العيد في نظرة الإسلام ملتقى عواطف تتقارب، بين طوائف كانت في أمسه تتحارب، ففيه يتنزل الغني المترف ويصعد الفقير المترب فيلتقيان في عالم من عوالم المثال كما يقول الصوفية، هو خير ما ظلّت الإنسانية تنشده فلا تجده، يتجلّى العيد بجلاله على الغني فينسى تألهه بالمال، ويذكر أن كل من حوله إخوانه أولًا وأعوانه ثانيًا فيمحو إساءة عام بإحسان يوم، ويتجلّى على الفقير بجماله فينسى متاعب العام ومكاره العام وتمحو بشاشة العيد من نفسه آثار الحقد والتبرّم والضيق ولا تتفتح أمام عينيه إلا الطريق الواصلة بالله المؤدية إلى الخير وتنهزم في نفسه دواعي اليأس على حين تنتصر بواعث الرجاء ...
هذه بعض معاني العيد كما نفهمها من الإسلام وكما حقّقها المسلمون الصادقون يوم كانوا، فكان هذا اليوم من العام زاد الرحلة بآثاره ثم بانتظاره للعام كله، وكانت آثاره في النفوس كآثار الحمّام في الأبدان رحضًا للأبدان وبعثًا للنشاط. فأين نحن اليوم من هذه الأعياد، وأين هذه الأعياد منّا؟ وأين آثار العبادة فيها من آثار العادة؟
...
آفة محاسن الإسلام- وما محاسن شيء كله حسن- هذه الظواهر المتقلبة التي يسمّون مجموعها عادة، فهي التي تتسلّط على تلك المحاسن بالطمس والتشويه حتى تمسخ الجمال ثم تنسخ التأثير ثم تفسخ العقد، فلا يبقى للجمال استهواء للنفوس ولا تأثير فيها ولا سلطان عليها، وقد تبدأ بالإلف يعقبه أنس، يعقبه تأثر، يعقبه اعتبار، يعقبه تحكّم، يعقبه تحكيم ثم ينتهي بأسوإ ما ينتهي إليه تعاقب الأطوار، وهو النزول عن حكم الدين في ثبوته والعقل في تقبيحه وتحسينه والفكر في تأنيه ووزنه وقياسه وترتيبه وتقديره لحكم العادة المضطربة المتقلبة، فتصبح هي الحاكمة المقبحة المحسنة المقدرة وهي صاحبة الاعتبار الأول في تقدير الحياة، ثم تتسامى إلى المسلّمات اليقينية فتمسّها بالتشكيك ثم إلى الحقائق الدينية فتبتليها بالتزهيد فيها أو بالتبغيض، وهذا هو شرّ ما وصل إليه المسلمون بالنسبة إلى شعائر دينهم: تهجر بين أقوام فيصبح هجرها عادة تخشى مخالفتها والخروج عنها، ويقيمها أقوام بحكم العادة لا بحكم الدين، وآية ذلك أن فاعلها يأتي بها متبرّمًا متثاقلًا مقدّرًا لعتاب الناس لا لعذاب الله، وهذا التناقض في آثار العادة واقع بين المسلمين مشهود مشهور ...
ونحن لا ننكر أن عوائد الناس تابعة لأحوال الناس رقيًّا وانحطاطًا. فالأمة الراقية ترقى عاداتها في الغالب لأن عاداتها تتشعّب من مقوّماتها، والأمة المنحطة تنحط عاداتها، والمسلمون اليوم في أحط دركات الانحطاط، فلا عجب إذا كانت عاداتهم المتحكّمة فيهم من نوع حالتهم العامة. فمناشئ العادات فيهم هي أخصّ أحوالهم من الجهل والأمية والفقر والذلة والهوان وموت الشعور بالكرامة والشرف، ويقظة الشعور بالمهانة والنقص في النفس(4/293)
وفي الجنس والنفور من القريب والخضوع لحكم الغريب، فقل ما شئت في عادات تتكوّن من هذه الأمشاج الخبيثة، ثم حدث ولا حرج عن الآثار السيئة لتحكّم هذه العادات في حياة المسلمين، ثم ابكهم مع الباكين، حينما تمدّ هذه العادات السخيفة مدّها فتنصبّ على الدين، فتصبح موازينه مأخوذة بالاعتبارات العادية، وأحكامه خاضعة للاعتبارات العادية، وأعماله تابعة للاعتبارات العادية، وواقعنا اليوم هو هذا. فليسلّم العقلاء منا بهذا الدافع وليعالجوا الحالة على ضوئه، وحذار من المكابرة فيه، فشرّ الخلال أن نركب الكبيرة ثم نكابر فيها فنصيرها كبيرتين وتحجبنا المكابرة عن العلاج فنكون من الهالكين.
...
بلونا أمر المسلمين في القرون الأخيرة شهادة للحاضر وتلقّفًا لأخبار الغائب، وبدأنا بأنفسنا فوجدنا أَنَّا ما أوتينا إلا من ضعف سلطان الدين على نفوسنا، ووزننا للأشياء كلها بالميزان العادي، وتحكيمنا للعادات السخيفة التي نبتت فينا في عصور الانحطاط.
هذه شعيرة الحج على جلالتها أصبحت متآثرة بالعوائد، فلا يحفز معظم المسلمين إليها ذلك الحافز الديني ولا تدفعهم إلى تحمّل لأوائها تلك الغاية السامية التي شرع الحج لتحقيقها، وإنما يحفز معظم الناس إليها الافتتان الشائع بالتلقيب، كأنهم يتبرمون بأسمائهم المجرّدة من كثرة التبذّل والاستعمال، فيسعون في إضافة لقب أو وصف كما يتهالك الخليون الفارغون على الألقاب الحكومية الزائفة ويبذلون فيها الجعائل، وإن ذلك لمن هذا، وفي الأمم إذا تداعت للسقوط مشابه من البناء إذا تداعى للانهيار.
وهذه شعيرة الصوم خلت بين المسلمين من روحها التي تزكي وتجلب الروْح والاطمئنان، وأصبحت وظيفة عادية يقوم بها القائمون تأثّرًا بالعادة لا انسياقًا للدين، ويتركها المنتهكون لحرمات الله فيشيع الترك فيكون هو العادة الجارية ويكون الصوم شذوذًا خارقًا للعادة، وكلا الأمرين واقع في الأقطار الإسلامية، فالمحافظة على الصوم تغلب في الجزائر مثلًا اتّباعًا لعادة المجتمع المتشدد مع المفطرين، وهذا المجتمع المتشدّد في الصوم متساهل إلى أقصى الحدود مع تاركي الصلاة، فلو كان للشعائر سلطانها الديني على النفوس لما أفطر في رمضان أحد، ولما ترك الصلاة أحد، ولما كان للعادة دخل في هذا المجال، ولو كان المتشددون مدفوعين بدافع ديني لكان تشدّدهم مع تاركي الصلاة أقوى وأشد وأولى وأوكد.
...
وعمود هذه الكلمة هو الأعياد ولكن ضرورة التمثيل خرجت بنا عن الجدد إلى الحيد بعض الشيء، فلنعد إلى العيد، ولنقل ان المسلمين جرّدوا هذه الأعياد من حليتها الدينية، وعطّلوها من تلك المعاني الروحية الفوّارة التي كانت تفيض على النفوس بالبهجة مع تجهّم(4/294)
الأحداث وبالبشر مع عبوس الزمن، وأصبحوا يلقون أعيادهم بهمم فاترة وحس بليد وشعور بارد وأَسِرَّة عابسة وكأنها عملية تجارية تتبع الخصب والجدب وتتأثر بالعسر واليسر والنفاق والكساد، لا صبغة روحية ذاتية تؤثر ولا تتأثر. ولولا نفحات فطرية تهب على نفوس الصغار القريبين من الفطرة فتتجلى فيها بعض معاني العيد فتطفح بشرًا على وجوههم وتنبعث فرحًا في شمائلهم ونشاطًا في حركاتهم واجتماعًا على المحبّة في زمرهم واتجاهًا إلى المبهجات في مجتمعاتهم، لولا ذلك لكانت المآتم أعمر بالحركة وأدلّ على الحياة من أعيادنا.
...
العادات محكمة ... كلمة يقولها فلاسفة الاجتماع وفقهاء التشريع، ويريدون فيها أن للعادات الثابتة الصالحة دخلًا في تكييف أحكام المعاملات وقوانين الاجتماع البشري بحيث تبلغ من القوة والاستمرار أن تصبح مرجعًا للقضاة في أحكامهم على ما يشجر بين الناس من خلاف في أسباب معايشهم، ومرجعًا للباحثين في أحكامهم على الظواهر الاجتماعية في الشعوب، ويقيّد الفقهاء إطلاق العادة بأن تكون محققة لمصلحة أو دافعة لمفسدة وبأن لا تنقض نصًا شرعيًا ولا تعاند حكمًا إجماعيًا، فإن لم تكن كذلك كانت باطلة مردودة ونحن نقول: إن عاداتنا مع سخافتها، أصبحت حاكمة يرجع الناس إليها عن عقولهم وأفكارهم ومصالحهم وعن دينهم أيضًا.
لو أوتينا الرشد لكان لنا من أعيادنا الدينية الجليلة مواقف لتصحيح الانتساب، ومواقيت لتصفية الحساب، ولعلمنا أن نفس المؤمن تتّسع للدين والدنيا، وأن وجودها مرتبط بعضه ببعضه، وأن وجود أحدهما رهن بوجود الآخر، وأن كمال أحدهما كفيل بكمال الآخر، وأن طروق الضعف لأحدهما مؤذن بطروقه للآخر. ويوم كان الدين كاملًا في النفوس كانت الدنيا مملوكة لتلك النفوس، ويوم أضعنا الدين أضعنا الدنيا. فلا يذهب الخرّاصون مذاهبهم في العلل والأسباب؛ فهم بعض تلك الأسباب، ولا يتعبوا أنفسهم في "الوصفات" لدواء أمراضنا فهم بعض أمراضنا، ونحن أعرف بدائنا ودوائنا. ومن آداب النبوّة فينا "ائحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ" فأنجع الأدوية لأدوائنا الحمية ... الحمية من المطامع والشهوات فهي التي أفسدت علينا ديننا ودنيانا، وإذا فعلت هذه الحمية فعلها خفّت الأخلاط فخفّت الأغلاط، فتجدد النشاط، فهدينا إلى سواء الصراط.
الحمية رأس الدواء والحمية لا تفتقر إلى إرشاد طبيب. فلنخرس هذه الببغاوات المرددة لفرية أعداء الإسلام بأن الداء آتٍ من الإسلام وأن الدواء في التحلّل منه، وليربع كل ناعق من هؤلاء على خلعه، وليعلم أنه فينا كالضرس المؤوف كل الخير في قلعه.(4/295)
متى يبلغ البنيان *
كان العقلاء منّا يظنّون أن المؤتمر الإسلامي الأخير الذي انعقد بالقدس في 3 ديسمبر 1953 لبحث قضية فلسطين نجاد الساعين بالرأي والنفوذ والمال لتحريرها ولإيقاظ الشعور الإسلامي والعربي فيها من جديد، كانوا يظنون أنه سيكون أقوى المؤتمرات الإسلامية التي سبقته في هذه القضية وغيرها، لا لأنه متعلّق بقضية لها في قلب كل مسلم جرح، ولها في قلب كل مسلم غمة، ولها في ضمير كل عربي وخزة، ولها في وجهه وسمة عار ولها في عرضه وصمة نبز، لا لذلك فإننا معشر العرب بمواقفنا في قضية فلسطين وسكوتنا على حكوماتنا المتخاذلة في قضيتها ومُمَالَأَةِ بعضنا لليهود إلى الآن بالتهريب والتجسس، بذلك كله أقمنا الدليل الذي لا يكذب على أننا لم نرث من قبيلة امرئ القيس التي هي إحدى أصولنا إلا الخلق الذي مدحها به الشاعر إذ قال:
فأمْثُلُ أخلاق امرئ القيس أنها … صلاب على طول الهوان جلودها
كلا ما كان هذا هو الذي يطمع العقلاء في أن يكون لهذا المؤتمر شأن وقيمة غير شأن وقيمة المؤتمرات القديمة، ولكن الذي يطمعهم في ذلك خصال أخرى من أنه جاء بعد تجلّي جميع الحقائق، وبعد تصفية الحساب الذي ظهرت فيه خسارة العرب والمسلمين، وبعد أن صدق المفتري، وافتضح المجتري، وبعد أن أيقن كل شاك أن دويلة كانت لا تعد في الأرض غلبت ست دول، وإن زهاء مليون عربي نبتوا في فلسطين كتينها وزيتونها اقتلعتهم شراذم اليهود بأيسر محاولة، فأخرجوهم من ديارهم وذادتهم كالأغنام الضالة عن المدن والأرياف إلى حواشي الصحراء، وأستغفر الله ألف مرة من قولي "أخرجهم اليهود"، فإن
__________
* مجلة "الأخوة الإسلامية"، العدد الحادي عشر، السنة الثانية، بغداد، 17 شوّال 1373هـ الموافق لـ 18 جوان 1954م.(4/296)
حكوماتنا هي التي أخرجتهم وظاهرت اليهود على إخراجهم، و {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}.
...
كنّا نظنّ هذا مع العقلاء أيام الدعوات إلى المؤتمر وأيام التحضيرات ويوم تراءت الوجوه في المسجد الأقصى فإذا هي أحق بقول المتنبي ممن قال فيهم:
فَمَا تُفْهِمُ ائحُدَّاثَ إِلَّا التَّرَاجِمُ
ولكنهم كانوا على قلب رجل واحد إيمانًا ويقينًا وصدق قصد وقوة عزيمة.
وهنا بدأت المخايل تكذب ذلك الظن وواأسفاه. فما كاد المؤتمر ينظّم اجتماعاته ويقسم الأعمال على شُعبه حتى بدأت الدسائس تدسّ لإحباطه، وكان الدسّاسون منا بالطبع لا من اليهود ولا من النصارى، وكانوا من أهل فلسطين ومن مرعيهم لا من الهمل، ومن وجوههم- شاهت الوجوه- التي جفت من الحياء، وأقبح القبح أن يرتكب المأثم أصحاب المأتم، وأحسّ المؤتمرون بالدسائس فوقف المسؤولون فيه منها موقف الحزم، وألقموا كل أفّاك حجرًا، وكان أصحاب هذه الوجوه ممن يحضرون بعض جلسات المؤتمر في بعض لجانه، فلحظ المراقبون عنهم أنه كلّما جدّ جِدّ المؤتمر رموا في نفسه قذاة وشغلوه بالنافلة عن الفرض، فذكروا مسجد الصخرة وهوّلوا من تداعيه للسقوط ما هوّلوا حتى كأن القدس - وهي في لهوات الضيغم العادي- لا تستحق في نظرهم من العناية بإنقاذها عشر ما يستحقّه هذا المسجد من العناية بترميمه وتزويقه، وهم يرون بأعينهم أن القنبلة اليهودية التي رمت المسجد ما زالت آلتها مسدّدة، وأنها كانت واحدة فأصبحت معددة، وكانت قديمة فاصبحت مجددة، ويرون بأعينهم استعدادات اليهود لا تزال قاصمة الظهر بنا، ويعتقدون بأنهم فاعلون، وكان خطباء المؤتمر يتألفون الشارد ويقولون لهؤلاء الوجوه: يا إخواننا نحن أعوانكم فكونوا أعواننا، نحن مجتمعون لإقامة فرض فلا تشغلونا عنه بنافلة، ونحن نريد للإسلام العالية فلا تنزلوا به إلى السافلة؛ نحن معكم في احترام المسجد ولزوم ترميمه وإن سقوطه إضاعة مضاعفة للمال وخسارة خاسرة للفن، ولكننا في حالة توجب علينا أن نستعمل النظر البعيد، وان السقوط أخف وقعًا على نفس الحر من عار الإسقاط، لأن اليهود مصمّمون على احتلال القدس وهدم الأقصى لإعادة هيكل سليمان وعلى هدم مسجد الصخرة ونسف الصخرة. أفتمارون في هذا؟!
إن اليهود بنوا أمرهم على كلمة وهم واصلون إلى تطبيقها ما دمنا على هذه الحالة، فلنبنِ نحن أمرنا على عكسها إن كنّا رجالًا ونعمل على تحقيقها متساندين. هم يقولون: لا(4/297)
معنى لفلسطين بدون القدس ولا معنى للقدس بدون الهيكل المطمور تحت الأقصى، فلنعكس نحن لهم القضية ما دامت الأقدار قد أوقفتنا منهم هذا الموقف، ولنقلها صريحة مجلجلة يفسّرها العمل: لا فائدة لنا في الصخرة والأقصى بدون القدس، ولا فائدة لنا من القدس بدون فلسطين، فالثلاثة واحد وليس الواحد ثلاثة، فإذا قبلنا هذا وقرنّاه بالتصميم وعرف اليهود تصميمنا أقلعوا عن غيّهم وقالوا ما قال أسلافهم: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}، أما إذا علموا عنّا هذه الأنظار القصيرة- وقد علموا وسيعلمون- فإنهم لا يزيدون منّا إلا احتقارًا ولا يزدادون بنا إلا تمرّسًا، وأي عقل يستسيغ التفكير في الترميم والإصلاح لمسجد معرّض لخطر النسف في كل حين وبينه وبين العدو رمية سهم مسترخي الوتر، واذكر حق الذكر أن المجاملة لإخواننا أصحاب هذه الوجوه زادت فوق هذا الحدّ، فوعدهم المسؤولون عن المؤتمر وكنت أحد المصرّحين بهذا الوعد بأنه سيكون لمسجد الصخرة حظ مما يجمعه المؤتمر من المال لإجراء الترميم الضروري الذي يحفظه إلى حين، وتفرّق المؤتمرون على هذا بعد أن قلّدوا طائفة منهم أعمالًا أثقلها جمع المال لفلسطين ...
هذه الكلمة التي اصبحت تقابل بالوجوم والإطراق لكثرة ما لابسها من الشكوك وأحاط بها من التهم. ما كاد المكتب الدائم الذي انتخبه المؤتمر يباشر أعماله واللجنة المالية تنظّم وفودها للطواف على العالم الإسلامي حتى أعلنت الجرائد تشكيل لجنة من أصحابنا أنفسهم أعينهم لجمع الأموال لترميم مسجد الصخرة ... وكان ظهور هذه اللجنة في الميدان مقرونًا بالحزم والإصرار والعجلة وتأييد الحكومة الأردنية برصد المال اللازم لتطوافها وبالتوصيات الرسمية، وكشفت الحقيقة المخبوءة عن نفسها وهي أننا قوم لا نصلح لصالحة، وأننا هازلون على جد الحوادث، لا نأتي في أعمالنا وتصرفاتنا إلا ما يقرّ أعين أعدائنا ويجرئهم علينا ويقلّل معانينا في صدورهم. فبينما فريق منفعل مثلًا يبكي على فلسطين ويحترق حسرة عليها ويقول: أضاع الله من أضاعها، ويوقف أوقاته وجهوده على تحريرها وينعش ولو بالقول آمال البائسين منها، إذا فريق منا يتباكون على مسجد متداع إن لم يُنقض اليوم نُسف غدًا بالمدافع المنصوبة والقنابل المصبوبة، ثم يهتمون به إلى حد أن يجمعوا أموال المسلمين ليرمّموه ويزخرفوه حتى إذا نسف نسفت معه تلك الأموال التي أبت أن تنفق في الدفاع عن فلسطين والقدس وفي طيّه الدافع عن مسجد الصخرة، فتذهب هي ومسجد الصخرة هباء منثورًا نتيجة الطيش وقصر النظر. وكنّا يوم إعلان الخبر عن هذه اللجنة وعملها في القدس في اجتماع رسمي لمكتب المؤتمر، فهالنا الأمر وقصدنا رئيس هذا الوفد في داره في جماعة من أعضاء مكتب المؤتمر، وقلنا له كلمة الحق في وفد الضرار هذا وفي نتائجه وآثاره في عقول الأعداء والأصدقاء. قلنا له إن العالم حكم علينا بالسفه والخطل في نكبة فلسطين، وأقام على حكمه البيّنات والشواهد فما بالنا نقيم له كل يوم دليلًا جديدًا على عدالة هذا الحكم(4/298)
علينا، من يقيم للعالم المتفرّج علينا حجة على أن ترميم مسجد الصخرة في هذا الوقت وعلى هذا الحال مصلحة راجحة، ومن يقنعه بأن هذا العمل مقدّم على الدفاع عن فلسطين، ومن يقنعه بأن ترميم مسجد أجدى على فلسطين ومدينة القدس من شراء دبّابات ومدافع؟ وقلنا له ان الناس رجلان: رجل يائس من فلسطين والقدس، فهذا لا يجيز له يأسه أن ينفق فلسًا واحدًا على شيء ميؤوس منه، ورجل راجٍ لتحرير القدس وفلسطين من ورائها فهذا لا يبيح له رجاؤه أن يبدأ بما بعد الأخير، وأن يبدأ بزخرفة الدار قبل تحرير الدار، بل يبدأ بالاستعداد ثم بالإعداد لطرد العدو الغاصب. وللترميم وقت معروف عند جميع الناس وهو انتهاء المعركة واندمال جراحها، وكلا الرجلين لا يفكّر فيما فكّرتم فيه ولم يشغل فكره فيما شغلتم أفكاركم به ولم يضع برنامج الإصلاح والترميم والزخرفة في مكان برنامج الاستعداد والدفاع عمّا يريد أن يصلحه ... فأي الرجلين أنتم؟ أم أنتم قسم ثالث مما لا يعرفه العقلاء، أم أنتم قسم رابع ممن يعرفون بسيماهم وأعمالهم؟ وهم سخنة أعين العرب والمسلمين وقرة أعين اليهود والمستعمرين يعاونونهم بأعمالهم الطائشة أكثر مما تعاونهم انكلترا بالرأي وأمريكا بالمال، وأي عون أعون لليهود على احتلال القدس والنكاية في المسلمين بهدم مقدساتهم ممن يزهد المسلمين في الدفاع، وينزل في نفوسهم الأمن والطمأنينة على القدس ومقدساته، فلا يشك عاقل أن هذا الوفد الصخري سيطوف بالمسلمين طالبًا المال لترميم المسجد الفلاني بالقدس وسيخطب ويتحدث عن ذلك فيكون من آثار الخطب والأحاديث في نفوس المسلمين ان القدس لا خوف عليها ما دامت همة العلماء حملة العمائم منصرفة إلى ترميم المسجد وفي ضمن الترميم إعادته إلى سابق جماله من زخرفة بالفسيفساء والأصباغ، وهذه مظاهر عرس لا مظاهر مأتم. هذا هو الذي يقع في أذهان الناس حين تهدر شقاشق الخطباء بالترهيب من سقوط المسجد والترغيب في إقامته وبماذا؟ بالمال ... ؟ وأين المال ... ؟ هاتوا ... وكم؟ ها هي الخرائط تنطق والأرقام تصدق أنها بعض مئات من آلاف الجنيهات ...
أيها السادة الوافدون، أيها المسلمون السامعون: إن النغمة العبقرية المقدّسة التي يجب أن تتفجّر بها كل حنجرة وتهدر بها كل شقشقة ويتحرّك بها كل لسان هي أن فلسطين ضاعت بالبخل والتخاذل والمطامع السخيفة في المغانم السخيفة، وأن السرائر بليت والدفائن نبشت وصحائف المجرمين نضرت فلم تبق منها خافية، وسينصب ميزان حسابهم في الدنيا قبل الآخرة، ومن أنقذه الموت من حساب الدنيا فحساب الآخرة أشقّ، وأن عذاب الآخرة أشدّ وان استرجاع فلسطين ممكن وميسور بالبذل والاتحاد والتعفّف عن المطامع، فإذا ظاهر الرأي الرأي في المعقول وشاركت اليد اليد في البذل وطهّر المجتمع العربي والمجتمع الإسلامي من المخذلين والمعذلين ومن الذين يتناولون الأمور الكبيرة بالعقول الصغيرة(4/299)
والأنظار القصيرة ويعارضون تشييد الحصون بتزويق المساجد، إذا وقع هذا فأبشروا باسترجاع فلسطين ومحو العار. وإلّا فإن فلسطين ضاعت ضياع الأبد بقدسها وأقصاها وصخرتها وكأنكم بأرض العرب كلها قد ضاعت وبهؤلاء القادة وقد أصبحوا عبيدًا لليهود وبهؤلاء الطاعمين الكاسين النائمين وقد أيقظتهم الأحداث على الدواهي الدهياء، وكأنكم بأصحابنا الصخريين قد أصبحوا لاجئين لا في عين السلطان بل في عين الشيطان.
...
من ذا الذي لا يعتقد أن إثارة فكرة وفد الصخرة في هذا الوقت بالذات هي معاكسة للمؤتمر وضرار له وتعطيل لسيره وإبطاء لنتائجه، ولو كانت طفيفة، ومجموعها الدفاع العملي عن فلسطين، ومن ذا الذي لا يعتقد أن هذا في صالح اليهود لا في صالح المسلمين؟ وأنه زيادة في يقينهم بأننا قوم نلهو ونلعب، ومن الذي لا يستخرج من اشتمال وفد الصخرة على العمائم الكبيرة، ان علماء الدين هم الذين تولّوا كبر هذه الزلة؟ ومهما تكن لحكومة الأردن من يد بالنيابة في تنشيطه وتمويله فإن ذلك لا يدفع الغضاضة عن علماء الدين والسخرية بهم من الناس أجمعين، وهل يعتقد أعضاء الوفد الصخري أن المسلمين بلغوا في البذل والتضحية أن يبذلوا لوفد المؤتمر ولوفد الصخرة؟ كلا، إن المسلمين لَيعجبون- ولهم الحق- بوفدين في وقت معًا، هذا يجمع لتحرير فلسطين وهذا يجمع لترميم مسجد في القدس، ويقولون: هل اتحد الوفدان وسيّرا لغرض واحد أو في الحساب أول وأخير؟ وفي الأشياء ضروري وكمالي، وفي المقاصد مهم وأهم، وفي القضايا جزئيات وكليات. أَفلم يكن في المؤتمرين وإخوانهم الصخريين من يفرّق بين قضيتين ويعطي لكل واحدة مكانها ومكانتها وظرفها واعتبارها؟ هذا ما يتصوّره المسلمون ما داموا على التكريب العقلي الانساني ثم يختمونه بحكم القرائن القريبة والبعيدة بأن وراء الأكمة شيئًا أو أشياء، ووراء هذه النفوس نوازع تختلج وأهواء تعتلج، ومتى تطرق الشك في البعض سرى إلى الكل، نعم وهذا منطق سليم. أليست هذه الأعمال التي تزيد النفوس المضطربة بالشكوك اضطرابًا، أليست هذه جريمة؟
أيها الإخوان الصخريون ...
إنكم ومن أعانكم على مشروع الصخرة بالمال أو نشطكم عليه بالرأي لم تزيدوا على أن أحييتم في الإسلام سنّة من سنن المصريين القدماء في قصة عروس النيل: كانوا يزيّنون فتاة للموت وأنتم تزيّنون مسجدًا للهدم.(4/300)
اتحاد المغرب العربي الكبير *
مرّ الأستاذ الشيخ البشير الإبراهيمي في هذه الأيام الأخيرة ببغداد حيث اجتمع بالطلبة الجزائريين هناك، وقد اغتنم مراسلنا ببغداد هذه الفرصة فطلب من الشيخ البشير الإبراهيمي هذا الحديث الذي ننشره اليوم شاكرين ومؤملين أن يجد فيه قرّاؤنا الأفاضل دليلًا آخر لا على ضرورة الاتحاد فحسب بل على إمكانية تحقيق هذا الاتحاد بالفعل.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المغرب العربي وحدة لا تتجزّأ، جمعها الإسلام على تعاليمه الروحية السامية وجمعتها العروبة على بيانها وآدابها وجمعها الشرق على النور الذي بعثه مع كتائب الفتح الأول ومع اللغة التي وجّهها مع قوافل بني هلال.
المغرب العربي جمعته يد الله وربطته برباط واحد هو الإسلام والعروبة ومع الإسلام القوة ومع العروبة الإباء والشمم فلا تفرّقه يد الشيطان، وكل من سعى في التفرقة بين أبنائه - ولو من أبنائه- فهو شيطان لا يدفع باللعن والاستعاذة كما يدفع شيطان الجن وإنما يدفع بالطرد من الحظيرة فإن لم يندفع فبإعدامه من الوجود.
من العجز والإضاعة أن نردّ كل لومنا على الاستعمار ومن الخور والضعف أن نتراد الملامة وأن نتعلّل في كل واجب ندعى إلى إقامته وفي كل مكروه ندعى إلى دفعه، بالاستعمار وآثار الاستعمار وما الاستعمار إلا كالشيطان فيما أنبأنا الله من أخباره {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُئطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}. إن تعلّلنا بالاستعمار هو خدمة للاستعمار وتعظيم لشأن الاستعمار إلى هذا الحدّ الذي صيّرنا نذكره مئات المرّات في اليوم وهو نوع من التأليه له والتفخيم لشأنه والعدو لا يغلب بكثرة ذكره مقرونًا باللعن والتأفف وإنما يطرد بالتفكير في التخلص منه ثم طرده ولو لم تذكره مرّة في العمر.
الواجب كله مقصور على أبناء المغرب العربي فهم مطالبون به مطالبة لا يمنعها عنهم إلا القيام بهذا الواجب ففي أيديهم السلاح الذي يستطيعون به التخلص من الاستعمار لو أحسنوا استعماله ففي إمكانهم أن يتحدوا فلماذا لم يتّحدوا؟ وفي إمكانهم أن يصلحوا
__________
* جريدة "صوت الجزائر"، عدد 7، 13 فبراير 1954، تحت عنوان "الشيخ البشير الإبراهيمي يتحدّث عن الاتحاد".(4/301)
مفاسدهم الداخلية وأكثرها نفسية فلماذا لم يصلحوها؟ وفي إمكانهم أن يستغلوا ما أفاء الله به عليهم من دين وفضائل فلماذا لم يستغلوها؟
محال أن يستقل جزء من المغرب العربي وحده ولتكن لنا في هذا عظة ألقاها علينا الاستعمار لو فقهناها وهو أنه يوم احتلّ الجزائر كان يضمر احتلال تونس ثم مراكش، ومن يوم احتلّ الجزائر وهو يستعد للخطوة الثانية فلما رأى الفرصة ممكنة خطا خطوته ونحن في غفلة ساهون، ويوم رأى إمكان الخطوة الثالثة لم يقصر وقد بلغ في الخطوة الثالثة من استخفافه بنا واستهتاره بشأننا ان سخّر الجزائري ليقتل أخاه المراكشي.
ولو كان أجدادنا على شيء من فهم معنى التضامن الإسلامي لما ترك المراكشي والتونسي الجزائر تتخبط وحدها في المقاومة ولنبّهتهم ضمائرهم أن هذا الغول ان تغذّى بالجزائر فسيتعشى بتونس ومراكش، ولكنه كان مستيقظًا وكانوا نائمين حتى انتهى الأمر إلى الغاية المحزنة.
صيحتي إلى أبناء المغرب العربي أن لا يضيّعوا الوقت في التلاوم والتعلات الفارغة، فإن الزمن سائر وإن الفلك دائر وإن الوقت أضيق من أن نقضيه في مثل هذه التوافه، فإذا لم يزعنا دين فلتزعنا المروءة، وإذا خلونا منهما معًا فلتكن الثالثة المرعية بالعين وهي هذه الذلة التي غمرتنا وهذا الاسترقاق الذي أوصلنا إلى سوء غاياته وهي أننا أصبحنا في درجة نخجل أن نسمّيها عبودية ...
وإذا كان الاستعمار قويًا كما نتخيّل فإننا نزيده قوة بتخاذلنا وتفرّقنا وتطاحن هيئاتنا وإضاعة أوقاتنا الثمينة في الجهل الفارغ والانسياق مع الأهواء المضلّلة التي أضاعت علينا استغلال الكفاءات الموجودة، وهيهات أن يحيا وطن أو يستقل بالهتافات المتردّدة من الحناجر بين يحيا فلان ويسقط فلان.
إن عدوّنا واحد فلنلقه في ميدان واحد برأي واحد وصف واحد، ولو فعلنا وأخلصنا لسعت إلينا الحرية ركضًا، ولكن عدوّنا أعلم بهذه النقائص فينا منا فهو نائم ملء عينيه ما دام يرانا على هذه الحالة. أزعجوه وأقضوا مضاجعه باتحاد لا يتزعزع وعزائم لا تتزلزل وأخلاق يذعن لها الجبابرة، ويومئذ تجدون الاستعمار وقوّته وأساليبه وتخيلاتكم فيه كلها باطلًا في باطلٍ وتجدون منها جميعًا ما يجدع الخائف من الغول الذي لا حقيقة له.
إن العقلاء ليعجبون منا كيف نرضى الهوان من المستعمر وهو هوان حقيقي من عدوّ حقيقي ثم لا نرضى بعشر معشاره من الأخ المشارك في السرّاء والضرّاء.(4/302)
أيها المغاربة، إن عدوّكم عرف من دينكم أكثر مما تعرفون بل عرف منه ما لا تعرفون وهو أنه منتج للقوّة والفضائل فلذلك حاربه عالمًا به وكنتم عونًا له على حربه جاهلين بما يعلمه منه، فهل لكم أن تراجعوا بصائركم في هذه النقطة على الخصوص فتعلمون أي ذخائر من القوّة أضعتم وأي كنز فرطتم فيه واستغله عدوّكم.
أفما آن لكم أن تتوبوا إلى بارئكم وتثوبوا إلى المراشد التي تركها لكم محمد بن عبد الله؟
إنكم إن فعلتم فضضتم المعركة بينكم وبين عدوّكم بضربة وكنتم المنتصرين.(4/303)
رسالة إلى الأستاذ خليل مردم بك *
حضرة معالي الوزير شيخ أدباء هذا العصر الأستاذ الكبير خليل مردم بك المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بلغتني رسالتكم البرّة فدلتني على موطن مأهول من مواطن كرمكم وفضلكم، وما هو بالمجهول عندي ولكنه كان مغمورًا في نفسي بأشياء من جنسه، وإنما نقلتني هذه اللفتة الكريمة منكم من الشك إلى اليقين بأنه ما زال من أئمة الأدب من يكرم الأدب، ومن أساطين العلم من يُجلّ العلم بعدما كنت على شفا يأس من ذلك.
أنا أعدّ نفسي طبيعيًا في مجمعكم العلمي الموقّر والطبيعيات في غنى عن الرسميات، وقد كنت أتغطى وأتوارى في ذلك خجلًا من نفسي ألّا أستطيع الوفاء بحقوق المجمع عليّ لا لعجزي فأنا بحمد الله بقية من بقايا حرّاس لغة العرب، بل لكثرة أشغالي وتنوّع ميادين جهادي، أما إذا أبى فضلكم إلا أن أكون عضوًا رسميًا فأنا نازل عند رغبتكم، سعيد بعطف إخواني واهتمامهم بي، مقدّر للمنزلة التي تجمعني بإخواني شيوخ الأدب وتلامذتي الأعزة من أعضاء المجمع، بل أنا أرى أن للفتتكم هذه من الآثار الجليلة ما إن أيسره وصل رحم بيني وبين إخوان أجلّاء وتلامذة أعزاء كانت شبه مجفوّة، وصلكم الله به وأحاطكم برعايته وأجرى على أيديكم كل خير للعربية وتاريخها وعلومها.
أما ما طلبتموه من ترجمة حياتي وصورتي فسيأتيكم بعد أيام، وسلامي إلى أستاذنا الجليل الشيخ عبد القادر المغربي وإلى جميع الإخوان.
واسلموا جميعًا لأخكيم المعتزّ بكم:
محمد البشير الإبراهيمي
__________
* أُرسلت هذه الرسالة من القاهرة بتاريخ 17 يوليو 1954.(4/304)
حديث رمضان
تصحيح الجهاد *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لم تبتذل كلمة عربية مثل ما ابتذلت كلمة "الجهاد" على ألسنة هذا الجيل في الشرق الإسلامي، فلعلّها أصبحت أكثر الكلمات دورانًّا على الألسنة، وسيرورة في الأفواه، ووصفًا بها لكل غاد ورائح، ومع هذا الدوران الكثير لا توجد كلمة أفرغ من معناها منها.
والكلمات الفارغة من المعاني كالأجساد الفارغة من الأرواح: تلك كلمات ميتة وهذه أجساد ميتة، وما كانت الأجساد نافعة إلا بالأرواح، ولا تكون الكلمات صادقة إلا بتحقيق معانيها في الخارج، والأرواح في الأجساد، والمعاني للألفاظ هما معنى الحياة وما تستتبعه من آثار.
تساهلنا في هذه الكلمة ومشتقاتها حتى أصبحنا نطلقها على كل عمل سخيف، ونصف بها كل عامل ضعيف، واستطابها العجزة القاعدون منّا فأصبحوا يطربون لوصفهم بها، ويبذلون الكرائم لتحليتهم بوصفها، وملك التساهل على الألسنة والأقلام أمرها فأصبحت تضع هذه الكلمة وغيرها في غير موضعها وتجود بها على غير مستحقّيها.
أتدرون لماذا يغضب الناس من وصفهم بالمكروهات ولو كانت موجودة فيهم، ولا يغضبون لوصفهم بالمحبوبات إذا كانت مفقودة منهم؟ فالبخيل المسيك يأنف أن يوصف بالبخل ويطرب إذا وصفته بالكرم، والجبان الرعديد يغضب أن يوسم بالجبن، ويرتاح إذا وصفته بالشجاعة.
علّة العلل في ذلك هي ضعف التربية الأخلاقية فينا معشر الشرقيين، وبعد المسافة بين القول والعمل عندنا، واختلال الموازين العقلية في تقديرنا، ونسياننا للواقع حين نتناول
__________
* مجلة "المسلمون" السنة الثالثة، العدد السابع، رمضان 1373هـ / ماي 1954م.(4/305)
الأشياء بالوزن والمقارنة. إن هذه النقائص تبتدئ في الفرد فلا يظهر أثرها، ثم تنتقل إلى المجموعات فتبرز آثارها السيّئة، فتكون بلاء وشرًا وخضوعًا واستسلامًا.
ولقد مرّت من تاريخ الإسلام حقب صالحة كان السلطان فيها للفضيلة، فصحّت الموازين، وعرفت القيم، فكان الواحد من أولئك القوم يرى من أبلغ السب أن تمدحه بما ليس فيه، ثم هجمت علينا الرذائل يقودها الغرور والأنانية والمبالغة فأفسدت علينا تربيتنا النفسية، وجرّ شيء إلى أشياء حتى انتهينا إلى هذا الانحطاط الخلقي الذي نرى آثاره، ونتجرعّ مرارته.
الجهاد- أيها المسلمون- لفظ قليل، تحته معنى جليل. هو صرف القوى الروحية والعقلية والفكرية، تظاهرها القوى المادية، إلى تحقيق غرض مما ينفع الناس؛ ويتفاوت شرف الجهاد بتفاوت ذلك الغرض في النفع، فإذا لم يكن للجهاد غاية ولم يكن فيه نفع كان جهدًا ضائعًا وسعيًا عقيمًا، أما إذا كان وصفًا تطلقه الألسنة كما هو واقع في زماننا هذا فهو نفاق يصطنعه الطامعون، وتزوير يتعلل به الفارغون.
وشوقي يقول: إذا كثر الشعراء قلّ الشعر، ونقول على وزنه: إذا كثر المجاهدون قل الجهاد.
تكررت في النصوص القرآنية كلمة "الجهاد بالنفس" في معرض الأوامر التكليفية. والأوامر الدينية بمعانيها الكاملة إنما تتوجّه إلى أصحاب النفوس الكاملة التي اطمأنت للإيمان بالله، والإيقان بالحق الذي يدعو إليه، والرضا بأحكامه الدينية والقدرية. وجعل الحياة المحدودة مطية للحياة الخالدة. وما وصل أصحاب هذه النفوس إلى هذه الدرجة من الكمال إلا بعد جهاد في النفس، هيّأها للجهاد بالنفس ثم دفعها إليه.
فأعلى مراتب الجهاد وأصله الذي تتفرّع منه فروعه هو الجهاد في النفس حتى تستقيم على صراط الحق والفضيلة، وتستعدّ لما بعد ذلك من أنواع الجهاد الخارج عن النفس. والنفس البشرية كسائر الكائنات الحية يجب أن تتعاهد بالتربية الصالحة، وتراض على الفضائل والكمالات وإن شقّت، حتى ترجح قابليتها للخير على قابلية الشر، وكل هذا يفتقر إلى جهود، فهو جهاد فيه كل خصائص الجهاد بمعناه الخاص الضيّق، ويزيد عليه بأنه أصله وأساسه، وقد وردت الآثار بتسميته "الجهاد الأكبر". والمعلم والمربي لا يغنيان في هذا الباب ما يغني صاحب النفس، فهو أقدر على كبح جماحها، ومراقبة دخائلها، وضبط أنفاسها، وتنظيم خواطرها، وقمع نزعاتها الباطلة وحظوظها السافلة ونزواتها الشهوانية، وإفاضة النور المبدّد للظلام في جوانبها.(4/306)
أيها المسلمون:
إننا لا نصدق الجهاد في عدوّنا الخارجي إلا إذا صدقنا- قبل ذلك وتوطئة لذلك- الجهاد في نفوسنا التي بين جنوبنا، جهادًا يصفي أكدارها، ويطهّرها من المطامع الدنية والأغراض السخيفة، والشهوات الحيوانية، حتى إذا لقينا العدو الخارجي لقيناه بنفوس مطمئنة، وبصائر مستنيرة، وعزائم مصمّمة، وقلوب متّحدة على غاية واحدة يسوقها سائق نفساني واحد قبل سائق العلم والنظام، وتدفعها قوة نفسية واحدة قبل دافع المادة والآلة. إن النظام والآلة والعلم كلها مكملات تأتي بعد إعداد النفوس.
وإننا لا ننتصر على العدو الخارجي حتى ننتصر على العدو الداخلي وهو نفوسنا، فلنبدأ بها، فمن سنّة القتال {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ}.
الطمع وحب الجاه والغرور والحسد والأنانية والبغضاء والحقد والبخل ... كلها نقائص في نفوسنا يجب أن نطهرها منها، وكلها مداخل لعدوّنا يأتينا منها، فيجب أن نسدّها عليه، ولهي- والله- أضرّ علينا من ثغورنا المفتوحة في وجه العدو.
إن أعداءنا الذين ملكوا رقابنا واحتلّوا أوطاننا وسامونا الذلة والهوان واستعبدونا شر استعباد، إنما استعلوا بأخلاقهم القوية على أخلاقنا الضعيفة، ثم استعانوا بنا علينا، فمتى طلبوا خائنًا لوطنه منا وجدوا العشرات، ومتى التمسوا جاسوسًا يكشف لهم عن أسرارنا ويدلهم على عوراتنا وجدوا المئات، ومتى التمسوا ناعقًا بالفرقة فينا أو ناشرًا للخلاف بيننا وجدوا الآلاف، ومتى أرادوا حاكمًا منّا على أن يسمع لهم ويطيع ويبيعهم مصالح بلاده وجدوه فوق ما يريدون، وما ذلك إلا لأن نفوسنا أنهكتها الرذائل وتحيفتها النقائص.
أيها المسلمون:
هذا شهر رمضان وهو المدرسة الإلهية التي تعلم الجهاد في النفس، وهو الميدان الذي تجري فيه التمرينات القاسية والإعداد الكامل والامتحان الشامل، فإما نجاح في جهاد النفس يخرج صاحبه بشهادة "قوة الإرادة" و "صدق العزيمة"، وإما إخفاق يحمل صاحبه شارة العبودية والهزيمة.
إن قوة الإرادة هي التي ملكت زمام العالم فيما ترون وتسمعون، وإن قوي الإرادة هو الذي لا يدع المجال لشهوات النفس وملذاتها الزائلة أن تنزل به عن مقامات العزة والسيادة والشرف، إلى مواطن الذل والعبودية والضعة.
وإن صوم رمضان جهاد أي جهاد في النفس التي هي مصدر الملكات كلها، لأنه هجر للشهوات المستولية على البطون والفروج والألسنة، وقمع لأضرى الغرائز الحيوانية، وترويض على الإحسان والبر والرحمة، واشتراكية سلبية بين الأغنياء والفقراء في أخصّ(4/307)
خصائص الفقر وهو الجوع، وتجويع جبري يذوق به الناعم طعم الخشونة، والواجد طعم العدم، والمبطان ألم الجوع، ليعرف من هذا الدرس العملي السنوي ما يقاسيه الجياع الطاوون. ولو أن مواعظ الوغاظ كلها سكبت في أذن الغني المنعم الذي لم يجع في حياته، واصفة له الجوع وآلامه وما يلقاه الجائع المحروم من ذلك، لما بلغت من نفسه عشر ما تبلغه جوعة يوم طويل، لأن كلام الوغاظ مهما يبلغ من التأثير لا يَعْدُ أن يكون تصويرًا ينتج التصوّر، أما الجوع الحقيقي فإنه تطبيق وتصديق، ومن لم يذق لم يعرف.
ليس لله حاجة في أن ندع الطعام والشراب في هذا الشهر وإنما له في ذلك حكمة عالية، وهي أن نجاهد أنفسنا ونروّضها على تحمّل المكاره، ونرغمها بهجر شهواتها المألوفة وقمع نزواتها الطاغية لترقى من كثافة المادة إلى لطافة الروح، وأن نقوّي بذلك إرادتنا في شهر لنستعملها قوية في جميع الشهور.
إن الصوم يقوّي الروحانية ويغذّي الفضائل ويشدّ العزائم، ويغري الفكر بالسداد والإصابة، ويربّي الإرادات على الحزم والتصميم. وإن حياتكم اليوم حرب لا تنتصر فيها إلا الأخلاق المتينة، فاجعلوا من رمضان ميدانًا زمنيًا للتدريب على المغالبة بالأخلاق تنتصروا على عدوّكم، فتخرجوا هيبته من قلوبكم، ووسوسته من صدوركم، وجيوشه من بلادكم.
إن عدوّكم يعتمد على متانة الأخلاق قبل اعتماده على الحديد والنار، فأعدّوا له أخلاقًا أمتن تفلوا حديده وتطفئوا ناره.
إن عبيد الشهوات لا يتحررون أبدًا، فلا تصدّقوا أن من تغلبه شهواته يستطيع أن يغلب عدوًا في موقف.
ابدأوا بتحرير أنفسكم من نفوسكم وشهواتها ورذائلها، فإذا انتصرتم في هذا الميدان فأنتم منتصرون في كل ميدان.(4/308)
داء المسلمين ودواؤهم *
الباحث في أحوال المسلمين بحث تقصٍ واستقراء رجل من اثنين، رجل من أنفسهم ورجل من غيرهم، وكلا الرجلين يجتمع بصاحبه في نقطة تبعث الحيرة وهي: كيف يسقط المسلمون هذا السقوط المريع وفيهم كل أسباب الصعود وبين أيديهم كل ما ارتقى به أسلافهم، فأصول الدين من كتاب وسنّة محفوظة لم يضع منها شيء، وأسباب التاريخ واصلة لم ينقطع منها شيء، واللغة إن لم ترتق لم تنحدر، والعرب الذين هم جذم الإسلام ما زالوا يحتفظون بكثير من الخصائص الجنسية ومعظمها من المكارم والفضائل، والأرحام العربية ما زالت تجد من بين العرب من يبلها ببلالها، فلم تجف الجفاء كله وإن لم توصل الوصل كله، والتجاوب الروحاني الذي تردّد صداه كلمة الشهادة في نفوس المسلمين وكلمة التلبية في جنبات عرفات لم يتلاشَ تمامًا، والأرحام المتشابكة بين المسلمين لم تجف الجفاف الذي يقطع الصلة، ومن السنن الكونية المقرّرة في سقوط الأمم وعدم امتداد العزة والرقي فيها أن ينسى آخرها مآثر أوّلها فينقطع التيّار الدافع فيتعطّل التقدّم. والمسلمون لم ينسوا مآثر سلفهم، بل هي بينهم مدوّنة محفوظة مقطوع بها بالتواتر، بل هم أكثر الأمم احتفاظًا بمآثر السلف وتدوينًا لها، ولا يعرف بين أمم الأرض أمة كتب علماؤها فيما يسمّونه الطبقات والسير مثل ما كتب المسلمون في ذلك.
والباحث الأجنبي معذور إذا تحيّر، وقد يخفّف عنه ألم الحيرة ابتهاجه بهذا السقوط، وان بحثه عن الداء ليس بقصد الدواء، فقد عوّدنا كثير من هؤلاء الباحثين الأجانب أنهم لا يبحثون لذات البحث ولا يدرسون هذه المواضيع لوجه التاريخ الخالص، فضلًا عن أن نجد عندهم ما يطلب من العالم المخلص، وهو أن يرمي ببحثه وبإعلان نتائج بحثه إلى تنبيه الضال ليهتدي والمريض ليسعى في الاستشفاء والساقط ليأخذ بأسباب الصعود والنهوض،
__________
* مجلة "المسلمون "، السنة الثالثة، العدد 9، ذو القعدة 1373هـ / يوليو 1954 م.(4/309)
وإفهامه أن الأيام دول وأن من سار على الدرب وصل، بل نرى أكثرهم يتعمّد إضلالنا في تعليل الأشياء، كي لا يقف المريض على حقيقة دائه فيغفل مغترًا، أو يعالج داءه بداء أضرّ، أو يضع الدواء في غير موضعه، وقد نرى منهم من ينتهي من بحثه بنتيجة وهو أن سبب انحطاط المسلمين هو الإسلام نفسه ... وأن من يستطب لدائه بإشارة عدوّه لحقيق بأن يسمع مثل هذه النصيحة ...
أما الباحثون في أحوال المسلمين من المسلمين فهم ينقسمون إلى فريقين- بعد اتفاقهم على أن الجسم الإسلامي مريض وأن مرضه عضال- فريق منهم هدي إلى الحق فعرف أن الجسم الإسلامي لا مطمع في شفائه إلا إذا عولج بالأشفية القديمة التي صحّ بها جسم سلفه، وغذي بالأغذية الصالحة التي قوي عليها سلفه، وذلك أنه أقام الدين فاستقامت له الدنيا، وانقاد إلى الله فانقاد له عباد الله، وأخذ كتاب الله بقوة، فمشى على نوره إلى السعادة في الدارين، وأرشده إلى أن سعادة الدنيا عز وسلطان، وعدل وإحسان، وأن سعادة الآخرة حياة لا نصب فيها ولا نهاية، واطمئنان لا خوف معه ولا كدر في أثنائه، ورضوان من الله أكبر.
وفريق ضلّ عن الحق في الدواء، لأنه ضلّ قبل ذلك في تشخيص الداء، وضلّ من قبل ذلك في طريقة البحث فتلقّاها من أعداء الإسلام زائغة ملتوية، وضلّ من قبل أولئك في أسلوب التفكير، فهو يفكّر بعقل ملتاث بلوثات هذه الحضارة الخاطئة الكاذبة المستمدّة من أصول الاستعمار الذي يسقي الأقربين ما يرويهم، ويغذي الأبعدين بما يرديهم، ثم يجتثهم من أصولهم ولا يلحقهم بأصوله، ويتركهم متعلقين بأسباب هذه الحضارة مفتونين بها، مهجورين منها، وقل ما شئت في العاشق المهجور، الذي لا يملك من أسباب الحب إلا القشور، ولا يملك من أسباب الوصل شيئًا. وقد علمنا من سنن الحب أن أعلاه ما كانت معه كبرياء تزع، واعتداد بالنفس يأخذ ويدع، وقوّتان إحداهما تدلل، والأخرى تذلل، أما هؤلاء العشاق المتيّمون بحضارة أوربا وعلومها وتهاويلها فقد فقدوا الشخصية التي تحفظ التوازن في ميدان العشق وتحفظ لصاحبها خط الرجوع.
هذا الفريق المزوّر على الإسلام، الذي لا صلة له به إلا بما لا كسب له فيه كاسمه ولقبه، يرى أنه لا نجاة للمسلمين إلا بالانسلاخ عن ماضيهم ودينهم، والانغماس في الحضارة الغربية ومقتضياتها من غير قيد ولا تحفظ، وهو يعمل لهذا جاهدًا، يُسِرُّهُ المسر كيدًا، ويعلنه المعلن وقاحة، وانك لتعرف ذلك منهم في لحن القول، وفي مظاهر العمل، وفي إدارة الكلام على أنحاء معينة، وفي البداوات الخاصة، وفي اللفتات العامة، حتى لتعرفه في أسباب معيشتهم الشخصية، ولكنهم يتناقضون ويتهافتون، فيبتدئون من حيث انتهى سادتهم، فسادتهم يرون أن اللعب إنما يحلو بعد الجد، وأن القشور إنما يلتفت إليها بعد تحصيل اللباب، وان(4/310)
الكماليات تأتي بعد الضروريات، وأن الوقت رأس مال لا يجوز تبديده في غير نفع، ولكن هذه الطائفة منا تفعل عكس ذلك كله وتختصر الطريق إلى اللهو، لأنه يروي شهواتها، وإلى الكماليات والمظاهر لأن لها بريقًا هو حظ العين وان لم يكن للعقل منه شيء، وأن عصارة رأيهم في علاج حالة المسلمين تترجم بجملة واحدة، هي: أن النجاة في الغرق.
هؤلاء الدارسون لعلل المسلمين منهم هم علة علل المسلمين، وهم أنكى فيهم من المستعمرين الحقيقيين، فلقد كان دهاة الاستعمار في القرن الماضي يباشرون الشعوب الإسلامية كفاحًا ووجهًا لوجه، صراعًا في الحرب، وحكمًا في السلم، فيمارسون منها خصمًا شديد المراس، قوي الأسر، متين الأخلاق، فلم ينالوا منها إلا ما تناله القوة من الضعف، وهو محصور في التسلّط على الماديات، أما القلوب والعقول والعقائد والاعتزاز بالقوى والخصائص فلم تستطع أن تخضعها، ولم يستطع سلطانهم أن يمتدّ إليها، وهي عناصر المقاومة، المدّخرة ليوم المقاومة، ولن تجد فيما ترى وما تقرأ أمة قاومت الغاصب فدحرته ولو بعد حين إلا لأن هذه العناصر بقيت فيها سليمة قوية وبقيت هي عليها محافظة، ولكن أولئك الدهاة أتونا من جهات أخرى فهادنونا على دخن، وحبّبوا إلينا مدنيتهم من جهاتها القوية، ثم أعشونا ببريقها وابتلونا بما يلائم النفوس الضعيفة الحيوانية من شهواتها، وقالوا: إن وراء هذه المدنية علمًا هو أساسها، وأن وراء العلم ما وراءه من سعادة، وفتحوا لناشئتنا أبوابًا أمامية يدخلون منها، وأبوابًا خلفية يخرجون منها إلى عالم غير عالمهم الأصلي، وجاءت البلايا تزحف، فنقلتها تلك الناشئة تجري ركضًا، ودعت الكأس الأولى إلى ما بعدها وأصبحنا نتنافس في تقديم هذا القربان من ناشئتنا للاستعمار، وما زدنا بسفهنا على أن جهّزنا له جيشًا من أبنائنا يقتل فيه خصائصنا وروحانيتنا، ليقاتلنا به، وليوليه ما عجز عنه لصعوبة مراسنا وشدة احتراسنا، وليرجع إلى أهليه مملوء النفس باحترام أستاذه، مصمّم العزم على التمكين له، وقد كنّا لا نحترمه ولا نصادقه ولا نصافيه ولا ندمث له موضع الإقامة.
ما هو موقع الغلط في أبنائنا؟ انهم بتعلّمهم في الغرب، بلغة الغرب وبلباسهم لباس الغرب، وانتحالهم رسومه في الأكل والشرب، ظنّوا انهم أصبحوا كالغربيين، فانسلخوا في مظاهرهم ومخابرهم عن خصائصهم الأصلية الموروثة، فخسروها ولم يربحوا شيئًا، إذن لم يقع في تقديرهم ان جلّ الأحوال التي قلّدوا فيها الأوروبي هي ألوان إضافية اصطبغ بها بعد أن استكمل وسائل عزّه وقوّته، فلا تحسن في العين، ولا ترجح في الوزن إلا ممن وصل إلى درجته، وقطع المراحل التي قطعها في الحياة، وأنهم ظنّوا غلطًا في الفهم أن هذه الحضارة غربية، وأخطأوا فإن الحضارات ليست شرقية ولا غربية، وإنما هي تراث إنساني متداول بين الأمم تتعاقب عليه فيزيد فيه بعضها، وينقص منه بعضها، ويبتكر بعضها بعض الفروع فينسب إليه، ويلونها بعضهم بألوان ثابتة فتبقى شاهدة له حتى تضمحلّ.(4/311)
إن جلّ أبنائنا الذين التقطتهم أوربا لتعلّمهم عكسوا آية فرعون مع موسى. ففرعون التقط موسى لينفعه ويتّخذه ولدًا وربّاه صغيرًا وأحسن إليه، فكان موسى له عدوًا وحزنًا وسخنة عين، أما أبناؤنا فقد التقطتهم أوربا وعلّمتهم وربّتهم فكانوا عدوًا لدينهم، وحزنًا لأهله، وسخنة عين لأهليهم وأوطانهم، إلا قليلًا منهم دخل النار فما احترق، وغشي اللج فأمن الغرق.
والسبب في هذا البلاء هو استعداد فينا كاستعداد المريض للموت، وشعور بالنقص في أنفسنا، لبعد عهدنا بالعزّة والكرامة، ولموت أشياء فينا تصاحب موتها في العادة يقظة أشياء، ففقد الإحساس بالواجب تصحبه يقظة الشهوات الجسدية، وقوة الإحساس بالواجب هي التي أملت على بعض خلفائنا أن يعتزل النساء كلما هم بالغزو، وهي التي حملت كثيرًا من قضاة سلفنا على أن يقمعوا شهوتهم الجسدية بالحلال قبل أن يجلسوا للخصوم في مجالس الحكم، وموت النخوة تصحبه سرعة التقليد وعادة الخضوع للغالب وسرعة التحلّل والذوبان.
إن الغرب لا يعطينا إلا جزءًا مما يأخذه منّا، ولا يعطينا إلا ما يعود علينا بالوبال، وقد أعنّاه على أنفسنا فأصبح المهاجر منّا إلى العلم يذهب بعقله الشرقي فينبذه هناك كأنه عقال على رأسه لا عقل في دماغه، ثم يأتيتا يوم يأتي بعقل غربي، ومنهم من يأتي بعقل غربي، ومعه امرأة تحرسه أن يزيغ ...(4/312)
مساعي جمعية العلماء
في قضية الزعيم الحبيب بورقيبة *
___
ننشر فيما يلي برقيتي الأستاذ الرئيس والأستاذ الفضيل الورتلاني، في الاحتجاج والاستنكار لما يعانيه الزعيم الحبيب بورقيبة في معتقله من معاملة قاسية وعذاب مهين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
السيد سفير فرنسا بالقاهرة
"باسم الشعوب التي تجمعها العروبة ويظلّلها الإسلام في المغرب العربي وتوحّد بين قلوبها المظالم المنصبّة عليها من حكومتكم، نرفع احتجاجنا الصارخ واستنكارنا العميق للمعاملة القاسية التي يعامل بها الزعيم الحبيب بورقيبة لا لشيء إلا لأنه يطالب بحقوق بلاده، ونعدّ هذه المعاملة قتلًا بطيئًا، إن أباحته قوانينكم الجائرة فستعاقبكم عليه قوانين الله العادلة".
محمد البشير الإبراهيمي
الفضيل الورتلاني
وأرسل المكتب أيضًا برقية الشكر التالية إلى أمانة الجامعة العربية:
"سيادة الأمين العام لجامعة الدول العربية- القاهرة،
علمنا الحالة السيئة التي وصل إليها الزعيم الحبيب بورقيبة في معتقله فحزنا الحزن العميق لما يلقاه هذا المجاهد من عذاب الاستعمار الفرنسي الوحشي على سمع العرب
__________
* «البصائر»، العدد 279، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 16 جويليه 1954.(4/313)
وبصرهم، ثم قرأنا عن مساعي الجامعة العربية وخطواتها في أداء الواجب نحو هذا المكافح فكان هذا السعي تخفيفًا لحزننا وسلوى وعزاء لنا.
إننا حين نضيف صوتنا إلى أصواتكم في الاحتجاج والاستنكار لتعذيب هذا الزعيم، نقدم لكم شكرنا بلسان المغرب العربي كله، معلنين للعالم أن هذا العمل من الجامعة زيادة عن كونه واجبًا هو منّة طوّقتم بها رقاب ثلاثين مليون عربي كلهم مستنكر ومتألم للمعاملة التي يعامل بها الظالمون هذا المجاهد".
محمد البشير الإبراهيمي
الفضيل الورتلاني(4/314)
من عاذري؟ *
يعز علي أن أنقطع عن الكتابة في «البصائر» هذه المدة الطويلة وأن أهجر أحبّ ميدان من ميادين العمل إلى نفسي وهو صفحات «البصائر»، فلقد كنت أجد من اللذة في ذلك العمل ما لا أجده في غيره من أعمالي العمومية وأحسّ للكلمة أكتبها في «البصائر» من حسن الوقع والارتياح ما لا أجده للمحاضرة تهزّ الجمهور وتصيب مواقع التأثير منه، وكأن الاتصال الروحاني بيني وبين القارئين أوثق وأعمق منه بيني وبين السامعين.
ويعزّ علي- أكثر من ذلك- أن أتلقّى سهام العتب من قرّاء «البصائر» في الشرق والغرب على هذا الهجر الطويل، فلقد لقيت في مطار القاهرة، قبيل رمضان الماضي، أخوين فاضلين من شيوخ جامع الزيتونة متوجّهين إلى المدينة المنوّرة، وكانا لا يعرفانني إلّا من طريق قراءة «البصائر»، ففرحا بلقائي وفرحت بلقائهما، وما كاد ينتهي تنازع التحية بيننا حتى وجّها لي العتاب الشديد على حرمان القرّاء من مقالاتي في «البصائر» ووصفاها بما هما أهله من كرم النفس. ورجعت من المطار إلى القاهرة فتلقّيت في بريد ذلك اليوم عدة رسائل تَنْعَى علي هذا الهجر وهي في ذلك بين مخفف ومشدّد، ثم تلقّيت في الأسبوع الأول من رمضان عدة رسائل لم تخل واحدة منها من عتاب ومن بينها رسالة من الأخ الأستاذ أحمد توفيق المدني، شاب فيها العتاب بالمطالبة بالحق المدني، وصنع معنى بمعنى، فكانت حجّته داحضة لأنه سدّ عليّ أبواب المعاذير. ثم سافرت في سابع رمضان إلى بيروت وسمر حولي جماعة من الأصدقاء فكدروا عليّ صفو السمر بالعتاب، وسافرت بعد يومين إلى دمشق، فسمعت العتاب المر من جماعة من الأصحاب، ثم وردت بغداد في صبح ثالثة فلقيني بعض المستقبلين وفي يده العددان الأخيران من «البصائر» - وكنت لم أرهما بعد- ووجّه إلي على خلاف عادته أقسى ما سمعته من اللوم بأسلوب شعري وكأنه عاذل يعذل على الهجر، والعذال إنما يعذلون على الوصل.
__________
* «البصائر»، العدد 278، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 9 جويليه 1954.(4/315)
وقع هذا كله في أسبوعين وكأن القوم كانوا فيه على تواطؤ مع تباعد الديار، فقلت: أتواصوا به أم هم قوم مخلصون؟ جمع بينهم التقدير لهذه الصحيفة المجاهدة فعز عليهم أن تخلو من قلم عرف بها وعرفت به، ولم يزل اسم صاحبه في صدرها يلوح للأعين كباقي الوشم في ظاهر اليد.
إن هذا الإجماع العجيب على لومي ألجأني إلى كثرة المعاذير، والمعاذير إذا كثرت أصبحت كبعض هذه الأدوية الكيماوية التي تبطل خاصيتها بالتعوّد، وقد أصبحت لكثرة ما اعتذرت أشعر كأن أعذاري منتحلة، وإن كانت قائمة بي وقائمة حولي، وأهمها عجزي عن الكتابة بمعناها الصناعي، أعني تحريك اليد بالقلم على القرطاس، فقد أصبح هذا أشق شيء أعانيه بسبب هبوط عام في قواي الجسمية، والبصر إلى كلال، والهمة إلى خمود، وتلك الذاكرة الواعية الصيود أضحت (كشنة خرقاء واهية الكلى) تضيع أكثر مما تمسك، ولم أتعوّد الإملاء فأملي، وطالما حاولت فلم آت بشيء، والعادة التي ملكتني هي أن قريحتي لا تجود بشيء إلا إذا وضعت سن القلم على القرطاس، فهنالك تنثال شآبيب القول ولكل امرئ ما تعوّد.
طال هذا الهجر مني لـ «البصائر» ولكنه لم يثمر ثمرة الهجر الطويل وهي النسيان، فلا أنا نسيت «البصائر»، وإن بي من الحنين إليها ما لا أجده لأقرب الأشياء إلى قلبي، ولا القرّاء نسوني، وإنني لألقى من عتابهم البَرْح الذي لم تلطف منه المعاذير، وإن كانت حقًا وكانت واقعًا وكانت حرية بالقبول.
...
إن إخوان العشرة والنشأة والعمل والتجربة يسرفون في اللوم إلى حد التجنّي، لأنهم يعتقدون أن الكتابة لا تسهل لأحد مثل ما تسهل لي ولا تؤاتي أحدًا مؤاتاتها لي والمادة من اللغة والفكر والطبع والمواضيع في نظرهم موفّرة لدي، وأكثرهم يستدلّ على هذا بسهولة الكلام علي وتأتيه وانقياده في المحاضرات الطويلة المرتجلة والدروس العلمية، ويقولون ان تلك المحاضرات والدروس لو وجدت من يكتبها كما تلقى لكانت مقالات أو كتبًا لا تحتاج إلى تنقيح ولا إلى إعادة نظر، وهم مخطئون في هذا الحكم لأنهم يتناولونه بميزان غير قار، فإن الحالات التي يكون معها التأتى والانقياد والاسلاس هي حالات نفسية وأصباغ وجدانية تخصّ الكاتب أو الخطيب وليس الناس فيها بمتساوين ولا القياس فيها بمطرد، وعن نفسي أتحدث، فإنني أجد من السهولة ومؤاتاة الكلام في مواقف الخطابة ما لا أجده في مواضيع الكتابة، ثم جاءت العادة والمران فأحكما ذلك في طبعي، ومردّ ذلك في نفسي وفي حكمي(4/316)
إلى أنني أجدني في الخطابة مأخوذا بالمغافصة وهي لا تدع المجال للروية والتحكيك وعرض الأساليب واختيار أحسنها، وقد يعين المرتجل على الارتجال شعوره بأن الارتجال مصحوب بالعذر، وأن صور الكلام وألفاظه أعراض تنقضي فلا يستطيع السامع أن يحاسب على دقائقها، ولا تبقى من المحاضرة إلا الصورة الكلية المجملة، وليست الكتابة كذلك.
ومن عيوبي التي لازمتني من الصغر أنني حين أكتب تحفل شعاب فكري بمعان في الموضوع الواحد، وأريد تصويرها فتنثال على القلم صور متعددة من التراكيب والألفاظ ويحملني الافتتان بالكثير منها على تدوينه، وأجد نفسي بين صور كثيرة للمعنى الواحد أو للمعاني المتقاربة، ويوزّع إعجابي بها ما يوزّع الحنان على الأبناء المتعددين، وألقى العناء في ترجيح واحد منها. ثم أرجح بدافع يخضع للقواعد المحكمة بين الناس، وقد يكون في الصور التي أطرحها ما هو أبلغ وأوعب للموضوع وأرضى للقرّاء ولكن هذا عيبي، وقد اعترفت به وهو بعض السر في التفاوت الذي يدركه القرّاء في أسلوبي، وما أريد أن أخرج من هذا بعذر وإنما أريد أن أردّ به زعم الزاعمين أن الكتابة ميسّرة لقلمي، وأقول ان الكتابة أصعب علي بكثير، وإذا كانت الركية البكية متعبة للماتح بنزورها، فالجزور متعبة له بثرورها.
أيها اللائمون: لا هجر ولا قلى قبل اليوم، ولا لوم ولا عتاب- إن شاء الله- بعد اليوم، فإن كان ثمة هجر فهو هجر بلا سلو، وكيف أسلو «البصائر»، وقد كانت سلواي في المحن، وميداني في قراع المستعمرين والمتّجرين بالدين. وكانت سلاحي في الحملة على من أضاعوا فلسطين، وكانت مجلى حجّتي في جدال الظالمين للعربية والدين، وكانت مشرق النور الذي فجّرته من النصائح على أبنائي الطلبة والمعلّمين، وكانت الحلبة التي سبقت فيها الكتاب في قضايا العرب أجمعين.
وبعد، فإنني أشكر لإخواني العاتبين أن عتبهم كان سببًا في أوبة من جوبة، وتوبة من حوبة، وكم جرّ العتاب إلى متاب، وحسن مآب.(4/317)
رسالة الأستاذ الورتلاني
في الدستور الإسلامي المنشود *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الأستاذ الفضيل الورتلاني رجل وهبه الله أوفر الحظوظ من قوة العقل وبراعة الذهن، وصفاء القريحة، وسداد الفهم، وعمق التأمّل، ودقة الملاحظة، ومتانة العقيدة، وطهارة الضمير، وبُعد النظر، ونصاعة البيان وجراءة اللسان، ثم وفّقه إلى البحث الممحص في حقائق الإسلام وتاريخه، ثم في دقائق شؤون المسلمين ثم في الفروق بين تلك الحقائق وبين واقع المسلمين، ثم يسّره للعمل في هذا الميدان، فخطب وكتب في هذه المواضيع المتشعّبة الأطراف، وانتهى به الرأي إلى غايات أصبحت عنده جزءًا من عقيدة الحق، ثم طلبت تلك المواهب كمالاتها فيه بالاختلاط بجميع الطوائف من المسلمين وغيرهم، فهو مع غير المسلمين حرب على ظلمهم وظلامهم، ودحض لدعاويهم وأوهامهم، ونقض لحججهم وتوهين، وهو مع المسلمين غير ذلك: يشجّع عاملهم، ويحرّك خاملهم، وينصح ملوكهم وأمراءهم ورؤساءهم وقادة الرأي والسياسة والاقتصاد فيهم، يعرض على كل واحد منهم الرأي صريحًا غير مجمجم، واضحًا غير مبهم، جريئًا غير متردّد، خالصًا غير مشوب، وله مع كل طبقة من طبقات المسلمين موقف وأسلوب، ومن عجيب أمره أنه يتّسع للعامي بما يناسب طبقته، ثم يتدرّج مع الطبقات واحدة واحدة إلى أكبرها شأنًا أو أرقاها علمًا، وأعلاها درجة في أوضاع المجتمع، فتجده مع كل طبقة وكأنه لا يحسن إلا سياستها، ولا يجيد إلا أسلوبها، فإذا وصلت معه إلى الطبقات العليا تجلّت لك براعته في الأسلوب الخاص بها بيانًا وإقناعًا ومتانة حجة ولطف مدخل إلى النفوس، وتستند تلك القوة فيه إلى ملكات ثانوية من صلابة لا تلين، وذاكرة لا تخون وعزة لا تهون؛ وقد يشتدّ لموجب، وقد يغلو في رأيه وقد يتعصّب فتخال ذلك منه شدة وغلوًا وتعصّبًا مما يعرف الناس، فإذا بلوته واستقرأت سوابق الرأي ولواحقه، واستبرأت علله وغاياته حكمت بأنها
__________
* «البصائر»، العدد 282، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 27 أوت 1954.(4/318)
شدة المؤمن الموقن وغلو الجاد المتقصي، وتعصّب الدارس الذي يقطع أقصى مراحل التفكير وأقساها، حتى إذا خلصت له الفكرة من شوائب الشك قذف بها في الناس وحامى دونها وتعصّب لها، ليكون التعصّب نصيرًا وشاهدًا عليها، فالتعصّب للفكرة عند هذا الصنف من المفكرين ليس تعصّبًا إلا في مظهره، أما حقيقته فهو توكيد معنوي للفكرة وذود عنها وتمكين لها، وما أكثر جنايات الأسماء على الحقائق.
ومعرفة الأستاذ الورتلاني لا تتم إلا بمعرفة نشأته وتربيته الأولى، فقد نشأ على مقربة من الفطرة السليمة وتربّى تربية دينية يتعاهدها المربي من والدين ومعلّمين بالمحاسبة على الصغيرة والكبيرة والمناقشة في الجليلة والحقيرة، فأيفع وشبّ مرتاض الطبع على المحاسبة والمناقشة والاهتمام والجد مع توهّج الإحساس وإشراق الروح وسموّ الغاية، يعاون ذلك كله ذكاء متوقّد وبديهة مطاوعة في مجالات القول ولسان كالسيف المأثور إذا لاقى الضريبة صمم، وما زالت تلوح على تفكيره ورأيه آثار من تلك التربية يعرفها من يعرفها وينكرها من يجهلها.
والأستاذ الورتلاني إنساني النزعة ثم إسلاميها، ثم عربيها، ثم جزائريها، تتزاوج هذه النزعات في نفسه من غير أن تتغاير ولا أن تتضارر، وهو يحسن التأليف بينها ويلبس كل واحدة لبوسها ويبرزها في زمانها ومكانها فلا تتناقض ولا تتعاند، ولكن أبينها سمة هي النزعة الإسلامية، فهي التي تستبدّ بمعظم تفكيره ثم تأتي النزعة العربية، فله في كل قضية من قضايا المسلمين رأي، وله في كل حدث من أحداث العرب حكم، وله في كل جو من أجواء زمنه متنفّس، ولكن آفاته التي أضاعت على الجمهور القارئ الاستفادة من آرائه وأحكامه أنه لم يدوّنها خصوصًا في هذه الحقبة التي اختلّ فيها استقراره وامتحن فيها بما يمتحن به الأحرار، وقد وقَفْتُ بحكم الصلة الطبيعية الوثيقة بيني وبينه على عدة آراء له مدوّنة في قضايا العرب الخاصة وقضايا المسلمين العامة أصاب في معظمها وقرطس وربط المعلولات بعللها وكشف عن خبايا لا يتأتى الكشف عنها إلا للأقل من القليل من رجالنا، فألححت عليه أن ينشرها على الناس، مع توسّع في بعضها بالشرح والتحليل، ما دام للتاريخ عند كل مفكّر ذمام، وقد وعد بنشر ما تسمح الظروف العامة بنشره ويسمح له وقته الخاص بإعادة النظر فيه وتقويم كل أسلوبه، أما مذكراته في الأحداث العربية فهو يتربّص بها ساحل الأمان واعتدال الزمان ...
...
من أمتع ما كتب الأستاذ الورتلاني رسالة وجّهها إلى حكومتي باكستان وأندونيسيا يحثهما على إقامة الدستور الإسلامي ويشرح لهما أصوله واضطلاعه بالحياة السعيدة لتكونا(4/319)
قدوة لغيرهما فيه. ويبيّن لهما ما يجب عليهما من حقوق للشعوب الإسلامية الضعيفة أو المستعمرة، وكان السبب المباشر لكتابة هذه الرسالة أن حزب الرابطة الإسلامية الذي سعى في تكوين باكستان وفصلها عن الهند، أرسل وفدًا من أعضائه إلى الأقطار الإسلامية لأوائل العهد بنشأة باكستان يستطلع آراء أهل الرأي فيما يجب أن تقوم عليه هذه الدولة الناشئة، وفيما يحسن أن يكون بينها وبين الحكومات الإسلامية من الصلات وفيما يجب أن تقدّمه لتلك الحكومات أو تتقاضاه منها من العون، واتصل الوفد بالأستاذ الورتلاني في إحدى مدن لبنان فأفضى إليه برأيه الكامل في تلك النقط فطلب منه الوفد أن يكتب خلاصة تلك الآراء التي سمعها وآمن بها ليقدموها إلى حكومتهم بعد ترجمتها إلى الانكليزية أو الأوردية ففعل، فجاءت هذه الرسالة المفيدة التي نقرضها اليوم، وقد قدم الأستاذ نسخة منها في ذلك الحين إلى حكومة أندونيسيا بواسطة أحد سفرائها، لاشتراكها مع حكومة باكستان في الافتقار إلى تلك الآراء الصائبة وفي جدة النشأة وفي اتساع الرقعة وفي النزعة الإسلامية العميقة وفي الغنى بالعدد والموارد الطبيعية، وإنهما أقرب الدول الإسلامية إلى الاتحاد الذي يعمل له العاملون المخلصون وهما- مع ذلك كله- تظللان ثلث المسلمين المنتشرين في العالم، وإنها تميّزات تجعلهما محط أنظار المفكّرين الإسلاميين كما جعلتهما هوى أفئدة الطامعين المادينين.
...
حثّ الأستاذ الورتلاني الحكومتين في آخر الرسالة على لزوم الاتصال الوثيق بالهيئات الإسلامية الحرة العاملة لإحياء الروح الإسلامية وإثارة النخوة الإسلامية وبيان الحقائق الإسلامية العليا بالتربية والتعليم وبعث المجد الإسلامي من جديد، وسمّى الموجود الصالح من تلك الهيئات، ومنها جمعية العلماء الجزائريين وجمعية الإخوان المسلمين، وأن ما ذكره الأستاذ في هذا الصدد هو محض النصيحة للحكومتين، فإن استعانتهما بالهيئات المذكورة في تحقيق المعاني الإسلامية تجلب لهما الخير وتخفّف عنهما العناء وتهديهما للتي هي أقوم، لأن هذه الجمعيات تعمل في خدمة الإسلام بنية صادقة وقصد صالح، وهي على بيّنة من أمرها، وعلى بصيرة في دعوتها بعيدة عن تلوّنات السياسة لا تدفعها رغبة في جاه أو منصب ولا تثنيها رهبة من ظالم أو قوي لأن مبنى أمرها على أن القوة لله، والله أكبر. ومن مزايا هذه الهيئات أنها غربلت المعاني الإسلامية ونخلتها علمًا وعملًا، فهي بمثابة المواد المحضرة لمن يريد الخير من الحكومات الإسلامية، وهي نعم العون لها إذا استعانت بها أو استرشدتها.
ولم يوصِ الأستاذ تينك الحكومتين الناشئتين بالاستعانة بالحكومات الإسلامية الموجودة قبلهما، وهو مصيب شاكلة الحقيقة في ذلك، فإن معظم تلك الحكومات إسلامي في اسمه(4/320)
ومظهره فقط، أما في حقيقتها فهي متنكرة للإسلام مجاهرة بمنابذته عاملة على إزهاق روحه في مدارسها وعلى إشاعة الإلحاد بجميع الوسائل، وإني لأعجب لهذه الحكومات المتنكّرة للإسلام ولتناقض أعمالها، فبينما هي تجهد في حرب الشيوعية وتمعن في عداوتها وترصد للقضاء عليها المقادير الوفيرة من أموال المسلمين، إذا بها تقف موقف العداوة والخصومة من أكبر عدو للشيوعية وهو الإسلام. ولو أن هذه الحكومات عمدت إلى تقوية المعاني الإسلامية الصحيحة في النفوس بواسطة المدارس والدعاة والوعّاظ والجرائد لسدّت جميع المنافذ على الشيوعية ولضمنت لنفسها النتيجة الصالحة من أقرب الطرق، ولوفّرت جهدًا ومالًا ووقتًا هي في حاجة إليها، ولو أن هذه الحكومات فهمت حقيقة الإسلام وحقيقة الشيوعية لآمنت بأن القلوب العامرة بمعاني الإسلام لا تجد الشيوعية فيها مكانًا، وما هو إلا أن يدخل الإيمان الكامل بالله فتخرج الشيوعية ... يدخل الإسلام بعدله وإحسانه ورحمته واطمئنانه فتخرج الخيالات والأماني الباطلة والاضطرابات النفسية مذمومة مدحورة، ولو علمت حكوماتنا الإسلامية ذلك لعلمت أن الشيوعية لا تدفع بسد منافذ الحدود، وإنما تدفع بسد منافذ النفوس. ولكن من مصائبنا وبلايانا أن وراء كل حكومة من حكوماتنا شيطانًا من الأجانب يغري ويوسوس، وإرادة منهم تحرّك وتسكن، ولسانًا يملي ويلقّن، ويدًا تقيم وتقعد، وخيالًا يرغب ويرهب، ونفوذًا يرجى ويخاف، وإن افتتان حكّامنا بالكراسي، صيّر الجاري منهم كالراسي، وإننا سمحنا للأجنبي بالوقوف في الفناء فاقتحم الدار ثم أخرجنا منها ...
وضربنا لهم الأمثال بالواقع الملموس فلم يعقلوا ...
قلنا لهم: هذه حكومة الهند لم تبنِ أمرها الجديد على التنكّر للبرهمية ولا على التنصّل من الدين، بل بنت دولة تجمع مئات الملايين على دين أساسه الوثنية وعبادة البقر، وقد أصبحت- مع هذا- دولة مرهوبة السطوة عزيزة الجانب، تخطب ودّها أعظم دول العالم بأسًا وعلمًا، فما بالكم لا تبنون دولكم الضعيفة على دين التوحيد وعبادة الواحد وعلى تاريخ مشرق كفلق الصبح مملوء بالمآثر والمفاخر وعلى سلف لهم في كل صالحة أثر واضح ولهم إلى كل موقف عزّة خطى حثيثة، وعلى قرآن وصل بين السماء والأرض، وآخى بين الروح والمادة، وحرّر الفكر والعقل، وحلّ المشكلات الاجتماعية بالعدل والإحسان، أم أنتم لا تعقلون؟
وقلنا لهم: هؤلاء اليهود الذين ظهروا عليكم وقهرت قلتهم كثرتكم وأخرجوكم من دياركم صاغرين، بنوا دولة في أرضكم على الدين، وأذكوا الحماس لها باسم الدين، ولفتوا العالم إليها باسم الدين، وزعموا أنها حق لهم بشواهد الدين، وسمّوها باسم ديني تبجحًا وافتخارًا برغم أنف العالم الملحد. فنسبوها إلى إسرائيل بذرة نُجارِهِم، ومعقد فخارهم، فويحكم ... إن كلمة "دولة اسرائيل" هي كلمة اليهود وان كلمتكم العبقرية التي تساويها- لو(4/321)
وجدت منكم ناطقًا- هي "دولة محمد" وأنه لا نسبة بينهما في عين ولا أثر، ولكن أصحاب تلك الكلمة قالوها عقيدة وتحديًا وإصرارًا فانتصروا، وسكتم أنتم عن كلمتكم جبنًا وتنكّرًا وعقوقًا فانكسرتم وتعالوا نتكاشف ... أيستطيع أحدكم أن يقولها؟ لا ... وان أكثركم ليخجل من ذكرها، ويتأفّف من سماعها، ولولا شعوبكم المرزوءة فيكم المغلوبة على أمرها بكم، ولولا بقية خشية منها فيكم لأنها سلعة التجارة ومادة المساومة فإذا لم تكن لم تكونوا. لولا ذلك لخشينا أن تطمسوا تاريخ الإسلام ومعالمه الباقية طمسًا حتى لا يذكره ذاكر ولا ينظر إليها ناظر.
...
وفي العالم الإسلامي اليوم رجال أولو رأي وإيمان وعقيدة، وفيه هيئات منظمة تلتقي على مبادئه الرشيدة، وترمي إلى غاياته السديدة، ولكن أولئك الرجال وتلك الهيئات مشتتة ليس لها مساك، وهي شاعرة بلزوم التلاقي والتعارف والتعاون، عاملة لها، لتكون أقوى على حمل الأمانة، وأسرع في الوصول إلى الغاية، ولو تيسّرت لها وسائل التلاقي والتعاون لكانت أعمالها في خدمة الإسلام أوسع وأنفع، ولا يتيسّر لها ذلك إلا إذا أسندتها حكومة من هذه الحكومات المنسوبة إلى الإسلام وآوتها ونصرتها فنفعتها وانتفعت بها، ثم عاد ذلك النفع على المسلمين حكومات وشعوبًا، وان من بلايانا أن الحكومات الاستعمارية التي تملك أمر جمهرة المسلمين تنصب العواثير في طريق هذا التلاقي، وأن الحكومات الإسلامية تقلّد الحكومات الأجنبية في هذا المذهب فتتنكّر لهؤلاء الرجال وهذه الهيئات العاملة لخير المسلمين، وتطاردهم، وتعطّل وسائلهم، ولو أنها فتحت صدرها واحتضنت العاملين وأعمالهم لكان ذلك مزيدًا في قوّتها وعزّتها، ولو أن هذه الحكومات اجتمعن تحت الكلمة الجامعة "دولة محمد" لكانت بذلك أرهب لعدوهنّ وأجلب لعزتهنّ وأدوم لسلطانهن.
توسّع الأستاذ الورتلاني في هذه النقطة من رسالته، وضرب لها الأمثال وأقام الشواهد من الواقع ونصب الميزان بين الدستور الإسلامي والدساتير الوضعية الرائجة، ووضع اليد على الرجال الذين يعوّل عليهم في تنظيم الدستور الإسلامي الكافل لمصالح البشر كلهم لا المسلمين وحدهم، ولو أن حكومة باكستان وحكومة أندونيسيا عملتا بهذه الجزئية التي شرحتها الرسالة لكوّنتا أعوانًا على تثبيت دعائمهما، وعلماء استدلاليين يهدونها سواء السبيل في نظم الدستور الإسلامي الذي هو أسمى مطلب للشعب الباكستاني العريق في إسلامه، والشعب الأندونيسي المخلص لإسلامه المعتزّ به، ولكنهما غفلتا عن هذه النصيحة، وتركتا القوانين الكافرة تتحكّم في الأمة المسلمة، فطغت عليهما الأمواج ولفتهما الأعاصير، بعد خمس سنوات من هذا النذير فتلك حكومة باكستان تصاممت حتى أسمعتها الحوادث،(4/322)
فهبّت تداوي الحمى بالطاعون وتحاول أن تخرس ألسنة الحق، وأن تقتل أعلى العلماء المسلمين صيتًا، وأنداهم صوتًا، أبا الأعلى المودودي. وحكومة أندونيسيا تسبح إلى الآن في بحر لجي من الأحزاب والنزعات المناهضة للإسلام، ونسأل الله أن يرزقهما توفيقًا إلى سبل النجاة، وأن يبعد عنهما شياطين الشر التي تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف وأن يفتح آذانهما لمثل النصائح التي تضمنتها هذه الرسالة.
هذه كلمتنا في الرسالة وصاحبها، فإذا كانا غنيين عنها فإننا قلناها للحق الذي هو فوقنا جميعًا، ويوم تطبع الرسالة نزفّها إلى القرّاء بقلادة وقرط، وجرة ومِرْط، وجواب للشرط.(4/323)
المطبعة والمدفع! *
"إذا كان المدفع قد انتزع من سيف البطل صولته، فإن المطبعة قد انتزعت من قلم الورّاق دولته".
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لو عاش ذلك النوع اللطيف من أنواع الأدب وهو عقد المناظرات والمفاخرات بين الصوامت المتضادة أو المتقابلة أو المتقاربة الأثر كالليل والنهار والسيف والقلم، لكان هذا أوان ازدهاره، ولأتى فيه أدباء العصر بالغرائب في مفاخرات بين مبتكرات هذا العصر، وأثرها في حضارة العصر، وبين أشباهها من أدوات الحضارة في الماضي، كالمدفع والسيف، والقنبلة الذرية مع المدفع، وكالمطبعة مع القلم، وإذا لكان الفَلْج للمدفع على السيف، وللمطبعة على القلم.
...
المطبعة هي الغرة الشادخة في مخترعات هذا العصر وعجائبه، بل هي أشرف المخترعات قدرًا وأوسعها أثرًا، يُستغنى عن غيرها في بعض الأوقات وعند طوائف من الناس، ولا يُستغنى عنها في وقت من الأوقات، ولا في حالة من الحالات، ولا عند أحد من الناس، فإذا قورنت بالمدفع في عموم النفع بزّته، لأن المدفع أداة حرب، والحرب دمار، والمطبعة أداة علم، والعلم عمار، ولولا المطبعة ما ارتقى علم ولا فن ولا صناعة ولا تجارة ولا عمران، ولولا المطبعة ما تمّ للنهضات العقلية والفكرية والفنية تمام، ولولا المطبعة لما أحيا الخلف مآثر السلف فوصلوا بها حلقات التاريخ العلمي.
والمطبعة- اليوم- ضرورة من ضرورات الحياة في كل فرع من فروعها، تقرّب البعيد من رغائبها، وتيسّر العسير من مطالبها، تسرع بالبطاء إلى غاياتها ولو أن نهضة كنهضة جمعية العلماء صاحبتها مطبعة راقية كاملة الأدوات لتقدّمت بها خطوات فساحًا، ولكانت أعود عليها بالنفع والخير من عشرات المدارس.
__________
* «البصائر»، العدد 283، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 3 سبتمبر 1954.(4/324)
وما زالت جريدة «البصائر» منذ نشأت تتطلب من قرّائها وأنصارها أن ينشئوا لها العنصر الضروري الذي لا تعيش ولا تنمو إلا به وهو مطبعة كاملة تتلاءم مع سمعتها ومنزلتها في نفوسهم، ومع كرامة اللغة التي هي حارسة بيانها، ورافعة بنيانها، وما زالت مطبعة «البصائر» دَيْنًا في ذمة الأمة الجزائرية العربية وفي ذمة كل من يعرف لـ «البصائر» قيمتها ويربأ بها أن تكون كابن السبيل: له في كل ليلة مأوى.
وما زالت قضية المطبعة شغلنا الشاغل منذ نشأت «البصائر»: كانت أمنية، فأصبحت فكرة، فأضحت عقيدة، فأمست شيئًا ضرورًيا لا بدّ منه، وطالما قلبنا وجوه الرأي في إبرازها إلى حيّز التنفيذ، وافترصنا المناسبات الصالحة لذلك، وأشهد- وأنا أول المهتمّين بهذه القضية- أن ضعف الرأي أضاع علينا فرصتين في وقتين مناسبين، واننا لو ركبنا الحزم ونبذنا الآراء المثبطة لكانت المطبعة اليوم قد آتت ثمراتها كاملة وولدت عدة مشاريع نافعة.
ولو أن مدوّنًا دوّن المحاولات التي حاولناها لتحقيق هذه الفكرة لكانت تاريخًا قائمًا ذا فصول وأبواب ومراحل، ويوم تصبح مطبعة «البصائر» في منزلة تستحقّ التأريخ لها، يصبح شرح هذه المحاولات أساسًا لذلك التأريخ، وسنشرحها في فرصة أخرى ليكون ذلك نورًا يسعى بين يدي ذلك المؤرّخ الذي لا ندري من هو ولا متى يكون.
...
ما الذي يدفع «البصائر» عن المنزلة التي تستحق بها أن تكون لها مطبعة مستقلّة؟
لقد شهد لها الموافق والمخالف أنها أعظم جريدة ظهرت في المغرب العربي، وأنها أرقى أسلوبًا وأسمى بيانًا من كثير من جرائد الشرق العربي، وحسبها شرفًا في الموضوع أنها أحيت العروبة والتمجّد بها في النفوس، وأحيت العربية وبيانها في الألسنة والأقلام، وأنها تناضل عن أشرف مبدإٍ وهو الإصلاح بقسميه الديني والدنيوي، ووجّهت المسلم إلى أعظم هداية نزل بها كتاب وجاء بها رسول وهي هداية القرآن، وحاربت أخبث عدوّ طرق البشرية، وهو الاستعمار، فكيف لا تستحق مع هذا كله- ومثله معه- أن تقدم لها الأداة التي تتوقف عليها حياتها، وأن تقلّد السلاح الذي يضمن لها النصر في المعترك الذي تقتحمه، وأن يدفع عنها أنصارها غضاضة الإيجار عند الغريب أو عند الجار، وهجنة الانتقال من دار إلى دار، فيتألف من ذلك برهان على أن الجزائر أصبحت تقيم الموازين القسط لما ينفعها فتنشطه ولما يضرّها فتثبطه.
هذه الكلمات مقدّمة بين يدي نجوى ... أناجي بها إخواني في الجزائر وأوجّهها إلى جميع أنصار «البصائر» في العالم العربي، ان المطبعة أصبحت واقعًا، فيجب أن يكون العمل لها جدًا، فقد أقدم إخواني وشركائي في الاهتمام بهذه القضية على شراء أكبر آلة في جهاز(4/325)
المطبعة، وهي آلة التصفيف من نوع "أنترتيب" وما هي- على عظمتها وقيمتها بين آلات المطبعة- إلا جزء من أجزاء، وما غناء الجزء الواحد إذا لم تتلاحق الأجزاء المكمّلة للهيكل؟
...
أنا- على بعد الدار- أدعو الأمة الجزائرية إلى القيام بهذا الواجب المشرف، وهو أن تنشئ لـ «البصائر» مطبعة كاملة تتلاءم مع منزلة الجريدة في الجهاد، ومنزلة الأمة في التعاون وعرفان الواجب والقيام بالعظائم.
أدعو إلى اكتتاب عام يشترك فيه كل جزائري وجزائرية لقضاء دين طال أمده في عنق كل جزائري وجزائرية، وأن يبذل كل واحد منهم ما تسعه طاقته في هذا المشروع العظيم، ومتى عظم المشروع وجب أن تكون الهمم أعظم.
وأنا شهيد على الأمة الجزائرية أنها أمة كريمة، دعوناها إلى تشييد المدارس العلمية فلبّت، وأيقظناها على صوت العلم فهبّت، وسرنا بها إلى الحياة السعيدة فأوضعت وخبت، أفندعوها بعد هذا إلى واجب له خطره، وله قيمته في نهضتها فلا تجيب؟ الظن بها، بل اليقين فيها أنها تستجيب لداعيه وأنها تتسابق إلى تحقيقه بأسرع مما نتوقع وأكمل مما نتخيّل.
إن الأمم الجادة في نهضاتها لا تقف عند حد، فلا تنتهي من عمل عظيم إلا وتبدأ فيما هو أعظم، وإذا وزنا الأمة الجزائرية بهذا الميزان رأينا ما يبشّر بأنها سائرة وأنها لن تقف لأنها شيّدت في مبدإ هذه النهضة عشرات من المدارس الفخمة، ثم شيّدت المعهد الباديسي الثانوي وملحقاته، ثم دار التلميذ العظيمة، وهي أعظم مفاخر الأمة حتى الآن، وبقي عليها من العظائم أن تنشئ لـ «البصائر» مطبعة كاملة فإذا أنجزتها انتقلت إلى تكميل المعهد بإنشاء قسمين لسنتيه الأوليين بتلمسان أو وهران لتخفيف العناء على تلامذة المقاطعة الوهرانية في السنتين، وإنشاء سنتين خامسة وسادسة في الجزائر العاصمة، وبهاتين السنتين يصير المعهد ثانوية حقيقية ذات ستة أقسام، وكل هذا- إن شاء الله- تمهيد لإنشاء معهد ثانوي كامل بتلمسان، وآخر بالبليدة، وثالث للبنات بإحدى مدن القطر ودار لتخريج المعلّمين وأخرى لتخريج المعلّمات، ومدرسة خاصة لتخريج الوعّاظ والدعاة، فإذا تمّت هذه المشاريع على ترتيبها كانت الأمة قد بنت بيدها وبمالها ما يضمن لها الحياة العلمية الكاملة الأجزاء والأدوات.
...
لا أختم هذه الكلمة حتى أبعث تحية خالصة إلى إخواني أعضاء المكتب الدائم الذين سبقوني إلى الاكتتاب لمشروع مطبعة «البصائر» وفتحوا بابه، وإنني أتشرّف بأن أكون آخرهم في العمل إذا كنت أوّلهم في البذل، فأعلن أنني أتبرعّ لمشروع المطبعة بثلاثين ألف فرنك.(4/326)
النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام *
الابتعاث عمل جديد من أعمال جمعية العلماء، وهو- في ظاهره الذي يراه الناس- نتيجة لازمة لتقدم الحركة التعليمية التي تديرها الجمعية، وتشبعها واتساعها واحتياجها إلى كفاءات علمية تباشرها، وكفاءات فنية تديرها، أما في واقعه وحقيقته المستمدة من روح جمعية العلماء ومبادئها- فهو تفسير عملي لقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
جمعية العلماء ليست حكومة تبعث البعثات لتسد بهم- بعد الرجوع- حاجتها فى الوظائف التي يقوم عليها الجهاز الحكومي الآلي، فلا تشترط على تلميذ صناعة ما إلا أن يرجع إليها بشهادة في تلك الصناعة، وإنما جمعية العلماء جمعية دينية قبل كل شيء، وبعد كل شيء، تبتديء بالدين وتنتهي إلى الدين، وتنقلب بين البداية والنهاية في الدين، حتى لو كان الدين حرفة ووظيفة لقلنا وقال الناس: إن حرفتها ووظيفتها الدين، آية ذلك وصفها: (جمعية العلماء المسلمين) فهذا الوصف هو الجزء الذاتي الأكبر من حقيقتها، وليس قيدا لاخراج العلماء غير المسلمين، والجزآن معاهما حقيقتها الكاملة، وآية أخرى أربعح وزنا وأعدل شهادة على أن الجمعية جمعية دينية، هي أن الدافع الوحيد لنشأتها هو تصميم الاستعمار الفرنسي على محو الإسلام من الجزائر، فكان من خيرة الله لدينه وغيرته عليه أن حرك لحمايته عقولا سددها وعزائم شددها، ونفوسا ملأها خشية منه، وغيرة على حرماته واستقامة على سننه في الدين والكون، وأرواحا أشرق عليها بنوره، أولئك هم رجال جمعية العلماء الذين رفعوا منارها، وأعلوا على صخرة الدين جدارها، وأولئك الذين تقاسموا على إحياء الإسلام أو الموت دونه، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
__________
* «البصائر»: العدد 284 - السنة السابعة من السلسلة الثانية- 10 سبتمبر 1954.(4/327)
غير أن هذا الوصف الذاتي لجمعية العلماء اشتهر حتى خفي، وعلم حتى كاد يُجهل، وبدأ بعض أبناء هذا الجيل المرشّح للوراثة يغفل عنه أو يتغافل، كما يغفل الانسان عن كونه انسانًا فيتردّى في الحيوانية، ويكون سبب الغفلة عن الحقيقة هو الحقيقة نفسها، ومكّن لغفلة هؤلاء أو تغافلهم عدة عوارض زمنية، منها أنهم من جيل مخضرم لم يتخرّج كله في تربيته وسلوكه وعلمه على أيدي رجال جمعية العلماء، ومنها افتتان هذا الجيل من أبناء الأمة العربية بكلمات: العلم، والتعليم، والثقافة، والعرب والعروبة، والوطن، والوطنية، وهي كلمات تشعّ شعاعات تخطف البصر، وتنفض على النفس أصباغًا ذات أثر، وهي- على عمومها- سمات هذا العصر المتحلّل، ومواد الفصل الأول من قاموسه، يستعملها الأقوياء تعاليًا واجتهادًا، ويستعملها الضعفاء تعلّلًا وتقليدًا؛ ولما كانت معانيها عند الأولين مادية جافّة منقطعة الصلة بالروح، فمن الطبيعي أن ينقلها المقلّدون بجفافها وانقطاعها عن الروح.
بدت آثار هذه الغفلة من سنوات مضت، وبدأت ضعيفة خفية لم يدركها إلا قادة الجمعية الأيقاظ، ولكن السكوت عن الخطر هو أقوى أسباب استفحاله، لذلك وجب علينا أن نحارب هذا الخطر الجديد في بعض أبنائنا قبل أن يسري إلى جميعهم، وأن نكفكف من غلوائهم فيه بحزم لا تشموبه هوينا، وأن نأخذ بحجزهم عن التهوّر فيما يخالف مبدأ جمعيتهم، وأن نفهمهم أن المادة نافعة ولكن الروح التي تصرفها وتتصرف فيها أنفع، وأن العلم جميل، ولكنه مع الدين أجمل، وأن الثقافة كمال، ولكنها مع الفضيلة أكمل، وأن العروبة شرف، ولكنها زادت بالإسلام شرفًا على شرف، وأن الوطنية مكرمة، ولكن وطنية الإسلام اأكرم وميدانها أوسع، وصاحبها أعزّ نفرًا، وأقوى ناصرًا، وأكثر عديدًا.
وطاف طائف هذا الخطر بالشرق العربي، وزيّنه دعاة ينطوون للإسلام على حقد دفين، فهم ينتقمون منه بإفساد أجياله، والشرق العربي هو مسرح آمالنا، ومنتج طلّابنا وروّادنا، وسوق امتيارنا، فماذا يكون موقفنا منه، وهل نغض عن الشر لأنه نبت في الشرق، وان إخواننا المصلحين حرّاس الإسلام في الشرق يحاربون هذه المعاني العدوّة للإسلام حربًا لا هدنة فيها، فلننجدهم في حربها لئلا تطغى فتفسد عليهم وعلينا كل تدبير، وهبهم سكتوا عنه، أفنقلدهم في السكوت ونفتح الباب لأبنائنا أن يجنوا عواقب هذا السكوت؟ إن من أصول الفطرة أن نقلّد في الخير ولا نقلّد في الشر، ونأتمّ في الكمال ولا نأتم في النقص، وليس من كرامة الشرق علينا أن نقلّده في حرفين من اسمه.
...
جمعية العلماء حقيقة جلية، والسابقون الأولون من علماء الجمعية هم حرّاس هذه الحقيقة ووظيفتهم الأولى إبراز هذه الحقيقة إلى الوجود، والصورة المشخّصة لها هي إحياء(4/328)
الإسلام بمعناه الكامل في النفوس، ومعناه الكامل هو عقائده النقية، وعباداته المأثورة، وفضائله المصلحة للبشر، وآدابه المقوّمة للنفس، وأحكامه الحافظة للحقوق حين يقدر على ذلك، ويكمل ذلك كله معرفة بسيَر رجاله تصحّح القدوة، ودرس لتاريخه يصوّر المجد.
ومن عهود جمعية العلماء مع الله أن تنشئ مجتمعًا إسلاميًا يشارف السلف في عقائده وعباداته وأخلاقه وصلته بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقربه من الله، وأن تسلك لذلك طريق التربية قبل طريق التعليم، لأنها تعلم أن العلم المجرد من التربية الصالحة لا ينفع، وقد يكون بلاء على صاحبه ووبالًا على الناس، كما هو مشهود في آثار العلوم الغربية في أصحابها وفي مقلديهم منّا.
وصفوة التفسير لمبدإ جمعية العلماء أن العلم وسيلة من وسائل الدين، وحسبه شرفًا أن الإسلام دعا إليه، ونوّه به، وحضّ عليه، وأن العربية لسان الدين المترجم من حقائقه، وحسبها شرفًا أن الله اختارها لغة لقرآنه، فلم تبقَ بعد ذلك لغة للعرب، ونحن نحبّها لأن الله أحبّها، وأن العرب قوم محمد والمجلي الأول لدعوته ولولا محمد لم يكونوا شيئًا مذكورًا، ولا نزيد على ذلك، وإذا كنا منهم اتصالاً في الأنساب، وتحدّرًا من الأصلاب، فما ذلك من كسبنا حتى يكون قربة تجر الأجر، أو مفخرة ترفع الذكر، وإنما يثاب العامل على كسبه ويفخر الفاخر بعمله.
هذا هو المنهج الذي نسير عليه، وهذا هو الغرض الذي نرمي إليه، لا غالين ولا مقصّرين، وإجماله- للتوضيح- أننا نطلب العلم لإحياء الإسلام، ونقرأ العربية لفهم الإسلام، ونلوذ بأكناف الشرق العربي لأنه مطلع النبوّة ومنبت الإسلام، ولأنه القطعة المتّصلة من الأرض بالسماء، فالبدء- كما ترى- من الإسلام، والانتهاء إلى الإسلام، وبين البدء والنهاية مجالات لنفوس عامرة بالإيمان وآثار الإيمان.
أما المفردات التي أصبح أبناؤنا يلوكونها مجردة من الإضافة إليه، من علم، وثقافة، وعروبة، ووطن، فنحن نعدّها وقوفًا على "ويل للمصلّين".
وأما النتائج المحققة- التي نكاد نراها بالعين ونلمسها باليد- لهذا السلوك الذي وفّقنا الله إليه، فقد تضمّنها الوعد الكريم في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.
...
يحزننا أن ينحرف الفهم عن الإصابة فينحرف العمل عن الإفادة، ويحزننا- أكثر من ذلك- أن يبدأ الانحراف من هذا الجيل الذي كوّناه بأيدينا وصنعناه على أعيننا، ورجونا أن(4/329)
يرثنا فيزيد في التراث، ويخلفنا فيحسن الخلافة، ويتعلم فيكون أوسع منا علمًا، ويعمل فيكون أضخم منّا أعمالًا، ويحامي عن الإسلام وفضائله فيكون بعمله وقوله أصدق منّا محاماة، فإذا تهاونّا في شأنه وغلبتنا عليه العوامل الدخيلة، جنينا جناية نبوء بخزيها في الدنيا قبل الآخرة، وخنّا الأمانة التي استحفظنا عليها وحملناها طائعين، وأعطينا للأمة عليها صفقة أَيْماننا مختارين، لأننا حرّكنا القافلة إلى السير، ولم نوجّهها في الطريق القاصد إلى الغرض السديد، فلجت في بيداء طامسة فكانت غنيمة باردة للصوص العقول والأفكار.
أما بعد، فنحن في أشد الحاجة إلى الاتصال بإخواننا في الشرق لأن بيننا وبينهم أرحامًا يجب أن تتعاطف، وأسبابًا يجب أن تتلاقى، وحبالًا من التاريخ رمتها الأيدي العادية بالوهن والارتخاء حتى أوشكت أن تتقطع، ونحن في حاجة شديدة إلى إمدادهم إيانا بما نحن أفقر فيه منهم، وهم في حاجة إلى التنبيه على موقعهم منّا وموقعنا منهم، وإلى معرفة أحوالنا، حتى نتعارف على بصيرة، وقد فعلنا كل هذا وأربينا فيه على الغاية والحمد لله.
وان أوثق أسباب هذا الاتصال هو هذه البعثات العلمية التي نجهزها للشرق العربي كما نجهز البعوث ليمتزج أفرادها بإخوانهم فتتقارب الأمزجة، ويتحد الشعور، وتنمو الفضائل الأصلية في الفريقين وهي فضائل الإسلام، وتمحى الرذائل الدخيلة التي ابتلانا بها الغرب ليهلكنا ويملكنا، وليقول أحدهما للآخر: أنت أخي في الإسلام والعروبة فهلمّ نطر إلى المجد بجناحين، ولا يقول له: أنت أخي في العروبة فقط، فكأنما يقول له: هلم نطر بجناح واحد ... فيكونان كالقاضيين الأعورين في شعر الشاعر البغدادي ...
أكبر جوالب الامتزاج من جهتنا أن يكون العنوان الذي يقرأه إخواننا من صحيفتنا دالًا دلالة صادقة على حقيقة ما وراءه، وأن تكون الطلائع الأولى من طلّابنا هي ذلك العنوان، وأن يكون صورة مصغرة من جمعية العلماء في إيمانها وجهادها وثباتها وصبرها وصلاحها وإصلاحها، وصورة أخرى من الأمة الجزائرية في جدّها وسلامة فطرتها، وتصلبها في إسلامها وعروبتها وصبرها على المكاره في سبيلهما، وفي شجاعتها وكرم شمائلها والمحافظة على مقوّماتها وخصائصها، وتشوّفها لحياة سعيدة تبنيها بأيديها على منوالها، بأحجارها، على هدى تاريخها. كل ذلك ليرجعوا يوم يرجعون بإيمان أقوى وإسلام أكمل وعقيدة في الله أثبت، وإرادة في العمل أصلب، ونزعة في الأخوة أعرق، وعزيمة في التعاون أصدق ... ومع ذلك كله شيء من العلم مهما يقل فإنه أنفع.
إن مجتمعنا- كغيره من المجتمعات- فيه الصالح والطالح، والطيّب والخبيث، وهذا شيء نعلمه عن إخواننا كما يعلمونه عنّا، لأنه قدر مشترك بين الجماعات البشرية، ولكن الذي يندب إليه الدين، وتقتضيه المصلحة ويستحليه الذوق السليم في مثل هذه القضايا التى(4/330)
تجمع معاني السفارة والدعاية أن يختار لها الأصلح، فالصالح فالقابل للإصلاح بالسمع والطاعة لأوامر الجمعية واحترام نظمها والتأثّر بنصائحها وأن يطرح ما عدا هذه الأصناف ويبقى في بلاده مستورًا لأن الناقص الفاسد عورة في المجتمع، وعورات المجتمع أحق بالستر من عورات الأفراد.
وجمعية العلماء لم تغفل ذلك، ولم تنسَ أن حسن الاختيار مفتاح السداد، وأن ميزان الكمال دائمًا هو الدين، وأن الجانب الديني والخلقي له الاعتبار الأول في تلميذ البعثة لأنه سفير أمة، فهو إما رافع لقدرها وإما خافض؛ وهو شاهدها، فإما لها وإما عليها، وهو وجهها فإما شائه مشوّه، وإما جميل مجمّل.
ولكن احتياط جمعية العلماء في هذا الباب لم يخلُ من ثُغر سببها حسن الظن وإنها خطوة بداية مصحوبة بالتعجّل، وتجربة لم يسبق لها مثال، فلذلك وقع من بعض تلامذة البعثات إخلال متفاوت، وظهرت على بعضهم أمراض خلقية وفكرية، منها الشديد ومنها الخفيف وأشدها وأبعدها ما يمسّ الدين، وأشدّ الشديد منها ما يرجع إلى صميم الدين كالعقائد والشعائر، فوجب عليها أمران اثنان لمعالجة هذه الحالة ومعاجلتها بما يمنع استشراءها ويقطع دابرها: أحدهما أن تبالغ في الاحتياط وتتشدّد في حسن الاختيار، وأن تجعل التقدير الأول للدين والأخلاق والسلوك الاجتماعي، لا للذكاء والحرص على التحصيل، والأمر الثاني الفصل الناجز لكل تلميذ يخرج عن سنن الجمعية ويشوّه سمعتها ويصوّرها بقوله أو بفعله بغير صورتها، ولا يحقّق غاياتها التي وضحناها وقرّرناها في هذه الكلمة.
أما الأمر الأول فإنه موكول إلى المكتب الدائم بالجزائر وإلى من يستعين بهم من اللجان والأشخاص، وأما الأمر الثاني فقد تولّاه كاتب هذه السطور بما له من حق الرياسة المسؤولة المؤتمنة، وبما عليه من واجب المحافظة على مبادئ الجمعية وصيانة شرفها، وعلى سمعة الأمة الجزائرية وكرامتها وثقة الشرق بها، وعلى حق الله قبل ذلك كله في استرعاء بعض عباده على بعض.
...
إنني فصلت طائفة من أفراد البعثات بعد أن تعاهدتهم أنا وغيري من عباد الله الصالحين بالنصائح المتنوّعة، فلم ينتفعوا بها، وبالإنذارات المتكررة فلم يرتدعوا عنها، وأصبح السكوت عليهم إقرارًا للشرّ، واعترافًا بالمنكر، وغبنًا لذوي الاستقامة منهم حينما يرون أنه لا فضل لمستقيم على معوجّ، وغشا للأمة بهم إذا رجعوا إليها بعقول مريضة وأخلاق شاذة وأفكار ملحدة عن صراط الله ناكبة عن مبادئ جمعية العلماء ثم تولّوا تعليم أبنائها فبثّوا فيهم(4/331)
تلك السموم من الأفكار الزائفة والآراء الضالّة والأخلاق الفاسدة. انه لغش ما بعده من غش، وتغرير بالأجيال التي ستأخذ عن مثل هؤلاء.
والله يعلم أننا بذلنا الجهد في تقويم أخلاق هؤلاء الشواذ من التلامذة بالنصح والموعظة الحسنة اللطيفة، ثم بالخُشْنَة الشديدة وبتفهيمهم الغاية التي جاؤوا من أجلها، وذكرناهم بحق الله عليهم، وبحق الأمة التي أوفدتهم وحاطتهم بالعطف وعلّقت آمالها بمستقبلهم وبحق الجمعية التي هيّأت لهم طريق العلم وسخّرت لخدمتهم الشعوب والحكومات ... توليت ذلك بنفسي، ثم طلبت من الأستاذ الفضيل الورتلاني أن يتولّاه عنّي، وعنده من لطف التوصّل إلى مسالك النفوس وجرّها إلى الخير إن كان فيها استعداد له طرائق عجيبة، فتولّى- حفظه الله- ذلك عني بعزيمة صادقة وضحّى في سبيله بمصالح عامّة من هذا النوع كانت أنفع وأشمل، وعقد لبعثة مصر مجالس وعظ وإرشاد وحكمة دامت أشهرًا وسمعوا منه في باب التذكير الديني المتّصل بالأرواح ما لم يسمعوه من أحد، ثم سافر لأجل ذلك إلى الكويت وإلى بغداد وإلى دمشق في الشتاء الأخير، وعقد للبعثات المجالس المتعددة، فأما الصالحون والمستعدّون للصلاح فزادتهم تلك المجالس صلاحًا، وكانت لأرواحهم غذاء، وأما هؤلاء الشواذ الذين فصلتهم أخيرًا فلم تؤثر فيهم فتيلًا، وما زادهم ذلك إلا مرضًا وكفرًا بأنعم الله ثم بأنعم الجمعية والأمة عليهم وحرصًا على إفساد الصالحين.
...
هذا التصرّف بسيط وواجب وحكيم، أما بساطته فهو أنه تصرّف رئيس مسؤول لله فيما استرعاه عنه، ومسؤول للأمة التي اختارته لقيادة هذه الحركة وائتمنته عليها، وأما وجوبه فهو أنه قيام بحق الله الذي أمر بالصلاح ونهى عن الفساد، وأما حكمته فهو أنه تأديب بعد أن لم تنفع النصيحة والاعذار والإنذار، وإصلاح للتلميذ المفصول إن كانت فيه بقية استعداد للصلاح وإصلاح لبقية التلامذة الذين بدأت عدوى المرض تسري إليهم وإفهام لهم أنه لا يستوي المحسن والمسيء في الجزاء، فربّما سرى إلى أذهانهم أنه لا فضيلة للمحسن على المسيء ما دام لم يمسّه التأديب، وأنه بعد ذلك إرضاء للأمة الجزائرية التي تحرص على الفضيلة، وتعاون الجمعية على إقرارها وقمع عوامل الفساد حماية للصالحين من أبنائها، وحكمته الأخيرة أنه إنذار معجّل لتلامذة البعثات المقبلة.
ما كانت هذه القضية البسيطة تحتاج إلى هذا التبسّط في الحديث عنها على المتعارف في أوضاع الجمعيات، ولكن وقوعها لأول مرة في تاريخ الجمعية سوّغ هذا البيان والتحليل(4/332)
ليكون دستورًا للمستقبل وبلاغًا عامًا للطلبة وأوليائهم ومعلّميهم، وزيادة في الاستبصار وقطعًا للألسنة التي تسدي في الباطل وتلحم وقمعًا للنزعات العاطفية التي تغشى القضية.
...
والكلمة الأخيرة من هذا الفصل الطويل أوجّهها إلى أولياء التلامذة المفصولين، لأنني أعلم أن فصل أبنائهم سيقع منهم موقعًا سيئًا وأعلم من تربيتنا العامة أننا ما زلنا نُحكّم العواطف الدنيا حتى في المقاصد العليا، وتعمينا عن النظر إلى المصلحة العامة.
فليعلموا- أرشدهم الله- أن هؤلاء المفصولين هم أبناء الأمة لا أبناؤهم، وقد فارقوهم يوم اختاروا لهم هذا المسلك، فكأنهم حكموا عليهم "بالتأميم" وأسلموهم إلى أيدٍ أمينة تتعب ليستريح الآباء والأبناء، وتسهر ليناموا جميعًا، وتقضي بالنظر البعيد على أنظارهم القصيرة، وتزنهم ضررًا ونفعًا بميزان المجتمع لا بميزان الفرد، فالمجتمع هو الذي يتلقّى خيرهم أو شرّهم يوم يرجعون إليه، وما الآباء إلا جزء من الشعب يجب أن يذوّب مصلحته الشخصية في مصلحة مجتمعه، فالمجتمع أولى بهؤلاء الأبناء، ومحال أن يرضى مجتمع صالح بمن يشوّه سمعته أو يلوّث شرفه، فإذا رضيت لهؤلاء الأولياء مذهب الأنانية، فهل يرضون مني أن ينقلب إليهم أبناؤهم ملاحدة أو فجّارًا أو فسقة أو حملة أفكار هدّامة للدين والدنيا؟ إنهم سيحملونني تبعة التفريط الذي أدّى إلى ذلك، وسيحاسبونني حسابًا عسيرًا أنا حقيق به، زيادة على حساب الله وتسجيل التاريخ.
وليعلم هؤلاء الأولياء- كتبهم الله في أوليائه- أني أرحم منهم بأبنائهم وأكثر شفقة عليهم من الأم على ولدها، ولكنني أنظر منهم إلى غير ما ينظرون، ومن الرحمة بهم وبأوليائهم وبالأمة أنني فصلتهم فأحسنت إلى الجميع، والغصن الأعوج الذي لا يقوّمه الثقاف يقومه الفصل من الشجرة.
وإن في الأقطار العربية إخوانًا لنا في الصلاح والإصلاح يفرحون لفرحنا ويستاءون لمساءتنا ويغضبون لسمعة الجزائر أن تشوّه من قريب أو من غريب، وقد اعتمدت في كل قطر عربي لنا فيه بعثة طائفة من هؤلاء الإخوان يتعاهدون أبناءنا ويرشدونهم إلى التي هي أقوم ويراقبونهم في السر والعلن، احتياطًا مني لدفع الشرور المتربّصة بأبنائنا، وأعطيتهم من الحق أن يأمروا وينهوا وأن يشيروا علي فأنفّذ إشارتهم مشكورين، فالواجب على أفراد بعثاتنا السابقة واللاحقة أن ينزلوا هؤلاء الإخوان الأفاضل منزلة المسيّرين للجمعية وأن يحترموهم احترامًا قلبيًا وأن يعتبروهم أساتذتهم الحقيقيين، وأن يقفوا عند أمرهم ونهيهم فيما يرجع إلى التديّن والتخلّق وحسن السلوك، ويعلموا أن جمعية العلماء ذات مبدإٍ جليل، فالأقربون إليها(4/333)
في كل قطر إسلامي هم أصحاب مبدئها قبل غيرهم فلا ترضى لأبنائها المبعوثين إلا أن يحذوا حذوها في هذا الباب، وتوجب عليهم أن يتّصلوا بمن هو على شاكلتهم.
والله سبحانه وتعالى يتولانا جميعًا بهداه وتوفيقه، ويجنبنا فتن الغرور والزيغ والضلال، ويقينا شرور أنفسنا، ويعصمنا من الآراء المضلّة، ويثبّتنا على الحق والهداية حتى نلقاه لا وانين ولا مقصّرين، ولا مبدلين ولا مغيرين.(4/334)
تعليق على كلمة الأستاذ الكبير
الشيخ محمد عبد اللطيف دراز *
- 1 -
الأستاذ الكبير محمد عبد اللطيف دراز عالم من غير الطراز المعروف، يمتاز بدقة الملاحظة، وسعة الأفق، وسداد التفكير، وتبرز فيه خلة من خلال أماثل العلماء وهي الوفاء مقرونًا بالنجدة، والشجاعة مصحوبة بالأناة، وينفرد بخصوصية يندر جدًا أن نراها على أكملها في عالم من علمائنا الدينيين، وهي العناية بدراسة أحوال المسلمين في جميع الأقطار، والافتتان بالبحث عن حركاتهم ونهضاتهم وعلائق بعضهم بالبعض، بحيث تحادثه في هذا الباب فتشرف منه على بحر متلاطم بالمعلومات الصحيحة المدققة عن المسلمين وحكوماتهم وجمعياتهم، ولا تجد له ثانيًا من صنفه في الحرص على الاتصال بكل من يزور مصر من رجال الإسلام وأقطابه في العلم والسياسة، وعلى التبسّط معهم في السؤال والتقصّي في البحث والمدارسة.
ولهذه الميزات في أستاذنا الكبير تتّجه إليه الأنظار دائمًا لرئاسة الجمعيات الإسلامية الكبيرة في مصر، وتتوارد عليه الطلبات لعضوية هذا النوع من الجمعيات خارج مصر، وهو اليوم رئيس جمعية الكفاح لتحرير الشعوب الإسلامية وعضو في الكثير من الجمعيات والمؤتمرات الإسلامية، وقضى من عمره سنوات في إدارة الأزهر ثم في الوكالة، فكان في إدارته حازمًا وكان في وكالته أحزم.
بحكم هذه الخصائص التي أصبحت له ملكات تصدر عنها أعماله نجده أعرف إخواننا العلماء الشرقيين بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يعرف عنها وعن رجالها- وهو في مصر- ما لا يكاد يعرفه الجزائري إلا بالدراسة والاتصال والعناية المقصودة، وزاده الاتصال بالأستاذ الورتلاني- خمسة عشر عامًا- اطّلاعًا على حقائقها وفقهًا في دقائقها.
__________
* «البصائر»، العدد 288، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 8 أكتوبر 1954.(4/335)
وكما يعرف الأستاذ دراز عن جمعية العلماء كثيرًا تعرف هي عنه أكثر، وليست معرفة جمعية العلماء به جديدة بل ترجع إلى تاريخ نشأتها، فالسابقون الأولون من رجالها يعرفون مواقفه في الثورة المصرية 1919 ويعرفون شذوذه عن صنفه في اقتحام السياسة واصطلاء نارها ومزاحمة رجالها بمنكب قوي، على حين كان ذلك معدودًا عند علماء الدين نوعًا من الابتداع أو الابتذال، وقد انتخبه المجلس الإداري لجمعية العلماء الجزائريين بالإجماع رئيسًا شرفيًا لها منذ سنوات مع من انتخب لذلك من علماء الإسلام، فإذا تكلم عن جزئية دقيقة من الجزئيات الخاصّة بجمعية العلماء وعلاقاتها الداخلية فكما يتكلّم صاحب الدار عن داره أو كما يتكلم الشريك في علائقه مع شركائه.
...
وأبدأ ... فأشكر للأستاذ الجليل تفضّله بهذه الملاحظات الخالصة، وأؤكد له أن موقعها مني بالخصوص كان موقع صدقة المؤمن الكريم من الفقير إليها، كما أحمده بقلبي ولساني وكل جوارحي على هذا التقدير الجميل لرجل من رجال جمعية العلماء ومفخرة من مفاخرها، تعده- وان قصرت في حقّه- جيشًا لا رجلًا، وعقيدة مجسّمة لا شخصًا، وأَعتبر أن هذا التقدير مصروف لجمعية العلماء في شخص قطب من أقطابها وسابق من سباقها.
وأشكره شكرًا مكرّرًا على هذا النوع اللطيف من العناية بجمعية العلماء في معرض يتراءى بلونين، عتاب وتقرير، وبأسلوب يبدو بصبغتين، نصح وتقدير، وهذه طريقة لا يحسن مثلها إلا أمثال الأستاذ حفظه الله.
أما ما نعاه الأستاذ الكبير علينا متفضلًا فهو حق لا شك فيه، وأنا المسؤول الأول عنه بحكم رئاستي لهذه الحركة التي وجّه الأستاذ إليها لومه وعتابه، فكما أتحمّل على إخواني واجباتها بقدر استطاعتي أتحمّل مسؤولياتها بما فوق استطاعتي، وقد أوقعنا الشاعر- سامحه الله- في الحرج بقوله:
وإن رئاسة الأقوام فاعلم … لها صعداء مطلعها طويل
أقدّم بين يدي تعليقاتي الاعتراف بالتقصير في الاهتمام بالأستاذ الفضيل وأقرّر للحق والإنصاف أنه طالما وخزني ضميري حينما أشعر بهذا التقصير في المواقف التي يجب فيها الاهتمام به كأيام محنته، فأبثّ مَن حولي من الإخوان هذا الشعور فأجد شعورهم مساوقًا لشعوري. وكل ما أذكره الآن من المعاذير- على ضعفها- هو الغفلة والتواكل والاعتماد على ما في القلوب والاطمئنان إلى أن الفضيل غني بالقلوب المحيطة به وبالنفوس المهتمّة بشأنه، وربّما خطر في بال أحدنا أننا أحوج إلى اهتمامه بنا منه إلى اهتمامنا به.(4/336)
هذه أعذار أؤكد أنها واقعة وأعتقد أنها واهية، فالغفلة نقيصة وإن لم يبرأ منها أحد فلا تنهض عذرًا عن الحقوق الأدبية ذات الأثر النفسي العميق وبقية الأعذار تتفاوت في وجاهتها ووزنها وقبول العقول لها.
وإذا قصر إخوان الفضيل في جنبه أو قصرت الجزائر كلها، فما ذلك بالذي يضير الفضيل أو ينقص من قيمته شيئًا وإنما يضير المقصّرين، لأنهم يحرمون من ثمرات الاتصال الممتع به، وما هي بالقليلة. ففي الاتصال الكتابي وقوف على الحقائق ومثارات للبحث والسؤال والجواب والاستفتاء والعرض والكشف عن الغوامض، وفيه أبواب من القول تفتح أبوابًا، وأسباب تستتبع أسبابًّا، وما انتقلت العلوم من قطر إلى قطر إلا بذلك الأسلوب الذي كانوا يدعونه المراجعات، إذ كانت تغني كثيرًا عن المثافنة والتلقّي والتلقين.
وكثيرًا ما أطفأ الاتصال الكتابي نائرة وسفر بالرحمة بين قلبين وصدّ نفسًا عن هواها وجلا عن وجه رأي، وعن نفسي أتحدّث، فقد اكتنفتني- وأنا بالجزائر- في حدود سنة 1949 أحوال ضاق بها صدري وصبري فهممت أن ألقي حبل الجمعية على غاربها وأهجر الإخوان والأعوان وأنقطع للتأليف، ووافق طفح النفس بالاغتمام أن كان بين يديّ كتاب من الفضيل يتقاضى جوابه فكتبت الجواب وأنا في تلك الحالة، وشرحت له في الأسطر الأخيرة من الرسالة بعض الأسباب التي أدّت بي إلى تلك الحالة وذكرت له ما عقدت عليه العزم من التخلّي لا على وجه المشورة بل على وجه الإخبار بشيء مفروغ منه، فجاءني جواب الأستاذ يثنيني عن تلك العزيمة بأسلوب من الرأي أخذ نفسي أخذة السحر ومسح منها تلك العزيمة المصمّمة مسح السوافي للرسوم، وبتّ وفي النفس هم يعتلج، فأصبحت بفعل تلك الرسالة أو بفضلها صاحي القلب من تلك الدواعي كلها، ولقد قرأت كثيرًا للأدباء القدماء في باب سل السخائم ونقض العزائم، وفيه العجب العاجب من الافتنان في ضروب الاقتدار على ثني أعنّة النفس وصرف أهوائها من جو إلى جو بسحر البيان، ومن ألطف ما قرأت تأثيرًا وأدقّه تعبيرًا قول أديب أندلسي يثني عزيمة عالم عن الرحلة إلى الشرق:
أشمس الغرب حق ما سمعنا … بأنك قد سئمت من الإقامه
وأنك قد عزمت على رحيل … بحق الله لا تقم القيامه
ونفثة السحر والتأثير أنه هيّأ لمراده بقوله: "أشمس الغرب" ثم ختم بقوله: "لا تقم القيامة" إشارة إلى أن طلوع الشمس من مغربها من علامات قيام الساعة.
قرأت كثيرًا من هذا النوع ومثّلت نفسي معنيًا به فما وجدت له من التأثير ما وجدت لرسالة الفضيل إلي، وليس مرجع التأثير إلى البلاغة التي يتأثر بها أمثالي بل قوة الرأي وسداد الحجة، ولا أذكر أن كلمة ثنت عزيمتي عن يشيء هممت به إلا كلمة الفضيل هذه، وكلمة(4/337)
قبلها لأخينا الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، فقد وقعت مرة في هم برّح بي فصمّمت على الخروج من الجزائر، وزارني بمدينة تلمسان وأنا مصمّم فكشفت له عن ذات صدري، فارتاع ورأى أن إقناعي بالكلام المعتاد لا يثني عزمي فسكت قليلًا وقال: إن خروجك يا فلان أو خروجي يكتبه الله فرارًا من الزحف. فوالذي وهب له العلم والبيان لقد كانت كلمته تلك شؤبوبًا من الماء صبّ على لهب.(4/338)
- 2 * -
ونعود إلى إخواننا في الجزائر فنشهد لهم جميعًا أنهم يحملون للفضيل من الإكبار والتقدير ما هو أهله وما ينتهي أحيانًا إلى المبالغة، ونشهد عليهم أنهم مقصّرون في شيء ينفعهم لو قاموا به ولا يضرّه تقصيرهم فيه، وأنهم حرموا لذلك من فوائد وثمرات أهمّها عدم اطّلاعهم على جهوده وأعماله التي يعدّ كل واحد منها موضع قدوة، والكمال وليد القدوة، وعدم الاتصال بالكاملين مع القدرة عليه نقص، والاكتفاء بالسماع عن النوابغ يفضي في الغالب إلى تصوّرات خاطئة في حقّهم تعلو إلى الغلو أو تسف إلى التفريط، وسير النوابغ كالنصوص يجب أن تؤخذ كما هي وإلا أفسدت القدوة.
والإخوان بالجزائر- في نظرتهم إلى الفضيل- قسمان خاصة وعامة، مع إجماعهم على إكباره وتقديره، فالخاصة يزنون قيمته بالميزان القسط، ويعرفون عن أحواله الخاصّة والعامة ما هو واقع أو قريب من الواقع، أما العامة فيتوهّمون فيه أشياء ينتزعونها من شهرته ومقامه بين الشرقيين وما يتطاير من أخباره ويجسّمها لهم الخيال فتنطوي نفوسهم عليها كأنها حقائق ثم يتناجون بها في المجالس على أنها حقائق.
...
وأنا ... فمن مقاصدي في هذه الرحلة أن أدرس- عن عيان- المهم من القضايا الإسلامية، وأدرس العاملين من رجال الإسلام لآخذ عنهم القدوة الحسنة لنفسي أولًا، ولقومي يوم تنشر مذكراتي عن هذه الرحلة ثانيًا، وأشهد الله أنني استفدت من هذه الدراسة كثيرًا وأكملت جوانب من نقصي، ولا أكذب على الحقيقة فقد كنت ناقصًا وما زلت ناقصًا
__________
* «البصائر»، العدد 289، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 15 أكتوبر 1954.(4/339)
ولكنني أعد من دواعي الكمال، السعي في التكميل، ومن أشنع النقص ادّعاء الكمال، ومن أراد أن يعرف نفسه فليضعها أمام كامل، فكأنما يقابل منه مرآة مجلوة، وقد كنت أحفظ اللزوميات ثم أنسيتها وبقي في نفسي شيء من الاعتزاز بذلك بعد النسيان، مثل اعتزاز الفقير بغناه الزائل، فلما لقيت من حفظ اللزوميات في مثل سنّي ولم ينسها احتقرت نفسي وبرئت من الاعتزاز الزائف.
درست أبا الأعلى المودودي وسليمان الندوي وعبد الغفار خان من باكستان وكتبت عنهم مذكّرات ودرست جماعة من العلماء العاملين في العراق والشام ومصر من الأحياء وممن تأخر موتهم، ودرست أمين الحسيني وحسن البنا والفضيل الورتلاني عيانًا في الحيين وشبه عيان في الميت لاستفاضة شهرته في جميع الأوطان التي زرتها ولخلود الأهرامات التي بناها من النفوس لا من الحجر، ودرست بعض رجال الثورات المادية، وكل ما كتبته من مذكرات عن هذه الدراسات ستنتفع به الأجيال يوم ينشر إن شاء الله، ومفتاح دراساتي هو عمل الرجل وغايته وجهاده، وتفسير العمل عندي ما يبنى على عقيدة لئلا يتناقض، وما تدفعه إرادة لئلا يتراجع، وما يحثّه جهاد لئلا يقف، وما يصحبه تجرّد لئلا يتّهم، وما ينتشر لئلا يضيق فيضيع، وما تكون غايته الخير لئلا يكون فسادًا في الأرض.
وبهذا المقياس درست الأعمال والعاملين ومنهم الورتلاني، ولم يزد الورتلاني عليهم بسابق معرفتي له ولا بكونه خريج المدرسة الإصلاحية التي شاركت في بنائها ولا بالعشرة الملازمة بيننا، فقد تجردت في دراستى له عن كل ما أعرفه عنه من أول النشأة إلى الآن، حتى كأن الفضيل الذي أدرسه غير الفضيل الذي أعرفه، وقد كانت هذه الدراسة وهو في المرحلة الوسطى من عمره وعمله، وهي مرحلة يغلب أن تثبت ولا تحول، وتتمادى ولا تتغيّر، ومن الخطإ أن يبنى تاريخ الرجال على الحقبة الأولى من حياتهم كالذين أرّخوا لحياة ابن خلدون العلمية بما قبل تأليفه للمقدمة، وللرجال مراحل يطولون فيها ويقصرون ويزيدون وينقصون، لذلك كان أصدق تواريخ الرجال ما يكتبه الدارسون المتقصون عنهم بعد موتهم لأن الموت ختم على صحائف الأحياء.
والدراسة المستوعبة للفضيل ليس محلها الجرائد المعدودة الأيام والمقالات المعدودة السطور، وإنما ميدانها الكتب والمذكرات، ولكنني رأيت من الإحسان إلى الجزائر والبر بها بل من حقوقها علي أن أدفع عنها وصمة التقصير بالاعتراف به، والاعتراف بالحق أم الفضائل، وأن أحمل عنها تبعة التقصير، وأن أمسح بهذا الحمل عنها وقع العتاب من رجل تحبّه ويحبّها وهو الأستاذ الجليل محمد عبد اللطيف دراز، وقد تلمحت في ملاحظاته لحظة علوية ومن يدري فلعلّها هي التي حرّكتني إلى أداء واجب مزدوج فيه بر وفيه وفاء وفيه إحسان، وفيه خير- إن شاء الله- لقومي كلهم.(4/340)
لذلك كان من الخير الذي تسبّب فيه الأستاذ الجليل أن أتعجّل لإخوان الجزائر الكشف عن بعض جهات الفضيل في هذه المرحلة الثانية من عمره العملي، وهي الجهات التي قد يخطئ فيها وهم الواهمين في أدنى مراتب الوهم وتصوّرات الغالين في أقصى مراتب الإفراط، من أن ملابسته للطبقات العالية أَعْدَتْه بالتعالي، وأن الثروة وخفض العيش أنسياه بلاده، وأن كثرة المحيطين به أنسته أهله، وحديث الثروة حديث مستفيض في المغرب وبعض المشرق، كحديث خرافة، وله دافع طبيعي وهو تعلّق النفوس بالغنى، ولا أقل من الحديث عنه، ويذكي هذا الدافع الطبيعي فينا- معشر الشرقيين- طبيعة المبالغة من غير تحفّظ وأنا من أكثر الناس امتزاجًا بالطبقات كلها في الجزائر لأنها ميدان عملي، فأنا- لذلك- من أكثر الناس فهمًا لنفسياتها، وقد تجد في الطبقات الوسطى من ينطوي لك على تعظيم لا يحد، يجاوره في نفسه وهن يناقض ذلك التعظيم، لو وزن بالميزان العلمي، ولكن هذا التناقض واقع في هذه النفوس لا ينكر ولا يدفع، فإذا عثر عنه العامي أخرجه في معرض متردّد بين الدلال والعتب مثلًا فغطّى عليه، وفي الذين يجلّون الفضيل ويحبّونه نفوس تجمع مع حبّه اعتقادًا أنه ألهاه التكاثر وأنسته الجماعات الحافة به أهله، وهل تجمع المحبّة والإجلال مع هاتين النقيصتين؟ إنهما مما يرمي به العدو عدوّه ولكن ما ذكرته واقع مشهور، وفي النفوس غرائب تجليها التجارب، وان لم يستطع علم النفس تعليلها.(4/341)
مذكّرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إلى حضرات أعضاء مجلس الجامعة العربية المحترمين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
إن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة يتشرّف بأن يعرض على حضراتكم المعلومات والرغبات الآتية، راجيًا أن تنال من مجلسكم الموقر كل اهتمام.
الشعب الجزائري:
إن الشعب الجزائري جزء ثمين من الأمة العربية الماجدة ما زال محتفظًا بخصائص العروبة كأقوى ما يكون الاحتفاظ، ومن ثم فهو رأس مال العرب يجب أن يحافظوا عليه. وهو كذلك جزء له قيمته من الأمة الإسلامية العظيمة، ما زال محتفظًا بشعائره، متصلّبًا في عقائده الكريمة السمحة، ومن ثم فهو رأس مال عظيم للمسلمين يجب عليهم- حيثما كانوا- أن ينظروا إليه نظرة الأخوة المقتضية للنجدة والنصر.
فإذا تمّ للاستعمار الفرنسي ما يريده به من فرنسة واستعجام، فمعنى ذلك أنه ضاع على العرب والمسلمين- كل باعتباره الخاص- رأس مال عظيم، يقوم في العدد بأحد عشر مليونًا، وفي المعنى بذخيرة غالية من ذخائر الإنسانية وفضائلها: من الشجاعة والكرم، والصبر على مكاره الحياة، والثبات على الخصائص الأصلية، وقوة المقاومة الروحية، والوفاء للأصول التاريخية، والاعتزاز بالمقوّمات من لغة وجنس ودين.
__________
* صحيفة "منبر الشرق" وصحيفة "الدعوة "، أوت 1954، القاهرة.(4/342)
وإذا ضاعت الجزائر، ضاعت معها تونس ومراكش، فضاع على العرب ما يقرب من نصف عددهم، في وقت تتكثّر فيه الأمم القوية بمن ليس من دينها ولا من جنسها.
أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:
كانت الجزائر قبل احتلال الفرنسيين لها في سنة 1830 دولة مستقلّة غنية، تملك خصائص الدولة في ذلك العصر، وأهمّها العلم بالدين والدنيا، وفيها من الأوقاف الإسلامية الدارّة على العلم والدين ووجوه البر ما لا يوجد مثله في قطر إسلامي آخر، ومنذ تغلّب عليها الاستعمار الفريد في الخبث، وهو يعمل جاهدًا على قتل شخصيتها بالقضاء على الدين واللغة العربية، وكان أول عمل قام به هو مصادرة الأوقاف الإسلامية والمعاهد التابعة لها من مساجد ومدارس وزوايا، وتحويلها إلى كنائس وثكنات واصطبلات وميادين ومرافق عامّة، ثم أصدر قانونًا لا نعرف له نظيرًا في تاريخ البشرية العاقلة يقضي باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في وطنها وبين أهلها، يتوقّف تعليمها على إذن خاص وشروط ثقيلة، وزادت تلك الشروط على الأيام ثقلًا وعنتًا حتى أصبحت في السنوات الأخيرة لا تطاق، وأصبح معلّم العربية يقف في قفص الاتهام مع اللصوص والسافكين، وتجري عليه العقوبات مثلهم بالسجن والتغريم والتعذيب.
ثم دأب الاستعمار (من مائة ونيّف وعشرين سنة) على طمس كل أثر للإسلام والعربية، وقطع كل صلة بينهما وبين الشرق، ليتمّ له مسخ الأمة الجزائرية وإدماجها في الأمة الفرنسية، ولكن المناعة الطبيعية في هذه الأمة وتصلّبها في المحافظة على التراث الإسلامي المقدس وعلى خصائصها الشريفة دفع عنها ذلك البلاء وأنقذها من ذلك المصير.
لمن يرجع الفضل؟
يرجع الفضل الأكبر في تسطير تاريخ جديد للجزائر بإحياء الدين وما يتبعه من لغة وتاريخ وآداب إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست رسميًا سنة 1931، فقد استطاعت بفضل الله وعونه أن تقضي على فكرة الاندماج وغيرها من مقاصد الاستعمار، وأن تضع أساسًا متينًا للثقافة الإسلامية العربية في تلك الديار المعزولة، رغم استماتة الفرنسيين في محاربتها، واستطاعت بجهودها الخاصة أن تعمل الأعمال العظيمة الآتي بيانها.
مبدأ جمعية العلماء وغاياتها:
مبدأ جمعية العلماء يرمي إلى غاية جليلة، فالمبدأ هو العلم، والغاية هي تحرير الشعب الجزائري، والتحرير في نظرها قسمان: تحرير العقول والأرواح وتحرير الأبدان والأوطان،(4/343)
والأول أصل للثاني، فإذا لم تتحرّر العقول والأرواح من الأوهام في الدين وفي الدنيا، كان تحرير الأبدان من العبودية والأوطان من الاحتلال متعذّرًا أو متعسّرًا،. حتى إذا تمّ منه شيء اليوم، ضاع غدًا، لأنه بناء على غير أساس، والمتوهّم ليس له أمل، فلا يرجى منه عمل.
لذلك بدأت جمعية العلماء- من أول يوم نشأتها- بتحرير العقول والأرواح، تمهيدًا للتحرير النهائي، فوضعت برنامجًا محكمًا لوعظ الكبار وإرشادهم بالدروس والمحاضرات، حتى بلغت من ذلك أقصى غاية من الجهد وأقصى غاية في النتائج، وأصبح الشعب- في جملته- صافي الفكر، مستقلّ العقل، متوهّج الشعور، مشرق الروح، فاهمًا للحياة، واسع الأمل فيها، عاملًا للحرية والاستقلال، مؤمنًا بماضيه، عاملًا على ربط الحاضر ووصله بالوطن العربي الأكبر، متبصّرًا في وزن رجاله، لا ينطلي عليه غش الغشّاشين ولا تدجيل الدجّالين، ومعلوم أن هذه المعاني لا تدخل النفوس دفعة واحدة، وإنما تكمل بالتدرّج، والذي وصل إليه الشعب الجزائري من هذا هو نتيجة نيف وعشرين سنة في أعمال جدية متواصلة، ولكنه لا يتم عادة في أقلّ من خمسين سنة.
أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار:
أولًا: زادت الجمعية على هذا العمل العام آخر خاصًا، وهو العمل على تخريج جيل جديد، يتلقّى هذه المعاني في الصغر، ويثبتها بالعلم الصحيح، لتحارب الاستعمار بسلاح من نوع سلاحه وهو العلم، فأسّست في هذين العقدين من السنين نحو مائة وخمسين من المدارس الابتدائية للعربية والدين، وشيّدتها بمال الأمة، وصيّرتها ملكًا للأمة، وهي تضم اليوم ما يقرب من خمسين ألف تلميذ، من حملة الشهادات الابتدائية في مدارس الجمعية.
ثانيًا: بما أن المساجد، التي هي تراث الأجداد، صادرتها الحكومة الفرنسية وصادرت أوقافها من يوم الاحتلال، فأحالت بعضها كنائس وبعضها مرافق عامة، وهدمت كثيرًا منها لتوسيع الشوارع والحدائق، واحتفظت بالباقي لتتخذ منه حبالة تجرّ أشباه الموظفين الدينيين، وما زالت إلى الآن هي التي تعين الأئمة والخطباء والمؤذنين والقومة، ولكنها تستخدمهم في الجاسوسية والمخابرات، وتجري عليهم المرتبات من الخزينة العامة، لذلك التفتت الجمعية إلى هذه الناحية الحيوية وشيّدت بمال الأمة نحو سبعين مسجدًا في أنحاء القطر، لأداء الشعائر وإلقاء الدروس الدينية، والحكومة الفرنسية تنظر إلى هذه المساجد نظرتها إلى الحصون المسلّحة.
ثالثًا: في الجزائر مئات الآلاف من الشبّان العرب المسلمين، فاتهم التعليم الديني والعربي، ولا تلقاهم الجمعية في المدارس ولا في المساجد، والاعتناء بهم واجب، فأنشأت(4/344)
لهم الجمعية عشرات من النوادي المنظمة الجذابة، تلقي عليهم فيها المحاضرات العلمية والدينية والاجتماعية، وأدّت هذه النوادي أكثر مما تؤذيه المدارس والمساجد من التربية والتوجيه.
رابعًا: أنشأت الجمعية للعمّال الجزائريين في باريس وغيرها من مدن فرنسا عشرات من النوادي وزوّدتها بطائفة من الوعّاظ والمعلّمين من رجالها، يتعلّم فيها أولئك العملة ضروريات دينهم ودنياهم، ويتعلّم فيها أبناؤهم اللغة العربية تكلّما وكتابة، ويتربّون على الدين والوطنية، وقد استفحل أمر هذه النوادي وآتت ثمراتها قبل الحرب الأخيرة، ثم قضت عليها الحرب، ثم حاولت الجمعية تجديدها بعد الحرب، غير أن التكاليف المالية تضاعف واحدها إلى الآلاف، فكان ذلك وحده سببًا للعجز.
خامسًا: أنقذت الجمعية عشرات الآلاف من أبناء الجزائر من الأمية، بوسائل دبّرتها ونجحت فيها نجاحًا عجيبًا، وإن هذا العمل من غرر أعمالها لأن الأمية شلل الشعوب.
سادسًا: بعد هذه الجهود كلها، بقي من أبناء الجزائر مليونان من الأطفال محرومين من التعليم بجميع أنواعه، بشهادة الحكومة وإحصاءاتها الرسمية، فلا هي علّمتهم لأن سياسة التجهيل تأبى عليها ذلك، ولا جمعية العلماء استطاعت أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من هذين المليونين، لأن مواردها المالية محدودة، تأتي من اشتراكات قليلة منظمة، ولأن الأغنياء والموظفين لا يجودون عليها بشيء، خوفًا من انتقام فرنسا، ومعلوم أن هذين المليونين، إذا لم يتعلّموا أو يتعلّم معظمهم، كانوا جنودًا للشرّ وأعداءً للإسلام والعروبة، فإذا تعلّم معظمهم غلب الخير فيهم على الشر وأصبحوا جنودًا للعروبة والإسلام والإنسانية.
سابعًا: بعد مساعٍ طويلة مرهقة، دامت سنوات لدى الحكومات العربية، تمّ لجمعية العلماء إرسال بعثات إلى الشرق العربي، من تلامذة معهدها ومدارسها، تدرس في الجملة على نفقة هذه الحكومات، ولكن القدْر الذي تمّ لم يزل قليلًا جدًا لا يحقّق الغرض من المقصود، ولا ما يقاربه، لأنه عبارة عن بعثة في مصر تتكوّن من عشرين تلميذًا، وأخرى في العراق تتكوّن من خمسة عشر تلميذًا، ومثلها في الكويت، وأخرى في سوريا تتكوّن من عشرة، وبعض هؤلاء لا تزال الجمعية هي التي تنفق عليهم، أو تساعدهم لعدم كفاية عون الحكومة لهم.
رغبات جمعية العلماء وآمالها في الحكومات العربية:
تقوم جمعية العلماء بهذه الأعمال الجبّارة التي تفوق قدرتها المالية، وقد تفوق قدرة الأمة أيضًا، وهي- بعد- لم تزل في حاجة ملحّة إلى إكمال وتثبيت ما بنته، ثم إلى إعلاء ذلك البناء والزيادة فيه.(4/345)
أما التثبيت والإكمال فبإنشاء عشرات من المدارس الثانوية لتستوعب ما تخرّجه المدارس الابتدائية الحاضرة، وإنشاء عشرات من مدارس المعلّمين والمعلّمات، لأن مدارسها الابتدائية استنفدت كل ما عندها من المعلّمين، وإذا كثرت المدارس الجديدة احتاجت إلى معلّمين جدد، وعليه فإنشاء هذا النوع من المدارس ضروري لنمو هذه الحركة وتقدّم هذه النهضة، وإلا تعطّلت وانهارت، ولا واسطة بين الطرفين.
وأما إعلاء البناء والزيادة فيه فبمضاعفة عدد المدارس الابتدائية إلى المئات.
واجب جمعية العلماء هو التبليغ الصادق للحكومات العربية، الممثّلة في جامعة دولها، وواجب الحكومات الإسراع بالنجدة، بالكيفية التي تراها، بعد أن تؤمن بما شرحناه لها من حالة الجزائر، في المذكّرات المتتابعة للحكومات وللجامعة، والله يعلم أن ما شرحناه ووصفناه قليل من كثير، ولا يقف في طريقها احتمال اعتراض فرنسا على هذه النجدة، فالوقت والضرورة والواجب لا يتسع لهذا الاحتمال، فقد آن لحكوماتنا العربية أن تقف موقف الحزم والصلابة من فرنسا المتعنتة التي تحارب الثقافة والإنسانية- فضلًا عن العربية والإسلام- في المغرب العربي، ولا تتساهل كما تساهلت في قضية المعهد الثقافي بالجزائر، وفي المعهد الثقافي في طنجة، وفي قضية احداث قنصليات في عواصم المغرب ولو لتأشيرة الحجاج، وفي قضية الباخرة فوزية وغيرها.
ونحن نؤكّد لرجال حكوماتنا العربية بالصدق والشرف، أن تساهلهم في تلك القضايا زاد من جرأة فرنسا علينا وعليهم، وحكوماتنا تعلم كما نعلم أن بيدها أسلحة قوية، تستطيع أن تحارب بها فرنسا ولكنها لا تستعملها، ومن تلك الأسلحة إقفال المدارس والقنصليات الفرنسية حقًا وعدلًا ومقابلة بالمثل. إن فرنسا لا تفهم إلا هذه اللغة ولا ترجع عن غيّها إلا باستعمال هذا السلاح.
بادروا لنجدة إخوانكم ...
على حكوماتنا العربية أن تبادر بهذه النجدة، ما دام في الرمق بقية، ولها في تحويل الأموال اللازمة عدة طرائق هي أعلم الناس بها، فلها أن ترسل مشرفًا من جهتها يقوم بالصرف على بناء المدارس والمعاهد اللازمة، وجمعية العلماء ترحّب بهذا لأنها تفخر بأنها أدقّ الجمعيات الإسلامية نظامًا، وأقواها أمانة وثقة في المال، وأحرصها على المحاسبة التي تقوّي الأمانة، ولها أن تسلّم المال إلى الجمعية وتلزمها بالمحاسبة الدقيقة على كل فلس تدفعه، والجمعية تقوم بذلك حامدة شاكرة.
ولتعلم حكوماتنا الموقّرة أن كل جنيه تدفعه للأمة الجزائرية بواسطة جمعية العلماء، لينفق في هذا السبيل، يقع موقع الغيث على النبات، لأنه ينقذ طفلًا عربيًا حرًّا مسلمًا من(4/346)
الشر، ويحرّر عقلًا من الوهم، ولتعلم كذلك أنه ليس علينا تحديد المبلغ وإنما علينا أن نصوّر الحالة ونبلغ الأمانة التي كلفتنا الأمة الجزائرية بتبليغها إلى الحكومات العربية، وقد بلغنا، وطال الأمد، وهي تنتظر، ونكل الأمر بعد ذلك إلى هيئة حكوماتنا، مبلغ تقديرها لحرمة الرحم، وإذا كانت لا تستطيع تحرير الجزائر تحريرًا عسكريًا لاستحالة ذلك في الوقت الحاضر، فلا أقل من أن تعاوننا بالحظ الأوفر على تحرير العقول، فهو واجب يهوّن القيام بالواجب العسكري أو السياسي.
قد تعتذر بعض الحكومات العربية- وهي صادقة- بأنه ما زال في شعوبها ملايين من الأطفال محرومون من التعليم، ونحن نلاحظ على هذا العذر بأنه يوجد بإزاء الملايين المحرومة ملايين أخرى متعلمة، بخلاف الجزائر فليس فيها إلا المحروم، وليس هناك خير يسلي عن الشر.
وفي هذا المقام يجب أن نذكر حضراتكم بنسبة المتعلمين من أبنائنا في المدارس الفرنسية مؤيدة بالأرقام المأخوذة من أدق المصادر الرسمية الحديثة لسنة 1951، فقد وقعت مناقشة في المجلس الجزائري، في قضية تعليم الجزائريين، وتقدّمت المعارضة بتقارير مدروسة رسمية فضحت بها الحكومة، ومن تلك التقارير الدامغة نقتطف هذه الأرقام.
قال التقرير المفحم الذي لم تستطع الحكومة له ردًا ما ترجمته بالحرف: بلغ عدد التلامذة الأوربيين سنة 1950 في مدارس الجزائر 97400، بينما لم يتجاوز عدد التلامذة المسلمين 82864 تلميذًا. ولما كانت الأغلبية الساحقة من سكّان الجزائر مسلمة فتكون إذن نسبة التلاميذ الأوربيين إلى التلامذة المسلمين كنسبة 4%، وهذا الفرق يرتفع كثيرًا في المدارس الثانوية، فبينما يبلغ عدد الطلبة المسلمين في هذه المدارس 3214 تلميذًا والافرنسيين 5177، نرى أن الطلبة الأوربيين يفوقونهم بمقدار 500 ضعفًا (156 أوربي في مقابل مسلم واحد) وباقي المسلمين لا يحق لهم الدخول في هذا النوع من المدارس. وفي عام 1951 بلغ عدد التلاميذ من المسلمين الجزائريين الذين وجدوا أمكنة في التعليم الابتدائي 198678 تلميذًا في وطن مسلم يبلغ عدد سكّانه أكثر من عشرة ملايين نسمة، بينما يبلغ عدد التلامذة من الأوربيين في هذه المدارس 111402 تلميذ من جالية أوربية لا تزيد عن المليون نسمة في الجزائر.
هذه فقرات مترجمة حرفيًا عن تقرير المعارضة، ومقدمه فرنسي، وقد نقص من تعداد المسلمين الجزائريين ولكنه أحسن في تسميته للأوربيين بالجالية.
ثامنًا: سبق لجمعية العلماء أن جلبت عشرات من تلامذتها للدراسة بمعاهد الشرق العربي على نفقة حكوماته، ولكنه عدد قليل بالنسبة لحاجة الجزائر ولقدرة الحكومات(4/347)
العربية، فالشعب الجزائري يعتقد ويأمل في آن واحد أن حكومات العرب تستطيع أن تعلم من أبناء الجزائر آلافًا وتؤثرهم على أبنائها، حتى تحفظ التوازن بين أجنحة العروبة.
وعليه، فمن رغبات الشعب القوية، ومن آماله الواسعة، أن ترتفع نسبة هذه البعثات إلى المئات حتى تصل إلى الآلاف بالتدريج، كل ذلك لتسد جمعية العلماء في سنين عوز الجزائر إلى المعلمين في مدارسها.
تاسعًا: جمعية العلماء في حاجة شديدة إلى الكتب المدرسية المتنوّعة لتلامذتها الابتدائيين، وهي تجري في تعليمها على المنهاج المصري، لقربها من مصر ولسهولة جلب هذه الكتب، فمن حقّها أو من دلالها على جامعة الدول العربية ووزارة المعارف المصرية أن تقدم لها هدايا سنوية سخية من هذه الكتب لتوزعها بالمجان على فقراء التلاميذ.
عاشرًا: لجمعية العلماء مكتب في القاهرة يشرف على هذه البعثات، يجلبها ويقوم عنها بالإجراءات القانونية، ويسدّ خللها، ويوزّعها على الأقطار العربية، ويراقبها، ويكمل نقائصها في التربية والمال ويعين المحاويج منها، ويقوم بنفقات المنتظرين وإسكانهم، وقد بلغت نفقاته الشهرية في هذه السنة ثلاثمائة جنيه، وكلّما زادت البعثات زادت نفقاته، ونتوقع أن تبلغ نفقاته الشهرية في السنة الدراسية المقبلة 500 جنيه مصري، فمن العدل أن تعتبره الحكومات العربية مؤسسة من مؤسسات الجمعية يجب الالتفات إليه والعناية به، وهو زيادة على ذلك همزة وصل بين شرق العرب وغربهم، بل نقطة اتصال بين أجزاء العالم الإسلامي كلها، ومن التواضع أن ننسبه إلى الجزائر، بل هو للعرب كلهم، وطالما خدم- على حداثته- قضايا العرب، ولا منة.
والمكتب يعلن شكره لجامعة الدول العربية، فقد عرفت قيمته، فقررت إعانته منذ أكثر من سنة بمبلغ مائة وعشرين جنيهًا مصريًا في كل شهر، ثم عرفت توسّعه في الصالحات، فرفعت هذا المبلغ إلى مائتين ابتداء من هذا الشهر، وان الخجل لا يمنعنا أن نقول: إن رجال هذا المكتب محتسبون بأعمالهم لأنهم لا يعملون لأنفسهم وإنما يعملون لرفع شأن العروبة والإسلام.
الجزائر تعتزّ بعقيدتها وعروبتها:
يبقى شيءآخر قد يخفى على كثير من الناس، فوجب علينا أن ننبّه حضراتكم إليه، وهو أن الجزائر لا تقاس بأختها مراكش في هذا الباب، فكل من تونس ومراكش ما زالت لها شخصية معترف بها في الآفاق الدولية، ولها حكومة كيفما كان حالها، وما زالت العربية في كليهما رسمية، ولها كثير من الشأن في الوظائف وما زالت أوقافها(4/348)
قائمة، وما زال في تونس جامع الزيتونة ثاني الأزهر يضمّ هو وفروعه آلافًا من طلّاب العربية والدين، وفي فاس جامع القرويين يتلو الزيتونة في الدرجة، أما الجزائر البائسة فلم يبق فيها من هذا أثر ولا عين كما أسلفنا في المقدمة، وإنما هي تعتزّ بعقيدتها وعروبتها، وتعيش بهما وتعيش لهما.
إننا لا نبعد إذا قلنا إن الجزائر أتعس حالًا من فلسطين، فمن وراء فلسطين دول وشعوب عربية وأمم إسلامية، وذكر لها في المحافل الدولية، وجدل عنيف في قضيتها يشترك القريب والأجنبي فيه، أما الجزائر المسكينة فليس لها شيء من هذا، ونعيذ أبناء العمومة أن ينسوها، وأن لا يقوموا ببعض حقها، وأن لا يستغلوا هذه القوة الكامنة في أبنائها.
وزير فرنسي ينكر على فرنسا أعمالها البربرية:
لقد كنا حينما نتكلم مع إخواننا في الشرق عن المحن القاسية التي تتخبّط فيها الجزائر منذ قرن وربع، ونصوّر لهم شناعة الاستعمار الفرنسي، وتجر الأحاديث إلى الأرقام التي تضمنتها هذه المذكّرة، كنا نحسّ بشيء غير قليل من الخجل، خشية أن يحمل كلامنا على شيء من المبالغة والتهويل، حتى أراد الله أن يؤيد الحق بشهادة من فرنسي مسؤول، سبق له أن ولي الوزارة في بعض الحكومات الفرنسية، وشأنه كشأن سائر زملائه أن يحطب في حبل أمته، ولكنه رأى في هذه المرة من مصلحة دولته أن تقلع عن هذا التهوّر، وتجاهل العواقب الوخيمة وهاله هذا التخبّط الذي ترتكس فيه السياسة الفرنسية، نتيجة للحقد العنصري، والغرور والكبرياء اللاتينيين، فزار الجزائر على رأس وفد للبحث والدراسة، فبحث فعلًا ولقي قادة الحركات الجزائرية، وجاء بفكر مبني على السماع والظن، ورجع بفكر مبني على المشاهدة واليقين. ويظهر أن حضرة الوزير الفرنسي يحمل روحًا متألمة من حال دولته وأمته، فخشي عليها من العواقب التي تنتج عن الاستعمار في التهوّر، والإمعان في المطامع المهلكة، وعقد ندوة صحافية في باريس حضرها الكثير من المسؤولين، وألقى عليهم بيانًا شاملًا لكثير من الحقائق الواقعية، وتناول الأركان الثلاثة التي تبنى عليها السياسة الفرنسية التي ترمي إلى إذلال الجزائريين ثم إلى إفنائهم، وهي السياسة والاقتصاد والثقافة، ففضح بيانه الحكومة الاستعمارية للشعب الفرنسي وللرأي العام العالمي.
نقتصر من بيانه على النقطة الأساسية التي تهمّنا وهي الثقافة، لأن شهادته فيها مطابقة للواقع الذي كنا نتحدث به، ومؤيّدة للأرقام التي كانت تجري في أحاديثنا مع إخواننا، والصفات الوحشية التي كنا نصف بها أعمال الفرنسيين في الجزائر، وما كابدته الأمة الجزائرية- وجمعية العلماء خاصة- من العنت والإرهاق، وقد ترجمت معظم الجرائد العربية هذا البيان، نقلًا عن الجرائد الباريسية، فرأينا أن نقتطف منه ما يتعلق بجمعية العلماء(4/349)
وأعمالها- والحق ما شهدت به الأعداء- وهذا هو نص ما به الحاجة من بيان الوزير الفرنسي المذكور، زيادة في تنوير أذهان حضراتكم.
قال الوزير ما ترجمته: وأخيرًا أحدّثكم بإجمال عن المشكل الثقافي:
الجزائر محرومة من كل شيء:
"لقد رأينا رأي العين كيف أن مليونين من أبناء المسلمين لا يتلقّون أي علم على أي مقعد مدرسي، وذلك بعد أن بسط عليهم النظام الاستعماري رحمته طيلة 125 عام. رأينا المسلمين لا يشاركون في التعليم الابتدائي إلا على نسبة 10 بالمائة، وليس لهم في التعليم العالي إلا نحو ثلاثمائة طالب. رأينا الأبواب العلمية كلها موصدة في وجه المسلمين، وخرجنا من كل ذلك بنتيجة عظيمة وهي أننا إذا كنّا في فرنسا نجهل معنى العنصرية، فإن العنصرية في القطر الجزائري هي القانون الرسمي المعمول به.
رأينا التعليم الحر الذي تقوم بنشره جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعلمنا أن هذه الجمعية تشرف على ما يزيد عن مائة وخمسين مدرسة، وأنها تعلم قرابة 45 ألفًا من البنين والبنات تنتشلهم من بين أيدي الجهل والإهمال، فنحن لا يسعنا إلا أن نثني الثناء الحار على هذا المجهود الصالح الذي تقوم به هذه الجمعية، وإننا لنشجّعها على الاستمرار فيه، ونشيد بمجهودها وأعمالها، كما أننا نعلمكم بأننا سنشهر بهذه العقبات التي تلقاها في طريقها، وهذه المثبطات التي يريدون بها الفتّ في عضدها، فقد رأينا المدارس التي أقفلت بأمر الحكومة، ورأينا المدارس التي بنتها الأمة وأنفقت فيها الأموال الغزيرة ولم تأذن الإدارة بفتحها، وعلمنا أن عددًا كثيرًا من المعلمين يضطهدون وينالون نصيبًا من أعمال الزجر، ورأينا في قسنطينة معهد عبد الحميد بن باديس وأعجبنا به ولكننا علمنا بعد ذلك أن الإدارة لا تعتبر لشهاداته أدنى قيمة ولا تعترف بها، في الوقت الذي لم تستطع فيه هي نفسها أن تحدث مثل ذلك أو ما يشابه ذلك.
ثم رأينا مشكل فصل الدين عن الدولة، واطّلعنا على حال المسلمين وأوقافهم تجاه الحكومة: إنها حقيقة لمأساة من أفظع ما يمكن أن يتصوّره الناس، فقانون 1905 لم ينفّذ، وبينما تحرّرت بقية الأديان من ربقة الحكومة نرى الدين الإسلامي يومًا فيومًا سقوطًا بين أيدي الإدارة المباشرة الحكومية، فالحكومة هي التي تدير ما جلّ وما قلّ من أمور المسجد والدين، ورأينا أن المدير إذا أراد مكافأة أحد فرّاشيه عيّنه إمامًا أو مفتيًا. لقد خرجنا بحقيقة لا غبار عليها ألا وهي أن الدولة تعمل على قتل اللغة العربية وعلى تحطيم الدين الإسلامي وعلى تجهيل الأمة، والعلماء يعملون على خط مصادم للخط الحكومي، فهم يقومون(4/350)
بالجهود المحمودة لإحياء الإسلام وتطهيره من الخرافات ونشر اللغة العربية ورفع الأمية عن الأمة، غير مبالين بالعقبات ووسائل الزجر والتنكيل.
وختامًا أيها السادة أؤكد لكم أننا لم نتعب كثيرًا في البحث عن الثعبان الاستعماري في هذه البلاد، بل ان هذا الثعبان نفسه قد أخرج لنا رأسه منذ اللحظة الأولى، فعرفناه بكل ما انطوى عليه من سوء ولؤم، ولقد تأكّد لنا أن الدستور الجزائري الذي خلناه حقيقة واقعة، ما هو إلا تدليس وتلبيس وأنه أصبح صورة مشوّهة لنظام ديمقراطي مبني على السرقة الانتخابية والغش.
سنقول لفرنسا كل هذا، وسنشرح لها كل ذلك، وما قلناه لكم إنما هو قطرة من بحر. سنقول لفرنسا بصراحة وشدة: حذار، فإذا لم يقع الاستماع لصوت الحق، وإذا لم تسد في هذه الأقطار سياسة العدل، فإن الجزائر سوف تغدو قريبًا مثل مراكش ومثل تونس، فإذا لم يقع عمل بات وسريع لفائدة الجزائريين فإنه لا لوم عليهم ولا تثريب إذا ما ركبوا المراكب التي تدعو إليها اليأس.
لا ريب أننا سنجد من يقول لنا عندما نصيح صيحة الخطر وننادي بوجوب السرعة في عمليات الإنقاذ: انكم لستم من الفرنسيين الصالحين. سنقول لهم في قوة وجرأة: كلا، بل إننا نحن الصالحون من الفرنسيين، لأن الفرنسي الصالح هو الذي يقول لأمّته كلمة الحق ولا يخفي عنها شيئًا، ولا يرتكب جريمة السكوت، وسنكون أيها السادة- ونعدكم بهذا- من أحسن الفرنسيين."
هذه هي شهادة الوزير الفرنسي للجزائر على دولته- والفضل ما شهدت به الأعداء- وبها نختم هذه المذكّرة والسلام.
عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة
محمد البشير الإبراهيمي
الفضيل الورتلاني(4/351)
«الزاب» في دائرة المعارف الإسلامية *
موقع زاب افريقية في جنوب مقاطعة قسنطينة من القطر الجزائري، وهو اسم لإقليم يضيقه الاستعمال العرفي ويوسّعه، فقد كان في القرون الهجرية الأولى إلى القرن الثامن يطلق إطلاقًا واسعًا حتى يشمل سهول الحضنة ومدنها الواقعة في سفوح الأطلس الجنوبية وهي المسيلة ومقرة وطبنة الرومانية وتعرف اليوم باسم "بريكه".
والمسيلة هي التي كانت تعرف قبل الإسلام باسم زابي، ثم سمّيت بعد الفتح الإسلامي بالمحمدية؛ والمسيلة، وهي التي ولد فيها الشاعر ابن رشيق القيرواني، واستقرّ فيها الشاعر ابن هاني الأندلسي لأن ممدوحه جعفر بن فلاح كان أميرًا عليها، وانتظمت إمارته إقليم الزاب كله، فلذلك اتّسع مسمّى الزاب عند مؤرّخي ذلك العصر، لأن الاسم كان لكل ما شملته الإمارة، واسم الزاب متردّد كثيرًا في شعر ابن هاني قبل أن يتصل بالفاطميين.
و"مقرة" تقع شرقي المسيلة بنحو مائة ميل، و"طبنه" تقع شرقي "مقرة" بنحو ثلاثين ميلا، ومن مقرة خرجت أسرة المقري صاحب كتاب نفح الطيب وهو الذي يقول: أصل سلفنا من "مقرة" إحدى قرى زاب افريقية، انتقلوا في المائة السادسة إلى تلمسان، الخ، ومن طبنة خرجت أسرة أبي مضر الطبني إلى الأندلس وهي أسرة أخرجت أعلامًا في الأدب والشعر والعلم.
وهذه المدن يذكرها الرحّالون من المشارقة والمغاربة، ذكرها ابن حوقل الرحّالة البغدادي وذكرها البكري صاحب المسالك والممالك وغيرهما وقد دخلوها كلهم ووصفوها وصف المعاين.
__________
* كلمة مخطوطة لم نعثر على ما يدل أنها نُشرت.(4/352)
ومن العجيب أنكم تنقلون (1) كلام البكري مترجمًا مع أن القطعة المتعلقة بشمال أفريقيا من كتابه "المسالك والممالك" مطبوعة في الجزائر من عشرات السنين.
أما الزاب اليوم فهو يطلق على قطعة صغيرة في سفوح الجبال الفاصلة بين سهول الحضنة والصحراء. وعاصمة الزاب الإدارية والتجارية في يومنا هذا هي مدينة بسكرة. والزاب مقسّم إلى ثلاثة أقسام متصلة متقاربة: الزاب الظهراوي، ومن قراه طولقة وليشانه وبوشقرون وفرفار وفوغاله والعامري، وجميع هذه القرى تعتمد على زراعة النخيل وتنتج أجود أنواع التمر في العالم، وتسقى بالآبار الارتوازية الغزيرة، ثم الزاب الغربي ويشمل قرى ليوه والصحيرة والمخادمة وبنطيوس وأورلال وأوماش، واعتمادها على زرع النخيل أيضًا، ثم الزاب الشرقي ومن قراه سيدي عقبة (مدفن عقبة بن نافع الفهري فاتح أفريقية) وشتمة، والدروع وتهوده، وقرى الزاب الشرقي تسقى من ماء الأنهار المتحدرة من جبال أوراس.
أما الدوسن وأولاد جلال فهما خارجان عن الزاب وتقعان غربيه.
وقول المؤرخين "زاب أفريقية" يحترزون به عن زاب الموصل أو العراق، فهناك واديان ينبعان من جبال الأكراد أحدهما الزاب الأصغر بين الموصل وأرييل، والثاني الزاب الأكبر بين أربيل وكركوك وكلاهما من روافد دجلة، وما زالا معروفين بهذا الاسم إلى اليوم.
أرى أن زاب العراق يجب أن يعرّف في هذه المادة من دائرة المعارف الإسلامية.
__________
1) يبدو أن الشيخ ارسل هذه الملاحظة إلى المشرفين على الطبعة العربية لدائرة المعارف الإسلامية.(4/353)
الرق في الإسلام *
تمهيد:
يرى كثير من الباحثين الغربيين في شرائع الإسلام أنه شرع الاسترقاق ومكّن له وحماه، وجعله كلمة باقية في أتباعه، وأبقاه سمة مميزة له، حتى إنه كلما ذكروا الإسلام ذكروا معه الاسترقاق كنقيصة اختصّ بها، ويذكرون معه تعدّد الزوجات، ونقص ميراث المرأة، وضرب الحجاب عليها، واستبداد الرجل بالعصمة والطلاق، وينتزعون من إباحة التسرّي بالإماء في الإسلام بلا حد دليلًا- في زعمهم- على أنه هو المقصود من شرعية الاسترقاق، ويعمون عن جميع حكم الإسلام وأحكامه في هذه القضية، ولا يرون إلا أنه دين اتباع للأهواء واسترسال في الشهوات، كل ذلك لينفروا قومهم ويصدّوهم عن سبيله، ولينفسوا عن أنفسهم ذلك الحقد المتأجج على الإسلام والمسلمين.
وهذا الصنف من الباحثين المسيحيين في شؤون الإسلام لا يصدرون في أبحاثهم عن أذهان صافية ومنطق مستقيم وفهم صحيح لأصول الإسلام وحقائقه، ولا يستندون إلى اطلاع واسع على كتبه وتاريخه ولا يبحثون بحثًا مجردًا عن الهوى والغرض، ولا يحبسون أفكارهم عند الحقيقة ليَحْمِلوها لمن يقرأ كلامهم، ولا تذهب بهم هممهم إلى الماضي البعيد من تاريخ الإسلام وأسباب امتداد سلطانه وانتظامه بالمشارق والمغارب، وآثاره في أتباعه الأولين وسير رجاله البارزين في العلم والحكم، والحرب والسلم، والاجتماع والتشريع ... لا شيء من هذا فيما بلونا من أمرهم، وإنما يصدرون عن أهواء غالبة، وأحقاد دفينة وتعصّب موروث، يرثون كل ذلك عن سلفهم من رجال الكنيسة وفلول الحروب الصليبية، وعن التصويرات التبشيرية العصرية التي يخطّطها أئمة الكهنوت، وينفق عليها المهوسون من أتباعهم، وتحميها الدول الاستعمارية بالجيوش والأساطيل.
__________
* محاضرة لم نعثر على تاريخ ومكان إلقائها.(4/354)
وخصلة أخرى ذميمة ركبت كل الكاتبين الغربيين حين يكتبون عن الشرق عمومًا، وعن الإسلام والمسلمين خصوصًا، وهي القصور في الاستقراء، والعقم في الاستنتاج والسطحية في التفكير، فنراهم يقفون على الجزئيات فيجعلون منها كليات، ويبنون عليها أحكامهم، ويوهمون قرّاءهم من بني جلدتهم ومن تلاميذهم منا أنهم استقرأوا ذلك الموضوع استقراءً تامًا، وخرجوا منه بحكم لا ينقض، وعلى هذه الطريقة الخاطئة والمنهاج الأعوج درج أولهم وآخرهم، ومن كتب منهم في التشريع الإسلامي، ومن كتب في تاريخ الإسلام، وكل من كتب في فروع الشرقيات، وان لهم لخطيئة أخرى علتها الغرض والهوى والجهل مجتمعات، - وهذا الثالوث إن اجتمع كان آفة الفكر وجائحة التاريخ- وهي أنهم يحكمون على الإسلام بأعمال المسلمين وأحوالهم المخالفة له، ليتوصلوا إلى غرضهم في تنقص الإسلام والازراء عليه والحط منه، ولا يريدون أن يفهموا أن الإسلام شيء وأن المسلمين شيء آخر، ولو فهموا هذا لفهموا معه أن المسلمين لو أقاموا دينهم ومشوا على صراطه السوي لما طمع الغربيون من أوطانهم في قلامة ظفر، ولما ظفر هؤلاء الباحثون الحاقدون بثغرة يدخلون إليهم أو ينفذون إلى دينهم منها، ولو جارينا هؤلاء الباحثين المسيحيين في منطقهم هذا وكايلناهم صاعًا بصاع لقلنا لهم: ان الاستعمار الذي هو رجس من عمل الشيطان محسوب على المسيح، وان محاكم التفتيش نسخة من أعمال المسيح، ولكننا لا نجاريهم، لأننا نعلم من كمالات المسيح وتعاليم المسيح ما لا يعلمون.
ثم دخل عامل جديد على مباحث الغربيين المتعلقة بالإسلام، وهو السياسة الاستعمارية المبنية على إذلال المسلمين وابتزاز أموالهم واحتجاز خيرات أوطانهم، فكان من أسلحة هذه السياسة، بعد الحديد والنار وتشويه الإسلام وتقبيحه في نفوس أبنائه الجاهلين به، وتشجيع الخرافات لإفساد عقائده، وإلقاء الشبهات في كثير من حقائقه، وتزهيدهم بكل الوسائل في أحكامه حتى يهجروها، وإذا زاغت العقائد وهجرت الأحكام وسادت الخرافات فأي سلطان مادي أو معنوي يبقى للدين على نفوس معتنقيه؟ وهذا هو الذي يرمي إليه الاستعمار في كل ما يكتب عن الإسلام وفي كل ما يعامل به المسلمين، وقد بلغ مراده منا لولا هذه الهبّة الأخيرة التي لاحت تباشيرها ونرجو أن يتم تمامها، ويحسن ختامها.
كان طبيعيًا للدول المسيحية المستعمرة أن تجنّد جنودًا لفتح الأوطان، وتجنّد جنودًا أخرى لفتح الأذهان، فكان الجند الثاني مؤلفًا من هؤلاء الباحثين الذين يكتبون في شؤون الإسلام، فتصدّى فريق منهم لتشويه التاريخ الإسلامي، وفريق للطعن في أحكامه، والقدح في فضائله، وفريق لفتنة الأجيال الناشئة من أبنائه ببريق الحضارة الغربية، ويصحب ذلك كله تحقير الشرق وحضارته وعلومه، وفي مقدّمتها حضارة الإسلام وعلومه، وان هدفهم في كل أعمالهم هو الدعائم التي تبنى عليها الأسرة الإسلامية، ينالونها بالتوهين ثم بالهدم، لعلمهم(4/355)
أن الأسرة هي أساس الأمة، فإذا صحّ بناء الأسرة صحّ بناء الأمة، والعكس بالعكس، ونحن لا نعلم دينًا سماويًا ولا قانونًا وضعيًا بنى الأسرة على صخرة ثابتة، مثل الدين الإسلامي، ولكن أهله- هداهم الله- فرطوا في التليد، ثم أفرطوا في التقليد، فكانت عاقبة أمرهم خسرًا، ولو أنهم عادوا إلى الله وإلى تعاليم دينه لعادت عليهم عوائد بره ورحمته.
ويزيد السر في هذه الحملات القلمية على الإسلام انكشافًا واتضاحًا أن هؤلاء القوم ينقمون من الإسلام كدين أنه زكّى نفوس أبنائه حتى حقّقوا المثل العليا للإنسانية، وهؤلاء القوم يحاولون أن لا يسجّل التاريخ مثلًا أعلى للإنسانية غيرهم، وأنّى يكونون كذلك والمثل العليا لا تتحقق إلا بالعنصر الروحي وهم مفلسون منه، وينقمون منه كنظام اجتماعي سياسي انه ساد نصف المعمورة قرونًا، فهم يخشون أن تتهيّأ له الوسائل فتعود له تلك السيادة كرة أخرى، لذلك نجدهم يكتبون عنه كتابة الحاقد الموتور، فلا يبالون بحقيقة تاريخية يشوّهونها، ولا بحق ثابت ينكرونه، ولا بحسنة بارزة يطمسونها، وأعانهم على ذلك سوء حال المسلمين في القرون الأخيرة، وانحلال عرى جامعتهم، وانحطاط مستوى تربيتهم، واستغراق جمهرة فقهائهم في التقليد للأشخاص والعادات، تقليدًا يكاد يكون تأليهًا، وهجرهم للينابيع الصافية لشريعتهم، وانقطاع الصلة الوثيقة بينهم وبين سلفهم وهي التاريخ المتسلسل، وجهلهم بكل ما يدور حولهم، وهل أتاك أن كثيرًا من فقهائنا لا يعلمون شيئًا عن هذه المطاعن الموجّهة للإسلام، ولو علموا لما استطاعوا لها دفعًا، وأنى يعلمون وهم غير متصلين بزمنهم؟
إن لميدان الكلام والأقلام رجالًا، وان لميدان الصدام والحسام رجالًا، وقد خلا الميدانان منا، فلا نلم المتطاول علينا بقلمه أو بسيفه، ولْنلمْ أنفسنا، فالدهر دول والضعفاء للأقوياء خول.
على أننا لا ننكر أن في أولئك الباحثين نفرًا يتحرّون الحقائق، ويتّسمون بسمات العلماء من الإنصاف والتمحيص وخدمة العلم لذات العلم، وقد انتهى البحث بهؤلاء إلى الاعتراف بمحاسن الإسلام دينًا ونظامًا اجتماعيًا تحوطه أحكام عادلة حكيمة، وإلى الاعتراف بمعجزات القرآن في العلوم الكونية، ولكن هذه الفئة قليلة وليس في قدرتنا أن نحجر على الباحثين والكاتبين أن يكتبوا في أحوالنا، وأقلّ الواجب أن نرد الفرية، وأن نكشف المرية، وأن نحمد لمن ينتقدنا بانصاف ولمن ينبّهنا على عيوبنا.
ونعود إلى موضوعنا وهو "الرق في الإسلام".
تحرّرت أمريكا من استعمار أوربا لها، والاستعمار استعباد، وتحرّرت بعد ذلك دول أوربا من استبداد ملوكها، والاستبداد استعباد، وتحرّر كثير منهم من طغيان الكنيسة وهو(4/356)
أشنع أنواع الاستعباد، فرسخت أصول الحرية في هذه الأمم، واستمرأوا طعمها، وجنوا ثمراتها، وتنوّعت مناحيها من حرية الرأي والمعتقد إلى حرية الاجتماع والقول، فأرادوا أن يخرجوا على العالم بشيء جديد، فتداعوا إلى مؤتمر، وأسفر المؤتمر عن قانون سمّوه "قانون إلغاء الرق" يحرّم ملك الرقيق والاتّجار به، وعرضوه على حكومات العالم فوافق عليه الكثير منها، ومنها الدولة العثمانية، وكانت دولة الخلافة الإسلامية إذ ذاك، ولكنها كانت من الضعف بحيث لا تستطيع أن تخالف لأوربا رأيًا وإن كان سخيفًا أو مرادًا به غير ظاهره، ولا تستطيع أن تمنع النخاسة في ممالكها الواسعة الممتدة الأطراف، ولما كان مما ورثه الأوربيون عن أسلافهم وعن الكنيسة عداوة الإسلام، وكان من أعمال الكنيسة تعهّد تلك الشجرة الخبيثة، شجرة الحقد على الإسلام وأهله، بالسقيا والتنمية، كان من ثمرة ذلك الحمل على الإسلام وإلصاق النقائص كلها به كلّما وجدوا إلى ذلك سبيلًا، فقد اتّفقت حكومات أوربا وأمريكا على تحريم الاسترقاق وتضييق الخناق على المتّجرين بالرقيق، وبقيت بعض الحكومات الإسلامية متساهلة في ذلك- صدقت الحملة من الحكومات المسيحية وكتابها على الإسلام من هذه الثغرة وهي الاسترقاق- فعابوه بأنه دين استرقاق لا دين حرية، وفهموا أن الاسترقاق أصل من أصوله كالصلاة والحج وحكم من أحكامه لا يجوز للحاكم المسلم أن يلغيه ولا أن يهدمه، وقد تكشفت الحكومات الأوربية والكتاب الأوربيون في هذه القضية عن جهل فاضح بمقاصد الإسلام وسياسته في تنظيم الاجتماع الإنساني، وهذا هو ما نحاول توضيحه في هذه الكلمة.
دين التحرير:
استشرف العالم الإنساني قبيل البعثة المحمدية إلى دين سماوي عام، يحرّر الإنسانية تحريرًا كاملًا في جميع جوانب الحياة، ويبتدئ بتحرير العقل الذي هو القوة الروحية المصرفة للإنسان، والمميزة بين الخير والشر، وكان ذلك الاستشراف بعد أن عجزت نبوّة الأنبياء وحكمة الحكماء عن تحريره، فجاء الله بالإسلام دينا سماويًا عامًا كاملًا ليحقق للإنسانية آمالها في التحرير العام، فكان الإسلام هو دين التحرير، وهو النبأ الذي كان أصحاب الأرواح الصافية يترقبونه، وهو الأمنية التي كانت تملأ نفوس المصطفين الأخيار من عباد الله ثم ماتوا قبل أن تتحقق.
نقول: إن الإسلام هو "دين التحرير العام"، فنرسل هذا الوصف إرسالًا بدون تحفّظ ولا استثناء، لأنه الحق الذي قامت شواهده وتواترت بيّناته، ومن شواهده وشهوده تلك الأجيال التي صحبت محمدًا وآمنت به واتّبعت النور الذي أنزل معه، ثم الذين صحبوهم، ثم الذين اتّبعوهم بإحسان، ونحمد الله على أن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها لم تنقطع عند جميع(4/357)
العقلاء من أجناس البشر، والعقلاء هم حجة الله على من سواهم، وما زال الخير يسمّى خيرًا، والشرّ يسمّى شرًا، والفضيلة فضيلة، والرذيلة رذيلة. فالسارق يسرق وهو يعتقد أنه متعد على مال الغير، والمتبع لخطوات الشيطان لا يقول رضي الله عن إبليس، وإنما يقول- لعنه الله- وإن هذه لمن أسرار فطرة الله التي فطر خلقه عليها يواقعون الشر ولا يسمّونه خيرًا، فيسجّلون بذلك الشهادة على أنفسهم، إلا المطبوع على قلوبهم، الفاقدين للشعور، كالذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، وكصرعى التقليد للحضارة الغربية الذين استرقتهم الشهوات فاستباحوا المحرمات باسم الحرية. وكالمسيرين للدول الغربية، أسكرتهم القوة فبغوا على الضعفاء وسلبوا أوطانهم، وسمّوا بغيهم استعمارًا.
إن من الظلم والحيف والغش والفساد في الأرض تسمية الأشياء بغير أسمائها، لأنه قطع للأسباب عن مسبباتها، وقد قيل في قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}، إن منه قطع الدوال عن مَدلولاتِها، وان أعظم شرور هذه الحضارة الغربية أنها فتحت الباب لهذا النوع من المسخ وشجّعت عليه، فأفسدت الفطرة، والضمير الذي سمّاه محمد - صلى الله عليه وسلم - "وازع الله في نفس المؤمن".
والتحرير الذي جاء به الإسلام شامل لكل ما تقوم به الحياة وتصلح عليه المعاني والأشخاص، والدين الإسلامي لا يفهم التحرير بالمعنى الضيّق، وإنما يفهمه على أنه كل إطلاق من تقييد، أو تعديل لوضع منحرف، أو إنصاف لضعيف من قوي، أو نقل شيء من غير نصابه إلى نصابه. قالت أسماء بنت أبي بكر حينما بعث لها أبوها بجارية تقوم لها بعلف الفرس: فكأنما أعتقني.
حرّر الإسلام العقل وجميع القوى التابعة له في النفس البشرية، والعقل هو القوة المميزة للمتضادات والمتنافرات التي بني عليها هذا العالم، كالصلاح والفساد، والخير والشر، والنفع والضر، ولذلك جعل مناطًا للتكاليف الدينية والدنيوية، وقد يطرأ عليه ما يطرأ على الموازين المادية من الاختلال فيتعطل أو ينعكس إدراكه، والإسلام يعلو بتقدير العقل والفكر إلى أعلى درجة، ويقرّر أن إدراك الحقائق العليا في الدين والكون إنما هو حظ العقول الراجحة والأفكار المسددة، وأن العقول المريضة والأفكار العقيمة تنزل بصاحبها إلى الحيوانية بل إلى أحط من الحيوانية، ففي القرآن العظيم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}.
ولهذه المنزلة التي وضع الإسلام العقل فيها حماه من المؤثرات والأمراض والعوائق، وأحط دركة يرتكس فيها العقل هي الوثنية، فهي أكبر معطل له عن أداء وظيفته حين لا يسمو إلى الجولان في العوالم الروحية وحين تفتنه الماديات بظواهرها من طريق الجوارح الحسية.(4/358)
أعلن الإسلام من أول يوم حربًا شعواء على الوثنية بجميع أنواعها، وهي أشدّ ما كانت سلطانًا على النفوس، وتغلغلًا فيها، وإفسادًا لفطرة الخير وإطفاء لنورها، حتى اجتثّها ومحا آثارها من النفوس ومن الآفاق، وعمر مكانها بالتوحيد. أتدرون السر في تلك الحملات على الوثنية؟ هو تحرير العقل من نفوذها وسلطانها حتى يواجه أمانة الدين الجديد صحيحًا معافى، ويؤدي الوظيفة التي خلق لأدائها؛ وما هدم أصحاب محمد الأصنام بأيديهم إلا بعد أن هدم محمد الوثنية في نفوسهم، وبعد أن بنى عقولهم من جديد على صخرة التوحيد، ولولا ذلك لما أقدم خالد على هدم طاغية ثقيف.
وحزر الخلطاء بعضهم ببعض بما شرعه من أحكام عادلة تقوم بالقسط، وترفع الحيف والظلم، ووقف بكل واحد عند حدّه، وحفظ له حقوقه.
فحد الحدود بين المرأة والرجل وبين المحكوم والحاكم وبين الفقير والغني وبين العبيد والسادة وبين العمّال وأصحاب المال، وهذه الأنواع من التحرير تناولتها النصوص القطعية من القرآن والأحاديث، واكتنفتها في صلب النصوص مؤثرات من الترغيب والترهيب تزيدها قوة ورسوخًا في النفس، فأما تحرير المحكومين من الحاكمين فلا مطمع أن يأتي فيه على وجه الدهر ما جاء به الإسلام من شرائع العدل والإحسان والشورى والرفق والرحمة وعدم المحاباة حتى في النظرة والكلمة والمجلس.
وأول ما يسترعي النظر من ذلك سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأقضيته في حياته وما أدبه به ربّه من مثل قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}، ثم سيرة الخلفاء الراشدين في الحكم فإنها كانت مثالًا من أحكام النبوّة التي هي وحي يوحى، وإن الأمثلة التي ضربها عمر في إقامة العدل وقوة الاضطلاع، لأمثلة خالدة على الدهر، فاق بها من قبله، وأعجز من بعده، وما أروع قوله: "من رأى منكم فيّ اعوجاجًا فليقوّمه"، وأروع منه قول مجيب من أفراد الرعية: "لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوّمناه بسيوفنا"، وأبلغ منهما في الروعة أن يحمد عمر ربّه على أن يكون في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من يقوّم عمر بسيفه.
والتشريع الإسلامي تشريع متّصل الحلقات من العقائد والعبادات إلى الآداب والمعاملات. وكلّه يرمي إلى غاية واحدة، وهي إنشاء أمة متّحدة المبادئ والغايات، متناسقة ما بينهما، لتحمل الأمانة كاملة صحيحة إلى الأجيال اللاحقة، وقد تمّ للإسلام ما أراد عدة قرون، وما زلنا- بحمد الله- نحمل بقايا من ذلك، ولولاها لكنّا في الغابرين.
وحرّر الإسلام الفقير من الغني، فجعل للفقراء حقًا معلومًا في أموال الأغنياء، ووجه التحرير هنا أن الفقير كان يسأل الغني فيعطيه أو يحرمه تبعًا لخلقه من تسهل أو كزازة، فإذا(4/359)
أعطاه شيئًا أخذه على أنه مكرمة ممنونة، تجرح نفسه، وان أشبعت بطنه، ولكن الإسلام ألزم الغني بدفع الزكاة للفقير وسمّاها حقًا معلومًا، وتسمية هذا المال حقًا لله تشعر الغني بالرضا والتسليم والاطمئنان إلى إخلافه ومضاعفته، وترفع عن الفقير غضاضة الاستجداء ومهانة السؤال، وتطهّر نفسه مع ذلك من رذيلة الحقد على الغني، وهذا الحقد هو أساس الشيوعية ومن عجائب الإسلام في إدخال التربية النفسية في الأحكام، أنه لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء من العمليات إلا بعد أن يمهّد للنفس ويعمرها بخوف الله وحده، ويقنعها بالآثار التي تترتب على المأمور به أو المنهى عنه، فإذا جاء دور العمل كانت النفس مطمئنة بالعلم وراضية بالعمل مهما شق، ولهذا كانت عقائد الإسلام وعباداته وأحكامه وآدابه كلها مترابطة وكلها متعاونة على تهذيب المسلم، ولهذا السر أيضًا صلح شأن المسلمين الأولين، لأنهم أقاموا الدين كله، عينيًا في العينيات، وكفائيًا في الكفائيات، وكانوا لا يتهاونون في الصغيرة، احتياطًا للكبيرة، ومن أوامر القرآن: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
وحرّر الإسلام الحيوان الأعجم من الإنسان، وحرّم عليه أن يحمله ما لا يطيق من الأحمال والأعمال، وأن يجيعه أو يعطشه، فإذا فعل به شيئًا من ذلك بيع عليه جبرًا بحكم الحاكم، وأوصى في الرفق بالحيوان وصايا زاجرة، وفي حديث نبوي أن امرأة دخلت النار بسبب هرة أمسكتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل خشاش الأرض، وأن امرأة عاصية لله دخلت الجنة بسبب كلب وجدته يلهث عطشًا على حف بئر فأدلت خفها وسقته، وما من شيء تفعله جمعيات الرفق بالحيوان في هذا العصر إلا وقد سبق الإسلام إلى أكمل منه.
وحرّر الإسلام المرأة من ظلم الرجال وتحكّمهم، فقد كانت المرأة في العالم كله في منزلة بين الحيوانية والانسانية بل هي إلى الحيوانية أقرب، تتحكّم فيها أهواء الرجال وتتصرف فيها الاعتبارات العادية المجرّدة من العقل، فهي حينًا متاع يتخطّف، وهي تارة كرة تتلقف، تعتبر أداة للنسل أو مطية للشهوات، وربّما كانت حالتها عند العرب أحسن، ومنزلتها أرفع، يرون فيها عاملًا من عوامل ترقيق العواطف وإرهاف النفس، ودواء لكثافة الطبع وبلادة الحسن، ويجدون فيها معاني جليلة من السمو الإنساني، وأشعارهم- على كثرتها- عامرة بالاعتراف بسلطان المرأة على قلوبهم وبشرح المعاني العالية التي يجدونها فيها، ولا عبرة بما شاع عنهم من وأد البنات، فإنه لم يكن عامًا فاشيًا فيهم، وتعليله عند فاعليه يشعر أنه نتيجة حب طغى حتى انحرف، وأثر عقل أسرف في تقدير العواقب، لا نتيجة كراهية لنوع الأنثى، وعلى كل حال فالوأد خطأ كبير، وجريمة شنيعة، وشذوذ في أحكام الرجال خارج عن نطاق الانسانية، وحسبه تسفيه قوْلِه تعالى: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
وجاء الإسلام فنبّه على منزلتها وشرفها وكرم جنسها، وأعطاها كل ما يناسب قوّتها العقلية وتركيبها الجسمي وسوّى بينها وبين الرجل في التكاليف الدينية، وخاطبها بذلك(4/360)
استقلالًا تشريفًا لها، وإبرازًا لشخصيتها، ولم يجعل للرجل عليها سبيلًا في كل ما يرجع إلى دينها وفضائلها، وراعى ضعفها البدني بالنسبة للرجل، فأراحها من التكاليف المادية في مراحل حياتها الثلاث، من يوم تولد إلى يوم تموت، بنتًا وزوجًا وأمًا، فأوجب على أبيها الإنفاق عليها وتأديبها ما دامت في حجره إلى أن تتزوّج، وهذا حق تنفرد به البنت على الابن الذي يسقط الإنفاق عليه ببلوغه قادرًا على الكسب، فإذا تزوّجت انتقل كل ما لها من حق أدبي أو مادي من ذمة الأب إلى ذمة الزوج، فتأخذ منه الصداق فريضة لازمة، ونحلة مسوّغة وتستحق عليه نفقتها ونفقة أولادها منه بالمعروف، فإذا خلت من الزوج ولها أولاد مكتسبون وجبت الحقوق على أولادها، ولا تنفق شيئًا من مالها إلا باختيارها، ووصايا القرآن والسنّة وأحكامها في بر الأمهات معروفة، وهي أظهر من الشمس، فالإسلام أعطى المرأة وأولادها من الإعزاز والتكريم ما لم يعطها إياه دين آخر ولا قانون وضعي وأعطاها حق التصرّف في أموالها، وحق التملّك من دون أن يجعل للزوج عليها من سبيل، وأحاطها بالقلوب الرحيمة المتنوّعة النوازع، المتلوّنة العواطف: قلب الأب وما يحمل من حنان، إلى قلب الزوج وما يحمل من حب، إلى قلب الولد وما يحمل من بر ورحمة، فهي لا تزال تنتقل من حضن كرامة وبر إلى حضن كرامة وبر، إلى أن تفارق الدنيا، وبين المهد واللحد تتبوّأ المراتب الكاملة في الانسانية.
نرى من هذه المعاملة الصريحة للمرأة في الإسلام أنه سلّحها بأحكام قطعية، وحماها بتشريع سماوي عادل ولم يكلها إلى طبائع الآباء الذين يلينون ويقسون، ولا إلى أهواء الأزواج الذين يرضون ويغضبون، ولا إلى نزعات الأبناء الذين يبرّون ويعقون، وإنما هي أحكام إلهية واجبة التنفيذ، لا تدور مع الأهواء والعواطف والنزعات وجودًا وعدمًا.
ولا ينقض علينا هذه الأصول شذاذ العصور المتجاوزون لحدود الله الخارجون عن الفطرة الصحيحة كمسلمي زماننا الذين منعوا المرأة المسلمة كل أو جل حقوقها، وحسب هؤلاء أنهم ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا المرأة، وأنهم هدموها فهدمتهم عن غير قصد، في أبنائهم، وأفسدوا كونها، فحرموا عونها.
وفي موضوع "المرأة في الإسلام" يتدخّل علماء الغرب ملاحدة ومتألهين، ويتعاطون ما لا يحسنون من القول في هذا الموضوع. ويجعلون منه ذريعة للنيل من الإسلام، ولقد ناظرنا جماعة منهم في الموضوع فأفحمناهم وألقمناهم حجرًا، قلنا لهم: هاتوا مثالًا نتناقش فيه، فقالوا: الميراث، قلنا: من أي جهة؟ فإن المرأة ترث بعدة أسباب، فنظر بعضهم إلى بعض، هل يراكم من أحد، وكادوا يتسلّلون، وكأنهم كانوا لا يعرفون إلا أن المرأة مظلومة في القرآن الذي يقول: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فقال لنا أحدهم: نعني ميراث البنت مع أخيها، فقلت: أنتم قوم تبنون الحياة كلها على الحساب، فهلم "نتحاسب"، ولنفرض أن(4/361)
مورثًا مسلمًا مات وترك ابنًا وبنتًا وثلاثمائة نقدًا، قال الإسلام: للإبن مئتان، وللبنت مائة، فقلتم، هذا ظلم ... هذا غبن ... هذا إجحاف ... ولم تفهموا أن الإسلام نظر إلى المرأة ككل، ونظر إلى مراحل حياتها الثلاث كمنظومة متناسقة، فإذا نقص لها في جزئية، جبر لها في جزئية أخرى، ولنجرِ معكم على مثالنا ولا نخرج عنه، ولنفرض أن الأخوين الذكر والأنثى تزوّجا في يوم واحد، وليس لهما من المال إلا ذلك الميراث، فالذكر يدفع لزوجته مائة صداقًا، فيُمسي بمائة واحدة وأخته تأخذ من زوجها مائة صداقًا فتصبح ذات مائتين، والذكر مطلوب بالإنفاق على نفسه وزوجته وأولاده إن ولد، وأخته لا تنفق شيثًا على نفسها ولا على أولادها.
فهذا هو الميزان العادل في الإسلام يتجلى من هذا المثال، وتتجلى منه رحمة الله في هذا المخلوق الذي ركبه الله على ضعف، ورشّحه لحمل أعظم أمانة، وهي تربية الناشئة وإعدادها للحياة.
هذه أنواع قليلة من التحرير العام الذي جاء به الإسلام، ألمعنا إلى بعضها الماعًا وأطلنا في تحرير المرأة قليلًا، لأن خصوم الإسلام يتخذون منها نقطة الهجوم عليه، وحديثهم في موضوع المرأة أكثر من حديثهم في الاسترقاق، لأن مركز المرأة في المجتمع ممتاز، ولأن الحياة كلها تتوقف عليها، ولأن جوانب الحديث عنها متعددة، فالحجاب والطلاق والوظيفة والعمل والتعلّم والاختلاط والميراث، والانتخاب أخيرًا ... كلها جوانب للحديث عنها هجومًا ودفاعًا.
أفمن حرّر المعاني والقوى والأجناس والأصناف والأشخاص، ثم حرّر الحيوان الأعجم، لا يحرّر الأرقاء من بني آدم؟ ...
وهات الحديث عن الرقيق وقل … ان الحديث عن الرقيق رقيق
الاسترقاق في التاريخ:
الاسترقاق قديم ممتد مع تاريخ البشر، وأصله الظلم المتأصل في الغرائز، فكانت القبائل في أطوار البداوة يغزو قويّها ضعيفها فيأسر الرجال ويسبي النساء والذراري، ويتبع السبي الاسترقاق.
وجاءت الحضارات فلم تنسخ هذه السنّة، وإنما وضعت لها حدودًا وقوانين، صيرتها شرًا منظّمًا. وشأن الحضارات قديمها وحديثها أنها لا تهذّب الغرائز الحيوانية في الإنسان، وإنما تموّهها بطلاء ظاهر وتخترع لها من حيل العقل والعلم ما يزيدها ضراوة بالشر واحتيالًا لارتكابه وتبصيرًا بطرقه، فالحضارة القائمة الآن لا تسبي النساء والأطفال في حروبها،(4/362)
ولكنها ترتكب ما هو شر من السبي، وهو القتل الذريع الشنيع للضعيفين المرأة والطفل، وتأسر المقاتل، والأسر استرقاق في أبشع صوره، ولا تزال الألوف المؤلفة من أسارى الحرب الأخيرة تحت أيدي الغالبين يسخّرونهم في أشقّ الأعمال.
وجاءت النبوّات الخاصة فلم تفعل شيئًا في إصلاح هذه المفسدة، بل سايرت فيها مذاهب العامّة، وفيها ما أباح الاسترقاق لغير الأمم المفضلة بالنبوّة، إلى أن جاءت النبوّة المحمدية العامة بالتشريع التام الكامل، والإصلاح العام الشامل، فكان لها تدبير حكيم لعلاج هذه المشكلة التي لم تحلها الحضارات ولا النبوات.
عمل الإسلام في الرق:
أول ما بدأ به الإسلام في إصلاح قضية الاسترقاق التضييق في أسبابها فحصرها في سبب واحد وهو الكفر، الموجب للجهاد الديني في أهله ثم يورث من جهة الأمَة فقط، فابن الأمَة رقيق.
والقتال بين البشر بحسب أسبابه يرجع إلى نوعين: الأول وهو المتعارف بين الناس منذ صاروا شعوبًا وقبائل إلى الآن، هو القتال للتسلّط أو للغنيمة أو للتشفّي أو توسيع رقعة المملكة واستغلال الغالب لوطن المغلوب، وهذه هي حرب البغي والعدوان، وليست لها غايات إنسانية، ولا بواعث شريفة، وحروب هذه العصور كلها من هذا القبيل، وغاياتها كلها شر، وقد أيّدتها الحضارة الحاضرة بعلومها وصنائعها فزادتها شرًا على شر وفظاعة وفتكًا على فتك، والتاريخ يحمّل علماء هذه الحضارة تبعات هذه الشرور كلها بما يخترعون من وسائل التدمير، وكان واجب الأمانة أن يوجّهوا علومهم لحياة البشر لا لموتهم، وهذا النوع من القتال لا يبيحه الإسلام ولا يبيح استرقاق من يسبى فيه.
النوع الثاني: هو ما جاء به الإسلام وسمّاه جهادًا وهو قتال المعارضين لدعوته، الواقفين في سبيلها، بعد تبليغهم الدعوة، وتمكينهم من النظر فيها بالعقل والروية وانظارهم إلى المدة الكافية لذلك، فإن لم يقبلوها بعد ذلك ولم يقفوا في طريقها تركوا وشأنهم، ولا إكراه في دين الإسلام بالنص القرآني القاطع، وإنما الواجب في الإسلام التبليغ والبيان، وإن لم يقبلوا دعوة الإسلام ووقفوا في طريقها يصدّون الناس عنها بالكلام أو بالتحريض وجب في حكم الإسلام قتالهم وقتل المقاتلة منهم فقط أو أسرهم، وسبي النساء والذراري واسترقاقهم، فهذا هو شرط الاسترقاق في الإسلام، وفيه- كما ترى- تضييق لدائرته الواسعة المتعارفة في البشر قبل الإسلام، وتخصيص لعمومها، واستقراء ما أدخله الإسلام على هذه القضية من إصلاح يكاد يمحو آثارها من الوجود. وفي الحديث النبوي تقسيم بديع لأنواع القتال وفيه(4/363)
أن المشروع منه أنواع، وهو أن يكون لإعلاء كلمة الله، وكلمة الله في جملتها هي توحيده الخالص والإذعان للأحكام التي جاء بها كتابه وبيّنها نبيّه، ومنها جمع البشر على ما يسعدهم ويرفع من بينهم أسباب الشرور والعداوات.
إن رأي الإسلام في الحرب أنها مفسدة لا ترتكب إلا لدفع مفسدة أعظم منها، وأعظم مفسدة هي الوثنية التي تعطّل العقول وجميع المواهب التابعة لها المتصرفة بأمرها، وإذا تعطل العقل تعطّلت ثمراته وفوائده وأصبح الناس في حكم المجانين، وتسلطت عليهم الأوهام، وأصبح نظرهم إلى الحقائق زائغًا منحرفًا، وحسبهم نتيجة لذلك أنهم يؤلهون أشياء كلها أحط من الإنسان، ومنها ما هو من صنعه، وقد بينّا سابقًا كيف حرّر الإسلام العقل منها لأنها بخس له ولقيمته.
المقاصد العامة في التشريع الإسلامي:
وللتشريع الإسلامي في كل قضية عامة تدعو حاجة الناس إليها وتدخل صميم حياتهم، مقاصد بعيدة المدى، شديدة المواقع، واضحة الآثار في المجتمع الإسلامي، وعلى هذه المقاصد بنيت الأحكام الفرعية، والذي يغفل عن هذه المقاصد لا يسلم من الخطإ في النظر إلى الجزئيات، ولا يضمن الإصابة في ترجيح دليل على دليل عند التعارض.
وباعتبار هذه المقاصد العامة في التشريع الإسلامي كانت الشريعة الإسلامية نظامًا اجتماعيًا كاملًا كافلًا لمصالح الجمهور ضابطًا لها، صالحًا لكل زمان ولكل مكان ولكل جنس.
وكل من يستقرئ أحكام الشريعة الإسلامية المنصوصة في المعاملات العامة، ثم يعمل نظره في استخراج هذه المقاصد، يخرج بحقيقة- ترمي إليها جميع النصوص-، وهي أن من مقاصد الإسلام إبطال الاسترقاق بالتدريج، لأن غضاضته لا تدفع إلا بإبطاله، وإذا كانت إباحته بحكمة فليكن إبطاله بحكمة.
ذلك أن الإسلام جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، فإذا وجدت قضية عامة يتجاذبها الصلاح والفساد- وهما ضدّان- فهنا تأتي حكمة الإسلام وبعد نظره ودقته في الترجيح، والإسلام لم يخترع الاسترقاق ولم ينشئه، وإنما وجده فاشيًا في العالم، درجت عليه الأمم كلها من أحقاب قديمة متطاولة، ودخل في حياتهم وتمكّن، ونزل منها منزلة الضرورات الحيوية، وتعوده الفريقان السادة والعبيد، وبنى كل واحد منهما أمره على ما قسم له من الأعمال، ورأى ان الخير فيه، وأن خروجه منه مضيعة له وقضاء على حياته، واطمأن إلى هذا كله من يوم أدرك وعقل، وقد فصلت الحياة وقوانينها والمواضعات العرفية وظائف(4/364)
الفريقين في عشرات القرون، فأصبح الخروج عنها كالخروج من الحياة، ولكل من السيادة والعبودية آثار متطرفة في نفوس أصحابها لا يجمعها وسط، فالسادة تعوّدوا الاعتماد على العبيد في تصريف مصالحهم الحيوية المتنوّعة شريفها وخسيسها من منزلية وفلاحية، فإذا فارقهم العبيد ضاعت تلك المصالح كلها إذ لا يستطيع القيام بها بنفسه، فضاعت المصالح فاختلّ التوازن الاجتماعي، والعبيد تعوّدوا الاعتماد على السادة في معاشهم وكسوتهم وتدبير ضرورياتهم كلها فإذا فارقوهم وتحرّروا دفعة واحدة لم يستطيعوا الاستقلال بالحياة، واختلّ التوازن الاجتماعي أيضًا.
فجاء الإسلام بعلاج المعضلة، وهو أنه حرّم من أول يوم معاملة العبيد بالقسوة التي كانت مألوفة يرتكبها المالك لأنها شيء معتاد، ويتحمّلها العبد لأنها شيء معتاد فأوجب معاملتهم بالإحسان والرفق والرحمة، وبالغ نبي الإسلام في التلطّف والحنو على هذا الصنف حفظًا للكرامة الإنسانية، فسمّاهم إخوانًا للمالكين وفرض لهم المساواة معهم من المأكل والملبس وحدّد لهم مقدار العمل، فقال في حديثه المشهور الذي هو دستور كامل لهذه القضية في جمل قصيرة، ولفظه في حديث أبي ذر: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ جَعَلَ اللهُ تَحْتَ يَدِهِ أَحَدًا مِنْ إِخْوَانِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفْهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ».
ومن عرف مقدار تأثّر الصحابة بالدين ومبالغتهم في امتثال أوامره واجتناب نواهيه ومسارعتهم في تنفيذها، عرف أنهم نفّذوا هذا الدستور بمجرد سماعه كما وقع لأبي ذر راوي الحديث، فإنه كان لا يستأثر بأكلة دون غلامه ولا يلبس حلة إلا ألبس غلامه مثلها.
من لي بالباحث الغربي المنصف المُبَرَّإِ من وصمة الغرض والحقد والهوى ليعلم مواقع الإنسانية في دين الإسلام- وما أكثرها- ثم يعلنها في قومه، وإذًا لأعلن كثير منهم إسلامه بإعلانها. ومن مواقع الإنسانية في الإسلام ما شرعه هذا الحديث العظيم في معاملة العبيد، فليعلم هؤلاء الباحثون الجاهلون لمحاسن الإسلام، أو المتجاهلون لها، وليعلم من بعدهم الواضعون للقوانين من بني جلدتهم، والمسيّرون لشعوبهم من الحكام ليعلموا جميعًا- فيما يعلمون- أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - سبقهم من أربعة عشر قرنًا إلى إعلان حقوق الإنسان التي ما زالوا يتخبطون فيها بين السلب والإيجاب، وما زالوا ينقضون بالفعل ما أبرموه فيها بالقول، وليعلموا جميعًا أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - سبقهم كذلك إلى إعلان حقوق العبيد وإقرار الكرامة الإنسانية لأول مرة في تاريخ العالم- بل نقولها جهيرة مدوية لا تتوارى بحجاب ولا تستتر بجلباب، أنه أعلن بحديثه السابق ولأول مرة في تاريخ الحضارة البشرية إلغاء الرق الذي يتبجحون بابتكاره، ولكن بمعنى حكيم غير الذي يفهمونه من الإلغاء المسطّر على الأوراق في قوانينهم: أنه محا آثار الرق في نفوس الأرقاء، وآثار الاسترقاق في نفوس السادة، وأي(4/365)
معنى يبقى للرق بعد هذا؟ أي معنى يبقى لهذه الكلمة بعد أن فقدت معناها أو تصافت نفوس الفريقين وتلاقت على الأخوة والمساواة، واستشعر كل فريق منهما عزة النفس، وحظّه من تلك العزّة، وكرامة الإنسان ونصيبه من تلك الكرامة؟
إن كلمة العبقرية في ذلك الحديث هي كلمة "إخوانكم" وقد جاءت في أول الجملة لتكون أول ما يقرع الأسماع فتفعل فعلها في النفوس، وخصوصًا في ذلك الزمان. فالعبد حين يسمع تلك الكلمة يحسّ كأن نفسه الذليلة انتقلت في رحلة روحية من عالم إلى عالم، وكأنه استلم صك التحرير فجأة بيده وأنه أصبح أخًا لسيّده لا عبدًا له، وهذا ما لم تسمعه أذن في أطوار الحضارات التي من شأنها أن ترقي العقول، ولا في أطوار النبوّات التي من شأنها أن ترقي الأرواح، والسيد المالك حين يسمعها تتطامن نفسه الشرهة وأخلاقه الشرسة وغرائزه المتشبعة بحب التملّك والتسلّط ويتنزّل من عالم الاستعلاء إلى عالم الاستواء، فيرى ببصيرته أن هذا المخلوق أخ، وليس من الرجولة ولا من الإنسانية أن يمتهن الأخ أخاه.
وأي معنى يبقى للرق بعد هذا؟
على أن التشريع الإسلامي عند تكامله انتهى إلى تشريع أحكام كثيرة كلها في مصلحة الرقيق وترجيح جانبه وإعلاء كلمته، وكلها ترمي إلى بطلان الرق من ذاته تدريجيًا، والتدرّج سمة واضحة الحكمة من سمات التشريع الإسلامي تظهر في التفاوت الزمني بين العبادات، فقد شرعت الصلاة بمكة ولم تشرع بقيتها إلا بعد الهجرة، وفي أزمنة متفاوتة أيضًا، وتظهر في تحريم الخمر وتحريم الربا، وتظهر في وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن وأوصاه بعرض شرائع الإسلام عليهم واحدة واحدة وأن لا يعرض عليهم الثانية حتى يتقبّلوا الأولى.
وهذه التشريعات المنصوصة وما تفرّع عنها بالاجتهاد أو القياس هي الدليل القاطع على ان إبطال الاسترقاق وقطع دابره كانا من مقاصد الإسلام، ولكن بطريقته التدريجية الحكيمة كما وقع في تحريم الخمر، ولو أن المسلمين بعد خلافة عمر نفّذوا تلك التشريعات بحزم لما بقي للاسترقاق بينهم أثر. رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن إبطال الرق دفعة واحدة يفضي إلى مفاسد اجتماعية وإلى شلل محقق في المرافق الحيوية كما أسلفنا القول فيه، فجاء بذلك الدستور الذي أزهق روحه، بحيث أصبح رقيق ذلك الزمن أسعد حالًا وأوفر كرامة بآلاف المرات من أحرار هذا الزمن الذين يسامون سوء العذاب من الأقوياء المتحضرة، بدأ محمد - صلى الله عليه وسلم - الحملة على الاسترقاق بالترغيب في العتق، وأحاديثه في ذلك لا تكاد تحصر، حتى أنه جعل العتق أصلًا يقاس عليه جميع القربات، فكثيرًا ما كان يقول: من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة، فكأن الإسلام يعد عتق العبيد أشرف أعمال الخير، يقدّر ثوابها بثوابه، ولا دليل أدلّ من هذا(4/366)
على رغبة الإسلام في تحرير الرقيق، وقطع دابر الاسترقاق، وقد كان المسلمون الأولون يتبارون في العتق، ويبعثون في الأسواق حاشرين لشراء العبيد بنيّة العتق اغتنامًا لأجره، وتحقيقًا لحكمته.
ثم جعل عتق الرقاب عقابًا دنيويًا على كثير من المخالفات وكفّارة لها عند الله، فقتل الخطإ يكفر بعتق رقبة بعد الدية، ومن مكفرات الحنث في اليمين عتق رقبة، وفي الظهار الذي لم يبلغ أن يكون طلاقًا عتق رقبة، وجعل العتق عقوبة دنيوية على الذنوب، واعتباره ماحيًا لها عند الله، هو طريق إلى التقليل من عدد الأرقاء والتقليل من الشيء مدرجة لزواله.
وهنالك كثير من الأحكام في التشريع الإسلامي توجب العتق إيجابًا وتفضي إلى التقليل.
فمنها أن السيد إذا ضرب عبده أو أمته ضربًا يجاوز حد التأديب أو الكي بالنار فإنه يعتق عليه جبرًا بحكم الحاكم.
ومنها أن الجارية إذا ولدت من سيّدها فإنها تحرّر من أعمال الإماء، وتزول عنها هجنة الرقيق، وتحرّر بموت سيّدها وتسمّى أم ولد في الاصطلاح الفقهي.
ومنها أن العبد إذا كان يملكه أشخاص اشتكوا في قيمته فعتق أحد الشركاء نصيبه الذي يملكه فإن الحاكم يعتق بقية الأجزاء على أصحابها جبرًا، ويصبح حرًا مهما كان الجزء الذي بُني عليه العتق قليلاً. ومنها أن العبد إذا ادّعى أن سيّده عتقه وأنكر السيد ذلك فإن قول العبد يرجح على قول سيّده بيمين.
وهناك أحكام كثيرة من هذا الباب كلها تحقق ذلك المقصد العام وهو الغاء الرق، وللفقهاء كلمة متداولة في تعليل هذه الأحكام وهي قولهم: "لتشوف الشارع للحرية" وهي كلمة صريحة الدلالة على أن هؤلاء الفقهاء يفهمون أن الإسلام أحكام مبنية على حِكَم، وأن الحكمة في ترجيح جانب العبيد هي التقليل من عددهم، وأن التقليل يفضي بطبيعته إلى الزوال.
حكم التسرّي وحكمته في الإسلام:
أما التسرّي الذي يعيبه الحاقدون على الإسلام، وهو وطء الجواري بملك اليمين، فحكمه الإباحة بالنص القاطع من القرآن وهو النوع الثاني من النوعين الجائزين في قرب النساء، وأولهما التزوّج بالحرائر بشروطه المعروفة، وما عدا هذين النوعين حرام ومجاوزة لحدود الله، وليس في الإسلام حكم بلا حكمة في جميع علائق البشر بعضهم ببعض، فإن وجد حكم بلا حكمة، ولو دقيقة، فهو إما توسّع في الاجتهاد، وإما خطأ من العباد،(4/367)
والحكمة الواضحة في التسري تتألف من عدة عناصر، فهو تأليف بين العنصرين المتفاوتين وهم السادة والعبيد بعلاقة نفسية جسمية، وتقريب بينهما، وتنقيص من النفور الطبيعي بملابسة طبيعية، ولا يخفى ما في هذا من طي المسافة بين السيادة والعبودية، ومن الحكم الظاهرة فيه أنه خطوة واسعة إلى التحرير ووسيلة قوية من وسائله، فإن الأمة إذا ولدت من سيّدها ترتفع درجة عن العبودية حتى في الاسم فتسمّى أم ولد، وترتفع إذًا بطريق شرعية إلى التحرير، فهي من الذرائع المحققة لحكمة الإسلام في العتق ولمقصده في التشوّف للتحرير، وكل هذا زيادة على ما تحصل عليه أم الولد من سيّدها من الاستيلاء على قلبه والحظوة عنده، ولقد وصل كثير من أمهات الأولاد من طريق هذه الحظوة إلى درجات رفيعة لم تبلغها الحرائر. وأما المبالغة في الإكثار منهن إلى درجة مستهجنة بناء على عدم تحديد الشرع لعدد خاص- فهذا من سوء تصرّف المسلمين- لا من حسن تصريف الإسلام.
الاسترقاق عند المسلمين اليوم:
ترك المسلمون منذ قرون صفة الجهاد في سبيل نشر دعوتهم الدينية، فلم يبق سبب للاسترقاق الحقيقي، والموجود عند بعضهم اليوم من الرقيق إنما هو متوارث أو مجلوب من الشعوب الوثنية في افريقيا، أو مجلب عليه بالقوة من غير الوثنيين، وهذان النوعان الأخيران قد يدخلهما التزوير من الجانبين، وحكم إباحة الاسترقاق في الإسلام قائم لا تنسخه هذه القوانين الوضعية، وغلبة الظن مُحكمة في الإسلام ولكن الأحوط في مسألة الاسترقاق هو اليقين، فإذا غلب الظن في صحة الرق رجعنا إلى القاعدة العامّة، والمقصد الأمين وهو تشوّف الشارع للحرية، وغلبنا جانبها على جانب الاسترقاق، فإذا كان المالك من المتأدبين بأدب الإسلام ومنها إكرام الانسانية في شخص الرقيق، والإحسان إليه، ومعاملته على أساس الأخوة لا العبودية، فهنا يسوغ له الإقدام على ملك الرقيق المشبوه بغلبة الظن ما دام الملك ينقله من حالة سيئة إلى حالة حسنة، وعلى الجملة فالقضية في هذا الزمان من المتشابه الذي تعتوره أحكام الحظر والإباحة، والمبالغة في الاحتراز أقرب إلى رضى الله وإلى قصد الشريعة.
ونقول إنه إذا كان الاسترقاق مباحًا بشروطه فإن باب العتق مفتوح على مصراعيه، فإذا ملك بنيّة العتق فإن عمله أعرق في الإنسانية وأدنى إلى مراضي الله.
إذا تقرر في الذهن ما أصلناه في هذه الفصول القصيرة لم يبقَ معنى لهذه الضجة التي يتردد صداها حينًا بعد حين في ما وراء البحار من أوربا وأمريكا في التشنيع على الإسلام بأنه يبيح الاسترقاق، وعلى المسلمين وحكوماتهم بأنهم يزاولون شراء الرقيق ويبيحون الاتّجار(4/368)
فيه، وما لهؤلاء القوم المشنعين على الإسلام لا يمنعون تجارة (الرقيق الأبيض) المتفشية بينهم، والمسجّلة عليهم وعلى حضارتهم عارًا لا يمحى؟ وما بالهم يرون القذاة في أعين غيرهم، ولا يرون الخشبة المركوزة في أعينهم؟ وما بال إنسانيتهم انحصرت في الإشفاق على عشرات أو مئات أو آلاف من العبيد يملكهم المسلمون بإحسان، ولم تتسع رحمتهم وإشفاقهم لمئات الملايين من الشعوب التي استعبدوها في أفريقيا وآسيا، فأذلوا رقابهم، ومسخوا معنوياتهم، وجرّدوها من كل أسباب الحياة؟
ثم ان لنا موقفًا نصفّي فيه الحساب مع هؤلاء الكتّاب الناعقين، ومن وراءهم من الحكومات المتفقة على إبطال الاسترقاق، ونردّ عليهم دعواهم وزعمهم أن ذلك القانون هو أشرف عمل إنساني تمّ على أيديهم وسبقوا إليه كل من مضى ومن حضر من الدول والأديان، وأنه هو الغرة اللائحة في جبين هذه الحضارة، والصفحة المشرقة في تاريخها، إلى آخر ما يفيضونه من النعوت على هذه (العملية).
نقول لهم أولًا: أمن الإنسانية ما تفعله أمريكا مع الزنوج إلى اليوم، وما تفعله جنوب أفريقيا مع الزنوج فيها؟
ونقول لهم ثانيًا: أمن الإنسانية والتحرير، استعماركم لأفريقيا وآسيا؟ وما فعلتموه من الفضائح في فتحهما، وما تفعلونه من الموبقات إلى اليوم في استعباد أهلها؟
قد يكون كلامكم في إلغاء الاسترقاق صحيحًا ومعقولًا عند الناس لو لم تقرنوه بجريمة الاستعمار في آن واحد، فلم تزيدوا على أن سفهتم أنفسكم، ونقضتم قولكم بفعلكم، وصيّرتم تلك الغرة المزعومة، عرّة معلومة، من الذي يصدقكم في تحرير الآلاف من العبيد، بعد أن استعبدتم مكانهم مئات الملايين؟ فكأنكم ما وضعتم ذلك القانون إلا تلهية للعالم، وتغطية عن الجريمة التي ارتكبتموها، وكأنكم ما رضيتم للشعوب الضعيفة أن تسترق أفرادًا، فألغيتم ذلك النوع الفردي، وأبدلتموه بالاسترقاق الجماعي (وبالجملة) على لغة التجّار.
فكان حقًا عليكم- لولا النفاق- أن تزيدوا كلمة في عنوان ذلك القانون فيصير (إلغاء الاسترقاق الفردي) ولو فعلتم لكنتم صادقين في الواقع، وإن كذبتم على الحقيقة والتاريخ، والكذب في الشر يصيّره شرّين.
إن هؤلاء القوم لم يزيدوا على أن حرّروا العبد زعمًا، واستعبدوا الأحرار فعلًا، ثم لجوا في الزعم سترًا للشناعة وتغطية عن الشر، وإلهاء للأغرار، وهيهات أن تغطى الشمس بالغرابيل. وإذا كان إلغاء الرقيق عملًا إنسانيًا، فاستعباد الأحرار بماذا يسمّى؟ وأنهار الدماء التي سالت بالأمس القريب في الهند الصينية وفي كوريا، والتي تسيل اليوم في شمال أفريقيا وشرقها ... تسيل، في أي سبيل؟(4/369)
أيها القوم العائبون على الإسلام ... لا تنهوا عن المنكر الجزئي حتى تنتهوا عن المنكر الكلي ... واذكروا ما هو محسوب عليكم وعلى حضارتكم من المتناقضات الشنيعة، وأشنعها أنكم استعبدتم شعوب أفريقيا كلهم نساءها ورجالها وأطفالها أبشع استعباد وقع في التاريخ، ثم جئتم تتباكون على مئات منهم نقلوا من الاستعباد الغاشم إلى الاستعباد الراحم، ومن الاستعباد الذي يجيع البطون، ويعري الظهور، ويخرج من البيوت- إلى الاستعباد الذي يشبع ويكسو ويؤوي، وبعبارة أجمع ... من الاستعباد الذي يميت إلى الاستعباد الذي يحصي ... ومن استعباد لا ضمير له، ولا إنسانية فيه، ولا رحمة معه، إلى استعباد كله ضمير وإنسانية ورحمة ... ومن استعباد حقيقي إلى شيء ليس فيه من الاستعباد إلا اسمه.
لقد فضحكم الله بشيء أعماكم الغرور عن التبصّر فيه، فكانت افريقيا هي الفاضحة. إن قانونكم الذي تتبجّحون به كان منصبًا على افريقيا، وكانت هي المعنية به، إذ كانت سوقًا لتجارة الرقيق ... ثم كانت هي هدفكم ومزدحمكم في الاستعمار فلم يبقَ منها شبر ولا شخص إلا وهو خاضع لسلطانكم الظالم الغاشم.
أما أن هؤلاء الأفريقيين لو فرّوا من وجوهكم- إذ لم يستطيعوا صفعها- ليكونوا عبيدًا للمسلمين لكانوا أعقل العقلاء، لأن ما يلقاه العبد في الشرق الإسلامي من سيد عات عنيف جبّار، لا يساوي عشر معشار الشعوب المستعبدة من حكوماتكم المتحضرة وظلم السيد المسلم العاتي لعبده يعد رحمة في جنب الظلم الاستعماري، على أن ظلم السيد المسلم لعبده يعد جريمة توجب عتقه رغمًا عليه في حكم الإسلام، أما المظالم المسلطة منكم على هذه الشعوب فهي جرائم جماعية، تتفق عليها حكومات متحضرة، وتسنّ لها القوانين من البرلمانات، ويزيّنها الفلاسفة والعلماء، ويحثّ عليها الخطباء، ويتغنّى بها الشعراء، وتجبى لها الأموال من الخاصة والعامة عن طوع واختيار، كما تجبى لسبل الخير العام.
أيها القوم: إنكم بهذا التجنّي على الإسلام تريدون أن تشغلوا المسلمين بالباطل عن الحق، وتسكتوهم بالاستعباد الموهوم عن الاستعباد المحقق، وبقضية الآحاد عن قضية مئات الملايين ولكنهم لا يسكتون ...
سمعنا كثيرًا عن غرائب التطورات، ولكننا لم نسمع أن إبليس أصبح واعظًا مذكرًا يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر حتى رأيناه رأي العين، ولكن هل يصدق العقل ما تراه العين وتسمعه الأذن من هذا؟
يتلخّص هذا العرض المختصر في نقط:
أولأ: أن الإسلام لم ينشئ الاسترقاق ولم يشرّعه.(4/370)
ثانيًا: أنه وجده عادة راسخة في الأمم وضرورة من ضرورات حياتها.
ثالثًا: أن روح الإسلام تستهجنه وتعتبره نقيصة إنسانية.
رابعًا: أنه بادر بإصلاحه وإزهاق روحه بحيث لم يبق منه إلا اسمه.
خامسًا: أنه رأى أن إبطاله دفعة واحدة يؤدي إلى مفسدة اجتماعية هي أعظم ضررًا من إبقائه، فسنّ له من الآداب والأحكام ما جعله يتلاشى من تلقاء نفسه بالتدريج.
سادسًا: أبرز نقطة في هذا الإصلاح، اعتماده على النفوس والضمائر، باعتبار العبد أخًا لسيّده، ليستشعر الكرامة والعزة، فترتفع معنوياته، فيصبح إنسانًا في المجتمع لا بهيمة كما كان، ثم سوّى بينه وبين سيّده في مظاهر الحياة لتزول الفوارق الحسيّة، كما زالت الفوارق النفسية، ثم ألزم المالكين بحدود لا يتجاوزونها في الاستغلال المادي، وأوصاهم بالرفق والإحسان إلى إخوانهم، حتى كان آخر ما أوصى به في مرض الموت قوله - صلى الله عليه وسلم -: «استوصوا بالضعيفين خيرًا: المرأة والرقيق»، وأنه رغب في العتق ووعد عليه الثواب الجزيل في الحياة الباقية- والإيمان بالحياة الباقية هو أساس عقيدة المؤمن- حتى جعل العتق أصلًا لأعمال البر كلها، وأنه قرّر عتق الرقاب عقوبة على عدة مخالفات يرتكبها المسلم وكفارة عنها عند الله، وأنه شرع من أسباب التحرير أشياء كثيرة، منها ما هو بسيط، ومنها ما هو مخالف في ظاهره لقواعد المعاملة، كل ذلك لتشوّفه للحرية، وللتقليل من عدد الأرقاء حتى يزول مع الزمن.(4/371)
كلمة لصحيفة "الأهرام" *
أنا مدمن قراءة من عهد الصغر، فقد بدأت قراءة الكتب وعمري تسع سنوات في السنة التي فرغت فيها من حفظ القرآن، وكان أستاذي- وهو عمّي شقيق والدي الأصغر- يتولّى تربيتي وتوجيهي، ويأخذني- مع حفظ القرآن- بحفظ مختارات من الشعر العربي البليغ في معانيه، الفصيح في ألفاظه، الغريب في فهمه؛ فما حفظت القرآن حتى كنت أحفظ معه بضعة الألف بيت من الشعر ما بين أبيات مفردة ومقطع مع فهم المفردات، وأعانني على الفهم ما صحب حفظي للقرآن من حفظ الكثير من الألفاظ اللغوية الفصيحة من كتاب "كفاية المتحفّظ" للأجدابي، و "الفصيح" لثعلب و "الألفاظ الكتابية" للهمداني. من ذلك الحين شغفت بالقراءة، وكان عمي ينير لي الطريق ويسايرني من إرشاده في كل داجية كوكب وفي كل معضلة تعترضني شعاع هاد فيختار لي ما أقرأ لتستقيم ملكتي من الصغر، وقد وجّهني أول ما وجّهني إلى رسائل بلغاء الأندلس وأشعار شعرائها، فعكفت- زيادة على دروس الدين والقواعد- على قراءة الموجود من رسائل أبي عامر بن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف بن عميرة، ولسان الدين بن الخطيب من كتابه ريحانة الكتاب، والموجود من أشعار ابن زيدون وابن عمّار وابن شهيد وابن دراج القسطلي، وابن خفاجة، وبعض هذه الرسائل كانت مخطوطة في مكتبة أسلافي، وبعضها نجده في الكتب المؤلفة في تاريخ العلماء والأدباء بالأندلس مثل نفح الطيب، وقد كررت تلك الرسائل والدواوين مرات متعددة كدت أحفظ معظمها، وكان عمّي يتعصّب للأدب الأندلسي ويبدي ويعيد في استحسانه ويعدّه أقرب لمزاجنا وأكثر ملاءمة مع روحانيتنا وعواطفنا.
ولما بلغت من العمر أربع عشرة سنة لحق عمّي بربّه وكان قبل وفاته بسنتين أو ثلاث وجّهني لقراءة كتب المشارقة التي تجمع بين جزالة التركيب ووضوح المعاني، كالبيان
__________
* كلمة نُشرت في صحيفة "الأهرام" بالقاهرة، في أوائل الخمسينات.(4/372)
والتبيين والبخلاء والحيوان للجاحظ والأغاني للأصفهاني والكامل للمبرد وحثّني على قراءة مقدمة ابن خلدون والعقد الفريد لابن عبد ربّه وبهجة المجالس لابن عبد البر، فقرأت عليه بعضها في حياته وقرأت جميع ما أوصاني به بعد وفاته.
ازداد شغفي بالقراءة من ذلك الحين، وقد أصبحت في درجة من الفهم والإدراك أفرّق فيها بين الغث من الكتب والسمين، وانصرفت إلى شعراء الشرق البارزين فقرأت المئات من دواوينهم ودرستها وقرأت كثيرًا من الكتب المؤلفة في موضوع الأدب كالعمدة لابن رشيق وكتب العسكري والجرجاني والآمدي وقدامة بن جعفر.
كررت قراءة بعض الكتب التي قرأتها مرات ودرستها، فما أبقى كتاب فيها في نفسي أثرًا يحملني على معاودة قراءته في كل سنة أو في كل فسحة تأتي من وقتي ولا وجدت في نفسي لقراءته ما يجده الجائع لالتهام الطعام إلا بضعة وعشرين من الكتب ودواوين الشعر فإنها استولت على شعوري، وأصبحت جزءًا من إحساسي، وبلغ شغفي بقراءتها مبلغ الافتتان.
ولنقتصر هنا على كتب الأدب من نظم ونثر فإن السرد لجميع الكتب ذات التأثير في نفسي يطول.
من الشعر الذي كان له الأثر الذي لا ينصل صبغه من نفسي شعر المتنبي لما فيه من فحولة وقوة أسر، وسداد حكمة وسيرورة أمثال، وإصابة أهداف، وتخطيط لدساتير البطولة، وتحديد لمواقع الكرم وتلقين لمعاني الذياد والحفاظ وتمثيل لبعد الهمم، وان المتنبى في بعض ما يصف من الذين يقولون ما لا يفعلون.
وشعر أبي فراس الحمداني لما يشيع في جوانبه من الانتخاء بالعروبة، والتنويه بشعائر العرب وأخلاقهم ومآثرهم وأمجادهم، ولأنه أصدق من المتنبي في كثير مما يدّعيه المتنبي.
وشعر البحتري لحلاوته وانسياغه في اللهوات، وسلامته من المعاضلة والتعقيد وجميع العيوب التي وصم بها أستاذه أبو تمّام.
وشعر الشريف الرضي لرقّته وانطباعه وبراعته في الوصف وصدقه في الفخر حين يفخر بأصوله الغر الميامين ... والفخر بأولئك الأصول هو الينبوع الثر من ينابيع شعره.
وشعر المعري في اللزوميات لدقته في وصف الدخائل النفسية، وتدسّسه إلى المكامن الروحية وتغلغله إلى مدب السرائر الخفية وسعة رحمته بالحيوان، وتنويهه بالفضائل والمكارم والكمالات وتمجيده للعقل الذي هو ميزان لا يخيس ومعيار لا يخس.
وشعر ابن خميس التلمساني لبراعته المدهشة في المزاوجة بين المعاني الحضرية الرقيقة، وبين التراكيب البدوية الجزلة، حتى كأنه بقية من طبقة عدي بن زيد العبادي.(4/373)
وشعر أبي اسحاق بن خفاجة الذي لو كتب عنوانه "روضة وغدير" لكان أصدق عنوان.
وشعر شوقي في الآخرين لما فيه من سمات التجديد، ومنازع التوليد، وصدق التمثيل لعصرنا هذا بما فيه من عظمة المادة، وسموّ الإدراك وتقدّم العلم والمعرفة والوفاء للأسلاف الذين أصلوا الحضارة، وخلّدوا المؤثرات التي طاولت الدهر ولاتساع جوانبه للانسانية كلها.
هذا كله في أحد ركني الأدب وهو الشعر، وأما النثر فأهم الكتب التي تركت في نفسي وفي ملكتي آثارًا لا تمحى- كتاب البخلاء للجاحظ لإبداعه في تصوير نقيصة البخل ولنفسية البخلاء وجمعه لنوادرهم في البخل، وانقياد اللغة له في الحديث عن الغرائز والأخلاق، وتعمّقه في فهم طبقات الناس، ثم كتاب الحيوان له لجمعه بين العلم والأدب، وإحاطته بكل ما يتعلق بالحيوان من طباع وغرائز مختلفة وأقوال الحكماء والشعراء فيه، ثم كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ولا تسألني عن خصائصه التي أثرت في نفسي وجلبت قيادي إليه حتى تركتني أجدّد قراءته من أوله إلى آخره في كل عقد من سني عمري وكلما قرأته تجددت آثاره في نفسي وتجاوبت أصداؤه بين جوانبي فبعث فيّ روحًا جديدة- لا تسألني عن ذلك فكل أديب قرأه وكرّر قراءته وجد في نفسه من التأثّر مثل ما أجد، أو فوق ما أجد، وتجددت عنده صوره من روعة الأدب العربي وجلاله.
هذه هي أمهات الكتب الأدبية التي أثّرت في نفسي بعد تأثّري بأمهات الكتب الدينية الصحيحة، وأصلها كلها كتاب الله.
إن الكتاب الذي يقرأ كالطعام الذي يؤكل، فطعام يعطي آكله القوة والفراهة، وطعام يعطي آكله الضعف والهزال، وان المتبحّر في قراءة الأصول الأدبية في أدبنا العربي بمعناه الواسع العام لا يعرف في أدبائنا الناشئين أثر الكتب التي قرأوا وما قرأوا إلا النزر اليسير.
نصيحتي الخالصة للأدباء الناشئين أن يوفوا حظّهم من قراءة الكتب العامرة التي تقوى بها الملكة، ويفحل الطبع وتزكو الثمرة، فإني أرى في كثير مما أقرأ هذه الأيام من الآثار الأدبية لناشئتنا أعراضًا تشبه أعراض فقر الدم في الأجسام: نحول واصفرار.(4/374)
كلمة لِـ"مجلة الإذاعة المصرية" *
"ودّعنا عامًا فطوينا صفحة من تاريخنا، وبدأنا عامًا جديدًا وصفحة جديدة، فماذا حقّقت بلادنا من ناحية، ومن ناحية أخرى ماذا حقّقت بلادنا العربية من أمانيها في هذا العام الفائت، وماذا نأمل من عامنا الجديد؟ ".
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الجملة بألفاظها وجّهتها إليَّ "مجلة الإذاعة المصرية" الغرّاء، طالبة رأي فيما تضمنته جملتها الأخيرة وهي تعني (ببلادنا) بلاد المجيب الخاصة.
والرأي المجمل في القضية أن أماني البلاد العربية كلها ترجع إلى واحدة يتدرّج إليها من الاستقلال إلى الاستقرار، إلى الاتحاد، إلى الوحدة، وهي النقطة التي تنتهي إليها الآمال، وهي مناط العزة والقوة والسعادة وكل المعاني التي تطلبها العروبة الصحيحة من العرب وتحثّهم على سلوك سبلها.
وتتفاوت الشعوب العربية بعد الأمنية العامة في الأماني الخاصة المحققة لها، فالمغرب العربي أمنيته الخاصة هي الاستقلال، وأمنية سوريا هي الاستقرار، وأمنية اليمن انتشار التعليم وإفاضة العدل.
أما الواقع الذي تفتح عليه العين، وتوضع عليه اليد فهو أن كل الشعوب العربية لم تتحقق لها أمنية واحدة من الأماني الكثيرة، ومضى العام المودع وأعوام قبله متشابهة المبادئ والخواتم، ولم تلمع فيها بارقة أمل في بلوغ أمنية من الأماني المرجوّة، وليس في الأفق بشائر تدل على قرب تحققها إلا هذا الوعي المتأجج الذي يزداد على الأيام، وتزيد في تأججه الحوادث المتتالية، وإلا هذه الفورات المتجددة في المغارب الثلاثة: تونس والجزائر ومراكش، وإلا هذه القلوب التي أصبحت تتواصل بعد انقطاع، وتتألّف بعد انصداع، وتتعارف بعد تناكر طال أمده، وإلا هذه المظاهر المتمثلة في المؤتمرات المتلاحقة من علماء الشعوب العربية وساستهم وأولي الأمر فيهم، وليقل الناس في هذه المؤتمرات ما شاءوا، فرأينا فيها أنها ارهاصات لأمر خطير.
__________
* جرى هذا الحديث في أكتوبر 1954.(4/375)
يجب أن تتضافر الشعوب العربية على إلحاق آخر قافلتهم بأولها، فإن بين الطرفين بعدًا بعيدًا في الثقافة والتفكير والاتصال بالعصر وأسباب الثروة وفهم الحياة وأوضاع الاجتماع، وان هذا التباعد هو أقوى أسباب التنافر بينهم.
ويجب عليهم أن يجتهدوا في تكوين رأي عام في كل شعب عربي ليسهل عليهم تكوين رأي أعمّ يوجّه ويرشد وينشئ ويخاف ويرجى، فإن بعض الشعوب العربية لم يتكوّن فيها رأي عام إلى الآن، وما زالت تسيطر عليها النزعات الفردية التي هي علامة التفكّك، وأساس التخاذل، وبعض شعوبهم وجد فيها رأي عام ولكنه لم ينضج. والرأي العام لا ينضج إلا في ظل الاستقرار والثقافة الهادئة الموحّدة، وسدّ الأبواب عن التيارات الأجنبية الهادمة مثل الشيوعية، والمذاهب الفكرية الأوربية التي تبلبل الأفكار.
...
نعم ودّعنا عامًا. ولكننا ودّعنا هذا العام غير مأسوف عليه لأنه لم يأتنا بشيء جديد ولم يطلع علينا شموس أيامه وأقمار لياليه بمفيد، ورمتنا أحداثه بما يؤخر ولا يقدم، ويبعد الآمال ولا يقربها، ولم يرنا في أعدائنا المستعمرين ما يسرّ، فلا يزالون متنمّرين علينا ممعنين في استعبادنا، وأضعفهم- وهي فرنسا- لا تزيد على الضعف إلا فتكًا بنا واستعبادًا لنا، وخنقًا لحريتنا الشخصية، فضلًا عن الحرية العامة، وتصاممًا عن طلباتنا، نسالمها حينًا عسى أن نصل إلى حقوقنا الطبيعية بالسلم والعقل فتقتلنا باسم المدنية والتمدين، ونثور عليها فتقتلنا باسم الثورة والخروج عن السيادة، ولم يبق لنا بعد أن سدّت علينا منافذ الحياة إلا أن نموت شرفاء، وإن لنا معها ليومًا، وان ساعة الحساب لقريبة إن شاء الله.
نعم ... وطوينا صفحة من حياتنا، ولكننا لم نسجّل فيها كلمة شرف ولا جملة فخر. ان الأمة المستعدة للحياة هي التي تكتب تاريخها بيدها كلمة كلمة وسطرًا سطرًا وصحيفة صحيفة، من مقدمته إلى خاتمته، كما كتب أجدادنا العرب وأسلافنا المسلمون.
ان التاريخ شهيد فإما لنا وإما علينا، ومن المحزن أنه شهيد علينا بالتخاذل والتفكك والركون إلى لغو القول وصغائر العمل وهو لا يسجّل إلا جلائل الأعمال.
هذا بالنسبة إلى أوطاننا الخاصة، أما وطننا العام فهو كلّ والكل بأجزائه، وهذه الأجزاء كلها جمعتها الآلام، فجمعتها الآمال، ويسرّنا أن هذه الآمال قويت في النفوس وتجاوزت الخاصة إلى الجماهير الشعبية وهي مناط الرجاء، فإذا عمّ هذا وتغلغل وصحبه من الأعمال ما يقوّيه تحققت الأماني، أما الآمال من غير أعمال فإن الأعوام تمرّ عليها وهي مُعرضة، وكما مرّ علينا هذا العام ولم نسطر في صحائفه سطرًا، ولم نسجّل في أيامه عملًا، يمر ثان(4/376)
وثالث ورابع، ولا يقف لنا واحد منها في محطة لعرض ولا لطلب، أقولها كلمة صريحة أحكمتها التجربة والاختبار: إن آمال العرب خاصة والمسلمين عامة كانت وما زالت معلّقة بمصر، متّجهة إلى مصر، يقلّدونها الزعامة ويبايعونها بالإمامة، وهم يعتقدون بحق أنها أهل لقيادة هذه المجموعة وجمع شتاتها. وأنا منزعج من هذا التفاوت بين أجزاء العروبة في الثقافة والقوة والغنى النسبي، لأنه يصير بقية الأجزاء الضعيفة كَلًّا على الجزء القوي، فإذا أراد العرب أن يسعدوا فليقوِّ كل شعب منهم نفسه بنفسه، ليصبح في يوم قريب نافعًا منتفعًا، معينًا معانًا، آخذًا معطيًا، وبهذا نخرج من مرحلة الإعانة والاستعانة إلى ثمرتهما وهي التعاون، وحينئذٍ نحمل التاريخ على التسجيل والإعجاب والأعوام على الائتمار، أما الآن فليس لنا على الأيام نهي ولا أمر، وليس لنا في التاريخ خل ولا خمر.
يعلم الله أني غير متشائم، ولكن هذا بعض رأيي.(4/377)
الجزائر وطن *
هذا الاسم أصبح علمًا تاريخيًا وجغرافيًا على هذه القطعة الثمينة الواسعة من شمال إفريقيا، مشخصًا لها تشخيصًا واقعيًا لا ينصرف الذهن إلى غيرها عند إطلاق الاسم ولا يتردد سامع في مسماه.
وهذه القطعة ذات خصائص طبيعية وخصائص مكتسبة، اجتمعت كلها في نقطة واحدة تصدق رواد الحق وأنصار الحقائق، وتكذب المبطلين من أصحاب الفكر الزائغ والرأي الضال والهوى الأعمى.
هذه النقطة التي تعرب عن نفسها وتسفه كل من يريد تغطيتها هي أن الجزائر وطن بربري قبل الإسلام يضم جماهر القبائل البربرية وأصولها الأولى، ووطن عربي إسلامي منذ دخله الإسلام يصحب ترجمانه الأصيل وهو اللسان العربي، فمنذ ثلاثة عشر قرنًا انتقل هذا الوطن من صبغة إلى صبغة، من صبغة جنسية ليس معها ما يعصمها من الألوان الروحية إلى صبغة جنسية معها ما يحميها من الانحلال والتقلب وهي العروبة المعتصمة بالإسلام، وليس لها في النظر التاريخي الصحيح إلّا هذان الطوران وهاتان الصبغتان، ومن السفه لو ادعى الرومان الذين ملكوها قرونًا أنها صارت بذلك رومانية إلا بضرب من التوسع في التعبير والتساهل في الإطلاق الاصطلاحي، وقد لبثوا فيها قرونًا ثم خرجوا منها مدحورين لأنها ليست رومانية بالطبع، ولو كانت كذلك لما صحّ أن يقال إنهم خرجوا منها إلا إذا صحّ أن الإنسان يخرج من جلده، ومن أسفه السفه دعوى مجانين السياسة من الفرنسيين أنها قطعة من فرنسا. واذا حكم الواقع بأن دعوى الرومان سفيهة ودعوى الفرنسيين مجنونة، حكم بما هو فوق السفه والجنون على فكرة ثالثة خاطئة كاذبة راجت في السنين الأخيرة على ألسنة
__________
* كلمة وُجدت في أوراق الإمام، ولا نعلم إن كانت نشرت أم لم تنشر.(4/378)
قوم يحاولون أن يغيّروا أوضاع الله وأوضاع خلقه بكلام يقولونه. هذه الفكرة هي أن الجزائر ليست وطنًا موجودًا، وإنما هي وطن يتكوّن (1) ... كأنهم يفسرون الأوطان القائمة على خصائصها الطبيعية ومدلولاتها العرقية بالمعاني الجيولوجية، فهي تتكون على نحو مما تتكون المعادن في مئات السنين أو في آلافها، ولو صحّ رأيهم هذا لما صحّ أن يوجد وطن على ظهر الأرض، وليت شعري ماذا تكون الجزائر إن لم تكن وطنًا. وماذا تراهم يقدرون من الزمن لتمام تكوينه بعد أن لم تكف لتكوينه ثلاثة عشر قرنا في نظرهم؟
إن هؤلاء القوم دلّوا بكلمتهم هذه على حقيقتهم الكاملة، وهي أنهم يكفرون بالحقائق والسنن وأنهم لو انبسطت أيديهم في الكون لمسخوا محسوساته كما مسخت حقائقه في عقولهم. إن معنى قولهم أن الجزائر وطن يتكون وليس وطنًا سويًا أنه لا وطن في أذهانهم، ولكنهم خافوا الجبه بالتكذيب فنزلوا درجة وأبقوا للوطن شيئًا من معناه تعمية وسترًا على شيء في أذهانِهِم، ومن عاش خمسين سنة آتية وسألهم هل تم التكوين؟ يجيبونه بأنه في طور التكوين ما دام لم ينته إلى معنى الذي يريدونه لكلمة وطن.
__________
1) صاحب هذه الفكرة هو موريس طوريز، الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي في الثلاثينيات والأربعينيات، وقد أخذ عنه هذه النظرية الشيوعيون الجزائريون.(4/379)
الإستعمار *
كلمة "الاستعمار" إحدى الكلمات المظلومة باستعمالها في ضدّ معناها الوضعي، مع خُلُوِّها من النكتة التي يلمحها العرب في مثل هذا النوع من الاستعمال، حين سموا البيداء المهلكة مفازة، واللديغ سليمًا، والغادية قافلة، والنكتة الغالبة في تسمية الشيء باسم ضده هي التفاؤل أو التفريج أو حسن الأدب في الخطاب أو عدم صكّ الأسماع بسوء القول.
وكلمة "الاستعمار" آتية من "عمر" ضدّ "خرب" مع أن التفسير العملي لهذه الكلمة هو الخراب والتخريب، وليس فيها شيء من معنى الإعمار والتعمير، ولا أدري أي صارف صرف الجيل الذي مضى قبلنا من الكتّاب والمترجمين عن ترجمة هذه الكلمة من لغاتها الأصلية بمعناها الحقيقي وهو التخريب والظلم والتسلط والقهر، إذا لم تكن الغفلة والتقليد للغالب والدهشة من أعماله واستعظامها في النفوس الدليلة، فإذا كان المستعمر هو الذي حملهم على هذا الاستعمال وهذه التسمية- وهوَّنَها عليهم- بالترغيب أو الترهيب أو الاستغفال، فهذا أكبر قادح في موازينهم العقلية والفكرية، فإن الاستهانة بالألفاظ تفضي إلى الاستهانة بالمعاني، والأسماء الجميلة لا تستر المعميات القبيحة إلّا عند الصبيان وأشباه الصبيان من أمثالنا وأمثال الجيل السابق من أسلافنا الذين أقرّوا هذا الاستعمال.
ولسنا نعني من الاستعمار مظاهره المادية التي تقع عليها العين والتي ليس وراءها قلب يقظ، فإن هذه المظاهر التي تراها الأعين قد تشهد بصحّة الاستعمال من غرس الجنات وإجراء المياه إليها وتمهيد الطرق وعقد الجسور، فإنّ العين لو نطقتْ لقالت هذا تعمير، ولكننا نعني الاستعمار بمعناه التام من أسبابه إلى أعقابه، ومن أسراره المطوية إلى آثاره المرئية.
...
__________
* كلمة عن معنى "الاستعمار" وُجدت في أوراق الشيخ.(4/380)
إلى الأستاذ عبد العزيز الميمني *
أنا أحمل لأخي الفاضل العلّامة الشيخ عبد العزيز الميمني من الإكبار لقدره بعد الاجتماع به أضعاف ما كنتُ أحمل من الشوق إليه قبل رؤيته، ذلك أنني كنت أعرف من آثاره المكتوبة، وآثار المرء هي بعضه لا كلّه، هي أجزاء من نفسه تمليها قريحة ويعبّر عنها لسان ويسطّرها قلم، أما الآن فقد عرفت الميمني كلّه، عرفت منه ما وراء القريحة واللسان والقلم، عرفته وعرفني فكانت معرفته بي مكمّلة لمعرفتي به، لأن مناقلة الحديث ومنازعة الرأي وإدارة البحث على فكرة تجلي الجوانب النفسية التي لا يصوّرها القلم ولا تسجّلها الصحيفة ولا يقعقع بها البريد، وتفضي إلى اشتراكية روحية جميلة أين منها هذه الاشتراكية المادية التي تلوكها الألسنة لفظًا وترشح بها الأقلام كتابةً.
ما زلتُ منذ قرأت آثار أخي الميمني واطلعت على أعماله الجليلة لتاريخنا العلمي، أشهد أنه منقطع النظير في سعة الاطلاع على تراثنا الذي تشتت ومزقته الأحداث، فلم تبق منه إلّا صبابة، ولم يبق من العارفين بها إلا عصابة، ولم يبق من وسائل إحيائها وربط أجزائها إلّا ما يكثر فيه الخطأ وتقل الإصابة.
وأخي الميمني- ولا أحابيه- يرجع مع سعة الاطلاع إلى ذهن مشرق، ورأي في تصحيح النصوص سديد، وحافظة هي رأس المال لمن يتعاطى هذه الصناعة، وحظ من العرب مفرداتها وأساليبها يندر أن يتاح لمن نشأ مثل نشأته، فهذه هي الأصول التي بوأته علمائنا المنزلة التي اعترت بها كل منصف، والمنصفون هم الناس وإن قلّوا. وأصل الأصول في نفس أخينا الميمني إخلاص في خدمة العلم عامة، وافتنان بلغ حدّ التتيم بما أثل علماء الإسلام للحضارة الانسانية، وغيرة بلغت أقصى حدّها على بقايا هذا التراث، أن
__________
* وجدنا هذه الكلمة في أوراق الإمام، ولا ندري هل أرسلت إلى الأستاذ الميمني (رحمهما الله).(4/381)
يضيعها الورّاث، كما أضاعت ما قبلها الأحداث، ثم حرص شديد- ولا حرص الفقير الحانق، في المحل الخانق، على الفلس والدانق- على وصل ما انقطع وربط ما انتشر من هذا التراث النفيس الذي كان أهله عونًا مع الزمان عليه، فكان من آثار هذه الخلال فيه أن رأيناه يطوف الآفاق وينقّب المكاتب للحصول على كتاب عربي غفل الزمان عن نسخة يتيمة منه ليولد منها ثانية يردّ بها غربة الكتاب إلى تأهيل وغرابته إلى تأنيس ولبسه إلى توضيح، وله في هذا الباب المناقب الكبر التي عجز عن تحصيلها غيره، فهو يشبه محمد بن اسماعيل البخاري حين تفرقت الأحاديث في الأمصار فرحل إليها كلها، ليجمع منها ما شت، ويصل من حبالها ما انبت.
وهذا الفن الذي أصبح أخونا الميمني إمامًا فيه وعلَمًا من أعلامه فن قديم، وضع أصوله الأولى أسلافنا فيما كانوا يحرصون عليه من معارضة نسخهم من الكتاب بنسخته الأصلية، وبما كانوا يلتزمونه من كتابة الساعات وإن كثرت على نسخهم مع شهادة مؤلف الكتاب بخطه أو بخط مَن يرويه عنه مباشرة، ومن دقّتهم في باب المعارضة أنهم يكتبون عن الكلمة التي انتهى بها المجلس هذه الجملة (بلغ مقابلة أو سماعًا)، وكانوا لا يجيزون الأخذ من كتاب ليس عليه هذه الشهادات، كما كانوا يرجعون في الخلاف إلى الأصول القديمة، وحكاية المعرّي مع شيوخ بغداد معروفة، حينما روى كلمة يوم بالياء وعارضوه بروايتها بالباء واستظهروا بنسخ جديدة من كتاب للسكيت أو لغيره، فقال لهم هذه نسخ جديدة رواها أشياخكم على الغلط فارجعوا بنا إلى النسخ القديمة بدار العلم فوجدوها كما قال. وهذا أصل له فروع منها عنايتهم بتصحيح التصحيف وتأليفهم المؤلّفات الخاصة فيه، ولو أن باحثًا تتبّع هذه الأصول واستقصاها في كتاب لكان ذلك إسكاتًا لهؤلاء المتبجّحين من الغربيين الذين يزعمون أن هذا الفن الذي يطلقون عليه (فن خدمة النصوص) هو من مبتكراتهم ومن خصائص حضارتهم العلمية الحاضرة، وأنا فما انطوت نفسي على ثقة بهؤلاء المستشرقين حين يتكلمون عن كتبنا ولغتنا وآثار أسلافنا، ولعلنا نتفق جميعًا على عدم الثقة بهم حين يحكمون آراءهم في ديننا وتاريخنا وآدابنا وشؤوننا الاجتماعية، وإن كنت لا أنكر أن لبعضهم جهودًا مشكورة في إحياء بعض كتبنا، وهذا أيضًا ليس له كبير شأن، فإن القوم متعاونون كل شيء ميسر لهم، وكل شيء يطلبونه من المراجع يجدونه منهم على طرف الثمام، ومن ورائهم جمعيات ومجامع تمدّ وتسعف، ولو كنا نجد عشر العون الذي يجدونه وعشر التسهيلات التي تهيّأ لهم من المال والمكاتب الزاخرة الميسرة الأسباب، لصنعنا العجائب في هذا الباب.
ومن التحذلق الغالب على معظمهم أنهم يعدون من أمانة النقل إبقاء الخطأ الصريح على حاله، فكلمة "غير" مثلًا لا تحتمل غير معناها في مقامات الاستثناء مثل استعمالها في جملة:(4/382)
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}، وقد يسهو ناسخ فيترك الغين بلا نقط، فيجدها جرمقاني من هؤلاء الجرامقة فيكتب في التعليق عليها (في نسخة أخرى: عير)، ويعدّ هذا من الفنّ، ولا يكون هذا من الفن إلّا إذا كان الخطأ من الفن وكان الجهل من الفن، وما أُتي هؤلاء إلا من سطحيتهم في العربية وقلّة محصولهم منها، أما العربي فلا يحكم على كلمة (عير) في مثالنا إلّا أنها خطأ يصحّح، لا احتمال يضعف أو يرجح.
وعلى ذكر حظ هؤلاء الجرامقة من العربية أقول إنني تقصّيت أخبار الكثير من مشهوريهم فلم أجد واحدًا منهم برع في العربية كما يبرع العربي في لغات الغرب نطقًا وكتابة، بل جميعهم لُكْنُ الألسنة والأقلام، وإنما ينْبُه شأنهم عند أقوامهم وحكوماتهم لأنّ لهم فيهم مآرب أخرى، ولا أعتقد أن مستشرقًا غربيًا ينبغ في العربية ولو ركب الصعب، وشرب في القعب، وادّعى الولاء في بني كعب.
وقد وُجد في عصرنا هذا جماعةٌ من أبناء العرب والإسلام اشتغلوا بهذا الفن وكانت لهم فيه مقامات محمودة، ونشروا كتبًا لأسلافنا على طريقة العرض والمقابلة بين النسخ والمراجع، فاستولى بعضهم على الأمد الأقصى من الدقّة والضبط، ولكن هذه الطبقة قليلة العدد، وسدّد بعضهم في الإحسان وقارب، وتطفلتْ جماعات على هذه المائدة فلم يأتوا بسديد ولا بمفيد، ولم يزيدوا على أن زاحموا التجّار الجاهلين، ونراهم يقلّدون سخفاء المستشرقين في طريقة (غير وعير)، ويسترون نقصهم بهذا التقليد الذي لا يصلح مواتًا من الكتب، ولا يحصي أمواتًا من المؤلفين. ونشر الكتب كنشر الأموات، يجب أن يكون إشاعة للحياة في جميع أجزاء الكتاب، ومن المحزن أن الظروف وفساد الأخلاق ساعدت على ظهور طائفة جمعتْ ضيقَ الذرع إلى جفاف الضرع، ولم يكتف أحدهم بطبع الكتاب حتى يعلق عليه افتتانًا بهذا اللقب الجديد الذي يفيده قولهم: (نشره فلان وعلّق حواشيه)، وقرأنا فوجدنا التعليق، أصعب على القارئ المغرور من التحليق، ووجدناهم في تلك الحواشي، أشبه بحالة الطواشي، ذكر ولا آلة، وعائل وهم عالة، ومن عجيب أمر بعضهم أنهم يبنون آراءهم في الحق على أسس من الباطل، ويبنون استنتاجات سخيفة على تناسب الألفاظ وتجانسها في الحروف والأوزان، ولو أن نسّابة زعم أن الأقباط من الأسباط لِتَشابُهِ اللفظين، وان ذارعين من نصر بن قعين لِتجانس الفقرتين، لما كان أسخف مما تبض به هذه الأذهان العقيمة القاحلة، ومن غريب أمر بعضهم أنهم يخوضون في تعليقاتهم في الأنساب- أنساب الأشخاص وأنساب الآراء وأنساب الأبيات- فيقعون في تخليط يلحق البيتَ بغير قائله، والابن بغير ناجله، كل ذلك لأنهم أتوا هذا الأمر من غير استعداد له ولا استكمال لأدواته، ومن أيسر أدواته معرفة المظان والصبر على مكاره التنقيب والبحث عنها، ونراهم حين يرمون بنسخ الكتاب الذي ينشرونه إلى السوق يروّجون له بالدعاية والإعلان، وأنه بتحقيق فلان،(4/383)
فيكون حظ الناشر من الدعاية أكبر من حظ المنشور، والبضاعة الثمينة لا تباع بالمناداة، وسيان عندي في السخافة والضعة مَن نشر من هؤلاء كتابًا وسمّى عمله فيه تحقيقًا ومَن طبع كتابًا من كتب المعرّي وكتب على ظهره (حقوق الطبع محفوظة لذرية المؤلف من صُلبه).
...
وأخي الأستاذ الميمني من أعرف الناس بذلك النوع الذي كان يجري بين العلماء والأدباء من أسلافنا وخصوصًا بالأندلس من تردّد الرسائل بينهم في موضوع علمي أو أدبي، ويطلقون عليه اسم (المراجعة)، وقد شاع هذا النوع واختص بمبادئ وخواتيم وملامح كادت تفرده عن بقية الأنواع كالأخوانيات وغيرها، ومن أمثلته بين علماء الشرق ما وقع من مراجعات بين المعرّي وداعي الدعاة، ورسالتي هذه إلى أخي الأستاذ هي احتذاء لذلك النوع وإحياء له وفتح لبابه، فليحملها على محمله، وليسمها باسمه، وليضع اللبنة الثانية في بنائه، ويقيني أن لأخي الأستاذ من سعة الصدر ما ينقل هذه المراجعة من باب التنبيه إلى باب التنويه، وأن له من حرية الرأي ما جعله يقول كلمة الحق في سيبويه وأنصاره المؤولين لخطأه في تلفيق بيت "فلسنا بالجبال ولا الحديدا"، فأتى بها شاهدًا مجروح الشهادة، وكلمة الحق في العلم ككلمة الحق في الدين، كلتاهما سابغة الأثواب، مرجوة الثواب.
...
جرى على لساني في أول اجتماع سعدتُ فيه بلقائكم إنشاد بيت مشهور لسحيم عبد بني الحسحاس وهو:
أشْعارُ عَبْدِ بني الحَسْحَاسِ قُمْنَ لَهُ … يومَ الفَخار مقام الأصْل والوَرقِ
ورويتُ (الورَق) بفتح الراء، لا لأنني أحفظه هكذا بل لأنني أفهمه هكذا، وعادتي أنني أحكّم الفهم في الحفظ لا العكس، ولست أنكر كسر الراء ولا أجهل معناه، وقد سمعتُ مئات من الأدباء ينشدونه بالكسر وكنت أناقشهم فيه برأي الذي سأبيّنه في هذه الكلمة فيرجعون إلى الحق.
بادرتم أيها الأخ الفاضل إلى رواية البيت بكسر الراء، وفسرتم الورِق بمعناه المعروف وهو الفضة وزدتم عليه الرقة، وكأنكم توهمتم أنني لا أعرف الورِق بالكسر ولا أعرف معناه، فقرأت عليكم آية الكهف دفعًا لذلك التوهم ولكنكم لم تسمعوني، كما أنشدتكم قسمًا من الرجز شاهدًا على المعنى الذي قصدته، وهو قول الراجز: اغفر خطاياي وثمر ورَقي.(4/384)
وهو يعني المال بجميع أنواعه، وراجعتكم في ذلك المجلس بأن الورَق وهو المال عامة أنسب بقصد الشاعر من الورِق الذي هو مال خاص، ولكن حرصكم على رواية الكسر أضاع صدى تلك المراجعة، ثم سافرتُ إلى دواخل باكستان ونسيت هذه القضية، ولما رجعت من جولتي وشرفتموني بالزيارة للمرة الثالثة ذكرتم لي آية الكهف على أنكم تذكرتموها بعد انفضاض المجلس الأول، فتنبه في خاطري أمران، الأول توهمكم أنني لا أعرت الورق بالكسر ومعناه، ولقد عرفتُ هذه الكلمة ومعناها وأنا ابن سبع سنين حينما مررت بموضعها في سورة الكهف في طريقي إلى البقرة، ولقد حفظت القرآن وأنا ابن تسع وكان عمّي رحمه الله يفسّر لي كل كلمة من غريب القرآن أثناء الحفظ. والثاني أنكم أردتم بذكرآية الكهف الاستشهاد لقصد سحيم كأنّ وجود لفظ الورق في القرآن دليل على أنه هو المقصود لسحيم، وهذا لا يستقيم، ولو ذُكرتْ لفظة الورق في القرآن أكثر مما ذكرت كلمة الصبر لم تكن دليلًا على ذلك، وإنما يكون الذكر في القرآن دليلًا على أن اللفظة عربية، أما استعمالات البلغاء فهي راجعة إلى مقاصدهم، وليس نزاعنا في وجود لفظ الورق في لغة العرب ولا في معناه عندهم وهو الفضة، وإنما نزاعنا في شيء آخر وهو حمل كلام سحيم على هذا المحمل، وهل هذا المحمل يشبه مقاصد البلغاء في مقامات الفخر ومقامات ذوي الهمم من غيرهم.
لهذا أردتُ أن أراجع أخي الفاضل بهذه الرسالة متطارحًا على فضله، ناشرًا للمعنى الذي أراه أرجح ولدليلي على الأرجحية، وقد أملى هذه الكلمات خاطر كليل، يجول في جسم عليل، ورشح بها فكر حائر، بين باكستان والجزائر، والفضل لسيدي الأخ في إثارتها في نفسي، فقد بَعُد عهدي بتذكر الأسماء والأبيات، فضلًا عن المباحث والموضوعات، فإنْ حرّكتْ هذه الكلمة في نفس الأستاذ كامنًا أو أثارت كمينًا، فكتب من معلوماته الواسعة ما يوجه الوجيه عنده كنت سعيدًا مرّتين: مرّة بما كتبت ومرّة بما كتب، ولعلّ ذلك يحفزه ويحفزني إلى مراجعات أخرى في موضوعات أوسع.
...
يا سيدي الفاضل: إن التصميم على رواية في الشعر يحتمل المعنى غيرها لا يُقْبَلُ إلّا من رجل يستطيع أن يأتي بإسناد متصل بالثقات إلى الشاعر، فيقول أنشدني فلان قال أنشدنى فلان وهكذا صاعدًا إلى أن يقول الأخير أنشدني عبد بني الحسحاس لنفسه قوله:
أشْعارُ عَبْدِ بني الحَسْحَاسِ قُمْنَ لَهُ … يومَ الفَخار مقام الأصْل والوَرِقِ(4/385)
هكذا بكسر الراء، وينقلها لأهل عصره بشهادة السماع المتصل المنصوص فيه على كسر الراء، فيصبحون كلّهم وكأنّهم سمعوها من فم سحيم، كما نرى في أسانيد الحديث واللغة والشعر والخبر عند القدماء، فكانوا يحافظون في الرواية حتى على الخطأ ثم يصحّحونه، كما رووا عن ابن دريد إنشاده لبيت:
أنكحها فقدها الأراقم مِن جنـ … ـبِ وكان الحباء من أدمِ
بالخاء المعجمة، ثم صحّحوا له هذا الخطأ، وانه الحباء بالحاء المهملة. وأعتقد أن أخي الأستاذ يوافقني على أن هذه السلسلة انقطعت من قرون ولا طمع لنا في معرفة ما نطق به سحيم في بيته: هل هو فتح الراء أو كسرها؟ فلم يبق لنا- بعد فقدان الرواية- في ترجيح أحد المعنيين المحتملين إلّا تحكيم قوانين البلاغة وأساليبها، ومقاصد البلغاء ومنازلهم في الفصاحة والبلاغة، فهلم نتبيّن منزلة سحيم فيهما من غير التفات إلى الموضع الذي وضعه علماء الطبقات فيه، ثم هلم نوازن بين الكلمتين المتماثلتين، وأيتهما أقرب إلى قصد الشاعر، وأيتهما تؤدّي غرضه كاملًا، وأيتهما يتساوق معناها مع الفخر، وأيتهما أشبه بمنزله في الفصاحة والبلاغة، فإذا اتفقنا على أن سحيمًا لا يزل عن درجة البلاغة ولا يدفع عن منزلة البلغاء في عصره، فالورَق ألْيقُ بقصده وأشبه بمعرِض كلامه وأنسب لمنزلته وأكمل أداء لغرضه، لأن الورِق بالكسر مال خاص وليس بالثمين ولا مما يتسلح به المتفاخرون في مقامات الفخر، والورَق بالفتح هو المال الشامل للفضة وغيرها، وهو يريد أن أشعاره تقوم له مقام الأصل الذي فاته، ومقام المال الذي حُرمه، فإذا فاخره الناس بالأصول الجليلة والأموال المتنوعة فاخرهم بشعره ففخرهم، لا مقام مال مخصوص محتقر، لا يفاخر به الناس، ولو نزلتْ به همته دون بلاغته لذكر الذهب لأنه أغلى وأثمن عند جميع الناس، ولم يعجزه أن يأتي في روي البيت الثاني بالباء، والشعراء بطبيعة الشعر فيهم يؤثرون المبالغة والتسامي في مقامات الفخر لا التنزل والإسفاف، فكيف نرضى لسحيم وهو مَن هو في البلاغة وعلو الهمة أن يحبس قصده وغرضه عند هذا المعنى القاصر المنحط، وأين الفضّة من الذهب؟ وأين هما من حمر النعم؟ وأين هما من النجائب والجنائب؟ إنكم يا سيدي الفاضل بتصميمكم على كسر الراء وضعتم صاحبكم سحيمًا- الذي خدمتموه بطبع ديوانه- في منزلة من سقوط الهمة لا يحسد عليها، ورجعتم به إلى طينته التي يريد أن ينسلخ منها، وصورتموه للناس رجلًا لا يعرف من المال غير أحط أنواعه وهو الفضة، ولا تسمو همته حتى في التخيلات الشعرية إلى أكثر من الفضّة التي كان يباع بها ويشترى، فهو عبد في الخيال كما هو عبد في الحقيقة، وأية قيمة لشعر قوّمه صاحبه بالفضة وقنع بهذه القيمة حتى في أوسع مجالات الفخر؟ إذن فهو شعرٌ عبدٌ لأنه شعرُ عبدٍ، فإذا أتيتم له هذا القصد فإن النقاد يحملونه على المبالغة أيضًا كما هو طبع الشعر والشعراء، وانظر- يا رعاك الله- ماذا(4/386)
يبقى من الوزن لهذه القيمة إذا جردت من المبالغة الشعرية؟ لا شك أنه لم يبق إلّا أن يقوم بنسال الشعر وفتات البعر، وإذن يصدق فيه قول زميل له حرّ: وشرّ الشعر ما قال العبيد، وقد انتقدوا شاعرًا أندلسيًا ضاق عطنه حتى في باب الأماني التي هي أوسع مجال تسرح فيه أخيلة البائسين والكسالى فقال أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال، فقصر أمنيته على ألف مثقال من أمير عُرف عنه أنه يهب آلاف المثاقيل.
وليتكم يا سيدي صيرتم كسر الراء معنى يحتمله اللفظ أو أسبغتم عليه وصف الأرجحية، كل ذلك كان يُقبل منكم ويناسب فضلكم وتحريكم المعروف، وفي وجوه الاحتمال منادح ومخارج، ولكنكم صممتم على الكسر وعلى الفضّة، كأنه المعنى الذي لا يحتمل اللفظ غيره، حتى بعد أن أنشدتكم الشاهد على الورَق بمعنى المال، وهو: اغفر خطاياي وثمر ورقي.
فإذا كان لأخي الفاضل مستند في تصميمه فلا جائز أن يكون رواية مسلسلة إلى سحيم تثبت أنه كان ينطق هذا اللفظ بالخصوص بالكسر، وإنما يجوز أن يكون مستنده ضبطًا لقلم بعض الثقات أو بقول بعضهم (بكسر الراء) كما هو معتاد، وهذا كله لا حجّة فيه ما دامت البلاغة تنافيه، وسمو المقصد يجافيه، ولو أني سمعتُ بأذني سحيمًا ينشد بيته ويكسر الراء لما حكمت عليه بالخطأ ولكني أحكم عليه بالإسفاف وسقوط الهمة أوّلًا وبانحطاط ذوقه البياني ثانيًا، ولو أن بليغًا من بلغاء العرب سمع سحيمًا ينشد هذه اللفظة بالكسر وهو لا يعرفه، لَحكم عليه بأنه عبد النفس إن لم يكن عبد البدن.
هذا وقد تناولتُ- عند وصولي في الكتابة إلى هذا المحل- نسخة ديوان سحيم التي تفضلتم بإهدائها إليّ وكشفت عن محل البيتين فوجدت الشارح يقول: الورِق الدراهم والورِق المال، ووجدتُ الناسخ ضبط الكلمتين بكسر الراء ضبط قلم، فلاح لي أمران: الأول أن ضبط الكلمة الثانية بالكسر غير صحيح، وأن الشارح أراد أن الورِق بالكسر الدراهم والورَق بالفتح المال، لأن هذا هو مشهور اللغة، ولو كان يريد أنهما من المشترك اللفظي الذي يدلّ بصورة واحدة على معنيين لقال: والورِق المال أيضًا، فزاد كلمة (أيضًا) كما هو المعتاد في الأساليب القاموسية عند ذكرهم لمعاني المشترك اللفظي. والأمر الثاني أن هذه العبارة ذكرتني بأن استعمال الورِق بالكسر اسمًا للمال منقول وإنْ لم يكن مشهورًا، وذكرت ذكرًا غامضًا أن هذا مرّ بي ولكني نسيته لطول العهد وليس معي ما أراجعه لأنني على جناح سفر، فإذا ثبت هذا اغتفر تصميمكم على الكسر ولم يغتفر تصميمكم على تفسيره بالفضّة. وعلى هذا الاحتمال- إن صحّ- فلنقرأ الورِق في بيت سحيم بالكسر ولنفسره بالمال عامة، لأن حرصنا ليس على اللفظ وإنما هو على المعنى الذي يشرّف سحيمًا ويبيّض وجهه.(4/387)
وليسمح لي أخي الأستاذ أن أسلك مسلكًا آخر في الاحتجاج لسحيم وأنه لم يقصد إلا الورَق بالفتح لأنه يشمل جميع المتمولات، ولأنه سالم من الاشتراك اللفظي الذي هو عرضة للاحتمالات، وذلك أنني لا أشك أن سحيمًا سمع القرآن إنْ لم يكن حفظه أو حفظ شيئًا منه، والقرآن هو المثل الأعلى للبلاغة، كما أنه الحجّة في تقرير المقاصد الإنسانية العالية، وإذا تأملنا القرآن واستعرضنا نظمه الكريم وجدناه يذكر الذهب والفضّة في معارض خاصة ويذكر المال أو الأموال في معارض أخرى تخالفها ... يذكر الذهب والفضّة غالبًا في مقامين من مقام الافتتان بالزائف وجزائه في الآخرة، وفي مقام الترغيب فى الجنّة بذكر أنواع النعيم الباقي الذي ألف الناس نوعه في الحياة الدنيا، فيذكر الذهب والفضّة فيما زيّن حبه من متاع الدنيا {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}، {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ}، {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ}، ويذكرهما في التذكير بسوء عقبى الافتتان بهما وكنزهما وعدم تصريفهما في النفع والخير {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}، كما يذكرهما في أصناف النعيم الأخروي الباقي ترغيبًا للناس في العمل الذي يفضي بهم إلى الجنّة كما هي سنّة القرآن في أسلوب الترغيب بالميول النفسية، ووصف نعيم الجنّة الباقي بما يماثله من نعيم الدنيا الفانية {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ}، {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ}، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}، {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}.
أما المال والأموال فإنما يذكرهما في المعارض الفطرية الثابتة والسنن النفسية الراسخة، مثل {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، من آيات كثيرة كلها تدخل في باب تقرير السنن الكونية وآيات الله في الأنفس والآفاق.
وانظر- أعزك الله- لو قال قائل في غير القرآن: الورق والبنون زينة الحياة الدنيا، أكان كلامه يعدّ إلّا من أسخف السخف؟ أو قال: إنما ورقكم وأولادكم فتنة، أكان هذا الكلام يحسب إلّا من حكمة الزط في غرائز البط؟ أو قال: جاهدوا في سبيل الله بورقكم وأنفسكم، أكان ينظم إلّا في عداد القَعَدة المثبطين عن الجهاد؟ ومن بلاغة القرآن المعجزة أن يستعمل المال في مقام والأموال في مقام أعلى منه كالجهاد، لأنّ الجمع فيه قصد الشمول من المال الذي هو اسم جنس، واسم الجنس شامل كاسم الجمع ولكن الجمع أشمل منهما، ولما كان الجهاد يحتاج إلى النبال والقسي، والحبال والعصيّ، والرحال والرواحل، والأقتاب والأحلاس، والوص، والزاد والعلوفة، وكلها متمولات، حَسُنَ في قانون البلاغة وأسلوب الترغيب أن يعبر في آيات الجهاد بالأموال.(4/388)
وصاحبنا سحيم، الشاعر الرقيق، الذي أدرك النبوة وأظلته دولة الخلفاء الراشدين، لا يحمل كلامه إلا على الاعتبارات الفطرية التي قررها كتاب الفطرة، وما سحيم إلّا من ناشئة الصحراء العربية، وما مقاصده إلّا من نوع مقاصد العرب، وما أخيلته وأمانيه إلّا من نوع أخيلة شعراء العرب وأمانيهم، يرمون فيها المرامي القصية وبركبون فيها من المبالغة والإغراق ما يخرجهم عن أفق الحقائق، وحسبك شهادة الله لهم بأنهم في كل واد يهيمون.
وقولهم "المرء ابن بلدته لا ابن جلدته" كلمة أصيلة في الحكمة الاجتماعية، فإن المرء إذا نشأ في قوم لا يجمعهم به عرق نسب، ينشأ كواحد منهم، ولو باعدت بينهم وبينه الخصائص الجنسية والدموية، ومن أبين ما يجتمع معهم فيه اللغة: ألفاظها ومعانيها وأساليبها وأسرارها، وسحيم لم يخرج عن هذه القاعدة، فهو مع سواد الجلدة وجامعة النسب، عربي اللغة والأدب، أما الشعر فهو قابلية خاصة بحيث لو تفتّق لسانه على لغة قومه لكان شاعرًا في لغتهم، على نسبة تلك اللغة في الضيق والاتساع.
ويؤيّد ما حملنا عليه كلام صاحبنا سحيم- وهو الأولى بل المتعين- أن العرب ما كانت تعد الفضّة بل ولا الذهب مالًا يزين صاحبه ولا متاعًا مما يفتخر به جامعه، وإنما يعدونهما قيمًا للأشياء وكما هو الاعتبار الصحيح الذي جاء به الإسلام بعد ذلك، فهما وسيلة لا مقصد، وهما معبر لا مستقر، وإنما المال عندهم الثاغية والراغية وضربهم المثل بحمر النعم معروف، وإضافتهم ربيعة إلى الفرس مشهور، ووصفهم مضر بالحمراء معلوم، وهي ألقاب تمدّح وإعظام، ومن كلام رجل منهم- لم أذكر اسمه الآن- وقد سُئل عن أفضل المال فقال: مهرة مأمورة وسكة مأبورة، قيل ثم ماذا؟ قال: عين فوارة في أرض خوارة، قيل فأين أنت من الذهب والفضّة؟ قال: حجران تصطكان، إنْ أنفقتهما فقدا وإنْ تركتهما لم تزيدا.
هذه- أبقى الله سيدي الأخ- بعض اعتبارات العرب للمال يجب أن يحمل كلام صاحبنا سحيم عليها، لأنه شاعر عربي ولشعراء العرب في التصور والتصوير موازين كموازين شعرهم تختل بحركة اختلاس، ويدركها الزحاف بحرف يزيد أو ينقص، وقد قرأ أخوكم هذا من صغره ما تفرق من شعر هذا العبد في الكتب، ووقف على شعره الفاحش في مجموعة من نوعه يملكها أحد الأصدقاء بالمغرب الأقصى، فوجدته حرّ الأخيلة عميقها، صادق التصورات، عربي النزعات، بدوي الخصائص الشعرية، جاريًا ملء عنانه في الميادين التي جرى فيها الشعراء، ومنها ميدان الفخر، فلذلك تراني لا أجيز لنفسي أن تحمل ألفاظه المحتملة إلّا على الأسمى من معانيها والأرفع من أغراضها، ومنها لفظ الورق.
ويا سيدي: إن في معاني الألفاظ العربية عمومًا وخصوصًا، وإن للخصوص مواضعه في التراكيب تبعًا للمقاصد، وللعموم مواضعه فيها كذلك، والمقاصد والأغراض هي المتحكمة(4/389)
في تتريل الألفاظ منازلها، فهل ترضى لصاحبك الذي أحييته أن تُميته فتجعل أشعاره البليغة قائمة مقام الفضّة لا الذهب ولا غيره من الأموال لا سيما مع وجود معنى للورق يفي بالغرض الأشرف، وتسمية العرب للمال بمعناه العام وَرَقًا تسمية عريقة النسب في البلاغة، قريعة لتسميتهم إياه بالريش، وقد استعاروا الاسم الأول من ورق الشجر لأنه يظلّل ويحمي ويثمر، كما استعاروا الاسم الثاني من ريش الطائر لأنه يكسو ويحمل ويعلو بصاحبه، ولكن الاسمين اشتهرا حتى استغنيا عن القرائن، وللعرب تخيلات صادقة دقيقة في معاني الألفاظ المشتقة والمنقولة تدلّ على سداد تصرفاتهم الذهنية.
...
ثم إن لكل زمن موازينه للأشياء واعتباراته إياها، وموازين الأزمنة هي قوانين التطور، ولا تفلت منها الطبقات العليا في المجتمعات البشرية كالشعراء والعلماء والملوك، ولا معنى للتطور إلا اختلاف الاعتبارات حتى يصبح القبيح حسنًا والحسن قبيحًا، ولهذا نرى أن معروف البداوة منكر في الحضارة وحسن الحضارة قبيح في البداوة، وإذا خرجنا من باب القبح والحسن والعرفان والنكر إلى باب السمات والألوان نجد القياس مطردًا، وكذلك يقال في أساليب الكلام من شعر وخطب وأحاديث عادية، فنجد النقاد يفرقون بين شعر البادية وشعر الحاضرة بسمات ثابتة يدركها كل دارس باحث، ولكل تطور أسباب طبيعية آتية من تحرك الاجتماع البشري وعدم استقراره على حال، وقد رأوا في شعر عدي بن زيد العبادي رقة ليست من سمات الشعر الجاهلي فحكموا بأن مأتى ذلك إنما هو لنشأته في ريف العراق، وغشيانه للحيرة وتردده على ملوكها، وصوغه الشعر فيهم، والحيرة هي حاضرة العرب في الجاهلية، ومن هنا كانت الفروق واضحة بين الشعر الجاهلي وبين شعر الخضرمة والإسلام، وبين هذه الأنواع كلها وما جاء بعدها في مراحل الحضارة الإسلامية.
فلننظر- على هداية قانون التطور وآثاره- إلى العصر الذي كان فيه سحيم وإلى مفهوم المال عندهم وإلى منزلة الفضّة من بين أنواع المال بينهم، نتبيّن أن الفضّة ليست بشيء في اعتبار ذلك العصر وعند أهله، وأن الفضّة لم تخطر على بال سحيم حينما قذف بيتيه في وجوه المفاخرين، وإذا كان أثر الشعر في نفس سامعه متصلًا بأثره في نفس قائله، فكيف يتصور أن يقوم شعره بشيء لا قيمة له في نفوس سامعيه ومفاخريه، أو له قيمة نازلة، والمعروف أن الشعراء ليس لهم باب يدخل عليهم منه المال إلّا جوائز وصلات الأمراء والرؤساء ثمنًا لما يمدحونهم به، والجوائز والصلات في ذلك العصر وبعده بقليل لم تكن بالفضّة ولا بالذهب، وإنما كانت في الأعم الأغلب بكرائم النعم والخلع والطرائف، لذلك لا نسمع في شعرهم إلّا ذكر الذود والعكره والهنيدة والجامل العكنان، وقد دامت هذه(4/390)
الحال إلى عهد الخلفاء الأُول من بني مروان، وحكاية جرير مع عبد الملك معروفة حينما مدحه بقصيدته الحائية وذكر فيها ابنته أم حزرة وقوله:
ثقي بالله ليس له شريك … ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال عبد الملك: وما يرضي أم حرزة؟ فقال كذا من الإبل، فأمر له بها.
وكما كانت الجوائز بهذا الصنف من المال كانت شرائع المكارم وشعائر المروءة تؤدى بها أيضا لأنها مال ذلك العصر، وإذن فسحيم كان في دولة الإنعام بالأنعام- وإنْ لم يكن مدّاحًا بحكم عبوديته- لا في دولة الصفراء والبيضاء، وكان من جيل لا يفهم من الصفراء والبيضاء إلا أنهما أداتان للمال وليستا المال نفسه، ناهيك بجيل يفرض أهل الرأي فيه لخليفتهم عمر نصف شاة في اليوم لا دنانير ودراهم، فكيف يخطر ببال شاعر عبد أن يفاخر الأحرار بشعره ويقومه بما عندهم من الفضّة، وهو يعرف أنها ليست من أموالهم ولا مما يفاخرون به، وإنما يفاخر المرء بما تجرى به المفاخرة عند أهل زمنه، وقد تطورت الحالة بعد سحيم بزمن وأصبح الممدوحون يجيزون مادحيهم بالذهب والفضّة لكثرتهما وبناء الحضارة المادية عليهما، فأصبحت نفوس الشعراء تتطلع إلى هذين الحجرين.
وأين زمن سحيم وجيل سحيم من الزمن الذي يقول أحد شعرائه لرئيس:
إني حلفت لئنْ لقيتك سالمًا … بِقُرى العراق وأنتَ ذُو وَفْرِ
لَتُصَلِّيَنَّ على النبيّ محمّدٍ … وَلَتَمْلأَنَّ دراهِمًا حِجْرِي
والذي يقول فيه أبو دلامة:
إذا جئتَ الأميرَ فَقُلْ سلامٌ … عليكَ ورحمةُ الله الرحيمِ
وأما بعد ذاك فلِي غريمٌ … من الأعراب قُبِّحَ من غريمِ
له مائةٌ عليَّ ونصفُ أخرى … ونصف النصف في صَكٍّ قديمِ
دراهمُ ما انتفعتُ بها ولكنْ … وصلتُ بها شيوخَ بني تَميمِ
...
ولله ذلك الطراز العالي من البلاغة العربية، وتلك الصفوة الممتازة من شعراء العربية، وتلك الطائفة المختارة من المدونين والرواة الذين جمعوا لنا ففرقنا، وحفظوا لنا فأضعنا، ورووا لنا شعر العبيد والنساء والنساك والفتاك والعدائين وعوران قيس وأغربة العرب، رحمهم الله وروح أرواحهم وهدانا إلى حفظ ما بقي من تلك الذخائر.(4/391)
ولله هذه اللغة الشريفة التي بلغ من ديموقراطيتها أن تسعى هرولةً إلى كل مَن يسعى إليها حبوًا، والتي أضفتْ ظلها وأفاضت نهلها وعلّها حتى على الإماء والعبيد، وأكلة الكباث والهبيد، ثم تبنت القرائح والألسنة من جميع الأجناس، واذكر في الكتاب هذه الأسماء اللامعة في شعراء العربية من غير العرب، اذكر سابقًا البربري، وأبا عطاء السندي، وعلي بن العبّاس الرومي، ومهيارًا الديلمي، واذكرْ إبراهيم بن سهل الإشبيلي لأنه يهودي تعرّب ولا تذكرْ السموأل بن عاديا لأنه عربي تهوّد.
وأختم القول بما بدأته به وهو أنني أحمل لأخي العلّامة الميمني كل إجلال وتقدير، وأغالي بقيمته في علمائنا العاملين، وله منّي تحيات تلمع مع البروق، وتتجدد في كل غروب وشروق.(4/392)
فلسطين واليهود *
كتبتُ قبل ست سنوات مجموعة مقالات في جريدة البصائر كانت طلائعها مبشرات تحتوي على تحميس للعرب في حرب اليهود، وبيان حقوق العرب وأحكام الاستدلال عليها من التاريخ. وكشف الأخلاق والطبائع اليهودية وبثهم للدسائس والمكائد في كل حركة يأتونها، ولا عجب في استرسالي في تلك المقالات، فنحن الجزائريين بلونا من تلك المكائد ما جعلنا أفقه الناس في تلك المخزيات التي يأتيها اليهود في العالم، وتلك الطرائق في امتصاص أموالهم وتسخيرهم بالمال، وبراعتهم في الدعاية والتضليل وإنفاقهم الملايين في بث الفتن وإفساد الأخلاق.
نحن أفقه الناس في الطبيعة اليهودية لأن يهود الجزائر من بقايا الجالية اليهودية التي هاجرت مع العرب عند الجلاء عن الأندلس. وقد عاشوا مع العرب المسلمين في الأندلس قرونًا فرأوا فيها من حسن الرعاية ومن صنوف البر والتكريم ما وصلوا به إلى مراتب الكرامة وولاية الوزارة. وعاملهم المسلمون في أيام ملكهم معاملة الأخوة فلم يُمْنَعوا عن مال ولا جاه، فلما جاء طور الانتقام نالهم منه ما نال المسلمين، وكانت النزعة المسيحية في عداوة أعداء المسيح الأُوَل على أشدّها.
...
كارثة فلسطين من أعمق الكوارث أثرًا في نفوس المسلمين الصادقين، وجميع الكوارث التي حلّت بالمسلمين عدل من الله تخفى على البسطاء أسراره، وتظهر للمتوسمين أسبابه، إلا قضية فلسطين فإن وجه العدل الإلهي فيها واضح مسفر، ذلك أن العرب ومن
__________
* مقال وُجد في أوراق الشيخ، كتبه بالقاهرة في أوائل 1954.(4/393)
ورائهم المسلمون لم يُؤْخذوا فيها على غرة. بل كانوا يحيطون علمًا بنيّات اليهود ومطامعهم في إقامة دولة في أرض الميعاد، وتحقيق حلمهم القديم الذي تزوّدوا به من يوم خرجوا من فلسطين أذلة صاغرين في سبي بابل، وما زالوا يغذون أبناءهم جيلًا بعد جيل بعودة ملك إسرائيل إلى بنيه، ويسندون أوهامهم فيه إلى نصوص دينية ووعود إلهية على لسان بعض أنبيائهم افتراها أحبارهم، وأيّدوها بتلك الوعود المصطنعة لترسخ في مستقر العقائد من أبنائهم ويتوارثونها فيما يتوارثون.
...
إن أجدادنا لم يأخذوا فلسطين من يد اليهود وإنما أخذوها غلابًا من أيدي الروم وحرّروها من استعمارهم، وفي تحريرها تحرير لليهود أنفسهم، فماذا ينقم اليهود منا؟ ولماذا ينتقمون منا؟، ولماذا يجزون إحساننا لهم بالإساءة، ولماذا يستعينون علينا بأعدائنا وأعدائهم. إنه اللؤم المتأصل، والأنانية المركبة في الطباع المريضة، إن اللؤم قرين الضعف ودليله، فحيث ترى ضعف الطباع ترى لؤم الطباع، وقد جرت الدول الإسلامية في تاريخها الطويل على معاملة اليهود بالحسنى، معاملة إلّا تكن معاملة عُمَرية فهي بمقربة منها إلا في الفرط والندرة حينما ينقض اليهود عهدًا أو يظاهرون عدوًا، وما أكثر ما يقع منهم ذلك لأنه طبيعي فيهم لا يكادون يصبرون عليه. ولقد كانوا يعيشون عند الاحتلال الفرنسي للجزائر مع العرب المسلمين معززين مكرمين ويزيدون عليهم باحتكار التجارة وبعض الصنائع وبالبراعة في طرق الاقتصاد، وكثير منهم دخل الجزائر مع الجاليات الأندلسية التي اختارت الجزائر وطنًا لها. ولم يلقوا من الحكم الإسلامي إلّا الرفق والإحسان، ولكنهم ما كادوا يخالطون الفرنسيين حتّى تنكّروا للمسلمين فقبلوا الجنسية الفرنسية دفعة واحدة بقانون كريميو ( CREMIEUX) الوزير اليهودي المشهور، ومنذ أصبحوا يتمتعون بالجنسية الفرنسية ازداد تنكرهم للمسلمين وتفاقم شرّهم، وازدادوا جرأة على سلب أموال المسلمين وتفقيرهم تحت حماية القانون الفرنسي، وما ضمتهم فرنسا إلى جنسيتها إلّا لتحقيق الغرض الاستعماري الذي لا يقدر أحد قدرتهم عليه.
...
التاريخ في سلسلته الزمنية الطويلة يشهد أن بني إسرائيل لم يكن لهم ملك مادي في فلسطين ولا في غيرها كالذي تتأثله الأمم بالقوة والغلبة، وإنما كان لهم في فلسطين وما حولها من أرض الكنعانيين سلطان ديني أساسه النبوات، تسانده من القوة المادية ما تحتاج إليه الدعوات الدينية عادة، وما يظهر به ذلك السلطان الديني من مظاهر الملك المادية،(4/394)
ولكن ذلك الملك وذلك المظهر لا يخرج عن نطاق الدين المؤيد بالعلم والحكمة، كما وقع لداود وسليمان فمُلكهما كان دينيًا محضًا، وهل يحتاج بناء الملك المادي في مألوف العادة إلى تسخير الجند والطير والريح؟ وقد انقضى ذلك النوع من الملك بانقضاء زمنه، ولم تَجْرِ به سنة الله في الأمم والملوك، وكل ما يذكر عن ملوك بني إسرائيل فهو متأثر بذلك النوع أو مصبوغ بصبغته، وفيما عدا تلك الفترات الدينية التي كان يقوم فيها الملك على الدين، أو يؤيد فيها الملك بالخوارق، أو يعضد بالعلم والحكمة، فإن بني إسرائيل لم يظهروا في التاريخ كأمة مدنية تستطيع بمؤهلاتها البشرية ومواهبها الفطرية المشاعة بين الأمم أن تقيم دولة أو تؤسس حضارة ذات خصائص جنسية منتزعة من الطبيعة الإسرائيلية من غير اعتماد على عامل خارجي عَبْر الخوارق، وقد دعاهم موسى إلى الملك وأكّد لهم ذلك بوعد الله بعد أن يقوموا بالأسباب العادية التي لا يقوم الملك إلا عليها، وأهمها الغلاب والقتال في سبيله فأبوا عليه وعَنَّتوه جريًا على الطبيعة المتأصلة فيهم من الجبن والمذلة وحب المكسب المادي الميسَّر الهنيء، وقالوا له تارة: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} وقالوا له مرة أخرى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}. وقد لقي موسى الْأَلَاقِيَ في سبيل دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة وإعدادهم للملك وفَهْم سنن الله فلم يفلح.
واليهود في أخلاقهم النفسية وطبعهم الأصيل شعب أنانيٌّ يُحِبُّ الاستئثار بالفضائل الإنسانية من دون أن يعمل لها أو يضحي في سبيلها، ليذهب به الغرور كل مذهب في تمجيد الجنس اليهودي واصطفاء الله له على الشعوب إلى درجة أن دماء الأمم الأخرى وأموالها كلها مباحة له، لأنها مخلوقة لأجله، وتَملُّك الغير لها إنّما هو اعتداء وغصب، فسرقة أموال الناس في نظرهم ليست سرقة وإنما هي استرجاع لِحَق كان مغصوبًا، وهم ينتحلون لذلك نصوصًا من وضع أحبارهم ولكنهم يُسْندونها إلى الله، ويسوقونها في صورة تدليل من الله بجنسهم ويجادلون الله فيها كما يجادل الكفء الكفء، حتى قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، والأحباء هم قرابة الملك أو المقربون منه. وقد مرّت بهم في تاريخهم فترات ترتفع فيها يد الله عنهم ويوكلون إلى أنفسهم فيضيع تدبيرهم ويتكشفون عن جهل بتدبير البيوت فضلًا عن تدبير الممالك والدول، ويتناهبهم الأقوياء من الفرس والرومان فيبيدون خضراءهم ويستبيحون حرماتهم ويتقاسمهم السيف والتشريد والسبي، فلا يذهبون في ذلك إلى تعليله بعلله المعقولة، ولا يرجعون فيه إلى موازين صحيحة من أحوال الأمم، ولا يفقهون أن سنن الله تنالهم كما تنال غيرهم، وإنما يقولون: ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل. كلمة يقولونها كلما أحاطت بهم خطيآتهم والتحمتهم الأمم وذاقوا عواقب الأنانية والكيد والاغترار واحتقار الأمم وعدم الاعتبار للسنن الإلهية، ولاعتبارهم الملك وعزة الحياة(4/395)
استحقاقًا إلهيًا لا نتيجة للجهاد والقراع. لم يشهد لهم التاريخ موقف دفاع عن حوزة، ولا سجَّل لهم صفحة واحدة في حماية حمى أو ذود عن حرمة وطن حازوه في ظل النبوّة، ذلك أن اليهود لا وطن لهم ولا وطنية في طباعهم بمعناها المعروف عند الأمم، فادعاءهم للوطن القومي تدجيل وتضليل، وإنما الوطن القومي حلم دعا إليه منهم المهووسون جرْيًا وراء أَخْيلةٍ من الماضي العريق من غير تبصّر في طبائع الأشياء، وأَلْهِيَةٍ ابتكروها لهم ليسلوهم بها عن المصائب التي جَرَّتها عليهم أنانيتهم، وشيء زيّنته لهم التطورات المتلاحقة في العالم، والداعي الأصيل إلى ذلك في نفوسهم هو حب المال، إذ كل شيء عند هؤلاء القوم ما عدا المال هو وسيلة لا مقصد في الفلسفة اليهودية، وقد كذبوا وعد الله لهم على لسان موسى من أن الأرض المقدسة كتبها الله لهم، وكتب لهم فيها التمكين إذا أخذوا بأسبابه وأهمّها القتال، وهم لا يحبّون القتال لأنه يؤدّي إلى القتل وهم أحرص الناس على الحياة.
ولو أن أمة غير الأمة الإسرائيلية كانت سليمة الفطرة، وكانت سليمة النفوذ من آثار الاستعمار الفرعوني الطويل سمعت من نبي كموسى عُشُرَ ما سمعه بنو إسرائيل من موسى من وعد الله إياهم بالملك والتمكين إذا أخذوا بأبسط الأسباب لذلك لأقبلوا على الموت مستبشرين، ولكن بني إسرائيل كذَّبوا وعد الله ولم تفدهم مواعظ موسى في تلك القلوب الغُلْف وفي تلك النفوس التي قتل الذل منها كل عرق يخفق بالعِزّة، وما هو إلا أن جاوزوا البحر وأهلك الله عدوّهم وهم ينظرون، حتى حنوا إلى ما كانوا عليه من ذل واستعباد ووثنية هي من آثار الذل والاستعباد الطويل، فأَغْواهم السامري واتَّخذوا عجلًا من ذهب وعَكَفوا عليه وقالوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}، وقالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، وإنك لا ترى في تاريخ الأمم النفسي أخلاقًا أفسدها الاستعباد ولم ينجح فيها علاج الأنبياء ولا معجزاتهم، وهم أطباء الأرواح المريضة، كما ترى في أخلاق هذه الأمة المتبجحة باصطفاء الله لها دون الأمم.
سقنا هذه الكلمة القصيرة المجردة من التنسيق التاريخي لنرى أن هذه الأمة ليست أمة مُلْك في تاريخها الطويل، وأنها لا تملك وسائله التي يملكها غيرها، فإذا قام لها ملك ففي ظل النُبُوَّة والخوارق وهي وسائل غير كسبية، وإذا تقلص عليها ذلك الظل تداعت عليها الأمم وأوْسعتها قتلًا وسبيًا وتحيفًا، ولم يزل هذا دأبهم إلى أن جاء الإسلام.
جاء الإسلام وكان من مقاصده الأولى بناء المملكة الإسلامية على صخرة السنن الإلهية والأسباب والمسببات لا على الخوارق، وكان من مقاصده نشر هدايته وفضائله في أرض النبوات الأولى بعد تطهيرها من الجبروت الروماني ومن الاستخذاء اليهودي، وإنا لنتلمح في قصة الإسراء والمعراج- وهما من صنع الله- ثم من اتجاهات نبي الإسلام وتوجيهاته ما يشعر بأن فتح الإسلام لمواطن الأنبياء ومدافنهم كان هو المقصد الأول للإسلام، وكأن(4/396)
خروج النبي بنفسه إلى تبوك من طريق الشام رمز إلى ذلك وإيحاء به وإنذار للرومان، ثم نتلمح في تجهيزه لجيش مُؤْتَة لقتال الروم ومن يُواليهم من العرب والأنباط في مشارف الشام أنه خطوة ثانية ثم نتلمح في تجهيزه لجيش أسامة وهو في مرض موته تأييدًا لتلك المرحلة، وكلّها إنذارات للروم حقّقها ما بعدها.
تمّ فتح المسلمين لفلسطين في أيام عمر، وكان هذا الفتح كسائر الفتوحات الإسلامية يحمل الهدى والسلام ويفتح الأذهان قبل البلدان، وكان ينطوي على معنى الثأر لموسى ودينه وقومه اليهود لو كانوا يعقلون، فقد قطع دابر الرومان ودولتهم من فلسطين، وطهّرها من ظلمهم واستعبادهم لليهود، فلم يروا ناصرًا قويًا مثلما رأوا في الإسلام لو كانوا يقدّرون النعمة ويشكرونها، وبفتح المسلمين لفلسطين وفيها بيت المقدس رجع إرث النبوّة إلى النبوّة واجتمعت مساجد الإسلام الثلاثة في يد واحدة قوية قادرة على حمايتها، وعادت القبلة الأولى إلى الوجوه التي كانت تستقبلها وإلى النفوس المطمئنة لعبادة الله وحده فيها، وإلى الأيدي القادرة على حملها، وإلى أبناء العم لو كان اليهود يرعون للأرحام حرمة، وفي فتح أصحاب محمد لبيت المقدس تتجلى الفروق بين الطبيعتين العربية واليهودية، وشتان ما بين من يبذل مهجته في سبيل الله وتثبيت دينه الحق في الأرض، وبين من يكذب وعده ويشترط على رسوله، ويتألَّى عليه أن يؤتيه الملك والعز وهو نائم ناعم ويستعلي على خلقه.
...
قضية فلسطين في جوهرها وحقيقتها واعتبارها التاريخي قضية إسلامية من حيث إن فيها المسجد الأقصى ثالث المساجد المقدسة في حكم الإسلام، وهو أول قبلة صلى إليها المسلمون قبل الكعبة، ولئن نسخ هذا المعنى فإن الخصائص الأخرى من الاحترام الديني وشد الرحال إليه لم تنسخ، وان المتوسمين في آيات الله المستخرجين لدقائق الحكم منها يتلمحون من الأسرار في اختيارها قبلة أولى وفي كونها كانت نهاية للإسراء وبداية للعروج ما يضعها في موضع من الاحترام يوجب الدفاع عن مشاعرها، ودفع كل معتدٍ على حرماتها أن تدنس بوثنية، وتطهيرها من كل من يريد بها شرًا أو يريد فيها بإِلْحاد وإنها ميراث النبوّة وضعه الله في أيدٍ قادرة على حمايتها، وقد دافعت عنها بالفعل، وأقامت البرهان على اضطلاعها بحمايتها مدة أربعة عشر قرنًا كاملة، وحاربت عليها أمم الأرض، وما سلبها الله من اليهود وأورثها المسلمين إلا لأن اليهود كانوا أعجز الناس عن حمايتها.
ومن حيث أن فيها الصخرة التي هي أول محطة لاتصال الأرض بالسماء، ذلك الاتصال الذي كان سببًا فيما فاض على الأرض من بركات السماء، ولو شاء الله لكان المعراج بعبده(4/397)
محمد من مكة التي هي موطنه ولكن كانت له في هذه الرحلة الأرضية حِكَم ولنا فيها عبر، فقد كانت رمزًا إلى أنَّ مُلْكَ الإسلام سيتسع حتى يبلغ في مرحلته الأولى ممالك النبوّة قبله ومواطنهم ومواطئ أقدامهم ومدافنهم، وسينشر فيها هدايته وسَيَبْسُطُ عليها حمايته وكذلك وقع، ومواريث النبوّة لا يستحقّها إلا الأنبياء والمضطلعون بها من أممهم، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «زُوِيَتْ لِيَ مِنَ الْأَرْضِ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا».
...
من التزوير على التاريخ أن يقال إن اليهود احتلّوا فلسطين بالقوة العسكرية كما يحتل القوي الغالب أرض عدوّه الضعيف المغلوب، ألَا إن كلمة الحق التي يقف الواقع بجنبها شاهدًا لا يكذب هي أن ملوك العرب وزُعَماءَهُم المتحكمين في مصائرهم المنفّذين لإرادة المستعمر هم الذين سلّموا فلسطين لليهود سائغة هنية وحقّقوا للإنجليز غايتهم وما شرطه اليهود عليهم من تسليم فلسطين فارغة من العرب كما تسلم الدار المبيعة فارغة من الساكن، فاصطنعوا لذلك التسليم المقرّر وسائل وأعذارًا من التخاذل والمشاكسات بين القادة العسكريين حتى تمّ الأمر بذلك التسليم المهين، وكلّ ذلك تمَّ وفق خطة مدبرة متصلة الحلقات من الانجليز وأعوانهم منا في مقابلة نفع مادي شخصي زائل ومناصب مضمونة لعدة رجال من العبيد باعوا قومهم بتلك الوظائف، وما زلنا نراهم رأي العين يتقلبون في تلك الوظائف الذليلة وينفّذون أغراض الاستعمار ويدافعون عنها، وقد حنّ لهم الدهر فنالوا ما نالوا. فيا ويحهم ان عَقَّهم الدهر وصحا من تلك اللوثة، وما صحوه منها ببعيد، وما مصرع فاروق وعبد الله ببعيد من الذين باعوا فلسطين بالثمن الزهيد، ومهما تكن تلك الوظائف مضمونة من الانجليز فإن وراءها الموت والعار والسبّة الخالدة ووراءها هبة الشعوب وثورات المكبوتين.
أما الصهيونية فهي قديمة ولقد كانت في مرحلتها الأولى نسيجًا من أحلام وخيالات وأماني، ولكن كثرة ملابسات القائمين بها للدول الاستعمارية نقلتها من طور إلى طور حين وجد كل من الاستعمار الأوروبي والصهيونية في صاحبه عونًا ومساعدًا على أغراضه، ولم تزل المصالح المادية تقرب بينهما حتى اجتمعا في بعض النقط فتعاهدا على تقارض العون والمساعدة إلى نهاية الشوط، وصاحب ذلك ضعف الشعوب العربية وإحباطها وجهلها، فكان ذلك كله معينًا على تنمية الفكرة، وجاءت الحرب العالمية الأولى والعرب على تلك الحالة فاتفقت دول الاستعمار على تشتيت العرب وتمزيق أوطانهم واستغلال الكنوز التي يجهلونها في أرضهم وأهمها البترول، ولما كان نظر الاستعمار بعيدًا وعلم أن انتصاره في تلك الحرب يضمن له تشتيت العرب وتمزيق بلادهم ولكنه لا يضمن له بقاءهم على تلك الحالة طويلًا فرأى أن يرميهم بالداهية الدهياء وهي تحقيق الوطن القومي لليهود.(4/398)
مداعبات إخوانية(4/399)
إلى ولدنا الأستاذ عبد الحميد الهاشمي *
كنتَ أهديتَني زجاجةَ عطر … يبعث النشوتين تِيهًا وفخرا
أَبِأَنفاس جِلِّقٍ مَزَجُوهُ … فأتى بالعبير يزخر زخرا
أم ربى النَيْرَبَين قد علمته … كيف يحيى الجماد إنْ مسّ صخرا
ولو اني إذْ ذاك أوتيتُ رشدي … صنته في خزائن الصون ذخرا
ولَحرَّمتُ أن يمس أُنُوفًا … أو ثغورًا سُودَ الطواحن بُخْرا
غير أني فعلتُ ما يفعل العا … صف يذرو بنات مَخرِ وَمَخرا (1)
نازعتْنيه بالأكف رجال … ليس يألون للنفائس دَخرا (2)
تركوا الظرف كالخلية هفا (3) … وألّحوا فعاد كالعظم نخرا
وجزاء الجميل ذكر وشكر … فاغنَمِ الحسنيين وابعثْ بأخرى
__________
* باكستان، ماي 1952.
1) بنات مَخر: سحائب بيض رقاق تأتي في قُبُل الصيف، ولكن الرياح تمزّقها بسرعة، ومَخر أبوهنّ على التوهم، كما يتوهم الشعراء في بنات نعش أنّ لها أبًا هو نعش، ويصفونه بأوصاف متخيلة منتزعة من أوصاف الأبوة الشائعة في عالم الحيوان، قال ابن هانئ في فائيته التي تساوي ديوانه كله:
كَأَنَّ بَني نَعْشٍ وَنَعْشًا مَطافِلٌ … بِوَجْرَةَ قد أَضْلَلْنَ في مَهْمَهٍ خَشْفَا
2) دخرا: إهانة وإذلال، وفي القرآن الكريم: {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ}.
3) الهف: خلية الشهد بلا عسل وسنبلة الزرع بلا حبّ والسحابة من غير ماء.(4/401)
"كليّة" الأعظمي *
غيري تراه قانعًا غير ظمي … للعمل المرتّب المنظّم
أما أنا فلو هشمت أعظُمي … لم أستسغ صنع أخينا الأعظمي
… ومن يسيغ خردلًا بالخلّ؟ …
يا عبرة غطت على كل العبر … المبتدأ من فعله صار الخبر
ولو جرت أحكامه على الإبَر … صيرها مثل الصواري في الكبر
… وقال للناس اقعدوا في الظل …
مدرسة حبتْ خطًى وما مشت … صورها كلية فانتفشت
ولو دعاها معهدًا لانتعشت … وانصرفت لها العيون وعَشَت
… وأصبحت أهلًا لحمل الكَلّ …
لا تعظم الأشياء بالأسماء … ولا يقاس النور بالظلماء
إن سراب البيد غير الماء … وإن دعوت النهر بالدأماء
… جعلت كل عائب في حِل …
فكن حكيمًا صادقًا في الوصفِ … وكن صناعًا ماهرًا في الرصف
ولا تسوّ ثمرًا بالعصف … فالحكم للشيء بحكم النصف
… كالحكم للجزء بحكم الكلِّ …
كلاهما غشّ وأيّ غشّ … ينفح أهليه بريح الحُشّ
ويورد الظمآن رشحَ النشّ … يا مَنْ وصفت جلمدًا بالهشّ
… اِنطحه يشهدْ عمرك المُوَلِّي …
__________
* باكستان، ماي 1952، وقد أشار الشيخ إلى هذه "الكلية" في هذا الجزء من آثاره، [ص:52].(4/402)
إلى ولدي الأديب عمر بهاء الدين الأميري *
لك الخير، إني عن "كراتشي" لَراحل … على غير ما كانت تشد الرَّواحلُ
ستحملني في الجوّ مرتاعة الحشا … يَدين لها القاصي وتطوى المراحل
...
أدرتُ المنى عن مستهل من الحيا … يُغاث به قَحْط ويخضرّ قاحل
ويسقى به غرس ذَوَى بين أمة … يمسّكها سلك من الدين ناحل
ولكن زوى عني الأماني أنها … بلاد بها ربع العروبة ماحِلُ
تَقاسَمها الأعجام بعد ابن قاسم … فذاب بها الضاري وغاب الحلاحل
وقام بحمل الدين فيها عصابة … "مكاحلهم" يوم اللقاء المكاحل
...
سأذكركم والشوق يزداد وَقْده … إذا ما دَنَتْ من "أندونيسيا" السواحل
__________
* بعث الإمام بهذه الأبيات يوم مغادرته باكستان، 11 جوان 1952.(4/403)
إلى الدكتور فاضل الجمالي *
تضمنت برقية الجمالي … لفظًا خلا من رونق الجمال
إذْ ليس من مراتب الكمال … وليس من محاسن الخصال
أن تدعو الضيف ولا تبالي … رفيقه الحقيق بالإجلال
تعدني إنْ زرتُ باحتفال … متوج بالبشر والإقبال
بشرط أن أزور كالمحتال … وآمن من تابع أو تال
تحسبني طفلًا من الأطفال … يصاد باللطف وبالدلال
يخدع في الموجود بالمحال … ويؤثر النفس على العيال
يا حضرة الدكتور ذي الأفضال … مالَكَ لا تعبأ بالرجال
ولا تجيل الرأي في مجال … من قبل إقدام على الأفعال
هذا الذي ترميه بالإهمال … أحق بالتعظيم والإجلال
هذا فتى أضحى من الأبطال … وزاد في الفضل على الرجال
رأي رَمَى الآراء بالإبطال … وعزمة كالنار في اشتعال
وجرأة كالليث في الصيال … وهمة كالنجم في التعالي
ما زال مذْ شبّ على الفصال … وعرف اليُمنَى من الشِّمال
حربًا على الطغيان والضلال … سلمًا على الإصلاح والإجمال
سهمًا مصيبًا في حشا الأنذال … مثل شهاب الرجم في الثلالي
يقذف كل خادع محتال … ولم يزل يخطُر كالرئبال
ماضي الشبا محدّد النصال … مهيأ للذود والنضال
أترتضي وأنتَ ذُو الأعمال … لقومك العرب وذُو الآمال
__________
* مداعبة من الإمام إلى صديقه الدكتور محمد فاضل الجمالي بعد دعوة وجّهها إليه ببغداد، دون إشراك الأستاذ الفضيل الورتلاني.(4/404)
بأن يروك ماضيًا في الحال … وواقفًا تندب في الأطلال
وعاكفًا في الدِّمن البوالي … تبكي على عمارها الخوالي
منتصرًا لعصبة جهّال … صيرها الظلم إلى الزوال
يا سوءَ حظ اليمن المحلال … وشؤمَها إن انبرت للفال
وبخسها في الوزن والمكيال … وغبنَها في الحال والمآل
أن كان مثل فاضل الجمالي … في علمه وعقله الصوّال
وروحه وفكره الجوّال … يأسى على طاغوتها المزال
من شدّها بأوثق الأحبال … وسامها بالقهر والإذلال
وسامها بالفقر والإقلال … وراضها بالسجن والأغلال
وعهدها وهو عليها الوالي … أدهى من الطاعون والزلزال
فكم رأت فيه من الأهوال … والنُّوَب الفظيعة الثقال
والكُرَب الكثيرة الأشكال … والعُقَد العويصة الإشكال
ومن وباء سيط بالوبال … ومن خباء نيط بالخبال
وعاد من فظاعة الأحوال … عهد "سَبَا" في سالف الأحوال
أضحت بنوه من فساد الحال … والظلم من إمامها الدجّال
عطشى وماء النهر كالجريال … منهمر بعذبه السلسال
جائعةً والقوت كالرمال … فقيرةً وهي ركاز المال
عاريةً حتى من الأسمال … والحوكُ في جدودها الأوالي
قد كان فيهم مضرب الأمثال … عزلاء حتى من عصيّ الضال
والسيف فيها أحد الأنجال … شقيةً بالظلم والنكال
والسعد قد كان على الأجيال … وسْمًا لَها وشارة احتيال
وتُربُها قد ثار عن غلال … وعن جنًى غض وعن ظلال
وماؤها ينساب كالصلال … بين الصخور الشم والتلال
من هم غيوث البذل في النوال … وهم ليوث الغاب في الصيال
في النسب العد الصميم العالي … والحسب العريق في الجلال
ما لكِ يا مُنْبِتة اللآلي … والحجر الحرّ الكريم الغالي
ما لك يا منتجة الأبطال … ذوي الحفاظ المر والفعال
ما لك يا مزرعة الغوالي … عزت عن الأشباه والأمثال
ما لك يا منبتة العوالي … من الرماح الذبل الطوال
أصبحت فى جدب وفي امحال … جرداء مثل الغادة المعطال
وصرت بعد الحسن والجمال … شَوْهاء مثل البائر المتفال(4/405)
ما لبنيك النجب الأبطال … أضحوا على الأيام والليالي
بعد الهدى في التيه والضلال … وبعد وَسْمِ المجد في الأغفال
شِدتِ لنا في الأعصر الخوالي … حضارة مَدَّت على الأجيال
رِواق عزّ بحلاها حالي … وخُلِّدَتْ آثارُها الغوالي
صحائف في الكتب والرمال … بدائع المفتنِّ والمثّال
لم يجر منشيها على مثال … ولم تزل آياتها في الحال
سحر النهى وفتنة الخيال … وعقلة العقل وشغل البال
حتى أتت حثالة الأنسال … وعصبةُ الفسَّاق والأنذال
رهط الخنا والغيّ والمِحال … من كل عيّ مائق تنبال
لم يجر لولا شخصه بالبال … محارب لله لا يبالي
مستقذر الإزار والسربال … مستقبح العثنون والسبال
كأنما صيغ من الأوحال … أو من رجيع الحمر والبغال
أسيمر الجلدة ذو اختيال … متصل المنكب بالقذال
وإن عددته من الجهّال … فالجهل لا يرضى به بحال
عاثت عياث القرد والثعالي … وداستْ الأحرار بالنعال
وحكمت أهواءها في المال … والعرض والابشار والأحوال
أَنَرْتَجي العدل من العذال … ونَطْلُبُ النصر من الخذال؟(4/406)
جمعية
جمعية تداعتْ … بقوة الإيمانِ
لردّ ما أضاعت … من هديها الروحاني
وهدم ما أشاعت … عصائب الشيطان
وكفّ ما أذاعت … بالإفك والبهتان
تُحيي لنا ما اسطاعت … هداية القرآن
قد أدبرت وارتاعت … كتائب الطغيان
وأقبلت وانصاعت … طوائف البرهان
فَلْيَهْنِها ما ابتاعت … من تُحف الرضوان
إذا العقول جاعت … حامت على الأوثان
أو النفوس الْتاعت … هامت بدين ثاني
وخسرت إذ باعت … بَاقِيَها بالفاني
...
القلب لا ينساها … في سائر الأحيان
ولم تزل ذكراها … وظيفة اللسان
لعلّ أو عساها … ترقى إلى كيوان
بالغة مناها … في المال والسلطان(4/407)
الطائرة
دعا بي الشوق إلى الترحالِ … والشوق إنْ يدعُ غرلم كالِي
فلم أودّع طلّتي وآلي … حتى امتطيت جمة التصهال
بهيمة صيغت على منوال … واجتمعت والطير في مثال
تدين بالإسراع والإعجال … لا تقتضي بالريث والإمهال
طعامها النار ولا تبالي … تحيا على الإحراق والإشعال
فاعجب لها مشدودة الرحال … بالليل والإبكار والآصال
سمينة في الخصب والإمحال … وثيقة الأضلاع والأوصال
لم تَشْكُ من أين ولا كلال … قد جمعت غرائب الأشكال
طيارة تهزأ بالجبال … وبالشعاب الخضر والأوحال
وبالروابي الغبر والتلال … ما وطئت قط على الرمال
إلّا بقدر الرفع والإنزال … إن حركت زفت زفيف الرال
وزأرت في الجو كالرئبال … كأنها سفينة في الآل
وآية العلم بكل حال … مبصرة جلت عن الجدال
وتقطع الألف من الأميال … في مثل عمر ساعة الوصال
بالطير لا بالوخد والأرقال … يا حسنها قريبة المنال
لو لم تكن مدنية الآجال … أن بليت بالنقض والإخلال
لم تعتمد إلّا على عز وآل … يا سعد دالت دولة الجمال
فاسعد إذا ما شئت باشتمال … لا تخش من ملامة العذال
بما جرى ذكرك في الأمثال … عوذتها بكلمة الجلال
وبالحواميم وبالأنفال … وما أتى فى سبعه الطوال
نؤم نجدًا برزة المجالي … ذات الرّبى والأكم الحوالي(4/408)
بالنور والحصباء كاللآلي … سحر النهى وفتنة الخيال
ومبعث الشعر الرصين الغالي … ومرتمى شوارد الأمثال
ومنبت الأمجاد والأبطال … مجلى البيان الحر والأمثال
فاض على الملوك والأقيال … والحق النساء بالأطفال
وفار من نميره السلسال … فجال بين جالها والجال
...
زرنا سعودًا كعبة الآمال … وواحد الآحاد في الرجال
ومورد القصّاد والحلَّال … ومصدر النزاع والنزال
شب مع التوحيد والكمال … على التُّقَى وصالح الأعمال
مملكة مشدودة الأوصال … بالعلم والعقل وبالرجال
محمية الغابات بالأشبال … محبوكة الأطراف بالعمّال
موزونة الأبعاد والأطوال … محدودة بالسيف من أوال
إلى حدود الشام والعوالي … محفوفة بالسعد والإقبال(4/409)
إنْ أردتَ
إنْ أردتَ الدهرَ تغدو … كاتبًا يعلو ويُعْلَى
ثم تغدو صحفيًا … من ذَوِي "الأهرام" أعلى
لاتَخَفْ فالأمر سهلٌ … ممكنٌ صنعًا وجَعلا
قم فدجّل ثم ضلّل … واجعل المرأة بعلا
واجعل الكنية صونًا … لا مرئي قد ساءَ فعلا
فلكم غطت سخيفًا … ولو ان الاسم يعلى
وامنح الطاج أجرًا … وامنح الكاتب جعلا
واجعل العنوان تاجًا … واجعل الامضاء نعلا
واملإ الجسمَ هواءً … وفقاقيعَ وسعلا
واجعل الخادع برا … واجعل الاسفل أعلى
وادْعُ بالخير لحيّ … ضم دكوان ورِعلا
فإذا أنتَ بهذا … كاتب قولًا وفعلا
وإذا بحّ حمار … دع نعم دأبًا ودع لا
...
إنْ أردتَ الدهر تغدو … شاعرًا يَرْعَى وُيرْعَى
فاجعل الألفاظ أصلًا … والمعاني الغرّ فرعا
واجعل السخف مجنا … والخنا ترسًا ودرعا
وإذا نابك نَقد … لا تضق بالنقد ذرعا
إنما الناس سَوَامٌ … في مراعي الجهل صرعى(4/410)
إلى الأستاذ صالح الأشتر
شائنك الأبتر … يا صالح الأشترْ
إن كان من لحم … فأنت كالنشتر
نثرك قد جارى … نظم أخي ششتر
الناس أسقاط … فَبِعْ ولا تشتر
والأصل ختار … وفرعه أختر
والدهر ذو هُتر … وأهله أهتر
كلهم دونًا … عمّم ولاتختر
إيّاك أن تعيا … في النص أو تفتر
إن ضاقت الأرض … فبطنها أستر
والعرب في مصر … كالعجم في تستر
أنثاهم زن … وبنتهم دختر
ويومهم جورٌ … وقلبهم أفتر
وأمسهم كَلّ … وبيتهم دفتر
سوآتهم كثر … ماضمّها دفتر
من مان في شفع … كذبْه إن أوتر
حسامه أمضى … وقوسَه وتر
في شرّه أعطى … عن خيره قتّر
قد ساءت الحال … ورثنا يستر(4/411)
غار على أحسابه
غار على أحسابه أن تُمتهنْ … حرّ على مجد الجدود مؤتمنْ
فما ونى في حفظه ولا وهن … سيف من الرحمن مطرور الشبا
...
بيضتَ وجه العرب في المجامع … أبلغتَ صوتهم إلى المسامع
فخاب كل طامح وطامع … وغض من سَوْرته واكتأبا
...
أوقرتَ سمع المبطلين حججا … فاعترضوا بحرًا يمور لججا
ومخطئ في رأيه من هجهجا … بالليث جوعان الحشا ملهبا
...
جئناك في وفد وأي وفْدِ … ما منه إلّا بالعزيز يفدي
جئناك للأرفاد لا للرفد … وللثنا نسوقه لا للحِبا
...
جئناك في الإخوان نزجي التهنيه … لا زلتَ من عيشك في بُلهنيه
ودمتَ في خفض وفي رُفهنيه … وكل من جاراك في الفضل كبا
...
أبوك في أفق المعالي أسعد … في رتبة علياؤها لا تُصعد
لو أن متن كوكب يقتعَد … لما امتطى أبوك إلّا كوكبا
***(4/412)
كأنه قد سخر البيانا … فانكشف الغيب له عيانا
أو أنه قد جاور الريّانا … وحاور الغر الفصاح العربا
...
سمعته يخطب في المدينه … شيحان يحمي عرضه ودينه
في موقف يُنسي الفتى خدينه … فكان سهمًا للعدى مصوَّبا
...
لست إذا أرسلتها يمينا … بخائف في القول أن أمينا
لَمن دعاك الحارس الأمينا … ما حاد عن حاق الهدى ولا نبا
***(4/413)
عبد العزيز العلي المطوع
عبدَ العزيز العليا … نلتَ المقام العليَا
فالدين كنز ثمين … أصبحت منه مليّا
والكف ينهلُّ جودًا … وسميّه والوليّا
من يرجُ عندك خيرًا … لم يلق مطلا ولِيّا
ان ريع للحق سرب … كنتَ النصيرَ الوليّا
رأي وعقل وفهم … يتلو جلي جليّا
لو ينشر الله عبسًا … ومازنًا وبليّا
الفوك صغت حلاهم … لأصبعيك حليّا
قد أورثتك قريش … فخارها النوفليا
وقلّدتك تميم … لواءها النهشبيّا
إرث العروبة محضًا … مؤثلًا أزليّا
حويتَه مُضَريًا … وحُزْتَه وائليّا
إن المعاليَ هم … ما بتَّ منه خليّا(4/414)
ـ[آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي]ـ
جمع وتقديم نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
الجزء الخامس
1954 - 1964
الناشر: دار الغرب الإسلامي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(5/1)
دار الغرب الإسلامي
الطبعة الأولى(5/2)
آثَارُ الإِمَام
مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي(5/3)
ـ[صورة الشيخ البشير الإبراهيمي]ـ
تونس 1961
ــــــــــــــــــــــــــــــ(5/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
- 1 - *
لم تفاجئني هذه المجموعة من الوثائق والنصوص التي تحمل اسمين عزيزين على نفسي، أولهما اسم الثورة الجزائرية، وثانيهما اسم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ولا أعتقد أنني الوحيد الذي لا تفاجئه هذه الوثائق، لأن كل عارف بالتطور التاريخي وكل متحل بالإنصاف يعرف علاقة الشيخ الإبراهيمي بالثورة من دون أن تزيده المجموعة التي بين أيدينا إلا قناعة وتأكيدًا، ولذلك قلت إنني شخصيًّا لم أفاجأ عندما اطلعت على ما ترك الشيخ الإبراهيمي من وثائق حول الثورة من بيان أول نوفمبر 1954 إلى بيان أبريل سنة 1964 الشهير، أي سنة واحدة قبل رجوع الشيخ إلى ربه. فقد عشت شخصيًّا تلك الأيام التي ترويها هذه الوثائق رغم أنني كنت ما أزال في سن مبكرة وكنت أتتبع مواقف جمعية العلماء منذ 1947. ومن ثمة لم تفاجئني البيانات والبرقيات والتصريحات والخطب والأحاديث والنداءات التي حررها أو ألقاها الشيخ الإبراهيمي باسم جمعية العلماء وجبهة التحرير الوطني، وإذا شئت باسم الشعب الجزائري، بين 1954 و 1964.
ان الذين يعرفون الظروف التي ولدت فيها الثورة، سيما منذ سنة 1945، يدركون أن هناك رجالًا كانوا يُعِدُّون لها بطرق مختلفة، وليس بطريق واحد، فمنهم من كان يعدّ لها بتوفير الأسلحة والتدريب العسكري، ومنهم من كان يحضر لها بتدبير المال والوسائل المادية، ومنهم من كان يخطط لها بالتكوين المعنوي وتربية النفوس على حب الوطن والجهاد في سبيله، ولكنهم كانوا جميعًا يعتقدون ان "دروسهم" لاعداد الثورة تكمل بعضها البعض، وأنه من الخطإ إعطاء الأولوية لهذا المدرس أو ذاك. ولكن بعض المتحزبين
__________
* هذه المقدمة كتبها الدكتور أبو القاسم سعد الله لقسم من هذا الجزء صدر تحت عنوان "في قلب المعركة"، الجزائر، دار الأمة، 1994.(5/5)
المتأخرين لم يرقهم هذا التحليل، ورأوا أن من الوطنية عدم التسامح مع خصومهم الحزبيين، واعتقدوا أن الثورة إنما هي وليدة حزب وليست وليدة شعب، بل هي في نظرهم وليدة جماعة صغيرة كانت تعمل في الخفاء وليست وليدة قيادة وطنية مؤمنة وعريضة كانت تعمل سرًا وعلانية.
والواقع أن هؤلاء الحزبيين هم الذين ستفاجئهم الوثائق التي تضمنتها مجموعة الشيخ الإبراهيمي اليوم، لأنهم لم يكونوا منصفين عندما لم يقرأوا تاريخ الثورة في كل منعطفاته، أو عندما حصروا الثورة في حزب أو جماعة. ولعلهم كانوا يظنون أن التاريخ لن يبوح بوثائق الإبراهيمي وأمثاله ولن يكشف عن آراء ومواقف جزائريين آخرين لا يقلون إيمانًا (ولا نقول يتفوقون) بالثورة عن الذين أصبحوا معروفين أنهم صانعوها.
ولعل من سلبيات الكتابة عن الثورة الجزائرية حتى الآن هو عدم تحديد معانيها ومدلولاتها. فهل الثورة عندنا هي حمل السلاح فقط؟ إن كان الأمر كذلك فإن هناك العديد من الثوريين الذين لم يحملوا السلاح وإنما كانوا اللسان الناطق باسم الذين حملوه، ولولاهم لبقى الثوار في حصار مادي وسياسي ومعنوي قاتل، كما حصل لثوار الجزائر الذين خاضوا الحرب ضد العدو منذ هزيمة الأمير عبد القادر سنة 1847 من دون أن يسمع بهم أحد، مما ساهم في إفشال ثوراتهم، أو هل الثورة هي فكرة تختمر وتنضج حتى تصبح مشروعًا حضاريًّا كبيرًا وعملًا مباشرًا قابلًا للإنجاز؟ أو هي شرارة بندقية ولعلعة رصاص ينطلق من كل صوب لإجبار العدو على التخلي عما اغتصبه اغتصابًا؟
إن الجواب على مثل هذه التساؤلات هو الذي سيُعفي الكثيرين من الكتاب من الخوض في موضوعات أصبحت بلا طائل مثل: من أعد للثورة؟ وما منطلقها؟ وما أهدافها القريبة والبعيدة؟ وما علاقتها بالتراث الوطني؟ وما انتماؤها الفكري؟ كما أنه هو الجواب الذي سيعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وبه ينتهي الجدل العقيم الذي يدور حول دور كل من جمعية العلماء وحزب الشعب في تفجير الثورة، وهو الجدل الذي حاول البعض المزايدة فيه بتقديم أحدهما على الآخر بدون دراية ولا دراسة موضوعية. ونعتقد ان نَشْرَ الوثائق والنصوص التي نحن بصددها سيساعد على وقف ذلك الجدل العقيم، فهي وثائق ونصوص تبرهن على أن جمعية العلماء كانت في الطليعة الثورية وأن رئيسها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كان لسانها البليغ المعبر عن توجهاتها وعقيدتها في وقت كانت فيه الأحزاب وقادتها تشهد تحجرًا بل تراجعًا، مما جعلها تواجه أزمات حادة بعثرت كثيرًا من الآمال والعقائد في استراتيجية التنظيم نفسه وفي زعمائه.(5/6)
إن التفسير الحزبي لتاريخ الثورة قد أساء إلى الثورة نفسها حتى الآن. فمن جهة ندعي أنها ثورة شعبية وتلقائية ومن جهة أخرى ندعي- باسم حزب كذا- أنه لولا الزعيم الفلاني ولولا التنظيم الخلّاني لما كانت الثورة أصلًا، وهذا افتئات على الواقع وعلى حق الشعب في الانتماء والاختيار، ومع ذلك فإننا نذكر، للمقارنة والتوضيح، أن زعماء الحركة الوطنية ليسوا سواء في الثبات على المبدإ، وفي الالتزام بحق الشعب في الحرية والذاتية السياسية، ويبدو لنا أن الشيخ الإبراهيمي، كزعيم وطني، كان الوحيد الذي لم ينحرف عن الخط الذي رسمته الجمعية، كما انحرف غيره من الزعماء عن الخط الذي رسمه تنظيمهم. فقد واصل الشيخ الإبراهيمي الدفاع عن مبادئ الجمعية وحق الشعب الجزائري في التمتع بشخصيته السياسية والحضارية خارج البوتقة الاستعمارية الفرنسية، وقد وقف الشيخ الإبراهيمي مع هذا المبدإ سواء كان في الجزائر أو في الخارج، وعندما أعلن الشعب ثورته كان الشيخ الإبراهيمي أول من احتضنها من الزعماء (نقصد بالخصوص مصالي وعباس) رغم أنه كان في المشرق بعيدًا عن الوطن.
وستكشف الوثائق التي نقدمها أن الإعلان عن ذلك الاحتضان والدعوة إلى الالتحام بالثورة كان منذ الأيام الأولى لشهر نوفمبر 1954.
ومن الإنصاف أن نقول إن هناك فرقًا بين تبنّي الثورة والدعوة لها وبين الانضمام لجبهة التحرير والالتزام بشرعيتها. والذي يدرس تطور الأحداث خلال خريف وشتاء 1954 يدرك أن اللجنة التي كونت جبهة التحرير وأعلنت الثورة لم تكن معروفة حتى لزعماء الحزب الذي خرجت منه، فما بالك بقادة التنظيمات الأخرى، ولا سيما من كان منهم بالخارج مثل الشيخ الإبراهيمي. ومن الطبيعي أن يبادر الشيخ الإبراهيمي إلى تأييد الثورة والدعوة لها دون التسرع في الانضمام للهيكل الذي يقود الثورة، وهو جبهة التحرير، وإذا كانت جبهة التحرير غير معروفة في أول الأمر حتى لأقرب الناس في الحزب الذي خرجت منه فمن باب أولى وأحرى ألا تكون معروفة للشيخ الإبراهيمي وغيره من الجزائريين. حقيقة أن الجبهة قد عينت ممثلين منها في الخارج، وكان مقر هؤلاء بالقاهرة أيضًا، ولا شك أن الاتصالات قد وقعت بين هؤلاء وبين الشيخ الإبراهيمي، ولكن هؤلاء الأعضاء كانوا أيضًا مجهولين لدى الشيخ الإبراهيمي، وكانوا قبل الثورة مجرد ممثلين لحزب له زعيم معروف للشيخ الإبراهيمي، فإذا بهم يصبحون ممثلين لتنظيم آخر ليس له زعيم معروف. إضافة إلى ذلك فإن الصلة الوطيدة التي كانت بين بعض أعضاء مكتب المغرب العربي وبين السلطات المصرية كانت لا تساعد الشيخ الإبراهيمي على إعلان تأييده السريع لجبهة التحرير من أول وهلة، مكتفيًا بتبني الثورة باعتبارها حدثًا شعبيًّا وتاريخيًّا، في انتظار انجلاء الوضع عن هيكلة الثورة وقيادتها الجديدة.(5/7)
وأن من يطالع (بيان أول نوفمبر) سنة 1954 يلاحظ، بدون شك، أن هناك غيابًا لمبادئ جمعية العلماء التي رسمتها للجزائر ماضيًا ومستقبلًا، كما يلاحظ أن البيان لا يجيب على بعض النقاط بوضوح كالهوية والإسلام والعروبة، وأنه ليس ميثاقًا أو عريضة مرجعية ذات فلسفة وتصورات حضارية، وإنما هو وثيقة سياسية- صحفية- كتبت فيما يبدو على عجل وصيغت في عبارات بسيطة وعملية. فكيف نتوقع أن يتبنى الشيخ الإبراهيمي ذلك البيان على علاته، وهو الأديب النابغ والممثل الرمز لجمعية أخذت على عاتقها استرجاع الشخصية العربية- الإسلامية للجزائر؟ نقول هذا لكي يكون مفهومًا عند من لم يفهم بعد لماذا احتضن الشيخ الإبراهيمي الثورة من أول وهلة ولم يفعل ذلك مع جبهة التحرير، ولكي يكون مفهومًا أيضا أن بضعة أسابيع، وربما بضعة أشهر، قد مرت خلال سنة 1954، دون أن يربط كل الجزائريين اسمَ الثورة باسم جبهة التحرير، والمعروف أن المسألة ظلت في الخارج بدون حل إلى مارس 1955، عندما تكونت في القاهرة جبهة أخرى سمّيت "جبهة تحرير الجزائر" حضرها ممثلون عن كل الاتجاهات الوطنية، بما فيها وفد جبهة التحرير الوطني. وببدو أن الشيخ الإبراهيمي قد لعب دورًا أساسيًّا في تكوين جبهة تحرير الجزائر المذكورة وفي لملمة أطراف كانت متباعدة مثل ممثلي مصالي وممثلي مكتب المغرب العربي. وقد جاء في البيان الصحفي الصادر عن مكتب جمعية العلماء بالقاهرة (21 مارس 1955) بعد إعطاء تفصيل عن الوضع العسكري والسياسي في الجزائر ما يلي: "من أجل ذلك اتحدنا نحن الجزائريين المسؤولين المقيمين بالقاهرة، في جبهة واحدة، هي (جبهة تحرير الجزائر) عاملين على مساندة الشعب الجزائري في كفاحه القومي من أجل الحرية والاستقلال".
ونود أن نبدي ملاحظة هامة هنا، وهي أن رأي الشيخ الإبراهيمي عندئذ لم يكن مجرد رأي سياسي يعبر عن قبول كذا أو رفضه، مثل بقية الزعماء، وسواء تعلق الأمر بممثلي جبهة التحرير الوطني أو تعلق الأمر بالسلطات المصرية، فإن رأي الشيخ الإبراهيمي كان عبارة عن (فتوى) تقول للشعب الجزائري إن الجهاد قد حق عليك وإن السلطات الفرنسية في الجزائر إنما هي سلطات كافرة يجب مكافحتها شرعًا. بالإضافة إلى الوزن السياسي لهذه الفتوى، فالشيخ الإبراهيمي كان من رجال الدين البارزين وكان مشهودًا له بالتعمق في الفقه والأصول وأحكام الشريعة الإسلامية، وكان زعيمًا لهيئة تجمع إلى الدفاع عن الدين الإسلامي حرية التعليم العربي، وإحياء الشخصية العربية- الإسلامية، ولذلك قلنا إن رأيه ليس في وزن رأي زعيم آخر في بلاده أو في خارجها، فقد كان ينظر إليه على أنه يمثل فتوى شرعية للجهاد والتحرير، وستلاحظ أن العناوين وروح المقالات التي ستقرأها مليئة بالعبارات الدينية والجهادية، مثل (الرضى بسلب الدين كف)، ومثل (موالاة المستعمر خروج عن الإسلام)، كما أنها مليئة بقوة البيان وبلاغة الأسلوب، وهو أمر قامت عليه شهرة الشيخ الإبراهيمي أيضا كحافظ وأديب ولغوي.(5/8)
وتضم مجموعة الوثائق قضايا أخرى عديدة لا سبيل لذكرها جميعًا، وإنما نكتفي بالإشارة إلى بعضها مصنّفة هكذا:
1 - العروبة والإسلام، وهو الموضوع العزيز على الشيخ الإبراهيمي الذي جعل منه شعار جريدة «البصائر» عند توليه تحريرها.
2 - اللغة العربية والتعريب في الجزائر، وقد عالج هذا الموضوع في عدة مناسبات منها الرسالة التي بعث بها إلى مؤتمر التعريب في الرباط، ومداخلته في مجمع اللغة العربية
بالقاهرة.
3 - تاريخ الجزائر عمومًا ولا سيما منذ الاحتلال، فقد خصص لذلك مقالات منها (صفحات مشرقة في تاريخ الجزائر)، و (يوم الجزائر الثائرة)، و (الإسلام في
الجزائر)، إلخ.
4 - الربط بين التاريخ الإسلامي وثورة الجزائر، وقد تمثل ذلك في مقالاته (عبرة من ذكرى بدر)، و (نفحات من فتح مكة)، و (شرعة الحرب في الإسلام) و (من وحي العيد).
5 - الصلة بين قضية الجزائر والدول الإسلامية مثل دور الدول الإسلامية في المؤتمر الآسيوي- الافريقي (باندونغ)، وأسبوع الجزائر بالعراق، و (يوم الجزائر)، وغيرها
من الكلمات التي ألقاها في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، والبرقيات التي وجهها إلى بعض الملوك والرؤساء العرب والمسلمين.
6 - الأدب والثقافة، وفي هذا النطاق نجد الكلمة التي ألقاها في المؤتمر الثالث للأدباء العرب، وهي عن حرية الأديب، ثم النهضة العربية في الجزائر، ثم حياته هو الشخصية "أنا" ...
وقد شاء القدر أن يكون آخر عمل في المجموعة وفي عهد الاستقلال هو: خطبة الشيخ الإبراهيمي في أول جمعة صليت في مسجد كتشاوة بعد إعادته لحظيرة الإسلام إثر غياب دام قرنا وثلاثين سنة، وكانت الخطبة رمزية فقط فهي لا تمثل حدثًا أدبيًا بارزًا. كما كان الشيخ الإبراهيمي مشهورًا بذلك في الأربعينات والخمسينات في مثل تلك المناسبات. كما يشاء القدر أن تجمع المجموعة أيضا بيانًا أعلنه الشيخ حول تجربة الجزائر المستقلة على قصرها، وبداية انحراف الثورة عن مسارها. فقد لاحظ الشيخ الإبراهيمي بنظرته الثاقبة أن الثورة التي دعا إليها في نوفمبر 1954 قد حادت عن طريقها منذ برنامج طرابلس والممارسات العشوائية التي تلت الاستقلال وبداية الدخول في متاهة الغموض الفكري والتقليد الأعمى لتجارب(5/9)
الدول الأخرى والابتعاد عن تجربة الجزائر والمبادئ التي وضعها الشيخ عبد الحميد بن باديس وحافظ عليها الشيخ الإبراهيمي باسم جمعية العلماء. وبذلك يكون الإبراهيمي قد دق ناقوس الخطر في الوقت المناسب، ولكن الآذان كانت صماء فلم تفق إلّا بعد فوات الأوان، أي بعد أحداث أكتوبر 1988 وما تلاها من اهتزازات وتداعيات ما نزال نتجرع علقمها وصابها إلى اليوم. ولكن حسب الشيخ الإبراهيمي أنه أعد جيلًا ثوريًّا ودعا إلى الثورة منذ بدايتها، يوم أن كانت حركة شعبية وجهادية، وأنه حذّر قومه من العواقب الوخيمة يوم أن أصبحت الثورة شعارات وخطبًا ومناصب وأفكارًا مستوردة من كل الأسواق العالمية.
ولا حرج عليه بعد ذلك. فكم من نبي أضاعه قومه.
مينيابوليس، 18/ 8/ 1993
أبو القاسم سعد الله(5/10)
- 2 -
منذ سنوات قليلة صدَّرت قسمًا من هذا الكتاب حين طبع تحت عنوان "في قلب المعركة". وقد ضمّ عندئذ حوالى أربعين موضوعًا كلها تتناول الثورة الجزائرية من قريب أو من بعيد. ثم بدا للمشرفين على تراث الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أن يجمعوا ما نشر في كتاب "في قلب المعركة" مع ما عثروا عليه للشيخ من موضوعات جديدة، أو موضوعات قديمة ولكنها كانت مبتورة وأصبحت الآن مستكملة، وأدخلوها ضمن السلسلة التي تحمل عنوان "آثار الإمام الإبراهيمي". فنتج عن ذلك هذا الجزء الخامس الذي نقدّمه. وهو جزء جمع حوالي خمسة عشر عنوانًا جديدًا، وإذا كان الكتاب الأخير يكاد يكون مقصورًا على الثورة الجزائرية وسيرة الشيخ، فإن الموضوعات المضافة تُوسّع من نطاق معرفتنا لآثار الشيخ الإبراهيمي الأخرى. ففيها موضوعات ذات أهمية، لها علاقة بالأدب والتاريخ وحياة بعض الأدباء والشعراء والمفكرين.
إن الطابع المشترك بين موضوعات هذا الكتاب هو تحريرها خلال عشر سنوات (1954 - 1964)، أي مرحلة الثورة والسنتين الأوليين للاستقلال. وهي المرحلة التي عاش الشيخ معظمها في المشرق العربي الإسلامي (1954 - 1962). وعاش أقلها في الجزائر. وسيلاحظ القارئ أن كل الموضوعات تحمل بصمات هذه المرحلة، من تقلبات سياسية وقيادية في المشرق، وتطورات للثورة نفسها، والأحداث الأولى لاستقلال الجزائر.
وقد حاولت أن أصنف المواد الجديدة التي لم يضمها كتاب "في قلب المعركة"، فكانت كما يلي:(5/11)
أ) ـ[الجزائر وفرنسا]ـ: وهي التي لها علاقة وطيدة بالثورة الجزائرية، وتشمل:
1 - اللائحة الداخلية لجبهة تحرير الجزائر (1).
2 - التكالب الاستعماري على الجزائر، وهو موضوع جيد، غير أنه مبتور، تعرض فيه الشيخ للاستعمار، والمقال لا يحمل تاريخًا أيضًا.
3 - الاستعمار والشيطان، مقالة أرسلها الشيخ إلى جريدة الجمهورية المصرية، في مايو 1955، ولا نعرف الآن هل نشرتها أم لا.
4 - الاستعمار الفرنسي في الجزائر، من أهم الموضوعات الجديدة. (انظر لاحقًا).
5 - جهاد الجزائر وطغيان فرنسا، مقالة كتبها بمناسبة يوم التضامن مع الشعب الجزائري في مصر، 15 مارس، 1958.
6 - في الذكرى الأولى للثورة، مقالة نشرت في مجلة "العرفان"، في شهر ديسمبر 1955.
7 - حديث لمجلة جمعية الشبان المسلمين، وفيه إنارات تعبر عن فكر الشيخ وبعض الخلفيات عن حياته.
ب) ـ[شخصيات]ـ: ويتضمن مقالات الشيخ عن كامل كيلاني، والدين في شعر شوقي، وفي مهرجان أحمد شوقي، وجمال الدين الأفغاني.
ج) ـ[الرسائل]ـ: وهي في الجملة قصيرة عدا تلك الموجهة إلى بعض علماء المملكة السعودية. وتشمل رسالة إلى أبي الأعلى المودودي، وإلى عبد الله كنّون، وإلى جمال عبد الناصر وشكرى القوتلي (رسالة واحدة موجهة للاثنين معًا)، وإلى مفتي السعودية، وإلى رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية أيضًا.
د) ـ[متفرقات]ـ: وتتضمن مقدمة كتاب العقائد الاسلامية لابن باديس الذي نشره محمد الصالح رمضان، واقتراحًا بتوسيع لجنة الفتوى، وإجازة إلى الشيخ محمد الفاسي.
حقيقة أن الموضوع الرئيسي في هذه الآثار هو: الجزائر وثورتها وتاريخها مع الاستعمار الفرنسي وموقف الشيخ من ذلك. وقد نوهنا بذلك في التصدير الذي كتبناه لكتاب "في قلب
__________
1) وهي منشورة أيضا في كتاب فتحي الذيب "جمال عبد الناصر وثورة الجزائر"، دار المستقبل العربي، القاهرة،1984. وسبق لكتاب "في قلب المعركة" أن نشر عن فتحي الذيب أيضًا نص "ميثاق جبهة تحرير الجزائر"، وبين النصين يوم واحد، إذ صدر الميثاق 17 فبراير 1955 واللائحة يوم 18 منه. ونجد نصًا آخر أيضًا بعنوان "بيان من جبهة تحرير الجزائر) فهذه النصوص الثلاثة ليست في الواقع للشيخ الإبراهيمي وحده، ولا تحمل أسلوبه الشخصي وإن كان هو من الموقعين عليها .. ولا تزيد في نظرنا من ارتباطه بالثورة إذ يكفيه النداء الذي وجهه في نوفمبر 1954، وغيره. وكانت تكفي الإشارة إلى مشاركته في إعداد وتوقيع النصوص المذكورة. أما "البيان" فليس من الواضح ما دور الشيح فيه، لأنه قد يكون من إعداد محمد خيضر الناطق- عندئذ- باسم جبهة التحرير في مصر.(5/12)
المعركة". ونودّ أن ننوه الآن بأمور أخرى. من بين الموضوعات الجديدة والمطولة موضوع "الاستعمار الفرنسي في الجزائر"، وهو حوصلة أربع محاضرات كان الشيخ قد ألقاها على طلبة معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة. لقد ابتعد فيها الشيخ عن موضوع الأدب والسياسة المباشرة، وعالج فيها تاريخ الجزائر بطريقة تلفت النظر. فكيف عثر الشيخ على المصادر؟ هل اعتمد على حافظته القوية فقط؟ والواقع أنه لم يستعمل الهوامش والتوثيق، ولم يلق المحاضرات من صفحات مكتوبة، وإنما ارتجلها كما هي عادته، ثم كتبها بعد الأسابيع الأربعة المحدّدة. وقد تصرّف في ذلك دون الارتباط بما ألقاه على الطلبة. ولكنه كان موفقًا غاية التوفيق في المنهج. فقسم تاريخ الجزائر إلى مراحل وانتهى به إلى عهد الاحتلال الفرنسي، وتحدث عن دور الأحزاب وجمعية العلماء، ونحن نجد آراء جديدة في هذه الدراسة حول القضايا المعاصرة من وجهة نظر دارس ومحلل ومعاصر، وليس كاتبًا لمقالة أو خاطرة سريعة. وكان الأجدر أن تطبع هذه المحاضرات- رغم أنها غير كاملة- في كراسة وحدها لتعميم فائدتها على الجيل الحاضر.
وقد وصف الإبراهيمي منهجه في الدراسة فقال: "وألممت فيما كتبت بشيء من تاريخ الجزائر من يوم أسلمت، ومن يوم تعربت، ثم بشيء من أخبار الدول التي قامت بها من أهلها، ثم مررت بتاريخ العهد التركي، وهو أطول العهود فيها، مرورًا أهدأَ مما سمعه الطلاب مني وأبطأ" أي أنه توسع في العهد التركي (العثماني) أكثر من غيره، ولم يتوسّع الشيخ في تناوله للاحتلال، وما صاحبه من تطورات سياسية وثقافية واجتماعية، رغم أنه عالج ذلك بتوسع، كما ذكرنا، ونفهم من المدخل الذي كتبه الشيخ لمحاضراته أنه قدمها بعد كتابتها، إلى إدارة المعهد لتطبعها وتوزعها على الطلاب. فهل طبعت المحاضرات فعلًا عندئذٍ؟ إننا لم نجد تعليقًا يفيدنا ذلك (2).
ولعل من أفضل ما كتب الشيخ الإبراهيمي في هذه الدراسة هو وصفه للأحداث والشخصيات التي عاصرها أي منذ العشرينات، فقد ألقى أضواء كاشفة على قيادات ذلك الوقت، سيما الأمير خالد، والحاج محمد بن رحال، والدكتور موسى، والدكتور ابن جلول، وهي القيادات التي سماها "سياسية" فقط. كما تحدث عن الحركات الأخرى التي سماها "الوطنية" والتي منها جمعية العلماء وحزب الشعب وحزب البيان. ومن الأسف أن حديثه عن هذه "الهيئات" كما يسميها لم يغط سوى جمعية العلماء، وانقطع النص بعد ذلك. فلم نعرف هل أكمل الحديث عن الحِزْبَيْن المذكورين أو لم يكمله.
__________
2) الجواب عن هذا التساؤل في هامش الصفحة 147 من هذا الجزء (المصحح).(5/13)
ومن الموضوعات الجديدة التي تلفت النظر أيضا كلمة الشيخ عن المفكر الثائر جمال الدين الأفغاني. فلأول مرة نطلع على تقدير الشيخ للأفغاني في عبارات قوية عرّض فيها "بعلماء القشور والرسوم" الذين ينظرون إلى الأفغاني على أنه "ليس عالمًا دينيًا بالمعنى الذي يفهمونه من الدين" لأن العالم الديني عندهم هو "حاكي أقوال وحافظ اصطلحات وراوي حكايات". وقال ان "أصحاب العقول المدبّرة والأفكار المثمرة، والبصائر النيرة، والموازين الصحيحة للرجال، فإنهم يرون الأفغاني عالمًا أي عالم، وفردًا انطوى على عالم، وحكيمًا أي حكيم، وأنه أحيى وظيفة العالم الديني وأعادها سيرتها الأولى، وأنعش جَدَّها العاثر، وجدّد رسمها الداثر". وكانت علاقة الشيخ الإبراهيمي تاريخيًا بفكر الشيخ محمد عبده ورشيد رضا أوضح من علاقته بفكر الأفغاني لأنه كتب بنفسه عن ذلك في عدة مناسبات، وكانت جمعية العلماء تعتمد في ظاهر الأمر مذهب الشيخ عبده وتفضله على مذهب الأفغاني، ولكن الإبراهيمي في كلمته الجديدة ظهر منتصرًا للأفغاني انتصارًا كبيرًا. ومع ذلك فقد كنا نتمنى أن لو تعرض الإبراهيمي إلى صلة مذهب الأفغاني بالفكر السياسي والإصلاحي في الجزائر. ذلك أن كلمته اقتصرت على الحديث عن شخصية وحكمة ودور الأفغاني كوجه من وجوه الشرق والإسلام.
تمنى الإبراهيمي في مقالته "فرنسا وثورة الجزائر"- وهي مقالة قديمة أضيف إليها ذيل- أن يقيّض الله لثورة الجزائر مؤرخًا من أبنائها "مستنير البصيرة" مسدد الفكر والقلم، صحيح الاستنتاج، سديد الملاحظة، فقيهًا في ربط الأسباب بالمسببات" ليكتب "تاريخًا لا يقف عند الظواهر والسطحيات ... بل يتغلغل إلى ما وراء ذلك من الأسباب النفسية التي تحرك فرنسا إلى هذه المجازر البشرية وإلى العوامل التي تدفع المقاتلين (الجزائريين) إلى هذه الاستماتة في حرب حارت فيها عقول ذوي العقول ... " وأضاف "لا نخطط الخطوط لذلك المؤرخ المرتقب، ولا نحدد الحدود لذلك المؤرخ، ولا نقدم له صورة هينة، فذلك المؤرخ الذي أعدَّه الله لهذه المنقبة لعله لم يولد بعد، وإنما الشرط فيه أن يكون جزائريًّا". إن هذا الرأي يضع مواصفات المؤرخ الذي سيكتب تاريخ الثورة، كما يضع أيضًا مواصفات للمؤرخ عمومًا، كالثقافة المتينة، وقوّة الاستنباط، والبحث عن العلل والأسباب والغوص وراء الظواهر، ومعرفة الدوافع الباطنية.
أتينا بهذه العينات من كتابات الشيخ الإبراهيمي في الموضوعات الجديدة ليعرف القارئ أننا أمام مادة غزيرة أخرى تكشف عن هوية الشيخ المتمثلة في الوطنية والعروبة والإسلام. وعلينا أن نضيف إلى ذلك كتاباته المجهولة عن شوقي في المقالتين المذكورتين إذ يقدم الشيخ فيهما خلاصة رأيه في هذا الشاعر الذي أحبَّ الإبراهيمي شعره حتى كان يحفظ الكثير منه منذ كان في العشرين من عمره. وقد روى في مكان آخر أنه عند توقفه بمصر ممنة 1911 ذهب إلى(5/14)
منزل شوقي (كرمة ابن هانئ) وقرأ على الشاعر جملة من أشعاره التي وصلت إلى الجزائر، وطالما كان الإبراهيمي يحدثني عن قيمة شعر شوقي ويرويه ويضعه في مصاف أعاظم الشعراء.
وأعرف شخصيًّا مدى المودة التي كانت تربط بين الشيخ الإبراهيمي وكامل كيلاني الذي كنت أراه يتردد على مركز جمعية العلماء بالقاهرة حيث مكتب الإبراهيمي وغرفة نومه. ولكني لم أكن أعرف أن الشيخ قد كتب منوهًا بمجموعة من كتب كيلاني، حتى اطلعت على مقالته في هذه الآثار. ويتصل بذلك رسائله إلى كل من المشائخ أي الأعلى المودودي وعبد الله كنون.
أما رسائله إلى مفتي المملكة العريية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وإلى رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بها، الشيخ عمر بن حسن. وإلى الرئيسين عبد الناصر وشكري القوتلي، فموضوعها مختلف. فالرسائل الأولى تتعلق بالثورة الجزائرية ودور رجال الدين في المملكة وحثهم على دعوة أهل البلاد للتبرع بالمال للثورة كما تقتضيه الأصول الإسلامية والأخوة العربية. وهي رسائل جمعت بين لغة الإبراهيمي البيانية وثقافته الدينية العميقة ومهارته الدبلوماسية أيضا. ويكفي أن نعرف أن هذه الرسائل قد حملها وفد جزائري رسمي كان متوجهًا إلى السعودية. وفي رسالته إلى الرئيسين، ناصر والقوتلي، تهنئة لهما بوحدة مصر وسورية وميلاد الجمهورية العربية المتحدة، وتحذير من المتخاذلين والمثبطين. وقد عشنا معًا هذا الحدث التاريخي، ولكني كنت في أمريكا عندما انهارت تلك الوحدة، فلم أدر كيف كان شعور الشيخ الإبراهيمي عندئذٍ. ولا شكّ أنه قد أصيب بالحسرة والأسى أيضًا، غير أن عزاءه كان في ثورة الجزائر فهي التي كانت تبشر بمستقبل عربي زاهر.
وتكشف هذه الآثار أيضًا عن زيارة الشيخ الإبراهيمي إلى الشاعر حافظ إبراهيم سنة 1911، وبعض التفاصيل عن خط سفره من القاهرة إلى الحجاز (بور سعيد، حيفا، تبوك، المدينة المنورة)، وعن دروسه في الأزهر وغيره ثلاثة أشهر على: يوسف الدجوي، والحسين عبد الغي محمود، ونجيب شيخ الرواق العباسي، وسعيد الموجي. وقد ذكر الشيخ الإبراهيمي أن ابن باديس قد تلقاه في تونس سنة 1920 أثناء رجوعه من الشام، وهي معلومة جديدة تدل على التواصل بين الشيخين منذ لقائهما في المدينة المنورة سنة 1913. كما تدل على أن ابن باديس لم يقطع صلته بتونس، فلعله كان يذهب إليها من حين إلى آخر، حتى قبل أن تثير الصحف الاستعمارية الضجة حول زيارته لها خلال الثلاثينات عند ما جاء للترحيب بعودة صديقه عبد العزيز الثعالبي، 1937. وفي إجازة الشيخ الإبراهيمي لمحمد الفاسي لقطة قديمة- جديدة في آنٍ واحد. وهذه الإجازة هي من آخر ما كتب الشيخ (1964) إذ كان عندها على فراش المرض. وهي لا تضيف جديدًا لأسانيد الإبراهيمي العلمية التي نعرفها، ولكن الرجوع إلى أسلوب الإجازات الذي طالما انتقد الإبراهيمي القدماء على تساهلهم فيها أمر يلفت النظر أيضًا.(5/15)
ان آثار الإبراهيمي ما تزال في نظرنا متفرقة ولم تجمع كلها. ومن الذين نظن أنهم كانوا يملكون منها ويعرفون عنها الكثير أو القليل، كاتبه السيد عبد الرحمن الذي كان المتكفل برقن ما يكتبه الشيخ أو يمليه عليه اختزالًا، والذي كان يقُومُ له بتنظيم كل المواعيد والاتصالات مع الجامعة العربية والسلطات المصرية والجهات والهيئات والشخصيات المختلفة. فهو الذي كان يعرف "أسرار" الإبراهيمي، وقد بقى معه عدة سنوات، بعضها قبل وصولي شخصيًّا إلى القاهرة، خريف 1955.
كما أن الشيخ أحمد الشرباصي كان موضع ثقة الإبراهيمي ومحل سره في أمور كثيرة. وكان الشرباصي عندئذٍ شيخًا في مقتبل العمر، نشيطًا في الأزهر وفي جمعية الشبان المسلمين، وفي الهيئات العربية والإسلامية. وكان الإبراهيمي يعامله معاملة خاصة، ويخاطبه بعبارة "ولدنا" ونعتقد أن أوراق عبد اللطيف دراز، والحاج أمين الحسيني، والأمير الخطابي، ومحمد علي الحوماني، وأحمد الشقيري، وشخصيات أخرى مصرية وسعودية وسورية ... تتضمن مجموعة من رسائل الشيخ الإبراهيمي وآثاره المكتوبة الأخرى وعلى الباحثين المهتمين أن يواصلوا البحث عنها. وعندئذٍ لن يكون هذا الجزء الخامس من آثار الشيخ سوى جزء من أجزاء أو حلقة من سلسلة طويلة.
18 رمضان 1417هـ / 27 يناير 1997م.
أبو القاسم سعد الله
جامعة آل البيت (الأردن)(5/16)
السياق التاريخي (1954 - 1965)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن إيمان الإمام محمد البشير الإبراهيمي بالجهاد وسيلة لتحرير الوطن من الاستعمار هو من إيمانه بربه الذي أنزل في كتابه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، وأنزل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، ومن اقتناعه بأن الفرنسيين لا يخضعون إلّا للقوّة، حيث كتب سنة 1950 يخاطب الشعب الجزائري ويغرس في قلبه هذه الحقيقة: "إن القوم- الفرنسيين- لا يدينون إلّا بالقوّة، فاطلُبها بأسبابها، وَأْتها من أبوابها، وأقوى أسبابها العلم، وأوسع أبوابها العمل، فخُذْهُما بقوّة تَعِشْ حميدًا وتمُتْ شهيدًا" (1)، ويضاف إلى ما سبق معرفة الإمام بنفسية الشعب الجزائري الذي فُطر على حُبّ الجهاد، دفاعًا عن دينه، وعرضه، وأَرضِه التي سُمّيت في فترة من تاريخه: "أرض الجهاد"، وسُمّي أحدُ أبواب عاصمته "باب الجهاد" (2). فمسألة تحرير الجزائر عن طريق الجهاد مسألة مفروغ منها بالنسبة للإمام الإبراهيمي، وإن تقول المتقولون، وأَرْجَف المرجفون.
بيد أن الإمام كان مقتنعًا أن إعلان الجهاد من غير إعداد للشعب هو إلقاءٌ به إلى التهلكة، وتضحية بأبنائه من غير جدوى، وكان يؤمن أن أهم إعداد لذلك الجهاد هو تحرير عقول الجزائريين ونفسياتهم، لأنه "محال أن يتحرر بَدَنٌ يحمل عقلًا عبدًا" (3). ولا شك أن
__________
1) انظر مقال: "ويحهم .. أهي حملة حربية؟ " في الجزء الثالث من هذه الآثار.
2) أبو القاسم سعد الله: الحركة الوطنية الجزائرية، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب 1992، الجزء 1، القسم 1، [ص:64]. وبعد الاحتلال سمته السلطات الفرنسية، "باب فرنسا"، وقد سُمِّيَ أخيرًا باسم المجاهِدَيْن عروج وخير الدين بَرْبَرُوس.
3) انظر مقال: "جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها- 1" في الجزء الثالث من هذه الآثار.(5/17)
تحرير العقول أصعب وأشق من تحرير الحقول، ذلك أن تحرير الحقول يستطيع أن يقوم به كل شخص، أما تحرير العقول فلا يقدر عليه إلّا راسخ في العلم عميق في الفهم، صادق في العزم، مخلص في القصد.
من أجل ذلك قضى الإمام الإبراهيمي أزهر مراحل عمره في تحرير عقول الجزائريين وتغيير ما بأنفسهم، وقد عمل في سبيل هذا الهدف في عدّة جبهات:
1) جبهة الطرقية المنحرفة وعلماء الدين الرسميين، الذين ضلّ سعيهم، واتخذوا الفرنسيين أولياء لهم، ورضُوا بالدنية في دينهم، وأوحوا إلى الشعب الجزائري أن الاستعمار قضاء وقدر لا مرَدَّ له، وأن رفضه ومقاومته محادة لله. وكذبوا، وصدق الله القائل عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}. وهل يوجد من هو أفحش من الاستعمار الفرنسي الذي اغتصب البلاد، واستعبد العباد، وأهان الدين، وانتهك الأعراض، ونشر الجهل، وحرَّم العلم، وأمر بالمنكر ونَهَى عن المعروف؟
2) جبهة المستَلَبِين، الذين نالوا نصيبًا من الثقافة الفرنسية، فانسلخوا من دينهم، واحتقروا لغتهم، وسخروا من تاريخهم، وكان أكبر همهم أن ترضى عنهم فرنسا، فدعوا إلى إدماج الجزائر فيها طوعًا أو كرهًا. وقد كان الإمام الإبراهيمي يعتبرهم ضحايا يجب إنقاذهم، ومرضى يجب إسعافهم. وقد أرجع الإمام سبب ضلالهم إلى الطرقيين الذين أشاعوا الخرافات، ونسبوها إلى الإسلام، وإلى المستشرقين الذين شوهوا صورة الإسلام، وعرضوه في أبشع الصور تنفيرًا منه. وقد استطاع الإمام أن ينقذ كثيرًا من هؤلاء المستلبين، وأن يعيدهم في ملتهم، بعد أن عرَّفهم بحقيقة الإسلام، وبأمجاد المسلمين التاريخية، ومنجزاتهم العلمية، وقد استفادت الثورة- فيما بعد- مِنْ خدمات طيبة قدَّمها هؤلاء.
3) جبهة "الطرقية السياسية" (4)، وهم الذين أبدلوا الجزائريين "الزعيم" بشيخ الطريقة، وحصروا القضية الوطنية في شخص، وهذا ما سماه بيان أول نوفمبر 1954 "التوجيه المنحرف" للحركة الوطنية، وما ندَّد به مؤتمر الصومام في وثيقته سنة 1956. وقد أشار الشاعر مفدي زكريا إلى هذه الفكرة بقوله:
وتأبى الزعامات كبح الطموح، … فتصنع للخُلف شكلًا جديدًا.
وتغزو السياسة فكر الزعيم … فيصبح فكر الزعيم بليدًا
كأن الزعامة إعصار جان … ولم أر للجان عقلًا رشيدًا (5).
__________
4) نفس المرجع.
5) مفدي زكرياء: إلياذة الجزائر. نشر وزارة الشؤون الدينية، الجزائر 1986، [ص:63]، وانظر مقال: "كيف تشكلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين" في الجزء الثاني من هذه الآثار.(5/18)
4) الجبهة الفرنسية، فقد عمل على نزع هيبة الفرنسيين ورهبتهم من صدور الجزائريين، وكان يردّد في مقالاته وخطبه أن قوّة الفرنسيين من ضعف الجزائريين، الناشئ عن التفرّق، والجهل، والكسل، ويوحي إليهم بعدم الاستسلام "فلا أظلم من الظالم إلّا من يخضع لظلمه ويحترم قوانينه الظالمة"، و"لا تستيئسوا، إن لم يكن لكم بعض ما لديهم من القوّة المادية، فعندكم من القوّة المعنوية ما لو أحسنتم تصريفه واستغلاله لغلب ضعفكم قوّتهم" (6). وكان يُشيع لفظ الحرية حتى تألفه الأُذُن، ويهفو إليها القلب، وتسعى إلى نيلها اليد، وفي هذا الإطار يدخل وصفُ مؤسسات الجمعية والمنتسبين إليها بالحرية، فمدارسها حرّة، وتعليمها حر، ومعلموها أحرار، ومساجدها حرّة، وصحافتها حرّة .. وقد أشار المسؤولون الفرنسيون إلى بعض أعمال الإمام الإبراهيمي في هذا الشأن، حيث جاء في تقرير والي وهران إلى الوالي العام الفرنسي "إن الإبراهيمي ليس فقط محركًا للضمير العام، ولكنه أصبح المحرك لكل الأنشطة السياسية المحلية الأهلية ذات الطموح المضاد لفرنسا" (7). ومن وسائله في ذلك ما حدّثني به الأستاذ أحمد بن ذياب- في أفريل 1986 - من أن الإمام الإبراهيمي كان ينظم الأزجال باللهجة العامية يندّد فيها بفرنسا، ويدعو إلى عدم رهبتها، والاستعداد لطردها من الجزائر، ويسرب تلك الأزجال إلى المدَّاحين لإنشادها في الأسواق، والمناسبات الاجتماعية والأعياد الدينية.
حقق الإمام- وجمعية العلماء- نجاحًا كبيرًا في تحرير عقول الجزائريين، فنبذ أغلبهم الطرقية، ولم يعودوا "فقراء" (8) إلى شيوخها، وتبرأوا من الاندماجيين الذين أصرُّوا على موقفهم، وتخلصوا من ظاهرة تقديس الزعيم وعبادة الشخص، وأخرَجُوا الاستعمار من صدورهم فخرج- بعد حين- من أرضهم. ولاحظ الإمام في جولاته عبر التراب الوطني، وفي اتصالاته بمختلف فئات الشعب أن الوعي قد انتشر، وأن تحرير العقول والنفوس قد تمّ أو يكاد يكتمل، فأيقن أن ساعة فرنسا في الجزائر قد اقْتَرَبَتْ، وأنها آتية لا رِيْبَ فيها، وأدرك أن هذه "الظواهر الهادئة، ما هي إلّا أواخر فورة وأوائل ثورة" (9) و "ليُوشكنَّ أن يغير الله ما بنا بعد أن غيرنا ما بأنفسنا" (10).
__________
6) انظر مقال "دعوة صارخة إلى اتحاد الأحزاب والهيئات" في الجزء الثالث من هذه الآثار.
7) أبو القاسم سعد الله: الشيخ الإبراهيمي في تلمسان، مجلة الثقافة، عدد 101، الجزائر (1988) [ص:87].
8) يسمِّي شيوخ الطرقيين فى الجزائر أتباعهم "فقراء"، وأنساهم الشيطان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}.
9) انظر مقال: "حقائق" في الجزء الثالث من هذه الآثار، والمقصود بالفورة حوادث 8 مايو 1945.
10) انظر مقال: "فتح جامع الحنايا ومدرستها" في الجزء الثاني من هذه الآثار.(5/19)
عند ذلك انتقل الإمام إلى مرحلة جديدة وهي بداية "تدويل القضية الجزائرية"، فسافر إلى باريس مبشرًا ونذيرًا: التقى الإمام وفود الدول العربية والإسلامية إلى مؤتمر الأمم المتحدة، فحياها "باسم الجزائر العربية المسلمة المجاهدة"، وبشر تلك الوفود بقوله: "إن الجزائر ستقوم قريبًا بما يدهشكم من تضحيات وبطولات في سبيل نيل استقلالها، وإبراز شخصيتها العربية الإسلامية" (11)، وأنذر فرنسا بأن مرحلة الكلام قد انتهت و"أن بعد اللسان لَخَطيبًا صامتًا هو السنان، وإننا لرجال، وإننا لأبناء رجال، وإننا لأحفاد رجال ... وإن فينا لقطرات من دماء أولئك الجدود، وإن فينا لبقايا مدخرة سيُجَلِّيها الله إلى حين" (12).
ثم سافر الإمام إلى المشرق، ليهيئ شعوبه وحكوماته ودوله لمساعدة الجزائر، وقد نجح الإمام نجاحًا كبيرًا في هذه المهمة، دل على هذا النجاح سرعة تجاوب الدول العربية شعوبًا وحكومات مع الشعب الجزائري، واحتضان جهاده، وإمداده بمختلف أنواع المساعدات المالية والعسكرية والدبلوماسية، حيث تكفلت المملكة العربية السعودية بعرض قضية الجزائر في هيئة الأمم المتحدة (13)، وذلك في شهر ديسمبر سنة 1954.
وأخذت الصيحة- في أول نوفمبر 1954 - الذين ظلموا، حين أعلن الشعب الجزائري جهاده، فعَقَدت الدهشة ألسِنَة بعض السياسيين الجزائريين، وانطلقت ألْسِنَة "التقدميين" تندد "بالإرهاب"، وتشجب "العنف"، ولكن شخصية واحدة كانت يقظة مع خيوط فجر ذلك اليوم، وعرفت أن الفجر صادق، وأن المؤذن حقيقي، فاستجابت للنداء. إنها شخصية الإمام محمد البشير الإبراهيمي.
إن أول مؤيد للجهاد الجزائري هو الإمام محمد البشير الإبراهيمي، فقد أصدر مكتب جمعية العلماء بالقاهرة يوم 2 نوفمبر 1954 بيانًا (14)، حَمَل فيه على فرنسا، وحمَّلَها عاقبة ما ارتكبته في الجزائر، وأكَّد لها أننا "سنكون سبب موتها"، ثم ذكَّر حكومات المشرق العربي بواجبها في "إمداد وتشجيع" هذه الحركات المتأججة في المغرب العربي.
ثم أكّد ذلك البيان ببيان آخر يوم 3 نوفمبر 1954، حَيَّى فيه الثائرين الأبطال الذين سفَّهوا زعْمَ فرنسا أن الجزائر راضية بها مطمئنة إليها، والذين شدوا عضد إخوانهم في تونس
__________
11) محمد فاضل الجمالي: الشيخ البشير الإبراهيمي كما عرفته، مجلة الثقافة، عدد 87، الجزائر مايو - يونيو 1985، [ص:123].
12) انظر "خطاب أمام الوفود العربية والإسلامية في الأمم المتحدة" في الجزء الثاني من هذه الآثار.
13) مولود قاسم نايت بلقاسم: ردود الفعل الأولية داخلًا وخارجًا على غرة نوفمبر، قسنطينة، دار البعث، 1984، [ص:203].
14) انظر مقال: "مبادئ الثورة في الجزائر: بيان مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة" في هذا الجزء من الآثار.(5/20)
والمغرب، والذين وصَلُوا حلقات الجهاد الذي هو طبيعة ذاتية في الجزائري، ثم ذكَّرهم بجرائم فرنسا في حق دينهم ودنياهم، وأنه ليس أمامنا إلّا "بقاء كريم أو فناء شريف" (15).
ثُمَّ عزَّز الإمام ذانيك البيانين بثالث وجَّهه إلى الشعب الجزائري المجاهد، حياه فيه، وذكَّره بغدر فرنسا، وأياديه البيضاء عليها، ونكرانها لجميله، "فلم تُبْقِ لكم دينًا ولا دنيا". وحذَّر فيه الجزائريين من النكوص والتراجع، وأكَّد لهم أن فرنسا "تنظر إليكم مسالمين أو ثائرين نظرة واحدة، وهي أنها عدو لكم، وأنكم عدٌّ لها، ووالله لو سألتموها ألف سنة لما تغيرت نظريتها العدائية لكم، وهي بذلك مصممة على محوكم ومحو دينكم وعروبتكم وجميع مقوماتكم". ثم يدعوهم جميعًا "إلى الكفاح المسلح ... فهو الذي يسقط علينا الواجب، ويدفع عنا وعن ديننا العار" (16).
لقد كانت هذه البيانات الصادرة كلها في العَشْر الأوائل من نوفمبر 1934، عن أهم شخصية دينية وسياسية جزائرية- من غير أن يطلب منه طالب، أو يضغط عليه ضاغط- كانت تلك البيانات ضربة قاضية على كل مناورة يمكن أن تلجأ إليها فرنسا في حال سكوته.
كما قدَّمت تلك البيانات دعمًا قويًا للمجاهدين، ونفخت في الثورة روحًا وهي في أوهن مراحلها، حيث أخرجت الشعب الجزائري من التردد والحيرة اللذين كان يمكن أن يُصَابَ بهما، لجهله بمصدر الثورة، وتوجُّهِها، فبيانات الإمام الإبراهيمي شهادة للشعب الجزائري على شرعية المولود- الثورة- وصحته ...
وكما أدّت هذه البيانات دورًا هامًا في تقبل الشعب بسرعة للثورة، كانت بمثابة جواز مرور للمسؤولين عنها- الثورة- إلى قادة جل الدول العربية والإسلامية، الذين لم يكونوا يعرفون مسؤولًا واحدًا من مسؤولي الثورة، وزاد من تقبل قادة تلك الدول للثورة ومسؤوليها طلب الإمام الإبراهيمي من شيخ الجامع الأزهر يوم 12 نوفمبر 1954 أن يدعوَ المسلمين إلى الجهاد ضد فرنسا (17)، الأمر الذي جعل الضابط الفرنسي سِرْفْييِ، المتخصص في علم الاجتماع، يكتب في جريدة لُومُوند ( Le Monde) " ان جمعية العلماء هي المسؤولة عن هذه الحوادث" (18). ولا شك أن هذا الضابط يعلم أن الجمعية ليست هي التي أطلقت
__________
15) انظر مقال: "إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر والمغرب" في هذا الجزء من الآثار.
16) انظر مقال: "نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد" في هذا الجزء من الآثار.
17) Jacques Carret: l'Association des Oulamas d'Algérie. (S.E.) (S.D.), p. 27 والمعلوم أن جاك كاري من ضباط الاستخبارات الفرنسية.
18) مولود قاصم نايت بلقاصم: مرجع سابق، [ص:67].(5/21)
الرصاصات، ولكنها هي التي حررت عقول من أطلقوا تلك الرصاصات وأنفسهم، "فثورة الفاتح من نوفمبر كانت ترجمة عملية لفكرة العلماء العربية الإسلامية" (19)، حيث "لم تنجح حركة سلفية في بلد عربي أو إسلامي وتأخذ طريقها إلى الحياة العملية لتكون أساس النضال كما نجحت في الجزائر" (20).
لقد أزعجت هذه البيانات الذين في صدورهم مرض، وفي قلولهم غل لجمعية العلماء ولرئيسها الإمام محمد البشير الإبراهيمي، لأنهم كانوا يتمنون أن لا تؤيد الجمعية جهادَ شعبٍ علمته معنى الجهاد، ووجوبه، أو أن يتأخر تأييدها، فيصبح لا قيمة له، كإيمان فرعون الذي لم يعلنه إلّا بعد أن أدركه الغرق، فرُدَّ عليه.
لذلك، فإن بعض من كتبوا عن ثورة الشعب الجزائري أهملوا الإشارة إلى هذه البيانات وموقف الإمام محمد البشير الإبراهيمي من جهاد شعبه، ومنهم من أشار إلى تلك البيانات وإلى ذلك الموقف على استحياء، ومنهم من فرّق بين موقف الإمام الإبراهيمي وبياناته وبين موقف الجمعية، فقالوا إن هذه البيانات تعبير عن موقف شخصي للإمام الإبراهيمي الذي كان بالقاهرة، وبالتالي فهي لا تعبر عن موقف الجمعية.
ولنسأل هؤلاء الجناة على الحقيقية التاريخية: إذا كان الإمام يتكلم باسمه الشخصي، ولس باسم جمعية العلماء، فلماذا يوقع تلك البيانات بصفته رئيس جمعية العلماء؟ ولماذا يصر على ذكر مصدر تلك البيانات، وهو مكتب جمعية العلماء بالقاهرة؟
ولنسألهم مرة أخرى: لو لم تكن تلك البيانات باسم جمعية العلماء، فلماذا سكت عنها هؤلاء العلماء؟ ولماذا لم يستنكروها؟ أو يتبرأوا منها؟ أو يشجبوا موقف الإمام؟
إن الحقيقة التي يؤمن بها هؤلاء المزوِّرُون للتاريخ، وتستيقنها أنفسهم، ولا تنطلق بها ألسنتهم ولا تسطرها أقْلامُهُم، هي أنه كَبُر عليهم أن تُغَبِّر الجمعية ورئيسها في وجوههم، وتحوز الجمعية ورئيسها بالسَّبْق تفضيلًا، فتحتضن جهاد الشعب الجزائري، وتتركهم في ضلال مبين، رغم ادعائهم التحليل العميق والتنبؤ الدقيق.
لقد كان في إمكان الإمام الإبراهيمي أن يلتزم الصمت وينتظر تطور الأوضاع كما فعل بعض السياسيين المحترفين، أو أن يندد "بالإرهاب" ويستنكر "العنف " كما فعل الشيوعيون،
__________
19) د. نبيل أحمد بلاسي: الاتجاه العربي والإسلامي ودوره في تحرير الجزائر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995، [ص:128].
20) محمد المبارك: جمعية العلماء ومكانها في تاريخ الجزائر الحديث، مجلة حضارة الإسلام، العدد 2، السنة 6، دمشق، آب 1965.(5/22)
أدعياء الثورية، أو أن يصدر البيانات باسمه الشخصي ليجنِّبَ الجمعية التي يرأسها ويقودها السُّوءَ، ولكنه أدرك بحسه العميق وتحليله الدقيق أن هذا الذي وقع في أول نوفمبر بالجزائر هو "ثورة" وليس "فورة"، وأن هذه الثورة تتميز "بحسن التدبير والنظام والإحكام، وأن الثورة شعبية غير متأثرة بالتأثرات الحزبية، وأن طابعها عسكري، حازم، عارف بمواقع التأثير" (1).
من أجل ذلك، فهذه الثورة في أمسِّ الحاجة إلى مساندة هيئة ذات مصداقية لدى الشعب الجزائري، وتزكية شخصية موثوق بها لديه، ليحتضن الثورة ويُمِدَّها بأمواله وبنيه.
ولم يكن في الجزائر آنذاك هيئة موثوق بها وبرئيسها وأعضائها إلّا جمعية العلماء، فالشيوعيون لا تأثير لهم على الشعب الجزائري، لا قبل الثورة ولا في أثنائها ولا بعدها، فإدارتهم "إدارة مكتبية- بِرُوقراطية- لا صلة لها بالشعب، ولم تكن قادرة على تحليل الحالة الثورية تحليلًا صحيحًا .. (و) كان خضوع الحزب الشيوعي الجزائري للحزب الشيوعي الفرنسي خضوع بني وِي- وِي" (22)، وكانوا أسارى نظريتهم الخيالية القائلة "بأنه من المحال تحرير الوطن الجزائري قبل انتصار طبقة العمال في فرنسا" (23)، والقائلة بنفي "صفة الثورة على طبقة الفلاحين عامة والفلاحين الجزائريين منهم خاصة" (24)، وأعضاء حزب أحباب البيان كانوا محدودي التأثير على الشعب الجزائري بسبب منطلقاتهم الفكرية التغريبية، وإيمانهم بإمكانية الوصول إلى نوع من الكيان السياسي المشترك بين الجزائريين والفرنسيين تحت السيادة الفرنسية.
وأما أعضاء حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، فقد كان بأسهم بينهم شديدًا، فقد انقسموا على أنفسهم، وصار يلعن بعضهم بعضًا، ويقتل بعضهم بعضًا من أجل الزعامة والنفوذ الشخصي.
إن بيانات الإمام الإبراهيمي المتتالية المؤيدة للثورة، الداعية إلى تأييدها كانت مَدَدًا إلهيًا لها في أول عهدها، وفي مرحلة ضعفها، لأنها جعلت الشعب الجزائري يطمئن إليها ويثق بها، ويقبل عليها من غير تردد، ومن غير ضغط أو إكراه، "فدَفْع الجماهير إلى الثورة ضد المستعمر يكون دائمًا باسم الدين، لأن العربي في الجزائر- الذي لا يملك شيئًا يقتات به- ليس لديه إمكانية أخرى للتعبير عما يريده وما يرفضه في المجال السياسي سوى السير
__________
21) انظر مقال: "أوسع المعلومات عن بداية الثورة في الجزائر" في هذا الجزء مِن الآثار.
22) انظر "بيان الصومام" في ملفات وثائقية رقم 24، وزارة الإعلام والثقافة، الجزائر 1976، وكلمة "وِي- وِي" بالفرنسية معناها "نعم، نعم"، ويطلقها الجزائريون على الموالين لفرنسا، احتقارًا لهم.
23) نفس المرجع، وتحرير الوطن في مفهوم الشيوعيين الجزائريين ليس معناه الانفصال عن فرنسا، وإنما معناه القبول بسيادة فرنسا "البروليتارية" على الجزائر.
24) نفس المرجع.(5/23)
وراء ما يعتقد أنه طبقًا لعقيدته الإسلامية، ومن هنا كانت استجابته لتوجيه العلماء. (و) يلعب هؤلاء العلماء دورًا كبيرًا في إشعال الروح الدينية لدى الشعب، وفي دفعه من الناحية الدينية إلى الثورة ضد المستعمرين" (23).
ولم يمض إلّا ثلاثة أشهر منذ إعلان الجهاد حتى تداعى أبناء الجزائر المقيمون في القاهرة، وفي مقدمتهم الإمام الإبراهيمي، وحرَّروا ميثاقًا، وأسسوا تنظيمًا سُمِّيَ "جبهة تحرير الجزائر"، "لخدمة الجزائر، والكفاح في سبيل تحريرها واستقلالها، مساندين بذلك جيش التحرير".
إن أثر الإمام الإبراهيمي في ذلك الميثاق ليظهر جليًا، وإن حقيقة الجزائر لتبرز فيه بروزًا قويًا، حيث وُصِفتْ بـ "العربية المسلمة"، ونصَّ البند الرابع على أن "الجزائر عربية الجنس، مسلمة العقيدة، فهي بالإسلام والعروبة كانت، وعلى الإسلام والعروبة تعيش" (26)، وإن المرء ليتساءل عن تغييب هذا الميثاق عن أدبيات الثورة الجزائرية ووثائقها ونصوصها.
وراح الإمام الإبراهيمي- وقد أنقضت السنون ظهره، وأوهنت السبعون عظمه- يتنقل بين البلدان العربية ليحث مسؤوليها على تقديم المساعدات للجهاد الجزائري، ويدعوهم إلى الضغط على فرنسا، ويطالبهم بمقاطعتها اقتصاديًا، ومن هذا القبيل ما شهد به أحد المسؤولين العرب آنذاك، حيث قال: "كان- الإبراهيمي- يلتقي بصاحب العرش وولي العهد، كما كان يلتقي برئيس الوزراء ووزير الخارجية، حاثا إياهم على نصرة الجزائر سياسيًا وعسكريًا وماديًا" (27)، و"لا شك في أن للشيخ البشير تأثيره الأكبر على الوفد العراقي- في الأمم المتحدة- في اندفاعه دفاعًا عن الجزائر" (28)، كما "كانت له جهود موجهة إلى رجال الفكر القومي والصحافة وعلماء الدين .. يذكي فيهم الحماس والغيرة دفاعًا عن الجزائر" (29)، "ففي كل الأحوال كان الشيخ البشير- رحمه الله- محفزًا للحكومة العراقية ومتتبعًا ما يجري في العراق من أجل الجزائر المجاهدة" (30). وقد سجَّل الشعراء بعض نشاط الإمام الإبراهيمي الذي لم تقعده الأمراض والسن عن السعي الحثيث لحشد التأييد الشعبي والرسمي لقضية وطنه، ومن ذلك ما جاء في "ملحمة العروبة" للشاعر العراقي مصطفى نعمان البدري:
__________
25) باول شميتز: الإسلام قوّة الغد العالمية، تعريب محمد شامة، القاهرة، مكتبة وهبة، 1974، [ص:145]
26) انظر مقال: "ميثاق جبهة تحرير الجزائر" في هذا الجزء من الآثار.
27) محمد فاضل الجمالي: الشيخ البشير الإبراهيمي كما عرفته، مجلة الثقافة عدد 87، الجزائر مايو- يونيو 1985، [ص:124 - 126].
28) المرجع نفسه.
29) المرجع نفسه.
30) المرجع نفسه.(5/24)
فإذا "البشير" يجوب آفاق البلاد بقلب كابر
ويحاضر العربان في تاريخ أمجاد غوابر
ويحشِّد الرأي العميم لنصرة البلد المصابر
فيمد فيهم نخوة الشجعان تثأر للعوائر (31)
وكان الإمام الإبراهيمي- عندما لا تسمح له ظروفه الصحية أو التزاماته بالتنقل- يزوِّدُ مبعوثي الثورة إلى بعض البلدان العربية برسائل إلى علمائها من ذوي التأثير المعنوي والكلمة المسموعة، ليسهِّلوا لدى سلطات بلدانهم مهمة أولئك المبعوثين (32) ..
وقد بلغ اندفاع الإمام الإبراهيمي في الدعوة إلى مساندة وطنه، والعمل على دعم جهاده إلى درجة قد يعتبرها بعض الناس تجاوزًا للحدود، وعدم مراعاة اللِّيَاقاتِ، حيث بعث برقية إلى الملك سعود يقترح عليه تكليف الأستاذين أحمد الشقيري وعبد الرحمن عزام، أو أحدهما "بالاستعداد لمتابعة قضايا الجزائر والدفاع عنها" (33).
وقد قدَّم الإمام الإبراهيمي للثورة الجزائرية خدمات كبيرة في الميدان الإعلامي بأحاديثه التي ألقاها في الإذاعات العربية، وخاصة في إذاعة "صوت العرب" سنة 1955، حيث لم يكن للثورة آنذاك جهاز إعلامي منظم، فكان لتلك الأحاديث دورها الكبير في تحسيس الشعوب العربية بالقضية الجزائرية، والمسارعة إلى دعمها، كما كان لها تأثير بالغ على الجزائريين للالتفات حول الثورة، وتأييدهم لها، ومساعدة أُسَر المجاهدين والشهداء.
وقد استغل الإمام الإبراهيمي حدثًا سياسيًا هامًا، هو انعقاد المؤتمر الإفريقي- الآسيوي بباندونغ في شهر مايو 1955، فوجه رسالة صوتية إلى الدول الإسلامية المشاركة فيه، وعددها أربع عشرة دولة، وهي رسالة تتماشى مع ما أشرنا إليه في السياق التاريخي للجزء الرابع من هذه الآثار، وهو سعيه إلى إحياء فكرة الجامعة الإسلامية، وإخراجها من مرحلة الآمال إلى مرحلة الأعمال.
لقد ذكَّر الإمام تلك الدول بما يجب أن يُذَكِّر به عالِمٌ مسلم حر، وعرَّف بما يجب أن يعرفه المسؤولون المسلمون، ودَلَّهم على ما تمتلكه الأمة الإسلامية من أنواع القُوَى،
__________
31) عثمان سعدي: الثورة الجزائرية في الشعر العراقي، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1985، ج2، [ص:403].
32) انظر رسالتيه إلى الشيخ محمد بن إبراهيمي آل الشيخ وإلى الشيخ عمر بن حسن في هذا الجزء من الآثار.
33) انظر الرسالة في هذا الجزء من الآثار، وقد عيّن الملك سعود الأستاذ أحمد الشقيري مندوبًا للسعودية في الأمم المتحدة، وألقى خطبًا رائعة في الدفاع عن القضية الجزائرية، وقد جُمِعت تلك الخطب ونشرتها دار العودة ببيروت تحت عنوان: "قصة الثورة الجزائرية".(5/25)
ونبَّهَهُم إلى حسن استغلال تلك القُوَى لتحقيق أهداف أمتهم البعيدة والقريبة، ومنها تحرير فلسطين- قلب العالم الإسلامي- والمغرب العربي- الجناح الغربي للأمة الإسلامية (34).
إن الإمام الإبراهيمي عندما يخاطب المسؤولين ويستنصرهم، ويستعديهم على الاستعمار لا يفعل ذلك انطلاقًا من اعتبارات سياسية أو مصلحية فقط، ولكنه يستند إلى مبادئ الإسلام وأصول الدين التي تفرض عداوة الظالم، وتوجب مقاومته بجميع أنواع القوى، وتحرِّم موالاة ذلك الظالم، لأن تلك الموالاة في حقيقتها "خروج عن الإسلام"، ولا يشفع لأولئك الموالين أعذار يعتذرون بها، أو معاذير يلقونها فـ "الموازين الإسلامية دقيقة تزن كل شيء من ذلك- المداراة، وطلب المصلحة- بقدره، وبقدر الضرورة الداعية إليه، وأظهر ما تكون تلك الضرورات في الأفراد لا في الجماعات ولا في الحكومات" (35).
وهناك ميدان آخر ملأه الإمام الإبراهيمي باسم الجزائر، وكان فيه فارس المنابر، إنه ميدان المؤتمرات الأدبية، والمنتديات الفكرية، واللقاءات العلمية، ولولا الإمام الإبراهيمي لما علا للجزائر في ذلك الميدان صوت ولما ذُكِر لها اسم، مثل المؤتمر الثالث للأدباء العرب، ومؤتمر التعريب بالرباط، وندوة الأصفياء، وقد كان الإمام في تلك المؤتمرات والندوات واللقاءات أحرص على استقلال الأمة العربية أدبيًا وفكريًا ولغويًا من حرصه على الجوانب السياسية والاقتصادية التي لا تبرز- بما فيه الكفاية- خصائص الأمم ومميزات الشعوب؛ وإنما الذي يبرز تلك الخصائص ويجليها هو آدابها وأفكارها ولغاتها، "فيجب أن يظل أدبنا عربيًا في أصوله وقواعده، لا شرقيًا ولا غربيًا، يجب أن يظل أدبنا عربيًا يستمد شخصيته وأهدافه من حاجاتنا الواقعية لا المفتعلة ولا المزيفة" (36)، ولذلك ينذر ويحذر من الآثار السيئة والعواقب الوخيمة التي تصيبنا من مخلفات الاستعمار الفكرية واللغوية في بلداننا المغاربية "التجارب تدل على أنها ستبقى فينا بقية غير صالحة تحمل أَلْسِنَة تَحِنُّ إلى اللغة الفرنسية، وتختار مخرج الغين الباريسية (37) على مخرج الراء العدنانية، وأفئدة "هواء" تحن إلى فنون فرنسا وفتونها، وعقول جوفاء تحن إلى التفكير على النمط الفرنسي، ونفوس صغيرة
__________
34) تجدر المقارنة هنا بين فكرة الإمام الإبراهيمي الداعية إلى تكتل إسلامي إفريقي- آسيوي، على أساس ديني بالدرجة الأولى، وبين فكرة الأستاذ مالك بن نبي الداعية إلى تكتّل إفريقي- آسيوي، يعتمد على المصالح السياسية والاقتصادية، وقد تراجع الأستاذ مالك بن نبي- فيما بعد- عن فكرته، لما فيها من مثالية، وتبنى فكرة الإمام الإبراهيمي الأكثر واقعية- وإن لم يصرح بذلك- حيث كتب رسالته "فكرة كُومَنْوِلث إسلامي". انظر رسالة الإمام الإبراهيمي في هذا الجزء من الآثار وعنوانها "دور الدول الإسلامية في المؤتمر الآسيوي- الإفريقي".
35) انظر مقال: "موالاة المستعمر خروج عن الإسلام" في هذا الجزء من الآثار.
36) انظر مقال: "حرية الأديب وحمايتها" في هذا الجزء من الآثار.
37) ينطق الباريسيون الراء غينًا.(5/26)
تحن إلى حكمها الذي يرفع الأذناب على الرؤوس، وهمم دنية تحنُّ إلى حمايتها ... وهيهات أن يتحرّر شعب ولسانه مستعبَدٌ للغة أجنبية، أو يتحرر شعب متنكر للسانه، فاستقلال العرب لا يتم تمامه إلّا بتعريب ألسنتهم، وأفكارهم، وهممهم، وذممهم" (38).
ومن حرصه على هذا الاستقلال اللغوي، وغيرته على اللغة العربية لم يتردد في أن يصدع بالنقد اللاذع لأكبر مؤسسة لغوية في العالم العربي، وهي مجمع اللغة العربية بالقاهرة، حيث قال في كلمته التي ألقاها باسم الأعضاء الجُدد في ذلك المجمع: " .. وأشد ما كنا ننكر من أعماله- المجمع- استعانته بالمستشرقين في شأن هو من خصائص الأمة العربية، ولكننا كنا لا نستطيع الجهر بما ننكره على المجمع، ولا نشيع قالة السوء عنه، لأننا نعلم أنه ناشِئٌ، وأن النشأة مظنة للنقص، وننتظر به مرور الزمان واستحكام التجارب، ومواتاة الفرص حتى يصلح من شأنه بنفسه، والزمان يقيم الأمت، ويقوِّمُ السمت، إلّا شيئًا واحدًا ما كنا نقبل فيه عذرًا ولا نتسامح فيه فتيلًا، وهو مسألة الاستعانة بالمستشرقين، ولقد كنا نستسيغ الاستعانة بالأجنبي في بناء سد، أو مد سكة، أو تخطيط مدينة مما سبقنا إليه الأجانب وبرعوا فيه، أما الاستعانة بهم في شأن يخصنا كاللغة فلا!! ومتى رأينا مستشرقًا بلغ في العربية وفهم أسرارها ودقائقها ومجازاتها وكناياتها ومضارب أمثالها ما يبلغه العربي في ذلك كله؟ على أن بعض أولئك المستشرقين الذين كانوا أعضاء بهذا المجمع كانوا مستشارين في وزارات الخارجية من بلدانهم، وهذا قادح آخر يضاف إلى قادح قصورهم في اللغة العربية" (39).
وجاء نصر الله، وحطَّم الهلالُ الصليبَ (40)، وأرغم الشعبُ الجزائريُّ المجاهدُ فرنسا على تسفيه نفسها، ونَسْخِ أكذوبتها القائلة إن الجزائر فرنسية، وأجبرها بالقوّة على الاعتراف بـ "أن هذه الأمة الجزائرية المسلمة ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج، ولها وطن محدود معيَّن، هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة" (41).
__________
38) انظر مقال: "إلى مؤتمر التعريب بالرباط" في هذا الجزء من الآثار.
39) انظر مقال "كلمة في مجمع اللغة العربية" في هذا الجزء من الآثار.
40) كان جورج بِيدُو- رئيس حكومة فرنسا ووزير خارجيتها- يُكَرِّرُ في تصريحاته: "إن الصليب سَيُحَطِّمُ الهلآل " ( La Croix ecrasera le Croissant). انظر: Henri Alleg: La guerre d'Algèrie. Paris, Temps actuels, 1981, T1, p.454 ولكن الله خيّب ظنّه، ونصر الجزائر.
41) الإمام عبد الحميد بن باديس، كلمة صريحة، مجلة الشهاب، ج 1، م 12، قسنطينة، أبريل 1936.(5/27)
وعاد الإمام إلى الجزائر التي أحبَّها حبًا جمًّا، وأعطاها سواده وبياضه، وخدَمَها دون مَنٍّ، ولا انتظار جزاء ولا شكور، ولم ينغص عليه فرحته باستعادة الجزائر استقلالها، وبعودته إليها إلّا ما وجد فيها من شنآن بين المسؤولين بسبب السلطة التي كان أكثرهم يعتبرونها تشريفًا لا تكليفًا، ويرونها امتيازات لا أمانات يجب أن تؤَدَّى.
ولم تسمح له سنه والأمراض التي أنهكت جسمه أن يقوم بنشاط كبير في هذه الفترة. ومن أهمّ أنشطته ذات المغزى التاريخي إمامته المسلمين في أول صلاة جمعة في جامع كتشاوة الذي أعاده الله سيرته الأولى، بعد أن حوَّلته فرنسا إلى كاتدرائية. ومن أهم ما جاء في خطبته تحذيره الجزائريين من مخلفات فرنسا- المادية واللغوية والبشرية- في الجزائر، وخطورة هذه المخلفات على مستقبلها، فالاستعمار "قد خرج من أرضكم، ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضْطرِرْتُم إليه " (42). وإن الذي تعانيه الجزائر اليوم هو بسبب ما جَناهُ عليها هؤلاء الذين لم تخرج فرنسا من ألسنتهم، وأفكارهم وقلوبهم.
ورأى الإمام ببصره الانحرافَ الذي وقع فيه من قُدِّرَ له أن يكون على رأس القيادة في الجزائر في هذه الفترة، وأدرك ببصيرته عواقب ذلك الانحراف وخطره على مستقبل الجزائر، فصدع بكلمة الحق بحكمة، وهدوء، ونصح ذلك المسؤولَ أن يرجع إلى الجادَّة، ويفيء إلى الصواب (43). ولكنه- بدلًا من ذلك- ضاق صدره، وأخذته العزة فمدَّ يده إلى الإمام، الذي يمثل نصف قرن من الجهاد، وكنزًا من العلم والمعرفة، وذخيرة من التجارب ورَمْزًا للشعب الجزائري، فآذاه، فكانت عاقبة ذلك المسؤول خسرًا. وقد اعترف أخيرًا أنه يتحمل نصيبًا كبيرًا من مسؤولية الأزمة التي تتخبط فيها الجزائر اليوم.
وجاء أجَلُ الإمام الإبراهيمي، يوم 20 مايو 1965، فَرَجَعَتْ نفْسُه المطمئنة إلى ربِّها راضية مرضية، بعد أن أكرم الله صاحبها بالجهاد في سبيل دينه، ولغة كتابه، ودارٍ من ديار الإسلام، وحاز- كما تمنّى- في ثَراها قبرًا وإن لم يملك منه شبرًا.
وقد تلقّى العلماء والمفكرون في العالم العربي والإسلامي خبر موت الإمام بحزن عميق، ولوعة كبيرة، لمعرفتهم بمقدار الخسارة التي أصابت الأمة، وعظمة الثغرة التي كان يسدّها، فعثروا عن ذلك بكلمات صادقة، وعبارات مؤثرة، ومنها هذه القصيدة للشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، التي تطفح بالصدق، وتلخص بعض جهاد الإمام، وتُكْبِرُ عِلْمَه:
__________
42) انظر "الخطبة" في هذا الجزء من الآثار.
43) انظر "بيان 16 أفريل 1964" في هذا الجزء من الآثار.(5/28)
جَلَّ المصاب، وَمُجْتُ في أحزانه … وعجزت عن كظم الأسى وبيانه
فوَجَمْتُ والقلب الرؤوم جَوٍ على … فَقْدِ "البشير" يغذ في خفقانه
والدمع رغم رُجُولتي وتجلدي … بح الزفير وبُلَّ من تهتانه
قالوا: أتبكي؟ كيف لا أبكي أبًا … وأخًا وأستاذًا فريد زمانه
أبكي المودة والوفاء سجية … والنُّبْل، كان يشعّ من أردانه
أبكي الفضيلة والمروءة والنَّدَى … والمكرمات تسير في ركبانه
أبكي الثقافة والحصافة والحِجا … والذوق وازَى العلم في ميزانه
أبكي أبيا عبقريا ماجِدًا … أبكي إمامًا جل في أقْرانِه
أبكي بصيرته وحِكْمَةَ فَصْلِهِ … أبكي سَدادَ الرأي في إبَّانِه
أبكي امتدادًا لابن باديس الذي … للدين جَدَّدَ ما مضى من شانه
أبكي، أَجَلْ أبكي وليس بضائري … دَمْعُ الأبي الحر فيض حَنانِه
...
قد كان- رغم السن- منذ لقيته … خِلِّي الأثير، وكنت مِنْ خِلّانِه
حُدِّثْتُ في باريس أيام الصبا … عن فضله، وقرأْتُ دُرَّ بيانه
فقدرت فيه مَحامدًا ومَحاتِدًا … وتَطلَّعَت نفسي إلى أَكْوانِه
ولقيته فازْدَدْتُ في إكباره … وأحَبَّ وجداني سَنا وِجْدانه
كان "الفضيل" (44) ورهْطُه طلابه … عِرْفانُهُم كالفيض من عِرْفانِه
كان "التبسي" (43) و"المبارك" (46) صحبه، … لكنه المرموق في إخوانه
حتى إذا خرج الجهاد بعزمه … عن داره للرحب من أوطانه
ألفيته بطلًا يشد على العدا … وأبًا رحيم القلب في أعوانه
في عالَم الإسلام يخفق دائبًا … من "مصره" يسعى إلى "بغدانه"
من "قدسه" لـ "حجازه " لـ "شآمه" … ويلم، لا ليجم في "لبنانه"
لكنه يجري وراء طماحه … وكفاحه حتى لـ "باكستانه"
__________
44) هو الأستاذ الفضيل الورتلاني، توفي سنة 1959 بتركيا.
43) هو الشيخ العربي التبسي، نائب الإمام الإبراهيمي في رئاسة الجمعية، ومدير معهد الإمام ابن باديس، استُشهد سنة 1957.
46) هو الشيخ مبارك الميلى، أمين مال جمعية العلماء (فترة من الزمن) ومدير «البصائر» في سلسلتها الأولى بعد الشيخ العقبي، ثم نائب الإمام الإبراهيمي في رئاسة الجمعية قبل الشيخ التبسّي، توفي سنة 1943.(5/29)
ما كان يومًا رهن أرض أو سما … بل كان للإسلام في أركانه
يعلي لأمته تواعد مجدها … أفقًا وعمقًا في امتداد زمانه
...
طُوبى لمن عمر الحياة بوَعْيه … وبسعيه والموت في حسبانه
طُوبَى لِمُدَّخِر ليوم حسابه … ما قَدْ ينال به ندى رحمانه
طُوبَى لمن زكى معارج نفسه … بِتُقَى الإله وعاش من عبدانه
ومضى إلى دار البقاء يحفه … من ربِّه المنان فيض حنانه
طُوبَى "بشير" الخير لُقِّيتَ الْمُنى … بجوار رَبِّك في رِحاب جِنانِه
في مقعد الصدق المرجى ناعِمًا … بكنوز ما يحبوه من رضوانه (47)
...
اشتملت الأجزاء الأول والثاني والرابع والخامس على بعض المقالات قد يراها الناس دون مستوى مقالات الجزء الثالث، ولكننا حرصنا على إثباتها لما لها من قيمة تاريخية، حيث تعتبر شهادات حية، ومواقف هامة ومعبّرة عن حوادث وقضايا.
رحم الله الإمام الإبراهيمي وإخوانه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يبدلوا تبديلًا، وأنزلهم منازل المُكْرَمينَ من عباده في مقعد الصدق، مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ونسأله تعالى أن يُعينَنا للحفاظ على ما ورثناه عن الإمام الإبراهيمي من مبادئ وقيم ومثل، التي يجمعها شعارُ جمعية العلماء الخالد:
"الإسلام ديننا؛
العربية لغتنا؛
الجزائر وطننا".
محمد الهادي الحسني
البليدة (الجزائر)، 6 نوفمبر 1996(5/30)
في مصر
(نوفمبر 1954 - مارس 1956)
ــــــــــــــــــــــــــــــ(5/31)
نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد: *
نعيدكم بالله أن تتراجعوا ...
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها المسلمون الجزائريون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله وأحياكم، وأحيا بكم الجزائر، وجعل منكم نورًا يمشي من بين يديها ومن خلفها. هذا هو الصوت الذي يُسمع الآذان الصم، وهذا هو الدواء الذي يفتح الأعين المغمضة، وهذه هي اللغة التي تنفذ معانيها إلى الأذهان البليدة، وهذا هو المنطلق الذي يقوم القلوب الغلف، وهذا هو الشعاع الذي يخترق الحجب والأوهام.
كان العالم يسمع ببلايا الاستعمار الفرنسي لدياركم، فيعجب كيف لم تثوروا، وكان يسمع أنينكم وتوجعكم منه، فيعجب كيف تؤثرون هذا الموت البطيء على الموت العاجل المريح، وكانت فرنسا تسوق شبابكم إلى المجازر البشرية، في الحروب الاستعمارية، فتموت عشرات الآلاف منكم في غير شرف ولا محمدة، بل في سبيل فرنسا، وتوسيع ممالكها، وحماية ديارها، ولو أن تلك العشرات من الآلاف من أبنائنا ماتوا في سبيل الجزائر، لماتوا شهداء وكنتم بهم سعداء.
أيها الإخوة الجزائريون:
اذكروا غدر الاستعمار ومماطلته.
احتلت فرنسا وطنكم منذ قرن وربع قرن، وشهد لكم التاريخ بأنكم قاومتموها مقاومة الأبطال، وثرتم عليها مجتمعين ومتفرقين، نصف هذه المدة.
__________
* بيان نشر ووجه من القاهرة في 15 نوفمبر 1934، وهو منشور في كتاب (الجزائر الثائرة) للمرحوم الأستاذ الفضيل الورتلاني الذي طبع بلبنان في الخمسينات. وذكر الشيخ محمد خير الدين في مذكراته أن نسخة من هذا النداء تحت يده. مذكرات، ج 1، [ص:384].(5/33)
فما رعت في حربها لكم دينًا ولا عهدًا، ولا قانونًا ولا إنسانية، بل ارتكبت كل أساليب الوحشية، من تقتيل النساء والأطفال والمرضى، وتحريق القبائل كاملة، بديارها وحيواناتها وأقواتها.
ثم حاربتم معها وفي صفها، وفي سبيل بقائها نصف هذه المدة، ففتحت بأبنائكم الأوطان وقهرت بهم أعداءها، ورحمت بهم وطنها الأصلي، فما رعت لكم جميلًا، ولا كافأتكم بجميل، بل كانت تنتصر بكم، ثم تخذلكم، وتحيا بأبنائكم، ثم تقتلكم، كما وقع لكم معها في شهر مايو سنة 1945، وما كانت قيمة أبنائكم الذين ماتوا في سبيلها، وجلبوا لها النصر، إلّا أنها نقشت أسماء بعضهم في الأنصاب التذكارية، فهل هذا هو الجزاء؟
طالبتموها بلسان الحق، والعدل، والقانون، والإنسانية، من أربعين سنة، بأن ترفق بكم، وتنفس عنكم الخناق قليلًا، فما استجابت. ثم طالبتموها بأن ترد عليكم بعض حقوقكم الآدمية، فما رضيت. ثم طالبتموها بحقكم الطبيعي، يقركم عليه كل إنسان، وهو إرجاع أوقافكم ومعابدكم وجميع متعلقات دينكم، فأغلقت آذانها في إصرار وعتوّ. ثم ساومتموها على حقوقكم السياسية بدماء أبنائكم الغالية التي سالت في سبيل نصرها، فعميت عيونها عن هذا الحق الذي يقرره حتى دستورها، ثم هي في هذه المراحل كلها، سائرة في معاملتكم من فظيع إلى أفظع.
أيها الإخوة الجزائريون الأبطال:
لم تبقِ لكم فرنسا شيئًا تخافون عليه، أو تدارونها لأجله، ولم تبقِ لكم خيطًا من الأمل تتعللون به. أتخافون على أعراضكم وقد انتهكتها؟ أم تخافون على الحرمة وقد استباحتها. لقد تركتكم فقراء تلتمسون قوت اليوم فلا تجدونه؟ أم تخافون على الأرض وخيراتها، وقد أصبحتم فيها غرباء حفاة عراة جياعًا، أسْعَدُكُم من يعمل فيها رقيقًا زراعيًّا يباع معها ويُشْتَرى، وحظكم من خيرات بلادكم النظر بالعين والحسرة في النفس؟ أم تخافون على القصور، وتسعة أعشاركم يأوون إلى الغيران كالحشرات والزواحف؟ أم تخافون على الدين؟ ويا ويلكم من الدين الذي لم تجاهدوا في سبيله، ويا ويل فرنسا من الإسلام: ابتلعت أوقافه وهدمت مساجده، وأذلت رجاله، واستعبدت أهله، ومحت آثاره من الأرض، وهي تجهد في محو آثاره من النفوس.
أيها الإخوة المسلمون:
إن التراجع معناه الفناء.
إن فرنسا لم تبقِ لكم دينًا ولا دنيا، وكل إنسان في هذا الوجود البشري إنما يعيش لدين ويحيا بدنيا، فإذا فقدهما فبطن الأرض خير له من ظهرها.(5/34)
وإنها سارت بكم من دركة إلى دركة، حتى أصبحت تتحكم في عقائدكم وشعائركم وضمائركم، فالصلاة على هواها لا على هواكم، والحج بيدها لا بأيديكم، والصوم برؤيتها لا برؤيتكم، وقد قرأتم وسمعتم من رجالها المسؤولين عزمها على إحداث (إسلام جزائري) ومعناه إسلام ممسوخ، مقطوع الصلة بمنبعه في الشرق وبأهله من الشرقيين.
إن الرضى بسلب الأموال قد ينافي الهمة والرجولة، أما الرضى بسلب الدين والاعتداء عليه فإنه يخالف الدين، والرضى به كفر بالله وتعطيل للقرآن.
إنكم في نظر العالم العاقل المنصف لم تثوروا، وإنما أثارتكم فرنسا بظلمها الشنيع وعُتُوِّها الطاغي، واستعبادها الفظيع لكم قرنًا وربع قرن، وامتهانها لشرفكم وكرامتكم، وتعديها المريع على مقدساتكم.
إن أقل القليل مما وقع على رؤوسكم من بلاء الاستعمار الفرنسي يوجب عليكم الثورة عليه، من زمان بعيد، ولكنكم صبرتم، ورجوتم من الصخرة أن تلين، فطمعتم في المحال، وقد قمتم الآن قومة المسلم الحر الأبي فنعيذكم بالله وبالإسلام أن تتراجعوا أو تنكصوا على أعقابكم. إن التراجع معناه الفناء الأبدي والذل السرمدي.
إن شريعة فرنسا أنها تأخذ البريء بذنب المجرم، وأنها تنظر إليكم مسالمين أو ثائرين نظرة واحدة، وهي أنها عدو لكم وأنكم عدو لها. ووالله لو سألتموها ألف سنة، لما تغيرت نظريتها العدائية لكم، وهي بذلك مصممة على محوكم، ومحو دينكم وعروبتكم، وجميع مقوماتكم.
إنكم مع فرنسا في موقف لا خيار فيه، ونهايته الموت، فاختاروا ميتة الشرف على حياة العبودية التي هي شر من الموت.
إنكم كتبتم البسملة بالدماء، في صفحة الجهاد الطويلة العريضة، فاملأوها بآيات البطولة التي هي شعاركم في التاريخ، وهي إرث العروبة والإسلام فيكم.
ما كان للمسلم أن يخاف الموت، وهو يعلم أنها كتاب مؤجل، وما كان للمسلم أن يبخل بماله أو بمهجته، في سبيل الله، والانتصار لدينه، وهو يعلم أنها قربة إلى الله وما كان له أن يرضى الدنية في دينه، إذا رضيها في دنياه.
أخلصوا العمل وأخلصوا بصائركم في الله واذكروا دائمًا، وفي جميع أعمالكم، ما دعاكم إليه القرآن من الصبر في سبيل الحق، ومن بذل المهج والأموال في سبيل الدين، واذكروا قبل ذلك كله قول الله {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقول الله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.(5/35)
أيها الإخوة الأحرار:
هلموا إلى الكفاح المسلح.
إننا كلما ذكرنا ما فعلت فرنسا بالدين الإسلامي في الجزائر، وذكرنا فظائعها في معاملة المسلمين، لا لشيء إلّا لأنهم مسلمون، كلما ذكرنا ذلك احتقرنا أنفسنا واحتقرنا المسلمين، وخجلنا من الله أن يرانا ويراهم مقصرين في الجهاد لإعلاء كلمته، وكلما استعرضنا الواجبات وجدنا أوجبها وألزمها في أعناقنا، إنما هو الكفاح المسلح فهو الذي يسقط علينا الواجب، ويدفع عنا وعن ديننا العار، فسيروا على بركة الله، وبعونه وتوفيقه، إلى ميدان الكفاح المسلح، فهو السبيل الواحد إلى إحدى الحسنيين: إما موت وراءه الجنة، وإما حياة وراءها العزة والكرامة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة
محمد البشير الإبراهيمي
الفضيل الورتلاني
القاهرة 15 نوفمبر 1954(5/36)
مبادئ الثورة في الجزائر
بيان من مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أذاعت عدة محطات عالمية في الليلة البارحة أن لهيب ثورة اندلع في عدة جهات من القطر الجزائري، وَسَمَّتْ عدة بلدان من وطننا العزيز بعضها صحيح اللفظ، وبعضها محرف، ولكننا عرفناها ولو من لحن القول، لأنها أفلاذ من ذلك الوطن العزيز الذي لا نسلوه ولو سلا المجنون ليلاه، لأننا درجنا على ثراه من نوط التمائم، إلى لوث العمائم، وستختلط مع ثراه أعظمنا الرمائم.
ثم قرأنا في جرائد اليوم بعض تفصيل لما أجملته الإذاعات، فخفقت القلوب لذكرى الجهاد الذي لو قسمت فرائضه لكان للجزائر منه حظان بالفرض والتعصيب، واهتزت النفوس طربًا لهذه البداية التي سيكون لها ما بعدها، ثم طرقنا طارق الأسى لأن تكون تلك الشجاعة التي هي مضرب المثل لا يظاهرها سلاح، وتلك الجموع التي هي روق الأمل لا يقودها سلاح. إن اللحن الذي يشجي الجزائري هو قعقعة الحديد في معمعة الوغى، وإن الرائحة التي تعطر مشامه هي رائحة هذه المادة التي يسمونها البارود.
أما نحن المغتربين عن الجزائر فوالله لكأنما حملت إلينا الرياح الغربية- حين سمعنا الخبر- روائح الدم زكية، فشارك الشم الذي نشق السمع الذي سمع والبصر الذي قرأ، فيتألق من ذلك إحساس مشبوب يصيّرنا- ونحن في القاهرة- وكأننا في مواقع النار من خنشلة وباتنة.
هذه بوادر الانفجار الذي يؤدي إليه الضغط، على كلّ واع في الأرض إلّا فرنسا، وهذا هو الحرف الأول من أبجدية أطول من الأبجدية الصينية مما تنطوي عليه نفس الجزائري
__________
* بيان أصدره مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة يوم 2 نوفمبر 1954 ووزع على الصحافة المصرية ووكالات الأنباء العالمية. ونشر في كتاب "الجزائر الثائرة" للفضيل الورتلاني.(5/37)
لفرنسا من غل وحقد وبغضاء، ومَنْ غرس الحنظل جنى المر، فقد غرست فرنسا أسباب هذه المعاني في نفسه، ثم عاملته معاملة لا يعامل الحيوان الأعجم بعشر معشارها، في حقبة من الزمن تمتد إلى مائة وأربع وعشرين سنة.
وهذه عواقب السياسة البليدة التي تسوس بها فرنسا شمال أفريقيا في هذا الزمن الذي تحرك ما فيه حتى الحجر، وثارت فيه كل الشعوب المظلومة تنتصر لنفسها من ظلم الطغاة، فلم تتعظ فرنسا بشيء من ذلك، ولم توقظها النذر المتلاحقة والحروب الماحقة، ولا ذكرت أمسها القريب حين أحاطت بها خطيئاتها وأوبقتها جرائرها فسقطت فريسة تحت أرجل عدوها في مثل فواق الحالب. ووالله لو أن فرنسا أبقت في قلوبنا مثقال ذرة من الرحمة لها، لأشفقنا عليها من هذا الإفلاس الذي أصابها في رأس مالِها من مال ورجال ورأي وفكر، حتى لو أن قائلًا قال لها: إن اليوم غير الأمس، لحاولت من عنادها أن ترد الشمس.
تأجج اللهيب بتونس فقلنا: هذا نذير من النذر الأولى، وعسى أن تكون لفرنسا فيه عبرة، وتأجج في مراكش، فقلنا: عسى أن يكون لها فيه مزدجر، وها هو ذا يتأجج في الجزائر، ولو كانت فرنسا على بقية من كياس وعقل لجارت تيار الزمن ولم تعاكسه ولضمنت لنفسها البقاء مع الناس، ولو بضع سنين، فأما الدوام مع الظلم فلا مطمع فيه، وإن كانت في ريب من تحول الأحوال فلتسأل رفات أمها روما .... ولكن الذي علمناه من احتكاكنا بهذه المخلوقة العجيبة ودرسناه من أهوائها وطبائعها أنها لا تصدر عن عقل، ولا تَرِدُ على بصيرة، وأنها لا ترضى المشاركة في الحياة وأن القاعدة التي تبني عليها أمرها هي: إما ربح كامل، وإما خسار شامل، وأن حياتها مشروطة بموت غيرها، وعليه فلماذا تلوم الناس إذا اعتقدوا أن حياتهم مشروطة بموتها؟
الشمال الأفريقي قطع متجاورات من إرث العروبة والإسلام، اجتمعت في كل شيء وهو من صنع الله، واجتمعت في شيء واحد من عقل الشيطان وهو الاستعمار الفرنسي، فإذا اجتمعت اليوم في الثورة على ظلم فرنسا وطغيانها، فلعل هذا هو آخر الجوامع الإلهية التي تغض بها إلى أولها، كما تغض الحلقة الأخيرة من السلسلة المفصومة إلى الحلقة فإذا هي دائرة ...
ومن صنع الله للأمم الضعيفة حينما يهيّئُها لأن تكون من الأئمة الوارثين أن يخلف فيها من الاستعدادات ما لم يكن فهو كائن، فكيف بالأمة التي أعطاها كل شيء، فملكت بالعدل وساست بالإحسان، وسارت على نور الحق، ثم زاغت عن صراطه قليلًا فتخلى عنها قليلًا، وها هي ترجع إليه قليلًا، وتسير إلى مرضاته دبيبًا، وتغيّر ما بنفسها عسى أن يغير حكمه عليها.(5/38)
إن أعداءنا الأقوياء بالأمس هم اليوم ضعفاء، وقد أصبحوا يلوذون بأكناف الأقوياء لذلك نراهم في هلع دائم يحسبون كل صيحة عليهم، يتقاوون وهم يتهاوون، وعلامة ضعف الضعيف أن يكثر الحديث عن قوته وَيُدِلّ بها على الضعفاء وأن يكثر اهتمامه بما يقوله الناس فيه، وأن يغضب للهمة واللحظة لا غضب الكبرياء المقرون بالتحدي، ولكن غضب الضعف المقرون بالشكوى، وهكذا يفعل الفرنسيون اليوم.
ولقد صاح الرئيس جمال عبد الناصر بالأمس صيحة وهتف بالجزائر التي هي قطعة ثمينة من وطنه العربي الأكبر، فثارت ثائرة الفرنسيين ولم يجدوا منطقًا تؤيده الحجة ولا حجة يثبتها المنطق إلّا قولهم إن الجزائر قطعة من فرنسا، وهي أغنية بلهاء ليس فيها ذوق ولا انسجام.
تعوز هذه الحركات المتأججة في المغرب العربي- وهي سائرة إلى الالتحام والانسجام- لفتات صادقة من حكومات الشرق العربي بالإمداد والتشجيع، فإن أخشى ما نخشاه على هذه الحركات أن تشتعل ثم تنطفئ لعدم الوقود. ولو أن أغنياءنا في هذا الشرق - ممن ينفقون الملايين على شهواتهم الشخصية- أنفقوا بعض ذلك في سبيل إخوانهم المعذبين لتحررت أرض المغرب كلها ومعها فلسطين.
إن هذه البوارق التي لاحت في جو مصر من تصريحات الرئيس جمال عبد الناصر ومن رجال الثورة ستتبعها صواعق تنقض على الاستعمار الفرنسي، فتدكه دكّا، وإننا واثقون بأنها لا تضيع هباء في الهواء، معتقدون أن لكل كلمة من تلك الكلمات موقعًا مكينًا من كل نفس من إخوانهم في المغرب العربي.
إن فرنسا ابتلعت أجزاء الوطن الواحد على ثلاث لقم، ثم أوهمتنا وأوهمت العالم أن هذه العملية لا تسمى ابتلاعًا، وإنما هي تكييف كيماوي تصبح به أمة متمدنة، وكذبها الله وكذبها طبع السوء فيها فكنا في حشاها أشواكا تخزّ وأوجاعًا تؤلم، فإذا هدأ الوخز والإيلام فإنما هي هدأة عارضة ثم تعود وستلفظنا مكرهة عند الحشرجة الأخيرة من حياتها، وسنكون سبب موتها.
عن مكتب
جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة
محمد البشير الإبراهيمي
والفضيل الورتلاني(5/39)
أوسع المعلومات عن بداية الثورة في الجزائر *
بيان مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
انفجر بركان الثورة المباركة في الجزائر ليلة اليوم الأول من نوفمبر الحالي وقد كنا نحن الجزائريين الموجودين خارج الجزائر نترقب هذه الثورة ونتوقعها، نترقبها لأنها الأمل الوحيد في تحريرنا من العسف الفرنسي الذي لا يعرفه إلّا من ابتلي به، ونتوقعها لأن هذا هو وقتها، ولأن فرنسا لا تفهم إلّا هذه اللغة ولا يفتح آذانها إلّا هذا الصوت.
ومضى على الثورة عشرة أيام ونحن نحترق شوقًا إلى الاطلاع على حقيقة ما يجري هناك، وكيف ابتدأت الثورة؟ وما هي العناصر التي قامت بها؟ وبأية صبغة تصطبغ؟ وإلى أي اتجاه تتجه؟ وهل انتشرت؟ حتى نبني على مقدماتها الصحيحة نتائج صحيحة. ونستطيع أن نتحدث عليها بالصدق ونصفها لإخواننا الذين لا يعرفون الجزائر، ونصورها بصورتها الحقيقية من غير مبالغة نغرهم بها، ولا تقصير يثبط العزائم، وحتى نغذيها بما نستطيع من وقود روحي أو مادي، إذ لا يستطيع العاقل أن يتحدث عن شيء يجهل تفاصيله وإن كان يعرف أسبابه.
لبثنا هذه المدة نتلقى الأخبار من محطات الإذاعات العالمية، ومن الجرائد المحلية المستقية من وكالات الأنباء، ولكنها لا تشفي غليلًا في هذا الباب، وقد توقعنا في الضليل حينما تذكر أسماء القرى والأماكن محرفة بسبب الترجمة، وأن استنتاجنا نحن الجزائريين العارفين بأجزاء وطننا لا يكون صحيحًا مفيدًا إلّا إذا عرفنا أسماء الأماكن والقرى صحيحة الألفاظ لنستخرج الفائدة من شلل المواقع والمسافات بينهما من التشابه في الخصائص، بحيث تكون طبائعها التكوينية تتعاضد على ما ينفع الثورة، ويدفعها إلى الدوام والانتشار.
__________
* بيان صدر عن مكتب الجمعية بالقاهرة يوم 11 نوفمبر 1954 ووزع على وسائل الإعلام المصرية ووكالات الأنباء. ونشر في كتاب "الجزائر الثائرة" للأستاذ الفضيل الورتلاني.(5/40)
واليوم وصلنا العدد رقم 292 من جريدة «البصائر» لسان حال جمعية العلماء الجزائريين المؤرخ بيوم الجمعة 9 ربيع الأول سنة 1374 الموافق 5 نوفمبر سنة 1954 وهو أول عدد يصلنا بعد الثورة.
وفي افتتاحيته سرد مرتب للحوادث التي حدثت في ساعة واحدة من الليلة الأولى للثورة، ففهمنا من هذا السرد المجرد من التعاليق أشياء كثيرة منها أن وقوع عدة حوادث في لحظة واحدة يشهد بحسن التدبير والنظام والإحكام، ومنها أن الثورة شعبية غير متأثرة بالتأثرات الحزبية، ومنها أن طابعها عسكري حازم، عارف بمواقع التأثير.
وها نحن أولاء ننشر جدول الحوادث التي وقعت في ظرف ست ساعات من ليلة واحدة، نقلًا عن العدد المذكور من «البصائر»، وقد استندت فيه إلى شهادة المعاينة، وإلى الرسميات:
ـ[حوادث الليلة الليلاء]ـ ...
ليلة 1 نوفمبرسنة 1954
ما نصّه بالحرف:
"فوجئت البلاد الجزائرية بعدد عظيم من الحوادث المزعجة، وقعت كلها ما بين الساعة الواحدة والساعة الخامسة من صبيحة الاثنين غرة نوفمبر، وهو عيد ذكرى الأموات (عند المسيحيين) ولقد بلغ عدد تلك الحوادث ما يزيد عن الثلاثين، ما بين الحدود التونسية وشرقي عمالة وهران، إلّا أن عمالة قسنطينة وخاصة جهاتها الجنويية كانت صاحبة المقام الأول فيها وكادت تتركز الحوادث في جهات جبال أوراس، في خط يسير من باتنة إلى خنشلة، ثم يشمل الجنوب.
وتلي عمالة قسنطينة بعض جهات العمالة الجزائرية، كبلاد القبائل والعاصمة الجزائرية وبوفاريك.
إننا إلى حدّ هذه الساعة لا نملك التفاصيل المقنعة عن هذه الحوادث وأسبابها، وليس بين أيدينا إلّا ما تناقلته الصحف وشركات الأخبار (1)، فلا نستطيع أن نعلق عليها أدنى تعليق، إلى أن تتبين لنا طريق الصواب، فليس من شأن «البصائر» أن تتسرع في مثل هذه المواطن. لكننا، من جهة أخرى، رأينا أنه لا يمكن أن يخلو هذا العدد من جريدتنا من ذكر هذه الحوادث التي تناقلت صحف العالم بأسره تفاصيلها، فقررنا الاكتفاء بذكر أهمها، تاركين للزمن كشف الحقائق عن أسرارها، ولسوف نتتبع ذلك بغاية الدقة والاهتمام.
__________
1) شركات الأخبار: وكالات الأخبار.(5/41)
مدينة الجزائر: انفجرت قنبلة من الصنع المحلي أمام بوابة راديو "الجزائر" فاحدثت به أضرارًا، وقد وجدت قنبلتان لم تنفجرا.
ووقعت محاولات إحراق مستودع زيت الوقود الذي يملكه مسيو موري، والذي يخزن ثمانية أطنان من البترول في شارع دينا، ولقد تنبه الحرس وأطفئت النيران ولم تقع الكارثة.
في مدينة بوفاريك: انفجرت قنبلة في مستودع خزن الفواكه، فاحترق المستودع الذي تبلغ قيمته خمسة ملايين وأحرقت الصناديق الخشبية المعدة للتصدير، وقيمتها 25 مليونًا.
في بابا علي: وقع إحراق معمل الورق وتمكنت فرق المطافئ بعد جهد جهيد من إخماد النيران.
في مدينة العزازقة: وقعت مهاجمة دار الجندرمة (2) ورميت بسبع وأربعين رصاصة تبين أنها من رصاص البنادق الطليانية صنع سنة 1946.
وفي الوقت نفسه وقع إشعال النار في مستودع البهش (3) (قشر الفرنان) الذي تملكه إدارة الغابات والمياه، فكانت الخسائر به عظيمة جدًا، والتهمته النيران، وبلغت قيمة الخسائر نحو الخمسين مليونًا.
ولقد حطمت في ذلك الوقت أعمدة الأسلاك التابعة لإدارة البريد فأصبحت المدينة في عزلة تامة.
في بقية بلاد القبائل الكبرى، وحول مدن وقرى: بوغني- دلس- بوبراق- برج منايل- وغيرها وقع تحطيم وإتلاف أعمدة الأسلاك التليفونية.
في ذراع الميزان: وقع التحام قتل فيه أحد حراس الغابة.
في تيزي نتليته قتل أحد حراس الغابة أيضا.
إلى غير ذلك من مثل هذه الحوادث في عدة قرى ببلاد القبائل.
في عمالة وهران: وقعت محاولة تحطيم المولد الكهربائي في وليس، لكن العملية لم تسفر عن خسائر.
في جهة كسان: وقعت مهاجمة ضيعة أحد المستعمرين، وجرح أحد الحراس، والتجأ أحد أصحاب الضيعة إلى دار الجندرمة، لكنه لم يكد يصلها حتى أصابته رصاصة أردته قتيلًا.
ووقعت مهاجمة دار الجندرمة فجرح أحد حراسها الليليين.
في عمالة قسنطينة: كانت الحوادث كثيرة، وخاصة في شرقها وجنوبها.
__________
2) الجندرمة: الدرك.
3) البهش: الفلّين.(5/42)
وفي خنشلة: وقعت مهاجمة إدارة الحوز الممتزج (4)، وكوميسارية (3) البوليس كما وقعت مهاجمة رجال العسكرية، ووقع تحطيم الخزان الكهربائي، وقتل ثلاثة من رجال الجيش.
وسحبت السلطة من المنطقة حراس الغابة والسواحين، ثم احتلت فرقتان عسكريتان أريس ورفعت عنها الحصار.
وأعلنت حالة الحصار في كامل تلك الجهة وباتنة وبسكرة وخنشلة، ومنع التجول إبتداء من الساعة الثامنة.
وقطعت الأسلاك البرقية على طريق أريس.
في بسكرة: وقع تفجير قنبلة أمام المعمل الكهربائي، كما انفجرت قنابل أخرى أمام الثكنة العسكرية، وأمام الكوميسارية، وفي محطة السكة الحديدية، ولقد جرح أحد رجال البوليس كما جرح أحد الحراس.
أما الطريق بين بسكرة وأريس فقد منع التجول بها، وأخذت طائرة عسكرية تحوم حول كامل تلك الجهات.
ولقد أرغم رجال مسلحون عربة نقل كبيرة على الوقوف وأنزلوا ركابها واختاروا منهم ثلاثة ثم أمروا الباقين بالرجوع إلى مقاعدهم.
أما الثلاثة فهم قائد مْشُونَشْ، ومعلم فرنسي وزوجته- لم يمضى على زواجهما أكثر من شهرين- فقد أطلقوا عليهم الرصاص، فمات القائد والمعلم وجرحت زوجته جراحًا خطيرة، وهي الآن في مستشفى أرّيسْ.
في الأوراس: وهي المنطقة الجبلية الوعرة الشاسعة، وقعت عدة حوادث في شتى الجهات، وكان الرجال المسلحون يباشرون العمليات ثم ينسحبون إلى الجبال ويدمرون وراءهم الجسور، ولقد قتل واحد منهم وجرح آخرون، وحاولوا الاستيلاء على منجم ايشمول، لكنهم انسحبوا بعد معركة عنيفة أطلقت خلالها ستمائة طلقة نارية.
وحوصرت مدينة (أرّيسْ) المركزلة في الأوراس من طرف الرجال المسلحين.
في باتنة: وقع إطلاق الرصاص بقوة مدى ساعة من الزمن، كان يسمع على مسافة كيلومترين من المدينة، وهوجمت ثكنة فرقة الشاسور (6) فقتل بها جنديان، واكتشفت قنبلة في مستودع التنكات، لكنها لم تنفجر.
__________
4) الحوز الممتزج: وحدة إدارية يسكنها الجزائريون والفرنسيون.
5) كوميسارية: محافظة الشرطة، وهي كلمة فرنسبة.
6) الشاسور: القنَّاصَة، وهي كلمة فرنسية.(5/43)
في الخروب: وقع إطلاق القذائف النارية على حارس مستودع الوقود العسكري، لكنه لم يصب بسوء.
في السمندو: وقعت مهاجمة دار الجندرمة وكسر بابها الخارجي، وأطلق الرصاص على من بداخلها.
واسفرت كامل هذه الحوادث عن سبعة من القتلى، وعدد من الجرحى لم يعرف بعد.
هذه خلاصة وجيزة عن الأعمال التي وقعت يوم الاثنين، لخصناها بغاية الدقة عن الصحف الفرنسية، ولربما عدنا إليها في مستقبل الأيام بشيء من الإطناب، إن اقتضى الحال ذلك.
ولقد قابلت الحكومة (7) هذه الحوادث بتجهيز كامل قواها العسكرية، واستنجدت بفرنسا فأمدتها سريعًا بثلاث من فرق المظلات، وسلحت البوليس وشددت الحراسة في المدن والقرى حول الإدارات والجسور وغيرها، ثم ألقت القبض، يومي الإثنين والثلاثاء، على جماعات مختلفة في عدة مدن.
ولقد عقد الوالي العام ندوة صحفية تكلم فيها عن هذه الحوادث، فقال إنها حوادث أمليت إملاء من الخارج، واستشهد طويلًا بأقوال مذياع "صوت العرب" من القاهرة، وقال إن الذين دبّروا هذه الحوادث ونفذوها، يريدون أن يتخذوا منها حجة لدى هيئة الأمم المتحدة لتفنيد ما تقوله فرنسا من أن الأمن مستتب بالقطر الجزائري.
أما الصحف الفرنسية فقد انقسمت إلى قسمين، سواء بالجزائر أو بالبلاد الفرنسية، فالقسم الملي المتطرف ينادي بوجوب الزجر والبطش واستعمال الشدة لاستئصال جذور هذه الحركات، أما الصحافة الحرة والتقدمية والمنصفة، فتنادي بوجوب استئصال الداء بواسطة دراسة عادلة للوضعية الجزائرية وتحقيق العدل والإنصاف في سائر الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالمشاكل الكبرى لا تحل بالعنف والبطش والإرهاب، إنما تحل بالدراسة والمفاهمة الصريحة والرجوع إلى الحق".
عن مكتب
جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة
محمد البشير الإبراهيمي
والفضيل الورتلاني
__________
7) الحكومة: هي الولاية العامة الفرنسية في الجزائر.(5/44)
حول ثورة الجزائر والمغرب العربي *
ثلاث صرخات ...
ـ[الصرخة الأولى]ـ: موجّهة إلى ذات الآذان الصمّاء عن الحق، وعن عويل الباكين، فرنسا التي تتمارى بالنذر وتعمى عن الحقائق، وتكفر بسنن الله في أمثالها من الظالمين، وتسجد للأقوياء، وتتألّه على الضعفاء.
هذه نتيجة سياستك البليدة، وهذا جني غرسك الخبيث. زرعت الحنظل فتجرعي مرارته، وحاربت الله في دينه، ومحارب الله محروب، فأخزاك في جميع المواقف، ورماك بالإفلاس في المال والرجال والرأي والسياسة. حاولت أن تقطعي ما وصل الله من أجزاء الشمال الافريقي، وأن لا تجمعيها إلا في بلاياك ومصائبك، فكان ظلمك أكبر جامع لشملها، وأعظم موحّد لها في بغضك، ثم في الثورة عليك، ويا ويحك إذا انفجرت عليك موجات الغضب من القلوب المملوءة حقدًا عليك، والصدور التي ضاقت بظلمك وطغيانك، وقد رأيت وسترين ما يقضّ مضجعك.
ابتلعت المغرب العربي قطعة قطعة، وستخرجين منه دفعة واحدة بإذن الله.
وـ[الصرخة الثانية]ـ: موجّهة إلى أبناء المغرب العربي كلهم:
اعلموا أيها المواطنون الأحرار، أن مهر الحرية غال، وأنه لا ينقد إلا دماء تراق، ونفوسًا تزهق، فوطّنوا أنفسكم على تحمّل الشدائد والمكاره، وإن وطنكم عزيز فادفعوا في تحريره الثمن الباهظ.
إنكم قمتم بواجب لا يقبل منكم أداؤه إلا بالمحبة وطهارة القلوب، واقتحمتم ميدانًا لا تنتصرون فيه إلا بالاتحاد وجمع الكلمة، وتسوية الصفوف، وتنظيم الخطط، والصبر على
__________
* من كتاب "الجزائر الثائرة" للأستاذ الفضيل الورتلاني.(5/45)
البلاء في الأنفس والأموال، لأن كل بلاء يصيبكم في هذا السبيل فبلاء الاستعمار البغيض أشدّ منه وأنكى.
أيها الأحرار: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وـ[الصرخة الثالثة]ـ: موجّهة إلى الشعوب العربية وحكوماتها:
يا أبناء العمومة: إن هذه الشعوب الثائرة في تونس والجزائر ومراكش، هم إخوانكم، وأجزاء من جسمكم، ونصف عددكم، والقطع الخصيبة من وطنكم، والسهام الرابحة من رأس مالكم، وقد ابتلاهم الله باستعمار منهوم، لم يترك لهم درهمًا في جيب، ولا ريشة في جناح، ولا عقلًا في دماغ، فإذا ثاروا اليوم فإنما يثورون لشرف هو شرفكم، وكرامة هي كرامتكم، فالآن وجب حق الأخ على أخيه، من إسعاف يشدّ العزيمة ونجدة تقوّي الأمل، وأن عدوّهم هو عدوّكم، لم تجدوه دائمًا إلا في مواطن الخذلان لكم، وجلب الشر إليكم، وكفى بموقفه منكم في قضية فلسطين.
إن المجاملات لا تنفع مع هؤلاء المتألّهين، فأروهم من أنفسكم القوة والمعاملة بالمثل يحترموكم.
أنتم قادرون إن شاء الله على نجدة إخوانكم في موقفهم الفاصل، الذين هم فيه، وعارفون بوجوه النجدة، ولا تحتاجون- بحمد الله- إلى من يعرفكم بواجب، أو يدلّكم على كيفية أدائه، وإنما نحن مذكرون متألمون، وذكرى المتألم تنفع المؤمنين.(5/46)
إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر والمغرب العربي *
اليوم حياة أو موت: بقاء أو فناء
ــــــــــــــــــــــــــــــ
حيّاكم الله أيها الثائرون الأبطال وبارك في جهادكم وأمدكم بنصره وتوفيقه وكتب ميتكم في الشهداء الأبرار وحيّكم في عباده الأحرار.
لقد أثبتم بثورتكم المقدسة هذه عدة حقائق:
الأولى: أنكم سفهتم دعوى فرنسا المفترية التي تزعم أن الجزائر راضية مطمئنة فأريتموها أن الرضى بالاستعمار كفر وأن الاطمئنان لحكمها ذل، وأن الثورة على ظلمها فرض. الثانية: أنكم شددتم عضد إخوانكم المجاهدين في تونس ومراكش، وقويتم آمالهم في النصر، وثبتم عزائمهم في النضال، وقد كان من حقهم الثابت أن ينتظروا هذه النجدة منكم فجئتم بها في وقتها وكفَّرْتُم عن التقصير بهذه المباغتة المفزعة لعدوّكم.
الثالثة: أنكم وصلتم بثورتكم هذه حلقات الجهاد ضد المعتدين الظالمين، الذي كان طبيعة ذاتية في الجزائري منذ كان، وكشفتم عن حقيقته الرائعة في إباء الضيم والموت في سبيل العزة وجلوتم عن نفسيته الجبارة ما علق بها في السنين الأخيرة من صدإ الفتور.
الرابعة: أنكم بيّضتم وجوهًا وأقررتم عيونًا، وسررتم نفوسًا، مملوءة بحبكم معجبة بصفاتكم القديمة في الجهاد، راثية لحالتكم الغابرة.
أيها المجاهدون الأحرار:
إن فرنسا لم تترك لكم دينًا ولا دنيا: فأوقافكم مصادرة لم يبق منها أثر ولا عين، ومساجدكم حولت إلى كنائس ومرافق عامة، وأرضكم الغنية مغصوبة، وأعراضكم
__________
* من كتاب "الجزائر الثائرة" للأستاذ الفضيل الورتلاني.(5/47)
مستباحة، وكرامتكم مهدورة، وقد أراقت فرنسا من دماء أبنائكم أنهرًا في الحروب الاستعمارية والإجرامية، ولا تزال حتى الآن تطمع في تسخير الملايين منكم لإذلال الأحرار من أمثالكم، كما فعلت في مدغشقر والهند الصينية، ولا تزال تساوم بكم وبخيرات أرضكم الدول الكبرى لمصالحها، كأنكم ضرب من البضاعة، ولقد عرفنا من خبث فرنسا ما يحملنا على الاعتقاد بأن ما تنويه من غدر وما تخفيه من حقد أعظم من أن يوصف فانتبهوا أشدّ الانتباه.
أيها الأحرار الجزائريون، أيها المكافحون في جميع أقطار المغرب العربي:
اعلموا أن الجهاد للخلاص من هذا الاستعباد قد أصبح اليوم واجبًا عامًا مقدّسًا، فرضه عليكم دينكم وفرضته قوميتكم، وفرضته رجولتكم، وفرضه ظلم الاستعمار الغاشم الذي شملكم، ثم فرضته أخيرًا مصلحة بقائكم لأنكم اليوم أمام أمرين: إما حياة أو موت، إما بقاء كريم أو فناء شريف.(5/48)
من جمعية العلماء الجزائريين
إلى القائدين عبد الناصر والسادات *
___
السيد الرئيس جمال عبد الناصر والسيد الوزير أنور السادات
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بمناسبه الجهاد الذي يقوم به إخواننا الجزائريون ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم، دلّل رجال الثورة في مصر من جديد على مروءتهم الكاملة، وعلى وفائهم الدائم لإخوانهم الأحرار المكافحين في المغرب العربي، فلقد كان أول صوت ارتفع عاليًا مُدوّيًا بعد اندلاع الثورة الجزائرية هو صوت الرئيس جمال عبد الناصر في تصريحاته القوية المتزنة لجريدة "كارفور" الاستعمارية. والصوت الثاني هو صوت السيد القائم مقام أنور السادات وزير الدولة وسكرتير المؤتمر الإسلامي العام. وبهذه المناسبة أرسل السيدان البشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني يشكران القائدين العظيمين بالبرقيتين التاليتين:
السيد الرئيس جمال عبد الناصر:
شكرًا عميقًا لا نهاية لأثره، على تصريحاتكم العبقرية لجريدة "كارفور" الاستعمارية، وإن الجزائر والمغرب العربي في كفاحهم المرير ليحيون في سيادتكم مثال البطولة الفذّة ويأملون رعايتكم الكريمة، أبقاكم الله سندًا للمجاهدين الأحرار ومخيفًا للظالمين الأشرار.
أما تهجمات فرنسا على مقامكم الكريم فقد أكسبتكم قلوب ثلاثين مليونًا من المغاربة ومئات الملايين من العرب والمسلمين، بل حتى الأوربيين المنصفين.
السيد القائم مقام أنور السادات سكرتير المؤتمر الإسلامي العام بالقاهرة:
شكرًا جزيلًا على كلمتكم العبقرية لجريدة "الجمهورية" عن شقيقتكم المكافحة وعن فرنسا أخبث شيطان.
__________
* نشرت البرقيتان في الصحف المصرية (نوفمبر 1954) بالقاهرة.(5/49)
حيّاكم الله وزملاءكم القادة الأبرار وقوّى بكم جهاد الأحرار وأخاف بكم الظالمين الأشرار وبارك رعايتكم لإخوانكم باستمرار.
عن مكتب
جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة
البشير الإبراهيمي
والفضيل الورتلاني(5/50)
برقية إلى الملك سعود *
حضرة صاحب الجلالة الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية- الرياض.
يا صاحب الجلالة:
ما زلنا نعتقد أن جلالتكم أعلم الناس بالحركتين الإصلاحية السلفية، والثقافية العلمية العربية بالجزائر، وأعلم الناس بآثارهما الطيبة في الأمّة الجزائرية، وإنكم أكبر أنصارهما والمقدّرين لثمراتهما والعاملين على تغذيتهما والمرجوّين لاحتضانهما.
ما زلنا نعتقد ذلك وندين لله به فصدّق الله ذلك بخطوتكم الجريئة في توصية مندوبكم في مجلس الجامعة العربية بإثارة القضية الثقافية العربية الإسلامية بالجزائر، ثم بأمركم الكريم له بعرض قضية الجزائر السياسية على مجلس الجامعة أيضًا ليقرّر عرضها على جمعية الأمم المتحدة باسم حكومة جلالتكم.
تتبعنا هذه الأطوار باهتمام مصحوب بالاغتباط والسرور والدعاء لجلالتكم إلى أن قرأنا أن سفيركم بواشنطن تكلّم باسم جلالتكم في قضايا الجزائر الدينية والثقافية والسياسية كلامًا رسميًّا قوّيًا واضحًا جريئًا، عليه نور إيمانكم وعزيمتكم، وعليه سيماء انتصاركم للإسلام والعروبة.
نحن على يقين من أنكم ما بدأتم إلا لتتمّوا، فاسمحوا لنا- يا صاحب الجلالة- أن نلفت نظر جلالتكم إلى أن من بين رجالات العرب رجلين متخصصين في الإلمام التام بشؤون الجزائر من جميع نواحيها مع الإخلاص والغيرة والجراءة، ومع الصدق في خدمة جلالتكم، وهما الأستاذ أحمد بك الشقيري والأستاذ عبد الرحمن عزام باشا، فإذا وافق نظركم السامي على أن تكلفوهما أو أحدهما بالاستعداد من الآن لمتابعة قضايا الجزائر والدفاع عنها باسم
__________
* أُرسلت هذه البرقية يوم 9 يناير 1955.(5/51)
جلالتكم كعون وتعزيز لسفارتكم بواشنطن، إن رأيتم هذا ووافقتم عليه كنتم قد وضعتم القضية في يد محام بارع عالم بأدلتها وبراهينها، محيط بجزئياتها وكلياتها. ولكم النظر العالي في تفاصيل الموضوع وكيفياته.
ونحن- على كل حال- نشكر جلالتكم باسم الأمّة الجزائرية السلفية المجاهدة، ونهنئها بما هيّأ الله لها من اهتمام جلالتكم بها وبقضاياها، ونعدّ هذا الاهتمام مفتاح سعادتها وخيرها، وآية عناية الله بها، وأولى الخطوات العملية لتحريرها.
أيّدكم الله بنصره وتولّاكم برعايته، ونصر بكم الحق كما نصر بكم التوحيد، وجعلنا من جنوده في الحق.
محمد البشير الإبراهيمي(5/52)
ميثاق جبهة تحرير الجزائر *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تداعى أبناء الجزائر المسؤولون المقيمون في مصر إلى مدارسة كل ما جرى ويجري في بلادهم من عدوان وتنكيل وتقتيل وتشريد، من جانب استعمار غاشم حقود. ولقد استقرّ رأيهم على الوثيقة التالية والتي وقّعها السادة: محمد البشير الإبراهيمي، أحمد مَزْغَنَّه، أحمد بيوض، محمد خيضر، الشاذلي مكي، الفضيل الورتلاني، حسين الأحول، أحمد بن بلّة، حسين آيت أحمد، محمد يزيد.
في الجزائر العربية المسلمة، اليوم، كفاح مسلّح خطير، لأجل استرجاع سيادتها واستقلالها، دفعها إليه استعمار بغيض، تسلّط عليها بقوة الحديد والنار، واسترق خيراتها، وحاول طمس معالمها، وتحطيم كيانها، وجرّدها من كل حق في الحياة الحرّة العزيزة الكريمة، ضاربًا صفحًا عن تطور الزمن، وعن أن الاستعمار لم يعد في القرن العشرين أسلوبًا صالحًا للبقاء.
ولقد كان من الطبيعي، والحالة هذه، أن تتوحّد جهود المسؤولين الجزائريين الموجودين في القاهرة الموقعين أسفله، وأن يكونوا يدًا واحدة في خدمة الجزائر، والكفاح في سبيل تحريرها واستقلالها مساندين بذلك جيش التحرير، وعاملين على إنجاح الحركة الثورية القومية القائمة الآن في الجزائر.
ولقد اقتنع الجميع بما تضمنته هذه الديباجة، وقرّروا بالإجماع ما يأتي:
1 - يعتبر الشعب الجزائري، على اختلاف أفراده وهيئاته- فيما يختص بالكفاح الرهيب- كتلة واحدة هي الأمّة الجزائرية. ومن شذّ شذّ في النار.
__________
* فتحي الديب، عبد الناصر وثورة الجزائر، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1984، [ص:644 - 645].(5/53)
2 - تسمّى الهيئة المنضوي تحت لوائها أبناء الجزائر المسؤولون المقيمون في القاهرة "جبهة تحرير الجزائر".
3 - تعمل الجبهة لتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي ومن كل سيطرة أجنبية، مستعملة كل الوسائل الممكنة لتحقيق أهدافها.
4 - الجزائر عربية الجنس، مسلمة العقيدة، فهي بالإسلام والعروبة كانت، وعلى الإسلام والعروبة تعيش. وهي في ذلك تحترم سائر الأديان، والمعتقدات والأجناس، وتشهّر بسائر النظم العنصرية الاستعمارية.
5 - الجزائر جزء لا يتجزّأ من المغرب العربي، الذي هو جزء من العالم العربي الكبير، وان اتجاهها إلى العروبة، وتعاونها مع الشعوب، والحكومات، والجامعة العربية أمر طبيعي.
6 - الإيمان بوجوب توحيد الكفاح بين أقطار المغرب العربي الثلاثة: تونس، الجزائر، مراكش.
7 - جبهة تحرير الجزائر مستعدة من الآن لتندمج في هيئة أجمع وأشمل للأقطار المغربية الثلاثة بنظام يوضع، ومسؤوليات تحدّد. وتهيب بالقائمين على الحركات التحريرية في كل من تونس ومراكش أن يضعوا أيديهم في يدها، وأن يعملوا معها على تأسيس هيئة تنتظم الجميع.
8 - تنتهز الجبهة هذه الفرصة لتبعث بتحياتها الأخوية إلى سائر المكافحين في الجزائر، سواء منهم من حمل السلاح، أم من كان عاملًا وراء الميدان؛ وإلى المساجين والمعتقلين السياسيين ضحايا القمع والإرهاب، مترحّمة على الشهداء.
9 - وتهيب جبهة تحرير الجزائر في القاهرة بإخوانها في العالميْن: العربي والإسلامي، وبأحرار الدنيا جميعهم، ليناصروا الجزائر في كفاحها من أجل حرّيتها واستقلالها، فهم بذلك يناصرون الديمقراطية الحقّة، والإنسانية المعذبة، والمبادئ السامية.
لقاهرة في 24 جمادى الثانية 1374هـ / 17 فبراير 1955م.
إمضاءات الأعضاء المؤسّسين(5/54)
اللائحة الداخلية لجبهة تحرير الجزائر *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الفصل الأول
ـ[المادة الأولى]ـ:
1 - تعمل جبهة تحرير الجزائر في مصر لتنسيق أعمالها مع جبهة التحرير في الجزائر تنسيقًا وثيقًا، وتسعى عاملة جهدها لحثّ الشعب الجزائري بهيئاته وأفراده على تأييد حركة الكفاح من أجل الحرية والاستقلال.
2 - ومن مهام الجبهة مراقبة التطوّر السياسي في الداخل والخارج، ودرس الحالة، وتعبئة جهودها للدعاية لصالح القضية الجزائرية بكل الوسائل الممكنة.
ـ[المادة الثانية]ـ: ولتحقيق المهام شكّلت الجبهة لجنتين، ومكتبًا إداريًا:
أ) لجنة المساعدة للعمل الإيجابي في الداخل، ومهمتها تدبير حاجيات جيش التحرير.
ب) لجنة الاتصالات، ومهمتها العمل على إثارة الرأي العام الدولي فيما يتعلق بالقضية الجزائرية، واتخاذ كل الإجراءات والأسباب للحصول على العون الأدبي والسياسي والمادي من الشعوب والحكومات لصالح القضية الجزائرية.
ج) المكتب الإداري ويتكوّن من سكرتارية، وأمانة للصندوق، ومهمته تسيير الإدارة، وإعداد جدول الأعمال، والمحافظة على أموال الجبهة، وعلى أوراقها، ووثائقها.
3 - تسيّر اللجنتان والمكتب الإداري وفق ما تسطره الجبهة.
4 - يجوز للجبهة أن تنشئ ما تراه ضرورة من اللجان والمكاتب في مصر وغيرها.
5 - لا يحضر جلسات الجبهة، ولا يشارك في مناقشاتها غير الأعضاء المؤسسين الذين أمضوا الميثاق أو الذين يتفق الأعضاء على حضورهم.
__________
* فتحي الديب، عبد الناصر وثورة الجزائر، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1984، [ص:646].(5/55)
6 - لا يكون اجتماع الجبهة صحيحًا إلا إذا حضره ثلثا الأعضاء الموجودين في القاهرة ساعة انعقاد الاجتماع.
7 - تجتمع الجبهة مرة في الأسبوع على الأقل.
8 - كل المراسلات والاتصالات تكون وتتمّ باسم الجبهة، وعلى الصورة والكيفية اللتين تحددهما الجبهة.
9 - يمكن للأعضاء أن يقوموا بأعمال خارج نطاق الجبهة على شرط أن لا تكون متنافية مع هذه اللائحة، أو مع الميثاق.
10 - لا يقصد من هذه اللائحة حصر أوجه نشاط الجبهة، وإنما المقصود منها وضع النقط الرئيسية لحسن سير العمل.
11 - هذه اللائحة قابلة للتعديل استجابة للمصلحة العامة وبموافقة جميع الأعضاء.
القاهرة في: 25 جمادى الثانية 1374هـ / 18 فبراير 1955م.
إمضاءات الأعضاء المؤسسين(5/56)
بيان من جبهة تحرير الجزائر
عن عزم الحكومة الفرنسية إعلان حالة الطوارئ في الجزائر *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عرضت الحكومة الفرنسية على البرلمان الفرنسي مشروعًا بقانون إعلان حالة الطوارئ في الجزائر، ويرمي القانون المقترح إلى قيام حالة حرب حقيقية تتجمّع فيها السلطات المدنية والعسكرية في يد واحدة، ويسمح فيها بإجراء الاعتقالات وتفتيش البيوت ليلًا ونهارًا وإغلاق المحال العامة وإلغاء حرية التنقل.
وتفيد البيانات التي أدلى بها وزير الداخلية الفرنسية أمام البرلمان الفرنسي عند تقديم مشروعه بأن الأمر لا ينحصر في تعزيز العمليات العسكرية ضد جيش التحرير الوطني الجزائري فحسب، بل يرمي إلى جعل الاضطهاد المسلّط على الشعب الأعزل أشد وأنكى، وإيجاد حالة استثنائية لإخماد صوت الشعب الجزائري بالقوة العسكرية.
ونرى من واجبنا إزاء خطورة التدابير التي طلبت الحكومة الفرنسية استصدارها من البرلمان الفرنسي- وتوقع تفاقم العمليات العسكرية ضد الوطنيين الجزائريين إثر صدورها- أن نُشَهِّر بالجراثم الجديدة التي تحاك حيالها ونكشف النقاب عن ألاعيب الدعاية الاستعمارية الفرنسية التي تزعم أن الأمن مستقرّ في الجزائر حيث لا يوجد في زعمها إلا حفنة من المشاغبين. في الوقت الذي تعد فيه الحكومة الفرنسية تدابير تعلن بها حالة الحرب ضد شعب كامل وتهيّئ بها حملة قمع عسكرية وبوليسية شاملة، سوف تفوق جميع ما اقترفه الاستعمار الفرنسي من فظائع في شمال أفريقيا إلى يومنا هذا.
لقد اختارت الحكومة الفرنسية سياسة الإرهاب التي لا مراعاة فيها للسكان العزّل، وتقصد بها القضاء على جيش التحرير الوطني الجزائري، وأن تغرق في بحر من الدماء رغائب الشعب الجزائري الوطنية.
__________
* وُجد هذا البيان في أوراق الإمام بخطه.(5/57)
إن الحكومة الفرنسية لتضلّ السبيل إذا كانت تعتقد أن الإرهاب وقوّة جيوشها وبوليسها تمكّنها من إقرار السيطرة الفرنسية والاستغلال الاستعماري بالجزائر.
لقد أثبتت الحوادث منذ أول نوفمبر 1954 أن شعبًا كاملًا متحدًا وعازمًا على الدفاع عن حقوقه يقاوم الاستعمار الفرنسي، وأن الاضطهاد مهما يكن وحشيًّا وشديدًا لن يؤدّي إلا إلى إذكاء روح المقاومة في الجماهير الجزائرية.
لذلك فإن جبهة تحرير الجزائر توجّه نداء للشعب الجزائري حتى يقضي على التدابير الجهنمية التي ينوي الاستعماريون اتخاذها ضده وذلك بتعزيز وحدته في العمل، فإن تلك الوحدة كفيلة بتحطيم القوّة الاستعمارية، وهي الردّ الوحيد على سياسة الإرهاب والدم المراق التي تنتهجها الحكومة الفرنسية.
وتتّجه جبهة تحرير الجزائر إلى جميع الديمقراطيين في العالم وإلى كل المنظمات الدولية والحكومات الحرّة للمساهمة في وقف الجرائم الجديدة التي يعدّها الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
وإن جبهة تحرير الجزائر تتجه إلى الشعب الفرنسي ورجاله الديمقراطيين لمقاومة التدابير الجديدة التي ستتخذ باسمه.(5/58)
بيان من جبهة تحرير الجزائر *
حضرات السادة:
إن الجزائر تجتاز أزمة شديدة الخطورة من يوم انفجار الحوادث الدامية في فاتح نوفمبر سنة 1954، وإن الحالة السائدة من ذلك اليوم إلى الآن لا تزداد إلا سوءًا واشتدادًا يومًا فيومًا، وهي- لذلك- حقيقة بأن تثير اهتمامكم واهتمام العالم كله.
الشعب الجزائري طلب حقوقه المشروعة بالوسائل السياسية، وقدّم من البراهين على استحقاقه لذلك ما فيه الكفاية والإقناع، فلما أعياه الأمر لجأ إلى الموت فشهر السلاح، وعقد العزم على التحرّر والخلاص وحمل المستعمر الظالم على احترام حقوقه بهذه الوسيلة التي لم يبقَ له سواها، وهو ماض في سبيل التحرير مهما كلّفه ذلك.
ولقد لجأ الاستعمار الفرنسي مصدر هذه الحوادث الدامية مرّة أخرى إلى وسائله القديمة الرجعية، أي إلى القمع بمختلف أنواعه، ليحلّ المشكلة بهذه الطريقة التي لا تزيد المشكلة إلا تعقيدًا.
إن الصراع القائم الآن في الجزائر ليس نتيجة لعلّة طارئة أو لطفرة عارضة، وإنما مصدره الأصيل وعلّته الأساسية هو الاستعمار وآثاره الطبيعية فيه من استعباد وإذلال وقضاء على الحريات وامتهان للكرامة الإنسانية، وزاد نار الصراع لهيبًا تلك الخرافة التي لفّقتها الأوهام الاستعمارية وهي (أن الجزائر ثلاث مقاطعات فرنسية).
هذه الفرية التي أراد الاستعمار الفرنسي أن يضلّل بها الرأي العام العالمي فرية مفضوحة واضحة البطلان، والحقيقة أن الجزائر كانت دولة مستقلة قبل سنة 1830، والشعب
__________
* في المؤتمر الصحفي الذي عقدته بالقاهرة يوم الإثنين الحادي والعشرين من شهر مارس 1933، الساعة الخامسة مساءً.(5/59)
الجزائري بارز الخصائص والمقوّمات، لم يعترف ولن يعترف بالواقع الاستعماري، وقد قاومه مقاومة مسلحة متواصلة عشرات السنين في سلسلة طويلة من الثورات من سواحل البحر الأبيض إلى تخوم الصحراء الكبرى، وإن أسماء الأمير عبد القادر بن محيي الدين والحاج أحمد المقراني وبو عمامة وغيرهم من أبطال الثورات وقادتها ما زالت خالدة مجيدة، عامرة بصفحات البطولة، وما خفتت المقاومة المسلّحة حتى انتقل الشعب الجزائري إلى ميدان السياسة والمطالبة بحريّته واستقلاله من طريقها، ولم يسكت يومًا واحدًا، ولم يرض دقيقة واحدة بالوضع الاستعماري: فكيف يكون وطنه قطعة من فرنسا؟ وها هو اليوم يحمل السلاح ليكذب تلك الفرية وليحصل على الحياة الحرّة الكريمة.
ولكن فرنسا بمحاولتها بسط سلطانها الاستعماري، وإنكارها كل حق في الحياة للشعب الجزائري، كانت دائمًا تجيب بسلاح القوّة على مطالب الشعب الجزائري ومطامحه المعقولة المشروعة، وفي الأيام الأخيرة تجرّأت حكومة فرنسا غير متردّدة وحدّدت موقفها الإجرامي بلسان أحد وزرائها المسؤولين، عندما صرّح بأن المفاوضة الوحيدة التي يمكن أن تجريها فرنسا في الجزائر هي الحرب ...
وما دَرَى أن هذا التصريح هو التكذيب القاطع لدعوى دولته أن الجزائر ثلاث مقاطعات فرنسية.
إن النظم الاستعمارية التي أكره عليها الشعب الجزائري تستمد براهينها من تلك القاعدة الحيوانية وهي أن الحق للأقوى، ومن هنا يتضح أن الادّعاء الاستعماري بأن الجزائر ثلاث مقاطعات فرنسية هو ضرب من الغش والتضليل والبهتان، ذلك بأن الوقائع والحقائق والقوانين الفرنسية نفسها تدحضه وتسفهه، فإن ما يطبّق من التشريعات الفرنسية بالجزائر رسميًّا مبني على أساس عنصري بغيض من وجود طبقتين: سادة ومسودين، ونوعين من المواطنين: أعلى وأدنى، ومكتبين انتخابيين لا يمتزجان: مسلم وأوروبي، وإنها لنظم تشهد بتكذيب تلك الدعوى، ويزيد في شناعتها ما ترتكبه الإدارة الاستعمارية من سوء التطبيق، وأشنعه التزوير العلني في انتخابات المجلس الأهلي.
على أن وجود مجلس جزائري خاص، واستقلال مالية الجزائر، وإدارة شؤون الدين الإسلامي من طرف الإدارة الفرنسية، وبسط السلطة العسكرية على نصف القطر الجنوبي، ووجود حواجز جمركية بين الجزائر وفرنسا، كل أولئك أدلة ووقائع لا تنكر، تدحض تلك الدعوى المضلّلة.
ومن هنا كانت النتيجة الحتمية الطبيعية للسياسة الفرنسية، المشبعة بروح الاحتقار والاستفزاز والعداء، أن يحمل الشعب الجزائري السلاح ليدافع عن حرّيته وحقوقه في الحياة الإنسانية، حين لم يجد سبيلًا آخر للمفاهمة.(5/60)
إن الدماء- يا حضرات السادة- تسيل اليوم أودية في الجزائر، ومنذ فاتح شهر نوفمبر سنة 1954 تنقل فرنسا عشرات الآلاف من جنودها للجزائر من وطنها ومن ألمانيا ومن الهند الصينية، ليقاتلوا المجاهدين الجزائريين، ويقوموا بعمليات قمع شنيعة وحشية رهيبة، تساندهم فيها القوات المصفحة وقوات الطيران، ولم تقتصر هذه القوات على قتال المقاتلين، بل معظم فتكها موجّه إلى النساء والأطفال والشيوخ والعزّل، وإن ما يرتكبه الجيش الفرنسي اليوم في الجزائر من مآسٍ وفظائع يفوق حدّ التصوّر، وما يجري في محاكمها من أحكام السجن والتغريم أكثر من ذلك، والجرائد الفرنسية ناطقة بالكثير من ذلك، ولنضرب لكم قليلًا من الأمثلة دليلًا على ما يقاسيه الشعب الجزائري من أهوال وويلات على يد الجيش الفرنسي.
ففي ناحية قرية "فم الطوب" في جبال أوراس زجّ بالشيوخ والنساء والأطفال في كهوف أحد المناجم المهجورة وأضرمت فيها النيران حتى ماتوا اختناقًا بالمادة التي في الدخان، وفي قرى "زلاطو" و "أشمول" و "يابوس" امتدّت أيدي الجنود الآثمين إلى العذارى فانتهكوا حرماتهن، وجرّدوهنّ من الثياب، ثم قتلن شرّ قتلة ببقر بطونهن بالخناجر والحراب أمام ذويهن.
وفي قرية "أريس" هاجمت دبابة عسكرية يوم 23 فبراير الأخير طفلًا لم يجاوز السابعة من العمر فخلطت أجزاءه بالتراب نكاية في الشعب وتفننًا في إلقاء الرعب في القلوب. وفي يوم 18 يناير الماضي من هذه السنة أخذت يد العدوان نحو مائة وخمسين ما بين سيدة وشيخ كرهائن، ثم عادت فقتلتهم في فجر اليوم الثاني ذبحًا.
وهناك كثير من المساجين السياسيين اختطفوا من السجون ليصرعوا غيلة في الفيافي والقفار، إن هذه الفظائع لتذكرنا بأمثالها مما كان الجيش الفرنسي يرتكبه في الجزائر في حملته الأولى عليها سنة 1830 وما تلاحق من سنيّ المقاومة الشعبية، حتى تنتهي بنا إلى مذابح شهر ماي سنة 1945 التي أباد فيها الفرنسيون من مدنيين وعسكريين أكثر من خمسة وأربعين ألف مسلم عربي جزائري، وإلى الحملات الإرهابية في جبال القبائل سنة 1947 وإلى ما جرى من مثل ذلك في قريتي "دعشمية" و "شامبلان" سنة 1948، وتذكّرنا في الأخير بما جرى من عمليات الإبادة في "دوار سيدي علي بوناب" سنة 1949، وبما جرى في مذبحة جبل الأوراس سنة 1952، ومقتلة "بلدة الأصنام" في السنة نفسها، ومؤامرة باريس سنة 1953. ولا نندفع في ضرب الأمثلة بعد هذا فإنه شيء طويل.
وسط هذه الأحداث الدامية تبلورت مقاومة الشعب الجزائري وتطورت حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، وهي تكاد تنتظم الشعب كله، ولا عجب إذا عمّ الظلم أن تعمّ الثورة(5/61)
عليه، وإن عمليات التخريب والهجمات القوية الخاطفة على الأعداء جارية متواصلة، بحيث لا يكاد يمضي يوم إلا ويسجّل للفدائيين الوطنيين عملًا أو أعمالًا من هذا القبيل، ففي القطاع الشرقي من الجزائر وفي جبل أوراس على الخصوص يصطبغ الكفاح القومي بلون الحرب السافرة المدوية، حيث يلحق المجاهدون الخسائر ذات البال بالقوات الاستعمارية، أما في وسط القطر وفي بلاد القبائل فالهجمات الخفيفة المتكرّرة من الفدائيين تزعج القوّات الفرنسية دائمًا وتسبّب لها أضرارًا مختلفة، وأما في الناحية الغربية من القطر فعمليات التخريب هي السائدة، وهي تتزايد حتى أصبح أثرها ملموسًا في الأوساط التجارية، مما جعل النشاط الاقتصادي في البلاد في حكم المشلول.
إن الحالة الراهنة في الجزائر، والتي تزداد وتشتدّ على مرّ الأيام، هي الظاهرة البيّنة على أن الشعب الجزائري مصمّم على تحرير نفسه من السلطان الاستعماري، وعلى أن يجعل بيده حدًّا لنظام مبناه على القوّة والبطش، وإذلال أحد عشر مليون عربي، وإخضاعهم لحياة الذل السياسي والاستغلال الاقتصادي.
وإن هذا الاستعمار الفرنسي، بمعارضته العنيفة للرغائب القومية المشروعة للشعب الجزائري، ويرفضه لجميع الوسائل المعبّرة عن أماني الشعب القومية، وبازدرائه للكفاح السياسي السلبي، لذلك كله فهذا الاستعمار هو الذي يتحمل وحده مغبّة هذه الدماء المراقة في الجزائر، ويتحمل وحده عواقب هذا الانفجار، لأنه- هو وحده- كان السبب فيه.
وإذا كان الشعب الجزائري قد التجأ إلى السلاح، فإنما فعل ذلك لإنهاء الوضع الاستعماري؛ أما المشكلة الجزائرية فهي فى حقيقتها مشكلة سياسية قبل كل شيء، وبعد كل شيء.
ومن القواعد المقرّرة في عالمنا الحديث أن الحق المطلق في التقرير النهائي لمصائر الشعوب هو أساس لكل تشريع وطني أو دولي، وعلى ذلك الأساس فالشعب الجزائري هو صاحب الحق في تقرير مصيره والتمتعّ بكامل سيادته، وليس لغيره الحق في أن ينصب نفسه نائبًا عنه في تقرير مصيره.
إننا من أجل أن نحمل أولئك الذين ينكرون على الأمّة الجزائرية حياة العزّ والكرامة على أن يحترموا حقوقها التي كفلتها لها الطبيعة والقوانين الإنسانية، ثم ينكرون عليها جهادها في سبيل تلك الحياة، من أجل ذلك اتحدنا نحن الجزائريين المسؤولين المقيمين بالقاهرة، في جبهة واحدة، هي (جبهة تحرير الجزائر)، عاملين على مساندة الشعب الجزائري في كفاحه القومي من أجل الحرية والاستقلال، وإننا لنعرب عن رغبتنا الملحّة في أن نرى اتحادنا هذا يتّسع حتى ينتظم سائر الحركات الاستقلالية الوطنية في كل من تونس ومراكش.(5/62)
ولا يفوتنا بهذه المناسبة أن نشكر سائر الشعوب والحكومات العربية والإسلامية والأسيوية على عواطفها وميولها الفعّالة التي ما برحت تبديها نحو المشكلة الجزائرية، كما نوجّه نداءنا الحار إلى كل الديمقراطيين الأحرار في سائر أنحاء العالم ليشاركونا في العمل للإسراع والتعجيل بتحقيق الأماني الديمقراطية المشروعة للشعب الجزائري ولشعوب المغرب العربي كله، خدمة للحق وإنقاذًا للسلام، وضمانًا للأمن في هذه الناحية من العالم.(5/63)
كيف تنجح الثورة في الجزائر؟ *
الثورة القائمة في الجزائر، يتوقف نجاحها على تحقيق ثلاثة أشياء: الإطالة، والتعميم، والسلاح، وبهذه الثلاثة نجحت كل الثورات التي وقعت في العصور القريبة على الاستعمار، فثورة ليبيا على الاستعمار الإيطالي دامت عشرات السنين، حتى أقضت مضاجع الطليان من عسكريين وسياسيين، وثورة الهند الصينية على الفرنسيين الغاصبين دامت ثماني سنوات.
وإذا كان من سرّ نجاح ثورة الشهيد عمر المختار اعتصامه بالجبل الأخضر، فإن في الجزائر عشرات من الجبال تفوق الجبل الأخضر في الارتفاع ووعورة المسالك وكثافة الغابات الطبيعية، وليس جبل أوراس بأولها ولا بآخرها، وهي ممتدة على طول القطر الجزائري من حدود تونس إلى حدود مراكش، وتوازيها سلسلة الأطلس الصغرى على طول سواحل مقاطعة قسنطينة وثلثي مقاطعة الجزائر، وفيها من القمم الصخرية الوعرة والغابات ما لا يقلّ عن قمم وغابات الأطلس الأكبر.
فالجزائر مسلّحة بهذا السلاح الطبيعي، الذي لا يوجد في غيرها إلا قليلًا، غير أنه لا يحسن الاعتماد عليها كثيرًا في هذا العصر الذي من أسلحته الطائرات والقنابل الثقيلة وأسلوب التطويق والحصار الذي يقطع الإمداد على المعتصمين بالجبال، ثم هذا الأسلوب الذي اهتدت إليه إيطاليا في أخريات ثورة عمر المختار، وهي ترحيل سكان القرى بالجبل وفي سفوحه وإبعادهم عن المجاهدين، ثم وضعهم الأسلاك الشائكة المكهربة على ما يقرب من مئتي كيلومتر على الحدود المصرية، وهذا الصنيع نفسه قد بدأت فرنسا في سلوكه بجبل أوراس، فقد أفادت وكالات الأنباء أنها أمرت سكان القرى الآمنة بالنزوح عنها كيدًا لهم ومكرًا بهم، حتى تنزل النكال بالثائرين ولو بتسليط النار على الغابات كلها.
__________
* وُجدت هذه الكلمة في أوراق الإمام بخطه.(5/64)
وأما تعميمها فهو شرط أساسي لنجاحها لأنه يوزّع القوى الفرنسية، ويقوّي تأثير الرعب في نفوس المعمّرين أصحاب المزارع والضياع، وهذا التعميم متوقف على الأسلوب الذي يجري عليه الثائرون في جبل أوراس، وعلى التوجيه السرّي الذي يباشره الدعاة إلى الثورة، والمغذّون لها بالرأي والإمدادات المادية.
وأما التسليح فهو أصعب الأشياء، لأن الجزائر محاطة بمراكش وتونس ولا يمكن التسليح إلا منهما، وفرنسا محتاطة من عشرات السنين لهذه القضية بخصوصها، وما احتلّت فزان إلا لهذا، وما بادرت بمفاوضة التونسيين وإسكات الفدائيين في تونس إلا لهذا. فعلى الرجال والهيئات العاملة لخير الجزائر خاصة والمغرب العربي عامة حصر أعمالهم واهتمامهم في هذه النقطة، ومع الجدّ والعزيمة والصدق والصبر وحسن التدبير، يهون كل عسير.(5/65)
التكالب الاستعماري على الجزائر *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوة:
لا تعجبوا من هذا التهافت الشنيع من فرنسا على الجزائر، ومن هذا التكالب الفظيع على بقاء سلطانها الممقوت فيها، وبقاء ظلها البغيض ممدودًا عليها، ولا تعجبوا من تخاذل حُججها ومنطقها في الميدان السياسي كلّما عرضت القضية الجزائرية. لا تعجبوا من هذا كله، فإن الاستعمار مرض عضال في أهله، لا يزال بهم حتى يقضي عليهم، ومن أعراض هذا المرض ما ترون وما تسمعون من هذيان ونباح. وإن هذا المرض لم يسلم منه ساسة الإنكليز مع وفور حظهم من اعتبار الواقع. ومن عقابيل هذا المرض فيهم ما ترونه من تخبّط في الأردن واليمن.
ولا تعجبوا من سقوط أمريكا حامية الاستعمار، ومن ممالأتها العالمية له حتى أصبحت شريكة في اجتراح كل ما أصاب الجزائريين من بلايا. لا تعجبوا فالاستعمار ملة واحدة، وكله رجس من عمل الشيطان وقد وَجَد في أمريكا رائده الأول هدفه، وهو الطمع والاستغلال والأنانية مجموعًا بعضها مع بعض، ولكن هذه الأقانيم الثلاثة وجدت في أمريكا على الطريقة اليهودية التي عنوانها: "غنم بلا غرم"، فما زالت بها سياسة الإنكليز تجرّها جرًّا في الحروب الأخيرة إلى أن أغرقتها فاضطرّ الأمريكان إلى تبديل ذلك العنوان من مقت وخسران.
لقد يئس الاستعمار من القارة الآسيوية حينما أفاقت من نومتها الطويلة على قعقعة الأحداث، بعد أن وجد فيها رجال استطاعوا أن يجعلوا من القوة المعنوية في شعوبهم أسلحة تفلّ الحديد وتطفئ النار، وأن يجعلوا من الفطام على الشهوات ما يقتل الشهوات في أوكارها.
__________
* لعلّ هذه الكلمة أُلقيت في إحدى إذاعات القاهرة، وهي ضمن أوراقه.(5/66)
يئس الاستعمار من آسيا ويئس شيطانه أن يعبد في أرضها فقنع منها بما دون ذلك، وهو بث البغضاء بين شعوبها، وإثارة الشقاق والنزاع بينهم على صغائِرَ هُنَّ من صنع يده، فكرَّ على إفريقيا ذات الشمس الضاحية، والسماء الصاحية، والقرب القريب من منابعه، والنفوس المتطوعة لتحريك أصابعه، ليتخذ من أهلها وقودًا بشر للحرب، ومن سوائلها المكنوزة وقودًا لآلاتها. وباب افريقيا ومدخلها الموطأ الأكناف بالنسبة إلى أوروبا وأمريكا معًا هو الجزائر، فمن هنا نشأ التهافت الذي نراه من فرنسا على هذه القطعة من إفريقيا، بحيث لو استطاعت أن تردم البحر المتوسط لتصبح الجزائر قطعة بر متصلة بفرنسا فتصحح دعواها فيها، فإذ لم تستطع، فلا أقل من أن تكون بوّابًا لهذا الباب، وحارسًا لهذا المدخل، لتنال من دهاقنة المال الأمريكيين والإنكليز أجر الحراسة على الأقل، وللأمريكيين حاسة سادسة للشم، ولكنها لا تشم إلّا رائحة الذهب والنفط، فهم يجرون مع كل خيال يخيل لهم وجود الذهب والزيت، والجزائر وصحراؤها غنيّة بهذين النوعين، فكيف لا تكون مهوى أفئدتهم، وكيف لا يسيل لعابهم إذا ذكروا أن الجزائر مفتاح إفريقيا كلها.
أما إخوانكم المجاهدون الجزائريون فقد عقدوا النية وصمّموا وعاهدوا الله على أن لا يكون للاستعمار من ظاهر أرضهم موضع بيت، ولا من باطنها دانق ذهب، ولا قطرة زيت.(5/67)
موالاة المستعمر خروج عن الإسلام *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها المستمعون الكرام ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إذا قلنا إن موالاة المستعمر خروج عن الإسلام فهذا حكم مجمل، تفصيله أن الموالاة مفاعلة أصلها الولاء أو الولاية، وتمسّها في معناها مادة التولّي والألفاظ الثلاثة واردة على لسان الشرع، منوط بها الحكم الذي حكمنا به وهو الخروج عن الإسلام، وهي في الاستعمال الشرعي جارية على استعمالها اللغوي وهو- في جملته- ضدّ العداوة، لأن العرب تقول وَالَيْتُ أو عاديت، وفلان ولي أو عدوّ، وبنو فلان أولياء أو أعداء، وعلى هذا المعنى تدور تصرفات الكلمة في الاستعمالين الشرعي واللغوي.
وماذا بين الاستعمار والإسلام من جوامع أو فوارق حتى يكون ذلك الحكم الذي قلناه صحيحًا أو فاسدًا؟
إن الإسلام والاستعمار ضدّان لا يلتقيان في مبدإٍ ولا في غاية. فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قوامه على الشدّة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها، ويقرّ ما فيها من خير ويحرّم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلًا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه، خصوصًا الإسلام ونبيّه وقرآنه ومعتنقيه.
نستنتج من كل ذلك أن الاستعمار عدوّ لدود للإسلام وأهله، فوجب في حكم الإسلام اعتبار الاستعمار أعدى أعدائه، ووجب على المسلمين أن يطبّقوا هذا الحكم الإسلامي وهو معاداة الاستعمار لا موالاته.
__________
* كلمة أُلقيت بإذاعة "صوت العرب" بالقاهرة، عام 1955.(5/68)
الاستعمار الغربي- وكل استعمار في الوجود غربي- يزيد على مقاصده الجوهرية وهي الاستئثار والاستعلاء والاستغلال، مقصدًا آخر أصيلًا وهو محو الإسلام من الكرة الأرضية خوفًا من قوّته الكامنة، وخشية منه أن يعيد سيرته الأولى كرة أخرى.
وجميع أعمال الاستعمار ترمي إلى تحقيق هذا المقصد، فاحتضانه للحركات التبشيرية وحمايته لها وسيلة من وسائل حربه للإسلام.
وتشجيعه للضالين المضلّين من المسلمين غايته تجريد الإسلام من روحانيته وسلطانه على النفوس، ثم محوه بالتدريج.
ونشره للإلحاد بين المسلمين وسيلة من وسائل محو الإسلام، وحمايته للآفات الاجتماعية التي يحرمها الإسلام ويحاربها كالخمر والبغاء والقمار، ترمي إلى تلك الغاية. ففي الجزائر- مثلًا- يبيح الاستعمار الفرنسي فتح المقامر لتبديد أموال المسلمين، وفتح المخامر لإفساد عقولهم وأبدانهم، وفتح المواخير لإفساد مجتمعهم، ولا يبيح فتح مدرسة عربية تحيي لغتهم أو فتح مدرسة دينية تحفظ عليهم دينهم.
ويأتي في آخر قائمة الأسلحة التي يستعملها الاستعمار الغربي لحرب الإسلام اتفاقه بالإجماع على خلق دولة إسرائيل في صميم الوطن العربي، وانتزاع قطعة مقدّسة من وطن الإسلام وإعطائها لليهود الذين يدينون بكذب المسيح وصلبه، وبالطعن في أمه الطاهرة.
فالواجب على المسلمين أن يفهموا هذا، وأن يعلموا أن من كان عدوّا لهم فأقلّ درجات الإنصاف أن يكونوا أعداء له، وأن موالاته بأي نوع من أنواع الولاية هي خروج عن أحكام الإسلام، لأن معنى الموالاة له أن تنصره على نفسك وعلى دينك وعلى قومك وعلى وطنك.
والمعاذير التي يعتذر بها الموالون للاستعمار كالمداراة وطلب المصلحة، يجب أن تدخل في الموازين الإسلامية، والموازين الإسلامية دقيقة تزن كل شيء من ذلك بقدره وبقدر الضرورة الداعية إليه، وأظهر ما تكون تلك الضرورات في الأفراد لا في الجماعات ولا في الحكومات.
وموالاة المستعمر أقبح وأشنع ما تكون من الحكومات، وأقبح أنواعها أن يحالف، حيث يجب أن يخالف، وأن يعاهد، حيث يجب أن يجاهد، وأقبح ما فيها من القبح أن يحالف استعمار على حرب استعمار.
وقد كانت الحروب قبل اليوم لمعانٍ بعضها شريف، وقد يكون أحد الجانبين فيها على حق. أما هذه الحروب التي لا تنتهي الواحدة منها إلا وهي حامل مُقْرب بأخرى أشدّ منها(5/69)
هولًا، وأشنع عاقبة، فلم يبق فيها شيء من معاني الشرف ولا من معاني الرحمة ولا من معاني الكرامة الإنسانية، وإنما هي حرب مجنونة يبعثها حب الاستعلاء والتسلّط على الضعفاء، والاستئثار بخيرات أرضهم، والضعفاء دائمًا هم الأدوات التي تقع بها الحرب، وتقع عليها الحرب، فهم في السلم محل النزاع، وفي الحرب ميدان الصراع.
لا مثال للبلاهة والبلادة أوضح من محالفة الضعيف للقوي إلا إذا صحّ في الواقع وفي حكم العقل أن يحالف الديك النسر، أو تحالف الشاة الذئب.
كيف نحالف الأقوياء وقد دلّت التجارب أنهم إنما يحالفوننا ليتخذوا من أبنائنا وقودًا للحرب، ومن أرضنا ميدانًا لها، ومن خيرات أرضنا أزوادًا للقائمين بها، ثم تنتهي الحرب ونحن المغلوبون الخاسرون على كل حال، وقد تكرّرت النذر فهل من مُدَّكِر؟
أيها المسلمون أفرادًا وهيئات وحكومات:
لا توالوا الاستعمار فإن موالاته عداوة لله وخروج عن دينه.
ولا تتولّوه في سلم ولا حرب فإن مصلحته في السلم قبل مصالحكم، وغنيمته في الحرب هي أوطانكم.
ولا تعاهدوه فإنه لا عهد له.
ولا تأمنوه فإنه لا أمان له ولا إيمان.
إن الاستعمار يلفظ أنفاسه الأخيرة فلا يكتب عليكم التاريخ أنكم زدتم في عمره يومًا بموالاتكم له.
ولا تحالفوه فإن من طبعه الحيواني أن يأكل حليفه قبل عدوّه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/70)
الإسلام في الجزائر *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وضع الجزائر اليوم من حيث التخطيط الجغرافي والتحديد الإداري وضع جديد بدأ في العهد العثماني وتمّ في عهد الاحتلال الفرنسي، أما في القديم فكانت قطعة من المملكة العربية الإسلامية التي شادها الفاتحون في القرن الأول للهجرة وجعلوا عاصمتها القيروان. فالقيروان هي التي كانت تتحكم في تونس والجزائر ومراكش، وفي الأندلس بعد فتحها، بدليل أن العمال لهذه الأقطار كلها كانوا يستعملون من قبل والي القيروان لا من مركز الخلافة في الشرق، فلما ظهرت الدعوة الأموية في الأندلس على يد عبد الرحمان بن معاوية انفصلت الأندلس عن القيروان، ولما ظهرت الدعوة العلوية في مراكش على يد إدريس بن عبد الله انفصلت مراكش عن القيروان، وليس بين مراكش والجزائر حدود طبيعية تفصل إحداهما عن الأخرى، ولا بين الجزائر وتونس، فالدم واحد والعنصر (جاهلية وإسلامًا) واحد، والأطلس الأشم آية من الله شاهدة على هذه الأقطار بالوحدة، والإسلام الذي طوى هذه الأقطار في ملاءته زادها وحدة وارتباطًا.
والإسلام في الجزائر كالإسلام في غيرها من أوطانه، فإذا اختلفت على هذه الأوطان ألوان من الإدارة والحكم، أو تعاورتها أطوار من الفساد والصلاح، فالإسلام في جميعها واحد، يعلو اسمه بعلو المسلمين وينحط بانحطاطهم وتقوى آثاره بقوّة فهم المسلمين له وإقامتهم لشعائره ووقوفهم عند حدوده، وتضعف حين يبعدون عن هدايته. أما حقائقه العليا فهي قائمة بقيام القرآن، ثابتة بثبوته، موجودة بوجوده، وإنما قصرنا العنوان على الجزائر استجابة لمقترح خاص بعنوان معيّن، ويتضح المراد منه بزيادة كلمة "اليوم" والأمس فيصير العنوان الكامل: الإسلام في الجزائر ماضيه وحاضره.
__________
* حديث أُلقي من إذاعة "صوت العرب"، القاهرة، 1955.(5/71)
ونعني باليوم الحقبة المشؤومة التي ابتُليت فيها الجزائر بالاستعمار الفرنسي، لأن هذه الحقبة هي التي أصبح للإسلام فيها وضع شاذ على بقية الأقطار الإسلامية شرقها وغربها، وبهذا التحديد يستطيع المتحدّث أن يأتي بكلام مفيد في الدقائق المحدودة في "صوت العرب" المجلجل.
الجزائر- أيها المستمعون الكرام- من أزكى المغارس التي غرست فيها شجرة الإسلام فنمت وترعرعت ثم آتت أكلها طيبًا مباركًا فيه من القرن الأول للهجرة: فقد حمل الفاتحون وفيهم أولو بقية من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعاليم الإسلام إلى شمال أفريقيا، وقلب هذا الشمال هو ما نسمّيه اليوم الجزائر، فنشروها بالإقناع وثبتوها بالشواهد العملية بعد أن اجتثوا من الشمال وثنية البربر وبقايا العتو الروماني، نشروا عقائد الإسلام حتى استقرّت في النفوس، وعباداته حتى اطمأنت إليها النفوس، وأحكامه حتى حقّقت العدل، وحفظت الحقوق، وصانت المصالح، وضمنت المساواة، وأخلاقه حتى تعايش الناس على المحبة وتعاونوا على البر والتقوى.
والفتح الإسلامي بعيد عن معنى الفتح المتعارف عند المؤرخين والحربيين، المبني على القسوة والقهر، المثمر للتمكن والسلطان، إنما الفتح الإسلامي فتح للقلوب الغلف عن الهداية، والعيون العمي عن الحق، والآذان الصم عن دعوة الحق، والأذهان الغافلة عن الله، والعقول المحجوية بالظواهر عن حقائق الكون والحياة، والنفوس المفرغة عن الشر لتعمر بالخير والمحبة وصدق المعاملة مع الله ومع عباده، حتى إذا استقامت هذه القوّة كلها على طريقة الحق وأشرق عليها الإيمان بنوره، كملت إنسانية الإنسان وصلح الفرد، فصلحت الجماعة المؤلّفة من الأفراد، فصلحت الدولة المركبة من الجماعات.
وانحدر الإسلام في شمال افريقيا- والجزائر هي قلبه دائمًا- مع تاريخه مرّة يضعف ومرّات يقوى، ولكنه محتفظ دائمًا بسلطانه على النفوس، ومن آثار ذلك السلطان القاهر ما نراه من آثار العقول في ازدهار العلوم والآداب وكثرة التآليف وظهور النوابغ فيهما، خصوصًا في ما قبل الألف، وما نراه من آثار الأيدي المفتنّة في المساجد والمدارس والحصون والقصور، وما نراه من أثر الهمم في الأوقاف الدارة على تلك المساجد والمدارس، وعلى وجوه الخير وسبله المتنوعة من تنشيط العلم وتعميمه، وتخفيف البؤس عن البائسين، وتسليح المرابطين وتزويدهم، وصيانة اليتامى ورعاية المنقطعين، ومعالجة المرضى، بحيث لم تبق حاجة من حاجات المجتمع لم تتناولها همم المحسنين بالسد والكفاية من هذه الأوقاف، وكانوا أذكى المنتبهين لخطر الآفات الثلاث المبيدة للشعوب: الجهل، والفقر، والمرض، فوضعوا للوقاية منها أسدادًا من الأوقاف، ومن اطلع على رواية المؤرخين وترجماتهم ورأى بقايا الوثائق الوقفية المسجونة في مكاتب الاستعمار بالجزائر، عجب لما(5/72)
فعل الإسلام في نفوس أسلافنا: ومن قرأ تاريخ المدن الجزائرية العلمية التي كانت لها في الحضارة أوفر نصيب: تلمسان وبجاية وتيهرت وقلعة بني حماد والمسيلة وطبنة وبسكرة، من قرأ هذه التواريخ علم أية سمات خالدة وسم بها الإسلام هذا القطر.
على هذا النحو من القوة والسموّ والإنتاج والحضارة والعلم والأدب والفن كان الإسلام في الجزائر، له في كل جو متنفس، وفي كل واد أثر، وفي كل علم أعلام، وكانت الحكومات المتعاقبة إما أن تزيد في ذلك البناء الشامخ، وإما أن لا تنقص، إما أن تجلو آثار الإسلام في الأنفس والآفاق وإما أن لا تطمس، ومهما يبلغ الحاكم المسلم من استبداد وفساد وجرأة على المخلوقين فإنه لا يحارب الله في دينه لإخراب بيوته أو منعها أن يذكر فيها اسم الله، أو بتعطيل شعائره، أو باحتجان أوقافه وصرفها إلى غير مقاصدها، وأعتبر هذا التاريخ على طوله وامتداده في قريب من اثني عشر قرنًا طورًا واحدًا للإسلام في الجزائر، هو ماضي الإسلام.
...
أما يومه فها هو: احتلت فرنسا الجزائر المسلمة العربية احتلالًا مدبّرًا مبيتًا على برنامج واسع يدور كله على محور واحد، ويرمي إلى غاية واحدة وهي إذلال المسلمين ومحو الإسلام في الشمال الافريقي كله، واحتلال الجزائر إنما هو بداية بالقلب مطوية من أول يوم على احتلال تونس غدًا ومراكش بعد غد، وبعد ذلك احتلال ليبيا، وكان الإسلام في الجزائر يوم الاحتلال قويًّا بمعنوياته ومادياته، مكينًا في النفوس، متمكنًا في الأرض بمقوّماته من معابد لإقامته ومدارس لعلومه وأوقاف دارة الريع للقيام به وحمايته والمحافظة عليه، وتشترك في ذلك الحكومة والأمّة معًا، وقد يتطرق إليهما الخلاف في كل شيء من أسباب الدنيا إلا في الدين وأسبابه، بل كانوا يختلفون في شؤون الدنيا فيكون الدين بسلطانه على النفوس هو الحامل لهم على إصلاح ذات البين وإرجاع الحاكم إلى إقامة العدل، وإرجاع المحكوم إلى التزام الطاعة وإقامة الحدود التي تحفظ الأمن والرسوم التي تضمن الوحدة، وكان الحاكم المسلم هو الذي يرقم الأئمة والخطباء للمساجد، ويختارهم من أهل العلم والفضل، ويجري عليهم أرزاقهم من الأوقاف على الشروط المقرّرة في الإسلام لتكون عبادات المسلمين صحيحة، ثم يقيم القضاة والموثقين ليحكموا بين المسلمين بأحكام الإسلام، وينفّذوها فيهم باسم الإسلام، لتكون أنكحتهم ومعاملتهم صحيحة.
فكان الإسلام في الجزائر بذلك كله هو المرجع في التشريع والتنفيذ، وهو المهيمن على العبادات والعادات، وهو المسيطر على الروحيات والماديات، وهو الموجّه لكل ما يصدر(5/73)
عن الأفراد والجماعات من أعمال، وكان من وراء الجهاز الحكومي طوائف من الفقهاء الشعبيين المتضلعين في فقه الأحكام أصولًا وفروعًا، الآخذين من فضائل علماء السلف بالنصيب الأوفى، فكان هؤلاء العلماء هم حراس الإسلام وأحكامه، يقوّمون بنفوذهم العلمي كل من زاغ عن سبيله من حاكم ومحكوم، وكانوا من استقامتهم بحيث لا يغضبون إلا لله ولا يرضون إلا لله، وكانوا من سعة السلطان على الجماهير بحيث يخشى غضبهم ويرجى رضاهم، وكانوا بوحدة المذهب السائد في الفروع- وهو مذهب مالك- في مأمن من اختلاف الرأي أو الاختلاف في الحكم، وهي خصوصية قلّ أن توجد في غير شمال إفريقيا، وبالجملة فقد كان هذا الطراز من العلماء الشعبيين هو ميزان الاعتدال في الجزائر وهو المسير الحقيقي للدولاب الحكومي والاجتماعي.
فماذا صنع الاحتلال الفرنسي من أول يوم؟ بدأ بخطة كانت مرسومة من قبل وكشف عن مقاصده المبيّتة للإسلام بعد أسابيع من احتلال الجزائر العاصمة، ولم ينتظر انتهاء الحركات العسكرية التي طالت عشرات السنين، كأن به شوقًا مبرحًا إلى الانتقام من الإسلام وإطفاء ما يكنّه من حقد عليه: بدأ بمصادرة الأوقاف الإسلامية بجميع أنواعها في العاصمة وإلحاقها بأملاك الدولة المحتلّة، وأصدر قانونًا بتعميم المصادرة في كل شبر يحتلّه، ثم عمد إلى المساجد فأحال بعضها كنائس، وبعضها مرافق دنيوية عامة، وهدم بعضها لإنشاء الشوارع والميادين. بدأ بهذا في العاصمة ثم عمّمه بعد استقرار الأمر له في جميع القطر، ثم عمد إلى المساجد الباقية فاحتكر التصرّف فيها لنفسه واستأثر بتعيين الأئمة والخطباء والمؤذّنين والمفتين، وأجرى عليهم الأرزاق من خزينته العامة ليبقوا دائمًا تحت رحمته، فلا يقدم لوظيفة من هذه الوظائف إلا من يجري في عنانه ويتوخّى رضاه ويخدم مصالحه ولو خرب الدين وكان أجهل بالإسلام من إنسان المجاهل.
وأمر الاستعمار الفرنسي على هذا إلى هذا اليوم، وله أعمال من دون ذلك هو لها عامل وكلها تتلاقى عند غاية قدّرها، وهي محو الإسلام من الجزائر حتى تصفو له، فتنسى دينها ولغتها وتاريخها وأمجادها وعروبتها وشرقيتها، وتصبح فرنسية الهوى والعاطفة والفكر واللسان والاتجاه، فيتخذ منها امتدادًا لوطنه وأمدادًا لتوسعه. ومن مكائده الخفية لمحو الإسلام تشجيعه للخرافات والبدع والضلالات الشائعة بين مسلمي الجزائر لعلمه أنها تفسد عقائد الإسلام الصحيحة، وتحبط عباداته، وتبطل آثارها، وتخلط الموازين، فتلتبس السنّة بالبدعة والفضيلة بالرذيلة والحق بالباطل، وعقيدة الحق إذا شابها ثوب الباطل أبطل أثرها في صفاء الأرواح، وعبادة الحق إذا لبسها الضلال بطل تأثيرها في تصفية النفوس، والفضيلة إذا مازجتها الرذيلة بطلت خاصيتها في تكوين الجماعات الفاضلة.(5/74)
خبّ الاستعمار وأولع في هذا المضمار وجمع على حرب الإسلام كل ضال من أبنائه وكل دجّال وكل مبتدع وكل متّجر بالدين، يشجعهم ويرعاهم ويكرّمهم ليحاربوا الدين الحق بالدين الباطل، وظاهرهم بجيش آخر من المبشّرين يحميهم ويمهّد لهم الطريق، وبجيش آخر من الملاحدة الذين أنشأتهم مدارسه على درجات تبدأ بالزهد في الإسلام ثم بالتنكّر له والازدراء، ثم بالمروق منه.
هذا بعض ما فعله الاستعمار الفرنسي من موبقات نحو الإسلام، وما جنّده من جنود لحرب الإسلام في الجزائر، لعلمه أنه لا بقاء لسلطانه وجبروته ما دام القرآن محفوظًا، والعقائد الصحيحة ثابتة، والشعائر المرفوعة مقامة والسنن المأثورة مشهودة، ولغة القرآن مالكة للألسنة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/75)
الجزائر المجاهدة *
لو قسمت حظوظ الجهاد بين الأمم لحازت الجزائر قصبات السبق، ونطلق الجهاد على معناه الواسع الذي يقتضيه اشتقاقه من الجهد، ولنبدأ بمعناه الخاص وهو جهاد العدوّ الأجنبي المغير على الوطن، وقد وضع الله الجزائر في موضع يدعو إلى الجهاد وعلى وضع يدعو إلى الجهاد، فموضعها الضفة اليسرى للبحر الأبيض للمتّجه إلى المغرب، ووضع الأمم اللاتينية على الضفة اليمنى والبحر بينهما يضيق إلى عشرات الأميال كما بين صقلية وبنزرت في تونس، ويتسع إلى مئات الأميال كما بين مدينتَي الجزائر ومرسيليا، والأمم اللاتينية أمم مطامع وفتوح وكبرياء ودماء منذ كانوا، لم يزدها الدين المسيحي السامي الروح إلا ضراوة بذلك لأن طبيعتها المادية المتكالبة غلبت طبيعته الروحية المتسامحة وبذلك أصبح دينًا رومانيًا لا شرقيًا.
والأمّة الجزائرية هي بعض جزء من البربر في القديم وبعض جزء من العرب في الحديث، وكلتا الأمّتين لها خصائص متقاربة في الإباء والحفاظ والأنفة واعتبار الحمى عرضًا تجب الموت دونه، وفي معنى السخاء الذي يبتدئ بالمال ويعلو فينتهي بالروح، والجود بالروح أقصى غاية الجود.
وجاء الإسلام فأخرج من المزاج المشترك بين العنصرين مزاجًا ثالثًا وقوّى معى الحمى والعرض والحفاظ وهي المعاني التي كان يتهالك العرب ويتفانون لأجل حمايتها إلى معنى روحاني أعلى وأسمى وهو الجهاد دفاعًا وهجومًا لإعلاء كلمة الله. وكلمة الله هي نشر العدل والإحسان في الأرض ونشر الخير والمحبة في نفوس أهل الأرض.
هذا المزاج المتحدّر من الخصائص الفطرية التي زادها الإسلام تثبيتًا وأولاها عناية وغربلة، هو الذي ترك الأمّة الجزائرية أمّة جهاد بجميع معانيه، وعلى هذا المعنى يجب أن يبني المؤرّخ تاريخ الجهاد النفسي في هذه الأمّة.
__________
* حديث أُلقي بإذاعة "صوت العرب" بالقاهرة، عام 1955.(5/76)
لم تخلُ العصور الإسلامية من الجهاد بالنفس في الجزائر لأن الجارين المتقابلين على ضفتي البحر الأبيض أصبح كل واحد منهما بالمرصاد لصاحبه، وانتقل لبّ الصراع بينهما من ميدان إلى ميدان، فبعد أن كان صراعًا على العيش أو التوسّع في العيش أو صراعًا على الزيت والقمح وهما المادتان اللتان جلبتا الفتح الروماني على افريقيا الشمالية، صار صراعًا على الدين زاد في شدّته أن العرب بدينهم خلفوا الرومان على حضارتهم في افريقيا ثم لمسوهم من جبل طارق تلك اللمسة المؤلمة التي تطيّروا بها وطاروا فزعًا وظنّوا أنها القاضية على روما وديانتها وحضارتها وشرائعها، وهذا الميدان الذي انتقل إليه الصراع أعمق أثرًا في النفوس ويزيد في عمقه أن حامليه العرب قوم لا تلين لهم قناة ولا يصطلى بنارهم.
ندع الفترة الرومانية الضعيفة التي سبقت الفتح الإسلامي وبدأت من يوم انقسام روما إلى شرقية وغربية وصاحبته، فهي فترة سلم اضطراري. ومضى الرومان فغاضوا وقوي العرب ففاضوا، ونتحدّر مع التاريخ إلى ضعف الأندلس وملوك الطوائف وتداعي اللاتين إلى إحياء روح الثأر والانتقام وشنّ الغارات على سواحل المغرب من سواحل تونس الشرقية إلى السواحل المراكشية على المحيط، فالجزائر كان لها القدح المعلى في الجهاد، تارة منظّمًا على أيدي الدول والاستنفار، وتارة- وهو الدائم الذي لا ينقطع- بالوازع النفساني الفردي وهو الرباط الذي يشبه في جهته الفردية حرب العصابات اليوم.
فكانت الثغور الجزائرية المشهورة والمهجورة التي يتطرق منها العدو عامرة دائمًا وأبدًا بالمرابطين، وهم قوم نذروا أنفسهم لله ولحماية دينه يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، لا يرزؤون الحكومات شيئًا من سلاح ولا زاد، وإنما يتسلحون ويتزوّدون من أموالهم ليجمعوا بين الحسنيين، الجهاد بالمال والجهاد بالنفس، وسلسلة الرباط لم تنقطع إلا بعد استقرار الأمر لفرنسا. وإنما كانت تشتدّ وتخفّ تبعًا لما يبدو على الضفة الأخرى من نشاط وخمود، وكانت على أشدّها في المائة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة، في الوقت الذي عادت فيه الكرة للإسبان على المسلمين في الأندلس واغتنمها الإسبان فرصة لاحتلال ثغور البحر المتوسط الافريقية ومعظمها في جزائر اليوم.
احتلّت فرنسا الجزائر سنة 1830 تنفيذًا لخطة مرسومة تقتضي إعادة شمال افريقيا لاتينيًا كما كان قبل الإسلام، وإذا كان قديمًا على يد الرومان وكان اليوم على يد الفرنسيين فإنما ذلك توارث بين ابن العم وابن عمه، والخطة تقتضي احتلال الجزائر اليوم، واحتلال جناحيها يوم يجيء الوقت، ومعاونة من يريد احتلال جزء آخر من التراب الإسلامي. وسكت العرب عن هذه الفاجعة التي حلّت بقطعة جليلة من وطنهم الأكبر، وسكت المسلمون من ورائهم كأن الأمر لا يعنيهم، وما دروا أن ضياع الجزائر مؤذن بضياع غيرها(5/77)
وأن موت البعض من بعض قريب، كما يقول الشاعر، وانخنست تركيا قانعة بالموجود وما درت أن الموجود اليوم مفقود غدًا، ولكن الجزائريين لم يسكتوا، وبدأت المقاومة لأول أمرها قريبة من نظام المرابطة، ثم نظمت على يد الأمير عبد القادر بن محيي الدين وبقيادته، وبلغت الأوج في سنواتها الأولى وأصبحت مرهوبة يخشى بأسها في سنواتها الوسطى، وذاق الفرنسي الوبال، وتجلّى الجزائري عن بطولة كاملة يرفدها الروح المركب بيد الإسلام من حقيقة العربي والبربري التي أصبحت بفضله حقيقة واحدة، وبقي الحفاظ متأجّجًا سبع عشرة سنة تعاونت العوامل في آخرها على القائد عبد القادر فاستسلم مكرهًا وتحطمت المقاومة الجماعية المنظمة بتسليم الأمير. ولكن هل تحطمت المقاومة بتسليم الأمير؟
لم تتحطم المقاومة إلا في السهول التي مهّد سبلها وفعل فيها الجيش الفرنسي الأفاعيل الوحشية التي يعترف بها القادة مثل القائد سانت أرنو في كتابه المعروف برسائل سانت أرنو، فمن أراد أن يعرف ما تصنعه الوحشية العاقلة، وما صنعته فرنسا في الجزائر من تقتيل وتحريق للجماعة الكاملة بنسائها ورجالها وأطفالها فليقرأ ذلك الكتاب، ولو اشتراه باحث بوزنه ذهبًا لما كان مغبونًا، لأنه يضع يده على الفظائع التي ارتكبها أجداد هؤلاء الكاذبين المتبجحين المستطيلين على العالم بالدعاوى الزائفة في العلم والمدنية.
أما في الجبال فبقيت المقاومة على أشدّها في شكل تمرّد شامل وفي ثورات متتالية في جهات متباعدة لا تدلّ على قوّة وإنما تدلّ على حمية وأنفة، إلى أن كانت أكبرها وخاتمتها ثورة الحاج أحمد المقراني سنة 1871، في أثناء اشتغال فرنسا بحربها السبعينية مع الألمان، في مقاطعة قسنطينة التي تشكّل نصف القطر الجزائري تقريبًا في عدد السكان ورقعة الأرض، وكانت ثورة المقراني بعد واحد وأربعين سنة من الاحتلال مرّت كلها في المقاومات والثورات المسلّحة ولم تسترح فيها فرنسا، ولا اطمأن لها جنب، فمدة المقاومة المتصلة إذن هي أربعون سنة وهي من أطول المقاومات أمدًا في التاريخ. ولو طالت الحرب السبعينية بين فرنسا والألمان سنتين أو ثلاثة لباءت ثورة المقراني بالنصر والنجاح، ولكن فرنسا انهزمت ودفعت الجزية للألمان عن يد وهي صاغرة، ودفعت ببقايا جيشها إلى الجزائر لتحطيم ثورة المقراني.
فهذه هي نهاية الجهاد المسلّح، أما أنواع الجهاد الأخرى ففيها تظهر قوّة الجزائر وإيمانها وصلابتها، ولا يعرف قيمة هذا النوع من الجهاد إلا من عرف "فرنسا في الجزائر" وما سلّطت فرنسا على الجزائر وما ساقت إليها من شرور وبلايا.
إن فرنسا بعد التمهيدات العسكرية الأولى رأت أن عمل الحديد والنار لا ينفع ولا يدوم، لأنه يمنع القرار والاستغلال، وهي ما جاءت إلا لتستقر وتستغل، ورأت أن ملك(5/78)
القلوب بالإحسان ليس من طبعها ولا من سيرتها، وأن تحطيم المقاومة المادية لا يغني ما لم تحطم المقاومة الروحية، فعمدت إلى وضع برنامج واسع طويل عريض لضمان بقائها في الجزائر يجمعه مع طوله وتشعّب فروعه قولك: "إفساد معنويات الشعب" ومن أقوى المعنويات الدين، فبدأت بالاستيلاء على الأوقاف الإسلامية وأحالت كثيرًا من المساجد إلى كنائس، ثم شرعت في تنفيذ برنامجها البطيء، فضيّقت على دروس الدين، ودروس العربية لأنهما حافظا المقوّمات الروحية حتى ينسى الناس دينهم ولغتهم بالتدريج وتسلّطت على بقية المساجد تتصرف فيها تصرفًا مطلقًا. فهي التي تعيّن المفتين والأئمة والمؤذّنين والقَوَمة وكل من له تعلّق بالمسجد، فتوصلت بذلك إلى إفساد هذه الطائفة الدينية بالرغبة في الوظيفة والتعلّق بها، حتى أصبح رجال الدين كلهم جواسيس لها ومخبرين وحالتهم اليوم أتعس حالة، وأقبح مثال من مخالفة الوظيفة لمعناها، فالإمامة في الإسلام منصب جليل وصاحبه قائد روحاني يقلب قلوب الناس بخطبه الدينية في بيوت الله، والمساجد أجواء روحانية يعطرها الإمام الصالح العارف بما يخرج من فيه، بل من روحه ويتصل بنفوس، فإذا هي تفعل فيها فعل المطهر الكيميائي الذي يبيد الحشرات والجراثيم.
كان من وسائل فرنسا لإفساد المعنويات هذه الأعمال التي نذكرها مسرودة، وكل واحد منها موضوع بالقصد لغاية، أو لغايات ينتهي إليها بالطبيعة إذا لم يجد في طريقه مقاومة طبيعية أو صناعية:
1 - حماية الدجّالين والمضلّلين باسم الدين من شيوخ الطرق الصوفية، وقد جنت فرنسا من هؤلاء كل خير لنفسها، فقد كانوا مطاياها وجنودها الروحيين في احتلال الأوطان الإسلامية، ويقول بعض المغفلين إنهم هم الذين نشروا الإسلام في أواسط افريقيا وفي السودان، وهذا تخليط. فإن الذين نشروا الإسلام في تلك الأصقاع هم طائفة من أجدادهم الصالحين بمعونة التجّار، أما هؤلاء الأحفاد فما نشروا إلا الاستعمار الفرنسي.
2 - نشر الفجور وحمايته.
3 - نشر الخمر لإتلاف الأموال وإفساد العقول، وكم خربت معها الرذيلة من بيوت، وكم أتت على ثروات، وكم نقلت من مئات آلاف الفدادين من الأراضي الخصبة من يد أصحابها المسلمين إلى أيدي اليهود، ثم إلى أيدي أوزاع أوربية يسمونها المعمّرين.(5/79)
دور الدول الإسلامية
في المؤتمر الأسيوي - الأفريقي *
أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يحسن في الذوق الاجتماعي اللطيف الذي يستحلي السرى والسلامة للإنسانية كلها أن يسمى المؤتمر الافريقي- الأسيوي جنة لأنه لم يحضره شيطان، وشياطين هذا العصر هم دعاة الاستعمار، وأحق الناس بدخول هذه الجنة هم قادة المسلمين ورجال حكوماتهم، ويزيد استحقاق المسلمين بدخول هذه الجنة تأكدًا أن المؤتمر خاص بأفريقيا وآسيا، والإسلام متأصل فيهما وجميع المسلمين مستقرين في هاتين القارتين، ونتمنى أن يكون شهود هذا المؤتمر هم العوذة من الشيطان حتى لا يوسوس بخلاف وهو خارج الدار، ولا ينفث الشر وهو وراء الأسوار، فإنه كأخيه شيطان الجن قادر على ذلك، وكما أن شيطان الجن يَعِدُ الإنسان ويمنيه ولا يمنيه إلّا غرورًا، كذلك شيطان الاستعمار شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وللافريقيين والأسيويين موعظة بالغة في العرب، فقد وعدهم الاستعمار الغربي في الحرب الأولى بوحدة تجمع شملهم، ومنّاهم بخلافة تعيد مجدهم، وملك طويل عريض يظللهم لواؤه على أن يكونوا معه في الحرب وقودًا لها، فلما انتصر وقضى الوطر مزقهم قطعًا وقطعهم في أرضهم أممًا، وضرب بعضهم ببعضهم ليستذلهم جميعًا ويستغلهم جميعًا ويكون سيدهم جميعًا، وأصبح العرب الطامعون في الغنيمة هم الغنيمة، وجاءت الحرب الثانية متصلة الأسباب بالأولى فجدد الوعد بلون آخر، وأكد العهد بيمين أخرى، وتجدد منهم الانخداع مع الأسف، لأنه هيأهم لذلك في فترة ما بين الحربين، فلما انتصر ثانية كان جزاؤهم أن نزع منهم فلسطين وأعطاها لليهود علانية، ووضع في جنوبهم شوكة لا يقر لهم معها قرار ولا يهدأ مضجع، إن تركت أهلكت وإن نكست آلمت، أما استنزاع هذه الشوكة فلا يتم إلّا
__________
* حديث أُلقي في إذاعة صوت العرب بمناسبة انعقاد المؤتمر الافريقي- الاسيوي الأول في مدينة باندونغ بأندونيسيا، القاهرة، ماي 1955.(5/80)
بقطع اليد التي غرزتها، وليت شعري بماذا يعد هذا الشيطان العرب في الحرب الثالثة ونذرها تتوالى؟ إنه سيغير الأسلوب، ويأتيهم كطالب الغيث بالرداء المقلوب، فهل يلدغ العرب من جحر واحد ثلاث مرات؟
هذا المؤتمر هو الأول من نوعه في عالم المؤتمرات، فليكن هو الأول من نوعه في عالم الآراء الحكيمة والقرارات العملية الحازمة، وهو أكبر مؤتمر يجمع القلوب التي جرحها الاستعمار الغربي والرقاب التي استذلها والأوطان التي ابتلع خيراتها، فسمن على هزالها، وقوي على ضعفها، وحي على موتها، فليكن دور الدول الإسلامية فيه كما يريد منهم الإسلام، وكما تملي عليهم روحانيته السماوية وعظمته التاريخية دورًا قويًا شجاعًا واضحًا في صداقته لمن يصادق صريحًا في عداوته لمن يعادي، ليكن دور الدول الإسلامية في هذا المؤتمر دور الإمام الموجه لا دور التابع المقلد، لأن الإسلام هو الذي عرف هذا الشرق كما يجب أن تكون المعرفة، ثم عرَّفه كما يجب أن يكون التعريف، والإسلام هو الذي هذب الروحانية الشرقية: كانت خمولًا فصيرها نشاطًا، وكانت ضعفًا فنفخ فيها قوّة واعتزازًا، وكانت منفصلة عن الحياة فوصلها بالحياة، والمسلمون هم الذين تغلغلوا في أحشاء هاتين القارتين فاتحين رحماء ومعلمين حكماء وحكامًا عاملين، وتجارًا صادقين، وهم الذين حافظوا على حضارات الشرق وكملوها ونشروها في العالم خيرًا وعمارة وسعادة.
دور الدول الإسلامية في هذا المؤتمر أن تتذكر قبل كل شيء أن دينها دين يدعو إلى الحرية بجميع أنواعها، ويحارب الاستعباد بجميع أصنافه وأنه لا يدعو إلى شيء حتى يفعله، فهذا هو المعنى الذي يجب أن يستوحيه ممثلو الدول الإسلامية من هذه النسبة فيجتمعوا عليها ويكونوا قلبًا واحدًا ويدًا واحدة وكلمة واحدة وصفًا واحدًا، ثم يتوجهون متعاونين مع إخوانهم المؤتمرين وجهة واحدة هي رأس المال وما سواها ربح، وهي الفريضة وما عداها نافلة.
هذه الوجهة الصادقة هي العمل على قتل الاستعمار الغربي ومحوه من أفريقيا وآسيا حتى لا يبقى له فيها أصل ولا فرع، ومن أدوار الدول الإسلامية في هذا المؤتمر أن توجه اهتمامها إلى فصل الشرق عن الغرب في الحرب المقبلة، والتزام الحياد التام فيها حتى يحترق بالنار موقدها وحده، وإلا يكرروا معه التجربة، فحسبهم ما مر عليهم منها، وألا يرتبطوا معه بمحالفات، فقد عرفوا أنه لا عهد له ولا ميثاق، وأنه يتعرف إلى الشرق في الشدة ويتنكر له في الرخاء. ومن عجيب أمر الشرقيين أنهم يقولون بألسنتهم إن الاستعمار هو أعدى عدو لهم، ثم يرضون بمحالفته، ومتى صح في عقل العقلاء أن يحالف العدو القوي عدوه الضعيف، إلّا إذا كان معنى الحلف أكل القوي للضعيف، وإن هذا لهو الواقع في هذه الأحلاف التي يعقدها الغرب مع الشرق. ان الغرب كلما دهمته أزمة يخاف منها على كيانه أوهم الدول الشرقية أنها قوية وأنها أهل لمحالفته على الدفاع المشترك فتتوهم تلك الدول(5/81)
أنها محالفة الند للند، فتعادي من يعاديه الحليف بغير حكمة، وتصادق من يصادقه بغير فائدة، وقد تعادي جارها أو أخاها على غير بصيرة، ثم يعطيها ذلك الحليف إن أعطاها بحساب، ويأخذ منها دائمًا بغير حساب، فيكون له الغنم دائمًا وعليها الغرم أبدًا.
وعلى الدول الإسلامية التي تشهد هذا المؤتمر ووراءها أكثر من خمسمائة مليون مسلم أن تعرف كيف تستغل هذه القوّة الهائلة وكيف تلوح بها في وجه الاستعمار، وكيف تخوفه بها، وكيف تثيرها في وجهه، وأن هذه المئات من الملايين تعمر قطعًا متجاورات من الأرض فائضة بالخيرات على وجه الأرض وفي بطنها، تبتدئ من أندونيسيا وتنتهي إلى مراكش، وتعد بعشرات الملايين من الأميال المربعة، وفيها كل خصائص القوة من منابع البنزين ومضائق البحار، هل تفكر الدول الإسلامية تفكيرًا جديًّا في استغلالها لصالحها؟ وأن تجعل منها أدوات خير لرفاهية العالم، وحبال خنق وخيوط شنق للاستعمار؟ وعلى الدول الإسلامية الحاضرة في المؤتمر- وشعوبها قد اكتوت بنار الاستعمار- أن تجعل من المؤتمر مادة لإطفاء نار الاستعمار وهدم جداره وتحطيم أنيابه وتقليم أظفاره، وانها لقادرة على ذلك إن صحت عزائمها وصدقت نياتها واجتمعت كلمتها. وعليها متضافرة متحدة أن تولي قضية فلسطين العناية كلها لا بالكلام الأجوف بل بالعمل العامر، وأن لا تترك العبء على كاهل مصر وحدها، فقضية فلسطين قضية العالم الإسلامي كله، وعليها متضافرة متحدة أن تذكر جناح الإسلام المهيض وهو المغرب العربي، وأنه لا يمكن للطائر الإسلامي أن يطير بدون هذا الجناح. وعليها أخيرًا أن تتقن أدوارها في المؤتمر وأن ترفع صوتها بالحق فيه، وعلى المؤتمرين جميعًا أن يجعلوا بدأهم حرب الاستعمار، وختامهم حرب الاستعمار.
إن آسيا وأفريقيا كثيرة بأرضها وسكانها، فليحرص المؤتمر على أن يجعلها كثيرة برأيها وتصميمها على التحرر من الاستعمار الغربي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/82)
عبرة من ذكرى بدر *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقعة بدر هي أم الوقائع في تاريخ الإسلام الحربي لأنها أول غزوة شهدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، بعد غزوات الاستطلاع.
ويوم بدر هو يوم الفرقان لأنه أول يوم انتقلت فيه الدعوة الإسلامية من اللسان والحجة والنظر إلى السيف والدم.
وهي أول وقعة تقررت فيها قواعد الحرب وأحكامه وآدابه، وللحرب في الإسلام معنى غير المعنى الذي يعرفه الناس، وأحكام لم تحد عن العدل وآداب لم تخرج عن الرحمة، فالحرب في نظر الإسلام مفسدة لا ترتكب إلّا لدفع مفسدة أعظم منها، وأكبر المفاسد هي الوثنية التي هي آفة العقل والفكر وحجر العثرة في سبيلهما، ويليهما في الفساد والضرر الوقوف في وجه دعوة الحق وسد سبيلها إلى العقول والأفكار.
وكلتا المفسدتين أتتهما قريش إذ ذاك بحماقتها وغرورها، وكانت قدوة سيئة للعرب فيهما، فكان من رحمة الله بالحق وأهله، ومن تدبيره للدعوة أن أذن لرسوله بإراقة الدماء على جوانبها حتى تسلم وتتغلب على العوائق وحتى تسير في طريقها.
وإذا كان رسول الله قد أمضى خمسة عشر عامًا في الدعوة باللسان الذي ينفذ الحكمة ويمد الرحمة، ويخاطب من الإنسان أشرف ما فيه وهو العقل، فلا عجب بعد ذلك إذا التجأ إلى السيف الذي ينطف بالدم ويخطف الأرواح ويخاطب الأعناق والهامات.
وفي غزوة بدر مواقع للعبر، ومكامن للعظات، ومآخذ للتشريع الحربي ومجالي لسنن الله في الأسباب، ومن المؤسف أن المسلمين افتتنوا بالمظاهر عن استجلاء الحقائق واستنباط
__________
* كلمة ألقاها الإمام من إذاعة صوت العرب بالقاهرة، 15 ماي 1955.(5/83)
العبر والحكم، ودراسة الأسباب اللازمة لمسبباتها، فلا يلهج قديمهم ولا حديثهم إلّا بالنصر والخوارق المصاحبة للنصر، وكثيرًا ما يكون الافتتان بالنتائج مشغلة عن الحقائق والأسباب التي هي محل القدوة، وكأنهم بهذا الافتتان يعتقدون أن انتصار الإسلام على الوثنية يوم بدر من الخوارق الخارجة عن نطاق الأسباب، وهذا إبطال لآثار التشريع الإلهي في النفوس. فإن الخوارق ليست محلًا للأسوة، ولا أساسًا للتشريع، والإسلام لم يبن قواعده وأحكامه على الخوارق، وإنما بناها على الأسباب والمسببات، وعلى السنن الثابتة التي يتعايش بها البشر وتدخل في إمكانهم، ولو بناه على الخوارق لبطل العقل، وشلت الإرادات، وفلت العزائم، هذه الثلاثة هي التي يجعلها الإسلام أدوات لفهمه وتثبيته.
ولو شاء الله لهدى الناس جميعًا لسائق وجداني من غير احتياج إلى رسول ولا دعوة، ولو شاء لنصر عبده محمدًا يوم كان وحده، ولوم كان معه عدد قليل، وجماعة مستضعفة، لو شاء فعل ذلك ولم يلحق نبيه أذى بدني ولا ألم نفساني.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}.
وكل ما يعج به الكون من يوم خلقه الله إلى يوم يفنيه هو سنن للكون والفساد تصطرع في ميدان النزال فتكون الغلبة لأقواها حسًّا أو لأقواها معنى، فإذا اتصلت بالعالم الإنساني، كان الآخذ بالأسباب، المحسن لاستعمالها، المقدر لمقاديرها وظروفها هو الناجح.
نعم، في غزوة بدر مواقف للاعتبار والاذكار، ومواطن للتأمل والاستبصار، وقد تتجلى العبرة في بعض الأزمنة دون بعض، فإذا وجدت من يستشفها كانت له واعظًا فانتفع بها ونفع، وقد تمر بالغافل أو يمر بها معرضًا فيكون من الذين قال فيهم القرآن: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} والعبرة البليغة لقومنا العرب في زماننا هذا من وقعة بدر هي نصر الله للفئة القليلة على الفئة الكثيرة فلا يقول المتوسمون في آيات الله وسننه: إن النصر كان خارقة غيبية وإن كانوا يعتقدون أن النصر من عند الله يهبه لمن شاء، ولكنه لا يهبه إلّا بأسبابه وأحكم ما قال الحكماء الربانيون: إذا أراد الله شيئًا هيأ أسبابه. إن انتصار نيف وثلاثمائة على ثلاثة أضعافهم ليس خارقة غيبية الأسباب، وإنما هو جار على السنن المعتادة. وما أُتِيَ من يعتقد خلاف هذا إلّا من الغفلة عن سنن الله، أو من التقصير في استقرائها، وكلنا نعلم ونشاهد أن الفئة القليلة تنتصر على الكثيرة إذا كانت الأولى مسلحة والثانية عزلاء، أو كانت القليلة أزود سلاحًا من الكثيرة.
هذا في الماديات ومثله في المعنويات، علمنا بانتصار الفئة القليلة على الكثيرة بإحسان التدبير، وإحكام الرأي، ولطف التحيل، فلماذا نغفل عن الإيمان والعقيدة، وأثرهما في انتصار أصحاب بدر على ثلاثة أضعافهم؟ إن المسلمين انتصروا يوم بدر بالإيمان الصحيح(5/84)
القوي الذي ثبت العقائد فثبتت الإرادات فاندفعوا اندفاع من يريد أن يموت ليحيا دينه وقومه وبلاده. كانوا يعتقدون أن ما يقاتلون عليه هو الحق من ربهم، وأن محمدا الداعية إلى هذا رسول الله الصادق الأمين، وأن موتهم في سبيل دعوته طريق إلى الجنة التي وعدوها، فتصوروا خلودها كرأي العين، ووعد الله بها كقبض اليد، وأنه ليس بينهم وبين دخولها إلّا فراق الروح للجسد، وأن الموت لا فرار منه، وأنه ملاقيهم ولا بد، وأن هذه الأرواح ودائع أو بضائع، والودائع مسترجعة، والبضائع لها سوق ولها قيم، فاختاروا السوق ميدان الجهاد، والبيع لله، والقيمة رضاه وجواره.
هذه هي الروح التي لبست تلك الفئة القليلة حين تراءت الفئتان، فئة الله وفئة اللات في شعب بدر، وهذه هي القوّة التي تتضاءل أمامها كل الدنيا، ومحال أن ينهزم حامل هذه الروح.
أما الفئة الكثيرة فقد خرجت تداني عن العرض الزائل فلما سلم دفعتها الخيلاء والغرور الباطل إلى أن تدافع عن السمعة والأحدوثة.
ذلك اللقاء يوم بدر لم يكن بين طائفتين قليلة وكثيرة، وإنما كان بين عقيدتين حق وباطل، وإرادتين مصممة وواهنة، وحسب الحق في عالم الظهور أن يجد من يمثله، فإذا وجد سقطت معه مقاييس اللغة والكثرة والقلة من الحساب والاعتبار، ومثاله في عالم الشهود قطعة من الحديد توازن بأضعاف حجمها من القطن، ولما ظهرت هذه السنة عمليًّا في بدر، جاء القرآن بتقريرها علميًّا في سورة الأنفال:
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}.
والسنة المستسرة هي وصفه طائفة بأنهم قوم لا يفقهون، وطائفة بأنها صابرة، وأصحاب محمد يوم بدر كانوا مؤمنين صابرين على الموت، والمؤمن الصابر لا يرى الموت كما يراه الناس هادمًا للذات وقاطعًا للشهوات، وإنما يراه بابًا للَّذَّات الخالدة الباقية.
أسوق هذه العبرة إلى إخواني المسلمين عمومًا وإلى قومي العرب خصوصًا، ليعلموا بماذا انتصرت الفئة القليلة يوم بدر، فيعلموا لماذا انكسرت فئتهم الكثيرة يوم فلسطين، وان في اليومين لآيات لقوم يعقلون وأين من يعقل أو من يعي؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/85)
نفحات من ذكرى فتح مكة *
أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نفحات مسكية، من الآفاق المكية، ما زالت تخترق المناهل، وتستقري المعالم والمجاهل، كلما أطلنا هذا الشهر المبارك الذي تتفتح فيه أبواب السماء بالخير والرحمة، ومن الخير للإسلام والرحمة به فتح مكة على حبيب الله ومصطفاه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - في العام الثامن للهجرة.
لا، بل نفحات عنبرية، من شمائل خير البرية، ما زال يطوف طائفها على قلوبنا المكلومة ونفوسنا المريضة وأرواحنا المتألمة، فينضحها بالروح والريحان ويطربها من سورة الفتح بأرق الألحان، ويفضها بنعمة العافية، ويمسح عليها باليد الشافية، ويفرغ عليها من القوّة ما يعيد إليها الشباب.
لا، بل ذكريات من ذلك الفتح الأغر المحجل، بذلك النصر العزيز المعجل، يعيدها علينا شهر رمضان كلما أقبلت مواكبه، وأشرقت في أفق الدهر العاتم كواكبه، وعادت بحسن الإياب، بعد طول الغياب، سفنه غانمة ومراكبه.
لا، بل صفحات مجلوة، وأخبار متلوة، وحقائق عن الإسلام وحماته الاعلام شهد لها القرآن، فأصبحت بحياطته يخص بها بريد الزمن، وسائقه المؤتمن، إلى القلوب الجريحة فتقر، وإلى العيون الطريحة فتقر، وإلى الجنوب النابية فتستقر.
ما صبا نجد أطفأ الوجد حين خلص نسيمه، وما عراره راق الشم شذاه والنظر اخضراره حتى عد من المتاع شميمه بأطيب عند المسلم من هذه النفحات، ولا ذكريات الشباب واجتماع الشمل بالأحباب بأوقع في نفسه من هذه الذكريات، ولا الحقائق تدرجت
__________
* حديث ألقي من إذاعة صوت العرب بالقاهرة، في شهر رمضان 1374هـ، 1955م.(5/86)
مختالة فطردت الوهم، والمعاني تواردت منسالة فصقلت الفهم، بأمكن في ذهنه وأصدق بفكره مما سطر في صحائف فتح مكة.
ما يزال المسلمون بعون من الله، ما داموا يبتلجون من لفحات الدهر بهذه النفحات، وما زالوا مذكورين بلسان الصدق في الآخرين، ما دامت تجول في خواطرهم هذه الذكريات، وما زالوا مستمسكين بالحبال الواصلة لسلفهم ما داموا يتدارسون من تاريخهم الأول أمثال هذه الصفحات.
إنهم حين يجيلون في خواطرهم هذه الذكريات، يذكرون كيف نصر الله عبده، وكيف أعز جنده، وكيف هزم الأحزاب وحده، فتنقلهم الذكرى من عالم المسببات إلى عالم الأسباب، فتنصرف خواطرهم إلى البحث في سبب انتصار الحق على الباطل يوم الفتح الأكبر، وانتصار الخير فيه على الشر، وانتصار التوحيد على الشرك، فلا يجدونه إلّا في إخلاص التوحيد لله، وصدق العبودية له، ونذر الجندية في سبيله، وتلك هي الغايات التي أشار إليها من لا ينطق عن الهوى في استهلال خطبته يوم فتح مكة.
يذكرون فتح مكة، فيذكرون بذكره ما يصنع الإيمان المتين إذا آزره اليقين، فإسلام قريش كان الأمنية الأولى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من يوم بعث، فهم عشيرته الأقربون، وأول من يؤثرهم أصحاب النفوس الكبيرة بالخير هم الأقارب قرابة النسب أو قرابة الجوار، وقريش من محمد - صلى الله عليه وسلم - بالمكان المكين من الجوارين، ويزيد هذه الأمنية في نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - ثبوتًا واستقرارًا أن العرب كلها كانت تنتظر بإسلامها- بعد تعميم الدعوة- إسلام قريش، لذلك بدأ بدعوتهم إلى الهدى الذي جاء به، ولبث ثلاث عشرة سنة لا يبيت فيهم إلّا داعيًا، ولا يصبح فيهم إلّا داعيًا، وفتح مكة كان الأمنية الثانية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من يوم هاجر إلى يثرب، فمكة دار ميلاده ومطلع بعثته وميدان دعوته، وقبلة صلاته، ومجلى مناسكه ومجمع مآثر قومه، ومتبوأ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فلما اضطر إلى الخروج كان خروجه منها وسيلة إلى الرجوع إليها، ولولا أمر ربه المنطوي على حكم كشف عنها الزمان بعد، لما فارقها ولما رضي بغيرها بديلًا، فقد كان يحبها حبين: حب الفطرة والنشأة وحب الدين والإرث، فلما حم الواقع واقتضت الحكمة الإلهية الخروج منها كان دائم الحنين إليها، دائم التشوق إلى غزوها، وتمكين الدين فيها، وجر قومه قريش إلى الجنة ولو بالسلاسل، منتظرًا إيذان ربه بذلك، وما تلك السرايا التي كان يبعث بها إلى جهات مكة بعد الاذن له بالقتال إلّا إرهاصات لفتح مكة والرجوع إلى موطن الميلاد والبعثة، وما تحويل القبلة من بيت المقدس إلى القبلة التي يرضاها محمد وهي مكة إلّا خطوة في سبيل الفتح، وما غزوة بدر إلّا مقدمة للفتح، وما عمرة الحديبية وما تبعها من صلح إلّا تدبير إلهي للفتح، وما عمرة القضاء إلّا سبيل لذلك.(5/87)
يذكر المسلمون ذلك ويرافقونه - صلى الله عليه وسلم - بأفكارهم من خروجه من المدينة إلى بَرّ الظهران في الليلة التي أسفر صباحها عن الفتح، فيرون كيف أذعنت مكة في ساعة من نهار إلى حق قضت في معارضته وحربه نيفًا وعشرين سنة، ويذكرون ذلك الحلم النبوي الذي فعل في نفوس قريش ما لم يفعله الجيش بكتائبه وأسلحته، يذكرون معاملته لأبي سفيان وهو في قبضته ببَرّ الظهران، وإكرامه لمثواه وجعله لبيته مثابة وأمنا، وأبو سفيان هو جامع الناس لحرب محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، ومحزّب الأحزاب لحربه يوم الخندق، وأحد المدبرين لصده عن البيت يوم الحديبية، ويذكرون عفوه بعد القدرة على هند بنت عتبة، وإن في صدره منها لأشياء من يوم أحد، وتأمينه لعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وإجارته لمن أجارت أم هانئ بنت أبي طالب. كل تلك الخلال النبوية الجليلة مما تهب به هذه النفحات وتثيره هذه الذكريات، وتأتي المكرمة التي غطت على جميع المكارم، وهي منه على قريش كلها بعد أن أظهره الله عليهم وقوله لهم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»، وهذه هي التي تحقق شهادتهم فيه بأنه أخ كريم وابن أخ كريم، كلمة جبر بها كسر قريش، وكسر بها حدة الذين لا يشفي غيظهم على قريش إلّا ضرب يزيل الهام عن مطيله.
وَلَوَ اَنَّ انْتِقَامَهُ لِهَوَى النَّفسِ … لَدَامَتْ قَطِيعَةٌ وَجَفَاءُ
أما نفحة النفحات التي ما زالت تنعش المسلمين إلى قيام الساعة ويرفعون بها رؤوسهم فخرًا وتيهًا، فهي وضع قاعدة المساواة التي مات الأنبياء والحكماء وفي نفوسهم حسرة من عدم تحقيقها في العالم الإنساني، إلى أن جاء بها الإسلام وأعلنها محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة فقال: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالْآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ».
أما تحطيم الأصنام التي حول الكعبة فقد حطم مثلها أبوه إبراهيم الخليل، ولكن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - طهر النفوس من الوثنية قبل أن يطهر وجه الأرض من الأوثان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/88)
من وحي العيد *
أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بأية حال عدت يا عيد؟ أبالجد العاثر، أم بالجد السعيد؟ وهل أنت بشير لهذه الأمم التي تحتفل باستهلالك، وتبتهج باستقبالك، لما ترجوه من حسن الفال وتحقيق الحرية والاستقلال، أم أنت لها نذير بدوام الشقاء واستمرار البلاء، أم أنت كما أنت في حكم الواقع ظرف تتكيف بما لابست، فتدور على السعداء بالسعادة وهو من كسبهم لا من كسبك، وعلى الأشقياء بالشقاء وهو من عملهم لا من عملك؟ أنت يا عيد ختم سنة، ورقيب أعمال سيئة وحسنة، فقل لنا بمن أطلع هلالك، وسن في الاسلام انزالك، ماذا حملت حقيبة العام الماضي من أعمال المسلمين وأحوالهم؟ ويمينًا لو أنطقك الله الذي أنطق كل شيء لأديت شهادة الحق فيهم بنصها، ولدللت حقيقة أمرهم على فصلها، ولقلت غير كاذب إن العام الماضي أظلَّهُم وهم ساهون، وفارقهم بالأمس وهم لاهون، فلا رأيًا نافعًا قرروا، ولا وطنًا مغصوبًا حرروا، وكل ما قطعوا فيه أنّات أحاديث لم يُملها العقل، وأقوال لم يصححها النقل، ونزاع بينهم وجدال، وغلو وتقصير ليس بينهما اعتدال، شقاق مع القريب، ووفاق مع الغريب، وكفر بالاتحاد، وإيمان بالإلحاد، لايَنُوا الأجنبيّ أكثر مما كانوا، ودانوا بطاعته أعظم مما دانوا، وأضاعوا من مصالحهم وأوطانهم وحرماتهم أضعاف ما صانوا، ولولا أربع هن في أعمالهم لمع، وفي عامهم جمع، لكانت صحائفهم في هذا العام كصحائف الفجار ليس فيها حسنة.
الأولى: معجزة حققتها مصر الفتية الثائرة بعد سبعة عقود من السنين بإجلاء العدو الجاثم، الجاني للمآثم، عن القناة التي هي وريد من أوردة الحياة في جسمنا، وطريق من
__________
* حديث لإذاعة صوت العرب، القاهرة في 21 ماي 1955.(5/89)
طرق القوّة في مستقبلنا، وباب من أبواب الحماية لأوطاننا، وحصن مُهَيَّأً من حصون الماء يوم تفضي إلينا دولة ما.
والثانية: تنقيح لأوضاع الجامعة العربية، عن حاملي دماء العروبة النقية، القاهرة الجميلة بجمالها ومكة السعيدة بسعودها، ودمشق العظيمة بعظمها.
والثالثة: هذه الصيحة التي تجاوبت أصداؤها في أندونيسيا فجاوبتها بقول لبيك، واخترقت آذان النائمين في آسيا وأفريقيا، فأفاقوا عليها لأول مرة في تاريخ القارتين مهطعين إلى مؤتمر أثبتوا فيه وجودهم، وأزعجوا به عدوهم، وجمعوا فيه شملهم، وسجلوا فيه أخوتهم، وأثبتوا للكتلتين المتصارعتين على ملك العالم أن في الميدان كتلة ثالثة يجب أن يقرأ لها الحساب، وأن يدرأ عنها العذاب، وكان للإسلام في مقاعد هذا المؤتمر الصدارة، وعلى منبره القول المسموع.
الرابعة: هذه الثورة المتأججة في الجزائر على الاستعمار الفرنسي، أفظع استعمار على وجه الأرض، بل السبّة المسجلة على العالم المتمدن، ذلك الاستعمار الذي امتص دم الجزائر وحط ريشها وهاض جناحها وأذل أبناءها، فلما أعياهم الأمر في دفاعه بالمنطق الذي لم يفهمه وبالحكمة التي لم يفقهها هبوا يشترون الحياة بالموت ويتحدون القوّة المادية بالإيمان، ويلقون الألف بالواحد ويعودون به في آخر أمره معهم إلى أول أمرهم معه، ويعيدون إلى ذهنه ذكريات إن نسيها أحفاده فطالما نغصت العيش على الأجداد. هبوا يحكمون السيف وهو أعدل الحاكمين، وقد كانت أعمالهم غرة هذا العام، وستكون للعام الآتي غرة وتحجيلًا، وسيقيمون الدليل الذي لا ينقض على أن الجزائر جزء من أرض العرب لا قطعة من أرض فرنسا.
يا عيد: يصفك المسلمون بالسعيد والمبارك، ويستقبلونك بالبشر والطلاقة، ويتبادلون فيك التهاني والأدعية بطول الأعمار وبلوغ الآمال، فهل شاموا في مخائلك ما كان لهم حقيقة في أوائلك؟ أم هو تقليد وتصور بليد وضلال بعيد، أم هو استرسال مع الفال، واتباع عكسي للأبطال؟
ولو عقلوا لعقدوا فيك المناحات على سوء حالهم وفقد استقلالهم، أأعراس في المآتم وقربات في المآثم؟ فمعذرة يا عيد إذا خرجنا عن مألوفهم، وتنكرنا لمعروفهم، وقابلناك بالتجهم والعبوس، فرأينا فيك أنك قطعة من الزمن تمر، لا تنفع ولا تضر، ولا تحزن ولا تسرّ، وإنما عظم الله من قدرك وأوجب علينا من حقك، لعظم أعمالنا فيك وفي الشهر الذي قبلك وفي جميع الشهور التي سبقتكما، حتى إذا حللت جميلا بالطيبات تجمل بك الطيبون والطيبات، ورأينا أن العمل في اليوم هو بعض معناه .. ؟(5/90)
فإذا خلا من العمل خلا من المعنى وما أخليت نفسك يا عيد ولكننا أخليناك، وما ظلمتنا ولكننا ظلمناك، وما عبتنا ولكننا عبناك، ولكأن القائل عنانا وعناك:
نَعِيبُ زَمَانَنَا وَالْعَيْبِ فِينَا … وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا
ومعذرة مكررة يا عيد، فلو حللت بوادينا والنفوس مطمئنة، والإسلام الذي أعلى يومك وأغلى سومك مرفوع الرأس، والعروبة التي كانت تفهم معناك وتعمر مغناك شديدة البأس، والمسلمون كلمتهم مسموعة ومجموعة، وقد تعارفوا فتآلفوا فتحالفوا على الصالحات، وفلسطين التي كانت تستجلي محياك وتنتعش برياك موصولة الأسباب بأوطانك، ومصر قد بلغت الأرب في زعامة العرب فقادتهم إلى السعادة والسيادة، والأزهر أصبح منبع هداية كما كان في البداية، والجزائر وتونس ومراكش قد استقلت، وفرنسا قد ألقت ما فيهنّ وتخلت، وأفغان وباكستان متآخيتان لم تنجم بينهما ناجمة الشر، ولم يلزمهما من شيطان الاستعمار نزر، واليمن قد جمعت سواحلها وانهضت إلى العلم والعدل رواحلها، والعراق قد راجع البصيرة فرجع إلى الحظيرة.
لو حللت بنا يا عيد ونحن على هذه الحالة لكنت لنا جمالًا، ولكنا فيك كمالا. ايه يا عيد انّ الوهم ليخيل إلي حتى كأن الوهم حقيقة أنك توحي إلينا العظات وتملي علينا المثلات:
وقد تنطق الأشياء وهي صوامت … وما كل نطق المخبرين كلام
كأنك تقول:- لو أحسنا الاصغاء- لا أملك لكم نفعًا ولا ضرًا، ولا خيرًا ولا شرًا، ولا أسوق إليكم نحسًا ولا سعدًا، ولا برقًا ولا رعدًا، فاصلحوا أنفسكم واتقوا ربكم واعملوا صالحًا، واجمعوا كلمتكم، وصححوا عقائدكم وعزائمكم، وتحابوا في الله، وتآخوا على الحق، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/91)
شرعة الحرب في الإسلام *
أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من لوازم الحرب سفك الدماء، والدماء في الإسلام محترمة معصومة إلّا بحقها، وليست عصمة الدماء خاصة بالمسلمين في حكم الإسلام بل مثلهم في ذلك ثلاثة أصناف من الكتابيين وهم الذميون الذين استقروا في دار الإسلام وفي ذمته، والمعاهدون الذين استقروا فيها بعهد محدد بأجل، والمستأمنون وهم كل من دخلها بأمان مؤجل أو غير مؤجل، فهذه الأصناف دماؤهم معصومة كدماء المسلمين، ولا يجوز للحاكم كيفما كانت سلطته أن يستبيح دم أحدهم إلّا بحقه، وأول حق يكتسبه المسلم بإسلامه، أو الذمي ومن معه من الأصناف المذكورة هو عصمة دمه وماله، فإذا سفك دم غيره عَدْوًا بغير حق، استبيح دمه، ورفعت العصمة عنه بما كسبت يداه، وإذا أخذ مال غيره بغير وجه شرعي أخذ من ماله بقدره من غير زيادة ولا إجحاف ولا ظلم.
فالحرب في الإسلام لا تكون إلّا لمن آذنه بالحرب، أو وقف في وجه دعوته، يصدّ عنه المستعدين لتلقيها، والإسلام في أعلى مقاصده يعتبر الحرب مفسدة لا ترتكب إلّا لدفع مفسدة أعظم منها، وأول مفسدة شرعت الحرب لدفعها مفسدة الوثنية، ومفسدة الوقوف في سبيل الدعوة الإسلامية بالقوّة، ولو أن قريشًا لم يقفوا في طريق الدعوة المحمدية، وتركوها تجري إلى غايتها بالاقناع لما قاتلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم بدأوها بالعدوان والتقبيح، والحيلولة بينها وبين بقية العرب، والقعود بكل صراط لصد الناس عنها.
ومن اللطائف الحكمية أن القتال لم يشرع في القرآن بصيغة شرع أو وجب أو غيرهما من صيغ الأحكام، وإنما جاءت الآية الأولى فيه بصيغة الإذن المشعرة بأنه شيء معتاد في
__________
* كلمة ألقاها الشيخ من إذاعة صوت العرب بالقاهرة، 5 جوان 1955.(5/92)
الاجتماع البشري، ولكنه ليس خيرًا محضًا ولا صلاحًا سرمدًا، وإنما هو شر أحسن حالاته أن يدفع شرًا آخر.
ومما وقر في نفوس البشر أن بعض الشرور لا تدفع بالخير ولا تنقصم إلّا بشر آخر. وإذا كانت الأحكام على الأشياء إنما هي بعواقبها وآثارها فإن الشر الذي يدفع شرًّا أعظم منه يكون خيرًا كقطع بعض الأعضاء لإصلاح بقية البدن، وكقتل الثلث لإصلاح الثلثين كما يؤثر عن الإمام مالك، قال تعالى:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ}.
ففي قوله تعالى: "يُقَاتَلُونَ" وفي قوله: "بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا" وفي قوله: "الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ" بيان للشروط المسوغة للحرب في الإسلام تحمل عليها نظائرها في كل زمان.
شرعت الحرب في الإسلام أي أذن فيها بدستور كامل للحدود التي تربطها وتحدد أولها وآخرها، وتخفف من شرورها، وتكبح النفوس على الاندفاع فيها إلى الخروج عن الاعتدال وتعدي الحدود.
وإذا كان الإسلام الذي هو آخر الأديان السماوية إصلاحًا عامًا لأوضاع البشر فإن أحكام القتال فيه إصلاح وتهذيب لمسألة طبيعية فيهم وهي الحرب. ان أحكام الحرب في الإسلام مثال غريب في تاريخ العالم: ماضيه وحاضره يصور الحرب عذابًا تحفّه الرحمة من جميع جهاته ويتخلله الإحسان في جميع أجزائه، ولو وازناها بالقوانين المتبعة في الحروب إلى يومنا هذا، وقارنا أسبابها في الإسلام ببواعثها اليوم لوجدنا الفروق أجلى من الشمس.
ولو لم يكن من مظاهر العدل في الإسلام إلّا قوانينه الحربية لكان فيها مقنع للمنصفين باعتناقه، ذلك أن الحرب تنشأ عادة عن العداوات والمنافسات على المصالح المادية، والعداوة من عمل الشيطان، يوريها بين أبناء آدم ليرجعوا إلى الحيوانية الضارية التي لا عقل لها، ولا رحمة فيها، ولا عدل معها، فجاء الإسلام بتعاليمه السامية المهذبة للفطرة المشذبة للحيوانية فحددت أسباب الحرب وأعمالها تحديدًا دقيقًا، وحرمت البغي والعدوان، وقيدتها بقوانين هي خلاصة العدل ولبابه حتى كأنها عملية جراحية تؤلم دقائق لتترك الراحة والاطمئنان العمر كله.
حرم الإسلام التعذيب والتشويه والمثلة في الحرب، أوصى بالأسرى خيرًا حتى جعل إطعامهم والإحسان إليهم قربة إلى الله، أمر بألّا يقتل إلّا المقاتل أو المحرض على القتال، أو(5/93)
المظاهر على المسلمين، نهى وتوعد عن قتل النساء والصبيان والشيوخ الهرمى والقعدة والرهبان المنقطعين في الصوامع. نهى عن عقر الحيوان المنتفع به، نهى عن إتلاف الزرع وإحراق الأشجار وقطعها، وما وقع ليهود المدينة إنما هو تصرف خاص لحكمة، لا تشريع عام للتشفي والانتقام، ووصية أبي بكر- رضي الله عنه- للجيش هي الكلمة الجامعة في هذا الباب، وهي التطبيق العملي لمجملات النصوص من الكتاب والسنة.
وما نسبة هذه الأحكام والآداب التي جاء بها الإسلام من قبل أربعة عشر قرنًا إلى ما يجري في حروب هذا العصر الذي يدعونه عصر النور والعلم والإنسانية والمدنية إلّا كنسبة نور النهار إلى ظلمة الليل. أين ما يرتكب في حروب هذا العصر المدني من تقتيل النساء وبقر بطونهن على الأجنة، ومن قتل الصبيان والعجزة، وهدم البيوت بالقنابل الجوية والمدافع الأرضية على من فيها، ومن هدم المعابد، ومن تسميم المياه والأجواء، وإحراق الناس أحياء، إلى القنبلة الذرية التي لا تذر من شيء أتت عليه إلّا جعلته كالرميم؟
أين هذه الموبقات من تلك الرحمة الشاملة التي جاء بها الإسلام، والإسلام يعتبر السلم هو القاعدة، والحرب شذوذ في القاعدة، لأن الإسلام دين عدل ورحمة وعمران وعصمة في ما يسميه علماء الإسلام بالكليات الخمس وهي: الدين والعقل، والعرض والمال والنسب.
والدين هو ملاك التهذيب النفسي، والعقل هو قسطاس الآراء التي تقوم عليها الحياة، والعرض هو مقياس الشرف الإنساني، والمال هو قوام الحياة، والنسب هو مناط الفخر، وملاك القوميات والنظام التفاضلي والتنافس المحمود، فإذا انهارت هذه الكليات ارتكست الإنسانية وتردت إلى الحيوانية، فحاطها الإسلام بحصون من الأحكام المنيعة.
ولحرص الإسلام على السلم جاءت آية الانفال آمرةً بالجنوح له كلما جنح له العدو حتى لا يسبق المسلمون إلى فضيلة.
والإسلام يأمر بالوفاء لذاته، ويجعله من آيات الإيمان، وينهى عن الغدر، ويجعله شعبة من النفاق، يأمر بالوفاء حتى في الحرب التي هي مظنة الترخيص في الأخلاق، والتساهل في الفضائل، يقول تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}.
ويقول في وجوب انتصار المسلم للمسلم: {إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}، ويقول: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}. هذه هي آداب الحرب في الإسلام وأعماله،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/94)
الإستعمار والشيطان *
أصبح الاستعمار كالشيطان ملعونًا بكل لسان، ممجوجًا اسمه في كل سمع، ممقوتًا في كل نفس، مستنكرًا من كل عقل، ومن ذا يرضى عن الطاعون الذي يبقي من السبعين سبعة، أو على السل الذي يختزل الآجال من التسعين إلى تسعة؟
ولكن الذي يحزن الاستعمار انه لم يضمن البقاء كالشيطان فيكون من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، فقد أحاطت به خطيئاته، وريعت بالصيحة الكبرى حجراته، وأمسى في حالة احتضار وسيفارق هذه الدنيا غير مأسوف عليه، فلا تبكي عليه سماء ولا أرض، وسيستريح العالم الإنساني من شر كان مصدر الشرور، وكان مثار النزاع ومؤرث الحروب.
يظن الناس الذين ينظرون إلى الأشياء من جهة واحدة أن الاستعمار مصيبة على الأمم الضعيفة التي ابتليت به، ولا يقلدون على ذلك في فهمه وتحليله، ولو تجاوزوا التفكير السطحي لعلموا أنه مصيبة على أصحابه المتمتعين بفوائده المادية من مال وسلطان وقوّة، لأنه لم يزل- منذ نشأ فيهم وتكون، إلى أن تطور بهم وتلون- شرًّا يلد شرورًا، وعتوًّا ينتج غرورًا، إلى أن أمسى في يومنا مرضًا مزمنًا في أهله، غير أنهم لم يستطبوا له كما يستطب المريض لدائه، ويمنعهم من ذلك أنه زاد على معاني المرض المعروفة بمعنى يشبه أثر الحشيش في نفس الحشاش، وصاحب الحشيش يوقن بأنه سائر في طريق الموت إذا أدمن، ولكنه لا يقوى على الإقلاع، والمستعمرون يعلمون- في هذا الزمن على الخصوص- أن الاستعمار في طريق الزوال، لأنه لصوصية، واللصوصية لا تدوم إلّا بمقدار قوّة اللص، أو بمقدار ضعف الفريسة أو غفلتها، فإذا انهارت القوّة من جانب، أو انجابت الغفلة من الجانب الآخر، بطل الاستعمار ورجع كل شيء إلى أصله، ومع هذا الايقان لا يستطيعون
__________
* مسودة مقال وجدت في أوراق الشيخ مؤرخة في ماي 1955.(5/95)
التغلب على نزعة الاستعمار والإقلاع عنه، لأنها أصبحت مرضًا في نفوسهم، مسلطًا على مراكز تفكيرهم، مالكًا عليهم آفاقها.
وعلى هذا فكل ما يبذله العالم الواعي في سبيل القضاء على الاستعمار هو سعي ضائع، ووضع للهناء في غير موضع النقب، ما لم توجه الجهود الصادقة إلى علاج المرض في نفوس المستعمرين، فقد رأيناهم لتحكم هذا المرض فيهم لا تستنفد منهم فريسة حتى ينشبوا أظفارهم في فريسة، حتى كأنهم الطائر الذي وصفه الشاعر بأنه "لا يرسل الساق إلّا ممسكًا ساقًا" فالانكليز- مثلًا- أكرهوا على الجلاء عن القنال، فغرسوا أذنابهم كالجراد في شرق الأردن وفي ليبيا، وقد أصبح كل مستعمر يزعم أنه لا حياة له بدون المستعمرة الفلانية، فإذا أزيح عنها- بعامل من العوامل- اعتدى على غيرها ممن هي أضعف ناصرًا وأقل عددًا.
فمَنْ أوتي الحكمة، واستغشى الإحسان والرحمة، فليبدأ بعلاج صرعى الاستعمار، ليشفيهم من الصرع فينقذ العالم من الصراع.
...
إن انكلترا وهي نبية الاستعمار، الآتية بصحفه الأولى، المدونة لشرائعه، المتلقية لوحيه - من الشيطان- أحست بخطر هذا المرض الوبيل، وأنه قاض عليها إن لم تقض عليه، فعالجته بعدة أشفية سطحية، وغالطت نفسها والناس بتغيير اسمه، وتشويش حده ورسمه، وإعطاء شيء من الخبرة لمن أعان على إحضارها، فكانت أعقل من غيرها، وأبعد نظرًا في الجملة، ولكنها لعراقتها في الاستعمار، وتمكن مرضه منها، لم تزل مملوءة الجوانح بالحنين إليه، والشوق إلى وصاله، والتعلل ولو بطيف خياله، ومن آيات ذلك الحنين تأييدها لكل مستعمر في كل قضية استعمارية، فكأنها تلك الأعرابية صاحبة الحكاية المشهورة.
والمستعمرون اليوم أقوى الناس شعورًا بمصاعب الاستعمار ومتاعبه وما يجره عليهم من الويلات، وأيسرها عليهم حقد المظلومين، وتربص الموتورين، وتألب المغلوبين، وحدوث مذاهب لا خير لهم في حدوثها، وهم لذلك أعلم الناس بأنه صائر إلى الفناء، ولعله لا يفنى حتى يفنيهم معه، ولكنهم مع ذلك كله لا يصبرون على فراقه.
ولقد حدثني الثقة قال: حدثني مسؤول من رجال العرب يشغل كرسي رئاسة حكومة عربية، قال: زارني بحكم وظيفتي جنرال فرنسي عائد من الهند الصينية في أيام اشتعال الحرب فيها، فسألته عن حالة الحرب الناشبة بين دولته وبين الأمة الصينية الهندية، فقال ما معناه: إنها "زفت" على دولته، فقلت له: إنني أخشى أن تتحرك الصين الشعبية ومن ورائها(5/96)
روسيا فتقذفكم في البحر، فقال مبادرًا: يا ليتهم فعلوا، إنهم كانوا يريحوننا من حرب نحن موقنون بالهزيمة في آخرها، فقلت له: وما دمتم على هذه الأمنية وعلى فقد الأمل في النصر، فلماذا لا تنزلون على حكم الواقع، وتعاجلون الهزيمة بما هو أشرف؟ ولماذا لا تخرجون مختارين، وتربحون معاهدة بدل احتلال وحليفًا بدل عدوّ؟ إنكم في هذا تخرجون مشيعين بالرضا والإكبار، وتحفظون كثيرًا من مصالحكم المادية التي هي أساس احتلالكم لذلك الوطن البعيد الذي جلب لكم المتاعب وأثار عليكم وطنيّين متحمسين، تمدهم دولتان قويتان مجاورتان بالرأي والمال والسلاح، وتشاركهم إحداهما في الدم والعقيدة، أفتكون الزبّاء أعقل وأحكم من فرنسا حينما قالت: بيدي لا بيد عمرو؟ قال الرجل المسؤول: وكنت أظن أنني أمحضت النصيحة، وأوثقت صاحبي شدًّا بالحجة، ولكن صاحبي وصل جوابه بآخر كلمة لي، وقال لي في شيء من الحدّة: اسمع يا حضرة الرئيس، إن الفرنسوي الذي يمضي مثل هذه المعاهدة المهينة لشرف فرنسا لم تلده الفرنسية بعد ... قال الرجل المسؤول: فدهشت لتناقض أول الكلام مع آخره.(5/97)
الاستعمار الفرنسي في الجزائر *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
دعاني مجلس إدارة "معهد الدراسات العربية العليا" إلى المساهمة في نشاطه العلمي بإلقاء أربع محاضرات على طلّابه من شبّان العرب الذين أحبّهم، وأتمنّى لهم الخير، وأعلّق عليهم الآمال في إحياء البيان العربي، وإعادة مجد العرب ومفاخرهم، وتجديد تاريخهم وروحانيتهم وأخلاقهم، والتكفير عما اقترفته أجيالنا السابقة من مآثم فرّقت الكلمة وشتّتت الجمع، وباعدت بين القلوب حتى مكّنت فينا للغرب ولغاته ومادياته، فأخذنا بقشورها من غير أن نشاركهم في لبابها، وأنست الماضي المشرق فانفصل عنه الحاضر فأظلم واختلّ، فلم نستطع أن نبني عليه مستقبلًا باسمًا عن حياة تخزّها خضرة ذلك الماضي ونضرته، فتثمر السعادة والسيادة والعزّة والكرامة، وتعود إليها تلك الخصائص الأصيلة في الدم العربي كلّما صفا ورقّ.
حدّدت لي إدارة المعهد موضوع المحاضرات الأربع، وهو الاستعمار الفرنسي في الجزائر فيما بعد الحرب العالمية الأولى وآثار الحركات الوطنية فيها في هذه الحقبة من الزمن، والموضوع طويل عريض عميق، لا توفيه حقّه أربع محاضرات محدودة الدقائق، ولا عشر محاضرات، وإن كان الظرف الزمني لهذا الموضوع قصيرًا، لأن هذا الظرف- مع قصره- مملوء بالحوادث والتيّارات مرتبط بأمثالها في العالم، متأثّر بالدعايات العامة للحرية والتحرير، مصاحب للتغيّرات السياسية والاضطرابات الاجتماعية، والفورات الوطنية المتأججة، وقد انتقل فيه الاستعمار من المدّ إلى الجزر في حقيقته، ومن الجزر إلى المد في ظاهره، لأنه بلغ أرذل العمر، وبدت عليه آثار الهرم، فسترها بتبديل الأسماء والألقاب، من الحماية والوصاية إلى الانتداب، كما يستر الشيخ شيبه بالخضاب، وابتليت فيه المذاهب الاجتماعية بالتقلّب والإيهام والإبهام، وتنبّهت فيه أمريكا إلى عزلتها فلمست أوربا في سبيل
__________
* محاضرات في معهد الدراسات العربية العليا بالقاهرة، أُلقيت في مايو 1955.(5/98)
المصلحة لمسة ذاقت فيها حلاوة السلطة، فقالت بلسانها ما ليس في قلبها: دعت إلى تحرير الشعوب بلسانها وأضمرت لهم استعبادًا من نوع جديد يصحّ أن نسمّيه استعمار الاستعمار.
كل هذه العوامل صيّرت هذا الظرف القصير طويل الذيول، لا تقوم به أربع محاضرات.
ألقيت هذه المحاضرات ارتجالًا في أيامها المحدودة في أربعة أسابيع، على تلامذة قسم التاريخ في المعهد، وسرّني أن كان فيهم المصري والسوري والعراقي والفلسطيني والتونسي والمراكشي، وكلهم من المتقدمين في الثقافة، ومن عمار الصفوف النهائية في الدراسات العليا، وكانت إدارة المعهد- جريًا على أصولها- أشارت في رسالتها إليّ بكتابة المحاضرات، لتطبعها وتوزعها على الطلّاب، وليس من عادتي أن أكتب وألقي من المكتوب، ولكنني- نزولًا عند إشارتها واقتناعًا بسداد هذه الإشارة- كتبت بعد إتمام المحاضرات ما يحاذي معانيها، وما بقي في الذاكرة من بعض ألفاظها، ولم أقف عند حدود تلك المعاني فتوسّعت فيها وزدت عليها ما هو أصل لها أو متفرّع عنها، لأن الكتابة تبقى وتعمّ فائدتها، بخلاف الكلام فإنه أعراض سائلة زائلة، وألممت فيما كتبت بشيء من تاريخ الجزائر من يوم أسلمت، ومن يوم تعرّبت، ثم بشيء من أخبار الدول التي قامت بها من أهلها، ثم مررت بتاريخ العهد التركي وهو أطول العهود فيها، مرورًا أهدأ مما سمعه الطلّاب منّي وأبطأ.
وأنا أرجو لهؤلاء الشبّان ولجيلهم أن يوفّقوا في وصل ما انقطع من روابط العروبة وأرحامها، وسبيلهم المهيع إلى ذلك أن يتعارفوا على أساس الأخوة والمحبّة، وأن يعرفوا هذه القطع المتجاورات التي وصلها الله وقطعناها، على أنها وطن العروبة الأكبر، ولئن فعلوا ليعودن للأمة العربية مجدها وسؤددها على أيديهم وليكونن بذلك أسعد الناس.
محمد البشير الإبراهيمي(5/99)
بين يدي الموضوع
____
الجزائر- أيها الشباب- قطعة ثمينة من وطنكم العربي الأكبر وجزء قيّم من تلك المملكة العزيزة التي شادها أسلافكم على الإيمان، وساسوها بالإنصاف، وحاطوها بالعدل، وعمروها بالعلم والخلق، ولم يكن فتحهم لها فتحًا ممّا يعرفه العسكريون في جميع الأزمنة، ولا استعمارًا يسود فريق على فريق، ويذلّ فيه صاحب الدار لعزة الفاتح، وإنما كان فتحًا للأذهان، وغرسًا للدين والإيمان، ونشرًا للعدل والإحسان، وإعزازًا للسكّان، وإنقاذًا لهم من عتو الرومان.
ولكن هذه القطعة وجارتيها تونس ومراكش مجهولات عندكم، لم يعرفكم بهن الآباء ولا المدارس ولا الكتب ولا الكتاب، فإذا أسمعوكم عنهن شيئًا فالشيء الذي ينفر ولا يحبّب، ويزهد ولا يغري، أو الكلام الذي يردّده عنها الاستعمار، يخدّر به الشواعر، ويبعد به الأخ عن أخيه، وليس الذنب في جهلكم بها ذنبكم، وإنما هو ذنب محيطكم العام، وقد عدت على هذه القطعة من وطنكم العوادي، منذ قرن وربع، فما تحرّك لنصرتها ساكن في هذا الشرق، ولا فهم أبناء العمومة فيه أن احتلال الجزائر من دولة أجنبية نذير من النذر بانتثار السلك، وضياع الملك، لأن الأحوال السيّئة التي جرت ذلك الاحتلال كانت متشابهة والسلطة العثمانية الجافية الغليظة كانت تشمل شرق العرب وغربهم.
والجزائريون إخوانكم الأقربون فكلّهم عرب وكلّهم مسلمون، والأخوة في حقيقتها العليا نصرة وتعاون، لا غفلة وتهاون، فأين نحن من ثمرات هذه الأخوة؟ ... قد ذللنا حتى ذلّت العقائد في نفوسنا، والكلمات في ألسنتنا، فلم تبق للعقائد في نفوسنا تلك القوّة التي تتصرّف في الإرادات، ولم تبق للكلمات في ألسنتنا تلك الحرارة التي كانت تحرّك الأعمال.
فتن الاستعمار الغربي بعضنا عن بعض ثم فتننا عن أنفسنا، ورمانا بمقوّماته ومنوّماته فأصمانا ... رمانا بمقوّماته من قوة وعلم وصناعة، وبمنوّماته من كل ما يضعنا ويرفعه، ويضرّنا وينفعه، وراضنا على هذا جيلًا بعد جيل، حتى ماتت فينا نزعة السيادة والقيادة، وأصبحنا نعتقد أننا خلقنا من طينة غير طينته، وأن عقولنا صيغت من جوهر غير جوهره، فاستخفّ بنا كما استخفّ فرعون قومه فأطاعوه، وأمكناه من نفوسنا فقادها بخطام الشهوات كما يحب إلى حيث يحب، ومن عقولنا فاستهواها، ومن رقابنا فاستذلّها، ومن أوطاننا فاستغلّها، ومن وحدتنا فمزّقها، ولم نصحُ من ذلك التنويم - إن صحّ أننا صحونا- إلا والأخ متنكّر لأخيه، والحكومات متعددة متنافرة، والشعوب كثرة، ولكنها كغثاء السيل،(5/100)
تعبد أصنام البشر، بعد أن أنقذها الإسلام من أصنام الحجر، ملك الجهل عليها أمرها، فهي لا تذكر ماضيها، ولا تحفل بحاضرها ولا تفكّر في مستقبلها، فهي تعيش بلا ماض ولا حاضر ولا مستقبل، وهي لذلك تصحب الدنيا بلا أمل في المستقبل، ولا صلة بالماضي. أما حاضرها فهو كحاضر الغنم، يطرقها الذئب فترتاع ويغيب عنها فترتع.
الجزائر- يا شباب العرب- عربية الأنساب واللسان، شرقية النزعات والنفحات، مسلمة الدين والآداب، كانت وما زالت كذلك من يوم طلعت عليها خيول عقبة والغزاة الفاتحين من أجدادكم، ومن يوم غطّت سهولها أبناء هلال بن عامر بن صعصعة، آتية من صعيد مصر، في أواسط المائة الخامسة، وكان لبني هلال في تلك الإغارة الكبرى قصد، وكان لله من ورائها حكمة. كان بنو هلال يريدون من تلك الإغارة على افريقيا الشمالية مراعي واسعة لإبلهم وشائهم، وسهولًا خصبة لتنقلهم وانتجاعهم، وكان لله في تلك الغارة حكمة وهي تعريب هذه الأقاليم التي استقامت على الإسلام أفئدتها، ولم تستقم على العربيه ألسنتها، والفاتحون الأولون فتحوا الأذهان لتعاليم الإسلام، والإسلام يستتبع لغته، فحيثما كان كانت، ولكنهم- لقلّتهم- لم يستطيعوا تعريب هذه الأوطان الواسعة، ولا كان زمانهم يتّسع لذلك، وإنما يتّسع لنشر الإسلام وإقامة حدوده، وكتابة علومه، فبهذه اللغة ازدهرت العلوم الإسلامية في حواضر المغرب وأمصاره، وبها دوّنت أصولها، أما جماهير العامة فلم يعلقوا منها إلا بما تؤدى به شعائر الإسلام، فلما جاءت الغارة الهلالية كانت هي المعرّبة الحقيقية للشمال الأفريقي وجباله وقراه وخيامه.
فمن حق الجزائر عليكم أن تعرفوها وتصلوا رحمها وأن تدرسوا تاريخها الذي هو جزء من تاريخكم، وأن تعدوا محنتها محنتكم، وقضيتها جزءًا من قضيتكم، وإذا كانت قضايا بلدانكم الخاصة عقدًا تحتاج إلى الحل، فمن الخطإ أن تعتقدوا أن كل قضية تحلّ وحدها، فهذا طمع في محال، وتعلّق بخيال، فاجعلوها قضية واحدة تسهل عليكم تصفية الحساب، والقوا عدوّكم جميعًا، تلقوا أصمّهم سميعًا.
خدرنا الغرب بالوطنيات الضيّقة فأصبح كل فريق منا قانعًا بجحر الضب يناضل عنه بمثل سلاح الضب، وهيهات إذا مزّقت الأطراف أن يحفظ القلب.
أصبحنا والمصري يتغنّى بمصر، واللبناني لا يرى إلا جبله، ودمشق تفخر بالمجد الغابر الذي شاده فيها مروان وعبد الملك، وبغداد مزهوّة بعهد الرشيد، من غير أن تطمح إلى أعمال الرشيد.
خدّرنا الغرب بهذا ليقسم الخبزة إلى لقم فيسهل عليه مضغها وازدرادها ثم هضمها، وقد حقّق غايته في الأولى والثانية ونحن معه في عملية الهضم، فإما أن نكون مغصًا في أمعائه، وعلة لموته، وإما أن يهضمنا فنستحيل غذاء له ومزيدًا في قوّته.(5/101)
أغرانا الغرب بنبذ الجنسيات واعتناق المبادئ في الوقت الذي يدين فيه هو بالجنسيات ويكفر بالمبادئ. فصهيون قائمة على العنصرية الإسرائيلية، والهتلرية بالأمس قائمة على العنصرية الجرمانية، وروسيا اليوم رغمًا عما تزعمه من النزعة العالمية قائمة على العنصرية السلافية، والانكليز على السكسونية، وأمريكا كشكول جمعته القوانين المصلحية والاجتماع المادي، وسيأتي يوم ينتشر فيه الحقد، فينتثر ذلك العقد.
وليس العرب دون هذه الأجناس استعدادًا ولا عددًا لو دانوا بهذه العقيدة، ودعوا إلى هذه الدعوة، وأنا بصفتي عالمًا مُسْلِمًا لا أقول بالعصبيات الجنسية، والوطنيات الضيّقة، وإنما أدعو إلى الوطنية الواسعة، والعقيدة الروحية الجامعة، فإذا تمّت ورسخت أصولها في النفوس فإنها لا تنافي التمسّك بالجنسيات من غير تعصّب، وذلك هو التحقيق لسنّة الله الذي جعل الناس شعوبًا وقبائل ليتعارفوا.
أيها الشباب:
نقتصد في الوقت لنوفّر للموضوع المطلوب بعض حقّه وحقّكم فيه، ومن الخير- قبل مسّ صميمه- أن نعرّفكم بالجزائر منذ ظلّلها الإسلام برحمته، ونعرض عليكم- في إيجاز- التقلبات السياسية والاجتماعية التي عرضت لها من لدن الفتح، ونلمح إلى الدول التي نشأت فيها ومن صميمها، وإلى صلتها بجارتيها تونس ومراكش، وإلى عواصم الحكم والعلم فيها، وإلى أقسامها الطبيعية، وإلى تحديداتها الإدارية في العهدين التركي والفرنسي، وإلى ما يفيدكم ويقوّي معلوماتكم عنها مما يجرّه الحديث المرتجل، ثم نمرّ بكم على تاريخ الاحتلال الفرنسي حتى نخرج إلى صميم الموضوع.
كانت كلمة الجزائر التي تطلق اليوم على عاصمة القطر، ثم على القطر كله تستعمل في أوائل ما أطلقت- مضافة، فيُقال "جزائر بني مزغنان"، وبنو مزغنان قبيلة بربرية تعمر ساحل البحر، حيث المدينة الآن، وكانت في هذا الموضع من شواطئ البحر الأبيض صخور بارزة في الماء يصطنعها الصيّادون لصيد السمك، ولسكناهم في السنة أو في معظمها، فيطلق عليها الناس لفظ "جزائر" لتعدّدها وتقاربها وإحاطة الماء بها، ثم هجر المضاف إليه تخفيفًا في الاستعمال، وشاعت كلمة الجزائر المجرّدة علمًا على المدينة التي غطّت الساحل الجميل، واتّسع عمرانها حتى غطّى الجبل الذي تستند إليه. وهي تقع بموضع مدينة قديمة اسمها "إكوسيوم"، ولم تتخذ الجزائر عاصمة لهذا القطر الواسع إلا في العهد التركي.
فتح العرب لأفريقيا الشمالية:
كانت كلمة "إفريقية" تطلق لأوائل الفتح الإسلامي العربي على قطعة صغيرة من هذه القارة العظيمة، هي موقع المملكة التونسية اليوم تقريبًا، أما إطلاقها على القارة كلها فهو(5/102)
استعمال حدث بعد ذلك. ولما شاع هذا الاستعمال الشامل احتيج إلى تميّز الأجزاء بالنسبة إلى الجهات فقيل شمال أفريقيا، كما قيل جنوب أفريقيا، فكانت الجزائر جزءًا من هذا الشمال، ويطلق إخواننا في الشرق على هذا اسم المغرب، ويقسمونه إلى ثلاثة أقاليم: المغرب الأدنى وهو تونس، والمغرب الأوسط وهو الجزائر، والمغرب الأقصى وهو مراكش.
وقد فتح العرب مصر ونشروا فيها الإسلام، وكانت مصر هي قاعدة الفتح لأفريقيا الشمالية، وكان فتح مصر في خلافة عمر بن الخطّاب، ولكن لم يجاوز الفتح مصر إلى المغرب إلا في خلافة عثمان بن عفّان.
ففي سنة سبعة وعشرين للهجرة أمر عثمان واليه على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بغزو أفريقية للمعنى الذي يريده الإسلام من الغزو، وهو نشر الدعوة الإسلامية، فغزاها ابن أبي سرح في عشرين ألفًا، فيهم جماعة من وجوه الصحابة، وفتح في هذه الغزوة مدينة "سبيطلة" الرومانية، والبسائط المحيطة بها، وما زالت هذه المدينة معروفة باسمها وآثارها إلى الآن، وهي واقعة في الجنوب المائل إلى الشرق من المملكة التونسية، وكانت هي المعتصم الباقي لسلطان الرومان، وهي المأوى المنيع لبقايا الرومانيين.
وبعد سنة ونيّف من الفتح رجع ابن أبي سرح إلى مصر بعد عقد صلح مع السبيطليين لمصلحة راجحة رآها.
وفي خلافة معاوية وجّه جيشًا على طريق مصر ففتح افريقية من جديد بقيادة معاوية بن حديج الكندي، والي مصر، ففتح سبيطلة للمرة الثانية، ووسّع رقعة الفتح إلى أبعد مما كان في الفتح الأول، وغزا صقلية من طريق البحر ومكّن للإسلام ولنفوذه في القطعة المفتوحة من افريقية، ثم ولى الخليفة على فتوح افريقية عقبة ابن نافع الفهري الفاتح العظيم، وأمره أن يتوسّع في الفتوحات وفي نشر الإسلام وتثبيت سلطانه، فرأى هذا القائد الموفّق أن يختط مدينة مستقلّة تكون عاصمة للمسلمين، وعاصمة لافريقيا الإسلامية، ومركز قوة للفتوحات المستأنفة، فأسّس مدينة القيروان الشهيرة الباقية إلى الآن، وكان تأسيسها عام خمسين للهجرة، المقارنة لسنة ستمائة وسبعين للميلاد، وجاء بعد عقبة مسلمة بن مخلد والي مصر إذ ذاك، فاستعمل على افريقية مولاه أبا المهاجر دينارًا فتوغّل في الفتوحات ونشر الإسلام إلى أن بلغ تلمسان، وهي آخر حدود القطر الجزائري اليوم مما يلي المغرب الأقصى، فالإسلام إنما انتشر في الجزائر على يد أبي المهاجر دينار، وتمّ تمامه في ولاية عقبة بن نافع الثانية، التي جاس فيها أقطار المغرب إلى أن بلغ طنجة، وقال كلمته المعروفة. ولما رجع من هذه المغزاة البعيدة المدى والأثر قدر له أن يموت شهيدًا في معركة بينه وبين البربر المرتدين(5/103)
بجبل أوراس، فتعرّضوا له في السفوح الصحراوية لهذا الجبل، واستشهد هو وأصحابه ودفن في محل معروف باسمه إلى الآن، وأراد الله لثرى الجزائر أن يضمّ رفات هذا الفاتح الكبير، ليبقى اسمه منارًا يسترشد بنوره أبناء هذا الوطن كلما دجت الأحداث فيه.
وإلى هؤلاء الأبطال العظماء الذين جمعوا بين قيادة الكتائب وقيادة الأرواح، يرجع الفضل في تثبيت الإسلام وإرساء قواعده بافريقيا الشمالية، فلم تتزعزع له قاعدة، ولم ينقض له جدار من ذلك اليوم إلى الآن، على رغم الفورات المعادية له، المنبعثة من الضفة الشمالية للبحر الأبيض.
وشأن الفتح الإسلامي لأفريقية على يد هؤلاء الأبطال كله عجيب يشبه الخوارق، فقد تمّ في ثلاث سنوات تقريبًا وبسط الإسلام ظلّه على تلك الأقطار الواسعة ذات الأمم التي لا يحصيها إلا الله، من حدود ليبيا إلى السوس الأقصى على شواطئ المحيط الأطلسي، مع بعد الشقة ووعورة المسالك وقلة عدد المسلمين، وكثرة أعداء دعوتهم، وجهل الغزاة بمعالم الوطن ومجاهله، وبعادات أهله ولغاتهم، ولكنه الإيمان والإخلاص فيه وصدق العزيمة، وإيثار الحق، ولم تزل هذه الغرائب التي صاحبت الفتح الإسلامي في الشرق والغرب مثارًا لدهشة المؤرّخين من المسلمين وغيرهم، وهم مجمعون على أنها حق وواقع، وإن كانوا يختلفون في تعليلها.
وجاء بعد عقبة نفر يعدّون من بناة التاريخ الإسلامي بالشمال الافريقي: زهير بن قيس البلوي، وحسّان بن النعمان الغسّاني الذي تمّ على يديه فتح البلدان وفتح العقول، وجمع بين المقدرة الحربية والدهاء السياسي والملكة الإدارية، فكان هو الممهّد لهذه المملكة الواسعة التي كانت قاعدتها القيروان، وهو الذي خطا الخطوة الثانية التي تكون بعد الفتوحات الحربية فأقرّ الأمن، ومكّن للعمران والاستثمار، فنشط الصنائع والعلوم، وأفاض عدل الإسلام وإحسانه، فنقل الناس في إقبالهم على هذا الدين من عامل الرهبة إلى عامل الرغبة، إذ رأى البربر أن ثمرات هذا الفتح عائدة عليهم، ورمى ببصره إلى ما وراء البحر فنبتت في أيامه فكرة غزو الأندلس الذي حققه بعده موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد الليثي، عام اثنين وتسعين للهجرة.
والجزائر لم يتبدّل موضعها الجغرافي من الشمال الأفريقي، وإنما تبدّلت أوضاعها السياسية، والحق أنه ليس للجزائر بحدودها الحاضرة وحدة جغرافية، وإنما هي جزء من وحدة جغرافية كبرى، هي مجموع أقطار الشمال الأفريقي، فهذه الأقطار- وإن اتسعت آفاقها- مكوّنة تكوينًا جغرافيًا متّحد الخصائص الطبيعية، فالأطلس يربطها ربطًا محكمًا من مبدئه على تخوم ليبيا شرقًا إلى منقطعه في المحيط الأطلسى غربًا، والصحراء من ورائه خط(5/104)
واحد مسامت لسلاسل الأطلس متشابه السمات والنبات والحيوان، وسواحل البحر الأبيض متّحدة الخصائص إلى مضيق طارق، يُضاف إلى ذلك اتحاد سحن الأناسي ولهجاتهم وعواطفهم وعاداتهم، وإنما ينفرد الجزء الغربي وهو معظم مراكش بوقوع سواحله على المحيط مغربة أولًا، وذاهبة إلى الجنوب آخرًا.
وكانت هذه الأجزاء كلها تابعة في إدارتها للقيروان، خاضعة لسلطان الخلافة الأموية، ثم لسلطان الخلافة العبّاسية، إلى أن قامت الدعوة الإدريسية العلوية مناهضة للخلافة العبّاسية، فاقتطعت مراكش من هذا الوطن الواسع الموحّد.
وبقيت القيروان تتلفى الولاة من الخلفاء بالشرق، إلى أن وُلّيها ابراهيم بن الأغلب بن سالم التميمي، فبدأت العلائق تتراخى بين القيروان وبين دار الخلافة في بغداد، وكانت ولايته في حدود مائة وأربع وثمانين للهجرة.
كانت الجزائر بحدودها الحالية تابعة للقيروان في هذه المدة كلها إلا ما كان من اقتطاع سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر لتلمسان وأعمالها، وهو مناهض للخلافة العبّاسية، لأنه- كأخيه إدريس - قائم بالدعوة العلوية، والعلويون شرقيون فلم تخرج الإمارات التي أقاموها عن كونها عربية، وكذلك الأغالبة الذين توارثوا إمرة القيروان، لم تخرج إمارتهم عن كونها شرقية عربية.
حقبة المد والجزر للجزائر بين تونس ومراكش:
أول عاصمة للمملكة العربية الإسلامية التابعة للدولتين الأموية والعبّاسية هي مدينة القيروان، وهي واقعة في القطر التونسي، أو ما يسمّى "المغرب الأدنى"، ثم خلفتها مدينة تونس بعد قيامها في ولاية عبد الله بن الحبحاب، في العشر الأول من القرن الثاني، ثم نشأت عاصمة أخرى وهي مدينة فاس التي اختطها إدريس الأصغر، وموقعها في القطر المراكشي الذي اقتطعه إدريس الأكبر من الممالك العبّاسية، وأقام فيه الدعوة العلوية المضادة للعبّاسيين، وقد رسخت شهرة هاتين العاصمتين في الأذهان، مقرونة بذكريات مكينة محترمة. فالقيروان أثر من آثار الفاتح العظيم عقبة بن نافع الفهري الصحابي الجليل، وهي مركز الفتوحات الإسلامية التي انتهت إلى الأندلس، فاحترامها في النفوس شعبة من احترام الدين، ولا تزال في نفوس الناس بقايا من ذلك الاحترام، وفاس مختط إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنّى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، فاحترامها في النفوس شعبة من احترام آل البيت وسلالة الزهراء، ولما انقرضت دولة الأدارسة خلفت فاسًا مدينة مراكش اللمتونية، فكانت الدول المحدثة بعد ذلك تتعاقب على العاصمتين.(5/105)
لذلك كان اتجاه العصبيات التي تقيم الدول وتقعدها مصولًا دائمًا إلى هاتين العاصمتين التاريخيتين: القيروان وفاس وإلى موقعهما.
ولهذا السبب كان القطر الجزائري، (وهو المغرب الأوسط) في أغلب عهوده الإسلامية، موزّعًا بين مراكش وبين تونس، فكان قسمه الغربي جزءًا من مملكة مراكش، في أيام المرابطين اللمتونيين، وفي أيام الموحّدين، وفي بعض أيام المرينيين، وقد تقوى بعض هذه الدول التي ذكرناها فتضمّ القطر الجزائري كله أو معظمه إلى مراكش، وقد تضم معه تونس، كما وقع في أيام يوسف بن تاشفين مؤسس الدولة اللمتونية، وفي أيام عبد المؤمن بن علي مؤسّس الدولة الموحّدية، وهو بالاعتبار الجغرافي جزائري الأصل والمولد، وفي أيام السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق، موسع المملكة المرينية إلى حدود طرابلس. وكان القسم الشرقي من الجزائر يتبع- في بعض الفترات التاريخية- المملكة التونسية، كما وقع في عهد الأغالبة، وفي صدر الدولة الفاطمية، ثم في أيام الدولة الحفصية التي هي فرع من الدولة الموحّدية، استقلّت عن أصلها بتونس، ولما انقرض ذلك الأصل عاشت بعده إلى العهد التركي.
أما البربر سكّان الوطن الأصليون بالجزائر فكانوا خاضعين للحكم الإسلامي والسلطان العربي خضوعًا دينيًا، كأنهم يرون أن الإسلام علم وعمل، والعرب أساتذته ومعلّموه، والخضوع الديني يقتضي السمع والطاعة، ويقضي على النزوات النفسية والأهواء والشهوات والعصبية والفوضى. ولكن تلك النزوات تحرّكت فيهم بعد قليل. وراجعتهم طباعهم الأصلية في الفوضى والعصبيات القبلية، فانتقضوا على الولاة والدول، وأعانهم على ذلك اضطراب حبالها في الداخل والخارج، وتعاقب المجاعات وفساد الولاة، وأعذهم ذلك كله إلى إنشاء إمارات صغيرة ودول كبيرة، يقتطعونها من هذا الجسم الكبير، وكانت دولهم لا تقتصر عما أسّسه إخوانهم برابرة المغرب الأقصى في تناهي الحضارة واستبحار العمران وازدهار العلوم والفنون والصنائع، والبراعة في تخطيط المدن وتمصير الأمصار. ويحسن أن نمرّ بكم قبل الدخول في الموضوع بالدول التي قامت في جهات من صميم القطر الجزائري حتى تتلاقى وتتّصل حلقات تاريخه.
الدولة الرستمية:
نشأت هذه الدولة عام 144 هجرية، وانقرضت عام 296 فكان عمرها 150 عامًا، وهي أول دولة جزائرية قامت في صميم القطر الجزائري من أهله، بالمعنى الجغرافي العصري للجزائر، وقد قامت على نزعة مذهبية انتقلت من المشرق إلى المغرب، وانتشرت أول ما انتشرت في القبائل ذات الشوكة، حوالي طنجة البعيدة عن منال ولاة(5/106)
القيروان، ثم انتشرت في المغارب الثلاثة على أيدي دعاة متشددين، وهذا المذهب لا يرى الخضوع لسلطة عباسية ولا علوية، ولا يرى صحة الإرث لبيت ولا لقبيل في الخلافة الإسلامية، بل يرى الخلافة للأصلح، ويرى استعمال السيف لإقرار هذا المبدإ الذي هو جزء من العقيدة فيه، فاغتنم دعاة هذا المذهب ومعتنقوه فرصة اضطراب الأمر في القيروان، واختلاف الولاة عليه وتوارث آل عقبة بن نافع للإمارة وانهماكهم في حروب صقلية- فلم يضيعوا هذه الفرصة- واستولى أبو الخطاب بن السمح على القيروان، وهو أحد دعاتهم في السلم وقادتهم في الحرب، وهو داعية عربي لمذهب الخوارج، ومعه قائدان مشهوران من قوادهم: أبو حاتم يعقوب بن حبيب وعبد الرحمن ابن رستم، ثم رجعوا عن القيروان إلى حيث الشوكة والعصبية لنحلتهم في صميم الجزائر، واختاروا بقعة في أحضان سلسلة الأطلس لتشييد عاصمة لمملكتهم الجديدة فأنشأوا مدينة (تيهرت) في القسم الجنوبي الغربي للجزائر، ولا تزال بعض آثار هذه المدينة باقية إلى الآن، وقد أنشأ الاستعمار الفرنسي مدينة بالقرب منها وسمّاها باسمها مع تحريف قليل في النطق والكتابة، فهم يكتبونها Tiaret وينطقونها كذلك.
وعبد الرحمن بن رستم الذي نسبت إليه الدولة وتسلسلت إمارتها في أعقابه رجل فارسي الأصل، ولكن المذهب هو الذي هيأ له مبايعة البربر على السمع والطاعة بعد كفاءته الشخصية وشواهد أعماله، ولا ندري كيف خالفوا أصلهم في استخلاف الأصلح، فأورثوا الإمارة بني عبد الرحمن بن رستم، وإن عرف كثير منهم بصدق التدين وإفاضة العدل في الأحكام، وإقامة الحدود الشرعية، وتشجيع الفنون والعلوم والآداب، والمحافظة على الفضائل الإسلامية.
واتسعت رقعة هذه الدولة من شاطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث مدينة (تنس) وهي الثغر الذي يصلها بالأندلس، إلى الصحراء حيث مدينة وارجلان في جنوب مقاطعة قسنطينة، ولعلهم كانوا يتصلون من طريق هذه الصحراء بأتباع مذهبهم في طرابلس، ولا تزال بقايا المذهب الأباضي إلى الآن في جنوب مقاطعة الجزائر، وفي جبل نفوسة بطرابلس.
الدولة الصنهاجية بجبل تيطري:
وهذه الدولة أيضًا جزائرية صميمة، نشأت عام 324 هجرية، وانقرضت عام 547 على يد الموحدين، ومؤسّسها زيري بن مناد الصنهاجي أحد فروع الأسرة الباديسية الصنهاجية التي استخلفها الفاطميون على مملكة القيروان حينما فتحوا مصر ونقلوا كرسي خلافتهم إليها، ثم استقل الباديسيون بعد ذلك بالقيروان عندما آنسوا ضعف الدولة الفاطمية في الشرق.(5/107)
رأى زيري أن ينتبذ مكانًا قصيًا عن القيروان لأوائل قيام الدولة الفاطمية ورسوخ دعوتها وكثرة أنصارها واستقرارها بالمهدية العاصمة التي أسسها المهدي أول الخلفاء الفاطميين على ساحل تونس الجنوبي، وأن يعتصم بالعصبية الصنهاجية ضد قبائل زناتة أحد أعداء صنهاجة الألداء، فاختار جبل أشير إحدى قمم الأطلس على نحو مائتي ميل في جنوبي مدينة الجزائر وأسّس فيه مدينة أشير، وشرع في بنائها عام 324 الذي جعلناه مبدأ لنشأة هذه الدولة، وقد أخذ زيري بدعوة الفاطميين ليزداد قوّة، فاستبحرت بذلك مدينته، وجمعت أسباب الحضارة كلها من علم وفن وصناعة وتجارة، وقصدها الناس من كل قطر، ورحل إليها التجّار وأصحاب الصنائع من الأندلس وغيرها، ولكن عمرها لم يطل، فقد زاحمتها (قلعة حماد) التي أسّسها حفيد زيري حماد بن بلقين بن زيري في جبل كيانة إحدى قمم الأطلس الشامخة شرقي جبل أشير، وجبل كيانة تتفرّع منه عدّة فروع ملاصقة، وفي بعضها منازل قبيلتي ومسقط رأسي، ولم تزل آثار قلعة حماد ماثلة إلى يومنا هذا، ولا يوجد لموقعها نظير في المناعة الطبيعية، وإن آثارها لتنطق بالقوة والاتساع مع وعورة المسالك المؤدّية إليها. وقد احتوت عاصمة حماد على كل ما احتوت عليه عاصمة جده زيري وهي مدينة أشير من حضارة وصناعة وفن، وأريت عليها في كل ذلك وفي ارتقاء العلوم الإسلامية بها وبكثرة المساجد وهجرة العلماء إليها حتى كوّنت مدرسة من المدارس الإسلامية بالشمال الإفريقي، ولكنها باجتذابها للعلماء وأصحاب الفنون والصناعات كانت سببًا في خراب العاصمة الصنهاجية الأولى (أشير)، وبقي عمرانها في ازدياد وحضارتها في اتساع واطراد، إلى أن طرقها الدهر بالغارة الهلالية المعروفة في أواسط المائة الخامسة، فاحتلّت قبائل بني هلال بن عامر المتدفقين من صعيد مصر على شمال إفريقيا البسائط المحيطة بها من الشمال والجنوب، وضايقوا قبائل البربر فيها، ومدينة القلعة متصلة من جنوبها بسهل واسع كان فيه لبني هلال مجالات، فأحسّ ملوك القلعة الحماديون بأنه لا قبل لهم بصدّ هذه القبائل العربية المغيرة، فعزموا على إنشاء عاصمة جديدة، فاختاروا موقع بجاية على خليج من أمنع خلجان البحر الأبيض، وهو موقع حصن فينيقي قديم يسمّى "صلداي"، واقع على مصبّ وادي الساحل في البحر، وتحيط به جبال شاهقة، هي شناخيب الأطلس الأصغر، فاختط بها الناصر أحد الملوك الحماديين، عام 460 هجرية، مدينة ونقل إليها دار الملك فأصبحت عاصمة ثالثة للدولة الحمادية، وكانت أضخمهن وأعمرهن وأجمعهن لأسباب الحضارة، وزادت على سابقتيها بازدهار العلوم الإسلامية وكثرة من أخرجت من الأئمة في تلك العلوم، وكانت ممرًّا لكل قادم من الأندلس إلى الشرق حاجًّا أو طالبًا للعلم، وكانت تحتبس كل عالم أندلسي يردُ عليها سنتين أو ثلاثًا حتى يأخذوا عنه كل ما عنده من علم وأدب، وكما أصبحت بجاية دار علم أصبحت ميناءً تجارًيا وحربيًا لا نظير له في شمال افريقيا، وكان خليجها غاصًّا دائمًا بالسفن التجارية من الأندلس إلى الشام ومن ثغور الفرنجة على الضفة الأوربية، وبالأسطول الحربي الحمادي الذي أنشأ له الحماديون دور صناعة كانت مضرب المثل في زمنها.(5/108)
الدولة الفاطمية:
وعلاقة هذه الدولة بالجزائر أن الدعوة إليها بدأت في جبال كتامة، بين قبائلها البربرية، وأن داعيتها أو داهيتها الأول أبا عبد الله الشيعي، أقام في هذه الجبال سنوات يدعو إلى المذهب الإسماعيلي الباطني حتى انتشر في قبائل كتامة الشديدة المراس، ثم انتقل بهم إلى إقامة دولة ومبايعة رجل من آل البيت بالخلافة، فكان ذلك الرجل هو عبد الله المهدي أول الخلفاء الفاطميين، وجبال كتامة هي بعض الأطلس الأصغر المحاذي للبحر الأبيض وموقعها قريب من مدينة قسنطينة في الغرب منها، ومدينة "ايكجان" التي أسّسها أبو عبد الله الشيعي وسمّاها دار الهجرة وجعلها مبعث دعوته، ما زالت معروفة بهذا الاسم إلى الآن وهي قريبة من بلدنا بنحو مائة ميل، فنشأة الدولة الفاطمية كانت في الجزائر، وإن انتقلت بعد ذلك إلى القيروان والمهدية، وقد بسطت سلطانها لأول نشأتها على القسم الشرقي من القطر الجزائري، أعني ما يشمل مقاطعة قسنطينة.
فهذه كما ترون علاقة قوية بالجزائر وهي علاقة النشأة، وكانت نشأة هذه الدولة بالجزائر ثم استقرارها بالقيروان أقوى أطوارها، وخلفاؤها الأربعة بالقيروان أجلّ قدرًا من خلفائهم العشرة بمصر.
كانت نشأة هذه الدولة عام 297 هجرية، وانقطاع دعوتها من القيروان عام 341 باستقلال الدولة الباديسية الصنهاجية أيام الخليفة معد المستنصر بن الظاهر رابع خلفائهم بمصر، وانقرضت على يد صلاح الدين الأيولي عام 567.
الدولة الزيانية بتلمسان:
وهذه الدولة أيضًا نشأت في صميم الجزائر من صميم أهل الجزائر، ومن أوسط قبائل زناتة نسبًا، وهم بنو عبد الواد، وكانت قاعدة مملكتهم مدينة تلمسان القريبة من الحدود المراكشية، والواقعة في الجنوب الغربي لمدينة وهران عاصمة المقاطعة الوهرانية، وتلمسان مؤسسة من قبل الفتح الإسلامي، وكانت تسمّى (أقادير) واتخذها سليمان بن عبد الله الكامل أخو إدريس الأكبر قاعدة لمملكته التي اقتسمها بنوه من بعده، أسوة بما فعل أبناء عمومتهم الأدارسة فيما جاور تلمسان من المغرب الأقصى، ثم كانت من بعدهم كرة لصوالجة الدول المجاورة من الشرق والغرب، إلى أن اقتطعها بنو عبد الواد من زناتة فاتخذوها قاعدة للمملكة التي شادوها بسيوفهم، وانتزعوها انتزاعًا من جسم الدولة الموحدية، وكان ابتداء هذه الدولة عام 633 هجرية وانقراضها عام 957، باستيلاء الأتراك عليها، وانتظمت هذه الدولة النصف الغربي من الجزائر الحديثة، وانتهت حدودها في بعض الفترات إلى مدينة(5/109)
الجزائر، واستشرف بعض ملوكهم إلى انتزاع بجاية من يد الحفصيين ملوك تونس، وهذا أعظم توسّع لهذه الدولة.
لم تلقَ دولة من الدول المغربية من المحن والحروب ما لقيته هذه الدولة، ولم تلق مدينة من المدن المغربية ما لقيته تلمسان في أيام بني زيان من تكرّر الحصار ومعاناة بلائه، ولم تعرف الأسر التي طلبت الملك بالمغرب من بأس الحروب والكرّ والفرّ وتعاقب الجلاء عن دار الملك ثم استرجاعها بالسيف مثل ما عرف ملوك بني زيان، وكان ذلك كله مع دولة الموحّدين ودولة المرينيين، وكان سبب هذا الصراع كله هي مدينة تلمسان الجميلة.
ومع هذه الوقائع المثيرة التي كانت تدور حول تلمسان، فإنها كانت لا تزيد إلا عمرانا وحضارة، وإنجابًا للأبطال وللعلماء الذين كانوا نجوم الدنيا، ولا توجد مدينة في المغارب الثلاثة ولدت من أئمة الدين والأدب والعلم بجميع أنواعه مثل ما ولدت تلمسان، لا تفوقها في هذا إلا أمصار الأندلس، ومن العجيب أن عصرنا الزياني المضطرب المتقلّب في الحرب هو أزهر عصورها في العلوم والفنون وازدهار الحضارة. ففي هذا العصر نبغ أبو عبد الله بن خميس، شاعر العروبة في المائة السابعة، وفيه نبغ الحافظ الخطيب ابن مرزوق الأكبر، عالم الدنيا وخطيبها وابنه وحفيده، وفيه نبغ أبو سعيد المقري جد صاحب "نفح الطيب"، وفيه نبغ أبو عبد الله الشريف التلمساني وابنا الإمام وسعيد العقباني وقاسم العقباني، وغيرهم ممن لا يعدون كثرة.
وكان للمؤرّخ ابن خلدون ملابسات بهذه المدينة وبملوكها الزيانيين، ولأخيه يحيى بن خلدون إقامة فيها وكتابة عن ملوكها، وقد كتب يحيى هذا تاريخًا لدولتهم، اسمه "بغية أو نجعة الرواد في ملوك بني عبد الواد" وهو مطبوع في الجزائر ومترجم إلى الفرنسية.
هذه الدول الكبيرة التي قامت في هذه الرقعة من شمال افريقيا التي تُطلق عليها كلمة (الجزائر).
وهناك إمارات صغرى قامت في بعض أجزاء من هذا القطر، وهي كثيرة، وأشهرها إمارة بني حمدون بالمحمدية التي تسمّى اليوم (المسيلة) ومنها إمارة بني مزني ببسكرة في أيام ابن خلدون المؤرّخ، وقد استظلّ هذا المؤرّخ بظل هذه الإمارة سنين وأقام ببسكرة تحت إنعامهم ورعايتهم. ومنها إمارات حفصية كان يقتطعها طلاب الملك من الأسر الحفصية كإمارة بعضهم في قسنطينة وآخر في بجاية، وليس لهذه الإمارات شغوف بشيء من علم أو فن يرفع ذكرها.
نقف بكم هنا وقفة اعتبار وإعجاب، وهي أن جميع الدول البربرية التي قامت بالشمال الافريقي- وفيهن من بلغت من القوة والصولة مبلغًا لا يقصر بها عن الدول الأعجمية الكبيرة(5/110)
التي قامت- لم تصطنع واحدة منهن اللغة البربرية لغة رسمية في مخاطباتها ومراسيمها وخطبها ومدائحها، وإنما كن جميعًا تصطنعن اللغة العربية، وتتبارين في انتقاء كتابها وخطبائها وتتنافس في إكرام علمائها وشعرائها، وجوائز ملوكها الثمينة هي التي شجّعت على تبريز الشعراء والكتّاب، وإن تعداد أسمائهم يطول، وأين هذا مما فعله الأتراك العثمانيون، أو المغوليون، أو ملوك فارس المسلمون؟
____
الدولة التركية
____
تاريخ الدولة التركية معروف، وتاريخ احتلالها لمصر وأرض العرب على زمن السلطان سليم مشهور، وكل ذلك لا صلة له بموضوعنا، وإنما يهمّنا احتلال الأتراك للجزائر وإلحاقها بالممالك العثمانية.
كانت نكبة الإسلام في الأندلس، وتخاذل المسلمين عن نجدة إخوانهم فيها، مقتضية لنتيجتها الطبيعية، وهي ضراوة الإسبان وتكالبهم على المسلمين أينما كانوا، وأقرب بلاد المسلمين إليهم شمال افريقيا، والقضية من أساسها صليبية سافرة، وأول الانتصار يغري تآخره، وإخراج الإسبان للمسلمين من الأندلس كان شفاءً للنفوس المسيحية الموتورة، ولكن ما رأته الدول المسيحية اللاتينية من موقف الحكومات الإسلامية وشعوبها من عمليات إجلاء المسلمين واكتساح الإسلام، شجّعها على الإمعان في التنكيل بهم وعلى غزوهم في عقر دورهم، واحتلال أوطانهم الواقعة على السواحل الافريقية، وسواء أكانت الخطة قديمة أو أوحت بها نتائج الانتصار والتنصير والإجلاء فهي طبيعية كامنة في النفوس.
بدأ الإسبان والبرتغال باحتلال عدة مدن على سواحل مراكش وفي سنة 1509 ميلادية احتلّوا المرسى الكبير ووهران من الثغور الجزائرية، وتداعت القرصنة الاستعمارية من إسبانيا وفرنسا والبرتغال إلى احتلال ما يمكن من الثغور الجزائرية والتونسية، ومطاردة الإسلام بمطاردة أبنائه واستعبادهم، مثل ما تمّ لهم بالأندلس.
ولولا أن قيض الله لنجدة المسلمين ونصرة الإسلام القائد التركي البحري العظيم بابا عروج وأخاه وقريعه القائد خير الدين، لتمّ في شمال إفريقيا ما تمّ في الأندلس من استعباد المسلمين وإكراههم على التنصر.(5/111)
والقائدان الأخوان تركيان، ولدا بجزيرة (ميديللي) وامتهنا البحارة واتخذاها وسيلة للجهاد في سبيل الله. فخاضا لجج البحر الأبيض وتمرّسا به وعرفا أعماقه وشطآنه، وتطوّعا بنقل طوائف من المسلمين الذين أجلاهم الإسبان من شواطئ الأندلس إلى شواطئ شمال افريقيا فأنقذوهم من حكم الرهبان ومحاكم التفتيش ومن التنصر الجبري أو الإحراق.
ولما أدرك الأخوان القائدان تداعي الدول المسيحية للإغارة على ثغور المسلمين كلها، وعزمها على استئصال الإسلام منها، اتفقا مع الأمير الحفصي في تونس إذ ذاك، على أن يجعلا من تونس قاعدة لأعمالهما البحرية، ودفاعهما عن المسلمين واسترجاع ما احتلته تلك الدول، وكانت الدولة الحفصية تلفظ أنفاسها الأخيرة، حتّى أن الإسبان احتلّوا عاصمتها تونس مرّتين، وأفحشوا بالنكاية في المسلمين، واتخذوا من جامع الزيتونة اصطبلًا لدوابهم.
كان من نتائج ذلك التداعي اللاتيني الكاثوليكي أن احتلّت دول أجنبية كثيرًا من الثغور الجزائرية، ومنها ثغر بجاية احتلّه الإسبان، وثغر جيجل الواقع شرقي بجاية، احتلّه الجنويون، فبدأ القائدان بإنقاذ بجاية من يد الإسبان، ودحرا الإسبانيين برًّا وبحرًا، ثم استنقذوا ثغر جيجل، وكان ذلك في سنة 1512 ميلادية، فكانت هذه السنة بداية تاريخ العهد التركي بالجزائر، وفي سنة 1516، احتلّ القائدان الأخوان مدينة الجزائر، واتخذا منها قاعدة ثابتة للهجوم والدفاع والعمليات الحربية بريّة وبحرية، وأهمها قمع القرصنة اللاتينية في البحر الأبيض، ومن هذه السنة أصبحت مدينة الجزائر عاصمة إلى الآن.
كانت نجدة القائدين لمدينة الجزائر تلبية لاستغاثة إسلامية بهما من شيخ تلك المدينة إذ ذاك سليم التومي، ولقي القائدان من رجال الجزائر ما يريدان من تأييد وإعانة وطاعة وثبات وبطولة، وكان رجال أسطول القائدين الذين يدير بهم المعارك البحرية لا يزيدون على ثمانمائة، فعزّزهم بثلاثة آلاف جندي جزائري، وبهذا العدد القليل مع الشجاعة وحسن التدبير، أوقع القائدان بالقرصان اللاتينيين الهزائم المأثورة وطردا حكوماتهم من جميع ما احتلّوه من ثغور تونس والجزائر في مدة قصيرة، وامتدّ ميدان النزال بين الفريقين برًّا وبحرًا من مدينة تلمسان وسواحلها وثغورها إلى تونس وسواحلها وشواطئها، وهو ميدان طوله أكثر من ألف وخمسمائة ميل.
من توفيق الله للقائدين التركيين، ومن دلائل إخلاصهما في نصر الإسلام، تسهيله احتلال مدينة الجزائر لهما، وجعلهما إياها قاعدة لأعمالهما، وإدارة حروبهما، ومركزًا لتنظيم الأمور الإدارية والعسكرية، فقد انتقل شأنهما من حال إلى حال تخالفها، وبعد أن كانا رئيسين بحريين يديران حركة غزو ونهب وتعرّض لأمثالهما ممن يحترف حرفتهما، لا يرجعان فيما يصنعان إلى أحد، حتى الدولة العثمانية لم يكونا يأتمران بأمرها ولا يرجعان(5/112)
إليها، إلا من حيث الجنسية والدين، وإنما كانا يدافعان عنها إن اقتضى الحال، ويجلبان لها الفخر بانتصاراتهما، بعد أن كانا على تلك الحال، أصبحا أميرين مسؤولين عن إنقاذ شعوب إسلامية من الكفر وأوطان إسلامية من احتلال الأجانب.
ومدينة الجزائر ذات مزايا لا تُحصى، وأهم مزاياها توسطها للشمال الإفريقي كله، ووقوعها على البحر، وإشرافها على كل ما يجري فيه، فهي قاعدة حرب وسلم، وإدارة وحكم، وقد تعاون موضعها ووضعها على إكسابها هذه المزايا، وما ذكرنا منها إلا القليل، وقد تفطن الاستعمار الفرنسي فيما تفطن إلى هذه المزايا الطبيعية، وأضاف إليها بعض المزايا الصناعية فاستغلها لمصالحه، وإن هذا لهو الذي يحمله على الاستمساك بها حتى انه ليتمنى خروج روحه قبل الخروج منها، وسيكون العكس فيخرج منها قبل أن تخرج روحه من جسده ليذوق طعم الحسرات التي أذاقنا إياها.
وكان بابا عروج بعد استقراره بالجزائر مطمئنًا إلى الانتصار على أعدائه، وقد زاد عددهم وتمكّنت عداوتهم له بتمكّنه من هذا المركز الحصين، ومطمئنًا إلى ثقة الشعب الجزائري المسلم به، ولكنه كان ممتعضًا من موقف البقية المهينة من سلالة بني زيان أمراء تلمسان، ومن سلالة بني حفص أمراء تونس، فقد كان كل من هذين الأميرين يصانع الأعداء ويماسهم ليحتفظ بلقب الإمارة ولو تحت حمايتهم.
والمتتبع لسيرة القائدين الأخوين حق التتبع لا يستخرج منها أنهما كانا طامحين إلى تأسيس مملكة يستقلان بسلطانها، كما يطمح إلى ذلك من تهيّأت له الأسباب مثلهما، أو يستعملان قوّتهما ضدّ الدولة العثمانية، كما فعل محمد علي حينما ملك مصر، وإنما هما رجلان كانت لهما لذة وذوق في هذا النحو الذي توجّها إليه، وزادت النزعة الإسلامية هذا الذوق فيهما تمكّنًا لأنّ فيه مع اللذة أجر الجهاد وحسن المثوبة عند الله، وإذا كان الجزائريون قد أسندوا إليهما الإمارة عليهم، فإنما ذلك للمصلحة العامة.
وعليه فما كانا يمتعضان لسلوك الأمير الزياني والأمير الحفصي في تمكين الأعداء من الوطن الإسلامي، طمعًا في ملكهما، وإنما كانا يمتعضان لاتخاذ العدو لهما مطية تخفف عنه العناء في الاستيلاء على أوطان المسلمين. ولذلك أقدم بابا عروج على حرب صاحب تلمسان فانتصر عليه واستولى على تلمسان، فتكشف الأمير الزياني عن خزية الدهر واستعان بالإسبان على بابا عروج، واستشهد بابا عروج في أثناء حرب تلمسان سنة 1518.
وولي الحكم بعده أخوه خير الدّين، فاضطلع بالحكم أقدر ما كان عليه، وبالحرب أقوى ما كان تمرّسًا بها واطلاعًا على أحوال أعدائه فيها. أما اضطلاعه بالحكم فللثقة المتبادلة بينه وبين الجزائريين وسكان الجهات التي انضمت إليهم باختيارها أو تغلّبوا عليها عسكريًا، ولأن(5/113)
سيرة أخيه بابا عروج الصالحة زرعت لهما المحبة في قلوب الناس، فهيّأت له أسباب الاطمئنان، وأما اضطلاعه بالحرب فإن الولاية لم تلهه عن مواصلة الحرب مع الإسبان وغيرهم هجومًا ودفاعًا، وتوالت انتصاراته عليهم في البرّ والبحر، ومن وقائعه المشهورة فيهم، الوقعة التي انتصر فيها على الجيش الذي قاده شارلكان بنفسه، فكسره خير الدين شرّ كسرة.
ولما اشتهر اسمه، وعلا نجمه، واتسقت انتصاراته البحرية في البحر الأبيض، والبرية في سواحله الافريقية التي احتلّها اللاتينيون، وقع ذلك كله موقع الرضى والاغتباط في نفس الخليفة العثماني ورجال حكومته، لأنهم يعدون القائدين الأخوين من رجال دولتهم، ويعدون مفاخرهما الحربية جزءًا من مفاخرهم، وللدولة العثمانية من البحر الأبيض جزء عظيم وهو حوضه الشرقي: سواحل البلقان والأناضول وسوريا ومصر وليبيا، فإذا أضاف هذان القائدان إلى هذا الجزء العظيم سواحل افريقيا الشمالية إلى نهايتها في مضيق طارق، فقد حقّقا لها أغلى ما كانت تطمح إليه الدول العظيمة من آمال في بسط سلطانها على هذا البحر العجيب الذي يقول فيه شوقي:
أَيُّ المَمَالِكِ أَيُّهَا … فِي الدَّهْرِ مَا رَفَعَتْ شِرَاعَكَ
وما زال هذا البحر مجال غلاب بين الدول الناشئة على ضفتيه، وما زالت الحرب سجالًا بين ضفته الافريقية وبين ضفته الأوربية، ولم تجتمع الضفتان في يد واحدة كاملة لدولة واحدة بل لم تجتمع إحداهما إلا قليلًا، تهيّأ ذلك في بعض أجزائهما للفينيقيين ولليونان وفي معظمها للرومان، ولم تبسط ظلها على معظم سواحله إلا الدولة العربية والدول الإسلامية التي تفرّعت عنها، حتى سمّاه بعض المؤرخين (البحر العربي).
ووقائع خير الدين هي التي أيأست الإسبان من بلوغ أملهم في شمال افريقيا وهو أمل طويل عريض يفوق آمالهم في أمريكا الجنوبية، لقرب افريقيا منهم واتصالها بهم، وهي التي أخّرت الاستعمار الأوروبي لافريقيا قرونًا وهذا الشمال هو مفتاح افريقيا كلها ومن ملك المفتاح سهل عليه دخول الدار.
وافتقرت الدولة العثمانية إلى كفاءة خير الدين الحربية والبحرية، التي قامت الشواهد عليها من وقائعه وانتصاراته، فاستدعته إلى دار الخلافة وأسندت إليه قيادة أسطول الدولة، ليدع عنها العوادي التي بدأت تعدو عليها في هذا البحر. فاعجبوا لثلاثة أشياء تجتمع في ذلك الوقت، واذكروا ماذا يكون من آثار اجتماعها: أسطول دولة كامل، بقيادة خير الدين في البحر الأبيض، ونسبة البحر الأبيض من خير الدين نسبة عرين الأسد من الأسد، والأسطول أنيابه وأظفاره.
وتولّى ولاية الجزائر في غيبة خير الدين حسن آغا، من سنة 1533 ميلادية إلى سنة 1544. وفي أيام ولايته استولى خير الدين على تونس وألحقها بممالك الدولة العثمانية،(5/114)
ومحا الدولة الحفصية من الوجود وقطع طمع الطامعين في إرثها، وانتظمت هذه الشطوط التي تبتدئ من القسطنطينية في مملك واحد.
وتولّى ولاية الجزائر- بعد موت حسن آغا- حسن باشا بن خير الدين، من سنة 1544 ميلادية إلى سنة 1552 ولم تزل من آثاره في مدينة الجزائر قلعة تُعرف (بحصن الآمبرور) (1)، ثم استدعي إلى دار الخلافة بأمر الدولة.
فتولّى ولاية الجزائر بعده صالح رايس من سنة 1552 ميلادية إلى سنة 1556، فزاد في رقعة الولاية قطعًا ثمينة اتسعت بها: أضاف إليها صحراء المقاطعة القسنطينية، ومدنها التي كانت مراكز إمارات صغيرة من بقايا المرينيين وغيرهم، وهي: تقرت وورقلة (وارجلان) المذكورة في حديث الدولة الرستمية، وهذا الوالي هو الذي قضى على بقايا الزيانيين ودولتهم بتلمسان، وضمّها إلى الجزائر، وهو أول من غزا المملكة المراكشية من الولاة الأتراك، في عهد ملوكها السعديين، فهاجمهم برًّا وبحرًا، ونصب في فاس ملكًا من أعقاب المرينيين، وما هذه المحاولة إلا تحقيق لأمنية كانت تنطوي عليها نفسا القائد الأكبر بابا عروج وأخيه خير الدين، وقربها ما تسنّى لهما من الفتوحات المظفّرة. هذه الأمنية هي أن يضما المملكة المراكشية إلى ممالك الشمال الافريقي التي أنقذوها من الاستعمار اللاتيني، وهما يرميان بذلك إلى غرضين: الأول إلحاقها بالدولة العثمانية دولة الخلافة، والثاني قطع أطماع الإسبان فيها، ولعلّ لهما غرضًا آخر أشرف، ينتج عن النجاح في هذه المحاولة، وهو إعادة الكرة على الأندلس، والأخذ بثارات الإسلام من الإسبان، وهذه الكرة لا تتصوّر في ذلك الحين إلا باجتماع مراكش والجزائر وتونس في يد كيد بابا عروج وأخيه، وإدارة عسكرية موحّدة كإدارتهما، وقيادة كقيادتهما، ذلك لأن الإسبان تمرّسوا بهذه الدول التي نشأت بالمغرب الإسلامي في جميع عهودها، ونزعت هيبتها من نفوسهم من لدن يوسف بن تاشفين وعبد المؤمن وأبي الحسن، وما أقدم الإسبان على ضربتهم التاريخية الجريئة لمسلمي الأندلس إلا بعد أن استيقنوا أن هذه الدويلات لم تبق فيها فضلة إنجاد لِمستصرخ.
إن ايمان الرجلين مضافًا إليه ما تحدثه الانتصارات المتوالية في نفوس القوّاد الشجعان، لا يبعد بهما عن هذه (التهمة) تهمة العزم على استرجاع الأندلس إلى حظيرة الإسلام، أما كونها كانت أمنية لهما فهذا ما نتحقّقه لأنها كانت أمنية كل مسلم على وجه الأرض. ولقد تجدّدت محاولة إلحاق مراكش بالممالك العثمانية مرّة أخرى من والٍ آخر من ولاة الجزائر، وهو قائد رمضان، بعد هذه المحاولة ببضع وعشرين سنة، ولكنها لم تفلح، ثم لم تتكرّر المحاولات الجدية بعد ذلك.
__________
1) حصن الآمبرور: حصن الامبراطور، ويسمّى قلعة مولاي حسن، وهو ابن خير الدين بربروس. والامبراطور المقصود هو شارل الخامس الذي أغار على الجزائر سنة 1541، وهزم هزيمة ساحقة.(5/115)
ثم تعاقب الولاة على الجزائر بالتعيين الرسمي من الدولة العثمانية، ولا يتسع الوقت لسرد أسمائهم، وذكر أعمالهم وشرح سياستهم، ولكن واحدًا منهم لا يحسن بنا عدم التنويه باسمه، ولا يحسن بكم جهله، وهو (قلج علي)، تولّى الجزائر من سنة 1568 ميلادية إلى سنة 1571.
اشتهر هذا الوالي بالشجاعة والقوّة والحزم والبراعة في قيادة الأساطيل الحربية، وشارك بأسطول الجزائر في الموقعة البحرية الكبرى التي تألبت فيها الأساطيل الأوربية، على الأسطول التركي حتى حطمته، ولم ينجح منه إلا الأسطول الجزائري الذي يقوده قلج علي هذا، ولم يغنم النجاة بأسطوله فقط، بل غنم من أعدائه مغانم أهمها في المغزى، المركب الذي يحمل علم البابا. وكانت من عواقب هذه البطولة أن نقلته الدولة العثمانية من الجزائر إلى دار الخلافة ليقوم بتجديد الأسطول وتنظيمه، وليس في ولاة الجزائر بعده من يحتفظ له التاريخ بمنقبة حربية بكر، وإن كانت لبعضهم مآثر دينية أو عمرانية تستحق التخليد.
بفشل المحاولات الرامية إلى الاستيلاء على المملكة المراكشية وإلحاقها بالممالك العثمانية، وبتقسيم الجزائر إلى ثلاثة أقسام مركزها الجزائر العاصمة، وبالاستيلاء على المناطق الصحراوية وضمّها إلى ما يسامتها من تلك الأقسام الثلاثة، بذلك كله تميّزت حدود الجزائر الحالية تقريبًا، ولم تبقَ إلا مواطن للقبائل المتداخلة لم تزل محل نزاع إلى وقت قريب، وطالما اتخذت منها فرنسا ذرائع للشقاق والتحرّش في عهد استعمارها، وهذه الحدود كلها إدارية لا تشهد لها الطبيعة بحق، ولا يهم إنسان بوضع العلامات الفارقة فيها إلا طمستها الجوامع من صنع الله فكان كالراقم على الماء، وأول ما حدّدت هذه الحدود الإدارية في العهد التركي.
والعهد التركي هو أطول عهود الحكومات المتعاقبة على الجزائر في تاريخها الإسلامي، ولم تتسع رقعة الجزائر على دولة من الدول التي نشأت مثل ما اتسعت في العهد التركي.
فمدة العهد التركي العثماني في الجزائر ثلاثمائة سنة وتسع عشرة سنة، وينقسم إلى خمسة أدوار، بحسب نوع الولاة الذين تعاقبوا على حكم الجزائر.
ـ[الدور الأول]ـ: حكم بابا عروج وأخيه خير الدين، من سنة 1512 إلى سنة 1546، فمدّته 34 سنة.
ـ[الدور الثاني]ـ: حكم البايلاربايات، من سنة 1546 إلى سنة 1587، فمدّته 41 سنة.
ـ[الدور الثالث]ـ: حكم الباشوات الثُّلاثِيني (2) من سنة 1587 إلى سنة 1659، فمدّته 72 سنة.
__________
2) الثلاثيني: كان الحاكم العثماني في الجزائر في هذه الفترة يحكم ثلاث سنوات ثم يخلفه حاكم آخر لنفس المدة ...(5/116)
ـ[الدور الرابع]ـ: حكم الأغوات من سنة 1659 إلى سنة 1671، فمدّته 12 سنة.
ـ[الدور الخامس]ـ: حكم الدايات من سنة 1671 إلى سنة 1830، فمدّته 160 سنة.
هذه إلمامة عاجلة بالعهد التركي في الجزائر، وتاريخ هذا العهد حافل بالأحداث، ملوّن بألوان الولاة، إذ كان منهم الظالم لنفسه وللناس، ومنهم المقتصد، ومنهم الصالح، ولكن صلاح الصالح منهم كان من ذلك النوع التركي الذي يظهر في بناء مسجد حيث تكثر المساجد، فلا يكون جامعًا بل مفرّقًا، أو في بناء ميضأة للوضوء أو سبيل للشرب أو إقامة ضريح أو قبّة لولي حقيقي أو وهمي، أو وقف مال على سبيل الخير، وهذا النوع هو أنفع أعمالهم لو دام.
أما تاريخهم السياسي والإداري، فصفحاته الأولى كانت مشرقة بأعمال بابا عروج وخير الدين الحربية وانتصاراتهما فيها، وقد غطّت المحاسن فيها على المساوئ، واعتبرهما الناس منقذين للإسلام وأوطانه- وهو الحق- فلم تبقِ عين الرضى لعين السخط مجالًا، وجاء مَن بعدهما فخلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا، وطال العهد فثقلت الوطأة وساء الجوار، وفشت الرشوة والمصادرات وسفك الدماء ففسدت القلوب والنيّات، واختلّت الأحوال تبعًا لاختلالها في أهل الدولة العثمانية، فعمّ الظلم من الولاة وأتباعهم إلى آخر موظف في الدولة، واستبدّ كل وال بالمقاطعة التي يحكمها من المقاطعات الثلاث قسنطينة والجزائر ووهران، وكانت آثار تلك الحالة في الأمّة شقاقًا وتمرّدًا على النظام وسوء أخلاق، ومع ذلك التناهي في فساد الإدارة وانفصام العلائق بين الحاكم والمحكوم، فإن قوة الجزائر العسكرية كانت مرهوبة عند خصومها اللاتينيين حتى أن بعضهم كان يستعدي الجزائر على بعض، وكان يستنجدها فتنجده عسكريًا، ويستتقرض منها المال فتقرضه، وكان استقلال الجزائر بذلك محفوظًا في الخارج، وإن كان ضائعًا في الداخل، وكان ضياعه في الداخل هو الذي مهّد للطامة الكبرى، وهي احتلال فرنسا للجزائر.
وأما الحالة العلمية في ذلك العهد فهي الصفحة المغسولة من ذلك التاريخ، بل هي الصفحة السوداء في تاريخ الجزائر العلمي، فما رأت الجزائر عهدًا من عهودها أجدب من العهد التركي في العلم، ولا أزهد من حكوماته فيه، ويعلّل كثير من الناس ذلك بأن من خصائص الشعب التركي أنه شعب حرب لا علم، وقد يكون هذا التعليل قريبًا من الحق، لأنه اطرد في كثير من الشعوب التي حكموها باسم الخلافة الإسلامية، يعنيه شوقي بقوله فيهم:
رفعوا على السيف البناء فلم يدم … ما للبناء على السيوف دوام
ومن العجيب أن تكون الدول البربرية التي قامت بالجزائر أحفظ لذمام العلم واللغة العربية من دولة الخلافة الإسلامية، فالدولة الرستمية والدولة الصنهاجية والدولة الزيانية جرت(5/117)
في العناية بنشر العلم وتسهيل وسائله وتشجيع أهله شوطًا لم تقصر فيه عن شأو دولة الخلافة بالشرق، وتيهرت وقلعة حماد والمسيلة وبجاية وطبنة وقسنطينة أخرجت للعالم الإسلامي من أئمة العلم في الدين والدنيا، وفحول البلاغة من الشعراء وفرسان المنابر من الخطباء من كان الشرق يقف أمامهم مبهوتًا من العجب، وناهيكم بتلمسان في العهد الزياني فقد سايرت بغداد في عنان واحد في هذا الميدان.
____
الإحتلال الفرنسي
____
احتلّت فرنسا مدينة الجزائر وأطرافها في شهر يوليو من سنة 1830 احتلالًا عسكريًا بعد دفاع عنيف من الحامية التركية ومن الأهالي، فُصّلت أخباره في كتب التاريخ الفرنسية، وفي تلك الكتب شيء من الإنصاف والاعتراف بعنف الدفاع والاستماتة فيه، وفيها كثير من الاعتراف بما فعله الجيش الفرنسي من أعمال وحشية، خصوصًا حينما اشتدّت المقاومة العامة. ومن المحزن أن أخبار ذلك الاحتلال الظالم، وأخبار تلك الحرب وما ارتكبه الجيش الفرنسي فيها من موبقات وأخبار الدفاع الشريف الذي قام به الشعب الجزائري، وما أظهر فيه من بطولة وما ظهر فيه من أبطال، كل ذلك لم يسطر فيه حرف بالعربية من أبناء الجزائر، إلا أن تكون مذكرات خصوصية، ماتت بموت أصحابها، أو تناستها الأجيال اللاحقة لأسباب بعضها يرجع إلى تمكن الاستعمار وحرصه على طمس الحقائق التي لا تجري مع هواه، وعمله على نسيان الشعب الجزائري لأمجاده وعلى تصوّره للحقائق مقلوبة أو مشوّهة، حتى تضعف فيه ملكة التأسي ثم تموت، وقد رأيناه بعد استقرار الأمر يحارب التاريخ الإسلامي والتاريخ العربي والآداب العربية من أساسها، لولا أن أحيتها- على أكمل وجه- الحركة الأخيرة القائمة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين كما يأتي بيانه، ذلك لما يعلمه من تأثير التاريخ والآداب في إحياء الشعوب، خصوصًا التاريخ العامر بالمفاخر المملوء بالمآثر، كتاريخ الإسلام عمومًا، وتاريخ العرب بوجه خاص. والسبب في إهمال الجزائريين لتدوين وقائع الاحتلال والمقاومة يرجع إلى أمور، منها أن العهد التركي الذي طال أمده ثلاثة قرون وزيادة لم يكن عهد علم ومعرفة وفن، ولا مشجّعًا عليها، فتناسى الجزائري فيه تلك العهود الزاخرة بالمعارف وتدوينها، عهود بجاية وتلمسان وقسنطينة وتيهرت وقلعة حماد وغيرها من عواصم العلم التي اشتمل عليها القطر الجزائري قبل العهد التركي.(5/118)
والعهد التركي جاء بعد تناقص العمران المستتبع لتقلص العلوم والمعارف في تلك العواصم العلمية، وليس من طبيعة الاحتلال التركي إحياء المفقود من العلوم، ولا تشجيع الموجود، فكان في الجزائر ضغثًا على إبالة، وكل هذا لا يعفي علماء الجزائر في ذلك العصر من تبعة التقصير في تدوين تلك الأحداث العظيمة لهم أو عليهم.
وتمّ الاحتلال الفرنسي للجزائر كلها في نحو ثماني عشرة سنة، هي سنوات جهاد الأمير عبد القادر بن محيي الدين المختاري، ومقاومته الرائعة للفرنسيين، وبطولة ذلك الأمير، وصدق جهاده، وقوّة دفاعه عن الجزائر، وعظمته في العلم والرأي والحرب، ووقائعه التي انتصر في كثير منها على الجيش الفرنسي، كل أولئك أمور اشتهرت حتى غنيت عن البرهان، وحتى لقد شهدت بها فرنسا وقادتها قبل غيرهم.
وبعد تسليم الأمير عبد القادر خُيّر في محل الإقامة فاختار الشرق وانتقل بأهله وحاشيته إلى اسطمبول، ثم إلى دمشق مشتغلًا ببث العلم والقيام على أسرته وعلى المهاجرين الذين التحق به آلاف منهم، إلى أن مات بدمشق في شهر مايو عام 1883.
ولقد قال لي أحد الأصدقاء الأدباء، في هذا الأسبوع، وهو يحاورني في شأن من شؤون الأمير عبد القادر: إنه يعدّ تسليم هذا الأمير ونجاته بنفسه غميزة في قيمته التاريخية بل في دينه، وكان من مقتضيات إمارته وزعامته وبطولته أن يقاتل حتى يموت، وأن لا يختم أعماله بهذه الخاتمة السيّئة التي سن بها لمن بعده سنة التسليم والرضى بالهجرة الاختيارية، ومن معاني هذا الرضى أنه حرص على الحياة.
هذا معنى كلامه ببعض ألفاظه، فقلت له: إنه لم يكن بدعًا من قادة الحرب في التسليم فقد اتبع سنة من قبله، أما أسباب تسليمه فنحن نعرف منها أشياء، ونظن به أشياء، هي الأشبه بحاله ومقامه، أما ما نعرفه فهو اختلال صفوفه، وخذلان كثير من المارقين له- ومنهم بعض مشايخ الزوايا الصوفية وبعض الأمراء من الجيران- خذلانًا تكون نتيجته اللازمة الاضطرار إلى قتالهم، ومعنى هذا أنه بين عدوين، ومضطرٌّ إلى الحرب في ميدانين. وأما ما نظنه به فهو أنه كان ينوي إعادة الحرب مع الفرنسيين، بعد اتصاله بمقرّ الخلافة واجتماعه بأهل الحل والعقد فيه، وهذا ما نفسّر به اختياره اسطمبول دار هجرة، ويؤيّد هذا التفسير تلكؤ فرنسا في السماح له بالسفر إليها، كأنما خامرها شيء من هذا المعنى، أو استدلّت بالقرائن عليه.
ولم تنقطع المقاومة بتسليم الأمير، بل بقيت المناوشات والثورات المحلية المتكرّرة تقلق الجيش الفرنسي وتقضّ مضجعه وتسلبه القرار إلى أن جاءت حرب السبعين وكان ما يأتي.(5/119)
وهنا نقطة يكثر عنها السؤال، وهي: كيف لم يقم بعد الأمير عبد القادر قائد آخر من رجال جيشه يقود المقاومة سنة أو سنوات، مع أنه كان له جيش مدرّب يقوده رجال حربيون من أبناء الجزائر، بل ان الأمير كونّ حكومة أرقى من حكومة الترك التي لم يبقَ لها أثر بعد الاحتلال الفرنسي، وضرب السكة باسمها ونظّم القضاء والإدارة والحرب وجميع مقوّمات الحكومة.
والجواب ما قدمنا الإشارة إليه، من اختلاف الكلمة عليه من مشائخ الزوايا ورؤساء القبائل المخذولين الطامعين في الإمارة المنافسين للأمير فيها، وقد تفاقم هذا الشرّ واستحكم، والقطر واسع طويل عريض، والحكم التركي هيّأ النفوس للانتقاض الأرعن على كل حكومة. وأعتقد أن الأمير عبد القادر لو اقتصر على قيادة الثورة وساسها سياسة حربية باسم الجهاد في عدو مجمع على عداوته ولم يكوّن حكومة مدنية منظمة لاستقام له بعض الأمر، ولكنه بتكوينه لحكومة لها كل خصائص الحكومات أثار النزعات الكامنة في النفوس المريضة.
حرب السبعين وثورة المقراني:
في سنة 1870 أي بعد احتلال فرنسا للجزائر بأربعين سنة قامت الحرب بينها وبين جيرانها الجرمانيين أو البروس كما كانوا يسمّونهم، وكان المسيطر على جرمانيا داهيتها ومكوّن وحدتها "بسمرك"، فاغتنم الحاج أحمد المقراني أحد الرؤساء بمقاطعة قسنطينة فرصة اشتباك فرنسا مع الألمان في تلك الحرب، وأعلن الثورة عليها في الجزائر، وكان يعتقد هو ومؤازروه على تلك الثورة أن فرنسا لا تقوى على القيام بحربين، وأن انشغالها بحرب في أوربا فرصة لا تتكرّر. فهي أصلح الفرص للثورة والانتقاض على الحكم الفرنسي، فثار وكادت ثورته تعمّ المقاطعة القسنطينية، ولو تكرّرت انتصاراتها الأولى لعمّت الجزائر كلها، وأعادت المقاومة أقوى مما كانت، وقسنطينة أوسع المقاطعات الثلاث وأكثرها سكانًا، وأقواها عصبية قبلية ودينية، وكان إعلان هذه الثورة سنة 1871.
وشاء الله أن تسقط فرنسا أمام الجيوش الجرمانية، وتهزم شرّ هزيمة، وتفرض عليها تلك الضريبة الثقيلة فتعطيها وهي صاغرة، ثم تجمع فلول جيشها وتجهّزها لتحطيم ثورة المقراني، فتمّ لها ذلك.
من يوم فشل ثورة المقراني تحطمت المقاومة الجماعية بالجزائر، وكان لذلك الفشل أثر بليغ في نفوس الأمّة كلها، من الملل واليأس وسوء الظن بالزعماء، وتبارى الطامعون وأصحاب الدخائل السيّئة في الزلفى إلى فرنسا واكتساب رضاها وجرّ المغانم الزائفة إلى ذويهم والظهور على خصومهم، يريدون بذلك كسب المال والجاه وخلق زعامة لأنفسهم ما(5/120)
كانوا لينالوها لو نجحت الثورة وتخفصت الجزائر من فرنسا، ومن ذلك الحين غابت طبقة من أصحاب البيوتات والمجد التليد، وأنشأت فرنسا طبقة أخرى من هؤلاء المتقرّبين إليها، صنعتها بيدها وعلى عينها، فكانوا هم وذرّيتهم نكبة على الجزائر إلى يومنا هذا، ويسميهم الاستعمار الفرنسي (العائلات الكبيرة).
ثورة المقراني هي آخر الثورات الجماعية بالجزائر وقد شهدها جدي ووالدي، وعمره سبع عشرة سنة حاملين للسلاح، واستشهد فيها جماعة من قبيلتنا، وكان المقراني- رحمه الله- يعتمد على قبيلتنا لمكان الجوار والعصبية، وعلى جدي لمكانه في العلم والكلمة النافذة، وكان والدي- رحمه الله- يقص عليّ أخبار الوقائع التي شهدها هو وأبوه، فكنت أفهم إذ ذاك أن الثورة ينقصها التدبير المحكم، وأن في بواعثها عنصرين ضعيفين جدًّا لا يحسن الاعتماد عليهما في الثورات، الأول أن مدبّريها اغتنموا فرصة اشتباك فرنسا مع بروسيا في حرب السبعين فاعتمدوا على هذا وحده من غير أن يقرأوا حسابًا للاستعداد الداخلي العام بقسميه النفسي والمادي، وهذا نوع من الاغترار يقبح بمدبري الثورات، والاعتماد على انهماك العدو في حرب غير موفق دائمًا، لأنه إنما ينجح ما دام الشاغل موجودًا والاشتباك قائمًا، أما على الاحتمالين الآخرين، وهما انتصاره العاجل أو انهزامه السريع، فلا ينفع اعتبارهما في التدبير، لأن العدوّ إذا انتصر على من هو أقوى من الثائرين عليه، فإن نخوة النصر وفراغ الجند يعينانه على قمع الثورة، وإذا انكسر أمام العدو القوي فإنه يأنف أن يجتمع عليه انكساران في آن واحد، فيجمع فلوله ويتصدّى بهم لقمع الثورة، وهذا هو ما وقع من فرنسا في قمع ثورة المقراني، فإن استراحتها من الحرب البروسية ولو كانت مغلوبة، هيّأ لها أن تجمع قوّتها وفلول جيشها المنهزم وتنقلهم إلى الجزائر لتحطيم الثورة القائمة بها.
والحاج أحمد المقراني رجل شجاع مؤمن، ولكنه كرجال عصره متوسط الشخصية تنقصه الحنكة والبصيرة، وفت في عضده شيء آخر وهو تخاذل بعض شركائه في تدبير الثورة، وقيام بعض الوجهاء ذوي النفوذ بثورة لا صلة لها بثورته في رأي ولا تدبير ولا قيادة، فكانت هذه المنافسة مفسدة لنيّات كثير من الناس، على أن بعض القبائل لم تشارك في الثورة تربّصًا وانتظارًا، وبعضها- وهي قليلة- تعاونت مع فرنسا، فهذه العوامل مجتمعة أدّت إلى فشل ثورة المقراني.
ولم تقع بعد ثورة المقراني ثورة ذات بال، وإنما وقعت انتفاضات محلية مرتجلة من بعض الرؤساء وقبائلهم المحدودة العدّ، ولم تكلّف فرنسا في القضاء عليها إلا أسابيع أو أشهرًا.
يصحّ أن نقسم حالة الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي بحسب تأثيره فيهم وتأثرهم به، إلى ثلاث مراحل، تبتدئ المرحلة الأولى منها من سنة 1830، وتنتهي سنة 1871 ومدّتها(5/121)
أربعون سنة، وتبتدئ المرحلة الثانية من سنة 1871 وتنتهي سنة 1914، ومدّتها ثلاث وأربعون سنة، وتبتدئ المرحلة الثالثة من سنة 1914 وتمتد إلى يومنا هذا، فمدّتها إحدى وأربعون سنة. ولكل مرحلة من هذه المراحل خصائص وألوان نفسية من التأثّر والتأثير مسبّبة من المعاملات بين الفريقين، تجعل كل مرحلة تمتاز عن الأُخريين وتظهر الفوارق بينهن ظهورًا واضحًا مع اتصال المراحل بعضها ببعض، وسبب وضوح تلك الفوارق عظم أثر الحادثة التي تفصل بين المرحلة والمرحلة، فالفاصل بين المرحلتين الأولى والثانية حرب السبعين وأثرها في الأمّة الفرنسية كأمّة، وثورة المقراني وأثرها المتعاكس في الأمّتين الجزائرية والفرنسية، والفاصل بين المرحلتين الثانية والثالثة، الحرب العالمية الأولى وآثارها الخاصة والعامة.
ونحن نمرّ بكم على هذه المراحل ونعدّ لكم آثارها بإجمال، حتى تلموا بأصول الأحكام التي تسمعونها على المرحلة الثالثة وهي المرحلة ذات الموضوع الذي طلب منا الحديث عنه.
أما ـ[المرحلة الأولى]ـ:
فهي ثورات متصلة الحلقات في أغلب نواحي القطر، تتخلّلها هدن، كلها على دخن، وقد استغرقت حروب الأمير عبد القادر وحدها نصف تلك المرحلة تقريبًا، فالخصائص البارزة لتلك المرحلة هي الحرب والحديد والنار: فرنسا مصمّمة على تثبيت قدمها في الجزائر تطبيقًا لخطة مرسومة لا رجوع فيها ولا هوادة في الوسائل الموصلة إليها، والجزائريون مصمّمون على الدفاع عن وطنهم وإنقاذه من براثن الغاصب، فإذا شذّ عن ذلك جبان، أو استسلم ضعيف إيمان، فذلك ما لا تخلو منه أمّة ولا زمان، وفي فرنسا نفسها كانت توجد طوائف ناقمة على غزو الجزائر غير راضية به. وإذا كانت هذه المرحلة مرحلة دماء وأشلاء وموت فماذا ننتظر أن تكون الألوان التي تصطبغ بها النفوس في هذا الجو؟ إنه العداوة والبغضاء والحقد والانتقام يتداولها الفريقان، وعلى هذه الصورة مرّت المرحلة كلها، فإذا خفّ القتال في آخرها ورقأت الدماء، فإن العداوة والحقد والتربّص لم تخفّ، بل كانت تزداد شدّة واضطرامًا كلما ازدادت أسبابها، وأسبابها كل يوم تتجدد.
ففي هذه المرحلة كانت الأحوال متشابهة الأواخر بالأوائل، ولا علاقة بين الأهلي والمستعمر إلا العداوة وآثارها، وإن كانت هناك ظواهر هدوء في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة فهي إلى حين، والأحكام في الجهات التي اضطرّت إلى الخضوع عسكرية صارمة لا تزيد شقة العداوة إلا اتساعًا، على أن فرنسا لم تنسَ في تلك المرحلة مكايدها من التضريب بين الرؤساء والإغراء بين القبائل، والاستمالة بالمال والوظائف والوعود، وقد أثّر سحرها بين طوائف ما زالت تطلق على أعقابهم (أولاد أحباب فرنسا).(5/122)
وأما ـ[المرحلة الثانية]ـ:
التي تبتدئ من حرب السبعين وثورة المقراني، فإن الأحوال انتقلت فيها من الضدّ إلى الضدّ في الفريقين.
فأما الجزائريون فإن فشل الثورة أثّر في معنوياتهم أسوأ الآثار، وجاء احتلال فرنسا لتونس في تلك الظروف جرحًا على جرح، وقرحًا على قرح، وساءت ظنونهم بكل شيء، حتى أوشكوا أن يقنطوا.
واستغلّ الدجّالون من المتصوفة والدراويش، الذين اصطنعتهم فرنسا لغاية التخدير، هذه الحالة النفسية في الشعب، فتعاهدوه بمنوّمات ينسبونها إلى الدين وما هي من الدين، وفحوى تلك المنومات أن الرضا بالاستعمار إيمان بالقدر. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}.
وأما الفرنسيون المستعمرون فقد شعروا لأوائل هذه المرحلة أن أقدامهم ثبتت في أرض الجزائر، وأن المقاومة لم يبقَ لها شأن يخاف منه، وأنه آن للاستعمار أن يبسط ظلّه على الأرض، وسلطانه على الأبدان، ولكنهم أضاعوا الرشد في أول هذه المرحلة، وركبهم الطبع اللاتيني المركّب من الغرور والأنانية، فعموا عن تلك الحقيقة المجرّدة وهي أن القلوب لا تملك بالسيف، وإنما تملك بالإحسان، وخطوا لسياستهم في الجزائر السنن التي هم سائرون عليها إلى الآن، ومبناها على أن الأوربي سيّد، والأهلي عبد، ويتفرّع على هذا أنه لا حق للأهلي في الوظائف كيفما كانت مؤهلاته، ولا نصيب له من خيرات بلاده كيفما كان استعداده، وفروع أخرى كلها خبيث نكد.
بدأ الاستعمار على أثر فشل ثورة المقراني بانتزاع الأرض الخصبة في مقاطعة قسنطينة، واتخذ من الثورة ذريعة لذلك، وأقرّ فيها آلاف الأسر من سكان الالزاس واللورين، المقاطعتين اللتين انتزعتهما ألمانيا المنصورة من فرنسا المقهورة، وجاءوا بهم حفاة عراة جياعًا، وأحفادهم الآن هم ملوك الأرض بالجزائر وهم المسيرون لسياستها، لا على رغمنا بل على رغم فرنسا أيضًا، وطالما هدّدوها بالانفصال، وقد أضافت إلى هؤلاء بعد ذلك أخلاطًا من الطليان والإسبان والكورسيكيين، وسلطتهم على الأرض ومن فيها، وأطلقت أيديهم في انتزاعها من الأهلي بكل وسيلة، فهذا سلاح عزّزته بسلاح ثان، وهو قانون الانديجينا ( code de l'indigénat) الخاص بالأهالي وهو يبيح لأصغر حاكم فرنسي أن يسجن الأهلي خمسة أيام ويغرمه خمسة عشر فرنكًا، وله أن يضاعفها عشرات المرّات من غير سؤال ولا جواب ولا استئذان ممن هو أعلى منه، ولا تمكين من دفاع ولو بكلمة، وقد تكون الكلمة الواحدة من فم السجين موجبة لسجنه خمسة أيام، أو عشرة أيام أو ما شاء(5/123)
حضرة الحاكم، وكانت كلمة واحدة من معمّر أوروبي يلقيها إلى الحاكم بأن فلانًا الأهلي امتنع من أن يبيع لي أرضه كافية في بقائه في السجن أشهرًا مع مضاعفة التغريم حتى يبيع أرضه بالقيمة التي يرضاها المعمّر.
لا ريب أن هذا القانون الجائر الذي تضيق العبارات عن وصفه هو أمضى سلاح وأفتك سهم قضى به الاستعمار الفرنسي على البقية الباقية من نخوة الأمّة ورجولتها، وهذه العقوبة التي ذكرناها تترقّى مع رتبة الحاكم، فإذا كانت رتبته أعلى من المتصرف ففي قبضته من هذا القانون أن يسجن الأهلي البريء الماشي في الشارع أو المنعزل في بيته شهرًا كاملًا وله أن يضاعفه قبل نهايته بساعة واحدة، وله أن يغرم بما يناسب عقوبة السجن، حتى ينتهي الأمر إلى الوالي العام الذي هو صاحب أعلى منصب في الجزائر، فمن سلطته التي يخوّلها له هذا القانون أن ينفي أعلى جزائري قدرًا سنة كاملة بلفظة واحدة من غير مدافعة ولا محاكمة.
وعزّز السلاحين بسلاح ثالث وهو قانون استثنائي آخر سمّاه "ريبريسّيف" ( Répressif) (3) وهو عبارة عن محاكم زجرية خاصة بالأهالي، وكَّلَ فيها الأمر إلى صغار القضاة الأوربيين للحكم على المسلمين في جنايات تافهة، بأقسى العقوبات التي تستمد قسوتها من الحقد لا من القانون، ولا تقبل هذه الأحكام النقض ولا الاستئناف.
ثم عزّز هذه الأسلحة برابع، وهو "الضمان المشترك" وهو من القوانين الوحشية في عصور الظلمات، أحيته فرنسا المتمدنة في عصور المدنية، لتتخذ منه دليلًا على مدنيتها، ومعناه ما قاله زياد ابن أبيه (أخذ البريء بذنب المجرم)، ويقلد عليه بما يتفق مع روح الحضارة الفرنسية، بأنه (أخذ الأبرياء بلا ذنب اقترفوه).
وأصل هذا القانون أن الجزائر تكثر فيها الغابات الطبيعية وكلها محتكرة للحكومة، وهي من الموارد الدارّة على خزينتها العامة، ومعظم هذه الغابات شجرة الفلين وهي شجرة سريعة الاحتراق لمجرّد الاحتكاك، وكثيرًا ما تشتعل بهذا السبب (السماوي) مساحات واسعة من الغابات، فكان من عدالة الشرع الاستعماري أنه كلما وقع حريق من هذا الشكل حكم على جميع السكان الأهليين في وسط الغابة وفي أطرافها وقريبًا منها، على مسافة حدّدها، بغرامة تساوي ما يدفعونه جميعًا من الضرائب الاعتيادية لسنة واحدة.
والحكمة العليا للاستعمار من القانونين الأولين هي إذلال المسلم العربي الجزائري، والحكمة من القانون الثالث هي إفقاره. والإذلال والإفقار والتجهيل هي الأقانيم الثلاثة في عقيدة الاستعمار التي يتعبّد بها في معاملة المسلمين الجزائريين.
__________
3) Répressif : قَمْعي .. زَجْري.(5/124)
فاحكموا- رعاكم الله- هل يبقى لأمّة تساس بمثل هذه القوانين شيء من الكرامة الإنسانية، وهل يبقى لحكومة تسوس من أوقعهم القدر في قبضتها بمثل هذه القوانين، شيء من الاعتبار الإنساني؟ ولو كان لأحفاد أولئك الاستعماريين الذين شرعوا تلك القوانين ونفّذوها شيء من عرفان القيمة الشخصية لذابوا خجلًا من أعمال آبائهم وأجدادهم، ولتبرّأوا من الانتساب إليهم، وليعذرونا حين نقول فيهم هذا الكلام، فإن أجدادهم وآباءهم هم الذين سنّوا لنا قانون (الضمان المشترك) فإذا حملناهم ضمان ما اجترح آباؤهم فلنا في آبائهم أسوة سيّئة، والبادي أظلم، على أن أعمال هؤلاء الأحفاد أفظع وأشنع وأسوأ أثرًا، ولكنها بأسماء أخرى، وفي صور أخرى.
ثم اعجبوا- أسعدكم الله- لإخوانكم العرب المسلمين الجزائريين كيف احتفظوا بمميزاتهم من جنس ولغة ودين، مع هذا البلاء المبين، لعمركم ... إنهم ما احتفظوا بذلك إلا لخصلتين لا تنعدم الشعوب مع وجودهما: أصالة العرق، ومتانة العقيدة، وأخوكم الجزائري يضيع كل شيء حين يأخذ البلاء منه مأخذه، ولكنه لا يضيع هاتين ولو جهد البلاء جهده، وأصالة العرق هي التي حمته من الذوبان، ومتانة العقيدة هي التي حفظت عليه صلته بالله فلم تنقطع، وصلته بالشرق فلم يتغرّب. ولو أن شعبًا غير الشعب الجزائري أصيب بمثل ما أصيب به من الاستعمار الفرنسي لَلَحِق بطسم وجديس.
ـ[المرحلة الثالثة]ـ:
كل ما أصاب الأمّة الجزائرية من وهن وفتور واستكانة للعدوّ المستعمر فقد أصابه في المرحلة الثانية، وبسبب السياسة الاستعمارية وقوانينها التي ذكرناها، وجاءت حرب 14 - 18 فنقلت الجزائري من طور إلى طور.
فقد اندلعت الحرب العالمية الأولى، والجزائري على ما أجملنا وصفه، ولكنها انتهت والجزائري على حالة غير التي كان عليها، فكانت تلك الحرب بالنسبة للحالة الفكرية النفسية رحمة عليه، فكأنها مدرسة علّمت وربّت، أو حمّام رَحَضَ وطهَّر، وخرج منها بشعور جديد، وتطوّر غريب، ووجدان صحيح، وعرفان بقيمة نفسه، وما هذا بالشيء القليل على الجزائري الذي كان بالأمس "أنديجانًا" فأصبح بفضل تلك الحرب إنسانًا، ولا يفقه قيمة ما نقول إلا من عرف الجزائري في أمسه، ثم عرفه في يومه، وقارن بين حالين في زمنين.
وأسباب هذا التطور ترجع إلى الأشياء الآتية، ومنها ما هو متداخل ولكننا نعددها للتوضيح.(5/125)
ـ[الأول]ـ: أثر الحرب الذاتي في النفوس، فإن الحرب تترك في النفوس آثارًا متحدة لا فرق فيها بين الجندي الذي خاضها وصارع الموت في ميادينها، وبين من تركه وراءه من بنين وأهل وآباء وأقارب وصحابة، وبين المدني الذي مسّته في حريته أو ماله، وبين الذي فاءت عليه بالخير الكثير، والمال الوفير. كل هؤلاء يشعرون بأن الحرب غير السلم،
وأن اسمها مقرون بالموت والدمار والخسارة.
ـ[الثاني]ـ: إن الجزائري- بسبب ما أبقته فيه أحداث المرحلة الثانية- كان يستعذب الذل خوفًا من الموت، ولا يفقه أنه من خوف الموت في موت، ذلك لبعد عهده بالثورات والمَقاتل، فأصبح يفرّق بين الموت الذي اسمه الموت وبين الموت الذي اسمه الذل، ويؤثر أولهما على آخرهما، وكل هذا من بركة الحرب.
ـ[الثالث]ـ: من بركات الحرب على الجزائري أنه أصبح يحتقر الفرنسي بعد ما رآه جبانًا في الميدان، وذليلًا أمام عدوّه، ومتملّقًا للأهلي في سبيل المصالح التافهة بعد ما كان يحتقره بالأمس، وبذلك ارتفعت هيبته من نفس الجزائري.
ـ[الرابع]ـ: ما تحققه الجندي والمدني الجزائريان على السواء من انكسار فرنسا، لولا تدارك أمريكا لها في آخر الأمر.
ـ[الخامس]ـ: شعور الجندي الجزائري بالعزة من تنازل الفرنسي أمامه عن كبريائه بعض الشيء خوفًا على نفسه وعلى دولته، ومن سماعه لعبارات الإطراء بالشجاعة من قوّاده الفرنسيين، ومن الحكام المدنيين، ومكافأته بالنياشين العسكرية.
ـ[السادس]ـ: اللين الذي ظهر من الحكومة الفرنسية في سياستها المحلية مع الجزائريين، وكثير من حسن المعاملة لهم نظرًا لظروف الحرب، وكانت تصطنع ذلك كيدًا، ولكن الله فضحها بكيدها، فشعر الجزائري بوجوده من جديد، وانتعشت معنوياته وحييت آماله وتجرّأ على الكلام الذي كان محرمًا عليه.
ـ[السابع]ـ: تصريحات الرئيس الأمريكي (ولسن) على أثر الحرب، ومنها ذلك الفصل المطرب الذي اهتزّت له الأمم الضعيفة، وهو حق الأمم في تقرير مصيرها، وهذا الفصل وإن لم يتحقق منه شيء، ترك في نفوس الجزائريين أثره الحسن، وفتح عيونهم، وأفاض عليهم شيئًا من الجرأة، وبسط لهم الآمال في الحرية.
ـ[الثامن]ـ: إن فرنسا ألغت تلك الأحكام الاستثناثية الزاجرة في أثناء الحرب إلغاءً سكوتيًا، ثم ألغتها على أثر الحرب قانونيًا وعمليًا، ولم تبق منها إلا بقايا في يد الوالي العام، مصحوبة بتنفيس عظيم، وهو أن الحكم لا يصدره إلا مجلس الولاية، وأن يعطى(5/126)
للمتهم حق الدفاع، وقد أُلغيت تلك البقايا بعد ذلك، وقارن إلغاء تلك القوانين الاستثنائية بعض تعديلات في قوانين الانتخاب للمجالس النيابية، فأشربت شيئًا قليلًا
من الإنصاف للجزائري، خوّله أن يمارس بعض حقّه مُنتخِبًا ومُنتخَبًا.
بدأت آثار هذا التطور الفكري تظهر بجلاء على أثر انتهاء الحرب ورجوع المجنّدين الجزائريين إلى ديارهم، وكثير منهم يحمل الأوسمة العسكرية وشهادات البطولة ويتقاضى المرتبات الوافرة طول عمره، وأهم من هذا كله أنه يحمل فكرة جديدة عن نفسه وعن الفرنسي زميله في الحرب وجاره في السلم، وسيّده الموهوم بالأمس، وكأن لسان حال الجندي الجزائري يقول لزميله الفرنسي:
قد عرفناكم ... فلا سيادة بعد اليوم ...
وكان من آثار هذه الروح الجديدة أن ارتفعت أصوات فردية تطالب بحق الجزائري في الحياة السياسية، وتسويته بالأوربيين في الحقوق، بعد أن سوّت بينهما الحرب في الواجبات.
ولو أن المجنّدين الجزائريين كانوا على حظ من الثقافة العامة، لكانوا قوة في هذه المطالبة، وعضدًا للمطالبين بالحقوق السياسية وهم أصحاب الحجة الناهضة لاستحقاق هذا الحق، ولكن من حسن حظ فرنسا بل من صنع يدها أن معظمهم كانوا أميين أدركوا ما أدركوه من فهم للحقائق وشعور بالوجود واستحقاق للحياة، بالفطرة: والأمية جند من جنود الله يصرفه الأقوياء والعالمون دائمًا فيما ينفعهم ولمثل هذه العواقب كانت فرنسا تمكن للأمية في الجزائر وتسدّ منافذ العلم والتثقيف في وجه الجزائري.
ارتفعت أصوات المطالبة بالحقوق السياسية، وتردّدت أصداؤها حتى في الأوساط العامة، وأصبح كل صاحب صوت سياسي يجد له أنصارًا يلتفون حوله ويتعصبون له ويتفننون في الدعاية لمذهبه السياسي، ولانتخابه نائبًا إذا رشّح نفسه لذلك، وكانت أنواع المجالس النيابية المفتوحة في وجه الجزائري إذ ذاك ثلاثة: المجالس البلدية في الدوائر التي يسمّيها الفرنسيون: الدوائر التامة التهذيب، والمجالس العَمَالِية في المقاطعات الثلاث (4)، والمجلس المالي بالعاصمة، وهو الذي يتحكم إذ ذاك في مالية الجزائر لأنها مستقلة عن مالية فرنسا، وهذا المجلس هو أعلى المجالس وأقواها نفوذًا وللعضو فيه قيمته وسمعته، غير أن النسبة العددية فيه مجحفة، فالثلثان من أعضائه أوربيون وإن كانوا لا يمثّلون إلا عشر السكان، وثلث الأعضاء من الجزائريين، مع أنهم يمثّلون تسعة أعشار السكان. وهذه النقطة هي إحدى مظاهر الأنانية الفرنسية.
__________
4) المقاطعات الثلاث: هي مقاطعة وهران، والجزائر، وقسنطينة.(5/127)
اشتهر من الأفراد الذين رفعوا أصواتهم بالمطالبة بحق الجزائري في السنوات الأولى لما بعد الحرب، الأمير خالد بن الهاشمي بن الأمير عبد القادر الكبير، وهو رجل شجاع جريء رجع أبوه الهاشمي من دمشق إلى الجزائر في حياة أبيه مغاضبًا له، واستوطن قرية صحراوية من الجنوب الشرقي لمقاطعة الجزائر تسمّى (بو سعادة) وسهّلت فرنسا لولده خالد الدخول في أشهر كلية حربية بفرنسا، وهي كلية (سانسير)، فتخرج منها برتبة ضابط (قبطان) (5) وانخرط في كتيبة الخيّالة الجزائرية بتلك الرتبة، واشتهرت عنه صفات عسكرية ممتازة. فلما أحيل على المعاش في أواخر الحرب الأولى كان من أول من رفع صوته مطالبًا- في جرأة وإلحاح- بحقوق الجزائريين، وكان الظرف كما وصفنا مناسبًا، وأعانه على ذلك سمعته النَّسَبية وسمعته العسكرية، واقتحم المعارك الانتخابية للنيابة لأول ظهورها في الجزائر ففاز في جميعها، لما رأى المنتخبون فيه من الإقدام على فتح باب كان محرّمًا عليهم دخوله، وكانت فيه صفات أخرى يزنها العامة بالوزن الثقيل، وهي التي أحلته من نفوسهم في موضع الإكبار، منها أنه محافظ على الدين قولًا وعملًا، ومنها أنه شعبي في مظهره ومخبره، ومنها أنه خطيب مبين قوي الحجة، قوي التأثير، فخم المنطق باللغتين العربية العامية والفرنسية، وقد انضم إليه أفراد من كاملي الثقافة الفرنسية، ثم انقطعوا عنه لاستبداد كان فيه واعتداد بالرأي، وأنانية فظّة، وتهم أخرى يصح بعضها ولا يصح أكثرها، ومنها ما صدقتها خواتمه، وناوأه آخرون، فكان أولئك وهؤلاء مزيدًا في قوّته والتعصّب له، وطار ذكره وكثر الحديث عليه، فكان ذلك كله موثّرًا في طبقات الشعب تأثيره الحسن.
أحدث خالد حركة قوية كانت هي الحركة الأولى أو النواة لما تطورت إليه الحركة السياسية الوطنية في الجزائر، إلى درجة أن ضاقت به فرنسا ذرعًا، وعرضت عليه أثمانًا مما تشتري به الأحرار فأباها، فألزمته بالخروج من الجزائر إلى حيث يشاء، فارتحل بأهله إلى الاسكندرية، ثم انتقل منها إلى دمشق حيث تقطن البقية من أعمامه وبنو أعمامه، وكان فقيرًا لا يملك إلا مرتّبه العسكري من الخزينة الفرنسية، لأن أباه لم يرث شيئًا من تركة الأمير عبد القادر الواسعة، ولعلّ بعض أقاربه كانوا يعينونه على الحياة، ولكن مذهبه القديم في عداوة فرنسا قد تغيّر في أخريات أيامه، وكثرت فيه أقاويل سهل مداخلها إلى النفوس أن فرنسا كانت محتلة للشام إذ ذاك، فمن القريب أن ارتداد خالد عن وطنيته غير صحيح، أما في الجزائر فقد ترعرعت الوطنية بعده وقطعت المطالبة السياسية مراحل فغطت على اسمه وسمعته ومذهبه، وأي ذكر يبقى لمثل خالد مع ضحايا الوطنية وشهدائها؟
الأمير خالد هو أول سياسي في الجزائر اصطنع جريدة لخدمة سياسته، وقد سبقت جريدته جريدتان فتحتا الباب لنقد الإدارة ورجالها ولم تخدما سياسة مرسومة، أما خالد فقد أنشأ جريدة
__________
5) قبطان: كلمة فرنسية، يقابلها رتبة نقيب.(5/128)
"الإقدام" باللسانين العربي والفرنسي لتكون سلاحه في السياسة الوطنية، وكانت هي الجريدة الجزائرية السياسية في السنين الأولى لبدء الحركة، وكانت لها مواقف في التشهير بالإدارة الحكومية الاستعمارية، وآثار في تنبيه الأذهان، والتخطيط الأول لمنهاج التربية السياسية، وكانت خطب خالد وجريدة خالد هما الصوت السياسي المردّد المحكي في ذلك الحين.
ولكن معاني تلك الخطب والمقالات أصبحت اليوم عبث لاعب بعد أن انتشر الوعي السياسي واستحكمت الآراء الوطنية، وصهرتها التضحيات وأريقت على جوانبها الدماء، وبرز فرسان الخطابة والكتابة في ميدانها. وعلى هذا كله، فهل يحسن بالجزائر أن تنسى فضل خالد؟ إن نسيته فإن التاريخ لا ينسى فضل البادئ، ولا يطمس المبادئ بالخواتم.
وظهر في أيام خالد رجلان كان لهما صوت مؤثّر في التكوين السياسي بالجزائر، كل في الإقليم الذي نشأ فيه، ولكن لم تكن لهما مشايعة لخالد تقوّيه أو تظهره بمظهر زعيم سياسي لمبدإ أو لطائفة، أو تظهرهم جميعًا كبداية لحزب ذي نهج معروف.
أحد الرجلين هو الشيخ الحاج محمد بن رحّال، من ذوي البيوتات العريقة في بلدة "ندرومة" بالشمال الغربي لمقاطعة وهران، وندرومة هي القرية التي خرج من أحوازها عبد المؤمن بن علي الكومي خليفة المهدي بن تومرت ومؤسّس دولة المُوحّدِين العظيمة وأحد الذين نظموا الشمال الأفريقي ومعه الأندلس، في مملكة واحدة.
والشيخ الحاج محمد بن رحّال كان زميلًا للأمير خالد في النيابة بالمجلس المالي الجزائري، وكان أقرب الناس إلى تأييده، ولكنه كان رجلًا بعيد النظر واقعيًا ينظر إلى الأشياء بعين الحكيم لا بعين السياسي، وينظر إلى الجزائريين بعين المسلم فيرى أنهم بلاء على أنفسهم قبل بلاء الاستعمار، وأن الواجب أن يصلحوا أنفسهم بجمع الكلمة والمحافظة على الدين، إلى غير ذلك من أنواع الإصلاح الداخلي الممكن، وكان- رحمه الله- محترمًا من جميع العناصر، يتمتعّ بجلال البيت، وجلال السن، وجلال الدين، وجلال العلم، وكان وقور الطلعة، نيّر الشيبة، محافظًا على تقاليد البيوتات في اللباس العربي والعمامة وجميع طرز الحياة، وكان خطيبًا مفوّهًا باللغة الفرنسية، جهيرًا بكلمة الحق، مسدّد الرأي، ولم تزل خطبه الفرنسية محفوظة كنماذج عالية من الأدب وأنماط غالية في الرأي.
ولقد سمعته في حدود سنة 1921 ميلادية يخطب في المجلس المالي الجزائري بالفرنسية، وأنا لا أفقه كلمة منها، فرأيت السامعين خاشعين منصتين، من نوّاب مسلمين وأوربيين وصحافيين ونظارة، كأنما على رؤوسهم الطير، مع أن حديثه كان شرحًا ودفاعًا في نقطة مالية، في ضرائب حظ الأهالي منها وافر، ومصالح حظهم فيها مغبون، وقال لي أحد الحاضرين من أبناء ذلك اللسان وممن يحسن العربية: ان هذا الرجل يسحر ببيانه ويؤثّر به(5/129)
في خصومه، وكانت تحفه في موقفه ذلك هالة من الجلال، يبدو كأنه قطعة من الثلج: وجه جميل ولحية بيضاء وألبسة صوفية وطنية بيضاء.
ويجتمع ابن رحّال والأمير خالد في عدة خلال، منها علو الهمّة الموروث عن البيت، والصدق الموروث من الدين، وإن كان وزن ابن رحّال في هذا أرجح، ومنها الشعبية الصميمة البارزة في كل مخبر منهما وكل مظهر، ومنها البيان وقوّة الحجة والاقتدار على الإقناع وامتلاك ناصية اللسان الفرنسي.
ويفترق الرجلان في خصال: فابن رحّال هيّن لين هشّ يجمع الصفات التي وردت في المؤمن، ما لم يصل الأمر إلى الدين، فإذا مسّ الدين استحال ذلك الهدوء إلى غضبة لا يقوم لها شيء؛ والأمير يمتاز بالصلابة، ولا يخلو من الاعتداد بنفسه وبنسبه إلى الأمير عبد القادر، وقد يبدو من بعض بداوته أن نفسه تنطوي على مطمع بعيد وهو أن يصبح ملكًا على الجزائر، وهذه إحدى الثغر التي نفذ منها خصومه إلى الطعن في صدق وطنيته. ولعلّه لو طالت حياته السياسية، ولم تفسدها عليه التطورات الوطنية الجارفة، وانتهت به إلى المساومة والمفاوضة، لرضي بلقب ملك ولو تحت حماية فرنسا، فإن أصحاب النزعات الملكية، المفتونين بالألقاب الموروثة، أقرب الناس إلى الزلل. ويمتاز الشيخ ابن رحّال بالحكمة والأناة وبُعد النظر وحسن التقدير للأشياء والتزام الصدق مع العدو والصديق، وعدم الاغرار بالبيت والجاه والمنصب.
وثاني الرجلين المشاركين للأمير خالد في بدء الحركة السياسية هو الدكتور موسى، وهو دكتور في الطب بمدينة قسنطينة عاصمة المقاطعة الكبرى المنسوبة إليها، ولم تكن للدكتور موسى شهرة الأمير خالد، ولا سمعة ابن رحّال، ولا بيت كبيتهما، ولكنه كان جريئًا مقدامًا، فجرّأ الألسنة على النطق، وساهم في نزع هيبة الاستعمار ورهبته من النفوس، أما الشعبية والتديّن والبيت والنسب وهي الخلال التي اشترك فيها الرجلان فإن الدكتور خالٍ منها، وإنما اشتهر بشجاعته ورفع صوته مطالبًا بحقوق الجزائر السياسية، فتعلّق به بعض شباب ذلك العهد وأصبحوا تلامذة له وأنصارًا لمذهبه وأتباعًا. ولتعلّق الشباب به، وهو لِدَتُهُم- أو قريب منهم في السن- كوّن شبه مدرسة سياسية بقيت بعد موته إلى أن اتصلت بمبدإ الحركة السياسية المنظّمة وكانت إحدى قواعدها.
أما طريقة ابن رحّال والأمير خالد فلم تتكوّن لها مدرسة للتخريج السياسي أو الوطني، فماتت طريقة ابن رحّال بموته، وخمدت حركة الأمير خالد بإخراجه من الجزائر، ولم يرث أحد عنهما مشربهما في السياسة، وإن بقي اسمهما عامرًا لحقبة من أوائل التاريخ السياسي الحديث في الجزائر.
وبالجملة فلا يستطيع المؤرّخ المنصف أن يغفل هذه الأسماء الثلاثة اللامعة، لأن إغفالها طي لعدة صحائف من هذا التاريخ، وإنما يجب على المؤرّخ أن يعطي كل واحد(5/130)
منهم حقّه بالقسط، فإن لا يكونوا سواء في أشياء، فهم سواء في فتح الباب وإحياء الشعور، وتنبيه النزعة الوطنية، رحمهم الله جميعًا.
كان هذا كله في أوائل العقد الثالث من هذا القرن، وكان هذا البذر مسايرًا في نموّه لنمو الشعور العام في الشعب، وقد يحار المفكّر لأول وهلة في نقطة تبدو غامضة وهي: أيّهما كان المؤثر في الآخر والمغذّي له؟ هل شعور الشعب هو الذي كان يحرّك السياسيين، أم أن أصوات السياسيين هي التي كانت تحرّك الشعب وتهزّه فتثير إحساسه وتنبّه شعوره؟ والحق أن الشعوب التي كمل نضجها أو قارب، يتفاعل فيها إحساس الساسة بإحساسها ويتجاوبان، وقد يطغى أحدهما على الآخر حينما يندفع الشعب إلى مهواة على غير هدى فيردّه الساسة الصالحون إلى الجادة، أو ينزلق الساسة في عمايتهم وضلالهم فتردّهم صيحات الشعب إلى الصواب. وإنما نقول هذا في الساسة الناضجين الذين لا تختلف بهم السبل ولا تعمى عليهم وجوه الرأي والمصلحة إلا قليلًا وعن اجتهاد، وفي الشعوب الرشيدة أو المراهقة للرشد، أما شعبنا وأمثاله من الشعوب البدائية التي هي في عقابيل من أمراض اجتماعية، ولم يتمّ صحوها من سكر الجهل وسكر الغفلة وسكر التقليد، فإن هذا التفاعل والتجاوب بينها وبين قادتها السياسيين يكون مفقودًا في هذه الفترة، وليست هذه الفترة فصل نباته، والغالب على الشعوب البدائية في السياسة أن تكون على بقية من وثنية، أصنامها الشخصيات، فيكون إحساسها تابعًا لإحساسهم وحركاتهم منوطة بتحريكهم ولو إلى الضياع والشر، وهذه هي الحالة السائدة في شرقنا، وقد تفطن الغربيون لهذه النقيصة فينا، بل إلى هذه الثغرة الواسعة في نفوسنا، فأصبحوا ينصبون لنا التماثيل من الرجال ويحكموننا بها ويصرفون حياتنا من ورائها لمصلحتهم.
لذلك يكون من الطبيعي أن الشعب مع شعوره العام بوجوده وبتبدّل الحالة ولزوم تغيير الأوضاع، بدأ يتحرّك بنفاذ ما يصل إليه من إجراءات أولئك الأفراد الذين ذكرنا أسماءهم وبمن أتى بعدهم، لأن هذه الفترة التي نتحدّث عليها لم تنته بانتهاء حياة أولئك الأشخاص، وإنما تطوّرت واستحكمت وانتقلت من نطاق الشخصيات إلى نطاق المبادئ، ومن حركة سياسية كلامية إلى حركة وطنية عملية تعتمد على الضحايا والدماء، ومن أسماء الأشخاص إلى أسماء الأحزاب المنظّمة، وكان تطوّرها سريعًا مدهشًا للاستعمار نفسه.
وظهر في الميدان السياسي لأوائل هذه الفترة رجل غريب الأطوار وهو الدكتور صالح ابن جلّول، من البيوتات المتوسطة الشهرة بمدينة قسنطينة وله عرق من جهة الأمومة يتصل بأحد بايات قسنطينة الأتراك، لعلّه هو الذي نقل بيته من الخمول إلى شيء من النباهة، فظهر وارثًا لحركة الدكتور موسى ومتوسّعًا فيها بما يقتضيه الحال وتمليه التأثّرات المتزايدة، وابتدأ جريئًا مدوي الصوت، واقتحم معارك الانتخابات النيابية ففاز فيها بقوة الشعب، واكتسح هو وأصحابه بقايا النوّاب الذين كانت تعيّنهم فرنسا تعيينًا، وكان اقتحامه مع أصحابه لمجالس(5/131)
النيابات فتحًا جديدًا في النيابة الأهلية أفشى فيها الحركة والحياة، وأشعرها بشيء من الاعتبار والاعتزاز، وبدأت الموضوعات الأهلية الحسّاسة تطرق على منابر النيابة العَمَالية وتثار ويدافع عنها فتحرج فيها الحكومة أحيانًا، بعد أن كانت تلك الموضوعات كقبر المسلم لا ينبش ولا يمشى عليه ... وبالجملة فقد كانت نيابة الدكتور ابن جلّول إنشاء للمعارضة البرلمانية في مجالس النيابات الجزائرية، ويصحّ للمؤرّخ المنصف أن يقول: ان ابن جلول قاد السياسة الجزائرية في السنوات الأولى بقوة وجرأة ارتاعت لها فرنسا، وخرج بها من الميدان الفردي، فانضمّ إليه- لأول مرة- في تاريخ الاستعمار بالجزائر، جماعة من النوّاب الأحرار الذين ظهروا في فجر اليقظة، وغالبهم دكاترة وحقوقيون فتكوّنت منهم هيئة تشبه الحزب السياسي تحت اسم "اتحاد النوّاب"، وكان هذا الاتحاد خاصًّا بعمالة قسنطينة، ولكنه كان في طريقه إلى التعميم في الجزائر ووهران، لأن اسم ابن جلول وزعامته السياسية تجاوزتا مقاطعة قسنطينة إلى المقاطعتين الأخريين، ولكن الرجل تملّكه الغرور وتذبذبت سياسته بين الفردية والأنانية، وبين الوطنية التي تذوب فيها الفردية والأنانية، وتكشف عن خلال كلها غميزة في وطنية السياسي، وظهر بعده سياسيون أصدق منه وطنية، وأثبت فيها لونًا، وإن كانوا أقل منه ثقافة وعلمًا، فضاق بهم ذرعًا، ولم تتّسع أنانيته للتعاون معهم كما هو الواجب على السياسي المخلص، وكان أقوى الأسباب في سقوطه اصطدامه بجمعية العلماء وهي التي كوّنته وأذاعت اسمه وعبّدت له الطريق إلى النيابات، فأرادت الجمعية أن تستصلحه فلم يصلح، فنبذت إليه على سواء، ورأت أن سكوتها عليه غش للأمة به فأشعرتها بذلك فانفضّت الأمة من حوله، وهو الآن عضو في البرلمان الفرنسي يقارض فرنسا تأييدًا بتأييد، تشدّ أزره في الانتخابات، ويشدّ أزرها بأن صوته دائمًا معها، فهي حين تشتريه إنما تشتري صوتًا لا شخصًا، ونعوذ بالله من مصارع السوء.
وفي هذا الرجل خصلة لا نعرفها إلا نحن الذين لابسناه مؤيدين وناصحين ومستصلحين ومنابذين، وهي أنه شجاع اللسان جبان القلب، مذبذب الرأي بين ذلك، وانه قبل ذلك رجل سياسة لا وطنية، ونصفه بالسياسي تجاوزًا، لأن سياسته من النوع النيابي الذي يعتمد على الخطابة والمعارضة وإثارة المناقشات العقيمة.
قلنا انه في أوائل عهد الدكتور ابن جلّول ارتفع شأن النيابة الأهلية، ونقول إن ميدانها اتّسع قليلًا، وكأن الحكومة الاستعمارية التي تدرس نفسية الشعوب قبل كل شيء لتبني معاملتها لها على أساس نفسي، كأنها درست النفسية الجزائرية العامة وعرفت مواطن الضعف ومداخل الشر إليها، فرأت أن الانتخابات النيابية هي الفتنة الكبرى للزعماء وأتباعهم معًا، ومدعاة لتنافسهم، ومجلبة للحزازات بينهم، فنصبتها صنمًا يصطرعون حوله، ويتعصّب كل فريق منهم لصاحبه، فتشتدّ المصارعة وتضيع الأموال والعلائق، وتنشأ العداوة بين الأُسر(5/132)
والقبائل والمجموعات الحزبية تبقى على الدهر، وفي هذا من الفوائد للاستعمار إلهاء الأمة بغير المفيد عن المفيد، وغرس لأسباب العداوة بينها حتى يشتغل بعض أبنائها ببعض ويستريح الاستعمار، وما رأينا سببًا من أسباب العداوة يدوم وتبقى آثاره- حتى القتل- مثل ما تبقى آثار العداوات الناشئة عن الانتخابات النيابية بالجزائر.
تفطن الاستعمار المتدسّس في خبايا النفوس إلى هذه النقطة وعلم خيرها له، فاتّخذ منها أداة جديدة للتفريق والتمزيق، حينما علم أن الذهن الجزائري تطوّر، وأن النزعة الوطنية بدأت في الظهور، وأنه سيعقبها تيّار وطني جارف، وأن الأمر سيؤول إلى اتحاد سياسي يقتضيه اتحاد المقوّمات من جنس ولغة ودين، فرمى الجزائر بهذه النكبة المفرقة المشتتة للشمل، وهو على بيّنة من أمرها وعلى يقين من آثارها السيّئة في الأمم الضعيفة، وزاد في ضرر هذه النكبة أنه لا يشترط في المرشّح الأهلي للنيابة أن يكون عارفًا للقراءة والكتابة، وأن الحكومة الاستعمارية تتدخّل بالترغيب والترهيب، لفوز أتباعها وأنصارها، وقد تتدخل أحيانًا بقوة البوليس والسلاح، وقد أدّى هذا التدخّل مرّات إلى سفك الدماء، وقد تتعمّد كثيرًا تزوير الانتخابات، بل لم تخلُ من التزوير ولا مرة، فإذا اتفق فوز واحد أو اثنين من خصومها البارزين فذلك لتدفع عن نفسها العين، وتذرّ الرماد في الأعين، ولتتخذ من ذلك دليلًا على حرية الانتخابات، وأن عدد النوّاب الأهليين لا يزيد عن الثلث في جميع المجالس، في جنب ثلثين من الأوربيين الأحرار القارئين الكاتبين، وأكثرهم من المثقفين ثقافة عالية، العارفين بوجوه المصالح، وقد عدّل في السنوات الأخيرة قانون التحديد بالثلث، فارتفع إلى الخمسين في جنب ثلاثة أخماس من الأوربيين، ثم جاء الدستور الجزائري الأعرج الذي سنتحدّث عنه فساوى في العدد بين أعضاء المجلس الجزائري من العنصرين، لا إنصافًا للعنصر الأهلي، ولكن اعتمادًا على حكومة الجزائر (6) التي برعت في تزوير الانتخابات الأهلية حتى أصبحت تضرب بها الأمثال في ذلك، خصوصًا وأسلحة الترغيب والترهيب كلها في يدها، والعارف بدخائل الحكومة الجزائرية يعلم أنه لا معنى لتنصيص الدستور الجزائري على العدد، ما دام العدد لا مفهوم له في أصول تلك الحكومة، حتى لو أن القانون أعطى للجزائريين تسعة أعشار الكراسي النيابية وأعطى للأوربيين العشر لكان التسعون كلهم من أنصار الحكومة، وقد يكونون أجدى عليها بفضل تلك البراعة في التزوير، وبفضل حسن اختيارها للأنصار، ومع إخلاص من تختارهم لها فإنها تبالغ في الاستيثاق منهم فتشترط عليهم قبل الترشيح أن يمضوا نسخة استعفاء بخطوطهم من غير تاريخ، فإذا نطق أحدهم بما يخالف مصلحة الحكومة ولو غلطًا، أو تظاهر بمؤازرة النوّاب الأحرار ولو بإشارة، أو سكت حيث يجب أن يتكلم في تأييدها أو تغيّب عن جلسة مما يحتشد فيه أنصارها- أَرَّخَتْ تلك النسخة ونشرتها- فيصبح
__________
6) حكومة الجزائر / الحكومة الجزائرية: الولاية العامة الفرنسية.(5/133)
صاحبها مستعفيًا بإكراه في صورة اختيار، ولا تكتفي بهذا في عقابه، بل تسجّل عليه سخطها وغضبها، حتى يتوب ويسعى في استرضائها من جديد.
كل هذا التفاوت بين عدد النوّاب يقابله تفاوت عكسي في عدد المنتخبين (بالكسر) فهذه الأقلية من النوّاب تمثّل عشرة ملايين جزائريين، وهذه الأكثرية الساحقة منهم تمثّل أقلية من الأورييين لم تجاوز المليون إلا في السنوات الأخيرة، ولكنه العدل الفرنسي، والمدنية الفرنسية، والحرية الفرنسية التي ملأت العالم.
واحكموا أنتم في تلخيص القضية على هذه الصورة ... إذا كان عدد النوّاب الأهليين في المجالس النيابية بالجزائر لا يساوي عدد النوّاب الأوربيين كمًا ولا كيفًا ولا حرية، فأي خير يكون للجزائريين أو يرجى لهم من هذه الانتخابات؟ أوَلا يكون صحيحًا ما وصفتها به من أنها نكبة مدبّرة متعمّدة من الاستعمار لما يعلم من آثارها في مصلحته؟ مثله أن تقول لعبدك: أنت حر في تصرفاتك، ولكن يجب عليك أن لا تفعل شيئًا ولا تتحرّك ولا تسكن إلا بإذني.
النظام الانتخابي في النيابات إنما يكون مفيدًا ونافعًا ودليلًا على الحكم الشوروي وإثبات سلطة الأمة في الأمم التي استوفى أفرادها حريتهم، وتقاربت ثقافتهم باشتراكهم في المعارف العامّة، واتّحدت مصالحهم، وكان لكل واحد منهم حظ ثابت في تلك المصالح، وسوّت الحرية بينهم في طرد الانتخاب وعكسه، فكل من ينتخب ينتخب، أما فيما عدا هذا كما هي حال الجزائر مع فرنسا، فإن الانتخاب والنيابة وما أشبههما من هذه الألفاظ التي ليس لها مدلول إنما هي خداع من القوي للضعيف ليأكله بفتوى، ويقتله بحجة، ويستعبده إذا استبقاه بحكم.
وإذا كان الشر ينطوي على شيء من الخير، أو يكون في بعض الأوقات أو بعض الجوانب خيرًا، فإن من جهات الخير في هذه الانتخابات التي يمنّ بها الاستعمار على الجزائريين أنها تدريب لهم وشحذ لأذهانهم، ونوع من الارتياض على المقاومة، وكشف صريح عن مساوئ الاستعمار ونيّاته، وتمرّس عملي برجاله، وتمرين على أساليب الدعاية، وقد أصبح الجزائريون اليوم من أحذق الناس بتسيير الانتخابات وحيلها والدعاية لها، وهو في جملته خطوة أولى عرجاء سيقوّمها استمرار الزمان وتزايد الشعور وإلحاح المطالبة ويسدّدها، وقد يقول الراضون عنها: ما دمنا في الجهاد والمغالبة مع خصم عنيد فهذه إحدى وسائله، والحق لا يؤخذ دفعة واحدة، ولا بدّ من المصابرة، ولكن الشر المحض فيه أنه أصبح فتنة للزعماء السياسيين وللأحزاب التي يقودونها، فصاروا يتهافتون عليه ويحتربون كاحتراب الأحزاب الفرنسية أو أشدّ، والأحزاب الفرنسية إنما تختلف في وجوه المصلحة لا في المصلحة نفسها، فهي محل اتفاق بينهم، على تباعد الطرفين، أما أحزابنا التي ليس في مصلحة الوطن أن تتعدد فإن تهافتها على الانتخابات مشغلة لها عن السياسة والاهتمام بها،(5/134)
على أنهم بإعطائهم هذه العناية للانتخابات توهّموا وأوهموا أن النيابة هي السياسة أو هي غاية السياسة قياسًا لشعبهم على الشعب الفرنسي، وعلّتهم في ذلك أنهم يفهمون النيابة فهمًا جمهوريًا ممّا يقرأونه في الكتب، لا فهمًا استعمارًيا مما يقرأونه في كتاب الواقع. والنائب بالمعنى الجمهوري يمثّل الشعب الحرّ الذي انتخبه انتخابًا حرًا ليحرس حقوقه ومصالحه من الحكومة، ويحامي عنها، فصوته هو صوت ذلك الشعب، أما النائب بالمعنى الاستعماري، فهو عامر (خانة) كما يقولون، وانتخابه صوري، وهو نائب الحكومة لا نائب الشعب، وقصارى أمره إن كان شعبيًا، وكان انتخابه شعبيًا، أن يساوم بصوته حينما تحتاج الحكومة إلى صوته، وقلّما يكون هذا.
زعماؤنا السياسيون بالجزائر- سامحهم الله- تهوّروا في الانتخابات وفتنتها وعداوتها، نتيجة لذلك الفهم الخاطئ فتهوّروا- تبعًا لذلك- في النيابات العرجاء الناقصة، وعلم الاستعمار منهم ذلك فزادهم إغراء بها، وتشويقًا إليها، وكلّما رأى منهم افتتانًا بها زاد إمعانًا في تزويرها ومسخها، وقد ظهرت الحقائق لعقلاء الأمة، فظهر لهم معها أن هؤلاء الزعماء متهافتون على كراسي النيابة طمعًا في مرتباتها الضخمة وامتيازاتها الشخصية، من ركوب مجاني ومقابلات رسمية وما أشبه هذا من هذه التوافه التي يترفع عنها ذوو الهمم، فضلًا عن رجال السياسة، الذين ينظر إليهم الناس نظرة الإمامة والقدوة الصالحة، وهذه النظرة الناقصة من عقلاء الأمة لرجال السياسة هي بعض مقاصد الاستعمار وغاياته، فإن مما يفيده ارتفاع الثقة بين الساسة وأتباع مبادئهم.
ويدخل النائب ذو المبدإ السياسي هذه المجالس فيضيع صوته الوطني في ضجيج أصوات الأكثرية المناوئة له، ويضيع تمثيله للشعب بين من يسمّيهم العرف الوطني في الجزائر (بني وي وي) (7) فكلما ارتفع صوت من نائب حر عارضه الاستعمار بعشرات الأصوات من زملائه وبني جلدته بدعوى أنهم ممثّلون للشعب أيضًا، وهم جماعة وهو واحد، (ويد الاستعمار مع الجماعة). وهكذا أصبحت الانتخابات والنيابات في الجزائر مهزلة مضحكة مبكية، وأصبح النوّاب الأحرار أصحاب المبادئ الحزبية صورًا لا قيمة لها إلا في تكميل النصاب في الكراسي. ولو أن رجالنا السياسيين، ورؤساء الأحزاب بصفة خاصة، والمثقفين منهم ثقافة عالية بصفة أخصّ، صرفوا عنايتهم إلى تربية الأمة تربية سياسية وطنية صحيحة عملية لكانت أعمالهم أعود بالخير والنفع على الأمة الجزائرية من جميع الانتخابات والنيابات.
ورأي في الزعيم السياسي المثقف في أمة كأممنا الشرقية- ولا أحاشي الأمة المصرية- أنه يجب عليه أن يترفّع عن الميادين التي تشغله عن المهم، وتلهيه بالصغائر،
__________
7) بني وِي وِي: أبناء "نعم .. نعم " لأنهم كانوا ينفذون ويطبّقون ويساندون كل ما تأمرهم به السلطات الفرنسية.(5/135)
وتفتنه بالمحقرات، وتخلق له الخصوم من الأمة التي يعمل لها ولخيرها، وأن يصرف همّه كله إلى تربية الأمة وجمع صفوفها على حقّها الوطني وتحريك الساكن منها، وإيقاظ النائم، وتنبيه الغافل، وتأليف الشارد، فإذا تمّ له ذلك أصبح مرهوبًا من الحكومة، وأصبح محبوبًا عند الأمة، قليل الخصوم، وبذلك يصبح متحكّمًا في عدة ميادين ... متحكمًا في الانتخابات الأهلية يسيّرها في المصلحة الوطنية ويقدّم لها من يقدّم على أساس الكفاءة، لا على الاعتبارات الحزبية والشخصية، وبتحكّمه في الانتخابات يكثر النوّاب الصالحون، وبهيمنته على النوّاب يوحّد كلمتهم ويوجّههم إلى التي هي أنفع فيصبحون قوة ذات بال.
وعندي أن إمام الزعماء السياسيين في الشرق سعد زغلول نقصت قيمة زعامته السياسية بنزوله لميدان النيابة والحكم بشخصه، ولو أنه تعالى عنها وترفّع، وبقي في أفق الزعامة مشرفًا على تربية الأمة تربية سياسية كاملة، لحطّم في الاستعمار حطمة تقصر عمره.
أطلت فضل إطالة في الحديث عن الانتخابات النيابية وآثارها السيّئة في الجزائر معتمدًا على ما رأيت بعيني وبلوت بنفسي، ولو عممت الحكم عليها في جميع شعوبنا الشرقية لما كنت بعيدًا عن الحقيقة، فإن الانتخابات اختيار للمصلحة العامة، وشعوبنا ما زالت مضللة مسخّرة، ومخدوعة مسحرة، لا تفقه للمصلحة العامة معنى، فضلًا عن اعتبارها، فضلًا عن حسن الاختيار لها، فما أحوجها في هذه الفترة المضطربة إلى مستبد عادل، ومن لها بالمستبد العادل؟
ولنرجع لفصل كلامنا على بدء الحركات السياسية الوطنية بما يتمّمه.
كانت الحركة التي بدأت كلامًا من الشيخ الحاج محمد بن رحّال والأمير خالد والدكتور موسى، وانتهت بظهور الدكتور صالح بن جلول في الميدان، حركة ضعيفة، شأن بدايات الأشياء، وكانت حركة الدكتور بن جلول على نشاطها واتّساع دائرتها بالنسبة إلى سابقتها حركة سياسية تدور على محور مخصوص، لا وطنية تدور على مبدإٍ وطني عام. ومن وصفها بأنها وطنية فهو متجوز أو هو لا يحسن تصوير الأشياء على حقائقها.
أما الحركة الوطنية، بمعناها الصحيح المنطبق على لفظها، فقد قامت بها في الجزائر ثلاث هيئات، تتفاوت في القوة والضعف، وفي الشدة والتسامح وفي التسرّع والأناة، وفي وضوح المبدإ وغموضه، وفي استقامة الاتجاه والتوائه، ولكنها لا تختلف في الغاية وهي العمل والإعداد لاستقلال الجزائر وإنقاذها من الاستعمار الفرنسي، ولا تختلف في صدق التوجّه إلى هذه الغاية.
أما الهيئة الأولى فهي ـ[جمعية العلماء المسلمين الجزائريين]ـ.
وأما الهيئة الثانية فهي ـ[حزب الشعب الجزائري]ـ.
وأما الهيئة الثالثة فهي ـ[حزب البيان الجزائري]ـ.(5/136)
سنحدّتكم عن الهيئات الثلاث حديثًا يعرّفكم بها، وبطبيعة كل واحدة منها، وبالفروق والجوامع بين مبادئها وأعمالها، ولا يتأتى لنا أن نصل في حديثنا إلى ما يصل إليه التاريخ المدقق الغائص على الدقيقة والجليلة، ذلك أن هذه الجماعات الثلاث حديثة العهد، لم تجاوز أطولهن عمرًا عقدين ونصفًا من السنين، ولم يدوّن الزمن إلا الصفحة الأولى من تاريخها بما فيه من نقص وكمال، ونظم واختلال، وإنما الممكن المتأتي لي أن أحدّثكم عنها حديث المعرّف بها، المصاحب لها من يوم نشأتها إلى الآن، المشارك فيها بالرأي والعمل، المتّصل الأسباب برجالها وأحداثها، فقد قدِّر لي أن أشهد ميلاد الجماعات الثلاث، وأن تكون لي يد في إنشاء أكبرها وهي جمعية العلماء التي أتشرّف برئاستها الآن، وأن ألابس الجماعتين الأخريين ملابسة الإرشاد والنصح والمشاركة في الرأي والعمل أحيانًا، بحكم وظيفتي الدينية والثقافية في المجتمع، ولا تطمعوا أن تسمعوا الكلام المبوّب، في الأسلوب المرتّب، وإنما املاءات يمليها الخاطر، وصبابة مما وعته الذاكرة التي أجهدها الحمل، ورماها السن بالنسيان والإضاعة، ومن سمت به همّته منكم إلى التوسّع في العلم بحال إخوانه في الجزائر، فعليه بمراجعة مجلدات «البصائر» خصوصًا فيما يتعلق بجمعية العلماء وحملاتها على الاستعمار ووقائعها معه.
____
جمعية العلماء
____
الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان، والشهادة التي يؤدّيها لوجه الحق حتى رجال الاستعمار، هي أن أول صيحة ارتفعت بحريّة الجزائر كانت من لهاة عبد الحميد بن باديس ولسانه، وأن أول صخرة وضعت في أساس نهضة الجزائر بجميع فروعها من علمية وسياسية واجتماعية وأخلاقية إنما وضعتها يداه.
وعبد الحميد بن باديس باني النهضة وإمامها ومدرّب جيوشها عالم ديني، ولكنه ليس كعلماء الدين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي في قرونه الأخيرة، جمع الله فيه ما تفرّق في غيره من علماء الدين في هذا العصر، وأربى عليهم بالبيان الناصع، واللسان المطاوع، والذكاء الخارق، والفكر الولود، والعقل اللمّاح، والفهم الغوّاص على دقائق القرآن وأسرار التشريع الإسلامي، والاطّلاع الواسع على أحوال المسلمين ومناشئ أمراضهم، وطرق علاجها، والرأي السديد في العلميات والعمليات من فقه الإسلام وأطوار تاريخه، والإلمام الكافي بمعارف العصر مع التمييز بين ضارّها ونافعها، مع أنه لا يحسن لغة من لغاتها غير(5/137)
العربية، وكان مع التضلّع في العلوم الدينية واستقلاله في فهمها إمامًا في العلوم الاجتماعية، يكمل ذلك كله قلم بليغ شجاع يجاري لسانه في البيان والسحر، فكان من أخطب خطباء العربية وفرسان منابرها، كما كان من أكتب كتابها.
وهو من بيت عريق في المجد والملك والعلم، يتصل نسبه الثابت المحقق بالمعزّ بن باديس- مؤسس الدولة الباديسية الصنهاجية- إلى صنهاجة القبيلة البربرية العظيمة التي حدّثناكم عن دولها وآثارها بالجزائر، والمعز بن باديس هو جذم الدولة التي كانت بالقيروان، ويزعم بعض النسّابين أنها يمنية وقعت إلى شمال أفريقيا في إحدى الموجات التي رمى بها الشرق الغرب من طريق برزخ السويس في الأولين، كما رماه بالموجة الهلالية في الآخرين.
والدولة الباديسية هي التي خلفت الفاطميين على مملكة القيروان، حينما انتقلوا منها إلى مصر، وجعلوا كرسيّهم القاهرة التي شيّدها لهم قائدهم جوهر الصقلي فاتح مصر وباني الأزهر، واسم القاهرة وسِيماها ونسبتها إلى المعز الفاطمي الذي هو أول خليفة تديّرها من خلفائهم، كل ذلك من وضع جوهر القائد.
والأسرة الباديسية نابت عن الفاطميين أولًا في إمارة القيروان ثم استقلّت بها دونهم يوم آنس أمراؤهم ضعف الفاطميين في الشرق.
ولهذه الأسرة بعد انقراض ممالكها وانقطاع سند الإمارة منها ذِكرٌ نابِه في العلم، فقد نبغ في كل قرن من قرون الهجرة منها علم من أعلام الفتيا والإمامة في العلوم الإسلامية، وتوارثت ذلك، منهم هذا الفرع الذي استوطن مدينة قسنطينة: إلى أن كان آخرهم الإمام عبد الحميد بن باديس الذي توفي في اليوم السادس عشر من شهر أبريل سنة 1940 ميلادية.
هذا الرجل النابغة يشهد التاريخ أنه واضع أساس النهضة الفكرية في الجزائر، وقد سلك لها المسلك العلمي الحكيم، وهو مسلك التربية والتعليم، وأعانه على ذلك استعداده الفكري وكمال أدواته، فتصدر للتعليم حوالي سنة 1914 ببلدة قسنطينة التي هي مستقرّ أسرته من المائة السابعة للهجرة، وعمره إذ ذاك دون الخامسة والعشرين، فجمع عليه عشرات من الشبّان المستعدّين فعلمهم وربّاهم وطبعهم على قالبه ونفخ فيهم من روحه وبيانه، تطوّعًا واحتسابًا لا يرجو إلا جزاء ربّه ولا يقصد غير نفع وطنه.
وكان- رحمه الله- يؤثر التربية على التعليم، ويحرص على غرس الفضائل في نفوس تلامذته قبل غرس القواعد الجافّة في أدمغتهم، ويدرّبهم على أن ينهجوا نهجه في العمل للعروبة والإسلام، فما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تخرج على يده وعلى طريقته جيل(5/138)
من الشبّان، تتفاوت حظوظهم من العلم النظري، ولكنهم طراز واحد في العمل وصحة التفكير والانقطاع للجهاد، وكان من طريقته في التربية أن يرمي إلى تصحيح الفكر، وصقل العقل، وترقية الروح، وتقوية الخلق، وتسديد الاتجاه في الحياة، وأنه يستخرج من قواعد العلوم التعليمية قواعد للاجتماع، وينتزع منها دروسًا في التربية والأخلاق، فمن القواعد الاصطلاحية المعروفة قولهم- مثلًا- الفاعل مرفوع، والعامل يتقدم، فمن أمثال هذه الجمل المبتذلة الدائرة على الألسن في دراسة العلوم كان يستخرج من معانيها اللغوية نظرات اجتماعية طبيعية ككون الفاعل العامل مرفوع القدر عند الناس، وككون العامل يجب تقديمه على الكسلان العاطل في جميع المقامات، وقد ذكر لي بعض من حضر درسه في قول صاحب الألفية "كلامنا لفظ مفيد كاستقم". قال: سمعته يقرّر القاعدة النحوية التي أرادها ابن مالك فسمعت ما أدهشني من التحقيق الذي لم يعهد من علماء عصرنا، بالأسلوب الذي لم يعهد من شراح الألفية سابقهم ولاحقهم ما عدا أبا اسحاق الشاطبي، ثم انتقل إلى شيء آخر نقلني إلى شيءآخر وسما بي من الدهشة التي ما فوقها ممّا لا أجد له اسمًا، فكان درسًا اجتماعيًا، أخلاقيًا، على ما يجب أن يكون عليه الحديث الدائر بين الناس، وأنه إذا لم يكن مفيدًا في المعاش والمعاد كان لغوًا وثرثرة وتخليط مجانين، وإن سمته القواعد كلامًا، ثم أفاض في الاستقامة الدينية والدنيوية وأثرها في المجتمع، فعلمت أن الرجل يعمل على أن يخرج من تلامذته رجالًا، وأنه يجري بهم على هذه الطرائق ليجمع لهم بين التربية والتعليم، وكأنه يتعجّل لهم الفوائد، ويسابق بهم الزمن، ما دامت الأمم قد سبقتنا بالزمن.
وهكذا كان الأمر، فإنه أخرج للأمة الجزائرية في الزمن اليسير جيلًا يفهم الحياة، ويطلبها عزيزة شريفة ويتدرعّ إليها بالأخلاق المتينة، وقد كان يدرّبهم على الأعمال النافعة، كما يدرّب القائد المخلص جنوده ويعدهم لفتح مصر أو لقاء مصرع، ولتلامذته إلى اليوم سمات بارزة في إتقان الدعوة الاصلاحية التي أعلنتها جمعية العلماء في حياته، وفي صدق الاتجاه، وفي إتقان صناعة التعليم على طريقته، وهم الرعيل الأول في الثورة الفكرية الجارفة التي نقلت الجزائر من حال إلى حال، وقد كان تعليمه والآفاق التي فتحها ذهنه الجبّار وأسلوبه في الدروس والمحاضرات، كل ذلك كان ثورة على الأوضاع التعليمية المعروفة في بلدنا حيث ابتدأ التعلّم وتوسّط فيه وفي جامع الزيتونة حيث انتهى، ولم يكن علمه نتيجة دراسته التقليدية في البلدين، المحدودة بسنوات معدودة وكتب مقروءة على نحو ما في الأزهر، وإنما كان علمه نتيجة استعداد قوي وذكاء خارق، وفهم دقيق، وذهن صيود لشوارد المعاني، غواص إلى نهاياتها، كما وصفناه في أول الحديث.
وحج في سنة 1913 ميلادية ومرّ بالقاهرة ذاهبًا وبدمشق آيبًا وجاور بالمدينة ثلاثة أشهر بعد هجرتي إليها بسنتين، وكنّا نجتمع في أاغلب الليالي اجتماعًا خاصًا لا نتحدّث فيه إلا عن(5/139)
القطر الذي يجمعنا وهو الجزائر، والبلد الذي يضمّنا وهو قسنطينة، والآمال التي تملأ نفوسنا، في ترقيته وإعداده للتحرير، فكنّا نجمع على أن لا وسيلة لذلك إلا العلم تنتشر أعلامه، والجهل ينقشع ظلامه، ثم تصوّر الخواطر لي وله مدارس تشاد للنشء وألسنة تتفتق على العربية، وأقلامًا تتشقق على الكتابة، فتصوّر لنا قوة الأمل ذلك كله كأنه واقع نراه رأي العين، فإذا انتهينا من التصوّرات أخذني بالحجة وألزمني بالرجوع إلى الجزائر لنشترك في العمل، المحقق للأمل، وأقام لي الدليل من الدين على أن هذا العمل أشرف وأقرب إلى رضى الله من الهجرة، ولم أكن أنكر عليه هذا، ولكن والدي- رحمه الله- كان يأبى عليّ ذلك، فكنت أتخلّص بالوعد بالرجوع عند سنوح الفرصة، ورجع هو من عامه فابتدأ التعليم، وانثال عليه الطلبة من المقاطعات الثلاث، وقدر الله فرجعت بعد سبع سنوات من افتراقنا فوجدت عمله قد أثمر، وأملنا قد بدأ يتحقق، ووجدت الحرب قد فعلت فعلها في نفوس أمتي، فكان من آثارها حياة الاستعداد الفطري، الذي أماته الاستعمار في تلك المرحلة التي عددنا لكم ما غرسته أيامها في نفوس الجزائريين من بذور خبيثة كان من ثمراتها تخدير الشعور وإضعاف المعنويات، وكان لرجوعي إلى الجزائر في نفس الشيخ عبد الحميد بن باديس ما يكون في نفس القائد اتّسعت عليه الميادين وعجز عن اقتحامها كلها فجاءه المدد لوقته، وتلقّاني- رحمه الله- بمدينة تونس مهنئًا لي ولنفسه وللوطن ومذكّرًا بعهود المدينة المنوّرة ومبشّرًا بمواتاة الأحوال، وتحقق الآمال، فكانت مشاركتي له بالرأي والتفكير والتقدير والدعاية أكثر مما هي بالتعليم والتدريب، لما كان يحول بيني وبين الانقطاع إلى ذلك من عوائق، وإن كنت شاركت في تحضير أذهان العامة للنهضة الكبرى بسهم وافر، بواسطة دروس ومحاضرات، ورجع أفراد من الإخوان الذين كانوا بالشرق مهاجرين أو طلّابًا للعلم، وجماعة من تلامذة الأستاذ ابن باديس الذين أكملوا معلوماتهم بجامع الزيتونة، تنطوي نفوسهم من أستاذهم على فكره وروحه، ومن جامع الزيتونة على متونه وشروحه، فاستقام الصدد، وانفتح السدد، وتلاحق المدد، وكانت من أصواتنا مسموعة ما يكون من الصيحة رجت النائم، ومن أعمالنا مجموعة ما يكون من الروافد انصبّت في النهر فجاشت غواربه، وكانت تلك بداية النهضة بجميع فروعها، والثورة الفكرية بتمام معانيها.
لم يكن الاستعمار الفرنسي غافلًا عن عمل ابن باديس، ولا جاهلًا بآثاره، ولكن من حسن حظ الأمة الجزائرية أن بداية الحركة العلمية الباديسية قارنت اشتعال الحرب العالمية الأولى على حين غفلة، فأصيب الاستعمار بسكتة وقتية استئلافًا للجزائريين، وهو في حاجة إليهم، فاتّسع بفضل تلك السكتة أفق الحركة، ونمت بذورها، ورسخت جذورها، وما انتهت الحرب إلا وإيمان الأمة بنفعها قد كمل، وحمايتهم لها قد تأصّلت، وأمدادها من الشرق قد ترادفت، والفكر العام والخاص قد تطوّر، فلم يسع الاستعمار إلا الاستمرار على(5/140)
السكوت، فاستمرّت الحركة تنمو وتطرد، والأمة حولها تلتفّ وتحتشد، إلى أن جاءت سنة 1930 وهي السنة التي تمّ فيها لاحتلال الجزائر قرن كامل.
كانت تلك السنوات العشر التي هي أوائل المرحلة الثالثة في تقسيمنا كلها إرهاصات بتكوين جمعية العلماء، وكانت كلمات الوطنية والإسلام وتاريخه والحرية والاستقلال قد وجدت مساغها في النفوس، وممرها إلى العقول، لأنها كانت تخرج من لسان ابن باديس وصحبه العلماء الشجعان الموثوق بعلمهم ودينهم وأمانتهم، فيرن رنينها في الآذان، ويجاوز صداها إلى الأذهان، بعد أن كانت هذه الكلمات محرّمة في فقه الاستعمار ومهجورة في فقه الفقهاء الذين نشأوا تحت رهبة الاستعمار، ومجهولة عند بقية الأمة، فكان أول من نطق بها على أنها لغة حية صحيحة الاستعمال، هو عبد الحميد بن باديس العالم الديني واثنان أو ثلاثة من طرازه، ولكن ابن باديس كان يقولها لتلامذته في حلق الدرس ليطبعهم عليها، فلما أحسّ بالنجدة من إخوانه أصبحت هذه "العملة" مطروحة للاستعمال في السوق العامة، ولذلك ارتاع لها الاستعمار وقدّر عواقبها الوخيمة عليه فاحتاط لها بما نشرحه لكم في الفصل الثاني وهو أعمال الاستعمار في هذه المرحلة.
وكنت على أثر رجوعي واجتماعي بهذا الأخ نتداول الرأي في هذا الموضوع ونضع مناهجه ونخطط خططه، ومعنا بعض الإخوان، فأجمعنا في معرض الرأي الفاصل على أننا أمام استعمارين يلتقيان عند غاية، أحدهما استعمار روحاني داخلي يقوم به جماعة من إخواننا الذين يصلون لقبلتنا باسم الدين، وغايتهم استغلال الأمة، ووسيلتهم صد الأمة عن العلم، حتى يستمرّ لهم استغلالها، وهؤلاء هم مشائخ الطرق الصوفية التي شوّهت محاسن الإسلام، والثاني استعمار مادي تقوم به حكومة الجزائر باسم فرنسا، وغايته استغلال الأمة، ووسيلته سد أبواب العلم في وجه الأمة حتى يتم لها استغلالها، والاستعماران يتقارضان التأييد، ويتبادلان المعونة، كل ذلك على حساب الأمة الجزائرية المسكينة، أولئك يضلّونها، وهؤلاء يذلّونها، وجميعهم يستغلّونها.
كنا نتّفق على هذا، ولكننا نجمل الرأي في أي الاستعمارين، يجب أن نبدأ بالهجوم عليه، ولم يكن من الصعب علينا الاتفاق على الهدف الأول للهجوم، فاتفقنا على أن نبدأ بالهجوم على الاستعمار الأول وهو الطرق الصوفية، لأنها هي مطايا الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ووسطها وغربها، ولولاها لم يتم له تمام.
والصوفية، أو الطرقية كما نسمّيها نحن في مواقفنا معها، هي نزعة مستحدثة في الإسلام لا تخلو من بذور فارسية قديمة، بما أن نشأة هذه النزعة كانت ببغداد في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، واصطباغ بغداد بالألوان الفارسية في الدين والدنيا معروف،(5/141)
وتدسس بعض المتنطعين من الفرس إلى مكامن العقائد الإسلامية لإفسادها، لا يقلّ عن تدسّس بعضهم إلى مجامع السياسة، وبعضهم إلى فضائل المجتمع وآدابها لإفسادها، ومبنى هذه النحلة في ظاهر أمرها التبتّل والانقطاع للعبادات التي جاء بها الإسلام، ومجاهدة النفس من طريق الرياضة بفطمها عن الشهوات حتى تصفو الروح وتشف وترق وتتأهل لمشارفة المَلإ الأعلى، وتكون بمقربة من أفق النبوّة، وتتذوّق لذة العبادة الروحية، وقد افترق النازعون إلى هذه النزعة من أول خطوة فرقًا. وذهبوا فيها مذاهب، من القصد الذي يمثّله أبو القاسم الجنيد، إلى الغلو الذي يمثّله أبو منصور الحلّاج، إلى ما بين هذين الطرفين، وكانت لأئمة السنّة وحماتها- الواقفين عند حدودها ومقاصدها ومأثوراتها- مواقف مع الحاملين لهذه النزعة، وموازين يزنون بها أعمالهم وآراءهم وما يبدر على ألسنتهم من القول فيها، ولسان هذه الموازين هو صريح الكتاب وصحيح السنّة، وكانت في أول ظهورها بسيطة تنحصر في الخلوة للعبادة أو الجلوس لإرشاد وتربية من يشهد مجالسهم، ثم استفحل أمرها فاستحالت علمًا مستقلًا، يشكّل معجمًا كاملًا للاصطلاحات، ودوّنت فيها الدواوين التي تحلّل وتشرح، وتصف الألوان الباطنية للنفس، وتبيّن الطريق الموصل إلى الله والوسيلة المؤدية للسعادة وكيفية الخلاص من مضائق هذه الطريق وأوعارها، ثم انتقلت في القرون الوسطى من تلك الأعمال التي تستر أصحابها، إلى الأقوال التي تفضحهم، فخاضوا في شرح مغيبات، وأفاضوا في جدال مكشوف بينهم وبين خصومهم، وكانوا سببًا من الأسباب الأصيلة في شق الأمة شقّين: أنصارًا ومنكرين، وضاعت في هذا الضجيج ثمرة هذه النحلة وهي رياضة النفس اللجوج على العبادة وقمع نزواتها البدنية وأصبحت هذه النحلة أقوالًا تدافع، يقولها من لا يفقه لها معنى، فضلًا عن أن تصطبغ بها نفسه، والحق في هذه النزعة أنها صبغة روحية مرجوحة في ميزان الشرع وأحكامه، وإنما يقبل منها ما يساير المأثور، ولا يجافي المعروف من هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإن الدين قد تكامل بختام الوحي، والزيادة فيه بعد ذلك كالنقص منه كلاهما منكر، وكلاهما مرفوض، وما لم يكن يومئذٍ دينا فليس بدين بعد ذلك.
ولكن تلك النزعة التي عفا رسمها، بقي اسمها، ولم يبقَ بقاءً تاريخيًا للعظة والاعتبار، وإنما بقي فتنة بين المسلمين، وميدانا لعلمائهم يتراشقون فيه ويتنازعون، ولعامتهم يلهون فيه ويلعبون، ويضلون بسببه عن حقائق دينهم ودنياهم.
وانتهى بها الأمر في القرون الأخيرة إلى نسبة مجردة من جميع المعاني، ينتسب إليها - تقحمًا- كل من هبّ ودبّ، لا يطلبها من طريق علم ولا تربية، ولكن من طريق الشعوذة والحيلة، ثم تدلّت دركة أخرى فأصبحت وسيلة معاش ومصيدة لابتزاز أموال العامة وانتهاكًا لأعراضهم، وهناك التقت مع الاستعمار في طريق واحد، فتعارفا وتعاهدا على الولاء.(5/142)
اِبحثوا في تاريخ الاستعمار العام، واستقصوا أنواع الأسلحة التي فتك بها في الشعوب، تجدوا فتكها في استعمال هذا النوع الذي يسمّى "الطرق الصوفية"، وإذا خفي هذا في الشرق، أو لم تظهر آثاره جلية في الاستعمار الانكليزي، فإن الاستعمار الفرنسي ما رست قواعده في الجزائر وفي شمال أفريقيا على العموم وفي أفريقيا الغربية وفي أفريقيا الوسطى إلا على الطرق الصوفية وبواسطتها، ولقد قال قائد عسكري فرنسي معروف، كلمة أحاطت بالمعنى من جميع أطرافه قال: "إن كسب شيخ طريقة صوفية أنفع لنا من تجهيز جيش كامل، وقد يكونون ملايين، ولو اعتمدنا في إخضاعهم على الأموال والجيوش لما أفادتنا ما تفيده تلك الكلمة الواحدة من الشيخ، على أن الخضوع لقوّتنا لا تؤمن عواقبه لأنه ليس من القلب، أما كلمة الشيخ فإنها تجلب لنا القلوب والأبدان والأموال أيضًا".
هذا معنى كلمة القائد الفرنسي وشرحها، ولعمري إنها لكلمة تكشف الغطاء عن حقيقة ما زال كثير من إخواننا الشرقيين منها في شك مريب، وهم لا يدرون أن أول من خرج عن جماعة الأمير عبد القادر الجزائري في أيام جهاده شيخ طريقة معروف، وأن من أكبر أسباب هزيمته استعانة فرنسا عليه بمشائخ الطرق الصوفية، وإعلان كثير من أتباعهم الخضوع لفرنسا، فهل نحتاج بعد هذا إلى دليل؟ وان تاريخ تلك الوقائع لم يزل مداده طريًا، وما زال الاستعمار بالجزائر يسمّي هؤلاء المشائخ "أحباب فرنسا".
وإني أتعجّل لكم البشرى بأن أحفاد أولئك المشائخ- إلا ما قلّ- أصبحوا من أكبر الناقمين على الاستعمار، بل أصبح بعضهم من الغلاة في الوطنية، وفي الصفوف الأولى من أنصار العلم والتعليم، والداعين إليهما، والعاملين على نشرهما بالجاه والمال، ولا تكاد توجد مدرسة من مدارس جمعية العلماء خالية من عدد من أولادهم متعلمين أو معلّمين، ومنهم كثير في الجامعات الإسلامية: القرويين والزيتونة والأزهر.
اتفقنا على البدء بالاستعمار الروحي الداخلي، ونحن نعلم قوّته والتفاف 70 بالمائة من الأمة على الأقل حوله، ومعه الحول والطول. فالأموال وفيرة، والجاه عريض، والحكومة تقارضه تأييدًا بتأييد، وذلك العدد العديد من الأمة يسبح بحمده، ويعتقد أن تلك الطرق كلها طريق إلى الجنة، وأن تلك البدع والضلالات هي الدين، بل هي صميم الدين، وأن كلمة نقد في أولئك المشائخ ولو عصوا الله وفعلوا المنكرات قد تؤدي بصاحبها إلى الكفر، والخسار الدنيوي والأخروي وحلول النقم السماوية، ونعلم- كذلك- ضعفنا إلا بالإيمان وقلة عددنا، فنحن طائفة تعد على أصابع اليد الواحدة، والاستعمار لنا بالمرصاد، يرقب حركاتنا ويحسب أنفاسنا، ويعتبر أننا عنصر خطر عليه، نريد أن نحصي ما أمات، ونهدم ما بنى، ونبني ما هدم، كانت الحكمة لاختيارنا الميدان الأول للهجوم، أن موضوع النزاع ديني، ونحن علماء دين يعترف لنا بالإمامة العلمية حتى الاستعمار وأعوانه، ولا يستطيع(5/143)
الاستعمار أن ينتصر لأوليائه في نزاع ديني انتصارًا سافرًا، وإنما ينتصر لهم بوسائل أخرى لا تؤثر في هدفنا الذي نرمي إليه، وهو انتزاع الأمة من هؤلاء المستغلّين لها باسم الدين، وإنقاذها من جبروتهم، وأننا إذا جرّدناهم من سلطانهم الوهمي، كانت معنا على الاستعمار الخارجي الحقيقي، ومن لم يكن الشعب معه كان مخذولًا في كل ميدان.
بدأنا هذه الحركات بجنب حركة التعليم الديني العربي، وأطلقنا عليها اسمها الحقيقي وهو "الإصلاح الديني"، وهو اسم يهيّج أصحاب البدع والضلالات من المسلمين في الدرجة الأولى، ويهيّج الاستعمار الخارجي في الدرجة الثانية، فكان من تفاوت التهيّج فسحة سرنا فيها خطوات إلى النجاح، وكانت أعمالنا تسير في دائرة ضيّقة، لأن الاستعداد لظهور جمعية العلماء لم يتم إذ ذاك، وكان مبدأ "العمليات" بدروس دينية ومحاضرات.
ورأى المرحوم عبد الحميد بن باديس أنه لا بدّ من جريدة تظاهر الفكرة وتخدمها، فأنشأ جريدة "المنتقد" وهي أول جريدة إصلاحية بالشمال الأفريقي، فكانت أرفع صوت وأفعل وسيلة لنشر الإصلاح الديني، فارتاع لها الاستعمار الفرنسي وعطّلها في مدة قريبة بما يملك من قوانين، فأصدر المرحوم جريدة أخرى باسم "الشهاب" كانت أسدّ رماية، وأوسع خطى من سابقتها، وسكت عنها الاستعمار فنقلها صاحبها من جريدة إلى مجلة، طال عمرها بضع عشرة سنة ورافقت سنوات الإرهاص بجمعية العلماء، فسجّلت خطوات الحركة، وكانت لها مواقف رائعة في عدة ميادين، فخدمت العلم والدين والسياسة، وتردّد صداها في المغارب الثلاثة، فتركت في كل قطر أثرًا حميدًا في النفوس، وفضحت الاستعمار الفرنسي فضائح لا ينسى خزيها، وبدروس الأستاذ عبد الحميد بن باديس، ومجلته "الشهاب"، استحقّ لقب "باني النهضة الجزائرية بجميع فروعها"، وأنشأ بعض الإخوان جريدة سمّاها "الإصلاح" كانت لها جولات في حرب البدع ولكنها لم تعمر إلا قليلًا.
تساوقت الآثار المختلفة إلى غرض واحد، آثار دروس الإسلام الحية من ابن باديس في نفوس تلاميذه، وقد أصبحوا آلافًا، وآثار دروسه العامة في التفسير والأخلاق والاجتماع، وقد أصبح سامعوها المتأثّرون بها عشرات الآلاف، وأكثرهم من العامة، وآثار الحرب في الأمة كلها، وآثار العلماء المصلحين بعد أن تكاثر عددهم وتلاحق مددهم، وتعاونوا على تنوير الأفكار وتوجيه الأذهان لفهم حقائق الدين والدنيا، وهداية النفوس الضالّة بإرشاد القرآن وسيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتجلية التاريخ الإسلامي.
وتألف من ذلك كله حداء قوي مطرب سارت عليه الأمة الجزائرية عقدًا من السنين، من سنة 1920 إلى سنة 1930 ميلادية، واستوى في التأثّر الموافق منها والمخالف، وأوائل نهضات الأمم تفتقر دائمًا إلى المخض العنيف بالكلام والرأي(5/144)
والجدال والوفاق والخلاف، وذلك المخض هو الذي ينشئ فيها الحياة ثم يصفيها، وهو دليل حياة الشعور فيها، وقد سكتت الأمة الجزائرية قبل ذلك أكثر من أربعين سنة ... سكتت ألسنتها وسيوفها في آن واحد فما زادها طول السكوت إلا جمودًا وخمودًا وقربًا من الموت، واستمرّت الإرهاصات تتوالى، وأصوات الإصلاح تتعالى، والأذهان تستشرف وتستعدّ، والقوى النفسية كلها تتقارب وتحتشد، إلى أن احتفلت فرنسا بعيدها المئوي لاحتلال الجزائر سنة 1930.
عيد فرنسا المئوي لاحتلال الجزائر:
وشمّرت حكومة الجزائر الاستعمارية عن ساعدها لتحتفل بمرور مائة سنة على احتلال الجزائر، وبكّرت في أخذ الأهبة والاستعداد بشهور قبل حلول اليوم الموافق ليوم بدء الاحتلال وبثّت له الدعاية بجميع وسائلها في العالمين وقدّرت لبرنامج المهرجانات ستة أشهر، وصوّر لها غرورها أنها تخرج من هذا العيد بفوائد مادية جسيمة مما تسيل به جيوب الملايين من أطراف العالم، وممن تجلبهم الدعاية لهذا العيد، وفوائد معنوية عظيمة، منها شهادة العالم لها بما نشرت من مدنية، في حين أنها لم تنشر في الجزائر شيئًا من المدنية، وإنما نشرت الأخلاق الدنية. أما الطرق التي عبّدتها فإنما هي لتمكين أبنائها من الاستغلال، وعلى قدر ذلك الاستغلال، أما الأهلي صاحب الدار فحظه منها أن لا يمشي على رجليه فيها إلا بالإيجار الباهظ وهو ما يدفعه من الضرائب باسم الطرقات، وأراد الله أن لا يصحب تصوّر حكومة الجزائر تصديق، فلم يفد على الجزائر من الأجانب عشر ما كانت تتصوّره، وخسرت التقديرين.
أما نحن- وأعني تلك الفئة القليلة ومن التفّ بنا من تلاميذنا- فقد بكّرنا أيضًا بدعوة مضادة لهذا العيد، وبثثنا عليه في الأمة كل مكروه، وكان كلامنا مع الأمة كله يدور على معنى هذه الجملة: "أيها الجزائريون: إن هذا العيد هو عرس فرنسا في مأتمكم، وهو تذكير بقتلهم لآبائكم، وبكل ما صاحب الاحتلال من انتزاع أرضكم وانتهاك عرضكم، وهو إشهاد للأمم على قهركم وإذلالكم وتسجيل عليكم بذلك".
كنا ندير هذه المعاني ونكرّرها لتنفذ إلى مواقع التأثير من نفوس إخواننا، ونعزّزها بكل ما يثير النخوة والحفيظة ويحيي العزة والكرامة، فامتلأت النفوس غضبًا وحقدًا، وبلغنا نحن غايتنا في تذكير من طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، ولا غاية أكمل من ذلك في ذلك الوقت، وكان من آثار عملنا أنه لم يشارك فرنسا في عيدها من الجزائريين إلاّ الموظفون والمخذولون وأصحاب المصالح المادية، وحتى النظارة (المتفرجون) لم يكن لهم أرب في النظر إلا تصديق المعاني التي أثبتناها لهم في دعايتنا المضادة للعيد، وقاطعنا نحن مدينة(5/145)
الجزائر مركز تلك المهرجانات، فلم ندخلها حتى انصرمت شهور المهرجانات، وكان من الخزي لحكومة الجزائر أنه لم يستجب لدعوتها إلا الذين التزمت هي نفقاتهم، كالصحافيين والعلماء الذين خصصتهم بالدعوة لحضور المؤتمرات التي تضمنتها برامج العيد، وأراد الله أن يؤيّد عملنا في إيقاظ الشعور الجزائري بصوت فرنسي تدفعه حماقة فرنسية من خطيب استعماري، في مؤتمر من تلك المؤتمرات.
قال الخطيب في بعض تلك المؤتمرات ما معناه: ليس الداعي الأكبر لهذه المهرجانات هو الاحتفال بمرور مائة سنة على احتلالنا للجزائر، فهذا أمر بسيط وله عواقب معروفة، فقد لبث الرومان هنا ثلاثمائة سنة ثم أخرجوا، ولبث العرب بالأندلس ثمانمائة سنة ثم أخرجوا، ولكن الباعث الأعظم على هذا هو أننا دعوناكم لتمشوا معنا في جنازة الإسلام بالجزائر ...
واتخذنا نحن من هذه الكلمة مادة جديدة حارة لإثارة الغيرة الدينية، وكان من صنع الله أن اندفعت الجماعات من الجزائريين في أخريات تلك السنة إلى تشييد المساجد في القرى الاستعمارية الصميمة التي لم تكن فيها إلا الكنائس الضخمة، وليس فيها من المسلمين إلا الطبقات العاملة عند المعمّرين، وبهذه النفحة الإلهية شيّدت عشرات المساجد الجميلة في قرى استعمارية، وتمّت كلها في خلال السنة الموالية للعيد المئوي التي قيلت فيه تلك الكلمة المنكرة، وعلت مناراتها على الكنائس والمباني، وأصبح الأذان عليها يصخ آذان أولئك الجبابرة المستعلين في الأرض. وكانت هذه النفحة الغريبة التي لم تتسبّب لها الأسباب صاعقة عليهم وعلى حكومتهم، وأشهد أننا ما دعونا إلى هذا، وإنما شجّعنا عليه بعد وقوع بواكيره، وكانت هذه المساجد بعد بدء حركة جمعية العلماء وإلى الآن نعم العون لنا على نشر الإصلاح الديني والثقافة العربية كما يأتي، وقد كانت الفائدة المعجلة من حركة المساجد هذه أنها أحيت خلقًا إسلاميًا عظيمًا كاد يموت بين المسلمين، وهو خلق البذل في سبيل الله، والتعاون على البر والتقوى، والتنافس في بناء المكارم والمآثر، فقد رأينا الغرائب من تسابق المسلمين أغنيائهم وفقرائهم، نسائهم ورجالهم، في البذل للمساجد، وتنبّه هذا الخلق الأصيل فيهم لبناء المساجد كان هو السابقة المباركة لما تجلى بعد ذلك على أكمله في تشييد المدارس حينما دعوناهم إليها، على ما يأتي تفصيله.
وفي الملاحظات التي تهمّكم على العيد المئوي لاحتلال فرنسا للجزائر، أن حكومة الجزائر لم تستدع لحضوره عالمًا ولا كبيرًا شرقيًا، من العرب المسلمين ولا من غيرهم، إلا عالمًا تونسيًا متخصصًا في الأبحاث التاريخية.(5/146)
ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:
كانت الأحاديث تجري بيننا وفي مجالسنا العلمية مع تلامذتنا وأتباعنا من العامة، بلزوم تكوين جمعية من العلماء تجري على القانون العام للجمعيات، فيكون ظهورها القانوني أقوى لها وأعون وأدفع للتهم التي تعلق بالعاملين فرادى، وكانت الأفكار تجول في هذا، والدواعي إليه تتوفّر، والدوافع ... (8) وبالًا عليه، وإننا سنقصي عنها العناصر المذبذبة والضعيفة بالحكمة أو القوة، فما جاء الاجتماع العام الثاني في السنة الثانية، حتى أحسسنا أصابع الاستعمار تتدسس بقوة لإخراج الجمعية من أيدينا وتسييرها بأيدي أعوانه من علماء السوء، فاستعملنا القوة والحكمة معًا في إقصائهم وتطهير الجمعية منهم، واستأثرنا بتسييرها كما نريد إلى حيث نريد، وتبينّا إعانة الله وتوفيقه لنا من أول يوم فكنّا نسير من نجاح إلى نجاح، ونقتحم الميادين الضنكة فيتيسّر المخرج منها من حيث لا نحتسب، وطمس الله على قلوب الاستعمار وأعوانه فلم يحاربونا بالأسلحة القاتلة من القوانين، وكانت منها بقية في أيديهم إذ ذاك، وإنما عمدوا في حربنا إلى وسائل كانت كلها جارية في مصلحتنا وقاضية عليهم، فقد رأوا أن يقيموا جمعية ضرارًا لجمعيتنا (9).
...
__________
8) هنا صفحة ناقصة من المخطوطة، كما لم نعثر على بقية المحاضرات لا مكتوبة ولا مسجلة ...
9) هي "جمعية علماء السنّة" التي أوحت فرنسا بتأسيسها لتناهض جمعية العلماء.(5/147)
مشكلة العروبة في الجزائر *
طلب إليَّ أخي الأستاذ محمد علي الحوماني مقرر ندوة الأصفياء (1) إلقاء كلمة في الندوة. عن مشكلة العروبة في الجزائر، فالقيتها ارتجالًا، لأن موضوع العروبة أو العربية في الجزائر هو الموضوع الذي قسمه الله لي، وجعله ميدان أعمالي وأحاديثي، ومجال قلمي عشرات السنين، وقد توسعت في الكلمة الارتجالية وجر شيء إلى أشياء لما تقتضيه طبيعة الارتجال من عدم الضبط وصعوبة الحصر، ثم كلفني الأخ الحوماني تلخيصًا لمعاني تلك الكلمة بالكتابة لأن الندوة عاملة على إخراج هذه الكلمات التي تلقى فيها- في كتاب- وأن هذا لبناء جليل، تتقاضانا الغيرة أن نعين القائمين عليه ولو بلبنة.
وهذا المركب الإضافي (مشكلة العروبة) هو العنوان الذي اختاره رجال الندوة لهذه الكلمات التي يلقيها الاخوان الأعضاء في اجتماعاتهم المنظمة. ولعمري لقد سددوا وقاربوا في اختيار هذا العنوان، وفي قصر أحاديثهم على موضوعه، فإن قومنا العرب انعكست معهم القاعدة، فبعد أن كانوا يذودون عن حقيقتهم بمعناها المعروف عندهم، أصبحوا يذودون عن حقائقهم الواقعية، ويصرفون حتى عن التفكير فيها، فتراهم يهتمّون بشؤون غيرهم حديثًا عنها وجدالًا فيها، وعملًا لها ويعرضون عن شؤونهم إعراض الخلي الفارغ، مما لا ينقضي منه العجب من خصائص قومنا العرب، ومن ورائهم المسلمون كلهم. ان معظم مشكلاتهم الدينية والاجتماعية قديمة العهد، مرت على بعضها القرون بل مر على بعضها تاريخ الإسلام
__________
* محاضرة أُلقيت في منزل الأستاذ محمد مفيد الشوباشي أحد الأصفياء بضاحية المعادي بالقاهرة، يوم 5 جوان 1955.
1) الأصفياء: مجموعة أصدقاء من العلماء والأدباء والمفكرين يجتمعون دوريًّا في ندوة يتولى خلالها أحدهم إلقاء محاضرة حول موضوع معين يتبعها تعقيب ومناقشة، وقد طبعت هذه المحاضرات في كتاب "الأصفياء"، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1955.(5/148)
كله، وهي على حالها من الاشكال، وشأن القدم أنه يعفي الآثار وينسي الأخبار، ويميت الادِّكار، ولكن مشكلاتنا غالبت الدهر كما غالبت عقولنا، فلم يستطع مر الزمن انساءها، ولم تستطع عقولنا حلها، وما زالت فرعيات الاحكام مشكلات قائمة بين علماء الدين في كل مطلع شمس تحدث مشكلات اجتماعية وسياسية جديدة تضاف إلى تلك المشكلات القديمة، ومنها ما يحتاج إلى الحل السريع الحاسم، فلا تجد المشكلات الجديدة حلًا من عقولهم وأفكارهم لاشتغالها بالمشكلات القديمة.
كأنّ عقولنا ألفت الاشكال فاطمأنت إليه فأصبحت لا تستطيع حل إشكال، وكأن الاشكال أصبح لنا عادة فأصبح هو القاعدة، وأصبح حله هو الشذوذ، والعقول كهذه الآلات المعروفة، إذا لم تتصرف أصابها الصدأ ثم الكلول ثم التلف.
وأضرب لنا مثلًا قضية اللحية وإعفاءها أو إحفاءها، وقضية الصوم والإفطار، وهل يناطان برؤية العين أو بالحساب، وأمثالًا أخرى كثيرة مما يتعاقب على حياتنا الدينية والدنيوية ويدخل في تصرفاتنا اليومية، وقد مر عليها بضعة عشر قرنًا وهي مشكلات قائمة تناولتها ملايين الأقلام بالكتابة، وملايين الألسنة بالكلام، وملايين العقول بالبحث، وانظر، فإذا كنا لم نستطع حل مشكلة الصوم والإفطار مثلًا- في أربعة عشر قرنًا ونحن وحدنا في الميدان لم يدخل معنا في الجدال يهودي ولا نصراني ولا وثني- فكم تقدر من القرون لحل مشاكلنا العصرية الدنيوية التي يجاذبنا حبلها اليهودي والنصراني، الخ. وأين تقديرك على اعتبار السرعة (بأربعة عشر قرنًا في اللحية)؟
أما الأمم الجارية مع الحياة فإنها تحل مشكلاتها القديمة، لتتفرغ للمشكلات الجديدة، ومن سلك هذا السبيل لم تبقَ له مشكلة، لأن المشكلات إذا وجدت العقول متهيئة لحلها قادرة عليه، متفرغة له- لم تعد مشكلة، وما صير قضايا العروبة مشكلات إلّا العرب وعقول العرب، فهم فيها بين حالات ثلاث: إما أن يسكتوا فتبقى إشكالًا، وإما أن يعتمدوا في حلها على غيرهم فيزيدها تعقيدًا أو يحلها لصالحه لا لصالحهم، وإما أن يعالجوها بأنفسهم ولكن بنيات مدخولة وضمائر مريضة وعقول ناقصة وغايات متباينة وإرادات مستعبدة، ومقاصد تافهة، فلا يكون العلاج علاجًا، وإنما يكون بلاء مضاعفًا.
ومشكلات العروبة صار لها هذا الإهمال الذي وصفناه لقاحًا، فصيّرها ولودًا، فكل مشكلة منها تلد مشاكل، ومن شاء أن يردّ كل مشكلة منها إلى أصلها، وينسب كل بنت إلى أمها، تهيأ له ذلك بأيسر تناول.
كل شؤوننا مشاكل، وكل شعب من شعوبنا مشكلة في نفسه، ومشكلة مع جاره وكل حكومة من حكوماتنا مشكلة في نفسها، ومشكلة مع جيرانها، وكل رئيس حكومة مشكلة،(5/149)
وكل زعيم ديني مشكلة، وكل زعيم سياسي مشكلة. الأمية مشكلة، والثقافة مشكلة، والمرأة مشكلة، والزواج مشكلة، والطلاق مشكلة، والعلم عندنا مشكلة، والجهل مشكلة، وما لا إشكال فيه عند جميع الناس، يصبح مشكلة حين يتصل بنا أو نتصل به، والعروبة نفسها مشكلة تنحل إلى مشكلات، فهي- جنسية- هدف لكل رام، وغرض لكل طاعن، ومدرجة لكل عاق من أبنائها العائشين على درتها يتسللون منها إلى فرعون أو فينيق أو بربر، ويتخذ بعضهم من شقرة شعره أو زرقة عينيه شهادة على نفسه، بأنه منها لغية، وأن هذه وما أشبهها لمشكلات ذات آثار سيئة عميقة في المجتمع العربي، وقد بزتها الجنسيات التي شرفها أبناؤها بالعلم والعمل والصناعة والحضارة، وأصبح أبناء العروبة يتضاءلون ويتصاغرون إذا جمعتهم الحياة بأبناء الجنسيات الأخرى، حتى ليكادون يتبرأون من العروبة.
والعروبة- لغة- غمرتها الرطانات الأعجمية، واللهجات العامية، واللغات الأجنبية، والرطانات الأعجمية أخذت منها ثم تعالت عنها، واللهجات العامية مزقتها، وأصبحت حجة عليها ومداخل ضيم لها، واللغات الأجنبية زاحمتها في ضعفاء الهمم والعزائم من أبنائها، وهذه كلها مشكلات ذات أثر سيئ وعميق في المجتمع العربي.
...
ومشكلة العروبة في الجزائر تتنوع وتتفرع، ولكنها في مجموعها أيسر حلا وأسهل علاجًا منها في بعض الأقطار العربية، لخلوها من كثير من عناصر الإشكال في الأقطار العربية الأخرى، ذلك أن مشكلات العروبة في غير الجزائر يصاحبها من الأوضاع ما يقلدها تعقيدًا وإشكالًا من تعدد الحكومات وتنوعها، واختلاف الأحكام وتضادها، ومن اختلاف الاتجاه السياسي لتلك الحكومات، ومن عدم وجود ما يسمى الرأي العام في معظم الشعوب العربية، وعدم نضج الموجود منه في بعضها، ومن التفاوت العظيم في الثقافة بين شعوب العرب، ومن اختلاف الثقافة الأجنبية على الجيل الجديد من العرب.
أما في الجزائر فإن مشكلة العروبة أساسها وسببها الاستعمار الفرنسي، وهو عدو سافر للعرب وعروبتهم ولغتهم ودينهم الإسلام، ووجود المشكلة منوط بوجوده، فإذا زال زال العنصر الأكبر منها، والسبب الأعظم فيها، وإذا بقي- ولو إلى حين- فمشكلة العروبة في الجزائر سائرة إلى واحد من اثنين: إما أن نغلب الاستعمار على عروبتنا ونعالج مشكلتنا بأيدينا - وهذا ما تفعله جمعية العلماء منذ قامت- ثم لا نجد عائقًا بعد الاستعمار الفرنسي لخلو الجزائر من العناصر العائقة كما ذكرنا، وإما أن يغلبنا الاستعمار على عروبتنا فتتطور المشكلة إلى شيءآخر وهو ما يقضّ مضاجعنا.(5/150)
وبيان ذلك- مع الإيجاز- أن الاستعمار الفرنسي صليبي النزعة فهو- منذ احتل الجزائر- عامل على محو الإسلام لأنه الدين السماوي الذي فيه من القوّة ما يستطيع به أن يسود العالم، وعلى محو اللغة العربية لأنها لسان الإسلام، وعلى محو العروبة لأنها دعامة الإسلام، وقد استعمل جميع الوسائل المؤدية إلى ذلك ظاهرة وخفية، سريعة ومتأنية، وأوشك أن يبلغ غايته بعد قرن من الزمن متصل الأيام والليالي في أعمال المحو، لولا أن عاجلته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على رأس القرن بالمقاومة لأعماله، والعمل على تخييب آماله.
وما قامت هذه الجمعية إلا لإحياء الإسلام والعروبة والعربية التي صمم الاستعمار على محوها، وما نصرها الله في الجولات الأولى أضعف ما كانت، وأقوى ما كان خصومها، إلّا لأنها نصرت دينه وأحيت لغة كتابه، وما اشتد الاستعمار في مقاومة هذه الجمعية إلى يومنا هذا إلّا لعلمه بمقاصدها هذه، وأنها على النقيض من مقاصده.
فإذا قدر لهذا الاستعمار أن يبقى في الجزائر فإنه لا ينسى ما له من التِّرات عند جمعية العلماء، وسيوجه كل جهوده لمحوها من الوجود، وهو قادر على ذلك من الآن ولكنه يتربص بها الدوائر، ويتمنى أن تسقط وحدها، بسبب من الأسباب كالعجز المالي، حتى لا يبوء بجريمة أخرى يضيفها إلى جرائمه الكثيرة في حرب الإسلام والعربية والعلم، والجمعية تعمل لهذه الثلاث، وتتحصن بها، وتشنع على الاستعمار وتقيم الحجج الدامغة على أنه عدو للإسلام، عدو للعربية، عدو للعلم. وفي ظل هذا التشنيع الذي تنشره، وتحت النقع الذي تثيره على الاستعمار- متظلمة مستعدية صارخة بالحجج مهددة بإثارة المسلمين- تعمل جمعية العلماء أعمالها المدهشة في بناء العقول وفي بناء المدارس، وفي إثارة الأفكار.
والاستعمار الذي حاربته الجمعية وحاربها يعلم قوتها ورسوخ قدمها والتفاف الأمة حولها، ولكنه يعلم- أيضًا- أن قوتها المالية محدودة، وقوّة الأمة التي تسندها محدودة كذلك، وما دامت حركتها التعليمية في ازدياد، فحاجتها إلى المال في ازدياد وسيأتي يوم تقف فيه الحالة المالية، فينهار هذا البنيان الشامخ من المدارس والمعاهد.
هذا هو اليوم الذي يترقبه الاستعمار للعروبة في الجزائر، وهذه هي المشكلة الحقيقية للعروبة في الجزائر، وهذه هي العقبة القائمة في طريق جمعية العلماء الجزائريين حامية العروبة في الجزائر، وإذا كان الاستعمار يتوقع حل المشكلة على تلك الصورة التي يتمناها، فإن جمعية العلماء تتوقعها أيضًا وتخشاها.
وما زالت الجمعية تفكر في تلك العاقبة وتقدّر لها من الحلول كل ما يجول في الخاطر حتى رأت أخيرًا أن تتوجه إلى إخوانها العرب في الشرق شعوبًا وحكومات وأشخاصًا وهيئات، ليأخذوا بيدها ما دام في الأمر فسحة.(5/151)
من أجل ذلك كانت وفادتي إلى هذا الشرق بقسميه العربي والإسلامي، فما هو موضوع هذه الوفادة؟ وماذا كانت نتائجها؟
يحسن، قبل شرح موضوع الوفادة ونتائجها، أن نعرفكم بهذه الجمعية (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) تعريفًا موجزًا، وأن نبين لكم بعض أعمالها ومقاصدها، فلعل في الاخوان الحاضرين من يعرفها معرفة مجملة أو لا يعرف عنها شيئًا:
اسم الجمعية يفصح عن حقيقتها، فهي جمعية علماء، يخدمون الإسلام بتبيين حقائقه ونشر علومه بالجزائر، ومن كان له إلمام بحالة الجزائر، وما صنعه الاستعمار الفرنسي بها، يستشعر عند سماع اسمها كل ما رآه أو سمعه من آثار الاستعمار، ويستشعر مع ذلك أن طريق هذه الجمعية شاق، وأن أعمالها صعبة، وأن تبعاتها ثقيلة، والأمر في حقيقته كذلك.
تكونت هذه الجمعية سنة 1931 ميلادية، أي في السنة الأولى من القرن الثاني لوجود فرنسا في الجزائر، هذا القرن الذي كانت تعتقد فرنسا أنه قرن الاطمئنان والراحة والنعيم والاستغلال الهنيء لخيرات الجزائر، بما مهد له القرن الأول من أكنافها بالحديد والنار. فأراد الله لها غير ذلك، وطاش فألها، فلم تسترح يومًا واحدًا من بدء هذا القرن الجديد.
كان الداعي إلى تأسيسها عوامل الهية، هي سننه في التطورات البشرية، وفي مجيء نصره للصادقين حين يستيئسون منه، وفي إملائه للظالمين حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ولكن الظاهر من أمرها، الذي يكتب وتناله القوانين هو أنها جمعية إصلاح ديني تحارب ضلالات العقائد، وبدع العبادات، ومفسدات الأخلاق، وترجع بالمسلمين إلى ينبوع الدين، ومطلع هدايته من الكتاب والسنة.
إن هذه الكلمات لأثقل شيء على سمع فرنسا ورجالها الاستعماريين في ذلك الحين وهي كلمات، فكيف بها إذا صارت أعمالًا ودعوة إلى الحق! إن الاستعمار في الجزائر كان ينفر ويُنَفِّرُ من كلمات إصلاح، وفضيلة وهداية، وكتاب، وسنة، وتاريخ سلف، ويتخيل من كل واحدة منها: عمر وعليًّا، خالدًا وعقبة وطارقًا وصلاح الدين إلى جمال الدين ومحمد عبده، لا سيما وهو يعلم أن هذه الفئة التي جهرت بهذه الكلمات ليست من طراز العلماء الذين راضهم على الخنوع له والرضى بوظائفه والجري في عنانه. إنها فئة تجمع مع قوّة العلم قوّة الإيمان، ومع قوّة الحجة قوة البيان، ومع صلابة الإرادة صلابة العزيمة، ومع علمه بهذا كله فقد تظاهر بإرخاء العنان لها، وأعدّ لها من المكائد السرية ما لا يعلمه إلّا الشيطان.
والاستعمار يرى في مبدإ جمعية العلماء- الذي أعلنته في جمل قليلة متواضعة هينة لينة- خطرًا كل الخطر على سلطانه، لأنه ما ثبت أقدامه في الجزائر إلّا بتخدير العقول بواسطة(5/152)
المبتدعين والدجالين والمتجرين باسم الدين، وقد كان لهم سلطان على النفوس فإذا زال سلطانهم زال سلطانه.
بدأت جمعية العلماء أعمالها بالاتصال بالأمة عن طريق الدروس الدينية، والمحاضرات الاجتماعية والتاريخية، مبينة لها حقائقه وما جاء به من العزة والكرامة والشرف والمجد والسيادة، وكانت الحملة شديدة، وكان التأثير بليغًا، وكان التأثر عظيمًا، فكان فزع الاستعمار- تبعًا لذلك- شديدًا، ودام هذا الدور سبع سنوات تقريبًا توثق فيها الاتصال بين الجمعية والأمة، وتغلغل الإصلاح الديني في جميع الطبقات، وتفتح الشعور إلى ما وراء الإصلاح الدينى من إصلاح دنيوي، وانتقلت أحاديث الناس في ذلك من السرار إلى العلان، ومن الخبر إلى المطالبة، ومن ثم عمت المطالبة بالحقوق السياسية، ورأت فرنسا ورجالها بعينها ما كانت تحذر، فماذا صنعت؟ إنها صنعت كل شيء، ولم تصنع شيئًا، كادت ومكرت وسلطت جيوشًا من أئمة الابتداع والمرتزقة باسم الدين على الجمعية يحاربونها ويصدون الناس عنها، فلم يجدوا لكلامهم مساغًا، بل قابلوهم بالمقت والغضب، وخسروا المقام الذي كان لهم في الأمة وخسر الاستعمار عونهم وتأييدهم لأن الأمة انفضت من حولهم، وما انتهى الدور الأول بانتهاء سبع السنوات، حتى انهدم ركن من الأركان التي كان يعتمد عليها الاستعمار، وهو هذه الطائفة التي شهد عليها التاريخ بأنها "مطايا الاستعمار".
جاء الدور الثاني لجمعية العلماء، وهو دور التربية الإسلامية والتعليم العربي الابتدائي الحر، المشتمل على مبادئ العربية وآدابها ومبادئ التاريخ الإسلامي، والتربية الإسلامية الصالحة، وجاء معه الصراع العنيف مع السلطة الاستعمارية وقوانينها الجائرة، استعدت الجمعية بالإيمان والعزيمة وتجاهل القوانين الاستعمارية، وتوطين النفوس على المكروه الذي يصيبها في سبيل تعليم الدين والعربية، وآزرتها الأمة في ذلك، لأنها أدركت بواسطة تلك الدروس والمحاضرات ما يبيته الاستعمار لدينها ولغتها، وما كان يغالطها به أولئك الدجّالون المتجرون بالدين.
صممت الجمعية على تشييد مدارس فخمة بمال الأمة، لتحيي سنة البذل في سبيل العلم، وهي منقبة في المسلم نسيها بفعل التخدير الاستعماري فأحيتها جمعية العلماء في نفوس الجزائريين، فتباروا في البذل وتنافسوا في بناء المدارس، وقابلت الجمعية هذا الاتجاه بما يكمله من برامج وكتب ومدرسين، وارتاع الاستعمار لهذه النهضة التعليمية الخطيرة، وتربص بها اشتعال الحرب الأخيرة وقضى على معظمها- بالتعطيل والاستيلاء على كثير من المدارس لاستعمالها في المصالح الحربية- واعتقل كثيرًا من العلماء ورجال التعليم، ونفى قادتهم إلى الصحراء، منهم كاتب هذه السطور، فقد قضى ثلاثة السنوات الأولى للحرب منفيًا في صحراء وهران.(5/153)
ولكن الجذوة لم تخمد في النفوس، بل زادت التهابًا ظهر أثره في أخريات الحرب وعند انتهائها، فقد اندفعت الأمة إلى تشييد المدارس، وأتت من ضروب التنافس ما بعد العهد بمثله، وما ذكرنا بما كان يأتيه السلف الكرام.
وللجمعية الآن- بل للأمة الجزائرية- أكثر من مائة وخمسين مدرسة ابتدائية حرة رغم الاستعمار الفرنسي، يتردد عليها أكثر من خمسين ألف تلميذ من أبناء الأمة الجزائرية، بنين وبنات، يدرسون مبادئ لغتهم وآدابها، وأصول دينهم وتاريخ قومهم على برنامج يجمع ضروريات العلم وإيجابيات التربية الإسلامية القومية الوطنية الصحيحة، وقد تخرج منها في هذه المدة عشرات الآلاف، يحملون علمًا قليلًا ومعه فكر صحيح، وعقيدة قومية، ونظرة إلى الحياة سديدة، وكل هذه المدارس على طراز ونظام عصريين، ومعظمها رائع فخم، وكلها ملك للأمة وبمال الأمة، وكل هذه المعاني مما يبعث القوة ويرغم الاستعمار الذي لا يحترم إلّا القوة.
ثم شيدت الجمعية معهدًا ثانويًا كخطوة أولى للتعليم الثانوي، أنفقت عليه ستين ألف جنيه مصري وعمرته بألف تلميذ وعشرين أستاذًا، وهنا تبرز مشكلة العروبة الكبرى في الجزائر متجلية في ناحيتين:
الأولى: كيف نحافظ على الموجود من هذه المدارس، وليس لنا مورد مالي قار نعتمد عليه، والموارد الحالية لا يعتمد عليها، إذ هي عبارة عن اشتراكات شهرية بسيطة من طبقات الأمة الفقيرة المؤمنة، ورسوم تعليم شهرية من آباء التلاميذ، وتبرعات غير مضبوطة، ومقادير من الزكوات الشرعية غير مضبوطة أيضًا. فهذه الأنواع من الموارد هي التي يقوم عليها هذا الجهاز العتيد من المدارس ومئات المعلمين فيها، وكلها موارد معرضة للانقطاع، والحكومة تحارب منذ السنوات الأولى لاختِلالِه، فكيف نرجو منها أن تعين، والأوقاف الإسلامية مفقودة في الجزائر لأن الاستعمار الفرنسي صادرها ولم يفرق بين أموال الله وأموال الحكومة التركية المغلوبة.
وقد كانت الجزائر أغنى الأوطان الإسلامية بالأوقاف، وكان في مدينة الجزائر وحدها ثمانية آلاف عقار لم يبق منها ولا واحد.
الناحية الثانية للمشكلة: كيف نستطيع الاستمرار في إنشاء المدارس الجديدة مسايرة لرغبة الأمة، ومراغمة لسياسة الاستعمار، وانقاذًا لما يمكن انقاذه من مليوني طفل عربي مسلم، لا يجدون مكانًا في المدارس الحكومية ولا في مدارس جمعية العلماء، فهم مشردون في الحاضر، بلاء على الأمة في المستقبل، والحكومة لا تعلمهم لأن تعليمهم مناف لمصلحتها، وجمعية العلماء عاجزة عن تعليمهم لقصر مواردها. وهذا العدد الهائل من(5/154)
الأطفال الضائعين تعترف الحكومة بوجوده وتسجله إحصاءاتها الرسمية، ولا تريد له أن يتعلم، لأنها تكتفي بإقناع الشرقيين بأنها "معلمة العالم" وأنها "قبلة العلم".
نقول الآن هذه هي مشكلة العروبة في الجزائر على الحقيقة، ويزيدها إشكالًا أن الحكومة الاستعمارية الفرنسية لا تريد حلها بعد أن كانت هي التي عقدتها، أتسفه نفسها؟ أتنسلخ عن طبيعتها؟ أيصبح إبليس ناهيًا عن المنكر يومًا ما؟ وإن جمعية العلماء لا تستطيع حلها، وإن كانت تريده، وتتمناه، لأنها لا تملك الوسائل اللازمة لحلها، وأم الوسائل المال.
...
فكر قادة جمعية العلماء في هذه النقطة وقدروا عواقبها، وأتبعوا الأيام نظرهم، وليسوا مدفوعين عن حسن النظر وبُعْده وصدقه، ووضعوا أيديهم على موضعها من سجل التفكير، وموقعها من جدول التقدير، وقالوا: "هنا المشكلة"، هنا المشكلة عند مَن يزن الأشياء بموازينها الصحيحة، لا ما سبق الحديث فيه، ولعب الخيال في مقارنته بمشكلات العروبة في الشرق، فخرج من المقارنة بأنّ مشكلتنا في الجزائر أيسر حلًّا وأسهل علاجًا، ولكن الدور الآن دور الحقائق والأرقام.
من الجائز أن تنضب الموارد الحالية بفعل الأحداث، ومن الأحداث ذهاب هذا الجيل المخضرم الذي يعتقد أن تعليم الولد كفارة ما فات أباه من العلم، ومنها توالي القحوط في أمة تعتمد في معيشتها على الزراعة، وقد شاهدنا أثرًا من ذلك في بعض الجهات.
فإذا وقع ذلك، وهو جائز قريب، كان من نتائجه سقوط المدارس، وضياع هذه الجهود.
وإذا أسقطت المدارس القديمة فكيف نطمع في اطّراد النهضة واستكمال الجهاز الكافل لتعليم مليوني طفل؟
وكانت نتيجة ذلك التفكير الطويل، والتقدير العميق اتفاق الكلمة على توجيه الوجه إلى الشرق العربي، وتنبيه الإخوان فيه- بعد تعريفهم بالحقيقة- على أنه قد وجب حق الأخ على أخيه.
اختارت جمعية العلماء للسفارة بينها وبين الشرق العربي رئيسها محمد البشير الإبراهيمي، كاتب هذه السطور، فطاف العراق والحجاز وسوريا والأردن ومصر ولبنان، وتردد على هذه الأقطار مرات في ثلاث سنوات، ولقي ملوك العرب ورؤساء حكوماتهم ووزراء معارفهم وجميع أهل الرأي فيهم، وأدى رسالته الخاصة والعامة أكمل تأدية.(5/155)
أما ـ[الرسالة العامة]ـ فهي: تعريف الشرق العربي بالغرب العربي تعريفًا تاريخيًّا شاملًا وبيان أنه قطع متجاورات متصلة الأجزاء بالشرق، وأن سكان هذا القطع يشكلون نصف العرب تقريبًا، فإذا تمادت القطيعة وعدم التعاون بين شرق العرب وغربهم- كما هو واقع - التهمت أوروبا شمال أفريقيا العربي وهضمته إلى الأبد وضاع على العرب نصف عددهم، والأمم في هذا الزمان تتكتل وتتكاثر حتى بمن ليس منها في عرق ولا دين ولا صلة، فكيف لا يتكتل العرب ويتكثرون بمن هو من صميمهم في النسب واللغة والخصائص؟
ففي سبيل أداء هذه الرسالة العامة وشرحها قضى كاتب هذه السطور ثلاث سنوات، وألقى مئات الأحاديث والمحاضرات، واستصرخ واستنجد، ونصح ووعظ وسمى الأشياء بأسمائها، وقال كلمة الحق جهيرة، وشرح وعلل وانتقد، وصاحبه توفيق الله في أداء هذه الأمانة.
وأما ـ[الرسالة الخاصة]ـ، فهي استنجاد جمعية العلماء الجزائريين بالحكومات والهيئات العربية وطلب العون المادي والمعنوي منها، حتى تستطيع الجمعية الاستمرار في عملها العظيم وهو إنقاذ الجزائر العربية من البربرة والاستعجام، وقطع الطريق على الاستعمار الفرنسي ومقاصده السيئة التي بيّتها للجزائر، وقد أعلنها وأصبح يعمل لها في وضح النهار، بعد ما استيقن أن الهيكل العربي تقطعت أوصاله، وبعد ما سحر طائفة من إخواننا العرب الشرقيين بلغته وحضارته وتهاويله فأصبحوا يسبحون بحمده، وفي آذانهم وقر عن استغاثتنا، ومن بيننا وبينهم حجاب.
والعون الذي تريده جمعية العلماء الجزائريين من حكومات العرب وهيئاتهم نوعان:
ـ[النوع الأول]ـ: قبول طوائف من أبناء الجزائر ترسلهم الجمعية ليدرسوا في المعاهد العربية على اختلاف أصنافها، ثم يرجعون إلى وطنهم الجزائر، فيقومون بالتعليم في مدارس الجمعية الابتدائية والثانوية ويسدّون فراغًا بدأت الجمعية تشعر به من الآن، ويسيّر النوابغ منهم فروع الأعمال الأخرى للجمعية وهي كثيرة مقسمة على لجان منظمة، ولكنها تفتقر إلى رجال ذوي كفاءات. فهذا إجمال النوع الأول.
أما ـ[النوع الثاني]ـ من العون الذي تطلبه جمعية العلماء الجزائريين من الحكومات والهيئات العربية والشعوب العربية أيضًا، فهو: أن يمدوها بمبالغ من المال ناجزة أو مقسمة على السنين، لتستعين ببعضها على حفظ القديم من مدارسها ومشاريعها، ولننشئ ببعضها مدارس جديدة للمشردين من أبناء الأمة المحرومين من التعليم بجميع أصنافه.
فكيف كانت سفارتي؟ وماذا كانت نتائج سفارتي؟ أسلك الآن سبيل الالتفات، فأتحدث بضمير المتكلم، لأنني أنا الذي عرضت هذه المشكلة (مشكلة العروبة في الجزائر)(5/156)
- بل مشكلة المشكلات في نهضة الجزائر الإصلاحية العلمية العربية- على الحكومات العربية، منفردة في عواصمها مجتمعة في مجلس الجامعة العربية، وممثلة في أمين الجامعة العام، وأنا الذي قدمت المذكرات المتتابعة في هذه المشكلة موضحًا شارحًا منذرًا بالعواقب، محذرًا من الإهمال والتقصير. بيّنت ذلك لجلالة الملك سعود، وولي عهده بجدة، ولحكومة العراق ببغداد مرات، ولحكومة سوريا ممثلة في الشيشكلي وفي وزارة المعارف بعده بدمشق، ولحكومة مصر في العهدين، ومعظم المسؤولين فيها، ولوزارة الأوقاف المصرية، ولحكومة الأردن بعمان، ولعدة سيوف من أمراء اليمن بالقاهرة، ووجهت عدة مذكرات إيضاحية عن هذه المشكلة لجميع الحكومات العربية بواسطة سفرائها في القاهرة، والمحور الذي تدور عليه تلك الأحاديث والمذكرات، بالنسبة إلى النوع الثاني، يدور على النقط الآتية:
أولًا: النهضة التعليمية العربية التي تضطلع بها جمعية العلماء الجزائريين معرضة لأخطار مالية تؤدي إلى انهيارها.
ثانيًا: هذه النهضة العلمية أصبحت حقيقة قوية يعترف بقوّتها وخطرها الإستعمار قبل غيره، والحق ما شهدت به الأعداء.
ثالثًا: النهضة العلمية يجب أن تكون مقدمة في الاعتبار على جميع أنواع النهضات، مقدمة في العون المالي لأنها هي الأصل وهي الطريق إلى الحرية والاستقلال، وما تحررت
أمة أمية.
رابعًا: لم تستطع هذه النهضة بعد جهاد عشرين سنة أن تعلم أكثر من عشرات الآلاف، من مليوني طفل محرومين من التعليم.
خامسًا: جمعية العلماء متدرجة في الانقاذ حسب استطاعتها، وهذه الاستطاعة محدودة لأن قدرة الأمة المالية محدودة.
سادسًا: جمعية العلماء في حاجة ملحة إلى الأنواع الآتية من المدارس:
(أ) مائة وخمسون مدرسة ابتدائية على الأقل في كل خمس سنين حتى ينتهي عدد المدارس إلى ألف مدرسة.
(ب) ثلاثة معاهد ثانوية على الأقل للذكور وإثنان للبنات في ظرف خمس سنوات، لترضي بها جزءًا من هذا الجيش المتكاثر من حَملة الشهادة الابتدائية.
(ج) معهدان كبيران على الأقل للمعلمين، ومعهد على الأقل للمعلمات، في أقرب زمن، لتسد بمن يتخرّج منها حاجة المدارس الابتدائية الجديدة إلى المعلمين.
أما رجال التعليم العالي فالجمعية معتمدة في تخريجهم على الكليات العربية والجامعات في الشرق العربي كما بيناه في النوع الأول.(5/157)
والمعنى الصريح لهذا كله أننا نطلب من الحكومات العربية أن تبني للأمة الجزائرية، التي هي جزء منها، هذه الأنواع من المدارس كما تبني في أوطانها لشعوبها، ولها أن تباشر ذلك بنفسها إن سمحت لها الأوضاع السياسية، ولها أن توكل جمعية العلماء وتحاسبها الجمعية على الفلس، كما هو ديدنها في الماليات.
إن في هذه "العملية" التي دعوت إليها الحكومات العربية معان جليلة من ملك القلوب وتمتين الروابط وتثبيت الأخوة ومراغمة العدو الذي صمم على فصلنا وجعلنا شيعًا يلعن بعضها بعضًا، فأعنّاه على ذلك بسوء تدبيرنا. ومن المحزن أن هذه المعاني الجليلة يدركها عدونا ولا ندركها.
...
وبقي الآن أن أحدث إخواني الأصفياء عن نتائج هذه السفارة التي طالت ثلاث سنوات، وهجرت لأجلها وطني وداري وعائلتي الصغرى وعائلتي الكبرى التي هي الأمة الجزائرية، وضحيت لأجلها بمصالح جمعيتي في الداخل، وقد كانت تستغرق أوقاتي كلها.
تم في النوع الأول ما يأتي:
أولًا: قررت حكومة مصر الملكية قبول عشرة طلاب بعثة من جمعية العلماء في معاهدها على حسب استعدادهم، وخصصت للواحد منهم خمسة جنيهات مصرية للشهر، وتتقاضى من كل واحد منهم في أول كل سنة دراسية رسومًا ذات أنواع تتحيف المخصص الشهري إلى أربع جنيهات وأقل في بعض الأوقات.
وقررت حكومة الثورة لأول عهدها قبول أربعين طالبًا على نفقتها، عشرين على المعارف وعشرين على الأزهر، فثبت نصيب المعارف بكل سهولة وحزم، ولم يثبت شيء من نصيب الأزهر، وأعياني التردد سنتين فسكتّ.
وفي السنة الماضية صرح لنا الرئيس جمال عبد الناصر بقبول مائة طالب جزائري بعثة لجمعية العلماء وتمت الإجراءات، ولكن قيام الثورة في الجزائر عطل البعثة عن
السفر، وما زلنا متمسكين بوعد الرئيس، فإذا تم الأمر من جهتنا يكون لنا بمصر مائة وخمسون طالبًا يدرسون على نفقة الحكومة المصرية، ولكن النقص في القضية أن المخصصات لا تكفي للضروريات، واستلزم ذلك أن نقوم لطلبة البعثة بالبقية وهي لا تقل عن مبلغ ما تدفعه الحكومة المصرية وقد تقلد في كثير من الأوقات.
ثانيًا: قررت حكومة سوريا قبول بعثة جمعية العلماء من عشرة تلاميذ لسنة 1953 - 1954، وعشرة لسنة 1954 - 1955.(5/158)
ثالثًا: قررت حكومة العراق قبول عشرة طلاب لسنة 1952 - 1953، وقبول خمسة آخرين في سنة 1953 - 1954.
رابعًا: قررت حكومة الكويت قبول خمسة عشر طالبًا لجمعية العلماء الجزائريين من سنة 1953.
خامسًا: قرر إمام اليمن ببرقية رسمية الانفاق على طالبين من بعثة جمعية العلماء الجزائريين في مصر، من شهر مارس سنة 1953، ولكن لم يتحقق شيء من ذلك إلّا منذ ثلاثة أشهر.
سادسًا: قررت الحكومة السعودية من يناير الماضي قبول خمسة طلاب في المعهد العلمي بالرياض، على نية الزيادة في العام الدراسي الآتي.
فنتيجة هذه المساعي الجدية مني في ثلاث سنوات متوالية مع الحكومات العربية، باسم الأمة الجزائرية، أن أصبح لجمعية العلماء في الشرق العربي مائة تلميذ أنفق عليهم آلاف الجنيهات في السنة زيادة على ما تنفقه الحكومات.
أما أحوال هذه البعثات في كفاية المخصصات الحكومية وعدم كفايتها، فبعثة الرياض موسع عليها إلى ما فوق الكفاية، وتليها بعثة الكويت في التوسعة، وتليهما بعثة العراق، أما بعثة مصر وبعثة سوريا فأنا منهما في عذاب أليم، لعدم كفاية المخصصات الرسمية.
هذه هي نتيجة الناحية الأولى، وهي لا تحل شيئًا من مشكلة العروبة في الجزائر بل ربما تزيد المشكلة إشكالًا ببعض الآثار التي تترتب على الابتعاث، والأحوال التي تنشأ في المبعوثين، واختلاف المناهج في المدارس العربية، والاتجاهات واللهجات المختلفة في الأقطار العربية، وسيرجع إلينا أبناؤنا- يوم يرجعون- خليطًا من اللهجات والعوائد والتأثرات، وسيكون لهذا أسوأ الأثر في الجيل الذي يتولون تربيته وتعليمه، كما ظهرت آثار اختلاف الثقافات في الشرقيين الذين تعلم بعضهم في ألمانيا وبعضهم في انجلترا مثلًا.
وأما النتيجة التي حصلت عليها في الناحية الثانية، فهي بضعة عشر ألف جنيه مصري أرسلت من أقطار عربية مختلفة، وفي أزمنة متفاوتة إلى مركز جمعية العلماء بالجزائر، وأرسلت الإيصالات إلى أصحابها مقرونة بالشكر ومجموعها لا يبني للجزائر مدرسة ابتدائية ذات عشرة فصول، وعلى هذا فهي لا تحل "مشكلة العروبة في الجزائر".
وبقيت المشكلة بحالها بل ربما ازدادت إشكالًا بآثار الخيبة وقطع الرجاء، الذي تتركه هذه الأحوال في النفوس.
ولقد قال لي كبير عربي مسؤول وأنا أحاوره في كثرة المحرومين من التعليم في الجزائر، قال لي: إن مثل هذا العدد موجود حتى في الحكومات العربية المستقلة، فقلت له:(5/159)
نعم، أعرف هذا، ولكن بإزائهم ملايين المتعلمين، فأعينونا على أن نصل بالجزائر إلى مستواكم في التعليم، وعلينا الباقي، ولا تذكر اليمن، فإن لها حكومة وميزانية وأوضاعًا مما لا يوجد في الجزائر، فإذا لم تتعلم فهي حجة على نفسها لا على غيرها.
...
يا حضرات الأصفياء:
أنا لم أصحح مرادكم بهذه الأحاديث في هذا الموضوع بالذات، هل أنتم تريدون تصوير المشكلات فقط؟ أم تريدون مع تصويرها تحليلها؟ أم تريدون مع ذلك بعض الوصفات لعلاجها؟
ولم أدرِ غايتكم من هذا الأحاديث: هل هي الاقتصار على جمعها، في كتاب؟ أم لكم قصد أعلى وأنفع؟ وهو أن تسعوا مجتمعين في علاجها مجتمعة.
إن كان الأول فما زدتم على أن تداعيتم واحتشدتم لعمل يضطلع به الفرد وإن كان الثاني وهو اعتقادي فيكم- فجندون، ولا تفندون.
وكيفما كنتم فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/160)
رسالة إلى المودودي
القاهرة في 28 يوليو سنة 1955
حضرة الأخ الأسعد العلامة الناصر لدين الله الأستاذ الكبير أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية- لاهور بباكستان:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلتني رسالتكم الكريمة تهب بنفحات من تلك النفس الزكية التي صفت كما يمفو الذهب على السبك، وابتلاها الله بأقسى ما يبتلي به عباده المؤمنين فصبرت وحققت أن صاحبها ممن وصفهم القرآن بأنهم أحسن عملًا، ومحصها بأصناف من التمحيص فخلصت متلألئة مشرقة سامية عن المعاني الترابية التي ارتكس فيها كثير من هذا الصنف العلي ووا أسفاه.
الإسلام- أيها الأخ الجليل- في حاجة اليوم إلى ذلك الطراز السامي الذي قام عليه عموده في الأرض يوم نزل فيها على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، محتاج إلى تلك الأمثلة العالية من الصبر على الحق والموت في سبيله، ولقاء المنايا كالحات في ميدان نصرته، وإعزاز قبيله، وتمهيد سبيله، وقطع البراري والبحار لنشره وغرسه وتثبيت عقائده في النفوس وقواعد ملكه في الأرض، وما انحصر الإسلام إلى هذه الدركة- التي تشكوها ويشكوها أخوك والنفر القليل من العلماء الربانيين- إلّا يوم أهان علماء الدين أنفسهم، فهانوا على الله، فهانوا على الناس، وأصبحوا صورًا مزورة على الحقائق، وأصبح الإسلام في نفوسهم وألسنتهم وأحوالهم وأعمالهم صورًا مزورة عن حقائقها أيضًا، ويا شؤمهم على الإسلام.
وصلتني رسالتكم فوردت على قلب مفعم بحبكم في الله، وعلى نفس مملوءة بعرفان قدركم والتغالي في قيمتكم، وذهن عامر بأعمالكم للإسلام وتفانيكم في تجلية حقائقه والذود عن حياضه في وقت قل فيه الذادة عنه، والقادة إليه، والسادة به، فما منا إلّا المذود المقود المسود.(5/161)
لم تذكِّر رسالتكم مني ناسيًا، وهيهات أن أنساكم، بل ما زال لساني رطبًا بذكركم ومجالسي معطرة بالثناء عليكم وعلى أعمالكم، متصلًا ذلك أوله بآخره، وأوله منذ قرأت أول كتاب لكم من إهداء أخي العربي البليغ المأسوف على بيانه وجهاده الأستاذ مسعود عالم الندوي، وآخره منذ شرفني الله باللقاء بكم في منزلكم العامر بلاهور، وجاءت المحنة التي جعلها الله لكم رفعة قدر ومنبع فخر، وحسن ذكر، فضيقت على لساني مجال القول إلّا فيكم، والحديث إلّا عنكم، وطالما أرسلت البرقيات صارخة بالاحتجاج القوي المنطق، وكنت على يقين كرأي العين بأن الله جاعل لكم من أمركم مخرجًا، وأنه لا يخذل عباده المؤمنين به، الذابين عن دينه، حتى هتفت الأنباء بالفرج وتناقلت الصحف البشائر، وتبين ما كنت أعتقده من اللطائف، وهو أن لله فيكم سرًّا هو مجلّيه لوقته، وأنه مستبقيكم لأداء أمانة وإظهار خارقة لخير الإسلام قد أظلّ زمانها، وأن قلبي ليحدثني بها حتى كأني أراها، ذلك أنني عميق التأمل في تاريخ الإسلام ومراحله المتدرجة في الكون مع الدهر، وطالما وقف هذا التأمل بي على أن البدء تتبعه إعادة، وأن هذا الانحطاط قد بلغ غايته ولم يبق إلّا الارتقاء، سنة الله في الأديان وحامليها، وإذا كانت الإرهاصات مقدمات للنبوة والدين، فإنها كذلك مقدمات لتجديد شباب الدين، ويقيني أن هذه البوارق ستتبعها صواعق، وأن هذه الرعود سيتبعها غيث مدرار، وأن وجودكم ووجود عصبة من أمثالكم- متفرقة في الأقطار الإسلامية- لإيذان من الله جلت قدرته بقرب تبلج الفجر الصادق المرتقب بعد هذا الليل الطويل الحالك.
أما ما أشرتم إليه من عدّي في زمرة المنتصرين لقضيتكم الساعين في خلاصكم من المحنة، فأنا فخور بهذا، متحدث بتوفيق الله إياي لرفع صوتي بكلمة الحق فيه، ولكني مع ذلك أكاد أتوارى خجلًا من ذكره، فضلًا عن شكره، لأنني قمت بأيسر اليسير من واجب تبذل فيه المهج، وبقي عليّ آخر شيء في جدول الواجبات، وهو المبادرة بتهنئتكم ببرقية على المألوف بين الناس، ولكنني فكرت في غمرة من الفرح، ونشوة من الاغتباط للإفراج عنكم، فصورت لي الخواطر الممثالة على مشاعري أنني "صاحب الدار" وأنني أحق الناس بأن اأكون المهنأ لا المهنئ، وفي لجة هذا الخيال الشعري الغامر- الذي لا يصح عذرًا إلّا عند الشعراء الهائمين في آفاق الخيال- ذهبت الأيام والأسابيع حتى أيقظتني رسالتكم الكريمة، فعلمت أن الله أبى إلا أن تكونوا البادئين بالفضل، السابقين إليه.
نرجو أن تتصل الرسائل بيننا والكتب والنشريات المتعلقة بالإسلام وحقائقه، فإن في ذلك صلة بين الأجزاء، وقوة للعاملين، وعونًا على وعورة الطريق.
وسلام الله عليكم، ورحمته تغشاكم، وبركاته تراوحكم وتفاديكم، من أخيكم المشتاق إليكم، المعتز بكم.
محمد البشير الابراهيمي(5/162)
من أنا؟ *
أنا محمد البشير بن محمد السعدي بن عمر بن محمد السعدي بن عبد الله بن عمر الإبراهيمي نسبة إلى قبيلة عربية ذات أفخاذ وبطون تعرف بـ "أولاد ابراهم"، وهي إحدى قبائل سبع متجاورة في سفوح الأطلس الأكبر الشمالية المتصلة بقمم جبال أوراس من الجهة الغربية، وكل ذلك واقع في مقاطعة قسنطينة من القطر الجزائري، وتجتمع قبيلتنا مع هذه القبائل السبع في يحيي بن مساهل ذي النسب الشريف المتواتر بالسماع الفاشي، والثابت عند أئمة النسّابين أمثال الإمام عبد الرحمن الصبّاغ البجاوي صاحب كتاب الفصول المهمة، ويقع في عمود نسبنا خمسة من العلماء الاجلّاء، عاشوا في ما بين المائة التاسعة والمائة الثالثة عشرة للهجرة، وكلهم كتب عن هذا النسب وأثبته بالأدلة التاريخية الممكنة، وآخرهم جدّي الأدنى الشيخ عمر الإبراهيمي وله فيه كتاب قرأته وأنا صغير. ومهما يكن من أمر هذا الشرف النسبي الذي ورثتُ عدم الاهتمام به من عمّي الذي ربّاني وعلّمني، فممّا لا شك فيه أن نسبنا عربي صميم، إن لم يكن في قريش فهو في هلال بن عامر، لأن موطننا الحاضر من المجالات الأولى التي كان لبني هلال فيها مضطرب واسع لأول هجرتهم من صعيد مصر في أواسط المائة الخامسة.
مولدي:
ولدت عند طلوع الشمس من يوم الخميس الرابع عشر من شوال عام 1306 هجرية الموافق للثالث عشر جوان 1889 ميلادية، سمعت ذلك من عمّي الآتي ذكره وقرأته بخط جدّي الأدنى على ظهر كتاب من كتبه سجل فيه مواليد الأسرة ووفياتها، وفيها مواليد أخواتي اللاتي ولدن قبلي، ولم يعش لوالدي من الذكور غيري
__________
* هذا حديث كتبه الشيخ جوابًا عن أسئلة مجلة "المصور" المصرية، ونشر في سنة 1955.(5/163)
نشأتي وتعلّمي:
نشأت على ما نشأ عليه أبناء البيوتات العلمية الريفية من طرائق الحياة، وهي تقوم دائمًا على البساطة في المعيشة والطهارة في السلوك والمتانة في الأخلاق، والاعتدال في الصحة البدنية، كل ذلك لبعد أريافنا في ذلك العهد عن الحضارة الجليبة ومواقعها من المدن، فلما بلغت التاسعة أصيبت رجلي اليسرى بمرض، وكان للإهمال والبعد عن التطبيب المنظم أثر كبير في إصابتي بعاهة العرج في رجلي، وقد أنساني ألمها والحزن عليها ما كنت منكبًّا عليه من التهام كتب كاملة بالحفظ، فكان لي بذلك أعظم سلوى عن تلك العاهة، وفي ما عدا تلك العاهة فأنا مدين لتربيتي الريفية في كل ما أتمتع به إلى الآن من قوى بدنية وفكرية وخلقية.
قام على تربيتي وتعليمي من يوم درجت عمّي شقيق والدي الأصغر الشيخ محمد المكّي الإبراهيمي عالم إقليمنا المعروف بوطن "ريغة" وفريد عصره في إتقان علوم اللسان العربي، وكانت الأسر العلمية بوطننا قائمة على تقليد قديم متوارث وهو أنها تقوم بوظيفة المدرسة المعروفة، فيأوي إليها المنقطعون لطلب العلم عشرات ومئات، وتتكفل الأسرة بإطعام الغرباء منهم مهما كان عددهم احتسابًا، ويقوم عالم الأسرة أو علماؤها بتعليمهم دروسًا منظمة على ساعات اليوم، لكتب غالبها مما يدرس في الأزهر إلى عهد قريب وإلى الآن، ومن هذه الأسر أسرتنا التي توارثت العلم من خمسة قرون مضت في ما هو معروف، ومن نوابغها المعروفين الذين ما زالت أسماؤهم دائرة على الألسنة، المعدودين من أعلام الفتيا والتدريس والانقطاع للنفع ابتغاء مرضاة الله: الشيخ محمد الشريف العمري الإبراهيمي والشيخ المبارك الإبراهيمي، والشيخ القريشي الإبراهيمي، وكل هؤلاء وغيرهم عاشوا في القرون الثلاثة الأخيرة.
تعلمي:
لم أفارق في تعلمي بيت أسرتي، فهي مدرستي التي تعلمتُ فيها وعلمت، أخذني عمّي بالتربية والتعليم منذ أكملتُ السنة الثالثة، وكنت ملازمًا له حتى في النوم والطعام، فكان لا يخليني دقيقة واحدة من فائدة علمية، وكانت له طريقة عجيبة في تنويع المواضيع والمحفوظات حتى لا أملّ، واختصصت بذاكرة وحافظة خارقتين للعادة، وعرف رحمه الله كيف يصرفهما فيّ، فحفظت القرآن حفظًا متقنًا في آخر الثامنة من عمري، وحفظت معه- وأنا في تلك السنّ، نتيجة للتنويع الذي ذكرته- ألفية ابن مالك وتلخيص المفتاح، وما بلغت العاشرة حتى كنت أحفظ عدّة متون علمية مطولة، وما بلغت الرابعة عشرة حتى كنت أحفظ أَلْفِيَتي العراقي في الأثر والسير، ونظم الدول لابن الخطيب ومعظم رسائله المجموعة(5/164)
في كتابه ريحانة الكتاب، ومعظم رسائل فحول كتاب الأندلس كابن شهيد وابن أبي الخصال وأبي المطرف ابن أبي عميرة، ومعظم رسائل فحول كتاب المشرق كالصابي والبديع، مع حفظ المعلقات والمفضليات وشعر المتنبي كله وكثير من شعر الرضي وابن الرومي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس، كما استظهرت كثيرًا من شعر الثلاثة جرير والأخطل والفرزدق، وحفظت كثيرًا من كتب اللغة كاملة كالإصلاح والفصيح، ومن كتب الأدب كالكامل والبيان وأدب الكاتب، ولقد حفظت وأنا في تلك السن أسماء الرجال الذين ترجم لهم نفح الطيب وأخبارهم وكثيرًا من أشعارهم، إذ كان كتاب نفح الطيب- طبعة بولاق- هو الكتاب الذي تقع عليه عيني في كل لحظة منذ فتحت عينيّ على الكتب، وما زلتُ أذكر إلى الآن مواقع الكلمات من الصفحات وأذكر أرقام الصفحات من تلك الطبعة، وكنتُ أحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد مما يحقق ما نقرأه عن سلفنا من غرائب الحفظ. وكان عمّي يشغلني في ساعات النهار بالدروس المرتبة في كتب القواعد وحدي أو مع الطلبة ويمتحنني ساعة من آخر كل يوم في فهم ما قرأت فيطرب لصحة فهمي، فإذا جاء الليل أملى علي من حفظه- وكان وسطًا- أو من كتاب ما يختار لي من الأبيات المفردة أو من المقاطيع حتى أحفظ مائة بيت، فإذا طلبت المزيد انتهرني وقال لي: إن ذهنك يتعب من كثرة المحفوظ كما يتعب بذلك من حمل الأثقال، ثم يشرح لي ظواهر المعاني الشعرية، ثم يأمرني بالنوم رحمه الله.
مات عمّي سنة 1903 ولي من العمر أربع عشرة سنة، ولقد ختمت عليه دراسة بعض الكتب وهو على فراش المرض الذي مات فيه، وأجازني الإجازة المعروفة عامة، وأمرني بأن أخلفه في التدريس لزملائي الطلبة الذين كان حريصًا على نفعهم، ففعلت ووفّق الله وأمدتني تلك الحافظة العجيبة بمستودعاتها، فتصدرت دون سن التصدّر، وأرادت لي الأقدار أن أكون شيخًا في سن الصبا، وما أشرفت على الشباب حتى أصبت بشر آفة يُصاب بها مثلي وهي آفة الغرور والإعجاب بالنفس، فكنت لا أرى نفسي تقصر عن غاية حفّاظ اللغة وغريبها وحفاظ الأنساب والشعر، وكدت أهلك بهذه الآفة لولا طبع أدبي مرح كريم، ورحلة إلى الشرق كان فيها شفائي من تلك الآفة.
رحلتي إلى الشرق:
رحلت من الجزائر إلى الحجاز سنة 1911 وعمري إحدى وعشرون سنة ملتحقًا بوالدي الذي اتخذ المدينة قرارًا له وأمرني بالالتحاق به، فمررت على القاهرة وأقمت بها ثلاثة أشهر، طفت فيها بحلق الدروس في الأزهر، وزرت شوقي الذي كنت راوية لشعره، وحافظ إبراهيم في مقهى من مقاهي القاهرة، والشيخ رشيد رضا في دار الدعوة والإرشاد، وجماعة(5/165)
من علماء الأزهر، ثم ألقيت الرحال بالمدينة حيث استقر والدي، وعكفت على القراءة والإقراء، فكنت ألقي عدّة دروس متطوعًا وأتلقى عدّة دروس في التفسير والحديث، وأعانتني تلك الحافظة على استيعاب أسماء الرجال وحفظ كتب كاملة في الحديث، وكنت أغشى ثلاث مكتبات جامعة غنية بعشرات الآلاف من المخطوطات النادرة: مكتبة شيخ الإسلام ومكتبة السلطان محمود ومكتبة شيخنا الشيخ الوزير التونسي مع مكتبات أخرى شخصية، فبلغت منها غايتي حفظًا واطلاعًا مدّة خمس سنوات وشهور.
هذا الطور من حياتي هو الذي تفتح فيه ذهني للأعمال العامة، فشاركت برأيي في الآراء المتعلقة بالسياسة العامة للدولة العثمانية، وفي علاقة العرب بها، وفي الإصلاح العلمي بالحرم المدني، وبإشرت هذا الأخير بنفسي مع ثلة من شباب الطلبة المتنورين، وقد كاد ينجح ويؤتي ثمراته لولا أن فاجأتني الحرب العالمية الأولى ثم ثورة الشريف حسين بن علي التي كنت من المقاومين لها بقلمي ولساني، ثم كانت هي السبب في إجلاء سكان المدينة عنها. إلى الشام والاناضول.
انتقالي إلى دمشق:
كنت أنا ووالدي من المرحّلين من المدينة إلى الشام في النصف الأخير من سنة 1916، فاستقررت بدمشق في حالة يرثى لها، واتصل بي إثر وصولي جماعة من أهل العلم والفضل، واتصل بي جمال باشا بواسطة عون من أعوانه هو نقيب الأشراف السابق يريدني على أن أخدم سياسته بقلمي ولساني، فتجافيت عن ذلك بتحايل لطيف، واتصل بي كثير من أصحاب المدارس الأهلية العربية، فقبلت التعليم عندهم لأقوم بحاجتي وحاجة والدي وأتباعنا، ثم حملني جمال على أن أكون أستاذًا للعربية في "السلطاني" وهو المدرسة الثانوية الأولى بدمشق، وما كدت أباشر عملي فيها حتى ذهب جمال باشا ثم ذهب السلطان التركي بعده بقليل، وأصبح التعليم الرسمي كله عربيًا، فأصبحت بذلك أستاذًا للآداب العربية وتاريخ اللغة وأطوارها وفلسفتها بالمدرسة السلطانية الأولى، واطمأنت بي الدار إذ وقعت على وظيفتي الطبيعية، وتخرج على يدي في ظرف سنة واحدة جماعة من الصفوف الأولى هم اليوم في طليعة الصفوف العاملة في حقل العروبة.
رجوعي إلى الجزائر:
كان الأمير فيصل بن الحسين حينما دخل دمشق يريدني على الرجوع إلى الحجاز لأتولى إدارة التعليم فيه، وكان يلح عليّ في ذلك كلما لقيته، وهو صديق لي منذ كنا نجتمع بالمدينة في حضرة أخيه الأمير علي، وأنا غير راض عن سياسة أبيه وغير مطمئن إلى حكمه(5/166)
وإدارته، فكنت أطاوله في ذلك وأعلله، ثم اضطربت أحوال سوريا في النصف الأخير من 1919 وتبين لي مصير فيصل ومصير سوريا فقلبت الرأي على وجوهه وعواقبه، وجاءتني من الجزائر أخبار متواترة تفيد أن الجو فيها أصبح صالحًا للعمل المثمر في العلم وفي السياسة، فعقدت العزم على الرجوع إلى الجزائر، وقد كنت تزوجت في تلك المدّة بدمشق ومات والدي وولدي بها.
رجعت إلى الجزائر في أوائل سنة 1920 على نية القيام بعمل علمي عام يعقبه عمل سياسي، فوجدت الجو أصلح مما تركته سنة 1911 بسبب تأثير الحرب وويلاتها في النفوس، ولكن الاستعداد في الأمة لم يكن كافيًا للقيام بعمل يعتمد عليها، فاتفقت أنا وجماعة من إخواني العلماء الأحرار على أن نبتدئ بإكمال الاستعداد في الأمة وقررنا الوسائل المؤدية إلى ذلك، وكان الجهد شاقًا والنتائج بطيئة، ولكننا صبرنا عشر سنوات مع مواصلة ذلك الجهد الشاق، وجاءت سنة 1930 حدًا فاصلًا بين الماضي والحاضر، ففيها تم للاحتلال الفرنسي من العمر مائة سنة، وأقامت فرنسا المهرجانات ابتهاجًا بذلك، وسخطت الأمة العربية الإسلامية على ذلك، ورأت في بعض مواد المهرجان إهانة سافرة لها وامتهانًا لِمَجْدِها وجرحًا لكرامتها وافتراءً على تاريخها، واستغللنا نحن ذلك كله في إثارة نخوتها وإيقاظ إحساسها وإكمال استعدادها للعمل، وفشلت تلك المهرجانات بأعمالنا وبعوامل أخرى خارجية، وخسرت فرنسا آمالها المرجوة منها كما خسرت الأموال الطائلة التي أنفقتها عليها.
تأسيس جمعية العلماء الجزائريين:
تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في سنة 1931، وكانت عوامل تكوينها طبيعية بسيطة عن قصد، لئلا تثير من الاهتمام ما يدعو إلى مقاومتها قبل أن تستوي على سوقها فتكون الضربة القاضية عليها، ولو قضي عليها إذ ذاك لما استطعنا تجديدها في عشرات السنين، وعشنا في ظل تلك البساطة سنة ثبتنا فيها قواعد العمل، واتّصلنا بطبقات الأمة ووثقنا فيها العلائق بها، وما جاءت السنة الثانية حتّى بدأت الأيدي المتدسسة تعمل عملها، ولكنها لم تؤثر شيئًا لأن مبادئ الجمعية تغلغلت في ذلك الزمن القصير إلى مستقر العقيدة من نفوس من كمل استعدادهم من الأمة.
عملي في الجمعية:
أخجل حين أتحدث عن عملي في الجمعية، فلأترك الشهادة للواقع الذي عرفه من عرفه، وسيعرفه كل من بحث عنه، وإنما أنا معتز بالثقة التي أولانيها إخوان من يوم تكونت هذه الجمعية، فلم أزل وكيلها من يومئذ نائبًا عن الرئيس الإمام عبد الحميد بن باديس باني(5/167)
نهضة الجزائر بجميع فروعها، وكنت أقوم عليه بكثير من الأعمال إلى أن توفاه الله في السادس عشر أبريل سنة 1940 وأنا في الاعتقال، فانتخبني إخواني رئيسًا للجمعية، وما زلت متشرفًا بهذه الرئاسة إلى الآن، وكان من أعمالي بعد خروجي من الاعتقال ثلاث سنوات أن أسّست في سنة وبعض السنة نحو سبعين مدرسة عربية حرّة متفرقة في جهات القطر بمال الأمّة، وقد وصل عدد المدارس الابتدائية الحرّة التي أسستها الجمعية بسعيي وإشرافي وبمال الأمة الخالص نحو مائة وخمسين مدرسة منها الضخم الفخم ومنها دون ذلك، وتحتوي هذه المدارس على نحو خمسين ألف تلميذ، وعلى نحو أربعمائة معلم، يتوّجها معهد ثانوي فخم يأوي نحو ألف تلميذ، وهو بجميع مرافقه ملك للأمّة.
موقف الاستعمار منّي:
يقبح بالمجاهد أن يذكر للناس ما أصابه في سبيل الله من بلاء، ولكنني مطلوب بهذا كجزء من تاريخ حياتي، فلأذكر- استحياءً- لقراء "المصوّ" بعض ذلك.
لا أذكر الملاحقات الجزئية والمضايقات فتلك طبيعة الاستعمار مع كل عامل على غير هواه، وإنما أذكر الكليات الكبرى، فقد أصدرت الحكومة الفرنسية أمرًا باعتقالي في أوائل الحرب العالمية الثانية بدعوى أن وجودي خطر على الأمن العام، وتم نفيي عسكرّيًا يوم 10 أفريل سنة 1940 إلى قرية نائية في الجنوب الوهراني، ودام ذلك النفي ثلاث سنوات إلّا قليلًا، ولما أطلق سراحي وُضِعت تحت المراقبة الإدارية سنوات إلى أن انتهت الحرب، وفي يوم انتهاء الحرب دبّر المعمرون مذابح 8 ماي 1945، وفي ليلة 27 منه كبست داري بقوّة عسكرية، ففتشوا منزلي وساقوني إلى السجن العسكري بالعاصمة، في غسق الليل وبصورة مزعجة محاطًا بقوات أخرى من داري إلى السجن وبينهما نحو 8 كيلومترات، ولبثت في زنزانة ضيقة تحت الأرض لا آرى الضوء ولا استنشق هواء الحياة نحو سبعين يومًا، وكانوا لا يخرجونني منها إلّا ربع ساعة في 24 ساعة مع حراسة مشدّدة، فلما انهارت صحتي نقلوني إلى حجرة منفردة على وجه الأرض وفيها بعض وسائل الحياة، ولما أكملت مائة يوم نقلوني ليلًا في طائرة خاصة مخفورًا إلى السجن العسكري بمدينة قسنطينة حيث كان مسرح الحوادث الدامية الفظيعة التي ارتكبتها عصابات المعمرين ضد الأهالي الآمنين، وكان هذا النقل تمهيدًا لمحاكمتي في محكمة عسكرية على الحوادث التي دبّرها الاستعمار وأهله، وكنت إذا اشتدّ علي المرض نقلوني إلى المستشفى العسكري تحت الحراسة الشديدة في حجرة منفردة، ولبثت في السجن العسكري ومستشفاه أحد عشر شهرًا، ولبث في المعتقلات عشرات الآلاف من رجال الجمعية وأنصارها وأتباع الحركات الوطنية مثل تلك المدة، ثم بدا للاستعمار فأطلق سبيل الجميع باسم العفو العام لا باسم الرجوع إلى الحق.(5/168)
وبعد خروجنا من السجون والمعتقلات، وبعد فتح المدارس التي عطلوها نتيجة لتلك الحكاية المدبرة، رجعت إلى عملي من تعمير المدارس القديمة وتأسيس مدارس جديدة، حتى بلغت العدد الذي ذكرناه، ونجحت في إحياء اللغة العربية نجاحًا منقطع النظير.
رحلتي إلى الشرق:
في يوم 7 مارس سنة 1952 خرجت من الجزائر إلى الشرق في رحلة منظمة البرنامج واضحة القصد، وأقمت في القاهرة أسبوعًا ثم سافرت إلى باكستان فأقمت بها قريبًا من ثلاثة أشهر استوعبت فيها زيارة المدن الباكستانية من كراتشي إلى كشمير وما بينهما، وألقيت في هذه المدن نحو سبعين محاضرة في الدين والاجتماع والتاريح وأمراض الشرق وعلاجها، ثم رحلت عنها إلى العراق، فاستوعبت مدنها من البصرة إلى حدود تركيا وإيران من جبال الأكراد، وألقيت فيها عشرات المحاضرات الاجتماعية والدروس الدينية، ثم رحلت عنها بعد نحو ثلاثة أشهر إلى الحجاز في حج سنة 1952 نفسها، وألقيت كثيرًا من المحاضرات والأحاديث، ثم رجعت إلى القاهرة يوم 24 أكتوبر من تلك السنة، ثم ترددت منها على العراق والحجاز وسوريا والأردن والقدس مرات متعددة وألقيت في جميعها كثيرًا من المحاضرات.
الغرض من هذه الرحلات أمران رئيسيان: الأول مشاركة دعاة الخير في هذا الشرق في ما يدعون إليه، وأنا أرى أن هذا فرض عليّ يجب أن أؤديه، والثاني التعريف بالجزائر المنسية من إخوانها، ودعوة الحكومات الإسلامية والعربية على الخصوص إلى إعانتها في نهضتها الثقافية.
أما الغرض الأول فقد حققته بنفسي لأنني أملكه، وأما الغرض الثاني فقد تحقق جزء يسير منه، وأنا ساع في تحقيقه على صورة أكمل، والجزء الذي تحقق هو أن كثيرًا من الحكومات العربية قررت قبول بعثات من تلامذة جمعية علماء الجزائر يدرسون في معاهدها على نفقتها، ولنا اليوم بفضل هذه المساعي خمسة عشر طالبًا في العراق وخمسة عشر طالبًا في الكويت وثلاثون طالبًا في سوريا ونحو خمسين طالبًا في مصر.
وقد كونت في القاهرة مكتبًا باسم الجمعية ليشرف على هذه البعثات، وستتسع أعماله باتساع البعثات وتزايد أعدادها، ولي مع الحكومات العربية وعود، إن تمت فسيبلغ عدد الطلاب إلى مئات، وتسدد جامعة الدول العربية بعض نفقات المكتب.(5/169)
أولادي:
أسرتي الخاصة لم تزل بالجزائر، وقد عاش لي من الأولاد ابنان وبنتان، وأكبر الولدين محمّد يباشر أعمالًا طفيفة من التجارة يستعين بها على حاجيات الأسرة، وقد قطعته عن الدراسة- بعد أن وصل إلى سنة البكالوريا- عوائق منها مرض خطير معطل ألمّ به، ومنها اضطراره إلى القيام بالعائلة في سنوات اعتقالي، ونصيبه في الدراسات العربية والفرنسية قوي وافر، وأما أصغر الولدين أحمد فقد درس الطب في جامعة الجزائر ودرس العربية في البيت، وحظه منها لا يقل عن حظه من الفرنسية، وهو في هذه السنة يكمل السنة الخامسة للطب في جامعة باريز، ويحضر الأطروحة في السنة الآتية، ويستعدّ للتخصّص، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وسيكون من الأوائل الذين تخرجهم جامعة الجزائر في هذه السن.
حالتي المادية:
ليس لي مال موروث ولا مكتسب، وأهلي يعيشون في الجزائر على مرتب شهري من صندوق الجمعية، تضايقهم فيها نفقات الولد الذي يدرس في باريس، أما أنا فلا أدري الحكمة التي بنى عليها محرر "المصور" هذا السؤال المحرج، ولا أدري أأجيبه بالواقع؟ أم أجيبه بظن الناس وتقوّلهم؟ فَلْأُجِبْهُ بالاثنين: فالناس يظنون أنني أتقاضى مرتبًا من الحكومة السعودية أو من غيرها من الحكومات العربية. وليس لهذه الظنون حقيقة ولا ظلّ من الحقيقة، أما الواقع- وسامح الله الأخ الذي أدمج هذا السؤال في الأسئلة فأحرجني بالسؤال، وأحوجني إلى الإجابة ... - الواقع يا سيّدي السائل أنني أعيش بالدين (بفتح الدال)، ولي في خلاص هذا الدين طريقة وهي قضاء الدين بالدين، كما قالوا في من يغسل الدم بالدم، ولا أدري أيؤاخذ القانون على هذا؟ وما دخل القانون إذا لم تقع مطالبة؟ على أن إقامتي بمصر مؤقتة، وقد دخلتُها شريفًا وسأخرج منها إن شاء الله أشرف مما دخلتُها.(5/170)
في الذكرى الأولى للثورة الجزائرية *
إنه لمن السنن المقدّسة أن نحتفل بمرور عام على ظهور هذا المولود إلى عالم الوجود، وإنه لمن دواعي فخرنا أن نحتفل بذلك، فسلام على هذا المولود، وسلام على الأم الولود، وسلام على الحافظ لمهده، وسلام على الحارسين لهذا المهد، وسلام على المربّي إلى أن ينشأ نشأته الحرة إلى أن يصبح مستقلّا، فيبلغ ما يبلغه الرجال، بل سلام عليه وهو يمرّ بما تفرضه السُّنَن الإلهية في المواليد فيدبّ ثم يشبّ.
هذا المولود الذي ستكون نتيجته أو ثمرته أو بلوغه الأَشُدّ أن تبلغ الجزائر كل استقلالها، هذا المولود الذي هو تلك الثورة العارمة التي شَنَنّاها على الاستعمار الغاشم ولن تكون نتيجتها إلا التحرير إلّا بلوغ الحرية التامّة للوطن الجزائري بل المغربي كله، هذا الوطن الذي اصطبغ بدم أبنائه وسيظلّ هكذا إلى أن ينتصر الحق.
هذا الوطن الذي يهبّ أبناؤه الآن هبّة رجل واحد لنصرة العروبة والإسلام، فلا نرى منهم إلّا الثائر أو المهيّأ للثورة على الأقلّ والدافع إليها والممهّد لها، هؤلاء هم إخوانكم العرب المسلمون الذين يطلبون قلوبكم ويأملون بعواطفكم، وتلك هي الجزائر العربية المسلمة التي تخصّكم كما تخصّهم منذ ثلاثة عشر قرنًا.
فالإسلام قد دخل الجزائر ونبت في قلوب الجزائريين منذ عهد عقبة بن نافع وحسّان بن النعمان، وهذا التاريخ المجيد للعروبة والإسلام في الجزائر يعرفه الفرنسيون حق المعرفة، هؤلاء الذين يَدّعون بكل وقاحة أن الجزائر قطعة من فرنسا دون أن يلحظوا الأدلّة ضدّهم في اختلاف اللغة والعادات والدين، وذلك البحر الذي يفصلنا عنهم يشهد بالوقائع التاريخية بيننا وبينهم منذ أن كنّا بَرْبَرًا إلى أن صرنا عربًا ومسلمين. فأين العقل النيّر في العالم الذي
__________
* مجلة "العرفان"، لبنان، المجلد 43، الجزء3، كانون الأول (ديسمبر) 1955.(5/171)
يُميّز الحق من الباطل؟ وأين الضمير الحي الذي يعترف بهذه الحقيقة؟ فإن من المؤسف أن لا نرى أثرًا لشيء من هذا، وأن العالَم لا يدين إلّا للقوّة، وأن أقوال فرنسا الباغية وإذعاءاتِها لَتجد أذنًا صاغية في هذا العالَم الضالّ الذي يتجاهل الحقيقة الباهرة في إسلام الجزائر وعروبتها، بل وصمودها على العروبة والإسلام برغم فتوحات غير المسلمين لها الذين لم يستطيعوا أن يحوّلوا فيها رجلًا عن دينه بينما استطاع هذا التحويل مَنْ فتح الأندلس العربية المسلمة.
إلى هذا الحدّ تعمى فرنسا عن الحقائق، وإلى هذا الحدّ تتجاهل الحرية والعدل والمساواة التي تسمّي نفسها بها، بينما الحقيقة الواقعة التي لا ريب فيها أن هذه المعاني السامية لا بدّ أن يوجد أحدها في أية أمّة من الأمم، وقد توجد كلها مجتمعة في شعب من الشعوب إلّا فرنسا هذه التي برهنتْ على أنها لا تحوي معنًى واحدًا منها.
وهذا قول خبير بفرنسا أقوله عن علم ودراية، وأنا الجزائري الذي عرف فرنسا في بلده المستعمَر من قبلها، المظلوم بحكمها، الملتاع بقسوتها، وأؤكّد لكم أنه لا يستطيع إنسان أن يعرف فرنسا على حقيقتها إلّا أن يراها في الجزائر، فهناك يرى فيها الأنانية المجسّمة والوحشية القصوى.
نعم فالجزائري هناك لا يمكن أن يبصر نور الحرية والحياة لأنهما وقف على فرنسا، وفرنسا وحدها.
نعم أيها الإخوان العرب، لِنُمجِّدْ ثورة الجزائر المقدّسة، لنمجّد هذه الثورة التي تحمي الوطن العربي الجزائري المسلم، لنمجّدها فتمجيدنا لها هو تمجيد للنبل والشهامة، للحمى والذمار، وستنتصر هذه المثل العليا، وسَيَحيا هؤلاء الأبطال الذين سينصرونها، هؤلاء الذين يجاهدون جهاد شخص واحد فلا يعترفون بكلمة أنت أو هو أو أنا أو أنتما أو أنتم، فكلها ضمائر في بطون الكتب ليس لها شأن في جهادهم الموحّد وقلبهم الواحد الفرد.(5/172)
في السعودية وباكستان
والعراق وسوريا
(مارس 1956 - أغسطس 1957)
ــــــــــــــــــــــــــــــ(5/173)
كامل كيلاني: باني الأجيال *
من الكتب ما يقرؤه القارئ فيجد فيه نفسه، حتى لكأنه منه أمام مرآة صقيلة، ومنها ما يقرؤه فتضيع فيه حقيقته ومعالمه، فكأنه فيه خلق آخر،: أزيد أو أنقص أو مشوّه. وكُتُب شيخ أدباء العصر الأستاذ الكبير كامل كيلاني، التي نسقها على أعمار الأطفال والشبّان حتى وصلهم بالرجولة، هي من الصنف الذي يجد فيه كل طفل- وكل شاب- نفسه، لا يعدوها ولا يضيعها، بل يكفيه أن يقرأ الكتاب- من المجموعة- فيجد فيه مع حقيقة نفسه مبلغ عمره.
قرأتُ هذه المجموعة الممتعة من كتب كامل كيلاني، فوجدتُها كأنما صيغتْ من الصورة الكاملة لعقلية الطفل- أو الشاب- كما يجب أن تكون في الذهن والتصوّر ... فخرجت قوالب تصبّ عليها عقول الأطفال والشبّان، كاملة بالفعل والتصديق: يستقيم فيها الزائغ، ويصحّ عليها المئوف. فلا يقطع الطفل مراحله إلى الشباب، ولا الشاب مراحله إلى الرجولة، إلّا وهو مستقيم الملَكات، مصقول المواهب، سديد الاتجاه في الحياة، مرتاض اللسان على البيان العربي ... ولا يصل واحد منهما إلى ذلك الحدّ حتى تكون هذه الكتب قد خزنتْ فيه ثروة من فصيح اللغة العربية: مصفّاة من الحشو، منَقّاة من الدخيل، سمتْ عن الساقط المبتذل، وجانبت الغريب الوحشي، ووقفت عند المأنوس السهل، الذي لا يتعثر فيه لسان، ولا يتعسر معه فهم، ولا تنفر منه أذن، ولا ينطوي من معناه على عوراء، ولا يتنافر نظمه، ولا يتعسر هضمه. وتكون هذه الكتب العجيبة قد تدرّجت معه، وتدرّج هو بها- في مراحله العقلية والذهنية والبيانية، وفي أطوار نموّه الجسماني- تدرّجًا طبيعيًا هادئًا، متناسقًا مقدرًا، كنقل الأقدام في المشي الوئيد، حتى كأنها نسخة مقدودة من وجوده، أو مثال مفصّل على أقطاره وحدوده.
__________
* "الأيام"، دمشق، حزيران (يوليو) 1956.(5/175)
وكُتُب كامل كيلاني نفحة من نفحات الفطرة الأولى للأطفال، تحبّب إليهم القراءة، وتجذبهم إليها، وتقرّب ميولهم ... يقرؤها الذكر والأنثى، فلا يشعر واحد منهما بإيثار ولا استيثار.
وكُتُب كامل كيلاني، لطفل العجم تعريب، ولطفل العرب تدريب، ولهما معًا تسهيل للتلاقي وتقريب! وأكبر حسناتها أنها ترقّي الذوق، وتنبّه الإحساس، وشرّ آثار التربية السيئة في الطفل عثر الذوق وبلادة الإحساس!
قرأت هذه الكتب وأنا شيخ كبير، فنقلتني إلى ذلك العالَم الجميل الذي يتمنّى كل شيخ مثلي أن يعود إليه: عالم السذاجة والغرارة، والبراءة والطهارة ... ورجعت بي إلى فصل افترار الحياة عن مباسمها، وإقبال الآمال على مواسمها، فوددتُ لو انحدرت- في سلّم الحياة- إلى ذلك العهد، ثم صعدتُ بإرشاد كتب كيلاني إلى رأس السلّم، حتى أقضي ما بقي لي من العمر في الصعود والانحدار، ليبنى عقلي بتلك اللبنات الثمينة، ويتجدّد طبعي منقّحًا- في كل مرّة- تنقيحًا "كيلانيًا" عبقريًا.
كان هذا النمط العالي من كتب التربية دَيْنًا واجب الوفاء من ذمم علمائنا، فقضاه عنهم هذا المربّي الصامت الصابر الذي اقتحم الميدان وحده، ونصب حيث لا مُعين، وظمئ حيث لا مَعين. فإذا جحدتْه الأجيال التي بَنَى فيها، فحسبُه سلوى أن ستحمده الأجيال التي بنى لها.
...
للأستاذ كامل كيلاني منزلته الرفيعة في الأدب، وله وزنه الراجح في العلم، وهو- في ذلك كله- رجل كالرجال، يصطرع حوله النقد، ويتطاير عليه شرر الحسد والحقد ... ولكنه- بما جوّد وأتقن وابتكر من هذه الكتب بل من هذه الطرائف في التربية- أصبح مَبْدَأً لا رجلًا.
والمبادئ الصالحة حظها الخلود، ومن شأنها أن تستمدّ معاني الخلود من جحد الجاحدين وحمد الحامدين على السواء.
...
أبقى الله شيخ أدباء العصر، كاملًا للنفع، وعاملًا للرفع، وهَدَى أنصار العروبة وقادة أجيالها إلى الانتفاع بهذه الكنوز التي أثارها، والاندفاع في هذه السبل التي أنارها.(5/176)
رسالة شكر لباكستان *
على أثر مغادرته كراتشي بعد إبْلَالِه من مرضه وبعد تأدية مهمته التي وفد إليها على رأس الوفد الجزائري أدلى فضيلة الشيخ البشير الإبراهيمي بكلمة إلى الصحافيين الباكستانيين الذين جاءُوا لتوديعه في أفريل 1957.
وفي ما يلي خلاصة تلك الكلمة:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إلى الأمام أيها الإخوة الباكستانيون.
(1) لقد قدر لي أن أزور باكستان قبل بضعة أشهر رئيسًا لوفد جبهة التحرير الجزائرية وبعد إنجاز المهمة التي من أجلها انتجعنا هذه الديار الشقيقة اضطرتني أسباب صحية لم يكن إلى دفعها من سبيل للبقاء في كراتشي مدة غير يسيرة قضيت أكثرها في مستشفى جناح، وإني لأشكر لباكتسان حكومة وشعبًا موقفها من الوفد الجزائري وما اسبغت علي شخصيًّا طيلة مدة مرضي من عنايتها، وما لقيت من سهرها على صحتي حتى أذن الله بالشفاء.
(2) إن زيارتي هذه هي الزيارة الثانية التي أتشرف فيها بلقاء إخواني الباكستانيين، وقد كانت الأولى سنة 1952 حين مثلت بلادي في مؤتمر شعوب العالم الإسلامي. وفي أثناء هاتين الزيارتين أُتيح لي أن أتجول في مختلف نواحي باكستان الغربية، وأن أتغلغل في داخل البلاد حتى بلغت كشمير شمالًا وكويتا شرقًا والتقيت طبقات الشعب وألقيت عشرات المحاضرات في المعاهد والجامعات وكثيرًا من الخطب في الاجتماعات الشعبية التي انعقدت لاستقبال وفد الجزائر في المدن والقرى كي تستمع منه إلى صوت الجزائر المجاهدة، كما أنني ألقيت خطبًا جمعية كثيرة واستمعت إلى خطباء كثيرين واجتمعت بسروات البلاد وعلمائها وتجّارها، مما هيأ لي من الخبرة بشؤون هذه الدولة الإسلامية الناشئة ما ملأني أملًا بالمستقبل الزاهر الذي ستحظى به، وبالدور العظيم الذي ستمثله في خدمة الإسلام والإنسانية. والحق ان الهمم التي جاهدت حتى نالت الحرية، وكافحت حتى انشأت هذه
__________
* أثناء زيارة الشيخ لباكستان في مهمة من أجل ثورة الجزائر على رأس وفد من جبهة التحرير الوطني عام 1956 أصيب بحادث أدى إلى كسر في عموده الفقري، مما استدعى إجراء عملية خطيرة له في ظهره وتطويقه بالجبس وملازمة السرير بالمستشفى عدة شهور، وبقيت آثار هذا المرض لديه حتى وفاته.(5/177)
الجمهورية الإسلامية الشابة لجديرة بأن تمثل ذلك الدور فتحقق مبادئ قائدها العظيم محمد علي جناح وتعاليم فيلسوفها إقبال وما أناط بها العالم الإسلامي من آمال.
الأمر الذي يكاد يلمسه كل زائر متفحص لباكستان هو أنها- بلا شك- في مقدمة الأقطار الإسلامية التي لم يأنس أهلها بعد بأي مبدإٍ سياسي أو مذهب اجتماعي غير الإسلام، فهم في الحقيقة مستغنون به عن القوميات والوطنيات وأشباهها من المبادئ التي لا يعدو أن يكون ما فيها من فضائل ومميزات الأشياء يسيرًا بالقياس إلى فضائل الإسلام ومميزاته العظيمة.
ومعنى ذلك أن باكستان لم تَعْشُ ولن تعشو بحول الله عن سواء السبيل وما عليها إلّا أن تمعن في سلوكه، وقد عرفته بحزم وبصيرة، حتى يقتدي بها العالم الإسلامي، ويهتدي بسلوكها العالم الإنساني، وتكون هادية الركب وحادية القافلة إلى صراط العزيز الحميد.
(3) إن نشوء باكستان على أساس الدين كان معجزة من معجزات هذا العصر اضطرت الكثيرين من علماء الاجتماع وفحول القانون الدولي إلى إعادة النظر في النظريات التي كانت عندهم كالحقائق المسلمة والتي تؤكد أن العصر الذي كانت تقوم فيه الدول على أساس الدين قد انقضى، ولئن كانت باكستان معجزة العصر في نشأتها فلتكن كذلك في بقائها الخالد، وأرجو أن يذكر كل باكستاني وكل باكستانية أن من المصلحة بل من الواجب عمل المستحيل لحماية باكستان مما عساه أن ينحرف بها عن المبادئ التي وجدت على أساسها.
فلينسَ إخواننا الباكستانيون كل شيء ... وليذكروا باكستان، وليضعوا مصلحتها فوق كل اعتبارآخر، وهذا ما هم فاعلوه- بلا شك- إن شاء الله.
(4) أتمنى من أعماق نفسي لباكستان قوّة ونجاحًا وازدهارًا، كفاء ما انطوت عليه نفوس أبنائها من الاستعداد الصحيح للتفوق في معترك الحياة، وما امتلأت به قلوبهم من حب الإسلام والمسلمين والرغبة في سعادة الإنسانية قاطبة. وأرجو أن يأخذ الله بيدهم حتى يحققوا في كل يوم نصرًا وتقدمًا جديدين في كل ميدان من ميادين الحياة لكي يكون على الدوام يومهم خيرًا من أمسهم ومستقبلهم أفضل من حاضرهم.
وإلى الأمام أيها الإخوان الأعزاء!(5/178)
أسبوع الجزائر في العراق *
مستمعينا الأفاضل:
يسعدنا أن نقدّم إليكم في برنامج صوت الجزائر اليوم، هذا الحديث القيّم الذي ارتجله فضيلة العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي نيابة عن جبهة التحرير الوطني الجزائري، في المهرجان الوطني الرائع الذي أُقيم أثناء الشهر المنصرم، بمناسبة افتتاح أسبوع الجزائر، في العراق الشقيق. قال الأستاذ:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حضرة صاحب الجلالة الملك العظيم،
حضرة صاحب الفخامة رئيس لجنة أسبوع الجزائر،
حضرات السادة أعضاء لجنة أسبوع الجزائر،
حضرات الإخوان الأفاضل المستجيبين لدعوة الحق والخير.
أيها الملأ الكريم، هذه الكلمة القصيرة التي ستسمعونها من أخيكم، ليست محاضرة للتعريف بالثورة الجزائرية وأبطالها، ولا خطبة تمجيد لزعمائها، أو تأبين لشهدائها. لا هذا ولا ذاك، لأن الوقت والمناسبة يأبيان ذلك، وإنما هي صوت من الجزائر يجب أن يسمع في هذا الوقت والجمع حافل، فعزيز على الجزائر أن يقام لها في العراق الشقيق أسبوع، ثم لا يكون لها فيه صوت مرفوع.
إن ثورة الجزائر شبّت عن طوق الأقوال، وأصبحت في مرحلة لا غناء فيها للخطب وإن طالت، ولا للأقلام وإن صالت وجالت، وإنما الغناء فيها للإيمان الثابت، يظاهره العمل الصامت، ولزكاة الأخوّة، يؤدّيها عربي الشرق، حقّا، ويأخذها عربيّ الغرب مستحقًّا، فتنقلب في يده سلاحًا يقتل به عدوّ الفريقين. وقد أعربت هذه الثورة عن نفسها وفرضت على العالم أن يسمع صداها ويتعرّف مداها ويلمس آثارها، ويتتبع أخبارها باهتمام وعناية. لأن الدم الباقي من جسم الاستعمار، يتردّد اليوم في لهوات الجزائر. وأعداء الاستعمار يتمنّون أن تكون الجزائر له مقبرة، وأنصاره يعلّلون نفوسهم بالأباطيل، ويتمنون أن تكون الجزائر له دار نقاهة وموطن استجمام، يعاود منه الكرّة على الفرص المتخلّفة في هذا الشرق. ولقد كان
__________
* كتبت هذه الكلمة نقلًا عن إذاعة تطوان بالمغرب، في شهر ماي 1957.(5/179)
هذا الاستعمار في أول أمره استغلالًا ومصلحة، وتسلّطًا وقهرًا، فأصبح في آخر أمره وعمره مرضًا وسعارًا، نهايته أن يقتل ويقتل.
وما دامت الأقوال لا غناء فيها للثورة الجزائرية، فليرح خطباء العربية وشعراؤها وكتّابها ألسنتهم وأقلامهم من التغني بالثورة الجزائرية وأبطالها، وليوجّهوا عنايتهم إلى التي هي أوفى بذمام الأخوّة، وهي مدّ الأيدي لإعانة أولئك الأبطال المجاهدين، في سبيل العروبة التي هي أم الجميع، والإسلام الذي هو دين الجميع، وإنما تكافأ الأعمال بالأعمال، لا بالأقوال، فإن قالوا ففي فتح الأبصار والبصائر على ما جرى وما يجري في أرض الجزائر، على أيدي الفرنسيين من أعمال وحشية، وفي التحذير مما وراءها من عواقب مخيفة.
إن إخوانكم المجاهدين الجزائريين، ومن ورائهم الشعب الجزائري كله، قد وقفوا في مرحلتهم الأخيرة، المتصلة بيومكم هذا عند دستور شوقي، الذي سنّه فقال:
في الأمر ما فيه من جدّ فلا تقفوا … من واقع جزعًا أو طائرٍ طرِبَا
ضُمُّوا الجهود وخلوها منكرة … لا تملأوا الشدق من تعريفها عجبا
أفي الوغى ورحى الهيجاء دائرة … تحصون من مات أو تحصون ما سلبا
وآية تطبيقهم لهذا الدستور، أن الجيش الفرنسي يعجز عن قتل المحاربين الجزائريين، فيعمد إلى القرى العامرة بالمستضعفين من النساء والولدان والشيوخ، فيهدمها عليهم، فلا يكاد ينجو من الموت أحد منهم. ولا ينزعج الأحياء من هذه المناظر المذهلة، بل يفرّ من استطاع منهم إلى مجالات الثورة، مبشّرًا بما وقع، مخبرًا بما يهمّ من اتجاه العدوّ وحركاته.
أيها الإخوة الكرام:
إن إخوانكم ما ثاروا إلا بعد أن آمنوا بأن الموت المعجّل، ومعه الشهادة، أشرف من الموت البطيء يصحبه الذلّ والهوان. وأن الموت الشريف أكرم عند الله والناس من الحياة المهينة. وأن هذه الحالة إذا طالت أكثر مما طالت، بردت العزائم، وماتت الهمم العربية، والحمية الإسلامية. فهم حين يقاتلون الاستعمار، ويقتلون أهله، إنما يقاتلون معه هذه المعاني الخبيثة التي ابتلاهم بها وشرّها ضعف الأخلاق، وخور العزائم، وما كادوا يقتلون طائفة من عدوهم، وتقتل منهم طائفة، حتى تنَبّهت فيهم طبائع الآباء والأجداد، ودبّت فيهم الحمية التي نشرت دين الله في أرضه، وهانت عليهم الحياة الذميمة، في طلب الحياة الكريمة.
أيها الإخوة الكرام:
إن الشعب الجزائري قد جمع الفضائل من أطرافها، بهذه الثورة، فهو يجاهد منذ شبّت لظاها بالعزيزين النفس والمال، وهو مصمّم على هذه التضحية الثقيلة، إلى أن يفنى، أو(5/180)
يحكم الله له بالنصر، وقد اطردت معه سنّة الله في نصرة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، بما آمن وصبر وضحّى، ولقد أصبح يناجز عدوّه فيجرّعه الغصص ويكايده فيفوّت عليه الفرص، غير أن الزمن طويل، والحرب ليست مركب كل يوم، فإذا كانت ذخيرة الشعب الجزائري من الإيمان لا حدّ لها، ورصيده من الشجاعة والصبر لا ينفد، فإن طاقته المادية معرّضة للنفاد، والعدوّ لدود لئيم، وله أعوان على الشر، وصريخ قريب في البرّ والبحر. وإخوانكم الجزائريون مفصولون عن بني العمومة في هذا الشرق، باللجج الخضر، والفلوات الغبر، لا يجتمعون بهم في صعيد، ولا يأوون منهم إلى ركن شديد، ولا يعتضدون منهم بباع مديد، أو برأي سديد، أو بعون مفيد.
وإخوانكم الجزائريون ينطوون على اعتبارات موروثة، تحُلّ في مستقر العقيدة من نفوسهم، منها أنهم إخوانكم في الدين، تجمعهم بكم عقائده وشعائره وآدابه، وتجمعهم بكم هذه اللغة التي غيّرت التاريخ، وبنت الحضارة الإنسانية طبقًا عن طبق، وكانت لسانها المعبّر أحقابًا مديدة. وتجمعهم بكم خصائص العروبة، وشمائل العرب، الذين انحدرتم جميعًا من أصلابهم، واتصلتم جميعًا بأنسابهم، فهم حين يستصرخونكم، إنما يستصرخون فيكم هذه الوشائج والعروق والدماء والأرحام.
وتالله لو أن ذاهبًا ذهب من العراق، على هذه الصحارى المتصلة، فانتهى به المطاف إلى مخارم الأطلس الأشم، ثم أرهف سمعه لما يحمله الأثير من قمم جبال الأوراس لسمع جميع الأصوات، إلا صوتين لم يركّبا في طبع الجزائريين، هما صوت البكاء، وصوت المكاء، بكاء الهالع، ومكاء الخالع. ولكنه يسمع الحنين، حنين الأبطال، إلى النزال، ويسمع الأنين، أنين العاجزين لخلوّ الراحة، لا لألم الجراحة. ويسمع هينمة التكبير، عند النفير، ويسمع صوت الاستصراخ لبني العمومة في هذا الشرق.
ولعمر العروبة وما أنجبت! إنها لكلمات، تنطوي على ذكريات. فلقد كان يستغيث بها الطفل العربي فتعقد لها المحافل، وتجهّز الجحافل. وتقولها المرأة العربية فيهيج لها العرق الحرّ، ويتأجج الحفاظ المرّ.
أيها الإخوة الكرام:
إن ثورة الجزائر في حقيقتها العليا صفحة ذهبية في تاريخ العروبة الطويل، وقبسة نورانية من مشرق الإسلام، ونفحة علوية من أرواح الفاتحين الأولين: عقبة، وأي المهاجر، وحسّان، وموسى، وطارق، وإن أعمال إخوانكم المجاهدين الجزائريين أعمال وصلت أمجاد العرب في الآخرين بأمجادهم في الأولين، وإن مواقف الشعب الجزائري في هذه الثورة كلها حسنات ذهبت بسيئات العرب، وكفرت عن جميع ما اجترموه من ذنوب في جنب الإسلام والعروبة.(5/181)
وإن التعاون الذي ظهر بين أفراد الشعب الجزائري، في هذه الثورة، هو التفسير الصحيح لكلمة الأخوّة الإسلامية.
وجملة القول، من غير محاباة ولا غلوّ، أن الثورة الجزائرية فصل غريب في تاريخ الإنسانية، قرئ قبل أن يكتب، وفهم قبل أن يتمّ. وسيكون بعد أن يكتب بابًا ممتازًا في تاريخ الثورات التحريرية، يجد فيه الدارسون شذوذًا في كل قاعدة من قواعد الثورات، وهدمًا لكثير من النظريات الثورية السالفة في حياة الشعوب.
أيها الإخوة الكرام:
إننا لا نعلّمكم شيئًا جديدًا عن الثورات، فقد سبقتمونا إليها، وكنتم أئمتنا فيها، ونلتم استقلالكم بالضحايا والدماء والأشلاء، وما من قطر عربي أو إسلامي استقلّ بدون ثورة، وإنما هي بثّ من متعب إلى مستريح، وشكوى خابط في الدياجي، طال ليله، فطال ويله، إلى أخ كريم له، قد أطلق سراحه، وتبلّج على نور الحرية صباحه. فاعذروا إخوانكم الجزائريين إذا ألحّوا، واعذلوا إخوانكم العراقيين إذا هم بالنجدة شحّوا. إنكم لم تجتمعوا في هذا المكان والزمان لبناء بيت أو تكفين ميت، وإنما اجتمعتم لإحياء شعب من بني أبيكم، حياته حياتكم، وعزّه عزّكم، وفي انتصاره انتصاركم، وفي اندحاره اندحاركم. وقد أحالكم على الأنساب، وهي أرحام، وعلى اللغة وهي قوام، وعلى الخصائص وهي ذمام، وعلى الدين وهو عروة اعتصام؛ إنكم أسميتم هذا الأسبوع أسبوع الجزائر، وجعلتم براعة استهلاله هذا اليوم، وهذا الاجتماع الذي زاده حضور جلالة الملك الشاب بهاءً وإشراقًا، فأصبحت هذه الإضافات عقودًا في أعناقكم، يجب الوفاء بها على أكمل وجه، يشرّف العراق والجزائر، ويقوم بحق صاحب الجلالة، الذي لم يكفه أن حضر حتى تكلّم، ولم يكفه أن تكلّم حتى افتتح الاكتتاب.
اجعلوا هذا الأسبوع كالينبوع، يفور ولا يغور، وكماء دجلة يفيض ولا يغيض. وكيوم الجمعة عند القانت الأوّاب، تقلّ حركاته، وتكثر بركاته، وسلام عليكم في المؤمنين الصادقين، وسلام عليكم في الباذرين للخير والباذلين.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/182)
في مصر
(أغسطس 1957 - سبتمبر 1962)
ــــــــــــــــــــــــــــــ(5/183)
الجزائر *
في الجزائر مواريث ثمينة، ومعادن دفينة، وخصائص مكينة من فضائل جذمين عريقين هما يعرب ومازيغ، ومن مآثر أمّتين عظيمتين هما العرب والبربر، فكل ما عرفه التاريخ عن الأمّتين من الأخلاق الكريمة والفضائل، وشهد به وسجّل، هو متماثل متقارب فيهما كالشجاعة والشهامة والإباء والحفاظ وحماية الحقيقة، والكرم والصدق في القول والفعل، والوفاء بالعهد والوعد، والمحافظة على الجار إلى حدّ الموت في سبيله، والانتصار للضعيف، والإحسان في محلّه، وإغاثة الملهوف، يصرف ذلك كله فيهم قلوب ذكية ومعاطس حمية، وكل ذلك ظاهر المخايل والمشابه في أخلافهم الجزائريين المتحدرين من تلك السلائل الكريمة.
وقد تماسّت الأمّتان في عصور عريقة في القدم وتنَفّست الجزيرة العربية بعدة موجات من الهجرة إلى الشمال الإفريقي يشير التاريخ إلى بعضها، وتشهد السمات والسحن والشمائل بالباقي، وان تلك القبائل المهاجرة اندمجت في البربر وامتزج القليل في الكثير فتكون مزاج من التأثّر والتأثير بينهما، وتجاوبت تلك الخصائص، وتقاربت المنازع في الأمّتين، وما تمّ الامتزاج إلا لأن الخصائص الجنسية فيهما كانت متقاربة متجانسة تسهّل الامتزاج وتمهّد للفعل والانفعال.
ووصل الإسلام إلى الجزائر قلب الشمال الإفريقي في بضع عشرات من السنين من شروق شمسه يحمل الخير والسلام والهداية ومكارم الأخلاق، فشدّ ما وجد من تلك الخلال الكريمة وأحكم، وطابع الإسلام المعروف هو تقريب المتباعدين وتوحيد المتنافرين، فكانت الطبيعة البربرية أسرع إلى تقبل تعاليمه مما كان ينتظر، وإذا شوهد بعض تلكؤ عن الإذعان فذلك من آثار اليهودية التي طاف طائفها ببعض القبائل قبل الإسلام كرهط الكاهنة
__________
* هذا جزء مكتوب عثرنا عليه من محاضرة ألقاها الشيخ في مركز الشبان المسلمين بالقاهرة، سنة 1957، ونشرت في مجلة "لواء الإسلام"، العدد 12، يناير 1961.(5/185)
بجبل أوراس، ولقد أعان الإسلام على سرعة الانتشار يُسْر مدخله إلى النفوس، ومساوقة بساطته للبساطة التي تتسم بها الطبيعة البربرية إذ ذاك.
ثم جاءت موجة الغارة الهلالية في أواسط المائة الخامسة للهجرة فغمرت سهول الجزائر بعد سهول تونس، وكان من آثارها الصالحة في الجزائر- على كثرة الأضرار والمفاسد التي تصحب التغلب عادة- أن عرّبتها ومكّنت لِلِّسان العربي فيها، وما صحا الفريقان من غمرة الانتصار والانكسار، حتى ذكروا أن الإسلام يجمعهم ففاءوا إلى السكينة وركنوا إلى السلم، وأووا إلى كنف الأخوّة الإسلامية فتصاهروا وتجاوروا وتناصروا وتقاسموا رقاع الأرض فوسعتهم جميعًا، وبسطت اللغة العربية سلطانها على ألسنتهم وأخيلتهم وأفكارهم فأهلتهم إلى العلم الصحيح والأدب والفن واصطنعوها ترجمانًا لأفكارهم، ولم يشهد تاريخ الإسلام أمّة من الأمم الأعجمية التي دانت به وخضعت أرواحها لسلطانه تنازلت عن لسانها للّسان العربي عن طوع واختيار، وتنازلت عن روحانياتها لدين الإسلام إلا أمّة البربر، فقد نزلت عن لغتها ومقوّماتها كلها إلى الإسلام ولغته، وبذلك أصبحت الأمّة البربرية كلها أمة عربية، ويشهد لذلك أنه قامت في الشمال الافريقي دول بربرية الاسم والعصبية لأول العهد الإسلامي ووسطه يرأسها ملوك عظام من صميم البربر، وخدمهم بالشعر شعراء فحول في الأغراض الملوكية بالمدح والتمجيد وكافأوهم بسنيّ الصلات والجوائز، وما علمنا قط أن شاعرًا خدمهم بالشعر البربري إلا في الفرط والندرة، ولو كان لنقل إلينا خبره لتوفّر الدواعي على نقله.
الأمة الجزائرية اليوم لم تزل على عهد أولئك الأسلاف الذين ساهموا في بناء الحضارة الإسلامية وشادوا لها من صروح العلم ما بقيت آثاره مشهودة إلى اليوم في قلعة بني حماد، وتيهرت، وبجاية، وتلمسان، وأنجبوا لها أئمة أعلامًا في التشريع والتاريخ والأدب والفن وعلوم اللسان العربي، فالأخلاف اليوم على عهد أولئك الأسلاف، لم يتنكروا للإسلام، ولم يجفوا العروبة على كثرة ما ابتلاهم به الدهر من صروفه ومصائبه، ودهاهم فتنه وويلاته، من شمال الأبيض المتوسط من حروب، وعلى كثرة ما صبّ عليهم جار السوء من العرق اللاتيني من غارات، وهبّ عليهم من تِلْقائِه من أعاصير مكتسحة، فقد كانوا يخرجون من تلك الأعاصير الجارفة أصفى ما يكونون جوهرًا، وأثبت مِمَّا كانوا عزائم وبصائر.
أحفاد أولئك الأجداد، وفروع تلك الأصول هم الذين يُحْيُون اليوم في الجزائر مآثر الأسلاف، ويقيمون الشواهد الحية على بطولتهم واستماتتهم في الذياد عن حرية وطنهم، فيشنونها ثورة شعواء أطارت ألباب طغاة الاستعمار وأوليائه في كل ركن من أركان المعمورة، ويقاتلون جيشًا وفير العدد متكامل العُدد، ولكنه مستعار الأسلحة والقلوب. يقاتلون أدعياء العلم والمدنية وحُثالة العنصر اللاتيني، وبقية السيوف الجرمانية من حربين لم يفصل بينهما من الزمن إلّا حاجز يسير.(5/186)
يقاتلون جيشًا استعمارًيا يظاهره جميع أنصار الاستعمار وقوى الشر المنتشرة في العالم، ومن ورائه ملايين من الشعب الفرنسي وقد تمالأوا على العدوان وتراضوا بالظلم والتجرّد من الإنسانية، يحملون قلوبًا تلتذ بمنظر الدماء والأشلاء وتفور بالحقد والبغضاء للإسلام والعروبة والشرق حتى للمسيح وتعاليمه، ومن وراء الجميع رئيس مفتون بالرئاسة أعماه الغرور عن رؤية الحقيقة، وأصمّته العنجهية عن سماع صوت الحق، فهو يتخبّط في ليل داج من الشبهات والأضاليل، وفي مجهل طامس من الدعاوى والأكاذيب، وكلما قلب الرأي وأداره هجم به على نتيجة تناقض رأيه، وكأن الله- جلّت قدرته- نصبه نذير شؤم لقومه بسوء العاقبة ووبال الأمر، وويل لهذا الشعب المضلّل الذي أفلس في الرجال أكثر من إفلاسه في المال، وربّاه الإلحاد وفساد الأخلاق ونقصان العقل إن تمادى في اتّباع خطوات هذا الرئيس المغرور.
الاستعمار كله رجس من عمل الشيطان، ويمتاز الاستعمار الفرنسي بأن آثار الشيطان فيه واضحة، ومخايل الشيطان عليه لائحة، فهو لا يقنع بالسيطرة على الظواهر بل يتدسس إلى مكامن السرائر ليفسدها أو يبتليها بالوهن والانحراف عن سبيل الفطرة، فهو لا يهدأ له بال حتى يدخل شيطانه في العلاقة بين الناس وبين خالقهم ... يدخل في العقائد الدينية فيشوبها بشوب الشرك والضلال، ويدخل في العبادات البدنية فينصب للناس أئمة للصلاة وهم يتجسسون عليهم، ويمنع صومهم، ويجعل من الولد جاسوسًا على شريكه، ومن الجار جاسوسًا على جاره، كل ذلك ليقضي على وشائج القربى بين الناس ويفسد وسائل المحبة والثقة بين أفراد المجتمع، ويقضي على أسباب التماسك بين أفراد الأسرة، ويسري منهم إلى أجزاء الأمة، ويدخل في التعليم فيحرم تعليم العربية ويعاقب عليه كما يعاقب على الجرائم.
وفي جنب ذلك يفتح الباب على مصراعيه للرذائل ومفسدات الأخلاق؛ فالخمر والزنا وغيرهما من الموبقات حلال في شريعة هذا الاستعمار باسم الحرية، وكل ما يحفظ الأسرة والأمة والأخلاق من عوامل التفتت والانحلال حرام في تلك الشريعة.(5/187)
يوم الجزائر *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان:
يسعدني أن أقف على منبر جمعية الشبان المسلمين فأرسلها باسم الجزائر تحية خالصة مضمخة بدماء الشهداء إلى جميع الشعوب التي هزّتها الحوادث المروعة التي تتكرّر مع كل شارقة في أرض الجزائر ... أحيي فيهم هذه الروح الإنسانية التي حرّكتهم إلى الانتصار لإخوانهم الذين يخوضون معركة يشهد التاريخ المنصف أنها أعظم معركة سجّلها بين الحق والباطل، وبين الحرية والاستعباد، وبين المظلوم والظالم، وبين الخير والشر، وبين الضعف والقوّة، ويشهد التاريخ كذلك أنه لم يشهد بعد عصر النبوّة معركة تنتصر فيها الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، ويتجلّى فيها سرّ الإيمان وسرّ الروح مثل هذه المعارك الدائرة في الجزائر، حيث تنازل فيها قُوَى الخير، قليلة العدد معدومة المدد، قوى من الشرّ كثيرة الأعداد، موفورة الامداد، متصلة الإسناد، كاملة الاستعداد، فتدحرها وتنتصر عليها ... لم يشهد التاريخ شعبًا ثار لحرماته المنتهكة فهزّ العالم من أطرافه وانتصر له سكان القارّتين مثلما شهد من الشعب الجزائري وشعوب آسيا وافريقيا، تداعت هذه الشعوب لميقات يوم معلوم دعوه يوم الجزائر يعقدون فيه الاجتماعات لإعلان السخط وإقامة النكير على الاستعمار عمومًا وعلى الاستعمار الفرنسي في شمال افريقيا خصوصًا ... ولجمع الإعانات المالية لينتعش بها إخوانهم الجزائريون وتتجدّد بها قواهم في قتال عدوّهم ...
إن أيام الجزائر هي جميع الأيام التي يتألف منها عمر الثورة، فكل يوم أغرّ محجل واضح الشيات مملوء من أبنائها بالفعال والمآثر، ولكن لتخصيص هذا اليوم بالنسبة للجزائر بتواطؤ وإجماع من هذه الشعوب الهائلة التي يزيد عددها على نصف سكان المعمورة، سرّ
__________
* نُظّم في كل البلدان العربية والآسيوية والافريقية يوم خاص سُمّي "يوم الجزائر" لتأييد الثورة الجزائرية ودعمها، وهذه الكلمة أُلقيت في الاحتفال الذي أُقيم بهذه المناسبة بالقاهرة، عام 1957.(5/188)
عميق، ففي توقيت الوقت وتحديده بيوم استحضار إجماعي لبلايا الاستعمار في العصور المتعاقبة واستجماع للذكريات والأحاسيس التي تختلج في نفوس هذه الشعوب، وما منها إلا من اكتوى بنار الاستعمار، على تفاوت حظوظها من شرّه، وتفاوت أنصبتها من الشعور به. ومن أسرار هذا التوقيت أنه يكون ملتقى للعواطف، وحافزًا للهمم، ومثيرًا للعزائم، ومذكرًا بحقوق الجار على جاره والأخ على أخيه، وحقوق المشتركين في البلاء بعضهم على البعض، في هذا اليوم يتوافى نصف شعوب الأرض على داع مسمع من الحق يدعو إلى نجدة الجزائر في محنتها وإلى إعلان السخط على الاستعمار الفرنسي.
أما نحن معشر الجزائريين فنرى في إقامة هذا اليوم بهذه الصورة نصرًا معجّلًا لنا ونجاحًا موفّقًا لثورتنا، ومددًا من العناية الإلهية مهيّأ لنصرتنا وضربة قاصمة للاستعمار كنا نحن السبب فيها.
ونحن جازمون بأن الاستعمار الفرنسي المتداعي الأركان يرمي من هذا الإجماع بما يفسخ عقده ويوهن كيده ويجعله يؤمن بعد ذلك العناد والإصرار على الشرّ والفساد بأن قوى الشعوب من قوّة الله، وأن أنصاره وأعوانه لا يغنون عنه فتيلًا، فيا ويح العاملين في الظلام إذا تبلج الفجر في وجوههم، وويل لمستعبدي الشعوب من يقظة الشعوب، وويلهم إذا اجتمعت تلك الشعوب وتقاسمت بشرف الحرية لتنتقمنّ من المستعمرين ولتقضينّ على الاستعباد. ولله درّ شوقي إذ يقول:
صَوْتُ الشُّعُوبِ مِنَ الزَّئِيرِ مُجَمَّعاً … فَإِذَا تَفَرَّقَ كَانَ بَعْضَ نُبَاحِ
أيها الإخوان:
إن هذه الدعاية الواسعة التي أحاطت بهذا اليوم ونبّهت عنه ودلّت عليه وأثمرت هذا اليوم العظيم، لتنويه بالثورة الجزائرية، وتعظيم لشأنها، وحسن ابتكار لوسائل النصر فيها، وأذان جهر من الحق، يسمع الصمّ عن هذه الثورة القاعدين الساكتين عن كلمة الحق فيها، وعن إيقاف فرنسا عند حدّ، وتوبيخ ضمني للحكومات والشعوب التي تمدّ هذا الغي وتقدّم لها العون على الشرّ والفساد، وسخرية حارّة بأولئك الشواذ الذين فسد ذوقهم الإنساني فولولوا وصاحوا وتظاهروا بالرحمة والإشفاق على كلبة فارقت الأرض وعوت منذرة لذلك الفريق المشفق بسوء المصير ثم ماتت، ولم يشفقوا على هذه الملايين المعذّبة في الأرض التي تموت بالآلاف في أرض الجزائر، إلا أن كل جنس يرحم جنسه ويشفق عليه، فهنيئًا لهم ما اختاروا وفي سبيل الكلاب ما صاحوا وولولوا وأرسلوا من عبرات.
أيها الإخوان:
من حسنات هذا اليوم وآثاره الجليلة أنه يجمع قلوب الشعوب الآسيوية والافريقية على ذكر الجزائر والجزائريين بأشرف ما يذكر به إنسان، فيذكرون أنواع البلاء التي يصبّها عليهم(5/189)
الاستعمار الفرنسي، ويذكرون أمثلة البطولة التي تتسم بها أعمالهم، ويذكرون الدماء التي تسيل والأرواح التي تزهق وكل الجرائم الوحشية التي يرتكبها الجيش الفرنسي باسم الحضارة الأوروبية، وفي أثناء العمل الذهني في هذه الذكريات ينكشف الحق عن مصاصه وهو إكبار المجاهدين الجزائريين وإجلال مقصدهم وغايتهم من هذه الثورة، وهو الحرية والاستقلال، واحتقار فرنسا وجيشها وحضارتها وعلمها الذي غرّت به العالم حينًا من الدهر، وفي هذا اليوم الذي نسب إلى الجزائر ستلتقي همم مئات الملايين من شعوب آسيا وإفريقيا على خاطر واحد في ساعة من نهار، وهو بغض الاستعمار والحنق عليه، ووجوب الإجهاز عليه والإجماع على زواله والراحة منه، واحتقار فرنسا التي افتضحت أمام العالم وانكشف ثوب الزور الذي كانت تلبسه، وهدمت بأعمالها الشنيعة المجرّدة من الإنسانية كل ما بنته لها دعايتها من محاسن، ولا يقصر هذا السخط على الحكومة الفرنسية وحدها بل يتجاوزها إلى الأمّة الفرنسية نفسها، لأنها متواطئة مع حكوماتها على إبادة الجزائريين بسكوتها على ما تفعله هي وجيشها، فلم يسمع العالم نأمة في استنكار تلك الأعمال التي تسوّد تاريخ فرنسا وتقضي على سمعتها.
أيها الإخوان:
هل أتاكم أن الجيش الفرنسي يأتي في الجزائر أنواعًا من الفظائع ينكرها حتى الشيطان من تقتيل جماعي؟ لا أشك أن أخبار هذه الفظائع وصلتكم ووصلتم من علمها إلى عين اليقين، وكيف لا تصلكم وأنتم منها قاب قوسين، ولو أن مستشرفًا أرهف السمع لسمع من مخارم الأطلس الأشمّ حيث يتطامن على حدود ليبيا، لسمع تكبير المجاهدين ممزوجًا بمعمعة النيران في منازلهم وفيها أولادهم والمستضعفون من ذويهم، ممزوجة بصراخ الاستغاثة من الأطفال والنساء والشيوخ حيث لا مغيث، ولرأى منظرًا يذهل النفوس ويدمي العيون ويذهب الرشد، فإذا رجع هذا المستشرف إلى رشده حكم بمبلغ تأثير الإنسانية في أفراد الجيش الفرنسي وقادته ومبلغ حظهم من هذه الحضارة التي تزعمها أمّتهم، وعلم بالمشاهدة أن ذلك الجيش الوحشي عجز عن قتل المجاهدين بما حشد من أسلحة فتّاكة فانقلب إلى هذه الأصناف العاجزة عن الدفاع من أطفال ونساء وشيوخ ليطفئ بقتلهم غيظه ويشفي بتعذيبهم صدره.
أيها الإخوان:
إن المفروض في الحضارة أنها تهذّب الأخلاق وتلطّف الحيوانية فتدنيها من الرحمة وتشيع الفضائل في النفوس، وإن الجندي هو أولى الناس بالتربية الفاضلة والأخلاق الحميدة. فما لهذا الجيش الذي لم تترك أمّته فضيلة إلا انتحلتها لنفسها، ولا حضارة للأقدمين إلا ادّعت أنها وارثتها بالفرض والتّعْصِيب، يفضح أمّته هذه الفضيحة الشنعاء ويعقّها هذا العقوق الأطلح ويسجّل عليها خزي التاريخ ولعنة الأجيال.(5/190)
كلا، فحرام أن نظلم الجندي الفرنسي وحده، فلو زكا الأصل لزكا الفرع، ولو طاب المولد لطاب المحتد، ولكنها أصول مظلمة ومن ثم كانت ظالمة، وشعب مطبوع على الاستطالة واحتقار الشعوب الأخرى، يعتقد أن وجوده في عدم غيره وحياته في موت الشعوب الضعيفة، فهو جار في الشرّ على عُرف أصيل. ويقول المغرورون بالظواهر المفتونون بالألوان السطحية الذاهبون إلى عامل التأويل، إن الذين يقومون بتلك الموبقات في الجزائر إنما هم أجانب عن فرنسا من السنغال أو جنود اللفيف الأجنبي، وأين الرئيس الفرنسي الصميم الذي لا يتمّ أمر في نظام الجند الفرنسي إلا بعلمه واطّلاعه ورضاه وأمره؟ وفات هؤلاء أن السنغاليين وفرقة اللفيف إنما هي موضوعة بالقصد الأول في الجيش الفرنسي لمثل هذه المنكرات من هتك الأعراض واستباحة الحرمات علانية، والرئيس إذا لم ينهَ عن المنكر فهو آمر به.
أيها الإخوان:
أين هذا من حضارة الإسلام في طوره الأول التي يتفننون في رميها بكل نقيصة، وأين آداب القتال التي شرعها الإسلام من آداب القتال في هذا العصر المتحضر؟
أين هذه الأعمال الوحشية من رحمة الإسلام التي أمر بها الخليفة الأول في وصيته المشهورة لجيش متوجه للغزو ومنها: لا تقتلوا إلا من قاتلكم ولا تقتلوا طفلًا ولا امرأة ولا شيخًا ضعيفًا.
إننا معشر الجزائريين نعلم عن فرنسا، بحكم المجاورة بيننا وبينها، ما لا يعمله غيرنا.
وقد مسّنا من عذاب باستعمارها لنا ما لم يمسس غيرنا من غيرها، فإذا حكينا عنها فإنما نحكي عن عيان، ويعلم الله أننا في ما نحكيه عنها غير متجنّين ولا مفترين ولا متأثرين بالعداوة.
أيها الإخوان:
إني أرجو أكيد الرجاء أن تكون أيام العرب والمسلمين جميعًا يوم الجزائر حتى تنتصر الجزائر وتنتصر العروبة والإسلام في الجزائر ... وفّقنا الله جميعًا وسدّد خطانا، وأنجح مسعانا ونصرنا على القوم الظالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/191)
الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني *
ولدنا الأبرّ الأستاذ الجليل الشيخ أحمد الشرباصي- أبقاه الله-.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
يعز عليّ أن لا أشارككم في هذه الحفلة التي تحيون بها رجلًا نعده سلفًا لنا في الشجاعة وعدم الرضى بالضيم، وفي الجهر بقول الحق، وفي كثير من الخلال الصالحة.
ويعزّ على هذا اللسان أن تجيء ذكرى الأفغاني ولا يتحرك فيها بكلمة، وأن يُدْعَى من جمعية الشبّان فلا يستجيب، وجمعية الشبّان هي منتجع هواه، ومنبرها هو أول منبر ارتفع عليه صوته، وقاعتها هي التي تجاوبت أرجاؤها برجع كلامه.
ويعزّ عليّ أن أحرم من الاستفادة من آراء إخواني الخطباء الذين يسعدون في هذه الليلة بالحديث عن جمال الدين، وإنّني لفقير إلى الاستفادة منهم.
ولكن المرض الذي تعرفه برح بي وأقعدني عن الحضور، وتسلّط على فكري فما يبضّ بكلمة، وعلى لساني فما ينطق إلا بصعوبة، إنني عاجز عن القعود على الكرسي ولو دقيقة واحدة، وعلى عذري لكم وللإخوان الحاضرين فإنني أمليت بصعوبة على الكاتب كلمة في آخر لحظة أملاها خاطر كليل، ولسان غير بَليل، فجاءت خَشِبَة لم يهذبها انتقاد، ولم يعمل فيها نظر معاد، وأنتم أولى من يقوم بالاعتذار عنّي عند إخواني.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الإبراهيمي
...
__________
* كلمة عن جمال الدين الأفغاني أُلقيتْ نيابة عن الإمام في مركز جمعية الشبّان المسلمين بالقاهرة في 21 أكتوبر 1957م، ومعها رسالة للأستاذ أحمد الشرباصي.(5/192)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان:
أحيي هذه الذكرى الجميلة، ذكرى جمال الدين الأفغاني، تحية فيها معنى الإجلال والإكبار، ومعنى الاعتزاز والافتخار للمقيمين لذكراه.
أحيي الذين فكّروا فيها، والذين أقاموها وأحيوها، والذين سعوا لها وحضروها، والذين تكلموا فيها وشرحوها، فجلوا جوانب سيرة هذا العبقري، وكشفوا عن مكامن العِبَر وعن وجوه التأسي فيها.
إن هذه الذكريات التي تُقيمها الأمم لعظمائها لا تنفع الأموات، لأنهم قد خرجوا من الدنيا وفرغوا من تبعاتها وتكاليفها، وتركوا لمن بعدهم من أعمالهم ما ينير لهم سبل الحياة، بعد أن أدّوا واجبهم لأممهم خيرًا ونفعًا وجمالًا، وقاموا لعقائدهم ومباديهم ما يجب لها من إبانة وتثبيت وتمكين في الأرض، وإنما تنفع الأحياء لأنها تجعلهم متصلين دائمًا بعظمائهم وسلفهم الصالح حتى كأنهم بينهم أحياء يأمرون وينهون، ويعظون ويرشدون ويردون الضالّ عن ضلالته، ويوقظون الغافل من غفلته، ولو أننا عرفنا كيف نستفيد من حفلات المولد النبوي التي تقام آلاف المرات في كل سنة، وطهرناها من المجانة واللهو والعبث والمنكرات، التي تبعدنا عن الله وتحجبنا عن حقائق الدين التي جاء بها صاحب الذكرى، ووجّهناها إلى تلك المعاني السامية المطربة في سيرته العملية، ورمينا بها إلى الغايات التي هي حقيقة الإسلام وأخلاق المسلم- لو فعلنا ذلك- لنقلناها من باب البدع المنكرة إلى باب السنن الاجتماعية الصالحة المحمودة، ولكان منها في كل مظلمة شعاع هاد، وفي كل معضلة نور نمشي به في الظلمات فلا نخاف ضلالًا ولا زيغًا.
إن من البر بأنفسنا أن نذكر- مع كل شارقة- عظماءنا ومصلحينا الذين كان لهم أثر مشرق في تاريخنا، وأن نحيي ذكرياتهم لنحيا بها ونأخذ العبر منها ونجعلها دليلنا إذا أظلمت علينا السبل، وقدوتنا إذا أعوزنا الإمام القائد.
العلماء الربّانيون في هذه الأمة ثلّة من الأولين، وقليل من الآخرين، والحكماء في هذه القلة قلة أخرى، لا تلد القرون منهم إلا الواحد بعد الواحد، ولا يجيء الواحد إلى الوجود إلا بعد فترة من تحكّم الأهواء واستيلاء الخمول، وسفه القيادة، والبعد عن هداية الدين، والجهل بأمور الدنيا وبالصلة الوثيقة بينها وبين الدين، وانطماس المعالم المنصوبة والأعلام الهادية فيهما، فيكون ظهوره تجديدًا للدين والدنيا معًا، ودعوة للعزة فيهما معًا، وإصلاحًا لما أفسدته الغفلة منهما معًا، ورمًّا لما تشعث من بنائهما معًا.
ومن هذا القليل جمال الدين الأفغاني.(5/193)
والأفغاني ينظر إليه الخليون الفارغون من علماء القشور والرسوم على أنه ليس عالمًا دينيًا بالمعنى الذي يفهمونه من الدين ومن العالم الديني الذي هو عندهم حاكي أقوال وحافظ اصطلاحات وراوي حكايات، يجلس في حلقته فيفيض في الحلال والحرام وفي الزهد والرقائق بكلام مقطوع الصلة بالقلب، مقصور على اللسان، فهو لا يؤثر، ومن ثم فهو مقصور على سمع السامع فهو لا يتأثر، وليس فيه إلا قال فلان، وقال فلان، وليس منه قلت، ولا ارتأيت، ولا فكرت، حتى إذا فرغ من الكلام فرغ كل شيء منه، وخرج من الدرس فوجد البدع والمنكرات بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يهتز لها هزة الغضب، ولا يتأثر لها تأثّر المنكر، بل يجاري البدع والمبتدعين ويكثر سوادهم، ويكون حجة على الدين لا حجة له.
أما أصحاب العقول المُتَدَبّرة والأفكار المثمرة، والبصائر النيّرة، والموازين الصحيحة للرجال، فإنهم يرون في الأفغاني عالِمًا أي عالم، وفردًا انطوى على عالم، وحكيمًا أي حكيم، وأنه أحيى وظيفة العالم الديني وأعاد سيرتها الأولى، وأنعش جدها العاثر، وجدّد رسمها الداثر.
كان العالم الديني في نَأْنَأَة الإسلام أقوى نفوذًا وأوسع سلطة من الخليفة والملك والأمير، وكان الأمراء القاسطون يخشون ذلك النفوذ الواسع ويضيقون به ويتبرمون منه.
كان القاسطون من الخلفاء والأمراء بعد دولة الراشدين يخشون سلطة العلماء ونفوذهم الروحي، لأن في ذلك النفوذ حدًا من استبدادهم ووقوفًا في طريق شهواتهم الحيوانية، فعمدوا إلى حيلة تتابع فيها أولهم وآخرهم وهي: إلصاق الحاجة بالعلماء، أو تحنيكهم بحلاوة الشهوات حتى يتخذوا منها مقادة لهم يجرونهم بها إلى مجالسهم وغشيان قصورهم، والحضور في محافلهم، فوقع الكثير في هذه الحبالة، ونجا من عصمه الله من هذه المكيدة، ونقرأ في تراجم الكثير من الزهّاد المتورعين أنهم كانوا يمتنعون من وطء بساط السلطان، وأكل طعامه، وأخذ جوائزه والولاية له، لأنهم كانوا يرون أن ذلك كله ترويض على ما بعده من إذلال وامتهان، وذريعة إليه، ولكن تلك الحيلة أخذت مأخذها من النفوس مع تطاول الزمن وإلحاح الإغراء حتى ضاع ذلك النفوذ الواسع، الذي كان يمسك الأرض أن تميد ويحرس الإسلام من طرق هذه المعاني الخبيثة من الداخل ومن الخارج، إلى أن اختلّ أمر الدين والدنيا معًا بين المسلمين، وكانت الخاتمة ما نراه اليوم في المجتمع الإسلامي من تخاذل وتفكك وانحلال، وهذه هي عواقب بُعْد العلماء عن الرأي وعدم تدخلهم في الشؤون العامة، وهكذا كان علماء عصر جمال الدين يريدون لجمال الدين أن يكون.(5/194)
والعلماء المصلحون متفاوتون في الاستعداد بالميادين التي جلوا فيها بمقتضيات الضرورة والزمان والمكان، فأحمد بن حنبل رأى أن العقيدة التي يريد الخليفة أن يغرسها بالقوة هي عبث بعقائد الحق كلّها، وأنها ستسري- إن سكت عنها- لبقية العقائد، لا سيّما والذي يرعاها خليفة، وتربتها التي نبتت فيها بغداد، وبغداد عاصمة الإسلام إذ ذاك، فالآراء التي تؤمر منها تنتشر في العالم الإسلامي كله، فوقف أحمد فيها المواقف المشهورة، ولاذ بقية العلماء وهم أئمة الدين وقادة المسلمين بسلاح الضعفاء المترددين، بعضهم بالتقية وبعضهم بغيرها من ذرائع سلامة البدن، والعز بن عبد السلام رأى أن طغيان المماليك في مصر واستهتارهم يؤديان إلى ضياع المصالح، واختلال السابلة، فوقف منهم موقفه الذي خلّد اسمه، وأحمد بن تيمية رأى أن ضلال العقائد واستفحال البدع وتسلط المبتدعين على عقول العامة قد طغت بحارها، فوقف منهم طول عمره موقف الخصم اللدود حتى خضد شكوتهم وفل شباتهم، ومحمد بن تومرت رأى اقتناع علماء الدين في تغيير المنكر بالمرتبة الأخيرة التي لا بلاء فيها ولا جهاد، وهي التغيير بالقلب، فانتقل إلى أعلى رتبها وهي التغيير باليد، فكان يغير المنكرات بيده، ولولا مخرقة شابت أفكاره لكان في عداد المصلحين العظام، وجمال الدين رأى أن أنكر المنكر في زمنه هو عبث الأمراء المستبدين أو الأمراء الضعفاء بمصالح المسلمين، وأنهم أضاعوها في سبيل شهواتهم الشخصية، وأنه لولا سكوت العلماء وقعودهم مع الخوالف لما تمادى أولئك الأمراء في غيّهم، فوجّه جهوده ووقف مواهبه على هذا الميدان السياسي، والسياسة في نظر الإسلام هي من لباب الدين، لأنها حامية لشرائعه وشعائره وحدوده، وموقف الأفغاني من شاه إيران وسلطان العثمانيين وخديوي مصر مشهورة، فالأفغاني باتّساع معلوماته، وباستعداده الفطري، وبِبُعد نظره، وبصراحته وشجاعته، وبحسن فهمه لأمراض المسلمين، ومعرفته بأصناف عِلاجها، مصلح سياسي، اجتماعي مستكمل الأدوات لا يشق له غبار ولا يصطلى له بنار.
ولم يتخذ الأفغاني وطنه الذي ينتسب إليه مركزًا لحركاته وأعماله، لأَنَّ ذلك الوطن لا يصلح مركزًا لانبعاث حركة فكرية شاملة، لبعده وانقطاعه عن بقية الأوطان الإسلامية، واختار مصر قاعدة للحملات الصادقة التي حملها على استبداد الأمراء وخمول العلماء، وغفلة العامة، وشيء آخر من بواعثه على اختيار مصر واتخاذها قاعدة لحركاته، وهو أن مصر لم تزل حاضنة العروبة، وحافظة عهودها من لدن الفتح الإسلامي، ولم تزل كعبة العرب ومهوى أفئدتهم منذ قرون، وكل مبدإٍ يتعلّق بإصلاح شؤون المسلمين العامة، فمن دواعي نجاحه أن يكون منبعثًا من أرض العرب لمكانهم من النبوة ومنزلتهم من القرآن.(5/195)
أيها الإخوان:
الذكرى من الذكر، فماذا تذكرون في هذه الليلة عن جمال الدين الأفغاني، وماذا تدّخرون من آثارها في نفوسكم لليالي المقبلة من أعمالكم؟ اذكروا أنه كان عالمًا شجاعًا، قوّالًا للحق جريئًا فيه، واذكروا أنه كان لا يخشى في كلمة الحق يقولها ولا في الحق يدعو إليه لومة لائم، واذكروا أن جميع الثغر التي أُتينا منها فعِلّةُ العلل فيها آتية من سكوت علماء الدين وبعدهم عن شؤون المسلمين العامة. وقد جزاه الله في الدنيا جزاءً عاجلًا فرزقه طرازًا من التلامذة المستعدين، نفخ فيهم من روحه، وربّاهم على مباديه، وكانوا من بعده حمَلَة فكرته، الشارحين لها بالعمل، وحسبكم بالأستاذ الإمام محمد عبده.
وإن جمال الدين اقتحم هذا الميدان فكان حجة لبعض العلماء، وحجة على بعضهم. رحمة الله على جمال الدين جزاء ما قدّمه للإسلام والمسلمين، وكفاء ما سنّه للعلماء من أسى حسنة لم نزل نتقلّب في أعطافها، وندين له بالفضل فيها.
والسلام عليكم ورحمة الله.(5/196)
الذكرى الثالثة لثورة نوفمبر *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان:
هذه ذكرى ثلاثة أحوال مرّت على جهاد إخوانكم الجزائريين، وثورتهم على العتوّ الفرنسي ثورة قوّضت أركانه، وأتت بنيانه من القواعد، وجلبت عليه الوبال والخبال، وستنتهي- في رجاء كرأي العين- بتحرير دينهم، وعروبتهم، وأعراضهم ورقابهم من قبضته، فبهذا اليوم سلخت الثورة ثلاث سنوات كل أيامها غرّ محجلة، وكل لياليها كليلة القدر مقدسة مبجّلة، وكل وقائعها انتصارات للفئة القليلة على الفئة الكثيرة مسجّلة، وكل نتائجها ثمرات من الوعد بنصر الله معجلة.
فتعالوا بنا في هذا المشهد، وأخبار النصر متوالية، وأصوات البشائر بقرب ساعة الفتح العزيز متعالية، نرسل إلى أولئك المجاهدين الأبطال تحيات زكية، تخالطها نفحات مسكية، تحملها عنا أمواج الأثير لا نسمات الصبا، ودعوات للولي الحميد بالنصر والتأييد، تطير بها أجنحة الإنابة، إلى مشارف الإجابة، نزجيها إمدادًا كالغيث في وقت الحاجة إليه، ونعدها إن لم تسعد الحال إسعادًا بالقلوب، إلى أولئك الأبطال الذين كتبوا بدمائهم الصفحات الأخيرة من تاريخ ذلك الشمال الملتحم الأجزاء، كما كتب أسلافهم الأولون أمثال عقبة والمهاجر وطارق الصفحات الأولى منه، ولا عجب فهؤلاء الأبطال متصلون بتلك الأنساب، متحدرون من تلك الأصلاب، ففيهم من الخصائص النفسية الموروثة ما ترون من آثار، وتسمعون من أخبار، ولا ترتابوا في أن هذا من ذاك.
...
__________
* كلمة الشيخ في إذاعة القاهرة يوم 1 نوفمبر 1957، بمناسبة الذكرى الثالثة لاندلاع الثورة التحريرية.(5/197)
نحييكم- أيها المجاهدون الأبطال- عنا وعن جميع إخوانكم الذين أظلهم الإسلام معكم بلوائه، ولفّتهم العروبة معكم في ملاءتها، تحية المعجب بمشاهدكم في سبيل الله وفي سبيل نصرة دينه، وبمواقفكم التي بيضتم بها وجه كل مسلم وكل عربي، وبالأمثال الشوارد التي ضربتموها في البطولة والشجاعة، وبالسُّنَن التي سننتموها للمسلمين والعرب في الاستخفاف بالموت في سبيل الحياة، وفي الصبر والثبات والثقة بالله ثم بالنفس، وبالأعمال الخارقة التي ظهرت على أيديكم مقرونة بالتحدي للظلم وأشياعه، والطغيان وأتباعه، فليت شعري هل تدرون أنكم أحييتم بأعمالكم طارقًا في الأولين، وصلاح الدين في الآخرين، بعد أن لم يبق لنا منهما إلا الاسم ... نلوكه بألسنتنا ونتيمّن بإطلاقه على أبنائنا.
من كان يظن أن ثورتكم تبلغ إلى هذا الحدّ من القوّة والصولة، ومن الجلالة والروعة، لو جرت الأمور على قواعد مذهب عبّاد المادة: شعب مفكّك الأوصال، مجرّد- إلى درجة العري- من كل ما يسمّى نظامًا وقوّة، وقد سلبه اللصوص كل شيء من أسباب القوّة المادية، يثور في وجه دولة من أقوى دول العالم بجيوشها وأسلحتها، ومصانعها، ووسائل القوّة فيها، ثورة تذهلها عن نفسها، وتذهب بصوابها، وتبتليها بحالة من الفوضى والاضطراب لا يوجد لها نظير بين المغلوبين في الحروب ذات القوى المتكافئة، ثم تنتهي بعد ثلاث سنوات إلى إفلاسها في الرأي والمال معًا، وإن الإفلاس في الرأي لشر من الإفلاس في المال.
إن هذا لغريب في أذواق المفتونين بالقوة المادية، أما المجاهدون من عرب الجزائر فإنهم يبنون أمرهم على غير هذا الأساس، يبنون أمرهم على سموّ المعاني التي يقاتلون من أجلها، وأنهم على الحق، وأن عدوّهم على الباطل، ذلك لأنهم قوم جدّدوا صلتهم بالله ناصر المستضعفين، وقامع العتاة، فجدّد الله معهم عوائد نصره، وغيّروا ما بأنفسهم من استكانة ورضى بالدون والدنية، فغيّر الله ما بهم تثبيتًا لعهده، وإنجازًا لوعده، وقد وخزتْهم عقيدة الإيمان والحق من كل جانب، فقارعوا عدوّهم بهما، فأوبقته جَرائِرُه وخذلته قواه، ولم تغنِ عنه آماله الغرّارة ولا جيوشه الجرّارة شيئًا، فهو يتخبّط في حِبالةٍ يتعذّر الخلاص منها.
أيها الإخوان:
إن الفرنسيين- ومن ورائهم الدول الغربية المستعمرة كلها- ليعلمون هذا كله، يعلمون منزلتنا في الروحيات، ومدى تأثير الروحيات فينا، ويعلمون أننا قوم نُصِرَ أوائلنا بالقوّة الروحية، وما تستتبعه من عقيدة وإيمان، فملكوا الدنيا، وسادوا الكون، وأن أواخرنا سيجرون على ذلك العرق، فلم يزالوا بنا حتى أزاغونا عن ذلك الأصل، فتمارينا وتشككنا، ثم ضعفنا وتفكّكنا، فوكلنا الله إلى أنفسنا، فما يبالي في أي واد هلكنا، وبهذه السياسة ساستنا فرنسا من يوم احتلت أرضنا إلى الآن. فبعد أن جرّدتنا من الدنيا وأسباب القوّة فيها،(5/198)
تدسست إلى مكامن الإيمان والعقيدة من نفوسنا لتطفئ تلك الشعلة الإلهية فيها، وتجتث أصل الإيمان منها، ولكن الأعراق الأصيلة في الإيمان تظاهرها الأعراق الأصيلة في العروبة والصلابة الفطرية، هتفت بأولئك الدساسين: أن قفوا مكانكم ولا كرامة ... وقد يئسوا بعد قرن وربع قرن من تأثير تلك الدسائس، وكانت العاقبة أن وقع ما كانوا يتوقعونه، وها هي ذي الثورة المضطرمة في الجزائر تبيد خضراءهم، ويأكل ضعفها قوّتهم، وتجيئهم كل يوم بما لا يحتسبون، وتستنزف من مواردهم ما يعجز العادّون عن عدّه ...
أيها الإخوان:
أُخِذَ هذا الشرق المسكين أخذة السحر بعلوم فرنسا وفنونها، وقوّتها وحضارتها، وجمال أرضها حتى أصبح يفتخر بلغتها وآدابها، وينعتها بأنها أم الحرية، ومنارة العرفان، وحارسة العدل الإنساني.
أما الجزائري فإن هذه الرقى لم تستهوه مهما جوّدت أبواق الدعاية نغماتها، وما أفاق بعض الشرقيين من ذلك التخدير إلا عند احتلال فرنسا لسوريا وارتكابها الموبقات التي لا يهتدي إليها الشيطان، ثم انكشف الغطاء، وظهرت فرنسا على حقيقتها الكاملة في الاعتداء الثلاثي على مصر، وما عهده ببعيد، فإذا هي مجموعة فضائح عريانة لا تتستّر بجلباب، ولا تتوارى بحجاب.
أيها الإخوان:
إن فرنسا لم تزل في المنزلة التي خلقها الله عليها، وهي دركة الإنسانية القريبة من الحيوانية في الحد الفاصل بينهما، وآية ذلك أننا نقرأ في تاريخ الاحتلال الفرنسي لأرضنا تفاصيل الأعمال الوحشية التي ارتكبها الجيش الفرنسي مع الشعب الجزائري وصنوف التعذيب والتحريق للأحياء، وكيف كان أولئك المساكين يأوون إلى الكهوف الجبلية يعتصمون بها من الموت هم وأطفالهم ونساؤهم وما يملكون من حيوانات فيأتي الجنود الفرنسيون بأوامر من قادتهم فيسدّون منافذ الكهوف بالحطب ويضرمون فيها النار حتى يموت كل حي في الكهف احتراقًا أو اختناقًا، موتًا قاسيًا بطيئًا يذوقون في كل دقيقة لونًا منه، ويحرمونهم من الموت الوحيّ المريح، ونراهم يفتخرون بهذه الأعمال، ويسجّلونها في كتبهم ورسائلهم، وها هم أولاء بعد قرن ورُبُع قرن، وبعد أن تبدلت العقول، وفعل الزمان فعله في النفوس فبدل الشراسة لينًا والقسوة رحمة، ها هم أولاء يتفننون في أساليب التعذيب للمدنيين الجزائريين، فيقتلون الأطفال والنساء والعجزة والقعدة وعلماء الدين بأساليب وحشية من سمل للعيون، وامْتِلاخٍ للأظافر، وتمزيق لأوصال الأحياء، وما يخجل الشيطان ويأنف من تسويله والإغراء به، فكأن العالم كله تحوّل، والعقليات كلها تطوّرت، إلا الفرنسي، والعقلية الفرنسية فإنهما متحجران ثابتان في محلهما.(5/199)
أيها الفرنسيون:
ماذا أبقيتم من المخزيات؟ انتهكتم الأعراض، وقتلتم الصبيان والنساء والشيوخ، ورجال الدين حقدًا على الدين، قتلتموهم في المساجد، وفي أوقات الصلوات، وهم بين يدي الله، فهل تطمعون بعد الذي وقع منكم أن يجمعكم مع الجزائريين سقف واحد؟ هيهات لقد وصل الحقد بكم إلى حد يضل معه كل رأي. إنكم لم تتركوا موضعًا للرحمة في قلب المسلم إلا لطختموه بمخزية.
هما حالتان:- بعد أن وقع منكم ما وقع - إما أن يفنى الجزائريون عن آخرهم، وإما أن ترتحلوا غير مأسوف عليكم.
أما أنتم- أيها الإخوة المستمعون- فخذوا العبر من المبتدإ إلى الخبر من هذه الثورة التي هي الغرّة اللائحة في تاريخ الثورات، ولا تقفوا عند مظاهرها فيكون حظكم من الإعجاب بالبطولة الخارقة لأحكام العادات، والتمدح بالصمود للعدوّ والإنكاء في العدوّ فتضل عنكم وجوه الاعتبار، وكم أضعنا بهذه السطحية فوائد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/200)
الدين في شعر أحمد شوقي *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
هاج عليّ عرق النسا، فلم يؤلمني منه إلا أنه فوّت عليّ الحضور بنفسي لإسماع المستجيبين لدعوة شوقي ما أحفظه من شعره في الموضوع الذي خصّصه لي الأخ الكريم الأستاذ الجليل مسجّل الفضائل الإسلامية والأمجاد العربية الشيخ أحمد الشرباصي وهو "الدين في شعر شوقي"، وإذا فاتني ذلك الخير فلا يفوتني أن أبعث إليكم بهذه الكلمة التي كتبتها في اللحظة الأخيرة متلفعة بملاءة من خجل التقصير في حقكم وحق شوقي، وإن لكم عليّ لحقًا أوجبه وفاؤكم لشوقي حين قلّ الأوفياء له حتى كاد ينسى ويُجفى، وإن لشوقي عليّ لحقًّا أوجبته على نفسي حين غاليت بقيمته في شعراء العربية غابرهم وحاضرهم، وسلام عليكم في الأوفياء.
الدين في شعر شوقي:
ونعني بالدين هنا ما هو أعمّ من الإسلام. فإن شوقي تغنّى بكل دين استحدث خلقًا أو ثبت فضيلة إنسانية أو زرع محبة بين الناس، أو أنشأ حضارة أو زاد فيها أو ولد فنًّا، أو كان إرهاصًا بدين أكمل. لا يبالي أكان ذلك الدين سماويًا أو من مواضعات البشر.
وشوقي يرى- في ما يفهم من شعره- أنه ما من نفس منفوسة إلا وهي منطوية على دين يسيرها في الحياة ويحدّد لها نهجها. وأن جميع هذه النفوس مؤمنة بالله طالبة الوصول إليه وإنما اختلفت بها الطرق المؤدّية إليه فتعثّرت، وطلاب الغايات المكانية كثيرًا ما يتعثّرون فتكون العثرات عائقة عن الوصول فكيف بطلاب الغايات الروحية، ولا مفرّ من
__________
* كلمة أُلقيت نيابة عن الشيخ في الحفل الذي أُقيم بجمعية الشبّان المسلمين بالقاهرة في فبراير 1955، ونشرت في مجلة "الشبّان المسلمين" عددَي مارس وأفريل 1955.(5/201)
ضلال في هذه المسالك ما لم يكن لها دليل سماوي، وكذلك لبث البشر أحقابًا يتخبطون إلى أن أذن الله بفتح باب الوحي.
وشوقي يلمس في مناحيه الفكرية آراء ومنازع صوفية للقدماء ويكسوها حللًا شعرية تذهل بروعتها عن تعرف حقيقة رأيه ويغطي الافتتان بالصور الشعرية على التفكير في أصل الرأيين فضلًا عن الفروق والجوامع بينهما، ولشعر شوقي في بعض المواقف إشراق كإشراق البرق، يبهر فيخفي فيه ما يكاد يظهر.
يقول شوقي في حالة البشر قبل بعثة الأنبياء:
رَبِّ شقت العباد أزمانَ لاكُتْـ … ـبٌ بها يُهتدى ولا أنبياءُ
ذهبوا في الهوى مذاهب شتّى … جمعتها الحقيقة الزهراء
فإذا لقّبوا قوّيًا إلها … فله بالقوى إليك انتهاء
وإذا آثروا جميلًا بِتَنْزِيـ … ـهٍ فإن الجمال منك حباء
وإذا أنشأوا التماثيل غرًّا … فإليك الرموز والإيماء
وإذا قدروا الكواكب أربا … بًا فمنك السنا ومنك السناء
وإذا ألهوا النبات فمن آ … ثار نعماك حسنه والنماء
وإذا يمّموا الجبال سجودًا … فالمراد الجلالة الشماء
وإذا يُعبد الملوك فإن الـ … ـملك فضل تحبو به من تشاء
وإذا تعبد البحار مع الأسماك … والعاصفات والأنواء
وسباع السماء والأرض والأر … حام والأمهات والآباء
لعلاك المذكرات عبيد … خضع والمؤنّثات اماء
جمع الخلق والفضيلة سرّ … شفّ عنه الحجاب فهو ضياء
ويقول:
ربّ هذي عقولنا في صباها … نالها الخوف واستباها الرجاء
فعشقناك قبل أن تأتي الرُّسْـ … ـل وقامت بحبك الأعضاء
ووصلنا السرى فلولا ظلام الـ … ـجهل لم يخْطنا إليك اهتداء
وشوقي يحضّ أهل الأديان جميعًا على التسامح، ويشدّد النكير على من يتخذونها أداة للتنازع والاختلاف، ويقول إنها كلها لله، وإن لم تكن كلها من الله، وما دامت كلها لله فهي رحم جامعة. ومن البرّ بهذه الرحم والرعاية لهذا النسب أن لا نتعادى فيها، ونفس شوقي ينبوع متدفق بالرحمة والحنان قبل أن تكون ينبوعًا متدفّقًا بهذه الروائع من الحكمة والبيان، وإنه لأصدق صادق حين يقول:(5/202)
خلقت كأنني (عيسى)، حرام … على قلبي الضغينة والشمات
وحين يقول:
ولا بِتُّ إلا كابن مريم مشفقا … على حُسَّدي مستغفرًا لعداتي
ولإغراق شوقي في الدعوة إلى التسامح سبب آخر وهو أن الدعوة العثمانية التي هي ليلاه ومناط هواه، ومَعْقِد رجائه في إعزاز الإسلام كانت راعية للأديان الثلاثة، وتحت لوائها طوائف من اليهود والمسيحيين، فكان يخشى أن تتخذ منهم أوروبا ذريعة للتشويش على هذه الدولة الإسلامية، وكذلك كانت الحال في مصر، فكان يوجّه دعواته البليغة في أسلوبه الشعري المؤثّر للمسلمين والأقباط أن لا يتخذوا من اختلاف الدين سببًا للشقاق فيطمع الذين في قلوبهم مرض في توسيع شقة الخلاف.
يقول في مرثية بطرس غالي:
نُعلي تعاليم المسيح لأجلهم … ويوقرون لأجلنا الإسلاما
الدين للديّان جلَّ جلاله … لو شاء ربّك وحّد الأقواما
يا قوم بان الرشد فاقصوا ما جرى … وخذوا الحقيقة وانبذوا الأوهاما
هذي ربوعكم وتلك ربوعنا … متقابلين تعالج الأياما
هذي قبوركم وتلك قبورنا … متجاورين جماجمًا وعظاما
فبحرمة الموتى وواجب حقهم … عيشوا كما يقضي الجوار كراما
ويقول:
إنما نحن مسلمين وقبطا … أمة وُحِّدَتْ على الأجيال
سبق النيل بالأبوّة فينا … فهو أصل وآدم الجَدُّ تَالي
ويقول وهو من المبالغات التي لا تخلو من مؤاخذة:
جعلنا مصر ملّة ذي الجلال … وآلفنا الصليب على الهلال
وأقبلنا كصف من عوال … يَشُدُّ السمهري السمهريا
أما تمجيد الإسلام فلا نعرف شاعرًا عربيًّا قبل شوقي مجد الإسلام وجلا فضائله ومحاسنه كما مجّد وجلا شوقي، ولا نعرف شاعرًا بعد شرف الدين البوصيري دافع عن حقيقة الإسلام كما دافع شوقي، وإذا كان البوصيري نظم لامية الإسلام بعد لاميّتيْ العرب والعجم وقال في دين محمد وكتابه:
الله أكبر إن دين محمد … وكتابه أقوى وأقوم قيلا(5/203)
ثم ضرب له ذلك المثال الشرود في قوله:
لا تذكر الكتب السوالف عنده … طلع الصباح فأَطْفِئ القنديلا
فإن شوقي أتى في مدائحه وسائر شعره بالأعاجيب وضرب العشرات من الأمثال الشوارد، وأعانه على ذلك معارف عصره وعجائب العلم في عصره، وامتداد التاريخ بخيره وشرّه في ما بين عصر البوصيري وعصره، وتداعي الأمم على المسلمين تداعي الأكلة على القصاع، فكل ذلك أرهف إحساس شوقي وهاج شاعريته وأثار أشجانه، فهبّ يدافع عن الإسلام ويجهّز من شعره الكتائب لا الكتب.
إن شعر شوقي في الأفق الذي تستقرّ فيه الحكمة مجاورة للبيان، والذي يشارف السدرة التي لا مطمع في الوصول إليها لأحد، ولا يحلق إليها ولو بجناح لبد، فلا يستفيد منه إلا الذي يقرأه بالتدبر والاهتمام وتصفية الذهن، وعند ذلك يعلم أية براعة أوتيها هذا الرجل، وأية قسمة من إشراق الذهن وجبروت العقل رزقها في هذه الحملة التي أعدّه الله لقيادتها في نصرة هذا الدين. وفي أثناء ذلك تجد الغرائب من عرض سماحة الإسلام وخصائصه، وجمعه بين القوة والرحمة، وبنائه على العدل والإحسان وتجاريبه الناجحة في هداية البشر وفي بناء الحضارة وفي إمامة العلم، وفي قيادة العقل، ثم يدسّ في تضاعيف ذلك دعوات عامة إلى التسامح تجري في النفوس جريان الماء، لأنه يعلم أن قومه مغلوبون على أمرهم لا يقدرون على الانتصاف لأنفسهم، فهو يقرعهم على ذلك ويدعوهم إلى الاتحاد ونفض غبار القرون والأخذ بأسباب القوّة، وان لهم في كل مكرمة إمامًا وما عليهم إلا أن يتّحِدُوا، ولا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من هذه الفنون، يخرج إليها من عمود القصيدة ولو كانت في الرثاء أو في الأغراض البعيدة، حتى قال بعض ناقديه: إن شعره خال من وحدة القصيدة.
أيها الإخوان:
والتديّن أثر الدين في النفس أو ممارسة شعائره بالجوارح وليس من موضوعنا المحدّد البحث عن تديّن شوقي بمعنى إقامته لرسوم الدين وشعائره، لأننا في شغل شاغل عن ذلك بهذا الفيض المدرار الذي يفيض به شعر شوقي في التغالي بالإسلام وتاريخه وأمجاده، وبهذا الإيمان القوي بالله وقضائه، وبهذا التصوير لبدائع مصنوعاته، وبهذا الترديد اللذيذ للقرآن والحضّ على التمّسك به، وبهذا التكرار الحلو للمقدّسات الإسلامية من ملائكة وأنبياء وصحابة وأماكن وأيام، فيغشى في شعره ذكر الله وجبريل ومحمد وإبراهيم وموسى وعيسى وعمر وخالد ومكة والمدينة وبدر والقدس، وأسماء كثيرة لبناة المجد الإسلامي والعربي يكرّرها فلا تملّ، ويصفها في أماكنها فلا تختلّ، ويسمها بسيمائها ويصفها بخصائصها،(5/204)
ويجلّي موضوع العبرة فيها والقدوة بها، فتتألف من ذلك كله في عامة شعره صور بديعة تأخذ النفس أخذة السحر وتفضي به إلى الاعتبار ثم الاقتداء.
وشيء آخر يدلّ دلالة واضحة على إيمان شوقي بما يقول في ذلك وهو أن مما يثقل ميزان الممدوح أو المرثي في حكم شوقي أن يكون مقيمًا لدينه كما يريد الله، حتى الدولة العثمانية لم يفرغ عليها تلك الحلل الخالدة إلا لأنها تخدم الإسلام وتؤمّل لإعزازه.
يقول شوقي في رثاء حسين شيرين:
أبدًا يراه الله في غلس الدجى … في صحن مسجده وحول كتابه
ويقول في تعزية لأهل دمياط:
بني دمياط ما شيء بباق … سوى الفرد الذي احتكر البقاء
تعالى الله لا يبقى سواه … إذا وردت بريته الفناء
وأنتم أهل إيمان وتقوى … فهل تلقون بالعتب القضاء
ملأتم من بيوت الله أرضا … ومن داعي البكور لها سماء
ولا تستقبلون الفجر إلا … على قدم الصلاة إذا أضاء
ويقول في وصاياه الخالدة للأجيال:
ويا جيل الأمير إذا نشأتا … وشاء الجد أن تعطى وشئتا
فخذ سبلًا إلى العلياء شتى … وخلّ دليلك الدين القويما
وضِنَّ به فإن الخير فيه … وخذه من الكتاب وما يليه
ولا تأخذه من شفتي فقيه … ولا تهجر مع الدين العلوما
وصل صلاة من يرجو ويخشى … وقبل الصوم صم عن كل فحشا
ولا تحسب بأن الله يُرشى … وأن مزكّيًا أمن الجحيما
ويقول في بعض تلك الوصايا:
يا مديم الصوم في الشهرالكريم … صم عن الغيبة يومًا والنَّمِيمْ
وإذا صلّيت خف مَن تَعْبُدُ … كم مصلّ ضج منه المسجد
واجعل الحج إلى أم القرى … غِبَّ حج لبجوت الفقرا
وتسمح وتوسع في الزكاة … إنها محبوبة عند الإله
فرض البِرَّ بها فَرْضَ حكيمْ … فإذا ما زدت فالله كريم(5/205)
وفي هذه القطع منازع لطيفة في فقه الدين تدلّ على ما لشوقي- رحمه الله- من رسوخ في فهم حقيقة الدين ومعنى التديّن.
ويقول في مناجاة شعرية لربّه هي ثمرة كمال إيمانه وخوفه منه:
وياربّ هل تُغني عن العبدحَجَّةٌ … وفي العمر ما فيه من الهفوات
وتشهد ما آذيت نفسًا ولم أضر … ولم أبغِ في جهري ولا خطراتي
ولا غلبتني شقوة أو سعادة … على حكمة آتيتني وأناةِ
ولا جال إلّا الخير بين سرائري … لدى سدّة خيرية الرّغَباتِ
ولا بتّ إلا كابن مريم مشفقا … على حُسَّدِي مستغفرًا لعداتي
ولا حُمِّلَتْ نَفْسٌ هوى لبلادها … كنفسي في فعلي وفي نَفَثاتي
وإني ولا مَنٌّ عليك بطاعة … أجل وأغلي في الفروض زكاتي
أبالغ فيها وهي عدل ورحمة … ويتركها النساك في الخلوات
وأنت ولي العفو فامْحُ بناصع … من الصفح ما سوَّدْتُ من صفحاتي
ويقول في الشيخ جاويش وأعماله للإسلام:
يقولون ما لأبي ناصر … وللترك، ما شأنه والهنودْ؟
وفيمَ تحمل هَمَّ القريب … من المسلمين وهم البعيد
فقلت وما ضرّكم أن يقوم … من المسلمين إمام رشيد
أتستكثرون لهم واحدًا … وليّ القديم نصير الجديد
سعى ليؤلف بين القلوب … فلم يَعْدُ هديَ الكتاب المجيد
يشدّ عُرَا الدين في داره … ويدعو إلى الله أهل الجحود
وللقوم حتى وراء القفار … دعاة تغني ورُسْلٌ تشيد
وهو يشير بهذا البيت إلى ما يبذله المبشّرون في سبيل دينهم:
...
أما توحيد الله والإيمان بقضائه وقدره وغيبه وبعثه ونشوره فإن دارس شعر شوقي يستفيد منه ما لا يستفيده من كتب الكلام الجافة بأنواع من الاستدلال الوجداني فتدخل النفوس من أيسر طريق وتتغلغل إلى مكامن اليقين فيها، فتنتهي بها إلى غاية الغايات من الإيمان الصحيح.
يقول في الروح:
الروح للرحمن جلّ جلاله … هي من ضنائن علمه وغيابه(5/206)
ويقول في مشكلة القضاء:
القضاء معضلةٌ … لم يَحُلَّها أَحَدُ
كلما نقضْتَ لها … عقدة بدت عقد
أتعبت معالجها … واستراح مُعْتَقِد
ويقول في تولستوي:
طوانا الذي يطوي السموات في غد … وينشر بعد الطي وهو قدير
ويقول في رثاء صديق:
فَعَليَّ حِفْظُ العهد حتى نلتقي … وعليك أن ترعاه حتى نحشرا
...
ومن دلائل إيمانه القوي بالله ورسوله ومحبته لهما محبة ملكت شعوره، تلك المدائح النبوية التي أرى أنّه تفوّق فيها على السابقين الأولين، وبذ فيها السوابق القرح من المجيدين في هذا الباب الذي لم يُجِدْ فيه قبله إلا اثنان أو ثلاثة في تاريخ الملة الإسلامية.
وإنّ في مدائح شوقي أنواعًا من الحكم، وأصنافًا من العلم وأمثالًا مضروبة ونصائح ومذكرات لا توجد في مدائح غير شوقي، وبلغ من اعتزاز شوقي بمدائحه أن يقول في قرية صديق له:
قد كان شعري شغل نفسك فافترح … من كل جائلة على الأفواهِ
فاقرأ على "حسّان" منه لعله … بفتاه في مدح الرسول مُباهِ
أيها الإخوان:
يؤخذ على شوقي أنه مع جلالته في الإيمان ومتانة العقيدة يطغى عليه الجبروت الشعري فيقع في هفوات تدخل في باب الإغراق والغلوّ أو في باب التساهل والاستخفاف. وقد سبقه إلى الوقوع في أمثالها من فحول الشعراء ابن هانئ الأندلسي والمتنبي والرضي من غير إكثار. ولعمري إن بعض ما وقع لشوقي من ذلك يجاوز حدود التأول، لا لأن موقع هذه الأشياء التي تساهل فيها شوقي في باب التوفيقيات، وللتوفيقيات في الإسلام آداب مخصوصة وموارد منصوصة لا يستمح فيها، ولا يشفع فيها العذر والتأويل.
من هذه المبالغات قوله:
وجه الكنانة ليس يُغضِب ربَّكم … أن تجعلوه كوجهه معبودا
ولّوا إليه في الدروس وجوهكم … وإذا فرغتم واعبدوه هجودا(5/207)
وقوله:
جعلنا مصر ملّة ذي الجلال … وآلفنا الصليب على الهلال
وقوله في مهرجان:
مهرجان طوّف الهادي به … ومشى بين يديه جبرئيل
وقوله لأم الخديوي عباس:
وقفي الهودج فينا ساعة نتناوب نحن والروح الأمين
وقوله لعباس حلمي:
يُحَيّيكَ (طه) في مضاجع طهره … ويعلم ما عالجت من عقبات
وقوله في نفس ميتة:
نُجِلُّ سِتْرَ نعشها … كالكسوة المسيره
وننشق الجنة من … أعواده المُنَضَّره
وقوله في جورجي زيدان:
ولا يزل في نفوس القارئين له … كرامة الصحف الأولى على التالي
وقوله في تلامذة ماتوا في حادث اصطدام:
توابيت في الأعناق تترى زكية … كتابوت موسى في مناكب إسْرالِ
وقوله في أمين الرافعي:
تنشد الناس في القضية لَحْنًا … كالحواري رَتَّلَ الإنجيلا
وقوله في مرثية الشريف حسين:
اغسلوه بطيب من وَضُوء الرُّ … سلِ كالورد في رباه البواسم
وخذوا من وسادهم في المصلّى … رقعةً كفنوا بها فرع هاشم
واستعيروا لنعشه من ذُرَى المِنْـ … ـَرِ عُودًا ومن شريف القوائم
واحملوه على البراق إن استطعـ … ـتُمْ فقد جَلَّ عن ظهور الرواسم
وأديروا إلى العتيق حسينا … يبتهل ركنه وتدع الدعائم
وقوله في جرح سعد زغلول:
منايا أبى الله إذ ساورتك … فلم يَلْقَ نابيه ثعبانها(5/208)
حوت دمك الأرض في أنفها … زكيًا كأنك عثمانها
ورقت لآثاره في القميص … كأن قميصك قرآنها
وغير هذا في شعره كثير، وإنها لهنات، نرجو أن تكون في مقابل إحسان شوقي وفي جانب عفو الله هينات.
لغة الشاعر:
والذي لا يشك فيه قارئ شوقي أن لغته متأثرة بالدين إلى أبعد غايات التأثّر، صادقة في شعورها بوحدانية الله وعظمته وكماله، وبالافتقار إليه والخوف منه (1).
__________
1) كأنّ الشيخ بدأ فصلًا عن لغة شوقي ولم يكمله.(5/209)
حرية الأديب وحمايتها *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها السادة، يا أدباء العربية، يا أبناء العروبة:
أحييكم تحية العروبة المؤمنة المجاهدة، فسلام عليكم ورحمته وبركاته، سلام عليكم في بلدكم وبلدنا وبلد كل عربي وكل مسلم: سلام عليكم في مصر حصن العربية، ومعقل الأدب، ومنتجع الأدباء والشعراء منذ أجيال وأجيال ...
وآمل أن يسفر هذا المؤتمر عن نتائج وحقائق وخطط نزكي بها عروبتنا ونعزّز بها وحدتنا، ونُنهض بها أدبنا، ونسمو بها إلى الأفق المرجوّ، ونقرب بها ثمار الغد المأمول ...
والأدب أيها السادة هو الوشيجة القوية والوثيقة الباقية التي لم تنقطع طوال القرون وعبر الأزمان ... فهذه هي الأيام تطوي الدول، وتقرب البعيد، أو تبعد القريب، وتقطع هذا السبب أو ذاك من علاقات الأفراد أو روابط الجماعات، ويبقى اللسان العربي والبيان العربي والشعر العربي رسلًا صادقين وروابط قوية بين أبناء العروبة كلهم ...
نعم، يبقى الأدب العربي رباطًا يجمع العرب مهما اختلفوا أو تفرّقوا في ميادين أخرى بطارئ من طوارئ الهم، أو لون من ألوان الاختلاف في الهمم ...
يبقى الأدب يصوّر الخواطر، ويأسو الجراح، ويؤلّف بين الألسنة والقلوب حتى تتصافح الأيدي، ويعود البناء كما كان، أبيًّا لا ينال، قوّيًا لا يلين.
ولربّ خاطرة لكاتب أو همسة لشاعر، أحيت رممًا، وبعثت دارسًا، وردّت ذاهبًا وفجّرت الينابيع في صم الصخور ...
__________
* كلمة الشيخ في المؤتمر الثالث للأدباء العرب، 9 - 10 ديسمبر 1957، القاهرة. ونُشرت الكلمة في كتاب "مؤتمر أدباء العرب" (مطبعة مصر، 1958).(5/210)
والأديب إنما يكون أديبًا بحق حين يكون أمين القلم صادق البيان ينقل إحساسه إلى قارئه في عمق وصدق، فلغة الأدب وحدها هي الترجمان الأمين لعواطف هذه الشعوب، واللسان المبين الذي يعرض خلجاتها، ويفصح عن آمالها وآلامها، والأديب لا يعرف الاقليمية ولا الحدود، ما دام صادقًا في التعبير عن حاجات قارئيه، نابعًا عن بيئتهم، تتمثّل فيه خصائصها الإنسانية، ولا تنكسر أمواجه عند خطوط الوهم الجغرافي، أو رسوم الحد السياسي. إنه كالنسيم يحمل العبير أينما سار، يصعد في ذروة الجبل وينثال إلى عمق الغور، وينساب على صفحات الوادي ...
إنه ينطلق أبدًا، ويسعد الناس بشذاه، ولا يبالون من أي روض نشر ولا أي سبيل عبر، ما داموا يعرفون في عطره أشذاء روضهم ويحسون في تياره فوران إحساسهم ويرون فيه أنفسهم جادين أو هازلين، ضاحكين أو واجمين، فنحن نسعد بالعمل الأدبي كما نحسد في أنفسنا من ارتبط به ارتباط المتمني بالأمل الحلو، أو ارتباط الحي بواقعه سعيدًا أو أليمًا، أو ارتباط المرء بماضيه وذكرياته.
من أجل ذلك نهتز له ونحسّ دبيب الإعجاب في أعماقنا بالأثر الأدبي الذي يصوّر لنا أملًا مرجوًّا، أو جانبًا من حاضرنا، أو صفحة من ماضينا وأمجادنا ومُثلنا، لأننا جزء من كل ذلك، أو كل ذلك جزء منا.
فالأدب هو خلاصة التجارب الإنسانية والثقافة البشرية خلال الأجيال، وهو رباط لا ينفك بين الناطقين بلغته والعارفين بلسانه ...
وقضية القومية العربية تستمد أقوى حججها من واقع الأدب العربي وسلطانه، ووحدة الأمّة العربية تتمثّل في وحدة هذا الأدب بصورة عملية ... وقضية القومية العربية ليست ميدان سلاح أو حرب، وإنما هي ميدان عقل وفكر، والأديب في ميدان الفكر كالقائد بين يدي المعركة يوجّهها بخبرته ويديرها بحكمته، ويقودها بمواهبه ومعرفته، إلى النصر المبين.
وعندي أن المواهب والإمكانيات المادية عنصران لازمان للنجاح، متلازمان في سبيل النصر، ونحن العرب في نهضتنا الحاضرة لا بدّ لنا من أن نهيّئ للمواهب ما ترتفع بأزره من إمكانيات مادية، وتحمي هذه القوى الدافعة الدافقة في كياننا من الخمود والنضوب.
ولقد عرفتم في تراثنا العربي من جاهلية التليد، وإسلامية الوضاء المشرق على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء ومن بعدهم ... عرفتم في كل ذلك دور الأدب بألوانه في توجيه الدولة وبناء المجتمع وتحديد الطابع المميّز له، وتثبيت المُثل التي يحتشد عليها أفراد المجتمع وفصائله ...(5/211)
فحمل إلينا الأدب صورة المجتمع الجاهلي وضراوته، وصورة العهد الإسلامي وانتفاضته والدولة الأموية وقوميتها، والدولة العباسية ومدنيتها، وهكذا نجد الأدب في كل العصور والدول مشرقية ومغربية ... نجده أداة بنائية، ووسيلة حيوية ضرورية في كيان المجتمعات ...
ولقد أدرك هذه الحقيقة السابقون من قومنا فحاطوا الأدب والأديب بالحماية والرعاية ومهّدوا للأديب أن يخلص لفنه ويخلص فنه له ... عرفنا ذلك في أيام دمشق عاصمة الأمويين، وبغداد عاصمة الرشيد والمأمون، والقاهرة عاصمة المعز وصلاح الدين، وفي المغرب على عهد حكوماته العربية الخالصة ... ورثنا نحن كل هذه المآثر التي شهد لها العالمون، ودان لعظمتها الأوائل والأواخر ...
وأول ما يجب أن نحمي منه الأديب والأدب هو تلك العواصف التي تطفئ جذوته وتمسخ نوره ورونقه، وتمسّه بالعوز والكدية والصعلكة، فلا بدّ أن نبذل للأديب من رحابة الحياة وشر العيش ما يجعله معتدل الحس رضيّ النفس، صادق التعبير، غير ضجر بضيقه وعسره ...
إلى متى تظل تلك الأسطورة المشهورة ملصقة بالأديب والأدباء ... أعني الأسطورة التي تحكي أن الفقر أول سمات الأديب؟ ... إلى متى نظل نؤمن بالفقر الملهم والجوع العبقري، والبؤس الموحي ... إلى آخر ما هناك من رواسم يردّدونها بلا معنى أو ثمرة؟ ...
إلى متى يظل الأدباء منكورين في حياتهم، فإذا ماتوا عدنا نذرف عليهم الدموع، وننشر فوقهم العطر السجين والنور المخنوق، ونتذكر- بعد الموت فقط- أن لهم أفضالًا وأمجادًا، وأن علينا حيالهم واجبات ثقالًا؟
ولئن كان في عصرنا أدباء عرف المجد الاجتماعي سبيله إليهم، ونزل الرخاء ببابهم، فعاشوا في مهاد رافه، ونعيم باذخ، إن هؤلاء لا يجاوزون في الشرق العربي أن يكونوا آحادًا لا يشكلون بمكانتهم ولا بعددهم وضعًا عامًّا.
ولست أريد بذلك أن نقطع للأدباء الإقطاعيات، أو نقيم لهم التكايا، فقد درست تلك الأساليب وبارت، وإنما يدور حديثي حول تقدير الأثر الأدبي في حياته وتقييم الأدب تقييمًا عمليًّا لا نظريًّا، ولا عاطفيًّا فقط، فلن يقتات الأديب عاطفة مهما سمت ولا مدحًا مهما اتسع.
وإذا كنا نريد للأديب الرخاء ورحابة العيش، حتى يفرغ لفنه، فإن الحرية الفكرية للأديب هي مداد قلمه الذي بدونه لا ينتج ولا يثمر ... لا بدّ من حماية الأديب من كل ما يزيّف فنه، ويدفعه إلى التخفي وراء الرمز والغموض ...(5/212)
ومن حماية حرية الأديب أن نتجه بالنقد وجهة موضوعية فنية، ونبعد به عن تلك المهاترات التي تتأذّى بها العيون والأسماع والقلوب والعقول، فالنقد تابع للإبداع، وليس الإبداع عبدًا للنقد.
وإن من حق الأديب أن نترك له الفرصة الملائمة ليجرّب ويجرّب، فالتجربة إن أثمرت كانت فتحًا جديدًا، وإلا فهي دربة وخبرة تصقل الموهبة، وتكشف حقائق الحياة.
ومن حق الأديب العربي أن نحميه من تميع الشخصية وتحلّل المقوّمات، فلكل أدب طابعه ولكل أمّة نهجها ومشكلاتها الخاصة وطبيعتها المعيّنة التي تملي حلولًا معيّنة، فلا بدّ من الرجوع إلى بيئتنا وماضينا وتراثنا ومقوّمات جنسيتنا وقوميتنا، قبل أن نحاول جديدًا ...
نستهدي كل أولئك، ونتعرّف الطريق من خلال تلك النظرات، حتى تجيء محاولاتنا بيئية واقعية، تتطلّبها ضرورة الحياة، وتستدعيها ظروف لها أصالة في مجتمعنا ووشائج بعروبتنا وماضينا.
وأحب أن أحذّر هنا من التقليد للتقليد، ومن التجديد للتجديد، فليس كل واقع صالحًا للبقاء، حتى نقلّده ونتمسّك به؟ وليس كل جديد له هدف، أو يحقق فائدة حتى نسعى إليه ونتهافت عليه.
فلتكن في طبيعتنا الإيجابية المبصرة تعرف ما لها وما عليها، وتعتز بالحقائق، وتنثني عن الأوهام. ويحلو لي أن ألمح إلى هدف استعماري خفي، ما زال حتى الآن ينهش في كياننا القومي الأدبي، وهو محاولة تمييع الشخصية العربية في الأدب بحركات تتسمّى بأسماء كثيرة، ومدلولها كلها واحد، وهدفها جميعها التشكيك في مقوّمات الأدب العربي ومحو خصائصه وهدم بنيانه من القواعد.
وكما أشرت في أول الحديث: إن الأدب العربي هو الرباط الذي لم تفلح السياسات الإقليمية المفرّقة في حلّ عروته، والذي يبقى على الدهور يجمع العروبة ويوحّد آلامها وآمالها ...
فإذا أفلح المستعمرون أو أذنابهم في تشكيكنا في أصالته وتحطيم خصائصه لم يعد لأدبنا هذه الذاتية القوية العارمة، وهذه الخاصية الجامعة التي يرهبها أعداؤنا، ويعملون على سحقها.
فيجب أن يظل أدبنا عربيًّا في أصوله وقواعده، لا شرقيًّا ولا غربيًّا ... يجب أن يظل أدبنا عربًّا يستمد شخصيته وأهدافه من حاجاتنا الواقعية لا المفتعلة ولا المزيّفة.
ولا بدّ من أن نذكر حماية حقوق الأديب في هذا المجال، فالأديب العربي لعله الوحيد في العالم الذي لا تكفل حقوق له، ولا يُحمى إنتاجه من استغلال المستغلين وسرقات المنتهبين ...(5/213)
والأديب العربي هو الوحيد بين رجال الفنون من العرب الذي يغفل حقه ويهمل شأنه في الأعمال التي تشترك فيها عدة فنون كالمسرح والسينما والغناء وغيرها، فهو في الغالب أقل مكافأة وأدنى حظًا في الدعاية والإعلان، إن لم يجحد حقه في كل ذلك، مع أنه صاحب الفكرة ومبدع الهيكل الأول للعمل الفني ...
ولعلّ من حماية حقوق الأديب حمايته من الدخلاء على فنه الذين يهبطون بالمستوى الرفيع إلى حضيض الابتذال، وربما كان هذا هو السبب في ضياع الأديب الحق الذي يتمسك بفنه، بينما يتاجر غيره بالإسفاف وينجح في ظلّ المعايير المختلفة والمقاييس المضطربة، وربما كان ذلك أيضًا سببًا من أسباب ضياع المكانة الاجتماعية للأدباء، بعد أن كانوا في أيام العباسيين مثلًا وزراء وأمراء لهم الصدارة والحكم بين الناس ...
يجب أن نعلم أن خلاصة الثقافة والفكر تتمثّل في الإنتاج الأدبي، فلنحمِ الأديب من نفسه بأن نطالبه بعمل فني يصوّر خلاصة ثقافته وتجاربه، ولنفسح له في حياتنا العامة مكانًا من أماكن الصدارة أو التقدّم فهو بهذا جدير، ولنعلم فوق هذا أن الأدب والأدباء عنوان العصر ومرآة الجيل، وعلى لهواتهم يتردّد تاريخ الأمم والشعوب، ويظلّ وراءهم خالدًا باقيًا، فلنحرص على أن يكون لقب "الأديب" عنوانًا على ذروة الكمال النفسي والفني، ولنرتفع بهذا اللقب عن أن يتسمّى به من لا يرتفع إلى مستواه ...
هيّأ الله للأمّة العربية ما تبلغ به الأوج وتحقّق به الأمل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/214)
ميلاد الجمهورية العربية المتحدة *
سيادة الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة،
فخامة الرئيس شكري القوتلي، دمشق:
هذه هي الأيام التي كنا ننتظرها ونستبطئها، وهذا هو الأمل الذي قطعنا أعمارنا فيه؛ أماني بالنهار وأحلامًا بالليل، وهذا هو الحدث الذي كان يترقبه المصلحون والهداة إلى الحق والدعاة إلى الخير، وهذا هو الرجاء الذي بقي مترددًا في لهوات الزمن إلى أن وجد الهمم التي تفلّ الحديد فأصبح حقيقة واقعة، لا يتمارى فيها إلا دخيل العرق في نسب العروبة أو مدخول العقيدة في حقيقة الدين. إن إمام المصلحين محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بدأ بتوحيد العرب على اللسان والمبادئ الخالدة، فوحّد بين جذميهم العريقين قحطان وعدنان، فكان من آثار ذلك أن سعد العرب وأسعدوا، وملكوا الكون وفتحوا العالم بعدل الإسلام، وساسوه بسماحته وبنوا على نوره حضارة لا تطاول وَحَدَوْا بأغانيه ركب الإنسانية قرونًا، إن وحدة العرب هي الأصل والقاعدة وما سواها شذوذ وانحراف، فباسم الإسلام وباسم العروبة أهنيكم بنجاح مساعيكم الصادقة في الخطوة الأولى من توحيد العرب، وإنها لأصعب الخطوات، وبهذه الوحدة التي صفّق لها العرب فجاءت وعليها جلالة الإجماع أن وحدة مصر وسوريا هي كفّارة ماحية لما اقترفه العرب من مآثم التفرّق والاختلاف، وسيكون لحاق المتخلفين بها عملًا صالحًا كله. فيا بشرى للسابقين. ثبت الله على صراط الحق أقدامكم، وأمدكم بجنود من الصبر والتوفيق هي أجدى عليكم من جميع الجنود، وأعاذكم بكلماته من شياطين الإنس والجن.
محمد البشير الإبراهيمي
__________
* أُرسلت هذه البرقية من القاهرة عند إعلان الجمهورية العربية المتحدة في فبراير 1958.(5/215)
جهاد الجزائر وطغيان فرنسا *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان:
أما الجزائر فقد أعربت عن نفسها بالأعمال الخالدة التي قامت بها ثورتها، وبالبطولات المجيدة التي قام بها شبابها الثائر، وبما أحيت من شرائع الجهاد، وبما سجلت من المواقف الخارقة للعادة من وقوف العدد القليل من أبنائها- بما يملكون من سلاح يدوي قليل لا يغني فتيلًا في مجرى العادة- في وجه جيش يفوقه أضعافًا مضاعفة في العدد والعدة والسلاح والنظام والتدريب، تسانده جميع الأسلحة العصرية الفتاكة من طائرات ودبابات، ومدافع ثقيلة ووسائل مخابرات، وقادة باشروا الحروب الاستعمارية، وقادوها في عدة ميادين في الشرق والغرب، وتمرّنوا على أساليبها ومكائدها، يستمدّون لوازم الحرب من سلاح وعتاد ومال من مصانع بلادهم وخزائنها، فلا يُرَدُّ لهم طلب ولا يتأخر عنهم إمْداد، وتعاونهم دول قوية تشفق على الاستعمار أن يتقلص ظله، كأنّ لها متعة ولذة في إذلال الشعوب الضعيفة واستعبادها، وكأن في نفسها بقية حياء تمنعها من مباشرة ذلك الإذْلال والاستعباد بنفسها، فهي لذلك تعين من يباشره بكل ما تملك من قوة.
أعربت الجزائر عن نفسها بذلك كله، وأثبت التاريخ بشواهده أنها لا تحارب فرنسا وحدها، وإنما تحارب كل من يُمِدُّها بتأييد في الرأي والسياسة ويعينها بالمال والسلاح، وكفى الجزائر شرفًا أنها- مع ضعفها- تحارب هؤلاء الأعداء الأقوياء المتظاهرين فتنتصر عليهم أجمعين، وأنها مرّت بها حقبة غير قصيرة وهي تحاربهم بنفس سلاحهم الذي غنمته من الجيوش الفرنسية، وكفى أمريكا وانجلترا خزيًا وعارًا وبُعْدًا عن الإنسانية أنهما تعينان القوي على الضعيف.
__________
* كلمة ألقاها الإمام يوم 15 مارس 1958م، ضمن فعاليات يوم تضامني مع الجهاد الجزائري، أقامه لفيف من الأدباء في القاهرة، وقد نشرت ضمن كتاب "مع الجزائر"، دار الهناء للطباعة والنشر، القا هرة 1958.(5/216)
لم يَحْكِ الإسلام في عصوره المتوسطة والمتأخرة ولا تاريخ الثورات عن قتال كانت فيه ملامح من الجهاد الديني المؤيَّد بروح الله وأثارة من آثاره مثل ما شهد من الثورة الجزائرية، ولا عجب فالاستعمار الفرنسي في الجزائر حارب- أول ما حارب- الإسلام ومقوّماته، فكانت الثورة على الاستعمار تحمل معنى الانتصار للدين ولمساجده التي حطمها المستعمرون، وجرّدوها من معاني الإسلام وعطلوها، ومعنى النكاية في رجال الدين الذين راضهم الاستعمار على السمع والطاعة له حتى أصبحوا جواسيس له، وتنكروا لقومهم وجامعتهم، وخانوا أمانة الإسلام، ومعنى الانتصار لِأَوْقافه التي تقوم عليها شعائر الإسلام، وتتحقق مآثره وخصائصه، وتتجلى بها عدالته وإحسانه.
هذا ما قامت به الجزائر وحدها في قسم الجهاد بالنفس، وهو القسم الذي عُلِمَتْ أخبارُه بالتفصيل، واستفاضت في العالمين إلى حد التواتر الذي لا يُماري فيه أحد، وبه دخلت الجزائر التاريخ من بابِه وسجلت اسمها في الخالدين، وأصبح اسمها مقرونًا بالإعجاب والإكبار، وذِكْرُ أبنائها الأبطال مقرونًا بالمدح والثناء، وأصبحت بطولتهم وشجاعتهم مضرب الأمثال وحديث الركبان، بعد أن كان اسمها في التاريخ الحديث خاملًا مغمورًا عند كثير من الشعوب التي تجمعها به كلمة الإسلام، ولقد كنت بباكستان لسِتِّ سنوات خلت، وجُلْتُ في عواصمها متحدثًا عن الجزائر ونهضتها العلمية والسياسية، فكان جمهور الحاضرين لا يعرفون اسم الجزائر فضلًا عن أوضاعها وأصالة الإسلام فيها والعروبة، وقرّاء الانجليزية منهم يعرفون عن طريق كتب الجغرافيا أن في افريقيا بلدًا اسمه "الْجِيرْيَا"، ويلتبس عليهم باسم "نيجيريا"، ويسبق إلى ألسنتهم اسم نيجيريا لخفته في النطق، فكنتُ ألقى العَنَتَ في تفهيمهم أن الجزائر وطن عربي إسلامي واسع مشهور، وأنه يشغل الوسط من شمال افريقيا، وأن جميع سكّانه مسلمون، وأنه فُتح من عهد الصحابة ... الخ. ولما قامت الثورة وطارت أخبارها كل مطار وسافرتُ إلى باكستان داعيًا لها وجدتُ جميع الألسنة الأعجمية قد ارتاضت على النطق باسم الجزائر العربية.
وأما النوع الثاني من نوعَي الجهاد المادي، وهو الجهاد بالمال، وهو الدعامة المتينة التي تقوم عليها الثورات، فقد قام الجزائريون وحدهم بما تتطلبه الثورة من أموال باهظة، والثائرون- إلى الآن- إنما يعتمدون على الأموال الجزائرية، وإذا كانت فرنسا تنفق على جيشها العامل في الجزائر تلك المبالغ الخيالية التي لا تقلّ عن مليار فرنك يوميًا، وقد تزيد إلى مليار ونصف مليار من الفرنكات حتى أثقلت ميزانيتها، ووقفت بماليتها على حافّة الإفلاس لولا إعانة أمريكا التي تكشف عن السوءات، وعرف عنها العالم أنها حاضنة الاستعمار ومُرَمِّمة جداره، وطبيبة أنيابه وأظفاره؛ إذا كانت حالة فرنسا هي تلك، فإن الجزائر المجاهدة تعتمد على الله وعلى نفسها وعلى ما أبقاه لها الاستعمار من فتات، لأنها(5/217)
علمت أن هذه الثورة هي الموقف الأخير مع فرنسا، وهو- كما يقولون- موقف حياة أو موت، فكل عزيز يهون في سبيل الشرف والحرية، وإذا هانت الأرواح في هذا السبيل فالأموال أهون مفقود.
الثورة تستدعي نفقات طائلة لتسليح المجاهدين وكسوتهم وإطعامهم وغير ذلك من الأشياء التي كانت كمالية فأصبحت في هذا العصر ضرورية كالدعاية ووسائلها المتنوّعة، ومن ثمّ كان العبء ثقيلًا على الشعب الجزائري، وهو يزداد ثقلًا بطول أمد الثورة، ولكن إيمان الشعب الجزائري وبأسه من رجوع الاستعمار الفرنسي عن غيّه، واعتقاده الجازم بلؤمه وكذبه وإخلافه للوعود المَرَّة بعد المَرَّة وعدم خجله من الخزي والموبقات أوقفه موقف التصميم على الموت، الذي هو خير ألف مرة مما يسومه الاستعمار كل يوم من الموت المُجَزَّإ البطيء، ولذلك فكل ما يلقاه من فنون التعذيب والسجون والتشريد، وهتك الحرمات والترحيل من الديار، والإبادة الجماعية وتقتيل الأطفال والنساء والعجائز- الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً- يجده هينًا حلوًا سائغًا.
وعين الاستعمار يَقْظى، فهو ينظر دائمًا إلى النهايات والعواقب ويحتاط لها، ولا يبالي في سبيل الاحتياط بحق يُهدَر، ولا بمَأْثَم يُرتَكب لأن الاستعمار كله مآثم، ولذلك فهو قد بَنَى أمره- من أول يوم احتلّ فيه الجزائر، وبَلَا من الجزائريين المقاومة التي لا تخضع بالسهولة والصلابة التي لا تلين بصَلْي الحرب- على الوسائل التي تضمن له البقاء أو طول البقاء، ورأى أن التجريد من سلاح الحديد والنار لا يضمن العاقبة، فعمد- على مرّ الزمن- إلى محاولة تحطيم الأسلحة المعنوية بوسائل يعجز عنها الشيطان، فحارب الإسلام ومساجده، واغتصب أوقافه، وحارب العربية لأنها تذكي القومية أو تذكر بها على الأقل، وحارب العلم بجميع أنواعه، وسطر سياسته مع الجزائريين في لفظين: "التفقير والتجهيل"، وقد تمّ للاستعمار على طول المدة بعض ما أراد من ذلك، لولا مواريث في فطرة الجزائري سارية في دمه، هي بعض وجوده أو هي سرّ وجوده من حب الإسلام واعتدادٍ به، ومن فخر بالعروبة واعتزازٍ بها، ومن صبر على الضيم يخاله المنقّب في أسرار الطبائع استكانة وما هُوَ بِها، وإنما هو تربّص بالانتقام، وتحفّز للوثبة، فهذه الأخلاق هي التي حفظت الجزائري من التفتّت والذوبان رغم إلحاح البلاء وتفنّن الاستعمار في تلوينه بما يُوهِم أنه نعمته، كمن يَسْقي السمّ ويُقْسِم أنه ماء الحياة.
ولم يكف الاستعمار الفرنسي ما سَنَّ من قوانين لتفقير الشعب الجزائري العربي المسلم ليأمن وثْبَتَه يومًا ما، وما خطط من برامج لحرمانه من وسائل الإثراء حتى سلّط عليه من أسباب الإبادة البطيئة ما ينقص من أعداده من أمراض لا تجد العناية للوقاية منها قبل الوقوع، ولا العناية بدفعها بعد الوقوع، ومن مجاعات مصطنعة مقصودة في وطن(5/218)
يفيض بالخير، وتكفي حاصلاته الزراعية السنوية عشرة أضعاف الشعب الجزائري، ولقد كان الوطن الجزائري قليل المجاعات يوم كانت أطرافه متباعدة ووسائل النقل تعتمد على القوافل الحيوانية، ولكنه في عهد الحضارة الفرنساوية، ووفرة وسائل النقل البخارية والميكانيكية فيه- بحيث تصل النجدة إلى أقاصي أطرافه في يوم أو بعض يوم- أصبحت تتكرّر فيه المجاعات المبيدة للجماعات في كل أربع أو خمس سنوات، وكلما احتاج جيشها إلى بضع مئات من الجنود المأجورين تعزّز بهم مركزًا أو تحارب بهم إخوانهم في المستعمرات، أو احتاج فتورُ التبشير إلى تنشيط ببضعة آلاف من الأطفال؛ دبّرت مجاعة اصطناعية تهيء لها العدد المطلوب وفق المطلوب من الجنود والأطفال، ووسيلتها إلى هذا التبرير الشيطاني أن توعز إلى الشركات الفرنسية الكبرى لتصدير الحبوب في موسم التصدير أن تصدّر أكبر كمية إلى أوربا وغيرها، وتزيل من طريقها كل القيود، وبِيَدِ هذه الشركات رؤوس الأموال الضخمة فيجمعون كل غلة الموسم في الصيف، فإذا جاء وقت البرد والحاجة وجد الأهلي المسكين الأسواق خالية من الحبوب، والأسعار مرتفعة، حتى إذا حلَّت المجاعة واستحكمت حلقاتها، وضاقت به السبل لم يجد إلا سماسرة الجندية يَغْشون الأسواق والمجامع بالطبول والمزامير يدعون الشباب إلى الجندية، ووجد المبشِّرُ الأطفال الذين عجز آباؤهم عن إطعامهم وكسوتهم، وكانوا من قبل عاجزين عن علاجهم ويائسين من تعليمهم، ووجد المُعَمِّر ما يصبو إليه من قطع الأرض التي بقيت بيد الأهلي معروضة للبيع بالثمن البخس، وبهذه الوسيلة الشيطانية خرجت معظم أطيان الفلاحة من يد أهلها، وبهذه الوسيلة دعَّمت فرنسا جيشها بتلك الكتائب من الشباب الجزائري الشجاع الذي ردَّ عليها جحافل الغزاة، وجلب لها النصر في كثير من الوقائع باعتراف الفرنسيين أنفسهم.
أما حظ التبشير من هذه الغنيمة فهو أسوأ الحظوظ لأن الحيلة التي نجح بها الكاردينال لا فيجْرِي في عهد الاحتلال الأول في تنصير قبيلة العطّاف لم يَطَّرِد نجاحها في كل وقت ولا في كل قبيلة، وغاية ما حصل عليه التبشير- مع تأييد الاستعمار في مدة قرن كامل، ومع الملايين التي أنفقت- هو بضع عشرات من مجموعة الأمة الجزائرية تنصّروا تنصيرًا سطحيًا، فلم يضرّوا المسلمين ولا نفعوا النصارى، ولا نقصوا من عداد أولئك ولا زادوا في عداد هؤلاء.
أيها الإخوة العرب:
هذه كلمة طائرة عن ثورة الجزائر، وتصوير مجمل للسياسة الفرنسية ليست من نسق التاريخ المرتب المسرود، ولكنها من نمط الكلام المتفجع، يقفز من فاجعة إلى فاجعة، وفيه كشْفٌ لحقيقة إخوانكم الجزائريين، علمتم منها أن الشعب الجزائري بقضه وقضيضه(5/219)
ثائر، وأنه مصمّم على الجهاد إلى الموت، وأنه قائم وحده بالعنصر المعتمد في الثورة وهو المال، وأن المال الذي يملكه محدود، وأن ما وصله من إخوانه العرب كله نوافل لا تكفي ولا تغني، وأن بعض إخواننا العرب يملكون من المال ما إنَّ القليل منه لَيَكْفِي لتحرير الجزائر، ولكنهم- مع الأسف الشديد- مقصّرون في أداء هذا الواجب، ولو أنهم جادُوا ببعض ما ينفقون في الكماليات والشهوات لحرّروا الجزائر، وحازوا أحسن الذكر وجزيل الأجر.
أيها الإخوة العرب:
اذكروا أن إخوانكم في الجزائر إنما يدافعون عن أحساب العرب وعن كرامة العرب. واذكروا أن ثمرة النصر عائدة لكم جميعًا، وأن مرارة الفشل ستتجرعونها جميعًا.
وإن الاستعمار مُتَّهِمُكُم جميعًا، فَمُنْتَقِمٌ منكم جميعًا إن انتصر، وانه لا يبعد على لؤم الاستعمار وحقده إذا انتصر أن يقذف بجيشه العامل في الجزائر بأسلحته ومعداته هدية متقبلة إلى اليهود ليذلكم ويخزيكم.(5/220)
رسالة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
حضرة الأخ الأستاذ الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي المملكة العربية السعودية، أطال الله بقاءه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإنني اكتب إليكم (كتب الله لنا ولكم السعادة والتوفيق) وأدام علينا وعليكم نعمة الإيمان وأتمّها، أُذَكِّركم ما لستم عنه غافلين من حال إخوانكم الجزائريين المجاهدين، وما هم فيه من الشدة والحاجة إلى العون والإمداد، وما اصبحت عليه الأمة الجزائرية كلها من ورائهم من البؤس والضيق.
أُذَكِّركم أن لكم بالجانب الغربي من وطن العروبة ومنابت الإسلام الأولى ومجرى سوابق المجاهدين الأولين لَإِخوانًا في العروبة وهي رحم قوية، وفي الإسلام وهو سبب مرعي، وفي ذلك المعنى الخاص من الإسلام وهو السلفية التي جاهدتم وجاهد أسلافكم الأبرار في سبيل تثبيتها في أرض الله، وقد لقوا من عنت الاستعمار وجبروته ما أهمّهم وأهمّ كل مسلم حقيقي يعلم أن الإسلام رحم شابكة بين بنيه أينما كانوا، وأن أقل واجباته النجدة في حينها والتناصر لوقته.
مضى على ثورة إخوانكم الجزائريين التي انتصروا بها لله ولدينه أربع سنوات، وما فترت لهم عزيمة ولا بردت لهم فيها حمية، وأراهم الله من آيات نصره للفئة القليلة على الفئة الكثيرة ما دل على إخلاصهم له، وصدقهم في معاملته، وقد شهد لهم العالم حتى أعداؤهم فيما أظهروه من ضروب الشجاعة المقرونة بحسن التدبير والتقدير وبالمواقف الجليلة المبيضة لوجه الإسلام التي بَعُد العهد بمثلها، غير أن الحرب كالحبلى لا ندري ما تلد ولا على أية حال تسفر.(5/221)
أيها الأخ، إن العالِم المسلم (خصوصًا مَن أهَّله الله للقيادة مثلكم) مؤتمَنٌ على دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثمّ فهو مسؤول عنه، فإمّا له إن قام بما يجب عليه من التثبيت له وتمكينه في الأرض والدفاع عن حقائقه؛ وإما عليه إن فرط في تلك الأمانة، وإنها لثقيلة.
إن الواجب الذي يفرضه الدين على أمثالكم أن تقوموا لله بحملة صادقة أنتم أهل للقيام بها في قضية الجزائر، فتُوجِّهوا نداءً جهيرًا إلى المسلمين الذين يشهدون الموسم ليحملوه إلى مَن خلفهم من المسلمين حين ينقلبون إلى أوطانهم، تحضونهم فيه على مساعدة إخوانهم مجاهدي الجزائر، وتبيّنون لهم ما يترتب على قعود المسلمين عن نصرة إخوانهم الجزائريين من آثار، أيسرها أن الاستعمار المتساند سينتقم، إن انتصر، لنفسه من المسلمين انتقامًا عاجلًا، وإن طرق الانتقام لكثيرة، وإن وسائله جميعها في يده. ثم تُوجِّهوا نداءً خاصًا إلى إخواننا سكان المملكة العربية السعودية تحرضونهم به على الجهاد بالمال، وانه قرين الجهاد بالنفس بل هو مقدم عليه في كتاب الله العزيز، وإنّ المال لهو الركن الركين في نجاح إخوانكم المجاهدين، وقد قام الشعب الجزائري وحده بهذا الواجب في سنوات الثورة كلها، وكل ما وصله من إعانات مالية كان نوافل، أما الآن فإن الشعب مضيق عليه ومحصور، وقد انقطعت به الوسائل المالية، فالتجارة معطلة والفلاحة كذلك والشعب الذي هو تحت قبضة العدو اشتدّ عليه الخناق وأرهقته المظالم والمغارم، وشتّته القتل والتشريد، فقد مات منه نحو مليون شخص كلهم من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وأُخرج منه نحو ذلك العدد من ديارهم حفاة عراة لا يملكون قوت يومهم، هائمين على وجوههم إلى مراكش غربًا، وإلى تونس شرقًا، كل ذلك انتقام من الجيش الفرنسي الذي عجز عن قمع الثورة والقضاء على جيش التحرير المسلّح، فلجأ إلى هذه الوسائل الوحشية. وبهذه البلايا التي يصبّها الاستعمار على الشعب الجزائري الأعزل بهظت التكاليف المالية على جيش التحرير الجزائري، فأصبح مطالبًا بالإنفاق على نفسه في التسليح وتوابعه، وبالإنفاق على هؤلاء المشرّدين من الشعب، ونبشّركم بأن الجيش والشعب كلاهما محتفظ بمعنوياته على أكمل ما يكون وكلاهما مصمّم على مواصلة الكفاح حتى النصر أو الموت.
وقد كان جيش التحرير مؤلفًا في أول أمره من ثلاثة آلاف مقاتل، فأصبح بعد أربع سنوات مؤلفًا من أكثر من مائة ألف مقاتل مسلّح بما يلزم من السلاح على أكمل تنظيم وأحسن تدريب، وهو في كل يوم يذيق عدوّه ألوانا من الهزائم. والحمد لله.
نحن نعلم أن المملكة العربية السعودية قامت بواجبها في فترات متباعدة، ولكن ذلك كله كان دون ما يطالبها به الإسلام، لا في المبالغ المالية التي قدمتها، ولا في المواقيت التي كانت تقدم فيها هاتيك المبالغ، وفضيلتكم تعلمون أن المعونة كالغيث إنما تفعل فعلها وتؤتي ثمرتها إذا جاءت في الوقت المناسب.(5/222)
أيها الأخ الجليل، إن الثورة الجزائرية تعدكم كهفها الأحمى، وإنّ موقفًا منكم في سبيلها كالمَدَد في وقت الحاجة إليه، فهلا صيحة منكم تحرّك النفوس الجامدة إلى البذل في سبيل الله، وتهزّ الهمم الخامدة فتتبارى في سوقٍ بضاعتها شرف الدنيا وعز الآخرة، وقيمتهما مال زائل وحال حائل.
أيها الأخ الكريم، هذه رسالتي يحملها إلى سماحتكم وفد جبهة التحرير الجزائرية إلى المملكة العربية السعودية، لمناسبة موسم الحج وللاتصال بالحكومة السعودية الموقّرة في شؤون المجاهدين الجزائريين التي أهمّها تسلّم المبالغ المالية التي تبرّع بها الشعب السعودي الكريم، فالرجاء أن تأخذوا بيد الوفد المذكور وأن تكونوا عونه لدى المراجع الحكومية العليا حتى يقضي حاجته ويؤدي مهمته على أكمل وجه.
أيها الأخ، هذا عرض عرضته عليكم وأنتم تعلمون ما أكنّه لسماحتكم من التقدير والاحترام والاعتراف بمكانتكم في الدولة وفي الأمة.
وتقبّلوا في ختام حديثي إليكم تحياتي الأخوية الخالصة.
القاهرة في 13 يونيو 1958.
من أخيكم
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين(5/223)
رسالة إلى الشيخ عمر بن حسن
حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عمر بن حسن، رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة العربية السعودية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإني أحمد لكم الله الذي لا إله إلا هو، وأرجو أن يوزعني وإياكم شكر نعمائه، وأن ييسّرنا للقيام بما افترض علينا من الجهاد بجميع أنواعه في سبيل ديننا الذي أحاطت به الخرافات والأوهام في الداخل، كما أحاط به الكفر والطواغيت في الخارج، أذكّركم بإخوانكم المجاهدين في الجزائر الذين أحيوا في الزمن الأخير فريضة عفا أثرها وانطمس رسمها في هذه العصور، فنصرهم الله على ضعفهم وقلة عددهم وعُدَدِهم وقوة عدوّهم، وتأييد الطواغيت له.
إن إخوانكم في الله وفي الإسلام والعروبة ما زالوا ثابتين كالجبال، ثبات رجال السلف، وانهم إنما يقاتلون قيامًا بواجب مفروض على جميع المسلمين، فبيّنوا بما آتاكم الله وبما تملكون من وسائل لكل من يبلغه صوتكم، ما أوجبه الله على المسلم من عون أخيه المسلم بكل ما يملك.
إن إخوانكم يقاتلون لأجلكم ولأجل دينكم، ولئن فشلوا- لا قدّر الله- أمام الكفر فَلَينتقِمَنَّ الاستعمار من المسلمين أجمعين، ولَيُذِلنّهم أجمعين، إن إخوانكم المجاهدين في الجزائر لا يحتاجون إلى الرجال، وإنما يفتقرون إلى المال الذي يشترون به السلاح ويطعمون به الشعب الجائع الذي سلط عليه الاستعمار الأمراض والمجاعات، وقد كان الشعب الجزائري من بداية الثورة إلى الآن هو عماد الثورة يمدّها بالمال والأقوات، كما يمدّها بالرجال، وقام في الميدان المالي بكل ما تتطلبه الثورة، وان الإعانات المالية التي كانت تأتيه من الخارج- وهي في مجموعها قليلة- إنما كانت نوافل، أما الآن وقد طال الأمد(5/224)
وانصبَّت على الشعب بلايا القتل والتشريد من الديار، فقد تناقص ذلك الإمداد وأصبح الجيش المقاتل مُطالَبًا بالإنفاق على أكثر من مليون مشرّد.
إن من الحقائق الثابتة- أيها الأخ- أن القتل في الجزائر أتى على ما يقرب من مليون شخص، معظمهم من الشيوخ والصبيان والنساء، وأن اللاجئين إلى مراكش غربًا وتونس شرقًا يقرب تقديرهم من هذا العدد، وأن الجيش الفرنسي لما عجز عن قتال المجاهدين عمد إلى الفتك بالمصتضعفين من الرجال والنساء والأطفال، شفاءً لغيظه وانتقامًا لشرفه.
لهذا أرجو من فضيلتكم أن تقوموا لله قومة يرضى عنها، فتحثّوا الأغنياء الذين فاتتهم فريضة الجهاد بالنفس، أن يجاهدوا بأموالهم، فإن الجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس، ومقدم عليه في كلام الله، وأن القيام بواجب النصح هو مما تقتضيه وظيفة الأمر بالمعروف.
أيها الاخ، إننا ننتظر منكم موقفًا من مواقفكم المشهودة؛ تبيّنون فيه للشعب العربي السعودي أن كل ما قدّمه للجزائر قليل بالنسبة لعِظمِ الثورة وأعباء الجهاد وقيمة الشعب والحكومة التي ائتمنها الله على الإسلام ومناسكه، واختارها لحماية بيته والمحافظة على وفوده، ويقينًا إنكم واقفون في ذلك المواقف المحمودة.
أيها الاخ الكريم، هذه هي رسالتي يحملها إلى فضيلتكم وفد جبهة التحرير الجزائرية، إلى المملكة العربية السعودية، لمناسبة موسم الحج، وللاتصال بالحكومة السعودية الموقّرة في شؤون المجاهدين الجزائريين، التي أهمّها تسلّم المبالغ المالية التي تبرّع بها الشعب السعودي الكريم. فالرجاء أن تأخذوا بيد الوفد المذكور وأن تكونوا عونه لدى المراجع الحكومية العليا، حتى يقضي حاجته ويؤدي مهمته على أكمل وجه.
واقبلوا في الختام تحيات الأخوة الصادقة.
القاهرة في 13 يونيو 1958.
من أخيكم
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين(5/225)
أحمد شوقي *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان الأوفياء:
حيّاكم الله وأحياكم، وأبقاكم للعروبة تحيون مآثرها وتجدّدون مفاخرها، وللعربية توفون بعهودها، وتقومون بحقوقها، وتعمرون مواتها، وتنشرون أمواتها، فتخطون للباقين طريق الأسوة الحسنة من سير الماضين، وتدلونهم على أقدار الرجال ومواقف الأبطال ...
أيها الإخوان:
إني مغتبط لإحيائكم لذكرى شوقي شاعر العرب في وقت هم فيه أحوج ما يكونون إلى صيحاته التي تحرّك الخامل وتهزّ الجامد، وإلى نغماته التي تنعش العاملين وتنبّه الخاملين، فما رأيت في أكثر ما رأيت في هذه المناسبات التي تقام لأجلها الاحتفالات على كثرتها سببًا أشدّ ملاءمة لسببه من مهرجانكم هذا في ذكرى شوقي شاعر العربية العظيم.
ففي هذه الأيام كثر ترداد الساسة والخطباء وحملة الأقلام لكلمة العروبة والقومية العربية وجميع الألفاظ التي اشتقت من كلمة "عرب"، وعسى أن يكون هذا إيذانًا من الله بوحدة العرب فأَلْهَم الألسنة والأقلام ترداد هذه الكلمات كما ألهم أمية بن أبي الصلت وجماعة من زعماء العرب في الجاهلية ترداد الكلمات الدينية قبل البعثة المحمدية إرهاصًا للإسلام وتنبيهًا على إظلال زمانه.
وإن في جو الأمة العربية اليوم لوعودًا هذه بوارقها، فمن صنع الله لهذه الأمة، ومن تلقّي الإلهام الإلهي الصادق بإرادة الخير لها، ومن حسن الذوق لكل من يعمل في جمع شملها الشتيت أن تساق الشعوب العربية إلى غاياتها المرجوّة لمثل هذا النوع من التفكير الذي هو الدواء الوحيد لما رماها به الاستعمار من ضروب التخدير.
__________
* في مهجان أحمد شوقي بالقاهرة، أكتوبر 1958.(5/226)
إن هذه الأمة العربية هي هدف الاستعمار قبل كل شعوب الأرض، فهو لذلك لا يزال يعمل على تفريق أجزائها وتطفيف جزائها، وقد بلغ منها ما أراد بكيده وسحره حتى ينسيها ماضيها وأمجادها، فمن فروع التعبئة العامة للوقوف في وجهه والدفع في نحره أن نصرف هذا الجيل الذي فتنه الغرب بقوّته عن طريق هذه الفتنة، وأن نبيّن له ما يجهله من أن هذا الشرق مطلع الأنوار ومعدن الأسرار، وأن نعالجه من هذا الكسل العقلي الذي رماه بالجهل والجمود، وأنه إن أراد أن يبني العلم والبيان والقوة على أسسها الصحيحة فلْيَتَلَمَّسْها من معادنها في أسلافه ولا يأخذها بالتقليد للغرب والاستعارة من الغرب، وأن نهزه بِمِثْل أقوال شوقي في هذا الباب وما أكثر أقواله في ذلك، فهو الذي يخاطب مصطفى كامل بقوله:
أتذكر قبل هذا الجيل جيلًا … سهرنا عن معلمهم وناما؟
مِهارُ الحق بغّضنا إليهم … شكيم القيصرية واللجاما
لواؤك كان يسقيهم بجام … وكان الشعر بين يدي جاما
أيها الأخوان:
ليت شعري، هل كان شوقي يدري حين نظم هذا البيت:
هل كلام الأنام في الشمس إلا … أنها الشمس، ليس فيها كلام
أنه سيصبح أحق به ممن قيلت فيه؟ فقد وصل شوقي بشعره حينما اقتحم به جميع الميادين إلى مرتبة من مراتب الخلد لا يستطيع وصفها إلا هو بمثل هذا البيت.
ولقد دأب شوقي بتقليد المتنبي في أول أمره فجاراه، وما كبا وما قصَّر، ثم شآه في التشبيب الصادق والغزل الرقيق، ثم طاوله فطال عليه في وصف الآثار الباقية عن الحضارات الداثرة، وفي التغني بالأمجاد الغابرة لبني جنسه أو بني وطنه أو بني دينه، على حين كانت عبقرية المتنبي لا تتجاوز به مدح شخص يجود، أو شجاعة في وصف حروب وانتصارات قد يكون الغناء فيها لغير الممدوح، ولا تبرز العبقرية إلا في الحِكَم التي سجَّلها والأمثال التي سيّرها، أما الوصف الذي تتبارى فيه قرائح الشعراء، وتتجارى سوابقهم فيه فليس للمتنبي فيه كبير قيمة إذا استثنينا قصيدته في شِعْب بوّان وقصيدتيه في وصف الحمى وفي وصف الأسد وفي قطع قليلة من شعره.
ورأيي في شوقي معروف في المشرق والمغرب بين خلصائي من الأدباء وخلطائي من المتأدبين، فلم أزل- منذ كان لي رأي في الأدب- أغالي بقيمة شوقي في الشعراء السابقين واللاحقين، وربّما شاب هذا الرأي مني شيء من الغلو في مقامات الجدل والمفاضلة بين شعراء العربية، وما كنت أتهم نفسي بعصبية لشوقي، ولا كان الناس يتهموني بتحيّز، لأنني كنت قوّامًا على شعر شوقي أستحضره كله وأستظهر جُلّه، حتى ليصدق عليّ(5/227)
أنني راوية شوقي بالمعنى الذي كان يعرفه أسلافنا في الراوية، ولقد حفظت الشوقيات القديمة قبل هجرتي الأولى إلى الشرق سنة 1911 ميلادية.
ثم أحفظ من شعر شوقي ما جدَّ بعد طبع الشوقيات الأولى، واستوعبت شعره في منفاه بالأندلس حفظًا لأول ظهوره في الصحف أو في أجزاء ديوانه بعدما طبعت.
وما كادت تلوح النهضة الأدبية في الجزائر بعد الحرب العالمية الأولى، ويُكْتَب لي أن أكون أحد قادتها حتى كنت أول الداعين دعوة جهيرة إلى الائتمام بشوقي وإلى احتذاء طريقته والسير على نهجه في الأدب العربي، وأول الدّالّين على روائع شعره. ولما جدَّ جدُّ تلك النهضة وتعددت المدارس العربية على يد جمعية العلماء الجزائريين، وقُدِّر لي أن أكون المشرف على توجيهها مكَّنْتُ لشعر شوقي في نفوس الآلاف من الناشئة الجزائرِية، فأنْبَتَتْ تلك النهضة من أولها على أدب شوقي وشعره، وفهمته ناشئتنا على وجهه لِحِكمه وأمثاله ولحسن تصويره ودقة وصفه، ولسهولة مدخله على النفوس، وإن آلافًا عديدة ممن ارتقوا ولو قليلًا في سُلَّم الأدب ليحفظون من غرر شعر شوقي وسوائر أمثاله ما يُجَمِّلُون به كتاباتهم وخطبهم ومجالسهم للمذاكرة، وإن كثيرًا من الشعراء الذين أنجبتهم النهضة الجزائرية ليترسّمون خطى شوقي ويسيرون على هداه، وتلوح عليهم مخايله وسماته.
وأول ما حبّب شوقي إلى نفوس ناشئتنا- على طراوة عودهم- هو ما يفيض به شعره من تمجيد للإسلام وبيان لآثاره في النفوس وتغنّ بمآثره وأمجاده وافتتان في مُثُله العليا التي قاد بها أتباعه إلى مواطن العزة والسيادة. ولا عجب، فناشئتنا نشأت على الفطرة الإسلامية النقية، وشعر شوقي أبلغ معبّر على تلك المعاني العالية، ونَهْجٌ شارع إلى سبل التأسي والاقتداء.
ولقد كان موت شوقي صدمة قوية للأندية الأدبية الناشئة بالجزائر التي كانت تأتَمُّ بشوقي وتسير على هديه وشعاعه مما ظهر أثره في قصيدة الشاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة التي رثى بها الشاعرين حافظًا وشوقي، حيث يقول:
دولة الشعر من الشرق انقضت … وانقضى فيها مراء الأمراء
أيها الإخوان:
إن الجزائر الفتية مدينة بجميع فروع نهضتها بل في أصول ثورتها لشوقي، فكم حَدَوْنا الشباب بشعره المطرب القوي، ووجَّهنا ذلك الشعر إلى مكامن الإحساس من نفوسهم، فكان ذلك أحد الأسباب فى ثورته الخالدة التي أقضت مضاجع الفرنسيين وأتت بخوارق العادات من الشعب الجزائري.(5/228)
وإنَّا لنرجو إذا مد مدُّ النهضة الأدبية في الجزائر- بعد أن تؤتي هذه الثورة المباركة ثمراتها- أن سيكون لأدب شوقي أثره الخالد الفعّال في بناء الأدب العربي بالجزائر، كما كان له الأثر اللائح في الثورة نفسها، تأسيًا بما خلّده شوقي من أعمال الثائرين الأبرار في ليبيا وسوريا وتركيا.
إن الحكومة الجزائرية المؤقتة الفخورة بعروبتها لسعيدة بأن تُدعى إلى هذا المهرجان وتشارك شاعر العروبة شوقي الذي يقول:
رُبَّ جار تلفتت مصر توليـ … ـه سؤال الكريم عن جيرانه
بعثتني معزيًا بمآقي … وطني أو مهنئًا بلسانه
ومع تأثر الجزائر الشديد بشعر شوقي وعقيدتها التي لا تتخلخل في شاعريته، ومع اعترافها بأنه أول من هزّ هذا الشرق العربي ببدائعه وآياته فإن أدباء الجزائر ما زالوا يعتبون عليه، بل ما زالوا ينقمون عليه مَدْحه لفرنسا وافتتانه بحضارتها المزيفة وتخطيه الأصول التاريخية التي لا تعترف لفرنسا ببعض ما ينوّه به شوقي من فضائلها، فهو يقول:
دم الثوّار تعرفه فرنسا … وتعلم أنه نور وحق
جرى في أرضها، فيه حياة … كمُنْهَلّ السماء وفيه رزق
(وحررت الشعوب على قناها … فكيف على قناها تُسْتَرقُّ؟)
سامحك الله يا شوقي، أي شعب تحرّر على قنا فرنسا، فإن كان بعض ذلك فهو من باب الربا الفاحش؛ تأخذ فيه فرنسا أكثر مما تعطي وليس خالصًا لوجه الحرية والتحرير. وبعد، فهل كل الوفاء لشوقي أن نحيي ذكره في كل سنة مرة، وأن تقوم بعض الجمعيات فينا ببعض الواجب من البر بعظمائنا وعباقرتنا الذين هم مناط فخرنا ومعاقد التيجان لمجدنا واعتزازنا؟
إن هذالحق ابعض الواجب، وإن الذي فرّطنا فيه وقصرنا دونه أكثر بكثير مما تقوم به جمعياتنا وهيآتنا الرسمية، فليس من الوفاء لشوقي أن نذكره في السنة مرة، وأن نتبارى في الحديث عن شعره ومنزلته بين الشعراء، ثم يبقى في جميع العام منسيًا لا يذكره إلا المتمثلون بسوائر أمثاله.
رحم الله شوقي وأثابه كفاء ما قدّم للعربية من كنوز ثمينة، وما سنَّ للأدب العربي من أساليب بليغة، وما حرّك من همم العرب ونخوتهم.
والسلام عليكم ورحمة الله.(5/229)
الذكرى الرابعة لثورة الجزائر التحريرية *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوة:
إن المعنى الذي أذن فيكم مؤذنه بالاجتماع فاجتمعتم، وحدا بكم حاديه إلى الإسراع فأهطعتم، هو "ثورة الجزائر". هذا المركب الإضافي غير محدود ولا مقيّد، فالأعمال العظيمة كالأشجار، لها موسم واحد يحتفل به الناس وهو موسم إيتاء الثمرات، فيوم الثورة الجزائرية هو يوم النصر الأخير، يوم يفرح المؤمنون بنصر الله.
أما هذه القيود التي نضيفها ونجعل منها بواعث للاجتماعات فهي من مواضعاتنا نحن معشر القعدة الخالفين لا تخطر ببال إخوانكم أبطال الجهاد وأحلاف الجلاد الذين انمحت الفوارق عندهم بين الأيام والليالي والشهور والأعوام فكلها عندهم مرحلة واحدة، إلى غاية واحدة، فلنتشبّه بهم إن لم نكن مثلهم، ولنذكرهم في كل يوم وفي كل ليلة، ويا بؤس الثورة الجزائرية إن كنا لا نذكرها إلّا في ليلة من سنة.
وعلى ما فينا من نقيصة وافتتان بالعوائد والمصطلحات فإن المعنى الذي حفزكم لهذا الاجتماع هو من أسمى المعاني التي يجتمع لها العقلاء، وتسمو إليها هممهم، وتتطلع إليها نفوسهم، لأنه- على بعد الدار- تكثير روحي لسواد إخوانكم المجاهدين الذين باعوا أنفسهم لله، وأخلصوا النية في الجهاد في سبيله وإعلاء كلمته وتحرير طائفة من عباده أرهقها الاستعمار من أمرها عسرًا وأثقلها حمل القيود عشرات السنين وتقطعت بها الأسباب المعنوية إلّا السبب الواصل بالله وبدينه، والأسباب الحسية إلّا نسبتها للعرب واعتزازها بالعروبة وارتباطها بالشرق، ووفاءها بعهود الثلاثة.
__________
* الحفل الذي أقيم بالقاهرة في أول نوفمبر 1958، احتفالًا بالذكرى الرابعة لثورة التحرير.(5/230)
فاجتماعكم هذا في أسمى معانيه، وأعلى خصائصه هو صلة برحم الإسلام والعروبة، اللذين هما أعز ما يعتز به إخوانكم الجزائريون، ويرفعون به رؤوسهم التي أبت أن تنحني للظالم العاتي، كلما أرادهم على التنكر للإسلام، وتحريف الضاد عن مخرجها في لهواتهم، واجتماعكم هذا مدَد من الأمداد المدخرة لكم في حين حاجتكم إليه- لتذكروا إخوانكم المجاهدين، وتذكروا ما طوّقوكم به من منن- والتفاف منكم حول قضية من قضاياكم، بل هي أصل قضاياكم مع الاستعمار، بل هي أعقد قضاياكم معه.
أيها الإخوة: إن لإخوانكم الجزائريين عليكم حقوقًا أدناها أنهم يشركونكم في الدم والجنس وخصائصهما الموروثة، وأعلاها أنهم قائمون عنكم- ولا منّة- بواجب عظيم متكفلون لكم بحل عُقْدةِ العقد مع ألأم استعمار عرفه التاريخ، وبتصفية الحساب عنكم مع أعدى عدو للشرق عامة وللعرب خاصة، فإذا صرعوه- وهو ما نعتقده كرأي العين- فالشرف لكم جميعًا، والراحة الأبدية من دائه العضال تشملكم جميعًا، وإذا جرى القدر بضد ذلك فحسبهم شرفًا أنهم ماتوا في سبيل الشرف، واستبرأوا لدينهم وأمانتهم، وأتوا بها غراء مشهّرة في تاريخ العروبة، ونشروا عليكم صحائف من سيرة السلف تجدد لكم بهم العهود، وخطوها صحائف نادرة من الشجاعة العربية، وضربوها أمثالًا شوارد من البطولة العربية، وشرحوا لكم معنى الحفاظ والذياد وحماية الحقوق، بعد أن كانت تلك الألفاظ، التي تغنى بها شعراء العرب، لا تحمل إلّا صورًا ذهنية لا تثير ولا تخز، ولا تحرك ولا تهز، وسيرى التاريخ هؤلاء البررة ويسجل مواقفهم المشرفة، ولا يَتِرُهُم منها شيئًا، وسيعرض حججه واضحة فإما لكم وإما عليكم.
أيها الإخوة: إن ثورة أربع سنوات لا ندري ماذا خبأ لها القدر المحجوب من نهاية، من شعب لا يملك شيئًا من أسباب القوّة وسلاح العصر، مفصول من بني أبيه بفواصل وضعها عدوه عن قصد في غفلة منكم جميعًا، معزول عن معاقل أوليائه وأنصاره، إن ثورة مثل هذه لحقيقة- إن امتد بها الزمن- بأن تثقل ظهور إخوانكم، وقد ترمي حركتهم بالكلال إلّا أن يرحم الله، وتصدقوه في الإمداد بكل ما تستطيعون أفرادًا وجماعات.
إن أسوأ ما نسمعه في هذا الشرق بقسميه الإسلامي والعربي الإطراء بإطناب، والمبالغة في الإعجاب، والدعاء غير المستجاب: الإطراء للمجاهدين الجزائريين، والإطراء لا ينكي عدوًا، ولا يضمن رواحًا للنصر ولا غدوًا، والإعجاب بموقف الجزائريين الثابتين في الزعازع، والإعجاب لا يردّ غارة، ولا يحطم طيارة ولا يولد عقيمًا، ولا يبرىء سقيمًا، والدعاء من غير تعاون على الأسباب، كالتوكل كلاهما سخرية بالله وبعباد الله، فلتعلموا أن الدعاء المشروع والتوكل المشروع إنما يأتي في عالم الأسباب بعد عقل الناقة، وبذل الطاقة.(5/231)
أعيذكم بالله- وأنتم مسلمون، والإسلام عهد وذمة، وعرب، والعروبة وفاء وهمة- أن تركنوا إلى المستفيض عن إخوانكم أنهم شجعان وأنهم صامدون لعدوّهم، وأنهم على قلّتهم ما انفكوا يذيقونه الموت ويجرعونه سكراته، فهذا كله وإن كان حقًا بل دون الحقيقة، لا ينبغي لحازم جاد ممارس لدهره، محنك في معاملات دهره عرف الاستعمار وصلى جحيمه واكتوى بناره، لا ينبغي أن يغتر به أو يدعوه إلى الدعة والتواكل.
أيها الإخوة: لا تنتزعوا من استمرار الثورة أربع سنوات وهي في عنفوان شبابها، وقوّة أسبابها، وتصميم رجالها، وانتظام أعمالها، لا تنتزعوا من هذه الحالة التي يبتهج لها كل مسلم وكل عربي، الدليل من جهة واحدة على شجاعة الشعب الجزائري وقوّة إيمانه واتصاله بربه، وصبره في الزعازع، واستهانته بالشدائد، وإقدامه على الموت في سبيل تحرير وطنه، ولكن انتزعوا- مع ذلك- دليلًا آخر ومن جهة أخرى على أن ثورة أربع سنوات قد تحيفت أمواله التي غذى بها الثورة في سنواتها الأربع، وتحيفت أقواته الضرورية، وعطلت مكاسبه الطبيعية، فالفلاحة- وهي عماد حياته- معطلة، والتجارة معطلة، والموارد الحيوية معطلة، ووسائل الارتزاق كلها معطلة، وما كان يقدمه الجزائريون العاملون بفرنسا للثورة عن طوع واختيار تعطل بتضييق فرنسا على أولئك العمال، وبسجن عشرات الألوف منهم وبمنعهم من الاتصال بالجزائر، حتى يمنع إيصال النفقات إلى أهليهم لتضطر الثورة إلى الإنفاق عليهم، فتثقل التبعية ويدبّ الفشل، وهذه كلها وسائل يركبها الاستعمار لِلْفَتّ في أعضاد المجاهدين، وكلها- ومثلها- واقعة بالفعل وكلها ذات أثر فعّال كلما امتد الزمن في قوّة الثورة.
أيها الإخوة: العاقل من يفكر في العواقب والمصائر ويُعِدُّ لكل حادثة سلاحها، ولكل مفسدة قبل الوقوع صلاحها، والحازم الأريب من يعتبر ما ليس بواقع واقعًا، وبهيئ أسباب دفعه قبل المفاجأة.
أيها الإخوة: إن اخوانكم الجزائريين لو أرادوا وسمحت لهم هممهم وشرفهم ودينهم أن يركبوا مركبًا آخر لا يطوع لساني بذكره؛ ولو سمحت أخلاقهم أن ينكثوا العهد الإلهي الرابط بينكم وبينهم لوجدوا الطريق سهلًا معبدًا ولكانوا أعز الناس في الدنيا، ولحصلوا على الحقوق التي يتمتع بها مرضى الضمائر كاملة غير منقوصة، بل بصورة أكمل، لأنهم أشجع من جميع العناصر التي يتألف منها الهيكل الفرنسي وأقوى عزيمة، وأصلب إرادة، وأمتن طباعًا وأكرم نفسًا ويدًا، ولكن أبى عليهم ذلك ويأبى عليهم أبدًا دينهم وعروبتهم وأبوتهم الذين اعتز بهم الإسلام والعروبة، وكانوا قرّة عين للإسلام والعروبة، فأبت على خلفه الأخلاق الإسلامية والعزة العربية أن يكونوا سخنة عين للإسلام والعروبة، أبت عليهم ذلك أخلاق كريمة وأعراق أصيلة، وصلات بالإسلام وثيقة، فرضوا بالدون، وعيشة الهون، وبما يرضى به كل مغلوب على أمره، كل هذه الحقبة المديدة، ولم يهجس لهم خاطر بقطيعة أصل فضائلهم، ومشرق(5/232)
دينهم، وإنها ذمة قل من يرعاها وواجبات كثر منتهكوها. وإن الجزائر لتتيه فخرًا واعتزازًا بأن التاريخ سيكتبها من رعاة العهود الأوفياء، على كثرة أسباب القطيعة.
أيها الإخوة: إن من حسنات الثورة الجزائرية أنها كانت سببًا في تقريب العرب بعضهم من بعض وجمع قلوبهم حولها ونسخ التجافي بينهم بالتصافي، وانها كشفت الغطاء عن مخازي الاستعمار الفرنسي، وكشفت بالتبع عن حقيقة هذه الدولة التي تملأ ماضغيها فخرًا بأنها أصل المدنيات ومحررة الشعوب ومهذبة العالم، وإن ما تدعيه من الديمقراطية هي دعوى كاذبة خاطئة فاجرة، وقد أضلت بهذه الدعاوى إخوانًا لنا في هذا الشرق يعزّ علينا أن يضلوا ويزلوا، وسحرت أعينهم ببريق حضارتها فأعشتهم عن رؤية حضارتهم وما ترك أسلافهم من أثرها، فبينت الثورة الجزائرية لهم بالبرهان أن الفضائل التي تنتحلها فرنسا فضائل زائفة، لأن مرد الفضائل في شعب هو سمو أخلاقه، وترامي هذه الأخلاق فيه إلى الكمال، بما يكفله استعداده للخير والرحمة وتقوية النوازع الإنسانية الكامنة في طبعه وجبلته، وفرنسا أفسد الاستعمار جبلتها، وطمس الطمع والأنانية- وهما من لوازم الاستعمار- على كل حسنات من أخلاقها، وإنّا لننقض عليها دعاواها الطويلة العريضة في ما تنتحله من الفضائل، ويروجه لها دعاتها وسماسرتها المأجورون وتلامذتها المفتونون في هذا الشرق، ننقض عليها وعليهم تلك الدعاوى كلها بمثال واحد، وهو أن فرنسا احتلت الجزائر منذ مائة وثلاثين سنة تقريبًا، ولم تستطع تحطيم المقاومة الصادقة من أهلها إلّا بارتكاب ما لا تفعله الوحوش الضارية الموكولة إلى غرائزها الحيوانية الدنيا، وفعلت من المنديات ما يسوّد تاريخها الإنساني مما سجله قادتها في ذلك الغزو، لا إنصافًا للتاريخ، ولكن افتخارًا بتلك الأفعال الوحشية، وها هي ذي بعد هذا العصر الطويل الذي يحول الأحوال، وينسخ الطباع، تفعل مع الشعب الجزائري في هذه الثورة ما لم يفعله سلفها في حروب الغزو، وتأتي من الموبقات والتفنن في ضروب التقتيل والتعذيب ما ترتفع عنه طباع الوحوش من قتل الصبيان والنساء والشيوخ والعزل والمرضى زيادة عن اتلاف الأقوات وانتهاك الحرمات، حتى كأن التهذيب الأخلاقي في فرنسا سائر إلى الوراء، وكأن تعاقب أجيال أربعة لم يكف لتحويل الأخلاق من شراسة إلى لين ومن وحشية إلى أنسية.
وكأنما أنف أصحاب تلك الطباع الجافية أن تشهر الجزائر المستعبدة في وجههم السلاح وأن تثور بعد هدأة ظنوا أنها القاضية، ولم يستطع أصحاب تلك الطباع أن يقاتلوا المجاهدين في ميادين الحرب فعمدوا إلى ما يعمد إليه كل جبان من الانتقام من الأطفال والنساء والعجزة، ويا ليت القتل كان كافيًا، بل نراهم يتفننون في التعذيب قبل القتل كما يتفنن المترف الشهواني في شهواته حتى جاوزوا الحدود التي يأمر بها الشيطان من الشرور وكبائر الإثم والفواحش.(5/233)
أيها الإخوة: إن في أطوار الثورة الجزائرية لعبرًا، فقد بدأت على حين يأس من مطالب معقولة، جهر بها الشعب الجزائري وتصاممت عنها فرنسا وأبت أن تستجيب لدعواتها المتكررة، بدأت بثلاثة الآف مقاتل وطنوا أنفسهم على الموت في سبيل الله، وكان سلاحهم الروحي أقوى ما بأيديهم، كان سلاحهم الذي لا يفل الإيمان بالله ناصر المستضعفين وقامع العتاة المتجبرين، وكان مركز الثورة قمم جبال أوراس منبت الأبطال الذين خلفوا عليه الأسود يوم انقطع منها نسل الأسود، وما أتمت سنة حتى انتشرت كالنار على القطر كله وتزايد عدد المجاهدين حملة السلاح إلى الثلاثين ألفًا ... إلى الخمسين حتى أصبح جيش التحرير مائة ألف أو يزيدون يقارع دولة عرفت في العالم بأنها في طليعة الدول الحربية العسكرية، يقارع جيشًا مسلحًا يقارب المليون مجهزًا بما يقوم بهذا العدد الضخم من دبابات وطيارات وأساطيل بحرية، وأجهزة ارتباط ومواصلات تموين تبتدئ من فرنسا وتنتهي في دواخل الجزائر، ومع ذلك فإن اللطيفة الالهية ظهرت للعيان مرة أخرى ونصر الله الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، وقام إخوانكم المجاهدون بشرط الله وهو الإيمان والصبر وصدق النية وطهارة القصد، فصدقهم الله وعده.
أيها الإخوة: إن الشعب الجزائري سائر في هوى القومية العربية عامل لها لا تثنيه عنها الأعاصير في أي جو عصفت، ولا تردّه عنها التيارات المختلفة ولا الأهواء المتباينة، فالجزائر اليوم مشغولة بهذا الصراع بينها وبين عدوها الذي يمثل الاستعمار في طور النزع والاحتضار. فإذا فرغت منه اتصلت بإخوانها في هذا الشرق اتصال الأخ الذي لم ينس أخاه، ولم تتبدل له عقيدة في أيام الشدة، فالوحدة العربية التي راق الجزائر خيالها، وبرز للوجود في هذه الأيام مثالها، هي نهاية شوط الجزائر في اعتناقها حقيقة بعد أن كانت أمنيتها عقيدة، وستكون الجزائر مزيدًا في قوّة القومية العربية، ولا نغالي إذا قلنا إن الشعب الجزائري سيكون تعديلًا لبعض المتناقضات في الشرق العربي وسيكون تلطيفًا لبعض الشذوذات فيه، وسيكون بما أودع الله فيه من روحانية قوية وجد لا يلم العبث بساحته مثالًا يحتذى في مجموعة إخوانه العرب. إن بعض الأخلاق المنتقدة في إخوانكم الجزائريين مثل الصلابة والخشونة قد تكون ضرورية في مثل هذا الطور من أطوار العرب فينشأ من الصلابة ما يقاوم الارتخاء، ومن الخشونة ما يقاوم ما ابتلتنا به الحضارة الغربية، ومن الجد ما يقاوم الهزل المتفشي في مجموعنا وينشأ من جميع ذلك مزيج عجيب فيه التعديل والتلطيف والعلاج.
أيها الإخوة: هذه الكلمات المضطربة كلها ذكرى، وأنتم قد اجتمعتم للذكرى فهل لكم أن تتوجهوا إلى الله بقلوب متعلقة به عامرة بالإيمان به متقلبة في قبضته فتسألوه الرحمة لأولئك الشهداء المستضعفين الذين سالت مهجهم على الشفار، ولأولئك الأقوياء به الذين تمزقت أشلاؤهم في القفار. ترحموا على كل من مات في الجزائر في زمان هذه الثورة، فمن(5/234)
رحمة الله الغامرة لاخوانكم ان كل من مات منهم فيها بأي سبب من الأسباب فهو شهيد، فإن مات من مرض فسببه الاستعمار الفرنسي، وإن مات من جوع فسببه ذلك الاستعمار، وإن مات من برد فالسبب واحد، وادعوا في الأخير لإخوانكم المقاتلين بالنصر المؤزر والتأييد المسدّد والتوفيق لمراضي الله، والسلام.
ـ[اللهم ارحم عبادك الذين ماتوا في سبيلك وفي سبيل دينك ولَقِّهِم النظرة والسرور بلقائك. اللهم إن ما فاتهم من الراحة في هذه الدنيا ففي رضاك الخلف. اللهم اجعل هذا التشريد المريع الذي أصابهم في الحياة جمعًا وسببًا في اجتماعهم في مقر الرضا عندك. اللهم انصر وأيد وآزر وسدد عبادك المجاهدين في سبيلك وتثبيت دينك. اللهم ان تهلك هذه العصابة المجاهدة فلن تعبد في أرض الجزائر التي اخترتها حصنًا للإسلام وملاعب لجياد المجاهدين الأولين؛ اللهم آمين.]ـ(5/235)
الجزائر الثائرة *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان:
كانت جمعية الشبان المسلمين- كعادتها في كل ما تزاول وتحاول- ملهمة إلهامًا سماويًّا في هذا العنوان الذي أطلقته على يوم الجزائر، وهو: الجزائر الثائرة- لأنه وصف صادق على الجزائر، مطابق لحالتها الذاتية الدائمة بمعنييه اللغويين، فهي ثائرة بالصفة المشتقة من الثورة وهي ثائرة بالفهم المشتق من الثأر، والعرب يقولون لكل خارج على مألوف عرفي هو ثائر، كما يقولون لطالب الثأر وللآخذ به ثائر، مع اختلاف المادتين في أصل المعنى، لأن من بدائع لغتهم تلاقي المادتين المختلفتين على الوصف مثل: سال وسأل يلتقيان في سائل، وثار وثأر يلتقيان في ثائر.
والثورة والثأر كما يلتقيان في الوصف يلتقيان في بعض الحقيقة وبعض الأسباب وبعض النتائج وبعض الوسائل، ففي الثأر شيء من معنى الثورة، لأنه جزاء وانتقام، ولأن فيه طلبًا لحق، وفيه إطفاء غيظ وشفاء نفس، وفيه نكاية لعدو وانتصاف من ظالم، وفي الثورة شيء من معنى الثأر لأنها إما سعي في استرجاع حق مغصوب، أو حفاظ على شرف مهدر، أو ذياد عن كرامة مهانة، أو دفاع عن عرض منتهك، أو غيرة على حرية مسلوبة، أو نضال عن وطن مستباح، أو حمية لدين مستضام، والجزائر تجمع هذا كله، وثورتها- حين تثور- تجتمع على هذا كله.
الجزائر ثائرة بالمعنى الأول على الاستعمار الفرنسي الذي جثم عليها قرنًا وربع قرن وسامها سوء العذاب ورماها بالمخزيات الثلاث: الجهل والفقر والمرض، واستأثر بخيراتها الوفيرة، وقضى بأساليب يعجز عنها الشيطان على كل أسباب القوّة فيها، وتدسس إلى مكامن الروابط الأخوية بين أبنائها فأفسد الأخوة وقطع حبال الأرحام حتى نصب للأخ عدوًا
__________
* كلمة الشيخ في الاحتفال بيوم الجزائر في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، عام 1958.(5/236)
من أخيه وللجار عدوًا من جاره وللقبيلة عدوًا من القبيلة، وللأمة كلها جواسيس من الأئمة الذين أقامهم للصلاة وإقامة الشعائر، وقبل ذلك كله وضع يده على الأوقاف الإسلامية التي هي ملك الله فتصرف فيها ووزعها على الأوربيين وعلى الهيئات التبشيرية والجمعيات المسيحية، وأحال كثيرًا من المساجد الكبيرة في المدن كنائس ومتاحف ومستشفيات وهدم كثيرًا منها للشوارع والحدائق والميادين، ثم هجم بمبشريه وكتبه وملاهيه ومخامره ومواخيره ومدارسه ومدرسيه على عقيدتها السماوية يريد أن يمحوها، وعلى عقلها العربي يريد أن يزيّفه، وعلى فكرها الإسلامي يريد أن يمسخه، وعلى ضميرها الحي يريد أن يخدره، وعلى روحانيتها الشرقية يريد أن يطفئها، كما جند قوانينه المتلاحقة على اللغة العربية يريد أن يقضي عليها ويرحلها من وطنها، ويغمرها برطانته التي سحر بها ألباب المفتونين في هذا الشرق، ليتخذ منهم أدوات إنسانية تلهج بذكره وتسبح بحمده وشكره، وتحسن مقابحه وتستر سوءاته، وتقطع لأجله ما وصل الله من أسباب الإسلام وأرحام العروبة ووأسفاه! والجزائر ثائرة بالمعنى الثاني، فلها عند فرنسا ثارات تمتد مع القرن سنة سنة، فكم قتلت من أبناء الجزائر مئات وألوفًا وعشرات الألوف. لا نعني من قتلتهم من المجاهدين فيها أو الثائرين عليها من عهد احتلالها لوطننا إلى الآن فأولئك شهداء طلبوا الشهادة من طريقها وسعوا إلى الموت في أشرف ميادينه مختارين، وأولئك لم يموتوا وإنما اتخذوا الموت جسرًا إلى الجنة وممرًا من الحياة إلى الاحياء، وأولئك قوم فهموا الحياة على حقيقتها وعلموا أن أعلى قيمها أن تبذل في ما هو أغلى من كرائم أشياء العرب، وأولئك هم رأس مالنا إذا تغالت الأمم في رؤوس أموالها من المجد والمفاخر، وأولئك لا نعدهم على فرنسا ولا نعدها من قتلتهم لأنها أحقر من ذلك، ولا نعدهم من قتلاها لأنهم أجل من ذلك.
وإنما الثارات والترات التي لنا في عنق فرنسا هي دماء أبنائنا التي أريقت في سبيلها في الحروب الاستعمارية التي أذلت بها رقاب الأمم وفي الحروب الأوربية التي حفظت بها وجودها.
إنما الثارات التي نطلبها من فرنسا ولا نهدأ حتى نأخدها بها ونشفي صدورنا بالاقتصاص منها هي ثارات من قتلتهم غيلة وخداعًا.
إننا نذكر لكم الجديد ولا ننسى القديم فقد قتلت منا بالأمس في الثامن ماي 1945 ما يقارب ستين ألفا في يوم فرح العالم أجمع بإنهاء الحروب، خرجوا يشاركون مشاركة المتفرج عزلًا مستضعفين، فلقي ذلك العدد العديد حتوفهم على غرة بمكيدة مدبرة من حثالات الأوربيين الحاقدين على المسلم لأنه مسلم ومن ورائهم الحكومة وجنودها، وما نقمت منهم فرنسا وأوباشها إلّا لأن أبناءهم ماتوا في سبيل احيائها بعد الموت وانقاذها بعد الانهيار، وكان من لؤم فرنسا ومخازيها أن جرّت الأبناء إلى القتل في ميادين الحروب ثم(5/237)
قتلت الآباء وهم غارون، وإن فرنسا الوحشية لا ترضى بالخزية المفردة حتى تعززها بما هو أخزى، وأما والله لو أن تاريخ فرنسا كتب بأقلام من نور بمداد من عصارة الشمس في لوح منحوت من صفحة القمر، ثم قرظه عشاقها المتيمون منا باللؤلؤ المنثور بدل القرض المشعور، والشعر المنثور، ثم كتب في آخره هذا الفصل المخزي بعنوان "مذابح سطيف وقالمة وخراطة" لطمس هذا الفصل ذلك التاريخ كله، ولجلّله بمثل ما يجلل الأفق من ليلة محاق ظلماؤها معتكرة ونجومها منكدرة، فكيف وفي تاريخها كثير من هذه الفصول السوداء، وأكثرها مرتبط بتاريخ أفريقيا الشمالية، ومع ذلك فإن هذه المخلوقة العجيبة- التي تسمى فرنسا- تدعي الإنسانية، وتتخايل فتدعي أنها خلاصة الإنسانية، وتدعي العلم، وتتعالى فتزعم أنها معلمة العالم، وتتغنى بالحرية، وتتداهى فتملأ ماضغيها فخرًا بأنها أم الحرية ومربيتها وحاضنتها وموزعتها على العالم، وما هي حين نترجمها بأفعالها إلّا زؤان الإنسانية وسقطها، وما هي عند النسابين الأولين وحين تتشامخ الشعوب بأنسابها إلّا العنصر الهجين بين الغال واللاتين، ولا عند الآخرين إلّا خليط الأوزاع والنزاع من الأسبان والطليان والعبران والسودان، وما هي حين تقسم الطبائع والخصائص على الأمم إلّا العدو المبين للعقل والدين والعلم والتمدين، واللص المغير على الحرية والتحرير، وإن لها منها عليها لشواهد، فكم أغارت على حريات الشعوب الضعيفة الآمنة فسلبتها، وعلى آدابهم وعلومهم ودياناتهم فطمستها، وكم هدمت من مساجد يذكر فيها إسم الله، إن في ما وقع منها في الجزائر من حرب الإسلام واللغة العربية صفحات لا تحتاج لمزيد حتى إن حافظ القرآن في قرية يحرم عليه القانون الفرنسي فتح كتّاب لتعليم القرآن إلّا برخصة لا تعطى.
أيها الإخوان:
إن الاستعمار الفرنسي في الجزائر هو الذي نوع أسباب الثورة عليه، وكل سبب منها يقضي بثورة مجنونة، فكيف بها حين تجتمع؟ فلو أن أهل الجزائر ثاروا كلهم ثورة رجل واحد، وثأروا لقتلى تلك المذابح التي سمعتم إجمالها بقتل أمثالهم من الأوربيين لما بلغوا إلى ما تقرّ به العين من الثأر المنيم، والثأر المنيم عند أجدادكم العرب هو الثأر الذي يجلب النوم المريح إلى العيون التي قرحها السهر في طلب الثأر شهورًا وأعوامًا حتى إذا أدركته نامت وقرت، ومن خصائص أولئك الأجداد التي فقدناها مع الأسف أنهم كانوا لا ينامون على وتر، يعني أنهم يهجرون النوم حتى يأخذوا بثأرهم حمية وأنفة وعلو همة لأن النوم إنما يطيب للخليين الفارغين.
ولو أن الجزائر ثارت كلها ثورة رجل واحد غيرة على ما فعلت فرنسا بدينها وأوقافه ومدارسه ومعابده التي ما زالت تعبث ببقاياها إلى الآن لكانت على حق يقرها عليه كل من له عقل في هذا العالم.(5/238)
ولو أن الجزائر كلها ثارت ثورة جامحة جارفة تخرب العمران وتطمس المعالم وتذهب بكل ما شيدته فرنسا من هياكل الحضارة في الجزائر غيرة على لغتها وقوميتها التي تعمل فرنسا علانية على محوهما ومسخ أهلها لما كانت ملومة ولا موسومة بالوحشية.
كل شيء عاملت به فرنسا إخوانكم العرب المسلمين يدعو إلى الثورة ولو كانت فسادًا في الأرض لأنها ثورة على ما هو أفسد.
ألا لا يقولنّ قائل ولا يهمسن في خاطر امرىء سمع كلامي، العجب من عدم قيام الثورة قبل اليوم، ومن ذهاب أبناء الجزائر للدفاع عن فرنسا حتى يسمع الجواب، أما ذهاب الجزائري للدفاع عن فرنسا فهو فيه مضطر أشبه بِمُخَيَّر، أو مُخَيَّر أشبه بمضطر، ومن البلاء ما يجمع بين المتناقضين في رؤية بصر أو رأي بصيرة، ان سياسة فرنسا منذ أربعة عقود من السنين في قضية التجنيد بالجزائر أنها كلما احتاجت إلى عدد عديد من الجنود الأهالي دبرت بوسائلها الشيطانية مجاعة فظيعة للوطن، فتشتت خيراته التي يكفي محصول سنة منها عشر سنوات فتنقلها إلى وطنها أو تحتكرها وترفع قيمتها إلى ما فوق الطاقة وتقطع أسباب العمل في الداخل وتسد أبوابه في الخارج، فإذا استحكمت المجاعة وأخذت مأخذها في الشعب، واعتراه منها ما يذهل المرضعة عن رضيعها بعثت في القرى والأسواق والسهول والجبال حاشرين بطبولهم ومعازفهم يدعون الناس إلى الجندية ويصورونها لهم كما يصور الواعظ الجنة، ويغرونهم بأجور ما كانوا يحلمون باليسير منها، فيندفع الشبان الجائعون المساكين بالعشرات والمئات إلى التجنيد ليسدّوا أرماق أهليهم بما يبيعون به أنفسهم، وليضمنوا لأنفسهم الخبزة التي تحفظ عليهم الحياة، وفي مثل هذه الحالات من المجاعات المصطلية يندفع المبشرون لاصطياد الأطفال المتضورين جوعًا فيؤوونهم إلى حظائر التنصير، وتجتمع على الأمة المسكينة في كل مجاعة مصيبتان في آن واحد وبسبب واحد وهو التجويع المقصود الذي تصطنعه فرنسا وتحكم أسبابه في وطن يفيض بالأرزاق والخيرات.
ويا ليت الوقت يتسع لتحليل بعض العمليات التي ترتكبها فرنسا لبلوغ غايتها من هذا التجويع، وهي عمليات يحلف الشيطان أنه عاجز عن اختراعها، وهو إمام المخترعين لأمثالها.
وأما النقطة الثانية من مناط العجب، وهي كيف لم تثر الأمة الجزائرية من زمان على الظلم الذي أريناكم لمحات من وصفه، فجوابها عند قرن وربع قرن، سنوات وعقودًا، فهي تشهد أن الجزائر أم الثورة، وأنها قدمت من الضحايا في سبيل استقلالها وحريتها ما لم يقدمه شعب آخر، وأنها لبثت سبعة عشر عامًا في ثورة مسلحة نارية متصلة الأيام والليالي بقيادة الأمير البطل عبد القادر بن محيي الدين المختاري، سجلت فيها من صفحات البطولة والحمية ما شهد به العدو قبل الصديق، وكم أذاقت فرنسا اليَتُوع ممزوجًا بالحرمل لا بَلْ(5/239)
جرعتها السمّ حدوفًا في الخردل، وكم واقفها أبطال الجزائر فدحروها وألزموا جيوشها الجرارة الاحتماء بالسواحل بضع عشرة سنة، وما زالت فرنسا تعرف من كتبها مواقع السيوف الجزائرية في بني أبيها في وقائع "تافنا" و"سيكاك " من ضواحي تلمسان، وما زالت تفهم معنى الغضبة المضرية والحمية المازيغية من تلك المواقع وعشرات أمثالها مما عناه شاعر الجزائر الحديثة محمد العيد في قوله من قصيدة يخاطب بها تلمسان:
"تلمسان" اكشفي عن رائعات … من الآثار جللها الغبار
ضعي عن قرنك الضاحي خمارًا … فقرن الشمس ليس له خمار
ففي هذا الثرى الزاكي قديمًا … لنا ازدهرت حضارات كبار
وفي هذا الثرى الزاكي قديمًا … تفشى العدل وانتشر اليسار
وفي هذا الثرى الزاكي قديمًا … سما "مازيغ" واستعلى "نزار"
عليك تآخيا أدبًا ودينًا … وحولك ضم شملهما الجوار
هما حميا ذمارك بالعوالي … عصورًا فاحتمى بهما الذمار
ولما اجتمع على عبد القادر تدبير الأقدار وتخاذل الأنصار وقعود الجار استسلم، ولكن الجزائر لم تستسلم، وبقيت الثورات مشتعلة في جهات القطر، لم تفقد إلّا صبغتها العامة الشاملة لجهاتها الأربع من حدود "وجدة" إلى مخارم "أوراس" في حدود تونس، وكانت فوهة البركان الثائر قمم جبال "زواوة" التي تشكل ثلث الأطلس الأصغر، إلى أن كانت آخر الثورات القوية المسلحة ثورة الحاج أحمد المقراني التي شملت مقاطعة قسنطينة سنة 1871 في أواخر الحرب السبعينية بين فرنسا والألمان، وقد شهدها جدي ووالدي وثلاثة من أعمامه، ورابط رجال قبيلتنا شهورًا في سفوح جبل "عياض" ونازلوا عدة طلائع من الجيش الفرنسي فأبادوها في وقعة "قمور" و"بوتمرة" و"الشانية" وفاز بالشهادة عشرات من ذوي قربانا.
وما زالت الثورات المحلية تتعاتب إلى عهد قريب، ففي مقاطعة قسنطينة وحدها يسجل التاريخ ثورة قريبنا الشيخ سعد التباني في جبل "قديشة" احدى قمم الأطلس حيث منازل الأجداد، وثورة العامري، وثورة بوزيان، وثورة الزعاطشة، وثورة بني سليمان، وثورة عموشة، وفي عمالة وهران ثورة بو عمامة وثورة أولاد سيدي الشيخ البكريين بالأبيض وغيرهما، وفي الجزائر ثورة زاغر وثورة العاقلات وغيرهما، حتى ليحسب المؤرخ أن في كل قمة موقعًا لثورة، ولكن تلك الثورات لم تجاوز أخبارها مناطقها المحدودة وغطت عليها صبغة ذلك الوقت وهي الانقطاع التام بين غرب العرب وشرقهم، فلم يعرف عنها شيء ولم ترزق الأقلام المدونة فطاف عليها طائف النسيان حتى عند أحفاد الثائرين وأبنائهم وأنا واحد منهم، ولقد أدركت العجائز لا يؤرخن الزواج والمواليد والوفيات إلّا بتلك الثورات كما كان العرب يفعلون.(5/240)
أيها الأخوان:
إن الجزائر ثائرة بطبيعة وَرِثَتْها وَوَرَّثَتْها، ورثتها من أسلاف لهم في تاريخ الثورات عرق ممتد إلى عصور الجاهلية، والتقت عليه الطبيعتان العربية والبربرية، وورثتها من غاباتها الكثيفة الغبياء وجبالها الصخرية الشم، وأطلسها الذي هو نطاق الله شد به وسطها ووِشاحه وشح به سواحلها، وسلكه الذي نظمها به مع أختيها تونس ومراكش، لا بل آيته القائمة على أن تلك الأقطار دار واحدة لا تتجزأ ولا تقبل القسمة، فإذا حاول تفريقها محاول سفهته السواحل باتحاد أمواجها وصدمته الجبال بتناوح أثباجها، واشتباه فجاجها، وكذبته الصحارى بسرابها وسراجها ومراتع غزلانها ونعاجها، ومراعي أذوادها وأعراجها. ثم ورّثت تلك الطبيعة بَنِيها فكانت صلابة في طباعهم وحميا في أنوفهم وحمية في نفوسهم، وإباء في مغامزهم، ورهبة في سكونهم وسكوتهم.
إن السجايا الطبيعية كالحق تظهر من معنى ومن كلم، وإن عرب الجزائر- خصوصًا النابتين في مجالات بني هلال بن عامر- لعراقتهم في الثورة وتمكن الثورة من طباعهم، يستعملون كلمة الثورة بمعنى القيام المعتاد، فيقولون ثار من النوم وثار للصلاة بمعنى قام، ويقولون في الأمر "ثُورْ تْصَلّي" وثوروا للصلاة، وهكذا تدور هذه الكلمة على ألسنتهم مرّات عدّة في اليوم ويتصرفون فيها هذه التصرفات، وهم لا يجهلون معناها الأصلي المحدد بل هم يلمحون إليه ويجعلون الكلمة منبهة عليه، وكأنهم يرون أن أعمال الحياة كلها ثورات، وتلك هي الفلسفة الفطرية في أعمق معانيها، والكلمات إذا دارت على الألسنة ولو مع انحراف عن معناها الأصلي فإنها دائمًا تذكر به وتجعله متصلًا بالأذهان.
أيها الإخوان:
إن الجزائر ثارت على الحق في أولها فكيف لا تثور على الباطل في آخرها. ثارت على الإسلام وهو دين الحق، فمن عجب أن لا تثور على الاستعمار وهو الدين الباطل، فلما هداها الله للإسلام لجت بها تلك الطبيعة فكان يثور بعضها على بعضها استجابة لداعي تلك الجبلة فيها كما صورها العربي في قومه بقوله:
وأحيانًا على بكر أخينا … إذا ما لم نجد إلّا أخانا
إن الجزائر قبل أن يلوح عليها بوم الشؤم من الاستعمار الفرنسي، ويبتليها بما قتل معنوياتها، وأضعف فيها روح الرجولة والبطولة والنبوغ والتأثر الصادق بالدين، كانت حلف الجهاد وعدو المهاد، فلم تخل يومًا في عصورها الإسلامية من الجهاد بالمال والنفس كما أمر الله، لأن الجارين المتقابلين على ضفتي البحر الأبيض كان كل واحد منهما بالمرصاد لصاحبه، وانتقل سبب الصراع بينهما من ميدان إلى ميدان، فبعد أن كان صراعًا على العيش(5/241)
أو التوسع في العيش، أو صراعًا على الزيت والتين- وهما المادتان اللتان جلبتا الغزو الروماني لافريقيا الشمالية- صار صراعًا على ذلك وعلى الدين، وزاد في شدته أن العرب بدينهم خلفوا الرومان على حضارتهم في افريقيا، ثم لمسوهم من جبل طارق تلك اللمسة المؤلمة التي تطيروا بها وطاروا فزعًا، وظنوا أنها القاضية على روما وحضارتها وديانتها وشرائعها.
ندع الفترة الرومانية الضعيفة التي سبقت الفتح الإسلامي، وبدأت من يوم انقسام روما إلى غربية وشرقية، فهي فترة سلم اضطراري بين سكان الضفتين، وننحدر مع التاريخ إلى ضعف الأندلس بانقسام ملوك الطوائف، وتداعي اللاتين إلى ايقاد نار الثأر والانتقام، وشن الغارات على سواحل المغارب الثلاثة من سواحل تونس الشرقية إلى ما تحميه الدول الإسلامية القوية كاللمتونيين والموحدين والمرينيين، فالجزائر كان لها القدح المعلى في الجهاد، تارة منظمًا على يد الدول وبطريقة الاستنفار، وتارة أخرى- وهو الدائم الذي لا ينقطع- اختياريًا بالدَّافِع النفساني الفردي وهو الرباط الذي يشبه في جهته الفردية حرب العصابات اليوم، فكانت الثغور الجزائرية المشهورة والمهجورة وما يجاورها، وكل موضع يتطرّق منه العدو عامرة أبدًا بالمرابطين، وهم قوم نذروا أنفسهم لله ولحماية دينه يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، لا يرزأون الحكومات شيئًا من سلاح وزاد، وإنما يتسلحون ويتزودون من مالهم ليجمعوا الحسنيين: الجهاد بالمال والنفس، وسلسلة الرباط لم تنقطع إلّا بعد استقرار الأمر لفرنسا، وإنما كانت تشتد وتخف تبعًا لما يبدو على الشاطىء الآخر من نشاط وخمود، وكانت على أشدها في المئة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة، وكانت هذه السلسلة منتظمة في مراكش من الريف لسبتة والناظور ومليلية والتكور، ومن سواحل الجزائر للغزوات ورشغون وهنين وبني صاف والمرسى الكبير ووهران وأرزيو ومرسى الحجاج ومستغانم وتنس وشرشال وشنوة، وخليج تيبازة وسيدي فرج والجزائر وتمنتفوست ودلس وأزفون وتاقزيرت وبجاية والمنصورية وجيجل والقل وسكيكدة وعنابة والقالة، ومن تونس مرسى المرجان وبنزرت وغار الملح، والمرسى ورأس أدار وقليبية ونابل والحمامات والمعمورة والأجم وما بينهما، وسوسة وصفاقس وما بينهما، وقابس وجربة وما بينهما، وتقل في سواحل ليبيا لتوغل البحر في الجنوب، وكذلك في سواحل مصر إلّا حيث تدعو الحاجة.
أيها الإخوان:
إذا كانت الأشجار تسقى بالماء وتؤتي الثمار المختلفة فإن الثورة شجرة تسقى بالدماء فتثمر الحرية.
والسلام عليكم ورحمة الله.(5/242)
فرنسا وثورة الجزائر *
إذا كانت النتائج تنتزع من المقدمات فإن النصر محقق للثورة الجزائرية: هذا ما تحكم به العقول الراجحة، وتقتضيه أصول الاجتماع الإنساني وتؤيده العادات الجارية.
إنما نحن في عالم أسباب ومسببات تصطرع فيه سنن ثابتة لا تبديل فيها ولا تغيير، والثورة الجزائرية دائرة في هذا المدار من أول يوم، جارية على السنن التي يقتضيها التدافع البشري في الحياة، على مقدار من حالها وظروفها، واعداد ما يطلب مثله من مثلها، وهي تجبر نقصها في الاعداد الحسي الذي تقتضيه السنن باعداد روحاني له أثره في نتائج الصراع بين كل مجموعتين، وله وزنه في ترجيح كفة على كفة، وله قيمته في نصر العدد القليل على العدد الكثير، ذلك كله ثابت بشهادة الدين وشهادة الحس، فالقوّة المادية التي ساقتها فرنسا على المجاهدين الجزائريين في هذه الحرب تفوق قوّة الجزائريين أضعافًا مضاعفة، بل نسبة قوّة الجزائر إلى قوّة فرنسا هي نسبة الصفر ... وأين من لا يملك طائرة واحدة ممن يملك آلاف الطائرات، يزاد عليها وفرة العدد، واتصال المدد، ووفرة الأقوات، وكل ما يعرفه الناس من الأسلحة المعتادة، ولكن الجزائريين يملكون قوّة أخرى لا يملكها الفرنسيون: يملكون القوّة الروحية التي تفل كل سلاح، يملكون قوّة الإيمان الصحيح، وقوّة النفوس الطاهرة، وقوّة العزائم الثابتة، وقوّة التصميم الذي لا يطرقه الوهن، يملكون توحيد القصد وصدق التوجه، وشرف الغاية، بحيث لا يضل بهم فيها سبيل، ولا تختلف لهم فيها وسيلة، ولا يزيغ لهم رأي. ففرنسا تقاتل على باطل وهو الاستعمار، والمجاهدون يقاتلون على حق وهو عزة الحياة وكرامة العروبة ومجد الإسلام، وفرنسا تقاتل في سبيل استعباد الإنسان وامتهان كرامته، وهم يقاتلون في سبيل تحريره وإسعاده وعزته، فهل يستويان مثلًا؟
__________
* مسودة لمقال كُتب في القاهرة، سنة 1959.(5/243)
وفرنسا استعمارية بطبيعتها، ولا تلتذ من ثمرات الاستعمار إلّا باستعباد المستضعفين من خلق الله، وانتهاك حرماتهم، والرقص على جثثهم، والطرب لأنينهم، وعندها أن نهب الأموال وسلب الأرزاق وتجريد الضعفاء من أسباب القوّة، ونشر البؤس والأمراض، كل ذلك يأتي في الدرجة الثانية بعد تعذيب الأبدان وسلب الإرادات وقتل الضمائر وكأنها في القرن الأخير تنبهت إلى أنها وارثة الرومان الأقدمين، فأرادت أن تبلغ مثل ما بلغ الرومان، أو فوق ما بلغ الرومان من اتساع الرقعة وبسط السلطان وسوق العالم بعصا القوّة والبطش، وكان يمكن أن تبلغ هذا في غفلة من الدهر وفي ساعة انكدار النجوم وإدبار الأيام وتسلط النحس على كثير من الشعوب، كما كان يمكن أن تبلغ هذا من طريق الاحسان والعدل ... ولكنها الأعراق المتأصلة في الخبث لم تدع لها منفذا لتصور شيء اسمه العدل، أو شيء اسمه الاحسان.
تنتحل فرنسا لنفسها وصف العظمة، والعظمة نوعان: عظمة نفسية طبيعية في الأفراد أو في الشعوب، وعظمة مزورة مصطنعة، ومرجع الأولى إلى سمو الروح الإنساني الذي تنشأ منه الفضائل كلها كالرحمة والمحبة والعدل والاحسان والوفاء والصدق والعفة، وهذه هي أمهات الفضائل في الأفراد وفي الشعوب. ومن فضل الشيطان على فرنسا أنها عارية من هذه الفضائل كلها، وتاريخها الاستعماري المديد كله شهادة ناطقة بهذا، فما رأينا استعمارًا أفجر من الاستعمار الفرنسي ولا أخشن منه مسًا، فهو يتعمد جعل الرذائل أساسًا لحكمه ومعاملته للضعفاء الذين يقعون في قبضته: فمن ظلم لا رحمة معه، إلى استئثار لا عدل فيه، إلى نهم لا قناعة فيها، إلى لصوصية لا حد لها؛ ولو اقتصر بلاؤه على الظواهر المادية لهان الأمر قليلًا، لكنه يجاوزها إلى الدين، وإلى عقائده في النفوس، وإلى مدب السرائر ومعتلج العواطف، وإلى الصلات الروحية بين الأخ وأخيه، وبين الجار وجاره. ومن لئيم المكر والكيد والاضلال في هذا الاستعمار أنه يعتمد على القانون، والقانون هو الذي يصنعه، وهو الذي ينفذه وهو الذي يطبقه، كما شاءت أهواؤه في التشريع والتنفيذ، ومن تعمقه في المكر وقلب الحقائق أنه يسخر تلك القوانين لحماية الرذيلة، فالذي يفتح مدرسة لتعليم الأطفال مبادئ دينهم ولغتهم مجرم مخالف للقانون، أما الذي يفتح مخمرة يفسد بها عقول الناس ويتلف أموالهم فهو حر تحميه تلك القوانين، وأمثال هذا كثير.
هذه وأمثالها هي الأساطين التي بنيت عليها العظمة الفرنسية التي أثمرت هذا الاستعمار، والتي ما زال يتبجح بها ساسة فرنسا والمغرورون من رجال الاستعمار فيها، ولو أن هذا التبجح ارتفع صوته قبل الحربين العالميتين ويوم كانت تتمتع بسمعة عسكرية ترهب وتخيف، لقلنا: لعل وعسى، فأما بعد تينك الحربين، وبعد ثورة الهند الصينية، وبعد ثورة الجزائر، فقد كشفت المحسوسات عن المدسوسات، وعلى أن تلك العظمة التي لا تعتمد على الأخلاق النفسية ولا تعتمد- أول ما تعتمد- على الروح، هي عظمة زائفة دعية.(5/244)
إن هيبة الأسد تنبعث من أظافره وأنيابه، فإذا أصبحت أظافره مقلمة، وأنيابه مهشمة، فقد بطل سحره وضاعت هيبته.
إن العظمة الحقيقية لا تتحدث عن نفسها بلغة الكلام، وإنما تفصح عنها الحقائق الملموسة من أعمال ومعاملات، وصدق يحوط ذلك كله، ولأمر ما لم تعلُ هذه النغمة بالتحدث عن عظمة فرنسا قديمًا في أيام صعود نجمها وإقبال أيامها، وإنما كثر تردادها ولوكها في هذه السنوات الأخيرة، كأن ذلك مقصود لتغطية الهزائم المتلاحقة على فرنسا في الميدانين السياسي والاجتماعي. ولو كان الساسة الفرنسيون عقلاء لهداهم العقل الرصين الرزين إلى التي هي أقوم، وهي تبديل العقلية العتيقة كما يبدل أحدهم ثوبه إذا اتسخ، ولأرشدهم إلى تطهير الروح المدبرة، واستبدال السيئة بالحسنة، والظلم بالعدل، والاستئثار بالايثار، والانانية بالمساواة، وسوء المعاملة للناس بحسن المعاملة، ولكنهم عموا عن رؤية الحقائق الماثلة، وصَمُّوا عن سماع الكلمة العاقلة، فكأن نظافة البدن عندهم أهم من نظافة النفوس، وكأن تدبير الجسد ألزم في نظرهم من تدبير الممالك.
كانت فرنسا وما زالت ثائرة على الشعب الجزائري ثورة متماسكة الحلقات من قرن وربع قرن، يعني من معارك الاحتلال الأول، فلم ينطفئ لها غيظ باستسلام الجزائريين وبالقائهم السلاح، بل بقيت الاحقاد تغلي وتظهر آثارها في كل ما تعاملنا به فرنسا ... تظهر في القوانين المسنونة لحكمنا، وهي قوانين خاصة بنا، وفي التعاليم التي يسير عليها صغار حكامها فينا، وفي استمرار نزع الأرض الصالحة من الأهالي بالقوّة وإعطائها إلى المعمر الأوربي أيًّا كان جنسه، وفي الاستيلاء على جميع معابدنا وأوقافنا وزيادتها في رقعة الاستعمار، ولم يكفها هذا، بل حرمتنا من اختيار أئمتنا، ووضعت جميع المساجد تحت يدها، وأصبحت هي التي تعين الإمام والمؤذن والقيّم، لتسخرهم في أعمال بعيدة عن الدين، امتهانًا لكرامة الدين، ولقد بلغ بها هذا الامتهان حده في المدة الأخيرة فسخرت جميع رجال الدين الموظفين للتجسس على إخوانهم، وأصبح تجسسهم لها شرطًا في الوظيفة الدينية، وحرمت علينا تعلم ديننا إلّا بمقدار لا يغني ولا يفيد، وحرمت علينا تعلم لغة ديننا حتى المبادئ الطفيفة، وحرمت علينا تعلم لغتها إلّا بمقدار ضئيل تهيئنا به لخدمة الحكومة في وظائف الترجمة، ولخدمة السادة المعمرين، ولولا تيار من النهضة طغى منذ ثلاثين سنة تقريبًا فدفع طائفة من شباب الأمة إلى اقتحام أسوار الكليات والجامعات، وعدم الاكتراث بالأشواك والعراقيل المنثورة في طريقهم إليها- لولا ذلك التيار- لما وجدت هذه الطائفة القليلة التي تحمل لواء الثورة اليوم ولما كانت النهضة السياسية التي تقدمت الثورة.
وضربت فرنسا بيننا وبين إخواننا في الشرق سدًا منيعًا وستارًا حديديًّا أين منه ستار الروس، ومن فروع هذا السد أنها لا تسمح برخصة الحج الذي هو فرض ديني إلّا لأتباعها(5/245)
المخلصين، ومع إخلاص هؤلاء الأتباع فإنها تحيطهم بسياج من الجاسوسية ولا تسافر قافلة الحج إلّا تحت رئاسة حاكم إداري استعماري من الطراز الأول يبقى في جدة ويدخل جواسيسه من الحجاج إلى الحرمين وهو متصل بهم في كل دقيقة.
هذه جوانب بارزة من ثورة فرنسا المستمرة علينا، وهي حقائق يراها كل جزائري، ولكننا ضربناها أمثلة وأقمناها شواهد، وبعدها فروع تتناول جزئيات حياتنا الفكرية والعقلية والمادية ... فانظروا هداكم الله كيف تحيا أمة على قوانين جائرة يضعها عدوها ولم يشركها في وضعها ولا تنفيذها.
ومن أسباب هذه الثورة من فرنسا علينا أننا عرب، وأقوى أسبابها أننا مسلمون، وأننا لم ننس الوشائج المتشابكة بيننا وبين بني أبينا في الشرق العربي، وبيننا وبين إخواننا في الشرق الإسلامي، وأننا نؤمن بالقومية العربية إيمانًا راسخًا ونفخر بها فخرًا طالما أطار صواب رجال الاستعمار، ولحقنا بسببه من الأذى ما لا يعلمه إلّا الله، وأننا نولي وجوهنا شطر البلاد العربية التي هي مشرق ديننا، ومجتمع أنسابنا، والصفحة الأولى التي خط عليها تاريخنا.
فما بال فرنسا حاضنة الإنسانية بزعمها، وحامية الحضارة الإنسانية في دعواها، تضيق ذرعًا بثورتنا عليها أربع سنوات، ويطيش صوابها إلى درجة الجنون، فتسوق علينا الجيوش الجرارة بالأسلحة الفتاكة، وتتدلى بأخلاقها إلى الوحشية، فتعذّب الأبرياء فنونًا من العذاب لا تخطر على بال، ثم تقتلهم بطريقة يتبرأ منها الوحش الضاري الموكول إلى غرائزه، ثم تمعن في تقتيل الأمهات الحوامل والأطفال والعجزة الذين تحرم قتلهم قوانين السماء وقوانين الأرض، مما يدل دلالة قاطعة على أنها مصممة على إبادة الجزائريين.
من هنا يأخذ العلماء والأخلاقيون الدليل على أن الشر أصيل، وأن حديث الخير والمدنية والعلم في الشعب الذي تنبت فيه هذه الموبقات حديث خرافة.
صحيح أن الاستعمار يكون استغلالًا في أول أمره، ثم ينقلب التذاذًا بالتسلط والاستعباد في وسط أمره، فإذا بلغ أشده أصبح سعارًا كالكلب المكلوب، ثم يصبح مرضًا عضالًا في أهله لا ينفع فيه علاج، والحكيم كل الحكيم هو من يكتشف دواء لداء الاستعمار في نفوس الاستعماريين، فهو والله أخطر وأشد فتكًا بالبشرية من داء السل والسرطان، وإنني أتلمح أن داء الاستعمار أيسر علاجًا من السل والسرطان، وانه لو تداعى عقلاء الأمم وأطباؤها الروحانيون وأخلصوا في مكافحته لاجتثوه من أصوله.
كانت ثورة الجزائر من أول يوم تحمل في ما تحمل من معان أنها ليست ثورة على فرنسا من حيث أنها دولة، ولا على الفرنسيين من حيث أنهم أمة، فنحن أعقل من أن نثور ثورة مستميتة على حكومة أو على جنس كيفما كانت تلك الحكومة أو ذلك الجنس، ونحن(5/246)
قوم أدبنا ديننا بأن الحرب مفسدة لا ترتكب إلّا لدفع مفسدة أعظم منها، وأوصانا بأن لا نغمس يدًا في فتنة وأن لا نبدأ أحدًا بالقتال، وأن لا نقاتل إلّا من قاتلنا، وأن لا نركب إلّا أحسن المحامل ما دام جزء في المائة حسنًا، واعلمنا أن الحسنات يذهبن السيئات، ولكن ما ذنبنا إذا بدأنا الاستعمار الفرنسي بالشر وسوء المعاملة، وحرمنا من جميع مقوماتنا، واعتدى على ديننا فتعمده بالمسخ، وعلى شعائرنا فتعمدها بالتعطيل، وعلى مساجدنا فتعمدها بالهدم واتخذ من بعضها كنائس، وعلى لغتنا فتعمدها بالمحو، وعلى فضائلنا فغمرها بالرذائل، حتى أصبح الجو الذي يجمعنا وإياه كله عاتم غائم ليس فيه إشراق ولا صفاء، وقد صبرنا على هذه الحالة التي لا يصبر عليها إنسان ولا حيوان مدة تزيد عن القرن، فهل من عاذر؟ وهل من منصف؟ وهل من عاقل؟ وهل من معين؟
وكانت ثورة الجزائر من أول يوم تحمل في ما تحمل من معان أنها ثورة على الظلم والجور والاستعباد وتلك الشرور التي ضربنا الأمثلة على سائرها في هذه الكلمة، وكذلك النفوس الحرة إذا بلغ بها الضيم مبلغًا تزنه بالموت فيرجح، وتيأس من خير الحياة وخير الأحياء وتتلمس المخرج إلى نور الحياة من جهاتها الست فلا تجده إلّا ضربًا من المحال، فهي معذورة حين تتلمس الراحة من طريق التعب، والحياة من طريق الموت، وهي معذورة إذا اندفعت في طلب الموت بأكباد حرار إليه، ظماء إلى موارد الردى لا ترهبها قوة عدوها، ولا تخيفها وفرة سلاحه، لأنها وزنت أمسها وغدها بالقسط، فأقدمت وهي على بصيرة من أمرها، وقرأت حسابها لما تجره عليها الحرب من تشتيت شمل وتحيّف مال، وعلمت أنها إن لم تلق الموت مرفوعة الرأس لقيها الموت وهي ذليلة، وهو ميزان- كما ترون- لا يستخدمه ولا يركن إليه إلّا من كان في مثل حالة الشعب الجزائري في الظلم والهضيمة، وهي- كما ترون- مغامرة لا يغامرها إلّا من يؤثر الموت المعجل على الموت البطيء.
وإن لم تكن إلّا الأسنة مركبًا … فلا يسع المضطر إلّا ركوبها
فهذا شعب حر أصيل وقفت به صروف الدهر على صراط أدق من الشفرة، وحملته على تجرع واحد من اثنين أحلاهما مر، فلا تلوموه إذا حكم السيف وترك للأقدار تقدير العواقب، وقد تولته العناية الالهية، فلم يزل منذ خطا الخطوة الأولى في السبيل الذي رضيه، يستنشق من نفحات النصر الالهي والتأييد الرباني ما ينعشه ويشد من عزيمته، وما زالت تفعمه من روائح النصر في كل خطوة ما يدفعه إلى الخطوة الثانية مسدّد الخطى، وهو إلى هذه الساعة مغتبط بما يقدمه لعدوه من هزائم يزيد في مرارتها في ذوق العدو، وحرارتها في صدره ... أن هؤلاء المجاهدين لا يقاتلونه بالأسلحة التي تعرفها الحرب، وإنما يقاتلونه بسلاح الإيمان والثقة بالله وبالنفس، إنما يقاتلونه بالسلاح الذي يعرفه منهم يوم كانوا معه جنبًا إلى جنب في الحربين الماضيتين، وما ذلك السلاح إلا الشجاعة والاقدام والثبات، وإذا جاء نصر الله بطل كيد الأقوياء.(5/247)
ليت شعري، أية فائدة حقيقية تجنيها فرنسا من وراء هذه الحرب؟ وأي مغنم تكسبه منها؟ نحن نعرف الجواب الصحيح.
إن الفوائد من هذه الحرب لا تعود إلى فرنسا كدولة، وإلى الفرنسيين كأمة، ولا تعود إلى التاريخ الفرنسي بصفحات زاهرة بالفخر، مشرقة بالمجد، وإنما تعود إلى طائفة مخصوصة يسمونها ظلمًا "المعمرين"، وهي التي خربت الجزائر وتوشك أن تخرب فرنسا وتأتي بنيانها من القواعد لجشعها وأنانيتها وحرصها على جمع المادة.
هذه الطائفة تعد بضع مئات من الآلاف، منهم سبعون في المائة أجانب عن فرنسا لا يبالون أماتت فرنسا أم عاشت، لأنهم ليسوا منها في الصميم، وإنما هم أوزاع من طليان وأسبان وكورسيين ومالطيين، جاءت فرنسا بأجدادهم من مطارح البؤس والفقر، وغرستهم في أرض الجزائر من حيث اقتلعت الجزائريين، وأفاضت عليهم النعم، وسهلت لهم وسائل الاستثمار، ودللتهم كما يدلل وحيد أبويه، ففي سبيل هؤلاء ونزولًا عند مرضاتهم ومطامعهم التي لا حد لها تسوق فرنسا على الجزائريين الأصلاء مع مطلع كل شمس الجيوش الجرارة وتملأ عليهم البر والبحر والجو، وتنفق المليارات من الفرنكات في كل يوم، وتستجدي المعونة الذليلة من الدول العظيمة، وتعطل الواجبات عليها لحلف الأطلسي وهو السبيل الوحيد لوجودها وبقائها.
ولو كانت هذه الحرب لما هو الأصل من مذاهب الاستعمار وهو المحافظة على الأسواق التجارية التي تعود على فرنسا نفسها بالفوائد، لوجدت لنفسها عذرًا في العالم الاستعماري المتهافت المتداعي البناء، ولكن الشعب الجزائري المسلم العربي هو المستهلك وهو العميل الدائم للتجارة الفرنسية، وهو الذي يدفع للخزينة الحكومية أكثر من ثلاثة أرباع ما يعمرها من مال، فإذا كانت فرنسا تعمل على إبادته في سبيل إرضاء هذه الطائفة المستغلة من المعمرين فهذا أكبر دليل على أنها سفيهة لا تعمل لمصلحتها.
إن هذه الطائفة- طائفة المعمرين- لا تكنّ لفرنسا أي حب ولا تدين لها بالولاء، ولا تشعر بشيء من الارتباط بها إلّا بورقة الجنسية الفرنسية، فالطلياني يشعر في الصميم أنه غريب عن فرنسا، ويعتز بجنسيته الاصلية، ويتألم لألم أبناء جنسه الأصلي، ويفزع إليهم في الملمات علنًا، لا يكتم عواطفه ولا يتستر بها، وفي الحرب العالمية الأخيرة أعلن الطليان من هذه الطائفة ارتباطهم القلبي بإيطاليا وعواطفهم مع المحور، حتى بعد إعلان إيطاليا الحرب على فرنسا، وكل ما فعلت فرنسا أنها وضعت الجالية الايطالية تحت الحراسة إلى أن انتهت الحرب، وكذلك حال الأسبان المتوطنين بالجزائر في أيام الحرب الأهلية بين فرانكو والجمهوريين، فقد كان المعمرون الأسبان في مقاطعة وهران يعاونون فرانكو جهارا بالمال(5/248)
والحبوب، وتذهب البواخر مشحونة من ميناء وهران والغزوات بالأقوات والخمور والزيوت، ولا تحرك السلطات الفرنسية ساكنًا.
ولقد جمعني القطار في فترة انكسار فرنسا واجتياح الجيوش الألمانية لها بواحد من هؤلاء الفراعنة، وجرني إلى الحديث معه في الحالة الحاضرة إذ ذاك، فسألني رأي عن عواقب انهزام فرنسا أمام الألمان، فقلت ان قوانين الحرب معروفة، فسألني سؤال المستعطف الذي لا يهمه إلّا أمر نفسه: وما يصنع الألمان بنا نحن معشر الأجانب الذين لم ندخل معه في حرب، فقلت له قول الساخر المستهزئ: لعله لا يمسكم بسوء ما دمتم أجانب عن فرنسا، فأجابني وقد لمعت أساريره من الفرح: نحن عند المثل العربي (اللي يتزوج أمنا هو عمنا) وإذا كان الألمان لا ينزعون منا أملاكنا وأراضينا فلا فرق عندنا بين أن تكون الحكومة فرنسية أو ألمانية.
هذا نص كلماته باللهجة العربية العامية وكان يحسنها كأهلها، أما أنا فقد أطرقت حصة من الزمن متعجبًا من حال هؤلاء الأجانب المتفرنسين وهذا مبلغ ولائهم لفرنسا وعواطفهم نحوها، يظهره فرد منهم له في الفَرْنَسَة ثلاثة أو أربعة أجداد، وتقلب هو وأجداده في النعيم قرنًا كاملًا، فلم يحمد لفرنسا نعمة واحدة، ولم يتألم للمحنة التي هي فيها، ولم ينحصر تفكيره في وقت شدتها إلّا في ضيعته ومصلحته الخاصة، وحال هذا المتحدث معي هو حال جميع المعمرين الأجانب المتفرنسين لا يشذ أحد منهم عن هذه الحالة .... وعجبت أكثر من ذلك لخذلان فرنسا في تدليلها لهؤلاء الناكرين للجميل وكيف تقدمهم على أبناء الوطن وتحصي هؤلاء الأجانب الكافرين بها بموت الوطنيين، وطالما هددوها بالانفصال وتشكيل حكومة منهم اعتمادًا على أموالهم الوفيرة، وما حادثة إعلان انفصال العسكريين في الجزائر عن الحكومة الفرنسية وإسقاط الجمهورية الرابعة إلّا برهان واضح على ما تنطوي عليه هذه الطائفة الطاغية لفرنسا المغرورة.
ومن حجّتنا في هذا الباب- باب انطواء هذه الطائفة على إرادة السوء لفرنسا نفسها- ما وقع منذ بداية عهد "ديجول" ( De Gaulle) في إعلانهم الانفصال عن فرنسا وتهديدهم بغزو باريس ووضع الحكومة كلها في السجون، والقادة العسكريون في الجزائر لا ضمائر لهم ولا ذمم، وهم في قبضة هذه الشرذمة من المعمرين، يكيفون عقولهم بالمال، ويسخّرونهم لمصالحهم الخاصة ولو خربت فرنسا، وما زالوا منذ عهد بعيد يلوحون بالانفصال عن فرنسا كلما هُدِّدت مصالحهم، ولو تركت فرنسا في قلوبنا موضع أنملة للرحمة لرحمناها من هذه المهانة التي تلقاها من هذه الطائفة، وكلنا موقنون بأن فناء فرنسا لا يكون إلّا على يد هذه الطائفة المستغلّة التي استغنت على فقر الشعب الجزائري، وإذا أراد الله هلاك دولة جعل ذلك الهلاك على يد من تصطفيهم.(5/249)
إن هذه الثورة أثارت كوامن الأحقاد الدفينة في صدور الفريقين، وكلما امتد عمر الثورة يومًا ازدادت نار الحقد اضطرامًا، فلا يبقى في قلب واحد من المتحاربين مكان للصفاء. فالمعمرون والجيش المسخر لخدمة أغراضهم وفرض أنانيتهم، يمعنون في التنكيل بمن أوقعهم القدر في قبضتهم من المستضعفين، وما ينقمون منهم إلّا أنهم حملوا السلاح في وجه أسيادهم، ورجال المقاومة من المجاهدين ممعنون في التنكيل بالجيش الفرنسي وبجميع أفراد هذه الطائفة وإلحاق الهزائم الفاضحة بهم وتلطيخهم بالعار الذي لا يمحوه الدهر، وعذر المجاهدين في هذا أن هذه الطائفة هي أصل البلايا التي أحاطت بالشعب الجزائري، فكيف يمكن، بل كيف يتصور مع هذا كله أن يتناسى الفريقان أيام القتال وما صاحبها من تقتيل وتعذيب وتشريد للجزائريين، وما وقع فيها من انتهاك لحرمة هؤلاء الفراعنة المتألهين، وتحطيم لمزارعهم، وقضاء على سلطانهم، وخرق لحجاب هيبتهم، وتكدير لمعيشتهم، واغتيال لطائفة كبيرة من أعوانهم الذين كانوا يجرون في أعنتهم، وانه لأمر عظيم عندهم؟
والخلاصة أن الحالة بيننا وبينهم وصلت إلى حدّ لا يمكن معه أن نجتمع تحت سقف واحد ولا أن نعيش في وطن واحد.
...
ليت شعري هل يقيّض الله لثورة الجزائر، بعد خمود نارها، مؤرّخًا من أبناء الجزائر مستنير البصيرة، مسدّد الفكر والقلم، صحيح الاستنتاج، سديد الملاحظة، فقيهًا في ربط الأسباب بالمسببات، فيؤرخ لهذه الثورة- التي طال أمدها أربع سنوات وهي تطوي الأشهر من السنة الخامسة- تاريخًا لا يقف عند الظواهر والسطحيات كعدد القتلى من المجاهدين وأعدائهم أو مجاوزة ذلك إلى قتلى المستضعفين والنساء والأطفال والعجزة، فكل ذلك من قشور الثورة، والحرب لا عقل لها ولا ضمير، بل يتغلغل إلى ما وراء ذلك من الأسباب النفسية التي تحرك فرنسا إلى هذه المجازر البشرية، وإلى العوامل التي تدفع المتقاتلين إلى هذه الاستماتة في حرب حارت فيها عقول ذوي العقول وأحد الطرفين فيها محقّ يدافع عن حقّه الذي تشهد السماء والأرض والجنّ والإنس أنه حقّ، والآخر مُبطل يشهد الشرق والغرب والبرّ والبحر أنه مبطل، ثم يُجَلِّي مواقع العبر من هذه الثورة المتأجّجة، فيُجَلِّي كيف قاتل شعب مسلم عربي أعزل دولةً كانت إلى الأمس القريب ترهبها الدول القوية، ويثقل ميزان الاعتبار والعظمة فيها جيشها ووفرة وسائلها، ويُجَلِّي الأسباب الحقيقية الكامنة في نفس المسلم العربي الجزائري التي دفعت إلى هذه الثورة، وهي إسلامه الصحيح وعروبته الصريحة وتاريخه المنطوي على المثل العليا من إباء الضيم وتمجيد الكرامة، وهي خلال حرّة أصيلة في دمه وجِبِلَّتِه، وكيف تعمدها الاستعمار الفرنسي بالمحو والإِنْساء حتى كاد يفقدها بعد أن أفقده وسائلها من مال وعزة وفضائل.(5/250)
لا نخطط الخطوط لذلك التاريخ المرتقب، ولا نحدد الحدود لذلك المؤرخ ولا نقدم له صورة هينة، فذلك المؤرخ الذي أعدّه الله لهذه المنقبة لعلّه لم يولد بَعْدُ، وإنما الشرط فيه أن يكون جزائريًا، فإن كان ممن لفظتهم الأرحام قبيل هذه الثورة فذلك أكمل له، لأنه يكون قد فتح عينيه على ويلات الاستعمار في آخِرِ عمره بالوجود، وذاق- مهما يكن عمره- علقم الاستعمار في طور كلبه وسعاره، والوحش الضاري أشذ ما يكون عرامًا ووحشية وخبثًا حينما يوقن بقرب انتزاع اللقمة من بين شدقيْه.
لعمري لَئنْ وُجد هذا الكتاب التاريخي على النحو الذي أتصوره ليكُونَنَّ بدعًا في كتب التاريح كما كانت الثورة التي يؤرّخ لها بدعًا في الثورات، وإن أكبر أمنية من الأماني التي أتصورها أن تؤرخ الثورة الجزائرية على هذا النحو، وإنه لتاريخ لا يستمدّ مصادره الأولى إلّا من نفس الجزائري وعروبته وإسلامه، وشهامته وجدّه وصراحته وبساطته في فهم الحياة والأحياء، (ويا ليتني فيها جذع).(5/251)
صفحات مشرقة في تاريخ الثورات *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان:
سجلت الجزائر بثورتها التي سلخت فيها أربع سنوات وخمسة أشهر صفحات مشرقة في تاريخ الثورات، وستكون هذه الثورة يوم تنتهي إلى غايتها وهي تحرير الجزائر من دَرَن الاستعمار، ويوم يأذن التاريخ بتنسيق أحداثها وترتيب فصولها مرجعًا للجائرين يأخذون منه الزواجر عن ظلم المستضعفين ويعلمون أن لهم ربًا يبعث فيهم من القوى الروحية ما يفل الحديد ويطفئ النار، ومرجعًا للثائرين بالمعنيين لكلمة ثائر، يتعلم منه الثائرون والطالبون للثأر كيف يكون الثأر المنيم، ويتعلم منه الثائرون على العتوّ والطغيان كيف يرمونه بالمقعد المقيم، وكم للجزائر عند فرنسا الطاغية من ثارات وترات.
كانت ثورة الجزائر بدعًا من الثورات منذ كانت تقوم قبل أربع سنوات على ثلاثة آلاف مجاهد، متخذين بالقصد والفعل من جبال أوراس وغاباتها الغبياء وقممها الشوامخ ما يتخذه الأسد منها بالغريزة والإلهام، وكأنهم خلفوا عنها الأسود، يوم غابت عنها الأسود، إلى أن أصبح أولئك المجاهدون ثلاثين ألفًا متفرقين في عدة غابات في الأطلسين الأكبر والأصغر، إلى أن أصبحوا الآن مائة ألف مسلح أو يزيدون، وقد اتصلت أجزاؤها وأصبحت ترتبط بمخابرات آلية يقف المجاهدون بها على حركات الجيش الفرنسي، وبنظام من التجسس يؤدي إليهم نيات ذلك الجيش واتجاهاته وبقيادة منظمة تقوم بها طائفة من أبناء الجزائر الذين أدوا الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي، وجلبوا لفرنسا النصر في عدة مواقع، فكافأتهم بالكلام المعسول والوعد المعلول في أيام الحرب، ثم تنكرت لهم بعد خروجها من المأزق.
__________
* ملخص لمحاضرة ألقاها الشيخ في آخر الربع الأول من عام 1959، بجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.(5/252)
أيها الإخوان.
إن في الثورة الجزائرية المشتعلة نارها اليوم لمشابه من حروب الإسلام في فجر الإسلام، وإن في رجالها لخصائص من رجال تلك الحروب، فكم نصرت فيها الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، وكم نصر فيها العشرة على المئتين كما كان فرض القتال في أول الإسلام قبل النسخ، والنسخ ليس نقضًا للجبلة ولا محوًا لأثر الإيمان في القلوب المستعدة، ولا إطفاء لبشاشته حين تخالط النفوس، وإنما هو تخفيف ورحمة وتحديد لقيمة المؤمن في القتال وما يريد به على عدوه في الوزن الحسي، وأنه يساوي اثنين من عدوه، بحيث يحرم عليه الفرار منهما وتوليتهما الأدبار، ومعلوم في رأي العين أن المتقاتلين- وإن كانا يستويان أو يتقاربان في القوة الحسية- يتفاضلان في الدوافع الروحية والمعاني التي يتقاتل عليها الناس كالحمية للدين والدفاع عن الأحساب والأوطان والأعراض والأموال، واشرف هذه الدوافع وأعلاها عند المؤمن هو القتال لاعلاء كلمة الله، وإقامة الحق والعدل في الأرض، ومنذ ضيع المسلمون هذا المقصد الأعلى سلب الله منهم تلك الروح وثمراتها، وبعد أن كان المؤمن يرجو ثواب الله ويخشى عقابه في كل ما يأتي وما يذر وكان يقتحم الموت غير هيّب- اغتنامًا لرضى الله- فسدت فطرته وبعد عن ربه فوكله الله إلى قادة سوء من المسلمين في القرون الأولى وإلى قادة أولئك القادة من المستعمرين في القرون الأخيرة حتى صيروهم إلى ما ترون، وانتهى بهم هؤلاء القادة إلى هذا المسخ الذي تشهدون. قضوا على كل ما زرعه الإسلام فيهم من همم وعادات وحماية للحقائق وحفاظًا على الشرف، بل جردهم من الإدراك من معاني الشرف حتى أصبح الأخ يقاتل أخاه في سبيل عدوه ويمكّن لعدو وطنه في بلاده، ونحمد الله على أنه ابقى في نفس الجزائري لمحات من أخلاق سلفه، نامت طويلًا في نفسه ولكنها لم تمت، واستسرت حينًا ثم استعلنت في هذه الثورة لأمر يريده الله، ونالت الأحداث من جسمه وتحيّفت ماله ووطنه ولكنها لم تفضِ إلى مكمن الإيمان من نفسه.
والجزائريون في هذه الثورة يقاتلون الاستعمار، فيقتلون عدوين لدودين، يقتلون المستعمر ويقتلون معه طبع الذل والخنوع والخور والفسولة التي ركبت الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا، ويقتلون- مع ذلك- الخوف والجبن والرهبة وهي الخصال التي أودت بشهامة العربي وعزة المسلم وصلابة الشرقي ومكن كل ذلك للمستعمر أن يستغل عقولنا وأفكارنا وأوطاننا ويصيرنا خولًا خاضعين لسلطانه ولا خضوع البهائم.
أيها الإخوان:
الاستعمار كله رجس من عمل الشيطان، ولكن الاستعمار الفرنسي هو المثل الأسفل من أعمال الشياطين، وكأن الشيطان استعرض أتباعه وامتحن أشياعه، فوجد الجنس اللاتيني أخلص هؤلاء الأتباع في طاعته، وأطوعهم مقادًا في أمره ونهيه، وما يأمر إلّا بالفحشاء(5/253)
والمنكر، وما يربي تلاميذه إلّا على الأفحش والأنكر، فكانت فرنسا هي الصفوة المختارة في الشر وإنّي لأَعْلَم ان في الشرقيين من ينكر عليَّ هذا الحكم، ويجادلني فيه بالتي هي أخشن، ولو نضى عن نفسه ثوب الاغترار بمظاهرها، ورأى ما تفعله فرنسا المتمدنة العالمة المعلمة بإخوانه الآدميين في الجزائر لأقلع فورًا عن كل ما كان يعتقده فيها تقليدًا أو افتتانًا بمدنيتها الزائفة، واستغفر سبعين مرة في الدقيقة الواحدة من كل ما كان يضمره من الاحترام لها.
إن فرنسا لم تفعل بالجزائريين يوم احتلالها لوطنهم قبل قرن وربع قرن إلّا بعض ما فعلته بهم في هذه الثورة الأخيرة، فقد سجل الجنرال سنتارنو ( Saint-Arnaud) من قادة الاحتلال الفرنسي في رسائله ما كان يرتكبه الجنود الفرنسيون مع الجزائريين من موبقات تقشعر لها الجلود من تقتيل جماعي للأبرياء وإضرام النار في الكهوف التي يأوي إليها أولئك المساكين، حتى يموتوا حرقًا واختناقًا هم وأنعامهم، أما العسكريون الفرنسيون اليوم فإنهم أربوا على سلفهم وتفننوا في ارتكاب الجرائم مع العزل والنساء والأطفال، ما يخطر على قلب بشر، وقد استفاضت أخبار هذه الموبقات في العالم وعلم كل الناس كل حادثة في حينها حتى أصبح من اللغو إعادة الحديث عنها، ويا ليت الجيش الفرنسي العامل في الجزائر حين سلب الرحمة والإنسانية، ولم تبق فيه إلّا لذة القتل والتمتع بمناظر الدماء والأشلاء وتشنيف الأسماع بأنين الجرحى والمعذبين ... ليته إذ كان كذلك قتل القتل الوحيّ لا البطيء، وقتل من يحمل السلاح في وجهه، إذن لكان له بعض العذر، ومع هذه المواقف المخزية المجردة من معاني الإنسانية تقف هناك من وراء المحيط الأطلسي أمريكا تنصر الاستعمار وتؤازره وتقف منه الموقف الحالي، فلا يكاد يهدد الاستعمار الأوربي بالانهيار، وهدم الجدار حتى تهرع أمريكا إلى ترميم جدرانه التي هدمت وتوفير أظافره التي قلمت وعلاج أنيابه التي هتمت، وللشرق مع الاستعمار وأنصاره يوم لا تطلع شمسه.
أيها الإخوان:
إن إخوانكم يستنصروكم فعليكم النصر، وإنهم يقاتلون لأجلكم فاعرفوا لهم حقهم في هذا القتال، وإن مواقفهم المجيدة في هذه الثورة شرفتكم جميعًا، وإن نصرهم نصر لكم، وإن فشلهم محسوب عليكم، وإن الاستعمار عدو لكم جميعًا، وإنه إن انتصر فسيذيقكم عذاب الهون جميعًا.
أيها الإخوان:
لا تخطبوا للجزائريين فقد شبوا عن طوق الخطب، ولا تنشدوا لهم القصائد فعندهم ما هو أفصح منها. إن العضيد الطرير في يد الشاب الضرير لأفصح من كل خطيب لقد خطبنا فيهم يوم كانت لهم آذان تسمع للخطب والأشعار، لنغمز إباءهم ونستثير حميتهم فلما تأثروا ثم ثاروا نطقت البنادق وسكت الخطباء والشعراء. إن شعراء الجزائر وخطباءها الذين أفلتوا(5/254)
من عذاب فرنسا في سجونها ومعتقلاتها كلهم في الجبال قد شغلهم أخذ الثأر عن قول الأشعار. وجهوا خطبكم لهذه الجموع المقصرة، وللجماعات غير السامعة ولا المبصرة، إملأوا أيدي إخوانكم سلاحًا يملأوا تاريخكم محامد ومآثر ويملأوا قلوب أعدائكم رعبًا ورهبة، اكفوهم مؤونة الأيام يكفوكم مؤونة القتال ... إن بقايا الموت من أطفال ونساء وشيوخ عجّز قطع الموت كل ما بينهم من صلات، فهم هائمون مشردون وقد وصلت فلولهم إلى هذا الشرق. إن إخوانكم المجاهدين قد قاموا دونكم بواجب القتال وإنهم لا يحتاجون منكم عونًا من الرجال فقوموا لهم ببقية الواجبات.
إن المسألة ليست تكفين ميت وتجهيزه يقوم بها غني واحد، لا بل الأمر أعظم من ذلك: إنها ثورة التهمت الأخضر واليابس من جنود فرنسا وثروتها وأموالها المخزونة وأوقفتها على حافة الإفلاس، كما التهمت ثروة الجزائريين على تفاهتها. فالفلاحة والتجارة وهما كل ما يعتمد عليه الجزائري قد رمتها الجيوش الفرنسية بالنهب والاتلاف، وان أخوف ما نخافه على ثورة الجزائر هو أن يجوع الشعب الجزائري فقفوا عند هذه النقطة واقرأوا لها ألف حساب إنكم أيها العرب والمسلمون من ورائكم تنالون القسط الأوفر من غنم هذه الثورة فما لكم لا تشاركون بكل ما تملكون في غرمها؟ الآن وجب حق الأخ على أخيه ... ان الأرحام تشابكت وتعددت بينكم، فالعربي أخو العربي في الدم والجنس، والمستضعف أخو المستضعف بالذل والاستكانة، والمظلوم أخو المظلوم، والافريقي المضطهد أخو الافريقي المضطهد والشرقي أخو الشرقي، ومن حسنات الاستعمار- ان كان الشر يريد الخير- انه طوانا في ملاءة واحدة، ومسنا بعذاب واحد، وأذاقنا ظلمًا متشابهًا، وإن فينا لقوة، وإن عددنا ليربو على عددهم وقد تلاقينا على ظلمه، فلماذا لا نتلاقى على التخلص منه؟
إن الأمر جد فجدوا، وإن العدو مستعد فاستعدوا.
أيها الإخوة: إن إخوانكم الجزائريين لا يعتمدون قليلًا ولا كثيرًا على هذه المؤسسات الكاذبة المتحدة على الضلال، ولا على هذه الألفاظ التي تلوكها الألسنة المقطوعة الصلة بالقلوب من حقوق الإنسان وحقّ تقرير المصير، فإنّ هذه الألفاظ كلها من أكاذيب الاستعمار لينوِّم بها الشعور ولِيُلْهِيَنَا بها إلى حين. إن الجزائريين يقاتلون فرنسا على ما سامتهم من أنواع العذاب، وسلاحهم الوحيد هو إيمانهم بالله ناصِر المستضعفين وقامِع الطغاة ومُذِلّ الجبابرة. وإنهم إنما يقاتلون لأجلكم، ويضحّون بالأهل والأبناء انتصارًا للعروبة وللإسلام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(5/255)
محمد العيد *
النهضة العربية في الجزائر بجميع فروعها، وفي مقدّمتها نهضة الأدب العربي، وليدة الخمس الثاني من هذا القرن الميلادي، وقد سبقتها إرهاصات وتباشير كلها لم تسبق ابتداء هذا القرن، وسبقها كذلك تقدّم مشهود في عربية القواعد، اضطلع به نفر استطاعوا بوسائلهم الخاصة أن ينفلتوا من الحواجز التي وضعها الاستعمار الفرنسي عن قصد في سبيل التعليم العربي، فنفرت طائفة قليلة منهم إلى مصر، ورجعت بزاد من القواعد العربية وسعت به مداها في ذلك القطر المرزوء في جميع مقوّماته ومنها اللسان العربي، ونفرت طائفة أخرى كثيرة العدد إلى جامع الزيتونة بتونس وأخذت العلوم العربية على أمثال الشيخ محمد بن يوسف والشيخ النخلي- رحمهما الله- والشيخ محمد الطاهر بن عاشور مدّ الله في حياته، وكانت دروس هذا الأخير هي الإشراقة الأولى في جامع الزيتونة للأدب العربي بمفهومه الصحيح في عصرنا هذا، وتجلّى ذلك في عكوفه على درس ديوان الحماسة بشرح المرزوقي، فقد كانت تلك الدروس منبّهة لطلاب الزيتونة الذين كانوا يفنون أعمارهم في تكرار قواعد النحو والصرف من دون أن يتبّوأ واحد منهم درجة مرموقة في الأدب. وقد عاصر الشيخ بن عاشور عالمًا أزهريًا ندين له بالفضل في إحياء الأدب العربي بالأزهر، وهو الشيخ المرصفي، بدرسه لكتاب الكامل للمبرد، والأزهر والزيتونة متقاربان في مناهج التعليم وأساليب الدراسة، والكتب المقرّرة فيهما تكاد تكون واحدة.
...
__________
* تصدير لكتاب أبي القاسم سعد الله، "محمد العيد آل خليفة: رائد الشعر الجزائري في العصر الحديث"، دار المعارف، القاهرة، 1961.(5/256)
حمل أولئك النفر من مصر ومن تونس إلى الجزائر قبسًا خافتًا من الأدب العربي، ولكنه كان كافيًا في تحريك القرائح والأذهان، وقارن ذلك أو سبقه بقليل وصول الآثار الأدبية الجديدة من شعراء الشرق المجلّين، وعرفت الجزائر شعر شوقي وحافظ ومطران والرصافي، وما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى كانت تلك الموثّرات المختلفة الموارد قد فعلت فعلها في نفوس الناشئة التي هي طلائع النهضة الأدبية، وشعرت الجزائر بعروبتها الأصيلة التي كانت كامنة كالنار في الحجر، والتمست القائد الملهم الذي ينفخ من روحه القوية في تلك البذرة لتخرج شطأها فتورق فتزهر أو تثمر فوجدته مهيّأ في شخص الأستاذ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله-، فاضطلع بقيادة تلك النهضة إلى أن أصبحت كاملة في الأدب والعلم والسياسة، وكانت هذه الفروع سائقًا بعضها إلى بعض، لأن ضرورة الوطن تستدعي سيرها في طريق واحد، وكان مظهرها الأعلى وعنوانها الأجلى جمعية العلماء، فهي التي جمعت الشتات، وأحيت الْمَوَات، وحدّدت المبادئ، ووفّرت الوسائل للقوادم المستعدة أن تطير وتحلّق، وللأفكار المقيّدة أن تبحث وتتعمّق، وبدأت النهضة الأدبية تسابق الإصلاح الديني وتغذّيه، وفي هذا الجو ظهر محمد العيد آل خليفة متأثّرًا بالنهضة ومؤثّرًا فيها.
...
محمد العيد آل خليفة أول شاعر تشظت عنه صَدَفَةُ النهضة في الجزائر، وشعره أول شعر حي رافق النهضة العامة وحدا قوافلها المغذة فأَطْرَب، وأول شعر جرى في عنانها وسجّل مراحلها، وهذه الدراسة التي نقدّمها للقرّاء اليوم هي أول دراسة يقدّمها شاب جزائري عن شاعر جزائري. فشعر محمد العيد، وجمعه في ديوان، وطبعه، ودراسته، ونقده كلها بواكير من الأدب العربي في الجزائر ... ونقول إن هذه الأشياء كلها بواكير لننبّه إلى أن مع البواكير عذرها في عدم النضج وعدم الكمال، فنمهّد للاعتذار عما يوجد في بواكيرنا من نقص وعدم شمول في البحث، وعدم تفقّه في الاستدلال.
ذلك أن النهضة الجزائرية المتعدّدة النواحي كانت أكبر من القائمين بها، فهي متشعّبة، والقوّامون عليها بجدّ وصدق نفر قليل، وكانت تتقاضاهم أن يهدموا ويرفعوا الأنقاض، ويبنوا ويشيّدوا ويعمروا ويربّوا ويعلّموا، كل ذلك في آن واحد، وأن يحاربوا عدّة أعداء في عدة ميادين: يحاربون الاستعمار، ويحاربون التدجيل في الدين، والضلال في العقائد، ويحاربون الإلحاد، كل ذلك مع قلّة الأنصار وقلّة المال، ولولا فضل الله عليهم ورحمته وصدق وعده معهم، لما جروا في هذه الميادين خطوة.(5/257)
لهذه الأعباء التي لا يعرفها إلا من حملها، لم يتفرّغوا للكتابة والتدوين، ولا اتسع المجال لتلامذتهم أن يكتبوا ويدوّنوا، فقلّ الإنتاج الأدبي، بقدر ما جلت الآثار الصالحة في نفوس الشعب.
...
كاتب هذه الدراسة هو الأستاذ أبو القاسم سعد الله، أحد أبناء الجزائر البررة الناشئين في ظلّ نهضتها الحاضرة، تلقّى العلم بجامع الزيتونة، ثم رحل إلى مصر ضمن البعثات التي تفتّقت عنها النهضة العربية، وأكمل تعليمه في كلية دار العلوم إلى أن حصل على شهادة "الليسانس" في الأدب العربي، ثم رحل في هذه السنة إلى أمريكا ليتخصّص في آداب اللغة الانكليزية الأمريكية، وهو مشغوف إلى حد الافتتان بالبحث عن الآثار الأدبية والعلمية لعلماء الجزائر في جميع العصور.
وهذه الدراسة لشعر محمد العيد محاولة أولى، نلمح فيها آثار الجهد الذي بذله الكاتب في استخراج طبيعة الشاعر ونوازعه النفسية من شعره، والحكم على الشاعر من شعره وعلى العالم من آثاره العلمية، هو أقرب الطرق إلى الصدق والمعدلة، فإذا رزق الدارس حظًّا من دقّة الملاحظة وسداد الاستنباط بلغت دراسته الغاية التي يتوخّاها الدارسون ويرضى عنها المنصفون.
وقارئ هذه الدراسة قد يحكم لأول وهلة بأن صاحبها يكتب عن شاعر من الغابرين، والواقع أن محمد العيد وكاتب الدراسة جزائريان متعاصران، بل هما من بلد واحد، وإن كان الشاعر أسن وأسبق في الرحلة لطلب العلم بتونس، فلم يجمعهما زمان طلب العلم ولا مكانه، وإنما اجتمعا اجتماعًا خاطفًا لا يثمر صداقة ولا امتزاجًا، ورحم الله أسلافنا الذين كانوا يحرصون أشدّ الحرص على اللقى والسماع والرواية، ويتلقفون الكتاب والفائدة والنكتة والديوان اوالقصيدة والبيت المفرد بالسماع من المؤلّف أو الشاعر، ويتباهون بذلك ويرحلون لتحصيله من بلد إلى بلد، ولو سلكنا سبيلهم لما تردّد الأستاذ سعد الله في بعض أحكامه، كتردّده في أن الشاعر يحسن لغة أجنبية أو لا ...
إن الحكم على شعر شاعر أو له يتوقف على الإحاطة به حتى تكون الصورة كاملة أمام الدارس، وشعر محمد العيد لم يجمع كله، وإنما جمع الشاعر منه جزءًا، وزدنا نحن بمعونة الأستاذ سعد الله عدة قصائد التمسناها في بعض الجرائد والمجلات الجزائرية الموجودة بدار الكتب المصرية، لأن الثورة الجزائرية قد قطعت ما بيننا وبين الجزائر من صلات، وإن شبابنا الواعي الكاتب الدارس المتطلع كان أول مستجيب لداعي الثورة وهجر الأقلام إلى(5/258)
البنادق، ومات أكثره في وقائعها. ويوم يحيا وطنهم بموتهم ويعيش من قدّرت له الحياة منهم ستتصل هذه الأبحاث الأدبية وتمدّ مدّها، ويومئذ تتعدّد الدراسات لشعر محمد العيد، ويجمع الجمع الشامل، ثم لا يبخس تاريخ الأدب الجزائري الأستاذ سعد الله حظّه من التقدير لدراسته التي خطا بها الخطوة الأولى في هذا الباب في وقت سُدَّت فيه جميع الأبواب، ويومئذ يكمل الأستاذ سعد الله دراسته هذه، ويزيد فيها فصلًا عنوانه "شعره في الثورة".
إن لمحمد العيد دعوات صارخة إلى الثورة، في الوقت الذي كانت فيه كلمة الثورة بلفظها المفرد كافية لنزول العقاب الأليم بلافظها قبل أن يتمّ تركيب الجملة، ويقيننا أنه لا يسكت بعد أن رأى بعينه مواقف الأبطال وأسود النزال، وسمع دمدمة البنادق من حماة الحقائق.
نحن نهنئ الأستاذ سعد الله بتوفيقه في هذه الدراسة التي سدّد فيها وقارب، ونشكره على خدمته لوطنه بهذه النزعة التي تلحقه بالمجاهدين الأبرار وندعو له بالتوفيق لمواصلة هذه الدراسات النافعة وتقديمها لذلك الشعب المؤمن الصابر الذي ملأ بثورته الدنيا دويًّا، وسلك إلى الحياة طريق الموت فسلك صراطًا سويًّا.(5/259)
إلى مؤتمر التعريب بالرباط *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلتني دعوة الأخ العربي المحترم، وزبر التربية الوطنية في المملكة المغربية للحضور في مؤتمر التعريب، ولكن الدعوة لم تصلني إلا يوم 24 مارس بحيث لم يبق على موعد انعقاد المؤتمر إلا نحو أسبوع، وبلغتني الرسالة وأنا ملازم للفراش من مرض أقعدني عن العمل مدة أربع سنوات، فلم أستطع السفر البعيد وأنا على هذه الحالة، ولم أستطع كتابة بحث مفصّل للمؤتمر في بعض ما يتناوله من بحوث في موضوع التعريب، فقلت في نفسي:
هلا واللسان بليل والقلم له صليل، والجسم لا واهن ولا كليل، وقلت لنفسي: وما حاجتنا إلى التعريب ونحن عرب؟ فقالت لي: ما أحوجكم إلى من يطبعكم طبعًا عربيًّا منقّحًا مصحّحًا، بعد أن طبعكم الاستعمار هذه الطبعة المشوّهة الزائفة، ولكني تحاملت وكتبت هذه الكلمات المتهافتة، تتضمن ما أبقته الأيام في ذهني من معان متخافتة.
والتعريب جعل الشيء عربيًّا سواء كان معنى أو مادة، أو إنسانًا، وقد طمعت فيه مخلوقات كثيرة حتى الاستعمار الذي هو معنى من معاني الوحشية ولكنه لبس لفظًا جميلًا من لغتنا ليغرّنا به، فهي تسمية بالضدّ كما سمّوا المهلكة مفازة، واللديغ سليمًا. ولو كنا ممن يغار على لغته أن يدخلها الدخيل من الألفاظ والمعاني لما تركنا هذه الكلمة تجول في لهواتنا، ولأطلقنا عليه اسمه الحقيقي وهو التخريب، إذ لا يوجد في العربية "استخراب" وهو في حقيقة معناه نظام أملاه الشيطان على أوليائه، وأوحى إليهم تفسيره العلمي منتزعًا من طبيعته التي عاهد ربّه عليها بعد خروجه من الجنة، وحدّد لهم حدوده الستة بعلامات اسمها: الشرّ، والمنكر، والظلم، والعلوّ، والفساد، والفحشاء، والتخريب، والأثرة، والغرور، والفتك، والسفك، والافك، والانتهاك.
__________
* رسالة إلى مؤتمر التعرب الذي انعقد بالرباط عام 1961.(5/260)
ما حلّ الاستعمار بقوم إلا ساء صباحهم وعلا نواحهم، ولا حلّ بأرض إلا أباد خضراءها واحتجن أرزاقها، واحتنك أقواتها، واستعبد أهلها، واستباح حرماتها، وأخنى على مقوّماتها الحسّية والمعنوية، وكل هذا شيء مشهور أصبح الحديث عنه ضربًا من العبث ومضيعة للوقت، خصوصًا بعد أن أدبرت أيامه ونكست أعلامه في أغلب بقاع الأرض التي عاث فيها فسادًا، وملأها فجورًا وفواحش.
إن من أخصّ خصائص الاستعمار التي يبني عليها أمره قضاءه على المقوّمات الحيوية للأمم التي يلتهمها، فيبتليها بالضعف والوهن، وأسباب الموت البطيء أو الوحيّ. يريك أنه محافظ على مقوّماتك محترم لها، ويحلف على ذلك مُحرِجات الأيمان في الوقت الذي هو عامل على هدمها، وإتيان بنيانها من القواعد.
يبدأ بالوطن فينتزعه من أهله بالقوّة ثم يأتي بفلول من فقراء، أو وحوش وطنه الأصلي فيحلّهم محلّ أصحاب الوطن الأصليين، ويورثهم أرضهم وديارهم ثم يمتص أموال
الأغنياء المستعبدين بطرق شتّى آخرها فرض المغارم الثقيلة على كل بالغ وعلى داره التي يسكنها ولو كانت كوخًا، ثم على كل رأس من الحيوانات التي يملكها حتى الكلاب، وعلى كل حرفة يمارسها ويعيش العيش المقتر مما تفيء عليه، ثم ينتقل للجنس الذي يعتزّ المستعمر (بفتح الميم) بالانتساب إليه فيتجاهر بتنقصه واحتقاره وطمس مفاخره بجميع الوسائل، ويتعمّد محو تاريخه المدوّن وتجريح شواهده، وإلصاق جميع النقائص به، ثم ينتقل إلى الدين فيبتليه باحتكار وسائل حياته من أوقاف وغيرها ويضع يده على رجاله ويضيق في إقامة شعائره، ويغزوه بالمبشرين المتعصبين ثم ينتقل إلى اللغة- وهي المقوّم الأعظم للأمم- فيرميها بالتهوين والتوهين، ويحرّم تعليمها إلا بإذنه، ويثقلها بالقرارات والقوانين الجائرة حتى يصير تعليم القدر التافه منها شبه مستحيل، ثم يكاثرها بالرطانات الأوربية الجليبة فيفسح لها المجال ويمنحها العطف والرعاية لأنها لغة "الأسياد" ...
هذا إيجاز لوصف الاستعمار على عمومه ولموقفه من مقوّمات الأمم التي تبتلى به.
والآن ننفث زفرات حارة من استعمار واحد بلوناه وعرفناه عرفان اليقين وهو الاستعمار الفرنسي، في وطن واحد هو الشمال الافريقي، في مقومّ واحد وهو اللغة العربية.
كان للاستعمار الفرنسي عند اللسان العربي تِرَاتٌ وطوائل، فهو لا يزال يجهد جهده في محوه واستئصاله من الألسنة، وقد ارتكب جميع الوسائل الموبقة لمحوه من الجزائر، أما مراكش وتونس فلولا مكان القرويين في الأولى، والزيتونة في الثانية، لفعل بالعربية فيهما كل ما فاته فعله معها في الجزائر، وما فاته إلا القليل، وإن له لبرامج محضّرة يدّخرها لوقت الحاجة، فما فاته في بعض الأوطان، أو كان من المصلحة تنفيذه مطاولة، لا يفوته تنفيذه في(5/261)
وطن آخر مغافصة وبدون تردّد، وأبرز مثال لذلك: قضية الظهير البربري المشؤوم، فقد كان من المقرّر عنده تنفيذه في الجزائر مطاولة، فلما لم يستطع تنفيذه لأسباب، نفذه في المغرب الأقصى حتى محاه الاستقلال، كما محت قريش صحيفة القطيعة، وقد بلغ غضب الاستعمار الفرنسي على اللسان العربي في الجزائر أن أصدر أحد رؤساء حكومة فرنسا وهو "شوطان" ( Chautemps) قرارين عجيبين في شأنه في يوم واحد: الأول عطّل به جريدة من جرائد جمعية العلماء العربية، وختمه بما معناه: إن كل جريدة تصدرها جمعية العلماء في الجزائر باللغة العربية في المستقبل فهي معطّلة سلفًا، من دون احتياج إلى إصدار قرار بالتعطيل، والثاني حكم بأن اللغة العربية في الجزائر تعتبر لغة أجنبية لا يجوز تعلّمها ولا تعليمها إلا بإذن خاص من الحكومة الاستعمارية، هذا والشعب الجزائري شعب عربي صميم، ولنترك لرجال القانون الحكم على هذين القرارين.
وقد وصلت فرنسا إلى بعض غاياتها في بعض أبنائنا الذين حصلوا حظًا من الفرنسية في كل من تونس والجزائر والمغرب الأقصى، فأصبحوا يعتقدون أنها قاصرة عن أداء المعاني العالية في الفلسفة وجميع العلوم العقلية والنفسية والصناعية يلوون ألسنتهم بهذا في مجالسهم الخاصة والعامة، ويلوح لسامعيهم أن أحاديثهم تشفّ عن إعجاب بالفرنسية وتعريض بالعربية، وإن هذا وحده لغميزة في عروبتهم ووطنيتهم ودينهم، وإن هذا لشر آثار الاستعمار في النفوس وأفتك أسلحته في أجيالنا الناشئة في ظل سيطرته منذ طراوة العود، والواقعة تحت وسوسته وسحره، وإن الذنب لذنب المجتمع الذي لم يأخذ بأسباب الحيطة لأبنائه وذنب الحكومتين التونسية والمراكشية اللتين لم تحتاطا للغة الأمّة ودينها، أما الجزائر، فاحمدوا الله على أن وصلتكم منها هذه الأشلاء الممزقة من العربية، وهذه الصورة الجافة من الدين.
والآن وقد تقلّص ظلّ الاستعمار الفرنسي أو كاد بعد أن ترك فينا ندوبًا يعسر محوها، فماذا أعددنا لعلاج الندوب التي تركها في مجتمعنا؟ وماذا ادّخرنا لعهد الاستقلال السعيد إذا أردنا أن يكون استقلالًا حقيقيًّا لا شبهة فيه، وماذا هيّأنا من الأشفية للداء العضال الكامن في بعض النفوس، وهو الحنين إلى أبغض العهود إلينا، وهو عهد الاستعمار الفرنسي؟ التجارب تدلّ على أنها ستبقى فينا بقية غير صالحة تحمل ألسنة تحن إلى اللغة الفرنسية، وتختار مخرج الغين الباريسية على مخرج الراء العدنانية، وتتمنّى عاهة واصل بن عطاء لتستريح من النطق بالراء، وأفئدة "هواء" تحن إلى فنون فرنسا وفتونها، وعقول جوفاء تحنّ إلى التفكير على النمط الفرنسي، ونفوس صغيرة تحن إلى حكمها الذي يرفع الأذناب على الرؤوس وهمم دنية تحن إلى حمايتها المبسوطة على الرذائل والشهوات الحيوانية والغرائز الدنيا، فقد كان حكمها في الجزائر يحمي السكير بدعوى أنه حرّ، ويعاقب معلم العربية بالسجن والتغريم بدعوى أنه مجرم ثائر على القانون.(5/262)
أيها الإخوان المؤتمرون:
إن مؤتمركم هذا لم يعقد لتضميد جميع الجراح التي أبقاها الاستعمار فينا، فهي كثيرة، وعهدنا بالصحو من خُمار الاستعمار قريب، وقد ترك فينا ما يشبه الشلل في أعضاء العمل وسيضطرنا الحال إلى عقد مؤتمرات عديدة، في فترات متقاربة لمعالجة بقية الجراح، فلنرتّبها بحسب الأهمية، حتى لا يضيع الوقت والجهد والمال، ولعلّ من إلهام الخير وبوادر التوفيق أن نبدأ بمعالجة التعريب الذي هو أكبر شعار للاستقلال، وهيهات أن يتحرّر شعب ولسانه مستعبد للغة أجنبية، أو يتحرّر شعب متنكّر للسانه، فاستقلال العرب لا يتمّ تمامه إلا بتعرب ألسنتهم وأفكارهم وهممهم وذممهم، إلى آخر ما للعرب من صفات وأخلاق.
أيها الإخوان:
التعريب نوعان: نوع جزئي ونوع كلّي، فالتعريب الجزئي هو تعريب الألسنة والأقلام وآثارهما من خطابة وكتابة، ويدخل فيه تعريب الدروس التعليمية، والثاني يشمل هذا، ويشمل التخلّق بأخلاق العرب والتحلّي بكل ما اشتهر عنهم من محامد وفضائل، ويظهر مما وصلني من جدول أعمالكم أنكم تقصدون الأوّل، فلنجرِ معكم في هذا العنان، ولنعرب ما استطعنا من الألفاظ، والمصطلحات، والتعليم، وكتبه، وأساليبه، ولغته، ولننقح على قدر الإمكان، ولنكل بقية التصفية والغربلة للزمن، فإننا اليوم في وقت ضرورة تتقاضانا الاستعجال في كل شيء، وليس المستعجل كالمتأني، ولنطهر لغتنا من أوضار الاستعمار ولغاته، ولا ندع أجيالنا الناشئة تنشأ على اعتقاد ناقص في لغتها، بل نتحيّل لها في جلب معاني الاعتزاز بها، ونغرس فيها معاني التمجيد لها. ولسنا بدعًا في هذا النوع من التعريب، فقد سبقنا إليه إخواننا في الشرق العربي، وكان أسبقهم إليه وأسرعهم خطى فيه إخواننا السوريون، فما خرجوا من التسلط التركي حتى كانت كتب التربية والتعليم على اختلاف فروعه جاهزة باللسان العربي، وكذلك كتب الطب والصيدلة والحقوق ومصطلحاتها، وكانت الجهود التي قامت بذلك جهودًا فردية، وما تمّ أسبوع على الجلاء التركي حتى ظهرت كتب عربية موضوعة ومترجمة في التعليم بجميع مراحله، وللسوريين إلى الآن نشاط محمود في هذا الميدان ولصديقنا الدكتور أحمد حمدي الخياط شيخ المتخصصين في التحليلات الكيماوية طريقة معروفة هو فيها نسيج وحده، فهو يأبى أن يكتب كلمة غير عربية في الفرع الطبّي الذي هو من اختصاصه، وقد سمعت منه مرّات أن العربية تتسع لدقائق الطب الذي برع فيه العرب، إذا استثنينا كلمات قليلة يونانية أو فارسية أدخلها الفارابي وابن سينا من ميراثهما الفارسي.
ومصر- وما أدراكم ما مصر- فقد كان لكتابها ولمجمعها اللغوي آثار مشهورة في تعريب الألفاظ والمصطلحات العلمية، وكان لعلمائها البارزين- كثّر الله عددهم- أياد على العربية بما وسّعوا من آفاقها، وما نموا من ثرواتها.(5/263)
فهؤلاء الإخوان هم السابقون الأولون في هذا الميدان، فلنأخذ عنهم ولنقلّدهم ولنتّبع خطواتهم في التعريب من غير أن نقصر التقصير الشائن، أو نندفع الاندفاع المتهوّر أو نتبعهم في ما أخطأوا فيه، أو نتساهل في ما تساهلوا فيه، فإن المتأخر متعقب، وعسى أن يرزقنا الله صوابًا نكون به قدوة لمن بعدنا، ومرجعًا لمن سبقنا، فإن الحق لا يتقيّد بزمان ولا بوطن.
أيها الإخوان المؤتمرون:
هذا كله في التعريب المستعجل، كالتهنئة التي تقدّم للضيف قبل حضور القِرَى، أما ما يلزم بعد هذا من إعداد واستعداد، فيلقى كله على كاهل المدرسة الابتدائية وتلامذتها، فالألف المهملة التي يلغو بها صبياننا في كتاتيبهم وأكواخهم وملاعبهم هي مفتاح التعريب الواسع.
يجب في هذا المضمار أن تتلاقى الجهود على تعريب المدرسة الابتدائية وتعريب أبنائها، وتعريب التعليم، وتوحيد أساليبه، وكتبه، في جميع المراحل طبقًا للروح العربية، وانتقاء الكتب هو أساس التعريب، وخصوصًا في المرحلة الابتدائية التي هي مرحلة التكوين اللغوي، ويجب إدخال متن اللغة في هذه المرحلة على طريقة ابن سيده في "كتاب المخصّص"، وصوره المصغّرة ككتاب "كفاية المتحفظ" للاجدابي، و"الألفاظ الكتابية" للهمداني، وطريقة ابن سيده هي ترتيب الألفاظ اللغوية على المعاني لا على الحروف الهجائية، وأحسن كتب الدراسة للصغار هما: "كفاية المتحفظ"، و"الألفاظ الكتابية"، يبدأ التلميذ في معرفة أسماء أعضاء جسمه في اللغة الفصيحة ومعرفة ما هو منسوب إليها من الأعمال، وكل ما هو متصل بها، ثم يتدرج إلى معرفة الأشياء المتصلة به مما يقع تحت نظره ويدخل في تصرفاته اليومية، فلا ينتهي من هذه المرحلة إلا وهو حافظ لجزء كبير من اللغة، ومحسن للتصرف فيه من دراسته "للألفاظ الكتابية" للهمداني، وأنا لا أعني الكتابين بعينهما، بل يجب أن تؤلّف لهذه المرحلة كتب لغوية صغيرة، على غرار الكتابين اللذين مثّلت بهما، إذ هما من أثمن ما ترك لنا سلفنا من الكتب الموضوعة لتربية ملكة اللغة العربية في الصغار، وتقرّب انطباعهم على لغتهم من طريق سهل طبيعي لا عوج فيه، ويجب حمل التلامذة على التكلّم بالعربية الفصحى ما داموا في المدرسة، وتدريجهم على الكلمات السهلة، ثم الجمل الفصيحة، ثم التراكيب الجارية على القوانين العربية، فلا يجاوزون مرحلة التعليم الابتدائي إلا وهم عرب "صغار". ومن الحكمة في هذه المرحلة أَلَّا ينطق المعلمون أمامهم بكلمة أعجمية حتى لا تخدش ملكاتهم، فإن كلمة واحدة قد تفسد كل عمل.
ومن العجيب أن التعليم الأوربي اليوم يسلك في تعليم اللغات مسلكًا قريبًا من طريقة الاجدابى والهمداني.(5/264)
ثم تأتي المرحلة الثانوية تتوسّع لهم في القواعد والتراكيب التي تقوّي ملكاتهم وتنفيها، ونتساهل قليلًا في إدخال الألفاظ الأعجمية في علوم الطب والكيمياء وسائر العلوم الكونية الداخلة في منهاج التعليم الثانوي، إن كانت تلك الألفاظ اصطلاحية عامة وضرورية، وليس لها مرادف عربي، أو تفسّر لهم بما يقاربها ولو بجمل، وأن يمرّنوا على الخطابة ويكلّفوا بإلقاء محاضرات قصيرة تنتقَى لها الألفاظ والتراكيب، وأن تفرض عليهم مطالعة كتب مختارة فصيحة، بليغة، سهلة، لترسخ فيهم الملكة العربية، وألا تكثر لهم حصص اللغات الأجنبية حتى لا تتصادم اللغات في أذهانهم فينشأوا ضعافًا في الكل، فيبنغي أن نفهم نحن ويفهم أبناؤنا أن اللغة العربية هي رأس المال الذي تجب المحافظة عليه، وأن اللغات الأجنبية هي ربح فلا تعطى من العناية ولا من الوقت إلا ما لا يزاحم لغتنا الأصيلة، ولا يبتليها بالضعف، ولا يمسّ قدسيتها عندنا.
ثم تأتي مرحلة التعليم العالي فتكون الملكة العربية قد استحكمت في التلميذ وتمّ "تعريبه" على أكمل وجه، فإذا توسّع في اللغات الأجنبية فلا يخشى عليه انتكاس ولا تراجع، ولا استعجام، لأن لسانه أصبح عربيًّا، يؤيّده فكر عربي، وعقل عربي، فلا تزاحمه لغة أخرى مهما توسّع في أصولها وفروعها، ولأن أفكاره وتصوّراته الذهنية أصبحت كلها عربية، يملك تصويرها والتعبير عنها باللغة العربية بسهولة. وإن هذا هو موضع الخطر على أبنائنا المتعلمين بلغة أجنبية من غير أن يسبق لهم إلمام بلغتهم. ذلك أنهم يحملون في أنفسهم، ككل البشر، تصوّرات ومعاني كثيرة وحقائق علمية وتخيلات ذهنية، ولا يستطيعون بيانها والتعبير عنها بلغتهم العربية في حال أنهم يستطيعون التعبير عنها باللغة الأجنبية التي يتقنونها، فأدّت بهم هذه الحالة بالتدريج إلى كراهية العربية، وانتهت بهم إلى بغضها، ثم إلى الحقد عليها واتهامها بأنها لغة قاصرة، ضعيفة، أو ميتة، لا تستطيع أن تزاحم اللغات، أو تقوى على حمل الحضارات، ثم تنتهي بهم هذه الحالة إلى الانسلاخ من العروبة، وإلى احتقار الدين الذي تترجم عنه هذه اللغة، وذلك هو الضلال البعيد، وفاتهم أن هذه العيوب التي نحلوها للعربية هي بريئة منها، وأن العيب فيهم وحدهم إذ لم يتعلّموا لغتهم، ولم يفقهوا أسرارها ولم يتذوّقوا بيانها، ومن جهل شيئًا عاداه.
وبتعريب المدرسة من الكتّاب إلى الجامعة، وتعريب التعليم من المعلّم إلى الكتاب نكون قد عرّبنا جماعة تقوم بتعريب الجماعات وتعريب الاجتماع وتعريب البيوت، وإن أكبر عقبة تلقانا في هذا الطور هي تعريب المعلم، فيجب أن نحتاط لها وألا نكل تعريب أبنائنا إلى معلم غير معرّب، ونحن نتوقع أن نقع في هذه النقطة في ما يشبه الدَّوَرْ، ولكننا نستطيع الانفكاك عنه بحزم الحكومات، وإدرار النفقات. فعلى الحكومة وعلى وزارة المعارف المختصة أن تبدأ هذه المرحلة بتأليف الكتب الابتدائية ووضعها على ما يوافق مناهج(5/265)
التعريب، وتطبعها، وتأخذ العهد على معلمي هذا الطور أن يلتزموا ما في تلك الكتب ولا يخرجوا عنها يمينًا ولا شمالًا، فالمعلم مهما كان ناقص التعريب يستطيع الاهتداء بالكتاب الكامل، والصعوبات إنما تعترضنا في تعريب الجيل الأول، فلا بدّ لنا من الصبر الطويل، والحزم الحازم، والحكمة الحكيمة، لنتغلّب على جميع الصعوبات، ونجتاز جميع العقبات، ولا تُبتنى الراحة إلا على التعب.
وأما النوع الكلّي من التعريب، هو التعريب الشامل النافع، وهو غاية الغايات لكل عامل مخلص للعروبة. فلا يتمّ تمامه بالعلم وحده، وإن بلغنا فيه عنان السماء، فالعلم وحده لا يفيد إذا لم تصحبه في كل خطوة تربية نفسية على شمائل العرب وهممهم، وبطولتهم، ووفائهم، وصدقهم في القول، والعمل والحال، وتضحيتهم، وإبائهم، وإيثارهم، وكرمهم، وشجاعتهم، واحسابهم، وقد قال تعالى في وظيفة الرسول: {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}.
فقدّم التزكية التي هي التربية على تعليم الكتابة والعلم، وهذا النوع من التعليم الكلّي يجب أن تقوم به جماعات من خطباء المساجد ومن الوعّاظ، ومن حملة الأقلام العربية المسلمة، فيتواطأوا جميعًا على نغمة واحدة وهي أن الإسلام عرّب جميع معتنقيه بالانتساب إليه، وأن كل من تكلّم العربية فهو عربي، وأن العربي لا يكون عربيًّا حتى يكون فيه كل ما أُثِر عن العرب من شمائل وأخلاق.
إذا تمّ لنا التعريب بنوعيه الجزئي والكلّي، نكون قد حصلنا على نتيجة عجز عنها من قبلنا من الدعاة المصلحين، وأدّينا حق الله وحق دينه وحق العروبة على أكمل وجه، وقمنا بالأمانة والعهد كما أمر الله، ومهّدنا للقومية العربية الكاملة بإزاحة العقبات من سبيلها، وجمعنا ما فرّقت السياسة والسياسيون منا ومن الأجانب وأنفهم راغم، وأصبحنا بهذا التعريب الشامل إذا طلبنا معلّمًا وجدناه عربي اللسان والشمائل والهمم والأخلاق قبل أن نجد فيه معلّمًا، وإذا طلبنا خطيبًا واعظًا وجدناه كذلك قبل أن نجد فيه الخطيب، وإذا طلبنا طبيبًا أو صيدليًّا أو محاميًا أو فنانًا أو قاضيًا أو جنديًّا أو شرطيًّا أو غيرهم، ممن تقوم بهم مصلحتنا العامة، وجدناهم عربًا بلسانهم، وشمائلهم، وأخلاقهم، وهممهم قبل أن نجد فيهم الموظف الشخص.
نحن معشر العرب أصبحنا في حاجة ملحّة إلى التعريب في كل علائقنا بالحياة، فنحن في حاجة إلى تعريب ألسنتنا وأفكارنا وعقولنا وأذهاننا وتصوّراتنا، وأكاد أقول ولباسنا ونعالنا وأساليب معاشنا، وهيئات أكلنا وشربنا ونومنا، وأثاث بيوتنا، فقد عمّ حياتنا كلها المسخ والقلب، ورمانا الاستعمار بالناقرة وهي فساد الأخلاق فينا، فلم يبقَ من سمات العرب شيئًا إلا توافه ودعاوى على الألسنة.(5/266)
أيها الإخوان المؤتمرون:
إنكم بعملكم هذا تقومون بواجب عن جميع أقطار العروبة، فاعملوا وأَتْقِنُوا، واصبروا وشدّوا عزائمكم، واقرنوا الأقوال بالأعمال، فقد مضت أعمارنا في الأقوال بدون أعمال حتى ساورنا القنوط وكدنا نيأس من روح الله، فكم من اجتماعات دُعي إليها من قبلكم وانفضت من غير نتيجة، وكم من أنهار من المداد سالت في هذا السبيل، ولم تنته إلى مفيد، فكفّروا عن سيّئات من قبلكم، بالجد والعزم والحسم والإنجاز.
وفّقكم الله وسدّد خطاكم وجعل البركة في أعمالكم وأصحبكم التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/267)
كلمة في تونس *
في يوم الثلاثاء27 جوان 1961 حلّ فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بتونس قادمًا إليها من القاهرة عن طريق البر. وقد زاره في مقر إقامته فضيلة الشيخ الطاهر بن عاشور، والشيخ الفاضل بن عاشور. وحضر عشية الجمعة 30 جوان 1961 حفل الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بجامع الزيتونة المعمور.
وتنادى أحبّاء الشيخ إلى إقامة حفل تكريمي على شرفه، ونشروا يوم الخميس 13 جويلية 1961 ما يلي:
"تكريم الشيخ البشير الإبراهيمي"
تنظم نخبة من الأدباء التونسيين من أحبّاء "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" حفل تكريم عائلي احتفاءً بالعلّامة الكبير فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي- رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- وأحد جهابذة المغرب العربي في الساعة السادسة من عشية اليوم بدار زورق في سيدي أبي سعيد.
وجميع الشخصيات الأدبية والعلمية التي وجّهت إليها الدعوة مدعوّة للحضور في هذا اللقاء السعيد مع مفخرة شمالنا الأفريقي الذي حلّ بتونس منذ أيام. وهذه نسخة من دعوة الحفل:
الأديب الفاضل سيدي:
يسعد جماعة من أحباب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أن تشرّفوهم لحفل الاستقبال المتواضع الذي يقيمونه (بدار زروق) بسيدي أبي سعيد يوم الخميس 13 جويلية على الساعة السادسة مساءً وذلك على شرف العلّامة الإمام الشيخ البشير الإبراهيمي بمناسبة حلوله بالديار التونسية قادمًا من القاهرة.
مع الشكر.
أحباب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
__________
* ألقاها الشيخ في الحفل الذي أُقيم لتكريمه في 13 يوليو 1961.(5/268)
وقد استهلّ الحفل الشيخ الفاضل بن عاشور، وتلاه المحامي عمّار الدحلاوي، وتلاه الشاعر الجزائري مفدي زكرياء، والشاعر المغري عبد الكرلم ابن ئابت، ومصطفى خريف، والأخضر عبد القادر السايحي، وباجو صالح، وعلي بن ضياف، وكانت مسك الختام كلمة الشيخ الإبراهيمي، التي كانت بحق كلمة رفيعة المبنى والمعنى، تضمنت نصائح غالية للشباب، وتحية للثورة الجزائرية ودعوات لها، وشكر تونس لإيواء الئوّار الجزائرفي ومساعدتها لهم، وكانت كلمة الشيخ غير مرتجلة ولم تنشر في حينها.
الحبيب شيبوب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوة الأعزّة، أيها الأبناء البررة:
حيّاكم الله وأحياكم، وأبقاكم للعروبة ترفعون منارها، وتورون بالجانب الغربي نارها، وأدامكم للغة العرب تشدّون ذرائعها وتقيمون شرائعها، وأحياكم للأدب العربي تصلون رحمه، كلما رمته الأحداث بالجفاء والعقوق، وتحفظون حقوقه كلما عامله بعض أبنائه بتضييع الحقوق، وللإسلام الذي هو مناط فخاركم وداعية افتخاركم تعلون صرحه، وتحسنون فهمه وشرحه.
أيها الإخوة، أيها الأبناء:
يعزّ عليّ أن يقول الناس ولا أقول، وأن أسمع الحداء ولا أطرب، وأن تتبارى جياد الرهان في ميدان فاكون فيها السكيت المتخلّف، وأن تتسابق همم إخواني وأبنائي إلى تكريمي والتنويه باسمي، فلا يكون حظي من بينهم إلا الوجوم والإطراق وعدم مكافأة إحسانهم بإحسان، وأن اكون شذوذًا في قاعدة: لكل امرئ من دهره ...
أنا عاجز عن شكر ما طوّقتم به عنقي من منن لا ينهض بحملها إلا من أوتي طراوة الشباب ومواتاة الأسباب، وبلاغة الخطاب، ولكن أين مني ذلك كله والعود قد جفّ، والفطين قد ح!، والسن قد نشر من المعايب ما كان الشباب قد لفّ. ولوكنت ما كنت، لأسمعتكم في هذه الليلة ما يجاري هذا الفيض الذي غمرتموني به من القصائد والخطب ويجري معه في عنان، ولكن حال الجريض دون القريض، ووقف إلحاح الأمراض وكلال الذهن وجفاف القريحة دون ذلك، فاعذروا أخًا يتقرّب إليكم برابطة الأخؤة وأبًا يتشفع إليكم بحقوق الأبوّة، وحسبكم منه محبة خالصة لا يشويها شوب من تصنع أو رياء، لكم وللأدب العربي الذي تتحلّون به وتقومون على إحيائه وترقيته، ومن شغفه الأدب حئا أحبّ الأدباء بالضرورة.(5/269)
أيها الإخوة الأعزّة، أيها الأبناء البررة:
أوصيكم يا أبنائي ببعض ما كنت أوصي به إخوانكم ولداتكم من شباب الشرق العربي: أن تضطلعوا بحمل الأمانة التي في أعناقكم للأدب العربي، وأن تجعلوا الأدب مساوقًا للحياة، يفعل فيها وينفعل بها، وأن تعنوا بمحاذاة أساليب البلغاء الفحول في الشعر، وأن تتصرّفوا في المعاني على حسب ما يقتضيه زمانكم، وأن تتجافوا فيها عن الإسفاف والتبذل، وأن توفّروا حظّكم من متون اللغة ليخف عليكم ما تعانون من شعر ونثر.
أيا الأبناء البررة:
إن اللغة العربية تراث مشاع بين أبناء العروبة في جميع الأقطار، وإن أبناء العروبة- وإن تناءت ديارهم- يشبهون "شركة مساهمة" رأس مالها هذه اللغة الخالدة، ولكنهم متفاوتو الحظوظ والأنصباء فيها. فمنهم المقلّ، ومنهم المكثر، فاحرصوا على أن تكونوا مساهمين في هذه الشركة باستحقاق، وأن تتقدّموا إليها بإنتاجكم، وثمرات عقولكم من شعر مجوّد، ونثر عامر، وكتب مفيدة.
أيها الإخوان والأبناء:
وهاتوا الحديث عن الحمراء اللعوب، والزهراء الدعبوب، والحسناء التي تبوّأت القلوب ... عن الحرية التي طال شوقنا إليها وطلبناها بالكلام، فلم تزدد إلا إعراضًا وازورارًا، حتى هدينا إلى التي هي أقوم، فطلبناها بالحديد وخضنا دونها الهول الهائل، وبذلنا في سبيلها المهج، وأمهرناها الأرواح، فاسلست وانقادت. وإني لا أبرح مكاني هذا حتى أرسلها تحيات عاطرات الأنفاس، يحملها عني نسيم الصبا وأمواج الأثير، إلى إخواني المجاهدين في الجزائر، أولئك الذين باعوا أنفسهم لله وأشعلوا الثورة وكانوا وقودها في سبيل حرية وطنهم، وهي أقرب السبل إلى الله، وأسأل الله لهم النصر العزيز على عدوّ الله وعدوّهم، وأن يجعل خاتمة جهادهم كبدايتها، نصرًا وظفرًا وفوزًا مبينًا، وأبتهل إليه تعالى، أن ينزل الشهداء منهم منازل الكرامة والرحمة عنده، وأن يفيض على المساجين والمعتقلين والمعذّبين من الشعب الجزائري شآبيب الصبر والرضى، كما أسأل الله لقادة الثورة الجزائرية والمسيّرين لسياستها توفيقًا يقود إلى حسن العاقبة، وعونًا إلهيًا يصاحبهم في الجيئة والذهاب، ويسايرهم منه شعاع هاد في المعضلات، ويواكبهم في السلم والحرب، وتسديدًا ربّانيًّا في كل ما يقولون ويفعلون.
وحيّا الله تونس، حكومتها وشعبها، على ما آووا إخوانهم الجزائريين ونصروا، وعلى ما أكرموا وبرّوا وعلى ما وصلوا من رحم الأخوّة، وحقّ الجوار.(5/270)
وسلام عليكم- أيها الإخوة الأعزّاء والأبناء البررة والإخوان الحاضرون- بما أبدأتم فيه وأعدتم من تكريمي الذي هو في حقيقته تكريم للجزائر بأهلها، وثورتها، وشهدائها، ومساجينها، وبما أعملتم أقدامكم في هذا اليوم القائظ، وبما أقمتم جميعًا من الدليل على رعايتكم لحرمات الأخوة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/271)
خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية *
____
المرحلة الأولى:
____
أنا محمد البشير الإبراهيمي، ولدت يوم الخميس عند طلوع الشمس في الرابع عشر من شهر شوّال سنة ست وثلاثمائة وألف، ويوافق الثالث عشر من يونيو سنة 1889، كما
رأيت ذلك مسجّلًا بخط جدّي لأبي الشيخ عمر الإبراهيمي- رحمه الله- في سجل أعدّه لتسجيل مواليد الأسرة ووفياتها.
قبيلتنا تُعرف بأولاد إبراهيم بن يحيى بن مساهل، وترفع نسبها إلى إدريس بن عبد الله الجذم الأول للأشراف الأدارسة، وإدريس هذا- وُيعرف بإديس الأكبر- هو الذي خلص إلى المغرب الأقصى بعد "وقعة فخ" بين العلويين والعباسيين، وإليه ترجع أنساب الأشراف الحسنيين في المغربين: الأقصى والأوسط؛ ونسبنا هذا مستفيض بين سكان الأطلس أوراس وسفوحه الجنوبية إلى الصحارى، والشمالية إلى التلول، ولأجدادنا كتابات متناقلة عن هذا النسب.
وموطننا الذي تقلّب فيه أجدادنا في تاريخ ضارب في القدم هو السلاسل الغربية المتفرّعة من جبل أوراس، وهي قمم تفصل بينها مسالك أودية وطرق هابطة من التلول إلى الصحراء، وموقعها الغرب المائل للجنوب لمدينة قسنطينة عاصمة المقاطعة الشرقية للقطر الجزائري.
وبيتنا إحدى البيوتات التي حفظت رسم العلم وتوارثته قرونًا من لدن خمول بجاية وسقوطها في القرن التاسع الهجري، وقد كانت بجاية دار هجرة للعلم وخصوصًا للأقاليم
__________
* كتب الشيخ هذه السيرة بطلب من مجمع اللغة العربية بالقاهرة عندما انتخب عضوًا عاملًا فيه سنة 1961، ونشرتها مجلة "مجمع اللغة العربية"، مجلد 21، القاهرة، 1966.(5/272)
المتاخمة لها مثل إقليمنا، وقد خرج من عمود نسبنا بالذات في هذه القرون الخمسة علماء في العلوم العربية، ونشروها بهمّة واجتهاد في الأقاليم المجاورة لإقليمنا، ومنهم من هاجر إلى القاهرة في سبيل الاستزادة من العلم والتوسّع فيه- على صعوبة الهجرة إذ ذاك- ومن آثار الاتصال بالقاهرة أنهم بعد رجوعهم سمّوا أبناءهم بأسماء كبار مشايخ الأزهر، وأنا أدركت في فروع بيتنا من تسمّى بالأمير والصاوي والخرشي والسنهوري.
نشأت في بيت والدي كما ينشأ أبناء بيوت العلم، فبدأت في التعلّم وحفظ القرآن الكريم في الثالثة من عمري على التقليد المتّبع في بيتنا الشائع في بلدنا، وكان الذي يعلّمنا الكتابة ويلقّننا حفظ القرآن جماعة من أقاربنا من حفاظ القرآن، ويشرف علينا إشرافًا عاليًا عالم البيت بل الوطن كله في ذلك الزمان، عمي شقيق والدي الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي - رحمه الله-، وكان حامل لواء الفنون العربية غير مدافع، من نحوها وصرفها واشتقاقها ولغتها، أخذ كل ذلك عن البقية الصالحة من علماء هذه الفنون بإقليمنا، منهم العلّامة المتقن الشيخ ربيع قري اليعلاوي، ومنهم العلّامة الشيخ محمد أبو القاسم البُوجْلِيلِي، ومنهم العلّامة الشيخ محمد أبو جمعة القُلِّي، خاتمة المتبحّرين في العربية والفقه؛ ولم يكن هؤلاء العلماء رحلوا إلى الأمصار الكبرى ذات الجامعات العلمية التاريخية كفاس وتونس والقاهرة، وإنما كانوا يتوارثون العلوم الإسلامية طبقة عن طبقة إلى الأجيال المتخرجة من مدن العلم الموجودة بوطننا كبجاية، وقلعة بني حماد، وكلتاهما قريبة من مواطننا، وكلتاهما كانت منارًا للعلم ومهجرًا لطلابه، ومطلعًا لشموسه، إلى الفترة التي تبدأ بالاحتلال التركي، وكان أئمة العلم لا يعتمدون في تخرّجهم على الشهادات الرسمية، وإنما كانوا يعتمدون على الإجازات من مشايخهم الذين يأخذون عنهم.
فلما بلغت سبع سنين استلمني عمي من معلّي القرآن وتولّى تربيتي وتعليمي بنفسه، فكنت لا أفارقه لحظة حتى في ساعات النوم، فكان هو الذي يأمرني بالنوم، وهو الذي يوقظني منه، على نظام مضطرد في النوم والأكل والدراسة، وكان لا يخليني من تلقين حتى حين أخرج معه وأماشيه للفسحة، فحفظت فنون العلم المهمة في ذلك السن مع استمراري في حفظ القرآن، فما بلغت تسع سنين من عمري حتى كنت أحفظ القرآن مع فهم مفرداته وغريبه، وكنت أحفظ معه ألفية ابن مالك ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وأحفظ جمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأحفظ الكثير من شعر أبي عبد الله بن خميس التلمساني، شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وأحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل ابن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف ابن أبي عميرة، وابن الخطيب، ثم لفتني عمي إلى دواوين فحول المشارقة، ورسائل(5/273)
بلغائهم، فحفظت صدرًا من شعر المتنبي، ثم استوعبته بعد رحلتي إلى الشرق، وصدرًا من شعر الطائيين وحفظت ديوان الحماسة، وحفظت كثيرًا من رسائل سهل بن هارون وبديع الزمان، وفي عنفوان هذه الفترة كنت حفظت بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابية للهمداني، وكتاب الفصيح لثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب السكيت، وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في ملكتي اللغوية.
ولم يزل عمي- رحمه الله- يتدرّج بي من كتاب إلى كتاب تلقينًا وحفظًا ومدارسة للمتون والكتب التي حفظتها حتى بلغت الحادية عشرة، فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث وتدقيق، وكان قبلها أقرأني كتب ابن هشام الصغيرة قراءة تفهّم وبحث، وكان يقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك، ويقرئني وحدي، ويقرئني وأنا أماشيه في المزارع، ويقرئني على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت وفي الظلمة، حتى يغلبني النوم، ولم يكن شيء من ذلك يرهقني، لأن الله تعالى وهبني حافظة خارقة للعادة، وقريحة نيّرة، وذهنًا صيودًا للمعاني ولو كانت بعيدة، ولما بلغت أربع عشرة سنة، مرض عمي مرض الموت، فكان لا يخليني من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت، بحيث أني ختمت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة.
____
المرحلة الثانية:
____
ولما مات عمي، شرعت في تدريس العلوم التي درستها عليه، وأجازني بتدريسها، وعمري أربع عشرة سنة لطلبته الذين كانوا زملائي في الدراسة عليه، وانثال علي طلبة العلم من البلدان القريبة منا، والتزم والدي بإطعامهم والقيام عليهم كالعادة في حياة عمي، وربما انتقلت في بعض السنين إلى المدارس القبلية القريبة منا لسعتها واستيعابها للعدد الكثير من الطلبة وتيسّر المرافق بها للسكنى، ودمت على تلك الحال إلى أن جاوزت العشرين من عمري، فتاقت نفسي إلى الهجرة إلى الشرق، واخترت المدينة المنوّرة لأن والدي سبقني إليها سنة 1908 فرارًا من ظلم فرنسا، فالتحقت به متخفيًا أواخر سنة 1911 كما خرج هو متخفيًا، ومررت في وجهتي هذه بالقاهرة، فأقمت بها ثلاثة أشهر، وحضرت بعض دروس العلم في الأزهر وعرفت أشهر علمائه، فممن عرفته وحضرت دروسه، الشيخ سليم البشري، والشيخ محمد بخيت، حضرت درسه في البخاري في رواق العباسي، والشيخ يوسف(5/274)
الدجوي حضرت درسه في البلاغة، والشيخ عبد الغني محمود، والشيخ السمالوطي، حضرت لكليهما درسًا في المسجد الحسيني، والشيخ سعيد الموجي ذكر لي أن له سندًا عاليًا في رواية الموطأ، فطلبت أن أرويها عنه بذلك السند وحضرت مجالسه بجامع الفاكهاني مع جمهور من الطلبة، وتوليت قراءة بعض الموطأ عليه من حفظي، وحضرت عدة دروس في دار الدعوة والإرشاد التي أسّسها الشيخ رشيد رضا في منيل الروضة، وزرت شاعر العربية الأكبر أحمد شوقي وأسمعته عدة قصائد من شعره من حفظي فتهلّل- رحمه الله- واهتزّ، كما اجتمعت بشاعر النيل حافظ إبراهيم في بعض أندية القاهرة وأسمعته من حفظي شيئًا من شعره كذلك.
____
المرحلة الثالثة:
____
خرجت من القاهرة قاصدًا المدينة المنوّرة، فركبت البحر من بور سعيد إلى حيفا، ومنها ركبت القطار إلى المدينة، وكان وصولي إليها في أواخر سنة 1911، واجتمعت بوالدي- رحمه الله- وطفت بحلق العلم في الحرم النبوي مختبرًا، فلم يرق لي شيء منها، وإنما غثاء يلقيه رهط ليس له من العلم والتحقيق شيء، ولم أجد علمًا صحيحًا إلا عند رجلين هما شيخاي: الشيخ العزيز الوزير التونسي، والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، فهما- والحق يقال- عالمان محققان واسعا أفق الإدراك في علوم الحديث وفقه السنة، ولم أكن راغبًا إلا في الاستزادة من علم الحديث، رواية ودراية، ومن علم التفسير، فلازمتهما ملازمة الظلّ، وأخذت عن الأول الموطأ دراية، ثم أدهشني تحقيقه في بقية العلوم الإسلامية، فلازمت درسه في فقه مالك، ودرسه في التوضيح لابن هشام، ولازمت الثاني في درسه لصحيح مسلم، وأشهد أني لم أَرَ لهذين الشيخين نظيرًا من علماء الإسلام إلى الآن، وقد علا سني، واستحكمت التجربة، وتكاملت الملكة في بعض العلوم، ولقيت من المشايخ ما شاء الله أن ألقى، ولكنني لم أَرَ مثل الشيخين في فصاحة التعبير ودقة الملاحظة والغوص عن المعاني واستنارة الفكر، والتوضيح للغوامض، والتقريب للمعاني القصية. ولقد كنت لكثرة مطالعاتي لكتب التراجم والطبقات قد كوّنت صورة للعالم المبرز في العلوم الإسلامية، منتزعة مما يصف به كتاب التراجم بعض مترجميهم، وكنت أعتقد أن تلك الصورة الذهنية لم تتحقق في الوجود الخارجي منذ أزمان، ولكنني وجدتها محقّقة في هذين العالمين الجليلين، وقد مات الشيخ الوزير بالمدينة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أما الشيخ(5/275)
حسين أحمد فقد سلّمه الشريف حسين بن علي إلى الإنجليز في أواخر ثورته المشؤومة، فنفوه إلى مالطة، ثم أرجعوه إلى وطنه الأصلي (الهند) وعاش بها سنين وانتهت إليه رئاسة العلماء بمدينة العلم (ديويند)، ولما زرت باكستان للمرّة الأولى سنة 1952 ميلادية كاتبته فاستدعاني بإلحاح إلى زيارة الهند ولم يقدّر لي ذلك، وفي هذه العهود الأخيرة بلغتني وفاته بالهند.
وأخذت أيام مجاورتي بالمدينة علم التفسير عن الشيخ الجليل إبراهيم الاسكوبي، وكان ممن يشار إليهم في هذا العلم مع تورّع وتصاون هو فيهما نسيج وحده.
وأخذت الجرح والتعديل وأسماء الرجال عن الشيخ أحمد البرزنجي الشهرزوري في داره أيام انقطاعه عن التدريس في الحرم النبوي، وكان من أعلام المحدثين، ومن بقاياهم الصالحة.
وأخذت أنساب العرب وأدبهم الجاهلي، والسيرة النبوية عن الشيخ محمد عبد الله زيدان الشنقيطي، وهو أعجوبة الزمان في حفظ اللغة العربية وأنساب العرب، وحوادث السيرة.
وأتممت معلوماتي في علم المنطق عن الشيخ عبد الباقي الأفغاني بمنزله، وكان رجلًا مسنًّا منقطعًا عن أسباب الدنيا، قرأت عليه الحكمة المشرقية، وكان قيّمًا عليها، بصيرًا بدقائقها.
وذاكرت صاحبنا الشيخ أحمد خيرات الشنقيطي سنين عديدة في اللغة والشعر الجاهلي، ومنه المعلّقات العشر، وصاحبنا محمد العمري الجزائري، أمهات الأدب المشهورة خصوصًا الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، فقد ختمناهما مطالعة مشتركة فاحصة متأنية، وكذلك فعلنا بكتاب الأغاني من أوله إلى آخره.
وبالجملة فقد كانت إقامتي بالمدينة المنوّرة أيام خير وبركة عليّ، فكنت أنفق أوقاتي الزائدة في إلقاء دروس في العلوم التي لا أحتاج فيها إلى مزيد كالنحو والصرف والعقائد والأدب، وكنت أتردّد على المكتبات الجامعة، فلا يراني الرائي إلا في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، حتى استوعبت معظم كتبها النادرة قراءة، وفي مكتبة السلطان محمود، وفي مكتبة شيخنا الوزير، وفي مكتبة بشير آغا، أو في مكتبات الأفراد الغاصة بالمخطوطات، مثل مكتبة آل الصافي، ومكتبة رباط سيدنا عثمان، وفي مكتبة آل المدني وآل هاشم، ومكتبة الشيخ عبد الجليل برادة، ومكتبة الوزير التونسي العربي زروق، كما كنت أستعير كثيرًا من المخطوطات الغريبة من أصدقائي وتلامذتي الشناقطة، أذكر منها ديوان غيلان ذي الرمة، فأقرأها وأحفظ عيونها، وقد حفظت في تلك الفترة معظم ديوان ذي الرمة.(5/276)
كل هذا وأنا لم أنقطع عن إلقاء الدروس، وجاءت الحرب العالمية الأولى فلم أنقطع عن هذا النظام المحكم في حياتي العلمية، ولما جاءت سنة 1917 أمرت الحكومة العثمانية بترحيل سكان المدينة كلهم إلى دمشق بسبب استفحال ثورة الشريف حسين بن علي، وعجز الحكومة عن تموين الجيش الذي بلغ عدده خمسين ألفًا، وتموين المدنيين الذين يبلغ تعدادهم ثمانين ألفًا، فاقتضى تدبير قوّادها العسكريين إذ ذاك أن ينقل سكان المدينة إلى مصدر الأقوات في دمشق، بدل أن تنقل الأقوات منها إليهم، فكنت من أوائل المطيعين لذلك الأمر، وخرجت مع والدي إلى دمشق في شتاء سنة 1917، وكان من أول ما يعنيني لقاء رجال العلم وكانوا أول من بدأ بالفضل فزاروني في منزلي وتعارفنا لأول لقاء، وهدتني المجالس الأولى إلى تمييز مراتبهم فاصطفيت منهم جماعة من أولهم الصديق الحميم الشيخ محمّد بهجت البيطار.
____
المرحلة الرابعة:
____
ما لبثت شهرًا حتى انهالت عليَّ الرغبات في التعليم بالمدارس الأهلية، فاستجبت لبعضها، ثم حملني إخواني على إلقاء دروس في الوعظ والإرشاد بالجامع الأموي بمناسبة حلول شهر رمضان فامتثلت وألقيت دروسًا (تحت قبة النصر الشهيرة) على طريقة الأمالي، فكنت أجعل عماد الدرس حديثًا أمليه من حفظي بالإسناد إلى أصوله القديمة، ثم أملي تفسيره بما يوافق روح العصر وأحداثه، فسمع الناس شيئًا لم يألفوه ولم يسمعوه إلا في دروس الشيخ بدر الدين الحَسَنِي، ثم بعد خروج الأتراك من دمشق وقيام حكومة الاستقلال العربي دعتني الحكومة الجديدة إلى تدريس الآداب العربية بالمدرسة السلطانية (وهي المدرسة الثانوية الوحيدة إذ ذاك) مشاركًا للأستاذ اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك، فاضطلعت بما حملت من ذلك، وتلقّى عني التلامذة دروسًا في الأدب العربي الصميم، وكانت الصفوف التي أدرس لها الأدب العربي هي الصفوف النهائية المرشّحة للبكالوريا، وقد تخرّج عني جماعة من الطلبة هم اليوم عماد الأدب العربي في سوريا منهم: الدكتور جميل صليبا، والدكتور أديب الروماني، والدكتور المحايري، والدكتور عدنان الأتاسي.
ولما دخل الأمير فيصل بن الحسين دمشق اتصل بي وأرادني على أن أبادر بالرجوع إلى المدينة لأتولّى إدارة المعارف بها، ولم يكن ذلك في نيتي وقصدي، لما طرأ على المدينة من تغيّر في الأوضاع المادية والنفسية فأبيت عليه، وما فتئ يلحّ عليّ وآبى إلى أن سنحت الفرصة فكررت راجعًا إلى الجزائر موطن آبائي وعشيرتي.(5/277)
المرحلة الخامسة:
____
أعمالي في الجزائر، بعد رجوعي من الحجاز والشام وتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأعمالي فيها:
كان من تدابير الأقدار الإلهية للجزائر، ومن مخبّآت الغيوب لها أن يرد عليّ بعد استقراري في المدينة المنوّرة سنة وبضعة أشهر أخي ورفيقي في الجهاد بعد ذلك، الشيخ عبد الحميد بن باديس، أعلم علماء الشمال الافريقي، ولا أغالي، وباني النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية للجزائر.
وبيت ابن باديس في قسنطينة بيت عريق في السؤدد والعلم، ينتهي نسبه في سلسلة كعمود الصبح إلى المعزّ بن باديس، مؤسّس الدولة الصنهاجية الأولى التي خلفت الأغالبة على مملكة القيروان، ومدّت ظلّها على قسنطينة ومقاطعتها حينًا من الدهر، ومع تقارب بلدينا بحيث لا تزيد المسافة بيننا على مائة وخمسين كيلومترًا، ومع أننا لِدَتانِ في السن يكبرني الشيخ بنحو سنة وبضعة أشهر، رغم ذلك كله، فإننا لم نجتمع قبل الهجرة إلى المدينة، ولم نتعارف إلا بالسماع، لأنني كنت عاكفًا في بيت والدي على التعلّم، ثم على التعليم، وهو كان يأخذ العلم عن علماء قسنطينة متبعًا لتقاليد البيت، لا يكاد يخرج من قسنطينة، ثم بعد بلوغ الرشد ارتحل إلى تونس، فأتمّ في جامع الزيتونة تحصيل علومها.
كنا نؤدّي فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي، ونخرج إلى منزلي، فنسمر مع الشيخ ابن باديس، منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها بالمدينة المنوّرة.
كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصّلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى في مخيلتينا، وصحبها من حسن النيّة وتوفيق الله ما حقّقها في الخارج بعد بضع عشرة سنة، وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931.
ورجع الشيخ إلى الجزائر من سنته تلك بعد أن أقنعته بأني لاحق به بعد أن أقنع والدي أن رجوعي إلى الجزائر يترتّب عليه إحياء للدين والعربية، وقمع للابتداع والضلال، وإنكاء للاستعمار الفرنسي، وكان هذا هو المنفذ الوحيد الذي أدخل منه على نفس والدي ليسمح لي بالرجوع إلى الجزائر.(5/278)
وشرع الشيخ بعد رجوعه من أول يوم في تنفيذ الخطوة الأولى من البرنامج الذي اتفقنا عليه، ففتح صفوفًا لتعليم العلم، واحتكر مسجدًا جامعًا من مساجد قسنطينة لإلقاء دروس التفسير، وكان إمامًا فيه، دقيق الفهم لأسرار كتاب الله، فما كاد يشرع في ذلك ويتسامع الناس به حتى انهال عليه طلاب العلم من الجبال والسهول إلى أن ضاقت بهم المدينة، وأعانه على تنظيمهم وإيوائهم وإطعام المحاويج منهم جماعة من أهل الخير ومحبّي العلم، فقويت بهم عزيمته وسار لا يلوي على صائح، واشتعلت الحرب العالمية الأولى وهو في مبدإ الطريق، فاعتصم بالله فكفاه شرّ الاستعمار، وكان له من وجود والده درع وقاية من بطش فرنسا التي لا تصبر على أقلّ من هذه الحركات، وكان لوالده مقام محترم عند حكومة الجزائر، فسكتت عن الابن احترامًا لشخصية الوالد، وظهرت النتائج المرجوّة لحركته في السنة الأولى، وكانت في السنة الثانية وما بعدها أكبر وعدد الطلبة أوفر، إلى أن انتهت الحرب، ورجعت أنا إلى الجزائر فلقيني بتونس، وابتهج لمقدمي أكثر من كل أحد لتحقيق أمله المعلّق عليّ، وزرته بقسنطينة قبل أن أنقلب إلى أهلي، ورأيت بعيني النتائج التي حصل عليها أبناء الشعب الجزائري في بضع سنوات من تعليم ابن باديس، واعتقدت من ذلك اليوم أن هذه الحركة العلمية المباركة لها ما بعدها، وأن هذه الخطوة المسدّدة التي خطاها ابن باديس هي حجر الأساس في نهضة عربية في الجزائر، وأن هذه المجموعة من التلاميذ التي تناهز الألف هي الكتيبة الأولى من جند الجزائر، ولمست بيدي آثار الإخلاص في أعمال الرجال، ورأيت شبانًا ممن تخرّجوا على يد هذا الرجل وقد أصبحوا ينظمون الشعر العربي بلغة فصيحة وتركيب عربي حرّ، ومعان بليغة، وموضوعات منتزعة من صميم حياة الأمّة، وأوصاف رائعة في المجتمع الجزائري، وتشريح لأدوائه، ورأيت جماعة أخرى من أولئك التلامذة وقد أصبحوا يحبرون المقالات البديعة في الصحف، فلا يقصرون عن أمثالهم من إخوانهم في الشرق العربي، وآخرون يعتلون المنابر فيحاضرون في الموضوعات الدينية والاجتماعية، فيرتجلون القول المؤثّر، والوصف الجامع، ويصفون الدواء الشافي بالقول البليغ.
وحللت بلدي وبدأت من أول يوم في العمل الذي يؤازر عمل أخي ابن باديس ... بدأت أولًا بعقد الندوات العلمية للطلبة، والدروس الدينية للجماعات القليلة، فلما تهيّأت الفرصة انتقلت إلى إلقاء الدروس المنظّمة للتلامذة الملازمين، ثم تدرّجت لإلقاء المحاضرات التاريخية والعلمية على الجماهير الحاشدة في المدن العامرة والقرى الآهلة، وإلقاء دروس في الوعظ والإرشاد الديني كل جمعة في بلد، ثم لما تمّ استعداد الجمهور الذي هزّته صيحاتي إلى العلم، أسّست مدرسة صغيرة لتنشئة طائفة من الشبان نشأة خاصة وتمرينهم على الخطابة والكتابة وقيادة الجماهير بعد تزويدهم بالغذاء الضروري من العلم، وكانت أعمالي هذه في التعليم الذي وقفت عنايتي عليه فاترة أحيانًا لخوفي من مكائد(5/279)
الحكومة الاستعمارية، إذ ليس لي سند آوي إليه كما لأخي ابن باديس، وكانت حركاتي منذ حللت بأرض الوطن مثار ريب عند الحكومة ومنبع شكوك، حتى صلاتي وخطبي الجمعية، فكنت أتغطى لها بألوان من المخادعة حتى أني تظاهرت لها عدة سنين بتعاطي التجارة وغشيان الأسواق لإطعام من أعولهم من أفراد أسرتي، ولكنها لم تنخدع ولم تطمئن إلى حركتي، فكان بوليسها يلاحقني بالتقارير ويضيّق الخناق على كل من يزورني من تونس أو الحجاز، كل هذا وأنا لم أنقطع عن الدروس لطلاب العلم بالليل.
في هذه الفترة ما بين سنتَي 1920 و 1930 كانت الصلة بيني وبين ابن باديس قوية وكنا نتلاقى في كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر، يزورني في بلدي (سطيف) أو أزوره في قسنطينة، فنزن أعمالنا بالقسط ونزن آثارها في الشعب بالعدل، ونبني على ذلك أمرنا، ونضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يختل أبدًا، وكنا نقرأ للحوادث والمفاجآت حسابها، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين.
كملت لنا على هذه الحالة عشر سنوات كانت كلها إعدادًا وتهيئة للحدث الأعظم وهو إخراج جمعية العلماء من حيّز القول إلى حيّز الفعل، وأصبح لنا جيش من التلامذة يحمل فكرتنا وعقيدتنا مسلّح بالخطباء والكتّاب والشعراء، يلتفّ به مئات الآلاف من أنصار الفكرة وحملة العقيدة يجمعهم كلهم إيمان واحد، وفكرة واحدة، وحماس متأجج، وغضب حادّ على الاستعمار.
كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي: ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربّيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا.
كانت سنة 1930 هي السنة التي تمّ بتمامها قرن كامل على احتلال فرنسا للجزائر، فاحتفلت بتلك المناسبة احتفالًا قدّرت له ستة أشهر ببرنامج حافل مملوء بالمهرجانات ودعت إليه الدنيا كلها، فاستطعنا بدعايتنا السرّية أن نفسد عليها كثيرًا من برامجها، فلم تدم الاحتفالات إلا شهرين، واستطعنا بدعايتنا العلنية أن نجمع الشعب الجزائري حولنا ونلفت أنظاره إلينا.
تكامل العدد وتلاحق المدد ... العدد الذي نستطيع أن نعلن به تأسيس الجمعية، والمدد من إخوان لنا كانوا بالشرق العربي مهاجرين أو طلاب علم، فأعلنا تأسيس الجمعية في شهر مايو سنة 1931 بعد أن أحضرنا لها قانونًا أساسيًا مختصرًا من وضعي أدرته على قواعد من العلم والدين لا تثير شكًا ولا تخيف، وكانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهين بأعمال العالم المسلم، وتعتقد أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة فخيّبنا ظنها والحمد لله.(5/280)
دعونا فقهاء الوطن كلهم، وكانت الدعوة التي وجّهناها إليهم صادرة باسم الأمّة كلها، ليس فيها اسمي ولا اسم ابن باديس، لأن أولئك الفقهاء كانوا يخافوننا لما سبق لنا من الحملات الصادقة على جمودهم، ووصفنا إياهم بأنهم بلاء على الأمّة وعلى الدين لسكوتهم على المنكرات الدينية، وبأنهم مطايا للاستعمار، يذلّ الأمّة ويستعبدها باسمهم، فاستجابوا جميعًا للدعوة، واجتمعوا في يومها المقرّر، ودام اجتماعنا في نادي الترقّي بالجزائر أربعة أيام كانت من الأيام المشهودة في تاريخ الجزائر، ولما تراءت الوجوه وتعالت أصوات الحق أيقن أولئك الفقهاء أنهم ما زالوا في دور التلمذة، وخضعوا خضوع المسلم للحق، فأسلموا القيادة لنا، فانتخب المجلس الإداري من رجال أكفاء جمعتهم وحدة المشرب، ووحدة الفكرة ووحدة المنازع الاجتماعية والسياسية، ووحدة المناهضة للاستعمار، وقد وكل المجتمعون ترشيحهم إلينا فانتخبوهم بالإجماع، وانتخبوا ابن باديس رئيسًا، وكاتب هذه الأسطر وكيلًا نائبًا عنه، وأصبحت الجمعية حقيقة واقعة قانونية ... وجاء دور العمل.
...
هذه المرحلة من حياتي هي مناط فخري وتاج أعمالي العلمية والاجتماعية، والأفق المشرق من حياتي، وهذه هي المرحلة التي عملت فيها لديني ولغتي ووطني أعمالًا أرجو أن تكون بمقربة من رضى الله، وهذه هي المواقف التي أشعر فيها كلما وقفت أردّ ضلالات المبتدعة في الدين، أو أكاذيب الاستعمار، أشعر كأن كلامي امتزج بزجل الملائكة بتسبيح الله.
كلّفني إخواني أعضاء المجلس الإداري في أول جلسة أن أضع للجمعية لائحة داخلية نشرح أعمالها كما هي في أذهاننا لا كما تتصوّرها الحكومة وأعوانها المضلّلون منا، فانتبذت ناحية ووصلت طرفي ليلة في سبكها وترتيبها، فجاءت في مائة وسبع وأربعين مادة، وتلوتها على المجلس لمناقشتها في ثماني جلسات من أربعة أيام، وكان يحضر الجلسات طائفة كبيرة من المحامين والصحافيين العرب المثقفين بالفرنسية، فأعلنوا في نهاية عرض اللائحة إيمانهم بأن العربية أوسع اللغات، وأنها أصلح لغة لصوغ القوانين ومرافعات المحامين، وكأنما دخلوا في الإسلام من ذلك اليوم، وخطب الرئيس عند تمام مناقشة اللائحة وإقرارها بالإجماع خطبة مؤثّرة أطراني فيها بما أبكاني من الخجل، وكان مما قال: عجبت لشعب أنجب مثل فلان أن يضلّ في دين أو يخزى في دنيا، أو يذلّ لاستعمار. ثم خاطبني بقوله: وري بك زناد هذه الجمعية.
***(5/281)
كان من نتائج الدراسات المتكرّرة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا في المدينة المنوّرة، أن البلاء المنصبّ على هذا الشعب المسكين آت من جهتين متعاونتين عليه، وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ويتعرقان لحمه، ويفسدان عليه دينه ودنياه: استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار، واستعمار روحاني يمثّله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب والمتغلغلون في جميع أوساطه، المتاجرون باسم الدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضى وطواعية، وقد طال أمد هذا الاستعمار الأخير وثقلت وطأته على الشعب حتى أصبح يتألم ولا يبوح بالشكوى أو الانتقاد، خوفًا من الله بزعمه، والاستعماران متعاضدان يؤيّد أحدهما الآخر بكل قوّته، ومظهرهما معًا تجهيل الأمّة لئلا تفيق بالعلم فتسعى في الانفلات، وتفقيرها لئلا تستعين بالمال على الثورة.
فكان من سداد الرأي وإحكام التدبير بيني وبين ابن باديس أن تبدأ الجمعية بمحاربة هذا الاستعمار الثاني لأنه أهون، وكذلك فعلنا، ووجد المجلس الإداري نظامًا محكمًا فاتبعه، لذلك كانت أعمال الجمعية متشعبة وكان الطريق أمام المجلس الإداري شاقًّا ولكنه يرجع إلى الأصول الآتية:
1 - تنظيم حملة جارفة على البدع والخرافات والضلال في الدين، بواسطة الخطب والمحاضرات ودروس الوعظ والإرشاد في المساجد والأندية والأماكن العامة والخاصة، حتى في الأسواق، والمقالات في جرائدنا الخاصة التي أنشأناها لخدمة الفكرة الإصلاحية.
2 - الشروع العاجل في التعليم العربي للصغار في ما تصل إليه أيدينا من الأماكن، وفي بيوت الآباء، ربحًا للوقت قبل بناء المدارس.
3 - تجنيد المئات من تلامذتنا المتخرجين، ودعوة الشبان المتخرجين من جامع الزيتونة للعمل في تعليم أبناء الشعب.
4 - العمل على تعميم التعليم العربي للشبان على النمط الذي بدأ به ابن باديس.
5 - مطالبة الحكومة برفع يدها عن مساجدنا ومعاهدنا التي استولت عليها، لنستخدمها في تعليم الأمّة دينها، وتعليم أبنائها لغتهم.
6 - مطالبة الحكومة بتسليم أوقاف الإسلام التي احتجزتها ووزّعتها على معمّريها، لتصرف في مصارفها التي وقفت عليها (وكانت من الكثرة بحيث تساوي ميزانية دولة متوسطة).
7 - مطالبة الحكومة باستقلال القضاء الإسلامي في الأحوال الشخصية مبدئيًّا.
8 - مطالبة الحكومة بعدم تدخلها في تعيين الموظفين الدينيين.(5/282)
هذه معظم الأمهات التي تدخل في صميم أعمال الجمعية، منها ما بدأناه بالفعل ولاقينا فيه الأذى، فصبرنا حتى كانت العاقبة لنا، ومنها ما طالبنا به حتى أقمنا حق الأمّة فيه، وفضحنا الاستعمار شرّ فضيحة، ومجموع هذه المطالب في ظاهرها دينية، ولكنها في معناها وفي نظر الاستعمار هي نصف الاستقلال.
كانت السنة الأولى من عمر الجمعية سنة غليان: من جهتنا في تكوين الشُّعَب في كل مدينة وكل قرية لتنفيذ مقاصد الجمعية، وغليان السخط علينا من الاستعمار لأننا فاجأناه بما تركه مشدوهًا حائرًا لا يدري ما يفعل ولا من أين يبدأ في مقاومة حركتنا، وتفرّق أعضاء الجمعية على القطر كله يرشدون ويعظون ويزرعون الوعي، ويراقبون حركة التعليم ويحضرون أماكنه.
وعقدنا الاجتماع العام في السنة الثانية، فكانت النتيجة باهرة، والعزائم أقوى والأمّة إلينا أميل. وخرج المتردّدون عن تردّدهم فانضموا إلينا، وأعيد انتخاب المجلس فأسفر عن بقاء القديم وزيادة أعضاء ظهرت مواهبهم في العلم، وكشّر الاستعمار عن أنيابه، فبدأ يمنعنا من إلقاء الدروس في المساجد الواقعة في قبضته، وثارت نخوة الأمّة فأنشأت بمالِها بضعة وتسعين مسجدًا حرًّا في سنة واحدة في أمهات القرى.
...
في هذه السنة قررت الجمعية تعيين العلماء الكبار في عواصم المقاطعات الثلاث ليكون كل واحد منهم مشرفًا على الحركة الاصلاحية والعلمية في المقاطعة كلها، فأبقينا الشيخ ابن باديس في مدينة قسنطينة وحملناه مؤونة الإشراف على الحركة في جميع المقاطعة، وخصصنا الشيخ الطيب العقبي بالجزائر ومقاطعتها، وخصصوني بمقاطعة وهران وعاصمتها العلمية القديمة تلمسان، وكانت هي إحدى العواصم العلمية التاريخية التي أخنى عليها الدهر فانتقلت إليها بأهلي، وأحييت بها رسوم العلم، ونظمت دروسًا للتلامذة الوافدين على حسب درجاتهم، وما لبثت إلّا قليلًا حتى أنشأت فيها مدرسة دار الحديث، وتبارى كرام التلمسانيين في البذل لها حتى برزت للوجود تحفة فنية من الطراز الأندلسي، وتحتوي على مسجد وقاعة محاضرات، وأقسام لطلبة العلم، واخترت لها نخبة من المعلمين الأكفاء للصغار، وتوليت بنفسي تعليم الطلبة الكبار من الوافدين وأهل البلد، فكنت ألقي عشرة دروس في اليوم، أبدأها بدرس في الحديث بعد صلاة الصبح، وأختمها بدرس في التفسير بين المغرب والعشاء وبعد صلاة العتمة أنصرف إلى أحد النوادي فألقي محاضرة في التاريخ الإسلامي، فألقيت في الحقبة الموالية لظهور الإسلام من العصر الجاهلي إلى مبدإ الخلافة العباسية بضع مئات من المحاضرات.(5/283)
وفي فترة العطلة الصيفية أختم الدروس كلها وأخرج من يومي للجولان في الإقليم الوهراني مدينة مدينة وقرية قرية، فألقي في كل مدينة درسًا أو درسين في الوعظ والإرشاد، وأتفقد شُعَبَها ومدارسها، وكانت أيام جولتي كلها أيام أعراس عند الشعب، يتلقونني على عدة أميال من المدينة أو القرية، وينتقل بعضهم معي إلى عدة مدن وقرى، فكان ذلك في نظر الاستعمار تحديًّا له ولسلطته، وفي نظر الشعب تمجيدًا للعلم والدين وإغاظة للاستعمار، فإذا انقضت العطلة اجتمعنا في الجزائر العاصمة وعقدنا الاجتماع العام وفي أثره الاجتماع الإداري وقدم كل منا حسابه، ونظمنا شؤون السنة الجديدة، ثم انصرفنا إلى مراكزنا.
بلغت إدارة الجمعية وهي في مستهل حياتها من النظام والقوة مبلغًا قويًّا بديعًا فأصبحنا لا نتعب إلّا في التنقل والحديث، أما الحكومة الاستعمارية فإننا بنينا أمرنا من أول خطوة على الاستخفاف بها وبقوانينها، وقد كنا نعلن في جرائدنا كل أسبوع بأن القوانين الظالمة لا تستحق الاحترام من الرجال الأحرار، ونحن أحرار فلتفعل فرنسا ما شاءت، وكان هذا الكلام ومثله أنكى عليها من وقع السهام لأنها لم تألف سماعه، وقد اطمأنت إلى أن الشعب الجزائري قد مات كما صرح بذلك أحد ساستها الكبار في خطبة ألقاها على ممثلي الأمم في المهرجان الذي أقامته في عيدها المئوي لاحتلال الجزائر، وكان مما قال: "لا تظنوا أن هذه المهرجانات من أجل بلوغنا مائة سنة في هذا الوطن، فقد أقام الرومان قبلنا فيه ثلاثة قرون، ومع ذلك خرجوا منه، ألا فلتعلموا أن مغزى هذه المهرجانات هو تشييع جنازة الإسلام بهذه الديار".
وكانت أعمال الإخوان في المقاطعتين الأخريين مشابهة لأعمالي بمقاطعة وهران لأننا نجري على منهاج واحد، ونسير على برنامج واحد عاهدنا الله على تنفيذه.
ولما ضاقت فرنسا ذرعًا بأعمالي ونفد صبرها على التحديات الصارخة لها، وأيقنت أن عاقبة سكوتها عنا هو زوال نفوذها وخاتمة استعمارها، اغتنمت فرصة نشوب الحرب العالمية الثانية، وأصدر رئيس وزرائها إذ ذاك "دالاديى" ( Daladier) قرارًا يقضي بإبعادي إلى الصحراء الوهرانية إبعادًا عسكريًا لا هوادة فيه، لأن في بقائي طليقًا حرًا خطرًا على الدولة، كما هي عبارته في حيثيات القرار، ووكل تنفيذ قراره للسلطة العسكرية فنقلوني للمنفى في عاشر أفريل سنة 1940، وبعد استقراري في المنفى بأسبوع تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله- بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء، كان يحس به من سنوات ويمنعه انهماكه في التعليم وخدمة الشعب من التفكير فيه وعلاجه، وقد شيع جنازته عشرات الألوف من الأمة رغمًا عن قسوة الأحكام العسكرية وقت الحرب، واجتمع المجلس الإداري للجمعية ورؤساء الشُّعَب يوم موته وانتخبوني رئيسًا لجمعية العلماء بالاجماع، وأبلغوني الخبر وأنا في المنفى فأصبحت أدير الجمعية وأصرف أعمالها من المنفى بالرسائل المتبادلة بيني وبين(5/284)
اخواني بواسطة رسل ثقات، وكنت حين بدأت نذر الحرب تظهر وغيومها تتلبد أجتمع بالشيخ ابن باديس في داري بتلمسان فقررنا ماذا نصنع إذا قامت الحرب، وقررنا من يخلفنا إذا قبض علينا، وقلبنا وجوه الرأي في الاحتمالات كلها، وقدرنا لكل حالة حكمها، وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه نسختين، ولكن كانت الأقدار من وراء تدبيرنا فقبضه الله إليه. بقيت في المنفى ثلاث سنين تقريبًا، ولما أطلق سراحي من المنفى أول سنة ثلاث وأربعين كانت فاتحة أعمالي تنشيط حركة إنشاء المدارس، فأنشأت في سنة واحدة ثلاثًا وسبعين مدرسة في مدن وقرى القطر كله، كلها بأموال الأمة وأيديها، واخترت لتصميمها مهندسًا عربيّا مسلمًا فجاءت كلها على طراز واحد لتشهد للأجيال القادمة أنها نتاج فكرة واحدة.
وتهافتت الأمة على بذل الأموال لتشييد المدارس حتى أربت على الأربعمائة مدرسة، ولم أتخل بعد رئاستي للجمعية وخروجي من المنفى عن دروسي العلمية للطلبة وللعامة، ولما رأت فرنسا أن عقابها لي بالتغريب ثلاث سنوات لم يكف لكسر شوكتي، وأنني عدت من المنفى أمضى لسانًا وقلبًا وعزيمة مما كنت، وأن الحركة التي أقودها لم تزدد إلّا اتساعًا ورسوخًا، انتهزت فرصة نهاية الحرب ودبرت للجزائر ثورة مفتعلة فقتلت من الشعب الجزائري المسلم ستين ألفًا، وساقت إلى المعتقلات سبعين ألفًا معظمهم من أتباع جمعية العلماء، وألقت بي في السجن العسكري المضيق تمهيدًا لمحاكمتي بتهمة التدبير لتلك الثورة، فلبثت في السجن سنة إلّا قليل، ثم أخرجوني بدعوى صدور عفو عام على مدبري الثورة ومجرميها وكان من "زملائي" في السجن الدكتور شريف سعدان- رحمه الله-، والصيدلي فرحات عبّاس والمحامي شريف حاج سعيد وغيرهم.
ولما خرجت من السجن عدت إلى أعمالي أقوى عزيمة مما كنت، وأصلب عودًا وأقوى عنادًا، وعادت المدارس التي عطلتها الحكومة زمن الحرب، وأحييت جميع الاجتماعات التي كانت معطلة بسبب الحرب، ومنها الاجتماع السنوي العام، وأحييت جريدة «البصائر» التي عطلناها من أول الحرب باختيارنا باتفاق بيني وبين ابن باديس لحكمة، وهي أننا لا نستطيع تحت القوانين الحربية أن نكتب ما نريد، ولا يرضى لنا ديننا، وهمتنا، وشرف العلم، وسمعة الجمعية في العالم، أن نكتب حرفًا مما يراد منا، فحكمنا عليها بالتعطيل وقلنا: بيدي لا بيد عمرو، وحسنًا فعلنا، كذلك عطلنا مجلة "الشهاب" الناشرة لأفكار الجمعية.
ولما قررنا إحياء جريدة «البصائر» ألزمني إخواني أن أتولى إدارتها ورئاسة تحريرها فقبلت مكرهًا، وتضاعفت المسؤوليات، وثقلت الأعباء، فرئاسة الجمعية وما تستلزم من رحلات وما يتبع الرحلات من دروس ومحاضرات، كل ذلك كان يستنزف جهدي، فكيف إذا زادت عليها أعباء الجريدة وتحريرها؟ ولكن عون الله إذا صاحب امْرأً خفت عليه الأثقال.(5/285)
كنت أقوم للجمعية بكل واجباتها، وأقوم للجريدة بكل شيء حتى تصحيح النماذج، وأكتب الافتتاحيات بقلمي، وقد تمر الليالي ذوات العدد من غير أن أطعم النوم، وقد أقطع الألف ميل بالسيارة في الليلة الواحدة، وما من مدرسة تفتح إلّا وأحضر افتتاحها وأخطب فيه، وما من عداوة تقع بين قبيلتين أو فردين إلّا وأحضر بنفسي وأبرم الصلح بينهما، وأرغم الاستعمار الذي من همه بث الفتن، وإغراء العداوة والبغضاء بين الناس، فكنت معطلًا لتدبيراته في جميع الميادين.
____
ضرورة الانتقال إلى التعليم الثانوي:
____
بلغ عدد المدارس الابتدائية العربية أربعمائة وزيادة، وبلغ عدد تلامذتها إلى اليوم الذي سافرت فيه إلى الشرق مئات الآلاف بين بنين وبنات، وبلغ عدد معلميها ألفًا وبضع مئات، وبلغت ميزانيتها الخاصة (وهي فرع من الميزانية العامة لجمعية العلماء) مائة مليون فرنك وزيادة إلى نهاية خروجي من الجزائر سنة 1952. ولما بلغ عدد المتخرجين من مدارسنا بالشهادة الابتدائية عشرات الآلاف، وجدت نفسي أمام معضلة يتعسر حلها، ذلك أن حاملي هذه الشهادة ذاقوا حلاوة العلم فطلبوا المزيد، وأرهقوني من أمري عسرًا، وألحوا عليَّ أن أتقدم بهم خطوة إلى الأمام، وحرام علي- على حد تعبيرهم- أن أقف بهم دون غاياته، فكان واجبًا علي أن أخطو بهم إلى التعليم الثانوي، وأهبت بالأمة أن تعينني بقوة أبلغ بها غرض أبنائها، فاستجابت فكان ذلك مشجعًا على إنشاء معهد ثانوي بمدينة قسنطينة نسبناه إلى إمام النهضة ابن باديس، تخليدًا لذكره، واعترافًا بفضله على الشعب، فاشترينا دارًا عظيمة واسعة من دور عظماء البلدة، وجعلنا منها معهدًا ثانويًا، وهيأنا له من سنته الأساتذة والتلامذة والكتب والمال، فكان التعليم فيه بالمعنى الكامل عند غيرنا من الأمم ببرامجه وكتبه وأدواته، وكان هذا المعهد تاجًا لمدارس جمعية العلماء وغرة في أعمالها، وكانت نيتي معقودة على إنشاء معهدين ثانويين آخرين، أحدهما بمدينة الجزائر، والثاني بمدينة تلمسان، وقد بلغ تلامذة المعهد الباديسي في السنة الأولى ألفًا أو يزيدون، وكلهم منتخبون من مدارسنا الابتدائية من جميع القطر، ثم اشترينا من مال الأمة دارًا أخرى تتسع لسكنى سبعمائة طالب، وبعد خروجي لهذه الرحلة افتتحها إخواني من بعدي بعد أن قسموها إلى قاعات نوم فسيحة بأسرتها، ودواليب الثياب، وكتب المطالعة، على ترتيب بديع، وفي الدار ما يريح الطالب من مغتسلات، وحمامات، ومطابخ، وغرف طعام.(5/286)
مالية جمعية العلماء:
____
مالية جمعية العلماء تأتيها من موردين: إشتراكات الشعب الشهرية والتبرعات غير المحدودة، وميزانيتها في السنوات الأخيرة أصبحت ضخمة وقد قسمتها إلى أقسام، فمالية بناء المدارس لا تدخل خزينة الجمعية، بل تقبضها الجمعية المحلية وتنفقها على البناء، فإذا تم البناء جرى الحساب علنًا على رؤوس الأشهاد بحضرتي وسُدَّ بابها، والمالية الخاصة بأجور المعلمين والقَوَمة على المدرسة تؤخذ من آباء التلاميذ بواسطة أمين مال الجمعية المحلية في مقابل إيصالات رسمية مختومة بختمها، ولكل مدرسة جمعية محلية قانونية تنتخبها جمعية العلماء من أعيان المدينة أو القرية، ولا تحاسب جمعية العلماء إلّا في آخر السنة في الاجتماع العام، والمال الذي يتحصل من الاشتراك العام في جمعية العلماء هو الذي يدخل إلى خزانتها، ويحاسب عليها أمين مالها في التقرير المالي الذي يتقدم به إلى الاجتماع العام، ويضاف إليه ما يتحصل من التبرعات غير المحدودة. أما الجريدة فإنها قائمة بنفسها من أثمان الاشتراك فيها، وقد قررت في كل اجتماع عام أن تعرض على المجلس الإداري جميع المداخيل المذكورة من أجور التعليم، والاشتراكات العامة والتبرعات، كل ميزانية على حدة، وكل مدرسة يفيض دخلها على خرجها يدخل المبلغ الفائض في الخزينة العامة، وكل مدرسة ينقص دخلها عن خرجها يعتمد لها من الخزينة العامة ما يسدد عجز ميزانيتها، وكل هذا على نظام بديع يؤدي إلى اشتراكية بين المدارس مع بعضها، وبين الشعب والجمعية المحلية.
____
أثر أعمالي وأعمال إخواني في الشعب:
____
أثر أعمالنا في الشعب بارز لا ينكره حتى أعداؤنا من الاستعماريين، وخصومنا من إخواننا السياسيين، فمن آثارنا بث الوعي واليقظة في الشعب حتى أصبح يعرف ما له وما عليه، ومنها إحياء تاريخ الإسلام وأمجاد العرب التي كان الاستعمار يسد عليه منافذ شعاعها، حتى لا يتسرب إليه شيء من ذلك الشعاع، ومنها تطهير عقائد الإسلام وعباداته من أوضار الضلال والابتداع، وإبراز فضائل الإسلام، وأولها الاعتماد على النفس، وإيثار العزة والكرامة، والنفور من الذلة والاستكانة والاستسلام، ومنها أخذ كل شيء بالقوّة، ومنها(5/287)
العلم، هذه الكلمة الصغيرة التي تنطوي تحتها جميع الفضائل، ومنها بذل المال والنفس في سبيل الدين والوطن، ومنها نشر التحابب والتآخي بين أفراد المجتمع، ومنها التمسك بالحقائق لا بالخيالات والأوهام، فكل هذه الفضائل كان الاستعمار يغطيها عن قصد لينساها المسلمون على مر الزمان، بواسطة التجهيل وانزواء العقل والفكر، وقد وصل الشعب الجزائري إلى ما وصل إليه، بفضل جمعية العلماء، وما بذلناه من جهود في محو الرذائل التي مكن لها الاستعمار، وتثبيت الفضائل التي جاء بها الإسلام، ولو تأخر وجود الجمعية عشرين سنة أخرى لما وجدنا في الجزائر من يسمع صوتنا، ولو سلكنا سبيلًا غير الذي سلكناه في إيقاظ الأمة وتوجيهها في السبيل السوي لما قامت هذه الثورة الجارفة في الجزائر، التي بيضت وجه العرب والمسلمين، ولو نشاء لقلنا إننا أحيينا اللسان العربي، والنخوة العربية، وأحيينا دين الإسلام وتاريخه المشرق، وأعدنا لهما سلطانهما على النفوس وتأثيرهما في العقول والأرواح، وشأنهما الأول في الاتعاظ والأسوة، فاحيينا بذلك كله الشعب الجزائري فعرف نفسه، فاندفع إلى الثورة يحطم الأغلال ويطلب بدمه الحياة السعيدة والعيشة الكريمة، ويسعى إلى وصل تاريخه الحاضر بتاريخه الغابر.
...
____
مؤلفاتي:
____
لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلًا، ولكنني أتسلى بأنني ألفت للشعب رجالًا، وعملت لتحرير عقوله تمهيدًا لتحرير أجساده، وصححت له دينه ولغته فأصبح مسلمًا عربيًا، وصححت له موازين إدراكه فأصبح إنسانًا أبيًّا، وحسبي هذا مقربًا من رضى الرب ورضى الشعب.
ومع ذلك فقد ساهمت بالكتابة في موضوعات مفيدة، ولكن لم يساعدني الفراغ ولا وجود المطابع على طبعها، وقد بقيت كلها مسودات في مكتبتي بالجزائر.
فمن أجل ما كتبت:
ـ[عيون البصائر]ـ: وهي من المقالات التي كتبتها بقلمي في جريدة «البصائر» في سلسلتها الثانية.
كتاب ـ[بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر]ـ، (والتزمت فيها اللهجة السائدة اليوم في مواطن هلال بن عامر).(5/288)
كتاب ـ[النقايات والنفايات في لغة العرب]ـ: جمعت فيه كل ما جاء على وزن فعالة (من مختار الشيء أو مرذوله).
كتاب ـ[أسرار الضمائر في العربية]ـ.
كتاب ـ[التسمية بالمصدر]ـ.
كتاب ـ[الصفات التي جاءت على وزن فعل]ـ بفتح العين.
كتاب ـ[نظام العربية في موازين كلماتها]ـ.
كتاب ـ[الاطراد والشذوذ في العربية]ـ: (رسالة في الفرق بين لفظ المطرد والكثير عند ابن مالك).
كتاب ـ[ما أخلت به كتب الأمثال من الأمثال السائرة]ـ.
ـ[رسالة في ترجيح أن الأصل في بناء الكلمات العربية ثلاثة أحرف لا اثنان]ـ.
رواية: ـ[كاهنة أوراس]ـ بأسلوب مبتكر يجمع بين الحقيقة والخيال.
ـ[رسالة في مخارج الحروف وصفاتها بين العربية الفصيحة والعامية]ـ.
كتاب ـ[حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام]ـ بدأت فيه من أيام إقامتي في دمشق بعد الحرب الأولى، وأتممته بعد ذلك في فترات، وبحثت فيه ينابيع المال في الإسلام، واستخرجت ينابيع أخرى غير منصوصة يلتجئ إليها جماعات المسلمين إذا حَزَبَهم أمر، أو فاجأتهم حادثة.
كتاب ـ[شُعَب الإيمان]ـ: جمعت فيه الأخلاق والفضائل الإسلامية.
وهناك محاضرات وأبحاث كتبها عني التلامذة في حين القائها، وهناك فتاوى متناثرة. ولكن أعظم ما دونت، ملحمة رجزية نظمتها في السنين التي كنت فيها مبعدًا في الصحراء الوهرانية، وهي تبلغ ستة وثلاثين ألف بيت من الرجز السلس اللزومي في كل بيت منه، وقد تضمنت فنونًا من المواضيع: تاريخ الإسلام ووصف لكثير من الفرق التي حدثت في عصرنا هذا، وللمجتمع الجزائري بجميع فرقه ونحله، ولأفانين في الهزل للمذاهب الاجتماعية والفكرية والسياسية المستجدة، والإنحاء على الابتداع في الدين، وتصوير لأولياء الشيطان، ومحاورات أدبية رائعة بينهم وبين الشيطان، ووصف للاستعمار ومكائده ودسائسه وحيله وتخديراته للشعوب للقضاء على مقوماتها.
ولم أقرأ للرجاز رجزًا سلسًا يلتحق بالشعر الفني مثل هذه الملحمة إلّا لابن الخطيب في نظم الدول، ولشوقي في رجز دول العرب وعظماء الإسلام، ولبعض الشناقطة، وكان الرجز موقوفًا على نظم المتون العلمية، وهي مقيدة بالاصطلاح العلمي، لذلك كان باردًا بعيدًا عن الفن، خاليًا من الإشراق والروعة حتى عده المعري من سفساف القريض وتخيل للرجاز جنة حقيرة، وأنا أعتبره بحرًا كبقية بحور الشعر العربي يرتفع فيه أقوام وينخفض آخرون، ولمهيار(5/289)
الديلمي قصائد كثيرة من مسلسلاته من وزن هذا البحر، ولم يقعد بها عن الإجادة أنها من الرجز، وشوقي إمام الشعر في وقتنا هذا يقول في شأن الغاضّين من الرجز، الظانّين بأنه مركب لمن عجز.
يرون رأيًا وأرى خلافه … الكأس لا تُقوِّم السلافه
____
خلاصة الخلاصة:
____
1 - ولدت عند طلوع الشمس من يوم الخميس الثالث عشر من شهر شوال عام 1306هـ، الموافق للرابع عشر من شهر يونيو سنة 1889م.
2 - حفظت القرآن ومتون العلم الكبيرة وأنا ابن تسع سنين، وتلقيت علوم الدين والعربية في بيت أسرتي على عمي القائم بتربيتي الشيخ محمد المكي الإبراهيمي وكان علّامة
زمانه في العلوم العربية.
3 - مات عمي وأنا ابن أربع عشرة سنة، بعد أن أجازني في العلوم التي تلقيتها عليه.
4 - وهبني الله حافظة خارقة، وذاكرة عجيبة تشهدان بصدق ما يحكى عن السلف وكانتا معينتين لي في تحصيل العلم في هذا السن.
5 - بعد موت عمي خلفته في إلقاء الدروس على تلامذته وغيرهم إلى أن جاوزت العشرين سنة.
6 - بيتنا عريق في العلم خرج منه جماعة أفذاذ في علوم الدين والعربية في الخمسة قرون الأخيرة، بعد انحطاط عواصم العلم الشهيرة في المغرب.
7 - رحلت إلى المدينة أنا ووالدي مهاجرين، فرارًا من الاستعمار الفرنسي، فكنت من مدرسي الحرم النبوي الشريف، وتلقيت فيها علم التفسير، وعلم الحديث، رواية ودراية، وعلم الرجال وأنساب العرب، ومكثت في المدينة المنورة قريبًا من ست سنين، ثم انتقلنا إلى دمشق في أثناء الحرب العالمية الأولى فكنت من أساتذة العربية في المدرسة السلطانية بها مدة سنتين، في عهد حكومة الاستقلال العربي.
8 - بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى رجعت إلى بلدي بالجزائر، وبقيت بها أنشر العلم في فترات متقطعة إلى سنة 1931 ميلادية، وكنت أحد اثنين يرجع لهما الفضل في تكوين(5/290)
جمعية العلماء أنا وعبد الحميد بن باديس، وكنت في طليعة العاملين على إحياء العلوم الدينية والعربية بالجزائر من الابتدائية إلى العالية، وكنت أبرز المشيدين لأربعمائة مدرسة في مدن القطر الجزائري وقراه، وفي طليعة المجاهدين في سبيل الإصلاح الديني وحرب التدجيل والابتداع في الدين وبث الوعي الوطني، وتصحيح الموازين الفكرية والعقلية في نفوس أفراد الشعب الجزائري.
9 - بعد ظهور جمعية العلماء للوجود انغمست في أعمالها وتشكيلاتها وانقطعت إلى العلم وتأسيس مدارسه ووضع برامجه، وكيلًا لها في حياة ابن باديس ورئيسًا لها بعد موته على ما هو مفصل في الخلاصة، وفي سنة 1952 ميلادية رحلت إلى الشرق بتكليف من جمعيتي، وكان الباعث على هذ الرحلة أمرين:
الأول: السعي لدى الحكومات العربية لتقبل لنا بعثات من أبناء الجزائر.
الثاني: مخاطبة حكومات العرب والمسلمين في إعانتنا ماليًّا حتى تستطيع الجمعية أن تواصل أعمالها بقوّة، لأن الميدان اتسع أمامها، والشعب الجزائري محدود القوّة المالية، إذا لم يعنّا إخواننا فربما تنتكس حركتنا، وهذا ما ينتظره الاستعمار لنا.
وقد قدمت مصر ثم زرت باكستان والعراق وسوريا والحجاز. فأما قبول البعثات فقد حصلت فيه على الغرض، وأما الإعانة بالمال فقد كانت طفيفة، وقامت الثورة الجزائرية المباركة سنة 1954، واستفحل أمرها فانقطعت مكرهًا عن زيارة الجزائر.
10 - تركت مسودات مؤلفاتي كلها بالجزائر ولم أصحبها معي لتطبع أو يطبع بعضها هنا كما كنت آمل، لأني لم أشأ أن أخلط عملًا عموميًّا للجزائر بعمل شخصي لنفسي.
وأنا أرجو للثورة الجزائرية التي شاركت في التمهيد لها وتهيئة أسبابها ختامًا جميلًا تنال به الجزائر حريتها واستقلالها.
نفعنا الله بما علَّمَنا وبما علَّمْنا إنه مجازي العاملين المخلصين.(5/291)
كلمة في مجمع اللغة العربية
باسم الأعضاء الجدد *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوة الكرام: حياكم الله وبياكم، وأدامكم وأحياكم، وأبقاكم للعروبة تصونون عرضها، وتستردون قرضها، وللغة العرب تجمعون شتاتها، وتحيون مواتها، وترعون- على تجهم الأحداث، وسفه الوراث- متاتها، ولهذا المجمع تعلون بنيانه وترفعون على العمل النافع أركانه.
أيها الإخوة: إن هذه اللغة العربية الشريفة التي طرقنا خيالها المؤوب، ثم أسمعنا داعيها المثوب، فاجتمعنا على بساطها اليوم من جميع أقطار العروبة، هي الرحم الواصلة بيننا وهي اللحمة الجامعة لخصائصنا وآدابنا، فمن بعض حقها علينا أن نبلها ببلالها، وأن نرعى حقها في كل منسوب إليها، كما أن من بعض حقها علينا أن نخف لنجدتها، كلما مسها ضر أو حَزَبَها أمر، وإن ما قمتم به اليوم من هذا الاستقبال المتهلل، واللقاء المرحب المؤهل، بإخوانكم أعضاء المجمع الجدد، هو فن جميل من البر بالعربية في أبنائها، يرضي الله الذي اصطفاها ترجمانًا لوحيه، ويرضي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الذي أدى بها أمانة الله، وبلغ بها رسالته إلى خلقه، ويرضي يعرب ونزارًا اللذين سكبا بها التغاريد العذبة الجميلة في آذان الأجيال، وتركاها كلمة باقية في الأعقاب، ويرضي أسلافكم الذين ساسوا بها العقول، وصقلوا بها الأذهان والقرائح وراضوا على بيانها الألسنة، ودونوا بها العلم والحكمة، وخطوا بها التاريخ، وشادوا بها الحضارة الشماء التي لا تطاول، ووسعوا بها آفاق الخيال العربي، ورققوا ببيانها العواطف الكثيفة، وحدوا بها ركب الإنسانية حينًا فأطربوا.
__________
* كلمة الإمام في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، في حفل تنصيب أحد عشر عضوًا من مختلف أقطار العروبة بتاريخ 12 مارس 1962، وهي منشورة في المجلد الرابع من البحوث والمحاضرات (مؤتمر 1961 - 1962) الصادر عن المجمع، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، جانفي 1963.(5/292)
أيها الإخوة: لقد كانت العربية قبل اليوم وإن رباعها لمجفوّة، وإن قصاعها لمكفوة وإن رقاعها لغير ملتامة ولا مرفوة. لقد كانت تلقى الأذى من الغريب المتنمر، ومن القريب المتنكر، فيخف لنصرتها أفذاذ من أبنائها الأوفياء، وجنودها المجهولين، ولكن لا يسمع لهم صوت لتفرقهم في أقطار العروبة المتباعدة، حتى ظهر هذا المجمع، فسعى في إعادة شبابها وتجديد معالمها، وجمع أنصارها، على تعثر خطواته في السنوات الأولى لإنشائه، كشأن كل ناشئ، ثم ما زال يقوى ويشتد، وكلما انضمت إليه طائفة من رجال العربية وفرسان بيانها انتعش وشاعت فيه الحياة، ووخزته الخضرة من جوانبه، ثم ما زال المدد يتلاحق، والعدد يتكامل، حتى وصل إلى الحالة التي هو عليها اليوم، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرًا، وإن هذا المجمع إذا اطَّرَدَ سيره، وتم إتمامه ليكونَنَّ أداة فعالة في وحدة العرب، ولا عجب فأقوى جامع لكلمة العرب كلام العرب، ولئن تم ذلك لتكونن هذه الأسرة أعز رهط في العرب.
أيها الأخوة: لقد كنا معشر المشغوفين باللغة العربية، الهائمين بحبها في كل واد، نتتبع أعمال هذا المجمع باهتمام، ونتلقف كل ما يقوله أو يقال عنه، فنبحثه في مجتمعاتنا الخاصة بإنصاف، ونستعرضه فصلًا فصلًا، وكلمة كلمة، وكنا نعرف منه وننكر؛ نعرف تلك الآراء القيمة التي يعلنها بعض أعضائه، وتلك المباحث الجليلة التي يقدمها بعضهم، ونستحسن تلك الأفكار الجريئة في توسيع دائرة النحت والقياس والاشتقاق، التي كان المجمع يتناولها بالتمحيص إلى كثير من حسناته ومزاياه، وننكر منه هنات لا تحط من قيمته في أنفسنا، ولا تقدح في ما نضمر له من إجلال وإكبار. ننكر عليه البطء والتثاقل في السير، وعدم التعجيل بتقديم ثمراته إلى الأمة في مجلته ونشراته، وتقصيره في ما يجب الإسراع فيه، وأشد ما كنا ننكر من أعماله استعانته بالمستشرقين في شأن هو من خصائص الأمة العربية، ولكننا كنا لا نستطيع الجهر بما ننكره على المجمع، ولا نشيع قالة السوء عنه، لأننا نعلم أنه ناشئ، وأن النشأة مظنة للنقص، وننتظر به مرور الزمان، واستحكام التجارب ومواتاة الفرص حتى يصلح من شأنه بنفسه، والزمان يقيم الأمت، ويقوم السمت، إلّا شيئًا واحدًا ما كنا نقبل فيه عذرًا ولا نتسامح فيه فتيلًا، وهو مسألة الاستعانة بالمستشرقين، ولقد كنا نستسيغ الاستعانة بالأجنبي في بناء سد، أو مد سكة، أو تخطيط مدينة، مما سبقنا إليه الأجانب وبرعوا فيه، أما الاستعانة بهم في شأن يخصنا كاللغة فلا!! .... ومتى رأينا مستشرقًا بلغ في العربية وفهم أسرارها ودقائقها ومجازاتها وكناياتها ومضارب أمثالها ما يبلغه العربي في ذلك كله؟ ... على أن بعض أولئك المستشرقين الذين كانوا أعضاء بهذا المجمع، كانوا مستشارين في وزارات الخارجية في بلدانهم، وهذا قادح آخر يضاف إلى قادح قصورهم في اللغة العربية.
أيها الإخوة: إن مواطن العروبة متفرقة متباعدة، وإن الرابط الطبيعي بينها هو هذه اللغة، وقد ألم بها من أحداث الدهر ما أضعف تلك الرابطة حتى رثت حبالها، وغالبتها العامية في(5/293)
كثير من أحكامها وكثير من مفرداتها. ولكنها لم تبتل بداء مثل هذا الداء العقام الذي نسميه الاستعمار، ولو أنصفنا لسميناه الطاعون، فهو الذي ألح عليها عن قصد وتعمد حتى كاد يزهق روحها، لإيقانه بمبلغ تأثيرها في تثبيت الروابط بيننا. ومن بلاء العربية أن هذا الداء تسلط على جميع أقطار العروبة فتمكن من حرب العربية في جميعها بوسائل شيطانية لولا عناية الله وما أودعه فيها من القوّة والمناعة لقضى عليها، ولقد حاربنا على أرضنا وأقواتنا وكل وسائل الحياة عندنا فأفلح، ولكنه حينما حارب لغتنا وتدسس إلى مدب السرائر ومكامن العقائد من نفوسنا باء بالهزيمة، فلا خوف بعد اليوم وقد تنبه رب البيت فخاب اللص، وباء بالفشل والخيبة، وأبرز الأمثلة لحرب الاستعمار للعربية منعه لتعلمها في الجزائر، وحكمه بأنها لغة أجنبية في بلدها، ومنعه للكتب العربية التي تطبع في الشرق العربي من الدخول إلى الجزائر، ما ذلك كله إلّا لغاية واحدة هي إضعافها ثم الإجهاز عليها، وما جرى في الجزائر جرى في غيرها من أقطار العروبة على اختلاف في الشكل، والاستعمار كله ملة واحدة، وأنا ما زلت أتلمح العامل الإلهي لحفظ هذه اللغة، وحفظ الإسلام الذي يحميها وتحميه- أتلمح هذا العامل- في هذه المذاييع التي ينفق عليها الاستعمار أموالًا طائلة لتذيع القرآن بلغته في العواصم الكبرى فتبلغ أطراف العالم في كل ليلة. انه لعمركم انتصار للعربية، وإن كان للاستعمار فيه مآرب أخرى يقصدها أولًا وبالذات، ولكن الدعاية للعربية بعمله هذا حاصل غير مقصود، بل مناقض لقصده.
أيها الإخوة: إن أسرة المجمع أصبحت أسرة عربية لا تخالطها عجمة، ولا يطرق ساحتها دخيل، ولا يداخل نسبتها إقراف ولا هجنة، فلنعمل للغتنا بأنفسنا، ولنسكب عليها عصارة أرواحنا ولنضاعف جهودنا، ولنشدد حيازيمنا، ولنشحذ عزائمنا، ولنوجه كل قوانا لخدمتها والذب عن حرماتها، ولنعلم أنه إن أصابها سوء ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون، ولسنا لعدنان ولا لقحطان إن سيمت العربية ضيمًا ونحن حماة ثغورها، ولعل إخواني الأعضاء الجدد يشاركونني في اليقين بأنكم ما أوليتمونا شرف العضوية بهذا المجمع للراحة ولين المهاد، وإنما لنتحمل بهذه العضوية أعباء تستدعي سهر العيون وإنضاء العقول والقرائح ومتاعب التنقيب على ما أودع الأسلاف في هذه الأسفار من كنوز، فلنوطن أنفسنا على ذلك كله برضى واطمئنان، وإنها لصفقة رابحة.
أيها الإخوة: إن اللغة العربية كالدين يحملها من كل خلف عدوله، لينفوا عنها تحريف الغالين، وزيغ المبطلين، وانتحال المؤولين، وأنتم أولئك العدول، فانفوا بجد وإخلاص عن هذه اللغة زيغ المبطلين من هذا الجيل الذين أصبحوا يتنكرون لهذه اللغة ويعفرون في وجهها، وقد فاتهم أن يحصلوا منها على طائل، فأصبحوا يرمونها بالعقم والجمود، وعدم المسايرة لركب الحضارة، ويرتضخون لكنة، لا هي بالعربية ولا هي بالصالحة لأن تخلف(5/294)
العربية ويتمردون على البيان العربي، وعلى مناحي الشعر العربي، وعروضه وقافيته ورويه، ويلوون ألسنتهم بالسوء في ذلك كله.
أيها الإخوة: أعيذكم بشرف العروبة أن تكونوا كأعضاء المجمع الفرنسي: دعوا بالخالدين فأوهمهم هذا الوصف أنهم خالدون حقّا فركنوا إلى الكسل وأصبحوا سخرية الساخر.
أيها الإخوة: أنا وإخواني الأعضاء الجدد الذين أتكلم باسمهم نتقدم أولًا بالحمد لله على أن شرّفنا بالانتساب إلى هذه الأمة الجليلة، وعلى أن فتق ألسنتنا على لغتها الحرة الأصيلة، وعلى أن رزقنا من بيانها ما نستطيع به أن نعلق بغبار جياد السبق في ميادينها.
ثم نتقدم بالثناء العاطر على إخواننا السابقين الأولين من أعضاء المجمع على ما أنفقوا في سبيله من وقت وجهد، وأفاضوا عليه من معنويات راسخة، ونفضوا عليه من ألوان ثابتة جميلة، على ما وسعوا من آفاقه وميادينه، وعلى ما سعوا فيه من إلحاق إخوان لهم من أقطار العروبة تكثرًا بهم، والعزة للكاثر، وتعاونًا على هذ الأم البرة، والتعاون على البر (بفتح الباء) كالتعاون على البر (بكسر الباء) كلاهما منقبة وقربة وحسن أحدوثة، وقالة خير فاشية.
ثم نتقدم بالشكر لشعب الجمهورية العربية المتحدة وحكومتها ورئيسها على احتضانهم للقومية العربية التي هي مدد هذا المجمع، وحسن رعايتهم للغة العربية التي هي وظيفة هذا المجمع، بل على إمدادهم لهذا المجمع بوسائل الحياة.
أيها الإخوة: أنا سعيد بأن أتكلم في هذا اليوم، وفي هذا المحفل ووطني الجزائر مقبل على استقلاله الذي اشتراه بالثمن الغالي، وستلتحق الجزائر بالركب العربي عن قريب، وسيخرج من أجيال المغرب العربي عُفارٌ لهذا المجمع، وحماة لهذه اللغة الشريفة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/295)
رسالة إلى الأستاذ عبد الله كنون *
حضرة الأخ الصديق العلامة الأستاذ عبد الله كنون حفظه الله وأبقاه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلتني رسالتكم البرة الكريمة في التهنئة بأعجوبة الزمن ومعجزة الدهر: استقلال الجزائر، وما أدراكم ما استقلال الجزائر، الحدث الذي هز العالم كله فابتهج له أقوام وامتعض آخرون، وما امتعض له إلّا الشيطان وحزبه، والاستعمار وأولياؤه، ولا سروا ولا فرحوا.
إن استقلال الجزائر- أيها الأخ الأستاذ- قدر مشترك بين جميع العرب وجميع المسلمين، فليس واحد منا بأحق في باب التهنئة من صاحبه، ولكنكم سبقتم فلكم فضل السبق ومزية البدار إلى الواجب، ولقد كانت تهنئتكم كبيرة في معناها مضاعفة في مغزاها، فهي كبيرة إذ كانت منكم، ولحضرتكم عندي المكانة التي لا تطاول، والمنزلة التي لا تسامى، والقيمة التي لا تكاثر، وهي مضاعفة بكونها باسم رابطة العلماء، وما أعز هذا الإسم عليّ وما أكثر غرامي به وافتتاني، ولقد كنت سعيت للعهد الأول من نشأة جمعية العلماء في أن تنشأ لها أخت برة في تلك القطعة العزيزة من الوطن حتى تشد أزرها وتقوي أمرها، ولكن لكل شيء أوان، وستعود جمعية العلماء سيرتها الأولى وتخب مع الرابطة في الميدانين الإسلامي والعربي عنقًا فسيحًا إن شاء الله.
أيها الأخ: أنا مريض منذ فارقتموني، ولولا أن استقلال الجزائر أنعشني ومست روحي منه ما يشبه الكهرباء لما كانت فيّ قوّة على إملاء كلمة وكتابة حرف، ولقد كنت إلى عهد قريب أخشى أن تخترمني الموت قبل أن أملأ أذنيّ بأخبار استقلال الجزائر، ولكن الله منّ عليّ - تفضلًا منه ورحمة- بالحياة حتى تمت الفرحة الكبرى فقلت: الآن ألقى الله مطمئنًا،
__________
* أُرسلت من القاهرة يوم 9 أغسطس 1962.(5/296)
واذهب إلى الآخرة بزاد لنفسي وببشرى لإخواني الماضين في دار الخلود، الذين ماتوا بحسرة في النفس وحزّة في الصدر، إذ لم ينعموا ولو في حشرجة الموت بخبر منعش مثل هذا.
أخي: إني راجع إلى الجزائر بعد أيام قليلة لِأُطفئ الشوق إلى بقية الموت من إخواني الأخيار، وأبنائي الأطهار، ونتنادم على بساط الصفاء والأنس حتى نتذوق النعمة كاملة، وسأرجع إن شاء الله في الشهر الثاني من الخريف ونبقى حتى نجتمع بكم في مجمع اللغة العربية.
وتقبلوا فائق التحيات من أخيكم: محمد البشير الإبراهيمي(5/297)
لقاء مع "مجلة الشبّان المسلمين" *
فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، شيخ علماء الجزائر، رجل من رجال الدعوة الإسلامية والجهاد العربي، جعل من أيام حياته سلسلة متصلة الحلقات من الكفاح والنضال، اليوم يهب حياته- مدّ الله في عمره- لدينه الحنيف ووطنه العربي الكبير، وقد التقينا بالمجاهد العربي الكبير ودار بيننا ويينه هذا الحديث:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت لفضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي:
هل لنا أن نعرف قصة حياتكم ليستفيد شبابنا بما فيها من دروس رائعة؟
وأجاب فضيلته قائلًا: لقد ولدت في الجرائر في مقاطعة قسنطينة. وأصل عائلتي ومنازلها في الفروع المتمّمة لجبال أوراس من جهته الغربية، وفي السفوح المواجهة للتلول، وهي فروع لجبال الأطلس الكبير الذي تبتدئ مخارمه من ليبيا ويمتد غربًا إلى المحيط الأطلسي بمراكش، وسلاسله من أطول سلاسل الدنيا، وقد أقام أجدادي بهذه الجبال حقبة طويلة في التاريخ. وكانوا كبقية قبائل الأطلس يحترفون الفلاحة وتربية الماشية، وكان لأجدادي تاريخ قديم في العلم يرجع إلى قرون، وكانوا مرجعًا في الفتيا الدينية، والصلح بين العشائر مهما شجر بينهم من خلاف. وكانوا ملاذًا لطلبة العلم لا تخلو بيوتهم من عشرات طالبي العلم يرحلون إليهم من أقاصي البلاد، فيقومون بإطعامهم وتعليمهم، ومنهم من لا يخرج من بيتهم إلّا عالمًا.
وفي هذه البيئة ولدت عام 1306 هجرية عند طلوع الشمس من يوم الخميس في الثالث عشر من شهر شوّال ويوافق سنة 1889 ميلادية.
__________
* مجلة "الشبّان المسلمين"، العدد 66، القاهرة، أوت (أغسطس) 1962.(5/298)
وأدركت من علماء بيتنا جدي لأبي الشيخ عمر الإبراهيمي وعمّي شقيق أبي الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي، وهو الذي تولى تربيتي وتعليمي على طريقة خاصة له في ذلك. ورزقت حافظة عجيبة وذاكرة قوية، فاستغلها عمي في تعليمي؛ فكان يملي عليّ من شعر العرب القدماء والمحدثين، وحفظت القرآن الكريم مع معالم مفرداته وأنا ابن تسع سنين، وحفظت مع ذلك في أثناء هذه المدة المتون المهمة في العلم، وتفقهت وأنا في هذه السن في قواعد النحو والفقه والبلاغة.
وتابع فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي حديثه قائلًا:
ولما بلغت العشرين سنة من عمري هاجرت إلى المدينة المنوّرة سنة 1911م ملتحقًا بوالدي الذي سبقني بالهجرة سنة 1908م، ومررت بالقاهرة فلبثت فيها ثلاثة أشهر أقضي غالب نهاري في التردد على حلقات الدرس بالجامع الأزهر. وحضرت دروس الشيخ عبد الغني محمود في جامع سيدنا الحسين، ودروس الشيخ يوسف الدجوي في الأزهر في البلاغة، ودروس الشيخ نجيب في الرواق العباسي، ودروس الشيخ سعيد الموجي في الموطأ بجامع الفاكهاني.
وزرت أمير الشعراء أحمد شوقي وقرأت عليه قصائد كثيرة من شعره الذي وصل إلينا، كما زرت حافظًا وقرأت عليه بعض ما أحفظه من قصائده، أذكر منها قصيدته اليائية في رثاء مصطفى كامل رحمهم الله أجمعين. ثم سافرت إلى المدينة عن طريق بورسعيد- حيفا- تبوك- المدينة المنورة، واجتمعت بوالدي. واخترت من مشايخ الحرم النبوي أبرعهم في العلم وأعلاهم كَعْبًا فيه، فلزمت واحدًا منهم وهو أستاذي الشيخ محمد العزيز الوزير التونسي، وأخذت عنه الحديث وبعض أمهات النحو وفقه مالك، ولازمته ما يقرب من ست سنوات. وكنت أتردّد على دروس المحدثين مثل الشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي والشيخ أحمد البرزنجي وغيرهما وكنت في مدة الطلب ألقي دروسًا منظمة في الأدب واللغة في الحرم النبوي الشريف.
وقال لنا فضيلة العالم الكبير:
ولما قامت الحرب الأولى الكبرى وقامت في أثنائها ثورة الشريف حسين المعروفة أرغمتنا الدولة العثمانية نحن معشر سكان المدينة جميعًا بالخروج إلى دمشق، فانتقلت مع والدي إلى الشام واستوطنت دمشق، واشتغلت بالتعليم الحر في المدارس الحرة، ثم عيّنت رسميًا أستاذًا للآداب العربية في المدرسة السلطانية الأولى وهي أعلى مدرسة في دمشق إذ ذاك. إلى أن انتهت الحرب بقلب الأوضاع وخيبة الآمال واخترت الرجوع إلى الجزائر. واشتغلت بإلقاء دروس متنوعة في العربية والأدب العربي والفقه والحديث والتفسير والتاريخ على طلّاب وجدتهم مستعدين لذلك.(5/299)
وهناك، وعلى تربة الوطن، كنت أجتمع كل أسبوع أو كل شهر على الأكثر بإمام النهضات الجزائرية من دينية وسياسية واجتماعية الشيخ عبد الحميد بن باديس. وتلاقى فكرانا على هدف واحد وهو قيامنا بنهضة شاملة نُحيي بها ما انْدَرَس من معالم العربية والإسلام بالوطن الجزائري.
وشرعنا نخطط خططًا لذلك وكيف نحارب الاستعمارين الروحي والبدني في الجزائر، فهما اللذان تواطآ على تجهيل الجزائر وتفقيرها بإبعادها عن الإسلام وعن العروبة وعن تاريخ الإسلام والعروبة وعن أمجاد الإسلام والعروبة. ولبثنا نفكّر ونقدر عشر سنوات مع توسيع دائرة تعليمنا الخاص إلى أن جاءت سنة 1930، وتمّت لفرنسا مئة سنة على احتلالها للجزائر، فاحتفلت بذلك احتفالًا عالميًا، وأعلن كثير من خطباء ذلك الاحتفال من الفرنسيين فقالوا: إن معنى هذا الاحتفال الحقيقي هو تشييع المسيحيين لجنازة الإسلام.
وقد خيّب الله ظنهم ورماهم بما كذب فألهم، فبرزت جمعية العلماء للوجود سنة 1931 وكان من أعمالها في إحياء الإسلام الصحيح وإحياء لسانه العربي المبين ما هو مشهور مسجل في جرائدها الكثيرة.
وقلت لفضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي:
كيف نقوّي الرابطة بين الشباب المسلم؟
فقال: معظم الشباب المسلم اليوم مفكك الأجزاء لا تربطه رابطة دينية ولا دنيوية، وهذا أمر يؤسف له ...
وسألت: ما هي الأسباب؟
فأجاب قائلًا: أهم الأسباب لذلك يرجع إلى تنشئته، فالكثير من هؤلاء الشباب لم ينشأ دينيًا، لا في البيت الذي هو أول مدرسة في حياته، ولا في المدرسة التي هي آلة التقويم الخلقي لتلامذتها، ولا في المجتمع. لذلك نشأ رخو الطباع، والعهدة في هذا ترجع إلى الأبوين، وبيئة الأهل والأقارب الذين يتقلب الشباب بينهم ويقضي زهرة شبابه في مخالطتهم صباحًا ومساءً، ثم على المدرسة التي تعلّم والتي ما تزال في معظم الأحيان غير مجتهدة بحق في العناية بتربية الأخلاق الفاضلة وغرسها في نفس الشاب، وما دام هذان العاملان مشتركين بين الشباب فلا نطمع أن تسري هدى الصلاح والفضيلة من فريق منهم إلى فريق، ولا نطمع أن يعدي الصحيح الأجرب، بل الواقع أن الطالح يعدي الصالح.
وسألت: ما هو العلاج؟(5/300)
فأجاب: إن الأمر لم يخرج من أيدي دعاة الإصلاح بالمرة، ففي أيدي هؤلاء الدعاة إذا تضافرت جهودهم أن يتقدموا إلى مدرّسي المساجد وخطباء الجُمَع ومحاضري المجامع والنوادي بأن يركبوا طريقة غير الطريقة المعهودة عندهم في الدروس والخطب والمحاضرات، ويتفقوا على أسلوب واحد في تربية الشبيبة الإسلامية على الدين والفضيلة والتقوى، فهذه هي الباقيات الصالحات التي ينبغي على المدرّس والخطيب أو المحاضر أن يغرسها في نفوس الشباب ويجتثّ منها أضدادها.
فإذا نشأ الشباب على التديّن أحبّ الدين، وإذا أحبّ ما فيه وأحث ما يستتبعه من فضائل وأخلاق حميدة، عمل على غرسها في نفوس غيره من الأجيال اللاحقة. والشباب أمة مستقلة، والشباب يؤثر في الشباب، وإذا أحبّ الشاب دينه وفضائل دينه، ولغته وأسرار لغته أحبّ العرب جميعًا، وأصبح في نفسه دافع إلى الاجتماع بإخوانه في الدين والعروبة.
يغذي هذا الدافع وينمّيه في نفسه بما يحضّ عليه الإسلام من الضرب في الأرض والسير في مناكبها والحقّ على التعارف بين المسلمين، وذلك كله مما يقوي الرغبة في الأسفار وحب الرحلة والاستطلاع والاستفادة. فإذا كانت الحكومات رشيدة أعانت على ذلك وساهمت فيه بالسهم الوافر بعقد الرحلات السنوية أو الشهرية من بعض أقطار الإسلام إلى البعض الآخر.
وقال فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: وأنا أرى أن الأزهر وسائر معاهدنا مثل جامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين بفاس، يجب أن تتحمّل القسط الأوفر من العمل على تقوية الروابط بين الإخوة المسلمين، والأزهر جامعة جامعة لجميع الأمم الإسلامية: ففيه المسلم الشرقي والغربي، وفيه الجنوبي والشمالي، فهو قادر على أن يلقّنهم ويجعل من ضمن دروسه المفروضة عليهم دروسًا خاصة للتحبيب في السفر والضرب في مناكب الأرض للتحصيل على فوائد جمّة أهمها التعارف بين شباب الإسلام لأنهم حَمَلة الإسلام في المستقبل، والمؤتمنُون على الدعوة إليه.
وكيف نطمع في التبشير بالإسلام في الأقطار الوثنية إذا لم نجهّز جيشًا من الشباب ونسلّحهم بالسلاح اللازم لذلك من أخلاق أقواها العزيمة والتضحية والصبر على المكاره وتحمّل المشاق، فلم ينتشر الدين في أول أمره إلّا برجال من هذا الطراز العالي.
وقد لاحت لنا بوارق من تحقيق الأمل في هذه المسألة في السنوات الأخيرة وذلك بكثرة المؤتمرات التي تعقد بالقاهرة ويشارك فيها أبناء أفريقيا وآسيا وشبابها بصورة واسعة. لكننا كنا عزلًا من سلاح هذه المؤتمرات، ولذلك حُرمنا من ثمرات اجتماع الشباب في صعيد واحد بتفريطنا الماضي وتقصيرنا في تهيئة الشباب المسلم المهتدي المجهّز لميادين الدعوة.(5/301)
يلي هذا العامل عامل آخر فعّال، وهو الجرائد والمجلات المصرية الإسلامية التي تُعْرَض على الشباب في جميع أوقاته، فيأخذ منها ما ينَبِّهُ إحساسه ويثير عزيمته إلى التعارف بإخوانه من شبيبة الإسلام في جميع الأقطار.
ولكن المجلات الإسلامية عندنا لا تزال قليلة وسبل نشرها في العالم الإسلامي متعذرة.
ومن أدوات التعارف الفعّالة في هذا البلد- وهو تعارف الشباب وترابطه- أداة لو رزقت الاتجاه الصحيح لأتت بالعجائب، إنها الإذاعة، فلو تنبّه العاملون لربط الشباب العالمي إلى الشباب الإسلامي وتعارفه روحيًا قبل كل شيء لأتى ذلك الجهد بأطيب الثمرات. وهذا يتوقف على تكاتف المرشدين والمربّين لينظموا محاضرات ودروسًا خاصة بهذا المعنى، ويحدّدُوا لها ساعات متفرقة من الليل والنهار، لتذاع وتوجّه خاصة إلى الشبّان المسلمين في جميع أقطار الأرض، وتخصهم بالخطاب تنويهًا بالموضوع وتمجيدًا للشبّان.
فلعمري إن هذه الدعوة لو تكررت وتجاوب في الدعوة إليها والحضّ عليها جميع الإذاعات في الأقطار الإسلامية لأتت بخوارق العادات في هذا الباب.
والله الموفق إلى الخير، والله الهادي إلى السبيل.(5/302)
الشيخ الإبراهيمي يعلن:
سأذهب إلى الجزائر حتى لا يتمزق وطني! *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كتب جمال سليم:
" ... إذا استمر الخلاف .. فسوف أذهب إلى هناك .. إلى الجزائر .. وأقابلهم واحدًا واحدًا .. إنهم أبنائي .. وهم لا يريدون بالطبع لوطنهم أن يتمزّق .. إني سأذهب .. لن أتوانى .. لن أتردّد .. إنني أحبّهم جميعًا".
إن الشيخ محمد البشير الإبراهيمي "73 سنة" رئيس جمعية العلماء الجزائريين وأحد الشيوخ المكافحين من أجل استقلال الجزائر منذ عام 1930 ... تعرّض للسجن والنفي والعذاب .. تعصف به عدة أمراض حادة منها السكر والأعصاب والروماتيزم والعيون .. ترك الجزائر في يناير عام 1952 وبها 400 مدرسة عربية و700 معلم، و 96 ألف طالب وطالبة .. يمقتون اللغة الفرنسية المفروضة .. ويتكلمون العربية بطلاقة .. إنه يسير دقيقة ليستريح دقيقة أخرى .. وكان يتحدث معي ويده على مفتاح الراديو .. يتحسس صوت الرئيس جمال عبد الناصر .. وهو يناشد الزعماء الجزائريين أن يصنعوا المعجزة ..
ويدق جرس التليفون ويرفع السماعة وأسمع صوته: "أمشي لهم .. بيش أمش لهم .. هناك".
وأفهم أن الجزائريين في القاهرة يطلبون منه أن يوجّه كلمة بالإذاعة إليهم .. إلى بن خده .. وبن بيلا .. وبومدين .. والآخرين، ولكنه لا يريد إلا أن يمشي إليهم .. ان الأمر لا يحتمل الانتظار ..
إن الشيخ الإبراهيمي لم يبدأ كفاحه في الجزائر سنة 1930 من الفراغ .. انه من مواليد سطيف سنة 1889 وتلقّى تعليمه الديني على يد علماء الدين .. وتأثر بالأمير عبد القادر الجزائري .. وفي سنوات الهجرة التي كانت نتيجة لأعمال القمع الوحشية التي قامت بها السلطات الفرنسية في الجزائر .. سافر إلى القاهرة .. ومنها إلى الحجاز .. واستقر بالمدينة المنورة .. وأخذ يدرس العلوم والنحو والبلاغة .. وكان يهدف إلى تنقية الدين من الخرافات
__________
* التصريح الذي أدلى به الإمام الإبراهيمي إلى جريدة "الجمهورية" القاهرية في 5 يوليو 1962.(5/303)
التي أحاطت به وشوّهته .. وعاصر ثورة الشريف حسين .. واضطر إلى ترك المدينة إلى الشام .. فوصلها سنة 1916 .. وهناك أصبح أستاذًا للأدب العربي في المدرسة السلطانية في الفترة من 1917 إلى 1920، واشترك في الحركات الوطنية الأولى في الشام ..
* ما رأيك في هذه الفترة .. إنها قطعة من ماضينا أيضًا؟
- كل ما أذكره .. هو 70 ألف جندي عربي ذهبوا ضحية .. للشريف حسين .. وكانت أطماعه تتفق مع مطامع الانجليز .. وكان هذا المخلوق يفتقر إلى النظر البعيد .. ومن هنا .. كانت هذه الإمارة المسماة شرق الأردن.
* كيف قلت كلمتك في هذه العلاقة .. لماذا لم تقلها سنة 1916؟
- قلتها .. وحاصرتني الشرطة .. وكانت الكلاب تحوم حول بيتي تبحث عن فريسة .. ولكن أي حركة وطنية لم تنفذ على الإطلاق من إعطاء قطع اللحم للكلاب .. ومن هنا عدت إلى بلدي .. إلى الجزائر .. كانت المعركة هناك عنيفة .. وكانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين .. قد نشأت، كنت أنا وزميلي الشيخ عبد الحميد بن باديس .. نتولى أمرها.
وكنا نجد في الدين الأسباب التي تدفعنا إلى ذلك .. فحاربنا السلطات الفرنسية باسم الدين .. ونظمنا أنفسنا باسم الدين .. وأصبح لجمعية العلماء600 شعبة في أنحاء المغرب العربي تحت ستار الدين.
* الدين كان ستارًا .. ؟
- لا .. ولكن ماذا تفعل عندما تجد قانونًا مفروضًا عليك بقوة السلاح .. يقول "اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر .. والفرنسية هي اللغة الرسمية .. " وماذا تفعل عندما يحرّمون عليك دخول المسجد .. ويعينون الأئمة من "المطايا" .. وماذا تفعل عندما تجد ثروات بلدك نهبًا للأجنبي .. وتجد دارك مباحًا لهم .. ليس هناك دين من الأديان يأمرك بالخضوع .. الهوان أمر غير معروف في ديننا .. وهنا كان يجب أن نلتمس في نصوص الدين مبررًا للوقوف ضد كل هذا .. وكان الدين يعطينا كل شيء .. ويمنحنا كل شيء .. حتى إذا ما قتلنا في هذه الحرب .. فنحن شهداء .. وكنا نعطي للفرنسيين كل هذا في صورة دينية بحتة .. فنحن نجتمع للصلاة .. ونحن نعلم الناس الدين .. ونحن ندرس القواعد .. والنحو .. ويكفي أن يعرف الشعب نفسه .. كيف يقوم بمهمّة التحرير؟ ان تدعه يتكلم لغته .. ودينه .. وتراثه فيكتشف نفسه .. ويقوم بالمعجزة.
* هل تذهب إلى الجزائر .. بسبب الخلاف القائم الآن .. لقد سمعت ذلك .. ؟
- نعم .. لن أتردّد .. ولكن أعتقد أنه سيزول سريعًا .. إن هذا الخلاف ضروري وحتمي، ويحدث دائمًا .. ولكن لا يجب أن تتسع هوّته .. ويجب أن يتوقف .. وإلا أصبحت قضية الوطن .. في خطر.(5/304)
خطبة الأستاذ الإمام الشيخ
محمد البشير الإبراهيمي
يوم صلاة الجمعة الأولى في مسجد
"كتشاوا" بالجزائر العاصمة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله ثم الحمد لله تعالت أسماؤه وتمت كلماته صدقًا وعدلًا، لا مبدل لكلماته، جعل النصر يتنزل من عنده على من يشاء من عباده حيث يبتليهم فيعلم المصلح من المفسد، ويعلم صدق يقينهم وإخلاص نياتهم، وصفاء سرائرهم، وطهارة ضمائرهم.
سبحانه وتعالى جعل السيف فرقانًا بين الحق والباطل، وأنتج من المتضادات أضدادها، فأخرج القوّة من الضعف، وولد الحرية من العبودية، وجعل الموت طريقًا إلى الحياة، وما أعذب الموت إذا كان للحياة طريقًا، وبايعه عباده المؤمنون الصادقون على الموت، فباءوا بالصفقة الرابحة، و {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ...
سبحانه تعالى جده، تجلى على بعض عباده بالغضب والسخط فأحال مساجد التوحيد بين أيديهم إلى كنائس للتثليث، وتجلى برحمته ورضاه على آخرين فأحال فيهم كنائس التثليث إلى مساجد للتوحيد، وما ظلم الأولين ولا حابى الآخرين، ولكنها سنته في الكون وآياته في الآفاق يتبعها قوم فيفلحون، ويعرض عنها قوم فيخسرون.
وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله شرع الجهاد في سبيل الله، وقاتل لإعلاء كلمة الله حتى استقام دين الحق في نصابه، وأدبر الباطل على كثرة أنصاره وأحزابه، وجعل نصر الفئة
__________
* ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة 5 جمادى الثانية، 1382 هجرية الموافق للثاني من نوفمبر 1962 ميلادية، بحضور أركان الدولة ووفود غفيرة من مختلف الدول الإسلامية.(5/305)
القليلة على الفئة الكثيرة منوطًا بالإيمان والصبر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وكل متبع لهداه، داع بدعوته إلى يوم الدين.
ونستنزل من رحمات الله الصَّيّبة، وصلواته الزاكية الطيبة لشهدائنا الأبرار ما يكون كفاء لبطولتهم في الدفاع عن شرف الحياة وحرمات الدين وعزة الإسلام وكرامة الإنسان وحقوق الوطن.
وأستمد من الله اللطف والإعانة لبقايا الموت وآثار الفناء ممن ابتلوا في هذه الثورة المباركة بالتعذيب في أبدانهم والتخريب لديارهم والتحيف لأموالهم.
وأسأله تعالى للقائمين بشؤون هذه الأمة ألفة تجمع الشمل، ووحدة تبعث القوّة، ورحمة تضمد الجراح، وتعاونا يثمر المنفعة، وإخلاصًا يهون العسير، وتوفيقًا ينير السبيل، وتسديدًا يقوم الرأي ويثبت الأقدام، وحكمة مستمدة من تعاليم الإسلام وروحانية الشرق وأمجاد العرب، وعزيمة تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض.
ونعوذ بالله ونبرأ إليه من كل داع يدعو إلى الفرقة والخلاف، وكل ساع يسعى إلى التفريق والتمزيق وكل ناعق ينعق بالفتنة والفساد.
ونحيي بالعمار والثمار والغيث المدرار هذه القطعة الغالية من أرض الإسلام التي نسميها الجزائر، والتي فيها نبتنا، وعلى حبها ثبتنا، ومن نباتها غذينا وفي سبيلها أوذينا.
أحييك يا مغنى الكمال بواجب … وأنفق في أوصافك الغر أوقاتي
يا أتباع محمد عليه السلام هذا هو اليوم الأزهر الأنور وهذا هو اليوم الأغر المحجل، وهذا هو اليوم المشهود في تاريخكم الإسلامي بهذا الشمال، وهذا اليوم هو الغرة اللائحة في وجه ثورتكم المباركة، وهذا هو التاج المتألق في مفرقها، والصحيفة المذهبة الحواشي والطرر من كتابها.
وهذا المسجد هو حصة الإسلام من مغانم جهادكم، بل هو وديعة التاريخ في ذممكم، أضعتموها بالأمس مقهورين غير معذورين واسترجعتموها اليوم مشكورين غير مكفورين، وهذه بضاعتكم ردت إليكم، أخذها الاستعمار منكم استلابًا، وأخذتموها منه غلابا، بل هذا بيت التوحيد عاد إلى التوحيد، وعاد إليه التوحيد فالتقيتم جميعًا على قدر.
إن هذه المواكب الحاشدة بكم من رجال ونساء يغمرها الفرح، ويطفح على وجوهها البشر لتجسيم لذلك المعنى الجليل، وتعبير فصيح عنه، وهو أن المسجد عاد إلى الساجدين الركع من أمة محمد، وأن كلمة لا إله إلّا الله عادت لمستقرها منه كأن معناها دام مستقرًّا في نفوس المؤمنين، فالإيمان الذي تترجم عنه كلمة لا إله إلّا الله، هو الذي أعاد المسجد إلى أهله، وهو الذي أتى بالعجائب وخوارق العادات في هذه الثورة.(5/306)
وأما والله لو أن الاستعمار الغاشم أعاده إليكم عفوًا من غير تعب، وفيئة منه إلى الحق من دون نصب، لما كان لهذا اليوم ما تشهدونه من الروعة والجلال.
يا معشر الجزائريين: إذا عُدَّت الأيام ذوات السمات، والغرر والشيات في تاريخ الجزائر فسيكون هذا اليوم أوضحها سمة وأطولها غرة وأثبتها تمجيدًا، فاعجبوا لتصاريف الأقدار، فلقد كنا نمر على هذه الساحة مطرقين، ونشهد هذا المشهد المحزن منطوين على مضض يصهر الجوانح ويسيل العبرات، كأن الأرض تلعننا بما فرطنا في جنب ديننا، وبما أضعنا بما كسبت أيدينا من ميراث أسلافنا، فلا نملك إلّا الحوقلة والاسترجاع، ثم نرجع إلى مطالبات قولية هي كل ما نملك في ذلك الوقت، ولكنها نبهت الأذهان، وسجلت الاغتصاب، وبذرت بذور الثورة في النفوس حتى تكلمت البنادق.
أيها المؤمنون: قد يبغي الوحش على الوحش فلا يكون ذلك غريبًا، لأن البغي مما ركب في غرائزه، وقد يبغي الإنسان على الإنسان فلا يكون ذلك عجيبًا لأن في الإنسان عرقًا نزاعًا إلى الحيوانية وشيطانًا نَزَّاغًا بالظلم، وطبعًا من الجبلة الأولى ميالًا إلى الشر، ولكن العجيب الغريب معًا، والمؤلم المحزن معًا، أن يبغي دين عيسى روح الله وكلمته على دين محمد الذي بشّر به عيسى روح الله وكلمته.
يا معشر المؤمنين: إنكم لم تسترجعوا من هذا المسجد سقوفه وأبوابه وحيطانه، ولا فرحتم باسترجاعه فرحة الصبيان ساعة ثم تنقضي، ولكنكم استرجعتم معانيه التي كان يدل عليها المسجد في الإسلام ووظائفه التي كان يؤديها من إقامة شعائر الصلوات والجمع والتلاوة ودروس العلم النافعة على اختلاف أنواعها، من دينية ودنيوية. فإن المسجد كان يؤدي وظيفة المعهد والمدرسة والجامعة.
أيها المسلمون: إن الله ذم قومًا فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}، ومدح قومًا فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}.
يا معشر الجزائريين: إن الاستعماركالشيطان الذي قال فيه نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ"، فهو قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
يا معشر الجزائريين، إن الثورة قد تركت في جسم أمتكم ندوبًا لا تندمل إلّا بعد عشرات السنين، وتركت عشرات الآلاف من اليتامى والأيامى والمشوهين الذين فقدوا العائل والكافل وآلة العمل، فاشملوهم بالرعاية حتى ينسى اليتيم مرارة اليُتْمِ، وتنسى الأيم(5/307)
حرارة الثكل، وينسى المشوه أنه عالة عليكم، وامسحوا على أحزانهم بيد العطف والحنان فإنهم أبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم.
يا إخواني: إنكم خارجون من ثورة التهمت الأخضر واليابس، وإنكم اشتريتم حريتكم بالثمن الغالي، وقدمتم في سبيلها من الضحايا ما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض قديمًا ولا حديثًا، وحزتم من إعجاب العالم بكم ما لم يحزه شعب ثائر، فاحذروا أن يركبكم الغرور ويستزلكم الشيطان، فتشوهوا بسوء تدبيركم محاسن هذه الثورة أو تقضوا على هذه السمعة العاطرة.
إن حكومتكم الفتية منكم، تلقت تركة مثقلة بالتكاليف والتبعات في وقت ضيق لم يجاوز أسابيع، فأعينوها بقوّة، وانصحوها في ما يجب النصح فيه بالتي هي أحسن، ولا تقطعوا أوقاتكم في السفاسف والصغائر، وانصرفوا بجميع قواكم إلى الإصلاح والتجديد، والبناء والتشييد، ولا تجعلوا للشيطان بينكم وبينها منفذًا يدخل منه، ولا لحظوظ النفس بينكم مدخلًا.
وفقكم الله جميعًا، وأجرى الخير على أيديكم جميعًا، وجمع أيديكم على خدمة الوطن، وقلوبكم على المحبة لأبناء الوطن، وجعلكم متعاونين على البر والتقوى غير متعاونين على الإثم والعدوان.
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم وهو الغفور الرحيم.(5/308)
توسيع لجنة الفتوى *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رأى محمد البشير الإبراهيمي رئيس لجنة الإفتاء الشرعي توسيع دائرة تلك اللجنة بزيادة أعضائها، فزاد خمسة من العلماء المشهود لهم بسعة الاطلاع وحسن الإدراك لحوادث هذا العصر وهم المشائخ:
- أحمد سحنون: خطيب الجامع الكبير بالعاصمة.
- عبد اللطيف القنطري: خطيب جامع كيتشاوة بالعاصمة.
- نعيم النعيمي: مفتش الأوقاف بمدينة قسنطينة وأحوازها.
- مصطفى الفخّار: مفتي مدينة المَدِيَّة في العهد الحاضر.
- الفضيل اسكندر: الإمام والمدرّس بمدينة المَدِيَّة.
وكل منهم مشهور بالذكاء واستحضار النوازل، وبالبراعة في تنزيل الأحكام الشرعية على النوازل الفقهية.
وهو عازم على أن يزوّد مجلس الإفتاء بمكتبة جامعة لكتب الفتاوى والنوازل ككتاب المعيار للونشرسي، والتبصرة لابن فرحون، وفتاوى الشيخ عليش، وفتاوى الشيخ محمود شلتوت، ونوازل البرزلي، ونوازل ابن سلمون، ونوازل ابن سهل، ونوازل المتيطي، ونوازل مازونة، وغيرها ككتب العمل المطلق والعمل الفاسي.
وستكون الخطوة الإيجابية النافعة لهذا المجلس تهيئة كتاب "المعيار" والقيام بطبعه بالحروف الحديدية، مع الاستعانة بإخواننا فقهاء المغرب الأقصى، فهذا الكتاب كتاريخ ابن خلدون لا يتم طبعهما ما لم تكن لإخواننا علماء المغرب الأقصى يد في تصحيحهما لأنهم أفقه بهما وأقوم عليهما، ولتوفّر المراجع التي تخدم الكتابين في خزائن المغرب.
__________
* الجزائر، ديسمبر 1962.(5/309)
وإذا وفقنا الله لخدمة هذا الكتاب الجليل وطبعه على الصورة التي نريدها، فإننا سنتبعها بخطوة ثانية بطبع كتاب "المدارك" للقاضي عياض، إنْ مدّ إلينا إخواننا الأفاضل علماء تونس يد المعونة لأنّ تحت أيديهم النسخ المتعددة من الكتاب. وفّقنا الله لخدمة العلم والدين، إنّه سميع مجيب (1).
__________
1) شاءت الأقدار أن في نفس السنة التي توفي فيها الإمام (1965)، أصدرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية الجزء الأول من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض بتحقيق العلّامة المرحوم محمد بن تاويت الطنجي، وتلته الأجزاء الأخرى حتى صدور الجزء الثامن والأخير سنة 1983. وفي سنة 1976 صدرت طبعة أخرى للكتاب ببيروت بتحقيق الدكتور أحمد بكير التونسي، وهي في أربعة أجزاء. أما كتاب "المعيار" للونشريسي فقد صدر سنة 1980 في ثلاثة عشر جزءًا عن دار الغرب الإسلامي بتحقيق جماعة من العلماء المغاربة، تحت إشراف الأستاذ محمد حجي.(5/310)
إجازة للأستاذ محمد الفاسي *
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد، فقد سألني أخونا في الله العالم الحافظ الواسع الاطلاع السيّد محمّد الفاسي الفهري، ذو النسب الواضح المرفوع إلى أبي بكر ابن الجدّ الفهري، ذو البيت الرفيع العماد في التاريخ العلمي بالأندلس والمغرب، الذي لا يحصى عدد المتخرّجين في العلوم الإسلامية منه، وناهيك بالإمام أبي المحاسن الفاسي حسبما قلتُ في أرجوزة المثلثات:
والجَدّ جدّ أسرة شهيرة
سيماؤها التعظيم والإجلال
ومن بقايا نسلها علّال
ووسمها الأوضاح لا الأغفال
سألني أن أجيزه إجازةً عامة في رواية وتدريس ما أخذتُه ورويتُه عن مشائخي من علوم عقلية ونقلية، وهو أهل لجميع ذلك، ولو تحلّينا بحلية الإنصاف، وجرينا على جميل الأوصاف، لكان هو المجيز وأنا طالب الإجازة.
ولكنني أجبته إلى مرامه، وأجزتُه بكل ما حصّلته عن مشائخي في الشرق والغرب رحمهم الله وجازاهم عنّي خيرًا، وقلتُ بعد حمد الله والاستعانة بحوله وقوّته: أجزتُ أخانا الشيخ محمد الفاسي برواية كتب الحديث (الصحيحين ومسند أحمد والموطأ)، وكتب الرجال والجرح والتعديل، وجميع متون العلم وأمهاته، وكذلك أجزته بأن يروي عنّي جميع
__________
* زار الأستاذ محمد الفاسي الشيخ الإمام في منزله بالجزائر في بداية سنة 1964، وهو طريح الفراش، وطلب منه أن يجيزه فأملى على ولده أحمد هذه الإجازة.(5/311)
ما في الأثبات المعروفة من أمّهات الفقه والحديث، وكذلك جميع ما احتوت عليه هذه الأثبات من المسلسلات، كالمسلسل بالأولية وبالمصافحة، وسأكتبها له بالتفصيل في فرصة أخرى، وأهمّها ثبت الشيخ عبد الله بن سالم البصري، وثبت الملّا إبراهيم الكوراني، وثبت الشيخ صالح الفلّاني، وثبت الشيخ فالح الظاهري المهناوي الكبير والصغير عن الشيخ محمد بن علي الخطابي السنوسي.
وغالب هذه الأثبات أرويها عن جماعة من مشائخي منهم الشيخ أحمد البرزنجي، والشيخ حسين أحمد الفيض آبادي الهندي، والشيخ محمد العزيز الوزير التونسي، والشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، والشيخ سعيد الردّاد المصري، وإجازتهم لي جامعة لجميع الأثبات المذكورة، وتلتقي وتفترق حتّى إن الكثير منها يتّصل بأئمة المغرب كالقاضي عياض، والإمام أبي الوليد الباجي شارح الموطأ، والحافظ أبي عمرو يوسف بن عبد البرّ، بحيث لا يذكر الذاكر كتابًا معروفًا إلا ووجد نفسه متصلًا بالرواية إلى مؤلّفه.
وأوصي أخانا الشيخ محمدًا الفاسي بما أوصي به نفسي، وبما أوصاني به مشائخي، بتقوى الله في السرّ والعلانية، وبتقدير شرف العلم وتعظيم رجاله، مدرّسًا أو راويًا، وبالدعاء بالخير للعلماء الذين هم سبب ارتباط آخر هذه الأمّة بأوّلها، والله تعالى ينفعني وينفعه بأسرارهم وبركاتهم، إنّه سميع مجيب.
محمد البشير الإبراهيمي(5/312)
مقدمة كتاب «العقائد الإسلامية»
للإمام عبد الحميد بن باديس *
بقلم فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر
وعضو المجمع اللغوي بالقاهرة والمجمع اللغوي بدمشق
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله حق حمده. وصلى الله على سيدنا محمد رسوله وعبده، وعلى آله وأصحابه الجارين على سنته من بعده.
هذه عدة دروس دينية، مما كان يلقيه أخونا الإمام المبرور الشيخ عبد الحميد بن باديس- إمام النهضة الدينية والعربية والسياسية في الجزائر غير مدافع- على تلامذته في الجامع الأخضر بمدينة قسنطينة في أصول العقائد الإسلامية وأدلتها من القرآن، على الطريقة السلفية التي اتخذتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منهاجًا لها بعد ذلك. وبنت عليها جميع مبادئها ومناهجها في الإصلاح الديني، مسترشدة بتلك الأصول التي كان الإمام رحمه الله يأخذ بها تلامذته قبل تأسيس الجمعية، وإن كانت الجمعية قد توسعت في ذلك.
فالفكرة التي بنى عليها الإمام دروسه وأماليه كانت تصحبها فكرة أخرى أشمل منها وهي فكرة جمعية العلماء. فالفكرتان كانتا مختزنتين في تلك النفس الكبيرة. وكان رحمه الله يديرهما بذلك النظر البعيد، ويهيء لهما من الوسائل ما يبرزهما في الحين المقدر لهما.
وكان يمهد في نفوس تلامذته والمستمعين لدروسه، ليكونوا في يوم ما قادتها وأعوانها، وحاملي ألويتها ومنفذي مبادئها، وناشري الطريقة السلفية الشاملة في العلم والعمل وسائر فروع الإصلاح الديني.
كان الإمام المبرور يصرف تلامذته من جميع الطبقات على تلك الطريقة السلفية. ومعلوم أن الإصلاح الإسلامي الذي قامت به جمعية العلماء بعد ذلك لا تقوم أصوله إلا
__________
* رواها وعلّق عليها الأستاذ محمد الصالح رمضان، وطبع الكتاب سنة 1964.(5/313)
على ذلك، وأن هذا الإمام رفع قواعده وثبت أصوله وهيأ له جيشًا من تلامذته وحاضري دروسه. والإمام رضي الله عنه كان منذ طلبه للعلم بتونس قبل ذلك- وهو في مقتبل الشباب- ينكر بذوقه ما كان يبني عليه مشائخه من تربية تلامذتهم على طريقة المتكلمين في العقائد الإسلامية، ويتمنى أن يخرجهم على الطريقة القرآنية السلفية في العقائد يوم يصبح معلمًا. وقد بلغه الله أمنيته فأخرج للأمة الجزائرية أجيالاً على هذه الطريقة السلفية، قاموا بحمل الأمانة من بعده، ووراءهم أجيال أخرى من العوام الذين سعدوا بحضور دروسه ومجالسه العلمية.
وقد تربت هذه الأجيال على هداية القرآن فهجرت ضلال العقائد وبدع العبادات، فطهرت نفوسها من بقايا الجاهلية التي هي من آثار الطرائق القديمة في التعليم، وقضت الطريقة القرآنية على العادات والتقاليد المستحكمة في النفوس، وأتت على سلطانها.
وقد راجت هذه الطريقة وشاعت حتى بين العوام، وإن كانوا لا يحسنون الاستدلال بالقرآن، وإن كان الاستعداد الكامن في الأمة للإصلاح الديني، وكثرة حفاظ القرآن فيها أعانا على تثبيت هذا الميل القرآني فيها، فأصبح العامي إذا سمع الاستدلال بالقرآن أو الحديث اهتز وشاعت في شمائله علامة الاقتناع والقبول!! وهذه أمارة دالة على عودة سلطان القرآن على النفوس يرجى منها كل خير.
ختم الإمام ابن باديس القرآن كله درسًا على هذه الطريقة في خمس وعشرين سنة، ولو أنه رزق تلامذة حراسًا على تلقف كل ما كان يقوله وينزل عليه الآيات من المعاني .. لوصل إلى الأمة علم كثير كما وصلت هذه الأمالي بعناية الأستاذ الموفق محمد الصالح رمضان القنطري، فإنه تلقى هذه الدروس ونقلها من إلقاء الإمام واستأذنه في التعليق عليها ونشرها للانتفاع بها. فجزاه الله خير الجزاء.
لم ينقل لنا تاريخ العلماء بهذا الوطن أن عالمًا ختم تفسير القرآن كله درسًا إلا ما جاء فيه عن الشريف التلمساني، أنه ختم تفسير القرآن كله في المائة التاسعة، والشريف حقيق بذلك، ولكن لم ينقل لنا منه شيء، لأن تلامذته كانوا في التقصير كتلامذة ابن باديس. ولو كانوا على درجة من الحرص والاحتياط لوصل إلينا شيء من ذلك.
وقد كتب الإمام ابن باديس بقلمه البليغ مجالس التذكير، وهي تفسير لآيات ولأَحاديث جامعة كانت تعرض له في تفسير القرآن أو في شرح الموطأ التي أقرأها درسًا حتى النهاية، ونشر ذلك كله في مجلة الشهاب، ثم فسر سورتي المعوذتين يوم الختم تفسيرًا عجيبًا! ونقلها من إلقائه كاتب هذه السطور نقلًا مستوعبًا بحيث لم تفلت منه كلمة ونشره في عدد خاص من مجلة الشهاب، وقدم له كاتب هذه السطور أيضًا.(5/314)
وهذا درس من دروسه ينشره اليوم في أصل العقيدة الإسلامية بدلائلها من الكتاب والسنة تلميذه: الصالح كاسمه، فجاءت عقيدة مثلى يتعلمها الطالب فيأتي منه مسلم سلفي، موحد لربه بدلائل القرآن كأحسن ما يكون المسلم السلفي، ويستدل على ما يعتقده في ربه بآية من كلام ربه، لا بقول السنوسي في عقيدته الصغرى: "أما برهان وجوده تعالى فحدوث العالم"!
كان علماء السلف يرجعون في كل شأن من شؤون الدين إلى القرآن، بل كان خلقهم القرآن كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وكما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ». وكانوا يحكمون القرآن في كل شيء، حتى في الخطرات العارضة، والسرائر الخفية، حتى تمكن سلطانه من نفوسهم وأصبحت لا تتحرك ولا تسكن إلا بأمره ونهيه. وأصبحوا يقودون حتى الخلفاء والأمراء بذلك السلطان. وذلك هو السر في علوّ كلمة الإسلام وسرعة انتشاره في المشارق والمغارب.
فلما تفرقت المذاهب الفقهية ونشأ علم الكلام، وتفرقت منازعه بين الأشاعرة والمعتزلة، وطما علم الجدل، وتفرق المسلمون شيعًا حتى أصبح كل رأي في علم الكلام أو الفقه يتحزب له جماعة، فيصبح مذهبًا فقهيًا أو كلاميًا يلتف حوله جماعة ويجادلون. فضعف سلطان القرآن على النفوس، وأصبح العلماء لا يلتزمون في الاستدلال بآياته، ولا ينتزعون الأحكام منها إلا قليلاً: فعلماء الكلام صاروا يستدلون بالعقل، والفقهاء أصبحوا يستدلون بكلام أئمتهم أو قدماء أتباعهم.
ومن هنا نشأ علم الكلام وعلم الفقه. وعلى هذه الطريقة ألفت المؤلفات التي لا تحصى في العلمين وانتشرت في الأمة وطارت كل مطار.
أما أئمة الفقه ومؤلفاتهم فلا يحصون كثرة. وأما أئمة الكلام: فالذي توسع في الطريقة العقلية ووسع دائرتها فهم جماعة معروفون كفخر الدين الرازي، والقاضي أبي بكر بن الطيب، وأبي بكر الباقلاني والبيضاوي، وإمام الحرمين، وسعد الدين التفتزاني، والقاضي عضد الدين الإيجي، وهؤلاء هم الذين ثبتوا القواعد الكلامية والاستدلال على التوحيد بالعقل. ومؤلفاتهم ما زالت إلى يومنا هذا مرجعًا للمتمسكين بهذه الطريقة، وإن كانت لا تدرس في المدارس إلا قليلاً. وكلها جارية على الأصول التي أصَّلها أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه، وآراؤه هي التي يقلدها جمهرة المسلمين اليوم، وهذا كله في الشرق الإسلامي.
وأما مغربنا هذا مع الأندلس فلم يتسع فيه علم الكلام إلى هذا الحد وإن كانوا يدرسونه على هذه الطريقة ويقلدونه، ويدينون باتباع رأي الأشعري ولم يؤلفوا فيه كتابًا له بال إلا الإمام محمد بن يوسف السنوسي التلمساني، فإنه ألف فيه على طريقة المشارقة عدة كتب شاعت وانتشرت في الشرق والغرب، وقررت في أكبر المعاهد الإسلامية كالأزهر.(5/315)
حتى جاءت دروس الإمام ابن باديس فأحيا بها طريق السلف في دروسه- ومنها هذه الدروس- وأكملتها جمعية العلماء. فمن مبادئها التي عملت لها بالفعل لزوم الرجوع إلى القرآن في كل شيء لا سيما ما يتعلق بتوحيد الله، فإن الطريقة المثلى للاستدلال على وجود الله وصفاته وما يرجع إلِى الغيبيات لا يكون إلا بالقرآن، لأن المؤمن إذا استند في توحيد الله وإثبات ما ثبت له ونَفْي ما انتفى عنه لا يكون إلا بآية قرآنية محكمة، فالمؤمن إذا سولت له نفسه المخالفة في شأن من أمور الآخرة، أو صفات الله فإنها لا تسول له مخالفة القرآن.
وقد سلك علماء جمعية العلماء في دروسهم الدينية كلها وخطبهم الجمعية طريقة الإمام ابن باديس فرجع سلطان القرآن على النفوس.
فجزى الله أخانا ابن باديس عن الإسلام خير الجزاء، فإن من أحيا القرآن فقد أحيا الدين كله. وجزى الله إخوانه الذين اتبعوا طريقته توفيقًا للعمل يساوي توفيقهم في العلم، وجزى الله تلامذته الذين قاموا بحمل الأمانة من بعده.
وهذه دروس من دروسه ينشرها اليوم في أصل العقيدة الإسلامية بدلائلها من الكتاب والسنة الأستاذ محمد الصالح رمضان، أحد طلابه، فجاءت عقيدة مثلى يتعلمها الطالب فيأتي منه مسلم سلفي موحد لربه بدلائل القرآن كأحسن ما يكون المسلم السلفي، ويستدل على ما يعتقده في ربه بآية من كلام ربه.
فنحث القائمين على تعليم ناشئتنا في المدارس الحرة أو الحكومية في الجزائر وغيرها من الأقطار الإسلامية، على اتخاذها أساسًا في تربيتهم على التوحيد الصحيح، بل نحث كل أب مسلم أن يقتنيها لأولاده، ويحثهم على تعلمها وتفهمها، وأن يشترك أهل البيت كلهم في ذلك فكلهم في حاجة إليها.
وفقنا إلله جميعًا لاتباع كتابه، وسنة نبيه، والرجوع إليهما، وإلى هدي السلف الصالح في تبيين معانيهما.(5/316)
بيان 16 أفريل 1964 *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتب الله لي أن أعيش حتى استقلال الجزائر، ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنية مرتاح الضمير، إذ تراءى لي أني سلمت مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام الحق، والنهوض باللغة العربية- ذلك الجهاد الذي كنت أعيش من أجله- إلى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن، ولذلك قررت أن ألتزم الصمت.
غير أني أشعر أمام خطورة الساعة، وفي هذا اليوم الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله-، أنه يجب علي أن أقطع ذلك الصمت، ان وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها، ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل.
ولكن المسؤولين- في ما يبدو- لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيء إلى الوحدة والسلام والرفاهية، وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم، يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية، لا من مذاهب أجنبية.
لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألا يقيموا وزنًا إلّا للتضحية والكفاءة، وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم، وقد آن أن يرجع لكلمة الاخوة- التي ابتذلت- معناها الحق، وأن نعود إلى الشورى التي حرص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيدوا جميعًا "مدينة" تسودها العدالة والحرية، "مدينة" تقوم على تقوى من الله ورضوان.
محمد البشير الإبراهيمي
__________
* بيان أصدره الشيخ في 16 أفريل 1964، ضد الانحراف العقائدي والسياسي في الجزائر.(5/317)