم الأمور وأنه(3/10)
لا خير في الحياة من دونه ولله ما كان اتقاه عملاً وأجمله مشهداً فأما الآن وقد ظهرت صناعة الكتابة والطباعة فقد طرأ تغير كلي على ذلك الأمر. أو ليس الكاتب الذي يضع كتاباً خطياً ليست خطبته قاصرة على هذا البلد أو ذاك رهينة بذلك اليوم أو هذا ولكنها خطبة لكل إنسان في كل زمان ومكان؟ وحقاً أنه من يخطئ في عمله فأوجب الواجبات على كاتب الكتاب أن يتوخى الصواب والسداد والخطب العظيم والطامة الكبرى أن الناس لا يحفلون البتة أصاب كتاب الكتب أم أخطأوا - وجد كتاب الكتب أم فقدوا. نعم قد يكون للكاتب شيء من الأهمية عند طابع الكتب الذي يرجو أن يربح مبلغاً من وراء مؤلفه. فأما عند خلافه فلا. كلا ولا يعبأ الناس من أين جاء ذلك الكاتب وأين يذهب وكيف وصل وكيف يمكن أن تسهل له طرق التقدم والاستمرار. وإنما يراه المجتمع كأنما هو إحدى الشواذ فيتركونه يهيم كالذي لا يدري أين هو.
أنا في أمة تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود
وصناعة الكتابة لا شك أكثر الفنون إعجازاً وأعجب ما أبدع الإنسان وحروف أو دين كانت أول عمل أتاه أول أبطال العالم. وليست الكتب في هذه الأوقات إلا من قبيل (حروف) أو دين والكتب حرسكم الله مستودع حكمة الغابرين وفيها تتجلى لنا أرواح العصور الماضية. والحقب الخالية. بعد أن فنيت أجساماً. وأصبحت أوهاماً وأحلاماً. ولا ننكر أن الجيش اللهام. والأسطول الضخم الجسام. والمرافيء والثغور. والمدائن والقصور. أشياء رائعة جليلة. ولكن ماذا مآلها وأين مصيرها؟ وإذا سألت اليوم عن أغا ممنون وبير كليس وينانهم رأيتها عهوداً تبكي وتذكر بعد أن كانت مشاهد تروع وتسر. ولم تنك عينك منها إلا دمنا عافيات. وطلولاً دارسات. ورسوماً داثرات. ومعاهد خربات كأنها صحف باليات تنشرها أيدي السحب السواكب وتطويها أكف الرياح الغرائب إذا نفشتها أقلام الهاطلات. مسحتها أنامل السافيات.
لأيدي البلى فيها سطور مبينة ... عبارتها أن كل بيت سيهجر
ولكن ماذا كان من أمر مؤلفات اليونان؟ هي اليوم عينها بالأمس. لم يغيرها الزمان. ولم ينكرها الحدثان ولا أبلتها العصور ولا أخلقتها الدهور. هذا وقد خلد الله اليونان بين أوراقها وصحفها. وأحياها في سطورها وحروفها. فكأنها لم تمت وإنما طوتها من تلك الكتب(3/11)
صناديق وخزائن. وأصبحت في تلك الأسفار ودائع ودفائن. والكتاب رعاكم الله فؤاد العالم يعي كل ما طرأ عليه من حوادث وآثار. وخواطر وأفكار. ووجدانات ومشاعر وفعال ومآثر ومشاهد ومناظر. فنعم تراث الأوائل للأواخر وتحفة الغابر للحاضر!
أو مازالت الكتب تأتي بالمعجزات كالتي زعموا أن حروف أودين كانت تأتيها؟ بلى حسبها أن فيها للناس دوافع ومحركات. وبواعث ومحرضات. ولن تعدم أحقر قصة واسخفها أثرها الحميد في قارئاتها ذوات الخرق والحمق من بنات الريف تفيدها بعد الزواج في ترتيب بيتها وتنظيمه ثم انظروا ما الذي شاد كنيسة سانت بول. هو كتاب التوراة الذي هو كلمة الرجل موسى الخارجي الطريد راعي الغنم في صحارى الطور! نعم لقد أقامت الكتابة في العالم دولة المعجزات وضمت الماضي والحاضر بأوثق العقد وأوكد الصلات ولاصقت بين الشرق والغرب. وصاقبت بين القطب والقطب. وجمعت بين طنجة وبكين في قرن. وألفت بين نوح ونابليون في زمن وغيرت للناس وجوه الأمور وصور الأعمال وجددت شأناً بعد شأن وحالاً بعد حال.
فانظروا مثلاً إلى التعليم وما أحدثت فيه الكتب من الأثر الجليل. وحسن التغيير والتبديل لقد كانت الجامعات قبل الكتب هي الطريقة الوحيدة لاقتناء العلوم واكتساب المعارف. نشأت الجامعة حين لا كتب تذيع وتنتشر وحين كان الرجل يريد الكتاب فيبذر الضياع والعقد. وكان ذو العلم إذا أراد أن يعطي من علمه لم يجد بداً من جمع الطلاب حوله فيلقيهم العلم فماً لفم فإذا كنت في ذلك الوقت فأحببت أن تعرف من العلم ما يعرفه ابلادرد لم يكن أمامك إلا أن تذهب إلى ابلادرد حتى لقد بلغ قصاد ابلادرد وحجاجه نحواً من ثلاثين ألفاً يحتشدون حوله ليستمعوا فلسفته وإذ وجد بهذا المكان هذا العديد المجمهر من طلاب العلم رآها العلماء الآخرون فرصة يحسن اعتنامها فمن وجد في نفسه الكفاءة لتدريس علم رأى ذلك المكان أحق الأمكنة بأن يذهب إليه فيعرض في سوقه سلعة علمه وهكذا لكما زاد فيه عدد المدرسين زاد عليه الإقبال من الطلاب والمعلمين معاً. وبعد ذلك أصبح المكان لا يحتاج إلا إلى التفات السلطان إليه ليجمع تلك المدارس المتعددة في مدرسة واحدة ثم يمنحها المباني والمير والمنح ويسميها جامعة. وهذا هو في نظري منشأ الجامعات.
ولكن انتشار الكتب وسهولة اجتلابها قلب الأمر قدماً لرأس. وذروة لأس. ومتى أوجدت(3/12)
الطباعة نسخت أمر الجامعات وعلوتها علواً مبيناً. إذ لا يصبح المعلم في حاجة إلى أن يجمع الطلاب حوله ليسمعوا منه وما هو إلا أن تطبع الكتاب حتى يتناوله من بأقاصي الأرض غنيمة بلا عناء ويرتشفه شربة بلا رشاء - هنيئاً مريئاً وهو متكيء على أريكته مرتفق فوق وسادته ليقلب فيه البصر. وينعم في معاينه النظر! ولا شك أن في الخطبة لمزيد خاصة. حتى لقد يحسن أحياناً بكتاب الكتب أن يخطبوا طلابهم أيضاً. وحسبكم ما نحن فيه الآن! وأرى أنه ما دام للمرء لسان فسيبقى للخطابة فضل لا ينكر وقيمة لا تحقر ومنطقة للكلام خلاف منطقة الأقلام. ولكن الحد الفاصل بين المنطقتين لم يعين حتى اللحظة ولم توجد بعد تلك الجامعة التي يفرض معها نفوذ قوة الكتب وتأثير سلطانها. ولا عرف بعد كيف تكون تلك الجامعة وما معالمها وحدودها. فإذا كنا مفكرين في ذلك فمثل هذه الجامعة لن تكون إلا كأقدم جامعة أعني أن يكون من شأنها تعليم القراءة - القراءة في مختلف اللغات والعلوم - أي تعليم مبادئ كل صنف من أصناف الكتب. ولكن مأخذ العلوم ومقتبسها هو الكتب أعينها! ومبلغنا في العلم متوقف بعد على ما نقرأ بأنفسنا مهما صنع لنا المعلمون وأجاد المدرسون نخرج من ذلك على أن خير جامعة في هذه الأوقات هي مجموعة كتب.
وأما من جهة الكنيسة فالتغيير الحادث عليها من نشر الكتب تغيير تام. والكنيسة هي جماعة القسوس والأنبياء ذوي الهداية والإرشاد من يهدون بعظاتهم عباد الله الصراط المستقيم. وقد كان اللسان يوم لا كتابة ولا طباعة هو الأداة الوحيدة لبث النور والهدى. فأما وقد ذاعت الكتب فقد أصبح كل كاتب يلين من قلوب الناس ويأخذ بزمامها نحو الحق فذلك بطريق أمته وأمامها. وطالما قلت أن كتاب الجرائد والمجلات والرسائل والشعر والكتب هم في الحقيقة الكنيسة العاملة الفعالة في الأمم الحاضرة. وليست الكتب خطباً لنا فقط بل هي أيضاً ضرب من ضروب العبادة وبعضها تكون قراءته أحسن صلاة لله وتسبيح. أوليس المعنى الشريف يزفه إليك البليغ في رونق اللفظ المصقول يختال من صفاء السبك وإشراق الديباجة في أكرم حلة وأبهج خلعة فيمتزح بأجزاء النفس ويجري مع الروح حتى:
يظل سامعه لدناً مفاصله ... كأنما فترت أوصاله الكاس
يفعل بالنفس ما تفعله العبادة ولعل الكثيرين لا يعرفون في هذه الأوقات الفاسدة من أساليب(3/13)
العبادة إلا هذا الأسلوب. والشاعر الذي يريك من جمال الزهرة ما كان قبل غائباً عنك أليس كأنه أطلعك على مظهر من مظاهر قوة الله وعظمته وشعبة من ينبوع الجمال الإلهي الشامل وعلى سطر خطه القلم العلوي في صحيفة الكون فبدا مبيناً ناصعاً. جلياً ساطعاً. وكأنما غنى لنا نشيداً قدسياً فصدحنا معاً وإذا كان هذا شأن من يصف زهرة الروض فكيف الذي يتغنى لنا بمكارم أولى العزم ومآثرهم. ومناقب ذوي الفضل ومفاخرهم. مثل هذا كأنما يمس أكبادنا بجذوة من مجامر المحراب. ولعلها أشرف طرق العبادة.
وما الأدب إلا كشف وجلاء لأسرار بدائع الله أو ما يسمونه السر الجلي وقد عرف الأدب فيشتي بأنه البيان المستمر لما يكمن من أسرار الله في الأشياء الأرضية العادية. فإن أسرار الله ما برحت كائنة في كل شيء وما برحت تصادف من هذا الكاتب وذاك من يبرزها في هذه الصورة أو تلك في مقادير مختلفة من الوضوح ودرجات متفاضلة من البيان كل حسب ما وهب الله من الفضل هذا هو الذي ما زال ذووا المواهب اللدنية من الشعراء والكتاب والخطباء والمتكلمين يصنعونه عمداً أو عفواً حتى لقد تجد أن شعر بيرون لا يخلو من تلك الأسرار برغم ما قد امتلأ به من زوابع الحنق وصواعق القذف والانتقام ومعاسف الغل والحقد والضغينة على بني البشر. وهي (الأسرار) أيضاً كائنة في متواضع شعر بارنز ذلك الفلاح الذي كان يختلس القوافي من خلال حركات الفاس والمحراث - صاحب القصائد التي كانها أغاريد القنبرة صاعدة من أديم التراب. إلى أعلى ذوائب السحاب. والحقيقة أن كل غناء صادق هو عبادة كما أن كل شغل صادق هو أيضاً عبادة وما الغناء الصادق لو نظرت إلا صفة للشغل الجيد الحر وتمثيل موسيقى مطرب ومن أنعم النظر رأى هنالك قطعاً جمة من الأناشيد الكنيسية. والصلوات الدينية. طافية على مياه ذلك البحر الخضم الذي يسمونه بحر الأدب: فالكتب أيضاً كنيستنا.
ننتقل الآن إلى تأثير الأدب في الحكومة لقد كان البرلمان قوة عظمى تبرم أمور الرعية وتنقض وتعقد شؤون الأمة وتحل. وتصرف أعنة البلاد وتدبر. وتقطع أحكامها وتقرر. بعد طول الروية والنظر وإدمان التأمل والفكر. وإطالة المناقشة والمحاورة وإدامة المجادلة والمناظرة ولكن انظرو الآن أما ترون أن عمل البرلمان هذا يعمل الآن خارج البرلمان في طول البلاد وعرضها بواسطة المطبوعات من جرائد ومجلات. ورسائل ومؤلفات. وإن(3/14)
كان البرلمان لما يزل باقياً ولقد قال بيرك أن البرلمان ثلاثة أركان ولكن بمجلس مخبري الجرائد ركناً رابعاً أهم من تلك الأركان الثلاثة ولم تك كلمته هذه بالمجاز والاستعارة ولكنها عين الحقيقة. وقد أصبحت خطارتها اليوم أجسم منها يوم قالها بيرك. فالأدب هو برلماننا أيضاً. والديمرقراطية أيدكم الله رهن الطباعة التي هي من نتائج الكتابة. وما هو إلا أن تخترع الكتابة حتى تتبع الديموقراطية فالكتابة تنتج الطباعة الطباعة العامة اليومية كما نرى اليوم فيصبح كل ذي لسان بوقاً يسمع الشعب وقوة وفرعاً من أفرع الحكومة راجح الميزان عند وضع الشرائع والقوانين. وجميع تصاريف السلطة. ولا ينظر إليه من أي طبقة هو وماذا يملك وماذا يلبس. وإنما الأمر الجوهري هو أصاحب لسان. وأخو بيان. فيصغي إليه ويقبل عليه. هذا لا غيره الأمر الأساسي فالأمة محكومة بكل ذي لسان من أبنائها. وهناك الديموقراطية ولا مشاحة. ضف إلى ذلك أنه ما من قوة موجودة في الكون إلا وسيريكها الدهر يوماً ما فعالة معترفاً بسلطانها. فهي لا تزال تعمل في خفاء وتكد تحت غطاء تدافع العوائق والعوائق تدافعها وتصارع الموانع والموانع تصارعها. حتى يجلوها صبح اليقين من غياهب الشبهات. وتطلقها يد النصر من سلاسل العقبات. فتذهب في شعاب الحق كل مذهب. وتضرب في مناصي الاصلاح كل مضرب. ولا تستريح الديموقراطية حتى تبرز للعيان. ويصطلي شمسها كل إنسان.
أو ما يزال في كل شيء دليل على أن خير ما في طاقة امرئ أن يصنع وأعجب الأشياء طرا وأثقلها في النفوس وزناً. وأخفها على الأسماع حسناً. وألطفها في النفوس مكاناً. وأقلها في العقول رجحاناً هو كتاب لله تلك الرقع الواهية المرقشة المتون بلمع المداد الأسود أي جليل من الأمر لم تأت وأي شيء لم تصنع ولن تصنع! ولا غرو فهل كانت تلك الرقع مهما حقر ظاهرها إلا أشرف نتائج الذهن البشري؟ هي فكر الإنسان - الفضيلة الحرة التي بها يصنع كل شيء. وجميع ما يفعل الإنسان ويحدث إنما هو ثوب فكرة. وجسم روحه رأي من آرائه فمدينة لندن هذه بجميع ما بها من منازل ودور. وحلل وقصور وعدد وآلات وكنائس وبيعات وحركة وصخب. وجلبة ولجب - ما كل هذه إلا فكرة أو مليون فكرة ألف شملها نظام فصارت واحدة. ما هي الأروح فكرة جسيمة قد تجسدت في الطوب والحديد والخشب والتراب والدخان والقصور والبرلمانات والمركبات والمصانع وسائر ما تنظر من(3/15)
الأشياء وما من طوبة صنعت إلا وقد أعمل بعض الرجال فكرته كيف يصنعها وما نسميه قطعاً من الورق عليها لمع من الحبر إنما هو أطيب مظهر للفكر البشري. فلا عجب أن يكون أنشطها وأكرمها.
وقد طالما أقر الناس بفضل الكتاب وخطارة شأنهم في العصور الحديثة واستعلائهم على الكنيسة والبرلمان والجامعات وغيرها ولكنه إقرار لم يشفعه عون ولا مساعدة. وعسى أن يكون قد آن للعواطف أن تخلي مكانها للإمدادات المادية. وإذ كنا نقر ونعترف بأن للكتاب على المجتمع النعم الغراء والمنن البيضاء. وإنهم يحدون به في سبيل التقدم ويسمون به مراقي المدينة فما بالنا إذن نتركهم في أسوأ حال من نكد الحياة وجحد العيش. من أمرهم في حيرة عشواء وضلالة عمياء ويقيني أن كل شيء فيه فضيلة قوة خفية فسيحسر يوماً ما لثامه ويميط قناعه ويسفر لنا ناصع الصورة. واضح الغرة بين الإشارة جهير الصوت. فأما إن يلبس أناس زي الادب والكتابة ويقبضون أجرها. ويتضور من الجوع الكاتب الحقيقي صاحب الخير والمنفعة فما ذلك بعدل وإنما جور وعسف. ولكن رد هذه المظلمة لن يكون وآاسفاه. إلا بعد الجهد الجهيد. والزمن المديد! وكم دون ذلك من مشكلات ومعضلات الله وحده المعين على حلها.
فإذا سألتموني ما هو أحسن نظام تجعل عليه حالة الكتاب في العصور الحديثة وما هي خير طريقة لتنظيم شؤونهم واستمرارها تكون على تمام مطابقة لمركزهم ولمركز المجتمع: استقلت من الإجابة على هذ1 السؤال لقصور مبلغ عقلي عنه. وأنها لمعضلة لو تتابعت عليها عدة عقول راجحة لما استطاعت لها حلا تقريبياً فكيف بعقل واحد؟ نعم ولا أحب أن أحد يقدر أن يقول ما هو أحسن نظام لأمر الكتاب فأما إذا سأل سائل ما هو شر نظام وأخبثه قلت هذا الذي هو كائن اليوم - هذا الخلط السائد والفوضي المستحكمة. وما أبعد ما بيننا وبين نظام صالح طيب.
وثمت شيء لا يفوتني ذكره وهو أن هناك غير أمر العطايا المالية أمراً أهم وأعظم إلا وهو إجلال الكتاب وتقديسهم وهو أمر كان معدوماً في القرن الثامن عشر - قرن الجحود والكفر. فأما هبة العطايا وترتيب الرسوم فهي على ضرورتها في بعض الأحيان قلما تقربنا وحدها من النظام المطلوب لحالة الكتاب. وإني لأحد الذين أسأمهم كثرة ما يلغط به من(3/16)
سلطان المال وفضله على كل شيء. بل أني أحد القائلين بأنه لا ضير على الحر أن يكون فقيراً وأنه يجب أن يكون من الفقر محك لأذهان الكتاب ومعيار لقيمهم وأقدارهم. وقد أوجدت الكنيسة النصرانية فرق الشحاذين من رجال أبرار قدرت لهم الشحذ والتسول ورأت الكنيسة أن ذلك من أسباب نشر روح الدين وتأييده. وهل أسست النصرانية نفسها إلا على الفقر والحزن والاضطهاد والصلب وسائر أصناف الغم والمهانة؟ ولنا أن نقول أن من لم يعرف هذه الأشياء فيتعلم منها درسها الذي لا تقدر قيمته فقد فاته من فرص التعليم أثمنها. ومن أسباب التقويم والتثقيف أمتنها: ومن فوائد التربية والتهذيب أكرمها وأحسنها. ولم تكن الشحاذة والحفاء ولبس المسوح وشد الحبال في الأواسط بالشيء الجميل أو الجليل في أعين الناس حتى جمله وشرفه مزاولة الكرام له وإتيان الجلة الأشراف إياه.
وليس موضوع الشحاذة من أغراض هذا الكتاب ولكن من ذا الذي لا يقول بأن كاتباً كجونسون لم ينفعه الفقر وتفده الفاقة؟ ولقد كان مثله جديراً أن يعلم أن المال أو النجاح كيفما كان لم يكن الغرض الذي يسعى ليدركه. وكان ملياً أن يعرف أن فؤاده لم يخل مما قد جبلت عليه سائر القلوب من الكبرياء وحب الذات بجميع شعبه وفروعه. وأنه من أوجب الواجب اقتلاع هذه الأغراس اللئيمة من تربة النفس. ثم اذكروا أن بيرون مع غناه وشرف نسبه كان أقل فائدة وأصغر مأثرة من بارنز مع فقره وضعة نسبه. وما يدرينا أنه إذا وجد في المستقبل البعيد ذلك النظام المنشود كان الفقر لا يزال ركناً من أهم أركانه وكان الكتاب - أبطالنا الروحانيون - لا يزالون طائفة من الشحاذين متاحاً لهم العوز والتكفف حتى يجنوا مافيهما من كرائم الثمرات وينتفعوا بهما انتفاع غيرهم باليسار والغني؟ ولا أنكر أن الطيب الكثير يبلغ بالمال. ولكن ما يبلغ بالفقر أطيب وأكثر: وإنما علينا أن نعرف حد المال فنقف عنده ونعلم أن ما زاد على ذلك فضول حقه الرد والرفض.
هذا ولو فرضنا وجود الامدادات المادية والرسوم المالية فأنى لنا بمعرفة الكاتب الكبير الذي يستحقها؟ أنه لا بد قبل ذلك من أن يجوز الامتحان اللائق. وأرى أن الحياة الأدبية - تلك التي كلها فوضي يتلاطم موجهاً ويتصادم لجها. هي نوع من الامتحان وما زال هناك عنصر من الحق في قولهم أن الجهاد في سبيل الصعود من وهاد الطبقات السفلى إلى ذرى الطبقات العليا هو من الأمور التي لا بد من بقائها لما يترتب عليها من استمرار رقي(3/17)
العالم. إذ أنه ما زال يولد في الطبقات السفلى من ينبغي أن يكون في أرفع المازل وأسمى الطبقات. ولكن كيف ينظم ذلك الجهاد؟ هذه مسألة المسائل فأما أن يترك هذا الجهاد كما هو الآن رهناً بمحاسن الصدف فكلما أفلح فيه كاتب من عصابة خاب الباقون أو نجا واحد من ألف هلك في الطريق بعد التسعمائة تسعة وتسعون. ويترك مثل بارنز يجود بروحه ولا يجود عليه إنسان بدرهم ومثل جونسون يزجى الوقت بين الثؤباء والمطواء في حجرته ينطبق عليه قول القائل:
نلوم على تبلدها قلوباً ... تلاقي من معيشتها جهاداً
إذا ما النار لم تطعم وقوداً ... فأوشك أن تمر بها رماداً
حتى إذا شرع يكتب راح وهو من دفعة العمل وعجلته مع البخس والوكس كأنه في مضمار أو كأن يديه يداً عائم يكافح التيار. ويترك مثل روسو على جمر الأعسار والاحتقار يتململ ويقذف بشرر الكلم اللذاع فيؤجج الثورات الفرنسوية - هذا وايم الله شر النظام أسوءه. فأما النظام إلا حسن فهيهات منه نحن وإني لنا به الآن!
بيد أنه لا شك هناك في أن ذلك النظام آتٍ يحمله المستقبل البعيد في جوفه جنيناً في رحم الزمان الآجل وهذا ما أجرأ على أن أتنبأ به لأنه لا يكاد الناس يرون فضل الشيء حتى يأخذوا في تسهيله وتزجيته. وتنظيمه وترقيته. ثم لا يستريحون أو يروه قد بلغ منتهى ما يستطيعون أن يبلغوا به وقد قلت أنه ليس في سلطات الكنيسة والحكومات بأنواعها سلطة تستحق أن تقارن بدولة الأقلام. وقد قال الوزير بيت وقد سئل أن يكتتب بشيء من المال للشاعر الأكبر بارنز الأدب سيد نفسه يدبر زمامها ويسوسها وليس في حاجة إلى الناس قال المستر سوذى نعم هو سيد نفسه يسوسها ويدبر زمامها. وهو أيضاً سيدك يسوسك ويأخذ بخطام أنفك إذا أنت لم تلتفت إليه وتعرف له قدره!.
وما معظم الضرر بواقع على الكتاب فإنهم أفراد وجزء ضئيل جداً من الجسم الكلي. وفي جهدهم أن يجاهدوا ويكابدوا. حتى يظفروا أو يموتوا فيعذروا. ولكنه يهم المجتمع أن يضع شهبه ومصابيحه في الذرى والغوارب وحيث ترى فتهدي. أم يجعلوها تحت أقدامهم ويبددوا جوهرها الساطع شرراً يستطير في حيث لا مقتبس ولا متنور ويعرضوا أنفسهم بذلك لما قد عساه يحدث من الحريق وقد حدث والنور هداكم الله هو رأس المنافع وأصل(3/18)
الحياة وأول حاجات المجتمع وآخرها. وإن دنيا يتقدمها النور لجديرة أن تظفر في حربها مع الدهر وتكون للإنسان أحسن دنيا. وعندي أن مرض الفوضي الكتابية هو أصل سائر الأمراض فداوه تشف المجتمع من كل داء به وعلة.(3/19)
صفحة من التاريخ
يوسف بن تاشفين
سلطان مراكش وواقعة الزلاقة
كان بر المغرب الجنوبي لقبيلة تسمى زناته فعبرت على ذلك حيناً من الدهر إلى أن ضرب الدهر من ضربانه وخرج عليهم من جنوبي المغرب من البلاد المتاخمة لبلاد السودان جماعات يعرفون بالملثمين يرأسهم رجل منهم يسمى أبا بكر بن عمر وكان رجلاً ساذجاً كريم الطبع مؤثراً لبلاده على بلاد المغرب غير ميال إلى الرفاهية والنعيم وكان ولاة المغرب من زناته ضعفاء لا طاقة لهم بمقاومة الملثمين فأخذوا البلاد من أيديهم من باب تلمسان إلى ساحل البحر المحيط فلما حصلت البلاد لأبي بكر بن عمر سمع أن عجوزاً في بلاده ذهبت لها ناقة في غداة فبكت وقالت ضيعنا أبو بكر بن عمر بدخوله إلى بلاد المغرب فحمله ذلك على أن استخلف على بلاد المغرب رجلاً يسمى يوسف بن تاشفين ورجع إلى بلاده الجنوبية - وكان يوسف هذا رجلاً شجاعاً عادلاً مقداماً اختط بالمغرب مدينة مراكش. وكان موضعها مكمناً للصوص. فكان إذا انتهت القوافل إليه قالوا مراكش ومعناه بلغة المصامدة امش مسرعاً - فلما تمهدت له الأمور وةاستوسق. ملكة واستخذت له البربر مع شدة شكيمتها تاقت نفسه إلى العبور لجزيرة الأندلس فهم يذلك وأخذ في إنشاء المراكب والسفن ليعبر فيها فلما علم بذلك ملوك الأندلس كرهوا المامه بجزيرتهم وأعدوا له العدة والعدد وصعبت عليهم مدافعته وكرهوا أن يكونوا بين عدوين الفرنج عن شمالهم والمسلمين عن يمينهم وكانت الفرنج (الاسبان) تشتد وطأتها عليهم وتغير وتنهب وربما يقع بينهم صلح على شيء معلوم كل سنة يأخذونه من المسلمين وكانت الفرنج ترهب ملك المغرب يوسف بن تاشفين إذ كان له اسم كبير وصيت عظيم لنفاذ أمره وسرعة تملكه بلاد المغرب وانتقال الأمر إليه في أسرع وقت مع ما ظهر من أبطال الملثمين ومشايخ صنهاجة في المعارك من ضربات السيوف التي تقد الفارس والطعنات التي تنظم الكلى فكان له بسب ذلك ناموس ورعب في قلوب المنتدبين لقتاله. وكان ملوك الأندلس يفيؤن إلى ظله ويحذرونه فلما رأوا ما دلهم على عبوره إليهم وعلموا ذلك راسل بعضهم بعضاً يستنجدون آراءهم في أمره. وكان مفزعهم في ذلك إلى المعتمد بن عباد لأنه أشجع القوم وأكبرهم(3/20)
مملكة فوقع اتفاقهم على مكاتبته يسألونه الأعراض عنهم وأنهم تحت طاعته وتلك صورة ما كتبوا.
(أما بعد فإنك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم ولم تنسب إلى عجز وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل ولم ننسب إلى وهن. وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا فاختر لنفسك أكرم نسبتيك فإنك بالمحل الذي لا يجب أن تسبق فيه إلى مكرمة وإن في استبقائك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك وثبوت والسلام).
فلما وصله الكتاب مع تحف وهدايا. وكان يوسف لا يعرف اللسان العربي غير أنه ذكي الطبع يجيد فهم المقاصد وكان له كاتب يعرف العربية والمرابطية. فقال له أيها الملك هذا الكتاب من ملوك الأندلس يعظمونك فيه ويعرفونك أنهم أهل دعوتك وتحت طاعتك ويلتمسون منك أن لا تجعلهم في منزلة الأعادي فأنهم مسلمون وذووا بيوتات فلا تغير بهم وكفى بهم من وراءهم من الأعادي الكفار وبلدهم ضيق لا يحتمل العساكر فأعرض عنهم إعراضك عمن أطاعك من أهل المغرب. فقال يوسف بن تاشفين لكاتبه فما ترى أنت. فقال أيها الملك أعلم أن تاج الملك وبهجته. شاهده الذي لا يرد فأنه خليق بما حصل في يده من الملك والمال أن يعفو إذا استعفى وأن يهب إذا استوهب وكلما وهب جليلاً جزيلاً كان قدره أعظم فإذا عظم قدره تأصل ملكه وإذا تأصل ملكه تشرف الناس بطلعته وإذا كانت طاعته شرفاً جاءه الناس ولم يتجثم المشقة إليهم. وكان وارث الملك من غير أهلاك لآخرته. واعلم أن بعض الملوك الحكماء البصراء بطريق تحصيل الملك قال من جاد ساد ومن ساد قاد ومن قاد ملك البلاد فلما ألقى الكاتب هذا الكلام على السلطان يوسف بلغته فهمه وعلم صحته. فقال للكاتب أجب القوم واكتب بما يجب في ذلك واقرأ على كتابك فكتب بسم الله الرحمن الرحيم من يوسف بن تاشفين سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته تحية من سالمكم وسلم عليكم وأنكم مما في أيديكم من الملك في أوسع إباحة. مخصوصين منا بأكرم إيثار وسماحة فاستديموا وفاءنا بوفائكم واستصلحوا أخاءنا بأصلاح أخائكم والله ولي التوفيق لنا ولكم والسلام.
فلما فرغ من كتابه قرأه على يوسف بن تاشفين بلسانه فاستحسنه وقرن به ما يصلح به من التحف والدرق اللمطية (نسبة إلى لمطة وهي بليدة عند السوس الأقصى وهي معدن الدرق(3/21)
اللمطية) التي لا توجد إلا في بلاده وأنفذ ذلك إليهم. فلما وصلهم ذلك وقرؤا كتابه فرحوا به عظموه وتقوت نفوسهم على دفع الفرنج عنهم وأزمعوا إن رأوا من الفرنج ما يريبهم أنهم يرسلون إلى يوسف بن تاشفين يعبر إليهم أو يمدهم بإعانة منهم. وكان ملك الافرنج الأذفونش (الفونس السادس ملك الاسبان) لما وقعت الفتنة بالأندلس وثار الخلاف. وكان كل من حاز بلداً وتقوى فيه ملكه انتحل الملك لنفسه وصار ملوك الأندلس مثل ملوك الطوائف فطمع فيهم الأذفونش وأخذ كثيراً من ثغورهم فقوى شأنه وعظم سلطانه وكثرت عساكره وأخذ طليطلة الآن) من صاحبها القادر بالله بن المأمون بن يحيى بن ذي النون في منتصف محرم سنة 478 وفي ذلك يقول ابن العسال (أحد شعراء الأندلس):
حثوا روا حلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها الأمن الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأري ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط
وكان المعتمد بن عباد كما أسلفنا أعظم ملوك الأندلس ومتملك أكثر بلادها مشل قرطبة وإشبيلية وكان مع ذلك يؤدي الضريبة إلى الاذفونش (الفونس) كل سنة فلما تملك الاذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة المعتادة فلم نقبلها منه وأرسل إليه يهدده ويتوعده بالمسير إلى قرطبة ليفتحها إلا أن يسلم إليه جميع الحصون المنيعة وبقيى السهل للمسلمين وتشطط وأمعن في التجني وكان السفير في ذلك يهودياً كان وزير الاذفونش فامتنع ابن عباد من ذلك فراجعه فأباه وأيأسه فراجعه اليهودي في ذلك وأغلظ له في القول وواجهه بمالم يحتمله ابن عباد فأخذ ابن عباد محبرة كانت بيديه وضرب بها رأس اليهودي فأنزل دماغه في حلقه وأمر به فصلب منكوساً في قرطبة فلما سكت عنه الغضب استفتى الفقهاء عن حكم ما فعله باليهودي فبادره الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك لتعدي الرسول حدود الرسالة إلى ما استوجب به القتل إذ ليس له ذلك. وقال للفقهاء إنما بادرت بالفتوى خوف أن يكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجاً وبلغ الاذفونش ما صنعه ابن عباد فأقسم بآلهته. ليغزونه بأشبيلية وليحاصرنه في قصره فجرد جيشين جعل على أحدهما كلباً من مسامير كلابه وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس ويغير على تلك التخوم والجهات ثم يمر على لبلة(3/22)
إلى اشبيلية وجعل موعده أمام طريانة للاجتماع معه ثم زحف الازفونش بنفسه في جيش آخر عرمرم فسلك طريقاً غير الطريق التي سلكها الآخر وكلاهما عاث في البلاد وخرب ودمر حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم قبالة قصر ابن عباد.
وفي أيام مقامه هنالك كتب إلى ابن عباد زاريا عليه - كثر بطول مقامي في مجلسي الذباب واشتد على الحر فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بها على نفسي وأطرد بها الذباب عن وجهي فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية تروح منك لا تروح عليك إن شاء الله
فلما وصلت الأذفونش رسالة ابن عباد وقرئت عليه وعلم مقتضاها أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببال وفشا في الأندلس توقيع ابن عباد وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف ابن تاشفين والاستظهار به على العدو فاستبشر الناس وفرحوا بذلك وفتحت لهم أبواب الآمال وأما ملوك طوائف الأندلس. فلما تحققوا عزم ابن عباد حذروه عاقبة ذلك وقالوا له الملك عقيم السيفان لا يجتمعان في غمد واحد فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة رعي الجمال خير من رعي الخنازير ومعناه أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيراً يرعى جماله في الصحراء خير من أن يكون ممزقاً للاذفونش أسيراً له يرعى خنازيره في قشتالة. وقال لعذاله يا قوم إني من أمري على حالين حالة يقين وحالة شك ولا بد لي من إحداهما أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الاذفونش في الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه وفي الممكن أن لا يفعل فهذه حالة شك. وأما حالة اليقين فإن إن استندت إلى ابن تاشفين فإني أرضي الله وإن استندت إلى الاذفونش أسخطت الله تعالى فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه فقصر أصحابه عن لومه ولما عزم أمر صاحب بطليوس المتوكل عمر بن محمد وعبد الله بن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة أن يبعث إليه كل منهما قاضي حضرته ففعلا واستحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم وكان أعقل أهل زمانه فلما اجتمع عنده القضاة باشبيلية أضاف إليهم وزيره أبا بكر بن زيدون وعرفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف بن تاشفين وترغيبه في الجهاد وأسند إلى وزيره مالا بد منه في تلك السفارة من إبرام العقود(3/23)
السلطانية. وكان يوسف بن تاشفين لا تزال تفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء ناشدين بالله والإسلام مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته فيسمع إليهم ويصغي لقولهم وترق نفسه لهم فما عبرت رسل ابن عباد البحر إلا ورسل يوسف بالمرصاد ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم وأكرم مثواهم واتصل ذلك بابن عباد فوجه من إشبيلية أسطولاً نحو صاحب سبتة فانتظمت في سلك يوسف ثم جرت بينه وبين الرسل مراوضات ثم انصرفت إلى مرسلها ثم عبر يوسف البحر عبوراً سهلاً حتى أتى الجزيرة الخضراء ففتحوا له وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات وأقاموا له سوقاً جلبوا إليه ما عندهم من سائر المرافق وأذنوا للغزاة في دخول البلد والتصرف فيه فامتلأت المساجد وةالرحبات بالمتطوعين وتواصى بهم خيراً. ثم سار إلى اشبيلية على أحسن الهيئات جيشاً بعد جيش وأميراً بعد أمير وقبيلاً بعد قبيل وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف وأمر عمال البلاد بحلب الأقوات والضيافات ورأى يوسف ما سره من ذلك ونشط وتواردت الجيوش مع أمرائها على إشبيلية وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من أشبيلية في مائة فارس ووجوه أصحابه فلما أتى محلة يوسف ركض نحو القوم وركضوا نحوه فبرز إليه يوسف وحده والتقيا منفردين وتصافحا وتعانقا وأظهر كل منهما لصاحبه المودة والخلوص وتواصيا بالصبر والرحمة ثم افترقا فعاد يوسف إلى محلته وابن عباد إلى جهته وباتوا تلك الليلة فلما أصبحوةا وصلوا الصبح ركب الجميع وساروا نحو إشبيلية ورأى الناس من عزة سلطانهم ماسرهم وكان الاذفونش لما تحقق الحرب استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها ورفع القساوسة والرهبان والاساقفة صلبانهم ونشروا أناجيلهم فاجتمع له من الجلالقة وةالافرنجة مالا يحصى عدده وجواسيس لك فريق تتردد بين الجميع.
وكان الاذفونش قبل ذلك كتب إلى امير المسلمين يوسف كتاباً يغلظ له في القول ويصف ما معه من القوة والعدة والعدد فلما وقف عليه يوسف أمر كاتبه أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه وكان كاتباً مفلقا فكتب وأجاد فلما قرأه على الأمير قال هذا كتاب طويل وأحضر كتاب الأذفونش وكتب في ظهره (الذي يكون ستراه) ثم أردفه بكتاب يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام أو الجزية أو الحرب ثم وافت الجيوش كلها بطليوس فأناخوا بظاهرها وخرج(3/24)
إليها صاحبها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود
وجاءهم الخبر بشخوص الاذفونش ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفاً عليهم من مكايد الأذفونش وجعل يتولى ذلك بنفسه وجاءت الطلائع تخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم وهو يوم الأربعاء فأصبح المسلمون وقد أخذوا مصافهم فرجع الأذفونش إلى أعمال المكر والخديعة فعاد الناس إلى محلاتهم وباتوا ليلتهم ثم أصبح يوم الخميس فبعث الأذفونش إلى ابن عباد: غدا يوم الجمعة وهو عيدكم والأحد عيدنا فليكن لقاؤنا بينهما وهو يوم السبت فعرف المعتمد بذلك السلطان يوسف وأعلمه أنها حيلة منه وخديعة وإنما قصده الفتك بنا يوم الجمعة فبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس وبعد مضي هزيع من الليل جاء فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة الاذفونش وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة ثم جاءت الجواسيس من داخل محلتهم تقول استرقنا السمع فسمعنا الاذفونش يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حافظ وذوي بصائر في الحروب فهم غير عارفين بهذه البلاد فاقصدوا ابن عباد واهجوا عليه واصبروا فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده فبعث ابن عباد الكاتب أبا بكر بن القصيرة إلى السلطان يوسف يعرفه بأقبال الاذفونش ويستحث نصرته فأمر يوسف بعض قواده أن يمضي بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة الاسبان فيضرمها ناراً مادام الفونس بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فهاجت الحرب وحمى الوطيس واستحر القتال في أصحاب ابن عباد وصبر ابن عباد صبراً لم يعهد مثله لأحد واشتد عليه وعلى من معه البلاء وأتخن جراحات وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه وجرحت وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه وجرحت يمنى يديه وطعن في أحد جانبيه وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر وهو يقاسي حياض الموت ويضرب يميناً وشمالاً ثم أقبل السلطان يوسف بعد ذلك وطبوله تصعد أصواتها إلى الجو فلما أبصره الفونس وجه حملته إليه وقصده بمعظم جنوده فبادر إليهم السلطان يوسف وصدمهم بجمعه فردهم إلى مركزهم وانتظم به شمل ابن عباد واستنشق ريح الظفر وتباشر بالنصر ثم(3/25)
صدقوا جميعاً الحملة فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم وأظلم النهار بالعجاج والغبار وخاضت الخيل في الدماء وصبر الفريقان صبراً عظيماً ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف وحمل معه حملة جاء معها النصر.
فانكشف الفونس وفر هارباً منهزماً وقد لصق به أسود من سودان يوسف وقبض على عنانه وانتضى خنجراً كان متمنطقاً به فأثبته في فخذه فهتك حلق درعه ونفذ من فخذه مع بداد سرجه ولجأ الفونس إلى تل كان يلي محلته في نحو خمسمائة فارس كل واحد منهم مكلوم وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم واستولى المسلمون على ما كان في محلته من الأثاث والانية والمضارب والأسلحة وكانت شيئاً كثيراً يخطئه العد وقد عف عن جميعها السلطان يوسف - وأقبل ابن عباد على السلطان وصافحه وهنأه وشكره وأثنى عليه وشكر السلطان صبر ابن عباد وحسن بلائه وجميل صبره - وكتب ابن عباد إلى ولده الرشيد كتاباً يخبره فيه بالنصر وأطار به الحمام - وكان موضع هذه الواقعة يسمى الزلاقة وهو مكان أفيح من الأرض على أربعة فراسخ من بطليوس - وكانت هذه المعركة سنة 479 للهجرة الموافقة سنة 1086 للميلاد - وهذا الأذفونش هو الفونس السادس ملك قشتالة ولاون وجليقية.
للكلام بقية وفيها ما حصل للأندلس عقيب هذه الوقعة من استيلاء السلطان يوسف بن تاشفين عليه وقبضه على المعتمد بن عباد وسجنه بأغمات وما قاله الشعراء في ذلك.(3/26)
أثار المتقدمين والمتأخرين
فصل من رسالة في الحاسد والمحسود
لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
1
والحسن أبقاك الله داء ينهك الجسد ويفسد الاود علاجه عسر وصابه ضجر وهو باب غامض وأمر متعذر وما ظهر منه فلا يداوى وما بطن منه فمداويه في عناء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم دب اليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء. وقال بعض الناس لجلسائه أي الناس أقل غفلة فقال بعضهم صاحب ليل إنما همه أن يصبح فقال أنه لكذا وليس كذا وقال بعضهم المسافر إنما همه أن يقطع سفره فقال أنه لكذا وليس كذا وقال بعضهم المسافر إنما همه أن يقطع سفره فقال أنه لكذا وليس كذا فقالوا له فأخبرنا بأقل الناس غفلة فقال الحاسد إنما همه أن ينزع الله منك النعمة التي أعطاكها فلا يغفل أبداً ويروى عن الحسن أنه قال الحسد أسرع في الدين من النار في الحطب اليابس وما أتى المحسود من حاسده إلا من قبل فضل الله عنده ونعمته عليه قال الله عز وجل: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً}.
والحسد عقيد الكفر وحليف الباطل وضد الحق وحرب البيان فقد ذم الله أهل الكتاب به فقال: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم: منه تتولد العداوة وهو سبب كل قطيعة ومنتج كل وحشة. ومفرق كل جماعة وقاطع كل رحم من الأقرباء ومحدث التفرق بين القرباء وملقح الشر بين الحلفاء يكمن في الصدر كمون النار في الحجر - ولو لم يدخل على الحاسد بعد تراكم الغموم على قلبه واستكمان الحزن في جوفه وكثرة مضضه ووسواس ضميره وتنغص عمره وكدر نفسه ونكد عيشه إلا استصغاره نعمة الله وسخطه على سيده بما أفاد غيره وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه وأن لايرزق أحداً سواه لكان عند ذوي العقول مرجوماً وكان لديهم في القياس مظلوماً وقد قال بعض الأعراب ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم وقلب هائم وحزن لازم والحاسد مخذول وموزور والمحسود محبوب ومنصور والحاسد مغموم ومهجور(3/27)
والمحسود مفشي ومسرور.
والحسد رحمك الله أو خطيئة ظهرت في السموات وأول معصية حدثت في الأرض خص به أفضل الملائكة فصي ربه وقايسه في خلقه واستكبر عليه فقال خلقني من نار وخلقته من طين فلعنه وجعله إبليساً وأنزله من جواره بعد أن كان أنيساً وشوه خلقه تشويهاً وموه على مثليه تمويهاً نسى به عزم ربه فواقع الخطيئة فارتدع المحسود وتاب عليه وهدى ومضى اللعين الحاسد في حسده فشقى وغوى وأما في الأرض فابنا آدم حسد أحدهما أخاه فعصي ربه وأثكل أباه وبالحسد طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فقد حمله الحسد إلى غايته القسوة وبلغ أقصى حدود العقوق فأنساه من رحمته جميع الحقوق إذا لقى الحجر عليه تفادخا وأصبح عليه نادماً صارخاً ومن شأن الحاسد إن كان المحسود غنياً أن يوبخه على المال فيقول جمعه حراماً ومنعه أيتاماً وغلب عليه محاويج أقاربه فتركهم له خصماً وأعانهم في الباطن وحمل المحسود على عطيعتهم في الظاهر فقال لقد كفروا معروفك وأظهروا في الناس ذمك ليس أمثالهم يوصلون فأنهم لا يشكرون وإن وجد لهم خصماً أعانه عليه ظلماً. وإن كان ممن يعاشره فاستشاره غشه أو تفضل عليه بمعروف كفره. أو دعاه إلى نصر خذله وإن حضر مدحه ذمه وإن سئل عنه همزه. وإن كانت عنده شهادة كتمها. وإن كانت منه إليه ذلة عظمها. يحب أن يعاد ولا يعود. ويرى عليه القعود. وإن كان المحسود عالما قال مبتدع لرأه متبع حاطب ليل. ومبتغى نيل. لا يدري ماحمل. قدر ترك العمل. فأقبل على الحيل قد أقبل بوجوه الناس إليه وما أحمقهم إذ انثانوا عليه فقبحه الله من عالم ما أعظم بليته. وأقل رعيته. وأسوأ طعمته وإن كان المحسود ذادِين قال يتصنع أن يوصى إليه. ويحج بشيء عليه ويصوم لتقبل شهادته. ويظهر النسك ليودع المال بيته. ويقرأ في المسجد ليزوج جاره ابنته. ويحضر الجنائز لتعرف شهرته. وما لقيت حاسداً قط إلا تبين مكنونه بتغير لونه. وتخوص عينه. وإخفاء سلامه. والاقبال على غيرك. والاعراض عنك والاستثقال لحديثك. والخلاف لرأيك وكان عبد الله ابن ابي قبل نفاقه نسيج وحده لجودة رأيه وبعد همته. ونيل شيمته. وانقياد العشيرة له بالسيادة. واذ عانهم بالرياسة وما استوجب ذلك إلا بعد ما استجمع لهم لبه. وتبين لهم عقله وفقد بينهم جهله. ورأوه لذلك أهلاً لما أطاق حملاً فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة(3/28)
ورأى غيره تشمخ بأنفه. فهدم أسلامه لحسده. وأظهر نفاقه وما صار منافقاً حتى صار حسواداً. ولا صار حسوداً حتى صار حقوداً. فحمق بعد اللب. وجهل بعد العقل. وتبوأ النار بعد الجنة. ولقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فشكاه إلى الأنصار فقالوا يا رسول الله لا تلمه فأنا كنا عقدنا له الخرز قبل قدومك لنتوجه ولو سلم للمخذول قلبه من الحسد لكان من الإسلام بمكان ومن السؤدد في ارتفاع فوضعه الله لحسده وأظهر نفاقة ولذلك قال القائل:
طال على الحاسد أحزانه ... فاصفر من كثرة أحزانه
دعه فقد اشتعلت في جوفه ... ما هاج من حر نيرانه
العين أشهى عنده لذة ... من لذة المال لخزانه
فارم على غاربه حبله ... تسلم من كثرة بهتانه
للرسالة بقية
القراءة والمطالعة
لفيلسوف الإنكليز اللورد باكون
الكتب أنس في الوحدة ولذة في الخلوة. وزينة في المحفل وصقال الخاطر ومشحذ القريحة تترك الرجل عليماً بتصريف المسائل وسياسة الشؤون والرجل المحنك الحاذق رما أجاد إنفاذ الأمور والحكم في الجزيئيات على انفراد ولكنك إذا أردت رب مشورة وأخا نظر وتدبير فابغه بين الكتب والدفاتر والتمسه بين الصحف والمحابر هذا وانفاق جميع أوقات المرء في القراءة نوع من الكسل والاسترخاء وقصر العلوم والمعارف على التحلي بها والتزين ضرب من التصنع والرجوع إليها عند كل مشكل والصدور عن رأيها في كل أمر صنف من الخطل وضعف العقل وإنما الكتب تهذب الفطرة. والحنكة تهذبها فهي ثقاف الطبع والتجربة ثقافها والملكات الغريزية كالنبات تحتاج من العلم إلى مشذب والعلم يعطيك الآراء مبهمة تحتاج من التجربة إلى حدود فاصلات. وموضحات بينات وأهل المكر والدهاء يحقرون الكتب والقراءة وذووا السذاجة يعجبون بها وأولوا العقل والأدب ينتفعون بفوائدها فأن لها خلاف المعلومات المستفادة منها فضل بصيرة ونظر تتوفر للذي يقرن القراءة بالتأمل ويشفع النظر في نواحي الصحف بالنظر في نواحي الأمور وإذا تناولت(3/29)
الكتاب فلا تجعل همك معارضة ما تقرأ ومناقضته ولا التسليم به والتصديق ولا اللهو ودفع الملل وإنما نقد الكلام ووزنه - واعلم أن من الكتب ما يتذوق ومنها ما يسترط (يزدرد ويبتلع) وقليل جداً ما يمضغ ويهضم وبيان ذلك أن من الكتب ما يتصفح ومنها ما يقرأ لكن بغير تدقيق وتدبر وقليل ما يقرأ كله مع التأمل والانعام ومن الكتب مايكلف الرجل أن يقرأها ثم يعطيه أحسنها وإنما يكون ذلك في القل قيمة وقدراً والمختارات فيما عدا ذلك كالمياه المقطرة لا طعم لها. والقراءة تترك الرجل مفعم الوعاء فياض الإناء والجدال يتركه سريع الخاطر شديد العارضة والكتابة تصيره محكم الحساب مستجمع الفكر فلذلك إذا كان الرجل قليل الكتابة احتاج إلى أن يكون قوي الذاكرة ضنين الحافظة وإذا كان قليل المناظرة استحق أن يكون طلق البديهة حاضر الذهن وإذا كان قليل القراءة وجب أن يكون كثير الدهاء حتى يوهم الناس أنه عالم بالذي لايعلم والتاريخ يترك قارئه حكيماً والشعر يتركه لبيباً والحساب يجعله سريع الذهن والفلسفة الطبيعية تصيره عميق النظر. وعلم الأخلاق يدعه شديد الوقار كثير الجد وعلوم البلاغة والمنطق ترده قديراً على المحاجة جلداً على المجادلة: وما من عورة في الذهن إلا ولها من بعض العلوم سداد ولا مرض في العقل إلا وله دواء في هذا الفن أو ذاك كما تداوى الأمراض البدنية بأنواع الألعاب فالكرة لمرض الكلى والرماية لداء الرئة والصدر والسير اللين لعلة البطن وركوب الجياد للدوار والصداع فكذلك إذا كان بعقل الرجل شرود فعالجه بعلوم الحساب لأنه إذا شرد به ذهنه أثناء البرهان أدنى شرود اضطر إلى إعادة الدليل وإذا أتى الرجل من ضعف تمييز ومعرفة بالفروق فداوه بالأدب لأن الكتاب قوم يجزئون الذرة ويقسمون الهباءة وإذا كان يعجز عن تشبيه الشيء بالشيء والاستشهاد على ذلك الأمر بذاك فاجعل له جولة في قضايا المحاكم وهكذا لكل داء من علل الذهن دواء.
خطرة ضمير
للأديب المفضال محمد أفندي صادق عنبر
يا نائياً والفؤاد في أثره ... مضناك سله إن شئت عن خبره
قد عزه شوقه فأسهره ... يا ويح للمستهام من سهره
يطوى من الليل برده تعبا ... لم يشك من طوله ولا قصره(3/30)
مرددا في نجومه بصرا ... حتى تمل النجوم من بصره
كلما لاح بينها قمر ... هفا به شوقه إلى قمره
يا رحمتا للمحب ما صنعت ... به عيون المها على حذره
كم يشتكي من صدود فاتنه ... إذا غفا عاذلوه في سحره
ويرسل الدمع من محاجره ... يسيل منظومه بمنتثره
يا ساكن القلب وهو ملتهب ... سلمت من حره ومن شرره
رفقاً بمضنى غدا على خطر ... وراح من حبه على خطره
من مسعد الصب في هوي رشأ ... الحسن في دله وفي خفره
والغصن يهتز في غلالته ... والبدر بادٍ منها لمنتظره
منية العاشقين ناظره ... ومنية العاشقين في حوره
يا خائف السحر لا مررت به ... فالسحر في لحظه وفي سمره
ويا صريع العيون خذ حذراً ... من فاتك الطرف جد منكسره
ما أنس لا أنس ساعة عدلت ... عمري مد الإله في عمره
نعمت فيها من أنسه طرباً ... بالحسن يبدو في الجم من صوره
يؤنسني والعذول يضجره ... أفديه في أنسه وفي ضجره
رحماك يا هاجري بلغت مدى ... هجر الذي أنت منتهى وطره
تجد في التيه ما يجد به ... هداك مهلا أسرفت في ضرره
يا نظرة قد جنت عليّ وهل ... جنى على مغرم سوى نظره
لم أجن غير الهوى وما ظفرت ... يداي إلا بالمر من ثمره(3/31)
العلوم والفنون
ننشر في هذا الباب كل مجد من المباحث العلمية البحتة والفنون المختلفة من طبيعية وكيماوية وفلكية وطبية وزراعية وما إليها حتى تتم الفائدة وتكمل العائدة ويجد كل طالب طلبته وكل ناشد ضالته إن شاء الله.
في الزراعة
الدورة الزراعية
او
نظام التعاقب الزراعي
للفاضل البحاثة أحمد أفندي الألفى
1
ترتيب زراعة الأرض بأنواع النبات وتعاقبها زرعة بعد زرعة وتواليها سنة بعد سنة - هذا هو نظام تعاقب الزروعات المسمى بالدورة الزراعية وإذا نظم التعاقب الزراعي على أن يزرع الصنف الواحد في الأرض الواحدة كل سنتين اثنتين مرة واحدة وصفت الدورة بأنها ثنائية أو على أن يزرع كل ثلاث سنين وصفت بأنها ثلاثية وعليه قولهم الدورة الثنائية والدورة الثلاثية.
وأصول الفلاحة والاقتصاد تقضي بزراعة الأرض بترتيب يساعد على زيادة ربحها وتيسير خدمتها وتوفير خصبها إذ هو أهم مادة في رأس مال الفلاح والنظر في ذلك يستدعي البحث في مسائل عديدة تتعلق بالتربة والنبات والمناخ (الجو) والبيئة (الصقيع) ووسائل الخدمة والاقتصاد وغيرها فلنبحث فيما ذكرنا
أولاً لكل نوع من أنواع التربة - طبقة الأرض الزراعية - أصناف من النبات تجود فيه أكثر من جودتها في غيره فيجب أن يزرع في كل أرض الصنف الأحسن نمواً فيها.
ففي الأرض الصفراء - أجود الأراضي - تجود أنواع النبات المختلفة عدا القطن فإن جودته فيها أقل منها في الأرض الكحلة أي السوداء الخفيفة وعدا النبات الذي أكثر ما يجود في الأرض الرملية كالفول السوداني مثلاً.
وفي الأرض السوداء تنجح أكثر أصناف النبات المعروفة ماعدا نبات الأرض الرملية(3/32)
والنباتات الدرنية والبصلية كالبطاطس والقلقاس والبصل والتوم فلا تجود إلا في الأرض السلسة الرخوة وأحسن ما يجود في هذه الارض السوداء القطن والقمح والفول.
وفي الأرض الرملية يزرع الشعير والذرة الرفيعة خاصة وبعض النباتات الصغرى كالحنا والفول السوداني والسمسم والنباتات البصلية والدرنية والخضروات بشرط أن تسمد كل هذه النباتات بما يوافقها من الأسمدة وينجح فيها بدون تسميد أكثر نباتات الفصيلة البقلية المخصبة للأرض كالبرسيم والحلبة والترمس.
وفي الأرض الرقيقة والمستحدثة لا ينجح إلا القطن والبرسيم والشعير والأرز إلى أن تتوفر فيها المواد العضوية ويتم تحسين طبيعتها فيمكن أن ينجح فيها القمح ثم الذرة أخيراً.
وقد اختبر من وجهة اقتصادية أن تزرع الأصناف الأكثر أهمية وربحاً كالقطن والقمح والقصب والفول والذرة في الأرض إلا على جودة وأن تزرع الأصناف الأخرى كالشعير والحلبة والترمس والحنا في الأرض الأقل خصباً وإن كانت هذه الأصناف كغيرها أحسن ما تجود في الأرض الخصبة.
ثانياً إن بعض النباتات كالقطن والقصب والنيلة يجهد الأرض أو كما يعبر الفلاحون يتعبها أو ينخعها أو يعييها أكثر من غيره فإذا كثرت زراعته في أرض استفرغ خصوبتها وأضعفها عن إنماء سائر النبات إنماءً جيداً كما لوحظ ذلك الآن في الأرض التي يزرع القطن فيها بكثرة.
فلحفظ جودة الأرض يجب الاقتصار في زراعة ذلك النبات المنهك للتربة إلى الحد الذي لا تجهد الأرض معه هذا مع تنويع زراعتها بالنبات المخصب للتربة كالبرسيم والفول والحلبة ونحوها من الزروعات التي تسمى الأرض عقبها باق وهذه اللفظة في العرف الزراعي دليل الخصب والجودة.
وزراعة القمح عقب القطن مخالفة لأصول الدورة وإن كان الأول أقل إجهاداً للأرض من الثاني فإن الغرض المنشود أن يعوض المحصول التالي على الأرض ما أفقده المحصول السابق منها لا أن يكون أقل إجهاداً لها منه ونبات القمح يحتاج لعنصر الازوت فيمتصه بجذوره السطحية من سطح التربة فيفقره منه ويكون القطن قبله قد أفقر جميع التربة من هذا العنصر المهم بامتصاص جذور الطويلة له مع عمقها واذن تصير التربة بعد هذين(3/33)
المحصولين مجهدة من ظاهرها إلى عمقها.
وأغلب أصناف الذرة من النبات الذي يحتاج نموه الجيد لغذاء وفير والمدة القليلة التي تمكثها الذرة في الأرض لا تكفي لاغتذاءه منها الغذاء الكافي لنموه النمو المناسب بدون أن يجهد خصوبتها فيلزم تسميد الأرض له بكمية كبيرة من السماد الجيد وإذن يكون فيه عوض بل ونفع للأرض أما إذا لم تسمد بكمية وفيرة فإن محصوله فيها لا يكون جيداً ويكون مع ذلك ذا تأثير منهك للتربة خصوصاً إذا كانت الذرة من الصنف الأمريكي.
ثالثاً لكل نبات قدرة مخصوصة به على أخذ الغذاء المناسب له من الأرض قاذا زرع صنف واحد مرتين متعاقبتين على أرض واحدة فلا يجد نبات الزرعة التالية في الأرض كفايته من الغذاء الذي يحتاجه لتمام نموه لأن المحصول السابق يكون قد استهلك أكثره منها فتأتي الزرعة التالية أقل نمواً وأشد تأثيراً وإذن لا يصح زراعة قمح بعد قمح ولا فول بعد فول لضعف استعداد الأرض وقابليتها عن إنماء الزرعة التالية بما استغرقته منها الزرعة السابقة.
والفول وإن أفاد التربة في الازوت الذي هو أهم عنصر في خصبها فإنه ينقص منها عنصر آخر هو البوتاسا ولايسد مسده وفرة عنصر آخر غيره وخصوبة الأرض لأي محصول إنما تكون بوفرة جميع العناصر اللازمة لنموه وإنما كان الأزوت أهم عنصر في خصب الأرض لأنه ألزم من غيره لنمو النبات ولكن لأنه لا يوجد فيها الابقلة فإذا زاد هو عن حاجة زرع ما ونقص عنصر آخر يحتاجه ذلك الزرع اعتبرت الأرض غير خصبة له للمقال بقية.(3/34)
المقالات والرسائل
الجمال والحب وأثرهما في الحياة
للكاتب الفاضل محمد حسين هيكل
لعل أرقى غاية يعيش من أجلها الإنسان أن يصل إلى اكتشاف الجمال المكتن في الأشياء التي تحيط به ولعل كل القوى التي يصرفها في أعماله والمجاشم التي يتجشمها والمتاعب الكثيرة التي تثقله بحكم الحياة والآلام التي تنتابه من حين إلى حين. لعل ذلك كله على الرغم مما كان يقتضيه بالطبيعة من إدخال اليأس إلى نفسه وتشجيعه على مغادرة عيش مملوء بالأحلام الفظيعة أكبر دليل على أن هناك له مقصداً سامياً غير الغرض المادي الذي يريد: هذا المقصد السامي هو تقديس الجمال وعبادته.
سألت نفسي مراراً ما معنى الحياة ومن أجل ماذا أعيش. وسألت آخرين هذا السؤال فلم احر جواباً في الأولى ولا رد على من سألت في الأخرى إلا بنوع من الحيرة تخالطه دهشة وغرابة حتى كأن صاحبي لم يسمع هذا السؤال حياته. والواقع أنه سمعه مراراً. ولكن لما لم يكن يدري الغرض المحدود الذي يرنو له والذي يريد أن يظفر به من حياته. لما لم يكن يدري المعاوضة التي سيجدها يوم يريد أن يودع أرضنا إلى الفناء الأبدي المهيب لم يجد جواباً يجيبني به غير الدهشة والحيرة.
أما أنا فأعتقد أن أرقى الناس مدارك وأدقهم إحساسات إنما يعيشون ويعملون ويحبون الحياة حباً في الجمال الذي تحويه. ذلك شأنهم من أيام ما قبل التاريخ وشأنهم اليوم. ولو أنك أخذت أقدم الكتب التي يمكن أن تقع تحت أيدينا لوجدت المعنى الشعري يتمشى فيها من أولها إلى آخرها ولتبين لك مقدار خيال الغابرين من أجداد الإنسانية وولوعهم بالطبيعة التي تحيط بهم وتقديرهم لما تحويه من جمال. كما أن الكتب العلمية البحتة في هذه العصور الحاضرة أي حين جاهد الكتاب للتفريق بين العلوم والآداب ما أمكنهم لا تخلو من الوصف الدقيق والولوع بالجمال في أدق الأشياء إلى حد كبير. بل أن أكثر الناس ولوعاً بالطبيعة وجمالها جماعة العلماء أمثال دارون وسبنسر. وكفى دليلاً على ذلك بحثهم فيها وتنقيبهم عن مخبآتها.
والواقع أن العلم فتح أمامنا باباً واسعاً نقدر منه تقديراً أدق ما تحويه الأشياء من إبداع(3/35)
ونحن مدينون له (كما قال السير جون لبك في كتابه بدائع الطبيعة) بتوسيع دائرة مشاهداتنا فنرى غير ما تراه العين العارية من الدقائق المتناهية في الصغر والجلائل المتناهية في الكبر ما ترفع الحجاب عن الأنبوبتان السحريتان - المكرو سكوب والتلسكوب.
هذا السعي الدائم من كل الناس نحو الإحساس بما تحتويه المحيطات من بديع الخلق غير محس النتيجة عند الأكثرين ولكنك تراه ظاهراً وأضحاً عند الإنسان كلما ارتقى في الإنسانية وصار أوسع علماً بنفسه وبغيره ولاشيء أدل على ذلك من أن كل الذين اتفقت الإنسانية على تسميتهم عظماء الرجال مهما كانت مشاربهم ومذاهبهم لهم تعلق خاص بكل أنواع الجمال أو ببعض منها وإذا كان هناك من يستثنى من هاته القاعدة ممن جازف الناس في تسميتهم عظماء وكانوا لا يحبون الجمال فهؤلاء إن حللنا نفوسهم ودققنا بعض الشيء في تاريخهم نجدهم دائماً ناقصين نقصاً كبيراً في درجتهم الإنسانية وإن الذي أعطاهم العظمة ليس إلا نوعاً من أنواع الجنون الذي يعتري العقل فيجعل صاحبه يفرط في شهوة من الشهوات ويجد من مركزه مساعداً على ذلك كمن يضعه مولده على كرسي الملك ثم يسرف في القتل وسفك الدماء وينال بذلك اسماً في التاريخ.
وليسوا هم العظماء وحدهم الذين يقدسون الجمال بل ذلك كما قدمنا سعي كل شخص مالك قواه الطبيعية. فإن تجربتي الشخصية أظهرت لي أن الناس من جميع الطبقات وفي جميع الأعمار لهم به ولوع خاص وإلى حد غير محدود ألا ينام الطفل ساعة تغني له أمه بأغانيها الهادئة الساكنة فينتقل من تهيجه الشديد وبكاءه إلى تخدر الأعصاب الذي يتبع النشوة والطرب ثم ينتقل من ذلك إلى عالم الموت الأصغر (النوم). وكثيراً ما يحدث أنه إذا نام ثم سكتت أمه تعاوده اليقظة ويرجع للبكاء لأن المؤثر الذي كان قد زال ولم تصل أعصابه إلى سكونها الكافي لراحته. كذلك أذكر حين كنت صغيراً وأخرج بعض ليالي الصيف الساهرة للجرن الفسيح لألعب مع الأولاد هناك أنني كنت أجد بعضهم أحياناً واقفاً محدقاً للسماء يرنو إلى البدر ثم يقلب نظره في النجوم وهو تائه في عالم عظيم من الأحلام لا نهاية له وليس ذلك الصغير إلا فلاحاً ساذجاً من الذين لا يعرفون حتى ولا القراءة والكتابة
تتوج جمال الطبيعة العظيم وتجلس على عرشه المرأة. في ذلك المخلوق الإنساني الرقيق وراء الجمال المحس جمال آخر أكثر تأثيراً في النفس وامتلاكاً للقلب وسلطاناً على(3/36)
العواطف. فيه روح شفافة بديعة تجمع إليها من المعاني مالا تجمعه الأشياء الأخرى لذلك لا نكون مغالين إذا قلنا أنها ملكة الجمال.
هذا المركز يعترف لها به الناس جميعاً. وأنك إن شئت أن تمثل أرقى المعاني وأرقها في صورة محسة ملموسة. إذا خطر ببالك أن تجمع في جسم من الأجسام الصفات الدقيقة المحبوبة لنفوسنا فأول ما يخطر بذهنك أن تمثلها فيه أن تجعل لها المرأة مثالاً.
وباعتبارها ملكة الجمال فأنها تحل من نفوس جميع الناس أعماقها ومن قلوبهم حباتها. ومهما يكن ولوع الإنسان بالطبيعة وما عليها عظيماً. مهما يكن محباً للسماء ونجومها والأرض وأبحارها وجبالها وأشجارها ورياضها وأزهارها فإنه يحني رأسه اعترافاً بأنه إنما على رأس ذلك الجمال الذي يعبد توجد المرأة وقل إن تجد لهذه القاعدة استثناء.
كانت المرأة من أجل هذا موضع الحب الذي يملك الحواس والنفس ويستولى على كل وجودنا ويسهل علينا معه أن نندفع لعمل كل المستحيلات والوصول إلى أبعد الغايات وبلوغ كل شيء ولو كان الموت الزؤام.
هذا الحب المخصوص الذي ننسى معه أنانيتنا وحبنا لذاتنا من أجل محبوب لنا له من الأثر في الحياة أكبر ما يمكن تصوره. كما أن الولوع بالموجودات الحية والجامدة يشكل وجودنا بشكل مخصوص يكون له على أعمالنا من الأثر ما يجعلها تختلف باختلاف مقداره. وهذا الأثر الذي للحب والجمال يتعدانا إلى ما حولنا ويؤثر في المجموع لتأثيره في أفراده حتى ليكون حتماً علينا أن ننظر فيه بتدقيق ونفتش عما عساه يأتي به في حياة كل فرد وفي حياة الأمة.
ذلك هو السبب الذي دفعني إلى البحث في موضوع كهذا يحسب خطأ عندنا ذا أهمية ثانوية وإن هو إلا صاحب الدرجة الأولى في الحياة النفسية مهما رجعنا في التاريخ إلى الوراء ومهما فتشنا في العصور القديمة فإن محالاً أن نجد عصراً كان أصم أمام الجمال بل أنه ليخيل إلي أن أول ما فتح الإنسان عينيه للوجود: أول ما جاء آدم إلى الحياة ورمي بنظرة على ما حوله لا بد أن يكون قد دخل إلى نفسه معنى الجمال فأخذ بصره أشياء أكثر من أشياء أخرى وبلغ بعضها من الأثر فيه إن أوصلته إلى الإعجاب بها وإدامة النظر إليها والشعور بالغبطة لمرآها: أي انه قد خالطه من أول وجوده الإحساس بالجمال.(3/37)
ليس الإنسان وحده الذي يقدر الأشياء الجميلة ويحبها بل أن كثيراً من الحيوان له من الولوع بذلك ما يفوق التصور. وإذا كنا لا نقيم وزناً لما يروى بعض المؤرخين من إنصات سباع الفلاة لمغن متقن فإن حب بعض الدواب كالثعابين لسماع الموسيقى معروف حتى عند العامة كما أن من الحيوانات ما يبلغ منه الطرب كالخيل التي تسمع الموسيقى فتهتز كل أجزاءها وترقص معها أو كعيس البيداء تنسى نفسها وتنسى التعب إن تسمع الحادي يوقع غناءه توقيعاً حسناً. كما شوهد كذلك أن بعض الطير تعني عناية خاصة بتنظيم عشها وتجميله فتضع حولها أوراقاً مخصوصة لا لغاية أخرى سوى أن ترى العش جميلاً. . . بل أنه ليخيل إلينا أن من الجمادات ما يحس الجمال وإذا كانت الأشياء لا تقدر على إبداء ذلك بحركة إذ لا حركة لها فإن ما أجده من بعضها من الرقة وما يثيره عندي أغلب الاحايين من الاحساسات الغريبة. يجعلني أقدر لها حياة خاصة تستطيع معها أن تتأثر بالمحيطات بها.
ما هذا الجمال الذي يحسه الإنسان والحيوان والأشياء، أي شيء هو، وهل في الإمكان تعريفه.
ليس من غرضي هنا أن أبحث عن المعنى الذي نجده في القاموس لكلمة الجمال فذلك معروف كما يذكره بعضهم ولكنما أريد أن أصل إلى شيء غير هذا أريد أن أصل لأقول أن الجمال هو السحر الذي تحويه الأشياء فتجذب به إليها سليم الذوق وتعمل في حواسه ما يتركه تحت أثرها مملوأ بالسرور أو الأعجاب أو بتلك اللذة المخدرة التي نتيه معها في عوالم الأحلام الواسعة ناسين أنفسنا والمحيطات بنا. فبمقدار الأثر الذي يحدثه الشيء في نفوسنا يكون مبلغه من الجمال.
إذا مررت أمام صورة متقنة جذبك إليها جمالها فكم من الزمن تبقى محدقاً بها رائحاً في إعجابك إلى قصى حدوده. زمن لا يمكنك أن تقدره لأنك في تلك الساعة تنسي الزمان وتقديره وتنسي كل شيء إلا الصورة الجميلة التي أمامك. بل أنك لتنسى نفسك حتى ليهون عليك أن تعمل مالاً تعمله وأنت مستقل مالك كل حواسك
كنت العام الماضي في أفنيون وزرت متحفها فاستوقفتني فيها صورة كلما ذكرتها تأوبني لها من الخضوع مالا أفهم. . . تلك صورة عذراء أمامها مستتيب. فتاة رقيقة القوام حادة(3/38)
الأنف ساحرة العينين قد انسدل فوق جسمها الخصيب ثوب فضفاض ثم لفتها سحابة سماوية اللون. كنت كلما تركتها خيفة أنتهاء الوقت وطمعاً في أن أرى ما سواها رجعت إليها غير مستطيع أن أفارقها الفراق الأخير وحدقت منها بتلك الصورة الملائكية الناطقة.
كذلك هنا في باريس في متحف الكسميور تمثال للعذراء على أمتار من شمال الداخل. تمثال مصقول محكم بديع لا تلبث أن تراه حتى يسرق من وقتك ما لا تأسف على ضياعه.
هذا السحر الذي تحويه الأشياء الجميلة. هاته القوة التي تجذبنا إليها وتأسرنا بسلطانها وتضطرنا للخضوع لها مسرورين بخضوعنا راضين بأسرنا. هذا السر الكامن تجتليه حواسنا وتجد فيه من الابداع ما يبعث إلينا النشوة أو الطرب - هذا كله هو روح الشيء وحياته.
وما من شيء مما يحيط بنا إلا فيه جمال في أية ساعة من النهار تنظر السماء تجد لها العظمة والجلال في صفوها أو الحزن المهيب في قتومها أو الزينة البديعة ساعات الشفق حين تغيب الشمس وراء الآفاق وتبعث إلى القبة الهائلة بألوانها ثم حين يتبدد ذلك قليلاً قليلاً ويأتي على جميعه آية الليل ويدخل الوجود كله تحت ستاره العظيم.
وإن أنت اجتليتها بالليل وكنت في أيام القمر حين يخطر الكوكب العاشق وسط السماء ويبعث للعالمين بنظراته الهائمة ويرنو لمحبيه بعين رائقة سائغة ثم يجري من تحته غمام يجعله أشد نحولاً وأكثر عشقاً إن أنت اجتليتها في هذه الساعات الصامتة حين تسكت الخليقة ويتهادى النعيم وسط الجو الساكن ويترنح البدر ثملاً في الفضاء الهائل وجدت بها من الجمال مالا يحويه إلا الخيال.
والبدر وحده ما أحلاه وما أجمله. ما رأيته إلا أخذني حسنه وبقيت محدقاً به الزمان الطويل. وإني لأذكر أياماً كنت فيها على شاطئ البحر وأرى مشرق القمر من بين موجاته يبدو محمراً كأنما خرج رغماً من بعد جدال ثم يسري عنه ويراجعه هدوءه ويبسم من جديد ويرسل على الكون كله لجة النور فتغرق فيها الموجودات ويلمع الضوء على صحيفة الماء وتتخطفه الأمواج متلاعبة به ثم قاذفة نفسها وإياه إلى الشاطئ.
كذلك أذكر أياماً أخرى كان البدر لي فيها نعم الصديق وأنا بين البحيرات والأجبال. أذكر مرة كنت مسافراً على القارب من جنيف إلى مونتريه وقد غابت الشمس ونحن في(3/39)
منتصف الطريق وطلع القمر وأنا مشغول ببعض كتابة في يدي لم يذهلني عنها إلا أن سمعت خادمة المطعم من ورائي تنادي صديقاً لها تعال شوف فوضعت أنا الآخر كراستي ولم أكد أرفع نظري حتى رأيت أبدع منظر. رأيت الجبال يلفها الضباب في ثوبه الشفاف والقمر بين قممها كبيراً متورد اللون أخجلته الأنظار الكثيرة التي اتجهت في تلك اللحظة إليه فرمى بنظراته إلى ما تحته وبعث على البحيرة الوديعة الهادئة خطاباً من ذهب ثم صار يحبو. متثاقلاً بطيئاً وسط لجة السماء وبين صخور الجبال ويلقى عنه ثوبه الوردي ليظهر بجماله ولا يفتر يرنو للبسيطة وما عليها ويتبع قاربنا في مسيره وقد رسم إلى جانبه فوق سطح الماء سكة لجية تتماوج حتى تضيع في ظل الجبل.
هذا جمال السماء وليست الأرض أقل جمالاً. ليست جبالها العالية تخرق الجو ثم تنحدر يغطيها الشجر الأخضر والنبات والعشب أو تجلل رؤوسها بتيجان الثلوج الناصعة. وبحارها الواسعة تقصر العين دون آفاقها وتتابع موجاتها عالية هابطة وتكن في جوفها من السر ما نعجز دونه. وسهولها الهائلة تقوم فوقها الزروع شتى ألوانها. وأنهارها وغدرانها وأشجارها وما يحويه ذلك كله ثم حيواناتها باشكالها الجميلة المتباينة وطبائعها المتخالفة العجيبة ما تكنه من معان يحار الذهن دونها. ليس ذلك كله إلا شيأ يأسر اللب ويأخذ بالنفس ويجعلنا نحس أن ما حولنا وما يحويه من جمال هو سبب الحياة ومعنى السعادة. (للرسالة بقية).(3/40)
العدد 4 - بتاريخ: 20 - 12 - 1911(/)
عبرة وذكرى
حديث الهجرة
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعى
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
بهذه البيوت الشعرية العذبة التي يترقرق فيها ماء الإخلاص فكأنها السيل المنحدر لسهولتها وخلوصها رفع النساء والولائد والصبيان أصواتهم على تلول المدينة في رونق الضحى عند شروق شمس النبوة عليهم ووفدة خاتم النبيين محمد بن عبد الله إليهم كما ترفع البلابل والأطيار والعصافير والديكة أصواتها عندما يغمر نور الفجر هذه الحياة: فما أليق بنا الآن وبعد الآن أن نستشعر إخلاص أولئك الأصفياء ونستظهر شعرهم هذا السهل الصافي من كدر التعمل والرياء ونترنم به في مثل هذا اليوم من كل عام ونعلم أن الإخلاص هو لب التقى وروح الإسلام.
في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام 622 لميلاد السيد المسيح هاجر السيد السند والرسول الامجد فخر ولد عدنان وصفوة بني الإنسان سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي عليه صلوات الله وتسليماته من مسقط رأسه وريحانة نفسه البلد الأمين (مكة) إلى بلد آخر أجنبي يسمى يثرب في سبيل إعلاء كلمة الدين وبث روح اليقين بعد أن كشرت له الشدائد عن أنيابها ومدت له المنايا بأسبابها وتألبت قريش وسائر قرابته عليه وأجمعوا على قتله والاستراحة منه قبل أن يبلغ رسالات ربه ويتمم هدايته - فصدق بذلك فعله قوله لعمه أبي طالب يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته وأقام لنا بذلك أنصع برهان على صدقه وإخلاصه وأنه على الحق الابلج الوضاح وألقى علينا درساً من أعود الدروس وأردها وأفيدها لمن يعنيه الفوز والظفر ببغيته ذلك هو الثبات والصبر على (المبدأ) ما دام الإنسان يعتقده حقاً مهما لاقى في طريقه من الصعاب والشدائد ومهما طغا الباطل على حقه فإن الباطل عمره قصير وإن الله ليقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.(4/1)
حديث الهجرة مأخوذاً من أوثق المصادر
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين وجد في أثنائها الأمرّين (الشدائد) حتى إذا ماتت زوجه السيدة خديجة وعمه أبو طالب نالت منه قريش من الأذى مالم تكن تنال منه في حياة زوجه وعمه فخرج رسول الله إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به عن الله فردوا عليه أقبح الرد وآذوه وأغروا به سفهاءهم - ثم صار النبي يوافي الموسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة فلا يجد أحداً ينصره ويجيبه حتى أنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم فإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة وأبو لهب وراءه يقول لا تطيعوه فإنه صابيء كذاب فيردون على رسول الله أقبح الرد ويؤذونه ويقولون أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك وهو يدعو إلى الله ويقول اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا.
وكان مما صنع الله لرسوله أن الأوس والخزرج كانوا يسمعون من يهود المدينة أن نبياً من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وارم وكان الأنصار يحجون البيت كما كانت العرب تحجه دون اليهود فلما رأى الأنصار رسول الله يدعو الناس إلى الله عز وجل وتأملوا أحواله قال بعضهم لبعض تعلمون والله يا قوم إن هذا الذي توعدكم به يهود المدينة فلا يسبقنكم إليه وكان سويد بن الصامت من الأوس قد قدم مكة فدعاه رسول الله فلم يبعد ولم يجب حتى قدم أنس بن رافع أبو الحيسر في فتية من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف في قريش فجاءهم رسول الله وقال هل لكم في خير مما جئتم له أن تؤمنوا بالله وحده ولا تشركوا به شيئاً فقال إياس بن معاذ وكان شاباً حدثاً يا قوم هذا والله خير مما جئنا له فضربه أبو الحيسر وانتهره فسكت ثم لم يتم لهم الحلف وانصرفوا إلى المدينة - ولما جاء الموسم تعرض رسول الله عند العقبة لستة نفر من الأنصار كلهم من الخزرج وهم أبو إمامة أسعد بن زرارة وعوف ابن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله فدعاهم إلى الإسلام وإلى معاونته(4/2)
في تبليغ رسالة ربه فآمنوا به وصدقوه وقالوا إنا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل وهذا هو بدء الإسلام لأهل المدينة فلما كان العام المقبل جاء منهم اثنا عشر رجلاً الستة الأول خلا جابر بن عبد الله ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدم وذكوان بن عبد القيس - وقد أقام ذكوان بمكة حتى هاجر إلى المدينة فيقال انه مهاجري أنصاري - وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة والعباس بن عبادة فاجتمعوا برسول الله عند العقبة قال عبادة بن الصامت فبايعناه بيعة النساء - وذلك قبل أن يفترض علينا الحرب - على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء غفر وإن شاء عذب وهذه هي العقبة الأولى فلما انصرف القوم عن رسول الله بعث إليهم مصعب بن عمير وعمرو بن أم كلثوم وأمرهما أن يقرآنهم القرآن ويعلمانهم الإسلام ويفقهانهم في الدين فنزلا على أسعد بن زرارة وطفقا يدعوان بقية الأوس والخزرج إلى الإسلام فأسلم على يديهما بشر كثير منهم أسيد بن الحضير وسعد بن معاذ وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بني عبد الأشهل وذاع الإسلام في المدينة وانتشر ثم رجع مصعب إلى مكة ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأوس والخزرج من المسلمين والمشركين وزعيم القوم البراء بن معرور فلما كانت ليلة العقبة وقد انقضى هزيع من الليل تسلل إلى رسول الله ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان قال كعب ابن مالك - وكان أحد هؤلاء - فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله حتى جاءنا معه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له فلما جلس كان العباس أول متكلم فقال يا معشر الخزرج - وكانت العرب تسمي الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها - أن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وأنه قد أبي إلا الانحياز اليكم واللحوق بكم إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما علمتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد بعد الخروج به اليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده قال فقلنا له قد سمعنا ما قلت(4/3)
فتلكم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت قال فتكلم رسول الله فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فأخد البراء بن معرور بيده ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك ممن نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر فاعترض القول: والبراء يكلم الرسول: أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت أن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله وقال بل الدم الدم والهدم والهدم أنا منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم فاخرجوا منهم اثني عشر نقيباً تسعة من الخرزج وثلاثة من الأوس فقال لهم رسول الله أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسي بن مريم وأنا كفيل على قومي يعني المسلمين قالوا نعم - ثم قال لهم رسول الله ارفضوا إلى رحالكم فقال له العباس بن عبادة بن فضلة والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل مني غدا بأسيافنا فقال رسول الله لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتي جاؤنا في منازلنا فقالوا يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه قال وقد صدقوا لم يعلموه.
قال: ونفر الناس من منى وذهب الأنصار إلى المدينة وأذاعوا فيها الإسلام.
بدء الهجرة
قال محمد بن إسحاق المطلبي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل وكانت قريش قد اضطهدت على من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم فهم من بين مفتون في دينه ومن بين معذب في أيديهم وبين هارب في البلاد فراراً منهم: منهم من بارض الحبشة ومنهم من بالمدينة وفي كل وجه فلما عتت قريش على الله وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة وكذبوا نبيه وعذبوا(4/4)
ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه اذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم فكانت أول آية أنزلت في أذنه له في الحرب قول الله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور - ثم أنزل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة - أي حتى لا يفتن مؤمن عن دينه - ويكون الدين لله} - أي حتى يعبد الله لا يعبد معه غيره - فلما أذن الله للنبي في الحرب وتابعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين أمر رسول الله أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار فخرجوا أرسالا ثم أقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة ولم يتخلف معه بمكة أحد إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله في الهجرة فيقول له الرسول لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً فيطمع أبو بكر أن يكونه.
خبر دار الندوة
ولما رأت قريش أن رسول الله قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا داراً وأصابوا منهم منعة فحذروا خروج رسول الله إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا له في دار الندوة. وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها: يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله حين خافوه وقد اجتمع فيها أشراف قريش مثل عتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وغيرهم ممن لا يعد من قريش فقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم فإنا والله ما نأمنه علي الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأينا ثم تشاوروا فقال فقال قائل منهم احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب(4/5)
أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيراً والنابغة ومن مضى منهم من الموت حتى يصيبه ما أصابهم - وقال آخر نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا أخرج عن فو الله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت - فقال أبو جهل إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم قال أرى أن نأخذ من كل قبيلة شاباً فتي جليداً نسيباً وسيطاً فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدون إليه فيضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم - فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله مكانهم قال لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتسجّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله ينام في برده ذلك إذا نام - وكان بين المجتمعين أبو جهل فقال وهم على الباب إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها - ثم خرج عليهم رسول الله فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات من يس والقرآن والحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم إلى قوله فأغشيناهم فهم لا يبصرون حتى فرغ رسول الله من هؤلاء الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنظرون ههنا قالوا محمداً قال خيبكم الله قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته أفما ترون مابكم فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله فيقولون والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا - وكان مما أنزل الله من القرآن في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو(4/6)
يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين - أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} - ثم أذن الله لنبيه عند ذلك في الهجرة.
هجرة النبي إلى المدينة
قال ابن اسحق وكان أبو بكر رجلاً ذا مال فكان حين أستأذن رسول الله في الهجرة فقال له الرسول لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً قد طمع بأن يكون رسول الله إنما يعني نفسه حين قال له ذلك فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك: حدثت عائشة أم المؤمنين قالت كان لايخطيء رسول الله أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار أما بكرة وأما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسول الله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهر اني قومه أتانا رسول الله بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها فلما رآه أبو بكر قال ماجاء رسول الله هذه الساعة إلا لأمر حدث فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله عليه وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر فقال رسول الله اخرج عني من عندك فقال يا رسول الله إنما هما ابنتاي وما ذاك فداك أبي وأمي فقال إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال الصحبة قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ ثم قال يا نبي الله إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا فاستأجرا عبد الله بن أرقط: رجلاً من بني الديل بن بكرو كان مشركاً: يدلهما على الطريق فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما قال ابن اسحق ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر أما علي فإن رسول الله فيما بلغني أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس وكان رسول الله ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم - فلما أجمع رسول الله الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمدا إلى غار بثور: جبل بأسفل مكة: فدخلاه وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر وأمر عامر ابن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاراً(4/7)
ثم يريحها عليهما يأتيهما إذا أمسى في الغار وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما - فأقام رسول الله في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله وأبي بكر ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفى عليه حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيرهما وبعير له وأتتها أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاماً فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام فتحل نطاقها فتجعله عصاماً ثم علقتها به فكان يقال لأسماء ذات النطاق بذلك قال ابن اسحق فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله قدم له أفضلهما ثم قال إركب فداك أبي وأمي فقال رسول الله إني لا أركب بعيراً ليس لي فقال فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به قال كذا وكذا قال قد أخذتها به قال هي لك يا رسول الله فركبا وانطلقا وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق - حدثت أسماء قالت لما خرج رسول الله وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك يا بنت أبي بكر قلت لا أدري والله أين أبي فرفع أبو جهل يده وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا - وحدثت أسماء قالت لما خرج رسول الله وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف فدخل علينا جدى أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه قلت كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً قالت فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيه ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده فقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال فوضع يده عليه فقال لا بأس إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم - ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك - قال ابن اسحق حدثنا سراقة بن مالك قال لما خرج رسول الله من مكة مهاجراً إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم قال فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ(4/8)
أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مرّوا عليّ آنفاً إني لأراهم محمداً وأصحابه فأومأت إليه بعيني إن أسكت ثم قلت إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم قال لعله ثم سكت قال ثم مكثت قليلاً ثم قمت فدخلت بيتي ثم أمرت بفرسي فقيد لي إلى بطن الوادي وأمرب بسلاحي فأخرج لي من دبر حجرتي ثم أخذت قداحي التي استقسم بها ثم انطلقت فلبست لأمتي ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقة فركبت على أثره فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فلما بدا القوم ورأيتهم عثر بي فرسي فذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه ثم أنتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني فناديت القوم وقلت أنا سراقة بن مالك انظروني أكلمكم فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم من شيء تكرهونه فقال رسول الله لأبي بكر قل له وما تبتغي منا فقال لي ذلك أبو بكر قلت تكتب لي كتاباً يكون آية بيني وبينك قال اكتب له يا أبا بكر فكتب لي كتاباً في عظم أو في رقعة أو في خزفة ثم ألقاه إليّ فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت فسكت فلم أذكر شيئاً مما كان حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله وفرغ من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت في كتيبة من خيل الانصار فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك إليك ماذا تريد؟ فدنوت من رسول الله وهو على ناقته والله لكأني أنر إلى ساقه كأنها جمارة فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت يا رسول الله هذا كتابك لي أنا سراقة بن مالك فقال رسول الله يوم وفاء وبر ادنه فدنوت منه فأسلمت ثم تذكرت شيئاً أسأل رسول الله عنه فما أذكره إلا أني قلت يا رسول الله الضالة من الأبل تغشي جياضي وقد ملأتها لأبلى هل لي من أجر في أن أسقيها قال نعم في كل ذات كبد حرى أجر ثم رجعت إلى قومي فسقت إلى رسول الله صدقتي - قال ابن اسحق فلما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط سلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان ثم سلك بهما على أسفل أمج ثم استجاز بهما حتى عارض(4/9)
الطريق أسفل من عسفان ثم سلك بهما على أسفل أمج ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قُديداً ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار ثم سلك بها ثنية المرة ثم سلك بهما لقفاً ثم أجاز بهما مدلجة لقف ثم استبطن بهما مدلجة محاج ثم سلك بهما مرجح مجاج ثم تبطن بهما مرجح ذي العضوين ثم بطن ذي كشر ثم أخذ بهما على الجداجد ثم على الأجرد ثم ذا سلم من بطن أعداثم مدلجة تعهن ثم على العبابيد ثم أجاز بهما القاحة وقيل الفاجة ثم هبط بهما العرج وهي من منازل الجادة بين مكة والمدينة ثم سلك بهما من العرج إلى ثنية العائر عن يمين ركوبة حتى هبط بهما بطن رئم ثم قدم بهما قُباء على بني عمرو بن عوف وذلك حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول كما أسلفنا.
تتمة الحديث
قال ابن اسحق حدث رجال من الأنصار قالوا لما سمعنا بمخرج رسول الله من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله فو الله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال فإذا لم نجد ظلاً دخلنا وذلك في أيام حارة حتى إذا كان اليوم الذي قدم رسول الله جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا وقدم رسول الله حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود وقد رأى ما كنا نصنع وأنا ننتظر قدوم رسول الله علينا فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء فخرجنا إلى رسول الله وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر في مثل سنه وأكثرنا لم يكن رأى رسول قبل ذلك وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر حتى زال الظل عن رسول الله فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك - قال ابن اسحق فنزل رسول الله على كلثوم بن هدم أخي بني عمرو بن عوف ويقال بل نزل على سعد بن خيثمة ونزل أبو بكر على خبيب ابن اساف أحد بني الحرث بن الخزرج بالسنح - قال ابن اسحق وأقام عليّ ابن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى ادي عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله فنزل معه على كلثوم ابن هدم فكان عليّ بن أبي طالب إنما كانت إقامته بقباء ليلة أو اثنتين: يقول كانت بقباء امرأة لا زوج لها مسلمة قرأيت إنساناً يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئاً معه فتأخذه فاستربت(4/10)
بشأنه فقلت لها يا أمة الله من هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئاً لا أدرى ما هو وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك قالت هذا سهل بن حنيف بن واهب قد عرف أني امرأة لا أحد لي فإذا أمسى عدا علي أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا - قال ابن اسحق فأقام رسول الله بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الاربعاء ويوم الخميس وأسس مسجده ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة فأدركت رسول الله الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانوناء فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم بن عوف فقالوا يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة: لناقته: فخلوا سبيلها فانطلقت - وهكذا صار كلما مر بقبيلة من قبائل العرب قال له رئيسها أقم عندنا يا رسول الله في العدد والعدة والمنعة فيقول لهم خلوا سبيلها فإنها مأمورة حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني النجار ثم من بني مالك بن النجار وهما في حجر معاذ بن عفراء: سهل وسهيل ابنى عمرو: فلما بركت ورسول الله عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله وقال ههنا المنزل إن شاء الله فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله ووضعه في بيته ونزل عليه رسول الله وسأل عن المربد لمن هو فقال معاذ ابن عفراء هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي وسأرضيهما منه فاتخذه مسجداً فأمر به رسول الله أن يبني مسجداً ونزل رسول الله على أبى أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه ثم انتقل من بيت أبي أيوب إليها.
ثم تلاحق المهاجرون فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس أما المدينة فعم أهلها الإسلام.
وبعد ذلك ابتدأت الأعمال العظيمة من التشريح والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الدين مما نرجي الكلام عنه إلى موضعه ن تاريخ الإسلام الذي ينشر في البيان تباعاً إن شاء الله.(4/11)
مقدمة تاريخ أداب العرب
لأبي السامي مصطفى صادق الرافعي
صدر المجلد الأول من هذا التاريخ الذي عقمت بمثله العصور العربية إلى اليوم وقد كتب له صاحبه مقدمة سالت من ذلك القلم النوراني كما يسيل الندى من مقلة الفجر، وسقطت على الأرواح كما يسقط ذلك الندي على الزهر فهي النور المشرق في صفحة الصباح ينبعث من أفق واحد ويضيء على كل الآفاق وكذلك تراها في أوراق هذا الكتاب ولا ترى مثلها في سائر الكتب والأوراق.
وقد رأينا أن نحلى بها البيان لأنها طراز في الإنشاء لايدانيه طراز ونمط أن رأى فيه صاحبه النابغة معنى الاعجاب رأى الناس فيه معني الإعجاز قال حفظه الله:
(أما بعد) فإن هذا التاريخ علمٌ قد كثرت عليه الأيدي واضطربت فيه الأقلام، واستبقت إليه العزائم حتى عثرت بها عجلة الرأي ولجاجة الأقدام، وقد أخصب في الأوهام، حتى نفشت في واديه كل جرباء وامتزج أمره بالأحلام، فلم يمس كتابه علماء حتى أصبح قراؤه أدباء، على أنهم تجاذبوه انتهاباً فجاء واهياً في وثيقته، وتناكروه اهتياباً فخرج ضعيف الشبه بين ظاهره وحقيقته، وما منهم إلا من يحسب أنه أمال بالقلم يده فمضي مرخى العنان، مخلى له عن طريق السبق إلى الرهان، وإن للقلم لو أطلقوا لنفرةً أيسر خطبها الجماح ولكنه مذلل كالطائر أهون ما يطرد إذا كان مهيض الجناح.
كثرت الكتب وهي إما أعجمي الوضع والنسب، وإما هجين في نسبته إلى أدب العرب، يلتفت فيها الكلام التفاتة السارق إلى كل ناحية ويسرع في مره إسراع السابق على كل ناجية، فلا يحققون ولكن يخلدون إلى سانح الخاطر كيفما خطر، ولا ينقبون ولكنهم يجدون في كل حجر أصابوه معنى الأثر، وإذا كتبوا تاريخ الرجال فكأنهم يكتبونه على ألواح القبور، ثم ينطلق الكتاب وفي صدره اسمُ (المؤلف) يسعل به كما يسعل المصدور، وهم لو علموا منطق المعاني لرأوا كلاماً كثيراً يدعوهم أن يدعوه، وكان يرفعهم لو أنصفوه ولم يضعوه ولكنهم يأخذون في جانب ويضمون ماضم حبل الحاطب، وإنما العلم كالروض يقصر بعض أغصانه فيسهل على كل متناول، ويطول بعض فروعه فيكد يد الفارع المتطاول وهذا التاريخ قد طوي في رؤس أهله فكانت جماجمهم غلاف كتابه، وغابت(4/12)
حقائقه في القبور كما يغيب أثر الميت في ترابه، فلم يبق إلا انفاق الأعمار وسيلة لاستدراك ما فات، وليكون ما يموت من عمرُ الأحياء فداءاً لآثار الحياة بعد من مات، وفي ذلك هم من الكد يلحف القلوب والأكباد وحرقة تتلذع حتى في القلم والصحيفة والمداد. وضيقٌ يخيل للباحث أن بين الأوراق. بحاراً ذات أعماق، وأن رأسه يصطدم من أحرف السطور بحروف الصخور، وضجر يتوهم به الكاتب أن روحه تثب من جسده إلى يده، فيجد للقلم حزاً كالحز في الوريد، ومسامن نفسه كمس المبرد للحديد، بل يرى كأن المعاني لا تنضج إلا إذا جعل رأسه قدرها وأوقد من فكره جمرها، فيتنسم وكأنه يتنسم بعض دخانها، ويزفر وكأنما يزفر من حر نيرانها.
وأنا لم أصور للقارئ هذا الجحيم الذي خلق للكتاب، ولا ذكرت ما أعد لهم فيه من أنواع العذاب، لأدعي أني الكاتب الذي لا يصرف غيره الأقوال، ولا أن كتابي يعد شيئاً إذا الأشياء حصلت الرجال، ولا أن لي محابر الأقلام ومدادها وبياض الصحف وسوادها، فإني لست في هذا (العصر) ممن تخدعه الشمس بطول ظلله، أو تغره النفس بكثرة وقله، ولكني رأيت من كتب في هذا التايخ يريد أن يستولي على الأمد وادعاً في مكانه، ويلحق الطريدة ثانياً من عنانه، ويستبد بالسبق من قبل أن يجري في رهانه، ومن ألف فقد استهدف أيما استهداف والراي كما قيل ميزان لا يزن الوافي لناقص ولا الناقص لواف، ولا أكذب الله فإن كتب القوم في الأيدي كالثياب المتداعية كلما حيصت من ناحية تهتكت من ناحية، اقتصروا فيها على تمزيق الأسفار، فجعلوا القلم كالمقراض، واختصروا من التاريخ أقبح الاختصار، فكأنه لم يكن للعرب أمرٌ ماض، وهذا العلم إن لم يزاول بقوة النية خرج ضعيفاً والقلم غصن روحي فإن لم تروه النفس أصبح قصيفاً.
لا جرم أن هذا التأليف ليس إلا مدرجة التلف، بعد أن أغفله من سلف وعفا الله عما سلف، وقد يقتحمه رجل الهمم، فلا يلبث من فرقه، أن تراه كالصبي في مشيته يتخلع، ويركبه فارس القلم، فلا يلبث من نزوه وقلقه، أن تراه كالجبان في سرجه يتقلع، فإنما هي حقائق بعضها متمني فات، وبعضها لا يزال حملاً في بطون المؤلفات، فليس الصبر على نفض تراب المناجم، حتى يخرج معدن الذهب، بأشد من الصبر على فض الكتب والمعاجم، حتى يخلص تاريخ الأدب.(4/13)
بيد أني وإن طاولت التعب فيما استطعت من الاتقان والتجويد، وحسبت زمني في إغفال حسابه كأنه عمر قديم ليس فيه يوم جديد، لا أقول إني أتيت منهُ على آخر الادارة، ولا أزعم أني أوفيت على الغاية من الإفادة فذلك أمر تنصرم دونه أعمار، وللكمال عمر لا يحسب بالسنين ولكن بالإعصار، وجهد ما بلغت من همة النفس أن أكون بنجوة من التقصير، وإن أدل بما جمعته من حوادث التاريخ على أن عمر التاريخ غير قصير، ولقد رميت في ذلك المرمي القصى، وعالجت منه الطيع والعصى، ولو أن لي قلماً ينفض مداده شباباً على الإفهام، ويكون في جنة هذا التاريخ آدم الأقلام لخرج منها وليس عليه من حلته، إلا مثل ما هبط به آدم من ورق الجنة في قلته.
بيد أن الورقة من أحدهما تعد في بركتها بأشجار، ومن الآخر تعدل في منفعتها بأسفار، وحسبي ذلك عذراً أن جريت على العادة في تقديم الأعذار.(4/14)
نوابغ الكلم وروائع الحكم
حكم روشفكول
فرنسوا دوق دي لاروشفكول من أكبر نبلاء فرنسا ولد في 15 ديسمبر سنة 1615 وتوفي سنة 1680، عاصر ريشليو ومازارين وكان له شأن معهما، وقد نجذته الشدائد وقومته الزعازع فتلقن الحكمة من أستاذ الدهر. وهذه الشذرات التي ننقل عنها هي كل ما ساهم به في سوق الأدب. قال فولتير إنها من الكتابات التي تساعد على تهذيب ذوق الأمة الفرنسوية وتبث فيه روح الضبط والتدقيق وقال الدكتور جونسون النقاد الإنكليزي أنه الكتاب الفذ الذي خطته بنان رجل من الظرفاء على أنه جدير بغيرة الأدباء والمؤلفين وكتب عنه اللورد شستر فيلد في رسائله المشهورة إلى ولده فقال لا أوصيك بغير كتاب روشفكول لتدرس فيه طباع الناس وأسرار ضمائرهم قبل أن تبلغ بك السن أن تدركها بالمعاشرة والاختبار وقال هلام المؤرخ والأديب المعروف ينبغي أن يتلوه الفليسوف بشيء من الاعجاب:
(1) ليست فضائلنا إلا رذائل متنقبة.
(2) إن الذي تدعوه فضيلة ليس إلا أعمالا ومآرب شتى ساقها الاتفاق أو زواج بينها حذقنا في تدبير مبتغياتنا فكثيراً ما تصدر الشجاعة والعفة لا عن قوة النفس في الرجال ولا عن طهارتها في النساء.
(3) إن حب المرء لذاته أخدع له من أكبر الخادعين والمتزلفين.
(4) لايتوقف استمرار عواطفنا على ارادتنا إلا كما يتوقف عليها استمرار حياتنا.
(5) قد تنجح العواطف أضدادها. فيغري الجشع بالسخاء ويؤدي السخاء إلى الشجع وإن المرء ليصير صلباً في ضعفه، جسوراً في خوفه بعض الأحيان.
(6) المرء أسرع إلى نسيان الاساءة منه إلى الاحتفاظ بالحسنة بل ربما وجدته يبغض المحسن إليه ويتناسى بغض المسيء إليه. ويظهر أن الشعور بضرورة الانتقام للأذى أو مكافأة الإحسان نوع من الرق لا تطيق النفوس البقاء في ربقته.
(7) يبدي بعض المحكوم عليهم بالقتل ثباتاً أمام الموت واستخفافاً به، يشيحون عنه لا استهانة برهبته ولكن فراراً من مواجهته. وكأن هذا الثبات عصابة يسدلونها على عقولهم(4/15)
كتلك التي تسدل على أعينهم قبل إمضاء الأمر فيهم.
(8) إن الفضائل التي تعوزنا لوقاية أنفسنا في وسط النعيم لا جرم تكون أكبر من تلك التي تعوزنا لوقاية أنفسنا في وسط المحنة والشقاء.
(9) ان نقائصنا لا تجلب إلينا من البغض والاضطهاد ما تجلبه إلينا محامدنا.
(10) لم نكن قط سعداء أو تعساء كما نتصور في أنفسنا.
(11) مهما عظمت المواهب التي تمنحها الطبيعة أفذاذ الرجال، فليس بها وحدها بل باشتراك الصدف وعناية الجد معها، ينشأ الرجل العظيم.
(12) إن التقزز الذي يبديه الفلاسفة والحكماء للغنى ومتاع الحياة إنما هو ميل خفي إلى الاقتصاص لأنفسهم من ظلم الحظ لهم باحتقار تلك النعم التي حرمهم إياها. أو هو إحساس يرفعون به أنفسهم عن ضعة الفقر. أو هو طريق خلفية يصلون منها إلى ما هم قاصرون عن بلوغه على سروات الطريق.
(13) لم يعمل الحق الصراح من الخير للعالم قدر ما عمل الحق المموه من الضرر له.
(14) متى وجد الحب فلا شيء يكتمه أمداً طويلاً. ومتى فتر فلا شيء يمارى في إظهاره.
(15) إذا نحن حكمنا على العشق بما ينجم عنه في بعض الأحوال فأنا نراه إلى أن يكون بغضاً أقرب منه إلى أن يدعى حباً.
(16) ليس حذر الشيخوخة بأقرب إلى الصواب في أكثر المواقف من تهجم الشباب.
(17) البعد قد يمحو العواطف الهنية ولكنه ينمي القويّ منها. كالريح تطفي القنديل وتضرم الحريق.
(18) يصعب علينا أن نحب من لا قدر له في أعيننا وأصعب منه حبنا لمن نرى له من القدر فوق ما نرى لذواتنا.
(19) ليس وفاء أكثر الناس إلا طمعاً في الاستزادة من النفع.
(20) إني لا أرى أكثر فضليات النساء إلا كالكنوز المخبرءة، بقيت مصونة من أيدي السرقة لأنهم لم ينقبوا عنها.
عباس محود العقاد
حكم لأفلاطون(4/16)
قال لا تصحبوا الأشرار فإنهم يمنون عليكم بالسلامة منهم. وقال إذا أقبلت الدولة خدمت الشهوات العقول وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات وقال لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وقال لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده فإن الناس ليس يسألون في كم فرغ من هذا العمل وإنما يسألون عن جودته. وقال لا تحقرن صغيراً يحتمل الزيادة.(4/17)
الحب والزواج
للفاضل عباس محمود العقاد
دافيد هيوم أكبر فيلسوف إنكليزي في مباحث ما وراء الطبيعة وهو من فطاحل رجل الأب والتاريخ والاقتصاد السياسي عندهم. وهذا فصل من فصوله كتبه على أسلوب له يمزج فيه الحقيقة بالخيال ويورد الأفكار طي الفكاهات والدعابات. قال:
لا أعلم ما بال النساء وحدهن يغضبهن كل بحث يتناول التنديد بالزوجية أو يتنسم منه رائحة الدعوة إلى العزوبة كأنما يحسبن أنهن المعنيات دون الرجال بكل ما يقال في هذا الصدد وكأنما يحسبن أنهن المعنيات دون الرجال بكل ما يقال في هذا الصدد وكأنما يرين أن قسطهن من الخسارة يكون أكبر من قسط سواهن إذا جر ذلك التنديد إلى نتيجة المرقوبة، وهي التنفير من الزواج. أو لعلهن يدركن أن تلك المآخذ والنقائص التي ينعيها الكتاب على الزوجية إنما ترجع إلى عملهن وان أسبابها آتية من تلقائهن. فإذا صدق حدسي فما أجدرهن أن لا يضعن هذا السلاح الباتر في أيدي أخصامهن - وأعني بهم الرجال - أو يوجهن خواطرهم إلى هذه المظنة.
ولقد طالما حدثت نفسي أن أكتب فصلا في الزواج يلتئم عند بنات الجنس اللطيف مع تلك النزعة المأثورة عنهن فأعوزتني المواد وتعارضت الآراء وخرجت من التفكير وقد رأيتني إلى الهجاء أميل مني إلى الاطراء وقلت لنفسي إذا لم يكن بد من الثناء فلأذيلن تلك الأمدوحة بأهجوة وإلا فالسكوت أولى.
أما أن أشوه جمال الحقيقة أو أمس طلعتها الناصعة بدهان الدهان، فذلك مالا أظنهن يدعونني إليه أو يرقهن أن يسمعنه عني. ذلك على أنه ربما كان في قلب وجوه الأحوال من المناوأة لهن أكثر مما فيه من النفع والجدوى. ولا يفوتهن أن الحقيقة ينبغي أن تكون أحب إلي وأدنى إلى قلبي حتى من بنات حواء.
فأنا الساعة سأكون سفير أبناء جنسي لدى النساء، أفصح لهن عن أشد ما نشكوه من الزوجية والزوجات فإذا آنست منهن ميلاً إلى المفاوضة والاتفاق في هذه المسألة التي نعدها أم المسائل وكبرى ذرائع الخلاف فلا بأس نرجيء بقية الخلافات والتجنيات فتلك أمرها هين وخطبها متدارك.(4/18)
فإذا لم يكن قد تطرق الخطأ إلى حكمي على الرغم منى فإن أطوار المرأة تنبيء بأن حب الهيمنة على الرجل والتفرد بالأمر والنهي دونه من أخص صفاتها وألزم طباعها. وأن ما كان بينها وبين الرجل من شقاق ونزاع فإنما مثاره هذه الصفة. وإن كان تعلقنا بهذه النقطة واستنادنا إليها قد يعد في عرف بعضهن دليلاً على أننا ننعتهن بوصف قد امتلك عقولنا واستحوذ على حواسنا.
ولقد يبدو لي مع هذه أنه ليس في أميال المرأة ميل له من السلطان على نفسها والتحكم في أخلاقها ما لهذا الميل. وفي نوادر التاريخ رواية ظاهرة في تأييد ما أقول.
فقد رووا أنه حدث فيما غبر من الأيام أن نساء (سيثيا) ضقن ذرعاً بما يكابدنه من الرجال فأهبن بكيدهن العظيم وتآمرن فيما بينهن على الإيقاع بهم، ثم كتمن الأمر وأخفينه - وذلك أغرب مافي هذه المؤامرة! - حتى تمكن من تنفيذه قبل أن يفطن إليهن أحد، فباغتن الرجال في أسرة النوم وعلى موائد الطعام والشراب فشددن وثاقهم وغللن أيديهم إلى أعناقهم وقيدن أرجلهم ثم جمعنهم في صعيد واحد وتنادين إلى مجلس عام يتدبرن فيما ينزله بأولئك الأعداء الألداء من صنوف العذاب وضروب التشفى والتنكيل وينظرن في الانتفاع بهذا الظفر فلا يقعن بعد ذلك في أصفاد الأسر والاستخذاء.
فأما إبادة الرجال جميعاً فذلك مالا أحسب أنه خطر لأحداهن أو جامت حوله آراؤهن، رحمة منهن ورفقاً وإن لم يبق موضع للرحمة والرفق بعد ما تجرعنه منهم من غصص العيش وكابدنه من مضض العسف والجور. فقر رأيهن بعد الحجاج الشديد واللغط والفديد على أن يسملن أعينهم وتجاوزن في سبيل الحرية والسلطة عن تلك الخيلاء التي كانت تحلو لهن إذ يترنحن بين التيه والدلال ويعرضن الجمال على أعين الرجال.
فودعنها وإن كانت أعز مودع عليهن وبكين الزينة والخضاب، وزخارف الحلي والأثواب، ثم هون عليهن أمرها أنهن سيتعوضنها بالحرية والنجاة من الأسر - قلن إننا لن نسمع بعد تأوهات العشاق ومناجاة الأحباب ولكن لايغيب عنا أننا سوف لا نسمع أيضاً صيحات الامر وزعقات السيادة والزجر. وسيرحل عنا الحب أبداً ولكنه سيحمل معه الاستعباد.
ولشد ما أحزن البعض هذا الحكم فرثوا لأولئك المناكيد وقالوا ما كان أقسي قلوب النساء على الرجال المساكين، فإنهن حرمنهم نعمة البصر لينقادوا إليهن ذلك الانقياد الأعمى ولئن(4/19)
أبقين عليهم مسامعهم فما هي بمغنية شيئاً بعد الإبصار ولو كانت تغني لصلمنها ولم يتعدينها إلى الأعين فيفقأنها وأنا أعلم أنه قل بين أهل الخبرة بأحوال الزواج من لا يستخف فقد الاذن بالقياس إلى فقد البصر لاسيما وأن وراء فقد الأذن الراحة من سماع المطالب الجمة والقوارص المصمة.
وكيفما كان هذا الرأي فإن كثيراً من بنات اليوم من لا يعولن كل التعويل على هذه الطريقة ولا يبالين أن يتركن لأزواجهن عيونهم اعتقاداً منهن أنهن أدرى بتسخيرهم صاغرين سواء ذهبت أبصارهم أو بقيت في رؤسهم ولسوء حظ الرجال أن كان هؤلاء الأزواج ممن لا يصونون الجميل أو يعترفون بالإحسان فاقتسروا نساءهم على أن يحذون حذو أخواتهن لاسيما بعد أن صرح الزمن زهرة صباهن وأطفأ في وجوههن رونق الشباب وما أيسر الأمر إذا كان للمرأة النفوذ والسيطرة.
ولا أدري لعل سيداتنا الأيقوسيات يقلدن جداتهن السيثيات ولكني طالما تولاني العجب إذ كنت أرى امرأة منهن تنتقي من بين الرجال زوجاً مغفلاً غبياً وتؤثره على سواه رفيقاً لها في الحياة وكأنها ترى أن غفلته وغباوته مما يعنيها على تذليله وترويضه. فما ترددت في الجزم بأن بين جنبيها نفساً تربو على نفوس أولئك السيثيات بربرية بمقدار ما تزيد عين البصيرة التي تسلمها هذه عن العين الباصرة التي قد سملها أولئك.
بيد أني لا أكون عادلاً إذا أنا لم أنجح بسر يختلج في صدري ويتردد على لساني، فلقد يكون ولع النساء هذا بالسلطة أثراً لسوء تصرف أبناء جنسنا بسلطتنا. وقد أنبأت حوادث التاريخ أن الطغاة إذا أرهقوا رعاياهم ولجوا في الطغيان والعدوان أحفظوا أولئك الرعايا وحفزوهم إلى التمرد. فإذا تمردوا فتكوا وأهلكوا ونكبوا وأخربوا وضيعوا وروعوا، وانقلبوا هم طغاة كأولئك الطغاة الذين ينقمون عليهم بل أشد. ومن يدري لعل أمر النسوة معنا على حد ما علمنا؟
هذا ما صيرني أود لو تخلى كل منا عن مزاعمه فلا حاكم ولا محكوم ولا سيد أو مسود بل نجري في الأمور بالهوادة بيننا ويأخذ كل منا فيما يخصه بلا رقابة أو إيحاء من الآخر كأننا ندان متساويان ولا ننس أننا شطرا جسد متعادلان كما قال أفلاطون.
فقد جاء في مرويات ذلك الفيلسوف الحاذق أن الإنسان لم يكن في أصله كما نحن الآن.(4/20)
وإنما كان بدنا مندمجاً جامعاً بين الذكر والأنثى في جسد واحد فكان زوجاً وزوجة يشتركان روحاً وجسداً. ولا حاجة بنا إلى القول بأن هذا الإنسان المركب قد كان في منتهى الكمال والهناء فكان كل فرد مزدوج منه يعيش ملتئما متحداً لا يفكر في الانفصال ولقد أبطرت السعادة هذا النوع، وقديماً ترافق البطر والسعادة، فانقلبوا على الآلهة ونفضوا عنهم مخافة الأرباب. قال فأراد الآلة الاقتصاص منهم وقال قائل منهم إننا إن نقتلهم نيأس مما يقدمونه لنا من البخور والنذور فاختاروا لهم معشر الآلهة قصاصاً غير القتل. وبعد أن تشاوروا ما أجمعوا على أن يكتفوا بايهان قواهم فعمدوا إلى كل إنسان فشقوه شطرين، فانفصمت وحدته وضعفت بذلك منته.
ومنذ ذلك العهد انقسم النوع الإنساني رجالاً ونساء. بيد أن ذلك الانقسام لم يمح من أنفسهم تلك الذكرى القديمة فما زال كل شطر يصبو إلى شطره ويتلهف عليه فينقب عنه ويفتقده حتى إذا التقيا تضاماً باشتياق وابتهاج وأخذا في عناق والتزام ووفاق والتئام.
ولكن كثيراً ما كانت الأشطر تضل الاهتداء إلى بعضها فتتصل بغير شطرها. ففي هذه الحال يعودان إلى الفراق والطلاق ولا يزالان في انطباق وافتراق واتصال وانفصال حتى يعثر كلاهما بجزء يندمج فيه كل الاندماج ويطابقه تمام الانطباق
كذلك ارتأى أفلاطون منشأ الشقاق والوفاق بين الأزواج ولو أتيح لي أن أكمل هذه الأسطورة الأفلاطونية لقلت وهاك أسطورتي:
بعد أن شق جوبيتير الذكر والأنثى ندم على ما أحله بنوع الإنسان من النقمة الشديدة وأخذته الشفقة على عبيده في الأرض بعد أن عاين ماحاق بهم من الويل واستولى عليهم من القلق فباتوا وقد هجرتهم السكينة وفرت منهم الطمأنينة ورأى كيف أنهم مالبثوا منذ حلت بهم نقمته يضجرون من الحياة ويتأففون من هذا الوجود ويحسبون ما وهبهم من نعمة الحياة شقاء وبلاء قد أصبح النوع الإنساني منذ ذلك الحين ولا هم له إلا الأسف على ذلك التآلف القديم والحنين إلى استرجاعه فعطلوا العلوم وكفوا عن الأعمال ولم يجدوا في ملذات الدنيا ومسراتها ما يملأ ذلك الفراغ الذي أحدثه في كل جسد بعد نصفه عنه.
فصحت نية ذلك الإله الغفور الرحيم على أن يصفح عن زلتهم ويتجاوز عن رعونتهم وطيشهم وإذا كان لا سبيل إلى ذلك التآلف وجوبيتير لم ينس بعد عصيانهم وتألبهم على(4/21)
الآلهة. فلا أقل من أن يعوضهم عنه بما يسيهم ذكره وينسيهم خبره.
فأوحى إلى ملكي الحب والزواج أن اهبطا إلى الأرض فاجمعا تلك الأعشار المتفرقة والأشطر المحطمة وألحماها وأرأبا ما تصدع منها كأحسن ما في وسعكما
فصدع الملكان بالأمر الإلهي وهبطا إلى الأرض فوجدا من شوق الناس إلى التلاحم والتواصل ما مهد السبيل لهما وسهل عليهما قصدهما فدأبا بلا مال وانكبا على العمل. وما زال النجاح موالياً لهما فلحما ورقعا وأصلحا.
ولكن حدث في يوم من الأيام أن شجر بنهما الخلاف لشأن من شؤونهما فتغير كل منهما على صاحبه وأسر في نفسه الكيد له وتصديه في عمله.
وكان للزواج معاون في شغله هو الحسبان. كان هذا المعاون لا يفتأ يملأ رأس رئيسه بهواجس المستقبل ومشاغل العيش وهموم العائلة والأطفال والخدم فقلما راعياً في أعمالهما غير ذلك. واصطفى الحب له نصوحاً هو الطرب وما كان أسلم من الحسبان نصحاً لمولاه أو أصوب منه رأياً فكان يمنعه أن يمتد ببصره إلى أبعد من لذة برهة وطرب ساعة.
وبعد أن نسي الناس مصابهم أو كادوا. جاء هذا الشقاق بين الحب والطرب من جانب والزواج والحسبان من الجانب الآخر فجدد لهم هماً شاغلاً وحرك في نفوسهم قلقاً ساكناً. فكان الحب إذا أصلح نصفين ووفق بينهما أسرع الحسبان واستصحب معه الزواج ففصلا هذا من ذاك وألصقاه بنصف آخر قد أعداه له. فإذا أراد الطرب أن يثأر لنفسه عمد أيضاً إلى نصفين وفق بينهما الزواج فتسرب اليهما خلسة واستعان بالحب فجعلا يصلان أحدهما أو كليهما بصلة خفية إلى نصف من أنصافهما المهيأة لهذه المآرب.
ولم يطل على ذلك الأمد حتى علا ضجيج البشر إلى لاسماء وجأروا بالدعاء إلى عرش جوبيتير فاستدعى إليه الملكين وأمرهما أن يقدما إليه صحيفة أعمالهما. فطفقا يتحاوران ويتنصلان وجوبيتير يسمع. فلما فرغا من الأخذ والرد والتنصل والاتهام رأى أنه لا سبيل إلى إسعاد البشر إلا بالتوفيق بين الحب والزواج فأصلح بينهما. وأراد أن يكون واثقاً من دوام هذا الصلح إلى ماشاء فشدد عليهما أن لا يبر ما أمراً أو بيتاً في عقد إلا بعد مشاورة معاونيهما الحسبان والطرب واسترضائهما.
فأيما قران تحققت فيه إرادة أبي الآلهة وتراضى عليه الحب والزواج والحسبان والطرب(4/22)
فذلك القران السعيد الذي يتألف منه ذلك الإنسان المركب ويجتمع به النصفان الغائبان. نعم إننا أضعنا منوال جوبتير الذي يحيك حاشيتيهما ويحبك طرازيهما. ولكن لنا من خيوط القلوب وعلائق الأرواح ما هو أمتن وأقوى على أن يدمج ذاتين في ذات واحدة. يحدب كلاهما على صاحبه فيضحك لضحكه ويبكي لبكائه وتمتزج أوطار نفسيهما فتحس كل نفس أن ألم الأخرى ألمها وأن ما يسر إحداهما يجب أن يسر الثانية فتخشى خشيتها وترجو رجاءها.(4/23)
شذرات
مقتبسات من امرسن
رالف والدو إمرسن أشهر كاتب أمريكي على الإطلاق ولد في مدينة بوستن للخامس والعشرين من شهر مايو عام 1803 وتوفي في السابع والعشرين من شهر أبريل عام 1882. وأحرز مكانة عالية بكتاباته فأصبح معدوداً من كتاب الطبقة الأولى في اللغة الإنكليزية. وإليك بعض مقتبسات من فصوله:
(1) فلسفة الفنون
الحد بين الطبيعة والصناعة في الفنون الجميلة
الموسيقى والفصاحة والشعر والتصوير والنحت والمعمار، إذا نحن سردناها كما نفعل الآن لم يكن ذلك إلا إحصاء ظاهرياً للفنون الجميلة. ولقد أغفلت فن البلاغة لأنه لا يبحث إلا في وضع الشعر والفصاحة. وأرى المعمار والفصاحة من الفنون المشتركة التي يقصد بها الجمال حيناً والنفع أحيانا.
ومما يشاهد أن شيئاً من روحية كل فن من هذه الفنون يذهب عنها حتى يتهيأ تجسدها ووضوحها للحس فيتلاقى عندها فعل الصناعة بفعل الطبيعة وأن لكل منها ناسوتا من المادة يتلبس به. وفي كل منها تقف الفكرة المبتدعة إلى حد محدود عند تلك المادة التي يتجلى فيها ذلك الفن.
فالشعر ناسوته الألفاظ ولئن لم تكن الألفاظ مادية إلا من جانب واحد فقد وضعها الناس من قبل وتداولتها الألسنة في آرابها. فالشاعر لن يبتدعها ابتداعاً لأداء مقاصده. فهي ليست اذن من بنات فنه ولا من ثمرات الروح الملهمة في ذلك الفن.
والموسيقى قاعدتها تموجات الهواء واهتزاز الأوتار الأدوات المرئية وإن نبرة من خيط أو سلك مشدود لتبعث في النفس من لدن الأذن سرورها بالرنة العذبة. ذلك وإن لم يؤلف الموسيقار من تلك النبرات لحناً أو يستنزل وحي الأنغام والأدوار من آلهة فنه.
والفصاحة في الحيز الذي تعتبر من قبله فناً جميلاً، نراها تتحسن وتكتسب شيئاً من تأثيرها وفعلها في النفوس من أحوال الخطيب الجسدانية في الإشارة والإيماء ورنة الصوت وقوة الصدر وتغير السحنة. وفي كل ذلك من النقص من روحية اللذة والسرور قدر ما فيه من(4/24)
النقص في عمل الصناعة نفسها، نقصاً يرجع بها إلى حيز الطبيعة (والطبيعة والصناعة في الاصطلاح الفني كلمتان متقابلتان من حيث أن الحالة الطبيعية للأشياء هي بقاؤها على ما هي عليه. وإن الحالة الصناعية لها هي انتقالها من ذلك الطور وتشكلها في أطوار أخرى).
وفي التصوير تزيغ الألوان والنقوش البصر قبل أن ينفذ إلى سر الجمال المودع في رسم المزرعة أو المنظر الطبيعي. وكذلك في النحت والمعمار فالمادة في الأول كأن يكون التمثال من مرمر أو حجر مجب مثلا، والمادة والحجم في الثاني تحدثان في نفس الرائي سرورا لايمكن إلا أن نعده سرورا مستقلاً عن ذات الفن في ذلك التمثال وتلك البنية.
فرح الفن تبدو في النموذج والطريقة. إذ أنه في هذين لا في التمثال أو الهيكل من حيث هما تظهر قدرة الصانع. فالرونق الذي يزيد به تمثال المرمر على نموذج الطين، والفخامة والعظم والجلال التي يمتاز بها الصرح الممرد أو الهرم المشيد على رسميهما في القرطاس. ذلك من عمل الطبيعة وليس من عمل الصناعة.
(2) الشجاعة
المعرفة ترياق الخوف. ويدخل في هذه المعرفة التجربة والتعقل. فالخطر على الطفل من الصندوق أو الموقد أو حوض الاستحمام أو السنور قد لا يقل عن الخطر على الجندي من المدافع والكرات والخنادق والمتاريس وكلاهما يتغلب على خوفه حالما يعرف وجهة الخطر ويلم بوسائل الدفاع والدرء عن نفسه. وكلاهما قد يستسلم لذعر أو قلق ليسا في الواقع إلا نتيجة تصورات وخيالات ولدها في المخيلة الجهل بحقيقة الخطر المحدق بكليهما فالمعرفة تؤيد القلب فلا يجفل من اقتحام المخاطر، وهي التي تنزع الخوف من الصدور. ومثلها التجربة وما معناها إلا المعرفة من طريق الاختبار.
إنما يقهر من يأنس من نفسه القدرة على القهر. وإن الذي لا يحجم عن الأمر إنما هو الذي أقدم عليه مرة قبل ذلك. والسائس المروض للجواد الجامح هو الذي يستطيع أن يمتطيه آمنا. وليس إلا الجندي المدرب يرى شظية القذيفة فيتزحزح عن طريقها ساكناً. والعادة تخلق جندياً باسلاً ممن لا يجعله الشعور بالواجب جندياً وإن كان ذلك الشعور فيه مكينا: ذلك لأن كثرة ممارسته للخطر مكنته من تقدير الخطر. فقد رأى رأى العين إلى أي حد(4/25)
يبلغ فلم يدع للخيال موضعاً للتخمين والتقدير.
النواتي لا تساوره المخاوف إلا ريثما يحسن أن يقبض على الشراع ويقوي على تسخير الريح أو تصريف البخار. والجندي لا يجد الفزع إلى قبله سبيلاً ما دام يحمل على كتفه رامية متينة ويحكم التصويب والتسديد. وذلك النواتي الخبير يعد لكل خطر مفاجئ عملاً يتقيه به. فالتقلبات والطوارئ التي تخلع قلوب السفر هلعاً لا يقابلها الرجل إلا بإصدار الأوامر المتوالية والإشارات المتتالية. والأعاصير والتيارات والجنادل لا معنى لها عنده إلا أنها داعية العمل الكثير. لا أكثر ولا أقل. والصياد لا ترعبه الدببة والضواري التي يثيرها ولا الراعي يخاف ثوره كلا ولا مربي الكلاب كلبه العادي ولا العربى السموم.
. . . . . . . الشجاعة هي وزن الخطر وما يعادله من القوة كذلك هي في كل غرض ومعرض. سواء في شؤون الحياة أو العلم أو التجارة أو المجلس أو العمل. ومدارها في كل هذه المواضع على اقتناع النفس بأنها لا تقف أمام قوة أكبر منها. ويجب على القائد أن يقرر للجنود أنهم رجال وأن أعداءهم ليسوا إلا رجالاً.
فالمعرفة هي العلاج كله. فإن الوهم هو الخطر الحقيقي وهو منشأ الجبن والذعر وما أسهل ما تذعن العين. فإن الطبول والإعلام والخوذ اللامعة ولحى الجند وشواربهم كثيراً ما تتملك قلب المرء قبل أن تصل سيوفهم وحرابهم إلى جسده.
ولا ينبغي أن ننسى اختلاف البنى والأمزجة فإن لها أثراً كبيراً في استعداد المرء لمقاومة الطوارئ. وقد لاحظوا أن أضيق الناس خيالاً أقلهم خوفاً، تراهم يلبث أحدهم جامداً حتى يشعر بالألم. أما أصحاب الأمزجة الدقيقة الحساسة فهم يتوقعونه ويتألمون من خوف الألم أكثر من الألم نفسه.
ولا شك أن الوعيد يكون أحياناً أرهب للنفس من العقاب. وقد يمكن أن يحس المشاهد ألماً أشد مما يحسه المصاب. فما الآلام البدنية إلا وهم سطحي مقره في الجلد والأطراف والغرض منها أن تنبهنا إلى أخذ الحيطة لأنفسنا في حين اقتراب الخطر. وهي لا تتعمق في الإنسان إلى أعضائه الحيوية وأجهزته الرئيسية فقد لا تحس هذه ألماً حتى في حال الموت، وقد لا تتأثر حواس المرء بالجرح البالغ والصدمة القاتلة تأثرها بالخدوش واللكز الخفيف.(4/26)
قلنا أن الألم وهم سطحي، والخوف إنما هو من الألم فليس الخوف إلا وهم سطحي مثله. وإنه ليخيل لي أن الشهيد الذي كان يحترق بالنار ما كان يحس من لذعها ما يحسه واقف ينظر إليه عن بعد. فإن عذاب ذلك الشهيد ليس إلا هواجس تقوم بأذهاننا وإن أول ما يمس بشرته هو آخر ما يحسه. أما الآلام الأخيرة فأنها تضيع في غيبوبة الذهول والإغماء.
(3) حافظ الشيرازي
كان حافظ أمير شعراء فارس. ولقد خص بمواهب خارقة، فكانت له قريحة كقرائح بندار وأنا كريون وهوراس وبيرنس وزاد عليهم نظرته الصوفية إلى أعماق الطبيعة وأحشاء الكون: نظرة تتغلغل إلى أبعد مما يصل إليه نظر واحد من هؤلاء الشعراء.
. . . . . ولقد كان يتغنى بالصهباء، ويبسم للورود الحمراء، ويتغزل بالفتيان، وينسب بالعذارى الحسان، ويطرب لأهازيج العصافير، ويبتهج بالصباح المشرق المنير، ويهتز لشجى الألحان، وتوقيع القيان، ولكنه كان يخفى وراء ذلك ولها متأصلاً بكل صورة من صور الجمال وتهافتاً على الطرب والأنس يمزجه بازدراء قداسه المرائين وحكمة قصار الأنظار من الغافلين.
ذلك ما كان يدور عليه أكثر شعره. فإذا هممت باتهامه في أخلاقه وشيمه ألقى إليك بيتاً من الشعر يلوح لك منه كيف أن الشهوة كانت أصغر مشتهيات الرجل، وقذف العالم بأكبر ما سمع من احتقار مظاهره وحظوظه. ومن تلك الأبيات ما يهبط إلى الناس من أعلا ذروة الفكر الإنساني كقوله:
آتنى بالكأس أحيي الر ... وح من أعذب راح
ما يرى في عالم الأر ... واح مخمور وصاح
أو ملوك وعبيد ... بين أبناء القداح
. . . . . قيل أنه أبصر غلاماً مليحاً في أسواق شيراز فقال فيه:
وهبتك قلبي يا ابن شيراز مدنفا ... وقلب الفتى أغلى وأكبر ما أهدى
ولو كنت ذا ملك وهبت لخاله ... بخارى متاعاً سائغاً وسمرقنداً
فتناشد الناس البيتين واتصل خبرهما بتيمور في قصره فأمر به فأحضر. فلما مثل بين يديه، قال له: أيها الرجل كيف اجترأت أن تنزل هكذا من شأن مدينتي اللتين ما رفعتهما(4/27)
إلا بعد أن دككت المعاقل والحصون ولا عمرتهما إلا بعد أن دمرت المدن والبلاد؟
قال عفواً يا مولاي! إنني لولا كل هذا السرف والبذل في لم أكن من العوز والفاقة بالحال التي ترى!!
عباس محمود العقاد
كيف يكتب الكاتب
من فصل لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
واختر من المعاني ما لم يكن مستوراً باللفظ المنعقد مفرقاً في الإكثار والتكلف فما أكثر من لا يحفل باستهلاك المعني مع براعة اللفظ وغموضه على السامع بعد أن يتبين له القول - وما زال المعنى محجوباً لم تكشف عنه العبارة فالمعنى بعد مقيم على استخفائه وصارت العبارة لغلوا وظرفاً خالياً - وشر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيء المعني عشقاً لذلك اللفظ وشغفاً بذلك الاسم حتي صار يجر إليه المعنى جراً ويلزقه به إلزاقاً حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعني اسماً غيره ومنعه الإفصاح عنه إلا به والآفة الكبرى أن يكون ردئ الطبع بطيء اللفظ كليل الحد شيديد العجب ويكون مع ذلك حريصاً على أن يعد في البلغاء وتصفح دواوين الحكماء ليستفيد المعاني فهو على سبيل صواب ومن نظر فيها ليستفيد الألفاظ فهو على سبيل خطأ - والخسران ها هنا في وزن الربح هناك لأن من كانت غايته انتزاع الألفاظ حمله الحرص عليها والاستهتار بها إلى أن يستعملها قبل وقتها ويضعها في غير مكانها ولذلك قال بعض الشعراء لصاحبه أنا أشعر منك. قال صاحبه ولم ذاك. قال لأني أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه وإنما هي رياضة وسياحة والرفيق مصلح والآخر مفسد ولا بد مع هذين من طبيعة مناسبة - وسماع الألفاظ ضار ونافع فالوجه النافع أن تدور في مسامعه وتغيب في قلبه وتخيم في صدره فإذا طال مكثها تناكحت ثم تلاقحت وكانت نتيجتها أكرم نتيجة وثمرتها أطيب ثمرة لأنها حيئذ تخرج غير مسترقة ولا مختلسة ولا مغتصبة ولا دالة على فقر إذ لم يكن القصد إلى شيء بعينه والاعتماد عليه دون غيره - وبين الشيء إذا عشش في الصدر ثم باض ثم فرخ ثم نهض وبين أن يكون الخاطر محتالاً واللفظ اعتسافاً واغتصاباً فرق بين. ومتى اتكل صاحب البلاغة على الهوينا والوكال وعلى السرقة والاحتيال لم ينل طائلاً وشق عليه النزوع(4/28)
واستولى عليه الهوان واستهلكه سوء العادة. والوجه الضار أن يحفظ ألفاظاً بأعيانها من كتاب بعينه أو من لفظ رجل ثم يريدان يعد لتلك الألفاظ قسمها من المعاني فهذا ألا يكون إلا بخيلاً فقيراً وحائفاً سروقاً ولا يكون إلا مستكرهاً لألفاظه متكلفاً لمعانيه مضطرب التأليف منقطع النظام فإذا مر كلامه بنقاد الألفاظ وجهابذة المعاني استخفوا عقله وبهرجوا علمه ثم اعلم ان الاستكراه في كل شيء سمج وحيثما وقع فهو مذموم وهو في الظرف أسمج وفي البلاغة أقبح وما أحسن حاله ما دامت الألفاظ مسموعة من فمه مسرود في نفسه ولم تكن مخلدة في كتبه وخير الكتب ما إذا أعدت النظر فيه زادك في حسنه وأوقفك على حده.(4/29)
الروايات والقصص
صريع الكاس
للكاتب الروائي الأشهر تشارلزد كنز
عربها إبراهيم عبد القادر المازني الأستاذ بالمدرسة الخديوية
ليس بين من يسيرون في شوارع لدره المزدحمه من لا يذكر أنه راى في بعض مغاديه أناساً تقتحمهم العين وتنبو عن منظرهم الأحداق لسوء متوسمهم وقبح هيئتهم كانوا فيما خلا من الأيام يرفلون في برود النعيم ويخطرون في مطارف السعادة ثم ما زال بهم الدهر يتخونهم ويسقط من جاههم ويخفض من حالهم حتى ألقاهم في مراغة الفقير وحمأة الهوان فلو رأيت أحدهم للعج فؤادك ما صار إليه من رقة الحال وخساسة المنزلة ومن ذا الذي تقلب بين الناس وحاضر طبقاتهم وتخلل دهماءهم فلم يعرف في بائس من هؤلاء إذ يمر به في سمل رث وقد شفه المرض وأضوته الفاقة ذلك التاجر السرى أو الوجيه الأغر ومن من الفراء لا يعرف من بين معارفه واحداً أوضعه الدهر وضعضعته الأيام فلصق بالتراب من الفقر ولصقت بطنه بظهره من الجوع وباعده من كان يمنحه الود والدهر مقبل ونفر منه الناس جميعاً.
ألا أن ذلك كثير الوقوع وعندي أن علة ذلك الولع بالشراب - تلك الشهوة الشديدة التي تحمل المرء على حتفه وتسوقه إلى حمامه وتختم على قلبه وتضرب على سمعه فيطرح زوجه وبنيه وصاحبه وعشيره وسعادته ومنزلته ويندفع في طريق الخراب والذل والموت. ومن هؤلاء من بلغت المحنة مجهوده وملكت عليه مذاهبه فتدلى إلى الاثموواقعه حتى صار إلى مثل ما وصفنا من ضعة الشأن وحقارة القدر فقد تحول ضروف الليالي بين المرء وما يؤمل أو ينزل الحمام بمن تيمه وذهب بفؤاده فتتقطع نفسه حسرات وتتصدع زفرات ويخونه الصبر ويسلمه الجلد فيختلط عقله. ويجن جنونه. ولكن جل هؤلاء قد عاقروا الخمر مختارين وطرحوا نفوسهم مفتوحي العيون في تلك الهوة التي لا ينجو منها أحد ولا يزال المرء فيها يهوى حتى تعز النجاة ويستحيل الخلاص.
ولقد وقف مرة واحد من هذا الصنف بإزاء زوجته وقد أظلها الحمام وبلغت روحها التراقي وكان حولها بنوها يبكون وقد اختلطت دعواتهم بزفراتهم وصلاتهم بعويلهم وكانت الغرفة(4/30)
حقيرة الأثاث وحسب الناظر أن يرى ذلك الوجه الشاحب وصاحبته في سياق الموت تجود بأنفاسها ليعلم أن الأسى والفاقة والهموم قد اعتلجت في ذلك الصدر سنين طوالا. وكان يسند رأسها أمرأة ذاوية العود خاوية العمود قد لجت في الاستعبار واسترسلت في البكاء وعلى ذراع الزوجة طفلة هي ابنتها. غير أن ذلك الوجه الشاحب لم يرفع إليها فقد كانت يدها الباردة المنتفضة ممسكة ذراع زوجها وعيناها ترنوان إليه في سكون وهو ينتفض من لحظهما: وكانت ثيابه رثة خلقة. ووجهه ملتهباً وعيناه كالفبس غير أن فيهما فترة الشراب وثقلة الخمار فقد كان في بعض الحانات بين الكؤوس والأقداح يرتشف الراح ويرتضع نثر الكأس فاستدعوه إلى سرير الموت.
وكان إلى جانب السرير مصباح ينبعث من بعض جوانبه نور ضئيل.
وقد شمل سكون الليل كل شيء خارج البيت وبات سكون الموت ملء الغرفة إلا ساعة على رف واهنة الدقات ولكنها دقات تهتك حجاب القلب ما سمعها أحد ممن التفوا حول السرير إلا أخذته رعدة وأحس أنها بعد ساعة ستدق للموت.
فظيع منظر الموت وارتقابه وإن نعلم أن الرجاء سحاب خلب وإن البرء لا مطمع فيه ولا مغمز - وإن نقضي الليالي الطوال تعد الساعات البطاء ولكن أفظع من هذا وذاك أن يبوح المريض وقد رنقت عليه المنية بما طوى من دفائن صدره وستر من مخبآت نفسه فلا ينفعه اكتتامه وحرصه إذا برجت به الحمى وأخذه هذيانها فقد قص الناس وهم في نزاع الروح أغرب القصص - جرائم وأوزار اجترحوها في حياتهم وغيبوها في صدورهم ففضت ختمها الحمى - حتى لقد ارتاع من قام عليهم ففروا لئلا تستلب عقولهم مما رأوا وسمعوا وكم من بائس قضى نحبه وهو يهذي بما ركب من الأثام ويحدث جدران الدار بجرائم جبن أقوى الناس جائشاً واثبتهم جناناً عن سماعها.
ولكن لم يسمع أحد شيئاً من ذلك في الغرفة التي تقدم ذكرها فقد كانت المرأة المسكينة ساكنة وحولها بنوها ركعاً يبكون ولما وهي ذراعها ورفعت طرفها إلى بنيها وزوجها وهي تجاول النطق عبثاً ثم سقطت رأسها على الوسادة كان يخيل للناظر انها اضطجعت لتنام. فأشرفوا عليها ونادوها برفق بادئ الأمر ثم صوت اليائس وصرخة القانط فلم يجبهم أحد. فاستمعوا إلى نفسها فلم يجدوا له حساً فأقبلوا بسمعهم على قلبها فلم يسمعوا له ركزا لقد(4/31)
زهقت نفسها وطاحت روحها. وارتمى الزوج على كرسي بجانب السرير واشتبكت يداه على جبينه الملتهب وجعل يصفح بنيه وكلما التقت عينه بعين عبرى نكس بصره وأغضاه ولم يعزه أحد في مصيبته ولا رق له بل نفروا منه جميعاً واجتنبوه ولم خرج يترنح من الغرفة لم يحاول أحد أن يتبعه ليواسيه.
لقد مرت به أيام لو نزل به فيها مثل هذا الخطب لتسابق إخوانه إلى ساحته ليشاطروه أحرانه ويضربوا له الأسى وأين هم الآن؟ لقد جفاه الإخوان والأقارب والناس جميعاً واجتووا عشرة السكير وعافوا صحبته ولم يحفظ له العهد في الرخاء والجهد والشدة والخفض والاعتلال والفقر غير زوجته وكيف كان جزاؤها؟ لقد جاء يتمايل من الخمارة ليشهد موتها.
وخرج من البيت وانصلت يعدو في الشارع وقد ننازعه الندم والخوف والخجل وغلب عليه الشراب وذهب بعقله ما رأى في ليلته فعاد إلى الخمارة التي تركها منذ قليل. وطيف عليه بالكاس بعد الكاس فدبت الخمر في عظامه وعملت فيه الصهباء الموت. شريعة كل الناس واردها. وما كانت إلا فرجاً مثل كافة الناس. ولقد انقضت أيامها فأي غرابة في ذلك أو بأس. لقد كانت أبر مني وأمثل ولقد قال لي ذلك أهلها مراراً لعنهم الله. ألم يقطعوها ويجذموا حبلها ويتركوها تنطع مراحل الوقت بالبكاء. لقد ماتت ولعلها اليوم أسعد حالاً ولعلني. فاسقنيها بحتا صراحا ما أعذب طعم الحياة وأحلى مذاقها.
ودرجت الأيام وتصرمت الليالي وشب من بنيه أربعة أخطاتهم المنايا فجاوزوا حد الصغر وأبوهم على ما يعهد القارئ من الفقر المدقع وضعة الشأن ودناءة المنزلة والإدمان وكان قد فر من أولاده الغلمان فتشردوا في الشوارع وبقيت البنت تكدح له وتصل نهارها بالليل وصباحها بالمساء ابتغاء الرزق وكلما كسبت شيئاً سلبها إياه تارة بالقول اللين وأخرى بقرع العصا وصرفه في الخمارة ولبث على هذه الحال ردحا من الزمن وفي ليلة ليلاء من ليالي الشتاء بمم داره في الساعة العاشرة - وذلك خلاف عادته ولكن الفتاة كانت مريضة فلم يجد ما يصرفه في الخمارة - أقول في الساعة العاشرة من هذه الليلة يمم داره فسار وهو يحدث نفسه ويقول أنه ينبغي أن يسألها مم تشكو (وهو مالم يتكلفه حتى اليوم) أو أن يستوصف لعاتها لتقوى على السعي والكسب:(4/32)
وكانت الليلة قرة ذات رياح وأمطار فاستمنح أحد المارة بضع بنسات وابتاع رغيفاً (لأن من أصالة الرأي أن يطعم الفتاة حتى لا تهمد من الجوع) ثم أغذ السير إلى البيت. فألفى بابه أو ما بقي منه مفتوحاً إلى آخره. ليتسنى لكل ساكن أن يلج البيت من غير أن يكلفه ذلك عناء. وصعد مدرجاً قديماً متهدماً وهو يوشك من فرط الظلمة أن يمشي على راحتيه ورجليه وينال الأرض بوجهه. فلما صارت غرفته منه قاب قوسين أو أدنى فتح الباب وظهرت فيه فتاة ذات وجه ظمآن وجثمان تخونه السقم ودكه المرض وأذوت نضرته الفاقة. وفي إحدى يديها شمعة أظلتها بالأخرى. ونظرت بمجامع عينها إلى القادم ثم قالت أهذا أنت يا أبي؟ فتعبس وقال ومن غيري كنت تتوقعين، وما بالك ترعشين، إني لم أنقع إلى الساعة غلتي ولقد طال تلوحى ولا سبيل إلى الري إلا بالمال ولا مال إلا بالعمل فما خطب الفتاة. فقالت الفتاة إني عليلة وصبة وتحدرت عبرتها وتساتلت على وجنتها عقود دمعها.
فزقر الرجل زفرة من لا يجد مناصاً من الاعتراف بأمر لا يندى على كبده يود لو استطاع أن يتلهى عنه ويسهو. وقال يجب أن تصحى وتثوبي إذ لا بد لي من المال ولذلك يجب أن تستوصفي طبيب الكنيسة ليحسم عنك داءك قبل أن يستغز بك ويعطيك بعض الاشفية لعنهم الله فلا بد من دفع ثمنها، مالك تقفين في وجهي. دعيني أدخل
فأوصدت الباب وراءها وهمست إليه أبي لقد عاد وليام
فقال وقد نالته فزعة شديدة من؟
قالت صه - ويليام. أخي ويليام
فقال الرجل وهو يحاول أن يسكن جأشه وماذا يبغي مني أخوك وليام. ألمال، أم اللحم، أم الشراب لقد ضل فليس هنا قراه. اعطني الشمعة - اعطنيها ياغبية - فلا بأس على أخيك ولا مكروه واختطف الشمعة من يدها ودخل الغرفة. فانس فيها شاباً في الثانية والعشرين من عمره رث الكسوة باذ الهيئة جالساً على صندوق قديم ورأسه مسندة إلى يده وعيناه ترنوان إلى نار قد خبا سعارها وفتر ضرامها. فلما أحس أباه حملق إليه وقال لأخته أو صدى الباب يا ماري أو صدى الباب أراك يا أبي تنظر إلى كانك لا تعرفني إن عهدك بطردي بعيد لا ريب وأنت معذور إذا نسيتني.(4/33)
فجلس الأب على دكة وقال وماذا تبغي مني الآن قل ماذا تبغي.
أريد أن تبوأني كنفك وتأويني إلى ظلك فقد حدثت على حادثة وحسبك هذا فإذا ظفر بي الشرط فأنا ميت لا محالة وهم لا ريب ظافرون بي إن لم تحلني دارك وقد حدثتك بأمري فأشر كيف تأمر، فقال الأب أتعني أنك سرقت أو قتلت،
نعم. أعني ذلك. وهل فيه ما يعجبك يا أبي ثم أتأر إليه بصره ولكنه ما عتم أن غضه ونظر إلى الأرض. وقال الأب بعد سكتة طويلة وأين أخوتك هم حيث لا ينالك منهم أذى. أما جون فقد ذهب إلى أمريكا وأما هنري فقد - مات:
فارتعدت فرائص الأب على الرغم منه وقال مات،.
نعم مات - وفاضت نفسه بين ذراعي - رماه حارس الصيد فتساقط إليّ وسال دمه على يدي - لقد كان الدم يجري كالماء - وكان ضعيفاً فغشى عليه ولكنه ما لبث أن ركع على الأرض واستغفر الله ثم قال لقد كنت قرة عين أمي ومحل أنسها يا ويليام وأنه ليثلج نفسي ويطيب قلبي أني لم أبكها يوماً إني ليلة ماتت - وإن كنت إذ ذاك حديث السن - ركعت عند قدميها وجوانحي تكاد تنقض وحمدت الله على ذلك.
أي ويليام كيف تودي ويبقى أبي، هذه كانت كلماته وهو في نزاع الروح فتبين منها ما تشاء. لقد لطمت وجهه في خمارك يوم تشردنا وهذا ما صار إليه أمرنا جميعاً فانتحبت الفتاة وأطرق الأب وجعل يميل يمنة ويسرة ورأسه بين ركبتيه وعاد ويليام إلى الكلام فقال:
هذا وإذا قبض على الشرط ذهبوا بي إلى الريف وأباؤوني بذلك الحارس وذلك من فوق امكانهم إلا أ، تمدهم بعلمك وتكون وهم يداً واحدة علي وكأني بك تفعل ذلك فإذا كذب ظني وأخلق به أن يكون كاذباً فإني أقيم حيث أنا حتى تلين لي أعطاف الأمور ويستيسر لي الفرار.
وقبع الثلاثة في كسر غرفتهم يومين كاملين وأقاموا بها لا يبرحونها وفي مساء اليوم الثالث اشتد على الفتاة المرض وفدحها ونفد طعامهم فكان لا مندوحة لأحدهم من الخروج ولما كانت الفتاة لأقبل لها بذلك خرج الأب وعلى الأرض غيابات الطفل.
فاستجدى المارة واشترى ببعض مالديه بعض الأشافي للفتاة وجاءته في أوبته بنسات ست(4/34)
فصار معه من المال ما يكفيهم جميعاً يومين أو ثلاثة ومرفى طريقه على الخمارة فراودته نفسه فتلكا ثم مضى ولم يلو عليها ثم سولت له نفسه الدخول فتباطأ ونزل على حكم الشيطان فدخل وكان على كثب منه رجلان يتبعانه رسل النظر وقد كادا يضمران اليأس من مطلبهما فاسترعاهما تريثه وتردده فتتبعا آثاره وتعقبا خطواته ودخلا وراءه وناوله أحدهما كأساً دهاقاً وقال عاطنيها يا سيدي وما كاد يشتف ما في الكأس حتى أترعها له الأخر وقال وأنا أيضاً وليشرب بعضنا نخب بعض.
وذكر الرجل بنيه الجائعين وموقف ولده المسكين ولكنه لم يكترث لذلك ولم يحفله فالح على الشرب حتى خرج الرشد من كفيه.
ورآه أحد الرجلين بهم بالخروج بعد أن أضاع نصف ما معه ولعل حياة ابنته رهينة به فهمس في أذنه ما أبرد ليلتنا وانداها ياواردن.
فقال الآخر هي كما يشتهي إخواننا المختفون ياواردن فاجتذ به الأول وانتبذ به جانباً وقال له إجلس. أنا نطلب ابنك لنبلغه أن الفرصة سانحة والزمان مؤات ولكن قعد بنا عن ذلك جهلنا مقره وليس في هذا غرابة. فإن أقرب الظن أنه جاء إلى لندره وهو لا يعلم من هذا شيئاً أليس كذلك.
فقال الأب صدقت
فتسارق الرجلان النظر وعاد الأول إلى الحديث فقال إن في الميناء سفينة ستقلع إذا انتصف الليل وقد هيأنا له أسباب السفر فيها فسيسافر متنكرا هذا إلى أن ثمن التذكرة قد دفع نالله لقد أمكنتنا الفرصة من قيادها:
فقال الثاني صدقت وبررت
فقال الأول ونظر إلى صاحبه عن عرض إن جدنا عظيم
فمال الآخر ونقد إليه بنظره عظيم جدا
ونادى الأول هات كأساً أخرى - عجل ولم تمض بعد ذلك دقائق معدودات حتى أمكنهما من ولده من حيث لا يدري.
وكان الولد وأخته في أثناء ذلك ينتظران في مكمنهما وهما لا يتقاران من الضجر فأرهفا أذنيهما لأستراق السمع وتوجس الأصوات فمر بسمعهما وقع قدم ثقيلة الوطأة وما هي إلا(4/35)
برهة حتى دخل عليهما أبوهما يترنح من السكر وقد عبقت به أنفاس لحمياً وصرعته الخمر.
وجسته الفتاة بعينها فأدركت أنه سكران طافح فدنت منه والشمعة في يمينها. غيرانها وقفت بغتة وصرخت ثم هوت إلى الأرض فاقدة الإحساس فقد رأت خيال رجل على الأرض. ودخل اثنان (يعرفهما القارئ) وما هي إلا وثبة ثم صار الفتى أسيراً يرسف في الأغلال.
وقال أحدهما للأخر لقد أدركنا طلبتنا عفواً صفواً وقيدنا أسيرنا في سراح ورواح فشكرا للشيخ أبيه. أنهض الفتاة ياتم. وأنت يا سيدتي تعزى وكفكفي الدمع فإن البكاء لا يرد هالكاً قضى الأمر ولا حيلة لك فيما لا تستطيعين دفعه.
فانثنى الفتى على أخته برهة يقبلها ويودعها ثم انثنى على أبيه يلعنه وكان قد تطرح إلى الحائط وجعل يرمقهم جميعاً بعين من غبى عنه معنى ما يرى فقال الفتى لأبيه راعني سمعك ياأبي إن دمي ودم أخي في عنقك. ضيعتنا صغاراً فستسأل عنا كباراً ما أعرفك حنون علينا يوماً أو عطفت. أو عنيت بنا أو حفلت. وما أظنك ترجو أن أغتفر جريمتك وأهب لك فعلتك وقد علمت أن ذنبك لا تسعه مغفرة ولا تتغمده رحمة. فأنا لا أغفر لك ولا أعفو عنك حياً وميتاً. مت كيف شئت ومتى شئت فإني معك. إني أكلمك وأنا في عداد الموتى فاعلم أن الله لا يتجاوز عن جرمك وسيجتمع بنوك جميعاً يوم تقف أمام خالقك ويطلبون منه بلسان واحد أن ينتصف لهم منك ويجزيك بإساءتك ولتعلمن نبأه بعد حين
ورفع يده مثقلة بالحديد بتوعده ورشقه بنظرة قام لها قلبه وقعد ثم خرج يمشي على هينته ولم يره بعدها أحد.
ولما تمزق ستر الليل وتنفس الصبح في تلك الحجرة الحقيرة انتبه واردن فلم يجد معه أحداً فهب ونفض الغرفة فوجد الفراش القديم لم يمسسه أحد وألغى كل شيء كما رآه أخر مرة وإذا كل الدلائل تبنى أن المكان لم يبت به أحد سواه. فسأل جيرانه وسائر السكان فاجتمعت كلمتهم جميعاً على أنهم لم يروا الفتاة ولا سمعوا لها حساً فخرج إلى الشوارع وجعل يقلب طرفه في كل أنثى بائسة ثم رجع أدراجه وقد أنبت حبل رجائه وتقلص ظل أمانيه ولما زحف الليل آوى إلى غرفته محلول العرى مهدود القوى يئن من التعب ويتوجع من الكلال.(4/36)
ولبث على هذه الحال أيا ماغير أنه لم يجد للفتاة أثراً ولم يسمع عنها خبراً فأضمر اليأس منها ولم يدهشه ما فعلت فقد كان ينتظر منها أن تهجره لتسعى على نفسها وها هي قد تركته ليموت وحده جوعاً فنزت في رأسه سورة الغضب وعض على ناجذيه ولعنها.
وجعل يستجدي المارة. ويستمطر غيث معروفهم ويلفق لهم أحاديث هو ناسج بردها وكلما منّ عليه أحد بدرهم أضاعه فيما يعرف القارئ. ومضى على ذلك حول كامل لم يظله فيه إلا السجون وكان إذا خرج منها ينام على الأعتاب وفي مصانع الآجر وحيثما وجد معاذا من البرد ومعصما من الامطار ولكنه ما زال سكيراً على الرغم من فقره ومرضه وحاجته.
وفي ليلة قارسة صردة تساقط على بعض الأعتاب خائراً فاتر القوى وقد نهكته الخمر وهده الإدمان فأصبح بادي الفصب غائر العينين كليل البصر لا تتبعه رجلاه قد حطمته الأيام وأرعشه البؤس والفسوق.
فكرت أمام عينه صفحات حياته وخلص إلى نور الذكرى ما كان قد غاب في ظلمات النسيان. فتمثل له بيته القديم - إيه ما كان أهناه - ونفض غبار الموت عمن عمروه فالتفوا حوله واحتشدوا أمامه. وخيل له أن الأرض قد انشقت عن أكبر بنيه فبرزوا له ملفوفين في الأكفان. حتى لكاد من فرط الوضوح والجلاء يلمسهم بيده ويفضي إليهم بحواسه ورشقته نظرات نسى وقعها من قديم ووردت على سمعه أصوات أسكتها الموت ولكن ذلك لم يدم إلا برهة ثم استسرت الوجوه وخفيت المنازل وهمدت الأصوات وصرح الحق عن محضه فانحلت عقود الغمام وتناثرت لآلئ المزن.
فادمعها سح وسكب وديمة ... ورش وتوكاف وتنهملان
وعض الجوع بالشر أسيف واصطكت الأسنان من البرد فنهض وجر رجليه بضعة أمتار وهما يئنان من التعب ويتأففان من السعي وكان الشارع ساكناً والليل بائماً إلا عدداً قليلاً كانوا يمرون به مهطعين حال بينهم وبين ندائه هول الليل وتهطال السماء وهبت ريح جربياء قف منه جلده وتقبض فانتبذ مدخل بيت وحاول النوم
ولكن عينه لم تكتحل بغمض كأن الرقاد هجرها وجفاها وكأنما اعتراه مس من خبال وإن لم يغب عنه إدراكه وعقله فرنت في أذنه قرقرة الشراب إذ يضحك الواحد بملء فيه حتى يمسك صدره - وصور له أن ثغر الكأس على ثغره وأن المائدة غاصة بألون الطعام الشهية(4/37)
- لقد كان كل ذلك بمرأى منه ومعان وليس عليه إلا أن يمد يده ليتناول منه ما شاء - غير أنه لم يرتب في أن ذلك خيال كاذب ووهم باطل - وإن كان باطلاً أشبه بحق - وإنه وحده في شارع مهجور ينظر إلى الطل وهو يتساقط على الحصباء وأنه قد أشفى على الموت وأشرف على التلف وأنه ليس له في الحياة من يكترث له أو يعبأ به.
ثم وقف بغتة وهو يرتعد من الذعر فقد سمع صوته في سكوت الليل من غير ما سبب وتبع ذلك أنه وأخرى - لقد مسه الجنون وخرجت من فمه كلمات مقتضبة وحاولت يداه أن تمزق لحمه ثم ثار ثائر جنونه فجعل يصرخ مستنجداً حتى خانه الصوت.
فرفع رأسه وسرح طرفه في الشارع وذكر أن بعض من نفاهم عن الناس الهم والتشريد مثله وقضى عليهم أن يطوفوا في الشوارع ليل نهار قد سلبت عقلهم الوحدة فجنو. وذكر أنه سمع منذ عهد بعيد أن الناس وجدوا بائساً من هؤلاء في ناحية منزوية يشحذ سكيناً صدية ويرهف حدها ليغمدها في قلبه مؤثرا الموت على حياة التشريد. فدبت في مفاصله الحياة وقام في رأسه خطة وانجرد يعدو لا يلوى على شيء حتى بلغ عبر النهر فمشى هوناً ونزل على رود حتى أتى الماء فقبع في ركن وحبس نفسه حتى يمر الحارس فلا والله ماهش سجين للحرية والحياة واهتز لهما اهتزاز هذا البائس للموت. ومر عليه الحارس ورآه المسكين عين عنه وظل في مكمنه حتى غاب الحارس في ظلام الليل ثم خرج من ظلمة الاستتار ووقف تحت حنية عند مرسى النهر.
فجرى الماء عند قدميه. وكانت السحب قد رقأ دمعها وسكنت الرياح وسادت السكينة في البر والبحر وجرى الماء بيطئاً ريثا وخلصت إلى سطحه أشباح غريبة وأشخاص جعلت تومئ إليه وتستدنيه. ورمته من الماء عيون دعجاء الحدق كأنما تسخر من تردده وتهزأ واستحثته من ورائه أصوات جوفاء. فتراجع بضع خطوات ثم اندفع يجري ووثب وثبة الشيطان واحتوى عليه الماء. ولم تمض إلا ثوان خمس حتى طفا على وجهه - ولكن ما أعظم الفرق. وما أكبر ما طرأ عليه من التغير في أفكاره وشعوره الحياة - الحياة - في أي صورة - الفقر أو البؤس أو الجوع - أي صورة إلا الموت فكافح الماء واعتلج الموج فوق رأسه فصرخ مذعوراً ودويت أذنه بلعنة ابنه - ودنا من الشاطئ حتى صار بينهما نحو قدم وحتى كاد يلمس سلمه. ولكن التيار ساقه تحت حنايا الجسر احتمله فهوى إلى(4/38)
القاع.
ثم طفا مرة أخرى وجاهد في سبيل الحياة وتراءت له المباني على جانبي النهر والأضواء على الجسر الذي مر من تحته والماء الأسود عن يمينه وشماله والسحب سابحة في الأفق صريحة واضحة. ثم هوى مرة أخرى وطفا فارتفع من الأرض إلى السماء عمود من لهب زاغ فيه بصره وصوت الرعد بلسان الماء في أذنه فذهب بحسه.
وبعد أسبوع من ذلك لفظ الماء جثته مشوهة منتفخة فلم يعرفه أحد ولم يرث له ديار ثم حملت على الحرج وأودعت اللحد ونفضت من ترابها الأيدي.
الأستاذ
(قصة غرامية)
للكاتب الإنكليزي الكبير وليم ثكارى
تعريب الكاتب العبقري محمد السباعي
الفصل الأول
تحتوي مدينة هاكني فيما تحتويه من الزخارف والتحف. والنفائس والطرف. عدة مدارس للفتيات. ومعاهد للغانيات. فلا تكاد ترى داراً أبيقة بيضاء. في طرقة نضيرة خضراء إلا وعلى بابها لوح ينبئك أنها مدرسة للسيدات وكان مكتوباً على إحدى هذه الدور السطر الآتي:
(بيت بلغاريا)
مدرسة للجنس اللطيف من سن ثلاث إلى عشرين لصاحبتها ومديرتها المسؤولة
السيدة بيدج وشركائها.
(تنبيه ممنوع البصق)
وكانت المدرسة تتولى تعليم تلميذاتها من الفنون والعلوم مالم تزل السيدة الإنكليزية بفضله في طليعة النساء وفوق سائر الأوربيات أدباً وفضلاً. فتلقى الصغيرات مبادىء الغرز على اختلاف أنواعها وضروب الأناشيد والأدعية ولاسيما الأنشودة التي أولها
بين خضر الرياض والجنات ... منزل شيد للتقى والصلاة(4/39)
وتلقن الكبيرات أوزان النغم وأصول التوقيع. والضرب على الأوتار والنفخ في المزمار. والنقر بالدف. وسائر صنوف الشدو والعزف. إلى كثير من المعلومات التاريخية والجغرافية. والطبية والميكانيكية وألسنة الفرنس والألمان. والمجر والطليان والبرتقال والاسبان. خلاف علمى الرقص والألعاب الرياضية وكان يقوم بتعليمهما الأستاذ دوندولو
وكان الأستاذ برغم إيطالية اسمه إنكليزي السحنة واللسان قد أخذ لهجته من صميم بلدة لندن وارتدى شمائل سكان تلك الناحية وحمل في كل عضو وجارحة وفي كل إشارة وعبارة وحركة وسكنة حلية أولئك القوم وسيماهم فكانه أحدهم نشأ وسطهم ودرج بينهم. ولم ير ناساً غيرهم. ولا وطأ إلا أرضهم. أو سكن إلا ديارهم وكان مدير القامة عادي الألواح عريض المنكبين. طويل الشاربين. براق المقلتين.
ولست أدري أني حصل السيد المذكور في مدرسة المسز بيدج أم كيف وجد السبيل إلى ذلك المنصب على أنه أشيع أنها عرفته أول ما عرفته في مرقص ثم تأكدت المودة بينهما حى إذا وقع الحادث الذي أنا ذاكره لك الآن برئت السيدة إلى الله من كل صلة بالإستاذ وعلاقة. ومن كل نسبة إليه وصداقة. وقالت أنه ما كان لمثلها قط أن يأتي بمثله إلى مثل مدرستها وأنها ما كانت لتنزله بين جدران مكانها لولا لجاجة المسز أولدرمان جرامباس. ومن ذلك يتبين للقارئ أن سيرة الأستاذ في عهده الأخير بالمدرسة لم تكن بالحميدة - وأنه لكذلك فعسى تعلم صاحبات أمثال هذه المدارس بعد ذلك أنه قد تخطئ الظنون في الأصدقاء. وتضاع الثقة ولمودة عند غير الأكفاء. وأن بعض الصداقة خيانة وربما تنكر الغدر في زي الأمانة.
أقول وجعل الفتى الغطريف دوندولو يعجب الفتيات بخفته ورشاقة حركته ويروعهم بسرعته ونشاطه وميعته في مجال الرقص وكرته. ويدهشهم بأيده وقوته. وشطاطه وقامته. فمن نتيجة تعليمه أنه استطاع في مدة قصيرة من الزمن أن يمكن الفتاة بنكس وكانت مفرطة السمن قطيع الخطو تبهرها المسافة القصيرة من اتقان أعجل فنون الرقص فكانت تجول الجولة كأنها ظبية الرمل أو أسرع. ولكن أنجب تلميذاته وأملحهن جميعاً كانت الفتاة إديليزا جرامباس قرة عين أبيها ومناط أمل أمها وفخر أبويها وكانت مليحة عذراء قد ارتوت من ماء الشباب وغلا بها عظم وناهزت التاسعة بعد العشر. بعينين زرقاوين يعى(4/40)
بوصفهما كل أزرق من الحبر ون بلغ في الزرقة أقصاها. وفي جمال الصبغة منتهاها. وجبين بسنا الصباح مصقول. وطرف بفنون السحر مكحول. وشعر كذوائب الظلماء مسدول كأنما عناه الذي قال:
وفاحم وارد يقبل ممشا ... هـ إذا اختال مسبلاً غدره
ولكن أين منا نعتها وأنها لغاية تنكل عنها سوابق الأفهام. وتحسر دونها مبالغ الأوهام. وما أراني أزاء وصفها إلا كما قيل:
يسهل القول أنها أحسن الاش ... ياء طراً ويعسر التحديد
وحسب القارئ أن يذكر أول فتاة عشقها ثم يصوغ على شكلها غانيه هذه القصة المسز أديليزا. أقول فلما رآها الشاب دوندولو وكانت فيمن عهد إليه بتعليمهن عشقها شأن كل فتى على شاكلته له صبوة وفيه غزل وخلاعة.
هذا وليعلم القاريء أن أكثر الناس فرصة لبلوغ وطره من الغانيات هو إستاذ الرقص وإن أوضح الناهج وأزلف الوسائل إلى نفوس الحسان هو باب الرقص. ولأستاذ الرقص على متن تلميذته وذراعيهما وكتفيها وكفيها سلطان تام ثم هو جدير بأن يمد ذلك السلطان إلى قلب الفتاة وينهيه إلى نفسها. فكان يقول للمسز اديليز بصوت يذيبه الشغف ويبريه الشجي وهو يعلمها مدى قدميك أصبعا يا مسز اديليز وأنصبى قناتك ثم يأخذ يدها في رفق ولين ويرفعها حتى يحاذي بها شحمة أذنها ثم يمس بأنامل يسراه فقارها ويرنو إليها بعين هائم وله! وذلك لعمر الله منظر يوقظ الهوى ويثير الداء. ولا طاقة لأنثى بمثل هذا الموقف وهذه النظرة قط فلما رنا الفتى إلى العذراء أول نظرة فالثانية لم تعرها إلا رجفة الحياء وحمرة الخجل فلما رنا الثالثة أغضت ونكست وعلا وجهها اصفرار. وصاحت قدحا من الماء! وخيف عليها الإغماء. فأسرع معلم الرقص لقضاء حاجتها حتى إذا عاد بالماء فصبه في فيها همس في أذنها بصوت أرق منه الشوق وقطعته الصبابة عبدك ما عشت وأسيرك ما بقيت يا اديليزا
فاستلقت الفتاة بين ذراعي المسز بنكس وقد رآها العاشق الظافر ترفع طرفها إلى سماء الغرفة وتناجي نفسها دوندولو! دوندولو!
وطالما كانت بعد ذلك تخلو إلي خليلتها وثقتها المسز بنكس فتقول دوندولو! لقد كان هذا(4/41)
الاسم فيما مضى من الزمان علماً على بطل جليل وشهم نبيل. وهو ذلك الاسم الذي ضج به الآلاف المؤلفة من عباد الله منذ خمسمائة عام في مدينة فينيس - زينة البحر وعروس الماء - وكان جيش العدو أزاءها بالمرصاد فلما دوت في آذانهم صيحة الفينسيين دوندولو! وارتجت لها أرجاء الدأماء. ومادت جوانب الغبراء. ورجعت صداها القبة الزرقاء. طارت قلوب الأعداء فزعاً. ونحبت أفئدتهم هلعاً. بينما الفينسيون تارجعت هممهم. وهبت عزائمهم لتلك الصيحة التي تضمحل عندها زماجر الرعد القاصف. وتتضاءل لديها جلاجل المدفع القاذف. واها لهاتيك الأيام يا بنكس! وهنا تميل الفتاة على ذراع خليلتها وتغمزها غمزة امرأة ضاق بالكتمان صدرها ثم تقول أليس عجيباً يا بنكس أن يبقى أحد ذرية هذا البيت المجيد. ذى الحسب العتيد. والسؤدد الوطيد. حتى يومنا هذا وإنه ما بقي إلا لكي يعشقني؟ ولكني أنا أيضاً كما تعلمين من بنات البحر.
وإنما قالت أنها من بنات البحر لأن أباها كان سماكا. وكانت قد أكثرت من قراءة القصص والحكايات وأشرب عقلها ذخرا وافراً من الخياليات حتى استبد الخيال في نفسها بالتمييز والتدبر وتغلب الوهم في ذهنها على النظر والتبصر. وكان أبوها قد أقصاها عن داره فبعث بها إلى هذه المدرسة لما رآها عشقت فتى من غلمان حانوته. عل في أقصائها ذلك ما يشفيها من داء الهوى وهيهات ليس لداء الحب من شاف.
ما للمحب إذا تفاقم داؤه ... غير الحبيب يزوره من راق
لا أستفيق من الغرام ولا أرى ... خلوا من البرجاء والأوصاب
فكان لا يلذها إلا أحاديث الحب ونوادر العشاق ولا تقرأ من القصص إلا الغرامية ولا من القصائد إلا الغزلية ولا تزال تحفظ خصلة من شعر الشاعر الغرامي توماس مور وقطعة من شعره. وكذلك بدا المستر دوندولو لظنها المكذوب ووهمها المخدوع كأنه نجل بيت من أشرف بيوتات فينيس فحسبها لذة وفخرا أن يعشقها وتعشقه.
وكانت المسز اديليز قد أحرزت بفضل زيادة كانت تدفعها في أجر التعليم مزيداً في امتيازات جعلتها أكثر حرية من سائر الطالبات فمن ذلك أنه كان يمكنها الطواف في ضواحي المدرسة مع صاحبتها بنكس وزيارة المكتبة وحدهما والذهاب في بعض حاجات سيدة المدرسة والمسير إلى الكنيسة لا ثالث لهما. وأنه ليسوءني جداً أن أخبر القارئ أن(4/42)
دوندولو كان يتبعهما أو يلاقيهما في كثير من تلك الغدوات والروحات.
وكانت المسز بنكس تتناقل في مشيتها حتى تنقطع عن صاحبتها أديليز وهنالك يلتقي العاشقان وتقابل بنكسر أيضاً صديقاً لمعلم الرقص فيرون مثني كتؤامى الورد والجلنار. وقران القمرى والهزار. يتشاكون الغرام. ويتباثون لواعج الهيام. ويتزودن من سحر النظر وسحر الكلام. ما يكون تعلة الفراق حتى ساعة الانضمام. فليت كل صاحبة مرسة تصادف مقالتي هذه فتعترف من كوامن الأسرار. ما هو جدير بالذكر والاعتبار. وتعلم أنه لا يليق ترك الغانيات. يخرجن منفردات لا راع ولا رقيب. ولا داع ولا مهيب. فيكن كالغنم المهملة لا تؤمن عليهن فتكة الضيغم وعيثة الذئب.
وكانت اديليز تقول لعاشقها في مثل هذه الخلوات عجباً يا دوندولو كيف كنت في الأيام السالفة تجاذب الفتاة زيلا بيدج اهداب الكلام ولا تنازعني لفظة واحدة؟
فيجيبها الفتى قائلا إن لم تخاطبك يوم ذاك شفتاي فطالما خاطبتك عيناي (إلى هذا الحد من سقوط الكلفة وضياع الاحتشام كان قد وصل العاشقان).
فتقول الغانية ولا تحسب أني كنت عنك إذ ذاك ذاهلة الفؤاد مصروفة الطرف. فأينما سرت فعيني كانت على الأثر وإنما كانت تتلوك لعجزها أن تلاحظك وأنت بحياء الفتيات أعلم. وأنه وإن كان قد فات أذنك إذ ذاك دقات لساني فما أظن أنه قد فاتها دقات قلبي!
وهنا يجيها الفتى قائلاً ظنك عين الصواب ولقد كنت أسمع دقات قلبك كما أسمع حديثك الآن وما منعني عن خطابك يوم ذاك إلا خوفي أن أوقظ راقد الظن وأثير كامن التهمة. ثم اذكري أنه لم يجيء بي إلى هذه المدرسة إلا حبيك الذي دفعني إلى مصادقة ربة المدرسة والتزلف إليها ولم يتم لي ذلك حتى تنكرت في زي أستاذ للرقص كما ترين. (وهنا كان يعلو وجهه ابتسامة جهنمية. وتبرق في عينه نظرة شيطانية) ويمضي في كلامه فيقول. نعم لقد أسقطت مرؤتي. وامتهنت شرفي ووصمت سمعتي. وأفسدت حسب قومي ومجد أسرتي. وحملت الخزي ولبست العار بين طرتي هذا الثوب الخبيث والبرد الخسيس وما تجشمت كل ذلك إلا من أجلك وفي سبيل هواك يا اديليزا وهنا يهم السنيور دوندولو أن يركع تحت قدمي الفتاة فلا يمنعه إلا وحل الطريق وبلله.
ولكن لابد لنا من ذكر الحقيقة وهي أن سيدة المدرسة المسز زيلابيدج صادفت ذلك الرجل(4/43)
في مرقص وكان رجلاً عاطلاً من الحرف والصناعات. جواب بلدان وفلوات. فقدم إليها فهويته. وادعى أنه استاذ ألعاب فقبلته ثم نظرته الفتاة اديليز فعشقته. ورأت صاحبة المدرسة أن أديليز قد فطنت إلى ميلها لدوندولو فتغاضت لها عن كثير وأعارتها أذنا سميعة صماء. وعيناً بصيرة عشواء. حتى حصل ما حصل.
ولنعد بعد إلى ما كنا فيه من محاورة العاشقين فنقول وكذلك كانت اديلزا تجيبه بقولها يا لهذا النبأ الغريب. والسر العجيب! ويالقومي ما أخفى شأنك وأعظم أمرك! وياويح نفسي من أنا حتى أعشق مثلك وأي سانح قد جرى لي باليمن وشارق قد طلع بالسعد حتى ساقك القدر من ديارك لتستبي لب اديليزا وتحتبل فؤادها
فيقول ما أصدق ما تقولين يا أديليزا. فما حقيقتي كما تنظرين ولا أستطيع أن أكشف لك الحقيقة وإنما هو نبأ عظيم. وأمر جسيم. وحديث يهول. وقصة شرحها يطول.
ولكني على ذلتي وشقائي. وخمولي وخفائي. تنكر أمري وسوء حالي. وتجدد لوعتي وعفاء آمالي أهواك يا اديليزا. وإنما أهواك بذلك القلب الطاهر الذي كنت أحمله بين أضلعي في سالف زمني إذ أنا نقي صحيفة الحسب طاهر ذيل الذكر ساطع شهاب الصيت تلحظني عيون السعادة وتنام عني أعين الدهر. أهواك بذلك القلب الطاهر وتلك النفس البيضاء. لا بقلبي المشوب الذي يخفق الآن بين يديك فإنه أحط منك درجة وأسفل مقاماً! بلى ياصفوة الفتيات. ونخبة السيدات وزبدة العفاف وخلاصة الكرم وعصارة الفضل أني الآن نهب الخطوب وسلب الملمات. للحزن شطر مني وللضعة شطر. ولكن حسبي من زمني الغشوم أني أحبك وأنك حلم نومي وشغل يقظتي. ومطمح أملي ومجال لذتي. وإني عبس لي الدهر الآن وتجهم فلطالما هش في وجهي وتبسم. والحياة سجال يوم لك ويوم عليك.
فاصفرت وجنة الفتاة واصطكت قدماها. وخارت قواها. وكانت لا محالة تسقط من قامتها لولا أن تداركها داندولو فرفع بضبعيها. وأخذ بيديها ثم تعلقت بعطفيه. ولاذت بحقويه. وقالت. أنا لا أسألك من أنت ولا أبالي أسأت أم أحسنت. ولكني أحبك كيفما كنت.
فقال دوندولو أتقولين أسأت أم أحسنت؟ أأسيئك أنا؟ أيسيء دوندولو منية نفسه أديليزا! إذن لقد خولطت في عقلي وجن جنوني! وهنا جذبها نحوه ونثر القبل على قناعها ونقابها بل على وجهها. وكان في فعله ذلك من شدة الوجد كالذي أصابه خبل ومس. ثم قال لها ولكن(4/44)
خبريني أيتها المليحة الحسناء من أنت؟ اني أخلني لا أعرف منك إلا اسمك على أنه حلو الرنين لذيذ المسموع.
فأطرقت خجلاً وقالت أنا من أسرة وضعة فقال الفتى فكيف إذن بلغت أن تكوني بهذا المدرسة وإني لك بدفع أجرها:
قالت إن أبوي على ضعة النسب في ثروة
قال فمن أبوك
قالت هو واخجلاه سماك فصاح دوندلو بارفع صوته سماك! هذا مالا يكاد يحتمل. ثم سل يده من يد الفتاة وأطرق صامتاً فلم يفه يلفظة حتى عادا إلى جدار المدرسة وكانت المسز بنكس وصاحبها يعجبان من سكوتهما فلما صاروا من المدرسة بمراى قالت أديليزا هذه المدرسة يادوندلو فلا بد أن نفترق! ثم ألقت بنفسها بين ذراعيه من شدة الوجد والوله.
وهنا صدمت مسمعيهما صيحة من المسز بنكس فالتفتا نحوها فإذا هي تعدو نحو المدرسة مسرعة وإذا خليلها ثابت مكانه كالذاهل وإذا صاحبة المدرسة المسز زيلا بيدج واقفة من الفتى والفتاة على كثب.
والتفتت ربة المدرسة إلى دوندولو آسفة غضبي وقالت ويحك يا دندولو! أكذلك تكذبني وتخدعني؟ الاجل ذلك كان إتياني بك إلى هذه المدرسة ترتع من جنابها خصباً مريعاً. وتنزل من كنفها رحباً وسيعاً بعد استنقاذك من وهدة الفقر وانتياشك من مخالب الجوع والباسك القشيب الجديد. وحملك على الفاره الحديد؟ أبعد ذلك كله تخفر ذمتي. وتنكث عهدي؟ وتستبدل في خرفاء ورهاء كهذه الفتاة التي يدعونها اديليزا أحق ما أراه أم باطل وحقيقة أم حلم؟ وهل تصدقني عيناي؟
فزمجر دوندولو صائحاً قلعت عيناك! ثك قذفها بنظرة كأنها شواظ من نار وولى مدبراً وهو يسب ويلعن حتى إذا غاب شخصه عن الأبصار لم تغب عن الأسماع لعناته ودعواته. ووصله في غد تلك الليلة قرار رفته من المدرسة فكان ذلك اليوم آخر أيامه هنالك.
وفي الليلة التالية تحطمت نوافذ المدرسة جميعها بالحجارة.
وبعد ذلك اليوم بثلاثة أيام كانت ترى مركبة تطوى الطريق إلى البلد وفي جوف هذه المركبة تجلس أديليزا قد أرمضت عينها الدموع وأنحل بدنها الهم والسهر.(4/45)
الفصل الثاني
ولكن الأمر لم ينته عند هذا وذلك إن خروج أديابزا من المدرسة أثار منها أسراراً كان كتمانها أوفر لعرض السيدة بيدج وأبقى على سمعة المدرسة حتى إذا فشت وذاعت جرت على ذلك المعهد سبة وعاراً. وفضيحة وشنارا. فهجرتها التلميذات مثنى وثلاث ورباع ومنهن المسز بنكس والمسز يعقوب وغيرهما ممن لم تذكر بهذه القصة أسماؤهن. حتى إذا مضى على هذا الحادث نصف عام أقفرت عرصات المدرسة إلا من تلميذتين. ابنتين لرجل عطار كانتا تدفعان أجر التعليم شمعاً من حانوت أبيهما وبناً وصابوناً وشاياً.
فلو اطلعت على السيدة ومدرستها إذ ذاك لرأيت منظراً محزناً ومشهداً أليماً - رأيت امرأة ناحلة البدن معروقة العظام عارية الأشاجع تجوب مكانا قفراً خربا. وخاوياً تربا لا يجيبها فيها إلا صوت خطاها ورجع صداها. وهي ترثي حالها تارة بالصمت وآونة تقول بلى لقد خبروني عنك يادوندولو إنك مشؤوم الفال ماطلعت على امرأة قط إلا بالنحس ولا عشقت أنثى إلا عشقها معك الشقاء. وإنك مابزغت في روضة الحب على قوام مياس إلا أذبلت فينانه. ولا أطلت ثمت على خد صقيل إلا أشحبت أرجوانه. ويحك يادوندولو لقد تركت داري للعفاء مسكناً وللبلى موطناً وسلبتها حلاها وما حلاها إلا الخرد الغيد. والبيض الرغاديد. ومالي أشكر عفاء منزلي وخواء داري؟ وقلبي على بعدك أعفى جنابا. وأكثر خرابا. وهنا تنهل عبراتها فكأن في كل عين سحابة وطفاء. أو سقاء. وأهي الخروق في كف خرقاء
وما هو إلا أسبوع بعد ذلك حتى عطلت المدرسة ومحي عن بابها العنوان. عثرة لم تنعش منها آخر الأبد. وإنك إن تأت ذلك المكان اليوم قرأت على بابه قاعة موسكو للمستر سويشتال وشركائه والله وحده يعلم أين اختفت السيدة بيدج وفي أي زوايا الأرض أخفت عارها وعبراتها.
ولم تصادف المسز اديليزا عند والدها احتفالاً ولا احتفاء وأني تصادف ذاك من أهملت درسها وأضاعت أدبها وكات تقع للمرة الثانية فريسة في مخالب الفجرة وتخسر دينها للخسرة الكفرة فحق لأبيها أنه منعها الخروج إلا إلى الحدائق لشم النسمات. أو إلى الكنائس لشم الصلوات. وأنه رغماً من يقينها أن الفتى لعهد الوداد خافر. ولذمة الحب خاتر. غير(4/46)
أنها لم تستطع إلا لهفاً عليه. وحنيناً إليه. وادكاراً له. وجنونا به.
أما دوندولو فكان قد اهتدى إلى دار أبيها فجعل يذهب ثمت ويطوف بالبيت يتحين الفرص لاستراق اللمح ويرصد الغفلة لاختلاس النظر وكان يرقب الفتاة في غدواتها إلى الكنيسة فيقفو أثرها. وكم من مرة كنت ترى العاشقين يتلاصقان في الزحام فيشفيان ببرد التلامس حر غليل الفؤاد. ويأسوان بالتضام جراح الأحشاء والأكباد. ويدس الفتى إلى الغادة في شفاعة الزحام رقعة تشرح الهوى. وتصف الجوى. فسرعان ما تختطفها الفتاة فتلفها في منديلها أو تجعلها تميمة لصدرها. كل ذلك بحيلة الهوى! قاتل الله الهوى! فما ألطف حيلته. وأكثر وسيلته. وأنجح وساطته وأكرم شفاعته وما أصح تفكيره. وأبلغ تدبيره فهو الملئ بأن يتخذ من خيط العنكبوت سلما إلى غايته. ومن الشعرة سبباً إلى حاجته!
وكذلك كنت ترى العاشقين وإن باتا من لذة اللقاء محرومين ولكنهما أصبحا بلذة التراسل فائزين وقد تمكنت الغادة برشوة الخادمة من إرسالها للفتى تسعة كتب في الأسبوع كان يرد إليها منه الرد على معظمها.
وإليك بعض تلك الرسائل وهي من الفتاة إلى خليلها.
ماذا طرأ على حبيبي دوندولو من سوء الحال وتغير الهيئة؟ ولماذا أراه في تلك الثياب الرثة. أبه فقر. أم به تنكر؟ وهل ركبه دين فادح. أو ورى كبده حزن فادح. أم ألحت عليه الغرماء. أم طارده طالب بدماء ألا ليت أني على معونته وحوطه قديرة. فإني بذلك مليئة وجديرة اديليزا.
ذيل - لما أعلمه عنك من حبك السمك بعثت إليك بحيتان كالتي تشتهيها مع خادمتي سوسان اديليزا
ملحق - أتحب المحار؟ ستحضر لك الخادمة كمية من منديل من الحرير عليه رباط من شعر حبيبتك ايليزا
ذيل - مع الرسول وعاء من شهد وخابية من نبيذ بوردو. فياليتني في هذه الخابية اديليزا
فيظهر من تلك الرسالة أن دوندولو قد تغير زيه بتغير حاله. وأنه يلبس لكل دهر ملبساً ولك دعوى زيا فلما ادعى أنه من أسرة كريمة طليانية وأنه أستاذ لبس حلي فاخرة. حتى إذا أسلمته جنايته إلى العدم والأتراب وأفضت به جريمته إلى الفضاء والتراب. راح في(4/47)
أسمال وأخلاق. وأطمار وإسحاق. وحذاء يمتاز عن أمثاله بالغبرة والوحل. على أنه كان مع تلك الرثاثة يبدي نخوة وكبرياء. وزهوا وخيلاء. يميل قلنسونة حتى يمس بها حاجبه ولا تزال يده في بمباغه تسويه لتحكمه ويبعث بكفه في جيبه إن كان به دراهم ليسمع الناس رنينها وكذلك يرى القارئ أن دوندولو لم يكن إلا متشرداً قد أصاب من اديليزا طعمة سهلة ولقمة سائغة.
والأستاذ وإن سرته رسالة الفتاة فقد كان بذيولها وملحقاتها أشد سروراً حتى جعل يلتهم ألفاظها بعينه ثم قام فالتهم مدلولات تلك الألفاظ (هدايا الغادة - السمك والمحار والنبيذ والعسل) بفهمه.
وفي غد ذلك اليوم وردت على الفتاة من حبيها رسالة ففضت ختامها بيد راجفة. وحشا واجفة. حتى إذا قرأتها لم تجد بها سروراً عظيماً وإليك الرسالة.
كرمك ياعزيزي يفوت كل وصف ويعي كل واصف. على أنه ما كان إنسان أحوج مني إلى مثل هذا الكرم وأفقر من حبيبك البائس إلى مثل ذلك السخاء ولقد صدقت في فراستك إذ تقولين أبك فقر. أم تنكر. وهل ركبك دين فادح وورى كبدك حزن قادح. وهل ألحت عليك الغرماء. وطاردتك طلاب بدماء. بلى بي كل ذلك وأبرح. وأصابين جميع ما تذكرين وأقرح. وتف قلبي من الهم ما تصفين وأقدح ورماني الدهر بما قد عشت وأوفر. واكتفني من المحن ماسردت وأكثر. نعم لقد حال بعدك الزمن وتغير وساء بعدك العيش وتنكر. وعبس بعدك الدهر وتنمر. وكشف لي الخطب عن ساقه وشمر:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي ياعز لايتغير
أجل لقد تغيرت أحوالي زيا وثياباً. وزادا وشرابا. ولذة وهناء. وغبطة وصفاء. اللهم إلا أمراً واحداً أنا لازم له مالزمت الحرارة النار. باق عليه مابقى الليل والنهار. وذلك حبيك. وغرامي بك!
وبعد فلتسمعي نبأي: أنا سليل بيت طلياني عريق في المجد أصيل في السؤدد يحل من شرف النسب في الغارب والسنام. وتبدو أبناؤه لنصاعة الأحساب غرراً في جباه الأيام وينزل من أكرم البيوتات حيث يلقي صميم الرأس مجتمع الشؤون. من بيت لا أكون مغالياً إن قلت أنه أمجد بيوتات فينيس ولقد أتى علينا حين من الدهر كنا في غبطة وسرور. ولذة(4/48)
وحبور وثروة وفراء ونعمة فيحاء ولكن الظالم الجبار قددهم فينيس فحل رباها. واستحل دماها. واستباح حماها وسلب حلاها. واشتف صبابتها. بعد أن امتص عصارتها فقسم قبائلنا بين القيد والنصل. والنفي والقتل. فكان النفي قرعتي والغربة قسمتي يقاسمني إياها أم ضعيفة وجدة مقعدة وأخوات لباسهن الخوف والذلة. والبؤس والقلة وهنى نحاف. صفر عجاف لا طاعم لهم ولا كاس. ولا معاون ولا مواس. ولقد دافعت عنهم الدهر وحاربت دونهم البؤس والضر. بجيوش الحيل وكتائب الصبر فما دفعت عنهم هجماته. ولا صددت دونهم حملاته. وماذا أقول يا اديليزا أأقول لك أني احتجت الخبز والماء. وافتقرت إلى المئزر والرداء وإلى الفراش والقطاء؟
وبعد فلقد وجدت السمك شهياً. وأكلت العسل هنياً. وشربت النبيذ مريا. ولكن المزيد المزيد من هذه الطيبات فإن ما وصلنا منها لا يشبع النهمة ولا يقطع الغلة على أني أستزيد وبي من الخجل ما يتعثر معه القلم في أذيال بيانه ويحمر منه خد الطرس. وسلام الله عليك ورحمته من محبك الولهان. وصبك اللهفان.
فريدريك دوندولو
نقول لما قرأت اديليزا هذه الرسالة أول مرة نالها سخط وغضب وذلك لما بدا بين سطورها من آيات العدم والإفلاس. ولا غرو أن يمتعض من كان له رقة مزاج الفتاة ويشمئز من تلك الصورة الشنعاء - صورة الفقر المدقع. والجوع الموجع.
ولكن امتعاض الغادة مالبث أن اضمحل فزال وأعقبه رحمة أخذتها على الحبيب البائس ورقة. ورأفة وشفقة. ولاسيما عند ذكرها ذلك العدو الظلوم. والجبار الغشوم. الذي نملك وطن الفتى وأمته. وأذل قومه وأسرته واغتصب حريته واستلب غزته. ورفع على تلك الربى وهاتيك البطاح رأيته فرددت قراءة الرسالة ولاسيما تلك الفقرة وكلما مر طرفها على تلك الكلم الخحزنةذابت مهجتها. وفاضت مقلتها وصاحت لأبلغن في سبيلك مجهودي وإن كان فيه حتفي!
ثم بدا لها في الأمر صعوبة وهي أنها لا تعرف وهي أنها لا تعرف اني تجد ما يعرض بطلبه دوندولو من المال ولكنها مالبثت أن انفتقت لها الحيلة فأصابت شيئاً من الدنانير وما هي إلا بضع ساعات حتى سمعت بحانوت أبيها ضجة عظيمة وسمع أبوها يصيح على(4/49)
غلامه بالويل والحرب. ويدعو عليه بالبرص والجرب ويتهمه بأنه سرق جميع ما بالصندوق من المال وتركه في أحرج موقف وأسواء حال. ثم ساقه إلى دار الخصام. وبيت الأحكام. وهو مما قرف به يعلم الله براء ومما وصم به طاهر الذيل نظيف الإناء حتى إذا حضرا مجلس القضاء أشرقت حجة البرئ. وأخزى الله المسيء. ولكنه طرد من خدمة السماك ظلما. وذلك لأن للفتاة عاشقاً معدما.
وأرسلت اديليزا إلى حبيبها الدنانير طيّ الرسالة الآتية:
عزيزي: أيكفيك ستة دنانير ونصف دينار فإنها وربك أقصى ما بلغته حيلتي وانتهت إليه وسيلتي. وصحيفة عذرى بعد ذلك وضاحة غراء وديباجة حجتي وضاءة بيضاء هذا وقد سنح لي خاطر وهو أن غلامنا قد طرد وأبى لا يشهد الحانوت ليلاً وكذلك يمكنني أن أقضي نصف الليل بالحانوت.
اديليزا
وما وصلت هذه الرسالة دوندولو حتى صحت على مقابلة الفتاة نيته قائلاً سألقاها وأدخل ذلك الحانوت الملعون وقد دخله وإنما دخله ليعجل بالخسران على نفسه.
وفي هذه الليلة قامت اديليزا وأمها على الحانوت تدير شؤونه وجعلت الأم والسكين في يدها تقشر المحار ليقدم للآكلين. ولم تكن السن قد قللت نشاطها. ولا شمخت بها الثورة عن مزاولة مهنة كانت سبب ثروتها وجعلت ايليزا تنساب في أنحاء الحانوت كأنها الأوزة في الماء وهي تحمل أثناء ذلك إلى الآكلين رغفان الخبز وقطع الزبد وزجاجات الخل. وكان معهما صبي صغير فكان يروح ويغدو بين الحانوت وبين خمار أمامه يحمل إلى الآكلين ما شاؤا من خوابي الخمر.
فلما انتصف الليل وكانت اديليزا تنظر من وراء زجاج النافذة إلى نور القمر تقارن بينه وبين نور الغاز الوضاء ينعكس سناه على صدور الحيتان المصقولة فإنها لكذلك غرقة في بحار الخيال تائهة في بيداء التشبيه إذا بانف رجل قد التصقت بزجاج النافذة فتأملته فإذا هو دوندولو.
فطار قلبها فرحاً ومالت على المنضدة وكان يغمى عليها. وكان دوندولو يصفر لحنا فاستمر في صفيره ودخل الحانوت يديه في جيبه يميل زهوراً ويميد عجباً. وتظاهر بأنه لا يعرف(4/50)
اديليزا البتة وسلم على الأم وابنتها سلام خليع متظرف قائلاً
أسعد الله ليلتك سيدتي وانحنى أمام الأم. ما أحر هذه الليلة. حران وجوعان أيها السيدة كما يقول المثل. شد ما استهواني منظر هذه الحيتان ولاسيما إذ كان مقروناً بمنظرك أيتها السيدة
فلما سمعت الأم هذا التغزل الرقيق قالت واحمرت حياء أو حاولت أن تحمر دينك أيها الشاب
فقال الشاب أنت خير من ديني. انت معبودتي. ولكن من هذه السيدة اظنها أختك
وأشار إلى اديليزا وهي صامتة مبهوتة قد ملكتها حيرة وعراها ارتباك وخانتها قواها فمالت على كثبان من زجاجات الجنجر وارتاحت الأم أيما ارتياح إلى مقال دوندولو إذ يرى شبهاً في الهيئة وقرباً في السن بينها وبين ابنتها فيقول أظنها أختك
ثم قالت كلا ولكنها ابنتي. ثم التفتت إلى الصبي فقالت يا ادلي افرش نضداً للسيد. أتريد محاراً أبها السيد أم حيتانا
فقال دوندولو كليهما سيدتي فإني أتيت على قدمي من مكان قصى ومحلة نازحة. وقد نهكني الكد. وأعياني الجهد. فيا حبذا لو أسعفتني بمقدار من كليهما. وقد نهكني الكد. وأعياني الجهد. فيا حبذا لو أسعفتني بمقدار من كليهما. وسأبدأ إن شئت بالحيتان. ويا حبذا زعانفها فما أرى أشبه بها في الحمرة والرقة إلا شفتيك. قال ذلك وانقض على الحيتان كأن يديه شبكة لا تبقى منها ولا تذر.
فسرت الأم بحسن آداب الفتى وحدة شهيته. ثم أقبلت تشق له سمكات دقاقا. ودلف السيد يترنح ويترنم حتى أتى مقعداً إلى منضدة فجلس جلسة المغتبط المحبور.
وما كاد يستوي جالساً حتى سمعت الأم من ناحيته شهيق ضحك مكتوم وصوت لثم وتقبيل وتلتفتت تطلب ابنتها فلم تجدها فخالجتها ريبة وصاحت يا اديليزا فعادت إليها الفتاة وقد لبست وجنتها حمرة الجلنار بعد صفرة البهار.
فأمرت الأم ابنتها أن تلزم مكانها وسارت هي بالسمكات إلى الفتى حتى إذا جاءته وضعتها أمامه وقالت عابسة واخجلاه أيها السيد! وما هو إلا كطرفة العين حتى شرعت المرأة تضحك كما كانت تضحك ابنتها وختمت عبارتها التي أولها واخجلاه أيها السيد بقولها انته(4/51)
ودعني أذهب
ولم أك معهما إذ ذاك فاعرف ماذا دار بينهما وماذا عكس الأمر وصرف السيدة عن الغضب إلى الرضا وعن العبوس إلى الضحك على أنه يظهر لي أن دوندولو يغازل كل من صادف من الإناث ويعشق النساء بالكميات الجسيمة. والمقادير العظيمة.
وعادت الأم إلى مكانها تمسح عن شفتيها - لا أدري ماذا؟ وقد عادت إلى أكمل حال من الانشراح والصفاء وأرسل الصبي إلى حانوت الخمار ليحضر زقاً من الجن وراقوداً من نبيذ التفاح.
وصاح دوندولو من أقصى المكان وهو يلتهم السمك التهاماً أسرع! وساء اديليزا إن رأت أضراس حبيبها تسرع في الطعام كالنار في الحطب وما هكذا تكون العشاق في حضرة حبائبهم. حتى أنشد لسان حالها:
فلو كنت عذري المحبة لم تكن ... أكولاً وانساك الهوى كثر الأكل
والحقيقة أن دوندولو كان يأكل كالذي لم يذق الزاد قط. وإليك مقدار ما أكل وثمنه كما قدمته إليه المرأة أم اديليزا
يوجد جدول
ويلزمه تقديم ثمنه إلى المستر صمؤيل جرامباس
قال المستر دوندولو عند ما قدمت إليه ورقة الحساب كلا يا سيدتي يجب أن تسقطي لي شيئاً في المائة فضحكت الأم وابنتها والصبي من هذه الكلمة وقال دوندولو ولكن ما علينا وما أحسب أنا سنتشاحن من جراء الطعام وثمنه. ولكن أضيفي إلى الحساب زجاجة أخرى من الكنياك وأحضرينهيا متى جرى لها ما سيجري لي الآن؟
قالت المرأة ماذا تعني بقولك هذا؟ قال أعني أحضريها متى وصلت. مثلما وصلت الآن عجيزتي إلى هذا الكرسي ثم جلس في كرسيه وكان واقفاً.
فانصرفت المرأة تضحك من فكاهة الفتى ووقاحته وأخذ الصبي من بين أقدام دوندولو هرماً ضخماً من قشر المحار.
وصاحت المرأة بالصبي يا سام اذهب إلى الخمار فأت بزجاجة كينياك للسيد. ولكن لا تفعل فإنك من التقاطك هذا القشر في عمل أهم وأعظم اذهبي أنت يا اديليزا(4/52)
فساء ذلك الأمر الفتاة لأنه حرمها اختلاس الكلام مع حبيبها. ولعل الغيرة هي التي بعثت الأم أن تصنع ذلك الصنيع مع ابنتها.
فذهبت الفتاة ساخطة مغتمة وما كادت تذهب حتى أقبل أبوها وكان في حفلة أنس والرجل على فرط حبه للهو والعبث لا يفرط في شيء من أمره ولا يضيع مثقال ذرة من حزمه وجده. فما دخل الحانوت حتى نضا عنه حلله ولبس مباذلة ثم أقبل على امرأته يسألها ماذا حدث بعد ذهابه وماذا باعت؟
فقالت حال لا بأس بها. عندنا في الصندوق ليرتان. وورقة بليرة وثمانية شلنات ثم أسلمته الورقة.
فنظر فيها وابتسم ثم قال وكم كان آكلو هذا المقدار؟
فقالت المرأة كم تظن؟
قال إذا كان آكلوه ثمانية فلنعم ما صنعوا ولشد ما أجادوا
فضحكت المرأة وقالت فما قولك في واحد؟ إنه قد أكل كل ذلك وقد ذهب الصبي ليأتيه ينا جود من الخمر فوق ماشرب
فذعر الرجل وارتاع وقال أو أحد يفعل كل ذلك؟ ثم تقولين أنه لم يدفع
فأخذ الرجل الورقة وأسرع يعدو حتى دخل المطعم. وكان الصبي لا يزال يلتقط قشر المحار وكان لا يعد ولا يحصى. ودندولو أمام المائدة ثملاً يضحك وينكش بالسواك أسنانه.
ومثل المستر جرامباس أمام الفتي النشوان وليس في جسمه جارحة إلا ترتعد وترتعش وقد خطر بباله خاطر مزعج مشؤوم وهو أنه قد رأى ذلك الوجه قبل ذلك وأنه وجه لص.
فتناول درندولو الورقة ورمى بها في الهواء هازئاً وقال بصوت كالرعد ما أبلهك وما أجنك إذ تحسب أني أدفع دانقاً من هذا المبلغ؟ أأنا أدفع فلساً؟ ألا تعرفني. أنا دوندو!
فهرع الحاضرون من مجالسهم لينظروا الفتى المشهور واندهش الصبي فسقط من كفيه مئتان وأربعون قشرة محار. وجرى المستر جرامباس إلى باب الحانوت يصح ويصيح مستغيثاً برجال الشرطة.
وبينما كان يجري عثر في طريقه بشبه فتاة منطرحة على الأرض إلى جانبها خابية من النبيذ.(4/53)
وقصارى الكلام أن الفتاة لما رجعت بخابية النبيذ سمعت الفتى تنطق ذلك الإسم المشؤوم داندو اسم شرير مشهور ومجرم معروف ثم أبصرت الفتى يميد من شدة السكر ويترنح ويصيح ويضحك ضحكاً شنيعاً ممقوتاً فسطعت الحقيقة لعينيها فسقطت مغشياً عليها.
فأكب الأبوان وهيعلى ابنتهما المغمى عليها وقد ذهلا عن كل ماعداها وأدنت الأم زجاجة الخل من خياشيم الفتاة وسلط الأب عليها رشاش الصودا فعادت إلى حسها ولكنها لم تعد قط إلى عقلها وإنما أفاقت من تلك الغشية مجنونة!
وماذا صنع الكاذب الغشاش؟ انسل هارباً من بين الجماعة وهم في شغل عنه بالفتاة فلو بصرته وهو مفلت إذ ذاك أبصرت نذلاً جباناً ووغداً خسيساً يمر كالذي لايبالي بما جرى حوله ولا يحفل قد أمال القلنسوة عجباً وخرج يميد ويميس خيلاء ويترنم بلحنه السافل الممقوت.
ولما كان الصبي ينظف الحانوت في غد تلك الليلة افتقد من متاع المكان وما عونه شوكتين من الفضة وصحفة من الصفر وطبقاً من الصيني وأبريقاً ولا أحسب القارئ في حاجة إلى معرفة من هو السارق.
أيها السادة هذه قصتي قد قلتها. فإن صلحت عليها نفس فاسدة. وتطهرت بعظاتها من أدران الخبث روح واحدة فقد نلت غايتي. وبلغت أربتي وحسبي أنها تنبه رئيسات المدارس. من غفلتهن. وتصحي التلميذات من سكرتهن. وتبصرهن بأساليب الدهاة المكرة فيعرفنها ثم يجتنبنها. وتفطنهن إلى مسالك الفسقة الفجرة. فيتعلمنها ثم يتحامينها. وتحذر الفتيان مخابث الشره وعواقبه. ومتالفه ومعاطبه وما يجر إليه من العورات والسوآت. والآفات والنكبات. أجل لو أي هذه لدروس أفادت قصتي هذه لكان ذلك حسبي اربي.(4/54)
العلوم والفنون
عجائب الطبيعة
حكى رجل فرنسي من المولعين بالأسفار قال: ركبت سفينة بخارية شراعية وهي أول سفينة صنعت لتسير بالبخار لم تبلغ آلاتها من الاتقان المبلغ الذي وصلت إليه الآلات الحديثة وكنا نفاخر بهذه السفينة ونحرص عليها كأثر نفيس لأن أجدادنا الذين لم تسبق لهم رؤية فعل البخار كانوا يعدونها من معجزات الأيام.
وفيما نحن سائرون في عرض البحر والليل قد أرخى سدوله هبت علينا ريح زعزع هصرت القلوع وكسرت الادقال ومرقت بنا السفينة كالسهم إلى لج البحر الخضم وطغت علينا الأمواج فدخلت إلى قلب السفينة وكادت تطفئ حرارة المرجل الذي يولد البخار فيها فهلعت نفوس الركاب وهرعوا إلى الربان يسألونه رأيه في مصيرهم فقال أنه لا حيلة له في مغالبة الطبيعة ولم يعد في وسعه إلا التسليم ليد الأقدار.
وظللنا الليل كله على هذه الحال نعالج سكرات المنون والأمواج تعج وتزأر فترتفع بنا الماعونة كما إلى قمة جبل ثم تهبط إلى العمق وجوانبها تهصر هصر أو العواصف تزداد اشتداداً والموت منا قاب قوسين أو أدنى وكأنما السفينة والرياح التي تتلاعب بها منجذبتان معاً بقوة خفية هائلة. شخصنا حينئذ إلى الأفق فرأينا نقطة سوداء وأخذت هذه النقطة تكبر شيئاً فشيئاً إلى أن تبينا الأرض وليتنا ما تبيناها فإنها كانت صخوراً شاهقة مائلة في الفضاء تسوقنا إليها الرياح رغم أنوفنا.
انشق عمود الفجر ولاحت تباشير النور وظهرت في سفح الكهف ثغرة سوداء واسعة كانت الريح تجري إليها وكنا نحن والعاصفة معاً نساق إلى قلب الأرض سوقاً وكأنما الأرض فغرت فاها لابتلاعنا وفيما نحن في هذا الذهول أنذرنا جرس الخطر بالاصطدام ولم يكن إلا كلا ولا حتى اصطدمت السفينة بسور من حديد صدمة مزقت أوصالها وأطارت شظاياها إلى كل ريح وقد قذفت بي إلى فوق كالقنبلة تخرج من فم المدفع وفي الحال غاصت السفينة إلى الأعماق.
كل هذا جرى وأنا فاقد الشعور لما أصابني من الذهول ولم أع إلا وأنا فوق الماء وحولي الخشب المبعثرة وأطواق الحديد الملتوية. ثم سكنت الريح بغتة وجزر ماء البحر فحمل معه(4/55)
الغرقى وكان من حسن حظي أني سقطت في ماء ضحضاح ولو وقعت في عرض أليم لما استطعت أن أسبح إلى البرلماني من التعب المبرح وألم الجراح. غير أني استمسكت بحبل الرجاء وجعلت أعالج نفسي حتى بلغت البر وانطرحت على الأرض معيا. ولما استطعت أن أتبين ما حولي رأيت أن ذلك الثقب المفغور في الكهف قد زال وقام مقامه سور حديد ظهرت عليه آثار صدمة السفينة فعلمت أن هذا الباب الحديد سدّ في وجهنا في الحين المناسب ليمنع انحدارنا منه إلى تلك الهوة الهائلة.
ثم التفت إلى يميني وإذا ربان السفينة يحييني وهو الرجل الوحيد الذي كتبت له السلامة معي وقد مزقت ثيابه وكسى وحلاً وهو يجاهد في البلوغ إلى البر.
ولما استتب به المقام بجانبي نظر إلي وقال يالها من مصيبة أوقعتنا في هذا المكان المجهول. لا ريب عندي أن هذه الجزيرة هي جزيرة الكور وهي لم تكن قبلاً وإنما شخصت من قلب البحر بفعل البراكين منذ نحو قرن تقريباً والجغرافيون الذين رأوها ورسموها في خرائطهم جعلوها في وسط الاوقيانوس الهندي.
فقلت كيف يكون ذلك وهل تبقى جزيرة في العالم ولاسيما في بحر مسلوك كهذا غير مكتشفة وقد اكتشف الجغرافيون كل المجهولات ولم يتركوا شيئاً.
قال الحقيقة هي كما رويتها لك. فإنه لما شخصت هذه الجزيرة كانت أرضاً قاحلة والبراكين تتقد فيها وبقيت كذلك زمناً والرسو عليها ممكن ولكن منذ عدة سنين تبين لنا أن هذه الجزيرة أخذت تمتنع على السائحين وكل من أراد الدنو منها لاستقصاء أحوالها ومعرفة مكنوناتها. وسواء كان هذا الأمر حقاً أوليس بحق فقد ثبت أن كل الذين حاولوا الوصول إليها دفعتهم العواصف عنها فقد قيل لي أنه تخرج منها عاصفة كما من كور عظيم تدفع السفن عن شواطئها لوذلك سميت جزيرة الكور.
وفيما نحن كذلك التفت إلى الباب الحديدي العظيم وقلت لصاحبي لاريب أن العاصفة خرجت علينا من هذا المكان ووجود هذا الباب الحديدي برهان صريح على تداخل يد البشر فيه فلا ريب بعد ذلك أن الجزيرة مسكونة وأن سكانها متمدينون بل مهندسون حاذقون.
فتنهد الربان وقال عسى أن تصدق أحلامك ثم نظرت إلى البحر فرأيت قارباً صغيراً يسير(4/56)
أمامنا سيراً حثيثاً وقد دار حول اللسان الخشبي البارز في الماء وهو لا قلوع فيه ولا مجاذيف له بل يسير بمحرك داخلي وفيه رجل يشير إلينا إشارات التحية ثم دنا منا لقد ساءنا جداً ماوقع لكم على أننا بذلنا أقصى مجهودنا لدفع ما ألم بسفينتكم فلم أستطع إلى ذلك سبيلاً غير أننا تمكنا من قفل الباب ولو بقي مفتوحاً لهوت سفينتكم ومن بها إلى هاوية الهلاك فقفل الباب إنما كان الوسيلة الوحيدة الممكنة لنجاتكم. ثم التفت إلى الجثث المنتثرة وتأوه وقال - أظن أن قفل الباب جاء متأخراً فلم يستفد منه كثير منكم غير أننا سنجتهد في القيام بدفن موتاكم بما يلزم من الوقار والاجلال أما أنتما فهيا معي إلى القارب.
أما أنا والربان فعجزنا عن أداء واجب السكر لهذا الرجل الكريم فدخلنا إلى قاربه وجعل القارب يمخر بنا الماء بسرعة عظيمة وقد حاولنا أن نخبره بذهولنا من سكوت العاصفة بغتة ومن فعل القوة السرية التي جذبتنا إلى الجزيرة فقال لنا: إن مارأيتموه ليس شيئاً بازاء ماسترونه من العجائب فإننا نحن سكان هذه الجزيرة من رجال الاختراع والاستنباط الذين حدت بهم الحاجة وعدم تصديق الذين يديرون دفة الأموال إلى اعتزال العالم واستيطان هذه الجزيرة والذين لم يجنوا في أوروبا وأميركا مجالاً لإخراج بنات عقولهم من حيز الفكر إلى القوة لجأوا إلى هذا المكان وغرسوا فيه بذور قرائحهم فحولوا هذه الصخرة القاحلة إلى رياض غناء وصاروا يضحكون من الذين سخروا بهم قبلاً وزعموا أن ذكاءهم خيالات وتخرصات. اخترنا هذه الجزيرة مقراً وهي كما تشاهدان واقعة في ممر العواصف الطبيعية ونحن بذكائنا واقتدارنا نظفر بهذه القوات ونستأسرها كما يظفر الصياد بصيد فراخ الحمام فننتفع بقواتها في بيوتنا وحوانيتنا وقد كنا الليلة الماضية نخزن ما يلزم لنا من الرياح في كهوفنا العميقة المبثوثة تحت الأرض فأصابكم ما أصابكم لما وقعتم في منطقة الهواء الجاري وهذا الهواء المنضغط لا يكلفنا شيئاً ولكن خزنه عندنا يفيدنا فوائد لا تحصى. وفيما كان هذا الرجل العجيب الذي يصرف الرياح كيف يشاء يكلمنا دنا القارب بنا من رصيف الميناء فتأملناه وإذا هو من أبدع مارأت العيون لأنه ليس مبنياً من حجارة بل من صفائح حديد قائمة على محور يدور فيسمع له صريف كصريف الأوتار كلما هاج البحر وزفر التفت إلينا محدثنا وقال تريان أننا قادرون أن نستفيد من حركة الأمواج وبيان ذلك أنه متى صدم الماء صفائح الحديد أدار عجلة ذات أسنان داخل اللسان فتنقل القوة إلى(4/57)
كل المعامل المبثوثة حول الشاطئ الجزيرة فتحرك الأنوال حركة دائمة. والبحر هو الخادم الأمين الذي لا يعي ينسج لنا أكسيتنا وما يلزم حتى الخيش الذي نظلل به بساتيننا من فعل الحرارة الجوية والرطوبة.
وعند ذلك خرجنا ويممنا المدينة فدفع دليلنا باباً فانفتح وقال لنا هيا انظرا ما يفعله البحر إن هذا البهو العظيم الذي أمامنا لا يقع منه ضوء الشمس إلا على خيوط مشدودة وعجلات عديدة وسيور دائرة بقوة الكهرباء ووشائع تدفع في السدى ذات اليمين وذات اليسار كما بايد غير منظورة بسرعة البرق في إيماضه ونساء حسان تشتغل بطي النسيج الذي بعبضه رقيق شفاف وبعضه سميك مدفئ وتسلطنا على البحر فجعلناه كالمطية الذلول وقد استعصى على من سبقنا وفتك بالمئين والألوف منهم.
فقاطعه الربان قائلاً وما تفعلون إذا هاج البحر عليكم فقال إنه إذا هاج البحر فإنما يسرع في إنجاز أعمالنا لا غير.
قال الربان وماذا يكون من أمركم عند وقوع المد والجزر.
فأجاب أن البحر يمد عادة تسع ساعات في اليوم وتسع ساعات على ما أظن تكفي لتأدية الأعمال في كل بلاد متمدينة.
اضطررت في الأيام الأولى من وصولي إلى الجزيرة أن ألازم الفراش وقد كنت أظن أن هذا الاكتشاف البديع يعمل في شفائي ولكن شدة الصدمة والجروح الناجمة عنها وإن لم تكن خطرة كانت مؤلمة على أني تمكنت من الإشراف على المدينة من غرفتي فرأيت أن كل التربة البركانية حولت إلى أحسن ما يمكن تصوره بحذق المهندسين ومهارتهم فقد بنيت البيوت من المواد المصهورة وكان منظرها جميلاً ومع أن السكان ليسوا بكثيرين إلا أن مظاهر العمل والنشاط بادية عليهم وعربات التزام تخترق الشوارع الكبرى والقوات الطبيعية التي تذهب ضياعاً في أوربا وأميركا وسائر جهات المعمور تسخر هنا لقضاء حاجات الناس ففي أوربا وأميركا يسخرون إلا الريح والشلالات وينفقون كثيراً على توليد القوات الكهربائية من الفحم أما جزيرة الكور فلا فحم فيها وقد اكتشف سكانها مصادر للقوة من الطبيعة فاستخدموا الريح والبرق والمطر ومياه الاوقيانوس ونار البركان لقضاء أوطارهم فبات معظم قوات الطبيعة طوع بنانهم.(4/58)
ومن المحال أن أحاول تعداد الفوائد الناجمة من قوة الريح فهم يخزنون الرياح لوقت الحاجة وحصروا النيران البركانية في القشرة التي تحت سطح الأرض وقد جعلت قوة النيران هذه القشرة كالأنابيت العظيمة المستديرة وكل أنبوبة منها متصلة بتجويف عظيم في مركز الجزيرة وتمكنوا من نقل القوة بهذه الأنابيب إلى اسطوانات بها مكابس وأداروا قضبان هذه المكابس بقوة نار البركان التي لا تنفذ وجعلوا قمة البركان بمثابة مرجل بخاري عظيم ورفعوا الماء من البحر إلى فوهته فمتى هاجت النيران تحت الماء تحركت القضبان المتصلة بالمرجل وأدارات الآلات وانفتحت الثغرة العظيمة ورجعت المكابس التي في الطلمبات إلى خلف فملأت الرياح التجويف الذي بها ولا تزال كذلك حتى تكتفي الجزيرة من أخذ مؤونتها ويستخدمونها لإدارة جميع الأعمال من المطحنة العظيمة إلى عجلة الخزاف الصغيرة وإذا جن الليل وهب الهواء قليلاً كفى ذلك لتنظيف الشوارع بدقة تفوق كل نظام بلديات أوربا وقد بلغ من تسخيرهم الهواء لارادتهم أن صاروا يستعملونه في الأشياء التافهة كنفخ النار في البيوت. وإذا سخنت الحرارة الجوية يضغط المرء على زر بجانب فراشه فيجري في غرفته هواء بليل ينعش العليل ويحي النفوس.
وقد زارني منقذي مراراً عديدة قبل أن أتمكن من الخروج وهو رجل عظيم نيط به إدارة معمل خزن الهواء وتوزيعه وقد قضى العمر في الاكتشافات العلمية فاكتشف مقياساً للحرارة الجوية وآخر للرطوبة وغيره لقياس كثافة الغازات وهي متصلة بخزانات عظيمة تحت الأرض. وعليه أيضاً أن يراقب ساعة بعد أخرى حال المجاري الجوية ويصون الجزيرة من عبث الذي يريدون استقصاء شؤونها وتجسس أحوالها خوفاً من تداخلهم في شؤؤن استقلالها فمتى لاحت سفينة عن بعد لا يحفلون بقيمة الهواء المخزون ولا يخطر ببالهم فكرة اقتصاده بل يفتحون كل نافذة وشق ويفرغون كل خزان فتخرج العاصفة من أحشاء الأرض وتهاجم السفينة فتحولها عن وجهة مسيرها حتى لا تصل إلى الجزيرة فيبقى سرها مكتوماً عن العالم. أما سفينتنا فما وقع لها إنما كان لأنها دخلت في منطقة عمل الآلات وهي تمتص الهواء لاختزانه ولم تنج من الوقوع في الهوة إلا بقفل الأبواب فجأة
وقلت لصاحبي ذات يوم أظن أنكم تستمدون الكهرباء من المطاحن الهوائية لإنارة بيوتكم ومعاملكم. فقال نعم بالهواء نستيطع أن نعمل كل شيء ولكن تكليف الهواء جميع الأعمال(4/59)
يكون فوق طاقته. ولذلك استخدمنا غيره من القوى الطبيعية كما رأيت فالمد والجزر ينسجان الملابس والبرق يمدنا بالكهربائية والمنطقة التي نحن فيها تثير السحب والعواصف مساء كل يوم فيلعلع البرق ويهزم الرعد. أنظر هوذا الغيم يتكاثف في الأفق والعواصف مزمعة أن تثور. ثم أشار بإصبعه إلى الجو فأراني عدة طيارات صاعدة من كل صقع ومكان من المدينة حتى كادت تحجب وجه السماء ثم قال هذه الطيارات مغشاة بصفائح من القصدير وقد اتصلت بها حبال غطت في مياه قلوية فهي في الحقيقة قضبان صاعقة ولكنها بدلاً من أن تفرغ كهربائية السحب في الأرض نفرغها في بطاريات لنختزنها على أننا لا نجمع الكهربائية من الغيوم فقط بل من البخار أيضاً ألا ترى هذا البركان العظيم. إنه خدامنا المقتدر الذي لم يقم خادم مثله وتلك قمته صافية الاديم لا ينبعث عنها دخان فتظنه لأول وهلة خامداً ولكنه ليس كذلك لأن فوهته الكبيرة التي كانت تقذف حمماً ومواد مصهورة تحولت إلى مرجل كبير تضطرم تحته النار دائماً وقد ملئت تلك الفوهة ماء والبخار الخارج منها يتصل بأنابيب تدبر الآلات والمعامل التي في الجزيرة فتسمع مدى النهار صوت المطارق في المصانع التي تحيط بالجبل والبركان يمدها بالقوة اللازمة ويطرق المعادن أيضاً.
ذهبت مع رفيقي الربان في أحد الأيام لزيارة هذه المعامل وكان ذلك عند الفجر فبلغناها بعد مسيرة ساعتين وسمعنا دقات المطارق تكاد تخسف الأرض. شخصنا إلى الجو المحيط بالبركان فرأينا قبته تضيء كالنحاس المصقول وقد ركب عليها بلبوس يفتح عند الاقتضاء لافلات البخار وجوانب الجبل مملؤءة من الحمم المصهورة والمواد الذائبة التي رسبت عليها من قبل أن تتداخل فيه يد الاصلاح والأنابيب الطبيعية تخترقه من جانب إلى جانب ومنها تفلت المواد الذائبة. ورأينا المطاحن والمطارق والأزاميل تملأ الأغوار والكهوف والصفائح المطروقة توضع على موائد من نحاس. وبعض المطارق كبير يبلغ ثقله عدة أطنان فمتى وقعت واحدة منها على المعادن أثارت شراراً لامعاً وكان المعدن أمامها كالعجينة تكيفه على ماتشاء ومتى أكمل العمل يغط المعدن المطروق في إناء عظيم مملوء ماء فيسمع له أزير وزفير.
ثم أشرت إلى الفوهة وقلت لصاحبي هذا هو المرجل الذي يحول الماء بخاراً فقال لي نعم(4/60)
ونحن نحول منه أكثرمن ستمائة طن يومياً.
قلت ومن أين لكم هذا القدر والمطر الذي ينزل في كل الجزيرة لا يكفي ذلك قال نرفعه من البحر.
قلت أترفعون 600 طن إلى هذا العلو كل يوم؟
قال لسنا نحن نرفعه ولكن المد والجزر يكفل لنا ذلك. ألم تعرف أننا نستخدم المد والجزر أيضاً.
قلت وهبكم تستخدمونه فكيف تدفعون به الماء إلى علو 600 قدم فوق سطح البحر في حين أنه متى علا الماء لا يتجاوز 20 قدماً في الارتفاع فابتسم ابتسامة الظافر وقال ذلك أمر هين لأننا صنعنا مخلاً على هيئة زاوية قائمة وأركزناه على عمود متين صلب الدعائم يبلغ قياس ذراعه الأطول 600 قدم وفي طرفه دلو من القصدير (التنك) يسع 300 طن وذراعه الأصغر يبلغ نحو 20 قدماً ربطت به سلاسل حديدية قوية ووصلت هذه السلاسل ببكرات حديد أيضاً ليسهل تعديلها عند اللزوم وأثبتت تلك البكرات بصنادل قوية ملئت حديداً ومواد ثقيلة. فمتى كان المد ارتفعت هذه الصنادل فارتفع معها الذراع الأقصر وانخفض الذراع الأطول حتى يمس الماء فيمتلئ ولما يأخذ الماء بالجزر تنزل الصنادل بثقلها فيهبط ذراع المخل الأقصر ويرتفع الذراع الأطول راسماً قوس دائرة نصف قطرها مساوٍ لطوله فيرفع الماء إلى قمة الفوهة أي إلى علو 600 قدم ثم يصب مابه فيها. ويقتضي للمخل ست ساعات صعوداً وست ساعات في هبوطه وأنت تعلم أن المد يقع مرتين في اليوم فلذلك يدفع الستمائة طن المطلوبة. وقد بذلنا منتهى الجهد في تركيب هذه الآلة ولكنا منذ ركبناها سارت في عملها بنظام مستمر وصارت أمراً مألوفاً لدينا فقلما نلتفت إليها.
وما زلنا نطوف ونحن نشاهد المصانع والعجائب التي ابتكرتها قرائح الإنسان إلى أن أمسى السماء فنزلنا عن الجبل ونحن سكوت كأن على رؤوسنا الطير إلا أن صاحبي الربان قطع وحشة السكوت بقوله ألا ترى إلى هؤلاء الناس كيف هم في خطر أفلا تظن أن الطبيعة تنقم عليهم في بعض الأيام وتقتص منهم.
قلت وهل إلى ذلك من سبيل وهم قد حبسوها كما يحبس الطائر في قفصه وتصرفوا بقوانينها كما شاءوا.(4/61)
انظر كيف اشتغلوا بتحويل قفارها إلى جنات فأنشأوا بها المزارع الواسعة والحدائق الغناء. لقد عرفوا من أين تأكل الكتف لأن الذي يجول في أكناف بركان فيزوف يعلم أن التربة المحيطة به في غاية الخصب والجودة وها هم قد زرعوا الزيتون والفاكهة والحبوب المختلفة وليس ذلك فقط بل حفظوا مزروعاتهم من برودة الجو وحرارته فهم إذا اشتدت حرارة الغيظ أرسلوا من الهواء الخزون نسيماً بارداً ينعش الزروع. وإذا برد الهواء أطلقوا الأنابيب الساخنة فوزعت الحرارة في سائر أرباضها وإذا نزل المطر لم يخشوا منه على إتلافها بل حولوه إلى منافع وجعلو هذه الجزيرة بمنزلة الفردوس فياله من ذكاء مفرط وحذق عظيم
وقد غاب عني أن أذكر لك مافعله أحد أطباء الألمان ممن استوطن هذه الجزيرة. فإنه حلل نور الشمس بالموشور فرأى خلف الشعاع البنفسجي طيفاً أسمر عرفت خصائصه الكيماوية من عهد بعيد ولكن له شعاعاً آخر ذا خصائص عجيبة من شأنها أن تزيد القوات الحيوية.
وقد خطر لهذا العالم أن يصنع قرصاً محدباً فوق قمة الجبل شفافاً كالبلور يدور على محور كالساعة ليسير مع الشمس إني اتجهت وحصر شعاعه في نقطة المحترق بكيفية قوية وزعها على بستانه فعكست سائر ألوان قوس قزح عليه وكانت أشعتها كصفائح الحرير أخذ ضياؤها الأبصار.
ومما زاد النظر بهجة هو أن توزيع هذه الأشعبة كان على نسب جميلة لأن النباتات نمت بواسطتها نمواً عظيماً لا يمكن لحالة جوية أن تفعل مثل هذا الفعل في أية بلاد كانت فعظم البرتقال وبلغ محيط جذع الشجرة منه عشرين قدماً وصارت البرتقالة الواحدة كالبطيخة وبلغ العنب مبلغاً من النمو لا يصدق فالعنبة الواحدة تشبه البرتقالة حجماً وسرى هذا الأسلوب في كل مزارع الجزيرة حتى أصبحت منقطعة النظير.
ولكن لما كان دوام الحال من المحال أصبحت ذات يوم وأنا أستنشق الهواء العليل وإذا الجبل يدخن والنار تضطرم في جوانبه والناس يروحون ويجئون كالمجانين وقد انقلبت سخناتهم واربدت وجوهم ثم أخذوا يصرخون الانفجار الانفجار! وتلا ذلك صوت دوت له جوانب الجبل فخرجت الحمم والمواد المصهورة واقتلعت المعامل وقذفت الأنابيت والمكابس وطارت شظايا الحديد إلى كل ناحية لأن البركان استعاد قوته وهجم على الأحياء(4/62)
الذين حوله فذهب بكل حي وجماد وزاد المصاب هولاً تفرقع الغازات المخزونة وانصب ذلك كله في البحر فأرغى وأزبد ثم هاجت الأمواج وقام فيها إعصار عظيم فخارت قواي ولم أشعر إلا وأنا في قلب البحر فرفعت عيني لأرى ما حولي وإذا الجزيرة خسفت خسفاً وغاص من كان فيها وما عليها في لجة اليم وفيما أنا أنازع البقاء إذا بسفينة إنكليزية ذاهبة إلى هونغ كنغ بصرت بي فانتشلني من اليم وكنت أنا اللقاطة الحقيرة التي نجت من ذلك المصاب الهائل لأروي خبر هذه الغرائب التي عفت آثارها ولم تبق إلا أخبارها.
الدور الزراعية
أو
نظام التعاقب الزراعي
2
(4) إن النبات يغتذي من التربة بجذوره من عمق يختلف تبعاً لمقدار طول هذه الجذور فإذا تعاقب زرع نباتين متماثلي الجذور فالنبات اللاحق لاتجد جذوره في التربة مقداراً وافياً من الغذاء الفعال لجودة نموه لأن النبات السابق يكون قد استفرغ معظمه منها وإذاً فلا يزرع مثلاً قطن بعد قصب ولا قصب بعد قطن لأن كليهما جذوره طويلة متعمقة ولا كتان بعد ذرة لأن كليهما جذوره سطحية فإذا زرع واحد منها عقب الآخر أجهد الأرض ولم يجد محصوله الجودة التي تكون له لو زرع عقب نبات جذوره مغايرة لجزوره حتى أن القمح لايجود عقب الذرة جودته عقب القطن مع أن القطن ينهك الأرض أكثر من الذرة الذي تكون الأرض معه عادة مسمدة له بكمية وفيرة من السماد الذي لم يتحلل كله لتغذية الذرة بل يبقى معظمه لفائدة الزروعات التالية له أما جودة الذرة النيلى بعد القمح - مع أن الأول منهما جذوره سطحية والثاني جذوره غير متعمقة فيغتذيان غالباً من طبقة متقاربة محدودة - فتعزى لأحوال أخرى ليست لزارعة القمح بعد الذرة.
منها أن القشرة السطحية عقب القمح تكون أقل اجهاداً منها عقب الذرة ومنها أن أرض القمح تبقى جافة مدة وتستريح عقبه زمناً فتستجم بذلك خصبها أما في حالة زراعة القمح بعد الذرة فإن الأرض تستمر رطوبتها وإشغالها بالنبات لأن زراعة القمح تتلو إخلاء الأرض من الذرة مباشرة.(4/63)
ومنها أن الأرض تسمد بمقادير كبيرة للذرة لأن نباته لا يجود إلا بذلك فقد استقر عند الفلاح أعداد أكبر كمية من السماد له وليس كذلك الحال لزراعة القمح خصوصاً أن جذوره وهو نبت صغير لا تكون قد تعمقت فلا تجد في الطبقة السطحية التي استفرغتها الذرة من الخصب ما يكفي لتعاني نموها.
(5) إن بعض النبات يخصب الأرض ويحسنها كنبات الفصيلة البقلية التي منها البرسيم والفول والحلبة والعدس والترمس والجلبان والبسلة لأنها تستفيد بجذورها كثيراً من الآزوت الجوي الذي يعتبر لقلته في الأرض أهم عناصر خصبها للمزروعات وهذا الكثير الذي تستفيده من الآزوت الجوي يزيد عن حاجة نموها فيتراكم خصوصاً في جذورها التي تبقى في الآرض عقب إخلائها من تلك الزروعات التي تسمى مولدة للآزوت وتعرف الأرض عقبها في العرف الزراعي بالأرض الباق.
والبعض الآخر من النبات وهو الأكثر كالقطن والقمح والذرة والقصب والنيلة والكتان يستفرغ الآزوت من الآرض وتسمى بالنباتات المستهلكة للآزوت وتعرف الأرض عقبها في العرف بالأرض البرايب أو الشماهة أو الحصيد تبعاً لاختلاف العرف في الجهات.
فالأحوال تقتضي أن لا تتعاقب زراعة الأرض بأصناف النبات المستهلك للأزوت بل يراعي التناوب بينها وبين زراعة النباتات المولدة للآزوت حتى إذا أجهد الأرض محصول عوضها محصول آخر.
ولولا هذه النباتات المولدة للآزوت لعز الأمل في حفظ خصوبة الأرض طويلاً لأن السماد لا يمكن أن يفي بتعويض الأرض ما يستفرغه سائر النبات من خصبها حتى أرض حياض الصعيد التي تستفيد سنوياً من طمى النيل ولا تزرع إلا مرة واحدة في العام لا يجود إنباتها إلا إذا روعيت تلك القاعدة في تعاقبها الزراعي فإذا زرعت في سنة أصناف شماهة زرعت في السنة التالية أصناف باق وإلا فإن محصولها وخصبها ينحطان عن معتادهما.
وإذا نقصت كمية السماد في أي أرض عن حاجتها فليس لدى الزارع وسيلة أنفع وأقرب من الالتجاء إلى زرع تلك النباتات لتخصيب الأرض لأصناف النباتات الأخرى.
والأرض التي تقل فيها المادة العضوية كالأرض الضعيفة والمستجدة وعلامتها إن لا تظهر فيها فائدة التسميد بالسماد البلدي عاجلاً وتسمى بالأرض الجيعانة وليس أنفع لخصبها من(4/64)
زراعة هذه النباتات البقولية.
فهذه النباتات بما تفيده للأرض تعتبر ملجا طبيعياً، وينبوعاً عظيماً لإخصابها الذي هو رأس مال الفلاح وأعز ذخيرة عنده.
(6) إن الحشرات والفطريات تتكاثر وتنتشر بعض أنواعها مع بعض من النباتات دون البعض الآخر فتفتك بها فتكاً ذريعاً كديدان القطن والبرسم والذرة وسوس القصب والحبوب وغيرها فإذا توالى أو كثرت زراعة هذه الأصناف وجدت تلك الآفات البيئة المناسبة لتناسلها وتكاثرها وانتشاهر فيستشرى الضرر منها حتى يصعب تلافيه كما هو حاصل الآن في زراعة القطن فإذا نوعت زراعة الأرض بأصناف النباتات الأخرى لا تجد تلك الآفات الغذاء الموافق لمعيشتها فتضعف وأخيراً تموت.
ويقال مثل ذلك في الحشائش الضارة التي توجد أصناف منها بكثرة مع بعض مزروعات مخصوصة كالحامول مع البرسيم والهالوك مع الفول والدنيبة مع الأرز
فإذا نوعت زراعة الأرض الملونة من بذور هذه الأعشاب المؤذية بأصناف النباتات الأخرى التي لا توافقها فقدت تلك الأعشاب البيئة الملائمة لها فتقل إلى أن تتلاشى في النهاية.
عرف الفلاح أن زراعة الفول مثلاً في الأرض التي كثير الهالوك بها زراعة خاسرة فنوعها بزراعة نباتات أخرى لانوافقه فيختفي إلى أن يضمحل بتاتاً فيمكن العود إلى زراعتها فولاً بنجاح.
ولما يعرف أن زراعة القطن مع فتك الديدان بها هي زراعة متعبة وخاسرة فلو قال الإكثار من زراعته واعتنى بخدمته وإبادة ديدانه أمكنه الحصول من القدر الذي صارت زراعته إليه على محصول أكثر وأحسن وأربح واسهل مما يتحصل له من القدر الكثير الذي كان يزرعه بدون أن يمكنه حمايته من آفاته. وينتفع بزراعة الأرض التي وفرها بأنواع النباتات الأخرى التي اشتدت الحاجة إليها كنبات الغذاء للإنسان والعلف للحيوان.
(7) إن بعض المزروعات تستدعي كثرة العمل والمصروف والعناية في خدمتها مدة طويلة كالقطن والقصب والأرز وبعضها يكفيه بعض ذلك كالقمح والشعير والفول والبرسيم فإذا كثرت زراعة النباتات الأولى أجهد الفلاح وقصرت وسائله عن آداء الواجبات الزراعية(4/65)
باقتدار وإتقان وحينئذ يكون الضرر عظيماً على محصولاتها كما يحصل للقطن.
فمثلاً عند ما يصرح بري الشراقى لزراعة الذرة يضطر الفلاح إلى التعجيل بخدمة أرضه وتسميدها للإلحاق على زراعتها زراعة مبكرة لأنها المورد الوحيد لغذائه فلا يمكنه مع ذلك أن يوفي خدمة القطن كما ينبغي لاتساع مساحته وكثرة عمليات خدمته فيكون عن ذلك أسوأ تأثيراً على محصوله بحيث يبلغ ضرره بضعة ملايين من الجنيهات خصوصاً كلما كان التصريح بري الشراقى بكيراً فإنه يصادف موسم خدمة القطن وتكاثر ديدانه به فلملافاة ذلك تجب الموازنة في زراعة الأرض بين النباتات التي تستدعي عنية أكثر والتي تستدعي عناية أقل وبين قدرة الفلاح واستعداده وذلك بتنويع زراعة الأرض بالنباتات المختلفة وعدم الاستكثار من زراعة الأصناف التي تستدعي مجهوداً كبيراً قد لا يمكن للفلاح القيام به وبالتالي تتلف زراعته.
(8) إن لطول مكث زراعة بعض النباتات في الأرض تأثيراً أهم في تنويعها فإن القطن وهو محصول صيفي يمكث ثمانية شهور بالأرض ومثله القصب لكنه يمكث أكثر منه لا يكفي غالباً لتنويع الأرض بعده خصوصاً مع حالة الفلاح الحاضرة زراعتها بغيره من الحاصلات الأخرى لمدة سنة واحدة فقط وبالأخص إذا كانت زراعتها بنبات من غير الفصيلة البقلية ولم تسترح الأرض أثناءها مدة كافية لاستجماعها خصبها.
وقد لوحظ أن الأرض المتبعة فيها الدورة الثنائية ينظامها الحالي ووسائلها القاصرة قد أجهدت تربتها وانحطت محاصيلها.
وإذا فالواجب أن يراعى مع زراعة الأرض بأنواع النبات ذات التأثير الحسن والنباتات الأقل إجهاداً أن يستمر ذلك مدة تكفي لمنع تأثير النباتات المنهكة للأرض أي الأشد تأثيراً والأكثر إجهاداً لخصوبتها.
(9) إن لطرق إفلاح الأرض وخدمتها لأنواع النبات تأثيراً مهماً على تربتها فإذا أكثرنا مثلاً من زرع الأرض بالنباتات الحشيشية والحبوبية بالتوالي كالبرسيم والقمح والفول والشعير ونحوها من الزروعات التي لا تستدعي حرثاً عميقاً ولا عزيقاً نكون قد حرمنا التربة من التأثير الحسن الذي يكون عن إجراآت الخدمة المتقنة المتكررة الزائدة في خصبها وسمكها عمقها والمستأصلة للأعشاب المؤذية منها كما ينبغي لكنها إذا نوعت(4/66)
بالأصناف الأخرى التي تشتد في الحرث العميق مراراً والعزيق تكراراً والخدمة الجيدة دواماً كالقطن والذرة والبصل وغيرها من المحصولات التي تزرع في خطوط - أمكن مع ذلك تعميق التربة وتنظيفها من بذور الأعشاب المؤذية وتطهيرها من جراثيم الآفات الضارة وتعريضها أكثر للمؤثرات الجوية التي لا بد منها لفائدتها.
(10) إن لطريقة الري المتبعة الشأن الأول في الترتيب الزراعي ففي حياض الصعيد حيث لا تروى الأرض إلا في فصل الخريف من ماء النيل مدة فيضانه فقط لا تزرع الأرض إلا أصنافاً شتوية قمح وفول وبرسيم وشعير وحلبة وعدس وترمس وجلبان الخ يبذر بذرها تقاويها عقب تصفية المياه عن تلك الحياض ثم تترك الزراعة إلى أوان الحصاد أو الرعي إذا كانت من نباتات العلف - بدون شيء من الخدمة غالباً ثم بعد إخلاء الأرض منها تترك بائرة إلى الفيضان التالي فتروى وتزرع كالسابق وهكذا أما في أرض الترع حيث توجد مياه الري طول السنة تحت تصرف الزراع ومثلها بعض أرض الحياض القريبة من ساحل النيل أو التي بها آبار ارتوازية تزرع الأرض بأنواع الزروعات الشتوية والصيفية والنيلية.
فبوجود المياه دواماً يمكن تنظيم دورة زراعية تامة أي لا تقتصر على فصل دون فصل ولا مزروعات دون مزروعات ويمكن للزارع استغلال الأرض بأقصى ما يتيسر له من الوسائل الأخرى الممكنة.
فبعض المزروعات تستدعي رياً منتظماً في فترات متقاربة مقدرة طول مدة وجودها بالأرض كالقطن والقصب والتيل والبرسيم المسفاوى الخ وبعضها يكفي فيه الري مرة واحدة قبل البذار كالقمح والشعير والفول والبرسيم البعلي وغيرها من المزروعات التي في أرض الحياض.
فمن هذه الوجهة ذات الشأن الأول تنقسم الدورة الزراعية إلى قسمين أصليين الدورة المتبعة في أرض الري المستديم والدورة المتبعة في أرض الري الموقت
ومما يلاحظ هنا أن بعض النباتات يستدعي وفرة المياه لنموها كالنباتات المائية التي أشهرها الأرز والدنيبة فإنها لا تنمو إلا بوجودها في الماء دواماً واذاً فلا تزرع بنجاح إلا حيث تكون المياه وفيرة حتى في فصل التحاريق الذي تقل فيه المياه عادة لذلك يجب أن(4/67)
يراعى في زراعة مثل هذه النباتات التحقق من وجود المياه بغزارة مدة نموها.
(11) إن لبيئة الأرض تأثيراً أولياً في زراعة أنواع المزروعات وتفضيل بعضها على بعض ففي الوجه القبلي لجفاف أرضه وحرارة جوه يجود فيها بعض أنواع من النباتات أكثر مما تجود في غيره كالقصب والفول والعدس فإن في الوجه البحري خصوصاً في شماله حيث الجو أقل جفافاً لا تجود جودتها بالصعيد. كذلك أرض الصعيد لخلوها أو لندرة الأملاح فيها عما هي في أرض الوجه البحري خصوصاً شماليه أيضاً تجود فيها النباتات الحبوبية عنها في غيرها.
والوجه البحري خصوصاً الجهات الجنوبية منه لجفافها وانتظام حرارتها ورطوبتها يجود فيها القطن أكثر من الجهات الأخرى.
وشمالي الدلتا لرطوبتها وملوحتها تفضل فيها زراعة النباتات المائية كالارز والدنيبة يتلى.
أحمد الألفي(4/68)
أمالي البيان
أخبار السيدة سكينة
(تابع)
وكان ابن سريج قد أصابته الريح الخبيثة وآلى يميناً أن لا يغني ونسك ولزم المسجد الحرام حتى عوفي ثم خرج فأتى المدينة ونزل على بعض إخوانه من أهل النسك والقراءة فأقام في المدينة حولا ثم أراد الشخوص إلى مكة وبلغ ذلك سكينة فاغتمت لذلك غماً شديداً وضاقت به ذرعاً وكان أشعب يخدمها وكانت تأنس بمضاحكته ونوادره كما أسلفنا فقالت لأشعب ويلك إن ابن سريج شاخص وقد دخل المدينة منذ حول ولم أسمع من غنائه قليلاً ولا كثيراً ويعز على ذلك فكيف الحيلة في الاستماع منه ولو صوتاً واحداً فقال لها أشعب جعلت فداك وأني لك بذلك والرجل اليوم زاهد ولا حيلة فيه فارفعي طمعك وامسحي بوزك تنفعك حلاوة فمك فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت أن تخرج أمعاؤه وخنقته حتى كادت نفسه أن تتلف ثم أمرت به فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجاً عنيفاً فخرج على أسوء الحالات واغتم أشعب لذلك غماً شديداً وندم على ممازحتها في وقت لا ينبغي له ذلك فأتي منزل ابن سريج ليلاً فطرقه فقيل من هذا فقال أشعب ففتحوا له فرئ على وجهه وليحته التراب والدم سائلاً من أنفه وجبهته على لحيته وثيابه ممزقة وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدوس والخنق ومات الدم فيها فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه فقال له ماهذا ويحك فقص القصة عليه فقال ابن سريج إنا لله وإن إليه راجعون ماذا نزل بك والحمد لله الذي سلم نفسك لا تعودن إلى هذه أبداً قال أشعب فديتك هي مولاتي ولا بد لي منها ولكن هل لك حيلة في أن تسير إليها وتغنيها فيكون ذلك سبباً لرضاها عني قال ابن سريج كلا والله لا يكون ذلك أبداً بعد أن تركته قال أشعب قد قطعت أملي ورفعت رزقي وتركتني حيران بالمدينة لا يقبلني أحد وهي ساخطة علي فالله الله في وأنا أنشدك الله ألا تحملت هذا الإثم فيّ فأبى عليه فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تم على الامتناع قال في نفسه لا حيلة لي وهذا خارج وإن خرج هلكت فصرخ صرخة فتحت آذان أهل المدينة ونبه الجيران من رقادهم وأقام الناس من فرشهم ثم سكت فلم يدر الناس ما القصة عند خفوت الصوت بعد أن راعهم فقال ابن سريج ويلك ما هذا قال لئن لم تسر(4/69)
معي إليها لأصرخن صرخة أخرى لا يبق أحد بالمدينة إلا صار بالباب ثم لأفتحنه ولأرينهم ما بي ولأعلمنهم أنك أردت أن تفعل كذا وكذا بفلان يعني غلاماً كان ابن سريج مشهوراً به فمنعتك وخلصت الغلام من يدك حتى فتح الباب ومضى ففعلت بي هذا غيظاً وتأسفاً وإنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه وكان أهل مكة والمدينة يعلمون حاله معه فقال ابن سريج أعزب أخزاك الله قال أشعب والله الذي لا إله إلا هو وإلا فما أملك صدقة وامرأتي طالق ثلاثاً وهو يخير في مقام إبراهيم والكعبة وبيت النار والقبر قبر أبي رغال إن أنت لم تنهض معي في ليلتي هذه لأفعلن ما قلت لك فلما رأى ابن سريج الجد منه قال لصاحبه ويحك أما ترى ما وقعنا فيه وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكاً فقال لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث وتذمم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل فقال لأشعب اخرج من منزل الرجل فقال رجلي على رجلك فخرجا فلما صارا في بعض الطريق قال ابن سريج لأشعب امض عني قال والله لئن لم تفعل ماقلت لأصيحن الساعة حتى يجتمع الناس ولأقولن أنك أخذت مني سواراً من ذهب لسكينة على أن تجيئها لتغنيها سراً وأنك كابرتني عليه وجحدتني وفعلت بي هذا الفعل فوقع ابن سريج فيما لا حيلة له فيه فقال امض لا بارك الله فيك فمضى معه فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب فقيل من هذا فقال أشعب قد جاء بابن سريج ففتح الباب لهما ودخلا إلى حجرة خارجة عن دار سكينة فجلسا ساعة ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة فقالت يا عبيد ما هذا الجفاء قال قد علمت بأبي أنت ما كان مني قالت أجل فتحدثا ساعة وقص عليها ما صنع به أشعب فضحكت وقالت لقد أذهب ما كان في قلبي عليه وأمرت لأشعب بعشرين ديناراً وكسوة ثم قال لها ابن سريج أتأذنين بأبي أنت قالت وأين قال إلى المنزل قالت برئت من جدي إن برحت من داري ثلاثاً وبرئت من جدي إن أنت لم تغن إن خرجت من داري شهراً وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهراً إن لم أضربك لك يوم تقيم فيه عشراً وبرئت من جدي إن حنثت في يميني أو شفعت فيك أحداً فقال عبيد واسخنة عيناه اذهاب ديناه وافضيحتاه ثم اندفع يغني:
أستعين الذي بكفيه نفعي ... ورجائي على التي قتلتني
ولقد كنت قد عرفت وأبصر ... ت أموراً لو أنها نفعتني(4/70)
قلت أني أهوى شفا ما ألاقي ... في خطوب تتابعت فدحتني
فقالت سكينة فهل عندك يا عبيد من صبر ثم أخرجت دملجاً من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالاً فرمت به إليه ثم قالت أقسمت عليك إلا ما أدخلته في يدك ففعل ذلك.
ثم قالت لأشعب أذهب إلى عزة الملاء فاقرئها مني السلام وأعلمها فأسرعت المجيء فتحدثوا باقي ليلتهم ثم أمرت عبيداً وأشعب فخرجا فناما في حجرة مواليها فلما أصبحت هيء لهم غداؤهم وأذنت لابن سريج فدخل فتغدى قريباً. منها مع أشعب ومواليها وقعدت هي مع عزة وخاصة جواريها فلما فرغوا من الغداء قالت ياعز إن رأيت أن تغنينا فافعلي فقالت أي وعيشك فتغنت لحنها في شعر عنترة العبسي:
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمت ركابكم بليل مظلم
فقال ابن سريج أحسنت والله ياعزة وأخرجت سكينة الدملج الآخر من يدها فرمته لها وقالت صيري هذا في يدك ففعلت ثم قالت لعبيد هات غننا فقال حسبك ما سمعت البارحة فقالت لا بد أن تغنينا في كل يوم لحنا فلما رأى ابن سريج أنه لا يقدر على الامتناع مما تسأله غني:
قالت من أنت علي ذكر فقلت لها ... أنا الذي ساقه للحين مقدار
قد حان منك فلا تبعد بك الدار ... بين وفي البين للمبتول أضرار
ثم قالت لعزة في اليوم الثاني غني فغنت لحنها في شعر الحرث بن خالد:
وقرت بها عيني وقد كنت قبلها ... كثير البكاء مشفقاً من صدودها
وبشرة خود مثل تمثال بيعة ... تظل النصارى حوله يوم عيدها
قال ابن سريج والل ما سمعت مثل هذا قط حسناً ولا طيباً ثم قالت لابن سريج هات فاندفع يغني:
أرقت فلم أنم طرباً ... وبت مسهداً نصباً
لطيف أحب خلق الله ... إنسانا وإن غضبا
فلم أردد مقالتها ... ولم أك عاتباً عتباً
ولكن صرمت حبلي ... فأمسى الجهل منقضباً(4/71)
فقالت سكينة قد علمت ما أردت بهذا وقد شفعناك ولم نردك وإنما كانت يميني على ثلاثة أيام فاذهب في حفظ الله وكلاءته ثم قالت لعزة إذا شئت أقمت أو انصرفت ودعت لها بحلة ولابن سريج بمثلها وانصرفت وأقام عبيد حتى انقضت ليلته وانصرف فمضى من وجهه إلى مكة راجعاً.
وهذا ابن سريج هو (متلو)(4/72)
النقد والتقريظ
تاريخ آداب العرب
أطرفنا صديقنا نابغة الفنين من البيان والأدب، وذو الرئاستين على النظم والنثر من لغة العرب أبو السامي مصطفى صادق الرافعي بنسخة من المجلد الأول من هذا التاريخ النفيس الذي طال تشوق الأدباء إليه وارتقابهم مطلعه منذ سنيات حتى جعلوا ينتقمون من إبطاء الأمل بتعجيل اليأس فيرون أن الكتاب لا يصدر ثم يذكرون عزيمة صاحبه وكفايته فيعودون إلى التأميل ويعتصمون بالصبر الجميل ويتركون الثمرة لغصنها إذ كان لا بد له في إنضاجها من وقت موقوت.
واليوم قد صدر المجلد الأول في قريب من 450 صفحة من الغرار الكامل وهو يحتوي الكلام في تأريخ اللغة وتأريخ روايتها وما يداخل هذين البابين. وقد بقي من التاريخ عشرة أبواب تقع في أربعة أجزاء من غرار هذا الجزء وحجمه - هكذا كتب الرافعي على غلاف الجزء الأول وإن حقاً على (البيان) - وهو الذي أرصدناه للآداب العربية - أن يفيض في القول على هذا الكتاب بما يوفيه بعض حقه فأنا أعلم الناس بما عاناه صاحبه من اقتحام هذه الخطة المنكرة المتوعرة ومطاولة التعب فيها حتى يضارع تقدير الذين أملوه من الأدباء وثقة الذين استكفوه من الفضلاء.
لما فتحت الجامعة المصرية أسقطت الآداب العربية من دروسها دون آداب اللغات الأخرى ومرت على ذلك زمناً حتى اشتهرها الرافعي وتبهها إلى هذا الواجب الذي ينبغي أن تجعل ما سواه نافلة بالنسبة إليه فنشرت الجامعة على الأدباء اقتراحاً تسألهم فيه أن يضعوا لها كتاباً وافياً في تاريخ آداب اللغة العربية على أن تكون مدة التأليف سبعة أشهر فقرأنا يومئذ في الجريدة الغراء مقالة للرافعي ليس أبلغ منها في باب التهكم والتقريع أوليس هذا الاقتراح نفسه مادة نادرة من مواد الهزل الذين يراد به الجد والا فأي أديب أو شبه أديب يطمع أن يؤلف ذلك الكتاب الوافي في سبعة أشهر وهو لو وجده في مكتبة الجامعة. .! مثلاً وأراد أن ينسخه ويدعيه لما كفته هذه الأشهر التي هي بطبيعتها مدة الحمل الناقص.
فتداول مجلس ادارة الجامعة الأمر لأطال مدة التأليف إلى سنتين وقد خلت وإن الثالثة لتوشك أن تنقضي ومع هذا لم يقدم للجامعة كتاب ولا شبه كتاب. وكانت تعلم حق العلم أن(4/73)
الرافعي يعمل في هذا التاريخ فلا ندري كيف تفهم اليوم هذا المعنى البليغ الصامت وهو طي الكتاب دونها ونشره للناس.
ونحن فقد قرأنا كتباً مختلفة سماها أصحابها تاريخ أدبيات اللغة العربية فلم نر إلا مايصح أن يسمى دروساً ابتدائية. أما للعلم الذي لايكون إلا بعد النظر والنظر الذي لا يكون إلا بعد البحث والبحث الذي لا يكون إلا مع الروية وبسطة الذرع فلم نر منه وفي الحقيقة أن الذي يطمح لأن يضع كتاباً في تاريخ الآداب العربية إنما يضطلع بعمل كان ينبغي أن يتوزعه كثير من العلماء والرواة المتقدمين في عصور مختلفة ولكنهم أهملوه فلم يبق إلا أن يقوم وحده مقامهم جميعاً وفي هذا من العنت والبلاء مالا يمكن لقلم أن يصوره ويصفه بأبلغ مما جاء به الرافعي في مقدمة كتابه المنشورة في غير هذا الموضع وإن العثور على مواد هذا التاريخ لايسر التعب فيه وإن كنت لاتجدها إلا متبددة ولا تجد المتبدد منها إلا ناقصاً ولا تجد الناقص إلا بعيداً كل البعد عن صورة التاريخ فأهون العمل في التأليف أن تقرأ عشرات المجلدات صابراً محتسباً فإن عثرت علي أشياء وأردت أن تستنبط منها التاريخ وتربط أجزاءه وتتم نقصه بالاستنتاج والتنظير فهناك العقبة الكؤد التي لا يصعد فيها إلا النسر. وعلى هذا ترى أنه لايمكن أن يجيء التاريخ من مؤرخ أو لغوي أو شاعر أو كاتب أو خطيب بل من مجموع هذه كلها حتى تكون شخصية المؤلف واضحة في كل باب فيكتب في التاريخ مؤرخاً وفي اللغة لغوياً وفي الشعر شاعراً وفي النثر كاتباً وفي الخطابة خطيباً ثم لا يفوته أن يكون جريئاً في الحق نقاباً عليه فإن التقديس الكاذب الذي أضعف جرأة العلماء المتقدمين من أهل الأدب هو الذي ضيع مواد هذا التاريخ وطمس على كثير من أصوله كما ترى شرح ذلك في مواضع متعددة من الكتاب الذي بين أيدينا. ولسنا نعلم أحداً في أدباء العصر يتقدم في تلك الأبواب كلها غير صاحب هذا الكتاب.
لذلك ترى النقص ظاهراً كل الظهور في كل الكتب التي وضعها فضلاء المستشرقين كما تراه في هذه الكتب والدروس التي ابتلى بها طلبة المدارس في مصر أعلاها وأدناها من كل كتاب مكتئب وأسلوب مسلوب وتحقيق غير حقيق.
هذا في رأينا أكبر أسباب النقص أما أصل الخطأ الذي وقع فيه كل المؤلفين في تاريخ الآداب العربية فقد وصفه الرافعي في كلمته التي عقب بها على المقدمة وهو يرى أن ذلك(4/74)
إنما يجيء من تقسيم التاريخ إلى عصور متباينة اتباعاً ومساوقة لكتاب الأوربيين في وضع آدابهم مع أن بين الصنفين فروقاً طبيعية واضحة. قال الرافعي بعد أن بسط هذا المعنى بسطاً شافياً: إذا تدبرت هذا وأنعمت على تأمله علمت السبب في حشو مانراه من كتب الأدبيات التي ترتب على العصور بالطم والرم من تاريخ العلوم الدينية والدنيوية وبالتراجم الكثيرة التي تخرج بشطر الكتاب إلى أن يكون سجل وفيات ثم بتعداد الكتب والمؤلفات التي تلحق شطره الآخر بكتب الفهرست. ومؤلفوا هذه الكتب لا يدرون أنهم مرغمون على ذلك بحكم هذه الطريقة العقيمة التي تتبنى ولا تلد إذ ليس في تفتيش هذه القبور عن بقايا الحياة إلا العظام ومن يرجع إلى ورائه لا يقطع شيئاً إلا الأمام.
ثم هم يجهلون أن لتاريخ كل أمة تباين غيرها مباينة طبيعية مزاجاً معنوياً تتعلق به حوادثها كما تتعلق أخلاق الفرد بنوع مزاجه الفطري ومن أين يكون للعصبي في أبواب التحمل والأناة والسعة والخفض ما يكون لذي المزاج الليمفاوي مثلاً. فأيما أمرؤ أجرى على الاثنين حكماً واحداً ظلمهما كليهما وكذلك الأمر في أمزجة التاريخ.
وأنت خبير بأن الرجال في تاريخ الآداب الأوروبية هم قطعه التي يتألف منها لأنهم متصرفون في اللغة كأنها إنما توضع لعهدهم أوضاعاً جديدة فكل رجل منهم في طريقته ومذهبه فن علم أو هو على الحقيقة قطعة متميزة في تركيب التاريخ العقلي. ولكن الرجال عندنا في قياسهم بأولئك ينزلون منزلة التشبيهات من المعاني الأصلية إلا ماندر ولا حكم للنادر وذلك لأن في لغتنا معنى دينياً هو سرها وحقيقتها فلا نجد من رجل روى أو صنف أو أملي في فن من فنون الآداب أول عهدهم بذلك إلا خدمة للقرآن الكريم ثم استقلت الفنون بعد ذلك وبقى أثر هذا المعنى في فواتح الكتب والقرآن نفسه حادثة أدبية من المعجزات الحقيقية التي لا شبهة فيها وإن لم يفهم سر ذلك من لا يفهمونه أفيصلح بعد هذا أن يكون تاريخ الأدب العربي مبنياً على غير حوادثه التي كونته وتعلق بأكثرها رجاله دون أن تتعلق بهم كما هو الشأن في سواه انتهى كلام الرافعي.
وهذه هي الحقيقة بعينها فإن تطور التاريخ الأدبي لا يكون من تطور الدول واختلافها كما يقال الدولة الأموية والعباسية مثلاً وإنما يكون من تطور الشعوب والجماعات في أخلاقها وعاداتها وهو انقلاب لا يكون من تأثير الدولة وحدها ولكن من تأثير العلماء والأدباء(4/75)
وهؤلاء لا يتعلقون بالعصور السياسية إلا من أضعف الجهات الأدبية كما هو واضح في التاريخ العربي على الخصوص.
قال الرافعي ولذلك رأينا الطريقة المثلى أن نذهب في تأليفنا مذهب الضم لا التفريق وأن نجعل الكتاب على الأبحاث التي هي معاني الحوادث لا على العصور فنخصص الآداب بالتاريخ لا التاريخ بالآداب كما يفعلونه وبذلك يأخذ كل بحث من مبتدئه إلى منتهاه متقلباً على كل عصوره سواء اتسقت أم افترقت فلا تسقط مادة من موضعها ولا تقتسر على غير حقيقتها ولا تلجأ إلى غير مكانها ثم لا يكون بعد ذلك في التاريخ إلا التاريخ نفسه لا ما يزين به من العبارة المونقة ولا ماتوصل به الحقائق القليلة من تصورات الخيال وشعر التأليف إلى أمثال ذلك من مواضع الاستكراه وضيق المضطرب وأمثلته فيما بين أيدينا ماثلة لا تحتاج إلى انتزاع وهي على نفسها شاهدة فلم يبق في أمرها نزاع.
وقد جعل أبواب كتابه اثني عشر باباً ضمن الجزء الأول منها بابين اثنين وهما باب اللغة وباب الرواية والرواة وقدم بين يدي ذلك فصلين في تاريخ كلمة الأدب وفي أصل العرب.
وأكثر ما تراه من الفصول في باب اللغة مبتكر لم يسبق إليه وخصوصاً آراءه الاجتماعية التي طبق عليها تاريخ اللغة اما باب الرواية فهو بجملته ابتكار محض لم يسبقه إليه متقدم ولا متأخر.
ولا نعلم أحداً اجترأ عليه مع أن التاريخ لا يتحقق إلا به لمجيء كل الآداب العربية من طريق الرواية وقد وضع هذا الباب في نحن 160 صفحة تحتوي على فرائد اثيرة وفوائد كثيرة مما يعز العثور عليه ويندر التوفق إليه.
وبالجملة فأنت تقرأ هذا الجزء من أوله إلى آخره فتستمرئ أسلوبه الفصيح البارع الذي يكفي في وصفه أن يقال أنه من قلم الرافعي وتستغزر مواده النادرة غير أنك لا ترى في وضع مثله صعوبة إذ تجد نهج التاريخ. واضحاً ونسقه مطرداً واذ لا تجد حشوا ولا تكلفا ولا تعسفا ولا اضطرابا ولا نحو ذلك مما يدل على الحيرة وتقطع المادة ونضوب البيان وهي أخص عيوب الكتب التي وضعت في تاريخ الآداب ولكنك لو تماديت في ظنك وأردت أن تتحقق سهولة العمل من صعوبة وحملت نفسك على معارضة فصل واحد مما في الكتاب لأنفقت زمناً طويلاً ثم لا ترى إلا أنك أصبحت تقلب كفيك على ما أنفقت لأنك(4/76)
تجد الفصل الواحد في حكم الكتاب كله لا يتأتى لك إلا بعد الاستقراء والتتبع وتصفح الأسفار الكثيرة وإنضاء الخاطر والإنفاق من سواد القلب قبل الإنفاق من سواد المداد وليس ذلك فقط بل لا بد من اشتمالك على روح خاص يكون مفطوراً من الذكاء على قوة آلهية تتسلط على أرواح التاريخ وبعبارة أجلى بياناً لا بد من أن تكون نابغة نبوغاً غير مكيف ولا محدودا بصفات معينة بل هو في كل وقت يلبس مظهراً جديداً.
ولا ننكر أن الرافعي لم يخلق مواد كتابه ولا هي كانت خالصة له من دون الناس بل هي لا تزال مبتذلة في كل مكتبة ولكن أديب ولكن من غيره وفق لاستخراج هذه المواد وتنظيمها واستنباط التاريخ منها على هذا النهج الواضح حتى كأنه كذلك في أصل الوضع لقد ظهرت في الشرق مجلات وكتب أدبية كثيرة وتفرغ أناس من اهل الذكاء والاطلاع لخدمة الأدب وقضوا في ذلك مدة العمر الأطول فما الذي كان يصرفهم عن هذا العمل وما الذي كان يمنع مثل الأستاذ اليازجي أن يجعل هذا التاريخ من فصول مجلاته التي قام على إنشائها وأرصدها للآداب وقد أغنت في اللغة والإنشاء غناء كبيراً ولم تغن في تاريخ الأدب إلا شيئاً يسيراً؟
هذا على أن صاحب (تاريخ آداب العرب) تبه في عدة مواضع من كتابه إلى أنه يتفادى من التطويل والبسط والاتساع في الأمثلة ويضرب صفحاً عن كثير مما كان قد أعده للنشر في فصول هذا الجزء. فواها للشرق وأهله يضطلع النابغة بالعمل الشاق ويفترع الخطة العذراء وينزع كل منزع في طلب الكمال ثم لا يرى من يشد أزره أو يعينه في اظها عمله وتتركه الأمة فرداً يكتب ويطبع وينشر فيضطر إلى الاقتصار على مالا بد منه وينقص برغم نقص القادرين على التمام كأن الأديب ليس لقباً تاريخياً لأمة عليها أن تزيد في حاضرة ليزيد في مستقبلها لأنه قطعة من هذا المستقبل فهي إن شاءت جعلتها قطعة رثة بالية تظهر مظهر الرقعة في اسمال المحتاج وإن شاءت جعلتها قشيبة سابغة تنزل منها منزلة الطراز على الديباج.
ينبغي أن نتحول كما تحولت الأمم وأن نجانس هذه الأمم الراقية فنكون معها على السواء لا أن نطابقها فنكون معها على النقيض وهيهات أن يكون ذلك إلا إذا عمل أدباؤنا وجاءت أعمالهم ناضجة لا فجة تورث الحمى الاجتماعية. .! وإنى لهم ذلك وقد فقدوا المعاونة من(4/77)
سراة الأمة وحكومتها معاً على أن لنا ناشئة من الأمل الوثيق في هذا النشء الكريم الذي نهضت به الأمة هذه النهضة العالية ولعمري لو أقبل أفراد هذا النشء على كتاب الرافعي وأنفوا لجنسيتهم العربية فعاونوه بالإقبال على إظهار ما بقي من أجزائه لكان لنا بفضلهم موسوعات تامة نباهي بها آداب الأمم ولكان تمام هذا التاريخ تاريخاً جديداً على أنهم حياة هذه النهضة المباركة ولعلهم فاعلون إن شاء الله.
عتاب واستصراخ
للشاعر العصري الكبير خليل مطران
صدقت في عتبكم أو يصدق الشمم ... لا المجد دعوى ولا آياته كلم
يا أمتي حسبنا بالله سخرية ... منا ومما تقاضى أهلها الذمم
هل مثل ما نبتاكى عندنا حزن ... وهل كما نتشاكى عندنا ألم
إن كان من نجدة فينا تفجعنا ... فليكفنا ذلنا وليشفنا السقم
تمتعوا وتملوا ما يطيب لكم ... ولا ترعكم محاظير ولا حرم
أو اعلموا مرة في الدهر صالحة ... علما تؤيده الأفعال والهمم
بأي جهل غادونا أمة هملا ... وأي عقل تولت رعينا الأمم
لا تنكروا عذلي هذا فمعذرتي ... جرح بقلبي دام ليس يلتئم
نحن الذين أبحنا الراصدين لنا ... حمي به كانت العقبان تعتصم
هي الحقيقة عن نصح صدعت بها ... وما النصيحة إلا البر والرحم
لم أبغ من ذكرها ان تيأسوا جزعاً ... خير من اليأس أن يستقدم العدم
اليأس منهكة للقوم موبقة ... في حمأة تتلاشى عندها الشيم
ما مطلب الفخر من أيد منعمة ... رطيبة ونفوس ليس تحتدم
يأس الجماعات داء إن تملكها ... فهو التحلل يتلوه الردي العمم
كالشمس يأكل منها ظل سفعتها ... حتى يبيد شعاع الشمس والضرم
لا تقنطوا كره الله الالى قنطوا ... اليوم يعتزم الأبرار فاعتزموا
اليوم تنفس بالأوطان قيمتها ... عن كل شيء وتدنو دونها القيم
اليوم إن تبخلوا أعماركم سفه ... والجاه فقر ومقصوراتكم رجم(4/78)
إني لأسمع من حزب الحياة بكم ... نصراً لأمتنا سحقاً لمن ظلموا
نعم لتنصر على الباغين أمتنا ... لا بالدعاء ولكن نصرها بكم
لتبق يقظى على الأدهار نابهة ... لا إلا من يهفو بها سكرى ولا النعم
لتحي وليمت الموت المحيط بها ... من حيث يدفعه أعداؤنا الغشم
إن نبغ إعلاءها لاشيء يخفضها ... فهل تموت وفيها هذه النسم
لسنا من الجبناء الحاسبين إذا ... نجوا نجاة العبدي إنهم سلموا
الشعب يحي بأن يفدى ومطعمه ... مال البنين مزكى والشراب دم
مهما منحناه من جاه ومن مهج ... فبيعة البخس بالغالي ولا جرم
عودوا إلى سير التاريخ لا تجدوا ... شعبا قضى غير من ضلوا الهدى وعموا
أولئكم إنما بادوا بغرتهم ... وإنهم آثروا اللذات وانقسموا
لا شعب يقوى على شعب فيهلكه ... فإن تر القوم صرعى فالجناة هم
يا أمتي هبة للمجد صادقة ... فالنصر منكم قريب والمنى أمم
عاذت بآبائها الماضين دولتنا ... من أن يلم بها في عهدنا يتم
فاحموا حماها ولا تهتك ستائرها ... عن منجبات العلى يستحيها العقم
واحر قلباه من حرب شهدت بها ... سطو الثعالب لما أقفر الأجم
هانت علينا وإن جلت مصيبتها ... لو أن خطاب ذاك الفخر غيرهم
أي طيف عثمان لم يبرح بهيبته ... حياً على أنه بالذكر مرتسم
أني تخطي حدوداً أنت حارسها ... جفلى الطلايين لم يخشوا ولم يجموا
أني وقد علموا من جارهم قدما ... ومن بنيه غزاة الروم ما علموا
لورعت يا طيف من غيب مسامعهم ... بزأرة حين جد الجد لانهزموا
أو كنت تملك وثباً من نوى لرأوا ... من ذلك الليث ما لا تحمد النعم
ظنوا بملكك من طول المدى هرما ... سيعرفون فتي لا يعرف الهزم
يحميه عزم إذا اغتروا بهدنته ... فما به وهن لكن بهم وهم
خذوا حقيقة ما شبهتموه لكم ... مما تخبره القيعان والقمم
هل في جزائركم أم في مدائنكم ... مالم تطأه له من سالف قدم(4/79)
أبناء عثمان حفاظ وقد عهدوا ... تاريخ عثمان فيه الفتح والعظم
هم الحماة لاعلاق الجدد فلن ... يرضوا بأن ينثر العقد الذي نظموا
خلتم طرابلس الغنم المباح لكم ... وشر ما قتل الخداع ماغنموا
هناك يلقي سراياكم وإن ثقلت ... احلاس حرب خفاف في الوغاي هضم
يغشون بكر الروابي وهي ناهدة ... فتكتسيهم على عرى وتحتشم
وربما طرقوا الطود الوقور ضحى ... فهو الخليع يصابيهم ويغتلم
ورب واد تواروا فيه ليلتهم ... فحاطهم بجناحيه وقد جثموا
عطف العقاب على أفراخه فإذا ... تواثبوا قلقت من روعها الأكم
أتنظرون بني الطليان معجزهم ... وتذكرون الذي أنساكم القدم
هل في الجيوش كما فيهم مباسطة ... مع المكاره أما لزت الأزم
جند من الجن مهما أجهدوا نشطوا ... كأنما الضيم بالأعداء دونهم
مهما تشنعت الحرب الضروس لهم ... أعارها ملمحاً للحسن حسنهم
متى صلوها وفي الجنات موعدهم ... فالهول عرس ومن زيناته الخذم
والأرض راقصة والريح عازفة ... والجد يمزح والأخطار تبتسم
مغلبين ولا دعوى ولا صلف ... معذبين ولا شكوى ولا سأم
وقد يكونون في بؤس وفي عطش ... فما يقي الغرماء الري والبشم
الجوع قبح من كفر وإن ولدت ... منه أعاجيبها الغارات والقحم
هو القوي الذي لا يظفرون به ... وهو الخفي الذي يفنى ويهتضم
لا تتركوه يراديهم وقد قعدت ... بلا قتال تلاشي بأسها البهم
يارب عفوك حتى الماء يعوزهم ... فمر تجدهم بنقع الغلة الديم
لا خطب أبشع من خطب الأوار وقد ... باتت حشاشاتهم كالنار تضطرم
لكن أراهم وفي أروحهم علل ... مما تواعدها الثارات والنقم
كونوا ملائك لا جوع ولا ظمأ ... وليغلبن نظام الخلق صبركم
ألستم الغالبين الدهر تدهمكم ... منه الصروف فتعي ثم تنصرم
أليس منكم أوان الكركل فتى ... يصول ماشاء في الدنيا ويحتكم(4/80)
صعب المراس على الآفات يتعبها ... جلد تحاذفه الأنوار والظلم
وكل ذي مرة يمضي برايته ... إلى الجهاد كما اعتادت ويغتنم
يقول للعلم الخفاق في يده ... فيئ من الأرض ما تختار يا علم
وكل آب بقاء أن أباه له ... عز لدولته أو مطمع سنم
يهوى وفي قلبه رؤيا تصاحبه ... من آية الفتح حيث العمر يختتم
الموت مالم يكن عقبي مجاهدة ... نوم تبالد حتى ما به حلم
بعض الثرى فيه آمال يحس لها ... ركز ونبض وفي بعض البرى رمم
أولئكم منصفونا يوم كربتنا ... من الأولى غاصبونا الحق واختصموا
أرعد حديدا أبرق في كتائبنا ... أغلظ ورق كما يبغيك بطشهم
ابصق دخاناً بوجه المعتدي ولظى ... إذا التفت تحاذيه وفيك فم
أو التمع في نصال لا عداد لها ... خطافة تتغنى وهي تقتسم
فحيثما اعوزتنا منك ذات لهى ... تسيل منها الحتوف الحمر والحمم
فليخطب السيف فصلاً في مفارقهم ... يدن لذاك البيان القاطع العجم
أولاً فكن هنة في كف مقتحم ... منا ويصلم أذن المدفع الجلم
ليبرز العلم من تلك الصفوف لنا ... علام يمكث فيها وهو ملتثم
إنا عرفناك أنت اليوم قائدهم ... وكل آياتك الكبرى لهم خدم
هل جئت تبترنا أم جئت تزجرنا ... من حيث توقظنا الأوجاع والغمم
تالله لو طار فوق النسر طائرهم ... وذللت لهم الأبحار فلكهم
وسخرت كل آيات الفناء لهم ... حتى الجوارف والأرياح والرجم
لن يملكوا نفس حر في طرابلس ... ولن يضيعو اسوي الأشلاء إن حكموا
ولن يكون لهم من كسب غزوتهم ... إلا الشقاء وعار خالد يصم
قل لامرئ لم ترقه مصر دائلة ... عدلاً لدولتها منهم بما اجترموا
أتحرم الرفد جيراناً يضورهم ... جوع وتنكر قتلى الحرب إن رحموا
أم تدعي أن مصراً أن تبر بهم ... تشبب بها فتن جوفاء تلتهم
إذا أبو الهول أبدى مصر مرعبة ... فما يخبر عن طاعاتها الهرم(4/81)
كيد يروع لولا أن كائده ... أوطانه الأوهام والسدم
بزعمه يقتل الأيام فلسفة ... وربما قتلته هذه الحكم
الحمد لله لا تفني كتائبنا ... بقول قال ولا الأسطول ينحطم
يا أيها الوطن الداعي لنجدته ... لبتك مصر ولبى القدس والحرم
ما كان خطب ليدهانا ويبكينا ... كما دهانا وأبكى خطبك العرم
لقد شعرنا بما نالت جهالتنا ... منا وبالغ في تأديبنا الندم
أشر بما شئت تكفيراً لزلتنا ... يشفع لنا عندك الإخلاص والكرم
أموالنا لك وقف والنفوس فدى ... وعش ولا عاش في نعماك متهم
النقد
للكاتب النقادة الشيخ طه حسين
حقيقته. أثره في الأمم. شروطه ومضار الغلو فيه
ميز الخبيث من الطيب والغث من السمين واستخلاص الحق من الباطل والصواب من الخطأ وفك العقول من أسار التقليد وعقال الجمود وإعانة الطبيعة على إحياء النافع وتخليد المفيد كل هذا هو النقد الذي نرغب فيه وندعو إليه ونود لو اشتدت عناية الناس به وكثر اقبالهم عليه لأنه أقوم سبيل إلى نمو العقل المصري وبلوغه أقصى منزلة تسمو إليها الأمم الناهضة من الرقي الصحيح.
ذلك بأن أرقى ما يفزع إليه المصلحون في التربية العقلية للأفراد والجماعات أن يمدوا ظل العقل ويبسطوا سلطانه على جميع الأعمال والآمال وكافة النزاعات والحركات النفسية والجسمية التي تصدر عنا في كثير من الأحيان من غير أن يكون للعقل شعور بها أو سلطان عليها.
فالعقل الإنساني الآن سراج قاصر الضوء لا تكاد تهتدي به النفس إلا إلى قليل من حقائق هذا العالم على كثرتها وتشعب أطرافها وتعدد مناحيها.
وإذا تلمسنا مصدر هذا القصور لم يعد بنا البحث شيئاً واحداً هو ذلك السحاب المركوم الذي اشتركت العادة والقوة والرواثة في إقامته حجاباً كثيفاً يحول بين هذا السراج وبين كثير من الحقائق المختلفة في الدين والسياسة والاجتماع.(4/82)
وقد كان هذا السحاب علة حقيقية لجمود العقل ووقوفه عن الحركة أو قلة نصيبه منها حتى لزمه كثير من الضعف والفتور.
والغرض الحقيقي الذي يسمو إليه المصلحون من علماء التربية هو علاج العقل والطب له حتى يبرأ من هذا الضعف ويسلم من هذا الفتور ويصبح قادراً على أن يتناول جميع الحقائق أو أكثرها بالبحث والتمحيص ويستخرج منها وجه الصواب
وهذا ما يسميه العلماء بقوة الحكم وشدة الملاحظة وما نسميه نحن الآن بالنقد الصحيح.
فطهر من هذا شيآن أحدهما أن النقد ليس مقصوراً على أنواع القول وفنون الكلام من نظيم ونثير بل هو عام يستطيع أن يتناول كل شيء من صنائع وأعمال وعلوم ونحو ذلك.
الثاني إن سبيل النقد مظلمة مشتبهة الاعلام لا تسلك إلا بعد كثير من اقتحام العقبات وتجشم الأهوال وبعبارة واضحة لا يمكن أن تبلغ أمة من النقد نصيباً موفوراً صالحاً إلا إذا استطاعت أن تقهر العادة والقوة والوراثة أي إذا تغيرت حالتها الفكرية تغيراً ظاهراً واضح الأثر.
فنحن إذا لا نستطيع أن نبلغ من النقد ما نريد إلا إذا أمن أحدنا من أن يشاع عنه الكفر والالحاد إذا بحث بحثاً عقلياً صحيحاً عن قضية من قضايا الفلسفة والدين وإذا لم يخف أن يرمي بالخيانة والمروق إذا نازع السواد الأعظم قضية من القضايا السياسية فلم ير رأيهم فيها ولم يمالئهم عليها وإذا لم يخش أن تبطش به القوة وينال منه البأس إذا نقد شيئاً من أعمالها وبين أنه مضر أو غير مفيد ومما لا شك فيه أننا لا نسطيع أن نبلغ هذه المنزلة إلا بعد أن نرقى فينا أساليب التربية رقياً كثيراً حتى تؤدي بنا إلى هذا الطور الصالح من أطوار الحياة فسبيلنا إلى النقد إصلاح التربية وتهذبيها وإطراح الفاسد من أساليبها حتى ينشأ الشبان أحرار العقول قابلين البحث عن كل شيء معترفين بأن الحق لا يمكن أن يكون مقصوراً على فرد من الناس دون فرد ولا محصوراً في فريق منهم دون فريق.
وإذا كان كل إصلاح لا يمكن أن تشعر الأمة بالحاجة إليه إلا إذا شعر بهذه الحاجة فذ من أفذاذها ونابغة من نوابغها وأخذ يدعوها إليه مرة بالشدة ومرة باللين.
وإذا كانت مخالفة العادة وإطراح القديم مبغوضاً من كل أمة ممقوتاً في كل جمهور كان من اليسير علينا أن نتبين السبب الحقيقي والعلة الصحيحة التي نشأ عنها بعض المصريين(4/83)
للنقد ومقتهم للناقدين.
إنهم يحبون الحق وشفقون به ولكنهم يعتقدون بحكم العادة والوراثة أن الحق ما هم فيه وإن غيره هو الباطل فإذا قام بينهم من يقبح عادة من عاداتهم أو يسوئ رذيلة من رزائلهم نقموا منه وزروا عليه ونهضوا لتسفيه رأيه وتهجين خطته بمقدار ما أوتوا من قوة الدفاع عما يعتقدون أنه الحق وتلك طبيعة الإنسان في كل زمان ومكن فليس للناقد إذا كان مخلصاً إلا سبيل واحدة وهي صدق العزيمة واحتمال الاذاة في نفسه وعقيدته حتى يصل إلى ما يريد.
إنهم يكرهون أن يقبل أحد منهم الدرهم والدينار من غير أن ينقد ويتبين مكانه من الجودة والرداءة ولكنهم لا يكرهون أن تتقبل نفوسهم حقائق العلم وأنواع المعقولات من غير بحث ولا تمحيص ومن غير تفريق بين غثها وسمينها وليتهم إذ كرهوا أن يجهدوا أنفسهم بالنقد تركوا غيرهم وما يريد من تمحيص الحقائق لهم وتحقيقها قبل أن تصل إلى عقولهم ولكنهم لا يستطيعون لأنهم خاضعون لذلك السلطان القوي القاهر سلطان الاحتفاظ بالعادة والحرص على القديم.
إنهم يجهلون مقدار المشابهة الشديدة بين النقد في المعنويات وعمل الطبيعة في الحسيات فلا يعلمون أن عمل الطبيعة في تحليل المادة وتركيبها وتحويلها من صورة إلى صورة أخرى ليس إلا نوعاً من النقد الحقيقي بل هو أسح أنواع الانتقاد لأن أقرب نتائجه ابقاء النافع المفيد وإفناء الفاسد المضر فالرجل لا يموت إلا إذا حقت عليه كلمة الطبيعة بعد النقد الصحيح وعرفت أنه لم يبق صالحاً للحياة وإن وجوده أصبح من أنواع العبث الذي يجب أن تبرأ منه الطبيعة ويتنزه عنه الله عز وجل وليس النقد في الأشياء العقلية والمعنوية إلا نوعاً من هذا النقد الفطري فنحن إذا عمدنا إلى قضية في الفلسفة فبينا بعدها ما نعتقد أنه الحق وأوضحنا نصيبها من مخالفة حكم العقل والحيرة عن طريق الصواب لم يكن عملنا هذا إلا إعانة للطبيعة على ماهي بإزائه من محو الضار وإبقاء النافع.
ولو أنهم علموا بذلك وأنعموا النظر فيه ما استطاعوا إلا أن يكونوا للنقد أنصار ولرجائه مؤيدين نعم إن النقد في المعنويات ليس إلا إعانة للطبيعة على عمله فكلنا نعترف أن الباطل في نفسه مفسد للعقول مقوض للعمران وإن أقدس واجب على الإنسان هو بإزهاق الباطل وإظهار الحق ولئن كان هذا ظاهراً في قواعد العلم وقضايا الفلسفة فهو في فنون(4/84)
القول وأنواع الكلام ظاهر أيضاً لا يحتاج إلا إلى شيء قليل من البحث والتفكير فأننا إذا عمدنا إلى قصيدة من الشعر فعرضناها على النقد الصحيح وبينا وجوه الخطأ في ألفاظها ومعانيها وفي نظمها وتنسيق الخيال فيها ثم طلبنا إلى القراء أن يتجنبوا ما أشرنا إليه من هذا الخطأ ويتلمسوا ما بيناه من الصواب لم نزد على أن بينا الحق والباطل ودعونا إلى نصر أحدهما وخذلان الآخر ولا شك في أن أقل نتيجة تنتج عن ترك هذا النوع من النقد أو التقصير فيه هي فساد الشعر واضطراب أمره وقصوره عن أن يؤدي ما خلق له من إصلاح العقول والوجدان وإحياء الحق والفضيلة وإزهاق الباطل والرذيلة.
وهذا ما نحن فيه الآن فقد نشأ من بغضنا للنقد ورغبتنا عنه ومن زهدنا فيه ومقتنا إياه انتكاث فتل الأدب العربي وانتقاض أمره فأصبح الشعراء والكتاب يسيرون في الشعر والنثر على غير هدي لا يميزون خطأ من صواب ولا يفرقون بين فاسد وصحيح فقصائدهم ورسائلهم ليست إلا خليطاً سيئاً من الألفاظ الصحيحة والفاسدة ومن المعاني التي نصيب الباطل منها أكثر من نصيب الحق. . .
وهم على كل ذلك معجبون بأنفسهم مدلون بمكانتهم والجمهور فيهم مغرور وبهم مخدوع لا يرى الكلمة إلا لهم ولا الحق إلا منهم ولا الصواب إلا فيهم أما الناقدون فهم عند الجمهور وعند هؤلاء الكتاب والشعراء أدعياء واغلون قد أكل الحسد قلوبهم وأفعمت الموجدة صدورهم وعبث حب الصيت بنفوسهم فاتخذوا من نقد النوابغ وأفذاذ الرجال سبيلاً إلى الشهرة وطريقاً إلى سمو المنزل وعلو المكان.
كلا كلا أيها الشعراء المفلقون والكتاب المجيدون والجمهور المخدوع ليس النقد كما تظنون سبيلاً من سبل الشهرة أو طريقاً من طرق الصيت وإنما هو مقياس الخطأ والصواب ومميز الحق من الباطل وهو المنظم لحركات عقولكم المصلح لنفثات أقلامكم الحافظ لمجيدكم حق الإجادة والمرغم رديئكم على اتباع الجيد وابتغاء الرقي وإن أحدكم إذا نال الشهر وبلغ الصيت بإعانة النقد له وعدم قدحه فيه ونعيه عليه كان ذلك خيراً له من أن ينال تلك الشهرة ويبلغ هذا الصيت مكتفياً بثناء الجمهور وتقريظ الجمهور أولئك الذين لا ينفع ثناؤهم ولا يضر هجاؤهم لأنهم لم يؤتوا من العلم نصيباً قليلاً ولا كثيراً. إذا فالنقد لكم صديق وليس عليكم حرباً كما تظنون فكونوا له كما هو لكم فإن بلوغكم رفعة المنزلة وسمو(4/85)
المكانة رهين بذلك موقوف عليه.
أثر النقد في الامم
بعد ما بيناه من حقيقة النقد ومكانه من إصلاح العقل وتنظيم حركته لسنا في حاجة شديدة إلى أن نكثر القول في بيان أثره في الأمم مما لا شك فيه أن رقي العقل وانتظام حركته هما أرقى مطلب بطلبه المصلح في أي أمة من الأمم أي ليس للأمم مطلب اسمي ولا أجل من هذا المطلب وإذا كان النقد كما بينا ليس مقصوراً على أنواع القول وفنون الكلام بل هو عام يشمل أنواع الأعمال والصناعات والعلوم كان رقي الأمة فيه من أوضح الأدلة على رقيها في هذه الأشياء فإن الصانع لا يبلغ من النقد في صناعته منزلة صالحة إلا إذا مهر فيها وأحاط بدقائقها واسرارها وكذلك الأمر في النقد الأدبي والعلمي وغيرهما من أنواع النقد ومن هنا يتبين أن من الأسباب الحقيقة لسقوط أمر النقد في مصر ضعفها المطلق في أنواع العلوم والصناعات وفي اليوم الذي ترقى مصر فيه رقياً ظاهراً فتدرك من الإجادة في كل شيء طرفاً غير قليل لا يكون لها بد من إجلال النقد وإكباره ومن تصديق الظن به وتحسين الرأي فيه.
ذلك شأن الأمم لا ترقى في شيء حتى تجعل النقد مقياس جيده ورديئه ومرآة خطئه وصوابه ومن اليسير علينا أن نتبين ذلك واضحاً جلياً في تاريخ العرب في جاهليتهم وإسلامهم وفي بداوتهم وحضارتهم فإنهم لما لم يكن لهم في العصر الجاهلي نصيب موفور من الرقي في غير فنون القول كان نصيبهم من النقد موقوفاً عليه ومحصوراً فيه فبلغ النقد الأدبي عندهم في هذا العصر أرقى ما يمكن أن يبلغه في أمة بدوية تمتاز بالفصاحة وحسن الإعراب وبزلاقة الألسنة وذرابتها وصدق البصائر وإصابتها ولك من أنباء عكاظ وأخبارها ومن أحاديثها وآثارها أصدق دليل على ذلك بل أن هناك دليلاً ليس أنصع ولا أسطع منه على مكانة أولئك الناس من النقد الأدبي فإن الله عز وجل لم يجعل القرآن الكريم معجزة نبيه وبرهانه إلا لأن أولئك الناس الذين بعث فيهم النبي كانوا من رسوخ القدم في النقد اللفظي والمعنوي في المكانة التي لا يساميهم إليها مسام ولا ينازعهم فيه شريك. .
ولو أن أولئك الناس لم يكونوا ذوي امتياز في النقد وتفوق كثير ما كان الكتاب على(4/86)
فصاحته ومكانته من البلاغة قيماً عندهم ولا مستجاداً لديهم وتلك قاعدة فطرية فإن الشيء ذا القيمة الغالية والمكانة العالية لا ينبه شأنه ولا ينبل أمره إلا عند من له بأمثاله علم ومعرفة.
وبعد ظهور الإسلام وارتقاء العقل العربي ارتقت منزلتهم في النقد واشتدت عنايتهم به ورغبتهم فيه وأخبارهم وآثارهم المستفيضة في ذلك تغنينا عن إقامة الحجة وتكلف البرهان وجملة القول أن النقد لا يكون راقياً عالي المنزلة في أمة ما إلا إذا كانت هي في نفسها راقية سامية المنزلة في الموضوع الذي يتناوله النقد ويقصد إليه ولنا بعد هذا كله أن نقول أن ما تبلغه الأمم من رقي في الحضارة وتفوق في العلم وفوز بالسيادة وتمتع بأنواع الحرية العقلية والسياسية والشخصية ليس إلا نتيجة لازمة لرقي النقد فيها فالنقد هو أحسن مقياس يمكن أن يقاس به صعود الأمم وهبوطها ورفعتها وانحطاطها.
شروط النقد
أما شروط النقد فقد كثر فيها قول القائلين وتعددت مذاهبهم واختلفت أهواؤهم ولاسيما في هذا البلد الذي ليس للنقد فيه إلا مكان المبغض القالي ومنزل الممقوت الذميم.
فترى الكاتب أو الشاعر إذا ألح به الناقد فبين نصيب نثره أو شعره من الخطأ والصواب ومن الصحة والفساد أبرق وأرعد وأرغى وأزبد ورمى الناقد بتهم أقلها ممالأته للهوى واستجابته للحسد واسترساله في الشتم والسب وغلوه في الادعاء والغرور ولست الآن بإزاء القول المفصل في شروط النقد ولكني أقول على سبيل الإجمال أن النقد نوع من أنواع المناظرة فكل ما يشترط في الجدل يشترط فيه إذ كلاهما لم يصطنع إلا لإظهار الحق وخذلان الباطل ولا شك في أن الشتم والسب والتقريع والتأنيب ليس شيء منها بطريق إلى الحق وإنما الحق نتيجة البحث الهاديء المعتدل الذي يبرأ من الاستجابة لعواطف الحب والبغض ونحوهما فلا يمكن أن يكون الناقد منصفاً إذا استجاب لعاطفة من هذه العواطف فمالأ خصمه وانحاز إليه أو ظلمه وألح عليه وإنما الانصاف مزاج لا يعتدل إلا بصدق النية وحسن المقصد وتحكيم العقل ورفض الهوى وعدم الاستسلام إلى العواطف والوجدان.
وإذا كان النقد في كل شيء لا يصدر إلا عن ذي العلم بذلك الشيء والتفوق فيه كان نقد الجاهل نوعاً من لغو القول وسخف الحديث وكان من الشروط الضرورية في النقد العلم(4/87)
بالموضوع الذي يبحث الناقد عنه ويتكلم فيه.
قالو ومن ضروريات النقد أن يعترف الناقد بحسنات خصمه قبل أن يذكر سيئاته ليكون ذلك ادعى إلى تصديق الظن به وتحسين الرأي فيه وعدم أتهامه بالميل أو الحسد أو الاستجابة للأهواء ولست أرى هذا الرأي ولا أميل إليه لأني أعتقد أن النفس التي لا تميل إلى الحق إلا إذا توسل إليها بأنواع من الملق والتزلف وفنون من المدح والاطراء خليقة أن لا يحفل بها الناقد ولا يلتفت إليها لأنها إنما ترغب في الحمد والثناء لا في الحق والصواب قالوا وإذا كان الكتاب مؤلفاً في الفلسفة الإلهية مثلاً فمن الجهل نقد أغلاطه اللغوية ولست أدري من أين لهم هذا الرأي فإن للعالم بالفلسفة أن ينقد الكتاب في موضوعه وللعالم بالألفاظ أن ينقد الكتاب في ألفاظه ولم يقل أحد أننا إنما نريد الرقي في موضوع دون موضوع وإنما نريد أن نرقي في ألفاظه ولم يقل أحد أننا إنما نريد الرقي في موضوع دون موضوع وإنما نريد أن نرقي في ألفاظنا كما نريد أن نرقي في أفكارنا ولو أننا شايعناهم في هذا الرأي ومالأناهم عليه لانعقدت ألسنتنا وتحطمت أقلامنا وغلت أيدينا بإزاء ذلك الكاتب الذي يؤلف كتابه في الطب والمنطق بلغة العامة ودهماء الناس.
قالوا ولا يحسن بالناقد إلا أن يكون معتدل اللهجة بريئاً من الغلو في التشهير بخصمه والقدح فيه وهذا حق لاينكره إلا مكابر أو عنيد ولكن مالهم يكرهون قول الحق والاعتراف به ويعدونه نوعاً من الشتم وقاسي الكلام فلو أني قرأت فصلاً من كتاب فضحكت من سخفه أو خجلت من جهل صاحبه وقلت في نقده أنه مخجل أو مضحك لم أكن عنده إلا سبابة سفيهاً مع أني لم أقل إلا الحق ولم أمل إلا إليه
ومبلغ القول أن شروط النقد كلها تنحصر في شيء واحد وهو الاعتدال وعدم الميل إلى الهوى والغلو في الثناء أو الهجاء.
هذه كلمتنا المجملة على النقد في نفسه ومما لا شك فيه أن النقد ينقسم بانقسام موضوعاته أقساماً شتى يهمنا منها النقد الأدبي والعلمي أي الذي يتعلق بفنون الكلام ولهذا النوع من النقد شروط وأركان خاصة نحن آتون عليها في الأجزاء الآتية وسنبدأ منها بنقد الشعر في الجزء الآتي إن شاء الله.(4/88)
الجمال والحب
وأثرهما في الحياة (تابع)
هذه المحيطات بنا وما تحويه من الرواء والبهجة هي أكبر الأسباب في استدامتنا الحياة وإبقائنا على أنفسنا. والا فقل لعمرك ما معنى العيش على مابه من آلام وغصص إذا لم يكن حباً في الأرض والسماء والمخلوقات التي حولنا. . لم نريد من كل قلوبنا البقاء في هذا الوجود أطول زمن ممكن ونحن لا نفتر نضج من الأهوال التي ترهقنا إلا إذا كان في العالم الذي نعيش فيه من السحر ما يذهلنا عن متاعبنا وينسينا آلامنا وينفث فينا من السرور ما ينعشنا ويحيينا.
أو أن كل العرض من الحياة استبقاء النوع كما يرى شوبنهور وإن كل ما في الوجود إنما يخدم هاته الغاية فتقديرنا للجمال وميلنا إليه وحبنا وجهادنا ونصبنا وكل ما نعمل وما نحتمل إنما هو من أجل الأجيال القابلة وتحسينها وإذا صح هذا وكان غاية الطبيعة من كل الأجيال المتعاقبة هي هذه فأي شيء يكون نتيجة ذلك كله وما الذي سيحدث بعدما لا نهاية له من الأبناء وأبناء الأبناء.
إني أميل لأن أصدق إلى حد غير قليل بنظرية استبقاء النوع وتحسينه ولكني لا أستطيع أن أجعلها الغاية التي من أجلها كانت كل الوسائل كما جعلها شوبنهور. وعلى هذا فأني أعتقد أن الفرد يعيش لنفسه لا للنوع فقط وإن عواطفه وإحساساته إذا كان فيها شيء يميل بالطبيعة لجهة استمرار الإنسانية فإن فيها غير ها كثيراً جعل لأسعاده هو وتغلبه على مضض الأيام بأن يبعث إليه من العالم الذي حوله أريجاً منعشاً للآمال يزيد قوة الحياة فيه ويخدر أعصابه إذا اضر بها الألم كما أن قواه العاقلة كلها تعمل لهذه الغاية من غير ملل وتنجح دائماً في الوصول إليها.
من الأيام القديمة حين كانت الإنسانية لا تزال في طفولتها نرى في أقوال السالفين من التغني بالجمال أو تصويره وتمثيله ما يدلنا على إحساس هؤلاء الناس به وإذا كنا نقتصر في أمثلتنا على مشاهدات التاريخ فإن ما خلفه قدماء المصريين وراءهم من التماثيل يدلنا على هذا كما أن شعر المتقدمين كله يبين لنا عن حبهم لأشياء مخصوصة يصفونها بالجمال وكلما تقدمنا مع العصور تقدم ولع الناس زاد شغفهم ورق نظرهم واجتلوا من المكنون في(4/89)
الأشياء الصامتة فإذا ما أخذت مثلاً أشعار هوميروس وما تكنه من الخيال رأيت من خلالها ما كانت تحويه نفس الشاعر ونفوس أهل زمنه من البحث عن الجميل في الأشياء القدسية وما يلقبونه الإله. ثم إذا تقدمت مع الزمان وأخذت أسفار العرب في صدر الإسلام بل أخذت القرآن نفسه مثلاً ظهر لك أن الناس صاروا يفهمون الجمال في غير الأشياء القدسية وغير النساء: صاروا يفهمونه خارج هذه الدائرة الضيقة المحدودة التي تكاد لا تقع تحت الحواس ويختص بها الخيال فيما هو أكثر تحققاً في الواقع ووقوعاً تحت حكم النظر والسمع فإذا ماقلبت صفحات ديوان من دواوين الشعراء الأقدمين أو أي كتاب من كتبهم رأيتهم يذكرون المحيطات بهم بنوع من الأعظام ويعدون فيها من المعنى ما يدل على تقديرهم لها التقدير العالي. ولا أذهب بعيداً لآتيكم بمثل فهذه صحيفة بين صحائف القرآن الكريم الكثيرة ملأى بهذا المعنى جاءت تحت يدي لأول ما فتحت المصحف. قال تعالى في سورة النحل: {والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون. وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس أن في ذلك لآية لقوم يتفكرون}.
وإنه ليخيل لي أن إحساس الناس بالجمال سار كغيره من كل الأشياء أو على الأقل من أكثرها على سنة النشء والارتقاء. فكان أول ما أخذ بنظرهم جمال المرأة من جانب الرجال وجمال الرجل من جانب النساء. ولم يكونوا في ذلك إلا كبقية الحيوان مدفوعين بقوة الطبيعة وعامل الانتخاب الجنسي لأدخال شيء من العزاء لنفوسهم عن شدائد الحياة ولاستبقاء النوع أيضاً وتحسينه. والذي يحملني على هذا الاعتقاد ليس هو فقط ماجاء في التاريخ فإن أقدم ما نعرف منه لا يكفي لذلك تمام الكفاية وإن أظهره لحد كبير. ولكن الأمم الحاضرة التي لا تزال في حالة البربرية وتحكي بتكونها تكون الأمم البائدة والأمم القديمة جداً تعطينا فكرة تكمل ما نأخذه عن التاريخ. وهاته الأمم ينحصر الجمال أمام أنظارها في المرأة وفي أشياء أخرى قليلة جداً مما يستعمل للزينة.(4/90)
وإذا تقرر لدينا أن هذا التزين من جانب الرجال إنما حرض عليه حبهم التقرب من النساء كما تفعل الذكور من الطيور مثلاً أمام إناثها إذ تنشر ذات الريش الجميل ريشها (راجع دارون. تسلسل الإنسان صحيفة 141) وتصدح مغنيات الطيور بأغانيها البديعة أيام فصل الحب لتجتذب الأنات علمنا أن أول من أحب كل فرد من أفراد الجنس هو فرد من أفراد الجنس الثاني من الفصيلة بعينها وفقد جماله.
ثم صارت تنسب الأشياء في جمالها بعد ذلك إلى المرأة. ومن هذا نعلم السبب الذي من أجله كان كل جميل في العصور السالفة يأخذ حسنه نتيجة شبهه بها أو قربه منها. أي أن الإنسان حين ابتدأ يؤمن بجمال الأشياء مما حوله لم يؤمن به إلا بواسطة تداخل محبوبه فيما بينها: فإذا ما جلس الصب ذاكر دار محبوبته لبست الأشياء التي فيها ثوباً يجعلها عزيزة عنده مهما كانت صغيرة ضئيلة في نفسه. فتراه يندب الأطلال والأماكن التي أقامت فيها ويتشوق إلى حيث هي الآن ويذكر من توابعها ما كانت تلبس أو تتزين به أو تميل إليه ثم إذا جنه الليل ورأى الكواكب التي أمامه تطل عليها والبدر يرنو إليه واليها وذلك الظلام الهائل يلفه ويلفها أحب تلك الأشياء وصحبتها فأوحت هي إليه من جمالها ما يزيده بها تعلقاً وشغفاً. وأي منا قرأ شعر العرب قبل الإسلام وبعده في العصر الأول منه أي أيام الدولة الأموية يجده مملوأ بهذا المعنى وما يؤيد ما نقول. كما أن الكتب السماوية: وكلنا يعلم مبلغ فناء أصحابها في حب الله: إنما يحب أصحابها من الجمال والعظمة والسر الخفي في كل الخلوقات لأن فيها من أثر محبوبهم المقدس ما يجعلها عزيزة عليهم ذات قيمة كبيرة أمامهم.
تقدمت الأيام وسارت الفكرت العامة في تقدير الجمال هي الأخرى للأمام ولم يكن عصر العباسيين عند العرب حتى ابتدأ الكتاب والشعراء يقدرون في الأشياء جمالاً خاصاً بها يحسونه من غير واسطة ولا وسيلة. ومن أجل هذا ابتداء أبو نواس يعيب على المتقدمين أكثر من مرة في قصائده المختلفة كثرة النوح على الأطلال والدمن وإذا كنا لا نستطيع أن نقول أن هذا يقوم حدا دقيقاً بين تقدير الجمال لذاته ولعلاقته بالمحبوب فأنه من العلائم الهامة التي تدلنا على تقدم الشعور تقدماً محسوساً نحو اجتلاء الجمال من كل شيء يدلنا على ذلك كثير من كلام أبي نواس نفسه كقوله مثلاً:(4/91)
واغدُ على اللهو غير متئد ... عنه فهذا أوان مقتبله
أما ترى جدة الزمان وما ... أبدع فيه الربيع من عمله
وافي وجدة الزمان غادية ... عند اقتراب الشتاء من أجله
فاحتل أرجاءها فأدركها ... من زهر نواره ومن حلله
أدركت في أخريات شتوته ... ما كان عز الربيع في أوله
وأدركته السحاب ترضعه ... درة وقدٍ تحي على بلله
فاشرب على جدة الزمان فقد ... وافى بطيب الهوى ومعتدله
وقوله يصف نزول المطر:
همت السماء برذاذ ثم بطش ثم برش ثم بوابل ثم هتنت حتى إذا تركت الربى كالوهاد ريا تقشعت فأقلعت الخ الخ.
يجد الإنسان في هذا الكلام وفي كلام المعاصرين وبعض من سبق ابا نواس وعصره تقدير الناس لجمال الطبيعة في ذاته مجرداً من نسبته للمحبوب وإذا ما أردنا الأمثلة من الأزمان التي تلت وخصوصاً إذا وصلنا عصر الأندلس وجدناها كثيرة تفوق الحصر. فإذا دخلنا في القرن الثالث عشر والربع عشر والخامس عشر أي حين ابتدأت حياة الفن في إيطاليا تأخذ رونقها دخلنا في عالم هائل تظهر فيه متتالية الأوصاف الكبيرة الكثيرة وحب الناس للجمال وإظهاره على صورهم والتغني به في شعرهم. ففي أول هاته القرون الثلاثة ظهرت قصة دانتي
ثم ظهرت في القرن الخامس عشر (غنوة) رولاند للاييت وفي القرن السادس عشر كنا نرى شكسبير في انكلترة وكتاب ذلك القرن الكثيرين في فرنسة. وبقي ذلك الارتقاء في الإحساس بالجمال يتقدم حتى أيامنا هذه حين أصبح له حظ كبير جداً في الحياة العامة عند كل الأمم الراقية وصارت طبقة جماعة المشتغلين بالفنون تشغل المحل العظيم الذي تشغل.
ويختلف تقدير الجمال إلى يومنا هذا ما بين أمة وأمة وبالحرى ما بين جنس وجنس. ولقد أفرد دارون للتدليل على ذلك قسماً من كتابه تسلسل الإنسان واستشهد عليه بأقوال جماعة العلماء من السياح. فالهنود الشماليون يقدرون الجمال عند ذي وجه عريض مسطوح(4/92)
وعيون ضيقه واصداغ عالية وجبهة منحدرة وذقن عريضة واسعة. وتمتدح الآذان الهائلة عند جماعة الصينيين. وعند أهل سيام يحب الأنف الصغير والفم الواسع والشفاه الغليظة والوجه الكبير. أما عند جماعة السودان فجمال المرأة في عظم أردافها حتى أنه إذا أرادوا زوجة صفوا النساء صفاً واختاروا منهن من تغلب عندها هذه الصفة. (واحسب ذلك كان محبوباً عند العرب بدليل ما جاء في أخبار عمر بن أبي ربيعة عن جمال عائشة بنت طلحة) - أما عن اللون فإن من أجناس العبيد من يعقد حواجبه اشمئزاز أن يرى اللون الأبيض والجميل الجميل عندهم من يزيد في السواد على أقصى الدرجات حتى لقد كان الأطفال ينادون وراء اوزلى (انظر إلى الرجل الأبيض ألا تراه كالقرد) وفي الهند الصينية كانوا يشيرون إلى أسنان سيدة أوربية منتقدين بياضها بحيث تظهر كأسنان الكلب وعابوا عليها تورد خدودها لأن ذلك يشبه زهر البطاطس وغير هذا من الأمثال التي جاء بها دارون كثير.
ولعل ذلك هو مادفع بعض من كتب عن الجمال كرالف والدوامرسن الأمريكاني على الامتناع عن تعريفه والاكتفاء بالإعجاب به وإظهار آثاره.
وعندي أن اختلاف الأذواق راجع إلى تأثير الوسط على الناس إذ أن الطقس والمحيطات تشكل الأفراد بشكل مخصوص وتعطى لسحناتهم من الملاءمة للطبيعة التي يعيشون فيها ما يجعلهم يرون الأشياء بعين تخالف نظراتها نظرات سكان الأقاليم الاخرى. وكل امتياز في الصفات التي تميز إقليمه بدقتها أو تناسبها عد جميلاً. وبذلك يستطيع الفرد من أهل هذه الديار أن يجد على مقربة منه ما يوافق ذوقه وطبعه ويدخل بذلك السرور إلى نفسه ويعزيه عن متاعب العيش وفي الوقت عينه ما يدفعه لاستبقاء النوع وتحسينه وترقيته من الوجهة التي حدتها له الطبيعة. وهذان أهم وظائف الجمال من الوجهة الاجتماعية.
أما لو كانت المحيطات بنا لاتعزينا بل تضايقنا. لو أنا وجدنا أنفسنا بين أشياء لا نقلب أنظارنا فيها حتى تنقبض قلوبنا وتشمئز لمرآها وكنا لا نجد جمالاً في الخيال الذي لا يتحقق فاحسب مؤكداً أنا نفضل الانفراد والوحدة وأن نعيش في أنفسنا لأنفسنا ثم يعرونا من ذلك ضيق وهم لانجد له مفرجاً فيما حولنا فتناوبنا فرة التخلص من الحياة ونهم بأنجازها وتكون الطبيعة لم تكمل بذلك شيئاً من أغراضها. أما وكل مايحيط بنا قد أودع فيه(4/93)
من السحر ما يجذبنا ويستوقفنا أمامه وأعطي من الجمال ما يحببه إلينا ويجعلنا نود البقاء إلى جانبه فأنا مستبقين حياتنا حريصين عليها. كذلك وجود المرأة على رأس هذا الجمال كله يدفعنا بالغريزة للأبقاء على النوع والعمل لتحسينه.
هذا أثر الجمال في الحياة العامة للوجود. وله إلى جانب ذلك من الآثار ما يقوم أخلاق الأمم ويبعث إلى نفوس الأفراد أرقى الاحساسات وأشرفها ويخلق من كل إنساناً رقيق الطبع عالي الهمة محباً للخير والسلام العام. أو لو رأيت إنساناً يرقب أمامه غروب الشمس وقد تورد القرص وأحر الأفق وانتشر في السماء ذلك اللون الذهبي السريع ثم تنحدر الغزالة مسرعة إلى غياباتها وهي تزداد احمراراً كأنما تختنق ويزحف الليل يطارد كل ما في السماء وينشر عليها غطاءه الأسود الهائل: لو رأيته تلك الساعة وهو يرقب فناء هاته الأشياء كلها وفتح لك نفسه كم تجد متأثراً عمل فيه ذلك المنظر الساكن الحزين. ثم كم يبتهج إذا رأى النجوم تعدت كلها لامعة من خلال الظلمة فبعثت مكان ذلك الموت المطلق أملاً يحي للغبراء ومن عليها.
مثل هذا الابتسام يطوق ثغور الناس عامة حين جدة الزمان ومقتبل الربيع حين تأخذ الأرض زينتها ويلبس كل شيء أبهى كسائه والسرور الذي يداخل نفوسهم ويظهر على وجوههم حتى لا ترى إلا سنا ضاحكاً وقلباً طروباً وفؤاداً يملأ الصدر فرحاً حين يبتسم الوجود وقد قام من رقدة الشتاء وغادره ذلك الرداء القاتم الذ يأتي على كل الموجودات في الفصل البارد. وليس بنو آدم وحدهم هم المنتشين بل لقد كنت أجس في شهر مايو من العام الماضي أن كل شيء حتى الجمادات الصامتة في نشوة بما حوله من الخلق الجديد. وأينا دخل حديقة من الحدائق الكثيرة هنا في ذلك الشهر لا بد رأى أوراقها ضاحكة بلونها الزاهي البديع وزهرها كذلك يتوج هاته الهامات الكبيرة الثملة تحت نور شمس الربيع.
وفي هذه الأيام العاشقة لا يستطيع الإنسان أن يحبس قلبه مهما جاهد عن أن يحب. تراه مدفوعاً بقوة أكبر منه نحو الجنس الآخر وكله العاطفة الشريفة المجردة من كل غرض وتهب الطبيعة للنساء من الحسن مالم يعرفن في غير ذلك الوقت فتراهن قد لبسن جمالاً. يروع العين وظهرن وسط الزخرف الهائل الذي يتزين به الكون ملكات ذلك الزخرف ورباته. ولا يفتأ الإنسان يسجع قلبه يصدح وحيداً في ظلمة القفص الذي يحيط به بأناشيد(4/94)
الغرام راجياً حبيباً يضمه إليه شاكياً الانفراد لأنه يريد أن يخبر حبيبه بمتاعه بكل ما حوله فإن في ذلك ضعف المتاع.
وحقاً إن الوحدة في هاته الأيام الناضرة الزاهرة بؤس وس النعيم وشقاء بين السعداء. . كان أولى أن يسرح الإنسان وسط الجنات التي تحيط به فرحاً هائماً في عوالم الخيال الواسعة. ولكن كأن لا خيال أكبر من الواقع يومئذ فالخارج عن الواقع خارج عن دائرة الموجودات السعيدة لذلك لا قلب ينصح صاحبه بالتعلق بالخيال أياً كان بل هو ينسى كل شيء وينسى الأنانية المركبة في الإنسان ويميل بجمعه طالباً قلباً آخر يطير معه وسط رياض الربيع الناضرة عالماً أن الحياة متاع وأن من فاته الشباب والربيع فقد ولت حياته.
الجمال رسول الحب كما قال أمرسن وقائد الأرواح الشابة المتقدة إلى محبوبها يجمعها معاً ليسعد كل صاحبه وليزيد في قوة حياتهما ويجلو نفوسهما ويعوض كلاً عن انفراده الأول سعادة مضاعفة بذلك الاجتماع الجديد.
والحب هو العاطفة الطبيعية التي تولد يوم يولد الإنسان وتنمو فيه حتى إذا جاءته أيام الشباب وتكاملت قواه لم تسطع هاته العاطفة القوية أن تبقى محبوسة في الصدر مستسلمة لسجنها ساكنة فيه بل هي تثور وتسوقنا رغماً عنا لنطلب شريكاً نجد فيه ما يكمل وجودنا وكل جهاد منا لإخماد نار الحب في نفوسنا جهاد ضائع (متلو)
محمد حسين هيكل(4/95)
طريق السعادة
عربها عن الإنكليزية احد الأفاضل
حرية الإرادة هي القوة التي تحكم العقل وتهيمن على النفس ولا يتأتى للإنسان الحصول على هذه القوة ما لم يكن له الإدراك الكافي. ولا يراد من ذلك أن يشتغل المرء بالمباحث النفسية العقيمة لأن الغاية من الحياة هي الوصول إلى السعادة وذلك يتم باستقصاء أحوال الطبيعة البشرية والوقوف على سيرة مشاهير العصور الخالية ذكوراً كانوا أم إناثاً وأول درس تلقنه لنا الحياة هو ضبط النفس لأنه مرقاة النجاح وسلم الظفر وبديهي أن غاية كل أمرٍ في الدنيا أن تتم له هذه الأمنية أمنية النجاح والتوفيق في الأعمال. وإذ عرف ذلك وجب علينا أن نبحث في المعنى المراد من النجاح المذكور.
إن النجاح كلمة نسبية لا مطلقة يعبر عنها قوم بالسعادة وآخرون بالقناعة وغيرهم بالمال. وغني عن البيان أن المال كان قوة لا يستهان بها وسيظل كذلك مادامت له اليد الطولى والقدح المعلى في إدارة دفة الأعمال. على أنه ينبغي لنا أن نضع نصب عيوننا أن النجاح في الحياة هو النجاح في الأعمال ولا يعكس فقد قال أحد الفلاسفة أن النجاح لا يستطيع أن يبتاع السعادة وغالى أحد فلاسفة اليونان الزاهدين فقال أن الإنسان قد يشتري الشقاء بالمال. فإذا أحظاك الجد وتوفر لديك المال وجب عليك أن تعرف كيف تستخدمه في قضاء حاجتك وذلك يتضي عقلاً راجحاً وفكراً مستنيراً إن في العقل صفة تؤهله للقبض على عنان القوة والنجاح وبغير هذه الصفة لا تكون الحياة شيئاً لما يتخللها من حبوط المساعي واليأس وبها يبسم الدهر عن ثغر ألمى وتسفر عروس الحياة عن طرف أحوى وتكون جميع العقبات والمصاعب بمنزلة منارات تدلنا على مقدار سيرنا في سبيل النجاح والسعادة بل هي حجر الحكمة الذي يحول كل ما يمسه ذهباً. هذه الصفة هي التفاؤل أي النظر إلى المستقبل بعين الرجاء والأمل بالخير وضدها التشاءم أو النظر إلى المستقبل بمنظار أسود يري الجو أقتم مكفهراً والحياة سوداء كالحة. والتفاؤل كحرية الإرادة هبة سماوية يمكن ازديادها بالتمرن والعمل وتعطيلها بالبطالة والكسل. ولا ريب في أن الغاية من خلق الإنسان هي التفاؤل لأن التشاؤم علة طارئة على العقل لا وجود لها في الطبيعة. فالمتفائل يرى السحب في جو السماء فيقول أن لكل سحابة نوراً أما المتشائم فإذا رأى السحب(4/96)
بيضاء قال أنها نذير بتلبد الغيوم. المتفائل يقول نعم وإن تلبدت الغيوم فإنها لا تحجب الشمس إلا إلى زمن لأن الشمس موجودة خلفها وهي أقوى من كل السحب ومتى حان الوقت فرقتها أشعتها الحارة أيدي سبا.
إن التفاؤل في الأعمال يقصد به الرغبة في العمل والميل إلى إتمامه فالذي يشتهي أمراً ويرغب فيه لايرى أمامه إلا الغرض الذي يسعى إليه. قد يخسر خسائر وقد تعترضه صعوبات ولكنه يعرف أن أمامه غرضاً وإن الوصول إليه أمر لا بد له منه فإذا تطرقت إليه الشكوك فترت عزيمته وتراخت همته لذلك ينبغي نفي الشكوك لأن النجاح موكول للعزائم والعزائم مقرونة بنواصي الفكر وكل يوم تعمل فيه عملاً تسير فيه خطوات في سبيل النجاح ولو لم يسفر العمل عن نتيجة راضية. وكل مسألة تحلها تساعد في إدراك الغاية لأنه تنشئ الشعور بالرضى وتسهل متابعة العمل والسرور به فترى من هذه المقدمات أن كل نجاح مادياً كان أم أدبياً مرتبط بخاصة التفاؤل وأننا كلما امتلكنا ناصية هذه الخاصة (الصفة) ازددنا نجاحاً وسعادة.
ومن ثم وجب على من يروم السعادة أن يكون من المتفائلين إذ التفاؤل رائد النجاح. لأن المتشردين والبلة الذين يزحمون الشوارع على المارة وينامون في الطرقات ليلاً ويكونو عالة على المجتمع الإنساني لم يكونوا كذلك لو كانوا من طائفة المتفائلين. ولا ريب أن بعضهم هووا إلى هذه الوهدة لفقد الذراع القوية التي تنتشلهم من هاوية الخمول ولو كان لهم قوة الاعتماد على النفس التي تنشئ التفاؤل لما كفوا عن الجهاد وبعضهم سقطوا فيها بسبب المسكر إن المسكر ينشيء سدوداً صناعية لأنه يبلد العقل والإنسان يرغب فيه بمحض الإرادة ولو كان الناس كلهم متشائمين لأصبح العالم جحيماً لا يطاق وسكناه علقماً مر المذاق. ومن المؤكد أن في العالم قواماً ينيرون فضاءه كما ينير ضوء الشمس فضاء الكون أولئك هم المتفائلون ولا ريب في أنهم يؤثرون على غيرهم فيحملونهم على مشاكلتهم والتشبه بهم. فإذا أردت أن تكون إنساناً بالمعنى الصحيح وجب عليك مماثلتهم فذلك خير لك ولمن هم حولك واعلم أن تأثير قدوتك كموج البحر يسير في دوائر متسعة فيؤثر في الذين تلاقيهم والذين لا تلاقيهم وتكون قدوتك سبباً في تحسين أحوال العالم ومتى قمت بهذا الواجب عملت خيراً ونلت ثناء الناس وعطفهم وظفرت بالسعادة المثلى والنجاح مادياً(4/97)
وأدبياً.
يظن البعض أن الإنصاف بصفة التفاؤل متعذر فنقول له كلا لأن هذا التفاؤل هو من مقتضيات الطبع لا التطبع وكل ما يجب عليك عمله هو أن تنظر إلى المتسقبل بنظارة بيضاء. تأمل في هذا الموضوع قليلاً وتبسم الا تشعر بسرور من هذا العمل. ارفع عينيك إلى سقف الغرفة التي أنت فيها الا يحول ذلك أفكارك عن الموضوع الذين أنت مفكر فيه. إذا لم تشعر بعد ذلك بتحسن فاخرج إلى خارج مكانك واشخص إلى الجو تذهب عنك الهموم وتنجل عنك الغموم لأن ليس في الطبيعة مكان للتشاؤم. لأن التشاؤم ينشأ بين صغار الأحلام والعقول الضيقة.
إذا طالعت سفر الحياة تجد أن لك عمل جزاء فإني أعرف رجلاً أراد في صباه أن يكون صحافياً فطلب أن ينتظم في سلك الصحافيين فلم يفز بطائل وقدر له أن يشتغل بالتجارة فذهب إلى بيته يائساً كئيباً يود لو أن عجلات الترام مرت عليه وسحقته سحقاً فذهبت بحياته وبنكد طالعه والآن هو رئيس مهنة يربح منها ثلاثة أو أربعة أضعاف ما كان يعطاه لو كان صحافياً فما ظنه بلاءً وشؤماً كان بدء نجاحه وسبب سعادته.
إذا كان عملك اليومي شاقاً فابذل جهدك في اتمهامه عالماً أنه صفحة من صفحات أخلاقك وإن إتقانه يؤهلك إلى النجاح في المستقبل فالمستر غلادستون المشهور كان يكره الحساب في المدرسة إلا أنه قوي على هذه العاطفة وأتقنه فصار بعد ذلك ناظراً للمالية فرئيساً للوزارة. تيقن أن الصعب الذي تفوز به ينشئ فيك الاختبار ويكيف أخلاقك فكن متفائلاً تنل المرام.
فوائد المتاعب - انظر في ماضي حياتك إلى أمرين فقط أولهما كل المسرات التي حصلت لك في الحياة وثانيهما كيف كانت كل تلك المتاعب التي مرت بك بداية أزمنة السعادة والنجح إذ بالتعب تدرك الراحة على حد قول الشاعر:
دعيني أجد السير في طلب العلى ... فسهل العلى في الصعب والصعب في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من أبر النحل
إن مزية العقل على المادة هو أنه يوجد لنفسه الحال التي يكون عليها أخرج إلى الأماكن التي تغشى جوها السحب ترها مطلمة ولا يمتد نظرك إلى بعيد ولكن متى طلعت الشمس(4/98)
من وراء الغيوم يظهر بطلوعها الوف من الأشياء المتوارية. ومعلوم أن الشمس لم تخلقها لأنها كانت حيث هي من قبل وإنما أنت لم ترها قط. وهكذا كل جمال الأرض أمامك تراه إذا اهتممت بالنظر إليه واستخدام ضياء شمس أفكارك عند الحاجة إليه.
إذا أدخلت نور الشمس إلى غرفة سوداء لا تمتص حيطانها منه إلا قليلاً فتبقى مظلمة قابضة مهما كان النور في الخارج أبيض ناصعاً. وعلى الضد من ذلك الغرفة البيضاء فإنها تزهو وتلمع في ضياء الشمس فتنير ولو كان الجو أقتم فإذا أردت أن تجعل عقلك محزناً لضياء الشمس العقلي وجب عليك أن ترفع من أولاً كل الأفكار المظلمة وتستبدل بها أفكاراً سارة مضيئة لأن المرء ينبغي أن يكون حارساً على أبواب عقله ويقبل ما يريده من الأفكار ويرفض مالا يريده.
إن من الامتيازات التي خص بها الإنسان هو أن ينشئ لنفسه متى أراد جنة أرضية بإيجاد أفكار نيرة تضيء حياته. يظن بعض المحدثين أن السماء وجهنم مسائل فكرية أعني أن السماء هي من عمل الفكر النير وجهنم من عمل الفكر المظلم ومهما يكن من بعد ذلك عن دلائل الكتب المنزلة فإن فيه دليلاً على ما يجب على الإنسان أن يكون. فإذا سمح المرء لليأس والحزن بالدخول إلى باحة بيته العقلي وطرد الرجاء والقناعة يخطئ خطأ بيناً. الذي يستولي على قلبه الحب يرى العالم جنة مزدانة بالزهور مؤرجة بالعطور فإذا جاء يوم السوء سمت نفسه وارتفعت ووطأ العالم بقدميه ولا يرضى أن يبدل بحاله حال الملوك لأن الملوك يحسدونه على ما هو عليه إذ ليس لهم ماله. وهذه الحال العقلية أوجدها هو لنفسه وهو قادر على إيجاده في أي وقت شاء.
وإذا قيل إما من علاج لداء التشاؤم قلت بلى لكل دواءٍ دواءٌ والعقل مسود بالأشياء التي يعيرها اهتمامه فإذا قصر المرء فكره على العمل فقد عمي عن كل المؤثرات المحيطة به وإذا مال كل الميل إلى الموسيقى أو إلى التأمل في صورة جميلة فمهما حدث حادث في الخارج لا يؤثر على أفكاره. الولد الصغير وهو عائد إلى منزله مساءً يصفر تشجيعاً لنفسه يريد بذلك أن يستبدل بالخوف الذي يغشاه الشجاعة التي يحدثها الصفير فإذا شعر المرء بالانحطاط عليه أن يطرده بالأفكار المنيرة لأن الرجاء يزيل الخوف والأمل يحدث الشجاعة.(4/99)
هذا والتوفر على الجهاد في إنارة الأفكار يحي العقول فإذا شعر أحد بتعب مفرط أو جهاد مبرح فليبتسم ويضحك وحينئذ تتوارد عليه الأفكار السعيدة وإذا احس الكسل فلينشد الأناشيد المفرحة وعند ذلك يشعر بنشاط يعينه على استبدال المسرة بالكدر.
إن كل إنسان يكون كما يريد أن يكون فإذا عبس ساعد الكدر على استباحة باحة عقله فكأنه أعطى العدو فرصة لمهاجمته ولكن إذا ابتسم فكأنه رفع راية نقش عليها البيت مملوءٌ سروراً فلا محل للكدر واليأس.
ولا يغيبن عن الذاكرة أن المحيط الذي حولنا يؤثر في أفكارنا فمن الثابت المقرر أن المناظر الجميلة وضياء الشمس تبعث السرور في النفس كذلك إذا أراد الإنسان نقاء أفكاره ينبغي أن يسكن بين عشراء فضلاء فبعض الناس يهتمون بجعل لون غرفة النوم بسيطاً جلباً للراحة ويجعل لون غرفة الجلوس بهجاً لجلب السعادة والسرور ويجعلون لون غرفة الطعام أحمر توليداً للشهية والمرح ويقولون أن اللون الأخضر مفرح فهو يناسب أن يكون لون غرفة العمل.
أما أسباب السعادة فكثيرة منها أن تذكر الكتب السارة التي قرأتها والأحاديث اللذيذة التي سمعتها والمناظر المبهجة التي رأيتها والأماكن الجميلة التي زرتها والأزمنة السعيدة التي قضيتها: تناس متاعبك واعتد السرور مهما غشيك من المصائب وجالس أرباب الزهو والبسط فمعظم الناس ينفرون من الكدرو إذا ابيت الانقباض يضطر عشراؤك أن يجاورك فتنسون كل ماهو ليس بسعيد.
إن الحياة قصد بها البهجة فالنهار منير ولو لم تكن الشمس طالعة والليل يضاء بنور القمر ونور الأمل يشعشع في أظلم الأوقات والإيمان يرينا جزاء الصابرين والمثل الدارج يقول انظر إلى الجانب المنير أن العوائد التي يعتادها الإنسان تنمو بنموه فعليه أن يرفض كل ماهو مظلم ولا يؤذن له بالدخول إلى عتبة عقله ومعلوم أنها لا يمكن أن تدخل ما لم يؤذن لها.
دواء الحياة - ضياء الشمس هو الدواء العظيم بل القوة التي تكسب الأرض حرارة وتجعلها تخرج زهراً والضياء العقلي يذهب المرض ويمنع فتكه ويؤثر في الجسم كله والأطباء يعلمون ما لقوة الفكر من التأثير في الشفاء فالأفكار المظلمة تحط القوى الحيوية(4/100)
والأمل يحي العظام ويعين الجسد على مقاومة فتكات الأمراض. والجسد يؤثر في العقل أيضاً ولذلك كانت نظافة الجسد من الذرائع الطبيعية لسلامة العقل وقد قيل النظافة من الإيمان وقال الحكماء أن الحمام البارد كل صباح يؤثر تأثيراً صحياً في الجسم لانه يهيج الدورة الدموية وينشط العقل ووجود المرء موقوف على سلامة العقل وللمرء سلطة على العقل ولا دخل لأحد في شأنه فهو يضع فيه ما أراد ويدربه على ما يشاء فإذا أردت السعادة فاجعل عقلك موئلا للفرح ومسكناً للسرور فتشتد وتصح وإذا تشآءمت وأظلمت الدنيا في وجهك فالخطأ واقع عليك لا تستحق عليه عطفاً العالم مملوء نوراً وبهجة افتح عينيك لترى النور وتستخدمه حين الحاجة إليه ضياء شمس العقل من هبات الحياة الفضلى فمن له النور فليسلك في النور ولتكن له عبرة بالذين لم يفلحوا لأنهم يسيرون إلى هوة الشقاء وهم لا يدرون.(4/101)
إيطالية وطرابلس الغرب
فذلكة تقويمهما وتاريخهما
ألم بهذه البلاد العربية الآمنة في سربها ما ألم من طمع إيطالية الأحمق وجشع الغول الأوربي الذي لانعرف له غاية ولا ندرك له نهاية اللهم إلا أن يأتي المشرقيون عامة والمسلمون منهم خاصة على الذماء الباقي من الفضيلة والكرم والحياء والإيثار (حب الغير) والمروءة والرحمة والدين ويستبدلوا بها اللؤم والقحة والأثرة (حب الذات) والقسوة والإلحاد (غفرانك اللهم) ويعدوا لتلك الأمم - التي تسمي نفسها كذباً على الله والناس أمم التمدين وما تمدينها إلا التوحش المنظم - مااستطاعوى من قوة ومن مدافع وأساطيل وطيارات (أبابيل) ويعلموا أن السياسة والدولة ليست إلا كما قال أبو تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب
استغفر الله بل يحتذوا حذو آبائهم الأولين الذين جمعوا إلى الفضيلة والدين عزة الجانب وقوة البأس والاعتصام بحبل القوة والعلم حتى خضعت هذه الدول المدلة علينا الآن بسلطانها إلى سلطانهم واغتذت بلبان معارفهم فيستعدوا مجدهم ويسترجعوا عزهم وسلطانهم ولا يبعد بعد ذلك أن تخفق أعلامهم في أجواء أوروبة كرة أخرى فإن هذا الدهر بالناس قلب.
إن دان يوماً لشخص ... ففي غد يتقلب
وقديماً وطئت أقدام العرب أرض أوروبة واستولوا على بلدانها أدهاراً طويلة وسادوهم وبهروهم بعلومهم واختراعاتهم حتى ذعروا منها وعدوها سحراً وحرم قساوستهم الانتفاع بها وكان ذلك في قصبة بلاد هذه الدولة الإيطالية التي استولى العرب على جانب عظيم من بلادها نيفاً ومائتي سنة وأنت تحت نير الأغاير مئات السنين ولم تتنسم ريح الاستقلال إلا بأخرة من سائر الأمم وجاءت اليوم ناسية أو متناسية فضل العرب عليها وانقضت كما ينقض الذئب الطاوي بغرة من فريسته على هذه الولايات العربية لتذيع فيه ما تذيع وتأتي على تلك الأخلاق الطاهرة والسجايا العربية الكريمة فإنا لله ولا حول ولا قوة إلا به. وليس من حق البيان ولا من (مبدئه) الآن أن يرخى عنان القلم في مثل هذا الشأن الذي قام به(4/102)
كتاب العربية ووفوه حقه في الصحف اليومية وإنما الذي علينا أن نقول كلمة على تقويم البلدين (إيطالية وطرابلس) وتاريخهما بأجزا اختصار
إيطالية
فذلكة تقويمها وتاريخها
إيطالية مملكة في جنوب أوروبة تضم إليها شبه جزيرة إيطالية الممتدة في البحر الأبيض المتوسط كذنب السرحان وجزيرتي صقلية وسردينية وهي واقعة بين 38َ 36ْ و 40َ 46ْ من العرض الشمالي وبين 30َ 6ْ و 33َ 18ْ من الطول الشرقي. وهذه المملكة محصنة تحصناً طبيعياً من جهة فرنسة وسويسرة والنمسة بجبال الألب وتبلغ مساحتها مع صقلية وسردينية 110 ألاف ميلاً مربعاً فمساحتها تقل عن مساحة الجزائر البريطانية بنحو عشرة أميال ويبلغ عدد سكانها 33 مليوناً وهم جنس واحد مؤلف من أمم شتى تداولت البلاد ففي الجنوب وصقلية ترى مزيجاً من العربي والإيطالي الأصلي وفي الشمال ترى العنصر الجرمانى ظاهراً غير أن الغالبين (السلت) والرومانيين هما العنصران الكبيران اللذان يتألف منهما أكثر الصنف الإيطالي الحديث: وقد اختلف العلماء في اشتقاق هذه اللفظة (إيطالية) فذهب بعضهم إلى أنها مأخوذة من إيتالوس اليونانية ومعناها عجل أو ثور وإنما سميت كذلك لكثرة البقر فيها وذهب آخرون إلى أنها مسماة كذلك باسم ملك يدعى إيتالوس. ومن مشهور مدائن هذه المملكة (رومة) وهي قصبة هاتيك البلاد وفيها يقيم البابا و (نابولي) وهي ميناء حربية على كثب من بركان ويزوف و (ميلان) وهي واقعة في سهول لمبردية و (جنوى) على خليج جنوى أحد خلجان البحر الأبيض والبندقية (فينيس) في شمال البحر الأدرياتيكي و (مسينة) إحدى مدائن جزيرة صقلية على البوغاز المسمي بهذا الاسم (بوغاز مسينة) و (بلرم) قصبة صقلية بساحل هذه الجزيرة الشمالي و (برندزي) بجنوب إيطالية الشرقي على البحر الأدرياتيكي - والمذهب السائد في هذه البلاد هو المذهب الكاثوليكي الذي يقوم عليه البابا ولها من المستعمرات مستعمرة الارتيرة وبلاد الصومال وكلتاهما في أفريقية -
فذلكة تاريخها(4/103)
قامت إيطالية على أنقاض القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية وذلك أنه بعد أن سقط هذا القسم ذاعت الفوضى في هذه البلاد وانتهت باستيلاء القوط عليها وعبرت على ذلك حيناً من الدهر ثم فتحها الامبراطور يوستنيانوس في منتصف القرن السادس للميلاد وسنة 568 غزاها اللمبرديون واسوافيها مملكة عظيمة لا يزال اسمها يطلق على قسم منها الآن. وفي أواخر القرن الثامن هدد اللمبرديون رومة وكانت لم تزل تحت حكم البطارقة فاستنجد البابا (ببين) ملك فرنسة فزحف ببين على إيطالية وفتح الأكسر وخسية ثم تخلى عنها للكنيسة واقتفى شرلمان انتصارات أبيه ففتح مملكة اللمبرديين سنة 774م وضمها إلى الامبراطورية الفرنسية وفي عيد الميلاد من سنة 800 البس البابا لاون الثالث شرلمان تاج الامبراطورية الرومانية فأحيا بذلك الامبراطورية الغربية وفي ستة 843 قسمت امبراطورية شرلمان بين حفدته فكانت الولايات الإيطالية من نصيب لوثير أحد حفدة شرلمان
وفي غضون ذلك شرع العرب بعد أن فتحوا جزيرة اقريطش (كريد) في فتح صقلية وجنوب إيطالية وذلك أن صقلية كانت تابعة لمملكة الرومان الشرقية ومقرها في القسطنطينية وكان عليها وال من قبل امبراطور الرومان يسمي قسطنطين وكانت أفريقية تونس والجزائر وطرابلس الغرب تحت ولاية زيادرة الله ابن الأغلب كان والياً عليها من قبل الدولة العباسية ففي سنة 212 هجرية استعمل قسطنطين والي صقلية على أسطوله قائداً رومياً يسمي فيمي (يوفيميوس) وكان حازم شجاعاً فغزا سواحل أفريقية وعبث فيها وبقي هناك مدة وبعد ذلك كتب امبراطور الروم إلى قسطنطين يأمره بالقبض على فيمي وتعذيبه فنمي الخبر إلى فيمي فانتقض وتعصب له أصحابه وسار إلى مدينة سرقوسة أحد مدائن صقلية فملكها فسار إليه قسطنطين فالتقوا واقتتلوا فانهزم قسطنطين إلى مدينة قطانية فسير إليه فيمى جيشاً فقبضوا عليه وقتلوه واستولى فيمي على صقلية وخوطب بالملك وولى على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بلاطة فاتفق بلاطه هو وابن عم له يسمي ميخائيل كان والياً على بلرم وجمعاً عسكراً كثيراً وقاتلا فيمى فانهزم فيمي وركب في أسطوله إلى أفريقية مستنجداً بزيادة الله بن الأغلب فسير معه جيشاً في أسطول واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان وأقلعوا من سوسة (هي الآن من أعمال ولاية تونس(4/104)
واقعة على البحر الأبيض المتوسط على مسافة 110 كيلو متراً من تونس إلى الجنوب الشرقي) فوصلوا إلى مدينة مأزر من صقلية وساروا إلى بلاطة الذي قاتل فيمي فهزموه والروم الذين معه وغنموا أموالهم وهرب بلاطة إلى قلورية (كلابرة - جنوب إيطالية) فقتل واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة وجرت وقائع كثيرة بين الروم وبين المسلمين امتدت سنين طوالا وانتهت باستيلاء المسلمين على جميع جزيرة صقلية - ولما استولى عبيد الله المهدي على أفريقية ودانت له وبعث العمال في نواحيها بعث على جزيرة صقلية الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي من وجوه قواده فذهب إلى صقلية ومهد الأمور واكتسح بلاد قلورية (كلابرة) وتغلغل في أحشائها وبني بمدينة ريو مسجداً كبيراً في وسط المدينة - وجملة القول أن العرب بلغوا من الفتوحات في إيطالية ان استولوا على معظم البلدان الجنوبية وقرعوا أبواب رومة وحالفهم أهل نابلي وتمتعوا بخيرات إيطالية وسادوا أهلها وعبروا على ذلك حيناً من الدهر وبقيت صقلية في يد المسلمين نيفاً وخمسين ومائتين جعلوها في أثنائها بلاداً عربية بحتة فكنت لا ترى في شوارعها إلا العمائم والبرانس والخفاف والنساء بالخمار والنقاب والأزار: وقد زارها ابن حوقل الرحالة المشهور في منتصف القرن الرابع الهجري وقال فيما قال عنها: وقصبة صقلية مدينة بلرم وهي مدينة كبيرة سورها شاهق متسع مبني من حجر وجامعها كان بيعة وفيها وفي الحارات المحيطة بها نيف وثلثمائة مسجد وقد رأيت في بعض الشوارع على مقدار رمية سهم عشرة مساجد بعضها تجاه بعض: وقد أنجبت من العرب المسلمين علماء وشعراء وفلاسفة وفقهاء - ذكرنا بعضهم في كتاب حضارة العرب في الأندلس - أما كيف أخذت صقلية من يد العرب فإنك ترى ذلك مفصلاً في ترجمة ابن حمديس الصقلي المذكورة في العدد الثاني من البيان صحيفة 124 وما يليها - هذا ولما تقلص ظل العرب من جنوب إيطالية خضعت إيطالية الجنوبية إلى مملكة الروم في القسطنطينة ومضت على ذلك نحواً من قرن وكان سائر إيطالية عدا ذلك تحت نيرجرمانية ثم استظهر النرمنديون على العرب والروم وملكوا جنوب إيطالية وصقلية وسنأتي على باقي تاريخ إيطالية القديم والحديث في مقال آخر واف وننتقل الآن إلى ذكر فذلكة تاريخ طرابلس الغرب وتقويمها.
طرابلس الغرب(4/105)
تقويمها وتاريخها
طرابلس الغرب ولاية عثمانية على ريف أفريقية الشمالية يحدها شمالاً بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) وجنوباً صحراء ليبية وفزان - وشرقاً صحراء ليبية ومصر - وغرباً تونس والجزائر واقعة بين 23ْ 15َ 33ْ عرضاً شمالياً - وبين 10ْ، 20ْ طولاً شرقياً على وجه التقريب وتبلغ مساحتها نحوا من 1. 050. 000 كيلو متراً مربعاً فتكون مساحتها مثلى فرنسة وثلاثة أمثال مساحة إيطالية ومع ذلك لا يكاد عدد سكانها يعدو ألف ألف نسمة وهم ما بين بربر (مغاربة) وعرب (نزحوا إليها قبل الفتح الإسلامي وبعده) وترك وزنوج ومالطيين وإيطاليين. وجميع العرب والترك والبربر مسلمون عدا فئة قليلة من اليهود
وهي تنقسم الآن إلى خمس متصرفيات (1) متصرفية طرابلس وقصبتها مدينة طرابلس وهي على أنفٍ داخل في البحر ويبلغ سكانها نحواً من (60) ألف نسمة معظمهم مسلمون وهي مرفأ مأمون محصن بالقلاع أشبه بمضيق ويحيط بها صور قديم من الجهات الثلاث واستحكامات وماقل على هضاب طبيعية وهي مركز تجارة الولاية كلها مع ما وليها من داخل أفريقية وأكثر تجارها من اليهود وتتصل تجارتها في البحر مع مالطة وبلاد اليونان ومرسيلية وتريستة وسائر بلاد المشرق - وتسير منها القوافل إلى كل ما جاورها من البلاد - ويكتنف المدينة حدائق ورياض وأرض خصبة وفي المدينة آثار هياكل وسدود رومانية أهمها (قوس النصر) المشيد سنة 164م وهو مبني بالمرمر وعليه كثير من النقوش الجميلة وفيها مسجد كبير قائم على ستة عشر عاموداً من المرمر وكان في القديم بيعة للنصارى. وستة مساجد أخرى كبيرة عدا المساجد الصغيرة والزوايا. وثلاث كنائس للنصارى. ودير للفرانسيسكانيين. وثلاثة معابد لليهود. وحمامات وأسواق. وشوارعها ضيقة معوجة وأكثر بيوتها طبقة واحدة. وينسب إليها كثير من العلماء والأدباء مثل عمر بن عبد العزيز بن عبيد بن يوسف الطرابلسي المالكي المتوفي في بغداد سنة 510 هجرية - وأبي الحسن علي بن عبد الله ابن مخلوف صاحب تاريخ طرابلس الغرب المتوفي في مكة سنة 522 هجرية - ومحمد بن شعبان الذي قدم الاستانة سنة 1016 هجرية وولاه شيخ الإسلام صنع الله بن جعفر قضاء بلده وله من التآليف كتاب تشنيف المسمع في شرح المجمع وهو شرح(4/106)
مجمع البحرين.
(2) متصرفية الجبل الغربي. وقصبتها غدامس الواقعة وسط الصحراء ويبلغ سكانها نيفاً وخمسة آلاف.
(3) متصرفية (خمس) - ومن مدنها (خمس) و (لبدة) و (مصراطة) و (سرت) وكلها على الساحل إلى الشرق من مدينة طرابلس.
(4) متصرفية (فزان) وهي جنوبي الولاية وقاعدتها مدينة (مرزوق) والى الجنوب منها واحة (غات) وهي قضاء تابع لمتصرفية (فزان).
(5) متصرفية (برقة) وأكثر سكان هذه المتصرفية عرب سنوسيون. وقاعدتها مدينة (بني غازي) ومن مدنها (درنة) وهي فرضة بحرية فيها تلغراف لا سلكي ترسل الاشارات البرقية منه إلى رودس. والى الجنوب منها واحة الكفرة سميت بذلك نسبة إلى قبيلة من السود كانت مقيمة فيها.
وهواء هذه البلاد معتدل إلا صحاريها فإنه فيها جاف - وهي وفيرة الريع في بعض جهاتها الجبلية ولاسيما حول مدينة طرابلس وبرقة. ويكثر فيها النحل وعسله الجيد والنخل والفواكه والزيتون وفيها الخيول المطهمة والنعام والغنم. وفي شواطئها معادن الذهب ومغاوص الاسفنج والمرجان. وفيها معامل للمنسوجات الصوفية والحريرية والقطنية. ولاسيما الطنافس والدباغة.
وفي (برقة) ينابيع كثيرة ومراع طيبة يسرح فيها الأعراب غنمهم وماشيتهم. وفي سهول برقة يقيم كثير من السنوسيين الذين لهم نفوذ عظيم في تلك البقاع.
والسنوسيون ينسبون إلى رئيسهم الأول السيد محمد بن علي السنوسي الحسني المتصل نسبه بالحسن بن علي بن أبي طالب ولد في أوائل القرن الثالث عشر الهجري في (مستغانم) من أعمال الجزائر ونشأ بها وطلب العلم بمدينة (فاس) ثم ارتحل منها وأخذ يجول في الصحراء يحث الناس على الصلاح والتقى وجاء إلى مصر ثم رحل منها إلى مكة وتقابل مع الأستاذ الشيخ أحمد بن أدريس الشريف الفاسي أشهر أهل عصره في العلم والصلاح فسار به في الطريقة الصوفية فما لبث أن برع السيد السنوسي في العمل يتعاليمها فكافأه الشيخ الشريف على جده ذاك فألبسه خلعة الخلافة على المريدين وأمره(4/107)
بإعطاء العهود والمواثيق فلما ظفر بطلبته بني زاوية بجبل أبي قبيس ثم رحل إلى الجبل الأخضر بأرض طرابلس في أواسط القرن الثالث عشر الهجري وأقام به ما يقرب من الثماني سنوات أسس فيه كثيراً من الززوايا واجتمع عليه خلق لا يحصيهم العد. ثم اشتقاقت نفسه إلى البلاد المقدسة فأسرع في العودة إلى مكة وأقام بزاوية بجبل أبي قبيس سبع سنين يعلم الناس الحديث والفقه وغيرهما فذاع صيته واشتهر أمره في الهدى والرشد.
ثم رحل مع أستاذه الشريف الفاسي إلى اليمن فتوفي أستاذه بها فعاد السيد السنوسي إلى مكة وأقام فيها يعمل على طريقته. ثم اضطرب جو السياسية بمكة فرحل السيد السنوسي منها إلى مصر فبنى له عباس باشا الأول والي مصر زاوية على مقربة من باب الحديد خارج القاهرة فعدل عنها إلى كرداسة وهي إحدى قرى مديرية الجيزة وكانت شهرته بالتقوى والصلاح قد أفعمت هذا القطر فتكاثر الناس عليه تكاثر الجراد على جيد الثمار. فلم يلبث إلا ريثما تحول إلى الجبل الأخضر السابق الذكر ورمم هناك قصراً قديماً وسماه بالعزيات وأقام به حولين ولما أنس حب أهل البادية لطريقته. وكان يبغض القرب من الحكومات لكثرة ما بها من الوشايات - استخبر العرب عن أجود البقاع هواء وأجملها جواً فحدثوه عن الجغبوب وهو على ثلاثة أيام من واحدة سيوه فرحل إليه وأقام به ثلاثة أعوام يعمل على طريقته السالفة حتى أتاه الأجل المحتوم سنة 1276 فدفن هناك رحمه الله رحمة واسعة - وقد كان مولعاً بالتأليف ومن أشهرها (إيقاظ الوسنان في العمل بالسنة والقرآن) و (السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين) و (المنهل الرائق في الأسانيد والطرائق) و (الشموس الشارقة في سماء مشايخ المغاربة والمشارقة).
ثم قام بالأمر بعد ابنه السيد محمد المهدي السنوسي. ومعه أخوه السيد محمد الشريف ينشر طريقة أبيه فتزايد عدد المريدين ودخل الناس في طريقته أفواجاً واتبعه ملك (وداي) وجميع أهل مملكته - وكانت الدولة العلية قد أرادت منه أن يحضر إلا الاستانة فأبى وترك الجغبوب وابتعد عنها ونزل بالكفرة على طريق وداي ومنزلته عند قومه لا تساميها منزلة أحد من الملوك والعظماء وكان قد دعاه أيضاً محمد أحمد المتمهدي السوداني ورغبه في الإسراع إليه ليعقد له على الخلافة بعد ولي العهد فأبى ذلك عليه.
وكانت همته منصرفة إلى توطيد عرى الوفاق بين المريدين وتنشيطهم إلى التمسك بالدين(4/108)
القويم فازدادوا به وثوقاً ولمنزلته تعظيماً حتى ظنوا أنه المهدي المنتظر
وفي سنة 1900 م تقدم الفرنسيون إلى البلاد التابعة له ففتحوا (برنو) وقتلوا سلطانهم رابح الزبير ثم استولوا على (باقرمي) ولما لم ينجح السنوسي في رد صدماتهم غمه ذلك كثيراً فضى نحبه سنة 1902م فنقلت حثته إلى (قرو) إحدى أعمال (وداي).
ثم خلقه ابن أخيه واسمه أحمد الشريف وهو رئيس السنوسين الآن.
فأما عدد السنوسيين فإنه لا يعرفه أحد وذلك لكثرة عددهم وتفرقهم في البلاد الكثيرة المتباعدة والصحارى الشاسعة فهم منتشرون بكثرة في طرابلس وبرقة والجانب الشرقي من الصحراء الكبرى - ووداي جيمعها سنوسيون وكذلك يوجد عدد وافر في تونس والجزائر وبرنو ودارفور والجانب الغربي من الصحراء الكبرى وكذلك في مكة والمدينة وأكثر بقاع الحجاز (وسيأتي الكلام على تاريخ طرابلس في العدد السابع لضيق موضعه هنا).(4/109)
العدد 5 - بتاريخ: 17 - 2 - 1912(/)
تاريخ الإسلام
(المقدمة الثانية)
في الأديان تابع
هذه كلمة مجملة تمهيدية للكلام على تاريخ الأديان التي كانت موجودة قبل الإسلام ولاسيما في جزيرة العرب وما جاورها وليس علينا في هذا المقام أن نفيض القول في الدين وفي مذاهب العلماء والفلاسفة وأرباب الأديان فيه مما هو خارج عن دائرة المؤرخ وإن لذلك لموضعاً قد نطرق هذا المبحث فيه إن شاء الله.
الأديان التي كانت موجودة قبل الإسلام
ليس من السهل على المؤرخ أن يستقصى الديانات كلها دقيقها وجليلها فإن ذلك مما يخطئه العد والإحصاء وإنما الذي تناله الاستطاعة هو معرفة الديانات المشهورة التي عرفها التاريخ ولها أتباع معروفون ولذلك سيكون كلامنا في هذه المقدمة على الصابئة والمجوسية والبوذية والبرهمية واليهودية والنصرانية وعبدة الأصنام (المشركين) وبيان ما كان من هذه الديانات في جزيرة العرب وكل ذلك باخصر ما يمكن من القول إن شاء الله.
الصائبة
من الديانات القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب ديانة الصابئين أو المندائين الذين أرسل إليهم في القديم أخوهم إبراهيم الخليل وجرى بينهم وبينه ما هو معروف ومشهور.
ومهد هذه الديانة هي بلاد بابل وآشور أو مهد الإنسان الأول كما يقولون ولذلك أرسل إليهم في القديم أخوهم إبراهيم الخليل وجرى بينهم وبينه ما هو معروف ومشهور.
ومهد هذه الديانة هي بلاد بابل وآشور أو مهد الإنسان الأول كما يقولون ولذلك كانت البقية الباقية إلى الآن من أهل هذه الديانة محصورة في بعض البلدان الواقعة على ضفاف الفرات ودجلة قرب مصبهما.
وقد اختلف العلماء في أصل هذه الكلمة (صابئة) فذهب علماؤنا إلى أن الصابئة مأخوذة من صبأ عن الشيء إذا مال عنه وانحرف والصابئون قد انحرفوا عن سنن الحق في نبوة الأنبياء إلى عبادة الكواكب أو عدلوا عن التقيد بجملة كل دين وتفصيله إلى محاسن الديانات ومارأوه منها حقاً وكانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم صابئاً والصحابة(5/1)
الصبأة لأنهم مالوا علما ألفته قريش وعن وثنيتهم إلى الإسلام - هذا مجمل ما قاله علماء اللغة والمفسرون وهو قد يكون صحيحاً في تأويل ما ورد من هذه المادة في القرآن ومعناها كما يريده الكتاب الكريم وفي تبيين معنى هذه اللفظة في اللغة العربية الحيلة وما يريده العرب الفصاح منها أما إذا قصدنا إلى سر تسمية هذه الطائفة بهذا الاسم عند نفسها إن كانت تسمي نفسها كذلك أو إلى معنى هذه اللفظة في أصلها الوضعى فربما كان أقرب إلى المعقول أن يكون اشتقاقها على ما قاله بعض الباحثين في علم اللغات من صبأوت العبرية ومعناها جند السماء دلالة على أنهم يعبدون الكواكب والعربية أخت العبرية وإن كان لا يعرف أيتهما السابقة أو ما هي أمهما - وقد تطورت هذه الديانة تبعاً لتطور أصحابها في أحوالهم الاجتماعية على أطوار شتى وذلك أنها كانت في الأول مبنية على تقديس الكواكب والأجرام السماوية في حين أنها عنوان عظمة الله وجلال خالقها أي أن تقديسها لم يكن إلا تقديساً لله جل شأنه كما هو الشأن في أصل غريزة الدين كما أسلفنا ثم وقفت بعد ذلك عند عبادة الكواكب ولم تعدها إلى ما وراءها أي أن أهلها صاروا يرون الكواكب آلهة. وعبروا على ذلك حيناً من الدهر حتى إذا رأوا الكواكب تختفي بالنهار وفي بعض أوقات الليل رأى فريق منهم أن يجعلوا لها أصناماً وتماثيل على صورها وأشكالها فجعلوا أصناماً وتماثيل بعدد الكواكب المشهورة وسموها بأسمائها وفي هذا الطور أرسل إليهم إبراهيم الخليل الذي نشأ في أور الكلدانيين قبل ميلاد السيد المسيح حسبما جاء في التوراة بنحوٍ من ألفي عام وجرى بينهم وبينه ما هو مذكور في القرآن الكريم وقد بينه الشهرستاني صاحب الملل والنحل أحسن تبيين وقد سمي العرب والكتاب دين إبراهيم - الذي خالف به قومه الصابئة - الحنيف حتى صار اللفظتان (صابى وحنيف) من الألفاظ المتقابلة: وقد اضطربت كلمة اللغويين والمفسرين في معنى هذه الكلمة (حنيف) ونحن نورد هنا ما جاء في اللسان بخصوصها قال: وحنف عن الشيء وتحنف مال والحنيف المسلم الذي يتحنف أي يميل إلى الحق وقيل الذي يستقبل قبلة البيت على ملة إبراهيم وقيل هو المخلص وقيل من أسلم في أمر الله فلم يلتو في شيء فهو حنيف وقال أبو زيد الحنيف المستقيم.
تعلم أن سيهديكم إلينا ... طريق لا يجوز بكم حنيف
وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل: {قل بل ملة إبراهيم حنيفاً} قال من كان على دين(5/2)
إبراهيم فهو حنيف عند العرب وقال الأخفش الحنيف المسلم وكان في الجاهلية يقال من اختتن وحج البيت حنيف لأن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت فكل من اختتن وحج قيل له حنيف فلما جاء الإسلام تمادت الحنيفية فالحنيف المسلم.
وقال الزجاح نصب (حنيفاً) في هذه الآية على الحال والمعنى بل نتبع ملة إبراهيم في حل حنيفيته ومعنى الحنيفية في اللغة الميل أي أن إبراهيم حنف إلى دين الله ودين الإسلام (والمراد بالإسلام هنا معناه الأصلي كما قدمنا في أول هذه الكلمة) وإنما أخذ الحنف من قولهم رجل أحنف ورجل حنفاء وهو الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها بأصابعها وقال الجوهري الحنيف المسلم وقد سمي المستقيم بذلك كما سمي الغراب أعور وتحنف الرجل أي عمل عمل الحنيفية ويقال اختتن ويقال اعتزل الأصنام وتعبد قال جران العود:
ولم رأينا الصبح بادرن ضوءه ... رسيم قطا البطحاء أوهن أقطف
وأدركن أعجازاً من الليل بعدما ... أقام الصلاة العابد المتحنف
إلى آخر ما جاء هناك مما لا يكاد يغاير ما أثبتناه هنا - وكل ما قاله اللغويون في ذلك على أن ظاهره الخلاف فإنه مجمع على أن الحنف الميل فإما ميل عن الشيء وهو أصل معناه وأما ميل إليه وقد تكلفوه من تسمية دين إبراهيم به أما الحنيفية فكالإسلام كلتاهما من الألفاظ التي انتقلت من وضعها الأصلي إلى معنى اصطلاحي لمكان المناسبة بينهما فدين إبراهيم حنيفاً لأنه مال عن دين الصابئة دين الأصنام وعبادة غير الله إلى دين يخلص إلى الله التوحيد والعبادة ويشتمل من أنواع العبادة وضروب الفطرة على الحج إلى بيت الله والاختتان وما إليهما فهذا مثار ما ترى من ذلك الغبار - قلنا إن الصابئة لما رأت الكواكب تختفي بالنهار وفي بعض أوقات الليل تخذت لها أصناماً وتماثيل على مثل الكواكب والنيرات فكان ذلك دليلاً على أنهم ما كانوا في الأصل ليعبدوا الأصنام لذاتها وإنما لتقربهم إلى الله أو إلى الكواكب وتقوم مقامهم - قال شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية في كتابة (إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان) الصابئة هم قوم إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده فطلبوا تحريقه وهو مذهب قديم في العالم وأهله طوائف شتى فمنهم عباد الشمس. زعموا أنها ملك من الملائكة(5/3)
لها نفس وعقل وهي أصل نور القمر والكواكب وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها وهي عندهم ملك الفلك فتستحق التعظيم والسجود والدعاء. . ومن شريعتهم في عبادتها أنهم اتخذوا لها صنماً بيده جوهر على لون النار وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث مرات في اليوم ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعونه ويستشفون به وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها وإذا غربت وإذا توسطت الفلك. . وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنماً وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة وإليه. تدبير هذا العالم السفلي ومن شريعة عبادته أنهم اتخذوا له صنماً على شكل عجل أو نحوه من ذوات الأربع وبيد الضم جوهرة يعبدونه ويسجدون له ويصومون له أياماً معلومة من كل شهر ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات بين يديه. . ومنهم من يعبد أصناماً اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم. وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه وعبادة تخصه - وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام فإنهم لا تستمر لهم طريقة إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه. ومن ههنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناماً زعموا أنها على صورتها فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعل الصنم على شكله وهيئته وصورته ليكون نائباً منابه وقائماً مقامه وإلا فمن المعلوم أن عاقلاً لا ينحت خشبه أو حجراً بيده ثم يعتقد أنه الهه ومعبوده انتهى كلام ابن قيم.
وهذا الذي قاله ابن قيم منذ ستة قرون هو الذي أطال في شرحه كارليل في كتابه الأبطال وجملته أن عبادة الأصنام في الأصل كانت لأن الصنم يمثل الإله وإن الإله كائن وفيه بشكل ما وكذلك فكل عبادة أية كانت هي عبادة بالرموز أو بالأشياء المنظورة وسواء تمثل الإله للعين الخارجية في صورة منظورة أو للعين الداخلية أعني للذهول أو للخيال فإنما هو فرق عرضي لا جوهري إذ لا تزال تبقى هذه الحقيقة وهي أن هناك شيئاً ينظر - بالعين أو بالذهن - دليلاً على الأدلة أعنى وثنا. وليس يخلو أورع الناسكين وأولع المتصوفين من الممثلات الذهنية للأشياء المقربة وبها يعبد الله ولولاها ما وجد للعبادة سبيلاً -.(5/4)
أخبار الخوارج
للإستاذ الشيخ أحمد سليمان العبد
أحد خريجي مدرسة الفضاء الشرعي
بسم الله الرحمن الرحيم
والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله أجمعين
مقدمة
إن ماجاء به هذا الدين من نبذ الحال التي كان عليها كثير من الأمم في ذلك العهد من تقديس شخص من أفرادها وتغاليها في الخضوع لمليكها ورفعها إياه إلى منزلة الأله الواحد القاهر وما نشره هذا الدين المحكم من المساواة بين الناس لأفضل لأحد على غيره في الحقوق العامة - لا يعظم شريف أمام هذا الدين فيميل معه في اغتصاب ضعيف ما له ويعينه على انتهاك عرض ذليل ضئيل.
إن كل هذا قد بث في الأمة الإسلامية روح الصراحة في القول وجملها بثوب الشجاعة الأدبية - وجعل أفرادها يستعذبون الموت الزؤام. إذا حال بينهم وبين الجهر بخطل ما يرونه خطأ. سواء أخطأوا في الواقع أم أصابوا. وكأني بهذا المبدأ (مبدأ المساواة) وهو ناصر النفس وعضدها القوي الذي يزيل عنها الخور والخمول ويخرج بها إلى واد فسيح من الحياة الشريفة تجديه رقيها ورفعتها ويقذف بها في ميدان شاسع من الشجاعة الأدبية فيشيد الإنسان لنفسه ولأمته بذلك صرحاً من الشرف باذجاً يهرم الدهر وهو يتريع شباباً وتنفد الأيام وهو يتجدد ذكراً وثناء.
ومن هنا يظهر السبب الذي دفع كثيراً من أفراد المسلمين في الصدر الأول من الإسلام إلى إظهار رأيهم في المواقف الحرجة والمآزق الضنكة.
فلا غرو بعد هذا أن ينظر الإنسان في التاريخ الإسلامي فيرى العباس ابن مرداس السلمي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم عقيب تفضيله رجالاً من المؤلفة قلوبهم من المسلمين بزيادة عطائهم من غنائم (حنين) فيقول في شعره.
وكانت نهاباً تلافيتها ... بكرى على أطهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع(5/6)
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينه والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرأ ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع
إلا افائل أعطيتها ... عديد قوائمه الأربع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهمو ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضي بالعطاء.
ولا عجب أن يغضب عمر بن الخطاب من أبي بكر رضي الله عنهما لأنه لم يجبه إلى القود من خالد بن الوليد لما قتل هذا مالك بن نويرة في حروب الردة - وأن يقوم عمر إلى خالد إبان دخوله المسجد وينزع اسهماً كانت حلية عمامة خالد ويحطمها بحضور أبي بكر الصديق وهو خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار وأول من آمن به من الرجال وإن كان قتل خالد مالكاً ناشئاً عن سوء تفاهم لاختلاف اللغات في جزيرة العرب كما تواتر هذا في أساطير المؤرخين ولا غرابة من أن عمر بن الخطاب (ض) مع شدته وارجافه قلوب العرب لم تمنع درته ذلك الأعرابي الذي جاء إليه عصر خلافته يستفتيه في أمر عرض له فلما أخبره بحكم الله صرح ذلك الأعرابي بما أخذه على أمير المؤمنين (ض) وكان من خبر هذه الواقعة أن رجلاً أعرابياً واسمه قبيصة بن هانئ أتى عمر بن الخطاب (ض) فقال أني أصبت ظبياً وأنا محرم فالتفت عمر إلى عبد الرحمن بن عوف وقال قل - فقال عبد الرحمن يهدى شاة - فقال عمر للأعرابي اهد شاة.
فقال الأعرابي والله مادرى أمير المؤمنين ما فيها حتى استفتى غيره فخفقه عمر بالدرة وقال أتقتل في الحرم وتفحص الفتيا ان الله عز وجل قال {يحكم به ذوا عدل منكم} فأنا عمر بن الخطاب وهذا عبد الرحمن بن عوف. وما حديث هذا المعنى في عهد عثمان بن عفان بالأمر المستور خبره أو المعفى أثره.
هذا وإن نتائج هذا المبدأ (مبدأ المساواة) قد أينعت ثمارها وظهرت بأجلى صورها في عصر ذلك الرجل الورع التقى الطاهر القلب السليم الطوية الحسن النية النبيل الذكر الشريف النفس الصابر على البلاء المتجنب الكبرياء اعلم أهل دهره بكتاب ربه وسنة نبيه وصى النبي المصطفى وابن عمه سيدنا علي كرم الله وجهه.(5/7)
فقد خرج عليه قوم كثير عددهم شديد بأسهم لأمر أخذوه عليه ورأوه غير مرضى لديهم ودافعوا عن رأيهم ذلك بالسيف والرمح واللسان أشد دفاع حتى أكلتهم الحروب وذهبت شوكتهم وفنى سوادهم ولم ينج منهم إلا من لا يرفع الناس به رأساً ولا يشغل أمرهم رأي أحد - وهؤلاء هم (الخوارج) الذين عزمنا على ذكر أخبارهم وحروبهم إن شاء الله.
أخبار الخوارج
كان من خبر هذه الطائفة أنهم لما رأوا ما فعله عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان في وقعة (صفين) من رفع المصاحف على أطرا الرماح وقتما أحسا بالهزيمة - حملو سيدنا علياً (ض) على ترك القتال فأبى ذلك عليهم وتردد كثيراً وأبان لهم أن هذه خدعة فلم يقبلوا ذلك منه فطاوعهم مكرهاً.
ثم تخابر الجيشان في الأمر فعينا حكمين ليفصلا في شأن إمارة المؤمنين وهما عمرو بن العاص من قبل معاوية وأبو موسى الأشعري من جهة على وذلك في شهر صفر سنة 37 فسكن الهرج على أن يكون حكم الحكمين في رمضان من تلك السنة ولما اجتمع الحكمان وختل عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري فخلع هذا عليا وأثبت عمرو صاحبه عاد سيدنا علي إلى مطاولة معاوية ومقاومته لخطأ الحكمين وتركهما مراعاة السنة والكتاب وما سجل عليهما في كتاب عقد الصلح.
وعند ذلك قام هؤلاء القوم الذين أكرهوا علياً كرم الله وجهه أولاً على ترك القتال وقبول التحكيم - وثانياً - على تعيين أبي موسى حكماً واجتمعوا في دار زيد بن حصين الطائي وبايعوا عبد الله بن وهب الراسي ثم الازدي وذلك لعشر خلون من شوال سنة 37هـ -.
فلما بلغ أمرهم علياً كرم الله وجهه بعث إليهم ابن عباس (ض) مرات لمناظرتهم وكذلك توجه إليهم بنفسه.
فمن مناظرة ابن عباس لهم أنه قال لهم ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين - قالوا قد كان للمؤمنين أميراً فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان فليتب بعد أقراره بالكفر نعد له فقال ابن عباس لا ينبغي لمؤمن لم يَثُب إيمانه شك أن يقر على نفسه بالكفر - قالوا إنه قد حكم قال ابن عباس إن الله عز وجل قد أمر بالتحكيم في قتل صيد فقال عز وجل: {يحكم به ذوا عدل منكم} فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين - فقالوا أنه قد حكم عليه فلم يرض(5/8)
فقال أن الحكومة كالإمامة ومتى فسق الإمام وجبت معصيته وكذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما - فقالوا له إذا كان على حق لم يشكك فيه وحكم مضطراً فما باله حين ظفر (في واقعة الجمل) لم يسب فقال ابن عباس (ض) أفكنتم سابين أمكم عائشة فوضعوا أصابعهم في آذانهم وقالوا أمسك عنا غرب لسانك يابن عباس فأنه طلقٌ زلقٌ غواص على موضع الحاجة.
ومن مناظراتهم مع علي كرم الله وجهه أنه قال لهم ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لم رفعوا المصاحف قلت لكم إن هذه مكيدة ووهن وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني ثم سألوني التحكيم أفعلمتم أنه كان منكم أحد أكره لذلك مني قالوا اللهم نعم. قال فهل علمتم أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل فإن خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء أو أنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني قالوا اللهم نعم ثم قالوا الله نعم ثم قالوا قد حكمت في دين الله برأينا ونحن مقرون بأنا قد كفرنا ونحن تائبون فأقرر بمثل ما أقررنا وتب ننهض معك إلى الشام - فقال علي (ض) أما تعلمون أن الله جل ثناؤه قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأة فقال تبارك وتعالى {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} وفي صيد أصيب في الحرم كأرنب يساوي ربع دينار فقال عز وجل {يحكم به ذوا عدل منكم} فقالوا إن عمراً لما أبى عليك أن تقول في كتابك: هذا ما كتبه عبد الله على أمير المؤمنين: محوت اسمك من الخلافة فقلت عليُّ بن أبي طالب فقال لهم رضي الله عنه لي برسول الله صلى الله عليه وسلم اسوة حسنة حيث أبى عليه سهيل بن عمرو ان يكتب هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو فقال له لو أقررنا بأنك رسول الله ما خالفناك ولكن أقدمك لفضلك ثم قال اكتب محمد بن عبد الله فقال لي يا علي أمحُ رسول الله فقلت يا رسول الله لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة فقال عليه الصلاة والسلام قفني عليه فمحاه بيده عليه السلام ثم قال اكتب محمد بن عبد الله. ثم تبسم إلي فقال ياعلي أما أنك ستسام مثلها فتعطي - فرجع معه منهم ألفان.
ثم ظهروا بعد ذلك بحروراء: بناحية الكوفة: ولذلك أطلق عليهم الحرورية وكانوا إذ ذاك في جيش عظيم وجمع كبير فتوجه إليهم علي كرم الله وجهه فقاتلهم قتالاً شديداً حتى أبادهم إلا تسعة رجال منهم فأنهم أفلتوا من الحرب.(5/9)
فذهب اثنان منهم إلى عمان والتجأ اثنان آخران إلى كرمان وفر اثنان كذلك إلى سجستان وقصد اثنان آخران الجزيرة وذهب تاسعهم إلى (تل مورون) ياليمن وانبثوا بين ظهراني أصحاب تلك البلاد يرغبون الناس في مقالتهم ومذاهبهم حتى اتبعهم خلق كثير عددهم.
هذا - ولم يمنعهم انقسامهم على أنفسهم ومحاربة بعضهم بعضاً لاختلاف بينهم في بعض الفروع - عن أن يشغلوا بال أمراء الإسلام من الدولة الأموية في الشام والدولة الزبيرية في الحجاز فقد أشعلوا نار الحرب الزبون مدة مديدة على الدولتين وأخافوا القواد والشجعان وهم في منازلهم واستولوا على كثير من البلاد العظيمة الإسلامية مثل كرمان - ومكران - وكازون - وفارس والمدائن - وأرجان ورام هرمز وسلا وسليرا وغير ذلك.
وقد أحاطوا بالبصرة حتى ترحل أكثر أهلها منها وكان الباقون على الترحل - ولم يكسر شوكتهم ويفلل حدهم إلا الملهب بن أبي صفرة فأنه لما تولى قيادة جيش الأمويين هزم الخوارج إلى الفرات ثم إلى الأهواز ثم إلى فارس ثم إلى كرمان ولم يفلت منهم بعد أن لبث يحاربهم مدة تتجاوز العشرين عاماً إلا بعض قليل ذهب فريق منهم إلى المغرب الأقصى وأسس مذهب الاباضية هناك وهي إحدى فرق الخوارج - ولها ذنب دقيق إلى الآن لا يكاد يظهر.
واختفى فريق آخر في الصوامع والجبال يتزهد ويعبد الله فمنهم من ظفر أمراء الأمويين به كعروة بن أدية فقتلوه ومنهم من مات حتف أنفه.(5/10)
آثار تاريخية
آثار مصرية - آثار فارسية - آثار يابانية - آثار عربية - آثار رومانية
الحكمة المشرقية
وهذا هو مجموع الآثار الأولى الثلاثة قال الفاضل محمد لطفي جمعة معرب هذا الكتاب ومهديه إلى البيان: الحكمة المشرقية هو كتاب ذو أجزاء ثلاثة الأول يشتمل حكم فتاحوتب وزير الملك ايسوسي احد ملوك الأسرة الخامسة كتبه يعلم ابنه الحكمة ويرشده وهو من الكتب النادرة التي بقيت من آثار الأدب المصري القديم الجزء الثاني يشتمل (جولستان) أو روضة الورد في الحكمة والزهد والأمثال لحكيم الفرس وشاعرها الأشهر مصلح الدين سعد الشيرازي من أهل القرن السادس للهجرة وشهرة هذا الكتاب تكفي في الدلالة على مايحتويه الجزء الثالث في تربية الاناث اليابان وضعه أحد مشهوريهم في القرون الوسطى وله مقدمتان الأولى في تاريخ نهضة اليابان الحديثة والثانية في موضوع الكتاب - وهذا هو الجزء الأول من كتاب الحكمة المشرقية وقد وضع له العرب الفاضل ثلاث مقدمات قال حفظه الله.
المقدمة الأولى
كانت حكم فتاحوتب لدي قدماء المصريين من الكتب المعتبرة حتى أنهم كانوا يعلمونها أولادهم في المكاتب والمدارس ويقرأونها في المنازل والمجالس لهذا عثر البحاثون في الآثار المصرية على نسخ عدة من هذا الكتاب النفيس ولا يخفى أن كثيراً من الكتب النافعة الممتعة وجدت حيث كانت معاهد العلم ولولا تعدد نسخها ما عثرنا ببعضها بعد مرور ستين قرناً من تاريخ تأليفها وانتشارها.
وقد علمنا من ورق البابيروس (البردى) أن طلاب دار العلوم المصرية القديمة كانوا يكتبون في اليوم ثلاث صفحات من حكم فتاحوتب ليحسنوا خطوطهم ويهذبوا نفوسهم وليتخرجوا في فنون البلاغة والإنشاء لسلاسة أسلوب الحكم والنصائح المذكورة وتلك الكراسات التي كتبها شبان المصريين القدماء هي التي يصرف محبوا الآثار في هذا العهد أيامهم ويوقفون أعمارهم على البحث عنها والتنقيب عليها ونقلها من اللغة القديمة إلى اللغات الحديثة لينعم أبناء هذا العصر نظرهم في حكمة أبناء القرون الغابرة.(5/11)
أما النسخة الأصلية التي فسرها العلامة باتسكومجن العالم الأثري الإنجليزي وهي معتمدنا في هذا التفسير العربي فقد عثر بها العلامة المؤرخ الفرنسي بريس دافن ومعها غيرها من الآثار الأديبة في شتاء عام 1847 وذكر هذا المؤرخ أنه شراها من فلاح مصري كان يعمل في الحفر والتنقيب على مقربة من مقابر طيبة ويذهب البعض إلى القول بان تلك الآثار الأديبة الثمينة وجدت في أجداث ملوك حنتف وهم أفراد الأسرة الحادية عشر التي أقام امنمحعت الأول على إنقاضها دعائم دولته وانتزع الملك من آخر ملوكها وحصره في أسرته الثانية عشر.
وقد اهدى العلامة بريس دافن هذه النسخة إلى دار الكتب الملكية بباريس حيث لا تزال معروضة لأنظار الزائرين وطول القرطاس التي كتبت فيها حكم فتاحوتب بالذراع البلدي ثمانية ونصف وعرضها ذراع وهذا قياس البابيروس المعروف لهذا رجح المؤرخون رأي القائلين بالعثور بتلك الأوراق في قبور الملوك. أما ورقة البابيروس المذكورة فمؤلفة من ثماني عشرة صفحة مكتوب بعضها بالمداد الأسود وبعضها بالأحمر. ويحسب رائيها لأول وهلة أنها حديثة لأن طول القدم لم يصبها بآفات التبديد والتشتيت حتى إذا تبينها وقلب صفحاتها ظهر له أنها لم تنج من آفات القدم التي اغتالت بعض الأوراق وتركت البعض الآخر أثراً بعد عين. ومما أبقاه لنا الدهر من أوراق ذلك العهد كتاب كامل وهو حكم فتاحوتب وآخر ناقص وهو نصائح كاجمني أما نسبة الكتاب الثاني إلى كاجمني فمن باب الحدس والتخمين لأن العث لم يبق على شيء يستدل منه على اسم واضع الكتاب ولأن المفسرين لم يعثروا فيه من أوله إلى آخره إلا على علم واحد وهو كاجمني فظنوه اسم واضع السفر. وأهمية هذا الكتاب هي في أنه أقدم ما كتبه البشر حسبما نص علماء الآثار
أما تاريخ الكتاب الكامل الشامل لحكم فتاحوتب فمعروف ولا خلاف في أمره لأن مؤلفه ذكر عن نفسه أنه وضعه في عهد الملك ايسوسي وهو آخر ملوك الأسرة الخامسة فكأن فتاحوتب وضع كتابه في القرن السادس والثلاثين قبل المسيح أي منذ خمسة آلاف وخمسمائة سنة.
والعجيب في أمر هذا الكتاب وغيره مما كتبه المصريون الأقدمون أنها لا تزال جديرة باعتبار القراء في كل زمان ومكان. وقيمة حكم فتاحوتب عظيمة لأنها تشمل الشريعة(5/12)
الأدبية في قالب نصائح تهذيبية يلقيها على ولده وخليفته وزير خبير بشؤون حياة مصر الاجتماعية. فلعل أبناء اليوم يستفيدون من نصح ذلك الحكيم وإرشاده كما استفاد أجدادنا الأوائل وقد نكون إلى هذا النصح منهم أحوج وهو بنا أجدر وأخلق.
المقدمة الثانية
في كتاب حكم فتاحوتب
أقل ما يقال في وصف هذا الكتاب المستطاب أن واضعه لم يترك بحثاً اجتماعياً إلا وطرق بابه ولم يدع موضوعاً أخلاقياً إلا وخاض عبابه فبينا تراه يذكر آداب الجدل والبحث ويصف كل مجادل ويشرح ما ينبغي في حقه كالإذعان لذي الحجة أو الرد عليه بالتي هي أحسن أو الاعراض عنه بلطف حسبما يقتضيه خلقه وتدعو إليه حاله إذا هو ينصح لابنه أن يغضي لأيدي الأمراء والحكام وأن يسترشد العلماء والمرشدين ليهتدي بهديهم ويتعظ بخبرتهم وتجاربهم. ولم يكن نصح فتاحوتب قاصراً على تلك المسائل التهذيبية بل تناول أهم المسائل الاجتماعية فشرح مايليق بالرجل نحو المرأة وما يجب في حق الوالد على الولد وأفاض في وصف معاملة الخدم وأمر بالإحسان إليهم والعطف عليهم وذكر حقوق الاجراء والعمال على أرباب المال والأعمال. وإذا حاولنا أن نلخص حكم فتاحوتب في كلمة واحدة تكون شعاراً لمبدئه في الأخلاق فلا نختار لذلك أفضل من قوله كن محبا للخير والناس تكن سعيداً في الدنيا والآخرة ولكنا نأخذ على الحكيم المصري أنه لم يكن يرمي إلى نشر المبدأ الذائع لدى علماء الأخلاق وقادة الأفكار من أهل المدينة الحديثة وهو حب الخير لذاته وإنما كان يذكر على الدوام أن الطاعة والخضوع وفعل الخير والتأدب في الحديث والاعتدال في العيش والاحسان إلى الفقراء تؤدي جميعها بالمرء إلى السعادة. وبعبارة أخرى يقول فتاحوتب للإنسان إنك إذا أطلعت أباءك في صغرك وولي أمرك في كبرك وأحسنت السياسة في رئاستك وغمرت بكرمك خدمك وحشمك ومن يلوذ بك واعترفت بذنوبك وتبت عنها إلى الله فإنك تنال رضى الملوك وتبلغ أسمي الدرجات وتكون لدى الله من المقربين.
ويرى القارئ أن الرادع الذي استعان به فتاحوتب لصد البشر عن فعلا الشر هو رادع مادي محض أو هو من قبيل أعمل تؤجر وهذا الرادع المادي من وضع حكماء الشرق(5/13)
الأقدمين. وكان هؤلاء الحكماء يفضلونه على الرادع الأدبي وهو محاسبة النفس وتأنيب الضمير لا لأنه أفضل منه بل لأن قيادة العامة بواسطته أسهل فهو من هذه الوجهة وحدها أولى وأنفع وعلى هذا المبدأ جاءت الديانات كلها فلا سبيل للاعتراض عليه إلا بالاعتراض عليها.
وقد يأخذ بعض الناقدين على الحكيم فتاحوتب أغفاله ذكر أمور شتى كالرفق بالحيوان فإنه لم يذكر في قانونه كلمة في هذا الشأن مع أن التاريخ لا يحفظ ذكر أمة كانت أرفق بالحيوان من الأدمة المصرية التي وصل بها حبها للأنعام وإشفاقها عليها أنها حرمت ذبحها أو قتلها وجعلت منها آلهة اتخذتها للعبادة وانتحلت لذلك أسباباً وأعذاراً شتى. وقد عثر النقابون في قبر فتاحوتب واضع هذا الكتاب على سطور منقوشة مؤداها أنه كان يستدعي في كل صباح قرداً وثلاثة كلاب يطعمها بيده ويمسحها إشفاقاً منه عليها ويؤخذ هذا الخبر وغيره من الأخبار دليلاً داحضاً على أن الحكيم لم يغفل ذكر بعض الأخلاق الفاضلة والعادات المستحبة إلا لأنها كانت مشاعة لدى أمته.
ومن المسائل الجديرة بالنظر ذكر المؤلف لإله واحد غير متعدد (مع العلم بتعدد آلهة المصريين) ووصفه ذلك الإله الفرد بأنه يعاقب المذنب ويثيب المحسن ويعطي السائل وينظم الكون ويحب مخلوقاته ويرقب أعمالهم حسنها وسيئها ويكلأهم بعين لا تأخذها سنة ولا نوم ويرى القارئ أن هذه الصفات اسمي ما يوصف به الخالق سبحانه وتعالى ولو كان الواصف من أساتذة اللاهوت في النصرانية أو علماء الكلام في الإسلام. فهل كان فتاحوتب موحداً كإبائه الكهنة وكان يريد بتوحيد الله في كتابه التصريح والاعتراف بالوحدانية من طرف خفي ولسنا نخوض عباب هذا البحث لأنه يدخل في باب الحكم على الغائب بالغيب وهذا الحكم لا يصدق إلا مصادفة وليس للمصادفات مجال في ميدان الحقائق إنما نجيب على هذا السؤال بما يظهر لنا ويجوز موافقته للحقيقة مع خروجه عن حد الفرض المستحيل فنقول ربما رغب الحكيم أن يكون لحكمه تأثير نافع في انتشار كتابه في سائر المدن والأقاليم فرمز لله بأنه الفرد القادر على كل شيء ذلك لأن أهل كل مدينة مصرية قديمة كان لها إله خاص لهم كآمون بطيبة وفتاح بمنف وغيرها من الأرباب فلو أنه ذكر واحداً من تلك الآلهة المتعددة لكان نصيب كتابه من التأثير قاصراً على أهل بلد دون غيره(5/14)
لذا ذكر المؤلف لفظ الجلالة مطلقاً غير مقيد بزمان أو مكان أو اسم معروف فكان أبناء كل بلد يقرأون الحكم ويقفون على ذكر الله المطلق فيحسبون أن المقصود هو ربهم وقد انطلت تلك الحيلة الدقيقة على قدماء المصريين فكانوا إذا رأوا ذكر الله الغفور المحسن المعطي توجه كل بقلبه ولبه إلى معبوده وربه وها نحن نكتفي بجواب الأثري المصري الوحيد أحمد كمال بك في محاضرة ألقاها بنادي المدارس العليا في خريف 1907 عن التوحيد عند قدماء المصريين قال:
قال تعالى {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} هذه هي صيغة التوحيد عند المسلمين وهي موافقة تقريباً للصيغة التي كان يدين بها المصريون قبل عصر الملوك ويدلنا على ذلك رسوم هيروغليفية وجدت في أوراق البردي القديمة - وهنا ترجم الخطيب صورة لهذه الصيغة رسمها على لوحة الطباشير بما يأتي:
الله وحده لا ثاني له يودع الأرواح في الاشباح. أنت الخالق تخلق ولا تُخلق خالق السموات والأرض
وأخذ الخطيب يبين للحاضرين دلالة الرسوم الهيروغليفية على معانيها فذكر أن الله كان يرمز له بصورة رجل مهيب جالس على كرسي وأن لا النافية يرمز لها بذراعين ممدودين على خط مستقيم وإن الأرواح يرمز لها بثلاثة من الطير وبهذه المناسبة ذكر الحديث المشهور (أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر) وتكلم على ما يعتقده عامة اليوم من (تقمص أرواح الموتى للذباب الاخضر) وإن العابد يرمز له برجل رافع يديه تعبداً والأرض بقوس تحته حصى. وقال إن الافرنج كانوا يعتقدون إلى ماقبل عشر سنين أن قدماء المصريين وثنيون ولكن زال هذا الاعتقاد باكتشاف هذه الصيغة التي يعززها عدم وجود أصنام في مقابر ذلك العهد القديم.
من أين التوحيد لقدماء المصريين على هذه الصورة؟
أتاهم التوحيد من نوح عليه السلام فقد كان موحداً بدليل قوله تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً} والخطاب للمسلمين الذين قدمنا عقيدتهم في التوحيد وهنا يتجه اعتراض مؤداه أن الشرك كان شائعاً عند قدماء المصريين بدليل قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام {أءرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} ومعلوم أن يوسف كان سجيناً عند(5/15)
فرعون مصر. ونجيب على هذا بأن عقيدة الشرك لم تدخل مصر إلا مع العرب الذي دخلوا مصر في العهد القديم أي قبل عصر الأسرات ولذلك كان المصريون يطلقون على بلاد العرب اسم بلاد الوثنية - ثم ذكر الخطيب أن الوثنية سليلة بلاد العرب بدليل أن محمداً صلى الله عليه وسلم وجد بالكعبة 365 صنماً فهشمها ثم أكد الخطيب أنه جمع أسماءها العربية فوجد أسماء تشابهها في اللغة الهيروغليفية مما يدل على نقلها من العربية وضرب مثلاً بضم اسمه بوانه الذي حرفه الفرنج فجعلوه فينكس لأن الباء تنطق في الهيروغلفية كالفاء وقد ذكر العرب هذا الصنم باسم فقنس وقال أصحاب الأساطير أنه طائر يأتي من جزيرة العرب ويقف على معبد عين شمس ثم يرفرف بجناحيه فيتقد ناراً تلتهمه ثم يخلق منها ثانية وما نقله العرب هذا حديث خرافة كالخرافات اليونانية. ومن هذه الأصنام العربية اللات والعزى ومنات وإن لها ذكراً في اللغة الهيروغليفية مع بعض التحريف ثم سئل الخطيب كيف تغلب الشرك على التوحيد فقال أن ذلك راجع إلى قوة المتغلب وسئل عن صيغة التوجد التي أوردها آنفاً فقال أنها موجودة في أوراق البردى القديمة ثم استطرد إلى تعريف البردى فقال أنه نبات يزرع في الوجه القبلي وتخرج منه غلة تشبه القمح كان المصريون يقتاتون منها وذكر أنهم كانوا يأخذون أوراقه ويلصقونها بعضها ببعض بالصمغ وقد وجد الخطيب منها قطعاً يبلغ طول بعضها ثلاثة أمتار. أما اللوتس (البشنين) فإنه يزرع في الوجه البحري وهو ينتج ثمرة مثل الشعير كانوا يقتاتون بها أيضاً ويختلف عن البردي في أن أوراقه مسننة لا مستديرة وقد سطر المصريون على هذه الأوراق علومهم من طب وهندسة وحساب ورؤى فيها تمرينات على هذه العلوم ومسائل وأشكال هندسية.
ثم قال حضرة الخطيب أن هذين النبتين يرمز بهما لمن حكم الوجهين البحري والقبلي فإذا رأينا كرسياً مرسوماً عليه صورة البردي واللوتس عرفنا أن الملك الجالس عليه كان يحكم الوجهين البحري والقبلي لأن من يملك الغذاء يملك الرقاب
المقدمة الثالثة
تاريخ الأسرة الخامسة المصرية
التي دونت في عهدها حكم فتاحوتب(5/16)
كانت منفيس وما والاها من المدن مقر ملك الأسرة الخامسة المصرية التي بدأت دولتها في وادي النيل سنة 2750 ق. م أي منذ ستة وأربعين قرناً وكان ملوك تلك الأسرة إذا ورت أحدهم الملك وتربع في دست سلفه أضاف إلى اسمه لقب ري وقد حقق المؤرخون أن الكهنة هم الذين نصحوا الملوك تلك الأسرة بإسناد هذا اللقب إلى أسمائهم لأن فيه رمزاً دينياً يجعل دار الملك مرتبطة أبداً بالسلالة المقدسة ومعنى ذلك تسليم الملوك أمورهم جلها أو كلها لرجال الدين وإشراكهم في النفوذ والسلطان ودليل المؤرخين على ذلك أن الكهنة حاولوا إقناع أفراد الأسرة الرابعة وكلهم من الجبابرة العتاة بناة الأهرام الكبرى ومؤسسوا الآثار الخالدة أن يشفعوا هذا اللقب الديني (ري) بأسمائهم فلم يرض ملوك تلك الأسرة ولم يفلح الكهنة في سعيهم. ومما يؤكد ويؤيد حجة المؤرخين في قولهم بخضوع الأسرة الخامسة لرجال الدين واستسلامهم لهم أن الكهنة فرضوا على كل ملك من ملوكها أن يبني على مقربة من قصره معبداً فخيماً يسميه هيكل الشمس المقدس وكانت هذه الهياكل تمتاز عن غيرها بأنها مربعة الشكل وفي كل واحد منها غرف رحيبة وفي مؤخر المعبد مرتفع من البناء عليه مسلة منقوشة باذخة يرمز بها إلى إله الشمس رافعاً رأسه إلى السماء. وكانت غرف المعبد المذكورة آنفاً مزدانة بالصور والنقوش التي تمثل منابع النيل وما حولها من البحيرات والجبال وفي بعضها صورٌ تمثل الصحراء الواسعة الأكناف والبحر المحيط المترامي الأطراف وبعضها يمثل أهل مصر في مزارعهم ومتاجرهم ومصانعهم. وكان في كل معبد مكان خاص بالملك يصور فيه حوادث عهده الحربية والسلمية ويظهر ان الكهنة الذين أشاروا على ملوك الأسرة الخامسة بتشييد تلك المعابد أمروهم بالعناية بها ووقف ريع الضياع والحقول عليها وتعهدها من حين إلى حين بالهدايا والتحف وكانت تلك الهياكل في الواقع كأديرة النصاري وتكايا المسلمين يقتسم خيراتها من الكهنة من تقدم في السن أو لحقته الأدواء والعاهات العائقة عن القيام بشعائر الدين وقد انضم بعض شبان الكهنة إلى مشايخهم حيث كانوا يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل وحث الناس عليها ويذكر المؤرخون إن ذلك العهد كان بدء نهضة علمية أدبية ففي أيام الملك ايسوسي آخر ملوك الأسرة الخامسة نشأ حكماء فضلاء وكتاب مجيدون أشهرهم واضع هذا السفر الجليل الوزير فتاحوتب (الفتاح العليم) وهو وزير مصر ومحافظ المدينة وقاضي القضاة ووارث(5/17)
كهنة فتاح. وكانت تلك النهضة الأدبية معززة بنهضة سياسية أخرى لأن ملوك تلك الأسرة تنازلوا عما كان عليه أسلافهم من البطش والتفرد بالسلطة المطلقة وأذنوا لاكابر وزرائهم باقتسام نفوذهم والاشتراك معهم في تدبير شؤون الملك وقد وصل الأمر بالوزراء إلى أنهم انتحلوا لأنفسهم لقباً ثابتاً هو لقب فتاحوتب فكان فرعون في الإمارة وفتاحوتب في الوزارة ثم أن الوزير الأكبر كان يترك منصبه لابنه يرثه بعده كما كان الملوك يورثون الملك بعضهم بعضاً فكأن البلاد كانت في الواقع محكومة باسرتين متضامنتين متكافلتين ومنشأ هاتين الاسرتين من الكهنة ورجال الدين الذين تغلبوا على أذناب الأسرة الرابعة فغلبوهم على أمرهم وانتزعوا الملك من أيديهم ثم اقتسموه بينهم فكان الملك نصيب كهنة مدينة الشمس هليوبوليس والوزارة نصيب كهنة فتاح وهم لا ريب أضعف من كهنة مدينة الشمس نفوذاً وأقل شأناً وشأواً. وهذه الحقيقة التاريخية تعلل تساهل ملوك الأسرة الخامسة مع رجال الدين واستسلامهم لهم تعليلاً حسناً لأنه لولا ذلك اللين وتلك المحاسنة مااستطاع فريق من رجال الدين أن يستقل بالملك مادام الكل يطمع فيه والشعب المصري المسكين يمرح في نعيم الجهل بعد أن حجب هؤلاء الخونة المستبدون من رجال الدين وغيرهم عنه نور العلم وضياء المعرفة وخلوه يرسف في قيود الذل ويعمه في ليل من الغفلة ولولا ذكر بعض حسنات الكهنة في كتاب بعض المؤرخين وثقتنا بهم وسعة اطلاعهم لارتبنا في وصفهم كهنة الأسرة الخامسة بالصلاح وقولهم عنهم أنهم كانوا في معابدهم يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل وحث الناس عليها.
بيد أن القوة المهولة الساهرة على حياة الشعوب التي لا تأخذها سنة ولا تغفل عما يفعل الظالمون انتقمت للضعفاء من الأقوياء وانتصرت من الباطل للحق فحدث ما كان في الواقع نتيجة منطقية لتلك المقدمات وهو أن عمال الحكومة كبارهم وصغارهم رأوا كيف انتزع الكهنة الملك من أيدي أصحابه وتعلموا على أيديهم طرق الاغتيال فسنوا لأنفسهم سنة جديدة وهي أن يورثوا أولادهم مناصبهم من بعدهم فكان كل عامل يخلفه ولده ليكون خير خلف لخير سلف. . وبعبارة أخرى كانت الحكومة المصرية في ذلك العهد وراثية (بيروقراطية) وفي هذا النظام من منازعة الحكام والعمال للملوك نفوذهم مالا يخفى لأن كل حاكم أو عامل في الحكومة يرى لنفسه حقاً وراثياً فيها فلا يستطيع الملك أن ينال من(5/18)
السلطة مالا يود عماله ولما كان أغلب صغار الحكام من طبقات الأمة المتوسطة سرت روح الحرية شيئاً فشيئاً حتى بلغت الفئات النازلة. ثم أن الملوك أنفسهم كانوا يقرون بفضل فئة من أشراف المصريين عضدتهم وشدت أزرهم ورفعتهم إلى عرش الملك فكانوا يملقون هؤلاء النبلاء ويسبغون عليهم ذيول العز ويغمرونهم في كل آن بوافر النعم وجزيل الإحسان حتى إن أول ملك من ملوك الأسرة الخامسة استعمل على مصر السفلى حاكماً كان قبل نبيلاً وقد أوشك هذا العامل أن يستقل بولايته لولا ضعف حزبه وأنصاره على أن كل الذنوب السياسية تغتفر في سبيل ما أرغم ملوك الأسرة الخامسة على نشره من العدل في ربوع مصر فشعر الشعب الذليل بنعمة الحرية بعد أن ذاق صنوف المذلة والهوان على أيدي جبابرة الأسرة الرابعة أمثال خوفو وخفرع ومنقرع القساة القلوب الغلاظ الأكباد العتاة الظالمين الذين سجلوا على نفوسهم ذنوباً لا يمحوها كر الدهور ولا ينسخها مر العصور بل ما دامت الأهرام الكبرى تناطح السماء وتقاوم طوارئ الحدثان وتهزأ بتعاقب القرون على القرون والأزمان على الأزمان وتشهد بأن كل صخر من صخورها هو دمع متحجر من دموع الشعب الذليل المهان الذي سيق رغم إرادته والشمس المحرقة ترشقه بسهامها والصحراء الحامية تدمى أديم أقدامه بجمر أديمها والسوط المثلث مصوب إلى ظهره والسيف المرهف مكان الغلالة من نحره سيق هذا الشعب المظلوم على تلك الصورة المفزعة تنفيذاً لرغائب عتل زنيم ومعتد أثيم أصابه مس من الجن فظن أن نفسه الخبيثة لا يليق بها إلا ذلك الهرم الجسيم أو أراد أن يخلد ذكره على صحيفة مصر فسفك دماء أبنائها ليكتب بها سطراً في الصحراء لابد أن يمحوه الزمان وما زوال ذكر الظالمين وآثارهم على الظالمين بعزيز!
لست أدري لماذا ألوم ذلك الظالم الجهول خوفو اوكيوبس الذي تعددت أسماءه تعدد أسماء ابليس اللعين واللوم خليق بالمؤرخين الذي ذكروه وذكروا أمثاله من الظالمين أشباه نابوليون الصغير ونيرون أكثر مما ذكروا صولون وسقراط وأرسطو وأفلاطون وكان الجدير بهم أن يمحوا أسماءهم من كتبهم لئلا ينالوا بهذا الذكر ما كانوا يروجونه من الصيت العتيد والشأو البعيد.
نقول ومدح الأسرة الخامسة في عرض الكلام على عتاة الأسرة الرابعة عدل انظر إلى(5/19)
ماحاول ملوك تلك الأسرة تشييده من الأهرام مجاراة للسلف الصالح في الجيزة وأبي صير وصقارة فقد جاءت كلها ككهوف القرون الأولى فلا جلال لها ولاسيما للوقار عليها وقد تهدم معظمها وعن قريب لا يبقى منها إلا ذكرها في كتب الأخبار وهذا الضعف في البناء لا يؤخذ دليلاً لى تقهقر فن العمارة في مصر في عهد تلك الأسرة إنما يؤخذ دليلاً على انتشار روح الحرية الشخصية لحد محدود وبرهاناً على ضعف نفوذ الملك بحيث صار عاجزاً عن سوق الشعب لتشييد جبال الظلم والاستبداد كما تساق الأنعام للذبح وقد ذكر المؤرخ الكبير العلامة جمس هنري بريستد الذي نعتمد على مؤلفاته في معظم ما نكتب أن مصر تقدمت في عهد الأسرة الخامسة تقدما مادياً وأديباً وأن الصنائع والفنون ارتقت ارتقاء باهراً كما أن الآداب نهضت نهضة شماء فألفت الكتب وصنفت الرسائل ودونت المقالات الطويلة والأبحاث العلمية الشائعة وذكر هذا المؤلف في صحيفة 107 من كتاب تاريخ مصر القديم (طبع نيويوك) إن النهضة الأدبية وإن كانت في عهد الدولة الخامسة في إبان نشأتها فقد أنجبت كتاباً وحكماً هيهات أن يسمح الزمان بمثلهم في بدء أية نهضة في أية أمة ومن هؤلاء الحكماء بوضع الحكمة في قالب الامثال والمواعظ ولم ينقطع أحدهم للتحرير والتحبير إلا بعد أن حنكته الليالي والأيام ودربته الحوادث والتجارب وقد شاعت مؤلفاتهم وتداولتها الناس كافة وأقبلوا على حكم فتاحوتب خاصة ولا بدع إذا نالت تلك الحكم في الزمن الحاضر ما نالته في الغابر فهي من أقدم ماكتب الكاتبون وأفضل ما حبره الحكماء الخبيرون أهما قاله العلامة بريستد وقد ذكر بعد ذلك أن أسلوب التصنيف كان في ذلك العهد واحداً وإن الألفاظ التي استعملت في الكتب قليلة محصورة واستدل بذلك على ضعف اللغة الهروغليفية في عهد الأسرة الخامسة ولكن غيره يرون غير رأيه ويقولون إن جال الشعب من العلم ومكانته من المعرفة كانتا تستلزمان البساطة في التعبير والسهولة في الإنشاء والعناية بانتقاء الألفاظ التي تقرب من ذهن عامة الناس وهذا خير من التقعر وذكر مالم يصل إليه علم المتوسطين.
حكم فتاحوتب
هذه حكم الوزير فتاحوتب وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة في عهد الملك ايسوسي ملك الملوك وأمير الأمراء وصاحب مصر السفلى.(5/20)
قال الوزير فتاحوتب وزير مصر وحاكم المدينة وقاضى القضاة للملك ايسوسي اعلم يا مولاي أن سراج حياتي أوشك أن ينطفئ فأخذ الفناء يدب في جسدي دبيب الشيب في الرأس وتمكن الضعف من بدني تمكن القنوط من النفس فعادت نضرتي ذبولاً وغضاضتي محولاً وجسامتي نحولاً وقل الخير والنفع وذهب البصر والسمع وعقد اللسان بعد أن ختم على الجنان فلا قول نافع ولا برهان قاطع ولا ذهن يعي ولا بيان شافع يعيد ما مضى من عهد الفتي الالمعي. فاسمح يا مولاي لخادمك وعبد رحمتك وصنيع نعمتك أن يخلى منصبه لولده من بعده ومرني أن أعلمه ما علمتنيه حنكة الشيوخ فقد قيل أنهم مهبط الوحي ومسقط الحكمة عفا الله عنك وارشد بك شعبك وهداه بهديك.
فأجاب الأمير النبيل والملك الجليل ايسوسي صاحب مصر السفلي أذنت لك أن تعلم ابنك الحكمة فلعله يجيء فذاً بين الأولاد موفقاً إلى سبل الرشاد فيكون قدوة لأمثاله يسيرون على نهجه ويختطون خطته ويختارون حكمته فيهتدون في تقويم اعوجاجهم بهداه ويسترشدون في إصلاح ما فسد من شؤونهم بصلاحه وتقاه.
فكتب فتاحوتب وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة لولده يعلمه الحكمة وأدب النفس: -
(متلو)
آثار رومانية
ست عشرة رسالة حكيمة
من رسائل الفيلسوف سنيكا إلى صديقه
لوسليوس
الرسالة الأولى
(في المحافظة على الوقت)
فرّغ نفسك أيها الصديق لنفسك وحافظ على وقتك الذي قد يضيعه عليك الناس سدى أو يسلبونك إياه سلباً أو يفر ويفلت منك أنت هباء فاحرص عليه وضن به وتعلم صونه وحسن تصريفه وثق بأن أوقات حياتنا إما أن تؤخذ منا أخذاً أو تنتهب انتهاباً وإما أنا نحن(5/21)
الذين نضيعها على أنفسنا عبثاً ونجعلها تُنقص من أعمارنا بدداً وشرّها هذا الذي يضيعه علينا منها إهمالنا ولعمري أنك لو أنعمت النظر لرأيت أن شطراً من حياتنا يذهب في تافه ما نعمل في الحياة والشطر الآخر وهو أعظمها قد يضيع علينا في لاشيء وأنا على الحالين غير عاملين إلا فيما يجب علينا ألاَّ نعمل وإلا فخبرني أين هو ذلك الذي يحافظ على وقته ويقدره قدره ويعرف قيمة اليوم الذي تطلع عليه فيه شمسه ويدرك أنه في كل ساعة تمر عليه يقترب من الموت وفي كل لحظة تكر يدنو منه الأجل، لا جَرَم أنا واهمون في اعتقادنا أن الموت أمامنا على حين أنا قاطعون منه مراحل كثيرة خلفنا فكل ما مضى من أعمارنا إنما هو منه أو من حقوقه المستردة، فاعمل أيها الصديق بما ضمنته كتابك الأخير إلىّ أن تجمع ساعات يومك وتستحضرها وما دمت محافظاً على الحاضر من وقتك مراعياً حسن التصرف فيه فلا تبال بالمستقبل منه وما ضبط امرؤ حاضر وقته وأحسن التصرف فيه إلا جرت حياته لعمرك أحسن مجرى إن كل ما بقي بعد الوقت ليس لنا بل هو أجنبي عنا أي لا حكم لنا عليه إلا هذا الوقت فقد وهب لنا قياده فهو الشيء الوحيد الذي منحتنا العناية حق التصرف فيه لأنفسنا بأنفسنا ولما كان لعمري من الفرار والفلت من بين أيدينا بمكان عظيم فقد يسلبنا إياه أول قادم ويشغلنا عنه أقل شاغل ومما مُنِيَتْ به الناس من ضروب الحمق أن تشغلهم الصغائر والسفاسف الممكن تداركها وتلافي أمرها على ظن أنها من العظائم الواجب العناية بها أما الوقت فلا يحفلون به ولا يظنونه من النعم الواجب شكرها والاحتفاظ بها على حين أنه من أكبر النعم المطوق بها أجيادهم ولا يوفونها مع ذلك حقها ولا يقدرونها قدرها، ولعلك سائلى وما تصنع أنت يا من تعلمنا الحكمة فأجيبك بالصريح أعلم أني مثل رجل الفقير المقتصد في معيشته لا يفوتني محاسبة نفسي على ما أنفق من عمري بالدقة على أني لا أفتخر بأنه قد لا يفوتني ضياع شيء منه هباء ولكني أعرف ما يضيع علىّ وكيف ضاع ولم ضاع وبذلك يمكني على نضوب عودي أدراك حالي وفقه شأني وما حالي وأيم الحق إلا كحال المكدود عن جده لا عن كده وهذا قد يرثى له الناس ويرقون له ولكن لا يمد له يد المعونة إنسان أما أنت فأني أختار لك على كل حال أن تقتصد في أمرك وتبادر إلى انتهاز الفرص من ثمين وقتك واعلم أن الأقدمين منا قد ضربوا مثلاً جليلاً للشيخوخة هو خير تمثيل في الواقع لحالها فقالوا: إذا بلغ ما في الإناء(5/22)
نهايته فلا اقتصاد ثَمَّ ولا ادخار لأنه لم يبق فيه غير الثفل وهو قليل في الكمية رديء في الكيفية.
الرسالة الثانية
(في الأسفار والمطالعات)
تنبئني رسائلك ويدلني ما يأتيني من أخبارك على ما أومل فيك من لخير فأن الأسفار والانتقالات لا تقلق لعمري راحة نفوسنا وإنما كل تلك الحركات لا تزعج إلا خواطر أصحاب العقول المريضة وأول علامة على سلامة النفس وصحتها معرفة المرء كيف يسكن بنفسه إلى نفسه. ولكني أحذرك مطالعة كل تلك الطائفة من الكتب الكثيرة والأسفار المختلفة التي قد تفضي إلى تشويش الذهن واضطراب الفكر فيجب عليك ألا تتعلق إلا بمطالعة المختار من أسفار كبار المؤلفين التي تغذي روحك مادتها إذا أنت أحببت أن تستفيد شيئاً يرتسم في عقلك وينتقش في نفسك واعلم أن كثرة الانتقال من مكان إلى مكان كلا انتقال من مكان وإذا قضي المرء أيامه في التنقل والأسفار فهو إنما يستكثر من المضيفين لا من الأصدقاء كذلك حال أولئك الذين لا يداومون على مطالعة مؤلف واحد بالدقة والإمعان وإنما من ديدنهم أن يمروا بأبصارهم على كل ما يقع لهم من الكتب مراً سريعاً كأنهم يركضون ركضاً والأغذية إذا خرجت من المعدة بسرعة على أثر تناولها لا تفيد الجسم ولا يكتسب منها البدن وكذلك في باب العلاج ليس أضر على البدن من كثرة تغيير الأدوية والعقاقير، وكثرة وضع الضمادات على الجراح قَلَّ أن تفيدها والإكثار من نقل غراس الأشجار من مكان إلى مكان يوجب ضعفها ويقل نماءها وبالجملة لا شيء تفيده العجلة في هذه السبيل، أجل إن مطالعة الكتب الكثيرة قد تسلى العقل وترطب الذهن ولكن لما كان ليس في قدرة الإنسان إلا مطالعة ما تصل إليه طاقته من الكتب فيجب عليك في هذه الحال أن تنتقي كتبك وأن لا تحرز يداك من الأسفار إلا ما تروق مطالعته والاستفادة منه ولعلك تقول لي إنما أرغب أن أطالع هذا الكتاب وأروض فكري في ذلك السفر فأقول لك أن شوق النفس إلى تناول الألوان الكثيرة ما هو إلا دليل على ضعف معدة صاحبها لأن كثرة الألوان لا تغذي بل هي قد تضر أكثر مما تنفع وصفوة القول أنه يجب عليك أن تثابر على مطالعة كبار المؤلفين المعتبرين وإن رأيت أن تنتقل منهم إلى سواهم بين حين(5/23)
وآخر فلا تفوتنك العودة إلى ربوعهم وأن تجمع وتستخلص من مطالعاتك كل يوم قوات جديدة وعلاجات مفيدة تطبب بها علل نفسك وأدواء مخاوفها من مثل الفقر والموت ونحو ذلك من الأرزاء والمصائب وأن تجعل لنفسك من مطالعتك اليومية مندوحة للفكر بها يستعين على هضم ما اكتسب منها في يومه وهي الطريقة التي أجرى عليها أنا فأني أطالع كثيراً ولكني أبقي لنفسي مندوحة ومستروحاً لذلك وهاك أتاوتي من الحكمة في هذا اليوم وهي مستمدة من أبيقور الذي ألجأ إلى ساحته عادة لمثل هذا الغرض لا عن عجز وتقصير وإنما للتوضيح والتنوير قال السرور بالفقر من الأحوال الشريفة ولعمري إذا كان ثَمَّ سرور ورضا في النفس فليس ثمّ فقر لأنه ليس بفقير ذلك الذي يقنع بقليله بل هو غني وإنما الفقير من تكثر أطماعه وتزداد رغائبه ولا غرو فإنه لا عبرة بأن تكون خزائن الإنسان طافحة بالنضار وحواصله مشحونة بالأقوات والأرزاق وأنه يملك العدد العديد من قطعان الأنعام وأن له من الموارد ما يعد بالجزيل إذا هو طمع وشره وتمني المزيد وهل من يستقل ما في يديه طمعاً فيما يتمنى ويؤمل الحصول عليه إلا فقير ما هو قياس الغني أليس هو لعمري الضروري أولاً ثم ما يكفي ثانياً؟
الرسالة الثالثة
(في اختيار الأصدقاء)
كتبت تخبرني أن الذي يحمل إليَّ رسائلك صديق لك وتحذرني منه في نفس هذا الكتاب وألاَّ أحدثه بكل ما يتعلق بك زاعماً أنه ثرثار يحدث بكل ما سمع فكتابك لعمري تضمن الضدين وجمع بين النقيضين وكأنك تقول لي أن هذا الشخص صديق لك وليس بصديق لك وكأن هذه الكلمة كلمة الصديق ما جاءت على أسلةِ قلمك إلا توفية للرسم وصورة لما اصطلح عليه في سعادة الناس كما اعتدنا مثلاً أن نسمي طلبة العلم أهل الفضل وأن ندعو من نقابله لأول مرة ونجهل اسمه بالسيد والمولي ولكن لندع هذه القشور اللفظية جانباً وننظر في اللباب والجوهر: فاعلم أن اعتقاد المرء في بعض الناس أنه صديقه ثم هو لا يراه موضع ثقته كما يرى نفسه ما هو إلا تطوح غريب وشطط عجيب في إدراك معنى الصداقة وحقيقتها، فصديقك يجب أن يكون موضع سرك في كل دخائلك ولكن بعد أن تكون قد اختبرته وسبرت أحواله إذ الثقة ينبغي أن تتبع الصداقة والحذر والاحتياط يجب أن(5/24)
يسبقاها أما ما يباين ذلك فليس إلا خلطاً وخبطاً في الواجبات المفروضة وخروجاً عما قاله تيوفراسطس الحكيم من أن إيصال حبال الصداقة قبل المعرفة ما هو إلا قطع بها بعد التعارف. فتروّ طويلاً ودقق في اختيار الصديق وإذا أنت ظفرت بصديق صادق فافتح له قلبك واجعله موضع ثقتك كما تثق بنفسك بل أشير عليك بأن تكون محبتكما خالية من التكلف جامعة إلا لما فيه مطمع لطعن الأعداء فيما تتبادلان من الأفكار والآراء وأن تجعله موضع سرك إلا ما جرت العادة بجعله سراً بين المرء ونفسه، فينبغي أن تبثه أحزانك وأشجانك وتطارحه أفكارك واعتقد فيه الإخلاص لك تجده مخلصاً إذ كم من مرة في الواقع علم الإنسانُ الغش والخيانة من اعتقاد الناس فيه أنه غشاش خائن لأن عدم الثقة قد يولد الخيانة، وما معنى الصداقة إذا كنتُ أكتم صديقي سراً أبوح به للناس؟ ولمَ لا أعتقد أنني وصديقي إذا اجتمعنا إنسان واحد؟ على أن في الناس من قد يبوح لأول قادم بما لا يجوز إلا للصديق وحده معرفته والاطلاع عليه ويصدع آذان الناس بأسراره التي لا تحتملها نفسه، ومنهم من هم على العكس من ذلك يخشون إفشاء أسرارهم حتى إلى أخلص أصدقاءهم وأعز أحباءهم وعلى أنفسهم لو أمكنهم ذلك كتمانها في أعماق قلوبهم فتجنب أنت هذين الطرفين في شؤونك وأسرارك لأن الثقة بكل إنسان وعدم الثقة بإنسان رذيلتان متشابهتان وفي الأولى منهما من سلامة النية بمقدار ما في الثانية من فرط الاحتياط، ومما يجب أن يلام المرء عليه أيضاً ملازمة الحركة أو مداومة الراحة فالحالة الأولى وهي مما يعجب به الجمهور من الناس تدل على قلق النفس وشرتها والثانية وهي كراهة الحركة واختيار الراحة أن هي إلا طريق الضعف والسقم واسمع لهذه الحكمة التي قرأتها اليوم في مؤلف بومنيوس حيث قال: إن من الأعين أعيناً لا تبصر جيداً إلا في ظلمة الليل ولكنها تعشو في ضوء النهار فينبغي أن نجمع بين الحالين ونؤلف بين الطرفين فنتبع العمل الراحة والراحة العمل وسائر الطبيعة تجبك بأن بارئها أوجد فيها الليل والنهار فجعل النهار معاشاً والليل سباتاً. (متلو)
آثار عربية
من ملك إلى ملك
رسالة هارون الرشيد إلى قسطنطين ملك الروم - يَقِفُه (يوقفه) فيها على الإسلام ويبين له(5/25)
بالدليل الناصع صدق المصطفى عليه السلام.
بويع الخليفة العباسي هارون الرشيد يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة للهجرة ومات يوم السبت لأربع ليال خلون من جمادي الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة فكانت ولايته ثلاثاً وعشرين سنة وستة أشهر وولى الخلافة وهو ابن إحدى وعشرين سنة ومات وهو ابن أربع وأربعين سنة وأربعة شهور - وكان على مملكة الرومان الشرقية في خلافة الرشيد قسطنطين السادس من سنة 780 - 792م ثم نيسوفورس المعروف عند العرب باسم - نيقوفور - من سنة 792 - 811م وقد عثرنا على هذه الرسالة في كتاب اختيار المنظوم والمنثور الموجود في المكتبة الخديوية معنونة بهذا العنوان الآتي - ومن الرسائل المختارة رسالة أبي الربيع محمد بن الليث إلى قسطنطين ملك الروم - ثم افتتح الرسالة بما يأتي - من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى قسطنطين عظيم الروم الخ الخ فبحثنا في كتب التاريخ التي تحت أعيننا عن هذه الرسالة وعمن كتبها ومن كتبت عنه ومن كتبت إليه فلم نر ذكراً لشيء من ذلك وغاية ما يمكن معرفته هو أن هذه الرسالة أرسلها هارون الرشيد إلى قسطنطين السادس والذي كتبها عن الرشيد هو أبو الربيع محمد بن الليث - أما الرسالة فأثر من أحسن الآثار وأسلوبها أسلوب الطبقة الأولى من كتاب العربية الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب وابن العميد وأضرابهم ولذلك آثرنا نشرها في البيان وهذه هي:
من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى قسطنطين عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى فأني أحمد الله الذي لا شريك معه ولا ولد له ولا إله غيره الذي تعالى عن شبه المحدودين بعظمته واحتجب دون المخلوقين بعزته فليست الأبصار بمدركة له ولا الأوهام بواقعة عليه انفراداً عن الأشياء أن يشبهها وتعالياً أن يشبهه شيء منها وهو الواحد القهار الذي ارتفع عن مبالغ كذا صفات القائلين ومذاهب لغات العالمين وفكر الملائكة المقربين فليس كمثله شيء وله كل شيء وهو على كل شيء قدير.
أما بعد فإن الله جل ثناؤه وتباركت أسماؤه قال لنبيه صلى الله عليه فيما أنزل من آيات الوحي إليه: أُذعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين: فرأى أمير المؤمنين من أحسن(5/26)
قوله وأفضل فعله أن يكون إلى سبيل ربه داعياً وبرسوله صلى الله عليه متأسياً ولقوله: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال أنني من المسلمين: موافقاً وكنت من كتب الله المُنزلة وآياته المفسرة وخَلقه الكثير بحيث رجا أمير المؤمنين استماعك لموعظته وانتفاعك بمجادلته انتفاءً بشّرٍ كثير وخلق عظيم قد بُؤتَ بأوزارهم مع وزرك واحتملت من آثامهم إلى إثمك فأحب أن يدعوك ومن رجا أن ينتفع بدعوته معك إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نُشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن توليتم عن ذلك رغبة عنه أو تركتموه زهادة فيه فأشهدوا بأنا مسلمون واستمعوا ما أمير المؤمنين واصفٌ لكم ومحتجٌّ به إن شاء الله عليكم بقلوب شاهدة وآذان واعية ثم اتبعوا أحسن ما تسمعون ولا قوة إلا بالله فإن الله عز وجل يقول فيما أنزل من كتابه واقتصَّ على عباده: وبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
إن الله تبارك اسمه وتعالى جده وصف فيما أنزل من آياته وشرح من بيناته الأمم الماضية والقرون الخالية والملل المتفرقة الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى لا برهان لهم بها ولا حجة لهم فيها فقال يا أهل الكتاب: لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون: قالت العرب الذين يعبدون الملائكة وأهلُ الكتاب الذين يقولون ثالث ثلاثة بايتما آية يا محمد تزعم أن الله إله واحد فأنزل الله عز وجل في ذلك آية تشهد لها العقول وتؤمن بها القلوب وتعرفها الألباب فلا تستطيع لها ردّاً ولا تُطيق لها جحداً ذَكر فيها اتصال خلقه واتفاق صنعه ليوقن الجاهلون من العرب والضالون من أهل الكتاب أن إله السماء والأرض وما بينهما من الهواء والخلق واحد لا شريك له خالق لا شيء معه فقال: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس: فتفكر في تفسير هذه الآية من كلام الرب عزّ وجلّ وما أوضح فيها من بيان الخلق فإنه ما من مفكر ينظر فيما ذكر الله فيها مما بين السماء والأرض إلا رأى من اتصال بعض ذلك ببعض مثل ما رأى في تدبير نفسه وعرف من اتصال خلقه فيما بين ذوائب شؤون رأسه إلى أطراف أنامل قدمه وفي ذلك أوضح آية(5/27)
وأبين دلالة على أن الذي خلقه وصنعه إله واحد لا إله معه ولا من شيء ابتدعه ولا على مثال صنعه.
قد ترون بعيونكم وتعلمون بعقولكم أن الله عز وجل خلق للأنام الأرض وجعلها موصولة بالخلق فليست إلا لهم ولا يديمها إلا معهم وجعل ذلك الخلق متصلاً بالنبت لا يقوم إلا به ولا يصلح إلا عليه وجعل ذلك النبت الذي جعله متاعاً ومعاشاً لأنعامكم متصلاً بالماء الذي ينزل من السماء بقدر معلوم لمعاش مقسوم فليس ينجم النبت إلا به ولا يحيا إلا عنه وجعل السحاب الذي يبسطه كيف يشاء متصلاً بالريح المسخرة في جو السماء تثيره من حيث لا تعلمون وتسوقه وأنتم تنظرون كما قال عز وجل: وهو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور: ووصل الرياح التي يصرفها في جو السماء بما يؤثر في خلق الهواء من الأزمنة التي لا تثبت الهواجر إلا بثباتها ولا يزول عنه برد إلا بزوالها كذا ولولا ذلك لظل راكداً بالحر المميت أو ماثلاً بالبرد القاتل ووصل الأزمنة التي جعلها متصرفة متلونة بمسير الشمس والقمر الدائبين لكم المختلفين بالليل والنهار عليكم وجعل مسيرهما الذي لا تعرفون عدد السنين إلا به ولا مواقع الحساب إلا من قِبَله متصلاً بدوران الفلك الذي فيه يسبحان وبه يأفلان ووصل مسير الفلك بالسماء للناظرين سواء كذا فهذا خلق الله عز وجل ما فيه تباين ولا تزايل ولا تفاوت كما قال سبحانه وتعالى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ولو كان لله شريك فيه أو معه ظهير عليه يمسك منه ما يرسل ويرسل منه ما يمسك أو يؤخر شيئاً من ذلك عن وقت زمانه ويعجله قبل مجيء ابَّانه - لتفاوت الخلق ولتباين الصنع ولفسدت السموات والأرض ولذهب كل إله بما خلق كما قال وكذب المبطلين: بل أتيناهم بالحق وأنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون: والعجب كيف يصف مخلوق ربه أو يجعل معه إلهاً غيره وهو يرى فيما ذكر الله من هذه الأشياء صنعة ظاهرة وحكمة بالغة وتأليفاً متفقاً وتدبيراً متصلاً من السماء والأرض لا يقوم بعضه إلا ببعض متجل بين يديه ماثل نُصب عينيه يناديه إلى صانعه ويدله على خالقه ويشهد له على وحدانيته ويهديه إلى ربوبيته فتعالى الله عما يشركون أيشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون حقاً ما كرر هؤلاء الجاهلون بربهم الضالون عن(5/28)
أنفسهم في خلق الله النظر ولا رجعوا كما قال الله عز وجل الفكر ولو اعملوا فكرهم واجتهدوا نظرهم فيما تسمع آذانهم وترى أبصارهم من حوادث حالات الخلق وعجائب طبقات الصنع لوجدوا في أقرب ما يرون بأعينهم من التأليف لتركيب خلقهم والأثر في التدبير لصنعهم ما يدلهم على توحيد ربهم ويقف بهم على انفراده بخلقهم فإنهم يرونه في أنفسهم بأعينهم ويجدونه بقلوبهم مخلوقة أي أنفسهم صنعة بعد صنعة ومحولة طبقة عن طبقة ومنقولة حالاً إلى حال سلالة من طين ثم نطفة من ماء مهين ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً كساه الله عز وجل لحماً ونفخ فيه روحاً فإذا هو خلق آخر فتبارك الله أحسن الخالقين الذي خلق في قرار مكين من ماء قليل ضعيف ذليل خلقاً صوره بتخطيط وقدره بتركيب وألفه بأجزاء متفقة وأعضاء متصلة من قدم إلى ساق إلى فخذ إلى ما فوق ذلك من مفاصل ما يعلن وعجائب ما يبطن ليعلم الجاهلون ويوقن الجاحدون أن الذي جعل ذلك وخلقه ودبره وقدره وهيأ ظاهره وباطنه إله واحد لا شريك معه فلا يذهبن ذكر هذا صفحاً عنكم ولا تسقط حكمته جهلاً به عليكم وفكروا في آيات الرسل وبينات النذر فإن في ذلك فكراً للمبصرين وبصراً للمعتبرين وذكرى للعابدين والحمد لله رب العالمين. وأمير المؤمنين واصف لكم ومقتص من ذلك إن شاء الله عليكم ما فيه شهادات واضحات وعلامات بينات ومبتدئ بذكر آيات نبينا محمد صلى الله عليه فيما أنزل الله منها في الوحي إليه فإنه ما أحد يقرع بآيات النبوءة قلبه ويخصم بينات الهدى عقله إلا قادته حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه لا يجد إلى إنكار ما جاء به من الحق سبيلاً فأردت أن تكونوا على علم ومعرفة ويقين وثقة من أمر محمد صلى الله عليه وحقه وما أنزل إليه من ربه عز وجل فأحضر كتاب أمير المؤمنين فهمك وألق إلى ما هو واصف إن شاء الله سمعك.
إن الله عز وجل اصطفى الإسلام لنفسه واختار له رسلاً من خلقه وابتعث كل رسول بلسان قومه ليبين لهم ما يتقون ويعلمهم ما يجهلون من توحيد الرب وشرائع الحق لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً فلم تزل رسل الله قائمة بأمره متوالية على حقه في مواضي الدهور وخوالي القرون وطبقات الزمان يصدق آخرهم بنبوّة أولهم ويصدق أولهم قول آخرهم ومفاتح دعوتهم واحدة لا تختلف ومجامع ملتهم ملتئمة لا تفترق حتى تناهت الولاية والوراثة التي سيدنا عيسى عليه السلام عليها (كذا ولعلها فقام(5/29)
عليها) وبشر بها إلى النبي الأمي الذي انتخبه الله لوحيه واختاره لعلمه فلم يزل ينقله بالآباء الأخاير والأمهات الطواهر أمة فأمة وقرناً فقرناً حتى استخرجه الله في خير أوان وأفضل زمان من أثبت محاتد ارومات البرية أصلاً وأعلاً ذوائب نبعات العرب فرعاً وأطيب منابت أعياص قريش مغرساً وأرفع ذري مجد بني هاشم سمكاً محمد صلى الله عليه وسلم خيرها عند الله وخلقه نفساً على حين أوحشت الأرض من أهل الإسلام والأيمان وامتلأت الآفاق من عبدة الأصنام والأوثان واشتعلت البدع في الين وأطبقت الظلم على الناس أجمعين وصار الحق رسماً عافياً وخلقاً بالياً ميتاً وسط أموات ما أن يحسون الهدى صوتاً يسمعونه ولا للدين أثراً يتبعونه فلم يزل صلى الله عليه وسلم قائماً بأمر الله الذي أنزل إليه يدعوهم إلى توحيد الرب عز وجل ويحذرهم عقوبات الشرك ويجادلهم بنور البرهان وآيات القرآن وعلامات الإسلام صابراً على الأذى محتملاً للمكروه قد أعلمه الله عز وجل أنه مظهر دينه ومعز تمكينه وعاصمه ومستخلفه في الأرض فليس يثنيه ريب ولا يلويه هيب ولا يعييه أذى حتى إذا قهرت البينات ألبابهم وبهرت الآيات أبصارهم وخصم نور الحق حجتهم فلم تمتنع القلوب من المعرفة بدون صدقه ولم تجد العقول سبيلاً إلى دفع حقه وهم على ذلك مكذبون بأفواههم وجاحدون بأقوالهم كما قال الله عز وجل العليم بما يسرون الخبير بما يعلنون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون بغياً وعداوة وحسداً ولجاجة افترض الله عليهم قتالهم وأمره أن يجرد السيف لهم وهم في عصابة يسيرة وعدة قليلة مستضعفين مستذلين يخافون أن يتخطفهم العرب وتداعى عليهم الأمم تستلحمهم الحروب فآواهم في كنفه وأيدهم بنصره وأنذرهم بمقدمة من الرعب ومسعلة كذا من الحق وجنود الملائكة حتى هزم كثيراً من المشركين بقلتهم وغلب قوة الجنود بضعفهم انجازاً لوعده وتصديقاً لقوله: إن جندنا لهم الغالبون: فأحسن النظر وقلب الفكر في حالات النبي صلى الله عليه من الوحي قائماً لله لتجدن لمذاهب فكرك وتصاريف نظرك مضطرباً واسعاً ومعتمداً نافعاً وشعوباً جمة كلها خير يدعوك إلى نفسه وبيان ينكشف لك عن محضه - وأخبر أمير المؤمنين ما كنت قائلاً لو لم تكن البعثة للنبي صلى الله عليه بلغتك ولم تكن الأنباء بأموره تقررت قِبَلك ثم قامت الحجة بالاجتماع عندك وقالت الجماعة المختلفة لك أنه نجم بين ظهراني مثل هذه الضلالات المستأصلة والجماعات المستأسدة(5/30)
التي ذكر أمير المؤمنين من قبائل العرب وجماهير الأمم وصناديد الملوك ناجم قد نَصَب لها وأغري بها يجهل أحلامها ويكفر أسلافها ويفرق الأفها ويلعن آباءها ويضلل أديانها وينادي بشهاب الحق بينها ويجهر بكلمة الإخلاص إلى من تراخى عنها حتى حميت العرب وأنفت العجم وغضبت الملوك وهو على حال ندائه بالحق ودعائه إليه وحيداً فريداً لا يحفل بهم غضباً ولا يرهب عنتاً بقول الله عز وجل يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وأنا أعصمك من الناس: أكنت تقول فيما تجري الأقاويل به وتقع الآراء عليه إلا أنه أحد رجلين إما كاذب يجهل ما يفعل ويعمى عما يقول وقد دعا الحتف إلى نفسه وأذن الله لقومه في قتله فليست الأيام بمادة ولا الحال بمواتية إلا ريثما تستلحمه أسبابهم وينهض به حلماؤهم غضباً لربهم وأنفة لدينهم وحمية لأصنامهم وحسداً من عند أنفسهم وأما صادق بصير بموضع قدمه ومرمى نبله قد تكفل الله عز وجل بحفظه وصحبه بعزه وجعله في حرزه وعصمه من الخلق فليست الوحشية بواصلة مع صحبة الله إليه وليست الهيبة داخلة مع عصمة الله عليه ولا سيوف الأعداء بمأذون لها فيه ثم أنكم يا أهل الكتاب لو قيل لكم أن الرجل الذي يدعي العصمة وينتحل المنعة نجمت الأمور به على ما قال وسلمت الحال له فيما ادعى حتى نصب لغمارات العرب وجماعات الأمم يقاتل بمن طاوعه من خالفه وبمن تابعه من عانده جاداً مشمراً محتسباً واثقاً بموعود الله ونصره لا تأخذه لومة لائم في ربه ولا يوجد لديه غميزة في دينه ولا يلفه خذلان خاذل عن حقه حتى أعز الله دينه وأظهر تمكينه وانتقادات الأهواء له واجتمعت الفرق عليه ألم يكن ذلك يزيد حقه يقيناً عندكم ودعوته ثبوتاً فيكم حتى تقول الجماعة من حلمائكم وأهل الحنكة من ذوي آرائكم ما كان الرجل إذا كان وحيداً فريداً قليلا ضعيفاً ذليلاً معروفاً بالعقل منسوباً إلى الفضن ليجترئ أن يقول أن الله عز وجل أوحي إليه فيما أنزل من الكتاب عليه أن يعصمه من العرب جميعاً ويمنعه من الأمم صرا حتى يبلغ رسالات ربه ويظهره على الدين كله ويدخل الناس أفواجاً في دينه إلا وهو على ثقة من أمره ويقين من حاله: فسبحان الله يا أهل الكتاب ما أبين حق النبي صلى الله عليه لمن طلبه وأسهله لمن قصد له فاستعملوا في طلبه ألبابكم وارفعوا أبصاركم تنظروا بعون الله إليه وتقفوا إن شاء الله عليه فإن علامات نبوته وآيات رسالته ظاهرة لا تخفى على من طلبها جمة لا يحصى عددها منها خواص تعرفها(5/31)
العرب وعوام لا تدفعها الأمم فأما الخواص المعروفة لدينا المعلومة عندنا التي أخذتها الأبناء من الآباء وقبلها الأتباع عن الأسلاف فأمور قد كثرت البينات فيها وتداولت الشهادات عليها وثبتت الحجج بها وتراخت الأيام ببعضها حتى رأيناه عياناً وقبلناه إيقاناً فهي أظهر فينا من الشمس وأبين لدينا من النهار ولكن غيبت الأزمان عنكم أمرها ولم ينقل الآباء إليكم علمها وما لا يدرك إلا بالسمع موضوع الحجة عن العقل فليس أمير المؤمنين بمحاج لكم ولا قاصد إليكم من قبلها - وأما الآيات العوام والدلالات الظاهرة في آفاق الأرضين القاطعة لحجج المبطلين التي لا تنكر عقول الأمم وجوب حقها ولا تدفع الباب الأعداء صحة فسيولجها أمير المؤمنين مسالك أسماعكم ويعتد بها كذا حجة الله في أعناقكم من وجوه جمة وأبواب كثيرة إن شاء الله.(5/32)
باب العلم
علوم الاجتماع والأخلاق
1
الشخصية والأخلاق
للكاتب الأمريكي الأكبر رالف والدو امرسن
عربها عن الانكليزية المازني
قرأت في بعض الكتب أن الذين كانوا يستمعون إلى خطب اللورد شَتَام كانوا يجدون في الرجل ما هو أشد خلابة من منطقه. ولقد أخذ بعض النقاد على مؤلف تاريخ الثورة الفرنسية أن كل ما ذكره عن ميرابو لا يكفي للحكم على فحولته وعندي أن أبطال بلوتارك (فلوطرخس) لا تتكافأ شهرتهم ومآثرهم ولم يأت السير فيليب سيدني والإِرل ساسكس والسير ولتر رالى عظيماً ولكنهم مع ذلك من ذوي النباهة والصيت ولو شاء أحد أن يستطلع السر في عظمة واشنجتون من تاريخ أعماله لخاب مسعاه. أضف إلى ذلك أن اسم شيلر أكبر من مؤلفاته. فما معنى ذلك التفاوت بين العمل والشهرة. وهل يكفي في التماس العلة لذلك أن يقال صدى الرعد أطول من الرعد كلا. بل أن في نفس العظيم قوة تبعث طول الأمل فيه وحسن الثقة به. وجل هذه القوة كامن كمون النار في العود وهذا هو ما نسميه الشخصية - فهي قوة في النفس لا تحتاج إلى واسطة وسر من أخفى الأسرار وأغمضها أو هي شيطان ينزع المرء عن قوسه ويأتم بهديه يأتنس به في وحدته ويسكن إليه في خلوته فلا تكاد ترى ذا الشخصية إلا منفرداً بنفسه خالياً بشيطانه يؤثر العزلة ويستأنس بالوحشة. وترى صاحب الأدب البارع آنا يعلو وآونة يسفل ولكن عظمة الشخصية لا تتضاءل ولا تصغر وذو الشخصية يبلغ بفضلها حيث لا تبلغ الهمم والمواهب والبلاغة. يسبق الناس قاعداً ويفوتهم متمهلاً ويستولي على الأمد باهلاً ويحرز النصر لا باشتجار الأسنة ولكن بإظهار سبقه وعظمته ويفوز لأن وجوده يقلب وجه الأمور ويغير مجرى الحوادث. سئل أيولى يوماً كيف عرفت أن هيركيوليز إله؟ فقال: نظرت إليه فكانت تلك النظرة حسبي فلما أبصرت (ثسيير) وددت أن أراه في مواقف القتال وقد تنازل الفرسان وتصادم الأبطال ولكن هيركيوليز كان يبهر الناس قائماً وقاعداً ويظفر برغائبه(5/33)
على الرغم من أنف الزمان. يرى القارئ مما تقدم أن الإنسان - وهو في العادة رهن الحوادث لا تكاد تجمعه بالعالم الذي يعيش فيه ماسكة جامعة أو شابكة صلة - في مثل هذه الظروف يساهم الأشياء حياتها ويقاسم الطبيعة روحها ويكون مثالا لتلك النواميس التي تعنو لها الشمس ويذعن لها البحر وتخضع الأعداد والكميات.
ومالنا لا نضرب الأمثلة بما هو أقرب منالاً. أعني الانتخابات السياسية التي لا تخلو منها أمة ضربت في المدينة بسهم. فإن الناس ليعلمون أنهم متفرقون إلى رجال جمعوا إلى الذكاء قوة تجعل الناس يطمئنون إلى ذكائهم ويركنون إلى مواهبهم وليس بنافعهم أن يرسلوا إلى مؤتمرهم خطيباً وأرى الزند بعيد الأمد بسيط اللسان مشرق ديباجة البيان إذا كان الله سبحانه لم يختره لتأييد حقيقة ما قبل أن يختاره الناس لينوب عنهم - حقيقة هي في تقديره اليقين الصابح الذي لا مراء فيه ولا ريب. فإذا وجدوا ضالتهم أرسلوه لينوب عنهم ويمثلهم ولا حاجة به إلى سؤال منتخبيه عما يرون لأنه هو الأمة التي ينوب عنها وهي التي تصير إلى ما يرتأى لها وتصدر عن مورد رأيه ومشرع فكره.
وتظهر هذه القوة أيضاً في التجارة فإن فيها نوابغ وفحولاً كما في الحرب والسياسة والأدب. وليس من سبب لفوز هذا أو ذاك بنجح أمانيه وفلج مساعيه سوى ما وهبه الله من قوة النفس وعظم الشخصية وهذا كل ما نعرف وغاية ما وصل إليه علمنا. وحسب الناظر أن يسرّح في وجهه طرفه ليقف على سر نجاحه وعلة رفعته وهل سمعت أن أحداً تأمل وجه نابليون فلم يبصر فيه شاهداً من خبره وأني ليخيل لي إذ تأخذ عيني تاجراً بالطبع أن الطبيعة قد كفته الاهتمام بشأنه والعناية بأمره وأنه ليس تاجراً يبيع ويشرى وإنما عامل لها استوزرته على التجارة - وأذكر (التاجر بالطبع) فأراه بعين الظن جالساً في غرفته وعلى وجهه دلائل الكد وآثار الجهد وهو يحاول أن يبسط ما انزوى من بين عينيه وأرى كذلك أي عظيمة أقدم عليها في يومه وصعبة راضها بقوة ثباته ومضاء عزمه وكم قال لا غير هيّاب ولا وجل على حين دفع غيره نحس الطالع ونكد الجد فقالوا نعم وكأني به يعرف أنه لا واحد له وإن المرء إذا لم يخلق تاجراً فلن يلقنه التجارة أحد.
ولقوي النفس شديد الشخصية سلطان على من كان ضعيفاً كسلطان النوم إذا دب في الأجفان ثنى الرؤوس وأمال الأعناق ولعلّ هذا هو قانون الطبيعة العام فإن العالي إذا(5/34)
استصعب عليه أن يذرى من السافل وينعشه هوّده وفتره كما يروض أحدنا الدابة حتى تُصحب وللإنسان على أخيه سلطان خفىّ ولكم جاء تأثير الرجل القوي فيمن حوله مصدقاً لأساطير السحر! سئلت مرة امرأة كونسيني كيف استقادت لك ماري دي مديسي وماذا بذلت في سبيل ذلك فكان جوابها لم أبذل شيئاً غير ما للعقل القوي على الضعيف من التأثير.
ولو كان قيصر أسيراً أفكان يعييه أن يكسر القيود ويفك الأغلال ويجعلها في يد السجّان؟ وهل فك قيد مطلب محال ومرام لا يكون. ولنفرض أن نخاساً اختطف من أواسط أفريقية جماعة من العبيد والحبشان وانهم جميعاً كانوا من أشباه واشنجتون. أفكانوا في تخمينك يبلغون كيوبا وفي أنوفهم بُرَة الأسر والنخاس عليهم أمير؟ أليست ثمت شيء غير الإسار؟ شيء كالحب والإجلال؟
وهذه القوة طَبعيّة كالضوء والحرارة والسبب الذي من أجله نشعر ببعض الناس ولا نحس ببعض بسيط كالجاذبية. فإن الحق غاية الوجود وأعلى مراتبه والعدل تطبيقه. وطبائع الناس في ميزان. فمن طاب عنصره وخلص جوهره رجح ومن خبث شال وإرادة الأول تجري إلى غيره جري الماء من إناء عال إلى آخر سافل. وليس في وسع أحد أن يحبسها أو يقطع عليها متوجهها. فإنك لتستطيع أن تقذف بالحجر في الهواء ولكنك لا تقدر أن تمنعه من السقوط ومهما يكن من أمور الناس فلا مناص للعدل من أن يسود في الأرض. والنفس الصحيحة في نظام واحد مع العدل والحق كالمغناطيس والقطب. وصاحبها في رأي العين واقف بين الناس وبين الشمس يشف عنها ولا يحجبها فمن أم وجهتها فقد أمه قبلها. فهو أبداً منظور ممن لا يدانونه مرموق ممن لا يشاكلونه ولو أنا قلنا أن ذوي الشخصية من الناس هم ضمائر أمتهم ما كنا مبالغين.
ومقياس هذه القوة مقاومة الحوادث ومكافحة الظروف فإن صغير النفس ينظر إلى الحياة باديةً في مرآة الحوادث والأفكار والناس ولا يتفطن للأمر حتى يكون وأني لمن لم يهبه الله صفاء النفس ولطافة الحس وحدة الفؤاد أن يستشف جرثومة الأمر من بين مثاني الحوادث ويتبين صفته من خير أو شر ولمّا تلده الليالي بعد. هذا ولكل شيء في الطبيعة قطبان موجب وسالب - ذكر وأنثى - روح وحقيقة - شمال وجنوب فالروح هي الموجب(5/35)
والحادثة هي السالب والإرادة هي القطب الشمالي والعمل هو القطب الجنوبي والشخصية منزلها الشمال فهي تشاطر الشمال تياراته الجاذبة فأما النفوس الضئيلة فمدفوعة إلى الجنوب ومسوقة إلى القطب السالب. وهي (أي النفوس الصغيرة) تنظر إلى العمل من خلال النفع والضرر فلا تفطن إلى مبدءٍ ما حتى تبصره مجسّماً في رجل. تحاول أن تؤتي محابّ القلوب لا أن تتسربل بالحسن وترتدي بالملاحة. وذوو الشخصية لا يكرهون أن تعد معايبهم وتحصى معايرهم والفريق الأول لا يهتز لذكر العيوب ولا يهتش لنعى المثالب يقدس الحوادث ويجتزئ بما يطفُّ له من الحقائق والعلائق والظروف وأين هذا من البطل الفحل الذي يرى أن الحوادث ما كانت إلا لتتبعه وما خلقت إلا ليردفها وراءه. وتقلب الظروف وانتقال الأحوال لا يصلحان فساد النفس ووهن الشخصية. ولطالما تباهى أهل هذه العصور بأنهم قد نقضوا مرة الخرافات وقهروا عزتها وهذا من فاسد الأوهام وبعيد المزاعم - وأي جدوى على في أني لا أذبح للآلهة الذبائح ولا أتوسل إليهم بالقرابين إذا كانت قوائمي ترجف من الرأي العام - كما ندعوه - وجناني ما يستقر من فزعي من اللصوص وجيران السوء وأراجيف الغواة وإشاعات الفتن والثورات. الحقيقة أن عيوبنا تتشكل في صور شتى وأشكال عديدة فإذا كنت هيوباً فلا بد أن يأخذك الرعب ويستفزك الفرق لأن المرء يسير في الحياة تحيط به نفسه وليس في وسعه أن يخلص منها. وأنه لمن العار أن يلجأ المرء إلى الحوادث لتثبت له صدقه وقدره فإن المالي لا يعمد في كل ساعة إلى السمسار بل يكتفي بأن يرى في الصحف أن أسهمه ارتفعت كذلك المسرة التي يدخلها على النفس وقوع خير الحوادث على خير وجه أحلى منها شعر المرء أن منزلته صاعدة في معارج الرفعة وأنه أصبح بفضلها وفي يده قياد الحوادث وزمام الأمور.
وآية الشخصية الاكتفاء بالنفس وأنا أجل الرجل الغني الوجه أعني الذي أراه فاذكر الأريحية والسماحة والبذل ولا أذكر الوحشة والفاقة والنفي والشقاء والشخصية قطب تدور حولها رحى الأمور وتجول وهي ما لا يمكن قلبه. وصاحبها يرينا معنى الكتلة فإن المجتمع طياش رقيع يقطع الأيام خِرَقاً والحديث شجوناً تذهب ببعضها الرسميّات وبالبعض الآخر الاعتذارات ولست أقنع من الرجل الأروع بما يبوئنا من كرمه ويجود علينا به من خلقه ولطفه فإني لأوثر على ذلك أن أحس قوته واستشعر مُنته واعلم أني قد لقيت امرأ ذا صفة(5/36)
جديدة. وجبة فإن ذلك أمتع لي وله وحسبه أن لا يحفل بتقاليد الناس وآرائهم - وليس من شيء نافع أو صحيح إلا وهو صالح لأن يكون موضعاً للاقتتال. فإن دورنا لتدوي بأصوات الضاحكين وأحاديث السمار والمتفكهين ولكن ذلك كله لا خير فيه ولا فائدة ولا ترجى منه منفعة أو عائدة ولكن الرجل الصعب الخشن القليل الغناء الذي هو في نفسه عقدة تتهدد المجتمع والذي لا يستطيع الناس أن لا يلتفتوا إليه فهم بين أمرين أما أن يعبدوه ويعنوا له وأما أن يبغضوا وينبوا عنه والذي تحس كل الجماعات والزعماء والسقاط أن بينهم وبينه نسباً وصلة - هذا هو الرجل النفاع الذي يخطئ أمريكا وأوروبا ويبهر الإلحاد القائل إنما الإنسان لعبة فدعنا نلعب ونلهو فذلك خير ما نصنع بنور الهداية والإرشاد فإن مواطأة الملأ ومتابعة الرأي العام والإلتجاء في كل أمر من دلائل ضعف الأيمان وخمود شعلة الذكاء فإن ذا البصيرة المظلمة ليعييك أن تصور له البيت أو يراه قائماً ولكن اللوذعى لا يشغل باله لا بالكثرة ولا بالقلة ولا بمن يلتف حوله أو ينفض عنه لأنه قوي في ذاته قانع بنفسه.
وينبغي أن تقوم أعمالنا حسابياً على مادتنا. فإن ميزان الطبيعة ميزان صدق لا يغل شعيرة وجاذبية الرطل من الماء في البحر العاصف أو في البركة الراكدة سواء وكل شيء يعمل حسب صفته وقيمته. وليس يحاول ما لا يستطيع غير الإنسان فإنه واسع فسحة الأمل طويل عنان الرجاء كثير الزعم في غير مزعم والكدم في غير مكدم لا يستحي أن يحاول ما لا تصل إليه مقدرته أو يبلغ إليه مرتقى همته. وكل عمل فاشل إذا هو لم يقم على أساس من الحقيقة لا الخيال: وليس ثمت عمل خيراً من العامل فإذا كان في الرجل قوة كامنة لا تنفك تحفزه وتحثه فهو خليق أن يبلغ ما في نفسه. وليس يكفي أن يعرف العقل العلة وطبابها فإن ذلك لا يبلغ بالمرء حيث تبلغه تلك القوة.
ولست أجد لذة في إحسان لا يقاس إلا بآثاره فإن الحب لا نهاية له وهو وإن فرغت بيادره لا يزال ينفس الكرب ويزيل البث وحامله يطهر بأنفاسه الهواء ومنزله يزين الأرض ويعين الحق. والناس لا يغيب عنهم هذا الفرق فإنا لنعرف الكريم من وجهه لا بمقدار ما اكتتب به لجمعيات البر والرفق وى المرء وضاعة أن تعد محاسنه. وأنت خليق أن تخاف إذا قدر أخوانك أن يحصوا مآثرك تحت عينك فأما إذا لقوك بعيون يغض منها الإجلال(5/37)
والكره ورأيتهم قد أحجموا عن الحكم عليك فأنت خليق أن تشيم مخايل الرجاء. ويخيل لي أن من يعيشون للمستقبل أنانيون في نظر من يعيش للحاضر. لذلك كان من السخافة أن يعدد ريمر حسنات جويتي فيقول أعط كذا ديناراً لفلان وكذا درهماً لفلان وفلان ومكن الأستاذ فلاناً من وظيفة غزيرة الفائدة وأدخل فلاناً في حاشية الدوق - الخ الخ فإن عدد هذه المبرات قليل وإن كثر وإذا كنت تزن المرء بما تحصي من نوافله فما أحراه أن يشيل في الميزان لأنها جميعها شواذ فأما كرم جويتي فقد عرفناه من رسالة مسهبة بعث بها إلى الدكتور أكرمان يشرح فيها كيف صرف ماله وقد قال فيها لقد كلفتني كل كلمة طيبة قلتها كيساً من الذهب ولقد فيّحت نصف مليون من مالي الخاص الذي ورثته وبددت وظيفتي وكل ما كسبته من الكتابة والأدب - أضعت كل ذلك لأعرف ما أنا اليوم به عليم - ولقد رأيت عدا ذلك الخ الخ.
والشخصية هي الطبيعة في أشرف صورها وأسماها والذي يحاول أن يحكيها أو يكافحها يحاول أمراً بعيداً ويروم مراماً معضلاً لأن في هذه القوة قدرة على المقاومة والثبات ترمي المنافس بالفشل وتسِمُه بالعجز -
ويوجد صنف من الناس يظهرون من حين لحين وبينهم فترات يشقى بها صبر الأمم. فلا يسع الناس إلا الأيمان بهم وبرسالتهم لما يرون فيهم من الفضيلة وبعد الغور وصدق المنزعة وهؤلاء الرجال يولدون ذوي شخصية أوهم كما قال نابليون خلقوا للنصر يتلقّاهم الناس بادئ الأمر على حرف لأنهم جدد ولأنهم يعرون سابقيهم مما علق بشخصياتهم ويجردونهم مما ليس لهم. والطبيعة أعزك الله لا تلتزم في عظمائها ما نلتزم في الشعر من القافية فلا تشق اثنين من نبعة واحدة ولا تقد رجلين من أديم ولا تجيء بعظيمين على غرار فأيما رجل رأى في عظيم مشابه من آخر فلا يحسب أن الليلة لذلك شبيهة بالبارحة فإن شخصية المرء مسألة لا يحلها إلا صاحبها على طريقة لم يسبقه إليها أحد.
والحفر في رأيي نوع من التاريخ فإن ابولو وجوف ليسا مستحيلين يكسوهما اللحم ويجري في عروقهما الدم والصانع إنما نظر فرأي فرسم ولعل في العالم ما هو أبدع من تمثاله وأروع من دميته ولقد رأينا نظائر ذلك ولكنا خلقنا وفي نفوسنا بذرة الأيمان بالعظماء وما أهون أن يقرأ أحدنا في الأسفار القديمة أيام الرجال قليل عن أضأل الأعمال وأحقرها.(5/38)
نحب أن يكون الرجل ضخماً عملاقاً مالئاً ل ليكون حقيقاً أن يكتب له في صحيفة الخلود مثل ما يأتي جمع ذيله وحسر عن ساقه ويده وقام قاصداً المكان الفلاني وأحق الأعمال بالتصديق أعمال رجال تطامنت لهم المفارق لأول ما ظهروا واقتنعت بصدقهم المشاعر كما وقع للحكيم الشرقي الذي بعث ليسبر غور (زوريستر) ويبلو ما عنده فقد زعم الفرس أن الحكيم اليوناني لما وصل (بلخ) أمر جوشتاسب بالحكماء والعلماء أن يجتمعوا لديه في يوم معلوم ونصب لمجلس اليوناني كرسياً من الذهب فلما جاء اليوم المعلوم واحتشد الحكماء ومشي زوريستر وسط جموعهم ورآه الحكيم اليوناني قال تاالله لا تكذب هذه الطلعة ولا تلك المشية وما كان الكذب ليجد إلى لسان هذا الرجل سبيلا وقال أفلاطون محال أن لا نصدق أبناء الآلهة وإن كانت حججهم لا محتملة ولا ضرورية غير أنه لا حاجة بنا إلى إثارة دفائن القرون الماضية فإن أعمى الناس من لم تهده تجاريبه إلى قوة السحر وهل يستطيع أجمد الناس وأشدهم مراء أن يسير من غير أن يصادف في طريقه مؤثرات مستعجمة العلل متنكرة الأسباب هذا يرشقه بنظرة فتنشر الذكري ما مات وفات وذلك يحدجه ببصره فتنضب قريحته ويمتنع عليه القول ويحس كأن مفاصله تفككت. ويدخل عليه صديق له فيتحدر تحدر السيل ويتدفق تدفق اليعبوب وتجري الفصاحة بين شفتيه ولهاته والبلاغة بين لسانه وفؤاده هذا إلى أنه لا يستطيع إلا أن يذكر أناساً بعينهم قد أوروا في صدره حياة أخرى!
ونحن إذا كان من وراء طاقتنا أن نبلغ رتبة العظماء ومنزلة ذوي الشخصية فما أحرانا أن نعرف لهم قدرهم ونخفض لهم جناح الضعة فإني لا أعرف لمن لا يفطن لصاحب الشخصية عذراً ولا أصفح عمن يتجاهله أو يعرفه فينكره ويلقاه فيتجهمه فإن ذلك ذنب لا تسعه مغفرة وجرم تقفل من دونه فاعله أبواب السماء.
2
الواجب
للفيلسوف جول سيمون
تعريب الأستاذ محمد لطفي جمعه(5/39)
تمهيد
1
الوسط الأدبي والعلمي
الذي نشأ فيه جول سيمون
حياة جول سيمون تشغل القرن التاسع عشر بأجمعه فقد ولد في أوله وتوفي في آخريات سنيه وكان قدره في الفلسفة والسياسة كقدر أشباهه وأقرانه الذين ولدوا في فجر هذا القرن وغربت شموس حياتهم قبيل غروب شمسه أمثال فيكتور هيجو وجيزوه وتيير ومن عداهم وكلهم من فحول الأدب والعلم ومن أبطال السياسة. ويصدق على جول سيمون قول من قال أن الرجال ثمرات عصورهم وصور مصغرة لحوادث الجيل الذين يعيشون فيه فقد كان القرن التاسع عشر قرن نهوض سياسي في أكثر أنحاء العالم لاح فجره بتغيير النظام الحكومي في فرنسة وبدئ بانقلاب مماثل له في بلجيقة وبلاد اليونان وايطالية وقامت دول جديدة كدولة محمد علي على ضفاف النيل ودولة المهدي في أحشاء أفريقية. وقام في بلاد الانكليز رجال عاصروا جول سيمون أمثال غلادستون فغيروا الشؤون في بلادهم وكان العالم عدا ذلك كله يخطو خطوات واسعة في ميدان العلم فنشأ من العلماء الطبيعيين أمثال هيكيل في جرمانية وداروين وهوكسلى في انكلترة واستعادت الفلسفة صباها على أيدي أوجست كونت الفرنسي وهربرت سبنسر الانكليزي أما فرنسة ذاتها فقد كانت في القرن التاسع عشر مهد حركة فلسفية أدبية لم ير العالم مثلها فنشأ فيها من فطاحل الكتاب شاتوبريان واضع كتاب اتالا ومالك ناصية النثر ولامارتين الشاعر الجليل الذي كان وهو في فقره المدقع يصل إلى السماكين بخياله السامي وشعره الصقيل: وفيكتور هيجو كاتب المئات من الكتب وناظم مثلها من الدواوين مرعب الامبراطرة ولسان الحق ونصير البائسين والفرد دي موسيه شاعر الليالي وواضع اعتراف فتى العصر وهو الذي تصل معاني شعره إلى النفس قبل وصول صوت الألفاظ إلى الأذن صريع الغواني وقتيل بنت الكروم. وبالزاك القصصي الساحر مؤلف مضحكات الحياة في أربعين كتاباً وعارض أشكال البشر في ألف ألف صحيفة والدايوجين جرانديه طريد الفاقة وحليف الأسى وشيخ كتاب القصص. وميشليه صاحب كتاب تاريخ فرنسة في ثلاثين جزءاً كأنها لعذوبتها السحر(5/40)
الحلال وكتاب الوطن والبحر والمرأة ابن عامل في مطبعة وصل بجده إلى منصة التدريس في النورمال والسوربون.
وظهر في فرنسة قبيل هذا العهد بقليل. لجراناج ومونج ولابلاس وهم نفر من الرياضيين والفلكيين بلغوا المجد قبل بلوغ العشرين فكانوا أساتذة الشيوخ وهم في شرخ الشباب فأسسوا مدرسة الهندسة ومدرسة المعلمين العليا نورمال بباريس وأشهرهم بالإجماع ثالثهم الذي اشتهر في أنحاء الأرض بمذهبه المعروف في أصل الأرض وانشقاقها عن الشمس مصداقاً لما جاء في القرآن الشريف وكانتا رتقاً ففتقناهما واشتهر من الكيماويين وعلماء الفيزيقي أمبير وراجو وجاي لوساك فبرز الأول في البحث في المغنطيس الكهربائي والثاني في تمدد الغازات والثالث في الكيميا العضوية.
ونبغ من الطبيعيين جيفروسانت هملير وكوفييه فدونا الكتب في تاريخ العلوم ودرسا علم الحيوان وعلم وظائف الأعضاء.
ونبغ من العلماء البحاثين شامبوليون الذي حلَّ الغاز اللغة الهيروغليفية واشتغل غيره بالسنسكريتية وغيرها من اللغات القديمة ومحض العلماء تاريخ الشعوب الهندية الأوربية الشاملة للهنود والفرس والأرمن والإغريق والسلاف والجرمان والقلت واللاتين والشعوب السامية الشاملة للأشوريين والكلدانيين والفينيقيين والعبرانيين والعرب.
2
الوسط السياسي
الذي نشأ فيه جول سيمون
أما حياة فرنسة السياسية وهي العنصر الثاني الذي تكون منه الوسط الذي نشأ وتهذب فيه جول سيمون فقد كانت في القرن التاسع عشر في أقصى درجات الاضطراب وكأن فرنسة كانت تعبر ذلك القرن تحت نجم شيء الطالع أخذ من كل حظ نصيباً فكانت الحرية التي شريت بالدماء والجهاد المستمر تباع بأرخص الأثمان وتتلوها سلطة الملوك المطلقة وكان الشعب لا يوشك أن يستريح من شن غارات نابليون الأول حتى دعوه للذود عن حياض الوطن ولا تكاد الأمة تفرح بانتهاء عهد الانقلاب حتى توقظها نواقيس انقلاب جديد. فقد تحكم في فرنسة من 1815 إلى 1848 ثلاثة ملوك أولهم لويس الثاني عشر من 1815(5/41)
إلى 1824 فرد إلى فرنسة حقوقها وقد تعددت لعهده الأحزاب السياسية ومنها الحزب الملكي المتطرف وهم أنصار العرش وأعداء رجال 1789 وحزب المستقلين وهو حزب الحكومة والحزب الملكي الدستوري.
أما لويز الثامن عشر نفسه فقد كان ملكاً إِمعة ذا عاهات نفسية وبدنية ضعيف الحول والإرادة وكانت ثلاث وعشرون عاماً قضاها منفياً قد كسرت من شوكته وأطفأت من جذوة قوته وجبروته فلما رأى تألب الأحزاب وبطش المجالس تنحى عن الملك وخلفه على العرش أخوه كونت دارتوا الذي سمي بعد ذلك شارل العاشر وهو الذي قال يظهر بغضه للدستور الفرنسي أنني أفضل عيشة الحطاب على عيشة ملك انكلترة لما هو فيه من القيود الدستورية وقد حكم من 1824 إلى 1830 فسخر الدولة لإشراف العهد القديم وندب إلى الوزارة رجالاً لا ميزة لهم إلا جهلهم وغشومتهم وقنن القوانين القاسية فلما تأفف الشعب وبلغه ذلك وهو في قصر سانكلو بظاهر باريس قال أنه لم يضع لويس السادس عشر سوى تساهله وأصدر في يوم واحد أربعة قرارات.
الأول بالقضاء على حرية الصحافة الثاني بحل مجلس النواب الثالث بتحوير قانون الانتخاب الرابع بضرب موعد للانتخاب التالي.
وكان ذلك في 25 يوليو عام 1830 فحدث في باريس الهياج المشهور فتنازل شارل عن الملك هو وابنه ونصب حفيده ملكاً وعين دوق أورليان وصياً على الملك الصبي ولكن الشعب كان قد انتخب هذا الدوق وأطلق عليه اسم لويز فيليب الأول فحكم من 1830 - 1848 وكان في السابعة والخمسين لما بلغ العرش واشتهر بحبه للفقراء ومسايرة الزمان والاعتماد على المصادقات وكانت الأحزاب السياسية لعهده كثيرة منها اثنان في المعارضة وهما حزب الشرعيين أي الذين قالوا بأحقية الملك الصبي حفيد شارل العاشر للملك وسموا لويز فيليب بالمغتصب والحزب الجمهوري القائل بمبادئ 1789 وكان كذلك للحكومة حزبان حزب التقدم وحزب المقاومة وانقسم حزب المقاومة إلى حزبين حزب اليمين وحزب الشمال وقد انتهى الأمر بالحزبين الأولين المعارضين إلى الاشتهار بمحاربة الأسرة المالكة على رؤوس الأشهاد. وقد حدث في عهد لويز فيليب هذا انقلابات شتى أحدها في 1831 والثاني في 1834 وانتهت بانقلاب 1848 الذي تأسست بعده الحكومة الجمهورية(5/42)
الثانية وتولى منصب الوزارة في عهده رجلان من أكبر رجال فرنسة في القرن التاسع عشر هما جيزو وتيير واشتهر هذا الملك بمناصرته لمحمد علي وهو الذي كتب إليه كتاباً مشهوراً جاءَ فيه أن صداقة مصر أصبحت ضرورية لفرنسة. وفي عهده ظهرت المبادئ الاشتراكية بظهور رجالها أمثال لويس لبلانك (1812 - 1882) ولاكورديير (1802 - 1861) ثم قامت حركة 1848 الشهيرة فسقط لويز فيليب وسقطت حكومة الملكية وقامت على أنقاضها حكومة الجمهورية الثانية 1848 وهي الحكومة التي أسستها الحكومة المؤقتة التي تألفت من لامارتين ولدرورولان ولويز لبلانك واثنان صحافيان غيره.
ولما تكونت حكومة الجمهورية الثانية وانتخب نابليون الثالث رئيساً للجمهورية انتظر سنين قليلة ريثما يتمكن من التسلط على الأمة ويجتذب عامة الشعب ثم هيأ الانقلاب المشهور الذي عكس الآية وصارت الجمهورية إمبراطورية وأصبح نابليون الثالث إمبراطوراً وقد دون فيكتور هوجو هذه الحوادث في كتاب شهير اسمه تاريخ جريمة. وقد حارب أرباب القلم والبيان من كبار كتاب فرنسة أمثال هوجو وروشفور حتى حاربه القضاء عام 1870 فانكسر وانكسرت فرنسة ولم يُقلها من وهدتها سوى رجال من الأمة أبرار بها أمثال غمبتا وتيير وجول سيمون.
هذا هو الوسط الأدبي السياسي الذي نشأ فيه جول سيمون أتينا على وصفه بغاية الإيجاز وسنذكر الآن أهم حوادث حياته ونأتي على نبذة في أخلاقه قبل الشروع في تفسير أعظم كتبه.
جول سيمون واسمه بأجمعه فرنسوا جول سويس سيمون ويطلق عليه جول سيمون اختصاراً فيلسوف وسياسي فرنسي ولد بلوريان في 27 ديسمبر 1814 وتوفي بباريس في 8 يونيو 1896.
وكان أبوه يشتغل بتجارة الأقمشة وقد نَبُه ذكر الأسرة بفضله - تخرج سيمون من مدرستي لوريان وفان الثانويتين ثم عين معيداً ومعيناً للأساتذة بمدرسة رين الثانوية وبدأ منذ فجر شبابه بالتحرير في مجلة بريتاني الأدبية.
وفي 1833 التحق بمدرسة المعلمين العليا نورمال وعين أستاذاً للفلسفة بمدرسة كايان سنة 1836. ثم عين في الوظيفة نفسها بمدرسة فرسايل بعد ذلك بسنة.(5/43)
وقد شهد فيه فيكتور كوزان أستاذ الفلسفة بمدرسة السوربون شغفه باللغة اليونانية وآدابها وقيامه بنقل مؤلفات أفلاطون إلى الفرنسية فقربه إليه ثم خلف كوزان في منصبه فشغل مركزه وقام بتدريس الفلسفة وألقى دروساً عن فلاسفة اليونان لا سيما أفلاطون وأرسطو وكانت هذه الدروس منهل الواردين من محبي العلم من سائر الطبقات.
ثم بدأ بالتحرير في مجلة العالمين. وكان ممن أسسوا مجلة حرية الفكر عام 1847.
ثم بدأ يشتغل بالسياسة فرشح نفسه للانتخاب في مقاطعة لانيون وبذل مجهوداً كبيراً ولكنه فشل بمساعي حزبي اليمين والشمال المتطرفين (1847) ولكنه عاد فانتصر انتصاراً باهراً بعد ذلك بعام حيث انتخبته مقاطعة الشواطئ الشمالية في 23 ابريل 1848 عضواً للمجلس الواضع للدستور فكان مركزه بين المعتدلين واشتغل شغلاً وافراً في اللجان الكبرى ثم حارب فكرة الكوميونيزم وتفرغ للبحث التي كانت شغله الشاغل ثم استقال في 16 ابريل 1849 ليدخل مجلس الحكومة ولكنه فقد فجأة كل مناصب الحكومة فلم يعد انتخابه في مجلس الحكومة عند ما تجدد انتخاب ثلث أعضائه ولم يعد انتخابه في المجلس الواضع للدستور ووشك أن يفقد منصبه في دور العلم ولكنه بعد الانقلاب السياسي الذي حدث في 2 ديسمبر 1851 الذي تمكن به نابليون الثالث من إسقاط الجمهورية وإعلان حكومة الإمبراطورية ذهب جول سيمون إلى درسه في مدرسة السوربون وألقى الخطبة الآتية التي ذاع منذ ذلك الحين صيتها وتناقلتها الألسن قال:
أيها السادة:
أنني أقوم هنا بإلقاء درس في الآداب وإنني اليوم مدين لكم بنموذج فعلى لا بدرس ألقيه عليكم. إن الأمة الفرنسية مدعوة لتجتمع غداً في مجالسها لتقرأ أو لتنكر الحوادث التي حدثت قريباً. فلو أن الأمة ستنكر هذه الفعال فقد جئت أقول لكم على رؤوس الأشهاد أنني أنا من المنكرين
فكانت نتيجة هذه الخطبة أنه أقيل من منصبه وحرم من منصب التدريس في مدرسة المعلمين العليا.
فاعتزل الأعمال وقصد مدينة نانت فشغل فراغه بالأبحاث التاريخية ثم نشر كتاب الواجب (1854) مقاوماً به نظام الإمبراطورية فكان لهذا الكتاب دوي عظيم.(5/44)
ثم نشر بعد ذلك الكتب الآتية الدين الطبيعي (1856) والحرية (1857) وتلا تلك الكتب سلسلة محاضرات بليغة حماسية في المسائل الاشتراكية والفلسفية. ثم كان في الوقت نفسه يجاهد جهاداً سياسياً. فإنه بعد أن فشل في انتخابات عام 1857 في الخط الثامن من مقاطعة السين انتخب عضواً في مجلس التقنين في أوائل يونيو 1863.
وكان لبلاغته وشدة عارضته تأثير شديد وسلطة كبرى في المجلس رغم مخالفته للجماعة.
وكانت خطبته التي ألقاها في مصالح المرأة في طبقة العمال وفي حرية العبادات وفي مسألة رومة أحسن وسيلة لانتشار ذكره في أنحاء فرنسة وفي 1863 انتخب في مجمع العلوم الأدبية والسياسية وفي سنة 1869 انتخب في مقاطعة السين والجيرون ففضل المقاطعة الأخيرة وقاوم فكرة الحزب وفي 4 سبتمبر انتخب عضواً في الحكومة المؤقتة التي كونت للدفاع عن الوطن وكان في اختصاصه ثلاث وزارات المعارف العامة والأديان والفنون الجميلة وحدث له بعد حصار باريس خلاف شديد بين الحكومة وبين وفد بوردوه فان غمبتا كان يريد أن يقصي عن انتخابات الجمعية الوطنية كل رجال العهد الإمبراطوري وقد وكل إلى جول سيمون أن يلغي أوامر غمبتا بحجة كونها مقيدة لمبادئ الحرية العامة في الانتخاب فحدث شقاق شديد بين وفدبوردو وبين غمبتا أدى إلى استقالة هذا الأخير وانتخب جول سيمون بعد ذلك عضواً في الجمعية الوطنية عن مقاطعة المارن ولما شكلت وزارة تيير اختاره وزيراً للمعارف (1871) (متلو)(5/45)
العدد 6 - بتاريخ: 17 - 3 - 1912(/)
باب الأدب
الفكاهة في شعر العرب
ً // للكاتب العبقري عبد الرحمن شكري
الفكاهة نوعان فكاهة خيالية وفكاهة لفظية والفكاهة الخيالية هي نوع من الخيال ومجالها حيث يتضاءل الجد فيه فهي الخيال في حال تبسطه ومن أجل ذلك كانت الفكاهة لا تستعمل في مكان الجد ولكن صعباً على من لم يتعود النقد أن يعرف الحد الفاصل بين مكان الجد ومكان الفكاهة فمن الناس من يعد في الجد ما يعده آخر في باب الفكاهة ومن الناس من يعد في الفكاهة ما يعده غيره في باب الجد ورجحان رأيه بقدر نصيبه من صحة الذوق وسنبين ذلك في هذا المقال فمن أمثال الفكاهة الخيالية قول ابن الرومي في رجل أصلع:
يأخذ أعلا الوجه من رأسه ... أخذ نهار الصيف من ليله
وليس كل خيال يجري بالفكاهة لأن الخيال إذا لم يكن وثاباً امتنعت عليه سبلها لأنها تخرج من التأليف بين الحقائق المتباعدة والصور المتنائية وتباعد الصور ليس دليلاً على تباعد الصلة التي بينها فإن ابن الرومي في بيته السابق قد ألف بين صورتين متباعدتين وهما أن صلع الرجل جعل وجهه مغيراً على رأسه آخذاً منه وإن تزايد نهار الصيف يُجنَي من تناقص ليله ووجه الشبه الذي بين الصورتين قريب متين وأني لأحسب أن تطير ابن الرومي بينه وبين فكاهته الخيالية سبب لأن التطير يبعثه سوء الظن وسوء الظن يدعو المرء إلى اتهام الناس بمعاداة صاحبه وذلك يبعث على تطلب السبيل الدمث لهجائهم وانتقاصهم وأوجع الهجاء ما جعل المهجو ضحكة في أفواه الناس فأكبر ظني أن سوء رأي ابن الرومي في الناس هو الذي استقدح الفكاهة في خياله وهذا بيرون كان مر النفس فاتخذ من مرارة نفسه رائداً إلى الفكاهة اللاذعة انظر كيف يصف وزيراً من وزراء الانجليز حيث يقول فلان ذو الذهن الخصيّ فإن تشبيهه الغباوة بالخصى من الفكاهة الخيالية وهذا المتنبي قد سما بنفسه بين الثريا والسماك ومن كان يربأ بنفسه أن يُعدَّ في الناس عرف من أين تؤتى الفكاهة اللاذعة انظر إلى قوله في رجل أعور:
فيا ابن كَرَوَّسٍ يا نصف أعمى ... وأن تفخر فيا نصف البصير
ومرارة النفس تزيد الفكاهة قوة ورسوخاً في النفس غير أنها تلبسها زياً أسود يلائم زيها(6/1)
وتستخدمها في إنفاذ أمرها وتقريب غرضها أما إذا لم تجد الفكاهة في النفس ما يرنق صفوها ويمر مذاقها كانت كالنهر حين تدفقه بين الصخور صافي الماء عذبه هذا جوزيف أديسون لطيف الفكاهة شريفها مهما غلا في نقد العادات والأخلاق ومن أجل ذلك كان خليقاً أن يحمل النفس على الخروج عما يشوبها من غير أن يضيع ثقتها بضميرها ومن غير أن يثير عداء الناس ويحرك بغضهم باللفظ الجارح فقد كانت الفكاهة في لسان سويفت اوكارليل كالسيف في يد الجَلود أو السوط في يد الجلاد.
وأحسن الفكاهة ما صدر عن رغبة في إصلاح فاسد وتقويم معوج من العادات والأخلاق والعرب تستعمل الفكاهة في الهجاء والسخر والتعجيز والوصف انظر إلى قول المتنبي في رجلين قتلا جرذاً وأبرزاه ليعجب الناس من كبره:
وأيهما كان من خلفه ... فإن به عضة في الذنب
انظر إلى الصورة الخيالية المضحكة التي في هذا البيت صورة شجار بين رجلين وبين جرذ وانظر كيف ادعى الشاعر أن أحدهما قد عض الجرذ في ذنبه ولكن المتنبي يمزج الهجاء بالفحش في كثير من شعره ومن الفكاهة ما كان يستعمله الشاعر في المديح تغالياً في إعلاء ممدوحه وتكثيراً لما يستخرجه من المعاني وأكثر هذا النوع سخيف لأنه أقرب إلى الذم منه إلى المدح وأني ما قرأت قوله:
خفت إن صرت في يمينك أن تأ - خذني في هباتك الأقوام
ألا تملكني الضحك من ذلك المنظر الغريب المودع في هذا البيت وذكرت ما يشبهه مما يحدث يوم الجمعة عند باب السيدة زينب حيث يتسابق الفقراء والمساكين إلى التمر والكعك والفطير الذي تفرقه النساء صدقة وقد بلغني أن امرأة وضعت حذاءها في ناحية فأخذه أحد المساكين حاسباً أنه من هباتها وقد خاف المتنبي أن صار على قرب من ذلك الكريم أن تأخذه الأقوام حاسبة أنه عبد من هباته ومثل هذا قوله:
وقلبك في الدنيا ولو دخلت بنا ... وبالجن فيه ما درت كيف ترجع
أليس هذا أقرب إلى السخر والتهكم منه إلى المدح ولكن هكذا الشاعر القدير إذا لم يراقب خياله أتى بالمستهجن ولا يحسب أن المتنبي أراد أن يمزج بمعاني المدح شيئاً من الفكاهة وهو خروج بالمدح عن حده وليس هذا من أدب المدح وإنما دفعه إلى مثل هذا الغلوُّ وحب(6/2)
الابتداع وهما شيئان مقرونان في قَرَن.
أما شعراء الجاهلية وصدر الإسلام فإنهم وجدوا الفحش وهُجْر الكلام أنكى وأوجع وقد يمزجون به شيئاً من الفكاهة هذا سبيلهم في الهجاء إلا في القليل النادر وأما شعراء الدولة العباسية فإنهم يستعملون الفحش في الهجاء أيضاً ولكنهم تفننوا في استعمال الفكاهة اللاذعة وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام يستعملون الفكاهة في السخر والتعجيز أكثر من استعمالهم إياها في الهجاء أو الوصف هم يستعملونها كثيراً في الوصف إذا أريد منه السخر وممن استعمل الفكاهة من الشعراء العباسيين فأجاد أبو نواس ومن بديع شعره في هذا الباب قوله في البخيل:
خبز الخصيب معلق بالكوكب ... يحمى بكل مثقف ومشطب
جعل الطعام على بنيه محرماً ... قوتا وحلله لمن لم يسغب
انظر إلى قوله (وحلله لمن لم يسغب)
ويعجبني في هذا الباب قول حافظ إبراهيم في الفقر:
وخال الرغيف في البعد بدراً ... ويظن اللحوم صيداً حراما
وقال أبو نواس:
رأيت الفضل مكتئباً ... يناغي الخبز والسمكا
فأسبل دمعه لما ... رآني قادماً وبكى
فلما أن حلفت له ... بأني صائم ضحكا
إذا كان لأهل الفضل والأخلاق الحميدة أن يبيحوا الهجاء فلا أكثر من هذا والشاعر خليق أن ينزه منطقه عن مثل ما وقع بين الفرزدق وجرير والأخطل والبعيث أو مثل ما وقع بين بشار وحمّاد عجرد أو مثل أهاجي ابن الرومي في بوران أو هجاء المتنبي لأبن كيغلغ وماذا يري الأديب مما تسيغه النفس المهذبة في هجاء البحتري للمستعين حيث يقول:
وما كانت ثياب الملك تخشى ... جريرة بائل فيهن خارى
أو قول الأخطل:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
أو قول المتنبي يحمي ابن كيغلغ الطريق وعرسه ما بين رجليها الطريق الأعظم إلى آخر(6/3)
الهجاء.
وممن استعمل الفكاهة في الهجاء من غير أن يبيح حرمة الأدب أبو العلاء المعري حيث يقول:
رويدك أيها العاوي ورائي ... لتخبرني متى نطق الجماد
وأبو تمام حيث يقول:
ألصقت قلبك من بغضي على حرق ... أضر من حرقات الهجر للجسد
أنحفت جسمك حتى لو هممت بأن ... ألهو بصفعك يوماً لم تجدك يدي
ومن بديع ما سمعت من الفكاهة قول أبي نواس وكان قد حبسه الفضل بن الربيع في أيام الأمين حتى أشاع أهل خراسان أنه يصطفي ماجناً خليعاً ويقضي معه ليله ونهاره فأقام أبو نواس في السجن زمناً ثم استتابه الفضل فتاب فعفا عنه فبعث إليه بهذه الأبيات:
أنت با ابن الربيع ألزمتني النس - ـك وعودتنيه والخير عاده
فارعوى باطلي وأقصر حبلي ... وتبدلت عفة وزهاده
المسابيح في ذراعي والمص - ـحف في لَبّتي مكان القلاده
وإذا شئت أن ترى طرفة تعـ - ـجب منها مليحة مستفاده
فادع بي لا عدمت تقويم مثلى ... وتفطن لموضع السجاده
تر إثراً من الصلاة بوجهي ... توقن النفس أنه من عباده
لو رآها بعض المرائين يوماً ... لاشتراها يعدها للشهادة
ولقد طال ما شفيت ولكن ... ادركتني على يديك السعاده
وهناك نوع من أنواع الفكاهة يسميه الأفرنج الفكاهة اللفظية وشيخ هذه الصناعة (فولتير) ورب الفكاهة الخيالية عندهم هو جان بول رختر الألماني أما شكسبير فنصيبه من النوعين أوفر نصيب والعرب تستعمل الفكاهة اللفظية ولكنهم قد يغالون فيها فتجيء سمجة والفكاهة اللفظية مثل قول المتنبي:
كأن السُماني إذا ما رأتك ... تصيدّها تشتهي أن تصادا
ويعجبني منه استخدامه هذه الفكاهة اللفظية في الاعتذار حين عاتبه بعض أخوانه لأنه لم يرد سلامة فقال:(6/4)
أنا عاتب لتعتبك ... متعجب لتعجبك
إذ كنت حين لقيتني ... متوجعاً لتغيبك
فشغلت عن رد السلا - م وكان شغلي عنك بك
فهذا الاعتذار مالطة ولكنه مغالطة مليحة فهو من الفكاهة اللفظية لأن الصلة التي بين شغله بالتوجع لغياب صديقه وشغله عنه صلة توهم وليست مثل الصلة التي بين أخذ أعلا وجه الأصلع من رأسه وبين أخذ نهار الصيف من ليله في بيت الرومي فإنك إذا نظرت إلى الصورة المودعة في هذا البيت أي صورة وجه الأصلع ورأسه ثم رأيت كيف يجني تزايد يوم الصيف من تناقص ليله علمت كيف تميز الفكاهة الخيالية من الفكاهة اللفظية التي أصلها المغالطة في مثل اعتذار المتنبي والفكاهة الخيالية يلتذها المرء بخياله والفكاهة اللفظية يلتذها المرء بملكة المنطق لأنها مغالطة منطقية كان يريد صاحبك أن يبرهن لك مزاحاً باضطراب في المنطق أن شيئاً خطأ هو رأس الصواب أو أن شيئاً صواباً هو رأس الخطأ واعتذار المتنبي هو مثل من أمثال ذلك: أما الفكاهة الخيالية فهي التي تعرض عليك صورة من صر الخيال يبسم لها القلب وتحسب أن البيت الذي يحتويها صورة لا بيت شعر أما الفكاهة اللفظية فهي مغالطة يبسم لها الذهن فإنك إذا قرأت اعتذار المتنبي أعجبتك مهارته ولطف تخيله وهذا شيء مصدره الذهن وكذلك إذا عرض عليك قوله:
كأن السماني إذا ما رأتك ... تصيدها تشتهي أن تصادا
ولكن إذا عرض عليك قول ابن الرومي في الرجل الأصلع الذي يأخذ وجهه من رأسه أخذ نهار الصيف من ليله الأح لك بصورة فكاهية وقد تكون الفكاهة اللفظية أجلب للضحك من الفكاهة الخيالية لأن المغالطة عند العامة هي مصدر ضحكهم.
وليس لنوعي الفكاهة حدود معينة فلا تقدر أن تقول هذا حد الفكاهة الخيالية وهذا حد الفكاهة اللفظية فإنهما قد يمتزجان أنظر إلى قول الرومي في رجل بخيل:
فلو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد
هذا البيت يليح لك بصورة فكاهية صورة رجل من بخله يتنفس من منخر واحد ولكنها مغالطة مليحة لأن البخيل مهما كان بخيلاً لا يجد نفعاً له في أن يتنفس من منخر واحد حتى لو استطاع ذلك ولكن لا مغالطة في تشبيه تطاول وجه الرجل الأصلع على رأسه(6/5)
بتزايد نهار الصيف وتناقص ليله لأنه ليس معنى التشبيه أن المشبه والمشبه به سواء فإذا نظرت إلى قول ابن الرومي في البخيل وجدت الفكاهة اللفظية ممتزجة بالفكاهة الخيالية وذلك أيضاً كائن في بيت أبي العلاء:
رويدك أيها الغاوي ورائي ... لتخبرني متى نطق الجماد
على أن أكثر الفكاهة اللفظية يجيء ممزوجاً بشيء من الفكاهة الخيالية وبقدر نصيبه منها يكون نصيبه من روح الشعر وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام يستعملون الفكاهة الخيالية أكثر من الفكاهة اللفظية وهذا دليل على صحة أذواقهم ولكن شعراء الدولة العباسية قد أكثروا من استعمال الفكاهة اللفظية لأنهم تفننوا في أنواع المغالطة المنطقية وقد يجيئون بها مليحة وقد يجيئون بها سمجة.
ولكن أكبر عيوب شعرائنا هو استخدامهم الفكاهة في موضع الجد وهم لا يعرفون أنها فكاهة وقد ذكرت من أمثال ذلك استخدام المتنبي الفكاهة في المديح وهو لا يعرف أنها فكاهة وأقبح من هذا استخدامهم الفكاهة في الرثاء مثل قول إمام العبد في قصيدة يرثي بها الشيخ محمد عبده ما معناه أنه لبس سواد جلده حداداً عليه قبل مماته وإمام العبد لم يرد أن يمزح فيخالف أدب الرثاء ولكنه أتى بالمزح من غير قصد وعمد لأنه تعود قراءة أمثال هذا المزح في الرثاء والمتنبي إذا استخدم المغالاة في الرثاء حسبت أنه يمزح مع الميت أو أنه يسخر منه ويهزأ به ومن أمثال المزح في الرثاء قول شاعر يرثي إماماً العبد ويقول له في رثائه أعرني سواد جلدك كي ألبسه حداداً عليك هذا أقرب إلى باب السخر والتهكم واستعمال المزح في الرثاء دليل على سقم في ذوق الشاعر وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام كانوا أصح أذواقاً من العباسيين لأنهم لم يستخدموا الفكاهة في موضع الجد من مدح أو رثاء أو حكمة إلا أن يجيئوا بها على سبيل التهكم أو السخر أو التعجيز وهم يريدون ذلك هذا مذهبهم إلا في القليل النادر ولكن بدأت الشعراء تستخدم الفكاهة في مواضع الجد وهم لا يعرفون أنها فكاهة في أواخر الدولة الأموية ثم في أيام الدولة العباسية وما زالوا يغالون في ذلك حتى جاؤا بالغث المستهجن في باب المديح والرثاء والحكم وشعراء هذا العصر يتابعونهم في سقم ذوقهم.
فخليق بنا أن نلتمس سلامة الذوق في شعر شعراء الجاهلية وصدر الإسلام وأن نضع(6/6)
المعنى موضعه كما نلتمس حسن الابتداع ولطف التوليد في شعر شعراء الدولة العباسية.(6/7)
باب التاريخ
أخبار الخوارج
فرقهم واعتقاداتهم
قد كانت الخوارج بادئ بدء على رأي واحد فكانت لذلك فرقة واحدة تخطئ علياً كرم الله وجهه في الرضا بالحكمين وتغض منه لعدم رضائه بحكمهما وتعيب عليه عدم السباء بعد الظفر يوم الجمل ثم تغالت فكفرته بذلك وطلبت منه أن يتوب ويعود إلى الإسلام.
وكذلك كانت ترضى عن سيدنا عثمان (ض) إلى ست سنين من خلافته ثم تلعنه بعد ذلك وتقول أنه قد أحدث أحداثاً لا يقبلها الدين القويم.
ودليلك على ذلك ما روي من حديثهم مع الرجل الورع عبد الله بن خَبّاب أحد كبار المحدثين المشهورين فإنه لقيهم يومً وفي عنقه مصحف ومعه امرأته وهي حامل فقالوا أن هذا الذي في عنقك ليأمرنا أن نقتلك فقال ما أحيا القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه فوثب رجل منهم على رُطَبة فوضعها في فيه فصاحوا به فلفظها تورعاً وعرض لرجل منهم خنزير (أثناء ذلك) فضربه الرجل فقتله فقالوا هذا فساد في الأرض فقال عبد الله بن خبّاب ما على منكم بأس إني لمسلم قالوا له حدثنا عن أبيك قال سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه يمسي مؤمناً ويصبح كافراً فكن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل قالوا فما تقول في أبي بكر وعمر فأثنى خيراً فقالوا فما تقول في علي قبل التحكيم وفي عثمان ست سنين فأثنى خيراً قالوا فما تقول في الحكومة والتحكيم قال أقول أن علياً أعلم بكتاب الله منكم وأشدُّ تَوَقِياً على دينه وأنفذ بصيرة قالوا أنك لست تتبع الهدى إنما تتبع الرجال على أسمائها ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه فامذَقَرَّ دمه أي جري مستطيلاً على دِقَّةٍ.
وهلم إلى حديثهم مع ابن الزبير لتعلم منه ما يرونه عيوباً على عثمان وغيره.
فقد روي أن نافع بن الأزرق وهو من رؤوس الخوارج المعدودين ذهب مع أصحابه إلى مكة المكرمة ليمنعوا الحرم من جيش مسلم بن عقبة فلما صاروا إلى ابن الزبير عرفوه أنفسهم فأظهر لهم أنه على رأيهم حتى أتاهم مسلم ابن عقبة وأهل الشام فدافعوهم إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية ولم يبايعوا ابن الزبير ثم تناظروا فيما بينهم فقالوا ندخل إلى هذا(6/8)
الرجل فننظر ما عنده فإن قدم أبا بكر وعمرو بريء من عثمان وعلي وكفر أباه وطلحة بايعناه وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده فتشاغلنا بما يجدي علينا فدخلوا على ابن الزبير وهو مُتَبَذِل وأصحابه متفرقون عنه فقالوا إنا جئناك لتخبرنا رأيك فإن كنت على الصواب بايعناك وإن كنت على غيره دعوناك إلى الحق ما تقول في الشيخين قال خيراً قالوا فما تقول في عثمان الذي أحمى الحمى وآوى الطريد وأظهر لأهل مصر شيئاً وكتب بخلافه وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين. وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم وفي أبيك وصاحبه وقد بايعا علياً وهو إمام عادل مرضي لم يظهر منه كفر ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا وأخرجا عائشة تقاتل وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن في بيوتهن وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفة عند الله والنصر على أيدينا ونسأل الله لك التوفيق وأن أبيت إلا نصر رأيك الأول وتصويب أبيك وصاحبه والتحقيق بعثمان والتولي في السنين الست التي أحلت دمه ونقضت بيعته وأفسدت إمامته خذلك الله وانتصر منك بأيدينا.
فقال ابن الزبير إن الله أمر وله العزة والقدرة في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العتاة بأرأف من هذا القول فقال لموسى ولأخيه صلى الله عليهما في فرعون (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تؤذوا الأحياءَ بسب الموتى فنهي عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه وأبو جهل عدو الله وعدو الرسول والمقيم على الشرك والجاد في المحاربة والمتبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة والمحارب له بعدهم وكفى بالشرك ذنباً وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبى أن تقولوا أتبرأ من الظالمين فإن كانا منهم دخلا في غمار الناس وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني (أي لم تغضبوني) بسبب أبي وصاحبه وأنتم تعلمون أن الله عز وجل قال للمؤمنين في أبوابه وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً وقال جل ثناؤه وقولوا للناس حسناً وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج وأوضح لمنهاج الحق وأولى بأن يعرف كل صاحبه من عدوه فروحوا إلى من عشيتكم هذه اكتشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله.(6/9)
فلما كان العشى راحوا إليه فخرج إليهم وقد لبس سلاحه فلما رأى ذلك نجدة قال هذا خروج مُنابذ لكم فجلس على رفع من الأرض.
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرته فيها فجعلها كالماضية وخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاص بأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح وأن القوم استعتبوه من أمور وكان له أن يفعلها أولاً مصيباً ثم أعتبهم بعد محسناً. وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العُتبي ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم فدفعوا الكتاب إليه فحلف أنه لم يكتبه ولم يأمر به وقد أمر بقبول اليمين ممن ليس له مثل سابقته مع ما اجتمع له من صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانه من الإمامة وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها لحلف على حق فافتداها بمائة ألف ولم يحلف وقد قال رسول الله (ص) من حلف بالله فليصدق ومن حلف بالله فليرض فعثمان أمير المؤمنين كصاحبه وأنا ولى وليه وعدو عدوه وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يقول عن الله تعالى يوم أحد لما قطعت أصبع طلحة سبقته إلى الجنة: وقال أوجب طلحة وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد قال ذلك يوم كله أو جله لطلحة - والزبير حواريُّ رسول الله وصفوته وقد ذكر أنهما في الجنة وقال عز وجل (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم فإن يكن ما سعوا فيه حقاً فأهل لذلك هم وأن يكن زَلة ففي عفو الله تمحيصها وفيما وفقهم له من السابقة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم ومهما ذكرتموها به فقد بدأتم بأمكم عائشة رضي الله عنها فإن أبي آبٍ أن تكون له أمّا نبذ اسم الأيمان عنه قال جل ذكره وقوله الحق (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزاجه أمهاتهم).
فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا عنه فصارت طائفة إلى البصرة وطائفة إلى اليمامة وقد جعلت الطائفة التي ذهبت إلى البصرة نافع بن الأزرق رئيساً عليهم فمضى بهم من البصرة إلى الأهواز سنة 64 من الهجرة وكان عدد من تبعه اثني عشر ألف رجل كلهم أهل جد وقوة وبأس وصبر.(6/10)
وإلى ذلك الوقت لم يكن وقع بينهم خلاف في فرع ما ثم تشبعت بعد ذلك آراؤهم واختلفت أهواؤهم فافترقوا إلى اثنين وعشرين فرقة أو يزيدون وذلك لمسائل عرضت وآيات اضطربت أفهامهم فيها وحارت أفكارهم في تأويلها فكان من جَرّاء ذلك أن حارب بعضهم بعضاً واغتال فريق منهم الآخر فتشبعت بهم المسالك وافترقت بهم المقاصد.
ولكن هذه الفرق الكثيرة العدد يمكن إرجاعها إلى أربع فرق مشهورة وهي:
أولاً - الأزارقة وهم أصحاب نافع بن الأزرق وكنية أبو راشد.
ثانياً - النجدية وهم أصحاب نجدة بن عامر الحنفي.
ثالثاً - الصفرية وهم أصحاب زياد بن الأصفر أو ابن صفار - وقيل سموا بذلك لصفرة وجوههم من كثرة الصيام بالنهار والقيام بالليل.
رابعاً - الأباضية وهم أصحاب عبد الله بن أباض المُرِّي - (متلو)(6/11)
الآثار التاريخية
الحكمة المشرقية
حكم فتاحوتب
إذا أوتيت العلم فكن متواضعاً وجادل الجاهل بالتي هي أحسن كما تجادل قرنك واعلم أن الإنسان جاهل مهما اتسع نطاق علمه لأنه ليس للذكاء حد وليس لفضل والفطنة نهاية وما ملك أحد ناصية الحكمة: وأعلم أن كلمة الحق لدى الحر أثمن من يتيمة الدر.
إذا جادلك حكيم عاقل وكان أرجح منك فضلاً وعلماً وأقوى حجة وأرسخ قدماً فاخفض له جناح الذل ولا تُعرض عنه إذا خالف رأيه رأيك واحذر أن تفوه بما يُحفظه وإياك أن تصدمه في حديثه فإذا استكبر وتواضعت رفعت نفسك في نظره واستللت بلينك من قلبه سخائم الكبر وربما سكن إليك وأحاطك بما لم تحط به خبراً. وإذا تجادل قرينك وألفيته لا يخرج في القول عن حده ولا يميل عن الحق إلى ضده فلا تغض عنه فإن الأغضاء يورث الأحقاد ويغرس بذور العداوات وإذا جادلت من هو أقل منك قدراً فلا تسخر منه ولا تحتقر شأنه لفقر فيه أو لضعف طرأ عليه ولا تلحف عليه بالسؤال فيما لا يعنيك حباً في استطلاع أمره وإذا أغضبك فلا تصبّ على رأسه جام سخطك فما ظلم الناس شر ممن هزأ بهم وما آلمهم شر ممن استكبر نفسه واستصغر نفوسهم وإن خدعتك نفسك وأغرتك بالشر فاعصها واغلبها على أمرها فإن هذه صفات الأبرار الصالحين.
وإن كنت يا أيها الولد زعيماً ترشد قوماً أو قائداً تقود شعباً فكن كريم الأخلاق حسن الشيم لا تشوب أدبك شائبة واعلم أن الصدق أعظم النعم وله حول وطول ولن يخذل صاحبه وما كان الباطل ليغلبه أن للباطل جولة لا تبقى أكثر من ساعة وأن للحق دولة تدوم إلى يوم الساعة واعلم أن الإذعان للحق فضيلة لا تنكر وأن الاعتداء عليه ذنب لا يغفر ولا يعتدي على الحق إلا ذو مطمع دنيء والطمع في الدنايا مضر بصاحبه في شرفه وماله فهو يقوده إلى الشر والشر مطية الدمار. أما من يذعن للحق ولا يتطلع إلا إلى ما يستطيع نيله بالحق فثوابه عند الله عظيم واغتباطه بنفسه أعظم لأن الحق ميزان الحياة وأساس العدل والعدل فضيلة كبرى كامنة في النفوس الخيرة يحث عليها الآباء الصالحون ويوصى بها الحكماء والنبيون.(6/12)
لا تكن يا ولدي سبباً في إرهاب النفوس بغير حق وحذا أن تكون نذير السوء فما تحكمت نفس في أخرى بغير حق إلا ولقيت من الله شديد العقاب واعلم أن الرجال ثلاثة رجل يدفع بنفسه في تيار الآمال ويترك الحقيقة طوعاً ويتعلق بأهداب الخيال فيكون نصيبه الخزي وعقابه الحرمان ورجل يدعي لنفسه البطش والقوة ويحاول أن ينال بهما ما يريد فيسحقه الله بيد من حديد ورجل يعطي السائل ويغيث الملهوف ويولى المعروف ويواسي الحزين والضعيف فيمده الله بروح من عنده فكن يا ولدي كذلك الأخير رقيق القلب رحيماً بالمعوزين تكن محبوباً لدى الناس وعند الله من المقربين.
إذا دعاك عظيم فأجب دعوته وإذا أكرمك كريم فتقبل كرامته وإذا جلست إلى مضيفك فلا تطل النظر إلى وجهه ولا تبدأ بحديث قبل أن يفاتحك لأنك لا تدري أي الأشياء لديه أحب وأيها يستدعي لديه الغيظ والغضب: وإذا دارت رحى الحديث بينكما فلا يكن كلامك إلا جواباً على سؤال فإن في ذلك حفظاً لكرامتك وإرضاءً لمحدثك. إذا كن ضيفاً في دار فلا تحزن إذا كان نصيبك من خيرها قليلاً لأن رب الدار يكرم أضيافه حسبما توحي إليه نفسه. وكل أمريء في بيته سيد مالك فليس لك أن تجبهه أو تعترض عليه واعلم أن رزقك في يد الله ولن يهملك الذي خلقك.
إذا أوفدك عظيم إلى عظيم مثله فاقتد بمرسلك في خلقه فإياك أن تعكر الصفاء بينهما بالخطأ في تبليغ الرسالة فقد يؤدي تحريف الكلم إلى العداء وكم من كلمة بدلت فدمرت بلداً ولفظ غيّر فكان مجلبة الشقاء وإذا فتح لك أمير أو حقير خزائن قلبه وباح لك بما يصونه من غيرك فلا تفش حرفاً مما اؤتمنت عليه لأن إفشاء الأسرار منقصة تلحق بصاحبها المذلة. إذا زرعت زرعاً فقم عليه وكن حريصاً حتى ينبت وينمو ويثمر فيبارك الله لك فيه وإذا حرمت النسل فلا تحسد من رزقه بل اغتبط به إذا رأيت مسرته وإذا لم تلد لك زوجك فلا تشاكسها. فإنك لا تعلم هموم الآباء إذا لم تكن والداً فقد يكون أحدهم سعيداً بماله شقياً بنسله وليس نصيب المرأة من النسل بأقل شقوة من أنصبه الآباء فإن الأمهات أكثر النساء هماً وغماً وأدناهن من القبور لشدة ما ينال إحداهن من الحزن وما تلقاه من الآلام في العناية بولدها في نومه ويقظته في مرضه وصحته في حزنه ومسرته.
إذا كنت صغير القدر غير ذي شأن فالجأ إلى حكيم حازم والتصق به واجعل نفسك وقفاً(6/13)
عليك فيرفعك بحكمة من حضيضك إلى أوجه ويقوم من عوجك بمثلما قوَّم من عوج ذاته.
إذا رأيت رجلاً أصابه خطر حسن فنال منصباً سامياً لا يستحقه وكنت واقفاً على سره خبيراً بحقيقة حاله فلا تهزأ به لما تعلم من أمره بل كن كغيرك في إكرامه والحفاوة به وكفاه ما حاز من الفخر مبرراً لعيوبه فقد تحسن حاله بعلو مكانته واعلم أن الشرف والثراء لا يكونان لك عفواً صفواً وإنما للمرء من الخير قدر ما سعى. واعلم أن الله لم يشرع طرقاً أكثر من طرق الحلال لكسب الحال. لا تطع في الحياة إلا قلبك واعص نفسك في هواها ولا تجبها إلى سؤالها فيما لا يعلي قدرك. ولا تقض عمرك كله في تحصيل المال وكنزه فإن كنز المال وصرّه متعبة ولا خير فيما يتعب المرء في تحصيله ليزداد بوفرته نصباً.
إذا رزقك الله ولداً فلا تهمل تهذيبه بل اسهر على تربيته وإرشاده إلى سواء السبيل فإن أثمر عملك فقد نلت ثوابين الأول ثواب من عمر في الأرض وعمم الخير والثاني ثواب من زرع زرعاً وبارك الله له فيه وإن كان لك بنت فلا تفرط في شأنها وارعها بقلبك كما ترعاها بعينك وإلا كان عقابك كمن ولى ملكاً ولم يحسن سياسته. وإن عصاك ولدك وأطاع هواه وكان فظاً غليظاً متشدداً في الشر غير حسن الخلق فاضربه حتى تهذبه فإن العصا تقوم باعتدالها ما أعوج من أمره وحذره من عشرة قرناء السوء ممن لا يعنون بالفضائل فإنهم يقودونه إلى حيث لا تريد واعلم أن من يلقى مرشداً لن يضل.
إذا جلست في مجلس الدولة فاسترشد بمن كان أقدم منك عهداً فهو أعرف منك بقواعد الحكم ولا تستهن بالمواظبة فإن الانقطاع عن مقر منصبك والتراخي في عملك يضعفان ثقة الرئيس فيك وربما أدى ذلك إلى ضياع نصيبك من السلطة. كن على الدوام مستعداً للقول إذا كان المجال ذا سعة. ولا تهمل الجواب عن سؤال يوجه إليك وإذا شئت أن تبقى في المجلس ذا سلطة عالية وقول نافذ فاجعل لنفسك فيه شأناً بحيث لا يستغنى عنك واعرف مكانتك من أهله يعرفها غيرك واجلس حيث يؤخذ بيدك وتُبر. واعلم أن مجلس الدولة يسير على نظام معروف وكل ما يحدث به يدور على محور الدقة وإن علو الكعب فيه نعمة يحرص عليها العاقل ويسعى إليها الطامع في العلا.
إذا كنت في عشرة قوم فحبب نفسك ما استطعت إليهم وليكن قلبك وقفاً على مودتهم ما دمت ترى إخلاصهم لك وعطفهم عليك فيرتفع ذكرك بين الملأ وتتدفق عليك نعم الله وتلقى(6/14)
في كل مكان صديقاً وتنال ما تتمنى من دنياك واعلم أن أسمى الفضائل أن تقدر على كبح جماح شهواتك في السر والجهر وأن أدنى الرذائل أن يطيع الرجل بطنه وفرجه. وقد رأيت قوماً أطاعوا بطونهم وفروجهم فكبرت أجسامهم وصغرت أحلامهم وأصابتهم في ألسنتهم بذاءة يؤذون بها الأخيار. فكان لهم من بطونهم وفروجهم أعداء لا يستطيعون مخالفتها ولا يقدرون على دفع شرها.
كن يا ولدي صادقاً في قولك أميناً في عملك وإذا جلست بين يدي الملك في مجلس الدولة فلا تخف عليه شيئاً من أمرك واعلم أنه لا حرج عليك إذا أنبأته بأمر كان يعلمه لأن في ذلك أداء الواجب وهو من أسمى الحلال وأكرمها. ولا يضعف عزمك أن يخطئك الملك مرة فإنه لا يخطئك أخرى وربما رجع إلى قولك إن كان حقاً.
إذا كنت زعيماً فاختط لنفسك خطة مثلى واسع جهدك في انجازها وكن ممن ينظرون في العواقب ويتخذون من الحاضر أهبة للمستقبل حتى إذا جاء اليوم العصيب الذي لا يستطيع المرء فيه حلاً ولا عقداً تر محجتك واضحة وسبيلك جلياً ظاهراً فلا تدركك أزمة الضيق ولا يصيبك من حرج الموقف ما يصيب البله والبسطاء وبذا تستطيع أن تربأ بنفسك عن مواطن الفشل. ولا تكن محسوباً على أحد فإن ذلك يورث المذلة ويدعو إلى التراخي ولا تكل أمرك إلى غيرك فتصاب بداء الكسل. (متلو)(6/15)
باب العلم
العلم الاجتماعي
1
الأكاذيب المقررة في المدينة الحاضرة
للنقادة الاجتماعي الأشهر ماكس نوردو
لخصها الفاضل عباس محمود العقاد
من أبناء جيلنا الأحياء عالم فيلسوف ألماني أصاب شهرة في الخافقين قل من يوفق لمثلها في أيام حياته، ذلك هو ماكس سيمون نوردو، ابن عالم إسرائيلي، ولد في مدينة بودابست من مدن النمسة في التاسع والعشرين من شهر يوليو لعام 1849. وأتم دروسه الطبية في عام 1872، ثم قضى بضع سنين في التطواف والتنقل من إقليم إلى إقليم كانت هي خميرة معارفه عن العالم الأوربي، إلى أن استقر بمدينة بست سنة 1878. وهناك افتتح له مستوصفاً طبياً، ثم غادر المدينة إلى باريس في سنة 1880، وبقي ثمت يدرس مذهب لمبروزو العلامة الإيطالي المبرز في علم العقل، فاقتنع به وتشبع بآرائه، وأخذ يطبق مقرراته على الفنون والآداب، ناهجاً في ذلك منهج التمحيص العلمي المستمد من قضايا علمي السيكولوجي أي علم النفس والفزيولوجي أي علم وظائف الأعضاء، فالعالم عند نوردو حيوان عظيم الفرد خلية منه فهو يفحص علله وأدواءَه ولا يلقي مشرطه من يده، وقد توخى في جميع مصنفاته الحقائق المرئية والوقائع المجردة، مع إعمال الروية وإدامة النظر، فجاءت آراؤه محكمة سديدة، وسلم في أكثرها من التعسف أو الضعف، والأول خطأ المغالين في الوقوف عند المحسوسات، والثاني خطأ الهائمين في أجواز الخيالات، وهو عاتي الفكر، صارم القلم، حديد النظر، لا يصلب في محكه رأي قديم أو سنة مرعية أو اصطلاح متواضع عليه، يميل في آرائه إلى الاشتراكية وقلب نظامات الحكم الحاضرة، ملكية كانت أو إمبراطورية أو جمهورية، لأنها تأخذ من الفرد أكثر مما تعطيه، ولأنه يراها كلها صوراً شتى لنظام واحد، يستقل فيها بالحكم بضعة رجال من الأقوياء فيصرفون الأمور كما يحلو لهم، ويوافق منافساتهم الحزبية، وعنده أنه ليس على ظهر الأرض حكومة تمثل فيها إرادة الأمة، وكل ما في الأمر أن فئة من أصحاب النفوذ الأدبي أو المالي(6/16)
يسوقون الناس إلى انتخابهم لا بكفاءتهم وأخلاقهم وسعة مداركهم. فإن هذه قد لا تغني في مخاطبة الشعب واجتذابه، بل بوسائل التأثير والمشوقات التي ليست من الصدق في شيءٍ، ثم يجتمع هؤلاء فيقال أنهم نواب الأمة يبرمون وينقضون باسمها، ويفكرون وينطقون كما يلائم مرافقها. كأنما تسلّبوا عن أنفسهم أو فنوا في كيان الأمة، والحقيقة أنهم يسيرونها كما كان يسيرها نبلاء القرون الوسطى، وإنما هو اسم مبتكر لهيئة قديمة أو كما يقول خمر جديدة في دنان عتيقة.
قال ماكولى عن فولتير أنه قوض مئات من المبادئ ولم يؤسس مبدأً واحداً وقد يسوغ لنا أن نقول مثل ذلك عن ماكس نوردو فأنه من أولئك الباحثين الذين ذهبوا في إصلاح البشر مذهب القائلين بتلافي النقص واستدراك الخطأ، وعندي أن الهادمين من الفلاسفة أقرب إلى الصواب من البناة منهم، فإنه يسهل علينا الإلمام بما كان ولا يسهل التكهن بما سوف يكون. ولا محل للخطأ إلا قليلاً في الاهتداء إلى فساد نظام سبق تطبيقه وبين الزمن نفعه وضرره على أنه لا سبيل إلى التحرز من الخطأ في وضع سنة لا يمكن أن يستجمع واضعها في ذهنه كل ما قد يتأتى عند تطبيقها من اختلاف أحوال الزمن وتجدد طوارئه، ويتعذر عليه أن يحيط بكل ما يلزم الناس فيودعه سنته، والخطل قريب من أصحاب المبادئ لأنهم لا يملكون أنفسهم أن لا يتشيعوا إلى مبادئهم، فيقلل ذلك من تسامحهم في قبول الحقائق والآراء التي لا تتفق مع آرائهم.
وكتاب الأكاذيب المقررة من أهم كتب الرجل بل لعله أهمها. وقد نقل إلى أكثر لغات أوروبة فأثار حوله ضجة في كل لغة نقل إليها وطبع مراراً في أكثرها. نحي فيه منحى غريباً في نقد مساوئ الاجتماع وكشف طلاء غشه. وقد فضح بهارج المدنية الغريبة فأبان كيف أنها قائمة على غير أساس وكيف تختلف ظواهرها عن بواطنها وتناقض دعاويها وحقائقها. وقد صادرت الكتاب حكومة النمسة، وفي بلادها كان مسقط رأس الفيلسوف، زاعمة أنه يجرئ الناس على احتقار شخص الإمبراطور ويصدهم عن إحياء شعائرهم الدينية، وهو المزعم الذي طالما لجأت إليه الحكومات كلما خشيت على سلطتها من كتاب أو فكر جديد، وهي لا تخشى عليها من الباطل لأنها قائمة عليه وإنما تخشى من الحق ونوره الذي ينبه إليها عسس العقول ويغري بها بصر العدل، وهب نوردو كتب كتابه(6/17)
ليزين للناس السجود أما الإمبراطور، ونسيان ذواتهم في ذاته، والتجرد عن حقوقهم لأجله، أفكانت ترى فيه حكومة النمسة أو سواها الأكل خير وبركة؟؟ وهل تراها واجدة فيه ما وجدته الآن من الخطر على النظام والضرر بالأمة؟؟
ولم يأبه نوردو بهذه المصادر بل قابل قرار الحكومة النمسوية بكلمات وجيزة كتبها مقدمة للطبعة السادسة، قال فيها أنه لا يتعرض لشخص هذا الإمبراطور أو ذاك وإنما يتكلم عن الإمبراطور حيث كانت وفي أي شخص تمثلت، وعجب من أن كتاباً يصد الناس عن إحياء شعائر الكنيسة وأنه لعجيب حقاً أن لا تفرق حكومة بين سلطان الدليل على العقول وسلطان القوة الغاشمة على الأبدان.
واحسب أن هذا الكتاب سيكون للملأ الأوربي ما كأنه عقد روسو للأمة الفرنسية. فما هو إلا أن تتداوله الأيدي وقد تداولته، وتتفهمه العقول وهي جانحة بطبيعة روح العصر إلى تفهمه، وتشربه النفوس وهو واضح البيان صحيح البرهان. فهنالك تهب الطامة التي ليست الثورة الفرنسية إلى جانبها إلا مناوشة صغيرة بين الطلائع. ويثب من وراء كل حرف في كلماته مارد جبار كأنما هي حروف الطلاسم والأرصاد التي نقرأ عنها في كتب القدماء، فتقوض دعائم هذا الهيكل المتداعي وتدك جدرانه المتصدعة، فتقوم إذ ذاك المدينة التي يحلم بها نوردو، مدينة الحق والحب والإيثار والرضى. وقد لا يكون ذلك اليوم بعيداً جداً فإن الناس لا يطيقون البقاء طويلاً على هذه الحال التي ما أظن العالم نزل إلى أردأ منها في عصر من العصور ونحن مخلصون منه هنا أهم فصوله بالنسبة إلينا وهو فصل الزواج.
أكاذيب الزواج
قال في دلالة الزواج على حياة النوع أو الأمة:
أقوى غرائز الإنسان التي تسيطر على حياته وتحرك كل عواطفه وأعماله اثنتان، هما غريزة حفظ الذات وغريزة حفظ النوع وأبسط مظاهر الأولى السغب كما أن أبسط مظاهر الثانية الحب ونحن لا نعلم سر القوى الغذائية أو التناسلية. على أن جهلنا إياها لا يمنعنا أن نراقب فعلها جلياً، فنحن لا ندري كيف أن فرداً من الأفراد يكمل دورة نمائه في سنين معدودة بخلاف فرد آخر، ولا نعلم مثلاً كيف أن الحصان وهو الحيوان القوي الكبير ينمو(6/18)
ليبلغ خمساً وثلاثين سنة ثم لا يتخطاها، وأن الإنسان وهو حيوان أضعف منه جسداً وأصغر حجماً يبقى إلى السبعين وما فوقها، أو كيف أن الغراب يعمر مائتي عام بينما لا تعيش الإوزة إلا عشرين منها.
ولكن الذي نعلمه علم اليقين أن لكل كائن أجلاً يقضيه في الحياة، يبدأ من ساعة ولادته، فكأن الساعة تملأ تروسها لتدور إلى عدد معروف من الساعات. وقد ينقص هذا الوقت لطارئ يطرأ على ذلك الكائن. ولكنه لا يزيد بحال من الأحوال.
وللنوع كما للفرد أجل مقدور، فهو مثله ينشأ في وقت من الأوقات فيولد ثم ينمو ثم ينضج ثم يموت بعد ذلك. إلا أنه لا سبيل إلى وضع عدد السنين التي يقضيها كل نوع في حياته كما هو شأن أعمار الأفراد، ولكننا نعلم عن طريق علم الأحافير البالنتولوجي قواعد نستنتج منها أن صحة بنية النوع مرتبطة بنواميس مطابقة للنواميس التي تجري عليها صحة بنية الفرد، فما دام الفرد لم يبدد ما ركب فيه من القوى الحيوية فإنه يناضل بكل ما فيه من قدرة ليحمى نفسه ويرد عنها أذى أضداد بقائه، فإذا اضمحلت تلك القوى أو ضمرت وهت عزيمته في الاحتفاظ بنفسه وفتر شوقه إلى مقومات وجوده فيفنى، وعلى هذا النمط تظهر قوى النوع الحيوية في ميله إلى الاحتفاظ بنفسه أو معناه ميل أفراده إلى التناسل وتكثر عددهم، فما دامت هذه القوى مصونة حية رأيت كل فرد من النوع مسوقاً بغريزته في سن الفتوة إلى التماس زوج له، فإذا اعتراها الضعف والانحلال بدأ ذلك يظهر في قلة اكتراث أفراده لأمر التناسل حتى ينتهي أمرهم إلى أن يروا فيه ذلك الواجب الضروري الذي لا غنى عنه. ولدينا وسيلة لا تخيب في قياس القوى الحيوية في النوع أو الجنس أو الأمة فإن ذلك يكون على نسبة انتشار الأثرة الأنانية بين الأفراد التي يتألف منها ذلك المجموع، فكلما كثر عدد الفريق الذي لا يعني إلا بمصالحه الشخصية، يضعها فوق كل واجب من واجبات المجموع ويفضل التمسك بها على التمسك بالآداب والشعائر التي من شأنها تكاثر النوع وبقاؤه، كان ذلك عرضاً يشير إلى قرب الموت والفناء والأمر على عكس ذلك في البيئات التي يحس أفرادها بغرائز تدفعهم من تلقاء أنفسهم إلى خلال الشهامة والمفادة بالنفس ونسيان الذات، فإن هذا ينبئ بأن روح النوع قوية في أجزائه.
إن انحلال الأمة كانحلال العائلة تلوح علائمه في تأصل الشره والأنانية من الأفراد،(6/19)
ورعاية المرء مصلحته البحتة دون نظر إلى ما يكون من أثرها في المجموع علامة صادقة في الدلالة على أن روح التماسك قد ضعفت في الأفراد وأن النوع قد فقد قواه الحيوية التي تنهض بأفراده إلى كل ما يؤيده وينميه، ويتبع ذلك ضعف القوى الحيوية في الفرد إلا إذا اعتصم ببعض الذرائع الاستثنائية، ومتى شط النوع إلى مثل ذلك من الأثرة أضاع أبناؤه الاستعداد للحب الطبيعي المشروع، وماتت في نفوسهم عاطفة الألفة العائلية فلا يرغب الرجل في الزواج لأنه لا يطيق العناية بشأن غيره أو إلقاء تبعة أشخاص سواه على عاتقه، وتتحاشى المرأة آلام الأمومة ومتاعبها، وإذ اتصلت إلى رجل بآصرة الزواج لم تحجم عن تعقيم نفسها. ثم ترى غريزة التناسل ماتت في بعض الأفراد بعد أن يكون قد بطلت فطرتها التي تقصد بها إلى تجديد النوع، واتخذت في غيرهم وضعاً من أنكر الأوضاع فإذا بأسمى قوي الجسم التي لا تتم في إنسان إلا بعد أن يتم نضوجه. وأعني بها حاسة النسل التي قرنتها الطبيعة بأقوى ما يمكن أن يتأثر به الجهاز العصبي من الانفعال قد تسلفت إلى نوع من اللعب الشهواني لم يبق فيه موضع للنظر في استدامة النوع أو المبالاة يغير إرضاء الحواس والشهوات.
وإذا اتفق فانعقد قران بعد حب ولو جريا على ناموس الرجعة في الوراثة، فلا يكون معنى ذلك التئام شطري فردين ناقصين في شكل من الفردية أرقى وأكمل، أو انتقالاً من حياة انفراد عقيمة إلى حياة زوجية مثمرة تمتد بتناسل ذريتها إلى أبعد ما قدر لها من الخلود في المستقبل، ولا يكون معناه ذلك الشوق اللاشعوري إلى طرح الأنانية حباً في الإيثار أو الغيرية أو إفراغ معين الحياة الفردية الراكد في مجرى الحياة لنوعية المتفجر المطرد، كلا! وإنما هو نزوة غريبة لا تبين حتى لنفسها، فقد تكون نوعاً من الضلال الحسي والانفعال العصبي نشأ من خليط مما قرأه المرء أو سمع به مضافاً إلى أهواء عاطفة منهوكة معتلة، وقد تكون هوساً محضاً مثاره نزعات النفس ووزغات الهوى.
ثم انتقل من ذلك إلى تطبيق هذه القضايا والآراء على حال أوروبة في هذا العصر فخلص إلى أنها لا بد صائرة إلى عاقبة من أوخم العواقب، إذا أطرد سيرها في هذا المسلك لأنها تدابر سنن الطبيعة، وبين كيف أن الإنسان قد انساق على غير علم منه إلى معرفة الواجب عليه في تخليد النوع، مستشهداً على ذلك بغلبة نوادر الحب ووقائعه في آداب الأمم جمعاء،(6/20)
واهتمام الجماهير منذ القدم بإشهار حفلات الزواج وإعلانها للملأ.
قال وأن أكاذيب المدنية قد مسخت طبيعة الزواج، فليس الزواج في العصر الحاضر إلا اتفاقاً بين فردين على تبادل المنفعة لا يختلف في كنهه عن اتفاق تاجرين على المعاوضة في متجر بينهما، فلا يُتحرى فيه فائدة الأجيال المقبلة بل كل ما يراعى فيه فائدة الشخصين المتعاقدين، وأنه يغلّب الأنانية على الغيرية بدلاً من أن يغلب هذه على تلك، فليس معناه أن يعيش كل من الزوجين لأجل الآخر في هذه الصلة الجديدة، بل معناه أن يتمتع كل فرد منهما بما لم يكن يتمتع به لو بقي على حدته.
ثم آنس في هذا الموضع اعتراضاً قد توسوس به نفس القارئ، فقد يقول قائل: مالنا نندد بالمدنية وهذه سنة الزواج من قديم الأزمان، فإن رجل القبيلة كان ربما اختطف أول سبية تعرض له، فيحتملها إلى خصّة لتكون هناك زوجه وأم بنيه، فأين الحب الذي أفسدته المدنية، وأين الصدق الذي موهته أكاذيبها؟؟
قال: ولكن الحال في المدنية تختلف عما هي في البداوة، ففي دور الفطرة كل الرجال متشابهون كما أن كل النساء متشابهات، فالمسألة مسألة ميل جنس إلى جنس، والزواج بينهم إنما هو علاقة أي رجل من جنس الرجال بأية امرأة من جنس النساء، وإذا ظهر تفوق أحد أفراد الجنس على سائره فهنالك تسمع عن العشق القاتل والعراك العنيف. والأمر غير ذلك في أدوار المدنية حيث يعم التفاوت وتكثر الفوارق في الصفات والأقدار، فلا مناص هنا من الانتقاء الذي رائده الانتخاب الجنسي أو الحب بمعناه الصحيح، فإنه لا بد بين هذه الطبائع المتفاوتة من انجذاب طبيعتين متفقتين تتمازجان ببعضهما امتزاجاً كيميا وليس اختلاطاً ظاهرياً فقط، والزواج إنما هو مزج كيمي كما قال جوث، يفقد فيه كل من المتمازجين خصائصه الأولية، وأنه كما يمتزج الأوكسجين بالبوتاسيوم، وكما لا يمتزج النيتروجين بالبلاتينوم، كذلك ترى الرجل يصبو إلى تلك المرأة دون سواها، وترى المرأة تتعشق هذا الرجل وترد كل من عداه.
ثم استطرد إلى العلاقة بين الرجل والمرأة، فقال أنها لا تكون إلا واحدة من اثنتين: فأما علاقة حب متبادل غايتها النسل، أو علاقة لا يكون النسل غايتها الأولى ولا غرض منها إلا إرضاء المطامع، والأولى هي العلاقة المشروعة المرضية، أما الثانية فأنها علاقة(6/21)
الدعارة والفجور كيفما كانت صيغتها وإلا فأي فرق بين رجل تنفق عليه صاحبته وبين رجل يخطب المرأة لمالها أو لينال وظيفة بجاه أبيها؟؟ وأي فرق بين البغي التي تعرض نفسها على رجل لا تعرفه لتبتزه شيئاً من ماله وبين العروس التي تزف نفسها إلى رجل لا تحبه ولكنها ترجو أن يرفعها إلى منزلته ويحليها بفاخر الثياب ونفيس الجواهر؟؟
ثم ما هي نتيجة مثل هذا الزواج؟ أب اختير لا لفضله وأخلاقه، وأم اختيرت لا لصفاتها وآدابها؟؟ أب لا هم له إلا غشيان الملاعب والنوادي ومعاقرة الخمور ومطالعة أوراق الميسر، وأم لا شاغل لها إلا التردد على المراقص وتتبع الأزياء والإيقاع بأترابها والزراية بهن؟ وأي شيء يتربص بنسل هذين الزوجين غير الانحطاط الفطري يلحقه انحطاط التربية والأخلاق؟ نعم إن الغنى والمنصب قد يدركان بهذا الزواج ولكن أصحاب الغنى والمنصب يخسرون أنفسهم وذريتهم به، فتنتقم الطبيعة لمدابرة سننها ونواميسها، ومن يستقص دخائل البيوت الكبيرة والعائلات العريقة التي لا يكثر هذا الزواج في طبقة من الطبقات كثرته بينها، علم أن أكبر أسباب انحلالها وسقوطها راجع إلى هذه العلة.
وبعد أن التمس للفقراء بعض العذر لخروج الأمر عن اختيارهم، قال أن زواجهم ليس أقرب إلى سنن الطبيعة من زواج غيرهم من الطبقات، فليس الرجل والمرأة في طبقة الفقراء زوجاً وزوجة اجتمعا بجاذب من الانتخاب الجنسي، وإنما هو رجل يريد خادمة وامرأة تريد عائلاً.
قال: وقد يتم على هذه الصورة قران قوم فطرتهم مستقيمة، وعاطفة الحب فيهم خالصة سليمة، أما لنقص عندهم في الفهم، أو لوجوم منهم عن اقتحام معركة التنازع على البقاء بين جمهور غلبت عليه الأثرة والأنانية، فلا يزال هؤلاء الأزواج في برم وضجر، وربما التقى أحدهم بمن يحرك فيه عاطفة الحب، فينفسخ عقد القران شرعاً أو فعلاً.
ثم انتهى من هذا القول إلى هذه النتيجة وعلى هذا ففي كل عشرة عقود تسجل في أوربة تسعة قائمة على أبعد الصلات عن الصدق والإخلاص فيفضي بها الأمر إلى أضر النتائج بمستقبل النوع، ويجد أصحابها أنفسهم عاجلاً أو آجلاً في موقف تتنازعه واجبات الزوجية وحكم الحب القاسر، فإما اضطروا إلى سلوك مالا يليق إلا بالسوقة والسفلة. أو قادهم إلى الهلاك والضياع، وكذلك يكون الزواج بمثابة انتحار للنوع بدلاً من أن يؤدي إلى تجديد(6/22)
قواه وحفظ فتوته.
ثم أقبل يعلل هذه المعائب، فأسند معظمها إلى نقص في النظام الاقتصادي الحاضر وطريقة الحكم، فإن الحكومات قد وجهت كل عنايتها إلى الأفراد وصرفت أنظارها عن المجموع فأباحت لكل فرد التصرف كما يحب ما دام لا يضر بفرد آخر معين، ولا يعنيها بعد ذلك أعاد عمله بالنفع على المجموع أم بالضرر، فانطلق الأفراد يستكثرون من النقود ويجمعون الأموال وفشا الجشع فأصبح الناس يقدرون الرجل بقدر دراهمه، وتعلقت القلوب بالدراهم والدينار، ومن كان يتوخى سبيلهما في أعماله وآماله فعلام يحيد عن طريقهما عند الزواج؟؟ ألعله حبا في الإنسانية؟؟ وما هذه الإنسانية؟؟ وماذا استفاد منها!! أتراها تشبعه إذا جاع؟؟ أم تفتح له أبواب العمل إذا سدت في وجهه!! أم لعلها تطعم أطفاله إذا نادوه يطلبون القوت!! وإذا وافاه أجله، أتراها تتكفل بمؤونة أرامله وأيتامه؟؟ كلا. وإذا كان لا شيء من ذلك يكون، فعلام يفرط في آماله من أجلها ويتألم بسببها!
قال وأنه كلما اشتدت الأثرة اشتد النزاع على الحياة وصعب على المرء تحمل أعباء سواه، وكلما تتابع الفشل في أحوال الزواج صد الناس عنه وآثروا العزوبة عليه، وكل ذلك كما تقدم من المحللات التي تنبئ باضمحلال قوي النوع الحيوي.
ويتلو هذه المقالة القسم الثالث من الفصل وهو يبحث بحثاً دقيقاً وافياً عن الطلاق وطبيعة العشق الجنسي، وهل يجوز أو لا يجوز تقرير استمرار الزوجية مدى الحياة اعتماداً عليه. عباس محمود العقاد
(البيان) سينشر هذا القسم الثالث في العدد التاسع وكذلك أفيد مباحث هذا الكتاب(6/23)
التربية الطبيعية
أو
أميل القرن الثامن عشر
وضعه جان جاك روسو
وعربه ابراهيم عبد القادر المازني
الكتاب الأول
الطفولة - مبادئ عامة
كل شيء حسن لدن يخرج من يد الصانع الأكبر مبدع الخليقة ومبديء الطبيعة فإذا انتقلت به الحال إلى يد الإنسان خبث وفسد بئس لعمري الإنسان زرّاع الفساد أما تراه يحمل الأمم على مكروهها ويطعم الشعوب جنا أرض غير أرضها ويُحمل الأشجار غير ثمارها وهو الذي يرهج الرياح ويخبثها ويهدم كل قائم ويشوه كل جميل ويذلل أخاه الإنسان كما تذلل الفرس الجموح حتى تصبح طوع العنان كأنما الإنسان شجرة في بعض رياضه يغرسها حيث يشاء:
وكما أن الماء قوام النبت كذلك التربية قوام الإنسان فلو أن الناس خلقوا طوالاً أشداء وهم مع ذلك يجهلون المنفعة من ذلك لما اغني عنهم طولهم وقوتهم شيئاً ولكان وفاء الطول وشدة الأسر أضرّ بهم لامتناع التعاون وانقطاع التناصر إذ كانوا بطريق ذلك جاهلين ولهلك الناس من الحاجة قبل أن يحيطوا بحاجاتهم خُبراً. ولقد رأيت الناس يرثون لحال الطفل ويتوجعون لحظة وما دروا أن النوع البشري كان يهلك لو أن الإنسان لم يكن في بادئ أمره وأول حياته طفلاً!
خلقنا الله ضعفاء فنحن محتاجون إلى القوة وخلقنا معدمين فنحن مفتقرون إلى المعونة وخلقنا بطاء الحسّ مغلقي الأذهان فنحن محتاجون إلى ما يرهف أذهاننا ويضرم شعلة الذكاء فينا. وهذه أصلحك الله حاجة لا يسدها شيءٌ غير التربية.
والتربية على ثلاثة أقسام: التربية المكتسبة من الطبيعة والتربية المكتسبة من الناس والتربية المكتسبة من الأشياء: فأما نماء قوى المرء العقلية والجسمية فهذه هي التربية(6/24)
المكتسبة من الطبيعة وأما استخراج المنافع من ذلك واجتلاب الفوائد فشيءٌ نقتبسه من الناس ونحمله عنهم وأما تجارب المرء وما يهديه إليه نظره فيما حوله فذلك ما اسميه التربية المكتسبة من الأشياء وكذلك يتواطأ على تخريجنا وتربيتنا أساتذة فمن تعارضت فيه دروسهم وتباينت تعاليمهم فذهب الخُلف بكلٍ مذهباً فقد ساء تخرجه ولم تحسن تربيته وأما من تدامج فيه تأديبهم وتسايرت كلمتهم واتحدت وجهتهم فهذا الذي حسنت تربيته فصار حقيقاً أن يعيش أكمل عيشة وأرغد حياة.
وإذا نحن تأملنا هذه الأنواع الثلاثة وجدنا أن التربية المكتسبة من الطبيعة مستقلة عنا من بينها لا دخل لنا فيها وأن التربية المكتسبة من الأشياء رهن بنا من بعض الوجوه وليس درج أيدينا وتحت حكمنا إلا التربية المكتسبة من الناس. بيدَ أن هذا صحيح نظراً لا عملا إذ من ذا الذي يرجو أن لا يغفل الطفل طرفة عين وأن يراقب حركاته وسكناته ويوقظ رأيه لكل ما يقال ويفعل على مسمع من الطفل ومرأى حتى لا يسمع لغو الكلام ولا يرى فعال الأشرار.
ومتى صارت التربية فناًّ فقد أوشكت أن يصير نجاحها أمراً لا تبلغ إليه وسيلة ولا تناله حيلة لأنا لا نملك كل شروط النجاح وأسباب الفوز وغاية ما تصل إليه مقدرتنا هو أن ندنو من الغاية القصوى جهد المستطاع فأما بلوغها فلا يكون إلا بمساعدة الحظ وهذا مالا يصح أن نعتد به أو نعتمد عليه.
وما عسى هذه الغاية تكون؟ هي التي يهدينا إليها سراج الطبيعة لأنه لما كان تآزر الأنواع الثلاثة ضرورياً لتمام التربية كان من الضروري كذلك أن نجعل ما في أيدينا ذريعة إلى الظفر بما ليس فيها ولما كان لفظ الطبيعة من الغموض والاستبهام بحيث لا نأمل أن يفهم الناس ما أوقعناه عليه من المعنى لذلك رأينا أن نفصح عن مضمونه ونعرب عن مكنونه حتى لا تلتبس علينا وجهة الصواب.
قالوا الطبيعة هي العادة والمرء مما تعود. وهذا قول يحتاج إلى إيضاح فاعلم أن المرء قد يجري في حياته على عادات لا محيد له عنها ولا سبيل إلا إليها من غير أن يغير ذلك من الطبيعة أو يؤثر فيها فهو في ذلك كالعود الذي أخذت عليه طريقه وحلت بينه وبين مسيره الرأسي فإذا خليته وشأنه بعد ذلك لم يرجع عما رسمت له بل يمضي حيث أكرهته ولكن(6/25)
العصير النباتي لم يغير من أجل ذلك مذهبه الأول وإذا استرسل العود في النماء فلا بد أن يستقيم اعوجاج ما طال منه وكذلك أميال الإنسان التي تخلقها العادة والتي هي أجنبية من فطرته لا تتغير أو تتبدل الأحوال فتنبذ العادة وتعود الطبيعة إلى مجراها الأول. وليست التربية إلا العادة وأن في الناس من ينسى ويترك وآفة العلم الترك فيخسر ما أفاد من التربية وفيهم كذلك المعتصم بحبالها المستمسك بأسبابها فما علّة هذا الاختلاف؟ لئن كنا نقصر لفظ الطبيعة على ما توافق مع الطبيعة من العادات فما أحرانا أن ننزع عن هذا الجهل ونقصر عن هذا السخف؟
الصواب أن الطفل يولد شديد الحس تتناول مشاعره كل شيء فإذا شب وتنبه لما يحصل في نفسه من الإحساسات رأيته يميل إلى ما أثارها من الأشياء أو ينفر أولاً من حيث هي طيبة لذيذة أو ثقيلة بغيضة ثم من حيث هي ملائمة له أو غير مشاكلة ثم من حيث ما يتبين فيها من الارتباط بمعاني السعادة أو الكمال. وذلك إذا بلغ كمال العقل. وهذا الخُلق جدير أن يشتد ويقوي على قدرٍ ما لصاحبه من صفاء النفس ولطافة الحس ولكن العادة قيد فهو يتبدل تبعاً لأفكارنا وهذا الخُلقُ - قبل أن يتحول - هو ما أدعوه الطبيعة.
وإذ قد نفضنا غبار اللبس عن لفظ الطبيعة وحسرنا عنه ظلال الإبهام فلنعد إلى ما كنا بصدده فنقول ينبغي أن نرد كل شيء إلى هذا الخلق وقد كان هذا يكون ممكناً لو كانت أنواع التربية الثلاثة التي ذكرناها فيما أسلفنا مختلفة وليست متعارضة ولكن ما العمل وهي متنادة متعارضة وما الحيلة ونحن بدل أن نربي المرء لنفسه نربيه لسواه؟ ألا إن الاتفاق محال لأنه لا محالة من مكافحة الطبيعة ومقاومة أوضاع البشر فأما أن نربي الطفل ليصير رجلاً وأما أن نربيه ليصير حضرياً لأن الجمع بين الغايتين من وراء الطاقة.
والرجل الطبيعي كامل في ذاته غير ناقص فهو كالوحدة الحسابية أو العدد الصحيح نسبته إلى نفسه أو رفاقه فأما الحضري فما أشبه بكسر الوحدة الذي هو رهين بالمقام فإن قيمته ليست في نسبته إلى نفسه ولكن في نسبته إلى الكل - وهو المجتمع الإنساني.
ولقد أعملت في المجتمعات الروية وقلبتها ظهراً لبطن حتى عرفت مظهرها ومخبرها فرأيت خيرها عند الناس أقدرها على مسخ الإنسان وسلخ وحدة وجوده منه لتفنى في الوحدة العامة بحيث يدرك كل أحد أنه جزء من الكُل وليس واحداً صحيحاً مستقلاً وأنه لا(6/26)
حياة له إلا بالجماعة ولا إحساس له إلا مع الجماعة.
ولكي نكون شيئاً معدوداً ذا شخصية مستقلة لا تتجزأ ينبغي أن يكون لساننا صورة قلوبنا وفعلنا مطايقاً لقولنا وأن نكون ذوي زَمَاع إذا هممنا بأمر لم يحلنا عن قصدنا شيء ولم تحسبنا عن لُبانتنا بَدَاة. ومن لي بأن أرى هذا الرجل لا علم أرجل هو أم حضري أم الاثنان معاً وكيف استطاع أن يكونهما أو يؤلف بينهما.
ولقد كان من آثار هذا الاختلاف أن ظهر نوعان من التربية متناقضان كذلك أحدهما عام والثاني خاص فإذا أردت أن تحيط بالتربية العامة خُبراً وتسعها علما فعليك بجمهورية أفلاطون فإنها ليست كما يظن من يأخذ بالعنوان مؤلفاً في السياسة والحكومة ولكنها كتاب فريد في التربية لم يصنف في بابه أجمع منه.
على أني مع ذلك رأيت الناس إذا ذكروها أدخلوها في باب الخرافة ولعمري لو كان ليسرجاس دون نظريته في التربية لكانت ادخل في هذا الباب فقد شوه الإنسان ومسخه فأما أفلاطون فقد طهره وشتان بين هذا وذاك.
أما التربية العامة فلا وجود لها اليوم ولا يمكن أن يكون لها وجود لأنه لا بد كي تتهيأ أسباب ذلك من أمة وإلا فمن تريد أن تربي والأمة لا تتألف حتى يلم شعثها ويضم شتاتها بلد والأمة والبلد لفظان أصبحا لا ينبئان عن معنى ولا يسفران عن مدلول فصار حقاً علينا أن نمحوهما من لغاتنا الحديثة وعندي على ذلك البراهين القيمة والحجج اللائحة ولكن في الصدع بها خروجاً عما نحن فيه.
ولست أعد هذه المعاهد والمدارس إلا أضحوكة من الأضاحيك وسخرة تضحك وتبكي ولا اعتداد عندي بهذا الأسلوب الذي جرى عليه العالم في التربية لأنه يرمي إلى غايتين متناقضتين والتناقض داعية الفشل وباعثة الخيبة وهذا القالب الذي يُضرب عليه في تأديب النشء وتربيتهم إنما يخرج لنا رجالاً ذوي وجهين أدعياء وإذا عمت الدعوى فنحن خليقون أن لا ننخدع بها وكل سعي في هذا السبيل ذاهب أدراج الرياح.
بقيت التربية الخاصة أو الطبيعية ولكن أي غناء للناس في رجل لم يرب إلا لنفسه، ولو استطعنا أن نجمع في رجل واحد بين الغايتين ونوفق بين الغرضين بأن أزلنا مناقضات الحياة البشرية لذللنا بذلك كوؤداً ظاهراً في طريق سعادته وهذا أصلحك الله مطلب يقصر(6/27)
عنه باعنا ويفوت مبلغ ذرعنا ولا بد لنا كي يتمثل مثل هذا الرجل لعالم تصورنا من رؤيته وقد بلغ كماله والإحاطة بأمياله ومراقبته في تقدمه وتعقبه في طريق نموه أي لا بد لنا من معرفة الرجل الطبيعي واستطلاع طلعه وهذا كلام سيحيط القارئ بجملته وتفاصيله بعد الفراغ من قراءة هذا الفصل. وقد آن لنا أن ننظر فيما ينبغي علينا فعله لنظفر بهذا المخلوق النادر فاعلم أن علينا واجبات جمة شتى جلها ينحصر في أن لا نفعل شيئاً وأن لا ندع شيئاً يفعل فإن الملاح إذا ركب ظهر البحر في ريح رخاء وأراد أن ينساب مع التيار انسياب الحُباب فليس به إلى الحذق والمهارة حاجة كبيرة فإذا التطمت الأمواج واصطرعت كتائب الماء فإن السلامة في أن يلقى الملاح خيرزانته والحزامة أن لا يكافح معتلج الأذى فإياك إياك أيها الملاح أن توكل بسفينتك الأرواح وتتركها رهن الأمواج وتلقى أزمتها إلى أيدي التيار فيلتهمك طامح اليم وتطوح سفينتك في مهاوي العباب.
وفي الدائرة الاجتماعية حيث لكل منزلة معلومة ينبغي أن يربى كل امرئ لمنزلته فإذا ترك أحد مكانه الذي أعدّ له فليس بصالح لسواه فالتربية لا عائدة فيها إلا إذا كان السعد ألفاً للأب في وظيفته والزمان مساعفاً والأيام مسالمة فأما فيما عدا ذلك فهي ضارة بالطفل ولو كنا في مصر حيث يتوارث الأبناء وظائف الآباء لهان الخطب ولقلنا قد عرف كل امرئ آخرته ومصيره ولكنا في بلاد أهلها يتغيرون ومراتبهم ثابتة على حالها الأولى ولست أدري إذا أعد الرجل بنيه لمرتبته الاجتماعية أهو ناظر في ذلك إلى صالحه أم صالحهم؟
ولكن الناس متساوون ووظيفتهم المشتركة هي الرجولة فمن حسن إعداده لها فهو خليق أن ينهض بما يحمل وينفذ فيما يندب له وليس يعنيني أن تلميذي أميل سيكون في مستقبل أيامه عاملاً في الجيش أو الكنيسة أو القضاء فإن الطبيعة قد أغفلت عمل أبويه ودعته إلى الاضطلاع بواجبات الحياة البشرية وما كنت لأعلمه من ضروب التجارة إلا كيف يعيش ولست أنكر أنه لا يكون بعد نفض يدي من تأديبه قاضياً بمعنى الكلمة أو جندياً أو قسيساً ولكنه سيكون رجلاً قبل كل شيء وأنه لحقيق بعد ذلك أن لا يتعاظمه أمر ليس يعجز سواه ومن كان كذلك فليس بضائره مرَّ الليالي وانتقال الأحوال.
وأولى العلوم بتوجهنا إلى تحصيلها وانقطاعنا لطلبها هي درس الحياة وتعرفها فإن أحسن الناس تربية هو عندي أردهم لنفسه على محبوبها ومكروهها وأجلدهم على مضّ الحياة(6/28)
ومن هذا ينتج أن التربية الحقة ليست نصائح يصبها المرء في أذن طفله ويسديها إليه من حين لحين ولكنها الدربة وعجم الخطوب وأدب الزمان وسبك الدهور فهي تبتدئ مع ابتداء الحياة كالعود يسقى الماء وأول مؤدب للطفل ظئره. (متلو)(6/29)
الطبيعة ونواميسها
مبحث في فلسفة الطبيعة وما ورائها للفاضل صاحب الإمضاء
الطبيعة هي القوة المتسلطة على جميع الكائنات وفي جملتها الإنسان ومصدر الحقائق الطبيعية هو الطبيعة ومصدر الطبيعة واجب الوجود.
والأشياء الطبيعية هي الموجودة في حال ليس للإنسان يد فيها - كالجو والغيوم وسيارات النظام الشمسي والبحر بصخوره والشواطئ الرملية والدلغانية والجبال والأدغال والنبات والحيوان والسمك والطيور.
أما الأشياء الصناعية فهي الطبيعة أصلاً. وإنما دخلت فيها يد الإنسان فركبتها أو جزأتها أو فرقتها - كالبيوت والأثاث والعربات والآلات فإنها تركبت أو تهيأت بصنع الإنسان.
على أن الأشياء الصناعية تدخل تحت حكم الطبيعة عند إطلاقها. مثال ذلك: كأس ملآنة ماء. فالكأس شيء صناعي أي أشياء طبيعية أصلاً قد استحضرت وسلطت عليها الحرارة حتى ذابت فأصبحت زجاجاً. وهذا الزجاج قد جعله الصناع على هيأة كأس. وأما الماء فهو شيء طبيعي جاء من نهر أو بركة أو نبع أو من الميازيب التي يجري فيها المطر النازل على السطوح. فالكأس والماء داخلان تحت كلمة الطبيعة وأحكامها.
والممكن للإنسان أن يغير هيئة بعض الموجودات وأن ينتفع بشيء من القوات الطبيعية ويتقي شيئاً من أضرارها. وغير مستطاع له أن يخلق شيئاً غير موجود فإن ذلك منوط بخالق الأشياء ومبدع طبائعها والإنسان نفسه هو جزء من الطبيعة أو الأشياء الطبيعية وله قوات طبيعية بها يغير بعض الأشياء التي يعرف قواتها وخصائصها فيجعلها صناعية لفائدة الإنسان. وينتج من ذلك أن مزاولة كل صناعة تستلزم معرفة بعض الأسباب الطبيعية ونتائجها. إذن فإتقان الصنائع وترقيتها يتوقفان على زيادة العلم بخصائص الأشياء وقواتها الطبيعية والوقوف على كيفية تحويلها لمنفعة الإنسان.
على أن الأشياء العظمى في الطبيعة وحلقات الأسباب والنتائج المتعلقة بها تجري على رغم إرادة البشر وقواتهم فلا سلطان لهم عليها - كشروق الشمس وغروبها واستهلال القمر وابتداره وامحاقه واختلاف الفصول وتعاقب الحر والبرد والمد والجزر وهبوب الرياح وثوران العواصف والبراكين وحدوث المطر والصحو والنوء والهدوء والتموج والرهو(6/30)
والتفريخ والنمو والخصب والجدب والرعد والبرق والصواعق والزلازل والأوبئة والبلاء والموت وتكاثر بعض أنواع الحيوان والنبات أو تفرقها أو انقراضها. وكلها قوات طبيعية تلعب بالإنسان لعب الأمل به أو الولد بالأطيار. على أنّا كلما ارتقينا في المعرفة والعلم استطعنا أن نجلب لأنفسنا بعض المنافع وندفع عنها بعض المضار.
وتجري الطبيعة على نواميس ثابتة سنها الباري للحكم على الكائنات فتجري عليها الأشياء الطبيعية قسراً بترتيب واحد ونظام غير متغير فلا يحدث شيء في الطبيعة عرضاً أو مصادفة وإن عجز الإنسان عن تعليله.
أول شيء تعلمه الإنسان عندما عني بدراسة الطبيعة هو أنه فطن إلى بعض الحوادث الطبيعية فرأى أنها تحدث بترتيب ونظام. وأن أسبابها تنتج دائماً نتائج واحدة.
فالشمس تشرق على الدوام من جهة واحدة. وتغرب في الجهة الأخرى وتغيرات القمر تتبع بعضها البعض بسلسلة نظامية في أوقات معينة متشابهة وبعض الكواكب لا يغيب تحت أنق أي مكان نعيش فيه. الفصول تجري على نظام قياسي تقريباً. الماء يجري دائماً في الأودية. النار تحرق على الدوام. النبات ينمو من البذرة ويعطي بذراً كجنسه يطلع منه نبات آخر مثله. الحيوانات تتوالد وتنمو فتصل إلى سن البلوغ فتهرم ثم تموت جيلاً بعد جيل في طريق واحدة.
هكذا وصلت إلى عقل الإنسان بالتدريج فكرة نظام الطبيعة وتجلى له ثبوت العلاقة بين السبب والنتيجة في جميع الأشياء الكونية. وكلما تجلت للإنسان سيادة هذا النظام شعر بوضوح الأشياء فأدركها. ثم حكم على الأشياء التي لا يفهمها بأنها تحدث مصادفة أو اتفاقاً.
على أننا كلما تعمقنا في دراسة الطبيعة وأنعمنا البحث زاد هذا النظام جلاء ووضوحاً لدينا. وما كان يظهر أنه يجري على غير سنن نظامي يثبت لدينا أن أمره لم يكن إلا مغلقاً أو ملتبساً علينا نظراً لقصور الفطرة في الإنسان.
ومن هنا لم يبق في عصر المدينة جاهل يعتقد أن شيئاً من الأشياء يحدث اتفاقاً أو أن هناك مصادفات في الأشياء التي ليس لها سبب ظاهر. وإذا قلنا أن هذا الشيء قد حدث اتفاقاً فهم الكل أننا نعني بذلك أننا لا نعلم علته الحقيقية أو سبب حدوثه. فالمصادفة إذاً أو الاتفاق من أحكام الجهل.(6/31)
فدراسة النواميس الطبيعية واجبة لأن معرفتها ترشدنا إلى العمل وتهدينا إلى حسن التصرف. ومثلنا في ذلك مثل إنسان قصد أن يستوطن بلاداً فوجب عليه العلم بأحوال تلك البلاد وأحكامها وإلا كان جهله بها مجلبة بالطبع لما لا يرضي لنفسه. وهكذا شأن من يحاول أن يعيش بغير لفت إلى نواميس الطبيعة. فإنه يقصر عمره على الأرض. ويقضي حياة غاصة بالاضطراب وتلقى نفسه لجهله ما قدره الجهل من العقاب.
وهذه النواميس تنفذ بالقوة القاهرة التي أودعها الباري الطبيعة فلا تقبل رشوة ولا محاباة ولا تميز الغني على الفقير ولا الأمير على الحقير فكم من ألوف وملايين يعيشون بالشقاء والخبل ويموتون في زهرة العمر مخلفين البلايا لنسلهم من بعدهم بسبب الجهل ودماؤهم على رؤوسهم.
فمن عرض نفسه لعاديات الطبيعة من الحر والبرد والجوع بما يوسوس له الجهل مختاراً في ذلك غير مضطر ولا ملتمس منه نفعاً قريباً معلوما - ومن عدا على البدن بما يؤلمه من ضرب وجلد وتمزيق وإهمال بما يزينه الوهم راضياً في ذلك غير مكره ولا مفيد منه شيئاً - ومن شوه الجسم أو اسقط منه عضواً لازماً مفيداً كائناً ما كان ذلك العضو بما يموه له الطمع أو الخيال الفاسد عامداً في ذلك غير مجبر ولا مفتد سائر البدن بذلك الجزء كمن يقطع اليد الفاسد وقاية لبقية الجسم. ومن اجترأ على حريته الذاتية بالمحو أو الإنقاص والإضعاف بما يبعث عليه الكسل أو القسوة أو دناءة النفس راغباً في ذلك غير مقسور عليه - كل هؤلاء مخالفون لأحكام الطبيعة مناقضون للحكمة الإلهية الأزلية التي هي عين الجمال ومظهر الكمال ومصدر الوجود وعلة البقاء.
التعليل العلمي
إن المبدأ المتخذ أساساً لكل علم من العلوم هو: أن العلل المتشابهة معلولاتها متشابهة. وهذه الحقيقة مبنية على اختبار نام.
أما علة الشيء فهي سببه المسبب عن شيء آخر وهذا عن آخر قبله وهلم جراً حتى ينتهي إلى علة العلل. وكلما تقهقرنا في سلسلة الأسباب والنتائج زدنا التعليل كمالاً. فكل تعليل ناقص لأن معرفتنا بالأسباب قاصرة: ولكنا إنما نبحث عن الحد الذي نكتفي به. أو يمكننا الوصول إليه.(6/32)
وليست العلة والناموس واحداً وإنما يطلق عليها تسامحاً. والفرق بينهما كالفرق بين الشريعة وعدم الامتثال لها.
والفرق بين الناموس الطبيعي والناموس البشري هو أن الأول ترتيب طبيعي لا يخل البتة. ولا يعد ناموساً طبيعياً إلا ما قام عليه البرهان. أيده العقل. وأثبته الامتحان. وأما الثاني فهو عبارة عن أوامر ونواه مفروضة على أصحاب مشيئة واختيار. إن شاؤا أطاعوا وإن شاؤا عصوا. فمن أطاع لم تؤيدها طاعته ومن عصى لم تبطلها مخالفته.
ثم أن الأول يشمل جميع الأشياء الطبيعية وفي جملتها الإنسان وما يتعلق به. وأما الثاني فمقصور على الناس وأعمالهم.
وتعرف النواميس الطبيعية بواسطة ثلاثة أمور: وهي الملاحظة والامتحان والتعقل - من باب علمي.
أما الملاحظة العلمية فهي الرصد الدقيق. أو المراقبة الكاملة النافية للزعم والوهم والاستنتاج الباطل.
وأما الامتحان العلمي فهو التجربة الدقيقة التي تجري على شروط مفروضة محققة.
وأما التعقل العلمي فهو إدراك الحقائق بطريقتي الاستقراء والاستنتاج وإثباتها بهاتين الطريقتين يقال له التعليل العلمي.
أما الاستقراء فهو تقصي الجزئيات للاستدلال منها على الكليات فتوضع قواعد عامة مبنية على ملاحظات أفراد متعددة في أماكن شتى وظروف مختلفة.
مثال ذلك: إذا لاحظنا أن حجر المغناطيس يجذب قطعة من الحديد متى أدنيت منه وامتحنا ذلك في كثير من قطع الحديد وضعنا هذه القاعدة: أن المغنطيس يجذب الحديد.
وأما الاستنتاج فهو الاستدلال من الكليات على الجزئيات: مثال ذلك: إذا قربنا قطعة حديد من حجر فجذبها حكمنا بالاستنتاج أنه حجر مغنطيس.
الرأي والحقيقة
الرأي الفرضي أو الوضعي - ويقال له التقديري أو المحتمل - هو ما يقدر في الأذهان من الظنون لما ينتهي إليه الأمر الطبيعي، إذا استطعنا أن نتبعه إلى نهايته، أو إلى درجة نحو تلك النهاية.(6/33)
وقيمة الرأي الوضعي تتوقف على كفايته للتعليل عن كل ظاهر الأمر الطبيعي تحت الفحص. فإن قام رأي يعلل ذلك عول عليه إلى أن يظهر فساده أو يقوم رأي أكمل منه، أو مثبت بالبرهان القاطع، فيؤخذ به ويهمل الأول فالتمسك برأي محتمل يعين على التعليل أفضل من عدمه، لأنه يدل على طريق الحقيقة بقدر الإمكان وقد يكون مديناً لظهورها.
مثال ذلك: أنه منذ 17 سنة كان الماء معدوداً عنصراً بسيطاً، كما أن الزئبق معدود اليوم بسيطاً. أما اليوم فقد عرف أن الماء مركب من عنصرين، وهما الأكسجين والهيدروجين، وأن هذين الغازين قد اتحدا بدرجة عظيمة من الضغط والبرودة حتى صار مزيجهما مائعاً. وكل من هذين العنصرين مركب من جواهر كجوهر الزئبق لا تتجزأ إلى أبسط منها.
ولا يبعد في المستقبل أن يحل الزئبق ممتحن بحاثة فيظهر فساد هذا الرأي الوضعي ويحل الزئبق إلى عناصر أبسط. وهذا هو الفرق بين الرأي والحقيقة. وعليه فالحقيقة ضالة العاقل ينشدها أنى كانت.
الطبيعة والخالق
يميل العقل البشري إلى الوقوف على بعض الآراء في أصل العالمين. وهذا ظاهر من أن لكل أمة على وجه الأرض رأياً في أصل هذا العالم وعلة كونه وأسلوب تكوينه.
فلقدماء الفرس والهنود والمصريين والصينيين في آراء شتى يرمون بها إلى اكتشاف ذلك السر العظيم وأكثرها على غاية الغرابة.
أما اليونان فقال فريق منهم أن ليس في الوجود سوى الجواهر الفردة والفضاء الفارغ. ولكن عجز ديموقراطيس ولكريشوس عن إثبات صحة ذلك بالحجة القاطعة والبرهان الدامغ. ونشأت أفكار كثيرة عن البيضة الأولى. ولكننا نتعجب ممن لا يسلم بأن تلك البيضة صنع خالق قدير حكيم أزلي سرمدي.
حكي أن أمير أهدى إلى خطيبته بيضة كبيرة من الحديد فنظرت إليها بازدراء ودفعتها على الأرض فانفتحت عن آح من الفضة ومح من الذهب وفي المح تاج ذهب وخاتم ماس. وما هذه بالنسبة إلى تلك البيضة العظيمة التي بعض ما فيها نجوم السماء التي لا تحصى وكل أحياء الكون وجواهره!!
وهنا نستميح القارئ في بسط حديث مختصر بين مناظرين أحدهما مؤمن والآخر لا أدري(6/34)
- كمثال لما يقع من الجدل في هذه المسألة العظيمة.
م - أتنكر أن لا نهر الأوله ينبوع؟
ل - وأي صبيان المكاتب لا يعرف ذلك؟ نعم إن من الأنهر مالا يمكن الجزم بتعيين ينبوعه كنهر النيل. ولكن الجغرافيين قرروا أخيراً أنه في جبال القمر وأصله آخرون إلى ما وراء ذلك.
م - إذاً أنت تعرف أن لا مسبب بلا سبب ولا أثر بلا مؤثر. أليس كذلك؟
ل - ذلك من أولي البديهيات إذ لا بد لكل معلول من علة. وإن كان التوصل إلى العلة من أصعب المطالب.
م - أصبت فقد كنت أظنك تقول كداود هيوم أنه لا ارتباط بين المعلول والعلة وليس بينهما سوى التوالي كما بين النهار والليل.
ل - إن هيوماً مخطئ في ذلك. فإن الليل والنهار متواليان لعلة ليست أحدهما. فليس بينهما ارتباط العلة بالمعلول كما بين انطلاق المدفع وهزيمه.
م - أظنك لا تقول بأن المعلول والعلة واحدة. فانطلاق المدفع وهزيمه أمران مختلفان في الذات. أما هما كذلك؟
ل - بلى.
م - فانتبه يا صاحبي فأني أراعي هذا المبدأ في شأن تلك البيضة العجيبة.
ل - لا أرى مكاناً لمراعاته في شأنها.
م - أنعم النظر ترَهُ. فأين ينبوع تلك البيضة، أو ما مصدرها، أو علتها وعلة كل ما فيها من الخصائص فأنت تقول أن ينبوع كل ذلك أو علته هو الطبيعة أم كل شيء. فأسألك أن تعلمني ما الطبيعة، ومن أين أتت. وكيف أتت. ومتى أتت؟ وقبل كل ذلك قل لي ما هي؟
ل - إن تحديد الطبيعة من أعسر الأمور. ولكني أقول مع برنيت أخرج إلى ما تحت السماء وأصغ إلى تعليم الطبيعة أو مع بوب ما معناه:
شيم الطبيعة لا تنفك عاملة ... والجوهر الفرد يبغى مثله أبدا
هذا إلى ذاك مجذوب وذاك إلى ... هذا كذلك كان الكون واتحدا
م - لا اعتراض لي على بلاغة هذا الشاعر المجيد لكن ما أوردته يا صاح من قوله ليس(6/35)
فيه ما يبين حقيقة الطبيعة فأنت تذهب إلى أن الطبيعة قد باضت تلك البيضة وأنقفتها، فنشأ عنها كل ما في العالمين على اختلاف حقائقه وصوره. وأنا لا استطيع التسليم بذلك ما لم أعرف الطبيعة وماهيتها، أتظن أنها ملك؟
ل - لا بمعنى ملك عندك.
م - أروح هي؟
ل - لا أقول أنها روح.
م - أغول هي إذاً أم عنقاء؟
ل - أرجو اعتزال المزح في مثل هذه المسألة الهامة.
م - ولكنني أريد أن تعلمني سبيل الحقيقة لأنهج منهج الحد. فأني لم أقرأ في كتب اللادريين مقالاً في شيء مجهول العلة إلا وفيه أن علته الطبيعة وأن الطبيعة أم كل شيء فأولاد الطبيعة فيها لا تحصى كالرمال التي على شواطئ البحار ومع هذا فقد عجزوا عن الإتيان بتعريف لها.
ل - أرى الطبيعة تكبر عن أن تحد وأنها تشتمل على السماوات والأرض والنواميس.
م - أفلا ترى الطبيعة موجوداً غير منظور وعاملاً مستقلاً عن الجواهر الفردة؟
ل - نعم فإن الفيلسوف ستورث مل قال: ليست الطبيعة كل محدث بل ما يحدث من غير اختيار الإنسان وقوته العاقلة. أفليس ذلك قريباً من حد الطبيعة؟
م - هذا يقتضي أن السماء والأرض والأزهار والرياض وسمك البحار من الطبيعة.
ل - لا ريب في ذلك.
م - ولكن على قولك أن كل الأشياء حتى البيضة الأولى قد أخذت قواها من الطبيعة. فما الفرق بين الطبيعة والبيضة الهيدروجينية أخبرني بذلك وحسبي.
ل - يصعب أن نفرق بين الأمرين وليس في وسعي أن أرسم خطاً فاصلاً بينهما.
م - إنك لا تستطيع أن تفرق بينهما فهما واحد. فليس لك أن تجعل أحدهما على للآخر.
ل - نعم. لكنني سأفكر في الأمر قليلاً لعلي أهتدي إلى حل هذا الإشكال.
م - لك أن تفرض ما شئت في العالمين. مصدراً لتلك البيضة أما أنا فأقول: لا بد من إله خلقها واعتنى بها وانشأ منها سائر المخلوقات المشاركة لها في المادة. والنشؤ نفسه دليل(6/36)
قاطع عل إثبات الإله الأزلي القدير الحكيم.
ل - ولكنني لا أسلم بإلهك ولا بخالقيته ولا بعنايته.
م - بل لزمك أن تسلم بإلهي أو بمن يكون مثله إذا أطرحت الغرض ولم تتعلم عن الحق الواضح. لأن البيضة التي تؤمن اعتباطاً بوجودها تستدعي موجداً عاقلاً. فإن الساعة التي ترى آلاتها تدور أمامك تنطق بأفصح بيان بأن يداً عاقلة صنعتها. وإن قلت أن البيضة واجبة الوجود جعلتها إلهاً فألّهت العالمين. وإلا فلابد من مبدع ومعتن فدعك من التكلف يا صاح ولا تستح من الحق أن ترجع إليه.
ل - لقد ضيقت عليّ كثيراً. فأعترف لك أنك أعظم مما كنت أظن وأرجح رأياً مما كنت أخال.(6/37)
النقد والمناظرة
روح اللغة وروح الدين
حديث لفيلسوف الشرق وإمامه المرحوم الشيخ محمد عبده
نشأت في هذه الأيام ناشئة من الفتنة اللغوية أرهج في صحفها بالسواد، وأثار فيها نقع المداد، عصبة خفاف الأحلام، ضعاف الأقلام، لا يرون عهدة الخلق في أنفسهم أسراً، ولا رقة الدين في قلوبهم كسراً، وكأنهم منذ درجوا من بيوتهم صغاراً ما عرفوا من اللغة إلا ما تظهره السابلة أو تبطنه الحوانيت بل كأنهم منذ خرجوا من مدارسنا التي تفتح أبوابها كأفواه الخرس - على سعة بدون فائدة - ما عرفوا غير كراسة الإنشاء ولا راضوا من جماح القول غير تلك المجلدات البليدة التي تطير على وجهها في يد الصبي كلما ساطها بلسانه وهو قد يتعتع في أقصر سورة من القرآن، وأصغر عبارة من البيان.
فأولئك لا يطلعون علينا إلا كالجيش يظهر بعد الهزيمة فُلُّهُ، ويذهب كُثره بالمجد ثم يرجع بالخيبة قُلُّه، وقد زعموا أنهم أُرسلوا إلينا بدعوة جديدة في الإصلاح اللغوي فإذا سألتهم ما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنّا أرسلنا إلى قوم مجرمين يحتفظون بلغة يزعمونها لهم وهي لغة العرب ويحرصون على تاريخ هو تاريخ العرب. ويتأدبون بآداب قديمة هي آداب العرب. وآية لهم أنا نريد أن نجعلهم نبطاً مستعربين أو عربا مستنبطين أو مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؟
فسبحانك اللهم لشد ما خذلتهم فتحجروا مما أبحت واسعاً، وشبهوا على الناس أمراً ساطعاً، وما نأمن أن نحن وسعناهم بالحلم، وأغضينا عنهم أعضاء أهل العلم، أن يعودوا فيقولوا وأن لكم ديناً أنتم بعروته مستمسكون، وبحبوته معتصمون، وهو كذلك ليس دسنكم ولا دين آبائكم الأولين وإنما هو دين العرب. . . . ثم أن لكم كتاباً (القرآن) نقرؤه ولا نفهمه لأنه لم ينزل باللغة المصرية بل نزل باللغة المضرية التي هي لغة العرب. ثم لا يكون من هذا الورم إلا أن ينفجر صديداً، وينقلب داثراً جديداً، ويصبح أمراً شديداً، وما أحد عندنا أولى بغصة النصيحة وأن شرق بها وتوجر الملام المرّ وإن اختنق به من هذا المريض بذات قلبه الذي لا يهزأ به فيما نري إلا من توهمه صحيحاً، ولا يسخر منه إلا من ظنه صريحاً، ولقد يكون وأنت ترى الثوب البالي أحسن وجهاً من عافيته، وأمتن أسباباً في الصحة من(6/38)
بيته وقافيته على أن ركن اللغة الفصحى قد تعاورته قبل هذه الآونة معاول كثيرة أقربها عهداً بنا قلم القاضي ولمور الانجليزي ذلك الرجل الذي ما أحسبه اقتلع قلمه المسموم إلا من بين أنياب الشيطان فقد أراد أن يمسخنا مسخا، وينسخ شريعتنا نسخا، ويدع شيوخنا في المكانة اللغوية (كمشايخ الحارات) وفتياننا في الرطانة البربرية كخدم (البارات)، ولكم رأينا بعد ذلك من مثله ولموراً مصرياً لم يجن عليه إلا نقص تعليمه وضعف تقويمه، فأمسى حرباً على الحق ولكنه أصبح وحده المخذول فيها كما قال أستاذنا الإمام رحمه الله.
فقد يممت ذات يوم تلك الدار دار الحكمة فأصبت الإمام في ظل شجراته وهو ينظر في بعض أوراق من كتاب المخصص الذي لولا همته، ما ظفرت به أمته، وكان يمر على كثير منه بعد أن يعاني ضبط روايته ذلك الحافظ الكبير المرحوم الشيخ محمد محمود الشنقيطي. فأخذت مجلسي وأنا من إجلالي للإمام كأنما أضع قلبي في كل حرف يقرؤه فما أن استتم الباب حتى التفت إلي مبتسماً وقال أيعجبك المخصص.
قلت يا مولاي إنك قلبت البديع فجعلت براعة الاستهلال تجاهل العارف وإلا فإن الذي نشأ على أن تعجبه ألاجرومية كيف لا يعجبه المخصص.
فضحك إلي وكان رحمه الله يعرف مبلغ حرصي على تقييد ألفاظه والتقاط حكمته والضن بآثاره ويلمح أني إنما أدخر من لدنه علماً فكان يطيل أحياناً في بيانه، وينير كل مشتبه ببرهانه ويسلس لكل معنى من عناته. فقلت له فيما قلت: ولكن يا مولاي هل تظن نشأنا الحديث يقبل على المخصص وهو ما هو في بسط العبارة واتساعها واستفاضة الأطراف إلى ما يفوت أجل المستفيد، وأمل المستزيد، فضلاً عما فيه من تحقيق ليسوا لمثله وتدقيق ليس لمثلهم؟ فقال:
لا أظن ذلك في النابتة الحديثة ولا في الجذوع القديمة. . . . (الشيوخ) وإنما علينا أن نعمل في إصلاح أمر دنيانا ليوم سيأتي كما نعمل في إصلاح أمر آخرتنا ليوم سوف يجيء. وإذا كنا ننصرف عن العلم لندرة أهله والمقبلين عليه فلا بد من يوم يكون فيه هذا النادر معدوماً لأن سنة النقص عند أسبابها كسنة الزيادة عند أسبابها والوجود لا يدرك مقدار ما نقص منه ولا ما زاد فيه فلا يعبأ بالموجودين وأحوالهم وإنما يدرك من له قوة الإدراك.
نحن نظهر المخصص ونصبر على مضض ما نعانيه في ذلك لخلال ثلاث فأما واحدة فلئلا(6/39)
نفقده كما فقدنا غيره من قبل وأما الثانية فليجده معنا من يكون من أهله حتى ينتفع به. وأما الأخرى فلتنشأ بعدنا به الأمة الجديدة. وهي آمال ليس لنا من ثلاثتها إلا الأول فعلينا أن نوجد العمل وعلى الزمن أن يحد مقدار الحاجة إليه.
قلت يا مولاي نعم ولكن قد كان المخصص مفقوداً أو في حكم المفقود فما أحسسنا أننا فقدنا شيئاً رزئنا به أمراً جسيما. وكانت هذه الكلمة سقطة انطويت فيها تحت لساني فطارت لحظات الإمام كأنها لهب البرق ثم أغضي وقال:
ذلك لأننا لا حس لنا وإنما نحن منوَّمون تنويماً خرافياً فلا نشتغل إلا بعقول الماضين التي استهوت عقولنا ببقايا آثارها في الكتب فإذا قيل لنا أن فلاناً قد نص على كيت وكيت جعلنا ذلك نصاً إلهياً على فقد إرادتنا وحجة على وجوب استسلامنا. فهم قد عاشوا لأنفسهم ولنا أما نحن فكأننا نعيش لهم ونموت لأنفسنا فقط. وبذلك فقدنا الشعور بالجنسية المستقلة وإن لم نفق الجنسية نفسها.
أرأيت علماءنا يعرفون من تاريخ العلم كله غير أسماء معدودة ورثوها كما تورث العادة؟ فنحن نريد أن نخرجهم من هذا الجمود ليعلموا أن الأسماء كثيرة وأن بعضها كبعضها إذا صار الأمر للتاريخ وقد أصبحت كلها لدينا سواء نقدر منها بعقولنا لا بعقول غيرنا فإذا أخذنا أخذنا عن بينة وإذا تركنا تركنا عن بينة. وهذا لا يكون إلا إذا أحسسنا أننا في الوجود الحقيقي لا في الوجود التاريخي ولسنا نحس إلا إذا اعتدنا إدراك الفرق بين الوجودين ولن نعتاده إلا إذا جددنا ذلك التاريخ العتيق المتعلق ببعض الكتب التي ألفناها وعكفنا عليها هيهات بتجدد ذلك إلا إذا أكثرنا من إحياء آثار السلف كالمخصص وغير المخصص.
فقلت ولكن المصيبة في النابتة شر من المصيبة في الجذوع لأن هذه لا تنخر إلا في زمن طويل أما مصيبة النابتة فهي القصف السريع وقد نراهم لا يكتفون بهجر لغتنا وآدابها والانسلاخ منها بل ينقلبون حرباً عليها وعلى أهلها.
فقال رحمه الله: ذلك زيغ من الشبان يمكن تقويمه إذا استمرت حركة الإصلاح الديني في مجراها لأن التيار يعين على الإسراع في اكتساح مالا يَسبَح وما نشأ كره اللغة العربية في أمثال هذه المفتونة قلوبهم إلا من إهمال الدين فلو عرفوا أن دينهم يقوم بالكتاب والسنة(6/40)
وأنهما عربيان وأن عربيتيهما نمط عال لسموا إلى هذا النمط ولكان من اندفاع رغباتهم إليه بالدرس والبحث والتنقيب على آثار العلماء حياة الجنسية في قلوبهم المريضة فإن نهضة الشرق لا تكون إلا بالجنسية الإسلامية الصحيحة التي أساسها الدين والكتاب. ولكنهم فقدوا روح الدين ففقدوا معه روح اللغة وأصبح ظاهرهم فيه الرحمة وباطنهم من قبله العذاب فهم منسوبون إلينا نسبة الوجوه المطمئنة وخارجون علينا خروج القلوب الكاذبة. ولو سئلت رأيي في المدارس التي يخرج منها أمثال هؤلاء لأشرت بأن تجعل مستشفيات لغوية.
وأعلم أنه لولا شيوخنا يتعبدون بألفاظ القرآن تعبداً ينسيهم ذوق أسلوبها وحلاوة تركيبها لأحيتهم روحه اللغوية حياة أخرى ولكنهم لم ينظروا إلى أن اللغة كانت هي الأصل في هذا الكتاب الكريم حين أنزل إلى قوم ليس لهم من الدين الفطري السليم إلا دين اللسان وحده فنسوا ما قبل النتيجة ولذلك لم يحسنوا الانتفاع بها وسقطت عندهم إلى رتبة المقدمات التي لا تفيد بذاتها إلا قليلاً.
غير أننا لا نيأس من روح الله ما دامت فينا طائفة تعمل عملاً صالحاً وأن كثر العائبون والمعارضون فقد يمسي حرباً على الحق ولكنه كثيراً ما يصبح المخذول فيها.
قلنا وهذه قارعة نقرع بها أولئك الذين يريدون أن تكون لنا لغة مصرية مصبوغة باللون الأُمي فإن ذلك لا يكون إلا يوم يصبح لنا دين مصري. . .! ولو نظر هؤلاء إلى أبعد من أطراف أنوفهم ولو قليلاً لرأوا أنه ليست لنا سياسة مصرية أيضاً وما تربية الأمة السياسية بأعضل من تربيتها اللغوية ولا سيما في مصر فلو توخينا هذه الأخيرة وسعينا لها سعيها على الطريقة التي تربي بها الأمم - طريقة الروية والحزم والصبر الطويل الذي يعدل عمر جيل أو أجيال - لكان جزاؤنا منها موفوراً ولم يكن بيننا وبين ما نسعى إليه إلا جيل يسقط وتسقط معه تلك الفئة التي تستجهل أهل الفصاحة حتى يقوم الجيل الذي يشمئز من اللكنة وينتفي من عارها.
فقبل أن يطلب اللون الأمي في لغة من اللغات ينبغي أن يسأل عن مقدار التربية الأمية في أبناء تلك اللغة فقد يكون هذا اللون بما ينطوي تحته من العلل كصفرة السل أو بياض البرص أو حمرة الرمد أو سواد الوجه عند الله. . . .
وتربية الألكن لا تكون بالإشادة إلا زادته الإشارة لكنة كما أن تربية الأبكم لا تكون بالكلام(6/41)
إلا زاده الكلام بكماً وإنما دواء العلة ما يقدره الطبيب دون ما يرضاه العليل فقد يكون ألم العلة في وهمه أخف من ألم العلاج وفي هذا تبصرة وذكرى.(6/42)
رباعيات الخيام
بقلم الأستاذ محمد لطفي جمعة
منذ ست سنين في صيف 1906 كنا جماعة من أقطار الأرض لا تربطنا سوى عروة الإنسانية وحب الجمال على ضفاف بحيرة ليمان بمدينة ذات مناظر حسناء وطرق منحدرة لا أصرح باسمها لأنه صار لديَّ من المضنون به على غير عشاقها فإن فطنت إليها فمكافأتك في معرفتك. وكنا جميعاً في ربيع الحياة نعشق الحسن في الطبيعة وفي القول. نجتمع في ضوء القمر بليال ما كان أقصرها وددنا لو تكون أبدية وكنا ننشد أغاني شاعر قديم كان لها في نفوسنا فعل السحر فكان بعضنا يحفظها عن ظهر قلب والبعض يقول عنها أنها إنجيله المنزل. وهذه الأناشيد هي رباعيات الخيام. المدفون في قبر تنمو حوله شجيرات الورد ويهب عليه النسيم من كل جانب.
شعر الخيام الشاعر الفلكي الصوفي المؤمن الجاحد المتصبب العاشق الزاهد الحائر هو زهرة من رياض آداب الفرس بل درة من بحرها الزاخر وعجيب بنا أن يقل لدينا العارفون بها وبه وقد ألم أهل الغرب بكل دقيق وجليل من شؤونها ونقلوها إلى ألسنتهم ولها من اهتمامهم وإعجابهم نصيب وافر.
فكان في آدابنا الحديثة فراغ حاول فريق من الأدباء أن يملؤوه فكتب الأديب عيسى اسكندر معلوف فصلاً في الهلال الأغر عن الخيام ثم دوَّن الألمعي أحمد حافظ عوض فصلاً في مجلة الموسوعات ثم أقبل الكاتب العبقري عباس محمود العقاد ففسر بعض رباعيات عمر الخيام في جريدة الدستور ولكن شاءت الأقدار أن يكون تمام التفسير على يد فرع الدائحة البستانية وهو الألمعي الضليع وديع البستاني.
لا يزال شعر الخيام لغزاً على منشديه وقرائه وقد كانت الحياة كلها لغزاً في نظر عمر. كانت الحياة في نظره لغزاً لا يحل ومن حاول حله ضلوا. ولكن قليلين يفطنون إلى معانيه ومقاصده وهم الذين تألموا مثله وحارت ألبابهم في فهم معجزة الكون وفي قلوبهم نار تتأجج ولا تخمد وبنفوسهم ظمأ لا يطفأ صحونا ففطنا فدهشنا فبحثنا فلم نهتد وعدنا بصفقة المغبون وحسرة النادم وحاولنا إخفاء الحزن بقرع الكؤوس ومغازلة ذات حسن كاعب - هذه فلسفة الخيام التي صاغها في أجمل قالب رباعيات تتملك من أركان القلب الأربعة وأن(6/43)
من يستوعب لسان الفرس العذب ليعروه الطرب كلما أنشد: -
مائيم ومي ومصطبة وتون خراب ... فارغ زميد رحمت وبيم عذاب
جان ودل وجام وجامه بردرد شراب ... آزاد زاخاك وباد اوز آتش وآب
انظر كيف جمع أدوات الصفاء والأنس في سطر فيرتسم في مخيلتك لدى قراءة الربع الأول منظر المجلس والكؤوس والكانون. ثم إذا عرض لك الاعتراض عليه لشربه خرجت من أعماق قلبه صرخة خيامية:
فارغ زميد رحمت وبيم عذاب
أيها اللائم أليك عني فما أنا بخاش تعذيباً ولا براج رحمة أي بعد أن شقيت بنفسي وذبت حسرة بعد الدرس والبحث أصبحت لا أدري نفعاً في الرحمة ولا ضراً في العذاب. وإن للفتى في الحياة الساعة التي هو بها أن هو حظي بها وسعد فاز ون لم يحظ فقد جني على نفسه.
بيد أن هذا ليس قول المدمن ولا الجاهل الراغب عن رحمة الله الساخر من عذابه إنما هو يأس العقل القوي والروح الحائر. بل هذه وسيلة من وسائل إظهار الحزن والأسى.
أما عن صوفية الخيام فلست من القائلين بها. لأن الخيام لم يكن بطبيعته الفكرية ولا بحالته النفسية من فئة المتصوفة الضيقي الفكر اللائذين بأمور معينة يعتقدونها كل شيء إنما كان الخيام حياً شاعراً بحياته ومفكراً قوياً قادراً قوته قدرها والذين نسبوه إلى التصوف أرادوا تبرير قوله في الخمر والحب كما فعلوا في تفسير شعر حافظ الشيرازي البادئ ديوانه بالمطلع الآتي:
ألا يا أيها الساقي ... أدر كأساً وناولها
متى ما تق من تهوى ... دع الدنيا وأهملها
والذي دعا كثيرين ممن اشتغلوا بدرس آداب الفرس إلى انتحال الأعذار الصوفية للخيام والشيرازي ظنهم أن النفس البشرية اليوم هي غيرها بالأمس وأن أبناء القرون الخالية ما كانوا يلتمسون ملجأ من هموم الحياة في الحب والسكر وكل ما جاء عنهم في هذا الباب إنما هو مجاز وكناية على أن عشاق سقراط وابن سيناء لم يلتمسوا لأحدهما عذراً ولم يفسروا قولهما تفسيراً صوفياً لأنه لم يكن في حياتهما مبرر لمثل هذا التفسير ولأن أصحاب العقول(6/44)
الكبرى غير مسؤولين حيال غيرهم من البشر عن حياتهم ما دامت تفيض على العالم نوراً.
أما التفسير العربي الذي قدمه الأديب وديع البستاني لقراء العربية فأقول أنه في مجموعه جيد ولكن فيه مآخذ شتى لا تقلل من قدره سيما وأن الشاعر الشاب أول من بدأ هذا العمل الجليل وأتمه ولولا ثقتي من أن وديعاً يعلم أن نقد الشيء جزءٌ من تقديره ما قلت له الكلمات الآتية:
أولاً - إن الشاعر خرج برباعيات الخيام عن طبيعتها إذ عربها سباعيات أي نقل كل أربعة أسطر انكليزية إلى سباعية ذات سبعة أسطر والرباعية ضرب من الشعر الفارسي والسباعية ضرب من العربي وقد احتفظ المفسرون الأجانب بضروب الخيام ونقلوا شعره رباعيات وفي طليعتهم فتزجيرلد الأيرلندي الذي نقل عنه الأديب البستاني وقد أدى نقل أربعة أسطر في سبعة إلى الإسهاب الغير المقبول كقوله في السباعية الثانية عشر:
فعتيد نزولنا في القبور ... في القبور النزول دان عتيد
كذلك اضطر المفسر العربي في بعض سباعياته إلى تأليف لا يأتلف ومع روح الرباعيات الخفيف العذب كقوله:
والمليك الصيَّاد صيدَ وأردى ... ومن العرش حطّ حطّا للحد
وجمع طاعة لأمر القوافي في إحدى سباعياته بعض الألفاظ الجافية الغير الشعرية كقوله:
ولكم قام في الورى من كليم ... وكليم وفيلسوف عظيم
* وأتونا بكل قول عقيم *
فالحكيم والفيلسوف واحد. وانصراف الذهن إلى القصد من الكليم بمعنى الناصح الواعظ المرشد الهادي صعب لأول وهلة وقوله بكل قول عقيم قول لا يوافق شعر الخيام. ثم تلاه قوله:
وهم اليوم في الثري ساكنونا ... لا خطاب يلقونه صامتونا
ثم هناك بعض التصرف في النقل لعل الفاضل البستاني اضطر إليه لكن فيزجيرلد قد سبقه في هذا الميدان وهاك مثالاً في السباعية الثانية والعشرين:
زحل كان موطئي إذ رحلت ... بخيالي وفي السماك حللت
وصعابا من المشكلات حللت ... واجتليت الغوامض المبهمات(6/45)
غير أن الآجال والموت فيها ... ولقيت الحقائق السافرات
ذاك سر لم أنض عنه نقابا
وها نحن أولاء ننقل هذه الرباعية الفارسية وتفسيرها الحرفي ليتبين الفرق بين الأصل والنقل:
اد قعر كل سيارة تالوج زحل ... كردم همه مشكلات كيتي راحل
بيرون جشتم زبندهر مكروحيل ... هريد كشوده شدومكر بندأجل
وهاك التفسير العربي:
بلغت في البحث مقر الحمأ المسنون من بطن الأرض وملتقي السماكين في العلا. وحللت عقدة مشكلات الدهر وقفزت في دائرة ذات حبالة خيوطها صنوف المكر والحيل. وبعد هذا كله تراني عاجزاً عن حل أول قيد ألا وهو قيد الأجل. على أن حسنات التفسير العربي أكثر من أن تحصى والثناء على همة الأديب البستاني وفضله واجب على سائر قراء العربية ومن سباعياته المرقصة قوله:
ومقامي غصن مُظِلٌّ بقفر ... ورغيفان مع زجاجة خمر
كل زادي والأهل ديوان شعر ... وحبيب يهواه قلبي المعني
وشجى يذيبني يتغنى ... هكذا أسكن القفار نعيما
* وأرى هذه القصور خرابا *
على أن الخيام نظم رباعياته كهلا وهي تقابل ليالي الفريد دي موسيه في الفرنسية. أما الخيام فقد نظم بعد أن عاش وتألم وبحث ودرس وحار وضل وعشق وأبغض وسكر وصحا ورجا ويئس. بعد أن صنعت الحياة الإنسانية به ما تصنع النار بالذهب. وصديقنا الأديب وديع لا يزال في عنفوان الصبى قلبه مملوء بأحلام الشباب ولم يستوعب ما استوعبه الخيام من مهيئات الحزن الأعظم الذي يغير النفوس. فرجائي إليه أن يعيد التفسير وهو في الخمسين من عمره فسوف يرى الرباعيات بغير العين التي يراها بها اليوم ويصوغها في قالب ترضاه نفسه الناضجة الخالدة.(6/46)
أساليب الكتابة
إلى محمد حسين هيكل
للفاضل إبراهيم عبد القادر المازني
نعيت على كتاب البيان اختلاف أساليبهم وفخامة تراكيبهم وعدولهم كما زعمت عن مذاهبه السهولة إلى جفوة الأعراب وخشونة البادية وقلت أن اللفظ السهل يخف محمله على السمع ويسهل جريه على اللسان ووروده على الطبع وأنه ما ملكت القلوب ولا استرقت الإفهام واختلبت الألباب بمثل اللفظ الواضح المشرق الذي يجلي عن نفسه ويشف ظاهره عن باطنه ويمهد له وطاء الطبع قبل أن تمتلئ منه العين وهو كلام ليس فيه مساغ للطعن أو مجاز للشبهة وقد كنت ألومهم معك وأعذرك منهم لو كانوا أثاروا كما زعمت مدفون الألفاظ واستخرجوا مهجور الكلام ولم تذهب أنت إلى ما هو أبعد من ذلك حيث جعلت النزول إلى درجة البسطاء والانحطاط إلى مرتبة العوام فرضاً على الكاتب واجب الأداء وقد نسيت صانك الله أن لكل مقام مقالاً ولكل طبقة كتاباً ولكل صحيفة قراء فإن كان ظني صادقاً وكان قد غاب ذلك عنك فأعلم وأنت المجرب العارف والعوان لا تُعلّم الخمرة أن ما تدعوننا إليه لا يقدمنا خطوة وإن كان يؤخرنا عشراً لأن في الناس العالم والجاهل والكاتب لا يستطيع أن يولج المعنى أفهامهم على السواء مهما تبذل في أساليبه وتسفل في تراكيبه والرجل لا يكتب ليقرأ كل الناس ولقد رأيت لك كلمة في البيان في الجمال والحب وأثرهما في الحياة فهل حسبت أن كل قراء البيان قد قرأوها أو أن كل الذين طالعوها فهموها على قرب منالها وسهولة أسلوبها وإذ كنت خبيراً بأسرار الجمال وكنت عارفاً بموارد الكلام ومصادره خبيراً بمحاسنه ومساوئه فهلا ذكرت أن اللفظ المهذب والديباجة الأنيقة موقعاً في القلب ومخالطة للنفس وهل كان عمر بن أبي ربيعة يبلغ من معشوقاته مثل ما بلغ لو كان قال لهن أحبكن وسكت وبماذا فتن الناس بشار وهو أعمى مشوه الوجه؟ أليس بحلاوة لفظه ورشاقة معناه وهل ترى للجاحظ إلا لفظاً منضداً وسياقاً مطرداً وحبكاً جيداً وكلاماً منسجماً وهو مع ذلك من أكابر الكتاب ومشاهير المترسلين فإن قلت ذاك زمان وهذا زمان قلنا لك أن البلاغة في كل زمان نصفها لفظ لأن اللفظ جسم وروحه المعنى فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للكلام وهجنة عليه لا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ واللفظ(6/47)
الرث يفسد المعنى والشائق من الألفاظ يزينه ولو كان مبتذلاً. أنظر إلى قول جرير (ويروي للمعلوط السعدي):
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته بسيطاً وانظر قول بشار:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة ... ذُرى منبر صلى علينا وسلما
فهذا كلام فخم جزل وهو أذل على القوة وأشبه بما وقع فيه من موضع الافتخار ثم انظر إلى قول لبيد:
ما عاتب الحر الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح
فهذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل الماء والرونق وكذلك قول النابغة:
خطاطيف حجن في حبال متينة ... تَمد بها أيد إليك نوازع
فإن ألفاظه ليست جياداً ولا مبينة لمعناه لأنه أراد أنت في قدرتك علي كخطاطيف عقف وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف على أن المعني ليس جيداً ولا غنى بالكاتب الذي يحاول أن يملك أعناق المعاني ورقاب الخواطر ولا الخطيب الذي يريد أن يضع لسانه حيث شاء عن الإقتداء بالأولين والاقتباس من المتقدمين واحتذاء مثال السابقين فيما سلكوه من طرقهم ونهجوه من سبلهم والمقلُّ من الألفاظ يعجز عن ذلك واللفظ أصلحك الله زينة المعنى وأن يكن المعنى عمادَ اللفظ فليس ينبغي أن تكون الألفاظ غير مشاكلة للمعاني في حسنها ولا المعاني غير مشابهة للألفاظ في جمالها وما مثل المعنى الرائع في اللفظ المبتذل إلا كمثل المليحة الحسناء في طمر خلق وبراعة الشكل وظرف الهيئة نصف الجمال ونصفه الثاني حسن المُجَرَّد فليست عناية الكاتب باللفظ إلا كعناية الغادة بثيابها واللفظ أغلى من المعنى ثمناً وأعز مطلباً فإن المعاني موجودة في طباع الناس يستوي الجاهل فيها والحاذق ولكن العمل في الكتابة الأدبية على جودة الألفاظ وحسن السبك وصحة التأليف ألا ترى لو أن رجلاً أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر وفي الإقدام(6/48)
بالأسد وفي المضاء بالسيف وفي العزم بالسيل وفي الحسن بالشمس فإن لم يحسن تركيب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة والجزالة والعذوبة والطلاوة والسهولة والحلاوة لم يكن للمعنى قدر. وعلى قدر تفاوت اللفظ يتفاوت حسن المعنى انظر إلى قول المتنبي في استعطافه المشهور:
وكيف ينم بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب
وقول الآخر:
فإن انتقم منه أكن مثل رائش ... سهام عدو يستهاض بها العظم
وقول قيس بن زهير:
فإن اك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناني
وقول الحرث بن وعلة:
قومي هُم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لا عفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
وقول العديل:
وأني وإن عاديتهم أو جفوتهم ... لتألم مما علّ أكبادهم كبدي
وقول النميري:
فإنك حين تبلغهم أذاة ... وإن ظلموا لمحترق الضمير
فقد جاؤا بشيء واحد لا تفاضل بينهم فيه إلا من جهة حسن السبك ومن جهة الإيجاز في اللفظ وهذا مثال آخر قال النابغة:
إذا ما غزا بالجيش حلقّ فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أثبتن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غائب
وقال أبو نواس:
يتوخى الطير غدوته ... ثقة باللحم من جزره
وقال مسلم بن الوليد:
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل(6/49)
وقال المتنبي وقد خرج إلى غير المقصد الذي قصدوه فأغرب وصار كأنه المبتدع لهذا المعنى:
وذي لجب لاذو الجناح أمامه ... بناج ولا الوحش المثار بسالم
تمر عليه الشمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم
فأما كون الناس ليسوا كلهم أدباء فلا ينبغي أن نكلفهم فهم مالا يعرفون فصحيح ولكن الذنب في ذلك ليس للكاتب الذي يصور ما يتمثل له من الخواطر على الأسلوب العربي الصحيح بل للذين لا يعلمون النشء علوم اللسان ويقفونهم على أخبار العرب ويروونهم أشعارها وأمثالها وللذين لو شاؤا لمهروا فيها وملكوا عنانها وتوسطوا باحتها. (متلو)(6/50)
العدد 7 - بتاريخ: 16 - 4 - 1912(/)
الرأي العامي في العربية الفصحى
هذا مذهب من الكلام في اللغة كثيراً ما يشتبه فيه اليقين حتى لا يُنفذ إلى تمحيصه، ويلتوي الظن حتى لا يطاق على تخليصه، وأنت فكيف مددت عينك في هذا الجيل فلست آمناً أن تقع من نشئه الذين يطمحون إلى مشيخة الكتب. . . على كل ضيق المجم، ضئيل الهم، ألفّ اللسان، ملتف البيان، وهو مع ذلك يُسمّع بالفصاحة والفصحاء، ويستطيل في البلاغة والبلغاء، ويبسط في هذا الرهان. من جلده علي هزاله، ويفسح في هذا الميدان. من خطوه علي كلاله، ومهما أخطأك فيما يَعمى عليك من حقيقة أمره، ويكاتم مهب ريحك من دخانه وجمره، فلا يخطئك أن تستبين منه رأياً كأنه في رأسه نزوة ألم، وعقلاً مدنفاً لو هو مات لما قطرت له دمعة من قلم.
ومن آفة الجهل أنه على استواء واحد في نظر أهله على ما يتحرون بزعمهم من النصفة والمعدلة فلو تدسس أحدهم إلي كل مكروه وأصعد في كل بلاء لكان بعض ذلك كبعضه سواء في بادي الرأي وعند تقليب النظر لا بدرك فرق ما بين درجاته، ولا فصل ما بين صفاته، حتى إذا ضرب كل سبب في غايته، واتصل كل مبدئ بنهايته، ووقعت الواقعة بركن أمة كان قائماً وتعثرت المصيبة بشعب كان متقدماً، عرف ذلك الجاهل من مقدار الرزيئة مقدار جهله وعلم حينئذ أنه كان يملك من الكف عن هذا البلاء مثل الذي ملك من التسبب له وأسَفَّ من ذلك ولكن بعد أن يكون السهم قد مرق والأمر قد مضى وبعد أن لا يكون قد أفاد من الجناية إلا معرفته كيف جناها فكأن المصيبة على هولها إنما حلت لتفهمه أنه جاهل وما أعزها كلمة لا تفهم إلا من مصيبة.
وليس ينفك الجاهل بالشيء إذا رأى فيه رأياً من خصال: فأما واحدة فاقتضابه الرأي لا يغبه للخبرة ولا يبلوه بالتثبيت ولا يكاد يرى فيه مذهباً لتقليب النظر فما هو إلا أن ينزو في رأسه نزوة أو نزوتين حتى يكون قد وزنه ورازه وعرف مقداره صواباً من خطأ وخطأ من صواب فيصدره على أنه مما أنبطه الزمن من قليب قلبه وافتكَّهُ من عقال عقله وعلى أنه الحق لا مراء فيه وعسى أن لا نجد في باب المراء مثلاً أدل منه على الرأي القائل كيف يهلك أو يفيل.
وأما الثانية فتزين ذلك الرأي له على فسولته وضؤلته حتى يدفع عنه كل الدفع ويحوطه بكل حجة ملجلجة وحتى يرى أن الكد في ذلك هو يثبته وأن الثبات على الكد هو يحققه فلا(7/1)
يزال يخور بمقدار ما يشتد في أمره ثم لا يصيب من وجه الأمر إلا ما يضل في مجاهله فيكون قد تأتي من سبيل الثقة إلى الغرور ومن سبيل الغرور إلى الباطل وكبر ذلك مقتاً وساء سبيلا.
وأما الأخرى من تلك الخصال فأن الرأي متى تماسك بما يجم حوله ويلتقي إليه ويستمر عليه من الخواطر فأنه سيكون منه عقد (اعتقاد) يخرج عن أن يكون رأياً موضوعاً، إلى أن يصير وحياً مرفوعاً، ويكبر عن أن يكون مضطرباً في العقل بين الحجج والبراهين، فينحدر إلى القلب عند مستقر العاطفة والدين، ثم لا يكون من هذا إلا ما تراه في كل جاهل من الرأي يصدره شرعاً معصوماً لا يزيغ عنه الزائغ إلا بخذلان من الله. . . فأن هو لم يتبع عليه ولم يتشيع له فيه أحد كان هذا الجاهل نبي نفسه لا يبالي ما ترك الناس مما اتبع ولا ما اتبعوا مما ترك.
وتلك خصال في نسق واحد وعلى نظم مطرد لا هوادة بين أولها وآخرها فهي وإن تعددت إلا أنها كما يتعدد الموج تنتصب منه أشباه الجبال ثم لا يستند منها الغريق إلا إلى الماء الذي يغرق فيه وهذا تفسير القول إن الجهل على استواء واحد في نظر أهله.
لا جرم كان العنت كل العنت والبلاء كل البلاء أن تفهم من لم يستجمع أداة الفهم لما تلقى إليه وأن تناظر صاحب الرأي وليس له مما قبلك ألا أنه يرى وألا أنك تدفع فإن الحجة في مثل هذا وإن وضحت واستبانت بيد أنها لا تصيب من غرض يستهدف لها وإنما تستعرض ما يستعرض السهم من الهواء يمر فيه منطلقاً لا يلتوي فمهما نلت من ذلك لا تنال سبباً إلى الإقناع وليس لك بعد إلا أن تطيب نفساً عن نتيجة أنت فرغت من مقدماتها، وترتد عن غاية كنت في ظل قصباتها، لأن الحجج لا تنتهي إلى الحق إلا إذا كانت متكافئة فهي تختلف متدابرة ولكنها متى تواجهت وأخذت كل حجة برقبة الأخرى فاختصمت ثم ارتفعت إلى العقل قضى بينها وكشف القناع عن وجه الإقناع. أما الحجة الواهية التي لا يسد منها علم ولا تنهض في جانب اطلاع فهذه تظل مدبرة وإنما قوتها في إدبارها ولياذها بكل منطلق فأنت تجد في كل الناس إلا في صاحبها مقنعاً ومعدلاً وما أن تزال معه في إدبار ثم لا تزال مقبلاً منه على مدبر عنك حتى تنكص عنه غالباً كمغلوب، وتنقلب طالباً كمطلوب. وأنا لا أدري ولا جرم ما الذي زيَّنَ لفلان من الناس أن يكون صاحب رأي في(7/2)
العربية وآدابها وأن يتمحل لرأيه ويشتد للنضال عنه ولا يعدو بالخصومة فيه من لا يقاره عليه أذلك حين بذلت له اللغة مقادتها أم حين حجمت عنه وحين استطاع له علمه أم حين طوع له وهمه، وما فلان هذا والعربية وآدابها والمراء في كل ذلك وهو بعد في حاجة من هذا العلم إلى استئناف الطفولة كرة أخرى. . . أئن التوي عليه أمر اللغة منذ دراسه فيها طلبة يسمونهم من فلم يفيدوه من المعرفة حتى ولا معرفة كيف يعلم نفسه. . . رمى هذه اللغة بالنقص وجعل الكمال لله ثم له فأراد أن يحيلها عن وضع انحرف به حَوَل عينه ويخرجها من حيز لم ينله ضيق ذرعه فذهب في طنطنته الضئيلة كل مذهب وافترش لسانه البكئ كل مفترش وهل اللغة إلا علم بعد أن انتقضت فينا الفطرة واختبلت الألسنة وهل يناظر في كل علم إلا أهله. ولم لا ينصب هذا وأمثاله لمن يقدم على أداة من الآلات البخارية فيقول له لو كانت هذه القطعة مكان تلك ولو كان هذا التركيب القبيح أجمل مما هو ولو أخرت أو قدمت ولو زدت أو أقللت ولو نقضت أو أقمت ولو فعلت وفعلت! وليت شعري ما يكون أمره وأمر صاحبه ذاك وكيف يراه ويرى فيه من لسن كله وعلم كله جهل؟ ألم يأن أن يعلم هؤلاء أن من الرأي غررا وأن راكب الخطر من ذلك إنما يركب رأسه وأن في الصمت زاوية مظلمة باردة تسمى قبر المخزيات ولو عرف الجاهل معنى المخزية. . .!
إن العجز مطواع وأن ما يعي أهل الحزم يهم به العاجز ويراه سهلاً لأن ذلك هو الذي يحقق معنى عجزه وما زال من يعجز عن الكتابة هو الذي يريد أن يصلح لغتها وأساليبها ومن يعجز عن الشعر هو الذي يضطلع بتخفيف أوزانه وتجفيف بحوره وهلم إلي أن تستوعب الباب كله فقد قالوا أننا نخاطب الدهماء والأجلاف ومن يُسف إلى منازلهم بكلام أهل نجد وألفاظ أهل السَّراة ونتوهم من سبل الحاضرة بوادي قيس وتميم وأسد وبالجملة فنحن نضرب في حدود الفوضى التي لا مخرج منها ولا وجه فيها وفي ذلك مضرة على الأمة وفساد كبير.
قالوا هذا وما يجري مجراه ولم يستحوا أن يصدعوا به وهم يرون إلى جانبهم من المستشرقين أعاجم قد فصحوا وأقبلوا على آدبنا وتاريخنا فوسعوها بما اتسع لهم من العلم وأحاطوا بها على ما أطاقوا بل كادوا يكونون أحق بها وأهلها ولقد كانوا في غنى عن كل(7/3)
ذلك بلغاتهم وآدابهم وما أفاء الله عليهم ومكن لهم فيه. ثم لم يشفقوا أن يبتلوا تاريخهم بالعقوق وهو الثكل الذي لا عزاء معه فأرادونا على أن نخلع بأنفسنا عن هذا التاريخ لا نعطيه طاعة، ولا نبايع له منا عن جماعة، ثم نكون كزنوج إفريقيا إذا غابت عنهم الشمس غاب عنهم التاريخ وإذا طلعت عليهم استأنفوا تاريخاً جديداً. أليسوا ينقمون منا أننا نشد أيدينا على لغة ليست لنا فلم لا ينقمون أننا نصرف وجوهنا إلى قبلة ليست في أرضنا؟ ثم يقولون أنهم يهجنون التصرف في اللغة وإرسال الألفاظ والأساليب على وجوهها العربية ويريدون أن يزيلوا التدبير في هذه الصناعة عن هذا الوجه لأنهم لا يحسنونه.
ولا ينفذون فيه إذا تعاطوه ويريدون فوق ذلك أن يطرحوا عنا كدَّ الصناعة لتكون من عجائبنا صناعة بلا كد.
ولعمري كيف يؤاتيهم هذا الأمر أو يستوسق لهم إلا إذا قلبوا أوضاع الكلام وزايلوا بين أوصاله وذهبوا فيه مذهب الترقيع في الخلق بالجديد وفي الجديد بالخلق.
لقد أهملنا اللغة ثم أهملناها حتى صارت معنا إلى حال من الجفوة جعلتها كالواغلة علينا والغريبة عنا وجعلتنا من نقص فهمنا فيها بحيث نضطر إلى التماس شيء غيرها نفهمه فصار إصلاح اللغة كأنه دُربة لإفسادنا وإفسادها فيما نتوهم دُربة لإصلاحنا وإنما هما خطتان لا تفضي كلتاهما إلى شر من أختها مبدأ أو منقلباً وأن أقبح ما ترى في شيئين أن يكون أحسن الرأي تركهما جميعاً.
زعموا أنهم يريدون أن تسهل الألفاظ وتنكشف المعاني وتكون الكتابة في استوائها وجمالها كصفحة السماء فهل البلاغة العربية إلا تلك وهل هذا أمر غير عربي؟ بلى وهل يعرفون أصلحهم الله أن الطفل يرى كل ما يدور في مسمعه من ألفاظ والديه كأنه إنما يتفق لهما اغتصاباً واعتسافاً واستكراهاً إذ لا يفهم من كل ذلك شيئاً إلا بمقدار ما يعتاد وعلى حسب ما تبلغ حاجته.
فلم لا يكون الرأي أن ينزل الآباء إلى لغات أطفالهم ويقتصر هذا المنطق الإنساني على المترادف والمتوارد من أسماء الألعاب الصبيانية وما يلتحق بها؟
ثم ما هو حكم العامي - وهو في كل أمة الطفل العلمي - بجانب أهل العلوم أتراه يلقف عنهم إلا بميزان تلك الغريزة الفطرية في الطفل الصغير مع أبويه فلم لا تمحي العلوم(7/4)
وألفاظها ومصطلحاتها وأساليب التعبير عنها ونحو ذلك مما تتراخى به شقة الفهم إذا تعاطاه ذلك العاميّ أو حاوله ويكون سداد العلماء فيما تطيقه العامة وسداد العامة فيما يطيقه الأطفال. . .؟ وأنت إذا تخطيت أمر الطفل اللغوي والطفل العلمي وأسندت في حدّ هذه الطفولة لم تر إلا طراز أصحابنا وهم أطفال الأقلام فهل يكبر عليهم أن يكبروا ويشتدوا وأن يساوقوا الفطرة في مجراها فيأخذوا الشيء بأسبابه، ويأتوا الأمر من بابه ويدعوا الأمر حتى يكونوا من أربابه؟ يصدرون رأيهم على جهل فإذا كشفت لهم معناه وبصرتهم بمصايره ووقفت بهم على حدوده وأريتهم وجوههم في مرآة النصيحة أنكروا ما جئت به وحسبوك تفتري الكذب وأصروا واستكبروا استكباراً لأن رأس علمهم أن يظنوا لا أن يحققوا ما يظنون فالرأي هو الرأي في ذاته لا ما يتعلق به ولا ما يتأدَّى إليه.
اللغة مظهر من مظاهر التاريخ والتاريخ صفة الأمة والأمة تكاد تكون صفة لغتها لأنها حاجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها ولا قوام لها بغيرها فكيفما قلبت أمر اللغة من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها واشتمالها جلدَة أمة أخرى فلو بقي للمصريين شيء متميز من نسب الفراعنة لبقيت لهم جملة مستعملة من اللغة الهروغليفية ولو انتزت بهم أمة أخرى غير الأمة العربية لهجروا العربية لا محالة وكذلك يتوجه هذا القياس طرداً وعكساً كما ترى وأن في العربية سراً خالداً ذا الكتاب المبين (القرآن) الذي يجب أن يؤدى على وجه العربي الصريح ويحكم منطقاً وإعراباً بحيث يكون الإخلال بمخرج الحرف الواحد منه كالزيغ بالكلمة عن وجهها وبالجملة عن مؤداها وبحيث يستوي فيه اللحن الخفي واللحن الظاهر. ثم هذا المعنى الإسلامي (الدين) المبني على الغلبة والمعقود على أنقاض الأمم والقيم على الفطرة الإنسانية حيث توزعت وأين استقرت فالأمر أكبر من أن تؤثر فيه سورة حمق أو تأخذ منه كلمة جهل وأعضل من أن يزيله قلم كاتب ولو تناهت به سن الدهر حتى يلقى من الأمة أربعة عشر جيلاً كالتي مرت منذ التاريخ الإسلامي إلى اليوم.
والقرآن الكريم ليس كتاباً يجمع بين دفتيه ما يجمعه كتاب أو كتب فحسب إذ لو كان هذا أكبر أمره لتحللت عقده وإن كانت وثيقه عليه الزمان أو بالأحرى لنفّس من أمره شيء كثير من الأمم ولاستبان فيه مساغ للتحريف والتبديل من غال أو مبطل ولكانت عربيته(7/5)
الصريحة الخالصة عذراً للعوام والمستعجمين في إحالته إلى أوضاعهم إذا ثابت لهم قدرة على ذلك ولو فعلوه لما كان بدعاً من الرأي ولا مستنكراً في قياس أصحابنا. . . لأنهم لم يعدوا منفعة طلبوها من سبيلها، وخطة انتهجوها بدليلها.
وليس يقول بهذا إلا ظنين قد انطوي صدره على غل واجتمع قلبه على دخلة مكروهة وإلا جاهل من طراز أولئك لا يستطيل نظره بتجربة ولا ينفذ بعلم وإنما هو آخذ بذنب الرأي لا يوجهه ولكن يتوجه معه ولا يقبل به ولكن يدبر به الرأي.
إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية فلا يزال أهله مستعربين به متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكماً حتى يتأذن الله بانقراض الخلق وطي هذا البسيط. ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن على الناس وردهم إليها وأوجبها عليهم لما أطرد التاريخ الإسلامي ولا تراخت به الأيام إلى ما شاء الله ولما تماسكت أجزاء هذه الأمة ولا استقلت بها الوحدة الإسلامية ثم لتلاحمت أسباب كثيرة بالمسلمين ونضب ما بينهم فلم يبق إلا أن تستلحقهم الشعوب وتستلحمهم الأمم على وجه من الجنسية الطبيعية - لا السياسية - فلا تتبين من آثارهم بعد ذلك إلا ما يثبت من طريق الماء إذا انساب الجدول في المحيط.
إنما الله علينا بلاء فتياننا لأنهم ينشؤن في أرضنا نشأة المستعبد الرقيق وأنّ غنما لهم أن نحرص على ما بقي من جنسيتنا العربية وأن نشعب لحفظ الصلة وتوثيق تلك العقدة بيننا وبين أسلافنا ونمد من ذلك سبباً إلى حاضرنا ثم إلى مستقبلنا فلا يكون في تاريخنا اقتضاب ولا بتر ولكيلا نكون على ديننا ولغتنا ما كان أولئك إلا وشاب والزعانف من الترك والديلم إلى غيرهما من أصناف تلك الحمراء التي اجتاحت العرب منذ الدولة العباسية ورتعت في أمور الناس وجعلت بأسهم بينهم لعلة المباينة في الجنسية اللغوية حتى لم يكن في ثمانمائة سنة من استبدادهم ما يعدل ثمانين سنة كانت منذ أول العهد بالإسلام ولكن أني لفتياننا ذلك وهم لا يأخذون من لغتهم ولا يصيبون من آدابها إلا كما يأخذ الإسفنج من الماء ينتفخ بقليل منه ثم لا يلبث أن يمجه أو يجف فيه.
على أنك لو اعترضت كل من يهجن العربية ويزرى على سبكها لرأيته أجهل الناس بتركيبها وحكمة اشتقاقها ووجوه تصريفها ثم لرأيت له غرَّةً في تاريخ قومها فهو إن عرف منه شيئاً فقد تجرد من ثمرة المعرفة كأنه يحفظ طلاسم لا يتخبط فيها حتى يتخبطه(7/6)
الشيطان من المس ثم ترى الآفة الكبرى أنه مُستدرج من حيث لا يعلم فهو يكافئ محبة لغة أجنبية أحكمها بعداوة لغته التي جهلها ويجزي منفعة تاريخ علمه بمضرة التاريخ الذي لم يعلمه والناس أعداء ما يجهلون.
نعم بقي لأصحابنا مذهب آخر ينتحلونه ويستدفعون به الظنة وهو من أحسن رأيهم الذي يعانون عليه لو فهموه على الوجه الذي يفهم منه ولو أبدو لنا صفحته دون قفاه. . . وذلك أنهم يقولون أننا نريد أن نلائم بين حاجة الأمة من الكلام وبين الكلام الذي تبلغ به هذه الحاجة ونريد الإصلاح ما استطعنا فنلبس تاريخنا وعاداتنا ديباجاً من الكلام بطراز وغير طراز (نظماً ونثراً) ولا نترك أمتنا على سوم (في المزاد) بين العربية والعامية واللغات الأجنبية. ونحن نقول أن هذا أمر ليس له مَترك ولا عنه محيص ولكن أين ما ينزعون إليه مما ينزعون به وهم إنما خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً وإنما يؤتون من حسبان العربية الفصحى لغة أثرية لاتحاد الزمن ولا تشايع روح التاريخ فيرون أنها لا بد أن تكون قد انقرضت مع أهلها فلا تبقى إلا لقوم في حكم أولئك المنقرضين ثم يفضون من هذا الوهم إلى تلك المخرقة التي أشرنا إليها في صدر الكلام لأنهم لم يمارسوا هذه اللغة وإنما علموها عن عُرض وهذا ولا جرم ضرب من الجهل العلمي - ولوهم فقهوا سر العربية ووقفوا على طرق تركيبها وجاذبوا من أزمتها وصرفوا من أعنتها واكتنهوا محاسنها الفطرية التي خرجت بها من ثلاثمائة تركيب إلى ثمانين ألف مادة كما فصلنا القول فيه لعرفوا كيف يتسببون للإصلاح اللغوي الذي ينشدونه وكيف يكشفون لفظ الإصلاح عن معنى غير فاسد كما ذهبوا إليه وتقلدوا البلية من حيث يدفعونها لا من حيث تدفعهم ولكنهم كما ترى يصفون لنا الفوضى وهم صفاتها، ويطبون للأمة وهم آفاتها، ويبادرون حسم الأمور بما يتفاقم به صدعها، ويضعون أوزار النوائب بما يثور به نقعها، وما عليهم إذا تبينوا أن يصيبوا قوماً بجهالة، أو يردوهم عن الهدى إلى ضلالة، فاللهم بصرنا بأقدارنا، ولا تذلنا بصغارنا، ولا تخذلنا في الأمل وأنت الرحيم، دون غاية أتحت لنا وقتها، ولا تجعلنا في العمل كأهل الجحيم، كلما دخلت أمة لعنت أختها.
مصطفى صادق الرافعي(7/7)
باب العلم الاجتماعي
الأكاذيب المقررة - التربية الطبيعية - الواجب
الأكاذيب المقررة
تأليف ماكس نوردو
2
الطلاق
رأينا في الكلام المتقدم كيف أن نوردو يتهم النظام الاقتصادي الحاضر بما تطرق إلى الزواج في هذه الأيام من فساد أخرجه عما وضع لأجله، وقد زاد عليه في القسم الأخير من هذا الفصل علة أخرى، هي تأثير الآداب المسيحية على الزواج بين الدئنين بها.
وقد عجب لخجل الناس ومواربتهم فيما يتعلق بالتناسل، وسأل. علام يخجلهم النوم والأكل، حتى إذا جاءوا إلى التناسل وصلات الجنسين غلب عليهم الحياء وجعلوا التلميح في موضوع التصريح؟؟ وما بالهم يحسبون غريزة التناسل عورة تستروانها لفرض طبيعي دونه كثير من فروض الطبيعة البشرية التي نجهر بها ولا نري فيها ما ينافي الاحتشام أو يخل بالحياء؟؟
قال. وما كان هذا دأب الناس فيما غبر من الأجيال، فقد كان قدماء الهنود والإغريق يقدسون أعضاء التناسل ويكبرون القوى التي لولاها لانقرض البشر، وفنى النوع واندثر، وقد أقاموا لها المعابد ورفعوا لأجلها النصب وما كان يخطر لهم أنهم يجيئون أمراً يخزي صاحبه كما قد يخطر لنا الآن.
ولكن المسيحية ظهرت في عهد فشا فيه الفساد، فأدركت أواخر أيام الإمبراطورية الرومانية وقد عم الفسوق وسرى الفجور بين الناس على اختلافهم فذهبت إلى أبعد مدى في استهجان هذه المنكرات، وكان الزواج فيما تناوله تشديدها وحجرها، وجري ذلك مجرى العادة حتى رأينا الكنيسة تسلك زوجين في مصاف القديسين لأنهما عاشا لا يمس أحدهما الآخر طول حياتهما.
ولقد أباحت المسيحية الزواج. ولكن لا لينتمي كل من الزوجين إلى رفيقه. بل ليتمم كلاهما(7/8)
أمراً من مباحات الدين. لو تركاه لكان ذلك خيراً فلا بدع أن يكون للحب شأن في هذا القران.
فتسمع الكاهن أمام الهيكل يسأل العروس أراضية هي بذلك الرجل زوجاً لها وهل تقره مولى وسيداً؟؟ ثم لا تسمعه يسألها أتحبه أم تبغضه لأنه لا يرى الحب فرضاً من فروض كتابه.
فإذا هويت الزوجة المسكينة بعد ذلك رجلاً تم بينها وبينه فعل الانتخاب الجنسي. فأولى أن لا يصلح ذلك مبرراً لتسريحها من زوجها وإيصالها بمن أحبته ومتى زوجها الحب فيكون له أن يطلقها أو يزوجها من رجل آخر؟؟
من ثم أنكرت المسيحية طبائع النفوس التي لا سبيل إلى إغفالها، وأبت أن تعترف بموجب للطلاق، فإذا غلبت الزوجة أهواؤها أصبحت فاجراً ينبذها المجتمع وتقتص منها الشريعة. فإذا القاضي الذي يعفو عن لص سرق رغيفاً من الخبز ليدفع عنه ألم الجوع. لا يعرف للرحمة موضعاً في عقاب امرأة زلت نفسها طوعاً لمحركات الفطرة فتراه يسلم في الأولى بأن مطالب الطبيعة قد تغلب في النفس واجب رعاية الشريعة. ولا يسلم به في الثانية.
ويحسب نوردو أن هذه الشريعة ابتكرها الشيوخ الفانون، والرهبان المتبتلون، والناس لا يقرونها إلا أمام القضاء. وأنه لمن العجيب كما يقول نوردو أن يجل الرجل حكم القاضي بسجن الزانية، ثم تبصره يطرب للشاعر الذي يرتل أمامه قصائد العشق ويسرد له وقائعه إلى أقصى غاياتها، ولا يدل ذلك إلا على أن النفوس جبلت على الإقرار بالعشق ولكنها تتجاهله من جانب الأنانية وحب الاستئثار.
وقد أثبتت الملاحظة أن استمرار الزواج لا يرتكز على عاطفة من عواطف الإنسان، فالنفس لا تميل إلى التقيد بزوج واحد، ولكن الضرورة ألجأت العشائر الأولى إلى تقييد الزوج بزوجته، لأنها أضعف من أن تتكفل برزق أولاده، ولأن العشيرة لا ترضى أن تتحمل عنه تربيتهم، فكان لا بد للزواج من صلة تمتد إلى أبعد من صلة الشهوة.
على أنه لا سبيل إلى بقاء تلك الصلة مدى الحياة، فإن في ذلك من مجاوزة أحكام الطبيعة ما فيه. قال: وخلنا نفترض أوفق الفروض وأحراها بإطالة العشرة بين الزوجين فهل تحسب ذلك مغنياً الناس عن تدبير الطلاق؟؟(7/9)
هب العروسين كان يحب كلاهما صاحبه أصدق حب وأطهره، أفذلك ضمين بأن لا يتغير هذا الحب ما عاش المحبان؟؟
قد يقول لك الشعراء: إذا فتر الحب فما هو بالحب الصادق؟؟
فلنسألهم إذن أن يفرقوا لنا بين صادق الحب وكاذبه! وكيف يعلم العاشقان في هيام الحب وحرارة الوجد إن كان حبهما باقياً مع الحياة أو كان خباً موقوتاً لا يلبث أن يتطرق إليه الفتور اليوم أو غداً.
أتراهم يرغبونهما في الزواج؟؟ فإن كان ذلك فقد يمل كلاهما صاحبه فماذا يصنعان؟؟ وكيف يتفقان؟؟
أم لعلهم ينصحونهما بالصبر حتى يثقا أن حبهما دائم حتى الممات؟؟ وذلك من أعسر الأمور عليهما. فإنهما لما كانا سوف لا يتحققان ذلك إلا بعدا، كان عليهما أن يصبرا إلى أن يوافيهما الأجل فيحق ساعتئذ لكل منهما أن يقول بقلب سليم لقد كان حبنا صادقاً وثيقاً، فلم يخمد إلا بخمود الحياة، وأنه ليحق لنا اليوم أن ندفن سوياً، فلا يخاف أحدنا تسرب السأم إلى قلب قرينه بعد الآن!!
ثم استطرد الكاتب إلى تحليل بديع لعاطفة الحب، فأبان أنه لا يستغرق كل أجزاء النفس مهما اشتدت فتنته. واتقدت لوعته. وأنه لا بد من زاوية منطوية في ثنايا النفس لا تزال بمعزل عن سائرها تجول فيها هواجس الأهواء وأسرار العواطف. والمرأة قد تعف في حبها وتفي لحبيبها ولكنها ما برحت وهي كذلك واحدة من جنس له طبيعته وشوقه إلى الجنس المقابل له. وقد يخلص الرجل لمعشوقته ويصدق في هواه ولكنه يبقي كيف كان الأمر واحداً من جنس له مثل تلك الطبيعة وذلك الشوق تلقاء الجنس الآخر. وكلاهما لا ينجيه تعلقه بفرد واحد من الانفعال بمؤثر الجنس كله.
والوفاء بلا حد ولا قيد ليس من طبائع النفس. ولا هو من مألوفاتها وإنما يصبو المرء إلى الاستيلاء على قلب الحبيب بلا شريك. فيود أن يملأه وحده. وليس شيء أرضى لأثرتنا وأكمل لشخصيتنا من أن نشاهد صورتنا مرتسمة في مرآة نفس أخرى. ونأنس من شخص آخر تمكننا من مجامع أهوائه. واستحواذنا على مناط أمياله. فذلك الذي يجعلنا نرتقب الوفاء المطلق ممن نحب ونهوى. وقد يغار المرء حيث لا يحب لأنه لا يرتاح إلى تقدم(7/10)
سواه عند إنسان كائناً من كان.
ولو كان الوفاء في الحب من مقتضيات الطبع، لوجب أن يطلب من الزوج بقدر ما يطلب من الزوجة، ولكنه مطمع من مطامع الأثرة كما تقدم، فكلما كان ذو الأثرة أقوى كان توقعه له من غيره أكثر، والرجال أقوى الجنسين، فهم يلزمون النساء بما لا يلزمون بمثله أنفسهم من الإخلاص والوفاء.
فإذا نسيت المرأة نفسها عدُّواً ذلك منها كبيرة من أشنع الكبائر، أقل ما يصيبها من أجلها خزي لا يرحض وعار لا يمحى وجزاء لا غفران بعده، فإذا فعل الرجل فعلتها فليس في الأمر إلا أنها هفوة لذيذة يقابلها الجمهور بالمزاح والابتسام وتغتفرها المرأة له بالملاطفة وإدرار دموع البهتان.
ومما يزيد في قساوة هذا الحكم أن المرأة قل أن تزلّ إلا مخلوبة مذعنة لقوة أكبر من قوتها، أما الرجل فإذا هفا فإنما ذلك لأنه أراد أن يهفو مختاراً لا مضطراً ولا مخدوعاً.
ولقد بلغت أثرة الرجل الهندي ما لم تبلغه أثرة الرجال في بلد من البلاد ففرض عليها من الوفاء له ما يحتم عليها ملازمته حتى يوم يطرح ميتاً على لهيب النيران. في حين لا يرى لامرأته من حق عليه ما يدعوه إلى التفريط في شعرة واحدة منه. ولا شيء يمنعه أن يعود من جنازة زوجته ليمتع نفسه بأطايب عرس جديد.
قال: ولم نغل نحن إلى هذا الحد في مقاضاة المرأة الوفاء. ولكن من قصاصنا من يمثل لنا عرائس تملكهن الكمد والقنوط فعمدن إلى التبتل بعد أحبابهن. وإن كان قد أبى أنصافهن عليهم إلا أن يسووا بين الرجال والنساء في هذه الفضيلة.
ثم عطف الكاتب يقارن بين الإنسان والحيوان في الشهوة الجنسية ليرى إن كان ثمت مسوغ من الفطرة لاستمرار الزواج. والقارئ العربي ينبغي أن يكون أقل الناس استغراباً لهذه المقارنة لأننا قد طالما نسبنا تلك الشهوة في الإنسان إلى البهيمية. فرأى الكاتب أن العلاقة بين ذكر الحيوان وأنثاه لا تطول إلا ريثما ينتهي غرضها. ومنه مالا تتجاوز علاقة ذكره بأنثاه أيام المسافدة. والنادر القليل من الحيوان ما تبقى علاقة زوجيه إلى ما بعد وضع الجنين. والإنسان وإن ترفع وتعالى لا يخرج عن حكم الحيوان من هذه الوجهة. ولا وسيلة نتبين بها الطبيعي الأصيل من المتكلف الطارئ في أمياله الجنسية لصح من مراقبة هذه(7/11)
الأميال في الحيوانات العليا التي هو وهي سواء في الخواص البيولوجية فيما هو من طبيعة التناسل.
وقد أظهرت أمثال هذه المقارنات أن حاجة الحب تنتهي بحصول غايتها. كما أن حاجة الجوع تنتهي بالطعام. ولهذا نشاهد أن الطور الأول من أطوار الحب ينقضي بعد ولادة الطفل ثم ينتقل إلى طور آخر ليس من ذلك الحب في صفاته وعلائمه. ومن ثم فبقاء الزواج مدى الحياة لا يستند على شيء في طبيعة الإنسان.
قد يقول قائل: نعم إن غريزة الإنسان لا تدعوه إلى الاقتصار على زوج واحدة، ولكنه ليس كسائم البهائم إذ أن له أيضاً غرائز أخرى. وعلى الحضارة أن تعلمه كيف يكبح غرائزه متى أدرك خطأها!! نقول ذلك حق ولكن من أين لنا أن تعدد الزواج مضر بنوع الإنسان أو عائق في سبيل انتشاره ونمائه؟؟
قال: إن الكنيسة فرضت وحدة الزواج ولكنها لم تستمكن من قسر الناس على مراعاة فرضها هذا إلا ظاهراً. أما في الباطن فلا نظن أنه بين كل مائة ألف رجل أكثر من رجل واحد يحق له أن يقول على فراش الموت أنه ما عرف في حياته سوى امرأة واحدة. وإذا كانت النسبة أكثر من ذلك بين النساء فليس لأنهن أقل رغبة في إهمال ذلك الفرض. وإنما ذلك لأن المراقبة عليهن أشد وعين الناس صوبهن أدق وأحد.
هنا يقول قائل آخر: لئن كان للحب غرض يهتاج الإنسان لإنجازه ثم يخليه متى فرغ منه. فالصداقة قد تنوب عنه عند الناس: فيتآلف الزوجان وإن كانا بعد لا يتحابان.
وهذا صواب أيضاً. فقد يقترن الزوجان. يشغف الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل في بادئ الأمر. فما هي إلا أن تثمر زهرة الحب فيفتر. ولكنهما يبقيان على صلاتهما الأولى بحكم العادة والإتباع. مثلهما في ذلك مثل الشجرة المتعفنة. يتغير باطنها ذرة بعد ذرة ولا ينال التغيير ظاهر قشورها وأوراقها. وربما كانت هذه الصلة في كزازتها وتفاهة مذاقها لا تغني عن الحب. ولكنها مع هذا صالحة للمطاولة والمصابرة.
ثم يتلاقى حنو قلبيهما في الذرية فيولد بينهما حب جديد. وتتراخى عاطفة الحب على الزمن فيسهل على العقل والإرادة مغالبتهما. وتتردد في نفسيهما ذكريات الحب في أيام صبوتهما. فتحلى ما بقي من أيامهما. وكذلك يبقي الزواج ما بقيت الحياة بعد أن يتوارى(7/12)
الحب ويتصرم.
على أن تعلة من هذه التعلات قد لا تنجع في مجاذبة عاطفة جمح بها الطبع واشتط الهوى. فتعي بها زواجر العقل والإرادة. وتعجز عنها حيل المألوف والعادة. وليس وقوع ذلك بأندر من أن نقيم وزنه أو ن نحسب حسابه.
ذلك كله قضى على بعض الحكومات بوضع سنة الطلاق ولكنها ما استطاعت أن تمحو سنة العرف. ولا نزعت من نفوس الناس ذلك الازدراء الذي يتعقبون به الزوجين المطلقين من مكان إلى مكان. مما يؤدي ببعض الأزواج إلي إيثار العبث بواجبات الزوجية على الطلاق الذي وراءه هذا العار والصغار.
وبعد أن المع إلي شدة التزاحم على مقومات الحياة. وأبان أن صعوبة الكدح والسعي تصد الرجل عن الزواج وتدعو المرأة إلى الإلقاء بنفسها إلى أول خاطب يتكفل بمؤنتها. وقرر أن المروءة والنخوة من آداب الرغد والرخاء وأن الضنك والعسر يضطران الناس إلى الشح والنذالة. وذكر أن دخول المرأة في ميدان المكافحة على العيش لا سيما في جيل الضنك والعسر مؤذٍ بها وبالمجموع. وشبه المصلحين الذين يحاولون تحسين حال المرأة فيهونون عليها العمل ويبصرونها بوسائل الاستغناء عن الرجل، بذلك الخطيب الذي يعلم الناس كيف يصومون في المجاعة كأن ذلك يغنيهم عن التماس الأقوات والأرزاق. قال:
يجب على الجمعية البشرية أن تعول المرأة فهي عتادها الذي تدخره للفاقة الاجتماعية والحاجة الطبيعية. وإن لكل جنس من الجنسين عملاً يقوم به لصلاح النوع. فعمل الرجل اكتساب القوت أي صيانة الجيل الحاضر. وعمل المرأة إنتاج الذرية أي إعداد الجيل القادم. وهي عدا هذا القطب الذي يدور عليه فعل الانتخاب الجنسي. والجائزة التي ينالها السابق بين المتنافسين في سباق ذلك الانتخاب. ونتيجة هذا التنافس ترقية النوع وتحسينه لا محالة
فعلى المجتمع أن يربيها في صباها ويتعهدها بعد ذلك
بالاتفاق عليها سواء كان ذلك في بيت أبويها أو في
سكنها. وينبغي أن يرى من أكبر العار عليه أن تحس(7/13)
امرأة. فتية كانت أو عجوزاً. حسناء أو شوهاء.
بمضانك العوز ومسيس الفاقة
وإن أمة تقام دعائمها على هذه الأصول. وتستيقن نساؤها أنهن مكفيات المؤنة غانيات عن الكدح لأنفسهن والاشتغال بطلب خبزهن. عوازب كن أو متزوجات. ويتولى مجموعها تربية صغارها وحفظهم. ولا يرى الرجل فيها أنه قادر أن يبتاع من النساء بقدر دراهمه لأن الجوع وسيط البيع. نقول هذه أمة يتزوج نساؤها طوع انعطافهن الصميم. وندر أن تنظر فيها العين بكرا بلغت أرذل العمر أو شيخاً ما زال أعزب في الصغر أو الكبر. وإن كان:
في وحدة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا
وفي مثل هذه الأمة لا يعود يرتكب قبائح الفسوق إلا صنف من الناس ممسوخ الطبائع لا يطيق الحياة إلا في جو النقص والرذيلة، ولا يترقب من سلائقهم الطائشة نفع كثير وقليل لأمتهم أو نوعهم.
ومتى بطل النظر إلى المصالح المادية في أمر الزواج. وصارت المرأة مختارة في ميلها. غير مضطرة إلى بيع نفسها. وأصبح الرجال يتنافسون لإحرازودها بذواتهم لا بأموالهم ووظائفهم. فهنالك يصبح الزواج حقيقة نافعة ولا يعود أكذوبة كما نشاهد في عصرنا هذا. وهنالك ترفرف روح الطبيعة السامية على الزوجين. فتبارك كل قبلة من قبلاتها. فيوضع الولد محوطاً بهالة من حب أبويه. وتكون هدية يوم ميلاده تلك العافية التي يورثها ذريتهما زوجان كلاهما مستجمع من صفات جنسه ما يحبب فيه قرينه
عباس محمود العقاد
من الأجوبة الحاضرة
قال عبد الملك بن مروان لنُصَيب الشاعر (وكان أسود) هل لك في الشراب فقال نصيب الشعر مفلفل واللون مرَمَّد وإنما قرّبني إليك عقلي فهبه لي. ودخل عمارة بن حمزة على المنصور فجلس مجلسه الذي كان يجلس فيه فقام رجل فقال مظلوم يا أمير المؤمنين فقال(7/14)
من ظلمك فقال عمارة غصبني ضيعتي فقال المنصور قم يا عمارة فاقعد مع خصمك فقال عمارة ما هو لي بخصم فقال له كيف فقال إن كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها وإن كانت لي فهي له ولا أقوم من مجلس شرفني به أمير المؤمنين لأقعد في أدنى منه بسبب ضيعة. وقال هشام بن الملك لرجل في الكعبة سلني حاجتك فقال لا أسأل في بيت الله غير الله. ورؤى رجل يصلي صلاة خفيفة فقيل له ما هذه الصلاة فقال صلاة ليس فيها رياء. وقال عتيبة بن أبي سفيان لعبد الله بن عباس ما منع علي بن أبي طالب أن يجعلك أحد الحكمين فقال أما والله لو بعثني لاعترضت مدارج أنفاسه أطير إذا أسفَّ وأسِف إذا طار ولعقدت عقداً لا تنتقض مريرته ولا يدرك طرفاه ولكنه سبق قدر ومضى أجل والآخرة خير لأمير المؤمنين من الدنيا.
التربية الطبيعية
أو
أميل القرن الثامن عشر
وضعه جان جاك روسو
وعربه إبراهيم عبد القادر المازني
الكتاب الأول
الطفولة - مبادئ عامة
(تابع ما قبله)
فخليق بنا أن نخرج من ضيق ما نحن فيه من المذاهب العتيقة والمناهج التي أكل الدهر عليها وشرب وأن نفك عنا قيود الجهل وأغلال العادة. وإن ننظر في طفلنا إلى الإنسان على وجه عام - الإنسان وديعة الغيب ونهزة التلف فلو أن المرء كان إذا ربي بأرض لم يبرحها وإذا نشأ بمكان لم يضرب في غيره ولم يكن الجو.
كابى براقش كل يو - م لونه يتخيل
ومقسم الحظوظ لا ينفك يمر ويحلى ويريش ويبرى لامتدحنا هذا الأسلوب القديم وحبذنا تلك الطريقة العتيقة ولقلنا لعل فيها رادة لم يصل إليها علمنا وفائدة من فوق طور إدراكنا.(7/15)
ولكن أمور الناس ليست كالمثل المطرد بل هي عرضة للتغير والتبدل والزمان إن سامح تحيف وإن سالم طرق يقرض الإحسان ثم يقتضي ويعير ثم يسترد. فهل رأيت أضعف تمييزاً أو أسخف عقلاً ممن يربي الطفل كأنه (أي الطفل) لن ينفض إلا أجواز غرفته ولن ينزع به الطلب إلى غير محلته أو كأن الدهر سيظل أخضر والزمان بوجه السعد مقبلاً. فإذا دفعته الحاجة فخطا خطوة أو حاول أن يرقى سلماً فقد تعرض للموت واستهدف للتلف. أليس هذا قد علمه الإحساس بالألم ولم يعلمه احتماله.
أرى الناس لا يعنون بصيانة الطفل ولعمري ليس هذا كل ما يجب فإنه ينبغي لنا أن نعلمه أن يصون نفسه متى صار في حد الرجال وأن يتلقى المحن بجنة الصبر ويقرن للدهر في الشدة والرخاء والنعماء والبأساء والأمن والخوف والإقبال والإدبار فيعيش إن مست الحاجة بين ثلج أيسلاندة أو على صخور مالطة المحرقة. وأعلم أنه من عجز الرأي أن تحاول أن تجعله في مأمن من الموت إذ لا بد أن ينقضي أجله ويتصرم حبله وليس تعليمك إياه كيف يعيش بأقل فائدة وأصغر خطراً من ضنك به على الموت وحياطتك دونه والحياة أصلحك الله ليست أنفاساً يرددها بل هي العمل والكد والكدح هي أن يستخدم المرء أعضاءه وحواسه وجوارحه وقواه وملكاته وسائر ما يجعله يشعر بوجوده ويحسه. وأحي الناس أشدهم بالحياة إحساساً وأقواهم بالوجود شعوراً. لا من تنفس به العمر فلبس العمائم الثلاث فكم من وليد مات وكأنما أخذ بعنق المائة.
لهف نفسي على إنسان هذا الزمان علمهُ أوهام وخرافات وعاداته قيود وأصفاد تضرب عليه الذلة يوم يولد ويتقمص الهوان يوم يلف في القمط فإذا مات لف في الأكفان. حتى الموت لا ينضو عنه دثار الرق ولا يطلق عنه ربقة الاستعباد!
وبعد فقد زعم المرضعات أنهن يستطعن أن يسوين رؤوس الأطفال لتكون أجمل صورة وآنق شكلاً وأعدل تكويناً. كأن مبدع الخلق سبحانه عجز عن أن يفرغها في قالب الكمال. فلم يكن بد من أن يسويها المرضعات والفلاسفة كرة أخرى هؤلاء من الظاهر وهؤلاء من الباطن.
إن هذه القمط التي تشد بها رؤوس الأطفال وسائر أعضائهم تعوق دورة الدم وغيره من السوائل وتحجز الجسم من النماء وتقيم من دون القوة سدا وتكدى الشباب وتسلب المنة فإن(7/16)
داخلك في ذلك شك فتأمل غيرنا من الشعوب الساذجة تجد رجالها طوالاً متماسكين في خلقهم قوة وضلاعة فأما حيث تشد الأطفال بالقمط فما أكثر الزمن والأكسح والمقعد والسطيح والمخبول. وذلك لأنا نحبس عنان الأطفال عن الحركة ونغل يده عنها بما نفرغه فيه من القوالب والقمط إشفاقاً أن يصيبه من الحرية اذاة فكأني بالناس قد أشفقوا على أبنائهم أن تصيبهم آفة فسلبوهم القوة عمداً.
وهل لا يكون لهذه القيود الصعبة والأغلال القاسية في ظنك أثر في أميال الطفل وخلقه مثل مالها في خلقه وتكوينه. إن أول ما يجده الطفل هو الإحساس بالألم. لأنك قد أقمت من دون ما يحاول من الحركة عقبات ولم نسمع أن واحداً ممن نشأوا على حرية الحركة أضر به ذلك لأن الطفل أضعف من أن يلحقه من حركته ضرر وحسبه ما يناله من الألم إذا هو لم يحسن الجلوس أو الاضطجاع دافعاً إلى تغيير هيئته واستبدال ضجعته.
وأعلم أنه لا طفل إلا بالألم لأن واجباتها متبادلة فإذا أساء أحدهما القيام بما ينبغي عليه نام الآخر عن أداء واجبه ولها عنه. وينبغي أن يشرب الطفل محبة أمه قبل أن يدرك أن ذلك فرض عليه لأن آصرة الرحم إذا لم يوثق عراها ويؤكد عقدها الواجب والعادة وهت أسبابها في صدر الأيام ورث حبلها. وأخلق عهدها وفي ذلك جنوح عن منهاج الطبيعة وحيد عن جادتها.
وقد تضل المرأة أيضاً عن الجادة المستقيمة إذا هي جاوزت القصد في النهوض بواجبها ولم تميز بين الإفراط والتفريط فليس ينبغي لها أن تغلو في العناية بولدها حتى تجعله معبودها فإنها إذا أترفته ضنا به أن يعرف خوره وضعفه وأنزلته أكناف الدعة وضربت عليه سرادق الأمن رجاء أن تصرف عنه لحظات الغير وتغض عنه عيون الحوادث فقد التبست عليها وجهة السداد لأنها وإن كانت قد أذهبت اليوم عنه السوء فقد ادخرت له أهو إلا هو لا بد خائضها طائعاً أو كارها وأنه لمن الحماقة ونقص العقل أن تزيد ضعف الطفل وأني لمن كان كذلك أن يكون حمولاً للنائبات مضطلعاً بخطوب الدهر جلداً على مض النوازل. ورأيت في أقاصيص المتقدمين أن تيتس غمرت أبنها في مياه الستيكس ليكون صلب المعجم لا تروعه النوائب ولا تنال منه الملمات وهي أسطورة لطيفة نافعة غير أن الأمهات القاسيات اللاتي هن موضوع كلامنا يجرين على عكس هذه الطريقة وكأني بهن إذ(7/17)
يربين أبناءهن على الرقة والرخاء قد أولعن بهم النوائب وأغرين بهم ريب الدهر.
فعليكن بالطبيعة فتأثرنها ولا تعدلن عن جادتها وأعلمن أنها لا تنفك تستحث الطفل على الحركة وتسبكه بتصاريفها وتحنكه في صبائه حتى إذا عض على ناجذ الحلم صار ثبت الغدر صليب النبع جميع الفؤاد.
على أن التجارب قد أظهرت أن الموت بين نشأ من الأطفال على الترف والرفه أكثر تفشياً منه بين من ألفوا مضاجع الخشونة. وأعلم أن الطفل إذا لم يكلف فوق وسعه فالحركة أجدى عليه من السكون وأردّ والراحة أضر به من التعب وإذا كان الأمر كما علمت فخليق بنا أن نبلوا أبناءنا بشيء من الشدة في حدثانهم وأن نعرضهم لاختلاف الفصول والأقاليم وتقلب الأجواء وأن نغمرهم في مياه الستيكس فإن من تجرع في صباه الغصص لم تؤثر فيه المحن إذا شب ونما إلا كما تؤثر الهزمة في الصخر. وما دام الطفل لم يجر على عادة ما فإنك تستطيع أن تفعل به ما تشاء من غير أن تمسه بأذى أو تلحق به ضررا فأما إذا كان قد تعود شيئاً فلست آمن عليه أن لا يضر به ما تريد أن تحمله عليه. ومن أجل هذا كان الطفل أشد احتمالاً للتغير وإطاقة للتبدل ممن بلغ أشده وتناهى شبابه وذلك لأنه ما زال غضاً طرياً يحتمل أن يثنى ويصب في ما تشاء من القوالب ولكن الرجل لا يطيق ذلك لأنه قد جمد وجف ماؤه فأصبح كالعود اليابس إن تثنيه انكسر ولهذا فأنت نقدر أن تجعل الطفل قوياً وثيقاً إذا عرفت سبيل ذلك وربما كان فيه شيء من الخطر على الطفل غير أن ذلك ليس خليقاً أن يحيلك عن قصدك أو يقطعك عن عزمك لأنه خطار لا مذهب لك عنه ولخير لك أن تخاطر اليوم والخطار غير موبق من أن تقحم الطفل غدا قحم الهلكات وتركبه الأهوال.
وكلما ارتفعت سن الطفل زاد ضن أبويه به وحرصهم عليه وكلفهم به لأنه ينبغي أن يضاف إلى قيمة شخصه ما كلفهما من العناية والكد والعناء والجهد وإلى موته تخوفه منه وإضماره مخافته واستشعار حذاره ولذلك كان العقل كل العقل والحزم كل الحزم أن لا يخلجنا قيامنا على الطفل وحياطتنا له عن توسم المستقبل وأيقاظ رأينا له أي أن من واجب الأب أو المربي أن يأخذ لأمراض الشباب عدتها ويتذرع لحسمها بذرائعه قبل أن يبلغ الطفل هذا السن لأنه إذا كانت قيمة الحياة لا تزال مطردة الازدياد حتى يبلغ الطفل السن(7/18)
التي تكون فيها الحياة نافعة فهل رأيت أحمق ممن يدخر للطفل إلا وصاب والعلل ضنابه أن يتألم وهو طفل طري لا يحس وأعلم أن الشقاء نصيب كل حي وقسمة كل موجود حتى حياطة الطفل ليست بنجوة من الآلام ولعمري أن السعيد من لم يعرف في طفولته غير علل الجسم وأوجاعه فإنها أهون خطباً من سواها والنفس أصبر عليها وأجلد وهيهات ما يئن له الجسم مما تنقض له الجوانح وتذوب له لفائف القلوب ويؤثر من أجله الموت؟ أم تحسب الناس ينتحرون لورم في الرجل أو وجع في الرأس. لعمر أبيك لا يميت الرجاء ويبعث اليأس إلا هموم تعتلج في الصدور وتجول في القلب. وليس أحق بالعطف والرحمة ممن ذهبت بلته ورث برد شبابه.
يولد الطفل فيبكي وتنقضي أيامه الأولى بين عبرة تترقرق وزفرة تتردد وألام في خلال ذلك آنا تلاطفه وتداعبه ليكف عن البكاء ويمسك عن العويل وآونة تتوعده وتضربه ليحبس عنان دمعه ويغيض من عبراته تارة تنقاد له وتنزل على حكمه وطوراً تجرضه بريقه وتأخذه أخذ عزيز مقتدر فهي أبداً مذبذبة بين بذل الطاعة له والامتثال لإشارته وبين إرغامه على طاعتها والقعود تحت حكمها وليست تعرف بين ذلك سبيلاً تسلكه فكأن الطفل لا معدل له عن واحدة من اثنين الأمر أو الطاعة. وعلى ذلك ينشأ الطفل وقد تعلم أول ما تعلم التحكم والذلة فتراه يأمر وهو لا يحسن أن يتكلم ويذعن وهو لا يحسن أن يفعل شيئاً وقد تجزيه أمه بإساءة توهمتها وهو لا يعرف بأي ذنب آخذته وعلى أية زلة جازته. ولعله بمنتزح عما عوقب عليه بريء العهد مما رمي به! ولعله لا يدري كيف يذنب أو يخطئ. ونتيجة ذلك أن صدره يمت في أول نشأته بعواطف وإحساسات نعزوها نحن إلى الطبيعة ونزعم أنه مطوي عليها بسليقته وته. وإذا ساءت خليقته وخبثت خملته تسخطنا القضاء ونحن الذين غمسناه في الفساد وأولعناه بالسوء وغللنا يده عن الخير وأطلقناها في الشر! فهو غرس أيدينا ولا ينتج الغرس السيء ثمرة طيبة.
فإذا سألتني عما يجب عليك فعله لتصون فطرة الطفل التي فطره الله عليها من أن تخبث وتعبث بها يد الفساد قلت لك أن أول ما ينبغي عليك فعله هو أن لا تدع أيدي الغرباء تصل إليه فإن الزهرة الأرجة إذا كثر عبث الأيدي بها ذبلت فإذا رزقك الله مولوداً فلا تكله إلى غيرك حتى يبلغ أشده فإن المرضعة الحقيقية هي الأم والمؤدب الحقيقي هو الأب وهما(7/19)
خليقان أن يتواطأ على طريقة يسلكانها في القيام بأعباء وظائفهما حتى لا تمسه يد أجنبية منه. وأعلم أن الوالد الكيس الحكيم وإن كان جاهلاً أرجي منفعة للطفل وأقدر على تعليمه من أشد العلماء رسوخاً في العلم وبسطة فإن الحكمة قد تفعل ما لا تفعله المواهب.
ورب معترض يقول ولكن على الأب عدا ذلك أعمالاً وواجبات لا مذهب له عن أدائها وأنى له أن ينهض بذلك جميعه إذا كنت تجمله ما ينوء تحته؟ بلى فإن عليه واجبات وأكبر ظني أن آخر ما ينبغي القيام به منها هو واجبه نحو ولده.
إذا كانت الزوجة ترغب عن إرضاع ولدها أنفة واستنكافاً فليس بعجيب أن ينتفي الأب من تربيته ويعدها مسقطة له من الأعين على أني لست أعرف صورة أملأ للعين وأملك للطرف من الحياة العائلية ولكنها صورة لا يتم حسنها إلا باجتماع أعضائها فإذا فقد شيء منها صارت صورة العيوب ومثال المساوي ومجتمع المقابح وإذا كانت الأم أضعف من أن تستطيع النهوض بأعمال الظئر اختلطت على الأب أموره وانتشرت عليه واجباته وتفرقت. لهذا لا لشيء آخر ينفي الأب بنيه عن بيته ويرسلهم إلى المدارس الداخلية والأديرة والكليات فتمحو المشاغل صورة عشهم من صدورهم وتسقيهم عنه سلوة فإذا عادوا إلى عشهم الذي درجوا فيه وجدت أفئدتهم فارعة خلوا من الحنين الذي يستوقد الضلوع وتلتعج في الأحشاء نيرانه حتى ليكاد الأخ لا يعرف أخته.(7/20)
آثار تهذيبية
ست عشرة رسالة حكيمة
من رسائل الفيلسوف سنيكا إلى صديقه لوسليوس
(تابع ما قبله)
الرسالة الرابعة في الخوف من الموت
سر في هذا الطريق الأبلج وأسرع فيه ولا تتئد ما وجدت إلي ذلك سبيلاً وأعلم أنك ستبتهج وتسر سروراً طويلاً بما تنال نفسك من التهذيب والكمال بل ثق بأن سلوك هذه الجادة من تزكية النفس وتكميلها فيه من السرور واللذة ما فيه وإن كان السرور برؤيتها كاملة خالية بقدر الإمكان من العيوب لا يعادله سرور لا يضارعه حبور، أنك لا يمكنك أن تنسى أن فرحك كان عظيماً يوم خلعت رداء القضاء الأدنى وألبست رداءه إلا على وسيريك في موكب لجيب حتى إذ حلت الديوان فكم لعمري يكون مقدار سرورك إذا خلعت آخراً عن رقبتك نزعات الشباب وأغلاطه وأحلتك الحكمة في مصاف الرجال.
إن الشباب وإن ذهبت عنا أيامه لكن مما يؤسف عليه أن تبقى فينا نزعاته بل مما يزيد في الأشجان أن نكون شيوخاً في السمة والوقار ثم تلازمنا مع ذلك عيوب هذا الشباب بل مخاوف الطفولة، ومع أن مخاوف الشباب تافهة ومروعات الطفولة خيالية فقد اجتمعتا فينا كلتاهما وأنك لو تقدمت في الحكمة قليلاً لعرفت أن طائفة من حوادث الدهر ونكباته ليست بالمخيفة بالمقدار الذي ترتاع لوقعها منها النفوس فالشر ليس بالعظيم إذا كان خاتمة السرور والموت إذا أقبل فإنه يحق لك أن ترتاع منه إذا كان غير متخطيك ولكنك تعلم حق العلم أن لك فيه سابقين كما أن لك فيه لاحقين، ولقد تقول لي أني ليعسر علي أن أحمل النفس على الازدراء بالموت وأن استسهل صعبه فأجيبك أنظر في أحوال الناس وأحكم كم ترى من صغائر ولدت في النفوس كراهة الحياة واستسهال الموت فهاهنا نسمع بعاشق شنق نفسه على باب معشوقته وهناك نشاهد عبداً مملوكاً خاف قصاص مولاه فألقى بنفسه من أعلى سطح داره وفي جهة ثالثة نسمع بشقي خشي العود إلى الأصفاد والأغلال فطعن نفسه طعنة نجلاء ليرتاح من العذاب وأنك لتعلم أن ليست الشجاعة هي التي جرأت هؤلاء الناس على الإقدام على ما أقدموا عليه من الموت وإنما هو الخوف وشدة الهلاع، والخوف(7/21)
على الحياة وشدة الرغبة في إطالتها لا يوجب لعمري راحة البال وإنما يحدث هموماً ويثير في النفس مخاوف ووساوس وإذا أنت أردت أن تعرف مقدار متاعب الحياة وتستسهل تركها غير آسف عليها فانظر إلي تلك الزمر البشرية التعسة في حرصها عليها وتعلقها بأهدابها تعلق الغريق بقطع الأخشاب والصخور وأن أكثرهم ليسبح بين الخوف من الموت ومتاعب الحياة لا يدري كيف يعيش ولا يعرف كيف يموت فإذا أحببت أن تجعل حياتك سارة قارة فلا تشغل نفسك بالخوف عليها والشيء المستعار لا يحلو إلا إذا عرفت أنه مستعار فتحسن استعماله كما لا يصعب عليك فراقه وأجمل الرد في الودائع مالا يحدوه التحسر والتأسف، فينبغي لك إذاً أن تتشجع وتقوى على مقاومة خوف مصائب هي رصدٌ على الكل وغير مستثن منها وضيع ولا رفيع فلقد كانت حياة القائد بومبيوس ألعوبة بيد خصى وطفل تحت وصايته وأيام كرسوس إنما انقضت على يد ذلك البارشى السفيه الوحشي وقطع كيوس قيصر رأس لبيدوس بسيف النائب ديكستر كما قطعت رأسه هو بحسام شيرياغ ولعمري مهما كانت الظروف التي يضعنا فيها حظنا المتاح فإنه يجب علينا أن نحذر دائماً مما قد تسمح لنا بعمله وإتيانه مع الغير لأن الحظوظ كالبحر وهل يؤمن جانبه هو هادي ساكن إذا بك تراه قد هاج وماج فاقتلع السفن الراسيات وابتلع الجواري المنشآت بما تحمل من الأموال التي كانت بالأمس بهجة نفوس أصحابها ومنتهى آمالهم كذلك الحظوظ الدنيوية تعمل ثم لا يفوتنك أنك في كل وقت معرض لأن تنالك بالأذى أيدي اللصوص والأعداء وإن لم يكن لك أعداء كبار فأحقر عبيدك معلق موتك وحياتك بين يديه إذا هو فقد صوابه وهانت عليه في إعدامك حياتك نفسه، أجل أيها الصديق أن من يستر خص حياته في معادتنا يكون بلا ريب مالكاً لحياتنا وتذكر عبر الحوادث الكثيرة فكم من أناس قتلوا على أسرتهم خفية وجهاراً بأيدي ارقائهم أكثر مما يبطش الملاك ذوا السلطان وأرباب التيجان؟ فماذا يهمك إذن من بطش عدوك وسطوته إذا كانت سلطته التي تخيفك قد تكون بأيدي أناس كثيرين ولا ضابط لها ولقد تقول لي أني إذا وقعت في يد عدوي فقد يقودني إلى الموت جهاراً فأقول لك أنك بسبيله منذ أزمان ولم نغرر بأنفسنا طويلاً ولا نبصر إلا في هذا اليوم ما هو مهدد لنا ما حيينا، نعم أيها الصديق الكريم إنك سائر إلى الموت والفناء وأنك وأنك سالك سبيله من يوم ولدتك أمك هذا ما يجب أن نجعله نصب(7/22)
أعيننا من الأفكار في هذا الصدد إذا أحببنا أن نعيش بسلام ونقضي أيام حياتنا بالهناء حتى ساعتنا الأخيرة التي خوفها هو السبب الوحيد في التنغيص علينا في كل أوقاتنا وساعاتنا الأخر.
ولا ختم ما اخترته لك في هذا المعنى بالحكمة المختارة ليومنا هذا وهي زهرة مقتطفة من حدائق الحصم قال إن الفقر المنظم وفق النواميس الطبيعية غنى وحظ عظيم أو تدري ماذا يعني بالفقر المنظم وما تشير به هذه النواميس أنها تشير بأن لا نجوع ولا نظمأ ولا نعرى وكل هذا أي سد الجوع وأطفأه الظمأ وستر العورة لا يحتاج البتة إلى أن نقف بالذلة والصغار بواب العظماء ولا أن نتحمل نظراتهم المملوءة كبراً واحتقاراً وجمائلهم التي حشوها الخزي والعار وليس بمستلزم كذلك أن نقتحم الأهوال ونتجشم سفر البحار على حين أن ما تتطلبه الطبيعة سهل الوصول إليه والحصول عليه وإنما تتعب النفوس بالجد والكد وراء ما زاد عن ذلك من مظاهر ومفاخر فترى هذا يخلق جدته في الحصول على الوظائف الملكية وذاك يقضي زهرة أيامه في التقلب في قيادة الجندية وثالثاً يلحقه الفشل على شواطئ البحار وراء الحصول على الفخار وصفوة القول أن الضروري سهل المنال علينا ومن يقنع بحالته منه وينظم معيشته فيه فذاك لعمري هو الغني ذو الحظ العظيم.
الرسالة الخامسة في المباهات بالفلسفة والفلسفة الصحيحة
حرصتَ على تحصيل الخيرات بلا فتور وهجرتَ كل شيء انصرافاً إلى تكميل نفسك فأنا أحمد إليك صنيعك وثباتك عليه وأنصح لك بل أرجو منك رجاء أن تثابر على تلك الخطة ولكني أحذرك التشبه ببعض هؤلاء الفلاسفة الذين قد يتغالون حتى يشذوا عن الجادة في إهمال أبدانهم وتيانهم فأحرص أحوالك وأطوارك رغبة في الظهور بمظهر الفلاسفة (الكلبيين) وكفى ما بالفلاسفة اليوم من سوء ظن الناس بهم مهما أظهروا من الحشمة والكمال في أحوالهم فكيف بهم إذا رأى الناس منهم كبير شذوذ وخروج عن مألوفهم؟ أنا لنخالف الناس في بواطننا أما الظاهر فيمكننا أن نظاهرهم عليها ونجاريهم فيها بالمقدار اللازم، فأنا لا أحب مثلاً أن تكون ثيابي مما تلفت الأنظار زخرفة ولكني لا أحب أيضاً أن تكون مما تنبو عنه الأعين قذارة وإهمالاً، ولا أود كذلك أن استعمل آنية الذهب والفضة ولكنني لا أعتقد الزهد والورع إلا وراء ذلك، فلنحرص إذن أن نعيش كما يعيش الناس(7/23)
اللهم إلا ما عليه العوام والسوقة من أمور مزرية وأنا إن لم نعمل بذلك نبذنا من نريد إصلاحهم وتهذيبهم لأن الناس قد يستصعبون هذا الشذوذ فيتجنبون الإقتداء بنا في شيء توهماً منهم أنهم مكلفون بتقليدنا في كل شيء فتفوت وما غرض الحكمة الأول ذلك الغرض الشريف الأربط البشر بروابط الألفة والمحبة والاتحاد في الفكر والمشرب والتحاب والتعاطف بين الناس فإذا نحن نبذناهم وجفوناهم وبايناهم بأحوالنا وأطوارنا خرجنا لعمري عن ذلك المقصد الأسنى ونددنا عنه ولنخش أن هذه الأحوال الشاذة بدلاً من أن توجب إعجاب الناس بنا وثناءهم علينا تجلب لنا سخطهم واستهزاءهم. إننا وأيم الحق يجب علينا أن نجعل الطبيعة رائدنا ودليلنا في حياتنا والطبيعة تأبى علينا أن نقدم على تعذيب أنفسنا بأنفسنا وأن نمقت بسيط الزينة ونميل إلى لقذارة واختيار ما تعافه من رديء الطعام ولا يعد في شيء من الزهد والتقشف لأنه إذا كان من الرفاهية والتنعم اختيار الألوان الشهية فلا ريب أنه من الحمق والجنون نبذ الأطعمة العامة الرخيصة الثمن والفلسفة إنما تحث إتباعها على الزهد والقناعة لا على التشدد وإرهاق النفس فالقناعة والزهد حالهما وسط بين الطرفين وهو ما يجب أن نختاره لأنفسنا بأن نجمع في حياتنا ومعيشتنا بين الخلال الحميدة والخصال الرجيحة حتى تكون حياتنا على الدوام موضع إعجاب الناس لا موضع استغرابهم وتعجبهم ولقائل أن يقول ما هذا أو تريد أن يتساوى أهل الحكمة مع عامة الناس في أحوالهم وأمورهم بلا فرق ولا تمييز؟ أقول أن الفرق ما زال عظيماً بشرط أن يدقق فيه النظر وينعم الفكر فالذي يدخل بيت الحكيم يعجب برب الدار أكثر مما يعجب بما تحوي من أثاث ورياش وأن الحكيم ليتساوى عنده استعمال آنية الفخار وآنية الفضة لما حازت نفسه من سمو ورفعة بعكس ذوي النفوس الضعيفة فإنهم يفرحون ويسرون باستعمال هذه ويغتمون ويحزنون إذا حرموا إلا من تلك.
وهاك ما أشاطرك إياه مما استفدته من الحكمة في يومي هذا وقد التقطتها من أحد أبناء شيعتنا أعني به هيكافون وهي تدل على أن خمود نار الرغائب علاج ثمين للخوف قال أقطع عن النفس الأمل ينقطع عنك الخوف ولعلك تقول أي علاقة بين هذين الإحساسين المتباينين كل التباين؟ فأقول أجل أيها الصديق لوسليوس أنهما وإن اختلفا في الظاهر لكنهما مرتبطان في الحقيقة وأن السلسلة التي تربط الأسير بالأسر لأقل ارتباطاً مما بين(7/24)
هاتين العاطفتين فالخوف يتبع الأمل ولا عجب في ذلك ولا غرابة فيه لأن كلا منهما منشؤه قلق النفس وخوفها على المستقبل وسبب ذلك أن المرء بدلاً من أن يكتفي بالحاضر تتشبث أفكاره بالمستقبل البعيد فتضل بصيرته ويصير نورها الذي هو أكبر نعمة عليه آلة يخاف شرها على أن الوحوش قد تحذر الأخطار الواقعة وتهرب منها عند رؤيتها فإذا ما مرت سكنت نفوسها وعادت إليها طمأنينتها أما نحن فإن نفوسنا لعمري فريسة بين المستقبل والماضي وكل قوانا تعمل ضدنا فلذاك توقظ فينا الوساوس والمخاوف والعقل يغفل عنها ويتخطاها فلذلك لا يكفينا الاهتمام بمشاغل الحاضر ومتاعبه حتى نضيف إليها هموم المستقبل ومخاوفه.
الرسالة السادسة في الصداقة الصحيحة
أرى نفسي أيها الصديق تتزكى أو أراني بالأولى متحولاً من الحال التي هي أدنى إلى الحال التي هي أعلى، على أني لا أفتخر ولا أدعي أنه لم يبق في شيء يعوزه البتة الإصلاح والتغيير إذ كم أمامي لعمري مما هو بحاجة إلى الإصلاح والتهذيب ولكن شعور الإنسان بنقصه وتقصيره دليل على الأقل على أنه يعرف خطأه ويعترف بخطاياه والناس تهنئ عادة المريض الذي يشعر بالمرض لأنه دليل في الغالب على البرء من الداء وقرب الشفاء من العلة وهلا يكون في قدرتي أن أفيض عليك مما يفاض علىَّ من ذلك حتى يكون ما بيننا من روابط المحبة والصداقة على أتمه ووثقه وهو ما أرى فيه الصداقة الحقيقية، تلك الصداقة التي لا يمكن أن يحل رباطها خوف أو أمل أو نفع، تلك الصداقة التي يموت عليها المرء ولأجلها يفدي حياته ولكن كم من أناس وجدوا أدعياء في الصداقة لا أوفياء فيها فلكي لا تشوب الصداقة شائبة ينبغي أن تتصافى القلوب وتخلص السرائر في تبادل المحبة من الجانبين على السواء بذلك تتحد الأفئدة وتأتلف الأهواء المتفرقة وإن قلت وما سر ذلك وعلته قلت أن النفوس إذا تصافت وتحابت لا جرم علمت أن الأمور بينها مشتركة خيرها وشرها واراك تغبطني على ما استفدته وشرحته آنفاً وتعلم منه مقدار ما ينالني من التقدم والارتقاء في كل يوم تطلع على فيه شمسه.
ولقد تقول لي ابعث إلي بهذا العلاج الشافي تعالج به أدواء نفسك فأقول أجل أيها الصديق أني لأتقد غيرة وشوقاً إلى حبه حباً في نفسك لو أمكنني ذلك لأني لا أبتهج بما يفتح علي(7/25)
به من العلم إلاّ على أمل أن أعلمه غيري فأجمل ما يتاح لي اكتشافه وألطف ما اهتدي إلى ابتكاره لا يحلو لي ولا يطيب إلا إذا توصلت إلى إيصاله لسواي، ولو لقنت الحكمة على شرط أن أكنها في صدري ولا أعلمها الناس لرفضتها وما قبلتها إذ أفضل الأشياء ما كان مشتركاً بين الناس كثير التداول عام النفع بينهم وعليه فقد رأيت أن أبعث بنفس نفائس الكتب التي استقي منها وأغوص فيها على الدرر واللآلئ التي التقطها لتستخرج منها لنفسك بنفسك ما تشاء، ولكي أكفيك مؤنة التعب والنصب في البحث والتنقيب بين ثناياها علمت لك بخط يدي على الصفحات وعلقت على هوامشها بيدي تعليقات ترشدك بسرعة إلى المقاصد والأغراض وما أعجبني من عيون الحكمة ولكن ثق أن تلقيك بالمشافهة والمحاضرة مع صديقك ليفضل عندي كثيراً تلقيك عن الكتب لأن في المعاينة والسماع والخبر بالنفس ما يفضل كل طريقة أخرى عند الناس، وسبيل التعليم بالقدوة العملية خير مما يلقى في الأسماع من النصائح والتعاليم النظرية وما حاكي كلينشيوس الحكيم زينون إلا لما عاشره وأخذ عنه واقتدى به ودرس سلوكه وقارن بين ذلك من أحواله وبين تعاليمه، وما تبع أفلاطون وأرسطاطاليس وغيرهم من الحكماء الحكيم سقراط ولم يخالفوه كبير مخالفة إلا لما أخذوا عنه وسبروا أحواله واقتدوا به، وما اقتفى أثر أبيقور أشياعُه من مشاهير الحكماء ميترودور وهيرمارك ويولينس إلا لما جعلوا سيرته أسوة حسنة لهم إلى جنب تعاليمه، على أني إذا كنت أطلب منك ذلك فأني إنما أطلبه لفائدتي أنا أيضاً لا لفائدتك وحدك لأنا بالاختلاط والمعاشرة ينفع أحدنا الآخر فيما نحن بصدده ويشد أُزره وهاك ضريبتي اليوم وهي مما أعجبني من حكمة هيكاتوز قال: أتريد أن تعلم ما هي وسائل ارتقائي ونجاحي هي أني صديق لنفسي ولقد أصاب كبد الحقيقة لأن صديق نفسه الحقيقي ثق بأنه صديق لكل الناس.
صالح حمدي حماد(7/26)
الحكمة المشرقية
حكم فتاحوتب
تعريب الأستاذ محمد لطفي جمعه
إذا كنت رئيساً فعامل من هم أقل منك مرتبة برفق وأعلم أن مرؤسك هو عضدك وساعدك وأن التشدد في معاملته يعقل لسانه ويختم على قلبه فيخفى عنك ما قد يفيدك العلم به أما إذا استعبدته بالحسنى فلعله يبوح لك بما يضمر ويفتح لك خزائن قلبه وعودة الحرية في القول يصدقك فيما ينفعك ولا يخدعك فيما يضرك وإذا أتاك في أمر له فلا تجبهه بل كن شفيقاً صبوراً وإذا استطعت إجابة سؤاله فلا تبطئ فخير البر عاجله. وإياك والشدة في معاملة من يطيعون أمرك فقد تكون داعية إلى سوء الظن بك. واعلم أن الإصغاء للضعيف والمكروب فضيلة يمتاز بها الأخيار على الأشرار.
إذا شئت أن تستبقي حب أخ وإخلاص صديقك فاحذر مشورة النساء لأنها مجلبة الشر في كل زمان مكان وأعلم أن حب المرأة مجلبة الهلاك وما طاب عيش امرئ يقضي على سعادته ويستهين بحياته في سبيل لذة لا تدوم أكثر من طرفة عين وتورث آلاماً ما تبقى مدى الحياة.
اجتنب جلساء السوء فإن في بعدهم غنماً وفي قربهم غرماً. إذا شئت أن تكون صادقاً في قولك أميناً في عملك فطهر نفسك من أدران العناد والطمع واحذر الشراهة والجشع وأن كنت خلواً من تلك النقائص فحذار أن تقع في هوتها فإنها أدواء لا تستقيم حال المرء ما دامت جراثيمها عالقة به وأعلم أن تلك المعائب تفرق بين الوالد وتشتت شمل الجماعات وتبدد أوصال الصداقات وتقطع ما بين الرجل والمرأة من صلات الود والمحبة وتغرس بذور النفور والبغض.
كن عادلاً فإن العدل يضمن لك الفوز في مضمار الحياة لأن له صولة تدوم وتبقى في الأرض. لا تحاول أن تنال بالبطش والظلم ما ليس لك ولا تحسد جارك على نعمة أصابها إنما الحسد سم لا ترياق له وقد رأيت الحسود والشره يقضيان عمرهما في فاقة ولو كانا غنيين أما القنوع الذي يرضى بالقليل إذا لم يستطع الكثير ويغبط غيره إذا ناله الخير فإنه لا محالة غنى ولو بات على الطوى وتقلب في الثرى.(7/27)
إذا كنت ذا أهل فأعدد لهم عدتهم وأوفهم حاجتهم ولا تحرمهم خيرك وبرك وأخلص جتك التي تفرش لك وتنيمك وأطعمها إذا جاعت واكسها إذا عريت وداوها إذا مرضت وأسعدها إذا شقيت فهي أغلى ما تملك وأعز نعم الله عليك وحذار أن تقسو في عشرتها وكن بها رحيماً فن الرحمة تحببك إليها وتقربك من قلبها والقسوة تنفرها منك وتقصي ودها عنك. والمرأة أسيرة من يكرمها وهي كثيرة الولع بزهو الدنيا وزخرفتها فإن لم تنلها ما تحب من المتاع هجرتك.
أحسن إلى خدمك وحشمك وأعطهم مما أعطالك الله فما منحك المال الكثير والخير الوفير إلا لتمنح ذوي القليل. علمت أن إرضاء الأجير محال فهو كثير الطمع قليل الإخلاص ولكنك إذا غمرته بإحسانك وأسرته بكرمك أنطقت لسانه بشكرك. واعلم أن الله ينقم على بلد أجراؤه أرقاء وعمَّاله أذلاء فارعهم بعين الإحسان يرعك الله بعين الرحمة.
إياك أن تفوه بفحش القول وإن سمعت القول فمرّ كريماً وصن أذنيك عنه وأعرض عن قائله وإياك أن تعتب على قائله أو تؤنبه فإن في سكوتك وعفوك عنه درساً نافعاً وعظة بالغة فإن الخير يصلح الشرير بخيره ويرده عن غيه وشره.
إذا أمرك من هو أقدر منك بمعصية فاعصه لأن العصيان في النقيصه طاعة للفضيلة. لا تستعن على قضاء حاجتك بالكتمان فلعل فيه أذى ومضرة وربما منع الكتمان عن الانتفاع بعملك.
إذا تطلبت الحكمة وشئت أن ترتفع إلى مجالس الكبراء وأن تعاشر الحكام والعظماء فهذب نفسك واقض زمنك في تكوين عقلك بالعلم وتكميل قلبك بالفضائل لأن العلم والفضيلة يوليانك البطش والقوة. واعلم أن الاقتصاد في القول خير من الإسراف فيه فلا تنبس بكلمة حتى تزنها وإذا كنت في مجلس الدولة تجادل وتناضل فلا تنطق إلا بمقدار فلست تدري مكان من يناضلك من البيان وقوة الحجة. إياك والادعاء فإنه فتنة وإن حذقت في فن فلا تزه بحذقك على أقرانك فقد يكبو اللبيب ويخبو الأريب. ويصيب الغبي ويخطئ الذكي.
إذا كنت في مجلس فلا تلزم الصمت البتة وحذار أن تقطع حديث محدثك أو تجيب علي مالم يسألك عنه. إياك والحدة في القول فقد يعقبها الندم. اعتده كبح جماح نفسك والزم صون لسانك عما يجول في صدرك. لا تجعل كنز المال معقد آمالك ولا غاية أعمالك ولا(7/28)
تكن كالذين يقضون أعمارهم ويبذلون نفوسهم ويريقون أمواه وجوههم في جمع الثروة فإن هؤلاء كالخنازير لا يرفعون خياشيمهم من الوحل.
إذا لهوت فلا تتماد في لهوك فإن التمادي في اللهو والإفراط في السرور يذهبان بالخير من الحياة.
إذا أردت أن تصيب غرضاً فكن كأحذق الرماة تصويباً أنعم النظر في هدفك قبل توتير قوسك فإذا وطدت نفسك ووترت قوسك أطلق سهمك. واعلم أن ربان السفينة لا يبلغ المرفأ الأمين إلا إذا ساير الريح.
إذا اصطفاك الملك واصطحبك واستعان بك فلا تغتر بما لك عليه من الدالة فتلهيه عما يهمه بأن تسمعه مالا يحب أو تنبئه بما يكره فإنه إن وسعك حلمه مرة لا يسعك أخرى وهيهات أن يؤمن شر من إذا قال فعل. أعلم أن رفعتك لا تكون بعلو نفسك ولا تعلو إلا النفس التي اختارها الله والله لا يختار إلا نفساً تحب أعداءها كما تحب أصدقاءها وتبغض الشر لذاته وتعمل الخير حباً فيه لا جلباً لنفع تريده.
إذا وكل إليك تهذب صبي من أبناء الأشراف والأمراء فلا تخش بأس أهله في تقويم خلقه وإصلاح حاله فإنك إن قمت بعملك كما توحي إليك نفسك وذموك في الحال أثنوا عليك في المآل وكان نصحك كالدواء يسوء استعماله ويحسن مآله. أوصيك بتهذيب الصغير بحيث يستطيع مجالسة الكبراء فإن في هذا من الفضائل مالا يحصي وإذا وفقت إلى القيام بعملك وقدر أهل الصبي حسن فعلك أغدقوا عليك نعمهم ورفعوك إلى مراتبهم وقد تعلوهم وتفوقهم بعد أن تصير مربيهم وأستاذهم.
إذا كنت من رجال الدين ووكل إليك أمر الفصل في مشكلة عويصة بين الملك والرعية فاحكم بالقسطاس وكن عدلاً ولا تظلم الشعب لتصانع الملك لئلا توصم بوصمة الأشراف وهي أنهم ينصرون القريب والصديق ولو كان على ضلال مبين ويخذلون العدو الغريب ولو كان على حق وهدي بل كن يا ولدي مع الحق والعدل أينما كانا يكن الله والخير معك. إن أساءك من أحسنت إليه فاعف عنه واجتنب عشرته فإن كان حراً فالعفو قتل له وإن كان وغداً ففي هجرك إياه منجاة لك من شره.
إذا عظم قدرك بعد حقارة شأنك واستغنيت بعد فقرك فلا تقصر خيرك على نفسك إنما أنت(7/29)
خليفة الله في أرضه وحارس نعمته وولي خلقه رزقك لتعطيهم وهداك لتهديهم وأحسن إليهم فلا تخن الله في أمانته ولا تكفر بنعمته فما كفر بها إلا كل معتد أثيم. أطع ولي أمرك واخضع له بالحق فإن عيشك رهن الطاعة وإن عصيته ولم يكن قد اعتدى عليك فقد أسأت إلى نفسك.
إذا وليت أمر قوم فلا تتحكم في أعناقهم بظلم ولا تسع في سلب نعمتهم فإن الخير يذهب عنك بقدر ما تذهبه عنهم. ولا تغدر أخاك فيما له من مال لأن الغدر منبت الأحقاد.
إذا شئت أن تسبر غور رجل تريده صاحباً فإياك وسؤال الناس عنه فما ذكروا لواحد حسنة إلا وأردفوها بمساوي لا تعد بل أكتف بعشرته أمداً محسناً إليه ما استطعت فينبسط الرجل ويفضي لك بما في نفسه فإن راقك بعد التجارب فاقبل عليه وفاتحه فيما تود وإلا فاتركه بالمعروف والحسنى وأن صحبته فلا تحتجر عليه في الحديث وإن استصغرت شأنه فلا تشعره بما تراه فيه فينفر عنك وده ولا تحرم أخاً لك نفعاً تملكه.
اعلم أن كل سعادة يتبعها شقاء وكل غنى يتلوه فقر وكل صفاء له كدر. وأن للأيام دورات فكم من رفيع خفضت ووضيع رفعت وكم صعلوك أسكنت قصراً وكم كريم أذاقت بؤساً وفقراً.
إذا اتجرت فأوصيك باكتساب ثقة الناس فإنهم لك خير نصير إذا كبا بك الزمان وعاكستك صروف الحدثان. أعلم أن الذكر الرفيع أعظم قدراً في نظر العاقل من المال الكثير لأن المال يجيء ليذهب ولكن الشرف إذا حل ألقى رحله ولم يتحول.
إذا سألت فاسأل بالحسنى وإذا سئلت فتلطف في الجواب.
إذا أسأت إلى امرأة في عرضها ودعوتها إلى بذل ماء حيائها وجلبت عليها عاراً يخلق أديم وجهها فكن بها رحيماً وأفض من نعائمك عليها بقدر ما أسأت إليها فإن في ذلك إحساناً وعدلاً وتكفيراً عن الذنوب.
اعلم يا ولدي أنك إذا أطعتني وعملت بما نصحت إليك به فقد نهجت سبل الخير ومن ينهجها لا يضم.
إذا أردت أن تقوم من اعوجاج أهلك ومن حولك فلا تضن على الأحداث والجهلاء منهما بعلم واضرب لهم الأمثال وعلمهم الحكمة ليرجعوا في أمور معاشهم إليها ولعلك مؤد تلك(7/30)
الأمانة إلى أهلها وتارك وراءك أثراً يبقى في بلاد النيل إلى ما شاء الله فيكون نبراساً يستنير به الشعب والملك لأن في كلمى ما يستفيد به المسترشد فينال من الخير ما ينفعه. وقد نصحت بالرفق والكرم والقناعة لعلمي بأن الحكمة أفرغت في هذه الفضائل الثلاث.
إن من يقرأ قولي سيرضى به وتروقه حكمتي فتستنير بصيرته وتحل عقدة لسانه ويصفو ذهنه ويقوى جناته فيهذب أولاده ويورثهم الحكمة من يعده وهم يورثونها أبناءهم.
اعلم أن لا شيء أحسن لدى الوالد من طاعة الولد البار الذي يعني بقوله ونصحه وإذا تكلم أحسن الكلام وأن ألقى إليه القول أحسن الإصغاء فإن الصغير إذا شب على الطاعة استطاع أن يأمر وينهي في شيبه كما كان يأتمر وينتهي. إن الطاعة زارع يغرس المودة وإكسير يجلي صدأ القلوب ودواء ناجع يشفى داء البغض وآلة تنال بها حكمة الشيوخ وحنكتهم وهيهات أن يخلص لك النصح حكيم لا تطيعه. إن الله يحب الطاعة ويأمر بها في الخير ويبغضها وينهي عنها في الشر ولا ريب في أن القلب هو الذي يأمر صاحبه بالطاعة أو ينهاه عنها لأن حياة الرجل بحياة قلبه فإذا كان طاهراً تقياً كانت حياته طيبة شريفة وإذا كان القلب خبيثاً دنيئاً كانت حياة صاحبه كذلك.
إذا كنت في فتوتك مطيعاً ووليت الرئاسة في رجولتك كنت رئيساً عادلاً. وإن للعدل قوة تؤثر في النفوس الجامحة وتستل منها سخائم العناد.
رأيت الأمراء يحبون المطيع لأنهم يعلمون أن الطاعة فضيلة مكملة للأخلاق فعليك بتعلم الطاعة ولدك ليكون مقرباً من الأمراء والكبراء.
رأيت الجهال يعصون فيهلكون لأنهم لا يفرقون بين الخير والشر ولا بين الربح والخسران فيقترفون الذنوب فيذوقون أنواع الهوان. إن الجاهل قد يغلب العاقل بالثرثرة والهذر ولكنه يقصر عن مدى الأطفال في مجال العلم والحكمة فيجتنبه الناس ويبقى طول حياته مهجوراً محسوراً.
إذا رزقت ولداً فلا تضن عليه بالحكمة التي جدت بها عليك فيناله من الخير بنصحك ما نالك بنصحي وأوصه أن يبلغ رسالتك إلى ابنه من بعده فتبقى الحكمة في بيتنا وهذه نعمة كبرى. توخ الصدق فيما تقول للأطفال لأن نفس الحدث كالعجينة اللينة يسهل تشكيلها على أية صورة تريد واعلم أن الصدق إذا كان أول ما يقابل النفس اعتادته وبذا يمكن استئصال(7/31)
الرذائل منها وغرس الفضائل مكانها.
اعلم أنك إذا فعلت ما أوصيتك به كنت قدوة عشيرتك وأهلك فتتولى أنت وأولادك قيادة الشعب وزعامته وتلك الدرجة أسمى ما تتطلع إليه النفوس الكريمة. عليك بالعدل في قولك وفعلك واحرص على ما تفوه به حرص البخيل على درهمه والجبان على دمه. كن خاضعاً في حضرة الملك وعيوفاً في نظر أقرانك وإذا نطقت فليكن حديثك مدعاة للإعجاب بك والتحدث بفضلك. أقدر قولي قدره واعلم أن نصيحة الوالد أثمن ما يقتنيه الولد.
إذا بلغت منصبي فاجتهد يا ولدي في إرضاء الملك بإتقان ما تمارس من الأعمال. أحفظ شبابك تحفظ مشيبك. إذا مرضت فبادر إلى علاج جسمك فيطول بذلك عمرك وتنتفع بحياتك أنت وغيرك وتعيش كما عشت مائة وعشر سنين خدمت أثناءها بلادي بالحق والعدل فغمرني الملوك بالإحسان وأغدقوا على النعم فكنت أسعد حالاً من آبائي وأجدادي.
انتهت حكم فتاحوتب الحكيم المصري.(7/32)
طرف أدبية
اختراع التقبيل
للكاتب العبقري عبد الرحمن شكري
يا رعى الله من اخترع التقبيل فإنه قصيدة من قصائد النسيب وآلة من آلاته ونغمة من نغماته. حدثنا الخيال قال أن آدم هو أول من اخترع التقبيل قال زعموا أن آدم وحواء ذهبا إلى شجرة من شجر توت الجنة وجعلا يأكلان من ثمرها حتى سال رضابهما وامتزج بماء الثمر الذي أكلاه فأعطاه ماء الثمر من حلاوته فبينما يأكلان لمست شفة آدم شفة حواء عن غير قصد فراقتهما تلك اللمسة المعسولة بعصير الثمر فكانا كلما أرادا أن يراجعا لذتها ذهبا إلى شجرة التوت (ياليتهما لم يذهبا بعد ذلك إلى شجرة الحنطة) وبللا شفتيهما بعصير ثمرها ثم حك أحدهما شفته بشفة الآخر.
وجاءت حواء إلى آدم يوماً وقالت له يا آدم أنك قد اخترعت التقبيل بحك الشفاه ولكني اخترعت نوعاً آخر من أنواعه قال آدم وما هو قال هو التقبيل بإطباق الشفاه قال آدم أجدت يا حواء ولكن لا غرو فأنت أم النساء وزعموا أن الحلاوة التي نذوقها إذا قبل أحدنا عشيقته هي بقية جاءتنا من سبيل الوراثة من حلاوة ثمر توت الجنة الذي بلل آدم وحواء شفتيهما بعصيره.
والقبل غذاء العاشق والشاعر فهو إذا قبل حبيبته كانت روحه فوق شفته وطيّ أنفاسه فإذا تصافحت الشفاه تصافحت الأنفس. إنك لتشرئب بعنقك عند التقبيل فتشرئب نفسك حتى تطل على حبيبك من عينك وفمك فإن العين والفم بابان تطل منهما النفس على مرأى صالح ومعتنق طيب.
أيام الشباب وأيام التصابي من لي بتلك القبل البطيئة التي تضرم النفس وتشعل العين وتوقد الخيال. أيام الشباب وأيام التصابي لكانت تلك القبل جيداً في عنقك ورونقاً غضاً في ريعان الحياة. أيام الشباب أنت فجر الحياة فيك تغني القبل بصوتها الغريد كما تغني الأطيار في فجر النهار وفيك تينع القبل في روض الشفاه كما تينع الأثمار والأزهار في الروض. أيام الشباب أنت عنوان الحياة فيك يقرأ القارئ آية الحب وآية العمر.
إن في القبل من بيان المنطق وفصاحة القول ما يعجز (برك) و (ششرو) ومن بلاغة(7/33)
التعبير وشرف الخيال ما يزرى بشكسبير وابن الرومي والمتنبي والقبل شتى المعاني فإن للحب قبلة وللشهوة قبلة وللحسد والحقد قبلة وللإشفاق والرحمة قبلة وللحزن قبلة وللذل قبلة وللجبن قبلة فغلام يقبل أمه وعاشق يقبل عشيقته وماجن يقبل هلوكا وامرأة تقبل ضرتها وشريكتها في بعلها وأخت تقبل أختاً لها قد أضر بها الحب وزوج يقبل قبر زوجته وذليل يقبل يد السلطان أو قدمه أو التراب الذي تحتها وجبان يقبل أرض ضريح ولي من الأولياء.
إذا رأيت امرأة تقبل امرأة أخرى فاعلم أنها تحبها حباً صادقاً أو أنها تكرها كرهاً شديداً ولكن من النساء من تقبل صاحباتها إذا علمت أنهن يعرفن سراً من أسرارها والتقبيل هو لغة النساء فكأنها تقول لهن في تلك القبل يا صاحباتي لقد علمتن أني أحب فلاناً والقبل إشارة لا يعرف سرها مثل النساء كما لا يعرف سر إشارة الماسونية مثل الماسونيين.
ضمائر الشعراء
والشجاعة الشعرية
إن للشعر رجولة تبعث في قلب المرء خشوعاً مثل خشوع يبعثه صوت العاصفة في صدر السامع. وقد قدم المتنبي على أبي تمام والبحتري وابن الرومي أن نصيب شعره من تلك الرجولة أكبر من نصيب أشعارهم ولولا أن ابن الرومي يفيض المعني الواحد من معانيه على أبيات كثيرة فيودع كل بيت جزأ من المعنى ولولا أن أبا تمام يتكلف الخيال السقيم كثيراً ولولا أن البحتري يعيد معانيه كثيراً لكان شعرهم أعظم وقعاً منه الآن وقد اسعد المتنبي ذلك الإباء الذي جعله يعيش شقياً ويموت شقياً وإذا أردت أن تعرف لم يجري شعر المتنبي مجرى المثل فالتمس سبب ذلك في الآباء الذي أشعل كلماته وأنار معانيه أما مناقضة نفسه في مدح كافور ثم ذمه فهي ليست مما ينافي الآباء وكافور كان ملوماً في مداجاته وهذه المناقضة شيء ضئيل بجانب ذلك النفاق الذي جعل البحتري يمدح المتوكل ثم يرثيه ثم يمدح قاتله والآمر بقتله والذي جعله يمدح المستعين ثم يهجوه أشد الهجاء بعد نكبته وكيف يكون نصيب شعراء اليوم من رجولة الشعر كبيرا وهم يكلفون أنفسهم الكتابة في موضوعات لم تتهيأ أنفسهم للكتابة فيها ولم يجدوا في قلوبهم دافعاً إليها. إن رجولة الشعر في صدق سريرة الشاعر وإحساسه بصدق ما يقول هناك فئة من الشعراء يعوقها فقد(7/34)
أن الشجاعة الشعرية عن بلوغ شأوها والشجاعة الشعرية هي التي تدفع المرء إلى التعبير عما يوحي إليه ضميره تلك الفئة لا ترى في ضميرها مزجاً إلى القريض ولكن باعثها إليه رغبتها في أن تبين عما تسنه ضمائر الناس ولكن يعوقها عن ذلك أن الكذب والنفاق والخداع والتحيز والغرور حجب مسدولة على ضمائرهم على أن ضمير المرء أصدق مناصحة له من ضمير غيره هذا سبب أن الشاعر من شعراء هذه الفئة يناقض بين أقوله في التعبير عن الأخلاق ويلبس ثيابه ولو لم يكن في هذه الخلة شيء غير فناء الشاعر في شخصية غيره لكان خليقاً بالعبقرية أن يأنف من التخلق بها ولكنها تسوقه إلى إطراء السيئ وهو يعرف أنه سيء وإنما حب العبقري نفسه أنفة من أن يعيش في آراء غيره وقد يعود تعلقه بما يسنه ضميره حباً لنفسه مثل ذلك (روسو) كان شديد التعلق بما يوحي إليه ضميره من الآراء حتى صار يجل نفسه من أجل إجلاله لتلك الآراء وهذه الخلة غير غرور الأديب الذي يقتل ضميره ليحيي آراء الناس فإن هذا الغرور سببه إطراء الناس إياه وتقريظهم شعره. أرأيت ضعيف الجسم إذا أراد أن يلفت الناس عن ضعفه فيملأ فمه كذباً من وصف شجاعته وأقدامه ويطعن الهواء بصرخات يحسبها الغافل صرخات النجدة والحماسة حتى يضج الهواء منها مثل هذا مثل كثير من شعراء السياسة إذا قرأ الغافل شعرهم حسب أن نصيبه كبير من تلك الرجولة التي سببها صدق السريرة وعظم الإحساس فإذا قرأه صاحب الذوق السليم وجد به ضجة مثل ضجة الدجاج قد يحسبها الغافل ضجة الشجاع المستفز هؤلاء الشعراء يلبسون آراءهم كما يلبسون ثيابهم على أن مجال الشاعر في الانتصار للحرية غير مجال السياسي فالأول سبيله التعميم والثاني سبيله التخصيص الأول يعني بالحوادث الكبيرة التي يعني ذكرها المرء في التماس الحرية في الرأي والدين والعمل والثاني يعني بالحوادث اليومية الصغيرة الأول يستمد من التاريخ والخيال والثاني يستمد من السياسة.(7/35)
العدد 8 - بتاريخ: 15 - 5 - 1912(/)
الجنسية العربية في القرآن
ليس ما ألم به علماؤنا من أطراف الإعجاز في القرآن الكريم بالشيء الذي يقذف في روع الزمن معنى الحق من ذلك ويثبت عليه صفة من صفات الإعجاز الخالد وما يكون الإعجاز خالداً إلا إذا قامت به معان زمنية تكون من طبيعة الحياة حتى تستمر مع الحياة. والعلماء رحمهم الله وإن كانوا قد اتسعوا في وجوه قيمة من البرهان ولكن هذا الكتاب يهدي للتي هي أقوم. وحسبه معجزة ما نقول فيه اليوم من صفة الجنسية العربية التي جعل الأمم أحجاراً في بنائها والدهر على تقادمه كأنه أحد أبنائها، وأقام منها معضلة سياسية في الأرض وضعها ونقدها، وفي السماء حلها وعقدها، وشدّ بها المسلمين فهم إذا ائتلفوا اجتمعوا كالبنيان المرصوص، وإذا تفرقوا سطعوا في تيجان الممالك كالفصوص، وما أن يزالون في التاريخ مرة أصوله، ومرة فصوله، إن لم يقوموا أحياناً بالدين، قام بهم هذا الدين إلى حين، وإن لم يكن لهم اليوم المشهود، فلا يؤخر إلا لأجل معدود، وكيف وقد جمعهم الكتاب الذي أنزل من السماء فكان مثال آدابها، وانتشر في الأرض فكان خلعة شبابها. ودعا إليه الناس على اختلافهم فكأنما كل أمة تدعى إلى كتابها؟
ونحن فقد نعلم أن هذه المعجزة ليست إلى اللغة في مردّها من الفائدة فإنما هي ترمي إلى وحدة سياسية تكون كالنبض لقلب العالم كما سيأتيك بيد أن سبيل ذلك من اللغة فإن القرآن تنزّل من العرب منزلة الفطرة اللغوية التي يساهم فيها كل عربي بمقدار ما تهيأ له من أسبابها الطبيعية إذ كان بما احتواه من الأساليب وما تناوله من أصول الكمال اللغوي وما دار عليه من وجوه الوضع البياني قد هتك الحوائل ومحا الفروق التي تبين قرائح العرب اللغوية بعضها من بعض فاجتمعت منه على الكمال الذي كانت تتخيله ولا تألو عما يدنيها إليه معالجة واكتساباً ولو أنهم تمالؤا طوال الدهر على أن يهذبوا من لغتهم ليبلغوا بها مبلغ الكمال الوضعي على النحو الذي جاء به القرآن لما ازدادوا إلا تعادياً في الرأي وتباعداً عما يجنحون إليه إذ تنزع كل فطرة منزعها في كل قبيل فيزيد الناقص منهم نقصاً فطرياً وهو يحسبه كمالاً ويبعد الكامل عن حقيقة الكمال بعد أن يرى غيره يحسبه نقصاً لأن الفطرة لا تنقاد إلا بالإذعان ولا تذعن إلا لما يكون في حد كمالها المطلق وليس في تاريخ العرب اللغوي من ذلك بالتحقيق قبل القرآن ولا بعده غير القرآن.
تلك سياسة القرآن في جمع العرب رأى ألسنتهم تقود أرواحهم فقادهم من ألسنتهم فلما(8/1)
استقاموا له أقامهم على طريق التاريخ التي مرت فيها الأمم وطرحت عليها نقائضها فكانت غبارها، وأقامت فضائلها فكانت آثارها، فجعلوا يبنون عند كل مرحلة على أنقاض دولة، ويرفعون على أطلال كل مذلة صولة، ويخيطون جوانب العالم الممزق بإبر من الأسنة وراءها خيوط من الأعنة، حتى أصبح تاريخ الأرض عربياً، وصار بعد الذلة والمسكنة أبياً، واستوسق لهم من الأمر مالم ترو الأيام مثل خبره لغير هؤلاء العرب حتى كأنما نويت لهم جوانب الأرض وكأنما كانوا حاسبين يمسحونها. لا غزاة يفتحونها. فلا يبتدئ السيف حساب جهة من جهاتها حتى تراه قد بلغ بالتحقيق آخره، ولا يكاد يشير إلى (قطر) من أقطارها إلا أراك كيف تدور (الدائرة).
وإن هذا الأمر لحقيق أن تذهب من تعليله نفوس الحكماء في ألوان من المعاني متشابه وغير متشابه فإنه أمر إلهي كيفما أدرته رأيت في جانبه الذي يليك ضوءً كضوء الصواعق وحركة كحركة الزلازل وقوة كالتي تتسلط بها السماء على الأرض فكأنك تتأمل منه صورة الطبيعة أو الطبيعة المعنوية في عالم التاريخ. ولو أن رمال الدهناء نفضت على الأرض جنوداً عربية لما عدت أن تكون آفة اجتماعية تهلك الحرث والنسل وتدع الشعوب متناثرة كبقايا البناء الخرب ثم لا تكون إلا أيام يتداولونها بينهم حتى تتنفس الأرض من بعدهم فتذهب آثارهم الظالمة في حر أنفاسها، وتنقضي أعمالهم فتنطوي من الزمن في أرماسها. لأنه لا يهجم على الأرض منهم أكثر من أمر البطون الجائعة وما إليها. . . ولعمرك ما العرب وما غير العرب من الشعوب البادية إلا بطونهم حتى لأحسبهم إذا اجتمعوا كانوا معدة الأرض وكان أهل العرف في فنون الملاذ من الحضريين أمعاءها. . . وما أظن مرجع ذلك إلى غير القرآن بل أنا مستبصر في صحة هذا المعنى مستيقن أنه مذهب التعليل إلى الحقيقة بعينها لأن القرآن هو صفَّى تلك الطباع وصقل جوانب الروح العربية حتى صارت المعاني الإلهية تتراءى فيها وكأنها عن معاينة فكأنما كان العرب يقطعون الأرض في فتوحهم ليبلغوا طرفاً من أطراف السماء فينفذوا إلى ما وعدهم الله ويتصلوا بما أعد لهم ولو لم يكن القرآن قد سلك إلى ذلك مسلكه من الفطرة اللغوية في نفوسهم حتى استبد بها في مستقرها وصرَّفها في وجوه معانيه ما بلغ من القوم رأياً ولا نية ولأوشك أن يكون في مقامات البيان عندهم وما يهتف به شعراؤهم وخطباؤهم ما يذهب به ويمسح أثره(8/2)
من القلوب ولا يدع له مساغاً إلى ما وراء السمع لأن هؤلاء تنفث عليهم ألسنتهم بأفصح الفصيح وأبين البيان في رأي العرب وإن لم يكن كلامهم بتلك المنزلة ولكن الحمية والعصبية واللحمة ومؤاتاة الهوى كلها فصيح وكلها بيان. وليس الشأن في اللغة وألفاظها ومعانيها وإنما الشأن فيما يمكن أن تفهمه النفس من كل ذلك وهي لا تفهم إلا ما يكشف عن طبائعها ويبين عن عاداتها ولولا اختلاف النفوس في هذا الفهم ما رأيت اللغة الواحدة عند أهلها كأنها في المعنى لغات متباينة فرب كلمة من لغة رجلين وإذا سمعاها رأيتها كلها ليست من لغة أحدهما كأن تكون كلمة من باب الحفاظ يسمعها عزيز وذليل، أو لفظة من باب الكرم يلقّاها جواد وبخيل.
وأنت إذا أنعمت على تدبر هذا المعنى وأطلت تقليب الرأي فيه فإنك واجد منه سبيلاً إلى وجه من أبين وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم فإنه سفه أحلام العرب وخلع آلهتهم وقمع طغيانهم واشتد عليهم بالعنف محضاً بعد اللين ممزوجاً حتى جعلت دماؤهم كأنما ترقرق في بعض آياته ولم يهدأ عنهم بل ردد ذلك وكرره وعمهم به وأرسله في كل وجه وقرع أنوفهم وهاج منهم حمية الجاهلية وجاراهم في مضمار المخاطرة وإلى حد المقارعة على عزة العشيرة وكثرة الحصى وهم القوم كانت لهم كل هتفة كأن الأرواح هواء في صوتها، فلا يهتف بها حتى تنهض الأجسام لموتها، ولا تسير على الأرض بالرجال، حتى تطير إلى السماء بالآجال. ثم لم يمنعهم ذلك وما إلى ذلك من أن ينقادوا ثم ينقادوا لا جرم أنها كانت الفطرة اللغوية لا غير.
بلى ولقد يخيل إلى أن ألفاظ القرآن كانت تلبس العرب حتى تتركهم كالمعاني السائرة التي لا تزال تطيف بالرؤوس فما بين العقل وبين أن تلجه هوادة ولا بين الوهم وبين أن تصدعه منزلة وإلا فأي قوم كان هؤلاء الجفاة وهم لم يستصلحوا أنفسهم إلا بما يفسد جماعتهم ولم يأبوا أن يرأموا لذل غيرهم إلا ليضرب بعضهم الذلة على بعض ولم يتخذوا السيف ناباً إلا ليأكلهم ولا الحرب ضرساً إلا لتمضغهم وكانوا أهل جزيرة واحدة وكأنهم في تناكرهم أهل الأرض كلها من قاصية إلى قاصية. ثم ما عسى أن يكون أمرهم إذا هم قرعوا صفاة الأرض والحال فيهم ما علمت إلا ما يكون من أمر الحصاة يقرع بها الجبل الأشم ثم تنحدر عنه بصوت كالأنين إن كان منها فهو لعمرك استخذاء. وإن كان من الجبل(8/3)
فهو لعمري استهزاء.
ولقد كان من إعجاز القرآن أن يجمع هؤلاء الذين قطعوا الدهر بالتقاطع على صفة من الجنسية لا عصبية فيها إلا عصبية الروح إذ أخذهم بالفطرة حتى ألف بين قلوبهم وساوى بين نفوسهم وأجراهم على المعدلة في أمورهم فجعل منهم أمة تسع الأمم بوجهها كيف أقبلت لأنها لا توجهه إلا لله فكأن بينها وبين الله كل ما تحت السماء. ومن هذا المعنى نشأت الجنسية العربية فإن القرآن بدأ كما علمت بالتأليف بين مذاهب الفطرة اللغوية في الألسنة ثم ألف بين القلوب على مذهب واحد وفرغ من أمر العرب فجعلهم سبيلاً إلى التأليف بين ألسنة الأمم ومذاهب قلوبها على تلك الطريقة الحكيمة التي لا يأتي علم تربية بأبدع منها. أما التوفيق بين مذاهب قلوبهم فبالدين الطبيعي الذي جاء به القرآن ولو نزعت الطبيعة الإنسانية إلى غير معانيه لكانت طبيعة شر وإن ظنت منزعها إلى الخير. وأما التأليف بين ألسنتهم فيما نزع إليه من المعنى العربي الذي حفظه القرآن على الدهر ببقائه على وجهه العربي الفصيح لفظاً وحفظاً لا يجد إليه التبديل سبيلاً، ولا يأتيه الباطل محيلاً ولا يدخله التحريف كثيراً ولا قليلاً بحيث يكون كأنه عقدة لغوية لا تتحلل منها الألسنة المختلفة وهذا من أرقى معاني السياسة فإن الأمم إذا لم تكن لها جامعة لسانية لا يجمعها الدين ولا غير الدين إلا جمع تفريق. وجمع التفريق هذا هو الذي يشبه الاجتماع في الأسواق على البياعات وعروض التجارة ونحوها فإن سوق الأمم تتاجر فيها الأديان والأهواء وتكدح فيها المصالح والمفاسد وفيها كذلك التغرير والخطار والكذب والخداع ولكل من أهلها شرعة ومنهاج. فبقاء القرآن على وجهه العربي مما يجعل المسلمين جميعاً على اختلاف ألوانهم من الأسود إلى الأحمر كأنهم في الاعتبار الاجتماعي جسم واحد ينطق في لغة التاريخ بلسان واحد فمن ثم يكون كل مذهب من مذاهب الجنسية الوطنية فيهم قد زال عن حيزه وانتفى من صفته الطبيعية لأن الجنسية الطبيعية التي تقدر بها فروض الاجتماع ونوافله هي في الحقيقة لون القلب لا سحنة الوجه.
وقد ورث المسلمون عن أوليتهم هذا المعنى فلا يعلم في الأرض قوم غيرهم يعتصمون بحبل دينهم وأيديهم في الأغلال. ويجنحون إليه بأعناقهم وهي في ربق الملوك من الإذلال. ويخصونه بقلوبهم حتى يكون أملك بها وأغلب عليها ولا يحتملون فيه سخطة ولا يؤثرون(8/4)
عليه رضى ولا يعدلون به عدلاً ويتبرمون بكل ضيق إلا ما كان من أجله ويرضون المحنة في كل شيء إلا فيه ثم هم لا يرون أنفسهم في إحساس الفطرة ومذهب الطبيعة إلا أنها بقية سماوية في الأرض تباين كل ما فيها ويشبه بعضها بعضاً بالصفة والخاصية أنى وجدت وكيف اتفقت وعلى أية حالة كانت وهذا كله مشاهد فيهم بعد كل مارهقهم بالعجز من مداولة الأيام وصدمهم من أهل الاستبداد بكل محنة من الآلام، وتوردهم من الزمان بكل سفه يعد في السياسة من الأحلام. . . .
على أنهم لا يعرفون أصل ما يحسون به ولا يتصلون إلى سببه وكأنما تقطع ما بينهم وبين أنفسهم كما تقطع ما بينهم وبين أسلافهم وقد بقي القرآن معروفاً مجهولاً ينفعهم بما عرفوا منه ولا يضرونه بما يجهلون فإن تولوا فإنما عليه ما حُمِل وعليكم ما حملتم وأن تطيعوه تهتدوا.
وأن من أعجب ما يروعنا من أمر الجنسية العربية في القرآن أنها تأبى إلا أن تحفظ على أهلها تلك الصفات العربية من الأنفة والعزة والصوت (الأمر والنهي) والغلب وما يكون من هذا الباب الذي يفتح للشعوب عن مقاصير الأرض (الممالك).
كما أنها تستبقي طاعة المغلوبين الذين أعطوا للفاتحين عن أيديهم وانطرحوا في غمارهم وكانوا أهل ذمتهم لانتحالهم العربية طوعاً أو كرهاً ثم بقائها في ألسنتهم على نسبة بينة من الفصيح مهما ركت ومهما رذلت ولولا القرآن وأنه على وجه واحد ما بقيت العربية ولا تبينت النسبة بين فروعها العامية بل لذهب كل فرع بما أحدث من الألفاظ وما استجد من ضروب العبارة وأساليبها حتى يتسلل كل قوم من هذه الجنسية إن كانوا من أهلها أو من أهل ذمتها ثم لا تستحكم لهم بعد ذلك ناحية من الائتلاف ولا يستمر لهم سبب من الارتباط ويوشك أن لا يستقبلوا بعد من قادة الأمم وحيتان الأرض إلا من يستدبرهم راعياً أو ملتهماً ثم لا يمكن لهم من دينهم ثم لا يثبتون عليه إلا ريثما يتحولون في استلحاقهم بالأمة التي وثبت بهم وإن مضوا في ذلك على العزيمة والتشدد فإنه لا عزيمة لقلب خذله اللسان ولا تشدد للسان خذله القلب ولا استقلال لشعب تخاذلت ألسنتهم وقلوبهم وتلك سنة من السنن ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً. ومن للأمم بمثل هذا الاستعمار اللغوي الذي لم يتهيأ إلا للقرآن وهو زمام السياسة مهما جمحت في(8/5)
الأرض.
ولقد نرى اليوم التوراة والأناجيل وما يقرؤها بلغتها الأصيلة إلا شرذمة قليلون من اليهود الذين يعيشون على أحلام الذاكرة. . . ونحوهم ولا ترين أن ذلك استبقاء فلولا أن الشذوذ لا يتخلف كأنه قاعدة مطردة ما قرأها منهم أحد. ثم استبدت الألسنة بهذه الكتب فلا هي شريعة ولا هي جنسية جامعة وإنما تراها في كل أمة من الأمة نفسها ولذا سهل على كثير منهم أن ينبذوها وصار أكثرهم لا يتدارسونها ولا يقرؤن فيها إلا إذا أرادو الاستغراق في رؤيا تاريخية والعارف من يستثبت فصولها ومعانيها.
وانظر كم ترى بين صنيع القبائل الجرمانية (الغوط) وبين صنيع العرب فإن أولئك أغاروا على ايطاليا في القرن الخامس للميلاد وانتقصوها من أطرافها ولم يكن إلا ملكوها حتى ملكتهم فإنهم تركوا أهلها وعادتهم من اللغة - وغير اللغة - ثم أخذوا يتحضرون من بداوة ويستأنسون إلى الحضارة الرومانية حتى رغبوا في العلم فاستجادوا المهرة من علماء الرومان ونصبوهم لوضع الكتب وتأليفها فوضعها لهم هؤلاء باللغة اللاتينية وهم قرؤها بها وأقروها عليها فذهبت غوطيتهم وذهبوا على أثرها وأدللت اللغة الرومانية لأهلها منهم فأخذتهم رجفة التاريخ فأصبحوا في الرومانية جاثمين كأن لم يغنوا فيها. فأقبل أنت على هذا المعنى حتى تحكم ما وراءه فلقد تركوها آية بينة.
وبعد فهذا الذي أمسكه القرآن الكريم من العربية لم يتهيأ في لغة من لغات الأرض ولن تتلاحق أسبابه في لغة بعد العربية. وهذه اللغة الجرمانية انشقت منها فروع كثيرة في زمن جاهليتها واستمرت ذاهبة كل مذهب وهي تثمر في كل أرض بلون من المنطق وجنس من التكلم حتى القرن السادس عشر للميلاد إذ تعلق الدين والسياسة معاً بفرع واحد من الفروع وهو الذي نقلت إليه التوراة فاهتز وربا وأورق من الكتب وأزهر من العقول وأثمر من القلوب وبعد أن صار لغة الدين صار دين التوحيد في تلك اللغات المتشابهة وبقيت هي معه إلى زيغ حتى صارت في ظله ثم ضحى بنوره فإذا هي في مستقرها من الماضي. وقد كان بسق من فروع الجرمانية فرعان الانكليزي والهولاندي وكلاهما استقل حتى ضرب في الأرض بجذر ثم أناف الانكليزي حتى صار ما عداه من ظله وهذا إلى فروع أخرى قد انشعبت من الأصل الجرماني كالاسوجي والاسليندي وغيرها.(8/6)
واللاتينية فقد استفاضت في أوربا حتى خرجت منها الفرنسية والطليانية والاسبانية وغيرها وكان منها علمي وعامي - لغة القلم ولغة اللسان - ثم أنت ترى اليوم بين تلك اللغات جميعها وبين ما تخلف منها في مناطق هذا الجيل مالا تعرف له شبيها في المتباعدات المعنوية حتى كأن بين اللغة واللغة العدم والوجود.
فالعربية قد وصلها القرآن بالعقل والشعور النفسي حتى ضارت جنسية فلو جن كل أهلها وسخوا بعقولهم على ما زينت لهم أنفسهم من الإلحاد والسياسة كجنون بعض فتياننا. . . . لحفظها الشعور النفسي وحده وهو مادة العقل بل مادة الحياة وقد يكون العقل في يد صاحبه يضن به ويسخو ولكن ذلك النوع من الشعور في يد الله وهذا تأويل قوله سبحانه إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون.
ولولا هذا الشعور الذي أومأنا إليه لدونت العامية في أقطار العربية ولخرجت بها الكتب ولكان من جهلة الملوك والأمراء وأشباههم ممن تتابعوا في التاريخ العربي من يضطلع من ذلك بعمل إن لم يكن مفسدة فمصلحة كالذي فعله بعض ملوك الرومان وبعض شعرائهم في تدوين العامية من اللاتينية حتى خرج منها اللسان الطلياني وكما فعل اليونان في استخراج اللسان الرومي وهو العامي من اليونانية. ولو أن أحداً استقبل من ذلك أمراً وأراد أن يحمل الناس عليه لاستقبل أمراً بعض ما فيه العنت كله والضياع بحملته ولشق على نفسه في بلوغ إرادة لها من شعور كل نفس عدو حتى يستفرغ ما عنده وكأنه لما يبدأ مع الناس لأن له مدة نفسه وحدها وللناس عمر التاريخ كله ومتى لم يقع على فرق ما بين الاثنين وأراد أن يتولى عمل التاريخ فليس بدعاً أن يجعله التاريخ بعض عمله وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.
مصطفى صادق الرافعي(8/7)
نوابغ العالم
ابن حمديس - كرومل - نابليون بونابرت
ابن حمديس والمعتمد بن عباد
أو صفحة من تاريخ الأندلس
(تابع لما في العدد 5 و 6)
انتهينا فيما أسلفنا القول عليه من ترجمة ابن حمديس إلى وفوده من بلده سرقرسه إحدى مدائن صقلية على المعتمد بن عباد أحد ملوك الطوائف في الأندلس فلا جرم إنا ذاكرون شيئاً عن المعتمد بن عباد هذا لما في الكلام عليه من التبصرة بأحوال ابن حمديس والكلام يدخل بعضه في بعض والحديث شجون والشيء يذكر بالشيء.
ملوك الطوائف
لما انتثر سلك الخلافة الأموية بالأندلس وذلك حين خلع الأجناد آخر خلفاء بني أمية وهو هشام بن محمد الملقب المعتمد بالله سنة 433 قام الطوائف مقام الخلائف وانتزى الأمراء والرؤساء من البربر والعرب والموالي بالجهات واقتسموا خططها وتغلب بعض على بعض حتى استقل آخراً بأمرها ملوك منهم استفحل أمرهم وعظم شأنهم ولاذوا مع ذلك بالجزية للاسبانيين أن يظاهروا عليهم أو يبتزوهم ملكهم وعبروا على ذلك حيناً من الدهر حتى قطع عليهم البحر ملك العدوة وصاحب مراكش لسلطان يوسف بن تاشفين اللمتوني فخلعهم وأخلى منهم الأرض (كما سيمر بك بعد) فمن أشهر هؤلاء الملوك بنو عباد ملوك اشبيلية وغرب الأندلس وبنو جهور الذين استبدوا بقرطبة وبنو الأفطس ملوك بطليوس وبنو النون ملوك طليطلة وباديس ابن حسون ملك غرناطة وألبيرة وابن أبي عامر صاحبه شرق الأندلس وابن صمادح المستقل بالمرية - وقد فطن أدباء ذلك العصر لتأثير هذا التفرق على الأندلس فقال قائلهم (ابن رشيق القيرواني):
مما يزهدني في أرض أندلس ... تلقيت معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وقال آخر (ابن العسال) لما أخذ الاسبانيون طليطلة من يد بني ذي النون:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط(8/8)
السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحياة في سفط
بنو عباد
وإنما الذي يعنينا القول عليهم الآن هم بنو عباد الذين نبغ منهم المعتمد صاحب ابن حمديس. قالوا: كان بدء أمر بني عباد في الأندلس أن نعيماً وابنه عطافاً أول من دخل إليها من بلاد المشرق وهما من أهل العريش القرية الفاصلة بين الشام ومصر وأقاما متوطنين بقرية بقرب تومين من إقليم طشانة من أرض اشبيلية وامتد لعطاف عمود النسب من الولد إلى الظافر محمد بن إسماعيل القاضي فهو أول من نبغ منهم في تلك البلاد وتقدم بأشبيلية إلى أن ولى القضاء بها فأحسن السياسة مع الرعية والملاطفة بهم فرمقته القلوب. وكان يحيى بن علي بن حمود الحسني المنعوت بالمستعلي صاحب قرطبة وكان مذموم السيرة فتوجه إلى اشبيلية محاصراً لها فلما نزل عليها اجتمع رؤساء اشبيلية وأعيانها وأتو القاضي محمداً وقالوا له أما ترى ما حل بنا من هذا الظالم وما أفسد من أموال الناس فقم بنا نخرج إليه ونملك ونجعل الأمر إليك فقبل ووثبوا على يحيى فقتلوه وتم الأمر للقاضي ثم ملك بعد ذلك قرطبة وغيرها من البلاد وكان من أهل العلم والأدب والمعرفة التامة بتدبير الدول ولم يزل ملكاً مستقلاً إلى أن توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ثم قام مقامه ولده المعتضد بالله أبو عمرو عباد. قال صاحب الذخيرة ثم أفضى الأمر إلى عباد قطب رحى الفتنة، ومنتهي غاية المحنة، ناهيك من رجل لم يثبت له قائم ولا حصيد، ولا يسلم منه قريب ولا بعيد، جبار أبرم الأمر وهو متناقض وأسد فرس الطلا وهو رابض، متهور يتحاماه الدهاة، وجبان لا تأمنه الكماة متعسف اهتدى، ومنبتّ قطع فما أبقى. ثار والناس حرب وضبط شأنه بين قائم وقاعد حتى طالت يده، واتسع بلده، وكثر عديده وعدده، وكان قد أوتي من جمال الصورة وتمام الخلقة وفخامة الهيئة وبساطة البنان وثقوب الذهن وحضور الخاطر وصدق الحدس ما فاق على نظرائه ونظر مع ذلك في الأدب قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان أدنى نظر بأذكى طبع حصل منه لثقوب ذهنه على قطعة وافرة علقها من غير تعمد لها ولا أنعام النظر في غمارها. ولا إكثار من مطالعتها. ولا منافسة في اقتناء صحائفها. أعطته سجيته ما شاء من تحبير الكلام وقرض قطع من الشعر(8/9)
ذات طلاوة في معان أمدته فيها الطبيعة وبلغ فيها الإرادة واكتتبها الأدباء للبراعة جمع للبراعة جمع هذه الخلال الظاهرة إلى جود كف باري السحاب بها. ومن شعره:
شربنا وجفن الليل يغسل كحله ... بماء صباح والنسيم رقيق
معتقة كالتبر أما بخارها ... فضخم وأما جسمها فدقيق
ولم يزل في عز سلطانه واغتنام مساره حتى أصابته علة الذبحة فمات بها سنة إحدى وستين وأربعمائة فقام بالمملكة بعده ولده المعتمد على الله أبو القاسم محمد.
قال ابن القطاع فيه أنه أندى ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة. وأعظمهم ثماداً. وأرفعهم عماداً. ولذلك كانت حضرته ملقى الرحال. وموسم الشعراء وقبلة الآمال. ومألف الفضلاء. حتى أنه لم يجتمع بباب أحد من ملوك عصره من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه. وتشتمل عليه حاشيتا جنابه - ولقد صدق ابن القطاع فقد كان من شعرائه الوزير ابن عمار وابن اللبانة. وأبو بكر الداني وكلهم من فحول الأندلس وضرب له البحر من صقلية صاحبنا ابن حمديس وأبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي الزبيري الصقلي الشاعر بعد أن بعث إليه ابن عباد خمسمائة دينار يتجهز بها ويتوجه إليه وكذلك بعث إلى أبي الحسن الحصري القيرواني الشاعر صاحب الأبيات المشهورة التي أولها:
يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده
رقد السمار فارَّقه ... أسف للبين يردده
والتي وازنها أمير الشعراء لعهدنا أحمد بك شوقي بأبيات أولها:
مضناك جفاه مرقده ... وبكاه ورحم عوده
ووازنها أحد المتقدمين بقوله:
قد مل مريضك عوده ... ورثي لاسيرك جسده
لم يبق جفاك سوى نفس ... زفرات الشوق تصعده
هاروت يعنعن فن السحـ - ـر إلى عينيك ويسنده
وإذا أغمدت اللحظ فتكـ - ـت فكيف وأنت تجرده
كم سهل خدك وجه رضى ... والحاجب منك يعقده(8/10)
ما أشرك فيك القلب فلم ... في نار الهجر تخلده
نعم وكان ابن عباد نفسه شاعراً بل كانت جواريه شواعر بل كان المكان نفسه قصيداً من الشعر. تلك هي الأندلس التي كانت فردوس هذه الأرض كما كانت أيامها ربيع الدهر
سلام ترجف الأحشاء منه ... على الحسن بن وهب والعراق
على البلد الحبيب إليّ غورا ... ونجداً والأخ العذب المذاق
ليالي نحن في وسنات عيش ... كأن الدهر عنا في وثاق
وأيام لنا وله لِدَان ... عريناً من حواشيها الرقاق
لقد انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
* * *
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولعمري لقد اخطأ من قال إن علة ضياع الأندلس تفشي الأدب والشعر بين أهليها وإنما هو أستغفر الله خطأ الأقدار، وتقلب الليل بالناس والنهار، وإلا فقد ملك الأندلس بعد هذا العهد الشاعر. الرجل الجد الوعر المقادة يوسف بن تاشفين صاحب مرّاكش ثم دولة الموحدين وبقيت بأيدي المسلمين بعد ذلك العهد نيفاً وثلثمائة سنة نبغ في خلالها الفلاسفة والأطباء والكيماويون والمخترعون والمكتشفون مثل ابن رشد وابن الطفيل وبني زهر (أبي العلاء وأبي مروان وأبي بكر) وأبي القاسم الزهراوي وأبي القاسم عباس بن فرناس أول من اخترع الطيران وأولئك الأخوة الذين ركبوا بحر الظلمات (المحيط الأطلانطيقي) ليبحثوا عن أرض غير هذه الأرض - وقد كان للمسلمين الأساطيل العظام، والجواري المنشآت في البحر كالأعلام، حين كانت أوربة أمماً موحشة لا أثر للعلم والمدنية بين ربوعها ولكن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده.
شعر ابن حمديس في الأندلس
ففي هذه البيئة التي كلها شعر وكل من فيها شاعر ملوكها ووزراؤها ونساؤها وأرضها وسماؤها وقصورها وأنهارها قال ابن حمديس أكثر شعره وأجزله وأبرعه ذلك الشعر الواضح الجلي اللطيف المسلك إلى النفوس الحسن الموقع من القلوب لأنه لغة الطبيعة إذ هي التي أنطقته ولكن ليس كلٌّ تنطق الطبيعة وإنما هي تنطق من يعرف ألجانها ويفهم(8/11)
معانيها وليس يفهم معانيها إلا الألمعي الذكي الطبع الصافي الحسن الصحيح الوجدان مثل شاعرنا ابن حمديس - نقول في هذه البيئة التي كلها شاعر. أما البيآت المفحمة أو الجامدة أو الناطقة الصامتة الناطقة بضوضائها وقعقعة عرباتها الشتى الصنوف وأصوات الانتخاب ومجالس الشورى وأكاذيب السياسيين وعويل الصحف السياسية وراء هؤلاء كما تعول الأجراء الخائفة وراء الذئاب. والصامتة بصموت ملوكها عن رفد أهل النبوغ والتفرد، وإظّهار أغنيائها أياهم حتى كأنهم هم العقلاء والنابغة هو المجنون الأوحد، وصموت أبنائها إلا عن تعقبهم وقذعهم القذع القعد، وجهل نسائها الهاوي بهن إلى الحضيض الأوهد، فأن مثل هذه البيآت لا جزم تخمد فيها القرائح وتموت الهمم وتَبلّد القلوب ولا تنطق لعمري شاعراً ولا نصف شاعر كما قال الحكيم المعري أبو العلاء:
نلوم على تبلدها قلوباً ... تعاني من معيشتها جهادا
إذا ما النار لم تطعم وقوداً ... فأوشك أن تمر بها رمادا
نموذج من شعر ابن حمديس
أسلفنا أن ابن حمديس وفد إلى الأندلس على المعتمد بن عباد سنة إحدى وسبعين وأربعمائة بعد أن ملك صقلية روجر النورمندي وأن ذلك أي انفصاله عن وطنه وضياع استقلاله نال منه وأحفظه على الأيام. وقد يذكر القارئ كلمته المشهورة التي يتشوق بها صقلية بعد فراقه إياها وفيها يقول:
ذكرت صقلية والأسى ... يجدد للنفس تذكارها
فإن كنت أخرجت من جنة ... فأني أحدث أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكا - ء حسبت دموعي أنهارها
ولم يقف به ال عند ذلك بل أخذ يحض قومه على جهاد الروم النورمنديين ويرسل إلى قواد صقلية بالمدح يذكرهم فيها بواجبهم ويمدح ملوك المسلمين في الأندلس وأفريقية لا استجداء واسترفاداً ولكن حثاً لهم على الجهاد والحروب فمن قوله يحث قومه على جهاد الروم:
بني الثغر لستم في الوغى من بني أمي ... إذا لم أصل بالعرب منكم على العجم
دعوا النوم أني خائف أن تدوسكم ... دواه وأنتم في الأماني مع الحلم
وردوا وجوه الخيل نمو كريهة ... مصرحة في الروم بالثكل واليتم(8/12)
إلى أن يقول:
ولله أرض إن عدمتم هواءها ... فأهواكم في الأرض منثورة النظم
وعزكم يفضي إلى الذل والنوى ... من البين ترمي الشمل منكم بما ترمي
وإن بلاد الناس ليست بلادكم ... ولا جارها والحكم كالجار والحكم
ومن قوله يمدح القائد مهيب بن عبد الحكم الصقلي:
أسد الروع الذي حملاقه ... ترسل اللحظة موتاً فيهاب
* * *
في جهاد قرن الله به ... عنده الزلفى إلى حسن المآب
كم بأرض الشرك من معمورة ... أصبحت من غزوه وهي تباب
في أساطيل ترى في أحشائها ... لبنات الروم فيهم انتحاب
وقال يتمدح بأهل بلده:
ولله أرضى التي لم تزل ... كناس الظباء وغيل الأسود
فمن شادت بابلي الجفون ... نفور الوصال أنيس الصدود
* * *
ومن قسور شائك البرثنين ... له لبدة سردت من حديد
يصول بمثل لسان الشواظ ... فيولغه في نجيع الوريد
زبانية خلقوا للحروب ... يشبون نيرانها بالوقود
ومن قوله يمدح أبا الحسن علي بن يحيى في وصف أساطيله:
ترمي بنفط كيف يبقى لفحه ... والشم منه محرق الأكباد
وكأنما فيها دخان صواعق ... ملئت من الإبراق والإرعاد
وهذه كانت أساطيل أسلاف أهل طرابلس وتونس والجزائر في القرن الثاني عشر فأين أساطيل أخلافهم في القرن العشرين! وقال يذكر صقلية وأهل بلده:
أرى بلدي قد سامه الروم ذلة ... وكان بقومي عزه متقاعساً
وكانت بلاد الكفر تلبس خوفه ... فأضحى لذاك الخوف منهن لابسا
عدمت أسوداً منهم عربية ... ترى بين أيديها العلوج فرائسا(8/13)
إلى أن يقول:
أما ملئت عرراً قلورية بهم ... وأردوا بطارقه بها واشاوسا
هم فتحوا إغلاقها بسيوفهم ... وهم تركوا الأنوار فيها حنادسا
وساقوا أبأيدي السبي بيضا حواسرا ... تخال عليهن الشعور برانسا
يخوضون بحراً كل حين إليهم ... ببحر يكون الموج فيه فوارسا
بحريية ترمي بمحرق نفطها ... فيخشى سعوط الموت فيها المعاطسا
تراهن في حمر اللبود وصفرها ... كمثل بنات الزنج زفت عرائساً
فأنت ترى أن ابن حمديس لم تلهه الأندلس وما فيها من رخاء ونعماء عن شؤون بلده والعمل على إخراج الروم النرمنديين منها وهكذا الشاعر الصادق فآية صدقه أن يكون تألمه ببنات الدهور، كالتذاذه ببنات الكرم والبنات الحور، فيكون شعوره بالألم واللذة والحسن والقبح وما إلى ذلك قوياً متفوقاً على شعور سائر الناس وإلا فإنه لا جرم غير شاعر - نقول أن ابن حمديس لم تشغله الأندلس ونعماؤها عن النظر في حال بلده وقول الشاعر الحماسي يحرض به قومه وملوك المسلمين على الجهاد ومطاردة الروم النرمنديين من بلاد الإسلام ولكن الشاعر كالمرآة الصافية تنعكس فيها الأشياء فتريكها كما هي أو كالماء يتلون لك بلون إنائه فكأنما ترى الإناء لا الماء فكان ابن حمديس إذا ذكر ما أصاب بلده هاج كما يهيج البركان وقال الشعر الحماسي الذي يهتاج الأفئدة ويثير الحمية ويحرك النفوس إلى الهيجاء كما تحركهن الموسيقى في هذه العصور والذي ذكرنا لك نموذجاً منه آنفاً وإذا أخذت عينه منظراً طبيعياً أخاذاً للنفوس مثل نهر من نهار الأندلس قال ما يحيل سمعك بصراً مثل قوله:
ومطرد الأجزاء يصقل متنه ... صبا أعلنت للعين ما في ضميره
جريح بأطراف الحصى كلما جرى ... عليها شكى أوجاعه بخريره
كأن جباناً ريع تحت حبابه ... فأقبل يلقى نفسه في غديره
كأن الدجى خط المجرة بيننا ... وقد كالت حافاته ببدوره
شربنا على حافاته دون سكرة ... نقبل شكراً منه عيني مديره
وإذا رأى قصراً من قصور الأندلس تلك التي كانت آية في الإتقان والزخرف والزينة قال(8/14)
يصف بركة تجري إليها المياه من شاذوران من أفواه طيور وزرافات وأسود
والماء منه سبائك من فضة ... ذابت على درجات شاذروان
وكأنما سيف هناك مشطب ... ألقته يوم الحرّ كف جبان
كم شاخص فيه يطيل تعجبا ... من دوحة نبتت من العقيان
عجباً لها تسقى الرياض ينابعاً ... نبعت من الثمرات والأغصان
خصت بطائرة على فنن لها ... حسنت فأفرد حسنها من ثاني
قس الطيور الخاشعات بلاغة ... وفصاحة من منطق وبيان
فإذا أتيح لها الكلام تكلمت ... بخرير ماء دائم الهملان
وكأن صانعها استبد بصنعه ... فخر الجماد بها على الحيوان
أوفت على حوض لها فكأنها ... منها على العجب العجاب رواني
فكأنها ظنت حلاوة مائها ... شهدا فذاقته بكل لسان
وزرافة في الجو من أنبوبها ... ماء يريك الجري في الطيران
مركوزة كالرمخ حيث تري له ... من طعنة الحلق انعطاف سنان
وكأنها ترمي السماء ببندق ... مستنبط من لؤلؤ وجمان
لو عاد ذاك الماء نفطاً أحرقت ... في الجو منه قميص كل عنان
في بركة قامت علي حافاتها ... أسد تذل لعزة السلطان
ترعت إلى ظلم النفوس نفوسها ... فلذلك انتزعت من الأبدان
وكأن برد الماء منها مطفئ ... ناراً مضرجة من العدوان
وكأنما الحيات من أفواهها ... يطرحن أنفسهن في الغدران
ومثل قصيدته التي ذكرناها في العدد 5 و 6 وفيها يقول وهو مما لم يذكر ثمت
قصر لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعاد إلى المقام بصيرا
واشتق من معنى الجنان نسيمه ... فيكاد يحدث بالعظام نشورا
نسي الصبيح مع الفصيح بذكره ... وسما ففاق خورنقا وسديرا
لو أن بالإيوان قوبل حسنه ... ما كان شيئاً عنده مذكورا
أعيت مصانعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء واحكموا التدبيرا(8/15)
ومضت على الروم الدهور وما بنوا ... لملوكهم شبهاً وله ونظيرا
أذكرتنا الفردوس حين أرتنا ... غرفاً رفعت بناءها وقصورا
فالمحسنون تزيدوا أعمالهم ... ورجوا بذلك جنة وحريرا
والمذنبون هدوا الصراط وكفرت ... حسناتهم لذنوبهم تكفيرا
أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم انثنيت بناظري محسورا
فظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا
وإذا الولائد فتحت أبوابه ... جعلت ترحب بالعفاة صريرا
عضت على حلقاتهن ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكبيرا
فكأنها لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخولها مأمورا
تجري الخواطر مطلقات أعنة ... فيه فتكبو عن مداه قصورا
بمرخم الساحات تحسب أنه ... فرش المها وتوشح الكافورا
ومحصب بالدر تحسب ثربه ... مسكا تضوع نشره وعبيرا
تستخلف الأبصار منه إذا أتى ... صبحاً على غسق الظلام منيرا
وإذا سمع مزهراً قال وأصار مسمعيك أربعاً تسمع بها مزهرين لا واحداً
في حجره أجوف له عنق ... نبطت بظهر تخاله حدبه
يمد كفاً إليه ضاربة ... أعناق أحزاننا إذا ضربه
قلت إلا فانظروا إلى عجب ... جاء بسحر ناطق الخشبه
وإذا نكب في صاحب له كما نكب في صاحبه المعتمد بن عباد بزوال ملكه وخلعه وسجنه قال وصور له الصدق والوفاء في أحسن صورة
ولما رحلتم بالندى في أكفّكم ... وقلقل رضوي منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير
إلى أبيات أخرى ستمر بك عند الكلام على بقية تاريخ المعتمد بن عباد والمترجم به. وإذا ثكل عزيزاً عليه كما ثكل الشاعر جارية له أخذها منه البحر قال وأسأل مدمعيك:
وواحشتاً من فراق مؤنسة ... يميتني ذكرها ويحييها
أذكرها والدموع تسبقني ... كأنني للأسى أجاريها(8/16)
جوهرة كان خاطري صدفاً ... لها أقيها به وأحميها
يا بحر أرخصت غير مكترث ... من كنت لا للبياع أغليها
أبتها في حشاك مغرقة ... وبث في ساحليك أبكيها
ونفخة الطيب في ذوائبها ... وصبغة الكحل في مآقيها
عانقها الموت ثم فارقها ... عن ضمة فاض روحها فيها
ويلي من الماء والتراب ومن ... أحكام ندين حكماً فيها
أماتها ذا وذاك غيرها ... كيف من العنصرين أفديها
وقال في حزنه مثل هذا:
ويا ريح أما مريت الحيا ... ورويت منه الربوع الظماء
فسوقي إليّ جهام السحاب ... لاملأهن من الدمع ماء
وقالفي صفة خسوف القمر ما يضؤل بجانبه مجهر الراصد:
والبدر قد ذهب الخسوف بنوره ... في ليلة جسرت أواخر مدها
فكأنه مرآة قين أحميت ... فمشي أحرار النار في مسودها
وقال في باب اللهو مثل قوله:
قم هاتها من كف ذات الوشاح ... فقد نعي الليل بشير الصباح
باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المراح
من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح
وفي باب النسيب
زادت على كحل الجفون تكحلا ... ويسم نصل السهم وهو قتول
ومثل
لا تنكري أنك حورية ... روائح الجنة نمت عليك
للكلام بقية وفيها سائر شعر ابن حمديس وترجمته وترجمة المعتمد وفصل في فرق ما بين شعر الأندلسيين وشعر المشارقة.(8/17)
كرومويل - نابليون بونابرت
يعلم الذين نظروا في كتاب الأبطال الذي وضعه الفيلسوف الانكليزي توماس كارليل وعربه الفاضل محمد السباعي وأخرجته للناس مكتبة البيان أننا انتهينا فيما أظهرناه من هذا الكتاب إلى الكلام على كرومويل ونابليون بونابرت. وإنّا الآن إتماماً للفائدة ولأن كارليل خير من كتب على نوابغ العالم وكرومويل ونابليون هما من أنبغ النوابغ آثرنا أن نتحف قراء البيان بتلك الكلمات الآلهية التي خرجت من قلب ذلك الرجل الآلهي (كارليل) عن كرومويل ونابليون قال كارليل تمهيداً للكلام على كرومويلز
لقد حدثت في انكلترة حروب داخلية كثيرة: حروب الوردة الحمراء والوردة البيضاء. وحروب سيمون دي مونتفورت - حروب ليست من الأهمية بمكان ولكن حرب الخوارج (البيوريتان) كان لها من الخطارة ما لم يمكن لغيرها. حتى ليجوز لي أن أسميها جزأً من تلك الحرب العظيمة العامة التي ليس إلا منها يتكون تاريخ الدنيا الحر التصميم - حرب الأيمان ضد الكفر! جهاد حزب الله المتمسكين بالحقيقة ضد الكذبة الفجرة العاكفين على المظاهر والقشور. وقد لا يرى الكثيرون في خوارج انكلترة إلا عصبة سفلة غلاظاً فظاظاً مولعين بهدم الرسوم الكاذبة. ولعلنا نجد لهم عذراً في احتقارهم البطريق لود زعيم الديانة إذ ذاك وحنقهم عليه وعلى أميره الملك تشارلس الأول. ولود هذا هو في رأيي ضعيف العقل منكود الحظ وما هو بالخائن اللئيم. إنما هو رجل أحمق وأكبر حمقه التمسك الأعمى بمذهبه والاستبداد الممقوت برأيه. وهو كناظر مدرسة لا يرى في العالم شيئاً إلا قواعد مدرسته ورسومها وأوضاعها. معتقداً أن هذه هي قوام الدنيا وعماد الوجود. وأن صلاح الكون مرهون بها. والمحنة العظمى والطامة الكبرى أن الملك تشارلس الأول عمد إلى هذا الرجل الذي رأيه في الكون والحياة والوجود هو ما ذكرت وجعله الرئيس لا على مدرسة بل على أمة يدبر من شؤونها أكثرها أشكالاً ومن حاجها ومصالحها أشدها اعتياصاً وإعضالاً. ويرى هذا الرئيس الشقي المسكين أن تدار تلك الشؤون والمصالح بالقواعد القديمة والنظامات العتيقة بل يرى أن نجاحها في إعلان شأن هذه القواعد وتأييد أسبابها. ثم تراه كالأحمق الضعيف يندفع بأقصى الشدة والعنف في سبيل غايته لا يجيل رأياً ولا يعمل روية ولا يسمع نهياً ولا يصغى إلى نصيحة
جامحاً في العنان لا يسمع الزجـ - ـر ولا يرعوى إلى الرواض(8/18)
هو كما قلت رجل أعمى التعصب أحمق الاستبداد يأبى إلا أن ينفذ قواعده المدرسية على نفوس الأمة - قائلاً للشعب تنفيذ قواعدي قبل كل شيء! له الله من مستبد أحمق. أبى إلا أن يجعل عالم الله الطويل العريض مدرسة ويأبى الله أن تكون دنياه مدرسة. وبعد فيغفر الله له أفلا ترون أنه لقي من العقاب مت هو أهله؟
(وبعد) فالحرص على الرسوم والأوضاع حميد مستحب. إذ أنه من شأن الديانات وغيرها أن تلبس الرسوم والأشكال. ولا مقام للإنسان قط إلا في الأمكنة ذات الرسوم والأوضاع. ولست أحمد في المذهب الخارجي (البيوريتاني) عريه من الأثواب والصور والقوالب وخلوه من الرسوم والأوضاع. بل أعيب ذلك عليه وأراه عورة أحق بالرحمة والأسف - فأما الذي أحمده منه فهو روحه ولبابه. وكل لباب وجوهر فلا بد أنه يلبس زياً ويسكن رسماً وقالباً غير أن من الرسوم ما هو ملائم صالح ومنها ما هو غير صالح ولا ملائم. والحد الفاصل بين هذا وهذاك هو أن القالب الذي ينمو وحده حول الجوهر بقوة الطبيعة يجيء ملائماً لطبع الجوهر موافقاً لغرضه وغايته فهو لذلك حسن صالح. وأما القالب الذي تجعله يد الإنسان حول الجوهر عمداً فهو قبيح فاسد. وأني لأنشدكم الله أن تتأملوا ذلك وتنعموا فيه النظر. فإنه الفارق ما بين كاذب الرسوم وصادقها - بين الإخلاص المحض وبين المظهر الباطل في جميع الأمور والأشياء.
نعم يجب أن يكون في الرسوم عنصر صدق وباعث شديد من الحق وسأضرب لكم مثلاً الخطابة. فماذا تقولون أعزكم الله في الخطيب الذي يهيئ الخطبة من قبل إلا أنه سوأة وآفة؟ ثم ماذا تقولون في الرجل المتصنع الابتسام المتكلف الانحناء للضيوف والزوار إل أنه آفة كذلك سوأة؟ وإذا كنتم تعدان مثل هذين عورة وبلية فما قولكم في رجل يأتيك في أمر من أجسم أمورك في أمر الدين والعبادة مثلاً - يأتيك وقد غمر جلال الدين روحك وحير لبك وألجم لسانك فأنت مطرق حائر ساكت من شدة الانفعال والوجد وفرط التأثر والطرب مفضل السكوت على الكلام وأجدا لسان الصمت أفصح وأعرب بما يكنه صدرك ويضمره حشاك من ذلك الوجدان العظيم والشعور الجسيم - يأتيك وأنت في هذه الحال الشديدة فيتعرض لأن يعرب عن مكنون وجدانك بكلام كاذب باطل - ماذا تقول لمثل هذا الرجل وماذا عندك له إلا الطرد والإبعاد - لا أبعد الله غيره! بلى ليذهب ذلك الرجل عنك(8/19)
إذا كان يحب نفسه! إنما مثله مثل من يأتيك وقد فجعتك المنون في واحدك فأنت من شدة الحزن ملجم اللسان جامد العين فيقيم لك احتفالاً بشعائر الحداد مؤلفاً من ألعاب قدماء اليونان على هيأة يونانية قديمة. فمثل هذا الفضول والزور والتصنع جدير بالمقت والإنكار. وهو عين ما كانت تسميه الأنبياء وثنية - أي عبادة القوالب الفارغة والصور الجوفاء - تلك الذي يرفضها وسوف يرفضها كل مخلص صادق. وكذلك يمكنكم أن تفهموا بعض الفهم أغراض أولئك الخوارج ومقاصدهم. فترون في الرئيس لود ودأبه في تأييد الكاثوليكية وحواشيها من تلك الرسميات والإشارات والانحناءات والشعائر - ناظر المدرسة المصر على تنفينه قواعده ونظاماته لا القسيس الحر المخلص المعنى بجوهر الدين صافحاً عن القوالب والقشور.
ولم يطق الخوارج هذه الرسوم فداسوها بالنعال وإنّا لنعذرهم إذ جعلوا يقولون لا رسم مطلقاً خير من هذه الرسوم. وقد جعل خطباؤهم يمتطون صهوات المنابر عارية مقفرة إلا من الإنجيل يحملونه في الأيدي. وهل ترون في الكلمة تخرج من صميم فؤاد الرجل فتصيب حبات القلوب إلا أكمل مظاهر الدين وأجل صور العبادة. وعندي أن أخشن الحقيقة وأعراها خير من أنعم الرسوم وأثراها. هذا ون الحقيقة متى وجدت فهي الكفيلة لنفسها باللباس والكسوة. ومتى وجد الإنسان الحي كان كفيلاً لنفسه بالملابس - إذا لم يصبها لدى الغير أخذها بيده من موارد الأرض وصنعها بكفه. فأما أتجيء بالثوب وحده فتدعي أنه ثوب ورجل -! - نحن أعزكم الله لا يمكننا أن نحارب فرنسا بجيش مؤلف من ثلاثمائة ألف ثوب أحمر. ولا نجرأ على تقديم هذه الثياب إلى ساحة الحرب إلا إذا كان فيها ثلاثمائة ألف رجل حي يتنفس! وأني لا أزال أقول أنه لا ينبغي للثوب أن ينفصل عن الجوهر. ولا للرسم أن يطلق الحقيقة ويبين منها. وإذا فعلت الرسوم ذلك قام لها أناس فثاروا ضدها على أنها أكذوبة وزور. وكذلك ترون أن حرب الخوارج والرئيس لود لم تك في الحقيقة إلا حرب الثوب والجوهر - حرب الرسم والحقيقة - حرب الباطل والحق - حرباً ضروساً ثارت في انكلترا حينذاك واستمرت حقبة من الدهر وعادت علينا عواقبها بالنفع الجم والخير الكثير. وكان الجيل الذي أعقب عصر الخوارج ليس بخليق أن يزن أعمالهم بقسطاس العدل. وكيف نرجو من مثل تشارلس الثاني ورجاله أن يعرفوا أقدار(8/20)
الخوارج أو يفقهوا معاني أعمالهم؟ وأنى يكون ذلك الحكم العادل والنظر الثاقب من فئة كان لا يخطر بأذهانهم إن في حياة الإنسان ذرة من الحق والصدق والمعاني المقدسة. لقد ظل هذا الملك وأولياؤه يمثلون أشنع التمثيل بالمذهب البيوريتاني (مذهب الخوارج) كما يمثلون برجاله - فلو شهرت الحال إذ ذاك لرأيت البيوريتانية مصلوبة على الأعواد كأجساد أربابها. ولكن الصلب والتمثيل لم يعق من مسير نتائجها. ولا بد للعمل الصالح من أن تسير آثاره مهما مثلث بأهله وأصحابه. نعم إنا لنطرح البصر فتسرنا محاسن آثار أولئك الخوارج ونري الدستور والحرية والسعادة التي نتمتع بها الآن أغراساً زرعتها قرائحهم وسقوها طوراً بأوعية الدموع وتارة بسجال الدماء. وهم الذين سنوا المذهب القائل بأن جميع الناس أحرار بالفعل أو سيكونون أحراراً يوماً ما - أحراراً تقوم حيلتهم على أمتن أساس من الحق والعدل لا التقاليد والباطل! هذا وكثير غيره من حسن آثار الخوارج وجليل نعمهم علينا.
والواقع أنه اتضحت مآثر الخوارج هذه وعلت في النفوس مكانتهم وضرجت أقذاء التهم عن حواشي أعراضهم. واستنزلت عن أعواد الصلب ذكرى عهودهم واحداً بعد واحد. بل لقد قدست أسماء بعضهم وعدوا ضمن أولياء الله المصطفين. وحسب من الأبطال أمثال اليوت وهامبدين وبيم حتى ليدو وهاتشسون وفان. أولئك القساوسة السياسيون الذين إليهم يعزى ما ننعم به اليوم من حرية البلاد. أفيجرأ اليوم إنسان أن يلوث بالذم أعراض هؤلاء؟ وهكذا أصبحت لا تكاد تجد من بين القوم إلا من له أنصار يقومون بعذره وشيعة تشيع في الناس فضله وتشيد له صروح الإجلال والإكبار. كلهم قد برأ الله ساحته وجمل في النفوس مكانته وأعذب في الأفواه ذكره وأدال له إلا واحداً هو سيد الجميع وفتى القوم - الملك الأكبر رافع لواء الحق - أوليفار كرومويل. فأني أرى عرضه لا يزال مجال الألسن السالقة والأظفار الممزقة وأرى ذكراه لا تزال مصلوبة في أعالي الجذع. وماله من عاذر ولا نصير. والناس مجموع عليه بالذم والنكير. وأنه شرير خبيث. هم لا ينكرون أنه كان رجلاً كفؤاً حازماً شجاعاً مدبراً ولكنه خان العهد في نظرهم ونقض العقد. وكان فيه أثرة وشجع وغدر ومكر وتصنع ونفاق. حوّل ذلك الجهاد العظيم المبذول في سبيل الحرية إلى طريق منفعته الشخصية بهذه الخلال وأسوأ منها ينعتون أوليفار كرومويل ثم يقارنونه(8/21)
بالزعماء واشنجتون وسواه ولا سيما بالأبطال بيم وهامبدين وأليوت الذين سلبهم ثمار أعمالهم العالية ثم أوسع تلك الثمار إفساداً وتشويهاً.
وليس بعجيب أن يكون ذلك الرأي القبيح هو رأي القرن الثامن عشر والشيء من معدنه لا يستغرب. وما قلنا في خادم غرفة خادم الملك منطبق تماماً على الرجل الملحد. كلاهما لا يفهم معنى البطولة ولا يعرف البطل إذا رآه! والخادم ينتظر أن يرى للملك ثياباً فاخرة مرصعة بالذهب والفضة مرصعة بالدر والجوهر. وحاشية كثيفة من الخول والأتباع وأبواقاً تصيح وطبولاً تقرع. والرجل الملحد - رجل القرن الثامن عشر - ينتظر أن يرى للأمام الرئيس قواعد محترمة أو ما يسمونه مبادئ وينتظر أيضاً أسلوباً خطابياً نعته الناس بالجودة والبراعة يحاج عن نفسه ويدافع في أفصح بيان وأنق لهجة فيفوز باستحسان قرن كاذب متصنع كالقرن الثامن عشر. وجملة القول أنه ينتظر ما ينتظره الخادم - أعني زخارف ظاهرية وأثواباً وقشوراً وقوالب ورسوماً ليست من الحق الصراخ في شيء. كلاهما يريد الزخرف والزينة السطحية ليقر بأن صاحبها ملك وبطل. فإذا برز لهم الملك في سيمياء القشف والخشونة وزي الفقراء والصعاليك أنكروه وقالوا ليس بملك.
وما كنت قط لأقول صراحة أو تلميحاً أدنى ما يحط من أقدار رجال كاليوت وهامبدين وبيم. أولئك أقر لهم بالنفع وأشهد لأعمالهم بالنفع. ولقد قرأت كل ما تيسر لي مما كتب ونيتي وإرادتي أن استلذ عهودهم وأعجب بأنبائهم وسيرهم وأعبدهم عبادة أبطال هذه نيتي وإرادتي ولكنها لسوء الحظ لم تحقق. نعم لقد كنت أحمد ظواهر أولئك الرجال. ولكن نفسي لا تجد تمام الارتياح لبواطنهم. ولا أنكر أنهم كانوا عصبة كراماً أمجاداً يمشون الهوينا عليهم برود العزة وسرابيل الجلال فإذا نطقوا فما شئت من حكمة ولب تجري الفصاحة بين قلوبهم وألسنتهم وتجول الفلسفة بين لهواتهم وشفاههم ويتحدرون بالخطب البرلمانية تحدر السيل ويتدفقون بها تدفق اليعبوب. ويأخذون في الأغراض التشريعية والاقتراحات الإدارية فيطيلوا عنان القول ويملئوا الدلو إلى عقد الكرب مرسلين الحكمة في عرض كلام كالجوهر المنثور تجول على صدره قلائد البيان ويطرد في أثنائه ماء البديع ويتحير في حواشيه رونق الحسن - فحبذا هم من رجال أساطين علم وأئمة تشريع وأولي عزة ومجد وجلال. ولكن قلبي بعد كل ذلك لا يخف لهم ولا تجيش أحشائي ولا تهتز جوانحي. اللهم إلا خيالي(8/22)
فإنه قد يحاول أن يجد لهم بعض الإجلال. وأي رجل في الوجود تعروه الأريحية ويهزه الطرب ويلتهب قلبه شوقاً لهؤلاء النفر. كلا لقد أصبحت تراجمهم وأنباؤهم غاية في الجمود والثقل! نعم أن بلاغة أولئك الفحول قد تكون أبهر الأشياء وأروعها ولكنها شيء ثقيل - ثقيل كالرصاص ومجدب كالصخرة الملساء. وجملة القول أنه لم يبق فيها لقراء العصر غبار لذة ولا ظل مطرب ومستمتع! فإن أبيت إلا امتداحها فقل أنها كانت كأساً رشف الدهر أطيبها وأعذبها فلم يبق إلا صبابة مرة كدرة! فسلام على أولئك الفحول ولندعهم ثاوين مضاجع مجدهم وشرفهم ولنقبل على الرجل الخشن المتوعر الطريد المنبوذ أوليفار كرومويل فإن فيه وحده ضالتنا من المادة الإنسانية وكنوز الكرم الصراح والبطولة العالية. إن فيه لذلك وإن لم يكن فيه فصاحة وكتابة. وبلاغة وخطابة. وبراعة وخلابة. وكم من بلغاء مصقولي جوانب اللسان رقاق حواشي الطبع ليس وراءهم كبير فائدة. وما سرنا من إنسان نظافة كفيه إذا كان لا يقرب الأعمال إلا لابساً قفازه!
وبعد فلست أرى في رضى القرن الثامن عشر عن خطباء الخوارج وزعمائهم إلا شعبة من رسميات ذلك القرن وكفرياته. وكيف وهم (رجال القرن الثامن عشر) يعيروننا أن يكون سبب دستورنا وحريتنا هو الخرافات الدينية يقصدون بذلك مذهب الخوارج من حرية العبادة ويقولون هلا كان لحريتكم مصدر أشرف وأسمى من الخرافات الدينية مثل حرية وضع الضرائب ويقولون أنه كان من الوهم والخرافة والتعصب الأعمى والجهل المطبق بالفلسفة لدستورية أن يجعل آباؤنا الأول غايتهم الوحيدة هي حرية العبادة وإنما الغاية الوحيدة في مذهب القرن الثامن عشر هي حرية وضع الضرائب أعني امتناع الإنسان عن دفع الدراهم من كيسه حتى يبين له السبب الذي يدفعها من أجله. فأناس يجعلون هذا أول حقوق الإنسان لا شك جهلة أغبياء. وأرى أنه لن يكون الدرهم وحدها قط باعثاً للعاقل على أن يثور ضد حكومته. وما زال الإنسان يرضى بدفع المال لحكومته بشرط أن يبقى له سداد من عوز. وأني أجد أن الانكليزي حتى في هذه الأوقات إذا لم يرض أن يدفع للحكومة ضرائب عديدة من غير أن يبين لها أسباب دفعها اضطر إلى أن يهاجر وطنه إلى غيره من بلاد الله. وكأني بالانكليزي يقول جابي الضرائب! المال! خ1وا مالي بما أنكم قادرون على أخذه ومحتاجون إليه. خذوه واذهبوا ودعوني وشأني - اتركوني وشغلي فأني(8/23)
لا أزل في داري ووطني قادراً على تجديد المال بالعمل. قادراً على لعيش السهل المرضي بعد كل ما سلبتمونيه. بهذا الكلام يجيب الانكليزي رجال السلطة إذا أتوه يطلبون ماله. فأما إذا جاءوه يقولون له اعتقد هذه الأكذوبة. واحسب أنك تعبد الله وأنت لا تعبده. ولا تؤمن بما تراه أنت أنه الحق. وإنما بما نراه نحن حقاً أو ندعي أنا نراه حقاً! كان جديراً أن يجيبهم بقوله كلا ويمين الله. أنتم في حل من مالي تأخذونه متى شئتم ولكني لا أبيع ديني. ولا أخسر عقيدتي. أما المال فذلك غنيمة باردة لأي قاطع طريق يتهددني بسلاحه. ولكن نفسي ملكي وملك الله وديني لن تغلبوني عليه ولا تخدعوني عنه ما دام في حلقي نفس يتردد. وسأدافع عنه بآخر قطرة من دمي. (للكلام بقية)(8/24)
طرفة أدبية
قال أبو نواس حججت مع الفضل بن الربيع حتى إذا كنا بأرض بني فزارة في أوان الربيع نزلنا منزلاً بإزاء باديتهم ذا روض أريض ونبت غريض وتُرب كترب الكافور حتى اكتست الأرض بجميم نبتها الزاهر وأتزرت بمحض عشبها الناضر والتحفت بأنواع زخرفها الباهر بما يقصُر عنه النمارق المصفوفة ولا يداني زهرتها الزرابي المبثوثة فراقت بنضرتها الأبصار وارتاحت لزبرجها القلوب واشتاقت إلى نسيمها الصدور وابتهجت ببهائها النفوس فما لبثنا أن أقبلت السماء فأشفقت بربابها وتدانى من الأرض ركام حتى إذا كان كما قال عبيد بن الأبرص:
دان سف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
همت السماء برذاذ ثم بطش ثم برش ثم بوابل ثم هتنت حتى إذا تركت الربى كالوهاد رياً تقشعت فأقلعت وقد عادت الغدران مترعة تدفق والقيعان ناضرة تألق تحدق بحدايق مونقة ورياض رائقة وغياض من عرفها فايحة تتحاك بأنواع النور الغض الذي إذا هممت بتشبيهه بشيء حسن اضطرك حسنه إلى رده إليه. فإذا تقت إلى تضوع طيب لم تجد معولاً في الذكاء إلا عليه. فسرجت طرفي رامقاً في أحسن منظر واستنشقت من رباها أطيب من المسك الأذفر ثم قلت لزميلي ويحك امض بنا إلى هذه الخيمات فلعلنا نلقى بعض من نؤثر عنه خبراً نرجع به إلى بغداد فلما انتهينا إلى أولها إذا نحن بخباء على بابه جارية مبرقعة ترنو بطرف مريض لجفون وسنان النظر قد شي فتوراً وملئ سحراً قد مدت يداً كأنها لسان طائر بأطراف كالمداري وخضاب كأنه عنم ثم جاءت الريح فرفعت عن برقعها فإذا بيضة نعام تحت رئال فقلت لصاحبي أما والله أنها ترنو عن مقلة لا رقية لسليمها ولا براءة لسقيمها فاستنطقها قال كيف السبيل إلى ذلك قلت اسسقها ماء فدنا منها فاستسقاها فقالت:
نعم ونعيم عين وإن نزلتما فالرحب والسعة ثم قامت تتهادى في مشيها كأنها خوط بان أو قضيب خيزران تتثنى فتجر خلفها كالغرارتين فراعني والله ما رأيت منها فأتت بالماء فأخذته فشربت منه وصبت باقيه ثم قلت وصاحبي أيضاً عطشان فأخذت الإناء ودخلت الخباء ثم قلت لصاحبي متعرضاً لكشف وجهها من الذي يقول:
إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع
يريك عيون الدمى غرة ... ويكشف عن منظر أشنع(8/25)
فمضت بسرعة وأتت ونزعت الرقع وتقنعت بخمار أسود وهي تقول:
ألا حي ربي معشراً قد أراهما ... ألما ولما يصدقا مبتغاهما
هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما
يذمان تلباس البراقع ضلة ... كما ذم تجر سلعة مشتراهما
فشبهت كلامها بعقد در وهي من سلكه فهن ينتثرن منه بنغمة عذبة رخيمة رطبة لو خوطب بها الصم الصلاد لانبجست بالرطوبة منطقها وعذوبة ألفاظها كما قال ذو الرمة:
ولما تلاقينا جرت من عيوننا ... دموع كففنا غربها بالأصابع
ونلنا سقاطاً من حديث كأنه ... جنى النحل ممزوجاً بماء الوقائع
ووجه يظلم في نوره ضياء العقول وتتلف في روعته مهج النفوس وتعزب عن إدراكه أصالة الرأي ويحار في محاسنه البصر كما قال الأول:
فدقت وجلت واسبكرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنت
ولم اتمالك أن خررت ساجداً وأطلت من غير تسبيح فقالت أرفع رأسك غير مأجور وامض لشأنك غير موزور ولا تذما بعدها برقعاً فربما يكشف عما يطرد الكري ويحل القوى من غير بلوغ أرب ولا أدراك مطلب ولا قضاء وطر وليس إلا الحين المطلوب والقدر المكتوب والأمل المكذوب فبقيت والله معقود اللسان عن الجواب حيران لا أهتدي لطريق الصواب فالتفت إلى صاحبي وقال لي لما رأى هلعي كالمسلى لي عما أذهلني ما هذه الخفة لوجه برق لك بارقة حسن لعلك ما تدري ما تحته أما سمعت قول ذي الرمة:
على وجه ميّ مَسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الخزي لو كان باديا
فقالت الأم ذهبت لا أب لك كلا والله لأنا بقوله أشبه وأنشدت:
منعمة حوراء يجري وشاحها ... على كشح مرتج الروادف أهضم
لها بشر صاف وعين مريضة ... وأحسن أيماء بأحسن معصم
ثم رفعت ثيابها حتى بلغت نحرها أو جاوزت منكبيها فإذا قضيب فضة قد حسا ماء الذهب يهتز على مثل كثيب نقا وصدر كالوديلة عليه كالرمانتين أو كحقى عاج يملأ يد اللامس وخصر مطوي الأندماج تهتز على كفل رجراج لو رمت به عقدة لانعقد وصرة مستديرة يقصر فهمي عن بلوغ وصفها من تحتها أجثم جاثم كجبهة ليث حادر وساقان خدلجتان(8/26)
تخرسان الرنين ثم قالت أعاراً تري قلت لا ولكن سبب القدر المتاح وتعجيل هم يعقبه سقم فخرجت عجوز من الخباء فقالت يا هذا امض لشأنك فإن قتيلها مطول لا يودي وأسيرها مكبول لا يفدي فقالت دعيه فله مثل غيلان:
فالا يكن إلا معلل ساعة ... قليل فأني نافع لي قليلها
ثم قالت العجوز:
فمالك منها غير أنك ناكح ... بعينك عينها فهل ذاك نافع
فنحن كذلك إذ ضرب طبل الرحيل فانصرفنا مبادرين بكمد قاتل وكرب داخل وحسرة كامنة وأنا أقول:
يا ناظراً ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحط بينهن قتيل
أحللت قلبي من هواك محلة ... ما حلها المشروب والأكول
بكمال صورتك التي في مثلها ... يتحير التشبيه والتمثيل
فوق القصيرة والطويلة فوقها ... دون السمين ودونها المهزول
فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين مررنا بذلك المنزل وقد تضاعف نواره وتزايد حسنه وكملت بهجته فقلت لصاحبي امض بنا لصاحبتنا فلما أشرفنا على الخيام ونحن دونها نسير في روضة من تلك الرياض في وقت فيه قد طلعت الغزالة ولها عين كأعين نجل شرقت بدموعها على قضب زبرجد فهبت الصبا فصبت لها الأغصان فتمايلت تمايل النشوان الطرب فصعدنا ربوة وهبطنا وهدة فإذا بها بين خمس لا تصلح أن تكون خادمة لإحداهن وهن يحنين من نوار ذلك الثمر ويتقلبن على ما تغتنم من عشبه فلما أن أتينا وقفنا فقلت السلام فقالت من بينهن وعليك السلام وقصت عليهن قصتي قلن لها ويلك أما زودته شيئاً يتعلل به من جوي البرحاء فقالت زودته يأساً حاصراً ورأياً حاضراً فابتدرت أنضرهن خداً وأرشقهن قداً وأبرعهن طرفاً فقالت والله ما أحسنت بدأ ولا أجملت عوداً ولقد أسأت في الرد ولم تكافئيه في الود وأني لأحسبه لك وامقاً وإلى لقائك شائقاً فما عليك بإسعافه بطلبته وإنصافه في مودته وأن المكان لخال وأن معك من لا ينم عليك فقالت والله ما أفعل من ذلك شيئاً أو تفعليه قبلي وتشركيني في حلوه ومره فقالت لها الأخرى تلك إذاً قسمة ضيزي تعشقين أنت فتزهين ويذل لك فتمنعين الرفد ثم تأمرينني ما يكون شهوة ولذة ومني سخرة(8/27)
ما أنصفت في القول ولا أجملت في الفعل فاقبلن إلي وقلن إلى ما قصدت قلت لتبريد غلة وإطفاء لوعة أحرقت الكبد وأذابت الجسد واستبطنت الحشا فمنعت القرار ووصلت الليل بالنهار قلن لي فهل قلت في ذلك شيئاً قلت نعم وأنشدتهن:
حججت رجاء الفوز بالأجر قاصداً ... لحط ذنوب من ركوب الكبائر
فأبت كما آب الشقي بخفه ... حنين ولم أوجر بتلك المشاعر
دهتني بعينيها وبهجة وجهها ... فتاة كضوء الشمس وسنى النواظر
من اللاء لو تبدو لرمة ميت ... لعاد إلى الأحياء في جرم ناشر
منعمة لو كان للبدر نورها ... لكان منيراً للنجوم الزواهر
من البيض تنميها فزارة للعلا ... وأهل المعالي من سليم وعامر
فإن نولت نلت الأماني كلها ... وإن لم تنلني زرت أهل المقابر
فقلن اقترعن فوقعت القرعة على أملحهن فضربن أزاري على باب غار فعدلت إليه وأبطأن عني قليلا وأنا أتشوق إلى واحدة منهن إذ دخل عليّ أسود كأنه سارية بيده هراوة وهو منقط مثل ذراع البكر فقلت ما تريد فقال أفعل بك الفاحشة فخفت وصحت بصاحبي فخلصني منه ولما يكد فخرجت من الغار وإذا بهن يتعادين إلى الخيمات كأنهن أللآلي ينحدرن من سلك وهن يتضاحكن ومعهن قلبي يجرونه بينهن فانصرفت وأنا أخزي من ذات النحيين.(8/28)
القصص والفكاهات
رواية فوست
نقلها إلى العربية صالح بك حمدي حماد
(الفصل الأول)
غواية فوست
(المنظر الأول) في قصر فوست - تظهر غرفة معقودة على الطراز الغوثي القديم وفيها مكتبة وموائد عليها كتب وأدوات علمية وعدد من أنابيب وأواني وجمجمة إنسان والدكتور فوست جالس على كرسي أمام مكتبه لابساً رداء أسود وعلى رأسه قلنسوة سوداء وهو شيخ هرم ذو لحية بيضاء طويلة وأمامه مصباح ضئيل النور تظهر علامات الاهتمام والتفكير ثم يقول:
فوست - درست الفلسفة والشريعة والإلهيات والطب حتى برعت فيها كلها وصرت أعلم من تقله أرض ألمانيا ولكن ماذا أفادني كل ذلك غير التعب والنصب، أني لعمري أحمق أخرق أراني لم أستفد من ذلك فائدة ما ولم أسعد به وإن عظموني وسموني الأستاذ ولقبوني بالدكتور والحكيم إلى أمثال ذلك من الألقاب الضخمة والنعوت الطنانة الرنانة وما هي لعمرك إلا غرور وزهو باطل.
ثم ينهض فيتمشى في الغرفة جيئة وذهوباً وهو مضطرب قلق ويقول.
فوست - ولقد صار لي منذ عشر من السنوات من الشهرة الفائقة وبعد الصيت والنفوذ والسلطة على تلاميذي ومريدي ما جعلهم يطيعون أمري ويستنيمون لأقل إشاراتي فلم يدخلني من ذلك العجب وغرور أهل العلم قط والآن تولاني اليأس ونفذت سهام القنوط إلى فؤادي الذي ظل أمداً تملؤه المفاخر والمنازع الشريفة حتى أضحيت أغزر معارف وعلوماً من كثير من العلماء والأساتذة والكهان والرهبان وصرت لا أخاف الشيطان ولا أخشى دخول النار ولكني قد حرمت في مقابل ذلك مسرات الحياة ثم يضحك مستهزئاً ويقول:
فوست - أجل أنني قد حرمت مسرات الحياة وملذات البشر وبما أني قد اقتنعت اليوم بغرور ما أنا عليه وقلة جدواه فعلام إذاً أعلمه غيري هل يصيرون به أسعد حالاً مني. أني لا أملك درهماً واحداً وليس لي أقل نصيب من الشرف الدنيوي والجاه في العالم فما أتعس(8/29)
حظي في الحياة وأشقاني بعلومي ومعارفي الطويلة العريضة فلم يبق أمامي سوى الاستعانة بعلم السحر لا على مثال تلك السذاجات التي يزاوله بها جماعة السحرة السذج بل على نوع جدى أستكنه به أسرار هذه الطبيعة وأستكشف به قواها العاملة المؤثرة وأنال منها ما تصبو إليه نفسي من اللذات.
ويذهب إلى النافذة فيرفع السجف وينظر في السماء إلى القمر ويقول مخاطباً له.
فوست - أيه أيها القمر الساطع والكوكب الدري اللامع ألق بالنظرة الأخيرة منك على في نصبي وتعبي أنت أيها الصديق الجميل الذي طالما كان رفيقي في وحدتي وشاهدي في سهري الليالي فكم من مرة رأيتني في هذه الغرفة مكباً على مكتبي أدرس العلوم وأطالع أسفارها فيا ليت لي مثل مالك من القدرة على الارتفاع والتحليق في القبة الزرقاء حتى كنت أشرف من عل على قمم الجبال وفوق المغارات المظلمة واستنكف كثيراً من الأسرار ولكن ليس لي واأسفاه ذلك وليس أمام فوست الشيخ الفاني إلا البقاء بين أربع حيطان هذه الغرفة المظلمة التي لا يكاد ينفذ من زجاجها المغبر ضوء النهار.
ويجيل بصره في أرجاء الغرفة وهو حزين كاسف البال ثم يطرد مقاله:
فوست - فهذا المكان هو سجني نعم هذا المكان محبسي ولكن لم أجلب على قلبي الهموم والأكدار وأحمل نفسي الأحزان في حياتي والأشجان أني خلقت حياً في طبيعة حية فعلام أضع نفسي باختياري في القبور بين الأموات أجل هذا المكان لعمري قبر وهو لا يحوي إلا أشياء تافهة فلأكسرن هذه السلاسل ولأحلن هذه القيود ولأزجن بنفسي في مجاري الحياة الصافية استقي منها لذة كؤوساً منزعة.
ثم يتناول بيده كتاب السحر ويقول:
فوست - هذا كتاب السحر الأعظم والطلسم الأكبر خطه بيمينه رأس السحرة (فوستراد موس) فليكن دليلي وهادي ومرشدي فيما أريد (ويفتح الكتاب ويقلبه ويقول) ولكن لنتجاوز ما عليه من هذه الشروح التي لا فائدة لنا فيها ولنمسك باللباب ويقرأ فيه بصوت عال ما نصه:
إن عالم الأرواح ليس مغلق الباب في وجهك أيها المريد غير أن عقلك ضال وقلبك ميت فتشجع وألق بنفسك وأسبح في أنوار بحر ذلك الفجر الباسق بلا فتور ولا ملل(8/30)
ثم يقول:
فوست - هذا هو الينبوع الصافي والمورد العذب الذي أريد الاستقاء من زلاله والتشبع من شرابه حتى أنال أربي وأحظي بالحب والغرام وارتشاف كأس المدام والثمل بريق غادة حسناء وفتاة في رؤيتها الحياة هذا كل ما أريد وأرغب فيه وتتشهاه عليّ نفسي.
ويتمتم قائلاً بصوت عال:
فوست - أيتها الروح الأرضية التي أحس بوجودها معي وأشعر باقترابها مني أطلب مساعدتك وأسلم نفسي إليك وألقى بقيادي بين يديك فاظهري اظهري ولو كلفني ظهورك شرب كأس الحمام. . . .
(المنظر الثاني) تظهر أشعة من النور بالقرب من مدخنة الغرفة ويبدو بينها شبح إنسان لابساً ملابس ذلك العصر ومتقلداً سيفاً وعلى رأسه قبعة عليها ريش النعام فيقول لفوست بصوت رنان:
ميفستوفيليس - من الذي يدعوني ويطلب معونتي ونصرتي.
فوست - وهو يلتفت إليه ويرتجف - يالك من خيال فظيع وشبح مريع.
ميفستوفيليس - إنك يا هذا قد دعوتني وأن تأثير عزيمتك هو الذي اضطرني إلى مغادرة مكاني ومستقري ومقامي وأقدمني إلى هنا فماذا تريد؟
فوست - وهو يحملق بعينه - أريد ألا أراك فأني لا أقوى على احتمال منظرك وهول رؤيتك.
ميفستوفيليس - إنك كنت مع ذلك تدعوني بتلهف وتطلبني بشدة لتراني وتطلب مني المساعدة فيما تصبو إليه نفسك فما الذي دهاك وأفزع فؤادك إنك كنت إلى قبيل هذه اللحظة تبني (علالى) من اللذات وقصوراً من الشهوات والمسرات فالآن إذ جئت لأنيلك ما تشتهي يأخذك الفزع والهلع. أطلب ما تشاء.
أما فوست فيزداد اضطراباً وفزعاً وترتجف أعضاؤه ثم يستند على مكتبه وهو يقول:
فوست - أخرج من هذا المكان فأني لا أريد لا الحقير ولا العظيم من الشيطان الرجيم.
ميفستوفيليس وهو يقترب من فوست
- هذا كذب صراح وقول هراء أيها الدكتور بل أنت تريد أن تحظى بلثم ثغر فتاة جميلة(8/31)
وارتشاف خمر ريقها وقطف ورد وجنتيها وأن تعود إليك قوتك وشبابك ونضرة أهابك فأنا لعمري بمالي من القوة والسلطان في قدرتي أن أعطيك كل ما تريد وأن أكون في الأرض طوع أمرك وآتيك بكل ما تشتهي نفسك من المسرات واللذات وانظر إلى هذه الناحية من غرفتك تر تلك الفتاة الجميلة التي خبأتها لك وهي على ما تشتهي نفسك ويصبو إليه فؤادك المدنف وهي مرغريت أجمل فتيات ويمار وأخت الجندي فالنتان وخطيبة الشاب سيابل.
فيلتفت فوست إلى تلك الناحية من الغرفة فيرى مرجريت في حلة زرقاء وهي ممسكة بيدها أزهاراً وتبسم له فيطير عقل فوست ولبه فرحاً ويهم باللحاق بها وهو يقول.
فوست - هذه والله طلبتي ومنية قلبي وبهجة فؤادي.
فيمسكه ميفستوفيليس من ذراعه ويوقفه وهو يقول.
ميفستوفيليس - مكانك أيها الأستاذ العظيم والدكتور الحكيم أنها ستكون لك روحاً وبدناً ولكن بعد أن توقع لي على هذا العهد بل هذا العقد بيني وبينك بأنك تكون من نصيبي في الآخرة.
ويقدم إلى فوست ورقة يخرجها من جيبه فيأخذها فوست بلهف ويذهب إلى مكتبه ليوقعها وهو يقول.
فوست - هذا لا يهمني وأني أوقع لك بارتياح على هذا العهد وألف مثله إذا كنت سأنال من وراءه الحظوة بهذه الفتاة الفتانة.
ميفستوفيليس - لا أقبل التوقيع على هذا العهد بيني وبينك بالحبر وإنما ينبغي أن توقع عليه بدمك.
فوست - يتناول دبوساً ويكشف عن ساعده ويغرز الدبوس في لحمه ثم يوقع به على العهد الذي فيه ضياعه ويناوله الشيطان ثم يقول كمن يخاطب نفسه.
فوست - نعم لا يهمني الآن ما سألقاه غداً ما دمت حاصلاً على هذه الغادة الهيفاء ألاعبها وتلاعبني وكفى ما مضى من عناء وما لقيت من تعب وبلاء فلأهنأ الآن ولأسر واغتبط وأرشف الكاسات وأمتع نفسي بهذا الجمال الفتان ثم ليأت ما هو آت.
وبينما هو يتكلم يختفي ميفستوفيليس ومرجريت.
(المنظر الثالث) فيهتاج فوست حين يرى نفسه منفرداً ثم يقول.(8/32)
فوست - ويلاه أين ذهبت فاتنة قلبي أين ذلك الذي كان يكلمني ويمنيني نيل المنى أفي حلم كنت أنا أم في يقظة ما هذا الحلم الغريب وهذه الأمور الخيالية ثم يفتش في أركان الغرفة وهو يقول ويلاه أين ذهبا أين ذهبا أبلعتهما الأرض أم طارا في السماء ولما يتعبه البحث والتنقيب يسقط على الأرض ثم ينهض وهو يفرك جبينه ويقول.
فوست - الخيال الخيال أين ذهب أين رحت يا مرغريت يا بديعة الجمال وربة الدلال وسالبة اللب أحي أنين قلبي وبلي غلة نفسي وأطفئي لهيب فؤادي تعالي تعالي أكذبي وخوني خطيبك وكوني لفوست خليلة ويا لها من أحلام.
ويسمع قرع الباب فيقول.
فوست - من هذا الطارق على بابي في مثل هذه الساعة من جنح الليل ألا تباً لك أيها الزائر ولعله تلميذي ونيار بل أراه هو بعينه. أني أمني النفس وأناجيها بأمور الغرام ويأتيني هذا الفتى الغر ليصدع رأسي بأسئلته الفلسفية والحكيمة فلنظهر له الاستياء حتى لا يطيل معي جلوسه.
ويقرع الباب مرة ثانية.
فوست - أدخل أيها الطارق.
(المنظر الرابع) يقوم فوست من على كرسيه أمام مكتبه ويدخل ونيار وهو فتى وسيم في الخامسة والعشرين من سنيه لابساً رداء البيت وعلى رأسه قلنسوة الليل ويحمل بيده مصباحاً.
ونيار - ما هذا يا سيدي الأستاذ أتجلس هكذا بلا نور ولا نار على أني استميحك الصفح عن مجيئي في مثل هذا الوقت فلقد سمعتك وأنا أتمشى في الطرقة تترنم بالشعر فخيل لي أن هذه رواية يونانية أنشأها الأستاذ فهو يترنم بما فيها من الرقائق الشعرية فجئت على أمل أن أشنف سمعي بمحاسن أنشاده.
فوست - وهو مظهر للعبوسة - وما هي فائدتك من تعلم ذلك.
ونيار - أريد أن أكون ضليعاً في فن الإلقاء التمثيلي والإنشاد والخطابة فإن هذا لعمري أحد وسائل النجاح العظيمة في هذا العصر والناس يعتقدون أن الممثل قد يصلح لأن يكون واعظاً.(8/33)
فوست - قول أكثر الناس قول هراء يا ونيار ألا تعرف ذلك.
فيضع ونيار مصباحه على أحد الموائد ويجلس أمام أستاذه بلا استئذان وهو يقول.
ونيار - لا يؤاخذني سيدي الأستاذ فأني لمعيشتي هنا في عزلة عن الناس لذلك لا أعرف دخائلهم.
فوست - وهو يبتسم - وهل عرفت الحي يا ونيار.
ونيار - أما الحب فقد أحببت.
فوست (ويقترب بكرسيه منه) صرح لي بما يكنه قلبك ومن هي تلك الفتاة الجميلة التي شغل حبها قلبك.
ونيار - (وهو ينظر إلى فوست دهشاً متردداً)
- من هي التي أحببتها؟ إنها لعمري إحدى تلك الفتيات الفاتنات والغانيات القاتلات اللاتي يود كل أنسان أن يحظى بقربهن ويشنف الأسماع بشهي حديثهن وهي وأن كانت فتاة فقيرة لا مال لها ولا عقار ولكن لها في دعج عينيها وهيف قوامها وجلنار خديها ما يغني الصب عن كنوز الذهب والفضة أنها ظبية من ظباء حديقة ويمار اللائي يخرجن إليها للرياضة والنزهة فيسبين العقول ويخلبن النهي ويفضلن أزهار الربيع ووروده التي يمشين بينها.
فترجف أعضاء الدكتور فوست ويضطرب ويقول مخاطباً نفسه.
فوست - ويلاه أيمكن هذا الفتى مزاحماً لي في حب مرغريت التي رأيتها اليوم لا لا أظن ذلك على أنه إذا كان ذلك كذلك فالويل له فأني قاتله لا محالة بسيفي وساقيه كأس الردى ولكن لا لا هذه أوهام يضلني فيها ما بدأت أشعر به من حب تلك الفتاة فلنغير معه مجري الحديث حتى لا أثير شبهه وظنونه.
ويضع يده على كتف الفتى ثم يقول.
فوست - أتحب أن تكتسب قلوب الرجال وتعظيمهم لك مما هو بغية أكثر الناس وأمنية كل شاب في سنك فأقول لك لا تؤمل أن تصل إلى ذلك في المجتمع ما لم يكن في قلبك حب وميل حقيقي للناس يكسبك رضاءهم ويحبب فيك نفوسهم.
ولأزيدك بياناً فأقول. إن الوقوف في منصة الخطابة أو التربع في كرسي الوعظ وسردك العبارات المختلفة المقعرة وتكلفك لوك ما قد لاكته الألسن من قبل من المفخمات والنفخ في(8/34)
رماد ذلك لإشعال جذوة القلوب كل هذا لا يكسبك إلا إعجاب الأحداث والأغرار ولا سبيل إلى أكثر من ذلك من النجاح ما لم يكن لك من قلبك دافع ومن نفسك أي وجدانك عامل إذ لا طريق للوصول إلى القلوب إلا بما تعمل القلوب.
ونيار - وهو مطأطئ الرأس أمام هذا النصح وعيناه تتقدان - إذاً أنت لا تعتقد أيها الأستاذ أن الاختبار والتجربة في الخطابة والمران على الفصاحة والبلاغة على هذه الصورة في شيء من إنجاح شأن الخطيب على أني لعمري في حاجة إلى سماع بلاغتك ودرر ألفاظك لأني بفضل تعليمك يمكنني كسب القلوب ولا سيما قلب ذياك الجمال الذي بهرني. . .
فوست محركاً رأسه - كلا كلا لا تعتقد ذلك يا بني وثق أن الحب سراب لامع يخدع عينيك ففر منه واستمسك بالأمور الجدية. أجل يا ونيار دعك من القشور وعليك باللباب. اترك المحسنات والتكلفات وعليك بحسن الذوق وصدق النية تفز بالنجاح ولا تقع في الشطط والخطأ الصريح.
ونيار - ولكنك أيها الأستاذ طالما علمتني أن من أصول البلاغة والفصاحة. . .
فوست مقاطعاً وهو رافع ذراعيه إلى العلاء - أنني معرض للخطأ وواجبي يقضي على الآن بإصلاح ما أفسدته عليك.
ما هذا الذي اتخذته مبدأ لك من خلب العقول بفصاحة لسانك لاستجلاب رضا امرأة. لا جرم أنه شر مبدأ يجب الإقلاع عنه.
ونيار - أنك أيها الأستاذ العظيم لم تكن تجري ذكر النساء قبلاً قط على لسانك. على أنه يلزم الإنسان لتجميل حياته الدنيوية القصيرة أن يلطفها بشيء من المسرات بمشاهدة امرأة له يسكن إليها ويتلذذ بسماع حديثها فإن إدامتي الاشتغال بالمؤلفات العتيقة والمقارنة بينها ينهك قواي فلذلك أسعى إلى إعطاء نفسي شيئاً من الراحة واللعب والمسرة دون أن أهمل مع ذلك حق العلم والحقائق التي أزاول تعلمها.
فوست - إن هذه الحقائق لهي التسلية الوحيدة لقلبك فلا تفارقها ولا تعلق قلبك بشيء سواها ولكن ما هو اسم الفتاة التي تحبها يا ونيار؟
ونيار - لا أعرف اسمها.
فوست - يجب أن تسلو هذه الفتاة وأن تدعها لخاطبها ولا تفسد على الناس بناتهم ولا تعكر(8/35)
على العائلات صفوها فيما تختار لبناتها أما نحن فلنكب على العلوم فهي مسلاتنا الوحيدة يا صديقي وأنها لأعلى منزلة وأسمى مقاماً ويسمع دق الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.
فوست - أسمعت. لا جرم أننا قد أطلنا السهر فينبغي أن نقف عند هذا الحد من سمرنا الليلة.
فيقف ونيار ويمسك مصباحه ويتهيأ للخروج وينهض فوست أيضاً.
ونيار - وهو خارج لقد كان بودي أن يطول سمرنا وحديثنا العلمي الشهي لولا أن يوم غد عيد الفصح المبارك ويجب أن نستريح لاستقبال العيد فاستودعك الله أيها الأستاذ الجليل.
فوست - في حراسة الله يا بني.
(المنظر الخامس) حين يخرج ونيار ويغلق فوست الباب ثم يأتي إلى كرسيه ويقبع فيه وهو يقول:
فوست - أيصدق حدسي ويكون ونيار تلميذي خصمي ومزاحمي في حب مرغريت لعلي أكون واهماً على أن ميفستوفيليس رأ الشياطين قد وعدني بأن تكون هذه الفتاة لي وحدي وأن قوته وسلطانه لحريان بأن ينيلاني مرغوبي ويبلان غليل نفسي الذي يؤجج النار في الحشا، ويلاه أيقوم بنفسي وأنا الأستاذ الكبير والعالم النحرير أمثال هذه المنازع حتى صرت بعد أن كنت أعشق العلم وأسفاره أصبو إلى امرأة وأود لو أني جاثٍ أمامها الآن على الركب.
ويبقى برهة غارقاً في أفكاره ثم يقول كأنه يخاطب تلميذه ونيار متهكماً به.
فوست - سر في أوهامك يا ونيار ما شئت أن تسير واتعب في التنقيب عن العلم وتحر البلاغة ما وجدت إلى ذلك سبيلا، لا جرم أن هذه المنازع واللذات لا تسر إلا أصحاب العقول القاصرة مثل عقلك على أنه ينبغي لي أن أخفض الصوت في هذا المكان الذي ظهر لي فيه الشيطان وأني لأشكر له صنعه وأحمد إليه عطاءه وما مناني إياه وأراني أشعر بما يدب في جسمي من الحياة اللذيذة التي وعدني بها غير أني أخشى أن يكون ما شاهدته ووعدني به غروراً واضعات أحلام سقطت أو تسقط بي إلى الحضيض وقد أضيف إليها شهوة جديدة تزيد متاعبي وتنغيص عيشي.
ثم يقف بجوار فراشه ويقول:(8/36)
فوست - علام التماس الراحة والنوم قد جفا أجفاني زمناً ولزمني الأرق والسهاد وصرت الإنسان الضال المشرد الأفكار الذي يتردد بين اختيار منزل في السماء أو امرأة في الأرض، هل يجب عليّ أن لا أسمع إلا لطالب الجسد فاستسلم إلى ما تميل إليه نفسي من الرغائب؟ هل ما عراني من التصورات المملوءة بالآمال تجسر الآن أن تطوي أجنحتها وتلزم السكون حتى تتلاشى وتموت في نفسي؟ كلا كلا إن كل ما يحيط بي في هذه الغرفة وموضوع على هذه الموائد أو معلق على حيطانها أهو شيء آخر غير مادة ترابية؟ أمور زائلة وغرور باطل يظهر ف ألوف من الصور وما هو الأطعمة للدود وعرضة للفناء على حين أن ابتسامة واحدة من ثغر فتاة جميلة تحيي النفوس وتبل صداها.
ثم يصمت قليلاً ويقول:
فوست - أفي هذا المكان أجد ضالتي وما ينقص قلبي! ما الذي أستزيده من دراسة هذه الأسفار الضخمة التي عذب مؤلفوها أنفسهم باستخراجها للناس. هل يذكر التاريخ فرداً واحداً منهم عاش سعيداً منهما حتى الممات:
ثم يذهب إلى المائدة ويأخذ منها جمجمة إنسان ويقلبها بين يديه ويقول:
فوست - ما تقولين لي أنت أيتها الجمجمة الخالية الجافة. أهاج أفكارك أيام حياتك ما يهيج أفكاري أنا اليوم؟ أنشدت نور الحقيقة وصبحها وواصلت البحث والتنقيب عنها حتى وقفت على تلك الحقيقة التي تفرّ منا وتحتجب وراء حجب الغيوب كلما واصلنا البحث عنها؟
ثم يجيل بصره في الغرفة ويقول:
فوست - وهذه العدد والأدوات إلا أراها تهزأ بي وبمجهوداتي السابقة وقد كنت بواسطتها أعمل على باب العلم وأعالج فتحه معتقداً أنها تعينني على فتحه فوجدتها تزيده ارتاجاً. لعمري أن الطبيعة المملوءة بالأسرار والمعميات لا يسهل عليك حل رموزها وكشف غوامضها وأن مالم ترض هي باختيارها إجلاءه لنفسك من حقائقها فلن يمكنك أن تنزعه منها نزعاً بالدلاء والبكرات فيالك من أدوات عتيقة وعدد لا فائدة منها:
ثم يطرح الجمجمة على المائدة ويضرب بقبضة يده على الكتب فتعثر يده على زجاجة فيأخذها بلهف ويرفعها إلى العلا ويقول:
فوست - هذه هي الضالة المنشودة بل هذا هو الدواء الناجع ليأسي ولئن كان الظلام مخيماً(8/37)
على هذا المكان فإن ما في هذه الزجاجة من العقار ليضيء بنور لامع.
ثم يفتح الزجاجة ويقول:
فوست - أيها الشراب اللذيذ الذي يعجل بالشفاء من جميع الأدواء والذي جمعته من أصول النباتات والأعشاب وكل الجواهر السامة التي تريح الإنسان بالموت على أيسر حال أن برؤيتك تزول الهموم وبتعاطيك تذهب الآلام والغموم التي تحط بكلكلها عليّ فهيا لنسرع باللحاق بعالم آخر غير هذا العالم (ثم يضحك ويقول)
فوست - أجل إن كل ما خُبّرتُ عنه وخَبَرتُه في هذه الأرض إن هو إلا أكاذيب وأضاليل وليس ما وُعِدتُ به من عناق مرغريت والثمل برشف ريقها العذب ما هو إلا خداع بل حلم حلمت به وأن تلاميذي ليهزأون بي فلنغادر هذا العالم ولنفر من على ظهر الأرض ولنترك سكانها وشمسها وسماءها ولنجرأ على اقتحام هذا الباب الذي يتهيبه العوام ولنثبت للناس في هذه البرهة أن من الشجاعة اقتحام هذا الأمر واقتراف هذا الجرم.
وهنا يسمع على بعد قرع الأجراس وأناشيد كنائسية في صعود المسيح عليه السلام فيقف قليلاً ويقول:
فوست - ما ألطف هذه الأصوات الكنائسية وأرق هذه الأناشيد السماوية التي أعرف مبناها ومغزاها ولكنها أضحت وا أسفاه لا تشفيني ولا يلين لها قلبي فلندعها لأصحابها ولنتشجع فيما نحن بسبيله، أجل تشجع أيها الدكتور وتناول هذا السم وسلام عليك أيها الفجر الباسق.
(المنظر السادس) ويشرع في وضع الزجاجة على فيه فيأتي ميفستوفيليس من خلفه ويمسكه وينزع الزجاجة من يده ويلقي بها على الأرض فتنكسر.
ميفستوفيليس - ما هذا اليأس أيها الدكتور العظيم ألم أعاهدك على نيلا تشتهي نفسك: أتظن أن الشيطان ينقض عهده أو ينكث وعده. كلا كلا بل لا بد لي من إعطائك ما تريد فمرغريت ستكون لك وشبابك سيعود إليك.
فوست - لقد كنت حسبت مجيئك وعهدك خيالاً بل حلماً من الأحلام ولكنك إذ جئت الآن للوفاء به فعجل بما وعدتني.
ميفستوفيليس - اذهب إلى هذه المرآة وانظر أولاً صورتك فيها. (فيذهب فوست إىلى المرآة وهنا تتغير صورته ويعود إليه شبابه وزهرته فيدهش ويصيح قائلاً)(8/38)
فوست - عجب عجاب. . أني صرت شاباً وعاودتني صورتي وهيئتي يوم كنت ابن خمس وعشرين سنة فيالسعادتي ويالحسن حظي فمتى أذهب للقاء مرغريت فاتنة قلبي (ثم يعود إلى ميفستوفيليس).
ميفستوفيليس - ستراها قريباً وتحادثها وسأدبر لك الحيلة في الاجتماع بها فنم الآن قرير العين مرتاح الخاطر ولا تظن الشيطان يخلف وعده أصدقاءه.
فوست - وهو ينظر إلى هيئته ويمسك ثيابه بيده - ياللسرور وياللهناء لقد عدت شاباً صغيراً ولكن ما العمل في تلاميذي ومريدي إذا رأوني على هذه الصورة أيعرفونني أم ينكرونني.
ميفستوفيليس - لا تخف فأني سألازمك واتزيا بزيك السابق وأقابل بدلك تلاميذك وأعلمهم علمك فلا تغتم لذلك ولا تجدن فيه غضاضة بل ينبغي لك أن تسر به وتنصاع لأوامري وأني سأسير بك في العالم السيرة التي تشتهيها نفسك من الحظوة بحبيبة قلبك والتمتع بمسرات العالم ودعك من كل هذا التعب الذي تقاسيه والشقاء الذي تعانيه والآن استودعك الله فنمر العين مرتاح الخاطر وسآتيك بعيد ساعات قليلة لآخذك معي لترى مرغريت بهجة نفسك (ويفترقان فيذهب فوست إلى فراشه ويتقدم ميفستوفيليس من المسرح وهو يقول:)
ميفستوفيليس - لقد تم لي إغواء هذا الرجل العظيم وما أوقعه في شركي غير كبريائه ونعاظمه فسلطني الله عليه حتى أغويته قصاصاً منه وعقاباً له على ما دخل نفسه من العجب والغرور بعلمه ومعارفه الواسعة، من كان يظن أن الدكتور فوست عالم ألمانيا الأوحد وحكيمها الأشهر المتبحر في جميع العلوم البشرية يقع في شركي ويعطي بيده في فخي على أيسر سبيل بمجرد أن زينت له ما قام بنفسه من الشهوات التي طالما جاهدها وقمعها في نفسه وحاربها في سواه وقد بلغ من الكبر عتياً، لا جرم أن أحوال الإنسان عجيبة وأطواره غريبة فبينا هو ملك كريم إذا بك تراه شيطاناً رجيماً لأن فيه لعمري جانباً ضعيفاً من الميول إذا هو لم يقومها ويقاومها جهده ويسدد خطاه في حياته حتى النهاية قادته صاغراً إلى البوار مهما كان عظيماً وأعنت أنا عليه بسببها وما ربك بظلام للعبيد. (ثم يرفع الستار)(8/39)
التربية الطبيعية
أو أميل القرن الثامن عشر
تأليف جان جاك روسو
وتعريب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني (تابع)
أخته فإذا ضمها مجلس تجاذبا أطراف الكلام في أدب وظرف كأنهما غريبان لم ينتظم عقد اجتماعهما إلا الساعة. وإذا انتكث حبل الألفة بين أفراد الأسرة الواحدة ويبس الثرى بينهم وجفت موارد الصفاء ونضب معين الإخاء فليس بمستغرب أن ينصرف كل واحد عما ليس فيه لذاذة فيتدلى إلى ما هو أحط وأدنى ليسد ذلك النقص الذي يجده ويملأ ذلك الفراغ الذي يحسه. وهل في الناس من بلغت به البلادة والغباوة بحيث لا يفطن لصدق قولنا وصحة نظريتنا هذه؟
أما ذلك الأب الذي يجتزئ بأن يطعم بنيه ويكسوهم فلم ينهض إلا بثلث ما عليه لأن عليه أن يخرج للنوع رجالاً وللمجتمع رجالاً مدنيين (ذوي أميال مدنية) ولامته عمالاً حضريين. فأيما رجل لم يؤد هذا الدين وكان لا عسر عليه في الوفاء به فقد أرتكب جرماً لا مخرج له من عهدته ولا متبرأ له من تبعته وهو إذا أدى النصف فالذنب أشد والجرم أكبر لأن من لا يأنس في نفسه القدرة على الاستقلال بواجبات الأب فليس له أن يكون أباً وليس يبرئه من الملام على تفريطه في العناية ببنيه وتأديبهم رقة الحال أو كثرة المشاغل وأنت أيها القارئ أعرني جانب الثقة واعلم أن صاحب الضمير إذا ظهر بواجباته وتهاون بها فلا بد أن يأتي يوم يذوق فيه وبال تفريطه ويحتقب من تقصيره تبعة الندم ولات ساعة مندم.
قالوا وحسب الرجل منا أن يدفع ولده إلى مؤدب يقومه ما استطاع ويصلحه ما قدر وليس في ذلك كلفة أو عناء لأن أطبع الطين ما كان رطباً، وأعدل العود ما كان لدناً، وليس كل والد بقادر على تأديب ولده بل ربما كان غيره من الناس أقدر على تدارك الخلق الذميمة كلما نجمت وقذعها إذا هجمت قبل أن يظهر تضعيفها ويقوي ضعيفها. وهو قول ظاهره فيه الخير وباطنه من قبله الشر وليت شعري أيروم طالب ذلك شيئاً مما وأمراً سهلاً وكيف لنا بمن ينهض بذلك؟ وهل يستقل بمثل هذا العبء أجير!
ورب مستفسر يقول وهل لا سبيل إلى العثور برجل يغني غناء الوالد ويجزيء مجزأته(8/40)
وجوابي على هذا أني لا أدري ولعلنا جميعاً لا ندري إلى أي درجة من درجات الفضيلة ترتقي نفوس البشر. ولنفرض أنا وجدنا ضالتنا فإنه ينبغي أن تزن عمله الذي تند به لترى هل له غناء فيما تسنده إليه وكفاية فيما تقلده إياه. ولتعلم مبلغ الكفاية التي ينبغي أن تكون معه ليقوم بما تحمله. وأول ما يخطر لي في ذلك أن من يتدبر ما يكلفه المؤدب الذكي الأروع خليق أن يفطم نفسه عن طلبه ويزمها عن التماسه لأن أيسر مما يحاول من ذلك أن لا يزال يرافع نفسه ويخافضها حتى يصبح مؤدباً!
وأنك لو فكرت في ذلك الوالد الموسر الذي سها عن تربية ولده وزعم أن الشواغل صرفته عن تأديبه فبذل ماله للأجنبي وهو يحسب أنه سيتقدم فيما استكفاه من أموره واستحمله من واجباته ويظن أنه بماله يستطيع أن يشتري لأبنه رجلاً يسد مسده ويمضي مضاءه لرأيت رجلاً قد سد عليه الجهل منافذ النظر وقطع عليه التقليد وجهة الفكر وهو إنما اختار لأبنه خادماً يتبعه ويتوخى مرضاته في كل ما يقول ويفعل وليس من نتيجة لذلك إلا أن يصبح الولد مثله لأن عيوب الطفل معقودة بعيب مربيه.
ولقد قرأنا كثيراً مما كتبه الناس في صفات المؤدب الكفؤ ومناقبه وليس يجب في مذهبي أن تجتمع فيه خلال الفتوة والمروءة جميعها بل أن ألزم من ذلك عندي أن يكون من شرف النفس وإباء الطبع بحيث يأنف أن يبيع نفسه فإن من الأعمال ما هو أجل من أن يكون منها كسبنا ومعاشنا. وما لو جعلناه تجارة لكنا غير أهل له ومن ذلك عمل الجندي والمدرس. وإذ كان الأمر كذلك فإن خليقاً بك أن تتحول عن طلب مؤدب لبنيك يتولى تربيتهم ولقد قلت لك فيما أسلفت من الكلام أنك أحق من تولي ذلك وأقدر، فأما أنا وسواي فأين نقع من ذلك. فإن لم تستطع وكان الأمر من فوق إمكانك فإن الرأي عندي أن تستظهر بصديق تشد به أزرك وتشركه في أمرك.
ولقد طلب إليّ مرة رجل لا أعرف عنه سوى أنه من ذوي المراتب السنية والمنازل الملحوظة أن أؤدب ولداً له فرفعني بذلك وشرفني وأعلى مقامي غير أني أبيت عليه ذلك. ولقد كنت بالشكر أحق مني بالكفر، وكان الحمد على الإخلاص له أولى من الذم ولو أني أطعته ثم أخطأت وزغت عن وضح المحجة لما أفلحت في تربية ولده ولكانت النتيجة سوءاً. على أني لو نجحت لكانت شراً وأسوأ إذ لو صح تأديبي له لنبذ الولد ألقابه وأبى أن(8/41)
يكون أميراً
أني أعرف بواجب المدرس وأبصر بخطارة عمله من أن ألبي مثل هذه الدعوة وأن كانت من أمير كبير. ولأنا أشد إصراراً على العصيان ومضياً على الإباء إذا كان الداعي صديقاً لي. ولعل الناس إذا قرأوا كتابي هذا يكفون عن الإلحاف في مسألتي والاحتفال في عذلي ورجائي إلى من يحسبون أن في وسعهم حملي على الرضا بالهوادة والمهاونة أن لا يذيقوا أنفسهم مرارة الرد والرجوع بالخيبة. فأني أعلم بنفسي وأشد مناصحة لها ولئن جهلتها فكيف لي بمعرفة غيرها. ولقد اختبرت نفسي مرة والله يعلم أني ما حمدت مخبرها على أن فيما أزاول من عملي ما يظهر عني ما يلزمه الناس من اللوم وما كنت لأكلف نفسي إعلان ذلك العزم لولا أن في الناس من يتهم عزمي ولا يثق بصدقي.
ولذلك قد اعتزمت أن اتخذ لنفسي تلميذاً وهمياً لا وجود له وفرضت أن لي من السن ووفور العقل والرسوخ في العلم وغير ذلك من المواهب والملكات والأسباب وسائر ما يستعين به المرء ويتآدي به لتربيته حتى يبلغ كمال البنية والعقل وهذه الطريقة خير عندي لمن يخشى أن يتيه في شعاب البحث ويهيم في أودية الكلام. ليكون إذا آنس من نفسه جنوحاً عن الجدد قادراً على حبس نفس الكلام ورد جماح المقال. وسبيل ذلك أن يجرب الرأي في تلميذه لينظر من أين مجراه.
وأرى عدا ذلك خلافاً لما عليه الناس جميعاً أن يكون المؤدب في شرخ شبيبته وربيع عمره ولولا أن يقال مجنون مختلط لقلت ينبغي أن يكون صبياً كتلميذه ليكون له رفيقاً مؤانساً وليستريح كل إلى صاحبه ويسكن إليه لأن الطفل عادة لا يطمئن إلى شيخ ولا يأنس به أنسه بطفل مثله يسايره في أهوائه وملاهيه فإذا نشأت بين طفل وشيخ صحبة رأيتها جافة جامدة وقد يداجي الطفل صاحبه الشيخ ويتملق له ولكنه لا يميل إليه بالود أبدا.
وقالوا يشترط لنجاح المؤدب أن يكون قد عالج تأديب طفل آخر من قبل وهذا الشرط منهم يدخل في باب الإعجاز إذ حسب المؤدب أن يربي طفلاً واحداً على أن هذا الشرط لو كان لازماً لنجاحه وكان لا بد للمؤدب من تربية أثنين لما لما كان له حق في معالجة الأول منهما حتى يحتسب ما عند نفسه من لمقدرة بأن يمارس تأديب غيره أولاً! وأنت إن دخلت من هذا الباب فلن تصيب منه مخرجاً.(8/42)
على أن هناك فرقاً كبيراً بين أن يتعهد الواحد منا غلاماً يافعاً أربع سنين وبين أن يتولى هدايته وإرشاده خمساً وعشرين. فقد جرت عادة الناس إذا شب أبناؤهم أن يدفعوهم إلى مؤدب يصحبهم في غدواتهم وروحاتهم ويوقفهم على شيء من العلوم وأنا لو استطعت لدفعتهم إليه ولما يولدوا. وحسبه أن يحملوا عنه علم الواجب الإنساني وهو علم واحد صحيح لا يتجزأ برغم ما أثر عن زينوفون في كلامه عن تربية الفرس. وعليه أن يكون أشد عناية بهدايتهم وأمر إرشادهم وتقويمهم منه بتلقينهم شيئاً من العلوم والمعارف الأخرى وعلى تلاميذه أن يستقروا ذلك من ذي نفوسهم ويستخرجوه باجتهاده.
وليس بالفقير حاجة إلى التربية فإن حالته الاجتماعية قد دفعته إلى نوع من أنواعها لا يستطيع أن يعدوه أو يتجاوزه بحال من الأحوال على أن تربية الطبيعة كفيلة بأن تعده لكل مراتب الاجتماع وحالاته وليس من الحزم أصالة الرأي أنه تربي الفقير ليكون غنياً ولا الغني ليصير فقيراً وأنك لو تأملت لوجدت عدد من يوقعون أنفسهم في مهاوي الخراب أكثروا أكبر ممن ينتقلون من الفقر إلى الغنى وهذا بالنسبة إلى عدد أفراد الطبقتين. فلنختر تلميذنا أميل من طائفة الأغنياء وليس يسوءني أنه من الشرفاء والوجهاء فلعلي أن أنقذه من مخالب الأوهام وأخلصه من حبائل الجهل.
وأميل فيما عدا ذلك يتيم، ذهب الموت بأمه وأبيه، فخلالي به الجو وخلاله بي، فليس له من أحد يقوم عليه سواي، ولا تجب عليه الطاعة إلا لي، فهو وإن كان يجل أبويه ويعظمهما غير أنه لا ينزل إلا على حكمي ولا يقعد إلا تحت أمري. ولست أسأله شرطاً غير ذلك.
وأني أضيف إلى هذا الشرط أمراً آخر يتفرع في الحقيقة عنه وينشعب منه وهو أن عري أخائنا لا انفصام لها واجتماعنا لا افتراق فيه اللهم إلا أن نشاء ذلك. وكذلك ينبغي أن يكون الطالب والأستاذ ليستريح كل إلى معاشره متى أيقن أنه مصاحبه على العلات. وليصبح كل شغل صاحبه وهمه. فأما إذا علما أن شملهما سوف ينصدع وضمهما لا بد منتشر انصرف كل واحد عن أخيه واشتغل عنه بنفسه وبالنظر في مستقبل حياته. وبذلك يثقل ظل اجتماعهما فيرى الطالب أن أستاذه رقيب عليه يحصي أنفاسه ولا يزال يتسقطه ويتتبع عثراته. ويرى الأستاذ أن تلميذه عبء ثقيل يحن إلى اليوم الذي فيه يطرحه ويلقيه(8/43)
وبالجملة تنقطع بينهما أسباب الثقة والود وإذا وقعت الوحشة نكب الأول عن طاعة الثاني وسها هذا عن رعاية ذاك.
وليس ينبغي للوالد أن يفضل بعض بنيه على بعض فإنهم جميعاً أبناؤه وعليه أن يوزع بينهم حبه وعنايته على السواء. وهم ودائع عنده القوى منهم والضعيف والجميل والقبيح والصحيح والمعتل ولسوف يسئل عن الوديعة من أودعها. والزواج عقد بين الرجل والطبيعة كما أنه عقد بين الرجل وزوجه.
وإن على من يحاول أن يستقل بما لم تكلفه الطبيعة أن يأخذ لذلك العدة ويهيء له الأسباب من قبل وإلا كان مسئولاً عما ليس له به يدان. فإن الذي يكلف نفسه تأديب طفل منسرق القوى مسلوب المُنّه مدنف الجسم يعتاض من وظيفة المؤدب وظيفة الظئر؟ لأن وقته يضيع في حياطة حياته والمحافظة عليها بدل أن يصرف في إرشاده وتسديده وتثقيفه وتقويمه. ثم أنا أخشى عليه إن مات الطفل أن تجيئه أمه عبرة باكية وتقبل عليه لائمة شاكية ولعله قد مد في عمره وأطاله وكلأه من الموت سنين عديدة.
ليس لي في الخوّار الهشيم حيلة ولو أنسأ الله في أجله حتى يبلغ به الثمانين. فإن مثل هذا لأخير فيه لنفسه ولا للناس. لأنه يظل حياته يرجف من الموت ويتحصن منه وراء الأطباء والصيادلة وما يغني الأطباء ولا الصيادلة. ولأن جسمه عقبه في سبيل تهذيب روحه وأي فائدة في العناية بمثل هذا فإذا فقدناه كانت الخسارة مضاعفة على المجتمع! كلا. فليقم رجل منكم غيري على هذا الضاوي الضعيف. وله مني الشكر على جميل صنعه ومعروفه وكيف لي أن أعلمه كيف يعيش ولا هم له إلا اتقاء الموت؟
ولا بد للجسم أن يكون ضليعاً مريراً ليقوى على النهوض بتكاليف الروح. فإن أحسن الخدم أشدهم أسراً وأوثقهم مُمرَّاً وأنت خبير أن الإلحاح على الشرب يهيج الإحساس ويثير العواطف ويسلب المُلِجَ قوته على مر الأيام وأن التعذيب والصيام يبلغان بالمرء إلى مثل ذلك والجسم إذا ألح عليه الضعف لج في العصيان وهو على العكس مطواع إذا تماسك واشتد. وكلما ضعفت الأجسام اشتد بالنفوس النزاع إلى الشهوات وطغى بها طلب اللذاذات. وأسوأ ما تكون هذه النفوس خلقاً إذا أعياها التماسها وأعجزها بلوغ مأربها منها.
وإذا تداعى الجسم فلا عجب أن تتضاءل الروح وتطمئن إلى الضعف وتخلد إلى الفتور(8/44)
وعلى ذلك قامت دولة الطب وملك الصيدلة وما علمت شيئاً أضر بالرجال من هذين ولست والله أدرى من أي داء يشفينا الأطباء وأني على هذا لأدري أنهم ينشرون فينا الجبن والخور وسرعة الاستنامة إلى كل قول والخوف من الموت. ولعمري لئن صح أنهم يصلحون الجسم بما يطبون فإنهم يقتلون الشجاعة ويفتكون بالبأس وما خير أجسام ميتة تغدو وتروح. إن حاجتنا إلى الرجال لا الأشباح وما عهدنا الأطباء عندهم ما نبغي ونريد.
وقد أصبح الطب (موده) وحق له أن يكون كذلك فإنه ملهاة النومة ومسلاة المتبطل لما لم يجد ما يعمله جعل يدافع وقته بالطب وهو يحسب أن ذلك يطيل عمره ويمد أجله. ولو ابتلى هؤلاء بالخلود لكانوا أتعس الناس وأشقاهم لأن الحياة وهي كل ما كانوا يحرصون عليه تصير إذ ذاك في مأمن من غوائل الموت فلا يكون لها عندهم قيمة أو ثمن. وأمثال هؤلاء في حاجة إلى الأطباء ليتوعدوهم كي يداجوهم ويراؤوهم وليذيقوهم في كل يوم ألذ ما يشتهون وأمتع ما يطلبون - أعني البعد من الموت!
فإذا كانت طلبتك الشجاعة الحقة والبأس الصادق فالتمسها حيث الأطباء غير موجودين وابغهما حيث الناس لا يعرفون ما الأمراض وما عواقبها ودر عليهما بين من لا يحفلون بالموت ولا يذكرونه. لأن الإنسان الفطري يعيش ويموت في سكينة كما تموت الأشجار. وإنما يهزم فؤاده وينسيه كيف يموت الأطباء بما يصفون والفلاسفة بما ينصحون والقسس بما يخوفون.
فائتني بتلميذ لا حاجة به إلى هؤلاء جميعاً إلا فأليك به عني فأني لا أحب أن يفسد عليّ غيري من أمره ما أصلح. وأطلق إلى أن أفعل به ما أشاء أو فدعني وأنظر غيري من الناس فهم كُثر فأني رأيت لوك وهو من تعرف تقول وكان قد أنفق على طلب الطلب بعض العمر لا ينبغي أن يطب للأطفال لا على سبيل الحيطة ولا فيما ينتابهم من العلل البسيطة وأنا أزيد على ذلك وأضيف إليه أني لما كنت لم استوصف طبيباً أبداً فكذلك لن استطب لتلميذي أميل: ألا أن تكون حياته في خطر ظاهر وما أحسبهم يقدرون إذ ذاك على أكثر من أن يقتلوه.
وخير علوم الطب عندي وانفعها قانون الصحة وما هو لو تدبرت إلا فضيلة لا علم فإن الاعتدال والعمل خير ما يتداوى به المرء لأن العمل يرهف من حد شهوته (يعني شهوة(8/45)
الطعام) والاعتدال يمنعه من أن يسيء بها إلى نفسه.
وما خلق الناس ليحتشدوا كالأغنام في مكان بل خلقوا ليتفرقوا في مناكب الأرض وينتشروا في نواحيها ويحرثوها ويستخرجوا خيراتها. وما تفسد الناس إلا من اكتظاظ البلاد بهم فإن أمراض الجسم والروح بعض نتائج الازدحام والإنسان أقل الحيوانات صبراً على الاحتشاد واطاقة للازدحام وأكثر ما يودي الموت بالناس إذا غص بهم مكان وامتلأت منهم ناحية والمدن فأعلم قبور النوع الإنساني وأجداثه وسكانها أسرع الناس فناءاً وفساداً وما زالت القرى هي التي تمد المدن بالصالح من أهلها وناسها. (متبوع)(8/46)
العلوم والفنون
فلسفة الاختيار - الجسم والدماغ - نظام التعاقب الزراعي
1
فلسفة الاختيار
بحث بسيوكولوجي علمي
مسألة الاختيار أو بمعنى أعم طرق التصرف بالحرية الشخصية لمسألة دقيقة يتوقف عليها سعادة الحياة وشقاؤها.
وقد وقفنا على بحث خطير للأستاذ روبرت ريد مدرس العلوم الاجتماعية في كلية بيروت رأينا أن نعربه هنا عن مجلة الكلية قال:
إن الفشل والنجاح في الحياة متوقفان على جواب السؤال الآتي: كيف أتصرف باختياري تصرفاً لائقاً صحيحاً؟
وأول ما يجب ملاحظته هو أننا لا نعمل عملاً إلا وله سبب كاف يقف والعمل في ميزان واحد وعلى ذلك يمكننا أن نحلل موضوعنا التحليل الآتي:
أولاً - يوجد سبب لكل عمل.
هذه قضية بديهية حتى أنها لا تحتاج للبرهان. ولا يعمل عملاً بدون سبب إلا المجانين.
فالسبب ضروري. ومهما كان السبب وجيهاً أو سخيفاً. حقيقياً أو مكذوباً. نافعاً أو ضاراً. مهما كان السبب أو الدافع فإنه يجب أن يكون.
ثانياً - السبب الغالب في الاختيار هو الإرادة أو بمعنى واضح الارتياح للعمل - يعجبك عمل وترى أن هناك أسباباً قوية فتعمله.
في علم الاقتصاد حل وجيه لهذه النقطة لأننا نرى العمل والسبب ظاهرين تماماً.
فالإنسان بحكم الطبيعة في حاجة فهو يشتغل ليسد تلك الحاجة. سبب وعمل معقولان تماماً. وهذا قانون عام في الطبيعة البشرية.
وهذا ركن فقط من أركان حياتنا البيسكولوجية التي هي عبارة عن مجموعة رغبات وآمال وكذلك دوافع وقوى لتحقيق تلك الرغبات والآمال وفي كل عمل نرى القانون المتقدم صحيحاً - نرى أن الإرادة هي السبب الحقيقي للعمل -(8/47)
الإرادة مجرد الإعجاب والارتياح والسرور الناشئة من العمل بدون فحص أو تدقيق. الإرادة عمل نفسي اختياري محض.
ولكن هنا يقوم اعتراض هائل على ذلك فإن الإنسان كثيراً ما يعمل أعمالاً لا تكون اللذة والارتياح البواعث الحقيقية في عملها.
يؤخذ الطالب إلى الكلية - مثلاً - ويرغم على إتباع قانون لا يرى من نفسه باعثاً عل العمل به ولكنه مرغم على العمل به وعدم مخالفته.
فماذا يكون ذلك؟ القانون طبعاً يتعارض مع حريتنا ومسراتنا التي يمكن أن تنجم عن الحرية المطلقة.
فهل يمكن أن نتبع القانون بارتياح ولذة أو بعبارة أخرى هل نشأت طاعتنا للقانون من اختيارنا المجرد الحر.
الجواب نعم. أطعنا كأنه من لوازمنا ومن الأمور الضرورية التي يجب عملها.
النظرية احتفلت هنا. قلنا أولاً أن القانون يتعارض مع ارتياحنا لطاعته ثم قلنا أننا نطيعه بارتياح ولذة فما سبب ذلك التناقض.
لا تناقض أبداً - إن حركة الاشمئزاز التي نقابل بها القانون لأول مرة. حالاً تقابل بل تخمد بحركة فكر وتعقل إن لم نطع القانون نطرد من المدرسة هذا هو الفكر المتبادر إلى الذهن عند معاكسة القانون.
فنرجح طاعتنا للقانون عند معاكسته والطرد من المدرسة وهذا الترجيح نوع من الاختيار الحر الذي يرافق إرادتنا.
ولما نقول أن الإنسان يباشر أعمالاً لا رغبة له في عملها يجب أن نذكر أن الرغبة محورة في الوسط الذي يحيط بنوع العمل ورغبتنا متوقفة على مقدار ما في العمل من الحرية واللذة.
مثال ذلك. إذا كنا أحراراً في إرادتنا المطلقة أو ما نسميه نحن الإرادة المطلقة إذا كانت توجد. إذا كانت لنا هذه الحرية فيمكننا أن نستمتع بأموال جيراننا. ولكن مع الأسف جاري ساهر على أمواله يحرسها. فهذه النقطة التي تعاكس رغبتي هي قيد من القيود الطبيعية للإرادة المطلقة التي خمدت في الإنسان ولا وجود لها الآن.(8/48)
وعلى هذا يمكننا أن نؤكد أن كل الأعمال التي نباشرها أساسها الإرادة واللذة في عملها.
ثالثاً - إذا كنا نختار الاختيار الصحيح يجب أن نعمل العمل الصحيح المنطبق على إرادة الاختيار.
المهم أن نراقب إرادتنا وتفحص العمل قبل مباشرته ونسأل أنفسنا هل يليق أن نأتي هذا العمل مع وجود السبب والرغبة في عمله.
هنا يجب أن تكون قوة الأخلاق. قوة المبادئ. القوة التي تحفظ توازن الإنسان كافية لتدفعه للعمل وإلا فهو يندفع لكل عمل مهما كانت قيمته من الصلاح والفساد ويعتقد أنه يؤدي أعمالاً لها أسباب وتسببت عن الناموس الطبيعي وهو مجرد الاختيار.
صحيح إن الناموس صادق ولكن أخلاق الرجل فاسدة إذن فكل أعماله وإرادته واختياره فاسدة.
إن الأميال العامة في الإنسان لهي الميزان الحقيقي لأخلاقه. ويمكنك أن تحكم على الرجل بدون تردد بمجرد سماعك أمياله وأغراضه في الحياة.
وكلما كان مادياً يميل للثروة والسلطة كلما كان فاسداً وكانت إرادته واختياره في نظام فاسد.
وهنا يقوم اعتراض. إذا كنا نعمل الأعمال التي نريدها ولا بد من أن كل إنسان يريد أن يكون شريفاً عاقلاً ممدوحاً لما أذن لا يكون كل إنسان بهذه الصفة. لماذا يعكس القانون ويوجد أناس يعملون أعمالاً لو عرضت عليهم بصورتها الحقيقية لنفروا منها وتبرأوا.
الجواب على هذا السؤال في النظرية الآتية!
رابعاً - ما هي النتائج المحتمة للعمل؟ هذا السؤال هو الجواب المقنع للاعتراض المتقدم.
ليسأل الإنسان دائماً ما هي النتائج المحتملة للعمل وإذا كان على جانب من العقل يظهر له العمل بكل التقادير التي تحيط به.
مثال ذلك. وقف طالب في الملعب المخصص للألعاب الرياضية للمدرسة ونظر الفائز الذي نال الجائزة والإعجاب به فقال في نفسه يجب أن أفوز السنة الآتية وأنال الجائزة ولما رجع للمدرسة ابتدأ أن يمرن نفسه كل يوم في الخلاء ولكن بالطبع لا يساعده الطقس يومياً على هذا العمل فيكون بين رادتين - إرادة الرجوع عن عزمه أو الاستمرار فيه مع تحمل مصائب الطقس وعلى ذلك نأتي إلى نقطة النتائج المحتمة(8/49)
وعلى ذلك نسأل السؤال الآتي. هل يوجد قانون يلزمه أن يتبعه الإنسان حتى يصل للنتائج المحتمة أو أن الصدفة تسوقه إلى النتائج المذكورة.
إن كثيرين لا يؤمنون فقط بالصدفة بل ينتظرونها كأنها محتمة وهؤلاء - حسب القوانين البسيكولوجية - فاقدوا قوة الحكم على إرادتهم لتنفيذ أغراضهم.
خامساً - أننا بحسب تمرين قوانا قادرون على تنفيذ كل ما يعرض أمامنا من الأماني والآمال للوصول إلى النتائج المحتمة.
ولذلك طريقتان. الأولى. إتباع طرق الوصول إلى النتائج حالاً مهما كانت العقبات. يضع الإنسان أمام عينيه غرضاً قلما ينثني حالاً عنه إلا إذا كانت إرادته لم تبت الحكم فيه أولاً والتردد في الحكم هو الشك والشك نقص إرادة.
قيل لرجل في المحل الفلاني كنز إذا حفرت عشرين متراً وجدته فهل يتردد الرجل إلى القهوة ليشرب فنجان قهوة ويحادث بعض من يعرفون شيئاً عن الكنوز. إذا عمل ذلك فهو إذن ناقص الحكم على قوة إرادته وغالباً هذا الصنف لا ينجح في الحياة.
والطريقة الثانية مقاربة للمتقدمة إلا أنها غريبة في خواصها البسيكولوجية. الإنسان لا يعمل عملاً إلا إذا انطبق على هواه. إلا إذا امتزج بعواطفه. إلا إذا وجد ميلاً ورغبة للعمل. إلا إذا آنس من إرادته قوة على العمل. إلا إذا ارتاح العقل لنتائج العمل. إذن ضروري جداً تربية العواطف والإرادة والعقل. نربي العواطف حتى لا يختلط عليها النافع والضار. الدائم والزائل. نربي الإرادة حتى تفرق بين التشبث والادعاء لأن كثيرين تراهم يتشبثون كأنهم ذوو إرادة حديدية ولكن بعد مدة تراهم يلينون. هذا ضعف شديد في الإرادة وهو يدل أيضاً على عدم تربية العقل لتقدير العواقب. وتربية العقل ليكون مقدراً ومحيطاً بكل عواقب العمل. حتى لا يكون لندم أو تأسف أو امتحان محل الرجل الذي يعمل عملاً ليجرب أو بعد العمل يأسف ويتحسر هذا ضرره من قوة عقله لأنه لم يفكر ويفحص ماذا يريد أن يعمل أولاً.
العواطف بمثابة النائب العام في الإجراءات القانونية القضائية يحضر الأحكام ويظهرها في مظهر الرداءة أو الطيبة حسب ما يعرف ويقدر الطيبة والرداءة.
والعقل هو القانون أو بمعنى أوضح القاضي الذي يفصل ليبني خطأ النائب أو صوابه.(8/50)
ليبين هل العواطف في مجرى صحيح أو منحرف.
والإرادة القوة التنفيذية التي تستلم الأعمال بعد العواطف والعقل وتجري أعمال التنفيذ من حيز التصور والنظر إلى حيز العمل والظهور.
وهناك لا بد لنا أن نقول أن الفشل الذي يرافق أغلب الناس ناشئ عن عدم تربية العواطف والعقل والإرادة.
وحسب حكم الإنسان يكون نجاحه أو فشله.
لنأخذ مثلاً الطالب الذي يريد أن يربح الجائزة. هذا الطالب أمامه طريقان أما أن يتعب في البرد كل يوم أو يمكث في فراشه دافئاً مستريحاً. ففي الأول ينال الجائزة وفي الثاني ينال الراحة حسب وهمه. حسب تقدير الإنسان للسعادة والشقاء والفرح والحزن وأغلب ماجريات الحياة تكون قيمته في الحياة.
هذا الطالب يطلب الدفء والجائزة في آن واحد ومع ذلك يمكنه أن ينال الدفء والجائزة في آن واحد. لأنه إذا تمرن في البرد نال الدفء ولا شك وبالتالي سينال الجائزة فيمكنه أن يتغلب على خداع حواسه ويقول الدفء خارج الفراش لا داخله.
وهكذا كل الناس. يمكن للإنسان حسب ما يصور لنفسه أن يعيش وكلما كان تصوره مقروناً بالعمل كلما كانت حياته مملوءة بالنجاح.
إن أعلب الجرائم والسرقات والشرور الناتجة عن فساد الأخلاق كلها نتيجة السعادة والنجاح وبعبارة أخرى كلها تصور مرتكبوها أن وراءها السعادة والنجاح.
والغريب في الحياة أن كل الناس من كل الطبقات مهما كانت أعمالهم يعيشون متوهمين أنهم على جانب من الصواب والصلاح وسينالون السعادة. لا فرق في ذلك بين اللص والنمام. بين القاتل والمزور. كلهم يخدعون أنفسهم.
دخل طالبان الكلية - مثلاً - وأحدهم مجتهد أمين. يشتغل ويجيب على أسئلة الأساتذة. والآخر ذكي ولكن في طريقة خداع المعلمين. إذا وجد في امتحان يعمل كل طريقة لسرقة الأجوبة. أو يغش في أوراقه بأية طريقة الطالب الأخير عثرة كبرى وضع ليضل بسببه كثيرون. لأن الطالب المجتهد الأمين يمكن أن يغير أخلاقه حسب تقديره لعمل زميله الخائن فإذا قال في نفسه ولماذا لا أجاري هذا الطالب ولا ضرورة لإزعاج عقلي دائماً بحل(8/51)
المسائل بل يمكن أن أغش وأفوز في الامتحان. هذا الطالب سقوطه ونجاحه متوقفان على قوة الحكم. على قوة العقل والإرادة. لأنه إذا كان العقل عنده قوياً لرأي أن عمل الطالب الخائن تجارة كاذبة. لرأي أن عمله لا أساس له. وعلى فرض أن الخائن أخذ شهادة أنه أنهى مدة الدراسة فهل يقدر أن يغش العالم حين يستلم الأشغال. مستحيل. إذن تجارته خاسرة وهذا سيخرج للعالم بدون رأس مال بالمرة.
الأشرار في الحياة لا يتوقف ضررهم على ما يتركونه من النتائج السيئة لأعمالهم. كلا بل هم عثرة في سبيل القوم الأخيار الذين يعيشون حسب المبادئ الطيبة المقرونة بالعمل.
وعلى قوة الحكم يتوقف سلوكنا في الحياة والآن نأتي إلى النتيجة النهائية المطلوبة.
سادساً - هل من طريقة تحفظنا من أن ننخدع في عقولنا وإرادتنا حتى لا نتوهم النجاح الوقتي نجاحاً - نعم. الدين.
لا لوم على الإنسان الذي ينخدع ويقبل على الأعمال التي تغاير المبادئ الصحيحة ولكن اللوم لأنه لم يعرف الواسطة العامة التي تكشف له خطأ وصحة العمل الذي يقبل عليه.
هنا معنى الدين وهنا البرهان الذي يفحم الذين يقومون لمعارضته. لأنه لا قوة في الإنسان تجعله يحفظ نفسه من الخطأ. وإذا قالوا الضمير. نقول أن الضمير تابع للإرادة. ثم أن الضمير لا ينذر بالخطأ ولكن يؤنب على الخطأ والتأنيب الذي يتوهمه الناس قبل مباشرة مالا يليق هو قوة صلاح باقية لم تفسد. أما عمل الضمير فمنحصر في اللوم فقط.
الدين قوة خارجية تكشف للإنسان حقيقة ما يخفى عليه. الدين ميزان. الدين يعرض على الإنسان دائماً الجانب الأبيض من الأعمال وإذا ضل الإنسان وأخذ بالجانب الأسود فاللوم عليه.
كلما احتك الإنسان بالدين كلما ظهر له خطؤه وكلما بعد عن الدين كلما انغمس في أعمال لا يظهر خطؤها ولا صوابها. الدين هو الجمال. جمال الحياة وجمال المبدأ وجمال العيشة. الدين صوت الله وقانون الحياة.
في التوراة حكاية لا ينتبه لها الناس وهي بكاء المرأة أمام معلم النصرانية العظيم - المسيح - لماذا تابت المرأة. لماذا ثارت عواطفها. لأن الجانب الأسود من حيتها انكشف. لأنها رأت الحياة الصحيحة أمامها. لأن ميزان الأعمال - المسيح - أظهر لها أن حياتها(8/52)
مزركشة مغشوشة. هنا تنبه الضمير ولكن متى؟ بعد العيشة الفاسدة طبعاً.
فالضمير لا يعرف قوة الحكم ولكن يعرف كيف يعاقب على نتيجة الحكم. الضمير منفذ. جلاد لا يرحم.
وإلى هنا يمكننا أن نأتي بالنتيجة لكل ما تقدم وذلك أن نسأل السؤال الآتي:
كيف نعيش عيشة صحيحة؟ الجواب: أن نفكر فكراً صحيحاً. كل أعمالنا كانت صورة فكرية مبهمة وبرزت للوجود فاعتنوا بالفكر أولاً. اعتنوا بالقوة التي نحكم بها على الأعمال.
ولا طريقة عرفها البشر إلى الآن تقدر أن تحفظ أفكارنا في طريق مأمون إلا الدين.
أندراوس حنا
الجسم والدماغ
بحث علمي فلسفي
للأستاذ الفسيولوجي الكبير توماس حنا الأمريكي
ماهية الدماغ وتشريحه - غرائب الدماغ - مواضع الكلام في الدماغ - الفرق بين الإنسان والقرد - الجزء المعطل في الدماغ - لماذا يكون جزء معطل في الدماغ - تعويد الأطفال العمل باليدين جميعاً - الإرادة والعقل - أسباب الفشل في الحياة.
لقد مضت عدة أجيال على العالم لا يعرف عن الدماغ شيئاً خاصاً وجل ما عرف عنه أنه مشترك مع العقل.
ولذلك فلا نرى ذكراً للدماغ في التوراة ولا في مؤلفات علماء العالم القديم حتى أن الفيلسوف والفسيولوجي الكبير أرسطو لما سئل عن الدماغ قال أنه عضو يبرد الدم للقلب.
كل عضو خطير في الإنسان يعمل عملاً ظاهر تقريباً إلا الدماغ فإن عمله مكتوم خفي حتى أن أغلب علماء الطب يجهلون ما اكتشف من علاقاته بأهم أعضاء الجسم.
وبعد المسيح بمائة وستين عاماً قرر غالين العالم الكبير أن الدماغ مركز العقل. وإلى سنة 1700 بعد المسيح لم يكن من يظن أن للدماغ علاقة بالفكر. والكل كانوا يظنون أن الدماغ والعقل عضو واحد ويعملان عملاً واحداً كالرئتين مثلاً اللتين وإن كانتا مختلفتين وضعا(8/53)
فهما يعملان عملاً واحداً.
وسبب ذلك الخطأ العظيم في أهم عضو في الإنسان هو لأن علماء الفسيولوجيا كانوا يجرون تجاربهم في أدمغة الحيوانات فقط ولم يجربوا أدمغة البشر ويوجد فرق عظيم بين الدماغ في الإنسان وبينه في الحيوان.
وأن أهم الاكتشافات الحديثة في الطب لهي راجعه لتقدير العلماء لقوة الدماغ وعمله المختلف في الجسم البشري.
خذ مثلاً آلة الكلام - اللسان - فإنه متصل بقوة الفكر والفكر عبارة عن تحليل الألفاظ وإذا جرح الدماغ أو تعطل فالكلام ينقطع فلاً - وهذا الاكتشاف الغريب نبه علماء الفسيولوجيا إلى وظائف الدماغ وضرورة العمل على وقايته في عملياتهم الجراحية.
عاينت مريضاً مرة مصاباً بجرح في دماغه فامتنع عن الكلام ومع ذلك كان يسمع تماماً ويقرأ بكل سهولة. وجرح الدماغ كان من دخول طرف شمسية في عينه وبدلاً من قلعه العين نفذ إلى الدماغ وعطله فعجز عن الكلام لأن الجزء الذي جرح كان مركز الكلام والدماغ كما قدمنا مشترك مع اللسان.
وحدث أن العليل المذكور رأى شخصاً معه شمسية فأجهش بالبكاء فأكدنا أنه فقد قوة النطق إلى الأبد لأن الجرح اتسع فأتلف كل الدماغ.
ولإيضاح ذلك نمثل الدماغ بمركز يتفرع منه فروع متعددة إلى كل الأعضاء الرئيسية في الجسم وإذا انفجر فرع من تلك الفروع فالفروع الأخرى لا تؤذى.
فالدماغ مركز لفروع متعددة تؤدي إليه الدم فإذا انفجر شريان منها لا يتعطل الباقي.
ثم إن اكتشاف علاقة اللسان بالدماغ بدء انتباه رجال العلم لتقرير حقائق خطيرة عن هذا العضو.
وإن اتصال الدماغ بأعضاء الكلام يتناول ثلاث جهات 1 - الجهة التي يدخل منها الكلام إلى الآذن ومنها إلى الدماغ. 2 - الجهة التي تتصل بالعين - 3 - جهة اللسان والشفتين.
- الحوادث الفجائية التي تتعلق بالدماغ -
إن من تلك الحوادث حادثة سيدة انتبهت في الصباح وتناولت الجرائد فلم تقدر تقرأ كلمة تناولت الكتب فكان كذلك فظنت أن الأذى بعينها ولكن العيون كانت سليمة وكذلك السمع.(8/54)
وبعد فحصها وجدت أن قوة القراءة في الدماغ معطلة وبعدها لم تقدر أن تتعلم القراءة بتة.
ومن الحوادث الغريبة أيضاً حادثة شاب لم يفقد قوة النطق فقط ولكن فقد كل معرفته بالقراءة. إلا أنه من المدهش أن نقول أن الشاب المذكور كان يحل مسائل رياضية غريبة وكان يقدر أن يقرأ الأرقام ويكتبها ولكنه لا يستطيع النطق بإمضائه الخاص.
- مواضع الكلام في الدماغ -
إن أحوال الدماغ غريبة ومدهشة. لأن العلماء توقفوا إلى معرفة ما يعد غريباً جداً بالنسبة إلى الواقع فقد ذكروا أن موسيقياً ماهراً فقد معرفة كل الأنغام وكل ما يتعلق بالموسيقى.
والعكس بالعكس فقد وجد آخرون فقدوا كل معرفتهم بالقراءة والكتابة وما زالت قوة حافظتهم للموسيقى موجودة.
لقد برهن العلماء على أن الكلام يرتسم بصورة مخصوصة على الدماغ ويختلف باختلاف الفن واللغة - معنى ذلك أن الإنسان لما يريد أن يأتي على لغة جديدة أو فن جديد ربما يكون الدماغ مستعداً لقبول صور تلك اللغة أو الفن أو غير مستعد بتة.
ذكروا أن رجلاً كان يجيد الفرنسية والانكليزية واللاتينية واليونانية إلا أنه أصبح فجأة فوجد أنه لا يعلم حرفتً واحداً من الانكليزية وأنه لا يستطيع قراءة الفرنسية واللاتينية تماماً مع أن اليونانية زادت معرفته فيها.
وبعد البحث وجد أن صور الانكليزية محيت تماماً من الدماغ وصار الدماغ كأنه لم يرتسم عليه حرف واحد من هذه اللغة.
هذا وغرابة الأحوال لم تقف عند هذا الحد بل أن اللغة نفسها تأخذ شكلاً مخصوصاً في الدماغ باختلاف أفعالها وأسمائها وحروفها.
فقد جاءني رجل لا يقوى على النطق والسبب أن حاسة السمع تعطلت فوصفت له حمام البحر وقلت لمن حولي إذا شفي هذا الرجل سينطق أفعال اللغة قبل أسمائها.
وبع أسبوعين حضر الرجل فأريته مطواة فقاليقطع فأريته قلماً فقال يكتب - وبعد ثلاثة أسابيع أخرى أبح يقدر على أن يتلفظ بحروف الجر ولكن لا يقدر أن يلفظ أسماً واحداً والسبب لأن الأفعال ترتسم في أدمغتنا قبل الأسماء. يفتح الطفل عينيه فينظر وأذنيه فيسمع ولكنه لا يعرف ماذا ينظر ولا ماذا يسمع. وبعدئذ يبتدئ أن يميز بين المرئيات بعضها(8/55)
وبعضها.
ثم كثيراً ما يحدث أنك تعرف أناساً عاشرتهم ولكنكم افترقتم طويلاً فأول ما يقع نظرك عليهم تذكر شكلهم وما تعرفه عنهم ولكن لا تذكر أسماءهم.
- الفرق بين الإنسان والقرد -
إن الحوادث المتقدمة لا تؤخذ دليلاً قاطعاً لأنها نادرة فلذلك إذا أردنا أن نعرف ما هو الإنسان فلا نأخذ الأقيسة والغرائب الدماغية المتقدمة برهاناً في تعريف الإنسان.
الإنسان عند علماء الحيوان فصيلة حيوانية تقرب من أنواع القردة كالأورنج أو تنج والغوريلا والشمبنزي.
إلا أن المشابهة في التركيب الظاهري فقط ولكن حسب الدماغ فإن الإنسان يختلف عن القردة اختلافاً مبينا.
يقول الدكتور هكسلي الانكليزي العلامة الكبير أن الإنسان لا يختلف عن الشامبنزي من حيث الدماغ.
ولكن عقلياً - لا حسب المبادئ التشريحية - يختلف الإنسان عن القردة اختلافاً واضحاً ويبعد أن يكونا واحداً بعد أبعد السيارات عن الأرض.
الشامبنزي لا يؤدي امتحاناً ولا يرصد النجوم ولا يتعامل بالأوراق المالية ولكن الإنسان قادر أن يكون عالماً وتاجر أو سياسياً فضلاً عن ذلك فالإنسان مبدع
الإنسان يقدر أن يتصرف ويستنتج ويخرج الشيء من لا شيء ظاهري تقريباً فالقوة العقلية في الإنسان لا تكون أبداً في الحيوان كالقرد أمهر حيوان في التقليد والتمثيل.
وعلى ذلك إذا قلنا أن الإنسان حيوان فهو حيوان في التركيب الطبيعي فقط والعلم يبرهن اليوم على قوة الإنسان العقلية التي تفرده عن سائر الحيوان.
العلم يبرهن على خطأ من يعتقدون أن مشابهة الدماغ في القردة والإنسان تجعلهما واحداً وذلك لأنهم يعتقدون أن الدماغ مصدر الفكر والحقيقة خلاف ذلك فالدماغ ليس هو الفكر بل هو آلة التي بها نفتكر كالوتر في العود. الوتر يخرج الصوت ولكن هل هو الصوت. كذلك الدماغ آلة الافتكار ولكنه ليس الفكر نفسه.
ثم من أدلة الخلاف في الإنسان والحيوان عدم الاعتداد بالوزن في الدماغ لأنهم يقولون أن(8/56)
دماغ الإنسان والقرد متقاربان في الوزن ولكن الوزن لا يؤخذ دليلاً إذ أن وزن دماغ أحط طبقات الإنسان أرجح من أدمغة المتمدنين.
ولكن الحقيقة هي من طريقة تركيب الدماغ لا من وزنه وقد دلت الأبحاث العلمية على أن الدماغ مقسوم قسمين قسم واحد فقط الذي يؤدي وظيفة الفكر والقسم الآخر معطل عن التفكير.
وقد دلت التجارب على أن كثيرين عاشوا سنين ولهم نصف دماغ بدون تعطيل القوة الحافظة والمفكرة فيهم ووجد أن الجزء المقطوع كان المعطل طبيعياً.
- الجزء المعطل من الدماغ -
إذا قلنا أن كلما كبر الدماغ كلما كثر الفكر يكون معنى كلامنا أن الإنسان وهو بعينيه الاثنتين ينظر أبعد من الإنسان بعينه الواحدة والحقيقة بخلاف ذلك فمن فقد عينيه لا يمنعه ذلك عن أن يكون فلكياً لأن بعد النظر لم يتغير.
والآن من الضروري أن نوضح لماذا لا نستعمل إلا جزءاً واحداً من الدماغ.
لما يولد الطفل يكون دماغه معطلاً تماماً - يكون ملس والجزآن لا يؤديان عملاً ما.
وكلما كبر الطفل كلما تكون دماغه وابتدأ يفكر. والدليل على ذلك أنه لم يولد من يقرأ ويكتب حال نزوله من بطن أمه.
والتجارب دلت على أن الدماغ يتخذ شكلاً مخصوصاً تشريحياً كلما تعمق الإنسان في العلم.
وربما ظن أن من السهل بناء خلايا الدماغ وتلافيفه والحقيقة أنه يحتاج إلى وقت طويل من العمر وأننا نأتي على آخر أعمارنا ولا يكون لنا إلا نصف دماغ على شكل كروي.
ثم النصف يؤدي عمل الكل تماماً وإذا قيل أي الجزئين نستعمل نقول أن ذلك يتعلق باليد التي نستعملها فإذا كانت اليمين كان الجزء الأمامي معطلاً تماماً وإذا الشمال كان الجزء الخلفي معطلاً.
والآن نوضح حكاية الرجل الذي أصيب بدماغه بواسطة الشمسية. قد كانت الإصابة في النصف الخلفي فلماذا لم يستعمل الجزء الأمامي إذا كنا نقول أن كليهما يؤديان عملاً واحداً.
ولكن الحقيقة أن الدماغ عبارة عن اسطوانة كاسطوانة الفونغراف فلنفرض أن أمامك فونغرافان وأمامك اسطوانتان الواحدة مملوءة أي فيها بعض الأدوار والأخرى بدون كتابة(8/57)
عليها أيهما يؤدي غناء كما تحب. بالبديهة الفونغراف الذي عليه الاسطوانة المملوءة وذلك بدون برهان ولا جدل.
كذلك الدماغ فإن الجزء الخلفي لما فقد تماماً من صدمة الشمسية حاول الرجل أن يستعمله ولكن بلا جدوى إذ أنه كان أملس بدون نتائج وتأثيرات تشريحية فيه مما تتكون بطول العهد.
وإذا أخذنا العين مثالاً للبرهنة على ذلك نأتي على نتائج واحدة لأن العين ليست إلا نظارة والنظر لا يحدث من النظارة ولكن من العملية الدقيقة التي تتعلق بأعصاب العين. فلو فقدنا تلك الأعصاب تكون النتيجة فقد النظر تماماً وإن كانت العين في الظاهر سليمة وكذلك الأذن تبرهن على النتائج المذكورة تماماً.
- لماذا يكون لنا جزء زائد في الدماغ -
سئلنا كثيراً لماذا يكون لنا جزء زائد في الدماغ بينما لا نستعمل إلا جزء واحداً ولكن من يجهل علاقة الدماغ بالجسم يعتقد أنه بلا فائدة ولكن الواقع لا يؤيد ذلك فالجزء المعطل من الدماغ يرتبط بالجسم ارتباطاً كلياً وإن كان معطلاً من الوظائف التي للجزء الآخر.
إذا أردنا أن نعرف لماذا يكون لنا جزآن مستقلان من الأدمغة فلنسأل لماذا لنا عينان وأذنان ومنخران وكليتان ورئتان وما أشبه.
أعرف رجلاً فقد إحدى كليتيه بواسطة صدمة شديدة ومع ذلك عاش بالكلية الأخرى.
وأعرف أخر فقد إحدى الرئتين ومع ذلك فقدها لم يؤثر على جسمه أبداً.
كما مر هنا سابقاً أن الأصوات والألفاظ والعادات تنطبع على الدماغ على ممر الأيام فكذلك يكون للجزء المعطل من الدماغ فائدة عند الصغار أو الشباب الأحداث الذين يفقدون أدمغتهم العاملة فيبتدئ الدماغ المعطل أن يعمل فإذا كان الطفل أو الشاب صرف سنة يتعلم لغة أو فنا فسيصرف سنة أخرى يتعلم ما تعلمه في السنة المذكورة.
ولكن النتائج المتقدمة لا تكون إلا للصغار لأن الدماغ يكون قابلاً أن ينطبع عليه كل الحركات التشريحية من جديد وأما الذين تقدموا في السن فندر أن يتعلموا شيئاً إذا فقدوا دماغهم العامل.
- هل يجوز تعويد الأطفال استعمال كلتا اليدين -(8/58)
وصلتني رسائل متعددة بخصوص الدماغ منها ثلاث رسائل من أساتذة يدرّسون الفسيولوجيا في كليات كبرى يسألونني لماذا لا نعود الأطفال أن يستعملوا يديهم الاثنتين حتى يمكنهم أن يستعملوا دماغهم كله. العامل والمعطل ما دام حسب ما تقدم أن لحركة اليد والعادات تأثيراً على الدماغ.
والمتأمل في الأسئلة المذكورة يرى أن أصحابها يقصدون أنه إذا استعمل لإنسان دماغه كله يتحصل على نتائج فائقة في القوة المفكره كأن يكون لإنسان مفكراً أكثر من الواقع إذا استعمل الدماغ المعطل أيضاً.
ولكن الطبيعة لا تُحسن بهذه الطريقة. إننا وقفنا على ذلك بغتة فلا يجوز لنا أن نحاول عكس الطبيعة.
أعرف فتاة عسراء - لا تستعمل يدها اليمين - حاول أهلها أن يعودوها على العمل باليمين فربطوا الشمال في كتفها فماذا كانت النتيجة. شل لسان الفتاة وصارت غير قادرة على الكلام كبنت السادسة مع أن عمرها كان ثمانية عشر سنة.
أن استعمال اليدين لا يؤدي إلى نتائج عقلية فائقة عن الحد الطبيعي أبداً وربما كانت الفائدة في مثل لعبة البلياردو.
- الإرادة في الإنسان عمل مجيد -
ربما قام المعترضون القائلون بتساوي الإنسان والقرد وقالوا ما الفرق بينه وبين الإنسان إذا كانت أدمغتهم واحدة في الأول.
الفرق في الإرادة القرد لا يعرف كيف يريد ولا ماذا يريد وما تنفعه الإرادة في شيء ثم إذا اعترضه بعض الصعوبات في عمل ما تركه ناقصاً لأنه لا يريد أن يتمم ولكن الإنسان بخلاف ذلك؟
لفظه الإرادة جليلة جداً وخصوصاً في الإنسان. الإرادة فوق العقل في الإنسان والدماغ من عمل الإرادة حسب ما نريد ونوجه إرادتنا يبتدئ الدماغ أن يؤدي عمله طائعاً.
وأنه لصعب على الذين لا يؤمنين بالروحيات أن يصدقوا أن الإرادة عمل روحي غريب.
الإرادة تتسلط على الماديات ولا تقدر الماديات أن تتسلط عليها كأن تعطلها أو تؤخر عملها.(8/59)
الإرادة هي المتسلطة على الأعصاب وهي التي تحرك أصغر الأعضاء في الإنسان لتؤدي عملها.
الإرادة هي قوة سلبية وأجابية. تتسلط على كل الأعصاب لتؤدي أعمالها تماماً وفي الوقت نفسه تخفف من قوة الضغط على الأعصاب عند عدم الضرورة لإجهاد عصبي.
ولولا الإرادة لكنا نعمل كآلة بدون ميزان. تعمل وتعمل إلى تنحل من كثرة العمل وعدم الضبط.
- الإرادة والعقل -
الإرادة تعمل أكثر مما تقدم. أنها تتسلط على العقل. كما أن العقل يتسلط على الجسم وبعبارة أخرى الإرادة لا تدير حركة العقل فقط بل تحكم على قوة الإفتكار أيضاً وذلك بقوة التسلط على الأعصاب وعدم إجهادها أكثر من اللازم.
وعمل الإرادة على العمل كعمل عصب النبض مع القلب لولا هذا العصب (أو الزنبلك) لكان القلب ينبض وينبض إلى أن يموت من كثرة النبض كالفرس الجموح تموت وهي في آخر سرعتها وعلماء الفسيولوجيا يسمون هذا العصب لجام القلب فكذلك لا بد للعقل من لجام والعقل عبارة عن العمل الميكانيكي النتائج عن حركة الأعصاب أو هو حركة الفكر بعد عمل الدماغ.
- أسباب الفشل في الحياة -
جئنا إلى نقطة مهمة جداً تعد خلاصة كل التشريح المتقدم. لماذا يفشل بعض الناس أو يسقطون بغتة أو يرافق حياتهم الخمول والبلادة.
قلنا الفكر حركة ميكانيكية فالفكر ينصب على العقل من كل ناحية وكلما كان الإنسان كثير الفكر كلما كان ضعيفاً.
إن المحموم ليهذي ولا يمكنه أن يضبط أفكاره من كثرتها والسبب كثرة ضعف أعصابه.
وكثرة الأفكار تربك العقل بدون فائدة بل أنها تجهد الأعصاب فتعجز الإرادة عن ضبطها.
فالاعتناء بالأعصاب ضروري جداً إذ عليه يتوقف نجاحنا وفشلنا.
نحن نحتاج الإرادة لضبط أفكارنا - والأفكار عبارة عن كل ما يقع على ذهننا من المرئيات. فالنظر والشم واللمس والذوق كلها تشترك في تحضير الفكر والدماغ هو الآلة(8/60)
التي تربط الأفكار ببعضها ثم تقدمها للعقل ليزنها ويرى إن كنا نعمل بها أولاً وهنا يظهر عمل الإرادة فإن كانت قوية منعت العقل من تنفيذ كل ما يخطر بالبال وإلا فأهملت فترى الإنسان يندفع لكل عمل ولا يعلم يصيب أو يخطئ فهذا نقص إرادة.
أعظم الناس من إذا تكلموا أو كتبوا أو افتكروا كان لعملهم غاية مخصوصة محدودة وهؤلاء هم أقوياء الأعصاب والإرادة.
ثم لنذكر قول سليمان الحكيم الفيلسوف العظيم حسب أفكار الإنسان هو ومن لا يحكم نفسه كمدينة متهدمة وبدون أسوار
أندراوس حنا
الدورة الزراعية
3
نظام التعاقب الزراعي
والغيطان الملاصقة للمدن والبنادر يفضل فيها إلى حد محدود زراعة الخضروات والفواكه ونباتات العلف كالبرسيم إذ يكون الربح منها أكثر من ربح المحصولات الأخرى.
(12) إن لحاجيات الإنسان والحالة الاقتصادية التأثير الأول في تنويع زراعة الأرض بالنباتات المختلفة فنباتات الحبوب كالقمح والذرة والأرز للغذاء ونباتات العلف كالبرسيم والحلبان والفول للماشية والنباتات المستعملة في الصناعة كالقطن والقصب والنيله والكتان للمبيع والانتفاع بشحنها.
فمؤونة الماشية التي يحرث الفلاح عليها أرضه ويستفيد منها بعض مواد غذاءه يجب أن لا يعتمد فيها إلا على ما تنتجه الأرض - ويجب أن لا يزيد عن الحاجة أيضاً - لأن معظمها كالبرسيم والتبن ذو حجم كبير فلا تبايع فيها إلا حد محدود لصعوبة نقلها إلى مسافات بعيدة بربح كاف.
وحيث أن البرسيم مخصب للأرض فواجب أن يزرع منه المقدار الكافي للماشية بتوسع نوعاً لما فيه من الفائدة العائدة على الأرض.
وحاصلات الحبوب كالقمح والذرة والفول والأرز سهلة النقل ولو إلى مسافات بعيدة فيمكن نقل ما يزيد عن اللزوم منها لبيعه في الأسواق كما يمكن استجلاب ما ينقص منها عن(8/61)
حاجة الفلاح إذا كان محصولها عنده قاصراً عن الوفاء.
وإذا رؤي أن هناك ربحاً في إبدال ذرع نبات بنبات آخر فأصول الاقتصاد تقضي بتفضيل الصنف الأربح إذا لم يكن ثمت مانع من الظروف الأخرى.
فلو رأينا أنه إذا أبطلت زراعة نبات وليكن القطن مثلاً في إحدى مناطق الوجه القبلي والاستعاضة عنها بزراعة القصب تعود بربح أوفر منه عن القطن - أو قللت زراعة نبات كالفول مثلاً في إحدى مناطق الوجه البحري والاستعاضة عنها بزراعة نبات كالبصل تعود بربح أزيد أيضاً - لو رأينا ذلك مثلاً لكان من الواجب تنفيذه بشرط أن تتساوى الظروف الأخرى في الحالتين أي لا يحصل عن الحالة الأخيرة ضرر من وجهة أخرى أو كان الضرر أقل من الفائدة الحاصلة ويمكن تداركه.
إن وسائل النقل السريعة قد سهلت تبادل الحاصلات بالتجارة بين البلاد والأقطار فيمكن لكل جهة أن تستجلب اللوازم التي تنقصها من الجهات الأخرى التي تتوفر فيها تلك اللوازم ولذلك يمكن لكل جهة أن تتوفر على زرع الأصناف التي تزيد جودتها فيها عن غيرها وتصدرها إليها - بينما يمكنها أن تجلب من ذلك الغير الصنف الذي جودته فيه أفضل -
إذا كنا نرى أن التوسع في زراعة القطن مثلاً ولو بتقليل مساحة المزروعات الأخرى وجلب ما يلزم لنا منها من الخارج أفضل من زرع تلك المزروعات بجانبه فلا شك في أنه خير لنا أن نزيد منه إلى الحد الممكن - إذا لم يكن هناك مانع من الظروف الأخرى - ونعتمد فيما ينفعنا من الحاصلات الأخرى على جلبها من الخارج بشرط أن لا يكون عن كل ذلك محذورات متوقعة.
(13) لموقع الأرض من الأسواق أو المصانع دخل مهم في زراعة الأرض لأن زرع محصول مع صعوبة تصريفه كله بربح لا يكون مفيداً فإذا زرعت مساحة كبيرة من قصب السكر ولم يكن هناك مصنع (فابريقة) قريب منها فنفقة نقل الحصول إلى السوق تكون كثيرة جداً لفخامته وكذلك إذا زرعت كمية كبيرة من البرسيم فإذا كان كذلك قريباً من بلد كبيرة فإنه يباع بسهولة غذاء للخيول وغيرها ولكن إذا كان ذلك في القرى الصغيرة فإنه من المحتمل ظهور صعوبات في تصريف ذلك البرسيم بفائدة وتحدث صعوبات كهذه في التبن وكل الأنواع الفخمة الزهيدة الأثمان أما الحبوب الغالية الأثمان القليلة الفخامة فإن(8/62)
نقلها سهل ولذلك لا تتأثر كثيراً بمواقع الأسواق.
(14) إن لدرجة تنور الزرّاع واستعداده وبيئة أرضه تأثيراً أولياً في تنويع زراعتها بما هو أقدر على الأسترباح منه أكبر ربح بدون محذور فالزراع الممتازون باستنارتهم وكفاءتهم ومقدرتهم وموقع أرضهم هم الجديرون وحدهم بالاستكثار من زراعة الأصناف التي تحتاج للمصروف الوفير.
أحمد الألفي(8/63)
النقد والمناظرة
كلمات نابليون
كان ميرابو يغير على كل كتاب عصره وخطبائهم ويعدو على بنات أفكارهم. حدث ديمونت قال: كان ميرابو لا يستحي أن يطلق يده في كلام غيره من الناس فمن ذلك أنه خطبنا مرة فأطال عنان القول وامتد به نفس الكلام فخطر لي أن أذيل كلمته بكلمة ألخص فيها خطبته ليقرب بعيدُها ويجتمع شتيتُها وكان إلى يميني اللورد إلجن فدفعت إليه ما كتبته فاستجزله ولقيت ميرابو في المساء فحدثته بما جرى وأريته الرقعة فاستجادها وعرَّفني أنه انتوى أن ينتحلها إذا خطب في الجمعية غداً فقلت أن اللورد إلجن يعلم من أمرها ما تحسب أنه جاهله فقال لا بأس عليَّ منه. أما والله لو أن خمسين غيره يعلمون ذلك لما ردّني علمهم عما اعتزمت. فلما كان الغد صدع بها أخزاه الله!
وإنما فعل ذلك ميرابو لأنه كان من عظم الشخصية وقوتها بحيث كان يرى أن له الحق فيما كان هو الداعي إليه والسبب فيه. ذلك شأن ميرابو وهو أيضاً شأن نابليون وأرث شهرته وخليفته في أمته، وإن كانت دولة السيف غير دولة اللسان، وسلطان المدفع غير سلطان البلاغة والبيان، وإن من كان من طراز ميرابو ونابليون يوشك أن لا يكون صاحب خطبة أو رأى لأنهما ليسا كالعين يتفجر منها الماء ولكن كالحوض تملأه ويشرع فيه الناس فهما مرآة تبصر فيها خيال عصريهما وكتاب تقرأ في سطوره روح زمنيهما وهما باقيان ما بقي للقرن الثامن عشر والتاسع عشر ذكر وليسا كهيجو فإن هذا أبقى على الزمن من الزمن وأخلد على الأيام من الأيام. ومن أجل هذا كان فرضاً على من يعاني تاريخ فرنسا لذلك العهد ويطلب الوقوف على حالتها الاجتماعية والأخلاقية والأدبية أيضاً أن يقرأ ما تركه أمثال ميرابو ونابليون من رسائل وخطب وحكم وأمثال وإلا كان علمه رساً لا خير فيه ولا غناء.
ولم يكن نابليون عظيماً ولكن الناس كانوا صغاراً وما أحبه العامة وأشباههم إلا لما كان بينه وبينهم من الشبه وما زال الناس في كل أمة وزمان يميلون بالود لمن يشاكلهم ويختصون بالمحبة والإعزاز من يحاكيهم ولئن صح أن عناصر الشيء وأجزاءه المكونة له صور في الحقيقة منه أي أن الرئة مكونة من رئات صغيرة والكبد أكباد دقيقة والكلية كلى(8/64)
لطيفة فليس بدعاً في الرأي ولا مستنكراً في القول أن نذهب إلى أن كل فرنسي لعهد هذا الرجل كان نابليوناً صغيراً. وعلى هذا تكون عنايتنا بكلامه وآرائه عناية بآراء فرنسا وأفكارها ومذاهبها وقد وقفنا منذ أيام على كتابين معربين عن أصل انجليزي واحد جمع فيه واضعه كلمات نابليون وقليلاً من رسائله وآرائه فيما كان يقع في زمانه من الحوادث ويعرض له من الأمور فقلنا أو بلغ من رواج المعربات ونفاق سوقها وكثرة طلابها وخطابها في مصر أن يعرب الكتاب - الواحد رجلان على علم أحدهما بما سبق إليه صاحبه ثم سألنا نفر من أصحابنا وإخواننا أن نقارن بينهما فاستخرنا الله في الموازنة بينهما والمفاضلة بين كتابيهما أما المعربان فأحدهما محمد لطفي جمعه واسم كتابه حكم نابليون والثاني إبراهيم رمزي واسم كتابه كلمات نابليون والاسم الثاني أصح ولذلك صدرنا به كلمتنا فيهما لأنه أدل على ما انطوى عليه الكتاب وانكسرت عليه فصوله وأبوابه وإنما هي كلمات كان يرسلها نابليون لا يقصد بها الحكمة أو الفلسفة وما أظن قوله يودع جنده إن قلبي معكم فلا تنسوني يدخل في باب الحكم أو هو منها في شيء قد أهمل لطفي جمعه أن يذكر على الكتاب أهو الواضع له أم غيره ولست أدري ماذا أراد بقوله أنه من قلمه؟ أليوهم صغار الناس أنه هو مؤلفه وجامعه والحقيقة غير ذلك أم هو السهو والنسيان لعنهما الله فلشد ما يخزيان الفتى ويخجلانه.
وبعد فإن كتاب رمزي أحسن منحى وأسد منهجاً، وأجزل تعبيراً وأعذب مورداً، وأحسن تنسيقاً وتبويباً، وأغض مكاسر وأصدق تعريباً ولطفي جمعه سخيف العبارة مبتذل التراكيب، عامي الألفاظ، كثير اللحن، جم العثار، قليل العناية بترتيب الأبواب، سيء الحرص على معاني الكتاب، شديد التصرف بالنقص والزيادة، والحذف والإضافة، وبالجملة فإن كتابه كما قال فيه أحد الأدباء الظرفاء معارضة للأصل ولا تعريب له وبيان ذلك جميعه أن الفصل السابع في كتابه جاء بعد الثالث، والرابع بعد التاسع، وهذا منتهى ما وصل إليه اضطراب التأليف واختلال النظام، ولعمري لو أن رجلاً تعمد أن يفسد كتاباً بما يقدم ويؤخر منه لما استطاع أن يأتي بأسوأ من ذلك. ولقد بلغني والعهدة على الراوي في شرح ذلك وتعليله أن نفراً من أخوانه أعانوه على نقل الكتاب وكانوا أمضى منه فيما استكفاهم وأسرع إلى قضاء مقترحه. وهذا وإن كنت لأقول به فلست مع ذلك أنفيه عنه فأنا(8/65)
بمنزلة بين الرفض والقبول والتكذيب والتصديق. حتى يبرح الخفاء وينحسر الإبهام ومن سوء حرصه على معاني الكتاب قوله في ص 130 ما أحسن راحة البدن لقد صار يغمى علي في فراشي تعريباً لهذه العبارة:
والصواب ما جاء في كتاب رمزي ص 132 لقد أصبح الفراش عندي منزلاً للنعيم والفرق بين المعنيين ظاهر وليت شعري أي راحة في أن يغمى عليك يا لطفي وأي لذة في أن يغيب عنك صوابك وإحساسك؟ أليس لك من الذكاء والفطنة ما يريك سخافة ذلك؟ ومن تصرفه بالنقص حذفه أسطراً كثيرة في الكلام على الشجاعة قال: أنني لم أر رجلاً يظهر شجاعة في وقت لم يكن ينتظر فيه غدراً وصواب ذلك ما جاء في كتاب رمزي لم أر من الشجاعة الأدبية ذلك الصنف الذي أسميه شجاعة الساعة الثانية بعد نصف الليل أي أنني لم أر رجلاً عنده من الشجاعة الحاضرة مالا بد منه لدفع الغوائل إذا هي أتت غير منذرة ولا منتظرة. شجاعة تحفظ لصاحبها الخ الخ وهي ترجمة حرفية لما جاء بالأصل ص 114. ومن تصرفه بالزيادة قوله المطامع الكبرى (كطلب الرفعة وحب الرئاسة) وليس لما حصرناه بين قوسين أصل وقس على هذا سائر الكتاب. ومن لحنه قوله لقد ظهر محمد في وقت كان الناس فيه (محتاجون) والصواب محتاجين. وقوله قد منحني الله قوة تمكني من التغلب عل (سائر) العقبات والصواب كل لان سائر معناها باقي قال الشنفرى:
إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
وقوله الصيت الذائع (كالغوغاء) البالغة عنان السماء. . . والصواب الضوضاء لأن الغوغاء هو أوغاد الناس وأنذالهم. وقال اعتدت سماع الأنباء المزعجة فلا (يريعني) منها الآن شيء ولكنني بعد ساعة من سماع نبأ (مريع). . . والصواب يروعني ومروّع وقال لبس تاج فرنسا (المصاغ) من (ذهب) والصواب المصوغ من الذهب وقال فإذا مت وأنا على عرشي (محاطاً) بكل والصواب محوطاً وقال ولكن موت واترلو أفضل فإن الشعب كان حينذاك يجبني (ويوجد) عليّ والصواب يجد على أن هذا خطأ أيضاً لأن وجد عليه يجد موجدة معناه غضب والموجدة منزلة بين العتب والسخط وقال خير معلم للفتاة (هي) أمها والصواب هو وقال فلا أدري إن كان هذا لأنني بلغت السن (الذي) وصوابه التي الخ(8/66)
وحسبنا ذلك وكفى به دليلاً على ضعف نقده وخفة بضاعته ونزارة مادته ولو أنّا أردنا أن نحصي سقاط هذا الرجل اللفظية والمعنوية لأحرجنا القراء وكربناهم وأنها وأيم الحق لسماجة في المرء أن يتطفل على موائد الكتبة وليس له أداتهم ولا له آلتهم ويدس بنفسه بينهم وليس منهم ولو كان له جبين يندى أو طرف ينكسر لانزوى في بيته حياء ولاتخذ من داره جُنّة يتقي بها سهام السخرية والهزوء ولوجد لنفسه مندوحة عن موقف يخزي فيه. وأي عيب أكبر وخزى أفضح من أن ينتحل الرجل كتاباً برمته. لقد سمعنا بمن يسرق المعنى والمعنيين ولكنا ما علمنا على الناس مثل ذلك من قبل.
على أني أعجب لصاحب البيان - وعهدنا به من ذوي البصر بصرف الكلام والخبرة بنقد جيده ورديئه - كيف لم يفطن لضعفه الظاهر وقصوره البادئ. حتى صار يستعين به ويعمد إليه في النقل والتعريب وحتى كان من أمره معه أن أخذ ينقل له كتاب الواجب وقد قال لي أحد الذين قرأوه بالفرنسية أن صنيعه به أشنع من صنيعه بكتاب نابليون.
قال فإن داخلك في قولي شك فانظر ص 24 من كتابه (يعني الواجب) تجده يقول في كلامه عن أعداء الفلسفة والحرية. . . فهم تارة ينعون على الفلسفة وطوراً يعنفون أصحاب. . . الخ ألا ترى أنه عجز عن نقل هذا اللفظ وتعريبه فأبقاه كما هو. وأي فائدة في التعريب إذا؟ وهل معنى التعريب أن نعيد طبع الكتاب بلغته التي كتب بها: ونحن نشايعه على رأيه ونأخذ عليه ما يأتي: قال في أول مقدمة المؤلف (تُعتبر) الفلسفة في نظر الفلاسفة علماً. . . وما نعرف لهذا الاستعمال أصلاً فإنه يقال اعتبر من الشيء تعجب وبه اتعظ ولكن لا يقال اعتبره بمعنى عده أبدا. وقال في هذه الجملة أيضاًعلماً (يشتمل) جملة من المسائل والصواب على وقال مبادئ ونتائج ما عداها من العلوم والصواب مبادئ ما عداها ونتائجها وقال التي (تكسبها) الحياة ثوباً عملياً والصواب تكسوها وقال المشتغلين بالعيش الأدنى) وصوابه كما اخبرني من قرأ الأصل المترفين وقال (سابقاً بأفكاره) والصواب لأفكاره وقال أن الإنسان ليذهب (أبعد) من ذلك والصواب إلى ما هو أبعد وقال لو كان (للإنسانية) ذلك المستقبل والصواب للإنسان وهذا كله في الصفحة الأولى من المقدمة وحدها فما ظنك بسائر الكتب. فاتق الله يا صاحب البيان واعلم أن قراءك قد اطمأنوا إلى علمك وركنوا إلى تحقيقك فلا تسيء إليهم ولا تدعهم يحملون الخطأ عن صحيفتك وهم يحسبونه صواباً(8/67)
واصنع لهذه اللغة يصنع الله لك ولن يضيع أجر من أحسن عملا.
المازني
البيان نشرنا هذه الكلمة عملاً بحرية النشر ولنا مقال نبين فيه رأينا فيما ضمنته هذه الكلمة لم يتسع له هذا الموضع وسوف ننشره في أحد الأعداد الآتية إن شاء الله.(8/68)
طرف أدبية
المشاهد
1
لامرتين على جبل الكرمل
ساح لامرتين في الشرق عام 1832 والتقى في سياحته بشاعر عربي على جبل الكرمل، هنالك حيث هبط الوحي على أنبياء أرض الرسل والأنبياء، وتنزل الإلهام على شعراء صومعة النساك وروضة الشعراء.
قال لان في رحلته فجلس - أي الشاعر العربي - إلى جانبنا على الحوض فتحادثنا ملياً. ولكن الشمس مالت إلى الأفول وكان لا بد لنا من الافتراق. فقلت له: إننا هنا شاعران قد أدنت الصدفة ما بيننا على بعد الدار، لنلتقي على هذه البقعة الساحرة، فوق هذه التربة الطاهرة، في ساعة هي أجمل الساعات. وقد أرسل الله إلينا ملكاً من ملائك الجمال في محضر منا، فهل لك في أبيات ينظمها كل منا بلسانه. تخليداً لهذا الاجتماع. وما قد أحدثته في نفوسنا هذه المناظر الشيقة والمشاهد البهجة
قال فابتسم وأخرج من نطاقه دواته وقلمه القصب. وهي أبداً في نطاق الكاتب العربي كالسيف في نطاق الجندي. ثم تراجع كل منا خطوات ليخلو بنفسه ويتفرغ لشأنه. فانتهى من نظم أبياته قبل أن انتهيت ببرهة وها أنا ذا أنقل أبياتي وأبياته
أما ذلك الملك الذي أشار إليه لامرتين فهو فتاة كاعب وصفها الشاعر نثراً فأبدع أيما إبداع. وأني بقلمه في ذلك الوصف بما هو جدير بريشة المصور وكان قد نزل في بيت أهلها بحيفا يوماً ثم صعد إلى دير جبل الكرمل. فأتته وأمها وشقيقها يزورونه. فجلسوا جميعاً على حوض ماء. وقد كانت قصيدة الشاعرين في وصف تلك الفتاة على ذلك الحوض، وهذه ترجمة قصيدة لامرتين:
سقاك الحيا يا حوض أعذب ما سقى ... ففيك قرأت الحسن سطراً منمقا
حباك الفضاء اللازوردي لونه ... فجلاك كالمرآة تلمع أزرقا
أراك إذا فيأت ليلى عشية ... سكنت كمن يصغي إليها محدقا
وترسم في أعماق قلبك وجهها ... كما لاح طيف النجم في اليم مشرقا(8/69)
فما حفلت عين بما فيك من حصى ... حكي الدر أو عشب هنالك أورقا
وما ينظر الرائي السماء مصعداً ... إلى الأفق بل يرنو إلى الماء مطرقا
لك الله كم حسناً حويت ورونقاً ... روى الماء عن ليلاي فيك فأصدقا
فعينان أبهى زرقة وملاحة ... من الزهو ينمو في حوافيك مونقا
وأغنتك هاتيك الثنايا ضواحكا ... عن اللؤلؤ المكنون يلقى وينتقى
وثغر كأن الورد باكره الندي ... فجال على أوراقه وترقرقا
وجيد تراه يشبه العاج ناصعاً ... على أنه كالغصن مال على النقى
وفرع كخفق الموج فيك خفوقه ... يكلل منه الزهر فوداً ومفرقا
وأبديت كالمرجان في الماء دملجا ... تحلى بأحلى معصم حين أحدقا
رفعت يدي دون النسيم وقد سري ... مخافة ذاك الظل أن يترنقا
وقد خلت أني حين أبسط راحتي ... ظفرت بدر فيك لاح منسقا
وأرشف من ماء هنالك ريق ... جلا الحسن عذباً في حواشيه ريقا
ولكن ليلى أعرضت نحو أمها ... تضاحكها حباً وترنو تأنقا
فسرعان ما أمعنت فيه فلم أجد ... سوى الحوض أمسى راكد الحس ضيقا
تذوقت منه قطرة بعد قطرة ... فألفيت مالا يستطاب تذوقا
وكنت أرى حسناً فأصبحت لا أرى ... سوى حشرات أو نبات تفرقا
فرحماك يا بنت المشارق أن لي ... فؤاداً بربات الجمال تعلقا
لحسنك من سر على النفس ماله ... على الماء لما أن حكاك فدققا
فقد رسمت فيها لحاظك صورة ... مدي الدهر لا تمحى وتزداد رونقا
عذيري من تلك اللحاظ كأنما ... هي النجم في عرض السماء تألقا
إذا رمقت فالصبح أو حال دونها ... خمار فهذا ليل من قد تعشقا
2
عبرة في نظرة
الجزيرة معرض عام يقام أصيل كل يوم. يعرض فيه كل جميل جماله وكل غني ماله، وتبسط فيه الأرض زينتها والطبيعة محاسنها، وهو يتسع لأبناء النعيم كما يتسع لأبناء(8/70)
الهموم. فإن الطبيعة ما برحت تجمع بين مضاحكة الجذلان ومؤاساة المحزون وهي لا كالبشر، يجد فيها المسرور ألهيته والمغموم سلوته وتبدو لكل ناظر كما يحب أن يجدها. فلقد يراها الشجي كاسفة آسفة على حين يراها الخلي مقهقهة ضاحكة، وقد تبرز لهذا في صدار الحداد وهي لغيره بارزة في حلة العرس. وما بها من ختل أو نفاق وإنما هي مرآة النفوس وصدى خواطر الأفكار.
ولقد ألفت أن أتردد إليها بين حين وحين. فأجوس بين أنحائها وأتظلل بأفيائها وأمتع النظر بين أرضها وسمائها. وخضرتها ومائها. فخرجت إليها أصيل يوم من أيام هذا الربيع القائظ. فإذا المركبات كما عهدتها تترى بكل نبيل أو جميل. من مشمخر شامس أو مزور شاوس ينظرون إلى السابلة نظرة قادم من المريخ أو عطارد كأنما أولئك أبناء نوع غريب من البشر. أو كأنما الناس قد انقسموا إلى فصيلتين. فصيلة تدور على الدواليب وفصيلة تدوس على الأقدام.
فأعرضت عنهم. فإن هؤلاء الحمقى إنما يتيهون علي بعيني لا بأعينهم. ويتأنقون لأراهم لا ليروا أنفسهم. فمالي لا أغمض طرفي عنهم. وأدير بصري عن جيادهم وبراذينهم. لئلا يظنوا استحساني لها أو إعجابي بها. استحساناً لهم أو إعجاباً بهم؟؟
قلت صعروا خدودهم أيها الأغنياء فما ذهبكم بجاعلكم أكبر قدراً عندي من تراب المناجم. وأني لأحسد بقعة الأرض على ما بها من تبر كما أحسدكم على ما لديكم من نضار. كلاكما واحد. والتراب قد يخصب فيثمر وأنتم تربة مجدبة لا تثمرون. إن أنتم إلا صناديق من اللحم والعظام.
ونظرت إلى بنات حواء المتباهيات بميراثهن منها. وما أجدر الخجل بمكان الصعر من خدود أكثرهن. فقلت كفاك يا عين تخدعيننا بجمال وراءه من الدنس ما يشين طهارة الملائكة ويعيب جمال الحور.
ثم نظرت إلى النيل فإذا مراكب طافية. فوق لجة ضافية. تحت سماء صافية. بين طبيعة متثائبة غافية. فنسيت الناس وذكرت قول البهاء زهير:
حبذا النيل والمراكب فيه ... مصعدات بنا ومنحدرات
هات زدني من الحديث عن النيل ... ودعني من دجلة والفرات(8/71)
ولياليّ في الجزيرة والجيزة ... فيما اشتهيت من لذات
بين روض حكي ظهور الطواويـ - س وجو حكى بطون البزاة
حيث مجرى الخليج كالحية الرقطاء ... بين الرياض والجنات
فقلت لقد صدق وأجاد. فهذه الجيزة عن يميني والجزيرة عن يساري. وهذا الروض في الأرض. والسماء في الفضاء لا تزال كما وصف. والنيل في مجرى الخليج يجري كما كان. وها هي مراكبه مصعدة منحدرة. فكل شيء في قول البهاء باق على عهده إلا قائله:
هي الدار ما حالت لعمري عهودها ... ولا افتقدت من زيها غير ناسها
وكذلك نرى كيف تقصر حياة الفرد في خلود النوع. فكم أينعت هنا زهرة بعد زهرة. وجرت قطرة على أثر قطرة. وهبت نسمة خلف نسمة. وأقفر روض فأزهر روض. وأقوت دار فقامت دار. ومات رجل فنشأ رجل. تغيرت الأجزاء والكل باق لم يتغير. ولعلي جئت بعد ذلك القائل لأقول:
أيها النيل كم سقيت ثغوراً ... وزهوراً على الربي باسمات
كوثر الأرض أنت في مصر هيها - ت تجاري في الطيب والنفحات
قد سوا ماءك الطهور قديماً ... وأنابوا إليك بالصلوات
كم عروس زفت إليك وأنت البا - رد الصدر من غرام البنات
فتعوضت عن زلالك منهم ... بدموع الآباء والأمهات
كنت تروي من أصبح اليوم ظمآ - ن ببطن الثرى لماء الحياة
كم توالى الورى وأنت كما كنت ... م قديماً تجري بغير التفاف
إنما العيش ما استطال حياة ... لممات وألفته لشتات
وبعد سبعة قرون. ربما أعاد الزمان تمثيل هذا المنظر على ملعب الطبيعة فتراءى بنيله ومراكبه وروضه وجوه وشاعره. فماذا عسى ذلك الشاعر سيقول؟؟
3
سارتور ريزارتوس
لنا صديق أديب، خلع عليه السعد برداً قشيباً بعد أن درجه الزمن في برد من القطوب والشحوب. فكان كأنما ولد فيه من جديد أو كأنما تقمصت روحه بدناً غير بدنه. وكان -(8/72)
أطال الله بقاءه - قد أيس أهابه من أن يلامس دثاراً مفصلاً قبل ذلك الدثار الأخير. الذي لا يضن به الدهر على غني أو فقير. وقد كان لا يروقه منا أن ندعو له بطول البقاء ويتمثل قول المعري:
تدعو بطول العمر أفواهنا ... لمن تناهى القلب في وده
نفرح أن مد بقاء له ... وكل ما يكره في مده
فأما الآن وقد خلع أطماره الأولى على البؤس ونضى عنه معها تلك الحياة الرثة ليلبس حياة أبناء الزي والجديلة. فأحسب أنه قد اقترن أجل الحلة بأجله. نبات يطلب البقاء لأجلها أن لم يكن لأجله.
وقد أرسل إلينا هذه الدعوة.
حضرة الصديق
أتشرف بدعوتكم لحضور الاحتفال بتدشيني في أهابي الجديد وذلك مساء يوم الاثنين الثاني عشر من شهر فبراير المبارك! في المنزل. . . . . أبقاكم الله رافلين في سرابيل الصحة والعافية. الداعي
فلبينا الدعوة سراعاً. وكيف لا نلبيها وهذا مشهد لا تراه العين مراراً؟؟
أذاعوا أن الشمس سيعروها الكسوف يوماً من الأيام. فأهرع المنجمون من كل فج إلى مصر. يقلبون في أسطر لاباتهم عيوناً ويسدون إلى ذكاء آماق المجاهر والمقربات.
ثم قفلوا إلى بلادهم وقد حسبوا أنهم آبوا بالغنم الكبير. والعلم الوفير. فهل ترى مشهد أم الضياء في أزرها السوداء. أغرب في مجرى الطبيعة من ظهور صديقنا الأسود في ذلك الكساء الوضاء!!
ثم استقربنا المقام. وكان صديقنا يدور بيننا في ثيابه الأولى. فما هو إلا أن غفلنا عنه فتسرب إلى غرفته ثم برز لنا في حلته الطريفة. فكان كأولئك الممثلين الذين يدخلون في أسمال المتسولين. ثم يأوبون من باب آخر في طيالسة الملوك والسلاطين. فأنكرناه وما عرفناه. فقال عجباً! أكذلك تنسون صديقكم القديم!! ثم ضحك ضحكته التي نعرفها. فصحنا جميعاً نعم نعم. عبد الكريم! عبد الكريم!
وما ابتدع صاحبنا بحفلته بدعاً فذلك أمر عرفته الأمم منذ كانت. فلا ترون الملوك يقيمون(8/73)
الملأ ويقعدونه لوضع تلك القلنسوة التي يسمونها تاجاً وتلك العباءة التي يدعونها طيلساناً وتعصية العصا التي يجعلونها صولجاناً؟؟
هذا والقلانس والطيالس عندهم كثيرة. والعصى والسياط بحمد الله في أيديهم وأكثر! ولكن الناس لا يفتأون يتخذون بدعة الكبير سنة وسنة الفقير بدعة. وما هم في ذلك بمنصفين.
وبعد أن شربنا نخب اللابس والملبوس. وباركنا للعريس والعروس قلت أهنئه وأرجو أن لا يكون هذا آخر ما أقول له من هذا الطراز:
عبد الكريم أأنت حيث أراكا! ... أني حسبتك في الثياب سواكا
الله أكبر هل غدوت بسحرها ... جنا نراك كما يشاء هواكا
لو كنت مبدل لون جلدك أبيضا ... ما كان يدهشني كثوبك ذاكا
أني لأصبح برهمياً مؤمناً ... بتناسخ الأرواح حين أراكا
ليس الذي سوى ثيابك خائطاً ... بل كان ربا ثانياً سواكا!!
أنت الدليل على أناس أنكروا ... حشر الجسوم وآثروا الإشراكا
فاطرح رداء البؤس والبس بعده ... برد النعيم وطف هنا وهناكا
قد طال أسرك في الديار فلا تخف ... فالآن نلت من الشقاء فكاكا
عباس محمود العقاد(8/74)
طرف فلسفية
للفاضل عبد الرحمن شكري
أحلام اليقظة
(وهي أحلام خيالية فلسفية يشوبها شيء من المزح)
1
أسافل النفس وأعاليها
ذهبت مرة في المساء إلى شاطئ البحر لأروح عن نفسي من الهم الذي يعتور المرء من التفكير في أساليب الحياة وما يأتيه الناس من شر ثم اضطجعت على الأرض وجعلت أردد لحظي بين السماء والأرض فصغرت لدي حياة الناس من عظم ما بين السماء والبحر وبينما اسخر ضلة من طبيعة الإنسان وما تغري الناس به من غدر ولؤم ودناءة وكذب وقتل وخيانة وقع بصري على ملك من النور كله جمال في يده مرآة ثم رأيته قد اقترب مني ووضع المرآة أمامي ثم قال انظر في هذه المرآة فنظرت فرأيت جنياً ملأ ما بين السماء والأرض له رجلان مثل رجلي حيوان مفترس لهما كساء من الشعر وباق ملك كريم فنظرت إلى قدميه فرأيت أظفاراً مثل أنياب الفيلة ورأيت الدود والبق والعقارب فوق قدميه فأغمضت عيني من قبح ذلك المنظر ثم سمعت صوت الملك صاحب المرآة يقول أرفع بصرك وانظر إلى وجه هذا الجني فرفعت بصري ونظرت في وجهه فرأيت وجهاً ينبعث منه النور مله حنان ورفق وعينين لحظاتهما كلها ذكاء وجبيناً لو صور الحق لكان جبين هذا الجني جبينه ورأساً مكللاً بالأزهار ونظرت إلى صدره فرأيته نبيلاً جليلاً فخفق قلبي طرباً بجمال هذا المنظر وجلاله ثم نظرت إلى يديه فرأيتهما مثل يدي القرد فعجبت كيف يقرن ذلك الجمال الجم بذلك القبح الجم فقال الملك صاحب المرآة أن صورة هذا الجني تمثل النفس الإنسانية فإن هذا الجني رأسه في السماء ورجله في الأرض وكذلك النفس فإذا نظرت إلى النفس رأيت أعاليها كلها جلال وجمال وأسافلها مثل بئر كله حشرات وهذا الجني له يدان مثل يدي الحيوان وإنما هذا مثل العمل فإن الغريزة تحث المرء إلى العمل من خير وشر لأن العمل مقياس الحياة وميزان البقاء فإذا أردت أن تعيش عليل النفس سقيم(8/75)
الأمل ضئيل الهمة فانظر في أسافل هذا الجني وردد لحظاتك في الدود والبق والعقارب التي فوق قدميه فإن هذه أسافل النفس ويكون مثلك مثل من يريد أن يستحم فيرى غديراً صافياً طاهر الماء فيعدل عنه إلى الماء الآجن في المستنقع الموبى لم لا ترفع بصرك إلى أعالي النفس من لحظ كله ذكاء وجبين كله جلال ووجه كله ضياء فلما قال الملك قولته هذه رفعت بصري إليه فرأيته قد خفي عني فرجعت إلى بيتي وفككت عني حبائل اليأس وقلت خاب من نظر في أسافل النفس ورجع بصره خاسئاً عن أعاليها.
2
الخير والشر
ذهبت مرة إلى مدينة من مدن القدماء لم يبق منها إلا أطلال ونؤى وأحجار فجعلت أنظر إلى تلك الأطلال كأني أنظر إلى قبور السنين الخوالي وغربت الشمس ثم رأيت النجوم في السماء كأنها أطلال الفردوس فرأيت في السماء أطلالاً وفي الأرض أطلالاً وقد خيل لي أن هذه الأرض قبر والناس أموات والسماء سقف ذلك القبر والنجوم أزهار وضعت عليه كما توضع الأزهار فوق القبور فاستلقيت على الأرض وجعلت أنظر إلى النجوم نظرة هوجاء ثم رأيت في السماء جنيين جنياً تتطاير من عينيه النار وجنياً ينبعث من عينيه النور الأول له أذنان مثل أذني الحمار والثاني له أذنان مثل أذني الإنسان ووضع أحدهما أصبعاً تحتي ووضع الآخر أصبعاً فوقي ورفعاني بين أصبعيهما حتى وضعاني على فلك من الأفلاك ورأيت الأرض مثل كرة القدم في الحجم ثم قال الجني الذي ينبعث من عينيه النور وأشار إلى صاحبه هذا إبليس لا يغرنك منه أن أذنيه مثل أذني الحمار فإنه على ذلك كثير الدهاء كثير الذكاء ولكن لو لم يكن بينه وبين الحمار شبه ما فضل الشر على الخير فضحك إبليس وقال لا تضع الوقت في المزاح ثم التفت إلي وأشار إلى صاحبه وقال هذا صاحب الخير وأنا صاحب الشر وهذه الكرة التي أخرجناك منها هي كرة نلعب بها فأما غلبني وأما غلبته عليها قلت ومن الحكم بينكما قال الله يحكم بيننا ثم جعلا يلعبان بالكرة الأرضية هذا يضربها برجله من ناحية وذاك يضربها من ناحية أخرى ثم نظرت إلى صاحب الخير فرأيته يكبر في حجم جسمه ورأيت صاحب الشر يصغر فسألت صاحب الخير في ذلك فقال أنا دائماً أكبر لأنه لا نهاية للخير وإبليس يصغر دائماً ولكنه لا يفنى أبداً لأنه أن لا(8/76)
نهاية للشر فإنه كلما فنى منه شيء ظهر شيء جديد ثم نظرت حولي فرأيت أطلالاً ونؤياً ورأيت أني مستاق على الأرض فقلت لنفسي أكبر ظني أني كنت أحلم.
3
عظم الوجود
رأيت في الحلم أني كنت نائماً على الأرض في بستان أنيق وجعلت أنظر إلى السماء والظلام حولي فرأيت عينين كبيرتين تطلان من السماء كل واحدة منهما في حجم القمر ولكنهما كانتا مثل أعين الناس في الشكل ورأيت النار تنقدح فيهما كأن في كل عين منهما جحيماً ثم رأيت يداً كبيرة مدت من السماء إلى الأرض ورفعتني حتى صارت الأرض في عيني مثل النملة وصارت الشمس مثل التفاحة الصغيرة والكواكب حولها كالنمل فتملكني الرعب حتى صرت من شدة الرعب لا أحس به ثم نظرت إلى ما فوقي فرأيت كواكب وشموساً كالكواكب والشمس التي يراها الناس رأيت كل هذا وأنا في يد ذلك الجني ثم رأيت عينيه في سمائي والنار تتطاير منهما فصحت من أنت أيها المخلوق العظيم فضحك ضحكاً كاد يصم أذني ضحكاً صوته مثل صوت تصادم الكواكب وتكسر الأفلاك ثم قال أنا روح الأبد أتحسب أيها المخلوق الحقير أن هذا الوجود إنما خلق لأجلك أتقيس قدرة الله بما أودع فيك من المقدرة أنظر أيها المغرور ثم رفع صوته وأمر الأفلاك من نجوم وشموس أن تتصادم فتصادمت وتكسرت ثم غابت أشلاؤها في الفضاء قلت هل فني الوجود فضحك ضحكاً عالياً ثم قال أنظر أيها المغرور ثم رفع يده فرفعني في يده فرأيت أفلاكاً غير الأفلاك التي رأيتها قبل ثم أمرها أن تتصدع فتصادمت وتصدعت وغابت أشلاؤها في الفضاء ثم رفع يده فرفعني في يده فرأيت أفلاكاً غير الأفلاك التي رأيتها قبل وهكذا يأمر الأفلاك فتتصدع ثم يريني غيرها حتى كدت أموت من جلالة ذلك وهوله ثم رفع صوته وقال أني ليعجبني غرور الإنسان فإن الغرور نتيجة من نتائج الطموح والطموح دليل على الحياة وآلة من آلات النبوغ يا ابن آدم أنت جزء حقير من الوجود فكيف يفهم الجزء الحقير الشيء الكامل. إن ضمائر الأفراد ثقوب يطلون منها على الله ويناجونه بها ولكن مثلهم في تلك المناجاة مثل جماعة من العمي لمس أحدهم خرطوم الفيل فقال الفيل مثل الثعبان ثم لمس أحدهم ذيله فقال الفيل مثل الحبل الطويل ولمس أحدهم رجله فقال الفيل(8/77)
مثل الدعامة المستديرة والناس لا يرون الله إلا كما ترى النور من ثقب صغير فكل عقيدة من عقائد الناس مكملة لأختها ثم قال اذهب إلى مكانك من الأرض ولا تنس عظم الوجود فإن إحساسك بعظمه فريضة عليك.(8/78)
مقالات في الأدب
للفاضل عبد الرحمن شكر أيضاً
1
التخيل والتوهم
ينبغي أن نميز في معاني الشعر وصوره بين نوعين نسمي الأول التخيل والآخر التوهم فالتخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات التي بين الأشياء التي ربما خفيت عن غيره ولكن يشترط في هذا النوع أن تكون الصلة متينة والتوهم أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود أو أن يبين عن صلة غير متينة أنظر إلى قول أبي العلاء المعري في سهيل النجوم
ضرجته دماً سيوف الأعادي ... فبكت رحمة له الشعريان
أو قوله في هذه القصيدة أيضاً:
وعلى الأفق من دماء الشهيدين ... علي ونجله شاهدان
فإن الصلة التي بين الشفق وبين دماء الشهيدين صلة توهم وكذلك الصورة التي في البيت الأول صورة توهم ثم أنظر إلى قول أبي العلاء:
كم قبلة لك في الضمائر لم أخف ... فيها العقاب لأنها لم تكتب
هذا مثال من أمثال التخيل الصريح فإن العاشق مغري بأن يليح لعينه بصورة حبيبته ثم يقبل تلك الصورة الخيالية فالصورة المودعة في هذا البيت صورة طبيعية يعرف صحتها كل من عالج الحب وانظر إلى قول الشريف الرضي:
ما للزمان رمي قومي فزعزعهم ... تطاير القعب لما صكه الحجر
هذا أيضاً من التخيل الصريح فإن تفرق شمل القوم مثل تطاير أجزاء القدح المكسور وانظر إلى قول ابن المعتز في الشيب:
(هذا غبار وقائع الدهر)
فأن المشيب يأتي المرء من معالجة الأيام ومصارعتها كما أن الغبار تستثيره المصارعة والمناهضة.
ومن أمثال التوهم البديع قول أبي تمام في المشيب(8/79)
(فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب)
فإن الصلة التي بين المشيب والابتسام ولا سيما ابتسام الرأي والأدب صلة توهم ليس لها وجود ولكن هذا التوهم الحميد على أن الشاعر قد يجيء به غثاً إذا لم يكن له غير المغالاة حيلة وأحسن هذا التوهم أقربه إلى التخيل الصريح وأقبحه أقربه إلى أحلام المحموم وقد حببه إلى الشعراء مجاراتهم ذوق العامة في المغالاة فإن العامة لا تميز بين المغالاة التي تجوز والمغالاة التي لا تجوز.
قد يكون في الخيال كلفة كما يكون في التعبير صنعة وإنما تكلف الخيال أن تجيء به كأنه السراب الخادع فهو صادق إذا نظرت إليه من بعيد وهو كاذب إذا قاربته غير أنه يشابه الخيال الصحيح الخيال السقيم إذا كان وجه التأليف بين الأشياء في الخيال الصحيح بعيداً ولكن بعد وجه التأليف وخفاء الصلة ليس بمعيب إذا كان وجه التأليف صحيحاً وكانت الصلة متينة فإن ظهور الصلة لكل قارئ ليس دليلاً على متانتها فقد تكون الصلة ظاهرة ضعيفة وقد تكون غامضة سليمة وهذا سبب من أسباب اشتباه العظيم من الشعراء بالضئيل والعبقري بالمقلد فإن المتنبي أو شكسبير قد يولع باستخراج الصلة المتينة الغامضة التي بين شيئين يخال القارئ أن ليس بينهما صلة ولكن هذا المذهب غير مذهب الناظم الذي يولع بأن يوجد صلة سقيمة بين شيئين ليس بينهما صلة أو باستخراج صلة ضعيفة بين شيئين. أن ولوع الشاعر باستخراج الصلات المتينة الغامضة التي بين الأشياء دليل على أنه حر الذهن ولكن الشعراء المولعين بذلك غرض لسهام ذوي الأذهان المغلقة ونصب رميات أهل الغبارة ولكني لا أنكر أن الشاعر المولع بذلك قد يسلمه ولعه به إلى المغالاة المقبوحة واستخراج صلات التوهم وأبو تمام والمتنبي والمعري من هؤلاء الشعراء على أن العبقري يعرف بسيئاته أنه عبقري كما يعرف بحسناته لأن أكثر سيئاته أنه واسع الخيال كما أن أكثر حسناته سببها تلك السمعة.
2
الجاحظ والصابي
الفرق بين أسلوب الجاحظ وابن المقفع وأسلوب الصابي وابن العميد أو الأولين يسلكان من سبل التفهيم والإيضاح أقصرها وأما الصابي وابن العميد فقد كانا من كتاب الدولة وأرباب(8/80)
السياسة يضطر أحدهما إلى الغموض لحاجة من حاجات السياسة فيسلك من سبل التفهيم أطولها وأوعرها كي لا يفهم رسالته من أرسلت إليه كل الفهم أو كي يفهم في أثناء سطورها ما ليس فيها ألم تر كيف عمد ساسة الدول الأوروبية إلى اللفظ المبهم والعبارة الغامضة في بعض الأحايين كأن يريد أحدهم أن يعد وعداً لا يستطيع أن يفي به أو أن يساق إلى إيضاح أمر من حاجة السياسة أن يبقى غامضاً أو أن يريد أن يستخدم المغالطة كي يغطي على صحة رأيك أو أن يخدعك في حق تطالبه به فأسلوب الجاحظ وابن المقفع من هذا الوجه أفصح من أسلوب الصابي وابن العميد وأسلوب الأولين أشبه بلهجة العرب وفصاحتهم فهو خليق أن يسمى الأسلوب الطبيعي أما أسلوب الصابي فهو أسلوب صنعة لأن الفصاحة العربية الصريحة التي تطالعك من مصنفات الجاحظ وابن المقفع قد نضب ماؤها وصار حظ الأديب أن يتكلفها وسبب ذلك اقتعاد الأعاجم دسوت الرئاسة وتغلبهم على العنصر العربي والعصبية العربية في دولة الإسلام فلم تكن اللغة كالماء الآجن لأن الأساليب تتغير فأسلوب الجاحظ غير أسلوب الصابي وأسلوب الصابي غير أسلوب صاحب كتاب قلائد العقيان فالأساليب تسير مع الأيام وتتغير بتغير الزمان والمكان واللغة ليست ملكاً لقوم دون قوم فإن الفرق بين أسلوب الصابي وأسلوب الجاحظ أو بين أسلوب الصابي وأسلوب صاحب القلائد لا يجوز لنا أن نسميه فرقاً بين لغة ولغة كما يزعم زاعم يريد أن تكون لغة مصر غير لغة الشام أو العراق.
إنك إذا قرأت رسائل الصابي كنت كلما انتهيت من جملة نسيت أولها أما لعظم ما بين أولها وآخرها وأما لأنه يدخل الجملة في الجملة ويخرجها من حيث أدخلها فلا تعرف أين يبتدئ وأين ينتهي وألفاظ الصابي أكثر من معانيه فهو يريق المعنى على فناء واسع من اللفظ فيغيض ماؤه والمعاني كالبخار إذا حبست البخار زدته قسوة وإذا أفسحت له في الفضاء أضعفته. إذا أجاد الصابي ذقت في كلامه حلاوة الصنع وإذا أجاد الجاحظ ذقت في كلامه حلاوة الطبع على أن للطبع صنعة ولكنها صنعة ذوق وسليقة لا صنعة رصف وتنميق وصنعة الطبع ليست بأقل حلاوة من صنعة الرصف والذي يستخدم صنعة الرصف لا يسلم من التكلفة والفساد والإطالة المقبوحة وإضلال المراد وذكر مالا يراد منه كأن يسلك أديب في عقد واحد جملاً كثيرة لا تقرب القارئ من طلبته قيد فتر أو أن يكيل كاتب لقارئه من(8/81)
المترادف شيئاً كثيراً.
إن بين من يكلف بالفصاحة ومن يتكلفها فرقاً واسعاً والجاحظ كلف بالفصاحة ولا يتكلفها لأنها تؤاتيه إذا شاء والصابي كلف بالفصاحة ولكنه قد يتكلفها ولا أحسب سبب ذلك أنه جاء بعد الجاحظ ولكن مذهبه إدخال الجملة في الجملة ومط الكلام كما تمط الجلد هذا ابن رشيق صاحب كتاب العمدة متأخر من المتأخرين في الزمن ولكن مذهبه في كتاب العمدة أشبه بمذهب ابن المقفع والجاحظ والمبرد وابن قتيبة وغيرهم من الفحول من حيث السلاسة وتوفية المعنى نصيبه من اللفظ وقصر اللفظ عليه وانتظام جمل الكلام ففصاحته فصاحة ذوق وطبع لا فصاحة رصف ووضع فلو أن الأديب ليس له بد من عبارة أهل زمانه وبلده وأسلوبهم في الكتابة لكانت عبارة كتاب العمدة مثل عبارة كتاب القلائد ولكنها ليست كذلك فإن فصاحة كتاب قلائد العقيان فصاحة رصف ووضع وهي أكثر سبهاً بفصاحة الصابي وابن العميد والثعالبي منها بفصاحة الجاحظ وابن قتيبة وابن رشيق ولكنها أكثر تصنعاً من فصاحة الصابي واقل حلاوة فعبارة الصابي في منزلة بين أسلوب الجاحظ وابن المقفع وأسلوب القلائد فالصابي وابن العميد والثعالبي كانوا يملكون من عنان مطيتهم ما لم يملكه صاحب القلائد ومن حذا حذوه وهكذا كل من عالج صنعة الرصف والوضع خيف عليه أن تغيب عنه حلاوة الطبع.
كان ابن رشيق ينقم من أهل زمانه صنعة الرصف ويغريهم باستخدام صنعة الذوق والطبع استدناء للفصاحة العربية وتطلباً لذلك الأسلوب الطبيعي أسلوب ابن المقفع والجاحظ وابن قتيبة ويزجرهم عن ذلك الأسلوب المتقطع المتكلف المخنث أسلوب السجع والمترادف والبديع الذي كانت تملأ به الأدباء رسائلهم من رصف وإطالة يضل القاريء فيها ما ينبغي من المعنى ولكن هذا الفساد كان قد تمكن من اللغة وأخذ من أذواق الناس مأخذاً بليغاً فلم يكن لأبن رشيق عون على إصلاحه وأعظم من استخدام صناعة الرصف والوضع من الأدباء وغالى بها الصابي وابن العميد والثعالبي فكانوا يجيئون بالجزل الجيد من الكلام وكان لكلامهم نصيب من بداوة النثر أي سلامته من الكلفة ورجولته تلك البداوة التي تطالعك من مصنفات ابن المقفع والجاحظ والمبرد وغيرهم من الفحول ولكن لم يكن يعرف الصابي وذووا مذهبه أن سيأتي بعدهم أدباء ينهجون نهجهم وليس لهم من سلامة الطبع(8/82)
وبداوة القول ورجولته ما كان لأسلافهم فيستخدمون المحسنات البديعية استخداماً يجعلها مساويء فن مجيء هذه المحسنات عفواً حسن لا بأس به ولكنهم جعلوا يدخلونها في كلامهم كما تدخل الجرذ في مصيدته أي بالخديعة والدهاء ويجذبونها إليه كما تجذب القط من ذيله إذا تشدد فيضطرب انسجام كلامهم ويعوج أسلوبه.(8/83)
ديوان الأدب
منذ سنين لا علم لنا بأولها - وقد كنا نظرنا في كثير من أمهات الأدب العربي - كنا كلما أعجبتنا قطعة شعرية أو نثرية نقشناها في صفحة الذاكرة، أو نقلناها إلي قار المفكرة، لاستظهارها وترديد النظر فيها أولاً ولجمعها وإظهارها للمتأدبين يوماً ما ثانياً فأخذنا لهذا الأمر عدته وما زلنا نعمل التدبير على إظهار كتاب جامع في الأدب يفيد الناشئين ويكون تذكرة للشادين حتى ثم لنا ما يأتي الأول أننا جمعنا كل ما وقع عليه الاختيار من المنظوم والمنثور قديمه وحديثه مع الشكل والشرح الوافي وفذلكة تاريخ الأديب ونقد أدبه وبيان مكانته الأدبية في الأدب العربي الثاني أنا إتماماً للفائدة وتمييزاً لمختاراتنا لم نكتف بالمختارات العربية بل رغبنا إلى فاضلين من المضطلعين بأدب اللغات الإفرنجية وهما الأستاذ محمد السباعي والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني أن يعربا لنا أفضل ما يقع عليه اختيارهم فيما يقرؤن من آداب الأمم الأخرى من انكليز وجرمانيين وفرنسيين وروسيين وفرس وهنود وصينيين ومن إليهم فظفروا من ذلك بالكثير الممتع مما سيكون ثروة ثرية للأدب العربي الثالث أنا رتبنا هذا المجموع ترتيباً حسناً بديعاً فيما نرى وذلك لا أنا جعلناه على أبواب الشعر من المديح والنسيب والفخر والهجاء والرثاء وما إليها ولا أنا جزأناه إلى أبواب الأدب من الخطب والرسائل والمقامات والأمثال والقصيد وما إلى ذلك بل أنا كسرناه على أبواب المعاني العامة وكل باب على فصول خاصة تنطوي فيه فجعلنا الباب الأول مثلاً باب الصفات وهو إلى فصول الفصل الأول في صفة الربيع والأزهار، والغياض والأشجار، والمياه والأنهار، والمطر الرعد والبرق والثلج والبرد والنسيم وقوس قزح وما يتصل بذلك: الفصل الثاني: في صفة الليل والنهار وأجزائهما والشمس والقمر والكواكب وما يداخل ذلك: الفصل الثالث: في صفة الأبنية والقصور والدور والآثار والأطلال وما أليها: الفصل الرابع: في صفة السفن والأساطيل والبحار وهلم جراً والباب الثاني باب الأدب والأخلاق والتربية والفلسفة الأدبية وهذا الباب إلى فصول جزئية متشبعة وهلم إلى أن يتم الكتاب على هذا المنوال - وقد وسمناه بديوان الأدب ووضعنا له تمهيداً مطولاً فيما هو الأدب ونبذة في تاريخ الأدب العربي والأدب عند سائر الأمم والموازنة بين الأدب العربي وآداب الأغيار ونقد حركتنا الأدبية الحديثة ووجوه النقص فيها.
وقد جزأنا الكتاب إلى عشرة أجزاء كل جزء يقع في نيف ومائتي صفحة وقد شرعنا في(8/84)
طبع الجزء الأول منه وجعلنا قيمة الاشتراك في كل جزء خمسة قروش مصرية تدفع مقدماً. أما بعد تمام الطبع فثمانية قروش فمن أحب أن يشترك في الكتاب فليرسل إلينا الخمسة قروش طوابع وستة ونحن نرسل إليه الوصل والله الموفق إلى السداد.(8/85)
الحكمة المشرقية
كتاب ذو أسفار ثلاثة من أفضل الآثار الأدبية الأول حكم فتاحوتب الوزير والحكيم المصري القديم الثاني جولستان أو روضة الورد وهو ديوان أدب بديع لشاعر الفرس الكبير مصلح الدين سعدي الشيرازي الثالث كتاب تربية المرأة عند اليابان لفيلسوف ياباني - وقد عرب هذا الكتاب للبيان الأستاذ محمد لطفي جمعه وهو يباع بخمسة قروش صاغاً وأجرة البريد قرش واحد.(8/86)
العدد 9 - بتاريخ: 1 - 11 - 1912(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
وسلام على عباده الذين اصطفى
أما بعد فهذا ما نستأنفه اليوم من السنة الثانية للبيان: نمضي فيه إن شاء الله على ما توخينا من قبل. ونأخذ له في ناحية عريضة من فسحة الأمل، ونستظهر بركن شديد من استعانة الله في التوفيق إلى العمل، ونصبر وإن كان الأمر شديد المزاولة، ونحاول وإن كان عسير الخطة في المحاولة، فقد أتت علينا السنة الأولى ونحن وكأنما نسند بها في حدود المستقبل لهذا الأدب العربي، ونشتد بالمدة القصيرة وراء الغاية المتطاول شأوها فلا نستمد راحة ولا نطمئن إلا خفض ولا نبالي ما أصابنا به من غرضنا البعيد، ملا ما ورد علينا إذا هو رد لنا شيئا مما نبتغي أن نفيد فانه ليست الآفة في خدمة هذه اللغة وآدابها وعلومها أن يلقى المتصدي لها من العنت والبلاء والجهد وأن يغشاه من ذلك ما يغشي ولكن الآفة كيف يذهب عنه أنه سيلقى النصب مما يعاني وهو إنما في قيامه بأمة ويخطو في سعيه بتاريخها. ومتى كان النهوض بالأمة هيناً والخطو بالتاريخ ليناً، فنحن أنشأنا (البيان) وشأنه في الأمل شأنه. وأرصدنا له نفساً مرة أمرها في العمل أمرها وكنا مستبصرين فيما سنلقى فكأنه قدم علينا قبل أن نقدم عليه وأعددنا للأمر عدته فلم ننكل حين أقدمنا، ولم نتأخر إذا تقدمنا، ولا نقول إننا جعلنا غايتنا رضي أحد فرضي أو تسخط وإنما كانت الغاية واجبا لأدب تعين علينا أداؤه، وديناً للغة كان حقاً علينا وفاؤه، فما انتهينا حيث بلغنا من ذلك حتى صرنا إلى منزلة من رضي أهل الفضل لم نكن نطمع فيما دونها وما برح الفضلاء برضاهم وثنائهم وارتياحهم منذ القدم كأنهم ثواب الفضيلة وجزاؤها وكأنهم الوفاء لها في هذه العاجلة يستحثون من همة الواني ويبعثون من عزيمة المخلد ويتلقون غرة المتقدم وهم أنفسهم الذين يضمنون بقاء الفضيلة للحياة ويضمنون للفضيلة بقاء الحياة فلست واحدا منهم إلا كل أروع نباض كأنه قلب من قلوب الدنيا في شرف نزعته، وكرم نحيزته. وإقباله عليك مضافراً، وانصرافك عنه ظافراً، ورؤيتك إياه على حال كالذي ينتظرك في كل غمرة تخوضها، ويقف لك عند كل صعبة تروضها، فهؤلاء كما علمت وإن منهم القوم الكرام الذين سلسلت بهم مطالب البيان من قرائه، وانفرجت بهم مذاهب من كتابه وشعرائه، فلم يحل عليه الحول إلا بالغا ما يضارع التقدير في كرمهم والثقة بالرجاء فيهم حتى أصبح والحمد لله كأنما كشف عن الأدب ليلا فكأن شمسه، ومد للغة يوماً كان يقال أنها لا تتجاوز أمسه، ورد(9/1)
على الأسلوب الفصيح بقية دماء كان ينزل بها رمسه.
نقول هذا ولا نمتن وإن رفقنا، ولا نتكثر وإن صدقنا ولكن هي المحمدة للذين آزرونا وكانوا لنا فكنا بهم ونحن لا نرضى أن نشكرها لهم حتى نشيد بها ولا نرضى بالإشادة حتى نقدمها في صدر الكلام ولا نرضى بتقديمها دون أن ننزلها مع رضاهم في منزلة مذكورة، ونقرنها إلى فضلهم كما تقرن البسملة إلى كل سورة.
وبعد فقد علم القراء إننا فيما انتهجنا من خطة البيان إنما نرمي إلى غرض من تربية الأمة ليس لنا في البلوغ إليه أوثق من اللغة وآدابها فقد أصبنا الأمة متحللة من تاريخها منفصلة بحاضرها عن ماضيها ذاهبة في غير طريقها وكأنما قطع بها على هذا الضلال فهي تبرح مترقبة من تتبعه وان تبعته إلى الضياع والتلف. ورأينا من نشئنا من سدرت أبصارهم وسحر أعينهم زخرف الغرب ونسوا الله فأنساهم أنفسهم وكانوا على ذلك بيننا نحوطهم ونرعاهم وهم يرون أننا نحن بينهم وإنهم هم الأمة على قلتهم وتصدعهم ويعلم الله أنهم في ثوب الأمة رقع تترك فلا تروق، وتنزع فلا تكشف إلا عن خروق.
هؤلاء يحسبون إن بناء الأمم هندسة نظرية فكل ما قامت عليه مدنية الغرب فهو بعينه الذي يتسق به أمر الشرق وإلا حسبوه ما شاؤا وشاء لهم قصر النظر وضيق المضطرب فأباحوا ذماره وابتلوه بالكره وبرموا بأمره وأنفوا له ولأنفسهم منه ثم هم يرون أنه كما ينسلخ أحدهم من جلدته في الأمة تستطيع الأمة أن تنسلخ من جلدتها في التاريخ فإذا كانت لنا مدنية ولغة وآداب استطعنا إن نتبدل بها مما يحبون مدنية ولغة وآدابا ولا ضرر في ذلك علينا ولا ضرار فأولى لهذه الفئة وأولى لها.
ورأينا بإزاء نشئنا قوماً جمدوا على القديم فكانوا أقدم منه واستمسكوا بكل مالنا من تاريخ ومدينة وعادت حتى كأنهم بعض ما هجر من ذلك فلا يرون أن تأخذ الأمة شيأ إلا ما لا حفل به مما لا ينوع تاريخها ولا يبسط في لغتها ولا ينكر من أمرها كأنها مادة جامدة في الفضاء، وكأن البلى أمنها من البلاء، وأعفاها على الدهر من العفاء، والفريقان إنما أتيا من جهة واحدة وهي سوء التقدير فيما ينفع وما يضر فلا يستبطنون الأمر يغرهم ظاهره، ولا يكتنهون ما يسرهم أوله إذا كان يسوء غيره آخره، ولقد كان من ذلك أن الأمة لم تنتفع بكليهما لأن أحدهما يجهل أمرها على علم بما ينفع غيرها من الأمم والآخر يعلم أمرها(9/2)
على جهل. فرأينا أن يكون البيان صلة بين الفريقين ليجمع في منفعة الأمة ما ترك الزمن من أدب وحكمة وما استحدث من علم وقوة ويصرف حب نشئها إليها بما يقفهم عليه من آدابها وما يكشف لهم من أسرار مدنيتها فهم إنما بهتوا لظنهم أنها أمة اختلست غفلة الأمم فكان أمر مدنيتها استطالة وتمكنا أو كأمر المستبد بإرادته إذ لا يجد إرادة تعارضها ولا عزيمة تقوم لها فحسبوا أن ما ذهب به الزمن من مجدها ذهب بحقيقته معه إذ لم تكن له في وهمهم حقيقة تجري على سنن الاجتماع وتصلح أن تكون في عصر العلم والفلسفة مما يلائم أرقى ما انتهى إليه العلم والفلسفة.
وذلك الذي أراده البيان منزع لعمري غير أنه بعيد الشقة كثير الغمرات وغير أننا ضمننا أطرافه ونحينا عن النفس في أمره الضجر والملل وسلكنا إليه في مذاهبه وطلبناه بمطالبه وما سنة البيان الخالية إلا مرحلة طويناها بين الأمة وبين قلوب نشئها وكهولها والله المستعان على ما نستقبل.
والقارئ إذا تدبر ما أسلفناه رأي أننا أحكمنا الأمر في اختيار أبواب البيان إذا جعلناها على الجهات الأربعة: اللغة والتاريخ والنقل والتعريب: فما خرج شيء من مجدنا ولا يعود إلا منها وهي أبواب تجمع بيننا وبين مدنيتنا الأدبية ثم تصل هذه بمدنيات الأمم.
(ونحن) قائلون كلمة موجزة في فضل هذه المذاهب الأربعة وشرفها على ما سراها ليعرف القوم لم آثرناها وحتى يكون القراء معنا جميعا على بينة مما نرمي إليه فإن ذلك مما يزكي عملنا وينميه إذ يجعل البيان لكل قارئ كأنه بيان للناس.
فأما اللغة فأصل الأمر فيها أن يديرها المتكلمون على محاكاتهم ويرموا بها إلى أغراضهم ويجعلوها من متناول الحس فإن هي وفت بحاجتهم اقتصروا عليها وإلا استبدلوا منها ذهبوا بها اشتقاقا وبحتا، ومسخا بحتا، لا يبالون ما نسبة حديث إلى قديم من ألفاظها وتراكيبها إذ القديم والحديث سواء عند الحاجة الحادثة إذا لم يبتغ بهما إلا التسبب إليها. ومن ثم كانت العامة وأشباه العامة آفة على اللغات في أخلاق جدتها وتصويح زهرتها والذهاب بما فيها من ماء ورونق حتى تصبح في أطراف الألسنة كزة كأنها مادة لا أثر فيها للفكر بل يلقيها ما تدل عليه من ضروب المادة وأنواعها التي يعبر عنها كما يلقى الإشارات على أصابع الخرس وإن هذه لتجئ أصدق وأوفى بالدلالة في أصل الوضع لأنها تشير إلى الحواس(9/3)
والحواس لا تكاد تخطى فهم ما تدلها عليه. وقد رأينا من فتياننا الذين لبست العجمة ألسنتهم ما أن قليله ليستعظم في بلائه وشدته وسوء أثره في مدنيتنا الأدبية فهم لا يريدون أن يرجعوا بنا إلى الفصحى من العربية ولا أن يتناولوا من أساليبها ويأنفوا كذلك أن يخطوا بأقلامهم إلى العامية في أسواقها وطرقها بل ينحلون أنفسهم القدرة على خلق اللغات والمواضعة عليها وتيسير سبيلها في الإجتماع العربي ثم لا يتعدون هذا الطور من التأله الكاذب فلا ندري أشر أريد بنا وبهم حتى نزعوا ونزعنا واستجمع كلانا الأقاويل والحجج وافترقنا في سبل الألفاظ كأنا أمتان في أمة واحدة أم هم يمثلون اليوم في تاريخنا أولئك الغزاة الأجلاف الذين انصبوا على مدنيتنا وآدابنا من التتر وغير التتر فأحرقوا كتبنا وعفوا آثار علمائنا وتركوا في تاريخنا مكانا خربا لا يعمر صدعه الزمن كله فإن كان ذلك نتحا في عرف هؤلاء فاللهم أغلق بيننا وبينهم واللهم حوالينا ولا علينا. وإن كان جهلا ونزقا وتحمسا فقد جعلنا من أكبر همنا فيما نكتبه ونستكته في البيان أن نتبسط في الكلام على صلة العربية الفصحى بتاريخنا وقيام مدنيتنا بها وإننا إن نزلنا عنها أو فرطنا في إحيائها وإنمائها فقد تركنا معها أوثق رابطة جمعتنا وأمكن عروة لويت علينا وألنا بانحلالنا ما عجزت الأمم عن الأنته تحت أضراسنا وبين أنيابها حتى قطعنا دهرا من التاريخ الاستعماري في الشرق ونحن نتردد بين الأضراس واللهوات كلما كلت الأولى عن طحننا ونبت عنا دفعتنا إلى الأخرى لتزدردنا جملة واحدة وتعي هذه بازدرادنا وتضيق عنا فنردنا إلى تلك ونحن علي ذلك نحن سيرة بعد سيرة لا يمسكنا إلا لغة نجمعنا بأرقى ما في الدين من الكمال، ودين يجمعنا بأرقى ما في الدنيا من معاني الاستقلال.
وأما التاريخ فهو يتلو اللغة عندنا إذ هو في الحقيقة لغة الحياة الصامتة التي طوى الدهر أشخاصها ولذا كان بديها أن لا تفرط أمة في لغتها إلا فرطت في تاريخها وإن ذلك ليضعفها بما يشبه العبودية وإن لم يتعبدها أحد فترى لها حاضرا لا تنتفع به كأنه ليس لها، وماضيا لا تتصل إليه وكأنه ليس لها، ومستقبلا لا تحفل به فكأنه على هذا القياس ليس لها.
وما بلغت أمة من الذل ما تبلغ هذه الأمة الخيالية التي تنكشف عن ملاجئها المنيعة لتتحصن بالعراء، وتسير في سبيل الحياة ثابتة. . . وهي تجهل ما أمام وما وراء.
من أجل ذلك عنينا بالقول في تاريخ الإسلام وفلسفته وما يداخله من علل الإجتماع ويتصل(9/4)
به من أسباب العمران ويجتمع إليه من سن الحياة ثم ما نصعب على هذا التاريخ من أحوال الأمم وما تسمح له من قيادها وبالجملة كل ما يصور هذه الحياة الصامتة بأجزائها وألوانها حتى تنطق أو نفهم عنها كأنها تنطق.
وأما النقل فهو مما نعزز به اللغة والتاريخ لأننا قصرنا ذلك على الطرفة الممتعة من الأدب والأسلوب الرائع من الكلام والنادرة الفذة من التاريخ وما يكون من مثلها مما لا يذو مناله إلا الذي باع، ولا يتحصل إلا بعد التوفر على الاطلاع.
وإن لنا في ذلك غرضا هو أكبر الغرضين وأوفاهما بالفائدة نتذرع به من أحياء آثار العقول إلى أحياء العقول نفسها فإن أمة لم يستفتح كل جيل من تاريخها بأسماء رجالها ونوابغها حتى يظلوا فيها أحياء بآثارهم وكأنهم لم يخرجوا من الدنيا إلا ليتجردوا من المادة الفانية وليعودوا إليها عقولا خالدة - هي أمة لا تنبغ فيها العقول إلا نبوغ الإصطلاح الذي تقضي به ضرورة الاجتماع.
وما من جماعة وإن كانوا من عصارة الزنج إلا وأنت واجد منهم النبوغ الاصطلاحي ولو بالعادات والخرافات والعضلات والأنياب والأظفار ونحوها مما تعده الجماعة من مقومات الحياة.
ولولا أن طائفة من حكمائنا وأهل الإصلاح فينا عملت على نشر الكتب القيمة مما تركه أسلافنا لما تخطينا في الأدب ذلك الطور الإصلاحي الذي وقف عنده تاريخنا ولبقينا حيث كنا من قبل نستنفد أيامنا في غير درك ونضيع أنفاس الحياة فيما لا حياة فيه.
(وأما التعريب) والنقل عن اللغات الأجنبية فإننا أردنا به إتمام عملنا إذ لا نزعم إننا أباء الأرض ولا أبناء السماء إنما نحن امة من الأمم تستمد من التاريخ الإنساني لتعمير مكانها من هذا التاريخ، فنحن في أشد الحاجة إلى مبدعات العقول حتى نشا به الأمم التي تطيف بنا في كل ما يجعلنا امة وحتى نجانسها في تاريخ الاجتماع جناسا لا تاما ولا مقلوبا فإن كليهما شر على استقلال الأمة من الأخر. وإنما نريد الجناس المعنوي الذي يشبه عند الترجيح مكافأة قوة لقوة أخرى.
والأمم في منازعة الحياة كالجيوش إن لم تكن في كل جيش قوته الذاتية لم ينفعه ما يقتبسه من أساليب استعمال القوة عن الجيوش الأخرى فكل ما أنتجت العقول الغربية هو عندنا في(9/5)
الرتبة بعد لغتنا وتاريخنا وأدبنا فإذا نحن استكملنا هذه وأحطنا بها وأمنا جانب التفريط فيها لم يكن شئ انفع عندنا مما نقتبسه من تلك العقول لأننا نأخذ حينئذ لنمكن أنفسنا من القوة التي استعنا بها لا لنمكنها من أنفسنا.
وإذا انعم القراء على تأمل ما بسطناه أدركوا السر الذي من اجله يؤثر البيان كل أسلوب فصيح ويقدمه ويحرص عليه الحرص كله ولا يبالي فيه اعتراض فئة هي خاصة العوام وعامة الخواص فإننا نطلع من اقر الأمر على ما في أبعده ولم نبتغ بهذا البيان إن يكون وسيلة من وسائل العيش التي لا يقدرها أهلها بالأسباب ولا بالنتائج ولا بالمنافع ولا بالمضار ولكن بشئ واحد وهو مقدار الثمن والفائدة. . . .
ولو كنا نجري في أمرنا على الهواء دون الرأي وعلى الموافقة دون التقدير وعلى منفعتنا دون منفعة الأمة لأثرنا أهواء القوم وتقدمناهم بالمواتاة عليها والمساعدة فيها وابتذلنا لغة البيان وأساليبه وعادينا في مودتهم الأدب واتقينا موجدتهم بتقدير أمورنا على مقادير (كيماوية). . . من رضاهم وسخطهم وإقبالهم وإدبارهم ولاعتبرنا كلمة الثناء من أحدهم البيان بمستقبل الأمة كلها. . . . . . .!
بيد إن الأمر جد حقيق إن لا يسمع من هذا السخف كثيرا ولا قليلاً، وحق بين لا يحتمل من الباطل برهانا ولا دليلاً، وإنما هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا.
عبد الرحمن البرقوقي(9/6)
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية
(تلخيص واستدراك)
نشرنا من هذه الرسالة في السنة الأولى من البيان نبذة هذا تلخيصها: قام الرحالة من الإسكندرية بنية الوفود إلى الأندلس سنة 345 للهجرة في مركب كبير لأمير الأندلس عبد الرحمن الناصر وكان هذا المركب قد قام من الأندلس إلى المشرق ببضائع للأمير بنية بيعها في ثغور المشرق والاستعاضة عنها ببضائع مشرقية فلما مر بالإسكندرية نزل فيه الرحالة ووجد به كثيرا من أهل المشرق يريدون الوفود إلى الأندلس ومن بينهم أبو علي القالي صاحب الامالي وابن حوقل وفضل المدينة المغنية وناس آخرون ثم اقلع المركب ومر في طريقه إلى الأندلس باقريطش كريد وهنا وصف الرحالة هذه الجزيرة بما يناسب حالها في ذلك العصر ثم قام المركب من اقريطش أخذا سمته إلى جزيرة صقلية ولما قارب الجزيرة لمح الرحالة أسطولا كبيرا على وجه الماء يغدو ويروح في بحر هذه الجزيرة وكان هذا الأسطول للعبيديين أصحاب صقلية ثم دخل المركب مجاز مسيني الواقع بين صقلية وبين قلورية كلابره جنوب ايطالية من بر الأرض الكبير أوربة وما زال حتى ارسي على مدينة مسيني وهنا أخذنا في وصف جزيرة صقلية وتقويمها وتاريخها - ولكن فاتنا إن نرسي بالمركب أولا على مدينة ريو الايطالية (رجيو) المقابلة لمدينة مسيني حتى يشاهد الرحلة عز العرب بها وبعد ذلك يعبر المجاز إلى مسيني ويتنقل بين بلدان جزيرة صقلية إلى إن ينتهي به التطواف إلى مدينة بلرم قصبة هذه الجزيرة ثم ينزل منها في مركب قادم من القسطنطينية بهدايا من قبل ملك الروم إلى عبد الرحمن الناصر - وذلك لان الرحلة علم أن أسطول المعز لدين الله الفاطمي يتأثر مركب الناصر أخذا بثأره إذا اعتدى هذا المركب الأندلسي وهو ذاهب إلى المشرق على مركب للمعز كما سيمر بك - فليفرض القارئ أن المركب الآن سائر في مجار مسيني ولم يرس على بلد بعد ومن هنا نستأنف القول في الرحلة - قال الرحالة. بعد إن وصف هذا المجاز بقوله - فرأينا بحرا صعبا ينصب انصباب العرم ويغلي غليان المرجل الخ الخ - إلى أن قال:
ثم تداركنا صنع الله مع السحر ففترت الريح ولان متن البحر وجاءت ريح رخاء زجت(9/7)
المركب تزجيه حسنة إلى مدينة ريو وكان ذلك في فجر اليوم التاسع ليوم انفصالنا عن الإسكندرية وما ارسي المركب على هذه المدينة حتى اقلع عنها كيلا يحسه أسطول العبيدين ويثأر منه وذلك فيما علمت أن المركب الأندلسي تحرش وهو ذاهب إلى بلاد المشرق بمركب للمعز معه كتب ورسائل فقطع عليه المركب الأندلسي وأخذه بما فيه - فتملكنا الذعر لذلك الخبر ونزت قلوبنا خوفا على أنفسنا ومن ثم اعتزمت إن انزل من هذا المركب على اقرب بلد يرسي عليه وكذلك نزلت منه عند إرسائه على هذه المدينة وحمدت الله الذي لا يحمد على المحبوب والمكروه سواه.
بيد إني ما انفصلت عن المركب حتى انفصل عني قلبي وسار مع من فيه وأصبحت المعني بقول القائل:
هواي مع الركب اليمانيين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق
ذاك انفصالي عن فضل المدينة التي هي مراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكئيب وانس الوحيد وزاد الراكب ولا بدع فهناك الجمال الرائع، والظرف البارع، والشباب البض، والأدب الغض، ورقة الحاشية، وخفة الناحية، وعذوبة المعاشرة، وحلاوة المحاضرة.
وحديتها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
أن طالما لم يملل وأن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
شرك العقول ونزهة ما مثلها ... للمطمئن وعقلة المستوفز
فكأن لفظ حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا
حوراء إن نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا
تنسى الغوا معاده ... وتكون للحكماء ذكرا
وما أنس من الأشياء لا أنس صوتها العذب الذي كأنه مجاج النحل وغناءها الحبيب إلى النفوس حتى كأنه ذوب جميع القلوب وقد كان يخيل إلينا وهي تغنينا في المركب أنا في الفردوس يطربنا نبي الله داود. وأين لا أين مزهرها الذي كانت إذا تناولته تضرب على أوتاره فكأنما تنتظم قلوبنا لتقرع أوتارها. فآه من جمالها وآه من غنائها وآه من عودها.(9/8)
ولكن نزلت ريو وفارقتني فضل، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
يا وحشتنا للغريب في البلد النازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
يقول في نأيه وغربته ... عدل من الله كل ما صنعا
وهذه ريو هي مدينة عظيمة من مدائن جزيرة قلورية من بر الأرض الكبيرة واقعة على مجاز مسيني بينها وبين مسيني نحو من عشرة أميال وبها مسجد كبير بناه في وسطها أبو الغنائم الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي وإلى صقلية كان من قبل المنصور العبيدي بعد أن اكتسح بلاد قلورية جميعا وتغلغل في أحشائها وشيد بها المعاقل والحصون وأرغم أنوف أهليها من الروم وذلك فيما بلغني أن الأنبرور صاحب القسطنطينية كان قد أرسل ستة تسع وثلاثين وثلاثمائة للهجرة بطريقا في البحر في جيش كثير إلى جزيرة صقلية فأرسل الحسن إلى المنصور العبيدي يعرفه الحال فأرسل إليه أسطولا فيه سبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف راجل سوي البحرية وجمع الحسن إليهم جمعا كثيرا وسار من بلرم قصبة صقلية في البر والبحر فوصل إلى مسيني وعبرت العساكر الإسلامية إلى ريو هذه وبث الحسن سراياه في أرض قلورية ونزل على بلد يسمى جراجة وحاصرها أشد حصار حتى أشرف أهلوها على الهلاك من شدة العطش وأنه لفي ذلك إذ وصله الخبر أن الروم قد زحفوا إليه فصالح أهل جراجة على مال أخذه منهم وسار إلى لقاء الروم ففروا من غير حرب إلى مدينة تدعى بارة ونزل الحسن على قلعة تعرف بقلعة قسانة وبث سراياه إلى قلورية وأقام عليها شهرا فسألوه الصلح فصالحهم على مال أخذه منهم ودخل الشتاء فرجع الجيش إلى مسيني وشتى الأسطول بها فأرسل إليه المصور يأمره بالرجوع إلى قلورية فسار الحسن وعبر المجاز إلى جراجة فالتقى المسلمون والروم يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمائة فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس فانهزمت الروم وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل وغنموا أثقالهم وسلاحهم وذوابهم ثم دخلت سنة إحدى وأربعين فقصد الحسن جراجة فحصرها فأرسل إليه الأنبرور يطلب منه الهدنة فهادنه وعاد الحسن إلى ريو وبني بها مسجدا كبيرا في وسطها وشرط على الروم أنهم لا يمنعون المسلمين من عمارته وإقامة الصلاة فيه والأذان وأن لا يدخله نصراني ومن دخله من الأسارى المسلمين فهو آمن سواء(9/9)
كان مرتدا أو مقيما على دينه وإن أخرجوا حجرا منه هدمت كنائسهم كلها بصقلية وأفريقية فوفى الروم بهذه الشروط كلها ذلة وصغارا.
أما قنورية فهي جزيرة كبيرة داخلة في البحر مستطيلة شرقي جزيرة صقلية وأهلها إفرنج ولها بلاد كثيرة وأرض واسعة ينسب إليها فيما أحسب أبو العباس القلورى حدث عنه أبو داود السجستاني في سننه، وقد غزى المسلمون أزمان بني الأغلب هذه الجزيرة وأرض أنكبردة وأمعنوا فيهما واستولوا على مدينة بارة الواقعة على جون البنادقيين أيام قارله أنبرور الفرنج وكذلك استولوا على مدينة طارنت من أرض أكنبردة ومدينة ملف وقلعة قسانة وبلدانا أخرى وقرعوا أبواب رومة العظيمة، وغنموا منها غنائم لا يستقام لها قيمة، وضربوا الجزية على البابا عظيم النصرانية - وذلك عدا أنهم فتحوا مدينة جنوة الواقعة على خليج الجنويين وأكثر جزائر هذا البحر الرومي - وجملة القول أن المسلمينا انحنوا في بلاد الأرض الكبيرة والحوافى قهرها، وغلبوا أممها على أمرها، وضربت أساطيلهم بجزائر هذا البحر ضراء الضياغم بفرائسها، وأديل لهم بها على أملاكها وأناسها، وذلك كله بما قوى عزائهم من الحق واليقين، وألف بين قلوبهم من وشائج هذا الدين، وبما ألجأتهم إليه الحال، وامتلاكهم لسيف هذا البحر الجم الأهوال، مما أحكمهم وأشفهم بحبه، وجعل لهم دربة بركوبه وحربه، وأغراهم بإنشاء الأساطيل فيه ينقضون بها على جزائره التي يخطئها العد والإحصاء، وعلى عدوته الشمالية وهي أمنع من العقاب في أجواز الفضاء، وعلى أهلها من أمم فرنجة وهي أعز وأبعد منالا، وإن كان للمسلمين.
شرف ينطح السماك بروقيه ... وعز يقلقل الأجبالا
وهم البحر ذو الغوارب إلا ... أنه صار عند بحرك آلا
وقد كان المسلمون في الصدر الأول يتحاشون ركوب البحر حتى كان من عمر بن الخطاب لما كتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر يستوصفه البحر فكتب إليه عمرو فيما كتب أن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود - أن أوعز بمنع المسلمين من ركوبه فتحرجوا منه وعبروا على ذلك حينا من الدهر حتى إذا كان لعهد معاوية أذن في ركوب أثباجه، والجهاد على متون أمواجه - وذلك لأن العرب لبداوتهم لم يكن لهم مران عليه وحذق بركوبه بينما الروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على(9/10)
أعواده للحرب والاتجار مرنوا عليه وأحكموا الدربة بثقافته والحزب في أساطيله حتى كان من ذلك أن أغار الروم من العدوة الشمالية على إفريقية من العدوة الجنوبية والقوط على المغرب منها أجازوا في الأساطيل وملكوها وتغلبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لهم بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة وطنجة وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب رومه ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد - فكان ذلك ديدن أهل هذا البحر الساكنين حفافيه في القديم والحديث - فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم الأعاجم خولا لهم وتحت أيديهم ومت إليهم كل ذي صنعة بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته شرهوا إلى الجهاد فيه فأنشؤا السفن والأساطيل وشحنوها بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من هذه الأمم الحمراء واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشأم وإفريقية والمغرب والأندلس فأوعز عبد الملك بن مروان إلى حسان بن النعمان عامل إفريقية باتخاذ دار الصناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية حرصا على مراسم الجهاد ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله بن الأغلب كما سيمر بك ثم تسلسل الأمر حتى بلغ شان الأساطيل عند العبيديين أصحاب إفريقية فيما سمعت ورأيت وعند بني أمية بالأندلس كما شاهدت هنا في المرية مبلغا غلبوا معه على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه وصار لا قبل لأمم النصرانية بأساطيلهم به وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل منه مثل أقريطش وصقلية وقبرص ومالطة وقوصرة وسردانية وميورقة ومنورقة ويابسة كما سيمر بك إن شاء الله.
وقد كان أجل عناية العبيديين وبني أمية بشأن الأساطيل وتفوقهم في ذلك على سائر الممالك الإسلامية للسبب الذي قدمناه وهو وجودهم على ضفاف هذا البحر - أن انبعثت قرائح الشعراء في الأندلس وإفريقية بالقول في وصف الأساطيل واختص أدباء هذين القطرين بهذا الباب من الوصف حتى تكاد لا تجد لشعراء المشرق يدا فيه - ومن أحسن ما سمعناه لشعراء المغرب في الأسطول دالية أبي القاسم محمد بن هانئ الشاعر الأندلسي المنقطع الآن للمعز العبيدي وقد تقدمت في صدر هذه الرسالة. وبائية علي بن محمد الأيادي(9/11)
التونسي شاعر القائم العبيدي وهي أبيات أسمعنيها بعض أدباء المرية ها وفيها يقول:
شرجوا جوانبه مجاذف أتعبت ... شأو الرياح لها ولما تتعب
تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طورا وتجتمع اجتماع الربرب
والبحر يجمع بينها فكأنه ... ليل يقرب عقربا من عقرب
وعلى كواكبها أسود خلافة ... تختال في عدد السلاح المذهب
فكأنما البحر استعار بزيهم ... ثوب الجمال من الربيع المعجب
ومنها في وصف الشاعر:
ولها جناح يستعار يطيرها ... طوع الرياح كراحة المتطرب
يعلو بها حدب العباب مطاره ... في كل لج زاخر مغلوب
يسموا بأجرد في الهواء متوج ... عريان منسوج الذؤابة شوذب
يتنزل الملاح منه ذؤابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب
فكأنما رام استراقة نقعد ... للسمع إلا أنه لم يشهب
وكأنما جن إبن داود هم ... ركبوا جوانبها بأعنف مركب
سجروا جواحم نارها فتقاذفوا ... منها بألسن مارج متلهب
من كل مسجور الحريق إذا إنبرى ... من سجنه انصلت انصلات الكواكب
عريان يقذفه الدخان كأنه ... صبح يكر على الظلام الغيهب
إلى أن قال:
ولواحق مثل الأهلة جنح ... لحق المطالب فأئتات المهرب
يذهبن فيما بينهن لطافة ... ويجئن فعل الطائر المتقلب
كنضانض الحيات رحن لواعبها ... حتى يقعن ببرك ماء الميزب
وبعد فإن لشعراء المغرب من بارع القصيد في هذا الباب مالا يحي كثرة وما ينم عن عظمة الأساطيل عند الدول الإسلامية وبلوغها لديهم الشأو الذي لا يلحق حتى وصول المسلمون إلى ما وصلوا إليه الآن من الصولة واتساخ الملك وضخامة السلطان.
ومن هنا تعرف مكان الأساطيل من الدول ولاسيما دول البحار مثل الدول الإسلامية لعهدنا وأن الأسطول هو سياج الدولة وعمادها، وبه عزها وعليه بعد الله اعتمادها، بل هو درعها(9/12)
المسردة التي تتقي بها سهام الأعداء وتحول، وسلاحها الذي تطول به في البحر وتصول، وجناحها الذي تطير به في سماء المجد وتجول، وأن دولة لم تعنى العناية كلها بالأساطيل، وترسلها على متن هذا البحر طيرا أبابيل، فهي لعمري دولة مقصوصة الجناح، وكالأعزل يقتحم الهيجاء بغير سلاح.
وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير كف لم تؤيد بقائم.(9/13)
الحرب
الإنسان أعرف بالحرب من أن يعرّفها، وأخبر باهو إلهاً من أن يبغض فيها، وهو لا يخوض غمراتها ويقتحم حوماتها لاستثمار العاطفة غير مختار العقل والحرب عريقة في الطبع عراقة الحياة. فأنها شبت من يوم تعدد الطالبون لمطلوب غير محدد، واختلف غرضان في سبيل واحدة. بل إنها لأقدم من ذلك. فأنها نشأت بين ضواري الغبراء، وكواسر، الهواء وسوابح الماء، وشجرت بين الوحش والإنسان زمانا قبل أن تشجر بين الإنسان والإنسان، بل لقد وجدت حيث لا يوجد حس ولا حياة، وظهرت بين النبات كما ظهرت بين الأحياء.
وهي مع قدمها وكونها غير شاذة عن الطبع ولا غريبة عنه، لا يزال الناس يختلفون في لزومها وعدم لزومها ويجادلون في نفعها أو ضررها وهل هي مشروعة سائغة أو أنها محض قوة غاشمة ظالمة.
وترى أنصارها يعتمدون على أنها مظهر من مظاهر تنازع البقاء وأن النوع البشري كالشجر يحتاج إلى التشذيب آناً بعد آن وإلا نما عدده وملأت شعاب الأرض شعبه، وأنها فوق ذلك مرتزق الألوف من الجنود والصناع وتجار المعادن والمناجم. وأنها تهز أريحية النفس وتشب فيها النخوة وفضيلة المفاداة بالحياة. ثم يقولون أنها قوام روح العصبية في الأمة ومساك النعرة القومية، وأن مجد كل أمة إنما هو في ذكرى حروبها وتاريخ غاراتها، ولولا ذكرى هذا المجد لخملت روح الأمم وأنبتت الوشائج بين ماضيها وحاضرها.
ولعل هذا القول الأخير أقوى ما يعتمدون عليه وأشبه بالصدق والصواب. فإن الصبية في الأمة لازمة لزوم الشخصية للفرد. والأمة لا عصبية لها صغيرة في عيني نفسها. ذليلة بين جاراتها. سريعة الاستكانة إلى الحكم الأجنبي. ومتى كانت الأمة منحلة العصبية فأحرى أن لا تكون لها تجارة خاصة بها. أو صناعة تنتمي إليها. أو يكون لها تاريخ تعتز به. وكرامة تغار عليها. وفقد العصبية في الأمة إنما هو إحساس منها بالضعف والجور واعتراف منها بالتخلف عن سواها في فضائل الجنسية والقومية. ولا ينتاب هذا الضعف إلا أمماً توالى عليها الحكم الأجنبي. وألفت أن لا تري من أبنائها حاكماً تكبره أو عظيماً تلتف حوله. فيصبح كل ما هو من جنسها صغيراً لديها وكل ما هو غريب عنها موقراً مرغوباً فيه.
وقد استعان زعماء السياسة وأئمة النهضات الاجتماعية بهذه الفضيلة على نشر دعوتهم(9/14)
وحفز الأمم إلى أغراضهم. ولو بحثت عن سر قيام الدعوات الدينية لما وجدت إلا أنه اعتقاد راسخ في قلوب أتباعها بأنهم على الهدي وأن كل من خالفهم على الضلالة وأنهم وحدهم أولو الحظوة عند الله. وأما من عداهم فمطر ودون من ملكوته. محرومون من رضوانه.
بيد أن لهذه الفضيلة شططاً يضحك أحياناً وقد يفضي بها أهلها إلى حد المغالاة. فإنك لا تعلم كيف ألقى في روع الإنكليزي مثلاً أنه أرقى الناس أخلاقاً وأسماهم محتداً وأنبلهم سجية. ولا كيف يعتقد الفرنسي أنه خير من كل ألماني. أو كيف أن الألماني يري الفضائل كلها مجتمعة فيه وأن ما عند سائر الأمم منها فضلة كالصبابة في الكأس. على أنها مغالاة تحتمل إلى جانب ما للعصبية من النفع. وقد ينتهي ضيق هذه العاطفة إلى السعة. ويؤول أمرها إلى التسامح لاسيما في هذا العصر الذي كثر فيه تواصل الأجناس المختلفة.
ووقف أبناء كل أمة على مزايا الأمم الأخرى ونقائضها. كما تؤول أثرة الجهول إلى شعور نبيل بالكرامة الذاتية. متى هذبها العلم وصقلتها الخبرة.
فإن كانت الحرب كما يقولون مبعث هذه العصبية فمرحباً بالحرب وأهلاً. وإن لم تكن إلا الحرب وسيلة إلى إحياء روحها وتماسك أجزائها فالحرب قوت لا غنى للأمم عنه. ولا قوام لها إلا به.
ولكن ما أبعد هذا القول عن الحقيقة. فإن لدينا ألف وسيلة إلى حفظ العصبية قد لا تكون عصبية الحرب إلا أوهاها سبباً وأوهنها أثراً. وإلا فما هي عناصر العصبية الحربية؟؟ أليست هي اعتداد بأحكام التسديد ووفرة الذخائر؟؟ وفخراً بكثرة الجنود ومضاء الأسلحة؟؟ وما هي الشجاعة العسكرية؟؟ أليست هي أقدام الأعمى على الهاوية؟؟ أو ليس المسوق مخفوراً إلى ساحة الإعدام، أشبه في شجاعته بمن يساق مرغماً إلى ساحة القتال؟؟ بل ما قيمة مفاداة الجندي بنفسه، إذا لم تكن له يد في اختيار الغرض الذي يفادي نفسه من أجله؟؟ بل ما أشبه الجندي في هذه الحال بالجلاد الذي يقتل كل من يقدمونه إليه ولا يعنيه إن كان مجرماً أو بريئاً، أو كان القاضي عادلاً في حكمه عليه أو جائراً؟؟
إن للأمم مندوحة عن هذه العصبية الشوهاء، بعصبية الأدب السمحاء. فإن في كل أمة رجالاً رفعوا منار ذكائها وزانوا تاريخها بمثل ما تزين السماء نيرانها. فإذا فاخر الإنكليزي(9/15)
بشكسبير، تباهى الألماني بجيتى وتاه الإيطالي بدانتي وازدهى الفرنسي بهوجو. ولقد تردد حول هذه الأسماء صدي متتابع الدوي، وعلا صريف الأقلام بذكرهم، واشتغل بال الأمم بأقوالهم، فدل ذلك على أن سيرة هؤلاء الأبطال ضمينة بأن تملأ حيز العصبية من أذهان الناس، وأنهم أقدر على توجيه الأنظار إليهم من أمثال كروميل وفردريك العظيم وغريبالدي ونابليون، وهي عصبية لا تثير في ذاكرة الشعوب ضغينة ثأر أو حزازة انتقام، وإنما هي آصرة تؤلف بين قلوبهم. وتأخذ بأيدهم إلى التصافح، وبنفوسهم إلى التآخي والتسامح. وتقودهم لا إلى ساحة القتال. ولكن إلى باحة المودة والسلام.
وهذه العصبية وما شابهها من العصبيات الاقتصادية أو العلمية. هي الجديرة دون سواها بهذا الجيل. فقد مضى زمان الأمم الفاتحة، وليس في العالم ليومنا هذا أمة تريد أن تنجب مثل يوليوس قيصر أو نابليون بونابرت أو محمد الفاتح أو طارق بن زياد لأنها في غنى عنهم ولا نفع لها من أمثالهم. إن اليوم الذي تهيء له دول أوربا ما تهيء من آلات الفناء والموت، لن تشرق له شمس. وما على المدنية أن ترهب اليوم لإلا جيشاً واحداً هو جيش الرياء والنفاق الذي تمكن من الطباع والأخلاق وليست بها حاجة إلى شجاعة غير الجرأة في الرأي والصبر على الشدة وآلام النفس، فنحن في حرب مع الرذيلة دونها كل حرب فتكاً وهولاً. وليست هذه الحروب الدموية إلا دخان تلك الحرب المستطير شررها في أعماق نفوسنا. والباسل الباسل من وفق بين سيرته وسريرته ورفع راية السلام بين لسانه وضميره، فإن كانت الحرب تثير نخوة الوحشية والقسوة، فهذه الحرب تبعث في الضمير نخوة الإنسانية والمروءة.
أقدر في حكم الحقيقة وأنفع، وأعلا في معارج الفضيلة وأرفع، رجل يتجرع غصص العذاب في سبيل رأيه، ويتجاوز عن راحته فيما يعتقد أنه الحق والعدل. فإن الصبر على جرح في النفس أدل على قوة الرجل من صبره على جرح في الجسد، وإن دابة المركبة لتحتمل من الجراح ما ينوء ببعضه أجلد الناس وإن كان هرقلاً ثانياً.
يقول أنصار الحرب: وماذا نصنع بالألوف المؤلفة ممن لا مرتزق لهم إلا من الحرب أو من صنع أدواتها وآلاتها؟؟
نقول إذا لم يبق من مسوغات الحرب إلا هذا فاصنعوا بهم ما أنتم صانعون بتجار(9/16)
المحظورات أو بالطرارين واللصوص ومزيفي النقود وأصحاب الاحتيال ومن لا معاش لهم إلا من الفسوق أو الإغراء عليه! أتراكم تحملون القانون على إباحة الجرائم لأن طائفة من الناس لا مرتزق لهم إلا منها ولا معاش لأولادهم ونسائهم إلا بمزاولتها؟؟
بل نقول لهم: اصنعوا بهم ما أنتم صانعون بالأيامى والأيتام ممن تقتل الحروب عائليهم وتتركهم عالة على المجتمع!! وما أنتم صانعون بالعمال والزراع الذين تعطل عليهم الحرب مرافقهم وتمسك عنهم القوت والنفقة. وربما كان هؤلاء أكثر عديداً ممن يشتغلون بصناعة السلاح وحمله.
على أن الدنيا لا تضيق لا بهؤلاء ولا بأولئك. والموارد الاقتصادية كالشجرة، كلما انقطع منها فرع نبت فرع في مكانه، وقد كان استخدام البخار سبباً في ابتداع آلات تعمل الواحدة منها عمل المئات والألوف من الصناع، فما أغنت هذه الآلات عن الصناع ولكنها زادت الحاجة إليهم. فأصبح عددهم اليوم أضعاف ما كان قبل استخدام البخار. وإذا عرفنا أن الجنود إنما يؤخذ أكثرهم من الفلاحين وأنهم يعودون إلى فلاحة الأرض بعد صرفهم من الجيش، وجدنا لنا مخلصاً من الحيرة في أمر معاشهم، ورأيناهم في غنى عن شفقة أنصار الحرب واهتمامهم.
ولكن أليست الحرب ظاهرة طبيعية كما قالوا؟؟ أليست هي غربالاً يتنخل اللباب فيحفظه ويحجز الحثالة فينبذها؟؟ وهل هي إلا تلاحم بين القوي والضعيف، يظهر فيه القوي الصالح ويتلاشى الضعيف الفاسد؟؟
نقول هذا كلام شبيه بالحق ولكنه كذب. فلقد كانت الحرب طبيعية عادلة في زمن من الأزمان ولكنها فقدت معنى العدل في هذا الزمان.
كانت عدلاً أيام كان أصلح الأمم للبقاء أمضاهن سلاحاً وأكبرهن جنداً وأمنعهن حمى، أما اليوم فالصلاح للبقاء شيء غير المهارة في القتال والانتخاب الطبيعي يأخذ مجراه دون أن تقوم دولة على أنقاض دولة، أو تتقمص أمة فتية روح أمة بائدة، ولو أن روسيا أغارت غداً على سويسرا مثلاً لقهرتها وأفنتها، ولكن أيهما أوفق للوجود شعبه ومن منهما أنفع في أرضه بقاؤه؟؟
فالحرب اليوم ليست محكاً يظهر منه النفيس من الخسيس. ولكنها ميزان يرجح فيه أثقل(9/17)
الكفتين جرماً وأكبرهما حجماً. وليس هذا من العدل في شيء ولكنه تنازع اصطناعي لا عمل للطبيعة فيه إلا من بعض جهاته.
ولكن هناك نفراً من الفلاسفة ملكته الرأفة بهذا النوع المسكين.
فأشفقوا أن يربو عدده وينمو نسله. فتضيق به وسائل الرزق ويفضي به الضيق إلى الموت جوعاً. فهم لا يرون في الحرب بأساً. بل هي في مذهبهم لازمة لتقليم النوع أولاً فأولاً. وهم يرحبون بكل ما ينقص هذا النوع ويقلل ذريته. ولا أدري لم لا يرحبون بالأوبئة والطواعين؟؟ ومالهم لا يجذمون أيدي الأطباء الخبثاء الذين ينقذون الناس من الهلاك. كان هؤلاء الأطباء يتركونهم ليموتوا صبراً يوم تعم المجاعة ويبعد الزاد من هذه الدار؟؟!!
بل لقد تمادت الرحمة بهؤلاء الفلاسفة الأبرار. فأشار فريق منهم بخصاء الذكران من العالمين. وأشار فريق سواد بقتل الضعفاء. وقال فريق ثالث بل نوصيهم بالاقتصاد في النسل ونعين لكل عائلة عدداً من الأولاد لا تتجاوزه. إلى آخر ما قالوا.
ظهر مالثوس صاحب هذا المذهب في القرن الثامن عشر فطفق يجمع ويطرح.
ويضرب ويقسم. ويحسب نتاج الأرض في الأجيال المقبلة كأنه خازن أرزاق الله.
ويحصي ما تحمله بطون الغيب من الأجنة. كأنه كاتب عالم الذر. فهداه حسابه إلى أن النسل يتضاعف كل خمس وعشرين سنة. وأن ثروة الأرض لا تزيد في هذه المدة إلا مرة واحدة. أي أنها تنمو على نسبة حسابية مطردة. فظهر له من هذا الإحصاء أن نسبة السكان إلى الثروة ستكون بعد ثلاثة قرون كنسبة 4096 إلى13. فأنذر بالويل والخراب. وصاح بالناس لا تناكحوا ولا تناسلوا إلا بحساب. ولقد مضى نصف هذه القرون الثلاثة تقريباً. ولم تجذب الأرض ولا ضاقت بساكنيها. ونحن نورد هنا ما قاله هنري جورج في كتابه التقدم والفقر رداً على رأي مالثوس هذا. قال:
إذا أردنا أن نتخذ لنا مثالاً من أسرة متوفرة لديها أسباب البقاء والجاه. وقد عبرت أمداً مديداً في بلد لا تتغير فيه أحوال الاقتصاد ولا تطرأ على بيئته الانقلابات. فعلينا أن نرجع إلى الصين
لا تزال أسرة كنفشيوس في تلك البلاد باقية تتمتع بالرعاية ومزايا الراحة والبقاء. وليس في الصين وراثة شرف في غير هذه الأسرة. فإذا سلمنا بحساب مالثوس وجب أن يكون(9/18)
عدد أفرادها في عهدنا هذا:
(859، 559، 193، 106، 709، 670، 198، 710، 528)
ولكن ذرية كنفشيوس لم تبلغ من هذا العدد الذي لا يتصوره العقل إلا أحد عشر ألف رجل أو نحو اثنين وعشرين ألف نسمة. بعد أن مضى على وفاته في عهد الملك كانجهي 2150سنة
فانظر شطط هذا الفيلسوف وزيغ حسابه. وكذلك لا يزال الزلل نصيب من يجترئ على الغيب ويتحكم في نظام هذا العالم الزاخر للمؤرخ أن يقرر أن الحروب الماضية أقلت النسل - إن كان في الباحثين من يزعم أن التناسل يكثر عقب الحروب كثرة لا نظير لها في سائر الأيام - وله أن يعدها ضارة من هذه الوجهة أو نافعة. ولكن ليس له أن يتخذها منجلاً يخترط به ما يشاء من بنية النوع الإنساني. لاسيما إذا كان من الذاهبين إلى إبقاء الأقوى وإفناء الضعيف. فإن الحرب تبقى على العاجز الجبان ولا تقضي إلا على الفتيان الأشداء.
لا نأمن صائحاً يصيح بنا: لقد علا غطيطكم في النوم. وطال بكم الحلم. ونحن نسمع كل يوم أن الحرب يتقشع غبارها وتخبو نارها. ثم لا نرى مع ذلك إلا حرباً بعد حرب وفتنة تتسعر في أثر فتنة.
وهو اعتراض وجيه إذا كان المبشرون قد زعموا أن المريخ قضى نحبه وأنه لن يسفح بعد اليوم دم في ميدان. ولكنهم لا يزعمون شيئاً من ذلك. بل يقولون له إن كانت الحرب تبقى ببقاء دواعيها فقد وجب أن تزول لزوال تلك الدواعي.
فإن الحرب لا تنشب اليوم للذود عن ذمار. أو لإنقاذ مملكة أو لاستنهاض النخوة الملية أو ما شا كل ذلك من المعاذير التي يعلنها الساسة ويبطنون سواها وقد لا يكون المحرك لها محض الرغبة في توسيع نطاق الدولة أو إنماء ثروتها كما يرى بعض من يظن أن مصلحة الأمة المادية هي السر الخفي لكل حركة دولية في هذا الزمان. ولا نبتعد عن الصواب إذا قلنا أنه لولا مطالع أصحاب رؤوس الأموال ومآرب الساسة لما ارتفع سلاح في أكثر هذه الحروب التي دارت بين الأمم الكبرى والأمم الصغرى في هذا الجيل.
فإن لكبار الماليين نفوذاً قوياً بين رجال السياسة. أما لأنهم يسعفونهم بالقروض في الأزمات(9/19)
السياسية. أو لأنهم يمدونهم بالمال في المنافسات الانتخابية. فإذا طمحوا إلى غرض من أغراضهم لم يعسر عليهم إقناع ولاة المملكة بمعاونتهم فيه. واستخدموا الصحافة بالرشى والجاه لتهيئة الرأي العام لقبول ما يقترحون عليه. فلا يلبث هؤلاء الصحفيون أن يستشيروا حماس الشعب ويعبثوا بعواطفه الدينية أو الجنسية. وما هو إلا أن تسري المقالة بعد المقالة بين الجمهور حتى يهب صارخاً بالحرب. ويقال حينئذٍ أن الأمة تريد القتال وأنه لا قبل للحكومة بمعارضتها. فتحرك الجيوش. وتذهب النفوس هدراً وتنفق الحكومة من مال الفقراء ونفوسهم أضعاف ما يبذله أولئك الأغنياء ثم لا يغنم من تلك المجزرة إلا تاجر جشع تحوي خزانته المليون ولكنه يطمع في المليونين. أو وزير يرمي إلى تمكين حزبه. أو ملك يريد أن يضيف إلى اسمه لقباً فارغاً يذكر به في التاريخ.
أما العامل الفقير الذي يتظاهر الساسة بالعناية به ويقولون إنّهم إنمّا يرفهون عنه بالتوسع في الاستعمار وشن الغارة على المستضعفة من الأمم. فسواء لديه أكانت دولته تملك ما بين لابتى الأرض أو أنها واقفة حيث هو يكدح ويكد. فإنه يعول في كل حال على قوة ساعده. ويعتمد في كل بلد نزح إليه على جهد يده. ولو أن اليابان كانت تملك الولايات المتحدة لما زاد أجر العامل الياباني دانقاً عما يناله الآن بغير معونة حكومته.
ولقد كان من بلايا الشرق أن تتوجه إليه مطامع أولئك التجار الأشعبيين. لنزارة أجور عماله. وخصب تربته وقلة المزاحمة الاقتصادية فيه. وجهل أهله بالانتفاع من ينابيع الثروة المتفجرة في أرضهم. فإذا نزل واحد منهم بالبلد الشرقي كان ذهبه نذيراً برصاص دولته. وأبى إلا أن يربطه إلى وتد من الاستعباد والمذلة كما تربط البقرة الحلوب.
ولو أن العامل الشرقي أحس بمعنى الحياة وجاشت في نفسه مطالبها لما قنع بما دون أجر العامل الغربي. ولأبقى تجار أوربا أموالهم في بلادهم. بل لو كان الشرقيون يستثمرون موارد الثروة في أقاليمهم. ويستنبطون الرزق من مناجمه عندهم. لما اتسع بينهم موضع لنزيل يمتص دماءهم ويسلبهم مالهم واستقلالهم. ويجعلهم عبيداً له والله خلقهم أحراراً.
ولقد طالما سمعنا الكاتبين منا يقولون: إن الغرب قد غلب علينا بأساطيله ومدافعه. فلنجادله بسلاحه ولنعد له من عدة الدفاع مثل ما يهاجموننا به.
إلا أنها نصيحة لا ينتفع بها إلا أمة أو أمتان لم يغلل الغرب أيديهما بقيود الاستعمار. ولا(9/20)
تزال فيهما بقية رمق من الاستقلال تمكنهما من استجماع القوة. والتأهب للدفاع عند الحاجة.
ولكن أي نصيحة لديهم يدخرونها لتلك الأمم التي سبق عليها حكم القضاء وطال عليها الأمد في الأسر؟؟
لا والله ما غلب علينا الغرب إلا بتفكك عصبيتنا وصغر معنى الحياة في أذهاننا. إن في الأمم الشرقية المستعمرة من السكان والجنود أهل البلاد أضعاف ما في الأمم التي تستعمرها فكيف يتصور العقل أن الغرب إنما سادوا على تلك البلاد بالسلاح وكثرة العدد.
ليس للشرق إلا أملان في النجاة من آفة الاستعمار، أحدهما منوط برقي العالم عامة، والثاني منوط برقي الشرق خاصة.
العالم اليوم مستغرق في عبادة الدينار. ولكنه دور سينقضي كما انقضى ما قبله من الأدوار. فإن للإنسانية في كل فترة من الزمن روحاً تتشبع بها، فلا تصدر أعمال الأمم والأفراد إلا عنها. فانقضى دور الغزو. ثم انقضى دور الفتح. ثم انقضى دور الحروب الدينية. ونحن اليوم في دور المال.
أفنقول إذن أن هذا الدور باقٍ أبداً؟؟ وهل هذا نتيجة تعاقب الأجيال على الإنسان، وغايته التي ليس وراءها غاية؟؟ ألا يمكن أن تكون هذه النتيجة مقدمة لنتيجة غيرها أجل منها وأحسن عقبى.
إن كل ما نراه ونحسه يشير إلى أننا في دور انتقال وشيك الزوال. وأن العالم سيصل إلى ما يرجو من السعادة ولكن من طريق المال.
فالأمم الكبرى تستكثر من السلاح والجنود لتحمي متاجرها ومصنوعاتها ولكن التباري بين الأمم الصناعية شديد في إتقان تلك المصنوعات. وسيأتي يوم لا يغني عن السلعة في سوق التجارة إلا جودتها وإتقانها. فلا تستطيع كل أساطيل البحر ومدافع البر أن تروج سلعة رديئة أو تبخس سلعة جيدة. ويومئذٍ يكون التزاحم بين مصنع ومصنع. لا بين حكومة وحكومة، يستعين كل منهما بعساكره على ترويج سلعة.
إن حماية الحكومات لمتاجرها هي التي تصبغ المنافسات التجارية بصبغة دولية. فإذا تخلت الحكومة عن التجارة قام كل مصنع بذاته ينافس في السوق العامة، وأصبح سواء(9/21)
لدى التاجر أن يبيع سلعته في إنكلترة أو ألمانية مادام يعتمد على سمعته ومهارته، واتسعت الأرض أمام كل ذي حرفة، يحل منها حيث طاب له الكسب، ويكون له في كل أرض وطن إذا شاء.
يومئذٍ لا يذهب التاجر إلى المستعمرات وهو ينظر وراءه إلى أسطول دولته، ولكنه ينظر كيف ينتقي بضاعته من معمل تروج سلعه ويقبل الناس على مصنوعاته.
وليس في الناس إلا فريق واحد لا تروقه هذه الحرية التجارية. ونعني به أصحاب المصانع الذين يسخرون قوة حكوماتهم لفتح الأسواق في وجوه مصنوعاتهم. ولكن هذه الفئة لا طاقة لها بصد التيار الجارف. وقد أخذت تضمحل سلطتها. ويشاركها في نفوذها قوم لا مصلحة لهم في احتكار الأسواق. وهم أحزاب العمال والزراع وغيرهم ممن يعيشون في ظل كل راية في المعمور.
لقد بدأت هذه الحركة المباركة تظهر في تكاثر المهاجرين من كل مملكة في طلب الكسب. وإباحة الحكومات حقوق التوطن لكل من قضى في بلادها زمناً محدوداً. ورأينا بعض الحكومات تطلق الحرية للتجارة وتبتعد عن الإشراف عليها. وسينتهي ذلك لا محالة إلى الوطنية العامة وانفراد التجارة بنفسها في العالم أجمع.
ومتى كان الرجل لا يحرم في أرض الغربة حقاً يتمتع به في وطنه. فلا حاجة بالحكومات إلى الاستعمار. ولا حاجة بالرجل إلى حماية حكومته.
ومن ثم يصير تنازع طبيعياً يبقى فيه الإصلاح للبقاء حقيقة. ويبطل الاستعمار فيبطل كل ما نشأ بسببه من الخلاف بين الدول الاستعمارية، فإن الخلاف بين هذه الدول قد انقطعت أسبابه إلا من هذه الوجهة، ولولا الاستعمار لما تأهبوا للحرب هذه الأهبة. فإن هذا العصر أندر العصور حروباً وإن كان أكثرها آلة حرب، وتفنناً في أساليب القتال. وليس هذا بالأمر الغريب فإن زيادة أداة الحرب قد زادت نفقاتها أيضاً. واشتباك المرافق الاقتصادية جعل الحروب أعم خسارة وأبلغ ضرراً من ذي قبل، وهكذا يؤدي الاشتباك القليل في المرافق إلى التنازع والخلاف، فإذا تشعب وتمكن كان أقوى ضمانة للسلم والوفاق. وسيتشعب ويتداخل حتى تقع الضربة في البلد فتضرب لها البلدان كافة. فإذا صرفنا النظر عن هذا التقدم المادي إلى التقدم المعنوي رأينا أن قيمة الحياة تعلو في نظر الإنسان وأنه(9/22)
يفهم يوماً بعد يوم أنها كل رأس ماله من الوجود، وأنه متى أضاعها أضاع كل شيء بالنسبة إليه.
هذا هو أملنا المعقود برقي العالم. أما أملنا المعقود برقي الشرق فيتحقق يوم يدرك الشرقي معنى الحياة وتتنبه فيه روح العصبية. فلا يكون تسخيره أيسر على الماليين أو أرخص نفقة من تسخير الغربي. ولا يسهل على كل طامع أن يلتهم ما شاء من ثروته. والأمر بين اثنتين: فأما أن الشرق سيبقى هكذا إلى الأبد. أو أنه سيتقدم مع الزمان.
فأما بقاء نصف النوع الإنساني على هذا الحال من الانحطاط والمهانة أبد الآبدين. فمحال لا يجوز في نظر العقل. وأما أنه يتقدم مع الزمان فهذه سنة ليس في وسعه أن يقاومها. وليس في وسع أحد أن يحول تيارها عنه. فنحن إلى الرجاء أقرب منا إلى اليأس. وهكذا ينبغي أن نكون.
ولا ريب أن ذلك اليوم سوف يكون آخر يوم من عهد المال وأول يوم في عهد الحق والإخاء والسلام.
إن تلك الساعة آتية لا ريب فيها. ولكن كيف ومتى؟؟ قل علمها عند ربي.
عباس محمود العقاد(9/23)
قال بعض الحكماء: احذر الموتور ولا تطمئن إليه وكن أشد ما تكون حذراً منه ألطف ما يكون مداخلة لك.
وقال بعضهم: إذا أحدث لك العدو صداقة فلعلة ألجأته إليه فمع ذهاب العلة رجوع العداوة كالماء تسخنه فإذا أسكت عنه عاد إلى أصله بارداً والشجرة المرة لو طليتها بالعسل لم تثمر إلا مراً وقال دريد بن الصممة:
وما تخفى الضغينة حيث كانت ... ولا النظر المريض من الصحيح
وقال زهير:
وما لك في صديقٍ أو عدوٍ ... تخبرك العيون عن القلوب
وقال بعض الحكماء: ينبغي أن تحظر على الشرار العلوم التي تزيد في قوة النفس وحسن تصرفها ويقتصر بها على الرياضات التي تفتر وقدها وترد إلى الاعتدال ما شذ عنها فإن غير هذه من العلوم إن عدل بها عن أهل الفضل الشرار كانت لهم كالأجنحة للعقارب التي تعينها على الآفات وتباعدها منها.(9/24)
التربية الطبيعية
مبادئ عامة
تابع
فإن مثل هذا لا خير فيه لنفسه ولا للناس. لأنه يظل حياته يرجف من الموت ويتحصن منه وراء الأطباء والصيادلة وما يغني الأطباء ولا الصيادلة. ولأن جسمه عقبة في سبيل تهذيب روحه. وأي فائدة في العناية بمثل هذا فإذا فقدناه كانت الخسارة مضاعفة على المجتمع! كلا. فليقم رجل منكم غيري على هذا الضاوي الضعيف. وله مني الشكر على جميل صنعه ومعروفه وكيف لي أن أعلمه كيف يعيش الجسم ولا هم له إلا اتقاء الموت؟
ولابد للجسم أن يكون ضليعاً مريراً ليقوى على النهوض بتكاليف الروح. فإن أحسن الخدم أشدهم أسراً وأوثقهم ممرّاً وأنت خبير أن الإلحاح على الشرب يهيج الإحساس ويثير العواطف ويسلب الملحّ قوته على مر الأيام وأن التعذيب والصيام يبلغان بالمرء إلى مثل ذلك والجسم إذا ألح عليه الضعف لج في العصيان وهو على العكس مطواع إذا تماسك واشتد. وكلما ضعفت الأجسام اشتدّ بالنفوس النزاع إلى الشهوات وطغي بها طلب اللذاذات. وأسوأ ما تكون هذه النفوس خلقاً إذا أعياها التماسها وأعجزها بلوغ مأربها منها.
وإذا تداعى الجسم فلا عجب أن تضاءل الروح وتطمئن إلى الضعف وتخلد إلى الفتور وعلى ذلك قامت دولة الطب وملك الصيدلة وما علمت شيئاً أضر بالرجال من هذين ولست والله أدرى من أي داء يشفينا الأطباء وإني على هذا لأدري أنهم ينشرون فينا الجبن والخور وسرعة الأستامة إلى كل قول والخوف من الموت. ولعمري لئن صح أنهم يصلحون الجسم بما يطبون فإنهم يقتلون الشجاعة ويفتكون بالبأس وما خير أجسام ميتة تغدو وتروح. إن حاجتنا إلى الرجال لا إلا الأشباح وما عهدنا الأطباء عندهم ما نبغي ونريد.
وقد أصبح الطب (مرده) وحق له أن يكون كذلك فإنه ملهاة النّومة ومسلاة المتبطل الذي لما لم يجد ما يعمله جعل يدافع وقته بالطب وهو يحسب إن ذلك يطيل عمره ويمد في أجله. ولو ابتلى هؤلاء بالخلود لكانوا أتعس الناس وأشقاهم لأن الحياة وهي كل ما كانوا يحرصون عليه تصير إذ ذاك في مأمن من غوائل الموت فلا يكون لها عندهم قيمة أو(9/25)
ثمن. ويراؤوهم وليذيقوهم في كل يوم ألذ ما يشتهون وأمتع ما يطلبون - أعني البعد من الموت.
فإذا كانت طلبتك الشجاعة الحقّة والبأس الصادق فالتمسهما حيث الأطباء غير موجودين وابغهما حيث الناس لا يعرفون ما الأمراض وما عواقبها ودر عليهما بين من لا يحفلون بالموت ولا يذكرونه. لأن الإنسان الفطري يعيش ويموت في سكينة كما تموت الأشجار. وإنما يهزم فؤاده وينسبه كيف يموت الأطباء بما يصفون والفلاسفة بما ينصحون والقس بما يخوفون.
فائتني بتلميذ لا حاجة به إلى هؤلاء جميعاً وإلا فإليك به عني فإني لا أحب أن يفسد عليّ غيري من أمره ما أصلح. وأطلق لي أن أفعل به ما أشاء أو فدعني وانظر غيري من الناس فهم كثر فإني رأيت (لوك) وهو من تعرف يقول وكان قد أنفق على طلب الطب بعض العمر (لا ينبغي أن يطب للأطفال لا على سبيل الحيطة ولا فيما ينتابهم من العلل البسيطة) وأنا أزيد على ذلك وأضيف إليه أني لما كنت لم أستوصف طبيباً أبداً فكذلك لن أستطب لتلميذي أميل: إلا أن تكون حياته في خطر ظاهر وما أحسبهم يقدرون إذ ذاك على أكثرهم من أن يقتلوه:
وخير علوم الطب عندي وأنفعها (قانون الصحة) وما هم لو تدبرت إلا فضيلة لا علم فإن الاعتدال والعمل خير ما يتداوى به المرء لأن العمل يرهف من حد شهوته (يعني شهوة الطعام) والاعتدال يمنعه كم أن يسيء بها إلى نفسه.
وما خلق الناس ليحتشدوا كالأغنام في مكان واحد بل خلقوا ليتفرقوا في مناكب الأرض وينتشروا في نواحيها ويحرثوها ويستخرجوا خبراتها. وما يفسد الناس إلا من اكتظاظ البلاد بهم فإن أمراض الجسم والروح بعض نتائج الازدحام والإنسان أقل الحيوانات صبراً على الاحتشاد وإطاقة للازدحام وأكثر ما يودي الموت بالناس إذا غص بهم مكان وامتلأت منهم ناحية. والمدن فاعلم قبور النوع الإنساني واجد أنه وسكانها أسرع الناس فناءً وفساداً وما زالت القرى هي التي تمد المدن بالصالح من أهلها وناسها فابعث ببنيك إليها لتثوب إليهم نفوسهم وليسترجعوا من قوتهم ما فقدوه في الأماكن المكتظة بالناس.
وينبغي أن تستكثر للطفل من الاستحمام وليكن الماء في أول الأمر حميماً حاراً ثم فاتراً ثم(9/26)
بارداً حتى لا يشقى عليه الاستحمام في الشتاء بالبارد من الماء ولو كان مثلوجاً ولا بأس من اتخاذ مقياس للحرارة ليكون الانتقال من الحار إلى البارد تدريجاً ورياضة من غير أن يحس الطفل أو يتأذى به.
ولا ينبغي أن يعتاق الطفل شيء عن الاستحمام أو يحول من دونه حائل واعلم أنه ليس أرد على الجسم ولا أعود عليه بالصحة من الاستحمام لا لما يستدعيه من نظافة البدن وبضاضة البشرة وحسن الرواء ولكن لأنه يلين ألياف الجسم وأنسجته ويكسبها شدة تقاوم بها اختلاف درجات الحر والبرد ومن أجل هذا أرى أن يعود الطفل الاستحمام بالماء في جميع درجاته لتشتد بضعته ويصلب عضله وأنت خبير أن من يحتمل اختلاف درجات الماء وهو المباشر لكل موضوع في جسمه فهو على اختلاف حالات الجو أقوى وأصبر.
واعلم أنك لن ترى شيئاً أكثر من الذي عليه الناس في أمر الثياب وذلك أنه ما من أحد إلا وهو يأخذ على يد طفله ويهيضه بما يلبسه من الثياب ويلفه فيه من الخرق والقمط ويضع على رأسه من القبعات والقلانس من حيث يحسب أنه يقيه غائلة البرد وأضرار التعرض للهواء وما إلى ذلك وإني لست أعلم شيئاً هو أسخف من هذا الرأي ولا أقبح ولا أسوأ وإنما الرأي أن تكسو طفلك الثياب الواسعة الفضفاضة التي لا تغل أعضاءه عن الحركة ولتكن لا ثقيلة فتقعده ولا غليظة النسج فتمنعه من الإحساس بالهواء. لأن إلباس الطفل أثقل الثياب وحبسه في الغرف يوهن عظمه ويرقق جلده والهواء البارد لا خوف منه بل لعله أبعث على النشاط وأرفق بالجسم وإنما يلحق الضرر البين بالجسم ويدخل عليه الأذى الجسيم الهواء السخين الذي يترك للجسد التوصيم والتكسير والفتور فضعوا الطفل في مهد واسع دمث الوثار ليملك أمره وحريته حتى إذا بدأ يشتد ويتماسك فدعوه يدب في نواحي الغرفة فإن هذه الحركة توثيقاً لأعضائه وأمراراً لقواه وأنت إن كنت في شك من ذلك فقارن بين طفل نشأ على الحرية والحركة وآخر مساوٍ له في العمر لكنه موثق الكتاف مقيد الحركة تر فرق ما بينهما في النماء والقوة.
أكرر أن تربية الطفل تبتدىء يوم يولد وأن تعليمه يسبق النطق والفهم وأن التجارب تتقدم الدروس وأنه حين يفطن إلى ظئره قد عرف شيئاً كثيراً. ولو أن قسمنا معرفة الناس وعلمهم إلى قسمين وجعلنا أحدهما سواء فيه كل الناس والثاني قاصراً على العلماء منهم(9/27)
لألفينا الثاني شيئاً خصوصه كالعموم وإنما كان هذا كذلك لأننا لا نجعل بالنا إلى ما تفيدنا الحياة ولا نلتفت إلى ما نكتسبه من التجارب إذ كان حاصلاً من غير أن يتعلق به إحساس أو قبل أن نرتفع عن سن الحداثة على حين أن المعارف والعلوم التحصيلية إنما نلتفت إليها من أجل ما توجد من الفروق والمميزات ومثل هذا جميعه مثل المعادلات الجبرية لا يلتفت فيها إلى المشترك.
والعادة الوحيدة التي يجب أن يجري عليها الطفل في حياته هي أن لا يجري على عادةٍ قط لا أحب أن يكون تحامله على ذراع أشد من تحامله على الآخر أو أن يكون بسطه ليمينه أكثر من بسطه لشماله واستخدامه لها أغلب وأكثر. أو يأكل أو ينام أو يستيقظ في أوقات معينة وأحيان معلومة أو أن لا يطيق الوحدة بالليل أو النهار وعلى هذا فإن فرضاً عليك أن تخلي جسمه وشأنه وتوليه خطة رأيه وتبيح له جانب عزمه متى صح له على شيء عزم. ومتى استطاع الطفل أن يعرف فرق مابين الأشياء فإن خليقاً بصاحب أمره ووليه أن لا يختار له إلا ما يحسن عرضه عليه فإن في طبيعة المرء أن يرتاح للجديد من الأشياء ولكنه من الإحساس بضعفه والشعور بقصوره وعجزه بحيث يتخوف مما لا يعرف ويستهول ما لم تقع له خبرة به ومن جهل شيئاً خافه وليس خيفته ويزيل حذاره إلا اعتياد النظر إلى الجديد من غير أن يصيبه منه أذى فإنك لتري الطفل الذي نشأ في بيوت النعمة والرفاهة حيث لا يطلق للعنكبوت أن ينسج بيته يرتاع من العنكبوت ثم ينمو وينمو معه هذا الخوف وما أن رأيت حتى اليوم قروياً رجلاً كان أو طفلاً هاله منظر العنكبوت.
وإذا كان اختيار ما يعرض على عين الطفل من الأشياء كافياً لتعويده الجرأة والإقدام أو الجبن والخور فكيف لا يصح القول بأن تربيته تبتدىء قبل أن يحسن أن يتكلم أو يفهم؟ أما إميل فسأعوده النظر إلى كل شيء لاسيما ما هو بشع المنظر منكر الشكل جافي الصورة من الهوام والحشرات والحيوان مليحاً له بها على بعد بادىء الأمر فإذا ألفتها جعلتها منه أدنى شيء تدركه عينه حتى لا يتخوف أن يمسها بأطراف أصابعه أو يقلبها في كفه وإذا كان في حداثته يرى الضفادع والأفاعي والسرطانات ولا يستشعر منها خوفاً فلن يروعه في رجولته حيوان لأن من اعتاد شيئاً لم يخفه.
ما من طفل إلا وهو يخاف الوجوه المستعارة ويليح منها وأميل طفل كسائر الأطفال فليس(9/28)
أحسن في أذهاب الروع عنه وإزالة الخوف من أن أريه وجهاً حسناً بملك طرفه ويستولي على ميله ثم أشير إلى بعضهم أن ضعه على رأسك حتى إذا ما فعل ضحكت وضحك الجميع وضحك أميل مثلهم ثم لا أزال أروضه على رؤية هذه الوجوه وآخذه بذلك وأريه الأقبح منها فالأقبح حتى يتم لي ما أريد وحتى يضحكه منها أشنعها صورةً وأفظعها منظراً وما أحسبك إلا عالماً بما كان من أمر هكتور مع غلامه لستيانكس حين راعه من خوذة أبيه ريشها فأنكره ولم يعرفه وأخذه الرعب فبكي وتشبث بأذيال ظئره وأمه تنظر إليه وعلى فمها ابتسامة والدمع يترقرق في عينها، وهل تدري بأية حيلة سكن هكتور من جأش ولده، لقد تناول الخوذة وألقاها على الأرض ثم قبله. ولو أني كنت موضعه لما وقفت عند هذا القدر ولتناولت الخوذة وجعلت أعبث بريشها وحملته على العبث به أيضاً ثم لأمرت ظئره أن تضع الخوذة على رأسها وهي تضحك - لو أن امرأةً تقوى على حمل خوذة هكتور وعلى هذا النحو أيضاً أجرى مع أميل ليألف الأصوات المفزعة من مثل صوت البنادق وما إليها. فأضرم على مرأى منه (رشاً) في مسدس فان وميضه وبرقه خليقان أن يفرحاه ثم أعيد ذلك وأزيد مقدار البارود وهكذا أتدرج به وأروضه حتى يألف صوت الرصاص والقنابل والمدافع وما هو شر من ذلك وأفظع.
وبعد فإن أكثر شيء في الطفل البكاء وهذا أمر طبيعي لأنه لمل كان إحساسه فهو يتمتع به في سكون مادام لذيذاً طيباً فإذا آلمه منه شيء أعلن بثه وشكاك ما يجد عللك تساعفه بما ينفس كربته ويذهب عنه شدته والطفل إما أن ينام أو ينفعل لما يقع ويتأثر لأنه لا يستطيع أن يغضي عن شيء مما يرى ويحس والطفل لا يبكي إلا إذا عانى برحاً أو كانت به حاجة لا سبيل له إلى سدها وقضائها فإن اهتدى إليها أهله أو القائمون عليه أسعفوه بها وإلا لجّ في الاستعبار واسترسل في البكاء وهم يلاطفونه ليرقأ دمعه وتغيض عبراته أو يغنونه ليأخذه النوم ويخمد أنفاسه النعاس وربما أرفض صبرهم وضاق ذرعهم فتهددوه وتوعدوه بل ربما ضربوه كما تفعل بعض المرضعات اللواتي لا خلاق لهن ولا أدب. فالله ما أغرب هذه التربية وما أعجب هذا التهذيب.
إن معالجة الغضب في الأطفال والحنق والعناد والبكاء وما إلى ذلك مطلب صعب ومرام معضل لا بد فيه من حسن التدبير وأصالة الرأي وبعد مسافة النظر وطول حبل الأناة ومن(9/29)
رأي (بورهاف) أنها جميعاً أمراض عصبية لأن رأس الطفل أكبر إذا قيس إلى جسمه من رأس اليافع وجهازه العصبي أكثر امتداداً فهو لذلك أسرع انفعالاً وأحد طبعاً وأقصر أناة وإذا كان هذا كذلك فخليق بك ألا تدخر وسعاً في إبعاد الطفل عن الخدم الذين يثيرون حنقه ويستورون غضبه ويمتحنون صبره فإن قربه من هؤلاء أضر عليه وأبلغ في إلحاق الأذي به من سوء فعل الهواء وتأثير الأقاليم واعلم أن الطفل إذا لم يجد من الناس ثانياً لعزيمته وقابضاً ليده ولم يصادف مقاوماً له إلا من الأشياء انكسرت في نفسه حدة الغضب ولانت عريكته وسلست مقادته وصح جسمه وأنت إن تدبرت هذا علمت السبب في أن أبناء العامة والخملة الذين نشأوا على حرية الحركة وربوا على الاستقلال أقل في الجملة ضعفاً وأوثق.(9/30)
حديث القمر
عرضت لأديبنا المفضال السيد مصطفى صادق الرافعي فترة من الفراغ في صيف هذا العام أراد أن يقضي فيها حق نفسه وأن يغتنم بها أنفاس الراحة مما يعاني في إنجاز كتابه الفريد (تاريخ آداب العرب) الذي لا يزال يقول عنه أنه دين عليه للأمة حتى يؤديه فهجر الكتابة والكتب ولكنه ما تنسم أنفاس الطبيعة حتى استحالت في قلبه الكبير معاني من الشعر أو من السحر فنفثها في ألفاظ، أفتن للقلوب من الألحاظ، وصورها في جمل، أطرب للنفوس من الأمل، وألم فيها بكل ما يضرب له قلب الإنسان حتى كأنها صنعة كل قلب وقد سماها (حديث القمر) وقدمها للطبع والرافعي هو الأديب الفذ الذي يستطيع في هذا العصر أن يعارض أبدع أساليب المتقدمين في الكتابة والبيان وأن يربي عليهم بما وهبه الله من قوة الخيال التي لا يقصر بها عن معارضة أرقى كتاب المتأخرين في أمم الشعر والجمال لعهدنا وقد جرى في حديث القمر على نمط من الكتابة يمزج فيه الشعر بالفلسفة والخيال بالحقيقة ويلقي منه إلى القلب والروح ما وحت إليه الطبيعة من الجمال والجلال وما نظن هذا الكتاب إلا محدثاً انقلاباً كبيراً فإنه على صغره يعي ما يستوعبه القلب من الحياة وأكبر فوائده فيما نرى لطلبة الإنشاء المتين البديع الذين يريدون أن يكتسبوا ملكة صحيحة من النقد وصحة النظر وسمو الفكر وقوة الخيال وهي صفات لا يكون الإنشاء بدونها ولا تعطيهم كتب المختارات وغيرها شيئاً منها فإن هذا (الحديث) فيما رأينا مكتوب على طريقة لتربية الخيال والفكر كالطريقة التي تضع بها كتب التربية العلمية للنفس فلا يقرؤه الطالب حتى يخرج منه بروح جديد وهي طريقة في تعليم الإنشاء لم يطرقها أديب إلى اليوم مع أنها الطريقة الطبيعية ولا تزال الطبية تضن بحقائقها إلا على رجالها الأفراد فكلما ظهر أحدهم بحقيقة منها رأيناه وكأن في يده شهادة من الطبيعة أنه رجل من نوابغها. ونحن ناشرون اليوم هذه المقدمة الساحرة التي بين فيها الرافعي أغراض كتابه وهي وحدها بكتاب كامل.
غرض الكتاب
هذه مقالة صرفت فيها وجه الحديث إلى القمر وبعثت إلى الكون في أشعة الفجر كلماتها.
ولقد كان القمر بضيائه كأنه ينبوع يتفجّر في نفسي فكنت أشعر بمعاني هذا الحديث كما(9/31)
يشعر الظمآن اللهف قد بلغ الريّ وتندي الماء على كبده فأحس بروحه تتراجع كأنما تحدرها قطرات الماء.
ونشرت على خيوط القمر ليلاً من ليالي الجمال دونه شباب الشاعر الغزل يمتد مع ألحاظ فاتنته الحسناء كلما استطار في آفاقه ابتسامها.
وكنت أرى الطبيعة وقد شفت لعيني كأنها أخرجت حقائقها لتغسلها من ظنون الناس وأوهامهم بهذا الضياء الساكن المرتعد كأنه عرق يرفض من جبين السماء وقد تخشعت من جلال الله وخشيته إذ يتجلى عليها. فما فرغت من تصوير الأثر الذي تركته تلك الرؤية في نفسي حتى رأيت هذه المقالة في يدي وكأني أحملها رسالة تعزية من الطبيعة إلى العالم.
كتبتها وأنا أرجو أن تكون الطبيعة قد أوحت إلي بقطعة من مناجاة الأنبياء التي كانت تستهل في سكون الليل فيعيها كأنه ذاكرة الدهر. وأن تكون قد بثت في ألفاظي صدى من تلك النغمات الأولى التي كان يتغنى بها أطفال الإنسانية فتخرج من أفواههم ممزوجة بحلاوة الإيمان الفطري. وتذهب في السماء متهادية كأنها طائرة بروح من اطمئنان قلوبهم وتسيل في ضوء الصباح وظل الشمس ونور القمر كأنها في جمال الطبيعة أفكار طيور مغرّدة تدور على ألسنتها.
وكتبتها وآنا آمل أن تكون الطبيعة قد ألقت في معانيها بذوراً من عناصر التحول الأخلاقي تزكو في هذه القلوب الحيوانية التي لو نقلت إلى جوانح البهائم لعاشت بها. . . وهذه النفوس التي تذل لأحقر من في الأرض ولا تثور إلا على السماء. وهذه العقول التي تحاول أن تكتب للروح تاريخاً أرضياً يبتدئ وينتهي في التراب فتكون الحقيقة الإلهية التي لا يدركها الإنسان بسبيل من الوهم الإنساني الذي لا يدرك الحقيقة.
وكتبتها وأنا أطمع أن تكون الطبيعة قد نفخت فيها نسمة الحياة للعواطف الميتة المدرجة في أكفان من الحوادث الدنيئة. فإن هموم العيش لا تميت من عواطف القلوب إلا تلك التي لا تعرف كيف تستمد الحياة من روح الطبيعة وإنما يكون استمدادها من مادتها فتحيا بخبر وتموت بخبر وقد تمضي كالوحش الذي يرميه الصائد ولا يضميه فينفر حاملاً جنبه وفي جرحه الموت والحياة معاً.
وكتبتها أتناول ألفاظها من تحت لساني وأكشف من قلبي معانيها وأنفض عليها ألوان(9/32)
الطبيعة التي تصور أحلام النفس وخيالاتها. وأنا أرجو أن أكون قد وضعت لطلبة الإنشاء المتطلعين لهذا الأسلوب أمثلة من علم التصور الكتابي الذي توضع أمثلته ولا توضع قواعده لأن هذه القواعد في جملتها إلهام ينتهي إلى الإحساس. وإحساس ينتهي إلى الذوق. وذوق يفيض الإحساس والإلهام على الكتابة جميعاً فيترك فيها حياة كحياة الجمال لا تداخل الروح حتى تستبد بها ولا تتصل بالقلب حتى تستحوذ عليه فنكون له كأنها فكرة في ذاته.
وكل علوم البلاغة إنما تدور على شرح أمثلة بليغة وغير بليغة فما من كاتب يحاول أن يستفيد تصوره من هذه العلوم على أن ينزلها في ذلك منزلة الأصول والضوابط إلا انتهى إلى ملكة علمية تتصل منه بعقل جامد كأنه غلاف لفظي نسجته القواعد والأمثال. فإلى أن يعقد الموت لسانه لا تكون قيمة عمره قد أربت من البلاغة على ثمن كتاب من كتب علوم البلاغة. .! ولا غرفان من ضلال العقل أن يعمل المرء لمقدمات متسلسلة ينتج بعضها بعضاً وليس لمجموعها نتيجة.
وحسب مثل هذا عقاباً (بليغاً) في رجع أمره أنه لا يزال ينشر أذنيه على البلاغة طمعاً فيها وهو موقن باليأس منها وذلك ضرب من المطمع لا تبتلى النفوس بأشد منه حتى أن نفس الأثيم الذي انسلخ من الفضيلة لتقر على كثير من أنواع العذاب ولا يعذبها شيء كرؤية هذا المجرم للفضيلة في غيره وهو يعرف أنه لن يستطيع أن يحرزها لنفسه.
البلاغة التي حار العلماء في تعريفها على كثرة ما خلّطوا لا تعدو كلمتين: قوة التصور والقوة على ضبط النسبة بين الخيال والحقيقة. وهما صفتان من قوي الخلق تقابلان الإبداع والنظام في الطبيعة. وبهما صار أفراد الشعراء والكتاب يخلقون الأمم التاريخية خلقاً ورب كلمة من أحدهم تلد تاريخ جيل.
فإذا مسخ التصور في الإنشاء فجاء كتصور المريض، وشرد الخيال فذهب كخيال المجانين وأدير الإنشاء بعد ذلك على أنه بليغ فاعلم أنها بلاغة العصور الذاهبة في الانحلال بآفات الاجتماع وأمراضه فيكون طابعها في الاصطلاح مرضاً من نفسها. ولقد فشا ذلك في العربية حوال القرن الخامس للهجرة إلى عهدنا فثم عالم من الشعراء والكتاب بلا شعر ولا كتابة.
وما البليغ إلا ذلك الذي يستطيع أن يؤتيك طبائع الأشياء - التي تجهلها - في غير(9/33)
صورها ثم أنت لا تعرفها من كلامه إلا في صورها فكأنه ناسب بين قوتها وضعفك بصناعته وسحره إذ يمازجها بخيال قوي كالعقل يوازن ضعفك وحقيقة ضعيفة كالقلب توازن قوتها. وهو لا يتسلط على طبيعتها إلا بتصوره ولا يستهوي طبيعتك إلا بقدرته على ضبط النسبة بينك وبينها.
فالبلغاء هم أرواح الأديان والشرائع والعادات وهم ألسنة السماء والأرض، وإذا شهد عصر من العصور أمة ليس فيها بليغ فذلك هو العصر الذي يكون تاريخاً صحيحاً لأضعف طبائع الأمم.
وكتبت هذه المقالة وبحسبي منها أن يكون عند الحقيقة ذخرها، وعند الجمال شكرها، وعند الله أجرها.
وهذه نبذة من الفصل الأول.
أيها القمر
الآن وقد أظلم الليل وبدأت النجوم تنضح وجه الطبيعة التي أعيت من طول ما انبعثت في النهار رشاش من النور والندى يتحدر قطرات دقيقة منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب بها الأمواج المستيقظة في بحر النسيان الذي تجري فيه السفن الكبيرة من قلوب عشاق مهجورين برحت بهم الآلام، والزوارق الصغيرة من قلوب أطفال مساكين تنتزعها منهم الأحلام، تلك تحمل إلى الغيب تعباً وترحاً، وهذه لعباً وفرحاً، والغيب كسجل أسماء الموتى تختلف فيه الألقاب، وتتباين الأحساب والأنساب، وتتنافر معاني الشيب من معاني الشباب، وهو يعجب من الذين يسمونه بغير اسمه ولا يعلمون أنه كتاب في تاريخ عصر من عصور التراب.
والآن وقد بدأت الطبيعة تتنهد كأنها تنفس بعض أكدارها، أو هي يملي في الكتاب الأسود أخبار نهارها، وبدأ قلبي يتنفس معها كأنه ليس منها قطعة صغرى، بل طبيعة أخرى، ولله ما أكبر قلباً يسع الحب من قبلة اللقاء إلى ذكراها، ومن حياة الصبي الأولى إلى ما يكون من الجنة أو النار في أخراها، إن هذا لهو القلب الذي ترى فيه الطبيعة كتاب دينها المقدس. فإذا لحق العاشق الذي يحمله بربه تناولته وهي جاثية كأنها في صلاة الحزن ثم قبلته متلهفة ثم قلبته متخشعة ثم أودعته في مكتبة الأبد لأنه تاريخ قلب آخر بل هو جزء(9/34)
من الموسوعات الكبرى التي يدن فيها الدهر تاريخ النفس الإنسانية على ترتيب بعينه تعلم الناس منه أن يبدؤا لغاتهم جميعاً بحرف (الألف) لا لأنه من أقصى الحلق. . . بل لأنه من أقصى القلب، بل لأنه من أقصى التاريخ، بل لأنه أول اسم (آدم) ذلك العلم الأول في تاريخ الحب.
والآن وقد رقت صفحة السماء رقة المنديل، أبلته قبل العاشق في بعاد طويل، أو هجر غير جميل، وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء البخيلة حيرة القطرة من الندى إذ تلمع في نور الضحى بين ورقتين من الورد. وأقبل الفضاء يشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل. ومرت النسمات بليلة كأنها قطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامة ممزقة. وأقبلت كل نفس شجية ترسل آمالها إلى نفس أخرى كان الآمال بينهما أحلام اليقظة. ونظر الحزين في نفسه. والعاشق فيقلبه. ونام قوم قد خلت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب. ولبس السكون تاجه العظيم فأشرق عليه القمر.
والآن وقد لمعت أيها القمر لتملأ الدنيا أحلاماً وتتشرف على الأرض كأنك روح النهار الميت ما ينفك يتلمس جوانب السماء حتى يجد منها منفذاً فيغيب. فهلم أبثك نجواي أيها الروح المعذب وأطرح من أشعتك على قلبي لعلي أتبين منبع الدمعة التي فيه فأنزفها، إن روحي لا تزال في مذهب الحس كأنها تجهش للبكاء ما دامت هذه الدمعة فيه تجيش وتبتدر. ولكن إذا أنا سفحتها وتعلقت بأشعتك الطويلة المسترسلة كأنها معنى غزلي يحمله النظر الفاتر فلا تلقها على الأرض أيها القمر فإن الأرض لا تقدس البكاء وكل دموع الناس لا تبل ظمأ النسيان ولو انحدرت كالسيل يدفع بعضها بعضاً.
أرأيت أيها القمر هذا النهر الصافي الذي يجري كأنه دموع السحر من أجفان هاروت وماروت، ويطرد بجملته كأنه قطعة من السماء هاربة في الأرض وهل تبصر في شاطئه تلك الشجرة الناضرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة يتصفحها الهواء. هذه هي مثال الفلسفة الطبيعية فكل حكيم لا ينبت على شاطئ الدموع الشريفة فهو فيلسوف جافٌّ كأنه مصنوع من جلود الكتب وما دمعتي إلا النهر الذي نبت في شاطئه وهي أطهر شيء وأصفاه لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية. من الحب الذي يقابل عنصر النار ومن اللين الذي يقابل عنصر الهواء ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء.(9/35)
ليس كل من عصر عينيه فقد بكي. إن البكاء لأشرف من ذلك وكما يكون الضحك أحياناً حركةً في الأفواه تبعثها العادة كحركة الحواس الغليظة فيضحك المرء وقلبه صامت. كذلك يكون من البكاء ما هو حلم الأسي. لأن في العين حاسة لا بد من تمرينها أحياناً تسمى حاسة الدموع.
وما أن لقيت باكياً إلا رأيت وجهه مقبلاً علي كأنه يسألني: ترى من أين يذبح الإنسان إذا كانت دموعه هي دماء روحه؟ ذلك لأن الدموع لم تعد على طبيعتها دموعاً بل هي علامات الألم أو السخط. الألم من المخلوق والسخط على الخالق فهي ألفاظ من لغة العجز قد تكون أفصح منها في الأداء كلمات السفاه والغيظ والحنق وما إليها.
ولكن الباكي بها لا يجد من قوة الجراءة ما يرفع صوته من حفرة الحلق التي لا تمتلئ مع أن نفس الحر تئد فيها كل يوم ألفاظاً كثيرة من عبارات الذل والتمليق فلا ينطق بها. وتئد فيها نفس الذليل كل ألفاظ الإباء والأنفة فلا ينطق بواحدة منها. وذلك لعجز الباكي ولضعف إحساسه بالذل السياسي أو لضعف قلبه بالتقوى التاريخية فيرفع صوت روحه وهي تتكلم من العين بهذه المعاني السائلة التي نسميها الدموع.
أريد أن ابكي بكائي الطبيعي أيها القمر لأنه يخيل إليّ أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي. وإني لا أكون في حاجة إلى البكاء إلا حين تكون هي في حاجة إلى الدموع. ولقد شعرت مراراً بحركة عقلي في تصفح الأسفار، واضطراب نفسي في متاحف الآثار. واختلاج قلبي في معابد الطبيعة التي قامت الجبال في بنائها لأنها أحجار، فما أفدت من كل ذلك ما أفدته من دمعة تفور في صبيبها كأنها روح عاشق يطاردها الموت بين يدي حبيبها، فإن في هذه الدمعة ثواب كل آلامي، ويقظة كل الحقائق من أحلامي.
للحديث بقية.(9/36)
مقالات في الأدب
وضع الأستاذ ابراهيم عبد القادر المازني أحد أساطين البيان سلسلة مقالات في النقد الأدبي ضمنها أبحاثاً جديدة مبتكرة وآراء سديدة لم يكد يسبق إليها في كيف يكتب الكاتب ويقرض الشعر الشاعر ويبين المبين وما هو سر الفصاحة وأساس البلاغة وروح البيان وما هو الأسلوب والتخيل والنظر وما إلى ذلك مما سيكشف النقاب عن حقائق من هذا الباب طال احتجابها على كثير من الناس وكل ذلك قد أفرغه أديبنا المبدع.
في نظام من البلاغة ما شكّ امرؤ أنه نظام فريد
حزن مستعمل الكلام اختياراً ... وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدركن به غاية المراد البعيد
وسننشر هذه المقالات تباعاً في أعداد البيان وهاك قطعة من فصل كالتمهيد إلى ما بعده قال الأستاذ أيده الله:
فصل في أن امتياز العبارة بالتأثير
ليس لكاتب على كاتب فضل إلا بسهولة مدخل كلامه على النفس وسرعة استيلائه على هواها، ونيله الحظ الأوفر من ميلها، وإنما يلائم الكاتب بين أطراف كلامه ويساوق بين أغراضه، ويبني بعضها على بعض، ويجعل هذا بسبب من ذاك لتكون عبارته أفعل باللب، وأملك للسمع والقلب وأبلغ في التأثير، والكاتب في ذلك كصانع الديباج، يوشيه بمختلف التصاوير ومتناسبها ليكون أملأ للعين، وأوقع في النفس وأعلق بالقلب، وليست المزية كما يتوهم من لا يتدبرون الكلام في أن هذا أكثر تأنقاً من ذلك، وأحسن تحبيراً، بل المزية في أن أحدهما أقدر على إبلاغ المعنى لذهن القارئ.
على أنك قد تبلغ بالعبارة العارية العاطلة ما لا تبلغه بالكلام المفوف، بل قد يكون التأنق إذا أسرف فيه الكاتب أو جهل مواضعه، وأخطأ مواقعه، حائلاً بينه وبين ما يريد من نفس القارئ ألا ترى كيف جنى أبو تمام على نفسه بحبه لتطريز الكلام، ومبالغته في تدبيجه، وإسرافه في استعمال الخشن النافر من الألفاظ، وإكثاره من الاستعارات والتكلف لها اغتراراً بما سبق من مثل ذلك في كلام القدماء، حتى كثر في شعره الرث الفاسد والغامض الذي ينبو عنه الفهم، وحتى صار أصبر الناس لا يقوى على إتمام قصيدة من شعره من(9/37)
غير تحامل على نفسه، وإرهاق لذهنهن لكثرة اعتسافه ومزجه الغرر بالعرر والمأنوس بالوحشي الكدر، انظر إلى قوله يصف قصيدة له:
لها بين أبواب الملوك مزامر ... من الذكر لم تنفخ ولا هي تزمر
فجعل كما ترى للقصائد مزامر إلا أنها لا تنفخ ولا تزمر ثم تأمل قوله وما أحسنه وألطفه:
أيامنا مصقولة أطرافها ... بك والليالي كلها أسحار
فقد تراه يخلط الحسن بالقبيح والجيد بالرديء والحلو بالمر، وإنما رأى أبو تمام أشياء يسيرة من بعيد الاستعارات ومتفرقة في أشعار القدماء، وإن كانت لا تنتهي في البعد إلى هذه المنزلة فاحتذاها وأحب الإبداع في إيراد أمثالها فاحتطب واستكثر منها. وقد وقع في هذا العيب كثير من كتابنا وشعرائنا وسترد عليك أمثلة من ذلك مثبوتة في تضاعيف هذه الرسائل كل في موضعه.
لست أنكر أن الاستعارة المصيبة وما يجري مجراها من أنواع البديع قد تبرز المعنى في أحسن معرض، مثل قوله تعالى هن لباس لكم وأنتم لباس لهن فإن ذلك أدل على اللصوق وشدة المماسة، ومثل قول الشاعر رأيت يد المعروف بعدك شلت ومثل قول البحتري في صفة البركة:
فحاجب الشمس أحياناً يضاحكها ... وريّق الغيث أحياناً يباكيها
وقول أبي تمام:
فقد سحبت فيها السحاب ذيولها
وهو كثير في كلام العرب وشعرهم وخطبهم وأمثالهم وليس بنا إلى استقصاء ذلك حاجة، ولكن للجمال العاطل أيضاً روعة وإجلالاً، ونضرة وملاحة، وموقعاً حسناً، ومستمعاً طيباً، وعليه فرند لا يكون على غيره، مما عسر بروزه، واستكره خروجه.
على أن تأثير العبارة لا يكون بحسن تأليفها، وجودة تركيبها، وجمال رصفها، فإن ذلك وحده - على شدة الحاجة إليه - غير كاف، بل لا بد للكاتب أو الشاعر أن تكون نواحي نفسه جائشة بما يحاول أن ينسجه من خيوط الألفاظ، فليست فضيلة التأثير راجعة إلى ارتباط الكلم بعضها ببعض، ونتائج ما بينها، ولا إلى خصائص يصادفها القارئ في سياق اللفظ، وبدائع تروعه من مبادئ الكلام ومقاطعه، ومجاري الفقر ومواقعها، وفي مضرب(9/38)
الأمثال، ومساق الأخبار، ولا إلى أنك لا تجد كلمة ينبوبها مكانها، أولفظة ينكر شأنها، بل فضيلة التأثير راجعة إلى شعور جم، وإحساس قوي بما يجري في الخاطر، ويجيش في الصدر. أنظر إلى أبيات البحتري في صفة الإيوان إيوان كسرى:
لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت فيه مأتماً بعد عرس
وهو ينيبك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس
والمنايا مواثل وأنوشر ... وإن يزجي الصفوف تحت الدرفس
تصف العين أنهم جد أحياءٍ لهم بينهم أشارة خرس
يغتلي فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس
وكأن الإيوان من عجب الصنعة جوب في جنب أرعن جلس
يتظنى من الكآبة أن يبدو (م) ... لعيني مصبح أوممسي
مزعجاً بالفراق عن أنس ألف ... عز أو مرهقاً بتطليق عرس
عكست حظه الليالي وبات المشتري فيه وهو كوكب نجس
فهو يبدي تجلداً وعليه ... كلكل من كلاكل الدهر مرسي
لم يعبه أن بز من بسط الديباج واستل من ستور الدمقس
مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤس رضوى وقدس
ليس يدري أصنع أنس لجن ... سكنوه أم صنع جن لأنس
غير أني أراه يشهد أن لم ... يك بانيه في الملوك بنكس
فكأني أرى المراتب والقوم إذا ما بلغت آخر حسي
وكأن الوفود ضاحين حسرى ... من وقوف خلف الزحام وخنس
وكان القيان وسط المقاصير (م) ... يرجعن بين حو ولعس
وكان اللقاء أول من أمس (م) ... ووشك الفراق أول أمس
وكأن الذي يريد اتباعاً ... طامع في لحوقهم صبح خمس
عمرت للسرور دهراً فصارت ... موقفات على الصبابة حبس
ذاك عندي وليست الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنسي
ألست تحس وأنت تقرأها كأنك شاهد الإيوان وحاضر أمره. في حالتي نعيمه وبؤسه. وهل(9/39)
كان هذا كذلك لأن الشاعر طابق بين المأتم والعرس. والبيان واللبس. والمصبح والممسي. والجن والأنس. واللقاء والفراق. وجعل المشتري كوكب نحس. وقديماً كان يطلع بالسعد ومزج لك الشك باليقين. وجمع بين المؤتلف والمختلف. وقدم وأخر. وعرف ونكر. وحذف وأضمر. وأعاد وكرر.
كلا؟ فإن في شعره ما هو أحفل من هذه الأبيات بأنواع البديع. ولا يبلغ مع هذا مبلغها في التغلغل إلى النفس والولوج إلى القلب. بل الفضيلة كل الفضيلة في أن الشاعر كان ملآن الجوانح. مفعم القلب. من إحساس مستغرق. آخذ بكليتيه ولهذا ترى روحه مراقة على كل بيت. وأنفاسه مرتفعة من كل لفظ. وهل الشعر إلا مرآة القلب. وإلا مظهر من مظاهر النفس. وإلا صورة ما ارتسم على لوح الصدر. وانتقش في صفحة الذهن. والأمثال ما ظهر لعالم الحس. وبرز لمشهد المشاعر.
نعم إن الإحساس الجم. والشعور الملح. لا يكفيان. بل لا بد من قوة التأدية وعلو اللسان للترجمة عنهما ولكنك إن عولت على ملاحة الديباجة. وجمال الأسلوب وحسن السبك. لم تعد أن تكون صناعاً حاذقاً. بصيراً بصرف الكلام. متصرفاً في رفيقه وجزله. مجوداً في مرسله ومسجعه. يتخرج عليك طلبة الكتابة. وينسج على منوالك روّام الإنشاء وتلاميذ المدارس الطامحين إلى مراتب الكتاب. نسجهم على منوال الجاحظ والصابئ. ألا ترى ما في كلامهما من الفتور. فتور الصنعة لا الطبع. فتور القدرة لا العبقرية على اختلاف بينهما في الأساليب وتباين في مذاهب الكتابة. أترى الجملة من كلام أحدهما تستفزك كما تحركك الكلمة من خطب الإمام علي؟ كلا! وإنما كان هذا كذلك لأن هذين وإن تباينت مذاهبهما كتاب صنعة. والإمام علي لم تكن به حاجة إلى الصنعة لمجيئه في شباب اللغة. والألسنة طليقة. واللهجة بطبعها أنيقة. والترسل وتطريز الكلام على نحو ما ترى في كلام المتأخرين ليسا معروفين. هذا إلى أن أيامه كانت حافلة بما يحرك الخاطر ويبسط اللسان. فأما الجاحظ مثلاً فقد كان من أدباء العلماء ولهذا ترى في كلامه فتور العلم. والعلم ليس من شأنه أن يستثير العواطف أو يهيج الإحساس. وسبيل الجاحظ إذا قال أن يمط الكلام مطا. ويطيل مسافة ما بين أوله وآخره. وهذا أيضاً من دواعي الفتور. وبواعث الضعف.
وإن أردت دليلاً آخر على أن أشد الكلام تأثيراً ما خرج من القلب فليس أقطع من أن تأثير(9/40)
الشعر أبلغ من تأثير النثر. وأن النسيب والرثاء وما يجري مجراهما من فنون الشعر أبلغ تأثيراً من المدح والحكم. وأملك لاعنة القلوب. تأمل قول المجنون:
كأن القلب ليلة قيل يغدي ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت ... تعالجه وقد علق الجناح
إلى آخر الأبيات:
وقول جليلة بنت مرة ترثي زوجها كليباً حين قتله أخوها جساس:
يا قتيلاً قوض الدهر به ... سقف بيتي جميعاً من عل
هدم البيت الذي استحدثته ... وسعي في هدم بيتي الأول
مسني فقد كليب بلظي ... من ورائي ولظى مستقبلي
ليس من يبكي ليومين كمن ... إنما يبكي ليوم ينجلي
درك الثائر شافيه وفي ... درك ثأري ثكل المشكل
إلى آخر ما قالت. ثم انظر إلى قول الشماخ في المدح:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
أو قول زهير:
وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يشقى بأحلامها الجهل
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
وقل أي هذه الأبيات أشجى وأشد إثارة للنفس وتحريكاً للقلب؟
أأبيات زهير والشماخ. وهي من أحسن الشعر. وأجوده وأرصنه. أم شعر جليلة. وليست من طبقتهما ولا لهادقة معانيهما. وشرف أسلوبهما. وجودة حبكهما. أم أبيات المجنون. المستوحش في جنبات الحي منفرداً عارياً. لا يلبس الثوب إلا خرقة. ويهذي ويخطط في الأرض. ويلعب بالتراب والحجارة. وينفر من الناس. ويأنس بالوحش. أليس لبيتيه نوطة في القلب وعلوق بالنفس. لا تجدهما في أبيات الشماخ وزهير وهما من فحولة الشعراء المعدودين وزعماء القول المتقدمين.(9/41)
النقد والتقريظ
حديث القمر
نوهنا في غير هذا الموضع من البيان بكتاب حديث القمر لشاعرنا وأديبنا الكبير السيد مصطفى صادق الرافعي ونشرنا هناك مقدمته البليغة ونبذة من الفصل الأول منه. وقد صدر الكتاب مفصلاً إلى تسعة فصول ضافية في نيف وسبعين ومائة صفحة ونبه صاحبه على ظاهره أنه كتبه على نمط خاص من الكتابة العربية يجعل طالب الإنشاء بإدمان قراءته وتأمله منشئاً إذ يربي فيه ملكة التخيل الصحيح التي هي أساس البلاغة ولا بلاغة بدونها.
ونحن نقول أننا تناولنا هذا الكتاب فما زلنا حتى فرغنا منه ونظن أن القراءة على اختلاف أذواقهم سيجدون من ذلك ما وجدنا فإن الكتاب جذاب يأخذ بمجامع القلوب ويستهويها بما فيه من الأساليب الشعرية العالية والتصورات المبتكرة المونقة والمعاني الفلسفية الراقية التي تدور كلها على ما يضرب له القلب الإنساني كوصف الجمال وتحليله كل في مظاهره من الإنسان والطبيعة والعواطف ونحوها والقول في أمهات المسائل الاجتماعية الكبرى كالسعادة والفقر وآلام الحياة وأحزانها وما إليها ثم التبسط على وجه بديع في مسئلة المسائل الإنسانية التي طرفاها الإيمان والإلحاد. وكل ذلك وما تخلله مما اقتضاه سياق الكلام يجري على طريقة امتزج فيها الشعر بالفلسفة الحكيمة والجد بالتهكم الرقيق في صفاء من اللغة واطراد من التعبير وجزالة من الأسلوب إلى دقة في الوصف. وإبداع في الرصف. وما شئت مما يجعل الكتاب نسيج وحده، ويدني به النفس إلى غاية الكمال وحده.
وقد كشف لنا الرافعي بكتابه هذا عن حقيقة كانت هي السر في خيبة كثير من شبابنا الذين يطلبون وجوه الإجادة في الإنشاء ويبتغون لذلك الوسائل ثم لا يستطيعون لأنهم يعتمدون على حفظ بعض الرسائل والجمل اللغوية والنبذ المختارة من المنظوم والمنثور وهي لا تعطيهم أكثر من المادة الفظية التي هي صنعة اللسان والتي ليس من شأنها أن توجد المعاني وإنما توجدها المعاني ويهملون صنعة الفكر والتخيل التي عي الأصل في الإنشاء لأنها صنعة استنباط المعاني وتصويرها على ما تحس بها النفس فلا يكون من ذلك إلا أنهم ينتهون حيث يبتدئون ويعودون من آخر الطريق وكأنهم لما يبرحوا أولها ولا نعرف أحداً(9/42)
من أدبائنا فكر في تعليم الإنشاء على الطريقة التي ابتكرها الرافعي مع أنها الطريقة الطبيعية وما من كاتب قد نبغ في الكتابة إلا وهو يعرف من نفسه أنها كانت طريق نبوغه وإجادته والعيان يدلنا على أنه لو ظهر في الأمة ألف كاتب من كتاب الألفاظ لأخملهم كاتب واحد ينبغ بفكره وخياله ولأستبد بقصب السبق دونهم لأن الأمم لا تقاد بالألسنة ولكن بالعقول.
وهذه لغتنا العربية مملوءة بكتب الألفاظ وأساليبها حتى لا مزيد على ما عندنا منها ونحن مع ذلك أفقر الأمم كتاباً وأدباء بالمعنى الصحيح للكتابة والأدب فلو لم يكن الأمر على ما بيناه لكاثرنا شعوب الأرض بكتابنا وشعرائنا ولكان لنا في فنون القول ومذاهب الكلام مثل ما لهم أو بعضه وأين ذلك منا بل أين نحن منه وإنما أبرع كتابنا من برع في النقل والتعريب أو السلخ من كتابة كل أديب.
وبعد فحديث القمر كتاب كأنه قصيدة واحدة من أبلغ الشعر وأرقاه بل لا نظن أن الشعر وإن جوّد نظم وسبكة يبلغ مبلغ هذا النثر البديع من الفخامة والروعة وبلاغة التأثير فنحث كل من يطلب إمتاع نفسه باللذة العقلية أو الفائدة الكتابية على قراءته وتدبره فإنه ولا جرم يجده أولى بالضن وأحق بالحرص والعناية.
وهو يطلب من مكتبة البيان بمصر وثمنه خمسة غروش صحيحة عدا أجرة البريد وهي غرش واحد.
شرح الهاشميات
الهاشميات قصائد للكميت بن زيد الأسدي في مدح بني هاشم والعصبية لهم والنضح عنهم وهي أشبه بخطب سياسية مما يلقى لعهدنا في ندوة بعض الأحزاب الكبرى من عواصم أوروبا في نصر مبدء على مبدء ومظاهرة فريق على فريق ولذا خرجت من بارع الشع العربي وسريه بما بذل فيها الكميت من وجدانه. وما نفث من لسانه. وما استمد من شيطانه. وهي بعد من أقوى الحجج في اللغة وأجمل الآثار في البلاغة وقد جمعت إلى ذلك طول النفس وغزارة المادة مما لم يتأت لغيرها من شعر العرب - إلا قليلا - حتى جعلها الأدباء كأنها صنف من الشعر متميز بنفسه وحتى ضربوها في الأدب مثلاً وحتى استبدت هي بالكميت نفسه فلم يذكر له غيرها.(9/43)
وقد عني بضبطها وشرحها شرحاً جميلاً حضرة الأديب الفاضل محمد أفندي محمود الرافعي وطبعها طبعاً متقناً فلا غرو أن تكون من غرض كل أديب لأنها في نفسها جديرة بذلك ولأنها في الاصطلاح مادة من أرقى مواد الأدب.
وهي تطلب من مكتبة البيان وثمنها خمسة غروش غير أجرة البريد وهو غرش واحد.
(تنبيه)
جاء في الرسالة التي نشرناها في هذا العدد من كتاب حضارة العرب في الأندلس ذكر لأرض انكبردة وأن العرب وصلوا في فتوحاتهم إليها ولكن فاتنا أن نبين في الهامش ماذا تسمي انكبردة الآن وقد كنا ظننا ظناً ليس بمعتمد على برهان قطعي أن انكبردة هي لمبردية كما يدل عليه تقويم العرب لها وأنها تتصل بأرض قلورية وأرض نابل وللتثبت من ذلك عمدنا إلى أستاذنا وصديقنا العالم الثبت المحقق سعادة أحمد زكي باشا فجاء إلينا من سعادته ما يأتي - قال أيده الله بعد ديباجة خطابه الكريم:
أما كلمة انكبردة فهي اسم لمقاطعة في إيطالية تعرف باسم لومبارديا وعندي أن النساخين كتبوها على طريق التسلسل هكذا (لمبرده) ولما كانت النون سابقة للميم فمن السهل إدغامها على ما هو معهود في العربية فكتب بعضهم بطريق السماع لنبرده ثم صدورها بأداة التعريف فقالوا (اللنبرده) ومن هنا جاء التصحيف فكتبوا (الكبردة) ثم (انكبردة) وبقي هذا الاسم لأخير.(9/44)
العدد 10 - بتاريخ: 6 - 2 - 1913(/)
حضارة العرب في الأندلس
ولما نزلت على ريو أخذت سمتي إلى مسجدها الجامع لأصلي فيه صلاة الصبح وأثلج صدري ببرد التقى وشعائر الإسلام، وأجلو بعضاً من وعثاء السفر الزؤام، وما زلت حتى أخذت عيني بناء شاهقاً تعتم مأذنته بالعماء، كأنما تنث حديثاً إلى ملائكة الله في السماء، أو كأنها تعلن برفعتها رفعة الإسلام. وعزة أهله على عبد الطاغوت والأصنام، وكذلك رأيت كل من مر بهذا المسجد من الروم أغضى من مهابته ذلة وصغاراً، وإجلالاً لدين الله وإكباراً، مما ألقاه في قلوبهم من الرعب واختشاء المسلمين أبو الغنائم الحسن بن علي رحمه الله.
ولما توسطت باحة المسجد رأيت صفوف المصلين من الرجال وإمامهم في المحراب، كسطور أمامها عنوان الكتاب، وخلف الرجال حاجز من خشب يليه صفوف المصليات من النسوان، كما تكون هوامش الصفحة يفصلها من سائرها أحمر من المداد قان، فانضممت إلى صفوف المصلين وصليت معهم صلاة الصبح ولما إن سلم الإمام وكان قائداً من قواد العرب في هذه البلاد - وكذلك كان أئمة المسلمين في الحروب والسياسات، أئمة لهم في التقى والصلوات، قام واتكأ على سيفه وقال:
أيها العرب أنتم الآن بين ظهر أني عدو يلندد يتجرع منكم الغصص ويتحين بكم الفرص، ويود لو يبدلنكم الله ضعفاً من قوة، وضنا بنفوسكم من فتوة، وهزيمة من ظفر، واستحالة لصفوكم إلى كدر، فيثب بكم وثبة الغضنفر نال منه الجوع والسُّعار، ويسعل بكم كما يسعل هذا البركان فيرمي بحممه والشرار، فإذا فترت منكم الهمم، ووهت العزائم وأغمدتم السيوف في الأجفان، وقعدتم عن نصر الله في كل آونة وكل مكان، وسكنتم إلى الترف والنعيم، وجرتم معاذ الله عن النهج القويم، ودب إليكم ما قد دب إلى هذه الأمم الحمراء، من الحسد والبغضاء، فإنكم صائرون لا محالة إلى ما قد صاروا إليه وإذ ذاك يصيركم الله بعد نصركم فلاّ ويديل من عزمكم ذلا ومن كثركم قلاً، وتئيضون بعد على هذا العالم كلا.
وبعد إن فرغ من كلامه خرج وخرج معه رجاله وعلوا متون الجياد وذهبوا إلى حيث يعلون كلمة الدين، ويذيعون التقى والحق واليقين وينسفون دعائم الشرك والإلحاد. ويفكون أغلال الظلم من رقاب العباد.
مستمسكين بحق قائمين به ... إذا تلون أهل الجور ألواناً(10/1)
ولما أن قضيت صلاتي خرجت من المسجد وقصدت إلى مرسى السفين فوجدت ثمت مركباً يريد أن يعبر إلى جزيرة صقلية فنزلته ثم قلع وعبر بنا إلى مدينة مسيني إحدى مدائن هذه الجزيرة وأرسي فيها على مرسى عجيب يأخذ بالألباب وذلك أن أكبر ما يكون من السفن يرسي من الشاطئ بحيث يتناول ما فيها من البر بالأيدي.
وقبل أن نسترسل في القوة على مدينة مسيني وسائر البلدان التي مررت بها في هذه الجزيرة العجيبة نذكر لك شيئاً من تقويمها وتاريخها حتى تكون على بينة من أمرها إن شاء الله.
صقلية
هي جزيرة في البحر كبيرة على شكل مثلث متساوي الساقين زاويته الحادة من غربي الجزيرة بينها وبين ريو وبلاد قلورية من بر الأرض الكبيرة مجاز مسيني حيث يتراوح البحر بين ستة أميال وعشرة أميال وبين ذنبها الغربي وبين تونس نيف وستون ميلاً وزاويتها الجنوبية تقابل طرابلس من أفريقية وبالقرب من زاويتها الشمالية جزيرة صغيرة فيها بركان النار الذي لا يعلم في العالم أشنع منظراً منه. وهذا بركان كان اسم لجبلين أحدهما هذا والثاني في صقلية نفسها وفي أرض خفيفة التربة كثيرة الكهوف ولا يزال يصعد من ذلك الجبل لهب النار تارة والدخان أخرى، ومن ثم كانت كثيرة الزلازل بحيث يكثر تهدم أبنيتها منها.
وقد كانت هذه الجزيرة قبل الفتح خاملة قليلة العمارة وكانت من عمالات الروم وأمرها راجع إلى الأنبرو صاحب قسطنطينية وكان عليها والٍ من قبل هذا الأنبرو ويسمى قسطنطين وكانت أفريقية تحت ولاية زيادة الله ابن الأغلب كان والياً عليها من قبل المأمون بن هرون الرشيد فلما كانت سنة ثنتي عشرة ومائتين استعمل الأنبرو على الأسطول قائداً رومياً يسمى فيمي وكان حازماً شجاعاً فغزا سواحل أفريقية وعبث فيها وبقي هناك مدة وبعد ذلك كتب الأنبرو إلى قسطنطين يأمره بالقبض على فيمي وتعذيبه فنمي الخبر إلى فيمي فانتفض وتعصب له أصحابه وسار إلى مدينة سرقوسة إحدى مدائن صقلية فملكها فسار إليه قسطنطين فالتقوا واقتتلوا فانهزم قسطنطين إلى مدينة قطانية فسير إليه فيمي جيشاً فقبضوا عليه وقتلوه واستولى فيمي على صقلية وخوطب بالملك وولى(10/2)
على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بلاطة فاتفق بلاطة هو وابن عم له يسمى ميخائيل كان والياً على بلرم وجمعا عسكراً كثيراً وقاتلا فيمي فانهزم فيمي وركب في أسطوله إلى أفريقية مستنجداً بزيادة الله بن الأغلب فسير معه أسطولاً عظيماً في تسعمائة فارس وعشرة آلاف راجل واستعمل عليهم أسد بن الفرات - قاضي القيروان ومن أصحاب مالك رضي الله عنه وهو مصنف الأسدية في الفقه على مذهب مالك - وأقلعوا من سوسة فوصلوا إلى مدينة مأزر من صقلية وساروا إلى بلاطة الذي قاتل فيمي فهزموه والروم الذين معه وغنموا أموالهم وهرب بلاطة إلى قلورية فقتل واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة وجرت وقائع كثيرة بين الروم والمسلمين امتدت سنين طوالاً وانتهت باستيلاء المسلمين على جميع جزيرة صقلية - وبقيت صقلية بيد بني الأغلب يتناوبها عمالهم إلى أن أدال الله منهم للعبيديين ودانت لعبيد الله المهدي أفريقية وما إليها فأخذوا يبعثون عمالهم عليها إلى أن كانت فتنة أبي يزيد وشغل أبي القاسم القائم والمنصور العبيدي من بعده بأمره - فلما انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور لأبي الغنائم الحسن بن أبي الحسين بن علي الكلبي وكان له في الدولة محل كبير وفي مدافعة أبي يزيد غناء عظيم فمهد الأمور للعبيديين غزى بلاد قلورية وأقام والياً على صقلية وما إليها إلى أن استأثر الله بالمنصور وقام بالأمر من بعده ولده المعز لدين أبو تميم معد فسار الحسن إليه بأفريقية سنة إحدى وأربعين واستخلف على ما وراءه ابنه أبا الحسن أحمد ولا يزال هذا الأمير أيده الله والياً على صقلية وما إليها إلى اليوم وهو سنة خمس وأربعين وثلاثمائة ومقامه ببلرم حضرة هذه الجزيرة.(10/3)
مستقبل الدولة العثمانية
لا سلطان إلا برجال ولا رجال إلا بمال ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل
وحسن سياسة
حكمة عربية
قال لامارتين: الإمبراطورية العثمانية تنقض اليوم لبنة بعد لبنة ويوشك أن تخلي اليوم أو غداً أقاليمها الواسعة فتتركها بلاقع قفراً من السكان. نهباً للتشعث واللوضي. ولا حاجة إلى التعجيل بتقويض هذا التمثال العظيم بدفعة يد أو لمسة بنان. فإنه ينهدم طوعاً أو كرهاً، ويتداعى لوهن سرى في أجزائه، واستقر في بنائه، وتخلخل لسنا نعرف إلى من نعزوه، ولا هو مما يستطاع الاحتيال على تدعيمه أو يقدر الترك أو أوربة على تقويمه.
كتب لامارتين هذه الكلمات سنة 1835. عقب حروب توالت بين الدولة وهذه الدول الناشئة التي تصاولها اليوم، ولكنها لم تكن حرب الطامع النهم أو إغارة الجائع الملتهم، بل كانت تملص مأسور يجاهد سلاسل الأسر.
وثورة مقهور ينحي عن كاهله نير الذل والقهر. ثم دعا الدول إلى عقد مؤتمر تتفق فيه على تقسيم أسلاب آل عثمان وتفريق تلك البقاع الخصبة بين أبناء آدم ليعمروا خرابها ويستغلوا يبابها. ويتيمموا منها صعيداً رق هواؤه وتدفق ماؤه. فيتكاثر عددهم ويعيشون هنالك آمنين في ظل أوربة.
ولا أحسب أنه كان يدور بخلد لامرتين يومئذ أن ذلك التمثال العظيم سيبقى بعده قائماً يقرقع ولا يسقط، ويظل إلى العام وهو يتصدع ثم لا يهبط فكيف إذا رآه اليوم وقد اشتكرت حوليه زعازع الخطوب، واشتجرت حفافيه مطامع الشعوب. .
وما كان لامرتين بأشد تطيراً من كثير من القاطنين في هذه الأيام. فإنك قلّ أن تصادف من لا يقول لك: لقد نزلت الطامة الكبرى، وآن لهذا الهلال أن يطوى. وغنه قد حق على هذه الدولة أن تمحى. ثم يقول إنما نحن نشهد اليوم في شرق أوروبة ما شهده الناس من قبل في غربها غير أن الأندلس قد خلفت بعدها من لو شاء لاعتبر بمصيرها. فهل يبقى منا بعد اليوم من يعتبر بمصيرنا ويتعظ بتفريطنا. .
كذلك زلزلت الصدمة قلوب العثمانيين فيئسوا من الدنيا كأن أوربة هي كل الدنيا. ولو كانت(10/4)
الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوربة لحق لهم أن لا يرجوا منها بعد الآن ثمراً. ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق. وما هذه الولايات الأوربية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها منها. وقد كان يمكن أن يدور التاريخ دورة غير التي دارها. فلا تتحول أنظار محمد الفاتح بتة إلى القسطنطينية، ولا يركض للترك جواد في بطاح مقدونية، أو يمخر لهم أسطول في بحر الروم، أو يتوغل منهم سلطان في أحشاء الغرب، وكان يكون لهم مع ذلك دولة ولواء، ويتسع لهم في آسيا أمة آسيوية بحتة، كاليابان في شرقها، وهل أذهبت عزلة هذه عن أوربة شيئاً من فخامة ملكها وعزة شأنها. .
فإن كان قد دار التاريخ دورته وقضى الأمر، فلتكن هذه القرون الستة فترة التيه عند بني عثمان، وليثوبوا إلى موطنهم الذي فيه درجوا ومنه خرجوا، وإن ما جاز بالأمس لا يستحيل اليوم، فليست هذه السنة آخرة دورات الفلك، ولئن استحال ذلك كما قد يرى القانطون، فإنما هو محال في أوربة وآسية على السواء.
لا نزعم أن المسألة تافهة هينة، ولكننا لا نظن كذلك أننا عند فراش محتضر طال به النزع، ولا أننا بين يدي شيخ فإن يتوكأ على عصا الشيخوخة إلى حافة القبر، ولا نتربص الموت بهذا الرجل المريض بل قد نرى فيه من الحيوية ما يعمر به إلى ما شاء الله. إذا سوعف بما ينفعه من الدواء.
قال ابن خلدون الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته ثم قال: ولهذا يجري على السنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة.
ولا ريب أن ابن خلدون كان يكتب فصله هذا وهو إنما يحضره خيال تلك الدول العربية التي توارثت الملك دولة بعد دولة، ولا ينظر إلى قيام العباسيين تلو الأمويين، وتعاقب العروش الأفريقية والأندلسية بين السلائل المغربية. وكان لم يئن بعد لعمراني العرب أن ينظر إلى الأمة دون الدولة، لأنه لم يكن للأمة في تلك العهود وجود منفصل عن وجود الدولة، فكان شباب الأمة أو هرمها عنده لا يعرف إلا بالنظر إلى قدرتها على إمداد الدولة بالجند ونشاطها إلى الحرب وراء الفاتحين من ملوكها. فإذا استطاع الملك أن يستجلب الجند من غير أمته فالدولة فتية شابة، ولا شأن لحياة الأمة في عمر دولتها ما دام للملك جند(10/5)
متأهب للحرب يلبي نفيره، ويتبع ركابه. وما دامت الجبهة نقية من الغصون، فلا حاجة إلى فحص الجسم في حكم ابن خلدون.
وقد نظر إلى دولة الترك في أيامه هذه النظرة، ولو أنه عاش حتى يرى دولتهم تتجاوز المئة إلى المئين لما غير حكمه ولكان يرى أنها داوت هرمها باستجلاب الجند من غير جلدتها. وذلك كقوله: وربما يحدث في الدولة إذا طرقها الهرم بالترف والراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصاراً وشيعةً من غير جلدتهم ممن تعودوا الخشونة فيتخذهم جنداً يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى بإذن الله فيها بأمره. وهذا كما وقع في دولة الترك بالمشرق فإن غالب جندها الموالي من الترك، فتتخير ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرساناً وجنداً، فيكونون أجرأ على الحرب وأصبر على الشظف من أبناء المماليك الذين كانوا قبلهم وربوا في ماء النعيم والسلطان وظله.
وكيف كانت قاعدة ابن خلدون قاصرة عن الانطباق على أطوار الفتوة والهرم في الأمم الحاضرة، فلا مراء أنه قد أصاب شاكلة السداد في حكمه على دولة الترك، فإنها كانت إلى ما قبل اليوم ببضعة أعوام دولة دعامتها الجند وأساسها سلطة الحكومة، فلما دب الوهن إلى حكومتها، وتضعضت قواها الفاتحة. لم ينشب أن قعد بها العجز وتضاءلت سطوتها. ولكنها الدولة التي شاخت وليست الأمة، لأنها كانت تتلقى الصدمات منفردة، وكان لا يصيب أمتها من تلك الصدمات إلا ما لا بد منه في أمة تغفل حكومتها عن رعايتها وتدريب قواها الحيوية.
وقد اتفق ماكيافيلي وابن خلدون في تعيين مركز القوة من دولة الترك. لأنهما نظرا إليها من نقطة واحدة. وماكيافيلي عند الطليان كابن خلدون عند العرب. وكلاهما قد أخذ قضاياه عن أحوال الإمارات القديمة. فجاءت مقدمة ابن خلدون وكتاب ماكيافيلي الذي وسمه باسم الأمير على اتفاق غريب في وصف أنواع الحكومات. ومناشئ المنعة والانحلال فيها. لاسيما كلامهما عن الممالك الدينية والعسكرية. وكان عبد الحميد يكثر درس كتاب ماكيافيلي درس مستفيد وأمر بنقله إلى اللغة التركية. ولعله أخذ منه كثيراً من خططه السياسية التي أشار بها الرجل على الملوك المستبدين. قال ماكيافيلي بعد كلام عن الفرق بين تذليل(10/6)
الممالك المطلقة والممالك التي للشرفاء قسط من الحكم فيها: لهذا يعاني من يهاجم الترك مشقة عظيمة ولكنه متى قهرهم فليس أهون عليه من حفظ ما اغتصبه من ملكهم. وسبب هذه المشقة أن المهاجم لا يجد في مملكة الترك أميراً أو نبيلاً يدعوه إلى اقتحام المملكة ويؤازره على خلع السلطان. ولا ينتظر أن يستفيد من انتقاض بعض أتباع السلطان عليه. لأن وزراءه وولاته كلهم من صنائعه وخدمه. فلا يسهل إغراؤهم عليه. وإذا تم للمغير استمالة بعضهم فليس من الحزم أن يترقب من هؤلاء كبير فائدة. لأنهم عاجزون عن ضم الشعب إليهم للسبب المتقدم. ولذلك كان حتماً أنو يوقن من يشاء الزحف على الترك من أنه واجدهم يداً واحدة. وعليه أن يعتمد على عدته وجيشه أكثر من اعتماده على الدسائس الداخلية. فإذا تهيأ له الغلب عليهم وتشتيت شمل عسكرهم بحيث لا يبقى من يستطيع أن يجمعهم لمدافعته فقد استقر له الأمر وليس عليه أن يخشى إلا من أقرباء السلطان وأعضاء أسرته. فأما غيرهم من حشم السلطان وأتباعه فلا اعتماد للشعب عليهم ولا هو ينقاد إليهم. وكما أن المغير لم يعول على تعضيدهم قبل الفتح فليس عليه أن يرهب بأسهم بعده.
كان هذا شأن الدولة العثمانية لعهد ماكيافيلي أي في أيام سليم الأول وهي بعد في جن صباها وريعان فتوتها. فأما بعد ذلك فقد كانت الفتن الداخلية أشد على الدولة من أعدائها. ولا يعنينا من قول ماكيافيلي المتقدم إلا أن الحكومة هي مركز القوة في الممالك العسكرية المطلقة وأن الهزيمة تقع في تلك الممالك على رأس أولى السلطة دون سواهم - والانحلال الطبيعي في حكم الهزيمة من هذه الوجهة. أي أن أعراضه تظهر على الدولة دون الأمة؟؟
ولا يختلف اثنان في أن الدولة العثمانية قد تطرق إليها الهرم، وأنها ليست تلك الدولة الفاتحة التي عرفها الناس قديماً. ولا يمكن أن تعود كذلك فى يوم من الأيام. فهل اتصل الهرم بشعوبها منها وخمدت فيها جذوة الحياة. فلا عزم فيها يوري. ولا أمل عندها يرجى؟؟
ليس فى بوادر الشعوب العثمانية قاطبة ما ينبئ بشيخوخة أو انحلال، بل كلها لا تزال على حال الفطرة. لم تخثر طبائعها، ولم تفتر حرارتها ولا انتكست أخلاقها، وهذا التركي لم يفتأ شجاعاً جليداً كريم الطبع جم الأدب، والسوري لا تزال له خبرة الفينيقيين بالتحول على الكسب والسعي في طلب المعيشة، ولا يزال البدوي على عنجهيته الجاهلية وشرته الأولى، والكردي ما برح على عهده من يوم خلق، يغزو ويقنع بغفة من العيش، ولم يفقد الأرمني(10/7)
ما طبع عليه من الذكاء وسلامة النحيزة، فإن صح للعثماني أن يشكو عيباً في أمته فأدنى إلى الصواب أن يشكو منها الطفولة المرجوة، لا الشيخوخة الميؤسة.
فهذه عناصر الحياة والمنة متوفرة في الشعوب العثمانية، فهل يوفق حكامها إلى ضم أشتاتها ولم شعثها، وهل توائم الفرص هذه الطفولة فتنتقل إلى شباب غض وفتوة ناضرة؟؟
اقترح بعضهم فيما اقترحوه نظام اللامركزية ونحن نرى لمسألة اللامركزية وجهين، فهي من وجه منهما ضرورية لازمة، ومن الوجه الآخر فيها مجال للنظر.
فأما كونها ضرورية لازمة فيعززه ما هو معلوم من صعوبة تقدير نظام واحد لأمم وشعوب تختلف اختلافاً بعيداً في العادات والأخلاق والجنس واللغة والدين والموقع ومرافق الثروة والمصلحة المادية، واستحالة الأنافة على كل هذه الشؤن من مركز واحد بمعزل عما تشتمل عليه نفوس القوم من الرغائب وما هم مفتقرون إليه من المطالب، ويؤيده حق كل أمة في تصريف أمورها على الوجه الأوفق لها لاسيما في عصر اشرأبت فيه أعناق الأمم إلى الاستقلال واندفعت إليه بعزم لا تصده إلا قوة ليست فى يد الدولة الآن، وهي أحوج ما تكون إلى شد أزرها بقلوب رعاياها.
وأما مجال النظر فهو في تفاوت تلك الشعوب في الأهلية لحكم نفسها وتباينها فى الإخلاص للدولة. فإن منها ما لم يتعد بعد أبسط أنواع الحكومة البدوية. فلا يعقل أن يعهد إلى مثل هذه بسلطة كالتي تنالها أمة كالأمة. السورية أو التركية مثلاً. كما أن منها ما يكاد يحسب من جنس الأمة التركية. ومنها ما تجمعه بها وحدة دين أو عاطفة ولاء. ولا ينزع هؤلاء إلى الانشقاق عنها. وقد يغيرهم عليها تمييزها سواهم عنهم بهذه الحرية. هذا وربما هاج انفراد تلك الشعوب أطماع الدول التي تشتهيها فعجلت الوثبة عليها.
بيد أن مما لا مراء فيه أنه ليس من حسن السياسة ولا مما يوافق الدولة أن تقسر شعوبها على الاندماج في بنيتها قوة وغصباً. والعقل العصري لا يفهم من معنى الإخلاص أن يتقيد الشعب بالولاء لحكومة تحكمه لمصلحتها لا لمصلحته. وتضحي بشيء من حريته ومنفعته لغايتها لا لغايته. فإن لم يعتقد الشعب أنه يفيد من حكومته أكثر مما يفيده من سواها. وأنه يتمتع في ظلها بحرية لا يتمتع بأوسع منها في ظل حكومة أخرى. وأن بقاءه وارتقاءه آمن في تعلقه بها منهما في انفصاله عنهما فليس لتلك الحكومة حق ولاء عليه. وليس لها أن(10/8)
تتقاضاه الإخلاص والطاعة.
فليس للدولة العثمانية إلا خطة واحدة تجري عليها في حكم شعوبها كافة. وهي أن تربط مصلحتهم بمصلحتها وتقيم نفسها محوراً تدور حوله مرافق تلك الشعوب. وإنما يكون ذلك بمد السكك التجارية بين أجزائها وتبادل المعاملات الاقتصادية بين ولاياتها وممالكها. وتصيير عاصمة السلطنة سوقاً عامة للتجارة. ومرجعاً عالياً للعلم والصناعة. وكعبة مقصودة في الخوف والرجاء. والشدة والرخاء. وعليها أن تصرف أبصارهم عن التطلع إلى الخارج سياسياً ومادياً بتعمير داخلها. وبسط الأمن والحرية في أرجائها. حتى يعود درؤها المغير على بلادها ذياداً عن حريتها ورفاهتها. قبل أن يكون ذياداً عن سيادة دولتها.
ولا يستلزم هذا الإصلاح سن نظام اللامركزية بمعناه المطلق. بل قد يغني عنه في بادئ الأمر تخويل الولايات حقوق الإدارة الداخلية، مع مراعاة منزلتها من الرقي والكفاءة لتولي الأحكام، وأحسب أن توزيع السلطة على هذا النحو يربح الحكومة الرئيسية من المتاعب والمشاغل التي تملك عليها الوقت من جراء الخلافات العنصرية، ويحسم هذا النزاع القائم بين الأحزاب. وما كان قط نزاعاً حزبياً بالمعنى المعروف في البلاد الأروبية. ولكنه نزاع مداره على المنافسات العنصرية في سبيل إحراز الوظائف وامتيازات السلطة، فالاتحاديون كلهم من الترك أو ممن استهواهم الترك بالمواعيد والآمال، والائتلافيون عناصر شتى تجمعت لتعدل كفتها كفة الترك ويسمع كل منها صوته بلسان العناصر كلها، وما مبتغاهم جميعاً إلا الوظائف والسلطة، فإذا أحرز كل منهم قسطه منها في بلاده خفت وطأة نزاعهم عن الحكومة وتحولت أكثر مساعيهم إلى إصلاح تلك البلاد، وتجمعت قواهم في مواضعها بعد هذا التفرق الذي يذهب بمساعيهم أيدي سبا.
وهناك من زعماء العثمانيين من ينظر إلى الخارج أكثر من نظره على الداخل. فهؤلاء همهم الأول الانضمام إلى أحد الجانبين اللذين يتجاذبان النفوذ في أوروبة. ويقولون أنه ليس علينا الآن إلا أن نأمن العدو الأجنبي ثم نطمئن إلى إصلاح بلادنا. كأن تلك الدول ستتولى حراسة التخوم العثمانية بعد انضمام الدولة إليها، ثم تأخذ عن عاتقها مراقبة السياسة الخارجية!!.
نعم إن الأمن من جهة الخارج واجب من أكبر واجبات الدولة ولكن كيف يكون ذلك؟ أبا(10/9)
المحالفة؟
كلا! فإن المحالفة لا تؤكد للدولة إلا عداوة من تخالفه ثم إنها لا تكفل لها صداقة من تحالفه.
فإن محالفة بين الدولة والدول لا يمكن أن تبرم بميثاق صحيح، لأن قاعدة التحالف بين أوربا لهذا العهد أن تتعاون على ترجيح نفوذها وتغليب كلمتها في المشاكل السياسية. وليست الدولة صاحبة نفوذ في السياسة الدولية فترغب الدول في ودها. فهي إن حالفتها لم تنو إلا أن تأخذ منها ولا تعطيها أو تأخذ أكثر مما تعطي. فيكون التحالف إذن أشبه باتفاق بين السالب والمسلوب، وكلما جادت الدولة بأملاكها كان الإقبال على محالفتها أكثر.
وليعلم العثمانيون أن تلك الدول لا تعضدهم ولا تتخلى عنهم إلا لمصلحتها. فإن عنّ لها وجه المصلحة في تأييدهم نصرتهم سواء كانت معهم أو عليهم. أو عنّ لها وجه المصلحة في التخلي عنهم خذلتهم، سيان المحالف منها والمخالف.
فخير للدولة أن تدير شراعها من كل ريح من أن تتقيد بريح واحدة. وأنفع لها أن تكسب عطف الرأي العام في أوربة كلها من أن تكسب الود الظاهر من بعض حكوماتها. وقد كان يتعذر عليها ذلك أيام كان تاريخها مرتبطاً بتاريخ المنافسة بين الغرب والشرق والمسيحية والإسلام، وكانت في أوربة دولة شرقية غربية. ولكنها بطبيعتها الشرقية لم تصاحب أروبة في حركة التقدم الحديث، فبقيت دولة غربية شاذة في الغرب، وأعقبت لها تلك الذكريات ضغناً ونفوراً في نفوس القوم أشد مما تقتضيه المنافسة الضرورية بينهم.
فأما اليوم وقد رفعت يدها عن أكثر البقاع التي كان بقاؤها فيها يحرك تلك العداوة الموروثة فربما تيسر لها ما كان يتعذر عليها بالأمس.
ولسنا هنا في مقام رسم الخطط السياسية التي تتوخاها الدولة، ولكننا نجس نبضها ونتلمس فيها مدب الحياة الكامنة، ونشيم برق الفرص. وهنا مجال للثقة والريب، والأمل واليأس، فإن كان ذوو المآرب في فناء الدولة يرجحون جانب اليأس، فليكن جانب الأمل أرجح في قلوب آل عثمان ولئن كان الأمل على قدر الحاجة فليكن العمل كذلك على قدر الأمل. (العقّاد)(10/10)
مختارات
كيف يسوس الرجل زوجه
للشيخ الرئيس أبي علي بن سينا
إن المرأة الصالحة شريكة الرجل في ملكه وقيمته في ماله وخليفته في رحله وهير النساء العاقلة الدينة الحيية الفطنة الولود القصيرة اللسان المطاوعة العنان الناصحة الجيب الأمينة الغيب الرّزان في مجلس الوقور في هيئتها المهيبة في قامتها الخفيفة المبتذلة في خدمتها لزوجها تحسن تدبيرها وتكثر قليله بتقديرها وتجلو أحزانه بجميل أخلاقها وتسلي همومه بلطيف مداراتها.
وجماع سياسة الرجل أهله ثلاثة أمور لا تدعه وهي الهيبة الشديدة والكرامة التامة وشغل خاطرها بألمهم.
أما الهيبة فهي إذا لم تهب زوجها هان عليها وإذا هان عليها لم تسمع لأمره ولم تصغ لنهيه ثم لم تقنع بذلك حتى تقهره على طاعتها فتعود آمرة ويعود مأموراً وتصير ناهية ويصير منهياً وترجع مدبرة ويرجع مدبراً - وذلك الانتكاس والانقلاب. والويل حينئذٍ للرجل ماذا يجلب له تمردها وطغيانها ويجنيه عليها قصر رأيها وسوء تدبيرها ويسوقه إليه غيها وركوبها هوانها من العار والشنار والهلاك والدمار. فالهيبة رأس سياسة الرجل أهله وعمادها وهي الأمر الذي ينسد به كل خلة ويتم تمامه كل نقص وينوب عن كل غائب ويغني عن كل فائت ولا ينوب عنه شيء ولا يتم دونه أمر فيما بين الرجل وأهله: وليست هيبة المرأة بعلها شيئاً غير إكرام الرجل نفسه وصيانة دينه ومروءته وتصديقه وعده ووعيده.
أما كرامة الرجل أهله فمن منافعها أن الحرة الكريمة إذا استجلت كرامة زوجها دعاها استدامتها لها ومحاماتها عليها وإشفاقها من زوالها إلى أمور كثيرة جميلة لم يكد الرجل يقدر على إصارتها إليها من غير هذا الباب بالتكلف الشديد والمؤونة الثقيلة. على أن المرأة كلما كانت أعظم شأناً وأفخم أمراً كان ذلك أدل على نبل روحها وشرفه وعلى جلالته وعظم خطره. وكرامة الرجل أهله على ثلاثة أشياء في تحسين شارتها وشدة حجابها وترك إغارتها.(10/11)
وأما شغل المخاطر بالمهم فهو أن يتصل شغل المرأة بسياسة أولادها وتدبير خدمها وتفقد ما يضمه خدرها من أعمالها فإن المرأة إذا كانت ساقطة الشغل خالية البال لم يكن لها هم إلا التصدي للرجال بزينتها والتبرج بهيأتها ولم يكن لها تفكير إلا في استزادتها فيدعوها ذلك إلى استصغار كرامته واستقصار زمان زيادته وتسخط جملة إحسانه.
عاقبة الغواية
لأبي نواس
ولقد نهزت مع الغماة بدلوهم ... وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت مذ بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام
أثام كسلام هو جزاء الإثم وفي القرآن الكريم ومن يفعل ذلك يلق أثاما.
وصف الناقة
لأبي نواس
وهي أبيات من قصيدة قال السيد المرتضي نسب أبو نواس في أولها ثم وصف الناقة بأحسن وصف ثم مدح الرجل الذي قصد مدحه واقتضاه حاجته كل ذلك بطبع يتدفق ورزنق يترقرق وسهولة مع جزالة والقصيدة:
يأمنه أمتها السكر ... ما ينقضي مني لها الشكر
أعطتك فوق مناك من قبل ... قد كن قبل مرامها وعر
يثني إليك بها سوالفه ... رشأ صناعة عينه السحر
ظلّت حميا الكأس تنشطنا ... حتى تهتك بيننا الستر
في مجلس ضحك السر وربه ... عن ناجذيه وحلت الخمر
ولقد تجوب بي الفلاة إذا ... صام النهار وقالت العفر
شد نية رعت الحمى فأتت ... ملء الحبال كأنها قصر
تثني على الحاذين ذا خصل ... تعماله الشذران والخطر
أما إذا رفعته شامذةً ... فتقول رنّق فوقها نسر
أما إذا وضعته خافضةً ... فتقول أرخي دونها ستر(10/12)
وتسفّ أحياناً فتحسبها ... مترسماً يقتاده أثر
فإذا قصرت لها الزمام سما ... فوق المقادم ملطم حر
فكأنها مصغٍ لتسمعه ... بعض الحديث بأذنه وقر
الحنين إلى الأوطان
(قال البحتري)
سقى الله أخلاقاً من الدهر رطبة ... سقتنا الجوي إذا أبرق الحزن ابرق
ليال سرقناها من الدهر بعدما ... أضاء بأصباح من الشيب مفرق
تداويت من ليلى بليلي فما اشتفى ... بما الربى من بات بالريق يشرق
(وقال أبو تمام)
سلام ترجف الأحشاء منه ... على الحسن بن وهب والعراق
على البلد الحبيب إلى غورا ... ونجدا والأخ العذب المذاق
ليالي نحن في وسنات عيش ... كأن الدهر عنا في وثاق
وأيام لنا وله لدان ... عرينا من حواشيها الرقاق
(وقال ابن الرومي)
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذ ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنو الذلكا(10/13)
نوابغ العالم
ابن الرومي - الفيلسوف نيتشه
ابن الرومي
بقلم الأستاذ ابراهيم عبد القادر المازني
بسم الله الرحمن الرحيم
نسأل الله يقينا يعمر القلب ويملأ الصدر (وبعد) فهذا ما شحذت العزم على كتابته وحضضت على تقديمه من النظر في شعر أبي الحسن علي بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر المشهور وتاريخه والموازنة بينه وبين نظرائه وأكفائه من فحولة شعراء العرب والفرنج بما يستدعي ذكر أعيان قصائده ومقطعاته ويستوجب الشرح والملاحظة وتفسير ما يقع من كلام غريب ومعنى مستغلق حتى يكون المقال مكتفياً بنفسه ومستغنياً عن أن يرجع إلى أحد في تقريب بعيده، وبيان مستعجمه، وهو عمل لعمري غير أنه وعن المركب، كوؤد المطلب، وما أظن بك إلا أنك عالم بصعوبته، عارف باعتياضه وبعد مشقته، وإلا أنك قد مهدت لي العذر من ذي نفسك في التقصير والضعف وسائر ما عساه يقع من الارتباك والخلل، فقد وجدت، أصلحك الله، أكثر من ترجم ابن الرومي من الكتاب المتقدمين لم يستقصوا أخباره ولا توخوا الإحاطة بها أو ترتيب ما أثروا منها، ومن أين لنا أن نوفي القول في تاريخه وكل ما انتهى إلينا لا يبرد الغلة ولا يسد الحاجة، وكيف نقتني معالم سيرته ونتتبع نمو عقله ونستقري أطوار نفسه ونحن لا نعلم أي أخباره أسبق ولا نعرف عن كثير ممن اتصل بهم وصاحبهم وتقلب بينهم إلا أنهم عاشوا وماتوا كسائر الناس؟
ورأيت كذلك المؤرخين السابقين رحمهم الله قد أتحفونا بطائفة من فضائله ورذائله رواها بعضهم عن بعض بالتواتر، وليس من غرضنا أن ننفي ذلك أو نثبته، فإن لهذا وقتاً لا نستعجله، وإنما أود أن نقول أن هذا المذهب أشبه بالعمليات الحسابية منه بالتحليل الأخلاقي، وأنه ليس تصويراً للنفس ولكنه قياس لطول الصورة وعرضها، وشتان بين أن تجمع شتيت الصفات ثم تسردها واحدة واحدة وبين أن ترسم الخلق الحادث من تفاعلها واصطكاك بعضها ببعض، فإن مما لا شبهة فيه ولا ريب أن النفس الإنسانية ليست كخزانة(10/14)
الكتب ترى فيها الفضائل والرذائل مرصوفة مرتبة لا تعدو واحدة مكانها ولا تتجاوزه إلى سواه، وإنما هي ميدان لتلاقيها وتلاحمها، وعالم صغير تقضادم فيه الغرائز والملكات وتقتتل على الحياة والبقاء كما يحترب الناس في هذا العالم الكبير ويتنازعون البقاء فيما بينهم، وبحر تتسرب فيه الطبائع بعضها في خلال بعض كما تتسرب الموجة من الماء في خلال الموجة وتغيب في أثنائها.
وفي الحقيقة أن كتاب العرب ومؤرخيهم قصروا أشد التقصير وأسوأه في ترجمة شعرائهم وكتابهم وعلمائهم وعظماء رجالهم، ولم ينصبوا أنفسهم في هذا المعنى على كثرة ما ألفوا وصنفوا، ولا جؤا بشيء يضارع ما عدا أمم الفرنج منه، وإنك لتقرأ لأحدهم السفر الضخم ذا الأجزاء العديدة والحواشي والتعاليق، وتعاني في تصفحه من البرح والعنت ما تعاني، ثم لا تظفر إلا بأشياء لا تستحق ما عالجت في سبيلها من الشدة، وبذلت من الجهد وأنفقت في طلبها من الساعات والأيام، وقصص وأخبار لا تجد عليها طابع العقل وميسم التفكير، كأن لم يكتبها إنسان وهبه الله عقلاً وفهما. وفؤاداً ذكياً. وذهناً يتفكر. وقلباً يتدبر. أو كأنما كانوا يكتبونها وهم رقود.
لسنا نقصد إلى تنقص مؤرخي العرب والتسميع بهم، والوقوع فيهم وتحقير شأنهم. أو إلى تفضيل مؤرخي الفرنج عليهم، والتنويه بمفاخرهم، فإن هذا مالا يخطر لنا ببال ولا يسنح في فكر، وعلى أننا بعد لو قصدنا إلى شيء من ذلك التفضيل لا تسع لنا فيه نطاق المعذرة، ولبرأنا عقلاء القوم من اللائمة، فإن مما لا يخفى على أحد له أدنى معرفة أن مؤرخي العرب لم ينظروا إلا إلى الدولة دون الأمة، وإلى الحكومة دون الشعب، ولم يعنوا إلا بذكر الفتوحات والحروب وتعاقب الولاة، واختلاف الحكام، ولم يفطنوا إلى عظمة الشعر وجلال الأدب فطنة الغربيين لذلك، وهذه أسفارهم فليراجعها من شاء إن كان في شك مما نقول وليحكم عقله وليتجرد من الهوى، فإنه لا بد صادر عنها بآماله، وراجع بالخيبة وحبوط المسعى، ولعل للعرب بعد عذراً من زمانهم وأحوال أيامهم ونحن نلوم. . .
الإنسان وجهة الإنسان وموضع عنايته، وليس أدل على مدنيته واستئناسه من حبه للترجمة والتاريخ ولكفه بهما، على الرغم مما يدلي به لرد ذلك ودفعه، وأي شيء أحلى في القلب، وأثلج للنفس، وأشرح للصدر، من أن يساهم أحدنا شعور أخيه الإنسان، ويشاطره إحساسه،(10/15)
ويتغلغل نظره إلى قلبه، ويحيط بحركات نفسه. ويقف على ما يضطرب به جنانه. ويدور في خاطره، ويجري في ذهنه. بل أي شيء ادعى إلى طرب العقل وأبعث على لذة الفكر ومتعة الذهن من أن ينظر أحدنا بعيني أخيه ويرى العالم كما هو باد في مرآة عينه؟
تلك لذة لا تعادلها لذة، ومتعة أنعم بها من متعة، فأما من تغيرت قلوبهم على البشر، واعتقدوا للنوع البغض والعداء، وطووا أحناء الصدور على الكراهية والمقت والاحتقار، فلعمري إن هذا لمظهر من مظاهر حبهم للنوع وإخلاصهم له، وغنما غلبت عليهم السوداء، واسودت الدنيا في عيونهم وتنكرت لهم فتنكروا لها لا للناس وإن خيل غير ذلك، ثم لم يدروا كيف يجازونها بغضة ببغضة. ومقتاً بمقت، فانقلبوا على الناس إذ لم يصيبوا غيرهم ما يشفون منه غيظهم، فهم صديق في ثياب عدو!
قلنا أن من أظهر الأشياء في الإنسان حبه للتأريخ والترجمة وكلفه بهما وأنا لا نعرف معنى أجمع لصفات المدنية، ولا أدل على جماع الإنسانية من ميل المرء إلى ذلك، وتقليبه وجوه الرأي له، وتصريفه أعنة الفكر فيه، ونقول أن هذا الميل مركب في السلائق، ومركوز في الطبائع، وإن كل إنسان مؤرخ ببعض الاعتبارات. فإن أردت دليلاً على ذلك فانظر في من حولك وتدبر ما يجري بينهم من الكلام في متحدثاتهم ومجالس سمرهم، أليس أكثر ما يرد على السمع منه حكايات وقصص وأنباء، فمن ناقل إليك ما ترامى إليه من الأخبار، ومن مسر إليك بذات نفسه وما لقيه من المحنة والبلاد. وكيف عدلت عنه الأيام، ثم عطفت عليه،
وبينا نعمة إذ حال بؤس ... وبؤس إذ تعقبه ثراء
* * *
ومن ولجد قد ألزم القلب كفه ... ومن طرب يعلو اليفاع ويشرف
ومستعبر قد أتبع الدمع زفرة ... تكاد لها عوج الضلوع تثقف
ومن لعب مجان يتداعب على الناس ويركبهم بالهزل والمزاح. ويروي لك النادرة المضحكة إثر الطريفة المستملحة، إلى آخر ذلك مما لا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه، ثم تأمل الشعر، أليس شعوراً مترجماً، وقصة مروية، وخاطراً مجلواً؟، والعلوم بأنواعها، أليست مجموعة تجارب فهو أيضاً تاريخ للعقل الإنساني! وهل الحياة إلا قصة طويلة يمثل كل(10/16)
منها فيها دوره الذي خص به وقدر له، ثم يحدث الناس به؟
والمرء مدفوع إلى ذلك بعاملين أحدهما علمي والثاني شعري. فأما أنه لا يزال يحاول أن يطلع على نفس أخيه الإنسان ويستكشفها مسوقاً إلى ذلك بدافع علمي، فلأن الطبيعة قد اختصت كل أحد بمسألة من مسائل الوجود هو مسؤل أن يحلها على الوجه الذي يبدو له، ولو لم يكن من ذلك إلا كيف وفق بين جسمه وروجه. وكيف عالج هذا في سبيل ذاك وأراد ذلك على طاعة هذا لكان ذلك حسبنا دافعاً وسائقاً مستحثاً. . إلا أن العامل الشعري أقوى دفعاً وأشد حملاً للنفس وإغراء لها وحضاً. فإن هذا التنازع بين الإرادة البشرية والحاجة المادية هو الشعر ولا شعر إلا به، وما زال العنصر الشعري في النفس أقوى من العنصر العلمي وأظهر وأن كانا في الحقيقة مظهرين مختلفين لشيء هو في جوهره واحد،. . . وكذلك ينظر أحدنا بعيون الناس فتكتحل عينه بعوالم متباينة، ويشاطرهم إحساسهم. فيحيا حياتهم كما يحيى حياته، وكأن كل واحد مرآة مجلوة - علمية شعرية - طبعية سحرية - نود لو أتيح لنا أن نرفع ما أرسل عليها من الحجب لنرى فيها وجوهنا ونبصر في صقالها نفوسنا. ونستبين في نورها أغمض أسرار الضمير وأخفى طوايا الصد،. . .
(وبعد) فلا يحسبن أحد أن الأمر ينتهي عند هذا القدر، ويقف عند هذا الحد، فإنه أكبر من ذلك وأعظم، والمسألة أدق وألطف، وما في النفس ميل أعرق، ونزعة أثبت من هذه النزعة الإنسانية التاريخية. لأن الإنسان كما قدمنا وجهة الإنسان في كل شيء، ومن أحل هذا تجد عنايته به شديدة، واهتمامه بآثاره كبيراً، وإجلاله لقدرها عظيماً، ومن أجل هذا أيضاً لا ينفك أحدنا وهو ينظر في قصيدة الشاعر أو رسالة الكاتب يحاول أن يصور لنفسه روحه التي كانت تحفزه، وعقله الذي أملى عليه وأوحى إليه، ومن ذا الذي لم تذهله عن نفسه قصيدة من الشعر حتى تجرد من نفسه، وتغري من شخصيته واعتاض منهما نفس الشاعر وشخصيته وروجه وعقله، وأي معنى في ظنك لهذا التجرد الوقتي؟. . . بل أي متعة ألذ من هذه الغيبة وأشهى وأطيب على رغم أنف النقادة الذين لا يفتأون يطلبون أن يتجرد المرء من إنسانيته ليتجرد من الهوى، وليكون أصح حكماً، وأصدق نظراً. كأن قيمة الشعر لا تقدر أيضاً على حسب اللذة المستفادة منه؟
كذب النقادة وصدق الإنسان! ولعمر النقادة لو أن قصيدة ابن الرومي التي يقول في(10/17)
مطلعها:
أجنت لك الوجد قضبان وكثبان ... فيهن نوعان تفاح ورمان
وفوق ذلك أعناب مهدّلة ... سود لهن من الظلماء ألوان
وتحت هاتيك عناب تلوح به ... أطرافهن قلوب القوم قنوان
غصون بان عليها الدهر فاكهة ... وما الفواكه مما يحمل البان
ونرجس بات ساري الطلّ يضربه ... وأقحوان منير النور ريان
ألفن من كل شيءٍ طيب حسن ... فهن فاكهة شتى وريحان
ثمار صدق إذا عاينت ظاهرها ... لكنها حين تبلو الطعم خطبان
بل حلوة مرة طوراً يقال لها ... شهد وطوراً يقول الناس ذيفان
يا ليت شعري وليت غير مجدية ... إلا استراحة قلب وهو أسوان
لأي أمر مراد بالفتى جمعت ... تلك الفنون فضمتهن أفنان
تجاورت في غصون لسن من شجر ... لكن غصون لها وصل وهجران
تلك الغصونن اللواتي في أكمتها ... نعم وبؤس وأفراح وأحزان
يبلو بها الله قوماً كي يبين له ... ذو الطاعة البر ممن فيه عصيان
وما ابتلاهم لا عنات ولا عبث ... ولا الجهل بما يطويه إبطان
لكن ليثبت في الأعناق حجته ... ويحسن العفو والرحمن رحمن
ومن عجائب ما يمني الرجال به ... مستضعفات لنا منهن أقران
مناضلات بنبل لا يقوم له ... كتائب الترك يزجيهن خاقان
مستظهرات برأي لا يقوم له ... قصير عمرو ولا عمرو ووردان
من كل قاتلة قتلى وآسرة ... أسرى وليس لها في الأرض أثخان
يولين ما فيه أغرام وآونة ... يولين ما فيه للمشغوف سلوان
ولا يدمن على عهد لمعتقد ... أني - وهن كما شبهن بستان
يميل طوراً بحمل ثم يعدمه ... ويكتسي ثم يلفى وهو عريان
حالاً فحالاً كذا النسوان قاطبة ... نواكث دينهن الدهر أديان
يغدرن والغدر مقبوح يزينه ... للغاويات وللغاوين شيطان(10/18)
تغدو الفتاة لها خل فإن غدرت ... راحت ينافس فيها الخل خلان
نقول لو أن هذه القصيدة لم تكتبها يد الشاعر أو يد سواه من الناس وإنما ارتسمت حروفها على صفحة الطرس من تلقاء نفسها، ونبتت شطورها في ثرى القرطاس بفعل الهواء وتأثير الجو، كما تخضر الأرض جادتها ديمة سمحة القياد سكوب أكان يكون لها في تقديرك ما لها من الواقع، أم كنت مبوئها أخص موضع بين غيرها من القصائد البشرية كما أنت اليوم صانع بها؟ كلا!
تدبر ذلك تدبر من شأنه التوق إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها، ويتغلغل إلى دقائقها، ويتجافى بنفسه عن مرتبة المقلد الذي يجري مع الظاهر، ومنزلة المكابر الذي يخطئ كل قول، ويعيب كل رأي، فإنه باب كثير المحاسن، جم الفوائد، يؤنس النفس، ويثلج الصدر، بما يفضي بك إليه من المعرفة، ويؤديه إليك من التبيين،. . . أو ما ترى الناس يأتون في كل عام إلى الأهرام، وما أظنها أروع جلالاً، وأبرع تكويناً، وأفتن جمالاً، ولا أدل على القدرة من جبال (الهملايا)؟. . .
ثم ألا ترى كيف تجاوز البحتري جبال لبنان وهضبها إلى رباع الفتح ابن خاقان في قوله:
تلفت من عليا دمشق ودوننا ... للبنان هضب كالغمام المحلق
إلى الحيرة البيضاء فالكرخ بعدما ... ذممت مقامي بين بصرى وجلق
مقاصير ملك أقبلت بوجوهها ... على منظر من عرض دجلة مونق
كأن الرياض الحو يكسين حولها ... أفانين من أفواف وشي ملفق
إذا الريح هزت نورهن تضوعت ... روائحه من فأر مسك مفتق
ومن شرفات في السماء كأنها ... قوادم بيض من حمام محلق
رباع من الفتح بن خاقان لم تزل ... غنى لعديم أو فكاكا لمرهق
وكيف أنه وصف الجعفري والإيوان والكامل والمتوكلية والصبيح والمليح والبركة وغير ذلك ولم يقل بيتاً في كهف أو جبل؟ وإنما كان هذا كذلك لأن النفس تجد لذة وعزاء في استجلاء آثار النفس.
كفرحة الأديب بالأديب * وطرب المحب بالحبيب
* وحنة المريض للطبيب *(10/19)
الناس عن الناس أفهم، وإليهم أصبي وأسكن، وبهم آنس وأشغف،
وليس معنى هذا أن الشيء لا يروقك، ويقع من قلبك، إلا إذا كان صانعه آدمياً، فإن هذا ما لا نذهب إليه، أو ن قول به، وإنما نعني أن الإنسان حبيب إلى الإنسان، وأن أكثر ما يفتنه ويستولي عل لبه وهواه، ما كان عن الإنسان صدره، وما تبين عليه ميسمه وأثره، وهذا ملموح فيكل حركة، وملحوظ فيكل لفظة، وما تأملت قط هذا الأمر إلا أثار لي التأمل، واستخرج لي التفرس، غرائب لم أعرفها، وعجائب لم أقف عليها، وإلا استيقنت أن الأمر كما ذكرت، والحال على ما وصفت، وأن الإنسان لا تزال يتلمس الإنسان ويحاول أن يجتليه في كل شيء كأنما هو يستوحش الشيء إذا أحس أنه منه خلاء، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان الإنسان إنساناً، ولا كان على الدنيا طلاوة، ولا للحياة رونق وحلاوة، ولعمري هل تروقنا الأرض إلا لأنها سكننا ومثوانا، ومراحنا ومغدانا، وهل يملأ الروض عين من نظر إلا إذا أحس أن رياحينه تحييه، وحمامه يغنيه ويلهيه. وغصونه توسوس إليه، ولعمري كيف الحياة وماذا العيش إذ أنت حرمتنا هذا الإحساس الحلو والأنانية اللذيذة، وسلبتنا هذا الخلق الإنساني، والغريزية التاريخية، وذلك أصل الدين، وأصل الشعر، وأصل العلم. . .
وبعد فأي شيء يدفع الناس إلى إنفاق الوقت على طلب التاريخ. واستنزاف الأيام في معاناته، والتوجه إلى تعلم اللغات الدارسة، والانقطاع لحل الرموز الهيروغليفية مثلاً وإيضاح مشكلها: والكشف عن معانيها. وماذا يحمل الناس على الغوص على آداب العرب والفرس والهند واليونان والرومان، ولماذا يستنفذون الطاقة كلها ويعنون بترجمة هذه الآداب من لغة إلى لغة، أو ليس حسب كل أمة ما عندها من ذلك؟ وما هو السر في أن أساطير الأمم القديمة وقصص البربر والهمج ربما كانت أخلب لللب وأغتن للنفس وأسحر للعقل من فلسفة أفلاطون وكانت وغيرهما؟ وماذا يحتث الناس ويسوقهم إلى هذا الكد والتصرف؟ أليس هو أن المرء ينبغي أن يعرف كيف كان الإنسان في العصر الحالي ليعرف أي شيء هو؟؟
يرى سقراط. ورأيه الحق، أن غاية الفلسفة أن يحيط المرء بنفسه. وأن ذلك أحق بالتقديم، وأسبق في استيجاب التعظيم، وأنه لا عرفان إلا وذلك هو السبيل إليه، ولا علم إلا وهو(10/20)
الدليل عليه، ولا معرفة إلا وهو مفتاحها، ولا حقيقة إلا وهو مصباحها، ولكنه أخطأ السبيل إلى هذه الغاية، وذهب في مذاهب لا تؤدي إلى هذا العلم، وطرق لا تفضي إلى هذه المعرفة، وما أضله إلا حسبانه أن الإنسان ليس مظهراً من مظاهر قوة بعينها. ولكنه فرد قائم بذاته، وروح مستقلة بنفسها، منفردة عما عداها، فهو أبداً يحاول أن يفض ختم هذا السر الإنساني بأن يتدبر ما يجري في ذهنه، ويتوسم ما يحصل في نفسه، ويحلل المعرفة إلى أصولها، ويضع لكل شيء حداً، وما فاز من ذلك بشيء، ولا عاد بالخيبة والخذلان. وبقيت الحقيقة عنه مستورة، واستولى الخفاء عليها، واستمر السرار بها، حتى فطن الناس إلى هذا الغلط الذي دخل عليه، والرأي الفاسد الذي عنّ له بسوء الاتفاق حتى صار حجازاً بينه وبين العلم بها، وسداً دون أن يصل إليها،
الإنسان ليس فرداً قائماً بنفسه، كاملاً في ذاته، وإنما هو واحد من عشيرة، وعضو من فصيلة، لا يتأتى العلم به، والوقوف على أمره إلا بالقياس إلى أنداده وأشباهه من الناس، وقديماً حسب الناس الأرض جسماً منعزلاً لا نظير له ولا شبيه، فركبهم في أمرها جهل عظيم، وخطأ فاحش. وسبقت إلى نفوسهم اعتقادات بأن فسادها لما وضح للناس أنها كوكب كبقية الكواكب وكذلك يختلف اليوم رأينا في الإنسان عن رأي آبائنا فيه فقد كانت كل أمة تمتهن ما عداها من الأمم وخلاها من الشعوب، وتزدريها وتستخف بها ولا تعدها إلا في الهمج والبربر، ونحن نرى فيها اليوم إخواناً صدعت شملهم البحار، وفرقتهم اللغات وقطعت بينهم العداوات. . . لهذا يعكف أحدنا على تاريخ آبائه وأجداده فيقرأ في صفحاته آيات الحكمة الإلهية، ويعبر في سطوره مظاهر القوة الإنسانية، واجداً من الروح والخفة والأنس في مطالعة أخبار القرون الخالية والأجيال الماضية ما لا يجده في أخبار العصر الحاضر. . . وكما أن أحدنا إذ تلقى في يده الصدفة شيئاً من رسائله القديمة المهجورة يقلبها بادئ الأمر وهو غير حافل بها ولا ملتفت إليها. ثم لا يلبث أن يعتاده الذكر. ويلهيه ماضيه عن حاضره فيترسل في قراءتها بعد العجلة، ويتمهل بعد المسارعة، ويقف على كل حرف، ويستخبر كل لفظ، كأنما يستبعد أن يكون هذا خطه، وتلك مقاطر قلمه ومراعف مرقمه ولا يصدق أن هذه الأيام مرت به، وتلك الهموم والمسرات وردت عليه، ثم تنزاح عن الماضي حجب الغموض، وتنتفي عنه معتلجات الشكوك، فتدب في جسمه روح الشباب(10/21)
وتجري في عروقه دماؤه، ويعلم أن هذه رسائله من غير ما شك، كذلك يستغرب أحدنا التاريخ القديم بادئ الأمر، وتخفى عليه نسبته إليه، وقرابته منه، وما هي إلا صفحة أو بعضها حتى تذهب عنه الوحشة، وتتجلى الشبهة، وتحل مكانهما بهجة الأنس، وروعة اليقين، ويصبح وكأنه يقرأ تاريخ نفسه، ويتصفح ترجمة حياته!. . ولعمري ماذا يفيدنا التاريخ إذا هو لم يحك في نفوسنا هذا التعاطف، ولم يؤكد العقدة بين الحاضر والغابر! فإن الحياة كما أسلفنا قصة طويلة يمثل كل فيها دوراً، وإذا كان هذا كذلك أفليس ينبغي أن نحيط علماً بدور من خلا مكانه، وحللنا محله، لنكون على بينة من أمرنا؟ وهل ثمت شيء من الغرابة في أن يرجع أحدنا بصره في الفصل المنصرم؟ أو ليس من الضروري الذي لا معدل عنه في كل رواية أن تكون الفكرة الأساسية واحدة في كل الفصول؟؟(10/22)
الفجر
ذاع ذكر نيتشه في السنوات الأخيرة ولج الكتاب في أمره فمن قائل أنه أكبر فيلسوف ظهر في القرن التاسع عشر بل والقرن العشرين، ومن قائل أنه رجل متهوس مجنون هام بالتنويه عن نفسه فنجح بعض النجاح.
والمصريون لا يعلمون إلا قليلاً عن نيتشه وترجمة حياته وتفصيل مذهبه، وليس هذا مجال التبسط في ترجمته أو درس آرائه. ولكننا نطيف بشيء منها إطافة على قدر ما يسع المقام.
فردريك ويلهلم نيتشه من أسرة بولونية هاجرت من موطنها إلى روكين بألمانيا في القرن الثامن عشر، فراراً من الاضطهاد الذي نزل بالبروتستانت هناك أما أبوه فقسيس قرية روكين (بالقرب من ليبزج). وقد ولد صاحب الترجمة في 15 أكتوبر سنة 1844 وتلقى دروسه الأولى في شلفورته ثم حضر دروس الأدب في جامعتي بون وليبزج. واستمر على ذلك حتى عين في سنة 1869 أستاذاً مساعداً لعلم اللغات بجامعة بال. ولم يحصل بعد على شهادته النهائية. والفضل في ذلك راجع إلى وساطة بعض أصحاب النفوذ. ثم لم يلبث أن عين أستاذاً بتلك الجامعة.
وفي سنة 1879 أصيب بوجع في عينه من تأثير اضطراب ألم بدماغه، فترك وظيفته وجعل ينتقل من بلد إلى بلد وهو يقاسي أشد الآلام والأوجاع. حتى قال إن بين أيام السنة مائتي يوم لا تطلع علي بغير العذاب وقد كتب أكثر مؤلفاته ونشر مبادئ فلسفته وهذه الآلام متسلطة على فكره، فكان أثر السخط والقلق والاضطراب بادياً على كل حرف من حروفها. وما زال كذلك حتى اعترته لوثة جنون سنة 1888 وبقي مجنوناً إلى أن مات في 25 أغسطس سنة 1900 فهو كما يرى القراء من أبناء عصرنا.
ولا يقال أن لنيتشه فلسفة مبوبة أو مبدأ مشروحاً فإن أكثر مؤلفاته نتف متفرقة تتناول أغراضاً شتى كلها تسفيه وحنق على آداب العصر وأديانه وأخلاقه ونظام الأمم والحكومات، وطعن عنيف في هزوم المجتمع لم يسلم منه مبدأ من المبادئ الفلسفية المعروفة، ولا فيلسوف من فلاسفة القدماء، أو المحدثين، وله شعر غاية في سمو الخيال واتساع التصور ولكنه يمج مرارة البغض والكراهة لكل ما هو من نوع الإنسان.
وكأني بالقارئ يقول: ما لنا ولهذا المجنون؟؟ ألا يغنينا جنونه الظاهر عن نقد آرائه وتتبع أقواله؟؟(10/23)
ولكنه قول كان لا يصادف معارضاً لو قيل قبل جيل أو جيلين. أما في عصرنا هذا فقد تبين أن الجنون والنبوغ فرعان من أصل واحد، وأن العبقرية والمواهب العقلية المختلفة لا تنشأ إلا عن خلل في توازن القوى العقلية يرتفع ببعضها إلى ما فوق المستوى العادي وينخفض ببعضها إلى ما دونه، وأكثر ما هنالك من الفرق بين الجنون والعبقرية أن الأول خلل مصحوب بذهول عن العالم الخارجي ولكن العبقرية خلل لا يفصل صاحبه عما حوله.
على أن أعراض الجنون ظاهرة في كتابات نيتشه فهو إذاً كان لم يحمل عصاه ويروغ بها على الناس ضرباً وهشماً فقد حمل قلمه فحطم به كل رأي تعرض له في طريقه، بجرأة وثقة لا يكونان إلا لمجنون.
ولكنه مع ذلك سديد الملاحظة ثاقب البصر، فأما ملكة الحكم فيه فبادية الضعف بينة الخطل، ولعل هذا هو السر في افتقار فلسفته إلى التبويب والترتيب واكتفائه بسرد ملاحظاته سرداً، وإرسالها بغير تعقيب جامع شامل لا شتات رأيه.
وهذا هو السر أيضاً في تناقض أفكاره واختلاط مسالكه، فبينما تراه بعد كنس الإسطبلات من أعمال البطولة لأنه عمل نافع، تراه في مقدمته على الفلسفة اليونانية يستحسن من اليونان احتقارهم كل أعمال المعيشة لأن الغرض منها قيام الجسد في الحياة. وما الحياة؟؟ إن هي إلا بنت الضرورة القاشرة وفلتة الطبيعة الجامدة ثم هي لا شيء في ذاتها في نظر نيتشه. وهو إنما يشايع اليونان في احتقار العمل توصلاً إلى تأييد رأيه في تقسيم الطبقات ومؤداه أن طبقات العمال لا نصيب لها في الطموح إلى حياة الفكر والجمال، وأنه لا بد من بقاء هذه الطبقات في ربقة الشقاء والعمل الخسيس ليتفرغ أهل الطبقة العليا للتملي ببدائع الكون والتفكير في شأن المجتمع، وهو ما لا يفقهه أهل الطبقات الدنيا.
وبينما يستقبح أصول الأخلاق الحاضرة لأنها عريقة في الحيوانية كما ترى في جملته المنشورة بعد. يذهب من ناحية أخرى إلى نزع عاطفة الرحمة من نفس الإنسان لأنها تعارض ناموس بقاء الأنسب وأنه من الواجب تقوية الأقوياء وإبادة الضعفاء ثم لا تكون حجته على ذلك إلا أن الحيوانات والهمج لا يشفقون على الضعيف أفما كان الأولى بنيتشه على هذا القياس أن يحبذ أخلاقنا الحاضرة لأنها أعرق في الطبع وأقدم؟؟
وكأن هذا الخاطر لا يرد إلا على أذهان النوكى. فقد خطر من قبل لهبنقة الذي يضرب(10/24)
المثل بحمقه. قيل أنه كان يرعى غنماً لقومه فكان ينحى العجاف عن المرعى ويرعى السمان فمر به رجل لامه على ذلك فقال لا أخالف ما فعل الله!! فهل هذا فلسفة من هبنقة أو هو جنون من نيتشه؟؟
ولعمري لو كان للمجتمع أن يقتل من أبنائه أحداً بغير جريرة لما كان قاتلاً إلا طغمة القساة الغلاظ لأن القسوة خلق لا ينتفع به في الجمعيات الإنسانية. ولئن كانت الأنانية أوفق لغريزة حفظ الذات كما قد يبدو للنظر السطحي. فالرحمة أوفق لغريزة التضامن الإنساني وهي أقوى في النفس وأشرف. وليس أدل على ذلك من كونها تغلبت على مبادئ نيتشه نبي الأنانية فساقته مكرهاً إلى غرضها - وإلا فما هذا التسخط والصياح وما هذه الجلبة الضخمة التي قرع طبولها حتى كاد يخرقها؟؟ أليس كل ذلك سعياً منه في إصلاح النوع، وبرهاناً على تأصل تلك الغريزة القاهرة التي كأنها أرادت أن تهزأ بدعاويه الطويلة العريضة في فضيلة الأنانية والأثرة؟؟
إن كان نيتشه يبرر القسوة عند القساة فإنها طبع فيهم، فالجريمة طبع في المجرم كما أطهر علم العقل الحديث، ولكن نيتشه يعد المجرمين باكورة إنسانه المنتظر بدلاً من أن يعدهم طغمة مصابة بنوع من الجنون الجانبي فأفسد فيهم حاسة الشعور بالواجب عليهم للجمعية المدنية أو النوع الإنساني. هذا الشعور المغروس في غرائز النحل والعنكبوت، والذي يجبر إناث بعض الحيوان وذكور بعضه على التفريط في حياتها في سبيل إنتاج الذرية أو إطالة حياة نوعها.
أما الفضائل الحظية عند نيتشه فهي الكبرياء إلى حد التأله، والقسوة إلى حد الوحشية، والخشونة إلى حد العجرفة، وهو عدو الدعة وسهولة العريكة وضعة النفس ويرى أنه لا حق لأصحاب هذه الأخلاق في الحياة لأن أخلاقهم منافية لموجباتها وبديه أننا لو جرينا على هذا الرأي لقضينا على مثل روسو السوداوي الحزين. ولكن روسو على ضعف نفسه وضؤولة إحساسه. قد أحدث بكلماته انقلاباً لا شك أن نيتشه يحسب نفسه من أسعد السعداء لو استطاع أن يحدث انقلاباً يدانيه في البطش والقوة، بكل ما في طبعه من الصلف والفظاظة.
فالطباع الإنسانية متشابكة ملتفة لا يسهل تخليص إحداها من سائرها. وليست الرحمة أو ما(10/25)
سواها حلية نلتقطها من النفس فتنسل في أيدينا كما تنسل الشعرة من العجين ولكنها زاوية في بناء لو ثللناها لانهار الجدار على أثرها. فنحن نخرج الرحمة من النفس فيخرج معها كل ما يرتبط بها من صفات الحذق والفطنة وحسن الذوق ودقة التصور وما شاكلها من فضائل لطافة الإحساس، أو نسلخ عنها الغرور فتتبعه العزة والثقة بالنفس وصلابة الطبع وما نحا نحوها. فمن رام أن يصلح هذه الطباع فليكن كالطبيعة كيماوياً ماهراً في تركيب سجايا النفس وتحليلها والطبيعة على كل حال أخبر بصناعتها وأدرى بوضع المواهب بحيث يؤدي كل منها عملاً لا يستغني عنه المجتمع الإنساني. وهو أوسع من أن تنفرد به صفة واحدة مهما بلغ شأنها.
وقد أساء نيتشه تفسير معنى القوة في تنازع البقاء فحصرها في القوة البدنية وليس الأمر كذلك ثم انه لم يلتفت إلى أن الخيبة في الحياة قد تكون أحياناً من سيئات المجتمع وليس من سيئات المجتمع وليس من سيئات الفرد وأن من رجال المواهب من ينبغون قبل أوانهم فلا يحسن المجتمع الانتفاع بهم. ولو ارتقى المجتمع لأحسن استخدام قواه في مواضعها ولم يضيع منها كبيرة ولا صغيرة. وحسب الإنسان حجة على حقه في البقاء أنه يبقى وإلا لا فنته الطبيعة صاحبة الناموس والقائمة بتنفيذه من غير حاجة إلى مداخلة الناس.
وفي كتب نيتشه عدا ما تقدم آراء نهاية في الشذوذ والغرابة. وفيها من الدعوة. إلى الفوضى ما يسلكه بين أكبر دعاة الفوضوية. وغاية الأمر فيه أنه رجل استولى عليه القنوط والحيرة، ولا نظن أن الحيرة هي عيب الرجل الذي يؤخذ به، فإنها نهاية كل باحث في هذا الزمان، وليت شعري إذا كنا نعلم كل شيء في عصرنا هذا ولا نحار في شيء فماذا بقي لأبناء القرن الخامس والعشرين أو الثلاثين، ليعرفوه ويكشفوا غطاء الحيرة عنه؟؟
ولكن عيب الرجل إنما هو تهجمه وجزمه بما لا يستطاع الجزم به. على أن آراءه لا تخلو من الثمين النافع وأقل ما فيها أن الاعتدال في فضائله ينمي في النفس عواطف الأنفة والصبر، ويثبت فيها صفات الرجولة والعنفوان.
وقد اقتطفنا الكلمات التالية من كتابه (الفجر) وهو يشير به إلى فجر اليوم الذي تتحقق فيه مبادئه. وقد ذكر في مقدمته أنه طفق زمناً يسري في نفق موحش مظلم ثم خرج للناس بهذه الآراء من تلك السبيل المجهولة. وقال أنه عبد للناس تلك السبيل فهم لا يعانون ما عاناه إذ(10/26)
طرقوها. ولكننا كيف كان الأمر نتناول آراءه التي أتانا بها من ذلك النفق ولا نمشي وراءه. ونقول لكل رحالة مثله: هات ما لديك من عجائب سياحتك ولكن لا تحاول أن تجعل الناس كلهم رحالين مثلك.
* * *
الأخلاق في عالم الحيوان - إن الأصول التي تشدد البيئات المهذبة في مراعاتها. كاجتناب ما يبعث على السخرية والترفع عن البرقشة، وإخفاء مزايا الإنسان وكتمان عوزه وضروراته الماسة، وخضوعه لأحكام الظرف والكياسة المصطلح عليها - كل هذا يمكن أن يشاهد على وجه الجملة في أدنى أنواع الحيوان أو يقابل عندها بما يناسبها من قواعد الكياسة الغريزية المكونة في طبائعها. وإذا شئنا أن نهبط إلى أساس بنائنا الأخلاقي، فالبحث عنه إنما يكون في رسمه الأول الذي أودعته الفطرة طبائع الحيوان. فأما أساسها فالتودد المقرون بالحذر، وقوامها الرغبة في النجاة من الأعداء والتماس المعونة على الفتك والاعتداء.
فمن هذا الإحساس الباطن يتعلم الحيوان كيف يضبط نفسه ويتصنع إخفاءها، حتى أن منه ما يتخذ لجلده لوناً يأتلف مع ألوان ما يحدق به (وهو ما يسمونه وظيفة التلون) ومنه ما يتماوت أو يتشكل بشكل حيوان آخر ولونه، ويماثل الرمال وأوراق الشجر أو العشب أو الإسفنج (وهو ما يسميه الطبيعيون الإنكليز بوظيفة التقليد).
ولا يخرج الأدب الإنساني عن هذه الفطرة، فإن الفرد ينضوي تحت اسم نوعه العام، ويكيف نفسه كما يوافق من يتصل بهم من الأمراء والبيئات والأحزاب أو يجري مع تيار الأفكار في عصره، ويلائم ما يحدق به من الأطوار والأحوال،
وليس أيسر علينا من أن نراقب هذه القدرة في الحيوان، فإننا وإياه سواء في حذق هذه الوسائل التي تكسبنا السعادة والشكر وتظهرنا بمظهر القوة بين أقراننا، وتجذب إلينا الأنظار من حولنا.
بل نحن نقول أننا والحيوان نشترك في إدراك معنى الحق، وما الحق في كهنه إلا مظهر حاسة التحفظ والرغبة في الأمن والتقية. فنحن نأبى أن يخدعنا غيرنا أو ننخدع لأنفسنا بالباطل ونتوجس من إغراء عواطفنا، ثم ننظر بعين الحذر والحيطة إلى أميالنا.(10/27)
وكذلك الحيوان، فإننا إذا راقبناه ألفيناه يفعل كما نفعل، ووجدنا أن هذه الحيطة أو ضبط النفس صادرة فيه عن نفس العاطفة التي تصدر عنها في الإنسان وأعني بها الحزم.
فالحيوان لا يختلف من هذه الوجهة عن الإنسان أي في أنه يلاحظ ما يؤثر به في روع الحيوانات الأخرى. ومن ثم يتعود أن يرى صورته معكوسة عن ملامحها وأن يدرك نفسه من تلقائها، على قدر ما عنده من الاستعداد للشعور بالوجدان.
والحيوان يتفرس حركات أصدقائه وأعدائه، ويفقه معاني أطوارها عن سجية فيه. ثم تصدر حركاته عن هذه المعرفة المجبولة، فيكف عن مناوأة الحيوانات التي لا شأن له معها، كما أنه يكشف نياتها مما يلوح على صفحات وجهها، ثم يواجهها بما تستحق من المسالمة أو العدوان - وهذا هو معنى الحق والعدل، أو عرفان مالك وما عليك ومن ثم فمبادئ العدل والحكمة - لا بل مبادئ كل تلك الفضائل التي يدعونها الفضائل السقراطية، إنما هي من طبيعة حيوانية، وأنها موحاة من تلك الغرائز التي تسوقنا إلى طلب القوت وتوقي الخطر على حياتنا.
فإذا تذكرنا أن الإنسان الراقي لم يتقدم في هذه الغرائز إلا في انتقاء أجود الطعام والتوسع في فهم آفات بقائه لا نكون قد تجاوزنا الصواب إذا قلنا أن خلاق الإنسان ليست إلا نسخة مهذبة من أخلاق الحيوان.
إلى اللا أدريين - لست أدري البتة ماذا أعمل؟ ولا أنا أدري ما ينبغي علي أن أعمل؟ لقد أصبت أيها اللاأدري في هذا الشك. ولكن ما لاريب فيه أنك تعمل في كل لحظة. لقد طالما التبس على الناس أمر الفعل بالانفعال واشتبه عليهم الإيجاب بالسلب وتلك لعمري لكنة في ألسنتهم لا تزول.
* * *
الأثرة والإيثار - أريد أن أعرف ما يدعو أحدنا إلى الإلقاء بنفسه في الماء لينتشل منه إنساناً وقع فيه أمام عينيه. على أنه ليس بينهما عاطفة رحم أو ود تستفزه إلى إنقاذه.
يقولون أننا نصنع ذلك في سبيل الشفقة، وأنه ليس في وقتنا هذا من يفكر إلا في غيره - كذلك تقول البلاهة والبلهاء.
ما لنا نحزن ونبتئس إذا نحن رأينا بعض الناس يبصق دماً وإن كنا نكرهه باطناً ولا نتمنى(10/28)
له الخير؟؟
في سبيل الشفقة!! نحن لا نفكر في أنفسنا بعد؟؟ كذلك تقول البلاهة مرة أخرى الحقيقة أننا في هذه الشفقة - وأعني ما يدعوه الناس شفقة خطأ - لا نفكر بأنفسنا على عمد - ولكننا نفكر بها اضطراراً، كما تتوازن حركات الإنسان إذا زالت قدمه من غير رجوع منه إلى قواه العاقلة، وهو مع ذلك يحكم حركاته أحكاماً لايهدي التروي إلى أقوم منه.
يلم المصاب ببعض الناس فيسؤنا ذلك، بل أنه ليحرك فينا الضعة والجبن، وينبه في قلوبنا الجزع تنبيهاً نحاول أن نفر منه بإعانة ذلك المرزوء. إن كانت معونته في وسعنا، وإلا خشينا أن تصغر كرامتنا في أعين الناس أو نستصغر أنفسنا. وكأن المصائب التي تحل بسوانا بنان تشير إلى الخطر على النفس - وقد خلق الإنسان هلوعاً فتؤلمنا تلك المصائب أيما إيلام.
ثم نحاول أن ننفض عنا ذلك الألم، فنقابله بشفقة يختفي وراءها إحساس كمين بالذود عن النفس، وقد يغلو هذا الإحساس فيصبح ميلاً إلى الانتقام.
أما أننا لا نعني إلا بأنفسنا في باطن الأمر فظاهر من موقفنا حيثما نستطيع الإشاحة بأبصارنا عمن يكابدون مضض الحياة، أو صم آذاننا عن استغاثة الملهوفين وصراخ المتوجعين،
فنحن لا نبتعد عنهم ما دمنا نستطيع أن ننجدهم نجدة القوى القادر، وندنو منهم لنشعر بنعيمنا من شقائهم. ونغبط أنفسنا بالحنو عليهم. أو نخفف من همومنا بمقارنتها بهمومهم. أو لنغتم منهم الثناء وطيب السمعة.
ومن الضلال أن نسمي هذا الإحساس مشاركة في الألم. فإنه إحساس بنوع من الألم لا يحس شيئاً منه أولئك الذين نرثي لحالهم. وإنما هو إحساسنا المحض، كما أن إحساسهم بآلامهم مقصور عليهم لا نشاركهم فيه.
هذا الضجر الذي يعنينا نحن دون سوانا هو الذي يبرمنا فنتخلص منه بالشفقة على أننا لا نستسلم لتلك العاطفة انقياداً لنزعة فذة. ولكننا ننفض عنا الألم ونتوسل إلى الغبطة والراحة بعمل واحد.
وإن الغبطة لتتولانا عند ما نأنس من أنفسنا التفوق على سوانا.(10/29)
وإننا نقدر على المسعدة متى رغبنا فيها. وإننا نباشر عملاً مفلحاً - والإفلاح في كل عمل يبعث إلى السرور والارتياح - هذا إذا قرن مسعانا بالنجاح.
وفوق ما تقدم فقد يعتقد أحدنا أنه يعين بهذه المسعدة على رفع حيف قد يكون هو ممن يشكون منه. فيزيده الحنق رغبة في تلك المسعدة.
من هذا كله. ومن دقائق أغمض منه. تتركب كلمة الشفقة. فما أكثر أصداء هذه الكلمة وما أقبح ما اختلطت كل هذه الأصداء في طيها!!
أما كون الشفقة صدى الحالة التي تثيرها. أو أنها ناشئة عن فهم تلك الحالة فهماً دقيقاً خاصاً. فذلك ما لا يقول به إلا شخص ناقص الخبرة. قليل الحنكة.
وهذا ما أوجب عندي الارتياب فيما عزاه شوبنهور إلى الشفقة من المزايا التي لا يصدقها العقل. وواضح أن هذا الظن هو ما حدا بشوبنهور إلى محاولة إقناعنا بهذا الابتكار الرائع الذي ابتدعه. وهو أن هذه الشفقة التي شوهها بتعريفه ووصفه وأبان بذلك أنه لم ينظر إليها إلا نظرة لا يتعدى ظاهرها - هي ينبوع الأخلاق ما تقدم منها وما تأخر. وإنها القطب الذي يدور عليه محور فعالها. ولولا أنه صدر بها عن ذلك الظن لما سولت له نفسه أن يتحدث بهذا الرأي.
وبعد فما هو الفرق بين القساوة وأولي الرحمة؟؟
أقول مع الإيجاز: كل ما هنالك أن أولئك لا يشعرون بالخوف شعور هؤلاء. وإن طبائعهم هادئة لا تتوجس كما يتوجس أصحاب الأمزجة القلقة، ثم إن غرورهم مطمئن ثابت فلا يغريهم بالتعرض لكل أمر يستطيعون منه كلما وقع شيء من ذلك بل هم يرون أنه أولى بكل إنسان أن يدير ورقه بيده في هذه اللعبة الدنيوية. وغير ذلك فهم أجلد على كظم بثهم وقمع عواطفهم من أصحاب العواطف اللينة. فإذا بصر أحدهم بمنظر يؤلمه كان أقدر على مداراة ألمه واحتماله. ولا يرى أحدهم من منافاة العدل في شيء أن يتعذب سواه ما دام هو يصبر على عذابه. وإنه ليرى من الألم في رقة القلب ما يراه أرقاء القلوب في الصبر على الآلام. وليس في معجمهم لهذا المرض مرض رقة القلب إلا كل مثلبة ومنقصة. لأنهم يعدونه خطراً على رجولتهم وشجاعتهم الساكنة. فهم يبكون وحدهم. ثم يمسحون دموعهم ولا يسخطون على أحد غير أنفسهم.(10/30)
نعم إنهم أنانيون. ولكن أصحاب العواطف اللينة أنانيون أيضاً كما رأيت. فالفريقان يتفاوتان في نوع الأنانية لا في عنصرها.
فإذا كنتم تدعونهم أشراراً وتدعون الرحماء أخياراً. فإن لهم أن يعكسوا الحكم ثم لا نراهم قد اعتمدوا على حجة أوهن من حجتكم حينئذٍ.
* * *
كبرياء الهمج - الهمجي لا يفزع من أمر فزعه من أن يصبح يوماً ما موضعاً للرأفة. لأنه يرى نفسه في هذه الحالة خلوا من كل معاني الشرف والفضيلة: فإن الرأفة عنده مرادفة لمعنى الازدراء. ولا يروق الهمجي أن يرى كائناً حقيراً يتوجع أمامه لأن هذه المناظر لا تستخفه ولا تحرك سروره وغبطته. بل هو يسر ويغتبط إذا كان له عدو مثله في الشمم والأنفة. ثم رآه يتعذب ولا يتذمر ويبيت من الشدة على أحر من الجمر فلا يتأفف أو يتململ: ويعجبه أن يرى الرجل متماسك البأس يأبى أن ينزل عن كبريائه وينغض من جبينه ليتلمس الشفقة في حضيض المهانة. فهنالك يشعر بالسرور التام والغبطة جد الغبطة.
هذا العدو الذي لا تكسر الشدائد كبرياءه ولا تلوي العواصف إباءه يبعث في نفس الهمجي إعجاباً عميقاً به: فينحى عليه بمديته أو حسامه ثم يشيعه إلى اللحد بما ينبغي لمثله من الرفعة والتكريم.
فأما إذا أن وتلاشى عزمه: وفارقت سيما العظمة جبينه: فقد يسمح له أن يعيش عيشة الكلاب: ويمر به خصماؤه فلا تذكو فيهم عاطفة الكبرياء: وإنما تحل الرأفة به محل الإعجاب.
* * *
نضوج قبل الأوان - قد نرى على وجه لا يخلو من الغموض أن هؤلاء الذين لا يدينون بمبادئ الأخلاق وأحكام الشرائع، هم قوم خطت غرائزهم الخطوات الأولى في سبيل تكوين أنفسهم ووضع نموذج للحق حسب ما يعن لهم ومنهم المجرمون والزنادقة والفاسقون وأهل المكر والبهتان وأمثالهم ممن عاشوا فوق حكم القانون، وسلكوا في ظل ضمير خرب فاسدين مفسدين.
وعلى الجملة يجب أن ننظر إلى هذا الأمر بعين الرضى ونعده حقاً وصواباً وإن كان ذلك(10/31)
ربما زعزع أركان الأمن في الجيل القادم واضطر كل فرد فيه إلى حمل السلاح.
ولا يجب أن ننسى أن تعارض المبادئ الأخلاقية يمنع هدم أصول الأخلاق المقررة من آساسها وأن الأخلاق التي تدحض كل ما عداها وتستقر في مكانها تتلف كثيراً من القوى وتكلف النوع الإنساني ثمناً باهظاً.
فلا يحسن بعد الآن تضحية الشواذ من الناس والخارجين على النظامات المتواضع عليها فإنهم كثيراً ما يكونون من ذوي العقول المستقلة والمواهب المنتجة المبدعة: ولا أن نحسب من العار بعد الآن أن يحيد المرء عن المبادئ الأخلاقية إما باعتقاده أو بعمله، بل علينا اليوم أن نأخذ بتجارب جديدة في شؤون الحياة والاجتماع حتى ينجاب عن الدنيا هذا الوقر الذي نعانيه من جراء ارتباك الضمير والتباس حدوده، ويتعين على أهل الصدق والصراحة أن يقروا هذا الغرض ويؤيدوه.
* * *
الجمال عند اليونان - مالنا نتشدق بفلسفة اليونان؟؟
أين نحن من فهم فن كان أهله يمثلون الجمال في جسد الرجل العاري؟؟ بل ما كانوا ليدركوا جمال المرأة إلا بالنظر إلى ذلك الجمال المذكر. أما جمال النساء فإنهم ما نظروا إليه قط كما ننظر إليه اليوم وكذلك كان شأنهم في الحب. وكذلك كانوا يعبدون ويحتقرون. ولكن عباداتهم واحتقارهم من نوع غير هذه العبادة وهذا الاحتقار.
* * *
المتسولون - مطاردة المتسولين واجبة لأننا نغضب سواء أعطيناهم أو منعناهم.
الحيوانات الأليفة - أيمكن أن يظهر الإنسان عاطفة أدل على الحمق والسخف من هذا الحنان الذي يظهره بعضهم للنبات والحيوان؟؟ - هذا الحيوان الذي كان يوسعهم فتكاً وأذى ويكشر لهم عن ناب العداوة والبغضاء. ثم هو يتقاضى اليوم لنفسه ذرة من الفكر والإدراك.
* * *
البطولة في كبير الأعمال وصغيرها - إن اشتغال الرجل بعمل نحسبه من الحطة بمنزلة نأنف من ذكرها. قد لا ينفي بطولة القائم به متى كان يجني منه شيء من النفع وهؤلاء اليونان لم يخجلوا من توكيل هرقل بنظافة الإسطبل مع ما كان يضطلع به من الأعمال(10/32)
الجسام.
* * *
إلى الأقوياء - معشر الأقوياء في القرائح والعقول؟ نحن لا ننشدكم إلا رجاءً واحداً: لا تطبقوا على عواتقنا عبثاً فوق ما نرزح تحته من الأعباء بل خففوا عنا بعض ما يرهقنا حيث أنتم أشد مرة وأصلب عوداً. بيد أني أراكم لا تصيخون لهذا الرجاء بل إنكم ليحلو لكم نقيض ذلك، لأنكم تطمحون بأبصاركم إلى السماء وتشتهون التحويم في أجواء الفضاء وكذلك تريدوننا على أن نحمل أعباءكم فوق أعبائنا ثم نزحف على التراب.
* * *
الجمال والمدنية - لماذا يكثر الجمال كلما أمعن الإنسان في المدنية؟؟
ذلك لأن علل الدمامة الثلاث تمتنع بين المتمدنين شيئاً فشيئاً بامتناع الحاجة إليها وتلك العلل هي اضطرام العواطف وهياجها هياجاً ينطبع أثره على سحنة الوجه ثم مشقة البدن ثم الحاجة إلى إيقاظ الخوف في نفس الناظر بشناعة الوجه وبشاعته فإن الإرهاب بهذا المنظر ضروري بين الهمج الذين يكثر فيهم السطو والغيلة حتى أنهم ليجعلون العبوسة والاكفهرار من أزياء الشهامة والوقار ويحسبون الشناعة وصفاً يجب أن يتحلى به الزعماء الكبار.
* * *
الجمود - تموت الجية إذا لم تنزع جلدها القديم وكذلك يجمد العقل الذي لا ينزع آراءه العتيقة فتموت فيه ملكة التفكير.
* * *
لا تنس - كلما علونا في أعنان السماء صغرنا في أعين العاجزين عن الطيران (العقاد).
قال ابن الرومي
رأيت الدهر يرفع كل وغد ... ويخفض كل ذوي شيم شريفة
كمثل البحر يغرق فيه حيي ... ولا ينفعك تطفو فيه جيفة
أو الميزان يخفض كل واف ... ويرفع كل ذي زنة خفيفة(10/33)
مذكرات إبليس
هي رسالة انتقادية ضافية للكاتب عباس محمود العقاد تناول بها أغراضاً شتى من النقد الأدبي والأخلاقي والاجتماعي بأسلوب خيالي شائق يأخذ باللب ويرتفع له حجاب القلب وسننشرها إن شاء الله تباعاً في البيان.
مقدمة
نحن الشعراء لكل منا صاحب من الجن يوسوس له بخفي المعاني ويهجس في خاطره بأسرار الخيال ويسلك به من وادي الجنة في ملاعب لا يسير فيها الأنسي إلا بترجمان من أبناء الجان.
كام لامرئ القيس شيطان من تلك الشياطين اسمه لافظ بن لاحظ. لا أشك أنه كان معه يوم العذارى، يوم نزلت صاحبته عنيزة تتبرد وصويحبات لها في الغدير فأغراه شيطانه فقعد على ثيابهن وأبى إلا أن يخرجن إليه عاريات الأبدان باديات محاسن الأجسام كأبكار الماء عند قدماء اليونان، أو كما خرجت بنت ملك الواق على الصائغ البصري وقد خبأ منها ريشها وهي تسبح بين أترابها في بركة القصر. ثم أغراه بناقته فعقرها لهن فظل العذارى يرمين منها بلحم وشحم لا أظن حسان اليوم يستطبن منه شواء إفرنكياً، ثم سقاهن من زقه خمراً زادتهن سكراً على سكر التيه والشباب. ثم أملى عليه تلك القصيدة التي سجل بها على نفسه فعلته فأراح كاتب الشمال من تقييدها عليه فيسجل السيئات.
وكان للأعشى صناجة العرب شيطان اسمه مسحل بن أثاثة. ترصد له حتى علم أنه مال إلى الإسلام فأوقف له في بعض طريقه إلى النبي قوماً من المشركين، فلما أتاهم قالوا له أين أردت يا أبا بصير.
قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم.
قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها لك موافق.
قال: وما هن
فقال له سفيان بن حرب: إنه يحرم عليك الزنا.
قال: لقد تركني الزنا وما تركته ثم ماذا؟
قال: القمار(10/34)
قال: لعلي إن لقيته أن أصيب عوضاً من القمار ثم ماذا؟؟
قال: الربا.
قال: ما دنت ولا أدنت.
فكاد مسحل ييأس من فتنة صاحبه عن الإسلام فقد بردت عواطف الرجل وأخذت الشيخوخة شهواته. والشيطان لا يخلق في نفس المرء ما لم يكن فيها.
ولكنه ينفخ في جذوتها الهامدة ويحرك نارها الساكنة ثم ذكر (أي مسحل) إن من لذات النفس لذة لا يعيي عنها صاحبها حتى يوارى ثراه، وهي لذة الشراب كما قال بعض إخوانه على لسان بعض الشعراء:
قالوا كبرت فقلت ما كبرت يدي عن أن تمد إلى فمي بالكاس
فلما سألهم الأعشى ثم ماذا؟؟ همس شيطانه في قلب أحدهم فأجابه:
إنه ينهاك عن الخمر.
فصاح كانما لدغته أفعى وقال ارجع إلى صبابة قد بقيت في المهراس فأشر بها ثم نكص على عقبيه وباع الجنة ونعميمها بمائة من الإبل فحق في هذا الأعشى قوله تعالى: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين.
أما النابغة فكان شيطانه يدعى هاذرا وكان كما قال نقد جني أشعر الجن وأضنهم بشعره أبدع في وصف امرأة النعمان حتى قال المنخل اليشكري: والله لا يقول هذا الأمن جرب ووقعت هذه الدسيسة من نفس النعمان فأراد أن يبطش بالنابغة وأحسب أن هاذرا هو الذي أدلى إليه بتلك الحيلة الشيطانية حين تغير عليه قلب النعمان فلقن إحدى قيان القصر قصيدته التي يقول في مطلعها:
يا دارمية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سانف لامد
فلما سكر النعمان غنته بها فطرب وقال هذا شعر علوي هذا شعر أبي إمامة ثم رضي عنه ووقاه هاذر كيد شيطان اليشكري.
ويعجبني هبيد شيطان عبيد بن الأبرص ذلك الشيطان المسكين الذي يرعى الظباء. ويلبس الأظمار وربما كان أول شيطان هدى إنساناً إلى ذكر الله فإنه لما طلع على عبيد في البيداء ورأى ما كان من ارتياعه منه قال له: اذكر الله فقد رعناك وبذكر الله تطمئن القلوب ولعله(10/35)
لا يذكر الله من الجن إلا الفقراء والمساكين كما هو العهد بيننا معشر الأنس!
ولا ذنب على هبيد في فساد شعر عبيد فإن الهبيد شاعر عبقري ساجل لافظ من لاحظ يوماً فلم يقصر عنه ولقد محض صاحبه عبيداً النصح ولكنه أبى واستكبر أتاه بلبن الشعر وقال له: لو أنك أصبت من لبن عندنا؟؟
فقال: هات.
ثم ذهب وأتاه بعس فيه لبن ظبي قال عبيد فكرهته لزهومته فقلت إليك ومججت ما كان في فمي منه فأخذه ثم قال امض راشداً فوليت منصرفاً فصاح بي من خلفي.
أما إنك لو كرعت في بطنك العس لأصبحت أشعر قومك فندم عبيد على تفريطه في العس وأنشأ يقول:
أسفت على عس الهبيد وشربه ... لقد حرمتنيه صروف المقادر
ولو أنني إذ ذاك كنت شربته ... لأصبحت في قومي لهم خير شاعر
ولو أنه أطاعه فرضع من البان الظباء لاختمرت في نفسه زبدة القريض ولم تختل تراكيب شعره أو تضطرب أوزانه.
ولقد كان لحسان بن ثابت شيطان أسلم معه وكان للفرزدق شيطان مستوحش إذا طلبه خرج يلتمسه في الفلوات والبوادي وكذلك كل شعراء العرب قديماً وحديثاً أما شعراء الغرب فقد شغلتهم عرائيس الطبيعة عن رجال الجن فطابوا بأغاني النساء وطبنا بأحاديث الرجال أو كما قال أبو النجم:
إني وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
ولقد صحبني هاجس من أولئك الشياطين اسمه حاذق بن واثق، فتي الطلعة وسيم الصورة، حلو الشمائل، وهو كما حدثني مرة من أشرف بيوت الجن وأرفعها ذروة. ولطالما جلست إليه في بعض خلواتي فكان يجلو لي عرائس الأفكار ويهتف في وجداني بلطائف الأخبار وروائع الأشعار وقد يحن إلى ليالي صبوته ومواقف صبابته فيسرد لي أسماء جنيات يلم خيالهن بالأذهان ولا تقع عليهن العيون وكان ربما صفاً لي لذات أبوينا في النعيم وما كانا يتناجيان به تحت أشجار الجنة من أحاديث الغرام الطاهر. ويحكي أحياناً تغاريد أطيارها وخرير سلسبيلها أو يصف صفاء ماء الكوثر ووريف ظلاله في ضحوة ذلك النهار السرمد(10/36)
ويقول - والعهدة عليه - إن أطيار الجنة شواعر ترتل آي التسبيح وتتغزل بحور الفردوس وولدانه. وتترنم بمحاسن رياضه وجنانه بقصائد لا يأني شعراء الأرض بشطر من مثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً وألحان سماوية لو سمعتها الأفلاك الدائرة لوقفت تنصت إليها ولو طرقت نغمة من أنغامها آذان البشر لرأوا بينها وبين غنائهم فرق ما بين صرير الجنادب وأناشيد داود عليه السلام.
خلوت به يوماً في بعض البساتين. فقلت له. أراك تكشف لي عن سرائرك، وتطلعني على أسرار ضمائرك، إلا سراً واحداً لا تزال تكتمه عني. ولا أراني راضياً عن صحبتك تمام الرضى ما دمت تحجب عني ذلك السر وتراوغني فيه.
قال. كذلك عرفناكم يا بني آدم. لا يزال أحدكم يطمع فيما ليس له حتى يفقد ما بيده، ولئن كانت في نفس الإنسان خلة تفسد عليه من أمره ما لا يفسد الشيطان فتلك خلة الطمع التي تأصلت من طباعكم ورسخت في صميم نفوسكم.
قلت. ما أحسبك أقنعتني بهذه الفلسفة وهب الأمر كما تقول ألا يقوم عذراً لديك ما تعلمه من هذه الطباع فينا.
قال. يشبه أن يكون الأمر كذلك فماذا عساك تريد أن تسألني اليوم؟؟
فرأيت أن أصارحه فيما أردت وكنت قبل ذلك أواربه فيه وألمح إليه تلميحاً بعيداً.
قلت. أنا أعلم أن مثل أبليس في دهائه وفطنته لا يفوته أن يكتب سيرة حياته في دفتر يذكر فيه غواياته ووقائعه مع مريديه وزمرته، وأنا في شوق إلى تلاوة صفحات من ذلك الدفتر. فإن إبليس كما تعلم إمام شياطين الشعراء. وليس ألذ لمثلي من تلاوة شذرة أو شذرات مما يمليه ذلك العقل القادر على يراعه الساحر. فإن شئت أن تنتزع ورقات من كنائسه فتأتيني بها كنت لك شاكراً أبد الدهر.
قال: إنك تحدثني بأمر جلل. ألا تعلم أن إبليس ملك ملوك الجان، وإنني إن أفشيت سراً من أسرار ديوانه حاق بي غضبه، ولت بي نقمته، ولا آمل أن أنفى من مملكة الشياطين فأقعد مليماً محسوراً.
قلت: هون عليك، فلعلّك تطرد من مملكة الشيطان فتقبل في ملكوت الرحمن وعسى الله أن يمحو عن جبينك تلك اللعنة، إذا أنت أظهرت للناس بعضاً من حيائل إبليس، ومسالكه التي(10/37)
يتسرب منها إلى النفوس، ووقيتهم شر الوقوع في أوهاقها فيفتح الله لك من أبواب السماء ما أوصده أبونا في وجه أبيك وذريته.
قال: نطقت صواباً.
ثم مضى عني أياماً لا يعاودني حتى يئست من رجوه، وخفت أن يكون قد رآه إبليس وهو يهم بسرقة أوراق الكناشة فبطش به.
فلما كنت ذات يوم في ذلك الموضع الذي لقيته فيه أخيراً، رأيته قادماً إلي من بعيد. فما هو إلا أن داناني حتى حياني ثم ألقى بين يدي قمطراً صغيراً فتأملته فإذا مكتوب على ورقة منه بلغة الجن: مذكرات إبليس وفيه خط دقيق رقمت حروفه بمداد من ماء النار على صفحائف من أوراق شجر الزقوم، فتناولت الأوراق فرحاً وهممت أن أفارقه لأتفرغ إلى قراءتها.
فقال: على رسلك. إني لأخشى وصول إبليس وأخاف عاقبة مكره مع ما منيتني به من غفران الله ورضوانه. وأنا أعرف الجن بإبليس، مثله لا ينام غريمه آمناً فناشدتك الله إلا ما كتمت هذا السر إلا عمن تثق بهم من القراء.
قلت: لك على ذلك.
وها أنا أسر للقراء بترجمة تلك الصفحات على أن يعاهدوني كما عاهدت حاذقاً أن يحفظوها في نفوسهم في موضع لا يطلع عليه ذلك الباقعة. إن كان في خبايا النفوس زاوية لا ينفذ إليها أبو مرة.(10/38)
رسائل الفيلسوف سنيكا
إلى صديقه لوسليوس
الرسالة السابعة
(في أنه ينبغي الابتعاد عن أخلاط الناس)
تقول لي ما الذي يجب علي تحاشيه واتقاؤه أقول لك تحاشى غوغاء الناس واتق أخلاطهم لأن الاختلاط بهم ليس وراءه إلا التأثير على أخلاقك، وإني أعترف لك بضعفي فإني ما اقتحمت مجالس هؤلاء إلا وخرجت بخلق غير الذي دخلت به ولا احتطت لنفسي احتياطاً إلا وأفسدت علي حيطتي مخالطتهم ولا طردت من نفسي رذيلة إلا وعادت إليّ من عشرتهم السوآى لأن حالنا كحال بعض الناقهين من أمراض طويلة وعلل مزمنة الذين قد يتعبهم الخروج وينتكسون إذا هم تعرضوا للهواء فنحن كذلك لأن نفوسنا قد تخلصت من عللها بعد طول عناء لا جرم يتبعها مباشرة أحد أسبابها أعني مخالطة الجمهور فيعاودها منه الداء الذي قد يكون شيء من جراثيمه كامناً فيقوى فينا ويزداد وما يزيده إلا الاختلاط بجمهور الناس الذين لا تزايلهم عادة تلك الأدواء النفسانية، لا شيء أضر على الأخلاق الطيبة من الفراغ والشغف بالألعاب لأنه قد يعقب التلذذ برؤيتها والسرور بمشاهدتها في الغالب التصاق كثير من الرذائل بنفوسنا دون أن نشعر بها أو أن نأبه لها فافهم ما أقوله جيداً واعلم أني ما شاهدت هذه الألعاب مرة إلا وعلق بنفسي شيء من مثل رذيلة البخل أو الطمع أو الميل إلى الشهوات فضلاً عما تجلب إلى النفس من قساوة القلب وسلب الفؤاد الرحمة والشفقة الإنسانية وما سبب ذلك إلا اختلاطي بغوغاء الناس فيها، لقد ساقني القدر إلى مشاهدة ألعاب الجنوب فذهبت إليها على أمل أن أرى ألعاباً سارة مسلية للنفس خالية من إراقة الدماء فخاب ظني وتبين لي أن ألعاب المصارعة كانت عندنا أمس أقرب إلى الرحمة والشفقة منها اليوم لأن أبناء هذا الجيل لا يرغبون إلا في إزهاق أرواح المتصارعين فلذلك ترى المصارع لا يستر جسمه ساترٌ ولا يقي بدنه الخطر واق فكل ضربة بين المتصارعين تحدث في أجسامهم جراحاً وتسيل أبدانهم دماءاً فما هذا أيفضلون هذه المناظر الدموية على تلك الألعاب اللطيفة العادية، ولم يرغبون فيها ويحبونها؟ وما هي إذا فائدة الخوذ والدروع والتروس وتعلم السلاح إذا كانت لأتقي الناس القتل؟ ولكنهم لا(10/39)
يعرفون في الألعاب اليوم مع الأسف شيئاً من ذلك ففي الصباح ترى المصارع المسكين معرضاً لافتراس الأسد والدببة وفي الظهيرة يدخل في مصارعة غيره من المتصارعين على تلك الحال البربرية المشتهاة للمتفرجين وهو على الحالين إن لم يقتل في أول النهار فلا يأتي عليه آخره إلا وهو مقتول وقاتله لا بد أن يلقى هو أيضاً حتفه وبالجملة فحظ كل هؤلاء المتصارعين في النهاية الموت هذا ما يريده ويولع به جمهور المتفرجين اليوم فلا يسرهم ولا يطرب نفوسهم غير ما تعمل النار والحديد فماذا يروقك أنت أيها المشاهد المسكين من تلك المشاهد وسماع قول الأخلاط للمتصارعين: اقتل خصمك، ألق عليه النار، انقض عليه بالضرب، لم هذا الإحجام على الانقضاض على الحديد لم هذا التحفظ في الإجهاز على خصمك، لم كل هذا الخوف من شرب كأس المنون وفضلاً عما تسمع من أمثال هذه العبارات في الحث والإغراء للإقدام على هذه الأفعال الوحشية تشاهد عصي الموكلين بأمر حفلة الصراع تدفع بالقسوة المتناهية هؤلاء المتصارعين التعساء إلى التعجل في لقاء الحتوف ومقابلة الموت الزؤام بصدورهم العارية وجراحهم الدامية وإذا ما انتهى فصل من فصول هذا اللعب فقد لا يفوت متفرجينا في الفترة التي بينه وبين الفاصل الذي يليه مشاهدة قتال بعض الناس من المتفرجين ورؤية دماءهم تهراق.
ما هذا الخرق والجنون أيتها الأمة الحمقاء أولا تعلمين أن مثل هذه الأعمال الوحشية قد يعود ضررها على القائمين بها ولكن اشكري للعناية الإلهية أن من تعلمه قساوتك قساوة لا يتعلمها فينبغي على كل حال أن يبتعد من معاشرة أخلاط الناس ذوو النفوس الضعيفة التي لم تتأصل فيها الفضائل الإنسانية وتستحكم الخيرات البشرية لأنها قد تكون سهلة الانقياد والاقتداء بما عليه الجمهور من الأحوال وأن تعاليم كبار الفلاسفة كسقراط وكاتون وليليوس وفضائلهم قد تتزعزع أركانها في النفوس من مخالطة ذوي الأخلاق الفاسدة والطباع السيئة من غوغاء الناس وهل في قدرة أمثالنا ممن لا يزالون مجدين عاملين على تهذيب نفوسهم وتزكيتها مقاومة سيل الرذائل الجارف الذي يبدو على رؤوس الأشهاد من الجمهور ويكون له من التأثير على النفوس ما له، لا جرم أن مثالاً واحداً في الإسراف أو الترف والشح قد يكون فيه من الضرر البليغ ما فيه وإن معاشرة إنسان واحد اشتهر بالترف والبذخ لتجلب على النفوس مصيبة الميل إلى السرف والنعيم وإن مجاورة غني واحد يظهر لنا كل يوم(10/40)
في زينة جديدة قد يثير أطماعنا وحسدنا وإن مصاحبة شرير واحد قد تجر على النفس من الفساد ما لا قبل لها بالخلاص منه فإذا كان كل هذا يصيبنا من معاشرة إنسان واحد فكيف لا يكون الخطر شديداً علينا من مخالطة جمهور غفير من الناس جمعت نفوسهم خصال الشر بأجمعها فيضطر المرء إما إلى بغضهم وكراهة معاشرتهم وإما إلى مجاراتهم والانتظام في سلكهم، أما أنا فلا أرضى لك سلوك أحد هذين الطريقين فلا أشير عليك بكراهة السواد الأعظم لأنهم ليسوا على شاكلتك كما لا أقر على مجاراة شرارهم في أخلاقهم وأفعالهم بل الذي أشير به عليك أن تعتزل الناس وتبتعد عن غوغائهم وتشتغل بنفسك ما أمكنك ذلك ولا بأس أن تعاشر من تجد في معاشرتهم ما يزيدك من خلال الخير وأن تخالط من تتوسم فيهم حبه والرغبة في تعلمه فتهديهم سبيله وترشدهم إلى مناهجه ولنعمت الحال في تبادل المنفعة والفوائد فالمرء قد يتعلم وهو يعلم وإنما أحذرك التطوح والشطط وألا يخدعك غرور نفسك فترغب في إظهار مقدرتك وعلمك على الملأ بالخطابة فيه أو القراءة عليه فإني لا أسمح لك بذلك ولا أجيزه إلا إذا كان المستمعون إليك على شاكلتك في الفضائل ورفعة النفس وهم مع الأسف قليل عنيدهم بل أن من قد يأتون إليك لتعلمهم هذه الحكمة على ما أنت عليه قد لا يزيد عددهم عن رجلين أو ثلاثة رجال ولقد تقول وعلام إذاً أجهد نفسي في التحصيل ومن ذا الذي أعلمه كل ما حصلت من العلم؟ أقول لتطمئن نفسك وليسكن روعك فإن تعلمك لم يضع عليك ولم يذهب سدى لأنك إنما تعلمت لنفسك على أني أخالف ما قررت آنفاً وإني لم أتعلم لنفسي وحدها بأن أسرد على سمعك ها هنا ثلاث حكم لا تخرج عن معنى ما قررت وها هي ذه: قال ديمقريطس: الواحد هو الكل لأن الكل لا يتركب إلا من الواحد أما الكلمة الثانية فإني أوافق عليها كل الموافقة مهما كان قائلها الذي لا يعرف وهي جواب سؤال سئل فيه عن تأليف دقيق وضعه وعني به عناية كبيرة فقيل له: لم عنيت كل هذه العناية بتصنيف هذا الكتاب الذي لا يقرأه إلا القليل من الناس ممن يفهمونه فأجاب على الفور: إني لا أريد إلا هذا القدر القليل من القراء بل قارئاً واحداً ليس بقليل ويؤثر عن أبيقور هذه الحكمة المشهورة التي ضمنها كتاباً بعث به إلى أحد رفقائه في طلب العلم قال: (هذا الذي أكتب به إليك إنما هو لك وحدك وليس للجمهور وأنا وأنت نكون مسرحاً عظيماً) فدقق أيها الصديق في فهم مغزى هذه(10/41)
الحكم يسهل عليك احتقار ما قد تفرح به نفسك ويطرب له فؤادك من ثناء الجمهور عليك وإطراءه إياك وما هو ثناء الجمهور؟ إنه لعمري ليس فيه شيء يزيد كثيراً في قيمة المرء ومكانته وإنما يزيد المرء قيمةً بل يزيده زينة نفسه فتحرى ذلك في نفسك واستمد الثناء عليك والمكافأة لك منك.
الرسالة الثانية
(فيما ينبغي أن يصرف الحكيم فيه عنايته)
كتبت إلي تقول: تأمرني أن أعتزل الناس وأن أبقى بعيداً عنهم قانعاً بمسامرة ضميري راضياً بمناجاة وجداني فماذا أصنع إذاً بتعاليمك ونصائحك التي تحثني على أن لا أنقطع عن العمل حتى الممات؟ - أقول ما هذا الوهم أأنا في حالتي الراهنة بناء على اعتقادك هذا عاطل من العمل؟ إن الغاية الشريفة من عزلتي وانفرادي بمحض اختياري إنما هي لكي أتوفر على العمل الذي أنا بصدده حتى تعم فوائده الجمة الغفيرة من الناس حتى أني لأخصص شطراً من سواد الليل للعمل ولا آخذ راحتي من النوم إلا إذا غلبني النعاس وجعلت عيناي ما تبصران ما أمامي من القرطاس إلا بصعوبة وعياء منه وإني ما اعتزلت الناس وانقطعت عن الأشغال المادية حتى أشغالي الخاصة إلا لتوفر علي الأعمال العينية التي تفيد الأجيال القابلة فإني في الكتابات إنما أتحرى نفع هذه الأجيال وإفادتها ولها وحدها أدون النصائح والإرشادات المفيدة في مؤلفاتي عن تجربة وخبرة بالأيام مما أصابني من المحن والإرزاء التي وإن كانت لم تزل جراحها دامية إلا أنها قد التأمت وعرفت من التجاريم المنهج الواضح والصراط السوي في الحياة بعد أن ضللت سبيله ولحقني من متاعب الحياة ومغرراتها ما دفع بي إلى كشف الغطاء عنه للناس صائحاً فيهم (أيها الناس فروا من كل ما يخدع عوام الناس من حظوظ العالم ومظاهره التي تسوقها الحظوظ وتحاشوا خيرات عارية وسعادات باطلة وخذوا حذركم ولا تأملوا للأيام واعلموا أن مثلكم في الغرور كمثل الأسماك والظباء توضع لها الطعم في الشباك فتقع فيها فمنح الأيام ليست إلا مصائد للرجال فإذا أحببتم أن تعيشوا بسلام آمنين مطمئنين فلا تركنوا إلى متاع الدنيا الغرور وإلا أصابكم الفشل وبؤتم بالخسران والضلال المبين فأنا لعمرك أن يخيل إلينا أنا فيها الآخذون وما نحن إلا مأخوذون فزخرف الدنيا والانغماس في نعيمها ما هو إلا هوة(10/42)
سحيقة تسقطون فيها وهو نهاية المجد والسؤدد الذي تتوهمونه وإن المرء إذا انساق في تيار هذه الغرور الدنيوي تعذر عليه الوقوف فينبغي له للنجاة إما المقاومة أو الفرار من وجه المعترك لأن غرور الدنيا وزخرفتها لا يتحول فقط بل هو قد يسقط الناس ويسحقهم سحقاً وهاكم طريقة سهلة الاتباع في السلوك في الحياة وعلاجاً شافياً وافياً لإنقاذكم من غروركم إذ أنتم اتبعتموه نجوتم وذلك أن لا تكون عنايتكم بالأبدان إلا بمقدار ما يقتضيه سلامتها وحفظ صحتها وأن تعودوها الاخشوشان في العيش حتى لا يكون لها سبيل إلى الجماع وعصيان العقل فلا تنيلوها من الطعام إلا بمقدار ما يسد رمقها ولا من الشراب إلا بمقدار ما يبل ظمأها ولا من الكساء إلا بمقدار ما يقيها الحر والقرّ ولا من السكن إلا ما يدفع عنها الطوارئ والعاديات وسيان أن يكون هذا المسكن كوخاً حقيراً من أصول الشجر أو قصراً فخيراً مشيداً بالجص والمرمر المجزع لأن أصول النبات وغصون الأشجار تؤدي هذا الغرض أفضل مما تؤديه حتى لبن الذهب والفضة بل هي آمن منها في الحماية والوقاية فاسقط هذا النعيم كله من عينك ولا تتطلع إلى زخارف تافهة ليست في العير ولا في النفير من الشرف والزينة واعلم أن شرف المرء وزينته في نفسه فإذا هي عظمت وسمت ظهر له كل شيءٍ حقيراً في جانبها.
فمن جعل مذل هذا النصح نصب عينيه وعني بتقريب أمثاله لإرشاد الخلف ألا يعد عمله في اعتبارك مساوياً في النفع تولي القضاة بين الناس والنظر في أمورهم ووضع الأختام في ذيول الوصايا أو العمل في مجلس الشيوخ ومساعدة أرباب المصالح فكن على ثقة أيها الصديق أن هؤلاء الذين قد تدل الظواهر أنهم عاطلون عن العمل إنما هم الذين يعملون جلائل الأعمال وإنهم يشتغلون بما تحوي الأرض وتشمله السماء وقد آن لي أن أختم هذا الكتاب ولكن لا بد لي من دفع ما فرضت على نفسي من الأتاوة اليومية وهي حكمة مستقاة من بحر أبيقور قال: كن عبداً للحكمة تكن حراً جد الحرية وليس في هذه العبودية ذلة أو عذاب بل فيها السرور والبهجة لأنه من يخضع للحكمة ويتمسك بأهدابها ويستقيم لأوامرها يفك عنه ربقه في الحال فخدمتها هي الحرية ولعلك تقول ما الذي يدعوك لترك حكم فلاسفتنا وتفضيل حكم أبيقور على سواها فأجيبك ولم لا تقول أنها للجمهور وليس لأبيقور، وكم من حكم ومعاني سامية طرقها كثير من الشعراء فضمنها الحكماء حكمهم أو غفلوا عنها(10/43)
وكان يجب ألا يغفلوها هذا فضلاً عما في رواياتنا التمثيلية من حكم ورقائق شعرية، وكم من أشعار حكمية تلوكها ألسنة الرواة والقصاص وكم من درر غوال حوت أشعار مثل الشاعر بوبليوس حرية بأن يترنم بها في أعظم أمكنة التمثيل دون الاستجداء بها على قارعة الطريق لما فيها من نفائس الحكم الجديرة باختيار الفيلسوف ولأذكرن لك بيتاً واحداً يدخل في موضوع هذا الكتاب وقد بين فيه ذلك الشاعر أنه لا ينبغي لنا أن نحفل بعطايا المصادفات لأنها ليست لنا قال:
والعطايا من الجدود عوار ... والعوار مصيرها للمعير
واذكر أنك ضمنت هذا المعنى بيتاً لك فقلت:
وهل للمرء في الدنيا نصيب ... إذا كان الزمان إلى سواه
ولا أغفل أيضاً عن ذكر هذا البيت وقد كشفت فيه الغطاء عن مبلغ حظنا من العالم فقلت:
وما نمنح من الخيرات جماً ... فإن الدهر مرجعه إليه
وهذه بضاعتك ردت إليك ليس لي فيها شيءٌ
صالح حمدي حماد(10/44)
ليالي الشباب
هي قصيدة نثرية بليغة للشاعر الكاتب عبد الحليم حلمي المصري ضمنها كثيراً من المعاني الشعرية الرائقة، والفكر الفلسفية الجليلة المؤنقة، من كل ما يخفق له قلب الإنسان، وتصبو إليه أحرار الأذهان، في صفاء من اللغة واطراد من التعبير وجزالة من الأسلوب=قال حفظه الله.
أيها الشباب
بل أيتها الزهرة الذابلة في حديقة الأيام. والدمعة المسفوحة على جوانب الغرام، بل على ذلك الطلل الخالي، والأثر البالي، هذا هو الجسم الشاحب. وذلك هو العمر الذاهب.
أية جنة كنت يرتع منها المشوق في غفلة العيش وبله الحياة، بل أية كأس كنت يشربها الجامد فيسيل، والمعتدل فيميل، بل أية نضرة كست بها الطبيعة هذا الجلال المرسل والجمال اليتيم، وتوجت بها القدرة هذا الملك الذي هبط من الجنة يرفرف على رؤس لابسيك،
بل أيها الجواد المطلق في الميدان، بغير عنان كم ندم صاحبك. وذل راكبك، ولكن ما أصوب خطأك، وما أبلغ عثرتك، آه أيها السلطان القادر، والحاكم الجائر، يا عبوس المراحم، يا لذيذ المظالم،
كم غررت بفتى واطلعت عليه شمس الزهو من سماءك فتربع على عرش من نفسه قوائمه طالت على الأوهام وأركانه بنيت على الآثام، وبات يرسل النظر إلى هذا الكون نظرة الأسد أمام أكمته إلى مداب النمال. ويرى تمثاله في مرآة الشباب كأنه الهيكل المنيف قائم بقدميه على كتفي العالم، إذا مر به النسيم ليلاً ظنه من نفحات رضاه وإنه بعض أنفاسه العاطرات وإذا نفث القيظ شراره ظنه فحيح غضبه وإنه بعض أنفاسه المستعرات، يا مطية الغرور، ومسرح الشرور: كم ترقرقت قطرات الحسن في وجنات الملاح تحت أوراقك الوارفة الظلال، واشتبهت في مرآتك البنان بالشفاه في الحمرة والجمال، وتلألأت عنك أقمار الوجوه تحت ظلام الغدائر، وجاز فيك ابتسام العيون، في بكاء المحاجر، وهزت يمينك في القدود قواضب السيوف، وألقى حكمك حبال العشاق على غوارب الحتوف،
وكم عرضت الأيام على فتى صورك المزينة بالألوان المختلفة من روائع التقاسيم فلم تبق(10/45)
له علالة في النفس إلا أن تنتهي هذه الأعاجيب حتى يستريح من متاعب اللذائذ، فاللذة ضرب من ضروب الشقاء يزينها الفراغ بالقبول إني لا أذكر يوم بدأت تفيضك على الأيام ولكن أذكر يوم بدأت تمسحك عن جبيني، ولو كنت أعلم أنك مقدود عن منكبي لوثبت وثبة من الطفولة إلى الكهولة حتى أتعدى عهدك المحال أو لرقدت رقدة الصامت حتى تمر بي كما يمر الخيال،
أين منك ليلة على ضفاف النيل في مقاصير، سماؤها صبير، وأرضها وتير، إذا جازها السحر وهصرت الشجر، واختلطت صفعة الظلام، بدمعة المدام، وذكرت بين الورد والآس، قال أبي نواس:
ودار ندامي عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
حسبت بها صحبي وجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس
تدار علينا الكأس في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تديرها بالقسيّ الفوارس
فللخمر ما زرّت عليه جيوبهم ... وللماء ما دارت عليه القلانس
سما إلى رشاش ذلك النذر يلفتني إلى خضوعه المنحدر، وسكونه المستمر فذكرتني عزة الشباب، آية فرعون في الكتاب،
وازدحم جمال الطبيعة على عيني وضاق الفضاء بهذا الحسن المتناثر على أرجاء الكون، وتطايرت أصوات السكينة المعجمة، فتبينت فيها نغي القدرة الفصيحة إلا شيئين، لفظٌ لا معنى له، ومعنى لا وجود له، هذا هو الوفاء، وذلك هو الحب.
نعم لا معنى للوفاء، مر هذا اللفظ على آدم، وتخلل ثناياه وولج مسامعه، ثم دار دورته في بروج رأسه فما كاد يصل إلى أحد من ذريته ولولا أني أنا أنا لقلت إني غادر، نعم. لا معنى للوفاء. الإنسان غادر، والحيوان غادر، والنبات غادر، بل والماء والهواء، والأرض والسماء، بل كل ما دار بالرأس وما تخلل الأذن، وما عرض على العين، فما أنبغ الغدر في إخضاع كل موجود: ما عسى يفهم الإنسان من المعنى الذي يتردد بين هذين الحرفين (ح. ب) ويضطرب بين ساحليهما.
يقول أناسٌ لو وصفت لنا الهوى ... فوالله ما أدري الهوى كيف يوصف(10/46)
ضعف في النفس، وخفة في الرأس، ونقص في الإرادة، واختلال في التكوين ولكن:
الحب صعبٌ فلا تعبث بصاحبه ... فربما قتلتك الحاء والباء
الإنسان قادر أمام كل شيءٍ عاجز أمام هذا اللفظ - الحب.
ما خرج من كنه الغيب روح إلى العالم المنظور إلا ورمي سهماً طائشاً لم يصب به هذا الغرض وغادر له كتاباً لم تأهل ألفاظه بمعانيه في وصف هذا اللفظ المعجم - الحب.
أي داءٍ هو راسخ في دم البشر، متسلسل مع الخليقة، وأيسر متغلغل في ضمير الكائنات.
الله يحب، والإنسان يحب، والحيوان يحب، بل كل شيء يحب، حتى الطبيعة تحب،
يخلص العبد فيحبه الله، ويكمل الجمال فيحبه الإنسان، ويصفو العيش فيحبه الحيوان، وتلطف الطبيعة فتحب أن يراها الشاعر، وتطير فيها الخواطر.
كم استوى على العرش سلطان، وسبح بحمده الخافقان، وجرت الأرزاق على يديه، وخشعت القدرة عن جانبيه، ودارس على أكتاف المقادير. وحمته العظمة أن يعترف بالعبودية إلى هذا الإله القدير، خلف العرش والإيوان، ونسي عزة التاج والصولجان، ووقف وقفة المذنب في كنائس روما وسط حلقة القديسين إلى الإله الصامت - أو وقفة الرشيد من قوله إذا صح:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... ونزلن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا إن سلطان الهوى ... وبه اعتصمن أعز من سلطاني
أمام عظموت هذا الجلال، وجبروت ذلك الرب.
الحب المتصرف في قلوب العباد.
يا مسيل الجوامد، يا مذل الجبابرة، يا مثل العروش، يا مريق الدماء في شؤون العيون، يا واصل الليل بالنهار، يا مجري الماء على النار،
كم ضعيف لا تقوي وجنتاه على حمل وردتيهما المكللتين بدمع العاشق السليب، ولا راحتاه على حلم النفحات العاطرة من أخلاط الطيب، كسوته مهابة فخشعت له الرؤوس الباذخة، وملأته قدرة فأرغمت له الأنوف الشامخة، وأنزلته منزل الأسرار في الجانب اليسار فحكم. وظلم. وانتقم. واعتصم.(10/47)
وكم صبغت هذا الوجه بعصارة الورس، وأبدلتني مقاعد الحصباء من الدمقس:
وأبرزتني للناس ثم تركتني ... لهم غرضاً أرمي وأنت سليم
وكم أنطقت وجداني الصامت وأسمعت صبري الأصم.
وجعلت قلبي لساني، وعيني بياني، ونشرتني صفحة تكتب فيها أفواه العذل وتتلوها عيون الوشاه.
فلو أن قولاً يكلم الجسم قد بدا ... بجسمي من قول الرجال كلوم.
وكم سخرت بهذه النفس الحكيمة، وقمت بين أخوتك من عوائد الأخلاق وحكام القلوب تريها إنك العادة الواحدة التي تأمر في كل نفس، وتتحكم في كل قلب، ويستوي عندها الأمير والحقير، والصغير والكبير، تعاليت في ملكوتك وتنزهت في قدرتك.
ألست أنت ذاك
وأنت الذي كلفتني دلج السري ... وجون القطا بالرقمتين جئوم
تلك عقبى ظلمك أيها الحب. ظلمت الناس فظلموك. وبدلتهم فبدلك. وصرت معنى شائعاً في المخلوقات كل ذي حاجة عاشق وكل ذي نزوة محب.
لا ألوم ظليلك فالبادي أظلم ولكن لا أعذر هذا الناس الجاهل الذي جعل مهبطك في غير القلب وأسكنك في غير مأواك.
إن العاطفة التي تخضع النفوس الكبيرة لأحكام الجمال الإنساني ليست إلا عاطفة شريرة تعتري الجسم ولا تتصل بالروح.
وإلا فأين تشبب الخصيان بالظباء. وتغزل النساء بالنساء.
وقليل ما يطهر الحب إذا لم يجز أحد الروحين الواقفين على حد واحد من العفة النادرة.
الحي هو الذل مع الكمال، لا حب بلا عفة، ولا عفة لحيوان:
الحب جزء من أجزاء الروح بل الروح جزء منه فإنه هو الإيمان الكامل الذي لم يهتد إليه مخلوق، ولم تتعده المهابة والخشوع.
وأني لهذا الحيوان الذي نما عوده من هذه النطفة القذرة أن يرتفع إلى منازل الملائكة المطهرين فيقال أنه - أحب - إن أسلافنا المجانين الأبرار من القائلين:
وإني لأستحييك حتى كأنما ... على بظهر الغيب منك رقيب(10/48)
وأهابك إجلالاً وما بك قدرة ... علي ولكن ملء عين حبيبها
وبتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى ... يلفنا الشوق من فرع إلى قدم
وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواقع اللثم في داج من الظلم
وبيننا عفة بايعتها بيدي ... على الوفاء بها والرعي للذمم
ليتألم رفاتهم المستحيل مع الذر إذا عصفت به هذه السطور ولكنني أقف أمام آثار أهله الأعفاء وقفة الناسك بالمعبد يخلع بردة الذنوب عند عتبته حتى يخرج فيلبسها وقد يكون هؤلاء هم النادرون فهم أقرب منا إلى آدم وآدم أقرب البشر إلى الروح:
الحب ليس مسكنه القلب كما يقولون فالقلب مادة لا يتسع حجمها لهذا الفضاء الذي تسبح فيه الخيالات والحقائق وإنما مسكنه الروح الطائر المحلق في كل سماء ولكن أخطأ الناس.
ما هذا الخفقان المدفق بالاضطراب في جانبي؟ إنه شعاع تسلط من الروح على الجسم فلم يحسه إلا هذا العضو اللطيف. . . القلب.
لا أثر لك عندي أيها الحب إلا وقوفي خلال التاريخ أندب شبابي الضائع وهل أنا لا أعود من ذلك النبات الذي تنميه الأيام ويحصده الحمام.
لقد شمت بك أيها الحب قبل أن تشمت بي. فقدمت أنت قبلي بل هويت من السماء ومن حلقة الملائكة فسقطت على تلك الصخرة المتحجرة من عواطف الخلق فانتثرت كقطع الزجاج الراسبة في قاع النهر. منها المضيية التي أعراها الماء. ومنها المظلمة التي لبسها الطين.
وقفة في كل بقعة من الأرض بين هذه القبور العطرات - لا قبور الأموات - ولكن القبور المخطوطة فيكل شبر من الفضاء، والماء، والهواء، تلك مدافن غرام، ومصارع أقوام. إذا مر بها العاشق المعمود نشق أخلاط الطبيب المنبعثة من معانيها الدفينة الشائعة في نفس الزمن ورأي هذه الآية مكتوبة بدم القتلى الأبرياء (بالموت يكمل الغرام) وتذكر قول أخيه المجنون:
منازل لو مرت عليها جنازتي ... لقال الصدى يا حاملي انزلا بيا(10/49)
أفاق إلي قول هذا السالي:
إن رباً بدأ الحب بكم ... قادر يختم بالسلوى الغرام
دفن الحب وأهلوه معاً ... فعلى الحب وأهليه السلام
أجل مات الحب وما بقي إلا العواطف اللئيمة ومآرب الحياة الغادرة المحلاة بالرياء.
والحب من عبث الشباب.(10/50)
نوادر وملح وفكاهات
ننشر في هذا الباب من النوادر المستطرفة والفكاهات المستملحة ما تتروح إليه نفس القارئ وينتفي معه ما عساه يعرو النفس من الكلال لطول النظر في المباحث الجدية إن شاء الله.
كان أبو دلامة واسمه زند بن الجون من الشعراء المجيدين وكان ماجنافكها ذا نوادر مستظرفة وقد كان منقطعاً إلى السفاح وأبي جعفر المنصور وابنه المهدي.
حدث أبو دلامة قال أتي بي إلى المنصور وأنا سكران فحلف ليخرجني في بعث حرب فأخرجني مع روح بن عديّ بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. فلما التقى الجمعان قلت لروح أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك أثراً ترتضيه مني فضحك وقال لأدفعنّ ذلك إليك ولآخذنك بالوفاء بشرطك ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إليّ ودعا له بغيرهما فاستبدل به فلما حصل ذلك في يدي وزالت عنه حلاوة الطمع قلت له أيها الأمير هذا مقام العائذ بك وقد قلت بيتين فاسمعهما فقال هات فأنشدته:
إني استجرتك أن أقدم في الوغى ... لتطاعن وتنازل وضراب
فهب السيوف رأيتها مشهرة ... فتركتها ومضيت في الهرّاب
ماذا تقول لمن يجيء ولا يرى ... لما درأت الموت في النشاب
فقال دع هذا وستعلم. فبرز رجل من الخوارج يطلب المبارزة فقال أخرج يا أبا دلامة فقلت أنشدك الله أيها الأمير في دمي فقال لتخرجنّ. قلت أيها الأمير إنه أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا وأنا جائع ما تنبعث مني جارحة من الجوع فمر لي بشيءٍ آكله ثم أخرج فأمر لي برغيفين ودجاجة فأخذت ذلك وبرزت من الصف فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعليه فرو قد أصابه المطر فابتل وأصابته الشمس فاقفعل وعيناه تقدان. فأسرع إليّ فقلت على رسلك يا هذا كما أنت. فوقف فقلت: أتقتل من لا يقاتلك قال: لا. قلت أفتستحل أن تقتل رجلاً على دينك؟ قال: لا. قلت: أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من يقاتلك إلى دينك قال لا فاذهب عني إلى لعنة الله. فقلت لا أفعل أو تسمع مني. قال: قل. قلت: هل كان بيننا عداوة قط أو تعلم بين أهلي وأهلك وتراً. قلت: ولا أنالك إلا على جميل وإني لأهواك. وانتحل مذهبك. وأدين بدينك وأريد الشر لمن أراده لك. قال يا هذا جزاك الله خيراً فانصرف. قلت: معي زاد أريد أن آكله وأريد مؤاكلتك لتتأكد المودة بيننا ونرى أهل(10/51)