راحته وهنائه وينعم بما وهبه الله من غرائز وما حبته الطبيعة من خصال لهو أسعد عيشاً وأهنأ بالاً وأكثر راحة من ذلك العالم الشقي الذي سجن نفسه في دائرة ضيقة من الحياة واستسلم لما تميله عليه عبقريته الكئيبة وفكرته المتأصلة المتجمدة.
العلم نظرية التطور:
ما زالت نظرية التطور، منذ أيام لامارك وداروين وسبنر، تشغل أفكار العلماء والباحثين فيحتدم الجدل حولها أحياناً ثم يهدأ ردحة من الزمن.
لا شك في أن العلم الحديث، القائم على البحث الدقيق والمعرفة العميقة، أصبح اليوم يدعو العلماء إلى التزام منتهى الحيطة والتربص في قبول النظريات وتعميم نتائجها كما كان الحال في القرن التاسع عشر تجاه نظرية التطور.
ولقد كادت نظرية داروين في الاصطفاء الطبيعي تتزعزع من أسسها في المدة الأخيرة بعد أن عجز البحث العلمي الدقيق عن إثبات وجود تغيرات دائمة متقسمة حسبما تدعي هذه النظرية فإن المشاهدات العلمية لم تظهر لنا سوى تبدلات وراثية فجائية. ورغم أن هذه التبدلات الجزئية تحدث بكثرة نسبية فإن العلماء ظلوا مدة طويلة لا يستطيعون وضع قانون لها يخرجها عن مجرد المصادفة ويشرح كيفية حدوثها وفائدتها في المحافظة على بقاء الذات ثم نشوء الأنواع الجديدة منها على الأقل.
وقد قام أخيراً الأستاذ (فيكتور يوللوس) في برلين يسعى لسد هذه الثلمة بالتجارب العلمية التي أجراها في سبيل معرفة التغيرات الاصطناعية فأن (يوللوس) فحص تأثير الحرارة المتزايدة في بعض الحشرات أثناء أدوار مختلفة من تطورها فوضع مقداراً من الذباب من جنس واحد في صناديق تبلغ درجة حرارتها 35 - 36 ثم نقلها بعد عدة ساعات إلى درجة الحرارة المعتادة وهي (25) سانتيغراداً. حينئذ لاحظ (يوللوس) أن عدد التغيرات التي حصلت تحت تأثير الحرارة كان يقارب (100) بين (50. . . .) في حين أن التغيرات الوراثية تحت الشروط الاعتيادية لا تزيد عن حادث واحد بين (250. . . .) ثم استطاع الأستاذ (يوللوس) في تجاربه هذه أن يتوصل إلى نتيجة ثانية أكبر أهمية وهي زيادة التغير الحاصل تحت تأثير العامل الخارجي في اتجاه معين. فأنه بتكرار زيادة درجة الحرارة استحصل من ذباب قاتم اللون على أنواع جديدة باهتة.(8/78)
ولما استمر في هذه الطريق تمكن أخيراً من الحصول على نوع جديد من الذباب له عيون صفراء عوضاً عن الحمراء القاتمة. وأغرب حادث من هذا القبيل هو مشاهدة ذباب له عيون بيضاء تكونت تحت تأثير الحرارة بعد التكرار الطويل.
هذه التجارب قد برهنت على أن هناك تطوراً يسير في اتجاه معين وبذلك تم أثبات أحد المبادئ الهامة في نظرية التطور. .
الوراثة وتأثير البيئة:
في مؤتمر علماء الطبيعة الذي عقد أخيراً بمدينة (ويسبادن) ألقى الأستاذ (لانفه) من جامعة (برسلاو) محاضرة عن تكون التوائم وتطور الشخصية قال فيها أن المشاهدات والمباحث العلمية تجعلنا نميل إلى نظرية تأثير الوراثة أكثر من نظرية تأثير البيئة.
لا ينكر (لانفه) أن التربية والبيئة والاقتداء من العوامل ذات الأثر البين في تكوين الشخصية ولكن يجب من جهة أخرى الاعتراف بأن مقدراتنا تابعة في الدرجة الأولى إلى استعدادنا الوراثي من الناحيتين الجسمية والفكرية.
وقد بدأت هذه الحقيقة تظهر جلية في النتائج التي نوصل إليها العلماء من مباحثهم في التوائم. ونذكر بأن هذه المباحث قد اشترك فيها عدد كبير من العلماء في جميع أنحاء المعمور وأن التجارب والمشاهدات أصبحت كثيرة تساعد على الفحص الدقيق والمقارنة الواسعة.
ويمكن القول أن النتائج جميعها تبرهن على أن مقدرات المواليد التوائم الذين ينشئون من (بويضة) واحدة لا تختلف بعضها عن بعض شيئاً في الخطوط الأساسية.
وإذا صرفنا النظر عن بعض الاختلافات الجزئية في الأمور الثانوية البسيطة فإن التشابه أو الاتفاق بين مقدرات التوأمين كثيراً ما يبلغ درجة عجيبة تدعو إلى الدهشة. .
ومما يزيد في إثبات تأثير الوراثة أن الأشخاص التوائم يشبهون بعضهم بعضاً في كل شيء وتتفق مقدراتهم وشخصياتهم حتى بعد التفريق بينهم سنين طويلة ورغم تقلبهم طول هذه السنين في ظروف متباينة وتحت شروط اجتماعية مختلفة كل الاختلاف.
وهناك أمثلة عن تؤمين عاش كل واحد منهما في قارة وفي بيئة اجتماعية مختلفة ثم ظهر أنهما أصيبا بالأمراض نفسها في وقت واحد تقريباً وكانت الأسباب الداخلية لهذه الأمراض(8/79)
دائماً واحدة.
على أنه يجب الملاحظة بأن هذه المشاهدات لا تنطبق على الأشخاص الذين يولدون سوية فقط بل ينبغي أن يكون التوائم من (بويضة) تناسلية واحدة لأننا في هذه الحالة وحدها نستطيع أن نقول باتفاق العوامل الوراثية أما إذا اختلفت (البويضة) فإنه من الممكن أن نشاهد اختلافات ظاهرة بين التوأمين ولو عاشا في بيئة واحدة وتحت شروط واحدة. . .
وقد استنتج العلماء من هذه المشاهدات أن شخصية الإنسان تابعة للعوامل الوراثية أكثر منها لمؤثرات البيئة والمحيط.
وليست محاولات إصلاح النسل التي تقوم بها حكومة (هتلر) في ألمانيا سوى نتيجة عملية لهذه النظريات.
السيد ممدوح الشريف
توفي خلال شهر كانون الثاني السيد ممدوح الشريف نابغة الخطوط العربية عن عمر يناهز الستة والأربعين، وذلك في المستشفى الوطني بدمشق بداء الرئة الذي لم يمهله إلا أياماً معدودة.
والمرحوم من عائلة عريقة في المجد إذ ينتسب إلى الشريف عون أحد أشراف مكة وكان أبياً، كريماً، تخرج على يديه كثير من الخطاطين، واكتسب الدرجة الأولى في مسابقة وزارة المعارف لانتخاب خطاط للمدارس التجهيزية، وإليه يرجع الفضل في تتبع الخطوط القديمة وتصحيح الخط الديواني والكوفي، وكان يجيد مئة وخمسين خطاً وقد ترك آثاراً فنية قيمة. ونال في حياته الجائزة الأولى الممتازة في الخطوط من معرض الصناعات الوطنية بدمشق عام 1929 كما نال مثل هذه الجائزة من المعرض العربي بفلسطين.
وقد كان مولعاً بالخط ولع الفنان بفنه ولا غرو فإن الخط العربي هو من الفنون الجميلة التي لا تقل قيمة عن الفنون الأخرى.
تحت سماء دمشق
إذا ذكرنا فقر هذه البلاد في كل شيء وقلة المناصرة التي يلاقيها أصحاب الفنون، والعراقيل التي تعترض سبيلهم فتمنع تجويد العمل وإتمامه على الوجه المرغوب. وإذا ذكرنا أن دمشق لا تزال بعيدة عن المساهمة في رقي العالم الفني - لم يسعنا إلا التهليل(8/80)
لكل عمل يدرأ عن هذه البلاد وصمة التأخر. ولهذا نرحب بالفيلم السينمائي الصوتي الذي أخرجته - لأول مرة في تاريخ هذه البلاد - شركة هليوس فيلم السينمائية السورية المؤلفة من الشباب المثقف وعلى رأسهم السيدان عطا مكي وفريد جلال.
تحت سماء دمشق مأساة تدور حول موضوع اجتماعي هو تصوير الشباب المنغمس في الموبقات حتى الآذان، وآلام المرأة السورية في حياتها الزوجية. إلا أنها ملأى بالوصف الطبيعي لأشهر متنزهات دمشق وشوارعها وحاناتها، وهي من حيث الإخراج والتمثيل تستحق المدح لأنها أول ثمرة من نوعها. زد على ذلك الموسيقى التي تبهج القلب.
لقد لحظنا النقص الموجود في أخذ المناظر وترتيبها وتظهيرها ولحظنا ما يثير ختام الرواية من المفاجآت اللذيذة بعد ذلك الانتظار الطويل الممل والحيرة المؤلمة التي تستولي على المشاهد حتى ليكاد أن يغمض عينيه، ولحظنا البرودة في بعض الممثلين، ولكننا نغتفر ذلك وغيره في جانب الجهود الجبارة التي بذلها القائمون بالرواية والتي تدل على النشاط والإدارة والتضحية.
ونأمل أن تتابع شركة هليوس فيلم أعمالها لتكون رواياتها الجديدة أكثر اتقاناً ورقياً سواء في الإخراج أو التمثيل أو انتقاء المواضيع التي توافق النهضة السورية.(8/81)
العدد 9 - بتاريخ: 15 - 4 - 1934(/)
اللغة والثقافة
بقلم الدكتور جميل صليبا
أقامت مجلة الثقافة للمستشرق الأستاذ لويس ماسينيون أثناء مروره بدمشق حفلة علمية ألقى فيها حضرته خطاباً عن اللغة العربية والثقافة جاء فيه أن تحديد معاني الألفاظ ونشر الاصطلاحات العلمية هو خير عمل تستطيع المجلات أن تقوم به لإبداع لغة ثقافية يتفهم بها الكتاب المعاصرون لأن اللغة العربية الحاضرة لا تزال تركيبية، فمن الضروري أن تنقلب إلى لغة تحليلية يكون بها لكل كلمة معنى يستغنى به عن الشرح بعبارة طويلة. فاللغات التركيبية تعبر في الغالب عن المعاني بعبارات طويلة لا يتم الإفهام بها إلا من سياق الكلام، ولكن اللغات التحليلية تعرف الألفاظ تعريفاً واضحاً فنستغني في الدلالة بها عن الجمل الطويلة. واللغة العربية الحاضرة قد أخذت تتصف بهذه الصفة تحت تأثير الكتاب والعلماء المتأخرين وسعيهم لتحديد معاني الألفاظ، إلا أنها لا تزال في دور انتقالي فلم توفق بعد إلى إيجاد جميع الاصطلاحات العلمية الحديثة ولم يتفق التراجمة بعد على الاصطلاحات التي اخترعوها. وكثيراً ما يحتاج القارئ في فهم بعض الكتب المترجمة للرجوع إلى اللغات الأجنبية، فإنك إذا قرأت كتاباً مترجماً عن اللغة الفرنسية أو الانكليزية مثلاً صعب عليك فهمه على حقيقته دون الرجوع إلى لغته الأصلية وخصوصاً إذا كان المترجم غير أخصائي بالفن كالموظفين الذين يترجمون التقارير أو البرامج في الدوائر الرسمية. ولا تخرج اللغة العربية من هذا التشويش إلا إذا وفق المترجمون إلى اصطلاحات علمية واحدة واستطاع القارئ أن يفهم المباحث العلمية من غير أن يرجع إلى الأصل الفرنسي أو الألماني أو الانكليزي. . . . .
وقد ذكر الأستاذ أموراً كثيرة غير هذه خالص زبدتها ما أعدت هنا. ولو استطعنا أن نتذكر كلامه كله لأثبتناه بالحرف لأنه صواب وحق فنقتصر إذن على إكمال البحث ببيان ما خطر لنا في علاقة اللغة بالثقافة.
1 - علاقة اللغة بالثقافة
إن علاقة اللغة بالثقافة قوية جداً. لأن وحدة اللغة إنما تنشأ في الغالب عن وحدة الثقافة. ولا يمكن المحافظة على وحدة اللغة إلا بتوحيد الثقافة بين مختلف الطبقات والمناطق. والسبب(9/1)
في ذلك أن المعاني تؤثر في الألفاظ فتبدل استعمالها وتغير دلالتها، لأنها متصورة في الأذهان ومتخلجة في النفوس قبل تكون الألفاظ وكثيراً ما نفكر ولا نجد الألفاظ التي نستطيع الدلالة بها على أفكارنا. فالمعاني، كما يقول الجاحظ، مبسوطة إلى غير غاية وممتدة إلى غير نهاية. أما أسماء المعاني فمتصورة معدودة ومحصلة محدودة واللفظ لا يدل إلا على جزء مما هو قائم في الصدر من المعاني حتى لقد يضيق نطاق اللغة عن التعبير عما يخالج النفس من الصور والأمثال، وكثيراً ما نستدل على أفكار الأشخاص وعادات العصور وأخلاق الشعوب بالألفاظ التي يستعملونها. وكلما كانت المعاني أكمل وأشرف كانت الألفاظ أبين وأنور. فالألفاظ ليست كما زعم (دوبونالد) سابقة للمعاني، بل هي تابعة لها.
ولو كانت الألفاظ أسباب المعاني لما فكر الإنسان إلا إذا تكلم. ولكننا نعرف بالتجربة أننا نفكر من غير أن نتكلم ونعرف أيضاً أن هناك كلاماً داخلياً تختلط فيه حدود الألفاظ. فكأن الألفاظ واسطة لا غاية أو كأنها جسر نعبره من غير أن ننتبه إلى جميع أجزاءه.
نعم أن الألفاظ تؤثر في المعاني لأن مدار الأمر في اللغة ليس الفهم فقط بل الغاية هي إفهام السامع. وهذه الحاجة إلى الإفهام تغير من حالة الفكر الأولى. فالألفاظ تثبت المعاني في الأصل كثيرة الانبساط قليلة الثبوت. وقد قال هاميلتون إن الألفاظ حصون المعاني لأنها تجزيء الفكر وتحدده وتحلله وتجعله واضحاً وكثيراً ما توحي بالصور والأمثال والأفكار فيصل الكاتب بواسطة الألفاظ إلى غير ما أنبأ به فكره. ونحن لا ننقل إلى السامع كل ما تختلج به نفوسنا بل نرجع إلى الألفاظ. ونغربل بها معانينا وفقاً لما يقتضيه الحال لأنني حينما أتكلم لا أتكلم للتفاهم مع نفسي بل للتفاهم مع مخاطبي. وهناك ألفاظ فارغة وهناك ألفاظ مليئة. إلا أن غاية الثقافة هي إحياء المعاني في أذهان المتعلمين لا حشو ذاكرتهم بالألفاظ. خير للإنسان أن يكون كثير المعاني قليل الألفاظ من أن يكون قليل المعاني كثير الألفاظ. فاللغة هي أذن واسطة لا غاية. وهي بالجملة معلول لا علة، ولكنها إذا تنظمت صارت هي أيضاً علة. نعم؟ أنها تؤثر في الثقافة بتثبيت المعاني وتحليل الأفكار وإبداع الصور والأمثال إلا أنها لا تحيا إلا بما تشتمل عليه من المعاني وتتحلى به من الأفكار. ولذلك كان ارتقاء العلوم والآداب والفلسفة وقوة المثل الأعلى والإيمان القومي، كل ذلك(9/2)
باعثاً على أحياء لغلت الأمم وانتشارها.
واللغات لا تنمو ولا تنتشر إلا إذا ارتقت الحضارة. فقد تزول العناصر السياسية التي نشرت اللغة إلا أن اللغة تبقى بعد زوال العناصر السياسية هذا إذا كانت الثقافة التي تشتمل عليها ثقافة عالية. إن اللغة اليونانية لم تنقرض بالفتح الروماني بل بقيت مستقلة، لأن ثقافة اليونان كانت أعلى من ثقافة الرومان وكان الرومانيون يستقون من ينابيعها أصول حضارتهم. واللغة العربية لم تنقرض بالفتح التركي وزوال سلطان العرب لأن ثقافة العرب أعلى من ثقافة الترك ولأن الأتراك أخذوا عن العرب مبادئ دينهم وأصول علومهم ووحي أدبائهم وشعرائهم، وكذلك اليهود الذين هاجروا من أوروبا الغربية إلى أوروبا الشرقية فأنهم حافظو على لغتهم لأن ثقافتهم كانت أعلى من ثقافة البلاد التي هاجروا إليها. ولولا ثقافة اللغة العربية لما استطاع السوريون الذين هاجروا إلى أميركا أن يحافظوا على لغتهم بالرغم من العوامل الخارجية التي تحملهم على استبدالها بغيرها. فاللفة لا تبقى إلا إذا كانت تشتمل على ثقافة عالية. نعم إن هناك لغات ثقافية قد انقرضت كاللغة البابلية واللغة المصرية إلا أن العوامل التي أثرت في انقراضها تابعة لأسباب تاريخية عديدة منها استبدال الحضارتين البابلية والمصرية بحضارة اليونان وحضارة العرب ومنها بعض الوقائع التي محت كثيراً من آثار الأقدمين ذلك من الأسباب التي لا يمكن ذكرها هنا. فالثقافة قد تبقى إذن بالرغم من زوال العوامل التي ولدتها. ومن الصعب محو اللغات ذات الثقافة العالية لأنها ذات مقاومة خاصة. قال ميله: تمتاز اللغة العربية في الجزائر الخاضعة لحكم الفرنسيين بكونها لغة كبيرة من لغات الحضارة. ولذلك فهي تتغلب على لغة البربر، أعني لغة سكان البلاد القدماء، تلك اللغة التي لا يمكن كتابتها وليس لها آداب. أن تقدم الحضارة يجعل اللغة العربية قوية بالرغم من أنها ليست لغة الشغب الحاكم. إن العرب لم يميلوا أبداً، أيان كانوا، إلى هجر لغتهم فلم يستبدلوا في الدولة العثمانية لغتهم بلغة الترك ولا عدلوا عنها في تونس ومصر إلى اللغتين الفرنسية والانكليزية. إن مقاومة اللغة العربية وانتشارها هما اليوم أيضاً قويان جداً
2 - اللغة العربية لغة ثقافية
اللغة الثقافية هي اللغة التي يمكن التعبير بها عن المسائل العلمية والفنية والفلسفية(9/3)
باصطلاحات مفهومة من أهل اللغة أنفسهم لأنها تشتمل على ثروة من العلم والأدب والفلسفة. فاللغة العربية بهذا المعنى لغة ثقافية لأنها غنية بالألفاظ والمعاني. وفي كتبها القديمة من العلوم والآداب ما ليس يوجد في كثير من لغات العالم. فقد ترجمت آثار الأولين من اليونانية والفارسية إلى اللغة العربية في الصدر العباسي حتى أصبحت لغة ثقافية كبيرة وصار في وسع كل عالم مهما كان جنسه أن يجعلها لغة تفكيره وإبداعه. فحفظت فيها علوم الأوائل وصارت منبع الثقافة ومفتاح العبقرية حتى القرن السادس عشر، لا يطلع طالب الفلسفة على علوم الأوائل وفلسفتهم إلا إذا استكملت ثقافته بها. وهي لغة اشتقاق يسهل على المترجم أن يجد فيها ما يحتاج إليه من الألفاظ كاللغة اليونانية واللغة اللاتينية، على عكس اللغة التركية الجامدة التي لا يمكن أن يصاغ منها اسم أو فعل إلا بإضافة بعض السوابق واللواحق على المادة الأصلية فالمادة في التركية لا تتغير بتصريف الفعل بل تبقى جامدة. وإذا صح انقسام اللغات بنوع من القسمة إلى هجائية كالصينية وجامدة كالتركية واشتقاقية كاليونانية كانت اللغة العربية من هذا النوع الأخير الذي يمكن اعتباره أرقى من النوعين السابقين فليس في اللغة ما يمنعها إذن من إيجاد الاصطلاحات العلمية الحديثة لأنها لغة اشتقاق مجردة يمكن التوسع فيها بالقياس. إلا أن سهولة الاشتقاق جعلت كل مرتجم ينحت لنفسه اصطلاحاً يختلف عن الألفاظ التي وفق إليها غيره. المثل الأعلى في اللغة أن تكون الألفاظ مبسوطة على قدر المعاني.
واللغات أما أن تكون غنية وأما أن تكون فقيرة، فإذا كانت غنية كانت ألفاظها لا تقل عن المعاني أو تزيد عنها وإذا كانت فقيرة كانت ألفاظها أقل من معانيها.
فاللغة العربية من اللغات الغنية غير أن كثرة ألفاظها المترادفة واشتراكها في الدلالة على المعاني المتشابهة وعدم تقيد الألفاظ بالمعاني، كل ذلك جعل الدلالة بها على المعاني العلمية المعرفة قليلة الوضوح، لأنك تستطيع أن تطلق على المعنى الواحد ألفاظاً مختلفة. وتجد المترجمين اليوم يستعملون للدلالة على المعنى الواحد ألفاظاً عديدة فلا تدري وأنت تقرأ بعض ما نقلوه أين تبتدئ حدود دلالة اللفظ ولا أين تنتهي فالسوري إذا ترجم أو ألف كتاباً في الطبيعيات يكاد لا يفهمه المصري إلا إذا ألف اصطلاحاته.
انظر إلى كلمة إن بعض المصريين يترجمها بالعقل الباطن وبعضهم يترجمها باللاوعي(9/4)
ونحن نطلق عليها اسم اللاشعور. وهذه كلمة نحن نترجمها بالحدس وغيرنا يستعمل في الدلالة على معناها كلمة الا كتناه أو غير ذلك من الألفاظ. وهذه أيضاً كلمة وكلمة وكلمة وكلمة تكاد تجد لكل منها في لغتنا الحديثة أكثر من أربع كلمات فهل يمكن التفاهم بين العلماء إذا بقى الحال على هذه الصورة. وإن وحدة اللغة تنشأ كما قلت عن وحدة الثقافة وأقول أيضاً إنه من الضروري توحيد اصطلاحات اللغة لتوحيد الثقافة. لا يمكن تأسيس العلم إلا إذا أثبتت الاصطلاحات العلمية. هل يمكن الثقة والأمان برياضي يستعمل في دساتيره (س) بدلاً من (ق) و (ق) بدلاً من (س) أو يستعمل الأول مرة والثاني مرة للدلالة على الحد نفسه. لقد تباحثنا مع الأستاذ المسيو لويس ماسينيون في ترجمة قولهم فاقترح أحدنا ترجمتها بامتحان الضمير واقترح آخر ترجمتها بمحاسبة النفس.
وربما كانت الترجمة الأخيرة أحسن من غيرها إلا أنك لا تستطيع أن توقف باب الاجتهاد في وجه المترجمين إذا بحثوا عن اصطلاح آخر ما دام الاصطلاح لم يثبت المعنى بعد. أن خير وسيلة لإيجاد الاصطلاحات في مباحث علم النفس هي الرجوع إلى كتب الصوفية ولكن أكثر الذين ينقلون كنب الفلسفة وعلى الأخص كتب علم النفس يجهلون الفلسفة العربية عامة وكتب الصوفية خاصة. ومن سوء الحظ أيضاً أن قسماً من كبيراً منهم لم يعرف أسرار اللغة العربية كما أن أكثر علماء اللغة لا يعرفون اللغات الأجنبية. فنخن حينما نترجم نفتش عن الألفاظ للدلالة على المعاني فلا نجدها. وكثيراً ما نكتب باللغة العربية ونفكر باللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية. فقد نلبس المعنى لفظاً مزيفاً لا يدل عليه أو يدل على غيره وقد نشتق لفظاً جديداً لا وجوداً له في لسان العرب وقد نبدل اصطلاحاتنا من غير أن ندري ويكاد يكون الإبداع في مباحثنا العلمية والفلسفية مقصوراً على تثبيت اللغة العلمية وتحديد اصطلاحاتها. وهذا أمر لابد منه لأن العلم لا يتم إلا إذا تحددت دلالات الألفاظ وقد قال (كوندياك) ليس العلم إلا لغة مرتبة. وعلى قدر كمال اللغة يكون كمال العلم.
إن اقتصار الإبداع في مباحثنا العلمية الأولى على تثبيت الاصطلاحات أمر ضروري ولابد لكل نهضة حديثة من المرور بدور الترجمة، هذا إذا أرادات أن توسع نطاق علومها حضارتها. والنقل في تاريخ الحضارة يسبق بالجملة الإبداع كما أن المعلم يسبق العالم.(9/5)
والسبب في ذلك أن جهود المترجمين تتوزع بين المباني والمعاني فينصرفون إلى الألفاظ أكثر من انصرافهم إلى الأفكار وهذا أمر ضروري لا محيد عنه. إلا أن حركة الترجمة لا تزال بطيئة وهي في الغالب غير منظمة لأن كل كاتب يترجم ما يروق له ما هو ضروري لثقافتنا الحديثة. إن هناك كتباً ليس من شأن الأفراد أن يقدموا على ترجمتها. ولم توفق لجان الترجمة والتي تشكلت في بعض بلدان الشرق العربي إلى انتقاء أحسن الكتب، وحركتها لا تزال مشوشة. وربما كان توزع العمل بين مختلف الأقطار العربية وارتكازه في الغالب على جهود الأفراد، وعدم تنظيم الحركة الفكرية من الأسباب التي زادت التشويش والالتباس في الاصطلاحات العلمية. أن ترجمة الكتب في عصر الرشيد والمأمون كانت منظمة متمركزة، ولذلك كانت الاصطلاحات العلمية التي وفق إليها تراجمة ذلك العصر أقرب إلى الوحدة من الاصطلاحات التي اخترعناها الآن.
لقد كانت اللغة العربية في الماضي لغة ثقافية عظيمة وكانت كما قلنا خزانة العلم والفلسفة ومن السهل علينا أن نعيد لها هذه الصفة بنقل أصول الثقافة الحديثة إليها. إلا أنه من الواجب على المترجمين أن يتفقوا على الاصطلاحات العلمية ومن واجب المجلات أن تعمل على نشر هذه الاصطلاحات وتعميمها.
قال لي أحد المستشرقين مرة إن بعض علماء الغرب يعتقد أنه ليس بالإمكان تدريس الفلسفة باللغة العربية. قلت إن ذلك ممكن ودليل إمكانه حصوله. نعم إن النصوص الفلسفية لا يمكن تدرس باللغات الأجنبية ولكن ذلك أمر مؤقت لأن هذه النصوص يمكن أن تنقل إلى اللغة العربية وحينئذ تدرس بها كغيرها. فاللغة العربية الحديثة لا تصبح لغة ثقافية إلا إذا ترجمت إليها جميع أصول الثقافة الحديثة واهتدى المترجمون إلى الاصطلاحات الصحيحة وتوحدت اللغة العلمية في جميع بلدان الشرق العربي.
ويمكننا أن نذكر هنا بعض الأسباب التي أخرت هذه الوحدة.
1 - عدم استعمال اللفظ بمعنى واحد. أن المترجم نفسه لا يتقيد بالاصطلاحات التي استعملها فتجد للاصطلاح الواحد في كتابته معنيين أو ثلاثة.
2 - عدم تثبيت دلالة اللفظ. إن الكاتب إذا لم يعرف لفظه فلا تخلو كتابته من الغموض والالتباس.(9/6)
3 - تعلم الألفاظ قبل فهم المعاني الدالة عليها.
4 - عدم اتفاق المترجمين على الاصطلاحات العلمية وربما كان هذا الأمر ناشئاً عن توزع الجهود وتبعثرها وفقدان التنظيم والتعاون.
5 - تكلف المترجمين إيجاد اصطلاحات جديدة من غير حاجة إليها.
6 - تعصب بعض الكتاب للاصطلاحات التي اهتدوا إليها بالرغم من قناعتهم بفسادها.
7 - جهل بعض المترجمين اللغة العربية.
8 - عدم اختصاص بعض المترجمين بالعلم الذي ينقلونه، وضعف ثقافتهم العامة.
وربما كان حصر هذه الأسباب في مقال واحد صعباً جداً. ونحن لم نقصد من ذكرها هنا إلا دفع المترجمين إلى التعاون لإيجاد اصطلاحات علمية موحدة ولا يتم ذلك إلا بالخروج من نطاق حياتنا الضيق واقتباس الكتاب بعضهم من بعض وتنظيم حركة الترجمة على أساس مشترك وتنشيطها بجميع الوسائل الفعالة فإن هذا العمل خير عمل يستطيع الجيل الحاضر أن يقوم به لإيجاد لغة ثقافية تحفظ العلم وتهيئ للأجيال المقبلة سبيل الإبداع.
جميل صليبا(9/7)
المرأة والتفكير
إذا تزوجت يا (هرماس) بامرأة بخيلة حفظت لي مالي، وإذا تزوجت بطروبة أغنتني وإذا تزوجت بعالمة علمتني، وإذا انتخبت عاقلة لم تغضب علي، وإذا اقترنت بغضوبة تعودت معها الصبر، وإذا تزوجت بمغناج رغبت في رضاي، وإذا أحببت أديبة لطيفة ربما تلطفت بي ورقت لحالي ثم أحبتني. ولكن أجبني يا (هرماس) ماذا أفعل بالمرأة التقية التي تخدع الله وتخدع نفسها.
(لابرويه ر)
95)
علموا الفتاة أن تكون معتدلة في القراءة وأن تفضل عليها الأشغال اليدوية. القراءة تضر الفتاة أكثر مما تنفعها.
(مدام دومنتنون)
لا يقل ذكاء المرأة عن ذكاء الرجل. ولكنها أقل منه شعوراً. إذا كان في المرأة ما قلّ نموه من ملكات النفس فليس هو العقل بل الحساسية. والمقصود من الحساسية الحساسية العميقة، لا الهيجان السطحي والاضطراب الظاهر.
(هنري برغسون)
ينبوعا الأخلاق والدين ص41(9/8)
الديمقراطية الحديثة في أمريكا
بقلم الأستاذ شاكر العاص
إن مدلول الديمقراطية آخذ بالتبدل والانحراف وهذا مما يزيد بحثها أبهاماً وتعقيداً وخصوصاً أنها تعني في الأصل أشياء كثيرة متنوعة. فالمبادئ العامة التي أقرتها والنظام الذي وضع خصيصاً لإبرازها لحيز العمل والتطبيق هي موضع بحث ونقد شديد. وقد اتخذت النتائج التي حدثت بعد تطبيقها خلال قرن ونصف معياراً للتمييز بين الجيد والخبيث فيها. ولم يقف بحث الديمقراطية وقد وضعت على مائدة التشريح عند هذا الحد بل تناول الأسس والنظريات الفلسفية التي قامت عليها حتى الآن. وقد ظهرت هذه الأسس بعد البحث بالية وهي التي لم يخامر الشك بها صدور الباحثين حتى عهد قريب وإنها غير قادرة على حمل البناء القائم عليها.
الديمقراطية في الواقع نسيج حاكه التطور الاقتصادي والتوازن الجديد الناتج عنه بين مختلف القوى الاجتماعية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فهي من وجهتها الفعلية تحقق شيئين الرأسمالية الطليقة والحكم الشعبي. ولتحقيقهما أقرت الديمقراطية المبادئ العامة المعروفة: الحرية والمساواة وصيانة الحياة والملكية وحرية المقاولات. وجعلتها دليلاً ينقاد إليه المشرعون ومن ينتهي إليهم الأمر. وأحدث النظام التمثيلي ليتسنى للشعب ممارسة السلطة التي وضعت فيه.
الحملات القائمة اليوم على الديمقراطية شديدة سواء في أوروبا أو في أمريكا ولكنها في الأولى أكثر شدة وعنفاً. ولكن هذه الحملات غير موحدة القيادة مختلفة في الغاية. فهي في الواقع هجمات على مواطن معينة في الديمقراطية يستهدف بها المهاجمون ما يحسبونه موطن ضعف فيها. ويقوم بهذه الحملات من لا يدينون بالديمقراطية بمعناها العام وهو أن الشعب مقر السلطات. أو الذين لا يقبلون بعض مبادئها العامة كصيانة الملكية وحرية المقاولات. ويطعن هؤلاء بالناحية الاقتصادية من الديمقراطية والنظام الرأسمالي الذي تحميه. فهم يرون أن الرأسمالية الطليقة سخرت المبادئ والأنظمة الديمقراطية لتحقيق أغراضها ومآربها وإنها تعمل عملها التخريبي في المجتمع تحت ظل القانون وحماية الدولة. والقائمون بهذه الحملة هم ما يطلق عليهم أجمالاً اسم الاشتراكيين في أوروبا على(9/9)
اختلاف صبغاتهم وغاياتهم ويسمونهم راديكاليين في أمريكا. وأمضى سلاح يستعمله هؤلاء هو الماركسية الصحيحة أو المحرفة أو النظريات التي تقرب منها وأهم ما تتصف به حركتهم إذا استثنينا الشيوعيين هو تمسكها بالشكل الديمقراطي السياسي أي التصويت العام والبرلمان.
أما الذين يحاربون فكرة الديمقراطية ولا يرونها صالحة لحياة الشعوب فهم فئات خلقتها ظروف ما بعد الحرب يمثلها الآن الفاشستية الايطالية والاشتراكية الوطنية الألمانية وقد نشأت هذه الجماعات منذ تكونها نشوءاً ثورياً أي أنها تؤمن بالعمل المباشر ولا تتقيد بالقوانين والأنظمة العامة إلا حينما ترى فيها معيناً على تحقيق أهدافها. وحملتها على الديمقراطية شديدة جداً كما هو معروف. لا تقر فائدة التمثيل الحاضر بل ترميه بالفساد والانقياد لتحقيق المطامع والغايات الشخصية وتتهمه بالعجز عن حسن إدارة الشؤون العامة وخصوصاً عن القضاء على الماركسية الرهيبة التي تهدد حقاً كيان النظام الاجتماعي الحاضر. وسلاح هذه الحملة بعض المبادئ الفكرية كالقومية وإقرار مبدأ التمييز بين الأجناس وبين الطبقات. وبالرغم من كون هذه الحركة فكرية فهي لا تهمل الناحية الاقتصادية في برامجها وأعمالها وتصرح بمحاربة الرأسمالية الطليقة ولكنها في الواقع تحتفظ بجوهرها وهو صيانة الملكية الشخصية كما تحتفظ بمبدأ حرية المقاولات وأن كانت ترمي لتنظيمه.
إن مهاجمة الأنظمة الديمقراطية ضعيفة في الوقت الحاضر في أمريكا ولكن هناك نقمة تكاد تكون عامة على بعض الأصول الإدارية وعلى زمرة السياسيين أجمالاً. فالسياسة والسياسيون موضع ازدراء واحتقار كالاحتيال والمحتالين. وهذا الحادث يكاد أن يكون أمريكياً بحتاً ولا تصعب معرفة أسبابه على من عرف شيئاً عن حياة الأمريكيين العامة. فالواقع أنهم أخفقوا أخفاقاً شديداً في ممارسة الحكم والسياسة والإدارة. فلم يستفيدوا من ذلك شيئاً من أمهم انكلترا حيث بلغت هذه الصناعة الأوج في الإتقان والدقة وتفوق الأمريكيون تفوقاً لا يجارى في ممارسة الأعمال الصناعية والمالية على وجه عام. وقد خلق نجاحهم هذا ثقة في نفوسهم لا يوازيها غير ثقة الانكليز الناتجة عن نجاحهم في صناعة الحكم والدولة. إن نجاح رجال الأعمال في أمريكا ترك أثراً عميقاً في الديمقراطية الأمريكية إذ(9/10)
تكيفت لتسهل النجاح في هذا المنحى. وسار الشعب وراء ملوك المال بلا تحفظ ولا تردد مندهشاً بما أحرزوه من ثروات هائلة مؤمناً بكفاءتهم ومقدرتهم الخارقة. لم يباشر هؤلاء الملوك الحكم بأنفسهم بل اكتفوا بشراء رجال السياسة وتسخيرهم فيما يريدون فاتقوا بذلك سخط الشعب واحتفظوا بإعجابه وتكريمه. وحرص رجال السياسة على ما اكتسبوه من سلطة وعملوا على توطيدها وأساءوا للشعب يحميهم جيش من المرتزقة والأتباع. أن تسلط رجال السياسة واستفحال شرهم دهراً طويلاً دون أن يحرك الشعب ساكناً ضدهم لغز يصعب علينا فهمه. ولكن الغرائب غير مستغربة في أمريكا. فشعبها النشيط منصرف لأعماله لا يعبأ بالسياسة ولا يعيرها اهتماماً. أما ملوك المال فلم يروا فائدة كبرى بالضرب على أيدي المسيئين وقد صرح أحد قادتهم في نيويورك بأن شراء هؤلاء الإماقيين أو دفع جزية لهم لاتقاء شرهم هو أقل ما ينبغي أن ينفق من المال لطردهم والقضاء عليهم.
إن هذه النقمة على رجال السياسة امتدت منذ عهد غير بعيد حتى أحاطت بملوك المال. ولكنها تتعلق من حيث الهدف بالفروع والتطبيق ولا تلمس الأصول والمبادئ العامة. أما الحملة الحقيقية فتستهدف النظام الاقتصادي المتقمص في ثوب الديمقراطية وترى هذا النظام لم يعد متفقاً مع روح الديمقراطية وجوهرها وأن الظروف التي وضعت فيها المبادئ العامة المشتقة من فكرة الديمقراطية قد تبدلت تبدلاً كلياً وإنه لابد من إعادة النظر في تلك المبادئ لتغييرها أو تفسيرها تفسيراً جديداً يلتئم مع ظروف المعيشة الحاضرة. فالأمريكي يشعر اليوم أن حقه في العمل والكسب لأجل العيش أهم من حقه في التصويت والعامل الأمريكي اكتشف بعد غفلة طويلة أن الحقوق الممنوحة له في الدستور لم تفده دائماً في تحسين أحواله وأن أكثرها سلاح يستخدم ضده ولذا أصبح مرتاباً بتلك الحقوق.
إن القادة من المحافظين على الديمقراطية شديدو الانتباه لحاجات الشعب التي نشأت من تبدل ظروف الحياة والعيش. ينظرون بعين الاعتبار للتوازن الجديد بين القوى الاجتماعية الحاضرة وهو بعيدون عن التعصب والتمسك بالتقاليد لذاتها شديدو الحرص على التطور والتكيف. لا يجهلون أن العامل الاقتصادي قد اكتسب أهمية في الحياة الحاضرة لم تكن له في زمن من الأزمنة. وأدركوا أنه لابد من تبديل مضمون الديمقراطية لصونها من مخاطر الهجمات الموجهة إليها سواء من اليمين أو الشمال. ورأوا أن الإصرار على المحافظة على(9/11)
مبادئ لم تعد صالحة لتسيير حياة الأفراد في السبيل المرضية لاشك منته باضمحلال الديمقراطية واندثارها. ولذا تسير الديمقراطية الأمريكية في طريق التضامنية
إن هذا التبدل في مضمون الديمقراطية والانحراف عن مبادئها العامة المقررة والسير بها في سبيل جديد ليس هو كل ما يحدث حولها ويرمي لإصلاح شأنها وجعلها صالحة للقيام بمهمتها الرئيسية. بل هناك بحث ودرس عميق يتعلق بوظيفتها يرمي لإيجاد أفضل شكل ممكن تستطيع به الديمقراطية تأدية تلك المهمة. ولإيفاء هذه الناحية حقها من البحث ينبغي أن ننظر للديمقراطية من ناحية جديدة وأن نحلل مضمونها على مستوى أعمق من الأول فلا نقف عند مظهرها السياسي والاقتصادي كما مر معنا.
الديمقراطية في الأصل نظرة جديدة في الحياة والإنسان وطريقة مستحدثة لجعل علاقات الإنسان بأمثاله أكبر نفعاً وأعم فائدة لجميع الذين يساهمون في تلك العلاقات فقوامها إكبار شأن الفرد واعتباره غاية لذاته. ولذا منحته حقوقاً متنوعة ليتمكن من تنمية مواهبه وإرضاء رغباته ولم تكلفه للحصول عليها نزاعاً وعراكاً مع بيئته. نشأت الديمقراطية وترعرعت في جو الحكم المطلق والاستبداد الشامل فكانت رد فعل وثورة على الكرامة المهانة والحقوق المهضومة. فهي تشبه في منشئها الاشتراكية الحديثة التي خلقت في صفوف العمال في أوربا في القرن التاسع عشر بكونها رد فعل وثورة على النظم والأوضاع القائمة.
واستلزم ظفر الديمقراطية وضع نظام جديد يستطيع به الشعب ممارسة السلطة التي انتزعها. وقد أحدث النظام التمثيلي عامة والبرلماني خاصة لتحقيق هذه الغاية. وما هذا النظام التمثيلي كما هو معروف الآن إلا شكل من الأشكال التي يمكن أن يتخذها الحكم الديمقراطي. فليس هو بالشكل الوحيد ولعله ليس أفضلها. يرى المحدثون من أنصار الديمقراطية أن إخفاقها في تحقيق غاياتها العليا وهي توزيع أكبر مقدار من السعادة على أكبر عدد من الناس خلال أطول مدة من الزمن نتج بالدرجة الأولى عن عيوب ملازمة لهذا النظام الذي وضع لتخفيفها وإبرازها لحيز العمل. فإيفاد ممثلين لممارسة الحكم لا يرجعون لرأي الشعب إلا فيما ندر من الأحوال (وهذا في بعض الممالك فقط) لا يقول فيها أكثر من نعم أو لا لا يدل على ممارسة الشعب للحكم ممارسة فعلية كما يريد أنصار(9/12)
الديمقراطية الصحيحة. ورأيهم أن النظام الديمقراطي في شكله الحاضر قائم على خطأ في إدراك وظيفة الديمقراطية الأصلية. ويرون أن هذا الخطأ منبعث من تسرب فكرة التضاعف القديمة التي اعتنقها الإنسان دهراً طويلاً ففرق الباطن عن الظاهر والروح عن الجسد والغاية عن الواسطة والنظري عن العملي والخ. والخطأ في النظام الحاضر يظهر لهم في التفريق بين الغاية الشيئية والعمل لإدراكها. فالأنموذج المتبع في هذا النظام الحاضر هو أن يضع الخبراء الغايات والأهداف ثم تؤخذ موافقة الشعب عليها.
يعترض المحدثون على هذه الطريقة في مرحلتها الأولى والثانية وقولهم في ذلك أن الغايات والأهداف التي يحددها الخبراء ليست في الواقع أكثر من غايات الخبراء أنفسهم فهي إذن غريبة عن الأفراد الذين وضعت لأجلهم والذين يطلب إليهم العمل لتحقيقها. أما موافقة الشعب على ما أقر الخبراء فلا تعني أنه أخذ على نفسه التقيد بما وافق عليه. لأن هذه الموافقة تحصل في المستوى الفكري بينما التنفيذ والعمل يقعان في مستوى العادة.
إن هذه الانتقادات الموجهة لشكل الديمقراطي لإصلاحه لم تكن ممكنة بالأمس لعدم توفر الشروط ولضيق نطاق المعرفة، فهي كما يظهر للقارئ مستندة للسكلجة الحديثة وللفلسفة البراغمية ولتقدم وسائط الاتصال والنقل (الراديو والطيارة) تقدماً لم يحلم به أحد قبل جيل واحد.
فالسكلجة الحديثة تشير إلى أن المثل العليا لا أثر لها في حياة الأفراد اليومية إلا بمقدار ما يفهمونها ويحيطون بها. وإن الأفراد لا ينفذون بغير استعمال العنت والشدة خطة مرسومة إلا بقدر اشتراكهم في وضعها واتصالها بحياتهم العادية وأن كل رأي أو وجهة نظر مهما كان مصدرها لا تترك أثراً في حياة الفرد الخاصة إلا بمقدار مامحصها بذاته وأحاط بما يترتب عليها بنفسه. وإن المثل الأعلى لا يكتسب تأثيراً وقوة إلا على نسبة تطبيقه في حالات وأوضاع متنوعة.
وتتفق تلك الانتقادات المستنبطة من السكلجة الحديثة مع وجهة نظر البراغمية في تفسير الديمقراطية وتحديد مرماها وبما أن النتائج التي توصلت إليها السكلجة قائمة على درس الحياة كما يعيشها الأفراد تكون مهمة المحدثين تحويل الأنظمة الديمقراطية لجعل هذه نسخة طبق الأصل عن الحياة كما أدركها العالم. هل يوفقون لاكتشاف الطرق الناجعة لتحقيق(9/13)
ذلك؟ هذا موضع والدرس الآن والجهود المنصرفة في هذا السبيل عظيمة. والنتائج التي وصل إليها الدرس تحمل على التفاؤل والاطمئنان.
شاكر العاص(9/14)
ما فهمته من بول فالري
إلى أستاذنا الفاضل المسيو غوستاف كوهين
بقلم الدكتور أنور حاتم
غموض فالري وبعض أسبابه
قرأت تقريباً جميع الكتب التي وضعها فالري (وعددها نسبة لما وضعه غيره من الكتاب محدود جداً) فظننت أني فهمت القليل منها وقرأت الدراسات والتحليلات والانتقادات والتفاسير والترجمات (الترجمات باللغة الفرنسية وبغيرها من اللغات) التي وضعت عن تآليف بول فالري فلم أفهم منها شيئاً أبداً والظاهر أن غموض شاعر المقبرة البحرية داء سار وقع فيه كل من عاشره مدة من الزمن والحقيقة أن شخصية فالري الأدبية غريبة في تطورها، شبيهة بالزئبق، يستحيل القبض عليها والوصول إليها وهو القائل عن المسيو تست ذلك الشخص النادر الذي خلقه في نشوة من نشوات شبابه: لا يمكن أن يقال عنه مالا يكون في البرهة نفسها مخالفاً للحقيقة. ولا شك أن أجهل الناس بفالري هو فالري نفسه وقد كثر شراحه في أيامنا هذه واعتقد أن فالري لم يفهم شرح أشعاره أكثر من أشعاره نفسها التي تحتمل كثيراً من المعاني ولا يدري هو أيها الأصح، وأن كان له فلسفة فتمتاز بتحركها وتحولها فهي لا تنفك تتركب بقالب جديد كل يوم والألفاظ برأيه ليس لها قوة ثابتة ولا تحتوي على أفكار جامدة فالألفاظ تقلب حسب النفوس وتأخذ القالب أو الصورة التي يريد الكاتب أو القارئ أن يمنحها إياها وإذا استطاعت الكلمات أن تسجن الفكرة وترفع أمامها كأسوار تمنعها من السير قتلتها وقد وجدنا تصريحات المسيو تست موافقة لنظرية فالري. قال المسيو تست: يعيبون غموض أقوالي ولكنني أن نظرت إلى الكون لا أرى إلا غموضاً. . . يفهم الأمور من يفحصها فحصاً سطحياً. . . أثمن ما في شخصيتي غامض علي ولو تمكنت من إدراك كل ما في نفسي لحرمت من الوجود. . . أشبه الألفاظ التي بواسطتها تجتاز مسافة فكرة بألواح خشبية سريعة الانكسار طرحت فوق هاوية يستطيع الإنسان المرور عليها لا الوقوف فوقها. فالرجل المستعجل يمر عليها ويسلم وأن أراد أن يتأخر تنكسر ويقع في أعماق الهاوية. هكذا من استعجل في فحص الألفاظ يدركها (أو يظن أنه أدركها) ومن أراد أن يطيل البحث فيها يتدهور في أعماق نفسه ويتيه. . .(9/15)
إذاً فلا عجب إن صعب على كل قارئ إدراك بول فالري ومن المستحيل تعريف كل ظاهرة من ظواهر نفسيته باللغة العربية ولذلك لأسباب عديدة أهمها:
أن فالري اكتشف ميداناً جديداً للأدب ما اعتاد عليه النطق البشري فقد درس تطورات النفس في حالة الإبداع ونزاع الوجود والعدم وتوغل في الأنحاء المظلمة من روحه يستنبط منها كنوزاً ظهرت لنا وله غريبة وقد عجز النقاد وعجز الشاعر عن وصفها فأعطى فالري للألفاظ حياة جديدة وإبداع لأفكاره لغة جديدة لا يمكن تعريبها حتى ولا تحويلها إلى اللغة الفرنسية العادية وأرى أن كل ترجمة للمقبرة البحرية أو ملكة آجال البشر الشابة أو نرسيس أو سواها من أشعار فالري نصيبها الفشل. ومن الأسباب التي تجعل البحث عن فالري متعذراً في اللغة العربية هو أن سحر أشعاره ليس فقط في المعاني ولكنه كائن أيضاً في انتخاب العبارات والألفاظ حتى والحروف فقد استطاع أن يرتب الألفاظ في الشعر بصورة موسيقية وموسيقى الأشعار تضيع إن نقلت إلى لغة أخرى وفالري يعتقد بقوة العدد وينظم قصائده كمهندس يبني القصور والهياكل. وهو في فرنسة أول من حدد العلاقات القوية الموجودة بين الشعر والرياضيات فغاية الشعر الجمال والجمال في تناسب الخطوط وتناسب الخطوط يقتضي دقة الرياضيات وروح الشاعر المبدعة. وأن أردنا أن نعرف أهمية هذه النظرية عند فالري فما علينا إلا أن نفتح أحدث كتبه النثرية المشهورة وبالينوس. أو بالينوس المهندس بنى هيكلاً جميلاً للإله هوميس ولما سئل عن غايته من بناء هذا الهيكل أجاب: أردت عندما رفعت هذا الأثر أن أحفظ ذكر يوم مضيء من حياتي. يا لها من استحالة عذبة! لا أحد يعلم أن هذا الهيكل الجميل هو صورة رياضية لفتاة أحببتها وكنت بحبها سعيداً فالهيكل يمثلها لي فالعامي لا يدرك كيف يمثل صورة الفتاة أما الشاعر فله حاسة يستطيع بواسطتها العثور على العلاقات الخفية التي تربط كل صورة تمثل الجمال ببقية صور الجمال.
لا نريد أن نطيل البحث في هذا الموضوع خوفاً من الوقوع في الغموض أو الإبهام وغايتنا من هذه الملاحظات بيان الصعوبات التي تمنع الكاتب العربي من التكلم عن فالري باللغة العربية وسنأتي فيما بعد ببعض ما نستطيع التعبير عنه لشاعر من أشهر شعراء الغرب.
حياة فالري وتطور أفكاره(9/16)
من يرى فالري لأول مرة يصعب عليه أن يرفع النظر عنه فهيئته الخارجية تستدعي النظر: قصير القامة ضعيف البنية يمشي ببطء وهو منحني الظهر قليلاً، شعره على وشك البياض، متدل على وجهه من جبهته اليمنى، يغطي حاجبه، فمه عريض يكلله شاربان كثيفان قصيران، خداه أجوفان تقطعهما تجعدات عميقة، عيناه صغيرتان لا أذكر لونهما ولكنك تشعر أن أطلت النظر فيهما بأنهما موجهتان إلى داخل فكره لا إلى العالم الخارجي فكأن أنظار فالري تنفى وجود كون خارج عن الكون الذي في نفسه.
ولد فالري في مدينة على البحر المتوسط تدعى سيت في 30 أكتوبر من سنة1871 وكان والده من أصل كورسيكي وأمه ايطالية تنتسب إلى إحدى عائلات مدينة جنوى وفي السنة السابعة من عمره رحل إلى انكلترا ثم عاد إلى بلدته وبدأ تحصيله في مدرسة مرتفعة فوق المرفأ على مصعد جبل بالقرب من حقل الأموات ذلك السطح الهادئ بين أشجار الصنوبر والقبور الذي سيخلد ذكره في المقبرة البحرية.
وكان فالري الصغير تلميذاً متوسطاً في اجتهاده ومطالعته، بعيداً عن رفاقه ميالاً إلى الانفراد ولم يتخذ رفيقاً غير البحر المتلألئ المتغير الألوان حسب أشعة الشمس المتقلب فوق درره الثمينة المستترة، البحر الذي سيشبهه في المستقبل بنفسية الإنسان ولما بلغ السنة الثالثة عشرة من عمره أرسل فالري إلى مونبلييه ليكمل تحصيله وهناك أهمل دروسه، فشعر بوحشة البحر وقضى الليالي العديدة يحلم بدخوله في سلك البحارة نظير أجداده الكورسيكيين ولكن ضعفه في ذلك الزمان في الرياضيات حال دون مساعيه وقد انكب على مطالعة فيكتور هوكو وتيوفيل غوتييه ثم أحب فن البناء وبدأ يختصر معجم البناء الضخم الذي وضعه أحد المهندسين الإفرنسيين المشهورين في القرن التاسع عشر المدعو فيوله ليدوك - ولما شعر بأنه لا يستطيع اتخاذ مهنة معينة باشر مثل أكثر شبابنا اليوم بدرس الحقوق في معهد مونبلييه الذي سيكون عميده بعد بضع سنين شقيق فالري الأكبر جول فالري.
وبالطبع فإن شاعرنا نام في أغلب محاضرات أساتذة الحقوق ومما لاشك فيه أنه لم يجد أقل لذة من تلك الدروس الثقيلة الهضم ولم تلهه المدرسة عن الرياض والجبال والغابات. وقد بدأ بقراءة كاتب من أغرب كتاب فرنسا اسمه هو يزمنس واضع كتاب في الطريقو(9/17)
بالعكس ودخل فالري في الخدمة العسكرية قبل أن يبلغ السنة التاسعة عشرة من عمره وتعارف في هذا الوقت مع الشاعر بيير الويس مؤلف افرودتيه وأناشيد بيلتيس.
وأسس بيير لويس بمساعدة بعض شباب ذلك الوقت 0واسمهم اليوم اندره جيد وليون بلوم وهنري بيرانجه) مجلة أدبية عنوانها الصدفة نشر فالري أول أشعاره فيها ومن اشتراكه في تحرير الصدفة بدأت شهرته وقد تعرف بالشاعر الذي سيحدث تغييراً عميقاً في روحه ويساعده على اكتشاف شخصيته وقوته وهذا الشاعر هو ستيفان مالرمه مبدع الغموض الشعري. قرأ فالري أشعار مالرمه في ديوان استعاره من اندره جيد وشرع في زيارته كل أسبوع يوم الثلاثاء حيث كان يستقبل ضيوفه من الساعة مساءً إلى نصف الليل في داره الكائنة بشارع روما رقم89
وكان يجتمع في دار مالرمه بشارع روما أشهر أدباء فرنسا ومن أحاديثهم ومحاوراتهم انتشر مذهب الشعر المحض
كان تأثير مالرمه في فالري عظيماً جداً وقد اعترف به في مقالات عديدة ومالرمه أول من قاوم تلك العقيدة الابتدائية التي اشتهرت في عهد فيكتور هوكو والتي تختصر بجمل كهذه: الشاعر نبي والشاعر رسول وللشاعر رسالة إلهية على الأرض والشعر الهام إلهي والشاعر يكتب شعره في نشوة وهيجان حينما تحل به الآلهة أو الشياطين ابتعد فالري عن هذه الآراء المبتذلة وأحس بأن الشعر يولد من تضييق الفكر وقهره بتفكير عميق متواصل والشاعر يستخلص الشعر من الحياة كالمعطر يستخلص من الورد روحه. الشاعر كيماوي يركب من تلك الأجسام التي نسميها الألفاظ مادة أن دخلت على النفس من حاستي السمع والنظر تسحرها. والشاعر صائغ يصوغ الجمال بصبر ودقة وطول بال حسب قواعد دقيقة هي شرط كيان الشعر. الشعر المحض هو الشعر الخالي من الفصاحة والبلاغة والحب والبغض والأمل واليأس ومن جميع الأهواء الإنسانية والتعاليم الأخلاقية فالشعر المحض موسيقى قوية تتولد من كلمات منتخبة أن سمع العقل رنتها يضطرب ويتلذذ حتى ولو لم يفهم معنى الكلمات ولستيفان مالرمه قصائد يستحيل على أي كان إدراك معانيها تلك هي الآراء التي استولت على فالري بالقرب من سنة 1892 وقد كتب قصائده في ذلك الوقت تحت إشراف مالرمه واستوطن باريس في غرفة حقيرة كائنة في (الحي اللاتيني) واستطاع(9/18)
بمساعدة صديقه هويزمنس أن يتوظف في الوزارة الحربية وقد كان يقضي ساعات الفراغ كسولا (الكسل آفة من آفات الشباب) يتنزه في حديقة (الحي اللاتيني) الكبرى برفقة أحد أصدقائه إلى أن تزوج بفتاة اسمها جان كوبيلار في 31 أيار سنة 1893.
ولما أتى عام 1893 ترك فالري وظيفته في وزارة الحربية وعين أمين السر لرئيس شركة هافاس ثم انتقل إلى لوندرا حيث ترفع إلى مديرية مكتب الأخبار الإفرنسي وفي فرصة الصيف عاد إلى مونبلييه وكتب في الدار التي ولد فيها الفيلسوف أوغست كونت السهرة مع المسيو تست.
كتب فالري السهرة مع المسيو تست بعد أن دخل في حياته الأدبية شاعر آخر هو الأميركي ادكاربو ومن هذا الوقت تعشق فالري العلوم الطبيعية ودرس الأحلام وتأثيرها في تطور الأفكار قبل أن تلبس ثوب الألفاظ وقد درس فالري تحت تأثير ادكاربو حالة الحالم اليقظان وتلك النغمات الشجية المسكرة التي يصدرها بعض الرجال من أعماق نفوسهم دون أن يستطيعوا التعبير عنها.
المسيو تست صورة من صور فالري العديدة وهو مخلوق غريب أبعدته تأملاته ويأسه وعجرفته عن قوانين الوجود البشري فأضحى آلة مفكرة هدامة لجميع مظاهر الحياة فلا شيء خارجاً عن فكره وحياة فكره ذاتها ضعف لأن الكمال بالعدم (يوجد شيء قليل من مذهب الفيلسوف الألماني شوبنهور عند فالري) ومذهب فالري الأدبي هو لاشك مذهب العدم وقال مالرمه يوماً إن أجمل صفحة قرأها هي الصفحة البيضاء العذراء المنزهة عن كل دنس أي التي لم يكتب فيها شيء،. . . . . ولم يتوصل المسيو تست إلى التهرب من بشريته لأنه متزوج وامرأته أميلي تست رمز حي للقلب البشري في أسمى عواطفه وقد دعاها الواحة يلتجئ المسيو تست إلى واحته ليستريح من العناء الذي يقاسيه في الصحراء التي تمتد في أعماق نفسه. . . .
وامتنع فالري عن الكتابة وأخذ يدرس الرياضيات والهندسة وعلوم الطبيعة وما وراء الطبيعة وتوفي مالرمه سنة 1898 وأحدث موته صدمة قوية في عقل وقلب فالري وأعلنت الحرب الكبرى ولم يشترك فيها إلا بضعة أسابيع ثم أتى عام 1917 وفي يوم من عام 1917 رجع فالري إلى ميدان الأدب بعد أن احتجب أكثر من عشرين سنة ونشر في(9/19)
المجلة الفرنسية الجديدة قطعة شعرية أهداها إلى اندره جيد وعنوانها: ملكة آجال البشر الشابة فكان لهذه الأشعار صدى عظيم في فرنسا وفي الخارج ومن ذلك الحين انتشر اسم فالري وحاز الدرجة الأولى بين شعراء فرنسا المعاصرين ثم نشر السحر وفيه المقبرة البحرية (1921) وكان قد جمع أشعار صباه ونشرها تحت عنوان مجموعة أشعار قديمة (1920) ثم نشر (النفس والرقص) (1921) (واوبالينوس) (1923) وزار انكلترا وبلجيكا واسبانيا وقابل موسوليني ودانونزيو في ايطاليا وألقى محاضرات عديدة في أوروبا الشمالية وفي هولندا وفي سويسرا وفتحت أمامه أبواب المجمع العلمي الفرنسي بعد موت أناتول فرانس في سنة 1927 وآخر كتبه نشرها هي (الفكرة المستقرة) (وأشياء مكتومة) (وحكم) (ونظرات في العالم الحديث) وقد أسس مجلة اسمها (تجارة) نشر فيها مقالات مهمة وتوقف عن نشرها من مدة وجيزة.
وفي اليوم الذي نكتب فيه هذا المقال (27 آذار سنة 1934) بلغ فالري من العمر اثنتين وستين وأربعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً ولم يزل حياً يرزق ضعيف الصدر والصوت قليل النوم صاحب عائلة وأولاد يعاشر السياسيين والنبلاء والأمراء وقد أصبح كاتباً سياسياً أوروبياً رسمياً يمثل الجمهورية الفرنسية في لجنة التعاون الفكري الدولي في جنيف ويعاضد بأدبه المشتغلين في بث روح السلم والإخاء بين دول أوروبا ومرشحاً لجائزة نوبل التي يبلغ قدرها مليون فرنك تقريباً.
هكذا هبط من السماء التي كان محلقاً فيها المسيو تست ورجع بين البشر. فهل أراد كسواه من مخلوقات الله الحية أن يتعلق بالحياة بكل ما فيه من قوى حينما شعر باقتراب الموت؟
أنور حاتم(9/20)
وربيع القلب لو يشرى
لماري عجمي
أروها بالدمعة الحرى ... فالأسى قد ينعش الذكرى
روضة ما كان أروعها ... وهي في أيدي الصبا سكرى
ما ترى الريحان مكتئباً ... وأجما لا ثغر مفترا
قلقاً السحب تغمره ... وهو لا شمساً ولا قطرا
نمت والأزهار ساهرة ... ترتعي في سهدها البدرا
وسكون الليل منتشر ... في مطاوي الثورة النكرا
ثم لاح الفجر منبثقاً ... دون شدوٍ يملأ الفجرا
فإذا الأغصان لا ورق ... وقضاء الدهر أن تعرى
وعيون الورد جاحظة ... لا ضيا فيها ولا بشرا
فكأن الروض مقبرة ... عريت أمواتها جهرا
لو ترى الفيحاء زاهية ... روضة معسولة خضرا
خلتها الفردوس مزدهراً ... وشهدت الآية الكبرى
فالدوالي وهي مثقلة ... تترامى حولنا سكرا
ولآلي الزهر ناثرة ... فوقنا أمجادها نثرا
أنجم لو رحت تسألها ... بعضها جادت به كثرا
غرر كالجمر لاهبة ... حين لا ماء ولا جمرا
ولجين فاض عن كثب ... دفقت أمواجه تترى
شاقها النبع الذي هجرت ... فعدت تستغفر البحرا
فتخال النهر مرتحلاً ... ومقيماً تارة أخرى
وكأن الوجد يقعده ... والمنى تجري به قسرا
من لأيام لنا سلفت ... وربيع القلب لو يشرى
يوم كان الظل يجمعنا ... لا نوى نشكو ولا غدرا
يوم كنا السيل هرولة ... والنسيم الطلق إذ أسرى(9/21)
وأغاني ود سامعها ... لو نغنيها له الدهرا
نغرس الأزهار في سحر ... ثم نجني طيبها عصرا
ورياض العيش وارفة ... وجراح القلب ما تبرا
نستلذ الحب مرتجلا ... وأحاديث الهوى جهرا
وأفانين منوعة ... وجنون يزدري الكبرا
وقلوب ملؤها نغم ... ورفيف يا لها وكرا
روعة غاضت منابعها ... دون أن ندري لها عذرا
روضتي، أواه من ذكر ... أصبحت محزونة صفرا
عقد التبريح منطقها ... فهي لا سلكاً ولا درا
إنما الأطياب زفرتها ... كلما جدت بها الذكرى
روضتي والبين فرقنا ... فرغت كأسي فلا قطرا
أنت تشكين الجوى مللا ... وأنا أعيا به صبرا
وكأني والأسى لججٌ ... قارب يستعتب الغمرا
كلما استعطفت جانبه ... لج في طغيانه كبرا
اعطفي يا ريح لا تذري ... في الربى زهراً ولا عطرا
وابعثي الأنفاس باردة ... جمداً يستوقف النهرا
وأثيري الوجد كامنه ... واهصري آمالنا هصرا
فأنا يا ريح باقية ... للمنى، للشوق، للذكرى
اغرس الأزهار في حلمي ... عل من أرواحها نشرا
عادت الورقاء هاتفة ... بلقا أحبابها بشرا
عادت الأدواح وارفة ... وهفت ريح الصبا فجرا
وزكت في الشمس نضرتها ... وأنا غصني بها يعرى
وأؤم الروض شاحبة ... علني اكسي بها زهرا
فأرى شمسي مهاجرة ... وأرى كأسي ولا خمرا
قيل لي والعين ذاهلة ... إن تغني تلهمي سحرا(9/22)
أتغني الطير من طرب ... وهي في أقفاصها أسرى
ما تركت الشعر عن ملل ... غير أني لا أرى شعرا
فجناح هاج هائجه ... وجناح قد وهى كسرا
ليلى(9/23)
الفرق بين الوصف والقصص
إن الوصف العارف يميز بين الوصف والقصص فلا يكاد يجمع بينهما في عنوان واحد إذ لكل منهما عنوان خاص هو به أليق، وبحقيقته أشبه، فإذا أراد أن يصف حريقاً حدث في الحي، أو فرحاً مباغتاً بعد ترح لم يعنون ما صوره من هاتين الحادثتين بقوله: وصف الحريق، أو وصف الفرح، بل يعنونهما بقصة الحريق أو حكايته وحكاية الفرح بعد الترح مثلاً، ذلك لأن الوصف الدقيق غير مرادف للقصص، وقد قال تاين النقادة الكبير فيما كتبه على أمثال لافونتاين:
الوصف شبيه بالقصص، وإنما الفرق الوحيد بينهما أن القصص تتوإلى فيه التفاصيل بحسب توالي صفحات الحادثة، وفي الوصف تكون هذه التفاصيل مجتمعة.
وقد يقال: ليس في الوصف عمل معين لأن ترتيب أجزائه اختياري، والأمر بعكسه في القصص الذي لا بد أن يكون العمل فيه معيناً محدوداً، ويراد بهذا العمل تتابع وقائع الحادثة وتوالي أجزائها توالياً ليس للاختيار يد في ترتيبه: إذ لها فاتحة وواسطة وخاتمة تتعاقب تعاقبها في الروايات التمثيلية، والأمثلة التالية تبين الفرق واضحاً بين الوصف والقصة:
قصة الزلزال ... وصف مدينة خربها الزلزال
قصة نزهة في الغوطة ... وصف الغوطة أيام الربي - ع
قصة العيد في دمشق ... وصف دمشق في العي - د
وخلاصة القول انه ينبغي لنا أن لا نخلط بين الوصف والقصص وإن نعلم مما ضربناه من الأمثلة أن الوصف لا يشتمل على حادثة، وإنه لا بد في الحكاية منها، وإنك في الوصف على خطتك حاكم وفي القصة أنت لها محكوم.
بيد أن القصة قد تشتمل على حوادث تتعلق بالوصف كما أن الوصف قد يشتمل على حادثة صغيرة تضيع في موضوع الوصف ولا تخرجه عن كنهه لكنهما في الجملة متباينان. فالأفضل أن يخلط بينهما بالنظر إلى الخطة وإلى الشرح والبيان.
اعتماد الوصف على المشاهدة
إن سكان البادية هم في الغالب أوصف من قطان الحاضرة فيما يحتاج إلى الاستعانة بالتحديق، وإلى معاودة المشاهدة التي تقف بصاحبها على جميع مميزات الموصوف(9/24)
وخصائصه لكثرة رؤيته ولفرط ألفته وذلك كوصف البوادي والمفاوز، والكثبان والوديان، والخيل والأنعام والمها الأرام والسماء والكواكب والغمام، يدل عليه شعر العرب في الجاهلية البعيد عن التكلف والكذب والممتاز بدقة الوصف وسلاسة الوصف، وبدل عليه أيضاً ما حدث به أبو العالية عن أبي عمران المخزومي قال: أتيت مع أبي والياً كان بالمدينة من قريش وعنده ابن مطير الشاعر وإذا مطر جود فقال الوالي:
- صف لي المطر فأجابه ابن مطير:
- دعني أشرف عليه.
أي دعني اصعد على شرف ورابية فلا تخفي عني منه خافية، فأصفه لك وصفاً صادقاً، وبعد أن أشرف كما طلب على المطر، وصفه للوالي وصفاً حسياً كثير الوشي والصور.
كذلك كان الوصف في صدر الإسلام دقيقاً ومبنياً على المشاهدة، فكانت الصفات المصورة والألفاظ النقاشة تبين الموصوف ولو كان غير معروف، يدل على ذلك ما رواه ابن عساكر عن أبي عمامة: أن رجلاً من بني عامر بن صعصعة جاءه وقال له:
- يا أبا إمامة، إنك رجل عربي، إذا وصفت شيئاً شفيت منه، فصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصفه له وصفاً بلغ من دقته وصحته في نفس العامري أن قال له:
- لقد وصفته لي صفة لو كان الناس جميعاً لعرفته بها!
ثم أن هذا البدوي استقرى الناس حتى رأى الرسول فعرفه بتلك الصورة الكاملة الواضحة التي صورت له هامته وقامته لباسه، وصفاً صادقاً أزال ارتيابه والتباسه وهل أجاد ليت شعري أبو زبيد الطائي وصف الأسد إلا بعد أن شهد منه بعيني رأسه مشهداً رهيباً، يقول عنه لسيدنا عثمان (ض) إذ يلومه على الإكثار من ذكره: ولكني رأيت منه منظراً وشهدت منه مشهداً لا يبرح ذكره يتجدد ويتردد في قلبي، ومعذور أنا يا أمير المؤمنين غير ملوم!
ويحكى عن ابن الرومي أن لائماً لامه بقوله لِمَ لم تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدني شيئاً من شعره أعجز عنه، فأنشده في صفة الهلال:
انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال له ابن الرومي زدني، فأنشده:
كأن آذريونها ... والشمس فيه كالية(9/25)
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية
فقال: واغوثاه! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ذاك يصف ما عون بيته لأنه من أبناء الخلفاء. وأنا مشغول بالتصرف في الشعر: أمدح هذا مرة، واهجوا هذا مرة، وأعاتب هذا تارة، واستعطف هذا طوراً.
هذا ولعدم التمكن من مشاهدة الموصوف، وعلماً بأن الوصف لا يتم إلا برؤية موضوعه بكى بشار بن برد حينما وصفه حماد عجرد بقوله:
ويا أقبح من قرد ... إذا ما عمي القرد!
فقال بشار: ويحي! يراني فيصفني، ولا أراه فأصفه. وهذا الوصاف الفرنسي الكبير شاتوبريان الملقب بفاتح الطبيعة لما كشف بأوصافه من محاسنها يقول عن نفسه مبيناً مواضع الوصف:
في الغابات غنيت الغابات، وعلى السفن وصفت البحر المحيط، وفي ميادين الكفاح تعلمت وصف السلاح، وفي المنفى تعلمت حقيقة النفي، وفي القصور والمرافق العامة ومحافل المجتمعين درست ما درسته عن الأمراء والسياسة والقوانين.
ومما نصح به الأستاذ ماريو روستان في كتاب الوصف والصورة:
الوصف لوح تصوير أجل مزاياه الحقيقية، فلا جل الظفر بها يجب على الواصف أن يآلف النظر إلى الموصوف، وكثيراً ما كان فلوبر الوصافة الكبير يقول ناصحاً: حدق البصر لتحسن النظر واضرب بالكتب عرض الحائط أي لا تتعلم الوصف من الكتب وحدها، إذ لا يكفي أن نلقي على ما يحيط بنا من الأشياء نظرة المسكال، يمر بالشيء فلا يراه إلا لمحا فتلتبس عليه المرئيات وانطباعاتها ويعجز عن تمييز بعضها من بعض، وعن ترتيبها ونقشها في لوح ذاكرته
إن المشاهدة الصحيحة لا يتم تصويرها إلا للقوة الفعالة والإرادة الصحيحة، فهي التي تجبر الطبيعة على الدخول في العين وهي التي تكسب الإحساسات وضوحاً وتبين ما بينها من الفروق، وترتبها وتحفظها في الذاكرة عدة وذخيرة للمستقبل، فالنظر الجيد والحفظ الجيد والإنشاء الجيد ثلاث شرائط لابد منها لتجويد الوصف الصحيح.
ويقول الأستاذ فانيه في كتابه البيان الفرنسي:(9/26)
إن كثيراً من الناس لا يحسنون النظر. لأنه يقتضي ملاحظة نبيهة نيرة، وقوة تميز في الأشياء بين الجوهر والعرض وكأن هذا الأديب الفرنسي يريد ما أراد أديبنا العربي أبو الطيب المتنبي إذ يقول:
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضاءها فالحسن عنك مغيب
التنوخي(9/27)
مائة نقلة
من كتاب نقل الأديب
وهي ألف نقلة مقتطفة من ألف كتاب
مؤلفه محمد إسعاف النشاشيي
حق الطبع والنشر ونقل شيء من هذه النقل محفوظ
أهدي مائة النقلة هذه إلى مجلة (الثقافة)
77 - وقف ودار ثلاث دورات
قال العلامة البقاعي: حدثني الشيخ محيي الدين الأقصرأي - وكان ممن لازم الشيخ عز الدين محمد شرف الدين - أنه رأى رجلاً تكرورياً، اسمه (الشيخ عثمان ماغفا) وله عشرة بنين رجال أتى بهم إلى الشيخ عز الدين للاستفادة فقرأ عليه كتاباً فكان إذا قرر مسألة وقف ودار ثلاث دورات على هيئة الراقص ثم انحنى للشيخ على هيئة الراكع، فإذا جلس قام بنوه العشرة ففعلوا مثل فعله. . . .
78 - يفديه بالعجوز السوامة
لما قال ابن زهر الحفيد الموشحة التي أولها:
هات بنت العنب وأشرب
إلى قوله:
وافده بأبي ثم بي
سمعها أبوه فقال: يفديه بأمه السوامه: وأما أنا فلا. . .
79 - وهذا منك كثيراً
أمر عبد الله بي الزبير لأبي الجهم العدوي بألف درهم. فدعا له وشكر. فقال: بلغني أن معاوية أمر لك بمائة ألف درهم فسخطتها، وقد شكرتني!
فقال أبو الجهم: بأبي أنت أسأل الله أن يديم لنا بقاءك فأني أخاف أن فقدناك أن يمسخ الناس قردة وخنازير. كان ذلك من معاوية قليلاً، وهذا منك كثير. . . فأطرق عبد الله ولم ينطق
80 - حامى على أمه(9/28)
قال الزمخشري: قلت مرة لبعض أشياخي: إن فلاناً يبخل، وكان مبخلاً.
قال: حامى على أمه أن تزن بغير أبيه. . .
وهو
من الكلام المتباري في الحسن لفظه ومعناه.
81 - اكتف بالبلاغة
كتب عبيد الله بن زياد الحارثي إلى المنصور رقعة بليغة يستميحه فيها. فوقع عليها أن الغنى والبلاغة إذا اجتمعا لرجل أبطراه، وإن أمير المؤمنين مشفق عليك، فاكتف بالبلاغة. .
82 - لو رآه ابن ليون لاختصره
كان ابن ليون التجيبي - وهو من شيوخ لسان الدين بن الخطيب - مولعاً باختصار الكتب، وتآليفه تزيد على المائة0
ومما يحكى عن بعض كبراء المغرب أنه رأى رجلاً طوالاً فقال لمن حضر: لو رآه ابن ليون لاختصره. . . (إشارة إلى كثرة اختصاره للكتب)
83 - أرى الدعوات قد صارت قروضاً
ذكر بعض الكتاب أنه كان يعاشر سوقياً فاتفق أن دعاه يوماً.
قال: فلما تمكنت اشتغل عني صاحب الدعوة فعثرت على رقعة بخطه فيها:
فلاني دعاني مرتين ودعوته ثلاث مرات فعليه دعوة. وقد ذكرنا على هذا أسامي كل من يعاشرنا فلما انتهيت إلى اسمي فرايته قد حصل له على دعوات خرجت وقلت له: لا أتناول طعامك حتى أرد ما علي.
وقلت في ذلك:
أرى الدعوات قد صارت قروضا ... وديناً في البرية مستفيضاً
فأكره أن أجيب فتى دعاني ... ولا أدعو فيلقاني بفيضا
إذا كنت تدعوني لأدعوك مثله ... ففعلك منحول إلى فعل تاجر
84 - فإن لم ينتهوا راجعت ديني
كان أبو المطرب من لصوص الحجاز فتاب، فظلم فقال:(9/29)
ظلمت الناس فاعترفوا بظلمي ... فتبت، فأزمعوا أن يظلموني
فلست بصابرٍ إلا قليلاً ... فإن لم ينتهوا راجعت ديني
85 - وما كان قصدي غير صون حديثكم
يعلم الشيخ البوريني اللغة الفارسية حتى صار يتكلم بها كأنه أعجمي وفي ذلك يقول:
تعلمت لفظ الأعجمي وأنني ... من العرب العرباء، لا أتكتم
وما كان قصدي غير صون حديثكم ... إذا صرت من شوقي به اترنم
وإن كنت بين المعجمين فمعرب ... وإن كنت بين المعربين فمعجم
فأغدو بأشواقي إليكم مترجماً ... وسركم في خاطري ليس يعلم
86 - ظهر الفساد في البر والبحر
قال المجي: كان قاضي العسكر محمد بن عبد الغني (المعروف بغني زاده) يرمي بتعاطي المدام، واتفق له من النكات البديعة أن أحمد باشا الحافظ كان حاكم البحر فاجتمعا وتذاكرا شيئاً من مباحث التفسير.
وكان ابن عبد الغني إذ ذاك مشتغلا بتحشية التفسير فقال له الحافظ: ما كتبت على قوله تعالى: يسئلونك عن الخمر والميسر.
فقال: أنا الآن اكتب قوله تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر
87 - كأنها رؤوس رجال حلقت في المواسم
قال الأغر النهشلي لابنه لما بعثه لحضور ما وقع بين قومه فقال:
يا بني، كن يداً لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسيف فأنه ظل الموت، وإياك والرمح فأنه رشاء المنية، ولا تقرب السهام فإنه رسل تعصي وتطيع.
قال: فيم أقاتل؟
قال: بما قال الشاعر:
جلاميد أملأ الأكف كأنها ... رؤوس رجال حلقت في المواسم
فعليك بها، وألصقها بالأعقاب والسوق
88 - إن الله أعدل
من أن يجمعكم علينا والطاعون(9/30)
قال المنصور لبعض أهل الشام: ألا تحمدون الله إن دفع عنكم الطاعون منذ وليناكم؟!
فقال الشامي: إن الله أعدل من أن يجعلكم علينا والطاعون. . . . . .
89 - هذا من خاطر الجن
قال الصولي: حدثني علي بن عيسى قال: كان البحتري معي جالساً فسلم عليّ ابن لعيسى بن المنصور فقال لي من هذا؟
قلت هذا ابن عيسى بن المنصور الذي يقول ابن الرومي في أبيه:
يقتر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد
فقال لي: أف وتف! هذا من خاطر الجن لا من خاطر الأنس. ووثب ومضى.
90 - أف على النرجس والآس
قال العباس بن علي بن نور الدين المكي: كتب الشاه إسماعيل ملك العجم إلى الملك الأشرف قايتباي - ملك مصر - هذين البيتين:
السيف والخنجر ريحانتا ... أفٍ على النرجس والآس
شرابنا من دم أعدائنا ... وكأسنا جمجمة الراس
91 - ومن يزيد الماءي
قال أبو بكر الجفاني: دخلت يوماً على القاضي حسين بن أبي عمرو وهو مهموم حزين فقلت: لا يغم الله قاضي القضاة فما الذي أراه؟
قال: مات يزيد الماءي!!!
فقلت: يبقى الله قاضي القضاة أبداً. ومن يزيد الماءي حتى إذا مات يغتم عليه قاضي القضاة هذا الغم كله؟
فقال: ويحك، مثلك يقول هذا في رجل أوحد في صناعته، وقد مات ولا خلف له يقاربه في حذقه. وهل فخر البلد إلا أن يكون رؤساء الصناع، وحذاق أهل العلوم فيه. فإذا مضى رجل لا مثل له في صناعة لابد للناس منها، فهلا يدل هذا الأمر على نقصان العلم، وانحطاط البلدان. . .
92 - يا جاهل(9/31)
هل رأيت أحداً يهب ولده؟
قال جحظة: قال علي بن الهجم: قلت لخالد الكاتب: هب لي بيتك الذي تقول فيه:
ليت ما أصبح من ... رقة خديك بقلبك
فقال: يا جاهل، هل رأيت أحداً يهب ولده؟
محمد إسعاف النشاشيبي(9/32)
صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام
تابع لما قبله
للأستاذ وصفي زكريا
قال القلقشندي: وقد تشعب آل فضل شعباً كثيرة منهم آل عيسى وآل فرج وآل سميط وآل مسلم وآل علي وينضاف إليهم قبائل كثيرة كبني كلب وبعض بني كلاب وآل بشار وخالد حمص وغيرهم. وأسعد بيت في آل فضل آل عيسى وقد صاروا بيوتاً: بيت مهنا بن عيسى وبيت فضل بن عيسى وبيت حارث بن عيسى وأولاد محمد بن عيسى (الذي عثرت على قبره في شمال سلمية) وأولاد حديثة بن عيسى. قال ابن فضل الله العمري: وهؤلاء آل عيسى في وقتنا هم ملوك البر فيما بعد واقترب بمشارف الشام والعراق وبرية نجد وسادات الناس ولا تصلح إلا عليهم العرب. وأما الإمرة عليهم فقد جرت العادة أن يكون لهم أمير كبير منهم يولى عن الأبواب السلطانية ويكتب له تقليد شريف بذلك ويلبس تشريفاً أطلس أسوة بالنواب إن كان حاضراً أو يجهز إليه إن كان غائباً ويكون لكل طائفة منهم كبير قائم مقام أمير عليهم وتصدر إليه المكاتبات من الأبواب الشريفة إلا أنه لا يكتب له تقليد ولا مرسوم.
ولم يصرح لأحد منهم بإمرة على العرب بتقليد من السلطان إلا من أيام العادل أبي بكر أخي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر منهم ماتع بن حديثة بن عقبة بن فضل بن ربيعة. ولما توفي ماتع سنة 630 ولي عليهم بعده ابنه مهنا وحضر مع المظفر قطز قتال جيش التتر سنة 658 في عين جالوت (غور بيسان) فأجازه قطز بسلمية نزعها من الملك المنصور بن الملك المظفر صاحب حماة وأقطعها له (أبو الفداء ج3 ص214) ثم ولى الملك الظاهر بيبرس ابنه عيسى ووفر له الإقطاعات على حفظ السابلة.
قلت وعيسى هذا على ما ذكره ابن إياس في تاريخه (ج1 ص102) هو الذي جاء بالإمام أحمد العباسي بعد حادثة هولاكو في بغداد وكان مختبئاً عند أناس من قبيلته وأوصله إلى مصر إلى الملك الظاهر بيبرس وشهد هو وقومه انه من نسل العباسيين فبويع له بالخلافة واستمرت هذه الخلافة فيه وأعقابه إلى أن استخلصها منهم السلطان سليم العثماني سنة 923 وقضى عليهم. وذكر ابن تغرى بردى في المنهل الصافي أن الأمير شرف الدين(9/33)
عيسى بن مهنا أمير آل فضل كان ملك العرب في وقته وكان له منزلة عظيمة عند الملك الظاهر بيبرس ثم تضاعفت عند الملك المنصور قلاوون بحيث ضاعف حرمته وإقطاعه وملكه مدينة تدمر بعقد البيع والشراء وأورد عنه ثمنها لبيت المال ليأمن غائلة ذلك. وكان عيسى كريم الأخلاق حسن الجوار مكفوف الشر لم يكن في العرب وملوكها من يضاهيه وعنده ديانة وصدق لهجة لا يسلك مسالك العرب في النهب وغيره وكان به نفع للمسلمين، منها أنه كان يكف العدو عن حلب ومعاملتها ومنها في وقعة الملك المنصور قلاوون مع التتار بحمص سنة 680 فأنه جاء وقت الوقعة واعترض التتار من خلفهم فتمت هزيمة التتار به. وكانت البلاد في زمنه في غاية الأمن إلى أن توفي سنة 683 اه -. وذكر حيدر الشهابي في تاريخه (ص450) أن عيسى بن مهنا وسماه ملك العرب اشترك بهذه المعركة مع أولاد عمه (يعني آل مرا الذين تقدم ذكرهم) وأبلى لياء حسناً وأيد هذا القول أبو الفداء أيضاً مما يدل على أنه كان له الفضل في تلك النصرة التي كادت تميل على المسلمين لولاه ولولا ثبات الملك قلاوون. ولعل عيسى هذا هو الذي قال عنه كاتب جلبي في جغرافيته أنه كان في هذه المعركة حاملاً ريشة على رأسه فلقب بأبي ريشة وبقي هذا اللقب إلى يومنا، وإنه هو الذي نال من ذلك الملك عطاءً عظيماً فاشترى به عبيداً ومماليك اعتقوا بعد حين ودعوا بالموالي وبقيت أعقابهم إلى يومنا ملتفة حول هؤلاء الأمراء آل أبي ريشة وانضم إليهم بعد عدد غير يسير من شذاذ الأعراب اندحروا في لفيفهم وحلفهم فصارت من مجموعهم قبيلة الموالي التي سوف نبحث عنها.
ولما توفي عيسى في سنة 683 دفن في جبانة الشيخ فرج شمالي سلمية قبل ابنه محمد على ما جاء في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج6 ص22) وكان عيسى أعقب عدة أولاد أخصهم مهنا وفضل وسليمان وحارث وموسى ومحمد. ولى الملك المنصور قلاوون منهم مهنا في الإمارة فلقب بحسام الدين وصار كبير آل عيسى النازلين في براري سلمية وحماة وتدمر بل أمير البادية طراً.
قال ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار يصف آل عيسى وصفاً نقتطف بعضه لنستدل على ما كانت عليه حالتهم في تلك العصور: هؤلاء آل عيسى في وقتنا هم ملوك البر ما بعد واقترب، قد ضربوا على الأرض نطاقاً وتفرقوا فجاجاً تقارعوا على قرى(9/34)
الضيفان وسارعوا إلى تقريب الجفان حفظوا البر من كل جهاته وحرسوه من سائر مواقعه وآفاته، ولهم سجايا مالكية وعطايا برمكية ووهائب حاتمية وصوارم تنسحب بذيلها الرقاب ومكارم يحتبس على أثرها السحاب. لا يخلو ناديهم من سيد ومسود ووافد آمل وصارخ ملهوف وهارب مستجير ولا ينطفئ لهم نار قرى، يسرح عدد الرمل لهم أبل وشاة، تطل منهم على بيوت قد بنيت بأعلى الربى وبلغت السحاب وعقد عليها الخبا قد اتخذت من الشعر الأسود وتبطنت بالديباج ودبجت بالعسجد وفرشت بالمفارش الرومية والقطائف الكرخية ونضدت بها الوسائد وشدت أطنابها وأرخيت سجفها وتزايد ظرفها وشرعت أبوابها إلى الهواء ورفعت عمدها وقرر وتدها وطلعت البدور في كلتها ورتعت الظباء في مشارق أهلها. . . الخ
وقد ردد أبو الفداء وابن الوردي وحيدر الشهابي في تواريخهم ما كان للأمير مهنا بن عيسى بن مهنا في أواخر القرن السابع وأوائل الثامن من المكانة لدى سلاطين مصر ونوابهم في الشام - وذلك يؤيد مؤلف مسالك الأبصار - وذكروا تداخله في بعض أمور الدولة وعدوا وثباته وغاراته والخراب والدمار الذين أتى بهما أولاده وأولاد أخوته وأعقابهم مما أدى لدثور سلمية وأعمال حماة والمعرة وحلب وكان له أثر كبير في تاريخ القرنين المذكورين وما بعدهما رأيت أن انقله من مختلف الصحائف ليكون عبرة وذكرى.
ذكر المؤرخون في حوادث سنة 692 إن الملك الأشرف خليل بن قلاوون لما توجه من دمشق إلى حمص أضاف الأمير مهنا بن عيسى ثلاثة أيام بلياليها ثم أن السلطان بداله أن يقبض عليه وعلى أخويه محمد وفضل فقبض عليهم وأرسلهم معتقلين إلى قلعة الجبل في مصر وولى الأمير علي بن حديثة عوضاً عن مهنا. ولم يذكروا سبب هذا الاعتقال ولعله كان لازدياد عتو مهنا في ذلك الحين. ثم قالوا في حوادث سنة 694: لما جلس الملك العادل زين الدين كتبغا أفرج عن المذكورين وعاد مهنا إلى سلمية - وكان مقره في قرية تل اعدا - واخلد إلى السكينة وحسنت سيرته فسمت منزلته لدى الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي عاد إلى السلطنة سنة 698 للمرة الثانية وأصبح مهنا ممن يتوسل به في الملمات. شفع في سنة 707 بنابغة الإصلاح الديني تقي الدين أحمد بن تيمية وقد كان مسجوناً في مصر في الجب بقي في غياهبه نحو ستة أشهر ولم يجد مريدوه طريقة لإنقاذه(9/35)
غلا بالتوسل لمهنا بن عيسى فجاء وشفع به وأخرجه. وكان مهنا صديق أبي الفداء قبل أن يصير ملكاً، حضر سنة 709 لما تولى اسندمر على حماة ونزلها لم يرض مهنا بتوليته فسافر إلى مصر وطلب من الملك الناصر نصب أبي الفداء على حماة فأجابه ونقل اسندمر إلى حلب وعين أبي الفداء ملكاً على حماة فعادت المملكة بتعينه إلى البيت التقوى الأيوبي.
على أن طبع البداوة عاد يوحي إلى مهنا بإقلاق الراحة والمكانة اللتين ظل ينعم بهما خمس عشرة سنة. فقد قيل في سنة 711 أن قراسنقر كبير الأمراء في حلب قصد مهنا وكان على مسيرة يومين من حلب يستنصره على الملك الناصر زاعماً أنه يريد البطش به. فركب مهنا - وما كان أغناه عن ذلك - فيمن أطاعه من أهله واستنفر من الغرب نحو خمسة وعشرين ألفاً وقصدوا حلب واحرقوا باب قلعتها وتغلبوا عليها واستخلصوا منها مال قراسنقر ومن بقي من أهله ولم يتعدوا إلى سوى ذلك، فسير عليهما الملك عسكراً فخاماً عن لقائه إلى جهة الفرات.
وعن أبي الفداء: وفي سنة 712 قوي استيحاش مهنا لما اعتمد من مساعدة قراسنقر ولغير ذلك من الأمور وكاتب خربندا ملك التتار ثم أخذ منه أقطاعاً في العراق في مدينة الحلة وغيرها واستمر أقطاعه من السلطان بالشام وهو مدينة سرمين وغيرها على حاله وعامله السلطان بالتجاوز ولم يؤاخذه بما بدا منه وحلف على ذلك مراراً فلم يرجع عما هو عليه وجعل مهنا ابنه سليمان منقطعاً إلى خدمة خربندا ومتردداً إليه واستمر ابنه الثاني موسى في صداقة السلطان ومتردداً إلى الخدمة واستمر مهنا على ذلك يأخذ الإقطاعين بالشام والعراق ويصل من الفريقين وخلعهما وأنعامهما وهو مقيم بالبرية ينتقل إلى شط الفرات من منازله لا يروح إلى أحد الفئتين وهذا أمر لم يعهد مثله ولا جرى نظيره فإن كلاً من الطائفتين لو أطلعوا على أحد منهم أنه يكتب إلى الطائفة الأخرى سطراً قتلوه بساعته ولا يمهلونه ساعة ووافق مهنا على ذلك سعادة خارقة اه -. (أي أراد أبو الفداء أن يقول عن مهنا بلسان أهل زمتنا أنه كان يلعب على الحبلين شأن بعض أبناء جلدته من أمراء البادية الذين أدركنا عملهم هذا في الحرب العامة وما بعدها). وفي سنة 715 أغار سليمان بن مهنا بجماعة من التتار والعرب على التراكمين والعرب النازلين قرب تدمر ونهبهم ووصل في إغارته إلى قرب البيضاء بين القريتين وتدمر وعاد بما غنمه إلى الشرق. ثم قال: وفي(9/36)
سنة 720 تقدمت مراسيم السلطان بقطع أخباز (لعلها رواتب مقننة) آل عيسى وطردهم بسبب سوء صنيعهم فقطعت أخبازهم ورحلوا عن بلاد سلمية وساروا إلى جهات عانة والحديثة على شاطئ الفرات فلحقهم جيش السلطان فهربوا إلى وراء الكبيسات وأقام السلطان موضع مهنا أحد أبناء أعمامه محمد بن أبي بكر من آل علي. وفي سنة 721 عدى مهنا بن عيسى الفرات وتوجه إلى أبي سعيد ملك التتار مستنصراً به على المسلمين وأخذ معه تقدمة برسم التتار سبعمائة بعير وسبعين فرساً وعدة من الفهود وفي سنة 724 وصل الأمير فضل بن عيسى أخو مهنا إلى مصر داخلاً ومستشفعاً فرضي عنه السلطان وأقره على أمرة العرب موضع محمد بن أبي بكر. وفي تلك السنة نزل الأمير مهنا في ظاهر سلمية عند تل اعدا وكان له ما يزيد على عشر سنين لم ينزل بأهله هناك وكان الأمر والنهي إليه في العرب وخبز الإمرة لأخيه فضل. وفي سنة 726 أمر السلطان بطرد مهنا وعربه وأمرني بإرسال عسكر إلى الرحبة لحفظ زرعها من المذكورين فجردت إليها أخي بدر الدين ومحموداً ابن أخي واسنبغا مملوكي فساروا إليها وأقاموا بها ثم عادوا اه -.
قلت وبقيت هذه الحالة القلقة نحو عشر سنوات، ومن الغريب أن أبي الفداء لم يف خلالها بالواجب نحو من كان سبب ملكيته فلم يتوسط بإصلاح ذات البين وإزالة هذا الضيم عن صديقه مهنا إلى أن قام بذلك بعد مماته في سنة 732 ابنه الملك الأفضل محمد، فإنه ذهب ونصح الأمير مهنا وأخذه معه إلى السلطان فرضي عنه وأعاد أمرته إليه ورجع إلى أهله. قال ابن خلدون: وذكر لي بعض أمراء الكبراء بمصر فيمن أدرك وفادة منها أول حدث بها إنه تجافى في هذه الوفادة قبول شيء من السلطان حتى إنه ساق عنده النياق الحلوبة والخيل العراب وإنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سأل منهم شيئاً من حاجته ثم رجع إلى أحيائه اه -.
قلت: وبعد أن زالت وحشة مهنا وأطمأن قضى ثلاث سنوات طيبة في شيخوخته أميراً على البادية كلها يكرم كلما ذهب إلى مصر إلى أن مات في سنة 735. قال ابن الوردي في تاريخه: وحزن عليه وأقاموا مأتماً بليغاً ولبسوا السواد أناف على ثمانين وله معروف من ذلك مارستان جيد بسرمين. وقد أعقب مهنا ستة أولاد: موسى وسليمان وأحمد وفياض وجبار وقناره كما أن أخيه فضل أعقب ثلاثة: سيف وعيسى ومعيقل.(9/37)
ويظهر أن الإمارة انتقلت بعد مهنا إلى ابنه موسى الذي غزا العرب والتركمان في ضواحي تدمر ومات فيها سنة 742 فانتقلت الإمرة إلى أخيه سليمان وكان ظالماً صادر أهل سرمين وربط بعض النساء في الزناجير وهجم عبيدة على المخدرات فأغاثهم الله وسط الشدة فعزل في سنة 744 وولى مكانه ابن عمه سيف بن فضل. ويظهر أنه كان لكل من أولاد مهنا خبز أي راتب مقنن يقطع عند حدوث سبب كما جرى لفياض بن مهنا فصار هذا يقطع الطرق وينهب. وفي سنة 746 عزل سيف عن إمارة العرب ووليها ابن عمه أحمد بن مهنا وعفى عن أخيه فياض وأعيد خبزه إليه ولكن استعيد من أيدي هؤلاء الأعراب من الإقطاعات والملك شيء كثير وجعل خاصاً لبيت المال. ويطهر أن أبناء مهنا بن عيسى وأبناء أخيه فضل بعد أن نالوا تلك الخسارة ولم يبق بأيديهم سوى أسم الإمارة صاروا يتقاتلون عليها ويخربون في طريقهم، قال ابن الوردي: وفي سنة 748 قطعت الطرق وأخيفت السبل بسبب الفتنة بين العرب لخروج أمرة العرب عن أحمد بن مهنا إلى سيف بن فضل. فقد اقتتل سيف وأبناء عمه أحمد وفياض في جمع عظيم قرب سلمية فانكسر سيف ونهبت جماله وماله ونجا بعد اللتيا والتي في عشرين فارساً وجرى على بلد المعرة وحماة وغيرهما في هذه السنة من هؤلاء الأعراب من النهب وقطع الطريق ورعى الكروم والزرع والقطن والمقاتي ما لا يوصف اه -. قلت وهذه الكوائن هي التي قضت على براري حماة والمعرة وأدت لخرابها ودثور سلمية معها لاسيما وقد أعقب تلك الفتن الطاعون الجارف الذي فتك إذ ذاك في دمشق وحماة وحلب فأخلى الدور وأقفر القرى من أهلها.
قال في صبح الأعشى (ج4 ص207) وبقي أحمد بن مهنا بن عيسى حتى توفي في سنة 747 في سلطنة الناصر حسن بن محمد بن قلاوون المرة الأولى، وولي مكانه أخوه فياض فبقي حتى مات سنة 760 وولى مكانه أخوه جبار (وفي إحدى طبعات ابن خلدون حيار) من جهة الناصر حسن في سلطنته الثانية، ثم حصلت منه نفرة في سنة 765 وأقام على ذلك سنتين إلى أن تكلم بسببه مع السلطان نائب حماة يومئذ فأعيد إلى أمارته ثم حصل منه نفرة ثانية سنة 770 في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين فولي مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى فكانت بينهم حروب قتل في بعضها قشتمر المنصوري نائب حلب.(9/38)
فصرفه الأشرف وولى مكانه ابن عمه معيقل بن فضل بن عيسى ثم بعث معيقل في سنة 771 يستأمن لجبار (أو لحيار) المتقدم ذكره من السلطان الملك الأشرف فأمنه، ووفد جبار على السلطان في سنة 775 فرضي عنه وأعاده إلى أمرته فبقي حتى توفي سنة 777، فولي مكانه أخوه قناره وبقي حتى مات سنة 781 فولى مكانه معيقل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن عيسى المتقدم ذكرهما شريكين في الإمارة، ثم عزلا في سنتهما وولي مكانهما محمد بن جبار بن مهنا وهو نعير، ثم وقعت منه نفرة في الدولة الظاهرية برقوق فولى مكانه بعض آل زامل ثم أعيد نعير المذكور وهو باق على ذلك إلى الآن اه - قلت ويظهر من كلام آخر للقلقشندي أضربت عن نقله ومن كلام غيره من المؤرخين الذين نوهوا بأخبار نعير أي محمد بن جبار بن مهنا المذكور أن الإمرة بقيت في أعقابه دون غيرهم من أعقاب أخوته آل مهنا وأبناء أعمامه آل عيسى بل آل فضل كلهم فخمل ذكر هؤلاء وضاع اسمهم تدريجياً وخلفه اسم أولاد جبار أو آل جبار ردحاً من الزمن إلى أن ظهر اسم أولاد أبي ريشة أو غلب كما هي العادة عند أهل البادية تتغير أسماؤهم في كل قرن أو قرنين تبعاً للسائد عليها.
ولمحمد بن جبار هذا ترجمة في (المنهل الصافي) لابن تغرى بردى ننقلها عن (تاريخ حلب لراغب الطباخ ج4) قال: محمد بن جبار بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن ماتع بن حديثة شمس الدين أمير فضل بالشام ويعرف بنعير ولي الإمرة بعد أبيه ودخل القاهرة مع يلبغا الناصري ولما عاد الظاهر برقوق من الكرك رافق نعير منطاشاً حلب في الفتنة الشهيرة وكان معه لما حاصر حلب، ثم أرسل نعير نائب حلب إذ ذاك كمشبغا في الصلح وسلمه منطاش، ثم غضب الظاهر برقوق على نعير وطرده من البلاد فأغار نعير على بني عمه الذين قرروا بعده وطردهم. فلما مات برقوق أعيد نعير إلى أمرته، ثم كان ممن استنجد به دميرداش لما قدم اللنكية (التتار) فحضر بطائفة من العرب فلما علم أنه لا طاقة له برح إلى الشرق فلما برح التتار رجع نعير إلى سلمية، ثم كان ممن حاصر دميرداش بحلب ثم جرت بينه وبين حكم نائب حلب وقعة فانكسر نعير ونهب وجيء به إلى حلب فقتل في شوال سنة 808 وقد نيف على السبعين وكان شجاعاً جواداً مهيباً إلا أنه كثير الغدر والفساد وبموته انكسرت شوكة آل مهنا وكان الظاهر خدعه ووعده حتى تسلم(9/39)
منطاش وغدر به ولم يف له الظاهر بما وعده بل جعل ذلك ذنباً عليه وولى بعده ابنه معجل ذكره شيخنا في أنبائه وهو في المقريزي مطول.
يتبع
وصفي زكريا(9/40)
الحركة الفلسفية المعاصرة في مصر والشام
للأستاذ جان لوسرف - تعريب عز الدين التنوخي
تعرض الأستاذ جان لوسرف للبحث في
برنامج الدروس ونظام التعليم في دمشق وبيروت
وبيت المقدس وبغداد ثم قال:
إن مطبوعات التربية والتعليم كثيرة، كذلك كتب التربية الموجزة قد أخذ يزداد وعددها وكلا النوعين يقتبس من المطبوعات الأجنبية، وأما المجلات فأنا نذكر منها في بغداد مجلة التربية والتعليم التي ينشئها الأستاذ ساطع الحصري وهي مجلة تقتبس عن الانكليزية والأمريكية، وهي مطلعة على مجاري الإصلاحات الأخيرة المسماة بمقاييس الذكاء، وفي بيت المقدس مدير دار المعلمين الأستاذ أحمد سامح فقد نشر قبل ذلك في سنة 1928 بحثاً في التربية بعنوان (إدارة الصفوف)، وفي مصر نذكر علي فكري مؤلف كتاب في التربية الاجتماعية، وموجز في تربية الأحداث مرآة الأشياء وفيه كثير من الكلمات التي تستمد لمعجم المفردات. ومن المختصين بأبحاث التربية أحمد فهمي العمروسي الذي يعرف عنه ما أرسله إلى مؤتمر التربية المنعقد في القاهرة سنة 1925 من أبحاثه عن تربية الذوق ومحاضراته الأربع عن التربية القياسية بين البلاد اللاتينية والسكسونية.
إن موجزات التدريس منها ما هو تأليف مرتجل، وما هو تعريب منتحل، يمتاز به أدب الترجمة غي هذا العصر، ولا ريب في حكمنا على كلا النوعين بتأثرهما بالأدب الغربي، ومع ذلك فأن نجد المؤلفين الذين نذكرهم مرتبطين بحركة اللاتجدد، والمعربات تنقسم إلى قسمين: الأول قوامه الموجزات الأوروبية كموجز مبادئ الفلسفة تأليف رابويور وتعريب أحمد أمين وهو عبارة عن 176 صفحة منها تسع في علم النفس، ومثله ترجمة إسماعيل مظهر لمحاضرات جون تيودور، ومما عرب من ذلك في دمشق كتاب علم النفس لسعيد البحرة، فقد ترجمه عن وجيز طوماس الفرنسي.
والصنف الثاني تعريب المؤلفات الغربية التي يقصد بتأليفها تعميم التعليم كمؤلفات غوستاف لوبون التي نالت شهرة واسعة وحظوة لدى القراء كبيرة، وقد نقل منها الأستاذ طه حسين كتاب روح التربية، ومنها تعريب كتاب هيكل فلسفة النشوء والارتقاء بقلم حسن(9/41)
حسين.
وثمت نوع من التعريب جدير بالذكر وهو المعرب عن أصل فرنسي أو انكليزي ومؤلف الأصل عربي، وهي حالة في التعريب غير نادرة الوقوع شأن أمين الريحاني الكاتب العربي الأمريكي، فأن تأليفه الانكليزي بخطورة العربي.
وفي حظيرة الفلسفة نذكر لطه حسين كتابه فلسفة ابن خلدون الاجتماعية الذي عربه محمد عبد الله عنان. وهذا الصنف من التعريب ليس عليه مسحة الاقتباس من الحضارة الأوروبية. وأن موضوع الأطروحة نفسه عبارة عن بيان موضع فلاسفة العرب في تاريخ الفكرة الإنسانية وهو غرض تأليف فلسفي آخر كبير القدر، أعني تاريخ الفلسفة لمحمد بدر عضو اكاذيمية ادمبرغ والمؤازر في المعلمة الإسلامية. ومن هذا التاريخ الذي ألف في الانكليزية ليس بأيدينا سوى تعريب حسن حسين - القاهرة 1911 - وقد ذكرناه في قائمة المؤلفات.
إن غاية المؤلف والمعرب المزدوجة بيان مابين الفلسفة الحديثة وبين العقائد الموروثة وفلسفة القرون الوسطى العربية من الاتصال فهي إذن الرجعى إلى الفكرة الأصلية للبلدان المشرقية. وهذه هي النزعة التي سنعرض الآن لذكر أهم ممثليها، وقد بين جيداً مركزهم في الخلاصة التي تقدمت مقدمة حسن حسين. ونحن نقتبس عنها عبارة أكمل بيان من بحث جميل صليبا على فلسفة نيقو ماخوس الأخلاقية المنشورة في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق. وهذا البحث هو شرح لنقل كتاب أرسطو من الترجمة الفرنسية لبارتلمي سانت هيلير، وقد نقله إلى العربية أحمد لطفي السيد.
إن حزب القديم يخضع لعاطفة طبيعية مشروعة حينما يحاول إيجاد التوفيق بين أحدث المعارف وعناصر الشعور القومي القديمة، وهو يرغب كذلك في العودة إلى درس فلاسفة الإسلام في العصر المدرسي. وتراه يرجو أن لا يجد في ماضي مدنيته عناوين مجد ونبل فحسب بل أن يجد حلولاً للمعضلات الحاضرة. إن المرحلة الأولى تقوم بتمجيد الأبحاث العلمية عن فلاسفة العرب وهو ما يلح أبداً في اقتضائه الأستاذ محمد كرد علي في مجلة المجمع العلمي العربي، لأنه لا يظهر كتاب حديث إلا نبه مؤلفه إلى أن في رجال العرب أناساً أحرياء بأن يكونوا عبرة لأحفادهم اليوم وعند العرب من هذه العلوم المادية والفلسفية(9/42)
بحسب أعصارهم ما يجب أحياؤه، والتنظير بينه وبين ما عرف المحدثون من نوعه، فما كل قديم بال ولا كل جديد حال. وهذا النداء تلبيه مؤلفات حديثة كأطروحة الأستاذ جميل صليبا في بحث (ما بعد الطبيعة لابن سينا)، ولكن اتقتصر بعثة القدماء هذه على نبش بقاياهم وآثارهم النفسية؟ هذا ما ناقشه الأستاذ جميل صليبا في البحث الذي كتبه على كتاب الأخلاق لنيقو ماخوس، فقد عدد أحمد لطفي السيد معرب هذا الكتاب أسباب سقوط الفلسفة العربية، وبين أن الغربيين في هذا العصر يعرفونها أكثر مما يعرفها العرب أنفسهم، غير أنهم لا يدرسونها ليقتبسوا منها أصولاً. لأنها في نظرهم قد أصبحت من التاريخ ثم يسترسل في ذلك إلى أن نقول ما معناه: فإذا كنا اليوم نريد فلسفة مصرية تلتئم مع علمنا الحاضر فما علينا إلا أن نجدد الدرس لفلسفة أرسطو التي بنيت عليها الفلسفة العربية، وهنا يناقشه الأستاذ جميل صليبا ويخالفه في تفسيره الفلسفة العربية قائلاً ما معناه: لا ريب أن البلاد العربية في أشد الحاجات إلى فلسفة، ونحن لا نعارض في كونها يجب أن تتفق مع مطالبنا ورغائبنا، ذلك أن العصر الحاضر كما يقول ليبنيز ناهض بحمل الماضي وأعباء المستقبل معاً، غير أن المنفعة التي يجب الحصول عليها مجدداً من الفلسفة العربية هي منفعة تاريخية محضة، وأن هذه الفلسفة العربية لا ينبغي أن تبنى على الأسس التاريخية وحدها، إذ يعوزها أن تقتبس أيضاً من فلاسفة العصر أمثال ديكارت ولوك وليبنتز وسبينوزا وسبنسر ما يمكن أن يوائم البيئة، ونحن نعتقد أنا في الحقيقة على اتفاق تام مع المؤلف في الإعراب عن هذا الرأي، إذ ليست الفلسفة العربية في حملتها عبارة عن فلسفة أرسطو فحسب، فقد بينا في مبحث ما وراء الطبيعة لابن سينا تأثير أفلاطون عليها، كذلك يبرهن غوتيه في صدد البحث عن ابن سينا أن الاتصال بين مبادئ أرسطو وعقائد الإسلام قد كان الشغل الشاغل لفلاسفة العرب من ابن سينا حتى ابن رشد، وذلك مشاهد جداً في نظريتي العقل الفعال والفيض المتين اقتبسهما فلاسفة العرب من مدرسة الاسكندرية. . .
إن فلسفة ابن سينا قد ارتوت من معين التصوف، وذلك ما يؤيده ابن الطفيل في رسالة حي بن يقظان، وثمت من جهة أخرى طائفة من الفلاسفة كالمناطقة المتكلمين الذين يخالفون ارستطاليس في مسألة الجواهر الفردة، فإذا ما عددناهم من جملة فلاسفة العرب كانت فلسفة(9/43)
هذه أعم وأشمل من فلسفة أرسطو، فلنا أن نقول إذاً أن فلسفته هذه ليست في الواقع إلا جزءاً من الفلسفة العربية.
إلى أن يقول: ونرى من جهة عملية أن رغائب أنصار القديم الحاضرة قد بردت جذوتها حتى في الحظيرة الخيالية من الفلسفة، ذلك أنها قد اقتصرت تقريباً على تأويل الفلسفات الغربية لكيلا تصادم العقائد الدينية والخلقية المهددة بأزمة نمو الفلسفة السريع.
إن نشاط الحركة الفلسفية يبدو في إنتاج الأبحاث المعدة للجمهور أقل مما تبدو في موجزات الفلسفة، وعلى سبيل المثال نذكر تاريخاً صغيراً للفلسفة تأليف حنا أسعد فهمي، وقد كتب مقدمته الأستاذ محمد فريد وجدي مؤلف المعلمة الموسومة بكنز العلوم واللغة، وهذه المقدمة تدافع عن الإسلام مؤيدة كونه لا يقاوم حرية الفكرة الفلسفية. وهذه الفكرة مشروحة في مؤلفات فريد وجدي مثل كتابه المدنية والإسلام وفي الوجديات ودائرة معارف القرن التاسع عشر وغيرها.
(يتبع)
جان لوسوف(9/44)
مياه الغوطة
ملخصة عن مقال للأستاذ ر. ترس
لم يبحث المؤرخون في دمشق وغوطتها إلا قليلاً مع أنها أقدم مدن العالم ولم يمح الدهر شيئاً من جمالها مع أن بابل ونينوى وصور وجبيل وغيرها من المدن المشابهة لها قد اندثرت أعلامها ولم يبق منها إلا الذكرى حتى أن بعضها زال بتمامه أو انقلب إلى قرية، أما دمشق فقد بقيت على عين الدهر وستبقى خالدة بالرغم من اختلاف شرائط حياتها، والسبب في بقائها لا يرجع إلى أسباب سياسية ولا أسباب اقتصادية، بل يعود إلى تأثير مياهها وخصب غوطتها. وليست تمتاز دمشق على غيرها من البلدان ببرداها فحسب - وهو ينقل إليها من لبنان الشرقي مياهاً عذبة - بل تمتاز أيضاً بتوزيع هذه المياه ونشاط سكان الغوطة وانصرافهم إلى استثمار الأرض استثماراً حسناً.
الوسط الطبيعي
إن الملاحظات الجوية التي قام بها العلماء منذ خمس عشرة سنة أثبتت لنا أن منطقة دمشق وما يجاورها من الراضي الشرقية محرومة من قسم كبير من الأمطار لأن سلسلة الجبال الشرقية تمنع عنها الغيوم فتهطل الأمطار في الجهة الغربية وإذا بقي قسم من هذه الغيوم فإنه لا يقطع الجبال الشرقية إلا إذا ارتفع كثيراً فيمر بالغوطة من غير أن يتكاثف ويصل إلى جبل الدروز وغيره من المناطق البعيدة. وليست قلة الأمطار هذه خاصة بالزمان الحاضر بل كانت قليلة أيضاً في الماضي وكانت هضاب دمشق يابسة وكانت مياه بردى موزعة في مستنقعات فقيرة ليس فيها ما في الغوطة اليوم من الأشجار الباسقة والخمائل الزاهرة. فليس خصب الغوطة إذن هبة من مواهب الطبيعة بل هو نتيجة لعمل الإنسان وما بذله في سبيل استثمار الأرض وأعمارها. لقد ألف الناس منذ القدم رؤية هذه الجنان فظنوها طبيعية والحق عن ذلك بعيد، لأن هذه الجنان لم تتولد على الأرض إلا بجهود الإنسان ولو استطعنا أن نعود بخيالنا إلى الماضي لرأينا الشعوب الأولى التي استوطنت هذه الأرض في صراع دائم مع الطبيعة حتى تغلبت عليها وجففت مستنقعاتها وغرست فيها الكروم وأشجار التين والزيتون.
عمل الإنسان(9/45)
نريد أن نذكر شيئاً عن قنوات بردى وتاريخها إذ لعلنا بعد هذا البحث نستطيع أن نعرف الزمان الذي بنيت فيه ونطلع على اسم الذي بناها. إن البحث في هذه المسائل صعب جداً، لأن شبكة الأنهر كشبكة الطرق لا تبقى إلا إذا تعهدها الناس بالعناية الدائمة. إن البحث في الأطلال والخرائب أسهل من البحث في الآثار الحية لأن الأجيال المتتابعة قد أثرت فيها وأضافت إليها أشياء كثيرة حتى صارت مركبة بعيدة عن حالتها الأولى. فأنهار دمشق من الآثار الحية التي أضاف إليها كل جيل شيئاً من عمرانه.
إن جميع الأمم التي انتقلت من الفرات إلى النيل أو هاجرت من شواطئ النيل إلى شواطئ الفرات تركت أثراً في سوريا. فهل نستطيع أن نستدل بهذه الآثار على الشعب الأول الذي امتاز على غيره بحفر هذه القنوات؟ لاشك أن أول من فكر في الاستفادة من المياه هو الإنسان الحضري ولكن تاريخ سوريا بقي زماناً طويلاً مفعماً بالوقائع العديدة التي كانت تجري بين البدو والحضر. فالغوطة لم تتولد من جهود شعب منفرد ولا هي نتيجة زمان واحد، بل تولدت من جهود أمم عديدة لأنها كانت طريقاً للفاتحين في ذهابهم وإيابهم. وكلما مر بها فاتح تغلبت عليه بجمالها وطبيعتها فانصرف إليها وأضاف جهوده إلى جهود غيره ممن سبقه وهكذا تجمعت الأمم المتعاقبة بعضها فوق بعض حتى وصلت الغوطة إلى ما هي عليه اليوم من توزيع المياه وخصب التربة. وكلما كان نصيب الأرض من الماء أكثر كان إنتاجها أحسن ولذلك تجد سكان الغوطة كثيري الحرص على الأراضي التي يمكن سقيها بالماء ولعل الإنسان الأول كان أكثر حرصاً على الماء من الإنسان الحاضر لاقتصاره على الأرض في معاشه واقتصاره على الماء في استثمار الأرض وخوفه من الفاتحين في كل صباح ومساء.
لم يختلف سكان الغوطة الأقدمون عن غيرهم من الأوائل في حياتهم ومعاشهم فقد بدأوا أولاً بصيد الحيوانات ثم انتقلوا من الصيد إلى الرعي فلما صاروا رعاة وجدوا في مروج الغوطة ما تحتاج إليه قطعانهم من الحشيش والكلأ فالتجأوا إليها عند اشتداد الحر. ولا يزال البدو في أيامنا هذه يأوون إلى هذه المروج الخضراء في أيام الحر من شهر أيار إلى شهر أيلول ولما التجأ الرعاة إلى الأرض وأقاموا فيها أخذوا يعنون يزرعها ليطعموا قطعانهم فتوزعوا الأرض وعمروها.(9/46)
يمكن تقسيم الأرض التي أقام بها الأقدمون إلى ثلاث مناطق:
أولاً الوادي ومجرى النهر. ثانياً منحدرات جبل قاسيون الوطيئة. ثالثاً الهضبة الواقعة بين الجنوب والغرب على الشاطئ الأيمن من النهر. ولعلنا إذا قايسنا سكان هذه المناطق المختلفة استطعنا أن نرجع بالفكر إلى الماضي، ونستنتج من هذه المقايسة انقسام الأولين على الأرض وتوزعهم إياها. فالقرى الواقعة في الجهة الشمالية من شرقي جبل قاسيون أكثر هذه المناطق سكاناً ثم يتلوها في عدد السكان قرى الهضبة الواقعة بين الغرب والجنوب لأن أكثرها يحتوي على أربعة آلاف أو ثمانية آلاف نسمة. أن قرى السهل القريبة من شواطئ النهر لا تحتوي على أكثر من 500 أو 1. . . نسمة. فالأقدمون إذاً هجروا شواطئ النهر واستوطنوا الأراضي المرتفعة. ومما يؤيد ذلك أيضاً أن النهر قبل انقسامه إلى القنوات الأنهر الصغيرة الحاضرة كان غزير المياه فكان يفيض في أيام الشتاء ويجرف التراب ويغطي الأرض أشهراً عدة، فلا يتمكن الناس من إقامة المساكن بالقرب منه فلما أنشأوا هذه القنوات لري الأراضي العالية صارت هذه المرتفعات صالحة للزراعة وأمكن تجفيف بعض المستنقعات التي كان يحدثها طوفان النهر. ويغلب على الظن أن العمران الأول حصل في مدخل الوادي على أنه من الصعب أن تصور للداخل إلى دمشق حالة النهر الأولى وعمران شواطئه القديمة لأنه قد تبدل كثيراً. ويمكن أن يقال أن دمشق كانت في العصر الحجري ضيقة الحدود. أننا نتصور حالة الغوطة القديمة بمجموعها ولكننا لا نستطيع أبداً أن نجد فيها آثاراً تاريخية واضحة تدل على عمل الإنسان الأول واستثماره للأرض وكيفية استفادته من مياهها.
يتبع ج. ص
قال شرف الدين بن محسن يصف دمشق:
دمشق بنا إليها مبرح
وأن لج واش أو الح عذول
بلاد بها الحصباء در وتربها
عبير وأنفاس الشمال شمول
تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق(9/47)
وصح نسيم الروض وهو عليل(9/48)
بعد حصار 19 مرة المسلمون في القسطنطينية
للقسطنطينية ميزات كثيرة على غيرها من بلدان الأرض لا سيما من الجهتين الطبيعية والسياسية فإن موقعها الجغرافي يجعلها تسيطر على البحرين الأبيض والأسود اللذين لهما مكانة تجارية عظيمة كما أنها حلقة الاتصال بين قارتي أوروبا وآسيا أو بالأحرى بين الشرق والغرب وهي تقوم على ضفاف البوسفور ذلك المضيق التاريخي الذي شهد أعظم المآسي. وقد أنشئت هذه العاصمة سنة 658 قبل الميلاد من قبل حاكم (هدغارا) التي هي في جوار برزخ (قوربنت) في بلاد اليونان. أما خليجها المسمى بالقرن الذهبي فهو واسع عميق ومن الخلجان التي تلجأ إليها السفن وقد كان يسد بسلسلة طولها 250 ذراعاً فلا يستطيع الأعداء دخوله وسميت (بيزانس) وأصبحت قبلة أنظار الأمم العظيمة.
خضعت القسطنطينية تباعاً لأقوام شتى بسطت سيطرتها عليها في القرون الغابرة فقد حكمها السبرطيون ثم اليونان ثم استولى عليها القيصر (قلود) الروماني الذي حكم من سنة 45: 41 ق. م وفي سنة 330 ميلادية أصبحت عاصمة للقيصر قسطنطين الكبير الذي نقل إليها بلاطه من روما وسماها باسمه سنة 337 م وقد بقيت في أوج مجدها حتى فتحها محمد الثاني العثماني في 21 أيار سنة 1453 فدانت للحكم العثماني وقلبت كنيستها العظيمة أيا صوفيا مسجداً وهو من أهم المساجد في العالم اليوم.
ولا ننس جمال موقعها الطبيعي الذي قلما يوجد مثله وهي تليق أن تكون عاصمة الدنيا كما يروى عن نابليون الكبير الذي قال لو كانت الكرة الأرضية مملكة واحدة للزم أن تكون عاصمتها القسطنطينية. فلذلك كانت ولم تزل مطمح أنظار الفاتحين.
ولهذا طمع فيها المسلمون منذ أول قيام مملكتهم وتكرر حصارهم لها المرة بعد الأخرى حتى فتحت في المرة التاسعة عشرة.
وفيما يلي ذكر جميع المحاضرات الإسلامية حصرناها في مكان واحد حتى يرى القارئ بوضوح جسامة الجهود المتوالية التي صرفها المسلمون قبل الاستيلاء على هذه الدرة الثمينة:
1 - في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان خرج والي الشام معاوية بن أبي سفيان سنة 32 هـ - لغزو القسطنطينية بجيش من الفرسان فنازلها وحاصرها ثم عاد بعد أن غنم وبعث الرعب في قلوب الروم.(9/49)
2 - في عهد معاوية بن أبي سفيان سنة 43 هـ - وصل جيش العرب بقيادة (يسر ابن ارطاة) إلى القسطنطينية ورجع بعد غزو ضواحيها.
3 - 4 - جهز معاوية في خلافته جيشاً عظيماً لفتح القسطنطينية بقيادة سفيان بن عوف الأزدي فخرج إليها سنة 48 هـ - في أسطول كبير خاض به بحر الأرخبيل ومضيق الدردنيل وبحر مرمره ولما وصل إليها أخرج جيشه على ضفة مرمره من غربي المدينة وضرب عليها الحصار وبقي أسطوله محاصراً لها من جهة الجنوب مدة أربع سنين إلى أن سير معاوية إليها جيشاً آخر بقيادة ولده يزيد وفيه العبادلة ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم فأوغل في بلاد الروم وفتح المدن والحصون ودام في المسير حتى بلغ القسطنطينية واشترك في حصارها وأبرز الجيشان المحاصران من الشجاعة والأقدام ما بعث الدهشة في قلوب المحصورين لكنهما لم يتمكنا من الاستيلاء عليها لمتانة أسوارها ومنعة موقعها وبعدهما عن مركز الخلافة وفتك النار الإغريقية في السفن العربية فاضطر المسلمون لقبول الصلح الذي عرضه عليهم البيزنطيون وكان في مصلحة الطرفين. وفي أثناء هذه المحاصرة بنى العرب في الحي المسمى بالغلطة الآن المسجد المعروف بالجامع العربي وتوفي أبو أيوب الأنصاري ودفن قريباً من السور ولا يزال قبره هناك يزار وعليه مسجد يدعى باسمه وفيه كان يتوج خلفاء آل عثمان.
هذا وقد اعتبر بعض المؤرخين هذه المحاصرة محاصرتين الأولى من قبل سفيان بطريق البحر والأخرى من قبل يزيد بطريق البر وعلى هذا القول تكون المحاصرات تسع عشرة.
5 - أرسل الوليد بن عبد الملك أخاه مسلمة عدة مرات لحرب الروم ففتح كثيراً من المدن والحصون ثم تقدم في إحدى غزواته حتى وصل إلى ضفة البوسفور (اسكدار) فهدد القسطنطينية وأحرق السفن التي كانت راسية في مينائها دون أن يصاب بضرر.
6 - في سنة 88 هـ - جهز سليمان بن عبد الملك جيشاً مؤلفاً من 12. . . جندي بقيادة أخيه مسلمة لفتح القسطنطينية فسار مسلمة حتى وصل إليها فحاصرها حصاراً شديداً ولما دخل فصل الشتاء زرع العرب وبنوا مدينة من الخشب دعوها (مدينة القهر) فلما رأى الروم ذلك استولى الرعب على قلوبهم فطلبوا الصلح على جزية يؤدونها كل سنة فأبى مسلمة حتى بئس الروم فخلعوا ملكهم (ته ئودوسيوس) الثالث وقتلوه ووعدوا البطريق(9/50)
(ليون) بتتويجه إذا استطاع صرف العرب عنهم فأستأمن (ليون) لنفسه وتظاهر لمسلمة بالمودة والإخلاص ثم خدعه وأتلف طعام العرب حتى كادوا يهلكون من الجوع واضطروا إلى أكل الدواب والجلود وأصول الأشجار وأوراقها وكل شيء غير التراب وهم صابرون تجاه أعدائهم ينتظرون المدد من خليفتهم وكان الخليفة عازماً على اللحاق بهم بنفسه فما أمكن ذلك لمفاجأة فصل الشتاء البارد حتى توفي في مرج دابق في شمال حلب والجيش على أبواب القسطنطينية يكاسر الجوع عزائمه وتفتك النار الإغريقية به فلما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز رأى من الحكمة رفع الحصار ورجوع الجيش فكتب إلى مسلمة بذلك وأرسل إليه مؤونة كثيرة وخيلا عتافاً فوصلته وهو قافل في الطريق سنة 99 هـ -.
7 - وهذه المحاصرة كانت على يد عبد الله البطال الإنطاكي من قواد مسلمة بن عبد الملك في عهد أخيه هشام وفيها أحرزت العرب انتصارات عظيمة قرب القسطنطينية حتى اضطر القيصر إلى توقيع معاهدة كانت في مصلحة المسلمين.
8 - كانت هذه المحاصرة في عهد المهدي العباسي إذ أرسل ولده هارون الرشيد سنة 165 هـ - في جيش مؤلف من (95) مجهز بكامل العدد فأوغل هارون في بلاد الروم حتى بلغ البوسفور وهدد المدينة فكان الذي يقوم بأمر الروم القيصرة (اربنى) والدة القيصر قسطنطين السادس فهادنت هارون على (7) دينار في السنة وأن تقيم في طريقه الإدلاء والأسواق فأجابها إلى ذلك ورجع مكللاً بأكاليل العز والنصر فمدحه مروان بن أبي حفصة بقوله:
أطفت بقسطنطينية الروم مسنداً ... إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها
ومازحتها حتى أتتك ملوكها ... بجزيتها والحرب تغلي قدورها
9 - كانت هذه المحاصرة في خلافة الرشيد وسببها أن الروم ثارت سنة 187 هـ - على القيصرة (اري) فخلعوها وتوجوا أحد القواد (نقفور) فكتب هذا إلى هارون كتاباً يهدده فيه ويقول له (أردد ما حصل من قبلك من الأموال وإلا فالسيف بيني وبينك) ولما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب فكتب على ظهره قد قرأت كتابك والجواب ما ستراه لا تسمعه والسلام ثم شخص من وقته في جيش عرمرم حتى أناخ بباب (هرقلة) ففتحها وغنم ولما رأى ذلك (نقفور) طلب المهادنة على خراج يؤديه كل سنة فأجابه الرشيد إلى ذلك وقفل(9/51)
راجعاً حتى وصل الرقة فبلغه هناك أن (نقفور) نقض العهد فعاد غير مبال بالثلوج وشدة البرد حتى نزل على مضيق القسطنطينية وهدد المدينة فارتاع (نقفور) وأخذ الرعب من قلبه كل مأخذ حتى صار يتذلل للرشيد ويحلف له أنه لن يتأخر عن دفع الجزية ولا ينقص العهد أبداً فقبل الرشيد وعاد ظافراً ولكن ابن نقفور لم يترك أباه ثابتاً على عهده بل أغراه وشجعه على جيش الرشيد والفتك به فجمع جيشه وسار في أثره حتى لحق به وحصلت بين الفريقين وقعة هائلة جرح بها (نقفور) وتشتت جيشه بعد أن قتل كثير منه وافترض عليه الرشيد غرامة سنوية قدرها (2) دينار واشترط عليه أن تنقش باسمه واسم أولاده.
10 - والمحاصرة العاشرة كانت حين نهوض الدولة العثمانية فقد طلب إذ ذاك قيصر القسطنطينية الحماية من محمود غازان ملك المغول بتبرير وأرسل له هدايا كثيرة من جملتها ابنته فبوصولهم إلى (تبريز) كان محمود غازان قد توفي وجلس مكانه ولده (خدا بنده محمد خان) فرغب في بنت القيصر وأرسل إلى جميع ملوك الطوائف الناهضة على أنقاض دولة السلاجقة المنقرضة بعدم التجاوز على مملكة القيصر فشق ذلك على عثمان شاه أحد ملوك الطوائف هذه ومؤسس الدولة العثمانية فتجاوز حدود الملكة البيزانتية سنة 708 هـ - واستولى على مدينتي (قوجحصار) و (لفكه) وأغار على قرية استاوروز من البوسفور.
11 - في عهد السلطان أورخان ثاني ملوك العثمانيين سنة 728 هـ - حين سار جيش بقيادة (اقجه قوجه) و (قو كورالب) و (اقباش محمود) إلى بكفوز على البوسفور واضمحل جيش القيصر هناك وقبل الهدنة.
12 - كان (ياني) قيصر القسطنطينية قد دخل في الحلف مع الأمم البلقانية ضد العثمانيين على أثر غزو العثمانيين لسهل المريج (مارتيزا) فأرسل جيشاً بقيادة ولي عهده (مانوئل) إلى جهات (ازمير) فانقض عليه السلطان مراد الأول ملك العثمانيين ومزق ذلك الجيش شر ممزق وفي الوقت نفسه أرسل جيشاً بقيادة (لالا شاهين باشا) و (اورانوس بك) سنة 771 هـ - فأغار على أملاك القيصر في جوار القسطنطينية وتقدماً حتى وصلا (اياستفانوس) ولما فرغ السلطان من تهدئة الأمور في آسيا الصغرى عبر إلى شبه جزيرة البلقان واستولى على أطراف القسطنطينية وهددها، ولما رأى القيصر ذلك خاف على(9/52)
عاصمته فطلب الصلح من السلطان فصالحه لعلمه أن وقت الفتح لم يئن بعد.
(يتبع)
محمد صادق آل النقشبندي(9/53)
الحيرة
إن نفسي تريد أمراً ولكن ... لست أدري يا قوم ماذا تريد
قد عرضت المنى عليها ولكن ... لم يرقها قديمها والجديد
وعرضت الفنا لها فأبته ... وخلوداً فلم يرقها الخلود
لم ترقها حرية سئمتها ... مذ جنتها ولم ترقها القيود
حيرتني فلا اهتمامي أرضاها ... بحال ولم يفدها الصدود
وإذا رمت بالسكوت أداويها ... عراني من وخزها التنكيد
صار جسمي يروم عنها انفصالاً ... إذ عراه منها العناء الشديد
وإذا قلت أنت ترضين بالفصل ... رأيت السكوت منها يزيد
هي خرساء لا بنطق تؤدي ... ما أرادت ولا بلمح تفيد
وهي إما خيرتها بين نفي ... وثبوت جوابها الترديد
إن ترديدها يولد ترديدي ... فبئست أماً وبئس الوليد
هي لا ترضى برأي ولا تأتي ... برأي فهل عراها الجمود
لم أجد مثلها ومثلي فمني ... نعم جمة ومنها جحود.(9/54)
العلاقة بين مدن الشرق وقراه
القرى تلد الأهليين والمدن تتوفاهم
لو حاولنا أن نعرف هل وجدت القرية قبل المدينة في سوريا وغيرها من بلدان الشرق الأدنى أم بالعكس ورجعنا في هذه المحاولة للأدلة التاريخية وللاستنتاج النطقي لوصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنه في الشرق على الأغلب وجدت المدن، قبل وجود القرى فيه لأن التاريخ يؤيد أن أكثر المدن الشرقية قديمة جداً وإن مواقع المدن الطبيعية ومراكزها الجغرافية يشيران إلى أن فيهما من الخصائص ما ليس في غير مراكز المدن مما من شأنه اجتذاب الإنسان القديم عند بدء استقراره بعد أن سئم حياة البداوة وابتدأ بالاشتغال بالزراعة. وبقليل من التأمل يلاحظ المرء أن المدن في الشرق تقوم بالقرب من مجاري أحد الأنهر الكبيرة التي تمكن من يستقر بجانبها من ري الأرض بواسطتها بكل سهولة كما يرى بالقرب من هذه الأنهر السهول الواسعة التي يمكن ريها كلها نظراً لانبساطها ولوفرة المياه.
ثم أن هذه المدن تقوم بجانب أحد الطرق الهامة التي توصل الأقطار البعيدة بعضها ببعض وربما كانت هذه الطرق السبب الأكبر في جعل بعض المدن ذات شأن كما هي الحال مع تدمر والبتراء وصنعاء والكوفة فأنه عند تحول الطرق الكبرى التي كانت تمر بها إلى جهة أخرى تأخر جل هذه المدن أو اضمحلت بالكلية.
وبما أن أول دور من أدوار الحياة الاقتصادية التي تتلو دور رعاية المواشي هو دور الزراعة وبما أنه ليس للقرى في الشرق من مياه الري وسهولة الزرع ما للمدن فإنه يمكننا الجزم أن المدن في الشرق بوجه عام أقدم من القرى فيه وأن هذه الأخيرة ما أهلت بصورة جدية إلا بعد أن استولت على جميع السهول المجاورة للمدن واستعملت مياه الأنهر الكبيرة للري وقلت منابع الرزق بالنسبة لعدد السكان وتزاحم الخلق على امتلاك الأرض الزراعية القريبة ومن طاف بقرى سورية ورأى أن الكثير منها تعتمد بزراعتها على الغيث وأن عدداً كبيراً منها أيضاً قد تكبد مشقات جسيمة في حفر القنوات للحصول على مياه الري يتحقق صدق النظرية السالفة. . .
وبعد هذا التمهيد نريد أن نبين العلاقة بين المدن وبين القرى بعد نشأة هذه الأخيرة وازدحام(9/55)
الأولى ولا يظن أحد أن العلاقة بينهما ضعيفة وغير هامة بل هي رابطة ذات أهمية عظمى إذ أنه لولا القرى لما نمت المدن ولما تجددت جيوشها ومتنت أخلاقها كما أنه لولا المدن لاشتدت وطأة التزاحم في القرى وقلت موارد العيش وتدنى مستوى المعيشة وضاق أفق الحياة وحرم الناس من درجة الرقي العالية ورقة الطباع اللتين وصلوا إليهما بواسطة المدن.
قلت أنه لولا القرى لما نمت المدن بعد وصولها إلى هذه الدرجة من الضخامة. أن القرى تمد المدن بما يتزايد فيها من السكان وهي تستوعب هذه الزيادة لا بل تتطلبها لنموها واحتفاظها بالعدد الكبير الذي بلغه سكانها ولاستعادة القوة والنشاط إليها وتجديد الدم فيها.
إن هواء القرى عكس هواء المدن جيد نقي يدعو لنشاط الجسم وتقويته ولتوسيع الرئتين فيقل بها مرض السل كما تؤدي فيها محافظة الأخلاق إلى ندرة الأمراض التناسلية وهكذا فالهدوء فيها يحفظ الأعصاب سليمة وقوية. فتتحسن الصحة وتخصب البطون ويزداد عدد المواليد وينتج عن ذلك أيضاً قوة النسل والأعمار الطويلة فتقل الوفيات وتنقص وقائعها عن وقائع الولادات نقصاً بيناً فلا يلبث أن يتزايد سكان القرية وتضيق أبواب العيش في وجه البعض فينزلون للمدن، حيث تكثر الأعمال وتتعدد أبواب الرزق ويقصد البعض الآخر المدن لتحصيل العلوم العالية والاحتكاك بطبقة من الناس أعلى مما اعتادوا عليه وبعد إذ يحصل الشبان علومهم في المدن يترفع طموح أكثرهم عن الرجوع للقرية والعيش بمحيطها الضيق ويفضلون البقاء في المدينة ليخوضوا بحر عراكها ويروا مقدار نشاطهم في السباحة فيه، كما أن الذين تتحسن اقتصادياتهم في القرية يروق لهم الانتقال للمدينة حيث مجال العمل أوسع والأمن أشد، فالمدن مركز المعامل الكبيرة والمشاريع الجسيمة. والثروات الطائلة وسوق النزعات الجديدة ففيها نظراً لكثافة السكان وشيوع قراءة الصحف واحتكاك الأفكار تظهر الثورات الفكرية وتنتشر وتتشكل الأحزاب السياسية وتتألف الجمعيات والنقابات وتتحفز كل فئة ضد مناوئيها فالمدينة ميدان تزاحم اجتماعي وسياسي واقتصادي وعلمي فيتقدم لخوض مختلف ساحاته الكثير من أهل القرى كل بحسب عدته وأهليته وبهما يقاس فوزه بين منافسيه وهكذا فأهل القرى يهجرونها للمدن دون أن يحدث العكس إلا ما ندر فتستعيد المدن بهذه الجماعات الوافدة من القرى ما فقد منها من نفوس(9/56)
ويدخلون في مختلف طبقاتها وتستعيد بهم الأيدي النشيطة والأفكار الثاقبة والقوة على العمل التي هي بحاجة دائمة إليها.
وهكذا تتجدد العائلات في المدن وتحتفظ بحيويتها بمجيء العائلات الجديدة من القرى وبمصاهرة هذه العائلات. ومن يمحص الأنساب في مدن هذا الشرق يرى أن كثيراً من العائلات فيها قدمت من القرى وبعضها لم يمض على قدومها للمدن جيلان أو جيل واحد. وأن أسماء عائلات كثيرة تدل دلالة ظاهرة على أصلها القروي فنجد في دمشق مثلاً آل الحلبوني والصحناوي والقاري والمهايني والنبكي والدوماني والقرواني والصيدناوي والتناوي والقساطلي والرحيباني والشويري وهلم جرا وكل هذه العائلات كما تدل أسماؤها من أصل قروي وهكذا قل عن المدن الأخرى غير دمشق وكثيراً ما تجد أن حياً من أحياء المدينة يسمى باسم سكان إحدى القرى كحارة السخانة في حلب وحماة وحمص ودمشق المأهولة بمهاجري السخنة وتدمر والقريتين وكذا فإن كثيراً من عائلات طائفة السريان القديم في المدن السورية من أصل صدي وبعض هذه العائلات قد اشتهرت بغناها وبوجاهتها. وستظل صدد القرية معقل الطائفة اليعقوبية المنيع في سوريا ومنبعها الدائم.
وعليه فلنشبه المدينة بالبحر والقرى بالينابيع التي تنساب دوماً مياهها نحو البحر لتعوض عليه ما فقده وهي كالينابيع حلوة يتدفق منها الماء النقي ليمنح البحر ما فقده من المياه النقية التي بخرتها حرارة الكدح والمزاحمة ويلطف ما بقي فيه من المياه الكثيفة الملوثة بالأملاح التي جادت بها سكنى المدينة الغنية بماديتها وأذواقها ومغاويها، وهي كالينابيع هادئة تدفق الماء بكل تؤدة وسكون ثم تدفعها للبحر وسط هديره وصخب أمواجه، وهي كالينابيع دائمة تسير نحو البحر في حال اليسر والعسر وفي حال السلم والحرب فهي ينابيع الأرحام الدائمة تدفق مياه الحياة نحو بحر القبر الدائم.
ويمكننا أيضاً أن نضيف للمقابلات الأنفة الذكر المقابلات التالية وهي أنه في القرية يكون الخيال بعيداً وسامياً ويراعى الدين والفضائل على قدر الإمكان فترى الشجاعة والتعبد والكرم والاهتمام بالغير ومساعدتهم متجلية بأوضح مظاهرها. أما في المدينة فالتواكل قليل والضيافة غير معتادة فلا يهتم أحد بغير نفسه وعائلته الخاصة فتضعف أواصر القربى والعصبية النسبية في القرية تعيش مع مواطنين يعدون بالمئات وتتعارف مع كل واحد(9/57)
منهم وتشعر معه ويشعر معك إن حباً أو بغضاً أما في المدينة فأنك تعيش مع الألوف ولا تتعارف حق المعرفة وتعطف بعض العطف إلا على عائلات وأفراد قليلي العدد. في القرية يهتم للمعنويات في هذه الحياة وللأنفة والشمم والسمعة الطيبة ويكثر فيها القال والقيل الفارغ أما في المدينة فينظر للحياة نظرة جدية ويهتم بالمادة فوق كل شيء، فيتفانى أهل المدينة في سبيل نيل القوت الضروري أو إحراز الغنى ليمتع أنفسهم طالبوه بكماليات الحياة المعروضة أمامهم للبيع. وكذلك فإن أهل القرية محافظون والفرد فيهم أسير للعادة وللتقاليد بينما نجد أهل المدينة نزاعين إلى التجديد والتبديل والفرد فيهم مستقل وحر بتصرفاته وأفكاره. على أن القرويين يميلون للتشبه بأهل المدينة ويسعون لتقليدهم إلا أن أغلب ما يقلدونهم فيه هو الظواهر دون الجواهر لأن الظاهرة أقرب للعين وأرغب للهوى وأسهل تناولاً لليد.
إذن فموقف المدينة من القرية موقف المادي الطموح من الرواقي القانع بالخيال والمتمسك بالمبادئ العالية، وموقف العالم من الساذج، والمعلم من التلميذ، والأب المتبني من الابن المتبنى، والغني من الفقير، ورب العمل المكافئ من العامل النشيط والملجئ من الملتجئ والقبر من الرحم.
ليس كل ما ذكرناه من المقابلات في هذا المقال يختص به الشرق دون الغرب بل أن كثيراً منها يصدق في الاثنين على السواء. على أن بعض المقابلات التي لا تنطبق على الغرب والتي هي لب الموضوع يبرر حصر العنوان بمدن الشرق فالمدن الغربية من الوجهة الصحية ومن حيث مقابلة عدد المولودين بعدد المتوفين غير مدننا. وإذا أغفلنا ما تزيده القرى في عدد سكان المدن قلنا أنها نظراً لنظافتها وللوسائط الصحية المتبعة فيها ولحداثة عهد الكثير منها لا تنطبق عليها بعض النعوت التي نعتنا بها مدننا ويمكنها أن تتزايد وتحتفظ بنشاطها بقطع النظر عن القرى قد تمدها بالحياة والنشاط كما أن الرقي الفكري ميسور في قرى الغرب فوق ما هو ميسور في قرانا بسب حسن المواصلات وثراء الشعب وغيره، ولقد كانت باريس ولندن قبل مائة وخمسين عاماً كما هي مدننا اليوم ولكن الغرب يخطو خطوات واسعة في سبيل التقدم كل عام بينما نحن نرقى ببطء وتغلب فينا روح المحافظة على حب التجديد وكذا فالنظافة العامة والشعور بواجب الفرد نحو المجتمع لم(9/58)
يصلا عندنا إلى درجة عالية. ومقابلة صغيرة بين إحدى مدننا الداخلية وبين أصغر مدن الغرب تدل على صدق ما ذكر من الفرق بينهما.
وطالما بقيت مدننا على ما هي عليه الآن دون أن تطبق فيها القواعد الطبيعية والهندسية تبقى مقابر لدفن النشاط والحياة اللذين تبعث بهما أرحام القرى
دمشق
شكري جبور(9/59)
أنا زنجي
بقلم الكاتب الجاماييكي الأسود روى كوفرلي
لا أعلم كيف أدركت فجأة أن
كون الرجل أسود وتحمله عذاب ذلك يتطلب
نفساً كبيرة وفضيلة أعظم من فضيلة الملائكة
من أبيات للشاعر الأميركي الأسود كونته ولن
لا أدري كيف أبدأ هذا المقال، أما أتمامه فهو مشكلة أخرى. أنني رجل أسود وأني لا أسأل نفسي كم من الرجال البيض يعرف ما معنى كون الإنسان أبيض؟ وأنا كما أنا، على أني موقن أنه ليس لجلدي اللون الذي لجلد أكثر الناس وإنه ينظر إلي من وجهة عامة كمخلوق غريب يميل الناس لمعرفة كيف يفكر، وكيف يعمل، وماذا باستطاعته أن يعمل. لقد اعتقدت بكل هذا قبل مجيئي إلى كوبنهاغ لأنني عشت في أمريكا حيث اعتاد الناس أن يعتبروا أبناء قومي السود كمخلوقات على حدة لها شأنها الخاص. وفي أمريكا، وأن شئت فقل في نيويورك يوجد حي من الأحياء يسمى هارلم وفي هارلم يختلط الرجل الأسود بالألوف من أبناء جنسه فيرى بوضوح وجلاء تام أن الحياة فيه تشذ عن القواعد العامة.
والشعب الأمريكي الذي اعتاد كثيراً رؤية الزنوج يعد وجودهم طبيعياً رغم أنه يكرههم ولعل في حوادث طفولتي مواد كثيرة للموضوع الذي أعالجه في هذا المقال.
لم أكن في أيام طفولتي في الجاماييك أشعر بأني، كما أذكر ذلك جيداً، أحد أفراد قوم خاص، إنما كنت أعرف أن البعض من الناس أسود والبعض الآخر أبيض. هذا كل ما في الأمر وفي بعض الأحيان كان سماع جملة أو قراءة سطر يجعلني أشعر أنه ينظر إلي كزنجي ولكن هذا الشعور لم يكن ليدوم أكثر من بضع دقائق لأن الزنوج في الجزيرة كانوا يبلغون أكثر من أربعة أخماس السكان ولأن مسألة عدم اختلاط الزنوج بالبيض كانت مسألة جنسيات. فمعظم البيض كانوا يشغلون وظائف كبرى ومراكز أخرى ذات شأن كبير وإذا كانت طريقة معيشتي تختلف عن طرق معيشتهم فذلك يعود إلى أنهم أغنياء ولأن مراكزهم الاجتماعية كانت تتطلب ذلك ولعل هذا كل ما كان يخيل لي بهذا الصدد.
وقضيت أعوام حياتي الأولى كإنسان مستقل بذاته فخور بعائلته. ولم يكن ليدور في خلدي(9/60)
أنه سيأتي يوم أرى فيه نفسي مخلوقاً غريباً عن بقية الناس.
وجاءت الحرب الكبرى. وكنت في التاسعة من عمري عند ابتدائها وأني لأذكر حزني إذ ذاك لأن عمري لم يكن يسمح لي بالذهاب إلى الجبهة الحربية والقتال في سبيل انكلترا. لقد تعلمت في المدرسة أنه يجب على المرء أن يفخر بأنه تابع للإمبراطورية البريطانية وأن بريطانيا أعظم دول الأرض وتعاليم أخرى كهذه لا اعتقدها الآن بعد أن أصبحت رجلاً وسافرت إلى بلدان كثيرة.
وأطلقت العنان لنفسي يجرفها تيار الحماس الحزبي فاشتركت في فرقة الكشافة وفعلت كل ما استطيع في سبيل انكلترا ولقد وصلت الأخبار عن الذين سافروا إلى ساحة الحرب وأذكر أني قرأت في الجرائد إذ ذاك جملاً من هذا النوع. لقد عادت إلى الجنود الجامابيكين السود طبائعهم الوحشية الأصلية أثناء المعركة فانقضوا على الأعداء. .
لم أكن لأفهم معنى هذا ولم أكن أعرف لماذا يطلقون على أبناء قومي اسم زنوج الجاماييك، ولا لماذا يقولون عنهم أن طبائعهم الوحشية الأصلية قد عادت إليهم. . . ومن أين لي أن أدرك؟؟ كنت عائشاً في عالم يقضي سكانه، من البيض كانوا أم من السود، أوقاتهم في لعب (الكريكت) وشرب الشاي والتحدث عن حكم النفس بالنفس محتقرين الفقر، متعلمين اللهجة الانكليزية الصحيحة في أحاديثهم. فأية علاقة للطباع الوحشية بكل هذا؟؟ لقد كانت كلمة زنجي تؤذي نفسي لأنها كانت تطلق في نظري على أقوام تعيش في أفريقيا حياة همجية وليس في وسع أحد الاتصال بها أو التعامل معها. وكم كنت غبياً مجنوناً!!.
لقد عينت الحكومة الانكليزية في أحد الأيام مديراً جديداً لسكة حديد الجاماييك، ولقد كان يشغل وظيفة مماثلة في جنوب أفريقيا من قبل، فأخذ يتكلم بعد وصولي لبلادنا عن وجوب تسيير خاصة بالزنوج.
فتألف في الحال وفد ذهب إلى المدير في مكتبه وأفهمه أن سكان الجاماييك وأن كانوا زنوجاً فهم راقون لدرجة لا يحلم هو نفسه بالوصول إليها، وأنهم لا يقبلون بأي وجه معاملتهم كمتوحشين، إنه من الأصح أن لا يعود إلى التكلم عن العربات الخاصة ونصحه البعض بالاستقالة.
وبعد ذلك بمدة قصيرة رأى هذا المدير أن يلفت نظر أبي الذي كان إذ ذاك رئيس(9/61)
المهندسين في سكة الحديد، إلى وجوب احترامه أكثر مما يفعل. فاستقال والدي في الحال وأعلن ذلك في الجرائد. وهذه حملت بدورها على المدير حملة شعواء جعلت من المدير هدفاً لسخط الرأي العام مما دعا حكومة لندن لدعوة المدير لبلاده. ولقد كانت نشأتي في محيط يشعر لهذه الدرجة بقوة قوميته الدافع الحقيقي لعدم إدراكي معنى كوني زنجياً تجاه نفسي وتجاه البيض من البشر.
لماركوس غارفي الرجل الأسود المعروف شخصية قوية، وذكاء حاد ولقد أثار حوله قبل ذهابه إلى أميركا قليلاً من الضجة بتأليفه جمعية غرضها الدفاع عن حقوق الزنوج وتحسين أحوالهم الاجتماعية. ولكنه لم يلق النجاح الكبير لن زنوج الجاماييك إذ ذاك لم يروا أن حالتهم تدعو للإصلاح ولأن أكثر السكان كما قلت قبلاً، لم يكونوا يشعرون بأنهم زنوج يختلفون عن بقية الناس ولكن غارفي لم ييأس فسافر إلى أميركا، واستطاع بقوة شخصيته وبراعته في فن الخطابة أن يجعل (الجمعية العامة التي ألفها لإصلاح الزنوج) تزدهر ازدهاراً لم تر له أميركا مثيلاً من قبل! ولقد كان لهذه الجمعية في جميع المدن الأمريكية، وكانت ذات أثر كبير في نفوس الملايين من الزنوج الذين سحرتهم خطب غارفي النارية فقدموا عن طيبة خاطر كل ما اقتصدوه في سبيل الدفاع عن غاياتها التي كانت كثيرة الغلو بعيدة المرمى، ترتكز على نظرية مهاجرة جميع زنوج العالم إلى أفريقيا لإنشاء دولة قوية من الأمة السوداء.
وفي سبيل هذه الغاية، بدأت الجمعية بشراء عدد من البواخر الكبيرة استعداداً لمنافسة باقي ملاحي العلم.
وحينما أعلن خبر قدوم باخرة (حظ النجمة السوداء) إلى كنجستون سمعت لأول مرة سكان الجاماييك يتكلمون عن أنفسهم كزنوج. وصرح والدي إذ ذاك أنه سعيد أن برى أبناء جنسه وقد بدؤا يشعرون بوجودهم ويخرجون من الحمأة التي هم فيها.
لقد بدا لي كل هذا كثير الغموض، ولكنه مع ذلك أثر بي تأثيراً عميقاً. وفي كتاب إلى رفيق مدرسة سافر إلى أميركا كتبت: إن وصول الباخرة فريدريك دوغلاي يدل على أن أبناء جنسنا قد بدؤا العمل وشرعوا بمجابهة العالم.
كانت هذه الباخرة تحمل غارفي. فذهبت إلى لنجستون لأسمع خطبه. لقد كان في الواقع(9/62)
خطيباً ساحراً، فأنه صور ببراعة كبيرة مدن أفريقيا في المستقبل وتكلم بحماس شديد عن الجيوش القوية التي ستدافع عن أفريقيا السوداء. . . .
ولكنه لم يذكر شيئاً عن كيفية استيلاء الزنوج على هذه القارة، ولا عن كيفية طردهم الأمم القوية البيضاء المحتلة لأكثر أقسامها. مما جعلني أدرك أن هذا الرجل يتلاعب بسلسلة من الألفاظ النارية ليستولي على عقل شعب ساذج.
ومع ذلك، فقد سرى السم في عروقي. لأني منذ سمعت غافي يتكلم، لم يعد في وسعي أن أنسى أنني زنجي وأن البيض ينظرون إلي كرجل منحط وأني مدين بهذا وبهذا فقط لغارفي.
كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما سافرت إلى أميركا حيث ذقت مرارة العيش وعرفت سريعاً أن كون الإنسان أسود يكلفه شقاءً كثيراً. وأردت أن أمتهن صناعة رسم الخرائط التي تعلمتها في وطني، ولكنني كنت كلما طلبت العمل تلقوني بابتسامات الهزء والسخرية. وبعد أن هزؤوا بي كثيراً، وتحملت إهانات كثيرة بدأت أفهم حقيقة الأشياء ولقد تقدمت إلى رجل على غاية من اللطف فقال لي: يا بني. أنا لا أشك في مقدرتك على الرسم وأرى أنك شاب متعلم ومهذب. ولكنك لن تستطيع العمل هنا، لأننا لا نقبل رجلاً ذا لون في عمل كهذا.
وانتهى بي الأمر إلى أن أصبحت خادم رافع (اسانسور) في أحد الفنادق. ولكنني كنت اجتهد دائماً للتفرغ إلى العمل الذي صممت عليه فقد رأيت أمريكا بلاداً قوية فعزمت أخيراً على أن أكون زنجياً من نيويورك. ولقد كان لي في هذا بعض التعزية. لأني اكتشفت أنني أجيد الرقص، وأنه يمكنني ترك نفسي تسير في تيار من الألحان القاسية الوحشية الجميلة التي يهتز لها جسمي ويضطرم بتأثيرها. أنني أفضل مئة مرة أن آتي إلى أميركا وألقى كل أنواع الألم والعذاب من أن أحرم هذه الموسيقى السوداء المتأججة! وأني لأرضى أن آتي إلى أميركا وأرى شيئاً يستحق الأهمية. ولكن هذه المهنة كانت عسيرة عليّ، وسببت لي كثيراً من اليأس. فكنت أقوم بمهن حقيرة لأكسب قوتي ثم أسعى لأن أكون كاتباً.
وأحياناً كثيرة كنت ألعن هذا الجلد، هذا الغشاء الأسود الذي يكسو جسدي ويضع أمامي العراقيل والعقبات، ويسبب لي أنواع المصائب والألم. ولا أستطيع أن أقول أنني أحرزت(9/63)
شهرة كبيرة في الكتابة، فإذا عدت إلى أميركا، فعلي أن أقارع وأطاحن.
إن شهرة كبيرة يحرزها فنان، تمهد أمامه كل سبيل، ولكن أمامه وحده، دون أن يكون منها أي أثر يعود على أبناء جلدته. ولهذا السبب فقد اعتقدت كأكثر الشبان المفكرين من الزنوج، بالمساواة في التفكير وذلك لأننا ندل على أنفسنا بنوع إنتاجنا. وإذا نشرت غداً رواية كبيرة أنال الشهرة وأدعى للسهرات والحفلات والمجتمعات الخاصة بالبيض فأصبح وكأني اوروزماك كلومندن أو كاني هايز، فيتحدثون بنبوغي الشخصي ويثنون على عبقريتي ولقد أسمع أحدهم يقول: إنه من دواعي الأسف أن لا يكون جميع الزنوج مثلك وموضع السخرية في هذا القول أن الزنوج ليسوا جميعهم مثلي وهل يتأتى لقوم من الأقوام أن تكون جميع أفراده شعراء وفنانين.
إن ذلك كله سخافة تامة والحل الوحيد الذي يلجأ إليه الفرد للخلاص من ذلك هو مغادرة أمريكا والعيش في بلاد أقل همجية منها وهذا هو ما فعلته. ولكن الحال ظلت على ما هي عليه بشأن أبناء قومي السود وكما كتبت مؤخراً في إحدى قصصي: لقد تركت أنا الزنجي أمريكا فراراً من شيء هو أعظم قوة مني لم استطع احتماله تاركاً أخواني هنالك هدفاً للألم والعذاب ولعل هذا هو عاطفة قومية أكثر منه حقيقة واقعة لأني كالكثيرين من الزنوج رأيت الغاية في أن أكون أنا كما أنات وأني أؤمل أن لا يحمل كلامي هذا على محمل الشكوى لأن في الزنوج أناساً أدنى مني ينجحون بينما أجد جميع كل أبواب الأعمال التي أجيدها مغلقة في وجهي وأتحمل عذاب ذلك بدلاً من أن أحرم من هذه الأنغام التي تشعر كأنها قطعة من روحي. إن في أميركا عزاءً كبيراً. فقد تعلمت فيها أشياء كثيرة. ولقد علمت عندما كنت أعمل كخادم رافع، وحزام بضائع (ايرا الدردج) الزنجي وهو يعد من بين أبين الروائيين الكبار في أوروبا وأن (بوتشكين) كان نصف زنجي وأن أم (دوماس الروائي) كانت سوداء، وإن صناعة النحت الأفريقية تعد فناً راقياً، وإن الأناشيد الروحية الزنجية هي موسيقى أمريكا الوطنية الوحيدة. وعرفت أيضاً أن لون جلدي الأسود، هو خطيئتي الوحيدة التي لا تغتفر. على أن مدير المكتب كنت أعمل فيه كحزام بضائع، كان يعهد إلي دائماً أن أتكلم بالتلفون لأنه كان للهجتي الانكليزية ورنة صوتي تأثير حسن في الزبائن ولأنه لم يكن في لهجتي وفي صوتي ما يدل على لوني. وذقت المرارة أيضاً، تلك(9/64)
المرارة التي يعاني مضضها كل من يشعر بعلائم الكره وإشارات الاحتقار موجهة إليه. وعرفت أيضاً الألم الذي يصاب به كل من يقرأ في الجرائد وفي كل يوم أن واحداً أو اثنين أو ثلاثة من أبناء قومه أحرقوا أحياء بسبب هذا الكره نفسه وذقت مرارة الاعتقاد أيضاً أنه لولا هذا الجلد، لولا هذا الغشاء من اللون الأسود، لاستطاع المرء النجاح أو على الأقل لاستطاع أن يفعل شيئاً.
ليس في وسعي أن أنسى أبداً ذلك اليوم الذي وقفت فيه أمام أحد المطاعم وقد عرضت في مقدمته أنواع كثيرة من الأسماك اللذيذة وكنت جائعاً وجيوبي مفعمة بالدنانير فدخلت وفي الحال شعرت بيد قوية تنقض عليّ وتدفعني خارجاً فترمي بي على رصيف الشارع. . لا أدري نوع العاطفة التي خامرتني إذ ذاك ولا أدري كيف عدت إلى مسكني لأني لم أعد أرى شيئاً وكنت عاجزاً حتى عن التفكير. إنما أحسست بظلمة حالكة تغمر كياني ولذلك فقد بقيت أسبوعاً كاملاً في غرفتي دون أن أرى إنساناً أو أتكلم مع إنسان منطرحاً على سريري ذاهلاً عن نفسي شقياً معذباً.
ولقد عدت بعد هذا إلى رافعي، وجعلت، وأنا أرفع الناس وأنزلهم ادرس طباعهم والسبب الذي يدعوهم لاحتقار الآخرين وكنت أدرس حركاتهم وأتفحص وجوههم، فتحول رافعي الكهربائي إلى قاعة درس أحلل فيها كل نماذج الشعوب الأمريكية. وكانت نتيجة هذه الأسابيع من الدرس، أن ارتسمت على وجهي ابتسامة صفراء، فيها مرارة، وفيها استهزاء. . .
لست شاكياً من هذا ولا متضجراً، فالزنجي الذكي لا يشكو، بل يستعد للعمل هادئاً ساكناً، منتظراً الفرصة السانحة يوماً ما. إن جامعات نيويورك وباقي الولايات الأمريكية تعج بالشبيبة السوداء التي تتعلم وتستعد للوقوف في وجه التيارات والعواصف. .
ومعظم هؤلاء الشبان من الزنوج، يقومون بشتى الأعمال القاسية لكسب القوت الضروري، في نفس الوقت الذي يملأ ون فيه أدمغتهم. لأن القوي في أميركا والذي يعرف ما يريد يجد المكافأة من أميركا نفسها: فكونته كالن يعد من أكبر شعرائها مع أن الوحي الذي رفعه إلى ذروة الشهرة، هو نفسه الذي دفعه يوماً من الأيام إلى كتابة وعندما تمثل روز ماك كلوندن في أحد المراسح، تراه يعج بالناس. ومن المستحيل أن تجد محلاً فارغاً في المسرح(9/65)
الذي يغني فيه (رونالد هايز) وعندما بدأت الكتابة، وكان ذلك منذ عدة سنوات، رأيت أن أميركا كانت تظهر لي وجهاً أقل تهجماً وكما كتبت مؤخراً في إحدى قصصي: لقد تركت أنا الزنجي أمريكا فراراً من شيء هو أعظم مني لم استطع احتماله تاركاً أخواني هنالك هدفاً للألم والعذاب ولعل قولي هذا هو عاطفة قومية أكثر منه حقيقة واقعية لأني كالكثيرين من الزنوج رأيت الغاية في أن أقول أنا كما أنا وأني أؤمل أن لا يحمل كلامي هذا على محمل الشكوى لأن الزنوج لا يشكون ولا يتذمرون بل يضحكون ويرقصون ويغنون حتى في أعظم ساعات المصاب وفي أوقات الشقاء والألم. أنهم يخلقون لهم عالماً خاصاً بهم ويتمتعون بكل ما فيه من نشاط وقوة. فهارلم هو حي من أحياء نيويورك كثير النشاط عظيم الضجيج تعصف في أجوائه دائماً أنغام الموسيقى والأناشيد والقهقهة تلك القهقهة القاتمة العميقة، تلك القهقهة الخاصة بالشعب الأسود القاتم.
إن قضاء بعد ظهر يوم من أيام الصيف في هارلم، ذلك الحي المزدحمة شوارعه بالوجوه المستبشرة الضاحكة، ذلك الحي الذي تشع في طرقاته وممراته الألوان السوداء اللامعة هو مما ينطبع في النفس ويترك فيها ذكرى خالدة.
أن الكثيرين من سكان نيويورك البيض يأتون إلى هارلم، يأتون هذا الحي لاكتساب شيء من قوة الحياة المرحة الضاحكة ويتركون لأنفسهم حرية الاستسلام إلى هذه الموسيقى المتأججة القوية التي تكتسح كل شيء.
نعم نحن من عنصر غير عنصركم ولا أظن أنه في وسع أحد من البيض أدراك أي إكسير حار مضطرم يغلي في عروقنا ولا أي استعداد للشعور والحياة قد منحتنا الطبيعة.
أننا نستطيع أن نتمثل حضارة العنصر الأبيض ونندمج فيها وأن نحتفظ في الوقت ذاته بتلك الثورة النفسية المتأججة التي ورثناها. ومن هذا تنشأ الصفة التي نمتاز بها. وأننا مابرحنا نردد في أنفسنا خلال كل ما أصابنا من الشدائد والمحن معاني الأبيات التي أوردتها في أول هذا المقال فنعرف أن أداء ما وجب علينا من العمل في هذه الحياة يحتاج حقيقة لنفوس فاضلة كبيرة.
تعريب: ع. ج(9/66)
أيتها الضعيفة
هاهو ذا الفجر ينشر على الكون الهادي غلائله الفضية ويبعث بنسماته العطرة تهز أوراق الحور.
وها هو خيالك القديم الشاحب، ينتصب بجانبي في هذه الشرفة القائمة على سفح قاسيون، فننظر معاً إلى مدينة دمشق التي نشأنا وترعرعنا فيها، فنراها وقد انبسطت أمامنا يحيط بها البحر الأخضر، فينسينا منظرها الفخم البهيج ما كاد يستولي على نفوسنا من يأس قاتل.
أيتها الضعيفة تشجعي فالصبح لا يلبث أن ينبلج. ألا ترين وخيالك معي، هذه المآذن الذاهبة في أجواز الفضاء كيف تلمع تحت أضواء الفجر وتنفض عن أردانها غبار الليل لتستقبل أشعة الشمس؟ إن نور النهار سينحدر عما قليل رويداً رويداً من أعاليها، فيتغلغل في كل ناحية من نواحي هذه المدينة الجبارة التي قيدتك بسلاسل العرف وأغلال العادة ورمت بك في زاوية من زوايا الغابر المظلم فأصبحت وأنت كما أراك إلى جانبي منهوكة القوى، يحول الضعف بينك وبين نصرائك فتكادين لا تصغين لندائهم، ويكادون لا يسمعون أنينك. . .
تشجعي أيتها الضعيفة فقد آن لهذا الليل
هؤلاء الأقوياء الغاشمين الذين ما أحبوا فيك إلا نفوسهم. إن قواهم أوهى من أن تحجب النور، وأن ظلمهم أضعف من أن يقف في وجه الحق طويلاً.
أيتها الضعيفة تشجعي فقوة الإيمان أعظم القوى ويكفيك أن تؤمني أنك مهضومة الحق وإن القوم من ذويك ظالمون.
أيتها الضعيفة استأسدي فذئاب الحي جياع.
أيتها الضعيفة استبسلي ولا يغرنك ما ينفثونه في روعك مما لم يمله عليهم إلا الأنانية ولم يدفعهم إليه إلا حب الذات.
لقد أنزلوك منزلة السلع ووقفوا منك موقف القوي الظالم من الضعيف المخلص فلم يرعوا لك ذمة ولم يحفظوا لك عهداً. لقد كذبوا على الله فتناسوا لباب الدين واتخذوا من قشوره حبالاً يخنقونك بها. وسخروا التقاليد والخرافات لإرادتهم لا يحتفظون منها إلا بما يؤيد قوتهم ويسد ثغره نهمهم ويدعو لضعفك وتذليلك. لقد فهموا الشرف كما أرادوا لا كما يفهمه الحق أو العدل وأنهم ما برحوا يغضبون الله ويعصونه فينسبون ذلك إليك، ويرتكبون(9/67)
الجرائم للتحكم بك زاعمين أنهم ارتكبوها للدفاع عنك، ويسمحون لأنفسهم مفاخرين بكل ما يعيبونه عليك ويرمونك به، ومازالوا وهذا شأنهم حتى إذا أنهكت المظالم قواك وضعضع الألم آمالك ورجاءك قالوا عنك ضعيفة لا نصيب لك من الحياة إلا الرحمة بك والإشفاق عليك.
لقد عرفتك في كل الأدوار والمراحل ضعيفة خاضعة مستسلمة صابرة، وعرفتهم في كل الأدوار أقوياء لا حد لظلمتهم ولا نهاية لما أنزلوه بك من عسف واضطهاد.
أيتها الضعيفة لا تجزعي ولا يتأسي بل روحي عنك وأرجعي بخيالك إلى ماضي الحياة البعيدة وتاريخها الغابر المتراكم في هاوية العدم. إنك لا تجدين بين طياتها إلا صراعاً قائماً بين الظلم والعدل وعراكاً يكاد لا ينقطع بين الحق والقوة. هذه سنن الحياة ونظمها أيتها الضعيفة فلا يهولنك ما ترين.
تمر العصور وتنقضي حقب الدهر وتنازع البقاء لا يبرح ثابتاً في أصوله لا تتغير إلا صوره وألوانه.
أيتها الضعيفة تشجعي فأنت سليلة الأماجد ممن أبوا الضيم ولقد آن لك أن تؤمني أن الحق حقك فتستنبطي من الضعف قوة ومن اليأس أملا ورجاء.
أيتها الضعيفة استبسلي فالحرية لا ينالها إلا طالبها والمجد لا يحرزه إلا الجسور المقتحم.
هاهي الشمس قد نشرت أشعتها فوق الأرض وها هو النور يملأ المنازل ويغمر الروابي والبطاح وهاهي المدينة الجبارة وقد نهضت من نومها العميق تعجب لجهدك وتعتز بمجدك.(9/68)
جمعية دوحة الأدب النسائية
ومشروعها الجديد
جمعية دوحة الأدب النسائية في دمشق عنصر من العناصر الاجتماعية التي يمكن وصفها كما هي في الواقع ثم تحليلها ودراستها بطريقة الاستقراء والاستنتاج لبيان صورة واضحة من صور التطور الاجتماعي الأخير ليس في سورية فقط بل في جميع أقطار الشرق العربي، وهذا ما لا نستطيعه في هذه العجالة لأنه يحتاج لبحث خاص ربما أفردنا له فصلاً خاصاً في أعداد الثقافة، على أن غاية ما نود أن ننبه القارئ إليه في هذه الكلمة هو أن هنالك رأياً إذا أيدناه فإنما نذهب به مذهب أستاذ كبير من أساتذة التربية والتعليم السوريين الذين يعملون اليوم في العراق بعد أن عملوا طويلاً في سورية. وخلاصة هذا الرأي أن النساء السوريات هن أشد ذكاء وفطنة وأكثر استعداداً للعلم والتعليم وأقرب للتقدم والنجاح في العمل من الرجال السوريين، وهو رأي أبانه صاحبه منذ عشرات السنين فجاءت أدلة الواقع تؤيده وتثبت صحته، ولعل أظهر هذه الأدلة وأبرزها جمعية دوحة الأدب النسائية هذه التي لا نعرف من جمعيات الرجال المدنية في سورية من استطاعت أن تجاريها في ثباتها وصحة برنامجها وإخلاصها ومثابرتها على العمل بكل ما يتطلبه نجاح العمل في الجماعة من صفات يجب أن يتصف بها الفرد والتي من أهمها سلامة القلب وشرف النفس وسمو الروح والمفاداة بكثير من المنافع الخاصة التي تمليها الأنانية والأثرة وحب الذات.
لم تكد تؤسس جمعية دوحة الأدب النسائية في دمشق منذ سنين خلت حتى كنابين المتفائلين خيراً بتأسيسها ومن الأملين ببقائها ونجاحها فقد نشأت دون أن تثير حولها شيئاً من الضجيج الذي اعتادت جمعيات الرحال في سورية أن تبرز به في بادئ أمرها، ثم لم يمض عليها شهور حتى وفق مؤسساتها لجمع مبلغ من المال أنشأنا به مدرسة للبنات الصغيرات أجمع جميع من عهدوا بتربية بناتهم إليها أنها من خيرة المدارس السورية إن لم تكن أصلحهن في برنامجها وترتيبها وتنظيمها، وفكر القائمات على شؤون الجمعية بعدئذ رغم ما تعانيه البلاد من ضيق وفقر بجمع ما يكفي لبناء مدرسة فوضعن مشروع القرش السوري وطبعن مليوناً من الطوابع كل طابع منها بقيمة قرش سوري واحد وشرعن بتوزيعها وبيعها، وأنك لو درست هذا المشروع الجديد الذي أخذن على أنفسهن القيام به في(9/69)
مدينة فقيرة كدمشق وعرفت ما عانينه في سبيل إيصاله إلى ما وصل إليه رغم الحجاب الكثيف الذي يحجب وجههن ورغم حب الذات المتأصل في نفوسنا نحن الرجال، لعرفت أن هنالك جهداً جباراً قد يضيق به ذرعاً من لم يكن مخلصاً في عمله، سامياً في مبدئه، شريفاً في نفسه وروحه، وإنك إذا بحثت الأمر أيضاً ووقفت على كثير من شؤون جمعية دوحة الأدب وأعمالها الهادئة الرصينة لا يبقى مجال للشك في نفسك بنجاح مشروعها الجديد ولأيقنت أن المال المطلوب سيجمع أن لم يكن عاجلاً فآجلاً وأن بناء المدرسة سيقام بعد حين في قلب عاصمة الأمويين ضخماً فخماً شاهداً على جهد المرآة السورية وعظمتها، ويؤيد يقينك ما تراه ويتناوله سمعك في كل يوم وفي كل ساعة من دعوة الشقيقة شقيقها وإلحاح الزوجة على زوجها ورجاء القريبة قريبها لمناصرة هذا المشروع وبيع طوابعه وبذل الهمة في سبيله كأنه عمل خاص بهن وكأن المال الذي سيجمع من وراء ذلك سيمنح إليهن ولذويهن.
إن هذه العاطفة السامية المتأججة في نفوس هؤلاء النسوة أعضاء جمعية دوحة الأدب هي الشرط الأول في نجاح عمل الجماعات وهي عاطفة أن لم نتعدها بالتشجيع والمناصرة أصبحت بعد حين كغيرها من تلك العوامل الروحية التي لا تلبث أن تخمد شعلتها في هذه البيئة الخشنة من الدعائم التي يبنى عليها مجد الأمم وسلطانها.
إذا شكرنا أعضاء جمعية دوحة الأدب على جهودهن ومساعيهن رغم ما يعترضهن من مصاعب التقاليد والعادات التي يرزحن تحت أثقالها، فإنما نؤدي فرضاً هو أقل ما يمكن في باب التشجيع والمعاضدة، وإذا دعينا لمناصرة مشروع الجمعية الجديد ومساعدته، فإنما نذكر قرأنا بواجبات وطنية ليس بين الناس من يعجز عن القيام بها أو يجد عذراً في تقاعسه عن أدائها. والعمل الصالح في سبيل الجماعة هو عمل شريف مجيد مهما صغرت قيمته وقلّ شأنه.
ك. د(9/70)
القراءة والحياة
القراءة والحياة
خلاصة مقال نشره (أدمون جالو) في صحيفة الطان الفرنسية
يدعو فن النقد لتقسيم القراء لدرجات، وإذا ابتدأنا بالدرجة الأخيرة، نلقي قراء الأخبار المحلية الذين لا يودون إلا معرفة ما صار حولهم وما وقع في جوارهم، ويأتي في الدرجة التي فوقها القراء الذين يقرأون لأحياء عامل التأثر في نفوسهم، ويدخل عادة في هذه الطبقة النساء والشبان ويتبع هؤلاء الذين يقرأون ليستفيدوا ويتعلموا ثم الذين يقرأون ليتلذذوا بجمال الأسلوب وبراعة الإنشاء. وليس بين هؤلاء جميعاً من يصح أن يطلق عليه اسم قارئ، لأن القارئ الحقيقي في نظرنا هو من يقرأ ليعيش أكثر من مرة واحدة وإن هذه الرغبة التي هي ثورة على طبيعة الحياة ونظامها قد يكون ما يفسر برغبة الابتعاد عن الحقيقة والواقع والتخلص من السآمة التي تورثنا إياها الحياة التي نحياها في كل يوم. ولكن الحقيقة غير ذلك فمظاهر هذه الثورة النفسية هي مظاهر تستتر تحتها غاية سامية شريفة من شأنها أن تحدو بالذات لمعاناة المصاعب والانغماس في تجارب الحياة العديدة والتوصل لمعرفة أشياء كثيرة لا تساعد طبيعة الكون على الوصول إليها. فقراء شكسبير ومونتيين وبول فيفال مثلاً لهم صفة عامة تجمع بينهم وهي رغبتهم بأن يزيدوا في عدد الحياة الواحدة التي يحيونها لأن ما تمنحه الطبيعة لهم من المدارك في كل يوم مما يجري حولهم لا يطفئ ظمأ نفوسهم وهم يعرفون أن ما يستطيعه الإنسان محدود بسيط فيأسفون لذلك ويتألمون من جرائه.
حينما رسم ميشيل آنج في سقف قاعة سيكستين أولئك الأنبياء المنصرفين إلى القراءة والذاهلين بها عن سواها، أولئك الأنبياء الذين لا يستطيع ميشله أن يتكلم عنهم إلا ويضطرب صوته بالبكاء فإنه لم يخطئ بتقديره أهمية العمل الذي صورهم منصرفين إليه ومأخوذين به عن أنفسهم. لقد كان يعلم ولاشك أن أسمى ما كان يرمي إليه ذلك العصر هو تخليص الإنسان من الطراز الوحيد الذي يعيش عليه وإفهامه أن هنالك عيشاً أخر يجب اكتشافه ومعرفته. وهذا أعظم ما رمت إليه مدرسة أثينا وفلسفة الإغريق القدماء ولقد جاء عصر التجدد الغابر من بعد ذلك يعارك ويجالد ليوسع في الإنسان مداركه وتجاريه فيفسح(9/71)
مجالاً كبيراً في قلبه لعاطفة البشرية وفكرتها الواسعة المترامية الأطراف ولكنه لم يستطع أن يغير من طبيعته شيئاً كثيراً. على أن أقرب ما يساعد على الوصول إلى تلك الغاية التي عمل لها الأقدمون ومن جاء من بعدهم هي القراءة أيضاً والقراءة التي أقصدها هنا هي القراءة الحقيقية التي تزيد في تجارب العيش وتنميها بدلاً من أن تقوم مقامها.
ك. د
موت اللغات
خلاصة مقال نشر في مجلة لموا الشهرية
نشر المسيو فاندريس عضو المعهد العلمي الفرنسي والأستاذ في الصوريون مقالاً ممتعاً في مجلة الدروس والمحاضرات الفرنسية عن موت اللغات قال فيه ما ملخصه: إن اللغات تموت إذا لم يبق من يتكلم بها وهذا كثيراً ما يصيب اللغة التي تضمحل بعامل لغة أقوى منها تستولي عليها فتغمرها وتبتلعها كما وقع للغة البروسية القديمة واللغة البولابية اللتين خنقتهما اللغة الألمانية وقضت عليهما تماماً وهكذا شأن اللغة الغالية أيضاً تجاه اللغة الفرنسية التي أبادتها وهضمتها فإذا التقت لغتان تموت الضعيفة الفقيرة منهما شأن تنازع البقاء ولكن من أين ينشأ هذا الضعف والتأخر اللذان يجعلان هذه اللغة دون اللغة الأخرى ومن هو الذي يحدد ويعين مكانتها الاجتماعية بالنسبة للغة الثانية التي تناظرها؟ يقول الأستاذ فاندريس أن لذلك أسباباً وعوامل كثيرة من أهمها أن إحدى هاتين اللغتين تكون أغنى وأقدر من الثانية على إيضاح ما يجول في نفس المتكلم بها ولذلك تصبح الثانية في نظر المتكلمين دون الأولى التي تتقدم عليها بصرف النظر عن قيمة اللغة ومكانتها بحد ذاتها فاللغة اللاتينية واللغة اليونانية القديمة رغم مجدهما القديم ومكانتهما التاريخية والذاتية تلاشياً أمام اللغة الانكليزية والفرنسية وكذلك اللغة الغالية فهي لغة ذات مجد وآداب وأن تكن شفهية فهي غنية لكنها لم تستطع أن تقف طويلاً أمام اللغة اللاتينية التي غمرتها وأبادتها بسبب أنها لم تكن لتعادلها وتساويها في مجدها الأدبي واستطاعتها على إيضاح ما يجول في نفوس أبناء العصر ومجاراتها للفكرة العصرية ومكانتها العالمية التي نشأت عن ذلك فهي قد استغوت الكثيرين من الفاتحين الذين انصرفوا إليها لما رواه في معرفتها من حسنات مادية ومعنوية ولما أورثهم الإطلاع عليها من تيه وفخر فبقيت اللغة السلتية بعد(9/72)
ذلك خاصة بالطبقة العامة الجاهلة من الناس وكادت أن تنحصر بهم وحدهم. واللغة العامية هي دائماً دون اللغة الأدبية التي يتكلمها كبار الناس وأصحاب المكانة العليا والمثقفون في الأمة ولذلك فاللغة العامية لا تلبث أن تضمحل وتترك المكان للغة الأدبية التي تصبح أقوى وأشد منها وذلك لأنها أي اللغة العامية، لغة لا ثقافة ولا تاريخ ولا آداب مكتوبة لها ثم أنها لم تؤلف وترتب بصورة يستطيع المتكلم بها أن يوضح عن جميع ما يخامر نفس الرجل المتعلم من أفكار وصور ومعان وهي منحصرة أيضاً بأشياء ومعان خاصة تقوم في نفس الرجل العامي الجاهل وجميعها تتعلق بالحياة المادية العلمية والتي تعود أكثر ما يكون للقرى والأرياف وهي تستطيع بهذه الميزات والصفات أن تبقى ثابتة وأن تعيش طويلاً ولكنها لا تستطيع أن تجاري لغة المثقفين المتعلمين من الطبقة العليا في الأمة تلك اللغة التي هي أوسع في التعبير عن الفكر وأغنى في إيضاح ما يجول في النفس من شتى المعاني والصور ومما تقدم يتضح أن هنالك عراكاً يكاد لا ينقطع بين اللغات والغلبة دائماً تتم للقوية على الضعيفة هي التي يتكلمها عدد قليل من الناس بالنسبة للأخرى وجلهم من رجال الطبقة العامة. وتموت اللغة حينما يشعر المتكلمون بها بعدم الحاجة إليها وعدم الميل والإرادة للتكلم بها لعجزها عن إيفاء جميع ما يريدون قوله وينتج من هذا أن اللغة لا تعيش بذاتها بل تعيش بإرادة أبنائها وحرصهم عليها بالعمل في سبيل إصلاحها المستمر وجعلها وافية بكل ما يتطلبه تفكير العصر الذي يعيشون فيه ويذكر الأستاذ فاندريس لذلك أمثلة كثيرة نأسف لضيق المجال هنا عن إيرادها جميعها ويستنتج من مجمل تلك الأمثلة والشواهد أن اللغة لغتان لغة تحكى ولغة تكتب ولا يمكن مهما تقدمت اللغة أن تكون هي هي كتابة وتكلماً وأن هنالك خطراً متى تباعدت اللغة المحكية عن اللغة المكتوية فيجب دائماً السعي لتوثيق الصلة بين اللغتين وتقريبهما من بعضهما ما أمكن وذلك بإدخال ما صلح من اللغة المحكية في اللغة المكتوبة وهذا لابد عنه في تطور اللغة الأدبية فمن يحاول أن يكتب بالفرنسية مثلاً في هذا العصر بلغة فولتير الكاتب الفرنسي فلا مندوحة له وهو يعالج موضوعاً لم يعالجه ذلك الكاتب من إدخال بعض مصطلحات عصرية رغماً عنه تمثل الزمن الذي يعيش فيه فاللغة هي شيء ذو حياة فإن جمدت ولم تسر مع ما يتطلبه التجدد ماتت والويل للأمة التي تحاول أن تبقى بلغتها حيث هي فالزمن يتقدم جارياً مع(9/73)
حركة الحياة الدائمة ثم لا تلبث الصلة أن تنقطع بين حركة الحياة وبين هذه اللغة فيقضى عليها بالجمود والموت. وهذا التجدد والإصلاح في اللغة لا يفيدان وجوب إبدال اللغة المكتوبة وجعلها كاللغة المحكية ولا يفيان لزوم الكتابة باللغة العامية لأن في ذلك ما يدعو لموت اللغة أيضاً كما تقدم فالإصلاح المنشود هو إصلاح اللغة المكتوبة بتوسيع مفرداتها وتحديد معانيها والمحافظة على تراثها القديم وهذا لا يتأتي إلا عن طريق الثقافة العامة فالثقافة وحدها هي التي يمكنها أن تحافظ على التوازن بين احترام القديم والحرص عليه وبين حب الجديد والأخذ بالأسباب التي يتطلبها العصر الذي نعيش فيه. والكاتب المثقف هو الذي يمكنه أن يوفق بين الحاضر القريب والماضي البعيد فيحبهما ويحترمهما معاً.
ك. د(9/74)
الكتب والصحف
سلمان الفارسي
لو لم يكن الأستاذ لويس ماسينيون من أساتذتنا الذين يمكننا. إن شئنا التفاخر أن نفاخر بهم، ومن العلماء الذين نعتز إذا عددنا أنفسنا بين أصدقائهم ومريديهم، لما اجمعنا على القول بأننا لا نعرف بين مستشرقي هذا العصر وعلماء العلوم الاجتماعية فيه من هو أغزر مادة وأدق بحثاً وأقدر على تتبع الموضوعات العلمية واستقصاء أصولها وجمع مصادرها ومساندها من الأستاذ ماسينيون ضيف عاصمة الأمويين في الشهر الغابر. ولعل نظرة بلقبها الباحث المنصف في أي كتاب من كتب هذا العلامة الكبير ليقابل ويقايس مع أحدث ما يخرجه علماء هذا العصر من مؤلفات تكفي لأن تجعله يرى هذا الرأي ويعتقد العقيدة نفسها.
قد يختلف العلماء وتتضارب مذاهبهم وتتباين ولكن هنالك أصولاً واحدة في الاستقصاء والاستقراء والتتبع وجمع المساند يكاد الاتفاق يتم عليها وهي أساس كل الأبحاث والعلوم في هذا العصر وهي وحدها مقياس التفاضل إذا اختلفت الآراء والمذاهب على أن الوصول للبراعة في هذه الأساليب والتجويد في عملها ليس بالمطلب السهل فإنه يحتاج، عدا غزارة العلم، لعبقرية فائقة ومقدرة وجلد وثبات وغير ذلك من المزايا التي قل أن تجدها مجموعة إلا في هؤلاء العلماء الأفذاذ. ولعل أوضح مثال نقدمه على هذه الأصول لندل عليها، هذا الكتاب الصغير الجديد الذي وضعه في هذه السنة الأستاذ المستشرق لويس ماسينيون عن الصحابي الكريم سلمان الفارسي رضي الله عنه. وهو كراس يقع في اثنين وخمسين صفحة من القطع العادي وقد تجد فيه، رغم قلة صفحاته، من الأبحاث الممتعة والمساند والمصادر والوثائق القديمة والجديدة ما تضيق به المجلدات الضخمة وكلها مرتبة بطريقة واضحة تغري بالتتبع وتشوق على التعمق والرجوع إلى الأدلة والحجج في مظان وجودها وإن في ذلك كله من براعة الأسلوب وغزارة العلم ما يعرفه جميع من عرفوا مباحث مستشرقنا الكبير وألفوا طريقته في الاستقصاء والتعمق والتحقيق.
بحث المؤلف في مقدمة الكتاب عن (المدائن) التي توفي فيها الصحابي الكريم سلمان الفارسي رضي الله عنه وعن الكوفة وعن الأصول التي يجب أتباعها في درس سلمان(9/75)
الفارسي. وخصص الفصل الأول من الكتاب لدرس تاريخ حياة سلمان الفارسي بشكلها المعروف وتحليل نظرية هوروفيتز بنقد هذا التاريخ وتفنيده وفي الفصل الثاني عالج المؤلف حديث إسلام سلمان الفارسي كما رواه سلمان نفسه ثم الحديث الشريف (سلمان منا أهل البيت) ثم القول المشهور (عملتم وما عملتم) وأصل هذا القول ومنشأه. والفصل الثالث من الكتاب خصص لدرس وفاة سلمان الفارسي رضي الله عنه في (المدائن) وما ورد من الأدلة على صحة مجيئه للعراق كحليف لعبد قيس ثم الإسناد السلمانية في بعض النظم الدينية. ويحتوي الفصل الرابع على علاقة سلمان التاريخية بصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم وشأنه بعد ذلك مع الإمام علي رضي الله عنه ثم خاتمة الكتاب وفيها ما يمكن تلخيصه وعرضه من مجمل الفصول المتقدمة وقد أتبع الأستاذ العلامة هذه الموضوعات بنصوص قديمة لم تنشر بعد عن المذاهب الشيعية المتطرفة المسماة سلمانية أو سينية وبفصل آخر في تعيين المصادر لهذا البحث سواء كانت في اللغات الشرقية أو في اللغات الأوربية وتبويبها وتقسيمها.
هذا ما حواه الكتاب أجملنا عناوين أبحاثه في هذه العجالة على أن تعود الثقافة لمعالجة موضوعه الهام في عدد آت أعان الله مؤلفه على عمله وأمد بحياته.
ك. د
أخلاق المسلمين وعاداتهم
لعل اعتقاد الغربيين أن حياة المسلم وما فيها من تقاليد وعادات ترجع في منشئها إلى الدين، وأن الثقافة العربية بمعناها القديم هي ثقافة دينية أي لابد للأديب وهو الآخذ من كل شيء بطرف أن يدرس القرآن ويطلع على عدة كتب هي دينية بمادتها وروحها كالحديث والفقه وغيرها، وأن امتزاج السلطتين الروحية والزمنية وما يتبعهما من الأنظمة في أصول الحكم تقوم على قواعد دينية فرضها الإسلام منذ ظهوره، وأن وقوع أغلب البلاد الإسلامية تحت النفوذ الأجنبي، كل هذه الأسباب جعلت الإسلام موضوعاً خطيراً في أعين المستشرقين تدور حوله جل أبحاثهم اليوم.
التاريخ يعيد نفسه، فالحضارة الإسلامية سائرة بحكم القوانين التاريخية في طريق الانحطاط وستضمحل عما قريب بتأثير صدمات الشعب الغربي الجديد كما سقطت من قبل الحضارة(9/76)
اليونانية أمام هجمات الرومان والحضارة الفارسية أمام صدمات العرب، وما هذه الحركات التجديدية المزعومة التي يتمخض بها العالم الإسلامي اليوم إلا شبيهة بحركات الجسم العنيفة التي يعقبها الموت عادة أو بقرقعة البناء قبل الانهيار
تلك هي الفكرة التي خرجت بها بعد قراءة هذا الكتاب ومؤلفه يزاول التدريس في كلية الآداب بالجزائر وهو أحد الذين اتخذوا المغرب الأقصى موطناً لهم وعاشوا في محيط أسلامي ودرسوا نفسية المسلمين وطرق معيشتهم ولذا غدا كتابه جديراً بالدرس والمطالعة لما حواه من الآراء الجريئة والتكهنات الغربية.
نأخذ على المؤلف تسرعه في تعميم نظرياته (التي تشتمل على معلومات أولية مقتبسة عن أوضاع الهيئة الاجتماعية في أفريقيا الشمالية) على بقية البلاد الإسلامية بدون أن ينظر إلى الشوط الذي قطعته الشعوب الإسلامية في مضمار التطور لاسيما في السنين الأخيرة، حتى أنه لم يتردد عن نفي كل حركة تجديدية كما تقدم معنا وإنكاره على العالم الأميركي ستودارد تسمية كتابه بالعالم الإسلامي الجديد أما أن لا حركة تجديدية في العالم الإسلامي فالمستقبل كفيل بإظهارها وأما أن يبحث المؤلف عن أسباب تأخر الشرق وعن عوامل الانحلال فهذا ما نود معرفته والإطلاع عليه.
عرض المؤلف لكثير من الفوارق التي تميز الهيئة الاجتماعية الغربية عن الشرقية الإسلامية وحاول إظهار ما في الأولى من العوامل التي تدفعها في طريق التقدم وما في الثانية من عوامل التأخر والجمود التي تعرض هذه الحضارة للسقوط والاندثار ولعل أهم هذه العوامل هي نظرة القداسة في الإسلام إذ تختلف هذه النظرة عنها في المسيحية فالقداسة في بلاد الإسلام وراثية لها مميزات خاصة زد عليها تضامن الفطرة الارستقراطية مع القداسة وغدا كل من يتصل بنسب شريف يكتسب درجة تجعله في مكانة اجتماعية فوق ما تسمح له به مواهبه وكفاءته واستعداده الفطري ولا يخفى ما لهذه النظرة من التأثير السيء في سير أفكار المساواة وقتل الكفاءات بعد أن رأينا الديمقراطية في الغرب تفتح الأبواب للمواهب ولقيمة الفرد الشخصية.
وعامل آخر لا يقل أهمية عن الأول هو تدخل تعاليم القرآن في كل مظاهر حياة المسلم حتى العادية منها وقد تعدت هذه التعاليم الدينية الشخص إلى الدولة ولذا يعجب الأوروبيون(9/77)
هذه الحياة العلمانية عندنا ويطلقون على النظام الحكومي في بلاد الإسلام الحكم الإلهي لأن الدول الأوربية كما يقول أحد المستشرقين لم تتوصل إلى شكلها المدني الحاضر وفصل الدين عن الدولة إلى بعد جهاد عنيف وجهود كبيرة أما في الشرق فقد بقيت السلطتان الروحية والزمنية ممزوجتين معاً ويجب أن نفتش هنا عن أسباب المشادة الواقعة بين الأوربيين والأمم الإسلامية ومن جملة الفوارق التي نراها بين العقيدتين المسيحية والإسلامية هذه المسحة الدينية الغالبة على أنظمة الإسلام إذ لم تفسح الديانة المسيحية يوماً ما المجال للحكم الإلهي أن يتسلط على كل شؤون الدولة وإذا استعرضنا التاريخ رأينا تجاه طبقة الاكليروس طبقة أخرى علمانية لها قوانينها السياسية والإدارية التي تفرق تماماً عن الأنظمة الأكليرية فقد تشاهد القانون المدني إلى جانب الروماني وقانون التعرف والعادات ولم تكن القرون الوسطى إلا شبه معارك دموية بين سلطة الباباوات الدينية وسلطة الإمبراطورة المدنية المسيحية نفسها السلطة الزمنية حتى أن الإنجيل أوصانا أن نرد ما لقيصر لقيصر. .
والحقيقة أن الأديان تتفق بروحها وتختلف بتقاليدها وطقوسها غير أن المسيحية لم تتمكن من فرض الحكم الإلهي إلا في بلاد معينة وطرق خاصة. ولعل انتقال المسيحية إلى الغرب وابتعادها عن محيطها الشرقي هما اللذان جعلاها تفرق عن الديانة الإسلامية من حيث نظام الحكم وأصوله حتى إذا صادقت محيطاً يختلف عن المحيط الشرقي وعقلية تختلف عن عقلية الشرقي تكيفت بتأثير هذا المحيط وإلا لو بقيت في الشرق لما كان مستبعداً أن يكون شكل الحكم عندها شبيها بمثله في الإسلام. ولا يتسرب إلى البال أن الدين الإسلامي هو الذي دشن الحكم الإلهي في الشرق إذ قد وجد هذا النوع من الحكم قبل أن يثب العرب من الصحراء وثبتهم المعروفة فقد نصب الاسكندر المقدوني بعد خلعه الملك داريوس نفسه ملكاً ونائب الإله عند اليهود وينتظر الشعب اليهودي رغم تشتته رجوع المسيح المنقذ وما هذا المسيح المنتظر إلا رئيس ديني يجمع السلطتين الدينية والسياسية معاً.
ولما كان الفن صورة الحياة وهو الشيء الوحيد الثابت في هذا العالم رأينا أن المسحة الدينية غالبة على الفن الشرقي، فالفن الفرعوني القديم هو فن ديني والآداب العبرانية دينية بحتة والآداب الفارسية القديمة هي دينية بروحها ووحيها.(9/78)
بعد أن درس المؤلف أصول الحكم في الإسلام وأثره في تطور الدول الإسلامية عرض للبحث عن الدولة وعلاقتها بالشعب ثم انتقل بعدئذ إلى الكلام عن صفات الشرقيين الخلقية وقال أن نقص التعاضد والتبلبل الجنسي هما من الأسباب القوية في تأخر الشرقيين وسد منيع في وجه كل الحركات التي من شأنها إيقاظ الروح الوطنية في الشرق إذ من السهل عليك أن تشاهد آثار التعاضد عند الأفراد في الغرب لأنهم تضمهم وحدة مدنية مرتكزة على فكرة استقلال الشخص وقيمته المطلقة زد عليها عاطفة غريزية نحو الاتحاد فطر عليها الغربيون منذ صغرهم، أما في الشرق فأنك ترى شعوباً وأجناساً مختلفة بينهم التركي والأرمني والفارسي واليوناني واليهودي والشركسي يعيشون سوية لا عاطفة قومية تجمعهم ولا وحدة جنسية تضمهم وقد يدلك على هذا الاختلاف كثرة ما نشاهده في الأسواق الشرقية من الأشكال والأزياء المختلفة ولا أجمل في نظر الأوروبيين من هذه الألوان التي تجعل للسوق الشرقية جمالها وطابعها الخاص.
والخلاصة أن الشرق أمام قياس ذي حدين: أما أن يقتبس الحضارة الأوروبية بلا قيد ولا شرط وأما أن يدخل الأوروبيين هذه الحضارة بواسطة الاستعمار ويرجح المؤلف أن الشرقي حفظاً لكيانه قد فضل اقتباس هذه الحضارة عن طوع وإرادة ولا أدل على هذه الفكرة مما نشاهده من غزو الحضارة الغربية للشرق في ميادين العلم والثقافة والفكر والعادات والأخلاق.
إبراهيم الكيلاني(9/79)
أخبار العلم والأدب
تكريم العلامة ماسينيون
أقامت مجلة الثقافة في اليوم الثالث عشر من الشهر الغابر حفلة شاي في قصر أمية تكريماً للعلامة المستشرق المسيو لويس ماسينيون بمناسبة مروره بدمشق. وقد حضر هذه الحفلة رئيس الجامعة ومستشار معارف المفوضية العليا ومستشار المعارف في الجمهورية السورية ورؤساء المعاهد العلمية العليا وأعضاء المجمع العلمي العربي والمستشرقون أعضاء المعهد الفرنسي ولفيف من أساتذة الجامعة السورية وطائفة من أصحاب الشهادات العليا والمثقفين والكتاب والأدباء في دمشق. وتكلم باسم المجلة أحد أصحابها الدكتور كاظم الداغستاني فرحب بالمحتفى به وذكر ماله من المكانة في أقطار الشرق العربي والعالم الإسلامي وما تحمله نفوس السوريين وعلى الأخص تلامذته وأصدقاؤه من حبه واحترامه واعترافهم بجميله. وقد أجاب على ذلك الأستاذ ماسينيون بخطاب ممتع ارتجله باللغة العربية أوضحنا موضوعه في المقال الذي افتتحنا به هذا العدد. وقد تحدث المدعوون بعد ذلك إلى المستشرق الكبير بمختلف الشؤون العلمية والاجتماعية واللغوية وانصرفوا سعداء بهذا اللقاء محتفظين منه بأجمل الذكرى.
استعمال القطن في تعبيد الشوارع وتزفيتها
لقد أوضح الأستاذ جورج كارير الفائدة المتأتية من استعمال القطن في تعبيد الشوارع العامة ورصفها وتزفيتها وذلك لتقويتها وجعلها أشد مقاومة وتحتاج المواد الزفتية المعدة لرصف الطرق والممرات إلى مقدار من القطن يعادل ثلاثة ونصف في المائة من مقدارها وعلى هذا الحساب فإن كل مسافة ميل أي ما يعادل كيلو متر ونصف من طريق متوسط العرض تحتاج لأربعين رزمة عادية من القطن.
تجربة صعود جديدة تنتهي بحادث مؤلم
صعد بتاريخ 30 كانون الثاني في الساعة التاسعة صباحاً المنطاد الروسي اوسو افاكيم للقيام بتجربة جديدة وتبعاً لإشعار الراديو البرقي الذي بعث به في الساعة الحادية عشرة ونصف فقد بلغ ارتفاع 26، 600 متراً عن سطح الأرض لكنه لم يلبث في الساعة 17 زوالية حتى تمزق غلافه وسمع منه صوت انفجاريين هائلين فهوى وأودى بحياة الطيارين(9/80)
الثلاثة الذين كانوا فيه وهم واسانكو واوسيكين ويديرنكو من مشاهير رجال الطيران في روسيا.
العصافير والزلازل
أنبأ الأستاذ سكينير أنه لحظ قبل الزلزلة التي وقعت في بياك في اليوم العاشر من الشهر الغابر أن كثيراً من العصافير أبدت قلقاً واضطراباً شديداً وذلك قبل أن تعرف الناس وتدل الآلات الخاصة بقرب وقوع الهزة الأرضية وقد رأى أن هذه العصافير أثناء الزلزال لم تعد تنزل من الفضاء لتقف على أغصان الأشجار التي كانت عليها بل ظلت طائرة على شكل عامودي بارتفاع يقرب من أربعين متراً بعيداً عن تلك الأشجار التي تطير فوقها.
أصغر عصفور
اكتشف الدكتور الكساندر في المنطقة الجبلية من مقاطعة هايتين عصفوراً صغيراً يساوي حجمه حجم النحلة ولقد ذكر الدكتور في تقريره أن هذا العصفور هو كبقية العصافير الصغيرة شديد الدفاع عن نفسه محب للهجوم قوي الأجنحة والأعضاء حتى أنه لا يتأخر رغم صغره عن مهاجمة غيره من العصافير الكبيرة والتغلب عليها.
سرعة الضوء
قام العلماء في الشهر الماضي بتجارب جديدة في جبل ويلسون لمعرفة سرعة الضوء الحقيقية بالدقة والضبط بعد أن تبين لهم أن هنالك أخطاء في تحديد سرعة الضوء في السابق وذلك بسبب ما يطرأ على الآلات التي يقاس بها الضوء من الاختلاف والتعبير بالنسبة للموسم والفصول ولقد كانت النتيجة في هذه التجارب العديدة أن سرعة الضوء الصحيحة هي 299، 774 كيلو متراً في الثانية الواحدة.
معرض كبير للتصوير في تركيا
أقام بعض المصورين الذين يمثلون التصوير الفني الحديث في تركيا معرضاً كبيراً في (خلق أوى) الواقع في (بيره) باستانبول عرضوا فيه كثيراً من الصور الفنية. تأسس هذا النادي منذ ثلاثة أشهر تقريباً وهذا المعرض الذي أقامه في الشهر الماضي هو المعرض الثاني. وكان اهتمام سكان استانبول بكل من هذين المعرضين عظيماً جداً.(9/81)
ومن مشاهير أعضائه الذين لم يتجاوزوا الثلاثين جمال سعيد ونور الله جمال والنحات زهدي. لم تشاهد تركيا قبل هذا المعرض معرضاً حديثاً من هذا النوع تعرض فيه آثار فنية متطرفة كالصور العارية والصور التي هي من نوع السور ياليست التي يبتعد بها المصور عن الواقع. وصور أخرى غير هذه مما استحسنه الزائرون. كل ذلك يدل على النزعات الحديثة السائدة الآن في تركيا سواء كان في الأدب والفن أو التربية والاجتماع. وقد رحبت الصحافة بهذا الإبداع الفني الحديث وخصصت جريدة تركيا ملحقاً أسبوعياً لمعرض المصورين المجددين لم تكن تركيا القديمة تهتم بالتصوير كما تهتم اليوم ولم يكن المصورون يقدمون قبل النظام الجديد على عرض صور من هذا النوع وأكثر هؤلاء المصورين درسوا في فرنسا وتأثروا بالأساتذة المشهورين أمثال (ماتيس) و (فرنان ليجه) و (دوفن) وغيرهم.
وقد انتشر اسم المصورين الأتراك المجددين وذاع صيتهم حتى بلغ روسيا ثم أن اثنين من أعضاء نادي (خلق أوى) وثلاثة غيرهم يعرضون الآن قسماً من آثارهم في لينينغراد وفي موسكو وقد لحق بهم أيضاً المصور الهزلي جمال نادر وسيشترك قسم منهم أيضاً في المعرض الذي سيفتح في آثينا.
عبد الحق حامد
احتفلت تركيا في الشهر الماضي في القسطنطينية ببلوغ شاعرها الأكبر عبد الحق حامد السنة الثانية والثمانين من حياته. إن الشبيبة المثقفة عامة وطلاب الجامعة خاصة يعدون عبد الحق حامد أستاذهم الأكبر لأنه أجمل صورة لا بل أعظم شخصية تمثل الأدب التركي الحديث فلا عجب إذا تجمعوا حوله واحتفوا به هذا الاحتفاء العظيم. لاشك أن عبد الحق حامد هو فخر تركيا الحديثة. وهو صاحب كتاب مقبر وكتاب طارق وكتاب زينب وكتاب فينتين يعيش حياة ارستقراطية إلا أن حياته أشبه بقصيدة شعرية منها بحقيقة واقعية، إذا قرأته أثر في خيالك وفي قلبك وملك عليك مشاعرك حتى لقد أصبحت حياته شبيهة بأسطورة ووجوده خيالاً يعجب الناس من اجتماعهم به في هذا العالم فلا يصدقون إذا رأوه كيف هبط هذا البطل من عالم الخيال وكيف هجر الملأ الأعلى وعاد إلى الأرض.
وقد نشرت زوجته (لوسيانة) في الصحف مقالات مؤثرة لمناسبة يوبيله وهي سويسرية(9/82)
اقترنت بالشاعر الكبير يوم كان سفيراً لتركيا في بروكسل وجاءت معه إلى تركيا بعد ذلك العهد. وقد أثرت رواية حياتهما في الكاتب الفرنسي هنري بوردو ونشرت منذ سنين بعنوان (رسائلي إلى عبد الحق حامد) وهي تحتوي على حديث هذه الزوجة الشابة التي جعلت نفسها رفيقة لهذا الشاعر الشيخ.
ذكرى أحمد هاشم
الشاعر أحمد هاشم من الشعراء الذين يذكرهم الأتراك دائماً ويحترمونهم وقد توفي في السنة الماضية فأقام أصدقاؤه منذ شهر تقريباً في بيت الشاعر الراحل حفلة تأبين لمرور سنة على وفاته وقرئت في هذه الحفلة كثير من الأشعار الرنانة التي نشرت في الصحف التركية، وكلها تدل على ما في نفوس أصدقائه الأدباء والشعراء من الإجلال لشخصه والتقديس لذكراه.(9/83)
العدد 10 - بتاريخ: 15 - 6 - 1934(/)
ظاهرة سورية
بقلم الدكتور كاظم الداغستاني
لقد أوشك علماء الاجتماع جميعاً أن يتفقوا وكثير من الفلاسفة والشعراء من قبلهم على أن الماضي لا يموت، فهو لا يبرح ظاهراً بارزاً بآثاره تحمله الأفراد والجماعات فوق أكتافها وكثيراً ما تضيق به ذرعاً وتنوء تحت أثقاله فلا تجد سبيلاً للخلاص منه. وكما أن للفرد ماضيه الذي لا يكاد ينفصل عنه فللجماعة أيضاً ماضيها الذي تنطبع بطابعه وتجري على غراره وتخضع لحكمه شأت أو أبت. فحاضر الجماعة لا يفسره إلا ماضيها وماضيها هو الأرومة التي تتفرع عنها جميع ما يتألف منه كيانها الاجتماعي من عادات وأخلاق وعقائد وأوهام وحقوق ووجائب. وشأن هذا الماضي مهما كان بعيداً هو الذي حدا بالباحثين عن سر تطور الجماعات والشعوب وتحليل أوضاعها الاجتماعية الحاضرة إلى الرجوع لدرس تاريخ الأمم البعيدة وتفهم ما يمثله ويعيد ذكراه من أحوال تلك القبائل التي تعيش على الفطرة الأولى في مجاهل الصحارى وأقاصي العمران. ودرس الجماعة السورية الحاضرة لا يشذ عن هذه القاعدة ولا يختلف في طريقة التحليل والاستقراء عن تلك الأصول. فالسوريون لهم ماضيهم الذي لا يموت، والسوريون لهم حاضرهم الذي لا يبرح منطبعاً بطابع ذلك الماضي البعيد وفي ثنايا هذا الحاضر كثير من الظواهر الروحية والصفات النفسية التي لا يفسرها إلا ما انتقل إلى نفوسهم وامتزج بأرواحهم من عوامل الغابر.
فلقد كانت سورية منذ عرفها التاريخ وتحدث عنها المؤرخون صلة بين جهتين من جهات العالم الأربع، ومرحلة لابد من أن يجتازها ابن الغرب في طريقه إلى الشرق في طريقه إلى الغرب. ولقد حدت عوامل البيئة والإقليم والوضع الجغرافي بأبناء هذا القطر الضيق المتطاول أن ينشطوا إلى العمل ودعتهم غرائزهم إلى أن يستثمروا من موطنهم ما منحه إياه موقعه من هبات بعد أن رأوا البحر من أمامهم ورمال الصحراء من ورائهم فاندفعوا إلى البحر يركبون أمواجه ويصارعون أنواءه، فينقلون من الشرق ما يبيعونه إلى الغرب ويتاجرون في الشرق بما ابتاعوه من الغرب وينتقلون بين الشرق والغرب فيجعلون بلادهم المتوسطة محطة يستريحون ويريحون ركبهم بها ويحسبون خلال راحتهم مرابحهم ومكاسبهم التي جمعوها، ثم لا يلبثون إلا القليل حتى يعودوا إلى أسفارهم وإلى مرابحهم(10/1)
ومكاسبهم منها، واستمروا على ذلك إلى أن أصبحوا تجار العالم ليس من يجاريهم في جلب الأرباح ومعرفة أساليبها وحساب فوائدها والعمل على أنماء ودرء ما قد يحول دون ذلك. وتأصلت هذه الظاهرة الروحية في أنفسهم ومرت الأجيال وتعاقبت الأنسال وهي لا تزداد إلا رسوخاً حتى أصبحت التجارة وحساباتها غريزة من غرائزهم تكاد تغمر ما عداها من صفات نفسية، فأحبوا المال أكثر مما يحبه الناس جميعاً وتهافتوا على جمعه وادخاره حتى جعلوه غايتهم الأولى وهدفهم الأسمى. وكان من شأن تلك الصلة بين الشرق والغرب التي اختص بها موطنهم إن غزت بلادهم مختلف الأقوام وحلت بين ظهرانيهم أنواع الشعوب، ولكنها جميعها لم تلبث بعد أن مضى عليها حين من الدهر معهم أن تطبعت بطبائعهم ونسجت على منوالهم، فقلدت أساليبهم واقتدت بهم في مراميهم التجارية وأصولهم في العد والحساب وتشبهت بهم في كل شأن من شؤونهم حتى أصبحت وإياهم على سواء في حب المال والتهافت على جمعه وادخاره وظهرت الأديان في سورية متعاقبة فلون كل منها هذه الظاهرة السورية بلون خاص ولكنها لم تستطع جميعها أن تأتي عليها أو تمحوها. وكان من شأن هذه الظواهر القديمة الراسخة أن حرفت هي نفسها كثيراً من وجوه الأديان وأحكامها وشوهتها واستخدمتها في أغراضها وجعلتها ترمي لغير الهدف الذي دعا إليه أصحابها. واختلاف بعض مظاهر الدين الواحد بالنسبة لأمزجة الشعوب التي فرض عليها أو ظهر بينها واصطباغ الكثير من أحكامه بصبغة الوسط والبيئة والجماعة حادث اجتماعي مقرر معروف لم يعد من حاجة للجدل فيه. وبالرغم عن الأديان وتعاقبها في سورية ودعوتها للانصراف عن متاع الدنيا وحطام المادة، فقد ظلت هذه الظاهرة التي بنيت على النفع المادي وما ينشأ عنه من حب الكسب واتخاذ الربح غاية في الحياة، تعمل عملها في تكوين تلك العقلية التجارية ذات الحساب الدقيق في كل وجه من وجوه العيش حتى أبعدت السوري عما يسمونه المثل الأعلى الذي أصبح في هذا العصر مبعث النشاط الفكري وأقصت من روحه حب العمل للعمل نفسه الذي هو مصدر العبقرية الخالدة والعامل الأول في إنمائها. وليس من الصعب على المولع بدرس طبائع الأفراد والجماعات وتفهم سر تطور العقلية فيها واستقصاء عواملها الاجتماعية والروحية أن يلمس هذه الظاهرة البارزة في الجماعة السورية ويتعرف أسبابها البعيدة، على أننا مع ذلك لا ننكر أن التعرض لمثل(10/2)
هذا البحث الخطر تعرضاً علمياً لا شيء من الشعر والخيال فيه يدعو لكثير من التحليل والدرس ويتطلب تعليلاً قائماً على الاستقراء مستنداً على وصف الواقع في مختلف الأوساط والجماعات السورية وتفهم أوضاعها الروحية والاجتماعية مما لا نستطيع أن نوجزه جميعه في هذه العجالة، على أن ذلك يجب أن لا يمنعنا من أن نشير في مقالنا هذا إلى بعض تلك الوجوه الظاهرة السورية القديمة التي أوشكت أن تتصل بكل منحى من مناحي حياتنا الاجتماعية وتطفو عليها. ويخيل إلينا أن أهم ما يدل عليها هو البحث عما ينافي وجودها في مختلف الأوساط والجماعات السورية وليس من شيءٍ ينفي وجودها مثل ظاهرة التهافت على العمل حباً بالعمل نفسه أو العمل في سبيل الجماعة مجرداً عن الغاية الفردية والنفع الذاتي. وإذا شرعنا بدرس الأوساط والجماعات التي نعيش فيها، فاخترنا منها بادئ ذي بدء أوساطنا العلمية والفكرية، وعرضنا حياة أصحابها الخاصة والعامة على التحليل والدرس، تحليلاً صادقاً بعيداً عن العاطفة والهوى ومجرداً عن النزعة القومية والدينية، لعز علينا أن نجد فيهم ما ينفي هذه الظاهرة المتأصلة في النفوس أو ما يدل على ضدها من حب العمل للعمل نفسه والانصراف إليه حرصاً على تقدمه وإصلاحه أو الإقدام عليه في سبيل الجماعة أو في سبيل الخير العام. وإذا عن لك أن تردد بخاطرك ذكرى جميع من عرفتهم من مواطنيك من رجال العلم والفكر في هذا الزمن الذي تعيشه من علماء وشعراء وفنانين وأساتذة وأطباء ومحامين ومهندسين وغيرهم من أرباب الحرف الحرة المنتشرين في طول هذا الوطن وعرضه لتبين لك بوضوح وجلاء أن القوم، ونحن في مقدمتهم، على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، تجار قدماء أرغموا أنفسهم على أعمالهم أرغاماً سعياً وراء الربح لا حباً بهذه الأعمال ولا ولعاً بذاتها، فغايتهم الأولى المال، وهدفهم الأسمى النفع المادي، لا يخطون خطوة إلا ويحسبون ما يحنون من ورائها من كسب، ولا يفكرون بمشروع إلا وأنفسهم في المقدمة وربحهم قبل كل حساب، سواء كان ذلك مما يعود على العمل نفسه بالنفع أو بالضرر وسواء لديهم خسر العمل أو ربح، فالعلم والأدب والصنعة والمسلك والحرية وحتى الفن والشعر والجمال في نظرهم، واسطة من وسائط الغنى وجمع المال لا أكثر ولا أقل. لقد بلغت هذه العاطفة من نفوسهم مبلغاً أماتت فيها كل عبقرية خالدة تنشأ من حب العمل والولع به والانصراف إليه بسائق الهوى والشغف، فليس بينهم من(10/3)
وفق حتى الآن للإبداع والإيجاد وليس بينهم من استطاع الاختراع والاكتشاف بما في هذه الأسماء من معنى، وليس بينهم من قدر أن يثبت للناس أن تلك الظاهرة التجارية القديمة قد تلاشت في نفوسهم، فهم ما برحوا، بمظهرهم الروحي وعاطفتهم النفسية، أولئك الفينيقيين أبناء سورية القدماء الذين ضربوا في عرض البحر واقتحموا أمواجه ولا غاية لهم من وراء ذلك إلا ربح المال وجمعه وادخاره.
وللباحث أن يستمر في تحليل تلك العاطفة ويتتبع آثارها وعواملها في الأوساط والجماعات السورية الأخرى. فالجماعات التي تعمل باسم الأديان وتنتسب إليها، والجماعات التي تتصف بصفة السياسية وتعلن انصرافها إليها، والجماعات التي تمارس الأعمال الاقتصادية والعمرانية وتتخذها حرفة لها. والجماعات التي يتألف منها موظفو الدولة والإدارات العامة ومأموروها ومستخدموها، والجماعات التجارية والمالية نفسها، هي كلها مما يمكن للمحقق الاجتماعي أن يعرضه على التحليل والدرس بطريقة الوصف والمقايسة والاستقراء والاستنتاج بعد تفهم روحية الأفراد وتعليل العوامل النفسية التي تدفعهم إلى أعمالهم والصلات التي تربطهم بها، وبذلك ينتهي به البحث والتحليل إلى أن يضع موضع الجلاء والوضوح كثيراً من الشواعر النفسية والظواهر الروحية وويلقي عليها من نور البراهين والحجج المستمدة من وصف الواقع ما يؤيدها أو ينفيها تبعاً لما هي كائنة في ذاتها. وقد يذهب الظن بالقارئ لأول وهلة إلى أن هذه الظاهرة التجارية المادية التي يبرز من الوجهة العامة جلية واضحة عند تحليل نفسية الفرد السوري في هذا العصر هي مما يدعو لغنى الأمة السورية وزيادة ثروتها وتبسطها في مجال المدينة وأسبابها التي لا تقوم دعائمها غلا على المال مع أن الأمر على عكس ما قد يذهب الظن إليه. فتهافت الفرد على جمع المال وكسبه، وتفانيه في سبيل ادخاره واستثمار ليس هو مما يؤدي حتماً إلى غنى الأمة وازدياد ثروتها وقوتها. نحن لا ننكر، ولا من يستطيع أن ينكر، أن الجماعة تتألف من أفراد وأن الأمة قائمة بأبنائها، لكننا نعتقد ونجزم بما يعتقده علماء الاجتماع في هذا العصر أن للجماعة كياناً قائماً بذاته يفرق عن كيان الأفراد. فالفرد الذي يعمل لنفسه ولنفسه فقط لا يفيد الجماعة بشيء لان هذه الجماعة بكيانها المستقل تحتاج لأفراد مخلصين يعملون لها لا لأنفسهم ويسعون لفائدتهم، فقد يربح الفرد ويكسب فيكون في ربحه وكسبه خسارة للجماعة(10/4)
وقد يستفيد الفرد بما يضر الجماعة وقد يوسر الفرد ويغنى مستمداً ثروته وغناه من فقر الجماعة التي ينتسب إليها، وكثيراً ما يجازى على حبه لذاته وأنانيته وعمله لنفسه دون جماعته، جزاء غير المخلصين من الناس، فيذهب ما ربحه هباء منثوراً ويتسرب لغيره ما كسبه وادخره هو لنفسه، وما سبب ذلك إلا أنه ابن جماعة فقيرة ضعيفة ليس في استطاعتها أن تحافظ على حقه أو تدافع عن ماله وكيانه. هذا ولا يذهبن الظن بمن اعتادوا تأويل هذه الأبحاث تبعاً لما توحيه إليهم أغراضهم ومراميهم في الحياة إلى أننا نود أن نقول أن هذه الظاهرة التجارية التي ألححنا في وصفها وبيان عللها ونتائجها هي مما لا يتفق عم غيرها من ظواهر روحية مجيدة اشتهرت عن السوري وامتزجت بأخلاقه، فذكر الشيء لا ينفي ما عداه وتبسطنا في ذكر هذه الظاهرة لا ينفي أن في الروح السورية أيضاً من مختلف الظواهر والعواطف النفسية والميزات الأخلاقية التي مابرح السوري محتفظاً بها أيضاً من ماضيه البعيد والقريب ما يدعو للتفاخر والاعتزاز بها، فنحن إذا تعرضنا لوصف هذه الظاهرة التجارية المادية وحصرنا البحث بها دون سواها فما ذلك إلا لأننا رأينا أن الحاجة الماسة لإصلاحها تدعو للفت نظر الباحثين إليها ولوجوب تحليلها وتفهمها. فالعقلية في الأمم لا تلبث على حال واحد، فهي تابعة، ككل شيء، لنظام التطور والتغير وأساليب الإصلاح الاجتماعي القائمة على العلم الصحيح تستطيع أن تتناول كل ناحية من نواحي هذه العقلية حتى أقدم ما رسخ وتأصل فيها. وأننا إذا عنّ لنا في يوم من الأيام أن نتطاول ونزعم أننا ممن يستطيعون رسم خطة إصلاح لهذه الظاهرة الروحية في الجماعة السورية وحصر حدودها ونطاقها لما تواجدنا أمامنا ما نعالج إصلاحه من الأوضاع الاجتماعية قبل كل شيء غير العائلة السورية ونظامها القديم البالي الذي تربينا عليه ونشأنا في ظله، فالعائلة هي الحلقة التي تصل بين الماضي والحاضر، والعائلة هي الوسيط الأول بنقل آثار الماضي إلى أوضاع الحاضر، والعائلة هي الجماعة الأولى التي تقوم عليها دعائم الأمة بأسرها في الماضي والحاضر معاً. وهذا ما نرجو أن نوفق لمعالجته في مقال آخر.
كاظم الداغستاني(10/5)
طبيعة الوجود
حديث بين رابندرانات تاغور
وآينشتاين في بيت آينشتاين
بكابوت يوم 14 تموز 1930 بعد الظهر
آينشتاين - هل تؤمن بأن هناك شيئاً إلهياً مفارقاً للعالم.
تاغور - لا، أنه غير مفارق. أن شخصية الإنسان اللانهائية تشمل العالم.
لا يوجد شيء لا تستطيع شخصية الإنسان أن تكون فوقه هذا يدل على أن حقيقة الكون هي الحقيقة الإنسانية، انتخبت حادثاً علماً لتصوير ذلك. أن المادة مؤلفة من بروتونات والكترونات بينها فراغ ومع ذلك فالمادة يمكن أن تظهر صلبة. كذلك البشرية فهي مركبة من أفراد، ومع ذلك فإن بين الأفراد صلات وعلاقات بشرية تهب عالم الإنسان صلابة حية والكون متصل بنا أيضاً على هذه الصورة، فهو كون بشري. لقد تتبعت هذا الفكر في الفن والأدب وشعور الإنسان الديني.
آينشتاين. - يوجد نظرات مختلفات في طبيعة الكون:
1 - العالم من حيث هو وحدة تابعة للبشرية،
2 - العالم من حيث هو وجود مستقل عن العوامل البشرية.
تاغور. - إذا اتسق الكون مع الإنسان الأبدي عرفنا حقيقته وشعرنا بحماله.
آينشتاين. - إن هذا النظر إلى الكون إنساني محض.
تاغور - لا يوجد مفهوم غير هذا أن هذا العالم هو إنساني، ومفهومه العلمي هو مفهوم الإنسان الكلي. هناك درجة من العقل والتلذذ تجعل العالم حقيقياً، وهي مقياس الإنسان الأبدي الذي تصدر تجاربه عن تجاربنا.
آينشتاين - إن هذا الأمر هو تحقيق للذات الإنسانية.
تاغور - نعم، الذات الأبدية، يجب علينا أن نحققها بانفعالاتنا وأفعالنا نحقق الإنسان السامي الذي ليس له حدود شخصية تشبه جدودنا. العلم يهتم بما هو غير مقصور على الأفراد، فهو عالم بشري لا شخصي. يوجد الحقائق ويجمع بينها وبين أعمق حاجاتنا. أن لشعورنا الفردي بالحقيقة معنى كلياً. أن الدين يطبق على الحقيقة قيماً. والحقيقة تبدو لنا وجودية لا تساقنا وتآلفنا معها.(10/6)
آينشتاين. - وعلى ذلك تكون الحقيقة (أي الجمال)، غير مستقلة عن الإنسان؟.
تاغور - نعم غير مستقلة.
آينشتاين - إذن لولا وجود أفراد البشر لما كان ابولون بيلفيدر جميلاً.
تاغور - نعم.
آينشتاين - أني أوافقك على رأيك في الجمال ولا أوافقك على رأيك في الحقيقة.
تاغور - لماذا لا توافقني أن الحقيقة موجودة في الإنسان.
آينشتاين - لست استطيع أن أثبت صحة رأيي، ولكن ذلك هو ديني وإيماني.
تاغور - الجمال في المثل الأعلى الكامل المتحقق في الموجود الكلي.
والحقيقة هي الفهم الكامل للروح الكلية. ونحن الأفراد نتقرب منها بواسطة أخطائنا وضلالا لتنا وتجاربنا المجتمعة وشعورنا المستنير - كيف نستطيع أن نطلع على الحقيقة بدون ذلك؟
آينشتاين. أنني لا استطيع أن أثبت علمياً أن الحقيقة يجب أن تدرك مستقلة عن البشرية. ولكنني أؤمن بذلك إيماناً قوياً. اعتقد مثلاً أن نظرية فيثاغوروس في الهندسة تثبت شيئاً قريباً من الحقيقة مستقلاً عن وجود الإنسان. وسواء أصح ذلك أم لم يصح فإن هناك وجوداً مستقلاً عن الإنسان وحقيقة تابعة لهذا الوجود، إن إنكار الوجود يقتضى بالضرورة إنكار هذه الحقيقة.
تاغور. - إذا كانت الحقيقة لا تختلف عن الموجود الكلي وجب أن تكون إنسانية بالذات. ولولا ذلك لما كان الحقيقي صحيحاً، وخصوصاً الحقيقة العلمية التي لا يمكن الوصول إليها إلا بالمنطق أي بآلة التفكير الإنسانية. جاء في الفلسفة الهندية أن يراهما هو الحقيقة المطلقة، وإنه لا يدرك بالفكر الفردي، وإنه لا يوصف بالألفاظ بل يمكن تحقيقه بانصهار الفرد تماماً في اللانهائية. غبر أن هذه الحقيقة ليست من نطاق العلم. إن طبيعة الحقيقة التي نتناقش فيها هي ظاهرة من الظواهر أي أن ما يبدو حقيقة للفكر البشري - وهو بالنتيجة إنساني - يمكن أن يدعى (مايا) أي الضلال.
آينشتاين. - وهكذا حسب رأيك (الذي قد يكون مذهب الهنود) أن هذا الضلال ليس ضلالاً فردياً بل هو ضلال البشرية جمعاء.(10/7)
تاغور. - أننا في العلم نتبع طريقة تؤدي إلى حذف حدود أفكارنا الفردية ونصل هكذا إلى مفهوم الحقيقة المرتكزة على فكر الإنسان الكلي.
آينشتاين. - إذن فالمسألة هي: هل الحقيقة مستقلة عن شعورنا؟.
تاغور. - إن ما نسميه كائن في الاتساق العقلي بين الوجهات الشخصية والوجهات الموضوعية للوجود، وهذه الوجهات كلها للإنسان اللاشخصي أي الذي هو فوق الأشخاص.
آينشتاين. - ولكننا نشعر، حتى في حياتنا اليومية، إننا مضطرون إلى الاعتراف بأن للأشياء التي نستعملها كل يوم وجوداً مستقلاً عن الإنسان. أننا نفعل ذلك لإيجاد نسبة معقولة بين مسلمات الحواس المختلفة. مثال ذلك إذا أحد لم يكن في البيت فإن هذه المنضدة تبقى حيث هي.
تاغور. - نعم، إنها خارج العقل الفردي، ولكن ليس خارج العقل الكلي. إن هذه المنضدة التي أراها تدرك بشعور شبيه بشعوري.
آينشتاين. - إن وجهة نظرنا الطبيعية في وجود الحقيقة مستقلة عن الإنسانية لا يمكن أن توضح ولا أن تثبت، ولكنها اعتقاد لا يفارق أحداً حتى الإنسان الابتدائي، فنحن نقول بموضوعية الحقيقة ونعتقد أن هذه الموضوعية هي فوق الإنسان وإن الحقيقة ضرورية لنا وأننا، وإن كنا لا نعرف معنى هذا الوجود وحقيقته، نثبت للحقيقة وجوداً مستقلاً عن وجودنا وتجاربنا وعقولنا.
تاغور. - لقد أثبت العلم أن المنضدة من حيث هي شيء صلب ليست إلا ظاهرة من الظواهر، ينتج من ذلك أن الشيء الذي اعتبره العقل البشري منضدة لا وجود له إلا إذا كان العقل موجوداً. وفي الوقت نفسه يجب أن نعلم أن خالص وجود المنضدة من الوجهة المادية ليس إلا جملة من مراكز القوى الكهربائية المنفصلة والدائرة بعضها حول بعض وإن حقيقتها تابعة أيضاً للعقل البشري.
إن في معرفة الحقيقة نزاعاً أبدياً بين الفكر البشري الكلي والفكر البشري الضروري. وهناك وئام دائم يحصل بين علمنا وفلسفتنا وأخلاقناً. وعلى كل حال فإنه إذا وجد حقيقة مطلقة لا علاقة لها لا إنسانية فهي بالنسبة إلينا غير موجودة.
ليس من الصعب أن نتخيل فكراً لا يطلع على الأشياء ضمن نطاق المكان بل داخل الزمان(10/8)
كترتيب الأصوات في الموسيقى. إن مفهوم الوجود بالنسبة إلى هذا الفكر متصل بالوجود الموسيقي الذي لا معنى للهندسة الفيثاغورية فيه. إن حقيقة وجود الورق مختلفة تماماً عن حقيقة وجود الأدب. فالأدب غير موجود بالنسبة إلى الحشرات التي تأكل الورق، ولكن بالنسبة إلى عقل الإنسان للأدب قيمة أعظم من حقيقة الورق. وبالصورة نفسها إذا كان هناك حقيقة ليس لها بفكر الإنسان علاقة حسية أو عقلية فلا قيمة لها بالنسبة إلينا ما دمنا بشراً.
آينشتاين. - إذن، أنا أكثر إيماناً منك
تاغور. - إن ديانتي هي في الاتفاق بين الإنسان اللاشخصي (أي الفكر البشري الكلي) وبين الوجود الفردي. وهذا هو موضوع محاضراتي في هيبر التي سميتها ديانة الإنسان.
نقلاً عن ديانة الإنسان
لتاغور(10/9)
الحدس والخيال
قد أخطئ فيحاول عقلي أن يثبت ما توهمه حسي فلا أصل إلى نتيجة، بل أشعر بفساد الحدس الأول وأعجب من محاولتي البرهان على شيء باطل، ذلك لأن الحدس الأول قد تولد من علاقات حسية، واتفاقات محدودة، فعممت نفسي ما شاهدته، وظننت أن ما ينطبق على هذه الأمور المحدودة ينطبق أيضاً على غيرها. . . فما أكثر الخطأ الذي يتولد من التعميم.
لو كان الإنسان قليل الخيال، مقيد الإرادة لخف الخطأ. ولكن الخيال زهرة، وهو نفسه يقود الإنسان إلى الهاوية.
ولو كنت مؤيد النفس بشدة الصفاء لما أخطأ حدسي، غير أن حجاب الحس الكتيف يمنعني من النفوذ إلى أعماق الأشياء.
إذا أشرق الحدس وانبلج النور، صمت العقل، ونطق الخيال.
حدسي وخيالي هما سبب حزني لا بل علة سروري، ولعلهما كانا أيضاً علة وجودي. . . فيا ليتني كنت ضعيف الحدس، ميت القلب قليل الخطأ، ضيق الخيال.
جميل صليبا(10/10)
مذهب في قصة
زواج يقود إلى السعادة وزواج يقود إلى السجن
بقلم الدكتور منير العجلاني
عاش الدكتور جميل في باريس، كما عاش (راما) في الغابة المقدسة، لم يعلق فؤاده بحب، ولا شغف بلعب، ولا أخذ بشيء مما يؤخذ به الشبان. وقد عاد إلى البلاد، طاهراً كالنار، ثابتاً كالجبل. .
كان في حياته المدرسية، في دمشق، أحب فتاة مسيحية تدعى إيفون وهي على حظ كبير من الجمال والتهذيب، ولها صوت حنون يزيدها رواء، ويعطي كل شيء حولها قلباً يفيض بالحب ويتذكر. . .
لم يكتب إليها منذ سنوات، ولكنه كان مطمئناً إلى أخلاصها، عارفاً أنها تنتظره، وقد رآها أمس في حلمه، بل قد عاش حيلته كلها في حلم الليلة الفائتة.
رأى نفسه في مدرسة السيدة ماري أم إيفون، طفلاً بكاءً لجوجاً، تمازحه ايفون وتطايبه وتبدل دمعته ضحكة عالية!
ثم رأى إيفون في أغنى حلة لبستها طفلة، تغني وتعزف على البيانو، بين يدي مفتش للمعارف يطرب لها أي طرب، ويبشرها بمستقبل عظيم، ويقول لوالدتها: إن فتاة لها جمال بنتها وفنها، يجب أن تكون زوجة باشا!
أزعجت جميل هذه النصيحة البغيضة، فهجم على المفتش يلكمه ويشتمه، ولكن المفتش قابل غضبه ببرودة هائلة، لأن السيدة ماري أفهمته السر: فقد وعدت (جميل) بأن تكون إيفون زوجة له، تسكن معه في بيت واحد وتغني له صباحاً ومساء لا تطلب منه لقاء ذلك إلا أن يحفظ دروسه ويصلح سيرته، فكيف يريد مفتش المعارف أن يزوجها، متى كبرت، من باشا، لم يحفظ دروسه ولا تأدب ولا مزية له سوى أن له شاربين طويلين، وصوتاً ضخماً؟
استعرض جميل صور حبه واحدة واحدة، وانتهى به المطاف إلى يومه الحاضر وقد بلغ به هو وايفون سن الصبا العنيف، فأخذ صورة ايفون وأنشد بصوت سحبه من أعماق نفسه:
يا قبلتي في صلاتي ... إذا وقفت أصلي!(10/11)
فعاشت الصورة في يده، أجل خرجت ايفون بلحمها وعظمها من الصورة وقالت له بصوت مارت له كل ذرة في جسمه:
أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الذي ... يضركم، لو كان عندكم الكل!
ثم عادت ايفون إلى الإطار، وإنه ليرقب هذه الأعجوبة، إذ دق الباب، ودخلت الخادم تدعوه إلى الفطور، فغادر أحلامه اللذيذة. . .
- 2 -
في غرفة الطعام، التي تمثل ناحية من ارستقراطية العائلة ومحافظتها، جلس الأب محمد باشا في جهة من المائدة، وإلى يساره الأم وفي الجهة المقابلة جميل وأخته زليخا.
ساد سكون رهيب، ثم قال الأب:
- جميل! أريد أن أقول لك في صراحة لا التواء فيها أمراً يهم العائلة، أمر زواجك!
وساد السكون مرة ثانية ثم قالت الأم:
- أعرف فتاة من أحسن البنات أخلاقاً، هي بنت أحمد باشا، الشريف العريق والمثري الكبير، لها اسم حلو هو اسمك (جميلة) وافق أبول على أن نخطبها لك أحس جميل الذي أحب إيفون ولم يفكر في غيرها، أن صاعقة تنقض عليه فتحطمه تحطيماً، ولكنه جمع المتناثر من قواه، وقال بصوت متقطع:
- أيسمح لي سيدي الوالد بكلمة؟
أجابه الأب: قل ما تشاء وأنس أنك في حضرة أبيك.
قال: إن أمر الزواج يستلزم تفكيراً طويلاً.
قال الأب: ولكننا نفكر فيه منذ زمن طويل. وقد عرف الناس جميعاً أن جميلة ستكون زوجتك. . لأنها خلقت لك، ولأنك أنت خلقت لها. . . .
قال جميل - وكيف أتزوج امرأة لم أرها ولم أسمع حديثها؟ يجب أن أحب قبلاً ثم أتزوج. .
قال الأب - إن زليخا تغنيك عن رؤية جميلة والتحدث عنها، فبلاغتها أبرع في التمثيل من آلة المصور. أسمع ما رواه الأصمعي عن (عصام) التي وجهها الحرث الكندي إلى ابنة عوف لتراها وتمتحن ما بلغه عنها، وقد وصفتها له بما هو أفضل من رؤيته لها. فقالت:(10/12)
(رأيت جبهة كالمرآة الصقيلة، يزينها شعر حالك. . . إن أرسلته خلته السلاسل، وإن مشطته قلت وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلاها الوابل، ومع ذلك حاجبان كأنهما خطا بقلم أو سودا بحمم، قد تقوسا على مثل عين الظبية. . بينهما أنف كحد السيف المصقول لم يخنس به قصر ولم يمض به طول، حفت به وجنتان كالأرجوان، في بياض محض كالجمان، شق فيه فم كالخاتم لذيذ المبتسم، فيه ثنايا غرر، وأسنان تعد كالدرر، وريق كالخمر له نشر الروض بالسحر. . . . وقد تربع في صدرها (صدر كتمثال الدمية) حقان كأنهما رمانتان، من تحت ذلك بطن طوي كطي القباطي المدمجة. . خلف ذلك ظهر كالجدول ينتهي إلى خصر، لولا رحمة الله لأنخذل. ولها ساقان خدلجتان كالبردي يرى من صفائهما مخ العظام، ويحمل ذلك قدمان لطيفان، كحرف اللسان، تبارك الله مع صغرهما كيف يطيقان حمل ما فوقهما) الخ. الخ.
ألا ترى يا جميل كيف أن الوصف يغني عن الرؤية؟ إنني أرى بنت عوف، كما رأيت أمك قبل الزواج بما حدثوني عنها!
قال جميل - أما أنا يا والدي فقد أتصور ابنة عوف كالتي تتصورها، ولكنني لا أحبها. . أو قد أحب صورة لها أتخيلها ولكنها لا تشبه صورتها الحقيقية، فأنكب إذا ما رأيتها في أملي وخيالي، يجب أن أرى أولاً. .
قال الأب: ولدي! ألم تكتب إلي أن إقامتك في باريس بعثت في نفسك الكره لكل ما هو غربي وزادتك بأخلاق بلادك إعجاباً. اليوم جاءت الساعة لتقدم الدليل على ما قلته. لقد أصبحت ملكاً لنا، ملكاً لهذه البلاد التي تبرهن على حبك لها بإتباعك عاداتها. إن العائلات السورية لن تمكنك من رؤية بناتها والتحدث إليهن، وإذا استطعت أن ترى خلسة فلن تستطيع أن تكاتب، وإذا استطعت أن تكاتب فلن تملك أن تتحدث، وإذا تحدثت، فبغير ما يروي الظمأ. إن بعض العائلات تتساهل في هذه الأمور، وأما العائلات العريقة في الشرف والتقوى، فما زالت محافظة، وزوجتك يجب أن تكون من هذه العائلات المحافظة، فلا طمع إذن في أن تراها!
قالت زليخا: ولكن عندي صورة جميلة. هاهي - ودفعتها إلى أخيها!
أخذها جميل وتأمل فيها طويلاً ثم قال:(10/13)
- لا أقول أنها قبيحة، فقد يعجب بها غيري، ولكن هذا الشكل ليس بالشكل الذي أحب، كلا ولا الشكل هو كل ما أحب حتى أقنع برؤية الصورة.
إن الإنسان لا يحب الجسم وحده، على أن نفسي تحدثني أنني لن أحبها. .
قال الأب: هل خيرت يا ولدي في حب أمك؟ أنك أحببتها بعد أن عرفت أنها أمك، لم تخير فيها ولا خيرت في حبها. هكذا زوجتك. إنك ستجدها غداً إلى جانبك، وستحبها لأنها تحبك ولأنها أم أولادك.
وي! تريد أن ترى وتتحدث، وتنتقل كالنحلة من فتاة إلى فتاة، تحب هذه شهراً، وتلك شهرين، والثالثة نصف عام، تبقي عند هذه ذكريات، وتحتفظ من تلك ذكريات، تثير هنا شكوكاً، وهناك حقداً، حتى تصل إلى فتاة تحبها حباً عنيفاً يسوقك إلى الزواج، وبعد أن تتزوج يبرد الحب وتعرف أنك كنت مخدوعاً وأن بين اللائي عبثت بقلوبهن من كانت أجدر بحبك! لا، إن هذا الأسلوب الغربي الجاني لا يعجبني قط! تزوج فتاة لم تحب قبلها أحداً، ولا ترجو أن تحب بعدها أحداً، وإذا كان فيها نقص بسيط لم يفطن له الذين خطبوها فأنسه كما تنسى عيوب أمك وأبيك وأحبها كما تحب أمك رغم نقائصها، أحبها حتى في عيوبها! ولدي، أنا ما دعوتك لأسألك رأيك، فأنا أعرف بسعادتك منك. إن جميلة خطبت لك! قضي الأمر! تظن أنك لن تحبها، ولكنها اجتمعت لها كل المزايا الحسنة. . . . وغداً ستلبسها من وراء الباب خاتم الخطبة، فترى يدها اللطيفة. .
- 3 -
غادر جميل الدار بحجة أنه يريد أن يزور طائفة من أصحابه، ولكنه قصد إلى حانة قريبة فتناول شيئاً من المسكر وذهب إلى دار السيدة ماري، حيث كانت ايفون تنتظره.
شعر أن السكر بدأ يأخذ منه، فقال لايفون: أقسم لك أنني ما تناولت مسكراً في صباي إلا اليوم، أجل سكرت اليوم ولكن من أجلك. جئت لأطلب منك أن تكوني زوجتي، جئت لأقول لك أنني أعبدك.
قالت له في لطف كثير: ولكن الربة لا تكون زوجة لعبدها، قد تكون صديقة، فلنبق صديقين. أنا أعرف يا جميل أن لك خطيبة، ولكنني أحبك للصداقة الماضية ولإعجابي بك، ومادمت كاتباً فسيكون لي نصيب من قراءة أدبك، ولن تبخل علي بزياراتك، كما كنت(10/14)
تفعل وأنت في المدرسة. إن الفتيات اللائي يولدن في عائلات متواضعة مثل عائلتي لا يتزوجن من الأشراف الأغنياء، واذكر أنك مسلم وأنني مسيحية وأن من غير المألوف زواج المسلم من المسيحية.
قال: ولكنك أجمل فتاة على الأرض، وأغناهن مزية! لا تظني أن الخمر يملي هذا القول، إنه يحل عقدة لساني، هذا كل ما في الأمر. أنت زوجتي، أما خطيبتي، فليست خطيبتي. . . . قالت: كيف ذلك! إن أمك وأباك يريدانها بكل قواهما. وإن للأم والأب حقوقاً يجب أن تحترم. .
قال: ايفون، أن لي في حياتي ثلاث رسائل: أن أحب وطني، وأن أحب عائلتي، وأن أحبك. فإذا كرهتني، وكرهتني عائلتي، فلن استطيع أن أخدم الوطن، لأنكما مصدر عبقريتي، وماذا يبقى نمن عبقريتي، ماذا يبقى من قلبي، إذا زلتما منه؟ قطعة من اللحم! أنا لم أشرب الخمر، ولكن حياتي كانت سكرى. كنت أسكر من رؤيتك، ومن حديثك، ومن ذكراك، وكان يحبب الحياة إلي إنك ستكونين رفيقتي فيها، وإن روحي ستقرن إلى روحك.
وكان بينهما جدل طويل، يطلب وتدفعه وفي النهاية قال لها في حزم كثير! ايفون، هل تعتقدين أنني إذا قلت أفعل؟
قالت نعم، أنا أعرفك، وما أظن أن الغربة بدلت من طباعك، فهي متأصلة فيك!
قال: إذا لم تلبي ندائي، فلن تريني ولن يراني أحد، لأنني بعد أن أفقد ثقتي بك، يفقد العالم في نظري كل جمال. . لا تظني أنك تضحين نفسك من أجلي برفضك، فرفضك تضحية بي قبل كل شيء. هلمي، أجيبي، أتقبلين؟ قال ذلك وأنشأ ينظر إليها، وقد بدت في ثوبها الحريري الأزرق الشفاف فتنة من الفتن، ليست التي رسمها عصام إلى جانبها، إلا تشويهاً، أنشأ ينظر إليها نظرة كلها استعطاف، فأجابته بصوت ناعم، والدمع يترقرق في عينيها: إذا أردت. . .
- 4 -
مأساة وسعادة
مضت أشهر على زواج جميل، وقلب الأب لم يلن. . يكتب إليه فلا يجيبه ويزوره فيتوارى عنه، ويهدد كل من يختلف إليه بغضبه وحرمانه من الإرث!(10/15)
عانى جميل كثيراً من العذاب في بيروت التي هاجر إليها طلباً للحياة، ولكن زوجته ايفون كانت له اللطف سلوى. .
وفي ذات يوم تلقى جميل زيارة أخيه البكر خالد، فسأله عن حياته الزوجية فأجابه بكلام كان يخرج من صدره كأنه قطع من الجحيم، أن زوجتي (حدراء) مسافرة في لبنان، مع أبيها، وقد سميتها (الحلقة المفقودة) لأن الإنسان يحار في أي الصنفين، القرد أو الإنسان، يضعها. لقد اختارتها لأي أمل. لأنها قبلت يديها بخشوع، وتقبيل اليد معيار الأدب والجمال عند أمي الطيبة القلب! حدراء معجبة بنفسها إلى آخر حدود الإعجاب، شكلها يشبه شكل العجائز وحديثها تزهق منه الأرواح، ولكن لها من عناصر الجمال شيئاً واحداً شعرها الأسود الذي تنفق عليه بلا حساب، وجميع أحاديثها مع ضيفاتها تدور حول جمال الشعر! يحبها والدها، لما تتظاهر به من تقوى ويصطحبها في أسفاره، ولكن غيباتها لسوء حظي قليلة وسعادتي قصيرة. أتعاتبني حدراء لأنني أسكر ولم تعرف أنني أسكر من شقائي بها! سألني أمس أحد المسيحيين: لماذا يباح للمسلم أن يتزوج مسيحية، ولا يباح للمسيحي أن يتزوج مسلمة، فقلت له: ماذا؟ أتريد أن تشتري شيئاً مغلفاً لا تعرف ما هو؟ وانتظر على الأقل حتى يكون سفور وترى ما وراء الحجاب، فأما ملكاً. .
قال ضاحكاً: وأما غولا. . .
فتركته وأنا كالأحمق. . لأن هذا اللقب ينطبق تماماً على زوجتي. . نعم، أنا زوج غول! أعيش مع غول، وسيكون نسلي من غول!. .
وداعاً يا أخي! إن سعادتك لا تقدر. . . . . .
ثم فر خالد فوراً. . . مما بعث الدهشة في نفس جميل، الذي لم يستطع أن يدركه، ولكنه، في صباح اليوم الثاني، أخذ من أبيه الرسالة الأولى، بعد التقاطع، وقد جاء فيها:
حكم القضاء على (مساعد) زوج (جميلة) بالسجن ثلاث سنوات لأنه ضرب زوجته وجرحها جرحاً بليغاً! هجر أخوك المنزل العائلي هرباً من (حدراء) سافر فجأة إلى أمريكا. أمرضت أمك الهموم. تعال يا ولدي. الآن فهمنا أنك كنت على حق في رفضك الزواج من جميلة. تغيرت فكرة العصر فوجب أن يتغير الأسلوب. بلغ من جنوني أنني حرمتك من أرثي وعطفي، فاغفر لي حماقتي. عدنا إليك يا ولدي فعد إلينا، مع زوجتك الفضلى التي(10/16)
ننتظرها بشوق. الخ. . . . .
وهكذا دخلت فتاة مسيحية في عائلة محمد باشا، الشريف السوري العريق في النسب والتقوى وكانت من أسباب سعادته!
فلماذا لا يتكرر هذا المثال؟. . . .
دمشق في 16 حزيران
الدكتور منير العجلاني(10/17)
موموس
إله المرح
لو سألتني من هو إلهك الذي تفضلين عبادته على الآلهة جمعاء، من تلك الآلهة التي لا يحصى لها عدد، أو من تلك التي لا نعرف لها أسماً
لما اخترت مارس إله الحرب معبوداً، ولامورفيوس الذي يكلأ الناس وهم نيام كيلا يقض مضاجعهم عبث العوادي.
ولافينوس، إلهة الحب والجمال، المضرمة في العقول نار الإلهام، عليها السلام
لأني لا أعبد سوى إله واحد، هو موموس إله المرح والطفر
ما أنا ممن يقدسون كويرنوس إله الصحة، الرائف بالمستضعفين والأقوياء.
ولا أنا ممن يبجلون اسم بلوتوس إله المال القادر على كل شيء، لما يفيض من رخاء أو يسبغ من نعيم
ولا أنا ممن يمجدون بلوتوس إله العمل، معبود الحيويات النارية، ورب القلوب الغضة
لكل هؤلاء الآلهة مني أعظم الإجلال وكل التقدير
بيد أني أعبد، فلا أعبد إلا موموس إله المرح البهيج!
ما أنا ممن يعبدون أبولو إله الظلام، المقنع بقناع الدجى كيلا ينعكس علي ضياء.
ولا منيرفا آلهة الحكمة الرصينة الناظرة إلي نظرات الحيرة والدهشة والعتاب
لأن إلهي الذي أعبد هو موموس الباسم إله الطلاقة الإيناس
ذاك الذي تحسدني على عبادته ملوك الأرض وملكاتها تلهفاً للحصول على رضاه
أننا لنسأم الحكمة أحياناً.
وإن للحب أجنحة تصفق فيطير
وإن المال ليبهظ الأعناق
وإن في اللذاذات لخلجات متبوعة بالندم والأنات
وإن في كل أكليل من أكاليل المجد والفخار لشوك اليم لاذع حتى هبات الآلهة تنبذ كلها، ويقذف بها جانباً، حين تنهمر في سبيلها سيول المصائب، وتتفاقم طعماً بها أنواع الشرور
أما هبة إله المرح ذلك الإله الفكه الطروب(10/18)
فهيهات أن تسأم منها نفس أو يعافها قلب
بل هيهات أن يتلقاك صاحبها إلا بما يشف عن نشوة وخفة وتأود أعطاف فالسلام عليك ياموموس، أيها المعبود الطلق محياه، الملهمة أساريره!
السلام عليك أيها الإله السعيد طالعه، المفترة ثناياه!
أنك لمهوى أفئدة العالمين وعلاج لنشجات الباكين
عن ايلا ويلر ولكوكس
ماري عجمي(10/19)
الروح
أو
الفن!
بي أزروا قدما وقد جهلوني ... فسأزري بهم متى عرفوني
لم يروني شيئاً وقد كنت شيئاً ... وكثير عمى الحجى لا العيون
حسبوا اليوم أنهم أبصروني ... أبصروا مظهري ولم يبصروني
لو صفت منهم النفوس رأوا نفسي ... ولكن قد كونوا من طين
ولو أن الإله يخلق الأجسام ... لم يعرفوه في أي دين
تعرف الله أنفس زاكيات ... لبصرت ربها بعين اليقين
عارف الله بالجسوم كمن يغدو ... بحب الأصنام كالمفتون
والذي يعرف الإله من النفس ... رآه بالعلم لا بالظنون
بجلوني لنظم شعري وقدما ... عرفوني روحاً فما بجلوني
يعرف الشاعر الحقيقي من روح ... تسامت لا مقطع موزون
قدروا فني الجميل فلم أعبأ ... بتقديرهم فما قدروني
لم يهيموا بالروح مبدعة الفن ... وهاموا من دونها بالفنون
تخلد الروح لا الفنون ولا اللون ... ويبقى ملون التلوين
إن كل الفنون مثل فقاقيع ... ببحر النفس الغريب الشئون
أحمد الصافي(10/20)
الحضارة الحاضرة
وواجب التربية
تعريب الأستاذ عبد الحميد الحراكي
ظهر مؤخراً كتاب قيم بقلم الاقتصادي الفرنسي المعروف لوسيان روميه تحت عنوان إذا اضمحلت الرأسمالية عالج فيه الأزمة الاقتصادية وتعرض بصورة خاصة إلى الناحية الاجتماعية الإصلاحية. وبسبب الفضائح المالية في فرنسا فقد استرعى هذا الكتاب أنظار المفكرين الذين يبحثون في طرق الإصلاح الاقتصادي. وفيما يلي مقالة للكاتب الفرنسي (جورج غي - غران) عن هذا الكتاب نقلها إلى العربية الأستاذ عبد الحميد بك الحراكي ننشرها لفائدة القراء:
إنه الفضائح المتنوعة التي اجتاحتنا مؤخراً قد هزت الرأي العام هزاً عنيفاً لم يقف عند انفجار التظاهرات الصاخبة في بعض المدن الكبيرة بل تعداه إلى أثاره السخط العام في جميع أنحاء البلاد. وإذا نحن لم نشاهد آثار هذا الاشمئزاز مرفوقة دائماً بالاحتجاج واللغط الشديد فأننا قد لاحظنا أشياء ربما كانت أشد خطراً وأوقع أثراً إلا وهي الاحتقار والنفور الصامت من قبل أصحاب الشرف وأهل الفضل.
وحقاً فإن نفرة أرقى طبقات الشعب على النظام السائد وعدم ثقتهم به لشيء له خطورته لاسيما في وقت كثرت فيه الحملات العنيفة على النظام البرلماني في أوروبا وفي وقت كان يجب أن يستند فيه هذا النظام على إدارة نزيهة لا يعتروها الخلل والفساد ليستطيع أنصاره الدفاع والمحافظة عليه. ولكن لم ينكشف لنا من هذا النظام حتى الآن إلا نواحيه المتفسخة. . .
لاشك أن هناك كثيراً من مشاريع الإصلاح تقدم بها أصحابها ليظهروا للملأ بصورة واضحة بعض النواقص والعيوب الأكثر ضرراً في هذا النظام كما اقترح كثير من وسائل العلاج التشريعية التي لا غنى عنها ولكن هذه الأدوية لا يمكن أن تؤثر وتكون ناجعة إلا إذا تم تطبيقها فعلاً. وفي الواقع أن الذي ينقصنا أكثر من كل شيء هو التطبيق الجدي الفعال المتواصل.
فالمشاريع والاقتراحات الجديدة تلقى في سلة المهملات وتستغرق في سباتها العميق مثل(10/21)
غيرها من المشاريع والأنظمة التي لم تطبق وهكذا تستمر الحالة حتى تقع فضيحة جديدة أو كارثة حديثة تدعو اليقظة.
لماذا نرى هذا الخلل في جميع المؤسسات؟ ولماذا لا يعمل بالقوانين والأنظمة؟
هنا نصل إلى المسألة الحقيقية التي تتلخص في ضرورة إصلاح الأخلاق والآداب والعادات.
ليس معنى ذلك أن الأشياء يمكن إهمالها ولا لزوم لإصلاحها. فإن بين المؤسسات وبين الآداب والعادات نفس العلاقة الموجودة بين الطبيعة والأخلاق أو بين المادة والعقل. وبما أننا لسنا عقولاً محضة فإن أفكارنا وعواطفنا مقيدة ومتأثرة، إلى درجة ما، بالبيئة الطبيعية والمحيط السياسي والاجتماعي الذي نعيش فيه. ولكن، من جهة أخرى، لا يمكن أن يكون في المؤسسات من الحياة إلا بقدر ما نستطيع نحن نفخه فيها. فأن التقيد والتأثر ليس مطلقاً وقاطعاً بل في مقدورنا تحويره تصحيحه. وبالنتيجة فأن قيمة المؤسسات والقوانين إنما ترجع إلى قيمة الأشخاص القائمين عليها. هذه حقيقة قديمة جداً.
نعم، إنها حقيقة قديمة ولكنها مع ذلك جديدة دائماً ومن المفيد في كل وقت التذكير بها. وهذا ما قام به مؤخراً المسيو (لوسيان روميه) في كتاب يدل عنوانه على أنه من وضع رجل اقتصادي إلا أنه في الحقيقة ينطق بلسان رجل أخلاقي، بل أخلاقي منهمك بصورة خاصة في قضايا التربية.
إننا نتأكد من ذلك منذ المباشرة في مطالعة المقدمة. فأن المؤلف يتساءل هنا: هل يجب إصلاح الأشياء أم إصلاح الأشخاص! ثم يتأخر في إعطاء الجواب منذ الجملة الأولى التي تبين لنا روح الكتاب والغاية منه إذ يقول: يعيش إنسان اليوم قي وهم خطر. فهو يعتقد أن الخير والشر في الأشياء لا في الأعمال، في حين أن الخير والشر ليسا في الأشياء نفسها بل في الناس القائمين عليها.
وما دام الأمر كذلك فمن الضروري أن لا نذهل عن القضية الأساسية وهي البحث في المسؤولية الشخصية. فإذا اضمحلت الرأسمالية إنما يقع الذنب على الإنسان الذي لم يحسن التصرف بها ولم يعرف كيف يجعلها صالحة للبشرية ولائقة بالإنسانية.
وإذا قدر للاشتراكية الفوز فأن حظها الحقيقي في البقاء مدة طويلة سيتوقف على مقدرة(10/22)
إتباعها ومقدار جهودهم لجعلها صالحة للحياة.
وما يقال في الاشتراكية يقال أيضاً في الديمقراطية لم يمارسوا الفضائل والمزايا التي بها وحدها يمكن تحقيق هذه الفكرة. والأنظمة والتعاليم الجديدة التي تنتقد الديمقراطية أو تطمع في أن تقوم مكانها إنما تستفيد مما يزينها من بهجة التجدد وتستثمر حماسة أنصارها المؤسسين.
ولكن هذه أيضاً لابد أن يصبها بدورها الهرم وتبلى بالابتذال إذا لم يكن إتباعها قادرين على تجديدها وبالاختصار فإن المسألة الأساسية ليست الدعوة الكلامية لمختلف الكلمات المنتهية بحرفي (يه) - مثل ديمقراطية، اشتراكية، فاشستية - بل التفتيش عن الحقائق التي تشتمل عليها هذه الكلمات وفي الدرجة الأولى السؤال عن الأشخاص الذين يمارسونها. أما الوهم بأنه من الممكن استبدال مسؤولية الأشخاص الذاتية والاجتماعية بمسؤولية الدساتير والأشياء المفروضة فتلك فكرة ستوصلنا حتماً إلى الفوضى المطلقة. لأننا بحجة إدارة الأشياء نهمل إدارة الناس
وقد ضرب لنا المسيو (روميه) مثلاً لإيضاح أساس فكرته بصورة بارزة إذ تعرض إلى مسألة الاقتصاد المنظم الذي شاع في هذه المدة. فهو يقول بأنه من المؤسف الطمع في ذلك لأن المادة أو الاقتصاد لا يمكن أن تتصف بالحكمة والتدبير والشعور بثقل المسؤولية. ولذلك فأن إدارة الشؤون الاقتصادية يظهر عليها كأنها إنما اخترعت لتساعد على حماية المجرمين، ليس بتسهيل السبل لهم للتفكير عن ذنوبهم فحسب بل أيضاً لإعطائهم في ارتكابها.
يظهر أن هناك سوء تفاهم وجدالاً فارغاً حول الكلمات. وفي الحقيقة يجب أن لا نطلب من الأشياء ما لا يمكن تكليف غير الأشخاص به. على
أن عمل الإنسان إنما يظهر في الأشياء. وبهذا المعنى ينبغي أن يكون هناك اقتصاد منظم كما هو الأمر مع السياسة المنظمة أو مع الأشغال الخاصة والعامة المنظمة. فأن الأشياء، بصفتها غير عاقلة، لا يمكن أن تدير نفسها بنفسها بل أن الإنسان هو الذي يقوم بذلك. ومتى أهمل أمرها تحدث الفوضى والاضطراب.
فما هو إذن السبب في أن فكرة الاقتصاد المنظم تصادف في الوقت الحاضر ميلاً شديداً(10/23)
ومساعدة قوية لدى الكثيرين من أصحاب العقول النيرة؟
ذلك لأننا قد شاهدنا نتائج سياسة عدم التنظيم. وترك الأمور تجري كما تريد فأن هذا قد انتهى بنا إلى الفوضى وهو السبب الأساسي في الأزمة الاقتصادية الحاضرة.
ولكن من جهة أخرى لاشك في أن مبدأ تدخل الحكومة في جميع شؤون الاقتصاد سيكون خطراً آخر في الظروف الحاضرة التي نرى فيها آثار التطور السياسي والاقتصادي السريع لأن هذا التدخل ربما يؤدي إلى عرقلة وقتل كل حياة وفعالية. وهذا هو السبب في أن النظر بين الاقتصاديين المجددين حقاً مثل (هنري دومان) قد أخذوا يعدلون عن المبادئ والتعاليم القديمة ويحاولون التوفيق بين العمل الشخصي وبين تدخل الحكومة. ولا يخلو من فائدة أن نشير إلى أن الحركات الفكرية الحاضرة التي ترمي إلى التعديل في مبدأ حرية الاقتصاد من جهة وفي الاشتراكية الماركسية من جهة ثانية إنما ترجع إلى أساس واحد فان كل واحد من الاتجاهين متمم للأخر، وغايتهما قلب الأشياء الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا من قبل الإنسان.
وكذلك يتبين بأن النظرية (السنت سيمونية) القائلة بضرورة حكم الإنسان إلى إدارة الأشياء لا يمكن قبولها على علاتها. نعم، إن مبدأ هذه النظرية هو الرغبة المحدودة التي ترمي إلى استبدال العمل الإرادي بالعلم ولكن الأشياء أيضاً إنما تدار في النتيجة من قبل الأشخاص ولذلك يجب السعي لجعل هؤلاء أهلاً ليكونوا مديرين أي أن يصبحوا حكاماً صالحين.
إننا، بعد هذه الملاحظات في تعريف الأشياء، لا نستطيع إلا الموافقة على آراء المسيو (لوسيان روميه) الأساسية. فأنه من الضروري تهذيب ومراقبة الأشخاص المسؤولين من الوجهة الأخلاقية ثم تأديبهم بل ومعاقبتهم. ولاشك في أنه من المتناقض في الإدارة أن نسعى لإصلاح الأشياء قبل المباشرة في إصلاح الأشخاص القائمين عليها وليس ما نراه من انحطاط الوجدان المسلكي، الذي أظهرت لنا الفضائح الأخيرة أمثلة مؤسفة له، إلا نتيجة لازمة لفقدان الأخلاق والتربية.
أما فيما يتعلق بالتربية بصورة خاصة فإن المسيو (روميه) يعطينا أحكاماً قطعية وهو يشبه من هذه الناحية (ارنست لاويس) قبله مع اختلاف زهيد في وجهة النظر إذ أنه يتكلم عن إهمال التربية وفقدانها ويقول لإثبات ذلك أن التربية الحاضرة عاجزة عن تهيئة الناشئة(10/24)
للقيام بالمهمة الملقاة على عاتقها وغير قادرة على تكييف العقول والقلوب والإرادات وفقاً للانقلابات العظيمة التي تمت في العالم منذ القرن التاسع عشر.
وإذا تساءلنا عن هذه الانقلابات نرى المؤلف يبدي كل اهتمام تجاه انقلاب واحد أساسي حدث في النظام الاقتصادي وأخذنا اليوم نشعر بتأثيره ونرزخ تحت أثقاله وهو تحول الرأسمالية التي كانت قائمة على التوفير في البلاد القديمة إلى رأسمالية مغامرة تسعى وراء الصفقات المالية الكبيرة كما نراها في البلاد الناشئة جديداً.
إن النظام الرأسمالي الذي ساد الحياة الصناعية لم يكن حتى سنة 1914 ليخرج في اتساعه عن حدود ومقاييس القوى البشرية. لقد كان الربح هو الدافع والمحرك ولكنه كان مقيداً ضمن نطاق المبادئ الأخلاقية.
ويمكن أن نلخص صفات العمل والجهد الأوروبي قبل الحرب العامة بما يلي: التنافس والتسابق والاستقلال النسبي عن التقاليد وعدم التقيد بالغايات الاجتماعية بالنظر إلى التقلبات المادية، ثم وجود توفير مكتسب، مستقل شخصي أو عائلي والسعي وراء التقدم والتجديد في كل مشروع، وأخيراً الفردية في جميع المشاريع والثروات والمسؤوليات الاقتصادية.
ولكن بعد التطور المدهش الذي تم في بلاد ما وراء البحار وفي البلاد الأوروبية التي اقتدت بها قد أخذت الرأسمالية شكلاً يختلف كل الاختلاف عن السابق. فأنها عوضاً عن التمسك بفكرة التوفير والاقتصاد نراها قد التفتت إلى المضاربة والمصافقة. وهكذا صارت المصارف هي التي تسيطر على الصناعة وتملي عليها قوانينها كما أن المال هو الذي تولى الحكم على الإنتاج. وها هي رؤوس أموال التوفير حيث لم تبدد وظلت محافظة على شيء من أهميتها قد أصبحت بعد عشر سنوات فقط من الحرب، كأنها حطمت من قبل رؤوس أموال المضاربة فهي مرغمة على مشاركة هذه الأخيرة في الخسائر وعاجزة عن الدفاع عن نفسها.
إن هذا التطور كان ضرورياً لا يمكن اجتنابه إلى حد معين. وهو لم يكن وخيماً من كل الجهات. إلا أنه كان ينبغي للسيطرة عليه وإدارته أن يتلاءم مع واجبات الأخلاق والتربية. وهذا ما لم يحدث. ولهذا فأن المدينة الحاضرة قد اعتراها التزييف والخلل من جراء(10/25)
التناقض والاختلاف بين الوضع الاجتماعي وبين الأفكار السائدة فأن الوضع الاجتماعي العام خاضع لسير الرأسمالية بينما المبادئ الفكرية والأخلاقية المتوارثة عن الأوضاع الاجتماعية القديمة ليس لها أي تأثير في النظام الرأسمالي.
ولآن لنتقدم خطوة أخرى إلى الأمام ولنتساءل لماذا هذا الاختلاف والتناقض بين الوضع الاجتماعي وبين المبادئ الأخلاقية؟
يجيب (روميه) على ذلك بأن ليس واحدة من الطريقتين السائدتين في التربية اليوم يمكنها القيام بحاجة الجماعات الحقيقية فأن أحداهما نفعية محضة تقتصر على تعليم الناشئة المعارف والقواعد التي تستطيع تأمين الحياة بها ضمن أية مهنة كانت فهي ليست تهذيبية البتة.
وتلقاء ذلك نرى التربية الأخرى التي تسمى مدرسية والتي ترمي إلى التهذيب ولكن عن طريق تنمية الذكاء والعقل تهمل العامل الحيوي في التربية والنتيجة هي اعتراف رجال الحكومة المنوط بهم أمر التربية المدرسية وإقرارهم بالعجز عن تفهم المعضلات الكبرى المالية والاقتصادية في عصرهم. ومن الأوهام الساذجة الاعتقاد بأنه يكفي أن يحصل أحد تجار القطن على الثروة أو أن يتعلم أحد الحقوقيين اللغة اللاتينية لتبقى المدينة سائرة في طريقها.
إنه مما يسر أن نرى رجلاً اقتصادياً، أخلاقياً مثل المسيو (لوسيان روميه) يؤيد بصورة غير مباشرة الأفكار التي ندافع عنها نحن رجال التربية والتي تتلخص في ضرورة التوفيق بين المنفعة والثقافة.
فأنه من اللازم، ولاشك، تعليم الجيل الحاضر الفضيلة والتفكير بصورة تلائم ليس أحواله الفردية فحسب بل الهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها أيضاً.
أما أن ذلك سوف يؤدي إلى إنقاذ الرأسمالية أو إلى انهيارها فتلك مسألة لا طائل تحتها. لأن الشيء المهم هو إنقاذ المدينة. . .(10/26)
جمال المرأة
في نظر الشعراء
للسيدة وداد سكاكيني المحاسني
لا تثريب عليّ إذا قلت أن شعراء الفرنجة تطلعوا إلى جمال المرأة بأعين عميقة الأغوار دقيقة الأنظار وأنهم نادموا الحسن والملاحة بلغات فنية وساجلوا الغيد إلا ما ليد مساجلة الأطيار للأطيار. وكادت تكون رقة شعورهم في المناجاة استغراقاً في التأمل أو غلواً في العبادة.
وشعراء الغرب لهم عهد عتيق بالجمال ريان بحبه ملآن بذكره وقديماً مرنوا على دقيق الإحساس وعميقه، وأخذوه عن طبيعة اليونان الذين نحت لهم بركستيالوس تمثال فينوس. فجعلوه مثال الملاحة والبداعة وسموه آلهة الجمال.
تأله الحسن في يونان فاستبقوا ... إلى عبادة فينوس بمضمار
وقد حدثنا ببيرلوئيس في قصة افروديت أحاديث عن عبادة الجمال بالإسكندرية في خوالي العصور على الإغريق حيث كانت لهم مجالس وهياكل ملؤها التسبيح للمحاسن والبدائع وعلى تراخي السنين برع النحاتون والمصورون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فجاء العباقرة منهم بأعاجيب النبوغ في فنونهم الجميلة الرائعة ومثلوا جمال المرأة بأنواع تصلح وحدها لأن تكون شعراً ناطقاً بأوصافها ومظاهرها سجيس الليالي.
ولما هب شعراء الرومانتيك منذ أواسط القرن الماضي فتحوا أعينهم على الجمال وتصوروه في خيالهم، ونما في شعرهم، وساعف على ذلك هذا أن لجمال المرأة منالاً عندهم وكان من أثر ذلك أن غإلى بعضهم فأتبع طريقة في فهم الجمال جعلوه يعم كل نسبة واتساق وأوغل ناس منهم فخيل إليهم لدقة حسهم ورقته أن في القبح جمالاً، فالدميم يعد وسيماً إذا صوره لك الشاعر تصويراً متناسباً متسقاً، وقد أراد ذلك فيكتو هوغو حين كتب رواية نوتردام دوباري فصور لنا خادم الكنيسة نوتردام دوباري فصور لنا خادم الكنيسة كازي مورو على مثال الشناعة والبشاعة في الدنيا، تعاورت على شكله ضروب العاهات والمثالب، فهو أبكم أفلج أعشى، ذو صمم بطين الأحشاء أحدب الظهر أقعس الصدر، بيد أنه في كل هذا صورة للجمال بتناسب شناعته وتناسق دمامته، ثم يمعن هوغو في تمثل(10/27)
الجمال بشكل آخر فيرينا إياه في ازميرالدا الراقصة الفاتنة.
وقد تجاوز غيره من الشعراء هذا الحد في معرفة الجمال على صور النساء، أما شعراء العرب فقد نظروا لجمال المرأة نظراً لم يحلقوا فيه كشعراء الغرب وإن استطاع بعضهم ذلك فما دوموا تدويماً، أنهم تطلعوا إلى حسن المرأة في عهد جاهليتهم فوجدوه بدوياً على مثالتهم. وظهر لهم منذ النظرة الأولى في الأعين الدعجاء والشفاه اللسعاء وفي الأجفان والحوا جيب وأبصرووه في الغدائر السود والغرر البيض ثم رأوه في القامات الممشوقة والخصور الدقيقة والأطراف الرقيقة والأعجاز الرجراجة الثقيلة، وقد أخذ من البابهم منظر القمر ومشرق الشمس وأعناق المها وعيون الجآذر وغصون البان وجعلوا من كل هذا تشبيه ونعوتا لجمال المرأة عندهم فتعزلوا به وفتنوا وافتنوا، وأول من وصف المرأة فيهم هو أمرؤ القيس سيد شعراء الجاهلية، فاقتفى أثره وترسم خطاه من جاء بعده من الشعراء، وهاك شعراً له ينعت به جمال فاطمة يوم دارة جلجل:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش ... إذا هي نضته ولا بمعطل
وفرع يزين المن أسود فاحم ... أثيت كقنو النخلة المتعسكل
فقد شبه صدر فاطمة الأبيض بالمرآة المجلوة وعنقها بعنق الغزال ونعت لون شعرها الأسحم بغصن النخلة ثم بدأ جمال المرأة لشعرائنا في عهد الإسلام وكانت ضربت عليه الخمر وحالت دونه الستور، فوصفوه وصفاً لا ينطبق على المشاهدة إلا عمر بن أبي ربيعة شاعر الحب والجمال، فإنه نال حظوة لدى ربات الحسن وملكاته، فأجاد في وصف الجمال النسوي وأبدع، وقصر عن شوطه الشعراء العذريون من أهل الغزل إذ وصفوا الحب في أشعارهم ولم يصفوا الجمال مثله، وإن الشعراء الثلاثة الأخطل وجرير والفرزدق لم يجيدوا إجادة عمر في فنه البارع، لأن الهجاء اللاذع هروه فنجهم، وصرفهم عن مفاتن الهوى والشباب، وكان يصح لجرير أن يبذ نديه لوترك وشأنه فقد حرمتنا سياسة الأمويين إبداع جرير في وصف الجمال، ولعله كفر عن تقصيره حين وصف العيون الحوراء بقوله:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا(10/28)
على أن ابن ربيعة في وصفه جمال المرأة يريده حضرياً، فلا يأتيه إلا بدوياً، لأن تأثير البداوة في عصره كان شديداً، لاسيما وقد نشأ وعاش في الحجاز، حيث كان يتلمس الجمال بين مناسك الحج ويتحسس الحسن في أفياء الخرد الرعابيب، انظر إلى وصفه جمال فاطمة بنت عبد الملك:
وذكرت فاطمة التي علقتها ... عرضاً فيا لحوادث الدهر
ممكورة ردع العبير بها ... جم العظام لطيفة الخصر
وكأن فاها عند رقدتها ... تجري عليه سلافة الخمر
وبجيد آدم شادن خرق ... يرعى الرياض ببلدة قفر
ويصف عمر هندا بنت الحارث بقوله:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... تخالها في ثياب العصب دينارا
كأن عقد وشاحيها على رشأ ... يقر ومن الروض روض الحزن أثمارا
فلندع شعراء العصر الأموي. ولنعكف على العصر العباسي، عصر الجمال المبذول والشعر المصطفى الذي يجرر من خيلائه أذيال المرح والحضارة ويتقلب على أعطاف النعيم. لنأت إلى أبي نواس، ويح هذا الشاعر الماجن لقد شغله جمال الخمرة عن جمال المرأة، ولكنه لم يقصر إذ قال:
وذات خد مورد ... فضية المتجرد
تأمل العين منها ... محاسناً ليس تنفد
فبعضه يتناهى ... وبعضه يتجدد
والحسن في كل شيء ... منها معاد مردد
فكون النواسي من هذا الجمال صورة فنية دقيقة أيما دقة وجعله غير منعدم المادة كأنه الجوهر الفرد، وعرج بالجمال إلى سماء من الشعر الحضري لم يسبقه إليها شاعر عربي، وليت شعري أن قصر أبو نواس في وصف الجمال فمن يجيده؟
بدأ التطور في هذا الوصف منذ عهد الشعراء المولدين من أيام زعيمهم أبي نواس وكان له ولصحبه من المجان شعر كثير في الجمال الحضري أخذ روحه وريحانه من الأدب الفارسي ومن حياة الحسان والقيان.(10/29)
ليت جمال المرأة بقي منية هؤلاء الشعراء، وما جاوزا به إلى العبث والمجون حتى أفسده على الأذواق والأخلاق بغزل المذكر، ثم مادت الأشعار بالجمال الفاتن والملاحة الخالبة حتى كان العصر الثالث وأيام المتوكل وشعر البحتري المترع بالرفه والنعمة والبهجة يقول أبو عبادة:
رحن والليل قد أقام رواقا ... فنثرن الصباح فيه عمودا
بمهاة مثل المهاة أبت أن تصل ... الوصل أو تصد الصدودا
ذات حسن لو استزادت من ... الشمس إليها لما أصابت مزيدا
فحذا هذا الشاعر العبقري حذو الشعراء السابقين في التشبيه البدوي. وإذا غبر بنا الزمن إلى أواسط القرن الرابع ألفينا المتنبي ماليء الدنيا وشاغل الناس قد بسط جناحي شعره على عصره وما فاته أن ينشدها أبياتاً خالدة في جمال المرأة وهو لا يريده إلا بدوياً بحتاً خلواً من التصنع والتكلف:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... صوغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
وحق للمتنبي أن يصبو إلى هذا الجمال الخالص لأنه لبث في البادية زمناً وطبع على محبة الأعاريب. وأما المعري فلا أفوز عنده بأوصاف لجمال المرأة، فإن هذا الأعمى الجبار الذي نقم على النساء وأقام عليهن الحدود ورماهن بالشتائم، لا يرى لهن من صفات الحسن والصباحة شيئاً ولو أنه كان بصيراً لهفت نفسه إليهن وألهب روحه جمالهن وأصباه ولكان له غير رأيه في الوجود.
لقد قيل هذا الشعر الذي تقدم على عدوة من الأرض، أما العدوة الثانية فهي ربوع الأندلس الزهراء حيث ازدهرت معالم الجمال وأينعت مراتع الفنون التي حمل قيثارتها ابن زيدون، وهناك هام بالولادة بنت المستكفى وتجلى لعينه روعة جمالها فوصفه وصفاً ملك على الإسماع والقلوب، وقد أثرت فيه مغاني الأندلس الوارفة وظلها الظليل ونسيمها العليل فقال في ذلك الجمال الساحر:
ربيب ملك كأن الله أنشأه ... مسكاً وقدر إنشاء الورى طيناً(10/30)
أو صاغه ورقاً محضاً وتوجه ... من ناصع التبر إبداعاً وتحسبنا
إذا تأود آدته رفاهية ... نوم العقود وأدمته البرى لينا
كانت له الشمس ظئراً في أكلته ... بل ما تجلى لها إلا أحابينا
كأنما أثبتت في صحن وحنته ... زهر الكواكب تعويذا وتزيينا
فلما قال هذا الشعر ابن زيدون كاد يعفى على آثار الشعراء قبله في وصف جمال المرأة.
أما في هذا العصر، فإن شاعره العظيم قد أفل نجمه بموت أحمد شوقي سامحه الله إنه سار على غرار أنداده الغابرين من شعراء العرب في فهم الجمال وتصويره.
ولو سألوه أن يصف التفاته المرأة لأنشد دون جمجمة شعره بلسان مجنون ليلى:
تلفتت ظبية الوادي فقلت لها ... لا اللحظ فاتك من ليلى ولا الجيد
دمشق:
وداد سكاكيني محاسني(10/31)
صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام
تابع
للأستاذ وصفي زكريا
قلت ويظهر من كلام آخر لا للقلقشندي أضربت عن نقله ومن كلام غيره من المؤرخين الذين نوهوا بأخبار نعير أي محمد بن جبار بن مهنا المذكور أن الإمرة بقيت في أعقابه دون غيرهم من أعقاب أخوته آل مهنا وأبناء عمه آل عيسى بن آل فضل كلهم فخمل ذكر هؤلاء وضاع اسمهم تدريجياً وخلفه أولاد جبار أو آل جبار ردحاً من الزمن إلى أن ظهر اسم أولاد أبي ريشة أو غلب كما هي العادة عند أهل البادية تتغير أسماؤهم في كل قرن أو قرنين تبعاً للسائد عليها.
ولمحمد بن جبار هذا ترجمة في (المنهل الصافي) لابن تغرى بردى ننقلها عن (تاريخ حلب لراغب الطباخ ج4) قال: محمد بن جبار بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن ماتع بن حديثة شمس الدين أمير آل فضل بالشام ويعرف بنعير ولي الإمرة بعد أبيه ودخل القاهرة مع يلبغا الناصري ولما عاد الظاهر برقوق من الكرك رافق نعير منطاشاً نائب حلب في الفتنة الشهيرة وكان معه لما حاصر حلب، ثم أرسل نعير نائب حلب إذ ذاك كمشبغا في الصلح وسلمه منطاش، ثم غضب الظاهر برقوق على نعير وطرده من البلاد فأغار نعير على بني عمه الذين قرروا بعده وطردهم. فلما مات برقوق أعيد نعير إلى أمرته، ثم كان ممن استنجد به دمير داش لما قدم اللنكية (التتار) فحضر بطائفة من العرب فلما علم أنه لا طاقة له بهم برح إلى الشرق فلما برح التتار رجع نعير إلى سلمية، ثم كان ممن حاصر دمير داش بحلب ثم جرت بينه وبين حكم نائب حلب وقعة فانكسر نعير ونهب وجيء به إلى حلب فقتل في شوال سنة 808 وقد نيف على السبعين وكان شجاعاً جراداً مهيباً إلا أنه كثير الغدر والعناد وبموته انكسرت شوكة آل مهنا وكان الظاهر خدعه ووعده حتى تسلم منطاش وغدر به ولم يف له الظاهر بما وعده بل جعل ذلك ذنباً عليه وولي بعده ابنه معجل ذكره شيخنا في أنبائه وهو في المقريزي مطول. وترجم ابن تغرى بردى معجل أيضاً فقال. معجل (وفي نسخة العجل) بن نعير بن جبار. . . الخ أمير آل فضل بالشام والعراق نشأ في حجر أبيه فلما جاوز العشرين خرج عن طاعته ثم لما كان حكم بحلب(10/32)
وخرج لقتال ابن صاحب الباز إلى جهة أنطاكية توجه إليه معجل نجدة له وآل الأمر إلى أن انكسر نعير وجيء به إلى حكم فلما رآه قال لابنه انزل فقبل يد أبيك فجاء ليفعل فأعرض عنه أبوه ثم أن حكم رسم عليه ولم يزل يقاتل ويحارب إلى أن قتل سنة 816 وحمل رأسه فعلق على باب قلعة حلب وسنه ثلاثون سنة. الخ. . .
ثم سكتت التواريخ عن بيان خلف معجل بن نعير المذكور في الإمرة وعن وقائع هؤلاء الأعراب إلى سنة 885 قال ابن إياس فيها: وقعت في هذه السنة فتنة كبيرة في أنحاء حماة قام بها سيف أمير آل فضل الذي خرج عن الطاعة فحاربه ازدمر نائب حماة فقتل في المعركة وقتل معه جماعة من أمراء حماة. فعين السلطان قايتباي الأمير يشبك الدوادار ومعه عدد وافر من الجند لقتال سيف ففر سيف وتوجه إلى أنحاء الرها وكانت هذه لأحد نواب حسن الطويل ملك بغداد فحاصر يشبك الرها ولكنه كسر كسرة شنيعة وأسر ثم قتل. وفي سنة 887 جاءت الأخبار بقتل سيف قتلة ابن عمه غسان في بعض بلاد العراق.
أما أخبار الأمير نعير بن جبار ومساويه فهي (خطط الشام ج2 ص158 عن مصادر مختلفة) الفتنة التي وقعت بينه وبين ابن عثمان بن قارا سنة 785 وانكساره ونهب ثلاثين ألف بعير له، ثم (ص169) اشتراكه سنة 794 بالفتنة التي أحدثها منطاش نائب حلب الثائر ودخوله معه بمحاصرة حلب وحماة ونهبها تم مجيء جند حلب وفتكه بنعير وأهله حتى اضطر لتسليم منطاش، ومنها (ص186 وقد لقبه هنا بأمير عرب آل فضل) اقتتاله مع عصاة التركمان وظفره بهم وتطاوله على أعمال حلب، وخروجه سنة 808 (ص187 وقد سماه هنا نعير بن مهنا الحياري البدوي) على أعمال دمشق وظفره بجندها وإفساده في ضواحيها إلى أن ظفر به حكم نائب حلب وقتله سنة 808 وأرسل رأسه إلى القاهرة. وقد ناف على السبعين وبموته انكسرت شوكة آل مهنا، قالوا ثم انتقلت الإمارة إلى ابنه معجل وهذا سار على سنة أبيه في الفساد نازل سنة 810 حماة وحاصرها إلى أن أوقع به نائب دمشق وكسره (ص191) ثم لما حوصر نوروز في حماة اشترك معجل في الحصار والقتال ضده، ولم يزل يحارب يقاتل إلى أن قتل سنة 816 وحمل رأسه وعلق على باب قلعة حلب.
ثم سكتت الخطط عن بيان من خلف معجل بن نعير بن جبار في الإمارة وعن وقائع(10/33)
الإعراب إلى سنة 883 (ص204) إذ ذكرت اسم سيف بن نعير الغاوي وعصيانه وخروج نائب حلب لتأديبه وفراره واضطراب أحوال حماة بسبب ذلك، وذكرت (ص234) في أحاث سنة 992 التي فتح السلطان سليم فيها الشام أسماء أرباب المقاطعات الذين كانوا يضمنون الخراج للدولة مقابل أموال يتعهدون بها وعدت منهم مدلج بن ظاهر من آل جبار أمير عرب الشام وكانت منازل قومه في سلمية وعانة والحديثة ثم ذكرت في (ص248) إن المتغلب على أكثر البر في غرة القرن الحادي عشر كان الأمير شديد بن أحمد حاكم العرب من آل جبار وإنه كان كاسمه ولقبه جباراً ظالماً عنيداً. وذكرت في أحداث سنة 1017 أن فرقة من عرب آل جبار المعروفين بأولاد أبي ريشة نفروا من العراق فوصلوا إلى تدمر وانضم إليهم قوم من جند السكبان العصاة فعاثوا معاً وافسدوا إلى أن أوقع بهم نائب دمشق وشتتهم. وهذه المرة الأولى التي يظهر فيها اسم (أبي ريشة) في الخطط. ومن الغريب أن آل جبار هؤلاء ذكروا في الخطط المستندة على مصادر مفروض فيها الصحة بلقب آل جبار بينما حيدر الشهابي في تاريخيه وكاتب جلبي في جغرافيته ذكراهم وصاحب الخطط وصاحب تاريخ حلب ذكرهم أيضاً مرة واحدة - بلقب آل الجبار حتى أن الشهابي استعمل ذلك مراراً منذ سنة 680 التي ذكر فيها عيسى بن مهنا بلقب الحياري كما لقب أعقابه من بعدة بالحياريين. والثابت عندي أن في الأمر تصحيف ناخ جعل هؤلاء المؤرخين يقرأون كلمة جبار (حيار) ويصل الوهم بالشهابي إلى إلصاقها بأسلاف جبار أي بأبيه مهنا وبجده عيسى بن مهنا، بينما لا القلقشندي ولا ابن خلدون ولا أبو الفداء ولا غيرهم استعملوا هذا اللقب لهؤلاء الأسلاف فإذا كان هؤلاء المتقدمون الثقاة الذين عاصروا آل عيسى في القرن الثامن والتاسع لم يذكروا هذه الكلمة فحري بنا أن ننسب للمتأخرين الوهم وعدم الانتباه للتصحيف ونحكم بأن كلمة الحيار لا أصل لها وأن أولاد أبي ريشة فخذ من آل جبار، الذين هم بطن من آل عيسى بن مهنا آل فضل بن ربيعة الطائي.
وظل حيدر الشهابي يردد أسماء وأحداث الأمراء الحياريين الذين نشأوا في القرن الحادي عشر وصوابه أن يقول الجبارين وهو مع ذكره إياهم بالحيارين - كما كان يذكر من قبل عيسى بن مهنا وأعقابه - صار يلقبهم بأبي ريشة كما لقبهم الجغرافي التركي كاتب جلبي والمؤرخ التركي نعيما في تاريخه أيضاً - وقد عد منهم أسماء الأمير فياض المتوفي سنة(10/34)
1029 وابنه حسين وابن عمه سلطان وابن أخيه مدلج. ذكر نعيما في تاريخه (ج3 ص6) أن فياضاً هذا شق عصا الطاعة في عهد السلطان أحمد الأول وحارب أحمد باشا الذي تولى إمارة الأمراء في مصر. وذكر الشهابي أن الإمارة انتقلت بعد فياض إلى ابن أخيه مدلج فقام ينازعه فيها حسين بن فياض وانضم إلى كل منهما فريق من قبيلتهما وجرت بينهما وقائع عديدة وبسبب ذلك اضطر مدلج في أحداها أن يستنجد بالأمير فخر الدين المعني الثاني سيد جبل لبنان في ذلك العهد وقد كانت سيطرته تمتد من القدس إلى حمص وحماة وسلمية ويتصل بأمراء الأعراب ويتخذهم أعواناً له. فجاء الأمير فخر الدين سنة1023 بعسكر وفير لنجدة مدلج فلاقاه في مكان بين حمص وحماة وأكرمه وأهداه الفرس سعدة المشهورة. لكن حسين فر مرتاعاً إلى حلب فرجع الأمير فخر الدين دون أن يخوض حرباً. ولم يزل مدلج يقتفي أثر حسين ويكيد له حتى وشى بقتلة مراد باشا الكوسا والي حلب فقتله واستقرت الإمارة بيد مدلج على أنه بقي تابعاً للأمير فخر الدين ولائذاً به يقدم إليه الضرائب والهدايا. وبينما كان الشهابي يلقب هؤلاء بالحياريين وبآل أبي ريشة إلى سنة 1034 وإذا به في أحداث سنة 1035 يذكرهم باسم الموالي لما طلب الأمير فخر الدين المعني منهم الذخيرة وتمنعوا ورحلوا فلحق بهم حتى عبرهم النهرين. قلت لعل هذه الذخيرة هي الضريبة التي كان يقدمها مدلج ورأى أن يقطعها إذ لم يعد بعد موت رقيبه حسين بحاجة إلى الحماية والمعونة ولما طولب بها رحل بقبيلته خوفاً من الأمير فخر الدين ثم عاد بعد رجوعه أو بعد أن أزالت الدولة وجوده. فاسم الموالي لم يذكره الشهابي إلا هذه المرة فهل نبتت هذه القبيلة سنة 1035 وهل كانت تذكر لو لم تكن هي القبيلة التي كانت وما برحت ملتفة حول الأمراء آل أبي ريشة منذ القرن السابع الذي نشأ فيه جدهم عيسى بن مهنا وأفرادها يلقبون بالموالي لأنهم أما عبيد معتقون من الذين ذكرهم كاتب جلبي في جغرافيته أو صنائع أو حلفاء منضمون إليهم.
وفي تاريخ نعيما (ج3 ص60) أن مدلج المذكور استقر في إمارة البادية سنين عديدة واتسعت سلطته حتى صارت تشمل أعراب بلاد بغداد والموصل. على أنه لم يخل من الموارية فتارة كان يمالئ الإيرانيين الذين استولوا على بغداد في تلك الحقبة وتارة العثمانيين يماشي الأقوى منهما. (على سنة أحد أجداده مهنا بن عيسى الذي قدمنا ذكره)(10/35)
ولما افتضح أمره وزاد عيثه لاسيما بعد أن فشل الوزير الأعظم خسرو باشا من استرداد بغداد ورجع عنها خائباً اعتزم الوزير المذكور على استئصال شأفة مدلج فأرسل عليه في سنة 1040 عسكراً وفيراً فكسروه ونهبوا بلاده وقتلوا من لقوا من أتباعه ففر مدلج مع حاشيته. وبينما هو فار سقط عن فرسه ومات فطلبت الأعراب الأمان وأخلدت إلى الطاعة. ولما كان لابد لهؤلاء من أمير يسوسهم أقام الوزير الأعظم المذكور سعيد بن فياض الذي تقدم ذكره وتاريخ وفاته أميراً عليهم.
وصفي زكريا(10/36)
شقاء العالم
للكاتب الإيطالي الكبير جيوفاني بابيني
لقد هبط مدينتنا، على غير موعد، معلم اسمه آريل آتياً من إحدى الجزر البعيدة تلك الجزر التي لا يرسمها الجغرافيون على الخرائط بل تظهر من حين إلى حين على سطح البحار، كما تظهر في مخيلة الشعراء. ويقال أن آريل كان منذ زمن بعيد في خدمة أحد الأمراء المنفيين، وإن هذا الأمير المنفي قد باح له بأسرار ليس في وسع الإنسان سماعها أكثر من مرة واحدة. ولعله بسبب ذلك اعتاد ما نستغربه منه كثيراً وهو أنه لا يسمح لأي كان بحضور درسه أكثر من مرة واحدة. لأنه كان يقبل كل من يتقدم إليه بشرط أن لا يكون قد جاءه من قبل. ويطرد كل من يعود إليه مرة أخرى، وليس هناك من يستطيع المفاخرة فيزعم بأنه حضر درسه أكثر من مرة واحدة.
وكنت أقول لنفسي في كل يوم: لاشك أن الأستاذ قد علم أشياء جديدة وغريبة لأن جميع الذين يخرجون من القاعة التي يلقى بها دروسه يسيرون في شوارع المدينة وأزقتها مفكرين تائهين، كأنهم عائدون من عالم جديد أو كان الله بعث بهم أحياء بعد أن كانوا أمواتاً.
ولعل ما سيقوله في الغد من الأقوال ويلقيه من الدروس يكون أعظم وأهم. ولو أني ذهبت لما سمعته غداً ولفاتني اليوم الذي سيعلن فيه أهم تعاليمه وأغربها. لأن هذا الرجل ليس بالمعلم العادي، فيستطيع الإنسان سماع دروسه في كل يوم وحضورها إن كل واحد من تلاميذه عرضة لعذاب الأسف على المجهول الذي لا يعوض.
ولذلك فقد تركت أياماً كثيرة تمر دون أن أحضر درس آريل. فقد كنت أقف على بابه ساعات طويلة، مرتجفاً، قلقاً، متردداً في الدخول. وعندما كان تلاميذ ذلك اليوم يخرجون، كنت أسألهم عما قال المعلم، فلا أظفر منهم بجواب لأنهم كانوا ينظرون إلي نظرات تائهة كالخارج من الحلم ويبتعدون بخطى متثاقلة مضطربة.
وهكذا فقد مضت أيام كثيرة تغير في خلالها مجرى حياتي، إذ أنني أضعت وساوس كتبي وعادتي بتقبيل أمي في كل صباح ومساء. حتى أني نسيت مراقبة طلائع النجوم عندما يصل الليل. وأخيراً بعد أن نفد صبري، وأصبحت عاجزاً عن مقاومة رغبتي أكثر من(10/37)
ذلك، عزمت على لقاء الأستاذ
وصباح الأمس دخلت مدرسته كالكثيرين غيري من المنتظرين على بابه.
وكانت القاعة واسعة، لا شيء من الرياش فيها ولها نوافذ ترمي إلى أروقة طويلة وكان آريل واقفاً ومسنداً ظهره إلى الحائط، متدثراً، رغم الحر الشديد، برداء سميك وضخم. ولعله يرتديه ليخفي تحته جناحيه الطويلين، لأن عينيه كانتا ترسلان دائماً نحو السماء ومن فوق الجبال الرمادية العالية، نظرات جامدة، باردة خرساء.
ومنذ دخلنا جميعاً، نظر إلينا واحداً واحداً، ثم أمر بطرد شابين أخوين كانا قد حاولا الاختفاء بين صفوفنا ولكن قوة نظراته في معرفة حالت دون ذلك فبعد أن خرجا وأمر بإقفال الباب، بقي صامتاً مدة غير وجيزة.
لقد كنا جميعاً وقوفاً مثله ولم يكن يسمع في القاعة التي لا رياش فيها غير صوت أنفاسنا.
وفجأة بدأ آريل في الكلام، فكان صوته ينحت الألفاظ نحتاً:
اليوم، سأتكلم عن الإنسان وشقائه الأكبر! كم من مرة شفق عليكم! كم من مرة حذرتم! وكم من لعنات صبت عليكم! قد وصف البعض في كتبهم جراحكم الخفية، واحتقركم البعض وازدراكم.
من شقائكم تولدت مراثي الشعراء، ونواح الباكين ومواعظ القديسين، وآراء الفلاسفة المتشائمين ولكن واحداً من هؤلاء لم يدرك شقاءكم الكبير العميق، شقاءكم الأبدي، الذي لا حد لا نهاية له.
لعلكم تعساء لأنكم تموتون؟ ولكن كل شيء يموت ليولد من جديد في هذا العالم.
لعلكم تعساء لأن أفراحكم قصيرة وآلامكم طويلة أبدية؟ ولكن الألم ينقذكم من التخمة، ويطهركم ويرفعكم إلى المعرفة.
لعلكم تعساء لأن قدرتكم لها حدود؟ ولكنكم ستكونون أتعس وأشقى بكثير، لو أنكم ملكتم القدرة المطلقة.
كلا! ليست هذه أسباب بؤسكم الحقيقي، إن شقاءكم غير هذا، وإلى الآن ما من أحد استطاع إظهار حقيقته لكم، وها هي:
الإنسان أبكم! هذا شقاؤه الوحيد، وهنا مصيبته الأبدية الكبرى.(10/38)
الإنسان أبكم! لا يستطيع النطق، ولا يعرف أن يجيب، ولو أنه تكلم لانتهى ألمه، وانتهى هذا العالم. ولكنه بقي إلى الآن أبكم، أبكم بعناد وغباوة،
ولهذا السبب تستمر حياته الحاضرة وآلامه الأبدية.
أنتم لا تفقهون أقوالي، وأنا شاعر بذلك. إني أشعر بالشك يجول في نفوسكم واتبين رغبة الابتسام تلوح على شفاهكم. ولكن سيفعم اليقين قلوبكم وستعجزون عن الابتسام عندما تفهمون ما أريد أن أقول.
أعرف أن الكثيرين من بينكم يرون العالم عظيم الشبه بهم فيجدونه مملاً، كله عادات محزنة، متشابهة متكررة، وإني لأتبين من بينكم شاباً شاحب اللون يرتدي السواد. ولاشك أنه يقرأ اللورد بيرون فهو يميل للانتحار ويردد دائماً هذه الشكوى: دائماً الشمس ذاتها، دائماً النور ذاته، دائماً هي هي المياه الجارية، ووجوه القمر المتتابعة، والعصافير المغردة، والنساء العاشقات، والزهور المتفتحة الذابلة، ورنين أجراس الفجر والمساء، والبواخر التي تغادر الشاطئ لتعود إليه، وتعاقب الأيام والليالي، وكل هذا بدون نهاية، من ساعة الخلجان الأولى إلى ساعة النزع الأخيرة. وحتى الذي يجوب الأرض باحثاً عن شيء جديد، وشعور جديد ينتهي دائماً بالفشل، فالاستمرار يبعث الاستياء والضجر والحياة كلها وبجميع ما فيها من تعاقب الفصول والمواسم وتوالي الأعوام والعصور والرياح والعواصف تلخص هذه المراحلة المستمرة المتوالية وهي ولادة فألم فحب فتأمل فموت.
هكذا يتكلم الناس بعد أن تنقض مدة طفولتهم فلا يدعوا أنفسهم يسكرون بألعاب الحياة الخطرة. وهؤلاء أيضاً لم يدركوا مصيبتهم الكبرى. يظنون أنهم تجرعوا كأس المرارة حتى الثمالة، بينما هم ما كادوا يقتربون من الحافة حتى ابتعدوا مسرعين، وفي نفوسهم رغبة واحدة هي إبادة نفوسهم، وإزالة الحياة والعالم معها.
ولكن أنى لهم أن يهتدوا إلى طريق العدم ماداموا لم يدركوا بعد معنى الحياة وأسباب تواليها وتعاقبها على نمط واحد.
الحياة جامدة، الحياة ذات نمط واحد وشكل واحد كل هذا حقيقة واقعة ولكن ما سبب ذلك إلا الناس أنفسهم البكم الذين لا يستطيعون الكلام وليس بوسعهم أن يجيبوا على ما يسألون عنه.(10/39)
أعلموا إذاً يا تلاميذ هذا اليوم، إن العالم ما هو إلا خطبة طويلة مبهمة معقدة مرت عليها الأجيال دون أن يكون هنالك من يجيب عليها.
هناك كائن غريب يريد أن يقول للبشر شيئاً، ولكنه لا يتكلم بلغة البشر قط. كائن يعبر عن ذاته بالرموز، وبواسطة ظواهر الأشياء والحادثات، الكون خطبته الأزلية، والأرض والشمس والنبات كلمته الغامضة التي تدوي جيلاً بعد جيل دون أن يسمعها أو يدركها إنسان.
ولهذا السبب، لا تجهدوا أنفسكم بالبحث عن غيره، تتكرر هذه الخطبة، فيسمع منها كل إنسان حي الأشياء ذاتها، والأشياء الأبدية لا يمكن أن تتغير والعالم جامد كخطاب دائم التكرار، لأن ليس بينكم من يسمعه، ولأنكم جميعاً بكم لا تستطيعون الكلام.
أنكم تنظرون إلى العالم، فتنسخوه، وتسخروه في حاجات وجودكم ولكنكم لا تفكرون بسماعه قط. إنه لا يخطر في بال واحد منكم أن العالم يكلمكم وإنه يقصدكم وينتظر جوابكم. أنتم تعتبرون العالم مستودع بضائع، أو أرضاً للحراثة أو مقاماً يسعد الإنسان فيه أو يشقى. ولم تفكروا ولو مرة واحدة أن للعالم صوتاً.
صوتاً يكرر بإلحاح مطالب كثيرة، صوتاً يريد أن يصل إلى أسماعكم بل إلى أعماق نفوسكم، وهو صوت بائس تعب يستغيث ويتوسل طالباً جوابكم.
لأي سبب تظنون أن الشحارير تردد دائماً الأغاني نفسها، والضفادع لا تبدل أنغامها الكئيبة، والرياح لا تغير ألحانها العاصفة والمياه خريرها البارد الأبدي؟ وإلى أي نهاية تظنون السنونو يرسم في طيرانه الخطوط التي لا تعد، والشمس التي تمر في كل يوم من فوق رؤوسنا على مهل متبعة نفس الطريق منذ ابتداء الأزمان؟؟ وما هي في عرفكم غاية الأشجار التي تزدهي في كل ربيع بالألوان ذاتها.
إن كل ما يبدو ويتلاشى ثم يعود فيبدو من جديد، ما هو إلا قسم من هذا وعبارات تردد. لأن الذي يكلمكم صبور حليم لا يعد صمتكم وسكوتكم إهانة له. إنه يردد ويكرر إلى اللانهاية مطلبه منكم آملاً باليوم الذي سيمكنكم أن تجيبوه فيه، وفي هذا اليوم، اليوم الذي تجيبون فيه، ينتهي هذا العالم المتشابه وتنتهي معه حياتكم المملة المفعمة بالسآمة والضجر وعندئذ يبتدئ خطاب جديد، وتخلق أرض جديدة وسماء جديدة، وبشر جديد لأفراده قوة(10/40)
أزلية لا تستقر على حال ولا تبقى أبداً على شكل واحد أو نمط واحد.
أما الآن فعليكم أن تتكلموا. لقد غبرت آلاف السنين والصوت يخاطبكم وأنتم لا تجيبون. اجتهدوا منذ اليوم أن تعتبروا العالم كسلسلة من الكلمات، وأرهفوا إليها الإسماع والفكر، وحاولوا أن تفهموا هذه اللغة المبهمة.
وعندما ينفك عنكم بكمكم وتحل عقدة ألسنتكم تصبح ساعات شقائكم الأكبر أثراً بعد عين. لتنفتح أمامكم صفحة جديدة من الكون.
لقد أعطيتكم الخوف، فاخلقوا أنتم أنفسكم الأمل
هذا كل ما سمعته من أمثولة آريل، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يردد بتتابع تلك الكلمات التي كانت تخرج قوية رهيبة من فمه؟؟
وعندما سكت لم يجسر أحد منا أن يرفع نظره إليه بل وجدنا أنفسنا في الشارع تائهين، مفكرين كالخارج من الحلم، أو كمن بعث حياً بعد أن كان ميتاً
وأوقفني في الطريق رجل، وسألني مضطرباً عما قاله المعلم في ذلك اليوم، فنظرت إليه دون أن أراه، وتابعت مسيري دون أن أنبس ببنت شفة.
تعريب: ع0 ج(10/41)
مائة نقلة
من كتاب نقل الأديب
وهي ألف نقلة مقتطفة من ألف كتاب
مؤلفه محمد إسعاف النشاشيبي
حق الطبع والنشر ونقل شيء من هذا النقل محفوظ
أهدي مائة النقلة هذه إلى مجلة (الثقافة)
94 - إن جد الأدب جد
وهزله هزل
قال ابن الخطيب البغدادي: قال خالد بن يزيد الكاتب: لما بويع إبراهيم ابن المهدي بالخلافة طلبني، وقد كان يعرفني، وكنت متصلاً ببعض أسبابه، فأدخلت عليه. فقال: يا خالد أنشدني من شعرك.
فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس شعري من الشعر الذي قال فيه رسول الله: إن من الشعر حكماً وإنما أمزح وأهزل، وليس مما ينشده أمير المؤمنين.
فقال لي لا تقل هذا يا خالد، فإن جد الأدب جد وهزله هزل.
أنشدني
فأنشدته:
عش فحبيك سريعاً قاتلي ... والضنى - إن لم تصلني - واصلي
ظفر الشوق بقلب كمدٍ ... فيك، والسقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئاب وبلى ... تركاني كالقضيب الذابل
وبكى العذل لي من رحمة ... فبكائي لبكاء العذل
فاستملح ذلك ووصلني.
95 - بألسننا تنعمت القلوب
قال النضر ابن حديد: كنا في مجلس وفيه أبو العتاهية، والعباس ابن الأحنف، وبكر بن النطاح ومنصور النمري، والعتابي. فقالوا لمنصور: أنشدنا، فأنشد مدائح الرشيد. فقال أبو العتاهية لابن الأحنف: طر فنا بملحك. فأنشد أبياته:(10/42)
تعلمت ألوان الرضى خوف عتبه ... وعلمني حبي له كيف يغضب
ولي غير وجه قد عرفت مكانه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب
فقال أبو العتاهية: الجيوب من هذا الشعر على خطر، ولا سيما أن سنح بين حلق ووتر، فقال بكر: قد حضرني شيء في هذا.
فأنشد:
أرانا معشر الشعراء قوماً ... بألسننا تنعمت القلوب
إذا انبعثت قرائحنا أتينا ... بألفاظ تشق لها الجيوب
فقال العتابي:
ولا سيما إذا ما هيجتها ... بنان قد تجيب وتستجيب
قال النضر فما زلت معهم في سرور. وبلغ اسحق الموصلي خبرنا.
فقال: اجتماع هؤلاء ظرف الدهر.
96 - وما أنصفت مهجة تشتكي
هواها إلى غير أحبابها
قال صر در:
تموت نفوس بأوصابها ... وتكتم عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي ... هواها إلى غير أحبابها
فمن مخبر حاسدي أنني ... وهبت الأماني لطلابها
فإن عرضت نفسها لم تجد ... فؤادي من بعض خطابها
ولو شئت أرسلتها غارة ... فعادت إلي بأسلابها
ولكنني عائف شهدها ... فكيف أنافس في صاحبها
وأعلم أن ثياب العفاف ... أجمل زي لمجتابها
تذل الرجال لأطماعها ... كذل العبيد لأربابها
97 - لم يجعله لزمان دون زمان
ولا لناس دون ناس
سأل رجل جعفر بن محمد: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا نضارة؟.(10/43)
فقال: لأن الله لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة.
98 - وكنتم قبله
سراً يموت في ضلوع كاتم
قال مهيار يخاطب العرب:
ما برحت مظلمة دنياكم ... حتى أضاء كوكب في هاشم
نبلتم به وكنتم قبله ... سراً يموت في ضلوع كاتم
99 - أحسن منها
قال الفضل للمأمون وهو في دمشق مشرف على غوطتها بدير مران - يا أمير المؤمنين، هل رأيت لحسنها شبيهاً في شيء من ملك العرب (يعني الغوطة)
فقال: بلى، والله، كتاب فيه أدب، يجلو الإفهام، ويذكى القلوب، ويؤنس الأنفس - أحسن منها.
100 - لولا دمشق
قال أبو علي أحمد شوقي:
بنو أمية للأنباء ما فتحوا ... وللأحاديث ما سادوا وما دانوا
معادن العز قد مال الرغام بهم ... لوهان في تربة الإبريز ما هانوا
لولا دمشق لما كانت (طليطلة) ... ولا زهت ببني العباس (بغدان)
نزلت فيها بفتيان جحاجحة ... آباؤهم في شباب الدهر غسان
بيض الأسرة باق فيهم صيد ... (من عبد شمسٍ) وإن لم تبق تيجان
تمت
محمد إسعاف النشاشيبي(10/44)
بسيشه والحب
صورة النفس من على وكمال ... ورؤى الجسم في تناهي الجمال
حسدتها فينوس بالحسن لما ... شاركتها في فتنة ودلال
مدّ كوبيد قوسه فرآها ... لا عز الجمال خير مثال
فرمى قلبه واصمي عليه ... في هواها ما يحتوي من نبال
عشق بسيشة الغرام وهامت ... بالأماني نفسه والوصال
لمس بسيشة الشعور بشيء ... مر في نفسها بكل جلال
غاب عنها وعاد خفقا بقلب ... وكلالا في العزم والأوصال
علمت حسها وروعة ومأتا - هـ وعيت في وصفه بمقال
فزعت منه مثل فزعتها من ... جن ليل الجحيم والأغوال
فأتاها كوبيد بالحب روحاً ... وسلاماً للقلب والبلبال
رفعتها إلى السماء يداه ... حيث يخلو الغرام من عذال
العذارى إذا خشين من الحب ... فقد صرن عنده في الحبال
والهوى كالقضاء يهوي على المرء ... كسهم مسدد الإرسال
رب عشق كأنه الموت يلقى ... ووصال كمذبح وقتال
وشراك الغرام تجني فكم ضلت ... فأودت بشادن وغزال
أنشد العيش في العباد عن الحب ... وحاذر من حتفه المغتال
أو تقدم إليه أعمى ضعيفا ... وانتظر ما تجيء فيه الليالي
دمشق:
زكي المحاسني(10/45)
شذرات عن مبعث التفكير وطرائقه
يظن الكثير من الناس أن العقل البشري يبتكر الأفكار وإن الدماغ يوجد النظريات ويخلق الاختراعات على مختلف أنواعها من لاشيء والحقيقة خلاف هذا إذ أن ملاحظات البسيكولوجيين الدقيقة والدرس الاختباري بمراجعة تاريخ الفكر البشري توضح أن الابتكار نادر الوقوع وأن العمليات المحسوسة تسبق النظريات التي يزعمها البعض مبتكرة. خذ مثلاً على ذلك فمن الرواية أو كتابة القصص الخيالية فإن كل جزء من القصة أو واقعة من وقائعها يؤلف بذاته حادثة اعتيادية مألوفة عندنا ولكن التصرف بترتيب هذه الحوادث يوجد رواية جديدة بمجموعها لا مثيل لها. أو خذ علم الحساب والجبر والهندسة والميكانيك أي العلوم الرياضية على اختلافها التي يتخذها البعض دليلاً قاطعاً على ابتكار العقل وقوته المولدة، ومحص طبيعة هذه العلوم تجد أن أساساتها وقواعدها موجودة في هذا الكون إنما تتجلى للعقل على فترات بشكل ملحوظات أو وقائع تحدث حوله أو نتائج لبعض الأفعال التي يفعلها إذا أضفت الخمسة إلى الثلاثة يصير مجموع العددين ثمانية فهذا ليس من مبتكرات العقل بل هو أمر موجود وثابت بصرف النظر عن وجود الإنسان وبالرغم منه لكن العقل البشري امتاز باكتشافه هذه الحقيقة وإدراكه إياها. وكثيراً ما تكون الصدف هي السبب في الاختراع أو الابتكار مثاله بينما كان أحد المصورين يحمي زجاجة على قنديل لاحظ أن وضع الزجاجة حول النور جعله أكثر بهاءً ومنع الدخان من القنديل فاخترع على أثر هذه الصدفة استعمال البلورات على قناديل البترول وتشبه حكاية اختراع زجاجة القنديل حكاية اختراع الورق النشاف وهكذا فإن اختراعات أخرى كثيرة مدينة للصدف بوجودها. أما المكتشفات فما من أحد ينكر أن ليس للعقل البشري يد في إيجادها.
وإن ما ذكر عن المبتكرات الرياضية والمكتشفات يصدق على النظريات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي ليست سوى سرد وترتيب لحوادث هذه النظم الراهنة التي نشأت بالتدريج وبصورة غير محسوسة وفقاً لبيئة كل شعب وظروفه ولذا ترى أن قوانين كل شعب وعاداته تتلاءم مع حالته الفعلية الراهنة فلو كانت القوانين سابقة لاعتياد الشعب السلوك بموجبها لحدث عند تطبيق كل قانون اعتراضات شديدة ومقاومات عنيفة كما هي الحال حينما تحاول إحدى الحكومات تطبيق قوانين حكومة أخرى على شعبها مع أن ظروف الشعبين قد تكون مختلفة فيما بينهما أشد الاختلاف.(10/46)
والفلسفة أيضاً لا تتضمن أي ابتكار أو إبداع، إن هي إلا إدراك شيء من الحقيقة والعلل المختبئة تحت الظواهر وهذا ما يجعلها تكون مدركة من القليلين فقط إنما الإدراك شيء والإبداع شيء آخر. وإذا استشهدنا بشيخ الفلاسفة وبأعظم رجل يمكن للقائلين بالابتكار الاستشهاد به وهو أفلاطون ورجعنا لأهم مؤلفاته وأشهرها وهي الجمهورية التي يحسبها الكثيرون مثالاً واضحاً عن مقدرة البشر على الابتكار نجد أنها من أولها لأخرها. وصف لحالات وترتيب لجزئيات عهدها أفلاطون وعرفها الأثينيون معه إذ أن قوام هذه الجمهورية هو وصف النظام الاجتماعي والسياسي المتبع في مدينة اسبرطة الإغريقية التي اشتهر أمرها في جميع اليونان وما القياس العلمي العالي الذي وضعه أفلاطون لأهل جمهوريته والصحة البدنية التي طلبها منهم إلا بيان لما كانت عليه أثينا في ذلك العصر من روح علمية وتعلق بالرياضة البدنية. وهكذا هي الحال في النظم التي ذكرها كتاب الرومان والفرس والعرب وغيرهم من كتاب الشعوب القديمة والحديثة.
بقي معنا العقائد الدينية والآراء اللاهوتية أو آراء ما وراء الطبيعة وهذه لا يمكننا بتاتاً نسبتها لابتكار البشر إذا كنا من رجال الإيمان كما أنه يمكن للطبيعيين والملحدين نسبة الكثير منها لعوامل بسيكولوجية نشأت كرد فعل لما كان يحف الإنسان القديم من المخاوف والأخطار، أو للقياس والتشبيه على البشر وقد استعملها، على رأيهم، أصحاب الكتب الدينية عندما تكلموا عن الإله والسماء والثواب والعقاب وبالفعل فإن آلهة بعض الشعوب الوثنية القديمة كزفس وهرمس عند اليونان. كانت كالبشر تفتكر وتتصرف. إلا أن الطبيعي لا يمكنه أن يعلل كل ما في الدين واللاهوت بالبسيكولوجيا والقياس بل يبقى لديه أمور كثيرة لا يمكنه تعليلها بهما.
والآن ننتقل لطرائق التفكير عند الشعوب المختلفة أو عند الشعب في مختلف أدوار حضارته فالإنسان عند ابتداء تفكيره أو عندما كان أسلوب تفكيره لا يزال على الفطرة كان طليقاً حراً يفكر كيف يشاء دون رعاية ضوابط أو قيود للفكر فتلذ له الأفكار الدينية التي لا يعلم لها قواعد وينصرف لطرق الأبحاث الأخلاقية والاهتمام بأدب النفس وبالسلوك ويولع بسرد حوادث الماضي وسماعها وبقصص الحروب وبطولة المحاربين ويكثر من الشعر الحماسي ومن الأدب المجازي ومن الوصف الخيالي الذي لا ينطبق حقيقة على الموصوف(10/47)
فيستعير ويشبه ويتخيل كما يرى ثم مع رقي الشعب ونمو المدن واحتكاك الأفكار ووقوع الجدل والمماحكة نتيجة التجمع والائتمار والخصومة أمام السلطة يرى المرء أنه بحاجة لاستعمال البرهان لإظهار أفضلية رأيه ودحض خصمه ونيل مأربه فتظهر القواعد المنطقية وتسن القوانين وتكيف وتعدل بحسب مقتضياتها ويتخذ للعلوم مع تقدمها قواعد يبحث فيها بموجبها ويتطور الأدب من طور المجاز والوصف الخيالي والاسترسال وتطبيق قواعد البديع إلى دور الإيجاز والتمسك بالحقائق على قدر الإمكان وهكذا فالشعوب في أدوار حياتها كالفرد في أدوار حياته تنتقل من اللهو إلى الجد ومن الاستعاضة عن الحقيقة بخيالها إلى السعي الحثيث لإدراك الحقائق المطلوبة والتمتع بها. وعليه فأنت ترى كيف أن اليونان شغفوا بالفلسفة النظرية وبأدب النفس وبالبطولة الرياضية وسرد قصص الأبطال والأقدمين والتحدث عن الآلهة بينما الرومان الذين جاءوا بعدهم وابتدأوا حيث انتهى اليونان تمسكوا بأهداب الجد وقاموا بالفتوحات التي أشبعت أطماعهم الاستعمارية ونظموا علم الحقوق من أحكام وأصول خير تنظيم وشكلوا الأنظمة الحكومية التي تكفل حسن سير سياستهم.
وكذلك لو أخذنا شعباً واحداً ورافقنا سير حضارته نجد أنه كالفرد ينتقل من حال التفكير الطليق الساذج إلى التفكير المنطقي المحدد بالقواعد والقيود وينتقل من الاهتمام بظواهر الحياة وملاهيها إلى الاهتمام بحقائقها وإلى الجد فيها ومن يدرس الأدب الفرنسي خلال الستة قرون الماضية، والأدب الانكليزي أو العربي أو أدب أي أمة عاشت لغتها عمراً طويلاً يرى هذا الانقلاب بأجلى وضوح.
فالأمم تسير في سبيل الرقي الفكري ووجهة سيرها من العمل إلى النظر فتنتقل من التجربة إلى التعليل ومن الإسهاب إلى الإيجاز والرصانة والجد في الحياة.
المحامي شكري جبور(10/48)
أميرة السياسة
السيدة براين أوين
وزيرة أمريكا الخصوصية في الدانيمرك
السيدة روث براين أوين هي من شهيرات النساء في هذه السنين الأخيرة ومن المعروفات في ميدان السياسة ومفاوضاتها في أمريكا وأوروبا وقد عقدت مجموعة له موا فصلاً عن حياتها وأعمالها نلخصه فيما يلي:
قالت السيدة براين أوين في حديث لها عن المشاغل السياسية والولع بأعمالها التي لم تعد تجد سبيلاً للخلاص منها إن الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون وذلك ليتبين كيف انتقل إليها هذا الولع في الأعمال السياسية ومشاغلها عن أبيها المستر جانينغ براين أوين الذي لم يغادر جامعة نيبرسكا إلا ليكون رئيساً للولايات المتحدة وكانت ابنته إذ ذاك في الخامسة من عمرها فلم يك وهو على ما هو عليه من الإعجاب بها يستطيع إلا أن يرافقها إلى المجلس النيابي الأمريكي حيث كانت تجلس إلى جانبه وهنالك في ذلك الجو المضطرم بعواصف السياسة وجد لها العنيف وضجيجها المستمر نشأت الفتاة وترعرعت. ولقد كانت لا تفقه بالغالب ما يجري أمامها من الأحاديث ولكنها كانت دائماً تتابع بنظراتها إياها النائب المحامي الذي كان يمتاز بفصاحته وبراعته في الجدل وإدلاء الحجج والبراهين ولقد كان ذلك معواناً على نبوغها السياسي في الأتي فساعدتها تربيتها الاجتماعية على التصرف في مصاعب الأمور وحل المعضلات والانتصار على أخصامها السياسيين في أحرج المواقف. وكأنها عزمت على اختيار السياسة سلكاً منذ الصغر فأعدت ما استطاعت وهيأت لها جميع ما تحتاجه من المعارف والصفات النفسية عدا ما كانت عليه منذ صباها من النشاط وقوة العزيمة واللباقة والبراعة في الحديث تلك الصفات التي ظهرت بوادرها لرفيقاتها منذ دراستها الثانوية في دير (مونتيتسللو) في سنة 1901 ثم في جامعة نيبرسكا التي درس أبوها فيها. ولم تحل دروس الفتاة الصعبة في الجامعة دون زينتها وتأنقها واعتنائها بتربية جسمها فكانت صبوحة الوجه رشيقة القامة جريئة في الكلام فاتنة اللهجة عذبة الصوت لها جميع ما تحتاجه من الصفات للنبوغ والتقدم في جميع الأوساط التي عملت فيها من بعد. ولقد قضت زمناً تعمل مع أبيها ككاتمة لأسراره حينما كان رئيساً للجمهورية في سنة(10/49)
1908 ثم لم تلبث أن انصرفت إلى معالجة الشؤون العامة الأميركية والتدخل في كثير من القضايا الاجتماعية والسياسية ثم حدا بها صباها القوي وشبابها النشيط أن تبعث بنظرها إلى خارج البلاد الأميركية وهل ثمة ما يحاول دون أسفار من كانت مثلها لها ما تريد من جمال وثقافة وذكاء وغنى؟ ولقد عاشت مدة في ألمانيا درست خلالها الموسيقى والغناء وعرفت كثيراً من أسرار الروح الألمانية ثم انتقلت إلى انكلترا فأقامت فيها سنتين ثم غادرتها فقضت ثلاث سنوات في بلاد الجاماييك وثلاث سنوات أخرى في مصر ثم قامت بعد ذلك بجولة حول الأرض قضت خلالها مدة في الهند ثم في سيلان ثم في اليابان والصين ومختلف بلاد الشرق الأقصى ولم يكن شأنها في جميع هذه البلاد التي مرت بها وسكنتها شأن الدارس النبيه المتتبع وهكذا فقط تعلمت ليس من الكتب فقط بل من الحياة نفسها إن الحياة والعقل والعالم بأسره ليس لها لون واحد بل ألوان مختلفة متباينة وكذلك الحب أيضاً فتزوجت ثم طلقت زوجها الأول ثم تزوجت بالماجور اوفن أحد ضباط الجيش البريطاني فرافقته إلى فلسطين خلال الحرب العامة وكانت معه مثال الزوجة الصالحة على أنها لم تنس قط القضايا العامة في بلادها الأمريكية ولم تنفك عن دراستها والاهتمام بكل شأن من شؤونها. وعندما عادت مع زوجها الضابط الجريح إلى فلوريد في أمريكا انصرفت إلى السياسة والأشغال بها كما كانت تطمح إلى ذلك منذ زمن بعيد وقد ساعدها على العمل أن أولادها الأربعة الذين أحسنت تربيتهم وأحاطتهم بعطفها وحنانها كبروا وأصبحوا بغنى عن عنايتها فاستطاعت هي أن تكرس وقتها إلى الاهتمام بالشؤون المحلية العامة التي ما لبثت أن أصبحت في طليعة من يديرونها فكانت رئيسة كثير من المؤسسات المدنية والدينية والتعليمية أو العائدة لشؤون التربية وعدا ذلك فقد كانت من العاملات في عصبة أسعار الحاجيات وجمعية الآباء والمعلمين وجمعية لتنظيم المسارح والجامعة الرسمية وعصبة المحاضرات العامة والمجلس الوطني النسائي وعصبة الأدبيات الأمريكيات ومجلس العناية بالأطفال وغير ذلك من مختلف المؤسسات والجمعيات العلمية والأدبية التي ساعدت في تأسيسها أو عملت في إدارة شؤونها، وهكذا فقد وقفت لأن تفسح المجال وتهيئ ما يتطلبه انتخابها في مجلس النواب من الشهرة وسعة الإطلاع وقد ساعدها على ذلك أيضاً ماضيها الذي مابرح ماثلاً لأعين أعضاء مجلس الشيوخ الذين ما زالوا(10/50)
يذكرون تلك الفتاة التي كانت ترافق أباها في مجلس النواب وتجلس دائماً إلى جانبه هادئة رصينة. على أن شهرة أبيها لم تكن العامل الوحيد الذي ساعدها على النجاح فقد استطاعت هي نفسها أيضاً أن تثير إعجاب الذين انتخبوها وإن تحرز رضاء واحترام أعضاء مجلس الشيوخ وثقتهم حتى استطاعت أن تنال مكانة أسمى بكثير من المكانة التي يحرزها الأعضاء الأربعة من عائلتها في المجلس الوطني الذين يعدون من المشاهير وكبار الأغنياء في أمريكا. وفي الحقيقة أن السيدة براين هي أميرة السياسة الآن ورغماً عن التسعة والأربعين عاماً التي عدتها حتى اليوم فهي ما برحت متأنقة ذات قوام أهيف ورداف منسجمة يسترها ثوب ملتصق في انسداله وانتظامه جمال وفخامة. وكثيراً ما تتحدث السيدة أوين فتلقى بنظراتها إلى الأرض مطرقة مفكرة كأنها لا تريد أن ترى ما يتركه حديثها العذب وصوتها الرنان من أثر في نفوس السامعين ولكنها لا تلبث أن تعود للتحديق في وجه محدثها فتبعث إليه بنظرات تشع من أعين خضراء رمادية لا يسعه أمام قوتها إلا أن يقف موقف الاهتمام والتجلة والاحترام. وليست السيدة أوين ممن يطلبون الشهرة وإظهار مواهبهم عن طريق السياسة فهي ولوعة بالسياسة تكاد لا تستطيع الانصراف عنها ويدعونها هذا الولع إلى العمل وتحمل المتاعب الجمة فتبذل من الجهود شيئاً كثيراً لأنها تعتقد أن المرأة، حتى في البلاد الأميركية جنة النساء، يجب أن تعمل أضعاف ما يعمله الرجل لتصل إلى النتيجة نفسها.
على أن السيدة أوين لا تخاف العمل ولا تضيق ذرعاً به يساعدها على ذلك الألعاب الرياضية التي مارستها في صباها وما عليه جسمها من سلامة وقوة فهي نشيطة حمولة صبورة جريئة مقدامة استطاعت أن تلقي خلال المعركة الانتخابية الأخيرة التي فازت بها ستمائة خطاب وإن تفاوض بنفسها تسعين رئيساً للتحرير في منطقة انتخابها الأمر الذي عجز عنه أقوياء الرجال من أخصامها في السياسة. ولقد كان من المعقول جداً بعد نجاحها الباهر في معالجة الشؤون الوطنية الداخلية أن تنصرف إلى السياسة الخارجية التي عادت فلقيت فيها النجاح نفسه فهي اليوم وزيرة الولايات المتحدة في بلاد الدنيمرك فائزة ناجحة في عملها وموضع إعجاب أبناء الدانيمرك من جهة ومواطنيها الأميركيين من جهة ثانية وقد كادت الكلمة أن تتفق على حب واحترام هذه المرأة التي استطاعت وهي جدة تعيش(10/51)
لجانب أبنائها وأحفادها أن تتحلى بكل ما تتصف به المرأة الفاتنة المحبوبة. وهي ترى أن في السياسة مجالاً واسعاً لعمل النساء ولذلك فهي تربي أصغر بناتها هيلانة التي لها الآن من العمر ثلاثة عشر عاماً تربية عملية وتدربها منذ الآن على الاشتغال بالمسائل العامة ولعلها تجد في ذلك ما بماضيها القديم فتلقى في هذه الابنة الصغيرة صورة مصغرة عن نفسها هي حينما كانت في هذه السن. ومن رأيها أن المرأة التي تود الاشتغال في السياسة ومعالجة القضايا العمة تحتاج لجسم سليم قوي اعتاد الرياضة وألفها كما تحتاج لعقل سليم يصرف لكل عمل ما يحتاجه من الجهد بنسبة صحيحة عادلة، ولذكاء يساعد على التصرف بالأمور وعلى الخروج من المآزق الحرجة، ولمزاج هادئ رصين يستطيع الهزوء والتنكيت بلباقة وبراعة، ولمقدرة في الكلام وبراعة في الحديث. وإذا استطاع أحد أن يزعم أن أكثر النساء ليس فيهن هذه الصفات فهو لا يستطيع أن يقول ذلك عن السيدة براين أوين أميرة السياسة التي أظهرت للناس في هذا العصر صورة جديدة من صور المرأة الأمريكية التي يحق للولايات المتحدة أن تباهي وتفاخر بها.
كاظم الداغستاني(10/52)
بول فاليري
للكاتب الفرنسي اندره موروا
ديكارت وفاليري
ما أشد الشبه بين فاليري والفيلسوف العظيم ديكارت، فقد وصل الاثنان إلى النثر من طريق الشعر والعلوم وأحب كلاهما في صباه الشعر حباً جماً. ولم يشأ ديكارت أن يحترف في بادئ أمره مهنة الأدب بل تطوع في إحدى فرق الجيش ليسيح في أرجاء العالم الواسع طمعاً أن يكون أحد المتفرجين على مشاهد الألعوبة الإنسانية التي تمثل على مسرح الوجود لا أن يكون من ممثلي هذه الألعوبة. وفاليري أيضاً أبى إلا أن يكون أحد المتفرجين على مناظر العالم. قضى فاليري مثل ديكارت عشرين عاماً في التأمل والتفكير ولم يذع الاثنان للناس نتيجة تأملاتهما إلا بعد انقضاء عشرين عاماً من عزلتهما، والاثنان شديدا الشبه في هذه النواحي الثلاث: قوة التفكير، ومحاولة تجديد الفكر الإنساني، وإعادة بنائه على أسس جديدة وقويمة.
حياة الرجل
ولد فاليري في مدينة سيت بالقرب من مونبليه سنة 1871 وتلقى دروسه الابتدائية في مدرسة بلده ثم انتقل بعدئذ إلى مونبليه وقد ترك لنا ذكريات طريفة عن حياته الدراسية وآراء قيمة في الدرس والتعليم تفسر لنا نزعته الخاصة في الحياة وتكشف لنا عما انطبعت عليه شخصيته الفذة:
لنا أساتذة يتسلطون علينا بالإرهاب ونظرتهم إلى الأدب هي نظرة عسكرية محضة. وقد خيل لي أن للسخافات مكاناً واسعاً في البرامج المدرسية، وإن ضعف النفوس ونقص الخيال هما من العوامل الفعالة في نجاح الكثيرين في المدرسة، ولذا نشأت عندي روح معرضة للتعليم في زماننا
كان لهذه الروح المعارضة للتعليم أثرها في تكوين فاليري ودفعه للارتفاع عن المستوى العادي والخروج عن حيز المجموع ولا عجب إذا أدت به هذه الروح المتمردة إلى رفض هذه الحقائق التي يدعوها رسمية والتي يقدمها الأساتذة إلى تلاميذهم عادة وإلى إعادة بناء صرح حياته الفكرية من جديد.(10/53)
شرع فاليري في العمل، ليس كما كان يرجوه منه معلموه إذ كان يحضر ظاهراً دروس الحقوق في جامعة مونبليه وكان في الحقيقة مكباً على دراسة الشعراء الجدد أمثال بويلير وفيرلين ورامبو ومالا وقد طلع فاليري عقب هذه الدراسات بأفكار طريفة ملخصها أن الفن هو الشيء الوحيد الثابت في هذا العالم وإن فلسفة ما وراء الطبيعة نوع من الهذر ولغو الكلام وإن العلوم دائرة ضيقة لا يستطيع الإنسان أن يظهر فيها مواهبه وما خصته به الطبيعة من مزايا عاليةوإن الحياة العملية تدهور وسقوط تؤدي غالباً إلى عيشة قلقة مضطربة.
ظل فاليري على اتصال دائم مع رجال الأدب أمثال بير لويس صاحب آفروديت أو الحب الإغريقي واندره جيد الكاتب العظيم وقد نظم فاليري حينئذ أشعاراً نشرت في إحدى المجلات الفتية فلاقت رواجاً سريعاً وقد حاول فاليري أن يكون بعدها كاتباً محترفاً ولكن هذه المهنة كانت كما يقول فوق طاقته ودون قواه ووسائله إذ كان ينزع مثل غوته شاعر ألمانيا الأكبر أن يجعل لحياته هدفاً يصعب الوصول إليه ولا أدل على مزاج الرجل وما انطبعت عليه نفسيته من هذه المحادثة القصيرة التي جرت بينه وبين اندره جيد إذ قال هذا أثناء الحديث سأقتل نفسي لو منعني أحد عن الكتابة.
أما أنا، أجاب فاليري، سأقتل نفسي لو أرغمني أحد على الكتابة!!
قضى فاليري سنة في الخدمة العسكرية فأعجب بروح النظام السائدة فيها كما أعجب ستاندال من قبل بالقانون المدني وترتيبه المنطقي.
اجتاز فاليري سن الحداثة ليس مثل اندره جيد الذي تحرر عن طريق لذة الحواس ولا مثل بايرون عن طريق الشعر والإلهام أو مثل عامة الناس عن طريق العمل ولكنه تحرر مثل زميله ديكارت عن طريق الفكر وتقوية دعائم الشخصية فقد أقام فاليري في باريس في غرفة كان يسكنها سيد الفلسفة الوضعية أو غوست كونت وهنا في هذه الغرفة الحقيرة صار يسود عدة صفحات تدور معظمها على مواضيع فلسفية بحتة كفكرة الزمان والمكان والأحلام والانتباه ونصيب العلوم من الحقيقة وسير الفكر الإنساني في مدارج التطور والارتقاء.
ماذا وجد فاليري في جهاده الفكري؟(10/54)
وجد طرائق غير عادية تمكننا من الوصول إلى نوع من الدقة في التفكير واستطاع بما حذفه من الكلمات المبهمة التي لا تؤدي المعنى بتمامه أن يوجد مفردات عديدة تفي بهذا الغرض بعد أن أعمل قلم التهذيب فيها وحذف كل ما وجد نقصاً في تعريفها.
لقد أصبت بمرض الدقة ونزعت نفسي إلى تفهم الأشياء تفهماً كلياً وغدا كل ما هو سهل في نظري محتقراً ومذموماً فأسأت الظن بالآداب وكل ما كان رقيقاً من الأشعار وهجرت الفلسفة كلها واعتبرتها من الأشياء المحتقرة التي تشمئز نفسي منها.
طريقة الرجل: الدقة
ناتانائيل! سوف لا أعلمك التآلف بل الحب!
بمثل هذه الكلمات يخاطب اندره حيد تلميذه في كتاب طعام الأرض ولو قدر لي اكتب عن طريقة فاليري في الكتابة لما وجدت أحسن من ترديد هذه الجملة:
اركسيماك! سوف لا أعلمك الوضوح في الكتابة بل الدقة.
يجد معظم الناس كتابة فاليري غامضة ولم يكن هذا التذمر إلا ليلاقي استغراباً ودهشة من الشاعر العظيم فكان يجيب بقوله يسوؤني تعذيب عشاق الوضوح والنور إذ لا شيء يجذبني مثل الوضوح في الكتابة وأن ما ينسبونه إليّ من الغموض هو ضعيف بجانب الحقائق التي اكتشفتها دوماً. . . يا صديقي أن لي فكراً لا يقنع بحقيقة الأشياء إلا بعد التحقق منها.
ومن الغريب أننا إذا تدبرنا الكتب التي عرفت بسهولتها وجدنا أنها تحتوي شيئاً من الوضوح الغامض ولم يتردد فاليري في خطابه إلى الأكاديمية من الإشارة إلى الوضوح في كتابة صاحب الزنبقة الحمراء قائلاً:
أحب الناس بسرعة كتابة فرانس لأنهم استطاعوا أن يتذوقوها بدون أدنى مجهود فكري إذ كانت هذه الكتابة تخدعهم بمظهرها الطبيعي الجذاب وإن كانت تخفي تحت فكرة مقصودة واضحة. في كتب فرانس أثر لفن التقاط الأفكار والمسائل الصعبة. وقد لا يستوقف القارئ عند قراءته كتب فرانس سوى هذه الأعجوبة أنه لا يشعر بأدنى مقاومة أثناء القراءة. الوضوح أمنية لذيذة توحي لنا أننا نتثقف بدون عناء وأننا نتذوق الكتب بدون نصب وأننا نفهم بدون شدة وأننا نتمتع أخيراً بمشاهد الرواية دون أن ندفع فلساً واحداً. ما أسعد هؤلاء(10/55)
الذين كفونا مؤونة التفكير وبسطوا بيد خفيفة ستاراً براقاً على صعوبة الأشياء.
لقد أجاز فاليري لنفسه حينما نظم الشعر أن يكون غامضاً أو بالأحرى موسيقياً
كما أجاز ذلك لبقية الشعراء ولكنه إذا أراد أن يكتب نثراً أو إذا حاول أن يبني أفكاراً متسلسلة تعمد الدقة في الكتابة فهو لا يستعمل الكلمة قبل التحقق من معناها التام وتعريفها الشامل والخلاصة إنه يريد أن يكون لكتابته نصيب من الدقة يعادل نصيب الأعداد من الدقة الرياضية.
وهكذا ترى أنه لاشيء يوقف فاليري في جهاده في سبيل الدقة لأن جهاده الفكري هذا ينطوي على شجاعة وثبات نادري المثال فهو لا يقبل الحقائق السهلة ولا تخدعه الآراء العامة ولا يعترف بسلطة الأخصائيين فهو يلقى عن نفسه إزاء كل مسألة هذا السؤال:
ماذا يعني تماماً الشاعر والكاتب؟
وهو شديد الشبه بديكارت إذ ينقب في كل بحث ويفرض على نفسه هذا الشك المنظم وأراني مخطئاً بقولي بفرض لأن هذا الشك من مميزات فاليري وخاصة من خواص عبقريته النادرة المثال.
فاليري والتاريخ
أساء فاليري الظن كما رأينا بالآداب والكتاب والفلسفة وقال إنها نوع من الهذر لا ترتكز على شيء من الحقيقة وأخيراً أساء الظن بكل ما فرضه عليه الغير من الحقائق الجاهزة التي سلم بها معظم الناس.
والتاريخ من الحقائق الرسمية التي يخشاها فاليري فكان فاليري أحد الذين قاموا ضد النظريات المعروفة بالقوانين التاريخية وهي التي تنص أنه في أمكاننا استنتاج المجهول من المعلوم أي الاستدلال من الماضي عن حوادث المستقبل فيرى فاليري أن التاريخ من 1 - الفنون التي ابتدعها العقل الإنساني ولا شيء يوازي خطره على سير الحضارات الإنسانية فهو يدفع الشعوب إلى التنعم بالماضي ويسكرهم بحوادثه الخداعة الكاذبة ويقلق راحتهم ويدفعهم نحو هذيان العظمة أو الاضطهاد ويجعل الشعوب المغلوبة صعبة القياد. ويعتقد فاليري أيضاً أنه من الجنون الصرف أن يؤمن في استطاعة التاريخ إطلاعنا على حوادث المستقبل ولم يتردد فاليري في خطابه في حفلة توزيع الجوائز على طلبة إحدى(10/56)
المدارس من القول إنه لما كان في سنهم عام 1887 كانت صورة العلم تختلف تماماً عما هي الآن من الاضطراب وعدم الاستقرار هل كان في مقدور أعظم السياسيين في ذلك الوقت أن يتوقع أن أوروبا ستصبح على هذه الحالة وما أظن أنه مهما بلغت القوانين التاريخية من الدقة أن تعطينا صورة ولو قريبة عما سيكن عليه العالم سنة 1935.
تحكم العلوم الصحيحة من المستقبل وذلك ضمن قواعد دقيقة وتبعاً لقوانين محدودة أما في التاريخ فليس من الممكن أن نحكم على المستقبل ولذا غدت كل التنبؤات من قبيل التضليل لأن التاريخ ليس بعلم بل هو فن لكل الفنون يجب أن يتبوأ مكانه بين آلهات الشعر والخيال. وما هذا الاعتقاد والإيمان بالتاريخ إلا وليد الفلسفة الوضعية التي ظهرت من القرن التاسع عشر ذلك القرن الذي أسكرته انتصار العلوم التجريبية فقد جرب أن يطبق قواعد هذه العلوم التجريبية على العلوم الزائفة المدعوة بعلمي الاجتماع والنفس فكان نصيبه الفشل التام.
فاليري والفن
قد يكون من الخطأ أن يعتقد أن العالم مركب من اصطلاحات قائمة بين أفراد البشر لأنه لا يوجد حقيقة أقدم من الاصطلاحان التي ابتدعها العقل البشري ولكن كيف للبشر أن يدرك هذه الحقيقة ما دامت غريبة عنه؟
يجيب فاليري كما أجاب بروست من قبل: في مقدورنا إدراك الحقيقة بالفن ويمكن إدراكها بواسطة الشعر - على شرط أن نفهم الشعر بمعناه الواسع فالشعر يسمح للفكر أن يتصل بالحقيقة الأولية التي سبقت الدور الذي اكتسبنا به معارفنا ومعلوماتنا. لأن دور الشاعر يتلخص في إعطاء الكلمات قيمتها الموسيقية وبأن يخلق حول هذه الكلمات السر العجيب الذي كان يحوطها أثناء ظهورها وولادتها.
لا ينظم الشاعر قصيدته بالأفكار ولا بالعواطف وإنما ينظمها بالكلمات.
فقد شبه فاليري الشاعر (بعامل) ذي وجدان حي وفكر منظم فهو (يركب) قصيدته كما يركب العامل في المصنع الآلة من الآلات التي هيئت لعمل من الأعمال - أعني تركيب القصيدة يجب أن يخضع لقواعد معروفة ومحدودة لآن حماسة الجمال التي يسعى وراءها الشعراء والتي جربوا تعريفها لم تكن إلا عاطفة استحالة التحول.(10/57)
ولا يعزب عن البال أن مثل هذه الآراء تطرد فكرة الاستيحاء في الشعر لأن فاليري يهزأ من الاستيحاء ويعتقد أنه بغير مركز الشاعر وينقله من دور عامل إلى دور شاهد.
إبراهيم الكيلاني(10/58)
مدام كوري
نعت الأخبار العالمة الكبيرة مدام كوري. وليس من قراء الثقافة من يجهل هذا الاسم. فإنه مقترن باكتشافٍ هو بلا شك من أعظم اكتشافات القرن العشرين والسنين الأخيرة من القرن التاسع عشر، أعني به اكتشاف عنصر الراديوم الذي ألقى ضوءاً ساطعاً على نواحي هامة من علم الطبيعة والكيمياء كظاهرة الإشعاع وبناء الجوهر الفرد. هذا فضلاً عن فائدته العملية الإنسانية في معالجة بعض الأمراض المستعصية كالسرطان. ومن يتكلم عن تاريخ هذا العنصر العجيب وظواهر الإشعاع فهو يتكلم حتماً عن تاريخ حياة مدام كوري وزوجها.
وكذلك فإن تاريخ حياة هذين الزوجين يصح أن يكون تاريخ الراديوم.
ولدت مدام كوري، واسمها قبل الزواج ماري سكلودوفسكان في فارسو عاصمة بولونيا في سنة 1867. وقد أرغمت وهي تلميذة على ترك بلادها لاشتراكها في جمعية ثوروية للطلاب. فجاءت باريس وانخرطت في سلك طلبة السوربون ثم اقترنت بالعالم الفرنسي الشاب بيير كوري وأخذت تدرس معه ظاهرة الإشعاع التي كان قد اكتشفها حديثاً العالم الفرنسي بيكريل في عنصر الأورانيوم.
ويستخرج هذا المعدن من تراب نادر الوجود اسمه بخ بلند وبينما كان الزوجان يحاولان عزل الاورانيوم عن المواد الغريبة المختلطة به لاحظا لشدة دهشتهما أن هذه المواد أكثر أشعاعاً من الاورانيوم نفسه. فشكا في وجود عنصر آخر ذي خواص إشعاعية قوية. وأخذا في البحث عنه. وبعد أتعاب شاقة طويلة لا يسعنا الآن وصفها توصلا إلى عزل عنصر جديد يفوق بقوة إشعاعه معدن الاورانيوم نفسه وأطلقا عليه اسم الراديوم.
وقد اكتشف الزوجان فيما بعد عدة عناصر أخرى مشعة منها العنصر الذي سمته مدام كوري يولونيوم أكراماً لوطنها الأصلي0. وقد انكب العلمان منذ هذا الاكتشاف على التعمق في درس ظاهرة الإشعاع والعناصر ذات هذه الخواص وكانت نتيجة أبحاثهما عميقة التأثير في الطبيعة وأحدثت فيها انقلاباً عظيماً. وقد استحقا لذلك جائزتين علميتين قيمتين في سنة واحدة. الأولى جائزة نوبل المشهورة والتي اقتسماها مع بيكريل الأنف الذكر. وفي السنة نفسها نالت مدام كوري لقب الدكتوراه في العلوم وكان موضوع أطروحتها الراديوم. وقد عينت على أثر ذلك مديرة الأبحاث في المخبر الذي أنشأه زوجها خصيصاً لدرس ظواهر(10/59)
الإشعاع وقد كان بيير كوري قد انتخب عضواً في أكاديمية العلوم وهو لم يتجاوز الخامسة والأربعين. وذلك بفضل اكتشافاته العلمية القيمة التي قام بها بالاشتراك مع زوجته.
لكن لسوء حظ العلم اختطفت المنية الزوج وهو في فجر شهرته وعنفوان رجولته فذهب ضحية حادثة عربة. فأمست الزوجة وحيدة بعده وهي الطريدة الغريبة عن وطنها. لكن ذلك لم يثنها عن عزمها. بل نراها قد ضاعفت الجهود في متابعة الأبحاث التي كانت قائمة مع زوجها بهمة لا تعرف الملل وعزم يعجز عنه أشداء الرجال. وقد قدرت جامعة باريس كفاءة هذه العالمة الفذة ولم تجد أخلق منها خلفاً لزوجها في الكرسي الذي كان يشغله في السوربون. وقد برهنت هذه الأستاذة باكتشافاتها التي قامت بها بعد وفاة زوجها أنها أهل لهذا المركز الرفيع. يدلك على ذلك نيلها في سنة 1911 جائزة نوبل في الكيميا للمرة الثانية. وقد أنشأت في باريس مؤسسة الراديوم المخصصة لبحث ظواهر الإشعاع وأسميت مدام كوري رئيسةً لقسم الأبحاث فيها.
وهذه العالمة الفاضلة على الرغم مما أصابته من الشهرة العالمية لم تنس وطنها الأصلي بولونيا. وكانت لا تترك فرصة دون إظهار تعلقها به وغيرتها عليه. منها سعيها ونجاحها في تأسيس مخبر الإشعاع في فارسو.
وقد أسدت مدام كوري خدمات إنسانية لا تثمن أثناء الحرب الكبرى بإنشائها أقسام للمعالجة بالإشعاع في المستشفيات العسكرية.
ومما هو جدير بالذكر ويدل على عظمة تقدير العالم لهذه الإمرأة الكبيرة اشتراك نساء أميركا بتكريمها وإهدائها غراماً من الراديوم قدمه لها الرئيس هاردنغ حين زيارتها الولايات المتحدة. وهذه الهدية ليست بقليلة الأهمية لأن غرام الراديوم لا يقل ثمنه عن عشرة آلاف ليرا ذهبية.
لا عجب بعد ما رأيناه من عظم الخدمات العلمية التي أسدتها مدام كوري للإنسانية إذا وضعناها في عداد نساء التاريخ الخالدات - وإذا كان خلود أخواتها لنبوغهن بالجمال والدهاء والأدب فهذه الأولى من بنات حواء التي سوف يخلد التاريخ ذكراها لنبوغها في العلم.
دمشق في 15 تموز سنة1934(10/60)
ميخائيل كزما(10/61)
القراءة والحياة
نشر المسيو (آرمان بيرهال) في مجلة الحياة الفكرية مقالاً في الرواية والشبيبة وتأثيراتها تعرض فيه للنقل والسرقة والجوائز الأدبية وأضرارها وحقوق النقاد وواجباتهم. ومما قاله:
يريد بعضهم أن يدافع عن الروايات التي ألفها الشبان فيفيض في ذكر صفاتها الغنائية ويقول لك إن هذا مفعم بالخوف من الحياة وذلك مليء من الحزن والتشاؤم والاضطراب. غير أن هذا النوع من الشعور يصلح التعبير عنه بالشعر لا بالرواية.
. . . الرواية يجب أن تكون مرآة للحياة ولذلك يندر أن تكون ظاهرة من ظواهر حياة الشباب. فهي تقتضي جملة من التجارب والوقائع التي يستقي منها الوحي. حتى أن كثيراً من الروائيين المشهورين لم ينجحوا في رواياتهم الأولى التي ألفوها في زمن الشباب. إن روايات (بالزاك) الأولى لا تقرأ. وقد اعترف هو نفسه بذلك، ولم يبق لها اليوم قيمة. من يتذكر اليوم وارثة (بيراغ)؟ أن رواية ورتر التي ألفها غوت في شبابه ليست رواية حقيقية بل هي حديث أو حكاية حال شخصية، وأما الروايات الحقيقية كرواية (ويلهلم ميستر) فقد ألفها غوته في سني النضوج. وإذا ألقينا نظرة على جميع الروايات الخالدة لجميع الكتاب وجدناها من إنتاج التجربة والحياة وزمن تكامل العقل والملاحظة أما القصائد الجميلة فهي من معجزات الشباب. القصيدة تضطر الشاعر إلى جمع الصور طابع الإرادة المبدعة. وهذه الإرادة المبدعة هي العنصر الداخلي الأساسي لكل أثر فني. أما الرواية فليس فيها حاجة إلى هذه الضرورة لأنها ظاهرة من ظواهر الحياة.
الكاتب والصحافي
نشر المسيو (جوليان بندا) في صحيفة النوفيل ليتيرير مقالاً تحت عنوان: الكاتب والصحافي أجاب به عن سؤال طرحه أحدهم على الكتاب جاء فيه:
بين المؤلفين الجدد من نشأ كاتباً لا صحافياً غير أنك تجده في كل يوم يقبل العمل بانتظام في صحيفة يومية أو أسبوعية خاضعتين لسير الحوادث السريع. فهل يربح الكاتب بتقربه على هذه الصورة من الحياة أم هل يخسر إذا عمل بسرعة وجعل إنتاجه خاضعاً للحوادث اليومية.
ومما قاله المسيو (جوليان بندا) في الجواب عل هذا السؤال:(10/62)
إن الذي طرح السؤال على هذه الصورة مصيب جداً. وأظن أنه يعني بالكاتب، المؤلف الحقيقي الذي يضع الكتب ويبذل في تأليفها كثيراً من الجهود الجبارة، فهل يخسر هذا الكاتب شيئاً من قيمته وهل ينحط قلمه إذا هو قبل العمل في الصحف اليومية؟
لا شك أن الكاتب إذا اضطر إلى السرعة خسر صفقته واستبدل الكيفية بالكمية ولكن الإسراع في الكتابة ليس ضرورياً بل في وسع الكاتب أن يدقق في مقاله ويدرسه ويطلب الزمان الضروري لذلك. وهذا يقتضي أن يكون الكاتب على شيء من السذاجة، قليل الاهتمام بالأمور المادية.
أضف إلى ذلك أن الصحف اليومية لا تنفرد وحدها باضطرار الكاتب إلى الإسراع، لأن الذي يسرع في كتابة مقاله قد يسرع أيضاً في وضع كتابه فيجيء كتابه خالياً من الصفات الأدبية، وكثيراً ما يخضع الكتاب إلى ضغط تجار الكتب الذين يرغمونهم على إخراج كتبهم في مدة معينة لا يجدون فيها متسعاً للعناية والتفكير والتأمل.
إذن، لا شيء يمنع الكاتب من التدقيق فيما يكتبه سواء أكان صحافياً أم مؤلفاً. ولكن التدقيق الطويل في المقال والتبديل يدخل على المقال شيئاً من الكلفة، والكتابة تحتاج إلى إتباع الطبع وعدم التكلف. وهذا الأمر لا يختلف من شخص إلى آخر.
من الصعب على الكاتب أن يكون مضطراً لتهيئة مقاله في مدة معينة فيجلس للكتابة وليس في فكره شيء من المعاني. ولكن كثيراً من الآثار الخالدة تولدت من هذه الصفحات اليومية. كان (الوتر) يقول منذ عشرين سنة أن الكتاب ينقسمون إلى قسمين. فالأول يكتب لأن عنده أفكاراً يريد نشرها، والآخر يبحث عن الأفكار فلا يجدها.
الخلاصة أنه في وسع الكاتب أن يصبح صحافياً من غير أن ينحط أسلوبه، وذلك على شريطة أن يحافظ على ما تقتضيه منه شروط الإنشاء والتفكير. إن الأخبار المحلية توحي للكاتب بكثير من المعاني الفلسفية والتأملات العالية. انظر إلى حادثة (ستافسكي) مثلاً فهي وحدها كافية للوحي بتأملات فلسفية قد لا يجدها الكاتب في سواها. إن كتابة المقال لا تختلف عن تأليف الكتاب، لأنها تحتاج إلى الفكر التركيبي الذي يجمع العناصر ويؤلف بينها ليبدع منها وحدة متسعة.
ج. ص(10/63)
التعليم في سوريا
أقام المعلمون والمعلمات بدمشق في 9 تموز سنة 1934 حفلة لمستشار المعارف المسيو كوله بمناسبة تأصله وسفره إلى فرنسا ألقى فيها حضرته خطاباً رأينا أن نقتطف منه بعض المعاني لأنها ذات علاقة بالإصلاح وتمازج الثقافتين الشرقية والغربية، فمما قاله:
يمكنني أن أقدم لكم شهادة محسوسة على ما أشعر به نحوكم بتحليل انفعالاتي قبيل السفر. نعم إنني سعيد بحصولي على شيء من الراحة بعد عمل متصل دام 21 شهراً. وأراني سعيداً أيضاً بالرجوع إلى فرنسا لمشاهدة سواحل بلادي وجبال وطني والاجتماع بأسرتي. ولكن هذا السرور ليس خالصاً من شائبة لأنني لا أغادر سوريا ولا أقطع عملي المعتاد إلا وأشعر بضيق في القلب. والسبب في هذه الحسرة أنني أغادر، بابتعادي عن دمشق وسوريا، طائفة من المعاونين والأصدقاء الذين تعودت العمل معهم فارتبطت بهم ارتباطاً عميقاً.
ثم مدح حضرته معلمي سوريا وإخلاصهم وقال أنه عرفهم في جميع درجات التعليم سواء أكان في المدارس الابتدائية أم في الثانوية أو في الجامعة وقال إنه وجد تضحيتهم في أيام الشقاء لا تقل عن إخلاصهم في أيام الرفاه وإنه لا يزال يذكر اليوم الذي طلب فيه من أساتذة التجهيز أن يقبلوا التدابير التي اتخذتها وزارة المعارف لحفظ الميزانية ويذكر أن جميع الأساتذة رضوا بذلك وأنهم ما في وسعهم من الجهود بكل إخلاص وتضحية.
قال: إن نتائج مجموع هذه الجهود وهذه التضحية التي رضي بها المعلمون بإخلاص واحد سواء أكان ذلك في المدارس الابتدائية أم في الصفوف الثانوية أم في غرف محاضرات الجامعة، أقول أن نتائج هذه الجهود عديدة مثمرة. لا أريد أن أذكرها كلها هنا ولكنني سأذكر منها بعض الأمثلة الرمزية الدالة عليها. فأولاً يمكنني أن أذكر نمو التعليم من جهة الكمية. كان عدد التلاميذ سنة 1926، 27. . . تلميذ فأصبح في هذه السنة 76. . . . إن هذه الزيادة من واحد إلى اثنين متساوية بين المؤسسات الرسمية والمعاهد الأهلية وهي أعظم زيادة حصل عليها في الشرق الأدنى. وفي الحق أن الأعداد تدل على أن نمو التعليم في سوريا منذ سنة 1919 أعظم من نمو التعليم في العراق وتركيا ومصر، تلك البلاد التي تقطع في طريق الارتقاء مراحل كبرى. إن لإخلاص المعلمين التأثير الأول في هذا النمو. ومن نظر إلى عدد التلاميذ في الصفوف قدر هذا الإخلاص، إن عدد المعلمين الذين يجب(10/65)
عليهم تعليم 37. . . تلميذ في المدارس الرسمية هو 800 يدل ذلك على أن المعدل الذي يلحق كل منهم يعتبر في البلدان الأخرى أعظم معدل، وهذا يقتضي أن تكون بعض الصفوف مشتملة على 100 تلميذ. إن أساتذة بعض الصفوف في مدارسنا التجهيزية يعنون 88 تلميذاً. وهذا يقتضي سعياً شديداً وتعباً كثيراً وصعوبات غير اعتيادية يجب التغلب عليها كل يوم.
ثم أن التعليم قد تحسن من جهة الكيفية سواء أكان في المدارس الأهلية التي تحضر في كل سنة لامتحانات أصعب، أم في المدارس الرسمية التي تزداد هيئة أساتذتها قوة في ابتداء كل سنة مدرسية. هذه مدرسة التجهيز في دمشق، أنها اليوم تليق حقاً بأن تكون تجهيز عاصمة لأنها ذات هيئة تعليمية أهل للقيام بعملها فتوصل عدداً كبيراً من التلاميذ بكل أمان إلى النجاح الذي يستحقونه عن جدارة. أنني لا استطيع أن انتقل من هذا الأمر دون الإلحاح بذكره. إذا تكلمنا عن التعليم في الشرق، كان من واجبنا أن لا ننسى بأن السلطات التعليمية، في سوريا، قد اتخذت لنفسها هدفاً عالياً. إن المقايسة مثلاً بين سوريا والممالك المجاورة وخصوصاً الممالك التي بدأ التجديد فيها قبل سوريا تسمح لنا بأن نشاهد أن تنظيم تعليمنا الثانوي الرسمي أثبت أركاناً لأنه أطول مدة وأصلح تحقيقاً لثقافة الذين يطلبونه. لقد أصابت سوريا بانتخاب أقسى طرائق التربية لأنه بالنسبة إلى الأفراد كما بالنسبة إلى الأمم، من الحسن أن لا ينفع المرء بالقليل، لأن الجمال هو في التغلب على الصعوبات.
وينبغي لي أن استشهد أيضاً بنتيجة أخرى صادرة عن هذه الفلسفة التي تهزأ بالسهولة الخطرة.
إن الأساتذة والمعلمين يتابعون مساعيهم في جميع درجات التعليم لاصطفاء الأصلح وذلك في سبيل منفعة الأفراد ومنفعة الأمة، وفي سبيل منع بعض الأفراد غير المجهزين كافياً من الانخراط في طرق وعرة لا يستطيعون متابعتها حتى النهاية من غير أن يتألموا ألماً شديداً. وخصوصاً لوقاية البلاد من شر صعاليك التفكير الذين يدخلون الاضطراب على حياة بعض الأمم ويهددونها بالرغم من أنها في عداد الأمم القوية. أنكم تسعون جميعاً بروح واحدة وشعور سام بواجباتكم (واجبات المربي الثقيلة) وحماسة عزمكم الواحدة، لخدمة بلادكم خدمة الوطنيين المتأججين والمنورين الذين يبذلون الجهود الدائمة في وضع أكاليل(10/66)
الغار على رأس الذين يستحقونها.(10/67)
الكتب والصحف
العامي النبيل
هي إحدى الروايات التمثيلية التي ألفها موليير الأديب المعروف وقد ترجمها إلى العربية الأستاذ فؤاد نور الدين ترجمة صحيحة بلغة جيدة وعبارات مختارة، فيها من التأنق وحسن الانتخاب ما لا يقل عن أصل العبارة الفرنسية وقد راجعنا بعض فصول الرواية الفرنسية وقابلناه بتعريبها فوجدنا أن الترجمة حسنة ندر أن تجد فيها ما تأخذه على المعرب مما يدل على عنايته الشديدة وحرصه على المحافظة على الأصل وأمانته في النقل الأمر الذي يحتاج إلى جهود كثيرة وصبر وجلد ولقد نجح في عمله فجاءت الرواية رشيقة الأسلوب تكاد لا تخسر شيئاً من قوتها باللغة الفرنسية وقد قدمها للقراء الأستاذ مظفر سلطان بلمحة عن الأدباء والأدب الفرنسي الروائي القديم وعن موليير الأديب الفرنسي وبعض مؤلفاته والرواية المعربة مطبوعة في حلب على ورق صقيل بأحرف جلية واضحة وهي جديرة بالمطالعة والاقتناء يستحق معربها كثيراً من الشكر على جهوده.
رواية ذكريات رفقة
عبارة ملؤها انسجام وسلامة ومعانٍ سامية في تمثيل الأخلاق الكريمة والمبادئ القويمة أبان الكاتب المتفنن والشاعر البليغ اللغوي الشيخ أمين ظاهر خير الله كيف تغرس الشيم الحسان في صدور الصغار فتعطي الثمار الجيدة في عهد الشباب وكيف تهتم الجدة بحفيدتها فتكون من بنات الفضيلة والصلاح في ريعان شبابها.
وفيها بيان موقف الفتاة متى بلغت سن الزواج وجاء النصيب فتحسن اختباره وتثبت كفاءتها لتكون ربة بيت تكرم جاهاً وتنشئ لزوجها بهجة حياة وتحرز الكرامة لأصالة رأيها ودماثة أخلاقها.
يحسن بكل حماة وكنه وفتاة وزوج وشاب يتطلب نصيباً أن يتصفح هذه الرواية التي هي خلاصة حكمة البيوت الراقية في فضيلة وجاه. عدد صفحات الرواية 140 من القطع الكبير بحرف جميل وورق جيد وثمن النسخة 10 قروش سورية تطلب من مؤلفها في دمشق ومن إدارة هذه المجلة وترسل القيمة مقدماً.
المنقذ من الضلال(10/68)
لحجة الإسلام الغزالي
ألف الغزالي هذا الكتاب بعد أن أناف سنه على الخمسين، وجمع فيه على صغر حجمه، معظم المبادئ التي جاهد في سبيلها طول حياته. ولخص كثيراً من المذاهب الفلسفية السائدة في زمنه، فحرر القول فيها كلها، وأبدى رأيه في المتكلمين والإلهيين، والطبيعيين، وغيرهم، ثم انثنى على الفرق الدينية، فبدأ بالتعليمية وقوض أركانها إلى أن حط رحاله في حلقة الصوفية، وأبدى إعجابه العظيم بمبادئهم ورد على غلاتها القائلين بالحلول والتناسخ وغير ذلك. وختم كتابه بفصلين موجزين أولهما حقيقة النبوة واضطرار كافة الخلق إليها وثانيهما سبب نشر العلم بعد الأعراض عنه.
هذه هي أمهات فصول هذا الكتاب القيم، الذي تولى طبعه ونشره مكتب النشر العربي بدمشق مشروحاً مضبوطاً، مشكول الآيات، وبالجملة فهو مثل صالح لجودة الطبع والضبط في العصر الحاضر.
وقد صدر بمقدمة مستفيضة عن الغزالي وفلسفته وتحليل المنقذ من الضلال بقلم الدكتورين جميل صليبا وكامل عياد. والذي نراه حرياً بالعناية والتدبر، تلك التوطئة التي حاول فيها كاتبا المقدمة، أن يثبتا استقلال الفلسفة الإسلامية متمثلة بشخصية الغزالي. والحق أن هذه الفكرة التي بسطت في مقدمة هذا الكتاب بإيجاز يصح أن تكون نواة صالحة لسفر ضخم، يجب أن يضطلع بعبء تدوينه أحد علمائنا القديرين في هذا الموضوع الخطير أعني به نواحي استقلال الفلسفة الإسلامية عن فلسفة أرسطو، والأفلاطونية الحديثة، والفلسفة الهندية وغيرها وبدهي أنه موضوع جليل طريف، لم يكتب عنه حتى يوم الناس هذا إلا النزر اليسير.
يقع الكتاب في مئة صفحة، والمقدمة في نحو خمسين، وترى في الكتاب أهم المصادر التي كتبت عن الغزالي، من المشارقة والمغاربة.
ظ 0 د 0 ع 0
طيب الأريج
في الجلاء عن حاجة علم متن اللغة إلى المباني والتخريج(10/69)
وضع الشيخ أمين ظاهر خير الله العالم اللغوي الكبير رسالة في المباني والتخريج قدمها إلى المجمع الملكي للغة الضاد فقال: أمام هذا المجمع مذهبان له أن يختار أحدهما. الأول: النظر في تراث الأولين بتدقيق فما وجده صحيحاً أقره وما أنكره التدقيق قذف به. . . والثاني: أن يقدس جهود الأقدمين فلا يمد يداً إليها ثم يبني عليها ما يرى بنيانه ثم قال:
فإذا أريد تحرير متن اللغة على وجه يميط اللثام عن دقائق مباني الحروف ومعانيها لتعرف حكمة أوضاعها وتستقيم أقيسه صيغها فلا غنى عن علم المباني والأسلوب المحقق في تخريج الحروف بمقتضاه
وقد عرف الشيخ علم المباني بقوله:
علم المباني من الصرف كعلم المعاني من النحو أو مسك الدفاتر من حساب العدد فالنحو ينظر في تركيب الجمل وصحة إعرابها والمعاني ينظر في كل ذلك وفي مطابقة سبك الكلام على مقتضى المعاني المقصودة به فيستوي عند النحو (إنما زيدٌ عالم، وإنما عالم زيد) فكلا القولين صحيح. أما المعاني فلا يستويان لديه ويذهب إلى أن إنما زيد عالم ينبغي أن ترد حيث لا يصح أن ترد إنما عالم زيد. وكذلك يستلزم موضعاً آخر إنما عالم زيد. ومسك الدفاتر يستخدم القواعد الأربع الحسابية والنسبة والنمرة كما يستخدمها علم الحساب، ولكن له في استعمالها أسلوباً ليس في الحساب، فكل دفتري حسابي وليس كل حسابي دفترياً، وكل معاني نحوي وليس كل نحو معانياً. وعلى هذا يكون كل مباني صرفياً وليس كل صرفي مبانياً.
علم المباني ينظر في المعنى ويختار له المبنى الخاص به فيقول المعنى الفلاني له المبنى الفلاني وإن المبنى الفلاني للمعنى الفلاني.
والشيخ أمين ظاهر خير الله من الذين يفضلون الاستقراء والقياس في تخريج الألفاظ على التقليد فقال إن علم المباني استقرائي كعلم الصرف لأن الثمرة لما خصائص شجرتها، نعم إن الاستقراء مهما أجهد الفرد في استيعابه فلا يصل إلى منتهاه ولاسيما إذا كانت مواد استقرائه غير متسعة، وكانت المعاجم غير مستوعبة اللغة ومحررة العبارة ولا مدفقة المعاني ولا مستكملة المطالب ولا مستقصية المواد
غير أن الشيخ كوالده المرحوم ظاهر خير الله يقول ولذلك يجب أن تكون اعتمادنا في(10/70)
المباحث اللغوية على القياس إلا في أصول المواد المذكورة في المعاجم.
ويجب أن يكون رائدنا في القياس علم المباني والتخريج.
لسنا نستطيع أن نأتي هنا بجميع الأمثلة التي أوردها صاحب الرسالة لبيان حقيقة هذا فنقتصر على إيراد كلمة واحدة، قال: يروي التصريف للفعلين المجردين: الثلاثي والرباعي بناءين ولكل منهما مزيدات أحصاها الاستقراء منذ القديم ولكل من تلك المزيدات معانٍ، ولكل مبنى من هذه المزيدات قبيل يكثر أو يقل بحسب اقتداره على الاتساع للمعاني المراد سبكها فيه. فقد يأتي معنى ما فيتجاذبه مبنيان فأكثر. فجاء أخبره وخبره وأفهمه وفهمه. وجاء أسرجت الجواد وألجمته. وجاء ثقفت الرمح وقومته ولم يجئ أثقفت الرمح وأقمته. ومن هذا المثال يتضح أن أفعل وفعل بينهما اجتماع على معنى أو معانٍ وافتراق على معنى أو معان.
على أن الفكرة الفلسفية الأساسية التي يجب التصريح بها أن صاحب الرسالة يعتقد أن امتزاج الحروف كامتزاج العناصر الكيمائية فهذه إذا امتزجت تألفت منها الأجسام وتلك إذا امتزجت تألفت منها الألفاظ. ولكل من هاتين الحالتين نواميس طبيعية.
ومن طالع الرسالة أعجب بسعة اطلاع هذا العالم اللغوي المدقق وتمنى للغة الضاد الانتفاع بعلمه وواسع أطلعه.(10/71)
أخبار العلم والأدب
ذكريات فسيولوجي
نشر الأستاذ شارل ريشة كتاباً جديداً سماه ذكريات فسيولوجي وقد سبق له أن ألف من قبل كتاب العالم ونشر فيه كثيراً من الذكريات الشخصية، إلا أن هذا الكتاب الجديد يحتوي على ترجمة العالم لنفسه مع استعراض لأهم أدوار حياته وقد جمع فيه طائفة من الوقائع والذكريات وجملة من الصور يصف بها حياة ملؤها السعي والنشاط والقوة والصبر، لم يتقاعس فيها لحظة واحدة، ولم يتأخر عن البحث والتدقيق، كل ذلك إلى جانب طائفة من العلماء الذي عرفهم وقضى قسماً كبيراً من حياته معهم. إن وصف شارل ريشة لحياته جميل لأنه بسيط، مفعم بحبه للحقيقة وهو ليس وصفاً لحياته فقط بل هو فصل من تاريخ العلم في هذه السنوات الأخيرة.
قال في أول الكتاب ما خلاصته:
إذا هبط الليل على السائح بعد قطع النهار كله في اجتياز الطريق الطويل تلذذ بالتفكير في الأشياء التي صادفها، والمشاهد التي رآها والأشخاص الذين لقيهم والمواقع التي أخرت مسيره، والشكوك التي آلمته عند انتخاب الطريق السهل.
ولما كانت شمس حياتي قد دنت من الغروب، فإنه يلذ لي كما يلذ لهذا السائح أن أتذكر الأشخاص الذين تعرفت بهم والشكوك والمواقع والرجاء واليأس وخيبة الأمل التي لقيتها.
وليس في حكاية حالي، أنا الفسيولوجي لذة أنانية فقط، بل أن ذلك منفعة - ومنفعة كبيرة - للشبان لأنهم سيشاهدون بقراءة حالي البسيطة ما هي الطرائق والأساليب والمناهج التي يتبعها الفسيولوجي للوصول إلى أثبات بعض الحوادث الجديدة الهامة، وما هي الطرق التي يسلها للعمل بلذة وإنتاج.
الرياضة والأمومة
ألقى الأستاذ (بينه) في المؤتمر الثالث لجمعية الطب خطاباً موضوعه البحث في جمال المرأة والحياة الجنسية قال فيه:
إن الاقتصار على حفظ الجمال والهيام بالألعاب يفقدان المرأة في الغالب الشعور بوظيفة الأمومة.(10/72)
سل إحدى البطلات، أو إحدى المولعات بالألعاب اللواتي يحاولن الحصول على هذا اللقب، واطلب منها أن يكون لها أولاد. أو اطلب ذلك أيضاً من أحد كواكب السينما. فالأولى تقول لك: إن واجب الرياضة، يمنعني من ذلك والثانية تقول لك، أن الفن لا يسمح لي به.
لاشك أن هناك عاملاً أخلاقياً هو في غاية الانحطاط، لأنه يقضي على غريزة الأمومة أي غريزة المرأة الأساسية التي تبعثها على حب الغير. ويجعل المحراب القديم للميول الطبيعية خاوياً. فلا يرى الرجل في المرأة إلا آلة للذة والبذخ.
ولذلك فبالرغم من أن التربية الرياضية نافعة لنمو جسد المرأة وحفظ بنيتها فإنه من الضروري تعديلها بتربية المرأة تربية أخلاقية صالحة.
جائزة الأدب الكبرى
منح المجمع العلمي الفرنسي جائزة الأدب الكبرى في هذا العام للكاتب (هنري دومونترلان) ولد هذا الأديب في 21 نيسان سنة 1896، وقد ابتدأ حياته الأدبية بالكتابة في المجلة الأسبوعية وألف كتاب العازبين وكتاب الأحلام وكتاب ينابيع الرغبة، وكتاب صفحات الحنان، وكتاب مبادلة الجنود في الصباح وغير ذلك من الآثار القيمة، وهو كاتب غنائي، كثير الحماسة للرياضة، وقد أشاد في وصف أصدقاء اللعب، ورفاق الحرب والموت، ولكنه مال في آثاره الأخيرة إلى وصف اللذة واليأس والكبرياء.
ازدياد السكان في مختلف البلدان
لقد أثبتت مباحث الأستاذ شارل ريشة وملاحظاته لازدياد السكان في هذه السنوات الخيرة أن العرق الأبيض المحض أقل ازدياداً من العرق الأصفر والعرق الأحمر، وأن نسبة ازدياد هذين العرقين إلى العرق الأبيض هي كنسبة5 إلى 1. وإن الشعوب الأوروبية هي أقل الشعوب البيضاء ازدياداً وإن أقل الأمم الأوروبية ازدياداً أكثرها مدنية.
النقابات وتربية الشعب
اجتمعت لجنة التعليم في جمعية الاتحاد العام لنقابات العمال في فرنسا منذ بضعة أشهر وأقرت كثيراً من مبادئ التهذيب وطرائق التعليم التي نشرتها على أثر مؤتمر 1931، وهي مبادئ تتعلق بتربية العمال سواء أكلن في المدرسة أم بعد المدرسة وتلخص هذه المبادئ التي أقرتها لجنة تعليم العمال بما يأتي:(10/73)
1 - مساواة الأولاد في حق التعلم.
2 - تحسين المواظبة على المدارس.
3 - جعل التعليم كله مجانياً.
4 - جعل التعليم علمانياً وديمقراطياً.
5 - انتخاب التلاميذ وهدايتهم إلى المهن التي يصلحون لها بحسب استعداداتهم وذلك عند الانتقال من دورة أدنى إلى دورة أعلى في درجات التعليم.
6 - جعل التعليم ذا غاية اجتماعية.
7 - تعاون المدرسة والعائلة.
8 - إبطال مونوبول التعليم لكثرة الأخطار الناشئة عنه.
9 - جعل العمل حراً لأن ارتقاء الإنسانية المادي والمعنوي تابع لها.
10 - جعل التعليم إجبارياً داخل المدرسة حتى الخامسة عشرة وجعله إجبارياً خارج المدرسة حتى الثامنة عشرة.
11 - تحضير المعلمين في مدارس خاصة.
12 - توحيد التعليم بين الذكور والإناث وجعله مشتركاً.
وقد اتجهت أنظار اللجنة في هذه السنة إلى ضرورة تنظيم التعليم خارج المدرسة وتأسيس كليات للعمل يداوم عليها العمال المسجلون في النقابات.
الحكم بالإعدام في اسبانيا
أسس الاشتراكيون في اسبانيا مجلة جديدة سموها (لفياتان)
نشر فيها الموسيو (لويس جيمنس دواسوا) مقالاً بحث فيه عن إبطال الحكم بالإعدام في الجمهورية الاسبانية منذ سنة 1931. ومما جاء في هذا المقال: إن الجمهورية الاسبانية قد حققت بقوانينها وطرائقها شيئاً من المبادئ الأخلاقية فألغت الحكم بالإعدام. نعم إننا لم نتمكن من إدخال هذا الإلغاء في القانون الأساسي ولكننا أدخلناه في قانون الجزاء سنة1931. فالدولة لا تستطيع بعد الآن أن تزيل حياة الموجود البشري باسم المنفعة الاجتماعية أو غير ذلك. نعم إن القانون الأساسي لا يمنع الحضارة التي وصلت إليها تمنعها من اقتراف هذه الجناية، وهذا المبدأ أي مبدأ الإلغاء مسيطر على جميع القوانين(10/74)
المكتوبة ومن الضروري أيضاً إدخاله في القانون الأساسي.
الفن والحياة
نشرت صحيفة (كانديد) الأسبوعية حديثاً للموسيو (جان جيرودو) جاء فيه إن الفاعلية الأدبية هي راحة الحياة. وغن الأدب لا يحتاج إلى التجارب التي يكتسبها الإنسان في العمل اليومي.
انظر إلى (سونتني) إنه لم يعمر ولم يكن له في حياته ما كان لغيره من الأشكال والصور العظيمة إلا أن حياته الفكرية كانت أعمق وأوسع من كل حياة معاصرة له. ثم انظر إلى (راسين) هل كان يعرف الحياة حينما كتب (آندروماك). إن هذه الرواية مفعمة بالأحكام الأخلاقية. ولكن واضعها لم يكن عالماً بصورة الحياة في زمانه.
إني أظن أن الحكمة تبتدئ في السنة الأولى من العمر. وإن عبقرية الفنان تظهر في ألعابه بعد زمن الولادة بقليل، وإن التجربة الأدبية هي تجربة فطرية لا علاقة لها بالحياة. إن في بعض الموجدات نوعاً من الحقيقة تجعلهم يكشفون حركات النفس.
الإلهام الشعري
طرحت مجلة الشعراء هذا السؤال على قرائها: ما هي طبيعة الإلهام الشعري؟
فأجاب الشاعر الفرنسي (روبر فيفيه عن هذا السؤال بمقال انتخبنا منه الفقرات الآتية:
يبقى في الشعراء حالة تزول عند الكثيرين من بني الإنسان وهي حالة النظرة الأولى التي يلقيها الطفل على الأشياء ويكون قلبه مفعماً بوله الحيرة. ولعل لذة الشعر بالنسبة إلى القارئ هي في تذكر الدور القصير من العمر حيث كان كل فرد منا يشعر بأنه منفصل عن الحياة وأنه ينظر غليها كما ينظر السائح إلى مشهد جديد رائع.
لا يرجع الشاعر إلى هذه الحالة حينما يريد بل حينما تضعه المصادفات النفسية السابقة أمام سر الكون المغلق، ويشعر بميل في قلبه ودافع في نفسه إلى تفهم ما يظهر له من علاقات هذا الكون ووجوده.
إن هذا التفهم ليس كتفهم العلماء والفلاسفة للأشياء بل هو نوع الحدس الذي لا يتجزأ لأنه ينطوي على حياة الشاعر.
فالخاصة الهامة الموجودة في كل وحي شعري هي عبارة عن هيجان ملائم أو منافٍ تشعر(10/75)
به النفس أثناء تفهمها للأشياء.
إن النفس تهتز للأشياء فتستيقظ، ثم تصغي، ثم ترى، ثم تفهم وأخيراً تتكلم. وإذا تكلمت رددت أشياء لم تتعلمها من التأمل والدراسة. وإذا وصفت ما تشعر به من الحزن والأسى كان هذا الوصف مفعماً بالألوان والروعة والأسرار.
مدام كوري
كانت مدام كوري بالرغم من حبها للسكون ميالة إلى الرياضة. فقد كانت تسوق سيارتها بنفسها حتى هذه السنوات الخيرة وتتمرن على السباحة حينما تجد إلى ذلك سبيلاً. وقد ذكر لنا كثيرون أنها كانت في الحرب العمة تسوق السيارات الطبية وتأتي بها إلى الجبهة. وقد أسست مصلحة للراديوم وكان التداوي على طريقتها نافعاً جداً ثم أنها كانت ماهرةً جداً في الأعمال اليدوية حتى لقد صنعت مع زوجها (بيير كوري) بعض الآلات التي لا يمكنها شراؤها، وصنعت بعد ذلك عدداً وافراً من الآلات التي يحتاج إلى دقة ومهارة يدوية.
كانت مدام كوري كريمة النفس. تعطف على الفقراء وتواسي المساكين. ومما حكي عنها أنها كانت تحب خياطة بولونية مقيمة في حي (سين سولبيس) بباريس فكانت تزورها وتطلب منها أن تصنع لها ثيابها بالرغم من ضعة منزلتها. حتى لقد رضيت بأن تكون عرابة لحد أولادها فأهدتها سريراً جميلاً فحفظته الخياطة زماناً طويلاً ولما تزوجت ابنة مدام كوري وولدت ولداً جاء زوج الخياطة وأهداها السرير الذي كانت مدام كوري قد أهدته لزوجته، ولكن بعد أن زينه فقبلته مدام كوري شاكرة.
كان لمدام كوري في (برتياني) بيت صغير تذهب إليه في أيام الراحة ثم اشترت في (برونوا) منزلاً آخر كانت تقطنه مع ابنتها بعد زواجها. غير أنها لم تشأ بعد وفاة زوجها (بيير كوري) أن تعود إلى ذلك المنزل. فتركته لبعض العمال الفقراء ليستفيدوا منه في أدوار النقاهة أو في حالات المرض.(10/76)