ضركم أكثر من نفعكم؛ وإن الذي يلوح لي من تتبع أعمالكم، وتقصّي أحوالكم، أن كثيرًا منكم عن هذه الحقيقة غافلون.
يسوءني أن أرى في كثير مما يرجع إليّ من شؤونكم، هنات يهوّنها عليكم الترخص واتساع مجال الإباحة، وتغضّون النظر عن عواقبها إذا استشرتْ، وسرَت عدواها من بعض إلى بعض، وأصبحت وسمًا لكم وتعريفًا بكم، وتزنونها بمعانيها عندكم لا بآثارها في الأمة، مما يدخل في معنى "الاستهانة بشعور الأمة".(3/269)
كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار
- 2 -
إنّ هذه الأمة- يا أبنائي- هي أمتنا، وهي رأس مالنا شئنا أو أبينا، وهي عوننا على العلم، وهي مدَدُنا وملاذنا، وهي نصرتنا ومعاذنا، وهي مناط قوتنا، ومظهر أعمالنا، فعلينا أن نراعي شعورها في غير واجب يترك، أو محرم يؤتى، وأن نسير بها إلى الغاية في رفق وأناة، لا أقول لكم: سايروها على الباطل، وجاروها في البدع، وواطئوها على الضلال، فذلك ميدان وقفنا فيه قبلكم موقف المنكر المتشدّد، ونازلنا أبطال الباطل حتى زلزلنا أقدامهم، ونكسنا أعلامهم، وقد أرحناكم ومهدنا لكم السبيل، وإنما حديثنا فيما دون ذلك، مما مرجعه العادة لا الدين، وسبيله العرف لا السنة، ودرجته الكمال لا الضرورة، ولنا في نبينا- صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة، فقد كان يجاري العرف الجاري، ما لم يناقض عقيدة دينية أو حكمًا شرعيًّا، وإذا توقف إصلاح الأمة على هجر الشهوات، والإمساك عن بعض المباحات، فمن الواجب أن يقدم حظ الأمة على حظ النفس.
...
أنتم جنود العلم، ولكلمة "جندي" معنى يبعث الروعة، ويوحي بالاحترام، ويجلب الشرف، ويُغلي القيمة، لأنه في غاية معناه حارس مجد، وحافظ أمانة، وقيّم أمة، لذلك كان من واجبات الجندي الصبر على المكاره واللزبات، والثبات في الشدائد والأزمات، والسمع والطاعة فيما يغمض على الأذهان فهمه من العلل، ويعسر على العقول هضمه من الحكم؛ فإذا استرسل الجندي في الجزع والشكوى، أو خانه الصبر فلاذ بالضجر،- أخطأ النصر، وضاع الثغر، وإنما أنتم حراس دروب، ومرابطة ثغور، فاصبروا واثبتوا، وقد كفيناكم سداد الرأي، فهاتوا سداد الإرادة وسداد العمل.
__________
* نشرت في العدد 133 من جريدة «البصائر»، 23 أكتوبر سنة 1950.(3/270)
وأنتم ممثلو جمعية العلماء في ناحية من أهم أعمالها، وهي التربية والتعليم، فكل واحد منكم صورة مصغرة من الجمعية في نظر الأمة، وجمعية العلماء هي رمز الدين الصحيح، وهي حارس الفضيلة الإسلامية، وهي المثال المفسر للحكمة المحمدية بأحسن تفسيراتها، وهي المثل المضروب في مقاومة الباطل والمبطلين، وهي مظهر القدوة الدينية اعتقادًا وعملًا؛ فهي- لذلك كله- ملءُ سمع الأمة وبصرها، وهي الأريج المتضوّع بسمعة الجزائر في العالم الإسلامي، فكونوا- في مظهركم ومخبركم- أمثلةً صحيحةً منها، واعلموا أن كل زلة منكم- وإن صغرت- محسوبةٌ على جمعية العلماء، منسوبةٌ إليها.
وفي وطنكم موجة من الإلحاد، جاءت في ركاب الثقافة الغربية، ومكن لها القصد الصحيح من غايات الاستعمار، ومهد لها في نفوس هذا الجيل جهله بحقائق الإسلام، وضعف صلته بالله، وإنّ تساهلكم في إقامة شعائر الدين، أو استخفافكم بأحكامه، معين على تفشي الإلحاد في الجيل الجديد الذي تقومون على تربيته، فاحذروا الظهور بمظهر المستخف بالدين، ولو في فلتات اللسان، فإن لكل فلتة ولكل كلمة تصدر منكم أثرًا في نفوس تلاميذكم؛ لأنكم محل القدوة عندهم، ولأن زمنهم يتبرع بالباقي، فإذا وجد العون منكم كان أجود بالشر من الريح المرسلة.
وفي زمنكم عارض من انحلال الأخلاق، بعض أسبابه في الواجدين الاسترسال في الشهوات، وبعض أسبابه في المعدمين التشوّف إليها، وأكبر أسبابه في الجميع الاستعمار وأساليبه في علاج المرض بالموت، وغسل النجيع بالرجيع، فعالجوا هذا الداء قبل حلوله في نفوس الصغار بتقوية العزائم والإرادات فيهم، وبتعويدهم الصوم عن الشهوات، وبتحبيب العمل إليهم، حتى إذا انتهوا إلى الحياة العملية اقتحموا ميادينها بنفوس غير نفوسنا، وهمم غير هممنا، وعزائم غير عزائمنا، وإرادات غير إراداتنا، وقدرة على كبح الغرائز الشهوانية غير قدرتنا.
أنتم حراس هذا الجيل الجديد، والمؤتمنون عليه، والقوّامون على بنائه، وأنتم بناة عقوله ونفوسه، فابنوا عقوله على أساس من الحقيقة. وابنوا نفوسه على صخرة من الفضائل الإنسانية، وأشربوه عرفان قيمتها؛ فإن من لم يعرف قيمة الثمين أضاعه؛ وقد غبنت هذه القيم في عصركم فكان ما ترون من فوضى واختلاط.
ربوهم على ما ينفعهم وينفع الوطن بهم، فهم أمانة الوطن عندكم، وودائع الأمة بين أيديكم.
ربوهم على التحابّ في الخير، والتآخي في الحق، والتعاون على الإحسان، والصبر إلا على الضيم، والإقدام إلا على الشر، والإيثار إلا بالشرف، والتسامح إلا في الكرامة.(3/271)
ربوهم على استخدام المواهب الفطرية من عقل وفكر وذهن، وعلى صدق التصور وصحة الإدراك ودقة الملاحظة والوقوف عند حدود الواقع.
هناك حدود مشتركة بين الضار والنافع من أعمالكم، فتبينوها ثم اعملوا على قدرها، ولا تجاوزوا حدًّا إلى حد، فتضروا من حيث قصدتم إلى النفع، فمدح المجتهد من تلامذتكم مذكٍ للنشاط، كما هو مدعاة إلى الغرور، والفصلُ بينهما رهينُ لفظة مدح مقدرة أو مبالغ فيها منكم؛ ولأن تخمدوا نشاطًا، خيرٌ من أن تُشعلوا غرورًا في نفس التلميذ، إن النشاط قد يعاود، ولكن الغرور لا يزايل، وإن الغرور لأعضلُ داء في عصركم، وإن صنفكم لأكثر الأصناف قابليةً لهذا الداء، لما فيه من إيهام بالكمال في موضع النقص، وتمويه للتخلف بالتقدم، وتغطية للسيّئ بالحسن، وهذه محسنات الغرور في نفوس المغرورين، والغرائز ضارية، والتجارب فضَّاحة، والصراع بينهما كان وما زال ولا يزول، فاحذروا الزّلة في هذا المزلق، وحذّروا تلامذتكم منها بالقول والعمل.
ربوهم على بناء الأمور على أسبابها، والنتائج على مقدماتها علمًا وعملًا، واعلموا أن العلم يبدأ مرحلته الأولى من هذه البسائط التي تقع عليها حواسكم في الحياة كل لحظة فتحتقرونها ولا تلقون لها بالًا، مع أن مجموعها هو العلم إذا وجد ذهنًا محللًا، وهو الحياة إذا وجدت عقلًا مفصّلًا.
بيّنوا لهم الحقائق، واقرنوا لهم الأشباه بالأشباه، واجمعوا النظائر إلى النظائر، وبيّنوا لهم العلل والأسباب، حتى تنبت في نفوسهم من الصغر ملكة التعليل، فإن الغفلة عن الأسباب هي إحدى المهلكات لأمتكم، وهي التي جرّت لها هذه الحيرة المستولية على شواعرها، وهذا التردد الضارب على عزائمها، وهذا الالتباس بين المتضادات في نظرها.
امزجوا لهم العلم بالحياة، والحياة بالعلم، يأتِ التركيب بعجيبة، ولا تعمروا أوقاتهم كلها بالقواعد، فإن العكوف على القواعد هو الذي صير علماءنا مثل "القواعد"، وإنما القواعد أساس، وإذا أنفقت الأعمار في القواعد فمتى يتمّ البناء؟
ربوهم على أن يعيشوا بالروح في ذلك الجو المشرق بالإسلام وآدابه وتاريخه ورجاله، ذلك الجو الذي يستوي ماضيه ومستقبله في أنهما طرفا حق لا يشوبه الباطل، وحاشيتا جديد لا يبليه الزمن، وعلى أن يعيشوا بالبدن في هذا الزمن الذي يدين بالقوة، ويُدلّ بالبأس، وعلى أن يعيشوا بالروح في ذلك الزمن المشرق العامر بالحق والخير والفضيلة، وعلى أن يلبسوا لبوس عصرهم الذي يبني الحياة على قاعدتين: "إن لم تكن آكلًا كنت مأكولًا"! و"كن قويًّا تحترم".(3/272)
حقوق الجيل الناشئ علينا * ...
للجيل الآتي علينا حقوق أوّلية مؤكّدة، لا تبرأ ذممنا منها عند الله، ولا تسقط شهادة التاريخ علينا بها، إلا إذا أدّيناها لهم كاملةً غير مبخوسة؛ وملاك هذه الحقوق أن نعدّهم للحياة على غير الطريقة التي أعدّنا بها آباؤنا للحياة.
الأخلاق والآداب والأفكار والإحساسات والاتجاهات العامة والمشخّصات الخاصة، هي "الأمتعة" التي يرثها جيل عن جيل، ومنها يتكوّن مزاجه صحةً واعتلالًا، فماذا ورثنا عن آبائنا؛ وماذا نورّث أبناءنا منها؟
ليس من العقوق أن نقولَ: إن آباءنا لم يورثونا شيئًا نافعًا من هذه الأمتعة، وليس من العقوق أن تقول: إن أباك خلفك فقيرًا ... إذا كان عاش فقيرًا، ومات فقيرًا. بل من الإنصاف لهم أن نقول: إنهم ورثونا هذه الصفقة الخاسرة التي هي رأسُ مالنا اليوم، من أخلاق لا تزنُ جناحَ بعوضة، وآداب لا تستقيم عليها حياة، وأفكار بدائية لا تجول في المدار الواسع من الحياة، وعقول تقدّر فتخطئ، وتدبِّر فتبطئ، وإحساسات مذبذبة، واتجاهات خاطئة مدبّرة؛ وغير ذلك مما تركنا غرباءَ عن عصرنا وأهل عصرنا، وصيّر الحياةَ منا في غير دار إقامة ... فهل يحسن بنا أن نورّث بنينا هذا السقط من الأمتعة بعد شعورنا ويقيننا بعدم كفايتها للحياة؟
يعذر هذا الجيل الذي نحن منه، بأنه استلم التركة العامة أدوات معطلةً، وأسلحةً مفلولة، وأجهزةً بالية، من جيل انتهى به زمنه إلى درجة من الإفلاس المادّي والأدبي، صيّرته في غير زمنه، ولكنه لا يعذر إذا سلّمها- كما هي- إلى الجيل الآتي ويقترف جريمةَ غش لا تغتفر إذا حمل أوزاره وأوزار أجيال قبله على الجيل الآتي، بعد أن كشف عررها، وتبيّن ضررها.
__________
* نشرت في العدد 145 من جريدة «البصائر»، 5 مارس سنة 1951.(3/273)
فتح جيلنا هذا عينه، في ظلمات متضرّبة، بعضها فوق بعض، تتخللها بروق معشية، ورعود صاخة، ثم رجع بصره فإذا ذئاب تتخطف، وصوالجة تتلقّف، وطفيليات أنبتها الدهر في دمنته، ثم رجع البصر كرتين فإذا أمامه مسافاتٌ مما قطع السائرون؛ ثم طلب الحياة، فإذا سبلها وعرة، والصراط إليها أرقّ من الشعرة، وما زال هذا الجيل يتعثّر في أذيال الماضي، ويتخبّط في ظلمائه، ويحمل من أثقاله ما يقعد به كلّما رام النهوض، وإن أثقل ما يعانيه من تلك الأوزار، اختلافُ الرأي حتى فيما تبينت طريقته، ولجاج الفكر حتى فيما ظهرت حقيقته.
حرام علينا أن نرضى للجيل الآتي بما لم نرض به لأنفسنا، وأن نجرّعهم هذا الحنظل الذي تجرّعناه، وأن نلوّث نفوسهم البريئة بهذه القاذورات، وأن نبتليهم بما ابتلانا به آباؤنا من أدواء التفرّق المهلك، والأنانية الكاذبة، والغرور المدلي، والتنكّر للقريب، والخضوع للغريب.
حرام علينا أن نقلّدهم هذه الأسلحة المسمومة فيتفانون كما تفانينا، ويذوق بعضهم بأسَ بعض، ويشقون جميعًا ويسعد بشقائهم الغير.
حرام علينا أن نسلم إليهم شيئًا من هذه التركة التي يجب أن تنفقَ في جهاز الميت فتدفنَ معه ويأمن الأحياء شرّها، إذا لم ينالوا خيرَها.
...
السبيل القويم الذي يؤدي إلى حفظ الجيل الجديد من هذه الشرور المتوارثة، وإلى توثيق عرى الأخوة بين أفراده، وإلى توحيد أفكاره ومشاربه واتجاهاته، وإلى تصحيح فهمه للحياة، وتسديد نظرته إليها، وتشديد عزيمته في طلبها- هو المدرسة العربية التي تصقل الفكر والعقل واللسان وتسيطر عليها، وتوجيه الجيل الناشئ إلى الإسلام والعرب، وإلى الشرق والروحانية، فعلى هذه المدرسة يتوقّف جزء كبير من ذلك الواجب الثقيل، وعليها يتوقف حظ كبير مما نرجوه لهذا الجيل؛ وبهذه المدرسة نستطيع أن نبرئ ذممنا من حقوق أبنائنا وأن نكفر عن سيئات اجترحتها أجيالنا الماضية.
لا نغالط أنفسنا فنزعم لها أن هذه اليقظة البادية الآثار، المتفشية في الجيل القديم، كافية في توجيه الجيل الجديد إلى الخير، وفي توحيد ميوله على الخير؛ أو نزعم لها أن هذا الحظ التافه الذي حصلنا عليه من التعليم الأجنبي يغنينا أو يعيننا في هذا الصدد؛ أو نزعم لها أن الحالة الحاضرة للمدرسة العربية توصل إلى هذه النتيجة المرغوبة.(3/274)
فاليقظة موجودة، ولكنها لم تصل- بعدُ- إلى الصحو الصاحي، وما زالت تغالبها بقايا من النوم الثقيل الطويل، والتعليم الأجنبيّ- على تفاهته في الكيف وقلته في الكمّ، وعلى اضطرارنا إليه وإقبالنا عليه- يسبقه جهل، وتقترن به آفات، وتعقبه مفاسد، وهو- على ذلك كله- يفتح عينًا، ليعمي عينًا ومن بلغ إلى غايته منّا أصبح بالطبيعة متنكّرًا لماضيه ودمه وقومه، لأن ذلك التعليم وجده فارغًا فملأه بما يشاء هو، لا بما نشاء نحن ...
وأما حالة المدرسة العربية الحاضرة فهي محل الشاهد.
ما هي الغاية من المدرسة العربية الحديثة؟
ما دُمنا من بناة هذه المدرسة، ومن أول الداعين إليها، والقائدين لحركتها، والواضعين لبرامجها، والمشرفين على كل دقيقة وجليلة فيها، والمعرّضين للبلاء في سبيلها، ففينا من الجرأة ما يدفعنا إلى الجواب عن هذا السؤال.
الغاية من هذه المدرسة هي تربية هذا الجيل وتعليمه.
وغاية الغايات من التربية هي توحيدُ النشء الجديد في أفكاره ومشاربه، وضبط نوازعه المضطربة، وتصحيحُ نظراته إلى الحياة، ونقله من ذلك المضطرَب الفكري الضيّق الذي وضعه فيه مجتمعه، إلى مضطرَب أوسعَ منه دائرة، وأرحب أفقًا، وأصحّ أساسًا، فإذا تمّ ذلك وانتهى إلى مداه طمعنا أن تخرج لنا المدرسة جيلًا متلائمَ الأذواق، متّحدَ المشارب، مضبوط النزعات، ينظر إلى الحياة- كما هي- نظرةً واحدة، ويسعى في طلبها بإرادة متحدة، يعمل لمصلحة الدين والوطن بقوة واحدة، في اتجاه واحد.
غاية التعليم هي تفقيهه في دينه ولغته، وتعريفه بنفسه بمعرفة تاريخه، تلك الأصول التي جهلها آباؤه فشقوا بجهلها، وأصبحوا غرباء في العالم، مقطوعين عنه، لم يعرفوا أنفسهم فلم يعرفهم أحد.
فهذه هذه الغاية السامية التي في تحقيقها نجهد ونكدح، وللوصول إليها نعمل، وفي العمل لها نلقى الأذى، وفي الأذى فيها نلقى راحة الضمير واطمئنان النفس، وببلوغها- إن شاء الله- نكون قد أدّينا الأمانة، وقضينا المناسك، وكفّرنا عن جريمة التقصير، وفزنا بالعاقبة فحمدنا السرى.
وبماذا يتم تمامُ هذه الغاية؟
لا يتم هذا على وجهه المثمر إلا بتوحيد منهاج التربية وبرنامج التعليم، ولا يتم توحيد المنهاج والبرنامج إلا بتوحيد الإدارة، ولا يتمّ توحيد الإدارة إلا بتوحيد الإشراف العام، درجات متلازمة سبقتنا بها الأمم التي بنتْ حياتها على تجربة النافع والأخذ بالأنفع، فقطعت الأشواط البعيدة في الزمن القريب.(3/275)
وهذه هي المعاني التي دعتنا إلى جمع المدارس العربية تحت إدارة واحدة، وإشراف واحد، وإلى حشر المعلمين تحت لواء واحد، لِعِلْمنا أن توحيد الغايات لا يأتي إلا بتوحيد الوسائل.
يسوءنا- والله- ويسوء الحق، أن تكون الحقيقة في هذه القضية أوضحَ من الشمس، وأن يكون رأينا فيها بعيدًا من اللبس، ثم يتمارى بعض الناس فيها فيشاقّوننا في الرأي والعمل، وتأبى بعض الهيئات إلا أن تنفرد بمدرسة أو بضع مدارس، ويأبى بعض أبنائنا الطلبة أن يكونوا إلا ملوكَ طوائف: إمارة بلا عمارة، وزعامة بلا دعامة: كلّ ذلك لدواع من الجبن، أو بواعثَ من الحسد أو دوافعَ من الغرور والأنانية، أو كلّ ذلك مضروبًا بعضُه في بعضه؛ ومن ادّعى منهم خلافَ هذا فلا يصدّقه الناس، لأن قاعدة السبر الأصولي لا تقتضي إلا هذا، لو رزق الله إخواننا هؤلاء عقولًا تزن الأمورَ بعواقبها، وإخلاصًا يذيب الحسد، ويذهب بالأنانية، لعلموا أن الخير كل الخير في الاجتماع، وأنّ القوة كلّ القوة في الاتحاد، وأن الخروج على الجماعة أهلكَ من قبلنا وهم في نهاية القوة. فكيف لا يهلكنا ونحن في نهاية الضعف؟ وأن الثمرات التي نرجوها من المدرسة للجيل الجديد لا تأتي مع هذا التفرّق والتشتيت، وأن من يريد الإصلاح فليدخل فيما دخل فيه الناس، وليعالج- مخلصًا- من الداخل، أما محاولته للإصلاح وهو خارج فليست إلا هدمًا وتخريبًا، وأن الجيل الذي تخرجه هذه المدارس المتغايرة المتنافرة لا يأتي إلا متغايرًا متنافرًا، لا يزيد شيئًا عن خرّيجي الزوايا في العهد القديم، لا يجمعهم من الخلال إلا أبلغها في تفريقهم وهو تعصّب كل تلميذ لزاويته، والحلفُ برأس شيخها، وبئس الجيل جيل يكون هذا مبلغه من التربية والعلم، وبئس المربّون نحن إن رضينا لهم هذه المنزلة.
...
اثنتان يجب توحيدهما وإصلاحهما بحزم وشجاعة وإخلاص، وإلا كنّا جانين على النهضة ومستقبلها، غاشين للأمة في أطفالها وشبابها، متسببين لها في خسارة رأس مالها الضخم، والثنتان هما: هيئات المدارس، وهيئات الكشافة ...(3/276)
حقوق المعلّمين الأحرار على الأمّة *
ونعني بالمعلّمين هذه الطائفة المجاهدة في سبيل تعليم أبناء الأمة لغتهم، وتربيتهم على عقائد وقواعد دينهم، وطبعهم على قالب من آدابه وأخلاقه.
نعني هذه الطائفة الصابرة على مكاره الحياة كلها، المحرومة من الراحة والاطمئنان في جميع أوقاتها، فهي في الشتاء تشقى وتتعب، وفي الصيف تضحى وتنصب، وفيما بين ذلك تكابد وتعاني؛ على ضيق من العيش، وتنكّر من الدهر، وتجهّم من الولاة، وفقدان للحافز من الرغبة والتنشيط. فلا مسكن مريح، ولا شمل مجموع، ولا مرتّب كافٍ يسدّ الضرورة، ويقوّي الضعيف، ويخفّف الهم، ويصونُ الهمة عن التبذل.
هذه الطائفة هي عماد جمعية العلماء في أجلّ وظائفها، وهي التربية والتعليم، وهي العصب المدبر لحياة هذه الحركة المباركة؛ فعليها- بحكم الأمانة والدين- واجباتٌ تشرعها الجمعية بالنظام والقانون، وتؤكّدها بالدعوة والإرشاد، وتستعين على تحقيقها بالمراقبة والتفتيش؛ ولها حقوق تتقاسمها الجمعية والأمة أمرًا وتنفيذًا، فهل قامت الجمعية والأمة متعاونتين بهذه الحقوق على أكمل وجه؟
أما جمعية العلماء، فإن واسطتها إلى الأمة هي هذه الجمعيات المحلية المشرفةُ على المدارس، القائمة مباشرةً بتصريف شؤونها المالية، وهذه الجمعيات هي المرجع الوحيد في ماديات المدارس، وهي الحاملة للحمل الثقيل فيها، ولما كانت جمعية العلماء تبني كل أمورها على الواقع المشهود، وتُراعي الظروفَ وشدّتها ورخاءَها، لتضمن لهذه المدارس الدوام والبقاء، كانت تتقدم إلى الجمعيات المحلية في باب المادّيات بما يحتمل الطاعة، وتتحمّله الطاقة، لأن من الحكمة اجتذاب الجماهير بالترغيب والمسايرة، لا بالإثارة والسوْق
__________
* نشرت في العدد 149 من جريدة «البصائر»، 2 أفريل سنة 1951.(3/277)
العنيف، فهما من دواعي الانتكاس، والانتكاس أخطرُ ما يعرض للحركات في مراحلها الأولى، لذلك كانت تعتبر في مرتبات المعلّمين الحد الأدنى مما يقوم بالضروريات، وهي تعلم ما يقاسيه المعلم من آلام في حياته، وتُشفق عليه وترثي له، ولكنها تعلم مع ذلك حالة الموارد المالية للمدارس، وأهمّها ما يؤخذ من آباء التلامذة مشاهرة؛ وأغلب الآباء فقراء، ولو كان لمدارسنا مدد ثابتٌ من الأغنياء وحقّ الله في أموالهم، لجعلناه بعض ما نبني عليه في التوسيع على المعلمين وإزاحة بعض عللهم، ولكننا هزَزْنا هؤلاء الأغنياء بما يهتزّ له الكرام، فلم تسقط منهم ثمرة، ورقينا لعاهة الشحّ فيهم باسم الله وباسم الدين والوطن، وناشدناهم الله في هذا الجيل المقبل أن يحلّ به ما حلّ بهم من جهل، يصحبه هوان، يصحبه شر مستطير؛ فلم ينزل عفريت بخلهم لرقية، وبقيت مواردُ المدارس- لغيبة الأغنياء عن ميدان البذل- محدودةً مقترة، تتراجع ناضبة، حتى أصبحت لا تبلّ من جفاف، ولا تقوم بكفاف، وإذا لم يكن الغيث هاميًا، فلا ترجُ أن يكونَ النبت ناميًا.
...
نوجّه بعضَ العتب إلى رجال جمعياتنا المحلية، ولا نبرئهم من تبعة التقصير، ونعيب فيهم خلةً كادت تكون غالبةً عليهم، وهي أنهم يؤثرون المصالح الخاصة على المصلحة العامة عند التعارض، ولو أنهم- سامحهم الله- وجّهوا بعضَ اهتمامهم إلى حالة المدارس المادية، وبعضَ تفكيرهم إلى ابتكار مواردَ أخرى للمال، لكان لعملهم أثرٌ يذكر في حلّ هذه الأزمة التي شغلنا التفكير فيها عن التفكير في توسيع دائرة الحركة وتكميل نقائصها، ولو أنهم كانوا أكثرَ جرأة مما هم عليه لما توقفوا عند كل فترة يأنسونها من الجمهور؛ فليعلموا- علمهم الله- أن كل تقصير يقع منهم في هذا الواجب، فمصيبته تقع على المعلّمين البائسين، وأننا لا نسمح بأن يكون تفريطهم على حساب هذه الطائفة المجاهدة، ولا نرضى أن تكون خاتمة أعمالهم فشلًا وخيبة، ولا أن يكونوا هم السبب أو بعضَ السبب فيما يصيب هذه النهضة العلمية من خمود أو تراجع.
إن الموانع لكثيرة، وإن العوائق عن الخير لوفيرة، وشرّها ما عاق عن العلم والدين، ووقف عثرةً في طريقهما، ولكنها عند الرجال مصاعب سهلةُ التذليل، لأنهم يعتبرونها عوارض تزول، وأحوالًا تتحوّل؛ فيكون فهمهم لها وتصوّرهم إياها على حقيقتها أكبر أعوانهم عليها، فيلقونها بالهمم النافذة، والتصميم الخارق، والصبر الثابت، حتى تنقشع غماؤها، وتسلم المقاصد الذاتية؛ وإذا هاج البحر وعصفَتْ عواصفه، فالغرق عارض، والسلامة هي الأصل، وما على الربّان الحاذق المتأثّر بهذه الحقيقة إلا أن يعالجَ الشدّة(3/278)
بدوائها، فيعالج الفزع بالصبر، والعواصف بحسن التصريف لها، وإلحاحَ الأمواج بإلحاح العزيمة، فإذا هو ناجٍ سالم محرز لمهجته وسفينته.
...
ولكنّ هذا كله كلام لا يجلب المنام، ولا يغني عن الطعام، ولا يكسو العظام، ولا ينعل الأقدام، والحقيقة التي تجب مواجهتها كفاحًا، هي أن الأزمة خانقة، وأسعار الضروريات والحاجيات، كسعود الأقوياء، كل يوم في ارتفاع، ووجه المستقبل يطلّ من خلل الأيام كالحًا باسرًا ينذر بالسوأى وزيادة ... وأصوات العمّال الكادحين وأجراء المشاهرة والمياومة تصمّ الآذان بطلب الزيادة في الأجور، لأن الزيت- وهو الإدام- أصبح بقيمته شجًى في الحلوق، ولأن الثياب الساترة أصبحت بسبب الغلاء فاضحة، ولأن ورقة (الألْف) بورك فيها فأصبحتْ (كالشين) في حساب الجُمَّل (1). في (الجزم الصغير) عند (اليقاشين) (2) ...
وهذه الطائفة المجاهدة الصابرة عندنا تتوقّع الموت، ولا ترفع الصوت، ولا مرجع لها - بعد الله- إلا جمعية العلماء التي حبّبتْ إليها التعليم، وزيّنته في قلوبها، ثم ساقتها إلى ميادينه، وجنّدتها في كتائبه، فإذا لم تبذلْ كل مجهود في تخفيف البلاء وتهوين الغلاء عليهم بالزيادة في المرتبات، فإن العاقبة تكون وخيمة، وإذا كنا لا نخشى أن يفرّوا من الزّحفْ، ثقة بهم، واعتمادًا على متانة دينهم، وصدق وطنيّتهم، وركونًا إلى شهامتهم واعتزازهم بمهنتهم، فإننا نخشى ما هو أسوأ عاقبةً من ذلك ... نخشى أن يعلموا أبناءنا بلا قلوب ولا عقول، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى صلة القلوب بالقلوب، وتأثّر العقول بالعقول، واستقاء الأرواح من الأرواح؛ فإذا حصل ذلك جاء التعليم وفيه أثرُ الجوع والهزال، وعليه سيما الفقر والخصاصة، ويأتي هذا الجيل وعلى عقله من هذه الآثار ما على أجسام مواليد الحرب التي نشأتْ في فقر من المواد المغذية؛ وإذا كنتم تسمعون عن الأمم الحية أنها توفر أرزاقَ القضاة حتى لا تلجئهم مطالب الحياة إلى الرشوة، فكذلك يجب توفير أرزاق المعلّمين حتى لا تطمحَ نفوسهم إلى ... هجر التعليم.
أما والله لو استطعتُ لأعطيتُ المعلّم جمًّا، ثم لأوسعت العطاء ذمًّا، حتى تقوى فيه نزعة الكرامة وشرف العلم، والشعور بأن العلم كالعبادة، وكفاؤه الأجرُ من الله لا الأجرة من المخلوق، ولكن التمنّي تعلّق بخيال ...
...
__________
1) الشين في ذلك الحساب يحسب بألف في اصطلاح المغاربة، ولكن ألفه كألف الفرق بعد واو الجماعة لا يساوي شيئًا.
2) اليقّاشين: الذين يكتبون التّمائِم. و "اليَقْشَة": حِرْفَتُهم.(3/279)
هذا نذير من النذر الأولى لرجالنا القائمين على المدارس، والحاملين معنا للعبء المادي، فعليهم أن يقدُروا قدرَه، ويفكّروا في مغزاه، ويتعاونوا على إيجاد موارد جديدة، ليتوفّر لنا مال نرفع به مرتبات المعلّمين، ونرفع به أقدار العلم والتعليم؛ وإن هذه الأزمة إلى انفراج، فليثبتوا لها، وليكسروا حدّتها بالتدبير الذي يفل الحدّة، ويخفّف الشدة، وإننا قد قرّرنا الريادة في المرتبات، ولكننا تربّصنا حتى لم يبقَ مصطبر، وانتظرنا حتى يبلغهم هذا الخطاب السافر، فإذا تمارَوْا بالنذير، فسنقنعهم بسوء الحال، ووخامة العقبى، وإن ظننا فيهم- على ذلك- لجميل ...(3/280)
اختلاف ذهنين في معنى التعليم العربي *
لغةُ الأمة هي ترجمان أفكارها، وخزانة أسرارها، والأمة الجزائريةُ ترى في اللغة العربية- زيادةَ على ذلك القدر المشترك- أنها حافظة دينها، ومصخحة عقائدها، ومدوّنة أحكامها، وأنها صلةٌ بينها وبين ربّها، تدعوه بها وتعترف، وتبوءُ بها إليه فيما تقترف، وتؤدّي بها حقوقه، فهي لذلك تشدّ عليها يدَ الضنانة، وما تودّ أن لها بها لغات الدنيا، وإن زخرتْ بالآداب، وفاضتْ بالمعارف، وسهلتْ سبلَ الحياة، وكشفتْ عن مكنونات العلم؛ فإن أخذتْ بشيء من تلك اللغات فذلك وسيلة إلى الكمال، في أسباب الحياة الدنيا؛ أما الكمال الروحاني، والتمام الإنساني، فإنها لا تنشده ولا تجدُه إلا في لغتها التي تكون منها تسلسلها الفكري والعقلي، وهي لغة العرب، ذلك لأنّ لغة العرب، قطعةٌ من وجود العرب، وميزةٌ من مميزات العرب، ومرآة لعصورهم الطافحة بالمجد والعلم والبطولة والسيادة؛ فإذا حافظ الزنجي على رطانته، ولم يبغ بها بديلًا، وحافظ الصيني على زمزمته، فلم يرضَ عنها تحويلًا؛ فالعربي أولى بذلك وأحقّ، لأن لغته تجمع من خصائص البيان ما لا يوجد جزء منه في لغة الزنج أو لغة الصين، ولأن لغته كانت- في وقت ما- لسانَ معارف البشر، وكانت - في زمن ما- ترجمانَ حضاراتهم، وكانت- في وقت ما- ناقلةَ فلسفات الشرق وفنونه إلى الغرب، وكانت- في وقت ما- هاديةَ العقل الغربيّ، الضالّ إلى موارد الحكمة في الشرق، وكانت- في جميع الأوقات- مستودَعَ آداب الشرق، وملتقى تياراته الفكرية، وما زالت صالحةً لذلك، لولا غبارٌ من الإهمال علاها وعاق من الأبناء قلاها، وضيمٌ من لغات الأقوياء المفروضة دخل عليها؛ وهي قبل وبعدَ كلّ شيء حاضنةُ الإسلام، ودليله إلى العقول، ورائدُه إلى الأفكار، دخلتْ به إلى الهند والصين، وقطعتْ به البحارَ والفلوات،
__________
* نشرت في العدد 152 من جريدة «البصائر»، 23 أفريل سنة 1951.(3/281)
وفيها من عناصر البقاء ومؤهلات الخلود ما يرشحها للسيطرة والتمكّن، فقد احتوشتها الرطانات من كل جانب، ودخلتْ عليها دخائل العجمة واللكنة، فما نال كل ذلك منها نيلًا، وإن لغةً يصيبها أقلّ مما أصاب اللغة العربية من عقوق أبنائها، وحرب أعدائها، لحقيقة بالاندثار والفناء، ولكنها لغة العرب ...
والأمة الجزائرية من أوفى الشعوب العربية لهذه اللغة، وأكثرهم برًّا بها وتمجّدًا واعتزازًا، وأقواها شبهًا بها في الشدة على العوادي، والصبر على المكاره، والثبات على المقاومة، فالعربية غالبتْ في هذا الوطن عدة لغات، فلم تهن ولم تغلَب، والأمة الجزائرية ناهضَتْ عدة استعمارات روحية وماديّة، فلم تقهر ولم تخذل.
جاهدت هذه الأمة في سبيل لغتها جهادًا متواصلًا، كان من ثمرات النصر فيه هذه النهضة التعليمية التي ولدت الكتّاب والشعراء والخطباء والوعّاظ، وهي نهضة لم تعتمد الأمةُ فيها إلا على ما في نفسها من حيوية موروثة، ولم تلتمس فيها عونًا من أجنبيّ، بل لم تلقَ من الأجنبي إلا المعارضةَ الحادة والتثبيطَ القاتل؛ وكان من نتائج هذه النهضة إلحاح الأمة في المطالبة بمظهر سياسيِّ وطني للغتها، وهي أن تكون رسميةً في المدارس والدواوين والأقلام والأحكام، وأن يعترف لها بمكانتها في وطنها، وأن تمحَى عنها تلك الوصمة التي لم تسبّ بأشنعَ منها، وهي أنها "أجنبيةٌ في دارها"؛ وتكرّر الإلحاح في هذا، وارتفعت الأصوات به من كل جهة، ودَخلت الجرائد في المعمعة، واقتحمت القضية المجالسَ النيابية، وأذن النوّابُ بها على المنابر، ووقفت السياسة الاستعمارية عرضةً تصُدّ وتسدّ، وتطاول وتمدّ، وتتغابى وتتجاهل، وتطبخ الآراء- كعادتها- فلا تنضج رأيًا حتى يلوحَ لها خلافه، فتتركه فجًّا (1)، وتسلك غيره فجًّا؛ وكلّ تلك الآراء لا تبلغُ الأمةَ أمنيةً في لغتها، ولا ترمي إلى سداد ينفع الطرفين، إلى أن طلع علينا القرار المتعلّق بالتعليم العربي، الذي ختم به الوالي السابق أعماله وموبقاته في الجزائر، مؤرّخًا بيوم 26 فيفري من هذه السنة، ومقدّمًا إلى المجلس الجزائري لينظر فيه ويضعه موضعَ التنفيذ.
ونظرنا في ذلك القرار، قبل أن ينظر فيه المجلس الجزائري، فإذا هو تحطيم لا تنظيم، كما يسمّي نفسه، ولو أن العربية كانت موجودةً بالمدارس العليا أو السفلى، لكان هذا القرار إعدامًا لها، فكيف وهي معدومة، ونقول: معدومة، ونكرّر القول، ولا يردّنا عنه أن "كتاب المفصّل" للزمخشري يدرس في الأقسام العليا، فإن ذلك بعضُ شواهدنا على أنها معدومة، من غير أن نضيفَ إلى هذا الكتاب، من يدرّس الكتاب ...
...
__________
1) الفجّة: غير الناضجة.(3/282)
بيننا وبين الحكومة خلاف ينتهي إلى التضاذ في فهم معنى التعليم العربي، سببه اختلافُ أداة الفهم فيها وفينا، فهي تفهمه بالذهنية الاستعمارية العنصرية المتأثّرة بالسيادة والاستعلاء، وتراه بالعين التي لا ترى إلا مصلحتها فتحتاط وتبالغ في تقدير العواقب، وتعمى عن مصالح غيرها وإن كانت كالجبال ضخامةً، وكالشمس وضوحًا، وكالعقليات ثبوتًا، ونحن نفهمه بالذهنية القومية الوطنية، ونراه حقًّا لا يعمى عنه ذو بصر، ولا يدفع بالمغالطة، ولا يتحقّق بمثل ما احتوى عليه هذا القرار الفارغ المتناقض الذي هو كالشبكة، كله خروق، يستطيع المنفذ أن يخرج من أيها شاء.
...
شهد التاريخ الحديث- الأمة الجزائرية العربية غضبَى ثائرة لتلك المعاملة المهينة التي كان الاستعمار يعامل بها لغتها، وشهدها تبني لنفسها، وتشيد نهضتها التعليمية بيدها، وتحكّ جلدها بظفرها، وشهدها- مع ذلك- تزعج الاستعمار وتصارعه، وتطالب وتغالب، فليشهدها الآن غضبى ثائرة على هذه البوادر التافهة التي يسمّيها "ملوك الجمهورية" تنظيمًا وإصلاحًا، ويمنونها عليها، ويعدّها المضللون نتيجةً للمصابرة والجهاد.
إن الأمة لا ترضى ولن ترضى بهذا الجزاء البخس كفاءً لما أجمع عليه رجالها من علماء وساسة من المطالبة بحق العربية في وطنها، وحقّها على الخزينة التي تتغذّى بأموالها، وقد كانت هذه الأمة تظن أن عصرَ القرارات المطاطة- ذات المسامّ والمنافذ- قد انقضى، وجاء عصر الحقائق وتفتّح الأذهان والعقول و ... العيون، ولكنّ هذا القرار الأخير بيّن لها أن الاستعمار ما زال في ضلاله القديم.
إن هذه الأمة المؤلفة من عشرة ملايين، هي صاحبة الحق في هذا التعليم، لها غنمه، وعليها غرْمه، فيجبُ أن تكونَ هي صاحبة الرأي الأول في بداياته، وصاحبة الفصل الأخير في نهاياته، وأن تكونَ هي القائمة به، والقيّمة عليه، بمعنى أن يكون المعلّم له من أبنائها المتضلعين في لغتهم، والحارس الرقيب عليه من رجالها المؤتمنين عليها، وأن لا يكون حظها في التعليم الثانوي أوكسَ من حظ الإنكليزية والإسبانية.
فالأمة تريد من التعليم العربي الحكومي الذي يحقّق للعربية صفة "الرسمية" أن يكون تعليمًا كاملًا في جميع مراحله، يبنى على أساس صحيح في المرحلة الابتدائية، وصحةُ الأساس تكون بالمعلم الكفء، والكتاب الوافي، والبرنامج الكافي، ثم ينتقل- صحيحًا- إلى الدرجتين الثانوية والعليا.
والأمة تريد تعليمًا عربيًّا يساير العصر وقوّته ونظامه، لا تعليمًا يحمل جراثيم الفناء، وتحمله نذُر الموت.(3/283)
والأمة تريد تعليمًا عربيًّا عليه طابعها، وفيه أثرُ يديها، وله ما لها من روح، وعليه ما عليها من سمات.
إن هذه الأمة تعتقد- وتموت على اعتقادها- أنّ لغتها جزء من كيانها السياسي والديني، وشرط في بقائها، وقد التقى على الكفاح في سبيلها الدينُ والسياسة، فلم يختلفْ لهما فيه رأيٌ، ولم يفترق لهما قصد، وما هذا القرار بالذي يشفي من مرض، أو يوفِّي بغرض.(3/284)
دروس الوعظ في رمضان *
أظلّنا شهر رمضان المبارك، وهو شهر تتفتّح فيه أبواب الرحمة، وتتفتّح فيه قلوب المؤمنين المستعدّين لتلقّي تلك الرحمة، فتصوم ألسنتهم وجوارحهم عن الفواحش المجترحة بها، ويتقرّبون إلى الله ببعدهم عنها. وتنبسط أيديهم بالإحسان إلى الفقراء، والبر باليتامى، والتوسعة على العيال، فلم يبقَ على هذا الإعداد الحافل بالخير، الذي يهيئ شهر رمضان النفوس إليه إلا المحرّك للنفوس، المنبّه للشواعر، المذكّر بالواجبات، الدالّ على مواضع الرحمة وعلى السُبل الموصلة إليها، البصير بعلل الأمة وطُرق علاجها، وهو الوعظ الديني.
والوعظ الديني هو رائد جمعية العلماء إلى نفوس الأمّة، جعلته مقدمة أعمالها، فمهّد واستقرّ، وذلّل الصعاب، وألان الجوامح، وعليه بنت هذه الأعمال الثابتة من إصلاح للعقائد، ونشر للتعليم، ومنه جنت كلّ ما تحمد الله عليه من نجاح.
والوعظ الديني هو الذي حرّكت به جمعية العلماء الهمم الراكدة، وشدّت به العزائم الواهية، واجتثّت به الرذائل الموبقة، فكان هو معينها على غرْس الإصلاح الديني، وتثبيت جذوره، وامتداد أصوله وفروعه.
ولم تُخِلّ الجمعية بهذه الوظيفة الشريفة يومًا، ولا قصّرت فيها، ولا كان النجاح المتواتر مزهدًا فيها، أو مقلّلًا من أهميتها، ولكن التجارب المتكررة هدتها إلى أنّ أشد الأزمنة ملاءمةً للوعظ الديني الأوقات الفاضلة- وأفضلها شهر رمضان- لتلاقي عدة عبادات فيه، من الصوم والصدقة والتراويح والتهجّد، وكل عبادة منها ذاتُ أثر في النفس؛ فكيف إذا اجتمعن؟ ولأنه أطول ظرف من ظروف العبادة، فاتصالُ الوعظ في أيامه ولياليه خليق أن ينقل السامعين من
__________
* نشرت في العدد 156 من جريدة «البصائر»، 21 ماي سنة 1951.(3/285)
حال إلى حال، وأن يمكن لعادات الخير في نفوسهم، فإذا كان صومهم حقيقيًّا جامعًا لمعاني الصوم وآدابه مشركًا للجوارح كلها في تلك المعاني، كانوا أكثر تأثرًا بالوعظ، وأدنى إلى الانتفاع به في تزكية نفوسهم، وعلاج عللها، وإن شهرًا كاملًا يقضيه المؤمن في الاستشفاء بأنواع من الأشفية الروحية والبدنية، لحقيق أن يضمن به راحة السنة.
ولجمعية العلماء في هذا السبيل سنّة حميدة جرت عليها منذ سنوات، وهي توزيعها لعشرات من رجالها العاملين في ميدان التعليم على المدن والقرى، في شهر رمضان، ليحيوا لياليه بدروس الوعظ بعد نافلة التراويح، ويمتزجوا بالأمة في سائر الأوقات ناصحين مذكّرين، وقد تجلّت آثار هذه الدروس في التربية العامّة للأمّة، بارتفاع قيمة الفضائل في مجموعها، وبتفهّمها لحقيقة الصوم وحكمته، وبهجرها لكثير من فواحش الألسنة فيه، وبمعرفتها للإحسان وحسن اختيارها لمواطنه، وبقوة المعنويات فيها قوةً مشهودة، وبنماء التآخي والتعاون بين أفرادها، وبإلمامها بالسيرة النبوية، وتفطنها لمنابع العِبر منها، وبانتشار الثقافة الفقهية بينها.
...
بعد هذه الكلمة يقرأ القارئ قائمة طويلة بأسماء المشايخ الذين عيّنتهم جمعية العلماء للوعظ في رمضان المقبل، وأسماء المراكز التي عُيّنوا فيها.
فعلى المشايخ الواعظين أن يتّعظوا في أنفسهم قبل أن يعظوا غيرهم، فإن الوعظ إذا لم ينفع صاحبه لم ينفع الناس، ومن لم يكن متأثّرًا بقوله، لم يكن مؤثرًا به في الناس. وعليهم أن يقوموا بما انتدبناهم فيه خيرَ قيام، وأن يؤدّوا حق الله عليهم في النصح والتذكير، وأن يعتمدوا في تذكيرهم على صرائح الآيات القرآنية، وما صحّ من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يضربوا الأمثال بسيرته وسيرة أصحابه- رضي الله عنهم- وأن يجلوا حدود القدوة في ذلك كله، وأن يقرّبوا المعاني من أذهان العامّة، فإن ذلك وسيلة إلى تحبيب العلم إلى نفوسهم زيادة على تشريكهم في الخير وتقريبهم من الهداية.
وعليهم أن يجاوزوا ما لا يعلمون من دقائق الوعظ الخفية، إلى ما يعلمون من حقائقه الواضحة، فإن كلامهم في الدين، فليحذروا أن يقعوا في مزلقة القول على الله بغير علم، وهو من الكبائر التي يأمر بها الشيطان، وفي الهدي النبوي مجال واسع للمذكّرين، وفي الواضح مندوحةٌ عن المشكل.
إن لجمعية العلماء منكم جندًا لهذا الميدان، تفخر به وتُباهي، ولكن هذا الجند متفاوت الحظوظ والأقدار، فمنهم الفوارس المتمرّسون بالمنابر والجموع، العارفون بمداخل(3/286)
الوعظ إلى النفوس، لكثرة المران والتجربة، ومنهم حديثو العهد بالحياة العملية وبالمجتمعات، وإلى هذا الفريق من رجالنا مهّدنا بالكلمة السابقة.
وعليهم أن يمكّنوا- ما استطاعوا- في نفوس السامعين معاني الشرف والرجولة، وشرف النفس والاعتزاز بالإسلام والعروبة، فإن الإسلام جاء لجميع ذلك، وإن سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائرة على ذلك، فالإسلام دين العزّة والكرامة والشرف والفضيلة، فمن لم يكن بهذه الصفات فإسلامه ناقص بقدر نقصانه فيها، وإن صلّى وصام وحجّ البيت ماشيًا.
وعليهم أن يشرحوا للأمة "مظلمة القرن العشرين"، وهي هذه المعاملة المهينة التي تعامل بها الحكومة دين الإسلام ومعابده وأوقافه وشعائره من حج وصوم، وإن أحقّ محلّ بهذه الدروس المباركة- وما فيها من خير ورحمة وسلام- هي بيوت الله، لولا ظلم الاستعمار.
ولينوّهوا بالمواقف التي وقفتها جمعية العلماء في هذه القضية، وعليهم أن يوجّهوا عنايتهم إلى علاج الأمراض المتأصلة في الأمّة، ومحاربة المنكرات الفاشية فيها، كالكذب، والغيبة والنميمة والسعاية بالأخ والتجسّس عليه، وكالسرقة والخمر والميسر، وكالأيمان الفاجرة وشهادة الزور، ويمين الطلاق، وكالقطيعة والخصام والخلاف، وكالركون إلى الكسل والبطالة والسؤال مع القدرة على الكسب، وكنقض العهد وخلف الوعد وخيانة الأمانة والبخل والإسراف في غير محلّه، وكانتهاك الحرمات والاستخفاف بالمحرّمات، والجبن والخوف من غير الله.
وعليهم أن يجتنبوا الحديث في مثارات الفتن، وفي البدع التي فرغتْ جمعية العلماء منها، فقد ضعف شأنها، وفي إعادة الحديث عليها تقوية لها وإحياء.
فهذه عهود أتقدّم بها إلى نفسي وإلى إخواني وأبنائي المشايخ الوعّاظ، فعلينا جميعًا أن نلتزمها في هذا الشهر المبارك الذي التزمنا أن ننفع فيه أمّتنا بالموعظة الحسنة.
وعلى السامعين أن يكون همّهم من حضور مجالس الوعظ نصيحةً تزكِّي النفس، أو فائدةً علمية تكملها، لا قطع الوقت و "تقصير الليل". وأن يقبلوا على هذه المجالس بآذان مصغية، وقلوب واعية، ونيّات خالصة، ومقاصد صالحة، فبذلك ينفعهم الله بما يسمعون ... وأن يفرّقوا بين هذه المجالس التي أنعم الله بها عليهم، وبين المجالس التي يزيّنها لهم الشيطان ليقطعوا الليل بها في سمر صاخب، ولهو ماجن، ومال ضائع، وحرمات منتهكة.
وفّقنا الله جميعًا إلى ما يقرّبنا إليه، وجنّبنا ما يبعدنا عنه، وأرانا ما يسرنا في هذه الأمة، ويسّرنا جميعًا لخدمة هذا الوطن وإخراجه من الظلمات إلى النور.(3/287)
الكلمة الأخيرة للأمّة *
أما آن لعشّاق سلمى أن يقولوا: صحا القلب عن سلمى؟
أما آن للحالمين بالوحدة الفرنسية أن ينفضوا عنهم الأحلام؟
أما آن للمنتظرين أن يقطعوا حبل الانتظار؟
أما آن للمستعصمين بالأمل أن يُريقوا صُبابة الأمل؟
يا هؤلاء! إن الاستعمار شيطان، وإن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوًّا، وإن الاستعمار شر، ومحال أن يأتي الشر بالخير، ومحال أن يُجنى من الشوك العنب.
إن فرنسا نبية في الاستعمار، وإنها ترى أنه شرع لا ينسخ وعقد لا يفسخ، فدعوها وشرعها لله وسنن الله، وللزمان وتصاريف الزمان.
إن الإلحاح في المسألة ذلة وإن اليأس إحدى الراحتين.
والله والله، ألِيَّةَ المسلم البر، لا يرجو الخير من الاستعمار إلا من خولط في عقله فرجَا من الصخر أن يبضّ بالقطر، وما كنا نرجو منه أن يسترجع ما غصب من دنيانا، والدنيا مادة يملكها الغاصب؛ بعد تسلّطه على ديننا، والدين روحاني لا يسلبه إلا من يسلب الروح، ولكننا كنّا نظن أن تلك القلوب القاسية ترققها الشدائد، وأن تلك النفوس العاتية تلطّفها المصائب، وأن تلك الإحساسات الغليظة ترهفها مناظرُ البؤس الذي نزل بها، وتوقظها أصوات القوارع التي حلّت بدارها، من اكتساح "الألمان" لها، واجتياحها لديارها في يوم وبعض يوم، فقطع علينا هذا الظنّ يومَ حجر الحقد تلك القلوب على مسلمي الجزائر حتى أبتْ عليهم أن يشاركوها في فرحة فنغصتها عليهم بمناظر الدماء (1) والأشلاء.
__________
* نشرت في العدد 4 من جريدة «البصائر»، 29 أوت سنة 1947.
1) إشارة إلى حوادث 8 مايو 1945 التي قتلت فيها فرنسا 45 ألف جزائري.(3/288)
واضيعتاه! أفي الوقت الذي تطمح فيه أنظار الأمم الضعيفة إلى الاستقلال التام، يرسلها رئيس وزراء فرنسا صيحة إنذار، بأن لا حق لنا حتى في استقلال ديننا؟!
واخيبتاه! أبعدَ مداورات دامت سنوات يُفرض على الأمة الجزائرية دستور أعرج أبتر، لا يسمع ولا يبصر، لم يؤخذ رأيها في وضعه، ولم يُسمع صوتها في دفعه؟!
واذلّاه .. ! أبَعْد البراهين اللائحة كفلق الصبح على حق هذه الأمة في السياسة وفي الحياة، وعلى استحقاقها لجميع الحقوق في السياسة والحياة، تعامل بالدون، وتحمل على خطة الهون؟!
أيها المتردّدون على قصر البوربون، إنه لا طارد كاليأس، وقد أيأسوكم فكأنهم طردوكم، فارجعوا ارجعوا وتداعوا إلى الاتحاد على الحق الواضح بالمنطق المعقول، فإن القوم قد اتّحدوا على هضمكم بالمنطق المسلّح، ارجعوا واجتمعوا واجمعوا الأمة في مؤتمر، واشرحوا لها الحقيقة، ودعوا لها الكلمة الأخيرة في تحديد الموقف وتقرير المستقبل.
لا اندماج إلا لبعضكم في بعضكم، ولا اتحاد إلا لأجزائكم الطبيعية بعضها مع بعضها.(3/289)
جمعية العلماء والمشاكل
الإجتماعية بالجزائر
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مشكلة الزواج
مشكلة الطلاق
مشكلة الصداق
مشكلة الأحزاب
دعوات مكررة إلى اتحاد الأحزاب والهيئات(3/291)
من مشاكلنا الاجتماعية (1)
الشبّان والزواج *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تعاني الإمة الجزائرية وجاراتها المتّحدة معها في الدين والجنس، المقاربة لها في العادات والمصطلحات، عدة مشاكل اجتماعية، لا يسع المصلحين إغفالها، ولا السكوت
عليها بعد ظهور آثارها، وتحقّق أضرارها، وستعالج «البصائر» طائفة من أمهاتها، ببيان نتائجها، وبيان وجه الرأي في علاجها، سائلة من حملة الأقلام وحملة الألسنة وذوي الرأي أن يظاهروها في هذا العلاج، ومن الأمة أن تقوم بواجبها من السمع والطاعة والتنفيذ، فإن من بعض هذه المشاكل ما لو تمادى وامتدّ لأتى بنيان الأمة من القواعد، وقضى عليها بالمسخ أولًا، والتلاشي أخيرًا.
أعضل هذه المشاكل، وأعمقها أثرًا في حياة الأمة، وأبعدها تأثيرًا في تكوينها مشكلة الزواج بالنسبة إلى الشبّان، فالواقع المشهود أنّ الكثير من شبابنا- وهم أملنا وورثة خصائصنا- يعرضون عن الزواج إلى أن يبلغ الواحد منهم سن الثلاثين فما فوق، ويترتب على ذلك أنّ الكثيرات من شوابنا يتعطلن عن الزواج إلى تلك السن، فيضيع على الجنسين ربيع الحياة ونسماته وأزهاره وبهجته وقوّته، ويضيع على الأمة نبات ذلك الربيع، وثمر الخصب والنماء والزكاء فيه، ثم تضيع بسبب ذلك أخلاق وأعراض وأموال، وإذا زادت هذه الفاشية فشوًّا، واستحكم هذا التقليد الفاسد، فإن الأمة تتلاشى في عشرات من السنين.
إن أمّتنا ليست منسجمة العوائد في أمورها الحيوية، وليست مطبوعة على قالب واحد في تكوينها الاجتماعي؛ ولذلك نجد البُداة المتّصلين بالفطرة لا يحسّون بهذه المشكلة بل تؤدّي بهم البساطة إلى الخروج عن حد الاعتدال تفريطًا، فيزوّجون أولادهم قبل سنّ البلوغ، وهو تفريط شائن مَعيب، وخيرُ الأمور الوسط.
__________
* نشرت في العدد 6 من جريدة «البصائر»، 12 سبتمبر سنة 1947.(3/293)
إننا نتحدّث عن شبابنا الذين يُطاولون بالزواج وهم ينوونه، وأما أولئك الشبّان الذين أركسوا في الدرك الأسفل من الحيوانية، فانطلقوا مع الشهوات، واستمرأوا التحلّل من قيود الدين والعقل، ورأوا أن الزواج قيد لحريتهم البهيمية، فتحالفوا مع الشيطان على بتّ حباله، فأولئك قوم مجرمون.
شبابنا الأعزاب المتأولون نوعان، من حيث الئقافة وعدمها.
فأما المثقّفون الذين يستغلّون ثقافتهم، ويعيشون بها، فيبالغون كلما ذُكر الزواج في الاحتياط للمستقبل، والاستعداد لتكاليف النسل، ومنهم من يعتذر للعزوبة بأنه لا يجمل به أن يتزوّج من الجاهلات الأميات، وعذرهم هذا يطوي أشياء يلوحون لها تارة، ويصرّحون بها أخرى؛ وقد يزيغ بعضهم الزيغة الكبرى فيتزوّج بأجنبية، يُنفق عليها ما ينشئ ابنة عمّه خلقًا جديدًا متعلّمًا مهذبًا مدبرًا منظّمًا، ولا نلوم أولئك ولا هؤلاء، لأن الحضارة الغربية أفسدت أذواقهم، وأزاغت نظرهم إلى الحياة، فجعلت البعض يحتاط للمستقبل احتياطًا مفرطًا، وجعلت البعض يأنف من الفضيلة إذا كانت أمية، ولا يأنف من الرذيلة إذا كانت متعلّمة، لا نلومهم وإنما نلوم أنفسنا، إذ لم نأخذ للأمر عدته، ولم نحتط لعواقبه البعيدة، فنعلم البنت تعليمًا إسلاميًا قويًا بروحه، قائمًا بفضيلته، واسعًا بمعانيه، ترغم به هذا الشباب الأخرق على الرجوع إلى أصله، ولا يفلّ الحديد إلا الحديد.
وأما غير المثقفين وهم الذين يعتمدون على العمل الجسماني، ولم يصلْ بهم فساد الذوق إلى احتقار الجنس، فهم يعتذرون عن تأخير التزوّج أعذارًا أخرى منها المقبول ومنها المردود؛ ولئن سألتهم ليقولن: كيف نتزوّج مع هذه الشروط المرهقة، وهذه العوائد التي تجلب الإفلاس على الأغنياء، فكيف بالفقراء أمثالنا، وإن كثيرًا منهم لصادق في كثير من هذه المعاذير، وإن عذرهم لبيّن ولا تلحقهم في هذا ملامة، وإنما اللوم على هذا المجتمع الفاسد الذي نبذ هداية الدين، وإرشاد العقل، وشهادة الواقع، وحكم العوائد، وتناول هذه المسائل الكبيرة بالنظر القصير، وإلى هذا المجتمع نسوق كلمتنا هذه:
إن الأمّة الرشيدة هي التي تحرس شبّانها في طور الشباب من الآفات التي تصاحب هذا الطور، فتحافظ على أفكارهم أن تزيغ، لأن هذا الطور طور له ما بعده من زيغ أو استقامة، وتحافظ على أهوائهم أن تتجه اتجاهًا غير محمود، وتحافظ على عقولهم أن تعلق بها الخيالات، فتنشأ عليها، ويعسر أو يتعذّر رجوعهم عنها، وتحافظ على ميولهم وعواطفهم أن تطغى عليها الغرائز الحيوانية، لأن هذا الطور هو طور تنبّهها ويقظتها.
راعى الإسلام- وهو دين الفطرة- كل ذلك فندب إلى الزواج، وحضّ عليه وسمّاه إحصانًا، وشرع له من الأحكام ما هو أقرب إلى التيسير والفطرة والتسامح، كلّ ذلك(3/294)
ليحفظ على الشاب والشابّة دينهما وعرضهما ويضبط عليهما عواطفهما فلا تمتدّ العين إلى محرم، ولا تهفو النفس إلى محظور، ولا يجاوزان بالفطرة حدود الله.
ولو أننا وقفنا عند حدود الله، ويسّرنا ما عسرته العوائد من أمور الزواج، لما وقعنا في هذه المشكلة، ولكننا عسرنا اليسير، وحكمنا العوائد، والعجائز القواعد، في مسألة خطيرة كهذه، فأصبح الزواج الذي جعله الله سكنًا وألفة ورحمة- سبيلًا للقلق والبلاء والشقاء، وأصبح اللقاء الذي جعله الله عمارة بيت وبناء أسرة- خرابًا لبيتين بما فرضته العوائد من مغالاة في المهور، وتفنّن في النفقات والمغارم.
هذه العوائد بدّلت حكم الله، ونسخت سنّة رسوله، فأصبح الزوج لا ينظر من الزوجة إلى دينها وحسبها وجمالها، وإنما ينظر إلى شيء واحد ... إلى مالها، فلتكن من خضراء الدمن، ولتكن دميمة الخلقة، كلّ ذلك لا يضيرها عند الزوج الطامع إذا كان لها مال، وولي الزوجة لا ينظر من خاطب بنته إلى أصله ودينه وأخلاقه، وإنما ينظر إلى شيء واحد ... إلى ماله وما يقدّمه من المهر الغالي والحلي النفيس، وبعد هذا لا نعجب إذا رأينا كلّ زواج يبتدئ بهذا الاعتبار، ينتهي بالطلاق والعدواة والخصام بعد أشهر وأيام.
إن الصدقات التي يتغالى فيها هؤلاء الحمقى يكتفي فيها الإسلام بأقل متموّل، وقد زوّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمة مؤمنة على أن يعلمها زوجها سورًا من القرآن، واكتفى في تزويج أخرى بخاتم من حديد (لو وُجد) ليرشد إلى أن المال ليس له من الاعتبار في باب الزواج إلا ما لخاتم الحديد.
إن مقاصد الإسلام في هذه السنّة أعلى من كل ما يعمله الناس، فهو يرمي بما شرع إلى بناء البيوت على المحبة والتعاون على تربية النسل وتعليمه وتقوية الأمة به.
وعلى هذا فالرجل الذي يُزوّج ابنته على هذا الأصل الواهي، ولا يراعي في زوج بنته إلّا جانب المال، رجل لا عقل له ولا ضمير، فقد يفلس ذلك الزوج، ويرجع على صداق زوجته وثروتها حتى يفلسا معًا، ويكون عاقبة أمرهما الطلاق، وكم رأينا من غني زوّج بنته بسكّير لما قدّم من حلي وساق من مهر، فعاشت بنته في نكد، ولم تتمتعّ بزوج ولا ولد؛ وكم رأينا مَن باع داره التي تُظلّه وتُظلّ أطفاله لإهداء بنت من بناته إلى زوجها، فلما جاء دور الثانية لم يجد، ووجد الشيطان فسوّل له أن يعضلها حتى تموت.
هذه بعض الموبقات التي قرّرتها العادة الفاسدة في مجتمعنا، فأدّت إلى بقاء الشبّان والشّابات أعزابًا ساخطين على الحياة متبرمين بها.
ثم ماذا كانت العاقبة؟ فساد أخلاق وتهوّر في الفسق وأول الغيث قطر.(3/295)
أيها الآباء! يسّروا ولا تعسروا! وقدّروا لهذه الحالة عواقبها وارجعوا إلى سماحة الدين وشره، وإلى بساطة الفطرة ولينها. إن لبناتكم مزاحمات في السوق على أبنائكم، وإن معهن من الإغراء والفتون ما يضمن لهنّ الغلبة في الميدان؛ فحذار أن يغلب ضعفهن قوّتكم، وإن هذه الحرب التي أفنت ملايين من الشبّان، أبقت عديدهم من النساء، وإنهن يُجلن الآراء والأعين في مستعمرات من الشبّان، أو في شبّان من المستعمرات، وإنهن مسلّحات بأفتك من أسلحة الحرب، فحذار أن يكون شبابنا فرائس هذا الاستعمار الضعيف القوي.
إنكم لا تغالبون الطبيعة البشرية إلا غلبتكم، ولا تشادّون سنن الله إلا قهرتكم وإن الدواء في أيديكم، فيسّروا ولا تعسروا.
أيها الشبّان! إنكم لا تخدمون وطنكم وأمّتكم بأشرف من أن تتزوّجوا، فيصبح لكم عرضٌ تدافعون عنه، وزوجات تحامون عنهن، وأولاد يوسعون الآمال، هنالك تتدربون على المسؤوليات، وتشعرون بها، وتعظم الحياة في أعينكم، وبذلك تزداد القومية قوة في نفوسكم، إن الزوجة والأولاد حبال تربط الوطني بوطنه، وتزيد في إيمانه، وإن الإعراض عن الزواج فرار من أعظم مسؤولية في الحياة، ولمن تُخدمُ الأوطان؟ إذا لم يكن ذلك لحماية من على ظهرها من أولاد وحُرَم، ومن في بطنها من رفات ورمم.
قد كان أجدادكم العرب يضعون نساءهم وذراريهم خلف ظهورهم في ساعة اللقاء لئلّا يفرّوا ... وهذا هو الحفاظ.(3/296)
من مشاكلنا الاجتماعية (2)
الطلاق *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الطلاق حلّ عقدة، وبتّ حبال، وتمزيق شمل، وزيال خليط، وانفضاض سامر، فيه كلّ ما في هذه المركبات الإضافية التي استعملها شعراء العرب، وجرت في آدابهم العاطفية مجرى الأمثال، من التياع وحرارة، وحسرة ومرارة، ويزيد عليها جميعًا بمعنى آخر، وهو ما يصحبه من الحقد والبغض والتألّم والتظلّم.
لهذه الملابسات التي هي من مقتضيات الفطر السليمة، والطباع الرقيقة، شرعه الإسلام مقيدًا بقيود فطرية حكيمة، وقيود شرعية قويمة، اعتمد في تنفيذها بعد فهم المراد منها على إيمان المؤمن، وشرع له من المخففات ما يهون وقعه كالتمتيع ومدّ الأمل بالمراجعة، وتوسيع العصمة إلى الثلاث، حتى تمكن الفيئة إلى العشرة؛ وما وصْفه في القرآن بالسراح الجميل والتسريح بالإحسان، إلا تلطيف إلهي في أسلوب معجز يبعث في النفوس المؤمنة نفحات تلطف وما تزال تلطف من غلظ الإحساس وعرام الحيوانية حتى يصير الطلاق "عملية بلا ألم".
والزواج عقد بين قلبين، ووصل بين نفسين، ومزج بين روحين- وفي الأخير- تقريب بين جسمين، فإذا تراخت عراه بين القلبين ضاعت حكمة الله في السكون والرحمة والعطف، وهنا يدخل العقل مصلحًا بلغة المصلحة والتعاون والإحسان، وشفاعة النسل (إن كان)، فإذا زاغت الفطرة من أحد الزوجين عن محورها، أو طغت الغرائز الحيوانية على الفضائل الإنسانية في أحدهما أو كليهما، ولم يقم العقل وحده أو مع الحكمين، بإصلاح ذات البين، فالله أرحم من أن يكلف عباده تحمّل هذا النوع من العذاب النفسي، وهو الجمع بين قلبين لم يأتلفا، وطبعين لم يتّحدا، وروحين لم يتعارفا؛ لذلك شرع لهما الطلاق
__________
* نشرت في العدد 7 من جريدة «البصائر»، 19 سبتمبر سنة 1947.(3/297)
ليستريح إليه من ضاق ذرعًا بصاحبه ضيقًا معقولًا بدواعيه وأسبابه؛ ولما كان من بعض أسباب الطلاق ما يزول فتتجاوب النفسان من جديد، وتتراجعان الحنين إلى العشرة، شرع الإسلام تلك الملطفات التي ذكرنا بعضها، والتي تُبقي على أصل الصلة، وتحفظ "خط الرجعة".
جهل المسلمون حقائق دينهم، وجهلوا الحكم المنطوية تحت أحكامه، ومن أسباب ذلك جفاف الفقه عند الفقهاء لأخذهم إياه من كتب تُعلّم الأحكام ولا تُبيّن الحِكَم، فأثر ذلك في نفوس المتفقهة- وهم مرجعُ العامة في سياسة الإفتاء- آثارًا سيّئة، منها اعتبار تلك الأحكام تعبدية تُحفظ ألفاظها، ولا يتحرّك الفكر في التماس عللها، وطلب حكمها، وتعرف مقاصد الإسلام منها، وتصفّح وجوه المصلحة والمفسدة فيها.
أنا لم أسمع مدةَ دراستي للفقه في بعض تلك الكتب إلا كلمتين تثيران في النفس شيئًا من الإحساس الحي، وتنبّهان على خيال من الحكمة، وتبثّان في المشاعر بصيصًا من النور، إحداهما في باب النكاح، وهي قولهم: "النكاح مبنيٌّ على المكارمة"، والثانية في باب الطلاق، وهي تناقلهم لأثر "أبغض الحلال إلى الله الطلاق ".
ولو أن فقهاءنا أخذوا الفقه من القرآن، ومن السنّة القولية والفعلية، ومن عمل السلف، أو من كتب العلماء المستقلّين المستدلين التي تقرن المسائل بأدلّتها، وتبيّن حكمة الشارع منها، لكان فقههم أكمل، وآثاره الحسنة في نفوسهم أظهر، ولكانت سلطتهم على المستفتين من العامة أمتن وأنفذ، ويدهم في تربيتهم وترويضهم على الاستقامة في الدين أعلى.
إن من يأخذ فقه الطلاق من آية: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، ومما بعدها من الآيات الآمرة بالوقوف عند حدود الله، الناهية عن تعديها، أو من آية: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}؛ أو من آية الحكمين ووعد الله بالتوفيق عند الإصلاح، وبالإغناء من واسع فضله عند التفرّق؛ أو من آية تخيير النبي أزواجه بين حالين: أحدهما التمتيع والسراح الجميل، مَن أخذَ فقه الطلاق من هذا المنبع العذب يعلم أيّ حكم مبثوثة تحت كل كلمة وكل جملة، ومن تفقه هذا الفقه ونشره في الناس يبعد جدًّا أن يتلاعب بتلك العقدة الإلهية التي عقدها الله بين الزوجين، فيضعها في موضعها المعروف بين المسلمين الآن.
هذا الجمود في الفقه والفقهاء، وذلك الخلاف الواصل بين طرفي الإباحة والحظر في المسألة الواحدة، هما اللذان سهّلا على المسلمين تعدّي حدود الله في الطلاق، وأفضيا بهم إلى هذه الفوضى الفاشية في البيوت، وإلى ارتفاع الثقة بين الأزواج والزوجات، وزاد الطين(3/298)
بلة وضْعٌ منحرف لمكان الزوجة من زوجها، حتى أصبح متخلخلًا متزلزلًا لا استقرار له، وما جاء هذا التخلخل إلا من سوء فهم من الرجل، انبنى عليه سوء تصرّف منه في الحق الذي خوّله الشارع، وهو أنه يملك العصمة، وما جاء سوء الفهم إلا من سوء التفهيم من الفقيه، فالفقيه لا يعرفُ إلا أن العصمة بيد الزوج، لأنه لا يجد في كتب الفقه إلا هذا، وهو حق في أصل الشريعة، ولكن الإسلام لا يُعطي هذه الحقوق أو هذه الامتيازات إلا للمسلم الصحيح الإسلام، القويّ الإيمان. فهو يكل إليه عهدًا ويستحفظه على أمانة، اعتمادًا على رشده، وثقة بإيمانه، أما إعطاء هذه الامتيازات إلى الجاهلين المتحلّلين من قيود الإسلام فهو لا يقلّ شناعة وسوء أثر عن إعطاء السلاح للمجانين.
...
يخرج الرجل إلى السوق، أو يجلس في المقهى، ويختلف مع آخر في شأن جليل أو حقير فيحلف أحدهما أو كلاهما بالطلاق حانثًا فتكون النتيجة خراب بيت، وتمزيق أسرة، وتشريد بنين.
ويتناقش آخر مع صهره في زيارة أو استزارة فيحلف أحدهما أو كلاهما بالطلاق، وتكون النتيجة تقطيع أرحام، وتكوين فتنة.
ويتنازع اثنان الحديث في السياسة أو التفضيل بين شخصين أو في الغيم والصحو، فتجري ألفاظ الطلاق متناثرة متعددة، كأنها لازمةُ الحديث، وكأن الكثير منهم لم يتزوّج إلا ليجعل الزوجة أداة يمين، أو ليصدقه الناس حين يحلف لعلمهم أنه متزوّج.
وكثيرًا ما تطلق الزوجة بهذه الأيمان والالتزامات العابثة، وهي لا تعلم من ذلك شيئًا ولم تتسبّب فيه.
وكثيرًا ما تكون آمنة في بيتها سعيدة بزوجيتها، فتفاجأ بالطلاق من زوج أحمق مأفون، لخلاف شجر بينه وبين جار أو بائع أو مشتر على أتفه الأسباب.
أيها المسلمون: إن عقدة الزواج عقدة مؤكدة، يحافظ عليها الأحرار، ويتلاعب بها الفجّار، وإن العصمة امتياز لرجالكم، ما لم تطغوا فيه وتظلموا، فإذا طغيتم فيه وجُرتم عن القصد، كما هي حالتكم اليوم، انتزعه منكم القضاء الإسلامي العادل لو كان. فإذا لم يكن عاقبكم الله بعذاب الخزي.
ما هذه الفوضى وهذا الاضطراب إلا عقوبة من الله لكم، وغيرة منه على أحكامه أن تتولوها بالهوى المطاع، والجهل القالب للأوضاع.(3/299)
أيها المسلمون: إنه لا أشقى من ابن المطلقة، وإن أباه يُشقيه أولًا، ويشقى به أخيرًا، فإذا ربيَ في حضن أمّه المطلقة شقي ببعده عن أبيه، وشقي أبوه بما تغرسه أمّه في نفسه من بغض له وحقد عليه.
إن الأمة لا تنعم بأطفالها صغارًا، ولا تنتفع بهم كبارًا، إلا إذا نشأوا متقلبين في أحضان الآباء والأمهات، متلقّين لدروس العطف والحنان من قلبين متعاطفين، لا من قلب واحد.
ليت شعري أيدري المتساهلون في الطلاق ماذا جنوا على أنفسهم وعلى أبنائهم وعلى أمتهم؟(3/300)
دعوة صارخة إلى إتحاد الأحزاب والهيئات *
إلى كل عامل مخلص للقضية الجزائرية من أحزاب وهيئات وأفراد
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أيها القوم:
ها هي ذي الانتخابات البلدية على الأبواب، وهي مقدمة لانتخابات متتابعة وحلقة من سلسلة طويلة من النيابات، وإن من طبيعة الانتخابات في الأمم التي لم تنضج آراؤها في الحياة، ولم يتّضح منهاج الحياة لها، أن تشتّت الشمل المجموع وتفرّق الكتلة المتراصّة الأجزاء، فكيف بالشمل الممزق والرأي المفرق؟
وها نحن أولاء نرى خصوم القضية الجزائرية من أئمة الاستعمار قد جمعوا صفوفهم وأجمعوا أمرهم على حرب قضيتنا في منبتها أشدّ مما حاربوها في فرنسا، وها هم أولاء أعدّوا من رجالهم للمراكز العليا في هذه النيابة كل ذي سابقة سوداء في القضية، وكل بطل من أبطال الكيد لها، وكل ذي نية خبيثة في القضاء عليها، وكل ذي دخلة سيئة للإسلام، وكل ذي يد ملوثة بدماء أبنائه.
إنهم قد تداعوا جهرة إلى الاتحاد هنا كما اتّحدوا هناك. اتّحدوا هناك على إحباط برامجكم فنجحوا، وعلى تخييب مطالبكم فأفلحوا، وإنهم قد اتّحدوا هنا على إسكات أصواتكم، وإخماد حركاتكم، وبيدهم أزمة القوة من حُكم ومال، ومطابع وجرائد وقسيسين.
إن ضعف الضعيف لا يكون- في سنّة الله- إلا زيادة في قوة القوي، وإن اختلافكم ضعف، فهو لا يكون إلا زيادة في قوة خصومكم وخصوم قضيتكم.
لا تستيئسوا. إن لم يكن لكم بعض ما لديهم من القوة المادية، فعندكم من القوة المعنوية ما لو أحسنتم تصريفه واستغلاله لغلب ضعفكم قوّتهم.
__________
* نشرت في العدد 10 من جريدة «البصائر»، 13 أكتوبر سنة 1947.(3/301)
إن قوّتكم في الاتحاد فاتّحدوا.
إن الأمة من ورائكم، وهي مختلفة باختلافكم، فإذا اتحدتم اتحدتْ، وإنها متألمة من اختلافكم في مثل هذا الوقت، وفي مثل هذا الموقف، وإن هذا التألّم قد يفضي بها إلى اليأس وانعدام الثقة بكم، فأنعشوا آمال أمّتكم باتحادكم وقوُّوا معنوياتها بجمع كلمتكم.
إن خصومكم يتقدّمون إلى الميدان بقائمة واحدة مختارة من أهل الكفاءات في حربكم وبغضكم، ومن أهل السوابق في الكيد لكم، يؤيّدها الموافق المتحمّس، ويرجع إليها النافر والشارد والمحايد، فتكتسب من وحدتها قوة الاتحاد، ومن التفاف الفرق قوة الإجماع. وإن هذه القوة تُصيّر الباطل حقًّا في نظر القانون.
أما أنتم فتتقدمون- ما دمتم مختلفين- بقوائم مختلفة متعددة مبنية على عصبية الحزبية، لا على أساس الكفاءة، ولا على اعتبار المصلحة الوطنية، تصحبها دعايات يلعن بعضها بعضًا، ولا تنتهي حتى تقطع ما بقي من أوصال هذه الأمة الضعيفة، وتأتي على ما بقي من وشائج القربى وصلات الأخوة، ثم تترك بعدها نيرانًا من العداوة لا يطفئها ماء البحر، وندوبًا من الحزازات والأضغان لا يمحوها كرّ الزمن، وتصيّر الأخ ينظر إلى أخيه وكأنما ينظر إلى قاتله، فهي كالأمراض المستعصية إن لم تقتل تركت الضعف والارتخاء والفتور والنحول، ثم تبرز القوائم الناجحة فإذا هي هزيلة مضعوفة، مرقّعة الأطراف، خالية من الكفاءات خالية من روح النضال خالية من القيادة الصحيحة، وإذا بتلك الحمية قد بردت، لأن باعثها هو الانتخاب، وعصبية الأحزاب، لا مصلحة الوطن وحقوق الأمة، ومن المحزن أننا ما زلنا نعتبر الانتخاب غاية لا وسيلة في حين أنه في حقيقته وفي نظر الأمم الحية وسيلة لا غاية، وهذه إحدى نقط الضعف في عقليتنا العامة، فليعتبر بها رجالنا وأحزابنا، تضاف إليها أخرى من نقائصنا وهي أن الانتخابات في نظر الأمم الحية كميدان المصارعة الرياضية، لا ينتهي المتصارعان حتى يتصافحا على الوفاء للفن، أما عندنا فهي مجال خصام، تبتدئ بالسباب، وتنتهي بالعداوة، وما ذلك إلا لأن حظ النفس لم يزل عندنا مقدمًا على حظ الوطن وعلى المصلحة العامة.
يا قادة الأحزاب! إن في مبادئكم دسائس دخيلة من الأفكار، تؤرّث العداوة الحزبية بين الإخوة بحجّة المحافظة على المبدإِ، فانبذوها بضرورة الاتحاد ومراعاة الظروف، وادحضوا شبهتها بحجة الوطن الصريحة، وإن في صفوفكم دساسين مدخولين من الرجال لهم أغراض في المنافع والكراسي ولهم مقاصد في الإفساد، وإنكم لتعرفونهم بسيماهم وتعرفونهم في لحن القول، فأخرجوهم من الصفوف، ولا تسمعوا لهم كلمة ولا تطيعوا لهم رأيًا، وإن إخراجهم لا ينقص عددًا ولا يقطع مددًا، بل يقطع دابر الفساد من صفوفكم ويسأصل مادة الضعف من أتباعكم.(3/302)
يا قادة الأحراب! إنكم مسؤولون أمام الله وأمام التاريخ وأمام الوطن وأمام الأمّة، فاعرفوا قيمة هذه المسؤولية الثقيلة، واشتركوا في تحمّلها بإخلاص تخف ويخف عليكم ثقلها.
إن العمل النافع للجزائر يبتدئ من الجزائر، وإن الانتخابات باب للمرور، لا دار للاستقرار، فاعبروه متكاتفين، ولا تعبروه متخالفين، واجعلوا مصلحة الوطن قبل مصلحة الحزب، ومصلحة الحزب قبل مصلحة الشخص.
أيّتها الأمة الجزائرية! إن هذه الأحزاب تستمدّ قوّتها منك، وأنت الزاد والمدد، والعدّة والعدد؛ فاحمليها- بجميع الوسائل- على الاتحاد؛ إنها متكلمة باسمك، فاحمليها على الاتحاد باسمك، إنها إن اختلفت كنت أنت الخاسرة على كل حال، وقضيتك هي المهضومة على كل حال، ويومئذٍ لا ينفعك نجاح الناجح منهم؛ أما إذا اتحدوا وتقدّموا للانتخاب بقائمة واحدة، فإن نجاحهم في النيابة عنك محقق، ونجاح قضيتك قريب، فإذا لم تربحي الحق ربحت الاتحاد وكفى به ربحًا.
أيتها الأحزاب! أيها النوّاب! ...
دعوْناكم إلى "اتحاد أجزائكم الطبيعية بعضها مع بعضها" في تلك الكلمة المدوية في العدد الرابع من «البصائر»، واتصلنا بكثير من المسؤولين منكم وبينّا لكم ضرورة الاتحاد في هذا الوقت الحرج، فوجدنا بعضكم يقول في الاتحاد بلسانه، ما ليس في قلبه، ويسارع إليه بالقول ويبطى عنه بالعمل، ووجدنا بعضكم لا يفهم من الاتحاد إلا أن يكون اندماجًا وإلحاقًا، لا كما يفهمه الناس من حفظ كل حزب لكيانه، والاتحاد والتعاون على ما فيه مصلحة الوطن، ووجدنا بعضكم لا يرضى إلا بأن تكون جمعية العلماء جزءًا من هذا الاتحاد. وجمعية العلماء- كما هي في حقيقتها، وكما أعلنت- فوق الأحزاب. ومن مصلحة الأحزاب أن تكون جمعية العلماء فوق الأحزاب.(3/303)
دعوة مكررة إلى الإتحاد *
دعوْنا بالقلم مرّات أحزابنا السياسية الجزائرية إلى الاتحاد؛ وبينّا لهم ما يجهلونه من ثمراته وفوائده. ودعونا إليه باللسان في مجالس لا تحصى، نوّعنا فيها العبارات، وشرحنا الأسباب الداعية إليه من واقعة ومتوقعة؛ وخاطبنا بذلك جماعة من المسؤولين وذوي الرأي من أحزابنا، وتلطفنا في التحيّل، فاخترنا للدعوة كثيرًا من المناسبات التي يسهل معها الدخول إلى النفوس النافرة، والتأثير على العواطف الفائرة، والتغلّب على النزعات الحادة، واتخذنا من الإسلام والعروبة الجزائرية محورًا للدعوة إلى الاتحاد، وموئلًا نسوق إليه المتفرقين من أهله، لا تحريكًا للعصبية الدينية أو الجنسية، ولكن لأنها الجوامع الطبيعية لرجالنا العاملين، والصفات التي تربطهم بالأمة، والأصول التي ائتمنتهم الأمة على المطالبة بحقوقها فيها، ولأن الاستعمار إنما يسومنا الخسف والظلم لأجل هذه الثلاثة ويغالبنا عليها منذ قرن ونيف؛ ولو أن الشعب الجزائري كان مسيحي الدين عربي الجنس لَلقي من الاستعمار بعضَ العطف بمقدار ما تقتضيه أخوّة الدين، وإن تقاضى منه ثمن ذلك العطف تسخيرًا في تذليل بني العمومة من العرب والمسلمين كما هي عادة الاستعمار التي عرفها العرب وتفطنوا لخباياها، ولو كان هذا الشعب غير عربي ولا مسلم للقي من عطف الاستعمار المسيحي الشيء الكثير، بشرط أن تبقى العنجهية الأوربية هي السائدة فوق الجميع.
ولو أننا قصدنا في الدعوة إلى الاتحاد على تلك الأصول الثلاثة، إثارة النعرة الدينية أو الجنسية، لما توجّه إلينا لوم من عاقل في هذا الزمن الذي أصبح من مميزاته وخصائصه التجمّع العنصري في أعرض الأمم دعوى في الإنسانية والديمقراطية، والتكتّل الديني في أعرقها نسبًا في الإلحاد واللايكية.
...
__________
* نشرت في العدد 13 من جريدة «البصائر»، 1 ديسمبر سنة 1947.(3/304)
كلّ مسلم عربي جزائري مخلص يُؤيّدنا في الدعوة إلى هذا الاتحاد. ويود منه ما نود، ويعتقد فيه ما نعتقده من أنّه المعقل الوحيد للقضية الجزائرية والوسيلة الوحيدة لنجاحها، ويرى ما نرى من آثار هذا التفرّق الشنيع الذي شتّت شمل هذه الأمة الضعيفة فزادها ضعفًا على ضعف في وقت تطلعتْ فيه إلى المطالبة بحقّها، فهي فيه أحوج ما تكون إلى جمع القوى والتئام الشمل واتحاد الكلمة.
ترد علينا رسائل كثيرة من عقلاء الأمة المخلصين لها السالمين من عصبية الحزبية، وكلها حضّ على السعي في الاتحاد بين الأحزاب وجمع الكلمة المتفرقة في هذا الوقت التي تجمعت فيه جموع الاستعمار على دحض حقّنا بباطله، وفي هذا الجو الذي كله نذر ومخاوف، والرسائل على كثرتها بحيث لا يخلو منها بريد يومي وخصوصًا في الأسابيع الأخيرة- كأنما كتبت بقلم واحد في أمور ثلاثة: التشهير بضرر الخلاف، والتنويه بضرورة الاتحاد، وتعليق الأمل في جمع الكلمة على كاتب هذه السطور وجمعية العلماء. وقد تغالى بعض الكاتبين فعصب قضية الاتحاد برأس كاتب هذه الكلمة، وجعلها عهدة في عنقه، وبالغ بعضهم- وهو من ذوي الآراء النيّرة والعلم الواسع والإخلاص المحقّق- فقفز إلى غاية الغايات وهي جمع الكفاءات في حزب واحد.
أما ضرر الخلاف على القضية الجزائرية فهو أمر يستوي في إدراكه جميع الناس، وأما ضرورة الاتحاد فهي أمر لا يختلف فيه عاقلان، وهو أمنية كل مسلم مخلص لدينه وجنسه ووطنه، وقد شعر به المسؤولون من رجال الأحزاب فتداعوا إليه جهرة في حين حدّة الخلاف وعنفوانه، ووجود أقوى أسبابه. ولا يماري في لزوم الاتحاد إلا قصير النظر في العواقب، أو خادم لركاب الاستعمار من حيث يدري أو لا يدري، أو مدخول النسب في الوطنية، أو مغطى البصر في العصبية الحزبية، أو سمى العقيدة في الإسلام والعروبة، أو متّهم في إخلاصه لهما، نقول هذا بكل صراحة لأننا نعتقده، ونعتقد معه أن كل الأحزاب في جميع الأمم لا يخلو أتباعها من أخلاط، كما لا تخلو أعمالها من أغلاط. وأما تعليق الأمل بكاتب هذه السطور وبجمعية العلماء فهو في محله، لأن الكاتب خلق لذلك، وعمل لذلك، وأنفق عمره في ذلك، وحلّ أصعب عقدة عقدها الاستعمار فجمع الكراغلة والحضر (1)، على ما جمع
__________
1) قبيلان يتكوّن منهما سكّان مدينة "تلمسان"، المدينة التاريخية القريبة من الحدود الغربية للجزائر، والكراغلة هم بقايا العنصر التركي الذي كان يحكم الجزائر، والحضر هم من عدا الكراغلة من عرب وبربر، وقد كانت بين القبيلين عداوة مستحكمة منذ الحكم التركي، وزاد بها الاستعمار الفرنسي ثباتًا واستمرارًا. ولما استقرّ كاتب هذا المقال بتلمسان ممثّلًا لجمعية العلماء وناشرًا لمبادئها في العمالة الوهرانية كانت أول مشكلة اعتنى بحلّها هذه المشكلة بين هاتين الفرقتين، وقد وفّقه الله في ذلك، فتآخى الفريقان على رغم أنف الاستعمار.(3/305)
عليه الإسلام ربيعة ومضر. وتمّ بسعيه وسعي إخوانه العلماء- في وقت لا يقل حرجًا وضيقًا عن وقتنا هذا- جمع الأحزاب في هيئة أحباب البيان، يوم كان البيان هو مسألة الوقت ومحلّ الإجماع، وكان يصرّح هو وإخوانه في كل جلسة كما يصرّح الآن بأن جمعية العلماء "فوق الأحزاب" لا فوقية التعالي والترفّع، إذ لو كانت كذلك لما رضيت بالدخول في هيئة، ولا بالحضور في مجمع، وإنما هي فوقية الإرشاد والنصيحة والمحافظة على الوحدة، بحيث تكون الحَكَم والمرجع كلّما شجر خلاف في رأي، أو نجمت فرقة في مبدإٍ، ولكن بعض رجالنا- سامحهم الله- لم يفهموا هذا المقصد الصالح، وأرادوا الجمعية على أن تكون قسيمًا ثالثًا وطرفًا في النزاع، وحملوها على غير حقيقتها ومبادئها، وأوّلوا بالهوى بعضَ مواقفها الضرورية على غير وجهها، وأراد كل فريق أن تكون ألعوبة في يده، أو مسخّرة لأغراضه، أو أداة يهدم بها خصمه، والجمعية فوق ما يظنون، وفوق ما يتوهمون، ليست عاملَ تفريق، وإنّما هي عامل جَمْع، وليست أداة هدم، وإنما هي أداة إصلاح، ولو استبطن رجالنا السياسيون بواطنَ الأمور، وتدبروا عواقبها، لعلموا أن المصلحة الوطنية أولًا، والمصلحة الحزبية ثانيًا، تقتضيان وتتقاضيان من العاملين لهما أن تكون جمعية العلماء فوق الأحزاب، لتكون حكمًا بين الأحزاب، ولو جرت الجمعية على ما أرادوا لكانت حزبًا سياسيًّا ثالثًا يزيد الطين بلّة، وفي الأمراض علة؛ وفي صفوف الأمة صدعًا، ولانهارت دعامة الاستقلال الأولى وهي العلم والتعليم، أما كفى الأمة ما تعاني من حزبين حتى نزيدها ثالثًا؟
...
لا بدّ في الاتحاد من تذكّر بعض الماضي، ولا بدّ من نسيان بعضه، يُذكر الصالح من الماضي ليبنى عليه الحاضر، وينسى غيره لأن السياسة تتلوّن بالظروف، والظروف رهينة التحوّل والتغيّر؛ إنما يستثار التراب الساكن للبحث عن شيء نافع؛ أما إثارته لغير معنى ولا فائدة، فهو عمل يقذي ويؤذي فنرجو من رجالنا- ونلحّ في الرجاء- أن يتّحدوا على الأصول المسلمة، لأننا نعلم جميعًا أن الغاية واحدة، وأن الخلاف إنما هو في الوسائل الموصلة إلى تلك الغاية، وإذا كان الأمر كذلك كان الاتحاد من أيسر الأمور، زيادة على كونه من ألزم الأمور، وما ضاق الرأي والتدبير يومًا عن تقريب المتناقضات، فضلًا عن جمع المتقاربات. وإذا صدقت النيات، وصفت الضمائر، وأخلصت القلوب في خدمة الوطن- فكل صعب يهون، وكل عسير يتيسّر.
على رجالنا أن يعلموا أنه إذا كان الاتحاد لازمًا في كل وقت، وحسنًا في كل وقت، فهو في هذا الوقت ألزم وأحسن.(3/306)
وأن أمامهم ثلاثة أمور توجب عليهم الاتحاد العاجل المخلص، ليواجهوها مجتمعين متكاتفين صفًّا واحدًا يعمل لغاية واحدة.
أمامهم التكتّل الاستعماري، واقفًا بالمرصاد للقضية الجزائرية، متحفّزًا للقضاء عليها، وما جمعَ جموعه إلا من أجلها؛ وما طوى أحزابه في حزب إلا للقضاء على أحزابنا، أفنعينه على أنفسنا بالتفريق؟
وأمامهم الانتخابات للمجلس الجزائري إحدى الثمرات المرة لذلك الدستور الأعرج الذي وضع من غير إرادة الأمة ولا استشارتها، ولا نشك في أن أحزاب الاستعمار ومن ورائها الحكومة تعد العدّة للاستيلاء على جميع مقاعده بكل الوسائل؛ ولا نشك في أن الخطط دبرتْ، وأن الدوائر فصلت على قدر الأذناب والأنصار، لضمان الفوز للأذناب والأنصار، فإذا لم تواجهها أحزابنا باتحاد متين، وقائمة واحدة، خسرت القضية مرتين: مرة بتمهيد السبيل لفوز الاستعمار وأذنابه وأنصاره، ومرة بتوسيع خرق الشقاق والتفرّق بين أجزاء الأمة الذي هو أثر من آثار الانتخاب.
وأمامهم الحالة العالمية العامة بغيمها وظلماتها، لم يضطرب حبلها يومًا اضطرابه في هذه الأيام. وإن في جوّها لبوارق، من ورائها صواعق؛ وإن في طيها لبوائق لم تتفتّق عنها الأكمام. فإذا لم نعالج أحداثها باتحاد عتيد، ولم نقف في وجهها صفًّا واحدًا، وأظلّتنا ونحن متفرّقون متخاذلون، أضعنا الفرصة وخسرنا الصفقة؛ ويا ليتها خسارة تبقي الرجاء وإن أطالت المدة. ولكنها خسارة للقضية وللرجاء فيها معًا.
إن في أحزابنا كفاءات، وفيها رجال، وفيها كنوز من الإخلاص، وقد غطى الخلاف على جميع ذلك، فهل من يد جريئة تُزيح ذلك الغطاء البغيض؟
أيّتها الأمّة: أنت تلك اليد، وأنت- وحدك- القادرة على توحيد الأحزاب. إن قوة الأحزاب مستمدّة من قوّتك، فاعرفيهم متّحدين، ولا تعرفيهم مختلفين، أما كيف تؤدّين هذا الواجب، فإن عليّ بيانه إذا لم يتّحدوا. وسيكون البيان آخر ما يمليه الواجب من محض النصيحة.
أما أنا فقد بلغت ... اللهم اشهد.(3/307)
عواقب سكوت علماء الدين عن الضلال في الدين *
للقوة والسلطان أثر في الأبدان، وأثر في الأرواح؛ وأقوى الأثرين تأثيرًا وأظهرهما وسمًا، وأبقاهما على المدى، ما كان في الأرواح، لأن التسلّط على الأبدان يأتي من طريق الرهبة، والرهبة عارض سريع الزوال، أما التسلّط على الأرواح فبابه الرغبة، والدافع إليه الاقتناع والاختيار.
ولعلماء الإسلام سلطان على الأرواح، مستمدّ من روحانية الدين الإسلامي وسهولة مدخله إلى النفوس: تخضع له العامة عن طواعية ورغبة، خضوعًا فطريًّا لا تكلّف فيه، لشعورها بأنهم المرجع في بيان الدين، وبأنهم لسانه المعبّر حقًّا عن حقائقه، والمبين لشرائعه، وبأنهم حُرّاسه المؤتمنون على بقائه، وبأنهم الورثة الحقيقيون لمقام النبوّة، وكان العلماء يجمعون بين وظيفة التبيين في التعبديات، وبين وظيفة التقنين في المعاملات؛ أما الخلفاء فلم تكن وظيفتهم- في الحقيقة- إلا التنفيذ لما يراه العلماء من مصلحة في المعاملات الفردية أو الاجتماعية.
كان هذا السلطان ظاهرًا على أشدّه، متجليًا في سطوعه في صدر الإسلام يوم كان العلماء قوّامين على الكتاب والسنّة، جارين على صراطهما، واقفين عند حدودهما، قائمين بفريضة الأمر بما عرفاه، والنهي عما أنكراه، لا يهدون الأمة إلا بهديهما، فكان سلطانهم نافذًا حتى على الخلفاء، وألسنتهم مبسوطة بالنقد والتجريح لكل من زاغ عن صراط الدين كائنًا من كان، وكان رأيهم هو المرجع في مصالح الدين والدنيا. لا جرم أن كان خلفاء الدنيا من معاوية وهلم جرًّا يعرفون لهم هذا السلطان الواسع، فيتّخذ منه الموفقون منهم عونًا على الخير والإصلاح فلا يقطعون دونهم رأيًا ولا حكمًا، ولا يتبرّم به المستبدّون منهم،
__________
* نشرت في العدد 36 من جريدة «البصائر»، 17 ماي سنة 1948.(3/308)
لأنهم يرون فيه سلطانًا على سلطانهم، فيأخذون في توهينه، تارةً بالمصانعة المرائية والاستيلاف المخادع، وتارة بالمنابذة المكشوفة والتجنّي المعاند.
بايع معاوبة لابنه يزيد، وحمل الأمة على البيعة له بالترغيب والترهيب والمطاولة، فتمّ له ذلك؛ ولكنه كان يرى تلك البيعة كاللغو، ما لم يبايع العبادلةُ والحسن، لمكانتهم في العلم ومكانهم من الأمة، فعمد إلى الحيلة المستظهرة بالسيف، وكذلك فعل بنو مروان كلما تخلّف مثل سعيد بن المسيب عن البيعة، وكذلك فعل الخلفاء بعدهم في قضية البيعة أيام اشتداد سلطان العلماء وامتداده، حتى انتقل أمرها إلى طور آخر، وأصبحت في أيدي الأمراء والقوّاد والأجناد، وخرجتْ من يد الخلفاء والعلماء معًا، وكأنما كان ذلك عقوبة من الله للخلفاء على تعاليهم، وللعلماء على تنازلهم؛ وما وقع في البيعة وقع في غيرها من مصالح الأمة التي يتنازعها السلطانان.
بقي العلماء- مع ذلك- ظاهرين على الحق، يتولّون القيادة الحقيقية للأمة في غير ما يمسّ السلطان المادي الزائف، وكانوا أيقاظًا لكل حدث يحدث في الإسلام، وكانوا كلّما رأوا شبحَ بدعة خفّوا إلى إزالتها، وكلّما أحسّوا بضلالة ومنكر في الدين بادروا إلى تغييره بالفعل والقول: يُجسم لهم الاحتياط الصغائر فيعاملونها معاملة الكبائر؛ لا يتساهلون ولا يترخّصون، سدًّا لذرائع الفتنة والضلال، وكانوا يصدُرون في أعمالهم وأحكامهم عن الكتاب والسنة، فيصدرون عن الدليل الذي لا يضلّ، ويستندون إلى الحجة التي لا تدحض؛ وكانت الأمة ترجع إليهم، فترجع إلى وحدة متماسكة في الدين لا تتفرّق بها السبل، ولا تتشعّب الآراء؛ إلى أن فتنتهم المذاهب والخلافات الجدلية في أصول الدين وفروعه، وغطّت عليهم العصبيات المذهبية وجه الحق، فرأت منهم العامة غير ما كانت ترى من وحدة في الدين، عاصمة لوحدتها في الدنيا، ووحدة في العلم، عاصمة من تفرّقها في المصالح، وجرّوها إلى ما هم فيه من خلاف، فجرّتهم إلى ما هي فيه من فساد، وضعف لذلك سلطانهم عليها، فتوزّع أمرَها أمراء السوء الظالمون، وقادة السوء الجاهلون، واجتمع هؤلاء على قصد واحد وهو استغلال العامة فاصطلحوا.
لم يزلْ أمراءُ السوء يكيدون للعلماء حتى زحزحوهم- مع تطاول الزمن- عن مكان القيادة الروحية للأمة، وصرفوهم عنها، واستبدلوا بهم في استمالة الدهماء والعامة قادة لبسوا لبوس الدين ليغروا باسمه، وزهدوا في العلم إذ ليسوا من أهله، واستمدّوا قوّتهم من قوّة الأمراء، وتقارض الفريقان الشهادات بالتزكية والتراضي على المنافع والسكوت عن المنكر، هؤلاء يُضلونها، وهؤلاء يُذلونها، والإضلال في الدين وسيلة الإذلال في الدنيا؛ واستنامت الأمة على الهدهدة باسم الدين، وعلى الاغترار بما يزيّنون لها من الجهل، وما يقبحون لها من العلم، وما يقرّبون لها من طرق الجنّة، وهم في ذلك كلّه لا يقربونها إلى الله إلا بما(3/309)
يبعدها عنه من بدع ومحدثات، والعلماء في هذه المرحلة غافلون يغطون في نومة أرْبتْ في الطول عن نومة أصحاب الكهف والرقيم، إلى أن فتحوا أعينهم على دين غير الدين، فشبه لهم، وأصبحوا تابعين، بعد أن كانوا متبوعين، وأصبحوا يُزكون بعلمهم ذلك الجهل ويشهدون لأولئك القادة الجاهلين بالكمال والفضل، ولأولئك المبتدعين بما انتحلوه لأنفسهم من الولاية والكرامة، على المعنى الذي اخترعوه، لا على المعنى الذي جاء به الدين، ثم لم يكتفوا منهم بذلك حتى نحلوهم خصائص الألوهية. وشعر أولئك المبتدعة بتهوّر العلماء للمطامع الخسيسة، وسقوطهم على المطاعم الخبيثة، فقادوهم بزمامها، ثم شعروا بإقرارهم للمهانة والذل في نفوسهم، فأمعنوا في تحقيرهم وإغراء العامّة بهم، وأهان العلماء أنفسهم، فسهِل الهوان عليهم، فأصبحوا أذلّ من وتد بقاع، وصاروا عبيدًا وخولًا لهؤلاء المبتدعة الضُلَّال، يعيشون عالة عليهم، ويتساقطون على فتات موائدهم، ويتطوعون لهم حتى بأخس شهواتهم، ويشهدون لهم الزور على الله ودينه، ويحلون لهم من اللذائذ ما حرّم الله، وعلى هذه الحالة أدركنا عصرنا وأهلَ عصرنا. والشرب مشوب من قديم، ولكن آخر الدنّ دُرْدي.
ولقد رأيت بعينيّ معًا منذ سنين في طريق باب منارة من تونس، عالمًا يُعدّ في الطبقة الممتازة في علماء جامع الزيتونة، يهوي بالتقبيل على يد مخرف مبتدع جاهل متعاظم، لو حُكِّمتُ لحكمتُ بأن يكون عبدًا لذلك العالم، فرأيت يومئذٍ كيف تُعبد الأصنام، وعلمتُ كيف يكون العالم سبَّةً للعلم، وخطر ببالي قول المتنبّي:
وَقَدْ ضَلَّ قَوْمٌ بِأَصْنَامِهِمْ … فَأَمَّا بِزِقِّ رِيَاحٍ فَلَا
وسقط ذلك العالم من حسابي، فما ذكرته بخير حيًّا، ولا ترحمتُ عليه ميتًا، ولا عددت موته- كموت العلماء- ثلمة في الإسلام! ...
ما ظلم الله العلماء، ولكن ظلموا أنفسهم، ولم يشكروا نعمة العلم، فسلبهم الله ثمراته من العزة والسيادة، والإمامة والقيادة، وكان لخلوّ ميدان السلطة والأمر منهم أثر فاتك في عقائد المسلمين وأخلاقهم؛ وكان من نتائجه إلقاء الأمة بالمقادة إلى مَن يُضلّ ولا يهدي من المشعوذين الدجّالين. فأضلّوها عن سواء السبيل، ومكّنوا فيها للداء الوبيل، وأعضلُ أنواعه الاستعمار، الذي وجد منهم مطايا ذُللًا سماحًا إلى غاياته الخبيثة في الإسلام والمسلمين؛ ولو كان العلماء هم القادة، وكانوا أحياء الضمائر والمشاعر، وكانوا- كما كانوا- شداد العزائم والإرادات، لوجد منهم الاستعمار في مشارق الإسلام ومغاربه حصونًا تصدّ، ومعاقل تردّ.
***(3/310)
أما والله- ألية المسلم البر، وسريرة الضمير الحر- لا ترجع هيبة العلماء إلى مستقرّها من نفوس الأمة حتى يقوموا بعهد الله في بيان الحق، ويتضافروا على حرب البدع والضلالات التي لابست الإسلام، ولبست عقائده ففسدت، وآدابه فكسدت، ولبست على المسلمين دينهم فأصبحت حقائقه في واد، وعقولهم في واد، وحتى يجلوا على الأمة تلك الكنوز الدفينة في كتاب الله كتاب الإنسانية العليا، وفي سيرة محمد دستور الحق والخير والكمال؛ وإن ذلك في صميمه هو ما تقوم به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في دعوتها وعملها الإصلاحيين، وإنها لا تفتأ جاهدة في الإصلاح الديني حتى تؤدي أمانة الله منه، وتبلغُ الغاية من إقراره في النفوس، وتمكينه في الأفئدة؛ وقد بلغت دعوتها للمقصورات في خدورهن، وللرُّحل في قفارهم، وللبداة في بواديهم، وللحضر في نواديهم، حتى أصبحت آثارها بادية في العقول والأفكار والإرادات وقد رجع للقرآن بعض نفوذه وسلطانه، وحجّته وبرهانه، وللسنّة النبوية مكانها علمًا وعملًا، وللعلماء المصلحين قوّتهم في التوجيه، ومكانتهم في التدبير، وقدرتهم على القيادة.
وإن هذه النتيجة لدعوة جمعية العلماء لمعجزة ادّخرها الله لهذا القطر الجزائري، فلا يوجد قطر من أقطار الإسلام تأثّر أهله بالفكرة الإصلاحية الدينية كما تأثّر مسلمو الجزائر، ولا يوجد في علماء الإسلام جماعة قاموا بهذه الدعوة الجريئة، متساندين مجتمعين، يجمعهم نظام وانسجام، كما قام رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، على كثرة اللدد في الخصوم ووفرة اللجاج في المعارض؛ وكم وددنا لإخواننا علماء الأقطار الإسلامية، لو قاموا بمثل ما قمنا به من تطهير عقائد المسلمين، وتوجيههم التوجيه الصحيح النافع في الدين والحياة، والرجوع بهم- في صراحة وجرأة- إلى كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم، وإنقاذهم بذلك من عصبيات المذاهب والطرق التي فرّقت شملهم، ومصائب التفرّق والخلاف التي أذهبت ريحهم؛ ومع أن إخواننا علماء الإسلام يملكون ما لا نملك من وسائل الاجتماع، وأسباب القوة، فإن جهودهم في الإصلاح الديني لم تزل فردية محدودة، وخطواتهم في السير به لم تزل بطيئة متثاقلة.
أما والله، لو أنهم اجتمعوا وتذامروا، وشنّوها- كما شنناها- غارة شعواء على البدع والضلالات التي مهّدت للانحلال وفساد الأخلاق بين المسلمين، ومكّنت للضعف والخور في نفوسهم، وللوهن والفشل في عزائمهم، وللزيغ والاعوجاج في فطرتهم، وللرثاثة والنكث في روابطهم، ثم صيّرتهم- لذلك- حمًى مستباحًا، ونهبًا مقسمًا، لو فعلوا ذلك لأعادوا للإسلام قوّته وكماله، ونضرته وجماله، وللمسلمين مكانهم في البشر ومكانتهم في التاريخ.(3/311)
ثلاث كلمات صريحة * ...
1 - إلى الأمة:
هذه الحركة العلمية الجليلة القائمة بالقطر الجزائري، هي الأساس المتين للوطنية الحقيقية، وهي التوجيه الصحيح للأمة الجزائرية، فغايتها التي ترمي إليها هي تصحيح القواعد المعنوية من عقل وروح وفكر وذهن، وتقوية المقوّمات الاجتماعية من دين ولغة وفضائل وأخلاق، وتلك وهذه هي الأُسس الثابتة التي بُنيت عليها الوطنيات في الأمم، هذه حقيقة لا يماري فيها إلا مكابر أو جاهل.
وهذه الحركة العلمية لم يضع أصولها العملية، ولم ينظّم قوافلها، ولم يحم حماها من كل دسّاس وكل خنّاس، إلا جمعية العلماء، ولا يعلي بناءها ويرفع سمكها في المستقبل إلا جمعية العلماء. وهذه حقيقة أخرى لا يكابر فيها إلا حسود، أو متّبع لهواه، أو مسخَّر للاستعمار.
وهذه الحركة لا تبلغ مداها، ولا تؤتي ثمراتها، ولا تتمخّض عن نهضة ثابتة إلا إذا استندتْ على عمادين قارين من علم وعمل. واعتمدت على سندين قويين من جمعية العلماء والأمة. وهذه حقيقة ثالثة أوضح من الصبح.
فجمعية العلماء والأمة شريكتان متضامنتان في احتضان هذه الحركة، والقيام عليها، والعمل على نمائها، حتى تتشقّق عن نهضة شاملة تفرّع النهضات رسوخًا وتمكّنًا، ولا يشترك اثنان في عمل إلا كان العمل بينهما كالطائر لا ينهض إلا بهما، ولا يقصر أحدهما إلا كان الجناح الذي يمثّله مهيضًا. فالواجب على الشريكين أن يقوم كل واحد منهما بقسطه على
__________
* نشرت في العدد 54 من جريدة «البصائر»، 25 أكتوبر سنة 1948.(3/312)
أكمل وجه، وإلا باء بجريمتين: الإساءة إلى العمل في صميمه، والإساءة إلى الشريك العامل بالفتّ في عضده.
أما جمعية العلماء فقد قامت بقسطها وبرئت إلى الله من تبعة التقصير، وإلى الأمة من خيانة الأمانة، وما زالت دائبة في ترقية الحركة، جاهدة في حياطتها بالنظام، تنتقل بها في كل عام من عالٍ إلى أعلى، ومن نافع إلى أنفع، لا تريد من الأمة على ذلك جزاء ولا شكورًا، ولا تبغي منها إلا أن تقوم بقسطها من العمل، وهو بذل الماعون من مال لا تقوم الحركة إلا به، وتصميم لا تتمّ الأعمال إلا به، وإجماع على التعليم لا تخرقه الحزبيات والانتخابات، فهل قامت الأمة بذلك؟ وهل بذلت من مالها ما يكافئ ذلك الجهد الذي بذلته جمعية العلماء؟ يسوء الأمّة أن نقول الحقيقة، ويسوءنا أن نكتمها.
هذا معهد عبد الحميد بن باديس هو الخطوة الثانية إلى النهضة العلمية العتيدة بعد المدارس الابتدائية، ومنزلته منها منزلة من يأخذ ليعطي؛ يأخذ منها المتعلّمين، ويعطيها المعلّمين؛ وقد لقينا في تأسيسه من العقبات المالية ما لم نجتزه إلا بالصبر وتوفيق الله، وقد صفّت اللجنة المالية للمعهد حسابها للسنة الماضية وسينشر فيقرأ القرّاء أن المعهد مدين، وها نحن أولاء في السنة الثانية من إنشائه، وقد حفز نجاح التعليم الأمة وأطربها الحادي، فتضاعف عدد التلاميذ، فتضاعف عدد المدرّسين، فتضاعفت النفقات الشهرية حتى زادت على نصف مليون من الفرنكات. وإن ألزم الضروريات السكنى للمدرّسين والتلامذة، والسكنى عقبة كأداء لا يذللها إلا المال الوفير. وقد اشترينا في الأيام الأخيرة دارًا لسكنى شيخين من شيوخ المعهد، بلغت قيمتها مليونًا ونصف مليون، ووضعنا أيدينا على دار عربية تسع مائة وخمسين تلميذًا، وتبلغ قيمتها ونفقاتها أكثر من خمسة ملايين. ولجنة الإسكان جاهدة في إحضار الأماكن بالكراء أو بالشراء، ومن ورائها ستمائة تلميذ يطلبون السكنى ومن أمامها أصحاب أملاك يطلبون الملايين، ولكن أين الملايين؟
قد بلغنا في الاحتياط أبعدَ حد، وقرأنا لكلّ شيء حسابه قبل أوانه، وكشفنا للأمة عن كل شيء ولكن الأمة لم تقدّر الأمر كما قدّرناه، فقمنا بواجبنا، ولم تقم بواجبها، فاللهمّ اشهد.
لا نُنكر أن عشرات من المدارس العظيمة قد شيّدتها الأمة بعشرات من الملايين تولّت الجمعيات المحلية قبضها وصرفها، ولا نُنكر أن الأمة في أوائل نهضة من شأنها أن تكثر فيها الجمعيات، ويكثر فيها طلاب المال، وأن نتيجة ذلك الإفقار أو الملل، ولكننا نعلم أن من لوازم النهضات يقظة الفكر، وأن من آثار يقظة الفكر التنبّه لتدجيل الدجّالين، والموازنة بين شعب النهضة وتقديم الأهمّ منها على المهم ...
***(3/313)
وهذا عدد يناهز مائتين وستين معلمًا وزّعتهم الجمعية على المدارس وعلى المعهد وكلهم جنود منقطعون للعلم، يأتمرون بأوامر الجمعية، وتسعة أعشارهم فارقوا أهليهم وتغرّبوا، ليقوموا بالواجب ويؤذوا الأمانة وينفعوا الأمة في أجدى الجهات عليها وهي أبناؤها الصغار، ويتحمّلوا التعب وضيق العيش. وقد كانت السكنى هي مشكلة السنين الماضية، فزادت عليها مشكلة غلاء المعاش، وإن الواحد منهم لينفق نفقة مضاعفة: ينفق على نفسه مثل أو أكثر مما ينفق على أسرته. وقد أصبحت المرتبات المقرّرة في الماضي لا تكفي لنصف الضروريات. فهل تقدّر الأمة أن المعلّم ملك لا يأكل ولا يشرب؟!
إن جمعية العلماء تعطف كل العطف على أبنائها المعلّمين، وتعترف لهم بأنهم مغبونون في الناحية المادية، وإنها لا يقرّ لها قرار إلا إذا أصبحت حقوق المعلّمين المادية مكافئة لما يقومون به من واجبات، إن المجلس الإداري للجمعية قد درس في اجتماعه الأخير هذه المسألة بكل اهتمام وعطف، وقرّر رفع الأجور بحسب الدرجات ابتداء من أول أكتوبر الجاري، وسينشر القرار في منشور خاص مع الدرجات واللوائح والبرنامج، وهي الأعمال التي أنجزتها لجنة خاصة كوّنها المجلس الإداري تحت إشرافه من قدماء المعلّمين وأصحاب الكفاءات وسمّاها "لجنة التعليم العليا" وأسند إليها كل ما يتعلّق بالتعليم توزيعًا للأعمال والمسؤوليات.
والجمعية تحرّض الجمعيات المحلية المتعهدة بمالية المدارس على أن تقوم بتنفيذ ما قرّرته الجمعية في تقدير مرتبات المعلّمين، وعلى أن تبتكر من الوسائل لجمع المال ما يقوم بذلك الواجب، وتحذّرها من الركون إلى عادة قديمة سيّئة، وهي: أن تراخي الجمعيات المحلية وتهاونها وتخاذلها وتقصيرها في العمل، كل ذلك يُحسب على الأمة تقصيرًا في الواجب، وعلى المعلّمين ضياعًا للحقوق؛ وأن هذه العادة هي أم النقائص المخلة بجهازنا التعليمي، وأن الجمعيات المحلية هي الوسيط بين جمعية العلماء ومعلّميها، وبين الأمة، فلتحرص هذه الجمعيات على أن تكون صلة متينة، وواسطة أمينة، ولتؤدِّ الأمانة على أتمّ وجه، ولتكن حازمة في الحق والخير معينة عليهما.
2 - إلى تلامذة الزيتونة والقرويين! ...
أنتم- يا أبناءنا- نتاج هذه الحركة العلمية المباركة، وأنتم غلة سنة خضراء بين سنين يابسات، وأنتم الركاز الذي أظهرته هذه الرجة العنيفة التي أيقظت جمعية العلماء أمتكم على دويّها ... أفاق آباؤكم من تلك الهزّات، وصكّت آذانهم أصوات تنادي: إلى الإسلام ... إلى القرآن ... إلى سنّة محمد ... إلى لغة العرب ... إلى أمجاد السلف ... إلى تاريخ الإسلام ... إلى العلم ... فوجدوا كتائب الأمم المدلجة في طلب العلم قد حمدت السرى،(3/314)
فأقسموا ليكفرن عن خطيئة النوم والغفلة بكم، وليقدمنكم قُربانًا للعلم، وليمسحنّ بأيديكم الكاتبة آثار الأمية وأوضارها. وهم يودّون- بكل مفروح به- لو يزاد من أعمارهم في أعماركم، فوجّهوكم هذا التوجيه الصادق للعلم، ومهّدوا لكم سبل الهجرة إلى منابعه. وإن منهم لمن يبيع قوتَ العيال ليزوّدكم، ويمتهن الأعزة منهم ليسودكم، وما كانوا قبل جمعية العلماء يوجّهون أبناءهم لمفيد، أو لمحمود من المقاصد سديد.
وأنتم- يا أبناءنا- بواكير نهضة علمية قد أظلّ زمانها، وجاء إبّانها، وظهرت تباشير فجرها الصادق، ولمعت مخايل مُزنها الوادق، والعلم- إن كنتم لا تعلمون- هو أساس الوطنية، وقطب رحاها، ومركز دائرتها، ودليل سيادتها.
لا حق لكم على الوطن، بل الحق كله للوطن عليكم، وإن أوْكد حقوقه عليكم أن تحقّقوا بالعلم مطالبه، وتعمروا بالعلم جوانبه، وتنيروا بالعلم غياهبه.
أعيذكم بالله وبشرف العلم وبأمانة الوطن أن تُنفقوا دقيقة من أوقاتكم- بعد قوام الدين والحياة- في غير الطلب والتحصيل للعلم، والقراءة والمذاكرة في العلم.
وأعيذكم بالله وبشرف العلم أن تعودوا إلى الوطن كما فارقتموه بنصف قارئ وربع قارئ، وعشر قارئ.
وأعيذكم بالله وبشرف العروبة أن تسري إليكم العدوى من ممتهني الوطنية فتمتهنوا العلم، فلقد توهّموا- ضلة- أن الوطن يُخدم بالدعاوى الجوفاء، فحذارِ أن تتوهّموا أن العلم ينال بالدعاوى الجوفاء. كلا ... إن الوطنية لعقيلة كرام، لا يساق في مهرها بهرج الكلام، وكريمة بيت، لا تنال بلَوْ ولا بِلَيْت. وإن العلم كبير أناس، لا يُصاحب إلا بضبط الأنفاس.
أعيذكم بالله وبشرف الأبوة أن تعقّوا آباءكم ووطنكم وأن تكونوا سخنة عين لهما، فترجعوا بعد طول الغيبة بالخيبة، وصفر العيبة، وأن اللباب من الشباب هم الذين يكونون كفارة وطهرة لوالديهم، لا كفارًا فجرة بأياديهم.
إن طريق العلم محفوف بالعوائق، من مقت يحيق، ووقت يضيق، وإن الأقدار قد وضعت في طريقكم إلى العلم عائقًا جديدًا هو شر العوائق وأضرّها ... هو هؤلاء الدعاة الغاشون، والسماسرة المضلّون، يدعونكم إلى السياسة ليصدّوكم عن العلم، وإلى الحزبية ليفرّقوكم من الجماعة، وإلى الوطنية ليشغلوكم باسمها عن حقيقتها، ويلهوكم بلفظها عن تحصيل أقوى وسائلها، وهو العلم، إنهم يملأونكم بالخيالات صغارًا، لتفرغوا من الحقائق كبارًا، وإنه لنوع من التسميم المرجأ لا يشعر به المصاب إلا بعد فوات الوقت.(3/315)
العلم ... العلم ... أيها الشباب لا يلهيكم عنه سمسار أحزاب، ينفخ في ميزاب، ولا داعية انتخاب، في المجامع صخاب، ولا يلفتنكم عنه معلّل بسراب، ولا حاوٍ بجراب، ولا عاوٍ في خراب، يأتم بغراب، ولا يفتنّنكم عنه منزوٍ في خنقة، ولا ملتو في زنقة، ولا جالس في ساباط، على بساط، يحاكي فيكم سنّة الله في الأسباط. فكل واحد من هؤلاء مشعوذ خلّاب وساحر كذّاب.
إنكم إن أطعتم هؤلاء الغواة، وانصعتم إلى هؤلاء العواة، خسرتم أنفسكم، وخسركم وطنكم، وستندمون يوم يجني الزارعون ما حصدوا، ولات ساعة ندم ...
...
3 - إلى أولياء أولئك التلامذة ...
لكم الحق- أيها السادة- دينًا وعقلًا وعادة أن توجّهوا أولادكم ما داموا صغارًا حيث تشاءون من وجهات الخير، ما لم يكن في ذلك مأثم أو قطيعة رحم. فإذا بلغوا الرشد تقاضيتموهم برًّا ببر، وإحسانًا بإحسان، فإذا خرجتم في سلطتكم عن حدود الدين، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وهؤلاء التلامذة أبناؤكم وجّهتموهم للعلم واخترتم لهم طريقه، فكان ذلك منكم نهاية البر بهم والنظر لهم، وكان في ذلك رضى أنفسكم ورضى الله ورسوله وصالحي المؤمنين، وكان ذلك منكم معدودًا عند المفكّرين في ما يخدم به الرجال أوطانهم، لأن أبناء اليوم هم ذخائر الوطن في المستقبل، وكل ما نزوّدهم به من تربية صالحة، وأخلاق وعلم فهو إعداد وتجنيد وتسليح للوطن.
ولكن ما قولكم- يرحمكم الله- إذا اعترض أبناءكم وهم في طريقهم إلى العلم لصوص يحاولون أن يقطعوا عنهم طريقه، أتسكتون وتقعدون عن نجدتهم؟ وتتركونهم للصوص يعبثون بهم، فتضيع آمالكم وأموالكم، وتخيب نيّاتكم ومقاصدكم؟ أم تهبون سراعًا إلى استخلاصهم من أيدي اللصوص؟
الدين والعقل والعادة، كل هؤلاء يفرض عليكم أن تصونوا أبناءكم وتحفظوهم من هؤلاء اللصوص.
إلا أن لصوص العقول أفتك من لصوص الأموال وأشدّ منهم عبثًا وإفسادًا، وإن اللصوص الذين أعنيهم لصوص عقول يتحكّمون بأبنائكم في مطارح هجرتهم إلى العلم. وفي(3/316)
مسارح غيبتهم عنكم، فيضلونهم عن سواء السبيل، ويوجّهونهم لغير الجهة التي أردتم، ويأتونهم- كالشيطان- من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ويصدّونهم عن ذكر الله وعن الصلاة وعن العلم إلى أحاديث يزوقونها لهم، تملأ السمع، ولا تملأ العقل، ويصرفونهم عن كتب العلم ودروس العلم إلى جرائد حزبية مملوءة بالكذب والنقائص والمهاترات والسباب.
إن هؤلاء اللصوص المأجورين بأموالكم قد نالوا مأربهم في إفساد عقول أبنائكم في غفلة منكم، وصدّوهم عن العلم، وشغلوهم بالسفاسف الحزبية، حتى أصبح المقهى أحبّ إليهم من الجامع، والجريدة أحب إليهم من الكتاب، والمناقشات الحزبية أشهى إليهم من المذاكرات العلمية، وقد فرّقوهم شيعًا وأوزاعًا، بعد أن جمع العلم بين قلوبهم وأفكارهم، وأيسر ما في هذا الداء أنهم يزيّنون لهم عقوقكم، ويهونون عليهم حقوقكم.
إن هؤلاء اللصوص يغدون على أبنائكم ويروحون، ويقعدون لهم بكل صراط، ويتنقلون بهم في الإفساد وتضييع الأوقات وتعطيل المواهب من منزلة إلى منزلة، ومن مرحلة إلى مرحلة، وآخر مرحلة لمن تمّ تسليكه على أيديهم أن يقتلعوه من حلقة الدرس ويبعثوا به من تونس إلى الجزائر داعية انتخاب، وخطيبًا يدعو لذلك الصنف الذي تعرفونه من النوّاب. أفلهذا أرسلتم أبناءكم إلى تونس؟ أم أنتم لا تبصرون؟
أليس من المبكيات أن لا ينجح في شهادة التحصيل من جامع الزيتونة إلا ستة أو سبعة من ألف تلميذ وبضع مئات من أبنائنا؟ وما السبب؟ السبب يرجع بالخصوص إلى هؤلاء اللصوص.
...
أيها الآباء- وكلنا آباء- إن جمعية العلماء هي الهيئة الوحيدة التي تحضن حركة التعليم العربي في داخل القطر، تقوم بها وتحوطها وتناضل عنها، وتقوم بأمانة الله في توجيه هذا الجيل للدين والعلم. وهي- بطبيعة عملها- المؤتمنة على عقول الصغار حتى لا تضل ولا تطغى، وعلى عقائدهم حتى لا تفسد ولا تزيغ، وإن من أداء الأمانة أن تتقدّم بهذه الحقائق إلى الأمة. كما تقدّمت بالنصائح السالفة إلى التلامذة.
وجمعية العلماء تعتقد أنه لا يتمّ إصلاح التعليم في الداخل إلا إذا تمّ إصلاحه في الخارج، لشدة الاتصال بينهما، ولأن التعليم في الخارج هو الذي يغذّي التعليم الداخلي بالمعلّمين، ومحال أن ينال التعليم الداخلي خيرًا من معلّمين يتخرّجون من المقاهي، ويحصلون معلوماتهم من الجرائد الحزبية، ويتدرّبون في الميادين الحزبية على السباب،(3/317)
وتنقص التعليم، والتنكّر للعلم، والترويج للأميّة بتمجيد الأميين والسير في ركابهم والتمسّح بأعتابهم، أفيرجى من أمثال هؤلاء المعلّمين خير؟ اللهم لا! ...
إن جمعية العلماء مصمّمة على أن تحوط التعليم في الخارج برقابة تمدّها على التلامذة، ونصائح تشتد فيها، ليحذروا أولئك اللصوص، ولينقطعوا إلى العلم، وليضعوا بين أعينهم الواجب الذي ينتظرهم في وطنهم، وهو التعليم.
فأعينوها- أيها الآباء- بقوة تجعل بين أبنائكم وبين أولئك اللصوص رَدْمًا، وما هذه القوة بزبر الحديد، ولكنّها بالإعانة والتأييد، وبالمراقبة والتشديد، وبالوصايا الحازمة للتلامذة أن يعرفوا قيمة ما هاجروا إليه، فيقصروا جهودهم وأوقاتهم عليه.(3/318)
من مشاكلنا الإجتماعية (3)
أعراس الشيطان *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كنّا نفهم أن الشيطان يطوّف ما يطوّف ثم يأوي إلى قلوب أوليائه، لينفث فيها الشر، ويزيّن لها معصية الله، ويحرّكها إلى الفساد والمنكر، ويذكرها بسننه المنسية لتتوب إليه من إهمالها وإضاعتها؛ وما كنّا نعلم أن للشيطان مراجَ خاصة لا يبرحها في فصلين من السنة، ومعظمها في "العمالة الوهرانية"، وما ذلك لطيب في هوائها، أو عذوبة في مائها، أو اعتدال في جوّها، فالشيطان غني عن هذا كله، ولا يعبأ بهذا كله، وإنما ذلك للذة يجدها الشيطان في هواها ... وسهولة انقياد يجدها في أوليائه بها، وقابلية للتسويل والتزّين قلّما يجدها في غيرهم من رعاياه، وصدق الله العظيم، فإن الشياطين لا تنزَّلُ إلا على كل أفّاك أثيم.
والشيطان حقيقة روحية، لا تدرك بالحواس، ولا تُعرف بالحدود، ولا تُقاس بالموازين البشرية؛ وإنما نعرفه بآثاره في أوليائه، من القابلية للشر والفساد، والاستجابة للمنكر والباطل، والتهوّر في الفسوق والعصيان، والمسارعة إلى المساخط، والعكوف على الضلال، وسرعة التلقّي لوحي الشيطان وتلبيسه، والمحادة لله ورسوله فيما أمرا به أو نهيا عنه.
ويجتمع في مجموع صفاته أنه درب مفتن متمرّس بسلائل آدم، خالي الذرع من الهم إلا بهم، من يوم قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، فهو يتفنّن في تزيين الفواحش لهم، ويعرضها عليهم مزركشة ذات تهاويل، ويضع الأسماء على غير مسمّياتها، ليغرّ بالزركشة ويغري بالاسم، فيضع للأغرار من أتباعه اسم الدين على ما ينقض الدين ويهدمه، واسم الخير على ما يمحو الخير ويعدمه، ويوحي إلى أوليائه بالفواحش مغيّرة العناوين، فيأتونها مبتدرين، ويجترحونها مخلصين، كما يأتي المؤمن القانت فرضَ ربّه، ويستقبل أمره.
__________
* نشرت في العدد 95 من جريدة «البصائر»، 14 نوفمبر سنة 1949.(3/319)
ولكن يبدو لنا أن الشيطان المكلّف بالعمالة الوهرانية بليد القريحة، جامد الفكر، خامد الذوق، جافي الطبع، كثيف الحسّ، خشن المسّ، بدوي النزعة، وحشي الغريزة، فكلّ ما يأمر به أولياءه وأتباعه فهو من جنس طبعه، سمج غث خال من الجمال والفن والذوق، وقد عهِدنا الشيطان "المتمدن " لطيف الإحساس، فنيّ الذوق، وعهدنا أعماله فنية الأسلوب فاتنة المظهر؛ والفتنة هي سلاح الشيطان الأحدّ، يكسو بها أعماله فيصبي الحلماء، ويستنزل النسّاك إلى مواطن الفتاك، أما هذه الأعمال التي نشاهدها من أولياء الشيطان في عمالة وهران فهي سخيفة باردة حيوانية وحشية.
...
هذه "الزرد" التي تقام في طول العمالة الوهرانية وعرضها هي أعراس الشيطان وولائمه، وحفلاته ومواسمه، وكلّ ما يقع فيها من البداية إلى النهاية كله رجس من عمل الشيطان، وكلّ داع إليها، أو معين عليها، أو مكثر لسوادها فهو من أعوان الشيطان، ألم ترَ إلى ما يركب فيها من فواحش ومحرمات؛ وما يُهتك فيها من أعراض وحرمات؟ كلّ ذلك مما يأمر به الشيطان "البدوي"، وكلّ ذلك مما ذكرنا به القرآن، وبيّن لنا أنه من أمره ووعده، وتزيينه وإغوائه.
كلّما انتصف فصل الربيع من كل سنة تداعى أولياء الشيطان في كل بقعة من هذه العمالة إلى زردة يُقيمونها على وثن معروف من أوثانهم، يسوّله لهم الشيطان وليًّا صالحًا، بل يصوّره لهم إلهًا متصرفًا في الكون، متصرفًا في النفع والضرّ والرزق والأجل بين عباد الله، وقد يكون صاحب القبر رجلًا صالحًا، فما علاقة هذه الزرد بصلاحه؟ وما مكانها في الدين؟ وهل يرضى بها لو كان حيًّا وكان صالحًا الصلاح الشرعي؟ وقد كانت هذه الزرد تقام في أيام الجدوب للاستسقاء غير المشروع، فأصبحت عادة مستحكمة، وشرعة محكمة، وعبادة موقوتة، يتقرّب بها هؤلاء المبتدعة إلى أوثانهم في أوقات الجدوب والغيوث على السواء، يدعوهم إليها شيطانهم في النصف الأخير من كل ربيع، فإذا جاء الغيث نسبوه إلى أوثانهم، وإذا كان الجدب نسبوه إلى الله، عكس ما قال الله وحكم، ثم إذا جاء الصيف فَاءُوا إلى الأعمال الصيفية مضطرين، فإذا أقبل الخريف عادوا إلى تلك العادة النكراء فأنفقوا فيها كلّ ما جمعوه، وتداينوا بالربا المضاعف بما لا تقوم به ذممهم ولا أموالهم؛ فإذا ثَقُل الدين وألحّ الدائن، باع من يملك قطعة أرض أرضه، وباع من يملك دابة دابته، وتلك هي الغاية التي يعمل لها الشيطانان، شيطان الجن، وشيطان الاستعمار! ..(3/320)
جُلْ ما شئت في عمالة وهران في النصف الأخير من الربيع، والنصف الأول من الخريف، فإنك تسمع في كل سوق أذانًا بزردة، وترى في كل طريق حركة إلى زردة، وركابًا تشد إلى وعدة.
وسرْ ما شئت في جميع الأوقات، وفي جميع طرق المواصلات ترَ القبابَ البيضاء لائحة في جميع الثنايا والآكام ورؤوس الجبال، وسلْ تجد القليل منها منسوبًا إلى معروف من أجداد القبائل، وتجد الأقلّ مجهولًا، والكثرة منسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني. واسأل الحقيقة تجبك عن نفسها بأن الكثير من هذه القباب إنما بناها المعمّرون الأوربيون في أطراف مزارعهم الواسعة، بعد ما عرفوا افتتان هؤلاء المجانين بالقباب، واحترامهم لها، وتقديسهم للشيخ عبد القادر الجيلاني، فعلوا ذلك لحماية مزارعهم من السرقة والإتلاف. فكل معمر يَبني قبة أو قبّتين من هذا النوع يأمن على مزارعه السرقة، ويستغني عن الحرّاس ونفقات الحراسة، ثم يترك لهؤلاء العميان- الذين خسروا دينهم ودنياهم- إقامة المواسم عليها في كل سنة، وإنفاق النفقات الطائلة في النذور لها وتعاهدها بالتبييض والإصلاح، وقد يحضر المعمر معهم الزردة، ويشاركهم في ذبح القرابين، ليقولوا عنه إنه محبّ في الأولياء خادم لهم، حتى إذا تمكّن من غرس هذه العقيدة في نفوسهم راغ عليهم نزغا للأرض من أيديهم، وإجلاء لهم عنها، وبهذه الوسيلة الشيطانية استولى المعمرون على تلك الأراضي الخصبة التي أحالوها إلى جنات، زيادة على الوسائل الكثيرة التى انتزعوا بها الأرض من أهلها.
وكأن هؤلاء القوم يعتقدون أن أرواح الأولياء كالثعابين والحيات، تتخذ من الحجارة المجموعة مقرًّا وملجأً، فكلّما وجدوا حجارة مجموعة اعتقدوا أنها مباءة لولي واتخذوها مزازًا. ولقد مررتُ في إحدى جولاتي في تلك المقاطعة بقطعة أرض موات، كأنها مقبرة أموات، مرصّعة بالحجارة، مغطاة بالسدر والدوم، تحفها قطع متجاورات، غُرست زيتونًا وكرومًا وفواكه شتّى، فكأن تلك القطعة من بينها جنة الرجاز التي تخيّلها أبو العلاء المعرّي في رسالة الغفران؛ فشهدت كل واحدة بصاحبها، ثم مررتُ بعد سنة بتلك القطعة، فدلّني تبدّل الأرض غير الأرض على أن صاحبها الأول قامت قيامته، ووجدت تلك الحجارة قد رُكمت على حافة الطريق، ثم مررت بها مرة أخرى في تلك السنة فإذا تلك الحجارة المركومة قد رشّت بالجير الأبيض، وإذا فيها كوى للبخور والشمع، قلت، سبحان من يحي قلوبًا ويميت قلوبًا، سبحان من جعل التوحيد مفتاح السعادة في الدارين.
ولقد ماتتْ هذه العوائد الشيطانية قبل الحرب الأخيرة أو كادت تموت، بتأثير الحركة الإصلاحية المطهّرة للعقائد، ثم قضي عليها بتأثّر الناس بالحرب ولأوائها، وقد عادت في السنتين الأخيرتين إلى ما كانت عليه، ودعا داعي الشيطان إليها فأسمع، وكأنّما أذن في(3/321)
القانتين بصلاة، أو ثوّب في المستطيعين بحجّ، فإذا هم في اليوم الموعود مهطعون إلى الداعي، رجالًا ونساءً وأطفالًا، يُزجون الرواحل، ويسوقون القرابين، ويحملون الأدوات، تراهم فتقول إن القوم صُبِّحوا بغارة، تسيل بهم الطرق، وتغصّ بهم الفجاج، حتى إذا وصلوا إلى الوثن نُصبت الخيام، وسالت الأباطح بالمنكرات والآثام.
وإن لعودة هذه المنكرات لسببًا جديدًا غير العقيدة، فقد ضعفت، وغير المنفعة المادية لدعاة الشيطان، فقد نزرت، وإنما هو تنشيط الحكومة لها، وتحريضها على إحيائها، لأن في بقائها قوّة للاستعمار، ومقاومة للحركة الإصلاحية، وإلهاء لرجال الإصلاح عن البناء والإصلاح، وإنا- إن شاء الله- لهذه المكائد لمتفطنون، وإنا على إحباطها لعاملون، وإنا للحديث عن هذه المخزيات لعائدون.
...
يا قومنا، أجيبوا داعي الله، ولا تجيبوا داعيَ الشيطان، يا قومنا إن أصول هذه المنكرات مَفسدة للعقيدة، وإن فروعها مُفسدة للعقل والمال، وإنكم مسؤولون عند الله عن جميع ذلك، يا قومنا إنكم تنفقون هذه الأموال في حرام وإن الذبائح التي تذبحونها حرام لا يحلّ أكلها، لأنها مما أهل به لغير الله؛ فمن أفتاكم بغير هذا فهو مفتي الشيطان، لا مفتي القرآن.(3/322)
من مشاكلنا الإجتماعية (4)
الصداق ... وهل له حد؟ *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
من أمراضنا الاجتماعية التي تنشر في أوساطنا الفساد والفتنة، وتعجّل لها إلى الدمار والفناء - عادةً- المغالاة في المهور، وما يقابلها من المغالاة في الشورة (1)، وقد أفضت بنا العوائد السيّئة فيها إلى سلوك سبيل منحرف عمّا تقتضيه الحكمة، وعما تقتضيه المصلحة، وهو تنزّل الأغنياء للفقراء رفقًا بهم، وتيسيرًا عليهم، فأصبح الفقراء يتطاولون إلى مراتب الأغنياء ويقلدونهم، تشبّهًا بهم، ومجاراة لهم، والضعيف إذا جارى القوي انبتّ فهلك.
وقد كانت هذه القضية- وما زالت- أهمّ ما تضمنه منهاجنا في الإصلاح الاجتماعي، فعالجناها بالترغيب والترهيب، وبيان ما تقتضيه الحكمة الشرعية، وما يقتضيه الحكم الشرعي: تناولناها في الخطب الجمعية، وفي دروس التفسير والحديث، وفي المحاضرات العامة، وفي المقالات المكتوبة، وحملنا الحملات الصادقة على العوائد التي لابستها فأفسدتها، حتى صيّرت الزواج الذي هو ركن الحياة، أعسر شيء في الحياة، وبينّا بالشواهد الواقعية ما تجرّه هذه الحالة على الأمة- إذا تمادت- من وخامة العاقبة وسوء المصير، ولكن أعمالنا في هذه القضية لا تظهر نتائجها الكاملة إلا في جيل يكون أقوى إرادة من هذا الجيل الذي ملكت العوائد عليه أمره، فأعمته عن مصالحه، وأفسدت عليه دينه ودنياه، وإن المرأة لنعم العون في هذا الباب، وما دام عقل المرأة لم يرتق إلى معرفة الحقائق، وتبين وجوه المصالح، فإن أملنا في إصلاح هذه الحالة ضعيف والمرأة هي نصفنا "الضعيف القوي" شئنا أو أبينا.
وقد حاول بعض أهل الشعور الحي نوعًا من التطبيق العملي لإصلاح هذه القضية، في منطقة مخصوصة تجمعها وحدة قبلية، فحدّدوا للمهر مبلغًا يستوي فيه الفقير والغني، بلا
__________
* نشرت في العدد 123 من جريدة «البصائر»، 12 جوان سنة 1950.
1) الشُّورة: ما تُجَهَّز به العروس من ثياب وأثاث.(3/323)
نقص فيه، ولا زيادة عليه، ولكنهم غفلوا عن أمرين: الأول أنهم مهما هبطوا بالمبلغ المحدود فإن في الفقراء من لا تصل قدرته إليه، فيصبح هذا التحديد إرهاقًا له وتعنيتًا، والثاني إن إصلاحًا مثل هذا لا يتم إلا إذا سبقه إصلاح في الأخلاق، وإصلاح في التربية، وتقوية للوازع الديني في النفوس، حتى يتغلّب على العوائد المستحكمة؛ ولو أنهم وضعوا حدًّا أعلى للأغنياء بعد إقناعهم بالتزامه، وتركوا للفقراء مجالًا واسعًا يبتدئ من الواحد وينتهي إلى العشرة مثلًا، ليقف كل فقير عند الدرجة التي تنتهي إليها قدرته، ولو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرًا وأحسن تأويلًا، ولكان أقرب إلى النظرة العمرية في إيقاف المغالاة عند حد.
وقد سُئلنا أن نكتب كلمة في هذا الموضوع تبيّن الحكم الشرعي على وجهه وتجلي الحكمة الشرعية على حقيقتها، فكتبنا هذه الكلمة في بيان الحكم العام، في الحالة العامة، ولم نوجّهها إلى جماعة خاصة، وإنما وجّهناها إلى الأمة كلها لأن مرضها واحد، ولأننا نراعي في أعمالنا- إن شاء الله- الفائدة العامة.
...
الصداق نحلة شرعية مشروطة في عقدة النكاح، يعجلها الزوج للزوجة أو يعمر بها ذمّته إلى أجل، ولا نقول ما يقوله الفقهاء المسارعون إلى التعليلات السطحية التي لا تتفق مع الحكمة: إن الصداق عوض عن البضع أو ثمن له، فإن هذا التعليل يدخل بهذه العلاقة الشريفة في باب البيع والشراء والمعاوضات المادية، وحاشا لهذه الصلة الجليلة التي هي سبب بقاء النوع الإنساني أن تكون كصلة الثوب بمشتريه، أو صلة المتاع بمقتنيه! بل إن معناها أعلى وأجلّ؛ إنها إكرام من الرجل القوام، للمرأة الضعيفة، ووصلة بين قلبيهما، وتوثيق لعرى المحبّة بينهما، وتأنيس يسبق العشرة المستأنفة، وبريد يحمل البشرى بالقرب؛ فإذا أدخلناها في باب الأثمان والقيم لم يبقَ إلا أن نسمّي الزوجة بائعة، والزوج مشتر، والخاطب سمسارًا؛ وإننا نتلمّح من الحكمة الإلهية العليا العامة في الجنس كله أن الصداق في الإسلام جبر لما نقص المرأة من الميراث، فمن عدل الله أن نقص لها في ناحية، وزادها في ناحية، وكرمها فأعفاها من تكاليف النفقة في أطوارها الثلاثة، بنتًا وزوجًا وأمًّا، وهذه هي الحكمة التي ندمغ بها الطاعنين في الإسلام، الهازئين بأحكامه، المتعامين عن حِكَمه.
وليس للصداق في أصل الشريعة ونصوصها القطعية، وتطبيقاتها العملية، حد منصوص يوقف عنده لا في القلة ولا في الكثرة، وإنما هو موكول إلى أحوالهم في العسرة واليسرة، وطبقاتهم في الغنى والفقر، ولو كان له حد منصوص في القلة لما اختلف الأئمة في حدّه الأدنى، فقال مالك ثلاثة دراهم أو رُبع دينار، وقال أبو حنيفة عشرة دراهم، وقال غيرهما(3/324)
خمسة؛ ولما اختلفت مداركهم في المقيس عليه ما هو؟ أهو ما يجب فيه القطع في السرقة؟ أم ما تجب فيه الزكاة في رأي بعض أئمة المالكية؟ وإن كان القياس في الرأيين واهيًا لخفاء أو لبعد العلة الجامعة بين المقيس وبين المقيس عليه.
ولو كان له حد منصوص في الكثرة لوقف عنده عمر، ولم يعزم على تحديده، وإن كانت الروايات لا تفيد أنه عزم على التحديد، وإنما نهى عن المغالاة فيه، فرواية أصحاب السنن لقول عمر: لا تغالوا في صدُقات النساء؛ وأن امرأة قالت له: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول: وآتيتم إحداهن قنطارًا من الذهب (وهذا الحرف من قراءة ابن مسعود)، وأن عمر قال: امرأة أصابت، ورجل أخطأ.
فتسليم عمر للمرأة يدلّ على أنه لا حد للأكثر، وهو الحق، وهو الواقع ونهيه عن المغالاة سداد ونظر بالمصلحة، وتأديب للمغالين، وعمر خليفة مصلح حريص على حمل الأمة على القصد في كل شيء، وعلى عدم الاندفاع في التطوّر، وقد فاضت الأموال في عهده من الفيوء والمغانم؛ والمال المفاجئ عامل من عوامل سرعة التطوّر ومجاوزة حدود القصد؛ ومن نظر في وصاياه لعتبة بن غزوان في تخطيط البصرة، شهد ببعد نظره في بناء الأمة على أساس متين، ومن تأمّل نهيه عن المغالاة في الصداق، وعزمه على إلزام المطلق ثلاثًا في اللفظ، علم حرصه على أخلاق الأمة أن يدركها التحلّل والانهيار؛ وإنه لا يعزم تلك العزائم إلا حين يرى الناس تتايعوا (2) في أمر كانت لهم فيه أناة، كما قال هو في قضية الثلاث، ولله در عمر!
...
نرجع إلى الشواهد العلمية من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمل أصحابه رضي الله عنهم، نجدها لا تدل على تحديد في الأدنى ولا في الأعلى، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصدقَ نساءَه كما في الصحيح اثنتَيْ عشرة أوقية ونشًّا، والأوقية أربعون درهمًا، والنش نصف الأوقية، فتلك خمسمائة درهم، وتزوّج عبد الرحمن بن عوف على نواة من ذهب، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأقرّه، والنواة وزن معروف عندهم، قالوا في تفسيره إنه ربع النش، فهو خمسة دراهم.
وفي حديث الواهبة نفسها لرسول الله أنه قال لخاطبها: التمس ولو خاتمًا من حديد ثم زوّجه إياها بما معه من القرآن، يعني بأجرة تعليمها سورًا من القرآن سمّاهنّ.
__________
2) التتايع بالياء المثناة معناه في المحسات السقوط وعدم التماسك.(3/325)
أما خمسة الدراهم، وخمسمائة درهم، فهي مال معدود، ولكنه لا يقتضي التحديد للأقل ولا للأكثر، وأما أجرة التعليم فهي مال، ولكنه مجهول في قضية الواهبة، وأما خاتم الحديد فليس بذي بال، وكيفما قدّرت قيمته كانت أقلّ مما جعله الأئمة حدًّا أدنى، ورأيُنا فيه، وفهمنا لحكمته أنه رمز نبوي بعيد المغزى، عالي الإشارة، إلى أن ما يفتتن به الناس بمقتضى طبيعتهم من اعتبار المال في الزواج ليس مقصدًا شرعيًّا، وإن أحقر شيء مما يُسمّى مالًا كافٍ فيه؛ أما القصد الحكيم فهو من وراء ذلك: هو في الإحصان، وقمع الغرائز الحيوانية، وسكون القلب إلى القلب، وتحقيق حكمة الله في التناسل وتسلسل النوع، إلى غير ذلك من الحكم التي ليس منها المال، وإنما المال هنا جاذب مادي موصل يسدّ رغبة سطحية، وما أغلى صداق الواهبة في حكم العقل، إذ سيق إليها علمًا بسور من القرآن يزكيها، لا دراهم معدودة يُفنيها إنفاق يوم أو يومين، ولو وجد ذلك الخاطب خاتمًا من حديد فأصدقها إياه لانتقلت الحكمة إلى باب آخر، وهو إنزال الناس منازلهم في الفقر والغنى بحيث يتزوّج كل واحد بما يملك.
وقضية الواهبة- على كل حال- قضية عين، لا تقوم بها حجة، زيادة عن كونها خرجت مخرج التفسير، في أسلوب بليغ من التعبير، ومعتاد في كلام من أوتي جوامع الكلم، كقوله في أحاديث الحث على الصدقة: "ولو بظلف محرق" "ولو بفِرْسِنِ شاة" "ولو بشق تمرة".
هذا ولا ننسى أننا نستروح من كلمة الطَّوْل الذي جعله الله موجبًا للانتقال من نكاح الحرائر إلى نكاح الإماء، أن الصداق مال له بال بالنسبة إلى أحوال الرجال.
...
والخلاصة أن الشريعة المطّهرة الحكيمة لم تحدّد في الصداق حدًّا أدنى، ولا حدًّا أعلى، لأن الناس طبقات، فقراء وأغنياء وبين ذلك، فإذا انساقوا بالفطرة القويمة، والشريعة الحكيمة، وجروا على منازلهم في المجتمع، صلح أمرهم واستقامت لهم الحياة، وإذا زاغوا عن الفطرة، وحادوا عن الشريعة، وخرجت كل طبقة عن مداها المقدّر لها، هلكوا وشقوا.
والدين إنما يخاطب المؤمنين به، المتّبعين لأحكامه، المتأدبين بآدابه، الواقفين عند حدوده، فإذا ترك الأمر مطلقًا كالصداق فإنما يفعل ذلك اعتمادًا على إيمانهم وأمانتهم، وعرفانهم لما تقتضيه مصلحتهم، واعتبارهم للحِكَم قبل الأحكام.
واذا صلح المجموع وكان بهذه المنزلة من فهم الدين ومعرفة مقاصده العامة، فبعيد أن يتورّط في العسر والإرهاق والحرج، وبعيد أن يتطاول الفقير إلى منزلة الغني فيقع الفساد في الأرض.(3/326)
والدين مع هذا الإطلاق في الصداق، قد ندب الناس إلى التيسير، ونهاهم عن التشديد والتعسير، في الزواج والمهر، حتى تتيسّر إقامة هذه السنّة الفطرية على جميع الناس. نحن لا نبدّل أحكام الله، ولا نقول بتحديد الصداق، ولكننا نقول ونكرّر القول: إن المغالاة في المهور أفضت بنا إلى مفسدة عظيمة، وهي كساد بناتنا وإعراض أبنائنا عن الزواج، واندفاعهم في رذائل يعين عليها الزمان والشيطان، فعلى المسلمين أن يذلّلوا هذه العقبات الواقعة في طريق زواج بناتهم وأبنائهم، وأن يقتلوا هذه العوائد الفاسدة المفسدة، وأن ييسّروا ولا يعسروا وأن يعتبروا في الزواج حسن الأخلاق، لا وفرة الصداق، وفي الزوجة الدين المتين، لا الجهاز الثمين.(3/327)
جمعية العلماء والسياسة
الفرنسية بالجزائر(3/329)
ذكرى 8 ماي *
- 1 -
ذكراك يا يوم … تحزّ في الأحشا
إذا أقبل القوم … وحش تلا وحشا
...
يا يوم لم تشرق … شمس على مثلك
أَل الضحى مُغرق … والملتجَى مُهلك
...
ذكراك يا يوم … لا تأتَلي حوما
تعتاد في النوم … فتطرد النوما
...
رِيع الحمى فيكا … والأهل في غفله
لم يُعف عافيكا … طفلًا ولا طفله
...
فيك اعترت لمه … رهطًا من الشُّمس
فقتلوا أمّه … أحيتهم أمس
ساقت لهم نصرًا … جازَوْه بالكسر
__________
* نشرت في العدد 119 من جريدة «البصائر»، 15 ماي 1950.(3/331)
كمن فدى الأسرَى … فبات في الأسر
...
لهفي على هاوٍ … على شفا العمر
قد تلّه غاو … فخرّ للصدر
...
لهفي على مرضَع … قد عُفِّرت أُمُّه
ما خب أو أوضع … إلا الشقا أَمَّه
...
الشعب مسّته … فيك اليدالعَسرا
أضحى فمستّه … بالضرّ والعُسرى
...
يا يوم، ذكراكا … لم تبرح البالا
لو طاف مسراكا … بالليث ما صالا
...
زرعت أحساكا … منبتها الصدر
فكيف ننساكا … إنّا إذن غدر(3/332)
ذكرى 8 ماي *
- 2 -
يوم مظلم الجوانب بالظلم، مطرّز الحواشي بالدماء المطلولة، مقشعرّ الأرض من بطش الأقوياء، مبتهج السماء بأرواح الشهداء؛ خلعت شمسه طبيعتها فلا حياة ولا نور، وخرج شهره عن طاعة الربيع فلا ثمر ولا نوْر، وغبنت حقيقته عند الأقلام فلا تصوير ولا تدوين.
...
يوم ليس بالغريب عن (رزنامة) الاستعمار الإفرنسي بهذا الوطن، فكم له من أيام مثله، ولكن الغريب فيه أن يجعل- عن قصد- ختامًا لكتاب الحرب، ممن أنهكتهم الحرب على من قاسمهم لأواءها، وأعانهم على إحراز النصر فيها؛ ولو كان هذا اليوم في أوائل الحرب لوجدنا من يقول: إنه تجربة، كما يجرّب الجبان القوي سيفه في الضعيف الأعزرل.
...
إثنان قد خلقا لمشأمة الاستعمار والحرب؛ ولحكمة ما كانا سليلي أبوّة، لا يتم أولهما إلا بثانيهما، ولا يكون ثانيهما إلا وسيلة لأوّلهما؛ وقد تلاقت يداهما الآثمتان في هذا اليوم في هذا الوطن، هذا مودع إلى ميعاد، فقعقعة السلاح تحيّته، وذلك مزمع أن يقيم إلى غير ميعاد، فجثث القتلى من هذه الأمّة ضحيته.
...
__________
* نشرت في العدد 33 من جريدة «البصائر»، 15 ماي 1948.(3/333)
تستحسن العقول قتل القاتل، وتؤيّدها الشرائع فتحكم بقتل القاتل، ولكن الاستعمار العاتي يتحدّى العقول لأنه عدوّها، والشرائع لأنها عدوّه، فلا يقوم إلا على قتل غير القاتل ... ويغلو في التألّه الطاغي، فيتحدّى خالق العقول، ومنزل الشرائع، وينسخ حكم الله بحكمه، ورحمة الله بقسوته، فيقتل الشيوخ والزمنى والنساء والأطفال.
أين النعمان بن المنذر ويوماه من الاستعمار وأيامه؟ كان للمنذر يومان: يوم بؤس ويوم نُعمى، وبينهما مجال واسع للبخت، وملعب فسيح للحظ، فإذا طار طائر النحس في أحد يوميه وقع على حائن أتت به رجلاه، أو محدود لم يلتق مع السعد في طريق، أما الاستعمار فأيامه كلها نحسات، بل دهره، كله يوم نحس مستمر، مُحيت الفواصل بين أيامه ولياليه، فكلّها سود حوالك، يطير طائر النحس منها فلا يقع إلا على أمم آمنة مطمئنة؛ وأين قتلى ضمختْ دماؤها الغريين (1)، من قتلى ضمخت دماؤها أديم الأرض، وخالطت البحار حتى ماء البحار أشكل.
...
أمة كالأمم حلّت بها ويلات الحرب كما حلّت بغيرها، وذاقت لباس الجوع والعري والخوف، وتحيّفت الحرب أقواتها وأموالها، وجرّعت الثكل أمهاتها واليتم أطفالها، وأكلت شبابها، وقطعت أسبابها، وصليت نار الحرب ولم تكن من جُناتها، وقدمت من ثمن النصر مئات الألوف من أبنائها قاتلوا لغير غاية، وقتلوا من غير شرف؛ في حين كانت الأمم تقتتل على الملك، والملك مجد وسيادة، وعلى الحرية، والحرية حياة وعزة، أما هذه الأمة فكانت تقاتل لخيال من أمل، وذَماء من حياة، وصبابة من رجاء، وخُلب من وعد علا نداؤه، وتجاوبت في الخافقين أصداؤه، من ديمقراطية زائفة كذبَ نبيّها مرتين (2) في جيل واحد، فلما سكن الإعصار وتنفّست الأمم في جوّ من السلم، وتهيأت كل أمة أن تستقبل بقايا النار من شبابها، وكلّ أم أن تعانق وحيدها، عاودت الاستعمار ألوهيته وحيوانيته في لحظة واحدة، يحادّ الله بتلك، ويغتال عباده بهذه، وعاد بالتقتيل على من كانوا بالأمس يمدّون حياته بحياتهم، ليريهم مبلغ الصدق في تلك الوعود، ويحدّثهم بلغة الدم ومنطق الأشلاء أنه إنما أقام سوق الحرب ليشتري حياته بموتهم، وليرمّم جداره بهدم ديارهم، فإذا بقي منهم كلب بالوصيد، أو من ديارهم قائم غير حصيد، قضى ذلك المنطق فيه بالإبادة والمحو، وجعل أيامه خاتمة لأيام الدم والحديد، وعطَفه على عدوّ الأمس المشترك عطفًا
__________
1) الغريان: بناءان قرب الكوفة كان النعمان يلطخهما بدماء قتلاه.
2) نبيُّها: هو الولايات المتحدة الأمريكية. مرّتين: إشارة إلى وعود أمريكا في الحربين العالميتين.(3/334)
بالفاء لا بثم، وكَذلك كان، فقد فتح الناس أعينهم في يوم واحد على بشائر تدقّ بالنصر، وعلى عشائر من "المنتصرين" تُساق للنحر؛ وفتحوا آذانهم على مدافع للتبشير، وأخرى للتدمير، وعلى أخبار تؤذن بأن الدماء رقأت في العالم كله، وأخرى تقول: إن الدماء أريقت في جزء صغير من العالم، هو تلك القرى المنكوبة من مقاطعة قسنطينة. وفي لحظة واحدة تسامع العالم بأن الحرب انتهت مساء أمس ببرلين، وابتدأت صباح اليوم بالجزائر، وفيما بين خطرة البرق، بين الغرب والشرق، أعلنت حرب من طرف واحد، وانجلت في بضعة أيام عن ألوف من القتلى العزّل الضعفاء، وإحراق قرى وتدمير مساكن، واستباحة حُرُمات ونهب أموال، وما تبع ذلك من تغريم وسجن واعتقال؛ ذلكم هو يوم 8 ماي.
ومن يكون البادئ يا ترى؟ آلضَّعيف الأعزل، أم القوي المسلّح؟
...
لكَ الويل أيها الاستعمار! أهذا جزاء من استنجدته في ساعة العسرة فأنجدكَ، واستصرخته حين أيقنتَ بالعدم فأوجدك؟ أهذا جزاء من كان يسهر وأبناؤك نيام، ويجوع أهله وأهلك بطان، ويثبت في العواصف التي تطير فيها نفوس أبنائك شَعاعًا؟ أيشرّفك أن ينقلب الجزائري من ميدان القتال إلى أهله بعد أن شاركك في النصر لا في الغنيمة ولعلّ فرحه بانتصارك مساوٍ لفرحه بالسلامة، فيجد الأب قتيلًا، والأم مجنونة من الفزع، والدار مهدومة أو محرقة، والغلة متلفة، والعرض منتهكًا، والمال نهبًا مقسمًا، والصغار هائمين في العراء؟
...
يا يوم! ... لله دماء بريئة أُريقت فيك، ولله أعراض طاهرة انتُهكت فيك، ولله أموال محترمة استُبيحت فيك، ولله يتامى فقدوا العائل الكافي فيك، ولله أيامى فقدن بعولتهن فيك، ثم كان من لئيم المكر بهنّ أن مُنعن من الإرث والتزوّج، ولله صبابة أموال أبقتها يد العائثين، وحُبست فلم تُقسم على الوارثين.
...
يا يوم! ... لك في نفوسنا السمة التي لا تمحى، والذكرى التي لا تُنسى، فكنْ من أية سنة شئت فأنت يوم 8 ماي وكفى. وكل ما لك علينا من دَين أن نُحي ذكراك، وكل ما علينا لك من واجب أن ندوّن تاريخك في الطروس لئلا يمسحه النسيان من النفوس.(3/335)
الأسابيع في عرف الناس *
يعرف الناس من الأسابيع المضافة إلى معانيها ما يتعلق بمصالحهم، ويتّصل بحياتهم والدورية مثل أسبوع العرس، وأسبوع المأتم، وأسبوع الحصاد، وأسبوع الذباب، وأسبوع طَكُّوك، وغير ذلك من الأسابيع المختلفة.
هذه الأسابيع وأشباهها يعرفها عامة الناس ويطلقونها إطلاقًا واسعًا لا يتقيّد بالمعنى اللغوي الذي هو سبعة أيام، بل يفهمون منها الظرف الزمني الذي يعمره العمل أو الحادث. ولكن الاستعمار أبا العجائب، وأم الغرائب، يحدث في بعض الأحايين أسابيع ليست في حساب الناس، وليست مما يتصل بمصالحهم وحياتهم، وإنما هي أسابيع ذات معان من مُصاص الشر وعُصارة الظلم، يخفيها أزمانًا ويوري بأضدادها أحيانًا، ثم يُجلِّيها لوقتها المقدّر، فإذا هي الظلم والوحشية والقسوة وما شاء الهوى من قتل الأبرياء، وسجن الضعفاء وتغريبهم وتغريمهم.
من هذه الأسابيع الجديدة الوقوع- القديمة المعاني- أسبوع الإرهاب الذي بدأ قبيل انتخاب المجلس الجزائري، ولم ينته إلى الآن، وهو أسبوع لا نذهب بعيدًا عن تسميته، فقد أرشدنا الاستعمار وكفانا المؤونة وسمّاه أسبوع "سبّ فرنسا" لأن التهمة التي بنيت عليها المحاكمات وكانت ذريعة للقتل والسجن والتغريب والتغريم، هي التهمة بسبّ فرنسا! ...
فتساءلنا: هل هناك نسب بين سبّ فرنسا والانتخاب؟ وهل هناك تلازم عقلي بينهما؟
فإن لم يكن هذا ولا ذاك فما معنى كون سب فرنسا لا يكون إلا في أيام الانتخاب؟ وما معنى كون العقوبة عليه لا تكون إلّا في أيام الانتخاب؟ كأن مسلمي الجزائر يسكتون عن هذا النوع
__________
* نشرت في العدد 37 من جريدة «البصائر»، 31 ماي سنة 1948.(3/336)
من السباب تعففًا أو رضى، فإذا جاء موعد الانتخاب، ركبهم عفريت السباب، وكأن القوانين المسنونة للعقاب على السب تعطل وتُطوى تلك السنين، حتى إذا جاء وقت الانتخاب بُعثت ونُشرت وشحذت بعد الكلال.
إن أذكى الأذكياء ليعجز عن حلّ هذا اللغز.
أيها الاستعمار، لا تجعل الشرائع ذرائع للانتقام، ولا تجعل القوانين كوانين للإحراق.(3/337)
أفي كلّ قرية حاكم بأمره؟ *
كأن في القطر الجزائري حكومات متعددة لا حكومة واحدة. بل كأن كل قرية فيها متصرف بسيط - حكومة مستبدة ترجع في النقض والإبرام إلى رأي المتصرف لا إلى
القانون العام، وكأن القوانين التي يُساس بها هذا القطر ليست مسطرة في الدفاتر، بل في أدمغة أولئك الحكّام المحليين.
وذلك كلّه لأن الذين تطبّق عليهم تلك القوانين والأحكام عرب ومسلمون وأنديجان، وتظهر تلك التصرفات الشاذة جلية في معاملة جمعية العلماء ورجالها، والتعليم العربي ومعلّميه ومدارسه وجمعياته، فزيادة على الصفة اللازمة لحكومة الجزائر الاستعمارية، وهي المقاومة للتعليم العربي والدين الإسلامي ولجمعية العلماء القائمة بهما، ترى أن عمّال الحكومة لا يرجعون في ذلك إلى طبيعة حكومتهم لأنها تبرد حقدهم على الإسلام والعربية، بل يرجعون إلى آرائهم الفردية وطبائعهم الخاصة، لأنها هي التي تُطفئ الغيظ وتطفئ نار الحقد. وحكومتهم تسمع وكأنها لا تسمع، وترى وكأنها لا تبصر، لأن أعمالهم ليست شذوذًا في قاعدة ولا خرقًا لإجماع، وإنما هي قيام بفرض لم تأمر به الحكومة، ولا يسوءها القيام به.
...
في العام الماضي عطّل متصرف خنشلة مدرسة قاييس بأمره الخاص وإرادته، وما زالت معطلة إلى الآن برغم ما بذلناه من الاحتجاجات الصارخة، وعطل حاكم سور الغزلان مدرسة "سيدي عيسى" بلا سبب، ولم يأذن بفتحها إلا بعد ترضية بسيطة قدّمتها الجمعية المحلية للمدرسة اختصارًا للإجراءات، وعطّل حاكم مايو مدرسة "بي منصور"، ونفى معلّمها من دائرته، وجرّ أعضاء جمعيتها إلى محاكمات مزوّرة أعدّ لها كل ما سوّلته له نفسه الطاغية من
__________
* نشرت في العدد 50 من جريدة «البصائر»، 20 سبتمبر سنة 1948.(3/338)
وسائل باطلة، وقال للجمعية بصراحة إنه لا يرضى أن ينتقل "مكروب" جمعية العلماء إلى "مملكته"، ونبّهنا رؤساءه إلى أعماله فلم يسكنوا متحركًا. واعتدى "نصف شيخ" قرية "ايغيل علي" على حرمة المسجد فاقتحمه بالسلاح، وعلى كرامة خطيبه ومدرّسه فأهانه، واسم هذا النصف شيخ اسم مسلم، ولكن أفعاله ليست أفعال المسلمين؛ بل هو يأتمر بأوامر المبشّرين أو يتطوّع لتنفيذ رغباتهم، وعطّل حاكم "فج مزالة" مدرسة "الربع" من دوار "راس فرجيوه" وأمر القائد أحمد بن عاشور أن يأتيه بمفاتيح المدرسة ففعل ... طاعة لسيّده.
...
طالما أفهمنا الحكومة أن هذا التعطيل للمدارس العربية يعد عقوبة للأطفال الصغار الذين لم يقترفوا ذنبًا، وبرهانًا قاطعًا على سوء القصد في معاملة الإسلام والعربية في دارهما، ودليلًا على بعض ما يضمره الاستعمار لهذه الأمة من بقائها تتخبط في الأمية، وإنما هذه الوقائع جزئية متفرقة الأماكن ضربناها مثلًا وعبرة ولو أردنا التقصي لما أمكن.
أما الكلية المطردة فلم تتجلَّ إلا في بلدة العجائب، بلدة "عنابة"، ففي هذه البلدة من خصائص المعاملات وبدائع الظلم والمنكر ما يشبه على الناس أنها قطعة أجنبية في القطر الجزائري، لا ينقصها إلا النقود، والحدود، والحواجز الجمركية، والتمثيل القنصلي، وطالما سمعنا أنهم يريدون فصلها عن عمالة قسنطينة، فهل هذا من ذاك؟ وهل هذا لأجل ذاك؟
كل من في هذه البلدة من حكّام، وبوليس سري وعلني، يجهد جهده في حرب جمعية العلماء ومقاومة حركاتها، وكلهم مُرصَد لتتبعّ المنتسبين إليها، وكأنهم يريدون عزل عنابة عن بقية مدن القطر التي استنارت آفاقها بعلم جمعية العلماء، وتعليم جمعية العلماء، وأفكارها ومدارسها، وكأنه ليس في البلدة مجرمون ولا نصّابون يستحقّون اهتمام البوليس وتتبّعه إلا من يدخل البلدة من المنتسبين إلى جمعية العلماء.
ومن العجيب في أمر بوليس هذه البلدة أنه يرتكب مع أعضاء جمعية العلماء إجراءات ما عهدنا القانون يسمح بها إلا في ظروف استثنائية وبأوامر خصوصية، فكأنه مطلق اليد والتصرّف في كل ما يتعلّق بنا.
منذ ثلاثة أشهر ذهب وفد من جمعية العلماء مركّب من الشيخين محمد الشبوكي وكامل الحناشي إلى عنابة، لتفقّد الحركة الإصلاحية بها، فكان البوليس أتبع لهما من ظلهما من الدقيقة التي وصلا فيها، وما أقاما فيها ليلة حتى دعيا إلى الكوميسارية (1) وحُبسا فيها أربع ساعات ونصفًا وطُرحت عليهما أسئلة غير معقولة ولا معتادة على صورة تشبه بحث المجرمين
__________
1) الكوميسارية: محافظة الشرطة.(3/339)
في الشدة والدوران والإرهاق وتغليظ القول: ثم فُتّشت حقائبهما وأوراقهما وكتبهما العربية- طبعًا- وحجزت في الكوميسارية ما يقرب من يومين حتى تدخّلت بعض الهيئات المنتصرة للحق وأوفدت نائبًا شيوعيًّا لفكّ المحجوزات المحرّمة في بلدة عنابة.
وفي أثناء رمضان الماضي، ذهب إلى عنابة الشيخ فرحات العابد أحد مديري مدارس جمعية العلماء لقضاء إجازته الصيفية بين أحبابه وأقاربه وليقوم بأحاديث في الوعظ والإرشاد الديني كبقية إخوانه المكلّفين بذلك من الجمعية؛ فاستدعته الكوميسارية وأرهقته تحقيقًا وبحثًا، وسلّطت عليه أعوانها يتعقّبونه في كل حركة وسكون، والرجل معروف في البلدة، وله فيها قرابة وأصدقاء، ولكن ذنبه في نظر الكوميسارية أنه من جمعية العلماء، بدليل أن الأسئلة التي كانت تنهال عليه كلها متعلقة بجمعية العلماء وأعمالها وبرامجها، كأن جمعية العلماء ليست في الجزائر، أو كأن عنابة ليست من الجزائر، أو كأن الإدارة العليا- التي نظنّ أنها تشرف على تلك الكوميسارية- لا تعلم شيئًا عن جمعية العلماء فهي في حاجة إلى تلك التدقيقات التي تأتيها من كوميسارية عنابة.
وفي هذه الأيام الأخيرة زار "عنابة" الشيخ أحمد رضا حوحو أحد أعضاء الجمعية لمصالح خاصة له بها، فأقلق البوليس راحته منذ وصوله باقتفائه لخطواته، وضبطه لأنفاسه، ثم استدعاه للكوميسارية- على العادة- وحقّق معه كما حقّق مع إخوانه من قبل؛ وكان الموضوع هو الموضوع ... ما هي جمعية العلماء؟ ما هي أعمالها؟ ما هو برنامجها التعليمي؟ ورئيسها ... ماذا يصنع؟ وأين هو الآن؟ وهل يريد زيارة عنابة؟
ألم تصبح عنابة- بهذا كله- بلدة العجائب والغرائب؟ ألم يُصبح هؤلاء الذين يُسمّونهم رجالَ الأمن رجالَ خوف؟ يخوفون الناس وهم آمنون، ويهيّجونهم وهم مطمئنون، ويعاملونهم معاملة الأجانب وهم في وطنهم ... بلى وإن لهم من وراء ذلك كله غاية هم غير واصلين إليها بإذن الله، وهي حجب "شمس المعارف" على "البوني" (2) حتى لا تشرق أشعّتها على ذهنه. وإن غاية الغايات لهم في هذا التضييق على جمعية العلماء هي مقاومة الإسلام والعربية بهذا القطر، إن لم يكن في جميع القرى ففي بعضها، ولو سألت أعوان البوليس بعنابة لِمَ تشتدون في ما يلين فيه غيركم، لأجابوك: لا يضرّنا مَن ضلّ إذا اهتدينا ...
أما نحن فنقول: إننا مسؤولون عن ديننا ولغتنا وعن نشرهما، فإذا أصبحت عنابة جهنم فإننا سندخل لأجلهما جهنم! ...
__________
2) شمس المعارف اسم كتيّب شهير في الأوفاق والطلسمات ومؤلفه الشيخ أحمد البوني. وعنابة كانت تسمّى في القديم بونة، وبلد العناب، فأخذ الإفرنج الاسم الأول وأخذنا نحن الاسم الثانى، وفي ذكر شمس المعارف والبونى تورية لطيفة.(3/340)
عادت لعترها لميس *
ولَميس هذه في مورد المثل هي امرأة كانت لها عوائد شر تعتادها، وأخلاق سوء تفارقها ثم تقارفها، لغلبة الفساد فيها وصيرورته أصلًا في طباعها- والعتر هو الأصل- فسيّرت العرب فيها هذا المثل.
أما في مضرب المثل فهي الإدارة الجزائرية، وعترها هو الاستعمار البغيض إلى كل نفس، وما يقتضيه من ظلم وعنت للمستضعفين، وما يبنى عليه من انتهاك لحرماتهم، وما ينتهي إليه من وحشية في معاملتهم، وقتل لمعنوياتهم، ومسخ لأخلاقهم.
كل الحكومات الاستعمارية تجعل معنويات الشعوب المغلوبة هدفها الأول فترميها بما يُضعفها، ولكن على التدريج لا على المغافصة، وبالحيلة لا بالقوة، وفي السر لا في العلن.
أما حكومة الجزائر فإنها تتعمّد تلك المعنويات بالقتل الوَحِيِّ عمدًا مع الإصرار، وجهرًا ليس فيه إسرار، وعنادًا لا رجوعٍ فيه، ولا توبة منه، وغاية أمرها أنها تسنّ القوانين القاتلة وتتناسى تنفيذها إلى حين، تغليطا للمغفلين وايهامًا للمنتقدين، فإذا عادها من جبروتها عيد، عمدت إلى تلك القوانين فأخرجتها كما يخرج السلاح لوقت الحاجة، فإذا اقتضتها الظروف شيئًا من التعمية والإيهام، وضعت تلك الأسلحة التي اسمها القوانين، في أيدي أسلحة بشرية ممن يلبس لباس هذه الأمة المسكينة وبدعى باسمها- كالعاصي مثلًا- وقالت له: "ارمِ بهذا، فإنما خلقتك لهذا، ورزقتك من أجل هذا، ورفعت ذكرك لمثل هذا، وانتخبتك لتنفيذ هذا، وأوطأت الناس عقبك لتقوم بهذا ... ارْمِ دينك باسم دينك، واخدع أمّتك باسم أمتك، واكذب على تاريخك باسمه، وعفّ رسومه بما بقي من رسمه ... أجهز على البقية الباقية ولك مني الجُنة الواقية، والمنزلة الراقية، وفي خدمتك المذياع، وفي نصرتك
__________
* نشرت في العدد 64 من جريدة «البصائر»، 24 جانفي يشة 1949.(3/341)
الأتباع والأشياع ... ارْمِ باسمك لتغطي به اسمي، وقل بلسانك ومن ورائه لساني، لأستدفع بك ما عسى أن يلحق من تهمة، أو يعلق من وصمة، فإني لم أضع للدين لجنة، وللهلال لجنة، وللحج لجنة، إلا لأمحو من أعمالي أثر الهجنة ... ولا تنسَ أن من نعمي عليك أنني أكتبُ وأنسب إليك ... وكفاك فخرًا أن وجودي هو وجودك: وكفاني نجاحًا أن كان "للوظيفة" لا لله سجودك، وكفاني ثقة بك أن صرّحت بأن "مصلحتك هي مصلحتي". وحسبنا جميعًا أننا روحان في جسد، وشعرتان في حبل من مسد، وأننا دنَّا- على شيوع الإلحاد- بمذهب الحلول والاتحاد".
هذا ما يقوله لسان الحكومة لصنائعها من أمثال العاصمي، حين تريدهم على تنفيذ رغائبها الاستعمارية، وإن لها في كل ما ترمينا به هذين النوعين من الأسلحة: سلاح القانون، وهو تحت يدها، وهذا النوع المسترذل من السلاح البشري، وهو تحت رجلها ... ولكنها تسكت ما تسكت لحكمة استعمارية ثم تعود ... كما عادت لعترها لميس.
...
عادت لعترها (لميسنا) في الصيف الماضي- وقد ماتت تلك العوائد السيئة (عادة الزرد) (1) التي تُنتهك فيها الحرمات، وتستحل المحرمات- فأوعزت إلى صنائعها أن يحيوها، ويسّرت لهم كل ما عسرته الأزمة المالية الخانقة، وأحضرت لهم كل ما غيّبته سنو الحرب الماحقة، وإذا بعاصمي الزرد و "الوعائد" (2)، ومحيي معالم البدع والعوائد، يدعو إلى وعدة "عابد"، ويقيمها بسيئاتها وموبقاتها وفواحشها، على أسوإ ما كانت تقع عليه من المنكرات التي لا يسيغها عقل ولا دين ولا مروءة، وإذا بآخر في وهران، يدعو إلى زردة أخرى من زرد الشيطان. وإذا بآخرين في غيرها يدعون إلى غيرها، ولم يكتفِ هذا التنشيط الداخلي لهذه الزرد التي صاحبها يفتقر، وآدِبها ينتقر؛ فدعت الجَفَلَى إلى الزردة الكتانية (3) التي صاحبها "يْزَرَّدْ ويزيد".
للحكومة في كل مذهب تذهبه عاصمي وإن لم تسمِّه مفتيًا حنفيًّا. وكل هؤلاء عاصمي في حرفته، "سودته" عبوديته، ولو ساعده الوزن لقلب المثل وقال نفس عاصمي سوّدت عاصميًّا ... وكلهم لا يعرفون معنى للعيب، إذا امتلأ الجيب، ولا يأبه للعار، وان دخل النار، ولا كعاصمي الزرد مشعوذًا يأكل الدنيا بالدين، ويضل عن سبيل المهتدين؛ وجلّ
__________
1) عادة الزّرد: جمع "زَرْدَة" وهي التجمّع الذي يُقيمُه الطرقيون، والمقصود به مآدب الأكل.
2) الوعائد: جمع "وَعْدَة" وهي كالزَّرْدَة.
3) نسبة لعبد الحي الكتاني، قد كان يقيم زردة سنوية، وتتولى فرنسا دعوة أتباعها وعبيدها من أطراف الجزائر.(3/342)
دين الله أن يعلق بهؤلاء السماعين للكذب، الأكّالين للسحت، فإن آلمهم كلامنا هذا فليخبرنا فقيههم عن حكم الله في كل ما يقع في "وعدة عابد" التي هو بطلها وجبلها الذي يمسكها أن تزول، وهل كل ما يقع فيها يتفق مع أحكام الإسلام؟ وهل الأموال التي تنفق فيها يرجع شيء منها إلى مصلحة الأمة فتعدّ مما أنفق في سبيل الله؟
كانت هذه العوائد، التي يسمّونها "وعايد"، المنتشرة في العمالة الوهرانية- على الخصوص- من شر ما أوحى الشيطان إلى أوليائه، وتنزل به عليهم؛ وإنما تنزل الشياطين على كل أفّاك أثيم؛ فأمرهم بالفحشاء ووعدهم الفقر إن تركوها؛ وقد ركدت ريحها في السنوات الأخيرة، وأعرض عنها كثير ممن وفّقهم الله، وتأثر بالإصلاح الذي يحارب أمثالها من البدع والمنكرات والآفات، ومنهم من وزعه عنها وازع المروءة، فإن ما يقع فيها لا تحتمله نفس الحر الأبي الغيور على أمّته، ولما جاءت الحرب وفشت الخصاصة في الناس نسوها وهجروها، والفقر ينهى عن الفحشاء والمنكر أحيانًا، إلى أن عادت لميس، فأزّتْ لإحيائها خلفاء إبليس.
...
وعادت لعترها (لميسنا) في كل ما جرى من انتخابات في السنة الماضية، لما رأت المسلمين بدأوا يقدرون الانتخاب حق قدره، ويعرفون له قيمته، وبدأوا يتذوّقون معنى الديمقراطية التي أمات الاستعمار معناها الإسلامي في نفوسهم، فكدرت لهم شربها بتدخّلها العلني، وبما تستخدمه من وسائل الترغيب والترهيب، إلى أن كشفت في الانتخابات الأخيرة عن سرّها، وصرّحت عن شرّها، وكان ما كان، مما صدق الخبر فيه العيان.
إن الديمقراطية عند حكومة الجزائر كصلاة المنافقين، لا تزكي نفسًا، ولا تنهى عن فحشاء. وتفضلها صلاة المنافق بأن فيها من الصلاة مظهر الصلاة فإن الديمقراطية- عند الأمم التي تنتحلها وتزعمها لنفسها- تتجلّى في عدة مجالى أرفعها الانتخاب، فهو عندهم العنوان الواضح للحرية، والبرهان اللائح على إطلاق الإرادة، والميزان العادل لاختيار الشعب.
أما في الجزائر فالانتخابات، منذ سنّت، لعبة لاعب وسخرية ساخر، ورهينة استبداد؛ ولدت شوهاء ناقصة، وما زالت متراجعة ناكصة، وُضعت من أول يوم على أسوإ ما يعرف من التناقض، وأشنع ما يُعلم من التحكم والميز والعنصرية، وهو تمثيل الأكثرية في المجالس المنتخبة للأقلية من السكّان، والأقلية فيها للأكثرية منهم، قد كانت هذه الانتخابات شرًّا مستطيرًا على الأمة الجزائرية وأفتك سلاح رماها به الاستعمار، بعد أن نظر النظر البعيد، وكانت ضربة قاضية على ما كانت تصبو إليه وتستعدّ من وحدة الكلمة واجتماع الشمل،(3/343)
فكلّما جهد المصلحون جهدهم في جمع كلمتها- وكادوا يفلحون- جاءت هذه الانتخابات فهدمت ما بنوا وتبرته تتبيرًا، كان هذا كله قبل أن تقف الحكومة مواقفها المعروفة في انتخابات السنة الماضية؛ أما بعد أن ظهرت بذلك المظهر، وسنّت للانتخابات الجزائرية دستورًا عنوانه "الحيف والسيف" وارتكبت فيها تلك الفضائح التي يندى لها الجبين خجلًا، والتي يأنف الفرد المستبدّ من ركوبها، فضلًا عن حكومة جمهورية في مظهرها، ديمقراطية في دعواها، فإن الانتخاب أصبح وبالًا على الأمة ووباءً، وذهب بالبقايا المدّخرة فيها من الأخلاق الصالحة هباءً، وأصبحت هذه الكراسي عاملًا قويًّا في إفساد الرجولة والعقيدة والدين، وإمراض العزائم والإرادات، وفيها من معاني الخمر أنّ من ذاقها أدمن، وفيها من آفات الميسر أنّ من جرّبها أمعن. وقد كنا نخشى آثارها في تفريق الشمل وتبديد المال، فأصبحنا نخشاها على الدين والفضيلة، فإن الحكومة اتخذت منها مقادة محكمة الفتل لضعفاء الإيمان ومرضى العقيدة وأسرى المطامع منّا، وما أكثرهم فينا، خصوصًا بعد أن أحدثت فيها هذه الأنواع التي تجرّ وراءها المرتبات الوافرة، والألقاب المغرية.
ليت شعري، إلى متى تتناحر الأحزاب على الانتخاب وقد رأوا بأعينهم ما رأوا؟ وعلامَ تصطرع الجماعات؟ وعلامَ تنفق الأموالُ في الدعايات والاجتماعات إذا كانت الحكومة خصمًا في القضية لا حكمًا؟ وكانت تعتمد في خصومتها على القوة وهي في يدها، وكانت ضامنة لنفسها الفوز في الخصومة قبل أن تنشب.
ويحٌ للأمة الجزائرية من الانتخاب، وويل للمفتونين به من يوم الحساب.
...
وعادت لعترها لميس في هذه الأيام، وكانت عودتها هذه المرة للمدارس العربية التي تديرها جمعية العلماء، فبعد أن سكتت عليها سنين اتّسق فيها سيرها وعاد إلى الأمة خيرها، عادت عليها في هذه الأيام بالتضييق والتعسير، وأخرجت ما كان مخبوءًا في جعبتها من القوانين والقرارات، وألقت بها في أيدي القضاة وحرسة الأمن ليرهقوا ويغلقوا ويحاكموا، كأن التعليم جريمة يترتب عليها العقاب، وكأن حبل الأمن اضطرب بسبب هذه المدارس ومعلّميها وأطفالها.
بدأت دعوة المعلّمين إلى المحاكم نَقَرى، ونحن نقدر أنها ستعمّ، وإن أول المطر قطر ... وإن الأحكام ستكون بالغرامة فالسجن، ولكننا سندخل هذه المحاكم برؤوس مرفوعة، وسنتلقّى هذه الأحكام بنفوس مطمئنة بالإيمان، وسندخل السجون بأعين قريرة، وسنلتقي (بإخواننا) المجرمين في مجالس الأحكام ومقاعد الاتهام ... وحسبنا شرفًا أن يكون(3/344)
ذلك في سبيل ديننا ولغتنا، وحسبنا فخرًا أن تكون التهمة "فتح مدرسة دينية أو قرآنية بدون رخصة". وحسب الاستعمار (ديمقراطية) أن يحاكم معلّمي العربية والإسلام، ويسجنهم على التعليم كما يحاكم المجرمين ويسجنهم على الإجرام، في محكمة واحدة، وسجن واحد، وظرف واحد، وقد يكون يوم جمعة في الغالب، أليس هذا احترامًا للإسلام، ومن مصلحته كما يقول العاصمي؟ أليس هذه هي الديمقراطية؟ فما لكم تكذبون؟
ليبلغ الاستعمار ما هو بالغ في التضييق على ديننا ولغتنا والتصميم على هضم حقوقنا بهذه الوسائل التي منها العاصمي، فإن الإسلام حي خالد في داره، وإن العربية حية خالدة في جواره، لا يضيرهما تضييق، ولا يُبطئ سيرهما تعويق.
ولكن الذي يغيظ ويحنق هو هذه الدعوى العريضة الطويلة من الاستعمار في تثقيف الشعوب، وتعليم الأمم، وقطع دابر الأمية، وكيف تتفق هذه الدعوى منه مع أعماله التي تقاوم التعليم وتتنكّر له؟ وتنصر الأمية وتحميها، وتغذّي الجهل وتقوّيه، والتي تفضل عصا الشقيّ على قلم الكاتب، فتتساهل مع العصَى حتى تصير عصيًّا، وإن آذت وإن قتلت، وتحطم القلم لئلا يلد أقلامًا، وإن رشحت بالخير، وإن جرت بالنفع.
أليس معنى مقاومة التعليم نشر الأمية وتكاثر الأميين؛ لا يقتضي المنطق إلا هذا، ولا يفعل الاستعمار إلا هذا، لأن له مذهبًا في المحافظة على الأمية لئلا تزول، كمذهب العلماء في المحافظة على الحيات السامّة لئلا ينقطع نسلها.
كما أنّ الذي يُضحك ويبكي في آن واحد أن تجعل الحكومة من نظمها التي تطالبنا بها في مدارسنا، وتجازي المدارس على التقصير فيها بالتعطيل، استيفاء الشروط الصحية في المدرسة محافظة على صحة التلامذة، ومدارسنا- بحمد الله- مستكملة لهذه الشرائط، ولكن هؤلاء التلامذة حين تُغلق في وجوههم المدرسة فيهيمون في الشوارع فتفسد أخلاقهم، أو يأوون إلى مساكن رطبة فتعتلّ أبدانهم، لا تراهم الحكومة بعين الرحمة والعطف كما كانت ترعاهم وهم في المدرسة، كأن المحافظة على الصحة لا تكون حقًّا للطفل على الحكومة إلا إذا كان تلميذًا في مدرسة عربية، فإذا أغلقتها في وجهه فلا حق له في المحافظة على الصحة.
وما لهذه الحكومة لا تذكر المحافظة على الصحة إلا في سياق الحديث على مدارسنا، وأين هي من هذه الألوف المؤلفة التي تنام على الأرصفة في زمهرير الشتاء؟ أين هي من هذه العوالم من الأحياء الذين يسكنون القبور؟ أين هي من هذه المناظر المحزنة التي تقع عليها العين في قلب العاصمة وفي أرباضها؟ أوَادم يحفرون لسكناهم الغيران كالفيران، ينامون فيها هم وأطفالهم، فيفتك بهم السلّ ويغشاهم الموت من كل مكان، ولو أن طفلًا منهم خرج(3/345)
من غاره ودخل مدرسة عربية لجاءت الحكومة تسعى وهي تخشى أن يصيبه سوء من عدم المحافظة على الصحة ...
أما الخطوة الأولى التي تخطوها الحكومة في حركتها الجديدة ضد المدارس، وتجعلها ذريعة للمحاكمة، فهي إلزام المعلّمين بطلب الرخصة بأسمائهم الخاصة، والحكومة هنا تتجاهل وجودَ جمعية العلماء- المسؤول الأول عن هذه المدارس- لمأرب في نفسها نحن نعرفه، وقد حاولنا إقناع المسؤولين من رجال الحكومة في المفاوضات الرسمية وفي الأحاديث الخاصة بأن طلب الرخصة الشخصية بالنسبة لحركة كحركتنا التعليمية لا يقبل ولا يعقل، لأن المعلّم ليس هو الذي يفتح المدرسة، وليس هو المسؤول عنها، وإنما المؤسّس للمدارس والمسؤول عنها الجمعيات المحلية، ومن ورائهن في المسؤولية جمعية العلماء، ونبسط لهم من الحجج ما يقنع المنصفين منهم فيقتنعون، فإذا جاء التنفيذ يمتنعون، لأن للاستعمار رأيًا أصيلًا في القضية، وقد كانت هذه النقطة إحدى النقط التي كانت سببًا في إخفاق المفاوضات، وما زلنا محتفظين فيها برأينا.
وسنشرحه حين ننشر نصوص القرارات، وخلاصة المفاوضات.(3/346)
الشك في الإيجاب ... نصف السلب *
قرأنا في خطب كثيرة من المسؤولين من رجال الحكومة الجزائرية - وخصوصًا في الأشهر الأخيرة- جملة تتردّد وتُعاد، حتى كادت تكون محورًا لتلك الخطب، أو لازمة لها كلوازم الحديث و "عكاكيزه"، من مثل: "صل على النبي" و"سيدي مرحوم الوالدين" في العربية الشرقية، أو مثل: « N'est-ce pas? Alors» (1) في الفرنسية.
هذه الجملة المردّدة هي "أن الجزائر فرنسية". وليس تاريخ ولادة هذه الجملة بالقديم، ولا هي من الجمل المألوفة لألسنة هؤلاء الخطباء، ولا لأسماع الجمهور الخاص الذي يسمعهم، وإنما هي بنت سنة أو سنتين على الأكثر.
ونحن نستغرب ترداد هذه الجملة المملولة في هذه الظروف، ونبحث عن العلة الداعية إليها، فلا يهدينا البحث إلا إلى شيء واحد، وهو الشك في منطوقها شكًّا خالط نفوس هؤلاء الخطباء في كون الجزائر فرنسية، أو ليست فرنسية، فهم يردّدون هذه الجملة اصطناعًا لليقين، وترويحًا على العاطفة، وترجيحًا للجانب الذي يهوونه؛ كما يُماري المماري في المعدوم فيقول: إنه موجود، وما درى هؤلاء أن ترديدهم لهذه الجملة في ظرف ذي خصائص وعوارض، يقذف الشك حتى في نفوس المستقيمين من سامعيهم، ويزرع الاحتمال في أذهانهم، لأن عدّها من بدوات اللسان، أو من تحصيل الحاصل الذي تصان عنه أقوال العقلاء، إنما يكون في أول سماع، أما إذا تكررت الجملة، ونبتت في موضعها من كل خطبة، وشهدت القرائن أنها مقصودة، فلا يكون الفهم المتبادر إلا ما ذكرنا من شك القائل، وتشكيك السامع.
__________
* نشرت في العدد 111 من جريدة «البصائر»، 13 مارس سنة 1950.
1) " N'est-ce pas? Alors" : جملة فرنسية معناها: أليس كذلك؟(3/347)
وتصوّرْ- أنت- أن لشخص دارًا تعالم الناس أنها مملوكة له بوجه من وجوه الملك، ورأوه يتصرّف فيها، وينتفع بمرافقها، من غير شرك ولا نزاع، فهل يحسن منه- في غير المعارض المخصوصة- أن يُعلن للملإ، في غير مناسبة، أن الدار داره؟ وهل يجمل به أن يردّد في كل مجمع، هذه الجملة: "داري داري"؟ هل يفيد سامعيه شيئًا جديدًا يحسن السكوت عليه؟ وهل يحمل السامعون هذا التكرار منه محمل التوكيد اللفظي، وهم يعرفون أن التوكيد اللفظي يصحّ في كلام واحد متصل الجمل؛ أما هذه الجملة فهي تقع في كلام متعدد وفي أمكنة مختلفة، وفي أزمنة متباعدة.
الفهم الطبيعي المتبادر إلى أذهان جميع الناس، هو أن الرجل طرقه الشك في ملكه للدار، وطاف به شعورٌ بأنها مغصوبة، مثلًا ... فهو يغطّي بهذه الجملة المردّدة غصبًا للدار يوشك أن يفتضح أمره، أو يدفع بها خصمًا في الدار يوشك أن يرفع دعواه، وكأنه بهذه الجملة يهيّئ الجو للسماع الفاشي ... ليستشهد به يومًا ما ... ولكنه مهما كرّر الجملة وردّدها لم يزد على تنبيه الناس إلى أن في الدار حقيقة أخرى من وراء الجملة، وأن في دعوى الملكية قادحًا شرعيًّا تخفيه الجملة، وأن في هذا الترداد تحويمًا على تلك الحقيقة، لا تحويلًا للأذهان عنها، وأن هذا (الرجل) غرس الشك من حيث أراد اقتلاعه.
...
كبرت كلمة تخرج من أفواه هؤلاء المستعمرين الجبّارين، محادة لله ولقدرته وخلقه، ومضادة لدينه وسنّته، وطمسًا لحقائق التاريخ والآداب وأصول الأجناس، وعنادًا للطبيعة والأوضاع الجغرافية ونكرانًا للفوارق الملموسة من الدم الجاري، والإرث الساري، والتقاليد المتسلسلة.
لو أن البحر الأبيض جفّ والتأمت حافتاه، حتى أصبحت الجزائر ربضًا من أرباض مرسيليا، لما كان لهذه الكلمة موضع في العقل ما دامت تلك الفوارق قائمة، ولو أن الجزائريين كفروا بالواحد، وآمنوا بالثلاثة، لما كان لهذه الكلمة موقع في النفس ما دامت سنن الله في ملكه جارية، ولو أن حاكمًا حكم عليهم بقطع نسبهم من عدنان، وإلصاقه باللاتان، لم يكن حكمه إلا كحكم قاضي الجزائر في الصوم والإفطار، وحكم واليها في المولد النبوي، ما داموا يدينون بالإسلام، وينتمون إلى ذلك النسب السامي العريق في الأصالة والشرف، المحاط بالنبوّة والنور.
وهل الجزائر فرنسية؟ ... لا يا قوم لا. إن الله خلقها عربية مُسلمة، وستبقى عربية مسلمة إلى ما شاء الله، وإن الوراثة وسمتها بسمات خالدة، وصفات ثابتة، لا تفارقها حتى يفارق الشمس إشراقها.(3/348)
ملكها الرومان قرونا فلم تنقلب رومانية، وبادوا ولم تبد، وبقيت ولم يبق منهم إلا آثار الظلم، ومعالم الطغيان، {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}.
وملكها الأتراك- وهم أبناء ملّتها وربائب دينها- فلم تنقلب تركية، سادوا فيها بالانتصار لها، ثم حادوا بالاغترار للزمن، ولكنهم شادوا فيها أبنية الحق من بيوت الله، فتناستْ أمرَهم، وحفظت ذكراهم.
وصبغها التاريخ الطويل بأصباغ مما تنفضه أدواره، فكان أثبتها على الزعازع، وأبقاها على وجه الدهر صبغان زاهيان، هما: العروبة والإسلام.
إن القوة- إذا لم يزنها العقل- ضعف، وإن العلم- إذا لم تحطه الحكمة- جهل، وإن الملك- إذا لم يحمه العدل- زائل، وإن سلاح الحق من الحرير، يفلّ سلاح الباطل من الحديد، وإن "السيادة"، ليست حسنى ولا زيادة، وإنما هي استعباد، يبغضه العباد وربّ العباد، ويا ويح الأقوياء من غضب الله، وغضب المستضعفين من عباده.
...
الاستعمار مذهب يعتنقه الأقوياء، فما لهم يتفاوتون هذا التفاوت البعيد في مظاهره؛ يتفاوتون في الشرّ، يقارفه أحدهم سافرًا ليس عليه نقاب، وداعرًا ليس عليه مسحة من حياء؛ ويجترحه أحدهم معصية في صورة قربان، وفاتكًا في مسوح رهبان، كذلك يتفاوتون في العوراء، ينطق بها أحدهم كاسمها عوراء شوهاء، تجرح وتؤلم، وينطق بها الآخر ملفوفة في معارض النصح، أو محفوفة بمظاهر الإرشاد، أو مبلولة الحواشي بماء كذب من الحكمة، ونحن ... فما سمعنا قط أن الإنكليز مثلًا قالوا: إن الهند إنكليزية، فسبحان من قسّم الآداب، كما فرّق في الأنساب.
وهذه الكلمة الدعية المملولة، التي لم يؤيّدها الحق ببرهانه، ولم تضعها الحكمة في مكانها، كلمة مؤذنة باحتقارنا، جارحة لكرامتنا، طاعنة في شرفنا وديننا وتاريخنا، فهل يريد القوم منا- بعد أن باءوا بسوء الأدب- أن نبوء بالإغضاء عليها، والإقرار لها، والرضى بسبتها؟ هيهات هيهات لما يريدون. إننا- والله- لا نقبلها ولا نرضى بمهانتها، ولا نقرّها، ولا نقصر في دحضها بأدلة الحق، ولو أن الاستعمار شرعها زجلًا بالتسبيح في ناشئة الليل، وجعل كفاء سماعها جزاء الأبرار لكان في آذاننا وقر من سماعها، ولعددناها غثة مرذولة ممجوجة مملولة، ولهدينا بالفطرة إلى الطيب من القول: وهو أن الجزائر ليست فرنسية، ولن تكون فرنسية. كلمات قالها أوّلنا، ويقولها أخيرنا، ومات عليها سلفنا، وسيلقى الله عليها خلفنا.(3/349)
لجنة "فرانس - إسلام" *
- 1 -
(كلامنا موجّه إلى فرنسا الاستعمارية، وإلى آلات الاستعمار من عقول، وأفكار، ورجال، وهيئات، فلا تتجاوز الظنون بنا هذه الدائرة).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمتان أكرهتا على الجوار في اللفظ والكتابة، فجاءت كل واحدة منهما ناشزة على صاحبتها، نابية عن موضعها منها، لأنهما وقعتا في تركيب لا تعرفه العربية، ولا يقبله الذوق العربي.
في العربية تركيب الإسناد، والإسلام لا يرضى أن يُسند إلى فرنسا الاستعمارية، ولا أن تُسند هي إليه، وفي العربية التركيب الإضافي، والإسلام لا يسمح أن يضاف إلى فرنسا، ولا أن تضاف هي إليه؛ وفي العربية التركيب الوصفي، والإسلام لا يقبل أن يوصف بالفرنسي ولا أن توصف فرنساب "الإسلامية"؛ وفي العربية التركيب المزجي، والإسلام وفرنسا كالزيت والماء، لا يمتزجان إلا في لحظة التحريك العنيف، ثم يعود كل منهما إلى سنّته من المباينة والمنافرة، وفي الشرائع الاستعمارية الفرنسية بالجزائر مذهب كانوا يسمّون جانبه التأثيري "الإدماج" وجانبه التأثّري "الاندماج" ومعناه قريب من معنى التركيب المزجي، ولكن هذا المذهب التحق بالمذاهب البائدة التي ولدها العتوّ عن أمر الله والعلو في أرض الله، فتلك آراؤه سخرية الساخر، وأولئك رجاله لعنة الأول والآخر، فهل هذه اللجنة تناسُخ لذلك المذهب غير المرحوم؟ وهل رجالها نُسخ من ذلك الطراز المعلوم؟
إننا لا نفهم من هاتين الكلمتين إلا ما نفهمه من كلمتَي "خير- شر" إذا وُضعتا في حيّز كهذا، لكلِّ معنى إفرادي جزئي، وليس لهما معنى تركيبي كلي، فإن كنّا مخطئين فالذنب
__________
* نشرت في العدد 114 من جريدة «البصائر»، 3 أفريل سنة 1950.(3/350)
لاختلاف المعنيين، ولاختلاف الطبيعتين، ولاختلاف المزاجين وللبعد السحيق في أذهاننا بين معنى "فرنسا" وبين معنى "الإسلام". أما المعنى الذي نفهمه ولا نخطئ في فهمه فهو يتوقّف على كلمة محذوفة بين الكلمتين؛ وتقديرها هكذا: فرنسا الاستعمارية- عدو- الإسلام، والحذف من مذاهب لغتنا، وحذف ما يعلم جائز ...
نعم ... نعم إن فرنسا الاستعمارية عدوّ الإسلام في ماضيها كله، وفي حاضرها، فلم يكتب تاريخها أنها جاورته فأحسنت، أو قدرت عليه فعفت، أو عاملته فصدقت، أو حكمت أهله فعدلت، ودلّ الواقع المشهود على أنه لم يجنِ منها إلا الكيد له بعيدًا، والإضرار به قريبًا، والعمل على محوه في جميع الحالات؛ ويجري علينا حكم المجانين إذا تصوّرنا أن حاضرها في هذا يخالف ماضيها، أو أن آتيها يكون خيرًا من حاضرها؛ لأن ما نقوله عنها صيّره الاستعمار ذاتيًّا فيها، والذاتيات لا تتخلّف، ومنطق الذاتيات لا ينقض.
وما دام هذا هو حظ الكلمتين من فهمنا، فما هو حظ اللجنة من تقديرنا؟ وما هو حظ أعمالها في اعتبارنا؟
...
نحن نعد هذه اللجنة "تدجيلة" جديدة في السياسة الفرنسية الاستعمارية تفتّق عنها ذهن مستشرق "حكومي" (1) من الذين يجعلون الاستشراق ذريعة لاستهواء الشرقيين المفتونين بالغرب، الخاضعة عقولهم وأفكارهم لعقوله وأفكاره، وأنا أسمي ثلة من هؤلاء المستشرقين "حكوميين" تسمية صادقة أصدر فيها عن روية وتثبّت، فما هم إلا أذناب لحكوماتهم، وما هم إلا موظفون أو مستشارون حكوميون، وما هم إلا "تراجمة" للحكومات الاستعمارية وأدلاء، يترجمون لها معاني الشرق، ويدلّونها على المداخل إلى نفوس أبنائه وإلى استغلال أوطانه، وما هم إلا آلات في أيدي وزارات الخارجية، تستعملها لإبطال حق الشرق، وإحقاق باطله، ولبقاء الأمم الضعيفة في الاستعباد، أو إرجاعها إلى الاستعباد.
فالاستشراق في هؤلاء عند الحكومات الاستعمارية معناه معرفة مداخل أوطان الشرق، ودخائل أبناء الشرق، وابتكار الوسائل لاستعمار العقول أولًا والأوطان ثانيًا، فهم روّاد عقليون قبل القوّاد العسكريين: ولذلك نرى هؤلاء المستشرقين الحكوميين يبنون أمرهم في الشهرة بين الشرقيين على الأبحاث العلمية الخالصة، ويغطون ضراوة الحجاج بطراوة "الحلاج"؛ فإذا طارت الشهرة في الآفاق، ووقع على الثقة بهم الإصفاق، أصبحوا سهامًا
__________
1) هو المستشرق لوي ماسينيون.(3/351)
نافذة لدولهم في جنب الشرق، وأدلاء بارعين على عورات الشرق، ومن هذه الطائفة صاحب فكرة "فرانس- إسلام".
من الطبيعي أن تكون أذهان هؤلاء المستشرقين المأجورين منصرفة إلى الاختراع كأذهان الكيماويين والميكانيكيين، وأن تكون هممهم متوجّهة إلى الاكتشاف كهمم الروّاد والفلكيين، ولكن هل يُكتب الخلودُ ورفع الذكر لمن اكتشف "وقف أبي مدين" في القدس كما كتبا لمن اكتشف أميركا ورأس الرجاء الصالح في الأرض، أو لمن اكتشف كواكب المجرّة في السماء؟
إن هذا الصنف من المستشرقين هم الذين سخروا العلم للسياسة، وهم الذين رضوا للعلم بالامتهان، وهم الذين لم يعتصموا بالاستقلال العلمي، فعصفت بهم الأهواء، فأصبحوا مبشّرين بالاستعمار، داعين إلى ضلاله، فهم غير أهل لاحترام العالم العلمي وإجلاله، وهم- من منازل الاعتبار- في المنزلة الدنيا بين ذوي الوظائف السياسية الرسمية، ولست أدري لماذا فوّتوا على أنفسهم أبّهة الوظيفة ومظاهرها؟ ...
...
كوّن هذا المستشرق لجنته في فرنسا التي هي أحد طرفي الاسم، وأوحى إلى المغرورين به في شمال أفريقيا ما أوحى، فإذا الدعاية قائمة، وإذا الاسم دائر على الألسنة، ولكن الأغراض غير محددة ولا مفهومة. وانتظر الناس الأعمال التي تفسّر المقاصد، والمقدّمات التي تشعر بالنتائج، فكانت المقدمات أحاديث ومناشير وبرقيات عن فلسطين، وعن قضية المشرّدين، وعن وقف أبي مدين (الجزائري) ثم انتقلت إلى "تدويل القدس"، وهنا فهم مَن لم يكن يفهم، وضاع الفهم ممن كان فاهمًا، أهذه "شكشوشة" (2) أديان؟ فلماذا- إذن- ذكرت فرنسا في الاسم ولم تذكر المسيحية؟
...
ولم نجد في التاريخ قديمه وحديثه عالمًا غير مسلم حذق العربية فهمًا، وأتقنها حفظًا، وغاص على أسرارها، ولابست روحه روحها، ثم لم تهده إلى حقائق الإسلام، ولم تقف به على بابه، وأقلّ المراتب التي يضعه علمه الكامل بالعربية فيها أن يكون فيه صغو إلى الإسلام، وسير في اتجاهه، وتفتّح ذهن إلى فهمه، وبشاشة نفس مع أبنائه، كأنه يحسّ أنه
__________
2) شكشوكة: معناها خَليط. وأصلها أكلة تُصنع من خليط من الخُضَر.(3/352)
بمقربة منهم، وأن بينهم وبينه رحمًا واصلة، ونسبًا جامعًا، وقد امتحنا هذا الأصل فيمن عرفناه- بخبره أو أثره- من المستشرقين الفرنسيين الذين يأتوننا موظفين، أو تجّار "استشراق" فوجدناهم شذوذًا في القاعدة، فعلمنا أن ضعف تلك العاطفة فيهم آتٍ من ضعف نصيبهم من العربية، والحقيقة هي تلك ...
وما كنا نظنّ أن مستشرقًا ما من هؤلاء يستخفّنا برقاه، أو يسترهبنا بسحره، لأننا عرفناهم بسيماهم، وعرفناهم في لحن القول، فساء ظننا بهم تبعًا لسوء ظننا بالاستعمار الذي جعلهم جوارح لصيده، ووسائل لكيده؛ ما كنا نتوهّم ذلك حتى جاء المستشرق صاحب فكرة "فرانس- إسلام" وقعقع الشنّ، فخيّب الظن.(3/353)
لجنة "فرانس - إسلام" *
- 2 -
(كلامنا موجّه إلى فرنسا الاستعمارية، وإلى آلات الاستعمار من عقول وأفكار، ورجال، وهيئات، فلا تتجاوز الظنون بنا هذه الدائرة).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... وهذا القلم ليس شعودي السن، ولا عنصري النزعة؛ ووالله ما ليق- منذ جرى- بهوى، ولا مُد بباطل، ولا غمس شقاه في منكر، ولا تحلبت ريقته من حمأة التفريق، ولكأنما صيغ هو ولسان صاحبه من جوهر واحد، فهما يتجاريان إلى غاية في حرب شعوبية المذاهب والطرق في الإسلام، وشعوبية الدماء والألسن في الأجناس، وشعوبية الشرق والغرب في أرض الله.
ولكن يسوء هذا القلم أن تتنزّى العروق الخفية حينًا بعد حين بالظلم، ملفوفًا بالعلم، وبالمغالطات في صورة النصائح، وأن يستخفّنا هؤلاء القوم فنطيعهم؛ وأن يستميلونا بالأقوال الفارغة فنميل إليهم، وأن يلهونا بالخيالات عن الحقائق فنلهو، وأن يستغفلونا عن ديارنا فيصبحوا سادة فيها، ونصبح عبيدًا؛ ثم هم يستغفلوننا عن ديننا ولغتنا ليصبحوا أئمة فيها، ونصبح مقلّدين، وأن يغزونا الاستعمار الأوربي بالحديد حتى إذا فُلّ غزانا بالرأي والكتاب والعلم والعالم، وأن تتعاصى عليه أقفال عقولنا فيجد مفتاحها عند المستشرق.
يسوءنا- والله- أن يكون العلم مفتاحًا للشر، وأن يتستر غلاة الشعويية بالألفاظ المموّهة بالإنسانية والديمقراطية، ثم يرْموا أعداء الشعوبية- مثلنا- بالشعوبية.
إن أولى الناس بالتجرّد من الشعوبية هؤلاء المستشرقون، لأنهم يتحلّون باشتراكية علمية تُنافي الشعوبية، وينفردون عن علماء أممهم باتّساع في أفق المعرفة، وباطّلاع مباشر على
__________
* نشرت في العدد 115 من جريدة «البصائر»، 15 أفريل سنة 1950.(3/354)
المقارنات التي تقارب بين الأمم؛ لا جرم أن الاطّلاع على خصائص مجتمع تُدني منه، ولا تُبعد عنه، وتؤنس به ولا توحش منه؛ فإذا تهافتوا على السياسيين في اعتبار الأعلى والأدنى. ثم تهافتوا مع المستعمرين في مقياس الأقوى والأضعف، ثم تنزلوا مع المعمّرين إلى ميدان الآكل والمأكول، فأية قيمة لعلمهم؟ وأية ميزة تميّزهم من الناس؟
تعددت جرائم الاستعمار في هذه العصور الأخيرة، واشتدّ تكالبه على الأمم الضعيفة، فما سمعنا صيحة استنكار من هؤلاء المستشرقين على دولهم، أو على أممهم، وإن لهم عند دولهم، وبين أممهم المنزلة الرفيعة، والكلمة المسموعة، فعلمنا أن بعض أسباب ما ينعمون به من منزلة وسمعة هو سكوتهم عن تلك الجرائم، بل تزيينها، بل الإعانة عليها، وعلمنا أن الاستشراق أصبح (صنعة) لا علمًا، وأن الاستعمار ينشطها لمآرب له فيها؛ وعلمنا أنه- لأمر ما- كان ازدهار الاستشراق مقارنًا لازدهار الاستعمار.
ونحن نعلم- مع هذا- أن المستشرقين أصناف؛ فمنهم من يطلب العلم رغبة في العلم، وشوقًا إلى المعرفة، وآية هذا الصنف أن يُترجم عن لغات الشرق خير ما فيها لينقل إلى أمّته غذاءً نافعًا، ويضيف إلى معارفها بابًا من المعرفة جديدًا، وهذا الصنف هو موضعُ إجلالنا واحترامنا، ومنهم من يحيي أثرًا من آثار الشرقيين بنصّه ولغته، وهذا الصنف لم ينفع أمّته بعلمه، وإنما نفع نفسه عندنا بما نسبغه عليه من نعوت الإعجاب والتقدير بمبالغتنا الشرقية التي زادها الاستعمار الفرنسي في عقولنا تمكّنًا ورسوخًا؛ ولو أوتينا ما أوتي هذا الصنف من تيسّر الأسباب لفعلنا ما لم يفعلوا؛ ومنهم من يعمد إلى عورات الشرقيين فيفضحها لقومه، وإلى مواقع الضعف فيهم فيدل قومه عليها، وهذا الصنف هو الكثرة الكاثرة، وهو هدف انتقادنا، ومبعث سوء اعتقادنا.
لا نلوم من يخدم وطنه، وينفع أمّته، ولكننا نلوم من يستهزئ بنا فيغشّنا، ومن يتظاهر بنفعنا وهو يعمل لضرّنا، ومن يعلن في معاملتنا خلاف ما يبطن، فبعض الإنصاف- أيها القوم- ولا تلوموا من ضاق ذرعه بالاستعمار فغلب صبره، فباح بشكواه، فاعترضته أعمالكم، فلمسكم لمسة، مهما تكن غير خفيفة، فلا تقولوا إنها غير عفيفة؛ وقليل لمن مسستموه بنصب وعذاب، أن يمسّكم بنقد وعتاب، ولئن كتبنا عليكم الكلمات، فلطالما كتبتم عنّا الأسفار.
...
وجاءت كارثة فلسطين ... - وفلسطين ملتقى العواطف الروحية، ومجلى التقديس الاجتماعي، ووجود العرب فيها توازن طبيعي لحفظ تلك العواطف، وحقّهم فيها أوضح من(3/355)
الشمس، وشهادة القرون لهم بالاضطلاع وحسن الملكة واحترام الأديان ثابتة مسجلة، فما سمعنا من مستشرقي الاستعمار كلمة منصفة، ولا شهادة عادلة، حتى إذا قُضي الأمر ظهرت للوجود لجنة "فرانس- إسلام" يحمل لواءها مستشرق استعماري مدفوع بالنزعة الاستعمارية، لا بالوازع الإنساني، ولا بالعاطفة التي اكتسبها من اطّلاعه وبحثه، ولا بما يلقى من الشرقيين من إكبار وتقدير ... وعمّم الاسم، ولكنه خصّص الفعل ...
ومن الأقوال السائرة أن الأمور بخواتمها، ولكن أمر هذه اللجنة بمبادئها، لأنها جاءت في الأخير، وبدأت من الأخير، ولو كانت على شيء من الكياسة لغالطت الناس بأشياء مما يتناوله اسمها، ولكن البدار إلى غاية مرسومة ختم على قلبها، وأعجلها عن التروّي فقفزت إلى تلك الغاية من أعسر طريق.
الأقربون أولى بالمعروف- أيتها اللجنة- فلماذا جاوزت الجزائر إلى فلسطين؟ وفي الجزائر إسلام، وفي الجزائر أوقاف، وفي الجزائر مشرّدون.
في الجزائر إسلام مستباح الحمى، منتهك الحرمات، وفي الجزائر أوقاف دينية منقوضة العقود، مهدومة الحدود، وفي الجزائر مشرّدون شبعوا بالجوع، واكتسوا بالعري، وعلموا بالجهل، وتداوَوا من المرض بالمرض، واستجاروا من الموت بالموت فأجارهم، فلا هم أحياء ولا هم أموات، وفي الجزائر أصوات تتصاعد بطلب الحق، من فرنسا غاصبة الحق، وفي الجزائر تشكو آخر كلمة في اسمك من أول كلمة، وقد سمعت- أيتها اللجنة- ورأيت فلماذا لم تقع عينك على الشر القريب، ووقعت على الشر البعيد؟ ولماذا لم تعطفي على الإسلام هنا، وعطفت عليه هناك؟ ولماذا لم تبدئي بتحرير أوقاف الإسلام في الجزائر، وبدأت بوقف (أبي مدين) في فلسطين، أم أن قلب المستشرق كالإبرة الممغطسة لا تتجه إلا إلى اتجاه واحد وهو الشرق؟
لا ندري أين كان هذا المستشرق يوم شاركت دولته في جريمة فلسطين، وإخراج الإسلام منها، بموافقتها على التقسيم، وبمساعدتها المفضوحة لليهود في الهجرة والتهريب؟
إنه كان ساكتًا سكوت المغتبط بتلك الأدوار، لأن الإحساس المتنبّه فيه إذ ذاك هو إحساسه الفرنسي الحاقد على الإسلام، فلما تمّت الأدوار، وبلغت نهايتها، وعلم أن اليهود سيأخذون المسالك على دينه ودولته- معًا- تنبّه إحساسه المسيحي الحانق على اليهود، فجاء يُعزّي المسلمين البسطاء تعقلة الشامت، ويبكي لهم على ليلاهم، ودولته أحد المساعدين على قتلها، وجاء ينبّه دولته إلى أن هناك منفذًا تدخل منه إصبعها إلى فلسطين (القريبة من سوريا) وهو وقف (أبي مدين الجزائري)، وأن هناك فرصة تسترجع(3/356)
فيها عطف المسلمين الأغرار، وهي قضية المشرّدين، وأن ذلك لا يتمّ إلا بتدويل القدس؛ وليت شعري ماذا يجدي علينا تدويل جانب من مدينة القدس بعد أن ضاعت منّا فلسطين كلها؟ ...
إن هذا- في دين اللجنة- لفتح جديد للسياسة الفرنسية، من أنضى في تحقيقه بدنه، فكأنه قرب للاستعمار بدنة.(3/357)
ويح المستضعفين *
"يا ممسكي الأعنّة، إن رَكوبَة الباطل صعبة، فلا تتقحموا، ويا مشرعي الأسنّة، إنه لا سهم في الجعبة، فلا تتوهّموا، ولا منتهكي الحرُمات، ما ماتت الحرية بينكم ولكن الحرَّ مات، ولا ناشدي الحق في مجامع المبطلين ... لا ردّ الله ضالّتكم، أتطلبون الفص من اللص، وتقيسون في مورد النص، إن الحق ينشدكم، فلا يجدكم، فهل ترجون وجدانه، حين تطلبون نشدانه؟ التمسوه في صفوفكم المتفرقة، وآرائكم المغربة المشرقة، فإذا لم تجدوه فلا تلوموا الذئب على الافتراس.
الأماني كواذب، وأكذب منها رجاء العدل من مستعمر".
تجري في القطر الجزائري- منذ أكثر من أسبوعين- أعمال مباغتة، من التفتيش للمنازل، والترويع للنساء والأطفال، والاعتقال للمئات من شباب الأمة، وأكثرهم عائل تتوقف عليه حياة أسرة تنتظر قوتها المقتر من عمله المتقطع، وتسري هذه الحالة من قرية إلى قرية، ويتطاير شررها من شرق القطر إلى غربه، ومن غربه إلى شرقه، وهي- على ذلك- سائرة من التخصيص إلى التعميم، ومن التحديد إلى التمدّد والانتشار.
وتظاهر هذه الحملة البوليسية حملة أخرى صحفية، تشنّها صحف الاستعمار هنا في الجزائر، وهناك في فرنسا، وتبالغ- على عادتها- وتهوّل، وتشرح فتُطوِّل، وتؤكّد أنها مؤامرة مسلّحة، وتصفها بالصفات المزعجة في حروف كبيرة، وكلمات ضخمة، وجمل مثيرة، وعناوين لافتة، وخرائط محدّدة، كأحسن ما يفعل الصحافي الماهر إذا أراد الإعلان عن شيء وإثارة الاهتمام به، ثم تؤيّد بأرقام للأسلحة والذخائر المحجوزة فتأتي بما يُضحك
__________
* نشرت في العدد 118 من جريدة «البصائر»، 1 ماي سنة 1950.(3/358)
ويُخمد الاهتمام حتى في نفوس المتحمّسين، لأن أكثر من مجموع تلك الأرقام يوجد عند معمر واحد ...
ولكن تلك الأقلام المنطلقة في التفاصيل، المستمدّة من أهواء المعمّرين، تقف عند حد التهويل ومحاولة إقناع أولي السلطة بأن في الجزائر خطرًا حقيقيًا على الاستعمار، ولا تكلف نفسها رجوعًا إلى منطق، ولا تحليلًا لواقع، ولا موازنة بين الممكن وبين غير الممكن، ولا مقارنة لسوابق الأحداث بلواحقها ولا تتجاوز ذلك كله إلى النقطة الإنسانية، وهي حالة المعتقلين، وحقّهم في الدفاع، وحظّهم في المعاملة، مع أنها تعلم كما نعلم أن البوليس في الجزائر لا يسأل عما يفعل في معاملة الأهلي، وأنه كالمنوّم المغناطيسي في الاستهواء واستخراج كنائن الصدور، غير أن أحدهما يتسلّط على الأبدان، والآخر يتسلّط على الأرواح.
أما الاعتقال هذه المرة في شكله وكيفيته فقد كان أشبه بحالة الحية مع العصفور: اقتلاع، فابتلاع، أصحاب هذه الصحف الطائرة في هوجاء، السائرة على عوجاء، أعلمُ منّا بأحوال المعتقلين وما يلقون من تعنيت، ولكنهم بذلك راضون مغتبطون، أما الأمة فإنها لا تعلم من أحوال المعتقلين شيئًا، ولا تعلم من أمرهم بعد الاعتقال إلا ما تعلمه من أصحاب القبور: ضيق، وضغطة، وسؤال محرج، وانقطاع عن الأحياء، غير أن أصحاب القبور موكلون إلى العدل الإلهي الذي لا يظلم ولا يحابي، وأبناؤنا المعتقلون موكلون إلى الظلم البشري الذي يحقد وينتقم، ويسأل معنتًا، ويخاطب مبكتًا، ويجازي منتقمًا، ويعذّب متشفيًا، ويصل بذلك كله إلى الاعتراف (الكيماوي) على طريقة استخراج المعادن بالصهر والعصر، وإذا قسنا اللاحق على السابق فليس ثم إلا ذاك، وليس وراء الشر إلا شر منه، وليس وراء هذه (الباطنية) التي تجري عليها هذه الاعتقالات إلا العذاب، كما أنه ليس وراء الباطنية في الدين إلا الكفر.
ليت شعري، إذا لم تنصح الجرائد الحكومات بالرفق، وتحرّي الحق، والتسوية في المعاملة، ولم تنصح الحكومات الجرائد بالاعتدال، واجتناب التهيّج والاستفزاز، فكيف ينام الناس في أمان؟ وكيف يبيتون من الحياة على ثقة؟ وكيف يستقيم للمودة والإخاء بين الطوائف سبيل؟ وكيف يجد المتساكنون في الوطن الواحد الراحة والاطمئنان؟
ونحن ... فقد أصبحنا- لكثرة ما بلونا من سرائر السياسة الاستعمارية وعجمنا من أعوادها- نفقه كثيرًا من اتجاهاتها ومقاصدها، وكثيرًا من نتائج أعمالها المترتّبة على مقدّمات من نوعها، وكثيرًا من المرامي التي ترمي إليها تلك الأعمال، كما أننا أصبحنا موقنين لبعض النوبات التي تعتريها، لا يختلّ لنا فيها حساب، ولا ينخرم لنا ضابط. ويجمع(3/359)
ذلك قولك، إنه كلما طالب الشعب الجزائري بحقّه دبّرت له مكيدة ... ويكفينا لتصحيح هذه القاعدة أن نستعرض حالة هذه السياسة في الجزائر في ثلاثة عقود من السنين، من انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى الآن، ولا يكلفنا القارئ بضبط التواريخ ونصوص القرارات فإن ذلك واجب المؤرّخ، أما نحن فسائقون للعبرة، ومعتمدون على الخبرة.
نذكر أن أولى انتباهة من فرنسا للزوم تغيير سياستها مع مسلمي الجزائر كانت بعقب الحرب العالمية الأولى، وكانت في وزارة كليمانصو، وكأنها أرادت استئلاف الجزائريين- في الجملة- على ما أراقوا في سبيلها من دماء، وما قدموا في الدفاع عنها من تضحيات، فكان الممكن الميسور في نظرها- إذ ذاك- أن فسحت لهم قليلًا في المجالس البلدية والعَمَالية، وأن رخّصت لهم في حمل السلاح كالأوربيين، ولكن المعمرين المدللين رأوا تلك الهنات الهيّنات أمرًا عظيمًا، وجسّمتها لهم الأنانية حتى عدّوها مساواة لهم، واعتبروا ذلك التصرّف من حكومتهم فتحًا لباب يعسر سدّه، فأجمعوا أمرهم على نسخ ما شرعت، وفسخ ما عقدت فشكّلوا بمالهم ونفوذهم عصابات لصوص مسلّحة من الأهلين تعبث بالأمن وتفسد السابلة، وتطرق المنازل للنهب، واتّخذوا من تلك الأعمال حجة على أن الترخيص في حمل السلاح للجزائريين كوضعه في أيدي المجانين، ولم يزالوا على ذلك حتى استردّت الحكومة ما أعطت من ذلك الترخيص.
ثم ازداد الشعور العام يقظة وانتشارًا، وفتحت حركة الإصلاح الديني الذي قامت به جمعية العلماء مُغلقات الأفكار، وخرجت الحركة السياسية من صبغتها الفردية إلى ميدانها الاجتماعي، وتألّفت (وحدة النوّاب) وكان لها في مبدإ أمرها اتجاهٌ محمود، وللأمة حولها التفاتٌ مشهود، فهال ذلك المعمرين، وقادتهم هنا وأنصارهم هناك، فدبّروا مكيدة 5 أوت سنة 1934 بتسليط المسلمين على اليهود في مدينة قسنطينة، منبت الحركة ومقرّ أقطابها، وما كان بين المسلمين واليهود ما يدعو إلى ذلك ولا إلى أقلّ منه، ولكن يدَ الاستعمار صنّاع في تدبير المكائد، ولا شك عندنا في أن تلك المذبحة دُبّرت لقتل الحركة السياسية.
ولم تؤدّ تلك المكيدة إلى غاية الاستعمار المرجوّة، فاستفحلت بعدها الحركة، وارتفع صوت المطالبة بالحقوق جهيرًا، وتقارب السياسيون تقاربًا لم يعهد مثله، فتمخّضت عن "المؤتمر الإسلامي الجزائري" سنة 1936، ونجح نجاحًا منقطع النظير، وقطع وفده البحر إلى فرنسا، على أمواج من أمل الأمة وتشجيعها، فجنّ جنون الاستعمار، وخانه الصبر والأناة، فتعجّل بتدبير مكيدة اغتيال "المفتي كحول" في أسبوع رجوع الوفد، وفي يوم اجتماعه بالأمة، وغاية الاستعمار من تلك الحادثة قتلُ الحركة السياسية التي كان أجلى مظاهرها المؤتمر.(3/360)
وجاءت الحرب ... وخفتت الأصوات، فاستعلنت النيات، وتعطّلت الأعمال، فانطلقت الآمال، وكمَّت الألسنة، فأفصحت الإشارات، وهدأت الخلافات فتقاربت القلوب، إلى أن جاء الحلفاء وعلى ألسنتهم أغان عن الحرية ينشدونها، وعلى شمائلهم معان من الديمقراطية يردّدونها، وفي نفوسهم أمان للأمم يعدون بها ويعددونها، فحنت النفوس إلى الحرية، وجرَت الألسنة بالمطالبة بها، وظن الجزائري الذي شارك في الحرب بماله وبحاله وبمهجته- كما ظن كل الناس- أنه واصل إلى مراده، ومتقاض أجر جهاده، وأن الحرب- وهي نار- نقّت القلوب من الدغل، ولكن الاستعمار كان كعقرب الشتاء، تحس وإن لم تتحرّك، فسجّل تلك الأصوات المطالبة بالحرية، وأسر المكيدة في نفسه إلى يوم النصر الأخير، وأتى بها شنعاء صلعاء في حوادث 8 ماي 1945، وانطوى اليوم الذي أرّخوا به لانتصار الديمقراطية، بتسجيل أكبر انكسار للديمقراطية، وشاء القدر الواعظ أن يدخل الضّيفان الحاملان للواء (1) الديمقراطية إلى الجزائر، وفي كل مسمع نغمة من الحرية، وفي كل جانحة نشوة من الانعتاق، وفي كل ناد ذكر من الديمقراطية، وأن يخرُجا منها وفي كل حيّ مأتم (2)، وفي كل بيت نادبة.
هذه أربع شهادات يشهدن أن الخامسة اختهن ...
__________
2) الضيفان الحاملان للواء: هما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اللتان نزلت قواتهما في الجزائر في نوفمبر 1942.
2) إشارة إلى حوادث 8 مايو 1945.(3/361)
حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *
- 1 -
... كيف لا تنسى العدل أمة لبثتْ في ظلمات الظلم أحقابًا، وعقبت في ظلّ يحمومه أعقابًا؟ أم كيف تذكره بعد أن محت آيته آية السيف، فلم تنعم منه بإلمامة الطيف؟ وكيف يجد العدل مجالًا بين حاكم لا يسأل عمّا يفعل، وبين محكوم يُسأل عما لم يفعل؟ وكيف يجد العدل سبيلًا إلى نفوس زَرَع فيها الاستعمار- أول ما زرع- بذرة احتقار المسلم الجزائري، ثم ربّاها- أول ما ربّى- على الاستعلاء على المسلم الجزائري، ثم علّمها- أول ما علم- هضيمة المسلم الجزائري، وتجريده من أسباب القوة والحياة بكل وسيلة، وترويضه على الذل حتى يطمئن إليه، ويعتقد أنه كذلك خلق، أو لذلك خلق، فإذا سُلب مالُه عدّ سلامته من الضرب غنيمة، وإذا ضرب جسمه عدّ نجاته من ضرب العنق منحة كريمة، وإذا تأوّه للألم النفسي أو البدني عُدّ التأوّه منه جريمة؟
إن الاحتقار هو الأساس الخلقي الذي وضع عليه الاستعمار قواعدَه، وبنى عليه قوانينه، وإن ملكة الاحتقار هي الغاية في العالم الاستعماري، ينتهي إليها عالمه، وحاكمه، ومشرّعه، ومنفّذه، ولكنه بعد أن تراءى العيانان، عيان الفاعل وعيان القابل، لم يجد فينا قابلية الاحتقار، أباها لنا عرق في الإباء أصيل، وإرث من "محمد" أثيل، فانقلب ذلك الاحتقار على مرّ الزمن حقدًا يصهرُ الجوانح؛ وتحوّل بفعل الأحداث بُغضًا يأكل الأكباد، وكلّ ما يراه الرائي ويسمعه السامع من البلاء النازل علينا فذلك مصدره، وهذا مورده.
يا لله ... لما يحمل هذا الجسم المثخن بالجراح من حصانة ومناعة، ولما يكمن فيه من دفاع ومقاومة، هي آثار الخصائص الأصيلة في الجنس العربي، ولولاها لكان في
__________
* نشرت في العدد 119 من جريدة «البصائر»، 15 ماي سنة 1950.(3/362)
الغابرين، وهي بقايا المزايا السامية من الدين المحمدي، ولولاها لختم به تاريخ طسم وجديس وعاد الأولى، ولو أن ما حلّ بهذه الأمّة حلّ أيسره بأمة أخرى، لانعكست فيها نظرية "داروين" ...
ابدأ بما شئت، واختم بما شئت، من النُظم والقوانين التي تُساس بها الجزائر، تجدها كلّها دائرة في مبادئها وغاياتها على محور واحد، وهو احتقار المسلم الجزائري وبغضه، وانظر ما شئت في أعمال الحاكمين كبارًا وصغارًا، وفي ملابساتهم للناس، وفي شمائلهم، تجد الأعمال مفسّرة لذلك، والملابسات حتى في الحديث جارية على ذلك، والشمائل ناطقة بذلك.
هلمّ إلى الدين تجد الاستعمار الذي كفر بالأديان يقول لك بصريح القول والعمل: أنا أحق منك بالتصرّف في دينك، فلا تدخل المسجد إلا بإذني ولا تُصَلِّ إلا من وراء إمامي، ولا تحجّ إلا برخصتي، ولا تصُمْ إلا على رؤيتي، ولا تزكّ إلا بعد استشارتي، ولا تضع زكاتك إلا حيث أريد لا حيث تريد، ومعنى هذا كله نسخ آية من القرآن، بآية من وحي الشيطان، ولم يبق إلا أن تتلوها كما يريد، "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للاستعمار" وكذب الشيطان الرجيم، وأفك الاستعمار الذميم.
ثم ارجع البصر في الدنيا وقوانينها التي يسوسنا بها الاستعمار، تجد ذلك المعنى لائحًا في كل حرف منها، فائحًا من كل كلمة من كلماتها، واضحًا في كل تأويل من تأويلاتها، بيّنًا في كل تطبيق من تطبيقاتها؛ انظر إلى قوانين الانتخاب- وهو عصب الحياة وسلاح الدفاع- تقع أول نظرة منك على احتقار مفضوح بشواهده، وهو وجود صندوقين لأمّتين، لم تقعد بأولاهما قلّتها، ولم تغن عن أخراهما كثرتها، ولا معنى لذلك إلا وجود طائفتين: سيدة ومسودة، ثم انظر إلى التفاصيل في الكم والكيف والإجراءات، وتحكم الإدارات في الإرادات تجد تصداق ما قلناه كالشمس ليس دونها حجاب، ثم انظر إلى قوانين التعليم- وهو سر الحياة وإكسيرها- تجد الاحتقار والبغض ماثلين في كل جولة طرف. يقول المسلم الجزائري للاستعمار: علّمني، فيقول: لا، ويقول له: دعني أتعلّم وحدي ما يقومني، فيقول: لا، ويقول له: دعني أعِنْك على التعليم العام، فيقول: لا. وتبقى الرابعة بينكما، لا يمنعك من قولها إلا الرهبة منه، ولا يمنعه من قولها إلا احتقارك أيضًا ... ولو قالها لكانت ترجمتها: لا أعلمك لأنني أحتقرك وأبغضك، ولا أدعك تتعلّم وحدك، لأنني أحتقرك وأبغضك، ولا أدعك تعينني لأنني أحتقرك وأبغضك.
وتعالَ إلى القوانين الجنائية- وهي مظهر المساواة فيما يزعم الاستعمار- تجد الألفاظ واحدة، والتطبيقات مختلفة: يجني الجانيان منا ومنهم جناية متماثلة الكم والكيف والظروف(3/363)
والشهادات والقرائن، فيصطرع القانون المكتوب في الطروس، والقانون المكتوب في النفوس، ويتضاءل الأول أمام جانيهم حتى ليكاد يعتذر إليه، فتصبح جنايته بالتأويل ليست جناية فلا جزاء عليها، وتمسي جنايتنا بالتهويل جنايتين ونصفًا، فالجزاء عليها ضعفًا وضعفًا.
وانحدر إلى الإجراءات البوليسية البسيطة فما فوقها تجدها كأنها تنفيذ لشريعة اسمها شريعة الاحتقار والبغض، أول موادّها لا رحمة بضعيف، ولا عذر لعائل، ولا شفقة على بائس، ولا احترام لذي مقام ديني؛ بل كل المسلمين سواسية أمام قانون الاحتقار.
إن الاحتقار هو الأساس الذي بنى عليه الاستعمار تربيته وتعليمه وحكمه، وقد أصبح خلقًا ذاتيًّا في أبنائه وأنصاره وحكّامه، لا يستطيعون الانفكاك عنه لأنه جزء من وجودهم، ومادة لحياتهم، ثم غمره البغض فأصبحا عنصرين مكوّنين لشيء موجود هو هذا الظلم. وإن الاحتقار والبغض هما اللذان رفعا الحصانة عن ديننا، وأموالنا، وأعراضنا، وأبداننا.
...
سلوا عقلاء الأرض الذين لم يصابوا في عقولهم بمرض الاستعمار، وسلوا علماءها الذين لم يفسد علمهم الاستعمار، سلوهم جميعًا أو أشتاتًا: هل يلتقي الاستعمار والعدل في طريق؟ وهل يتحقق العدل مع الاحتقار والبغض بين حاكم ومحكوم؟
سلوا أرسخ الأمم عرقًا في الحرية، وأكثرها تمتّعًا بها، عن الأسباب التي تمكّن للعدل في الأرض، وتحقّقه بين الناس، وتثبّت أصوله بينهم، يجيبوا بلسان واحد: إن العدل لا تثبت أركانه لزعازع الاستبداد، ولا يقوى بنيانه على طغيان المستبدين، إلا إذا كان بين الحاكم والمحكوم علاقة من محبة، وجامع من مصلحة، ورابطة من روح، وشركة في شعور: شعور من الحاكم بأن المحكوم شريكه ومعينه، وشعور من المحكوم بأن الحاكم زميله وقرينه، وأنهما- لذلك كله- متعاونان على إقامة العدل، فإذا وُجد أصل هذا الشعور في الجانبين ازداد تمكّنًا كلّما آتى العدلُ ثمراته، حتى ينتهي في نفس الحاكم إلى اعتراف بأن المحكوم هو الذي رفعه إلى تلك المنزلة، وفي نفس المحكوم إلى اعتقاد بأنه مساوٍ للحاكم في استحقاق تلك المرتبة.
وأخرى ... تُثبت العدل وتحميه، وهي إحساس الحاكم برقابة متيقّظة ممن تحته، وبمحاسبة دقيقة ممن فوقه، فإذا زايله وازع الضمير، ووازع القانون، ردّه وازع المراقبة والمحاسبة إلى سواء السبيل، وأين في الحكّام- اليوم- من يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس؟(3/364)
إن الحاكم إذا لم يكن له ضمير يردعه، ولا قانون يزعه، ولا رقيب يمنعه، ولا حسيب يذوده عن الظلم ويدفعه، رجع إلى الغرائز الإنسانية الدنيا، فدفعته إلى المحاباة والعنصرية، فكان على يده ضياع العدل أولًا، وضياع قوّته التي يستند إليها ثانيًا، وكم أهلك الظلم من أمم، وتلك هي سريرة الاستعمار، وتلك هي جريرته التي يأخذه الله بها، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}.
...
والرقابة الفعّالة في هذا الزمن الذي وصل طرف الحضارة الأخير بطرف البداوة الأول ... وردّ الإنسان إلى غرائز الحيوان، تكاد تنحصر- في مظهرها- في النيابة والصحافة، فقد أصبحت النيابة في الأمم التي رسخ فيها نظامها، وبُنيت حياتها عليها، رقيبًا عتيدًا على الحكومات وعلى الحكّام، وأصبحت الصحافة بجانبها حسيبًا مرهوب الصولة، يقرع النفوس بتحذيره ويخلع القلوب بتشهيره، فإذا جرتا إلى غاية واحدة كانتا ملاذًا للمظلوم، تقومان بنصره، وملجأً للملهوف، تسرعان إلى غوثه، وملتحدًا للضعيف تأخذان بيده، ولكن ... إذا أفسدت المطامع النوّاب، وأفسدت العنصرية الصحافة فعلى العدل السلام.
...
وماذا في الجزائر من هذا؟ ...(3/365)
حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *
- 2 -
... وماذا في الجزائر من ذاك؟
يسمع البعيدون الذين منّ الله عليهم بالسلامة مما نحن فيه، أن في الجزائر نوّابًا ومجالس نيابية، وأن فيها من مواليد عهد التطورات مجلسًا جزائريًّا، يتراءى في مظاهر برلمانية، تلوح عليه مخايل البرلمان وسماته، وتنفح من طياته روائح البرلمان ونسماته، يسمعون ذلك عن الجزائر فيحسبون أن الحرية صافحتها، وأن عوادي الدهر صافتها، وأن هذه المجالس النيابية خليقة أن تراقب الحكومة والحكّام، وأن تناقش، وأن تحاسب، وأن تحامي عن مصالح الأمة وحقوقها، كدأبها في كل بلد نيابي، وقد يغبطنا جيراننا الأقربون عن هذه الحياة الشورية التي حرمهم الاستعمار منها.
مَن يَسمعْ يَخل، والبعيد يسمع الأصداء لا الأصوات، والحقيقة هي أنه ليس في الجزائر نيابة ولا نوّاب، ولا منتخبون ولا انتخاب، وأن حالتها في هذا الباب- بعد مائة وعشرين سنة من استعمار فرنسا أم الدساتير وأم الشعوب النيابية في العالم- قد انتهت إلى حيث ابتدأ (الباش أغا) عبد الله قائد دوار شرق الأردن. وان هذا التشابه لينبئ بأن ذلك الباش أغا قد استعرض في بدايته (عيّنات) من النيابات، فاستوقفه نوع النيابة الجزائرية في نهايتها، فاستهوته، فاختارها فقلّدها، والشكل يقع على شكله.
ليس في الجزائر نيابة ولا نوّاب، بالمعنى الذي تعرفه الأمم، وإنما هي صور بلا حقائق، وألفاظ مجرّدة من معانيها، وأجسام مفرغة من أرواحها ... إنما هي وظائف توزّعها الحكومة على أعوانها، وتضع عليها هذه الأسماء، تمويهًا وتغليطًا، وتغطّيها بأقلية ضئيلة من
__________
* نشرت في العدد 120 من جريدة «البصائر»، 22 ماي سنة 1950.(3/366)
النوّاب الأحرار، تمهيدًا للغدر، وتعويذًا من العين، ودفعًا للتهمة وقالة النقد، فإذا اجتمعتْ هذه المجالس النيابية ليوم الفصل في المشكلات، أو ليوم الرأي في المعضلات، لم تجد نوّابًا ولا رأيًا، ولكنك تجد الحكومة تتحكّم وتسيطر، وتوجّه وتملي، ثم لا يكون إلا رأيها، وإنك لترى أشخاصًا وتسمع أصواتًا، وتشاهد حدودًا من النظام، وتسمع في بعض الفترات نبرات حرة تخترق تلك الكثافة الغالبة، حتى يخدعك النظر، وتهُمّ بأن تعتقد أنها مجالس نيابية، ولكن ذلك كله ما دام الحديث في القشور والتوافه، أما إذا عُرضت مصالح الحكومة، وعارضتْها مصالح الوطن وحقوق الأمة فإن النيابة تنقلب حكومة، ويضيع الصوت الحرّ- إن كان- في الضجيج.
لا تكون النيابة مثمرة إلا إذا كان الانتخاب حرًّا، وكان المنتخب عارفًا بقيمة نفسه وبمعى الانتخاب، ولم ترَ الجزائر انتخابًا حرًّا خاليًا من شوائب التدخّل الحكومي من يوم نشأ فيها الانتخاب؛ ولا تبحث بعد هذا عن أعجوبة الأعاجيب في هذه المجالس، وهي تمثيل الأقلية فيها لأكثرية السكّان، وتمثيل الأكثرية لأقليتهم، ولئن سألتهم ليقولن: إن أكثرية السكّان متأخرة عقلًا وثقافة، منحطّة علمًا وتفكيرًا، لا جرم أنها لا تستحقّ إلا هذه النسبة في التمثيل، فسلهم: ما الذي أخّرها؟
إن الاستعمار هو الذي أخّرها عامدًا، فسدّ عليها منافذ العلم، وأفسد فيها معاني الرجولة، وعامل القيم الإنسانية والموازين العقلية فيها بالبخس، ومحا منها بوسائله السحرية من الوظيفة واللقب والنيشان والأطماع كل المثل العليا التي هي مناط الطموح في الأمم، فأصبح معظمها حيًّا بلا حياة، وبلا أمل في الحياة، تسيَّر، ولا تخيّر، ويفتات عليها، ولا تشاور، وأصبح هؤلاء النوّاب نوائب نازلة عليها، لا يعرفونها إلا في أيام الانتخاب، أو لا يعرفونها قط، لأن الحكومة عرفت بهم، فإذا حلّت الكوارث بالأمة، أو فعلت الحكومة الأفاعيل بالأمة، سكتوا، كأن الأمر لا يعنيهم، ولأن الحكومة ما وضعتهم حيث هم إلا ليسكتوا ...
إن الغابط لنا على هذه النيابة خابط في ضلالة، وإن الحاسد لنا عليها حاسد على الموت، وإن الممتن بها علينا ممتن بالسراب على العطاش.
هذه هي حقيقة النيابة في الجزائر، فكيف يُرجى منها ما يُرجى من أمثالها في الأمم من مراقبة للحكومة، ومحاسبة للحكّام، وحماية للأمة، حتى يفشو العدل، ويشيع بين الناس.
وأما الصحافة في الجزائر فإنها استعمارية خالصة لحمًا ودمًا، تعيش على ماله، وتسير بتوجيهه، فهي تخدم ركابه، وتنصر مبادئه، وتثبت أصوله وتنافح من ورائه، وتأمر في حق الأمة الجزائرية بالمنكر، وتنهى عن المعروف وتضع الموازين البخس، لمصالحها، وتجسّم(3/367)
المخاوف منها، وتزين المبالغة في إرهاقها وتعذيبها، ولا تقنع بما يقع من الحكّام من ضغط وزجر وإعنات، بل تعدّه تقصيرًا منهم في الواجب، وتفريطًا في المحافظة على السيادة الاستعمارية، والحقوق الفرنسية، ولذلك كله تراها لا تدعو ثبورًا واحدًا، بل تدعو ثبورًا كثيرًا كلما سمعتْ نبأة بطلب حق، أو رفع مظلمة، وشأن الصحافة الحرّة شأن النوّاب الأحرار، قلة في العدد، ونضوب في المدد، وريح تُلاقي إعصارًا.
وهذه هي حقيقة الصحافة في الجزائر، فكيف يُرجى منها ما يُرجى من مثلها عند الأمم من مراقبة حكومة، أو محاسبة حكّام، حتى يفشو العدل ويشيع بين الناس.
...
يقول الاستعمار- وقوله الباطل-: لا حق للأمة الجزائرية في الحياة، وما قالها إلا بعد أن فعلها ... جرّدها من سلاح الحماية، فلا قانون يحميها، ولا نيابة تنطق باسمها، ولا صحافة تدافع عنها، ولا حاكم منها يعطف عليها ... فمن الذي يحمي عرضها من الثلب، ويحمي مالها من السلب، ويحمي دينها من القلب، ويحمي جسمها من الضرب، لا شيء ... لا شيء ... ولا بعض الشيء ...
هل تنتظر هذه الأمة العدل من فرنسا (منارة العدل)؟ لقد انتظرته حتى ملّت الانتظار، فعادت إلى اليأس، وارتفعت صيحاتها بالتظلّم إلى فرنسا حكومةً وبرلمانًا وشعبًا، فلم يجبها عند ذاك مجيب.
حلّت المصائب بهذه الأمة، وتتابعت المكائد التي تدبّرها حكومتها الاستعمارية، فرفعت صوتها إلى آخر ملجإ حكم عليها القدر بالالتجاء إليه، وهو فرنسا، فلم تظفر منها بشيء يداوي الجروح، ويسلّي النفوس، ولا رأت منها عناية- ولو مصطنعة- بهذه القضايا الخطيرة، ولا نهيًا عن تلك المنكرات التي تئطّ منها السماء والأرض، ومظهر العناية من دولة عريقة في الجمهورية، وأيسر شيء عليها أن ترسل لجنة برلمانية للتحقيق العادل، ولكن شيئًا من ذلك لم يقع. بل وقع في كل حادثة ما يضاده ويعاكسه، وهو إعلان الثقة بمدبّري المكائد، ومكافأتهم عليها، والإملاء لهم ليزدادوا طغيانًا وإثمًا.
وقعت حوادث 5 أوت 1934 - وهي مكيدة مدبّرة- فلم تحرّك فرنسا ساكنًا، وتركت المكيدة تجري لغايتها.
ووقعت حوادث 8 ماي 1945 المروّعة فأعلنت فرنسا ثقتها بالمدبرين لها، ورضاها عما يصنعون، واهتزت الدنيا لهولها وفظاعتها، ولم تهتز فرنسا إلا هزّة الإعجاب ببطولة الهاتكين(3/368)
للأعراض الطاهرة، الفاتكين بالمهج البريئة، المثخنين في شعب أعزل: ورويت الضواري الوالغة من دماء هذه الأمة، وشفيت الصدور المغيظة عليها من الغليل، وأفاق المظلومون من غمرة الذهول، على حمى مستباح، ودماء مطلولة، فرفعوا أصواتهم يطلبون من فرنسا إرسال لجنة برلمانية للتحقيق الذي لا يردّ فائتًا، ولا يحيي مائتًا، ولكنهم كانوا ينادون صخرة صمّاء، ومن عجيب ما رآه الناس في تلك الحادثة أن بريقًا من الإنصاف لاح في نفس بعض المسؤولين هنا فانتدب شخصين اثنين للتحقيق في أول بقعة اندلع فيها لهيب الحادثة، وأحد الشخصين فرنسي منصف، والآخر جزائري متعفّف، ولكنهما رجعا ليومهما، وحيل بينهما وبين الاطّلاع على أصغر جزئية في القضية.
ووقعت بعد ذلك حوادث (دوّار السطح)، وأتت بما تقشعرّ منه الجلود، وانجلت الحقائق بالوثائق، فلم يتحرّك من فرنسا ساكن، ولا نبض لها عرق.
ووقعت في السنّة الماضية حوادث (دوار علي بوناب) فكانت تمثيلًا للوحشية في أشنع صورها، وكثر فيها القيل والقال، والجواب عن السؤال، وطارت أخبارها إلى ما وراء الستار الحديدي، ولكن فرنسا طردت القاعدة، فظلّت قاعدة.
...
وفي هذه الأيام تجري حوادث صامتة الظواهر، مفصحة البواطن، مسبوقة بالأمثال والشواهد، تومض نارها من خلل الرماد، ولكنها تُنسي كل ما قبلها في الترويع والتجنّي، وإن لها لغاية في الكيد، هي سائرة إليها، فمن أين نلتمس العدل فيها؟ أمن فرنسا؟ ...(3/369)
حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *
- 3 -
ومن أين نلتمس العدل؟ ...
أمن فرنسا الاستعمارية؟ ...
إن فرنسا اثنتان: تلك التي يتمجد التاريخ بصحائفها البيضاء في العلم والعرفان، ويتغنّى بروائعها في الأدب والفن، ويتحدّث عن وقائعها في تحرير نفسها من الاستعباد الروحي والعقلي والبدني، ويشيد بأعلامها في السياسة والبيان، ونحن لم نرَ فرنسا الموصوفة بهذه الصفات، ولم نعرفها، ولم نحسّ بها، ولا شأن لنا معها، إلا شأن البعيد الدار، المختلف الأوطار عن الأوطار.
وأما فرنسا الثانية التي التقى تاريخها بتاريخنا من سنة 1830 إلى الآن فهي التي عرفناها فاتحة بالسيف، حاكمة بالحيف، وأيأسنا من عدلها أنها حقّقت لنا معنى المثل: المستجير بعمرو ... وكيف نستدفع البلاء، بما هو أصل البلاء؟ إن فرنسا هذه التي نعرفها دولة أشربت معاني الاستعمار، وما يتبعه من احتقار وظلم واستعباد، وما يستلزمه من عتو وغطرسة وأنانية، ومن العجب أنها مع هذا تنتحل صفات الأخرى وتدّعيها وتفخر بها في العالمين، فهي كالجزّار يذكر الله ويذبح، ونحن لا نعرف لها تلك الصفات، ولا نعترف بشيء لم نره، ولم نستبن في أنفسنا أثره، ولا نعرف إلا صحائفها السوداء في معاملتنا، ووقائعها في ظلمنا وتقتيلنا، ولا نصدق بشيء مما تدعيه لنفسها، أو يدّعيه لها المفتونون بها من العدل والديمقراطية.
لم نرَ من فرنسا الاستعمارية إلا الهضم لديننا، والمحو للغتنا ومقوّماتنا، والزراية بجنسيتنا، والمنّ علينا بما لم نذق طعمه ولم نَرِح رائحته، والاستكبار في الأرض بغير
__________
* نشرت في العدد 121 من جريدة «البصائر»، 29 ماي سنة 1950.(3/370)
الحق، والنكران لفضلنا عليها في الأزمات؛ أفلا يعذرنا العقلاء إذا أنكرنا كل فضيلة تتّسم بها، أو يسمها بها المفتونون بمدنيتها، المسبّحون بحمدها:
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلًا … حتى يروا عنده آثار إحسان
تريدنا فرنسا الاستعمارية على أن نحمدها بما لم تفعل، فنقول: عسى ولعلّ ... ثم تريدنا على أن نحمدها بما فعلت معنا من ظلم وعدوان، وأن نصوّر مساوئها فينا محاسن وأن نسمّي شرّها خيرًا، وجورها عدلًا، وإساءتها إحسانًا، وإهانتها تشريفًا، وأن ننكر إحساسنا وعقولنا، وأن نتنكّر للمنطق وللواقع، فلا نقول إلا ما يرضيها وإن جانب الحق، ولا نعمل إلا ما يوافق هواها، وإن أسخط الله، فنقول: لا، ثم لا، لأن ترجمة هذا كلّه أنها تلطمنا فنشكرها على اللطمة، وتعذّبنا فنقدّم لها شواهد الإخلاص.
هذه هي فرنسا التي نعرفها، أو هذا هو الجانب الذي نعرفه من جوانب فرنسا، قلنا فيه ما نعرف، وشهدنا بما نعلم، فإن كان لها جانب غير الذي عرفناه، فسلوا عن العسل مَن ذاق طعمه، أما نحن فقد ذُقنا الحنظل، فوصفنا الحنظل.
ولو أن حاتمًا جمع كل ما قاله في نفسه، وقاله الشعراء فيه، في ديوان، وقرأه على جار له حُرم رفده، فلم ينل من لحوم نحائره حُزة، ولا من أوبارها جزة، أكان يهتزّ لذلك، ويشكره عليه، إن لم يكذبه؟ وكذلك نحن؛ لا نهتز لما تمتدح به فرنسا، أو يمدحها به المادحون، ما دمنا لم نرَ منه في أنفسنا إلا عكسه ونقيضه، وقلْ أنت: أنا غني، فلعلّك لا تجد من يكذبك، ولكنك حين تقول: أنا الجواد المفضل، تجد- لا محالة- من يقول لك: وأين الأثر؟ ولو أن ذكرك بالإحسان والعدل استفاض حتى ملأ مسامع الدنيا، لما أغنى عنك يوم الفخار شيئًا، إذا جاء جارُ بيتك يحمل من ترويعك له دلائل ويستظهر على تجويعك له بشواهد وبيّنات.
إن الاستعمار غشاوة على الأبصار، ورين على البصائر، فهو- كما يرمي فاعله بالعمى عن الحقائق- يَرمي المبتلى به بالعمى عن المحاسن، فلو أن فرنسا خلعت ثوب الاستعمار، ومحت رسومه، لزالت هذه الغشاوة عن بصرها فعرفت لنا حقوقنا، ولزالت عن أبصارنا فعرفنا لها محاسنها؛ وما دام الاستعمار، فالرين على البصائر والغشاوة على الأبصار، وليس في طبائع الأشياء غير هذا.
...
وإلى عقلاء العالم، وساقة القوافل البشرية نسوق الحديث، وإن كنا في شك من أن المادية الخبيثة أبقت في العقلاء معنى التعقّل، حتى يدركوا كيف يسعد الأقوياء بشقوة(3/371)
الضعفاء، وفي مرية من أن الاستعمار ترك لأولئك الساقة وجهة غير وجهته التي يزاحم عليها سائق سائقًا، ويجاري فيها متخلف سابقًا:
أنتم تحثون الركائب لغاية تزعمونها، وفي القافلة الكبرى أنضاء طلاح، إن لا تعوّق عن تلك الغاية تؤخر البلوغ إليها، فهلّا أذّنتم في أولاها بالأناة والتلبّث، وحدوْتم في أخراها بالعجلة واللحاق، حتى يتلاقى البطاء والسراع على الغاية؟ أما عملكم اليوم فهو مضاعفة لقوادم الطائر حتى يحلّق في الجوّ، وإضعاف لحركات الواقع حتى ينبَتّ في الدو.
هل أتاكم نبأ أمة تعيش في زمنكم، بغير أدوات الحياة في زمنكم؟ وهل أنتم على بصيرة من وضعيتها الناشزة الغريبة الشاذة في نواميس زمنكم؟
هل أتاكم نبأ عشرة ملايين من سلائل البشر الراقية، تحكمها فئة تعادل عشرها، ليس بينهما من الجوامع إلا الآدمية، ولا من الصلات إلا صلة القوي بالضعيف، ولا من العلائق إلا امتصاص الأقل لدم الأكثر، وسمنه بهزاله، واعتزازه بإذلاله.
إن هذه الملايين تُساس بقوانين لا رأي لها فيها، وبمجموعة من النُظم لا يد لها فيها، وبأنواع من الإدارات غابت عن وضعها، وهي موضع تنفيذها وبعُصَب من الرجال ليس فيهم واحد منها ... إلا واحد يمسك عنقها للذبح، وآخر يضرب بدنها للإرضاء.
كيف ترجو هذه الملايين العدلَ أو تتخيله؟ وليس من أبنائها قاض مستقلّ في محكمة، ولا رئيس مسؤول في إدارة، ولا ضابط كبير في ثكنة، ولا حاكم كبير ولا صغير في مركز، ولا مدير حرّ في مصلحة، بل كل فرد منها خادم مطيع، وكل أجنبي عنها مخدوم مطاع، وكل الوظائف الرئيسية في وطنها محتكرة لغيرها، وكل المنافع الثابتة أو النابتة في أرضها محرّمة عليها.
تشريك المواطنين في الرأي والحكم هو سمة زمنكم، ولكن هذه السمة مطموسة في الجزائر، وحرية المعتقدات والأديان هي شعار زمنكم، ولكن هذا الشعار لا يوجد في الجزائر، وحرية التنقّل هي مفخرة زمنكم، ولكنها معدومة في الجزائر، والمساواة في القانون والعدالة من ثمرات زمنكم، ولكنها محرّمة في الجزائر، والديمقراطية هي دعوى زمنكم، ولكنها باطلة في الجزائر، وحرمات المنازل والأعراض من تبجحات زمنكم، ولكنها مهتوكة في الجزائر، وعصمة الأبدان من الضرب والتعذيب من أكاذيب زمنكم، ولكن الجزائر أصبحت مدرسة عالية لتعليم النمط الرفيع من أنواع الضرب، وأساليب التعذيب وأصبحت تجارِبُه الأولى في أبداننا، ولولا هدير البحار، وصخب الساسة لسمعتم أنين المكلومين، ولامتزج في آذانكم حفيف السياط بالصراخ و "العياط"؛ وليوشكن إن تمادى زمنكم في التفنّن، ولم تبادروا جرثومة الاستعمار بالاستئصال- أن تستمرئوا لذة نيرون باحتراق روما،(3/372)
وأن يهاجر أبناؤكم إلى الجزائر، للتخصص في فن التعذيب على أساتذته.
نعم، نعم- ولا نُنكر الفضل- إن حرية الرذيلة من آفات زمنكم، وهي موجودة على أكمل وجه وأتمّ حال في الجزائر.
...
ويحكم! إنكم لسائرون بهذه القوافل إلى الدمار، وإن حاديكم إليه هو الاستعمار، فعاملوه بالقطيعة تتواصلوا، واقضوا عليه قبل أن يَقضي عليكم.
ويحكم! إن هذا العارض الذي تسمّونه الاستعمار ليس ذاتيًّا في زمنكم، ولا هو من طبيعته، فإن تركتموه حتى يُلبس العصر الجديد لبوسه كان عونًا عليكم، إن الزمان لا تؤمن غوائله وتقلباته، أم أنتم في أمان من الزمان؟! ...
ويحكم! إن هذا الاستعمار الذي تؤيدونه، وهذه الديمقراطية التي تنوون إقرارها في العالم، أو إقرار العالم عليها، ضدان لا يجتمعان، فلماذا تغشّون أنفسكم، وتغشون العالم، وتكذبون على الحق؟
ويحكم! أحيوا العدل وانشروه، وأميتوا الاستعمار واقبروه، تكن الأمم كلها معكم بقلوبها، وعقولها، وأبدانها، وأموالها، وتأمنوا البوائق التي تخشون انفجارها، فإن لم تفعلوا فأيقنوا أن كل ما تنفقونه من جهد ووقت ومال في تمكين الاستعمار ضائع، ولا الحمد مكسوبًا، ولا المال باقيًا، ثم ما يزال بكم هذا الغول الذي تربّونه وتحتضنونه حتى يرديكم في هاوية.
...
أفكلّما رثّ حبل الاستعمار، وتصدّع جداره، وأشرف على الفناء في حربين ماضيتين، جاءت أميركا حاضنة الديمقراطية، تكفكف دموعه وتنظّم جموعه، وترمّم جداره، وتعمر بالدولار داره؟
إن الأمم الضعيفة قد لُدغت من جحر واحد مرّتين، فاحذروا الثالثة، وقد أصبحت هذه الأمم تلقّب أميركا بلقب لا يشرّفها، وهو أنها (نصيرة الاستعمار).
الاستعمار عمل أوّله ختل، وآخره قتل، وشر لا بقاء عليه، ثم لا بقاء له، ووحش مروّض آخر صرعاه رائضه؛ ومرض آكل يأتي على المكاسب، ويثني بالمواهب، ومخلوق(3/373)
لئيم، يُدان ولا يفي، وينتقم ولا يشتفي، ويستأصل ولا يكتفي، ويجاهر بالسوأى ولا يختفي؛ وكنود، أوْلى الأيدي عنده بالقطع يد مُدّت بإحسان إليه.
والمساواة عدل تنمو عليه الأخوة، وتنبعث منه القوة.
والاستقلال تكافؤٌ في الآدمية، واحترام للإنسانية، وتبادل للمنفعة والخير، وتحقيق لسنّة الله.
والعدل من الأقوياء هو الميزان الذي يُقرّ كل شيء في نصابه، ولكن أين هو؟ لم يبق إلا الحديث عنه، فحدّثونا عنه، فإننا نسيناه! ...(3/374)
ويحهم ... أهي حيلة حربية؟ .. *
نشرت جريدة "الجزائر الجمهورية" اليومية الصادرة في 22 من الشهر الماضي تفاصيل جزء صغير من مؤامرة سرية واسعة، كشف الغطاء عنها النائب البرلماني الشريف
جماد، في المجلس الوطني الفرنسي في جلسة 11 فيفري الماضي، وأعلنها كحقائق واقعية مضبوطة، بالأسماء الصريحة، والأماكن المعينة والإحصائيات المدقّقة، لاستعدادات هائلة بالأسلحة والذخائر الحربية، والأجهزة المتنوّعة، والوقود والسيارات، ورجال الاختصاص، حتى ليخيّل إلى قارئها أنها حملة حربية كاملة ... ولو لم يصرخ بها نائب برلماني مسؤول، يعرف ما يقول، على منبر مجلس الأمة، لقلنا إنها من نسج الخيال.
وقرأنا تلك التفاصيل، على حالة بين الدهشة والاستغراب، وبين التصديق والتكذيب، حتى انتهينا؛ فإذا هي استعدادات تبعث الرعب والفزع في النفوس، وإذا هي تسليح جديد لطائفة كانت مسلّحة- قبل- بالحكم والمال، فكأنها إمداد لليث بناب فوق نابيْه، وتقويةٌ للقوس بقاب مع قابيْه، وإذا تلك الحملة كلها شر من شرور مخبوءة لهذه الأمة المسكينة العزلاء الجائعة العارية الحافية المجرّدة- عن عمد وإصرار- من كل أسباب القوّة، وإذا هي في شريعة هؤلاء الطغاة وفي نفسيتهم الخبيثة جزاء- مستحق- لهذه الأمة على ما بذلته من تضحيات مكفورة في سبيل فرنسا! ... وإن كشفها في قرية "فج مزالة" لا يعني أنها محصورة فيها، ومقصورة عليها، وإنما هو كشف لفرع من فروعها، واكتشاف لوكر من أوكارها؛ ومحال أن يكون هذا التدبير الشيطاني المحكم خاصًّا بفج مزالة، ولا خصوصية فيها تقتضي هذا.
وتفلسفنا قليلًا- على حسب بساطتنا- لنرجّح اليقين على الشك، فقلنا: إن كشف هذه المؤامرة ونشرها يساوي كشف سر من أسرار الحرب شناعة ونكرًا، فإفشاؤها في
__________
* نشرت في العدد 146 من جريدة «البصائر»، 12 مارس سنة 1930.(3/375)
البرلمان، ونشر الجرائد لها، يصيّرها حقيقة واقعة، وسكوت الحكومة عن تكذيب ناشرها، وعن عقاب مُفشيها، هو إقرار لها، واعتراف بها، وتصديق بكل ما قيل عنها، وسمّه إن شئت- غير مكذب- "حكمًا بشرعيتها"؛ فإذا لم تصدق هذه الفلسفة العاقلة البسيطة- التي يَبْدَهُ بها كل عاقل- فلا بدّ من أحد جديدين: إما أن الأرض عمرت بالمجانين، وإما ... أن ملائكة الرحمة قد تنزلت على القوانين ...
ورجعنا إلى الماضي نستقريه ونسأله، فوجدناه كله شواهد على هذا، ووجدنا أنفسنا- بعد زوال الدهشة- أعلمَ الناس بهذا، وأحق الناس بكشف هذا، لولا بلادة تُخالط، ونفوس تُغالط، فقد علَّمَنا أول هذه المكائد آخرها وأنبأنا ماضيها بمستقبلها، ونفضت هذه النفوس الخبيثة سرائرها على أقلامها الكاتبة، وألسنتها الخاطبة، فتركتنا لا نُخطئ وزنًا ولا تقديرًا.
...
وقعت حوادث 8 ماي المريعة، ودارت رحاها في سطيف، وخراطة، وقالمة، وانجلت عن تلك الفضائح الوحشية التي تكفي وحدها لتلطيخ تاريخ فرنسا بالسواد، من تحريق للديار، وإتلاف للثمار، ونهب للأموال، وتقتيل للرجال، وتذبيح للشيوخ والنساء والأطفال، وانتهاك للحرمات الإنسانية، مما لو رآه فرعون لافتخر بفوات ما فاته منه، فقد كان يذبح الأبناء ويستحيي النساء ... وانتظر العقلاء- بعد انحسار الغمرة- أن تكفر فرنسا عن زلة أبنائها (الممدنين المعلمين) بتحقيق يمهّد للعدالة، ويكون من ورائه ما يقمع الظالمين، ويرضي المظلومين، ويكفكف دموع البائسين، ولكنها لم تفعل ... وأستغفر الله، بل فعلت كل أسباب النكبات الواقعة بعدها والمتوقعة.
ثم وقعت حادثة "دوار السطح" وهي نسخة مصغّرة من حوادث 8 ماي، أو ذيل من ذيولها، أعيد فيها تمثيلُ رواية نهب الأموال، واستباحة الأعراض وانتهاك الحرمات، وانتظر العقلاء من الحكومة شيئًا يعيد النوم إلى الجفون الساهرة، والأمن إلى القلوب الواجفة، ولكنها لم تفعل ...
ثم وقعت حادثة "دوار علي بوناب"، وهي جزء من (ذلك البرنامج الحافل) وعلت فيها أصوات المتظلمين، وأوسعتها الجرائد بيانًا وتعليقًا، وانتظر العقلاء شيئًا من الحكومة، إن لا يكن إقرارًا للحق لا يكن إقرارًا للباطل، ولكن مواقفها من هذه الحوادث كانت متشابهة، كبقر بني إسرائيل، تصامًّا عن الحق، وتغطية للجريمة، ودفاعًا عن المجرمين، بل جاءت في هذه الحادثة الأخيرة ببدع جديد في باب المكابرة وإنكار المحسوس، فنسخت سنة "حسان الحق"، المنافح عن الحق، "بحسان الباطل" المنافح عن الباطل ...(3/376)
من ذلك الحين فهمنا، وفهم كل العقلاء أن تلك الحوادث أمثلة من قاعدة وعنوان على كتاب، وآثار من عقيدة انطوت عليها نفوس هؤلاء القوم، واصطبغت بها أرواحهم الخبيثة، وهي أن دم المسلم هدَر، وعرضه مباح، وماله فيء، ودينه لهو، ولغته لغو، ومنظره قذى، وبدنه هدف تدريب على الضرب، وصراخه من الألم نغمات موسيقية.
...
الحقيقة التي انتهينا إلى فهمها في العمليات، أن حادثة سطيف وما تفرّع عنها وما تبعها، لم تكن سماوية فتكون من سر الأقدار، ولم تكن جرح عجماء فتدخل في حكم "الجُبَار"، وإنما هي حوادث محكمة التدبير، مبيتة، مجمع عليها، من جامعة المعمّرين بإملاء رجال الحكومة أو ممالأتهم، ولم يبلغ بنا الجنون ولا الغفلة أن نعتقد أن الحكومة لم تكن على علم بكل مكيدة قبل أن ترجف راجفتها، لأنها تتمتعّ بحاسة في (الشم) لم يهبها الله لمخلوق.
وإذا قلنا: "الحكومة"، فإننا لا نعني رجالًا يحملون ألقابًا عالية، ويقتعدون مناصب رفيعة، ويذهب الواحد منهم فيخلفه آخر، وإنما نعني هذا الجهاز الاستعماري الثابت المقيم الذي لا يبرح، من موظفين صغار، ومعمّرين كبار، فهؤلاء في الجزائر هم الحكّام وهم الحكومة، وهم الحكم، وهم كل ما يتصرف من هذه المادة، لا نستثني إلا المحكوم والحكمة والحكيم، فليس فيهم محكوم، بل كل واحد منهم حاكم بأمره، وليس فيهم حكيم بل كل واحد منهم جبّار في الأرض، وليس في أعمالهم حكمة، وإنما هي ظلم، تمدّه قوّة، يمدّها استعلاء، تمدّه عنصرية رعناء.
ولم تكتفِ الحكومة بالسكوت على الفضائح التي اجترحها هؤلاء القياصرة في حوادث ماي وما تبعها، بل بالغتْ في تدليلهم بالبكاء على موتاهم، والتعزيات الرسمية والوعود الصريحة بالانتقام من قاتليهم، والإنعام على رؤسائهم بالنياشين والترقيات، على أننا نعادل كل قتيل منهم بآلاف القتلى منا، كل ذلك من غير أن تعطي موتانا لفتة مجاملة، أو تصدر منها لأحيائنا فلتة من حسن المعاملة، وكل ذلك كان في وقت لم تجف فيه دماء أبنائنا في مواطن الدفاع عنها، وانتزاع النصر من أعدائها، وكنّا نرضى الرضى كله لو فتح التحقيق ونصب ميزان العدالة، وتبين المجرم، ونحن- بعد ذلك- أهل العفو وأهل المغفرة.
ولم تكتفِ الحكومة بذلك ... وكأنها رأت أن عدد القتلى منا لم يبلغ النصاب المقرّر، فحكمت محاكمها العسكرية على العشرات بالإعدام ونفّذته فيهم، وكأن ذلك كله لم يشفِ غليلها، فسنت قانونًا متنه من وحي الرومان، وشرحه من فقه الإسبان، يقضي بمنع أيامى(3/377)
القتلى من التزوّج، وبعدم قسم المواريث المتخلفة عنهم، وبعدم السماح لأهل البر والإحسان بتبنّي يتاماهم ...
أفلا نعذر بعد هذا كله إذا فهمنا أن تلك المعاملات تنشيط للمجرمين، وتشجيع لهم على العودة إلى اقتراف أمثالها؟ إن مكيدة "فج مزالة" المكشوفة لمصداق لفهمنا واعتقادنا.
أفلا نُعذر إذا أيّدنا فهمنا هذا بخروجنا من السجون والمعتقلات في حوادث 8 ماي ... فقد أطلقوا سراحنا باسم العفو والامتنان، كأننا مجرمون ألحفنا العفو، لا مظلومون برّأتنا العدالة.
...
وجمعية العلماء كانت أول طعمة لنار تلك الحوادث، وكان حظها من السجن والاعتقال أوفر الحظوظ، وها نحن أولاء نقلب الطرف في هذه القائمة "المزالية" فنجد أكثرها من رجال جمعية العلماء وأنصارها وأعوانها على الخير، فهذا الشيخ عبد المجيد حيرش وأسرته، تكاد تستوفيهم القائمة عدًّا، والذي نعرفه ويعرفه كل الناس أن هذه الأسرة بعيدة عن السياسة قريبة من العلم، فلا ذنب لها عند الحكومة إلا انتسابها لجمعية العلماء، ولا ذنب لها عند "الكولون" إلا احتفاظها بقطع أرض في بحر لجيّ من أملاك المعمّرين، وقد تلقّت هذه الأسرة في حوادث 8 ماي ضريبة قاسية، فأودع رجالها السجون واستؤصلت نعمتهم، وانتهبت نقودهم وذخائرهم، وذبحت أنعامهم، مع بعدهم وبعد ديارهم عن مسرح الحوادث، والشيخ عبد المجيد حيرش عضو في جمعية العلماء، منقطع للعلم والتعليم، مدرّس بالمعهد الباديسي في قسنطينة، فما شأنه في القائمة السوداء ... المكشوفة حديثًا؟
لا عجب ... فلو كشفت بقية القوائم لوجدنا رجالَ الجمعية منزلين في منازلهم منها ...
...
إن الشعب الأعزل محكوم عليه بالموت شاهدًا وغاًئبا، وإن الشعب الذي لا يشارك أبناؤه في الإدارات الحاكمة، ولا رأي له في تشريع ولا تنفيذ، لا ينتظر إلا أمثال هذه الحالة، يحيا مع الحيّات، فيجاورها وتجاوره، وهو لا يدري متى تساوره، ويعطيها من دمه، فتعطيه من سمّها.
وإذا كان في الغرابة غريب فهاكه: اقرأ ما كتب عن مكيدة "فج مزالة" فإذا وصلت إلى قوائم "الميلسيا" (1) فإنك ستجد في آخر كل قائمة اسمًا عربيًّا أو اسمين ... كأنهم جعلوها
__________
1) الميلسيا: الميليشيا.(3/378)
تمائم للتعويذ من العين، أو معاذير عما يرتكب من العار والشين، ونحن نعلم من سرّ ذلك وحكمته وآرابه المخبوءة ما إن أهونه تضرية المسلم على قتل أخيه، وما لهم- خيّبهم الله- يُشركون أدنياءنا في الظلم، ولا يشركون أعلياءنا في الحكم؟
ورجعنا إلى الشعر نستلهمه العزاء والسلوى، وننتزع منه الشواهد والأمثال، فذكرنا قول الأول:
وما من يد إلا يد الله فوقها … وما ظالم إلا سيُبلى بظالم
وقول الآخر:
أين عاد؟ أين فرعون؟ ومن … ملك الأرض وولّى وعزلْ
وقول الأخير في نصوص هذه الشريعة:
قتل امرئى في غابة … جريمة لا تغتفر
وقتل شعب كامل … مسألة فيها نظر
وقول الآخر يخاطب عيسى:
خلطوا صليبك والخناجر والمُدى … كلٌّ أداة للأذى وحِمامُ
...
لك الله، أيها الشعب المعذّب، لقد هُنت عليهم حين هُنت على نفسك إنهم ما ضربوك إلا بعد أن جربوك، وما جرفوك إلا بعد أن عرفوك، وما جنوا عليك واتهموك إلا بعد أن قرأوك وفهموك، فلا تلمهم، ونفسك فلم، وغيِّرْ ما بنفسك وهلمّ ...
أعنتهم في إفساد دينك وأخلاقك فارتفعوا وانحدرت، وأعنتهم على إفساد دنياك فاستغنوا وافتقرت، واجتمعوا وافترقت، وانتظموا وانتثرت، وجرّوك بمغوياتهم ومغرياتهم فانجررت، فإذا كان القوم قد أمنوا بوادرك فلأنك عوّدتهم ذلك من نفسك، وإذا كانوا قد أمنوا مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
إن القوم لا يدينون إلا بالقوة، فاطلبها بأسبابها، وأْتِها من أبوابها، وأقوى أسبابها العلم، وأوسع أبوابها العمل، فخذهما بقوّة تعش حميدًا، وتمت شهيدًا.
بالأمس كانوا يعتمدون عليك ليحيوا، واليوم هم يأتمرون بك ليقتلوك، وما شر من الأولى إلا الثانية، فهل في وسعك الخلاص من الاثنتين؟
***(3/379)
أيها القوم! أين البطولة؟ إن البطل من يقرع الحديد بالحديد، لا من يقرع الحديد باللحم والدم.
أين الشرف؟ إنه لا محمدة في قتل الأعزل، فادّخروا السلاح لأهل السلاح، وعند جنوبكم (2) من مواقعه الخبر اليقين.
أين العهد؟ إن هذا الشعب قاتل دونكم، وذبّ عن حرماتكم، وشارك في تحرير أوطانكم، وزفّ لكم النصر منظوم الأكاليل، أفمن حُسن الجزاء أن تقتلوا من أحياكم؟ ومعذرة منه إليكم ... فإنه لم يكن يدري حين نصركم على عدوّكم أنه نصركم على نفسه أيضًا. إنه منطق سخيف لم يتعلّمه، وأدب حيواني لم يؤدبه به دينه وتقاليده، وعرق خبيث لم تُدَسِّه فيه أعراقه الكريمة.
أتقتلون من كان لكم بالأمس حارسًا أمينًا؟
إن قتل الحارس معناه استدعاء اللص.
فأبشروا بتداعي اللصوص المبيرة، والحشود المغيرة. ويومئذٍ تدعونه، فلا تجدونه.
__________
2) وعند جُنُوبكم: إشارة إلى اكتساح ألمانيا لفرنسا في الحرب العالمية الثانية في مدة قصيرة.(3/380)
أين موقع "بسكرة" من أفريقيا الشمالية؟
في كل نادٍ أثر من ثعلبة *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وثعلبة - في حديثنا اليوم- هو روح لا شخص، هو روح من الأرواح الخبيثة، التي تعتري طائفة من الثعالى الخبيثة، لأغراض خبيثة.
أما الروح فهي الاستعمار الذي أصبح كالسل في الملازمة والتعاصي عن الطب، وفي الفتك في آخر الأمر ... وكما يبتلي السل الأجسام الضعيفة القابلة لسريانه وتأثيره، لأنها غير محصّنة بقوّة المقاومة في الدم، يبتلي الاستعمار الأرواح الضعيفة القابلة لوسوسته وسحره، لأنها غير محصّنة بقوة الإيمان، ومتانة الخلق، وسموّ الهمّة، والشعور بالكرامة والشرف، وما زال للاستعمار في هذه الأمة حق معلوم من هؤلاء الثعالى ... وهم فئة استفزّها الشيطان بصوته فنزر حظها من الإيمان والشرف، فأعطت قيادها للشهوات والمطامع. فقادتها إلى الاستعمار، فكانت حظه منّا، وكأن الله قال للاستعمار ما قاله للشيطان: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ}؛ فكلما قامت في الوطن حركة صالحة، وخشي منها على سلطانه أن ينهار، وعلى ليله أن ينسخه النهار، رماها منهم بواحد كالجماعة في باب التهويل، أو بجماعة كالواحد في باب التعويل، يحاولون نحت صخرتها بالأظافر، وإطفاء جمرتها بالألسنة، والحط من قيمتها بالكذب، وإشاعة قالة السوء فيها بالوقاحة؛ وكلما خاب رهط، عوّضهم برهط، فلا عددهم ينفد، ولا الخيبة تعظ، ولا الاستعمار يرعوي، وقد شهدنا كل هذا في مقاومته لجمعية العلماء في مبدأيها الأساسيين: فصل الدين، والتعليم العربي.
كانت حكومة الجزائر الاستعمارية تحارب جمعية العلماء بالكيد المغلّف بالقانون، والقانون المبطّن بالكيد؛ ولكنها كانت كلما جاءت بآبِدة، وأحكمت تدبيرها، قدّر الله تتبيرها، فرجعت إلى مقاومتها بنوع من جنس عملها:
__________
* نشرت في العدد 152 من جريدة «البصائر»، 23 أفريل سنة 1951.(3/381)
في الرسميات بهذا التعليم العربي الميت الذي أحدثته، أو الذي تريد أن تحدثه، وتكثر له من المدارس والأقسام، وتريد أن (تنظّمه) بالقرار الأخير الصادر من الوالي العام السابق الذي هو قتل لما بقي من التعليم العربي، وفي غير الرسميات بهؤلاء الرهط الذين تنتدبهم (لمنافسة) جمعية العلماء في أنواع عملها، فهذا مرشد، وهذا واعظ، وهذا مفسّر للقرآن في المساجد وفي المجلّات، وهذا معلّم، وهذا صحافي ... وقد رفعتهم جميعًا إلى أسفل، ونصبتهم أعلام مقاومة، وفتحت لهم مغارات تضليل، سمّوها كليات، وبسطت أيديهم وألسنتهم وأقلامهم بالسوء، وهي من ورائهم تتوارى بهم، كما يتوارى سائق الحمار بالحمار، ثم يَخِزُه ليندفع على غير هدى الغريزة الحمارية، فلا يفهم الناس إلا أن وراء الحمار سائقًا، وأنه يسوقه إلى ما ليس في طبعه، أو ليس في قدرته.
ولو كان هؤلاء الرهط على شيء من الإخلاص واستقلال الإرادة لكانوا مزيدًا فينا، ولشفع الإخلاص في نقص الكفاءة، ولهداهم حب الخير لأمّتهم إلى تأييد الحركة القائمة بكلمة الخير أو بالسكوت؛ ولكنهم مسخّرون لهدمها، غافلون عن العاقبة الحتمية، وهي أنه إذا تمّ لمسخّرهم شيء مما أراد منهم، عاد عليهم فهدمهم.
...
من هؤلاء الرهط (مخلوق) في بسكرة و (مخلوق) في تونس، هما هدف حديثنا اليوم، ونمسك عن البقية إلى أن يحين حينهم، تربط بين المخلوقين صلات قديمة، فيها ما هو لله، وصلات جديدة، كلها للشيطان، وقد أوحى الاستعمار إلى المخلوق البسكري أن ينشئ مدرسة ويضع لها اسمًا يغري، وبرنامجًا يغرّ، وأن يتولّى هو الظواهر التي يراها الناس، ويكل السرائر إلى من "يراكم هو وقبيله"، وكان العربون في هذه الصفقة الخاسرة، تقديم المحل نقدًا، وأشياء أخرى نقدًا ووعدًا؛ وأوحى إلى المخلوق التونسي أن ينشئ صحيفة يضع اسمه واسمها في أعلاها، ويترك أوديتها مجرى للقاذورات.
وقد قام كل مخلوق منهما بما أوحي إليه على حدة، ثم التقيا على قدر ... وتعاونا على الإثم كما أشار "المعلم" وأمر، فكان منهما هذه الافتراءات التي ينشرانها عن جمعية العلماء، وهذه الأكاذيب المتعمّدة التي لو انفصل فيها لسان كل منهما عن قلبه لكذب القلب اللسان؛ ونحن نعلم أن هذه الأكاذيب صادرة عن مخلوق بسكرة، لأنه (خُلق) لمثلها، ومنشورة- بالأمر- من مخلوق تونس، لأنه (أنشئ) لنشر أمثالها. وقد سكتنا عن الأولى احتقارًا لأحدهما واستصغارًا للآخر، فلما تماديا وجب علينا أن نلقمهما حجرًا، ونلقّنهما درسًا، إن لم يكن زجرًا لهما، فموعظة لأمثالهما.(3/382)
وبعيد أن تضلّنا هذه الأسماء التي تُنعَل بها المقالات عن المجرم الحقيقي، المركّب من رجلين: صاحب مدرسة بسكرة، وصاحب جريدة "أفريقيا الشمالية" وما أفريقيا الشمالية إلا هذا المضطرب الضيّق الذي تضطرب فيه هذه الصحيفة وصاحبها، من قرية هنا إلى خيمة هناك، ومن فرد في تونس إلى أفراد في الجزائر، وما مبدأُها الذي تسير عليه إلا الترويج للمتاع المرذول، والانتصار للفريق المخذول، والنطح للصخور، وإن أوهت القرن، والحرق للبخور، ولو في لهيب (الفرن)، ثم الاستنجاد بالفلول، والانتساب بين عامر وسلول.
وما هذه الأسماء التي تُنسب إليها المقالات؟ إن بعضها خيالي، استعير للتستّر، وبعضها من جِراء السوء الذين ربّتهم جمعية العلماء وعلّمتهم وأنفقت عليهم، ولولاها لما كانوا، ولا عرفوا القلم والكتابة، ولكنهم كفروا نعمتها، وعقوا أبوّتها، لفساد في الفطرة لا تقوى التربية على إصلاحه، وهي تحمد الله على أنه ليس كل أبنائها (أبا قصّة).
...
تثير هذه الصحيفة الغبار حول تعليم جمعية العلماء للبنت المسلمة في مدارسها، وترميها - إفكًا وزورًا- بالعظائم، وتختلق من الوقائع ما يهدي البُلْه فضلًا عن العقلاء إلى قصدها من ذلك ومرماها، وتتصنعّ الغيرة على أعراض المسلمات أن تنتهك، وعن الحرمات الإسلامية أن تُهان، وتستعدي السماء والأرض على جمعية العلماء لأنها عرّضت الأعراض المصونة للتمزيق، وتتباكى على الإسلام حتى يوشك أن ينقلب مدادها دموعًا.
وكل ذلك كذب، وكل ذلك بهتان يأتفكه الشريكان، اتّباعًا للوحي الأعلى، واستدرارًا لأجور مطففة، يتقاضيانها من مصدر ذلك الوحي.
وهل كفرت الجرائد العربية كلها بالإسلام وتنكّرت له، فلم يبق إلا هذه الجريدة مؤمنة به منتصرة له؟ وهل جفّت كلها من الغيرة عليه، فلم تبقَ إلا هذه الجريدة تغار عليه، وهل تواطأت الجرائد العربية كلها على الرضا بهذا المنكر فخرقت جريدة (أفريقيا الشمالية) اجماعهنّ، وكانت أمة وحدها في تغيير المنكر.
لا شيء من ذلك، وإنما هي خطة مرسومة، وأعمال مقسومة، وأوامر تقابل من أفراد المأمورين بالطاعة، وتوجيهات إلى الشر افتقرت إلى لسان حال، فكانت هذه الجريدة هي لسانه "الرسمي" فلم يبقَ من صفات التعريف بها إلا أن يكتب على وجهها: "صحيفة أسبوعية لنشر الأكاديب والدفاع عن الرذيلة، وتشجيع الدجّالين ومحاربة الصدق والصادقين"، ولعنة الله على الكاذبين.(3/383)
ما لهؤلاء الرهط- أنصار الأعراض- يسكتون عن أعراض عشرات الآلاف من المسلمات المستخدمات عند الأجانب؟! ما لهم لم تتحرّك غيرتهم على عشرات الآلاف من اللواتي يملأن المواخير؟! ما لهم عميت أبصارهم وبصائرهم عن هذا السيل من التعليم الاستعماري الجارف المتوجّه إلى البنت المسلمة على الخصوص، لينتزعها من الخدر، وينزع عنها لباس الفضائل الإسلامية؟
أين كانوا- لا كانوا- من أفواج البنات المسلمات، طرائد البؤس، وفرائس التبشير المسيحي، وهنّ تحت أسماعهم وأبصارهم؟!
كأن هؤلاء المسلمات كلهن في كنف الصيانة، وكأن أعراضهن في حماية عمر بن الخطاب من أمثال نصر بن حجاج، فلم يبقَ معرضًا للانتهاك إلا بضعة آلاف ممن يتعلمن في مدارس جمعية العلماء.
كذبتم وفجرتم- أيها الرهط-. إن جمعية العلماء حاربت الرذيلة جهارًا، وحاربت دعاة التحلل الأخلاقي كفاحًا، ووقفت من التبشير وغيره مواقف مشهودة، وإنها تعلّم البنت المسلمة العلم والعفاف، وتربّيها على الكرامة والشرف، علمًا بأن العلم الديني هو رائد العفاف، وأن الجهل هو سبب انحدارها إلى ما ترونه وتتعامون عنه، وإن جمعية العلماء- لما بلته من أمثالكم من فساد الأخلاق- تبالغ في الاحتياط، وتسرف في التشدّد، وتعاقب على الظنة والتوهّم، قمعًا لغرائز الشر، وسدًّا لذرائع الفجور، وإن في بعض من تشيرون إليه منتصرين ممن فصلتهم عن التعليم، من كان سبب فصله هذا الاحتياط.
نحن نعلم أن الدوافع الخارجية والداخلية هي التي دفعتكم إلى هذا التقوّل وإشاعة هذه الافتراءات، وكنا نعرض عنكم لو كنتم مميزين، أو كنتم تؤثرون الستر على أنفسكم، فلا تجمعون بين الكذب وبين الافتضاح به؛ ولكنكم مدفوعون مأجورون، والمأجور لا يقف عند حد، والمدفوع لا يملك التماسك؛ فوجب أن نفضحكم، وأن نبلغكم من الفضيحة ما أردتم، ومن رضي لنفسه ما رضيتم لأنفسكم من لؤم التوقح، فليصبر على ألم الكي، وان أحرق وأنضج.
الحقيقة- أيها الرهط- أن الاستعمار متشائم بحركات جمعية العلماء كلها، لأنها إيقاظ لشواعر الأمة، وإحياء للفضائل الإسلامية في أنفسها؛ ومتشائم- على الخصوص- بتعليمها للبنت المسلمة، لأن نتيجته تكوين بنت صالحة، تصبح غدًا زوجة صالحة، وبعد غد أمًّا صالحة؛ وهاله أن تعمر البيوت- ولو بعد حين- بالصالحات، فيلدن جيلًا صالحًا صحيح العقائد، متين الإيمان، قويم الأخلاق، طموحًا إلى الحياة، فتطول به غصّته، ثم تنتهي به قصته ...(3/384)
والاستعمار- كما لا تعلمون- بعيد النظر، عارف بما للمرأة في أمتها من الأثر، فهو - لهذا- حرّككم، وما زال يحرّككم لإثارة هذا الغبار الأسود في وجه جمعية العلماء، وهو الذي اختار لكم من بين المواضيع الكثيرة هذا الموضوع الشائك، لأنه قدّر له نتيجة - وأخطأ في تقديرها- وهي تشكيك الأمة في أعمال جمعية العلماء، وإحداث أثر من سوء الظن في نفوسها، وتكون النتيجة زعزعة ثقة الأمة بالجمعية في خصوص تعليم البنت وإعراضها عن هذا النوع من التعليم، وتكون النتيجة النهائية رجوع المرأة المسلمة إلى الجهل ثم إلى الفجور، أو إلى هذا الاسترقاق الذي يسمّى استخدامًا ...
هذا حظ الاستعمار من جهل المرأة المسلمة بدينها ولغتها، وهذه هي النتيجة التي نَعِم بها حينًا من الدهر لو لم تكدرها عليه جمعية العلماء بهذه البداية التي عرف نهايتها، وهذا أحد الدروس التي يجب أن يتلقّاها الأغرار مثلكم، من المجرّبين أمثالنا، لو هيّأ الله لكم من أمركم رشدًا. وهناك نتيجة ثانية لجهل البنت، نراكم أحرجتمونا إلى بيانها إحراجًا مؤسفًا، وهي نتيجة تُشبع شهواتكم وحدكم، ولا يأمر بها الاستعمار، ولكنها لا تسوءُه إن حصلت وهي حقيقة يندى لها الجبين خجلًا لو أبقت الوقاحة فيكم قطرة من حياء. أتدرون ما هي؟
هي ... أننا أدركنا وأدركتم أقوامًا منّا كانوا يأخذون البنات المسلمات هدايا بلا صداق، ويعاملونهن كالسبايا بلا عتاق، ثم يتركونهن محبوسات بلا طلاق. ويجاوزون في هذا الباب كل حدود الشرع، وما زال من بقاياهم من يتزوج في غرة كل شهر، ويطلق في انسلاخه، فلما جرف الإصلاح هذه الضلالة بقي في نفوسكم حنين إليها وتحرّق عليها، وتمنٍّ لعودتها، فأنتم بممالأتكم للاستعمار وإعانته على تجهيل البنت المسلمة- إنما تحلبون حلبًا لكم شطره وتعملون عملًا- لشهواتكم الخسيسة إحدى نتيجتيه؛ ولكم الويل فقد أخطأت أستاهكم الحفرة، وإذا نزلت الأمة بأولئك الأقوام من درجة التأليه إلى درجة البشرية، فكيف لا تنزل بكم من البشرية إلى جهنم؟ ...(3/385)
كلمتنا عن إدارة البريد *
كتبنا في العدد 149 من «البصائر»، الصادر يوم 2 من شهر أبريل، كلمة (1) عن ضياع كثير من الجرائد والمجلات الشرقية التي تبادل «البصائر»، وعزوْنا بعض أسباب
الضياع إلى إدارة البريد الجزائرية، لتقصيرها في التوزيع أو لقصورها في العربية، أو لخضوعها لبعض المؤثرات السياسية؛ وكل ذلك مما يمسّ كرامتها كإدارة مؤتمنة على الأموال والأسرار والمصالح، وقد كان لتلك الكلمة أثرها في الإدارة العليا المسيطرة على مصلحة البريد فكتب إلينا السيّد كاتب الولاية العام، الرسالة التالية:
الجزائر في 18 أفريل سنة 1951
سيّدي المدير،
أتشرّف بإعلامكم أنه لفت نظري مقال "صحف الشرق العربي" المنشور في عدد ثاني أفريل من جريدتكم ... وإنني أعطي- الآن- أوامر باتخاذ تدابير خاصة لتمكينكم- في سرعة وانتظام- من الدوريات والمنشورات التي حرّرت عناوينها باللغة العربية.
وتفضلوا- سيدي المدير- بقبول فائق احتراماتي.
الإمضاء
ونحن نشكر لحضرة السيد الكاتب العام للولاية عنايته بهذه القضية، ونرجو أن تكون ذات أثر ملموس، وليسمح لنا أن نفتح معه بابًا من الحديث في أطراف هذه القضية ليعلم حضرته- إن لم يكن يعلم- أن هذه المعاملة الشاذة المنافية للحرية وللمصلحة معًا، ليست
__________
* نشرت في العدد 153 من جريدة «البصائر»، 30 أفريل سنة 1951.
1) نُشرت في الجزء الثاني من "آثار الإمام"، [ص:395].(3/386)
خاصّة بالصحف التي ترد علينا، وليست خاصّة ببريد العاصمة، بل هي عامة في كل علاقاتنا بالبريد، وفي كل مركز من العمالات الثلاث لنا فيه علاقة بالبريد.
فقرّاء «البصائر» في الشرقين: العربي والإسلامي، وأصحاب الجرائد التي تبادلها بالبصائر، كلهم يشكون عدم انتظام وصولها إليهم، وأنه لا يصلهم من العشرة إلا عددان أو ثلاثة أو خمسة، وقليل منهم من تصله العشرة كاملة. ومن العجيب أن الأعداد التي لا تصل إلى واحد منهم، هي- بعينها- التي لا تصل إلى معظمهم، ونستبعد جدًّا أن يكون التعطيل صادرًا من إدارات بريدهم، إذ لا داعي إلى ذلك، وقد بحث أولئك القرّاء وأصحاب الجرائد، وراجعوا المسؤولين عن البريد في أوطانهم، فتحقّقوا أن التعطيل ليس داخليًّا، وقد انتقدت «البصائر» بعض ملوك العرب وأمرائهم انتقادًا مرًّا، فلم يجرؤ واحد منهم على منع دخولها ورواجها في مملكته، لا لشيء إلا التأثّر بالحرية، والاحترام لـ «البصائر»، والاعتراف بمكانتها، هذا وهم ليسوا "جمهوربين".
وهنا في الجزائر نذكر للسيد الكاتب العام مثالين اثنين مما يجري في بلدة واحدة جزائرية، وهي بلدة "تبسة". ولا نذكر له منع «البصائر» من دخول المغرب الأقصى، فذلك إجراء عسكري ليس من اختصاصه، وإن كنا نعتقد أنه إجراء لم يقع في زمانه ولا في مكانه، وهو- مع ذلك- لا يُسكتنا عن كلمة الحق.
ففي هذه الأيام تُشترى الجرائد اليومية المصرية الرائجة في باريس برسم الشيخ العربي التبسي وبماله، وترسل إليه باسمه وعنوانه في تبسة، ومن باريس لا من مصر، ولكنها لا تصل إليه، ويراسل المكلفين بشرائها وإرسالها، فيجيبون- وهم ثقاة- بأنهم أرسلوا المجاميع في حينها، وليست المسافة بالبعيدة، ولا بريد فرنسا بمختلّ النظام، إلا أن يكون في البريد شيطان مريد ...
ومنذ سنتين كنا نلقى العناء حين نريد الاتصال بالشيخ العربي التبسي. أو يريد هو الاتصال بنا بواسطة رقمه التلفوني، فلا نسمع في أغلب الأوقات إلا أن الجهاز فاسد، أو أن صاحبه لم يجب، ونحن نعلم- يقينًا- خلاف ذلك، وقد نكون معه على اتفاق تجريبي، فيكون حاضرًا ويكون الجهاز صحيحًا، ولكننا لا نسمع في الأغلب إلا نفس الجواب، ولا يسمع هو إذا طلب إلا كلمة "لم يجب"، وكتبنا كلمة في «البصائر» بعنوان "الرقم السجين" (2) فلم تفد، حتى اضطرّ الشيخ التبسي في الأخير إلى قطع جهازه التلفوني، وهو في حاجة أكيدة إليه فرارًا من المغرم، بدون مغنم.
...
__________
2) نُشرت في الجزء الثاني من "آثار الإمام"، [ص:303].(3/387)
العالم- يا جناب الكاتب العام- سائر إلى الاتصال، تحثه الحياة، وتدفعه المصلحة، شئنا أو أبينا، ويوشك أن تصبح الكرة الأرضية دارًا واحدة فلا تكونوا عرضة لسيره، وقد اجتمع الخير والشر على وصل أجزائه، واجتمع الولاء والجفاء، والسلم والحرب على التقريب بينهما، فزويت أطرافه المتباعدة بالراديو والسينما والطيّارة والمدرسة والكتاب والجريدة والطب وجمعية الأمم ... والجوسسة ... والميكروب ...
وإن الزمان قاهر غلّاب بأطواره وظروفه، وأحكامه وصروفه، وقد حكم على الأحياء أن يتّصلوا على الطوع والكره، وأن يسيروا في ركابه على السخط والرضى، وأن يتلاقوا على أحداثه في الحياة والموت، وها هي ذي دماء الأضداد تُسيلها الحرب في الشرق الأقصى، وها ذا عرق الجهد يصبه السلم في أمريكا، وما عن رضى سالت تلك الدماء في صعيد واحد، ولا باختيار تصبّب ذلك العرق في ميزاب واحد، ولكنه حُكم الزمان ... فسايروا العالم، وجاروا الزمان، وافتحوا أبواب الاتصال، تسدّوا باب النقد، وتدفعوا ظنون السوء، وتربحوا أكثر مما تخسرون، ومن العجيب أنكم تعرفون كل هذا، ولا تعملون بشيء منه.
...
إن بين النصح والنقد فارقًا من هوى النفس، وإن بين العدل والجور فاصلًا من الأنانية، وإن لكلمة الحق ثقلًا يخفّفه الإنصاف، ومرارة تحلّيها سعة الصدر، وإن لكلامنا عندكم شرحين، شرحًا يُمْليه الحق وشرحًا يُمْليه الباطل، فكونوا ما شئتم! ...(3/388)
جمعية العلماء
والمغرب العربي
مراكش
الجزائر
تونس
ليبيا(3/389)
أفي كل حي، عبد الحي؟
مؤتمر الزوايا بعد مؤتمر الأئمة *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
سكتنا حتى تمّ الأقنوم الثالث، وها نحن أولاء نطقنا.
ونحن حتى في هذا المقال نبين حقيقة، ونكشف عن دسيسة؛ ولا نريد أن نفتح به بابًا للخصومة، إذ لا خصم لنا إلا الاستعمار الذي قضى على ديننا ولغتنا، وأتى على مؤسساتنا الدينية وأوقافنا بالاقتلاع والابتلاع؛ وقد سكتنا عن رجال الزوايا منذ عشر سنين وسكتوا، وفاء كثير منهم إلى الحق؛ وانصرفنا إلى التعليم، فأعان بعضهم بالتنشيط القولي، وبعضهم بالسكوت، وبعضهم بتقديم أولادهم للمدارس.
أما الأئمة فهم مغرورون فيما أتوا هذه المرة إلا واحدًا أو اثنين، تعودت الحكومة أن تخطط لهما فينفذا.
وأما رجال الزوايا فلولا ذلك العاملُ الجليب لما أقدموا على ما أقدموا عليه؛ وان ما أقدموا عليه لعظيم. ولا يجوز السكوت عليه.
غير أنّ في الفريقين استعدادًا لمثل هذه المواقف، وقابليةً للانجرار، فإذا كان في المقال شدة فهي صلابة الحق، وإنّ فيها لدوافع لهم من تلك العلة لو كانوا يعقلون.
ولقد نعلم أن مما ترمي إليه الحكومة وتبتهج به، فتح واجهة جديدة للنزاع مثل هذه، وأن تغري بين رجال الدين كما أغرت بين رجال السياس فتشغل البعض بالبعض وتستريح، ولسنا بمبلغيها قصدها إن شاء الله ثم شاء قومنا ...
أسلوب قديم من أساليب الإدارة الاستعمارية بشمال أفريقيا، جرّبته في أيام الغفلة والأوهام فنفعها، فلم تنسه حتى في أيام اليقظة والحقائق؛ فهي تستعمله كلما ألحت الأمة في المطالبة بحقوقها الدينية والسياسية، وتستخدمه كلما سدّ عليها المطالبون منافذ الشبهات
__________
* نشرت في العدد 31 من جريدة «البصائر»، 12 أفريل سنة 1948.(3/391)
بالبرهان، وتلجأ إليه كلما تقاربت صفوف الأمة وأوشكت أن تتراص، لترميها منه بالخلل والخلاف والتضريب والتشغيب.
هذا الأسلوب هو أنها تعمد في الأزمات إلى سلاح مفلول أكله الصدأ، فتنفض عنه الغبار وتصقله وتجلوه وترمي به في الميدان، والعجيب أنها تفعل ذلك وهي ليست على ثقة من نجاحها به ولا من نجاحه بها ...
وما هذا السلاح في حقيقته إلا طائفة رباها الاستعمار على الطمع الخسيس، وما يلده الطمع من خنوع واستكانة، وراضها على التقليد له والائتمام به، وطبعها على الإخلاص له والتفاني في خدمته، وسلخها من هذه المعاني التي يعتز بها الرجال، من الضمير الوطني، والشعور الديني، والقيمة الشخصية، والإرادة المستقلة، ودرجها في مدارج (التسليك) الحكومي إلى مقام التجرد والفناء؛ فلما تمّ له ذلك منها، وأصبحت منه كالميت من غاسله، صرفها في أغراضه، وسخرها في مصالحه، واتخذ منها وسائل لغاياته؛ فتارة يثير بها الغبار في وجوه العاملين، وتارة يلهي بها الأمة والألسنة والمجالس، ليشغلها بالباطل عن الحق وبغير المفيد عن المفيد؛ وتارة يقيم منها ضرارًا للحق وضرة لأهله، وهو في كل ذلك يلتمس بها ما يلتمسه المبطل إذا خانته الحُجة.
لا تعجب إذا كان الاستعمار لا يجد مبتغاه إلا في طائفة مخصوصة هي المذكورة في العنوان، ولكن تأسف لهذه الطائفة التي تمكن للاستعمار أن يعبث بكرامة الدين، فيستخدمها باسمه، وأن تكون لها- مع هذا- دعوى في الدين ولو كدعوى آل حرب في زياد، أو نسبة إليه، ولو كنسبة عقبة ابن أبي معيط في أمية (1).
...
عرفنا هذا من الإدارة الاستعمارية حتى ما يغالطنا فيه أحد؛ وعرفنا من هذه الطائفة أنها كانت في تاريخ الاستعمار طلائع لجنوده، وأعمدةً لبنوده، وشباكًا لصيده، وحبائل لكيده، وأنها كانت وما زالت، في المواقف الوطنية والأزمات القومية، داعية هزيمة ووسيلة تخذيل، وأنّ من المخجل أن نسمي أفرادها أناسيّ تعقل وتعي وتشعر؛ وإنما هي آلاتٌ وأدَوات تسخّر
__________
1) عقبة ابن أبي معيط ابن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، كان من أسارى بدر، ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق الظبية في رجوعه إلى المدينة أمر فقتل صبرًا وخلبًا ولما أيقن أنه مقتول قال: أأقتل من بين قريش صبرًا، فقال له رسول الله: إنما أنت يهودي من أهل صفوريا، لأن الأمة التي ولدت أباه كانت ليهودي من صفوريا، وقال له عمر: (حنَّ قِدْحٌ ليس منها) يعني أنه ليس من قريش.(3/392)
وتسير، وعرفْنا في قائدها الجديد، وحامل رايتها عبد الحي الكتاني، أنه كالدرهم الزائف لا يدخل في معاملة إلا كان الغش والتدليس واضطراب السوق؛ وأنه لا يعرف العالي والنازل، والمُدَبَّج والمرسل، إلا في رواية الحديث، ولا يعرف زين الدين وابن الصلاح إلا في رجال المصطلح والآثار، أما مع الاستعمار فإنه لا يعرف إلا التلقي والمباشرة والاتصال، وأنه تاجر بارع في المقايضات باسم الدين والعلم والطرُقية؛ والتاجر الحاذق لا يعجزه إذا بارَتْ سلعته في موطن أن يضرب في الأرض وأن يشدّ الرحال.
...
في شهر يناير الماضي تداعى الأئمة وحواشيهم العليا والسفلى إلى عقد اجتماع في الجزائر للنظر- زعموا- في المصالح الخاصة بهم وفي الوسائل التي يحفظون بها تلك المصالح؛ فقال الناس- وللأئمة علينا عهدُ الله أن لا نحكي إلا ما قال الناس وما جاءتنا به الرسائلُ الكثيرة المستفسرة- قال الناس: ما حاجة هؤلاء إلى الاجتماع وليس لهم بعادة؟ وأية المصالح يخشون عليها الضياع؟ أمصالحهم الشخصية؟ أم مصالح الدين الذي يمثلونه؟ وهل جمعيتهم التي أسفر عنها الاجتماع نقابة موظفين؟ فيكون من واجباتها أن تضرب عن العمل إذا لم تستجب رغائبها في زيادة الأجور، وأن تحتج وتنذر وتتوعد إذا نزل الحيفُ بعضو من أعضائها؟ وهل تستطيع جمعية الأئمة أن تفعل شيئًا من ذلك؟ الناس يقولون: لا، ويقولون أيضًا: ما عهدنا هؤلاء القوم يتحرّكون إلا بمحرك، ومن عسى أن يكون هذا المحرك؟ وأيّ ذوق وأية كياسة زَينت لهم اختيار هذا الظرف للاجتماع؟ والأمةُ مقبلةٌ على أمور ذات شأن في حياتها وسائرة إليها في طريق كله عواثير، وواضعة نصب عينيها غايةً واحدة من شذّ عنها شذّ في النار؟ أليس هؤلاء المؤتمرون من الأمة؟ أليسوا أئمة الأمة؟ وهذه المجلة التي قرروا إصدارها- وما نراها تكون إلا لسان حالهم- فماذا ينشرون فيها؟ أتكون رسمية تنشر أوامر التولية والعزل؟ إن الأمر ليس بأيديهم وقد كفتهم الكافية؛ أم تكون رسميةً بمعنى آخر فتنشر الفتاوى الشرعية التي تعمر أوقات المفتين ليعمّ النفع بها، والخطب الجمعية التي يلقيها خطباؤهم ليقرأها من لم يسمعها؟ أم تنشر شروط الإمامة العصرية ومنها الاعتماد في التزكية على (الدوسي)؟ هذا بعض ما يقوله الناس، وما نقلنا إلا القليل. وما لنا فيه إلا الرواية العادلة، وهي- كما يرى القارئ- أسئلة تتقاضى أجوبتها من المؤتمرين؛ ولو صرحوا وأوضحوا من أول يوم لما كان لأكثر هذه الأسئلة من محل؛ ولكنهم سكتوا وأجملوا، وهموا ولم يفعلوا، وأعلنوا عن تشكيلات سطحية إن دلت على شيء فهو أن المؤتمرين ليس لهم من الأمر شيء، وأنهم مسيرون لا مخيرون؛ فحامت حولهم الظنون، ثم اقتحمت الأسوار وكأنها حقائق؛ والذنب ذنبُ الزمان المتوثب المتيقظ الحساس(3/393)
الصاخب، فمن ظنّ أنه يعمل فيه بمنجاة، ومن جاء يعرض فيه البضاعة المزجاة، كلاهما مغفل مغرور.
...
وفي 15 مارس الماضي انعقد مؤتمر رجال الزوايا: ومما دل الناس على أن هذا من ذاك، وأنهما معمولان لعامل واحد- كما يقول النحاة- وقوعهما في ظرف واحد، وخلوهما من الكياسة وحسن الذوق واحترام شعور الأمة؛ ثم جاءت خاتمة الدلائل على اتحادهما في المنشإ والغاية وهي إقامتهما في مقبرة واحدة (2).
بلغنا ما وقع في المؤتمر الأوّل بالتفصيل؛ وهو عبارة عن تلك الشكليات التي أشرنا إليها مما يدلّ ظاهره على هزل لا جدّ فيه، ولولا كلمات علمية ألقاها بعض العلماء منهم لكان المؤتمر أشبه شيء باجتماع عادي في مقهى، ووددنا لو تكلم مفتي تلمسان وألقى درسًا، ولو فعل لطوّقنا منة لا يقوم بها الشكر، إذ يقوم عنا بالعذر فيما عسى أن يحسبه بعض الناس علينا في باب التحامل، ويقوم لنا بالحجة على ما صنع الاستعمار بهذه الوظائف الشريفة من التبذّل والسقوط؛ ونعتقد أنه لو تكلم وسمعه زملاؤه لاستعفى العارفون منهم بقيمة الوظيفة وشرف العلم في الحال، أنفةً منهم للعلم والوظيفة أن يشركهم فيهما مثل ذلك المفتي.
وبلغنا ما وقع في المؤتمر الثاني بالتفصيل أيضًا، حتى أسماء الحاضرين والخطباء وما خطبوا، وأنهم تواردوا على معان متقاربة في غايات الاجتماع الظاهرية وهي جمع الشمل وتجديد العهد وخدمة العلم بالتعليم، وكان من كياسة الرئيسين (الدائم والهائم) (3) أن بالغا في إخفاء الغاية الحقيقية، حتى قام طالب مأجور يعدّونه من أتباع الأتباع، فذكر جمعية العلماء بوصفها القديم الذي كانوا ينبزونها به، وهو أنها جمعية وهابية، وأنها تريد التسلط على المساجد لتوظف فيها أتباعها الوهابيين؛ وبهذه الكلمات كشف ذلك الطالب (غير المسؤول) عن بعض الحقيقة وتعجّل البوح بما ضاق عنه صدره لأنه إمام، والعرب تقول: "شر أهرَّ ذا ناب"؛ ونحن لا يهمنا ذلك كله كما لا يهمنا ما نشرته الجرائد الفرنسية من مقاصد وغايات، لأننا نعلم الحقيقة علم اليقين.
__________
2) هي مقبرة الشيخ محمد بن عبد الرحمن الجرجري، صاحب الطريقة الرحمانية المنتشرة بالجزائر وتونس.
3) كان هذا الاجتماع تحت رئاسة اثنين: الدائم مصطفى القاسمي، والهائم عبد الحي الكتاني.(3/394)
والحقيقة هي أن هؤلاء القوم ما زالوا حيث تركناهم في سنة 1937، لم تؤثر فيهم أحداث الزمن، ولم يتأثروا بما حل بالأمة من محن، ولم تخرق آذانهم هذه الأصوات المتعالية، ولا انتهى إلى إحساسهم شيء من هذه اليقظة المتفشية في الأمة، ولا وصل إليهم أثر من هذا التطور الذي غمر العالم، وأنهم ما زالوا آلات صماء في يد الاستعمار، يصرِّفها متى شاء لما شاء؛ بل الواقع أنهم ازدادوا تعلقًا به وطاعةً له، بقدر ما أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف؛ ومن دأب الاستعمار إلصاق الحاجة بالناس ليتخذها مقادة لضعفاء الإيمان والإرادة منهم، وقد حلت المصائب بهذه الأمة، وهؤلاء القوم غارّون في نومهم، وامتلأت السجون والمعتقلات بالرجال، وهم آمنون مطمئنون، وجاعت الأمة وما منهم إلا الطاعم الكاسي، وإن الصحف لَمُنَشَّرةٌ بين أيدينا بما أخذوا من المؤن باسم الزوايا، وبما باعوا منها في السوق السوداء، وما كانوا يأخذون تلك المقادير الوافرة إلا على حساب الأمة، فلهم الويل: أهي زوايا أم متاجر؟
إن الحكومة الجزائرية الاستعمارية تعرف ما لا يعرفون، تعرف أن التطور سنة من سنن الله، ولكنها تؤجل وتطاول، وقد أحست بضغط المطالبة بالحقوق السياسية والدينية، فحرّكت هؤلاء القوم بعد طول الهجعة، وأعدّتهم للمعارضة والتشغيب على طلّاب الحقوق الدينية، كما أعدت طائفة أخرى انتخبتها هي لا الأمة للتشغيب على طلّاب الحقوق السياسية، وقد كشفت الانتخابات التي تدور رحاها في هذين الأسبوعين ما كان مبيتًا من مكايد الحكومة، وفضحت ما كان مدبرًا من مخازيها، وتبين ما كنا نعتقده ولا نشك فيه، وهو أن المؤتمر الأول، والمؤتمر الثاني، والمجلس الجزائري، ذريةٌ بعضها من بعض، وكلها من صنع يد الحكومة، وبعضها متمم لبعضها، وكما أنه لا حرية للأمة في هذا الانتخاب، لا إرادة للمؤتمرين في ذلك الاجتماع، ويجمع ذلك كله قولك: تدبيرات لإخماد الحركتين الدّينية والسياسية بهذا الوطن.
الأمة تطالب بفصل الدين عن الحكومة، ولسانها في ذلك جمعية العلماء، والمطلب حق، ولا مفرّ للحكومة منه، والحكومة لا تريد أن تنفض يدها من المساجد وأوقافها ورجالها، فكيف العمل؟ العمل هو جمع هذا الجند من المفتين والأئمة والمؤذنين ورجال الزاويا، وإعدادهم لوقت الحاجة فإما أن يبقى ما كان على ما كان، وإما أن تسلم المساجد والأوقاف لهم، لأن هذا أيضًا لا يخرج عن إبقاء ما كان على ما كان.
والأمة تطالب بحقوقها السياسية، ولسانها في ذلك رجالها السياسيون، والمطلب حق، والحركة دائبة، فكيف العمل؟ العمل هو أن تنتخب الحكومة نفسها (على طريقة نيرون) أغلبيةً ساحقةً للمجلس الجزائري، تضمن لها إبقاء ما كان على ما كان ... ولو إلى حين.
وعبد الحي الكتاني ... ما هو وما شأنه؟(3/395)
عيد العرش المحمدي العلوي *
آمال فساح، في الفوز والنجاح، وتباشيرُ صباح، باليسر والإسجاح، وتوْق وطماح، إلى السؤدد اللماح. وكدّ وإلحاح، من أصَلاء في العز أقحاح؛ وعزمات صحاح، في الذياد والكفاح، ومغدًى ومراح، في الحق الصراح، وشباب نضّاح، عن الشرف الوضاح، ومليك مسماح، في العلم والإصلاح، وإمامة تاجها العمامة. صدفت عن المظاهر، وعزفت عن المزاهر، لتخط الأسوة، وتحط الجبرية والقسوة، وأعلام من علماء الإسلام، حافظوا على الإرث، وطهروه من الدم والفرث.
تلك هي حلية الصدور، وزينة المجالس، في عيد العرش المحمدي العلوي.
...
وذكريات من المجد التليد تثار، وآفاق من الفخر الطريف تنار، وسمات من مخايل البطولة تشهر، وصفحات من تاريخ العظمة تنشر، ولمحات من الشرف العلويّ الفاطمي تشع فتشيع، ونفحات من الغر الجلائل من أعمال الأوائل تضوع وتذيع، وذخائر من أخلاق الطيبين الأخاير، تجبى لوارثها، ومفاخر، مما ترك الأوّل للآخر، تجنى لهمامها وحارثها، وصُوَرٌ من عز الملك تجلى، وسور من مكارم الأبوة تتلى، وشمائل من باني البيت إسماعيل تجلت في محمد.
تلك هي الجمل التي شرحها عيد العرش المغربي فأبان، ورفع أحاديثها مسندةً إلى أبان، وفرع بها الشماريخ الباذخة من أبان.
...
__________
* نشرت في العدد 58 من جريدة «البصائر»، 29 نوفمبر سنة 1948.(3/396)
والعرشى المغربى همّك من عرش، زُرّتْ أزرارُه على إدريس في الأولين، وعلى الأباة بني عليّ في الآخرين، فرست أواسيه في طينة الشرف الأرفع، وبسقت أفنانه في جوّه الصافي الأنصع ... وأوطأ متونه، ذوائب لمتونه (1)، ومدّ تمتانه (2)، على واحد هنتانه (3)، وأرّث الإرين (4)، بمساعر مرين ... همك من عرش مدّ ظلاله على المغارب أحقابًا، وأطت رحاله على عتبات برقة مرات، فإذا شاركنا إخواننا في البشرى، بعيده، فإنما نفي بعهد قلّ الأوفياء به؛ وننعم بخيال طاف طائفه بنفوس مترقبة لمسراه، متعرضة لمجراه، وما زال الطيف كالضيف محببًا إلى الكرام، مبغضًا للّئام.
...
ومن حكم الله في هذا العرش أنه لم يزل حارسًا للغة الضاد من الأضداد، حاميًا للدين من المعتدين، ولم تزل في مقتعديه أمثال مضروبة في النضح عن الإسلام والعروبة؛ اختلفت بها الأنساب بين يعرب ومازيغ، ولم تختلف بهم الأسباب في رعاية العلم وتقدير البيان، فكم ولدت دُوَلهم من أعلام في الأدب والبيان، ونوابغ في الفقه والتشريع، وأساطين في الفلسفة والحكمة، وأثبات في التاريخ والخبر.
...
وما زلنا ننكر على المسلمين في زمننا هذا، إقامتهم لهذه الاحتفالات؛ ونعدها عليهم في باب المجانة واللهو؛ ونقول: إن معظمها محاكاة لا تأتي بفائدة، وتقليد للأقوياء لا يعود بعائدة، وأنها تتنافى مع الجد والشهامة، وتلهي عن الواقع والواجب، وأن الأليق الأشبه بنا عقد مناحات نندب فيها الجدود العاثرة، والأشلاء المتناثرة؛ ولكننا حين نصل إلى هذا النوع الذي ينبه ويوقظ، ويحرّك الذكرى الكامنة، ويثير القوة الخامدة، ويذكّر بالماضي من الأعمال والرجال، ويدعو إلى التأسي بالعاملين، نسلم أنها دروس تلقى على الجاهلين، وأمثال تضرب للمأخوذين الذاهلين؛ ونؤمن بأنها تاريخ يحيا، وأجيالٌ تنشر، وأعمالٌ تبعث، وما أحوج الأمم الغافلة، النازلة بالسافلة، المنقطعة عن القافلة، المشغولة عن الفرض بالنافلة، إلى أمثال هذه الدروس الحافلة.
...
__________
1) لمتونة قبيلة بربرية عظيمة تتفرع إلى بطون وأفخاذ ومن فروعها دولة المرابطين الملثمين.
2) التمتان الحبل الذي تشد به الخيمة أن تسقط.
3) هنتانة قبيلة أخرى وواحدها هو الشيخ أبو حفص عمر بن يحى بن عبد الواحد أحد أصحاب المهدي بن تومرت وجد الملوك الحفصيين ملوك تونس.
4) الإرين جمع إر، وهي النار أو موضع إيقادها.(3/397)
أيها الإخوان في المغرب الأقصى، نحييكم على بعد الدار، وحيلولة الجدار، ومعاكسة الأقدار، تحية ودّ، لا تقابل بالرد، ونهنئكم بهذا العيد السعيد، تهنئة الغريق لمن بالساحل، والمبعد لمن طويت له المراحل؛ وندعو للجالس على العرش بالتأييد من ذي العرش، ونتمنى لكم- كما تتمنون لنا- سعادةً يطرّز حواشيها النعيم، وسيادةً تدفع إلى حرم العزّ من ثنية التنعيم.
إننا لمحنا من السنان صفحته، وشممنا من الريحان نفحته، فتعاطفت الأرحام، وتداعت وشائج القربى إلى الالتحام، وهزّتنا الأريحية إلى هذا النزر القليل من التحية، تحملها عنا إليكم ريح الصبا كلما هبت، وبُرُدُ الصحائف كلما خبت، فاعذرونا فإننا لا نبلغ في هذا المقام- وإن أطلنا- القلامة من أصبوع، والدقيقة من أسبوع، والقطرة من ينبوع.
...
أيها الإخوان، إن العروش لا تثبت ما لم تكن أواسيها القلوب والمهج؛ فكونوا دون العرش صفًا، وجمعًا ملتفًّا، وساعدًا وكفًّا، ودَفعًا للباغي وكفًّا، وذودوا عنه كل مريب، والقريب منهم قبل الغريب.(3/398)
موجة جديدة *
موجة جديدة من الاستياء غمرت العقلاء العارفين بما وراء الأكمة، سببتها هذه الموجة الجديدة في راديو الجزائر التي تستعد الحكومة لإنشائها خاصة باللغة البربرية
(القبائلية).
ما كنا نتوقع حين نشرنا افتتاحية العدد الماضي أن الحماقة تبلغ بالاستعمار المسيِّر للإذاعة الجزائرية إلى هذا الحد، وما كنا نظن أن هناك دركةً أخرى من السماجة أحط مما ظهر به الاستعمار في أصل الإذاعة باللغة القبائلية، حتى سمعنا ممن سمع ذلك الراديو أنه أعلن عزمه على تخصيص موجة للغة القبائلية، كاملة الأدوات ببرنامجها، ومحاضريها، ومخبريها وموسيقاها وقرائها، ولا ندري هل القرآن الذي يتلونه، يتلونه باللغة العربية أو باللغة القبائلية؟ ولا نستغرب أن يتهوّر هذا (الراديو) يومًا ما في ضلالة جديدة فيتلو للقبائل قرآنًا جديدًا بالقبائلية، إِذْ لم يبق لِمَنْ جانب الحِكمةَ إلا هذا النوع من أنواع السفه العقلي، ولو فعل لما عدم من يفتيه ويزين له. وإنما المشكلة في من يضع هذا القرآن أو يترجمه بالقبائلية، وإذاعة القرآن في الموجة القبائلية هدم للغرض الاستعماري الخبيث ونقض له من أساسه وصفعة يتلقاها قفا الاستعمار من كف الاستعمار، وإن الهوى ليعمي ويصم.
ولعل القراء يعجبون لإعادتنا الحديث في هذه المسألة إذ يتوهمون أنها ليست بهذه المكانة من الأهمية، وإن أمرَ هذه المسألة لأعظم مما يتوهمون، إنها فرع من شجرة خبيثة غرسها الإستعمار بيده وتعهدها بالعناية والتربية، واسمها الحقيقي "التفريق بين الأخوين العرب والبربر".
__________
* نشرت في العدد 42 من جريدة «البصائر»، 5 جويلية سنة 1948.(3/399)
ومن فروع هذه الشجرة الخبيثة الظهير البربري المشهور.
ومن فروعها ما سارت عليه حكومة الجزائر منذ قرن في وطن زواوة من تخصيص بقوانين وأحكام إدارية وقضائية، وتقوية النظام العشائري فيه، وإبعاده بالتدريج عن القضاء الإسلامي.
ومن فروعها تكثير مراكز التبشير بالنصرانية في الوطن القبائلي.
ومن فروعها راديو الجزائر للغة القبائلية.
وليست الحكمة في الإذاعة القبائلية هي الأخذ بخواطر القبائل وتشريف لغتهم؛ لأن الحكومة تعلم ما نعلم من أنّ خمسة وتسعين في المائة من القبائل سكان (مداشر) (1) في رؤوس الجبال لا يعرفون الراديو ومن (ردّاه)، ولا يسمعون صوته ولا صداه. والخمسة في المائة من سكان الحواضر والقرى الاستعمارية يتكلمون العربية ويفهمونها كما يفهمون الفرنسية، ويستطيبون الإذاعة العربية، ويطربون للموسيقى العربية لأنهم عرب مسلمون، رغم أنف الاستعمار.
وإنما الحكمة الاستعمارية في هذه المسألة خاصة- زيادةً على ما تقدم- أن يشيع في العالم الذي لا يعرف لهذا الوطن إلا لغةً واحدة وهي العربية، أن فيه لغةً أخرى يتكلمها كثير من الناس ولا يفهمون العلم والحياة إلا بها، بحيث اضطر- شفقةً عليهم ورحمةً بهم- أن يخصص لهم إذاعةً، وينفق عليها الملايين احترامًا لهذه اللغة، ولأهلها.
ولو علم العالم حقيقة الأمر وعلم ما عليه أهل هذه اللغة من بؤس وما هم فيه من شقاء لقال للاستعمار الفرنسي ما يقوله المصري لقليل الحياء: (اختش).
إن هذه (العملية) الجديدة سلاح مبتكر لحرب العربية، ومكيدة مدبرة للتقليل من أهميتها، وحجة مصطنعة لإسكات المطالبين بحقها في وطنها. ولكنه سلاح مفلول، ومكيدة فاشلة وحجة داحضة، يسخر منها القبائلي قبل العربي. وسيعلم الاستعمار وأعوانه أن هذه الموجة ستبتلعها أمواج، وأن المذيعين فيها كالمغنين في المقبرة. أصداءٌ في الأثير، لا تحرِّك ولا تثير.
وقد فات هذه الحكومة، التي تنفق أموال الأمة فيما لا يفيدها، أن اللهجات البربرية بهذا الوطن متعددة متباعدة، بحيث لا يفهم أهلها بعضهم عن بعض، وهبها أرضت بهذا الصنيِع واحدة فأين الأخريات؟ وأين المزابية والشاوبة (2)؟ أم أنها ستخصّص لكل واحدة موجةً حتى ترضي الجميع؟
__________
1) مَداشر: جمع "دَشْرَة" وهي القرية.
2) المزابية والشاوية: لهجَتان بربريتان.(3/400)
إن الجميع بحكم العروبة والإسلام لا يرضَوْن بغير العربية بديلًا. كما لا يرضون بغير الإسلام دينًا.
لسنا بهذه الكلمات ننتقد راديو الجزائر ولا برامجه ولا رجاله. ولو شئنا نقده لنقدناه في الصميم، ورميناه بالمقعد المقيم، ولنشرنا ما وهبه الله من جمود البرامج وتفاهة المواضيع وضيق العطن، ولكننا قوم عمليّون، فلا ننتقد من جوانب الراديو إلا ما يعنينا كعرب نغار على لغتنا، ومسلمين نغار على ديننا، وما الراديو إلا أداةٌ حكومية تسيره في أغراضها، ولو شاءت لجعلت منه مدرسة تهذيب، ومنبع حقائق، ولكونت منه لسان صدق ينشر محاسنها ومحامدها ويستهوي إليها أفئدة العالم، لا بوق تضليل ينشر مكايدها الاستعمارية، ويُلبسها حللًا مستعارة تمزقها نسمات الحق فضلًا عن عواصفه.
نحن ننتقد عملًا من أعمال الحكومة، اتخذت الراديو وسيلة لتنفيذه، فإذا ذكرناه هنا فإنما نذكره بالعرض لا بالقصد، وقد قصرنا ... وسنطيل ...(3/401)
ليبيا، موقعها منا *
ليبيا - بأجزائها الطبيعية- قطعة ثمينة من وطن العروبة الأكبر، ومعقل حصين من معاقل الإسلام الباذخة، مكتنفة الشمال والجنوب بجمالين من مياه البحر الأبيض، ورمال الصحراء المغبرة؛ مسورة الشرق والغرب بجمالين من عظمة مصر ومجد تونس: فهي رقعة من صنع الله مطرزة الحواشي بما يسحر الألباب، ويفتن النفوس، ويستهوي الأفئدة، ويذكر بالعزة، ويفتق القرائح عن روائع الوصف، وبدائع التمثيل، وهي- لذلك كله- نازلة من نفس كل عربي في مستقر الغيرة والحفاظ، ومن نفس كل مسلم في منزلة الحب والكرامة، وننفرد نحن سكان الشمال الأفريقي بمعنى من معاني التقدير لهذه القطعة العزيزة من وطن العروبة والإسلام، وهو أنها كانت مجرَّ عوالي الفاتحين من أسلافنا، ومجرى سوابقهم إلى هذا الشمال، يحملون إليه التوحيد والحكمة والسلام، فعلى ثراها مرّ عقبة والمهاجر وحسان، ومن بعدهم موسى وطارق، وإدريس وعبد الرحمن، وفي جنباتها تصاهلت جياد الكماة الصّيد من مضر ويمن، وأنها كانت كذلك مجازًا للأبطال، من بني هلال، الذين غرسوا العروبة بهذا الشمال، وأنها كانت أخت الجزيرة، تلك أنبطت وهذه أحْرَتْ، وتلك أنبتت وهذه أرْوَتْ، وتلك قدحت وهذه أورت، وأنها صارت- بعد ذلك- بابنا إلى الشرق، يوم كان أبرّ ببنيه، وأحنى عليهم من البحر، لا نلج حظائره القدسية إلا منه، حجاجًا وتجارًا ومستبضعي علم.
إن كل قارئ مطلع في هذا الوطن الجزائري ليعرف عن ليبيا وقراها، وجبالها، وأوديتها، ودُروبها مثل أو أكثر مما يعرف عن وطنه، لكثرة ما يقرأ عنها في كتب الرحالين المغاربة من أمثال الفهري والعبدري وابن بطوطة، والتيجاني، والعيّاشي، والورتلاني؛ وإن كل عامي راوية للشعر الملحون ليحفظ أسماء قراها، ووديانها، وجبالها، أكثر مما يحفظ
__________
* نشرت في العدد 112 من جريدة «البصائر»، 20 مارس سنة 1950.(3/402)
من أمثالها من بلاده، لكثرة ما يسمعها في قصائد شعراء الملحون الوصافين لركاب الحج، المعدّدين لمنازله، احتذاءً للبوصيري في (عدة المنازل) (1)، من أمثال محمد الشلالي، وابن السنوسي، وابن خلوف، وابن يوسف، وغيرهم من الشعراء الشعبيين في المائة الثانية عشرة إلى الآن؛ وهؤلاء هم الذين انتهت إلينا أخبارُهم وأشعارُهم، عن طريق الحفظ والرواية، وقد كانوا يُرَحلون ركب الحج من مراكش إلى مكة، ويصفون الجادّة التي يسلكها وصفًا شعريًّا مشوّقًا، أحسن مما يصفه الجغرافي المتقصّي، وأدخل في النفس منه، حتى يخيل إلى السامع أن هذه الموصوفات منه بمرأى العين؛ وأذكر أنني في سن الصبا كنتُ سمعتُ أسماء زوارة وطرابلس، والجبل، ومسراته، والخمس، وزليطن، وبنغازي، ودرنة، وأجدابية، متناثرةً في هذا الشعر، موصوفةً، محددة المسافات التي تفصل بينها، قبل أن أقرأها في كتب الرحلات والجغرافيا، وقبل أن أسمعها من أفواه السفار، أو من أفواه أهلها.
...
ولإخواننا الليبيين- أو الطرابلسيين كما نسميهم- علينا حق الدين، وحق اللغة، وحق الجنس، وحق الجوار، وحق الاشتراك في الآلام والمحن، وفي الآمال المقترحة على الزمن، وهذه كلها أرحام، يجب أن تبل ببلالها، وحقوق في ذمة المروءة والوفاء يجب أن تؤدّى، وإنّ من حسن القضاء عند الكرام الأوفياء أن يكون في وقت الحاجة إليه، وإن هؤلاء الإخوان اليوم في طور امتحان عسير معقد، تتخلله الأهواء والمطامع، ويحيط به الكيد والتعنيت من كل جانب، وإن نجاحهم فيه يتوقف على جمع الكلمة، وتسوية الصف، وتوحيد الرأي، ومتانة الإيمان بالحق، والحذر الشديد من الأشراك المنصوبة والعُصَب الدخيلة، والنظر البعيد في العواقب المخبوءة والمكايد الخفية، والاحتفاظ بكلمة الفصل، يقولها الواحد فترددها الملايين، وإنهم في حالة انتقال من حال إلى حال، من حال كانوا يواجهون فيه عدوًّا واحدًا، مكشوف النيات والسرائر، حيواني الشهوات والمنازع- إلى حال يواجهون فيه ثلاثة أعداء، متشاكسي المصالح، متبايني المطامع، متظاهرين بالتقوى والعدل، والنصيحة الرشيدة للمستضعفين؛ ولكنهم متفقون على الاستغلال لا على الاستقلال؛ ومن ورائهم ذلك الثعلب القديم- وقد قصمت الحرب ظهره- جائعًا يتضوّر، وقابعًا يتحفز، وحانقًا يتلظى، وراجيًا يتعلق، وطامعًا يتملق؛ ينتصر بالمتات، وينتظر الفتات.
قاوم هؤلاء الإخوان الكرام الاستعمارَ الإيطالي، ووقفوا في وجهه وقفة المستميت، لم يثنهم التقتيل والتشريد، حتى إذا استيأسوا، وظنوا أن هذا الجبار العنيد ختم عليهم بالعبودية
__________
1) يقول البوصيري في قصيدته الهمزية في آخر تعديده للمنازل من مصر إلى مكة إلى المدينة:
هَذِهِ عِدَّةُ الْمَنَازِلِ لَامَا … عُدَّ فِيهِ السِّمَاكُ وَالْعُوَّاءُ(3/403)
المؤبّدة، جاءت الحرب الأخيرة، وعاد الرجاء، ونبض عرق البطولة، وهبّ المغاوير من سلائل العرب، يثأرون لعمر المختار، والشهداء الأبرار، حتى اشتفوا: وأوبقت إيطاليا جرائرها، فأبادها الله، وما كان إخواننا يدْرون أنهم يعينون استعمارًا على استعمار، وأنهم سينتقلون من شِدْق الأفعى إلى ناب الأفعوان؛ ولكنهم لم يهنوا ولم يفشلوا في طلب استقلالهم، فصمّت الآذان عن سماع صوتهم حينًا، ثم تصادمت المطامع، فكان لأصوات الدول الضعيفة في مجلس الأمم مجال في الآذان الصماء، ومنفذ إلى القلوب الغلف، فقضى ذلك المجلس باستقلال ليبيا طائعًا كمكره، ولكنه أرجأ الإنجاز إلى أول سنة 1952.
كنا نعرف أن الاستقلال جنة لا يعبر إليها إلا على جسر من الضحايا، وكنا نعدّ إخواننا الليبيين أول الداخلين إلى هذه الجنة بغير حساب، لأنهم قدّموا من الضحايا ما لم تقدّمه أمة شرقية، ولأنهم جمعوا أسباب الفلاح الأربعة: الصبر والمصابرة والمرابطة والجهاد، ولكن شيطان الاستعمار أبى عليهم ذلك، ووضع في طريقهم برزخًا زمنيًّا، أو جسرًا ثانيًا غير الضحايا والقرابين والأعمال الصالحة، وهو هذا الأجل المحدد بسنة 1952. ويقول الاستعمار: إنه وضعه للإعداد والتشويق، ونقول نحن: إنه وضعه للإبعاد والتعويق، ومرحبًا بالسنتين إذا كنا نقضيهما في الاستعداد والتأهل وإصلاح الفاسد من أخلاقنا ورجالنا وأعمالنا.
واهًا لهذا الوطن المتردّد في لهوات الزمان، الذي جنى عليه موقعه من البحر الأبيض ومن الصحراء، فثبتت عليه أعين الطامعين، وازدحمت عليه أقدام الأقوياء، وحامت عليه حوائم الدرهم والدينار، تغرّ وتُغري، وإنّ لها في نفوس ضعفاء الإيمان وفاقدي الضمائر لموقعًا، ومن وراء الدرهم والدينار سماسرة تتخطف، وصَوالجة تتلقّف، وأبالسةٌ تأمر بالمنكر، وتنهى عن المعروف، وتدفع الألقاب قيمًا للممالك، ومن أبناء الوطن فريق من أعوان التفريق، وأعوان التحريق، وهنا أصل البلاء، وهنا منبت العلة، وهنا- فقط فقط- جرثومة الطاعون، وهنا العدو الحقيقي فاحذروه ...
وحنانًا على إخواننا المجاهدين! ... كتب عليهم أن يتجرّعوا ثلاث مرارات في جيل واحد: مرارة الإهمال في العهد التركي، ومرارة الاستعباد في العهد الإيطالي، وها هم أولاء يتجرّعون مرارة التنكر من حلفاء دلوهم بغرور، وسجروا بهم التنوّر، ثم أخلفوا الوعد، ونقضوا العهد.
من بعض حقكم علينا- أيها الإخوان- أن نسعدكم، ولو بقول معروف، من نصيحة خالصة، ودعاية نافعة، وتذكير منبه، وليسعد النطق إن لم يسعد الحال.(3/404)
ليبيا، ماذا يراد بها؟ *
شاعت بيننا- معشر المستضعفين- كلمة خاطئة، ألجأنا إليها الضعف وأملاها علينا العجز، فألفناها حتى غطّى الإلف خطأها وسخافتها، ويسرها التعوّد على الألسنة والأقلام، كما يسّر كلمة الكفر على لسان قائلها، وكأننا ورثناها عن الساسانيين أصحاب الكُدية، لا أصحاب الملك والدولة؛ وإن كانت لغة الساسانيين مبعثها الجبلة، والجبلة شعبة من القوة؛ فكلمتنا هذه مبعثها الاستخذاء، والاستخذاءُ وليد الضعف.
هذه الكلمة الخاطئة هي "طلب الاستقلال" ومعناها في الواقع، طلب الحق من غاصبه، أو طلب الملك من سالبه؛ ولو كان من طبيعة الغاصب السالب أن يرد المغصوب فيئَة إلى الرشد، وإنابةً إلى الله- لردَّهُ من غير طلب، ولا رفع دعوى، ولا إقامة دليل.
أما الكلمة المصيبة لهدف الحق فهي "العمل للاستقلال" ... إن العامل للشيء سائر إليه بذرائعه الطبيعية خطوةً خطوة؛ فهو واصل إليه لا محالة؛ وهو آخذٌ له حين يأخذه بالاستحقاق الطبيعي؛ أما طالب الشيء- في مفهومه العرفي- فهو كطالب الصدقة، إما أن يعطى وإما أن يُحرم؛ فإن أعطِيَ فبفضل، وإن حرم فبعدل؛ وعجيبٌ أن تعيش هذه الكلمة الجوفاءُ بيننا مع كلمة عبقرية تضارها وتناقضها، وهي أن "الاستقلال يؤخذ ولا يعطى".
شروط الاستقلال الحقيقية هي: الإيمان به مع التصميم، ثم العمل له مع الإصرار، ثم المحافظة عليه بعد تحصيله، وليس منها- عندنا- إلا طلبه ...
وإخواننا الليبيون عملوا للاستقلال على قرب عهدهم بانتزاعه منهم، وبذلوا في استرجاعه فوق ما يبذله من في منزلتهم من الضعف والقلة؛ وإن حبله لم ينقطع من أيديهم، وإن روائحه العطرة لتُفعم أنوفهم، وإن أخيلته الجميلة لتتراقص في أذهانهم، وإن ذكرياته لماثلة
__________
* نشرت في العدد 113 من جريدة «البصائر»، 27 مارس سنة 1950.(3/405)
في نفوسهم مثول ذكريات الشباب في نفوس الشيوخ، وليس بين إشراق الشباب وأفوله إلا فسحةٌ في العمر، وإن كثيرًا من الأحياء في ليبيا أدركوا زمن انتزاعه، وسيدركون زمن ارتجاعه.
...
هذا الشيء الذي يسمونه (مجلس الأمم المتحدة) لم يبلغ من العدل والرحمة أن يقسم الحقوق بالسوية، وأن يقتص للجمّاء من القرناء، بل دينه وديدنه أن يركب للقرناء قرونًا أخرى تنطح بها المستضعفين، وتذودهم بها عن مراتع الحياة ومواردها؛ وقد قرر ذلك المجلس استقلال القطر الليبي العزيز، استقلالًا شابه بالدخن وشانه بالتأجيل؛ ومع ذلك فقد تهللت أسرّة، وخفقت قلوب، وحييت آمال كانت كامنة في النفوس، وتشوّف المدلجون- بعد هذه التباشير- إلى الفجر الصادق، بتبلّج عموده على هذه الرقعة، آملين أن يعمّ بقية الرقاع، لكن المتعمقين كانوا يرون أن هذا القرار ليس من طبيعة الروح الشريرة التي تصرّف ذلك المجلس وتسيره؛ وإنما هو ثمرة من ثمرات الجهاد المتواصل، من ذلك الشعب الذي نقص الاستعمار عدده وأمواله، ولم ينقص اعتداده بنفسه وإيمانه بحقه؛ وأنه أثر من آثار أصوات الدول الصغيرة التي أكسبها الاتحاد قوة في ذلك المجلس، فاتجه سعيها إلى نصرة الضعفاء، "وكل ضعيف للضعيف نسيب"، وأنه نتيجة من نتائج التشاكس بين مطامع الأقوياء، ومخاوف بعضهم من بعض، فلولا التنين، الذي ابتلع الصين، ولم تزل كبده حرّى إلى نُغبة من ماء البحر الأبيض، لما وافقت أمريكا وإنكلترا على قرار الاستقلال، ولولا العملاق الذي يضع رجله على طهران، ويده على الظهران وعينه على وهران، لما صادقت روسيا على ذلك القرار، فهو بما حفه من هذه الأسباب، استقلال كياد من الدول الغربية لروسيا، يردن منه إقصاءها عن البحر المتوسط، ليأمنَّ شرها وشركها؛ ثم يقسمن الفريسة أجزاء، كما شاء لهن الهوى بأسماء خلّابة من ورائها قوة غلّابة، وما كان ذلك التأجيل إلا لهذا، وقد ظهرت الحقائق جلية بما بدر منهن- الواحدة بعد الأخرى- قبل أن يجف مدادُ قرار الاستقلال، هذه في فزان وتلك في برقة، وثالثة تنتظر طرابلس؛ وإنهن لبالغات إلى أهدافهن، وواجدات فينا من يأخذ بأيديهن إليها، ومن يَمْدُدْنَ له في أسباب المطامع، فيقطع لأجلها صلته بالله، وعلاقته بالوطن، إلا إذا بدأنا بالأشراك المنصوبة بيده فأزلناها، وبادرنا إلى الأوثان المرفوعة باسمه فكسرناها، وعمدنا إلى النقائص المتأصلة في نفوسنا فاستأصلناها، وصمدنا إلى الجموع المتفرقة فجمعناها، وإلى الألسنة الداعية بالتفريق فقطعناها، وإلى الشهوات الجامحة فقمعناها، وإلى الألقاب المهينة فمحوناها، وإلى العزائم المرتخية فقوّيناها بالحق وشددناها، وإلى جميع الثغر التي يأتينا منها العدو فأغلقناها في وجهه وسددناها، ثم لقيناه بعد ذلك بصف واحد، وإرادة واحدة، ولسان واحد، ورأي جميع،(3/406)
وعزيمة ترتد عنها المحاولات حسرى، وكلمة واحدة لا يقبل معناها التأويل، وهي (أن هذا الوطن واحد لا يقبل التقسيم، وأن أبناءه وحدة لا تقبل التجزئة، وأنهم يريدون حياة حرة كريمة)؛ ولو فعلنا ذلك لجاء الاستقلال عفوًا بلا طلب، صفوًا بلا كدر، بمعناه في لغتنا لا في لغة قياصرة مجلس الأمم.
إن هؤلاء الأقوياء قد راضونا على الشهوات الخسيسة، حتى عرفوا مواقعها ومداخلها إلى نفوسنا، فأصبحوا يقودوننا بزمامها، ويبتزّون ضمائرنا بالشهوات النفسية، كالرتب والألقاب، وأموالنا بالشهوات الحسية، كفضول اللباس والطعام والشراب، وإن أوقى الجُنَن منها الزهد فيها، والتعفف عنها؛ ولو أن أهل فزان- مثلًا- استنارت بصائرهم، ونالت منهم الموعظة بغيرهم، فرفضوا لقب "الباي"، وهجروا شرب "التاي"، لسعت إليهم الحرية حبوًا.
...
من كتم داءه قتله، وقد آن أن نعلن داءنا، ونعترف بنقائصنا، وإن لم يكن لنا فضل المعترف، فقد فضحنا الزمان قبل أن نفيء إلى أنفسنا، ونتدارك الوهي بالترقيع، فصيَّرَنا بذلك مثلة في الإنسانية، وداء إخواننا الليبيين هو داؤنا جميعًا، ليس لأحدنا فيه فضل إذ لا فضل في النقص، ولا بيننا فيه تفاضل، لأن علة العلل واحدة؛ هو الداء الذي ترك جزيرة العرب تضم ملاءتها على بضع دول وإمارات، وعلى عدة ملوك وأمراء؛ ولولا ذلك الداء لكان للعرب دولة واحدة، لأنهم أمة واحدة في رقعة واحدة، ولكان ذلك أرهب لعدوّهم، وأحفظ لحقيقتهم، ولولا ذلك الداء لما ضاعت فلسطين، ولما بؤنا بسبة الدهر وعار الأبد.
أصل دائنا التفرق والخلاف، بدأ صغيرًا في الدين، ثم بدأ كبيرًا في الدنيا ومن الخلاف تشعبت شعب تلتقي معه في الأثر والنتيجة والشر والضر، والطعم المر؛ كما يحمل الفرع خصائص أصله، فاذكر الخلاف تذكر التخاذل والأنانية ووهن العزائم، واذكر الخلاف تذكر عدم الاعتداد بالنفس وعدم الثقة بين الإخوان؛ واذكر الخلاف تذكر تعدد الزعماء والأحزاب في الوطن الواحد، واذكر الخلاف تذكر ضعف العقيدة وخطل الرأي، واذكر الخلاف تذكر بيع الذمم والضمائر، والتفريط في المصالح الوطنية، واذكره تذكر كل مرض عقلي نعانيه، وكل حقيقة في الحياة نغلط فيها؛ فالرجولة مائعة، والتفكير سطحي، والتضحية أقوال، والأهواء متبعة، والزعامة زعم، والنصر تصفيق، والقضايا الخطيرة نلقاها بالعقول الصغيرة، والألسن القصيرة؛ وهذه الأمراض هي التي أدركها المستعمرون فينا فاحتقرونا، ولو لم يعتبرونا أطفالًا لما وضعوا في أيدينا هذه اللعب يلهوننا بها عن أعمال الرجال.
***(3/407)
أيها الإخوان الليبيون: إن لكم إخوانًا يصل بينكم وبينهم الماء والصحراء، ويشرفون عليكم من مخارم هذه السلاسل الشامخة من الأطلس الكبير، وإنهم يشاركونكم في الشدائد والمحن، كما شاركوكم في الألسنة والسحن، وإنهم يقاسمونكم مرارة الامتحان الذي أنتم فيه، فانظروا في أيّ موضع وضعتكم الأقدار، إنكم في موضع قدوة لشعوب ترجو ما ترجون، وتعمل لما تعملون، فاحذروا أن تكونوا قدوة في الهزيمة، ومثالًا لخيبة الأمل، واقتلوا الألقاب تحيوا الحقائق؛ إننا نعيذكم بشرف الرجولة أن تكون فيكم سيوف اليمن، وجنرالات تونس (1)، فتلك لا تصلح للضرب، وهذه لا تغني في الحرب.
__________
1) من الألقاب العسكرية الموروثة في تونس من العهد التركي لقب "أمير الأمراء"، ولما احتلت فرنسا تونس أبقت الألقاب مجردة من معانيها، لتلهي بها ضعفاء الإرادة، وقد ترجموا هذا اللقب بكلمة (جنرال)، فأصبح الجنرالات بتونس أكثر من الباشوات في دوار شرق الأردن على عهد عبد الله.(3/408)
إضراب التلامذة الزيتونيين *
ما زلنا نربأ بجامعاتنا- أو جوامعنا- التاريخية أن تبقى جاريةً على التقليد البالي في مناهجها وكتبها، وأن ترضَى لنفسها هذا الجفافَ في الزمان الممرع، وهذا التمطّي في العصر المسرع، وما زلنا نرجو لها- مخلصين- إصلاحًا شاملًا، يعقبه صلاح كامل. يبتدئ ذلك الإصلاح من الكتب، وينتهي إلى العقول، ويجرف ما بين الطرفين من أوضاع من النظم بالية، وأوساخ على الأذهان عالية، أثبتها الإلف لا الفائدة، وزيّنها النقص لا الكمال، وبين البدء والختم مجالات سيفعل الإصلاح فيها فعله، ويأخذ مأخذه.
وإن لنا في هذا الإصلاح لآراءً جريئة، أوحى بها إلينا حالُ الأمم الإسلامية بين الأمم، وصقلتها التجارب المتكررة في وسائل الإصلاح، ونحن نتربّص بنشرها أوقاتها المقتضية، ما دام عصرنا يتسم بالنفاق، وبعد المجاملة من أصول الأدب، والرياء من حسن الذوق وجمال السلوك، ولو نشرناها اليوم لأثرنا ثائرة، وأسعرنا نائرة، وأغضبنا أقوامًا شاء لنا ولهم الهوى أن نتنادَم على بساط ذلك النفاق، ولو خلع هذا العصر لبوسه وزايلتْه سماته، لأرانا أنّ نهاية ما يرجوه الراجون ويطلبه الطالبون من الإصلاح هي بداية الإصلاح الحقيقي الذي نراه ونقول به.
وكأنّ أبناءنا الزيتونيين- نصرهم الله ونضر وجوههم- أرادوا بثورتهم الحاضرة أن يختصروا هذه الفترة المنافقة، وأن يقرِّبوا منّا الزمن الصالح لنشر هذه الآراء، وإنّ لهذا الأمر لعاقبةً هذا نذيرها، فإذا لم نقدم عليها طائعين أُرغمنا عليها مكرَهين.
ونحن- حين نشكر أبناءَنا- نرى أن شطرَ الشكر يرجع إلى هذا التقريب الذي نخرج به من تبعة كتمان الحق، لأن النصيحة إذا تأخرتْ عن ميقاتها أصبحت غشًّا، ومن أظلم ممن غشّ نفسه وأمّته؟
__________
* نشرت في العدد 118 من جريدة «البصائر»، 1 ماي سنة 1950.(3/409)
وعذرًا إذا تعجلتُ كلمةً منصفة، وهي أن الإصلاح المأمولَ لا يتوقف منه على الحكومات إلا شطرُه المادّي، وأهونْ به، أما شطرُه الآخر- وهو اللباب- فلا يضطلع به إلا ثلاث فرق متساندة مخلصة: المسيّرون لهذه الجامعات بالإدارة والتعليم، والتلامذة، والأمة، ومن اعتمد في هذا القسم من الإصلاح على غير هؤلاء فقد سجّل على نفسه قصر النظر، وقصور الرأي، والتقصير في الواجب.
وإنني مرسل إلى أبنائي التلامذة الزيتونيين بالكلمة التالية، تحييهم، وتشدّ من عزائمهم، فإن لم تكنْ رَوْحًا يدوم ويبقى، تكنْ ريحانًا يُشمّ ويذوى، وإذا تأخّرتْ عنهم فعذرُها أن العُرْج في آخر الذود، فلينتظروا العوْد، وأن عسى أن أكونَ قد قمت ببعض حقّهم عليّ.
ما هذا التصميم الذي يفلّ الحديد؟ وما هذه العزائم التي لا تعرف الهزائم؟ وما هذا التحدّي الذي يقهر الخصوم اللدّ؟ وما هذا الإصرار الذي يقتحم البحر وقد جاشت غواربه؟
إنها- وأبيكم- هبة من نفحات الأجداد، طاف طائفها بنفوس لم يدنّسها الاستبداد، ولم يكدر صفوها سوء الاستعداد، فهاجت وتلظّت، ولازَمت فألظّت، ولو غير نفس العربيّ المسلم كانت، وغشيها من صدإ السنين وعنت الأيام ولؤم التحكّم ما غشيَ النفس العربية المسلمة- لَلانت، ثم هانت، ثم ذابت وادّغمت، أو لاطمأنت إلى شيمة العبيد، أبد الأبيد، ولكنها النفس العربية المسلمة، تركّز في التراب ولا تبلى، وتراوحها الأنداء فلا تصدأ، وتصلَى النار ولا تحترق، فقولوا للذين يريدون طمس التاريخ، ومحو الخصائص النسبية، والمعاني الإرثية: أطمسوا ما شئتم مما سطرته الأقلام في الكتب، أما ما كتبته يد الله في النفوس فمحال أن تطمسوه، ولأنتم أعجز من ذلك، ولا كرامة، وإنّ نبْض عرق واحد بخصيصة دموية ليضيع عليكم جهد العقول والسنين.
وأنا عربي، أعرف الخصائص العربية، وأغالي بقيمتها- على بصيرة- في قيم الخصائص الإنسانية، وأتلمّحها من مأثور أقوالهم كأنني أراها، وأبالغُ فأجعلها ميزانًا لتصحيح الأنساب، وأنا- في ذلك كله- مؤمن بناموس الوراثة، ثم أتصفَّح تلك الخصائص في أخلافهم فلا أجدُها، فأرتاب في النسبة، وأقول إنها هُجنة دسيسة، أو نطفة خسيسة، وأبقى ظاهريًّا حتى يقوم دليل، وقد أقام أبناؤنا الزيتونيون الدليل هذه المرة على أنهم عرب، فليهنأوا بصحة النسب، قبل نيل الأرب، وإنها لصفقة رابحة.
أجدَّكم أن العزائم التي قهر أجدادُنا الفرسَ والرومانَ بمثلها قد تمثّلت من جديد، في الشباب الزيتوني العتيد؟ وأن الإصرار الذي لبِس طارقًا فأخضع به الجبّارين: البحر والجبل، قد لابس نفوس أبنائنا الزيتونيين كرةً أخرى؟ وأن الإيمان الذي صاحب خالدًا في اليرموك،(3/410)
وسعدًا في القادسية، والمثنَّى في بابل، وعمرًا في بلبيس، وعقبةَ في افريقية، قد خالطت بشاشته قلوب طائفة من أحفادهم؟
إيه- أبناءَنا الأعزّة- أإضرابٌ ما صنعتم، أم إطراب؟ لقد أضربتم، فأطربتمونا، فللهِ إضراب كل ما فيه إطراب، فاسكُبوا- يا أبناءنا- هذه الأغاريد في الآذان العَطِلَة، فقد طال عهدُها بسماعها، واضرِبوا هذه الأمثال الشوارد في التحدّي، للظلم والتعدّي، فقد استطابا في دياركم، وكذّبوا الظانين بكم ظنّ السوء فقد طال ما قالوا عنكم وتقوّلوا؛ قالوا إنكم كآبائكم تقولون كثيرًا، ولا تعملون شيئًا، هانكم تحسنون المطالبة، ولا تحسنون المغالبة، وإنكم ترهبون القويّ، وتتبعون الغويّ، وإنكم لا تعملون الواجب، لأنكم لا تعرفون الواجب، وإنكم تنامون على الضيم والهون، لأنكم في غمرة ساهون، وإنكم في حالتي الحمق والكيس، لا تعدون أخلاق امرئ اقيس (1):
فأمثلُ أخلاق امرئ القيس أنها … صلابٌ على طول الهوان جلودها
لله أنتم، حيث كنتم، فقد كذّبتم هذه الأقاويل بالفعلة الحاسمة، وأريتمونا مثالًا من التصميم بعد ما قامت فينا نواعيه، ونموذجًا من التحدّي بعد ما فقدت منا دواعيه، ورمزًا من التحكُّم في التحكّم خابت من قبلكم سواعيه، وعنوانًا من الوفاء لزمنكم قل راعيه وغاب واعيه.
أضربتم فسخِروا وقالوا: عادة ونوبة، ثم أصررتم فتماروا وقالوا: رُعونة من ورائها معونة، ثم تحدّيتم فصدّقوا، ولئن زدتم ليقولنّ: آمنّا أنه لا إله إلا الذي خلق الزيتونة شجرة مباركة، والزيتونيين رجالًا مباركين ...
أضربتم فتلفَّت الزمان المشيح بوجهه، المليحُ بنهره ونجهه، ثم مدَّ الإضراب مدّه، وبلغ أشدّه، فتساءل الناس: أفي الحقّ هذا؟ أفي الواقع هذا؟ ثم انقسموا فريقين.
أضربتم فقال بعض الناس: أضربوا عن الدرس، وهو جدوى، وعن العلم، وهو غذاء، وقلنا نحن: أضربوا عن حاضر لا أمل فيه، لينشئوا مستقبلًا كله آمال، وكله خيرات.
إن الأسابيعَ التي تقضونها في الإضراب، لأجْدَى عليكم من شهور ينقضين في مقدمات بلا نتائج، وفي التقلّب في موات، من عقول الأموات.
تلك دروس تغذّي الذهن، ونحن من تغذيتها للعقل والروح في شك مريب، وهذه دروس تغذّى العقل فيعرف الحياة، وتغذّي الإرادة فتعمل للحياة، وتغذي الروح فتفقه سر الحياة، وتغذي العقيدة فيتبيّن كل إنسان واجبَه، وتغذي العزيمة فينبعث كل إنسان إلى تأدية
__________
1) امرؤ القيس قبيلة من العرب.(3/411)
واجبه، وتغذّي النفس فتطهرُ من أدران الخوَر والفسولة والتخنث والتردد، وإن هذه لجماع الأمراض التي أودت بأمّتكم.
أعندنا علم؟ فأين الحياة؟ إن العلم الذي لا يحيي، جهل مسمّى بغير اسمه! أعندنا علماء؟ فأين قيادتُهم للأمة، وأين آثارهم في توجيه الأمة وتوحيد الأمة؟ إن العالِم إذا لم يقدْ انقاد، فإن انقاد جاءت الفتنة والفساد.
معذرة إليكم- يا أبناءنا- إذا لم نعمل لكم شيئًا فقمتم تعملون لأنفسكم.
لعلّكم سمعتم وحفظتم هذه الجملة: الناس بزمانهم أشبهُ منهم بآبائهم، ولعلكم سمعتم في معناها تأويلين أو تأويلات؛ لكنها لا تقبل التأويل، لأنها من آيات الله في الأنفس والآفاق؛ فأين موضعُ الشبه منكم بزمانكم؟ زمانكم طائر، وأنتم واقعون، وزمانكم مصمّم، وأنتم متردِّدون، وزمانكم سائر، وأنتم جامدون، وزمانكم ضاحك مستبشر، وحظُّكم منه العبوس والحزن، ويمينًا، لو أن هذا الزمان تمثّل بشرًا سويًّا وانتسبنا إليه لعرَضنا وعرضكم على القافة ... تريدون أن تبرّوا أباكم الزمان، وأن تصدُقوا في انتسابكم إليه، فلكم العذر ولكم الحق.
كأن عيني تراكم في معهدكم تطوُون الليالي كأنما تطوُون من التاريخ صحائف، وتعافون الطعام، وكأنما تصدفون عن المعاني البطنية التي أذلَّت أعناق الكثير من أمّتكم فكانت المقادة إلى إذلالهم وإذلال الوطن بهم، وتصومون وكأنما صومُكم عن الشهوات الغالبة التي ينقُدُها الغرب أثمانًا لضمائر الشرقيين وفضائلهم، إن صومَكم- وإن كان غير مشروع- لأزكى من صوم كثير من عبَّاد الشهوات:
أيْ أبناءنا، لولا هذه المعاني التي رفعتم بها من قيمة عملكم، لكان إضرابكم ضربًا من غضب الصبيان، يفثأ (2) باللعبة الحقيرة، ويكسر بالبسمة المصطنعة؛ إن هذا النوع التافه من الإضرابات لا يخيف خصمًا، ولا ينيل رغيبة، وقد ألفه الناس حتى ما يبالوا به بالة.
أما والله لو نال شبابَ الأمم الحية عشرُ ما نالكم من بخس وهضيمة لأقاموا الدنيا وأقعدوها، ولقام معشر خشن، فكيف يستكثر منكم إضراب أسابيع؟
إن دينكم وتاريخكم ووطنكم ورفاتَ أجدادكم، كل أولئك في حاجة إلى هذا النوع السامي من مقاومة الجمود، ونفض غبار الركود ...
أيها الأبناء الأعزّة:
أفي هذا الشمال قعدة عن نصركم؟ إن كانوا، فلا كانوا، ولا كان من يلوذ بالاعتزال عن هذا النزال.
__________
2) يفثأ: تكسر حدّته، وأصله من فثأ الماء المغلى إذا صبّ عليه الماء البارد وقت الغليان.(3/412)
أيها الأبناء الأعزّة:
ما زلنا نتتبَّع أخباركم باهتمام، ونعوّذكم بالله وبالمعوّذات من كلامه أن تكون من ورائكم يدٌ تحرّككم للمساعي الضائعة، أو تكيد لكم من حيث لا تشعرون، فقد عوّدنا هذا الزمان الفاسد عادات مرذولة في استغلال الشباب وتصريفهم في غير الطرق التي خلقوا لها.
أيها الأبناء الأعزّة:
لستم منا بموضع الهوان حتى ننساكم، وليس شأنكم عندنا بالهيّن حتى لا نفكّر فيه، وليس مستقبلكم في نظرنا بالرخيص حتى لا نغالي فيه، إنما أنتم عندنا أحجار بناء المستقبل المجيد، فحقٌّ علينا أن نتخيّر وأن نستجيد، وإنما أنتم ذخائر الغد، فواجب أن نحافظ وأن نضنّ، إنما أنتم كفّارة ما اجترحنا من سيئات، ولا يقبل الله إلا الطيِّب، إنما أعماركم صحائف في تاريخ هذه الأمة، فجديرٌ بنا وبكم أن نعمرها بالباقيات الصالحات، وأن لا نبدّد دقائقها في التوافه والصغائر. إنما عقولكم أسلحة للحرب الفاصلة بين الخير والشر، فواجبٌ أن نشحذَ وأن نسُنّ، إن عصركم بطل، فمن البرّ به أن تكونوا أبطالًا؛ وإن جيلكم سماويّ التشوّف، فلا تخلدوا إلى الأرض؛ وإن حاضركم جديد، فلا تكونوا منه في موضع الرقعة البالية، وإن الحياة حسناءُ، مهرُها الأعمال العامرة، فلا تسوقوا لها الأقوال الجوفاء، وإن دينكم ينهاكم أن تأخذوا الأمور بالضعف والهوينا، فخذوها بالقوة والغلاب؛ وإن أربع خلال ارتضاها الله لعباده وأمرهم بها: الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى، {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، و {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.(3/413)
إبليس ينهى عن المنكر! ... *
من خصائص المدرسة الاستعمارية الفرنسية في تخريج تلامذتها أنها لا تجري على منهاج المدارس العلمية في الاعتداد بالسنوات والدرجات، ثم الاعتماد على الشهادات والإجازات، إنما تجري على المنهاج الطُرقي الحديث في تربية المريدين، وهو منهاج عجيب، مبنيٌّ على اختصار الوقت واختزال الطريق واستعجال النفع من المُريد لا للمُريد، من أوجُه الشبه بين المدرستين الاستعمارية والطرقية الحديثة اللتين اصطحبتا في النشأة، وتقارضتا النصر والمعونة، أنّ العلم ليس شرطًا في واحدة منهما، بل ربّما كان الجهل شرطًا في صحة الانتساب إليهما، وفي كمال الاكتساب منهما؛ وما معنى الخصوصية إذا لم يكن هذا؟ ... وإنما مبنى الأمر فيهما على المواهب والحظوظ (وعلى اللحظات) من أساتذة الأولى ومشائخ الثانية؛ فلحظة من الأستاذ ترفع التلميذ درجات، ولحظة من الشيخ تدفع المريد إلى النهايات، هذا كله باعتبار الأصل العام، ثم تأتي الشروط الإيجابية والسلبية في كل فرد؛ وأهمّها في الإيجاب الاستعداد للشرّ في التلميذ، وأهمّها في السلب التجرّدُ من الدين والفضيلة، وتأتي بعد الأهمّ مهماتٌ في الطرفين، كالسمع والطاعة والإخلاص، وكالتسليم في المشخِّصات الإنسانية، وموت الضمير الآدمي، وإخماد الشعل الفكرية وقطع العلائق الفطرية مع القوم والجنس والوطن.
هذه المدرسة الاستعمارية تهيئ تلامذتها أو مريديها للشر، وتروّضهم عليه في حال تطول قليلًا، أو تقصُر جدًّا، على نسبة استعداد التلميذ، وإنما تروّض نفوسهم على الشر بالجملة، فإذا جاء دور التفصيل لم يعجزها أن تُلبس الفاتك منهم لباسَ الناسك، وتقلِّد الراعي وظيفة الداعي، وتسِمَ الخلي بسِمَة الوليّ؛ وتحرّك لسان الماكر بورد الذاكر، وتؤزّر أولاد الحرام بإزار الإحرام، وتخلع على الصعلوك ألقابَ الملوك.
__________
* نشرت في العدد 143 من جريدة «البصائر»، 19 فيفري سنة 1951.(3/414)
من تلامذة هذه المدرسة الاستعمارية النجباء المقدمين، تلميذ بالمغرب الأقصى، قفز قناطر الامتحان بخطوة، وغبّر في وجوه أساتذته بلهوة، وقطع أسئلتهم المتنوّعة الكثيرة بهذه الجمل القصيرة، وهي:
"أنا روح الاستعمار وسرّه وحقيقته المشخِّصة، وإنه لو لم يكن في الدنيا استعمار لكنتُ وحدي استعمارًا قائمًا بذاته، ولو انقطع الاستعمار- لا قدّر الله- فسأكون أنا وحدي حافظ أنسابه، ووارث أسلابه، وقيّم أبوابه، والمتعبِّد بتلاوة كتابه، وأنا وحدي المثال المحقِّق لقاعدته، وأنا وحدي الدليل على خروج الاستعمار من صورته الذهنية إلى حقيقتة الخارجية، وإنني كنت أرجو أن أكونه لو لم يكن، فلما أخطأني من ذلك ما أخطأ ابن أبي الصلت من النبوّة، لم أكن كابن أبي الصلت، بل كنت أول المؤمنين به، الذابِّين عن حياضه، المغرّدين كالذبابة في رياضه، الناشرين لدينه، العاملين على امتداد سلطانه، وإنني عاهدت نفسي على أن أكونَ للاستعمار ما كان أبو مسلم الخراساني للمنصور، أو ما كان طاهر بن الحسين للأمين، وساءا مثلًا ... أين يقعان منِّي؟ وأين يقع المنصور والأمين من المستعمرين الميامين؟ ... فاجعلوني سيِّدًا أكنْ لكم عبدًا؛ وأعينوني بقوة أجعل لكم بين البربر وبين العرب رَدْمًا، ثم لآتينّكم منهم بطوابير تملأ البوابير" (1).
هذه ترجمةُ جوابه في الامتحان الكتابي ...
ويَلمّه (2) محظأ نار، وشيطان استعمار ... إن تلميذًا يسابق أسئلةَ الأساتذة بهذا الجواب، لَحقيق أن يفعلَ ما فعله الحاج التهامي الجلاوي، أو لَحقيق أن يكون هو- نفسُه عينُه- الحاج التهامي الجلاوي ...
وهبْه هو هو أو هو إياه، فما هو على الحقيقة بالتهامي كما سمّاه أبواه، ولا بالجلاوي كما عزاه من عزاه، ولا بالشريف المزواري كما يصفه المادحون الكذبة وإنما هو شر مهيأ للمغرب الإسلامي منذ كان هو، ومنذ كان للاستعمار فيه وجود، وهو سلاح من الباطل مجرّد في وجه الحق كلّما نأمتْ نأمتُه، وجلت عن السكوت ظُلامته، وما أمرُ هذه الأسلحة الاستعماريَّة بسِرّ، فقد فضحناها بأقوالنا، ثم فضحت نفسها بأعمالها، ثم فضحها الاستعمار بسوء استعمالها، فلم يبقَ إلا التفكير الجدّي والعمل الحازم لفلِّها وإبطال فعلها، وإنّ من المؤسف أن الخلاص منها لا يكون إلا مع الخلاص من أصلها الذي تفرّعت عنه، ومن مادتها التي تمدّها بالنماء والبقاء، وإن ذلك لما يعمل له العاملون الصادقون المخلصون.
ولا بعدَ من خير وفي الله مطمع، ولا يأس من روح وفي القلب إيمان.
...
__________
1) البوابير: جمع "بابور" وهو الباخرة.
2) أصلها ويل أمّه ثم خففت بحذف الهمزة واتصلت الكلمتان في الكتابة.(3/415)
قبل أسابيع معدودة قام هذا الرجل التهامي الذي ليس من تهامة، ولا كرامة، بأخبث ما تقوم به أحط صنيعة استعمارية في أرض الله؛ وتسامى إلى مقام ينحطُّ عنه أمثاله من الآلات البشرية الرخيصة؛ وتطاول إلى أفُق من يتطاول إليه يجد له شهابًا رصدًا، وإننا لا ندري من أي حاليْه نعجب: أمن تطاوله ذاك، وأين السّمك من السمّاك؟ أم من مجيئه في مقام واحد بنقيضتين، تَلعَنُ إحداهما الأخرى؟ فقد أظهر نفسه في الأولى فاتكًا جريئًا، وفي الثانية ناسكًا بريئًا، فشهدت الثنتان بأنه آفِك مبطل في الثنتين.
أراد في الأولى أن يظلم الناس ولا يتظلَّموا، وأن تبسط يداه فيهم بالضر والشر ولا يتكلَّموا، وأن تكون آيةُ الحق منسوخةً لأجله، وتاج الأمة المغربية الماجدة موطئًا لرجله ... ويلُمّه مرةً أخرى! لقد جاء بها شنعاء صلعاء؛ ثمّ ماذا؟ وأن يكون لأولئك المستضعفين الذين أشقاهم القدر به وبحكمه وغشِّه وظلمه، كجهنم لمن حلّ فيها ... يستغيثون فلا يغاثون.
وأراد في الثانية أن يكون محاميًا للدين وظهيرًا ووليًّا ونصيرًا وكافلًا ومُجيرًا، وممن يريد أن يمنع المتظلمين؟
من مرجعهم الأسمى، وحماهم الأحمى، سلطانهم الشرعي "محمد بن يوسف".
وممن يريد أن يجير الدين؟
من مجيره ... بل من جاره المنيع الجناب، بل من ملجئه وعصمته، السلطان "محمد ابن يوسف".
ويلُمه مرة ثالثة! أمِن الدين الذي يدافع عنه أن يظلم الناس، ثم يحول بين فرائس ظلمه وضحايا عدوانه، وبين رفع ظلاماتهم إلى سلطانهم وسلطانه؟
أمن الدِّين الذي يدافع عنه ما سارت به الركبان من أعماله المنكرة وموبقاته المشتهرة؟
أمِنَ الدين، أن يكون عدوًّا لأنصار الدين، وظهيرًا لأعداء الدين؟
وما لنا نتشدّد مع الرجل كل هذا التشدّد، وما لنا لا نُعذر إليه، فنسأل أيّ دين يعني؟
فإن كان يعني دين محمد بن عبد الله، قلنا له ما قاله عمر لعقبة ابن أبي معيط:
حنَّ قَدَح ليس منها، وقلنا له: ليس الإسلام بعشِّك فادْرج، وليست دارُه بدارك فاخرجْ، وقلنا له: واضيعة الإسلام إن كنت أنت ناصره! وقلنا له: ما لك وللإسلام بعد أن تجرّدت من فضائله، وتعرّيت من آدابه، وقفزت حدوده. كأنها- عندك- درجات الامتحان ...(3/416)
وإن كان يعني نحلة الشاب الظريف (3)، أو دين صالح بن طريف (4)، قلنا: ما أشبه الباطل بالباطل، وما أحقّ العاطل بنصرة العاطل! ...
لم يفُتْ هذا المخلوق العجيب إلا أن يغلط يومًا فيدخل أحد مساجد مراكش الجامعة (ولو جامع الفناء ... مثلًا) فيصعد المنبر في يوم جمعة، وبخطب الناس، فيتباكى كما يتباكى بعض الناس عندنا، ويتشاجَى كما يتشاجون، ولا غرابة ... فهما رضيعا لبان، وسليلا أمومة، وخرِّيجا مدرسة، وبذلك- فقط- يصبح الحاج التهامي من "رجال الدين" ...
__________
3) شاعر جزائري تلمساني كان في المائة السادسة للهجرة، في شعره معان قد تكون من شطحات الخيال ولكن ظواهرها ملحدة.
4) متنبئ ظهر في مدينة تامسنّا بالمغرب الأقصى ووضع لنفسه قرآنًا سخيفًا سمّى سوره بأسماء غريبة، وفتن به كثيرًا من القبائل البربرية، وكان ظهوره في خلافة هشام بن عبد الملك في سنة 127 وأصله من قبيلة برغواطة البربرية، أخباره في ابن خلدون والقرطاس والاستقصاء.(3/417)
إبليس يأمر بالمعروف! ... *
ليس في أبواب السُّخرية بالإسلام، أسمجُ من هذه الفصول السخيفة التي تقوم بتمثيلها السياسة الفرنسية في شمال أفريقيا، وإن لها في الجوانب الدنيوية لمنادح، فما بالها
تحنُّ إلى التحرّش بالدين، هذا النوع البارد من الحنين؟ لم تتورّع أمس عن نصب موظّف مسيحي رئيسًا لجمعية دينية إسلامية بالجزائر وقسنطينة؛ ولم تتوزع اليوم عن نصب التهامي الجلاوي محاميًا عن الدين، ومشفقًا عليه، ومنتصرًا له؛ وإنّ بين الحادثتين لمسافةً مملوءة بالأحداث والتجارب التي تحمل المذنب على التوبة والإقلاع، ولكن القائمين على هذه السياسة لا يتوبون ولا هم يذَّكرون، وإن بين القطرين دينًا جامعًا، وأرحامًا متشابكة، فما جُرِّبَ هنا وخاب، محكوم عليه بالخيبة هناك، ولا يُغني عنه أن يتقدّم هنا بقبَّعة، وهناك بعمامة.
...
إن ظروف الحادثة، والجوّ العالمي المتحكّم في أعصاب السياسيين، والأحداث التي سبقتها في المحيط المغربي الخاص، كل أولئك تدلّ على أنها كانت مدبَّرة لأوانها، وأنها رواية من فصل واحد، اختير لتمثيلها رجل واحد؛ ولم يُسدَل الستار، ليبقى المجال واسعًا للنكرات المسرحية التي تظهر في الملعب بعد ذلك، فالوقت محدَّد، والأسباب محضَّرة، والمناسبة منتظرة، والممثِّل تام الحفظ والتلقين.
وكل هذا ليس مما يعنينا شأنُه؛ لأنه شيء مألوف ليس بجديد في السياسة الاستعمارية، ولا غريب عنها؛ ولكن الذي أزعجنا وأثار اهتمامنا لجدّته وغرابته، هو عرض الدين في
__________
* نشرت في العدد 144 من جريدة «البصائر»، 26 فيفري سنة 1951.(3/418)
الرواية، وهضيمته، والانتصار له ... فهذه القطعة من الرواية هي التي لمسَتْ مواقع الإحساس منا، فقلنا: أصحيح أن الإسلام بالمغرب في خطر؟ أصحيح أن هذا الرجل هو الذي يقوم بنصره، وقد كنا نعلم- ونحن أطبّاء هذا المرض- أن الإسلام في جميع مواطنه تحيط به أخطار لا خطر واحد، وأنّ بعض أخطاره هذا الرجل وأمثاله ... وأن أكبر الأخطار وأعظمها ما التجأ إليه هذا الرجل من أنواع الحماية؛ فهل جدَّ في الاكتشافات الطبيّة أن يكون السرطان دواءً للسل؟ وهل جدّ في القوانين الاجتماعية أن يكون "حاميها حراميها"، كما يقول المثل الشرقي؟
...
طارت أخبار الحادثة، وردَّدتها الصحف والمذاييع، وقعقعت بها البُرد في الشرق والغرب، وقال كل قائل فيها رأيه: صوابًا أملاه الإنصاف ومحَّصه التحقيق، أو خطأ أملاه الغرض وزوّره التلفيق، وهوّنها بعض الناس غفلةً عما وراءها، وهوّلها بعضهم حذَرًا مما وراءها، أو استغلالًا لما وراءها، وسكتنا نحن حتى هدَرت الشقائق وقرَّت، لا استخفافًا بالحادثة، فلعلّنا من أكبر المتشائمين بعواقبها، المقدّرين لخطرها، المدركين لمراميها، ولكننا سكتنا ننتظر كلمة علماء الدين، فإن نطقوا كانت كلمتهم فصلاً في القضية، وإن سكتوا كان سكوتهم حجّةً على الدين، وحجةً ناهضة للمعتدين.
كنا ننتظر كلمتهم في هذه القضية التي نعدّها غمزًا لإبائهم، وامتحانًا لكرامتهم، وطعنًا في كفاءاتهم لحمل أمانة الدفاع عن الدين، لأنهم مسؤولون أمام التاريخ، أين كنتم إذا كان ما يدّعيه الحاج التهامي حقًّا؛ وأين أنتم إذا كان ما يدَّعيه باطلًا؟ وهم محجوجون في الحالتين.
ولنا مع هذه الطائفة حساب، ولنا عليها عتاب، فهم- بحكم الله- حرَّاس هذا الدين، والمؤتمنون على حرماته، وقد أوتوا سلطانًا إلهيًّا مبينًا ففرّطوا فيه، واستحقّوا إرثًا نبويًّا ثمينًا فأضاعوه، حتى خرج الأمر من أيديهم، وتعاوَرتْه أيدٍ سفيهة لا تحسن تصريفًا ولا قيادة، فوقعت الأمة فريسةً للمبتدعين في الدين، والمتسلطين في الدنيا، والمتبعين لأهوائهم في الدين والدنيا؛ وإذا نام الحارس، استيقظ اللص، طبيعة لا تتحوّل، وصبغة لا تحول، وهذا هو حال علماء الإسلام في الشرق والغرب، لم يقوموا بحق الله في عباده، فأصبحوا أضحوكةً بين عباده، وكساهم الله ثوب عزٍّ فنضَوْه فأذلّهم، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}.
ولو أنهم قاموا بواجباتهم في حماية الدين، وحافظوا على سلطانهم الديني الروحي لسدّوا المنافذ على عبَّاد المادّة، وقطعوا الطريق على المتطاولين بغير حق، ولو فعلوا لكانوا - أبدًا- مُرْصَدين لهذه البوادر الخبيثة التي تبدُر في كل حين من أصحاب الجاه الدنيوي،(3/419)
وأصحاب الغرض السياسي؛ والفريقان في جميع أطوار التاريخ يتجاذبان في حالي تصافيهما وتجافيهما هذه الخلّة، وهي اتخاذ الدين سُلمًّا لأغراضهما الدنيوية والسياسية، ولو بما يهدِم الدين؛ وقد تلبَس دعوى حماية الدين لبوس صدق زائفًا، إذا صدرت من منتسب إليه، ولكنَّ الشناعة التي لا توارى، والفِرْية التي لا يصدقها غبيّ ولا ذكي، هي صدورها من أجنبيّ عنه، مجاهرٍ بعداوته، كدعوى المسيحيّ حماية الإسلام، أو دعوى المسلم حماية الأنصاب والأزلام.
علماء الدين- إذا أصلحهم الله- هم حماة الدين حقًّا، وهم المؤتمنون عليه، وهم - إذا عافاهم الله من الجبن والطمع- حفَظته وأنصاره وأسماعه وأبصاره، وهم- إذا سدّدهم الله- نبالُه وقِسيُّه، وحِباله وعصيُّه، وكلهم- إذا جمع الله كلمتهم- غِفاره ودَوْسه، وخزرجه وأوسه؛ ولو أن علماءَنا- من خمسة قرون- حافظوا على تلك الصولة التي كانت لسلفهم على أهل الدنيا والسياسة، لسرَتْ إلينا منهم نفحات ينعشُنا عبيرها، ولمحات يهدينا شعاعها، وإذن لا يكون لهؤلاء الأدعياء في الدين هذه الجرأة على الدين.
أما والله لو أنّ الحاج التهامي كان يشعر بأن علماء الدين محتفظون بقوّتهم وسلطتهم لما حدّثته نفسه باقتراف ما اقترف، ولو لقَّنه ألف ملقِّن، ولكنه شعر بخُلوّ الغاب من أشباله، وفراغ الميدان من أبطاله، فتجرَّأ ثمّ اقتحم ...
ولسنا في هذا الموقف فضوليين، فلو أن الحاجّ التهامي دافع عن منصبه المخزني، وعن نفوذه الإداري، واستعان على ذلك بمن شاء، وركب في ذلك من الوسائل ما يركبه أمثاله من أمراء الإقطاع، وأحلاف السيوف والأنطاع، لما لَفت أنظارَنا إليه، ولما خالف الصورة التي نحملها له في أذهاننا؛ ولكنه فاجأنا بدعوة لم يسبقها إرهاص، وأذّن فينا للصلاة بِلُغة الزنوج، فادّعى أن ثورته إنما هي لحُرُمات الدين المنتهكة، ثم غلا فطلب من فرنسا حماية الإسلام، كما نقلتْ عنه بعض الجرائد الفرنسية فأزعجنا من ذلك ما يزعج كلّ عالم مسلم يغار على الإسلام أن تُنتهك حُرماته، ويعُدُّ أكبر انتهاك لها أن ينتصب لحمايتها إمامُ المنتهكين لها، وأن يستعينَ في ذلك بأكبر العاملين على انتهاكها.
إن وطن الإسلام حيث تُقام شعائرُه، وتتناوَح عشائره، فلنا في كل قطعة منه شرك، ولنا في كل قبيل من أهله نسبة، وعلينا في كل موقف من مواقف النضال عنه حق، فليهنأ الحاج التهامي، فوالله ما كنّا نتوقّع له أن تكون عاقبة علوّه جفاء لسلطانه، وتنكُّرًا لإخوانه، واحتقارًا لدينه، وسعيًا في نكث الحبل، وتشتيت الشمل، واستعاذةً من الفخ بالخاتل، واستعانة على الحياة بالقاتل ...
***(3/420)
ونضّر الله وجوه إخواننا علماء الدين بالمغرب الأقصى، فقد بلغنا أنهم قالوا كلمتهم في القضية، فأدُّوا الأمانة، وأقرُّوا الحق، وخرجوا من العهدة، وقاموا بواجب يحسُن به الذكر، وتُدفع به التهمةُ عنّا جميعًا، ومحَوا هُجنةَ السكوت في المقامات الحرِجة التي ألِف علماؤنا أن يلوذوا فيها بالصمت، فلا ينصرون حقًّا، ولا يخذلون باطلًا، ولا يبوءون فيها بمحمدة من المحقّ ولا من المبطل، وبلغنا أنهم كانوا في هذا الموقف على إجماع تخِرّ له أصنامُ الباطل، وبلغتْنا قِطَع من عرائضهم المرفوعة إلى السلطان، فإذا هي فرائض مكتوبة أدّيت، لا عرائض مكتوبة ألحمت وسُدّيت ...(3/421)
أرحام تتعاطف *
طالما نعينا على المسلمين خصوصًا، وعلى الشرقيين عمومًا، هذا التقاطع الذي شتّت شملهم، وفرّق جامعتهم، وصيّرهم لقمة سائغة للمستعمرين، وطالما شرحْنا للمسلمين أسرار التواصل والتراحم والتقارب الكامنة في دينهم، وأقمنا لهم الأدلة، وضربنا لهم الأمثال، وسُقنا المَثلات، وجلونا العبر، وكانت نُذر الشر تتوالى، فيتمارَوْن بها، وصيحات الضحايا منهم تتعالى، فيصِمُّون عنها، والزمن سائر، والفلك دائر، وهم في غفلة ساهون.
دعوناهم إلى الجامعة الواسعة التي لا تضيق بنزيل، وهي جامعة الإسلام، إلى الروحانية الخالصة التي لا تشاب بدخيل، وهي روحانية الشرق، وحذّرناهم من هذه الأفاحيص الضيقة، والوطنيات المحدودة، التي هي منبع شقائهم ومبعث بلائهم، وبيَّنا لهم أنها دسيسة استعمارية، زيّنها لهم سماسرة الغرب، وعلماؤه وأدلّاؤه، وغايتهم منها التفريق، ثم التمزيق، ثم القضم، ثم الهضم، وأنّ الاستعمار- بهذه الدسيسة وأشباهها- يُفسد فطرة الله فيهم، وينقُض دين الله عندهم، ففطرة الله تُلهِم نصر الأخ لأخيه، وحماية الجار لجاره، ودينُ الله يوجب حقوق الأخوة، ويدعو إلى إيثار الجار والإحسان إليه، وهو بهذا يُعمِّم التناصر، ويقيم في الأرض شرعة التعاون، فما من جار إلا له جار، والناس كلهم متجاورون، جوار الدار للدار، فجوار القرية للقرية، فجوار المدينة للمدينة، فجوار الوطن للوطن، فإذا أخذوا بهذه الشرعة وأقاموا حدودَها عمّ التناصر والتعاون، وسدّت المنافذ على المغيرين، وعلى المفسدين في الأرض، ولكنّ الاستعمار- بهذه الدسيسة- بدّل شرعة الله بشرعة الشيطان، فهو يقول لك: أقصِر اهتمامك على دارك، ولا تلتفتْ إلى دار جارك، ويوسوس للجار بمثل ذلك، حتى إذا أطاعاه خرّب الداريْن، واستعبد الجارين.
__________
* نشرت في العدد 148 من جريدة «البصائر»، 26 مارس سنة 1951.(3/422)
وما زال الاستعمار يروّض المسلمين والشرقيين على قبول هذه الدسيسة، ثم على استحسانها، ثم على الأخذ بها، حتى تقطَّعوا في الأرض أممًا ليس منهم الصالحون ... ثم تقطَّعت الأمم جماعات، وكلّما آنس منهم مخيلة انتباه غرّهم بما يغرّ به الشيطان، بشجرة الخلد وملك لا يبلى، وجرّهم بما ينجرّ به الصبيان: ألفاظ فارغة وأسماء وألقاب، وعروش من أعواد، في مسيل واد، حتى ابتلع ممالكهم، واسترقَّ ملوكهم، واحتجن أموالهم، وتركهم مثلًا في الآخرين، واعتبرْ ذلك بهذا الاستعمار الجاثم في شمال أفريقيا، وعدْ بذاكرتك إلى مبدإ أمره، وكيف أكل العنقود حبّة حبّة، متمهّلًا مطاولًا، يرقب الخُلسَ، ويدَّرع الغَلس؟ وكيف أطعمتْه غفلتنا الكراع، فأطمعته في الذراع، حتى استوعب الجسد كلّه أكلًا. وكيف كان يعتدي على الجزء، فيقابله الكل بالهزء. اعتبر ذلك ترَ أننا ما أخِذنا بغتة، ولا سُلبنا هذا الملك الضخم فلتة، وإنما هي آثار تلك الدسيسة فينا، استبدلنا التناحر بالتناصر، والتعاوي بالتعاون، ثم نزلنا دركة، فأصبحنا وإن الأخ ليقتل أخاه في سبيل قاتلهما معًا، ولو اتّعظ الأخير منا بالأول لما مدّ الاستعمار هذا المدّ، ولما بلغ فينا إلى هذا الحدّ.
...
وحلّت المحنة بالمغرب الأقصى، وجاءت فرنسا بالخاطئة، فأهانت ملكًا، وهدّدت عرشًا، وأذلّت شعبًا، وروّعت سربًا، وانتهكتْ حُرمات، واعتقلت أحرارًا، وكبتت أصواتًا، وحطت أعلياء من مراتبهم، ونصبَتْ أدنياء في غير مناصبهم، واستعانت على العقلاء بالسفهاء، وسلّطت الأخ على أخيه، والرّعيّة الآمنة على ملكها الأمين، وأشعلت النار بنا، لتُطفئها بنا ... فلا يكون ضرامها في الإشعال والإطفاء إلا أجسامنا ودماؤنا ... وجنت - بذلك كله- ثمار ما زرعته من تفريق، ورأينا- رؤية العين- ما كنّا نحذره على المسلمين، ونُحذّر منه المسلمين ... رأينا المثال المجسّم من انتصار الاستعمار بالمسلم على أخيه المسلم، وترويع المسلم بأخيه المسلم، وخوف المسلم من أخيه المسلم، كلّ ذلك والدين واحد، والوطن واحد، والمصلحة واحدة، والخصم المتربّص واحد، ولولا حكمة من العقلاء، وأناةٌ من الحلماء، لأريقت دماء المسلمين بمُدَى إخوانهم، في سبيل تمكين الاستعمار من رقاب جميعهم، ولعمري إنها لأقصى غاية من الفساد بلغناها، وأقصى أمنيّة للاستعمار نالها بنا فينا.
من كان يظنّ أو يتوقّع أن يجلب الاستعمار على عرش من عروش الإسلام العريقة، لا بخيله ورجله، بل بخيل المسلمين الذين رفعوا دعائمه ورجلهم؛ من كان يظن أو يتوقَّع أن الاستعمار يبلغ منا هذا المبلغ، فيدوسنا بأرجلنا، ويريق دماءَنا بأيدينا، وينتصر علينا بنا،(3/423)
ويصيِّر من بعضنا لبعضنا "بعابع" تخويف، ووحوش إرهاب، ويبلغ في ترويضنا إلى حد أن نصبِح أذلةً عليه، أعزةً على قادتنا ورجالنا؟ من كان لا يظن ذلك ولا يتوقعه، فها هو ذا محقَّق غير مظنون، وواقع غير متوقع، ولئن وقع متفرقًا في غير المغرب، فقد وقع كله مجتمعًا في المغرب.
وكأنّ الأزْمة اشتدّت لتنفرج ... وكأنْ القنديل آذن بالانطفاء فتلك إيماضتُه الأخيرة، وكأنّ يد الله التي ارتفعت عنّا بما كسبت أيدينا قد لامستنا هذه المرة ... فلم نرَ محنةً من المحن التي جرّها الاستعمار على الإسلام وعلى الشرق، كانت أجمع للقلوب، وأدعى إلى التناصر من هذه المحنة، فقد كانت عاملًا إلهيًّا فتح العيون العُمي، والآذان الصمّ، والقلوب الغُلف، وأيقظ الشواعر النائمة، ونبّه القوى الخامدة، فتعاطفت الأرحام المتقاطعة، وتعارفت الأرواح المتناكرة، فكانت تلك الموجة الجارفة من السخط والغضب والامتعاض، ظهرت في صحف الشرق، ثم سرت إلى حكوماته وهيئاته، ثم انتقلت عدواها إلى الشعوب، فكوّنت إجماعًا رهيبًا على انتصار المشرق للمغرب، لم يسبق له مثيل، وكانت غضبةً إسلامية ارتاع لها الاستعمار، وقدّر عواقبها، فلاذ بالحيلة والكيد والتهديد على عادته، وواهًا لها غضبةً لو اعترتنا مرةً أو مرتين قبل اليوم، لما عاش الاستعمار بيننا إلى اليوم!
إننا- على ضعفنا- ما زلنا نملك أسلحة لو أحسنَّا استعمالها مجتمعين، لأرهبنا صهيون ونيرون معًا، ولكنّ طالع الاستعمار ما زال بغفلتنا وتخاذلنا متنقلًا بين "سعد السعود" وبين "سَعْدِ بُلَع"، ولو عاملناه بغير هذه المعاملة لكان منزلُه "الدَّيران". ولو أن المسلمين والشرقيين عمومًا لقُوا خصومهم في كل معترك سياسي بمثل هذا الإجماع في الرأي، والتواطؤ على الغضب، لهَتَموا أنيابهم الحداد، وقلَّموا أظافرهم الجاسية، ولكنهم لانوا لخصمهم أولًا، فقسا عليهم أخيرًا، وعوّدوه أن لا يلقوه جميعًا، فعوّدهم أن يلتهمهم جميعًا.
ونكون عقلاء واقعيين إذا قدّرنا أن هذه الضجة التي أثرناها ستنتهي بلا فائدة، ولا تنال من ظاهر الاستعمار منالًا؛ لما نعرفه من أساليبه في إسكات مثلها بالحيلة والكيد؛ ولما نعرفه من أنفسنا من عيوب الانخداع والاغترار وسرعة التراجع، وعدم الاستمساك، ولكننا نكون عقلاء واقعيين أيضًا إذا قدرنا هذه الضجة قدرها، وأعظمنا آثارها النفسية في الشعوب الإسلامية والشرقية، وأقمناها دليلًا على شمول اليقظة لها، وحياة الشعور فيها، وانتزعنا منها فألًا، ما ينتزعه الاستعمار منها طيرة.
***(3/424)
أينقِم منّا الاستعمار أن نتناصر بالكلام، وهو سلاح المغلوب، ونتعاون بالأقلام، وهي بقية المتاع المسلوب، وتتعاطف منا الأرحام، وذلك أيسر مطلوب؟ إن صحّ ذلك منّا فلا رضي ولا حظي، ولا زال غضبان حرِدًا.
إننا لا نلومه إلا إذا لمنا السباع الضارية على الافتراس، وإنما نلوم أنفسنا أن لا نكون شوكًا في لهواته، ونغَصًا في شهواته، وسوادًا في لونه، وفسادًا في كونه، وضياعًا في صونه، وخذلانًا في عونه، ولو كنّا ذلك لأنصفناه وانتصفنا لأنفسنا منه ...(3/425)
سكتُّ ... وقلت ... *
(هدية إلى حُماة العروبة بالمغرب الأقصى)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
سكتُّ، فقالوا: هدنة من مسالم … وقلت، فقالوا: ثورة من مُحارب
وبينَ اختلاف النطق والسكت للنُّهى … مجال ظنون، واشتباه مسارب
وما أنا إلا البحر: يَلقاك ساكنًا … ويلقاك جيَّاشًا مهولَ الغوارب
وما في سكون البحر منجاة راسب … ولا في ارتجاج البحر عصمة سارب
ولي قلم آليتُ أن لا أمدَّه … بفتل مُوارٍ، أو بختل موارِب
جرى سابقًا في الحقّ ظمآن عائفًا … لأمواه دنياه الثِّرار الزَّغارب (1)
يسدّده عقل رسا فوق رَبْوة … من العمر، روَّاها مَعين التجارب
إذا ما اليراعُ الحُرّ صرَّ صريرُه … نجا الباطل الهاري بمهجة هارب
ومن سيئات الدهر أحلافُ فتنة … وجودُهُمو إحدى الرزايا الكوارب
ومن قلَمي انهلَّت سحائبُ نقمة … عليهم بوَدْقٍ من سمام العقارب
...
فيا نفسُ لا يقعُد بكِ العجز، وانهَضي … بنصرة إخوان، وغوْثِ أقارب
حرامٌ، قعودُ الحُر عن ذَوْد معتد … رمى كل ذَوْد في البلاد بخارب
وبَسْل (2)، سكوتُ الحر عن عسف ظالمٍ … رمى كلّ جنب للعباد بضارب
يُسَمِّنُ ذئبَ السُّوء قومي سفاهةً … بما جبَّ منهم من سنامٍ وغارب
وما كان جندُ الله أضعف ناصرًا … ولا سيفُه الماضي كليلَ المضارب
__________
* نشرت في العدد 150 من جريدة «البصائر?»، 9 أفريل سنة 1951.
1) جمع زغرب: وهو الماء الكثير المستبحر.
2) بسل حرام.(3/426)
ومن جنده ما حطّ أسوارَ "مارد" (3) … وما صنعَ الفارُ المهين "بمارب" (4)
ومن جُنده الأخلاقُ: تسمو بأمة … إلى أفق سعد للسِّماك مقارب
وتنحطُّ في قوم فيهوُون مثلَ ما … ترى العين من مهوى النجوم الغوارب
ينال العُلا شعبٌ يُقاد إلى العلى … بنشوان، من نهر المجرّة شارب
...
رعى الله من عُرْب المشارق إخوةً … تنادَوْا فدوّى صوتهم في المغارب
توافوْا على داعٍ من الحق مُسْمع … ووفَّوْا بنذْر في ذِمام الأعارب
هُمُو رأسُ مالي، لا نضار وفضّة … وهمْ ربحُ أعمالي ونُجْح مآربي
وهمْ مورِدي الأصفى المروّي لغُلتي … إذا كدّرَتْ "أمُّ الخيار" (5) مشاربي
__________
3) مارد قصر منيف ضرب به المثل: تمرد مارد وعزّ الأبلق.
4) سدّ معروف باليمن، ترتّب عن اختلاله سيل العرم المذكور في القرآن، وهو في منازل سبأ.
5) "أم الخيار" كنية اصطلح الأدباء في الجزائر من أبنائنا العاملين على تكنية فرنسا بها، أخذًا من قول أبي النجم الراجز:
قد أصبحت أم الخيار تدّعي … عليّ ذنبًا كله لم أصنع
ووجه هذه التكنية أنها كانت تتجنّى علينا، وتخلق لنا من الذنوب ما لم نصنعه، كلّما أرادت إلحاق الأذى بنا.(3/427)
عروبة الشمال الافريقي *
عروبة الشمال الافريقي بجميع أجزائه طبيعية، كيفما كانت الأصول التي انحدَرت منها الدماء، والينابيع التي انفجرت منها الأخلاق والخصائص، والنواحي التي جاءت منها العادات والتقاليد؛ وهي أثبتُ أساسًا، وأقدم عهدًا، وأصفى عنصرًا، من إنكليزية الإنكليز، وألمانية الألمان.
قضت العروبة بقوّتها وروحانيتها وأدبها وسموّ خصائصها وامتداد عروقها- في الأكرمين الأُوَل من نبات الصحارى وبناة الحضارات فيها- على بربرية كانت منتشرةً بهذا الشمال، وبقايا آرّية كانت منتشرةً فيه، وفعل الزمن الطويل فعله حتى نسيَ الناس ونسي التاريخ الحديث أنّ هنا جنسًا غير عربي؛ وضرب الإسلام بيُسره ولطف مدخله، وملاءمة عقائده للفطر، وعباداته للأرواح، وآدابه للنفوس، وأحكامه للمصالح، على كل عرق ينبض بحنين إلى أصل، وعلى كل صوت يهتف بذكرى إلى مَاضٍ بعيد؛ وزاد العروبة تثبيتًا وتمكينًا في هذا الشمال هذه الأبجدية العربية الشائعة التي حفظت أصولَ الدين، وحافظت على متون اللغة، ودوّنت الآداب والشرائع، وكتبت التاريخ، وسجَّلت الأحكام والحقوق، وفتحت الباب إلى العلم، وكانت السبيلَ إلى الحضارة.
كل هذه العوامل صيّرت هذا الشمال عربيًّا قارَّ العروبة على الأُسس الثابتة من دين عربي، ولغة عربية، وكتابة عربية، وآداب عربية، ومنازع عربية، وتشريع عربي، وجاء التّاريخ- وهو الحَكَم في مثل هذا- فشهد وأدَّى، وجاءت الجغرافيا الطبيعية فوصلت هذا الشمال بمنابت العروبة من جزيرة العرب، وجاء الزمن بثلاثة عشر قرنًا، تشهد سِنوها وأيّامها بأنها فرغت من عملها، وتمّ التمام، ووقع الختم، وأن عروبة هذا الوطن جرَتْ في مجاريها
__________
* نشرت في العدد 150 من جريدة «البصائر»، 9 أفريل سنة 1951.(3/428)
طبيعيةً منسابة، دم يشُبها إكراه، ولم يشِنها عنف، ولم يؤثّر فيها عامل دخيل، ولم تقُم على تحيُّل أو استغفال، وإنما هي الروح عرفت الروح، والفطرة سايرت الفطرة، والعقلُ أعدى العقل، وكأنّ الأمم التي كانت تُغطِّي هذه الأرض قبل الاتصال بالعرب، كانت مهيأة للاتصال بالعرب، أو كأنّ وشائج من القربى كانت مخبوءة في الزَّمن، فظهرت لوقتها، وكانت نائمة في التاريخ فتنبَّهت لحينها؛ وإن الأمم لتتقارب بعد أن كانت متباعدة، مثل ما تتباعد بعد أن كانت متقاربة، ولا يتوقف التقارب إلّا على دعوة مصحوبة بحجّة، أو حادثة مقرونة برجَّة، وكلتاهما وُجدت في الإسلام.
إن كل ما يحتجّ به القادحون في عروبة هذا الشمال هو حجة عليهم، فالدُّوَل التي قامت فيه- كاللمتونية والرستمية والموحّدية والصنهاجية والمرينية والزيَّانية- ليس لها من البربرية إلا النسبة العرفية، وهي فيما عدا ذلك عربية صميمة: عربية في الضروريات المقوّمة للدولة، كوظائف القلم من إدارية ومالية، ووظائف القضاء من عقود وتسجيلات، وعربية في الكماليات التي تقتضيها الحضارة والترف، كالغناء والموسيقى والشعر، فما علمنا أن شعراء البلاطات في تلك الدول تقرّبوا إلى الملوك بالشعر البربري، إلا أن يكون في النادر القليل، وفي حال الاصطباغ بالبداوة الأولى.
...
هذه العروبة الأصيلة العريقة في هذا الوطن، هي التي صيّرته وطنًا واحدًا، لم تفرّقه إلا السياسة، سياسة الخلاف في عصوره الوسطى، وسياسة الاستعمار في عهده الأخير؛ وهذه العروبة هي مساكه على كثرة المفرّقات، وهي ملاكه على وفرة العوامل الهادمة، وهي رباطه الذي لا ينفصم، ببقية أجزاء العروبة في الشرق، وهي السبب في كل ما يأخذ من تلك الأجزاء وما يعطيها، فينصرُها في الملمَّات، ويتقاضاها النصر في المهمات؛ فالعالم العربي بهذه العروبة المكينة كالجسد الواحد إذا ألمّ بجزء من أجزائه حادث، أو نزلت به مصيبة، تداعت له سائر الأجزاء بالنصرة والغوث، أو بالتوجّع والامتعاض؛ وقد امتُحن المغرب الأقصى- وهو عضو رئيسي من هذا الجسد- هذه المحنة التي لم نزلْ في عقابيلها، فهبّت مواطن العروبة كلُّها صارخةً في وجه العادي، فقال كل عاقل في الدنيا: إن هذا التضامن طبيعيّ، لأنه حنين العرق إلى العرق، ومجاوبة الروح للروح، ونداء الدّم للدّم، وأنه فيض من شعاب الفطرة الإنسانية، لا تملك القوة المادية زمامه، ونعرة من ذوي رحم، لا يتوجّه إليهم فيها اللوم فضلًا عن المؤاخذة، وهل يُلام يهود أميركا على انتصارهم لإخوانهم يهود ألمانيا؛ وهل يُلام فرنسيّو كندا إن توجّعوا لكارثة حلّت بإخوانهم في فرنسا؛ إنها نعرة طبيعية لم يضعفها الإغراق في البداوة، ولم يخفّفها(3/429)
الإمعان في الحضارة، ولم يشذّ بها دين ولا علم، وما العرب إلا من الناس، وما هم بأقلّ حظًّا في الإنسانية من الناس.
...
هذا هو فجّ الحقائق الذي يسلكه العقلاء فلا يضلّ بهم سبيل، ولا يفسُد عليهم تعليل، فأما الاستعمار فإنه يسلك في ذلك كله فجاجًا طامسة الأرجاء، فيتناول الحقائق الثابتة بالتشويه والمغالطة، ثم بالمكابرة فيها، ويُجادل بالباطل ليُدحض به الحق، وكأنّ سُنن الله (مستعمرة) أيضًا. فهو ينقلها من رُقعة إلى رقعة كقطَع الشطرنج، إذا خالفت سنّته هو، وينقض قوله بفعله، وفعله بقوله، كلما أفحمه المنطق وأوهى حجّته.
ينكر الاستعمار عروبة الشمال الافريقي بالقول، ويعمل لمحوها بالفعل، وهو في جميع أعماله يرمي إلى توهين العربية بالبربرية، وقتل الموجود بالمعدوم، ليتمّ له ما يريد من محو واستئصال لهما معًا، وإنما يتعمد العربية بالحرب لأنها عماد العروبة، وممسكة الدين أن يزول، ولأن لها كتابة، ومع الكتابة العلم، وأدبا، ومع الأدب التاريخ، ومع كل ذلك، البقاء والخلود، وكل ذلك مما يُقضّ مضجعه، ويُطير منامه، ويصخّ مسمعه، ويُقصِّر مقاهه.
وما هذه البدَوات التي تبدو منه حينًا بعد حين، إلا وسائلُ لمَحْو العربية ونقص العروبة من أطرافها، فكلّما هاجتْ به النَّوْبة، وغاظه من العروبة هذا التحدّي، وهذا الصمود للعوادي، وهذا التصلُّب في المقاومة، ارتكب جريمة، وسنّ لها من القوانين ما يقوّلها ويُغطِّيها، ويُسمّيها مصلحة، وجنّد لها من الأشخاص كل حاكم، وكل طامع، وكل ذي دِخلة سيئة، ومن الأعمال: التطبيل والتزمير، والإعلان والتشهير، ومن المعاني الاستمالة والتيسير والاستهواء والتغرير، والإغواء والتبشير، وما الظهير البربري في ذلك الباب بأول ولا أخير.
كل ذلك الجهد، ومثلُه معه مصروف إلى غاية واحدة، وهي محو العربية وقتل العروبة، وكل ذلك الجهد مردف بجهد آخر في إحياء المعاني الميتة التي قتلها الإسلام من بِدع وضلالات ...
ومن أباطيل الاستعمار وتهافته، أنه يسمِّي السوداني المتجنِّس بالجنسية الفرنسية ليومه أو لساعته: فرنسيًّا، ويلحقه بنسَبه، ويُساويه به في حقوقه ومميزاته، ثم ينكر على البربري - مثلاً- أن يكون عربيًّا، بعد ما مرّت عليه في الاستعراب ثلاثة عشر قرنًا وزيادة، وبعد أن درج أكثرُ من ثلاثين جيلًا من أجداده على الاستعراب، لا يعرفون إلا العربية لغةً يتكلّمون بها ويتأدّبون ويتعبّدون، فليت شعري: أيهما أقرب إلى الواقع: آلْبَرْبَرِيّ المستعرب، أم السوداني المتفرنس؟ وأيهما أنفذ؟ أحكم الله، أم حكم الاستعمار؟(3/430)
ومن آيات بغض الاستعمار لكلمة العروبة ونفوره منها، أنه لا يريد أن يعترف بأثر من آثارها الطبيعية من تراحم وتعاطف، فهو في محنة المغرب الأقصى الأخيرة، وما أثارته من غضب العرب وسخطهم وإجماعهم على الاستنكار، لا يَرُد ذلك إلى مردّه الطبيعي، وهو التعاضد الجنسي، وإنما يردّه إلى شيء آخر تنكره روح هذا العصر المنافق، وهو التعصّب الديني، كلّ ذلك ليبعد عن خواطره- ولو بالتوهّم- خيالَ العروبة مجتمعة الشمل، متصلة الأسباب، موصولة الأرحام، معلنة لعروبة الشمال الافريقي، وتُعمي الأهواء عينيه على حقيقة مجردة، وهي أن حظّ العرب المسيحيين في مصر والشام من التألّم لمحنة المغرب الأقصى، لم يكن أقلّ من حظ إخوانهم المسلمين.
إن الاستعمار- على ذلك كله- ليعرف عروبة هذا الشمال ويعترف بها، ولكنه ممن يكتمون الحق وهم يعلمون، فقد احتلّ هذا الوطن فكانت أقواله في الحرب والسلم، وأحكامه في العدل والظلم، كلها جارية بأنه عربي، وعلى أنه عربي، وكلمة العرب Les Arabes التي يطلقها على أهله تمييزًا أو نبزًا أكبر حجة عليه، ولكنه في مبتدإ أمره ومنتهاه رجس من عمل الشيطان، وهل في عمل الشيطان خير أو حق؟ إنما هو عناد للحق، وتزيينٌ للباطل، ونقض للخير، وبناء للشر، وما شاء الشيطان من النقائص.(3/431)
جمعية العلماء
وفلسطين(3/433)
فلسطين (1)
تصوير الفجيعة *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يا فلسطين! إن في قلب كل مسلم جزائري من قضيتك جروحًا دامية، وفي جفن كل مسلم جزائري من محنتك عبراتٍ هامية، وعلى لسان كل مسلم جزائري في حقك كلمة مترددة هي: فلسطين قطعة من وطني الإسلامي الكبير قبل أن تكون قطعة من وطني العربي الصغير؛ وفي عُنق كل مسلم جزائري لك- يا فلسطين- حقٌ واجبُ الأداء، وذمام متأكِّد الرعاية، فإن فرّط في جنبك، أو أضاع بعضَ حقك، فما الذنب ذنبُه، وإنما هو ذنب الاستعمار الذي يحول بين المرء وأخيه، والمرء وداره، والمسلم وقبلته.
يا فلسطين! إذا كان حب الأوطان من أثر الهواء والتراب، والمآرب التي يقضيها الشباب، فإنّ هوى المسلم لك أن فيك أولى القبلتين، وأنّ فيك المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وإنك كنت نهاية المرحلة الأرضية، وبداية المرحلة السماوية، من تلك الرحلة الواصلة بين السماء والأرض صعودًا، بعد رحلة آدم الواصلة بينهما هبوطًا؛ وإليك إليك ترامت همم الفاتحين، وترامت الأيْنُق الذلل بالفاتحين، تحمل الهدى والسلام، وشرائع الإسلام، وتنقل النبوَّة العامة إلى أرض النبوات الخاصة، وثمار الوحي الجديد إلى منابت الوحى القديم، وتكشف عن الحقيقة التي كانت وقفت عند تبوك بقيادة محمد بن عبد الله. ثم وقفت عند مؤتة بقيادة زيد بن حارثة، فكانت الغزوتان تحويمًا من الإسلام عليك، وكانت الثالثة وِرْدًا، وكانت النتيجة أن الإسلام طهرك من رجس الرومان، كما طهر أطراف الجزيرة قبلك من رجس الأوثان.
داست حماك سنابك الخيول البابليَّة، وجاست خلال الديار، وسُبي بنوك (أسلاف الصهيونيين)، فلم ينتصر لك ولا لهم أحد، لولا أن منّ عليهم الفاتحون المستعبدون، وإن
__________
* نشرت في العدد 5 من جريدة «البصائر»، 5 سبتمبر سنة 1947.(3/435)
المنّ لأنكى على الحر من الاسترقاق، ثم غزاك الرومان، وأذلُّوا بنيك واشتفَوْا منهم إثخانًا في القتل وانتقامًا- زعموا- من جريرة الصلب، وما ظلمت يا فلسطين، ولكنّ بَنيكِ جرّوا عليك الجرائر، وما كنتِ لتُفْلِتي من براثن الرومان لولا أن انتصف الله لك من عدوّك بالإسلام والعرب، فنصروك وطهّروك وبلُّوا الرحمَ الإبراهيميّة بِبُلالها، ووفَوْا لأبناء العمومة بحقّ القربَى والجوار، وأصبحت من ذلك الحين ملكًا ثابتًا للإسلام، وإرثًا مستحقًا من موسى لمحمد، ومن التوراة للقرآن، ومن إسحق لإسماعيل.
يا فلسطين! ملكك الإسلام بالسيف ولكنه ما ساسك ولا ساس بنيك بالحيف، فما بالُ هذه الطائفة الصهيونية اليوم تُنكر الحق، وتتجاهل الحقيقة، وتجحد الفضل، وتكفُر النعمة؛ فتُزاحم العربيّ الوارث باستحقاق عن موارد الرزق فيك، ثم تَغْلو فتزعم أنه لا شرب له من ذلك المورد.
ما بالُ هذه الطائفة تدَّعي ما ليس لها بحق، وتطوي عشرات القرون لتصلَ- بسفاهتها- وعدَ موسى بوعد "بلفور"، وإن بينهما لَمَدًّا وجزْرًا من الأحداث، وجذبًا ودفعًا من الفاتحين.
ما بالُها تدّعي إرثًا لم يَدفعْ عنه أسلافها غارةَ بابل، ولا غزو الرومان، ولا عادية الصليبيين، وإنما يستحق التراث من دافع عنه وحامى دونه، وما دافع بابل إلا انحسارُ الموجة البابلية بعد أن بلغَتْ مداها، وما دافع الرومان إلا عمر والعرب وأبطال اليرموك وأجنادين، وما دافع الصليب وحامليه إلا صلاح الدين وفوارس (حِطِّين).
إن العرب على الخصوص، والمسلمين على العموم، حرّروا فلسطين مرّتين في التاريخ، ودفعوا عنها الغارات المجتاحة مرّات، وانتظم ملكهم إياها ثلاثة عشر قرنًا. وعاش فيها بنو إسرائيل تحت راية الإسلام وفي ظل حمايته آمنين على أرواحهم، وأبدانهم، وأعراضهم، وأموالهم، وعلى دينهم، ومن المحال أن يحيف المسلم الذي يؤمن بموسى، على قوم موسى.
ما أشبه الصهيونيين بأوّلهم في الاحتياط للحياة، أولئك لم يقنعوا بوعد الله، فقالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا}، وهؤلاء لم يثقوا بوعد بلفور حتى ضمنت لهم بريطانيا أن يكونوا في ظل حرابها، وتحت حماية مدافعها وقوانينها؛ وبكل ذلك استطاعوا أن يدخلوا مهاجرين ثم يصبحوا سادة مالكين، ودعْ عنك حديث الإرهاب فما هو إلّا سراب.
ولو أنَّ السيوف الإنجليزية أُغمدت، والذهب الصهيوني رجع إلى مكانه، وعرضت القضية على مجلس عدل وعقل لا يَستهويه بريق الذهب، ولا يرهبه بريق السيوف، لقال القانون: إن ثلاثة عشر قرنًا كافية للتملّك بحق الحيازة، وقال الدين: إن أحق الناس بمدافن(3/436)
الأنبياء هم الذين يؤمنون بجميع الأنبياء، وقال التاريخ: إن العرب لم ينزعوا فلسطين من اليهود، ولم يهدموا لهم فيها دولةً قائمة، ولا ثلُّوا لهم عرشًا مرفوعًا، وإنما انتزعوها من الرومان، فهم أحق بها من كل إنسان.
...
إن الصهيونية فيما بلونا من ظاهر أمرها وباطنه نظام يقوم على الحاخام والصيرفي والتاجر، ويتسلّح بالتوراة والبنك والمصنع، وغايتها جمعُ طائفة قُدّر لها أن تعيش أوزاعًا بلا وازع، وقُدِّر لها أن تعيش بلا وطن- ولكن جميع الأوطان لها- فجاءت الصهيونية تحاول جمعها في وطن تُسمِّيه قولًا فلسطين، ثم تُفسِّره فعلًا بجزيرة العرب كلها، فهو في حقيقته استعمار من طراز جديد في أسلوبه ودواعيه وحُججه وغاياته، يجتمع مع الاستعمار المعروف في أشياء، وتفرّق بينهما فوارق، منها أن الصهيونية تعتمد قبل كل شيء على الذهب، تشتري به الضمائر والأرض والسلاح، وتشتري به السكوتَ والنطق، وتشتري به الحكومات والشعوب، تعتمد عليه وعلى الحيلة والمكر والتباكي والتصاغر في حينه، وعلى التنمّر والإرهاب في فرصته.
إن فلسطينَ أرض عربيّة لأنها قطعة من جزيرة العرب، وموطن عريق لسلائل من العرب، استقرّ فيها العرب أكثرَ مما استقرّ اليهود، وتمكَّن فيها الإسلام أكثر مما تمكنت اليهودية، وغلب عليها القرآن أكثر مما غلبت التوراة، وسادتْ فيها العربية أكثر مما سادت العبرية، وما الانتداب الإنجليزي إلا باطل، ليس من مصلحة العرب ولا من مصلحة اليهود، وما الوطن القومي إلا خيال جسَّمتْه الأحلام الدينية، والمطامع المادية، وما منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ولجنة التحقيق إلا تعلّات لا تُسكِت ولا تُسَكِّن، وما استمرار الهجرة إلا مدٌّ للحمأة وتأريث للنار، ومَن ضاقت به رحاب الدنيا لا تسعه فلسطين، ومن لفظته حواشي الأرض لا تستقرّ به فلسطين، أمَّا حديث التشريد والمشرّدين من اليهود فهو مشترك إلزام في القضية، وما أكثر المشرَّدين في الأمم الإسلامية، بل ما أكثر المشرَّدين من العرب، فإذا أخذْنا الرحمة بالمشرّدين قاعدةً كان أحق الناس بها مشرّدي العرب الذين لا يفصلهم عنها بحر ولا يقال في هجرتهم إليها إنها شرعية أو بدعية كما يقال في هجرة اليهود، وما ظُلِمت كلمة الشرع بأفحش من نسبة الحيل إليها عند بعض فقهائها، ومن نسبة الهجرة اليهودية إليها عند فقهاء الاستعمار.
***(3/437)
أيظنُّ الظانُّون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة تنسى فلسطين، أو تضعها فى غير منزلتها التي وضعها الإسلام من نفسها، لا والله، ويأبى لها ذلك شرف الإسلام ومجد العروبة ووشائج القربى، ولكن الاستعمار الذي عقد العقدة لمصلحته، وأبى حلها لمصلحته، وقايض بفلسطين لمصلحته، هو الذي يُباعد بين أجزاء الإسلام لئلا تلتئم، ويقطع أوصال العروبة كيلا تلتحم، وهيهات هيهات لما يروم.
إن بين دول الاستعمار علائقَ ماسّة، وإنهنّ يتباعدن ما دام خيال الشرق وبنيه والإسلام وأمَمه بعيدًا، فإذا لاح ذلك الخيال حنّت من الاستعمار الدماء، وتعاطفت الأرحام، وتُنُوسِيت الأحقاد، فهلّا فعلنا مثل ما فعلوا؟
أيها العرب! إن قضية فلسطين محنةٌ امتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم، وليست فلسطين لعرب فلسطين وحدهم، وإنما هي للعرب كلهم، وليست حقوق العرب فيها تُنال بأنها حق في نفسها، وليست تُنال بالهوينا والضعف، وليست تنال بالشعريات والخطابيّات، وإنما تنال بالتصميم والحزم والاتحاد والقوة.
إن الصهيونية وأنصارها مصمّمون، فقابلوا التصميم بتصميم أقوى منه وقابلوا الاتحاد باتحاد أمتن منه.
وكونوا حائطًا لا صدع فيه … وصفًّا لا يُرقّع بالكُسالى(3/438)
فلسطين (2)
وصف قرار تقسيمها *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تصدّع ليلُ فلسطين الداجي عن فجر كاذب العيان، وتمخّض مورد الطامعين فى إنصاف أوربا القديمة وأوربا الجديدة عن آل لماع يرفع الشخوص ويضعها في عين الرائي لا في لَمْسَ اللامس، وباء الظانُّون ظنَّ الخير بالضميرين الأوربي والأمريكي بما يستحقّونه من خيبة تعقُبها حسرة، تعقُبها ندامة؛ وتكشف ذلك اللبس الذي دام عشرات السنين عن الحقيقة البيضاء، وهي أن حق الشرق لا وليَّ له في الغرب ولا نصير، وجاء بها هذا المجلس الذي يُسمّونه- زوراً- مجلسَ الأمم المتحدة شنعاء لا تُوارَى من أحكام القاسطين، وأحلام الطامعين.
تراءى الحقُّ والباطل في ذلك المجلس، لا العربُ واليهود، وجاء أهل الحق يحملون المنطق، ويخطبون المعدلة، ويخاطبون الضمير والعقل، ويحتكمون إلى الشعور والإحساس وما منهم إلا من هو في الخصام مبين؛ وجاء أهل الباطل يحملون الإبهام المضلِّل، والكيد المبيت، والمكر الخفي، والدعاوى المقطوعة من أدلّتها، ومع كل أولئك- الرنين الساحر يستهوُون به الأفئدة الهواء والضمائر الخربة؛ وأنصَتَ التاريخ ليسجّل الشهادة، واستشرف الكون لينظر هل تُخرَق للأقوياء عادة، ونُشِر الأصل والدعوى. وتعارضت البيِّنة والشبهة، وأفصح الحق واتّضَح، ولجلج الباطل وافتضح، ولكنّ تلك الدول المتحدة على الباطل ألجمها الحق بحججه، وأجرَّتها الحقيقية بوضوحها، فحكموا الانتخاب ... وليت شعري أي موضع للانتخاب هنا؟ إن تحكيم الانتخاب هنا كتحكيم القُرعة بين أصحاب الحظوظ المتفاوتة، كصاحب العشر مع صاحب النصف، كلاهما باطل، لا يسيغه عقل ولا شرع ... وأي فرق بين ما نعيبه من تحكيم الجاهلية للأزلام الصمّاء وحصى التصافُن، وبين تحكيم أصوات من أموات وويلات، سمّوهم ممثِّلي دويلات؟
__________
* نشرت في العدد 21 من جريدة «البصائر»، 2 فيفري سنة 1948.(3/439)
أسفر الانتخاب عن تقسيم فلسطين تحدّيًا للعرب وحقّهم، وللمسلمين ودينهم، فكان حظ اليهود منها- بغير انتخاب ولا قرعة- الجهات الخصبة، المتصلة بالعالم، القريبة من الصريخ، الموطأة الأكناف، المأمونة الأمداد والمرافق؛ وكان حظُّ العرب منها الجهات الرملية القاحلة والجبلية الجرداء، وكان حظ البيت المقدَّس ميراث النبوّة عن النبوّة أن يصبح إرثًا لأحفاد الصليبيين، وذِيدَ عنه الخصمان المحقّ والمبطل: فلا اليهود به فازوا، ولا العرب إيَّاه حازوا، وإنا لنعلم الاعتبارات التي بُني عليها هذا التقسيم، والمكائد التي انطوى عليها، والمقاصد التي رَمى إليها، وإنا لنعلم الدواعي التي حملت الناطقين على النطق والساكتين على السكوت. وإننا لا نغترُّ بما حاكوا وما لاكوا، ولا نرتد على أعقابنا بما حذَّروا وما أنذروا، ولا نعتبر الحياد إلا كيادًا، وإنَّنا نعتقد أنهم جميعًا سيذوقون وبالَ أمرهم، وأن مكرهم سيحيق بهم، وأن تشتيتهم لشمل فلسطين فاتحة لتشتيت شملهم، وأن النار التي أشعلوها في فلسطين ستلتهمهم جميعًا.
إيه يا فلسطين!! لقد كنت مباركةً على العرب في حاليْكِ! في ماضيك وفي حاضرك! كنتِ في ماضيك مباركةً على العرب يوم فتحوك فكمّلوا بك أجزاءَ جزيرتهم الطبيعيّة، وجمَّلوا بك تاج ملكهم الطريف، وأكملوا بحرمك المقدس حرميْهم، ويوم اتّخذوك ركابًا لفتوحاتهم، وبابًا لانتشار دينهم ومكارمهم ومرابطَ لحُماة الثغور منهم ... أنت عتبتهم إلى مصر، ومعبرهم إلى أفريقيا، ومنظرتهم إلى بحر العرب، لم تطأكِ بعد أقدام النبيين أطهرُ من أقدامهم، ولم يحمِك بعد موسى أشجعُ من أبطالهم ... وكنت مباركةً عليهم في حاضرك المشهود فما اجتمعتْ كلمتهم في يوم مثل ما اجتمعتْ في يوم تقسيمك، ولقد فرّقهم الاستعمار الخبيث في عهدهم الأخير، فما تنادَوْا إلى الاتحاد مثل ما تنادَوْا إلى الاتحاد في سبيلك، ولقد تخوّف أوطانهم من أطرافها، فما تداعوا إلى الذود عن قطعة من أرضهم مثل ما تداعوا إلى الذود عنك.
أما والله يا فلسطين، لكأنَّ أعداء العرب أحسَنوا إليهم بتقسيمك من حيث أرادوا الإساءة، ولكأنّ المصيبة فيك نعمة، ولكأنّهم امتحنوا بتقسيمك رجولتنا وإباءَنا ومبلغ التضحية بالعزيز الغالي فينا، ولكأنَّهم جسّوا بتقسيمك مواقع الكرامة والشرف منّا، وكأنّ كل صوت من أصواتهم على التقسيم صوت جهير ينادي العرب: أين أنتم؟ فلا زلتِ مباركةً على العرب يا فلسطين!
...
أيها العرب! قُسمت فلسطين فقامت قيامتكم ... هدرت شقائقُ الخطباء، وسالت أقلام الكتّاب، وأرسلها الشعراء صيحات مثيرةً تحرّك رواكدَ النفوس، وانعقدت المؤتمرات،(3/440)
وأقيمت المظاهرات، فهل كنتم ترجون من الدول المتّحدة على الباطل غير ذلك؟ وهل كنتم تعتقدون أنه مجلس أمم كما يزعم؟ كأنَّ تلك الأمم وحَّد بينها الانتصار على الألمان النازي، واليابان الغازي. فجعلت من شكر الله على تلك النعمة أن تنظم أمم العالم في عقد من السلام والحرية تستوي فيه الكبيرة والصغيرة؛ ودوله في مجلس تستوي فيه القوية والضعيفة، ليقيم العدل، وينصف المظلوم، وكأنَّكم ما علمتم أن ذلك المجتمع يمشي على أربع، ثلاث موبوءة، والرابعة موثوءة.
يا قوم! ما ظُلمت فلسطين يوم قُسمت، ولكنَّها ظُلمت يوم بذل بلفور وعده للصهيونيين باسم حكومته، وما منَّا- أهلَ هذا الجيل- إلا من شهد يوم الوعد، وشهد يوم التقسيم، وشهد ما بينهما، ومَن عرف مصادر الأمور عرف مواردها، فانظروا- ويحكم- ماذا فعل الصهيونيون من يوم الوعد إلى يوم التقسيم، وانظروا ماذا فعلنا.
علم الصهيونيون أن الوعد لا يعدو كونه وعدًا، وأن نصّه الطريّ اللّين هو: "أن انكلترا تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين! " فأعدّوا لتحقيقه المال، وأعدُّوا الرجال، وأعدّوا الأعمال؛ واتخذوا من الوقت سلاحًا فلم يضيعوا منه دقيقة، واستعانوا بنا علينا ... فاكتسبوا من ضعفنا قوة، ومن جهلنا قوة، ومن تخاذلنا قوة، ومن غفلتنا قوة، ومن أقوالنا الجوفاء قوة، وأصبحت هذه القوّات كلها ظهيرًا لهم علينا.
وعلمنا نحن أن ذلك الوعد وعد إنكليزيّ وعد بلفور به اليهود عند حاجته إلى ذهبهم، كما وعد الشريف حسينًا بخلافة شاملة ووحدة كاملة عند حاجته إلى تخذيل الأتراك، وأن الوعود الإنكليزية شيء عرفناه- بزعمنا- بعضُه من بعض، يُخلف مع اليهود كما أخلف مع الشريف حسين. وتعامينا عن الفوارق العظيمة بيننا وبين اليهود، وبين وعود الإنكليز لنا ووعودهم علينا.
كان الواجب أن نعمل من يوم الوعد لما ينقُض الوعد، فنجمع الشمل المشتت، والهوى المتفرق، ونقضي على الصنائع التي اصطنعوها منا، ونحارب الواعد والموعود بالسلاح الذي يحاربوننا به، ونعلم أن اليهود لا يكاثروننا بالرجال فرجالنا أكثر، ولا يكاثروننا بالشجاعة فشجاعتنا أوفر، وإنما يكاثروننا بالمال والعلم والصناعة، فلو كنا ممن يفكر ويقدِّر ويأخذ بالأحوط الأحزم، لبدأنا من أول يوم بالإعداد والاستعداد، فأعددنا المال، وأعددنا العلم، واستعددنا بالصناعة. وإن في ثلاثين سنةً ما يكفي لأن نستعدّ كما استعدّوا، وأكثر مما استعدّوا. لا بالأقوال والاحتجاجات التي هي سلاح الضعفاء، ولكن بمصانع العقول وهي مدارس العلم، وبمعامل الأسلحة والعتاد، وبمصايد المال وهي الشركات التجارية، ولو فعلنا لانجحر صهيون في وجاره، وانكمش من يؤازره اليوم من أنصاره، ولو فعلنا لما كانت مماطلة الأمس ولا تقسيم اليوم.(3/441)
أما وإننا لم نفعل فلنعتبر أن صدمة التقسيم القاسية العنيفة هي تأديب إلهي بُنقّي من هممنا الوهنَ والزغل، وينْفي من صفوفنا الكلّ والوَكل، وإن الأمم التي تصاب بمثل تأخّرنا وتخاذلنا وغفلتنا لمحتاجة إلى أحداث ترجّها رجًّا، وتزجُّها في المضايق زجًّا، لتنفض عنها أطمار الخمول والضعة، وتطهرها من أدران الخوَر والفسولة.
إن العروبة لفي حاجة إلى ذلك الطراز العالي من بطولة العرب.
وإن الإسلام لفي حاجة إلى ذلك النوع السامي من الموت فى سبيل الحق، ليحيا الحق.(3/442)
فلسطين (3)
العرب واليهود في الميزان عند الأقوياء *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إنَّ الأقوياء الذين تولّوا أمر التقسيم، وحملوا أولئاك الضعفاء بالوعد والوعيد على التصويت عليه، ما ارتكبوا تلك الجريمة الشنعاء وغمطوا حق العرب، إلا بعد أن غمزوا مواقع الإحساس من العرب، فرأوهم جادّين كالهازلين، ورأوا منهم ناكثين كالغازلين، ورأوا في أمرائهم المقاومين على أعنف ما تكون المقاومة، والمساومين على أخس ما تكون المساومة، وفي شعوبهم الجاهل والذاهل، والمتشدّد والمتساهل، فبنوا مقدمات الحكم على هذا التفاوت في الكيان العربي، وغرّهم بالعرب الغرور، ولم يُتبعوا الأيام نظرَهم، بل وقعت عينهم على يوم العرب وأغفلوا غدهم، ثم فعلوا الفعلة النكراء فوازنوا بين ما نملك من قوى مادية نستطيع بها الممادَّة في الجهاد، وبين ما يملك الصهيونيون من ذلك، ودرسوا وقارنوا واستخدموا الجمع والطرح، فأنتجَتْ لهم المقدمات هذه الحقائق، وهي أننا لا نملك مصنعًا للسلاح، ولا معملًا للكيمياء ولا رجالًا فنّيين كالذي يملكه
اليهود من كل ذلك، وأن ثلاثين سنةً مرت- وكلها نُذر بهذه العاقبة- لم توقظنا من غفلتنا، ولم تدفعنا إلى الاستعداد لها، فقالوا: نقسمها، ونربح اليهود، لأنَّ لنا فيهم فائدة معجّلة، ولا نخشى العرب لأنه ليس فيهم مضرّة مؤجّلة.
ولكن فات أولئك البانين لكل شيئ على الماديّات أن هناك سلاحًا أمضى من جميع الأسلحة المادية، وأنه الشرط الأول في نفعها وغنائها، وهو سلاح الروحانيات، من إيمان بالحق، واعتداد بالنفس، وحفاظ على الكرامة وتقديس للشرف، وإباء للضيم، ومغالاة بالتضحية والفداء، واستخفاف بالظلم والظالمين، وفاتهم أن العرب وإن نزُر حظهم من القوى المادية التي لا يستهين بها الا جاهل، فإنّ حظهم موفور من القوى الروحية التي لا يستهين بها إلا مغرور. وستتقابل القوَّتان في فلسطين: قوة الروح ومعها الحق، وقوة المادة
__________
* نشرت في العدد 22 من جريدة «البصائر»، 9 فيفري سنة 1948.(3/443)
ومعها الظلم والباطل. وسيرى العالم أيّتهما تُحطّم. وأيتهما تتحطّم؟ وكأن الله جلت قدرته أراد أن تجري التجربة الثانية للسلاح الروحاني امتحانًا لقدرته على المقاومة في أرض فلسطين منبع الروحانيات على يد وارثيها بالفرض من إسماعيل وإبراهيم، وسيُصارف العرب اليهود مادة بمادة حتى إذا بطلت خاصية المادّة فضلوهم بتلك الذخائر الروحانية التي اختصّوا بها، وستكون العاقبة للروح وعجائبه، لا للمادّة وغرائبها.
ويح الأقوياء! ... أكانوا يتخيلون- يوم استهواهم البريق فرجحوا كفة صهيون- أن العرب يستسلمون للضعة، ويخضعون للهون والدون، وصفقة المغبون، أو يرضون بحكومة أصوات معروضة للإعارة والإجارة، هي عندهم من قبيل صوت الناعي ينعى من غير تأثّر، والنادبة تندُب من غير شجىً، فإن لم يكن أولئك الأقوياء بتلك المخيلة فهل بلغ بهم الاستخفاف بدماء البشر أن يُسبِّبوا لإراقتها الأسباب، ويفتحوا لهدرها الأبواب؟ ألم تكفهم المجازر الكبرى حتى يخلقوا لها بُنيات، ويفتحوا إلى أمثالها مطالع وثنيات؟ ...
كذبتكم المخيلة أيها الأقوياء! ... إن العرب إذا سيموا الحيف حكموا السيف، وإنهم سيأخذون حقّهم بالدم الأحمر في حين أراد اليهود استلابه منهم بالذهب الأصفر. وإن الزمان سيأخذكم بهذه الدماء المراقة، أخذ الأرض لفرس سُراقة (1)، وإن التاريخ سيعصِب بكم عارَها وشنارها، وسيئاتها وأوزارها.
وويح لليهود! ... أبلغتْ بهم الغباوة أن يشتروا الحياة الموهومة بالموت المحقق؟ أما وسِعهم ما كانوا فيه من أخوّة العرب لهم، وعدل العرب فيهم، وفضل العرب عليهم، وانتصار العرب لهم، حتى يكفروا بذلك كله، ويلتمسوا النصفة ممن شرّد آباؤه آباءَهم وطرد أجداده أجدادهم، ويستجدوه الرحمة فيُنجدهم بالعذاب؛ وليس برحيم مَن ألقاك في جحيم!
وويح الجميع! ... إن غرسَ صهيون في فلسطين لا ينبت، وإذا نبت فإنه لا يثبت، فانتظروا إنّا معكم من المنتظرين.
...
كان حظّ فلسطين في أدوار الزمن، وأطوار التاريخ، وعصور الفتوحات، حظ العقيلة الكريمة؛ تؤخذ في ميدان البطولة ممهورةً لا مقهورة، أخذها البابليون غلابًا، وأخذها الفرس اغتصابًا، وأخذها الرومان اقتسارًا، وأخذها العرب اقتدارًا، ولا يعدّ أخذ اليهود لها من
__________
1) سراقة بن مالك المدلجي، الذي قفا أثر النبي وصاحبه أبي بكر يوم الهجرة على جعل يأخذه من قريش إذا ردّه إليهم، فلما لحقهما في الطريق ساخت قوائمُ فرسه في الأرض، والقصة مبسوطة في كتب التاريخ والسير.(3/444)
كنعان في واحدة من هذه، وإنما هي كتابة الله بشرطها، ومعجزة موسى في حدودها. ولكنَّها في هذا العصر، عصر الحضارة، حضارة القرن العشرين، وعصر الديمقراطية، ديمقراطية العالم الجديد، وعصر الحرية، حرية الثورة الفرنسية، وعصر الشيوعية، شيوعية ماركس ولينين، تؤخذ في سوق الأغراض والمنافع الخسيسة بيعًا ومساومة ...
فات اليهود أن يأخذوها بالسيف من العرب فيكفِّروا بعد عشرات القرون عن سيّئة اجترحها أسلافهم يوم قالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}، فاتهم ذلك، وأعوزتهم الخصائص الدمويّة التي يكونون بها كذلك، فلجأوا إلى ما هو الأشبه بهم لا بها، وهو ... وهو الشراء. شراء القوي ليكون لهم معينًا، وبحمايتهم رهينًا، وشراء المعلنات اللافتة، والأصوات ولو كانت ... خافتة! ...
يا بخس فلسطين! ... أيبيعها من لا يملكها ويشتريها من لا يستحقّها؟ يا هوان فلسطين! ... أيكون من ذوي الحق في بيعها تلك الدويلات التي لم تُخلَق خلقًا طبيعيًّا وإنما خلقتها المنافسات، والتي لم يبلغ الكثير منها جزءًا مما بلغته فلسطين من مجد في التاريخ، وسابِقة في الحضارة، ويد في نفع البشرية. بل لم تبلغ مجتمعةً ما بلغته فلسطين من احتضان النبوّات واستنباط الشرائع والعلوم والحكم.
ويقولون إنّ فلسطين منسك للأديان السماوية الثلاثة وإنها قبلة لأهل تلك الأديان جميعًا، فإن كان ما يقولون حقًّا- وهو حق في ذاته- فإن أحق الناس بالائتمان عليها العرب، لأنهم مسلمون، والإسلام يُوجب احترام الكُتب والكتابيين، ويوجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، ويضمن إقامة الشعائر لليهود والمسيحيين، لا اليهودُ الذين كذَّبوا الأنبياء وقتلوهم، وصلبوا- بزعمهم- المسيح الصادق، وشرّدوا حوارييه من فلسطين، وكفروا بمحمد بعد ما جاءهم بالبيّنات.
ومن غريب ما صنعته الحضارة المادية بأهلها، وما طبعت عليه نفوسهم من جفاف، وما ابتلتْ به ضمائرهم من زيغ وانحراف، أن الدولَ والدويلات التي صوّت ممثلوها على تقسيم فلسطين وغرس اليهودية في الجزء الأهم منها غرسًا رسميًا قانونيًا؛ كلها دول تدين أممها بالمسيحية، وباعتقاد أن اليهود صلبوا المسيح ... فهل يُلام العرب بعد هذا- والمسلمون من ورائهم- إذا اعتقدوا أنها حرب صليبية، بعض أسلحتها اليهود، وأنها ممالأة مكشوفة من الدينين الصالب والمصلوب على الإسلام؛ نعم وإن كلمة المارشال اللنبي التي قالها يوم انتزع القدس من يد الأتراك لا تزال مأثورة مشهورة، ولا يزال رنينها مجلجلًا في الآذان، وصداها متجاوبًا في الأذهان.
أيها العرب، أيها المسلمون!
إن فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمّتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منّا ونحن عصبة إنا إذًا لخاسرون.(3/445)
فلسطين (4)
ماذا نريد لها وماذا يريدون *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نحن العرب نريد لفلسطين أن تكون عربية، وأن تبقى عربية فتبقى لها بشاشة النبوة، وحلاوة الإيمان، وجاذبية الوحي وروحانية الشرف، ومخايل السامية، وصبغة السماء.
نريد أن تبقى عربية الأنساب، سامية الأحساب، سماويّة الأسباب، تتماسك أجزاؤها بروحانية الدين، وتُشرق أرجاؤها بلألأة القدسية، وتُطل جنباتها بأنداء الشرق، وتتراحب آفاقها للقلوب التي تختلف في العبادة ولكنها لا تختلف في المعبود، فتظلّ العرب أصحاب الفضل عليها في التاريخ، والسيادة عليها فى الواقع، والاضطلاع بحمايتها وحماية عُمارها، وإعلاء كلمة الله فيها، لا كلمة الدرهم والدينار، وتظل اليهود الذين لم يكتب التاريخ لهم مكرمة عليها ولا يدًا من يوم قال لهم موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فارتدُّوا على أدبارهم إلى يومنا هذا، وتحفظ عليهم ما هم أحرص الناس عليه من حياة ومال.
نريد أن تبقى أرضًا مقدّسة مكملة لقدسية مكة ويثرب، لا يراد فيها إلحاد بظلم، ولا تقوم على أرضها جبرية حكم ولا جبْرية مال.
ونريد لها أن تبق- كما كانت- جزءاً طبيعيًّا من جزيرة العرب مكملًا لبقية الأجزاء، وما دامت القضية قضية أحلام، فإن لنا في جزيرة العرب لَحُلمًا ... ولكنه أقرب من حلم اليهود للتحقيق، وهو أن تصبح مملكةً واحدة، بدستور واحد، وثقافة واحدة، ونقد واحد، لاحدود تفرِّق، ولا إمارات تغرّب وتشرّق، ولا أمراء تمزّق أهواؤهم وتخرّق، ولم لا تكون دولةً واحدةً؟ وإن فيها لأمةً واحدة، لا تحتاج في تكثير سوادها إلى الطرّاق، وشذّاذ الآفاق، ولا تحتاج في تعمير بلادها إلى الواغل الذي يزحم، والوارش الذي لا يرحم
وما بيننا وبين
__________
* نشرت في العدد 23 من جريدة «البصائر»، 16 فيفري سنة 1948.(3/446)
ذلك اليوم إلا إفاقة رجل نائم وصحو جوّ غائم: وإن ذلك لقريب، إنه لقريب ... ومعاذ العروبة أن تقضي جريرة العرب، على جزيرة العرب.
ويريد اليهود أن يجعلوها وطنًا قوميًّا يحققون به الأحلام الدينية التي فتنت أحبارهم، والمطامع الدَّنية التي فتنت أغنياءَهم، وأن يجعلوها مهجرًا لهذه الفلول والأوزاع التي طردتها أوربا، ولفظتها أطراف الكرة من كل محتال، وكل دجال، وكل عابد للمال، تبرمًا بهم وضيق صدر منهم، وما في كل أولئك من يمت إلى السامية بعرق، فإننا نعلم أن هذه الحُميراء التي غمرت أرض فلسطين وتهافتت عليها مهاجرةً من أقاليم الشمال، البعيدة عن الاعتدال، ليست إسرائيلية النجار، وإنما هي أمشاج من أصول أوربية، متباينة الخصائص الجنسية والنزعات الوراثية، جمعت بينها المطامح المادية أولًا، والصهيونية ثانيًا، واليهودية الزائفة ثالثًا، فمنها السكسوني والجرماني، والسلافي واللاتيني، وقد تداعت على صوت الصهيونية إلى فلسطين تحمل معها تلك الخصائص الجنسية المتمرّقة، وتجمل مع تلك الخصائص العلم الأوربي، والفن الأوربي، والجشع الأوربي، والإلحاد الأوربي، والاستعمار الأوربي، والعتوّ الأوربي، وكل شيء عرفت به أوربا ... وفي أوربا كل شيء إلا الخير، فإذا مدّت هذه الحميراء مدها، وضربت بجرانها في فلسطين، فهل يبقى شيء من القدسية لفلسطين؟ وهل يبقى شيء من الشمائل السامية في فلسطين؟ وهل تكون فلسطين يومئذٍ إلا جحيمًا يضطرم بالمادة التي شهدنا آثارها في أوربا، وشاهدنا من عملها في تخريب العقول، أضغاف ما شاهدنا من آثار الحروب في تخريب المدن، وهل تكون فلسطين يومئذٍ إلا رقعة من الشرق الطاهر، مكَّن فيها الصهيونيون للإلحاد والإباحية اللذين قضيا على أخلاق أوربا، وابتلت العالم منها بالداء العضال؟ ثم ماذا يكون مصير العرب بعدئذٍ في جزيرتهم الآمنة المباركة؟
ما أشأم الصهيونية على فلسطين، وما أعقّ صهيون لفلسطين، وما أضلّ ضلالَ اليهود إذ يَجْرون وراء خيال الوطن القومي فيجرُّون البلاء لفلسطين، ويُزهقون روح (سام) بمادة الغرب المسمومة، وسبحان من فاوت بين العنصرين في رقّة الحس، ودقّة الحدس، والأصل واحد، وسبحان من خص العرب بالعامري، واليهود بالسامري (1).
وما أجهل العرب إذا لم يعاجلوا هذه الجرثومة الصهيونية الخبيثة بالاستئصال! إنهم- والله- إن لا يفعلو تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
...
__________
1) العامري هو مجنون ليلى وهو رمز للرقّة واللطف ومثال للإنسانية السامية، والسامري هو الذي مكر باليهود في غيبة موسى للمناجاة وفتنهم بالعجل الذهبي، وقصته في عدة سور من القرآن وتفصيلها في سورة طه.(3/447)
ونحن نريد فلسطين كاملة بالاستحقاق الذاتي، لأننا آخِرُ ورثتها، ولأننا واضعو اليد عليها بالحوز والتصرّف كما يقول فقهاء القانون، والصهيونيون يريدونها كذلك كاملةً بالحُلم والطمع والتمنِّي والتباكي والاحتيال والاستعانة بالأعداء، وشراء الضمائر الرخيصة ولكن ما بالُنا وما بالُهم؟
ما بالُنا حين ضُربت الأزلام على تقسيمها بيننا وبينهم غضبنا غضبة الحر الذي لا يرضى إلا بحقّه كاملًا غير منقوص، وثُرنا ثورة المظلوم الذي آثر أن يموت كريمًا على أن يعيش لئيمًا.
وما بالهم هلّلوا للتقسيم وطاروا به فرحًا ودقّوا له البشائر في كل أرض فيها يهودي وعرفنا من معارف الوجوه ما تخفيه مجاهل النفوس من ابتهاج وسرور، حتى لقد أنساهم الفرح كل ما يسمّى ذوقًا وكياسة ولطفًا ومجاملة مع عشائرهم العرب المسلمين الذين وفوا لهم في كل محنة نالتهم إلى الأمس القريب من أصدقائهم اليوم ضاربي الأزلام على تقسيم فلسطين.
إنما غضبنا وثرنا لأننا أصحاب حق لم نرضَ أن يشركنا فيه من ليس له فيه حق، وإنما رضوا وفرحوا لأنهم مبطلون، والمبطل الذي يعتمد على الحيلة والمكر يطلب الشيء كاملًا وهو يعتقد أنه مبطل فيكون ضميره أقوى خواذله، إن لم يكن أقوى عواذله، فإذا ظفر بشيء منه بحكومة باطلة قنع بالنزر ورضي باليسير، كالسارق يقنع بكل ما حصل في يده، لأنه لم يبذل فيه إلا الحيلة والاستغفال، وأهون بهما! ولو أن مجلس اللصوص حكم لصهيون بتل أبيب وحدها وطنًا قوميًّا لرَضي صهيون بالحكم، وعدَّها غنيمة باردة، ولم ينقص فرحه عن فرحه اليوم بنصف فلسطين الأخصب الأطيب ... هذه واحدة، وأخرى يضمرها صهيون وقد عرفها الناس من امتداد أحلامه، ومأثورات المهوّسين من أسلافه، وهي أنه يحرص كل الحرص على وضع قدمه في أرض فلسطين باسم وطن قومي، ولو كان أفحوص قطاة، وباعتراف دولي ولو بشراء الأصوات، ويعتمد بعد ذلك على المطاولة والذهب واستجداء المعونة من (أهل الفضل والخير) كالإنجليز اليوم ولا أدري من ... غدًا، وإن أحلام صهيون قد عرفها الناس وعرفوا أنها تمتدّ إلى جزيرة العرب كلها وإلى جزيرة سيناء، وقطعة من أرض مصر، ومن عاش آلاف السنين في أضغاث، ولم تتحقق له واحدة منها في شبر، حقيق بأن يعيش آلافًا أخرى من السنين في حواشي الأضغاث بعد أن تحققت له في مئات الأميال.(3/448)
فلسطين (5)
الإنكليز حلقة الشر المفرغة *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أيها العرب:
إن الإنكليز هم أول الشر ووسطه وآخره، وإنهم كالشيطان، منهم يبتدئ الشر وإليهم ينتهي، وإنهم ليزيدون على الشيطان بأن همزاتهم صُوَر مجسّمة تؤلم وتؤذي وتقتل، وجنادل مسمومة تهشّم وتحطّم وتخرّب، لا لمّة تُلِمّ ثم تنجلي، وطائف يمسّ ثم يخنس، ووسوسة تلابس ثم تفارق، ويزيدون عليه بأنهم لا يُطردون بالاستعاذة، وتذكُّر القلب، ويقظة الشواعر، وإنما يُطردون بما يُطرد به اللص الوقح من الصفع والدفع والأحجار والمدر، ويُدفعون بما يدفع به العدوّ المواثب، بالثبات المتين للصدمة، والعزم المصمّم على القطيعة وبت الحبال، والإرادة المصرّة على المقاطعة في الأعمال، والإجماع المعقود على كلمة واحدة ككلمة الإيمان: "إن الإنكليز لكم عدوٌّ فاتخذوهم عدوًّا". يردّدها كلّ عربي بلسانه، ويجعلها عقيدة جنانه، وربيطة وجدانه، وخير ما يقدمه من قربانه.
قد غرّكم أول الإنكلبز فأعيذكم أن تغترُّوا بآخره بعد أن صرح شرُّه، وافتضح سره، وانكشف لكم لينه، عن الأحساك والأشواك، وقد تمرَّس بكم فعرف الموالج والمخارج من نفوسكم، قبل أن يعرف أمثالها من بلادكم، وحلّل معادن النفوس منكم قبل أن يحلِّل معادن الأرض من وطنكم وعجم أمراءكم، فوجد أكثرهم من ذلك الصنف الذي تلين أنابيبه للعاجم، وتدين عروبته للأعاجم.
قد علمتم أنه هو الذي وعد صهيون فقوَّى أمله، ولولا وعده لكانت الصهيونية اليوم - كما كانت بالأمس- حُلمًا من الأحلام يستغلُّه (الشطار) وبتعلّل به الأغرار.
__________
* نشرت في العدد 24 من جريدة «البصائر»، 23 فيفري سنة 1948.(3/449)
وعلمتم أنه انتدب نفسه على فلسطين فكان الخصم والحكم في قضيتها، وأنه ما انتدب إلا ليحقّق وعده، وأنّ في ظل انتدابه، وبأسنَّة حرابه، حقّق صهيون مبادئ حلمه، فانتزع الأرض منكم بقوة الإنكليز- وقوانين الإنكليز- وفتن ضعفاءكم بالخوف، وفقراءكم بالمال، حتى أخرجهم من ديارهم، واتخذ الصنائع والسماسرة منكم، وبنى المدن بأيديكم، ومهَّد الأرض بأيديكم وشاد المصانع بأيديكم، وأقام المتاجر وبيوت الأموال لامتصاص دمائكم وابتزاز أرزاقكم.
وعلمتم أن الإنكليز هم الذين سنُّوا الهجرة بعد الفتح ليكاثروكم بالصهيونيين على هذه الرقعة من أرضكم، فلما انتبهتم للخطر غالطوكم بالمشروع منها وغير المشروع، ومتى كانت هجرة الوباء والطاعون مشروعةً إلا في دين الإنكليز؟
وعلمتم أنَّ بريطانيا هي التي جرَّت ضرَّتها البلهاء أمريكا إلى محادَّتكم وجرَّأتها على احتقاركم لتكيدها وتكيدكم، ولتحل بالسياسة ما عقده الاقتصاد بينكم وبين أمريكا من صلات، وأنها هي التي ألَّبت عليكم الأمم الصغيرة ودويلاتها حتى إذا جالت الأزلام وأيقنت بالفوز أمسكت إمساك المتعفّف، وتظاهرت بالروية والحكمة، وجبرت خواطركم بالحياد، وملأت الدنيا تنويهًا بهذا الحياد الفاضح، فكانت كالقاتل المُعَزّي ...
يا ضيعة الآداب الإسلامية بينكم، إن المؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتين، وقد لُدِغتم من الجحر الإنكليزي مرات فلم تحتاطوا ولم تعتبروا، وخُدعتم من الجانب الإنكليزي كرّات فلم تتعظوا ولم تتبصروا. خُدع خلفكم كما خُدع سلفكم، واستهوى أمراءكم وكبراءكم، ودعاكم إلى موائده الفِقار فلبَّيتم، وما رأى منكم في كل الحالات إلا المجاملة، واستمرار المعاملة، وما آنس منكم إلا التهافت على أعتابه، والتعلّق بأسبابه.
فيا ويحكم ... أكلّ ذلك لأن الإنكليز أغنياء وأنتم فقراء؟ أو لأنهم أقوياء وأنتم ضعفاء؟ كلا ... إنهم لأغنياء بكم وبأمثالكم من الأمم المستخذية، وليسوا أغنياء عنكم، وإنهم لأقوياء بما يستمدُّونه من أرضكم وجيوبكم، فاقطعوا عنهم المددين يضووا ويهزلوا، واخذُلوهم في مواطن الرأي والبأس ينخذلوا، وعمِّروا جزيرتكم تخرب جزيرتهم؛ إن لبدة الأسد هي بعضُ أسبابه إلى زرع الهيبة في القلوب، ولكنّ لبدة الأسد البريطاني لبدة مستعارة، فلو أن كلَّ أمة استرجعت شعراتها من تلك اللبدة التي تكمُن وراءها الرهبة، لأمسى الأسد هرًّا مجرود العنق، معروق الصدر، بادي الهزال والسلال.
إن الغنى عمل وتدبير، فلو عملتم لكنتم أغنياء؛ وإن بدء الغنى من غنى النفس بالتعفف عن الكماليات، وفطمها عن الشهوات، وإن القوة مشيئة لا جبر، فلو شئتم أن تكونوا أقوياء لكنتم، وإن بدء القوة من قوة الأخلاق، وقوة الاتحاد.(3/450)
هذا أول الإنكليز عرفتموه، فهل عرفتم آخرهم؟ إنهم كانوا أداة تفريقكم في الماضي، وكانوا عونًا للزمان عليكم، فلمّا رأوا شملكم إلى اجتماع، وجامعتكم إلى تحقّق، جمعوا لكم كل ما عندهم من مكائد ومصائد ...
إنهم ينطوون لكم على العظائم، وإنّ في جعبتهم ما في جعبة الحاوي من حيّات. وإن في أيديهم عروق الجسم العربي يضغطون على أيّها شاءوا متى شاءوا، في أيديهم قضية مصر يساومون بها ويماكسون، وفي أيديهم قضية السودان يلوّحون بها ويعاكسون، وفي أيديهم قضية ليبيا يشاغبون بها ويشاكسون، وفي قبضتهم شرق الأردن بما فيه، وما شرق الأردن إلا خيط الخنق، وشريط الشنق، قتله الإنكليز بأيديهم، وأمَرُّوا على الأيام قتله لأمرٍ هُم بالغوه إن لم تهُبُّوا وتذبُّوا، وفي أيديهم العراق ومنابعه، واليمن وتوابعه، ولهم على سوريا ولبنان يد ممنونة، في طيّها مُدْية مسنونة، وفي أيديهم مفاتيح الجزيرة، وأمراء الجزيرة، وقد أعدّوا لكل قفل من أقفالها مفتاحًا، ولكل أمير من أمرائها مِقودًا من رغبة أو من رهبة، ولهم مع ذلك من بينكم العيون الراصدة، والألسنة الحاصدة، وفيكم مع ذلك الآذانُ السامعة، والهمم الطامعة، وفي سجلّاتهم ذممكم وهممكم وقيمتكم، قدّروها تقديرًا، وأوسعوها تحليلًا وتدبيرًا.
إنهم ما حرّكوا مشروع سوريا الكبرى في ميقات معلوم إلا ليفتنوا بعضكم ببعض، ويغروا بيتًا ببيت، وقريشًا بتميم، فينخرق الإجماع وتفترق الجامعة، وإن هذه النقطة هي أعلى ما يصل إليه الدهاء الإنكليزي، كما أنها أعسر امتحان للضمير العربي الذي يتمنّى أن يتكتل العرب ولكن بدافع من أنفسهم لا على يد عدوّهم؛ وإن الإنكليز لقادرون على تحريك غيرها من الفتن المفرقة، وإنكم- أيها العرب- لا تردُّون كيدهم إلا بإجماعكم على تحديهم، واجتماعكم على إيقاف تعدّيهم، وإقامة جامعتكم على اعتبار مصلحة العرب، ووطن العرب، فوق الأغراض والأشخاص.
إنكم لا تردّون كيدهم بقوة جامعة الدول العربية، حتى تُسندوها بجامعة الشعوب العربية؛ فحرِّكوا في وجوههم تلك الكتلة متراصةً يرهبوا ثم يذهبوا.
...
لمسنا في هذه الكلمة حقائق مريرة وأومأنا إلى قضايا يسوءُنا أن نزيد حمأتها مدًّا. ولكن ما عذرنا إذا أمسكنا عن الشرح، ولو كان فيه جرح؛ وقد تأدَّى إلينا من تراث أجدادنا العرب هذه الحكمة الغالية: "من كتم داءه قتله".
أما ما يجب علينا لفلسطين فموضعه مقال آخر.(3/451)
فلسطين (6)
واجباتها على العرب *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب هذه السطور عربي، يعتز بعروبته إلى حد الغلوّ، ويعتدُّ بها إلى حد التعصّب، ويفخر بأبوّة العرب له إلى حد الانتِخاء؛ ما يودُّ أنّ له بذلك كله جميعَ ما يفخَر به الفاخرون من أحساب؛ فإذا أدار الضمائر في هذه المقالات على منهج التكلّم وقال: أنا، ونحن، وقلنا، وفعلنا، ولا نرضى ولن نرضى فهو حقيق بذلك، وإذا حشر نفسه في العصبة الذائدة عن فلسطين، وأشركها في العصبية الغالية لفلسطين، فليس بمدفوع عن ذلك، لأنه عربي أولًا، ومسلم ثانيًا، وفلسطيني بحكم العروبة والإسلام ثالثًا؛ فله بعروبته شرك في فلسطين من يوم طلعت هوادي خيول أجداده على البلقاء والمشارف، وتصاهلتْ جيادهم باليرموك، تحمل الموت الزُّؤام للأروام؛ وله بإسلامه عهد لفلسطين من يوم اختارها الباري للعروج، إلى السماء ذات البروج، وله إلى فلسطين نسبة من يوم قال الناس: مسجد عُمر، بل من يوم قالوا: غزة هاشم؛ فإذا لم يقم بالحق، ولم يَفِ بالعهد، وُسِم بالعقوق لوطنه الأكبر، ووُصم بالخيانة لدينه الجامع، وزنَّ بدعوى البنُوَّة في تلك الأبوَّة، وقديمًا انتخى جرير - وهو في الصميم من تميم - بخيله التي وردت نجران معلمة بالدارعين؛ وما وردت نجران إلا لإنقاذ تَيم، حين مسّها الضيم (1)؛ فكيف لا ينتخي بخيله التي وردت المشارف مَن هو في السر من فهر، وفي الذوائب من قريش. وما وردت إلا لإنقاذ تراث الخليل، من يد الدخيل.
وهذه الصحيفة عربيّة، تلوح من خلال سطورها ومضات من إشراق البيان العربي، وتَسري في جوانبها نفحات من سر العروبة، وتُسجَّل على صفحاتها صُوَر من أمجاد العرب،
__________
* نشرت في العدد 25 من جريدة «البصائر»، 1 مارس سنة 1948.
يقول جرير يفتخر بهذه القصة:
خيلي التي وردت نجران معلمة … بالدارعين وبالخيل الكراديس
تدعوك تيم، وتيم في قرى سَبَإٍ … قد عضّ أعناقها قدّ الجواميس(3/452)
وتُستروح من أعطافها سمات من شمائل العرب وترفضّ فِقَرها- أحيانًا- عن مثل فتيت العنبر من مفاخرهم، وعن مثل شتيت الجوهر من آدابهم، وهي- بعد- لسان من ألسنة الإسلام، تنافح عن تراثه، وتناضل بين يَدَيْ وُرَّاثه، وتجاوز في ذلك مواطن العرب إلى حيث تتشابك الوشائج الروحية، وتتعانق الفروع الإسلامية؛ إلى حيث تجتمع القلوب على القرآن، وتتظاهر على تلاوته الألسنة والأسماع، إلى حيث تتفيأ على النفوس ظلاله، ويرتسم فيها جلاله، فإذا تقلَّدت هذه الصحيفة القلم الجائل، وروَّتْ ظمأها بالمداد السائل، في سبيل فلسطين فهي حقيقة بذلك، وإن ذلك لبعض حق فلسطين عليها.
وهذا الوطن الذي نبتنا في ثراه، وغُذِّينا بثمراته، وسُقينا عذبه ونميره، وتقلّبنا بين جباله وسهوله في النضرة والنعيم، وأودعنا فيه الذخائر الغالية من رُفات الأجداد، وطنٌ عربيُّ المنتسب، يشهد بذلك القلم واللسان، والأسماء والأفعال، وتشهد بذلك التواريخ المكتوبة، والأخبار غير المكذوبة، فإذا تظلَّم وتألَّم لفلسطين، وامتعض وارتمض للعدوان عليها، وإذا نهض يُواسي ويُعين، ويُسعف ويسعد، فهو حقيق بذلك، وإن ذلك لبعض حق فلسطين عليه.
ولكن ... هل من الصحيح أن التفجّع والتوجّع والتظلم والتألم والأقوال تتعالى، والاحتجاجات تتوالى، هي كل ما لفلسطين علينا من حقّ؟ وهل من المعقول أن التفجّع وما عطف عليه- مجتمعات في زمن، مقترنات في قرن- تدفع حيفًا، أو تفلّ لظالم سيفًا، أو تردّ عادية عاد، أو تسفّه حلم صهيون في أرض الميعاد؟ لا ... والذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
...
قُسمت فلسطين (بالتصويت) وهو أضعف صدى، وعلى (الأوراق) وهي أنزر جَدًا، وبالأغلبية السائرة على غير هُدى، تحدّيًا للعرب الذين كانوا في ذلك المجلس أضعف ناصرًا وأقلّ عددًا. فقامت قيامة العرب الأُباة حيثما أقلَّتهم أرض، وكان المظهر الأول للإباء العربي إجماع مندوبيهم في جامعة الدول على استنكار التقسيم، وتسميته باسمه الحقيقي وهو الاعتداء والإجرام، وإرسالهم في وجوه الظالمين صيحةً صاخّة بأنهم لا يذعنون لهذا الحكم ولا يخضعون له، وأنهم سيتحدّون هذا القضاء وقضاته بالاحتكام إلى السيف، يمحون به بغي الخُلطاء، وبقية اللُّقطاء، فسجل أولئك المندوبون للعروبة موقفًا من مواقف الشرف، ما هو بأول المواقف ولا بآخرها؛ وكان المظهر الثاني في الصحف والألسنة والأقلام، فأجمعتْ صحف العرب على اختلاف مواطنها من بغداد إلى مراكش على التنديد والاستنكار، وأجمع خطباء العرب على التحريض والاستنفار؛ وكان المظهر الثالث مظهر الأمم العربية فتداعت إلى المؤتمرات. وتنادتْ إلى الاجتماعات والمظاهرات.(3/453)
ولكن ... هل من الجدّ أن هذه المظاهر الثلاثة مجتمعةً هي كل ما لفلسطين على العرب من حقوق؟ وهل هذه المظاهر الثلاثة مجتمعة تمحو قرار التقسيم، وتُثبت حق العرب؟ اللهم لا ...
ثم كان المظهر الرابع اجتماعات وزراء الدول العربية باسم جامعتها، وزعماء العرب السياسيين وقادتهم العسكريين، لتنسيق الآراء وترتيب الخطط وتدبير المقاومة المشتركة، وقد بلغوا من ذلك ما أقرَّ عيون العرب وهدّأ خواطرهم، وإن قال قائلون: إنهم تباطأوا في أمر يجب فيه الاستعجال، وأطالوا الروية فيما يلزم فيه الارتجال، وقال آخرون: إنهم ما زالوا يؤثرون الديبلوماسية ومجاملاتها مع دهاة الديبلوماسية، وُيخشى أن يكون من آثار ذلك فتٌّ في الأعضاء وتوهين للعزائم وتنفيس على العدوّ في الوقت.
أمّا الحقّ الذي مكانه من هذه المظاهر مكان البسملة من اللّوح، فهو ما قام به عرب فلسطين الأبطال الذين كشفوا عن صواب الرأي القِناع، وحذفوا من الجملة حرف الامتناع، ونبذوا التردد، وأخذوا بالمغافصة، ومحوا بالسيف ما قال ابن دارة (2)، وفتحوا باب الموت على مصراعيْه، و "تآسوا فسنّوا للكرام التآسيا" (3)، وهذا هو العنوان كتبه عرب فلسطين بالصفاح لا بالأقلام، وهذا هو الواجب شرعه عرب فلسطين لجميع العرب.
...
أعمال عرب فلسطين مقدّمة فأين الكتاب؟ وطليعة فأين الكتائب؟ وواجب فأين ما لا يتمّ الواجب إلا به؟
ما على عرب فلسطين- بعد ذلك- من سبيل، إنما السبيل على العرب في مشارق الأرض ومغاربها، حكومات وقادةً وشعوبًا رجالًا ونساءً، وليست القضية قضية جماعة أو حكومة أو قطر؛ وإنما هي مسألة العرب جميعًا؛ لا يستبرئون لعهد العروبة وأمانتها إلا بالقيام بها جميعًا. ثم هي- بعد- قضية استعمار أحول، رجلُه في فلسطين وعينه على العراق والخليج وأعالي اليمن، وعينه الأخرى على مصر؛ فإذا لم يبادر العرب بالاصطلام، بادرهم بالالتهام:
هما خطتا: إمّا إسارٌ ومنّة … وإما دمٌ، والموت بالحر أجدر
إن الواجب على العرب لفلسطين يتألف من جزءين: المال والرجال، وإن حظوظهم من هذا الواجب متفاوتة بتفاوتهم في القرب والبعد، ودرجات الإمكان وحدود الاستطاعة ووجود
__________
2) تلميح لقول الشاعر العربي: محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا.
3) عجز بيت وصدره: وإن الألى بالطفّ من آل هاشم.(3/454)
المقتضيات وانتفاء الموانع، وإن الذي يستطيعه الشرق العربي هو الواجب كاملًا بجزءيه لقرب الصريخ، وتيسُّر الإمداد، فبين فلسطين ومصر غلوة رام، وبينها وبين أجزاء الجزيرة خطوط وهمية خطَّتها يد الاستعمار، وإذا لم تمحُها الجامعة فليس للجامعة معنى. وإذا لم تهتبلْ لمحوها هذا اليوم فيوشك أن لا يجود الزمان عليها بيوم مثله.
...
واجب الدول العربيّة التصميم الذي لا يعرف الهوادة، والاعتزام الذي لا يلتقي بالهوينا، والحسم الذي يقضي على التردّد، والنظام الذي ينفي الفوضى والخلل، والرأي الذي يردّ ليلَ الحوادث صبحًا، والإجماع الذي لا ينخرق بحياة "عبد الله " (4) ولا بموت "يحيى" (5) ... وواجب زعماء العرب أن يتفقوا في الرأي ولا يختلفوا، وأن يتوقّوا عيوب الزعامة ونقائصها من تطلعّ لرياسة عاجلة، أو تشوّف لرئاسة آجلة، وأن يوجِّهوا بنفوذهم جميع قُوَى العرب الروحية والمادية إلى جهة واحدة وهي فلسطين، وأن لا يفتتنوا بما يفتحه عليهم العدو من ثغَر في اليمن أو في شرق الأردن، ليشغلهم بالجزئيات عن الكليات وليجعلَ بأسهم بينهم، وأن يكونوا على اتصال وتعاون مع الحكومات العربية.
وواجب كتّاب العرب وشعرائهم وخطبائهم أن يلمسوا مواقع الإحساس ومكامن الشعور من نفوس العرب، وأن يؤجّجوا نار النخوة والحمية والحفاظ فيها، وأن يغمزوا عروق الشرف والكرامة والإباء منها، وأن يثيروا الهمم الراكدة، والمشاعر الراقدة منها، وأن ينفُخوا فيها روحًا جديدة، فيها كل ما في السيّال الكهربائي من نار ونور.
وواجب شعوب الشرق العربي أن تندفع كالسيل، وتُصبِّح صهيون وأنصاره بالويل، وأن تبذل لفلسطين كل ما تملك من أموال وأقوات، وما قيمة الأموال المدَّخرة لنوائب الزمن إذا لم تُبذَل في نائبة النوائب؟ وما قيمة الأقوات المحتكرة لمصائب القحط إذا لم تدفع بها مصيبة المصائب؟
ووالله يمينًا برَّةً لو أن هذه القوى- روحيَّها ومادّيها- انطلقت من عُقلها، تظاهرت وتضافرت، وتوافت على فلسطين وتوافرت، لدفنت صهيون ومطامعه وأحلامه إلى الأبد، ولأزعجت أنصاره المصوّتين إزعاجًا يطير صوابهم، ويحبط ثوابهم، ويطيل صماتهم ويكبت أصواتهم، ولأحدثت في العالم الغربي تفسيرًا جديدًا لكلمة "عربي".
أما عرب الشمال الافريقي ...
__________
4) عبد الله بن الحسين أمير الأردن (الذي وقعت على الأردن منه بلية) كما يقول المتنبي.
5) يحيى بن حميد الدين إمام اليمن الذي يعدّه الشاعر من مصائب اليمن في قوله:
جهل وأمراض وظلم فادح … ومخافة ومجاعة وإمام!(3/455)
فلسطين (7)
أما عرب الشمال الافريقي ... *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أمّا عرب الشمال الافريقي فهم عرب ولا فخر، وواجبهم في إنقاذ فلسطين هو واجب جميع العرب مع اعتبار العذر. ولكن ... الله لعرب الشمال الافريقي وما يلقون من ظلم الجار، وبعد الدار، وَعَنت الاستعمار، يتجاورون مع اليهود في وطن، ولكل منهما في فلسطين هوًى ملحّ يصهر الجوانح، ولكنّ أحد الفريقين يعلن هواه إلى حد العربدة فيُعذر ولا يُعذَل، والآخر يُخفي هواه ويخشى أن تنمّ عليه نأمة فيناقشُ الحساب.
يقيم اليهود معسكرات التدريب، ويُجَهزون سفن التهريب، كل ذلك تحت سمع الاستعمار الفرنسي وبصره، فلا يجدون منه إلا الأمن والعافية، والأعين الغافية، ولو همّ العرب بشيء من ذلك أو بأقلّ القليل منه، لقامت قيامة الاستعمار الفرنسي، واستخرج لكل حركة اسمًا مما اشتمل عليه قاموس المحرَّمات، وربط بكل اسم منها عقوبة تنصّ عليها القوانين المدَّخرة لوقت الحاجة.
ويسافر اليهود إلى فلسطين أو إلى حيث يشاءون لأنهم فرنسيّون بالاستلحاق على مذهب الأستاذ "كريميو"، ولا يستطيع العرب أن يجاوزوا الحدود لأنهم "مدجّنون"، والتدجين من لوازمه تشديد المراقبة، وتغليظ المعاقبة.
ويجمع اليهود عشرات الملايين باسم فلسطين لتكون في السلم أدوات تعمير، وفي الحرب آلات تقتيل وتدمير، فلا يحول بينهم وبين ذلك قانون ولا كانون، ولو أراد العرب شيئًا من ذلك لوجدوا أمامهم القوانين العائقة، والإجراءات الخانقة.
ويرى الرأي العام الفرنسي المسيطر على هذا الشمال، ومن ورائه الضمير الأوربي الذي يؤمن به بعضُ الأغرار منّا، هذا التفاوت في العمل والمعاملة، فلا يغُضّ من عنان الحرية لليهود حتى يرجعهم إلى الحد المعقول، ولا يسلسُ للعرب حتى يقفوا مع اليهود في درجة واحدة.
__________
* نشرت في العدد 30 من جريدة «البصائر»، 5 أفريل سنة 1948.(3/456)
بعض الإنصاف يا أصحاب هذه الضمائر المظلمة، فإنا لا نسألكم الإنصاف كله؛ أتعذِرون اليهود في إجلابهم على فلسطين، وجمعهم الأموال للاستيلاء على فلسطين، وتسليحهم لإخوانهم في فلسطين، ولا تعذرون العرب إذا هم فعلوا مع إخوانهم في فلسطين شيئًا من ذلك؟ أترخِّص حكوماتكم ليهود العالم في الهجرة إلى فلسطين، وتيسّر لهم سبلها، وتبيح لهم خرق القوانين الدولية المسطورة، فإذا حاول العربي شيئًا من ذلك رُدَّ وصُدَّ، وإذا دعا داعي العرب إلى شيء من ذلك عُدَّ مشوشًا ومتعصبًا وعنصريًّا؛ ولا والذي طواكم على هذه الضمائر، ما أرتْنا الحقيقة إلا أنكم أئمة العنصرية وأقطابُها، وما أرتْنا التجربة إلا أن كل شعب بنى حياته على العنصرية كانت هي علة موته.
آمَنّا الآن- على بداوتنا- بأن العالم المتحضّر قد تهوّد، وآمنا بأن السحر الذي أبطله موسى قد أحياه أشياعه ولكن بغير أدواته، أبطله بعصا الخشب، وأحيَوه بحبال الذهب، وآمنّا بسفسفة القضايا العقلية التي تحيل اجتماع الضدّين حين رأينا التضاد يجمع طرفيه في دائرة مغنطيسية فإذا هو ممكن ... وإذا عقيدتا الصلب لعيسى والتأليه له تجتمعان في هالة من البريق المُعشي للأبصار والبصائر، فكأنَّه لا تأليه ولا صلب ... كلَّ ذلك لأنه لا ضمير ولا قلب.
تعالوا يا أصحاب هذه الضمائر المنفصلة ... إلى كلمةٍ سواء بيننا وبين اليهود. تعالوا نقامركم مقامرة لا يقترحها إلا عربي، ولا يُقْدم عليها إلا حرّ أبيّ، ولكنها مقامرة تفضّ النزاع الذي أعياكم أمره، وراع العالم شرّه- في لحظة- دعونا من التقسيم فالرقعة ضيّقة بأهلها، ومن الوطن القومي فالكلمةُ ضائقة بمعناها، وهلمَّ بنا إلى الحل الناجز، والفصل الحاجز.
احشدوا إلى فلسطين جيشًا من الصهيونيين من نبْت الشرق أو غرس الغرب ولا نشترط إلا أن يكونوا صهيونيين، ونَكِلُ إليكم عدده، ونحشد نحن بإزائه جيشًا من العرب ولكم علينا أن يكون أقل من جيش اليهود عددًا إلى الثلثين، على شريطة واحدة، وهي أن يكون سلاح الفريقين متكافئًا في أنواعه وأصنافه وألوانه وأوصافه؛ ثم اضمنوا لنا البحر أن لا يقذف بمدد، ونضمن لكم الصحراء أن لا يتسرب منها أحد؛ ولتَبْقوا أنتم، ويهود العالم، وعرب العالم، نظَّارةً متفرّجين لا إعانة ولا إمداد، ولا هجرة ولا جهاد، ثم نفوّض إلى الجيشين حلّ المشكلة بالموت في ميقات يوم معلوم، فإن غلب الصهيونيون سلَّمنا في فلسطين، وآمنَّا بالوطن القومي، وزدنا على ذلك تحية وسلامًا، وتهنئة وإكرامًا؛ وإن غلب العرب كان الجُعل متواضعًا يزيّنه الرجوع إلى الطبيعة وهو بقاء فلسطين عربية تُظِل اليهود الأصلاء بالرعاية والحماية. وتُجلي اليهود الدخلاء الذين نجموا مع قرن الصهيونية ودخلوا فلسطين باسمها وعلى صوتها ودعوتها.
إنها- كما ترون- مقامرة تنطوي على مغامرة، وإن فيها لكثيرًا من المحاباة لليهود.
ومع ذلك فقد رضينا ورَضي العرب ... أقولها وأنا مسلم، والمسلمون يسعى بذمّتهم أدناهم، وعربي والعرب هم الذي وضعوا "كلمة الشرف" للعالم وأفهموه معناها.(3/457)
فإن لم تفعلوا- ولن تفعلوا- فاعلموا أن أشنعَ ما يسخله التاريخ تألُّب أمم على أمة، وانتصار أقوياء لباطل، وإن أقبحَ ما تقع عليه العيون جانٍ يتجنّى وظالم يتظلّم.
...
ونرجع إلى عرب الشمال الافريقي ... إن عليهم لفلسطين حقًّا لا تسقطه المعاذير، ولا تقف في طريقه القوانين مهما جارت، ومهما كانت فرنسية من ماركة (1) "خصوصي للمستعمرات" هذا الحق هو الإمداد بالمال، ومن أعان بالمال فقد قام من الواجب بأثقل شطريه.
إن فلسطين ليست في حاجة إلى آرائنا، فلها من آراء مداره العرب ما هو كرؤية العين حسًّا، وكأخذ اليد لمسًا، وكفلق الصبح إشراقًا وكشفًا.
وليست في حاجة إلى رجالنا، فلها من أشبالها وممن والاهم عديد الحصى، وما فيهم إلا مَن يعتقد أن موته حياة لوطنه، وأن نقصه من عديد قومه زيادة فيهم، ومهما استمدّ الصهيونيون الرجال من أوروبا فأمدَّتهم بالأخلاط والأنباط والعباديد والرعاديد، من ربائب النعيم، وعشّاق الحياة، أمشاج النسب وأمساخ الحضارة، استمدّوا الجزيرة فأمدَّتهم بكل مصداق لقول القائلة:
ومخرَّق عنه القميص تخاله … وسْط البيوت من الحياءِ سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيتَه … تحت اللواء على الخميس زعيما
وبكل مصدق لقول الأول: "فأيَّ رجال بادية ترانا".
...
إن مما يرهب عدوّك ويحمله على احترامك، أن تكون عاقلًا حازمًا، وأن تكون فغالًا لا قوّالًا، وإن أوجب واجب علينا نحن العرب الذين ابتُلينا بالاستعمار ووُضعنا منه في هذا الوضع الشاذ، أن نلوذَ في مثل قضية فلسطين بالعقل يحمينا من المزالق، وبالحزم يحمينا من التقصير، وأن لا نقول إلا ما نستطيع فعله. وقد ارتفعت بعض الأصوات هنا وفي تونس تدعو الأمة العربية إلى غايات لا تملك وسائلها، وبدرت كلمات عاثرة لم يملها التدبُّر، ولم تقوِّمها الحكمة، فكانت نتيجتها الطبيعية احتقار خصومنا لنا واستخفافهم بنا وكأنَّه لم يكفنا اتهامهم لنا بأننا أمّة أقوال، واسترسال مع الخيال، وأن كلامنا جعجعة بلا طحن، حتى جئنا نضع في أيديهم الشاهد المحسوس على ذلك، ومن لي بعرب كالعرب، لا يقولون إلا ما يفعلون؟
__________
1) ماركة: كلمة فرنسية معناها عَلامة.(3/458)
لا نستطيع إمداد فلسطين بالرجال لأنه ليس لنا ما لليهود من تسهيلات، وليس عندنا ما عندهم من اتصالات ومؤسسات. وإنما نستطيع أن نمدَّ بالمال، فليعمل العاملون لذلك وليقفوا جهودهم على ذلك، فإنه أيسر علينا وأنفع لفلسطين، وليقُم أهلُ الرأي والثقة بتكوين لجان مركزية في العواصم تتفرّع منها لجان فرعية في الأقاليم، ولْيُعلنوا عملهم للأمة. ولتقم الأمة بواجبها، ولتعلم أن الغالي رخيص في سبيل عُروبة فلسطين، وأن صوم أسبوع في الشهر وادّخار نفقاته لفلسطين لمما يسهل على الفقير، وإن هجر الشهوات أسبوعًا من الشهر وإرصاد نفقاته لفلسطين لمما يسهل على الغني، وأن هجر الملاهي المبيدة للمال شهرًا كاملًا ووقف ما كان يُنفق فيها على فلسطين لأمر ميسور للغني والفقير معًا، وإن التعفّف عن كماليات الحياة عامًا كاملًا وشراء شرف الدهر بقيمها لأمر غيرُ بعيد من همّة العربي، وإن النور الذي أشرق في نفس عثمان بن عفّان فخرج من ماله وجهّز جيش العسرة لغير غريب عن نفس المسلم.
ألا هل بلَّغت؟ اللهمّ اشهد! ...
...
أما أنا، كاتب هذه السطور، فوالذي روحي بيده لو كنت أملك ما يملكه العموري (2) من سَخْل، أو ما يملكه البسكريّ من نخل، أو ما يملكه الفلّاح من أرض، أو ما يملكه الحضري من دور ورباع، أو ما يملكه الكانز من ورِق وورَق، لخرجتُ من ذلك كله في سبيل عروبة فلسطين، ثم لا تجدُني مع ذلك منَّانًا ولا كنودًا، ولكنني أملك من هذه الدنيا مكتبة متواضعة هي كل ما يرثه الوارث عني، وإنني أضعُها خالصًا مخلصًا، بكتبها وخزائنها تحت تصرّف اللجنة التي تُشكَّل لإمداد فلسطين، ولا أستثني منها إلا نسخةً من المصحف للتلاوة، ونسخة من كل من الصحيحين للدراسة (3).
__________
2) نسبة إلى منطقة "عَمور" بالجزائر المشهورة بتربية الأغنام.
3) شكلنا اللجنة المركزية في العاصمة (الجزائر) وشرعنا في تشكيل اللجان الفرعية، كل ذلك تحت إشرافي فجمعت اللجان التي تمكنت من العمل تسعة ملايين من الفرنكات حملها أمناء منّا إلى باريس ودفعوها إلى الأستاذ أحمد عبد الخالق ثروت سفير مصر إذ ذاك بفرنسا لقاء إيصالات رسمية ليدفعها إلى الجامعة العربية، وقد فعل، فقد سألت الأستاذ عبد الرحمن عزّام عنها حين قدمت مصر قبل إحدى عشرة سنة فأفادني وصولها ولا أدري ما فعل بها. ولم يكن من الممكن إرسالها على غير هذه الطريق.
أما مكتبتي التي وهبتها لفلسطين، فما كاد الوفد الذي ألفناه لجمع الإعانات يرجع من رحلته الأولى حتى جاءت الأخبار باجتياح اليهود صحراء النقب، ووصولهم إلى العقبة، وانهيار الجيوش العربية، إذ كانت لا ترجع إلى قيادة واحدة، وخروج الفلسطينيين من ديارهم حسب ما رسم الإنكليز ووكلوا تنفيذها إلى صنيعتهم بل عبدهم المطيع عبد الله، فظهر للجنة أن لا تتسلّم المكتبة ولا تتسبّب في تشتيتها مثل العرب.(3/459)
فلسطين (8)
قيمة عواطف المسلمين في نظر فرنسا *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عُرضت قضية فلسطين- يوم عرضت- على ما يسمّونه مجلس الأمم المتحدة (على الباطل)، وفرنسا أحد أعضائه، فوافقت على التقسيم، ولم تراع مصلحتها الحقيقية، ولم تحترم شعور المسلمين وعواطفهم، وكانت في تلك الموافقة مقلِّدةً لا مجتهدة، وتابعةً لا مستقلّة، ومؤتمةً بإمام لا يصحّ الائتمام به في شريعة العقل، لأنه سفيه باع ما لا يملك بالنسيئة لا بالنقد، وليتها إذ أخطأت العدل في تلك القضية أصابت الكياسة، ولو كانت كياسة صورية رخيصة، كتلك التي تستّرتْ بها إنكلترا قريعتُها في الاستعمار وكثرة العلائق بالمسلمين؛ فقد وقفتْ إنكلترا في ذلك اليوم موقفًا قال بعض الناس إنه مصانعة، وقلنا نحن إنه مخادعة؛ ولكنه لا يخلو من كياسة محدودة بحينها، وبه حفظت للعرب والمسلمين ما يحفظه التاجر للعملاء، أو المسافر للزملاء، أما فرنسا فقد تجلَّت في ذلك المجلس بكل ما في العرق اللاتيني من حقد وَقاح، وبُغض صُراح، وتحدٍّ لعواطف المسلمين، واستخفاف بشعورهم، ثم نكص الرئيس المفتون وبدا له في التقسيم بَداءٌ فشك وارتاب، وشكَّك وأراب، ولم يستقرّ له في المسألة رأيٌ. ولكن فرنسا لم تنكص ولم تشكّ، كأنّ لها عند العرب والمسلمين تِرَةٌ. ثم أعلنتْ دولة إسرائيل استعجالًا لتعبير رؤيا صهيون، وتحقيقًا لحكم المهوّسين من أتباعه، وبادر راهب البيت الأبيض بالاعتراف المتّفق عليه، فما كان من فرنسا إلا أن تحلّبت شفاهُها على الاعتراف، وهامت به وحامت حوله؛ ولكنها- لأمرٍ ما- توقّفت عن الاعتراف، وأرسلتْ بدَله التحيات الأخوية والتهنئات القلبية لدولة إسرائيل.
نحن لا نجهل تغلغلَ الصهيونية في فرنسا، ولا نجهل تحكّمَ اليهودية في مرافقها الحيوية، وفي جهازها الحكومي، بل في كيانها الذي هي به أمة؛ بل نَعدّ فرنسا ومستعمراتها
__________
* نشرت في العدد 38 من جريدة «البصائر»، 7 جوان سنة 1948.(3/460)
كلّها مستعمرةً واحدة يهودية، بل نستغرب مطالبةَ اليهود بوطن قومي، مع أن فرنسا كلّها وطن قومي لهم، لم يفقدوا فيه إلا الاسم وما أهونه، بل نحن نعتقد أنهم يطالبون من فلسطين بوطن ثان بعد تحصيلهم على الوطن الأول، بحيث يكون لهم من فلسطين وطن، فيه المُنى والأحلام، وإرواء الظمإ التاريخي، وإشباع الهوس الديني، والنكاية في المسلمين بالتسلُّط على قبلتهم الأولى، ويكون ذلك الوطن في الأخير مفتاحَ الشرق، ثم يكون لهم من فرنسا وطن فيه المال والجاه ومُتع الحضارة، والأخذ بناصية التجارة، والسلطان الفعلي على الوزراء والوزارة، والنكاية في الكنيسة المسيحية بالاستيلاء على بنتها البكر.
فعلت فرنسا كلّ ذلك خوفًا من اليهود، أو تأثّرًا بنفوذهم، أو انسياقًا بعصاهم، وهذا هو الصحيح، ولم تفعله مجاملةً لهم، إذ لو كان للمجاملة هنا مجال لكان العرب والمسلمون أحق من تُجامله فرنسا، وهي التي طالما رفعت صوتها- في معرض الافتخار- بأنها دولة إسلامية.
في المغرب العربي الذي تتحكّم فيه فرنسا، وتستأثر بخيراته، وتستميت في سبيل الاحتفاظ به، خمسة وعشرون مليونًا من العرب المسلمين، وكلهم أعطوا فرنسا ولم يأخذوا منها، في حين أنّ اليهود أخذوا منها كل شيء، ولم يُعطوها شيئًا، ولكل هذه الملايين هوًى في فلسطين، واعتقادٌ لعروبة فلسطين، ووشائج قربى مع عرب فلسطين، فكان واجب السياسة والكياسة معًا يتقاضى فرنسا أن تراعي عواطفهم نحو فلسطين، وأن تتباعد عن كل ما يجرحها، وأن تتّخذ من ذلك كلّه ذريعة للحياة، ولو فعلتْ لربحت من إرضاء هذه الملايين من القلوب ما هو أعود عليها بالخير من دولارات أمريكا، ولكنها لم تفعل ولن تفعل لأن الأمر ليس بيدها.
...
من الغريب أن الفرنسي الرسمي يسهل عليه أن يقول: إن فرنسا دولة إسلامية، مع أنه ليس للمسلمين أية يد في تسيير الدولة، ولا يسهُل عليه أن يقول: إنّ فرنسا دولة يهوديّة، مع أن اليهود فيها هم كلّ شيء، وهو يقول الأولى رياءً أو افتخارًا، ولا يقول الثانية أنفةً أو احتقارًا. فما أشبه الفرنسي في هذا الباب بالمتألِّه المغرور، يلعنُ الشيطان وهو متبع لخُطواته.(3/461)
فلسطين (9)
عيد الأضحى وفلسطين *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
النفوس حزينة، واليوم يوم الزينة، فماذا نصنع؟
إخواننا مشرّدون، فهل نحن من الرحمة والعطف مجرَّدون؟
تتقاضانا العادة أن نفرح في العيد ونبتهج، وأن نتبادل التهاني، وأن نطرح الهموم، وأن نتهادى البشائر.
وتتقاضانا فلسطين أن نحزن لمحنتها ونغتمّ، ونُعنَى بقضيتها ونهتمّ.
ويتقاضانا إخواننا المشرّدون في الفيافي، أبدانهم للسوافي، وأشلاؤهم للعوافي، أن لا ننعم حتى ينعموا، وأن لا نطعم حتى يطعموا.
ليت شعري! ... هل أتى عبَّادَ الفلس والطين، ما حلّ ببني أبيهم في فلسطين؟
أيها العرب، لا عيد، حتى تنفذوا في صهيون الوعيد، وتُنجزوا لفلسطين المواعيد، ولا نحر، حتى تقذفوا بصهيون في البحر.
ولا أضحى، حتى يظمأ صهيون في أرض فلسطين ويضحى.
أيها العرب: حرام أن تنعموا وإخوانكم بؤساء، وحرام أن تطعموا وإخوانكم جياع، وحرام أن تطمئنّ بكم المضاجع وإخوانكم يفترشون الغبراء.
أيها المسلمون: افهموا ما في هذا العيد من رموز الفداء والتضحية والمعاناة، لا ما فيه من معاني الزينة والدعة والمطاعم. ذاك حق الله على الروح، وهذا حق الجسد عليكم.
__________
* نشرت في العدد 53 من جريدة «البصائر»، 18 أكتوبر سنة 1948.(3/462)
إن بين جنبيّ ألمًا يتنزَّى، وإن في جوانحي نارًا تتلظّى، وإن بين أناملي قلمًا سُمته أن يجري فجمح، وأن يسمح فما سمح، وإن في ذهني معاني أنحى عليها الهم فتهافتت، وإن على لساني كلمات حبسها الغم فتخافتت.
فَلَوْ أَنَّ قَوْمِي أَنْطَقَتْنِي رِمَاحُهُمْ … نَطَقْتُ وَلَكِنَّ الرِّمَاحَ أُجِرَّتِ(3/463)
جمعية العلماء والشرق
والإسلام(3/465)
عيد بأية حال عدت ...
عيد الأضحى *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يا عيد ... بأيّة حال عدت، وبأيّ نوال جُدت ... لهذه الأمم التي تتشوّف إلى هلالك، - وتتطلّع إلى إقبالك، وتنتظر منك ما ينتظره المدلج من تباشير الصبح؟!
بأية حال عدت إلى هذه الأمم التي تألَّبت عليها الأيام، واصطلحت مع الليالي، فلا تأتيها هذه إلا سوداء حالكة بالظلمات، ولا تمُرّ عليها تلك إلا قاتمة متدجّية بالظلم.
إن هذه الأمم التي تدين بتعظيمك، وتتيمّن بورودك، وتُقيم شعائر الله في يومك، تتلمّح فيك اليمن والرباح، وتجتلي في غرّتك اليسر والسماح، وتتنسّم في حلولك السعادة والهناء، وتتوسّم في هلالك الخير والبركة.
إن هذه الأمم كادت تسأم من أسماء الأيام، وتتبرم بالجُمع والسبوت والآحاد، لفرط ما تعاقبت عليها بالضر والشر؛ وهي تترقّب يومًا يُعرف بوسمه، لا باسمه، ويُتعرَّف بآثاره، كما يتعرف الربيع باخضراره، وأنت ذلك اليوم، وأنها كانت تستطيل الليل، وتقطعه في الترقُّب للنهار الذي يتبلّج صبحه بالضياء والإشراق، وتسطع شمسه بالنور والحرارة، ويفيض ضحاه بالحركة والنشاط، فأصبحت تستطيل النهار لإقباله عليها بالهمّ والغمّ، وإدباره عنها بالعنَت والرهق، وتطمئن إلى الليل بما فيه من ظلمات، فرارًا من النهار لما فيه من ظلم، ومن لها بليل لا صباح له؟!
...
فيك- أيها العيد- يستروح الأشقياء ريح السعادة، وفيك يتنفّس المختنقون في جو من السعة، وفيك يذوق المعدمون طيبات الرزق، ويتنعّم الواجدون بأطايبه، وفيك تُسلس
__________
* نُشرت في العدد 12 من جريدة «البصائر»، 27 أكتوبر سنة 1947.(3/467)
النفوس الجامحة قيادها إلى الخير، وفيك تهشّ النفوس الكزّة إلى الإحسان؛ فلا تلُم البائسين- وقد عوّدتهم هذا- أن يسألوك المزيد، فيطلب الخائفون أن تُشرق عليهم شمسك بالأمان، ويرجو المظلومون أن يطلُع عليهم يومك بالانتصاف. ويتمنى المستعبدون أن يتجلّى لهم ليلك عن الحرية والسيادة.
...
إن تفاخرت الأيام ذوات الشيات والمياسم، والمواكب والمواسم، فيومك الأغرّ المشهّر، وإن أتت الأيام بمن له فيها ذكر من الرجال، أو بمن شرفها بنسبة من الأبطال، جئت بإبراهيم، وإبراهيم آدم النبوّة، بعد آدم الأبوّة، وبإسماعيل، وإسماعيل سامك البنية القوراء، وعامر الحنيّة القفراء، ورمز التضحية والفداء، وناسل العديد الطيّب من النجيبات والنجباء؛ وبمحمد، ومحمد لبنة التمام، ومسك الختام، ورسول السلام، وكفى ... وإن جاءت الأيام بما أُثِر فيها من رموز، ونُثر باسمها من كنوز، جئت بالشعائر المأثورة، والنذر المنذورة؛ وجئت بالهدي يتهادى، والبُدن تتعادى، وجئتَ بالفدية والكفارة، والتجرّد والطهارة، وجئت بالأضحية والقربان، رموزٌ طواها الإسلام في الشعائر المضافة إليك ووكل لتصاريف الزمان شرحَها، وقد شرحتْ وأوضحت؛ وأين من يعقِل أو من يعي؟
...
يا عيد ... بأية حال عدت؟ ... وهذه فلسطين التي عظَّمت حُرُماتك ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن، وتأرج ثراها بالأثر العاطر من إسراء محمد، وتضمَّخ بدماء الشهداء من أصحابه. واطمأنَّت- من أول يوم- قلوب أبنائها بهدي القرآن، وجنوبهم بعدل عمر، تسام الدون، وتقاسي عذاب الهون؛ قد اجتمع على اهتضامها عُتو الأقوياء، وكيد الضعفاء؛ يريدون أن يمحوا معالمك منها، ويحسروا ظلال الإسلام عنها؛ طرقت حماها غارةٌ شعواء، من الشهوات والأهواء، يحميها الحديد، وينافح عنها الذهب، وغمرتها قطعان من ذؤبان البشر، وشراذم من عبّاد المال، يريدون أن يحقّقوا فيها حلمًا غلطوا في تفسيره؛ وأن ينصبوا فيها مسيحًا دجّالًا، بعد أن كذّبوا المسيح الصادق؛ وأن ينتقموا فيها من المسلمين بعد أن عجزوا عن الانتقام من بابل ويونان، وفارس والرومان، وروسيا والألمان، وإيطاليا والإسبان؛ وأن يرثوها بدون استحقاق، ويجعلوا من بني إسماعيل خَوَلًا لبني إسحاق.
وهذه الجزيرة العربية مَجْلى البيان والوحي، ومسرح الخيال والشعر، ومنبت حماة الحقائق من قحطان وعدنان، تُنصب فيها أشراك الشركات ووراء كل شرك صائد؛ وتتناطح(3/468)
فيها رؤوس الأموال؛ ووراء كل رأس مال رؤوس حيوانية تفكّر في الكيد، وأيدٍ حريرية تحمل القيد؛ وأرجل تسعى للاحتلال والاستغلال؛ وقد فُجعت صحراؤها في الدليل الذي كان يستاف أخلاف الطرق (1)، بالدليل الذي جاء يستشفّ (2) أطباق الأرض، ويشتَفُّ (3) ما فيها من سوائل؛ وأصبح ما في بطن الأرض من الكنوز السائلة والجامدة بلاءً وشقاءً لمن على ظهرها من أهل وسكان.
وهذه مصر كنانة السهام؛ أرض العبقرية وسماء الإلهام، وقبلة العرب ومحراب الإسلام؛ تدفع بقوّة إيمانها ألوهية فرعون جديد. وتدفع بيقظتها كيد شيطان مريد، بعد أن أنقذها الإسلام من تعبّد الفراعنة الأولين؛ وإن فرعون الجديد لعالٍ في الأرض- كأخيه- وإنه لمن المفسدين.
وهذا الشمال (4) قد أصبح أهله كأصحاب الشِّمال، في سموم من الاستعمار وحميم وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم، أفسد الاستعمار أخلاقهم، ووهّن عزائمهم، وفرّق بين أجزائهم لئلّا يجتمعوا، وقطع الصلة بينهم وبين ماضيهم لئلّا يدّكِروا، وضرب بينهم وبين العلم بسور ليس له باب؛ ومكّن فيهم للضعف والانحلال، بما زيّن لهم من سوء الأعمال؛ وبما غزا به نفوسهم وعواطفهم من أفكار ومغريات.
وهذه تركيا ذات السلف الصالح في رفع منارك، وإقامة شعارك، واقفةٌ على صراط أرقّ من السيف، واقعة بين دبّ عارم يترقّب الفرصة لازدرادها، وبين محتال بارع يمدّ الشباك لاصطيادها، ويطوي في العمل لتحريرها نية استعبادها، ويداويها من المرض الأحمر بالداء الأصفر.
وهذا الهند الإسلامي لا يكاد يظفر بالأمنية التي سلخ في انتظارها القرون، وبذل في تحصيلها الجهود، ويستعيد تراث الإسلام الذي أثّله المهلب والثقفي (5) حتى تعاجله الدسائس والفتن، وحتى ليوشك أن يرجع إلى العبودية طائعًا مختارًا، فيسجّل على نفسه عار الدهر وخزي الأبد.
وهذه جزائر الهند الشرقية التي عرفتك مع الإسلام. والتقت بك في البيت الحرام، وكوّن منها عدل الدين واعتدال الزمان والمكان أمة كما تهوى الفطرة الكاملة، وتطلب
__________
1) الاستياف شم الدليل لتراب الأرض ليعرف أين موقعه عند الضلال، ومن هذا الفعل أخذت كلمة المسافة.
2) استشف الشيء صيّره شفافًا أو وجده كذلك بعد الاختبار.
3) اشتف ما في الإناء إذا أتى على آخره فلم يترك منه شيئًا.
4) يريد شمال افريقيا.
5) محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند لأوائل الدولة المروانية.(3/469)
الإنسانية الفاضلة، تحاول حلّ العقدة التي عقدها المكر بالسيف، وتعاني من تصامم الأقوياء وإخلاف وعودهم ما هو أشد من البلاء، وأشق من الموت؛ ولولا أن (الغربيّة) رحم يرعاها الغربي للغربي ما استعبدتِ السبعة سبعين (6).
وهذا العالم كله مسيّر إلى غاية مشؤومة، متوقّع لضربة قاضية، تنسي الماضية؛ وهو يستنزل الغيث من غير مصبّه، ويستروح ريح الرحمة من غير مهبّه، ويتعلّل بالعلالات الواهية، من جمعية (7) لم تجمع متفرقًا من هوى، ولم تزجر عاديًا عن عدوان، إلى مجلس أمن لم يؤمِّن خائفًا، ولم ينصر مظلومًا، وإنما هو كرة بين لاعبين، أحدهما يستهوي بالفكرة، والآخر يستغوي بالمال. وويل للعالم إذا نفد النفاق، واصطدمت قوة الفكر بقوة الذهب.
...
أما والله لو ملكتَ النطق يا عيد، لأقسمتَ بما عظّم الله من حرماتك، وبما كانت تقسم به العرب من الدماء المراقة في أيامك ومناسكك، ولقلتَ لهذه الجموع المهيضة الهضيمة من أتباع محمد، يا قوم: ما أخلف العيد، وما أخلفت من ربكم المواعيد. ولكنكم أخلفتم، وأسلفتم الشر فجُزيتم بما أسلفتم، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}.
فلو أنكم آمنتم بالله حق الإيمان، وعملتم الصالحات التي جاء بها القرآن، ومنها جمع الكلمة، وإعداد القوّة، ومحو التنازع من بينكم، لأنجز الله لكم وعده، وجعلكم خلائف الأرض؛ ولكنكم تنازعتم ففشلتم وذهبتْ ريحكم، وما ظلمكم الله ولكن ظلمتم أنفسكم.
أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم. لا تظنوا أن الدعاء وحده يردّ الاعتداء، إن مادة دعا يدعو، لا تنسخ مادة عدا يعدو؛ وإنما ينسخها أعدّ يعدّ، واستعدّ يستعدّ، فأعدّوا واستعدّوا تزدهر أعيادكم، وتظهر أمجادكم.
__________
6) عدد سكان جزائر جاوه سبعون مليونًا أو يزيدون، وسكان هولاندة التي تستعمر تلك الجزائر كلها سبعة ملايين.
7) جمعية الأمم المتحدة.(3/470)
هجرة النبوّة من مكة إلى يثرب *
لم تتّسع العربية- على رحب آفاقها- لذلك المعنى الجليل الذي بدأ تاريخًا، وأنهض أمّة واستأنف عالمًا، فسمّته بأقرب الكلمات إلى معناه، وبما يدلّ على ظاهره الذي هو انتقال جسماني- من بلد إلى بلد- كما لم تتّسع لمعنى حركة الشمس في أفلاكها فسمّته بأضعف مظاهره وبما تدرك العين منه وقالت: سبْح جرَيَان وجاء العلم فشرح ووضّح وفسّر وتوسّع، وهذا شأن اللغة كلما عجزت عباراتها الوضعية عن تأدية معنى عظيم، وضاقت عن تحديده، أطلقت عليه كلمة، تردّدها الألسنة، ويتعارفها الناس، وتشير ولا تحدّد، وتركت للعقول التوسع في تصوير الحقيقة، وإبعاد النجعة في طلبها؛ أما الإسم الذي جُعل عنوانًا على الحقيقة فلم يعدُ أن كان منبهة، كما جعلتْه اللغة، وهذا شأنها في الكلمات ذات المدلول الواسع مثل الخير والعلم والحق والجمال، ولغات العالم في هذا الباب واحدة، لأن عقول الناس فيه واحدة أو متقاربة.
...
انتهى الحكم في ذلك المعنى الجليل إلى التاريخ بعد اللغة فسمّاه الهجرة النبوية المحمدية، وكشف بهذين الوصفين بعض السر، ونبّه العقول إلى أنها هجرة من نوع آخر، ومضى يربط سوابقها بلواحقها، ويصف، وفي كل وصف مثار للإحساس، ويقصّ، وفي كل قصّة موضع للعبرة، ويروي الوقائع، وفي كل واقعة جيش لجب من الحماس، ويحكي الأقوال، وفي كل قول مجال للحكمة، ويسلسل الحوادث، وفي كل حادثة مسرح للعقل، ويسمّي الأشخاص، وفي كل شخص وقفة للتوسم، ويستعرض الآراء، وتحت كل رأي
__________
* نُشرت في العدد 14 من جريدة «البصائر»، 17 نوفمبر سنة 1947.(3/471)
نسق من التدبير، ثم يبني النتائج على المقدمات، ويصل الآثار بالمؤثّرات، وينتهي وقد كشف عن ذلك المعنى الجليل الذي ضاقت عنه كلمة (هجرة) أتمّ كشف، وفسّره أكمل تفسير.
لا كاشف للحقائق الكونية كالبحث، ولا شارح للأسرار الدينية كالتدبّر، ولا محلِّل للأحداث الاجتماعية كالتاريخ، أما اللغة فوظيفتها وضع العنوان ورسم الخطوط، ومن طلب من اللغة ما هو فوق ذلك فهو لاغٍ.
...
كانت الهجرة- بهذا المعنى الخاص- وما زالت، هروبًا من الباطل والمبطلين، ونجاءً بالنفس أو بالعقيدة أو بهما، فهي في خلاصتها انهزام يعتذر بالضعف إلى أن يجد القوّة، وفرار بعزيز يخاف عليه إلى حيث يؤمَن عليه، لم يخرج عن هذا المعنى حتى هجرة الأنبياء والصدّيقين كإبراهيم ولوط هاجرا من بابل إلى كنعان، ولم يرجعا إلى بابل من كنعان، أما هجرة محمد وأصحابه فكانت هجرة قوّة كاثرها الباطل المتهافت، والشِّرك المتخافت، وعاقها عن امتداد العروق، وبُسوق الأفنان في أرضها التي فيها نبتت. وجوّها الذي فيه تنفّست، وقد طاش ذلك الباطل الطيشة الكبرى، وبحث عن حتفه بظلفه، فأخرج تلك القوّة إلى حيث تزداد قوّةً ورسوخًا، وهذا من عجيب صنع الله لهذا الدين القويّ الراسخ.
من اللطائف أن القرآن ذكر قصّة الهجرة المحمدية من مكة إلى يثرب بأسلوب ليس من نسق التاريخ فسمّاها إخراجًا من الذين كفروا ولم يسمّها هجرة بصريح اللفظ، وإن سمّى الصحابة المهاجرين، ونوّه بالهجرة، وحضّ عليها، وقرنها بالإيمان، وجعلها شرطًا في الولاية فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} وبعض الحكمة في ذلك أن التذكير بالإخراج من الديار يُذكي الحماس، ويُبقي الحنين إلى الديار متواصلًا، ويُنمّي غريزة الانتقام والأخذ بالثأر، وأن إيجاب الهجرة بتلك الأساليب المغرية البديعة، هو جمع لأنصار الحق في مأرز واحد، بعد تشتّتهم لينسجموا ويستعدّوا إلى الرجعة والكرّة.
وانظر إلى بدر والحديبية وعمرة القضاء تجدها كلها تعبِّر عن اتجاه وتحويم، وعن حنين إلى مكّة تدل مظاهره على خفاياه، ثم انظر أية ثورة تثيرها في النفوس الحرّة آية: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وآية: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
إن للإخراج من الديار لشأنًا أيّ شأن في القرآن، فهو يُبدئ ويعيد في تقبيحه وإنكاره وتحريمه، وهو يقرنه بالقتل تشويهًا له وتشنيعًا عليه، وإن له في نفوس الأحرار لأثرًا يتعاصى(3/472)
عن الصفح والعفو، وإن له في نفس سيد المرسلين لوقعًا مؤلمًا من يوم قال له ورقة: "إذ يخرجك قومك"، فقال: "أوَ مخرجيَّ هم؟ " إلى يوم أخرجه قومه بغير حق، إلى يوم أخرجه ربّه إلى بدر بالحق، إلى يوم صدَقَه ربّه الرؤيا بالحق.
...
ما زلت منذ درست السيرة بعقلي، أقف في بعض مقاماتها على ساحل بحر لجيٍّ من العبر والمثُلات، ومن بين تلك المقامات حادثة الهجرة. فلا يكاد عقلي يستثير بواعثها الطبيعية حتى أتلمَّح العوامل الإلهية فيها فأستجلي من بعض أسرارها التمهيد للجمع بين أصلي العرب اللذين كانا في الجاهلية يتنازعان ملاءة الفخر. ويُؤَرّث الرؤساءُ والشعراءُ بينهما نار العصبيّة، حتى أضعفتهما العصبية، وحتى أطمع الضعف فيهما جاريهما القويين: جار الجنوب الحبشي، وجار الجنب الفارسي، وكادا يستعبدان هذا الجنس الحرّ لولا أن فال رأي أبرَهَة في الفيل، ومالتْ رايات فارس في ذي قار.
جاءت النبوّة من مكة إلى المدينة تعمل عملها في جمع القوّتين اللتين أحالهما التفرّق ضعفًا. فجمعت المهاجرين والأنصار، وكأنما جمعت عدنان وقحطان في دار، يتصافحان على العروبة، ويتآخيان على الإسلام، ويُحيِيان من الأواصر والشوابك ما أماتته عِبِّيَّةُ الجاهلية، ويُميتان من النعرات المفرّقة ما كانت تحييه المنافرات والمفاخرات، وفي عقد التآخي بين المهاجرين والأنصار عنوان ذلك ودليله، ولو دامت للقرآن هيبته في الأفئدة وسلطانه على القلوب لما نبض عرق اليمانية والقيسية في الدولتين الأمويتين بالشرق والأندلس، ولما نجمت تلك النواجم التي ذهبت بريح العرب، ولما وجَّهت الدعوة العباسية وجهتها إلى خراسان، ولما بقيت هذه العروق الدساسة التي ما برحت تنفث السم في قلب الجزيرة العربية إلى الآن.
...
ليت شعري ... وليتٌ يقولها المحزون، هل تحمل ذكرى الهجرة المتكرّرة مع كل عام، أولئك اليمانيين الراكدين وهم جمهرة أنساب قحطان، وأولئك الحجازيين الراقدين، وهم منحدَر دماء عدنان، على أن يتداعَوا إلى ما تداعى إليه أجدادهم، وأن يتآخوا على ما تآخوا عليه؟
هل يرجعون بالذاكرة إلى بيعة العقبة وما جرت للعرب من أخوة وسيادة، وعزّة وسعادة، فيتبايعون على حماية الحوزة العربية والذب عن حياض العروبة؟(3/473)
هل آن لهم أن يعلموا أن هذه المذاهب التي صيّرتهم أوزاعًا في الدين والدنيا هي السبيل المفرّقة عن سبيل الله الواحد، وهي التي نهى الله عن اتّباعها؟
هل يعلمون أن طلّاب الغاز غزاة، وأن الشركات أشراك، وأن رؤوس الأموال الأجنبية ذات قرون ناطحة، وأن الوطن الذي يعمر بمال الأجنبي ويد الأجنبي وعلم الأجنبي! محكوم عليه بالخراب، وإن تعالت في الأفق قبابه، وكُسيت بوشي السماء هضابه، وسالت بذهب الأرض شعابه؟(3/474)
شهر رمضان ...
أثر الصوم في النفوس*
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الإسلام دين تربية للملكات والفضائل والكمالات، وهو يعتبر المسلم تلميذًا ملازمًا في مدرسة الحياة، دائمًا فيها، دائبًا عليها؛ يتلقّى فيها ما تقتضيه طبيعته من نقص وكمال، وما تقتضيه طبيعتها من خير وشر، ومن ثم فهو يأخذه أخذ المربّي في مزيج من الرفق والعنف، بامتحانات دورية متكرّرة، لا يخرج من امتحان منها إلا ليدخل في امتحان؛
وفي هذه الامتحانات من الفوائد للمسلم ما لا يوجد عشره ولا معشاره في الامتحانات المدرسية المعروفة.
وامتحانات الإسلام متجلِّية في هذه الشعائر المفروضة على المسلم، وما فيها من تكاليف دقيقة، يراها الخليّ الفارغ أنواعًا من التعبّدات تتلقَّى بالتسليم، ويراها المستبصر المتدبّر ضروبًا من التربية شُرعت للتزكية والتعليم؛ وما يريد الله ليضيِّق بها على المسلم، ولا ليجعل عليه في الدين حرجًا؛ ولكن يريد ليطهِّره بها، وينمّي ملكات الخير والرحمة فيه، وليقوّي إرادته وعزيمته في الإقدام على الخير، والإقلاع عن الشر، ويروّضه على الفضائل الشاقة، كالصبر، والثبات، والحزم، والعزم، والنظام، وليحرِّره من تعبُّد الشهوات له وملكها لعنانه، وما زالت الشهوات الحيوانية موبقًا للآدمي، منذ أكل أبواه من الشجرة، حكمة من الله في تعليق سعادة الإنسان وشقائه بكسبه، ليحيا عن بيّنة، ويهلك عن بيّنة.
في كل فريضة من فرائض الإسلام امتحان لإيمان المسلم، ولعقله، وإرادته، ودع عنك الأركان الخمسة، فالامتحان فيها واضح المعنى بيّنُ الأثر، وجاوِزْها إلى أمّهات الفضائل التي هي واجبات تكميلية، لا يكمل إيمان المؤمن إلا بها، كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في القول والعمل، والصبر في مواطنه، والشجاعة في ميدانها، والبذل في سبله، فكل
__________
* نُشرت في العدد 43 من جريدة «البصائر»، 12 جويلية سنة 1948.(3/475)
واحدة، أو في كل واحدة منها امتحان تكميلي للإيمان، تعلو فيه قيم، وتهبط قيم، وفي التوحيد امتحان لليقين، واليقين أساس السعادة، وفي الصلاة امتحان للإرادة، والإرادة أصل النجاح، وفي الحجّ امتحان للهمم بالسير في الأرض، وهو منبع العلم، وفي الصوم امتحان للصبر، والصبر رائد النصر، ونحن نريد من الامتحان هنا معناه العصري الشائع.
غير أن الصوم أعسرها امتحانًا، لأنه مقاومة عنيفة لسلطان الشهوات الجسمية ومقاومُ الشهوات في نفسه أو في غيره قلما ينتصر، فإن انتصر فقلما يقف به الانتصار عند حدّ الاعتدال، بل كثيرًا ما يجاوزه إلى أنواع من الشذوذ والتنطع تأباها الفطرة والعقل، وهذه الروح المقاومة في الصوم هي التي راعتها الأديان والنحل، فجعلت الصوم إحدى عباداتها، تروّض عليه النفوس المطمئنة، وتروّض به النفوس الجامحة؛ ولكن الصوم في الإسلام يزيد عليها جميعًا في صوره ومدّته، وفي تأثيره وشدّته، فمدّته شهر قمري متتابع الأيام، وصورتُه الكاملة فَطْم عن شهوات البطن والفرج واللسان والأذن، وكلّ ما نقص من أجزاء ذلك الفطام فهو نقص في حقيقة الصوم، كما جاءت بذلك الآثار الصحيحة عن صاحب الشريعة، وكما تقتضيه الحكمة الجامعة من معنى الصوم. فلا يتوهمنَّ المسلم أن الصوم هو ما عليه العامّة اليوم من إمساك تقليدي عن بعض الشهوات في النهار، يعقبه انهماك في جميع الشهوات بالليل، فإن الذي تشاهده من آثار هذا الصوم العرفي إجاعة البطن، وإظماء الكبد، وفتور الأعضاء، وانقباض الأسارير، وبذاءة اللسان، وسرعة الانفعال، واتخاذ الصوم شفيعًا فيما لا يحبّ الله من الجهر بالسوء من القول، وعذرًا فيما تبدر به البوادر من اللجاج والخصام والأيمان الفاجرة!! كلا ... إن الصوم لا يكمل، ولا تتم حقيقته، ولا تظهر حكمته ولا آثاره إلا بالفطام عن جميع الشهوات الموزّعة على الجوارح، وللأذن شهوات في الاستماع، وللعين شهوات في امتداد النظر وتسريحه، وللسان شهوات في الغيبة والنميمة، ولذّات في الكذب واللغو والتزويق: وإن شهوات اللسان لتربو على شهوات الجوارح كلها، وإن له لضراوة بتلك الشهوات لا يستطيع حبسه عنها إلا الموفَّقون من أصحاب العزائم القويّة، وأن تلك الضراوة هي التي هوّنت خطبه حتى على الخواص فلم يعتبروا صوم اللسان من شروط الصوم؛ وأعانهم على ذلك التهوين تقصير الفقهاء في تعريف الصوم، وقصرهم إياه على الإمساك عن الشهوتين، وافتتانهم بالتفريعات المفروضة، وغفلتهم عما جاء في السنَّة المطهرة من بيان لحقيقة الصوم وصفات الصائم.
...
صوم رمضان محك للإرادات النفسية، وقمع للشهوات الجسمية، ورمز للتعبد في صورته العليا، ورياضة شاقّة على هجر اللذائذ والطيّبات، وتدريب منظّم على حمل المكروه من جوع وعطش وسكوت، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه، وتحكّمه في أهوائها،(3/476)
وضبطه بالجِدّ لنوازع الهزل واللغو والعبث فيها، وتربية عملية لخلق الرحمة بالعاجز المعدم، فلولا الصوم لما ذاق الأغنياء الواجدون ألم الجوع، ولما تصوّروا ما يفعله الجوع بالجائعين، وفي الإدراكات النفسية جوانب لا يغني فيها السماع عن الوجدان، ومنها هذا، فلو أن جائعًا ظلّ وبات على الطوى خمسًا، ووقف خمسًا أخرى يصوّر للأغنياء البطان ما فعل الجوع بأمعائه وأعصابه، وكان حالُه أبلغ في التعبير من مقاله، لَما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعة واحدة في نفس غني مترف.
لذلك كان نبيّنا إمام الأنبياء، وسيّد الحكماء، أجود ما يكون في رمضان.
...
ورمضان نفحة إلهية تهُبّ على العالم الأرضي في كل عام قمريّ مرّة، وصفحة سماوية تتجفى على أهل هذه الأرض فتجلو لهم من صفات الله عطفه وبرّه، ومن لطائف الإسلام حكمته وسرّه، فلينظر المسلمون أين حظهم من تلك النفحة، وأين مكانهم في تلك الصفحة.
ورمضان "مستشفى" زماني يجد فيه كلّ مريض دواءَ دائه، يستشفي فيه مرضى البخل بالإحسان، ومرضى البِطنة والنعيم بالجوع والعطش، ومرضى الجوع والخصاصة بالشبع والكفاية.
ورمضان جبّار الشهور، في الدهور، مرهوب الصولة والدولة، لا يقبل التساهل ولا التجاهل، ومن غرائب شؤونه أن معظم صائميه من الأغفال، وأن معظم جنده من الأطفال، يستعجلون صومه وهم صغار، ويستقصرون أيامه وهي طوال، فإذا انتهك حرمته منتهك بثّوا حوله الأرصاد، وكانوا له بالمرصاد، ورشقوه ونضحوه، و (بَهْدلوه) وفضحوه، لا ينجو منهم مختفٍ في خان، ولا مختبئ في حان، ولا ماكر يغِشّ، ولا آو إلى عشّ، ولا متستّر بحُشّ (1): ولا من يغيّر الشكل، لأجل الأكل، ولا من يتنكّر بحجاب الوجه، ولا بسفور الرأس، ولا برطانة اللسان، كأنما لكل شيء في خياشيمهم رائحة، حتى الهيئات والكلمات، وهم قوم جريحهم جُبار الجرح، وقتيلهم هدر الدم.
سبحان من ضيّق إحصارَه … وصيّر الأطفال أنصارَه
وحرّك الريحيْن بُشرى به … رُخاءَه الهيْنَ وإعصاره
...
__________
1) الحش: الكنيف.(3/477)
ورمضان- مع ذلك كله- مجلى أوصاف للوُصاف: حرم أهل المجون مما يرجون، وحبس لهم من مطايا اللهو ما يُزجون؛ وأحال- لغمّهم- أيام الدجون، كالليالي الجون؛ فترِحوا لتجلّيه وفرحوا بتولّيه، ونظموا ونثروا، وقالوا فيه فأكثروا، وأطلّ على الشعراء بالغارة الشعواء فهاموا وجنُّوا، وقالوا فافتنّوا، قال إمامهم الحكمي: إن أفضل يوم عنده أول شوال؛ وقال الغالون منهم والقالون ما هو أشبه بهم. ولو لم يكن لآخرهم "شوقي" إلا، "رمضان ولَّى" ... لكفته ضلّة، ودخنًا في اليقين وعلّة، والرجل جديد، وله في العروبة باع مديد، وفي الإسلام رأي سديد؛ وفي الدفاع عنه لسان حديد؛ ونحن نعرفه، فلا نَفْرقه.
أما المعتدلون والمراءون فمنهم القائل:
شهر الصيام مبارك … ما لم يكن في شهر آب
خفت العذاب فصمته … فوقعت في عين العذاب
ومنهم القائل:
يا أخا الحارث بن عمرو بن بكر … أشهورًا نصوم أم أعواما
طال هذا الشهرُ المبارك حتى … قد خشينا بأن يكون لِزاما
أما الوصف العبقري، والوادي الذي طم على القَريّ، فهو قول الحديث الموحَى: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، وحديث الصادق: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»، وحديث الصحيح: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ». وقول الكتاب المكنون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.(3/478)
معنى العيد *
العيد في معناه الديني كلمة شكر على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه، ولكنها تعتلج في سرائره رضًى واطمئنانًا، وتنبلج في علانيته فرحًا وابتهاجًا، وتسفر بين نفوس المؤمنين بالبشاشة والطلاقة والأنس. وتمسح ما بين الفقراء والأغنياء من جفوة.
والعيد في معناه الإنساني يوم تلتقي فيه قوّة الغني وضعف الفقير على (اشتراكية) من وحي السماء عنوانها (الزكاة) و (الإحسان) و (التوسعة). فيطرح الفقير همومه، ويسمو إلى أفق كانت تصوّره له أحلامه، ويتنزّل الغنيّ عن ألوهية كاذبة خضوعًا لألوهية الحق.
والعيد في معناه النفسي حدّ فاصل بين تقييد تخضع له النفس، وتسكن إليه الجوارح وبين انطلاق تنفتح له اللهوات، وتتنبّه له الشهوات.
والعيد في معناه الزمني قطعة من الزمن خُصّصت لنسيان الهموم، واطّراح الكُلَف، واستجمام القوى الجاهدة في الحياة.
والعيد في معناه الاجتماعي يوم الأطفال يفيض عليهم الفرح والمرح، ويوم الفقراء يلقاهم باليُسر والسعة، ويوم الأرحام يجمعُها على الصلة والبرّ، ويومُ المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور.
أما العيد عندنا فهو في ألسنتنا كلمة أفرغت من مدلولها، فهي مهملة. وفي عاداتنا هنَةٌ قُطعت من أصولها، فهي مبتذلة، وفي فهومنا آية نُسخ حكمها فهي معطّلة.
__________
* نُشرت في العدد 162 من جريدة «البصائر»، 2 جويلية سنة 1951.(3/479)
من وحي العيد *
يا عيد: لو عدْتَ على قومي بالخفض والدّعة، أو جُدت عليهم باليُسر والسعة، لوَجدت مني اللسان الخافق بذكرك، والقلم الدافق بشكرك، ولكنك عُدت عليهم بنهار كاسف الشمس، ويوم شرّ من الأمس، فاذهب كما جئت، فلستُ منك، ظاعنًا ولا مقيمًا، وعُد كما شئت، فلست مني، حميدًا ولا ذميمًا.
...
يا عيد: لستَ بالنحس ولا بالسعيد، وإنما الناس لأعمالهم؛ سعد العاملون وشقي الخاملون، ولو أنصفناك لقلنا: إنك يوم كالأيام، من عام كالأعوام، وُلدتَ كما وُلدتْ هي من أبوين- الشمس والأرض- لم ينزع بك دونها عرق مختلف عنها، ولم تتميّز- لولا الدين والعرف- بشيء منها، فأنت مثلها غاد على قَدر، رائحٌ على قدَر، ومنّا- لا منك- الصفو والكدر؛ أو لقلنا: إنك معرَّس مدلجين، يعدِّلون بك المراحل، ومستراح ملجِّجين، يقدّرون بك دنوّ الساحل، فلو عمرنا أيام العام بالصالحات لكنت لنا ضابط الحساب، وحافظ الجراب، ثم لم تلتْنا من أعمالنا شيئًا، ولم تبخسنا من أزوادنا فتيلًا؛ ولكنّنا قصرنا وتمنّينا عليك الأماني، وتبادلت ألسنتُنا فيك أدعية لم تؤمِّن عليها القلوب، ثم ودعناك وانتظرنا إيابك، وأطلنا الغيبة واستبطأنا غيابك.
__________
* نُشرت في العدد 163 من جريدة «البصائر»، 16 جويلية سنة 1951.(3/480)
يا عيد: كنا نلتقي فيك على مُلك اتّطدت أركانه، وعلى عزّة تمكّنتْ أسبابها، وعلى حياة تجمع الشرف والتّرف، وتأخذ من كل طريفة بطرف، وعلى جِدّ لا ينزل الهزل بساحته، واطمئنان لا يلمّ النصب براحته؛ فأصبحنا نلتقي فيك على الآلام والشجون، فإن أنساناهما التعوّد فعلى اللهو والمجون، أصبحنا نلتقي فيك على عبودية لغير الله، أقررناها في أنفسنا فأصبحت عقيدة كالعبودية لله.
...
يا عيد: إن لقيناك اليوم بالاكتئاب، فتلك نتيجة الاكتساب؛ ولا والله ما كانت الأزمنة ولا الأمكنة يومًا ما جمالًا لأهلها، ولكن أهلها هم الذين يجمّلونها ويكمّلونها؛ وأنت- يا عيد- ما كنتَ في يوم جمالًا لحياتنا، ولا نضرة في عيشنا، ولا خضرة في حواشينا، حتى نتّهمك اليوم بالاستحالة والدمامة والتصوّح؛ وإنما نحن كنا جمالًا فيك، وحِلية لبكرك وأصائلك، فحال الصبغ وحلم الدبغ، واقشعرّ الجناب، وأقفرت الجنبات، وانقطعت الصلة بين النفوس وبين وحيك، فانظر ... أيُّنا زايل وصفه، وعكس طباعه؟ بلى ... إنك لم تزل كما كنتَ، وما تخوّنت ولا خُنت؛ توحي بالجمال، ولكنك لا تصنعه، وتُلهم الجلال، ولكنك لا تفرضه، ولكننا نكبنا عن صراط الفطرة وهدي الدين، فأصبحنا فيك كالضمير المعذّب في النفس النافرة، وأصبحت فينا كالنبي المكذّب في الأمة الكافرة ...
...
ويْحي من العيد، وويحَ العيد مني ... ألي عنده ثأر؛ فلا ألقاه إلا كما يلقى الثائر المثؤور، عابس الوجه، مقطّب الأسرّة، غضبان السرائر؛ فما أذكر أني لقيته مرّة بالتسهل والترحيب، وما أذكر أني كتبت عليه كلمة متهلّلة ضاحكة لم يشبها شوب التصنّع؛ وما أذكر أنني سلكت في استقباله هذا الفج الذي يسلكه الكتّاب الخليّون في التهنئة به، وتصويره بغير صورته، وتملّقه ليعود عليهم بالمجد الذي أضاعوه، والتمنّي عليه أن يجود عليهم بما لا يملك، ثم الاسترقاء له بالأدعية التي لا تُفتَّح لها أبواب السماء، لأنها إزجاء للركائب بلا حاد، ودرءٌ في نحور البيد بلا هاد، فويحي من العيد، وويح العيد مني ... ألي عنده ثأر؟ ...
...
والحقيقة هي أني ما زلت كلّما أظلّني عيد من أعيادنا الدينية أو القومية، أظلّتني معه سحابة من الحزن لحال قومي، وما هم عليه من التخاذل والانحلال والبعد عن الصالحات،(3/481)
والقرب من الموبقات، واحتدمت جوانبي من التفكير في ما هم فيه من سدر، لا يملكون معه الورد ولا الصدر، وذكرتُ كيف يعيشون على الخيال، المُفضي إلى الخبال، وكيف يحيون في الظلام، على الكلام، وكيف يسترون عوراتهم بالأكفان البالية، وكيف يحتقرون زمنهم في جنب الأزمنة الخالية، والزمن غيران، يضن بخيره على أبناء غيره (1)، وكيف استخفّهم علماؤهم وزعماؤهم وكبراؤهم وملوكهم فأطاعوهم في معصية الله، وقادوهم إلى النار فانقادوا بشعرة، وكيف يلقَون أعيادهم التي هي موقظات عزائمهم بهذه التقاليد الزائفة، والعادات السخيفة، والمهازل التي تطمس معالمها، وتُشوّه جمالها، فأجدني بذلك كله كأنني من قومي أعرابيٌّ بين أنباط، أفهم من لفظ العيد غير ما يفهمون، أو كأنني فيهم بقية جاهلية لا أفهم من معنى العيد إلا ما يفهمه شعراؤها الغاوون، من همٍّ يعتاد النفوس، وجوىً يلزم الحيازيم وذكرى خليط مزايل؛ يُثيرها غراب يثوّب، ويهيّجها طيف يؤوّب، وتؤجِّجها الأثافي السفح والأطلال الدوارس.
...
وقومي هم العرب أولًا، والمسلمون ثانيًا، فهم شغل خواطري، وهم مجال سرائري وهم مالئو أرجاء نفسي، ومالكو أزمّة تفكيري.
أفكِّر في قومي العرب فأجدهم يتخبّطون في داجية لا صباح لها، ويُفتنون في كل عام مرّة أو مرّتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكّرون، وأراهم لا ينقلون قدمًا إلى أمام، إلا تأخّروا خطوات إلى وراء، وقد أنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأمَة الوكعاء من الحرائر، عجزت أن تتسامى لعلاهن، أو تتحلّى بحلاهن، فحصرت همّها في إثارة غيرة حرّة على حرّة، وتسخير نفسها لضرّة، نكايةً في ضرّة، وأفكّر في علّة هذا البلاء النازل بهم، وفي هذا التفرّق المبيد لهم، فأجدها آتيةً من كبرائهم وملوكهم، ومن المعوّقين منهم الذين أشربوا في قلوبهم الذلّ، فرئموا الضيم والمهانة، واستحبّوا الحياة الدنيا فرضوا بسفسافها، ونزل الشرف من نفوسهم بدار غريبة فلم يُقم، ونزل الهوان منها بدار إقامة فلم يَرِم، وأصبحوا يتوهّمون كل حركة من إسرائيل، أشباحًا من عزرائيل.
وأفكّر في قومي المسلمين فأجدهم قد ورثوا من الدين قشورًا بلا لباب، وألفاظًا بلا معان؛ ثم عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى زواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته الخالصة فموّهوها بالتضليل، وإلى وحدته الجامعة فمزّقوها بالمذاهب والطرق والنحل
__________
1) يعني أنهم ليسوا من أبناء هذا الزمان، فهم متقدّمون عنه بأفكارهم وعقولهم، أو متأخرون عنه بقرون.(3/482)
والشيع؛ قد نصبوا من الأموات هياكل يفتتنون بها ويقتتلون حولها، ويتعادون لأجلها؛ وقد نسوا حاضرهم افتتانًا بماضيهم، وذهلوا عن أنفسهم اعتمادًا على أوليهم، ولم يحفلوا بمستقبلهم لأنه- زعموا- غيبٌ، والغيب لله، وصدق الله وكذبوا، فما كانت أعمال محمد وأصحابه إلا للمستقبل، وما غرس محمد شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه ثمارها، ولكن زرع الأولون ليجني الآخرون.
وهم على ذلك إذ طوّقتهم أوربا بأطواق من حديد، وسامتهم العذاب الشديد، وأخرجتهم من زمرة الأحرار إلى حظيرة العبيد، وورثت بالقوّة والكيد والصولة والأيد، أرضهم وديارهم، واحتجنت أموالهم، وخيرات أوطانهم، وأصبحوا غرباء فيها؛ حظّهم منها الحظ الأوكس، وجزاؤهم فيها الجزاء الأبخس.
إن من يفكّر في حال المسلمين، ويسترسل مع خواطره إلى الأعماق، يُفضي به التفكير إلى إحدى نتيجتين: إما أن ييأس فيكفر، وإما أن يُجنّ فيستريح.
...
وجاء هذا العيد ... والهوى في مراكش يأمر وينهى، والطغيان في الجزائر بلغ المنتهى، والكيد في تونس يسلّط الأخ على أخيه، وينام ملءَ عينيه، والأيدي العابثة في ليبيا تمزّق الأوصال، وتداوي الجروح بالقروح، وفرعون في مصر يحاول المحال، ويطاول في الآجال، ومشكلة فلسطين أَكِلَةٌ خبيثة في وجه الجزيرة العربية، تسري وتستشري؛ والأردن قنطرة عبور للويل والثبور، وسوريا ولبنان يتبادلان القطيعة، والحجاز مطمح وُرّاث متعاكسين، ونُهْزة شركاء متشاكسين، وقد أصبحت حماية (بيته) معلّقة بحماية زيته، واليَمن السعيدة شقيّة بأمرائها، مقتولة بسيوفها؛ والعراق أعيا داؤه الرّاق، وتركيا لقمة في لهوات ضيغم. وهي تستدفع تيارًا بتيّار، وتستجير من الرمضاء بالنار، وفارس طريدة ليثين يتخاطران، وباكستان لم تُزمع التشمير، حتى رُهصت بكشمير؛ والأفغان تحاول الكمال، فيصدّها الخوف من الشمال؛ وجاوة لم تزل تحبو، تنهض وتكبو، وتومض وتخبو.
...
هذه ممالك العروبة والإسلام، كثرت أسماؤها، وقلّ غناؤها، وهذه أحوال العرب والمسلمين، الذين يُقبل عليهم العيد فيُقبل بعضهم على بعض، يتقارضون التهاني، ويتعلّلون بالأماني، أفلا أُعذر إذا لقيت الأعياد بوجه عابس، ولسان بكيّ، وقلم جاف، وقلب حزين؟ ...(3/483)
الإسلام *
أبيات من الرجز، كنت أنظم كل أربعة منها لتوضع في إطار بجانب اسم الجريدة، ثم ضممتها للملحمة الرجزية من نظمي، وهي تبلغ عشرات الألوف من الأبيات، منها نحو خمسة آلاف في تاريخ الإسلام وحقائقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بوركت يا دين الهدى ما أثبتَك … حقُّك بتَّ المبطلين وبتك
مَن ذا يجاريك؟ وأنت السيل … والسيل فيه غرق وويل
من ذا يساريك؟ وأنت النجم … والنجم نور الهدى، ورَجْم
شعارك الرحمة والسلام … للعالمين، واسمك الإسلام
الحق من سماتك الجليّه … والعدل من صفاتك العليه
والعقل- منذ كنت- من شهودك … والفكرُ بعد العقل من جنودك
...
كانا كتبر في التراب أرصدا … فمسحت يُمناك عنهما الصّدا
يا دين، إن الدّين ليس يُنسى … بل يُقضى معجّلًا أو ينسى
يا دين، إن الصبغ لن يحولا … وإن عندك لهم ذُحولا
وعندك التِّراثُ والطوائل … أقرضها الأوائل- الأوائل
تجمعوا عنك لأخذ الثار … وأقبلوا في القسطل المثار
عوّضتهم من الخسار الربحا … فأبصروا- بعد الظلام- الصبحا
علَّمتهم كرامة الإنسان … وجئتهم بالعدل والإحسان
ألْحفتهم مُلاءة الأمان … وسستهم بالعهد والضمان
وذمة جوارُها لا يُخْفَر … ونعمة آثارها لا تكفَر
أشركتهم معَ بنيك في حقوق … حكمت أنّ سلبَها منهم عقوق
__________
" نُشرت في الأعداد 152، 153، 156، 157، 158، 159، 160، 161، 163، 164 من جريدة «البصائر»، سنة 1951.(3/484)
أفرطتَ في الرحمة والإكرام … فأفرطوا في البغي والإجرام
وفي العباد من إذا لِنت اجْترى … ومَن إذا صدقته القول افترى
ومن إذا سقيته المحض المري … سقاكَ شوْبًا من قذىً وكدَر
عروقُ لؤم في الغرائز التي … مهما تسامتْ للعلا تدلَّت
إن الضلال والهوى والأثَره … وكلّ شرّ قد محوتَ أثَرَه
اتصلت من بعد ما فصلتا … ونَبَتَتْ من بعد ما استأصلتا
تجسمت فأصبحت جبالا … واستوثقت حتى غدت حبالا
ثم تداعت في حمى الصلبان … ورِعْية القسوس والرهبان
إن طلبوا عندَك ثارَ الغلب … فهل تراهم أجملوا في الطلب؟
لا والذي بك العقولَ حرّرا … وثبت الحقّ بها وقررا
وجعل القرآن حجة الأبد … هو المعين العدّ، والكتْب الزَبد
مفصّلًا أنزله نجوما … وللهدى سيّره زحوما
قد أمِنوا- إلا بحق- سيفَك … وأمِنوا على الزمان حيفَك
ولمعة من صارم يسل …كومضة من عارض ينهل
والأرض أحوجُ لدَرء العيْث … منها إلى جلب الحيا والغيث
ما سلّ سيفٌ فيك إلا لمدى … لو لم يجُزْه الناس ظلّ مغمدا
...
لغة العرب:
نغار عن أحسابنا أن تُمتهن … والحر عن مجد الجدود مؤتمن
ولغة العرب لسان ممتحن … إن لم يذُد أبناؤه عنه، فمن؟
...
المنابر:
إن المنابر في الإسلام ما نصبت … إلا لترفَع صوت الحق في الناس
فاخترْ لأعوادها لا من يلين له … في الحق عود ولا يُصغي لخنّاس
ومن إذا رِيع سربُ الدين خفّ له … ولم يكن لعهود الله بالناسي(3/485)
من نفحات الشرق *
داوِ الكلوم يا شرق، فما زلنا كلَّما استشفينا بك نجد الراحة والعافية، ونظفر بالأدوية الشافية؛ وما زلنا كلما استنشقنا ريحًا استنشيْنا رَندك وعرارك، وكلّما استورينا زندًا استمجدنا مَرْخَك وعَفَارك، وما زالت أفئدتنا تهوي إليك فتصافحها حرارة الإيمان، وبرد اليقين، ورَوْح الأمان، وما زلت تُتحفنا مع كل بازغة منك بالنور اللائح، والشعاع الهادي، وما زال يتبلج علينا من سناك في كل داجية فجر، وتسري إلينا من صباك في كل غماء نفحات منعشة.
...
وافنا يا شرق مع كل نسمة منك تهبّ، ومع كل بريد من قِبلك يخبّ، بأثارة مما أبقت الأيام فيك من آثار السماء، فقد انقطعت الصلة- في غيرك- بينها وبين الأرض، منذ طمعت أوربا في استعمار كواكبها، وتعفيرها بأوضار مادّيتها، وهل تنقل أوربا إلى السماء يوم تستعمرها إلا مخامرها ومواخيرها وآثامها وفواحشها؟ وكَذَبَتْهم الكذوب، فإن الصعود إلى السماء خيال يسري في ظلّ حقيقة، وباطل يجري في عنان حق، وحلم من أحلام العلم، أخطأت تعبيره علماء المادّة، وحقّقه محمد مرّة واحدة، في تاريخ البشرية، ووضّح التفكير الإسلامي تفسيره في تلك المرحلة الأولى بالعروج الروحي إلى الملإ الأعلى، والجوَلان الفكري في ملكوت السماوات، فلولا هداية الإسلام إلى اجتلاء أسرار السماء، وتوجيه العقول إلى فتح مغاليقه، وربطه بالأرض بواسطة الروح، لما لاح هذا الخيال في ذهن مفكر، ولا طاف طائفه بعقل عاقل، وكذب الطرفان، وصدقت الواسطة، الأوّلون قادهم
__________
* نشرت في العدد 164 من جريدة «البصائر»، 23 جويلية سنة 1951.(3/486)
الإعجاب بالكواكب إلى عبادتها، والآخرون قادهم إلى استعمارها، والإسلام كذب الأولين، وسيسفِّه الآخرين ...
...
ما زالت فيك- يا شرق- ملامح من الخير، ومخايل من الفضيلة، ومشابه من عبقرية العقول التي حلّت مشكلات العلم، ووسّعت آفاق المعرفة، وخطّت خطوط الفن الأولى، ومن الأرواح التي اتّسمت بالطهر، واضطلعت بالأمانة، وعبرت البرزخ الإنساني إلى أفق الملائكة، فساوق نغمها بكلام الله زجلهم بتسبيحه، فاتسق منهما إيقاع حدَتْ به ركب الإنسانية إلى منابع الخير، ومشارع الحق، ومراتع الجمال، ثم ... إلى الجنّة.
يا شرق، فيك من كل مكرمة عرق، فاجْر على أعراقك الكريمة، ففي تربتك نبت الإيثار والتضحية، ومن أرضك انبجست الرحمة والرفق، ومن آفاقك هبّت النجدة والغوث، وعلى أديمك دبّت النبوّة والحكمة، ومن سمائك تنزّلت البيّنات الفارقة بين الهدى والضلال، وعنك أخذ الناس المكارم والمراشد، ومنك امتاروا أغذية الأرواح، واستبضعوا طرائف العلم
...
آسِ جراحنا، وإن كنت مثخنًا من ملوكك المغرورين، وكبرائك المفسدين وعلمائك الضالين، بألف جرح؛ فلا يحزنك أنهم عقّوك وشقّوك؛ ولا يقعد بك عن أداء رسالتك أنهم أضاعوك وباعوك، وأنهم أكلوا خيرك، وعبدوا غيرك، ولا يرعك أن على كل فَنن من دوحتك ديكًا منهم يدلّ الثعلب بصياحه، وغرابًا يجلب الشؤم بنعيبه، فامض على نهجك، ودعهم للزمان الذي يقيم الأمت، ويقوّم السمت؛ ولا تبال أيةً سلكوا، ولا بأي واد هلكوا؛ فما هم من النسبة إليك في الصميم المهذّب، وإنما هم دخلاءُ تغرّبوا، ونبيط تعرّبوا، وفي كنائنك من الشباب من يتجافى عن دَدِه، لتعمير غدك بغده، ومن الكهول من فُرّ عن تجربة، وخلص تبرًا من أتربة، ومن الشيوخ من سلخ عمره لحماك حارسًا، ووقف دهره لسرّك دارسًا؛ فاستعدِ هؤلاء على أولئك، وكاثر الضالين بالمهتدين، وارْم البطان الفجرة، بالعجاف البررة، ترْم الخبيث بالطيب، وتغسل الدرن بالصيب، وإذًا لا يلبثون فيك إلا قليلًا.
***(3/487)
نأسى عليك يا شرق أن تتقاذفك الأقدار، فتنقلب من عبادة الأصنام الحجرية، إلى عبادة الأصنام البشرية، فمتى تنهض بمن يكسر هذه في الآخرين، كما كسر محمد أخواتها في الأولين؟
...
أناديك: داوِ الكلوم، وقد فعلتَ، فأنعشت نفسًا ظامئة إلى ريِّك وريَّاك، متطلعةً إلى سهيلك وثريّاك، وإياي أعني، فقد كنت في هذا العيد الأخير على الحالة التي وصفتها صادقًا في كلمة العدد الماضي، من ضيق النفْس، وحرج الصدر، والامتعاض لحالة المسلمين، وظهوري بين الناس بوجه ضاحك ووراءه قلب حزين، فجاءني الشرق أو جادني بما كانت مواقعه مني (مواقع الماء من ذي الغلة الصادي).
أثقل ما يعرض لنفس الحرّ شيئان: أن يحزن والناس كلهم في فرح، وأن ينقبض وهم جميعًا في مرح؛ وكذلك كنت في أيام العيد الماضي، لولا نفحات من الشرق، آمنت معها بكل ما كان يزعمه الشعراء لنسيم الصبا من آثار ...
خلصتْ إليّ من إخوان الصدق في الشرقين، رسائل تحمل التهنئة بالعيد، بأسلوب جديد، غير ذلك الأسلوب الرثّ المبتذل الميت الذي عرفناه وألفناه، ولكنه يُفشي اليقظة ويصف الداء والدواء، ويجمع الأمل والعمل، ويسمو بالفكر والروح، ويربط الكاتب والقارئ بشعور واحد، ويعدي نفسًا من نفس، فكأنما مسّتها منها كهرباء، ويفيض كل لفظ منه بمعاني الاتصال الروحاني، فتحسّ النفس المكروبة أن لها من أختها مؤنسًا في الوحدة، ومعينًا على الشدّة، ومثبّتًا عند زيغ الأبصار وزلزلة الأقدام، وكذلك كنت بعد وصول رسائل التهنئة إليّ من جدة والمدينة والموصل وبغداد وباكستان ودمشق وبيروت والقاهرة والهند وجاوة، فكنت أقرأها تهنئة، فأجدها تسلية.
سلم جناحاك يا طائرة البريد، وبلغ قائدك ما يريد، ووُقيت شرّ العواصف الهوج، والفُجاءات الموبقة، وسلكت من السماء سبلًا، معبّدة ذللًا، فلولاك ما وصلت النجدة في حين الحاجة إليها، وقد سمعنا بنقلك الشفاءَ إلى مريض البدن، في ساعة من الزمن. أأنتِ كذلك مع مرضى الأرواح؟ ...
وحيّا الله أولئك الإخوان على بعد الدار، لكأنهم علموا أن على الجانب الغربيّ رجلًا يهتم بهم أبدًا، فاهتمّوا به يومًا، ولكنّه يوم كألف سنة، فأزاحوا عن نفسه، همًّا ناصبًا، وجاءوه بفن من الترويح تواطأوا فيه على نهج، فكأنهم استملوه من لسان واحد، وكأنهم علموا البلوى، فجاءوا بالدواء ومعه السلوى، وخصّ الله بتحياته المباركة أولئك الذين زادوا(3/488)
على التهنئة بالعيد تهنئة العربية "بالبصائر"، وتهنئة «البصائر» بجهادها وبالمكانة التي تبوّأتها في القلوب، ووددت- والله- لو تجرّدت رسائلهم من إطراء هذا العاجز، وتنزيله منزلة هو أعلم الناس بأنه لا يستحقها، وإذن لنشرت منها ما ينبّه القرّاء إلى ما تفعله الأخوّة الإسلامية التي ننشدها، ونعمل على تثبيت قواعدها، وإلى المدى الذي بلغته «البصائر» في ربط القلوب، وتوحيد الاتّجاه، وتضييق دائرة الخلف في الدين والدنيا، وتوسيع ميدان التعارف، ثم في نقل الجزائر من (باب النكرة) إلى (باب المعرفة) ...
...
إن أنسَ شيئًا من تلك المعاني العلوية فلن أنسى تلك الرسالة التي كتبها الأستاذ محمد هارون المجدّدي، سكرتير السفارة الأفغانية بالقاهرة، نيابة عن والده المسلم الصادق السفير محمد صادق المجدّدي، ولن أنسى، ما حييت ما لمس إحساسي الديني من تلك الرسالة، وهو اعتذاره عن والده بعذر غريب عند المفتونين منا من ربائب الحضارة الغربية، وهو: "أنه ذهب إلى المسجد الأقصى ليُقيم سنة "الاعتكاف " في العَشر الأواخر من رمضان، كدأبه في كل عام" ...
سفير دولة إسلامية يفارق مركزه الرسمي، ويترك أشغاله الرسمية، ويخالف سنّة زملائه، ويشدّ الرحال إلى ثالث المساجد الثلاثة، ليقيم فيه سنّة إسلامية، هي أفضل السنن في تزكية النفس، وتطهيرها من المكدّرات، وفي تصفية الأرواح، وتلطيف كثافتها، شرعت في شهر رمضان لتكون نفس المؤمن بمقربة من الله في الدائبين، على حين يختار بعض ملوك المسلمين، وكثيرٌ من كبرائهم هذا الشهر للسفر إلى أوربا لينتهكوا حرماته، ويتقرّبوا بنفوسهم الخاطئة إلى آثامها وشهواتها، وعلى حين يقيم غيره من سفراء الدول الإسلامية حفلات (الكوكتيل) بأموال المسلمين، يبيعون فيها دينهم وفضائلهم الشرقية بالثمن البخس، ويتقرّبون بها إلى أسيادهم الأوربيين الذين ما سادوهم باطّراح الدين، وإنما سادوهم بالخلق المتين، والمحافظة على الخصائص الموروثة، والأخذ من كل شيء بلبابه لا بقشوره.
لعمر الحق ... إن اعتكاف سفير مسلم للعبادة في أحد المساجد الثلاثة، لحجة من حجج الله، على الملوك والوزراء والكبراء الذين فرّطوا في دينهم فخسروه وما ربحوا الدنيا، ثم كانوا وبالًا على أممهم، وسبة لدينهم.(3/489)
محنة مصر محنتنا *
تعاني مصر العزيزة هذه الأيام، ما يعانيه الحرّ الأبيّ، أُكره على الضيم، وأريد على ما لا يريد، وجُرّع السمّ مدُوفًا في الحنظل، وقطعت أوصاله وهو يشعر، واستبيحت محارمه وهو يسمع ويبصر، حتى إذا استيأس من الإنصاف ونفد صبره، خطا الخطوة الفاصلة، وأقدم على تحطيم القيد بنفسه، وعلى تمزيق الصحيفة التي أملتها القوّة على الضعف، فقبلها مكرهًا كمختار، وكانت أهون الشرّين، فأصبحت- بحكم الزمان- أثقل الخطبين.
...
صمّمت مصر على حلّ العقدة التي عقدها السيف يوم التلّ الكبير، وأحكم المكر عقدها بعد ذلك في سلسلة من الأعوام بلغت السبعين، صاحبتها سلاسل من الأحداث والأسباب المصطنعة، زادت العُقَد تأرّبًا واستحكامًا، وسلاسل من الوعود المنوّمة تكرّرت فتُأُلفت ففقدت التأثير، وفتحت مصر عينيها على أفظع ما تُفتح عليه العيون: تغرم ليغنم الإنكليز، وتجوع ليشبع الإنكليز، وتموت ليحيا الإنكليز، وينهدم مجدها ليبنى بأنقاضه مجد الإمبراطورية الإنكليزية، ويفرض عليها أن تعيش غريبة في وطنها، وأن تعاون على طمس حضارتها ومسخ عقليتها، والانسلاخ من شرقيتها، والنسيان لماضيها، وأن تنتبذ من أهلها مكانًا غربيًّا ... وأن تجفّف ماء النيل لتفهق به مشارع (التاميز) ...
...
__________
* نُشرت في العدد 174 من جريدة «البصائر»، 5 نوفمبر سنة 1951.(3/490)
صمّمت مصر على إحدى الخطتين، فكانت التي فيها الشرف والكرامة، بعد أن استنفدت التجارب، واستفرغت الجهود، وبعد أن استعرضت الماضي بعبره وشواهده، فرأت أن ساعة من العمل خير من ألف شهر في الكلام، وأنها تمارس خصمًا إن استنجزته الوعد طاول، وإن تقاصرت أمامه تطاول، فخطت هذه الخطوة واثقة مستبصرة، وتركت للأقدار ما وراءها، كما يفعل المظلوم المستيئس من إنصاف ظالمه، ومن نصر النظارة، يركب الحدّ الخشن، ويعتمد على نفسه، وينادي ربّه: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}.
رأت مصر- كما رأينا وكما رأت الشعوب المستضعفة- أنّ السنّة قد انعكست، فأصبحت أيام الحرب أكثر عددًا من أيام السلم، وأن لصوص الاستعمار شغلتهم الحرب عن السلم، ولم تشغلهم السلم عن الحرب، فأصبحوا في حرب متصلة الحلقات.
وعلمت مصر- كما علم غيرها- أن الشعار الكاذب لحرب 14 - 18 هو وعود المتحاربين للأمم الضعيفة بأن نهاية الحرب هي بداية تحريرهم فليسكتوا إلى حين، لأن السلاح خطيب جمعة يجب الإنصات له، ويَحرُم الكلام معه، فلما انتهت تلك الحرب أمعن اللصوص المنتصرون في استعباد المستضعفين، وصمّت آذانهم عن سماع أصواتهم، وجاءت حرب 39 فتجدّدت تلك الوعود بألفاظها، وزيدت عليها نون التوكيد المشدّدة، وسيقت تلك الشعوب الموعودة على نغماتها إلى جهنم بأوزار غيرها، ولمنافع غيرها، فلما خفّت المعامع، وسكتت المدافع، عادت طبيعة الكذب والإخلاف إلى مستقرّها من نفوس اللصوص، وعادت الحالة إلى أشنع مما كانت عليه من تحكّم واستعباد، وما انتهت تلك الحرب حتى ظهرت على العالم أعراض الحمل بحرب أخرى ثالثة، وأصبح العالم كله استعدادًا لها، وأوجد الطغاة العالون في الأرض بذلك مرخّصًا لطغيانهم، ولإسكات الأصوات المطالبة بالتحرير، وعادت نوبة المماطلة والتسويف والوعود الكاذبة، والتعلّل بأن الحرب على الأبواب، فلنحتفظ بهذه الأبواب، وبأن الديمقراطية في خطر، فلنتعاون على إنقاذها مجتمعين قبل كل شيء ثم نتناصف، وهم لا يريدون من الديمقراطية إلا سيادتهم واستعلاءهم وتحكّمهم في الشعوب والأوطان واستئثارهم بقوّاتها وخيراتها، فقالت مصر: إذا كانت الحرب لم تنصفني، مع احتراقي بنارها، وكانت السلم لا تنصفني، مع اضطلاعي بوسائلها، وتمهيدي لأسبابها، فلأنتصف لنفسي، ولآخذ حقي بيدي ... فأقدمت وجاءت بها غراءَ مشهّرة الأعلام، وسنتها سنة حسنة لها أجرها وأجر من عمل بها، ممن ضاقت به الحيل، واشتبهت عليه السّبل؛ ولعمري لئن سبقها إلى هذه المنقبة رجال من فارس، ليلحقنّها فيها رجال من العرب الأشاوس ...
***(3/491)
الآن يا مصر ... الآن وقعت على مفتاح القضية، وقد أقدمت فصمّمي واحذري النكول والتراجع فإنهما مضيعان للفرصة؛ اجعلي من أرضك صعيدًا واحدًا، واجمعي أبناءك كلهم فيه صفًّا واحدًا، بقلب رجل واحد، على الحفاظ والنجدة والاستماتة في حقك والموت في سبيله، واجعلي من وجهيك وجهًا واحدًا مستبين القسمات، واضح السنن، يراه عدوّك فلا يرى إلا الحق مشرقًا، والغضبة بارزة العنوان.
إن بين السبق والتخلّف خطًّا دقيقًا، يتجاوزه الحرّ الأصيل، فإذا هو مستول على القصب، وإن بين النصر والهزيمة خطوة ضيّقة، يخطوها الشهم الشَّمَّريُّ فإذا هو حائز الغلب؛ وإن المعالي شدّ حيزوم، وشحذ عزيمة، وتلقيح رأي سديد برأي أسدّ، وتطعيم عقل رشيد بعقد أرشد، ثم استجماع للقوّة الداخلية كما يستجمع الأسد للوثبة.
ليت شعري! ... لو لم تصنع مصر ما صنعت، فماذا كانت تصنع؛ أكانت تستخذي للغاصب، فتبقى مقيّدة به، يعادي فتعادي بلا سبب، ويحارب فتحارب بلا أجر ولا غنيمة، ويرضى فترضى بلا موجب، ويواصل فتواصل على مضض؟
وكنا نظن أن الإنكليز راجعوا بصائرهم، وأخذوا من تأديب الزمان بنصيب ومحوا سيّئة الاستعمار بحسنة التحرير، وسنّوا للمستعمرين الجائعين سنّة التعفّف- يوم حرّروا الهند وباكستان- على ما في ذلك التحرير من شوائب، ويوم أعانوا سوريا ولبنان على التخلّص من البلاء المبين، كنا نعتقد أن تلك البوادر من انجلترا- لو تمادت عليها- أصلح لها وأبقى على شرفها، لأن من ثمراتها أن يصير خصومها أصدقاءَ وأعوانًا، ولكن معاملتها لمصر هذه المعاملة القاسية التي انتهت بالأزمة الحالية، كذّبت ظنوننا، وسفهت اعتقادنا، وأقرّت أعين المستعمرين أعداء التحرير.
...
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، المعبّرة عن إحساس الشعب الجزائري كله، تعلن تأييدها للشعب المصري وتضامنها معه في موقفه الحازم، ولا تصدّها عن أداء واجبات الأخوّة هذه الحدود الوهمية التي خطّها الاستعمار بين أجزاء الوطن الواحد، ولا هذه السدود الواهية التي أقامها بين أبناء الوطن الواحد، لأن العواطف الجيّاشة كعثانين السيل لا تردّها حدود ولا سدود.
وجمعية العلماء تحيّي جهود الشعب المصري، المجاهد في سبيل حرّيته واستقلاله، وتدعو له بالثبات في هذا المعترك الضنك، وبالانتصار في هذه المعركة الحاسمة، وأن يكون انتصاره آيةً من الله يثبّت بها عزائم المستضعفين، ويحلّ بها ما عقد الأقوياء، وإن الشعب(3/492)
الجزائري حين يظهر بهذا الإحساس الشريف الطاهر نحو أخيه الشعب المصري، إنما يقدّم جهد المقلّ، من قلوب ملؤها الحب لمصر، والاعتزاز بأخوّة مصر، والإعجاب بما صنعت مصر، وإنه يعتقد أن كلّ مصري يخرج عن إجماع مصر فهو مدخول العقيدة، مغموز النسب، وأن كل عربي لا يؤيّد مصر، فهو عاقٌّ للعروبة، ناكث لعهدها، وأن كلّ مسلم لا يعين مصر بما يملك فهو مارق من الأخوّة الإسلامية الشاملة.
ولقد قام مكتب جمعية العلماء في القاهرة بالواجب على أكمل وجه، فقام- لأول نشوب الأزمة- بتبليغ معاني التأييد والتضامن للحكومة المصرية باسم جمعية العلماء والشعب الجزائري، وتلقّى من رفعة رئيس الوزارة المصرية الشكر والتقدير، وأذاع راديو القاهرة ذلك كله على العالم، وإنّا لمغتبطون بأداء هذا الواجب، شاكرون لمكتبنا في القاهرة قيامه به عنا.(3/493)
يا مصر ... *
نسمّيك بما سمّاك الله به في كتابه، فكفاك فخرًا أنه سمَّاك بهذا الاسم الخالد الذي تبدَّلت أوضاعُ الكون ولم يتبدّل، وتغيّرت ملامح الأرض ولم يتغيّر، وحسبك تيهًا على
أقطار الأرض أنه سمّاك ووصفها، فقال في فلسطين: {الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} و {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}، وقال في أرض سبأ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} ولم يُسمّ إلا الطور وهو جبل، ومكة وهي مدينة، ويثرب وهي قرية، فتيهي وافخري بهذه الملاءة التي كساكيها الله، وخذي منها الفالَ على أنك منه بعين عناية لا تنام، وبذمّة رعاية لا تُخفر، وبجوار أمن لا يخزى جاره.
نأسى لك- يا مصر- أن أنزلتك الأقدار بهذه المنزلة التي جلبت لك البلاء وجرّت عليك الشقاء، وأن حبتك هذا الجمال الذي جذب إليك خُطّاب السوء من الأقوياء الطامحين؛ والقوّاد الفاتحين، وأن أجرى فيك هذا الوادي العذب الذي كان فتنة الخيال البشري، فلم يقنع لمائه إلا بأن ينبطه من الجنة، وكان وثن القدماء من روّاده فتقرّبوا إليه بالنذور والقرابين، وكان طغوى فرعون ذي الأوتاد، فحرّك فيه نزعة الألوهية، فتوهّم أن شاطئيه الأخضرين هما نهاية الكون، وأنهما كفاء لملك الله الطويل العريض، وأن وضعك من هذا الكوكب الأرضي في موضع الواسطة من القلادة، فتعلّقت بك الابصار حتى "كأنَّ عليك من حدق نطاقًا"؛ وأن جعلك برزخًا فاصلًا بين الشرق والغرب، فكنتِ- على الدهر- مجال احتراب بين الشرق والغرب، فصبرًا يا مصر فهذا الذي تعانيه هو مغارم الجمال والشرف والسّلطة.
...
سمّوك "عروس الشرق" فكأنما أغروا بك الخطّاب، وهجهجوا فيك الآساد الغلاب، ووسموك "بمنارة الشرق" فلفتوا إليك الأعين الخزر، ولووا نحوك الأعناق الغلب، ولو دعوك
__________
* نشرت في العدد 178 - 179 من جريدة «البصائر»، 17 جانفي سنة 1952.(3/494)
"لبؤة الشرق" لأثاروا- بهذا الاسم- في النفوس معاني رهيبة، منها دقُّ الأعناق، وقصم الظهور، وتقليل الأعضاء، وقديمًا سمّوا بغداد "دار السلام" فجنوا عليها، وكأنّما دلوا المُغيرين عليها، ولو سمّوها "دار الحرب"، لأوحى الاسم وحده ما تنخلع منه قلوب الطامعين وتخنس له عزائمهم، وتنكسر لتصوّره الجيوش اللجبة، فغفرًا- يا مصر- فما هذه الأسماء إلا من هُيام الشعراء.
...
وما زلت- منذ كنت- مهوى أفئدة العظماء الفاتحين، فأخذوك اقتسارًا وصلحًا، وحازوك طوعًا وكرهًا، وما منهم إلا من مَهرك المهر الغالي، وساق إليك الثمين المدَّخر، بما خلّد فيك من آثاره، وبما خلّف فيك من سمات قومه ومعانيهم: حازك الإسكندر فخلد فيك الإسكندرية، وملكك قمبيز فخلّف فيك شيات من فخار فارس وخيلائها، وحلّ فيك بطليموس فخلّف فيك أثارةً من حكمة يونان، وداعبَك قياصرة الرومان فخلّفوا فيك أثرًا من عظمة الرومان، وفتحك عمرو، فمهرك بيان العرب كلّه وهداية الإسلام كلها، ففخرًا- يا مصر- فهذه المخايلُ اللائحة على صفحاتك هي بقايا مهورك الغالية، وإن أثمنها قيمة- وحقّك- وأثبتها أثرًا، وابقاها بقاء، وأشبهها بشمائلك،- لمهر عمرو ... فما زلت منذ تفيّأت ظل الإسلام الظليل، تجدين منه في كل داجية نجمًا، ووراء كل داجية فجرًا، وما زلت كلّما شكوت ضرًّا في دينك، يخفّ إليك من يكشفه، وكلّما شكوت شرًّا في دنياك، يخف إليك من يدفعه.
خفّ إليك "جوهر" حين لحقتك علامةُ التأنيث، وتقلّب على فراشك العبيد، وخفّ إليك "صلاح الدين" حين امتُهِن فيك الدين، وخفّ إليك "سليم" حين لعبت بك أهواء المماليك، وخفّ إليكَ "علي" حين تحكّم فيك الصّعاليك، تأخّروا بركبك عن زمانك، فألحقك بزمانك، وبالقوافل السائرة من بني زمنك، وأراد لك أن يكون محلُّك من الغرب أمامًا، وأن تكوني من الشرق أمًّا وأمَّةً وإمامًا، فما عابوك، ولكنهم هابوك، فنصبوا لك في كل حفرة عاثورًا، ووضعوا لك في كل فجّ فخًّا، وأجمعوا على أن لا تكون لك جارية في بحر، ولا سارية في برّ، فمِن بعض ذلك كلّ ما تُعانين.
لئن كانت أزماتك في التاريخ كثيرة، فكلها إلى انفراج عاجل، ومن المؤلم أن تطول بك المحنة في هذه الدورة من أدوار الفلك، وأن تُبتلى بخصم لئيم الخصومة والكيد، يمدّهما زمنه بالقوّة والأيد، وأن يستحلّ حرماتك غاصب غريب لا تجمعك به نسبة لشرق، ولا يلتفّ منكما- إلى آدم- عرق بعرق، فيجعل منك أداة لكيده، وجارحةً لصيده، ومطية لصولته، وطريقًا لظلمه وظلامه ... فلو أن المسالك تشترك في الإجرام مع السالك لكان لك شركة في كل ما حمل الإنكليز من أوزار، ولحمَّلك العدل كفلًا من مأثمهم في الشرقين ...(3/495)
إذ لولا قناتك ما ثبتت له على أديم الشرق قدم، فليتك تعاسرت بالأمس في حفر هذه القناة، أو ليتك تصنعين بها اليوم ما صنع العرب بمناة، فتوسعين هذه ردمًا، كما أسعوا تلك هدمًا ... حتى إذا ملكت أمرك حفرت ما يرويك لا ما يُرديك، وما فضل ماء استنبطته يداك، لينتفع به عداك؟ وما ذاد الأباة عن الحياض إلا لتكون لهم وردًا.
لا توحشنّك غربة ... إن مئات الملايين من القلوب رفافة على جنباتك، حائمة على مواردك، هائمة بحبك، تقطع الأنّات في التفكير فيك، ولا تقطع الأنّات من الامتعاض لك، وإن مئات الملايين من الالسنة رطبة بذكرك، متحرّكة بمدحك، ناطقة بفضلك، متغنيّة بمحاسنك؛ وإن هذا لرأس مال عظيم، لم تظفر به قبلك يدان ...
أنت اليوم مثابة العروبة في ثراك حيِيَ بيانها، وبسقت أفنانها، وفي رياضك تفتّحت أزهارها وغرّدت بلابلها، ففي ذمة كل عربي حرّ الدم لك دين واجب الوفاء، وهذا أجل الوفاء.
وأنت اليوم قبلة المسلمين، يُوَلّون وجوههم إليك كلّما حزبهم أمر، أو حلّت بهم معضلة، وينفرون إلى معاهدك، يمتارون العلم منها، وإلى كتبك يصحّحون الفكر والرأي عنها، وإلى علمائك يتلقّون الفتيا الفاصلة في الدين والدنيا عنهم، فلك- بذلك- على كل مسلم حق، وهذا أوان الحاجة إليه.
وأنت اليوم مأرز الإسلام، فكلّما سيم الهوان في قطر، أو رماه زنديق بنقيصة، فزع إليك واستجار بك يلتمس الغوث ويستمد الدفاع، فلك على المسلمين في المشارق والمغارب فضلُ الحماية لدينهم، وعليهم أن يطيروا خفافًا وثقالًا لنصرتك، ثم لا منّة لهم عليك ولا جميل.
وكيف بك- مع هذا- لو كنت مظهرًا للإسلام الصحيح، ولمُثُله العليا في العقائد والأعمال والأحكام، إذن لكنت قدوةً في إحياء سننه التي أماتتها البدع، وفي إقامة أعلامه التي طمستها الجهالات، وفي بعث آدابه التي غطت عليها سخافات الغرب، وفي نشر هدايته التي طوتها الضلالات؛ وإذن لحييت وأحييت، ومن الغريب أنك قادرة على تغيير ما بك من هذه الأدران، ثم لم تغسلي، وإنك قادرة على إعادة الإسلام إلى رسومه الأولى، ثم لم تفعلي، ويمينًا برّة لو فعلت لما حلّ بك ما حلّ، ولو فعلت لقُدت المسلمين بزمام، ولكنت- بهم- للعالم كله إمامًا أيّ إمام.
وسبحان من قسّم الحظوظ بين الجماعات فأعطى كلّ جماعة حظًّا لا تعدوه، وفرّق الخصائص على البقاع فخصّ كل بقعة بسرّ لا يعدوها، فما زلنا نستجلي من صنع الله لك وللإسلام لطيفة سماوية، وهي أنه كلما رثت جدّة الإسلام، وخالطته المحدثات، سطع في أفق من آفاقه نجم يهدي السارين إلى سوائه، وارتفع صوتٌ بالدعوة إلى أصول هدايته، ثم(3/496)
لا يلبث ذلك النجم أن يخبو، وذلك الصوت أن يخفت، إلا نجمًا سطع في أفقك، وصوتًا ارتفع من أرجائك، وقد ارتفعت أصوات بالإصلاح الديني في أقطار الإسلام، وفي حقب معروفة من تاريخه، فضاعت بين ضجيج المبطلين، وعجيج الضالين، إلا صوت "محمد عبده" فإنه اخترق الحدود وكسر السدود.
...
عهدكِ التاريخ صخرةً من معدن الحق، تنكسر عليها أمواج الباطل، فكوني أصلب مما كنت، وأرسخ قواعد مما كنت، تنحسر الأمواج وأنتِ أنتِ.
أقدمت فصمّمي ... وبدأت فتمّمي ... وحذار من التراجع، فإن اسمه الصحيح "الهزيمة"، وحذار من التردّد فإنه سوس العزيمة.
إنك فائزة هذه المرة بأقصى المطلوب، لأنك أردتِ فصمّمت، وإنما يعين الله من مخلوقاته المصمِّمين، وإذا كان المطلوب حقًّا، وكان الطلب عدلًا فأكبرُ الأعوان على نيله التصميم، فصمّمي، ثم صمّمي.
إن قلبي يحدّثني حديثًا كأنما استقاه من عين اليقين، وهو أنك فائزة منتصرة ظافرة في هذه المعركة، لأنك استعملت فيها سلاحًا كنت تنشدينه فلا تجدينه، وهو الإرادة، يحدوها التصميم، يمدّهما الإيمان بالحق، يربط ثلاثتهما الإجماع على الحق.
إنك فائزة في هذا اليوم بالأمنية التي عملت لها قرونًا، وإن فوزك فوز للعرب وللإسلام والشرق؛ فيا ويح دعاة الوطنيّات الضيّقة المحدودة، إذا أقدم الأبطال نكصوا، وإذا زاد الناس نقصوا؛ ويحهم إنّ المستعمر سارق، وإن السارق الحاذق لا يسرق إلا في الظلمة أو في الغفلة، فإذا انحسر الظلام، أو انقشعت الغفلة ولّى مدبرًا بالخيبة والخسار، وإن مصر لفي فجر صادق، وإنها لفي يقظة صاحية، فأيّ موضع يسع السارق فيها؟
صمّمي، وأقدمي، ولا يخدعنك وعد، ولا يزعجنك وعيد، ولا تُلهينّك المفاوضات والمخابرات، فكلّها تضييع للوقت، وإطالة للذل، ولقد جرّبت ولُدِغت من جُحر واحد مرارًا! إن الخصوم- كما علمت- لئام، فاقطعي عنهم الماء والطعام، وإن اللؤم والجبن توأمان منذ طبع الله الطباع، فحرّكي في وجوههم تلك القوى الكامنة في بنيك يرتدعوا. صمّمي وقولي للمتعاقلين الذين يعذلونك على الإقدام: "إنّ أضيعَ شيء ما تقول العواذل".
***(3/497)
انثُري كنانتك- يا كنانة الله- فإن لم تجدي فيها سلاح الحديد والنار فلا تُراعي واحرصي على أن تجدي فيها السلاح الذي يفل الحديد، وهو العزائم، والمادة التي تطفئ النار، وهي اتحاد الصفوف، والمسنّ الذي يشحذ هذين، وهو العفة والصبر، فلعمرك- يا مصر- إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار إلا ساعةً من نهار، ولكنهم قاتلوك في الزمن كله بالأستاذ الذي يفسد الفكر، وبالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يُمرض اليقين، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالفلم الذي يزّين الفاحشة، وبالبغيّ التي تخرب البيت، وبالحشيش الذي يهدم الصحة، وبالممثلة التي تمثّل الفجور؛ وبالراقصة التي تغري بالتخنث؛ وبالمهازل التي تقتل الجدّ والشهامة، وبالخمرة التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال، وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكماليات التي تثقل الحياة، وبالعادات التي تناقض فطرة الله، وبالمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب، فإن شئت أن تذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة ... ثم تصومي عن هذه المطاعم كلها ... إن القوم تجّار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم ... وقابلي أسلحتهم كلّها بسلاح واحد، وهو التعفّف عن هذه الأسلحة كلها ... فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك، وانصرفوا ... وماذا يصنع "المرابي" في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معه بالربا؟
...
نعمة من الله عليك أن امتحنك بهذه المحنة، وأنت في مفترق الطرق، ولو تأخّرت المحنة قليلًا لخشينا أن تسلكي أضل السبل.
فرصة من فرص الدهر، هيأها لك القدر للرجوع إلى هدي محمد، ومحامد العرب، وروحانية الشرق، فإن انتهزتها محوت آية الغرب، وجعلت آية الشرق مبصرة.
...
ويا مصر، نحن وأنت سواء في طلب الحق ومطاردة غاصبه، ونحن وأنت مستبقون إلى غاية واحدة في ظلام دامس، ولكنك أصبحتِ، فيا بشراك ويا بشرانا بك، ولم نزل نحن في قطع من الليل، نرقب الفجر أن ينبلج نوره، وما الفجر منّا ببعيد.(3/498)
أثر الأزهر في النهضة المصرية *
... والنهضات أولها ثورة، وآخرها ثورة، فكان الأشبه أن أقول: أثر الأزهر في الثورات المصرية، لأن الأزهر حقيق عليه أن يعلّم الناس الثورات على الأباطيل في الدين والدنيا، ولأن الأزهر ساهم بالفعل في الثورات المتتابعة في مصر على الحاكمين من الأمراء المفسدين، وعلى المتحكّمين من المستعمرين الغاصبين؛ ولعمر الحق إذا لم يكن الأزهر معهدًا لتعليم الثورات على الشر، وميدانًا لتنظيم الثورات على أهل الشر، فماذا عسى أن يكون؟
ويزيد من حلاوة الحديث عن أثر الأزهر في الثورات المصرية، أن في مصر الآن ثورة على "جريمة هذا العصر"- وهي الاستعمار- نرجو أن تزيد اشتعالًا حتى تقطع دابره منها، فيكون ذلك إيذانًا من الله بقطع دابره من جميع الأقطار، فإن هذه الثورات لا تُحمد مباديها حتى تحمد خواتمُها: فإذا بدأت فائرة، ثم ختمت فاترة أعطت لخصومنا الحجة علينا، وجرّأتهم على الاستخفاف بنا، والإمعان في استعبادنا، والاطمئنان إلى أمن العواقب.
ولقد كان الأزهر في أدوار فساد الحكم في مصر، أو في فترات إغارة الفاتحين الأجانب عليها من "سان لويس" إلى "نابليون"- هو المئذنة التي يستشرف الناس إلى سماع كلمة الحق منها، فإذا قالها كانت الفاصلة؛ ولقد قالها جماعة من أئمته لا يحصون في أزمات أشد من هذه الأزمة الحاضرة وأحدّ، فكان لها الوقع الحاسم في النفوس، والتأثير البليغ في الأفكار- قالها سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام في قضية المماليك الأمراء حين طغوا وبغوا، فحكم عليهم ببيع رقابهم، لأنها مملوكة لبيت مال المسلمين، قالها فقوّم بها وضعًا
__________
* نشرت في العدد 178 - 179 من جريدة «البصائر»، جانفي سنة 1952.(3/499)
مقلوبًا كان هو السبب في انقراض كثير من الدول الإسلامية، أو في اختلال أحوالها، وهو احتكار المماليك لمراتب الإمارة. ولو رزق الله بغداد عالمًا كابن عبد السلام في شجاعته وسمو نفسه، لأنقذ الخلافة العبّاسية من المماليك الأتراك ببيعهم في سوق الرقيق، وإقرار الأشياء في نصابها، ولو رزق الله الأندلس عالمًا مثله لأنقذ الدولة الأموية فيها من موالي المنصور بن أبي عامر، ولأفاء عليها من الخير والبركة ما لم يُفِئْه "خيران" و "مبارك" من أولئك الموالي.
وما كانت كلمة أولئك العلماء نافذةً ذلك النفوذ الخارق للعادة إلا لأنهم نسوا أنفسهم وذكروا الله، وآثروا ما عنده، من منازل الكرامة على ما عند الأمراء من الرتب والألقاب، وما عند الأغنياء من المال والمتاع، وتجرّدوا من الرغبة التي تُذِلّ الرقاب، ومن الرهبة التي تكُمّ الأفواه، فإذا قالوا قال الله، وإذا قال الله بطل كلّ قول وكلّ قائل.
وما أحوج مصر اليوم إلى علماء من ذلك الطراز، يقولون كلمة الله في السلم فتكون هادية إلى الصلاح، وفي الحرب فتكون قائدةً إلى النصر، لأن كلمة الله في لسان العالم الربّاني هي الميزان العادل، وهي الحبل الواصل، لأواخر الأشياء بأوائلها، وهي التي توجّه الناس إلى وجهة واحدة هي قبلة الحق، وهي التي تقودهم إلى ميدان التضحية والاستشهاد، وهي التي تمحو النزوات الطائشة، وتثبّت البصائر باليقين، وهي التي تحدّد علاقتهم بالله فلا يجاهدون في سبيله وهم منحرفون عن سبيله ... ولكن مصر لا تبلغ هذه الأمنيّة إلا إذا عاد في الأزهر سلطان العلماء إلى ما كان عليه في أيام "سلطان العلماء"! .. فقد أصبح علماء الدين تابعين لا متبوعين، وهانوا على أنفسهم فهانوا على الله وعلى الناس، وتركوا سياسة العامة بالدين، لمن يسوسها بالدنيا، فلا بدين تمسّكت ولا بدنيا ظفرت.
...
فإذا انتقلنا من أثر الأزهر في الثورات إلى أثره في فروع النهضة الأخرى، فإننا نجده ساهم في الكثير منها بالسهم الوافر، وشارك علماء الاختصاص الدنيوي فيها بالأعمال الجليلة، وفروع هذه النهضة متشابكة، تتقارب حتى تخفى الحدود الفاصلة بينها، وتتباعد حتى يصير كل فرع أصلًا برأسه، وأبرز فروع النهضة المصرية التي كان للأزهر فيها أثر بارز هي: الدين، والأدب، والسياسة، ولا أبعد إذا قلت: إن النهوض بهذه الفروع الثلاثة بدأ من الأزهر وتدرّج إلى الكمال فيه، ومن حسنات شوقي أنه يقرّر هذه الحقائق في شعره فيقول في الأزهر على عهد المماليك الأخير:(3/500)
ظلمات لا تَرى في جنحها … غير هذا الأزهر السمح شهابا
قسمًا، لولاه لم يبقَ بها … رجل يقرأُ أو يدري الكتابا
ويقول في النهضة السياسية ونشأة القضية المصرية وهو يتحدث عن الأزهر:
وُلدت قضيتُها على محرابه … وحبَتْ به طفلًا وشبَّت مُعصِرا
...
وأنا لا أكاد أسمِّي نهضة مصرية إلا ما كان منبثقًا من روح مصر الشرقية، ووضعيتها الإسلامية، وطبيعتها العربية، فهذا هو الذي أجلّه فيها وأكبره، لأنه انتشار لشيء كانت أصوله مطوية فيها، وامتدادٌ لمعان كانت ناقصة في الدلالة، مقصورة على الأوليات، كمينة في خبايا الأنفس، ولا يتمدد الزئبق ويستطيل في رأي العين إلا لأنه زئبق وتلك خاصيَّته ... ومحال أن تنهض أمة بغير خصائصها، أو تقوم بغير مقوّماتها، فإن نهضت بغير ذلك فتلك نهضة مزوّرة؛ وحقيقتها أنها انتقال إلى الأمة صاحبة تلك الخصائص، وارتحال بالعقول من موطن إلى موطن، أو هي "تجنُّس فكري" سُمِّي نهضة.
وعلى هذا الرأي فأنا لا أسمّي نهضة إلا ما كان آتيًا من الأزهر، أو متسبّبًا عنه ومتصلَّا بَه، مباشرة أو بواسطة أو بوسائط، وكل ما جاء على غير طريقه فهو ثانوي أو مكمّل، ومن المبهج أن هذا هو الواقع في نهضة مصر، فإن الدعائم التي قامت عليها دولة البيان نُحتت من معدن الأزهر، وإن معظم الأقطاب الذين اضطلعوا بالسياسة نشأوا نشأتهم الأولى في الأزهر، وإن أول صوت جهير ارتفع بالإصلاحين الديني والاجتماعي خرج من الأزهر، وإن الترويج للنهضة في الأرياف والدعاية للآراء، كان بألسنة أبناء الأزهر، ولولاهم لما راج في مصر رأيٌ، ولا ثبتت عقيدة، وإن زعموا لها المزاعم، وعقدوا عليها صلاح الدين والدنيا فهم أعصاب القرى، كما يصفهم شوقي في قوله:
هزّوا القرى من كهفها ورقيمها … أنتم لعمر الله أعصاب القرى
أثر الأزهر في النهضة المصرية هو الجزء الطبيعي الأصيل فيها، وهو الخميرة التي تُحيل الدخيل أصيلًا، لأن ذلك الجزء منزّل على طباع الأمة، ومرتبط بدينها وآدابها وتاريخها، وكل ما لابس النهضة من غير طريقه فهو مستوحًى من روح العصر كما يقولون، وليست لنا يد في تكييف هذا العصر حتى تكون روحه ممازجةً لروحنا، وموافقة لتفكيرنا، وإنما هو مستعار من أمم ليست بيننا وبينها صلة من دين ولا أدب، وليست متفقة معنا في تقدير الموازين الخلقية، والقيم الإنسانية، والاعتبارات الزمنية، وحسبنا دليلًا على هذا أن النهضات- في حقيقة معناها- تجديد وإصلاح، ولا يكون التجديد إلا(3/501)
لشيء تقادم، ولا يكون الإصلاح إلا لشيء فسد، فالتجديد والإصلاح وصفان عارضان والشيء في ذاته هو هو.
ولا تعجب إذا كانت النهضة شملت الأزهر نفسه، فما هو إلا من الكوائن الفاعلة المنفعلة، ولوم يغربل التاريخ هذه النهضة، فيأخذ منها ويدع، ويثبت من جملها ويمحو، فإننا لا نجد فيها إلا الأزهر وآثاره، وروح مصر وطبيعتها، ولسان العرب وبيانهم، وفضيلة الشرق وتقاليده، وهداية الإسلام وآدابه، ومثله العليا المتجلية في حقائقه التي سار العالم على نورها أحقابًا فما ضلّ وما غوى، وستذوب الأجزاء الغريبة الصالحة في هذا الكل الطبيعي فتصبح جزءًا من ماهيته، وستنفى الأجزاء غير الصالحة كما ينفي الجسم الصحيح جراثيم المرض.
...
لست أنكر تلقيح أدبنا بالآداب الراقية، ولا تطعيم حكمتنا بالحكم الحية. فلا الإسلام السمح يأبى لنا ذلك، ولا الحياة الدائبة تستغني عن ذلك، وقديمًا فعلنا ذلك، وحديثًا تفعل الأمم ذلك، ولكن قبل الربح تجب المحافظة على رأس المال، ولست أنكر على الأزهر أن يجاري الأحياء في الحياة، وأن يزاحم عليها، بل أرى من الواجب عليه أن يزاوج بين علوم الدين وبين علوم الدنيا، وأن يهيّئ أبناءه ليكونوا عقبان جوّ، وسباع دوّ، وأن يكونوا أحلاف حرب وأحلاس محاريب، وأن يكونوا دعاةً أجرياء إلى دينهم الحق، وأدبهم الحي، وفضائلهم الروحية وأن يعرفوا أنفسهم، ثم يتعارفوا، ثم يتعرّفوا.(3/502)
لكاتب هذه المقالات المجموعة هنا ثلاثة كتب:
1 - الكلمات المظلومة.
2 - الشاب الجزائري كا تمثله لي الخواطر.
3 - سجع الكهان.
وهذا الأخر نقد لاذع للحكومات العربية والشعوب العربية وملوكهم، على مواقفهم الذليلة المهينة المترددة في فلسطين، وكنت كتبت كثيرًا في التنديد بهم، فلم يؤثر ذلك في هذه الصخور الجامدة، فاستخدمت هذا الأسلوب، ونزعت فيه منزع القدماء في السجع وعزوته إلى كاهن الحيّ.
وقد نشرت «البصائر» عدة كلمات من كل كتاب لدواعٍ خاصة فاستحقّت أن تنشر فى «عيون البصائر»، وعسى أن ييسر الله نشر الكتب الثلاثة، ففي غير المنشور منها هنا ما هو أبلغ في التصوير وألذع في النقد مما نشر.(3/503)
كلمات مظلومة *
1 - المقاديم
المقاديم عند العرب جمع مقدام، وهو الذي يقدم على العظائم، والشاهد قول شاعرهم:
مقاديم وصالون في الروع خطوهم … بكل رقيق الشفرتين يَمانِ
أما عندنا فالمقاديم جمع مقدّم (1) على غير قياس في اللفظ والمعنى.
...
2 - العدل
العدل عند العرب وصف بالمصدر، مبالغة في إثبات الصفة حتى كأن الشخص صار صفةً محضة، أو كأن الوصف تجسّم فصار شخصًا، والعدل هو الذي لا يجور في حكم ولا في شهادة ولا في قول. أما عندنا فمعناه ما تعرف وأعرف!
...
3 - الكلية
الكليَّة عند جميع الأمم هي معهدٌ عال تُدرس فيه العلوم العالية، وتُبحث فيه حقائقها النهائية نظرًا وتطبيقًا، أما عندنا فالكلية مكتب ابتدائي تقرأ فيه أوّليات بعض العلوم.
__________
* نشرت في الأعداد 1 و 2 و 4 و 5 من جريدة «البصائر»، ابتداء من 25 جويلية سنة 1947.
1) مُقدَّم: يُطلَق على المسؤول عن شؤون "الزّاوية".(3/505)
إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر، وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير على الحقيقة، وتغليط للتاريخ، وتضليل للسامعين، ويا ويلنا حين نغتر بهذه الأسماء الخاطئة، ويا ويح تاريخنا إذا بُني على هذه المقدمات الكاذبة، ونغش أنفسنا إذا صدّقنا أن مدارسنا الابتدائية كليات، ويا خجلتنا بين الأمم الجادة، إذا صارفتْنا على السماع بالقناطير فلم تجد عند العيان إلا الدوانق.
يا قومنا! إن للواقع عليكم حقًّا، وإن للتاريخ حقًّا، وإن للأمة التي تعملون لها حقوقًا، فأنصفوا الثلاثة من نفوسكم!
...
4 - الاستعمار
عجيب! ... وهل الاستعمار مظلوم؟ إنما يقول هذا (كولون الشمال) (2) أصحاب الكيمياء التي أحالت السيد عبدًا، والدخيل أصيلًا، أما أنت فتوبتُك أن تحشر كلمة "مظلوم" هذه في الكلمات المظلومة.
هوّن عليك فإن المظلوم هنا هو هذه الكلمة العربية الجليلة التي ترجموا بها لمعنى خسيس.
مادة هذه الكلمة هي "العمارة" ومن مشتقاتها التعمير، والعمران، وفي القرآن: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، فأصل هذه الكلمة في لغتنا طيب، وفروعها طيبة، ومعناها القرآني أطيب وأطيب، ولا ننكر من استعمالاتها في ألسنة خاصتنا وعامّتنا إلا "العمارة" الدرقاوية (3).
ولكن إخراجها من المعنى العربي الطيب إلى المعنى الغربي الخبيث، ظلم لها، فاستحقّت الدخول من هذا الباب، والإدراج تحت هذا العنوان.
فالذي صيّر هذه الكلمة بغيضة إلى النفوس، ثقيلة على الأسماع، مستوخمة في الأذواق، هو معناها الخارجي- كما يقول المنطق- وهو معنى مرادف للإثم، والبغي، والخراب، والظلم، والتعدّي، والفساد، والنهب، والسرقة، والشره، والقسوة، والانتهاك، والقتل، والحيوانية ... إلى عشرات من مئات من هذه الرذائل تفسّرها آثاره وتنجلي عنها وقائعه.
__________
2) الكُولُون: هم المستوطنون الأوربيون. والشمال: شمال افريقيا.
3) العمارة: معناها الرَّكْب. الدرقاوية: هي الطريقة الصوفية المعروفة.(3/506)
وواعجبًا! تضيق الأوطان على رحبها بهذه المجموعة، وتحملها كلمة لا تمتّ إلى واحد منها بنسب، وإذا كنّا نسمّي من يجلب هذه المجموعة- من كبائر الإثم والفواحش إلى وطن- ظالمًا، فأظلم منه من يحشرها في كلمة شريفة من لغتنا: ليخدع بها ويغرّ، وليهوّن بها على الفرائس شراسة المفترس، وفظاعة الافتراس.
أما والله لو أن هذا الهيكل المسمّى بالاستعمار كان حيوانًا لكان من حيوانات الأساطير بألف فم للالتهام، وألف معدة للهضم، وألف يد للخنق، وألف ظلف للدوس، وألف مخلب للفرس، وألف ناب للتمزيق، وألف لسان للكذب وتزيين هذه الأعمال، ولكان مع ذلك هائجًا بادِيَ السوءات والمقابح على أسوإ ما نعرفه من الغرائز الحيوانية.
سمّوا الاستعمار تخريبًا- إذ لا تصحّ كلمة استخراب في الاستعمال- لأنه يخرّب الأوطان والأديان والعقول والأفكار؛ ويهدم القيم والمقامات والمقوّمات والقوميات.
وخذوا العهد على المجامع اللغوية أن تمنع استعمال هذه الكلمة في هذا المعنى الذي لا تقوم بحمله عربة مزابل.
...
5 - الإصلاحات
وليهدأ بال قادة الإصلاح الديني الإسلامي، فإن إصلاحهم لا يدخل في هذا الجمع المؤنث إذ هو إصلاح حقيقي ينطبق لفظه على معناه انطباقًا عادلًا لا ظلم فيه ولا غبن. وإنما أعني هذه الإصلاحات (الفاسدة) التي يكثر الحديث عليها في هذه الأيام من الدول والحكومات، فكلّما تعالت الأصوات من الأمم المطالبة بحقّها في السياسة والحياة، كانت العُلالة التي تسكت بها الأصوات؛ كلمة الإصلاحات فتتطلّع الأعناق، وتتشوّف النفوس، ثم تفتح الأعين على مهازل لا تسدّ خلة ولا تدفع ألمًا.
والشاهد القريب (إصلاحات) الجزائر التي شكّلت لها إدارة كاملة، وحشر فيها من الموظفين جند، وخصّص لها في الميزانية مال، وقُدّر لها من العمر سنوات، ولم يكن لها من العمل إلا التقريرات والملفات وأسماء المشروعات، ويقال إنها أخذت بالحزم والحسم، فبذلت اللقب والاسم، وانتقلت من تنفيذ العهود والشرائط إلى وضع الخطط والخرائط، والبركة في الأوراق.
وقرأنا عن إصلاحات المغرب وإصلاحات تونس وإصلاحات أخرى تُصاغ من وراء البحر للجزائر، فقلنا: ما أشبه حجل الجبال بألوان صخورها.(3/507)
ليت شعري! هل عرف القوم أن هذا الاسم وحده مشعر بأن ما قبله إفساد، إذ لا يكون الإصلاح إلا لحالة فاسدة. فإذا تبجّحوا بأنهم بهذه الإصلاحات مصلحون فقد اعترفوا بأنهم كانوا مفسدين.
...
6 - الديمقراطية
والديمقراطية رأي يوناني نظري جميل، منسوب إلى اسم صاحبه، وهو قائم على أن الشعب هو مصدر السلطة، ومن ثمّ فهو صاحب الحق في الحكم والتشريع، وعلى أن الأفراد متساوون في هذا الحق، ويناقضه رأي آخر يوناني النشأة أيضًا. اصطرع الرأيان في ميدان الجدل، ثم اصطرعا في ميدان العمل حتى أصبحا مذهبين في سياسة الحكم، وبابين في فلسفة الاجتماع، وكانت هذه الآراء الجميلة في الحياة مثل رأي ديموقراط تدور بين فلاسفة اليونان وقياصرة الرومان، أولئك يدرسونها جدلًا، وهؤلاء يدرسونها عملًا، إلى أن انتصف الله للحق بالإسلام، فجاء بالشورى والمساواة- حكمًا من الله- وأين حكم العقول من حكم خالق العقول؟ وجاء عمر فلقّن العالم درسًا عمليًّا في المثل الأعلى للحكم، ثم جاءت الحضارة الغربية المجتهدة في إثمار الحقول، المقلدةُ في أثمار العقول، وكان من آثار التعصب فيها للآريّة والمسيحية أنها آثرت الديمقراطية على العُمَرية، آثرتها في التسمية والنسبة، أما في التطبيق والعمل، فإن هذه الحضارة- وهي حاضنة المتناقضات- اتسعت لرأي ديمقراط ولرأي ميكيافيلّي صاحب كتاب "الأمير"، فإذا أرادت التلبيس ألبست الثاني ثوب الأول.
لم تُظلَم هذه الكلمة ما ظلمت في هذه العهود الأخيرة، فقد أصبحت أداة خداع في الحرب وفي السلم، جاءت الحرب فجندها الاستعمار في كتائبه، وجاء السلم فكانت سرابًا بقيعة، ولقد كثر أدعياؤها ومدّعوها والداعون إليها، والمدّعي لها مغرور، والداعي إليها مأجور، والدعيّ فيها لابسٌ ثوبَي زور.
أصبح استعمار الأقوياء للضعفاء ديمقراطية، وتقتيلهم للعزل الأبرياء ديمقراطية، ونقض المواثيق ديمقراطية.
لك الله أيتها الديمقراطية! ...(3/508)
الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *
- 1 -
أتمثّله متساميًا إلى معالي الحياة، عربيدَ الشباب في طلبها، طاغيًا عن القيود العائقة دونها، جامحًا عن الأعنَّة الكابحة في ميدانها، متَّقد العزمات، تكاد تحتدم جوانبه من ذكاء القلب، وشهامة الفؤاد، ونشاط الجوارح.
أتمثَّله مقدامًا على العظائم في غير تهوّر، محجامًا عن الصغائر في غير جبن، مقدّرًا موقع الرجل قبل الخطو، جاعلًا أو الفكر آخر العمل.
أتمثّله واسع الوجود، لا تقف أمامه الحدود، يرى كل عربي أخًا له، أخوةَ الدم، وكلَّ مسلم أخًا له، أخوة الدين، وكل بشر أخًا له، أخوة الإنسانية، ثم يُعطي لكل أخوّة حقّها فضلًا أو عدلًا.
أتمثّله حِلْفَ عمل، لا حليف بطالة، وحلس معمل، لا حلس مقهى، وبطل أعمال، لا ماضغ أقوال، ومرتاد حقيقة، لا رائد خيال.
أتمثّله برًّا بالبداوة التي أخرجت من أجداده أبطالًا، مزورًّا عن الحضارة التي (رمته بقشورها)، فأرخت أعصابه، وأنّثت شمائله، وخنّثت طباعه، وقيّدته بخيوط الوهم، ومجّت في نبعه الطاهر السموم، وأذهبت منه ما يُذهب القفص من الأسد من بأس وصولة.
أتمثّله مقبلًا على العلم والمعرفة ليعمل الخير والنفع، إقبال النحل على الأزهار والثمار لتصنع الشهد والشمع، مقبلًا على الارتزاق، إقبال النمل تجدُّ لتجِدَ، وتدَّخر لتفتخر، ولا تبالي ما دامت دائبة، أن ترجع مرة منجحة ومرة خائبة.
أحبّ منه ما يُحبُّ القائل:
__________
* نشرت في العدد 5 من جريدة «البصائر»، 5 سبتمبر سنة 1947.(3/509)
أُحِبُّ الْفَتَى يَنْفِي الْفَوَاحِشَ سَمْعُهُ … كَأَنَّ بِهِ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَقْرًا
وأهوى منه ما يهوى المتنبى:
وَأَهْوَى مِنَ الْفِتْيَانِ كُلَّ سَمِيذَعٍ … أَرِيبٍ كَصَدْرِ السَّمَهْرِيِّ الْمُقَوَّمِ
خَطَّتْ تَحْتَهُ الْعِيسُ الْفُلَاةَ وَخَالَطَتْ … بِهِ الْخَيْلُ كَبَاتَ الخَمِيسِ الْعَرْمَرِمِ
يا شباب الجزائر، هكذا كونوا! ... أو لا تكونوا! ...(3/510)
الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *
- 2 -
أتمثّله محمديّ الشمائل، غير صخّاب ولا عيّاب، ولا مغتاب ولا سبّاب، عفًّا عن محارم الخلق ومحارم الخالق، مقصور اللسان إلا عن دعوة إلى الحق، أو صرخة في وجه الباطل، متجاوزًا عما يكره من إخوانه، لا تنطوي أحناؤه على بغض ولا ضغينة.
أتمثّله متقلّبًا في الطاهرين والطاهرات، ارتضع أفاويق الإصلاح صبيًا، وزُرَّتْ غلائلُه عليه يافعًا، فنبتَت في حجره، ونبتت قوادِمُه في وكره، ورفرفت أجنحته في جوّه، لم يمسَسْه زيغ العقيدة، ولا غشيت عقله سُحُب الخرافات، بل وجد المنهج واضحًا فمشى على سوائه، والأعلام منصوبة فسار على هداها، واللواء معقودًا، فأوى إلى ظله، والطريق معبّدًا فخطا آمنًا من العثار، فما بلغ مبلغَ الرجال إلا وهو صحيحُ العقد في الدين، متينُ الاتصال بالله، مملوءُ القلب بالخوف منه، خاوي الجوامح من الخوف من المخلوق، قويّ الإيمان بالحياة، صحيح النظر في حقائقها، ثابت العزيمة في المزاحمة عليها، ذلق اللسان في المطالبة بها، ناهض الحجّة في الخصومة لأجلها، يأبى أن يكون حظُّه منها الأخسّ الأوكس، أمن بعقله وفكره أن يضلّل في الحياة كما أمن بهما أن يضلّل في الدين.
"وفي الحياة كما في الدين تضليل" (2)
يا شباب الجزائر!
ما قيمة الشباب؟ وإن رقَّت أنداؤه، وتجاوبت أصداؤه، وقُضِيَتْ أوطارُه وغلا من بين أطوار العمر مقدارُه، وتناغت على أفنان الأيام والليالي أطيارُه، وتنفَّست عن مثل روح الربيع أزهاره، وطابت بين انتهاب اللذات واقتطاف المسرّات أصائله وأسحاره.
__________
* نشرت في العدد 6 من جريدة «البصائر»، 12 سبتمبر سنة 1947.(3/511)
بل ما قيمة الكهولة؟ وإن استمسك بنيانها، واعتدل ميزانها، وفُرَّت عن التجربة والمراس أسنانها، ووُضعت على قواعد الحكمة والأناة أركانها.
بل ما قيمة المشيب؟ وإن جلّله الوقار بمُلاءته، وطوار الاختبار في عباءته، وامتلأتْ من حكمة الدهور وغرائب العصور حقائبه، ووُصلت بخيوط الشمس، لا بفتائل البُرْسِ جماته وذوائبه.
ما قيمة ذلك كله؟ إذا لم تنفق دقائقه في تحصيل علم، ونصر حقيقة، ونشر لغة، ونفع أمة، وخدمة وطن.
يا شباب الجزائر، هكذا كونوا ... أو لا تكونوا ...(3/512)
الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *
- 3 -
أتمثّله كالغصن المَرُوح، مطلولًا بأنداء العروبة، مخضوضر اللّحا والورق مما امتصّ منها، أخضر الجلدة والآثار مما رشح له من أنسابها وأحسابها، كأنّما أنبتته رمال الجزيرة، ولوّحته شمسها، وسقاه سلسالها العذب، وغذّاه نبتها الزكي، فيه مشابه من عدنان تقول إنه من سرّ هاشم أو سُرَّة مخزوم، ومخايلُ من قحطان تقول كأنه ذو سكَن، في السَّكن (1)، أو ذو رضاعة، في قضاعة (2) متقلّبًا في المنجبين والمنجبات، كأنّما ولدته خِندِق (3)، أو نهضت عنه أمّ الكملة (4)، أو حضنته أختُ بني سهم (5)، أو حنَّكته
__________
* نشرت في العدد 10 من جريدة «البصائر»، 12 أكتوبر سنة 1947.
1) السكن قبيلة قحطانية.
2) قبيلة يتنازعها قحطان وعدنان، ويقول شاعرهم:
نحن بنو مالك الشيخ الهجان الأزهر
قضاعة بن مالك بن حمير
في النسب المعروف غير المنكر
في الحجر المنقوش تحت المنبر
3) خندق هي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، زوجة إلياس بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان، وأم أولاده، مدركة وإخوانه.
4) أم الكَمَلَة هي فاطمة بنت الخرشب الأنمارية، إحدى منجبات العرب، والكملة أبناؤها الأربعة، وقد سئلت أي بنيك أفضل؟ فقالت: الربيع بل عمار بل قيس بل أنس، ثم قالت: ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يُردي أين طرفاها، وأبو الكملة هو زياد بن سفيان بن عبد الله بن ناشب العنسي.
5) تلميح إلى قول ابن الزبعري: ألا لله قوم ولدت أخت بني سهم، وهي ريطة بنت سعيد ابن سهم، وقد أنجبت ثمانية رجال أكبرهم هاشم بن المغيرة جد عمر بن الخطاب لأمه، وكانوا كلهم مزيدًا في مفاخر مخزوم.(3/513)
تُماضر (6) الخنساء لعوبًا بأطراف الكلام المشقّق، كأنما وُلد في مكّة، واسترضع في إياد، وربا في مسلنطح البِطاح.
أتمثّله مجتمع الأشدّ على طراوة العود، بعيد المستمرّ على ميعة الشباب، يحمل ما حمّل من خير لأن يد الإسلام طبعته على الخير، ولا يحمل ما حمّل من شر لأنّ طبيعة الإسلام تأبى عليه الشر؛ فتح عينيْه على نور الدين، فإذا الدنيا كلها في عينيه نيّرة مشرقة، وفتح عقله على حقائق الدين، فإذا الدين والكون دالٌّ ومدلول عليه، وإذا هو يفتح بدلالة ذاك مغالق هذا، وفتح فكرَه على عظمة الكون فاهتدى بها إلى عظمة المكوّن، فإذا كلّ شيء في الكون جليل، لأنه من أثر يد الله، وإذا كل شيء فيه قليل، لأنه خاضع لجلال الله، ومن هذه النقطة يبدأ سموّ النفوس السامية وتعاليها، وتهيُّؤها للسعادة في الكون، والسيادة على الكون.
أتمثّله مجتلًى للخِلال العربية التي هي بواكير ثمار الفطرة في سلاستها وسلامتها، كأنّما هو منحدر لانصبابها وقرارة لانسكابها، وكأنما خيط على وفاء السموأل وحاجب (7)، وأشرج على إيثار كعب وحاتم (8)، وخُتم على حفاظ جسّاس والحارث (9)، وأغلِق على عزة عوف وعروة (10).
أتمثّله مترقرق البشر إذا حدّث، متهلّل الأسِرَّة إذا حُدّث، مقصورَ اللسان عن اللغو، قصير الخُطى عن المحارم، حتى إذا امتدَّت الأيدي إلى وطنه بالتخوّن، واستطالت الألسنة على دينه بالزراية والتنقص، وتهافتت الأفهام على تاريخه بالقلب والتزوير، وتسابق الغرباء إلى كرائمه باللَّصّ والتدمير، ثار وفار، وجاء بالبرق والرعد، والعاصفة والصاعقة، وملأ الدنيا فعالًا، وكان منه ما يكون من الليث إذا دِيس عَرينه، أو وُسم بالهون عِرْنِينُه.
__________
6) تماضر بنت عمرو بن الشريد أخت صخر، الخنساء الشاعرة المشهورة، وتحريضها لأولادها على الجهاد وحمدها لله حيث ماتوا كلهم في موقعة واحدة، كل ذلك مفصّل في كتب السير والأدب.
7) السموأل بن عادياء المثل المضروب في الوفاء، وحاجب بن زرارة التميمي مثله وهو الذي رهن قوسه عند كسرى.
8) كعب بن مامة الإيادي، وحاتم الطائي جوادان مشهوران يًضرب بهما المثل في الكرَم.
9) جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان قاتل كليب والحارث بن عباد، لهما ذكر تدور عليه حرب داحس والغبراء، وأخبار مفصّلة في كتب الأدب.
10) عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، يُعدّ في أولياء العرب وأعزّهم، ولعّزته قابل الملك عمرو بن هند: لاحر بوادي عوف، وعروة بن المنبه بن جعفر بن كلاب الرحّال أو الوفّاد، كان يجير اللطائم للمناذرة ويجير على الحيين بكر وتغلب حتى قتل، وكان قتله سببًا في يوم الفجار بين كنانة وقيس.(3/514)
أتمثّله شديدَ الغيرة، حديدَ الطيرة، يغار لبنت جنسه أن تبور، وهو يملك القدرة على إحصانها، ويغار لماء شبابها أن يغور وهو يستطيع جعله فيّاضًا بالقوة دافقًا بالحياة: ويغار على هواه وعواطفه أن تستأثر بها السِّلع الجليبة، والسحن السليبة، ويغار لعينيه أن تسترقهما الوجوه المطرّاة، والأجسام المعرّاة.
يا شباب الجزائر، هكذا كونوا! ... أو لا تكونوا! ...(3/515)
الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *
- 4 -
أتمثّله حنيفًا فيه بقايا جاهلية ... يدّخرها لميقاتها، ويوزّعها على أوقاتها، يردّ بها جهلَ الجاهلين، في زمن تفتّقت علومه عن جاهلية ثانية شرّ من الجاهلية الأولى - وتمخّضت عقولُ أبنائه بوحشية مقتبسة من الغرائز الدنيا للوحش اقتباسًا علميًّا ألبَس الإنسان غير لبوسه، ونقله من قيادة الحيوان إلى الانقياد للحيوانيّة، وأسفرت مدنيَّتُه عن جفاف في العقول، وانتكاس في الأذواق، وقوانينُه عن نصر للرذيلة وانتهاك للحُرُمات، وانتهت الحال ببنيه إلى وثنية جديدة في المال وعبادة غالبية للمال، واستعباد لئيم بالمال.
أتمثّله معتدلَ المزاج الخُلُقي بين الميوعة والجمود، وبين النسك والفتك تتّسع نفسه للعقيق، وعمر وابن أبي عتيق، فيصبو، ولا يكبُو، كما تتّسع للحرم وناسكيه فيصفو ولا يهفو، وتهزُّه مفاخرات الفرزدق في المربد، كما تهزّه مواعظ الحسن في المعبد.
أتمثّله كالدينار يروق منظرًا، وكالسيف يروع مخبرًا، وكالرمح أمدحُ ما يوصف به أن يقال ذابل، ولكن ذاك ذبول الاهتزاز وهذا ذبول الاعتزاز، وكالماء يمرؤ فيكون هناءً يُروي، ويزعق فيكون عناء يُردي، وكالرّاية بين الجيشين تتساقط حولها المُهَج وهي قائمة.
أتمثّله عفّ السرائر، عفّ الظواهر، لو عرضت له الرذيلة في الماء ما شربه، وآثر الموت ظمأ على أن يرد أكدارها، ولو عرضت له في الهواء ما استنشقه، وآثر الموت اختناقًا على أن يتنسَّم أقذارَها.
أتمثّله جديدًا على الدنيا، يرى من شرطها عليه أن يزيد فيها شيئًا جديدًا، مستفادًا فيها، يرى من الوفاء لها أن يكون ذلك الجديد مفيدًا.
__________
* نشرت في العدد 11 من جريدة «البصائر» 20 أكتوبر سنة 1947.(3/516)
أتمثّله مقدّمًا لدينه قبل وطنه، ولوطنه قبل شخصه، يرى الدين جوهرًا، والوطن صدفًا، وهو غوّاص عليهما، يصطادهما معًا، ولكنه يعرف الفرق بين القيمتين، فإن أخطأ في التقدير خسر مرّتين.
أتمثّله واسعَ الآمال، إلى حد الخيال، ولكنه يُزجيها بالأعمال إلى حد الكمال، فإن شُغِفَ بحب وطنه شَغَفَ المشرك بحبّ وثنه، عذره الناس في التخيّل لإذكاء الحبّ، ولم يعذر فيه لتغطية الحقيقة.
أتمثّله مصاولًا لخصومه بالحجاج والإقناع، لا باللجاج والإقذاع، مُرْهبًا لأعدائه بالأعمال، لا بالأقوال.
أتمثله بانيًا للوطنية على خمس، كما بني الدين قبلها على خمس: السباب آفة الشباب، واليأس مفسد للبأس، والآمال لا تدرك بغير الأعمال، والخيال أوّله لذة وآخره خبال، والأوطان لا تخدم باتّباع خطوات الشيطان.
يا شباب الجزائر، ... هكذا كونوا ... أو لا تكونوا.(3/517)
سجع الكهّان *
- 1 -
هذه فصول، إن لا تكنْ فيها روح الكاهن ففيها من الكاهن سجْعُه، وإن لا يَجُلْ في جوانبها صَدَى الكهانة ففيها من ذلك الصدى رَجْعه؛ فيها الزمزمة المفصحة، والتعمية المبصرة، وفيها التقريع والتبكيت، وفيها السخرية والتنكيت، وفيها الإشارة اللّامحة، وفيها اللفظة الجامحة، وفيها العسل للأبرار، وما أقلَّهم، وفيها اللسع للفجار، وما أكثرهم، فلعلّها تهزُّ من أبناء العروبة جامدًا، أو تؤزّ منهم خامدًا، فنجني شيئًا من ثمرة النية، ونغيِّر أواخر هذه الأسماء المبنيّة.
وفي هذه الفصول من لبوس الألفاظ ما يَعُدُّه المتخلفون من كتّابنا غريبًا، وما غرابته في أذواقهم، إلا كغربة الأعلاق النفيسة في أسواقهم؛ ولو حفِظوه ووَعَوْا معانيه وأقروه في مواضعه من كلامهم، وأحسَنوا إجراءه في ألسنتهم وأقلامهم، لأحيَوْه فحيوا به، ولأصبح مأنوسًا لا غريبًا، وأصبحوا به من لغتهم قريبًا؛ ولكن أعياهم الإحسان، فعفّروا في وجوه الحسان، وعجزوا في جني الثمرة عن الهصر، فرضوا من اللغة بما يباع في "سوق العصر" (1).
منشئ الفصول
...
"نحن الكهّان، أفراس رهان. منّا السابق المصلي، ومنّا الآبق المولّي. كنّا إرهاصًا للنبوّة، ودليلًا للضعف إلى القوة، فلما جاء الحق، وحيص (2) الشق، اندحرنا وانجحرنا،
__________
* نشرت في العدد 69 من جريدة «البصائر»، 28 فيفري سنة 1949.
2) سوق العصر عند العامة هو السوق الذي تُباع فيه الأشياء القديمة المستعملة (الخردة والأسقاط).
2) حيص: خيط، ومنه المثل: أن دواء الشق أن يحاص.(3/518)
فلما عادت الكسرويّة إلى شرائعها، والقيصرّية إلى ذرائعها، آن أن نعود إلى الإنذار، ونصرخ في وجوههم: حذار حذار، إن بطش الله لشديد، وإن الحرير قد يفلّ الحديد".
كاهن قديم
...
"الكاهن، لا يُداري ولا يداهن؛ كلامه رمز، ليس فيه لمز. عاذ غيره بالتصريح فعاد بالتجريح، ولاذ هو بالكهانة، فأمِن المهانة. كان ... فكان الزاجر الرادع، للفاجر الخادع، وكان ... فكان نذير السارق والمارق، والخاتل والقاتل، والمحتال والمغتال، والقاذف والحاذف، والمبتهر والمبتئر (3). تجف قلوبهم إذا نوفروا إليه، وتجفّ لهواتهم إذا وقفوا بين يديه، لاستتارهم بالعيب، واستهتارهم بالغيب، فلما جاء "محمد" بالحق فاء الناس إلى ضمائرهم، وحكموا هديَه في سرائرهم، وردُّوا الغيب إلى عالمه فاستراحوا، ولكنهم اليوم عادوا إلى الجاهليَّة، وتقلّبوا في أرحام حنظليّة وأصلاب باهليَّة، فماذا نصنع؟ أنتقدّم منذرين، أم نتأخّر معتذرين؟ بل نُحيي الاسم، ونُميت- كما أمات الإسلام- الرسم".
كاهن عصري
...
"كلام الكاهن ليس بالواهي ولا الواهن، كأنما وخزه الماء، أو لمستْه السماء، ففيه من الماء إيراق، وفيه من السماء إشراق. شارف مكامن الغيوب ولَمَّا ... وورد معين العربية فورد جمًّا. عمر صحائف من ديوان العرب، وكان من شعرهم كالكرب من القَرَب (4)، بل كان هو الشعر في أول أدواره، وكان قارعَ باب البيان وفارعَ أسواره ... اصطنع الكهّان السجع ليروقوا السامع ويروعُوه، وليسهل على الناس فيحفظوه وَيعُوه. ولهم في حوْك الكلام مقامات حسان، أخذ منها ابنُ دريد والهمذاني تلك المقامات الحسان. سبقوا في السجع فما سبقتهم إلا الحمائم، وأخذوه طبعًا فما لحقهم فيه صنعًا إلا "بعض ذوي العمائم". وما عدا هذا من الأسجاع، فهي غُصص تتبَعُها أوجاع".
كاهن أديب
...
__________
3) الابتهار ادّعاء الفاجر الفجور كاذبًا، والابتئار ادعاؤه صادقًا.
4) حبل يشد في عراقي القربة.(3/519)
لا أقسم بذات الحفيف، والجناح الخفيف، المشارفة في جوّها للكفيف (5) وبالسر المودع في التجاويف والتلافيف، وبالمغيرات صبحًا عليها التجافيف، والمغيرين على الحق كالعاهر ابن العفيف (6). وبالسابغات والسوابغ من الدروع والجلابيب، وبالآخذين أمس من تلّ أبيب بالتلابيب، وبالبحر والسفينة، والحبر و"الدفينة" (7)، إن أبا الطيب المتنبي لمن موالينا، وممن تلقَّى الكهانة عن أوالينا، وإنه ما دُعي بالمتنبي (8) إلا لأنه كان شاعرًا كاهنًا، ليناقض النبي الذي لم يكن كاهنًا ولا شاعرًا، وقد نُفِيا عن النبي مجتمعين، فثبتا في المتنبي مجتمعين، وإن كثيرًا من شعره كهانةٌ ملتفِّعة بالشعر، يُوطّيها في جُمل، ويغطِّيها بممدوح أو جمل؛ وستظهر أخباؤها، وتُعلم أنباؤها ... وإن قوله: وقعت على الأردن منه بليّة، هو من الكهانة الكاهنة (بالحالة الراهنة). قالوا أراد أسدًا قانصًا، وقلنا أراد رجلًا ناقصًا. قالوا: أراد كلبًا، روع قلبًا، ومزّق خلبًا، وأوسع المهج سلبًا، وقدم ضراغمة غُلبًا، أوطنها غابات غلبًا وذاد عنها أشاوس غلبا، قلنا: إنما أراد رجلًا ركب صعبًا، وباع شعبًا، وعقَّ لؤيًّا وكعبًا، وسلك بنو أبيه شِعبًا، وسلك وحده شعبًا، وخذلهم في الجلى فملأ القلوب رعبًا، واشتفّ صُبابة المال، فلم يدَعْ لبائس حلسًا ولا لبائسة قَعْبًا ... لم يُرد أسدًا خادرًا، وإنما أراد رجلًا سادرًا، يظهر في زمن نحس، ويبيع ضفَّتي الأردن بثمن بخس، وأيْن ليث عفَّره بدر بسوط، من شخص كفَّره صدْرٌ بنوط.
أيّتها البُحيرة (9)، مالك في حيرة؟ لقد شهدت لبدر بن عمّار بالفتوة، فهل تشهدين لأبي الطيب بالنبوّة؟ ... وحدّثي الولي يا (ولية)، أيّهما كان عليك بلية؛ ذاك الذي وردك زائرًا، أم هذا الذي وردك خائرًا؟ إنهما لا يستويان؛ ذاك أسد غاب، رزقه في الناب، وهذا حلف وِجار، رزقه على الجار؛ ذاك يعيش على فرائسه، وهذا يعيش على فضلات سائسه، ذاك رمزُ إقدام، وهذا موطئ أقدام؛ ذاك ورد الفرات زئيرُه، وهذا جاوز الفرات تزويره؛ ذاك مشغول البال بتربية الأشبال، وهذا مشغول ... بعُرْس الغول.
أيها الصاعد في العقبة، المجاحش عن خيط الرقبة، البائع لجار السوء صقبه، لا يكن صوتُك الصيت، ولو أحييت المجر الميت.
__________
5) السماء لأنها مكفوفة.
6) ابن العفيف التلمساني، له نزعات شاذة في الاعتقاد.
7) طعام معروف عند اليهود.
8) بدر بن عمار الذي قتل الأسد.
9) المراد بحيرة طبرية.(3/520)
أيها الخاذل للغزَّى (10)، ما أنت لهاشم ... إنما أنت لعبد العزَّى، أغضبت سراة الحيّ، وأزعجت الميت منهم والحيّ، من لؤيّ إلى أبي نُمَيّ. فويحك، أما تخاف أن تهلك، يوم يقال: يا محمد إنه ليس من أهلك.
كاهن الحي
__________
10) جمع غاز.(3/521)
سجع الكهّان *
- 2 -
أليّة بتربة الكواهن، ما حازم في أمره كواهن.
ويلٌ للعرب، من حبل قد اضطرب، وشرٍّ قد حلّ ولا أقول قد اقترب. قُسم الويل، على العميم والخُويل. فويل للعرب من ملوكهم، وويل للعجم من سلوكهم، وويل للروم من صعلوكهم، جنت على الأصفر ناره، وعلى الأبيض ديناره، وعلى الأسود فدامته واغتراره، وعلى العربي ركْبُه البطيّ، ولسانه النبطي.
ما أكثر الملوك وأهون العنا، وما أكثر السيوف وأقلّ الغنا، سيوف، كالدراهم الزيوف، هذه لا تُقني، وتلك لا تغني، ونعيذ العروبة بالله من ملك لا يدفع، وسيف لا يقطع. أحاجيكم، ولا أناجيكم، مملكة في أفحوص، وعاصمة ليس لها (فحوص)، ودولة بلا صولة، وخزينة من أصفار وخزانة بلا أسفار، وكرسي بلا قوائم وعرش بلا دعائم ... عرش كعشّ الحمامة، عُود من غرَب (1) وعود من ثُمامة.
قد لصَّه (2) قعيده في هيعه … وناله بالبيع لا بالبيعه
وسيوف مجرَّبة، تخيّرن من يوم "تُرَبَة"، وجيش درّبه الغير، وجرّبه إلا في الخير، وبطانة مدّ بها الشيطان أشْطانَه، وحاشية كالماشية، وأسماء بلا مسمَّيات، ومجازات لا حقائق لها، و (مجازات) كلها حقائق، وملك يأتمر ولا يحجُّ ولا يعتمر، يَحسُن فيه التمثيل بملك (التمثيل). بكت الجلالة منه كما بكى الخز من روح (3)، وضاق صدرها بسرّه وشرّه ومَن
__________
* نشرت في العدد 70 من جريدة «البصائر»، 7 مارس سنة 1949.
1) الغرب والثمام: عودان رخوان.
2) لصه: سرقه، ومنه اللص.
3) روح بن زنباع المقول فيه: بكى الخز من روح وأنكر جسمه.(3/522)
لها بالبوح؟ عشقها يافعًا، والتمس لوصلها شافعًا، فكان الشافعُ عدوّ وطنه وقومه، وظالم أمسه ويومه؛ فأين يقع هذا من أرض الله؟
فإن عرفتموه فسلوه من ملكه، بعد ما لاكه وعلكه، وفي خرت الإبرة سلكه؟ ومن صيَّره غراب بين، وجالب حَيْن؟ ومن أعجم تعريبَه، وأحكم على الشر تدريبَه؟
أنشد ابن خلكان في القرن السادس هذا البيت:
كَسِنَّوْرِ عَبْدِ الله بِيعَ بِدِرْهَمٍ … صَغِيراً فَلَمَّا شَبَّ بِيعَ بِقِيرَاطِ
وقال: إنّ عبد الله هذا لم يعرف أحد من هو. فمن لقي ابن خلّكان فليخبره أنّ كاهن الحي عرف عبد الله صاحب السنور ...
أيها العربي: الحق سافر، والعدو كافر، والقوي ظافر، فعلام تنافر خصمك إلى خُنافر (4)؟ ويلك إن المنافرة لا تكون إلا في المشكوك، وإن الحق تحميه السيوف لا الصكوك، وويحك إنّ منافرة الكهنة إلى الكهنة، بالخيبة مرتهنة، مجلس الأمن مخيف، والراضي بحكمه ووضعه ذو عقل سخيف، إنهم ليسوا من شكلِك، وإنهم متفقون على أكلك.
كاهن الحي
__________
4) خنافر بن التوأم الحميري، كان كاهنًا في حمير، ثم أسلم على يد معاذ بن جبل، وأخباره مع صاحبه شصار مبسوطة في كتب الأدب وكتب الرجال.(3/523)
سجع الكهّان *
- 3 -
أيها الأعارب، هل فيكم بقايا من حرب أو من محارب؟ (1) دبّت بينكم العقارب، وأنتم أقارب، فتكدَّرت المشارب، وتقوَّضت المضارب (2). وكهُمت المضارب (3)، وغاب
المسدِّد في الرأي والمقارب، ولم وتُغنِ النذر والمثلات والتجارب، إن لدُهاة المغارب يدًا خفيّة المسارب، قرأوكم سطورًا لا رجالًا، وعرفوكم بطاءً عن الجُلَّى لا عِجالًا، وحفظوكم شعرًا بلا رويّ، وفكرًا بلا رويَّة فأخذوكم ارتجالًا، وخالوكم على البعد أعمالًا، فوجدوكم على القرب أقوالًا، وحسبوكم عُمَدًا في التركيب الأمميّ فألفوكم مفاعيلَ وأحوالا، فأعربوكم إعراب الفَضَلات، وعاملوكم معاملة المهملات، وراضوكم على المهانة حتى ذل جانبكم، ووطِّئت مناكبكم. فأصبحوا لا يُبالون برضاكم لأنه لا ينفع، ولا يأبهون لسخطكم لأنه لا يضرّ. إن الغضبة لا تعقبها وثبة، هي غضبة الذليل العاجز، ولو افترَّت كلُّ بارقة منكم عن صاعقة، لما حمد شائموها القطر، إن غضبة العاجز لا تُبكي ولا تُنكي. تشتعل في الحنايا ولا تهدم الحنايا، تحرق صاحبها ولا تحرق الناس، وتلك هي غضبتكم حين تغضبون.
إن للغرب فيكم مطايا ذللًا، ولرائده منكم أدلَّة أذلة. هم أصل البلاء والعلّة، قادكم بسلوك من الأمراء والملوك، فقادوكم إلى الهاوية، فانزعوا المقادة من هؤلاء القادة تُفلحوا، ولن تُفلحوا ولن تصلحوا ما دام يلقاكم بوسيط واحد، فتلقَوْنه بسبعة سفراء، ويلقاكم برأي جميع، فتلقونه بسبعة آراء، ويلقاكم بكتيبة ملمومة، فتلقونه بشراذم شتّى ... ويتحداكم نذيرُه بإنجيل واحد، فتعارضونه بيوحنّا ولوقا ومتّى ...
__________
* نشرت في العدد 71 من جريدة «البصائر»، 14 مارس سنة 1949.
1) حرب ومحارب: قبيلتان من العرب.
2) تقوّضت المضارب: المضارب الخيام.
3) كهمت المضارب: كهمت كلت والمضرب ما يُضرب به من السيف والمضارب جمعه.(3/524)
لن تفلحوا ولن تصلحوا إلا إذا رجع أمركم إلى الشعب، وأجمع الشعب على رأي واحد، واتفق الرأي على نظام واحد، وتمخّض النظام بدستور واحد، وملك واحد؛ فإن قلتم: إن هذا عسير، فعيشوا عيشة الأسير أو موتوا ميتة الحسير، شبر في الحياة وقبر في الممات.
جاءتكم النذُرُ تترى، والمعجزات شفعًا ووترًا، وقامت عليكم الحجّة من ثلاثين حجة، فتغافلتم أوّلًا، وتخاذلتم أخيرًا، وضاعت العروبة بين التغافل والتخاذل.
إن الفارق بين لفظَي العرب والغرب نقطة، وفيها كل السر، وفيها كل الشر.
وقف الغرب بالباب فلم تتحرّكوا، ثم أنشب الظفر والناب فلم تستدركوا، ثم دسّ أنفه في التراب فوجد رائحة الزيت، ثم طلب الوقوف بالأعتاب فوطّأتم له أكناف البيت.
إن الزيت إدام، ازدحمت عليه الأقدام، فحرمه الجبان وحازه المقدام، وكان حظكم منه حظ الطبّاخ الصائم: زَهَمًا في اليد ورائحة في الأنف، فيا أرض ابلعي زيتَك، وَأَحْيِ ميتك، وإلا خرّب (أبرهةُ) الغرب بيت الله وبيتك.
ألا إن الغرب جاهد في أن يلحق بلفظ السبع منكم حرفين فإذا هو (سبعون)، وأن يزيد في عدد السبع من ملوككم فإذا هو سبعون.
أيها العرب: ما أضيَعَ حكمة الأسلاف عندكم. لقد أبقوا لكم من وحي السماء وحكمة الحكماء، ما لا يُبليه التراب، ولا تُنسيه الأحقاب، وما لو عملتم به لسدتم الكون أئمة، وقُدْتُم الكائنات بالأزِمَّة، ولفللتم السيوف بالآراء، ودحضتم الآراء بالسيوف؛ ولكنكم أضعتم التراث بتشاكس الورّاث، وإذا كان الوارث غير همّام ولا حارث، غارت العين الفوّارة، وقحلت الأرض الغوّارة:
وَرِثْنَا الْمَجْدَ عَنْ آبَاءِ صِدْقٍ … أَسَأْنَا فِي دِيَارِهِمْ الصَّنِيعَا
إِذَا الْبَيْتُ الرَّفِيعَ تَعَاوَرَتْهُ … بُناةُ السُّوءِ أَوْشَكَ أَنْ يَضِيعَا
أيها العرب: أطعتم الكبراء فأضلُّوكم، وخضعتم للأمراء فأذلّوكم، حتى لِنتم للعاجم، ودِنْتم للأعاجم، وحتى ألقيتم بالمقاود، لمن سمّاهم أجدادُكم رقاب المزاود، فويحكم: أغنيٌّ ويقترض، ومحجوج ويعترض؟ عزّ الداء وغاب الآسي ... لم يأسُ جراحَكم ألف "دكتور"، فهل يأسوها "ديكتاتور"؟ ...
***(3/525)
وضع الأجداد العقال للرجل فنقلته الأحفاد إلى الرأس، وعدلوا به من الأباعر إلى الناس، وما بين النقل والنقل، ضاع العقل ... والتصريف للألفاظ كالتصرّف في الأموال فيه القصدُ والسرَف.
كاهن الحي(3/526)
سجع الكهّان *
- 4 -
أخنى الزمن على اليمن … أبدلها صابًا بمن (1)
جيش الشقا لها كمن … مهزولة على السِّمن
مغصوبة بلا ثمن … دستورها: لا تفهمن
لا تقرأن لا تعلمن … سلْ سِيفها (2) أنت لمن؟
سلْ سَيْفها بيد من؟ … أغْرِبَة على دمن
لا ناصر لا مؤتمن … عُد للحمى يا ابن اليمن
جُدْ بالدماء من غير مَن … إن لم تذد عنها فمن؟
...
يا ذا جدَن (3) أيْنَت (4) عدن؟ … روح جنتْ على البدن
فهو الحوا (5) وهي الفدن … شر الملا لها سدَن
قرن البلا فيها شَدَن … يا نائيًا لا تبعدن
يا وانيًا لا تقعدن … يا ساهيًا لا ترقدن
يا خاملًا لا تزهدن … ولا تغب بل اشهدن
__________
* نشرت في العدد 72 من جريدة «البصائر»، 21 مارس سنة 1949.
1) الصاب: مر، والمن قرين السلوى في القرآن.
2) سيف البحر بكسر السين ساحله، والسيف الثاني واحد السيوف وهو معروف.
3) ذو جدن من أذواء اليمن.
4) أينت: لغة فصيحة في أين الاستفهامية.
5) الحواء: أبيات حقيرة، والفدن القصر.(3/527)
ولا تُدِن ما لم تُدَن … لا تعتصر في غير دن
تبغي الهُدى على الهدن (6) … تخشى الردى فلتخلدن
...
يا بلاد الأذواء (7)، لا أقول: وُقيت الأسواء، ولا أقول: سُقيت الأنواء، ولكن أقول: ثكلت الأبناء، يا مطارح الأبناء (8)، فكل أدوائك من أبنائك، وإذا كان الولد سخنة عين ومجلبة عرّ وشين، فالثكل فيه نعمة لا رزية، والعقم به فضل ومزية.
سموك السعيدة فشقيت بمن ولدت، وما سعدوا ولا سعدت؛ فأين أنت اليوم ممن كنت سعيدة بهم وكانوا سعداء بك؟ أين أنت من سعد العشيرة وحماة الأهل والجيرة؟ أين أنت من حمير وأشياعهم وتبع وأتباعهم؟ أين؟ لا أين ...
أما ظفار، فقد حالف عهدها الإخفار، وخالف ظلامها الإسفار. وأما حضرموت، فقد ساورها الموت، وجاورها الخسران والفوت، وحاورها النجيُّ فما سمع لها صوت، وأما صنعا، فما أحسن بنوها صنعًا، قد أصبحت خرقاء، وعطلت من طوق الورقاء، وعقمت أن تتمخض عن ألمعيّة (زرقاء)، ما حاكت في عبقريّ الأزمنة ولا وشتْ، وطار الناس فما حبتْ ولا مشت.
انعكست الخصائص وغلبت النقائص، وأعوز الجوَّ الطائر حين أعوز البحر الغائص.
...
أيها العامد إلى غامد (9)، والدافع إلى يافع (10)، هلّا وقفت بالأطلال، من عبد كلال (11)، وهبطت التلاع، من ذي كلاع (12)، فهتفت بالرفات، من الأموات، علَّهم يسمعون فيهطعون، قل- وخلاك ذمّ- قد دُخلت الدار من جميع الأقطار، فهل من
__________
6) الهدن جمع هدنة، وحياة الهدنة مضلة.
7) الأذواء: أمراء اليمن في القديم، جمع ذو.
8) الأبناء: طائفة من الفرس استوطنوا اليمن.
9) غامد: قبيلة يمنية.
10) يافع: كذلك، ثم أطلق على موطن باليمن.
11) عبد كلال: أبو قبيلة يمنية.
12) ذو كلاع: من أذواء اليمن.(3/528)
المقاول الصيد، حارس بالوصيد، إن الصائد قد صيد، وإن الشاعر قد أخلى (13)، فلا بديع في البيت ولا بيت في القصيد.
كذب الرعد، وأخلف الوعد، وأورد الإبلَ سعد، فضاع (قبل) ولم يُحفظ (بعد). فكأنّ امرؤ القيس أورى زنده، واستعرض مستقبل بني أبيه من كندة، فقال: ودع عنك نهبًا صيحَ في حجراته؛ وها هي ذي مواطن قومه نهب مقسَّم، وقد كذبت المخايل من توسّم.
سل سبأ، هل جاءها النبأ، وقل صدق المثل (14) فيك مرتين، وأعاد التاريخ نفسه كرتين، لقد سار أعقابكم في الزمن الحثيث سيرة وانية، فبادوا في الجيل الحديث بيدَةً ثانية.
نادِ- مسمِعًا- في الجمع الراشد، من بكيل وحاشد (15)، فإن أصاخوا إصاخة الناشد، فقل: دهمكم السيل فلكم الويل، هذه آثار أسلافكم مجفوّة وهذه قدورهم الراسيات مكفوّة، وهذه الرقاع من البقاع غير مُلْتامة ولا مرفُوَّة، طمست السوافي، ما خلَّدت القوافي، وهفت الهوافي بالقوادم والخوافي، وفرست العوافى (16) ما نامت عنه العيون الغوافي (17)، ماتت الأذواء وعاشت الأذواد، وذهبت الأقيال (18) وبقيت الأقياد.
إن الزمان الذي جرَّ إلى جُرْهُم، وخثا على خثعم، قبل أن يأتيهم بنذير، أو يبلوهم بتحذير، قد جاءهم من الغرّة بعذير: أما اليمانون فلهم من الإسلام محجّة، وعليهم من زمانهم ألف حجّة، فهم كثمود، حين لاح لهم من البرهان عمود، فضلّوا؛ أو كقوم هود، حين أخذت عليهم العهود، فزلّوا.
كاهن الحي
__________
13) أخلى الشاعر إذا كان شعره ليس فيه معنى جيد.
14) المثل هو: تفرّقوا أيدي سبا.
15) بكيل وحاشد: قبيلنان باليمن ما زال اسمهما محفوظًا.
16) عوافي الطير والسباع هي المفترسات منها.
17) الغوافي: النائمة.
18) الأقيال: الملوك في عرف اليمن القديم.(3/529)
سجع الكهّان *
- 5 -
والعتاق الضمر، والعقبان والحمَّر (1)، والهامة ودُمَّر (2)، والزامر إذا زمّر، والخادع وما دمّر، والعامر إذا عمّر، والشمّري إذا شمّر، ومن حبس الجيوش جمَّر، ومن
دخل ظفار فحمَّر (3)، إن للظماء مآرب في ماء مارب (4)، إنها تلوب على مطلوب، كوَّنه الحيا فكوّن به الحياة، فلا تجد إلا السراب والخراب والغراب.
يا عاد، أودى درم (5)، فما عاد، ويا سبأ، هل كنت من سيل العرِم على ميعاد؟ أغنى أسلافك عن ماء مأرب، ماءُ يثرب، وبرَّد أحشاءهم ماءُ بردى، واتخذ أبناء قَيْلَة في ظلال النخل مقيلًا، واتخذت غسّان منه (6) إلى جنان الشام سبيلًا، فماذا أغنى أخلافك اليوم؟ إنهم عُراة، بالسَّراة، وظماء بلا ماء، ورعية لراعٍ غير ترعية (7)، حطّمهم رعاة البر، فأصبحوا خولًا لرعاة البحر، حفَّ مارب وروافده، فخرب اليمن ومحافده.
يا أخلاف لم يسبق مخلاف، بنيتم السد وأحكمتم للثغور السد، وأحسنتم لأواخي الأخوّة الشدّ، وجددتم للأبناء ما بناه الجدّ. هلّا وجهتم العناية إلى هذه الآية. {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ}. إنها- وأبيكم- عبرة العبر، في وصْل المبتدإ بالخبر، أين الجنتان عن يمين وشمال؟ وأين البلدة الطيبة؟ إنها اليوم رمال، وأين القرى الظاهرة والعمارة
__________
* نشرت في العدد 74 من جريدة «البصائر»، 4 أفريل سنة 1949.
1) نوع من الطير.
2) متنزهان بظاهر دمشق.
3) صار حميريًا، وهو مثل.
4) مأرب: سد أثري في اليمن، وقصته في القرآن.
5) مثل، ودرم رجل في عاد غاب ولم يرجع، وأودى هلك.
6) الضمير إلى غسان لأنه في الأصل اسم ماء نزلوا عليه.
7) الترعية، بالكسر والتخفيف: الذي يحسن الرعي.(3/530)
المتكاثرة؟ إنها اليوم قفار، وأين تقدير السير بالأميال، لتيسير الاتصال؟ إنها اليوم مجاهل، يضلّ فيها القطا، ويقطع فيها من المطايا المطا (8). أجدبت الخمط والأثل، فضلًا عن الكرم والنخل.
أعرض أسلافكم عن هدى الله فباعد بين أسفارهم، وجعلهم أحاديث، ومزقهم كل ممزق. وأعرضتم عن سنن الله فباعد بين قلوبكم، وكنتم أهون عليه من أن يُسَيَّر فيكم حديث، أو يسطّر في شأنكم قصص، أولئك أخذوا على قوّة، فالأحاديث عنها تملأ المسامع، وتهزّ المجامع؛ وأنتم أخذتم على ضعف وانحلال، فالحديث عنكم لا يُثير عزّة، ولا ينير السبيل إلى قدوة.
لو بذل الكُهّان، ما عزَّ وما هان، في أن يأتوا بمثل قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} لما حصّلوا، ولو رقوا إلى سماء البلاغة بسلّم وكان فيهم العض (9) والملهم والمكلم، لما وصلوا؛ جلّ كلام الله، وقلّ كلام الكاهن.
...
يا أسلاف، ورّثتم الحكمة وسيّرتم الأمثال والفِقَر، وعمرتم من التاريخ صحائف بالمحامد، وشغلتم القرون بالحديث عنكم، وشدتم الباقيات للحضارة، وزيّنتم الحياة بالقوة والبأس الشديد، وسبقتم العالم إلى موارد العزة في الدنيا، ووقفتم في نصف هذه الكرة تحكمون وتتحكّمون، وتصلون شرقها بغربها وتقسمون، فبدتم وما بادت آثاركم ولا أخباركم.
ويا أخلاف، ماذا صنعتم؟ وبماذا اقتنعتم؟ هذه آثار سلفكم، عرف الغريب مواقعها، وجهلتم مواضعها، فهل النسب مدخول؟ أو الانتساب غير منخول؟ ويلكم! إن الألوان، على الدلالة أعوان، سوّد بنو العباس لسؤددهم، وبيَّض العلويون لطهارتهم، وخضَّر العبيديون لدعواهم ودعايتهم، وزرّقتم (10) ... لماذا؟ ...
كاهن الحي
__________
8) المطا: الظهر.
9) العض: العالم الخبير، والعضان زيد بن الكيس ودغفل أعلما العرب بالنسب.
10) لبستم الزرقة، وبدو اليمن يعشقون هذا اللون.(3/531)
سجع الكهّان *
- 6 -
أقسم بالذيب الأطلس، والثعبان الأملس، إن المتجر بالأحرار لمُفلس، وإن العاقل بين الأشرار لمُبلس، وإن العربيّ لزنيم إذا بقي في المجلس (1)، ذهب العز الأقعس، وحلّ الجد الأتعس، ونزل من غِيَر الزمان ما أنسى النسيب في الكثيب الأوعس، والتشبيب بالثغر الألعس.
أيها الهائمون في البيد، النائمون على الذل المبيد، الراضون بعيشة العبيد، على البرير والهبيد (2) لن تزالوا كذلك أبد الأبيد، لا عمر لُبَدِ أو لبيد، حتى تعملوا بقول الشاعر: ومَن ومَن، فهو دين كل زمن (3).
كتب الله أن الصداقة مطوّية على العداوة، وأن الحضارة متصلة الطرفين بالبداوة، وأن في الإنسان جبلة من الحيوان، ما زال في النزوع إلى أصلها غير وان، وأن الضعيف طعام للقوي، وأن الرشيد في أبناء آدم مجرور بالغوي، وأن من لم تبسُط يدك لتقتله بسط يده لقَتْلك، وأن من قصرت في ختله جدّ في ختلك.
...
ثارٌ للغرب في فلسطين، لم تنبُت عليه شجرةٌ من يقطين، وشياطين تنزو للإغراء إثر شياطين؛ ويوم في أعناقكم بيوم حطّين، تنسيه غريزة الماء والطين، فتذكره نُعرة الجنس
__________
* نشرت في العدد 75 من جريدة «البصائر»، 11 أفريل سنة 1949.
1) مجلس الأمم المتحدة على الباطل.
2) البرير: ثمر الأراك، والهبيد: حب الحنظل.
3) إشارة إلى قول زهير في معلّقته:
وَمَنْ لَا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلَاحِهِ ... الأبيات.(3/532)
والدين، أنَسيتم يوم تنادوا مُصْبِحين، وتعادوا مسلّحين، وتداعوا مصطلحين، وتعاووا من كل حدب، وتهاووا من كل صبب، ذؤبان تقدمها رهبان، وغربان تظلّلها صلبان، بنفوس من الحقد ثائرة، وقلوب بالبغضاء فائرة، تنازعكم إرث الإسلام، ومعراج نبي السلام؟ أنسيتم ما فعله صلاح الدين بالمعتدين؟ إن نسيتم أمسكم فهم له ذاكرون، وإن كفرتم بيومكم فهم له شاكرون. أين كنتم يوم أعطوا العهود لليهود؟ أم أين كنتم يوم جاءوكم بالفهود في المهود؟ أم أين كنتم يوم آمنوا بإسحاق وكفروا بهود؟ كلّ ذلك وقع وأنتم شهود، ولكنهم كانوا أيقاظًا وأنتم رقود، أمعنوا في الاستعداد وأمعنتم في الرُّقاد، اعتمدوا على العلم و (الريال) واعتمدتم على الجهل والخيال، جاءُوكُم بصف واحد كملمومة الصخر، وجئتموهم بصفوف متخاذلة، جاءُوكُم على قلب رجل واحد، وجئتموهم بقلوب متنافرة، قادهم إلى الظفر قائد واحد ورأيٌ جميع، وقادكم إلى العار قوّاد متشاكسون ورأيٌ شتيت، ما أضاع السيادة إلا توزيع القيادة، اجتمعوا وافترقتم، فسَلِموا واحترقتم.
تالله ما ضاعت فلسطين اليوم، ولكنها ضاعت يوم وُعدوا بها، فركنوا إلى العمل، وركنتم إلى الكلام، بل ضاعت قبل ذلك بقرون، منذ نبت قرن صهيون، فتماريتم بالنذر، ولم تأخذُوا الحذر.
لا تقولوا إن شرّ دين، ما جرّ التشريد للمتشرّدين، فإن شرًّا منه عقلكم الذي جرّ العار للعرب أجمعين، وكرّ بالخزي على جميع المسلمين.
...
جاء النصر من مصر، فلماذا تخلَّفت البصرة عن النصرة؟ قلب وجف بالنجَف، بعد ما رقأ الدمُ وجفّ، وآخر خفق بالمنتفق، بعد مغيب الشفق وافتراق الرّفق، ما أغنى الخفوق من قلب الشّقوق، وما أجدى الوجيف بعد ما سدَّ الباب وأجيف (4).
أيها العرب: بعضكم أبرار، وجلكم أشرار، وكلكم أغرار ...
كاهن الحي
__________
4) أجيف الباب: أغلق مصراعاه(3/533)
سجع الكهّان *
- 7 -
بارقٌ في برقة، شمنا من بعيد برقه، فإذا أصوات رجعُها في الآذان خلاف وفرقة، ووقعُها في النفوس أسى وحُرقة، وإذا فرق من رفاق الجهاد تُعادي فرقة فرقة، وإذا إنتاج ذلك كله وليد في خرقة، وقابلةٌ تجهد في الأهباط وتقول: ارقهْ. وإذا الغرب من ذلك الهيكل الملموم يُزايل شرقَه، وإذا الوتد مفروق، والقاعدة فروق، والحمى بالشعواء الصامتة مطروق، وصُواع بني الأب بأيدي بني الأم مسروق، وإذا القيصرية- المحروبة في كل وطن- تبدو في هذا الوطن المحروب قرونها، ويأبى إلا التقحم في المهاوي حرونها، وإذا صفحة من تاريخ ملوك الطوائف تُعاد، فتلقى ممن يعيشون على التفريق الإسعاد.
أي جيران الشمال، ومعاقد الآمال، أعيذكم بالعروبة وهي الأمّ، وبالوطن وهو الهمّ والأمّ، وبعمر، حادي الزّمر، عمر الشهيد، وما عهده بالعهيد، وبما أرقتم من دموع ودماء، لم يبق منها إلا الذماء، وبالإسلام- وهو الذِّمام- أن تختلفوا في الحق، فترضوا بالشقّ، أو توسعوا الشقّ، فتقعوا جميعًا في الرقّ، وأعيذكم أن تغتروا بالوعود الخالبة من الدول الغالبة، فإنما ذلك إبساس من الأيدي الحالبة، وأعيذكم أن تُنْكروا التقسيم وأنتم منقسمون، وأعيذكم أن يكون غرب النيل كشرق الأردن ... وأعيذكم أن ترضوا بالخفض، ولا تقبلوا (الضم)، إن الضم علامة (البناء)، وآية (استقرار) البناء، فاجهدوا في إثبات الضم وخلاكم ذم.
إن هؤلاء الأقوياء كلما عجزوا عن قيادة الجمع قادوهم بواحد ... فاحذروا ذلك الواحد، وإن الجانب الغربي لكم عدوٌّ، فاتّخذوه عدوًّا، واحذروه رواحًا وغُدوًّا، واحذروه قلقًا وهدوًّا.
__________
* نشرت في العدد 88 من جريدة «البصائر»، 25 جويلية سنة 1949.(3/534)
ويحَ فزّان، هل أتاها نبا وزَّان؟ شال بها الميزان، فهي رهينة أحزان.
وويح برقة البوارق، من الدخيل الطارق، ومن الأصيل المارق، ومن اللص السارق.
عتبات الفتح بنيت على الكسر، وآسرة الصيد مُنيت بالأسر، وصائدة المناسر (1) صادها النسر، وجسر العروبة إلى المغارب، عصفت به الأعاصير ... فتداعى الجسر، وباذلو الماعون في ساعة العُسْر، جُزُوا في العاقبة بالخسر، ثم كانت خاتمةُ الكيد، إرجاعهم إلى القيد.
كاهن الحي(3/535)
شخصيات
عدّة شخصيات تناولتها البصائر، إما بالتقريظ والمدح، أو بالغرض والقدح، وكلها بقلم جامع هذا الكتاب محمد البشير الإبراهيمي، الذي يرجو أن يكون ما وصف به هذه الشخصيات صادقًا مطابقًا لحقيقة الموصوفين به.(3/537)
عبد الحي الكتاني *
ما هو؟ وما شأنه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
في لغة العرب لطائف عميقة الأثر، وإن كانت قريبةً في النظر؛ ومنها التسمية بالمصدر والوصف به؛ يذهبون بذلك إلى فجّ من المبالغة سحيق، تقف فيه الأذهان حسرى، ويغالَط به الحسّ فيتخيّل ذوبان الموصوف وبقاء الصفة قائمةً بذاتها؛ كأن الموصوف لكثرة ما ألحّت عليه الصفة وغلبت أصبح هو هي أو هو إياها؛ وعند الخنساء الخبر اليقين حين تقول:
* فإنما هي إقبال وإدبار *
وعلى هذا يقال في جواب ما هو عبد الحي؟ هو مكيدة مدبّرة، وفتنة محضرة؛ ولو قال قائل في وصفه:
شّعْوَذَةٌ تَخْطِرُ فِي حِجْلَيْنِ … وَفِتْنَةٌ تَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ
لأراح البيان والتحليل، كما يقول شوقي؛ ولعفّى على أصحاب التراجم، من أعاريب وأعاجم، ولأتى بالإعجاز، في باب الإيجاز؛ إذ أتى بترجمة تُحمَل ببرقيّة، إلى الأقطار الغربية والشرقية، فيعمّ العلم، وتنتشر الإفادة، وتذيع الشهرة ... ولو أن الرجل وصف نفسه وأنصف الحقيقة في وصفها لما زاد على هذا البيت، ولو شاء "تخريج الدلالات السمعية" (1) على ذلك لَما أعجزه ولا أعوزه؛ ولكن أين من عبد الحي ذلك الإنصاف الذي لم يخلُ منه إلا شيخ الجماعة الذي حادّ الله وقال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}.
__________
* نُشرت في العدد 33 من جريدة «البصائر»، 26 أفريل سنة 1948.
1) تخريج الدلالات السمعية: كتاب في أصول الوظائف الشرعية للخزاعي، اختلس الكتاني نسخة خطية منه من مكتبة عمومية بتونس، ولما ألحّوا عليه في إرجاعها وهدّدوه بتدخل الحكومة، سلخ الكتاب ونسخه في كتاب نسبه إلى نفسه وسمّاه التراتيب الإدارية.(3/539)
وإذا أنصفنا الرجل قلنا: إنه مجموعة من العناصر منها العلم ومنها الظلم، ومنها الحق ومنها الباطل؛ وأكثرها الشرّ والفساد في الأرض- أُطلق عليها لكثرتها واجتماعها في ظرف- هذا الاسم المركّب الذي لا يلتقي مع الكثير منها في اشتقاق ولا دلالة وضعية، كما تُطلق أسماءُ الأجناس المرتجلة، وكما يُطلِق علماء الكيمياء على مركّباتهم أسماءَ لا يلمحون فيها أصلًا من أصولها، ومن الأسماء ما يوضع على الفال والتخيّل، فيطيش الفال، وتكذب المخيلة، ومنها ما يوضع على التوسع والتحيّل، فيضيق المجال، وتضيع الحيلة، وإن اسم صاحبنا لم يصدُق فيه إلا جزءُه الأول، فهو عبد لعدّة أشياء جاءت بها الآثار وجرت على ألسنة الناس، ولكن أملكها به الاستعمار؛ أما جزءُه الثاني فليس هو من أسماء الله الحسنى، ولا يخطر هذا ببال مؤمن يعرف الرجل، ويعرف صفات عباد الرحمان، المذكورة في خواتيم سورة الفرقان، وإنما هو بمعنى القبيلة، كما يقال كاهن الحي وعرّاف الحي وعير الحي، وقبّح الله الاشتراك اللفظي، فلو علم العرب أنه يأتي بمثل هذا الالتباس لطهروا منه لغتهم، وتحاموه فيما تحاموا من المستهجنات، ولو أدرك نفاة الاشتراك في الاستعمالات الشرعية زمن عبد الحي، أو أدرك هو زمنهم وعرفوه كما عرفناه لكان من أقوى أدلّتهم على نفيه، ولارتفع الخلاف في المسألة وسجّل التاريخ منقبة واحدة لعبد الحيّ، وهي أن اسمه كان سببًا في رفع خلاف ...
وإذا كانت أعمال الشخص أو آثار الشيء هي التي توضع في ميزان الاعتبار وهي التي تُناط بها الأحكام فهذا من ذاك ولا عتب علينا ولا ملام.
وكأن صاحبنا شعر ببعض هذا- ومثله من يشعر- فموّه اسمه ببضع كنى، ولكنه لم يجرِ فيها على طريقة العرب في تكنية أنفسهم، بل كنى نفسه بأبي الإقبال، وأبي الإسعاد، وما أشبه ذلك مما هو غالب في كُنى العبيد، تفاؤلًا وتروّحًا، وقد رأينا بعض من كتب لعبد الحي، أو كتب عليه، يكنيه بأبي السعادات، وهو لا يعني سعادات ابن الشجري، ولا سعادات ابن الجزري، وإنما يعني سعادات ثلاثًا لكل واحدة منهن أثرٌ في تكوينه أو في شهرته: جريدة "السعادة" لأنها تُطريه، وقرية بو"سعادة" لأنها تُؤويه، ونسخة أو جزءًا من البخاري بخط ابن "سعادة" لأن الخزانة الجليلة تحويه، والرجل مفتون بهذا النوع من الكُنى لنفسه ولغيره، يُغرب فيها ويُبدع حتى كنى الشيخ النبهاني بأبي الحجاز.
هذا وإن لصاحبنا أولادًا صالحين يشرّفه أن يكتنى بأحدهم، فلماذا لم يفعل؟ ...
***(3/540)
من سنن العرب أنهم يجعلون الاسم سمة للطفولة، والكنية عنوانًا على الرجولة. لذلك كانوا لا يكتنون إلا بنتاج الأصلاب وثمرات الأرحام من بنين وبنات، لأنها الامتداد الطبيعي لتاريخ الحياة بهم، ولا يرضون بهذه الكُنى والألقاب الرخوة إلا لعبيدهم، وما راجت هذه الكُنى والألقاب المهلهلة بين المسلمين إلا يوم تراخت العرى الشادّة لمجتمعهم، فراج فيهم التخنّث في الشمائل، والتأنّث في الطباع، والارتخاء في العزائم، والنفاق في الدين؛ ويوم نسِي المسلمون أنفسهم فأضاعوا الأعمال التي يتمجّد بها الرجال، وأخذوا بالسفاسف التي يتلهّى بها الأطفال، وفاتتهم العظمة الحقيقية فالتمَسوها في الأسماء والكُنى والألقاب؛ ولقد كان العرب صخورًا وجنادل يوم كان من أسمائهم صخر وجندلة، وكانوا غصصًا وسمومًا يوم كان فيهم مرّة وحنظلة؛ وكانوا أشواكًا وأحساكًا يوم كان فيهم قتادة وعوسجة. فانظر ما هم اليوم. وانظر أيّ أثر تتركه الأسماء في المسمّيات. واعتبر ذلك في كلمة (سيدي) وأنها ما راجت بيننا وشاعت فينا إلا يوم أضعنا السيادة، وأفلتت من أيدينا القيادة. ولماذا لم تشِع في المسلمين يوم كانوا سادة الدنيا على الحقيقة؛ ولو قالها قائل لعمر لهاجت شرّته، ولبادرت بالجواب درّته.
كُني المعرّي وهو صغير بأبي العلاء، ولو تزوّج كالناس وولد له لسمّى أكبر أولاده العلاء؛ وهو اسم عربي فخم تعرف منه كتب السير أمثال العلاء بن الحضرمي، ولكن المعرّي لمّا عقل وأدرك سخافة القصد من كنيته قال هازئًا: "كُنيتُ وأنا وليد بالعلاء فكأن علاءً مات، وبقيت العلامات"؛ وأين إسعاد عبد الحي من علاء المعري؟
...
عرف الناس وعرفنا عرفان اليقين وعلمنا حتى ما نسائل عالمًا، أن هذا الرجل ما زال منذ كان الاستعمار في المغرب- لا كانا- آلةً صمّاءَ في يده، يديره كما شاء، ويريده على ما شاء. يحرّكه للفتنة فيتحرّك، ويدعوه إلى تفريق الصفوف فيستجيب، ويندبه إلى التضريب والتخريب فيجده أطوع من بنانه، ويريد منه أن يكون حمّى تُنهك، فيكون طاعونًا يُهلك؛ وأن يكون له لسانًا، فيكون لسانًا وأذنًا وعينًا ويدًا ورجلًا ومقراضًا للقطع، وفأسًا للقلع، ومعولًا للصدع، وما يشاء الاستعمار إخماد حركة، إلا كانت على يديه البركة، وما يشاء التشغيب على العاملين للصلاح، والمطالبين بالإصلاح، إلا رماهم منه بالداهية النكراء والصيلم الصلعاء؛ وما يعجزه الاضطلاع بعبء، أو الاطلاع على خبء، إلا وجد فيه البغية والضالة؛ وما يشاء التشكيك في رأي جميع، أو التشتيت لشمل مجموع، إلا وجد فيه المشكّك المحكّك، والخادم الهادم؛ وقد تهيّأتْ فيه أدوات الفتنة كلها حتى كأنه أُعدّ لذلك إعدادًا خاصًا. وكأنه "مصنوع بالتوصية"، وكأنما هو رزق مهيّأ مهنأ للاستعمار، وما(3/541)
زال الاستعمار مرزوقًا بهذا النوع؛ فالرجل شريف أولًا، وعريق في الشهرة ثانيًا، وطرقي ثالثًا، وعالم رابعًا، وكل واحدة من هذه فتنة لصاحبها بنفسه وللناس به، فكيف بهن إذا اجتمعن؟ وكيف بهن إذا كان اجتماعُهنّ في غير موفّق؟ والرَّجُل بارع يستخدم كل واحدة من هذه في ميدانها الخاص، ويستخدمها جميعًا في الميدان العام: يستخدم العلم في الشهرة، والطرقية في الفتنة، فإذا حزب الأمر اتخذ من أحدهما طليعة، ومن الآخر جيشًا، ومن الشهرة أو الشرف ردءًا؛ ولكن أغلب النزعات عليه، النزعة الطرقية لأنها أكثر فائدة، وأجدى عائدة، وأقرب سبيل، في باب التضليل، ناهيك بدعوى لا يحتاج صاحبها إلى إقامة دليل.
...
كان بلاءُ هذا الرجل محصورًا في محيط، ومقصورًا على قطر، وكان إخواننا في المغرب يعالجون منه الداء العضال، وكنا نعدّ أنفسنا آثمين في السكوت عنه، وفي القعود عن نصرة إخواننا في دفع هذا البلاء الأزرق، فلما تنبّهت عقولهم لكيده، وتفتّحت عيونهم لمكره، وتهاوت عليه كواكب الرجم من كل جانب، فبطل سحره، وقصّرت رُقاه عن الاستنزال، وضلّ سعيه، وقلّ رعيه، انقلب استعمارًا محضًا قائمًا بذاته، وهاج حقده على الأحرار والسلفيين فترصّد أذاهم في الأنفس والأموال والمصالح، وأصبح كالعقرب، لا تلدغ إلا من يتحرك ...
ولكن السوأة التي لا توارى، والزلّة التي تضيق عنها المغفرة، والعظيمة التي يستحي الشيطان أن يوسوس بها، والشنعاء التي لا يقدم عليها إلا من بلغ رتبة الاجتهاد المطلق في علم الشر، هي اجتراؤه في فورة الاستعمار الأخيرة على أعلى رمز تتمثّل فيه أماني الوطن، وأمنع كنف يلوذ به السلفيّون الأبرار، والوطنيون الأحرار.
إن الخطايا قد تحيط بصاحبها فيقتل نفسه مثلًا، ولكن ما صدّقنا أن الحال ينتهي به إلى قتل أمّة إلا هذه المرّة، وإن الزلل ليرسخ إلى أن يصير خلقًا وعادة، ولكن ما عَهِدنا أنه يفضي بصاحبه إلى هذه الدركة التي لا تُبلَغ إلا بخذلان من الله، وما كنا نتصور أنّ شرّ شرّير يتّضع قدره إلى هذا الحدّ، أو يتّسع صدره لحمل هذا الوسام، وسبحان من يزيد في الخَلق ما يشاء.
وكأن الرجل أخذ فيما أخذ عن الاستعمار طريقة التوسّع، وكأنه أصغر المغرب- على سعته- أن يكون مجالًا لألاعيبه ومكايده، فجاوز في هذه المرّة الحدود، وتخطّى الأخدود، واندفع إلى الجزائر وتونس ليبثّ فيهما سمومه، ويتخذ منهما ملعبًا جديدًا لرواياته التي منها(3/542)
مؤتمر الزوايا بالجزائر، وليقوم للحكومة بما عجزت عنه من استئلاف النافر، واستنزال العاقّ، وليوحّد بين الأقطار الثلاثة ولكن بالتفريق، ولينقذها من البحر ولكن بالتغريق.
كان عبد الحي فيما مضى يزور هذا الوطن داعيًا لنفسه أو مدعوًّا من أصدقائه، وهم طائفة مخصوصة، فكنّا نولّيه ما تولّى، ولا نأبه له، وكانت تبلغنا عنه هنات كاختصاصه بالجهّال وهو عالم، وانتصاره للطرقية وهو محدّث، إلى هنات كلها تمسّ شرف العلم وكرامة العالم، فكنّا نحمّله ما تحمّل ولا نبالي به، وكان يزور لمامًا، ويقيم أيامًا، ولكنه- في هذه المرّة- جاء ليتمّم خطّة، ودخل الباب ولم يقل حطّة، وصاغ في الجزائر حلقات من تلك السلسلة التي بدأ صنعها في المغرب، دلّتنا على ذلك شواهد الأفعال والأقوال والملابسات والظروف، ثم زار تونس ليؤلّف فيها "تكميل التقييد" (1) وكأنه يتحدّى بهذه الرحلة الطويلة رحلة أبي الحسن المريني (2) ... وشتّان ما بين الرحلتين. تلك كانت لتوسيع الممالك، وهذه كانت لتوزيع المهالك، ويا ويح الجزائر المسكينة، كأن لم تكفها الفتن المتماحلة حتى تزاد عليها فتنة اسمها "مؤتمر الزوايا"، ولم تكفها النكبات المتوالية حتى تضاف إليها نكبة اسمها "عبد الحي".
إن في رحلة عبد الحي هذه لآيات، منها أن الحكومة أحسّت بإعراض من رجال الزوايا، وانصراف عما تريده منهم بطرقها القديمة، فأرادت أن تؤيّد قوّة القهر بقوّة السحر، فكان عبد الحيّ الساحر العليم، وآية ذلك أنه زار كل واحد من مشايخ الطرق في داره، وأقام عنده الليالي والأيام، ونعتقد أنه تعِب في إقناع الجماعة ولمِّ شملهم، وقد سمعنا من عقلائهم عبارات التشاؤم بمقدمه في هذه الظروف، والتبرّم بتكاليفه في هذه السنوات العجاف، وإن ضيافة هذا الرجل وحدها لأزمة مالية مستقلّة، ولو كان للجماعة شيء من الشجاعة لولّوه الظهر، وصارحوه بالنهر، ولكن الشجاعة حظوظ، والصراحة أرزاق.
...
ويقال، في جواب ما شأنه، إنه الشأن كله، ونقسم بالله الذي خلق الحيَّ وعبد الحيّ، أنه لولاه لما خطر مؤتمر الزوايا على بال واحد منهم، حاشا حواريَّ عبد الحي بتلمسان، وهو
__________
2) اسم كتاب في الفقه لابن غازي جاء اسمه مطابقًا بسعة أعمال عبد الحي للمحنان. ونحن نريد المعنى الوفي في الكلمتين، فقد جاء الرجل ليكمل تقييد الجزائر وتونس بما ينقصهما من قيود مكره.
3) أبو الحسن أنبه ملك في الدولة المرينية، بلغت فتوحاته إلى حدود ليبيا، وانتظم المغارب الثلاثة، وفي غزاته لتونس بنفسه كان المؤرّخ ابن خلدون قد ختم بها حياته العلمية وكان بدء اتصاله بالملوك والدول.(3/543)
رجل ليس فيه من صفات الحواريين إلا الصيد، وليس هو من الزوايا في قبيل ولا دبير، ونحن أعرف بالجماعة من عبد الحي، وقد انصرفوا في السنوات الأخيرة إلى أعمالهم الخاصة وساروا في هوى الأمّة، وشاركوا في مشاريعها العامة بقدر الاستطاعة؛ ولو سمعوا نصائحنا لتولّوا قيادتها من جديد ولكن بالعلم وإلى العلم، وعلى ما هم عليه فإن القسوة لم تبلغ بهم إلى حدّ معاكسة شعور الأمّة، حتى يُعرِسوا في مأتمها، لولا هذا المخلوق.
ثم نسأل عبد الحي: لماذا لم يفعل في المغرب ما فعله في الجزائر، فيجمع الزوايا على الدعوة إلى التعليم؟ إنه لم يفعل لأنه لا يرى زاوية قائمة إلا زاويته، وكلّ ما عداها فمنفرجة أو حادّة كما يقول علماء الهندسة، ونسأل رجال الزوايا: لماذا لم يجتمعوا لمؤتمرهم قبل مجيء عبد الحي؟ وهل هم في حاجة إلى التذكير بلزوم العلم والتعليم حتى يأتيهم عبد الحي بشيء جديد في الموضوع؟
يا قوم، إن الأمر لمدبَّر، إن الأمر لمدبّر علمه مَن علِمه منكم وجهِله مَن جهِله، وما نحن بمتزيّدين ولا متخرّصين.
ولو أن عبد الحي كان غير من كان، ونزل باسم العلم ضيفًا على الأمّة الجزائرية غير متحيّز إلى فئة، وغير مسيّر بيد، وغير متأبّط لشرّ، للقي منها كل إكبار وتبجيل ولو أضافته على الأسودين التمر والماء، وإن ذلك لأعظم إعلاءً لقدره، وإغلاءً لقيمته.
...
ولقد كان من مقتضى كون الرجل محدِّثًا أن يكون سلفيّ العقيدة وقّافًا عند حدود الكتاب والسنَّة، يرى ما سواهما من وسواس الشياطين، وأن يكون مستقلًّا في الاستدلال لما يؤخذ ولما يترك من مسائل الدين، وقد تعالت همم المحدّثين عن تقليد الأئمة المجتهدين، فكيف بالمبتدعة الدجّالين؛ وعرفوا بالوقوف عند الآثار والعمل بها، لا يعْدونها إلى قول غير المعصوم إلا في الاجتهاديات المحضة التي لا نصّ فيها؛ ولكن المعروف عن هذا المحدّث أنه قضى عمره في نصر الطرقية وضلالات الطرقيين ومحدَثاتهم بالقول والفعل والسكوت، وأنه خصم لدود للسلفيين، وحرب عوان على السلفية، وهل يرجى ممن نشأ في أحضان الطرقية، وفتح عينيه على ما فيها من مال وجاه وشهوات ميسّرة ومخايل من المُلك، أن يكون سلفيًّا ولو سلسل الدنيا كلها بمسلسلاته؟
إن السلفية نشأة وارتياض ودراسة، فالنشأة أن ينشأ في بيئة أو بيت كل ما فيها يجري على السنّة عملًا لا قولًا؛ والدراسة أن يدرس من القرآن والحديث الأصول الاعتقادية، ومن السيرة النبوية الجوانب الأخلاقية والنفسية، ثم يروّض نفسه بعد ذلك على الهدي المعتصر من تلك(3/544)
السيرة وممن جرى على صراطها من السلف، وعبد الحي محدّث بمعنى آخر، فهو "راوية" بكل ما لهذه الكلمة من معنى. تتصل أسانيده بالجن والحن ورتن الهندي (4) وبكل من هبّ ودبّ. وفيه من صفات المحدّثين أنه جاب الآفاق، ولقي الرجال، واستوعب ما عندهم من الإجازات بالروايات، ثم غلبت عليه نزعة التجديد فأتى من صفات المحدَثين (بالتخفيف) بكل عجيبة، فهو محدّث محدِث في آن واحد؛ وهمّه وهمّ أمثاله من مجانين الرواية حفظ الأسانيد، وتحصيل الإجازات، ومكاتبة علماء الهند والسند للاستجازة، وأن يرحل أحدهم فيلقى رجلًا من أهل الرواية في مثل فواق الحالب، فيقول له: أجزتُك بكل مروياتي ومؤلفاتي إلى آخر (الكليشي) (5)؛ فإذا عجز عن الرحلة كتب مستجيزًا فيأتيه علم الحديث بل علوم الدين والدنيا كلها في بطاقة ... أهذا هو العلم؟ لا والله. وإنما هو شيء اسمه جنون الرواية.
ولقد أصاب كاتب هذه السطور مسٌّ من هذا الجنون في أيام الحداثة، ولم أتبيّن منشأه في نفسي إلا بعد أن عافاني الله منه وتاب عليّ، ومنشأُه هو الإدلال بقوّة الحافظة، وكان من آثار ذلك المرض أنني فُتنت بحفظ أنساب العرب، فكان لا يُرضيني عن نفسي إلا أن أحفظ أنساب مضر وربيعة بجماهرها ومجامعها، وأن أنسب جماهر حمير وأخواتها، وأن أعرف كل ما أثر عن دغفل في أنساب قريش، وما اختلف فيه الواقدي ومحمد بن السائب الكلبي؛ ثم فُتنت بحفظ الأسانيد، وكدت ألتقي بعبد الحي في مستشفى هذا الصنف من المجانين بالرواية، لولا أن الله سلّم، ولولا أن الفطرة ألهمتني: أن العلم ما فُهم وهُضم، لا ما رُوي وطُوي.
زرت يومًا الشيخ أحمد البرزنجي- رحمه الله- في داره بالمدينة المنوّرة وهو ضرير، وقد نُمي إليه شيء من حفظي ولزومي لدور الكتب، فقال لي بعد خوض في الحديث: أجزتُك بكل مروياتي من مقروء ومسموع بشرطه ... الخ. فألقى في روعي ما جرى على لساني وقلت له: إنك لم تعطني علمًا بهذه الجمل، وأحر أن لا يكون لي ولا لك أجر، لأنك لم تتعب في التلقين وأنا لم أتعب في التلقّي؛ فتبسّم ضاحكًا من قولي ولم يُنكر، وكان ذلك بدء شفائي من هذا المرض، وإن بقيت في النفس منه عقابيل، تَهيج كلما طاف بي طائف العُجْب والتعاظم الفارغ إلى أن تناسيته متعمّدًا، ثم كان الفضل لمصائب الزمان في نسيان البقية الباقية منه؛ وإذا أسفت على شيء من ذلك الآن فعلى تناسيّ لأيام العرب، لأنها تاريخ، وعلى نسياني أشعار العرب، لأنها أدب.
__________
4) رتن الهندي شيخ دجّال ظهر على رأس المائة السادسة للهجرة وادّعى أنه صحابي وأنه يروي عن النبي مباشرة وأنه حضر زفاف فاطمة الزهراء، وقد روى عنه جماعة من المحدثين المصغين له وأنكر أمره ودعواه جمهور أعلام المحدثين كالحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر، وأثبت الذهبي أنه دجال كذاب.
5) الكليشي: كلمة فرنسية معناها الشريط.(3/545)
وحضرت بعد ذلك طائفةً من دروس هذا الشيخ في صحيح البخاري على قلّتها وتقطّعها؛ وأشهد أني كنت أسمع منه علمًا وتحقيقًا؛ فقلت له يومًا: الآن أعطيتني أشياء وأحرِ بنا أن نوجَر معًا، أنت وأنا؛ فتبسّم مبتهجًا وقال لي: يا بنيّ، هذه الدراية وتلك الرواية. فقلت له: إن بين الدراية والعلم نسبًا قريبًا في الدلالة، تُرادفه أو تقف دونه؛ فما نسبة الرواية إلى العلم؟ وقطع الحديث صوت المؤذّن وقال لي: بعد الصلاة حدّثني بحديثك عن نسبة الرواية إلى العلم، فقلت له ما معناه: إن ثمرة الرواية كانت في تصحيح الأصول وضبط المتون وتصحيح الأسماء، فلما ضُبطت الأصول وأُمن التصحيف في الأسماء خفّ وزن الرواية وسقطت قيمتها، وقلت له: إن قيمة الحفظ- بعد ذلك الضبط- نزلت إلى قريب من قيمة الرواية، وقد كانت صنعة الحافظ شاقةً يوم كان الاختلاف في المتون، فكيف بها بعد أن تشعّب الخلاف في ألفاظ البخاري في السند الواحد بين أبي ذرّ الهروي، والأصيلي، وكريمة، والمستملي، والكشميهي، وتلك الطائفة، وهل قال حدثني أو حدّثنا أو كتاب أو باب؛ إن هذا لتطويل ما فيه من طائل.
ولا أراه علمًا بل هو عائق عن العلم، وقلت له: إن عمل الحافظ اليونيني على جلالة قدره في الجمع بين هذه الروايات ضرب في حديد بارد، لا أستثني منه إلا عمل ابن مالك، وإن ترجيح ابن مالك لإعراب لفظة لأدلّ على الصحة في اللفظ النبوي من تصحيح الرواية، وقد يكون الراوي أعجميًّا لا يقيم للإعراب وزنًا، فلماذا لا نعمد إلى تقوية الملكة العربية في نفوسنا، وتقويم المنطق العربي في ألسنتنا، ثم نجعل من ذلك موازين لتصحيح الرواية؛ على أن التوسّع في الرواية أفضى بنا إلى الزهد في الدراية، وقلت له: إنك لو وقفت على حلق المحدّثين بهذا الحرم، محمد بن جعفر الكتاني ومحمد الخضر الشنقيطي وغيرهما لسمعتَ رواية وسردًا، لا دراية ودرسًا، وإن أحدهم ليقرأ العشرين والثلاثين ورقة من الكتاب في الدولة الواحدة (6). فأين العلم؟ وقلت له: إن مَن قَبْلنا تنبّهوا إلى أن دولة الرواية دالت بضبط الأصول وشهرتها فاقتصروا على الأوائل، يعنون الأحاديث الأولى من الأمهات وصاروا يكتفون بسماعها أو قراءتها في الإجازات، وما اكتفاء القدماء بالمناولة والوجادة إلا من هذا الباب.
قلت له هذا وأكثر من هذا، وكانت معارف وجهه تدلّ على الموافقة ولكنه لم ينطق بشيء، وأنا أعلم أن سبب سكوته هو مخالفة ما سمع لما ألف- رحمه الله.
ولقيت يومًا الشيخ يوسف النبهاني- رحمه الله- بباب من أبواب الحرم فسلّمت عليه فقال لي: سمعت آنفًا درسك في الشمائل، وأعجبني إنحازك باللوم على مؤلّفي السيَر في اعتنائهم بالشمائل النبوية البدنية، وتقصيرهم في الفضائل الروحية، وقد أجزتُك بكل مؤلّفاتي
__________
6) في الدولة الواحدة: في المَرَّة الواحدة.(3/546)
ومروياتي وكل مالي من مقروء ومسموع من كل ما تضمّنه ثبتي ... إلخ. فقلت له: أنا شاب هاجرت لأستزيد علمًا وأستفيد من أمثالكم ما يكملني منه، وما أرى عملكم هذا إلا تزهيدًا لنا في العلم، وماذا يفيدني أن أروي مؤلفاتك وأنا لم أستفد منك مسألة من العلم؛ ولماذا لم تنصب نفسك لإفادة الطلّاب، فسكت، ولم يكن له- رحمه الله- درس في الحرم، وإنما سمعت من خادم له جَبَرْتي أنه يتلقّى عنه في حجرته درسًا في فقه الشافعية.
وكان بعد ذلك يُؤثر محلي على ما بيننا من تفاوت كبير في السن، وتباين عظيم في الفكرة. رحم الله جميع من ذكرنا وألحقنا بهم لا فاتنين ولا مفتونين.
أما أولئك السلف الأبرار فعنايتهم بالرواية والرجال راجعة كلها إلى الجرح والتعديل اللذين هما أساس الاطمئنان إلى الرواية، وقد تعبوا في ذلك واسترحنا، وما قولكم- دام فضلكم- لو فرضنا أنّ محدث القرن الرابع عشر ومسنده عبد الحي عُرض بعجره وبجره على أحمد بن حنبل، أو على يحيى بن معين، أو على عليّ بن المديني، أو على مَن بعدهم من نقّاد الرجال الذين كانوا يجرّحون بلحظة، ويُسقطون العدالة بغمزة في عقيدة، أو نبزة في سيرة، أو بغير ذلك مما يُعدّ في جنب عبد الحيّ حسنات وقُرُبات، فماذا نراهم يقولون فيه؛ وبماذا يحكمون عليه؟ خصوصًا إذا عاملوه بقاعدة (الجرح لا يُقبَل إلا مفسَّرًا).
...
وبعد، "فقد أطال ثنائي طول لابسه" (7) فليعذرنا عبد الحيّ، ووالله ما بيننا وبينه تِرَة ولا حسيفة؛ ووالله ما في أنفسنا عليه حقد ولا ضغينة، ووالله لوددنا لو كان غير من كان، فكان لقومه لا عليهم، وإذًا لأفاد هذا الشمال بالكنوز النبوية التي يحفظ متونها، ونفع هذا الجيل الباحث الناهض المتطلعّ بخزانته العامرة، وكان روّاد داره تلامذة يتخرّجون، لا سيّاحًا يتفرّجون؛ وعلماء يتباحثون، لا عوام يتعابثون، ولكنه خرج عن طوره في نصر الضلال فخرجنا عن عادتنا من الصبر والأناة في نصر الحق، وجاء يؤلب طائفة من الأمّة على مصالح الأمّة، فهاج الأمّة كلها، وهاج معها هذا القلم الذي يمجّ السمام المنقع، فنفث هذه الجمل، وفي كل جملة حملة، وفي كل فقرة نقرة، فإن عاد بالتوبة، عدنا بالصفح؛ وان زاد في الحوبة، عدنا على هذا المتن بالشرح، ولعلّ هذا الأسبوع هو أبرك الأسابيع على الشيخ، فقد أملينا فيه مجالس في مناقبه جاءت في كتيّب، سميناه- بعد الوضع- "نشر الطيّ، من أعمال عبد الحي"، فإنْ تاب وأدناه، ووفينا له بما وعدناه، وإلا عممناه بالرواية، وأذنَّا لعبد الحي في روايته عنا للتبرّك واتصال السند، وهو أعلم الناس بجواز رواية الأكابر عن الأصاغر.
__________
7) شطر من بيت للمتنبي تمامه: إن الثناء على التنبال تنبال.(3/547)
الرجال أعمال *
محمد الطاهر بن عاشور وعبد الحميد بن باديس إماما النهضة العلمية في الشمال الإفريقي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
البصائر ميزان حق، ولسان صدق، فهي تزن الرجال بأعمالهم الجليلة، ومواقفهم الشريفة، وتقوّمهم بالقيم الإيجابية، لا بالقيم بالسلبية، وهي تمدح المستحقين للمدح فلا تشين المدح بالغلوّ، وتذمّ المستأهلين للذم فلا تزين الذمّ بالكذب والاختلاق.
و «البصائر» لا تأبه للصيت الطائر في المجامع، والاسم الدائر على الألسنة، والشهرة السائرة في الآفاق، ما لم يكن من ورائها أعمال نافعة تشهد، وآثار صالحة تُعهد، وثمرات طيّبة تُجنى.
وقد صدّرت هذا العدد بصورة اثنين من رجال العلم والعمل بهذا الشمال الإفريقي، توافت شهرتهما وأعمالهما إلى غاية، وتسابقتا إلى أمد، فكان السبق للأعمال. وإذا كانت الشهرة قد تكذب، فإن الأعمال لا تكذب، وهي قائلة في كل واحد منهما كلمة، حظّ العمل فيها من التنويه أوفر من حظ العامل.
ونحن حينما نذكر العمل لا نريد به المعنى القاصر في عرف الفقهاء، وإنما نريد منه هذه الأعمال العامّة النافعة التي فيها ما في النور والماء من غذاء وقوّة وحياة، وفيها ما في الدهر من استمرار وامتداد.
رحم الله الميت، وبارك في عمر الحيّ، إلى أن تتكامل أعماله، وتتحقّق في إصلاح "الزيتونة" آمالنا وآماله.
__________
* نُشرت في العدد 44 من جريدة «البصائر»، 26 جويلية سنة 1948.(3/548)
- 1 -
الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور علم من الأعلام الذين يعدّهم التاريخ الحاضر من ذخائره، فهو إمام متبحّر في العلوم الإسلامية، مستقلّ في الاستدلال لها، واسع الثراء من كنوزها، فسيح الذرع بتحمّلها، نافذ البصيرة في معقولها، وافر الاطلاع على المنقول منها، أقرأ وأفاد، وتخرّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي، وتفرّد بالتوسّع والتجديد لفروع من العلم ضيّقها المنهاج الزيتوني، وأبلاها الركود الذهني، وأنزلتها الاعتبارات التقليدية دون منزلتها بمراحل: فأفاض عليها هذا الإمام من روحه وأسلوبه حياة وجدّة، وأشاع فيها مائية ورونقًا، حتى استرجعت بعض قيمتها في النفوس، ومنزلتها في الاعتبار.
وبعيد جدًّا أن يبلغ الإصلاح في الكلية الزيتونية مبلغه قبل أن تقوم الدراسات العليا فيه على ساق، وقبل أن تنفق لها في عرصاته سوق، وقبل أن تشمل تلك الدراسات التفسير والحديث والأخلاق والأدب والتاريخ.
هذه لمحات دالة- في الجملة- على منزلته العلمية، وخلاصتها أنه إمام في العلميات لا ينازع في إمامته أحد.
وأما العمليات فلا نعدّ منها التدريس في جامع الزيتونة، وإنما نعدّ منها إصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وقد اجتمعت في الأستاذ وسائله، وتكاملت أدواته، من عقل راجح لا يخيس وزنه، وبصيرة نافذة إلى ما وراء المظاهر الغرّارة، وفكر غوّاص على حقائق الأشياء، وذكاء تشفّ له الحُجب، واطلاع على تاريخنا العلمي في جميع أطواره، واستعداد قوي متمكّن للتجديد والإصلاح، ومن شأن هذه المواهب المتجمعة في أمثال الأستاذ أنها تكمن حتى تُظهرها الحاجة والضرورة؛ والحاجة إذا ألحّت كشفت عن رجل الساعة، وأخرجت القائم المنتظر، وقد وُجدت الحاجة إلى الإصلاح في كليتنا، فوُجد الرجل المدّخر، فكان الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور؛ وإن تدبير الأحوال الاجتماعية لأقوى وأبقى من تدبير الجماعات، وإن تدبير الجماعات لأثر من روح الاجتماع، وإن غفل الناس عن ذلك.
تقلّد الأستاذ مشيخة الجامع للمرّة الأولى فدلّت المصائر على أن التدبير الاجتماعي لم يكمُل، وكان من الظواهر المحسوسة أنها وظيفة جديدة لم يطمئن موطنها، ولم يدمّث موطئها، ولم تهشّ لها النفوس المبتلاة بالتقليد، والمريضة بالمنافسة، خصوصًا وهي- في حقيقتها- نزع للسلطة من جماعة وحصرها في واحد؛ والخروج عن المألوفات العادية يراه المجدّدون وضعًا للإصر، وانطلاقًا من الأسر، ويراه الجامدون فسادًا في الأرض وشرطًا من أشراط الساعة.(3/549)
ثم قُلّد الأستاذ مشيخة الجامع للمرّة الثانية، وكان الأمر قد استتبّ، والنفوس النافرة من التجديد قد اطمأنّت، والضرورة الداعية إلى الإصلاح قد رجحت؛ ومعنى ذلك كله أن التدبير الاجتماعي قد كمل، فخبّ الجواد في مضماره، وشعّ نور ذلك الاستعداد من ناره، وكان ما سرّ نفوس المصلحين من إصلاح وإن لم يبلغ مداه بعد.
لم يرَ جامع الزيتونة في عهوده الأخيرة عهدًا أزهر من هذا العهد، ولم يرَ في الرجال المسيرين له رجلًا أقدر على الإصلاح، وأمدّ باعًا من شيخه الحالي، وإذا كان الإصلاح يسير ببطء فما الذنب ذنبه، وإنما الذنب لطبيعة الزمان والمكان، وضعف المقتضيات، وقوّة الموانع، وحسبه أنه حرّك الخامد، وزعزع الجامد، وأجال اليد المصلحة في الإدارة وفي كتب الدراسة وفي أشياء أخر؛ وتلك هي مبادئ الإصلاح التي ينبني عليها أساسه، وحسبه أيضًا أنه نبّه الأذهان إلى أنّ إصلاحات خير الدين كعهد الأمان، كلاهما لا يصلح لهذا الزمان. وشتّان ما زمنٌ كله ممهّد للاحتلال، وزمن كل ما فيه ينادي بالاستقلال.
والحق أن في الجهاز التعليمي بجامع الزيتونة خللًا يحتاج إلى الإصلاح، وعللًا يجب أن تُزاح، ونقائص يجب أن تعالج، وتوافه من النظم يجب أن تُلغى؛ وكلها بقايا من إصلاحات خير الدين، لم تعد تصلح لخير العلم ولا لخير الدين.
فإذا اطمأن بعض أصدقائنا وإخواننا من علماء الزيتونة إلى بقاء ما كان على ما كان، فليعلموا أن وراءَنا من الزمن سائقًا عنيفًا حُطَمَة، يستحثّ البِطاء، ولا يغضّ من أعنّة العجال، وأنّ بين أيدينا ودائع من شباب متطلعّ إلى الكمال، توّاق إلى السبق، حريص على دقائق عمره أن تُنفق إلا فيما يَنْفُق. وهو يريد أن يكون كزمنه وأبناء زمنه، وزمنه ثلاثة: جدّ واتقان ونظام. وأبناءُ زمنه أحالهم العلم عقبان جوّ، وغيلان دوّ. وفرضت عليهم الحياة أن يأخذوا الكثير من العلم، في القليل من الوقت، وأرتهم مصداق ذلك حتى لا يرتاب مرتاب.
وليعلموا أن خصوم الإسلام في ازدياد، وأن سير الإلحاد في اطّراد، وأن العلوم الغربية زاحمت العلوم الإسلامية على نفوس شبابنا فافتتنوا، وأن ضرائر العربية من اللغات الأوروبية يتبرّجن تبرّج الجاهلية الثانية، وقد زاحمنها على ألسنة شبابنا فافتتنوا، وأن التعليم في كلياتنا المشهورة بوضعه الحالي لا يكفُل لنا سدّ أبواب هذه الفتن.
...
ولا أكذب الله، ولا أحاجي عباده، فقد أخرجت الزيتونة طرازًا من الرجال لو لم تفتنهم الوظائف المحدودة لأتوا في الإصلاح الدينى والدنيوي بالعجب، وما زالت هذه الوظائف المقيّدة قيدًا للنبوغ، بل مدفنًا للعبقرية، تنزل المواهب منها بدار مضيعة؛ وكم من عبقرية(3/550)
أطفأ شعلتها التشوّف إلى الوظيفة قبل الوصول إليها، لأن ذلك التشوّف يدور بصاحبه في الدائرة الضيّقة التي توصّل إليها، لا في الدائرة الواسعة التي يُشرف منها على آفاق العلم وعوالمه، فما أشام الوظيفة على العلم، وما أضرّ ذلك العرف السائد في تونس بالنبوغ، وهو توارث الوظائف الدينية والشرعية في بيوت مخصوصة، حتى أصبح أبناءُ تلك البيوت يتطلّعون من أول العهد بالطلب إلى الوظائف التي يشغلها ذووهم، كأنها وقف عليهم، أو حق مفروض لهم، وإن ذلك وحده لمشغلة عن طلب الغايات في العلم.
...
إن الإصلاح المرجوّ لجامع الزيتونة لا يبلغ مداه إلا إذا توفّرت فيه ثلاثة شروط: الاستقلال والمال والرجال.
أما الاستقلال- وهو أهم الشروط- فهو أن تصبح الكلية الزيتونية بمنجاة من التسلّط الحكومي كيفما كان لونه، بعيدةً عن المؤثّرات السياسية والتيارات الحزبية، مثبتةً وجودها الذاتي بأنها تؤثّر ولا تتأثّر؛ فمن حاول إخضاعها لنزعة حكومية، أو جرّها لمذهب سياسي، أو توجيهها لوجهة حزبية، فهو مفسد خبيث الدخلة.
وأما المال فإن الإصلاحات تتطلب أموالًا طائلة، ونفقات سخية، ومهما تبذل الحكومة من الخزينة العامة فإن ذلك لا يكفي ولا يُغني، على ما فيه من آفات، فإن الحكومات لا تعطي بدون أخذ، وبدون أن تتّخذ من العطاء وليجةً للتدخّل ومقادة للمسيرين، ودرَّ درُّ الأوقاف الإسلامية لو لم يفسدها سوء الإدارة وتسلّط الاستعمار، إن الكليات حتى في أغنى أمم العالم لا تقوم على مال الحكومة المحدود وحده، وإنما تقوم على عطاء الكرماء وبذل المحسنين، فهل آن لأمّتنا أن تعلم هذا فتعمل به؟
وأما الرجال فإن في الزيتونة رجالًا لو تعاونوا وسلموا من داء المنافسة على الرياسة لحقّقوا الآمال في الإصلاح، ولعجّلوا به، وقد كانوا ينتظرون القائد الحازم فقد وجدوه.
...
إن الإصلاح المنشود للزيتونة لا يتمّ إلا في جوّ بعيد عن القصر ووساوسه، وعن الهيكل الوزاري ودسائسه، وعن الاستعمار ومكائده ومصائده.
وإن الزيتونة لا تتبوّأ مكانها الرفيع إلا بواسطة جهاز داخلي متماسك الأجزاء من علمائها، يؤُمّهم إمام مدرّب محنّك فقيه في المذاهب الإدارية، مجتهد في أصولها.(3/551)
وإن ذلك الإمام المدرّب الفقيه المجتهد الجامع لشروط الإمامة في هذا الباب لهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
إن الذين يُثيرون في وجهه الغبار، أو يضعون في وجهته العواثير لمجرمون. وإنا- إن شاء الله- للأستاذ الأكبر في طريقه الإصلاحي لمؤيّدون وناصرون.
- 2 -
باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر؛ وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها المغيرة إلى الغايات العليا، وامام الحركة السلفية؛ ومنشئ مجلة "الشهاب" مرآة الإصلاح وسيف المصلحين، ومربّي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدْي المحمدي وعلى التفكير الصحيح، ومُحيي دوارس العلم بدروسه الحية، ومفسّر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن، وغارس بذور الوطنية الصحيحة، وملقّن مباديها، علم البيان، وفارس المنابر، الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس، أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأوّل مؤسّس لنوادي العلم والأدب وجمعيات التربية والتعليم، رحمه الله ورضي عنه.
وحسبُ ابن باديس من المجد التاريخي هذه الأعمال التي أجملناها في ترجمته؛ وإنّ كل واحد منها لأصل لفروع، وفصل من كتاب، وإذا كان الرجال أعمالًا فإن رجولة أخينا عبد الحميد تقوَّم بهذه الأعمال.
وحسبُه من المجد التاريخي أنه أحيا أمّةً تعاقبت عليها الأحداث والغير، ودينًا لابسته المحدَثات والبدع، ولسانًا أكلته الرطانات الأجنبية، وتاريخًا غطّى عليه النسيان، ومجدًا أضاعه ورثة السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب.
وحسبه من المجد التاريخي أن تلامذته اليوم هم جنود النهضة العلمية، وهم ألسنتها الخاطبة، وأقلامها الكاتبة، وهم حاملو ألويتها، وأن آراءه في الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي هي الدستور القائم بين العلماء والمفكّرين والسياسيين، وهي المنارة التي يهتدي بها العاملون، وأن بناءَه في الوطنية الإسلامية هو البناء الذي لا يتداعى ولا ينهار. وحسبه من المجد التاريخي أنّ إخوانه الذين حملوا معه معظم الأمانة في حياته، اضطلعوا بحملها كاملة بعد وفاته، في أيام أشدّ تجهّمًا من أيامه، وفي هزاهز ما كان يتخيّلها حتى في أحلامه، فما وهنوا ولا هانوا، ولا ضعفوا ولا استكانوا.
وأنهم استُخلفوا على النهضة فكانوا نعم الخلف، تمّموا وعمّموا، وأجمعوا وصمّموا.(3/552)
وأنهم وفوا له ميتًا كما وَفَوْا له حيًّا. واعتزُّوا باسمه بعد مماته، كما كان يعتزّ بهم في حياته. فقد كان- رحمه الله- على جرأته وبديهته وبيانه وشجاعته- ربما تُدركه الفترة في الرأي في المواقف الحرجة فيلتفت فيرى إخوانه إلى جنبه فيندفع كأنما مسّته كهرباء، وكأنه الأتِيُّ المنهمر، فلا يبقي ولا يذر.
...
ومن غرائب هذه العصابة التي كان ابن باديس شارة شرفها، وطغرى عزّها، أن الشيطان لم يجد منفذًا يدخل منه إلى أخوّتهم فيفسدها، أو إلى علائقهم فيفصمها، أو إلى محبتهم بعضهم لبعض فينفث فيها الدخل، فعاشوا ما عاشوا متآخين كأمتن ما يكون التآخي، متحابين كأقوى ما تكون المحبة؛ ولقد كانوا مشتركين في أعمال عظيمة، معرّضين لعواقب وخيمة. ومن شأن ما يكون كذلك أن تختلف فيه وجوه الرأي وتتشعّب مسالكه، فيكثر فيها اللجاج المفضي إلى الضغينة، والانتصار للرأي المفضي إلى الخلاف، خصوصًا إذا اشتجرت الآراء في مزلقة الاستعمار التي يرصدها لنا؛ فوالذي روحي بيده ما كنا نجتمع في المواقف الخطيرة إلا كنفس واحدة، وما كنا نفترق- وإن اختلف الرأي- إلا كنفس واحدة. وإني لا أجد لفظًا يؤدّي هذه الحالة فينا إلا لفظة "إخوان الصفاء". فلقد- والله- كنا إخوان صفاء، وما زلنا إخوان صفاء، وسنبقى إخوان صفاء، حتى نجتمع عند الله راضين مرضيين إن شاء الله.
إن لهذه الحالة فينا علّة وثمرة: أما العفة فهي أن اجتماعنا كان لله ولنصر دين الله ولتأدية حق الله في عباده، دأبنا في ذلك التعاون على الخير، والاستباق إلى الخير، فلا مجال للمنافسة وحظ النفس. وأما الثمرة فهي هذا النجاح الباهر الذي نلقاه في كل أعمالنا للأمّة، في تطهير العقول، وفي تصحيح العقائد، وفي استجابة داعي القرآن، وفي تمكين سلطان السنّة، وفي صدق التوجه إلى العلم، وفي تشييد المدارس، وفي كثرة الإقبال عليها والبذل لها، وفي كل معالجة بيننا وبين الأمّة.
إن هذا من صنع الله لا مما تصوغه الأهواء النفسية الخبيثة، وما جمعته يد الله لا تفرّقه يد الشيطان.
...
ما زلت آسَى على شيء كلّما ذكرته، وأجد له في نفسي حرارةً ومضضًا، وهو أن تستأثر الجزائر وحدها بتلك المجموعة الباديسية من فكر ثاقب، ورأي أصيل، وعلم غزير، ولسان(3/553)
مبين، وأن لا يكون لبقية الأقطار الإسلامية منها حظ؛ وكم كنت أتمنّى لو يقوم برحلة في أطراف العالم الإسلامي داعيًا إلى الله، وإلى الاجتماع على كتاب الله، وكنت نازعته الحديث في هذا مرّات، وقلت له: إن من النقص أن تقضي طول عمرك مدرّسًا لهذه الكتب وهذه القواعد، في طائفة من الطلّاب؛ فإن زدت فمحاضرًا في الجموع، وأن يبقى هذا العلم محصورًا في الجزائر، وكان من حبه- رحمه الله- لتلامذته وشغفه بتربيتهم أنه يتولّى بنفسه دراسة الكتب العالية طوال السنة، إلا في الجولات المحدودة للوعظ والإرشاد، أو لاجتماعات الجمعيات، فكان يحيل الأمر إليّ تنضلًا. ويقول لي: أنت أعرف بالشرق، وألين عريكة مني (وهذه عبارته بحروفها). وكنا نتفق على الأصل ونسوّف ونسوّف إلى أن فرّق الموت بيننا.
هذه بعض أعمال الرجل العظيم الذي مات فورثت أسرته جثمانه فأقامت له مشهدًا، وورثنا نحن أعماله فأقمنا له معهدًا، وعسى الله أن يوفق أسرته إلى وقف مكتبته على معهده ليعمّ النفع بها كما عمّ النفع بعلمه، وليحيا ذكره بهما معًا، وليس بالكثير في حقّ من وقف حياته الغالية على الأمّة، أن توقف مكتبته الرخيصة على الأمّة.(3/554)
دمعة على المنصف *
يعزّ على هذا القلم الذي لا يكاد يجف مداده، ولا تنقطع من القريحة أمداده، أن تصاب تونس العزيزة في مناط أملها، بل في نياط قلبها، فلا يُسمع له جرس، ولا يصرّ بكلمة على طرس.
يعزّ على هذا القلم الذي براه الباري لينضح العسل المصفّى للمقسطين، وينطف الصاب والحنظل للقاسطين، ويرسل الحُمم مدرارًا على المستعمرين، أن تنتهي مظلمة المنصف إلى غايتها الشنعاء من موت الغربة، ومهانة الأسر، وتعنّت الاستعمار، فلا يشنّها شعواء على التعنّت والمتعنتين.
يعزّ على هذا القلم الذي شدَّ الحق أزره، وسدّد المنطق رمايته، أن يموت المنصف غريبًا، مظلومًا، مسلوب التاج، فلا ينفث كلمة تبعث الشجى وتثير الشجن وتحلّ عقدة الرواية.
يعزّ على هذا القلم أن يصرخ الناعي لموت المنصف فلا يجري، وأن يثوّب الداعي بمري الشؤون فلا يمري، وأن تطير نفس تونس الولهانة شعاعًا فلا يتقسّم شظايا، وأن يجب حق الجار فلا يكون أولَ الناهضين بفرضه.
يعزّ على هذا القلم أن تقف به الأقدار موقفَ السيف من يد الجبان، وأن يقعد من ورائه كلالُ الذهن، وجمود القريحة، وفتور الأعصاب حائلات بينه وبين القيام بالواجب.
__________
* نشرت في العدد 49 من جريدة «البصائر»، 13 سبتمبر سنة 1949.(3/555)
لو مات المُنصف بالأغواط (1)، لطافت الجزائر بجثمانه عدة أشواط، ولذهبت فيه مذهب العرب في "ذات أنواط"، ولغسلته بالعبرات المسفوحة، وكفّنته بألفاف القلوب، ودفنته في مستقرّ العقيدة والواجب من نفوسها.
ولو مات "بتَنَس" لتاهت فخرًا على الثغور، وباهت بيوم موته أيامها في غابرات العصور، ومحت بهذه المنقبة جميع ما وسمها به الشعراء من شين، ووصموها به من نقص.
ولو مات بأية بقعة من أرض الجزائر لكانت هي تونس نضرة واخضرارًا، ولاكْتسبت الجزائر بجميع أقطارها شرفًا ممن مات ميتة الشرف فيها، ولقبست معاني عالية من الفداء والتضحية بعُد عهدُها، ولفغمتها نفحة ساطعة من عزّ الإمارة حُرمتها الأنوف الشمّ من أبنائها منذ أيام عبد القادر، ولتسمَّعت نغمةً ساحرة عطلت آذانها منها من عهد عهيد.
إي والله، لو مات المنصف في الجزائر لمات في وطنه، وبين أهله، وفي أمة وفية متعطشّة للعزّ والسيادة، مستشرفة إلى حيث تنقطع علائق الطموح، لا يقل تقديرها للعظماء أمثال الفقيد عن تقدير أختها تونس لهم، ولا يقصر فهمها لمعاني العظمة في الرجال عن فهم أختها تونس لها، ولكنه مات بـ"بو"، في دار غير داره ووطن غير وطنه وناس غير ناسه، لم يستنشق مع حشرجة الموت نفسًا من أنفاس وطنه العزيز، الذي لقي الأذى في سبيله، إلى أن مات في سبيله، ولم يكتحل عند إغماضة الموت بمنظر من تلك المناظر التي كانت هوى قلبه، وشغل خواطره، وصبابة نفسه، ولم يتجرّع مع غصة الموت نطفة من ذلك الماء الذي كان يحمي حوضَه، وبُحرّم على المكدرين خوضه.
وما زالت الموارد للحتوف موارد، وما زالت الدنايا تُحلي المنايا! وما زالت الأوطان محتاجةً إلى هذا النوع السامي من الهمم والعزائم، وإلى هذا الطراز العالي من الرجال، وإلى هذا النوع اللطيف من أنواع الموت! وإلى هذه الدماء الزكية التي تثعب حمراء كالحرية، نقيّة كعقيدة الحق، تجري فتكتسحُ ما في نفوس الأمم من خور وفسولة.
إن موت العظماء حياة لأممهم، فإن كانت في الغربة زادت جلالًا، فإن كانت نتيجة للظلم زادت جمالًا، فإن كانت في سبيل الوطن كانت جلالًا وجمالًا، فإن صحبها سلب العز والملك كانت حلية وكمالًا، وكل ذلك اجتمع في موت المنصف.
مات نابليون غريبًا في جزيرة القديسة "هيلانة"، ونابليون ممن زادوا في تاريخ فرنسا
__________
1) الأغواط واحة جميلة في الجنوب الجزائري، اختارتها فرنسا منفى للمنصف، ثم نقلته منها إلى مدينة "تنس" الواقعة على شاطئ البحر غربي مدينة الجزائر، ثم نقلته إلى قرية "بو" بالجنوب الغربي لفرنسا.(3/556)
صحائف بيضاء، وفي مجدها الحربي أساطين رفيعة، فما كانت موتته الغريبة ثلمة في فرنسا، لأنه مات وفرنسا بيد الفرنسيين.
ومات عبد الحميد أسيرًا في سجنه- وعبد الحميد أكثر أسماء الخلفاء سيرورةً على الأفواه- فما بكت عليه سماء ولا أرض، لأنه مات وتركيا بيد الأتراك.
ومات غيرهما من الملوك والعظماء في غربة وظلم، فكان من ورائهم ما يخفّف الفجيعة فيهم، ويلأم ببعض العزاء ما تصدع بموتهم.
ولكن ... ولكن موت المنصف في قرية نائية من قرى فرنسا- غريبًا عن وطنه وأمّته، مظلومًا في عرشه وملكه، مسلوب التاج، مخفور الذمام- مصيبة يزيد في معناها الشنيع معنى، وهو: أنه مات وتونس ليست للتونسيين!! وأنه مات وتونس ليست طليقة، وهي بالانطلاق خليقة!
...
عزاء للوطن المفجوع فيك يا منصف، وسلوى للقلوب المكلومة بموتك- وما أكثرها- يا منصف! وجزاء تلقاه في هذه الدنيا طيبَ ذكر، وعند ربّك ثمين ذخر، وهيهات أن تجزيك الجوازي من هذه الأمة التي نهجت لها نهج الكرامة، وشرعت لها سنن التضحية، ولقّنتها هذا الدرس السامي من الثبات والإباء والشمم، وعلّمتها كيف تموت الأسود جوعًا وظمأً، ولا تطعم الأذى، ولا ترد القذى.
...
جهد المقلّ يا منصف! ونظار حتى يعاود النشاط هذا القلم، وينحسر الركود عن هذه القريحة، وتنجلي غمرة الأسى، فيتوافى القلم والقريحة على تجلية العبر، من سيرة ليست كالسير.(3/557)
إلى الزاهري *
كتبتَ - أيها الشيخ- كثيرًا من الباطل، وسنكتب قليلًا من الحق، ولكنّ قليلنا لا يقال له قليل، ولو كنتَ وحدك ... تكتب بقلمك، وتقول بلسانك، وتعبّر عن فكرك،
لأوليناك جانب الإهمال، وسكتنا عنك طول العمر كما سكتنا عنك في ماضيك القريب، وفي ماضيك البعيد احتقارًا لشأنك، واستهانة بما أهان الله منك، وربّما عذرناك في مجانبتك للصدق بأنك لا تعرفه، وإنما يؤاخذ الإنسان بترك ما عرف، وربّما أثنينا عليك بالوفاء للصاحب الذي صاحبك منذ عققت التمائم، وهو الكذب، وباستقامتك على الجبلة التي جُبلت عليها، وهي الشر، وبالموهبة التي خُصصت بها، وهي البراعة في قلب الحقائق، وربّما رحمناك من هذه النار التي تصلاها، وهي نار الحقد. ومعذرة ... فإن من الميسور أن نُطفئ النار ذات الوقود، وليس من الممكن أن نُطفئ الحقد من صدر الحقود. وهنيئًا لك هذا الذوق اللطيف في أخذك بأحد بيتي ابن الرومي في الحقد، وهي قوله:
وما الحقد إلا توأمُ الشكر في الفتى … وبعضُ السجايا ينتمين إلى بعض
وتركُك للبيت الثاني وهو قوله:
فحيث تَرى حقدًا على ذي إساءة … فثم تَرى شكرًا على أحسن القرض
فلم تقصر حقدك على من أساء إليك، ولم تشكُر من أقرضك القرض الحسن، واسترحت من حيث تعب الكرام.
وإذا فهمنا مذهب ابن الرومي كما فهمته، فكل هذه الخصال البارزة فيك فضائل، وآمنَّا وسلَّمنا وقلنا: سبحان المنعم الوهّاب.
__________
* نشرت في العدد 61 من جريدة «البصائر»، 27 ديسمبر سنة 1948.(3/558)
ولكن شأننا اليوم مع هذا الشبح الذي تختفي وراءه حينًا، ويختفي وراءك حينًا آخر، فقد تشابهتما وتشاكل الأمر. وقد انعقد بينكما نوع غريب من الحلول، لم يُعرف في جاهلية ولا إسلام. فأنت تتكلم باسمه، ولستَ إياه. وهو يتكلم باسمك، وليس إياك. ليجد كل واحد منكما في صاحبه ملتحدًا يدفع عنه المسؤولية، ويحمل عنه التبعة احتيالًا ومكر السيئ، ثم تبوءان بالسلامة معًا.
إننا إن أخذنا بمذهب الفقهاء عاملناك بما قالوه في المتسبّب في الجريمة والمباشر لها. وإن أخذنا بمذهب الأدباء، عاملناك بما تُسلمه معنا، وهو أن قائل الشر هو الشاعر الإنسي، لا رئيّه الجنيّ. ولا والله لا نبرح هذه المرة حتى نهدم الصومعة على رأس الراهب. فإن بيت الله- في جلاله- لا يجير عاصيًا ولا فارًّا بخَرْبة، وما كانت صومعتكم بيت الله، ولا كان راهبكم أبا عزّة في قومه ...
أفتظن- يا شيخ- أنك استعذت من هذا الشبح بمعاذ؟ أم يظن هذا الشبح أنه تقلَّد من قلمك سيفًا من فولاذ؟ وما هو إلا سيف أبي حية، ولو سمّيته- كما سمّاه- لعاب المنية.
إنك وذلك الشبح تعيشان في بقيّة من التقية. ولو كنتما صريحين لقلتما لنا ما هو الحق: أأنت مدير أم مُدار؟ وأنت المكتري أم صاحب الدار؟ ولبيَّنَ لنا ذلك الشبح منزلتك عنده: أأنت عبد مأمور، كما يقول بعض الناس؟ أم أنت عامل مأجور، كما يقول آخرون؟ ... إن أرذلَ الرجال، من يتطرف إليه مثلُ هذا الاحتمال؛ أما الحقيقة فهي أنكما شَرِيكَان في جريمة السب والكذب وقلب الحقائق: منك الألفاظ لمكانك في الكتابة، ومنهم المعاني لمنزلتهم في الأمية والتعجرف. أمّا تلك الأسماء، التي تُنعِل بها بعض كلماتك، فاغرُرْ بهما من لا يعرفك ولا يعرفها ... إننا لم ننسَ يوم كنت تنسب مقالاتك في "الوفاق" إلى الأستاذ "بوشاقور" والأستاذ "بوشنتوف" والناس كلهم يعرفون من هما، وما هي دركتهما في الأمية. ولو صحّ فألك واشتق من الكاتب الواحد كُتّاب، كما اشتقّ من اللفظ ألفاظ، لامتلأت الجزائر بالأساتذة والكتّاب؛ ولكذبت الإحصاءات الرسمية في عدد الكاتبين والأميين بهذا القطر؛ ورحم الله أهل الحياء.
وأما قول أحد أسيادك في تصريح له بجريدة "الأسبوع": "إن جريدة الزاهري تناصر حركتنا" فهو سبّة لك ولحركته معًا. ولولا أن تقول- كعادتك- إن هذه وشاية بين متحابين، لشرحنا لك المنطوق من تلك الكلمة والمفهوم.
ونحن نتمنّى لكما دوام الألفة والمحبة، وندعو لكما بذلك؛ وإن كانت أمنية لمحال، ودعاءً في ضلال، فما عهدناك تصبر على طعام واحد، وما عهدنا أسيادك يسقون الشجرة بعد جَنْي الثمرة.(3/559)
إن أسيادك- يا شيخ- بارعون في استغلال المواهب والكفاءات والاختصاصات. ولو كنت من أصحاب المبادئ الثابتة لما صحبوك ساعةً من نهار. ولكنهم يستغلّون- إلى حين- اختصاصك في السب والكذب والبهت. وتستغلّ أنت- إلى حين- جندَهم المسخّر لبيع "المغرب العربي" (وما أكثر باعة المغرب العربيّ فيهم)، ولعلّك أعجبك منهم أنهم قوم محظوظون في الزعامة، فطمعت أن تصبح زعيمًا بالمجاورة أو التوهّم كما قالوا في "جحر ضب خرب"، وفاتك أنّ شروط الزعامة عندهم أربعة، وأنت لا تملك منها إلا واحدة ...
...
قد كان يَسعُنا أيها الشيخ أن نعمر سنتنا بالأعمال، وتعمرون سنتكم بالأقوال، فإذا جاء رأس السنة وحلّ وقت الحصاد، قلنا: هذه أعمالنا، وقلتم: هذه أقوالنا، وعرضنا البضاعتين على الأمة لتنظر وتحكم أيتهما أزكى طعامًا، وأعظم عائدة، ثم قلنا لكم: سلام عليكم، وكل عام وأنتم سبّابون عيّابون كذّابون، ورجع كل منا إلى ما يُسر له، وكان يسعنا أن نبدأ من هذه السنة فنعفيكم من السنوات الماضية من تاريخكم التي هي سنوات مغسولة، لا نقطة فيها ولا حرف. وإذا وُضِعت الأعمال في كفة والأقوال في كفة، وهبط الثقيل وارتفع الخفيف، علّل الفارغون أنفسهم بأن ارتفاع الفارغ ارتفاع، وقد شهد الناس بأنه ارتفاع، وكفى. أهذا هو المنطق أيها القوم؟
كان يسعنا هذا، وكان مما ركب في طباعنا هذا، ولأجله سكتنا على تحرشكم المستمرّ سنوات، وفي استطاعتنا أن نسكتَ سنوات أخرى لو أنكم اقتصرتم على السب والكذب اللذين يهدمان صاحبهما قبل أن يهدم بهما الناس، ولكنكم أقمتم لنا الدلائل من أقوالكم وأعمالكم على أنكم تحاربون العلم والدين بسبّ العلماء، وتحاربون التعليم بإفساد المعلمين وأنكم تصدُرون في ذلك عن عمد وإصرار. وأن لكم خطةً مرسومة في الاستيلاء على جميع المشاريع بقصد إفسادها وتعطيلها لأنكم لا تحسنون تسييرها. كل ذلك ليخلو لكم وجه الأمة، وتحلو لكم أموالها، وإن هذه المقاصد منكم لم تبقَ خافيةً حتى على الصبيان.
إنكم أصبحتم كأصنام البابليين التي قال فيها إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}، ولو كان إضلالًا في السياسة لهان الأمر ولكنكم جاوزتم إلى ميادين ليست من اختصاصكم، وتقحَّمتم في مسالك لا تحسنون السير فيها، وافتضحت نيّاتكم المبيتة فاحوجتمونا إلى هذا، وإنكم لتعلمون أن فتح هذا الباب لا يعود بالخير علينا ولا عليكم، ولا على الوطن الذي أكثرتم في التدجيل على الأمة باسمه. ومن لنا بالدليل على أنكم مخيَّرون لا مسيّرون؟
***(3/560)
ويحك- يا شيخ- وويح أسيادك. أكلّ هذا الجهد الذي تبذلونه في حرب جمعية العلماء، معدود عندكم من خدمة الوطن؟ أكل هذا الاسم الواسع الذي انتحلتموه لجريدتكم لم يتّسع إلا للتحرّش بجمعية العلماء والتعريض بها وبرجالها؟
إن "المغرب العربي" محتاج إلى غير هذا، وإن كلَّ جزء من أجزائه في حاجة شديدة إلى جمعية كجمعية العلماء ورجال كرجالها، فإذا طوّعت لكم أنفسكم أن تكونوا سبةً على هذا الجزء من المغرب، فلا تكونوا سبةً على بقية الأجزاء، ونزِّلوا أنفسكم منزلة ذلك الذي كان يحلف بالقرآن وهو لا يحفظ إلا ربعه، فقال له قائل: "احلف بربعك" ... أم تظنون أن سكّان المغربين، الأقصى والأدنى، يصدقونكم إذا قلتم: إن جمعية العلماء تخدم الاستعمار؟ أتظنونهم يتركون يقينهم لافترائكم؟ وهم يكادون يطيرون إعجابًا بأعمالها وحملاتها الصادقة على الاستعمار.
ويحك وويح أسيادك ... فارقتم الحياء فراق الأبد، فتحالفتم مع الاستعمار على حرب جمعية العلماء، وركبتم كل عظيمة من المباهتة وقلب الحقائق وإلصاق كل نقيصة فيكم بنا، فهل أمنتم منا أن نجاريكم فنخلع الحياء شهرًا من السنة أو يومًا من الشهر أو ساعة من اليوم فنرميكم بأحجاركم؟
لقد كنتم تسبوننا بألسنتكم في المقاهي ومجالس السوء، وتلقّنون صبيانكم سبّنا، حتى أصبحت أفواههم مستنقعات ... فلم يُقنعكم ذلك لأنه سبٌّ بالمجان، فارتقيتم إلى سبّنا بالكتابة لتّتخذوا منها سلعةً للبيع، ووسيلة لجمع المال. وتضيفوا إلى الهلال الأحمر هلالًا أسود ... ومن الغريب المضحك أنكم تعتمدون في بيع السب على السب، فقد شهد العقلاء أن تسعة أعشار جريدتكم لا تُباع إلا بالسب والتخويف والتهديد وما يُشبه الإكراه، وأن العشر العاشر فقط يباع بالتغليط والتضليل (وعلى النيف) (1). إن هذه لحقيقة لا تستطيعون إنكارها وتكذيبها إلا بالعمل. ولو فعلتم وتركتم بيعها للرغبة والاختيار- كما تباع الجرائد- لأفلست في أسبوع، فجرّبوا إن كنتم منصفين.
أيها القوم: إن الوطن الذي تتوقّف خدمته على بيع السب والكذب لوطن مخذول سلفًا؛ وإن الحزب الذي يريد أن يكملَ بتنقيص غيره لحزب ناقص أبدًا، وإن السياسة التي تغذّى بمثل هذه المطاعم لسياسة ميتة ... بالجوع.
...
__________
1) وعلى النِّيفْ: النِّيف هو الأنف، أي حَمِيَّة.(3/561)
أتذكر- يا شيخ- ماضيك الصحافي، وصحائفك الماضية التي تهاوت في مثل عمر الزهر، من "الجزائر"، إلى "البرق"، إلى "الوفاق"، وقد ماتت كلها بالهزال والتسمّم. ولو كانت مما ينفع الناس لمكثت في الأرض، فاحتفظ بما بقي من أعدادها، فسيحتاج الناس إلى ما فيها يوم ينكس الله طباعهم، ويطمس على بصائرهم، فيصبح السب والكذب عندهم من الفنون الجميلة، فيشيدون المعاهد العالية لتعلّمها، ويقتبسون النماذج الرفيعة من تلك الجرائد.
أتذكُر يوم ضاقت بك الحيل فعرضت همّتك وذمّتك وقلمك في المزاد العلني فكنّا أزهد المشترين فيك؟ كن شريفًا ولو لحظة من عمرك واعترف بهذه الحقيقة. ألم ننصحك نصيحة لو أحيا الله أبويك لما نصحاك بمثلها؟ ولكنها ضاعت كما تضيع المِنّة عند غير شاكر. ألم تفترص الفرصة حين خاطبناك في صندوق الحروف الذي تملكه لنطبع به «البصائر»، بالبيع أو بالكراء، فأخذت منّا عشرة آلاف فرنك لتفكّ بها رهن الصندوق من الطابع الإسباني، وكنت عاجزًا عن فكّه بستة آلاف فرنك؟ فلما حصلت عليه اشتططت وشرطت قرض مائتي ألف فرنك في مقابلة كراء الحروف، فلما يئست منا عرضت نفسك على دكتوريْن لهما ماضٍ عريق في خيانة الوطن لتخدم ركابهما وتزكيهما في الخيانة، في مقابل قناطير من الورق منَّياك بها، فلما لمناك على ذلك قلت لنا بالحرف: "ما نكذبش عليكم، أنا نتبع مصلحتي المادية حيثما كانت" والجملة الأولى هي لازمتك المعروفة عند جميع الناس، وهي لازمة كل كذّاب، إذ لا يكثر من نفي الشيء إلا المتّصف به، ثم كنت متشوّفًا إلى خدمة مَن تُسمّيهم اليوم باللائكيين، ولو أعاروك التفاتة، أو أشاروا إليك بغمزة، لكنت اليوم من عبيدهم المطيعين، ولكانت اللائكية، في نظرك ملائكية، ثم عرّجت على الشيوعيين، ولهم معك ماضٍ معروف، فوجدتهم أيقاظًا، ذاكرين لذلك العهد، مثنين عليك بمثل ريح الجورب، ولوآنستَ في ذلك العهد من جانب الطرُقيّة نارًا، لقلت في غير تردّد: إني أجد على هذه النار هدى. ثم وقع بك الحظ على هؤلاء القوم أو وقع بهم عليك، وهم لم ينسوا ماضيك معهم، وإنما يتناسونه لأمر ستنجلي عنه الغيابة، يوم ينكفئ القدر بما فيه من صبابة. فهل فكّرت بعد هذه الأطوار أن تستقلّ بجريدة لا تناصر بها حركة ولا سكونًا، ولا تعتمد فيها على شخص ولا على حزب؟ وهيهات ... إننا نقامرك - مع الأسف- بما شئت من المال الذي تتحلّب شفتاك شوقًا إليه، وتحسدنا على جمعه وتفريقه، وتتساءل في حيرة المشتاق: أين يذهب هذا المال؟ نقامرُك على أن تصدر جريدة ليس عليها إلا اسمك ووسمك، وليس لها اعتماد إلا على قيمتك الشخصية وسمعتك الاجتماعية، فإن راجت المائة الأولى من العدد الأول قمنا لك بالشرط وإن ثقل، وبؤت بفائدتين: المال ومعرفة أين ذهب بعض المال.(3/562)
أيها الشيخ:
"إن البلاء موكل بالنطق"، وإن من قال كل ما يُحبّ، سمع بعض ما يكره. وإن من اشتغل بالناس، يوشك أن يشغله الناس عن نفسه. وإنك ستتجنّى وتتّهم وتتعنّت وتذهب في التأويل كل مذهب، ولكنَّك لا تأتي بشيء جديد، فكل ما تقوله غدًا قد قلته أمس مكررًا ومعادًا، وأنت امرؤ بادي المقاتل لخصومك، بادي الهنات لأصدقائك، ومن كان مثلك لم يَضر عدوًّا، ولم يسرّ صديقًا.
هذا بعض حقّك علينا أدّيناه معذورين، أما حقُّ أصحابك فسنؤدّيه معذورين ومشكورين.(3/563)
من نفحات الشرق
الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
علم من أعلام الإسلام، وإمام من أئمة السلفية الحقّة، دقيق الفهم لأسرار الكتاب والسنّة، واسع الاطّلاع على آراء المفسّرين والمحدثين، سديد البحث في تلك الآراء، أصوليّ النزعة في الموازنة والترجيح بينها، ثم له- بعدُ- رأيه الخاص. يوافق ما يوافق عن دليل، ويخالف ما يخالف إلى صواب، لأنه مستكمل للأدوات المؤهلة لذلك، ولأنه يفهم القرآن على أنه أصل ترجع إليه الآراء والمذاهب والفهوم، وأنه كتاب الكون، ودستور الإنسانية، لا كما يفهمه كثير ممن كتبوا في التفسير. فجرّدوا أقلامهم لتسطير أفهام غيرهم، وجرّدوا القرآن من خصائصه العليا، وقيّدوا هدايته العامة بمذاهبهم الخاصّة.
والأستاذ البيطار مجموعة فضائل، ما شئت أن تراه في عالم مسلم من خُلق فاضل إلا رأيته فيه، مجاوز للحدود المذهبية والإقليمية، يزِن هذه المذاهب الشائعة بآثارها في الأمة، لا بأقدار الأئمة، ويعطي كُلًّا ما يستحق، جريء على قولة الحق في العلميات، ولكن الجرأة منه يلطفها الوقار، والوقار فيه تزيّنه الجرأة، فيأتي من ذلك مزاج خُلقي لطيف، متساوي الأجزاء، مُلتحم الخلايا، قل أن تجده في أحد من علمائنا المعدودين.
والأستاذ البيطار مفكّر عميق التفكير، وخصوصًا في أحوال المسلمين، بصير بعللهم وأدوائهم، طَبٌّ بعلاجهم ودوائهم؛ يرى أن ذهاب ربحهم من ذهاب أخلاقهم، وأن معظم بلائهم آتٍ من كبرائهم وأمرائهم وعلمائهم، وهو يعني كبراء الدعوى، وأمراء السوء، وعلماء التقليد. يرجع في ذلك كله إلى استقلال في الفهم والاستدلال، ومقارنات في التاريخ والاجتماع، وتطبيقات مصيبة للحقائق الدينية على السنن الكونية، وله في الإصلاح الديني سلف صدق، حقّقوه علمًا، وطبّقوه عملًا. يعتمد في تحصيله وتربيته على طودَيْن شامخين من أطواد
__________
* نشرت في العدد 64 من جريدة «البصائر»، 24 جانفي سنة 1949.(3/564)
العلم والعمل: أحدهما الإمام عبد الرازق البيطار، والثاني الإمام المحدّث جمال الدين القاسمي، عنهما أخذ، وفي كنفهما نشأ، وعلى يدهما تخرّج. فجاء عالمًا من ذلك الطراز الذي نقرأه في التراجم، ولا نجده فيمن تقع عليه العين من هؤلاء العلماء الذين يقرأون ويحفظون وينقلون، ولكنهم لا يفقهون ... هذا العديد المتشابه الذي كأنه نُسخ من طبعة واحدة من كتاب، لا يقع التحريف في واحدة منها إلا وقع في جميعها، ولا يزيد واحد منهم في العدد إلا كما يزيد كتاب في مكتبة، لا كما يزيد فارس في كتيبة، بآية أنهم ما كثروا في الأمة إلا قلّت بهم الأمة، ولا ثقلوا في أنفسهم إلا خف وزنها في الأمم، ولا تغالوا في التعاظم إلا كان ذلك نقصًا من معاني العظمة فيها، وبآية أن علمهم لم يؤهّلهم لقيادة الأمة، فتركوا القيادة لغيرهم، وأصبحوا كأدوات التصدير التي يسبقها حرف الجر، فيدخل عليها ولا يعمل فيها، وبآية أنّ العالم في أوربا لا يعدّ عالمًا إلا إذا زاد في العلم شيئًا، أو كشف من خفيِّه شيئًا، أو جلا من غامضه شيئًا. ونفض- مع ذلك- على العلم من روح زمنه شيئًا؛ ولا عجب ... فالعلم عندهم ياقوتة في منجم، وعندنا ... لفظة في معجم، والأولى تستخرج بالبحث والإلحاح، والثانية تستخرج بمعرفة الاصطلاح، والأولى حظ المجتهد العامل، والثانية حظ المقلّد الخامل.
بدء معرفتي به:
خرجتُ من المدينة- فيمن خرج- إلى دمشق في أخريات سنة ست عشرة ميلادية، وكنت أتمنى لو أن دواعي ذلك الخروج كانت تقدمت ببضع سنوات لأدرك الإمامين اللذين كانت لهما في نفسي مكانة، وهما عبد الرزّاق البيطار وجمال الدين القاسمي. وكنت- وأنا بالمدينة- قرأتُ للقاسمي عدة كتب عرفت منها قيمته ومنزلته، وقرأت عن البيطار وسمعتُ ما دلّني عليه وأدناني منه.
وفي أول اندلاع الثورة الشريفية قدم المدينة من دمشق جندي شاب من آل المارديني، وتعرّف إليّ في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، وتردّد على دروسي مرات في الحرم النبوي، فانعقدت بيننا ألفة روحية لا تأتي بمثلها الأسباب، وذلك الشاب شقيق الاستاذ جودت المارديني، ولأسرة المارديني بدمشق صلة متينة بأسرتَي القاسمي والبيطار. فكنت أسأله عما يهمُّني من دمشق وأحوالها وعلمائها، وعن القاسمي والبيطار. كأن هاتفًا من وراء الغيب القى إليَّ أنني سأرحل إلى دمشق. فأخبرني ذلك الشاب أن الله تعالى أبقى من بيت البيطار وارثًا لعلم الإمامين ومشربهما في الإصلاح، هو الأستاذ محمد بهجة البيطار، وأن له من الشباب المحصل صحبًا قليلًا عددهم، يوافونه على الفكرة، ويلتقون معه على المبدإ، وأنه هو إمامهم ومرجعهم، فشوَّقني حديث الشاب إلى الاستاذ، وعلمتُ أن الروحين تعارفتا، فائتلفتا، ولم يبق إلا تعارف الأجساد.(3/565)
ثم رجع الشاب إلى دمشق فأخبر الأستاذ عني بمثل ما أخبرني عنه، فتمّ التجاوب الروحاني بيننا، وتنادت الروابط الفكرية إلى الاجتماع فكان.
ولما دخلت دمشق بعد ذلك بقليل، كان أول من زارني- بعد كرام الجالية الجزائرية- من أصدقائي السوريين الذين عرفوني بالمدينة المنوّرة: الأستاذ عبد القادر الخطيب المظفر، وذلك الشاب المارديني الذي أنساني الزمان اسمه وإن لم لينسني ذكراه، فكاد يطير فرحًا بمقدمي، وطار إلى أبناء المشرب، كما كان يسمّيهم، يؤذن فيهم بزيارتي فزاروني لأول مرة في رهط أذكر منهم شيخ الجماعة الأستاذ البيطار، والأستاذ عبد الحكيم الطرابلسي، والأستاذ جودت المارديني، والأستاذان قاسم ورضا القاسميين والأستاذ سعيد الغزي، والأستاذ عبد القادر المبارك، وكان بيننا في لحظة ما يكون بين إخوان الصفا وإخوان الصبا من تأكُّد المحبة وارتفاع الكلفة وسقوط التحفّظ. ثم تعاقبت الاجتماعات وانتظمت، واتّسقت أسباب اللقاء، واتّسعت آفاق البحث في الأسمار، وكثُر الصحب، وما منهم إلا السابق المغبر، والكاتب المحبر، واللسِن المعبّر، فكنّا لا نفترق من اجتماع إلا على موعد لاجتماع، وكان واسطة العقد في تلك المجالس الأستاذ الجليل والأخ الوفي الشيخ الأستاذ محمد الخضر حسين مدّ الله في حياته. ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلًا، فأشهدُ صادقًا أنها هي الواحة الخضراء في حياتي المجدبة، وأنها هي الجزء العامر، في عمري الغامر؛ وأني كنت فيها أقرّ عينًا وأسعد حالًا من ذلك الذي نزل على آل المهلب شاتيًا، فوجد الإدبار رائحًا والإقبال آليًا. ولا أكذب الله، فأنا قرير العين بأعمالي العلمية بهذا الوطن (الجزائر)، ولكن ... من لي فيه بصدر رحب، وصحب كأولئك الصحب؟
إن نسيت فلن أنسى ساعات كنت قضيتها في مكتبة آل القاسمي ممتعًا عيني وذهني في مخطوطات جمال الدين، ومسودات مباحثه في التفسير والحديث، وفي ذلك المخطوط الحافل الذي ما رأت عيني مثله في موضوعه، وهو كتاب "بدائع الغرف، في الصنائع والحِرف" لجدّه الشيخ محمد سعيد الحلّاق، أرّخ فيه لصناعات دمشق الجليلة التي أخنى الزمان على أكثرها، وجلا فيه صفحات من مجدها الصناعي البائد.
ويا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادتها الهوامع وسقت، وأفرغت فيها ما وسقت. وخصّت بالمثقلات الدوالح مجامع الأحباب، وأندية الأصحاب، من الصالحية والجسر والنير بين المزة والربوة. فكم كانت لنا فيها من مجالس، نتناقل فيها الأدب، ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية، على ود أصفى من بردى تصفق بالرحيق السلسل، ووفاء أثبت من أواسي قاسيون، وأرسى من ثهلان ذي الهضبات. لا توبَن في مجالسنا حرمة، ولا يُكلم عرض، ولا يقارف مأثم. وإنما هو الأدب، بلا جدب، نهصر أفنانه، والعلم، بلا ظلم،(3/566)
نطلق عنانه. والفن، بلا ضن، نروّق دنانه. والنادرة، بلا بادرة، نتلقفها. والنكتة، بلا سكتة، نتخطفها.
ويا تُربة الدحداح، بوركت من تربة، لا يذوق الغريب فيها مرارة الغربة. ولا زلت مسقطًا لرحمات الله. إنني أودعت ثراك أعزّ الناس عليّ: أبي وابني وجدَّي أولادي. فاحفظي الودائع إلى يوم تُجزى الصنائع.
ويا جنات الغوطة، وقراها المغبوطة، لا زلت مجلى الفطر، والحد الفاصل بين البدو والحضر، أشهد ما عشوتِ من الغرب إلى نار، ولا عشيت منه بنور. ولأنت التي تمسكين دمشق أن تميد، ومن فيها أن يميل. تبارك من رواك بسبعة أودية، وكساك من وشي آذار بخضر الأردية. كم فُتنتُ بمناظرك الشعرية، وأخذت بمجاليك السحرية، وكم تزوّدت عيناي فيك بروضة وغدير، وكم تمتّعت أذناي من جداولك وأشجارك بحفيف وهدير.
ويا يوم الوداع ما أقساك، وإن كنت لا أنساك. لا أنسى بعد ثلاثين سنة ولن أنسى ما حييت موقف الوداع بمحطة البرامكة والأستاذ الخضر يكفكف العبرات، وتلامذتي الأوفياء: جميل صليبا، وبديع المؤيد، ونسيب السكري، والأيوبي، يقدّمون إلي بخطوطهم كلمات في ورقات، ما زلت محتفظًا بها احتفاظ الشحيح بماله.
عهود لم يبق إلا ذكراها في النفس، وصداها في الجوانح، والحنينُ إليها في مجامع الأهواء من الفؤاد. ولولا أن السلوّ كالزمن يتقادم، وأن الهوى مع العقل يتصادم، لقلت مع المتنبي: أبُوكم آدم (1)! ... ولقد راجعتُ "مذكّراتي" المنقوشة في ذاكرتي فوجدتُها حافظة لتلك العهود بأيامها ولياليها وأحاديثها، فليت شعري أيذكر الأحياء من إخوان الصفا مثل ما أذكر؟ ذلك ما تكشف عنه رسالة الأخ الأستاذ محمد بهجة البيطار التي ننشر بعضها بعد هذه الكلمات. وهي التي أثارت هذه الذكريات في نفسي فكتبتها، ليعلم هذا الجيل الذي نقوم على تربيته أن في الدنيا بقايا من الوفاء والمحبة، تتماسك بها أجزاء هذا الكون الإنساني، وأنه لولا هذه البقايا لانحدر الإنسان إلى حيوانية عارمة كالتي بدت آثارها في الجماعات التي جفّت نفوسها من الوفاء والمحبة، فخلت من الإحسان والرحمة، فهوت بها المطامع، إلى ما يراه الرائي ويسمعه السامع. وإن منبت الوفاء الشرق، وإن زارعه وساقيه والقيّم عليه هو الإسلام، وعسى أن تحمل «البصائر» هذه الذكريات إلى الإخوان الأصفياء في دمشق فنتنادم على البُعد، ونلتقي على الذكريات، ونتناشد:
__________
1) يقول المتنبي في قصيدة شِعب بَوَّانٍ:
يَقُولُ بِشِعْبِ بَوَّانٍ حِصَانِي … أَعَنْ هَذَا يُسارُ إِلَى الطِّعانِ
أَبُوكُمْ آدَمٌ سَنَّ المَعَاصِي … وَعَلَّمَكُمْ مُفَارَقَةَ الجِنانِ(3/567)
إِنَّا عَلَى الْبِعَادِ وَالتَّفَرُّقِ … لَنَلْتَقِي بِالذِّكْرِ إِنْ لَمْ نَلْتَقِ
وعهدًا لأولئك الإخوان أني ما جفوت ولا غفوت، وأني لم أزل- منذ افترقنا- أتسقّط أخبارهم من الصحف ومن السفار، ولولا الهزاهز والفتن ما انقطع بيننا للصلة حبل.(3/568)
محمد خطاب *
إذا خلا الاسم من نعوت السيادة، وتجرّد أصله من حروف الزيادة، فصاحبه هو السيد، والصرح أملأ للعيون ممردًا، والسيف أرهب للنفوس مجرّدًا.
...
وأخونا محمد خطاب رجل من رجال الأعمال الذين لا يردّ نجاحهم فيها إلى الإرث، أو المصادفات والمغامرات؛ وإنما يردّ إلى العصامية، والبناء المتأنّي طبقًا عن طبق، ومماشاة العصر الجديد، في الأخذ بوسائل التجديد.
منقطع النظير من بين رجالنا في عدة خلال، لو تفرّقت عليهم ووجدت فيهم لنفعوا أنفسهم، وشرّفوا أوطانهم، فما شئت من حنكة وتدريب، وما شئت من خطًى واسعة في الاختيار والتجريب، وما شئت من نهزة وتشمير. لا تفوت معهما فرصة، وما شئت من ضبط للوقت لا تتجرعّ معه من التفريط غصّة، إلا وجدت كل ذلك فيه؛ شهد الزائرون لمزارعه الواسعة بالمغرب، التي يديرها بنفسه، ويُفيض عليها من عزيمته وذوقه الفنّي، أنها نموذج عال من الفن الراقي في الفلاحة، ومدرسة منظّمة يمارس فيها العملة المخلصون لأنفسهم من أساليب الزراعة والغراسة وآلات الفلح المتنوعة، كل مفيد نافع؛ وإنهم لكثرة ما يتعهدهم بالإحسان والنصح والتدريب يعتبرون أنفسهم شركاء وزملاء لا عملةً ومأجورين. وهذه هي نهاية ما تصل إليه النفوس من السموّ، والهمم من الكمال؛ وهذه أيضًا هي نهاية ما يصل إليه الإحسان، من الرضا والاطمئنان وسدّ منافذ الحسد والحقد، ولو أن أصحاب الأعمال الكبرى ساسوا العمال بمثل هذه السياسة، لما نشأت المشكلة الاجتماعية التي قسمت العالم إلى معسكرين متناحرين.
...
__________
* نُشرت في العدد 86 من جريدة «البصائر»، 11 جويلية سنة 1949.(3/569)
ومحمد خطاب من الأغنياء الذين يظهرون آثار نعمة الله عليهم، ويحصّنونها بالإحسان، فهو برّ بعماله، برّ بأمّته وبوطنه، وهو نابغة من نوابغ الإحسان، ما يتمنّى المتمنّي أن له به أمّة كاملة من هؤلاء الأغنياء الذين عنا الشاعر واحدًا منهم فعناهم جميعًا، إذ يقول:
يُمَارِسُ نَفْسًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَزَّةً … إِذَا هَمَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلَا
ففي ماله حقوق لله، يقسّمها على عيال الله، وفي ماله حقوق لأمّته، يقسّمها على مصالحها العامة، وفي ماله حقوق لوطنه الثاني كفاء لما أفاء عليه من خير، واعترافًا بما لبنيه عليه من فضل الأخوّة، وحقوق لوطنه الأول، بدأت بذوي القربى والأرحام، ورفقاء الصبا والملاعب، وانتهت عند المصالح العامة، والمشاريع النافعة، والكرماءُ المحسنون في الأمم من نفحات الله، ففيهم من آثار رحمته سمة. وعليهم من شمولها مسحة، وعندهم أن غاية المال محامده وفضائله، وأن ثمرته رفع الذكر، وإعلاء القدر، وأن ادخار صنائع المعروف خير من ادخار المال.
ومن اللطائف النفسية في المحسنين أن كل واحد منهم مولع بناحية من نواحي الإحسان، تغلب على طبعه فتكون مجلى لكرمه، ومنتهى لإحسانه، حتى تغطي على النواحي الأخرى، فقد عرفنا من حاضر التاريخ وغابره أن للمحسنين أذواقًا في الإحسان. وفي نفوسهم اتجاهات، معلّلة في الغالب بآثار تتركها المشاهدات والتأملات في أذهانهم وعقولهم، فبعضهم يقف إحسانه على نوع من البؤساء كاليتامى أو المرضى أو الفقراء، وبعضهم يقف إحسانه على المبادئ الفكرية أو الاجتماعية النافعة، وينتهي الشذوذ ببعضهم في الرحمة إلى أن يقف إحسانه على الحيوان الأعجم، يخفف من شقائه، أو يحافظ على بقائه.
وأخونا خطاب مولع- بعد الإحسان العام الذي فُطر عليه- بالإحسان إلى العلم وتعليمه. وقد ملكتْ عليه هذه الجهة هواه، وهام بها هيام المغرم المفتون، يفيض ذلك على لسانه وفي أحاديثه الخاصة والعامة، وإن هذا الاتجاه منه لأصدق دليل على قوّة التمييز، وحسن الاختيار لجوانب الخير التي يخصها المحسنون بإحسانهم، وجوانب الخير تتعدّد وتتشابه، فيقع اختيار المقلّدين السطحيين على أسهلها في المراس، وأخفّها في الحمل، وأقربها لمدح المادحين، ويختار المحسنون الصادقون أثقلها محملًا، وأعمّها إفادة، ولا يشك وطني صادق أن أنفع الأعمال لأمّتنا الجاهلة هو التعليم والإنقاذ من شرّ الأميّة، وأن ألف جائع تطعمهم، وألف عار تكسوهم، لا يغنون عن الأمّة غناءَ عشرة تلاميذ تعلّمهم تعليمًا نافعًا، وتربّيهم تربيةً صالحة.
***(3/570)
ولأخينا خطاب في إحسانه إلى التعليم فلسفة دقيقة تزيد في قيمته، وهي أنه لا يضع إحسانه إلا حيث يعتقد أنه يفيد وينفع، ولا يضعه إلا في الأيدي التي تحسن تصريفه، احتياطًا للإحسان أن يضيع في غير مفيد للأمّة، لأن لكل عمل ظواهر تغرّ، ودجلةً يستغلون، ولكل صاف من الحق مكدرات من الباطل، وهو يرى- مصيبًا- أن حركة جمعية العلماء هي أصدق الحركات القائمة بهذا الوطن. وأن رجالها هم أخلص الرجال العاملين لخير الوطن. وأن مبدأها هو أثبت المبادئ النابتة بهذا الوطن؛ لذلك آثر- من سنوات- أن تكون مبرّاته المالية للعلم والتعليم على يدها، فنذر مبلغًا من المال يدفعه مسانهة لرئيس جمعية العلماء، وهو يوزّعه- بالاتفاق مع المحسن الكريم- على أقرب وجوه التعليم إلى النفع، وقد كانت المبرّة في هذه السنة مضاعفة، وكان النفع بها مضاعفًا، نال منها معهد ابن باديس مائتا ألف فرنك، ومدرستي تونس لسكن الطلبة مائة وتسعون ألف فرنك، ومدرسة خطاب بالميلية (مسقط رأس المحسن) مائتا ألف فرنك، ونال جمعية بعثات جمعية العلماء إلى تونس مائة ألف فرنك وصلتها على أقساط، ومدرسة الفلاح بوهران خمسون ألف فرنك، ومدرسة الأمير عبد القادر بمعسكر خمسون ألف فرنك، وجريدة «البصائر» مائة ألف فرنك.
أما مدرستا تونس لسكن الطلبة فهما داران اكترتهما جمعية العلماء لتشارك بهما في تخفيف أزمة إسكان الطلبة وأوكلت التصرّف فيهما لوكيلها الأستاذ الشيخ الشاذلي بن القاضي. وقد كانت الجمعية تدفع ثمن كرائهما في كل سنة، ولكنها في هذه السنة وقعت في ضائقة سببها استنفاد المعهد الباديسي لجهودها المالية، فتأخّر دفع قيمة الكراء عن أجله أشهرًا، ولما علم بذلك هذا المحسن الكريم التزم أن يضاف إلى المبرّة ثمن كراء الدارين وقدره مائتا ألف وأربعون ألف فرنك للسنة، ليخفّف بذلك حملًا ناء به صندوق الجمعية، وليمهّد لها سبيل التفرّغ لمشاريعها الكثيرة.
وقد طلب هذا المحسن الكبير من رئيس جمعية العلماء أن يضع له قائمة جديدة بالمشاريع التي تدخل في المبرّة للسنة المقبلة، فوقع الاتفاق بينهما على المشاريع الآتية: مدرسة الفلاح بوهران، مدرسة الأمير عبد القادر الناشئة بمعسكر، مدرسة قنزات، مدرسة وجامع حيّ "سانت أوجين" بالجزائر، مدرسة وجامع حي "بيلكور" بالجزائر، وسينال كل مشروع حظه من المبرّة في شهر سبتمبر الآتي إن شاء الله.
مدّ الله في عمر الأخ الكريم، وزاده من فضله وخيره، وأسبغ عليه أردية الصحة والعافية، وجعله قدوة في الصالحات، وكفاه كيد الكائدين، وحسد الحاسدين.(3/571)
ولا يفوتنا تسجيل منقبة جديدة للأخ خطاب. فقد جرى- أيام زيارته لنا بالجزائر في الشهر الماضي- ذكر مدرسة ندرومة العظيمة التي شيّدت في هذه السنة بمساعي رئيس جمعية العلماء، وجهّزت منها خمسة أقسام، والعزائم معقودة على تشييد عشرة اقسام أخرى في السنتين الآتيتين. فذكر رئيس الجمعية دارًا ملاصقة للمدرسة، يملكها رجل ندرومي مقيم في المغرب، تصلح أن تضاف إلى المدرسة وتخصّص للبنات. فهزّت الأريحية هذا المحسن الأصيل، وتعهّد أن يشتريها من صاحبها- وهو صديقه- ويدفع ثمنها من ماله، ويهبها للمدرسة، مشاركة لأهل ندرومة الكرام فيما بنوا للعلم وشادوا.
...
إن الكاتب لتراجم الرجال، والمسجل لأعمالهم، معرّض للمبالغة وشهادة الزور فيما لهم وما عليهم؛ فقد يضفي عليهم أوصاف الكمال وهم عراة منها، وقد يجرّدهم منها استرسالًا مع الهوى، إلا الكاتب في تراجم المحسنين للعلم، والباذلين للصالح العام، فإنه مجبر على الاتصاف بالإنصاف، جبرًا لا اختيار معه؛ وكلما هم بزيغ أو جرى مع الهوى لفّه الإحسان بعجاجته، ورجع به إلى الإنصاف مكرهًا، ولإحساس العرب بتأثير الإحسان وسلطانه نحلوه صفات الملك والاستعباد.
وأخونا محمد خطاب من طراز يقل وجوده في الأمم، لا سيّما في مثل أمّتنا التي أفسد الجهل تربيتها، وأنساها حقوق الأخوّة، وحقوق الوطن، وحقوق المجتمع، فوجود رجل مثله فيها يكون حجة لها، وحجة عليها، وقد وُجد في زمن تأكّدت فيه حقوق المجتمع على علمائه وأغنيائه، وأشقى الأمم أمّة يجبن علماؤها، ويبخل أغنياؤها، وأشقى منها أمّة تغلط في موازين الرجال، وتضلّ عنها مواقعهم، وما يضلّها عنهم، وما يضلّهم عنها إلا المجرمون الغشاشون المتشبّهون بما ليس فيهم. وما أكثرهم في أمّتنا! ...
...
ونحن ممن لا يجازف بكلمة الوطنية، ولا يعبث بها، فيضعها في غير مواضعها، وينحلها حتى للخائنين بقصد، والخائنين بجهل؛ ولكننا نشرّفها ونضعها في المكان اللائق بها. وعندنا للوطنية موازين. فالوطني كل الوطني هو الذي ينفع وطنه بعمل، وأبناءَ وطنه بعلم: فالعامل المبرّز في الاقتصاد، المزاحم للغريب عن خيراته، الذائد له عن موارده وطني كامل الوطنية، وهذه الجيوش المرابطة في ثغور المدارس من المعلمين الذين ينزعون العصي من أيدي أبناء الأمّة، ويضعون فيها الأقلام، هم الوطنيون الصادقون؛ وهذا الفلاح المتقن(3/572)
لفلاحته، المجاري فيها للأوربي الدخيل، وطنيّ من الصميم، وهذا المتموّل الذي يضع ماله في قطعة أرض يحفظها ويحسن استغلالها، فينتفع وينفع أبناء جنسه، لا في مقهى يجمع الشبان على البطالة والمجانة وفساد الأخلاق وقتل الوقت بالهذر الفارغ، وطنيّ من الطراز الأول.
أما الأقوال بلا أعمال، والدعاوى بلا بيّنات، فاسم الإجرام بها أولى.
هذه سيرة رجل، ولكنها سجل عظات، ما أردنا بها مدحه، فما ذلك من عادتنا، وإنما سقناها ذكرى لمن يعد نفسه في الرجال، وليس له مثل هذه الأعمال.(3/573)
ذكرى مبارك الميلي *
لا يظلّنا يوم 9 فبراير الغربي، حتى تتجدّد لنا من أخينا العزيز ذكريات، تمدّها حسرات، تتبعها زفرات، فنذكر مكانه في الميدان وقد خلا منه، ونفتقد نفوسنا فنجدها ما سلت عنه، ونعوذ بالتجلد فيخذل، وبالنسيان فلا ينجد، ونعود إلى خمس من السنين نسألها: أما فيك وفي أحداثك التي ابتدأت بعد موت مبارك بثلاثة أشهر ما يذهل فينسي، أو يشغل فيسلي؟ فتقول: لا ...
...
وسنو الخطوب، كسنيّ الخصوب، متشابهة الأواخر بالأوائل، تنتهي كما تبتدئ، وقد طلعت علينا تلك السنة السوداء بالداهية الدهياء، وهي موت مبارك، فانتزعت منا فارسًا من الميدان، أحوج ما كنا إلى رأيه وعلمه، وغنائه وكفاءته، ثم انتصفت علينا بالصيلم الصلعاء وهي حادثة 8 ماي، ثم انتهت وإخوان العهد كلهم في غيابات السجون والمعتقلات، ثم توالت الخطوب، وتواترت الفتن، وامتحن هذا الوطن بأشنع ما تمتحن به الأوطان: نقص في الرجال، ونقض للعهود، وضلال في الرأي، واختلاف فيه، وبقيت هذه الفئة القليلة مزوّدة بإيمانها بالله، متكثرة بأعمالها للعلم، تلقى الجفاء والتنكّر من القريب، فتعتصم بالصبر، وتلقى الكيد والتربّص من الغريب، فتتحصّن بالثبات؛ وهي على ذلك إلى أن يفتح الله بينها وبين قومها بالحق، ويحكم بينها وبين خصمها بالعدل، وهو خير الفاتحين، وأحكم الحاكمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
...
__________
* نُشرت في العدد 109 من جريدة «البصائر»، 27 فيفري سنة 1950.(3/574)
ولكن هل أنصفنا أخانا مباركًا، وأنصفنا العلم معه إذا كان حظه منا بعد موته ذكريات تقام في كل عام، لا ذكرًا يتردّد في كل يوم، وكلمات عنه تقال فتذهب مع الريح أو تكتب فتدفن مع الأوراق؟ ذلك هو السؤال الذي كان يعتلج معناه في الصدور، وتختلج ألفاظه على الألسنة قبل أسبوعين، فقد كنت قبيل يوم الذكرى في جماعة من إخوان العهد، وأبناء الوفاء، نتذاكر في ذكرى هذه السنة، لأخينا مبارك، وما ينبغي أن نسلكه فيها من المسالك: آحتفالٌ يقام وخطب تلقى كالمعتاد؟ إن هذا تقليد مملول، أساء الناس تصريفه، وأساءوا التصرّف فيه، حتى أصبح لا يحرّك إحساسًا، ولا يثير عاطفة، ولا يهزّ شعورًا، ولا يأتي بخير، أصبح نوبة تعتاد، لا باعثًا يقتاد.
وتشعّب القول، فتشعّب الرأي حتى قال قائل حصيف: إن خير البر وأبقاه، وأحسن الذكر وأوقاه، ذلك الصنيع الجليل الذي أحيينا به ذكر عبد الحميد بن باديس، وإن المعهد لأبلغ من ألف خطبة تقال، وأسير من ألف مقالة تنشر، وأنفع للأمّة من ألف احتفال يقام، وأدلّ على الوفاء والاعتراف بالجميل لعبد الحميد بن باديس من ألف شاهد، فهلّا سلكنا في إحياء ذكر أخينا مبارك شِعبًا غير شعب الاحتفالات والمقالات؟ وهل عدلنا بأعمالنا وعظمائنا عن هذه المبتذلات؟ ...
وكانت هذه الكلمات الحصيفة التي تنطوي على رأي، وتحتوي على حكمة، مغيرةً للحديث من مجرى إلى مجرى، فبردتْ الحمية للاحتفال والخطب والمقالات، ورحنا ندير القول في الذكر الدائم، لا في الذكرى العابرة ...
...
إن لأخينا مبارك الميلي على «البصائر» حقًّا، فقد تولّى إدارتها فأحسن الإدارة، إلى أن عطّلتها الحرب الأخيرة، وأجال قلمه البليغ في ميادينها، فما قصر عن شأو، ولا كبا دون غاية، وهي كانت ميدانًا لنشر كتابه (الشرك ومظاهره) فصولًا، وجمعه كتابًا، ولكن ماذا عسى أن تقوم به «البصائر» في وفاء هذا الدين الذي عليها لمبارك الميلي؟ ... إن مقالةً أو مقالات تنشرها عنه في السنة- وهي كل ما تستطيع- لا تخلص ذمة، ولا تفي بدين، وإنما تملك «البصائر» التوجيه والإعداد.
وإن لأخينا مبارك الميلي على جمعية العلماء حقوقًا، فقد كان مرجعها يوم تحلولك المشكلات، وتضلّ الآراء، فيشرق عليها بالرأي كأنه فلق الصبح، وقد كان معقلها يوم تشتبه المسالك، وتكاد الأقدام تزلّ، فيثبت على الحق كالجبل الراسي، وكان منها بحيث لا يجترئ عنها مجترئ، ولا يفتري عليها مفتري، إلا رمته منه بالسيف الذي لا تنبو مضاربه.(3/575)
ويمينًا لولا ملازمة المرض الذي أودى به، وتأثيره في قوّته البدنية، وفي قوّته العقلية، لكان فلتةً في البطولة العلمية بهذا الوطن، كما كان آيةً في الذكاء ودقّة الفهم والجلد على البحث والاطلاع، وإنّ واجب جمعية العلماء في هذا النوع الطريف من إحياء ذكره ينحصر في ترويج الباقي من مؤلفاته المطبوعة، وإعادة طبعها طبعًا فنيًّا مصحّحًا، وإتمام تاريخه للجزائر.
وإن لأخينا مبارك الميلي على الأمّة الجزائرية حقوقًا بما علّم وكتب، وبما نصح وأرشد، وبما ردّ على الدين من عوادي المبتدعين، وبما وقف من مواقف في الإصلاح الديني والدنيوي. فمن وفائها له، ومن أدائها لبعض حقه، أن تنشط جمعية العلماءِ على إقامة معهد ثان بعاصمة الجزائر تطلق عليه اسم مبارك الميلي، وتحصي به ذكره، وتخدم به لغتها ودينها، وتخطو به في العلم خطوة للأمام.
هذه معان لما دار في ذلك المجلس، نعرض مقدّماته مسلمةً مقبولة، ونُلزم جمعية العلماء والأمّة بالتفكير في تحقيق النتائج.(3/576)
ثناء كعرف الطيب ... *
"أثارة من أعمال رابح الفرقاني"
ــــــــــــــــــــــــــــــ
في الشعراء مسلم، وفي المحدّثين مسلم، ولا أدري أي باعث من البواعث التي تعتلج في النفس، أذكرني الساعة ببيت من ديوان مسلم بن الوليد، ولم يذكرني بحديث من صحيح مسلم بن الحجّاج.
إن ألوان النفس لغريبة، وان سلطان الخواطر عليها لنافذ، وإن تأثّر النفس الشاعرة بالشعر لأدنى إلى طبيعتها، وأسرع نفاذًا إلى سرائرها، أو لا ... فما الذي طاف بنفس حزينة مطمئنة إلى الايمان بالقدر، مرتقية من الإيمان به إلى الرضى به، فيطير بها من حديث: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"، مثلًا، ويقع بها على قول الشاعر: "ثناءٌ كعرف الطيب يهدى لأهله" ثم يقف بها عند هذا المصراع لا يتعداه، ولا يسمح لها أن تتعدّاه، مع حفظها له ولما قبله، وإيداعها إياه في الحافظة التي لا تضيع ولا تخون.
النفس نفسي ... إن زكيتها فما أنا عليها بالمتهم، وان دسيتها فما غيري عنها بالمسؤول، وإن ذكرتها بما فيها فما ضررت الناس ولا نفعتهم، وأنا لا أتهم نفسي بقسوة، ولا أزن طبعي بجفاء، ولا أدفعها عن رقّة وحنان ورحمة، وأشهد، لقد خلقت رقيق الإحساس، سليم دواعي الصدر، سريع الاستجابة إلى التسامح والإغضاء، رحيمًا بالبائسين، شفيقًا عليهم، مسعدًا لهم بما أملك من لسان ثرّ، وجاه نزر، ولا أذكر المال، ولا- والله- ما تأثّرتْ نفسي في حياتي الحافلة بالأحداث تأثّرين متباينين، لمؤثرين متقابلين، مثل ما تأثرتْ في هذه الأيام: تأثّر الحزن المكتوم لحادثة فاس (1) التي ذهبت بطائفة من شبابنا،
__________
* نُشرت في العدد 109 من جريدة «البصائر»، 27 فيفري سنة 1950.
1) حادث مريع: سقطت دار يسكن فيها طلبتنا الذي يدرسون العلم بمدينة فاس فماتوا ومات معهم فاضل جزائري نائب عنا في تفقّد أحوالهم المعاشية.(3/577)
وبرجل فذّ من رجال العمل المنظّم فينا؛ وتأثّر الارتياح والرضى المستعلن لمبرّة المحسنين من آل السبتي.
أهو خلل في المزاج يصوّر التافه خطيرًا، ويُصير الجهام مطيرًا؟ أم هو طول العشرة للأيام يسوّل للنفس، ويهوّل على الحسّ؟ أم هو التطوّر، يفسد التصوّر؟ أم هي روحة من هواء الجبال التي تبدّت في الصبا، وتندّت بالصَّبا؟ أم هي لمحة من الأجداد الأشاوس، الذين اختطوا "المحمدية" و "نقاوس" (2)؟ لا أدري ... ولو شئت لدريت أن هذا الأخير، غير جدير بالتأخير ... من الكوارث ما يُطلق الألسنة فتندفع في التصوير والتهويل، أو في التخفيف والتقليل، إلى غير حدّ في ذلك كله، تبعث الأسى والشجى في النفوس، أو تبعث العزاءَ والسلوى إليها ... وإن منها لما يرمي الألسنة بالحصر، ويُشرج الحنايا على الغمّ، ويطوي الوجوه على الوجوم.
وإن كارثة فاس لمن النوع الثاني، وكلما لاءم النسيان جرحها، نكأت الذكرى ترحها، وعني أحدّثكم، فقد بلغني خبرها بعد أيام من وقوعها، لبعدي عن مواقع الأخبار، وانقطاعي في مطارح الأسفار، فكأنني صعقت لهول الحادث وفظاعته، ولم أحتمل سماع تفاصيل الحادثة ممن سمعها من المذياع، أو قرأها في الصحف، وبقيتُ على تلك الحالة من التأثر، لا أستسيغ إعادة أخبارها، ولا أنشط لكتابة كلمة عنها إذا حاولت ذلك، حتى أفضتْ بي تلك الحالة إلى نوع من سوء الأدب لست بأهله، ونمط من التقصير في الواجب ليس لي بعادة.
بقيتُ على تلك الحالة التي لم أعهدها من نفسي، ولم يعهدها الملابسون لي مني، حتى سمعت خبر إحسان الأخوين الكريمين: الحاج عمر السبتي، والحاج محمد السبتي، وتكرُّمهما بدار كاملة المرافق على الطلبة الجزائريين المهاجرين في طلب العلم بفاس، فكأنما نشطت من عقال وكأنما مسح ذلك الخبر كل ما ألمّ بنفسي من حزن، وإن هذا ليس بغريب من آثار الإحسان في النفوس؛ ونشطت بعد ذلك لكتابة هذه الكلمة القديمة الجديدة، أُوفّي بها أربعة حقوق لأربع جهات: حق أبنائنا الشهداء في ذكرهم، وإعلان التفجّع عليهم في كل مناسبة؛ وحق إخواننا أعضاء جمعية الطلبة الجزائريين بفاس، فقد وازنوا الأمّة، في علوّ الهمّة. فقاموا مقامها، وواسوا عنها، وبكوا بعيونها، واستبكوا باسمها، واضطلعوا بالواجبات عن الأسر المفجوعة؛ وحق الأمّة المغربية الماجدة التي كفكفت دموع أختها، بعطف المليك، وتأبين الشاعر والخطيب، وتعزية العالم والمعلم، وعناية الأحزاب، واغتمام
__________
2) المحمدية، هي بلدة تُعرف اليوم بالمسيلة (مؤنث المسيل)، أُسّست في القرن الثاني للهجرة وكانت فيما بعد ذلك عاصمة إقليم الزاب، وخرج منها جماعة من أئمة العلم، وأقام بها الشاعر ابن هانئ قبل أن يلتحق بالأمراء الفاطميين بالقيروان، وبها وُلد الشاعر ابن رشيق. أما نقاوس فهي مدينة أخرى تقع في مسلك من مسالك الأطلس بين سطيف "بلدنا" وبين طُبْنَة.(3/578)
الجمهور، حتى أنسوا الأبناء هناك ألم الغربة، وهوّنوا على الآباء هنا وقع المصيبة، وذكروهم أن التربة التي وارت أبناءهم إنما هي تربتهم، وكم وارت قبلهم من رفات أجدادهم، وحق المحسنين الكريمين من آل السبتي في التقدير لعملهما والثناء عليهما.
وأنا لا أزن عمل هذين المحسنين بقيمته المادية، وإنما أزنه بقيمته المعنوية، ولا أعدّه إحسانًا إلى الطلبة، وإنما أعده إحسانًا إلى الجزائر كلها من المغرب كله، كان سرًّا مخبوءًا في النفوس الكريمة من أبنائه، فأبرزته الفاجعة للوجود، وتولّى الأخوان الكريمان عن المغرب إسداءَ عارفة إلى الجزائر، لا تنساها، ما بلّ بحر صوفة، كما تقول العرب، ولو أن هذين المحسنين تبرّعا بالملايين من المال، لَمَا وقعت في النفوس موقع دار للسكنى، ولو كانت خصًّا، فكأن القائمة كفارة عن الساقطة، وما ألطف الاختيار، وما ألطف موقعه، وقلْ ما شئت في الحوادث، قل إنها تفرّق الجمع، وقل إنها تشتّت الشمل، وقل إنها تريق الدموع والدماء، ولكن يجب أن تقول أيضًا: إنها تجمع القلوب على التعاطف، وتمهّد للبعداء أسباب التعارف، وتعرّف ذوي الرحم كيف يصلون الأرحام.
أنا باسم جمعية العلماء وباسم الأمّة الجزائرية أتقدّم إلى المغرب وساكنيه، من مليكه الهمام، إلى علمائه الأعلام، إلى محسنيه الكرام، إلى أحزابه وهيئاته وجمعياته، بإحسان عن إحسانهم، وثناء على اهتمامهم، تحملهما هذه الكلمات التي معناها عرفان الجميل، وحقيقتها مكافأة الجزيل بالقليل، وإن عرفان الجميل لألذ وأشهى إلى النفوس الكريمة من كل مفروح به ... وعذرًا أيها الإخوان، إذا جئنا بعدكم، فإننا رأينا غيوث اهتمامكم لم تزل متوالية، وكلمات شعرائكم وكتابكم لم تزل متواصلة، ومن عادة الشاكر المثني أن تكون كلمته هي الأخيرة.
وحيّا الله المغرب ومليكه، ومعادن الخير من رجاله، الواصلين لرحم الأخوّة. وحيّا الله ذلك الأخ البرّ الذي تمثّلت فيه الجزائر بالمغرب، فكان لسانها الذاكر الشاكر، وكان في هذه الفاجعة وكأن فيه من كل أسرة مفجوعة فلذة، فكان هو المعزِّي وهو المعزَّى، وكان وحده القائم بشروط الوفاء، من تأبين ورثاء، وتسلية وعزاء، ومكافأة للمحسنين وجزاء، ذلكم- فاعرفوه- هو الأستاذ رابح خطاب الفرقاني.(3/579)
سؤال وجوابه *
لمحة من أخلاق الشاعر محمد العيد
ــــــــــــــــــــــــــــــ
سألنا جماعة من الأدباء بيان ما أثنى به الأعرابيّ على بعلته، وذكروا أنهم قرأوها في افتتاحية "للبصائر" قريبة العهد، فما فهموا مرجع إشارتها، وسألوا عن البعلة- مؤنث بعل- هل هي فصيحة.
أما البعلة فهي فصيحة، ومن قرأ عرف، وأما ما أثنى به الأعرابي على بعلته، فهو إشارة إلى قوله يخاطب زوجته:
أَثْنِي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فَإنَّنِي … مُثْنٍ عَلَيْكِ بِمِثْلِ رِيحِ الجَوْرَبِ
وريحُ الجورب من الرجل العرقة التي تمكث فيه أيامًا، ولا تزور الماء إلا لمامًا، هو (طيب عاطر الأنفاس) فالثناء بمثله ثناء بأخبث شيء في الدنيا، ولم يبق من استيفائه لشرائط المكروه إلا أن يصدر عن ذي فم أبخر ...
بهذه المناسبة- وإن كانت مستقذرة- أكرّر النصيحة لأدبائنا الكسالى، وأجعلُ هذه النصيحة غسولًا للجورب ورجله، أن لا يقنعوا من الأدب بما يلقاهم منه في أيام الطلب في الكتب المقرّرة، فإن ذلك القدر النزر لا يربي ملكة، ولا يصقل ذهنًا، ولا يكوّن أديبًا، إنما يربي الملكات الأدبية الصحيحة ويقوّمها- الإدمان، إدمان القراءة المتأنية المتدبرة لكتب الأدب الحرّة الأصيلة، والاستكثار من حفظ الشعر واللغات والأمثال، ومعرفة مواردها ومضاربها، والتنبّه لمواقع استعمالها من كلام البلغاء، من شعراء وخطباء وكتّاب، ثم ترويض القرائح والألسنة والأقلام على المحاذاة؛ ذلك أدنى أن تستحكم الملكة، وتنقاد القريحة فتجري الأقلام على سداد، ويمدّها الفكر من تلك المعاني بأمداد، وتوضع الكلمات في
__________
* نُشرت في العدد 143 من جريدة «البصائر»، 19 فيفري سنة 1951.(3/580)
الجمل، في موضع اللآلئ من العقد، وما جاء حسن العقد منظومًا، إلا من حسنه منثورًا، ثم تكون الحِكم والأمثال والنكت كفواصل الجمان في العقود الثِّمان.
...
انتقاد. وردّه:
انتقد بعض الأدباء تجريدنا للشاعر محمد العيد من الألقاب التي هو أحقّ بها وأهلها، واقتصارنا في وصفه على لقب: "شاعر الحِكم والمثل"، فيما صدرنا به قصيدته الحكيمة في احتفال بسكرة.
ونحن نقول لهذا المنتقد المخلص، إننا جرّدنا شاعرنا من تلك الألقاب مخلصين، عن عمد، لأمرين خطيرين. أما الأول فهو أن هذه الألقاب الأدبية أصبحت كالألقاب الحكومية، يتمجّد بها من لا يستحق التمجيد، ليكمل بها نقصه، ويوازن بإيقاعها رقصه، حتى أصبح الناس مترددين في وجه الاستحقاق وعلّته، أهو كماله لينقص بها؟ أم نقصه ليكمل بها؟
وقد أصبحت هذه الألقاب موردًا آجنًا لكثرة طرّاقه، وأسرف الفارغون في خلعها على الفارغين، ونظرنا ... فإذا هي لم تنفق كاسدًا، ولم يَنْبُه بها خامل، وانما مكّنت للزور ومهّدت، وسوّت بين السابق وبين المتخلف، فتعسر التمييز، واعتبر أثرها في قائدين: (قائد) الجيوش في الميدان و (قائد) الجحوش في الدوار، ذاك يبلغ المجد صاعدًا، وهذا يريده قاعدًا، فهل يستون مثلًا؟ ولكن اللقب سوّى بينهما على رغمي ورغمك.
وكل شيء كثرت فيه الدعوى، وعمت به البلوى، وجمع الاشتراك فيه أخلاطًا وأنماطًا، وعربًا صرحاء وأنباطًا، ترفّعت عنه الهمم العالية، وأذاله التبذّل فنزل به إلى قرارة البخس، وإن كان في نفسه جليلًا. وما بعبث خلقُ الله الناسَ طبقات، وجعله الأقدار درجات، وتقديره الأرزاق قسمًا، وتوزيعه المواهب حظوظًا وحصصًا، كذلك ... وما بعبث تخصيص العرب كل نفيسة من الأشياء باسم يميّزها من جنسها: ففي الشعر عيون، وما كله بعيون، وفي النساء عقائل، وما كلهن عقائل، وفي النجوم دراري، وما كلها دراري؛ وفي الجوهر فرائد، وما كله فرائد، وفي المال كرائم، وما كله كذلك.
فإذا فسد الذوق، فأطلقنا الأسماء الخاصة على الجنس العام، وقلنا في الأمَة الوكعاء: إنها عقيلة نساء، وفي العنز الجرباء إنها كريمة مال، ثم أوغلنا في التشبيه على هذه الطريقة، فقلنا في شموع (المولد): إنها كواكبُ دُرّية، وفي صواريخ الصبيان: إنها قنابل ذريّة- إذا فعلنا ذلك- أفسدنا اللغة أولًا، ثم أفسدنا الأخلاق ثانيًا، وملأنا العالم بالزور والغرور.(3/581)
مما أفسد نظام الأمم كثرةُ الأمراء، ومما شوّه جمال الأدب في عصرنا كثرة الشعراء، ولم يكف ذلك حتى كثر فيهم أمراء الشعراء، ولقد كنّا نسمع بملوك الطوائف في الحكم، ولكننا لم نسمع إلا في هذا العصر بملوك الطوائف في النظم، ففي كل قطر شعراء وأمير شعراء، ينازعه حبل الإمارة شاعر أو شاعران أو شاعرون (فقد مللنا جمع التكسير لكثرة ما تردد، كما سئمنا من مفهومه هنا لكثرة ما تعدّد)؛ وإن نتيجة النتائج لهذه الكثرة أن تنتهي إلى شيوعية في الأدب تقضي على جيّده بذنب رديئه.
لو كانت هذه الألقاب صاحبتْ ذويها كأسمائهم من يوم الولادة، لوسعنا العذر في السكوت على نقصها وشينها، كما وسعنا العذر فيمن سمّوه "منصورًا" فشبّ مخذولًا، ودعوه "نفيسًا" فجاء مرذولًا، ولكنها تأتي مع الفتوّة أو مع الكبر، فواجبٌ أن نحتاط لها، وأن لا نجعلها عناوين على الإحسان، وموازين للرجحان.
وأما الأمر الثاني فهو أن محمد العيد وأمثاله من المحسنين لفنونهم، قد شبّوا عن طوق هذه الألقاب الجوفاء، فزهد فيها زهدًا كأنه طبيعي فيه، شأن المتشبعّ بفنّه، المتقن لصنعته، حسبه من الشهود الإتقان والإحسان؛ أما هذه الألقاب فإنهم لا يرونها بالعين التي يراها بها الناقصون: لا يرونها مكفلةً لهم، ولا زائدةً فيهم، فهم كالسيوف، أروع ما تكون مجرّدة، وإذا كانت قيمة الحاوي بجرابه، فما كانت قيمة السيف - في عقل العقلاء- بقرابه، وإنما هي بالجوهر والفرند، ثم بالتصميم في الضريبة.
إن الألقاب لا تزيد في قيمة محمد العيد إلا بمقدار ما زادت "الباشوية" في قيمة طه حسين.
على أننا نعتناه بالنعت المفصَّل على ذاته، المفصِّل لآياته، وهو: شاعر الحكمة والمثل، إذ هما قاعدة شعره، وخاصتا مقاطعه وقصائده، ويزيد على تناول الحكمة والمثل بأنه "صدّاح غير مدّاح".(3/582)
السلطان محمد بن يوسف *
آليْت بالحظائر المستره
والآي في رقوقها مسطره
والكعبة الجليلة المطهره
والروضة الشريفة المنوّره
إنّي أسوق الواعظات المنذره
صادعةً رادعةً محذّره
ناصحة لقومنا مذكّره
واسمةً بالهون كل نكره
من خابط في الظلمة المعتكره
ووارد سؤرَ المياه الكدره
وعابد للنجمة المنكدره
دليلها الحق، ومن ينصف يره
...
إنّ أميرَ المسلمين جوهره
وصورةٌ من خلق مصوّره
ونسخةٌ من أدب محرّره
وقطعةٌ من حكم مقرّره
وقطرة من الهدى منحدره
في الدهر من جد الشراف حيدره
__________
* نُشرت في العدد 147 من جريدة «البصائر»، 19 مارس سنة 1951.(3/583)
مناقب على المدى مدّخره
لمن غدا بين الملوك مفخره
وإن أتتْ أيامه بأخره
...
إنا إذا الحمد تلوْنا سوره
ثم جلوْنا- كالمرايا- صُوره
ثم حدوْنا في البرايا زمره
سقنا إليه شمسه وقمره
ومن يطب مولى الموالي عنصره
فمن تمام فضله أن ينصره
...
من ادّعى وصف الكرام الخيره
فاستشهدوا أخلاقه وسيره
واستنبئوا من الزمان غيره
وسائلوا: مَنْ قادَه وسيّره؟
فالزيرُ- إن تنشده- حلفُ الزيرَه
...
يا عصبة في الغيّ ليست مقصره
قد عميت عن الهدى والتبصره
لا تفرحي: إن الغنى والسيطره
لم يبرحا إلى الهلاك قنطره
لا تمرحي: إن الهوى والأثره
جالبةٌ كلّ البلا أو أكثره
تسمّعي: إن الليالي مخبره
بأن أيّام الصعود مدبره
...
قد كتب الدهر ووالى عِبره
وصدّقت رُؤى العيون خبره(3/584)
أن قصورَ الظالمين مقبره
عمارها إلى الخراب معبره
...
ليس من عادتنا أن نثني على الأشخاص لذواتهم أو لمقاماتهم التي قرّرتها الأوضاع والمصطلحات، وإنما نثني- إذا أثنينا- على الأعمال الصالحة، فينصرف الثناء إلى العاملين بالتبَع.
وليس مما رُكب في طباعنا الصغو إلى الملوك، أو انتحال النزعة الملكية مذهبًا، فقد قرأنا عن كثير من غابري ملوك الإسلام ما زهدنا فيهم، وما كرّه إلينا نظام الملكية، وبلوْنا من حاضريهم ما يتبرأ منهم الإسلام من المنديات، وعلمنا علم اليقين أن أعمال الغابرين والحاضرين منهم هي التي أفضت بالإسلام والمسلمين إلى هذه المنزلة من الحطة والهوان؛ فأصبحنا نعتقد أن الملكية نظام لا يعتزّ به الإسلام، ولا يحيا عليه المسلمون، ولا يستطيعون أن يجاروا به أمم الحضارة في هذا الزمان، خصوصًا مع ما انتحلوه لأنفسهم وتعبدوا به رعاياهم من هذا التألّه الكاذب، وهذه الحقوق التي لم يأذن بها الله، وهذه المميزات التي زادها طولُ الزمن، واستحكام الجهل رسوخًا، والتي استمسكوا بها حتى في هذا العصر العالم اليقظان، عصر الدساتير المسنونة بإرادة الأمم، فلا يحاكمون، وإن خربوا الدين والدنيا، ولا يعاقبون، وإن أهلكوا الحرث والنسل، ولا يعاتبون، وإن انتهكوا الحُرُمات، وجاهروا بالمنكرات، وإنك لتسمّيهم ملوكًا لترفعهم عن مقام العبيد، فتجبهك الحقيقة بأنهم عبيدٌ لشهواتهم وأهوائهم؛ وإنك لتلتمسهم في مواطن الحفاظ من أوطانهم، والاحتفاظ بأموالها، والاختلاط بأهلها، والمشاركة لهم في النعماء والبأساء، فلا تجدُهم إلا في أوربا، و (بواليع الأموال في أوربا)، ومُغريات أوربا، يجرونها إلى ديارهم طوعًا، فتجرّهم إلى ديارها كرهًا، ويأخذونها تفاريق فتأخذهم جملة ... ويقتبسونها نورًا، فتقبسهم نارًا؛ وإنك لتجدهم حيث شئت إلا في مقام القدوة في الخير والصلاح.
فإذا أثْنينا اليوم على محمد بن يوسف ملك المغرب، فإنما نثني على أعماله الجليلة ودينه المتين، ومواقفه المشرّفة المجيدة في نصر الحق على الباطل، ودحض البدعة بالسنة، وفي الدفاع عن حقوق وطنه، وفي سيرته النبيلة التي هي مضرب المثل في ملوك الإسلام.
وإذا أحببناه فلأنّ في أعماله وخصاله ومواقفه ما يفرض حبّه فرضًا على كل مسلم صادق الإسلام.
وإذا أعجبنا به فلأنّ كل فصل من سيرته موطنُ إعجاب.(3/585)
وإذا نصرناه بما نملك من كلام فلأنه ملك مسلم مظلوم ... مظلوم في أمّته، ثم مظلوم ببعض أمّته، وليس في أنواع الظلم أحزّ في الصدور من هذا النوع، وليس فيها أدعى لانتصار ذوي النخوة العربية والشهامة الدينية من هذا النوع.
...
نعرف عن جلالة السلطان محمد بن يوسف كل ما يجب أن يعرفه عالم مسلم، حرّ الفكر، مستنير البصيرة، موقوف المواهب على خدمة الإسلام، وإصلاح المسلمين عن ملك مسلم ممتاز بين ملوك المسلمين- في عصر كثر فيه الملوك- خصوصًا في هذه الرقعة العربية- كثرةً معاكسة لسير الزمن، منافرة لسيرة أبناء الزمن، فكانوا وباء للأجساد، ووبالًا على الأرواح، وجائحة مرسلة على الأموال، ومطايا يستعملها الأجانب لاستغلال الأوطان، ثم للاستيلاء عليها.
نعرف عنه دراسةً، ونعتقد فيه وجدانًا، ونشهد منه عيانًا، ما يرفعنا عن الأخذ فيه بالتقليد، ويربأ بنا أن ننتقل في الحكم عليه من رأي قديم إلى رأي جديد، كما تربأ بنا عادتنا في الحُكم على الرجال، أن نحابيه أو نتعصّب له، جريًا مع هوى غالب، أو انتصارًا لمذهب جامع.
فالنتيجة التي انتهتْ إليها الدراسة، واطمأن لها الوجدان والعيان في هذا الملك العظيم حقًّا، هي أنه ملك مسلمٌ صحيح الإسلام، مؤمن متين الإيمان، سلفي العقيدة والتعبّد، قديم في دينه، جديدٌ في دنياه، مجدّد مصلح في الدين والدنيا، واسع الاطلاع على أحوال زمنه، يقظان العقل في أسرار السياسة المحيطة به، شجاع الرأي في الجدل المحتدم فيها، يمارس من الأجانب هولًا واحدًا،- ومن الأقارب أهوالًا، يعمل لشعبه دائمًا، ويعمل لنفسه قليلًا لمعنى يرجع إلى شعبه، وهو أن يرسم لهم خطوط الاقتداء والتأسي، ومن رأينا فيه أنه لو تأتت له الوسائل ولاينته الظروف، لطوى مراحل التقدّم بالمغرب في مرحلة.
هذه الخلال هي سر عظمته عندنا، وهي سر حبنا إياه، وإعجابنا به، وانتصارنا له، ولو أنّي حكمتُ هذا الحكم قبل أن أجتمع به في الرحلة الأخيرة إلى باريز، لكان فيه شوبٌ من التقليد والاتكاء على السماع الذي شان العقائد، وأفسد التاريخ، وغطّى الحقائق؛ ولكنني طابقت بين السماع والعيان، وصحّحت الاستدلال في تلك الساعة التي تحدثتُ فيها إليه، وتحدث إليّ، مجردًا من الكلف والرسميات، في بلد غربة وموطن حريّة، وقد زُوِيت في تلك الساعة القصيرة، أطراف تلك النفس الكبيرة، وكانت ساعةً من تلك الساعات المعدودة في التاريخ، التي يلتقي فيها عالم مسلم، بملك مسلم، فلا يجري على لسانيهما إلا ما يرضي الله، وينفع الناس.(3/586)
لمحتُ في هذا الملك الديمقراطي ملاءمة الفضائل الفطرية فيه، للفضائل المكتسبة بالدرس والتجربة والاحتكاك، فالذكاء الفطري يمازج الإلمام الواسع بما يجري في الكون، والإيمان بالعاقبة يزاوج الاحتفاظ الشديد بحقوق المسلمين، والإيثار يساند الإقدام، والصبر على المكاره يقارن الصراحة في قولة الحق، طرازٌ من الأخلاق متلائم النّسب، متلاحم النسج، متناسب العرض، في شخصية واحدة، يزيّن ذلك كله بساطة متناهية، هي بساطة المسلم الصادق المتشبع بالفضيلة، الذي لا تزدهيه المظاهر، ولقد وقع نظري وذهني- وأنا أحادثه- على صغيرة من آثار تلك البساطة، ولكنها مبعث الروعة والجلال، وهي تجرّد هذا الملك من تلك العهون والذلاذل (ولا أقول: الحُلي) التي يزيّن بها بعض ملوكنا وأمرائنا صدورهم، وأعناقهم، وتراقيهم، على ضرب مما كان يزيّن به العرب جمالهم ... فلا يكون معناها عند العقلاء إلا أن أصحابها فرغت بواطنهم من معاني السلطان، فعمروا ظواهرهم بهذه (الشرطان)، وعلى أن الزمان انتهى من السخرية بهؤلاء إلى هذه الدرجة، فعوّضهم من الأعمال التي يتجمّل بها الرجال، بهذه الحِلْية التي يتجمّل بها غيرُهم ...
...
والمحنة الأخيرة! ...
والمحنة الأخيرة لهذا الملك المظلوم كانت جرحًا في قلب كل مسلم طاهر السريرة، لما وسمتْ به من التلاعب بالدين الإسلامي، والعبث به، وجعله سلمًا لأغراض سياسية استعمارية، ولما وُصمت به من الإهانة لملك مسلم صالح ذي سلطة دينية لم يخلّ فيها بشرط، تستند على بيعة شرعية قرّرتها الأوضاع والرسوم، وثبتها الإجماع على الرضا، ومكّن لها الاختبار والامتحان، واستوى في إيجابها نطقُ الناطق وسكوتُ الساكت، ولم ينقض الملك لها عهدًا، ولا نكثَ عقدًا، ولم يأت في حالتي الشدة والرخاء إلا ما يقتضي توكيدها، ويُوجب تجديدها، فالاعتداء على الأوضاع الإسلامية اعتداءٌ على الإسلام في نظر المسلمين، والإهانة لملك مسلم صالح إهانة للإسلام.
أما ما خُتمت به الرواية فإكراه من السلطة الاستعمارية لا يقرّه شرع سماوي، ولا قانون إنساني، وارتكاب من الملك لأخف الضررين، تعلو فيه حجةُ العاذر على شبهة العاذل، وهو - في حقيقته- بناء على السيف، وما للبناء على السيوف دوام، وإمعان في الحيف، والممعن في الحيف، ممعن في ظلام؛ وإنما يدوم على تقلبات الزمن بناءٌ أساسه العقل، وحائطه العدل ...(3/587)
ذكرى عبد الحميد بن باديس *
يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابيّ الذي يرجع إلى أصله، وتبقى معانيهم الحية في الأرض، قوّة تحرّك، ورابطة تجمع، ونورًا يهدي، وعطرًا ينعش، وهذا هو معنى العظمة، وهذا هو معنى كون العظمة خلودًا، فإن كل ما يخلف العظماء من ميراث، هو أعمال يحتذيها من بعدهم، وأفكار يهتدون بها في الحياة، وآثار مشهودة ينتفعون بها، وأمجاد يعتزّون بها ويفخرون، والاعتزازُ والفخز من الأغذية الروحية الحافظة لبقاء الجماعات، وهذه المجموعة من ميراث العظماء هي التي تسلسل بها الحياة متشابهة الأطوار قرونًا، ولولاها لانفصمت حلقاتها، فكان لكل فرد قانونٌ خاصّ، وحياة خاصّة، مقطوعة الصلة بمن قبلها ومن بعدها، فيفسد النظام ويختل الوزن وينعدم التشاكل، فينعدم التعاون.
والعظمة الحقة- عظمة الخير والجمال والمنفعة- مستمدّة عناصرها الأولى من ينابيع النبوّة، التي هي مثال لتصفية النفس من كثافة المادة وكدورة الأثرة، فهي متصلة بالله، شعر البشر بذلك أو لم يشعروا، واعترفوا بالألوهية أو جحدوا، فكل عظيم أفاد وهدى ونفع وأسعد، فهو سائر على قدم النبوة، أو هو حواريّ لمست روحه شرارة من قبس النبوّة، ومن وزن العظمة بهذا الميزان، ذاد عن حياضها أبالسة الشر من عظماء القوة والطغيان، الذين ظلموا العظمة فاقترضوها، ثم فرضوها، وعظماء العصبيات الجنسية المحدودة الذين ضاقوا عن العظمة، فضاقت بهم، فكل هؤلاء يشيل بهم ميزان الخير الدقيق، وإن رجح بهم ميزان (الخبز والدقيق).
ومن الغرائب التي ينطوي عليها الاجتماع البشريّ أن أفراده وجماعاته يشعرون بالقصور عن مراتب العظمة، ويشعرون أنهم مفتقرون إليها، لا تستقيم لهم حياة بدونها، فإذا لم
__________
* نُشرت في العدد 151 من جريدة «البصائر»، 16 أفريل سنة 1951.(3/588)
يوجد فيهم عظيم، ولم تسقه إليهم المقادير، ساقته الأساطير، فتصوّر لهم أخيلتهم عظيمًا، ويُفيضون عليه من التمجيد ما يصوّره مثلًا أعلى، ويصيره مرجعًا أسمى، ثم يعمدون إلى معاني العظمة الكاملة المتفرّقة فيهم، فيخلعونها عليه إعارة، ليأخذوها عنه استعارة، بالقدوة والاتصاف في الأعمال، أو بالتمثل والاستشهاد في الأقوال، ومثل ما فعلوا في العظماء فعلوا في الحكماء مرسلي الحكم، في الكلم، واعتبر ذلك بلقمان في الأوّلين، وجحا في الآخرين، فإننا نجد هذا الاسم دائرًا على الألسنة عند طوائف كثيرة من الأمم، يردّون الحكمَ والأمثالَ إليه؛ ومثله- على نسبة ما- البهلول، والفياش، والمجذوب، عند بعض العرب، و"ماريوس"، وصاحبه عند الفرنسيين وغيرهم عند غيرهم، وكل ذلك يدلّ على أن أفراد النوع مولعون بالعظمة والشهرة، مفتونون بالحكمة والمثل، حتى إنّ أحدهم يرسل المثل، أو يصوغ الحكمة ثم ينسبها إلى غيره ممن ملأ أذهان الناس، وشغل حيّزًا واسعًا من شعورهم، ليكون ذلك أسيَر للمثل، وأبقى للحكمة، وإن هذا لنوع من "القرابين" الروحية للمعاني المتألهة.
والعظمة الحقيقية كالشعر المطبوع، تستند على الطبع الموهوب، والاستعداد الفطري ثم تأتي الأدوات في الدرجة الثانية، مساوقة للطبع، متناسقة مع الاستعداد، حتى تتمكّن وتثبت، وتقابلها عظمة صناعية زائفة، تحشد لها الأسباب، وتجلب المعاني، وتستعار لها الأدوات، أو تشترى من السوق، فتأتي متداعية متهافتة، لا تستقرّ ولا تثبت، ثم تموت قبل صاحبها أو تموت بموته.
وكما أن استحكام القوافي في الشعر لا يأتي من معرفة أحكام القوافي في العروض، لا تأتي العظمة بالتكفف والصنعة، ولا بالاستعارة والتقليد.
...
وعبد الحميد بن باديس عظيم بأكمل ما تعطيه هذه الكلمة من معنى، فهو عظيم في علمه، عظيم في أعماله، عظيم في بيانه وقوّة حجّته، عظيم في تربيته وتثقيفه لجيل كامل، عظيم في مواقفه من المألوف الذي صيره السكوت دينًا، ومن المخوف الذي صيره الخضوع إلهًا، عظيم في بنائه وهدمه، عظيم في حربه وفي سلمه، عظيم في اعتزازه بإخوانه، ووفائه لهم، وعرفانه لأقدارهم. وإذا كان من خوارق العادات في العظماء أنهم يبنون من الضعف قوّة، ويخرجون من العدم وجودًا، وينشئون من الموت حياة، فكل ذلك فعل عبد الحميد ابن باديس من الأمّة الجزائرية.
***(3/589)
وهذه الذكريات التي يقيمها الناس لعظمائهم، والمذكرات التي ينصبونها لبقاء أسمائهم محفوظةً، وأعمالهم ملحوظة، هي تجديد للعهد بهم، وتمديد للاتصال الروحاني الذي يربط الفروع بالأصل، ويحثّ على التأسّي والاستمرار، ودعوة متجدّدة إلى مبادئهم، وردعٌ للمتطاولين الذين يهتبلون الغفلة وفراغ الميدان فيتعاظمون، فهي- في بعض غاياتها- حراسة للعظمة الحقيقية من العظمة الصناعية، وكأنها تصحيح لحدودها، وتفقّد لموازينها، ومراقبة دائمة للتزوير أن يلمّ بها، فيطغى عليها، فيفسد على الناس أمرها وآثارها، وهذه النقطة وحدها تعدّ من محسنات التكرار لأقوال العظماء، والترديد لفضائلهم في كل سنة.
...
وذكرى عبد الحميد بن باديس هي ذكرى أعماله وآثاره في الأمّة، فهذه اليقظة المتفشية فيها، وهذه الحركات السارية كالنار في الضرام، وهذه النظرات الجديدة في الحياة، وهذه الاتجاهات المسدّدة فيها، وهذا التجدّد في الأذهان والعقول، وهذا التصلّب في المقاومة، وهذه الأقلام الجارية بالبيان العربي، وهذه الألسنة المحلولة العقد في الخطابة، كلها مذكّرات بعبد الحميد، وفي كل منها أثر من يده، وأثارة من عقله، ونفخة من روحه، دعا إليها، وجهر بها، وعمل لها، وغرسها في نفوس تلامذته بالدرس، وفي عقول جلسائه بالمذاكرات، وفي عامة الأمّة بالمحاضرات.
إن هذه النهضة التي لم تزل في تباشيرها، ستمدّ مدّها حتى تصبح تاريخًا حافلًا، وستنشئ بنفسها مؤرّخها المنصف، ويومئذ يضطر ذلك المؤرّخ إلى إرجاع العناصر إلى أصولها، فيجد عبد الحميد بن باديس "واضع الأس والحجر".
...
في مثل هذا اليوم من شهر أفريل من كل سنة، تتبارى الأمّة الجزائرية في إقامة الذكرى لعبد الحميد بن باديس، إحياءً لذكره، واعترافًا بفضله، وتتولّى مدارس جمعية العلماء وشعبها تنظيمها والإشراف عليها، وتعميرها بالخطابة والشعر، وتخليدها بالكتابة، وتشترك فيها الأحزاب السياسية، ومنظّمات الطلبة في خارج الجزائر، وكل ذلك بعض حقوق إمام النهضة على رجال النهضة، ولكن أكبر حقوقه علينا في التخليد، وأعوَدها علينا بالنافع المفيد، هو البناء والتشييد. فليس بنافعنا ولا بنافعه أن نبكي في كل سنة ونعدّد، ولا أن نكرّر فضائله ونردّد، وإنما الذي يعود عليه بأجر من دعا إلى خير، وسنّ سنّةً حسنة، ويعود علينا بفائدة من غرس غرسًا فسقاه، وعمل صالحًا فأبقاه، هو تشييد المعاهد العلمية وتعميرها، وتعهّدها بالعناية، وإمدادها بأسباب البقاء، وقد كان المعهد الباديسي بدءَ العمل، فلا يكوننّ الختام.(3/590)
الفضيل الورتيلاني *
وصلتنا من بيروت كلمة من الأخ الكريم الحاج خليل أبو الخدود- ومعها تصريحات لولدنا الأبرّ الأستاذ الفضيل الورتيلانى- قبيل الاجتماع العام لجمعية العلماء، وكنا إذ ذاك منهمكين في إعداد الاجتماع، وفي استقبال السنة الدراسية وشؤون المدارس والمعهد الباديسي، وما يستلزمه ذلك من أدوات ووسائل وتجديد في الأجهزة اللازمة من برامج ومال ورجال، ولقد كان إسكان تلامذة المعهد- وعددهم يشارف السبعمائة- كافيًا لاستنفاد الجهد، واستغراق الوقت، وقارنت تلك الجهود تأخّر «البصائر» عن مواقيتها لأسباب داخلية اقتضاها التجديد، لذلك كله تأخّر نشر الكملة وما معها من تصريحات إلى هذا العدد، فمعذرة إلى الأستاذين الفاضلين، البعيدين عنا بعد الدار، القريبين منا قرب العمل المشترك، والفكرة الجامعة: أبي الخدود والورتيلاني.
...
وقد كنا قرأنا في الجرائد الشرقية خبر عفو أمير اليمن عن المتهمين في الحركة الانقلابية التي كان من آثارها قتل أبيه يحى حميد الدين، فلم يحرّك منا هذا العفو شعرة، كما لم يثر منا ذلك الانقلاب إلا الألم، ولا يستطيع أحد أن يتهمنا في هذا بجفاء الطبع، أو جفاف العاطفة، فنحن من أشد الناس افتتانا بالعروبة والعرب، وأرقّهم إحساسًا في النوائب التي تنوبهم، وأعمقهم أسىً للحالة التي هم عليها، ولكن رأينا في ملوك العرب معروف، ومن رأينا في الكثير منهم أن كل ما يصدر منهم من عقد ونقض وعفو ومؤاخذة فهو ناشئ عن خطرات من الوساوس الفردية، لا عن بواعث من المصلحة العامة، وأنهم عدموا القوانين
__________
* نُشرت في العدد 174 من جريدة «البصائر»، 3 نوفمبر سنة 1951.(3/591)
المقيّدة، فاستحكمت فيهم النزعات المطلقة، فأصبحوا- في نظرنا- يوجدون، فكأنهم - في فراغ الحياة- ما وُجدوا، ويُفقدون فكأنهم- لهوان الخطب- ما فقدوا، ومن رأينا في ذلك الانقلاب أنه أحط من بصيرة المتبصرين بدرجات، وأنه متأخر عن وقته بسنوات، وأنه لو صحبته البصيرة، وكان العلم والعقل من ذرائعه، لكان تطورًا لا انقلابًا، ولما سال فيه ملء محجم من الدم.
...
وقالت تلك الأخبار: إن العفو شمل الأستاذ الفضيل الورتيلاني المتهم بتدبير الانقلاب والاغتيال، وتباشر أصدقاؤه وعارفو فضله بهذا العفو، كأنهم رأوا فيه حدًّا للحالة التي يعيش عليها، وكأنهم يرون أن تلك التهمة- على بطلانها- عاقت الأستاذ الفضيل عن مواصلة جهاده في سبيل العرب والمسلمين، فالعفو يضمن له متابعة الكفاح.
والأستاذ الورتيلاني ابن بار من أبناء جمعية العلماء، وغصن من دوحتها الفينانة، فتح عينيه على شعاعها، وسار في الحياة من أول خطوة على هداها، وقضى عنفوان شبابه في أحضانها، وتخرّج في العلم والعمل على قادتها، وبزّ الجياد القرّح في ميادينها، ورمى الغايات البعيدة بتسديدها، وراض عقله على التفكير الصائب، ولسانه على الحديث الصادق، في الإصلاح الديني الذي هو أساس مبادئها، فجذبه استعداده القوي منه إلى العمل في ميدان الإصلاح الاجتماعي، وجرّته غيرته المحتدمة على وطنه إلى العمل للإصلاح السياسي، وهذه أنواع من الإصلاح متشابكة الأصول، متشابهة الفروع، تفصل بينها فواصل اعتبارية دقيقة، ولكن الأجرياء المقدمين يرونها متلازمة، متوقفًا بعضها على بعضها، فلا يتم جزء منها إلا بتمام جميعها، ومن هؤلاء ولدنا الفضيل، فلما ضاق عنه وطنه الأصغر، طار إلى وطنه الأكبر.
ولمكان الأستاذ الورتيلاني منا، ومكانته عندنا، وعدّنا إياه من أبنائنا البررة، ورجالنا الأفذاذ، ويقيننا بطهارة ذمّته من القاذورات، وتسامي همّته إلى بناء المأثرات، نرى أن كلمة "العفو عنه" كما تقول الجرائد، سبة لم يسب بأفحش منها، ولا نظن أن ولدنا الفضيل ارتاح لها، أو وقعت منه موقعًا، لما نعرفه فيه من الشمم وكبر النفس، وما زالت كلمة العفو في مثل هذه المواطن ثقيلة على النفوس الحرّة، لا يطرب لها إلا المذنبون الضارعون، كالذي يقول: "رأيت العفو من ثمر الذنوب"، وإذا كان العفو لا يكون إلا عن جانٍ، فإقراره إقرار للجناية، ومتى كان الفضيل جانيًا حتى يعفى عنه؟ أو حتى يكون العفو عنه مدعاة للسرور والابتهاج؟ وقد وقع لنا مثل ذلك مع الاستعمار، يظلمنا، ثم يبدو له فيقول: عفوت عنكم، فلا يكون أحز في نفوسنا من ظلمه إلا عفوه.(3/592)
كل ذنب الفضيل أنه أراد أن يعالج ناحية من نواحي تلك المملكة الشقية، فعاجلته الأيدي الخفية- التي لا تريد إصلاحًا- بتلك الحادثة.
وبعض ذنبه- إن كان هذا يسمّى ذنبًا- أن جرأته على مصارحة الأمير القتيل بلزوم الإصلاح، وتنبيهه إلى مواقع الخطر المترتّب على الإهمال، كل ذلك جرّأ الطائشين على التعجّل بأمر لم يجيلوا فيه روية، ولا تدبّروا له عاقبة، والمعاني الكبيرة لا تحتملها العقول الصغيرة، وأعان على ذلك ظلم طال أمده واتّسع مداه، وتظلّم خفت صوته فلم يتردّد صداه.
إننا نعلن- نيابة عن الأستاذ الورتيلاني بما لنا عليه من حق الأبوّة- أنه يستحق التبرئة والاعتذار إليه، لا العفو، إذا كانت العقول قد ثابت إلى رشدها، وطهر الجو من الروائح الاستعمارية التي أفسدته؛ أما إذا كان الإمام لا يحسن الإمامة، وكان السيف لا يقطعُ إلا أوصال جاليه، فخير للفضيل أن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق من أن تكتب في تاريخه الحافل "طرة" وهي أنه (مجرم معفو عنه).
...
إننا قوم لا نرضى من الأخلاق إلا أن تكون عقائد، وإن هذه الاعتبارات هي التي أسكتتنا عن الحديث في هذا العفو، وإن لامنا عن هذا السكوت اللاءلمون؛ أما ما جرّته تلك التهمة على الأستاذ الفضيل من تنكّر الملوك له، وضيق الحكومات به، فهو امتحان البطولة، وطالما أدّاه الأبطال قاسيًا ثقيلًا؛ وما زالت العليا تعي غريمها، كما يقول ابن خميس؛ وهو دليل البطولة، والبطولة منها عليها شواهد.
وأما ما لقيه بسببها من تجهّم بعض الأصدقاء، فهو دليل على أن صداقتهم كانت على دخن، أو من شماتة بعض الخصوم، فهو دليل على أنه كان غيظ الحاسد، ومسيح الدجاجلة، وكل ذلك مما يغلي قيمة الفضيل، ويبين عن صفاء جوهره، وأن تلك الغمّة العارضة ما زادت على أن كانت تلقيحًا في رجولته، وتنقيحًا في أصدقائه، وافتضاحًا لخصومه ...(3/593)
ـ[آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي]ـ
جمع وتقديم نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
الجزء الرابع
1952 - 1954
الناشر: دار الغرب الإسلامي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/1)
دار الغرب الإسلامي
الطبعة الأولى(4/2)
آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي(4/3)
ـ[صورة الشيخ البشير الإبراهيمي]ـ
القاهرة، 1952
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
محمد الغزالي (*)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت القاهرة- لأكثر من ثلث قرن مضى- ملتقى عدد من المجاهدين الكبار يجيئون إليها في ظل عقيدة جامعة، وأخوة وثيقة، ولغة مشتركة، وآمال واحدة.
وكان المسلمون ينظرون إلى الزعماء القادمين نظرة حب جارف وإعزاز بالغ، كانوا يرون النظر في وجوههم عبادة، والحديث معهم والأنس بهم قربى إلى الله.
أذكر من هؤلاء الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر، وقائد جهادها الأول، زارني يومًا في وزارة الأوقاف- وكنت مسؤولاً عن المساجد- فزكَّى بعض المشروعات التي أقوم بها، ورسم لي طريق إنجاحها، وشعرت كأنه يعد نفسه مسؤولًا عن مستقبل الإسلام في مصر، فهو يهتم به اهتمامي أنا به أو أكثر، ولا عجب فدار الإسلام واحدة وإن اختلفت منابت الأفراد ....
وأذكر من أولئك الزعماء اللاجئين إلى القاهرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي. عرفته، أو تعرفت إليه، في أعقاب محاضرة بالمركز العام للإخوان المسلمين ... كان لكلماته دوي بعيد المدى، وكان تمكنه من الأدب العربي بارزًا في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحق أن الرجل رُزِق بيانًا ساحرًا، وتأنقًا في العبارة يذكرنا بأدباء العربية في أزهى عصورها.
لكن هذا ليس ما ربطنا به أو شدَّنا إليه- على قيمته المعنوية- إنما جذبنا الرجل بإيمانه العميق، وحزنه الظاهر على حاضر المسلمين، وغيظه المتفجر ضد الاستعمار، ورغبته
__________
*) وعد الشيخ محمد الغزالي بكتابة مقدمة لهذا الجزء، ولكن أجل الله سبق قبل أن يكتبها، فاخترنا هذا المقال الذي كتبه عن الإمام الإبراهيمي في مجلة الثقافة الجزائرية، عدد 87، مايو- يونيو 1985. فرحم الله الكاتب والمكتوب عنه.(4/5)
الشديدة في إيقاظ المسلمين ليحموا أوطانهم ويستنقذوا أمجادهم، وخُيّل لي أنه يحمل في فؤاده آلام الجزائريين كلهم وهم يكافحون الاستعمار الفرنسي، ويقدمون المغارم سيلًا لا ينقطع حتى يحرروا أرضهم من الغاصبين الطغاة، وكان في خِطاباتِهِ يزأر كأنه أسد جريح، فكان ينتزع الوَجَل من أفئدة الهيابين ويُهيّج في نفوسهم الحمية لله ورسوله، فعرفت قيمة الأثر الذي يقول: "إن مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء".
إن الخطيب أو الكاتب يوم يستمد توجيهاته من قلبه ويصبها في نفوس تلامذته إنما يُكوّنُ فيالق من أولي الفداء، ويصنع قذائف حية من رجال ينسفون الباطل نسفًا، وذلك ما أحسسناه ونحن نستمع إلى الشيخ البشير الإبراهيمي في القاهرة، فعرفنا لماذا ضاق به الفرنسيون وطاردوه، ومن ثَمَّ قررنا الالتفاف به والاستمداد منه.
ومن الخطإ تصوُّرُ أن الشيخ الكبير كان خطيبًا ثائرًا وحسب ... لقد كان فقيهًا ذكي الفكرة بعيد النظرة. ووقع لي معه حوار في مسألتين طريفتين. قال لي مرة: لعلك قرأت في السيرة الشريفة أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كانوا ينصرفون عن مجلسه إلَّا على ذَوَاق- وزن جمال-.
قلت: نعم.
قال: فما الذواق الذي ينالونه في مجلسه؟
فتَرَيَّثْتُ قليلاً ثم أجبت: لعلهم كانوا يتناولون بعض الأطعمة أو الأشربة كما يقع في عصرنا هذا عندما تُقَدِّم للأضياف والوافدين أقداحًا من الشاي أو غيره ...
قال لي: ظننتك أفضل من أن تجيب هذه الإجابة الساذجة، أذلك شيء ينوِّه به الأصحاب الكرام؟
قلت في تلهف: فما هذا الذواق الوارد في السنة؟
قال: إنه تذوق أرقى، ألا تذكر الحديث الشريف: «ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا».
إن المجلس النبوي تظلله الحكمة، ومقام النبي فيه ترقيق القلوب، ورفع المستوى، وتخليص الروحانية من شوائب الأرض، وجعل البشر في مصاف الملإ الأعلى ... فما ينصرف أحد عن هذا المجلس الزكي إلا وقد تذوق نازلًا من السماء، ولا يعود إلى أهله إلا بذخر يعليه ويعليهم.
الحق، ان هذا المعنى كان جديدًا علي، غير أني شعرت بأنه الحق، وأنه أولى كثيرًا من تفسير الذواق بأنه طعام أو شراب ...(4/6)
وسألني مرة: ما تقول في هذه الذبائح التي تملأ ساحات مِنًى، يتحلل بها الحجاج والعامرون من مناسكهم؟ فلم أدر ما أقول، كل ما استطعت أن أجيب به أنها من شعائر الحج والعمرة قربة إلى الله وطعمة للفقراء، وفي الآية {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ ائأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا ائبَائِسَ ائفَقِيرَ}.
قال: ليت الحجيج يحققون هذه الغاية فيأكلون ويتصدقون ويفرح بصنيعهم البائسون الفقراء، إنهم يذبحون ويدعون ذبائحهم على الثرى لا يقربها إنس ولا وحش، فتضيع سدى، وقد نُهينا عن إضاعة المال. حبذا لو وضعت خطة للإفادة من هذا الخير المبذول وتعميم النفع به ...
وما تمناه الشيخ البشير الإبراهيمي نفذ بعد ثُلُث قرن، فقد عرفت الآن أن ما يذبح يكون بقدر حاجة الفقراء، والباقي يوجه لسد ثغرات الجوع، والجفاف في أماكن أخرى ... وهذا هو الفقه الصحيح وحسن التصرف في تنفيذ أحكام الشرع الشريف.
كان لقاؤنا بالشيخ البشير الإبراهيمي مصدر متعة أدبية وعلمية تجعل أدباء القاهرة وعلماءها يهرعون إليه ويتزاحمون عليه، ولكن الرجل كان يشرد بين الحين والحين، فنحس أنه معنا وليس معنا، كان جسمه معنا وقلبه معلقًا بالجزائر يتحسس أبناءها، ويتبع العراك الدائر بين الإسلام والصليبية في هذه القطعة الغالية من دار الإسلام، وكنت أشعر بأنه يكتب إلى رجاله أو المسؤولين عن الكفاح الجزائري يشير عليهم بالرأي ... وأستطيع الجزم بأنه ما ضعف يومًا ولا استكان ولا يئس من روح الله، ولا شك في أن الله ناصر جنده، ومعز المجاهدين المسلمين.
وهناك أمر لا يعرفه الكثيرون، لقد حاول أن يسد الفجوة بين جماعة الإخوان ورجال الثورة المصرية، فإن الفريقين يقدرونه ويصغون إلى نصحه، ولكن الشر كان قد تفاقم بين الفريقين وعزَّ على العلاج، فتوقف محزونًا.
وظل الشيخ البشير، ومعه بعض الجزائريين يرتبون الأمور بين القاهرة الموالية للمجاهدين، وبين أرض المعركة التي احتدم فيها القتال وتضاعف الشهداء، ولا أنسى من بين أصحاب الشيخ الأخ الفضيل الورتلاني الذي زاملني في الدراسة وأنا في تخصص الدعوة والإرشاد قبل مجيء الإبراهيمي ببضع سنين، وكان الشيخ الفضيل عملاقًا في مبناه ومعناه ورجلًا له وزنه، وكان يتبع الشيخ البشير على أنه تلميذ وفي له، ويتعاونان على نصرة القضية الجزائرية بكل ما لديهما من طاقة ...
قال لي الشيخ البشير: إنكم بليتم بالاستعمار مثل ما بلينا، وشعرتم بضراوته مثل ما شعرنا، لكنكم لا تعرفون أن ما أصابنا نوع شاذ من الاستعمار يشبه السرطان من بين أنواع(4/7)
العلل المهلكة، إنه كان يريد محو شخصيتنا وعقيدتنا ولغتنا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، ومن المستحيل الإبقاء عليه أو البقاء معه. إن معنى ذلك الموت الخسيس، وأولى بنا أن نموت جميعًا في ميادين الكفاح والتضحية من أن نموت على هذا النحو الذي يراد لنا ...
والجزائري إذا غضب تحول إلى شخص آخر، وقد كنت ألمح تغيرًا عضويًا في وجهه بل في كِيانِه كله عندما يتحدث عن ضرورة الجهاد إلى آخر رمق وعن ضرورة بقاء الجزائر مسلمة تتكلم بلغة الوحي وتحل العربية محل الفرنسية. (وها قد نصر الله الجزائر، ونضر وجوه المجاهدين وعاد الدخيل من حيث جاء، واندحر أتباعه وأعوانه).
فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم … كباطل من خلال الحق منهزم
ومعرفتي بالشيخ البشير الإبراهيمي تجعلني أتساءل عن حدود الوفاء للقيم والمبادئ التي عاش من أجلها ومات في سبيلها؟.
إني أتخيله حيًا، وأتصور أنه يسمع رجلاً يرطن بالفرنسية، ما أحسبه يتركه دون تقريع وتعنيف بالغين. وله الحق في غضبه فإن الاستعمار العسكري ذَنَبٌ والاستعمار الثقافي هو الرأس، والحية لا تموت بقطع ذَنَبِها، بل الأمر كما قال الشاعر:
لَا تَقْطَعَنْ ذَنَبَ ائأَفْعَى وَتُرْسِلَهَا … إنْ كُنْتَ شَهْمًا فَأَتْبِعْ رَأْسَهَا الذَّنَبَا
وعلى الجزائر أن تحرر ثقافتها من التبعية كما حررت أرضها من الاستعمار، والخطوات البطيئة في هذا المضمار لا ترضي شهداءها الأبرار، بل البدار، ليتأكد الانتصار، وتتضاعف الثمار.(4/8)
السياق التاريخي (1952 - 1954)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لقد أتى على الجزائر حين من الدهر لم تكن- عند أخواتها- شيئًا مذكورًا، فَنُسِيت بعد أن كان اسمها على كل لسان، وجُهِلت بعد أن كانت معروفة لدى كل إنسان. ولو اقتصر الأمر على الجهل والنسيان لهان، ولكنه جاوز ذلك إلى تصديق كثير من العرب والمسلمين بأنها قطعة من فرنسا، وتسليمهم بأنها امتداد لها.
وقيَّض الله للجزائر من يُجَلِّي صورتها لأَخَواتِها، ويذكِّرُهُن بها، ويعرفها لهن بأجلى بيان وأفصح لسان، ذلكم هو الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي كان يَرُدُّ - في المشرق- على من يَصفه بعلَّامة الجزائر بأنه "علَامة" الجزائر، وأنه علامة رَفْع، فقد جمع الله فيه "أقباسا من روح جمال الدين، ولمحات من إصلاح محمد عبده، وفيوضا من علم رشيد رضا" (1).
من عوامل نجاح أية حركة هو أن تُرتِّبَ مراحلها، وتضبط أطوارها، بحيث لا تسبق مرحلةٌ مرحلةً، ولا يجاوز طورٌ طورًا، ولا تُسْتَعْجَل نهاية فترة قبل أن تستوفِيَ أَمَدَها، ويحينَ أجلها، ولا تخترق سُنَن الله في النمو الطبيعي لأي كائن.
وكذلك كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فقد أعطت لكل مرحلة حقها، ولم تطلب منها ما لا تحتمله ظروفها الاجتماعية وأحوالها النفسية وأوضاعها السياسية، فلم تتجاوز مرحلة إلى التي بعدها إلا بعد الاطمئنان إلى تمام المرحلة السابقة، فأقامت كيانها طبقًا عن طبق، وأعلت بنيانها سافًا بعد سافٍ، مما جعلها تسلم من الانتكاس، وتنجو من الارتكاس.
__________
1) من حديث الأستاذ العراقي محمد عبد الله الحسو عن زيارة الإمام الإبراهيمي للعراق، «البصائر»، عدد 200، الجزائر في 8/ 9 /1952.(4/9)
بلغت الجمعية- بعد عشرين سنة من تأسيسها- أشدها، واستوت على سوقها، واستغلظ عودها وتجذرت مبادئها في عقول الجزائريين، ورسخت في قلوبهم، بعد أن رأوا بأعينهم وأدركوا ببصائرهم حجم التغيير النفسي والتطور العلمي والوعي السياسي الذي أحدثته، فعلقوا عليها آمالهم:
جمعية العلماء المسلمين، ومَن … للمسلمين سواكِ اليوم منشود
خاب الرجآ في سواكِ اليوم، فاضطلعي … بِائعِبْءِ، مذ فرَّ دجال ورعديد
أمانة الشعب، قد شُدت بعاتقكم … فما لغيركمُ تُلقَى المقاليد (2)
وأدركت الجمعية أن المسؤولية الملقاة على عاتقها- دينيا وعلميًا وسياسيًا- أكبر من طاقتها، وأضخم من إمكاناتها، فولَّت وجهها إلى أخواتها، وقررت أن تستغل عمقها الاستراتيجي، وهو العالم العربي والإسلامي.
لقد بدأت جمعية العلماء هذه المرحلة بفتح مكتب لها في آخر سنة 1950 بالقاهرة، فهي أهم مركز حضاري وثقافي وسياسي في الشرق آنذاك، وهي مقر جامعة الدول العربية، وملتقى صفوةِ المفكرين وخِيرَةِ العلماء العرب.
ثم خطت الجمعية خطوة أخرى في خريف سنة 1951، فعينت كوكبة من العلماء ذوي السمعة الواسعة، والشهرة الذائعة، والمكانة الرائعة والمصداقية الكبيرة في أوطانهم وفي العالم الإسلامي، عينتهم رؤساء شرفيين لها (3)، ليقوموا بالتعريف بها وبالقضية الجزائرية التي تجاهد في سبيلها في أوساطهم ولدى المسؤولين في أوطانهم.
ثم اتصلت مباشرة- بواسطة رئيسها الإمام الإبراهيمي- في آخر سنة 1951 بالوفود العربية والإسلامية في مؤتمر الأمم المتحدة الذي عقد بباريس، حيث "اقترح عرض قضية الجزائر على الجمعية العامة في دورتها الحالية" (4).
ثم أوفدت رئيسها إلى المشرق في مارس 1952، سفيرًا للجزائر، وناطقًا باسم شعبها، ومعرفًا بقضيتها، ومطالبًا- وهو من لا يعجزه بيان ولا يخونه لسان- بحق الأخ على أخيه، ومذكِّرًا بواجب الأخ نحو أخيه، "وأنها- الجمعية- لا ترضى بما دون الواجب، ولا ترضى لنفسها بالتصدق والامتنان والمجاملة" (5).
__________
2) مفدي زكريا: ديوان اللهب المقدس، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1983، [ص:268]. والمعروف أن مفدي زكريا هو أحد قادة حزب الشعب الجزائري.
3) انظر أسماءهم في السياق التاريخي للجزء الثاني من هذه الآثار.
4) محمد فاضل الجمالي: الشيخ البشير الإبراهيمي كما عرفته، مجلة الثقافة، عدد 87، الجزائر، مايو، يونيو 1985. [ص:123]. وكان فاضل الجمالي آنذاك وزيرًا للخارجية في الحكومة العراقية.
5) انظر مقال "مذكرة إيضاحية" في هذا الجزء من الآثار.(4/10)
غادر الإمام الإبراهيمي الجزائر يوم 7 مارس 1952؛ موليًا وجهه شطر المشرق العربي، وكانت سمعته العلمية والسياسبة قد سبقته عن طريق ما سَلَفَ ذِكْرُه، وعن طريق جريدة البصائر التي كان الإمام يحرص على إرسالها إلى شخصيات مرموقة في المشرق، وعن طريق كثير من الطلاب العرب الذين كانوا يدرسون في فرنسا، وكانوا على صلة بشُعَب جمعبة العلماء فيها، وأصبحوا- بعد عودتهم- مسؤولين وأساتذة مثل محمد المبارك، وعمر بهاء الدين الأميري، وصبحي الصالح، وجميل صليبا.
كانت سفارة الإمام الإبراهيمي إلى المشرق متعددة المهام، متنوعة الجوانب. وقد جرى التركيز- حتى الآن- عند الحديث عن هذه السفارة على الجوانب التربوية والعلمية، وأُهمل الجانب السياسي المحلي والعري والإسلامي، وهو جانب لا يقل أهمية عن الجوانب، التربوية والعلمية إن لم يفقها.
إن الجانب السياسي لهذه السفارة سيتجلَّى إِنْ قُدِّر للوثائق الرسمية للدول التي زارها، ولجامعة الدول العربية أن تنشر، أو ظهرت مذكرات الشخصيات السياسية التي التقى بها، أو اُطُّلعِ على تقارير السفارات والقنصليات والمخابرات الفرنسية في تلك الدول في ذلك العهد.
إنه ليس معقولًا أن يلتقي الإمام الإبراهيمي- ذو النظرة الشمولية للقضايا- ملك دولة أو رئيسها مدة ساعة أو أكثر؛ ليقتصر في حديثه معه على قبول عددٍ من الطلبة الجزائريين في معاهد وجامعات بَلَدِ ذلك الملك أو الرئيس، كما أنه ليس معقولاً أن يقبل الإمام أن تطول سفارته حولين كاملين (52 - 54) من أجل الحصول على عددٍ من المنح مهما كَثُر، لو لم يكن السعي لتحرير الجزائر هو الهدف الحقيقي لرحلته.
إن الذي يقرأ- بتمعن- بعض ما كتبه الإمام الإبراهيمي في هذين السنتين يُحِسُّ البعد السياسي لمهمته، المتمثل في السعي لتحرير الجزائر، فقد جاء في مقاله الرائع "تحية غائب كالآيب" (6)، وهو يخاطب وطنه: " ... وأما فِراقك فشدة يعقبها الفرج"، ويصف عمله في الشرق بأنه "سعيٌ في كشف غمتك"، ويَهوِّنُ عليه غيابه "فلا يَهُولَنَّك فراغك مني أيامًا، فعسى أن يكون المسك ختامًا، وعسي أن تسعد بآثار غيبتي أعوامًا"، ويبعث بتحياته إلى الشباب الجزائري ويُذَكِّر بالمهمة التي أُعِدُّوا لها " ... ومن شُبَّان ربيناهم للجزائر أشبالًا، ووترناهم لعدوها قِسِيًّا ونِبالًا، وصوَّرنا منهم نماذج للجيل الزاحف، بالمصاحف، وعلمناهم كيف يُحْيُون الجزائر، وكيف يَحْيَون فيها".
__________
6) انظره في هذا الجزء من الآثار.(4/11)
وقد بيَّن في مذكراته إلى جامعة الدول العربية أن غاية الجمعية "هي تحرير الشعب الجزائري" (7)، و"أنها بدأت بتحرير العقول تمهيدًا للتحرير النهائي" (8)، وأنها "تربيه لا على المطالبة بحقه؛ بل أخذ حقه بيده" (9)، وذكَّر هذه الجامعة بأنها "ملزمة- بروح ميثاقها- أن تحرر كل عربي بالمستطاع من وسائلها" (10)، وأنها "إذا كانت لا تستطيع تحرير الجزائر عسكريًا لاستحالة ذلك في الوقت الحاضر، فلا أقل من أن تعاوننا بالحظ الأوفر على تحرير العقول" (11)، مع مطالبة "حكوماتنا العربية أن تقف موقف الحزم والصلابة من فرنسا المتعنتة" (12)، وفي هذا الإطار يندرج اجتماعه باللجنة السياسية لجامعة الدول العربية وطلبه منها "أن تُعْنى عناية خاصة بالقضية الجزائرية، وتساعد الشعب الجزائري على الحصول على حقه في تقرير مصيره" (83).
والذي أراه هو أنه ما مَنعَ الإمام الإبراهيمي من إبراز هذا الجانب السياسي في سفارته، والتركيز عليه في كتاباته في الصحف والمجلات، وفي ندواته الصحفية، وأحاديثه الإذاعية، وخطبه الجماهيرية، إلا خشيته من انتقام فرنسا من مدارس جمعية العلماء بإغلاقها، وبطشها بمعلمي الجمعية بسجنهم، ونتيجة ذلك كله حرمان آلاف التلاميذ، وضمهم إلى أضعاف أضعافهم المشردين في الشوارع. أما في المجالس الخاصة فكان حديثه "عن استقلال الجزائر وتحريرها من نير الاستعمار" (14).
لم يُنْس الإمامَ الإبراهيمي همُّ وطنه همومَ أشقائه في المغرب وتونس، فبعث برقيات احتجاج وتنديد إلى المسؤولين الفرنسيين على موقفهم تجاه السلطان الشرعي للمغرب محمد الخامس، الذي بعث إليه برقية يذكِّرُه فيها "أن التفريط- في الأمانة- خيانة لله وللوطن والتاريخ" (15)، وطالب الجامعة العربية "اتخاذ موقف أسرع وأجرأ وأحزم" (16)، كما أثار القضية التونسية- في رحلته إلى باكستان- مع وزير خارجيتها، وخصها بكلام مؤثر في مؤتمره الصحفي هناك (17).
__________
7) انظر مقال "مذكرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية" في هذا الجزء من الآثار.
8) نفس المقال.
9) انظر مقال "رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي" في هذا الجزء من الآثار.
10) نفس المقال.
11) انظر مقال "مذكرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية" فى هذا الجزء من الآثار.
12) نفس المقال.
13) جريدة المنار، السنة الثالثة، عدد 40، الجزائر 10 أفريل 1953.
14) جميل صليبا: مقتطفات من مذكرات جميل صليبا عن الشيخ الإبراهيمي، مجلة الثقافة عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985، [ص:36].
15) انظر تلك البرقيات في هذا الجزء من الآثار.
16) نفس المقال.
17) انظر مقال "رحلتي إلى الأقطار الإسلامية، الحلقة 5" في هذا الجزء من الآثار.(4/12)
إن الإمام الإبراهيمي يؤمن أن أكبر عللنا التي أطمعت أعداءنا فينا، وأطالت أيامهم في بلداننا هي تفرق كلمتنا، وتمزق شملنا، وتصدع صفنا؛ فقضى حياته داعيًا إلى الوحدة، جامعًا للشمل، راتِقًا للصف بين أبناء الوطن الواحد وبين أقطار الأمة. وقد صادف وجوده في المشرق بداية الخلاف بين حكومة الثورة المصرية وبين جماعة الإخوان المسلمين، فاستغل مكانته لدى الفريقين، وسعى- بوازعه الديني، وحسه السياسي- إلى رأب الصدع، فاجتهد "أن يسد- بينهما- الفجوة" (18).
لقد شغلت وحدةُ المسلمين فكر الإمام الإبراهيمي، وملكت عليه مشاعره، وأخذت نصيبًا موفورًا من كتاباته، ومحاضراته، ونصائحه للحكام ولقادة الأحزاب. وهو ينظر إليها- كما أسلفت- من زاويتين: الزاوية الدينية، فالمؤمنون إخوة، وأمة واحدة بنص القرآن الكريم، وهم جسم واحد بنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛
والزاوبة السياسية لدرء الأخطار التي تحيط بهم، وجلب المنافع إليهم. وقد ضرب لهم المثل بالغرب الذي يفرقه كل شيء، ويوحِّدُه الكيدُ للمسلمين، حتى يصبح ذلك الكيد كَالرَّحِمِ "يرعاها الغربي للغربي" وأنه لولا- تلك الغَرْبِيَّة- ما استعبدت السبعة سبعين (19).
من أجل ذلك اعتبر الإمام الإبراهيمي "السبب الأكبر لرحلتي هذه بعد الدراسة والتعارف هو السعي في إحياء الجامعة الإسلامية التي هي خير ما يجتمع عليه الشرق وأممه وملله" (20)، فجدد- بذلك السعي- هذه الفكرة التي كان الغرب يرتعد لمجرد ذكرها، لأن معناها بروز كتلة سياسية على المسرح العالمي، تهتدي بالإسلام وتتخذه شرعة ومِنْهاجًا، ويتعاون أجزاءها للتخلص من السيطرة الأجنبية سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، بل وتقدم للبشرية مشروعًا حضاريًا قويمًا يحررها من إرهاب الشيوعية غير الفطرية، وينقذها من استغلال الرأسمالية غير الخلقية.
إن أولى الناس بالتجاوب مع الإمام الإبراهيمي في كل ما دعا إليه هم نُظراؤه من العلماء، ولكن يبدو أنه كان كمن يطرق حديدًا باردًا؛ نستشف ذلك من مقاله القيم "وظيفة علماء الدين" (2) ومقاله "متى يبلغ البنيان؟ " (22).
__________
18) انظر مقدمة الشيخ محمد الغزالى لهذا الجزء من الآثار.
19) انظر مقال "عيد الأضحى" في الجزء الثالث من هذه الآثار، ويشير بالسبعة إلى الهولندينين الذين يبلغ عددهم سبعة ملايين، وبالسبعين إلى السبعين مليون أندونيسي.
20) انظر مقال "في الموصل" في هذا الجزء من الآثار.
21) انظره في هذا الجزء من الآثار.
22) انظره في هذا الجزء من الآثار.(4/13)
لقد وصف هؤلاء القَعدَة من العلماء بأنهم "يتناولون الأمور الكبيرة بالعقول الصغيرة، والأنظار والقصيرة" (23)، وشنع عليهم تقصيرهم في واجب النزول إلى الميدان، وأخذ عليهم التزامهم بيوتهم أو مساجدهم، منتظرين إقبال الناس عليهم، متكئين على مقولة "العلم يُؤْتَى ولا يأتي"، وهي كلمة- كما يقول- لا تصدق في كل زمان، "وإنما تصدق هذه الكلمة في علم غير علم الدين، وإنما تصدق بالنسبة إليه في جيل عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أما في زمننا وما قبله بقرون فإن التعليم والإرشاد والتذكير أصبحت بابا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنما يكون في الميادين حيث يلتقي العدو بالعدو كفاحًا" (24). وحاول أحدهم أن يبرر تقصيره بقوله: "إن هذه الكلمة قالها مالك للرشيد"، فرد عليه الإمام: "إن هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم، أما زمانك هذا فإن هذه الخلة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك" (23).
ومن أَشدِّ المآخذ التي أخذها الإمام الإبراهيمي على هذا الصنف من العلماء قبولهم الإعفاء "من الجندية التي هي حلية الرجال، وإن في قبول العلماء لهذا الإعفاء، وسعيهم له لشهادة يسجلونها على أنفسهم بفقد الرجولة ... فهل يعلمون أن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الملوك الصالحين ما كانوا ليعفوا عالمًا من بعوث الجهاد والفتح؟ وما كان مسلم فضلاً عن عالم ليطلب الإعفاء أو يتسبب له، أو يرضى به لو عرض عليه، بل كانوا يتسابقون إلى ميادين الجهاد، والعالم الديني- دائمًا- في المقدمة لا في الساقة، ولقد كانوا يعُدُّون الاعتذار عن الخروج من سمات المنافقين" (26).
إن فكرة الجامعة الإسلامية التي آمن الإمام الإبراهيمي بها، ودعا إليها، وسعى في سبيلها، وحث على إحيائها قد تجسدت- فيما بعد- في "منظمة المؤتمر الإسلامي". وإذا كان أثر هذه المنظمة ضعيفًا، وعملها قليلاً، فما ذلك إلا لأن كثيرًا من المسؤولين في العالم الإسلامي يقولون فيها بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويؤمنون بها وجه النهار ويكفرون بها آخره، ويقولون للشعوب الإسلامية أشياء، وإذا خلوا إلى أسيادهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزئون. أما الإمام الإبراهيمي فما عليه- كعالم- إلا البلاغ، وقد بلغَّ، وما عليه إلا التذكير وقد ذَكَّر، وما عليه إلا البيان وقد بيَّن، لم يَتَلَجْلَجْ له في ذلك لسان.
__________
23) انظر مقال "متى يبلغ البنيان؟ " في هذا الجزء.
24) من مقال "وظيفة علماء الدين، الحلقة 3" في هذا الجزء.
25) نفس المقال.
26) نفس المرجع والمقال.(4/14)
أما المهمة الأخرى التي قام بها الإمام الإبراهيمي في سفارته إلى المشرق، فهي السعي لدى حكوماته لقبول عدد من الطلبة الجزائريين في معاهد بلدانها وجامعاتها، وتخفيف العبء في هذا الميدان عن جمعية العلماء. ويبدو أن هدف الإمام في هذا المجال ليس- فقط- حصول أولئك الطلبة على نصيب من العلم ومقدار من المعارف، ولكنَّه- أيضًا- ربط الصلة بينهم وبين لِدَاتهم في الدول العربية الأخرى، ونَقْبُ ذلك السور الذي ضربته فرنسا بين أبناء الجزائر وإخوانهم في البلدان العربية والإسلامية، فالتعارف مدعاة للتآلف، والتناكر مدعاة للتخالف، وقد واصلت الثورة الجزائرية تنفيذ هذه الفكرة.
وقد أسفرت جهوده في هذا الميدان على قبول أكثر من 200 طالب جزائري في معاهد وجامعات مصر والعراق، وسوريا والكويت والسعودية (27).
كما استطاع أن يحصل على الاعتراف بشهادات جمعية العلماء، "ومن نِعم الله علينا- ثم بفضل مساعي الأستاذ الرئيس- أن اعترفت المعاهد الشرقية رسميًا بالشهادات التي تعطيها جمعية العلماء ومؤسساتها لتلاميذنا، وجعلها مساوية لمثيلاتها من المعاهد الرسمية التي تشرف عليها الحكومات الإسلامية تونس، ومصر، وسوريا، والعراق" (28).
إن ذلك الاعتراف لم يكن مجاملة للجمعية ولرئيسها، فما في العلم من مجاملة، وليس الإمام الإبراهيمي بالذي يقبل المجاملة في العلم. فالاعتراف- إذن- هو نتيجة اقتناع مسؤولي التربية والتعليم في تلك الدول بجهود جمعية العلماء في هذا الميدان، واعتراف بفعالية تنظيمها، وجدية نظامها والمستوى الجيد لطلابها ومعلميها.
وقد تمكن الإمام الإبراهيمي أن يزود معهد الإمام عبد الحميد بن باديس بمجموعة من الكتب، منها ألف مجلد تبرع بها الأمير سعود بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية (29). وذكر الدكتور جميل صليبا- أحد تلامذة الإمام الإبراهيمي في دمشق بين سنتي 1917 - 1920 - أنه جمع لفائدة جمعية العلماء- بطلب من الإمام- "عددًا كبيرًا من الكتب المدرسية وغير المدرسية"، ولاحظ الإمام أن ما جُمع ليس بينه مجلة واحدة فقال: "إن المجلات تهمه أكثر من الكتب، لأنها تعبر عن الحركة الأدبية والنشاط الفكري أكثر
__________
27) انظر تفصيل ذلك في مقال "مشكلة العروبة في الجزائر" في الجزء الخامس من هذه الآثار.
28) محمد خير الدين: مذكرات ج 1 [ص:224].
29) انظر مقال "مذكرة إيضاحية" في هذا الجزء من الآثار.(4/15)
من الكتب المترجمة أو المطبوعة لغرض ثقافي معين، فجمعتُ له ما توافر لدي من أعداد مجلة الثقافة، ومجلة المعلم العربي ومجلة المجمع العلمي العربي وغيرها" (30).
وحصل الإمام على مساعدات مالية لجمعية العلماء "أُرْسلت من أقطار عربية مختلفة وفي أزمنة متفاوتة إلى مركز جمعية العلماء بالجزائر، وأرسلت الإيصالات إلى أصحابها مقرونة بالشكر" (31).
وفي أثناء هذه الفترة 52 - 54 جاب- رغم تقدم السن وآلام المرض- عددًا من الأقطار هي باكستان، والعراق، ومصر، وسوريا، والأردن، والضفة الغربية، والحجاز، والكويت، ولم يكتف في زيارة هذه البلدان بعواصمها؛ بل كان يتنقل بين مدنها، وقد تردد عليها أكثر من مرة.
فالتقى المسؤولين السياسيين في تلك الدول، واجتمع بزعماء أحزابها ورؤساء جمعياتها، وكبار علمائها، وعِئية القوم من أبنائها، وأصحاب الأقلام فيها، واحتك بجماهيرها. فرفع المذكِّرات السياسية، وقدم التقارير العلمية عن حالة الجزائر، فصوَّر معاناتها وأوضح عمق محنتها، ودرَّس في المساجد، وحاضر في النوادي والجامعات، وخطب في التجمعات والمؤتمرات، وتحدث في الإذاعات، وكتب في الصحف والمجلات، وعلى القارئ أن يتصور مبلغ الجهد الذي بذله، ومقدار العمل الذي قام به في هذين السنتين عندما يعرف أنه ألقى بباكستان وحدها- في مدة ثلاثة أشهر- 70 محاضرة (32).
إن المحاور الأساسية التي أدار عليها الإمام الإبراهيمي نشاطه هي:
1) الجزائر: فهو سفيرها، والناطق باسمها، والمصور لمحنتها، والمعبر عن آمالها، فكان يهتبل الفرص للحديث عنها، ويخلق الأجواء للتذكير بها، فهي دائمة الحضور في عقله، جارية على لسانه، حاضرة حتَّى في لباسه، وأَنَّى له نسيانها وهو "يعتقد أن في كل جزيرة قطعة من الحسن وفيك الحسن جميعه، لذلك كُنَّ مفردات وكنت جَمْعا. فإذا قالوا: (الجزائر الخالدات)، رجعنا فيك إلى: توحيد الصفة وقلنا (الجزائر الخالدة) (33)، وما كان يُهوِّن عليه أتعاب السفر، ويخفف عنه لغوب الحَضَر، إلا يقينه أن ذلك "مزيد في قيمة الجزائر"، التي "لو تبرَّجَتْ لي المواطن في حُلَلِها، وتطامنت لي الجبال بقللها، لتفتنني عنك
__________
30) جميل صليبا: مقتطفات من مذكرات جميل صليبا عن الشيخ الإبراهيمي ... مجلة الثقافة عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985. [ص:57].
31) انظر مقال "مشكلة العروبة في الجزائر" في الجزء الخامس من هذه الآثار.
32) انظر مقال "من أنا؟ " في الجزء الخامس من هذه الآثار.
33) انظر مقال "تحية غائب كالآيب" في هذا الجزء من الآثار.(4/16)
لما رأيت لك عديلًا، ولا اتخذت بك بديلًا" (34). وكان يشيد برجولة أبنائها، واعتزازهم بنسبهم العربي، واعتصامهم بحبل الله، وكان يذكِّر الجميع بحق الجزائر عليهم، وبأن واجبهم نحوها واجب عيني لا كفائي، لأنها ثغر من ثغورهم، ورباط من رباطاتهم، وحصن متقدم من حصونهم. وقد كان يفعل ذلك في عزة المؤمن، وصراحة الإنسان الجزائري، وهمة العالم، "ولقد عشتُ معه شهرًا بالشرق، وحضرت بعض زياراته لبعض الرؤساء والملوك العرب، فكانت تتجلى فيه صفة العالم المسلم؛ يخاطبهم بأسمائهم، ويكلمهم بصراحة لم يتعودوها" (35).
وقد ظهر أثر عمل الإمام الإبراهيمي في تلك الاستجابة التلقائية للبلدان العربية والإسلامية- قادة وشعوبًا- لاحتضان الجهاد الجزائري الذي اندلع في نوفمبر 1954، ودعم المجاهدين الجزائريين بجميع أنواع الدعم المادي والمعنوي، ولولا ذلك العمل الكبير الذي ذكَّر العقول، وهيأ النفوس، وحرك الأحاسيس لما كان تحرُّك العرب لفائدة القضية الجزائرية بتلك السرعة، ولما كان دعمهم لها على ذلك المستوى. لقد بَلَّغَ الإمام والله أثبت، وقد زرع والله أنبت.
2) الإسلام وحقائقه، وعظمة تشريعه وواقعيته، ونبل مقاصده، وسمو مبادئه، وقدرته لا على حل مشكلات المسلمين فقط، بل على حل مشكلات البشرية جميعها. ولذلك كان الإمام كثير المؤاخذة للعلماء الذين يأخذون الإسلام تفاريق، ويخضعون كلياته لجزئيات مذاهبهم، ويصرفون المسلمين عن القرآن بدعوى "أنه عالٍ على الأفهام، وما دروا بأن لازم هذا المذهب كفر، وهو أنه إذا كان لا يفهم فإنزاله عبث، وأَنَّى يكون هذا؟ ومنزله- تعالت أسماؤه- يصفه بأنه عربي مبين، وأنه غير ذي عوج، وأنه ميسر للذكر، وينعته بأنه يهدي للتي هي أقوم، وكيف يهدي إذا كان لا يفهم؟ " (36).
3) حاضر المسلمين السيئ، وواقعهم المزري، وتشتتهم الفظيع، وتدابرهم المريع، مما سهل على الدول الأجنبية استعبادهم، بل وضرب بعضهم ببعض. فكان يدعو إلى توحيد الكلمة، وَلَمِّ الشمل، ورأب الصدع، ورتق الشق، فإذا فعلوا ذلك استطاعوا- رغم ضعفهم المادي- أن ينالوا من عدوهم، وأن يخدشوا إن لم يقدروا على أن يبطشوا، وأن يكونوا- بموقعهم- غصة في حلقه، وجلطة في دمه. لقد كان يصور بحق، ويعبر بصدق.
__________
34) نفس المقال.
35) حمزة بُوكُوشَة: "لحظات مع الشيخ الإبراهيمي" جريدة الشعب، عدد 2309، الجزائر في 21/ 5/ 1970.
36) انظر مقال "دولة القرآن" في هذا الجزء من الآثار.(4/17)
4) العناية باللغة العربية، وجعلها لغة المسلمين كما كانت في صدر الإسلام، لأنها الوسيلة التي تُبقي صلة المسلمين بمصدري دينهم وبتراثهم قائمة. وكان يقول للمسلمين من غير العرب "إن اللغة العربية ليست لغة العرب حتى توضع في موازين الترجيح، وتتعاورها العصبيات بين جنس وجنس، أو تعلو إليها الأنظار الشعوبية، ولكنها لغة القرآن، وخِيَرَةُ الله لكتابه، وإذا كان للعرب عدو أو منافس ينازعهم المفاخر، أو يجاذبهم المحامد، أو يغض منهم، أو ينكر عليهم، فليس للقرآن عدو بين المسلمين، وعدو القرآن ليس من أمة القرآن، ففي هذه المنزلة أنزلوا هذه اللغة، وعلى هذه الأصل فخذوها" (37).
لقد أنزل العرب والمسلمون الذين التقوا بالإمام الإبراهيمي وتعرفوا إليه، أَنْزَلوه المنزلة اللائقة، وأحلوه الصدارة من مجالسهم، فقد رأى فيه الحكام صدق القول، وإخلاص القصد، وإباء للمشارب الكدرة، وترفعًا عن المطامع، وسموًا عن الصغائر.
ورأى فيه العلماء وأرباب الفكر- بالإضافة إلى ما سلف- علمًا غزيرًا، وفكر منيرًا، ورأيا سديدًا، وبصرًا حديدًا، وسعيًا في الخير بريئًا، ولسانًا في الحق جريئًا، واكتشفوا فيه الفقيه الذكي (38)، والعالم اللغوي (39)، والخبير الاجتماعي، والمؤرخ البعيد النظر، العميق التحليل، والأديب المتمكن، والناقد البصير، والكاتب القدير، والخطيب المصقع والسياسي البارع، فذكَّرهم- بذلك كله- بأعلام المغرب العربي وأساطينه وجهابذته، ذكَّرهم بابن رشيق المسيلى في عمدته، وبالمقري في نفحه، وبالونشرسي في معياره، وبالشاطبي في موافقاته، وبابن خلدون في مقدمته، وبابن معطي الزواوي في ألفيته، وبعبد الرحمن الأخضري في جوهره، وبابن رشد في فصل مقاله، وبابن عبد ربه في عقده وغيرهم، مما جعل "أدباء القاهرة وعلماءها يهرعون إليه ويتزاحمون عليه (40)، وأدباء العراق وعلماءه يعترفون "ونحن فى العراق هز عواطفنا وألهب أحاسيسنا في محاضراته وأحاديثه، لم نشهد أديبًا أو داعية بمقدرته وطول نفسه، وإجادته لفن القول وسعة اطلاعه" (41)، ويؤكد ذلك كله الشيخ عبد الحميد السائح، الرئيس السابق للمجلس الوطني الفلسطيني، فيقول: " ... أما العلَّامة محمد البشير الإبراهيمي فقد لقيته وخبرته، وسبرته، وكاشفني وكاشفته، حتى عرفت صدق عزيمته، وصافي طويته ... لقيته متحدثًا حديث المؤمنين الصادقين،
__________
37) انظر مقال "رحلتي إلى الأقطار الإسلامية، الحلقة 5" في هذا الجزء من الآثار.
38) انظر تعليق الإمام الإبراهيمي على ضياع أضاحي المسلمين في مِنًى، في مقدمة الشيخ محمد الغزالي لهذا الجزء من الآثار.
39) انظر مراجعته للأستاذ عبد العزيز الميمني في هذا الجزء من الآثار.
40) انظر مقدمة الشيخ الغزالي لهذا الجزء من الآثار.
41) جمال الدين الألوسي: الجزائر بلد المليون شهيد، بغداد، مطبعة الجمهورية، 1970، [ص:153].(4/18)
وسمعته محاضرًا كالسيل الهادر، وخبرته ثائرًا لا يقر له قرار، ما دام للاستعمار أثر في ديار الإسلام، وعرفته داعية صادقًا للإسلام في صفائه وإشراقاته، ومبشرًا بسمو مبادئه، وعرفته حكيمًا حازمًا في إدارة الجلسات، وإدراك ما يدور فيها من اقتراحات ومناقشات، يضع كلا في نصابه ومكانه المناسب مما جعل له في نفسي مكانة لا تبارى، ومنزلة في الذؤابة لا تجارى ... هو المصلي في الميدان والمبرز بين الأقران" (42).
كل أولئك أهَّله لدخول المجمع العلمي بدمشق، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ولو لم ينهكه المرض، ويشغله جهاد الجزائر، وما يوجبه عليه من سعي دائب لدعمه وحشد التأييد له؛ لكانت مساهمته في المجمعين متميزة، فهو "من بقايا حراس لغة العرب" (43). ورغم ذلك فقد "كنا نعول التعويل كله على مساهمته والإفادة من علمه وفضله" (44).
وإذا كانت العادة قد جرت بأن يُهَنَّأَ المختارون لعضوية مثل هذه المؤسسات، فإن الأستاذ محمود جبر- شاعر آل البيت، وشاعر جمعية الشبان المسلمين- قد خرق هذه العادة، وهنأ مصر والمجمع اللغوي بذلك الاختيار، فكتب مخاطبًا الإمام الإبراهيمي: "أَشُدُّ على يدك، فخورًا بك، وأهنئ مصر بتوفيقها إليك .. إن نسبة المجمع اللغوي إليك فخر له وذخر ... فأنت موسوعة الموسوعات، ومعهد العلماء، وحسن الأدب وحقيقته" (45).
محمد الهادي الحسني
البليدة (الجزائر)، 28 أكتوبر 1996.
__________
42) عبد الحميد السايح: عالم ثائر، مجلة الثقافة، عدد 87، الجزائر، مايو- يونيو 1985، [ص:103].
43) انظر "رسالة إلى الأستاذ خليل مردم" في هذا الجزء من الآثار.
44) إبراهيم مدكور: المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء13، القاهرة 1962، [ص:129].
45) انظر نص الرسالة في: محمد خير الدين، مذكرات، ج 1، [ص:373].(4/19)
في باكستان
(من مارس إلى يونيو 1952)
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/21)
رحلتي إلى الأقطار الإسلامية *
- 1 -
قبل أن أشرع في نشر هذه السلسة من المقالات عن رحلتي، يتقاضاني خلق الوفاء أن أقدّم بين يديها على صفحات «البصائر» التحيات القلبية الخالصة إلى إخواني أعضاء العلماء جمعية الجزائريين، شركائي في الجهاد، وأعواني على العمل، وخلفائي على تلك الحركة المباركة الحيّة المحيية، تحيات تحفها نفحات الشرق، وتزفها لمحات البرق، وتكنفها فرحتا المؤمن الصائم حتى ما بينهن فرق، وتختمها شهادتي بأن أولئك الإخوان هم ذخري إذا أعدت الذخائر، وهم فخري إذا عدت المفاخر.
وإلى شيوخ وطلاب المعهد الباديسي الذي أوفى للأمّة الجزائرية بنذرها، وزكّى لها النبات من بذرها، وكان- بآثاره- كفّارة ماحية لسوء تقصيرها، وحسنة كفيلة بحسن مصيرها.
وإلى أبنائي المعلّمين، جنود العلم المرتبة، وكتائبه المكتبة، ففد كنت أحييهم- على القرب- في كل سنة عندما تنتهي الامتحانات، تحية أمسح بها عن نفوسهم الجاهدة نصب عامها، وأنضح بريق الأدب جفاف أيامها، وشاء الله أن أحييهم في هذه السنة وبيني وبينهم من ذرع الكرة الأرضية أكثر من ربعها، ليعلموا أني أذكر عهودهم، مبدئًا ومعيدًا، وأشكر جهودهم قريبًا وبعيدًا.
وإلى ذلك "الحرس المتنقل" في سبيل الحق، المتفرق لجمع القلوب على كلمة الحق، السائق إلى الله عباده، في شهر العبادة.
وإلى أعضاء الشُّعَب: أعضاء الجمعيات المحلية، الذين هم الجهاز المحرّك، والعصب المصرف، والجوارح المنفذة.
__________
* «البصائر»، العدد 194، السنة الخامسة، 23 جوان 1952.(4/23)
وإلى الأمة الجزائرية الباذلة لموجودها، في سبيل وجودها، التي أقرضتُها القرض الحسن، فوفته اعترافًا، وهجرت في خدمتها الوسن، فمدّت عليّ من الحنوّ طرافًا، أعليت قدرها- ولا منّة- حاضرًا، وعرضت وجهها ناضرًا، ورفعت ذكرها غائبًا، وصيّرت مادحًا لها من كان عائبًا، وعرفت نكرها كاتبًا، وغاليت بقيمتها خاطبًا، وخلعت عليها وصفيها الخالدين: العروبة والإسلام، فزادهما بياني روعة وجلالًا، ثم جلوتها فيهما على أخواتها، فوقفت عليها العيون، وأكبرتها الصدور، وأشهد ما قارنتها بواحدة منهن في هذين فقصرت عن غاية، مع بعد الفارق، وعقوق المارق، وكيد الطارق، ولؤم السارق. فكيف لو أرخى لها الدهر من عنانه؟ وما قلت إنها عربية عريقة إلا أدّى كل حرف من هذه الجملة شهادته، وما قلت إنها كابدت البلاء في سبيل إسلامها إلا فاض الحنان، وثارت الأشجان، وما قلت إنها قهرت في المحافظة على ذينك الوصفين خصومًا لدًّا، وكسرت سواعًا وودًّا، إلا تمنّى كل سامع أن يكونها.
فمني للأمّة الجزائرية تحيات مباركات طيّبات تغمر أجزاءها، وتضمن عني جزاءها.
____
بواعث الرحلة
____
دواعي هذه الرحلة كثيرة، ولكنها ترجع إلى أصل واحد، ومثيراتها في نفسي قديمة العهد، تتصل بما ركب في طباعي من حب الاطلاع والبحث، خصوصًا في شؤون الشعوب الإسلامية، وكانت تذودني عن هذه الرحلة- كلما هممت بها- الأعمال الداخلية لجمعية العلماء، وما هي بالقليلة، وعدم موافقة إخواني عليها، حرصًا منهم على تلك الأعمال أن تختل أو تتعطّل، ونحن معشر هذه الطائفة نعدّ من سعادتنا وسرّ نجاحنا أننا لا نتحرّك إلا عن اتفاق، ولا نسكن- إذا سكنا- إلا عن اتفاق، فلما توافرت الدواعي أذن لي إخواني فكانت الرحلة.
والأصل الذي ترجع إليه تلك الدواعي يتشعّب إلى أربع شعب:
الأولى: دراسة أحوال المسلمين في مواطنهم، وبحث المقارنات والمفارقات القائمة بين تلك الأحوال، ونسبة دركات الانحطاط فيهم إلى درجات الاستعداد للنهوض، وتصحيح الميزان لما تستطيع كل طائفة منهم أن تقدّمه إلى الأخريات من العون والماعون، حتى يحصل التعاون بعد تحصيل أهم أسبابه، وهو التعارف.(4/24)
الثانية: الاتصال المباشر بعلماء الدين، هذه الطائفة التي تجمعنا بها نسبة ووصف، وتشاركنا في العهد الإلهي المأخوذ علينا جميعًا، وفي حمل الأمانة، ولا ندري هل تشاركنا في الوفاء بذلك العهد، وأداء تلك الأمانة. وهذه الطائفة هي أحق الطوائف بقيادة المسلمين إلى السعادة، وجمع كلمتهم على الحق والخير، إذا تسلّحت بما لا ينافي الإسلام من وسائل زمنها، وأنّى يتمّ لهذه الطائفة أن تجمع كلمة المسلمين على الحق والخير، قبل أن تجمع هي نفسها كلمتها على الحق والخير؟ وقبل أن تتفق على مفهوم الحق والخير؟ وعلى كل حال فالاتصال بعلماء الدين ألزم لمثلي من الاتصال بغيرهم من الطبقات النابهة في الأمم الإسلامية، لتعرف طريقة فهمهم للدين وعملهم بالدين، وعملهم للدين، ومدى اقتدارهم البياني والاستدلالي على الدعوة إليه، ومدى استعدادهم للتضحية في سبيله، ومدى اتصالهم بطبقات الأمّة، واتصالهم بالطبقات الحاكمة، أو المستشرفة للحكم: أهو اتصال نفوذ ديني يأمر وينهى، أم اتصال مجاملات عرفية تخضع وتستخذي؟ وأن هذه النقطة هي المحك، وهي الميزان بين عالم وعالم، وأن العالم الديني الذي يعوّل عليه في هذا الباب هو الذي فهم دينه على وجهه الصحيح، وفهم نفسه بوزنها الصحيح، وفهم زمنه على وجهه الصحيح أيضًا، وعرف أمراض المسلمين، ووطن نفسه على علاجها، ونكب عن ذكر العواقب جانبًا، أما الخلاف المذهبي بين العلماء فهو أيسر من أن يقف عقبة في هذا السبيل، وعلاجه - إذا صحّت النيات وعقدت العزائم على توحيد المسلمين- في جملة واحدة: الاتفاق على المتفق عليه، والسكوت على المختلف فيه سكوتًا ينتهي مع طول الزمن إلى نسيان الخلاف، وما أرث الضغائن وأيقظ الفتن إلا الجدل واللجاج، وان المتفق عليه لشيء كثير، وان فيه لخيرًا كثيرًا، وان فيه الكفاية للإصلاح وزيادة.
الثالثة: دراسة أحوال الحكومات الإسلامية القديمة والناشئة، والأصول التي تبني عليها الحكم، والاتجاهات التي تتوجّه إليها من حيث هي حكومات، ومدى تغلغل المؤثّرات الخارجية في أجهزتها الحكومية. كل تلك الدراسة لنعرف أيها أقرب مسافة من روح الإسلام وروح الشرق، وأيها أصلح لأن تكون مثالًا قريبًا للحكم الإسلامي الصالح، حتى يسانده المصلحون بالرأي وحشد المؤهلات فيصبح في وقت قريب محقّقًا لرغائب المسلمين، رادًّا عليهم ما ضاع من أحكام القرآن التي سعد بها سلفهم وأسعد.
الرابعة: دراسة نفسية شباب الأمم الإسلامية المتباعدة الديار، ومبلغ تأثرهم بالعوامل الخارجية التي تبعدهم عن روح الإسلام، ليقدر بقدرها ما يجب لهذه الحالة من علاج، ان الشباب في جميع الأمم، وفي جميع العصور هم الدم المجدّد لحياتها، الناقل لخصائصها بالوراثة، فإذا طرأ على هذا الدم ما يفسده، أو عرض للخصائص ما يزيغها، تهوّر الشباب في عماية، وزعم التطوّر، في هذا التهوّر، فمسخ أمّته وأدغمها في غيرها، ثم لا تكون في ميزان(4/25)
ذلك الغير إلا تابعة مسودة مستعبدة نازلة عن ذاتيتها، لأنها طارت بجناح مستعار، الطائر به واقع، وهذا هو المسخ، بل هذا هو الموت، ومن المؤلم أن يكون القاتل هنا هو الشباب مصدر الحياة والإحياء، وما ركب هذه الشنعاء إلا لأنه انحرف فغرّته التهاويل، وفتنته الأقاويل، ألا إن الشباب هم الساف الجديد في بناء الأمّة، فإذا أفرط في التأثّر رمى الجسم كله بالاعتلال.
هذه حقيقة، يجب أن تقف بجنبها حقيقة أخرى، وهي أن الشباب ليسوا هم المسؤولين عن هذه الجريمة الشنعاء، وإنما المسؤول هو المجتمع الإسلامي المنحلّ المختلّ المعتلّ الذاهل الغائب عن الدنيا، والمسؤول الأول من هذا المجتمع هم أولياء الأمر من آباء وقادة وحاكمين، وفي كلمة واحدة: المسؤول عن كل جيل، لاحق هو الجيل السابق، فإذا تداخلت الأجيال السابقة تعلّقت بهم التبعة جميعًا، ولا عذر يبرئ من هذا الذنب، وسيرى القارئ في أثناء هذه الدراسات شرح هذا الإجمال.
ومن سوء حظ الأمم الإسلامية (وهو في نظرنا وحكمنا من سوء تصرّفها إذ لا مدخل للحظ في مصاير الأمم) أن تطوّرها لا ينشأ في هذا العصر عن استعدادها الطبيعي، وليس لها في أسبابه يد حتى تبنيه طبقًا عن طبق بنظام تدريجي يكمّل فيه الأخير ما بدأه الأول، ولكنها مغلوبة على أمرها، تابعة لغيرها في كل شيء وقد أصبح تيار الحضارة الغربية جارفًا لا يمهل ولا ينتظر، وأصبح شباب الأمم الإسلامية معرضًا لهذا التيار من أول خطوة في الحياة، وقد أخذ عليه الحياة من أقطارها، فتآثر بهذه الحضارة وأعشته أنوارها فأحرقته نارها، والآباء بين غافل، لأنه جاهل، وبين متذمر يدرك العواقب ولكنه لا يصنع لاتقائها شيئًا، والحكومات الإسلامية فيما بلونا من أمرها إما مأخوذة بهذا السحر، فهي تجري وراء الساحر على غير بصيرة، وقد أوحى إليها فيما أوحى أن القيام على الحقول والبقول، ألزم لحياتها من القيام على العقول، وإما متخلفة عن قوافل الزمان، عاكفة على الدمن، معتمدة في العصر الذرّي على سيوف الهند واليمن.
لذلك كله أصبح من الواجب على قادة النهضة الإسلامية وحماتها أن يرسلوا صيحة جهيرة وراء هذا الجيل الراحل عن الديار بروحه وعقله وهواه، ليرجع إليها، وليس براجع إلا إذا عرف لماذا يرجع، وماذا يجد إذا رجع، فلنعرفه أنه سيجد ماضيًا مشرقًا يتصل بحاضره اتصال الأصل بالفرع، وسيجد تاريخًا حافلًا، وذخائر عقلية، ومجالات روحية تمكن له في الإنسالية الكاملة، وتضمن له جميع المتع العقلية والفكرية والروحية والبدنية، إلا هذه الشهوات السطحية والنزوات الحيوانية فليس لها مكان عندنا، ولا قرار في شرقنا، فإذا رجع هذا الشباب من غربته العقلية، وعاد إلى مستقرّه الشرقي، واطمأن إليه أمِنّا على تاريخنا الانقطاع، وأمِنّا على ذخائرنا الضياع، لأنه سيأخذها بقوّة الشباب، ويقين العقيدة، وتزكية(4/26)
العلم، وصدق الشعور، وحيوية الإحساس، ويمسح عنها صدأ الإهمال، ويتناولها بآلات جديدة لم يفسدها الترك والاطراح، ولم يثلمها التقليد كما ثلمها في عقول آبائه وأرواحهم.
هذه هي النقطة التي يجب أن تبدأ منها أعمال المصلحين من حماة الإسلام، وتلتقي عليها جهودهم، وإلا فإنهم يضربون في حديد بارد، فإن كانوا فاعلين فليبدأوا العمل في ميدانين: في البيت الذي هو معمل التكوين، وفي المدرسة التي هي معمل التلوين، وليتعاهدوا البيت بالتطهير وتقوية التربية الدينية في من يلي تربية هذا الجيل من آباء وأمهات، وليحملوا القائمين على هذه المدارس التي يضطرب فيها الجيل على إقرار الدين فيها علمًا وعملًا إلى جانب الدنيا.
هذا هو الجهاد الأكبر الذي لا يعذر المصلحون في العالم الإسلامي في التخلف عن ميدانه، وهو في حقيقته وواقعه معركة بين الإيمان والكفر على شبابنا، فمن ظفر فيها غنمه، وبوادر هذه المعركة تدلّ على أن النصر ليس في جانبنا، ولئن لم نستعدّ للجولة الثانية، إنا إذًا لخاسرون، والجولة الأخيرة ستبتدئ من الصبية قبل الشبيبة، فعلى المصلحين أن يبادروا بتلقيحهم "بالمصل الواقي" وما هو إلا التربية الإسلامية الصحيحة الكاملة، فإن المحافظة على الأرواح ليست أقل شأنًا من المحافظة على الأبدان، وأن يصرفوا عنايتهم واهتمامهم كله إلى هذه الناحية، ولا يتشاغلوا بالآباء ووعظهم فإن هذا عمل لا غناء فيه في مسألتنا، وحسبهم من هذه الطبقات- التي جفّت على عوج، وانطمست فيها آية الفطرة- إصلاح يمنع انتشار العدوى، ويحول دون استشراء الداء، ودون تعطيل الإصلاح.
...
والعجب من ملوك الإسلام وكبراء الشرق، أنهم لا يلتفتون إلى هذه الناحية بل يتركون الشبان تتخطفهم ذئاب الآراء ونسور العقول، ويلهون أنفسهم بهذه الطوائف المدبرة، يهتمون بها ترغيبًا للمصلحة، أو ترهيبًا لدفع المفسدة، فأما العضو الحي الذي سيحمل الأمانة غدًا، ويضطلع بالدولة، ويقود المسلمين إما إلى جنة وإما إلى نار، فإنهم لا يلقون له بالًا، ولو اعتنوا به وأحاطوه بالرعاية لعاشوا به سعداء راضين مطمئنين، وماتوا قبله آمنين على هذه الأمانة.
...
ويح المسلمين! يولد مولودهم، فإما أن يهمل ولا يعلم- وهذا هو الأكثر- فيستقبل الحياة بلا دين ولا دنيا، وإما أن يعلم هذا التعليم الشائع فيجمد وتخمد فيه جذوة الإسلام،(4/27)
وإما أن يسلك به المسلك الثالث وهو التعليم الأوربي أو المطبوع بالطابع الأوربي فيلحد ويحتقر آباءه وأمّته ودينه ولغته ووطنه، فمن للمسلمين؟
...
هنا شكوى متردّدة بين جنبات الشرق، وتهمة مترادّة بين شيوخه وشبابه، أولئك يشكون من هؤلاء أنهم تمرّدوا على الدين فلا يقيمون شعائره، وعلى الفضائل فلا يقيمون لها وزنًا، وهؤلاء يشكون من أولئك أنهم رجعيون جامدون لا يسيرون مع الزمن ولا يتركونهم يسيرون، تسمع هذه الشكوى، وما ثم إلا الشكوى، فأما العمل لإزالتها، والسعي في علاجها، والتقريب بين طرفيها فلا تسمع عنه خبرًا، ولا ترى له أثرًا.
وقد أتاحت لي إقامتي شهرين في باكستان أن أدرس بنفسي حالة شبانها، فرأيت الحالة مشابهة لما عندنا، ثم اجتمعت في كراتشي بنفر من رجالات الشرق النابهين فأخبروني عن أوطانهم متألمين أن حالة الشبّان واحدة، ثم شهد المؤثمر الأخير عدّة وفود من الأقطار الإسلامية، فتهيّأ لي أن أدرس عدة نواح منها هذه، فخرجت بهذه الزفرات التي بثثتها في هذه الكلمات، فإذا أطلت في هذه النقطة فعذري هو هذا، على أنني لم أنته إلى الرأي المفصّل، وسأفصله في "الرحلة" فإنني الآن إنما أكتب إلى «البصائر» وهي صحيفة.
هذه هي المقاصد الأساسية لرحلتي، وإن وراءها لنوافل كثيرة أهمها التعريف بجمعية العلماء وأعمالها للإسلام والعربية، والتعريف بالجزائر والشمال الافريقي كله، فإن إخواننا في الشرق لا يعلمون عنا إلا القليل المشوّه، وقد قمت بهذا التعريف في دواخل باكستان على أكمل وجه، فأصبحت أحوالنا وأعمالنا معروفة على حقيقتها، وأصبحت في نظر المجتمعات التي سمعت عرضها وبيانها مني مما تجب العناية به، ومن تلك النوافل المؤكّدة تصحيح أخطاء السماع بالعيان، ومنها توكيد التعارف بين أجزاء العالم الإسلامي وفتح الباب لتبادل الزيارات، ولم تزل هذه الرحلات عند أسلافنا أخذًا وعطاءً وإفادة واستفادة، وإذا يسّر الله إكمال هذه الرحلة يسّر كتابتها على النحو الذي شرعت فيه، ودوّنت المرحلة الأولى منه، فستكون رحلة عامرة بالمعلومات الصحيحة، والآراء الممحصة إن شاء الله، وسيكون أول مستفيد منها أبناء الشمال الافريقي.
إن هذه المقالات التي أكتبها متتابعة في «البصائر» هي خلاصة المذكرات التي أعددتها لكتاب الرحلة، ومعذرة لإخواننا الشرقيين إذا قرأوا فيها سردًا لتنقلاتي، أو توسّعًا في شيء معلوم عندهم، فإنني إنما أكتب لقومي ومن يليهم، وهم في حاجة شديدة إلى مثل هذه الأخبار، لانقطاعهم عن الشرق وتشوّفهم إلى كل ما يرد منه أو عنه، ومعذرة أخرى إلى قرّاء(4/28)
«البصائر» إذا أحسّوا بتفاوت في أسلوب هذه المقالات، فإن ذلك نتيجة التأثرات المتفاوتة التي ترد على الرحّالة الدارس.
...
____
بدء الرحلة
____
خرجت من الجزائر يوم الجمعة سابع مارس 1952 وشيّعني في المطار إخواني المشائخ الأجلّة الذين أذكر أسماءهم هنا تنويهًا بفضلهم وتجديدًا لذكراهم، الأساتذة: العربي التبسي، ومحمد خير الدين، وعبد اللطيف القنطري، وأحمد توفيق المدني، وحمزة بوكوشة، وباعزيز بن عمر، وولدي أحمد الإبراهيمي، ورجال المركز كلهم، ووفد من أفاضل البليدة، ذكر الله الجميع بخير الذكر، ووصلت إلى باريس بعد زوال ذلك اليوم فتلقاني بالمطار الأستاذان المحاميان عياش ابن عجيلة، وأحمد بو منجل، ولبثت في باريس يومي الجمعة والسبت للاجتماع برئيس الشعبة المركزية لجمعية العلماء وأعضائها ورجال الحركة فيها. وفي مساء الأحد تاسع مارس على الساعة السابعة ركبت القطار السريم إلى رومة وصحبني إليها الأستاذ أحمد بو منجل فوصلناها مساء يوم الإثنين الموالي قبل قيام الطائرة إلى مصر بساعتين، فذهبنا رأسًا من محطة القطار إلى المطار، وفي المطار ودّعني الأستاذ بو منجل راجعًا إلى باريس من ليلته.
قامت الطائرة (وهي تابعة لشركة ك. ل. م. الهولاندية) من مطار رومة على الساعة الثامنة من مساء الإثنين فوصلنا مطار فاروق بالقاهرة على الواحدة بعد نصف الليل، وكانت مرحلة من أجمل المراحل، فالجو صاح والقمر مبدر، والبحر المتوسط تحتنا، مبرقع بقزع من الضباب الأبيض. إنه منظر لم أرَ في عمري أجمل منه، حتى قطعه علينا منظر أضواء المدن المصرية، وبدأت الطيارة تنحدر، وقيل هذا مطار فاروق، وكانت الساعة الواحدة بعد نصف الليل.
كنت أبرقت من باريس إلى مكتب الجمعية بالقاهرة بساعة سفري من رومة وساعة وصولي إلى مصر ورقم الطائرة، وغاب عني أن الأحكام العرفية المنصوبة في مصر تقضي بمنع التجوّل بعد العاشرة ليلًا، لذلك لم أجد في المطار أحدًا ينتظرني، فتوليت الإجراءات القانونية بنفسي، وهي كثيرة معقّدة استغرقت ساعتين من الزمن، ثم ذهبت مع المسافرين في سيارة الشركة المرخص لها إلى الفندق المرخّص له وهو فندق "هليولوليس" بمصر الجديدة،(4/29)
وأنا على يأس من لقاء الجماعة في تلك الليلة، فما راعني إلا وهم مجتمعون في فناء الفندق ينتظرونني، لا يبرحونه حتى إلى المدخل الخارجي لأن ذلك يعدّ تجوّلًا ممنوعًا، وعرفت الأستاذ الصديق سعدي من أول نظرة وقد مرّت على افتراقنا عشرون سنة، وقد بدأت السن تأخذ من معارف وجهه، ولا تسل عما غمرني من السرور لرؤية الأستاذ الصديق، وعما داخالني من الأنس للاجتماع بالإخوان، وقد علموا أن ركاب الطائرات لا بدّ أن يقدموا إلى هذا الفندق فرابطوا فيه، من أول الليل، وأبلغوني تحية صاحب السعادة عبد الرحمن عزام باشا، وصاحب المعالي الدكتور محمد صلاح الدين باشا، وأنهما كانا عازمين على اقتبالي في المطار لو كانت الطائرة تصل نهارًا، ولكن رجال الأمن كانوا متشدّدين في تطبيق قانون منع التجوّل، وقضينا بقية الليلة في بهو الفندق في سمر وحديث إلى الصباح، فنقلوني إلى فندق جزيرة بالاس حيث اتفق مكتب الجامعة ...
- 2 * -
انتقلنا إلى فندق "جزيرة بالاس" لأن مكتب الجامعة العربية ومكتب جمعية العلماء بالقاهرة اتفقا على نزولي فيه، وحجزا لي فيه غرفة للنوم ومكتبًا للاستقبال فيه جهاز تيليفوني، وكان ذلك في الساعة السادسة من صباح يوم الثلاثاء حادي عشر مارس، وما جاءت الساعة الثامنة حتى كان أول زائر صاحب المعالي الدكتور محمّد صلاح الدين باشا، وعبد الرحمن عزام باشا، وكأنما كانا على ميعاد، وذكريات اجتماعي بهما في باريس لم تزل ندية رفافة، تَفغَم وتفعم، وكأن تبكيرهما بهذه الزيارة كان وصلًا لذلك وبقية من معانيه، جزاهما الله عن الوفاء خيرًا. ثم تواترت زيارة الإخوان فملكت الدقائق والثواني، وآنست نفسًا طال شوقها إلى مثل هذه المجالس وهؤلاء الإخوان وهذه الأحاديث وأنست الراحة والنوم مع شدة الحاجة إليهما، وما الأسير العاني اشتبهت أيامه، وطال في الأغلال مقامه، حتى إذا استيأس جاءته البشرى بالسراح، وحرية البراح، ولا الغائب المنقطع، تلقّته الأقطار بخيبة الأوطار، فلجّ في ركوب الأخطار، "ليبلغ عذرًا أو ينال رغيبة" ثم فاجأته الأقدار بالرجوع إلى الأهل والدار، مقضي المآرب، مهنأ المشارب، بأطيب نفسًا، ولا أقرّ عينًا، ولا أكثر ابتهاجًا مني في ذلك الأسبوع الذي أقمته بالقاهرة، وكأنها أرحام تعاطفت، وأرواح تعارفت فتآلفت،
__________
* «البصائر»، العدد 197، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 28 جويليه 1952.(4/30)
فارتفعت الكلف، وسقط التحفظ والاحتراز، ولا أنسى- ما حييت- فضل أولئك الإخوان الذين زاروا وتردّدوا، ولم تروهم الشربة الواحدة فعدّدوا، وما منهم إلا عالم، أو نابه، أو كاتب، أو صحافي، أو ذو مكانة اجتماعية، أو تلميذ، ولله تلك الفئة المهاجرة للعلم من أبناء الجزائر، فكأنهم- والله- أبناء بررة، يلوذون مني بأب طال غيابه عليهم، ثم تيسّر إيابه إليهم ... لكم الله أيها الأبناء، وعليّ نذر لله أن أتعب لراحتكم، وأن أميط الأذى عن ساحتكم، ما عشت وانتعشت، وما أخلصتم للعلم وانقطعتم له ونويتم به نفع الجزائر ... إن الجزائر أمّكم البرة، وهي تعلّق عليكم الآمال، وترجوكم للأعمال لا للأقوال، ولستم بنيها إن هجرتموها، ولستم لها إن رجعتم إليها بالفارغ والسفساف، ولستم ورّاثها إن لم تردّوا عليها ميزاتها وأنا أعيذكم بالجزائر وهي الأم، وبالعلم وهو الأَمّ، وبالأطلس الأشم، وبابن بادبس وهو المثال الأتمّ، أن ترجعوا إليها أبعاض علماء، وأجزاء زعماء، أعلاها ثلث وربع، وأدناها سدس وسبع، فما أكثر هؤلاء فيها، ولكنهم يمسكون عليها الذماء، ولا يملكون لها النماء، فهي في حاجة إلى من يرود ويعود، فيقود ويذود، ونحن قد شرعنا لكم المشارع، ونهجنا لكل صالحة طريقًا، وصدمنا الباطل حتى تضعضع، ووضعنا لكم الأساس على صخرة، وبدأنا لتتمّموا، وليت شعري ... إذا خلت أمكنتنا منا فمن لها غيركم؟
...
لا تتسع هذه المقالات لذكر أسماء الإخوان الذين زاروني واحتفوا بي، وإن كانت مدوّنة في مذكراتي، ولا تتسع كذلك لذكر أعمالي ومقابلاتي وزياراتي للأمكنة والرجال، فإن ذلك مرجأ إلى الكتابة عن "مرحلة مصر" بعد رجوعي إليها إن شاء الله، وقد كفاني بعض المؤونة مكتب الجمعية بالقاهرة، ونشر المجملات في حينها على قرّاء «البصائر»، وإن قصر في السرد ونسي بعض الأسماء، ولكني ما زلت مملوء النفس سرورًا بشيئين: الأول درس ألقيته في المركز العام للإخوان المسلمين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} الآية. ولا قيمة للدرس في ذاته، وإنما قيمته بحاضريه وبمكانه، وبالجمعية التي دعت إليه، وبمعنى آخر أسمى من ذلك كله وهو أنه وصل بين جمعيتين تعملان لإحياء الإسلام الصحيح بإحياء روحانيته، والثاني زيارتي لجامعة فؤاد الأول، واجتماعي بمديرها سعادة عبد الوهاب مورو باشا، وبعض أساتذتها الكرام، وزيارتي لكلية الآداب، وللمكتبة الضخمة، ولقاعات المطالعة والبحث، ولقاعة المحاضرات، فأشهد مخلصًا أنني خرجت مرفوع الرأس تيهًا، مملوء النفس فخرًا، مفعم الجوانح إعجابًا بهذه الجامعة التي هي مفخرة الشرق وحجّته على الغرب، وأشهد مخلصًا لقد أحسست بعد الخروج كأن وجودي تضاعف مليون مرّة بوجود هذه الجامعة ومعذرة لمن يتّهمني بالمبالغة، فأنا من قوم يشهدون كل يوم(4/31)
بناءً ليس لهم فخره ولا نفعه، وبناءً ليس منهم أصله ولا فرعه، ويلقون في كل ساعة خصمًا يرميهم ويرمي جنسهم بعقم الفكر، وتخلّف الذهن وخرق اليد، وقد باهوا بماضيهم، فقيل لهم: وأين حاضركم؟ فارتج عليهم، وأجرهم الواقع بما أخرسهم، فلهم في أعمال بني أبيهم حجة، ولهم بها افتخار، وقد أكسبتهم تلك الحالة تفنّنًا في المباهاة، وذوقًا لطيفًا في صوغها، فهذا من ذلك، ولا عتب ... ولقد ساءني- والله- أن تكون هذه الجامعة الفخمة حمى للعربية، ولا تكون حمى للإسلام، وإن مجد العربية من مجد الإسلام، وإن في الإسلام لكنوزًا من الفلسفة الروحية والكمالات الإنسانية، وما ان هذه الجامعة لأحق ببحثه ودراسته.
أما الجامعة الأزهرية فيؤسفني أن وقتي لم يتّسع لزيارتها زيارة تليق بمكانتها في نفسي، وإن زارني كثير من أساتذتها الأجلّاء، وإن زرت إدارتها ومديرها الأستاذ الجليل محمد عبد اللطيف دراز ردًّا لزياراته المتكرّرة، وتنويهًا بمكانه من جمعيتنا لأنه من رؤسائها الشرفيين، وسأقضي ما فاتني من حقوق الإخوان، وسأستوفي ما حرمته هذه المرّة من الزيارات والدراسات في الزورة الثانية لمصر، وقد تقاضى مني الإخوان بذلك وعدًا أنا منجزه إن شاء الله تعالى.
...
____
إلى كراتشي
____
كنت يوم خرجت من الجزائر مصمّمًا على أن أقيم في القاهرة يومين، وأواصل السفر بعدهما إلى باكستان، لأن مكان مصر من هذه الرحلة يأتي في الأخير، ولأن باكستان هي الأولى في البرنامج، ولأحضر اجتماعًا يعقد في كراتشي باسم مؤتمر العالم الإسلامي القديم، ولكن أمرين حدثا في مصر فرميا ذلك التصميم بالوهن: الأول مقابلة جميل أولئك الإخوان الذين حدّدوا المواعيد لزيارتي، بجميل مثله، والثاني ما بلغي بعد وصولي إلى القاهرة من أن اجتماع كراتشي إنما هو اجتماع اللجنة التنفيذية للمؤتمر، وأن الاستدعاء الذي بلغي إنما يراد به استجراري لزيارة باكستان، وحسنًا فعلوا، أما مؤتمر الشعوب الإسلامية فلم تبلغني الدعوة إليه إلا وأنا بالقاهرة في رسالة حملها إلي الأستاذ سعيد رمضان الذي رجع من رحلته إلى أندونيسيا وباكستان في اليوم السابق لخروجي من القاهرة، وبادر فزارني على أثر وصوله، ثم تفضل فزارني ليلًا وقضى معي ساعات، ولا أنسى فضله عليّ فيما قدّم إليّ من معلومات غالية، كانت وما زالت نورًا يسعى من بين يدي في هذه الرحلة.(4/32)
لذلك كله امتدّت إقامتي في القاهرة إلى تسعة أيام، وأحمد الله على أنها كانت عامرة بالفوائد، وما تسعة أيام في جنب القاهرة إلا كتسع ثوان، وإن لنا في مصر لمآرب لا تقضى في الأيام، وإن لنا فيها لبعثة لم تزل نواة فهي تنتظر السقي والتعهد، ومكتبًا لم يزل ضيّقًا فهو ينتظر التوسعة والتنظيم، وإن لمصر علينا- بعد ذلك وقبله- لحقوقًا وحقوقًا توجب علينا الاتصال، ما وسع الوقت والحال.
أما اختياري لباكستان نقطة ابتداء لهذه الرحلة فهو مقصود، لما اجتمع فيها من الخصائص المحقّقة للأغراض التي ذكرتها في بواعث الرحلة، ومن تلك الخصائص ميولها الإسلامية التي هي صفة ثابتة في الشعب، ومظهر مقصود للحكومة، أعلنت عنه وجاءت بشواهده، لإيمانها بفوائده، وكان هو السرّ في اتجاه المسلمين إليها، وقد أعددنا دراسة وافية في هذه النقطة لكتاب الرحلة، ومنها اتساع صدرها لأمثالي من علماء الإسلام ومفكّريه وكتّابه، ولإقامة المؤتمرات العامة للشؤون الإسلامية من جميع الشعوب الإسلامية، ومنها حسن استعدادها لتلقّي الإرشادات والنصائح والمعونة المعنوية من كل مرشد مخلص، ومنها احتضانها لقضايا الشعوب الإسلامية السياسية، ومنها أنها أصبحت محل عطف المسلمين لما اعترضها من مشاكل داخلية وخارجية من أول يوم من تكوينها، ومنها أنها رأس مال ضخم للإسلام بتاريخها واتساع رقعتها ووفرة سكانها، ومنها أنها لجدتها وغرابة انفصالها وكثرة المذاهب الدينية فيها لم تزل مجهولة عند كثير من المسلمين، ففي الاتصال بها تعريف لها وتعريف بها، وعلم يُعطى وعلم يُؤخذ، ولا أذكر هنا ما يلوكه بعض الناس من تطلعها لزعامة الأمم الإسلامية، فإنني لم ألمح هذا ولم ألمسه مع طول إقامتي وكثرة ملابساتي لمظانه، وباكستان أول من يعلم أن الزعامة نتيجة أعمال، لا مقدّمة أقوال.
...
وبعد الساعة الثامنة من صباح يوم الخميس العشرين من مارس قامت بنا من مطار فاروق بالقاهرة طائرة من طائرات شركة ك. ل. م. الهولاندية، فنزلت بنا في مطار بغداد بعد ثلاث ساعات وربع تقريبًا، واسترحنا في المطار ساعة ونصفًا تناولنا فيها طعام الغداء في مطعم الشركة، وكان الأستاذ سعيد رمضان أبرق من القاهرة في مساء اليوم السابق إلى الأستاذ محمد محمود الصواف ببغداد ليلقاني في المطار ويؤنسني في ساعة الاستراحة، ولكن البرقية لم تصله إلا بعد عصر ذلك اليوم، وأنا إذ ذاك في سماء الخليج الفارسي، وغفل الأستاذ الصواف عن موعد الطائرة فبشّر الأصدقاء وتداعوا للخروج إلى المطار، ولكنهم انتبهوا فخاطبوا المطار فأخبرهم بفوات الموعد، وقد كتب لي إلى كراتشي يتأسف ويتسخط على تأخر البرقية، ثم ركبنا إلى البصرة فوصلناها في ساعة وعشرين دقيقة، ونزلنا فاسترحنا ساعة(4/33)
ونصفًا واستعدّت الطائرة للمرحلة الأخيرة الطويلة، ثم ركبنا بعد العصر والشمس في الأصيل، فقطعت بنا المسافة إلى كراتشي في خمس ساعات ونصف، ووصلناها على الساعة الواحدة بعد نصف الليل بتوقيت كراتشي، والفرق الزمني بينها وبين العراق ساعتان ونصف، كالفرق بينها وبين مصر، أما الفرق بين كراتشي والجزائر فهو أربع ساعات ونصف تقريبًا، فالزوال في كراتشي يوافق الساعة السابعة والنصف صباحًا في الجزائر، وطريق الطائرة من البصرة إلى كراتشي كله فوق الخليج الفارسي وبحر عُمان، ولكننا قطعناها في ليل مظلم.
...
وصلنا مطار كراتشي، وهو مطار عظيم واسع مستكمل لجميع المرافق والشروط، وقد أصبح ذا أهمية عظيمة في وصل الشرق بالغرب، وهو يبعد عن المدينة بنحو ثمانية عشر كيلومتر، ونزلنا فوجدت في انتظاري سماحة الأستاذ الأكبر الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين، والأستاذ عمر بهاء الدين بك الأميري وزير سوريا المفوّض بباكستان، وولدنا الأستاذ الفضيل الورتلاني، وإنعام الله خان، والدكتور الزبيري وجماعة من رجال مؤتمر العالم الإسلامي، وأنزلوني في فندق "ميتروبول" أعظم فنادق باكستان كلها، وكراتشي فقيرة في الفنادق، ليس فيها من فنادق الدرجة الأولى إلا اثنان، وبقية الفنادق من الدرجة الثالثة والرابعة عندنا، والسبب في ذلك أن عمرانها المدني جديد، وقد كانت قبل الانفصال ميناء تجاريًا، وما أخذت مكانتها الجديدة إلا بعد أن أصبحت عاصمة، وأصبحت في كراتشي يوم الجمعة الحادي والعشرين، فخف لزيارتي من لم يسعه استقبالي في المطار، ومنهم الدكتور عبد الوهاب عزام سفير مصر، والسيد عبد الحميد الخطيب، وزير المملكة العربية السعودية المفوّض، والأستاذ أبو بكر حليم مدير الجامعة ورئيس مؤتمر العالم الإسلامي، والأستاذ الأكبر الشيخ سليمان الندوي أحد أعلام العلماء في باكستان ورئيس مؤثمر العلماء، والأستاذ محمد محمود الزبيري وزير المعارف في حكومة الانقلاب اليمني وشاعر اليمن الفذّ، وهو أديب رقيق حواشي الطبع، سليم دواعي النفس، جيّاش الشاعرية لو وجد لها متنفّسًا، ولكن للشاعرية رحمًا يصلها الواصلون للأرحام، ولقد وجدت شاعرية الزبيري وصالًا للرحم، وهو الشاعر الوزير عمر بهاء الدين الأميري، فجمعت بينهما خلال كثيرة: كلاهما شاعر رقيق حساس، وكلاهما يعتمد في شعره على السليقة لا على الصنعة، وكلاهما مؤمن صادق متعبد متصل بالله من طريق المحافظة على الصلاة لأوقاتها، فجمعت بينهما كراتشي بعد أن جمعت بينهما تلك الخلال، وكان كل واحد منهما أنسًا وكمالًا لوجوده، وتطارحا الشعر فكان كل واحد منهما مذكيًا لقريحة صاحبه، وصدرت عنهما بدائع في الجد والهزل والمباسطات، وقد استحكمت صلتهما بي من أول لحظة، فأطلعاني على كل ما بينهما من هذا النوع الذي كان(4/34)
يسمّى (المراجعات) ونزلا عن ذوقهما فيها لذوقي حتى في تصحيح الكلمات والتراكيب، ثقة منهما بي، حفظهما الله، فأشهد لوجه الأدب أنهما شاعران، تتّحد في شعرهما ميزة السلاسة والرقة وخصب الخيال، وتوحّد بينهما الروحانية والمزاج الديني القوي، وقد لازماني على طول مدة إقامتي في كراتشي واقترحت عليهما تحكيك شعرهما وعدم الاكتفاء بفيض الخاطر، فإن فعلا ونشرا شعرهما بعد ذلك ليكوننّ منه مزيد في ثروة الأدب.
...
وصلّينا الجمعة في اليوم الأول في مسجد جديد قريب من الفندق مع الوزراء الثلاثة، الخطيب وعزام والأميري وسماحة المفتي الأكبر، وولدنا الفضيل، وقد كبر في صدري شأن هؤلاء الوزراء، ورأيت عز الدين كيف يعلو على عز الجاه والمنصب، وأعظمت فيهم هذا السعي الحثيث إلى ذكر الله في وقت بدأ فيه التحلل الديني من أمثالهم، ثم علمت مع طول العشرة محافظتهم الشديدة على إقامة الشعائر، وسعيهم إلى المساجد للجمعة لا يتهاونون ولا يترخصون، مع الفقه الصحيح لأحكام الدين، وما منهم إلا عالم ديني بأوسع ما يدلّ عليه هذا الوصف، وفهمت أن هذا كله نتيجة التربية البيتية الصالحة، وفي المفوضية السعودية يقام الأذان لجميع الأوقات، وفيها مصلّى مخصوص، وجميع الموظفين في السفارة المصرية والمفوضية السعودية يصلّون، وإذا صلح الرئيس صلح المرؤوس.
زارني في الأيام الثلاثة الأولى جميع القائمين بالأعمال والملحقين في المفوضيات العربية، وزارني وزيرا إيران وأندونيسيا، ووزير سيلان وهو مسلم، مع أن المسلمين في سيلان لا يجاوزون بضع مئات من الآلاف في سبعة ملايين من الوثنيين، وقد رغبني في زيارة سيلان، فأخبرته أنها في برنامج رحلتي، ففرح وعرض عليّ التسهيلات اللازمة.
كنت في الأيام الأولى لوصولي إلى كراتشي في جو عربي خالص طليق، لم أشعر فيه بشيء من الوحشة أو من غربة اللسان أو من منافرة الطبع أو من شذوذ العادة، ولم أحمل فيه نفسي شيئًا من الكلف والمجاملات، بل كان فوق ذلك كله جوًّا أدبيًا علميًّا راقيًا، يزيّنه وقار المفتي الأكبر، ودعابات الأميري اللطيفة المتتابعة، ومحفوظات عزام الغزيرة وذكرياته التاريخية، وكياسة الخطيب التي هي التفسير الصحيح للظرف الحجازي الذي ضربوا به المثل، وجِدُّ الفضيل الذي زادته التجارب رسوخًا. وكنت أجري مع كل واحد منهم في عنانه، كأننا لدات سن، وخلطاء صبا، وعشراء دار، وكانت موائد الضيافة تجمعنا كل يوم وكل ليلة في دورهم على التناوب، فتتطاير النكت الأدبية، وتشيع البشاشة والأنس، وتتجلّى الأخوّة في حقيقتها، ويشهد الكرم لنفسه: كرم الطعام، وكرم الكلام (حتى كلنا رب منزل) فلا تبدر من(4/35)
أحدنا بادرة، إلا أتبعها الأميري بنادرة، وعلى كل مائدة من هذه الموائد العربية الكريمة يحضر الإثنان والجماعة من كرام الإخوان الباكستانيين، ويشاركون في بهجتها بما عندهم من العربية، أو بما ينقله الإخوان عزام والأميري إليهم بلغتهم الأوردية، وينقلان إلينا عنهم ما يزيد الجو إشراقًا، ويزيد الأنس امتدادًا، ويزيد الأرواح امتزاجًا، فكنت لذلك كله كأنني بين أهلي وإخواني في الجزائر، لم أفقد إلا وجوههم- لا فقدتها- بل إنني تخففت هنا من ذلك الإطراق الذي يستلزمه التفكير، ومن ذلك التفكير الذي يستدعيه العمل، ومن ذلك العمل الذي تتطلبه وظيفة جمعية العلماء، ولقد كنت أجلس مع أولادي الساعات وكأنني لست منهم وليسوا مني، وكأنني بينهم أصم لا يسمع ولا يعي، لأنني إذ ذاك أفكر في مقالة "للبصائر" أنفض عليها سواد ليلي لتكون مع الصباح في المطبعة، أو في سفرة، تثبت جواز الطفرة، أو في حفلات تزاحمت أوقاتها، وما من حضوري في جميعهن بد، أو في مشاكل المعلّمين والجمعيات، وهي صرف السوق، وملء الوسوق، أو في فثء غضب بالتحمل، وإرضاء غاضب بالتجمل، فالآن أسرح وأمرح، وألقي الهموم عن كاهلي وأطرح، فقد ألقيت تلك الأثقال على من لا يؤوده حملها لفضل علمه، ووفور عقله، وحدّة ذكائه، وشدّة حزمه، وهو الأخ الأستاذ التبسي، وإن جزاءه علي أن أمدّه بمدد من الأدعية الصالحة في مجالي الإجابة من صلواتي وخلواتي أن يعينه الله على تلك الأعمال التي بلوتها مختبرًا، واضطلعت بها مصطبرًا، فوجدتها لا تقوم إلا على اثنتين: زكانة الرجال، في ركانة الجبال، وكلتا الخلتين يجمعهما أخونا الأستاذ التبسي، وهذا تصوير غريب، لحالتي في المشهد والمغيب، أربعو أن يقع- على بعد الدار- لإخواني هناك وفي مقدّمتهم أخي الأستاذ التبسي فيعينهم جدّه على الجدّ، وتدفع عنهم دعابته سأم العمل المتشابه، وضجر النفوس المرهقة. ومن دعابته أنني تخففت من الأعمال، ولا والله ما تخففت، وإنما انتقلت من تعب مملول لاتحاد لونه إلى تعب متجدّد الألوان، وفي تجدّد الألوان مجال لتجدّد النشاط وباعث على إقبال النفس وتفتّحها للاستئناف.
وكل جمع إلى افتراق، فما تمّ ذلك الأسبوع الزاهر الذي خففت عنا مجالسه وطأة حرارته، حتى بدأت الخيام تقوض، وأصبح الذاهب من الأيام والرفاق لا يعوّض، فرجع الأستاذ المفتي إلى القاهرة، وودّعنا الوزيران عزام والأميري إلى رحلة في دواخل باكستان قرّراها وحدّدا مواعيدها قبل وصولي، وحيث أن لها مساسًا بالرسميات فلا مناص من تنفيذها، وبعدهما بقليل خرج الأستاذ الفضيل في رحلة إلى الهند وباكستان الشرقية وجاوة، وتأثّر السامر لغيبة هؤلاء الأربعة فاستوحشت مغانيه، واستبهمت معانيه، ولكن بقيت لنا من السيد الخطيب بقية تؤنسنا عند طروق الوحشة، ورأيت أن ذلك الأسبوع كان استجمامًا من نصب السفر، وقد آن لي أن أبدأ العمل الذي من أجله قدمت، وفي سبيله أقدمت، وهنا تجلّت المعضلة، وحلّت المشكلة (مشكلة اللغة)، التي هي وسيلة الفهم والتفاهم، فلنتحدّث عليها.(4/36)
- 3 * -
____
مشكلة اللغة
____
في الهند، لغات كثيرة لعلها تبلغ المائة، والمبالغون ينتهون بها إلى المئات، وهم مخطئون، وأغلبية الهنادك كانت تصطنع اللغة الهندية، وهي تستمد معظم ألفاظها من السنسكريتية القديمة، وتستعين بشيء من الفارسية وغيرها من اللغات الشرقية، ثم خالطها شيء من الأوردية والإنكليزية، ولكنهم بعد الانفصال أخذوا ببدعة "التطهير"، تطهير لغتهم من الدخيل، وإحياء السنسكريتية الميتة للاقتصار عليها، هذه البدعة التي طاف طائفها ببعض الأمم الشرقية كالأتراك الكماليين، فلم تدلّ على قوّة، بل دلّت على ضعف، لأن لغاتهم الأصلية التي يريدون إحياءها لا تقوم بالحياة العصرية، فيضطرون إلى الأخذ عن اللغات الأوربية لا محالة، فيرقعون قديمهم بغريب، وقريبهم ببعيد، فهم إنما يطهرون لغتهم من لغة إخوانهم، فيزداد الشرقي من أخيه بعدًا، ومن الأجنبي قربًا، ويبقى الأجنبي مستعبدًا لهما معًا، وإن هذه لإحدى المعاني الجديدة التي وسوس بها الغرب في صدور الشرقيين، وزيّنها لهم.
وأغلبية المسلمين في الهند اليوم تصطنع اللغة الأوردية، نسبة إلى الأوردو، لفظة تركمانية مغولية معناها الجيش، وهي لغة حديثة، تكوّنت بين الجيوش المغولية الفاتحة من لغاتهم الأصلية أو من لغات الإسلام الشائعة إذ ذاك، وهي العربية لغة الدين والأدب، والفارسية لغة الفن والرقّة، والتركمانية لغة الجندية والحرب، وكان مبدأ تكوّنها في مناطق مخصوصة من مقاطعات يوبي ولكنو، ثم توسّعت وعمّت، ولم تكن في أول أمرها لغة الملوك والطبقات الراقية، ولا لغة العلم والأدب، بل كان الشأن الأكبر في عنفوان الدولة المغولية وعظمتها للعربية والفارسية، ولكنها تطوّرت تطوّرًا سريعًا، وانتشرت انتشارًا واسعًا في أخريات تلك الدولة حتى أصبحت لغة الدين والأدب والسياسة، ففسّر بها القرآن والحديث، وكتب بها الفقه والتاريخ، ثم أخذت حظها من الأدب والفلسفة، ونظم بها الشعر في المواضيع
__________
* «البصائر»، العدد 198، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 4 أوت 1952.(4/37)
العالية، ونبغ فيها شعراء فحول، مثل حالي وغالب، وآخرهم إقبال، ولكن للفارسية أثر قوي في شاعرية هؤلاء الشعراء، فكلما سموا إلى الآفاق العلية لم يحلقوا إلا بأجنحة الفارسية.
وقواعدها التركيبية قريبة من قواعد الفارسية، ولكنها أصعب منها، وهي بعيدة جدًّا عن التركيب العربي، فتكثر فيها الروابط اللفظية مثل: هي، ومي، وكي، وكا، وكو، وتكتب بالخط الفارسي الجميل، ويزيدون على بعض الحروف علامات مخصوصة لتؤدّي المخارج القريبة الزائدة على المخارج العربية والفارسية، وهي مخارج صعبة في التقليد، وغالبها متوسط بين مخرجين، ولتعدّد هذه المخارج أصبحت حروفها نحو أربعين حرفًا، هي الحروف العربية المعروفة، ويزيدون على بعضها علامات.
وجاء الإنكليز وقضوا على الإمارات المغولية، وأصبحت لغتهم لغة الحكم والإدارة والتجارة، فدخلت منها- بحكم الضرورة- كلمات كثيرة في الأوردية، ومع أنها حديثة عهد فإنها تغلغلت وأصبحت من الأصول التي تعسر إزالتها، على خلاف المعهود في اللغات القوية إذا طرأ عليها دخيل ثم أرادت التخلّص منه، وأنا أرى أن لتهاون المتكلمين بالأوردية دخلًا عظيمًا في إقرار تلك الكلمات الإنكليزية وتمكينها. كما أن في لغتهم خميرة من القابلية لذلك، لأنها مبنية على التلفيق.
أصبحت الأوردية بعد هذه الأطوار لغة قومية، وطغت على كثير من اللغات الإقليمية، فأصبحت كلها ثانوية بالنسبة إليها، ولاعتزاز أهلها بها واعتقادهم أنها كافية في الدين والدنيا، لم يجدّوا في تعلّم العربية مع احترامهم لها وشهادتهم بأنها لغة الدين، فلا يتعلّمها إلا علماء الدين منهم، ويتعلّمونها على الكبر، فتجدهم يفهمون دقائق الحديث والفقه، ولكنهم لا يستطيعون التكلّم بها بسهولة، ولا يكتبون بها كتابة بليغة، فيجد الناقد آثارًا لعجمة بادية فيما يكتبون بها، ولم يسلم من هذا حتى كبار العلماء أمثال صديق حسن خان. ومن رأينا أن هذا آت من ضعف الملكة الأدبية الحاصلة من كتب الدراسة المشهورة بينهم، فهم يتعلّمون الأدب من المعلّقات السبع ومقامات الحريري، وليست هذه الكتب بالتي تمكّن للملكة العربية، ولقد قامت ندوة العلماء في هذه العصور الأخيرة بمجهود عظيم، وسلكت في تعليم العلوم العربية مسالك مثمرة، فتخرج منها جماعة يكتبون العربية كتابة فنية صحيحة، ومنهم صديقنا الشيخ مسعود عالم الندوي، ولقد كنا نقرأ قبله وقبل أقرانه للشيخ شبلي النعماني فكأننا نقرأ لكاتب عربي تام الملكة، فهذا دليل على أن القوم إنما قصّر بهم فساد طريقة التعليم. وسنتكلم عن طريقة التعليم العربي الموجودة الآن حين نصل إلى التعليم.
وانفصلت باكستان، فاضطرت الحكومة أن تبقي على الإنكليزية كلغة رسمية إلى حين، والحالة الآن مضطربة، ففريق يريد أن تكون الأوردية هي الرسمية، وسكان البنغال وهي(4/38)
باكستان الشرقية- وعددهم نحو خمسين مليونًا- لا يريدون هذا، لأن لغتهم البنغالية، والأوردية ليست شائعة بينهم، فالأولى في نظرهم أن تكون لغتهم هي الرسمية، فإنْ لم تكن فالعربية، لأنها لغة الإسلام الجامعة. وأهل البنجاب- وعددهم يزيد على خمسة عشر مليونًا- يريدون لغتهم، ولكنهم لا يمانعون في رسمية اللغة العربية للاعتبار الديني المذكور، ولإقليم السند لغته السندية وإن كانت ضيّقة، ولكنهم يحسنون الأوردية، وعاطفتهم الدينية لا تجعلهم يجافون اللغة العربية، وعلى الجملة فاللغة العربية تفوز بالأغلبية الساحقة لو رجع الأمر إلى الانتخاب، ولا يحاربها إلا طائفة قليلة يسخرها الإنكليز لحربها، لأنهم لا يريدون أن تكون للعربية سيادة تزيد في توثيق الأسباب بين باكستان وبين الأمم الإسلامية، ولا يفقه أحد سرّ هذا التقارب وآثاره مثل ما يفقهه الإنكليز.
والتحمس السائد للعربية في باكستان مبني على عاطفة دينية لا على واقع، أما الواقع الذي تحادثت في تصويره مع من تحادثت معهم من رجال الحكومة، ومن المفكرين المعنيين بهذه المسألة، فهو أن جعل اللغة العربية رسمية لأمّة يناهز عددها مائة مليون أمر متعسّر ما دام هذا العدد الضخم كله يجهل العربية، بل يجهل أن في لغته الأوردية قريبًا من خمسين بالمائة من الألفاظ العربية الفصيحة، فإذا عرضت عليه كلمة كلمة لم يعرف أن أصلها عربي، وإنما يعرف أنها أوردية وكفى ... وعلى هذا فالواجب أن يمهّد لهذه الفكرة بأمرين متلازمين: الأول جعل التعليم العربي في المدارس الابتدائية إجبارًّيا، والثاني تبديل الموجود من مناهج التعليم العربي بأصلح منه، واستخدام مئات أو ألوف من المعلّمين العرب حتى ينشأ على أيديهم جيل ينطق العربية بسهولة ويفهمها، ثم يتدرّج هذا الجيل إلى الكمال مع مراتب التعليم، فإذا وصل إلى الدرجة التي وصل إليها التعليم الإنكليزي في الكم والكيف حسن بل وجب أن تكون اللغة العربية رسمية في كل مرافق الدولة، وتجب المبادرة بهذا، لأن كل تأخّر له وتراخ فيه يكون في صالح الإنكليز ولغتهم، ويكون تطويلًا لمدة استعمارهم الفكري، والحكومة لا ترى للعدول عن الإنكليزية مبرّرًا إلى أن يستقر الرأي الإجماعي على اللغة الرسمية، وأنا أستحسن أن تكون اللغة الأوردية هي اللغة الرسمية في فترة الانتقال، تقريرًا للسيادة القومية وللاستقلال، إذ ما دامت اللغة الإنكليزية هي لغة الدواوين والتعليم والاقتصاد فإن الاستقلال ناقص على أهون الاعتبارات إن لم نقل إنّه صوري.
...
ونعود إلى العنوان، وهو مشكلة اللغة بالنسبة إليّ.
يجب على زائر باكستان، كيفما كان قصده، أن يكون ملمًّا- قدر حاجته- بواحدة من لغتين: الأوردية أو الإنكليزية، فإن كان جاهلًا بهما مثلي ضاعت مصالحه في الناس،(4/39)
ومصالح الناس فيه، ووجد نفسه أعجميًّا بين أعراب. أما العربية فإنك لا تلقى الناس بها إلا كما يلقى السميع الأصم، ولتنتظر حتى تجتمع بمولانا فلان، أو العلامة فلان، وما أقلّ هذا الصنف في هذا البحر الزاخر، وأما الفرنسية فقل من يسمع بها فضلًا عمن يحسنها، وأقرب إلى النجاح من يحسن الفارسية، فقد يجد واحدًا في الألف يحسن التفاهم بها.
وأنا لا حظّ لي في شيء من هذه اللغات، ولم يفتق الله لساني إلا بالعربية، وأنا راض بهذا، وإن كنت لا أدري أي نوع من أنواع الرضى هو: أرضى العاجزين، أم رضى المكابرين؟ لذلك وجدتني من أول لحظة في مشكلة لا تُحلّ، وفي حرج لا يدفع، حتى في طلب الماء البارد من خادم الفندق، وفي التحية مع الزائر، وضيوف كراتشي من أبناء العربية كلهم مثلي، وإن فيهم لمن يحسن الإنكليزية أو شيئًا منها، فهو بها في بعض الراحة وبعض اليسر، كالأستاذ الأكبر مفتي فلسطين، فكنت أرتفق بهم في بعض الأوقات، فإذا خلوت انسدّت عليّ المسالك، يزورني الزائر عن قصد وشوق فلا نزيد على: السلام عليكم وعليكم السلام، فإذا جاوزتها إلى المألوفات في التحية مثل: صباح الخير، وكيف أصبحتم، وكيف حالكم، لم يفهم ما أقول، وأطلب الخادم لحاجة، فيسكت وأسكت، وألتجئ إلى الإشارة فلا تفيد، ويهتف التيليفون من سائل مشتاق يريد مني تحديد وقت للزيارة جريًا على الرسوم في زيارة (العظماء) فيبدأ الخطاب بالإنكليزية، فأقول: لا أفهم، فيثني بالأوردية لأنه فهم بالقوّة أني لا أفهم الإنكليزية فأقول: لا أفهم، فيكرّر الخطاب ولا أدري أهو بالأولى أم بالثانية، فأعتصم بلا أفهم، ثم أضطرّ إلى شيء من سوء الأدب، وهو رمي آلة التيليفون، وقد حملني الغضب مرّة على أن ألقيت على واحد من مخاطبي في التيليفون خطبة عربية أنيقة، قلت له يا سيدي لست من العظماء حتى تتعب نفسك بهذه المراسيم، ولو كنت منهم لكان لي ترجمان عيناه بالشرر ترجمان، أو خادم، يدفع عني الأوادم، أو سكرتير، يعامل مثلك بالتقتير، ولكنني رجل بسيط كالسمسار أو الوسيط، فزرني من غير أعذار، أو اغزني من دون سابق إنذار، وهلم نتعانق وتقضي حواجبنا الحوائج بيننا، أو نتصارع فتشتفي وأشتفي، فقال لي كلمة فهمت منها أنه يأسف لأنه لا يفهم العربية، فكرّرت عليه السجع، وقلت له: إن من الحيف أن لا تفهم لغة الضيف، ثم تريده على أن يفهم عنك (بالسيف)، وكانت هذه الأسجاع شفاء لغيظي، ولكنني كتمتها على الجماعة لأنني ما زلت في يومي الثالث، ويشاء الله أن يزورني في ذلك اليوم رجل فاضل مهذّب ذو مقام اجتماعي، وأن يجد معي ترجمانًا، ففهمت من مجرى الحديث أنه صاحبي، واعتذر بأنه طلبني لأحدّد له الوقت وأن من الأدب مع أمثالي أن لا يفاجأوا بالزيارة، وأسف أسف المؤمن الصادق على أنه لا يفهم العربية لغة القرآن، وأنه ذاب خجلًا حين لم يفهم ما خاطبته به، فقلت له: هوّن عليك فقد كنت أدعو لك بالخير، وأشهد لله أن صاحبي هذا رجل فاضل، وأنه من أصحاب الموازين الرابعحة في الفضائل، ذكره الله(4/40)
بخير الذكر، وأشهد لله ثانية أن القوم كانوا يزورونني بنيات صادقة، ومحبة للعلم خالصة، واحترام للعلماء عظيم، وأن جهلهم للعربية ليس نقيصة فيهم وحدهم، إذ ليس خاصًّا بهم، وإنما هو شيء عام في الأعاجم كالأتراك والفرس وجاوة.
...
أبت لي همّتي أن أجمع بين الجهل والعجز، فتعلّمت في بعض يوم ألزم ما يلزمني للضروريات، وأهمها- عندي- طلب الماء البارد في ثلاث كلمات: طاندة، باني، لاو، والأولى معناها بارد، ولكن مخرج الطاء فيها من أغرب المخارج، والثانية معناها الماء، والثالثة معناها هات، ومن هذه الجملة تعلم صعوبة التركيب وغرابته في ذوق العربي، ومن اللطائف أن أستاذي في هذه الجملة هو ولدنا الفضيل حلّ به ما حلّ بي فحفظ ثمانين كلمة من الأوردية، فألّف منها قاموسًا غير محيط، وفتح الله عليه فأصبح معلّمًا لتلميذ واحد، هو أنا، ثم حفظت زيادة عن شيخي كلمة "برف" بفتح الأولين وسكون الثالث، ومعناها الثلج، ثم حفظت ثلاث كلمات ضرورية، وهي (أو) ومعناها تعال، و "جاو" ومعناها اذهب، و "جالدي" ومعناها أسرع، وأسعفتني الذاكرة بكلمة تركية حفظتها قديمًا ووجدتها هنا، وهي "نماز" ومعناها الصلاة، وحفظت "روطي" ومعناها الخبز، و"نماك" ومعناها الملح، ومن حصل الصلاة والماء البارد والعيش والملح فقد فاز فوزًا عظيمًا، وحفظت "بهوت" ومعناها كثير، و"امروز" بكسر الهمزة ومعناها اليوم، وسألت عن أمس وغد، لأجمع بين الأزمنة الثلاثة، فقيل لي: "كل" بفتح الكاف وسكون اللام، وإنه صالح لهما معًا، وأن الفرق بينهما موكول إلى السياق، فقلت دعوا هذه إلى السياق، إلى كلمات أخرى ظهر بها شفوفي على شيخي، وكم ترك الأول للآخر، وحفظت رقم غرفتي بالإنكليزية وهو: وان، تو، فايف، يعني مائة وخمسة وعشرين، فأصبحت بهذه الكلمات في أنس واطمئنان، ولذت فيما عدا ذلك بالسكوت، فإذا دخل عليّ زائر ولم يكن مترجم، حيّا، ورددت، وبش وبششت، ثم انقلبت سلكًا أفرغ من شحنته فلا سلب ولا إيجاب، ولكي أدفع عنّي عنَت التليفون إذا خلوت حفظت جملة بالإنكليزية معناها لا أتكلّم الإنكليزية، لا أتكلّم الأوردية.
...
جرت هذه الوقائع كلها في الأيام الثلاثة الأولى فقلت في نفسي: إذا كان هذا في الخصوصيات، وما أهونها، فكيف العمل في العموميات التي قطعت آلاف الأميال من أجلها؟ ولكن الله لم يطل أمد هذه المحنة، فاجتهد الإخوان في إحضار ترجمان عرفوه، في المؤتمرات، إذ كان يترجم خطب العلماء العرب إلى الأوردية، وهو بارع فيها، معدود من خطبائها، ويفهم العربية فهمًا جيّدًا، ويترجم الدينيات على الخصوص ترجمة دقيقة، وقد(4/41)
زادت معارفه العربية بملازمتي شهرين زيادة كبيرة. هذا المترجم هو الشيخ محمد عادل القدوسي من المتخرجين في النهضة التي أشرنا إليها، والتي مركزها مدينة ديوبند، ومن القائمين على تصحيح الكتب العربية التي طبعتها الجامعة العثمانية بحيدر أباد دكن، ثم هاجر بعد الانفصال وحلول الكارثة بإمارة حيدر أباد إلى كراتشي، فأصبح ملازمًا لي لا يفارقني إلا ساعات النوم، يتولّى الترجمة بيني وبين الزوّار ويتولّى المخاطبات التيليفوية بالأوردية، ويسفر عني إلى رجال الدولة، وقد صاحبني في الرحلة إلى كشمير وخيبر ومدن باكستان، وترجم عني جميع محاضراتي ودروسي وندواتي الصحافية وأجوبتي وآرائي وتقاريري، ورزقي الله منه بتلميذ مخلص، ومترجم حاذق ورفيق مؤنس في السفر، وقد عرف في الأوساط كلها بالنسبة إليّ فأصبحت أعطف عليه كأقرب المنتسبين إليّ، وعزّ عليّ فراقه كما عزّ عليه فراقي، وقد أوصيت به خيرًا من أثق به من الإخوان، فهو رجل حييّ عفيف شريف النفس، أتت كارثة الهندوس على ما يملك من أسباب الحياة، فنجا بدينه وبَدَنِهِ وأولاده، كان الله له ويسّر له الأسباب.
...
____
بدء الأعمال العامة
____
صلّيت الجمعة الثانية في مسجد غير المسجد الذي صلّيت فيه الجمعة الأولى، وهو مسجد جديد منسوب إلى الشيخ احتشام الحق، أحد أعضاء مؤتمر العلماء الذي انعقد في فبراير الماضي، وأحد العلماء المعروفين بالقرب من مشربنا في الإصلاح الديني، وإحياء السنن الصحيحة، وفي هذا المسجد ألقيت أول محاضرة قبل صلاة الجمعة، وكان الشيخ القدوسي واقفًا إلى جنبي يترجم عني مقطعًا مقطعًا، وكان موضوع المحاضرة وظيفة العالم الديني في الإسلام، فشرحت وفصلت، وبيّنت فأبلغت، ووسمت العلماء بالتقصير في أداء الأمانة، والتفريط في قيادة المسلمين حتى قادهم من لا يحسن القيادة، فقادهم إلى الهلاك، وبيّنت أن وظيفة العالم هي التربية والتعليم، وشرحت كيفيتهما بعمله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه بعث ليعلّمنا ويزكينا، فتأثّر السامعون تأثّرًا دلَّ عليه وجومهم، وبدت آثاره على وجوههم، ثم قام الشيخ احتشام الحق فقرأ خطبة الجمعة بالعربية من كتاب، وكان موضوعها فضائل شهر رجب وأنه يصعد إلى السماء ويسأله الله عن أعمال عباده فيعتذر بأنه أصمّ، إلى آخر تلك المحاورة التي وضعها القصاصون بين الله وبين رجب، فلم أملك إلا الحوقلة والاسترجاع،(4/42)
وحمدت الله على خفوت صوت الخطيب وجهل السامعين بالعربية، وإن هذا لمن المواطن التي يستحب فيها الجهل والصمم وكأن حضرة الخطيب جاء بتلك الخطبة شاهدًا لما وصمت به علماء الدين من إلهائهم للعامة بالقشور، وقد سبق التعارف بيني وبين الشيخ احتشام الحق أثناء الأسبوع الأول في دعوة عشاء بداره، وهو يحسن العربية فهمًا ونطقًا، ثم لم أجتمع به بعد تلك الجمعة، ولا أدري أينا الملوم.
ثم صلّيت الجمعة الثالثة في مسجد آخر، وألقيت قبل الصلاة محاضرة طويلة ترجمها المترجم فصلًا فصلًا، وكان التأثر بها عظيمًا، ولما فرغت طلب مني الإمام الراتب أن أخطب للجمعة وأصلّي بالناس، فخطبت خطبة الجمعة من غير ترجمة، ولكن إحساس المصلّين قام مقام الترجمة، فكان تأثّر، وكان خشوع، وكان اتصال روحاني بين السامع والمسموع، كل ذلك لأن حالة السامعين الحاضرة كانت هي الموضوع.
ثم صلّيت الجمعة الرابعة من إقامتي الأولى في كراتشي في جامع الميمن، وهو جديد لم يتم بناؤه ولم يسقف وإنما هو مغطّى بـ"قلوع " تدفع الحرّ، ولئن تمّ ليكونن أوسع مساجد كراتشي، والقائمون عليه هم تجّار الميمن، وهي طائفة مواطنها في شرق الهند، وهي أنشط طوائف مسلمي الهند في التجارة والتنقل في سبيلها، وقد حاضرت المصلّين كالعادة بالمترحم، وهم آلاف، فلما حانت الصلاة رغب إلي إمامهم وكبراؤهم أن أخطب للجمعة وأصلي بالناس، وهم لا يشترطون في الإمام الاستيطان، ولا في الجامع السقف، فخطبت وصلّيت. ولما كانت هذه المحاضرات وهذه الخطب الجمعية كلها وصفًا لداء المسلمين ودوائهم، كان التأثّر بها عظيمًا، وإن حالة المسلمين اليوم قد أصبحت من شدّة الوضوح مما يستوي في معرفته العالم والجاهل، وإن مسلمي باكستان والهند عمومًا ليزيدون على طوائف المسلمين التي عرفناها بشدّة التأثّر وسخاء الدمع إذا سمعوا كلام الله أو سمعوا التذكير به، لا سيّما إذا كان بالعربية ولو لم يفهموها، لما وقر في نفوسهم من علاقتها بالوحي والنبوّة وأنها لسان محمد وهم يحبونه، ولغة الجنة وهم يحبّونها ويتمنّونها، ولا عجب في تأثّرهم بما لا يفهمون فقد يطرب سامع الموسيقى إلى حدّ الخروج عن الاعتدال، وليس فيها شيء يفهم ولا يترجم، إنما هو فيض روحاني المأتى، فهو فوق العبارات، فلا تحدّه معاني العبارات، ولا يتوقف عليها.
ألا إن مسلمي باكستان والهند لينفردون بخاصية، سمّيتها بعد التأمل والدراسة "القابلية" وأعتقد أن هذا هو اسمها الحقيقي، فقابلية الخير والصلاح والإصلاح فيهم ظاهرة السمات، فلو رزقوا الموجّه المسدّد، والمشير الحكيم، لسبقوا طوائف المسلمين كلها إلى غاية الخير التي نرجوها للمسلمين، ولَلَوَوْا الأعنة سراعًا إلى هدي القرآن، وقالوا للمتخلفين البطاء: الحقوا فقد سبقنا، والموعد بيننا وبينكم "محمد".(4/43)
- 4 * -
____
كلمة حق
____
الأولى: كانت كراتشي قبل الانفصال ميناءً تجاريًا، تربطها بالهند كله سكة حديد مزدوجة، وتعمرها عناصر مختلفة، أغلبها من غير المسلمين، إما من الهندوس وهم الأكثر. وإما من المجوس وهم قليل، وإما من الشيعة الآغاخانية وهم الأقل، وهذه الطوائف الثلاث من أنشط خلق الله في التجارة والتمرّس بأساليبها، والتقلب في وجوه الاقتصاد، وللمجوس فيها بيوت نار، لأنهم حاملو الشعلة المقدسة من أرض فارس إلى الهند، وللهندوس فيها معابد برهمية، أما المسلمون فلم تكن لهم فيها مساجد تذكر، لأن السنود الذين هم أهلها والمحيطون بها من أبعد الناس عن التجارة وممارستها وإنما يقومون فيها بوظيفة العملاء المستهلكين، أو العمال والحمالين، والفلاحون منهم أشبه بفلاحينا في الجزائر، يكدحون لمصلحة الهندوس الذين يعاملونهم بالربا الفاحش، ومع الربا الفاحش أنواع من الرهن والاستيثاق، وكان سكانها نحو ثلاثمائة ألف، فلما انفصلت باكستان رأى بطل الانفصال محمد علي جناح وصحبه أن تكون هي العاصمة للدولة الإسلامية الجديدة، لوقوعها على البحر، ولتوسطها بالنسبة إلى العرض، ولبعدها عن الحدود الهندية، ولاعتبارات أخرى، وقد عارض السنود في ذلك لأنها عاصمتهم الإقليمية، ولولا عزمة منه- رحمه الله- لما تمّ جعلها عاصمة الدولة المركزية، فصمّم ونقل عاصمة السند الإقليمية إلى حيدر أباد السند، وكان الانفصال مصحوبًا بالمذابح التي كان الهندوس هم البادئين بارتكابها والإفحاش فيها، فتدفّقت على هذه العاصمة الجديدة وحدها نحو ثمانمائة ألف من مجموع الملايين التي هاجرت فرارًا من الموت، واستولت الحكومة الباكستانية على معابد الهندوس، ولكنها لم تصيّرها مساجد، فبدأ أهل الخير والإحسان يبنون المساجد في كراتشي حتى يجد هؤلاء المهاجرون أين يصلون، وأصبحت حركة بناء المساجد حركة شعبية كما أن حركة بناء
__________
* «البصائر»، العدد 199، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 1 سبتمبر 1952.(4/44)
المساكن حركة حكومية، وهو توزيع معقول، ولكن حركة المساجد كانت على غير بصيرة، ودخلتها أغراض بعض العلماء الانتفاعيين فزادتها بعدًا عن حكمة المساجد، فكل واحد من هؤلاء يسعى لبناء مسجد يصلّي فيه هو وأتباعه، ويزين لهؤلاء الأتباع أن لا يصلوا في مسجد آخر، ولا خلف إمام آخر، وقد رأيت مسجدين بينهما عرض شارع تقريبًا، وكل واحد منهما مخصوص بطائفة، وكفى بهذا مفرقًا لكلمة المسلمين، وقد أنكرت عليهم هذا في بعض محاضراتي إنكارًا عنيفًا، وقلت لهم إن المساجد لله، وإنها جامعة لا مفرّقة، وإنه لا يحسن تعدّدها إلا تعدّد المحلّات وتباعدها، لا تعدّد العلماء واختلاف نزعاتهم، وإنه ما شتّت شمل المسلمين إلا ملوك الطوائف، ومساجد الطوائف.
هذه القضية من أكبر أسباب تشتيت المسلمين، ويزيد في شناعتها وقوعها في أمّة مقبلة على حياة جديدة ألزم شيء فيها جمع الكلمة، وسكوت علماء الدين عليها يعدّ جناية، فضلًا عن تشجيعهم لها، وهي بهذا الوضع مخالفة ومناقضة لحكمة بناء المساجد في الإسلام، ومباينة لذلك الأصل القطعي فيه، وهو أن المساجد لله.
الثانية: شاعت بين عامة مسلمي الهند من قديم الزمان عادة في تعظيم العلماء لم تقف مع طول الزمان عند الحدّ المشروع، بل جاوزت الحدّ المشروع والحدّ المعقول، والمبالغة في كل شيء مُفسدة لحكمته، مُذهبة لجماله، ونحن لا ننكر أصل التعظيم، لأنه مشروع ولأنه من البواعث على التعليم ولأنه شهادة من النقص للكمال، ولكننا ننكر المبالغة فيه، لعلمنا بأثرها السيّئ في تربية الأمّة، فهي إذا مدّت مدّها، وجاوزت حدّها، تنقلب في العامة ذلّا ومهانة وشعورًا راسخًا بالنقص حتى في الدنيويات المحضة، وتنقلب في غير الموفق من العلماء تعظّمًا وجبرية قد ينتهيان إلى التألّه، وعندنا أن السرّ في ظهور الشذوذات الغالية في الهند، واستسهال القفز إلى الحظائر المحظورة، يرجع إلى تغلغل هذه العادة في الأوساط العامية، فهي تنقلهم من المبالغة في التعظيم إلى سرعة التصديق بالمحال، وإلى قبول الدعاوى من المتنبّئين والمتألّهين، ولا يطول عمر هذه الدعاوى الشاذّة إلا بين الجماهير التي انطبعت على الغلوّ في التعظيم، فقد كان الزوال أسرع شيء إلى نحلة صالح بن طريف في برابرة المغرب، وإلى نحلة كرميته (أحمر العين) في الأحساء، وإلى نحلة الحاكم في مصر، وإلى نحلة المقنع الخراساني في الجبال، وما فيهن واحدة عاشت بعد موت صاحبها، إلا فيمن يطمع أن يكون مثل صاحبها، بل كانت تلك النحل هي سبب هلاك أصحابها.
أذكرني بمعنى هذا الكلام أنني كنت كلما خطبت في جمعة وهممت بالانصراف بعد الصلاة، اعترضني المصلّون من أول خطوة يقبّلون يدي ويضعونها على جباههم وأقفائهم ومنهم من يتمسّح بثيابي، ولقد صحت في الناس في أول مرّة، وقلت: يا قوم، هذا منكر، فلما لما يكفّوا، قلت: هذا حرام، فلم يزدهم ذلك إلا تهافتًا عليّ، ولو بقيت في المسجد(4/45)
لبقي المصلّون كلّهم مرابطين ينتظرونني، وكان الأمر في الجمعة الثانية أشدّ، وكان في الثالثة أشنع لكثرة المصلّين في جامع الميمن، وكان صوتي بالإنكار في كلّ مرّة أعلى، ولكنه كان أضيع، وفي المرّة الأخيرة وجدت نفسي في شبه حلقة مفرغة من ورائها حلقات تزدحم وتتضاغط بحيث ما كدت أصل إلى الشارع حيث السيارة إلا والمؤذّن يؤذّن بصلاة العصر، ومن العجيب أن بعض العلماء- وكان يسايرني في تلك الضغطة- أنكر عليّ هذا الإنكار، وقال لي إنهم يحبّونكم، فهم يتبرّكون بكم، وأعجب منه أن مما ألهمته في تلك المحاضرة تقريع العلماء على تقصيرهم في التربية الاجتماعية، وسكوتهم على المنكرات حتى تعظم، وتأوّلهم للصغائر حتى تكبر، وقد فهمها هذا الأخ العالم مرّتين نصًّا وترجمة، ولما خرجنا ونجونا قلت لذلك الأخ: إن النفس لأمارة بالسوء وإن من مداخل الشيطان إلى النفس ما كنا فيه مذ الآن، إنه يصوّره بألف صورة ويزيّنه بألف معنى من معانيه، وافتتان الناس بالمرء يفضي إلى افتتانه بنفسه، ومن هنا أنكر ديننا الغلو حتى في الحب والبغض، ولو تكرّرت عليّ هذه الحالة مرّات لزالت عني مشقّتها بالارتياض والتعوّد، ولم يبق لي الشيطان منها إلا جوانبها الحبيبة إلى النفس، وهي أنها طاعة وانقياد وخضوع تلد الزعامة فالإمارة، فإن أنكرتها عجزًا أو تعفّفًا قفز بي إلى النبوّة فما فوقها، ومن عادة الشيطان أن يرتفع بعدوّه الإنسان إلى أعلى، ليكون الهبوط بقدر الصعود، وقلت لصاحبي: إن الصغائر في العامة تستحيل كبائر بالمبالغة فيها وبالسكوت عليها من العلماء وأهل الرأي.
...
____
الزيارات
____
زرت فخامة الحاكم العام لدولة باكستان السيد غلام محمد في مقرّه الرسمي، يوم 31 مارس سنة 1952 على الساعة الثانية عشرة والدقيقة العشرين، وكان المترجم هذه المرّة الأستاذ محمود أبو السعود من نوابغ الاختصاصيين المصريين في علوم الاقتصاد، ويحمل عدة شهادات عالية في علوم أخرى وله اطلاع واسع على الفقه الإسلامي، وفهم دقيق له، وهو يتولّى منصب مستشار بنك الدولة الباكستانية، وكانت الترجمة بيني وبين الحاكم العام بالإنكليزية، وفهمت من أول الحديث أنه مشغول الخاطر بالدستور الباكستاني الذي لم يتحرّر ولم يتقرّر إلى الآن، مع اشتغال المجلس التأسيسي به عدة سنوات، وما زالت الدولة جارية على بقايا القوانين الإنكليزية، والرأي العام ينادي بدستور إسلامي كامل تنبني عليه أحكام(4/46)
إسلامية في الشخصيات والماليات والجنائيات، ومنها إقامة الحدود، ينادون بهذا ويتصوّرونه تصوّرًا مجملًا، والفقهاء منهم وعلماء الدين يتشدّدون في هذا ويشرحونه شروحًا نظرية تختلف باختلاف النزعات المذهبية من تقليد واستدلال، وهم يرون أن الرجوع إلى الأحكام الإسلامية هو الفرق بين العهدين، وما دامت الأحكام إنكليزية فلا استقلال، وهو كلام حق، ورأي سديد لو لم يكن مستندًا على النظريات، ونحن نقول ما هو أبلغ من هذا، نقول ما دام التعليم والكتابة في الرسميات بالإنكليزية فلا استقلال، فكيف بالدساتير والقوانين؟ والمثقفون يريدونه دستورًا مدنيًّا مقتبسًا من حالة الأمّة وتقاليدها، محقّقًا لرغائبها وضروراتها، ولا يتحمّسون فيما بدا لي للاستعارة من الدساتير الأجنبية كما فعل المصريون والأتراك الكماليون، ولا أدري هل هم مجمعون على هذا الرأي، لأنه لم يتح لي أن أحادث كل من لقيت منهم في هذا الباب، فإن كانوا مجمعين على هذا فهو من محامدهم، وسداد تفكيرهم، والذي عرفته- على الجملة- أن هذه الطبقة المثقّفة في باكستان ما زالت على شيء من التماسك مع الأجيال السابقة في الخصائص الموروثة، وما زالت على بقية من احترام الدين، فهي لذلك لا تجرؤ على مناهضة الرأي العام الإسلامي، ومما يختلفون به عن مثقّفينا أو مثقّفي اللغة الفرنسية أن روحهم إسلامية، وأنهم مطّلعون على أصول الإسلام وتاريخه وأبطاله، ولا سيّما السيرة النبوية والصحابة وآثارهم وخصائصهم، والحكومة حائرة بين الرأي العام والعلماء وبين ما يقتضيه الزمان من تساهل، والمجلس التأسيسي سائر بالقضية في تؤدة وبطء، ولعل من معاذير الحكومة في التروّي كثرة المذاهب الإسلامية، وأن أهل كل مذهب يريدون صوغ الدستور والقوانين التي تنبني على قواعده على قالب مذهبهم، والمسألة بسيطة إذا حكّم أهل المذاهب كتاب الله والمتّفق عليه من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعقّدة من جهة الواقع وهو أن مقلّدة المذاهب متعصبون لمذاهبهم، وإن خالفت الكتاب والسنّة بالاجتهادات المحضة.
فاتحني فخامة الحاكم العام بالكلام في هذه القضية، وقال: إن أقدر رجل على وضع قانون أساسي صالح للأمم الإسلامية كلها هو جمال الدين الأفغاني، لأنه عالم وحكيم وسياسي، وأنه درس تاريخه فلم يجده- سامحه الله- اعتنى بهذه القضية العظيمة، ثم تلميذه محمد عبده، وهو كذلك لم يصنع شيئًا، وتمنّى فخامة الحاكم العام لو أنني أكتب شيئًا في هذه القضية الجليلة وأعرضه عليه، وأن هذا يعدّ مني خدمة ذات قيمة للقضية، وإعانة للمشتغلين بها، فعلمت من حديثه على طوله أنه عامر الجوانح اهتمامًا بهذه المشكلة، فاعتذرت عن الشيخين بأنهما صرفا عنايتهما إلى الأهم من أحوال المسلمين في زمنهما، وهو التقريب بينهم، وإصلاح خللهم، وإعدادهم لينقذوا أنفسهم من أمرائهم المستبدين، ومن أعدائهم المتسلّطين، ولو تمّ هذا في زمنهما ولو في جهة مخصوصة، لكانت الخطوة الثانية الطبيعية هي هذا الدستور الإسلامي الذي تقصدونه، ولعلهما كانا يريانه أسهل مما نتصوّره(4/47)
نحن الآن، وهو كذلك إذا خفّ تأثير المذاهب المفرّقة، واجتمع المسلمون على هدي الكتاب والسنّة، وهو ما كان يعمل له الإمامان.
...
وزرت رئيس الوزراء دولة خواجه ناظم الدين في مكتبه بالمجلس التأسيسي، فكان الحديث كله عن باكستان والإسلام والمسلمين، والجزائر وجمعية العلماء، وكان المترجم في هذه الزيارة أيضًا الأستاذ محمود أبا السعود بالإنكليزية، وقد زرت رئيس الوزراء بعد الرجوع من رحلة كشمير مرّتين، مرّة مع أعضاء مؤتمر الشعوب الإسلامية بعد أن أزلنا ظواهر سوء التفاهم بين الداعين إليه وبين الحكومة، وقدّمني إخواني المؤتمرون للكلام أمامه فتكلمت وترجم عني الأستاذ سليم الحسيني، ومرّة أخرى رفعت له فيها تقريرًا مفصّلًا مترجمًا إلى الأوردية في الشؤون الدينية، وكان المترجم بيننا الأستاذ أبا السعود أعانه الله، كفاء لما قدّمه لي من عون تزيد في قيمته حاجتي إليه، وجزاه عن أخيه الذي لا ينسى فضله خير الجزاء.
...
وزرت قبل الرحلة وزير الدعاية، ووجّهت له كتابًا باسم الأمم العربية على نزارة الحصص التي يعطيها راديو باكستان للغة العربية، وعلى قصر حصة القرآن وعدم تعدّدها، وقلت له: يسوء إخوانكم المسلمين والعرب أن تكون حكومة الهند أحذق منكم في فنون الدعاية، وأحرص على اجتذاب العرب بتوسيع البرنامج العربي، واجتذاب المسلمين بتعدّد حصص القرآن، فاعتذر بكثرة اللغات التي تحتّم عليهم الظروف السياسية أن يذيعوا بها إرضاء لطوائف داخلية، أو مجاورة، وقد وعدته بتسجيل أحاديث دينية واجتماعية استجابة لرغبة إدارة الإذاعة، ولكن الرحلة وما تبعها من أعمال وأشغال حالت بيني وبين إتمامها فسجّلت بعضها بصوتي، وأنا عازم على إرسال بعضها من العراق إلى الأستاذ كاظم الحيدري مدير القسم العربي ليلقيها نيابة عني، وقد وعدني الوزير بأنه يتدارك ذلك النقص الذي عاتبته فيه بالتدريج، بعد أن سلم بملاحظاتي وآمن بسدادها.
وزرت- قبل الرحلة أيضًا- حضرة محمد ظفر الله خان وزير الخارجية، في دار سكناه، وجدّدنا ذكريات اجتماعنا في باريس، وشكرته على مواقفه من القضايا الإسلامية، وسردت عليه الحوادث الدامية بتونس، وما يقوم به الاستعمار الفرنسي من استباحة وانتهاك وترويع، فوجدته حافظًا للوقائع والأماكن والأشخاص كأنه شاهدها، وأبدى لي تأثّره الشديد من مكتب الجامعة العربية بالقاهرة، وقال إنه طلب منهم أن يمدّوه بواحد أو باثنين من التونسيين المقيمين بمصر، العاملين في القضية، ليسترشد به مندوب باكستان في مجلس(4/48)
الأمن في تنظيم التقارير وملفات القضية التونسية، وقال إن مكتب الجامعة وعده ذلك ولم يفِ، وحدّثته عن بعثة جمعية العلماء إلى مدارس باكستان- وهو حديث بدأته مع حضرته في باريس وأربعأناه إلى الاجتماع في كراتشي- فاتفقنا على الاجتماع بوزير المعارف وبحث المسألة معه، وكذلك كان، والوزير ظفر الله خان يفهم عني بالعربية ولا يغمض عليه إلا القليل، فنرجع فيه وفيما يجيبني به إلى الترجمان بالأوردية، وهو في هذه المرّة الشيخ القدوسي.
...
وزرت- بعد رجوعي من الرحلة- وزير المعارف، وكنت درست التعليم في الثانويات والكليات والجامعات في بشاور وفي لاهور (وهما مدينتا العلم) فبحثت مع وزير المعارف مسألة البعثة على ضوء تلك الدراسة، وبيّنت له الفائدة المرجوّة لأبناء الجزائر من الدراسة في باكستان، وما تستفيده الحكومة الباكستانية من الفوائد المعنوية، وما يستفيده التلامذة من الامتزاج، وكان ظفر الله خان حاضرًا معنا فدرسنا المسألة مجتمعين، وطلب مني وزير المعارف أن أكتب له بمعنى ما دار بيننا تقريرًا مختصرًا يتخذه أساسًا لعرض القضية على مجلس الوزراء بصفة رسمية، فكتبت التقرير في يومه وترجمته إلى الأوردية، وقدّمته له يوم 6 جوان 1952.
...
وزرت في نهاية الأسبوع الأول من وصولي إلى كراتشي صاحبة العصمة السيدة فاطمة جناح أخت المرحوم بطل الانفصال محمد علي جناح، قائد باكستان الأعظم، في دار أخيها التي كان يسكنها، فرحّبت وأهّلت، وسألتني عن الجزائر، وعن الإسلام فيها، وعن المرأة الجزائرية وحظّها من التعليم، وسألتني عن رأيي في المرأة المسلمة عمومًا، وأية الطرق التي يجب أن تسلكها للحياة بعد أن تبيّن أن حالتها الحاضرة فساد لها وإفساد لأمتها، ووبال عليهما معًا، فأجبتها بما خلاصته: إن المرأة المسلمة يجب أن تتعلّم، ويجب أن تتهذب، لكن بشرط أن يكون ذلك في دائرة دينها وبأخلاق دينها، وأن الإسلام ضمن لها حقوق الإنسان كاملة، وحاطها من جميع الجهات بما يجبر ضعفها الطبيعي، وأقرّها في أحضان البرّ والتكرمة بنتًا وزوجًا وأمًّا، وهي أطوارها التي تجتازها في الحياة، وحدّد لها الوظيفة التي حدّدتها لها الفطرة، وهي أشرف الوظائف الإنسانية بل هي الإنسانية في أول مراتبها، وأعطاها من الماديات والمعنويات ما لم تعطها شريعة سماوية ولا قانون وضعي، وألزمها أن(4/49)
تتعلّم كما ألزم الرجل أن يتعلّم، لأنه سوّى بينهما في التكاليف، والتكاليف لا تؤدّى إلا بالعلم، وأوجب عليهما العشرة، والعشرة لا تصلح إلا على العلم وجعلها مغرسًا للنسل، وغارسة للخصائص فيه، ومتعهّدة له بالسقي والإصلاح، وكل هذا لا يتمّ إلا بالعلم، وإذا كانت تربية النحل والدود تفتقر إلى العلم، فكيف لا تفتقر إليه تربية الإنسان؟ فإذا جهلت المرأة أتعبت الزوج، وأفسدت الأولاد، وأهلكت الأمّة، وكان منها ما ترين، وهل يسرّك ما ترين؟ فقالت لا، وقد توسّعت في هذه المعاني ومثلت، فأعجبها الحديث فأحسنت الإصغاء، وظهر لي من تنازع الحديث أنها مهتمة بشؤون المرأة المسلمة، وأنها مطّلعة على التشريع الإسلامي المتعلّق بالمرأة، وكان رفيقي في هذه الزيارة إنعام الله خان، والمترجم الشيخ محمد عادل القدوسي.
...
وزرت في الأسبوع نفسه قبر المرحوم محمد علي جناح محرّر باكستان، ومعي جماعة كبيرة من أعضاء مؤتمر العالم الإسلامي، ومعنا السيد غلام رضا سعيدي، ممثّل المؤتمر في إيران، ومعتمد بنك الحكومة في طهران، وكان ضيفًا في كراتشي، وتعارفنا فلازمني أيامًا، وهو رجل فاضل عارف باللغة العربية مطّلع على آدابها محسن للنطق بها، ويحسن الإنكليزية جيّدًا والفرنسية قليلًا، وزرنا بعده قبر لياقت علي خان، وهما متقاربان في ساحة واحدة مسيّجة وفي أحد جوانبها ماء ومواضع للوضوء، وليس على واحد منهما قبة، وإنما هما مسنمان في ارتفاع نصف القامة، وعليهما ستور خفيفة من القماش الملوّن، وعلى كل واحد منهما مظلّة مستطيلة تقي الزائرين حرّ الشمس، وقد وضع الزوّار على كل قبر عددًا كبيرًا من المصاحف القرآنية.
انتابتني حين وقفت على قبر جناح حالة غريبة، لعلّ منشأها ما في نفسي للرجل من إكبار زادته دراستي لتاريخ حياته ولأعماله في تلك الأيام القليلة، فإنني ما زرت قبره حتى استكملت علم ما كنت أجهل من حياته، فجاش خاطري بأبيات، وأنا واقف على قبره، وأنشدتها بصوت متهدّج، فتأثّر الحاضرون، وكتبوا ما علق منها بالذهن على إثر الانصراف، وما ذكرت منها حين كتابة هذا الفصل إلا هذه الأبيات الثلاثة:
هنا شمس تَوارت بالحجاب … هنا كنز تغطّى بالتراب
هنا علم طوته يد المنايا … هنا سيف تجلّل بالقراب
هنا من معدن الحق المصفّى … يتيم في الجواهر ذو اغتراب(4/50)
- 5 * -
____
بقية أعمالي في كراتشي
____
عقدت في أول الأسبوع الثاني ندوة صحافية في دار الأخ الأستاذ أبو بكر حليم، مدير جامعة كراتشي الآن، وجامعة "علي كرة" الشهيرة سابقًا، وهو من أعلى من رأيت في باكستان ثقافة، وله قيمة علمية ممتازة، واعتبار في جميع الأوساط الثقافية والحكومية، وهو رئيس اللجنة التنفيذية لمؤتمر العالم الإسلامي، وهو الذي اختار أن تكون الندوة في داره، وأحضر الشاي والحلوى، ووجّه الدعوة باسمي إلى الصحافيين ونواب وكالات الأنباء، فلما اجتمعنا وزّعت عليهم منشورًا مطبوعًا مترجمًا إلى الإنكليزية بقلم الأخ محمود أبي السعود، وبيّنت فيه الوضع السياسي في شمال أفريقيا عمومًا وفي الجزائر على الخصوص، وقضية الإسلام وأوقافه ومساجده وأحكامه في الجزائر، ثم شرحت لهم بلساني تلك المجملات وخصّصت تونس بكلام مؤثّر، وفتحت الباب للأسئلة فسألوا وأجبت، وكان الأستاذ أبو السعود يتولّى الترجمة عني إلى الإنكليزية، ومن لطائفه- حفظه الله- أنني سقت في معرض الحديث آية من كلام الله لها مرمى بعيد، وفيها للعقل مجال، فصاح بي: يا أخي إنني هنا أترجم عنك لا عن الله، إنني أستطيع ترجمة كلامك وإن علا، فأما كلام الله فلا، ومما استحسنته في أصحاب الجرائد ومندوبيها- وكلهم من الشبان- أن معظمهم يحسن الاختزال، فقد كتبوا أجويتي مع طولها في أسطر قلائل، ويظهر لي أن وكالة الأنباء الباكستانية الداخلية على حظ وافر من التنظيم، فقد كانت تنشر أخبار رحلتي من راولبندي أو بشاور فتقرأ في اليوم الثاني في جميع جرائد باكستان، وهي مئات.
...
__________
«البصائر»، العدد 200، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 8 سبتمبر 1952.(4/51)
أقام لي معهد اللغة العربية حفلة تكريمية، واستدعت إدارته جميع تلامذته وتلميذاته فجلسن من وراء حجاب، واستدعت كثيرًا من العظماء والوجهاء وحضرها مدير الجامعة الأستاذ أبو بكر حليم والسيد غلام رضا سعيدي الإيراني، وتكلّم أربعة من التلامذة في الترحيب بي باللغة العربية فكان نطقهم صحيحًا فصيحًا، يدلّ على صحة رأيي الذي صرّحت به في جميع المجالس بباكستان، وهو أن تعلّم العربية في الكبر لا يأتي بالفائدة المطلوبة وهو الذي جعل أكابر العلماء لا يحسنون النطق بها مع فهمهم الدقيق لها، وأن تعلّمها في الصغر هو الذي يمكّن لها في الألسنة، ثم يأتي الفهم بعد ذلك، وكان في التلامذة الذين تكلّموا تلميذ بورماوي مهاجر، وتلميذ جاوي، ومما يلاحظه الدارس للهجات الموازن بينها أن الجاوي أقرب إلى اللهجة العربية من غيره، فهو ينطق الحاء العربية والعين من مخرجهما الصحيح كما ينطقهما العربي الأصيل، بخلاف الباكستاني فإنه لا يستطيع النطق بهما البتة، بل ينطق العين همزة، وينطق الحاء هاء في غير الألفاظ المتداولة كالحمد لله، والكلمات العربية في الأوردية أكثر من الكلمات العربية التي في الجاوية، ولكن الجاوي إذا نطق بالكلمة العربية في أثناء حديثه، تدرك من أول سماعها أنها عربية لوضوح مخارجها في لسانه بخلاف الباكستاني، وأنشد التلامذة مجتمعين عدة أناشيد بالعربية منها نشيد إقبال مترجمًا فأجادوا، وأعلن مدير المعهد أن هذه الليلة عربية، ولا حظ للأوردية فيها، وكان الحماس للعربية متأجّجًا في التلاميذ فأعدى الحاضرين كلهم، وطلبنا من السيد غلام رضا سعيدي أن يلقي كلمة بالعربية ففعل فجاءت صحيحة فصيحة بليغة، وقال إن هذه هي المرّة الثانية من مرّتين خطبت فيهما بالعربية، وخطبت في الأخير في موضوع التعليم ومنزلة العربية بين الأمم الإسلامية، وأملى علي الجو كلامًا قويًّا عاليًا، وهي أول خطبة عاودتني فيها عادتي من الانطلاق بعد خطب الجمعة، إذ لم أكن فيها مقيّدًا بترجمان، والترجمة المقطعة- وإن كانت تريح وتعطي الوقت للتفكير- تذهب بجمال الارتجال، وتقف في طريق الاسترسال، فهي لفرسان الخطابة تبريد وكبح، ومما قلته في هذه الخطبة: إن اللغة العربية ليست لغة العرب حتى توضع في موازين الترجيح وتتعاورها العصبيات بين جنس وجنس، أو تعلو إليها الأنظار الشعوبية، ولكنها لغة القرآن، وخيرة الله لكتابه، وإذا كان للعرب عدوّ أو منافس ينازعهم المفاخر، أو يجاذبهم المحامد، أو يغضّ منهم، أو ينكر عليهم، فليس للقرآن عدوّ بين المسلمين، وعدوّ القرآن ليس من أمّة القرآن. ففي هذه المنزلة أنزلوا هذه اللغة، وعلى هذا الأصل فخذوها، فكان لهذه الكلمة نفوذها وأثرها في نفوس من فهموها.
يدير هذه المدرسة الأستاذ محمد حسن الأعظمي (من مدينة أعظم كره بالهند، لا من أعظمية بغداد كما يُتوهم) وهو رجل نشيط في أعماله وممّن يحسنون العربية فهمًا وكتابة، وقد جاور في الأزهر سنوات، ومازج الأدباء والكتّاب، ولو قُدّر له أن يرحل إلى الأزهر وهو(4/52)
صغير لكملت فيه ملكة النطق وظاهرت ملكة الفهم والكتابة، فكان منه عربي كامل، وقد انتقدت عليه تسمية هذه المدرسة بالكلية، لأنها لم ترقَ إلى هذه الدرجة، وإنما اسمها الصحيح معهد اللغة العربية، وأن التساهل في الأسماء كالتساهل في الأفعال كلاهما قبيح وكلاهما يحدث سوء القدوة، وما أحقّنا بالتزام الواقع واحترامه وتسمية الأشياء بأسمائها، وأن الاسم لكالثوب، إن قصر شان، وان طال شان.
____
حفلة جمعية علماء باكستان
____
وهي غير جمعية العلماء التي أقامت مؤتمر شباط الماضي في كراتشي، فهذه التي نتحدّث عليها أقدم في التأسيس، ولكنها لا عمل لها، ويوشك أن تكون الجديدة مثل القديمة، فليس لواحدة منهما برنامج إيجابي واقعي واضح الحدود، وليس في واحدة منهما عالم نشيط يتبع المقرّرات بالتنفيذ، ويجعل الجمعية حيّة تتحرّك دائمًا.
يرأس هذه الجمعية القديمة الشيخ عبد الحامد البدايوني القادري، ولها فرع أو أصل في لاهور اجتمعت برئيسه وهو خطيب في جامع وزير خان وله رسائل كثيرة بالأوردية، أهداني نسخًا منها، وهو يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه (مالك الناس) وجمعيتهم نائمة لا تستيقظ إلا في الموالد أو في بعض المناسبات التي تصحبها ضجة عامة، وقد دعت الجمعية الجديدة إلى مؤتمر شباط الذي أشرنا إليه (ولم يقدر لي الحضور فيه) وكان مؤتمرًا قويًّا إلا في المناسبة التي جعلوها سببًا للدعوة إليه، وهي مضيّ سنتين على وفاة العالم البطل الشيخ شبير أحمد العثماني- رحمه الله- فإنها مناسبة ضعيفة كان الأولى أن تكون ثانوية تابعة لا سببًا، وأقوى ما في ذلك المؤتمر إسناد رئاسته إلى الشيخ سليمان الندوي، وهو عالم جليل يجمع بين العلم ووقار العلم، ولكنه شيخ مسنّ، يشرف ولا يصرف، وقد حرّك ذلك المؤتمر الجمعية القديمة فدعت هي أيضا إلى مؤتمر ينعقد في شهر ديسمبر الآتي. وسنتكلم على الجمعيتين في حديثنا عن الجمعيات، وعن المؤتمرين في كلمتنا عن المؤتمرات فليرتقبهما القرّاء.
استجبت الدعوة إلى هذه الحفلة في مركزها، وقرأ مقرئهم آيات من كلام الله، فكان أحسن أداء وأشجى نغمة من كل من سمعتهم في باكستان، وأنشد شاعر مسنّ قصيدة بالأوردية في الترحيب بي وفي تمجيد جمعية العلماء الجزائريين بأعمالها، ووزعوا على الحاضرين خطبة مطبوعة بالعربية في الترحيب بي، ثم تلاها الرئيس، وفيها أن جمعيتهم تحتفل بالموالد، وتحتجّ في مثل قضيتي فلسطين وتونس، وفي هذه الخطبة الدعوة إلى مؤتمر(4/53)
ديسمبر الآتي، ورجاء أن أرأس جلسته الثانية (أو إحدى جلساته) وأن سماحة مفتي فلسطين قبل أن يرأس الجلسة الأولى، الخ.
أثّر فيّ ذلك الشاعر المسنّ بسنّه وشيبته وصوته المتهدّج، وشجاني منه ما شجا أبا تمام من الغناء الأعجمي، فشكرته شكرًا معتصرًا من قلبي وإن لم يفهم هو أيضًا ما أقول، وتخلّصت إلى المعاني العامة التي هي سرّ رحلتي، وشرحت وظيفة العالم بما تفهم منه أعمال الجمعيات ووظائف العلماء، وأعرضت عن تلك الجزئيات التي تضمّنتها خطبة الترحيب، لأن زمنها غير قريب، ولأنه ليس من العدل ولا من العقل أن يقطع علماء الإسلام الآلاف من الأميال، وينفقوا عشرات الآلاف من الأموال، ليحضروا مؤتمرًا يقرّر عليهم إقامة حفلات الموالد، كأنه لم يبقَ للمسلمين من المصالح إلا هذا ... ويا ضيعة الأعمار ...
...
____
رحلتي إلى كشمير والدواخل
____
كانت هذه الرحلة غاية التقت عندها رغبتي ورغبة الحكومة، فأنا رحّالة دارس لأحوال المسلمين، ومن أراد أن يعرف باكستان فلا يعرفها من كراتشي. إن كراتشي لا تبلّ غليلًا، ولا تشفي عليلًا، وفيها ما في العواصم مما يضلّ ويزلّ، وفي باكستان عواصم تاريخية، وجوامع أثرية، وجامعات علمية، ودور كتب، وآثار مجد قديم، وعلماء، وآراء وطبائع، وعادات، وأجناس، ولغات، وعناصر أخرجها الاحتكاك عن مجاريها، ومناظر تسحر، وأودية تزخر، فلا يتمّ الغرض من الرحلة إلا بالتقصّي والاستيعاب، وهناك مشكلة كشمير، والآراء في حلّها مختلفة، والنقد متطاير من عدّة جهات إلى الحكومة، وهناك مشكلة الحدود، والخلاف عليها مستحكم بين دولتين إسلاميتين، ولكلتيهما آراء، فيهمني أن أدرس المشكلتين في موضعهما من الأرض، وفي موضوعهما من الناس، فأستفيد شيئًا لنفسي، تتّسع به مداركي، وتزيد به معارفي، وشيئًا آخر لقومي إذا كتبت لهم أو تحدّثت، وشيئًا آخر يثقل به ميزاني عند الله، من كلمة نصح أقدمها للحكومتين، وكلمة حق أنشرها للأمم الإسلامية، ولي لسان ولي عقل ولي قلم، أربعو أن لا أضرّ بها إذا لم أنفع.
وحكومة باكستان يسرّها أن يطّلع أصحاب الأقلام والأفكار من المسلمين على الحقائق، فينشروا دعايتها، وينصروا دعواها، ويكونوا إلى جانبها في قضية كشمير، ووسطاء خير على الأقل في قضية قبائل الحدود، وهي على حق في هذا كله.(4/54)
والحكومة الباكستانية خصّصت لكشمير إدارة مدنية كاملة، رئيسها في مظفر أباد، العاصمة الجديدة لكشمير الحرّة، ولها نيابة في كراتشي، وأخرى في راولبندي التي هي باب كشمير، وقد قامت نيابة كراتشي بتنظيم رحلتي وترتيب الإجراءات اللازمة لها، واتصلت بنيابة راولبندي، وبالعاصمة (مظفر أباد)، فكان كل شيء من لوازم الرحلة منظّمًا مرتّبًا بصفة رسمية، وخيّروني بين الطائرة والقطار، فاخترت القطار وأنا أعلم ما فيه من عناء ومشقّة، مع بعد الطريق، ولكنني آثرته لآخذ في ذهني بواسطة الرؤية صورة من هذا الوطن الطويل، لا تتأتّى لراكب الطائرة، واتفقنا على اليوم والساعة فكان كل شيء في ميعاده.
- 6 * -
____
بقية أعمالي في كراتشي
____
خرجت من كراتشي- ومعي الشيخ محمد عادل القدوسي المترجم- على الساعة السادسة من صباح يوم الثلاثاء خامس عشر أفريل، فتكون مدة إقامي في كراتشي خمسة وعشرين يومًا صحيحة، مضى أسبوع منها في أنس ومطارحات أدبية مع الإخوان الأستاذ المفتي الأكبر والوزراء العرب: الخطيب وعزام والأميري وولدنا الأستاذ الفضيل، ثم افترقوا ولم يبقَ إلا الخطيب وولده الأستاذ فؤاد، وكفى بهما أدبًا وجاذبية وكرم نفس ورقّة شمائل، وحسن افتقاد لي، ومضت الأيام الأخرى في الاجتماعات والمقابلات وكتابة المذكّرات، ولم أتبرم فيها بشيء ما تبرّمت بشدّة الحرّ، ولولا أن ليل كراتشي يصلح ما يفسده يومها لكانت الحياة فيها مزعجة، هذا ونحن في الربيع، فكيف إذا هجم الصيف؟ وقد رأيناها في الصيف فكنا نترقّب الليل وطراوته كما يترقّب الصائم المغرب، وكنت أتربص بالكتابة الليل فأجد في برودته وهدوه وخلوه من الطارقين أعوانًا على النشاط لها وصفاء الذهن.
__________
* «البصائر»، العدد 201، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 15 سبتمبر 1952.(4/55)
كان الجو في يوم السفر حارًّا كعادته وزادته رمال "السند" السافية حرارة وشدّة، فلما جاوزنا إقليم السند بعد نحو سبع ساعات قابلتنا أتربة إقليم "الملتان" فلما جاوزناها واجهتنا أتربة إقليم "البنجاب" ولقينا في يومنا وليلتنا العناء من هذه السوافي التي ليست من صنع الريح، وإنما تثيرها سرعة القطار، وليست سرعة القطار إلا السرعة المعتادة عندنا أو أقلّ، ولكن تهيُّل هذه الأتربة وخفّتها بسبب الحرّ هي التي سهّلت اثارتها بأدنى محرّك، بدليل سكونها في آخر الليل حينما بردت فثقلت، ولا دواء لهذه العلّة إلا تشجير هذه السهول الواسعة بالغابات المثمرة وغير المثمرة وبالبقول والبرسيم، والإلحاح عليها بماء السقي حتى تسكن وتستقرّ، ثم زرع نبات "النجم" على حفافي السكة، فلا يقهر هذه الأتربة غيره، وليست هذه العميلة الأخيرة بالشيء العسير، ولقد رأينا هذا النبات (وهو النجم) مزروعًا في حدائق كراتشي العامة، وفي حدائق القصور الخاصة فرأيناه مستحلسًا كعادته يجمل الأرض بخضرته وتناسبه، ويمسك التراب أن يثور.
مررنا بحيدر أباد، وبهاولبور، ولاهور، ولم نقف فيها إلا بمقدار ما وقف القطار، لأن غايتنا كشمير، أما هذه المدن فهي في آخر البرنامج.
ومررنا ببعض أودية البنجاب العظيمة النابعة من سفوح جبال كشمير، وسنتحدّث عنها وعن هذه المدن في محلّها من هذه الحلقات.
وصلنا إلى راولبندي على الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الأربعاء سادس عشر أفريل، فنكون قد قطعنا المسافة في ثلاث وثلاثين ساعة متتابعة لم يتخلّلها نزول ولا راحة، وقطعنا فيها باكستان طولًا إلى قرب حدود الهند من الشمال الشرقي، وكنا محاذين لحدوده الجنوبية على طول الطريق نقرب منها ونبعد عنها بنسب متقاربة، ولقد كانت السكة الحديدية متصلة بالهند من عدّة جهات، ولكنها انفصلت مع الانفصال، فضاعت بذلك فوائد اقتصادية عظيمة على الوطنين.
قطعنا ألفًا وخمسمائة كيلومتر في سهل واحد ليس فيه جبال ولا روابٍ إلى مدى ما تنتهي إليه العين، ومما يؤسف له أن هذه السهول كلها خصبة التربة وتشقّها أنهار البنجاب العظيمة وترعها المنفصلة عنها، وكل ترعة تكون نهرًا عظيمًا، ومع ذلك كله ... فإن المساحات الواسعة منها ما زالت بورًا، والحقول القليلة المزروعة قمحًا أو قصب سكر أو برسيمًا تظهر فيه كالنقط، وكيفية الفلح ما زالت بدائية عتيقة تعتمد على الجاموس في الحرث والنقل والدِّرَاس، ومع ضعف الفلاحة وقدم أساليبها فإن إقليم البنجاب ينتج مقادير عظيمة من القمح والأرزّ تزيد كثيرًا على الاستهلاك المحلّي، وقد رأيناهم يحصدون القمح في أواسط أفريل، فهم سابقون حتى لإقليم بسكرة عندنا، فلو ترقت الفلاحة عندهم وانتظمت(4/56)
المواصلات التجارية لغمروا أسواق العالم بالقمح قبل أن تحضر قموح روسيا وشمال إفريقيا بشهور، ومن هيّأ الله له أدوات السبق ولم يسبق فهو محروم.
...
وصلنا راولبندي ووجدنا ممثلي كشمير في انتظارنا، وبتنا بها ليلتين، ألقيت في الثانية منهما درسًا في المسجد قبل صلاة الجمعة، واجتمعت بصديقنا على الغيب الأستاذ مسعود عالم الندوي، وفي صباح يوم السبت ركبنا سيارة خاصة لحكومة كشمير، وصحبنا ضابط اتصال شاب من الإدارة الخاصة بكشمير، وقد قرّروا أن نذهب من طريق، ونرجع على طريق آخر، لنشاهد جهتين من جبال كشمير الشاهقة ومن السلاسل المتصلة بها، واختاروا الذهاب على طريق "مرى" والرجوع على طريق "ايبت أباد" وهي أطول الطريقين.
سرنا بضعة عشر كيلومترًا في سهل قبل أن نصل إلى سلسلة جبال جرداء، تظهر للعين من راولبندي، وليست هي من جبال كشمير ولا قريبة منها، ثم دخلنا واديًا فيه قليل من الماء والأشجار المثمرة، وأخذنا في الصعود، وبدأت المناظر تختلف وتتلوّن، والمتعرّجات تتقارب وتتصاعد، ونحن ننتقل في كل خطوة من صحيفة تطوى إلى صحيفة تنشر، فننتقل من جميل إلى أجمل: شعاب وأودية وغابات من الصنوبر منقطعة، وقرى متناثرة هنا وهناك، متصاعدة مع الجبل، تحيط بها حقول من الشعير قليلة العرض جدًّا، ولكنها مستطيلة لأنها تابعة لوضعية الجبال، وإن الناظر ليعجب لهذه القرى كيف يتأتّى لها الصعود والهبوط والاتصال بالعالم، ولعلهم لارتياضهم على هذه الحياة تعوّدوا الاستقلال فيها، وقد يرتفقون ببعضهم فيما تدعو الضرورة إلى الارتفاق فيه، وان جبالهم لمتناوحة، يكاد إذا صاح أحدهم أن تردّد الجبال صدى صياحه فيسمعه الناس كلهم، وما زلنا مأخوذين بهذا السحر حتى انتهينا إلى قمة "مرى" بعد سير أربع ساعات كلها صعود ومنعرجات مدهشة مَخُوفة.
وقمة "مرى" ترتفع عن سطح البحر بسبعة آلاف قدم، فيما أخبرني به ضابط الاتصال (ألفان ومائتا متر وزيادة) وتحيط بهذه القمة غابات عظيمة من الصنوبر، وقد بني فيها من عهد الإنكليز عدة مرافق للمسافرين من فندق تتبعه مقهى ومطعم، وبها بيوت خاصة لسكنى الأسر، وغالبها من الخشب، ولكنها جميلة، فاسترحنا بها قليلًا وشربنا الشاي، وتمتعنا بالماء البارد بالطبيعة، وقد ذكرني بماء سطيف وشريعة البليدة وقنزات، ثم واصلنا السير وبدأنا في الانحدار من أول خطوة، كأننا كنا على مثل روق الظبي كما يقول المعرّي، واستدبرنا الصفحات التي كنا نراها، واستقبلنا صفحات أخرى من قمم وغابات متقطعة وقرى متقاربة وحقول قمح وشعير تظهر كالسطور في اللوح لضيقها واستطالتها، وتدرّجها من أعلى(4/57)
إلى أسفل، وقد يبتدئ أول سطر من أعلى جبل وينتهي آخر سطر في حافة الوادي، وما أعجب هذا المنظر وما أجمله، لكأنك ترى فيه ميزانًا "تيرمومتر" إلهيًا بديعًا لِدَرَجات الحرارة، فترى- في صفحة واحدة- السطر الأخير على ضفة الوادي أصفر السنابل، علامة النضج والافراك، ترى الذي هو أعلى منه أقل منه في ذلك، وترى ما هو أعلى منهما لأول ما بدت سنابله وامتازت من الورق، وترى الذي هو أعلى منها دونها في ذلك، حتى تقع عينك على الحقل الأعلى فإذا هو أخضر نضر لم تتكوّن فيه القصبات ولا الكعوب، كأظهر ما يكون الفرق بين منطقتين متباعدتين عندنا في الجزائر، أو كمن يستدبر بسكرة ويستقبل باتنة في سني تبكيرها وخيرها، وهذا كله وأنت لم تعد مرمى بصر، في صفحة جبل، ولعمري إن هذا لأجمل منظر رأته عيناي في حياتي كلها.
وتراءت لنا- ونحن في هذه المنحدرات العجيبة- قطعة من وادي مظفر أباد، الذي يفصل باكستان عن كشمير، ويمرّ على قرية "جهلم" فيسمّى باسمها، فإذا هو كالثعبان ينساب ويلتوي بين تلك الجبال الشاهقة قوّيًا هدّارًا، ففرحنا بقرب الخروج من تلك المنحدرات، كما أخبرني ضابط الاتصال، ثم وصلنا القنطرة الحديدية الهائلة، وسلكنا من الوادي ضفّته اليسرى بالنسبة إلينا حتى وصلنا قرية مظفر أباد، وهي واقعة على ضفة هذا الوادي، لأول ما خرج من الجبال مغربًا واتجه إلى شبه الجنوب، وقد اتصل به واديان عظيمان أحدهما من الغرب والآخر من الشرق، تحت مظفر أباد، أحدهما على بعد نحو ميل منها أو أقلّ، والغربي على أبعد من ذلك قليلًا، فأصبح بهما نهرًا ذا غوارب، وزاده الانحدار روعة بالهدير والتراكب.
...
قد سلكت طرق الجزائر الجبلية بالسيارة، وإن منها الرائع المخيف، فما داخلني من الخوف ما داخلني في طريق "مرى" صعودًا وهبوطًا، فما أدرى أللغربة والغرابة دخل في ذلك؟ أم هو الحرص على الحياة، يقوى فيمن تتقدم به السن فتدنو من الآخرة مراحله.(4/58)
أخوة الإسلام *
بسم الله والحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أيها المستمعون الكرام:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
أنا سفير من سفراء الإسلام، الناطقين بكلمته، الناشرين لدعوته، المسيرين باسمه، المضطلعين بأمانة الله في أهله، وهي التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر والرحمة.
وأنا بحكم هذه السفارة أحمل تحيات أهله في المغرب الإسلامي، إلى إخوانهم في المشرق الإسلامي، وما أجمل كلمة "أخوة الإسلام" وما ألذّ وقعها في نفوس المؤمنين الصادقين، وما أشدّ شوقهم إلى تحققها في عالم الواقع، وما أضيع حقيقتها بين جمهرة المسلمين، وما أبعدها عن قلوبهم وبصائرهم، وما أكثر دورانها على ألسنتهم لغوًا ورياءً وليًا بغير الحق، في هذا الوقت الذي ضعفت فيه سيطرة القلوب على الألسنة، فانقطعت الصلة بينهما، فأصبح اللسان في حل مما يقول.
إن المسلمين إخوة بحكم الله، ولكنهم اتّبعوا خطوات الشيطان، فكان جزاؤهم أنه كلّما تقاربت بهم الديار باعد بينها الاستعمار، وأن يناموا في الزمان اليقظان فلا ينتبهوا إلا على طروق الغارات، والتداعي لأخذ الثارات، وها هم أولاء قد تأخروا عن قوافل الحياة، فهم من حياتهم في مفازة طامسة الأعلام، يعملون للغاية وهم مستدبرون لها، ويلتمسون الهداية من مطالع الضلال، ويطلبون الشفاء بأسباب المرض، ويبحثون على الدليل الهادي وهو معهم، ولكنه على ألسنتهم لا في قلوبهم، فما أحوجهم- وهم في هذه الحالة- إلى سفراء يسفرون بينهم بتحية الإسلام والتحية بريد الأمان والاطمئنان، ثم بالتعارف، والتعارف
__________
* كلمة أُلقيت بإذاعة باكستان، أفريل 1952.(4/59)
وسيلة التعاون، ثم بالتوحيد والاتحاد رائد القوة، ثم بالتوجيه السديد إلى الغاية المنشودة وهي العزة والسعادة.
إن المسلمين كثير، ولكن التفرّق صيّرهم قليلًا مستضعفين في الأرض، يشقون لإسعاد غيرهم، ويموتون في سبيل إحياء عدوّهم، وانها لخطة من الهوان يأباها أكثر الحيوانات العجماء، فكيف الخلائق العقلاء.
لو صدقت نسبة المسلمين إلى الإسلام، وأشربوا في قلوبهم معانيه السامية ومُثله العليا، واتّخذوا من كتابه ميزانًا، ومن لسانه العربي ترجمانًا، واتّجهوا إلى هذا الكتاب الخالد بأذهان نقية من أوضار المصطلحات، وعقول صافية لم تعلق بها أكدار الفلسفات، لسعدوا به كما أراد الله، ولأسعدوا به البشر كما أمر الله، ولأصبح كل مسلم بالخير والصلاح سفيرًا، ولكان المسلمون في أرض الله أعزّ نفرًا وأكثر نفيرًا، ولكان التقاء المسلم بالمسلم كالتقاء السالب بالموجب في صناعة الكهرباء ينتج النور والحرارة والقوة.
أيها المستمعون الكرام:
أنا في رحلة استطلاعية إلى الأقطار الإسلامية، وقد مررت بمصر وأنا على نية العودة إليها إن شاء الله.
والغرض الأول الأهم من هذه الرحلة هو دراسة أحوال المسلمين في مواطنهم، والتعرّف إلى قادة الرأي فيهم بالعلم والحكم، والامتزاج بمجتمعاتهم، حتى أتبيّن الحقائق مشاهدة وعيانًا، لأن الأخبار التي تصلنا عن إخواننا النائين عنا تصلنا غامضة مختصرة، أو مطوّلة مستفيضة، وكلا الطريقين مشوه للحقيقة، مصوّر لها بغير صورتها، خصوصًا في هذا الزمان الذي أصبحت الأخبار فيه سلعًا تُباع وتُشترى على أيدي سماسرة يعوجون المستقيم، ويروّجون للسقيم، تبعًا لأغراض ليس شيء منها في مصلحتنا.
والغرض الثاني من هذه الرحلة هو التعاون بجهد المقل مع أولئك القادة في شخيص أمراض المسلمين المشتركة، والبحث عن وسائل علاجها، ورد الآراء المتفرقة فيها إلى رأي جميع وكلمة سواء، حتى يكون العلاج أسهل وأقرب نفعًا، ثم تمكين أسباب التعارف بين قادة المسلمين، وإن أشبه هؤلاء القادة لي، وأقربهم مسافة فكر مني هم علماء الدين الإسلامي، فهم محل الرجاء في إصلاح أحوال المسلمين إذا صلحوا، وهم أنفذ أثرًا في هدايتهم وإرجاعهم إلى هدي محمد وأصحابه وإلى التخلّق بأخلاقهم المتينة التي سعد المسلمون بالتخلّق بها قديمًا، وشقوا بالتخلّي عنها حديثًا، حتى وصلوا إلى هذه الدركة التي لا يحمدون عليها ولا يحسدون، وما دخل عليهم الشر إلا من هذه الثغر الأخلاقية التي فتحها التحلّل من القيود، ووسعها الاسترسال في شهوات العقول والجوارح.(4/60)
إن هذه الطائفة الحاملة لِلَقب "رجال الدين الإسلامي" هي من الأمة الإسلامية كالقلب من الجسد، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، كما ورد في التمثيل النبوي البليغ.
وإن عليهم قسطًا عظيمًا من تبعة هذا الانحطاط الشامل للشعوب الإسلامية، لأنهم فرّطوا- من قرون- في القيام بواجبات العالم الديني في الإسلام، وأول تلك الواجبات وأولاها حراسة هذا الدين أن تزيغ عقائده عن مستقرّها من القلوب فتخلفها الوثنية، وأن تختل هدايته السماوية، فتسف بها المادة إلى الحيوانية، وأن تخضع أخلاقه للشهوات فتضيع معانيها وآثارها.
إن العالم الديني في الإسلام حارس، والحارس إذا نام دخل اللص، والعالم الديني راع، والراعي إذا غفل هجم الذئب، والعالم الديني ربّان، والربّان إذا لم يأخذ الحيطة غرقت السفينة، والعالم الديني قائد كتائب فإذا عداه الضبط اختلّت الصفوف وحلّت الهزيمة.
أكبر مُناي في هذه الرحلة أن ألقى من يتيسّر لي لقاؤه من إخواني وزملائي، وأن نتبادل الرأي بأمانة الإسلام وإخلاص المسلم، في علاج هذه العلل التي خصّت المسلمين وأصبحوا فيها مضرب المثل في هذا العصر الذي أصبحت العزّة فيه دينًا يعتنق، وتنافس فيه الوثني والكتابي على سيادة الأرض، والمسلم القرآني راضٍ بالذلة والقلة والعبودية لهما أو لأحدهما، موزّع القوى، مختلف المشارب، مختلف حتى في الحق الذي لا يختلف فيه الناس، جامد العقل راكد القوى، غافل عن العواقب، مضيع لوقته بين سفاسف الأقوال وتوافه الأعمال، كأنه هيولى لم تتكيّف أو حقيقة ذهنية تجول في الذهن، لا شجرة مباركة تنبت بالدهن، حتى أصبح الجسم الإسلامي العام معرّضًا للفناء والانهيار، مستعدًّا للانحلال والذوبان، والإلحاد متربّص بالباب، والأهواء غالبة، والشهوات متبرجة، والحصانة التي جاء بها الإسلام مفقودة.
أيها المستمعون الكرام:
أنا الآن في باكستان وقد لقيت من أهلها، حكومةً وشعبًا، إجلالًا وكرم وفادة هم أهله ومحله، وقد صيّرتني أخوة الإسلام أهلًا لبعضه، فلا ينسيني الدلال بهذه الأخوة أن أحييهم تحية المسلم الصادق لإخوانه الصادقين، جزاء لما أنزلوني من منازل الكرامة والبر، وكفاء لما قابلوني به من التأهيل والترحيب، ومهرا لما تخيلته فيهم من مخايل صادقة تبشّر بأنهم أمة تُدعى إلى الحق فتجيب، وإعلانًا مني بأن ما وهب الله لهذه الأمة الباكستانية من الفطر السليمة، والاعتزاز بالإسلام، وجعل الاعتماد على الله أساسًا للأسباب، كل أولئك سيحقّق رجاءها ورجاء المسلمين فيها.(4/61)
فسلام على باكستان شعبًا وحكومة، سلامًا أؤدي به حقوق البر عن نفسي وعن قومي في المغارب الثلاثة، وإننا لقوم يقوم بذمّتنا أدنانا.
وتحيات مباركات طيّبات دونها عبير السحر، وإن كان قريبًا، وعنبر البحر وإن كان غريبًا، أحملها أمانة وأؤديها تكليفًا من إخواني أعضاء جمعية العلماء الجزائريين، ومن أبنائي جنودها العاملين للإسلام، الهادين لقرآنه المحيين للسانه، ومن أنصار جمعيتنا المجاهدين في سبيل الإصلاح، ومن الأمة الجزائرية التي تعد زيارتي لباكستان والأقطار الإسلامية واجبًا أقوم به عنها، ومغنمًا أجلبه إليها، ودينًا يؤدى لباكستان التي وضعت أساسها على الإسلام، وفتحت صدرها للإسلام، ورفعت رأسها اعتزازًا بالإسلام.
وإذا كان من حق باكستان على مثلي أن يتقدّم إليها بالنصيحة فإن من حق مثلي عليها أن تتقبّل منه النصيحة. وإن الإسلام قد جمعت أطرافه في النصيحة، وسنفعل وسنفعل مأجورين إن شاء الله.
وليهنأ باكستان أن للمغرب العربي كله قلوبًا تدين بالحب لباكستان، وعواطف تفيض بالحنان لباكستان، وأماني تجيش بالخير لباكستان، ونفوسًا تعلّق الآمال على باكستان، وألسنة رطبة بالدعاء لباكستان، ولتشكر الله باكستان على أن هيّأ لها من الصنع الجميل ما جعل لشعبها في قلب كل مسلم مكانًا، ومهّد لها في نفس كل مسلم مكانة، والسلام عليكم.(4/62)
الرجوع إلى هدي القرآن والسنّة *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها المستمعون الكرام في مشارق الأرض ومغاربها:
اجتمع المسلمون في أول أمرهم على هداية إلهية عامة، وهي هداية الدين التي جاء بها القرآن، وشرحها محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا إليها المستعدين وحضّ عليها المستجيبين، ونفّذها في أمة الإجابة.
وكانت تلك الدعوة جامعة بطبيعتها لموافقتها للفطرة، وجمعها بين مطالب الجسم والروح، وانطوائها على حفظ المصالح، وضبطها لنزوات النفوس.
تجتمع تلك الهداية على عقائد صحيحة، وتحفظ علائق العبد بربّه وتحددها، وأخلاق متينة تحفظ العلائق بين العباد وتجددها، وتزن المصالح بالميزان القسط، وتقرر للفضيلة وزنها وقيمتها، وللرذيلة وزنها وقيمتها، وتجعل بينهما حدًّا كأنه منطقة حياد، فيه للمؤمن خيار وله فيه روية وأحكام عادلة، تحفظ حقوق العباد وتفصل في مواطن مظانّ الشقاق. وتجمع أطراف الأمة من غني وفقير على العدل والإحسان.
وكان مرجعهم للقرآن وهو محفوظ مفهوم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار.
ثم فرطوا في سنن الله في دينه، فغفلوا بسبب ذلك عن سنّته في كونه وفي خلقه، فانحدروا من تلك الدرجة التي رفعهم إليها الإسلام، إلى هذه الدركة التي هم فيها الآن، وتماروا بالنذر فسلّط الله عليهم من لا يخافه ولا يرحمهم.
إننا نعد من معجزات محمد الخالدة، تلك النذر التي كان ينذر بها أصحابه، ليبلغها الشاهد منهم إلى الغائب، وقد بلغتنا وفيها أوصافنا التي نحن عليها الآن في
__________
* من حديث في إذاعة باكستان، أفريل 1952.(4/63)
القرن الرابع عشر للهجرة، وكأن الواصف لها يصف ما رأت عيناه لا ما تخيلته خواطره.
وأبلغ ما في تلك النذر المحمدية قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله: أو من قلة فيها يا رسول الله؟ ... لَا بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل لا منفعة فيه ولا غناء. نحن خمسمائة مليون فيما يعدّ العادّون، ولكننا مع هذه الوفرة الهائلة في العدد مستعبدون، قد نزع منّا البأس على أعدائنا ونزعت الرهبة منا.
أيها المستعمون الكرام:
قد وصلنا من الانحطاط إلى قرارته، ولم تبق في التدلي دركة أخرى نخشى أن ننحدر إليها، فلم يبق إلّا أن نقيم على هذه الحالة إلى ما شئنا وشاءته لنا المهانة والرضى بالدون. أو نرتفع إلى المنزلة التي أهّلنا الله لها بالإسلام.
إن البشائر تدل على أننا اخترنا الثانية، وان المخايل تنبئ بأن شواعر الخير تنبّهت فينا، وان الوظيفة القرآنية التي خالطت أردام سلفنا فرفعتهم من الحضيض إلى الأوج توشك أن تخالط منا نفوسًا خدرتها الأحداث ولم تصل بها إلى الموت، وان تلك النفحات التي هبّت على القلوب الغلف فحركتها، وعلى العيون العمي ففتحتها قد داعبت نفوسنا، فبدأنا نشعر ونحسّ، وأصبحنا نعي ونفكر، وان التفكير هو أول مراتب العمل، وما هذه الأصداء المترددة في الأقطار الإسلامية، وهذه الأصوات المتجاوبة من علماء الإسلام بلزوم التعارف فالاتحاد فالتعاون، إلا بشائر خير وتباشير صبح بعدها السَّنى والنور.(4/64)
أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليوم
هو الإسلام *
وقد يبدو هذا العنوان مدهشًا وغريبًا، ومثيرًا لتأثّرات مختلفة، في كثير من النفوس المختلفة، ولشيء من السخرية في النفوس الساخرة.
أما الدهشة فإنّ صاحبها معذور مهما كان، وأما الغرابة فكل وارد جديد على السمع أو على الذهن يُسْتَغْرَب، ولكنه إذا تكرّر وكثر ترداده أصبح مأنوسًا، وأما السخرية فلا تأتي هنا إلّا من رجلين: رجل انطوت نفسه على بغض للإسلام وحقد على بنيه، واحتقار لتعاليمه، ورجل لم يفهم الإسلام إلّا من حالة المسلمين اليوم، ولم يعلم أن بين حقائق الإسلام وبين حالة المسلمين اليوم بُعْدَ المشرقين، والذي في العنوان إنما هو الإسلام لا المسلمون.
العناوين لا ذنب لها لأنها دوالّ على ما وراءها، فاسمعوا ما وراء هذا العنوان، ثم ليندهش المندهشون إن لم يقتنعوا، وليسخر الساخرون إن شاءوا.
...
تولّى الإسلام في أوّل مراحله قيادة العالم الإنساني العامر للأقاليم المعتدلة، فضاده إلى السعادة والخير بأصلين من أصوله وهما القوة والرحمة، وبوسيلتين من وسائله في القيادة وهما العدل والإحسان، وبأحكامه المحققة لحكمة الله في عمارة هذا الكون.
والقوة والرحمة صفتان موجودتان في كل زمان، ولكنهما متنابذتان لم تجتمعا قط في ماض ولا حاضر، حتى جاء الإسلام فجمع بينهما وزاوج، وخلط بينهما ومازج، فجاء منهما ما يجيء من ائتِقاء السالب بالموجب في عالَم الكهرباء: حرارةٌ وضوءٌ وحركة. وما زال
__________
* كلمة كتبت بباكستان، ماي 1952، ولم نعثر على الصفحة السابعة من مجموع ثَمانِ صفحات.(4/65)
معروفًا عند العقلاء، قريبًا من مدارك البسطاء، أن القوة وحدها لا خير فيها لأنها جبرية واستعلاء، وأن الرحمة وحدها لا خير فيها لأنها ضعف وهُوَيْنا، وان الخير كل الخير في اجتماعهما، ولكن الجمع بينهما ليس من مقدور الإنسان المسخّر للأهواء والعوائد، المنساق للأماني والمطامع، المنجذب إلى مركز الأنانية، فلا تجمع بينهما على وجه نافع إلّا قوة سماوية تتجلّى في نبوّة ووحي وخلافة راشدة واتّباع صادق مشتق من هذه.
ومن حكمة الإسلام العليا أنه وضع الموازين القسط للمتضادات فإذا هي متآلفة، والمتنافرات إذا تآلفت صلح عليها الكون لأنها سرّ الكون وملاكه، فوضع الحدود لهذه المتنافرات، وأعطى كل واحدة حقّها، ووجّهها إلى الخير في مدارها الطبيعي، فإذا هي أشياء في الاسم والذات والوظيفة، ولكنها شيء واحد في الغاية والفائدة والأثر، وكلها خير ونفع وصلاح وجمال.
وضع الحدود بين المرأة والرجل فائتلفا، وأطفأ بالعدل والإحسان نار الخلاف بينهما، والخلاف بينهما هو أصل شقاء البشرية، ولا يتم إصلاح في المجتمع ما دام الخلاف قائمًا بين الجنسين، وما زالت الجمعيات البشرية من الرجال مختلفة النظر إلى المرأة، فبعضهم يرفعها إلى أعلى من مكانها فيُسقِطها ويسقط معها، ويعطيها أكثر من حقّها ومن مقتضيات طبيعتها فيفسدها ويفسد بها المجتمع، وبعضهم يحُطها عن منزلتها الإنسانية فيعدّها إمّا بهيمة وإما شيطانًا حتى جاء الإسلام فأقرّها في وضعها الطبيعي وأنصفها من الفريقين.
كذلك وضع الحدود بين الآباء والأبناء، وكم أزاغت الشرائع والقوانين الوضعية هذه القضية عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط.
كذلك وضع الحدود للسادة والعبيد، وللحاكمين والمحكومين، وللأغنياء والفقراء، وللجار وجاره، وللإنسان والحيوان، وللروح والجسم، فألّف بين السادة والعبيد بقانون الرفق، والترغيب المتناهي في العتق، وألّف بين الحاكمين والمحكومين بقانون العدل والمساواة، وبين الأغنياء والفقراء بنظام الزكاة والإحسان، وبين الجيران بوجوب الارتفاق والحماية، حتى اعتبر الجيرة لحمة كلحمة النسب أو أشد، ومَحا من المجتمع نظام الطبقات والأجناس والعناصر، فلا فضل لعربي على عجمي إلّا بالتقوى، ولا عزّة للكاثر، ولا تعظّم بالآباء، ولا عصبية بالقبيلة، ولا تفاضل بالجاه والمال، وجعل لليتيم حرمة تدفع عنه غضاضة اليتم، ولابن السبيل حقًا يحفظه من الضياع وفساد الأخلاق، وللغريب حقًا يُنسيه وحشة الاغتراب، وجعل ميزان التفاضل روحيًا لا ماديًا، فالغني أخو الفقير بالإسلام، وليس الغني أخًا للغنيّ بالمال، وقرّر للحيوان الأعجم حق الرفق والتربيب، وحماه من الإعنات والتعذيب، وأشركه مع الإنسان في الرحمة، ففي كل ذات كبدٍ حَرَّى أَجْرٌ، وحلّ مشكلة الروح والجسم، وعدل ما(4/66)
كان يتخبّط فيه فلاسفة الأمم من أن العناية بأحدهما مضيعة للآخر، فوفّق بين مطالب الروح والجسم، وحدّد لكلٍّ غذاءه وقِوامَه، فإذا هما متآلفان متعاونان على الخير والنفع.
...
ساس الإسلام الأرض بقانون السماء، فأشاع إشراقَه في غسقها، وأدخل نسَقَه في الإحكام على نسَقها، وقيّد الحيوانية العارمة في الإنسان بقيود الأوامر والنواهي الإلهية التي لا خيار معها ولا مراجعة فيها، وبذلك نقل الأمم التي دانت به من حال إلى حال، نقلها من الفوضى إلى النظام، ومن التنابذ إلى التآخي، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الاضطراب إلى الاستقرار، ومن نزعات نفسية متباينة إلى نزعة واحدة أقرّها فيهم، ثم أقرّها في الأرض بهم، ونقل الأمم المتبدية إلى حال وسط من الحضارة المتأنية المقتصدة، ونقل الأمم المتحضرة إلى حال من الحضارة العقلية تأخذ بالحُجّة، وتمنع من التضخّم والتهافت، ونقل الأمم المؤلهة للملوك والكبراء إلى حال من عرفان القدر وفهم الكرامة، جعلتهم هم الملوك.
...
قاد الإسلام أهله بقانونه السماوي الشامل لأنواع التدابير المحيطة بمصالح البشر من حرب وسلم، وخوف وأمن، وسياسة وإدارة، وقضاء في الأموال والدماء والجنايات، وفي بناء الأسرة.
قاد بهذا القانون أعقل سكّان الأرض إذْ ذاك في أعمر بقاعها، فما شكا أحد ظلمًا ولا هضمًا، فإنْ وقع شيء من ذلك فهو من حاكم حادَ عن صراطه، أو شخص أخلّ بأشراطه، وقد أخذت الأمم الخارجة منه كثيرًا من قوانينه العادلة في فترات احتكاكهم بالمسلمين محاربين أو معاهَدين في الشام والأندلس وافريقية، كما أخذوا كثيرًا من العادات الصالحة في تدبير المعاش وفي الحياة المنزلية، وما زال كثير من تلك الأصول بارز العين أو ظاهر الأثر في المدنية الحالية.
...
جاء الإسلام أوّل ما جاء بإصلاح الأسرة وبنائها على الحب والبرّ والطاعة: الحبّ المتبادل بين أفراد الأسرة، والبرّ من الأبناء للآباء، والطاعة في المعروف من الزوجة للزوج، وحاط ذلك كله بأحكام واجبة وتربية تكفُل تلك الأحكام، وتجعل تنفيذها صادرًا من نفس الإنسان، والرقابة عليها من ضميره، فلا تحتاج إلى وازع خارجي، وجعل تقوى الله والخوف منه حارسين على النفس والضمير، فكلما همّ الإنسان بالزيغ تنبّها فيه، فنبّهاه إلى لزوم الجادّة.
وإن يقظة الضمير الذي سمّاه النبي- عليه الصلاة والسلام- وازع الله في نفس المؤمن، ومراقبته لأعمال صاحبه لَهي أعلى وأسمى ما جاء به الإسلام من أصول التربية النفسية، وهي(4/67)
أقرب طريق لتعطيل غرائز الشرّ في الإنسان، وفرق عظيم بين من يمنعه من السرقة مثلًا خوف الله، وبين من لا يمنعه منها إلّا خوف القانون: فالأوّل يعتقد أنه بعين من الله تراقبه في السرّ والعلن، فهو لا يسرق في السرّ ولا في العلن، والثاني لا يمنعه من السرقة إلّا قانون يؤاخذ على الذنب بعد قيام البيّنات عليه، وفي قدرة الإنسان أن يتحاشى كلّ أسباب المؤاخذة الظاهرة، فإذا أمن ذلك قارف الشر مُقْدِمًا غير محجم، فالخوف من الله يَجْتَثُّ السرقة وجميع الشرور من النفس حتى لا تخطر على بال المؤمن الصادق، وبذلك يأمن الناس على أعراضهم ودمائهم وأموالهم، أما الخوف من القانون فربّما زاد الناس ضراوة بالشرّ بما يتفنّنون فيه من الحِيَل التي تجعلهم في مأمن من مؤاخذة القانون، فكأنّ هذه القوانين الأرضية تقول للناس: لا سبيل لي عليكم ما دمتم مستترين منّي، غائبين عن عيني، ولذلك فهي لا تمنع الفساد في الأرض بل تزيده تمكّنًا فيها، وانتشار الشرور في هذا العصر أصدق شاهد على ذلك.
...
نقول ونعيد القول بأن أصلح نظام لقيادة العالم الإنساني هو الإسلام، ولا نلتفت لسخر الساخر، ولا نأبه لدهشة المندهش، ونأتي بالحجّة على لون آخر، وهو أن الإسلام عقائد وعبادات وأحكام وآداب، وكل هذه الأجزاء رامية إلى غرض واحد، وهو إصلاح نفس الفرد الذي هو أصل لإصلاح النفسية الاجتماعية، فعقائد الإسلام مبنية على التوحيد، والتوحيد أقرب لإدراك العقل الإنساني من التعدد، وأدعى لاطمئنانه وارتكازه وتسليمه، والعقل إذا اطمأن من هذه الجهة انصرف إلى أداء وظيفته مجموعًا غير مشتّت.
والعبادات غذاء وتنمية لذلك التوحيد وعون على تزكية النفس وتصفيتها من الكدورات الحيوانية، والأحكام- ومنها الحدود- ضمان للحقوق، وحسم للشرور، وزجر للثاني أن يتّبع الأوّل، ومَن تأمّل القواعد التي بنيت عليها أحكام المعاملات في الإسلام علم ما علمناه، وهي: لا ضَرَرَ ولا ضِرَار، الضرورات تبيح المحظورات، ما أبيح للضرورة يُقدر بقدرها، درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، الحدود زواجر وجوابر، القصاص حياة.
والآداب تزرع المحبّة بين الناس، وترقق العواطف، فتقوي عاطفة الخير والتسامح والإيثار والكرم والشجاعة والصبر، وتضعف عاطفة الشر والتشدّد والأثرة والبخل والجبن والجزع.
...
العالم اليوم في احتراب وحبله في اضطراب، وقد ملكتْ عليه المادة أمره، وقد جفّت الروحانية فيه فضؤلتْ، فلم يبق لها سلطانها الآمر الناهي، وانطمست فيه البصائر الهادية فهو يتخبّط في ظلمات، وتجسّمت المطامع الشوهاء فتولت القيادة، وقد جرّ على نفسه في ثلاثة عقود من السنين حربين عاتيتين أهلكتا الحرث والنسل وهو يتحفَّز للثالثة، وقد كان قبل اليوم(4/68)
إذا اختلف اثنان وجد بينهما ثالث يدعو إلى الإصلاح أو ينتصر للمظلوم، فما زالت به المطامع وفشوّ الإلحاد، وشيوع الفلسفة المادية، والاغترار بالعقل، حتى أصبح مقسّمًا إلى كتلتين قويتين عظيمتين متضادتين، تدورُ كل واحدة منهما على مبدإ اتخذتْه دينًا ودعت الناس إليه، فانضم كل ضعيف إلى واحدة مُكرَهًا كطائع، وكلا المبدأين لا رحمة فيه ولا خير، وكلاهما ينطوي على شرور، وكلاهما يعتمد على الظفر والناب (1) ...
... ذلك فيهم نشروا أحكامه وتعاليمه حتى نَعم العالم، ويومئذ يشهدون انقلابًا فكريًا يقضي على هذا الجنون الذي ابتُليَ به العالم.
والإسلام دين اقتناع، فلا أقول إنه يجب على العالَم أن يصبح مسلمًا كاملًا يصلي ويصوم وإنما أقول: إن دواءه مما هو فيه هو الإسلام، فليأخذْ أو فليَدَعْ.
...
لا يضير الإسلام في حقائقه ومثله العليا أن لم ينتفع به أهله في تحسين حالهم، فما ذلك من طبيعته ولا من آثاره فيهم، وإنما ذلك نتيجة بُعدهم عن هدايته، وهو كدين سماوي محفوظ الأصول يهدي كل من استهداه، وينفع كل مستعدّ للانتفاع به، ولو أن أمّة وثنية اعتنقته فأخذتْه بقوة فأقامتْه على حقيقته- من العقائد إلى الآداب- لسادت به هذه المآت من الملايين من أهله الأقدمين الذين أضاعوا روحه ولبابه، وأخذوا برسومه والنسبة إليه، ولم يزحزحها عن السيادة أنها جديدة في الإسلام، كما لا ينفع تلك المآت من الملايين أنها عريقة في الإسلام.
ولا حجّة علينا ببعض الشعوب الإسلامية التي استبدلت القوانين الأوروبية بأحكام القرآن، لأنّ تلك الشعوب ما فعلت ذلك إلّا بعد أن لم يبق فيها من الإسلام إلا اسمه، ومن لم ينتفع بقديمه لم ينتفع بجديد الناس، وأحوال تلك الشعوب المستبدِلة شاهدة عليها، فهي لم تزدد بهذا الاستبدال إلّا شقاء وبلاء.
...
وبعد، فلو أن علماء الإسلام أحسنوا الدعاية إلى دينهم، وعرفوا كيف يغزون بحقائقه الأذهان، لكان الإسلام اليوم هو الفيصل في المشكلة الكبرى التي قسّمت العالم إلى فريقين يختصمون، ولكانوا هم الحكم فيها، ولكنهم غائبون، فلا عجب إذا لم يُشاوَروا حاضرين، ولم يُنتظروا غائبين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
1) هنا تنتهي الصفحة السادسة من المخطوط، والصفحة السابعة مفقودة.(4/69)
تقرير مرفوع إلى صاحب الدولة
رئيس وزراء الحكومة الباكستانية *
يا صاحب الدولة،
أرفع إليكم بيد الإخلاص، وبدافع النصيحة التي أوجبها الله علينا لعامّة المسلمين ولأولياء أمورهم خاصّة، فقابلوه بما يجب له من الاهتمام والتقدير.
إنّي أرى أنّ هذه الناحية التي يشرحها التقرير جديرة بالتقديم على غيرها من مصالح الدولة، لأنّها هي الناحية النفْسيّة التي تقوم عليها الأمّة، والنواحي النفْسيّة الروحية هي قوام الأمم والدول، وإنّي لأعْجَبُ ويعجب معي كلّ مفكّر مسلم يحبّ أن تُبْنَى هذه الدولة الإسلامية الناشئة على أساس صحيح- كيف لم يَكن لهذه الناحية اعتبار أوّلي من أوّل لحظة قامت فيها هذه الدولة.
لا نشكّ أنّه يومَ يوضع الدستور الباكستاني تكون أوّل مادّة فيه هذه الجملة بهذا النصّ: "دين الدولة الرسمي هو الإسلام"، وهذه المادة لا تكون حقيقة واقعة صادقة مؤثّرة إلّا إذا سبقتها تمهيدات، واتخذت لها وسائل عملية تضمن تحقيقها على الوجه الكامل الصحيح.
والحقيقة التي يجب عليّ أن أصارحكم بها هي أنّ الأمّة الباكستانية- وإنْ كانت مسلمة- تلتقي فيها المذاهب الإسلامية المختلفة المتعارضة، التي يحملها علماء لا يخلون من بعض التعصّب للآراء الاعتقادية، ولا يخلون من الجمود على الآراء المذهبية في جزئيات العبادات والأحكام، ويقابل هذا الجمود جهل مطبق بالدين في العامة، وتحلّل فاش في الجيل الجديد من الشبّان، وهذا شيء لَمسْنا حقيقته في هذه الرحلة، ودرسناه بالعقل الممحّص والبحث المدقّق، ووازناه بالمقارنات التاريخية في الماضي والحاضر، فإذا هو أخطر شيء على هذه الأمة وعلى هذه الدولة، ومن واجب الحكومات الحازمة الرشيدة
__________
* تقرير أُرسل إلى رئيس حكومة باكستان السيد خواجة ناظم الدين، ماي 1952.(4/70)
أن تحتاط لمثل هذا الأمر من بعيد، وتعالجه بالحكمة والتدريج، قبل أن يستفحل فينفجر عن فتن لا قِبَلَ للحكومة بإطفائها، أو يكون عائقًا لها عن التقدّم، أو يكون مشوّشًا للنظام، مخلًّا بالاستقرار.
...
والتدبير الموصل إلى المقصود هو أن تكوّن في أقرب وقت وزارة تسمّى "وزارة الشؤون الإسلامية"، وتحاط هذه الوزارة بنوع من التحصين يجعلها آمنة من التقلّبات الحزبية والتيارات السياسية، كما تفعل بريطانيا في بعض مصالحها التي لا تقوم إلا على الاستقرار، وهذه الوزارة متعلقة بالدين، والدين لا يتبذل ولا يتغير، ويختار لهذه الوزارة رجل يجمع بين الثقافة الدنيوية الضرورية وبين الثقافة الدينية علمًا وعملًا.
تقوم هذه الوزارة بتحقيق الأمور الآتية على الترتيب:
أوّلًا: ضبط الأوقاف الإسلامية المشتّتة بالتسجيل وكفّ الأيدي العادية عليها، وإعدادها للاستغلال العصري الصحيح الكامل حتّى تثمر وتغل فتصبح موردًا ماليًا قارًّا وعمادًا لنشر العلم والدين الصحيح، وإن ضبط الأوقاف الإسلامية القديمة وحفظها من عدوان العادين، وإرجاعها إلى ما يحقق رغبات الواقفين- كل هذا مما يحيي في المسلمين من جديد نزعة الوقف في سبيل الله وتشجيعهم عليه، فالمسلمون اليوم ما قبضوا أيديهم عن الوقف إلّا لأنّهم رأوْا بأعينهم مصير الأوقاف القديمة وضياعها وعدم صيانتها بالقوانين الصارمة، فضاعت بذلك مقاصد الواقفين، وإن حكومة باكستان إذا قامت بهذا الضبط لا تكون مبتدئة ولا مبتدعة، فهذه حكومة مصر فيها وزارة للأوقاف خصوصية وكأنّها حكومة مستقلّة لكثرة أعمالها، وهذا الأزهر الشريف نفسه قائم على الأوقاف الإسلامية بإدارته العظيمة ومنشآته وعلمائه وتلامذته الذين يعدون بعشرات الآلاف.
ثانيًا: تنظيم التعليم الديني على برنامج قوي محكم حكيم ينطوي على تمتين الأخوة الإسلامية الجامعة، وعلى التقريب بين المذاهب، وإرجاع المسلمين بالتدريج إلى الأصول المتفق عليها، فلا يمرّ عليهم جيل حتى يكون هذا التعليم الموحّد المنظم قد أثر في نفوسهم وجمع بينهم، وأزال ما بينهم من خلاف في الدين، أو أزال على الأقل آثار الخلاف بينهم، ويتضمّن هذا التعليم إعداد تلامذته ليكونوا معلّمين ووعّاظًا وأئمّة وخطباء مساجد، وتخصّص لهم جميع الوظائف الدينية حينما يحصلون على شهاداته العالية، ولذلك فيجب أن توضع لهم الدرجات وتبيّن لهم الوظائف في البرنامج ليرغبوا في هذا التعليم وينشطوا له، وتقوى آمالهم في الحياة ووثوقهم بالمستقبل، وليكن هذا التعليم في المساجد بصورة وقتية حتى(4/71)
تتمكّن الوزارة من بناء معاهد خاصة به لائقة بجلالته، وليكن الإنفاق عليه من ريع الأوقاف، فإن لم تف فتحت له الاعتمادات من الخزينة العامة، وكل درهم تنفقه الحكومة في هذا السبيل يعود عليها بالربح الجزيل.
ثالثًا: تنظيم الحالة في المساجد القديمة، وإزالة هذه الفوضى الضارلة فيها، ولا يتم ذلك إلّا بوضع نظام شامل للأئمة والخطباء والمؤذنين والقوَمة، وتحسين حالتهم المادية إلى أقصى حدّ، ومراقبتهم برجال أعلى منهم قدرًا في العلم والتديّن ليشعروا أن الرقابة عليهم منهم، وأنها نافذة، فيخضعوا إلى النظام، ولا ينفروا من المنظّم، فإذا تمّ هذا في المساجد القديمة التي هي وقف عام، حمل أصحاب المساجد الخاصة على الدخول في النظام العام الموحّد إن لم يرجعوا من تلقاء أنفسهم، وإن ضعفاء الإيمان والعلم تحتّم عليهم أسباب الحياة أن يجعلوا من بيوت الله وسائل للمعيشة، فتفقد روحانيتها وتصبح متاجر لا معابد، ومفرقة على الهوى لا جامعة على الحق، وفي هذا خطر على تربية الأمة ستظهر آثاره بعد حين، فئتحرص هذه الوزارة على معالجته بالحكمة ومعها القوة، وبالمطاولة ومعها الحزم.
رابعًا: تنظيم أحوال علماء الدين وتقريبهم من هذه الوزارة وجمعهم من حولها، وإفهامهم أنها وزارتهم الطبيعية يتصلون بها اتّصال الجندي بوزارة الحربية، والمعلم بوزارة المعارف، وأنها المرجع الوحيد لمصالحهم، ثم تعمل الوزارة على تكليفهم بوظائف دينية علمية من إمامة وخطابة ووعظ، وتلزمهم بالمحافظة على برنامج عام تضعه الوزارة ويكون لأهل الرأي منهم فيه رأي استشاريّ حتى لا يتشتت الرأي، وتختار الوزارة الأكفاء منهم للعضوية في مجلسها الإداري تدريبًا لهم على الأعمال العامة، ويجب على الوزارة أن تهتمّ بتحسين أحوالهم المادية قبل كل شيء، فإن لهذه الطائفة نفوذًا قويًا على العامة، فإذا تُرِكوا على هذه الحالة من الفوضى والإهمال وعدم ضمان الحياة المعيشية- فربّما يصبحون في وقت من الأوقات مصدر خطر على الدولة، وسببًا في الاضطراب والفتنة، وفارغ البال من الخير يعمره الشيطان بالشر، وهذه سنّة الله في الطباع البشرية، أما إذا كلفوا بالوظائف، وضمِن لهم الرزق، فإنهم يشعرون بالعزة والمسؤولية معًا، ويشعرون بأنهم جزء من الحكومة، وبأن لهم شركة في هيكلها الأساسي، وأن لهم مكانة في الدولة ورأيًا في تسييرها، وأن لهم حظًا في الحياة يجب أن يحافظوا عليه، وأن عليهم واجبات للدولة والأمة يجب أن يقوموا بها. إن أوّل فائدة لهذه الطريقة هي تعويدهم على العمل النافع وعلى النظام في العمل، وعلى تقديس النظام واحترامه، وإخراجهم من الكسل والجمود والفراغ، ويومئذ يعاونون الحكومة بنفوذهم الديني على إقرار النظام، وعلى إنشاء الدستور المنتظر المستمدّ من دين الأمّة ومن دنياها.
أما إذا وفّقت هذه الوزارة إلى وضع "كادر" للدرجات والترقيات للأكفاء من علماء الدين يتسابقون إليها بالأعمال النافعة، فإنها تعجل بالخير لها وللأمة، لأنهم يعلمون حينئذ(4/72)
أن الدرجات عند الله تقابلها درجات عند الحكومة، وأنه لا تنافي بينهما، وأن خدمة المرء لوطنه هي خدمة لدينه أرفع من كل خدمة.
إن إصلاح هذه الطائفة وتبديل عقليتها أنفع بكثير من تركها على هذه الحالة، وإذا تمّ هذا العمل على هذا الأساس، وسايره التعليم الديني الصحيح، تكون الحكومة قد أمّنت الحاضر بهؤلاء الكبار، وأمّنت المستقبل بذلك الجيل المتعلّم، ووضعت يدها على الفريقين، وسيكون الجيل الجديد المتعلم أفقه لحقائق الدين وبموافقتها التامة للمصالح الدنيوية العامة، فيرتفع هذا التصادم الصوري الماثل في أذهان الجيل القديم، ويرتفع هذا التنافر بين عقلية الآباء وعقلية الأبناء، وما عطّل رقيّ الأمم الإسلامية الحاضرة إلّا هذا التنافر.
خامسًا: تنظيم برنامج للوعظ الديني على أساس صحيح واسع، وطريقة فنية تقتبس من حقائق الدين وحقائق النفس وسنن الله الواقعة في كونه، وتمتزج فيها روحانية الدين بأرواح البشر، فتؤثّر فيها وتقودها إلى الخير، لا على هذه الطريقة الموجودة اليوم في المساجد في أيام الجمع، فإنها ترغيب لا يرغب، وترهيب لا يرهب، وإنما هو كلام معتاد يتركه السامعون في الجامع إذا خرجوا من الجامع، بدليل أن هذه المواعظ لم تبدل حالة العامة ولم يظهر عليهم منها أثر، فهم في كل جمعة يسمعون التحذير من الخمر مثلا والخمر لا تزداد إلّا فشوًّا، ومن الكذب وهو لا يزداد إلّا كثرة، وأكبر الأسباب في فشل الوعظ الديني بصورته الحاضرة أنه لا يصدر عن تأثر من قائله، وإنما تعوّد قائلوه أن يقولوه قولًا من غير حكمة، وتعوّد سامعوه أن يسمعوه حُكمًا من غير حكمة، والوعظ كالطعام يقدّم ألوانًا وبقدر الحاجة، ولا يؤثر في السامعين إلّا إذا كان خطابًا من القلب إلى القلب، ومن الروح إلى الروح، وكان الشيء المأمور به أو المنهي عنه مقرونًا ببيان آثاره وحكمه، فإذا كان تحذيرًا من الخمر قُرن ببيان آثاره من إتلاف المال وإذهاب العقل الذي هو سرّ الكرامة الإنسانية، وقضائه على الصحّة، وجلبه للخصام وتكديره للحياة الزوجية، وانتقال آثاره بالعدوى إلى الذرية، وهوان صاحبه على نفسه وعلى الناس.
والواجب على الوزارة إدخال الوعظ في مناهج التعليم الديني وتمرين الطلّاب عليه من الصغر، حتى تخرج بعد أعوام طبقة عالمة بكيفية الوعظ وشروطه قادرة على تأديته على أكمل صوره.
والواجب أن توزّع الوعّاظ على الأقاليم، وتأمرهم بأن لا يقتصروا على المسائل الدينية فقط، بل يتناولون المسائل الدنيوية التي يعمر بها الوطن وتسعد بها الأمة والحكومة، مثل التحريض على العمل، والتنفير من البطالة والكسل، ومثل تحبيب الفلاحة والتجارة والقراءة، ومثل الأخوة والاتحاد والتعاون على الحق، ومثل إصلاح العائلة التي هي أساس الأمة، ومثل تحسين العلاقة بين الغني والفقير، ومثل الطاعة للحكومة في المعروف.(4/73)
والواجب أن تدخل هذا النوع إلى الجيش في ساعات معينة من الأسبوع، فإن الجيش هو أحوج الناس إلى التربية الدينية وإلى تقوية الإيمان في نفوس أفراده وإلى تصحيح بصائرهم في الدفاع عن الوطن، فيجب أن يفهم الجيش أن دفاعه عن الوطن إنما هو دفاع عن دين الله الحق، وأن الاعتماد على جيش لا دين له ولا حَميّة كالاعتماد على الأعواد الرخوة التي لا قوة لها، وما انتصرت الجيوش الإسلامية في التاريخ إلا بالإيمان والحميّة الدينية، وما انتصرت الجيوش العثمانية على أوروبا إلّا يوم كانت مسلحة بقوة روحية من الإسلام، فلمّا فقدت هذه الصفة خذلها الله، فالواجب تسليح الجيش الباكستاني بهذه القوّة التي لا يفلُّها طمع ولا يُغريها متاع الدنيا ولا ترهبها قوة العدو.
سادسًا: يدخل في اختصاص هذه الوزارة قبض الزكاة الشرعية من الحبوب والعين والأنعام والتجارة. بعد وضعها لذلك برنامجًا محكمًا مضبوطًا بالاتفاق مع الحكومة، ولها أن تدفع منها قسطًا إلى الخزينة العامة، والزكاة في الإسلام هي العنصر الأساسي لبيت مال المسلمين، ومنه كانت تتغذّى المصالح العامة، ومنها بناء المساجد والمدارس والقناطر والحصون والثكنات، ومنها كانت تشترى الأسلحة وبها كانت تحفظ الثغور، أمّا الأموال الأخرى كالأنفال والمغانم والخراج فتارة تكون وتارة لا تكون، ولكن الزكاة هي الركن الدائم، وإذا خصصناها بوزارة الشؤون الدينية فلكي يطمئن الناس إلى دفعها بجاذبية الدين.
سابعًا: يدخل في اختصاص هذه الوزارة أيضًا ترتيب الحجّ وتنظيمه والوقوف على راحة الحجّاج بتسهيل الإجراءات هنا، وبتعيين رئيس يصحب الحجّاج في كل سنة، ومسألة الحجّ حقيقة بمزيد الاهتمام من الحكومة.
ثامنًا: يدخل في اختصاص هذه الوزارة أيضًا تنظيم الإحسان الديني من التبرعات والصدقات، فعليها أن تصدر قوانين صارمة حازمة وتتكفّل بتنفيذها، لضبط الصدقات والتبرعات على وجوه الخير مثل صيانة اليتامى والفقراء وتعليمهم، فإن هذه المعاني كلّها تدخل في ضمن الدين. وإهمال هذه القضية يؤدّي إلى خطرين عظيمين: الأوّل ضياع أموال الأمة في غير نفع بسبب عدم الضبط، والثاني فتح باب السرقة باسم الإحسان، ويترتب على هذا الأخير فساد أخلاق الشبّان العاطلين، وقد رأينا ورأى الوافدون إلى هذا الوطن العزيز مثالًا من هذا النوع، رأينا في كراتشي وفي غيرها- حتى في القطارات- طوائف من الشبّان يحملون قسائم مطبوعة باسم مدرسة أو جمعية تعلم يتامى المهاجرين، ويعرضون تلك القسائم بإئحاح على كل من يلقونه، وليس فيها ما يدل على ضبط أو نظام، وليس فيها اسم جمعية محترمة ولا رئيس مشهور، ومثل هذه الفوضى تزعزع ثقة المحسنين وتخلط الخبيث بالطيب وتفسد أخلاق هؤلاء الأحداث المباشرين لهذه الأعمال، فلو كانت هناك وزارة دينية لتولّت(4/74)
بنفسها هذه الأعمال وسدّت الباب على المفسدين، وساعدتها وزارة الداخلية بوضع قانون مضيق للجمعيات ومراقبتها، وبذلك يشتغل بكل شيء أهله.
هذا ما دفعني الإخلاص والحب لهذه الحكومة إلى تقديمه لدولتكم، راجيًا أن تحلوه محل الاهتمام، وإنه ليسرّني كعالم ديني أن أعينَ هذه الحكومة الشابة ولو بكلمة طيبة، كما يسرّ جميع المسلمين أن يروا هذه الدولة الناشئة كل يوم في تقدّم وترق، وأن يروها في كل ساعة تخطو خطوة إلى الأمام.
يا صاحب الدولة، نحن نعلم مشاغلكم السياسية، ونشارككم الألم النفسي الذي تتحمّله حكومتكم من المشاكل المحيطة بها، ونقدّر جهودكم المبذولة في ترقية التعليم والجندية والصناعة والفلاحة، ولكننا نرى أن ما تضمنته هذه اللائحة يجب أن يكون الأهمّ المقدم، لفائدته المحققة التي لا يختلف فيها اثنان، ولئلا يقال إن حكومة باكستان لا تهتم بالشؤون الدينية، ولذلك لم تخصّص لها وزارة كما خصصتها أندونيسيا المسلمة وإسرائيل اليهودية من أوّل يوم لتأسيسهما.
نعتقد جازمين أنكم إن خطوتم هذه الخطوة الجديدة تكونون قد جمعتم قلوب الأمة، وأسْكَتُّم كل معارض، وأرضيتم الله ورسوله والإسلام. ووضعتم في أساس باكستان صخرة من الحق تمسكها وتثبتها.
وتقبّلوا- يا دولة الرئيس- مني كل احترام وكل تقدير.
محمد البشير الإبراهبمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين
(تُرجم هذا التقرير إلى اللغة الأوردية، وقدمته بنفسي إلى رئيس الوزراء "خواجة ناظم الدين" ليعرضه على مجلس الوزراء، ووعد بأنه يخبرني بالنتيجة أينما كنت).(4/75)
في مؤتمر العالم الإسلامي
- 1 - *
كلمة في المؤتمر
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوان المؤتمرون على خير الإسلام، المجتمعون على عهده وميثاقه، الجامعون لأجزائه التي بدّدتها أحداث بنيه قبل أحداث الدهر، المؤتمنون على تراثه من العلم والحكمة، وعلى جواهره من العقل والفكر، المستجيبون لحضور هذا المؤتمر الذي ثوّب داعيه فأسمع، وسمع واعيه فأهطع، المتوافون كالقطا على مترع عذب ليس بالنزر ولا البكي، ولكن هجره ورّاده فما غار ولا أسن، وإنما ازداد صفاءً لأن منبعه السماء.
أحييكم عن جمعية العلماء الجزائريين التي لها في عنق العالم الإسلامي منّة تجل عن المكافآت، وهي صيانة الإسلام في دار يوشك أن يحيلها الاستعمار الفرنسي دار كفر، ولها في ذمة العالم العربي عارفة تجل عن الشكر، وهي إحياء البيان العربي في وطن رماه الاستعمار الفرنسي برطانات غريبة، غمرت لسان يعرب، وطمرت فصاحة يعرب، وغيّرت مجرى الضاد إلى غير واديه.
وأحييكم باسم الجزائر، ذلك القطر العربي المسلم الذي حافظ على العزيزين من ميراث السلف، ورضي في سبيل تلافيهما بالتلف، وصبر على سوم الشقاء وجهد البلاء دون أن يصيبهما حيف أو يلحقهما ضيم، وخُيّر بين الخطتين فاختار التي هي أقرب لرضى الله ورضى نبيّه، وهان في دُنياه ولكنه لم يهن في دينه، ولم يهن في عزيمته، وما زالت تنتابه الحادثات تباعًا فيخرج منها أصلب قناة ممّا كان، وأقوى إيمانًا بالله ممّا كان، وأثبت تمسّكًا بالإسلام ممّا كان.
__________
* مسوّدة وُجدت في أوراق الإمام المرحوم من كلمة ألقاها بباكستان، ماي 1952.(4/76)
وأحييكم باسم الشمال الأفريقي، تلك الأقطار التي جمعتها يد الله وأنبتت فيها النبات الحسن من السلائل البشرية حتى ختمتها بالجنس العربي وأورثته إياها، كما ختمت الرسالات السماوية برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، تلك الأقطار التي نظمها عُقبة وصحبه في ممالك الإسلام جواهر، وغرسوها في منابته أزاهر، ومكنوا فيها للبيان العربي حتى رست قواعده في الأرض وعلت شرفاته في السماء.
أحييكم عن الشمال الأفريقي من مخارم الأطلس الأشمّ بالسوس إلى منقطعاته على عتبات برقة، لا مفتاتا على إخواني الحاضرين في هذا المؤتمر من أبنائه، ولكن من آثار النبؤة فينا أننا قوم يسعى بذمتنا أدنانا، وأنا لسانُهم المعبّر عن أمانيهم فيكم، والمخبر عن مآسيهم لكم.
أيها الإخوان: إن هذا المؤتمر يحمل اسمًا عظيمًا ينطوي على معنى أعظم، فمعناه عند التحليل والشرح هذه الأربعمائة مليون المتفرقة كالحصى في قرارات أودية الحياة، فهذا هو المعنى الذي عناه الواضع لهذا الاسم.
ولكن هذا الاسم يثير فينا وفي كلّ مهتمّ حركة فكرية تستجمع أطراف هذا الاسم وحواشيه من ماضيه القوي العزيز إلى حاضره الضعيف الذليل، وفي كل حاشية من حاشيتيه وقفة وعبرات وعبر، وجملة من مبتدإ وخبر.
فهذا الاسم في ماضيه كان قليلًا، وكان عزيزًا لا ذليلًا.
أيها الإخوان: إن أكبر آية على أن هذا الشمال شيء واحد وكلٌّ طبيعي هو أن المغيرين من قديم الزمان كانوا يقصدونه كلًا: فكل مغير استولى على بعض أجزائه إلّا ورمى ببصره إلى الأجزاء الأخرى وعمل على ضمّها إلى بعضها لأنها مكمّلة لبعضها.
أيها الإخوان: أنا رسول العروبة والإسلام بالشمال الأفريقي إلى العروبة والإسلام المتمثلين في هذا المؤتمر، أناجيكم بأمانيه وأبثّكم بعض ما هو فيه، وأشكو إليكم- فأشكو إلى السميع الواعي- ما يلقاه من عنت الظالم وبغي المستعمِر، فإن لم تدركوه بنصرة الأخ ونجدة النصير وغوث الحامي، ضاع على الإسلام حصن من أمنع حصونه وعلى العروبة جزء من أهم أجزائها.
إننا ندافع دفاع المستميت حتى يدرك الغوث، ونصابر مصابرة الغريق حتى تتأتى وسائل النجدة، ولكم علينا أن نبقى كذلك محافظين على الثغر المطروق بالغارة مثبتين لأهله. ولنا عليكم أن تبادروا بتعبئة القوى، وإن أول بوارق الرجاء فيكم وبوادر النجدة منكم طلائع هذا المؤتمر الجامع لقوى الإسلام.
***(4/77)
أيها الإخوان:
إن الإسلام ما زال في أوروبا المسيحية في حرب صليبية لم تنطفئ نارها، وإنما غطى عليها رماد المدنية والعلم اللذين غزوا بهما عقولنا، وسحروا بهما عيوننا، وخدروا بهما مشاعرنا، تحيلًا ومكرًا ليصرفونا عن الاستعداد، وما هذه المدنية وهذا العلم إلّا سلاح جديد أفتك من سلاح الحديد: فإن سلاح الحديد يقتل الأجساد فينقل الأرواح إلى مقام الشهادة، أما هذا السلاح فإنه يقتل الأرواح ويجرّدها من أسباب السعادة.
أيها الإخوان:
إن العالم في اضطراب، لأن أهله في احتراب، وقد جرب المناهج والأدوية وتداوى بكل ما يخطر على البال، وتداوى بالمال وسحره فلم يشف من مسّه، واسترقى بجميع الرقى، فلم يبرأ من لمحه، وعالجه بالدواء الأحمر، فكان الداء الأصفر.
ويمينًا برة لا حنث فيها ولا تأول، لو أن الإسلام فهم على حقيقته، وطبّق على وجهه الذي جاء به من عند الله محمد بن عبد الله لكان هو الدواء النافع الذي يحل العقد ويرفع الإشكال، ولكان هو الحكم في معترك الخلاف، والجالب بقوانينه وأخلاقه لسعادة العالم.
ولكن الإسلام جمد فذهبت خواصه، وتفرّقت مذاهبه فزهقت روحه وذهبت ريحه.
والذنب في ذلك كله في عنق علمائه: تعصّبوا للمذاهب المفرقة فبعدوا عن المذهب الجامع وهو كتاب الله وهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفهموا الدين قشورًا وصدفوا عن اللباب، وتركوا قيادة الأمّة فأضاعوا الأمانة، وصرفوا الأمة بتعليمهم عن معاني الدين الجليلة، فأصاروها إلى الألفاظ، فهي تسبح منذ قرون في بحر من الألفاظ لا ساحل له، وإن الناظر في كتب المذاهب الإسلامية من الفقه والكلام يجد مجموعة يقصر ... ...(4/78)
- 2 - *
خلاصة خطبة الإبراهيمي جوابًا لرئيس مؤتمر العالم الإسلامي
في الحفلة التي أقامها تكريمًا لوفود العالم الإسلامي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أيها الإخوان:
إذا هيّأ الله أمة للسعادة جرّ إليها الخير بأسباب من الشرّ، وساق إليها النفع بوسائل الضرّ، ومرّ بها إلى الحق على قنطرة من الباطل، وجعل الخلاف فيها ممكّنًا للوفاق، والتضاد في أعمالها مثبّتًا للائتلاف، وذلك بتوفيق المتخالفين، إلى أن يكون الخلاف خلافًا في الوسائل لا في الغايات، والاتجاه إلى هدف واحد.
الرباط الجامع للأمم هو المحبّه، فإذا خلصت المحبّة بين أفراد الأمّة تمحض الخلاف إلى أحسن ثمراته، واختلاف الرأي- كما يقول شاعرنا شوقي- لا يفسد للودّ قضية.
كل ما هو موجود بين المسلمين من خلاف وفتن وشرور هو مرحلة طبيعية للأمم في الأطوار الأولى من نهضاتها، فلا يهولننا أن هذا الشيء خصصنا به، ولا يثبطننا هذا عن الاستماتة في علاجه والعمل متضافرين على إزالته بالتدرّج، لأن أول مراحل النهضة هو آخر مراحل الانحطاط.
ما دام هذا القرآن موجودًا بين المسلمين، يقرؤونه ويجلّونه ويضعونه في مكانه من التقديس، فإن الأمل في إصلاح المسلمين لا ينقطع، لأن أوائلهم ما صلحوا إلّا به، فلا يصلح آخرهم إلّا به، وما هي إلّا هبة من هباته ونفحة من نفحاته تهب على نفوس هذا القطيع المبدّد وإذا قلوبهم مجتمعة، ونوافرهم متآلفة، وأمرهم جميع، وإذا بالمعجزة القرآنية التي جمعت العرب بعد ما كانوا عليه من تشتّت وتدابر، تعود ثانية فتنقل هذه الأمم من حال إلى حال.
الوحدة الإسلامية التي ننشدها تتوقّف على شيء واحد لا ثاني له وهو أن يوجد لها محور، وقد وجد هذا المحور وهو باكستان، وهي نعمة يجب أن نشكر الله عليها وأن نعرف قيمتها وأن نستغلّها.
__________
* مسوّدة وُجِدَت في أوراق الإمام المرحوم.(4/79)
يجب على طرفين أن يشكرا الله على هذه النعمة الجليلة شكرًا عمليًا: الطرف الأول هو حكومة باكستان وشعب باكستان، والطرف الثاني هو الأمم الإسلامية.
أما شكر الأمم الإسلامية فقد تحقّق وتجلّى في هذه العناية التي رأيتموها من العالم الإسلامي في استجابته لدعوة ترسلونها مع رسول أو في البريد، وإذا هو مقبل عليكم مرسل إليكم بأفلاذ كبده وخلاصة علمائه وقادته وخطبائه وزعمائه، كأنه متحنث عابد سمع أذان الصلاة، وهذه وحدها نعمة عليكم لم تظفر بها أمة من الأمم الإسلامية ولا حكومة من حكوماتها.
وأما نوع الشكر العملي الذي يجب أن تؤديه باكستان حكومة وشعبًا فهو مقسّم عليها لتحفظ به هذه النعمة وتحصنها من الزوال.
فالحكومة يجب عليها أن تشكر الله على هذه النعمة بمحافظتها على الإسلام عقيدةً وعملًا وحكمًا وأدبًا ولغةً، وأن تفرض على رجالها أن يكونوا قدوة للناس في هذا.
والشعب يجب عليه أن يشكر الله على هذه النعمة بعدم الاختلاف، وعرفان قدر هذه النعمة، والسعي الحازم في توجيه الرأي العام إلى الاتحاد بتوحيد طوائفه المختلفة إليه، فعلماء الدين يتقاربون فيقف كل واحد عند قدره الذي وضعه فيه القدر ويُسَلِّم العالِم للأعلم، والكبير للأكبر.
إن المسلمين بدأوا يرتابون فيكم من هذه المؤتمرات المتعاقبة التي وجّهت الدعوات من باكستان وبعضها يحمل اسمًا واحدًا، وإنني أعرف بالأمم الإسلامية منكم أيها الباكستانيون، فلا تغرّنكم هذه الاستجابات السريعة من إخوانكم، فيومَ يعلمون عنكم اختلافًا أو اتباعًا لهوى مطاعًا سينفضّون عنكم وينبذونكم، ويومئذ تدعون فلا يستجيب لكم أحد، فترجعون إلى أسوأ مما كنتم عليه، فاستديموا هذه النعمة بالمحافظة عليها، والنعمة إذا عَظُمت عَظُمت تبعاتها ومسؤولياتها.
أنا لا يرضيي أنني في وطني كلٌّ، لأنني مرجع لإخواني العلماء، ومطاع من أتباع جمعيتي، لأن هذا الكلّ مهما قَوِيَ ضعيف، ولكن يسرّني أن أكون جزءًا من هذا الكل العظيم وهو علماء الإسلام، بل أفخر بهذا وأعلم ما له من الآثار النافعة للأمم الإسلامية.
كلنا جند النبي، ليس فينا أجنبي.
أربعوكم أن نتأدب بأدب جديد وهو الاقتصاد في المجاملات والألقاب وتقارض الثناء.(4/80)
وحدة الصوم والعيد *
هذا العنوان موضوع عملي جليل من المواضيع التي تجهد جمعية العلماء في تحقيقها والوصول بها إلى الغاية التي ترضي الله ورسوله، وتعين على تضييق دائرة الخلاف بين المسلمين.
دعت جمعية العلماء إلى هذا وعملت له في الجزائر ثم في شمال افريقيا كله وأرشدت إلى طريقته العملية، وهي قبول شهادة أي قطر إسلامي بالرؤية والاعتماد في تعميم الخبر بالإذاعات الرسمية التي يذيعها قضاة معينون من حكومة إسلامية، ولم تستثن إلا قضاة الجزائر لأنهم معينون من حكومة مسيحية بصورة ترفع الثقة بهم، ولأن من مقاصد الاستعمار بقاء هذا الخلاف الشنيع بين المسلمين في شعائرهم الدينية.
فجمعية العلماء وأتباعها في الجزائر ومقلّدوها في الشمال الأفريقي كله يصومون ويفطرون- إذا لم ير الهلال عندهم- على رؤية أي قطر إسلامي، تثبت وتزكى وتبلغ من قاض مسلم بصفة رسمية على طريق الإذاعة الرسمية. والإذاعات الرسمية اليوم لا يتطرق إليها أي خلل، وجمعية العلماء ترى أن عدم العمل بالرؤية الثابتة على هذه الصورة هو قدح في مصدرها، فهو قدح في أمانة المسلمين بلا حجة ولا بيّنة. وما شتت شمل المسلمين وأرث بينهم العداوة والبغضاء إلا قدح بعضهم في أمانة بعض، في الإمامة والشهادة، وهما حجر الأساس في بناء الأخوة الإسلامية، لأن الإمامة من دعائم الدين، ولأن الشهادة من مقاطع الحقوق في الدنيا.
تعمل جمعية العلماء هذه الأعمال وتعدها من أهم الوسائل لجمع كلمة المسلمين، لأن الخلاف كله شر، وشره ما كان في الدين وأشنعه ما اتصل بالعامة وأثر فيها التعصّب الباطل.
__________
* جزء من مقال عثرنا على مسودته في أوراق الشيخ، كُتبت بباكستان.(4/81)
فإن الخلاف في العلميات مقصور على العلماء محصور منهم في دائرة ضيّقة فلا تظهر آثاره ولا أعراضه في العامة، أما الخلاف في الصوم والعيد وما جرى مجراه فإنه يسري في العامة فيتناولونه بعقولهم الضيّقة فلا يثير إلا التشنيع والتعصّب والعداوة.
أضاع المسلمون بهذا الخلاف كل ما في الأعياد من جلال روحي ومعان دينية واجتماعية، وأصبحت أعيادنا تمرّ وكأنها مآتم. لا تنبّه في النفوس سموًا ولا تشيع فيها ابتهاجًا، ولا تثير فيها حركة إلى جديد، ولا سعيًا إلى مفيد، ولم يبق فيها إلا معان ثانوية مغسولة فاترة تظهر في هذه الصغائر من ترفيه تقليدي على الصبيان أو توسعة شهوانية على العيال، أو تزاور منافق يتولّاه اللسان ولا يتولّاه القلب، وقد يلتقي الإخوان أو الصديقان أو الجاران وأحدهما مفطر والآخر صائم. فلا تستعلن البشاشة في الوجهين، ولا تنطلق التهنئة من اللسانين، ولا يشعّ الأنس من أسارير الجهتين، وإنما ينقدح في النفسين أن كل واحد منهما مخالف للآخر فهو خصمه، فهو عدوّه. وفيمَ الخصام؟ وفيمَ العداوة؟ إنهما في الدين ...
إن هذا الخلاف الفاشي بين المسلمين في الصوم والعيدين هو التفرّق في الدين، ومن سمّاه بغير هذا فهو جاهل أو كاتم للحقيقة عمدًا. والتفرّق في الدين حذّر منه القرآن فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، وقال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}. وكيف يرجو المسلمون الخير وهم متفرقون في دينهم، مخالفون لكتابهم، معرضون عن وصايا نبيّهم، ناكبون عن صراط سلفهم.
إن هذا الزمان هو زمان التكتّل والتجمّع وكأن الأفراد هم الذين تحتّم عليهم الحياة أن يتكتّلوا ليدفعوا عنهم البلاء الذي لا يستطيع الفرد أن يدفعه وحده.
إن من أشنع أنواع آثار التفرّق بين المسلمين اختلافهم في صوم رمضان وفي العيدين، ولو كان هذا الخلاف خلافًا صامتًا لا يصحبه تشهير لكان شرًا مقدرًا بقدره، ولكن خلافهم في هذا يصحبه تشهير من الصائم على المفطر ومن المفطر على الصائم وتشنيع ينتهي إلى سبب الخلاف فيثير الأحقاد الدفينة والحزازات الطائفية.
أصبح الخلاف في الصوم والإفطار تجديدًا للأحقاد الدينية فنكءٌ لجراحها وإثارة للفتن النائمة، ولا مبرّر له من اجتهاد أو خلاف مذهي، أو اختلاف مطالع، فكل هذه الاعتبارات لا وزن لها في باب العلم، ولا محل لها في حقيقة الدين.
الإسلام دين الاتحاد والوفاق بكل عقائده وعباداته. وآدابه ترمي إلى الوفاق وتربّي على الوفاق وتدعو إلى الوفاق.(4/82)
خماسيات عمر الأميري *
الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري- وزير سوريا المفوّض في باكستان- شاعر موهوب، رقيق الحس، وجداني النزعة، خصب الشاعرية، مستجيب الطبع، متدفق الطبع، صادق التأمل، واسع التخيّل، نظم كثيرًا ولم ينشر شيئًا، وله في هذه الضنانة بالنشر أعذار بعضها معقول، وبعضها غير مقبول.
يختص كثير من شعر الأميري الذي سمعناه منه بوصف سرائر النفس وانفعالاتها ونشدان الصداقة الصادقة والود الخالص، ويفيض بالذاتية المستعلية بالله، المترفعة عن الاسفاف، المتعففة عن الشهوات إذا نافت الكمال، أو وقفت في الطريق إلى الله، ويسمو في كثير من أغراضه إلى صلة الروح بخالقها، وترقّيها في مجالي التقوى والإيمان فيدلّك حين تقرأه على قرب صاحبه من الله، والاعتزاز بعبوديته له، وقد تبدو في بعض شعره حيرة ولكنها حيرة المؤمن المسلم وجهه لله، لا حيرة الشاك المضطرب، فهو مع شبابه وإلمامه بمعارف عصره، وملابساته لفتن عصره، متين الإيمان بالله، صادق التعبّد له، قوي الخوف منه، وقاف عند حدود آداب الدين والمحافظة على شعائره محافظة دقيقة، ولكنه- مع ذلك- مرح طروب، مطلق اللسان في اصطياد النكت، بارع الذهن في استخراجها من مكامنها اللفظية، لا يتحرج في ذلك ولا يتحفظ، وقد تنزل به هذه البوادر عن منزلته الحقيقية عند من لم يعرفه إلا من طريقها، ولكن هذا الظن به لا يجاوز لحظات.
ولو رزق الأميري أناة في نظمه للشعر وصبرًا على تحكيكه وصقله واستفتاء أساليب البلغاء فيه لجاء منه شاعر أي شاعر، وقد أرشدته إلى هذا وعسى أن يفعل.
__________
* تقديم لخماسيات الشاعر عمر بهاء الدين الأميري، «البصائر»، العدد 195، 7 جويليه 1952 (بدون إمضاء).(4/83)
وللأميري عادة خاصة برمضان، وهي أن يصلّي الصبح مغلسًا، ثم يتلو جزءًا من القرآن تلاوة متدبّر، ثم ينام قليلًا بعد طلوع الشمس، فإذا استيقظ نظم الخاطر الذي يصحب تلك اللحظة في خمسة أبيات، فإن تعددت الخواطر نظم كل خاطر في خماسية، حتى لينظم في الصباح الواحد ثلاث خماسيات أو أربعًا، وقد اجتمع له من هذه الخماسيات ديوان صغير، ورأى لإعجابه بـ «البصائر» أن تتولى نشرها تباعًا، كل خماسية في عدد، و «البصائر» ترحّب بالشعر والشاعر، وبهذا اللون الجديد العامر، وترى أن أحكم الشعر ما صوّر خواطر صاحبه، وأن خواطر الشعراء هي مادة لشعرهم كيفما كان وزنها ولونها.
...
وللأميري صلة وثيقة بجمعية العلماء، فهو متّصل بمبدئها الإصلاحي اتصال العقيدة والعمل، وهو متّصل برجالها منذ كان طالبًا في باريس قبيل الحرب الأخيرة، وهو معجب بـ «البصائر» مواظب على قراءتها من ذلك الحين، وهو يرتفع برئيسها الأول عبد الحميد بن باديس، ورئيسها الحالي محمد البشير الإبراهيمي إلى الصفوف الأولى من قادة الإسلام، وهو معجب بشاعر الجزائر محمد العيد، يحفظ كثيرًا مما نشر من شعره في «البصائر» ويتغنّى بمطالعه وغرره. وها نحن أولاء ننشر خماسية في كل عدد وقد ننشر له قصائد كاملة في مناسبات خاصة.
وما زال الأدب العربي يظفر في كل عصر من عصوره بهذا الطراز من الشعراء الوزراء، وإن لم يكن بين الوصفين تلازم عقلي ولا عرفي، عرف منهم تاريخ الأندلس عشرًا، وعرف منهم عصرنا الحاضر فؤاد الخطيب وخليل مردم وعبد الوهاب عزّام وعمر الأميري، فهل يطمع كل الشعراء أن يصبحوا وزراء؟ أم أن دولة الأدب ستضن برجالها؟(4/84)
ديوان «مع الله» *
للشاعر عمر بهاء الدين الأميري
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قرأت هذا الديوان الصغير، الذي احتوته هاتان الدفتان ... ثم جاد الزمن علي بمعاشرة الشاعر ... عمر بهاء الدين الأميري ... في كراتشي، أسابيع، وتلطف فأسمعي كثيرًا من شعره، مكتوبًا ومحفوظًا، فدهشت لهذه الشاعرية الجيّاشة، التي وهبتها الفطرة الصافية لهذا الوزير الشاعر، وهذا الخيال الخصب الذي يفيض بالمعاني فيضًا ...
... وأقوى ما تبدع هذه الشاعرية، فيما لاحظت، حين تتصل نفس شاعرنا بالله، وبمجالي آياته في الكون، وبأسرار النفس البشرية وغوامضها، وصلاتها بما يجاورها من مخلوقات، ونسبتها إلى هذه العوالم، المنظورة والمغيبة.
كذلك حين تتصل أو تماس الآلام أو الآمال، فهنا ترى نوعًا غريبًا من الإبداع في الوصف، ونوعًا آخر من التحليق، وتسمع خفقات تتبعها زفرات ... تتبعها أنّات ... تنبعث منها آهات ... يمزجها الشاعر في مقاطيع صغيرة، من البحور القصيرة، سهلة السبك، سهلة القافية، فتأتي مؤدية لمعانيها، وكأنها بين الآهات انقطاع واستراحة ...
ولشاعرنا "خماسيات" تعوّد منذ سنين أن ينظمها في أيام "رمضان" وكأنها تجليات من روحانية هذا الشهر المبارك، على نفس الشاعر الرقيقة، التي يذكيها الاتصال بالله.
إن لإيمان صاحبنا الوزير الشاعر، وتقواه، وتربيته الدينية، ومحافظته على الشعائر، دخلًا كبيرًا في تلوين شاعريته، واضفاء جلال الدين عليها ... وهو في هذا شبيه بمثله من الشعراء الأتقياء- وقليل ما هم- ومنهم شاعر الجزائر محمد العيد. ولكن للأميري نفسًا مرحة، وشأوًا في الأحماض بعيدًا، ولكنه لا يجاوز لسانه، وهيامًا بالجمال في أكمل معانيه، لا يتدلى إلى المعاني التافهة، التي يسف إليها أصحاب النفوس الصغيرة ... وللشعراء في فهم
__________
* ديوان «مع الله»، دار الفتح، بيروت (لبنان)، 1392هـ، [ص:216].(4/85)
الجمال وفي معانيه، وفي مجاليه، وفي تذوقه، مشارب متفاوتة، تبتدئ من "الملإ الأعلى" وتنتهي إلى "الغرائز السفلى"!
الشاعرية في شاعرنا الأميري قوية، حية، موهوبة، مشبوبة، جيّاشة، وهي مستندة على حظ من البيان العربي غير قليل، وثروة من اللغة محيطة بالمعاني التي راض الشاعر قريحته على النّظم فيها، وتبدو لسلاستها وسهولتها فطرية سليقية، لا تكلف فيها ولا عسر، مفصّلة على المعاني، موزّعة على الأغراض، كأنها لم تخلق إلا لها!
ولكم تمنيت لهذه الشاعرية القوية لو صحبها توسّع لغوي، وقراءة متأنية لفحول البلاغة، وإذن، لجاء من هذا الشاعر، نادرة العصر، ولَتكشّف عن فحولة تخمل الفحول.
أنا آسف جد الأسف، أن لا تنشر هذه المقاطيع الجميلة، وأن تبقى هذه القصائد من غير نشر، وقد لمت الشاعر، في دلال الأبوّة على هذا التقصير، وقلت له: إن هذا إزراء بالأدب الرفيع، ووأد لكرائم الشعر، وهي من عمرها في الربيع، وفهمت من ملابساتي للشاعر أن هذه النزعة منه راجعة إلى طبعه المتأصّل في الصلاح والتقوى، وأنا أطمع أن يكون لكلامي تأثير في نفسه، فيتحف الأدب العربي بهذه العرائس المخدرة في القريب. ولئن جاد بذلك، لَيجدنّني في طليعة المنوّهين بهذا العمل الجليل ...
كراتشي، باكستان في 14 رمضان 1371.(4/86)
جواب على أسئلة ثلاثة *
ـ[السؤال الأول]ـ:
ما هو الموقف الحاضر في الجزائر، وهل هناك حركة إيجابية من الشعب للاتجاهات الاستعمارية الحديثة؟
ـ[الجواب]ـ: الاستعمار الفرنسي في الجزائر وفي شمال افريقيا عامة، هو أفظع أنواع الاستعمار التي عرفها البشر في مراحل التاريخ، لأنه ظلم صريح الأثر وحشي الأسلوب حيواني النزعة متوقح الوجه، ولأنه لا يتصل بالنفوس بحبل أو بخيط من الإحسان إليها ينتهك حرمات الله وحرمات الإنسان على السواء، وهو يحمل للإسلام والعربية حقدًا دفينًا يستره بأقواله، فتكفر به الأفعال القبيحة والمعاملات الشنيعة وانتهاكه لحرمات المساجد وابتلاعه لأوقاف المسلمين واحتكاره التصرّف في الشعائر الدينية كالحج.
لذلك لم يبق في الجزائر كبير ولا صغير إلا وهو واقف من هذا الاستعمار موقف العداوة، متربّص به دوائر السوء، عامل بما استطاع- ولو بالنية- على قطع دابره.
فالموقف في الجزائر بين الأمة الجزائرية والاستعمار موقف مكهرب بلغ النهاية في الحدة والشدة، فالحكومة تمعن في الظلم وتتصامم عن سماع كلمة الشكوى والحق وتتظاهر بالقوة، والأمة تقابل كل ذلك بالسخرية والتصميم على نيل حقّها الذي آمنت به وبأن هذا هو وقته وأنها تستحقه، وبأنها إن لم تنله اليوم سلمًا تناله غدًا غلابًا وهي تترقب الأيام وتتحيّن الفرص والحكومة تعلم هذا، وتعلم أن سلطان الاستعمار تزعزع وأن أيامه معدودة ولكنها تطاول وتعلّل النفس، وأسخف ما أصابها من خلق طارئ هو
__________
* استجواب لصحيفة باكستانية، 1952.(4/87)
تظاهرها بالقوة على العزل، وبالقدرة على العجز في وقت لم تعد تنفع فيه القوة الحقيقية فضلًا عن الوهمية.
والمقاومة الحقيقية الموجودة في الجزائر هي مقاومة أهداف الاستعمار، وقد نجحت إلى أقصى حدود النجاح. فهو قد عمل في مئة سنة على محو آثار الإسلام من النفوس بقتل أخلاقه المتينة وعقائده الصحيحة، وعلى محو عزة العروبة من النفوس، ومحو بيانها من الألسنة والقرائح، وقد كاد ينجح، ولو نجح لتمّ له ما يريد بعد مئة سنة أخرى من فرنسة الجزائر وجعلها مسيحية الدين لاتينية الجنسية. ولكن جمعية العلماء هي التي وقفت له في هذا السبيل وسدّت عليه منافذ أغراضه الخبيثة فنبتت للإسلام قواعده وأحيت العربية ورجعت بها إلى أسبابها، فالجزائر اليوم عربية مسلمة على أصحّ ما تكون قواعد العروبة وأصدق ما يكون الإسلام، ولا نبالغ إذا قلنا ان جمعية العلماء انتصرت في هذا الميدان بجهادها وعملها المتواصل في تحرير الإسلام بالجزائر من عدوين متعاونين عليه، عدو من أبنائه الذين شوّهوا حقائقه بالضلال والتخريب، وعدو من خارجه، وهو هؤلاء المستعمرون الذين غزوه بالجندي والمبشّر، والسياسي والحاكم. وان الاستعمار هو أول الشاعرين بهذه الحقيقة، وهي أن جمعية العلماء هي التي قطعت عليه الطريق إلى هذه الغاية، وان عداوته لجمعية العلماء موزونة بهذا الميزان، فهو لا يخاف من الحركات السياسية المحضة خوفه من حركة جمعية العلماء، لأنه يستطيع أن يقمع تلك الحركات بالقوة أو بغيرها من الأساليب، ومنها الإرضاء والمساومة على الكل بالجزء وعلى الكثير بالقليل، أما حركة جمعية العلماء فقد غرزت في الأرواح ورسّخت في مستقرّ الإيمان، وهي بعد ذلك كلّ لا يتجزأ فإذا لم تنجح فهي لا تستسلم.
وليست حركة جمعية العلماء حركة دينية محضة بالمعنى المفهوم من أمثالها في الشرق الإسلامي، وإنما هي حركة كلية لها طرفان: أحدهما الدين بعقائده وأخلاقه وفضائله وروحانيته، والثاني الدنيا بقوّتها ومالها وعزّتها وسيادتها وعلومها، ولا فاصل بين الطرفين، ولا وجود لأحدهما بدون الآخر.
ولقد تشابهت السبل على الاستعمار في فهم هذه الحركة لعدم فهمه لحقائق الإسلام ولقياسه إياها على أمثالها في الشرق الذي ضعف فيه سلطان الدين. بهذا الاضطراب في الفهم حكم عليها بأنها حركة سياسية متسترة بالدين، وحاربها على هذا الأساس، وهو واهم في هذا أو متعمّد للكذب، فما كنا يومًا متسترين بالدين وإنما نحن عاملون على إحياء الإسلام بجميع ما فيه، فإذا كان في الإسلام كل شيء فنحن لذلك عاملون، وعلى ذلك فنحن لا نقف عند هذه الوطنيات الضيّقة المحدودة التي هي من آثار الاستعمار لا من آثار الإسلام، بل نعمل على قدر الإمكان لجمع هذه الأوصال الممزقة على كلمة الإسلام، وجمعها في حظيرة واحدة كما هي غاية الإسلام. ولسنا نتأرك في هذا أو نتستر.(4/88)
ـ[السؤال الثاني]ـ:
ما رأيكم في الحركات التحريرية القائمة في تونس ومراكش، وهل من سبيل إلى توحيدها جمعيًا؟
ـ[الجواب]ـ: مراكش وتونس جزءان من وطننا المحبوب الشامل تسلّط عليهما الاستعمار الفرنسي بعد الجزائر بمدة تبلغ الخمسين عامًا بالنسبة إلى تونس وثمانين عامًا بالنسبة إلى مراكش وما تسلّط عليهما إلّا ليحصن بهما الجزائر.
وحركتهما اليوم حركة متحدة الأهداف متفجرة من صميم الأمة، متّقدة الشعور عميقة الجذور ملتهبة الوطنية. وهيهات أن تخبو أو تفتر كما يطمع الاستعمار غرورًا وكما يقدر جهلًا، وكما يقيس باطلًا. فإن حركة اليوم نتيجة يأس من جميع الطرائق والأساليب التي مرّت عليها الحركة، ونتيجة اعتقاد بأن الاستعمار الفرنسي أصمّ أعمى أبكم مجنون.
وأما توحيد هذه الحركات، فقد مرّ بثلاثة أطوار يوم كان سلمًا ومطالبة بالكلام: الطور الأول: توحيد الأحزاب المراكشية في طنجة على يد البعثة الصحافية المصرية المباركة. والثاني الجبهة الجزائرية على يد جمعية العلماء، والثالث ميثاق الأحزاب السياسية لشمال أفريقيا الذي تمّ في باريز على يد جمعية العلماء في شهر ديسمبر 1951.
وسيكون لهذه الأعمال أثرها في توحيد الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي.
ـ[السؤال الثالث]ـ:
نرجو إعطاءنا ملخصًا موجزًا عن تاريخ حياتكم.
ـ[الجواب]ـ: ولدت في بادية تابعة لمدينة (سطيف) من مقاطعة قسنطينة، وأعانني على تحصيل علوم العربية والدين أمران: طبيعي وهو توقّد الذهن وقوة الحافظة، واجتماعي وهو أن بيتنا بيت علم نتوارث رئاسته منذ قرون، فأخذت كل ذلك في بيتنا عن أبي وعمّي فحفظت القرآن وأنا ابن تسع سنين، وحفظت في هذه السن من لغة العرب وشعر العرب الشيء الكثير. ثم هاجر أبي بعد موت عمّي إلى المدينة المنوّرة سنة 1908 هجرة دينية سببها ضغط الاستعمار وظلم الحاكمين، ولحقت به سنة 1911 فأتممت دراسة الحديث والتفسير بالحرم المدني على أمثل من أدركته من علمائهما، وألقيتُ دروسًا كثيرة للتلامذة المهاجرين بالحرم.
وفي أثناء سنة 1916 خرجت إلى دمشق في من خرج من أهل المدينة بسبب حصار الشريف حسين لها فأقمت فيها إلى أواخر سنة 1919، ولي فيها معارف وأصدقاء وتلاميذ من الطبقة النابهة اليوم.(4/89)
في أول سنة 1920 رجعت إلى الجزائر، رغم إلحاح الملك فيصل على بقائي بالشرق ورجوعي إلى المدينة المنوّرة لتولّي إدارة المعارف بها. ولدى عودتي وجدت النهضة التعليمية قد بدأت أصولها على يد الإمام عبد الحميد بن باديس العالم المفكر الذي لم ينبت الشمال الأفريقي مثله إلى اليوم. فاتصلنا على التفكير والعمل لخير الإسلام في الجزائر، وبدأ عدد المفكرين يكثر في هذا السبيل والفكرة تنتشر وتلامذة الإمام ابن باديس يتزايد عددهم ويتدربون على الخطابة والاستدلال إلى أن جاءت سنة 1931 وهي السنة الموالية للاحتفال بمئة سنة للاستعمار الفرنسي. وفيها تأسست جمعية العلماء الجزائريين تأسيسًا رسميًا قانونيًا وشرعت في أعمالها الأولية وهي محاربة الآفات الاجتماعية التي أفسدت المجتمع الإسلامي كالخمر والميسر والزنا، بواسطة الدروس الوعظية في المساجد، فأحسّت الحكومة بأن هذه الدروس تفسد عليها خطتها في إفساد العقول بالخمر وإتلاف الأموال بالميسر. فاستصدرت قرارًا بمنع العلماء الأحرار من التدريس بالمساجد لأنهم مشوّشون، ورأت جمعية العلماء أن الأمة هي محل النزاع بينها وبين الحكومة، فالحكومة تريد أن تتركها جاهلة فقيرة، والجمعية تريد تعليمها وإرشادها إلى سواء الصراط في الدين والدنيا، فصمّمت على مواصلة سيرها ومضاعفة عملها في الاتصال بالأمة فانتقلت من المساجد إلى الأسواق والقرى والبوادي، ثم إلى الشوارع والبيوت ودور السينما والمقاهي. وقلنا للأمة منعتنا الحكومة من الاجتماع بك في بيوت الله فلنتصل بك في كل شبر من أرض الله. وتقدمت الكتائب الأولى وما منهم إلا الخطيب المفوّه والواعظ المؤثر فاتصلت بالأمة وحرّكت أوتار النفوس وغزت مكامن العقائد وأفضت إلى مستقرّ اليقين فاجتثت الباطل من العقائد والتأثرات والأخلاق والتصوّرات وغرست فيها الحق من ذلك كله. وهذه أولى مراحل النجاح في عمل الجمعية.(4/90)
في العراق
(من يونيو إلى أغسطس 1952)
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/91)
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها *
إلى القرآن من جديد
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم إلله اِلرَ اجّمىدرَّحِيم
أيها الإخوان المسلمون:
أبعث إليكم على أمواج الأثير بواسطة راديو بغداد تحية الإسلام المباركة الطيّبة الزكية التي هي رمز الأمان، وعنوان الإيمان، والتي يسمعها المسلم من أخيه، فينبعث معها الروح إلى القلوب، ويتفشّى معها الاطمئنان في الجنوب، وينبثّ بسببها الأنس والبشاشة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية تقرّبني منكم، فأجد في نفسي حديث رجعها عنكم. وحسبي وحسبكم هذا صلة جامعة تمهّد لما وراءها من نصح وحث، أو من شكوى وبث.
أيها الإخوان:
عنوان هذا الحديث الذي تسمعونه الليلة هو: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وهذا العنوان جملة ان لم تكن من كلام النبوّة فإن عليها مسحة من النبوّة، ولمحة من روحها، وومضة من إشراقها.
والأمة المشار إليها في هذه الجملة أمّة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، وصلاح أول هذه الأمة شيء ضربت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلّدته بطون التواريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولهج به الراضي والساخط، وسجّلته الأرض والسماء، فلو نطقت الأرض لأخبرت أنها لم تشهد- منذ دحدحها الله-
__________
* مجلة "الاخوة الإسلامية"، العدد 1، 21 نوفمبر 1952، ثم نقلته «البصائر»، العدد 218، السنة الخامسة، 20 فيفري 1953، مع التقديم الآتي: موضوع حديث قيّم للأستاذ الرئيس كان ألقاه بدار الإذاعة في بغداد، واختصّ به مجلة "الأخوة الإسلامية" الصادرة بعاصمة الرشيد بتاريخ 4 ربيع الأول 1372 لصاحبها الأستاذ محمد محمود الصوّاف. وقد رأينا إثباته هنا نقلًا عن المجلة المذكورة تعميمًا لفائدته، وتجديدًا لعهد الاتصال بالأستاذ الرئيس عن طريق ما يُذاع لسماحته وينشر من الأحاديث القيّمة. وهو يتنقل في ربوع الشرق العربي والإسلامي.(4/93)
أمة أقوم على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ دحدحها الله مجموعة من بني آدم اتّحدت سرائرها وظواهرها على الخير مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ دحدحها الله قومًا بدأوا في إقامة قانون العدل بأنفسهم. وفي إقامة شرعة الإحسان بغيرهم مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ أنزل الله إليها آدم وعمرها بذريته مثالًا صحيحًا للإنسانية الكاملة حتى شهدته في أول هذه الأمة. ولم تشهد أمّة وحّدت الله فاتّحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة.
هذه شهادة الأرض تؤدّيها صامتة فيكون صمتها أبلغ في الدلالة من نطق جميع الناطقين ثم يشرحها الواقع ويفسّرها العيان الذي لم تحجبه بضعة عشر قرنًا. بل إن هذه الأمة استقامت في مراحلها الأولى على هدي القرآن وعلى هدي من أنزل على قلبه فبيّنه بالأمانة، وبلغه بالأمانة وحكم به بالأمانة وحكمه في النفوس بالأمانة وعلم وزكى بالأمانة ونصبه ميزانًا بين أهواء النفوس وفرقانًا بين الحق والباطل، وحدًا لطغيان الغرائز وسدًا بين الوحدانية والشرك. فكان أول هذه الأمة يحكمونه في أنفسهم ويقفون عند حدوده ويزنون به حتى الخواطر والاختلاجات، ويردون إليه كل ما يختلف فيه الرأي أو يشذ فيه الفكر، أو يزيغ فيه العقل، أو تجمح فيه الغريزة، أو يطغى فيه مطغى النفس.
فالذي صلح به أول هذه الأمة، حتى أصبح سلفًا صالحًا، هو هذا القرآن الذي وصفه منزله بأنه إمام وأنه موعظة، وأنه نور وأنه بيّنات، وأنه برهان وأنه بيان، وأنه هُدًى، وأنه فرقان، وأنه رحمة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأنه قول فصل، وما هو بالهزل.
ووصفه من أنزل على قلبه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، بأنه لا يخلق جديده ولا يبلى على الترداد ولا تنقضي عجائبه، وبأن فيه نبأ من قبلنا وحكم ما بعدنا، ثم هو بعد حجة لنا أوعلينا.
القرآن هو الذي أصلح النفوس التي انحرفت عن صراط الفطرة وحرّر العقول من ربقة التقاليد السخيفة وفتح أمامها ميادين التأمّل والتعقّل ثم زكّى النفوس بالعلم والأعمال الصالحة وزيّنها بالفضائل والآداب، والقرآن هو الذي أصلح بالتوحيد ما أفسدته الوثنية، وداوى بالوحدة ما جرحته الفرقة واجترحته العصبية، وسوّى بين الناس في العدل والإحسان فلا فضل لعربي- إلا بالتقوى- على عجمي، ولا لملك على سوقة إلا في المعروف، ولا لطبقة من الناس فضل مقرّر على طبقة أخرى.
والقرآن هو الذي حل المشكلة الكبرى التي يتخبّط فيها العالم اليوم ولا يجد لها حل، وهي مشكلة الغنى والفقر، فحدّد الفقر كما تحدد الحقائق العلمية، وحث على العمل كما(4/94)
يحث على الفضائل العملية، وجعل بعد ذلك التحديد للفقير حقًا معلومًا في مال الغني يدفعه الغني عن طيب نفس لأنه يعتقد أنه قربة إلى الله، ويأخذه الفقير بشرف لأنه عطاء الله وحكمه، فإذا استغنى عنه عافه كما يعاف المحرم. فلا تستشرف إليه نفسه ولا تمتد إليه يده.
والقرآن هو الذي بلغ بهم إلى تلك الدرجة العالية من التربية، ووضع الموازين القسط للأقدار فلزم كل واحد قدره فكان كل واحد كوكبًا في مداره، وأفرغ في النفوس من الأدب الإلهي ما صيّر كل فرد مطمئنًا إلى مكانه من المجموع، فخورًا بوظيفته منصرفًا إلى أدائها على أكمل وجه، واقفًا عند حدوده من غيره عالمًا أن غيره واقف عند تلك الحدود، فلا المرأة متبرمة بمكانها من الرجل لأن الإسلام أعطاها حقّها واستوقن لها من الرجل واستوثق منه على الوفاء، ولا العبد متذمّر من وضعه من السيد لأن الإسلام أنقذه من ماضيه فهو في مأمن، وحدّد له يومه فهو منه في عدل ورضى، وهو بعد ذلك من غده في أمل ورجاء ينتظر الحرية في كل لحظة وهو منها قريب، ما دام سيّده يرى في عتقه قربة إلى الله وطريقًا إلى الجنة وكفّارة للذنب.
كذلك وضع القرآن الحدود بين الحاكمين والمحكومين، وجعل القاعدة في الجميع هذه الآية: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}، وان في نسبة الحدود إلى الله لحكمة بالغة في كبح أنانية النفوس.
القرآن إصلاح شامل لنقائص البشرية الموروثة، بل اجتثاث لتلك النقائص من أصولها. وبناء للحياة السعيدة التي لا يظلم فيها البشر ولا يهضم له حق على أساس من الحب والعدل والإحسان. والقرآن هو الدستور السماوي الذي لا نقص فيه ولا خلل: فالعقائد فيه صافية، والعبادات خالصة، والأحكام عادلة، والآداب قويمة، والأخلاق مستقيمة، والروح لا يهضم لها فيه حق، والجسم لا يضيع له مطلب.
هذا القرآن هو الذي صلح عليه أول هذه الأمة وهو الذي لا يصلح آخرها إلا عليه ...
فإذا كانت الأمة شاعرة بسوء حالها، جادة في إصلاحه، فما عليها إلا أن تعود إلى كتاب ربّها فتحكمه في نفسها، وتحكم به، وتسير على ضوئه وتعمل بمبادئه وأحكامه، والله يؤيّدها ويأخذ بناصرها وهو على كل شيء قدير.(4/95)
تعارف المسلمين مدعاة لقوّتهم وعزّتهم *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها المستمعون الكرام:
أبعث إليكم على أمواج الأثير بواسطة راديو بغداد تحيات الإسلام الطيبات الزكيات، وأعرفكم في جمل قصيرة بمغزى رحلتي، وبشيء من أعمال الجمعية التي أوفدتني، وسأحدثكم بعد الليلة بشيء من أحوال الشمال الأفريقي الذي هو قطع عزيزة من أوطان الإسلام.
الغرض الأساسي من رحلتي هو التعرّف إلى إخواني المسلمين بالوصف الجامع بيننا وهو أخوة الإسلام. ودراسة أحوالهم في مواطنهم، والاتصال بعلمائهم وزعمائهم وقادة الفكر والرأي فيهم، لننظر ونتبادل الرأي في إصلاح الفاسد من أحوالهم، وإكمال الناقص من أعمالهم، والتعاون على تبديل حالتهم بما هو أحسن منها، وإزالة هذا التناكر الذي يسود مجتمعاتهم، وتهيئة الوسائل الممكنة لتعارف الأخ بأخيه.
بدأتُ بباكستان، وأطلت فيها لأن لها من مركزها ونشأتها وأحوالها الداخلية ما يقتضي هذا التطويل، وسأنشر آرائي فيها بواسطة الصحافة إن شاء الله، ليعرف إخواننا البعيدون عنها أشياء من حقائقها.
وأنا الآن في العراق، وسأواصل رحلتي لبقية الأقطار الإسلامية لهذا الغرض الشريف، وهو الدراسة والتعرّف، فإن من النقائص التي لازمت المسلمين قرونًا وفوّتتْ عليهم خيرًا كثيرًا وكانت سببًا في إطالة آلامهم وأمراضهم، هذا التناكر الذي يسود مجتمعاتهم، وقد آن الأوان لأن تتعارف هذه الوجوه المتناكرة، وتتقارب هذه النفوس المتنافرة، ووجب على كل مسلم مخلص لدينه، مالك لوسيلة من وسائل التأليف بين مسلم ومسلم أن يسعى في ذلك
__________
* من حديث في إذاعة بغداد، يونيو 1952.(4/96)
بإخلاص، وأن يوجه كل مسلم إلى أخيه، وأن يؤذن فيهم بالتعارف الذي هو بريد التعاون، الذي هو بريد القوّة والعزّة، وأن ينذرهم بأن هذا التقاطع بينهم ليس من روح دينهم، وإنما هو من آثار البُعد عن دينهم، وأنهم أضاعوا حقيقتهم يومَ أضاعوا هذه المعاني التي كانت تربط أجزاءهم، وتحفظ عزتهم، وتمكّن لسيادتهم في الأرض، حتى أصبحوا كلهم- بتفرقهم- في حكم العبيد، ولم تُغنِ عنهم كثرتهم العددية شيئًا حينما أضاعوا تلك الكثرة المعنوية.
آن الأوان لأن تتعارف، وآن الأوان لأن تجتمع هذه الأجزاء المتنافرة من الجسم الإسلامي الكبير، ووجب على كل مخلص لدينه أن يسعى في جمع هؤلاء الإخوة المتقاطعين في مصلحة غيرهم.
أيها المستمعون الكرام:
في العالم الإسلامي مؤسسات كثيرة وجمعيات وأحزاب وجرائد ومجلات، وهذه المؤسسات هي التي يجب عليها أن تتعارف بتبادل الزيارات والجرائد والكتب والنشريات، وأن تقف جهودها كلها من نقطة ارتكاز وهي: تعريف المسلم بأخيه المسلم، وتقريب وسائل استفادة المسلم من أخيه المسلم، حتى يكون التعارف مثمرًا ثمرات كاملة.
وإنني أحدّثكم اليوم بمثال من هذا فأعرّفكم بجمعية العلماء الجزائريين وبشيء من أعمالها للإسلام، فإذا عرفتم عنها الكليات، كان ذلك مدعاة لكم إلى البحث عن الجزئيات من أعمالها. وإن هذه المعرفة تفيدكم نشاطًا وتبعث في الجمعية تنشيطًا حينما تعلم أنها بعين من إخوانها أهل الفكر والرأي في العالم الإسلامي.
جمعية العلماء الجزائريين لفظ معناه جماعة من العلماء المصلحين جمع بينهم العلم الواسع بحقائق الإسلام المستمدّة من الكتاب والحديث، والاطّلاع الواسع على التاريخ الإسلامي والحظ الوافر من الاطّلاع على أسرار اللسان العربي الذي هو لسان الإسلام وترجمان حقائقه، وجمع بينهم- زيادة على ذلك- نسق من الأخلاق المحمدية منها الإخلاص في الذود عن حقائق الإسلام وتطهيره من كل ما علق به من ضلال العقائد وبدع العبادات، وزيغ الأخلاق، ومنها الألم لحالة المسلمين الحاضرة مع العلم بأن منشأها الأول آت من هجرهم للقرآن وبُعدهم عن فهمه فبعدوا عن هدايته، ومع اعتقاد أنهم لا يعودون إلى ماضيهم العزيز إلّا إذا عادوا إلى القرآن فأحيوه، وأن هذه الجيوش من الرذائل التي تهاجم الإسلام في إيراد الشبه وفي تزيين الإلحاد، لا تُدفع إلّا بالاعتصام بالعروة الوثقى وهي القرآن.
إن في الجزائر ذلك القطر الذي هو قطعة من وطن العروبة الأكبر، وفلذة من كبد الإسلام، معاني من الدين وكنوزًا من الأخلاق الإسلامية الشرقية لاذت بنفوس عربية،(4/97)
وتوارثتها الأجيال عن الأجيال، ومرّت بها فترات من الجهل والضلال، ونزعات من الظلم الأجنبي والاعتلال، فلم تفسدها ولم تفض إلى مكامنها حتى ظهرت في هذا العصر وتجلّت، أظهرتها الحركة الإصلاحية القائمة على يد جمعية العلماء الجزائريين.
إن في المغارب الثلاثة تونس والجزائر ومراكش قريبًا من ثلاثين مليونًا من المسلمين العرب الأشداء في إسلامهم وعروبتهم، وطالما انتابتهم الأحداث التي تنسي الإنسان جميع مقوّماته، ولكنهم لم ينسوا عروبتهم ولم يضيعوا إسلامهم، وآخر الأحداث التي حلّت بهم هذا الاستعمار الفرنسي الجاثم على شمال أفريقيا (1).
...
__________
1) لم نعثر على بقية الحديث، ولعله أكمله ارتجالًا.(4/98)
في الموصل *
ها أنا ذا رجعت من جولة قصيرة في هذه القطعة العزيزة من وطني الإسلامي الأكبر، والفلذة الحية من كبد العراق، وهي الموصل وما جاورها عن الشمال والشرق، وأنا آسف أن لم يتّسع وقتي لزيارة ما جاورها عن الغرب، مع أنّ لي في تلعفر وسنجار جولات ذهنية تاريخية لا تقلّ عمّا لي من تلك الجولات الذهنية التاريخية في الموصل وإرْبيل، كعادتي في هذه الرحلة.
زرتُ هذه القطعة دارسًا في الدرجة الأولى لنفوس أبنائها، وممحصًا لأخلاقهم، ومستجليًا لما أبقت تصرفات الزمن وتقلبات الأحداث فيها من معاني الإسلام التي غرسها القرآن، وسقاها علماء القرآن الذين أنبتتهم هذه البقعة الخصيبة، فأفاءوا عليها الكثير الطيب زكاء وريعًا ونماء وبركة، وقد كانت هذه القطعة من شمال العراق منبت عظماء ومعدن علماء ومطلع فنّانين، ناهيكم بالموصل التي نبّهت في أهلها الحنين إلى الرحم المجفوة بينهم وبين شمال افريقيا ... تلك الرحم التي بدأت في باب البطولة بعبد الله بن الحبحاب، وختمت في باب الفن بزرياب.
وعبد الله بن الحبحاب الموصلي هو الذي اختط جامع الزيتونة بتونس سنة 114 قبل أن يختط جوهر الصقلّي الجامع الأزهر في القاهرة المعزية بأكثر من قرنين، والزيتونة والأزهر هما منذ قرون منارتا العلوم الإسلامية في الشرق والغرب.
وزرياب نفحة فنية من نفحات الموصليين تصدقت به بغداد مكرهة على الأندلس، فبقي عطره وشذاه ساريين في الفنّ الموسيقي بالشمال الأفريقي إلى الآن.
__________
* كلمة ألقيت بالموصل الحدباء، يوليو 1952، ونشرت «البصائر» ملخصًا لها ووصفًا لاستقبال الموصل في عدد 200، 8 سبتمبر 1952.(4/99)
فإذا جاوزنا هذين، فما أحلى وما أغلى ما أهداه شمال العراق إلى شمال إفرلقيا من فلسفة أبي عثمان ابن جني في لسان العرب التي هي روحانية العربية تجلّت لطائفها على لسان ابن جني، ومن الآداب الرقيقة التي سالت بها قرائح السري الرفّاء والخالديين والتلعفري، وكأنّ الله تعالت كلمته ادّخر لأخيكم هذا منقبة أداء الواجب عن الأموات في الأندلس وعن الأحياء في المغارب الثلاثة، وما هذا الواجب إلّا ثناء كعرف المسك يُهدى لأهل الموصل، وان ديون الأدب لا يسقطها مرُّ القرون.
وزرتُها دارسًا في الدرجة الثانية بما يسعه وقتي لآثار الأقدمين الذين عمروا العراق، منتفعًا بالعِبر، واصِلًا للمبتدإ من شأنهم بالخبر، مهتديًا بهدي القرآن الذي يأمرنا بالسير في الأرض والنظر في عواقب ومصائر مَن قبلنا، وان العراق من أغنى الأقطار بهذه الآثار، فهو يكاد يكون متحفًا لآثار الحضارات والشرائع القديمة، وما كان متحفَ الحضارات والشرائع إلا لأنّه كان مدفن الحضارات والشرائع، وما كان مدفن الحضارات والشرائع إلّا لأنّه كان منبتًا للحضارات والشرائع، وكان لذلك مساحب للفاتحين، ومجالًا للطامحين، ففي سهول اربيل ائتَقَى الشرق والغرب ممثلين في الاسكندر وداريوس متصاولين متطاولين إلى جعل الممالك مملكة واحدة، وعلى تلك السهول مرت موجات الهجرة الآرية من الشرق إلى أوروبا في أحقاب التاريخ البعيد.
...
وما لي لا أصدقكم- أيها الإخوان- جلية نفسي، وهي أن دراسة الآثار كانت من نوافل أعمالي ومن التوابع الثانوية للباعث الأصلي، وهو الالتقاء بإخواني الذين هم أبعد أجزاء العراق عنّا، ووزن حالتهم بحالة جنوب العراق ووسط العراق، ثم وزن الجميع ببقية أجزاء العالم الإسلامي، ووزن الجميع بقومي الأدنين وعشيرتي الأقربين من تفاوت واتفاق، في الأخلاق.
وما لي لا أصدقكم ثانية، بأنني وجدتُ العلة واحدة والأحوال متشابهة، حتّى كأننا سلالة أبوة قريبة العهد، ففي بعضنا من بعض مَشابه- على بُعد الدار-: جمود وخمود وركود، جمود في فهم الحياة، وخمود في القوى السائقة إلى الحياة، وركود في الأعمال التي يتفاضل بها الأحياء، والغايات التي يتسابق إليها الأحياء.
وإن تشابهنا جميعًا في هذه الأحوال العامّة، وتقاربنا جميعًا في الأحوال الخاصّة، وقعودنا جميعًا عن مراتب الرجولة، وتجردنا جميعًا من فضائل الشجاعة والغيرة على الحمى، والحفاظ والغضب للعرض وحماية الحقيقة، ورضانا جميعًا بالذل والضيم والمهانة والتعبّد للأجنبي، والخضوع له في كلّ شيء، والسعي في مرضاته حتّى فيما يهدم ديننا ويضيع(4/100)
قوميّتنا، واحتقار بعضنا لبعضنا، كلّ هذا التشابه الذي يجده الباحث المستقرئ في أحوال المسلمين بارزًا في جميع المسلمين من أقصى السوس في المغرب الأقصى إلى أقصى الشرق في أندونيسيا- هو الذي جرّأ أعداء الإسلام على أن يجعلوا سببه الأصلي هو الإسلام، وبنوا على هذه المقدّمة الخاطئة أن الإسلام دين خمود وركود وجمود وخضوع وخنوع، ثم أوهموا الجاهلين منا بحقائق الإسلام وتاريخ الإسلام وأمجاد الإسلام أن هذا هو الحق المبين، وأن هذه هي النتيجة المنطقية، فأضلّوهم وأصبحوا يردّدون معهم هذه الكلمات، كما تردّد الببغاء ما تسمع من غير فهم ومن غير عقل، وان مصيبتنا بالجاهلين منا أعظم من مصيبتنا بالأجنبي، فالأجنبي يحتلّ ويستغلّ وهو يعلم أن الدار ليست داره وأنه خارج منها لا محالة، ولكنه لكيده للإسلام وعداوته للمسلمين لا يخرج حتّى يفسد على أصحاب الدار شأنهم بما ينفثه في عقولهم من المعاني الخبيثة المفرقة، وحتّى يترك فريقًا من أهل الدار يسبّحون بحمده، وفريقًا يحنّون إلى عهده، وقد أصبحنا من هذه الحالة على قاعدة، وهي أن كلّ أجنبي لا يخرج من أرض شرقية إلا وهو على نيّة الرجوع.
إن أَمْضَى سلاح قاتلنا به فقتلنا هو التضريب بين صفوفنا حتّى أصبح بعضنا لبعض عدوًا، والتخريب لضمائرنا حتّى أصبحت خيانة الدين والوطن بيننا مَحْمَدَةً نتمادح بها، والتمزيق لجامعتنا حتى أصبحنا أممًا متنابذة نتعادى لإرضائه، ونتمادى في العداوة بإغوائه، والتوهين لقوانا المعنوية حتّى أصبحنا كالتماثيل الخشبية لا ترهب ولا تخيف، والاستئثار بقوّاتنا المادية حتّى أصبحنا عالةً عليه، والتعقيم لعقولنا وأفكارنا حتّى أصبحنا نتنازل عن عقلنا لعقله وإن كان مأفونًا، وعن فكرنا لفكره وإن كان مجنونًا، وتلقيح فضائلنا برذائله حتّى انحطّت فينا القيم المعنوية، وبخست موازين الفضيلة عندنا، وأخيرًا ترويضنا على المهانة حتّى أصبحنا نهزأ بماضينا افتتانًا بحاضره، ونسخر من رجالنا الذين سادوا العالَم وساسوه بالعدل إعجابًا برجاله، وننسى تاريخنا لنحفظ تاريخه، ونحتقر لساننا احترامًا للسانه، ووَاذُلّاه! أيرفع الشرق كبراءَه ليكونوا أدوات لانحطاطه، ويُعزّهم ليكونوا آلات لإذلاله!
هذا الاستعمار لعقولنا وأفكارنا هو أخطر أنواع الاستعمار علينا، وإن مصائبه منزلة علينا من إجلالنا للفكر الذي يأتي من أوروبا والكتاب الذي يأتي من أوروبا، وتقديسنا للأستاذ الذي يأتي من أوروبا والفنون المسمومة التي تأتينا من أوروبا.
هذا النوع الخطر من الاستعمار العقلي هو الذي مهّد للطامّة الكبرى التي هي مأرب الاستعمار منّا، وهي هذه الوطنيات الضيّقة المحدودة التي زيّنها لنا كما يزّين الشيطان للإنسان سوء عمله، وحبّبها إلينا كما يحبّب الطبيب الغاشّ للمريض تجرّع السمّ باسم الدواء، ولو كانت خيرًا لَسبقنا إليها في أممه وأوطانه، ولكنه يتزيد بالعناصر الأجنبية ليقوى في نفسه، ويفرّقنا لنضعف، فيكون ضعفنا قوّة فيه.(4/101)
أليست هذه الوطنيات الضيّقة هي التي أضعفت الحمية الإسلامية حتى قتلتها في النفوس، أليست هذه الوطنيات الضيّقة بمثابة تقسيم الخبزة إلى لقم يسهل مضغها وازدرادها وهضمها؟
والذي روحي بيده لو كان العرب أمّة واحدة لما ضاعت فلسطين.
والذي روحي بيده لا تقوم لنا قائمة حتّى نرجع إلى الوطنية الكبيرة الجامعة الواسعة اللامعة النافعة وهي وطنية الإسلام.
...
أيها الإخوان:
إن السبب الأكبر لرحلتي هذه بعد الدراسة والتعارف هو السعي في إحياء الجامعة الإسلامية التي هي خير ما يجتمع عليه الشرق وأممه وملله.
وقد كان الاتصال بيننا قريبًا من المحال، لأنّنا تناكرنا وماتت ملكة التعاطف والتعارف في نفوسنا من قرون، فلمّا فتحنا آذاننا على رجّة الأحداث، وفتحنا أبصارنا على أشلائنا الممزقة، وفتحنا بصائرنا على بُعدنا من الدين وهدايته، وتخبّطنا في ظلام مما كسبت أيدينا، وحاولنا صلة رحم الإسلام ووصل أجزاء الشرق، جَعَلَ الاستعمار بيننا ردمًا، وأوسع معالم الاتصال بين الشرقي والغربي منا رغمًا، وضرب بيننا بسور ليس له باب.
وقد كانت الخواطر تمثل لي هذا الاتصال فتبعث في جوانب نفسي بهجةً وسرورًا، فكيف لا أبتهج وقد أصبح حقيقة واقعة، وإنّني أعتبر رحلتي هذه فتحًا لباب، وعنوانًا لكتاب، ومقدّمة لنتائج، وإذا رجعنا إلى الفال نستفتح به أقفال الغيب، ونسِمُ به إغفال المستقبل رأينا أن صبيب المزن مبدؤه قطرة، وأن عصف الريح مبدؤه نسمة، وأن صادق الوحي أوّله رؤيا منام، ثم بعد تلك البدايات ينهمر الغيث وتعصف الأعاصير ويتواتر الوحي.
...
أيها الإخوان:
هذه الحركات المرجوّة تحتاج إلى قائد من طراز علوي سماوي الروح، وهذه الحركات المرجوّة مفتقرة إلى حكومة تحتضن وتحمي الحريّة، وإلى وطن- ولو ضيّق الأرجاء- يؤوي وينفق.
لا نصدق بعد اليوم الأمثال فينا، ولا نثق بزخرفة القادة الملحدين، فمحال أن يقودنا إلى الجنّة مَن هو مِن أهل النار، وهيهات أن يقودنا إلى الحريّة مَن هو عبد شهواته، ومحال على كرامتنا أن نبقى بعد اليوم كمونًا يسقيه وعد، وإبلًا يوردها سعد.(4/102)
بغداد تكرّم المغرب العربي *
أيها الإخوان:
التحايا مفاتيح القلوب، وذرائع الأمل المطلوب، وأشرف التحايا ما مازج النفوس، وخالط الأرواح، ووافق الأمزجة، وأيقظ العواطف النائمة، وحرّك الأوتار الحية بما يشجي ويطرب، ووصل خصائص الأجداد بخصائص الأحفاد فكان بينهما ما يكون من التقاء السالب بالموجب في القوانين الكهربائية: حركة وضوء وحرارة.
فلا أحييكم بما حيّا به المعرّي الحبيب وربعه، مخالف دينه وطبعه، إذْ يقول:
تَحِيَّةُ كِسْرَى فِي السَّنَاءَ وتُبَّعِ … لِرَبْعِكَ لَا أَرْضَى تَحِيَّةَ أَرْبُعِ
ولا أحيّيكم بما حيّا به ابن الرومي مأوى تشيّعه، ومهوى تسبّعه، حين يقول:
سَلَامٌ وَرَيْحَانٌ وَرَوْحٌ وَرَحْمَةٌ … عَلَيْك، وَمَمْدُودٌ مِنَ الظِّلِّ سَجْسَجُ
بل أرتقي صعدًا إلى تلك التحية الفطرية التي جاء بها دين الفطرة رمزًا للأمان، وعنوانًا للإيمان، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كلمات مفصّلة، ومعان محصّلة، تبعثها الروح إلى الروح، وتنضح الكبد المقروح بالبثّ المشروح.
أيها الإخوان: أحييكم بهذه التحية عن نفسي كما ينفح العطر من الجليس إلى الجليس، وعن أخويّ الكريمين ممثلي تونس المجاهدة الصابرة الحاضريْن في هذا الحفل الحافل: الأستاذين محمد بدرة وعلي البلهوان.
__________
* من الكلمة التي ألقاها الإمام في حفل ببغداد أُقيم على شرفه بحضور الزعيمين التونسيين محمد بدرة وعلي البلهوان، يوليو 1952.(4/103)
إن نفسي تحدثني ولا تكذبني أن هذا التكريم الذي تفتنّ فيه بغداد ليس مصروفًا لشخصي، إنما هو موجّه إلى وطني وأبناء وطني الذائدين عن حماه.
وأحييكم عن جمعية العلماء الجزائريين التي أتت بما يُشبه معجزة موسى في إنقاذ أمّة، وبما يُشبه معجزة عيسى في إحياء ميّت، وكانت هي في نفسها من معجزات محمّد - صلى الله عليه وسلم - في خدمة دينه وإحياء لسانه.
وأحييكم باسم الشمال الافريقي الجبّار على الأعداء وعلى العوادي، الثائر على الهوان والظلم منذ برأه الله، مقبرة الطغاة، وجحيم البغاة، لا مقصرًا إن شاء الله في جزائه، ولا مفرّقًا لأجزائه، ولا معترفًا بالحدود التي خطتها يد الظلم والعدوان.
أحييكم عن تلك الأقطار التي فرّقت بينها وبينكم الأقدار وأسمعكم من ألحانها الحزينة نجواها، وأبثّكم من أحوالها المؤلمة شكواها، بلسانها الحرّ الأصيل المعرب، وبيانها العذب الشجي المطرب، تحياتٍ تصافح مواطن الإحساس من نفوسكم، وتخالط معاقد الإيمان من قلوبكم، وتحرّك أوتار الحمية في صدوركم، وتنتظر رجع الصدى بإرواء الصادي، ودلالة الهدى من الدليل الهادي، ونعرة الفدا من الشقيق الفادي.
فحيّاكم الله وأحياكم وأدامكم وأبقاكم، وذخركم للعروبة تصلون أسبابها، وتردّون عليها نضرتها وشبابها، وللإسلام ترفعون أعلامه وتدفعون ظلّامه، وللشرق تؤدّون فرضه، وتردّون قرضه، وتصونون عرضه، وتصعدون سماءه فتحفظون أرضه.
أيها الإخوان:
إن الشمال الأفريقي كله فلذة من كبد الإسلام، وقطعة من وطن العروبة الكبير، وبقية مما فتح عقبة والمهاجر وحسّان، وإنّ هذا الوطن هو أحد أجنحتكم التي تطيرون بها إلى العلاء، وانه لامتداد لوطنكم الأكبر، وانه متصل بكم اتصال الكفّ بالساعد، تصلون إليه كما وصل أجدادكم مشيًا، ويصل إليكم كما وصل أسلافه حبوًا، فريشوا هذا الجناح المهيض حتى تقوى قوادمه على الطيران، وصونوا حماه فإنه حماكم، وذودوا عن حوضه فإنه حوضكم. إنّه يحمل أمانة الأجداد التي تحملونها فأعينوه على التحرير، وأنقذوه من سوء المصير.
إن في هذا الشمال الذي يحدثكم لسانه كنوزًا من تراث العربية والإسلام طمرها الاستعمار برطاناته عمدًا، وطمس محاسنها بحضارته قصدًا، فأعينونا بقوة تستخرج هذه الكنوز بإحياء الأخلاق والآداب والتاريخ.
إن بينكم وبينه صلات من اللغة والدين، وأرحامًا من الجنس والخصائص، فصلوا هذه الأرحام يكنْ بعضنا لبعض قوة.(4/104)
إنكم لنا أئمة في الخير، وإنّا بكم مؤتمّون في الحق، فحقّقوا شروط الإمامة فيكم، وطالبونا بتحقيق شروط الاقتداء، وَئنُقِمِ الصفوف في معترك الحتوف تحت ظلال السيوف، وإلّا هلك الإمام والمأموم.
أما والله لن نفلت من مخالب الاستعمار فُرادى، ولا نفلت منه إلا يوم نصبح أمة واحدة تلقى عدوّها برأي واحد وقلب واحد، فإن لم نفعل، ولم نكفر بهذه الفوارق التي وضعها الشيطان بيننا، فلا نلم الاستعمار وَئنَلُمْ أنفسنا.
أيها الإخوان:
إن أضعف سلاح رَمانا به الاستعمار هو سلاح الحديد والنار. إن سلاح الحديد يقتل الأجسام فينقل الأرواح إلى مقام الشهادة، أما السلاح الفتّاك الذي رمانا به فهو يقتل الأرواح ويجردها من أسباب السعادة، هذا السلاح هو حضارته وعلومه التي اتخذها رمادًا يغطي به الصليبية الحقيقية التي لم تنطفئ نارها في هذه القرون كلها.(4/105)
في المملكة العربية
السعودية
(من أغسطس إلى أكتوبر 1952)
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/107)
وظيفة علماء الدين *
- 1 -
لا توجد في الإسلام "وظيفة" أشرف قدرًا، وأسمى منزلة، وأرحب أفقًا، وأثقل تبعة، وأوثق عهدًا، وأعظم أجرًا عند الله، من وظيفة العالم الديني! ذلك لأنه وارث لمقام النبوّة وآخذ بأهم تكاليفها وهو الدعوة إلى الله وتوجيه خلقه إليه وتزكيتهم وتعليمهم وترويضهم على الحق حتى يفهموه ويقبلوه، ثم يعملوا به ويعملوا له.
فالعالم، بمفهومه الديني في الإسلام، قائد ميدانه النفوس، وسلاحه الكتاب والسنّة وتفسيرهما العملي من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل أصحابه، وعونه الأكبر على الانتصار في هذا الميدان أن ينسى نفسه ويذوب في المعاني السامية التي جاء بها الإسلام، وأن يطرح حظوظها وشهواتها من الاعتبار، وأن يكون حظه من ميراث النبوّة أن يزكي ويعلم وأن يقول الحق بلسانه ويحققه بجوارحه، وأن ينصره إذا خذله الناس، وأن يجاهد في سبيله بكل ما آتاه الله من قوّة.
أما الوسيلة الكبرى في نجاحه في هذه القيادة فهي أن يبدأ بنفسه في نقطة الأمر والنهي فلا يأمر بشيء مما أمر به الله ورسوله حتى يكون أول فاعل له، ولا ينهى عن شيء مما نهى الله ورسوله عنه حتى يكون أول تارك له ... كل ذلك ليأخذ عنه الناس بالقدوة والتأسي أكثر مما يأخذون عنه بوساطة الأقوال المجرّدة والنصوص اللفظية، لأن تلاوة الأقوال والنصوص لا تعدو أن تكون تبليغًا، والتبليغ لا يستلزم الاتّباع، ولا يثمر الاهتداء ضربة لازم ولا يعدو أن يكون تذكيرًا للناسي وتبكيتًا للقاسي، وتنبيهًا للخامل، وتعليمًا للجاهل وإيقاظًا للخامل وتحريكًا للجامد ودلالة للضال ... أما جر الناس إلى الهداية بكيفية تشبه الإلزام فهو في التفسيرات العملية التي كان المرشد الأول يأتي بها في تربيته لأصحابه، فيعلمهم بأعماله،
__________
* مجلة "المنهل"، محرم 1372هـ / أكتوبر 1952م، جدة.(4/109)
أكثر مما يعلمهم بأقواله ... لعلمه- وهو سيد المرسلين- بما للتربية العملية من الأثر في النفوس، ومن الحفز إلى العمل بباعث فطري في الاقتداء، وقد رأى مصداق ذلك في واقعة الحديبية حين أمر أصحابه بالقول فتردّدوا، مع أنهم يعلمون أنه رسول الله، وأنه لا ينطق عن الهوى، ثم عمل فتتابعوا في العمل اقتداءً به وكأنهم غير من كانوا.
كان الصحابة لاستعدادهم القوي لتحمّل الإسلام بقوة يحرصون على أخذ همات العبادات من فعله - صلى الله عليه وسلم -، كما يحرصون على التمثّل بأخلاقه والتقليد له في معاملته لله ومعاملته لخلقه، وعلى التأسي به في الأفعال والترك في شؤون الدين والدنيا، لعلمهم أن الفعل هو المقصد والثمرة، وأن الأقوال في معظم أحوالها إنما هي أدوات شرح، وقوالب تبليغ وآلات أمر ونهي، ووسائل ترغيب وترهيب، وأن في قول قائلهم: "أنا أشبهكم صلاة برسول الله" لدليلًا على تغلغل هذه النظرة في مستقرّ اليقين من بصائرهم، وأنهم كانوا يتشدّدون في أخذ الصور العملية من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كما هي، ويتحرجون من التقصير فيها، ومرماهم في ذلك أن العمليات المأخوذة من طريق العيان أقرب إلى اليقين وموافقة مراد الله منها، وبذلك تتحقق آثارها في النفوس، وقد كانوا يفهمون العبادة بهذا المعنى: أن تعبد الله كما شرع على الوجه الذي شرع، فالكيفيات داخلة في معنى التعبّد، لذلك لم يحدث السلف زوائد على العبادات من أذكار وغيرها بدعوى أنها زيادة في الخير، كما عمل الخلف، وكانوا يفهمون يسر الدين بمعناه السامي وهو أنه لا إرهاق فيه ولا إعنات، وأنه ليس في المقادير الزائدة عن إقامة التكاليف أو في المعاذير الصحيحة العارضة للتكاليف، لا كما نفهمه نحن تساهلًا وتطفيفًا. فهم علماء السلف الإسلام كاملًا بعقائده وعباداته وأحكامه وأخلاقه وفهموا ما بين هذه الأجزاء من الترابط والتماسك ووحدة الأثر والتأثير، وأنها- في حقيقتها- شيء واحد، هو الدين، وهو الإسلام، وأن ضياع بعضها مؤذن بضياع سائرها، أو هو ذريعة له، فلا يقوم دين الله في أرضه إلا بإقامة جميعها، وإذا قال القرآن: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ...
فمعناه إقامة جميعها، وأنه ليس من هذا الدين أن يصلي المسلم ثم يكذب، ولا أن يذكر الله ثم يحلف به حانثًا باللسان الذي ذكره به متقرّبًا إليه، ولا أن يمسك عن الطعام ثم يأكل لحوم الخلق، ولا أن يخاطب ربّه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثم يتوجّه إلى غيره عابدًا ومستعينًا فيما هو من خصائص الألوهية، ولا أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، ولا أن يأمر الناس بالجهاد ثم يرضى لنفسه بأن يكون مع الخوالف، أو ببذل المال في سبيل العلم ثم يقبض يديه كأنه خارج من التكليف، أو بالبر وينسى نفسه، ولا أن يترخّص في الحق إرضاءً لغوي أو غني ولا أن يؤخّر كلمة الحق عن ميقاتها حتى يضيع الحق.
وكان كل واحد منهم يرى أنه مستحفظ على كتاب الله، ومؤتمن على سنّة رسوله، في العمل بها وتبليغها كما هي، وحارس لهما أن يحرفهما الغالون أو يزيغ بهما عن(4/110)
حقيقتهما المبطلون، أو يعبث بهما المبتدعة، فكل واحد منهم حذر أن يُؤتَى الإسلام من قبله، فهو- لذلك- يقظ الضمير، متأجج الشعور، مضبوط الأنفاس، دقيق الوزن، مرهف الحس، متتبع لما يأتي الناس وما يذرون من قول وعمل، سريع الاستجابة للحق، إذا دعا داعيه، وإلى نجدته، إذا ريع سربه أو طرق بالسر حماه.
وكانوا يأخذون أنفسهم بالفزع لحرب الباطل لأول ما تنجم ناجمته، فلا يهدأ لهم خاطر حتى يوسعوه إبطالًا ومحوًا، ولا يسكتون عليه حتى يستشري شرّه، ويستفحل أمره فتستغلظ جذوره، ويتبوّأ من نفوس العامة مكانًا مطمئنًا.
وكانوا يذكرون دائمًا عهد الله، وأنّه أخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق، وأن الحق هو ما جاء به محمد عن ربّه لهداية البشر وصلاح حالهم.
وكانوا يزنون أنفسهم دائمًا بميزان الكتاب والسنّة، فما وجدوا من زيغ أو عوج قوّموه في الحال بالرجوع والإنابة، كما يفعل المفتونون بالجسمانيات في عصرنا هذا في وزن أبدانهم كل شهر ...
- 2 * -
وكان العلماء يردّون كلّ ما اختلفوا فيه من كل شيء، إلى كتاب الله وسنّة رسوله، لا إلى قول فلان، ورأي فلان، فإذا هم متّفقون على الحق الذي لا يتعدد. ولقد أنكر مالك على ابن مهدي- وهو قرينه في العلم والإمامة- عزمه على الإحرام من المسجد النبوي، فقال ابن مهدي: إنما هي بضعة أميال أزيدها، فقال مالك: أوَما قرأت قوله تعالى: {فَئيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وأية فتنة أعظم من أن تسوّل لك نفسك أنك جئت بأكمل مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كلامًا هذا معناه ... ثم تلا قوله تعالى: {ائيَوْمَ أَكْمَئتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، وقال كلمته الجامعة التي كأن عليها لألاء الوحي، وهي قوله: "فما لم يكن يومئذٍ دينًا فليس اليوم بدين".
وكانوا يحكمون دينهم في عقولهم، ويحكمون عقولهم في ألسنتهم، فلا تصدر الألسنة إلا بعد مؤامرة العقل، ويعدون العقل مع النص أداة للفهم معزولة عن التصرّف، ومع المجملات ميزانًا للترجيح، يدخل في حسابه المصلحة والضرورة والزمان والمكان والحال،
__________
* مجلة "المنهل"، صفر 1372هـ / نوفمبر 1952م، جدة.(4/111)
ويميّز بين الخير والشر، وبين خير الخيرين، وشر الشرّين، لذلك غلب صوابهم على خطإهم في الفهم وفي الاجتهاد، ولذلك أصبحت فهومهم للدين وسائل للوصول إلى الحق، وآراؤهم في الدنيا موازين للمصلحة، وما هم بالمعصومين ولكنهم لوقوفهم عند الحدود وارتياض نفوسهم على إيثار رضى الله وشعورهم بثقل عهده، وفقهم الله لإصابة الصواب.
وكانوا يزنون الشدائد التي تصيبهم في الطريق إلى إقامة دين الله بأجرها عنده ومثوبتها في الدار الآخرة، لا بما يفوتهم من أعراض الدنيا وسلامة البدن وخفض العيش وراحة البال، فكل ما أصابهم من ذلك يعدّونه طريقًا إلى الجنة ووسيلة إلى رضى الله.
وكانوا ملوكًا على الملوك، واقفين لهم بالمرصاد، لا يقرونهم على باطل ولا منكر ولا يسكتون لهم على مخالفة صريحة للدين، ولا يتساهلون معهم في حق الله، ولا يترضونهم فيما يسخط الله.
بتلك الخلال التي دللنا القارئ عليها باللمحة المنبّهة قادوا الأمة المحمّدية إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ... وبسير الأمراء المصلحين على هداهم سادوا أغلب الجزء المعمور من هذه الأرض بالعدل والإحسان، إذ كان الأمير في السلم لا يصدر إلا عن رأيهم، والقائد في الحرب لا يسكن ولا يحرّك إلا بإشارتهم في كل ما يرجع إلى الدين، فجماع أمر العلماء إذ ذاك أنهم كانوا "يقودون القادة". وما رفعهم إلى تلك المنزلة بعد العلم والإخلاص إلا أنهم كانوا "حاضرين" غير "غائبين" ... كانوا يحضرون مجالس الرأي مبشّرين شاهدين وميادين الحرب مغيرين مجاهدين، طبعهم الإسلام على الشجاعة بقسميها: شجاعة الرأي وشجاعة اللقاء، فكانوا يلقون الرأي شجاعًا فيقهر الآراء، ويخوضون الميادين شجعانًا فيقهرون الأعداء ... وللآراء اقتتال يظفر فيه الشجاع القوي، كما للأناسي اقتتال يظفر فيه الشجاع القوي. والعالم الجبان في أمة عضو أشل، يؤود ولا يذود، ولعمري ان في اتحاد صف الصلاة وصف القتال، في الاسم والاتجاه والشرائط، لموقف عبرة للمتوسمين.
صدق أولئك العلماء ما عاهدوا الله عليه، وفهموا الجهاد الواسع فجاهدوا في جميع ميادينه، فوضع الله القبول في كلامهم عند الخاصة والعامة، وأن القبول جزاء من الله على الإخلاص يعجله لعباده المخلصين، وهو السر الإلهي في نفع العالم والانتفاع به، وهو السائق الذي يَدع النفوس المدبرة عن الحق إلى الإقبال عليه. ونفوذ الرأي وقبول الكلام من العالم الديني الذي لا يملك إلا السلاح الروحي، هو الفارق الأكبر بين صولة العلم وصولة الملك، وهو الذي أخضع صولة الخلافة في عنفوانها لأحمد بن حنبل، وأخضع صولة الملك في رعونتها للعز بن عبد السلام ... وان موقف هذين الإمامين من الباطل لعبرة للعلماء لو كانوا يعتبرون، وان في عاقبتهما الحميدة لآية من الله على تحقيق وعده بالنصر لمن ينصره.(4/112)
نصر الله أولئك الرجال الذين كانوا يوم الرأي صدور محافل، ويوم الروع قادة جحافل، وفي التاريخ محققين لنقطة الاقتراب، بين الحرب والمحراب، فلقد كانوا يقذفون بكلمة الحق مجلجلة على الباطل، فإذا الحق ظاهر، وإذا الباطل نافر، ويقذفون بعزائمهم في مزدحم الإيمان والكفر، فإذا الإيمان منصور، وإذا الكفر مكسور، ووصل الله ما انقطع منّا بهم، بإحياء تلك الخلال، فما لنا من فائت نتمنى ارتجاعه أعظم من بعث تلك الشجاعة، فهي أعظم ما أضعنا من خصالهم، وحرمناه- بسوء تربيتنا- من خلالهم ... ولعمري ان تلك القوى لم تمت، وإنما هي كامنة، وإن تلك الشعل لم تنطفئ، فهي في كنف القرآن آمنة، وما دامت نفحات القرآن تلامس العقول الصافية، وتلابس النفوس الزكية، فلا بدّ من يوم يتحرّك فيه العلماء فيأتون بالأعاجيب.
وما زلنا نلمح وراء كل داجية في تاريخ الإسلام نجمًا يشرق، ونسمع بعد كل خفتة فيه صوتًا يخرق، من عالم يعيش شاهدًا، ويموت شهيدًا، ويترك بعده ما تتركه الشمس من شفق يهدي السارين المدلجين إلى حين.
وما علمنا فيمن قرأنا أخبارهم، وتقفينا آثارهم من علماء الإسلام، مثلًا شرودًا في شجاعة النزال بعد الحافظ (الربيع بن سالم) عالم الأندلس، بل أعلم علمائها في فقه السنة لعصره، فقد شهد وقعة تعد من حوامد الأعمار، فبذ الابطال المساعير، وتقدم الصفوف مجليًا ومحرّضًا، والحرب تقذف تيّارًا بتيّار، حتى لقي ربّه من أقرب طريق ... ولا علمنا فيهم مثالًا في شجاعة الرأي العام أكمل من الإمام أحمد بن تيمية- وعصراهما متقاربان- فقد شنّها حربًا شعواء على البدع والضلالات، أقوى ما كانت رسوخًا وشموخًا، وأكثر اتباعًا وشيوخًا، يظاهرها الولاة القاسطون، ويؤازرها العلماء المتساهلون المتأوّلون.
وقد ادّخر الله لهذا العصر الذي تأذن فجر الإسلام فيه بالانبلاج، الواحد الذي بذ الجميع في شجاعة الرأي والفكر وقوة العلم والعقل، وجرأة اللسان والقلب، وهو محمد عبده، فهزّ النفوس الجامدة، وحرّك العقول الراكدة، وترك دويًا ملأ سمع الزمان، وسيكون له شأن ...
أما علماؤنا اليوم ...(4/113)
- 3 * -
... أما علماء الخلف فهم أقل من أن تسمّيهم علماء دين، وأقل من أن تسميهم علماء دنيا. أما الدين فإنهم لم يفهموه على أنه نصوص قطعية من كلام الله، وأعمال وأقوال تشرح تلك النصوص من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، ومقاصد عامة تؤخذ من مجموع ذلك ويرجع إليها فيما لم تفصح عنه النصوص، وفيما يتجدد بتجدّد الزمان، لم يفهموه على أنه عقائد يتّبع العقل فيها النقل، وعبادات كملت بكمال الدين. فالزيادة فيها كالنقص منها، وأحوال نفسية صالحة هي أثر تلك العقائد والعبادات وآداب تصلح المعاملة وتصحّحها بين الله وبين عباده وبين العباد بعضهم مع بعض، بل فهموا الدين وأفهموه على أنه صور مجرّدة خالية من الحكمة، وحكموا فيه الآراء المتعاكسة والأنظار المتباينة من مشايخهم، حتى انتهى بهم الأمر إلى اطّراح النصوص القطعية إلى كلام المشايخ، وإلى سدّ باب الفكر بالتقليد، وتناول حقائق الدين بالنظر الخاطئ والفهم البعيد، والفكر كالعقل نعمة من نعم الله على هذا الصنف البشري، فالذي يعطله أو يحجر عليه جانٍ مجرم، كالذي يعطل نعمة العقل، ولعمري ان سدّ باب الاجتهاد لأعظم نكبة أصابت الفكر الإسلامي، وأشنع جريمة ارتكبها المتعصبون للنزعات المذهبية.
وأما الدنيا فليسوا علماء دنيا بالمعنى الأعلى لهذه الكلمة، وهو أن يعالجوا الكسب بطرق علمية، ويدرسوا وسائل الثراء بعزائم صادقة، ويضربوا في الأرض لجمعِ المال بكد اليمين، وعرق الجبين، أما المعنى السخيف لهذه الكلمة فهم أوفر الناس حظًا منه، فهم يطلبون المعيشة بأخس وسائلها، فيحصلون منها على فتات الموائد يشترونه بدينهم وماء وجوههم، هانوا على أنفسهم فهانوا على الله وعلى الناس فرضوا بالدون والهون.
نعني بعلماء الخلف هذه العصابة التي نشهد آثارها ونسمع أخبارها، ونحدّدها تحديدًا زمنيًا بمبدإ المائة العاشرة للهجرة من يوم بدأت الشعوب الإسلامية في التفكّك والانهيار، ولم يظهر لهؤلاء العلماء أثر في دفع البلاء، قبل إعضاله، بل كانوا أعوانًا له وكانوا بعض أسبابه، وإنما نحدد هذا التحديد متساهلين ... وإن كان المرض ممدود الجذور إلى ما قبل ذلك الحد من القرون، ولكن المرض لم يصل إلى درجة الإعضال إلا في المائة العاشرة وما
__________
* مجلة "المنهل"، ربيع الأول 1372هـ / 1952م، جدة.(4/114)
بعدها، أما عصرنا فهو آخر الدن، وآخر الدن دردي، كما في المثل. وإن الناظر في تاريخ العلم الديني الإسلامي يرى أن طوره الأول كان علمًا متينًا، وعملًا متينًا، وأن طوره الوسط كان علمًا سمينًا وعملًا هزيلًا، أما طوره الثالث والأخير فلا علم ولا عمل، إنما هو تقليد أعمى ونقل أبكم، وحكاية صمّاء، وجفاف جاف، وجمود جامد، وخلاف لا يثبت به حق، ولا يُنفى به باطل، ولا تتمكن به عقيدة، ولا تثبت عليه عزيمة، ولا تقوى عليه إرادة، ولا تجتمع معه كلمة، ولا ينتج فيه فكر ولا تستيقظ معه عزة، ولا تثور كرامة، ولا تتنبّه رجولة ولا نخوة، لأن الشخصية فيه موءودة، والروح المستقلة معه مفقودة، إنما هو تواكل يسمّونه توكّلًا، وتخاذل يسكنونه بالحوقلة والاسترجاع، وخلاف ممزّق لأوصال الدين يسمّونه رحمة، وإننا لا نعني بالعمل الذي جرى في كلامنا ما يفهمه المتخلفون الفارغون، ولكننا نعني به العمل لإعزاز الدين واعتزاز أهله به، والأمر بالمعروف حتى يتمكّن، والنهي عن المنكر حتى لا يكون له بين المسلمين قرار، وحراسة المجتمع الإسلامي أن يطرقه طارق الاختلال، أو يطوف به طائف الضلال وجمع المسلمين على هداية القرآن.
أذل الطمع أعناق علماء الخلف، وملكت "الوظيفة" عليهم أمرهم، وجرت عليهم الأوقاف المذهبية كل شر، فهي التي مكّنت لنزعة التقليد في نفوسهم، وهي التي قضت على ملكة النبوغ واستقلال الفكر فيهم، وهي التي طبعتهم على هذه الحالة الذميمة وهي معرفة الحق بالرجال، وهي التي ربطتهم حتى في أحكام الدنيا وأوجه الحياة- بالقرن الثاني لا في قوّته وعزّته وصولته بل في حبس ركاب عنده، وتعطيل دوران الفلك العقلي بعده، ولذلك لم يسايروا الزمن ولم يربطوا بين حلقاته فعاشوا بأبدانهم في زمن، وبأذهانهم في زمن، وبين الزمنين أزمنة، تحرّكت وهم ساكنون، ونطقت وهم ساكتون.
لو أن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان مصلحًا اجتماعيًا أو دينيًا- مع ما تهيأ له من القيمة الحربية- لما نقل حالة الأزهر من مذهب واحد إلى مذاهب أربعة، بل كان ينقله من ذلك المذهب الواحد الفرعي إلى أصل الأصول وهو الكتاب والسنّة، ولو فعل لأراح المسلمين من شرور الخلافات المذهبية، ولو وجد جميع ملابساته أعوانًا له على ذلك، لأن مصر كانت بمكان صلاح الدين فيها هي كل شيء وقد سئمت من المذهب الشيعي لغموضه وتناقضه، ولما تكشّف عنه الحاكم من سوءات، ولأن بغداد كانت مشغولة بنفسها عن نفسها، ولأن الشام وعواصمها كانت مغمورة بالحملات الصليبية، ولأن الأندلس والمغرب لم يتغلغل فيهما التعصّب المذهبي كما تغلغل في الشرق، فلو أن صلاح الدين ضرب الضربة القاضية ورجع بالناس إلى المذهب الجامع ثم جاءت انتصاراته المدهشة على الصليبيين، لأصبح بذلك صاحب مذهب متّبع في الإسلام، ولكنه- عفا الله عنه- لم يكن رجل هذا الميدان فلم يزد على أن وسع "التكية" للقعدة، وشيّد الضريح للفكر، وأبعد القافلة عن(4/115)
صراط السنّة السوي، ومكّن للخلاف، وأنقذ الأزهر من شيعة ليسلّط عليه شيعًا، ويا ليت كاتبه ووزيره القاضي الفاضل المفتون بالتجنيسات والمزاوجات والمطابقات أشار عليه بما يشبه مذهبه في الأدب، وهو أن ينقل الأزهر من الباطنية إلى الظاهرية ...
نقرأ في سيَر العلماء من السلف أن فلانًا عرض عليه الخليفة أو الأمير منصب القضاء فأبى وألحّ في الإباء، فلجّ الوالي في العرض فلجّ العالم في الإباء حتى ينتهي به إلى غضب الخليفة وما يتبع الغضب من آثار منها الضرب والحبس، أو ينتهي به الحال إلى الفرار والاختفاء، يأتي كل ذلك فرارًا من فتن الولاية ولوازمها كالتردد على أبواب السلاطين، وتعريض سلطان العلم لسلطان الحكم، وفرارًا من المطاعم الخبيثة التي مهما تتسع لها دائرة الإباحة فإنها لا تطهرها من شوب الشبهات، فهل من يدلّنا اليوم على عالم تعرض عليه ولاية القضاء أو ما دونها في المنزلة فيأباها تعففًا وتحوّلًا مسوقًا إلى ذلك بخوف الله وخشيته، أو بترفّع عن الشبهات؟ كلا، انهم لا ينتظرون عرض الولاية عليهم بل يخطبونها ويبذلون فيها الغالي من المهور وهو الدين والشرف والكرامة ويتوسلون إلى نيلها بالدنيء من الوسائل كالتوجّه بالكافر والفاجر، والتشفّع بالمهين والعاهر ودفع الرشى وهي أشنع الجميع، لأنها شهادة مقدمة على أنه سيرتشي ليسدّد الدين ...
ونقرأ في سيرهم أيضًا أنهم كانوا حين يتولّون الولاية يؤدونها كما أمر الله أن تؤدى، ويوفون بعهد الله فيها من العدل والتحري في الحق، وكانوا لا يقبلون الولاية إلا على اعتقاد أن قبولهم إياها واجب متعيّن شرعًا لإقامة القسط بين الناس وإنصاف الضعفاء من الأقوياء، فهم دائمًا في أداء واجب يؤجرون عليه لا في أداء وظيفة ينتفعون بها.
وارجع إلى وظائف العالم الديني الأخرى غير الولاية، فلتجدنهم فرّطوا فيها وأضاعوها، معتذرين بتأويلات ما جاء بها الدين ولا عذر بها، فهم قد هدموا ركنًا من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، راضين لأنفسهم بأضعف الإيمان، وأنا لا أصدقهم حتى في هذه، إذ لا يخطر الباطل ولا المنكر لهم على بال حتى يغيروه بقلوبهم، وكيف يخطر المنكر ببالهم، وقد أصبح المنكر عندهم معروفًا، والباطل حقًا والشرك توحيدًا والبدعة سنّة، وعميت عليهم السبل واختلطت الحقائق؟
هم لا يذكّرون أمّة محمد، وإذا ذكروها لا يذكرونها بالقرآن كما أمر الله نبيّه، بل يذكرونها بمرغبات ومرهبات لم تأتِ على لسان صاحب الشريعة، ولم تتفق مع مقاصد شريعته، يزهدونها في العمل للآخرة بما شرعوه لها من أعمال بدعية، ويزهدونها في العمل للدنيا بما يفترون على رسول الله من أحاديث في ذم الدنيا وبما أثر عن شواذ الصوفية الهادمين لحقائق الدين ببدع التبتل الدعي، والانقطاع الكاذب عن الدنيا، وبذلك أضاعوا على الأمة(4/116)
دينها ودنياها وأوصلوها إلى هذه الحالة التي نشاهدها اليوم، وما زال كثير منهم مصرًّا على تذكير الأمة بما ينسيها الله، وعلى علاج حمّاها بالطاعون.
أرأيت لو كان علماء الدين قائمين بواجب التذكير بالقرآن، مؤدّين لأمانة الله، راعين لعهده في أمة واحدة، أكانت الأمة الإسلامية تصل إلى هذه الدركة التي لم تصل إليها أمّة؟ فهي كثيرة العدد تبلغ مئات الملايين، ولكنها غثاء كغثاء السيل.
واجب العالم الديني أن ينشط إلى الهداية كلّما نشط الضلال وأن يسارع إلى نصرة الحق كلّما رأى الباطل يصارعه، وأن يحارب البدعة والشر والفساد قبل أن تمدّ مدّها، وتبلغ أشدّها، وقبل أن يتعوّدها الناس فترسخ جذورها في النفوس ويعسر اقتلاعها.
وواجبه أن ينغمس في الصفوف مجاهدًا ولا يكون مع الخوالف والقعدة، وأن يفعل ما يفعله الأطباء الناصحون من غشيان مواطن المرض لإنقاذ الناس منه، وأن يغشى مجامع الشرور لا ليركبها مع الراكبين بل ليفرّق اجتماعهم عليها.
وواجبه أن يطهّر نفسه قبل ذلك كله من خلق الخضوع للحكّام والأغنياء وتملّقهم طمعًا فيما في أيديهم، فإن العفة هي رأس مال العالم فإذا خسرها فقد خسر كل شيء وخلفها الطمع فأرداه.
إن علماء القرون المتأخرة ركبتهم عادة من الزهو الكاذب والدعوى الفارغة، فجرّتهم إلى آداب خصوصية، منها أنهم يلزمون بيوتهم أو مساجدهم كما يلزم التاجر متجره، وينتظرون أن يأتيهم الناس فيعلموهم، فإذا لم يأتهم أحد تسخّطوا على الزمان وعلى الناس، ويتوكأون في ذلك على كلمة إن صدقت في زمان، فإنها لا تصدق في كل زمان وهي: "إن العلم يؤتى ولا يأتي" وإنما تصدق هذه الكلمة في علم غير علم الدين، وإنما تصدق بالنسبة إليه في جيل عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أما في زمننا وما قبله بقرون فإن التعليم والإرشاد والتذكير أصبحت بابًا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنما يكون في الميادين حيث يلتقي العدو بالعدو كفاحًا، وقد قال لي بعض هؤلاء وأنا أحاوره في هذا النوع من الجهاد، وأعتب عليه تقصيره فيه: إن هذه الكلمة قالها مالك للرشيد، فقلت له: إن هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم، أما زمانك هذا فإن هذه الخلة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدّت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك. فالشبهات التي ترد على العوام لا تجد من يطردها عن عقولهم ما دام القسيسون والأحبار أقرب إليهم منكم، وأكثر اختلاطًا بهم منكم، والأقاليم الإفرنجية تغزو كل يوم أبنائي وأبناءك بفتنة لا يبقى معها إيمان ولا إصلاح، ففي هذا الزمن يجب علي وعليك وعلى أفراد هذا الصنف أن نتَجَنَّد لدفع العوادي عن الإسلام والمسلمين، حتى يأتينا الناس، فإنهم(4/117)
لا يأتوننا وقد انصرفوا عنّا وليسوا براجعين، وإذا كان المرابطون في الثغور يقفون أنفسهم لصدّ الجنود العدوّة المغيرة على الأوطان الإسلامية، فإن وظيفة العلماء المسلمين أن يقفوا أنفسهم لصدّ المعاني العدوة المغيرة على الإسلام وعقائده وأحكامه، وهي أفتك من الجنود، لأنها خفية المَسَارِب، غرّارة الظواهر، سهلة المداخل إلى النفوس، تأتي في صورة الضيف فلا تلبث أن تطرد رب الدار ...
فقد علماء الدين مركزهم يوم أضاعوا الفضائل التي هي سلاح العالم الديني، وأمهاتها الشجاعة والقناعة والعفة والصبر، وإن تجرّدهم من هذه الفضائل ليرجع في مبدإ أمره إلى خدعة من أمراء السوء المتسلطين حينما ثقلت عليهم وطأة العلماء وقيامهم بالواجب الديني في الأمر والنهي، وعلموا أن العامة تبع للعلماء، وأن سلطان العلماء أقوى من سلطانهم وأن كلمة مؤثرة من عالم مخلص تقع في مستقرّ التصديق من العامة قد تأتي على السلطان الحاكم المتسلّط، فسوّلت لهم أنفسهم أن يحدّوا من هذا التأثير الواسع القوي، فأخذوا يروّضون علماء الدين على المهانة، وألصقوا بهم الحاجة إلى ما في أيديهم من متاع الدنيا، ليجعلوا من ذلك مقادة يقودونهم بها إلى ما يهوون، ثم ربّوهم على الطمع والتطلعّ إلى الاستزادة ومدّ الأعين إلى زهرة الحياة الدنيا، فزلّوا ثم ضلّوا ثم ذلّوا، وتعاقبت الأجيال وتقلبت الأحوال، فإذا العالم الديني تابع لا متبوع، ومقود بشهواته لا قائد، يراد على العظائم فيأتيها طائعًا، يتحيّل على دين الله إرضاءً للمخلوق، ويحلّل ما حرّم الله من دماء وأموال وأعراض وأبشار، يشتري بذلك جاهًا زائلًا، وحائلًا حائلًا، ودراهم معدودة.
ومن الكيد الكبار الذي رمى به الأمراء المستبدّون هؤلاء العلماء الضعفاء في العصور الأخيرة أنهم يعفونهم من الجندية التي هي حلية الرجال، وأن في قبول العلماء لهذا الإعفاء وسعيهم له لشهادة يسجّلونها على أنفسهم بفقد الرجولة، وقد استطابوا هذا الإعفاء وأصبحوا يعدّونه تشريفًا لهم وتنويهًا بمكانتهم ومعجزة خصّوا بها، ودليلًا تقيمه الحكومات الإسلامية على احترامها للعلماء ... فهل يعلمون أن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الملوك الصالحين، ما كانوا ليعفوا عالمًا من بعوث الجهاد والفتح؟ وما كان مسلم فضلًا عن عالم ليطلب الإعفاء أو يتسبّب له أو يرضى به لو عرض عليه، بل كانوا يتسابقون إلى ميادين الجهاد. والعالم الديني- دائمًا- في المقدمة لا في الساقة، ولقد كانوا يعدون الاعتذار عن الخروج من سمات المنافقين.
أيها العلماء:
هذا قليل من مساوينا، فلا تظنّوا أني متجنٍّ أو متزيِّد، كونوا منصفين للدين من أنفسكم، إني أحاكمكم إلى ضمائركم حين تستييقظ فيها معاني الإرث النبوي والاستخلاف المحمدي. أليس من الحق أن هذه المساوئ وأمثالها معها مجتمعة فينا؟ ألسنا نأمر الناس(4/118)
بالجهاد ثم نكون مع الخوالف؟ ونأمرهم ببذل المال في سبيل البر ثم نقبض أيدينا؟ كأن الجهاد بالنفس والمال- وهو ثمن الجنة- لم يكتب علينا.
إنني- يا قوم- أعتقد أن أقسى عقوبة عاقبنا بها الله على خذلنا لدينه هي أنه جرّد كلامنا من القبول والتأثير، فأصبح كلامنا في اسماع الجيل القديم مستثقلًا وفي أسماع الجيل الجديد مسترذلًا، ومن ظن خلاف هذا فهو غر أو مغرور أو هما معًا.
أصبحنا في أمتنا غرباء تزدرينا العيون، وتتقاذفنا الظنون، لأننا أصبحنا كالدراهم الزيوف، فيها من الدراهم استدارتها ونقوشها، وليس فيها جوهرها ومعدنها.(4/119)
الشباب المحمّدي *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الشباب في كلّ أمّة هم الدم الجديد الضامن لحياتها واستمرار وجودها، وهم الامتداد الصحيح لتاريخها، وهم الورثة الحافظون لمآثرها، وهم المصحّحون لأغلاطها وأوضاعها المنحرفة، وهم الحاملون لخصائصها إلى من بعدهم من الأجيال.
كنا شبابًا فلما شبنا تلفّتنا إلى الماضي حنينًا إلى الشبيبة فرأينا أن الشباب هو الحياة التي لا يدرك قيمتها إلا من فارقها، ورأينا أخطاء الشباب من حيث لا يمكن تداركها، وسيصبح شباب اليوم شيوخ الغد، فيشعرون بما نشعر به نحن اليوم، وليت شعري إذا كان شيوخ اليوم هم شباب الأمس وشباب اليوم هم شيوخ الغد، فعلام هذه الشكوى المترددة بين الفريقين؟ ... وهذا التلاوم المتبادل بين الحبيبين؟ ... يشكو الشيوخ نزق الشباب وعقوقهم ونزواتهم الكافرة، ويشكو الشباب بطء الشيوخ وترددهم وتراجعهم إلى الوراء ونظرتهم إلى الحياة نظرة الارتياب.
مهلًا أيها المتقاربان المتباعدان، فليس التفاوت بينكما كسبيًا يعالج، وليس النزاع بينكما علميًا يحكم فيه الدليل، ولكنه سنّة وتطوّر. كنا حيث أنتم، وستصبحون حيث نحن بلا لوم ولا عتاب، هما مرحلتان في الحياة ثم لا ثالثة لهما طويناهما كرهًا، وستطوونهما كرهًا، والحياة قصيرة وهي أقصر من أن نقطعها في لوم أو نقطعها بنوم. ليحرص الشباب على أن يكونوا كمالًا في أمّتهم لا نقصًا، وأن يكونوا زينًا لها لا شينًا، وأن يضيفوا إلى تليد مكارمها طريفًا، وإلى قديم محاسنها جديدًا، وأن يمحوا كل سيئة لسلفهم بحسنة.
__________
* كلمة صدرت في كتاب "وصايا أساطين الدين والأدب والسياسة للشبّان" للشيخ عبد الله المزروع، دار المنارة، جدّة، 1992.(4/120)
والشباب المحمّدي أحقّ شباب الأمم بالسبق إلى الحياة، والأخذ بأسباب القوة، لأنّ لهم من دينهم حافزًا إلى ذلك، ولهم في دينهم على كل مكرمة دليل، ولهم في تاريخهم على كل دعوى في الفخار شاهد.
أعيذ الشباب المحمدي أن يشغل وقته في تعداد ما اقترفه آباؤه من سيئات أو في الافتخار بما عملوه من حسنات، بل يبني فوق ما بنى المحسنون، وليتق عثرات المسيئين. وأعيذه أن ينام في الزمان اليقظان، أو يهزل والدهر جادّ، أو يرضى بالدون من منازل الحياة.
يا شباب الإسلام، وصيتي إليكم أن تتصلوا بالله تديّنًا، وبنبيّكم اتّباعًا، وبالإسلام عملًا وبتاريخ أجدادكم اطّلاعًا، وبآداب دينكم تخلّقًا، وبآداب لغتكم استعمالًا، وبإخوانكم في الإسلام ولِداتكم في الشبيبة اعتناءً واهتمامًا، فإن فعلتم حزتم من الحياة الحظ الجليل، ومن ثواب الله الأجر الجزيل، وفاءت عليكم الدنيا بظلها الظليل.
مكّة المكرمة في 1 صفر الخير 1372هـ.(4/121)
الشيخ محمّد نصيف *
أيها الإخوان:
إن هذه الحفلات التي تقام لتوديع الأصدقاء أو لاستقبالهم، وغير هذا من المناسبات الاجتماعية، هي من دواعي الفِطر السليمة والنفوس الكريمة، وإن الصداقة قد تخمد والمودة قد تركد وإنما يصقلها ويجددها مثل هذه الحفلات ... وإن إقامة هذه الحفلات ليست من ابتكار المدنية الغربية، وإنما قد سبقتهم إليها مدنية الإسلام، وإن الذين ابتكروها هم الأسلاف من أهل الأندلس، وقد سمّوها "صنيعًا".
أيها الإخوان:
رؤوس الأموال أنواع، وحظوظ الناس منها متفاوتة: منها المادي الذي يُقدّر بخصائص الماديات من الكيل والوزن، أو بالذرع والمسح، أو بالعدد الذي كلّما انتهى صارت ملايينه آحادًا، ومنها المعنوي الروحاني الذي يقاس بالموازين الروحية، وُيوازَن بالقيم العلوية بمعرفة صيارفة من طراز سماوي يتسامى عن المادة وأوضارها وأكدارها وشرورها وآثامها، ولو خُيِّر موفق بين الجنسين لما اختار المادّة وإن تعرّضت بزخارفها، وعرضت بقطوفها الدانية لخارفها، وإنما يختار أقوات الروح من المعنويات، ولكن الأذواق كالأرزاق منها الحلال ومنها الحرام، ومنها السالم والمعتلّ، ومنها السديد والممتل، إن الموفقين لَيعرفون أن رؤوس الأموال المادية كرؤوس الشياطين، تتحرّك قرونها للفتنة والشرّ، ويستمس حرونها للفساد والضرّ، وقد صرنا إلى زمان أصبحت فيه رؤوس الأموال المادية مبعث شقاء للإنسانية، وكفى بحال العالَم اليوم شاهدًا أدّى وسجل وأمن التجريح.
__________
* من الكلمة التي أُلقيت في الحفل العلمي التكريمي الذي أقامه الشيخ محمد نصيف ببيته في جدّة، في أكتوبر 1952، بمناسبة انتهاء زيارة الإمام الإبراهيمي للمملكة العربية السعودية. ونشر ملخص منها في مجلة "المنهل"، العدد 4، ربيع الثاني 1372هـ، يناير 1953م.(4/122)
أيها الإخوان:
من سعادة أخيكم هذا أنّ حظّه من هذه الثروة المعنوية موفور، وأنه يكاثر بها ويفاخر، ويعتزّ بها ويغالي، ويعتدّ ويقالى، وحَسْبُه من الحظوظ في الحياة أن يكون له أصدقاء أصفياء من هذا الطراز، يصدقونه المحبّة، والمحبّةُ ملاك، ويصدقونه الهوى، والهوى مساك، ويمحضونه التقدير، والتقدير مسنّ، ويشاركونه في المبدإ، والمبادئ أرحام عند أهلها، وما لي لا أكون موفور الحظ من هذه الثروة وهؤلاء الإخوان الّذين أجتلي غررهم، وكأنّما أستشف من وراء الغيب سرائرهم، ما اجتمعوا إلّا بسائق واحد ليس من حدائه نغم الرغبة والرهبة، ولا هرج الرياء والنفاق، وإنما هو الوداد الخالص والصفاء الصافي، والتكريم لأخ أحبّهم وأحبّوه في المشهد والمغيب، والتقوا به في ميدان القلم بعيدًا وفي ميدان اللسان قريبًا، فكان بين أرواحهم وروحه تجاوب هو من أثر يد الله في الأرواح المتعارفة.
أيها الإخوان: إن من مذاهبي التي انْتَهتْ بي تجارب الحياة إليها أنني لا أفهم الصداقة كما يفهمها الناس، وإنما أفهمها امتزاجًا فكريًا سَبَّبتْهُ عوامل خفية المسارب في الجبلة الأولى، ولذلك فأنا أفهم أنّ الصداقة لا تزول ولا تنتهي بعداوة من الجانبين، فإن انتهت بعداوة من الطرفين دلّ ذلك على أنها ليست صداقة، وإنّما هي شيء مقنّع يُسمّيه العرف المنافق المتساهل صداقة وليس بها، إنما هو تجارة انتهت بانتهاء المصلحة، أو زواج متعة انتهى بانتهاء الأجل، أما الصداقة الطاهرة البريئة فهيهات أن تنتهي بعداوة، ولقد يعرف منّي إخواني الملابسون لي أنّي لم أعاد في عمري صديقًا، فإذا بادأني بالعداوة لم أجاره في ميدانها خطوة، ووكلته إلى الزمان الذي يقيم الصعر، فإذا هو تائب منيب أو خجلان متستر، وقد يسبّني أقوام بما ليس فيّ، فلا أقطع عنهم عادة من عوائد البر والرفق لعلمي أنّهم إنما يسبون غيري بعد أن يلبسوه اسمي، وإن هذا لمن طوابع التربية المحمّدية، بين أتباع سنّته، عبّر عنها بجُملة من جوامع كلمه: إنهم يقولون مذمم وأنا محمّد.
أيها الإخوان: لقد سمعت كلمات من بعض خطباء هذا الحفل وأنا غير راض بها ولا عنها، وأنا كنتُ- وما زلتُ- أحارب هذه الألقاب، وقد سمعنا من شوقي قوله: "إذا كثر الشعراء قلَّ الشعر"، وعلى هذا الوزن يصحّ أن نقول: إذا كثر المجاهدون قلَّ الجهاد.
إن المجاملات لا تكون إلا حيث يكون الضعف، وإن هذه الألقاب لا تتمكن إلا حيث تفقد المناعة الخلقية المتينة، ولذلك لا نجدها عند أسلافنا الذين قوي في نفوسهم سلطان الأخلاق، وما نبتت هذه المجاملات إلا في العصور الإسلامية المتأخرة حينما وقف تيار العلم والخلق، وضعفت دولة السيف والقلم، قادتهم هذه الحالة إلى التمَجُّد الأجوف بالكلمات الضخمة الجُوفِ، ولذلك كثرت الألقاب وصرنا نسمع هذه "الطغراء": الكاتب الكبير، المجاهد العظيم، الزعيم الكبير ...(4/123)
إنني لم أكن مجاهدًا، وإذا كنتُه ففي شيء واحد هو محاربة البدع والضلالات ومحو الأمية، وتعليم الأمة، وهذه الأمور عادية لا ترفع القائم بها إلى مستوى الجهاد. وحقًا إن الألقاب التي اعتدنا استعمالها إنما هي "طغراءات" جوف لا تحقق أمنية ولا تؤدي إلى غاية شريفة. إن عبد الحميد بن باديس كان إمامًا في العلم والتواضع ومع ذلك فما كان إخوانه يخاطبونه بشيء من ألقاب الزعامة الفضفاضة.
والذي أستحسنه هو أن يتخاطب المسلمون فيما بينهم بكلمة "الأخ"، أخْذًا من قوله تعالى: {إِنَّمَا ائمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.
...
أيها الإخوان: إنّ مِن بين الأصدقاء الذين جمعتهم الصداقة في هذا الحفل الصادق ثلاثة قدم عهدي بصداقتهم فلم يزدد إلّا جدة: هم الأصدقاء المخلصون محمود شويل، وحسونة البسطي، ومحمد نصيف، فقد جمعنا الشباب الطامح والأمل اللامح بالمدينة المنورة منذ أربعين سنة، وتجاذبنا ملاءة العلم فضفاضة، وتنازعنا كأس الأدب روية، وزجّينا الأيام بالآمال العذاب، ولكننا نمنا في يقظة الدهر فما استيقظنا إلّا وبعضنا مشرّق وبعضنا مغرّب، وبعضنا في مدار الحوادث يُدارُ به ولا تدور، وها نحن أولاء اجتمعنا بعد بضع وثلاثين سنة، وكأنّ خاتمة الفراق وفاتحة التلاق خميس وجمعة لهما ما بعدهما، وكأنّ ما بينهما من هذه المدّة الطويلة انطوى ومحي، وكأنّ الذكريات بينهما حبال ممدودة أو سلاسل مشدودة، وكأننا لم نفترق لحظة، وكأنّ تلك الصداقة الصادقة بيننا شباب أمن الهرم، كما أمن الصيد حمام الحرم.
ايه أيها الرفاق، هل تذكرون ما أذكر من تلك الليالي التي كانت كلها سمرًا كما قالوا في ليل منبج؟ هل تشعرون بما أشعر به من تفاوت بين تاريخ الفراق وتاريخ التلاق؟ هل تشعرون كما أشعر بأننا كنا في هذا الفراق الطويل أشبه بالميت أغمض عينيه عن الدنيا وفتحهما على الآخرة؟ هل تحسّون كما أحسّ بأنّ مدّة الافتراق كانت صفحات كلها عبر ووخز إبَر، وجُمَل من الحوادث سمعنا بمبتداها وما زلنا في انتظار الخبر؟ .. هل أنتم شاعرون مثلي بأنّ آمال المسلمين، من يوم تركناها بالافتراق إلى يوم لقيناها بالاجتماع، تحققت ولكن بالخيبة، وأن أعمالهم نجحت ولكن بالفشل، أما آمالهم فما زالت كموتًا يسقيه وعد، وأما أعمالهم فما زالت إبلا يوردها سعد {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
ايه أيها الرفاق: إن الزمان فرّقنا شبابًا وجمعنا شيبًا، ولئن أساء لي هذا فلقد أحسن في أننا اجتمعنا أصلب ما كنّا قناةً في عقيدة الحق، وأجرى ما كنّا أئسِنَةً في كلمة الحق، وأجرأ(4/124)
ما كنا رأيًا في تأييد الحق، وأثبت ما كنا عزيمةً في الدفاع عن الحق. إنّ الهمم لا تشيب وإن العزائم لا تهرم، وليس هذا البياض غبار وقائع الدهر كما يقول الشاعر، وإنما هو غبار الوقائع مع الدهر، فلا تهنوا ولا تفشلوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
...
أيها الإخوان: إنّي أتوسّمُ في هذه الوجوه وأتلمّحُ ما وراءها من علم ومكارم، لا أقول فيهما بالتقليد ولكنني خبرت وبلوت فاجد مصداق الحديث، هذه مكّة رمت إليكم بأفلاذ كبدها، بل أقول هذا الحجاز رمى إليكم بأفلاذ كبده، ومَن غير أستاذنا الجليل محمد نصيف يستطيع أن يجمع العالم في دار، أو يدّخر كنزًا ثمينًا تحت جدار، ومن عجب أن القضيتين متعاندتان: فالذي يستطيع أن يجمع عالمًا في دار لا يستطيع أن يجمع كنزًا تحت جدار، وما دامت الموائد تُنصب، واللقم ترفع، والصحون تُجرّ، والأفواه تفتح وتضم، والطعام كرات، والملاعق مخاريق بأيدي لاعبينا، فإن حال أستاذنا معنا حال أبي دلامة من شيوخ بني تميم إذ يقول:
نحن شيوخ بني تميم ... وأنت- يا أستاذنا- أبو دلامة، فاجهد جهدك، وان شيوخ بني تميم موفون بعهدهم فاوفِ بعهدك، وإن هذه الدار مهدنا فإنْ برمت أو ضجرت فاجعل غيرها مهدك. وإن دار الشيخ نصيف لم تبرم بنا ولم تضجر، فأعانك الله على هذا الجند أيها الشيخ الحصيف الكريم.
أيها الإخوان: إذا ما لم ينصف الحجاز شيخه ومخلد مجده ورافع رايته أستاذنا الشيخ نصيفا، فإن العالم الإسلامي كله ينصفه، فكلنا أَئسِنة شاهدة بأنّه مجموعة فضائل نعدّ منها ولا نعدّدها، وانه مجمع يلتقي عنده علماء الإسلام وقادته وزعماؤه فيردون ظماء ويصدرون رواء، وإنني أقولها بصيحة صريحة وأؤدّيها شهادة للحق والتاريخ بأنّه محيي السنّة في الحجاز من يوم كان علماؤه- ومنهم أشياخنا- متهورين في الضلالة، وأنه صنع للسلفية وإحياء آثارها ما تعجز عنه الجمعيات بل والحكومات، وانه أنفق عمره وماله في نصرها ونشرها، في هدوء المخلصين وسكون الحكماء، وسيسجّل التاريخ العادل آثاره في عقول المسلمين، وسيشكر له الله غزوه للبدع بجيوش السنن المتمثلة في كتبها وعلوم أئمتها، وجمعية العلماء نفسُها مَدِينة له، فإن الكتب السلفية لم تصلنا إلا عن يده، وسيسجّل أنه مفخرة من مفاخر الإسلام وأنه كفّارة عن تقصير العلماء، وانه زهرة فوّاحة في أرض الحجاز وأنه جماله الذي يغطّي كل شين. إني كنتُ قلت في الشيخ نصيف أبياتًا منها:
قُئ لِلَّذِي عَابَ ائحِجَا … زَ وَجَانَبَ ائمَثَلَ ائحَصِيفَا
هَيْهَاتَ لَسْتَ بِبَالِغِ … مُدَّ ائحِجَازَ وَلَا "نَصِيفَا"(4/125)
إلى علماء نجد *
قال- رحمه الله- مخاطبًا بعض علماء نجد:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إِنَّا إِذَا مَا لَيْلُ نَجْدٍ عَسْعَسَا … وَغَرَبَتْ هَذِي ائجَوارِي خُنَّسَا 1
وَالصُّبْحُ عَنْ ضِيَائِهِ تَنَفَّسَا … قُمْنَا نُؤَدِّي ائوَاجِبَ ائمُقَدَّسَا
وَنَقْطَعُ ائيَوْمَ نُنَاجِي الطُّرُسَا … وَنَنْتَحِي بَعْدَ ائعِشَاءِ مَجْلِسَا 2
مُوَطَّدًا عَلَى التُّقَى مُؤَسَّسَا … فِي شِيخَةٍ حَدِيثُهُمْ يَجْلُو ائأَسَى 3
وَعِئمُهُمْ غَيْثٌ يُغَادِي ائجُلَسَا … كَأَنَّنَا شَرْبٌ يَحُثُّ ائأَكْؤُسَا 4
مِنْ خَمْرَةِ ائآدَابِ عَبًّا وَاحْتِسَا … خَلَائِقٌ زُهْرٌ تُنِيرُ ائغَلَسَا 5
وَهِمَمٌ غُرٌّ تَعَافُ الدَّنَسَا … وَذِمَمٌ طُهْرٌ تُجَافِي النَّجَسَا
يُحْيُونَ فِينَا مَالِكًا وَأَنَسَا … وائأَحْمَدَيْنِ وَائإِمَامَ ائمُؤْتَسَا 6
قَدْ لَبِسُوا مِنْ هَدْيِ طَهَ مَئبَسَا … ضَافٍ عَلَى ائعَقْلِ يَفُوقُ السُّنْدُسَا 7
فَسَمْتُهُمْ مِنْ سَمْتِهِ قَدْ قُبِسَا … وَعِئمُهُمْ مِنْ وَحْيِهِ تَبَجَّسَا 8
...
__________
* وضع هوامش هذه الأرجوزة والتي تليها الأستاذ الشيخ الجيلالي الفارسي رحمه الله وهو من أعضاء جمعية العلماء الجزائريين.
1) عسعس الليل: مضى؛ أظلم. الجواري: الكواكب السيارة. الخنس: الرواجع، ج. خانس أي راجع.
2) الطروس، ج. طِرس: الصحيفة، والمُراد بها الكتب، وحذف الواو للضرورة.
3) الشَيخة، ج. شيخ. الأسى: الحزن.
4) الشَّرْبُ، ج. شارب: كصحب وصاحب.
5) العَبُّ: الشرب بلا تنفس. الاحتساء: الشرب شيئًا بعد شيء. الغَلَسُ: ظُئمَةُ آخر الليل.
6) يريد بالأحمدين: الإمام أحمد بن حنبل (780 - 855م.) والإمام تقي الدين أحمد بن تيمية (1263 - 1328م.) والإمام المؤتسى هو الإمام محمد ابن عبد الوهاب (1703 - 1787م.) وهو مؤسس الحركة السلفية الوهابية. المؤتَسى: المقتدى به.
7 (السندس: نوع من الحرير.
8) السمت: هيئة أهل الخير. تبجَّس: تفجر.(4/126)
بُورِكْتِ يَا أَرْضًا بِهَا الدِّينُ رَسَا … وَأَمِنَتْ آثارُهُ أَنْ تَدْرُسَا
وَالشِّرْكُ فِي كُلِّ ائبِلَادِ عَرَّسَا … جَذْلَانَ يَتْلُو كُتْبَهُ مُدَرِّسَا 9
مُصَاوِلًا مُوَاثِبًا مُفْتَرِسَا … حَتَّى إِذَا مَا جَاءَ جَئسًا جَلَسَا 10
مُنْكَمِشًا مُنْخَذِلًا مُقْعَنْسِسَا … مُبَصْبِصًا قِيلَ لَهُ اخْسَأْ فَخَسَا 11
شَيْطَانُهُ بَعْدَ ائعُرَامِ خَنَسَا … لَمَّا رَأَى إِبْلِيسَهُ قَدْ أَبْلَسَا 12
وَنُكِّسَتْ رَايَاتُهُ فَانْتَكَسَا … وَقَامَ فِي أَتْبَاعِهِ مُبْتَئِسَا
مُخَافِتًا مِنْ صَوْتهِ مُحْتَرِسَا … وَقَالَ إِنَّ شَيْخَكُمْ قَدْ يَئِسَا
مِنْ بَلَدٍ فِيهَا ائهُدَى قَدْ رَأَسَا … وَمَعْلَمُ الشِّرْكِ بِهَا قَدْ طُمِسَا
وَمَعْهَدُ ائعِئمِ بِهَا قَدْ أُسِّسَا … وَمَنْهَلُ التَّوْحِيدِ فِيهَا انْبَجَسَا 13
إِنِّي رَأَيْتُ "وَائحِجَى لَنْ يُبْخَسَا" … شُهْبًا عَلَى آفَاقِهِ وَحَرَسَا
فَطَاوِلُوا ائخَئفَ وَمُدُّوا ائمَرَسَا … وَجَاذِبُوهُمْ إِنْ أَلَانُوا ائمَئمَسَا 14
لَا تَيْأَسُوا: وَإنْ يَئِسْتُ: فَعَسَى … أَنْ تَبْلُغُوا بِائحِيلَةِ ائمُئتَمَسَا
وَلَبِّسُوا إِنَّ أَبَاكُمْ لَبَّسَا … حَتَّى يَرَوْا ضَوْءَ النَّهَارِ حِنْدِسَا 15
وَالطَّامِيَاتِ الزَّاخِراتِ يَبَسَا … وَجَنِّدُوا جُنْدًا يَحُوطُ ائمَحْرَسَا 16
مَنْ هَمُّهُ فِي ائيَوْم أَكْلٌ وَكِسَا … وَهَمُّهُ بِاللَّيْل خَمْرٌ وَنِسَا
وَفِيهِمُ حَظٌّ لَكُمْ مَا وُكِسَا … وَمَنْ يَجِدْ تُرْبًا وَمَاءً غَرَسَا 17
تَجَسَّسُوا عَنْهُمْ فَمَنْ تَجَسَّسَا … تَتَبَّعَ ائخَطْوَ وَأَحْصَى النَّفَسَا
تَدَسَّسُوا فِيهِمْ فَمَنْ تَدَسَّسَا … دَانَ لَهُ ائحَظُّ ائقَصِيُّ مُسْلِسَا 18
وَأَوْضِعُوا خِلَالَهُمْ زَكًى خَسَا … وَاخْتَلِسُوا فَمَنْ أَضَاعَ ائخُلَسَا 19
تَئقَوْنَهُ فِي ائأُخْرَيَاتِ مُفْلِسَا … أَفْدِي بِرُوحِي التَّيِّهَانَ الشَّكِسَا 20
__________
9) عرّس بالمكان: نزل به لاستراحة من السفر والمراد هنا أقام.
10) جَئسٌ: بلاد نجد (قاله في القاموس).
11) المقعنسس: من خرج صدره ودخل ظهره. بصبص الكلب: حرّك ذنبه. اخْسَأْ: اذْهَبْ؛ اُبْعُدْ.
12) العُرام: الشراسة والأذى. أَبْلَسَ: يئس.
13) انبجس: انفجر.
14) المَرَسُ، ج. مَرَسَةٍ: الحبل- فالمرس: الحبال.
15) الحِنْدِسُ: الظلمة، ج. حنادس.
16) الطاميات: الممتلئات. الزاخرات: المرتفعات، وهما وصفان لموصوف محذوف تقديره: والبحار الطاميات الخ. المحرس: مكان الحراسة، وأراد به الشخص المحروس مجازًا من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه، وقد أبدل منه قوله: مَنْ همه الخ.
17) الوكْس: النقص، ما وكس: ما نقص.
18) دسّ عليه وتَدَسَّسَ: اعمل المكر فيه.
19) أوْضَعَ: أسرع. الزَّكَا: العَدَدُ الزوجُ. الخَسَا: العَدَدُ الفردُ.
20) التيهان: المتكبر. الشكس: الصعب الخلق.(4/127)
يَغْدُو بِكُلِّ حَمْأَةٍ مُرْتَكِسَا … وَمَنْ يَرَى ائمَسْجِدَ فِيهِمْ مَحْبِسَا 21
وَمَنْ يُدِيلُ بِائأَذَانِ ائجَرَسَا … وَمَنْ يَعُبُّ ائخَمْرَ حَتَّى يَخْرَسَا 22
وَمَنْ يُحِبُّ الزَّمْرَ صُبْحًا وَمَسَا … وَمَنْ يَخُبُّ فِي ائمَعَاصِي مُوعِسَا 23
وَمَنْ يَشِبُّ طِرْمِذَانًا شَرِسَا … وَمَنْ يُقِيمُ لِئمَخَازِي عُرُسَا 24
...
يَا عُمَرَ ائحَقِّ وُقِيتَ ائأَبْؤُسَا … وَلَا لَقِيتَ "مَا بَقِيتَ" ائأَنْحُسَا 25
لَكَ الرِّضَى إِنَّ الشَّبَابَ انْتَكَسَا … وَانْتَابَهُ دَاءٌ يُحَاكِي ائهَوَسَا 26
وَانْعَكَسَتْ أَفْكَارُهُ فَانْعَكَسَا … وَفُتِحَتْ لَهُ ائكُوَى فَأَسْلَسَا 27
فَإِنْ أَبَتْ نَجْدٌ فَلَا تَأْبَى ائحَسَا … فَاقْسُ عَلَى أَشْرَارِهِمْ كَمَا قَسَا 28
سَمِيُّكَ ائفَارُوقُ (فَالدِّينُ أُسَى) … نَصْرُ بْنُ حَجَّاجٍ ائفَتَى وَمَا أَسَا 29
غَرَّبَهُ إِذْ هَتَفَتْ بِهِ النِّسَا … وَلَا تبَالِ عَاتِبًا تَغَطْرَسَا
أَوْ ذَا خَبَالٍ لِئخَنَا تَحَمَّسَا … أَوْ ذَا سُعَارٍ بِالزِّنَى تَمَرَّسَا 30
شَيْطَانُهُ بِائمُنْدِيَاتِ وَسْوَسَا … وَلَا تُشَمِّتْ مِنْهُمُ مَنْ عَطَسَا 31
وَلَا تَقِفْ بِقَبْرِهِ إِنْ رُمِسَا … وَلَا تَثِقْ بِفَاسِقٍ تَطَيْلَسَا
فَإِنَّ فِي بُرْدَيْهِ ذِئْبًا أَطْلَسَا … وَإنْ تَرَاءَ مُحْفِيًا مُقَئنِسَا
فَسَئ بِهِ ذَا الطُّفْيَتَيْنِ ائأَمْلَسَا … تَأَمْرَكَ ائمَئعُونُ أَوْ تَفَرْنَسَا 32
...
__________
21) الحَمْأة: الطين الأسود، والمراد بها: الرذائل والأوساخ. المرتكس: المنتكس المنغمس.
22) يَعُبُّ: يشرب بلا تنفس.
23) يخُب: يهرول. مُوعِس: سارَ في الرمل.
24) الطَرْمِذَانُ: المباهي، المفاخر.
25) الأبؤُس، ج. بؤس: الشدة والفقر. الأنحُس، ج نحس: ضد السعد.
26) الهَوَسُ: ضرب من الجنون.
27) أسْلس: انقاد.
28) الحسا: بَلَدٌ بنجد.
29) ائأُسَى، ج. أسوة: وهي القدوة.
نصر بن حجاج الخ. يشير إلى قصة عُمر - رضي الله عنه - مع هذا الشاب الجميل الذي فتن الحسناوات بجماله، فقد رُوي أن عمر بن الخطاب كان ذات ليلة يعُسُّ بالِمدينة المنوّرة فسمع امرأة تقول:
أَلَا سَبِيلٍ إِلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا … أَمْ لَا سَبيلٌ إِلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاج
فلمَّا أصبح استدعاه، فإذا هو أصبحُ الناس وجهًا وأحسنُهم شَعَرًا. فأمر بقصّ شعره. فبدا حسنه. فأمر أن يُعْتَمَّ فازداد حسنًا. فقال عمر: والله لا يقيم بأرض أنا فيها. وأمر له بما يُصلحه وسيَّره إلى البصرة.
30) الخبال: الفساد. الخَنَا: الفُحْشُ. السُّعار: الحرُّ، شدة الجوع والعطش.
31) المُنْدِيات، ج. مُنْدِيةٍ: الكلمة القبيحة يندى لها الجبين حياءً.
32) ذو الطفيتين: نوع من الحيات الخبيثة. تأمرك: صار امريكيًا. تفرنس: صار فرنسيًا.(4/128)
يَا شَيْبَةَ ائحَمْدِ رَئِيسَ الرُّؤَسَا … وَوَاحِدَ ائعَصْرِ ائهُمَامَ ائكَيِّسَا
وَمُفْتِيَ الدِّينِ الَّذِي إِنْ نَبَسَا … حَسِبْتَ فِي بُرْدَتِهِ شَيْخَ نَسَا 33
رَاوِي ائأَحَادِيثِ مُتُونًا سُلَّسَا … غُرًّا إِذَا الرَّاوِي افْتَرَى أَوْ دَلَّسَا
وَصَادِقَ ائحَدْسِ إِذَا مَا حَدَسَا … وَمُوقِنَ الظَّنِّ إِذَا تَفَرَّسَا
وَصَادِعًا بِائحَقِّ حِينَ هَمَسَا … بِهِ ائمُرِيبُ خَائِفًا مُخْتَلِسَا
وَفَارِسًا بِائمَعْنَيَيْنِ اقْتَبَسَا … غَرَائِبًا مِنْهَا إِيَاسُ أَيِسَا
بِكَ اغْتَدَى رَبْعُ ائعُلُومِ مُونِسَا … وَكَانَ قَبْلُ مُوحِشًا مُعَبِّسَا
ذَلَّئتَهَا قَسْرًا وَكَانَتْ شُمُسَا … فَأَصْبَحَتْ مِثْلَ الزُّلَالِ ائمُحْتَسَا 34
فَتَحْتَ بِائعِئمِ عُيُونًا نُعَّسَا … وَكَانَ جَدُّ ائعِئمِ جَدًّا تَعِسَا 35
وَسُقْتَ لِئجَهْلِ ائأُسَاةَ النُّطُسَا … وَكَانَ دَاءُ ائجَهْلِ دَاءً نَجَسَا 36
رَمَى بِكَ ائإِئحَادَ رَامٍ قَرْطَسَا … وَوَتَرَتْ يَدُ ائإِلَهِ ائأَقْوُسَا 37
وَجَدُّكَ ائأَعْلَى اقْتَرَى وَأَسَّسَا … وَتَرَكَ التَّوْحِيدَ مَرْعِيَّ ائوَسَا 38
حَتَّى إِذَا الشِّرْكُ دَجَا وَاسْتَحْلَسَا … لُحْتَ فَكُنْتَ فِي الدَّيَاجِي ائقَبَسَا 39
وَلَمْ تَزَئ تَفْرِي ائفَرِيَّ (سَائِسَا) … حَتَّى غَدَا اللَّيْلُ نَهَارًا مُشْمِسَا 40
يَا دَاعِيًا مُنَاجِيًا مُغَلِّسَا … لَمْ تعْدُ نَهْجَ ائقَوْمِ بِرًّا وَائْتِسَا 41
إِذْ يُصْبِحُ الشَّهْمُ نَشِيطًا مُسْلِسَا … وَيُصْبِحُ ائفَدْمُ كَسُولًا لَقِسَا 42
كَانَ الثَّرَى بَيْنَ ائجُمُوعِ مُوبِسَا … فَجِئْتَهُ بِالغَيْثِ حَتَّى أَوْعَسَا 43
__________
33) شيخ نسا: يريد الإمام النسائي صاحب السنن (215 - 303هـ).
34) قسرًا: قهرًا. الشُّمُس، بضم الشين والميم، ج. شموس، بفتح الشين: وهو الفرس الصعب الذي لا يُمكِّن من الركوب.
35) الجَدّ، بالفتح: الحظ.
36) الأساة، ج. آس: الطبيب. النطس: الحذاق الماهرون.
37) قرطس: أصاب المرمى. وتر القوس: جعل لها وترًا، شَدَّ وترها، الأقوس: ج. قوس.
38) جدك الأعلى: لعله يريد به محمد بن عبد الوهاب؛ اقترى البلادَ: تتبّعها وطاف فيها؛ الوَسَا: أراد الوسائل فحذف للضرورة.
39) دجا الليل: أظلم، استحلس: اشتدّ ظلامه.
40) يقال فلان يفري الفرى: أي يأتي بالعجب في عمله؛ ومنه قوله تعالى {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أي شيئًا يتَحَيَّرُ فيه ويُتَعَجَّبُ منه؛ وسائسًا: كلمة تممنا بها الشطرَ وليست من كلام الشيخ وهي مناسبة.
41) الغلس: ظلمة آخر الليل؛ أي داعيًا مناجيًا بالأسحار، البر: الخير والصلاح، الائتساء: الاقتداء.
42) الشهم: السيد الذكي الفؤاد؛ المسلس: اللين السهل، الفدم: البليد العَيِيُ، اللَّقِس: الغث النفس خبيثها.
43) أوعس: صار سهلًا ليّنًا، والوعس: الرمل اللين الذي تسوخ فيه الاْقدام.(4/129)
قُئ لِئأُلَى قَادُوا الصُّفُوفَ سُوَّسَا … خَلُّوا الطَّرِيقَ لِفَتًى مَا سَوَّسَا 44
وَطَأْطِئُوا ائهَامَ لَهُ وَائأَرْؤُسَا … إِنَّ النَّفِيسَ لَا يُجَارِي ائأَنْفَسَا
...
وَيَا رَعَى اللهُ ُسُعُودًا وَكَسَا … دَوْلَتَا ائعِزَّ ائمَكِينَ ائأَقْعَسَا 45
أَحْيَى ائمُهَيْمِنُ بِهِ مَا انْدَرَسَا … مَنِ ائحُدُودِ أَوْ وَهَى وَانْطَمَسَا
وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ ائمَدَى تَنَفَّسَا … حَتَّى أَرَاهُ بَالِغًا أَنْدَلُسَا 46
أَعْطَاهُ مُئكًا مِثْلُهُ لَمْ يُؤْنَسَا … لَمْ يُعْطِهِ كِسْرَى وَلَا ائمُقَوْقِسَا
مِنْ دَوْحَةٍ غَرَسَهَا مَنْ غَرَسَا … فَبَسَقَتْ فَرْعًا وَطَابَتْ مَغْرِسَا
لَاذَ بِهِ ائعُرْبُ فَوَاسَى وَأَسَا … وَبَذَلَ ائمَالَ وَحَاطَ ائأَنْفُسَا
غَيْثٌ إِذَا قَطْرُ السَّمَاءِ انْحَبَسَا … لَيْثٌ إِذَا اللَّيْثُ انْثَنَى وَانْخَنَسَا 47
وَأَيْنَ لَيْثٌ لِئوُحُوشِ انْتَهَسَا … مِمَّنْ حَبَا الآلَافَ مَالًا وَكَسَا 48
وَقَاهُ رَبِّي كُلَّ مَا ضَرَّ وَسَا … وَدَامَ مَا قَرَّ ثَبِيرٌ وَرَسَا 49
__________
44) الألى: الذين؛ سُوَّسَا، ج. سائس، وسوَّس الأخير: فعل ماض، يقال: سوّس الطعام: وقع فيه السوس، وتسويس الشخص: كِنايَة عن كبره وهرمه، يقول: خلوا الطريق لفتى لا يزال جلدًا قويًا لم يبلغ من الكبر عتيًا ولم ينخر السوس عظمه من الهرم.
45) الأقعس: الثابت المنيع.
46) المدى: الغاية والمنتهى؛ تنفس الصبح: أشرق وأضاء؛ وتنفس العمر: طال. يقول- رحمه الله-: أتمنى لو أن حياتي تطول حتى أرى ملكه قد بلغ الأندلس.
47) انخنس: رجع.
48) انتهس الليثُ: أخذ اللحم بمقدّم أسنانه؛ حبا: أعطى.
49) وسا: أصله وساء فقصره ضرورة؛ ثبير: اسم جبل.(4/130)
تعليم البنت *
قَدْ كُنْتُ فِي جِنِّ النَّشَاطِ وَائأَشَرْ … كَأَنَّنِي خَرَجْتُ عَنْ طَوْرِ ائبَشَرْ 1
وَكُنْتُ نَجْدِىَّ ائهَوَى مِنَ الصِّغَرْ … أَهِيمُ فِي بَدْرِ الدُّجَى إِذَا سَفَرْ
وَأَتْبَعُ الظَّبْيَ إِذَا الظَّبْيُ نَفَرْ … أَنْظِمُ إِنْ هَبَّ نَسِيمٌ بِسَحَرْ
مَا رَقَّ مِنْ شِعْرِ ائهَوَى وَمَا سَحَرْ … وَأَقْطَعُ اللَّيْلَ إِذَا اللَّيْلُ اعْتَكَرْ
فِي جَمْعِ أَطْرَافِ ائعَشَايَا وَائبُكَرْ … وَإنْ هَوَى نَجْمُ الصَّبَاحِ وَانْكَدَرْ
لَبَّيْتُ مَنْ أَعْلَى النِّدَاءَ وَابْتَدَرْ … ثُمَّ ارْعَوَيْتُ بَعْدَ مَا نَادَى ائكِبَرْ 2
وَأَكَّدَتْ شُهُودُهُ صِدْقَ ائخَبَرْ … وَكَتَبَ الشَّيْبُ عَلَى الرَّأْسِ النُّذُرْ
بَاكَرَنِي فَكَانَ فِيهِ مُزْدَجَرْ … فَلَسْتُ أَنْسَى فَضْلَهُ فِيمَا حَجَرْ 3
وَلَسْتُ أَنْسَى وَصْلَهُ لِمَنْ هَجَرْ … أَكْسَبَنِي مَا يُكْسِبُ ائمَاءُ الشَّجَرْ
حُسْنًا وظِلًّا وَلحَاءً وَثَمَرْ … طَبَعَنِي عَفْوًا وَمِنْ غَيْرِ ضَجَرْ 4
عَلَى صِفَاتٍ أَشْبَهَتْ نَقْشَ ائحَجَرْ … عَقِيدَتِي فِي الصَّالِحَاتِ مَا أُثِرْ
عَنْ أَحْمَدٍ وَمَا تَرَامَى وَنُشِرْ … مِنْ سِيَرٍ أَعْلَامُهَا لَمْ تَنْدَثِرْ
وَسُنَنٍ مَا شَانَ رَاوِيهَا ائحَصَرْ … قَدْ طَابَقَتْ فِيهَا ائبَصِيرَةُ ائبَصَرْ 5
وَمَا أَتَى عَنْ صَحْبِهِ الطُّهْرِ ائغُرَرْ … وَالتَّابِعِينَ ائمُقْتَفِينَ لِئأَثَرْ
وَقَائِدِى فِي الدِّينِ آيٌ وَأَثَرْ … صَحَّ بِرَاوٍ مَا وَنَى وَلَا عَثَرْ
__________
* أرجوزة موجّهة لبعض علماء نجد، استنهاضًا لهم على تعليم البنت، واستئلافًا لقلوبهم حتى تقبل بهذا الأمر "المنكر" في رأيهم.
1) الأشر: المرح والتبختر والاختيال.
2) مَن أعلى النداءَ: يريد المؤذنَ. ارعوى: كَفَّ ورجع.
3) حَجَرَ: منع.
4) اللِّحَاء: قشر العود أو الشجر.
5) الحَصَرُ: العيُّ في النطق.(4/131)
وَمَذْهَبِي حُبُّ عَلِيِّ وَعُمَرْ … وَائخُلَفَاءَ الصَّالِحِينَ فِي الزُّمَرْ
هَذَا وَلَا أَحْصُرُهُمْ فِي اثْنَيْ عَشَرْ … لَا وَلَا أَرْفَعُهُمْ فَوْقَ ائبَشَرْ
وَلَا أَنَالُ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِشَرْ … (وَشِيعَتِي فِي ائحَاضِرِينَ) مَنْ نَشَرْ
دِينَ ائهُدَى وَذَبَّ عَنْهُ ونَفَرْ … لِعِئمِهِ وَفْقَ الدَّلِيلِ ائمُسْتَطَرْ
حَتَّى قَضَى مِنْ نُصْرَةِ ائحَقِّ ائوَطَرْ … هُمْ شِيعَتِي فِي كُلِّ مَا أَجْدَى وَضَرْ
وَمَعْشَرِي فِي كُلِّ مَا سَاءَ وَسَرْ … وَعُصْبَتِي فِي كُلِّ بَدْوٍ وَحَضَرْ
أَمَّا إِذَا صَبَبْتُ هَذِهِ الزُّمَرْ … فِي وَاحِدٍ يَجْمَعُ كُلَّ مَا انْتَثَرْ 6
(فَخُلَّتِي مِنْ بَيْنِهِمْ أَخٌ ظَهَرْ) … فِي الدَّعْوَةِ ائكُبْرَى فَجَلَّى وَبَهَرْ 7
وَجَالَ فِي نَشْرِ ائعُلُومِ وَقَهَرْ … كَتَائِبَ ائجَهْلِ ائمُغِيِرِ وَانْتَصَرْ
(عَبْدُ اللَّطِيفِ) ائمُرْتَضَى النَّدْبُ ائأَبَرْ … سُلَالَةُ الشَّيْخِ ائإِمَامَ ائمُعْتَبَرْ 8
مِنْ آلِ بَيْتِ الشَّيْخِ إِنْ غَابَ قَمَرْ … عَنِ ائوَرَى خَلَفَهُ مِنْهُمْ قَمَرْ
فَجَاهُمْ نَقَّى التُّرَابَ وَبَذَرْ … وَلَقِيَ ائأَذَى شَدِيدًا فَصَبَرْ
عَلَى ائأَذَى فَكَانَ عُقْبَاهُ الظَّفَرْ … وَائإِبْنُ وَالَى السَّقْيَ كَيْ يَجْنِي الثَّمَرْ
(وَإنَّ أَحْفَادَ ائإِمَام) لَزُمَرْ … (مُحَمَّدٌ) مِنْ بَيْنِهِمْ حَادِي الزُّمَرْ
تَقَاسَمُوا ائأَعْمَالَ فَاخْتَصَّ نَفَرْ … بِمَا نَهَى مُحَمَّدٌ وَمَا أَمَرْ
وَاخْتَصَّ بِالتَّعْلِيمِ قَوْمٌ فَازْدَهَرْ … يَبْنِي عُقُولَ النَّشْءِ مِنْ غَيْرِ خَوَرْ 9
قَادَ جُيُوشَ ائعِئمِ لِلنَّصْرِ ائأَغَرْ … كَالسُّورِ يَعْلُو حَجَرًا فَوْقَ حَجَرْ
وَائجَيْشُ مَحْلُولُ الزِّمَامَ مُنْتَثِرْ … مَا لَم يُسَوَّرْ بِنِظَامٍ مُسْتَقِرْ
وَلَمْ يَقُدْهُ فِي المَلَا بُعْدُ نَظَرْ … مِنْ قَائِدٍ سَاسَ ائأُمُورَ وَخبَرْ
مُحَنَّكٍ طَوَى الزَّمَانَ وَنَشَرْ … وَائجَيْشُ فِي كُلِّ ائمَعَانِي وَالصُّوَرْ
تَنَاسُقٌ كَالرَّبْطِ مَا بَيْنَ السُّوَرْ … وَائجَيْشُ أُسْتَاذٌ لِنَفْعٍ يُدَّخَرْ
وَائجَيْشُ أَشْبَالٌ لِيَومٍ يُنْتَظَرْ … وَائكُلُّ قَدْ سِيقُوا إِلَيْكَ بِقَدَرْ
صُنْعٌ مِنَ اللهِ ائعَزِيزِ ائمُقْتَدِرْ … خَلِّ ائهُوَيْنَى لِلضَّعِيفِ ائمُحْتَقَرْ 15
وَارْكَبْ جَوَادَ ائحَزْمِ فَائأَمْرُ خَطَرْ … فَيَا أَخًا عَرَفْتُهُ عَفَّ النَّظَرْ
عَفَّ ائخُطَى عَفَّ اللِّسَانِ وَائفِكَرْ … وَيَا أَخًا جَعَئتُهُ مَرْمَى الشَفَرْ
__________
6) الزمر، ج. زمرة: الجماعة.
7) الخلة بضم الخاء: الصديق. وتكون بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع. جلى: سبق، والفرس المجلي هو السابق في الميدان.
8) الندب: السريع إلى الفضائل.
9) الخور: الضعف.
10) الهوينى: التؤدة والرفق.(4/132)
وَغَايَةَ ائجَمْعِ ائمُفِيدِ فِي ائحَضَرْ … تَجْمَعُنِي بِكَ خِلَالٌ وَسِيَرْ
مَا اجْتَمَعَتْ إِلَّا ثَوَى ائخَيْرُ وَقَرْ … وَلَيْسَ فِيهَا تَاجِرٌ وَمَا تَجَرْ 11
وَلَيْسَ مِنْهَا مَا بَغَى ائبَاغِي وَجَرْ … وَمَا تَقَارُضُ الثَّنَا فِينَا يقَرْ 12
إِنَّ فُضُولَ ائقَوْلِ جزْءٌ مِنْ سَقَرْ … فَلَا أَقُولُ فِي أَخِي لَيْثٌ خَطَرْ
وَلَا يَقُولُ إِنَّنِي غَيْثٌ قَطَرْ … وَإنَّمَا هِي عِظَاتٌ وَعِبَرْ
عَرَفْتَ مَبْدَاهَا فَهَئ تَمَّ ائخَبَرْ … وَبَيْنَنَا أَسْبَابُ نُصْحٍ تُدَّكَرْ
كِتْمَانُهَا غَبْنٌ وَغِشٌّ وَضَرَرْ … لَا تَنْسَ (حَوَّا) إِنَّهَا أُخْتُ الذَّكَرْ 13
تَحْمِلُ مَا يَحْمِلُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرْ … تُثْمِرُ مَا يُثْمِرُ مِنْ حُئوٍ وَمُرْ
وَكَيْفَمَا تَكَوَّنَتْ كَانَ الثَّمَرْ … وَكُلُّ مَا تَضَعُهُ فِيهَا اسْتَقَرْ
فَكَيْفَ يَرْضَى عَاقِلٌ أَنْ تَسْتَمِرْ … مَزِيدَةً عَلَى ائحَوَاشِي وَالطُّرَرْ 14
تَزْرَعُ فِي النَّشْءِ أَفَانِينَ ائخَوَرْ … تُرْضِعُهُ أَخْلَاقَهَا مَعَ الدِّرَرْ 15
وَإنَّهَا إِنْ أُهْمِلَتْ كَانَ ائخَطَرْ … كَانَ ائبَلَا كَانَ ائفَنَا كَانَ الضَّرَرْ
وَإنَّهَا إِنْ عُلِّمَتْ كَانَتْ وَزَرْ … أَوْلَا فَوِزْرٌ جَالِبٌ سُوءَ الأثَرْ 16
وَمَنْعُهَا مِنَ ائكِتَابِ وَالنَّظَرْ … لَمْ تَأْتِ فِيهِ آيَةٌ وَلَا خَبَرْ
وَائفُضْلَيَاتُ مِنْ نِسَا صَدْرٍ غَبَرْ … لَهُنَّ فِي ائعِرْفَانِ وِرْدٌ وَصَدَرْ 17
وَانْظُرْ هَدَاكَ اللهُ مَاذَا يُنْتَظَرْ مِنْ أُمَّةٍ قَدْ شَلَّ نِصْفَهَا ائخَدَرْ 18
وَانْظُرْ فَقَدْ يَهْدِيكَ لِئخَيْرِ النَّظَرْ … وَخُذْ مِنَ الدَّهْرِ تَجَارِيبَ ائعِبَرْ
هَئ أُمَّةٌ مِنَ الجَمَاهِيرِ ائكُبَرْ … فِيمَا مَضَى مِنَ ائقُرُونِ وَحَضَرْ
خَطَّتْ مِنَ ائمَجْدِ وَمِن حُسْنِ السِّيَرْ … تَارِيخَهَا إِلَّا بِأُنْثَى وَذَكَرْ؟
وَمَنْ يَقُئ فِي عِئمِهَا غَيٌّ وَشَرْ … فَقُئ لَهُ هِيَ مَعَ ائجَهْلِ أَشَرْ
وَلَا يَكونُ الصَّفْوُ إِلَّا عَنْ كَدَرْ … وَإِنَّ تَيَّارَ الزَّمَانِ ائمُنْحَدِرْ
لَجَارِفٌ كُلَّ بِنَاءٍ مُشْمَخِرْ … فَاحْذَرْ وَسَابِقْ فَعَسَى يُجْدِي ائحَذَرْ 19
__________
11) ثوى: أقام. قَرَّ: ثبت.
12) التقارضُ: التبادل.
13) أي لا تنس البنتَ في التعليم فإنها أختُ الابن. وهذا هو المقصود الذي مهّد له الأستاذ- رحمه الله- بكل ما سبق.
14) الطرر، ج. طُرة: وهي طَرَفُ الشيء وحاشيته.
15) الدِّرر، ج. دِرّة بالكسر وهي اللبن.
16) الوَزَرُ: الملجأ. الوِزْرُ: الإثم. الحمل الثقيل.
17) غبر: مضى. الورد: الذهاب إلى الماء. الصدر: الرجوع عنه.
18) الخَدَرْ: تشنج يصيب العضوَ فلا يستطيع الحركة. خَدِرت رِجْلُه.
19) المشمخر: العالي.(4/133)
وَاعْلَمْ بِأَنَّ ائمنْكَرَاتِ وَائغِيَرْ … تَدَسَّسَتْ لِئغُرُفَاتِ وَائحُجَرْ
… مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ وَمِنْ شَطِّ هَجَرْ …
وَأنَّهَا قَارِئَةٌ وَلَا مَفَرْ … إِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْكَ فَعَنْ قَوْمٍ أُخَرْ
وَاذْكرْ فَفِي الذِّكْرَى إِلَى ائعَقْل مَمَرْ … مَنْ قَالَ قِدْمًا (بِيَدِي ثُمَّ انْتَحَرْ) 20
حُطْهَا بِعِئمِ الدِّينِ وائخُئقِ ائأَبَرْ … صَبِيَّةً تَأْمَنْ بَوَائِقَ الضَّرَرْ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ نَشْأَنَا إِذَا كَبِرْ … عَافَ الزَّوَاجَ بِابْنَةِ ائعَمِّ ائأَغَرْ
يَهْجُرُهَا بَعْدَ غَدٍ فِيمَنْ هَجَرْ … لِأَنَّهَا فِي رَأْيِهِ مِثْلُ ائحَجَرْ
وَيَصْطَفِي قَرِينَةً مِنَ ائغَجَرْ … لِأَنَّهَا قَارِئَةٌ مِثْلُ البَشَرْ
خُذْهَا إِلَيْكَ دُرَّةً مِنَ الدُّرَرْ … مِنْ صَاحِبٍ رَازَ الأُمثورَ وَخَبَرْ
صَمِيمَةً فِي ائمُنْجِبَاتِ مِنْ مُضَرْ … نِسْبَتُهَا ائبَدْوُ وَسُكْنَاهَا ائحَضَرْ
__________
20) بيدي ثم انتحر: يشير إلى مَثَل مشهورٍ أرسلته الزَّبَّاءُ. وخلاصةُ قصته أن الزباء قتلتْ جذيمةَ الأبرشَ خالَ عمرو. فدبَّر وزيرُ جذيمةَ (واسمه قَصِيرٌ) مكيدةً لأخذِ الثأر منها. فجَدَعَ قَصِيرٌ أنفَه وذهب إليها باكيًا مدَّعيًا أن عمرًا جَدَعَ أنفَه. فصدّقته ومكث عندها مدة. ثم أتى بالرجال ومعهم عمرو ليقتلوها.
وكان لها نَفَقٌ أعدته لوقت الحاجة. فلما أرادت أن تهرب من النفق وجدتْ عمرًا على بابه. فمصَّت خاتمًا مسمومًا كان بيدها وقالت: (بيدي لا بيدِ عمرو) وقد أشار محمد بن دُريد في مقصورته إلى هذه القصة فقال:
وَقَدْ سَمَا عَمْرٌو إِلَى أَوْتَارِهِ … فَاحْتَطَّ مِنْهَا كُلَّ عَاليِ ائمُسَمَّى
فَاسْتَنْزَلَ الزَّبَاءَ قَسْرًا وَهْيَ مِنْ … عُقَابِ لُوحِ ائجَوِّ أَعْلَى مُنْتَمَى(4/134)
في مصر
(من أكتوبر 1952 إلى مايو 1953)
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/135)
صوت من نجيب، فهل من مجيب؟ *
حصرت قبل أسابيع حفلة تكريم للقائد الشعبي العظيم محمد نجيب أقامتها جمعية من الجمعيات العاملة للإسلام وسمعت خطبًا عادية في المعنى الذي أُقيمت له الحفلة، وسمعت قطعة من الشعر أشهد أنه شعر حي صادق في تصوراته وتصويراته، وأنه مسّ مكامن الإحساس مني حينما مسّ فلسطين، وكأنما غمز من قلبي جرحًا مندملًا على عظم. ثم سمعت في الأخير كلمة القائد البطل: وكان أقلّها عن مصر وحركة الجيش وأسبابها وأهدافها، وأكثرها عن فلسطين وحربها وحالة أهلها المشرّدين.
وأقول: القائد ولا أقول: الرئيس لأنني كنت أسمع كلام قائد لا كلام رئيس، وكنت أسمع كلامه فأفهمه بمعنيين: معنى هو الذي تفيده الألفاظ والتراكيب، وينتقل بالسامع من خبر إلى خبر ومن وصف إلى وصف، ومعنى آخر مساوق له ممتد معه، وهو أن هذا الكلام نفسه قائد ... فيه من القيادة أمرها ونهيها وحزمها وصدقها وواقعها وتوجيهها ومضاؤها وجرأتها وجميع خصائصها، فأفهم من ذلك كله أن القيادة هي صفته الذاتية، خلقت معه مستسرة معه في روحه ودمه، ولوّنتها فطرته السليمة، وكوّنتها تربيته الشعبية كما أن الإقدام هو صفة الأسد الذاتية التي خلقت معه، فلما أدّت قيادته العسكرية رسالتها وبلغت مداها انقلبت قيادة عسكرية شعبية سمّاها العرف رياسة، وما هي- في الحقيقة- إلا امتداد لقيادته العسكرية، والقائد القوي الخصائص في الأمة الكثيرة النقائص، لا يزال يخرج من حرب إلى حرب ويدخل من قتام في قتام.
سمعت كلمة القائد متئدة رزينة فلما لمست فلسطين ظهرت شجية حزينة فنطق بالصدق ولا أصدق من شهادة العيان. ومحمد نجيب إذا تكلم عن حرب فلسطين، وصوّر نكبة
__________
* مجلة "الرسالة"، عدد 1018، ثم نقلتها «البصائر»، العدد 214، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 23 جانفي 1953.(4/137)
فلسطين كان الراوية الثقة والضابط العدل. وقد حلّل تلك السبة الخالدة وعلّلها باثنتين: قبول الهدنة وفقد السلاح. ثم برأ الشرف العسكري العربي كله من وصمة التخاذل، ولم يعرج على التخاذل السياسي بين ملوك العرب وساستهم، ولكن عده لقبول الهدنة أحد سببي النكبة أبلغ من التصريح في الاتهام والتجريح، فإن الراضين بالهدنة هم رؤساء الحكومات العربية من ملوك وساسة لا قادة الجيوش.
كانت كلمات القائد البطل عن فلسطين تمسّ نفسي- وهو يلقيها- مسّة الكهرباء فتحرق ولا تضيء، لأنني- يشهد الله- كنت وما زلت من أشدّ الناس اهتمامًا بالحادثة، ثم من أشدّهم التياعًا بالكارثة، فإذا فاتني- لشقوتي- أن أشارك في وقائعها بجسمي، فلم يفتني أن أشارك فيها بقلمي، فكتبت مقالات نارية المعنى قاسية الألفاظ تكاد ترسل شواظًا من نار ونحاسًا على المتسببين في تلك الهزيمة المنكرة بغير أسبابها المعقولة عند الناس، ولكن بسبب لا يستسيغه عقل عاقل وهو قبول الهدنة ... لذلك كانت كلمات القائد تفيض من نفسه الجريحة وكأنما تفور من نفسي. حتى إذا سكت عن ساسة العرب أحسست بانفعال كنت أتمنّى أن أسكنه بشهادة حق من القائد الصادق عليهم تؤيد عقيدتي فيهم، فإن شهادة الحق تولّد الحق حتى لكأنه حقّان.
وتكلّم القائد البطل عن أولئك البائسين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: وطننا فلسطين، والذين نسمّيهم مشردين ونحن شرّدناهم بما كسبت أيدينا، ووصف وصف المعايشين ما يلقونه من شقاء وما يتجرّعونه من غصص، وبدأ صوته يرتفع ويتهدج وعيناه تغرورقان بالدموع فتشهد بأنه يغالب أسًى كمينًا وهمًا دفينًا. وكانت الجمل العبقرية التي تساوي الدم الذي خرج من جسمه على ثرى فلسطين هي قوله: "كيف نلتذ بالطعام، وننعم باللباس والدفء، وان إخواننا ليتضورون من الجوع ويفترشون الغبراء؟ لماذا لا نصوم يومًا من الأسبوع عن اللحم، أو أسبوعًا من الشهر عن هنة من هذه الكماليات، ثم نرصد ثمنها لإطعام إخواننا الفلسطينيين وكسوتهم؟ إن الإمساك عن اللحم يومًا من الأسبوع أو عن الكماليات أسبوعًا من الشهر لا تميتنا ولكنها تحيي إخواننا". ثم رمى السامعين بالآبدة التي ظننت أن الجباه تندى لها عرقًا، إن لم تنخلع القلوب منها فرقًا، وهي قوله: "ان من العار أن نطلب لهم الحياة ممن أماتهم ونسأل لهم القوت من الدول العاتية التي حكمت عليهم بالموت جوعًا، وحكمت علينا بالانحناء ذلًّا ومهانة".
حقائق جلاها القائد على مئات من السامعين وما منهم إلا من له نباهة وذكر ومقام. جلاها في جمل حاكية، تحتها معانٍ باكية، وشرحها الوافي ينتزع مما يتصوّره المتصوّرون. ويصوّره المصوّرون من حال أولئك البائسين، وينتزع من تخاذل العرب ملوكًا وحكومات وسادة وكبراء وشعوبًا حتى ضاعت فلسطين وجاع أهلها، وتنتزع من حالة المسلمين المغفلين الذين ما زالوا- وهم ذوو عدد-:(4/138)
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة … ومن إساءة أهل السوء إحسانا ...
وما زالوا يطلبون الصدقة ممن سلبهم وما زالوا يفزعون كلما لطمهم اليهود إلى الاحتجاج، وما زالوا يطرقون أبواب هذا الهيكل الخرب الذي يسمّى جمعية الأمم المتحدة.
أنا لا أتحدث عن قلوب السامعين ومواقع كلام القائد منها، ولا أملك لها أن تكون خلية أو شجية، وإنما أتحدث عن قلبي. فوالذي خلق القلوب مضغًا سوداء وبث فيها شعلًا من النور، لكأنما كانت تلك الكلمات نبالًا على قلبي تنثال على هدف، ونصالًا تتوالى على جريح. يا للعجب العاجب! أفيؤمن المسلم بأن المسجد الأقصى هو قبلته الأولى وأنه ثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، وأنه كان في ليلة من الدهر سلم الأرض إلى السماء، ومطار البشرية المتمثلة في محمد، إلى الملكية المتمثلة في الملإ الأعلى، أفيؤمن بذلك كله ثم لا يقدم، لحماية هذا الحرم وجعله آمنًا، مهجته وماله؟
إن فلسطين إرث النبوّة الخاتمة، من النبوّات المتقادمة. نفذ فيه عمر وصية الإسلام، وحرّره أبو عبيدة وأصحابه في الأولين من رق الرومان ورجس الأوثان، وأدّت وقائع اليرموك وأجنادين شهادتها على استحقاقنا لهذا الإرث واقتدارنا على حمايته.
إن أعمال أجدادنا في فلسطين وإرثها وحمايتها هي وصية صريحة لنا بالمحافظة عليها وحجة ناطقة علينا إن نحن قصّرنا فيها أو فرّطنا في جنبها، فيا لتراث نبوي حماه الأسلاف الصالحون، وأضاعه الأخلاف المفرطون.
ما أضاع فلسطين إلا العرب، وقد جاءتهم النذر فتماروا بها، ثم حق الأمر وهم غارون فاندهشوا، ثم وقعت الواقعة فأبلسوا، وعمد خطباؤهم إلى الخطب ينمّقونها وشعراؤهم إلى القصائد يزوقونها، وساستهم إلى الدعاوى يلفّقونها، وعامّتهم إلى الخرافات يصدّقونها، بينما عمد ملوكهم إلى الأمداد يعوقونها وإلى الأهواء ينفقونها، وعمد خصومهم اليهود إلى الغايات يحقّقونها، وإلى العهود يمزقونها، وقضي الأمر وأوسعناهم سبًا وراحوا بالإبل! وبعد أن كنا نقول: أهل فلسطين، أصبحنا نقول ما قالته الجرهمية في مكة: بلى نحن كنا أهلها! ولا أدري كيف تنتصر أمة تقطعت بسوء صنيعها أممًا ثم تدلّت في الذل ثم صارت تطلب الرحمة من معذبها، وتعطي الدية لقاتلها، ثم ارتكست في السقوط حتى أصبح نصف ملوكها صبيانًا وأكثر أدلائها عميانًا.
...
مضت على كلمات القائد البطل أسابيع، وأنا أتحسّس وقعها في النفوس، وأترقب ثمرتها، من صوم المسلمين عن الطعام يومًا في الأسبوع أو هجرهم لبعض الكماليات أسبوعًا(4/139)
في الشهر ورصد أثمانها لدفع الغوائل عن مشرّدي فلسطين أو لغير ذلك مما تتفتق عنه العقول من أفكار، وتتمخّض عنه الهمم من آثار. فلم يظهر لها أثر إلا تلك الهزّة التي حرّكت الأيدي للتصفيق، ورسمت التأثّر على الوجوه، ونشرت شيئًا من التهلل على الأسارير ثم لا شيء.
إن تلك الكلمة العبقرية ليست كلمة من الكلام، وإنما هي فكرة عبّرت عنها ألفاظ، ومبدأ ترجمته عبارات، ولو كانت نفوسنا- معشر سامعيها- حية مستجيبة لفهمنا الكلمة بهذا المعنى، ولخرجنا من الحفلة منادين بها، داعين إليها، شارحين لمراميها، ناشرين لها في العالم الإسلامي، بادئين بأنفسنا في تنفيذها. ولكننا قوم بنينا أمرنا على اللعب واللهو، والخطإ والسهو، لا على الجد والصرامة، والعزة والكرامة، واطمأننا إلى عادة لا تطمئن عليها الحياة، فكل ما في أحزاننا عويل وبكاء، وكل ما في أفراحنا تصدية ومكاء، وكل استجابتنا لداعي الحق تشقق الحناجر بهتاف، والتقاء الأيدي على تصفيق.
ونبتت بعد تلك الكلمة التي لم تعها أذن واعية، فكرة قُطُر الرحمة، وهي فكرة جميلة صحبها العزم فكانت جليلة، ورافقها التنفيذ فكانت نبيلة، وحيّا الله مصر ولَقَّى أهلها نضرة كما كسى أرضها خضرة، ولكن قطر الرحمة ما هي إلا قطر من الرحمة، والمشرّدون أصبحوا بقعة إنسانية عطشى لا ترويها إلا الروائح والغوادي من سحب الخير، وأين الفكرة التي تختصّ بمصر من الفكرة التي تعمّ العالم الإسلامي؟ إن فكرة "الصوم" لو تمّت وانتشرت وصحّت العزائم على جعلها عادة وموسمًا لم تقف عند استحياء المشردين وكفكفة دموعهم، بل كانت تغسل الخزي وترحض العار، وتسلّح جيشًا لاسترداد فلسطين.
أيها العرب: ها هم أولاء إخوانكم المشرّدون على غلوة سهم منكم لو تسمعتم لسمعتم أنينهم من الألم يتردد. وحنينهم إلى الديار يتجدد، ودعاءهم إلى الله يرتفع على كل من أضاعهم وأجاعهم.
إنهم إخوانكم، وإنها أعراضكم، والقرابة موضع الثواب والعقاب عند الله. والعرض محل المدح والذم عند الناس. وإنهم انسلخوا من الزمان، فلا ماضي ولا حال ولا مستقبل. فهل تأمنون أن يبقى أبناؤهم الناشئون في هذه الحالة على الإسلام والعروبة؟ وهل تأمنون أن يطول عليهم الأمد، ويستحكم فيهم اليأس منكم، فيبايعون اليهود على العبودية المؤبّدة؟
أيها العرب: ساء مثلًا من أفهمكم من معاني العروبة أنها نسبة إلى جنس واعتزاء إلى جد والتصاق برقعة من الأرض، فعاجلوا هذا السطر الخاطئ بالمحو والشطب وخذوا العروبة على أنها ليست جلدة تسمَرُّ أو تصفَرُّ ولا بلدة تغبر أو تخضرّ، وليست متاعًا مما يرث الوارثون ولا أرضًا مما يحرث الحارثون وإنما هي بناء مآثر وإعلاء أمجاد، وإنما هي خلال تتفتّح عن أعمال، وإنما هي عزائم لا تعرف الهزائم، وانما هي طموح وجموح: طموح(4/140)
لمواطن العز وجموح عن قيود الذل، وإنما هي رأي أصيل وفكر جزيل ولسان بالبيان بليل وعقل هو على الحكمة دليل وقلب للجرأة خليل. فجميع هؤلاء هو العروبة وجامع هؤلاء هو العربي، وما عدا ذلك فهو تعلّل بخيال وتعلّق بضلال، وتخفق يكذبه الخلق وخيانة للعروبة في اسمها وعقوق لآباء كأنّما عناهم المعري بقوله:
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم … بعد الممات جمال الكتب والسير
أيها المسلمون: إن اليهود طامحون إلى أكثر من فلسطين، وإنهم يستعدّون بعد أن غمسوا أرجلهم في ماء البحر الأحمر لاحتلال مكة والمدينة، فماذا أنتم صانعون؟ إن كنتم تعتمدون على أن للبيت ربا يحميه فهذا إرهاص لا يتكرر مرتين. وهو عذر لا يقوم بعد أن أخذ عليكم العهد بحماية البيت. إنه لا حجة لنا على الله بل الحجة علينا وإننا لسنا من العزة على الله بحيث يخرق سننه الكونية لأجلنا وقد رفع يده عنا فلا يبالي في أي واد نهلك، وحكّم سنّته فينا فحكمت بأن نُمْلك ولا نَمْلِك، فعودوا يعُد وغيّروا يغير وحققوا الشرط يحقق الجزاء.(4/141)
في ذكرى المولد النبوي الشريف *
- 1 -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها المسلمون:
ليس هذا المولد النبوي الذي تحيون ذكراه في كل عام ميلاد رجل محدود الوجود بطرفي الحياة، ولو كان كذلك لكان محدود المعنى لأن وراء كل حياة موتًا، ولكان كبقية الموالد التي تتحكم فيها الأعراف فتغالي فيها أو تتوسّط، واحتفال رجل بعيد ميلاد ولده الوحيد العزيز لا ينقل شعور الفرح والابتهاج من الوالدين إلى الجيران إلّا على نمط من المجاملة والمقارضة العرفية.
ولكن ميلاد محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء بالهدى ودين الحق، هو مولد لكل ما جاء به محمد من الهدى ودين الحق، فهو مولد للصلاح والإصلاح والهداية والرحمة والخير والعدل والإحسان والأخوة والمحبة والرفق، وهو مولد لجميع الشرائع السمحة التي غيّرت الكون، وطهّرت النفوس، وصحّحت الحدود بين الناس فوقف كل واحد منهم عند حدّه، ووضحت المعالم المطموسة بين الخلطاء فوقف كل خليط من خليط موقف المعاون، لا موقف المعاكس: فالمرأة والرجل، والأمير والمأمور، والحر والعبد، والكبير والصغير، والأب والابن، والجار وجاره، والعربي والأعجمي، والأجير والمستأجر، والغني والفقير، كل أولئك أصبح راضيًا بحاله، ناعمًا في عيشه، سعيدًا في حياته آمنًا من ظلم خليطه.
ومولد محمد هو الحد الفاصل بين حالتين للبشرية: حالة من الظلام جللها قرونًا متطاولة، وحالة من النور كانت تترقبها، وقد طلع فجرها مع فجر هذا اليوم، فميلاد محمد - صلى الله عليه وسلم - كان إيذانًا من الله بنقل البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية، ومن الوثنية إلى التوحيد، ومن العبودية إلى الحرية، وبعبارة جامعة من الشر الذي لا خير فيه إلى الخير الذي لا شر معه.
__________
* مسودة وجدت في أوراق الشيخ لكلمة ألقاها في الحفل الذي أُقيم بالقاهرة في شهر نوفمبر 1952 بمناسبة ذكرى المولد، بحضور الرئيس محمد نجيب رئيس جمهورية مصر.(4/142)
مولد محمد - صلى الله عليه وسلم - هو مولد تلك التعاليم التي حرّرت العقل والفكر وسمت بالروح إلى الملإ الأعلى، بعدما تدنت بالمادة إلى الحيوانية، وبالشهوات إلى البهيمية، وبالمطامع إلى السبعية الجارحة.
ومولد محمد - صلى الله عليه وسلم - هو مولد الإسلام والقرآن وذلك الفيض العميم من المعاني التي أصلحت الأرض ووصلتها بالسماء وفتحت الطريق إلى الجنة.
فقولوا لمن جاء بعد محمد من زاعم يزعم الانتصار للحق، وزعيم يهتف بالحق وداع يدعو إلى الحرية، ودعيّ يكذب على الحرّية، وعاقل يبكي على العقل، ومفكّر يجهد في تحرير الفكر، وروحاني يعمل لسمو الروح، وأخلاقي يضع الموازين للمثل العليا، وحاكم يحاول إقامة العدل في الأرض، وحائر لا يدري من أين يبتدئ ولا أين ينتهي، قولوا لهم جميعًا: قد سبقكم محمد إلى هذا كله، وقد نصب لكم بقرآنه وسيرته أعلام الهداية في كل مصعد وكل منحدر، ولكنكم قوم لا تفقهون أو لا تصدقون، فارجعوا إليه إن كنتم صادقين تجدوه منكم قريبًا.
هذه هي المعاني التي يجب أن نستشعرها حينما نذكر المولد، وحينما نحتفل به، أما ما عدا ذلك مما نفعله ونقوله فزوائد لا قيمة لها في العقول ولا أثر لها في النفوس.
وهذه هي المعاني التي يجب أن نعدّ أنفسنا للتأثّر بها حتى نلين قيادها للخير وندمّث وعورتها لتلقيه وللعمل به، ولا يكون ذلك إلّا إذا مررنا بها على مواطن العبرة فيها، واستدرجناها لحسن الاقتداء بها وإتقان الاحتذاء لها.
لو فهمنا المولد المحمدي بهذه المعاني لكان إظلاله لنا في كل عام تجديدًا لهممنا، وإيقاظًا لشواعرنا، وصقلًا لأذهاننا، وجلاءً لأرواحنا، ولكانت آثار ذلك سموًّا في أرواحنا، وسدادًا في آرائنا، وتحوّلًا إلى الخير في أحوالنا، وجمعًا لكلمتنا على الحق، وتوحيدًا لصفوفنا في النوائب.
ولكننا فهمناه على قياس من عقولنا وهي جامدة، وعلى نحوٍ من هممنا وهي خامدة، وعلى نمط من عاداتنا وهي سخيفة، وقصرناه على هذه التوافه: لعب للصغار ليس فيها فائدة وخطب للكبار ليس فيها عائدة.
فعلنا بمولد محمد - صلى الله عليه وسلم - ما فعلناه بسيرته فاقتصرنا في كليهما على أضعف جانبيه، فنحن في مولده نلهو ونلعب، وقد نفرح ونطرب، ونعمر يومه وأسبوعه بحفلات تقليدية ليس فيها روح، كذلك نحن نتدارس سيرته التي هي التفسير العملي للإسلام فلا ندرس إلّا جانبها البشري من كيفية أكله ولباسه ونومه، لا جانبها الملكي من صبره وجهاده وتربيته لأُمّته، وبناء الدولة الإسلامية.(4/143)
يختلف الفقهاء في هذه الحفلات المولدية وهل هي مشروعة أو غير مشروعة، ويطيلون الكلام في ذلك بما حاصله الفراغ والتلهي وقطع الوقت بما لا طائل فيه، والحق الذي تخطّاه الفريقان أنها ذكرى للغافلين وإنما لم يفعلها السلف الصالح لأنهم كانوا متذكرين بقوة دينهم وطبيعة قربهم، وعمارة أوقاتهم بالصالحات.
أما في هذه الأزمنة المتأخرة التي رانت فيها الغفلة على القلوب، واستولت عليها القسوة من طول الأمد واحتاج فيها المسلمون إلى المنبّهات، فمن الحكمة والسداد أن يرجع المسلمون إلى تاريخهم يستنيرون عبره، وإلى نبيّهم يدرسون سيره، وإلى قرآنهم يستجلون حقائقه، وإن من خير المنبّهات مولد محمد لو فهمناه بتلك المعاني الجليلة.
أيها المسلمون: قبل أن تقيموا حفلات المولد أقيموا معاني المولد، وتدرّجوا من المولد المحمدي الذي هو مولد رجل إلى البعثة المحمدية التي هي مولد دين نسخ الأديان لأنه أكمل الأديان، وهنالك تضعون أيديكم على الحقيقة التي تهديكم إليها هذه الذكرى.
حاسبوا أنفسكم في كل عام من أين انتقلتم وإلى أين وصلتم، أشيعوا بينكم في هذه الذكريات المحبة والأخوة والاتحاد على الحق. واذكروا أن صاحب هذه الرسالة بعث بالعزّة والكرامة والعلم والقوة، فكونوا أعزّة وكونوا أحرارًا وكونوا أقوياء، واعرفوا محمدًا بدينه وقرآنه وسيرته لا بمولده، وأقيموا دينه، ولا عليكم بعد ذلك أن تقيموا مولده أو لا تقيموه.
إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يطالبكم بإقامة الدين لا بإقامة المولد، وإن دينكم دين الحقائق والأعمال والنُظم فارجعوا إلى تلك الحقائق وانصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
- 2 -
من الخير للمسلمين أن يسيروا إلى الأمام دائمًا بأبدانهم وعقولهم مع الأمم الزاحفة إلى الحياة، المتزاحمة على مواردها، أو أمام الأمم الزاحفة المتزاحمة، مندفعين بحداء القرآن إلى الحق الذي تؤيّده القوّة، وإلى القوّة التي يؤيّدها الحقّ، ليعمروا هذا الكون بالعدل والصلاح والإحسان والخير والمحبّة، ويتحقّق وعد الله إياهم بالاستخلاف في الأرض، وتمكين دينهم الذي ارتضاه لهم فيها، وتبديل خوفهم أمنًا إذا آمنوا وعملوا الصالحات وعبدوا الله ولم يُشركوا به شيئًا.(4/144)
من الخير العميم لهم أن يفعلوا ذلك في جميع العام، إلّا في ليلة واحدة منه وهي الليلة الموافقة لليلة ميلاد محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالواجب عليهم أن يرجعوا فيها القهقرى، وأن يطووا فيها هذه المراحل الأربع عشرة التي نسمّيها قرونًا، وأن يمحوها من أذهانهم بخيرها وشرّها حتّى كأن لم تكن، ليتصّلوا في ليلة من العام بالآفاق التي انفجر منها ماؤه العذب الزلال، فأروى النفوس وغسل أكدارها، وطهّر الأرض وأحيا مواتها، والواجب أن يتبعوا السبب حتّى يبلغوا مطلع الحقيقة- حقيقة السعادة التي جلاها الله على هذا الكوكب الأرضي، كوكب الشقاء والشرّ والفساد والتناحر، والواجب أن يفعلوا هذا ليجتمعوا بمحمد في ليلة من كلّ عام، فيأخذوا عنه كيف كان يزكّي وكيف كان يعلّم، وكيف كان يجاهد الكفر قبل أن يجاهد الكفّار، ويحارب المعاني الفاجرة قبل أن يحارب الفجّار، وكيف كان يغرس الفضيلة ويتعهدها بالسقي والرعاية حتى تنمو وتورق وتُظلّ وتثمر، وكيف كان يقلع الوثنية ليزرع التوحيد، ويهدم الضلال ليبني الهدى، وكيف كان يهدي بالقرآن للتي هي أقوم، وكيف كان يمهّد للحقّ بالقوّة، ويضع القوّة في خدمة الحقّ، وكيف كان ينتصف للروح من الجسم حتّى إذا بلغ المعدلة أذن لسلطان الروح بالاستيلاء على العرش من غير أن يضار الجسد أو يضيمه، وكيف كان يؤلّف بين سنن الله في الدين وبين سننه في الكون ليربط الأسباب بالمسببات والدين بالدنيا، ويزاوج بين السعادتين فيهما.
هذه المعاني- وهي قطرة من بحر- هي التي يجب أن يذكرها المسلمون، وأن يتذاكروها كلّما أظلتهم هذه الليلة من كل عام، وأن يحتفلوا لذكرها باللسان وذكراها بالقلب وتحقيقها بالعمل، وأن يتواصوا بالتخلّق بها في أنفسهم ثم فيمن يليهم من أهل وجيران وأقارب، وأن يتنافسوا في البلوغ إلى غاياتها، وأن يعتبروا هذه الليلة حدًّا فاصلًا بين مرحلة مقطوعة ومرحلة مستأنفة، وموقف محاسبة على عام مضى، واستعداد لعام يأتي ...
أما والله لو أننا نظرنا إلى هذه الليلة بهذه النظرة، ووزنّاها بهذا الميزان، وبنينا إقامة الحفلات فيها على هذه الحكمة، لما أُصبنا بهذا الوهن القاتل، ولما أُصيبت جدة الدين بيننا بالأخلاق، ولما تفرقنا شيعًا فيه ومذاهب، ولما تكدّرت مشاربنا منه بالضلال والابتداع، ولا تنوسيت تلك السنن العظيمة بالغفلة والإضاعة.
أيها الإخوان: إن نبيّنا منا لقريب لو جعلنا الصلة بيننا وبينه حبل الله القرآن، فقد تركه فينا ليكون النور الممتد بيننا وبينه، وقد كان خُلُقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه ويقف عند حدوده ويصنع أفعاله وتروكه من أوامره ونواهيه، وينحت من معدنه تلك الآداب التي ربّى بها نفسه وراض عليها أصحابه، ثم تركها كلمة باقية فينا وحجّة بالغة لنا أو علينا، وقد شرّفنا - صلى الله عليه وسلم - تشريفًا يبقى على الدهر، وشهد لنا شهادة نتيه بها على الغابرين إذ قال لأصحابه: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِيَ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي».(4/145)
ولكننا تركنا هذا المرجع الإلهي المعصوم في اقتباس سيرة نبيّنا كما هجرناه في كل ما جاء به من عقائد وعبادات وأحكام وآداب، وأصبحنا نتلمّسها من كتب فيها الموضوع وفيها المصنوع وفيها الصحيح الذي لا يثير عبرة ولا يحصي نزعة من نزعات الخير فينا، ولا يحملنا على التأسّي بتلك السير التي هي كنوز معارف ومعادن فضائل وأعلام اقتداء، ومنازل نقلة بالفكر إلى المثل الأعلى، وبالروح إلى الملإ الأعلى ...
ألستم ترون أن أكثر المؤلفين في السير يصرفون اهتمامهم إلى الجهات التي لا محلّ فيها للاقتداء الذي يزكّي النفس- أكثر مما يصرفونه إلى الجهات التي تزكي النفس وتطبعها على الخلال النبوية، يهتمّون بالمواطن السطحية البشرية مثل كيفية لبسه وأكله وشربه ونومه وملابسة أهله، ويغفلون المكامن الروحية الملكية مثل تعلّقه بالله ومراقبته له وتأديته الأمانة الشاقة وصبره وشجاعته وتربيته لأصحابه، وتدريبهم على جهاد أنفسهم حتّى تكمل وعلى السمع والطاعة للحق وفي الحق، وعلى التعاون والتناصح والتحابب والتآخي والاتحاد ...(4/146)
الأستاذ الفضيل الورتلاني *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان:
ما فكرتُ في هذا الموقف، ولا دبرتُ طريق الخلاص من مفاجآته إلّا بعد أن دخلت القاعة وتراءت وجوه الإخوان وسبقني بعضهم بالحديث، فوجدت نفسي بين عاملين قويين متعاكسين: عامل الأدب العرفي الذي يعلو حتّى يصل إلى الغلو والاغراق، وينزل حتّى ينتهي إلى الإسفاف والعامية، وعامل الحقيقة الواقعة الذي هو دائمًا ميزان اعتدال.
تواضع الناس على أن مدْحَ المرء لنفسه ذمّ، وتندر العرب في ذلك بالكلمة الساخرة: مادِحُ نفسه يُقرئك السلام، وتواضعوا على أن إطراء المرء لولده ذمّ، فإن لم يكن ذمًّا فهجنة، وإن اعتذر عن ذلك بعض الناس الخارجين عن القياس بأن هذا من مقتضيات الفطرة، فهو تنفس بشيء من معاني العواطف التي تنطوي عليها كلّ نفْس، والفطريات الوجدانية لا تخضع لهذه القوانين التي يسنها المجتمع، ومن كلمات العرب السائرة في هذا الباب: المرء مفتون بابنه، وزاد البحتري: وبشعره، وهو صادق: فإن فتنة الشاعر بشعره أعظم من افتتان الوالد بولده.
وأنا أرى أنه ما أكّد هذا القانون العرفي في نفوس الناس إلا غلوّهم في الإطراء، ومبالغتهم في المدح والثناء، حتّى لا يكون المدح عندهم مدحًا إلا هكذا، ولا يكون أدب المواجهة أدبًا إلّا إذا كان من هذه الآداب الزائفة المنافقة التي أصبحت مادّة لحياة الناس لا يتعارفون إلّا بها ولا يتعايشون إلّا عليها ولا يديرون ألسنتهم إلّا بها، من تحية الصباح إلى أن يخيط النوم أجفانهم، وأصبحت عمارة المجالس وبضاعة الأندية وقاعدة السلوك، يعدّون الخارج عنها خارجًا عنهم، ولو أنهم سلكوا القصد والتزموا الحق ووزنوا كلامهم بميزان
__________
* كلمة أُلقيت في الحفل الذي أُقيم في فندق "سميراميس" بالقاهرة تكريمًا للأستاذ الفضيل الورتلاني، في شهر نوفمبر 1952.(4/147)
الصدق لسقط تسعة أعشار هذه اللغة الرائجة في المقابلات والتحايا والتمادح، ولسقط مثلها من قاموس التواضع الزائف مثل العبد الضعيف، العاجز، الفاني.
فإذا لم نُئغِ هذا العامل فالأستاذ الفضيل الورتلاني الذي يحتفي به إخوانه وعارفو فضله من أهل العلم والأدب والوجاهة والقلم واللسان- هو ولدي روحيًا وتلميذي فكريًا، وهو ثمرة طيبة من بواكير الحركة الإصلاحية العلمية التي أنا أحد المحركين لها والغارسين لبذورها، زكاه الله صبيًا ويافعًا وشابًا وآتاه من المواهب في الصغر ما شارك به أساتذته في وضع الأساس لهذه الحركة المباركة، بحيث لم يزيدوا عليه فيها- وأنا أحدهم- إلّا بالسنّ، فإذا أطريته الليلة تمشيًا مع أدب التكريم أكون قد مدحت نفسي وانحرفت عن الأدب العرفي.
لكلٍّ من الإخوان الحاضرين علاقة بالأستاذ الفضيل هي التي حركته لحضور الحفلة، وهي التي تُملي عليه إذا تكلّم فيها معلنًا أو ناجَى مخافتًا، ولكن علاقتي به تزيد على ذلك كله: هي علاقة الوالد بالولد، وهو لِوَفائه وانصافه يفخر بها، وأنا به أشد فخرًا وأكثر مباهاة وأكثر اعتزازًا.
ونحن- بفضل الله وتوفيقه- قد بنينا حركتنا من أوّل يوم على قواعد، منها القصد في الآداب المرعية بين التلاميذ وشيوخهم، لأن القصد أقرب إلى الصدق حتّى كأنه مقلوبه كما يقول علماء البديع، ومنها تفصيل الاحترام الظاهري على مقدار ما تكنّه النفس من معانيه وأسبابه، ومنها تنزيل الاحترام والتقدير على الأعمال لا على المرتبة ولا على السنّ، ومنها تسمية الأشياء بأسمائها من غير محاباة ولا إجحاف، ومنها اعتبار الوقت رأس مال فهو أجلّ من أن ينفق إلّا في المفيد.
...
أما العامل الثاني وهو عامل الحقيقة والواقع فهو المقدم عندي وعند جميع العقلاء في الاعتبار، ولذلك فأنا أقتحم الموضوع من غير استئذان للأدب العرفي ولا توقف عليه، وأقول في ولدي وتلميذي وخالصتي الأستاذ الفضيل الورتلاني ما يقوله الوالد العاقل الحساس في ولده البرّ، وما يقوله الشريك الأمين في شريكه الأمين، وما يقوله الزميل الشريف في زميله الشريف، وأقول فيه في المشهد ما أقوله في المغيب، ولا أقول- إن شاء الله- إلّا حقًا.
أقول: إنه رجل أي رجل، أو إنه الرجل كل الرجل، بالمعنى الذي تعرفه العرب من هذين التركيبين القصيرين الجاريين مجرى لغة البرقيات في زمننا، تجمع ضيق اللفظ واتساع الدلالة، ولعلّ من الإحسان إلى الإخوان الذين عرفوا الورتلاني في الشرق وهو في أواخر(4/148)
شبيبته وأوائل كهولته- أن أعرّفهم بشيء من نشأته، فإن ملكات القوة إنما تثبت إذا كان وضعها صحيحًا وعلى أصل صحيح، وإن العئم بهذا شيء أنفردُ به دون الإخوان، فمن الجوامع بيني وبين الورتلاني قرب البلدين وقرب الميلادين، بين ميلادي وميلاده في الزمان بضع عشرة سنة، وبين مولدي ومولده في المكان مسافة لا تزيد على ثمانين ميلًا.
وأقول إنه رجل تضافر على تكوينه قوة الاستعداد للخير، وحسن الإعداد له، أما الاستعداد للخير فهو من أثر يد الله في عبده إذا أراد به خيرًا، وقد خلق الرجل مستعدًا للعظائم، مهيّأً لمعالي الأمور، مرشحًا للقيادة، يَلمح فيه المتفرس- وهو صغير- ملامح البطولة، ومخايل الاعتداد بالنفس والاعتزاز بالذاتية، والذكاء الذي يكاد يحتدم في جوانب صاحبه، ويرى فيه المتوسّم- وهو شاب طرير- جرأة على المكاره يصحبها رأي عاقل وعزم صادق، وجرأة على الطغيان والظلم يصحبها قول مسدّد وعمل دائم، وحركة غير معتادة في لداته من الشبان، وطموحًا نزّاعًا إلى العُلى، وعزّة نفس متسامية إلى الكمال، وثورة على الذين يصفون للأمّة الجزائرية سعادة الآخرة ولا يسلكون بها سبيلها، وعلى الذين يصفون لها سعادة الدنيا ويسلكون بها غير سبيلها.
وأما الإعداد فيبدأ من البيت الذي فيه وُلد، والقرية التي فيها درج، والمحيط الذي فتح فيه عينيه، والمضطرب الذي اضطرب فيه طفلًا وشارخًا، والنشأة التي عليها نشأ.
نشأ الأستاذ الفضيل في بيت يجمع حاشيتي النسب والحسب، والخلق الموروث والمكتسب، ويتصل سند العلم فيه إلى أجداد، نبغ منهم في القرون الثلاثة الأخيرة آحاد، ويمتاز هذا البيت بالتدين المتين والروحانية المتألقة والتربية الربانية والاتّصال القويّ بالله والتقلّب في مراضيه، والجري على الفطرة السليمة التي لم يمسسها زيغ، والاستقامة الشرعية التي لم يلابسها عوج، يحوط كلَّ ذلك علم متسع الجوانب بالنسبة إلى زمانها ومكانها.
ثم درج أول ما درج في قرية تحيط بها قرى، تحيط بهنَّ مجاميع من القرى لم يطرقها دخيل منذ دخل الإسلام، وكلّها متساندة على حماية الدين والعرض والخلق والمال في نظام ذي نزعة جمهورية يقوم بتنفيذه في كل قرية جماعة منتخبون من أهل الفضل والعقل والعدل، ويسمونهم العقلاء أو الأمناء، ولهم في كل قرية دار الأمناء يجتمعون فيها كل يوم ثلاثاء لدرء المفاسد وجلب المصالح، فلا يلمُّ بالقرية شرّ، ولا تنجم فيها بدعة، ولا يقع اعتداء من شخص على شخص، ولا تشم رائحة مما يمسّ عرض الغائب أو الحاضر، إلّا بادروا ذلك بالصلح أو بالحسم أو بالعقاب، ولهم في ذلك أحكام نافذة السلطان تقوم بالمصلحة ولا تجافي أحكام الدين ولا تدع المجال لِتَدَخُّل الحكومة الاستعمارية وأعوانها،(4/149)
وان سبعين في المائة من قضاياهم لا تسمع بها الحكومة، وقد أدركتُ وأدرك الأستاذ بقية من شيوخ تلك القرى عاشوا الثمانين والتسعين من أعمارهم ولم تَرَ أعينهم فرنسيًا واحدًا في ذلك العمر المديد، ويعاون هؤلاء الأمناء على تربية الجمهور أن في كل قرية جامعًا للجمعة ومساجد للخمس وخطباء من أنفسهم يختارونهم بأنفسهم، وفي كل مسجد حلقًا لتحفيظ القرآن وأخرى لدروس الدين والعربية، لا سلطان للحكومة على هذه المساجد ولا على هذا التعليم المسجدي في هذه القرى دون سائر القطر الجزائري: فإن الحكومة الفرنسية استولت على جميع مساجده وأوقافه واحتكرت لنفسها التصرف في أئمته وخطبائه، وان هذا لموضوع طويل جاهدت جمعية العلماء في ميدانه عشرين سنة وما زالت تجاهد.
في هذه القرى السالمة يتزوّج الرجل الصالح بالمرأة الصالحة فيلدان الولد الأصلح، وإذا كان الطفل يتقلّب بين أحضان الصالحين وحجور الصالحات، ويرجع من أخدان صباه وعشراء داره وزملاء ملاعبه إلى طفولة طاهرة راشدة تحرسُها أعين المجتمع كله، فأخلق به أن يكون مثالًا للإنسان الكامل.
ثم فتح الأستاذ عينيه أول ما فتح على شماريخ الأطلس الأصغر وقممها الشمّاء، وشناخيبها المتناوحة وغاباتها الطبيعية التي تكسو سطوحها، وغابات الشجرتين المباركتين- التين والزيتون- التي تجلل سفوحها، وعلى الوديان العميقة التي تخترقها هدارة السيول، وعلى مناظر الثلوج التي تكسو تلك القمم ثلث السنة، فاكتسب من كل ذلك هدوء التأمل، ومتانة الفكر، وصلابة العقيدة، وركانة العقل، وثبات الصبغة، ووعورة الجدّ حتّى لا محلّ معه لهزل ولا لهزال، وإنّ التوعّر لَألزم الخلال للرجل، لا سيّما في هذا العصر الهازل المتخنث.
...
ثم انتقل من ذلك المحيط بعد أن أتقن القرآن الكريم حفظًا، وألمّ بمبادئ العلوم إلى مدينة قسنطينة، وهدتْه بصيرته النيّرة وقريحته العطشى إلى الاتصال بباني النهضة الجزائرية بجميع فروعها ومربّي الأجيال الحديثة فيها على هدي القرآن وخُلُق محمد عليه السلام، أخطب علماء الإسلام في عصرنا وأقواهم بيانًا لمحاسن الإسلام المرحوم الشيخ عبد الحميد ابن باديس، سليل تلك الأسرة التي خلفت الفاطميين على مملكة افريقية، وللمرحوم طريقة غريبة في وصل تلامذته بالله وتفقيههم في حقائق سُنَنه في الأنفس والآفاق، وله قدرة عجيبة في استلال النقائص من نفوسهم، وفي ترويضهم على الكمالات النفسية واللسانية والبدنية، وفي إعدادهم لمراتب الرجولة التي لا تخضع إلّا لله، وفي تعويدهم على أساليب الدعاية وتزويدهم بدلائل الحق.(4/150)
وجد التلميذ أجنيته في الشيخ ووجد الشيخ بغيته في التلميذ، فقطع به مراتب التربية والتعليم في سنوات، وحضر عليه معظم دروس التفسير، وقد ختم الشيخ القرآن الكريم كله تفسيرًا في خمس وعشرين سنة، ولم يختمه- فيما نعلم- في مغاربنا الثلاثة إلّا أبو عبد الله الشريف التلمساني، في أوائل المائة الثامنة.
غبر الأستاذ الورتلاني في وجوه السابقين فأصبح مساعدًا لأستاذه في إلقاء الدروس للتلامذة وكانوا يجاوزون ثلاثمائة طالب هم عماد الحركة اليوم، وفي تلك المدّة كان يقضي الصيف جوّالًا صوالًا في القطر، واعظًا مذكرًا، مثيرًا للهمم الراكدة.
وله في الجزائر اليوم تلامذة وزملاء ما زالوا يحملون الذكريات العاطرة لعهده (1).
...
__________
1) لم نعثر على بقية الكلمة.(4/151)
الأستاذ سيد قطب *
تمتزج فكرة الوطن الإسلامي الأكبر بنفس الأستاذ سيد قطب امتزاج الروح بالجسد، والعقيدة بالعقل، فهو حفظه الله لم يفتأ يدعو المسلمين في الشرق والغرب بكتاباته الضافية إلى السير على ضوء هذه الفكرة في حركاتهم التحريرية وكفاحهم العام، والاعتصام بأخوتهم الإسلامية التي هي المهيع الأمين لتحقيق أمانيهم وآمالهم في الحياة، كمسلمين لهم من تعاليم دينهم ومجد تاريخهم كل ما يهديهم سواء السبيل، إذا غشيتهم الظلمات وألمت بساحتهم خطوب وملمّات.
وقد وجد الأستاذ في صحيفة «البصائر» التي هي اللسان المعبّر عن كفاح الجزائر في سبيل المحافظة على إسلامها وعروبتها وربط نهضتها بالعالَم الإسلامي صدى دعوته الصارخة، فأحبّها وبادر بإرسال هذه الكلمة البليغة الجامعة إليها، وهي إذْ تحلي صدرها بها إنّما تنشر صفحة من جهاد أحد العلماء العاملين من أعلام هذه النهضة التي لن تقف دون أن تصل بالإسلام والمسلمين إلى أهدافهم السامية في طريق كفاحهم من أجل الوحدة والحرية والاستقلال.
__________
* «البصائر» العدد 214، السنة الخامسة، 23 جانفي 1953 (بدون إمضاء): وهي الكلمة التي قدّم بها مقال الأستاذ سيد قطب الذي خصّ به «البصائر» تحت عنوان "كفاح الجزائر" وهو الأوّل من سلسلة مقالات كتبها الأستاذ سيد قطب خصيصًا لـ «البصائر».(4/152)
اِغتيال الزعيم التونسي فرحات حشّاد *
برقيات
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - إلى "الاتحاد العام التونسي للشغل"، تونس
إن الجريمة الفظيعة، جريمة اغتيال رئيسكم العظيم المرحوم فرحات حشّاد، قد تركتْ في أنفسنا ألمًا شديدًا، ونحن نقاسمكم آمالكم وآلامكم، وقضيّتكم قضيتنا، وتقبّلوا باسم الشعب الجزائري أحرّ التعازي.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين
2 - إلى جلالة باي تونس، تونس
إننا نستنكر تلك الجريمة الشنعاء، جريمة اغتيال المرحوم الزعيم فرحات حشّاد، ونعبّر لكم وللشعب التونسي الحرّ عن أحرّ تعازينا.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين
3 - إلى الأستاذين صالح بن يوسف ومحمد بدرة، نيويورك
إننا نقاسمكم الألم والحزن العظيمين اللذين ألمّا بتونس الشقيقة على إثر اغتيال المرحوم فرحات حشّاد ضحيّة القضية الوطنية، والله معكم في كفاحكم من أجل الحرية والكرامة الإنسانية.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين
__________
* أرسلت هذه البرقيات من القاهرة، على إثر اغتيال الزعيم فرحات حشّاد، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، على يد عصابة "اليد الحمراء" الفرنسية، وكان ذلك يوم 5 ديسمبر 1952.(4/153)
4 - إلى السيد الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، نيويورك
إن الشعب الجزائري مهتمّ كل الاهتمام بخطورة الوضع بتونس، وهو يستنكر اغتيال الزعيم النقابي المرحوم فرحات حشّاد، ويطالب الأمم المتحدة أن تجعل حدًا للأعمال الوحشية التي يرتكبها المستعمرون الفرنسيون، والتي تهدّد السلام والأمن في العالَم.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين
5 - إلى السيد فوستر دالّلس وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية- واشنطن
أمام الحوادث الدامية التي تعيشها تونس الشقيقة، وأمام الاغتيال الفظيع الذي ذهب ضحيته الزعيم النقافي المرحوم فرحات حشّاد، تلك الجريمة التي ارتكبها المستعمرون الفرنسيون، نلفت أنظار حكومة أمريكا البلد الحرّ إلى خطورة الوضع في تونس، ونؤكّد لها باسم الشعب الجزائري أن الحالة الراهنة تهدّد السلام والأمن في العالم.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين
6 - إلى اتحاد نقابات العمّال الأمريكي- نيويورك
إن تونس العاملة فقدت إبنًا من أبرّ أبنائها من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، ألا وهو الزعيم النقابي فرحات حشّاد الذي اغتالته أيادي المستعمرين الفرنسيين، ونحن باسم الشعب الجزائري نناشد تضامن عمال أمريكا البلد الحرّ، وأن يلفتوا نظر حكومتهم إلى خطورة الوضع الراهن بتونس ونتائجه التي تهدّد السلام والأمن في العالم.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين(4/154)
تحية الجزائر *
للإجتماع المنعقد يوم 8 ديسمبر بباريس
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أيها الإخوان المتلاقون على هَوَى الوطن الجامع وحبّه، العاملون على إعلاء شأنه وجمع أجزائه.
بلغتنا أخبار اجتماع أبناء الشرق العربي بأبناء المغرب العربي في دار، فعجِبنا حتى انتهى العجب إلى أقصاه، وطربنا حتى أخرجَنا الطرب عن طور الاعتدال، ثم رجعنا إلى الفال، نُزْجي به الآمال.
عجبنا لاجتماع الإخْوة بعد أن جعل الاستعمار بينهم رَدْمًا، وأوسع معالم الاتصال بين الشرقيّ والغربيّ منهم تحطيمًا وهَدْمًا، وضرب بينهما بسور ليس له باب، حتى نَسِيَ الواحد منهما أخاه أو كاد، وحتى تنكر له كأن لم تَكُ بينهما أشياءُ من نسب وتاريخ، ومواريثُ مقسومة من دين وأدب.
وطربنا لأن اجتماع الإخْوة بهذه الصورة الجميلة، ولهذا الغرض النبيل وهو التعارف- هو شيء كانت تمثِّلُه لنا الخواطر الطائرة، والتمنيات الخيالية، فتمتلئ نفوسنا سرورًا، وتَشِيعُ في جوانبنا البهجة والانشراح، ثم يتقضَّى ذلك كله في لمحة الطرف كأحلام النائم، وإذا بذلك الخيال الطارف يصبح حقيقة مجسّمة.
ثم رجعنا إلى الفال، نستفتح به أقفال الغيب، ونَسِمُ به أغفالَ المستقبل، ونقول: صَبيبُ المُزنِ أوّلُه قطرة، وعَصْفُ الريح مبدؤه نَسمة، وصادق الوحي أوّله رؤيا منام، وبعد تلك البدايات ينهمر الماء، أو تعصِفُ الأعاصير، أو يتواتر الوحي، فلا عجب إذا كان هذا الاجتماع فتحًا لباب، وعنوانًا لكتاب، ومقدمة لنتائج.
__________
* مسودة رسالة وُجدت في أوراق الإمام، ولكننا لم نهتدِ إلى طبيعة هذا الاجتماع.(4/155)
أيها الضيوف الأعزة، أيها المقتبلون الكرام:
يَعِزُّ عليّ- والله- أن أنادي منكم اثنين، وإنما أنتم واحد، ولكن غَلبتْ عليّ النزعة العربية في إجلال الضيف، وإكرام مثواه، ومضاحكته قبل إنزال رحله، واعتبارِه عالَمًا مستقلًّا في مدة الضيافة، فناديتُ الضيفَ وحدَه لآخذَ بحظّي من البرّ به. وناديتُ أبا المَثْوَى وحدَه لأساهمه في أداء واجب الضيافة ولو بالحديث، والحديث من القِرى في مذهب العرب، وها أناذا أعود فأخاطبكم بالوصف الجامع:
أيها الإخوة:
إن أضعف سلاح رمانا به الاستعمار جمعيًا هو هذا السلاح المادي من الحديد والنار، وأن أمضى سلاح قاتلنا به فقَتَلَنا لَهو التضريب بين صفوفنا حتى أصبح بعضنا لبعض عدوًّا، والتخريب لضمائرنا حتى أصبحتْ خيانة الدين والوطن بيننا مَحْمَدةً نتمادح بها، والتمزيق لجامعتنا حتى أصبحنا أممًا متنابذة، والتوهينُ لقوانا المعنوية حتى أصبحنا كالتماثيل الخشبية لا ترهب ولا تخيف، والاستئثارُ بقُوَّاتنا المادية حتى أصبحنا عالةً عليه، والتعقيمُ لعقولنا وأفكارنا حتى أصبحنا نتنازل عن عقلنا لعقله وإنْ كان مأفونًا، وعن فكرنا لفكره وإنْ كان مجنونًا، وتلقيحُ فضائلنا برذائله حتى انحطتْ فينا القِيَمُ الإنسانية وبُخِست موازين الفضيلة، وترويضُنا على المهانة حتى أصبحنا نهزأ بماضينا افتتانًا بحاضره، ونحتقر لسانَنا احترامًا للسانه.
هذا الاستعمار لعقولنا وأفكارنا هو أخطر أنواع الاستعمار علينا، وهو الذي مهّد للطامة الكبرى التي هي مأْرَب الاستعمار، وهي هذه الوطنيات الضيّقة المحدودة التي زّينها لنا وحبّبها إلينا، ولو كانت خيرًا لَسَبقَنا هو إليها في أممه وأوطانه، ولكنه يتكتَّلُ ليقْوَى في نفسه، ويفرّقُنا لنضعفَ زيادةً في قوّته.
أليس من العار أن يكون للعرب عشْر وطنيات؟ أليست هذه الوطنيات الضيّقة بمثابة تقسيم الخبزة الواحدة إلى لُقَم، ليسهلَ ازدِرادُها لقمةً لقمة؟ أما والله لو كان العرب أمّة واحدة لما ضاعت فلسطين، ولما حلّت بالأقطار العربية هذه النكبات المتوالية.
أيْ أبناء العمومة: إن الجزائر والشمال الأفريقي كله فَئذَة من كبد الإسلام، وقطعة من وطن العروبة الكبير، وبقيّة مما فتح عقبة والمهاجر وحسّان، وإن هذا الوطن هو أحد أجنحتكم التي تطيرون بها إلى العلا، وإنّه متصل بكم اتصال الكف بالساعد، تصلون إليه مشْيًا، ويصل إليكم حبْوًا، فَريشوا هذا الجناحَ المهيض حتى تقوى قوادمه، وصونوا حماه فإنه حماكم، وذودوا عن عِرضه فإنه عرضكم.
إن هذا الوطن امتداد لوطنكم الأكبر، وإنه يحمل أمانة الأجداد التي تحملونها، فأعينوه على التحرير، وأنقِذوه من سوء المصير.(4/156)
إن في هذا الشمال بأقطاره الثلاثة كنوزًا من تراث العربية والإسلام، طمرها الاستعمار برذائله عمدًا، وطمس محاسنها بحضارته قصدًا، فأعينونا بقوة نستخرج هذه الكنوز بإحياء الأخلاق والآداب والتاريخ، لا لخيرنا بل لخير الإنسانية.
أيْ أبناء العمومة: إن بيننا وبينكم صلاتٍ من اللغة والدين، وأرحامًا مرعيّة من الجنس والخصائص، فقوّوا هذه الصلات، وصلوا هذه الأرحام، يكنْ بعضنا لبعض قوة.
إنكم لنا أئمة في الخير، وإنّا بكم مؤتمّون في الحق، فحققوا شروط الإمامة، وطالبونا بتحقيق شروط الاقتداء، وئنُقِمِ الصفوف، في معترك الحتوف ... وإلّا هلك الإمام والمأموم.
أما والله لن نُفلِت من مخالب الاستعمار فرادى، ولن نُفلت منه إلّا يوم نصبح أمّة واحدة تلقى عدوّها برأي واحد، وقائد واحد، وقلب واحد، فإن لم نفعل فلا نَلُمِ الاستعمار، وئنَلُم أنفسنا.
أيْ أبناء العمومة: ليتني كنت معكم، فأحييكم من قريب، تحية الأخوين، فرَّقتْ بينهما الأقدار، ثم جمعتهما الدار، وأسمعكم من الجزائر الحزينة نجواها، وأبثّكم شكواها، بلسانها الحر الأصيل المعرب، وبيانها العذب الشجيّ المطرب، ولكن الأقدار الغالبة عاقت عن الاتصال بكم، والجدّ العاثر حرمني من التشرّف بلقائكم في هذا اليوم الأغرّ، فها هي ذي تحيات العروبة الكامنة في الجزائر كُمونَ النار في الحجر- توافيكم من وراء البحر، وتتنفّس في ناديكم بمسك دارين وعنبر الشحر، فحيّاكم الله وأحياكم، وأبقاكم للعروبة تصلون أسبابها، وتعيدون عليها نضرتها وشبابها، وللإسلام ترفعون أعلامه وتدفعون ظلّامه، وللشرق تؤدّون فرضَه، وتردون قرضه، وتصونون عرضه، وتطهرون سماءه وتحفظون أرضه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم
محمد البشير الإبراهيمي(4/157)
منزلة الأدب في الحياة *
هدرت شقاشق أبنائي أدباء الجزائر العزيزة ثم قرّت، في موضوع لم أستطع أن أسمّيه أدبًا، إنما أسمّيه تلاومًا على الركود والسكون الذي عمّ الجزائر كلها في السنة الماضية باستثنأء حركة التعليم التي يقوم بها المعلمون حيّاهم الله عني، وحركة التنظيم التي تقوم بها لجنة التعليم العليا جزاها الله عني خيرًا، ومن ورائها المكتب الدائم لجمعية العلماء بارك الله فيه.
شغل الأدباء وقتًا طويلًا وملأوا صحائف من «البصائر» في ذلك التلاوم، أو في جذب وشدّ بين العتاب والعذر، وكنتُ أقرأ وأتتبعّ وأقول: هي حركةٌ أقلّ صفاتها أنها خير من الركود، وانتظر حتّى تجف الشعاب وتفرغ الجعاب، ولا أقول إني لم أشأ أن أكدر صفوهم، بل أقول إنّي لم أشأ أن أصفّي كدرهم، لأن تنازع الحبل صيّر الموضوع قضية تحتاج إلى حكم، وأنا ذلك الحكَم، ولا آتّهم أبنائي بأن يبلغ بهم العقوق إلى أن لا يرتضوا حكومتي، أو يهتبلون غيبتي، فينفضون عيبتي، ويلعنون شيبتي: أعتقد أنني أكرم عليهم من ذلك.
كان أبناؤنا الأدباء فريقين: فريقًا لوامين، وفريقًا معتذرين، واللوّامون يبنون أمرهم على أن الأدباء في الجزائر ساكتون لا ينطقون وخاملون لا يُنتجون، وكان الأوجه الأشبه أن يلاموا على أنهم ناقصون لا يُكمِلون وكسالى لا يقرأون، وقانعون لا يدرسون، وأن خير ما زيّن به امرؤ نفسه الإنصاف، وأن من الإنصاف أن نقول إن الأدب عندنا في الجزائر لم يكمل ولم يزل بينه وبين الكمال مراحل، والذي عندنا إنما هو استعداد للأدب ولكنه بدون أدوات، فهو يعتمد على المواهب التي وزّعها الله على عباده وجعل حظوظهم منها متفاوتة،
__________
* مسودة مقال بدأه الإمام المرحوم ولم يتممه، مساهمة في النقاش الطويل العريض الذي ملأ صفحات «البصائر» من نوفمبر 1952 إلى الأشهر الأول من سنة 1953 حول الأدب الجزائري وقضاياه، لذا نعتقد أن هذه المسودة كتبت في بداية سنة 53.(4/158)
فَمَن آتاه الله من أبنائنا حظًا من الموهبة وقف عندها وأخذ يعصر المواهب عصرًا، فتبض له بشيء وتشحّ بأشياء، لأنه لم يرفدها بالأمداد التي تفتقر إليها، والمواد التي تتغذّى منها من المحفوظ والمقروء المهضوم والمدروس المفهوم، فالملكات الأدبية لا تكفي فيها القريحة والطبع حتّى تمدّها الصنعة بأمدادها، وأوّلها متن اللغة غير مأخوذ من القواميس اللغوية لأنها لا تنتهي بصاحبها إلى ملكات لغوية ولا أدبية، وإنما يجب على من أراد أن يربّي ملكته على أساس متين أن يأخذ اللغة من منثور العرب ومنظومهم، فيستفيد بذلك فائدتين: الأولى الكلمة ومعناها، والثانية وضعها في التركيب وموقعها منه وموقعه من النفوس، وحسن التركيب هو سر العربية، ويسمّيه علماء البلاغة حسن التأليف، ومن كلماتهم التي سارت مسير الأمثال قولهم: ولكل كلمة مع صاحبتها مقام.
أما أخذ الألفاظ متناثرة من كتاب لغة كالقاموس المحيط ثم وضعها في تركيب كيفما اتفق، فإنه عمل بعيد عن التوفيق مجانب للصواب لأن صاحب القاموس لم يُرد أن يُكوّن بكتابه أديبًا، وإنما أراد أن يخلق مدرّسًا، وقد ذكر كلمة في خطبته دلّت على مقصوده كلّه، فهو يقول في كتاب الصحاح: ولما رأيتُ اقتصار الناس عليه بخصوصه، واعتماد المدرّسين على ألفاظه ونصوصه ... الخ، فهو إنما يريد كتابًا يعتمد عليه المدرّسون بدلًا من صحاح الجوهري، وهو يريد بالمدرّسين مدرّس القواعد العلمية في زمنه الذي هو زمن انحطاط الأدب ونزوله إلى الدرك الأسفل وفساد مقاييسه حتّى يصبح ابن حجر حافظ السنّة وأفقه فقهائها في عصره شاعرًا، وما هو بشاعر.
وإذا ذكرنا قاموس الفيروزابادي فما كلّ القواميس مثله: فلسان العرب كتاب يعلّم اللغة، وكتاب المقاييس لابن فارس كتاب لغة يعلّم الأدب، وكتاب المخصّص لابن سيده كتاب لغة وأدب معًا، أمّا اللغة الحقيقية فهي أشعار العرب وأحاديثهم وخطبهم ومحاوراتهم، وأما كتب الأدب المحض فهي كتب الجاحظ والمبرد وابن قتيبة وكتب المحاضرات من مثل عيون الأخبار ومحاضرات الأدباء والعقد الفريد ولباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ وكتب النقد ككتابي قدامة بن جعفر على صغر حجمهما والصناعتين للعسكري والعمدة لابن رشيق حتّى تنتهي إلى المحيط الهادي: الأغاني وما أدراك ما الأغاني.
محالٌ أن تكمل ملكة في الأدب لِمَن لم يقرأ هذه الكتب كلّها قراءة تأنّ ودرس، ويحفظ لكل شاعر مجل جاهلي أو إسلامي أشرف شعره وأجزله، ثمّ يأتي كمال الأدب وهو أن يعرف طبقات الشعراء وموازينهم وخصائصهم، وأن يعرف من السير والأخبار ما يحلي به أدبه نظمًا أو نثرًا، فإن الأدب بدون هذه النكت كالطعام بلا ملح، وما سمعتُ قطعة من الشعر لأديب ولا قرأتُ له قطعة نثرية إلّا عرفتُ منها ما قرأ من الكتب، ولقد وعكتُ مرّة فأرسل إليّ أديب يُسليني بقطعة من الشعر، منها:(4/159)
أيها الحاكي أبا شبرمه … إذ رماه الدهر بالضر ورامه
ليتني جئت كيحيى عايدًا … ناذرًا عتق غلام وغلامه
والحكاية متكررة في كتب المحاضرات، فلقيته بعد زوال الوعكة وسألته عن غفلة: هل استوعبتَ قراءة عيون الأخبار؟ فأجاب نعم، والعقد الفريد؟ وكذا وكذا الكتب سماهنّ من كتب الأغذية العقلية، وهو صادق، فإنّ آثار القراءة العميقة بادية على شعره كما تبدو آثار الأغذية الصالحة على الجسم فراهةً وقوة وحيوية.
أبناءنا الأدباء فقراء في هذه الناحية التي لا يكون الأديب أديبًا إلّا إذا ألمّ بها إلمام المتدبّر، لا المتحيّر المتغيّر، فهم لا يقرأون وإذا قرأوا فقمش من ههنا وههنا.
وكلّ ما يستعمله الشعراء والكتّاب اليوم كلمات متداولة محدودة، لا تجاوز مجموعها خمسة عشر ألف كلمة، وهي بضاعة السودق، فإذا كانت كافيةً للاستهلاك اليومي الضروري، على لغة الاقتصاديين، فإنها لا تكفي للمطالب الكمالية والتحسينية في الأدب، والمواضيع تتجدّد، والمعاني تتوارد وتتشابه ثم تتمازج ثم تتمايز، فمن الواجب أن ننحت من هذا المعدن القديم كل يوم جوهرة ونصقلها.
لا أرى حالة من الركود، ولو كانت ركودًا لقلنا عسى أن تهبّ الريح، ولكنها قناعة بالموجود، وهذا هو الخطر.
ومن قرأ كتب الدنيا ولم يظهر لها في شعره ولا في كتابته أثر، فكأنه لم يقرأ شيئًا.
... ...(4/160)
مذكرة إيضاحية *
(للمذكرات التي قدّمتها لوزارة المعارف المصرية ولمشيخة الأزهر الشريف وللأمانة العامة لجامعة الدول العربية في يناير الماضي 1953)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رفعت في الشهر المذكور مذكّرات لوزارة المعارف المصرية ولمشيخة الأزهر الشريف وللأمانة العامة لجامعة الدول العربية عرضت فيها أعمال جمعية العلماء الجزائريين إجمالًا، وما تمّ على يدها في داخل القطر وفي خارجه، ومنها توجيهها بعثات من تلامذتها إلى الشرق العربي ليدرسوا في معاهده على نفقة حكوماته، وفتحها لمكتب في القاهرة ليشرف على هذه البعثات وليحقق الغاية من إرسالها، وهي اكتساب التربية الصالحة وتحصيل العلم النافع، ثم الرجوع إلى الجزائر لحمل الأمانة التي اضطلعت بها جمعية العلماء.
وقد استعرضت- بعد تقديم تلك المذكرة- جميع الاتصالات التي تمّت بيني وبين المسؤولين في الحكومات العربية في شأن جمعية العلماء والتعريف بها، وشرح أعمالها التي كانت نتيجتها تثبيت عروبة الجزائر وتصحيح إسلامها. واستعرضت الاتصالات التي تمت بيني وبين الهيئات وقادة الرأي في هذا الشرق العربي، مقرّرًا لهم وللحكومات لزوم إمداد هذه الجمعية بالعون المادي والمعنوي لأنها في الحقيقة عاملة لهم، مجاهدة في سبيلهم، محافظة لهم على رأس مال عظيم، ومؤتمنة على ذخيرة من ذخائرهم وهي العروبة والإسلام. فلولا هذه الجمعية لضاع على العرب نصف عددهم، وهو ثلاثون مليونًا هم سكّان المغرب العربي، وجرفهم تيّار الاستغراب والبربرة، ولولا هذه الجمعية لضاع على المسلمين هذا العدد من الملايين.
استعرضت كل ذلك التعريف بالجمعية، وذلك الشرح لأعمالها وآمالها وتحسّست وقعه في نفوس الإخوان الذين حادثتهم، فرأيت أنني مهما عرّفت بهذه الجمعية وشرحت من
__________
* مذكرة مطبوعة، وزّعت على الهيئات المذكورة أعلاه وعلى أجهزة الإعلام.(4/161)
أعمالها، ومهما صوّرت من حال الأمّة الجزائرية وتطلعها إلى الشرق العربي ليعرف حقيقتها ثم يأخذ بيدها- مهما فعلت من ذلك- فإن تعريفي لم يزل قاصرًا لا يوصل إلى إخواننا في الشرق الصورة الحقيقية لهذه الجمعية ولهذا الوطن. وخشيت أن يتصوّر إخواننا جمعية العلماء الجزائريين على قياس الجمعيات والأحزاب المتشابهة في المشرق والمغرب ... أشخاص ودوران حول أشخاص، وشخصيات وسعي وراء الشخصيات، وهدم من دون بناء، وأقوال مردّدة، ومقدمات من دون نتائج، ودعاوٍ لا دليل عليها، وغايات تطلب من غير إعداد لوسائلها.
فدفعًا لهذا التقصير عن نفسي، ولهذا الوهم الذي ربّما ساور بعض الأذهان فلبس عليها شيئًا كله حق بشيء بعضه باطل، ثنيت (بهذه المذكرة الإيضاحية)، أصوّر فيها جمعية العلماء الجزائريين تفصيلًا، والجزائر وأحوالها إجمالًا، حتى أؤدّي الأمانة كاملة، واستبرئ لله وللحقيقة والتاريخ، وأنا أحرص الناس على أن يبنى تاريخ الجزائر الحديث بأحجاره الأصيلة، ويؤلف من مواده الصميمة لا الدخيلة، وأنا وافد إخوان إلى إخوانهم، فمن حق الفريقين عليّ أن أعرف بعضهم إلى بعضهم حتى يكون غائبهم كالشاهد.
____
الشعب الجزائري
____
الشعب الجزائري فرع من فروع الدوحة العربية الموروثة، لم ينسَ أبوّته، ولم يتنكّر لنسبه على وفرة قواطع الأرحام، ولم يبت صلته بسلائله الأولى المتحدّرة من قحطان وعدنان، ولم تنحرف الضاد عن مجراها في لسانه على كثرة أسباب الاستعجام.
وهو- مع ذلك- عضو في الأسرة الإسلامية الكبرى لم يبتغ بدينه بديلًا منذ هداه الله إليه، ولم تختلف به المذاهب فيه، فَقَلَّتْ بينه أسباب الخلاف والعصبية، ومن سدّ الله عليه بابًا من أبواب الخلاف، فقد فتح له بابًا من أبواب الوفاق.
وقد جرى هذا الشعب من أجياله الأولى على خير ما في العروبة من خلال وعلى أمهات الفضائل الإسلامية، وحافظ عليها محافظة الوارث الصالح على التراث، إن لم يزد فيه لم ينقصه، وامتاز هذا الشعب بخصائص إنسانية، حظ غيره منها قليل، منها الصلابة في الحق، والكرم والصدق والصبر على الشجاعة والجد، والحفاظ للعرض والدين والكرامة، ومنها الاعتزاز بالعروبة والإسلام والشرف، حتى أنه يرضى- عند الضرورة- بإضاعة كل شيء إلا(4/162)
هذه الثلاثة، وقد حلّ به من كوارث في تاريخه الطويل ما ينسي المرء دينه ونسبه وموطنه، ولكن عقيدته في هذه الثلاثة لم تتزلزل، وأصيب منذ مائة واثنتين وعشرين سنة بالاحتلال الفرنسي، وهو في شتات من أمره، واضطراب في أحواله، لعوامل سبقت ذلك الاحتلال وكانت تمهيدًا له، فدافع عن كرامته وكرامة دينه ووطنه كما يدافع العربي الخالص والمسلم المخلص، ووقف المواقف الخالدة عشرات السنين في حماية حقيقته والذود عن حماه، مع فقد الأنصار وانقطاع الوسائل، فلما غلب على أمره خسر الدنيا وما يتبعها من مال وسلطان، ولم يخسر الدين وما معه من رجاء الله يطرد اليأس، ويحفظ الصبر، ويستنزل النصر ويبقي على الأمل، ويغري بمعاودة الكرة، ولكن عدوّه كان أنفذ بصيرة في مكامن القوة، فعلم أن سلاح المسلم هو دينه ويقينه، ثم علمه وماله، فسلّط على دينه عوامل المحو الظاهرة والخفية، ورمى يقينه بأسباب الشك الحسية والمعنوية، وحارب علمه بالتجهيل ومحق حاله بالتفقير، وضرب بينه وبين مأرزه في الشرق سورًا محكمًا، فما أفاق على صوت الدعوة الجهير من جمعية العلماء- وهو أول صوت صك آذانه وفتح أذهانه- إلا وهو فقير من دينه ودنياه، جاهل بدينه ودنياه، مفلس من عقله وفكره، مسلوب من عزيمته وإرادته، ولكن بقي فيه مكمن لم تمتدّ إليه يد الاستعمار وهو مكمن الإيمان بالله وبالنفس، والعلاقة باللغة وبالجنس، وفي هذه المعاني عوض عن كل فائت وسلوى عن كل ضائع، وعلى هذه المعاني وضعت جمعية العلماء أساس أعمالها ومن هذه النقطة بدأت السير إلى غاياتها.
____
جمعية العلماء
____
ليس بمبالغ من يقول: إن جمعية العلماء الجزائريين هي أعظم جمعية من نوعها في العالم الإسلامي، على شرط أن يكون ميزان المقارنة هو العمل ومادته ونتيجته، والزمان والمكان وملابساتهما، ثم الموضوع ... فإذا اعتبرنا هذه المعاني في المقارنة وجدنا جمعية العلماء الجزائريين تبذ جميع الجمعيات العاملة في الإصلاح الديني والاجتماعي، والدين يستتبع العلم، والاجتماع يستتبع السياسة، وقد وضعت الجمعية الخطوط الأولى لهذه العصور المتشابكة المتلازمة من أول يوم ثم أتبعتها في الخطوات السديدة فيها جميعًا، على نظام لا ينقض آخره أوله.
وجمعية العلماء صاحبة رسالة مقرّرة ومبدأ ثابت وهدف واضح، ومن خصائصها أن تقول وتعمل وتهدم المتداعي لتبني على أساس صحيح، وتسعى إلى الغايات بوسائلها الطبيعية(4/163)
أو المعقولة، وتراعي سنّة الله في الأنفس والآفاق، وتجري مع أوليائها وخصومها على الجدد الواضح. فلا تسلك بُنَيَّات الطرق، ولا تتبع مضلات العقول ولا خيالات الخياليين، ولما كانت تأوي إلى الركن الشديد من الدين فهي لا تتكثر بغير المؤمنين ولا تعتمد على غير الصادقين المخلصين؛ ولما كان موضوعها الأمة بنت أمرها معها على الصدق والثقة، تعمل للأمة بصدق، وتعمل معها بثقة؛ ولما كان الاستعمار الفرنسي هو الذي قضى على دين الأمة الجزائرية ودنياها، فقد جاهرته بالعداوة وتتبعته في كل ميدان، وفضحت مكايده، وكشفت عن مخازيه، وتحدت قوانينه بالرفض.
والعلاقة بين الجمعية والأمة علاقة روحية، ولذلك فهي تزداد مع كل حادث قوة وتماسكًا، لأن أول الدين وآخره سواء، وزاد هذه العلاقة متانة وتوثقًا أن الجمعية تعمل للأمة في النهار الضاحي وتعاملها على المكشوف، وتبني لها قبل أن تطالبها بالثمن، وتشركها في العمل. فالأمة هي التي تأخذ وهي التي تعطي، ويد الأمة هي التي تقبض وهي التي تدفع، فإذا مرّ شيء من المال بيد الجمعية مرّ عليها وهو منطلق إلى مصلحة شاركت الأمة الرأي المقرر لها والوسيلة المحققة لوجودها.
ونثبت لإخواننا الشرقيين في هذا الموضع حقيقة تاريخية، وهي أن كل ما يوجد اليوم في الجزائر من حركات فهو مدين لجمعية العلماء بوجوده، وكل ما يعلو فيها من أصوات فهو صدى مردد للكلمات النارية التي كان يقذفها لسان مبين يترجم عن علم مكين ودين متين، وهو لسان المرحوم باني النهضات الجزائرية من غير منازع الإمام عبد الحميد بن باديس في دروسه الحية وخطبه المثيرة من يوم انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى أن توفّاه الله في أوائل الحرب العالمية الثانية.
نشأة هذه الجمعية:
أطوار نشأة هذه الجمعية كأطوار نشأة الإنسان، فقد كانت في أعقاب الحرب العالمية الأولى فكرة تجول في خواطر جماعة قليلة من أصحاب الشواعر الحية والتأمّل العميق من علماء الجزائر، ثم استقرّت في ذهنين متجاوبين، أحدهما ذهن جبّار وهو ذهن عبد الحميد ابن باديس، ثم تناولها الذهنان بالإشاعة حتى أصبحت عقيدة ثم تتابعت الدواعي من انتشار الوعي في الأمة فأصبحت حقيقة، وكأن المتلاحق من أحوال الأمة قال لها: كوني فكانت، وجلاها الله لميقاتها، بلا بطء ولا إسراع.
تكوّنت في شكلها القانوني في أواسط عام 1931 ميلادية، وكأن الله جعلها تنقيصًا للاستعمار، فقد كان نشوانًا بخمرة الفرح لمرور مائة سنة على استقراره في الجزائر وقد قضى(4/164)
السنة التي قبلها في مهرجانات صاخبة دعا إليها العالم كله فما لبّى إلا قليل، فما دخلت السنة الثانية حتى فوجى بتكوين جمعية العلماء في غمرة من ابتهاج الأمة بهذا المولود الجديد، ووجم لها الامشعمار وظنّ الظنون، ولأمر يعلمه الله لم يعارض في القانون الأساسي المجمل، ولم يتشدّد في الإجراءات القانونية، أما الإرهاصات التي أفضت إلى هذه المعجزة فقد سبقتها بأكثر من عشر سنوات، هي فترة استعداد بمقدّمات، وتمخّض عن حقائق واحضار للوسائل، وتجاوب بين العقول وتفشِّ للخير في السرائر، وتقويم للأخلاق بواسطة القرآن، وتوجيه صحيح للعناصر الصالحة التي بقيت محتفظة بشيء من سلامة الفكرة ليكونوا أساسًا للدعوة، وألسنة للدعاية.
تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر:
تتكوّن جمعية العلماء- كسائر الجمعيات- من مجلس إداري يتركّب من سبعة وعشرين عضوًا من العلماء، ينتخبهم اجتماع عام، من جميع العاملين في التعليم والتدرش! والوعظ، وشعقد هذا الاجتماع في مدينة الجزائر في شهر سبتمبر من كل سنة إلا لضرورة، ثم ينتخب المجلس الإداري من أعضائه مكتبًا دائمًا، يتوثى تسيير الأعمال، وتنفيذ القرارات، وشقسم بقية الأعضاء على لجان فرعية مسؤولة للمكتب الدائم وتتخصّص كل لجنة بفرع من فروع الأعمال، وهي لجنة التعليم العليا وهي أوسع اللجان وأكثرها أعمالًا، لأنها تنظر في البرامج والكتب والمعلمين والتفتيش والتدريب، والامتحانات الابتدائية، ولجنة الفتيا الدينية، ولجنة الوعظ والإرشاد، ولجنة المراقبة العامة، ولجنة الدعاية، ولجنة تسيير جريدة «البصائر» وهي لسان حال الجمعية، ولجنة ضبط الحسابات المالية، ولجنة البعوث إلى الخارج، ولجنة الاتصال بالشُّعَب المنتشرة في القطر، ولجنة الاتصال بالجمعيات المحلية للمدارس بم ولكل لجنة لائحة داخلية تحدّد اختصاصها، زيادة عن اللوائح العامّة للجمعية، وكلّها شرح للقانون الأساسي، ومن وراء هذه التشكيلات مجلس المسؤولين عن المقاطعات الثلاث قسنطينة والجزائر ووهران، ومن وراء الجميع الشُّعب المنتشرة في مدن القطر وقراه، وعددها الآن يزيد على ثلاثمائة شعبة، وكلها مرتبطة بالمركز العام بواسطة لجنة الشّعب ارتباطًا وثيقًا، ولهذه الشعب نظام وتقسيمات إدارية، فلكل مجموعة من الشعب شعبة مركزية ترجع إليها لتسهيل العمل، وتعقد مؤتمرًا إقليميًا في كل شهر أو شهرين، ثم تعقد الشعب المركزية مؤتمرًا في عاصمة المقاطعة في كل ستة أشهر أو في أقل إن دعا الحال، ثم يعقد رؤساء الشعب كلهم مؤتمرًا سنويًا في مدينة الجزائر قبيل انعقاد الاجتماع العام لتنظيم ومراقبة قوائم الانتخابات ثم ينعقد مؤتمر المعلمين قبيل ابتداء السنة الدراسية للنظر في شؤون التعليم كلها بحضور ممثلين للجنة التعليم
العليا.(4/165)
وتأتي بعد ذلك تشكيلات الجمعيات المحلية، وهي بعدد المدارس، لكل مدرسة جمعية محلية من أهل البلد التي بها المدرسة، وتقوم هذه الجمعيات بالجانب المادي للمدرسة، فهي التي تجبي المال وتؤثث المدرسة وتدفع رواتب المعلّمين شهريًا ثم تقدم الحساب في آخر السنة الدراسية للمكتب الدائم.
العضوية في الجمعية:
أعضاء الجمعية غير الإداريين ثلاثة أقسام: العاملون، وهم أهل العلم، والشرط الأساسي فيهم أن تكون لهم قيمة علمية تؤهّلهم للتسجيل في قوائم الانتخاب على وفق القانون الأساسي، وعدد هؤلاء بضعة آلاف؛ والمؤيدون، وهم الملتزمون بدفع اشتراك سنوي حدّده القانون الأساسي، ولا حق لهؤلاء في الانتخاب، وعدد هؤلاء يبلغ في بعض السنين مئات الآلاف، والأنصار وهم الأتباع العاملون بمبدإ الجمعية في الإصلاح الديني، المعتنقون لفكرتها ... المناصرون لها في الأزمات، وعدد هؤلاء يبلغ الملايين.
جرائد الجمعية:
في طور الاستعداد والتمهيد كان لسان حال الفكرة الإصلاحية هو جريدة «المنتقد» وقد أسّست لهذا الغرض، على قاعدة أن الباطل إذا استحكم ورسخ فمن الحزم أن تصدمه صدمة عنيفة تضعضع أركانه، لذلك كانت شديدة اللهجة قاسية الأسلوب صريحة التجريح، فضاق بها الاستعمار وأعوانه فعطّلوها، وخلفتها مجلة «الشهاب» الشهرية داعية إلى الحق في الدين والدنيا، صادقة الحملة على الضلال في الدين والسياسة، متحدية للاستعمار وهو في عنفوان طغيانه، وكانت حليتها الفاخرة إعلانها لآراء الإمام عبد الحميد بن باديس في الدين والسياسة أو في فصول من تفسيره للقرآن بقلمه البليغ، و «الشهاب» مجلة ولدت راقية، ويقل نظيرها في المجلات العربية في حرارة الدعوة وجرأة الرأي، وقد حماها الله من التعطيل، بما كانت تحمله من دعوة الحق، فهي أطول صحف الجمعية عمرًا، وعاشت ماهدة للدعوة سنوات، ولما تشكّلت الجمعية كانت لسانها المبين، إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية فعطّلناها اختيارًا، ثم لم تعد إلى الصدور.
ولما اتسعت الحركة عزّزتها الجمعية بجريدة أسبوعية اسمها «السنة» فعطلتها حكومة الجزائر، لأنها- إذ ذاك- لم تتعوّد سماع تلك اللهجات الحارّة، فأصدرت الجمعية في الأسبوع نفسه جريدة «الشريعة» وكانت أشدّ على الاستعمار من سابقتها فعطّلتها الحكومة بعد أسابيع من صدورها، فأصدرت الجمعية في الحين جريدة «الصراط» أحدّ لسانًا وأقوى بيانًا من أخواتها، فعاجلتها الحكومة بالتعطيل، وكان تعطيلها بقرار وزاري من باريس، وفي هذا(4/166)
القرار من العجائب أنه صرّح بأن اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر، وأن كل جريدة تصدرها جمعية العلماء فهي معطلة من قبل أن توجد، ولا يشبه هذا القانون المجنون إلا الحكم بالإعدام على من لم يخلق. وسخرت الجمعية من هذا القرار، وأصدرت- بعد مدة- جريدة «البصائر» فسكت الاستعمار ومحا قراره بيده، وبقيت «البصائر» سائرة في طريقها، ناصرة لفريقها إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية، فعطلناها باختيارنا، لأننا لا نستطيع أن نقول ما نريد، ولا نرضى أن نقول ما يراد منّا، فلما انتهت الحرب وما استتبعته من نفي واعتقال أعدنا صدورها، وهي سائرة على منهاجها القويم إلى الآن، فخورة بالمواقف المشهودة التي وقفتها في قضايا الجزائر ومراكش وتونس وليبيا وفلسطين، وقد شهد الموافق والمخالف بأنها مواقف لم تقفها جريدة عربية على الإطلاق، ومجاميعها بلغت تسعة مجلدات، مسجّلة لأعمال جمعية العلماء.
من علم ما في هذا الفصل- وهو الواقع - علم مصدر الصيحة الأولى في وجه الاستعمار الفرنسي.
مالية جمعية العلماء:
ليس لهذه الجمعية الكبيرة الأعمال، الكثيرة المشاريع، مورد مالي قار وهي تعتمد في تسيير مشاريعها الضخمة على الأمة من طريق اشتراكات سنوية يدفعها الأعضاء العاملون والمؤيدون أو تبرعات الأنصار أو زكوات يدفعها الموسرون المؤمنون، وفرنسا واقفة بالمرصاد: فكل من بلغها إعانته لجمعية العلماء انتقمت منه بتعطيل مصالحه حتى رخصة الحج، أو بفرض ضرائب ثقيلة على مورد رزقه.
وصندوق جمعية العلماء يموّن عدّة مشاريع متمايزة بميزانيتها. فـ «البصائر» تعيش معيشة ضيّقة على أثمان الاشتراكات والمبيع، والعجز السنوي ملازم لميزانها كما هو الشأن في جرائد المبادئ، والمكتب الدائم ينفق على موظفيه وكتابه وسائر ضرورياته من حساب الاشتراك السنوي الذي تجمعه الشُّعب، والمعهد الباديسي له ميزانية خاصة على التفصيل الآتي، تتغذّى من الزكوات التي يدفعها المؤمنون بالله، ومن اشتراكات سنوية تشترك فيها طبقات كثيرة.
هذه الأمة الفقيرة التي أجاعها الاستعمار هي التي بنت بِدُرَيْهِمَاتِهَا صروحًا للعلم وحصونًا لأبنائها، وهي التي تعهّدت بتعمير تلك الحصون والإنفاق عليها.(4/167)
أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا:
في فرنسا جاليات إسلامية مختلفة تبلغ مئات الآلاف، وفيها من العمّال الجزائريين وحدهم نحو أربعمائة ألف، وهم في ازدياد مطرد، بسبب ما ضيّق الاستعمار على الجزائر من سبل المعيشة، فهاجرت هذه الجالية تطلب العيش من طريق العمل واستقرّت في مراكز الصناعات في فرنسا، وتزوّج كثير منهم من أوربيات عاملات وولد لهم في أرض مسيحية من زوجات مسيحيات، فكانت النتيجة اللازمة لهذا أن الآباء أضاعوا دينهم بتأثير البيئة فضلًا عن الأبناء الذين اجتمعت عليهم البيئة والأمهات والقانون، إنهم بلا شك ينشأون مسيحيين خالصين.
هال جمعية العلماء هذا الخطر الذي يسلخ من الأمة الجزائرية على التدريج أجيالًا، فيكون ذلك نقصًا منها وزيادة في عدوّها، فصمّمت على أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من هذا العدد الضخم، فندبت أحد شبابها المجاهدين، وهو الاستاذ الفضيل الورتلاني للقيام بهذا العمل في باريس سنة 1936، فأسّس في سنة واحدة ثمانية عشر مركزًا تعليميًا في باريس وأطرافها، ثم وسّع الحركة إلى المدن الكبيرة في جنوب فرنسا وشمالها، وتعددت المراكز وأمدّته الجمعية بالمعلّمين، فكانت تلك المراكز تعلّم الأطفال العربية والدين ساعات من النهار، فإذا جاء الليل أقبل الكبار فتلقّوا دروسًا سهلة في أصول الدين وفروعه ومارسوا العبادات العملية، فكانت هذه المراكز كخلايا النحل لا تنقطع منها الحركة، وكان الإقبال عظيمًا، وقد أثمرت تلك الحركات ثمرات ما زالت حديث الناس، وتردّد على تلك المراكز عظماء العرب من الزوّار وأبناء العرب من التلامذة فأعجبوا بالعمل ونظامه وأعظموا نتائجه، وكانت جمعية العلماء الجزائريين مضرب المثل بينهم، ولكن الحرب الأخيرة قضت على ذلك العمل المثمر فلم تبق إلا الأحاديث والأماني والحسرات، وحاولت جمعية العلماء الجزائريين إطلاقه مجددًا، فأوفدت منذ عامين رئيسها ووكيلها إلى باريس ليدرسا المشروع ويحاولا إحياءه بقدر المستطاع، فاعترضتهما عقبة أخرى بعد عقبة المال وهي استحالة وجود الأماكن إلا بأثمان فاحشة، ولم يحصلا من رحلتهما إلا ما يثير العبر، ويسيل العبرات، وهو أن عدد العمّال الجزائريين في باريس وأطرافها جاز مائة وخمسين ألفًا، وأن عدد الأولاد الذين نسلوهم من أمهات مسيحيات يزيد عن عشرين ألفًا من بنين وبنات، وهذا في باريس وحدها، وهو قليل من كثير ... وما زاد وفد الجمعية على أن اشترى مركزًا متواضعًا ليكون رمزًا للمشروع ونقطة بدء في تحقيقه.
إن هذا المشروع لا تقوم به إلا حكومات إسلامية متضامنة تمدّه بالمال وإن هذا الواجب ليس مقصورًا على جمعية العلماء الجزائريين وحدها، بل على المسلمين كلهم، وفي طليعتهم الحكومات العربية، فهل يبلغ آذانهم هذا الصوت؟ وهل يحرّك هممهم إذا بلغها؟(4/168)
ليت شعري ... لو يشعر هؤلاء المترفون من إخواننا الشرقيين الذين ينفقون مئات الملايين في ملاهي باريس، وعلى شياطين باريس وموبقات باريس ... لو يشعرون بأن في باريس التي يهرعون إليها في كل عام عشرات الآلاف من أطفال المسلمين يسبيهم الكفر في غير حرب، وأنهم مسؤولون عنهم يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه. أم أن الهوى أصمّهم وأعمى أبصارهم؟
مواقف مشهودة لجمعية العلماء:
ولهذه الجمعية- بتوفيق الله- في كل حادثة غريبة موقف مشهور، ولها في كل ملمة تلمّ بالمسلمين في الشرق أو في الغرب موقف مشهود، ومن تتبّع مجاميع صحفها وقف على الكثير من ذلك، ولكننا نقتصر على المواقف ذوات الغرر والشيات.
موقفها من المبشّرين المسيحيين:
الجزائر مركز ممتاز لجمعيات التبشير المتعددة التي يصبّ عليها المال هباءً والتي تتخذ من المال أدوات للتنصير، والاستعمار الفرنسي مسيحي بالطبع، وإن غطَّى ذلك بألف ثوب، ولذلك نجده من وراء كل حركة تبشيرية يحميها وييسّر لها ويمهّد السبل للانتشار، ومن هذه السبل الشيطانية خلقه للمجاعات في وطن كله خير وفير، ليحمل العراة الجياع على الالتجاء إلى رسل الرحمة المبشّرين، وان الحاكم المدني العام في الجزائر، لرهن بإشارة من إشارات رئيس الكنيسة الكاثوليكية، بل ان هذا الرئيس المسيحي هو الحاكم في الحقيقة.
وجمعية العلماء عملية واقعية، فرأت أن تيّار التبشير المؤيّد بأسباب القوة لا يقاوم بالأقوال وأنه لا يقاوم إلا بتقوية المعاني الدينية في النفوس، ومنها القيام بحق الله في البائس الفقير والرحمة باليتيم، والبر بالمساكين، وشرحت للأمة المنافذ التي يتسلّل منها هؤلاء المبشّرون. وما كادت آثار تربية جمعية العلماء تظهر وتأخذ مأخذها من النفوس حتى أحسّ المبشّرون بالشرّ يطرق ساحتهم وحتى تنادوا مصبحين واستَعْدَوا الحكومة على جمعية العلماء، وكانوا أقوى الأسباب فيما نالها من عنت، وجَدَّتْ الجمعية في حرب التبشير بالعمل فلا تواتيها فرصة لفتح مدرسة عربية إسلامية، في مركز من مراكز سلطانهم، إلا بادرت إلى تشييدها تحت أسماعهم وأبصارهم، إغاظة لهم وسدًّا دون أمانيهم وإبطالًا لكيدهم وما أغنت قوّتهم ولا حماية الحكومة لهم شيئًا.
ونحمد الله على أننا خفّفنا من شرور هذه الفتنة، وعلى أن في الجسم الجزائري مناعة تدفع عنه غوائل هذا البلاء، والمبشّرون أنفسهم يشهدون أنهم لم تستنزل رقاهم إلا واحدًا أو اثنين في الآلاف من جرائمهم، وأن جمعية العلماء هي أقوى خصم لهم في هذا الباب.(4/169)
موقفها من الإلحاد:
دخل داء النزعات الإلحادية إلى الجزائر في ركاب الاستعمار، يتمشّى مع الحضارة الغربية ويتفشّى في علومها وآدابها، وأمدّه الاستعمار بالقوّة، ليغالب به العقائد الثابتة وليضلّ به المهتدين، أو يحول به بين الضالين وبين الهداية، وقد حالت جمعية العلماء بينه وبين الانتشار بما أفاضت على العقول، وأشاعت في النفوس من الهدي المحمدي، وحاصرته بحقائق الإسلام فحصرته في أضيق الأمكنة، وفي نفوس كأنها رموس.
موقفها من الخمر:
يعترف بائعو هذه المادة الخبيثة أن كل بلدة تمكّنت فيها دعوة جمعية العلماء بارت فيها سوق الخمر، وقد أفلس كثير منهم بهذا السبب، وهذه حقائق ملموسة لا يختلف فيها اثنان.
موقفها من تعليم المرأة:
كان الجمود واقفًا في سبيل المرأة ومانعًا من تعليمها، فجاءت جمعية العلماء وأذابت الجمود وكسرت السدود وأخرجت المرأة من سجن الجهل إلى فضاء العلم في دائرة التربية الإسلامية والمنزلة التي وضعت المرأة فيها، والجمعية تبني أمرها على حقيقة، وهي أن الأمة كالطائرة لا تطير إلا بجناحين، وجناحاها هما الرجل والمرأة. فالأمة التي تخصّ الذكر بالتعليم تريد أن تطير بجناح واحد، فهي واقعة لا محالة، ولجمعية العلماء جولات موفّقة في هذا الميدان، فالنساء أصبحن يشهدن دروسًا خاصّة بهن في الوعظ والإرشاد ويفهمن ما للمرأة وما عليها، وشهد الرجال بتبدّل الحال وظهور النتائج في المحافظة على العرض والمال وفي إحسان تدبير المنزل وتربية الولد، وفي مدارس جمعية العلماء نحو ثلاثة عشر ألف بنت، يشاركن الأولاد في السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية، ثم ينفردن ببرنامج محكم، وينعزلن في صفوف خاصة مع الشدة في التربية الإسلامية، والدقة في المراقبة.
موقفها من السياسة الجزائرية:
إذا كان الإسلام دينًا وسياسة، فجمعية العلماء دينية سياسية، قضية مقنعة لا تحتاج إلى سؤال ولا إلى جواب، وجمعية العلماء ترى أن العالم الديني إذا لم يكن عالمًا بالسياسة ولا عاملًا لها فليس بعالم، وإذا تخلّى العالم الديني عن السياسة فمن ذا يصرفها ويديرها؟ لا(4/170)
شك أنّه يتولاها الجاهل المتحلل فيغرق السفينة ويشقي الأمة، وكثيرًا ما غلطنا الاستعمار حين يضيق ذرعًا بنا، فيقول أنتم علماء دين فما لكم وللسياسة؟ إن الدين في الإسلام سياسة، وإن السياسة دين، فهما- في اعتباره- شيئان متلازمان، أو هما شيء واحد، وقد جاراه في النغمة الممجوجة بعض ضعفاء الأميين من سماسرة السياسة منّا، والغرضان متقاريان: فالاستعمار يريد أن يزيحنا عن طريقه فيزيح خصمًا عنيدًا يمنعه العلم أن يخدع ويمنعه الدين أن يساوم في حق قومه، وضعفاء الإيمان من قومنا يريدون أن يخلو لهم الجو فيعبثوا ما شاء لهم العبث ولا علم يصدع ولا دين يردع.
لجمعية العلماء في كل نقطة من السياسة الجزائرية رأي أصيل، تجهر به وتدافع عنه وتذيعه في الناس وتخالف رأي غيرها بدليل، وتوافقه بدليل، لأنها لا تقبل التقليد في الدين وكيف تقبله في الدنيا؟ وصفوة رأي الجمعية في السياسة الجزائرية تحرير الجزائر على أساس العروبة الكاملة والإسلام الصحيح والعلم الحي، وعلى ذلك فهذه الجهود الجبّارة التي تبذلها جمعية العلماء في سبيل العربية والإسلام والتعليم كلها استعداد للاستقلال، وتقريب لأجله، ولكن كثيرًا من قومنا لا يفقهون، أو لا يريدون أن يفهموا، ولو أرادوا أن يفهموا لحكموا المحسوس الذي لا يرتابون فيه، وهو أن جمعية العلماء حرّرت العقول وصقلت الأفكار وأيقظت المشاعر. والنتيجة الطبيعية لذلك كله هي تحرير الأبدان، لأن الأول مدرجة إلى الثاني.
إن أوربا ما استعبدت الشرق إلا بعد أن أفسدت أخلاقه وأضعفت روحانيته، وهيهات أن ينقذ الشرق نفسه من العبودية لأوربا إلا بعد أن ينقذ نفسه من نفسه، وقد مرّت على مصر سبعون سنة وهي في كفاح متواصل مع خصمها، ولو أن قادة الرأي فيها ربوا جيلًا واحدًا على الروحانية القوية لما قامت للخصم قائمة مع الجيل الثاني.
هذه حقيقة عريانة من أنكرها فهو ساعٍ إلى الحقيقة على جسر من الخيال.
موقف فرنسا من الجمعية:
تعتقد فرنسا أن أعدى عدو لها هو جمعية العلماء الجزائريين لأنها كشفت عن مكايدها الخفية، وناقضت كل عمل لها بضده، فهي تهدم وجمعية العلماء تبني، وهي تُجهّل، والجمعية تعلم، وهي تنوم والجمعية توقظ، وكفى بهذا سببًا للعداوة التي لا صداقة معها، ويمنعنا الخجل أن نذكر ما لقيته الجمعية من فرنسا ... فإنه في سبيل الله.(4/171)
أمهات أعمال جمعية العلماء
____
أولًا- مقاومة الأمية:
صنعت جمعية العلماء في هذا الميدان ما لم تصنعه الحكومات. والأمية هي شلل الأمم، وتفشّيها في الأمة الجزائرية هو الذي أقعدها عن مجاراة الأحياء في الحياة، وهو أقوى الأسباب التي مكّنت للاستعمار، فكأنه اتّفق معها على أن يخدمها لتخدمه فوفى ووفت.
حاربت جمعية العلماء هذا الداء الوبيل الذي يقتل الفكر والضمير، ويقضي على العقل والروح، ويطفئ المواهب، ويخدر المشاعر، ويضعف الاستعداد، وشدّدت العزائم على حربه، وفتحت دروسًا ليلية للكبار لا تزاحم البرامج المقررة، وعمّمت تلك الدروس بالتدرّج في نواديها وكثير من مدارسها، وجنّدت لهذا الميدان مئات من معلّميها، وراجت هذه الدروس واشتدّ إقبال الأميين عليها حتى بلغوا في بعض الأحيان عشرات الآلاف، فيما بين سنتي 1937 و 1939، ولم تمضِ سنتان حتى أصبح الكثير منهم يقرأ قراءة صحيحة ويكتب كتابة صحيحة، وكأنهم عميان تفتّحت عيونهم على النور وسمت همم بعضهم إلى المزيد فبلغوا درجات لا بأس بها وأغرتهم الكتابة على الحفظ فحفظ بعضهم أجزاء من القرآن، وتشوّقوا إلى الفهم فأصبحوا يفهمون كثيرًا من حقائق الدين القريبة، ومعاني الحياة البسيطة، والتسلسل المجمل للتاريخ الإسلامي، وإن هذا الربح عظيم لأصحابه وللمجتمع، ولقد رأينا بأعيننا من معجزات العزيمة أن أميًّا مسنًا أصبح معلّمًا، معلّمًا للأميين وإمامًا لهم يدينون له بالاحترام، وكانت هذه البوادر من النجاح دعاية قوية للتعليم، ونصيرًا عامًا لتحطيم الأمية وتهجينها فزاد الناس إقبالًا على تعليم أولادهم، يرون ذلك كفّارة عمّا كان لهم من الجزء الاختياري في جريمة الأمية، وما جاءت سنة 1943 حتى تجلّت آثار هذا التفكير واغتنمتها الجمعية فأسّست في سنة واحدة سبعين مدرسة في أنحاء القطر.
ثانيًا- المحاضرات الدينية والاجتماعية:
بدأت الجمعية أعمالها في التعليم العام بالمحاضرات العامة في المساجد والنوادي والقاعات العمومية والميادين الجامعة والأسواق، فكلّفت طائفة من رجالها الكفاة في العلم والبيان بالطواف في مدن القطر وقراه وسهوله وجباله، يزرعون الحماس بواسطة هذه المحاضرات، ويبيّنون الحقائق، ويثبّتون العزائم، ويحرّكون الهمم، ويضربون الأمثال، ويربطون للأمة حاضرها بماضيها، ويذكرونها بما نسيته من أمجاد سلفها، ويهيّئونها لنهضة(4/172)
شاملة في العلم والسياسة والاقتصاد، وكانت هذه المحاضرات هي البذر الأول لهذه المبادئ في الجزائر، وتحريك الأفكار لفهم الحياة على حقيقتها، وقد استغرق هذا الأسلوب سبع سنوات، كان أولها بدءًا للصراع بين الجمعية وبين الحكومة. وقارن هذا الهجوم على الجمهور بالمحاضرات هجومًا آخر على الشبّان بدروس علمية منظّمة المواقيت والمواضيع، محذوفة اللغو والفضول؛ ومن أولئك الشبّان تكوّنت الطلائع الأولى لجيش النهضة العلمية، وكانت الطريقة التي بنت عليها جمعيتنا أصول هذه النهضة هي الجمع بين التربية والتعليم، لأن العلم الخالي من التربية ضرره أكثر من نفعه، وما أصيب المسلمون في عزّتهم إلا يوم فارقت التربية الصالحة العلم، وكم شقي أصحاب العلم المجرّد بالعلم وأشقوا أممهم، والسعادة غاية لا يسلك إليها طريق العلم وحده من غير أن تصاحبه التربية، وأن الجمع بين التربية والتعليم هو وظيفة النبوّة التي بيّنها الوحي في آية {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ائكِتَابَ وَائحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}.
فعلت تلك المحاضرات فعلها في الجمهور الجزائري، وآتت أكلها سائغًا هنيئًا وأصبحت غذاء لذلك الجمهور، ومادة من مواد تعليمه، وصلة بينه وبين الجمعية، وفي أصداء تلك المحاضرات أوصلت الجمعية نداءها إلى القلوب، وأصبحت تخاطب الضمائر لا الآذان، وفي إشراق تلك المحاضرات وصلت إلى الغاية التي ترمي إليها وهي توثيق التعاون بينها وبين الأمة على تعليم النشء وتكوين جيل صالح للحياة متّحد النزعات متجاوب الخواطر والمقاصد، يحرّر الوطن من الاستعمارين الروحي والمادي، ومحال أن تحرّر أمة أبدانها قبل أن تحرّر عقولها وأفكارها.
ثالثًا- تأسيسها للنوادي العلمية:
المقصد الأول لجمعية العلماء هو التربية والتعليم، وطبقات الأمة ثلاث متفاوتة الشعور والإدراك، ولكنها مشتركة في القابلية والاستعداد وهي: الشيوخ والشباب والأطفال، فرأت الجمعية أن تصرف عنايتها على الطبقات الثلاث في آن واحد كل طبقة على قدر استعدادها، ولكن أين تلتقي بهذه الطبقات؟ فإذا التقت بالشيوخ والكهول ورقاد المساجد في المساجد، والتقت بالأطفال في المدارس التي شيّدتها للالتقاء بهم فيها، فأين تلتقي بالشبّان الذين فاتتهم المدرسة والمسجد معًا؟ ولكن عزيمة الجمعية لا تقف في طريقها الصعاب، فأنشأت مشروع "النوادي" لتكون وسطًا طبيعيًا بين المساجد والمدارس، وتلتقي فيها بالشبّان الذين هم وسط طبيعي بين الشيوخ والأطفال.
أنشأت الجمعية في مدة قصيرة عشرات النوادي في المدن والقرى، وَدَعَت إليها الشبّان فاستجابوا وأقبلوا عليها لأنها أقرب إلى أمزجتهم ولأن فيها شيئًا من التسلية والمرح، ولأن(4/173)
فيها قليلًا من جو المقهى ... وفي ظل هذه الجواذب التقت الجمعية بالشبّان وقامت بحق الله فيهم فنظّمت لهم فيها محاضرات تهذب بها أخلاقهم وتعرّفهم بأنفسهم وقيمتهم ومنزلتهم في الأمة وتجمع قوّتهم، ودروسًا تعلّمهم بها دينهم ولغتهم وتاريخهم، فكان لمشروع "النوادي" آثار في الشبان تساوي آثار المدرسة في الأطفال وتفوق آثار المساجد في الشيوخ والكهول، ومن النوادي خرج الشبّان إلى المسجد يؤدّون حق الله، وإلى ميادين العمل يؤدون واجبات المجتمع.
ولكن الاستعمار كعادته ضاق ذرعًا بهذه الثورة الفكرية التي أحدثتها في الشيوخ والكهول دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، وأشعلتها في الشبّان محاضرات النوادي، ولم يطق على هذه الحالة، فأصدر الحاكم العام أمرًا بمنع رجال جمعية العلماء من إلقاء الدروس في المساجد (الحكومية) لأنها- في رأيه- دروس سياسية، وبعد مدة أصدر أمرًا آخر بحرمان النوادي من بعض الامتيازات كبيع القهوة والشاي لأعضائها وبالتسوية بينها وبين المقاهي العمومية في الخضوع لإشراف العمومية ... ومغزى هذا القرار- الذي له في الجزائر نفوذ القانون- هو إغلاق النوادي لأنها لا تقوم إلا على أثمان المشروبات التي تقدمها لأعضائها، فإذا حرمت منها لم يبق لها مورد إلا اشتراكات الأعضاء وهي لا تكفي.
أما الجمعية فإنها قابلت هذه القوانين الشديدة بعزائم أشدّ، ونقلت دروس الوعظ من بيوت الله التي تسلّطت عليها فرنسا إلى حيث يمكن من أرض الله، في البيوت وفي القاعات، وفي المدارس، وفي المدارس الحرة التي أنشأتها الأمة بإرشاد جمعية العلماء وعددها نحو المائة وهي منتشرة في القطر. وأما النوادي فقد تحدّت الجمعية القرار المتعلق بها واستمرّت على إلقاء المحاضرات فيها واستعانت بعزائم الشبّان التي لم تتأثر بآثار ذلك القرار السخيف، والأمر على ذلك إلى الآن، والحرب بيننا وبين الحكومة في شأنها سجال، والمخالفات والتغريمات تملأ السجلات.
رابعًا- بناء المدارس:
وهذا الفصل- وإن أخّرنا الحديث عليه- هو الغرة اللائحة في أعمال جمعية العلماء، وهو سجل الفخار في تاريخها وتاريخ الجزائر الحديث، وسيلتقي المؤرّخ المنصف والمؤرّخ الجائر في الحكم عليها، لأنها أبنية ومآثر، ولأنها همم وعزائم ولأنها قوة ولّدها الضعف.
كانت الجزائر كلها خالية من المدارس العربية النظامية الحرة إلا كتاتيب قرآنية كلها فوضى مهدّدة بالإغلاق في كل حين، ولو بأمر أحقر موظف حكومي، وتعليم العربية في المدارس الحكومية اسم بلا مسمّى وعلم بلا علم. ثم قامت جمعية العلماء منادية بإحياء(4/174)
العربية على رغم أنف الاستعمار، وكان عملها في السنوات الأولى ما وصفنا وكانت المدارس في تلك السنوات لم تنته إلى العشر، ولكنها بعد حملة المحاضرات وتأثّر الأمة بها وتأجج حميتها للغتها، ثارت الرغبات الكامنة فيها واحتدّ التنافس في هذا الميدان في المدن والقرى، فقفز عدد المدارس من عشرة إلى عشرات وفيها الفخم الضخم الذي يقلّ نظيره في مدارس الحكومة، وفيها ما يحتوي على ثمانية عشر فصلًا، وجميعها مستوفٍ للشرائط كلها على أحدث طراز، ومعظم هذه المدارس شيّدتها الأمة بأيديها وبأموالها والقليل منها مؤجّر، ووضعت المناهج الابتدائية مقتبسة من مناهج وزارة المعارف المصرية، وبينما الحركة في اشتدادها وامتدادها قامت الحرب العالمية الأخيرة فأوقفت كل شيء وعطّلت فرنسا جميع مشاريع جمعية العلماء بصورة كلها تشفٍ وانتقام، وأبعدت كاتب هذه المذكّرة إلى صحراء "وهران" بعيدًا عن العمران في صورة إقامة جبرية إلى انتهاء الحرب، ومات باني هذه النهضة العلمية المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس في أوائل سنة أربعين، فلما أطلق سراح كاتب هذه السطور بعد ثلاث سنوات من اعتقاله، استأنف العمل من أول يوم وبدأ يبعث الحركة من جميع جهاتها: فمن تحريك الشعور السياسي وتنظيم حركة سياسية، إلى مجاراة فورة الأمة في سبيل التعليم. وكان الاحتلال الأمريكي جاثمًا على الجزائر، والأحزاب السياسية تعيث وتعيث، وهو يسعى في جمعها فتفرّقها الأهواء والرعونات، فرأى أنه إذا ضاعت على الأمة الفائدة السياسية بسبب الوضع الحاضر، فلن تضيع عليها الفائدة العلمية، والعلم تسليح، وفي تلك السنة نفسها شيّدت الأمة سبعين مدرسة. وهالت تلك الحركة المتجددة فرنسا فأسرتها في نفسها إلى يوم انتهاء الحرب، فكان حقدها على جمعية العلماء أحد الأسباب في تلك البطشة الرعناء التي بطشتها بالجزائر يوم 8 ماي سنة 1945 فقتلت فيها عشرات الآلاف من أنصار جمعية العلماء واعتقلت مثلهم، وأغلقت مدارس الجمعية كلها بدعوى أنها قلاع للعمل ضدها، ومزارع لغرس بغضها في قلوب الجزائريين، وهذان الوصفان رسميان من كلام الحكومة في تبرير عملها الفظيع، وسجنت كاتب هذه السطور في السجن الحربي تمهيدًا لمحاكمته عسكريًا بتهمة الثورة، وقد كان رجال جمعية العلماء آخر من سرّحتهم من المعتقلات نكاية فيهم وحقدًا عليهم.
ما كادت هذه الغمرة تنجلي حتى رجعت الجمعية إلى عملها أقوى مما كانت صلابة وعزيمة وإيمانًا، ونشطت حركة تأسيس المدارس حتى بلغت الآن مائة وبضعًا وأربعين مدرسة. وبلغ مجموع ما أنفقت الأمة عليها من مالها بل من ثمن خبزها تشييدًا وتعميرًا ما يقرب من ألف مليون فرنك، وبلغ مجموع تلامذتها الابتدائيين في الوقت الحاضر نحو خمسين ألف تلميذ من بنين وبنات، وبلغ عدد التلامذة المتخرّجين منها من مبدإ الحالات نحو مائتين وخمسين ألف تلميذ، وبلغ مجموع المعلّمين في هذه المدارس نحو أربعمائة معلم(4/175)
كلهم من تلامذة جمعية العلماء وجنودها الحاملين لفكرتها، وبلغ ما تنفقه الأمة سنويًا على هذه المدارس في أجور المعلّمين وغيرها خمسة وسبعين مليونًا من الفرنكات.
مع هذا الجهد العظيم الذي تبذله جمعية العلماء والأمة من ورائها في التعليم العربي، ومع أن حركة بناء المدارس كل سنة في ازدياد، فإنها لم تستوعب إلا جزءًا من ثلاثين جزءًا من أطفال الجزائر المحرومين من التعليم، وما زال في الجزائر مليون ونصف مليون من أطفال الأمة العربية المسلمة مشرّدين في الشوارع محرومين من التعليم العربي والفرنسي معًا. ومع ذلك ترفع فرنسا صوتها بأنها معلّمة العالم، ثم تشعوذ على إخواننا الشرقيين الذين لم يعرفوا دخائلها بمثل هذه المزاعم، ويصدّقها بعض الضعفاء وهي في دعوة التعليم أكذب من سجاح في دعوى النبوّة.
خامسًا- المعهد الباديسي:
هذا العدد الذي ذكرناه من المدارس كله ابتدائي، ولكن التعليم فيه متين لأنه عمل العقل والإخلاص والمنافسة لعدو حقود، حتى أن التعليم الابتدائي في مدارس الجمعية يساوي في نتائجه العملية نصف التعليم الثانوي في المدارس التي تبني أمرها على الرسميات وتعد نتائج الامتحان بالنقط ... وهذا هو القدر الذي اتّسع له حال الجمعية وهي في نهاية العقد الثاني من عمرها، وتطلبته حالة الأمة وهي في الخطوة الأولى من نهضتها. لكن حب العلم والتطلعّ إلى غاياته أحدث في عشرات الآلاف من حملة الشهادات الابتدائية الذين أخرجتهم مدارس الجمعية، أحدث فيهم ثورة عليها وإلحاحًا يطلبون الانتقال بهم إلى التعليم الثانوي، ورأت الجمعية أن تبريد هذه الرغبة في نفوس أبناء الأمة الناشئين يعد إجرامًا في حقّهم وفي حق اللغة التي أصبحوا يدينون بها وفي حق الإسلام الذي تفتّحت نفوسهم على حقائقه.
فماذا تصنع هذه الجمعية والموارد المالية محدودة، والأمة فقيرة، والتعليم الثانوي يكلّف أموالًا وفيرة، والرجال الذين يقومون بتعليمه مفقودون؟
هنا العقبة ... وهنا الموقف الذي يجب على إخواننا العرب شعوبًا وحكومات أن ينقذونا منه ... هنا نظرت الجمعية إلى الداخل وإلى الخارج.
أما الداخل فقد دعت الأمة إلى أن تخطو هذه الخطوة الجريئة وأن تضع البذرة الأولى لهذا الغرس الجديد، فاستجابت الأمة، فأقدمت الجمعية على إنشاء معهد ثانوي ذي خمس سنوات، وهو "المعهد الباديسي" بمدينة قسنطينة، منبع الثقافة الإسلامية في القطر كله، وأطلقت عليه اسم إمام النهضة المرحوم الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس.(4/176)
أنفقت هذه الأمة الفقيرة على هذا المعهد بطريق التبرعات في أبنيته ومرافقه أكثر من مائة مليون فرنك، وهي تنفق في كل سنة على شيوخه والقائمين بتسييره نحو عشرة ملايين من الفرنكات.
والمعهد اليوم يحتوي على ألف تلميذ، يدرسون- على المناهج الحديثة- علوم الدين وعلوم اللسان العربي، ومنها الأدب وتاريخ الإسلام والجغرافيا والرياضيات، ويأخذون فيه أصول الدعوة وأصول الخطابة مع التمرّن عليها عمليًا. وفيه أقسام إضافية للفرنسية خاصة بحاملي شهادتها الابتدائية، لإرسالهم إلى أوربا للتخصّص في العلوم الصناعية، وستكون بعثات جمعية العلماء إلى الشرق كلها من تلامذة هذا المعهد.
يقوم بالتدريس في هذا المعهد خمسة عشر أستاذًا كلهم من حاملي الشهادات العليا من جامع الزيتونة، ومعهم طائفة من المعاونين والكتبة ولجان للمراقبة والمالية والألعاب الرياضية، وقد اشترت الجمعية منذ عامين دارًا لسكنى طلبة المعهد في أجمل موقع من المدينة تكفي لإسكان خمسمائة تلميذ مجتمعين، لكل تلميذ سرير للنوم ودولاب للأمتعة، مع المرافق التامة من المغتسلات ومطاهر الوضوء، ومجموع ما أنفق على هذه الدار وحدها ثلاثون مليون فرنك.
____
مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر
____
في تونس جامع الزيتونة، ولا يصحّ أن يسمّى جامعة بالمعنى العصري إلا مع التسامح، ولو تناوله الإصلاح الناجز في مناهجه والقلب والتغيير في كتبه ونظامه، والتوجيه السديد للروح المسيطرة عليه، لأصبح جامعة المغرب العربي كله، وهو- مع ذلك- مهاجر الجزائر للعلم، وفي فاس جامع القرويين وهو دون جامع "الزيتونة" نظامًا واتّساعًا في الدراسات، وأبعد عن التجديد والإصلاح، لأن أصابع الاستعمار الفرنسي تدسست فيه أكثر من جامع الزيتونة، لذلك فكّرت جمعية العلماء منذ سنوات في تكوين جامعة عربية إسلامية بمدينة الجزائر تبنى الدراسات العالية فيها على الروح الإسلامية الشرقية الصافية وعلى غايات العلوم الحديثة النافعة، فتكون تكميلًا للجامعين وعونًا لهما في إحياء الثقافة الإسلامية وحفزًا لهما على الإصلاح، وقطعت الجمعية مراحل في التفكير والتخطيط وهي تأمل أن لا يبلغ التعليم الثانوي في مدارسها حدّه حتى تكون الجامعة قد فتحت أبوابها، ولكن المال دائمًا هو العقبة الكأداء.(4/177)
خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها
____
في المعنويات
أولًا: استقرار الإصلاح الديني الإسلامي بمعناه الصحيح الواسع، وأساسه الرجوع إلى القرآن.
ثانيًا: إذكاء النزعة العربية في النفوس.
ثالثًا: تقوية الشعور السياسي وتكوين رأي عام له.
رابعًا: التوجيه إلى الشرق والتنويه بتاريخه وأمجاده.
خامسًا: إحياء الفضائل والأخلاق المتينة وعقد جملتها بالقلوب لا بالألسنة.
سادسًا: خطوات سديدة في بناء الأسرة على المحبّة، وبناء المجتمع على التعاون.
سابعًا: وضع المرأة المسلمة في موضعها من الفطرة ومنزلتها في الإسلام.
ثامنًا: التقليل من الافتتان بالحضارة الغربية.
تاسعًا: قمع الإلحاد والتحلّل.
عاشرًا: إيقاف التبشير عند حدّه.
حادي عشر: التخفيف من ويلات الأمية.
ثاني عشر: نظام للوعظ والإرشاد تظهر روعته في كل رمضان على الخصوص، قوامه 140 واعظًا.
وفي الماديات
ثالث عشر: تشييد سبعين مسجدًا حرًّا على نماذج مما كان يؤديه المسجد من التربية.
رابع عشر: مائة وبضع وأربعون مدرسة ابتدائية مجهّزة أحسن تجهيز تتسع لخمسين ألف تلميذ.
خامس عشر: معهد ثانوي كامل الأدوات والمرافق يحتوي على ألف تلميذ.(4/178)
سادس عشر: بعثات إلى جامع الزيتونة تبلغ ألفًا وخمسمائة تلميذ.
سابع عشر: بعثات إلى جامع القرويين تبلغ مائتي تلميذ.
ثمان عشر: هذه البعثات التي بدأت طلائعها تزحف إلى مصر والعراق وسوريا والكويت.
تاسع عشر: حركة مباركة لحفظ العروبة والإسلام على العمّال النازحين إلى فرنسا.
العشرون: مكتبة جديدة حافلة في المعهد تهيّئ للباحثين مراجع البحث وتعوّض ما أتلفته يد الاستعمار من كتبنا ومكتباتنا، وقد زوّدها سموّ الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية في السنة الماضية بألف مجلد.
الحادي والعشرون: إنشاء مكتب ثقافي للجمعية في القاهرة ليكون صلة بين الجزائر والشرق وليشرف على البعثات الحاضرة والمنتظرة، وستجني العروبة والإسلام منه خيرًا كثيرًا.
____
خاتمة
____
هذه هي الأعمال الجليلة التي قدّمتها جمعية العلماء للأمة الجزائرية، بل قدّمتها الأمة الجزائرية، بل قدّمتها الجمعية والأمة معًا للعروبة والإسلام، فحفظت للعرب طائفة من رأس مالهم وربحت للمسلمين جزءًا كبيرًا من مجموعهم كاد يضيع منهم.
قامت جمعية العلماء بهذه الأعمال مستعينة بالله، معتمدة على الأمة، مع كيد المستعمرين وخذلان الضالين، وتشويش الجاهلين الذين يخربون بيوتهم بأيديهم.
لم تتوجّه الجمعية في هذه المراحل القاسية إلى خارج الجزائر، لأن من مراميها البعيدة تربية الأمة على الاعتماد على نفسها، وعلى التكافل في المصلحة العامة، وهو باب من أبواب التربية الاستقلالية المفضية إلى الاستقلال الحقيقي. ولكنها بعد أن وصلت إلى هذه المرحلة التي بيّناها في الفصول السابقة أجهدها الإعياء ووقفت مبهورة، والتفتت إلى إخوانها في الشرق وإلى حكوماتهم تلتمس العون والمدد، وتحمل صحيفة أعمالها بيمينها، ولا مجال للتراجع لأن معناه الموت، ولأن نتيجته شماتة الأعداء وهي أنكى على الحر من الموت، وأنا رائدها إلى الروض، وفارطها على الحوض، وقد بلّغت.
ليست القضية قضية شخص أو أشخاص، فلا نحن ولا الأمة من ورائنا نرضى بهذا ولا ندين به، فقد ربيناها بعد أن ربّينا أنفسنا على تقديس المبادئ ونسيان الأشخاص(4/179)
والشخصيات إلا في مقام التأسي والوزن، وإنما هي مسألة أمّة تعد أحد عشر مليونًا من صميم العروبة، مصمّمة على تصحيح نسبتها وتثبيت إسلامها لتبني عليهما استقلالها لأنها تؤمن بأن الاستقلال على غير أساس العروبة والإسلام هو استقلال على غير أساس، فهو منهار من ساعته. فإذا تمّ فهو استقلال لأمة لا تعرفها العروبة ولا يعرفها الإسلام، ولا ينفع استقلالها العروبة ولا الإسلام.
قد وجب حق الأخ على أخيه، ووجب على حكومات العرب أن تقف موقف الجد والتضحية والواجب من هذه الحركة حتى تصل إلى غاياتها، وأن كل ما تنفقه الحكومات العربية في هذا السبيل فهو قليل، وهو ضربة في الصميم، وهو عائد عليها في القريب بأرضه وثمراته.
إن جمعية العلماء واسطة بين الطرفين وترجمان صادق بينهما وإنها لا ترضى بما دون الواجب، ولا ترضى لنفسها بالتصدّق والامتنان والمجاملة، وللحكومات العربية عليها حق المحاسبة الدقيقة، فقد أخذت بذلك في جميع أعمالها.
قد بلغت ... اللهمّ اشهد.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
القاهرة في 3 رجب 1382هـ
الموافق 20 مارس 1953 م.(4/180)
تحية غائب كالآيب ... *
حيّ الجزائر عني يا صبا ... واحمل إليها مني سلامًا تُباري لطافته لطافتك، وتُساري إطافته إطافتك، فقديمًا حمّلك الكرام الأوفياء مثلَ هذه التحية إلى من يكرُم عليهم، أو ما يكرم عليهم، فحملتها رَوحًا، وأدّيتها بَوحًا، وأعلنتها شذً ى وفوحًا، وكنت بريد الأرواح إلى الأرواح، بألفاظ غير مكتوبة، ومعانٍ غير مكذوبة، وقديمًا أفضى إليك الشعراء بشجونهم، وائتمنوك على جدهم ومجونهم، فاحتملت غثًّا وسمينًا، وكنت على الأسرار أمينًا، فكأنّك كنت لهم محطة إرسال واستقبال معًا، يحمّلونك الرسائل تخيّلًا، ويتلقّون أجوبتها إحساسًا، وما عرف واش ولا شعر رقيب، وما كنت لديهم الثقة الأثير، إلا لأنك "ابن الأثير". وكأنّ محطات الحقيقة اليوم وُضعت بإشارتك وتأثّرت بأثارتك، وكأن شأنك وشأنهم في ذلك إرهاص بحقيقة حوّموا عليها ولم يردوا، وجمجموا عنها ولم يفصحوا، وادّخَر الله تحقيقها لهذا الزمان، ولا عجب فكل حقيقية مبداها خيال.
لي إليك وسيلة مرعية المتات بما أسلف أوائلي فيك من مدح، وبما أذاعوا لك من فضل، وبما رفعوا لك من ذكر، فالذي تؤدّيه عني اليوم هو "ثمن الإعلان" ورثتُه عن سلف، ولم يُسقِط حقّي فيه تقادم الزمان.
أنتَ يا صبا ريح، وكأنّ فيك قطعةً من كل رُوح، يجد فيك كل غريب أنسًا، وكل حبيب سلوى، وكل مكروب تنفيسًا، خلال كلّها جلال، وما ذلك الروح الذي يجده الواله في أنفاسك، إلا أنفاس المحبّين تمتزج بأنفاسك، فيجدونها بردًا على الأكباد، وبشاشةً في الأسارير ورضًى في السرائر. فلعمرك ... لئن كان في الرياح لواقح للأشجار، ففيك وحدك لقاح النفوس، ولئن كان فيها ما يُحرق الورق، ففيك وحدك ما يطفئ الحُرَق.
__________
* نشرت في العدد 229 من جريدة «البصائر»، 15 ماي سنة 1953.(4/181)
حسبك شرفًا- يا صبا- أن التقى الناس فيك على وصف، وإن اختلفت بهم المنازع: جهل الجاهلون آثارك فقالوا: ما أسراك! وكل ريح سارية، وعرف العارفون فضلك وكرمك فقالوا: ما أسراك! وما كل شجرة وارية، وبين السُّرى والسرو مفاوز هي مسافة ما بين الحسن الكثيف والحسّ الشفّاف.
سِر- يا صبا- طاب مسراك، وصفا مجراك، في جو ضاحك الصفحة، وفضاء سافر الغرّة، لا جبلا نعمان يعترضان مهبّك، ولا عواصف الدبور تعارض مدبّك، فإذا لاحت لك بواذخ الأطلس فاسلك منها ما سلك بنو هلال، فرقة عن اليمين وفرقة عن الشمال، وخذ من آثارهم بما يُجدي، فكلاكما نجدي، وستقع في شمالك على الخؤولة، وفي يمينك على العمومة، فابثُثْ أسرارك، وانثُثْ أخبارك، فهنالك محطة الهوى والشوق.
أدِّ التحية عني للجزائر التي غذت وربّت، وأنبتت القوادم في الجناح، وأسلفت الأيادي البيضاء، وأسدت العوارف الغر، وأشربت من الطفولة حب العروبة والإسلام، وأخذت باليد إلى رياضهما، ففتقت اللسان على أشرف لغة وسِعت وحي الله ووحي العقول، وفتحت القلب لأكمل دين جمع الروح والمادة، ثم أورثت- فيما أورثت من مآثر العرب وفضائل الإسلام- أنفًا حميًّا، وفؤادًا ذكيًّا، ولسانًا جريئًا، وهمة بعيدة، وإباءً للمشارب الكدرة، وقناةً لا تلين إلا للحق، وذيادًا عن حُرمات الحِمى والدين، ونفسًا لو تراءت لها زخارف الدنيا من وراء الدنايا ما خاضتها إليها، وروحانيةً أحدُ طرفيها في الأرض، والآخر في السماء تأمر في ذلك كله وتنهى.
ثم عمّم التحية إلى كل من تديّر الجزائر من إخوان الصدق، وأحلاف الحق: من علماء جلاهم الإسلام سيوفًا، وبراهم سهامًا، وقوّمهم رماحًا، ثم وحّدتهم العقيدة على غاية، وجمعهم الحق على بساط، وألف بينهم الجهاد في ميدان، فاجتمعت قلوبهم على هداية بها وألسنتهم على دعاية إليها، وأيديهم على بناء لها. ومن أنصار كانوا للدعوة السلفية الإصلاحية خزرجها وأوسها، وكانوا للنهضة الجزائرية عمادها وأُسَّها، وكانوا الأحجار الأولى لبناء الجزائر الجديد، والكتائب المبكّرة لإحياء مجد العرب بعز الإسلام.
ومن شبّان ربيناهم للجزائر أشبالًا، ووتّرناهم لعدوّها قسيًّا ونبالًا، وصوّرنا منهم نماذج للجيل الزاحف، بالمصاحف، وعلّمناهم كيف يُحيون الجزائر، وكيف يَحيَون فيها.
...
قُل للجزائر الحبيبة هل يخطر ببالك من لم تغيبي قط عن باله؟ وهل طاف بك طائف السلو، وشغلك مانع الجمع وموجب الخلو، عن مشغول بهواك، عن سواك؟ إنه يعتقد أن في(4/182)
كل جزيرة قطعةً من الحُسن، وفيك الحُسنُ جميعُه، لذلك كنَّ مفردات وكنت جمعًا، فإذا قالوا: "الجزائر الخالدات" رجعنا فيك إلى توحيد الصفة وقلنا "الجزائر الخالدة"، وليس بمستنكر أن تُجمع الجزائر كلها في واحدة.
لن أنسى- يا أمّ- أنك كنت لي ماخِطة الغِرس (1)، وماشطة العِرس، فلا تنسي أني كنت لك من عهد التمائم إلى عهد العمائم، ما شغلت عنك إلا بك، ولا خرجت منك إلا عائدًا إليك، لا تنسي أنني ما زلت ألقى الأذى فيك لذيذًا، والعذاب في سبيلك عذبًا، والنصب في خدمتك راحة، والعقوق من بعض بنيك برًّا، والحياة في العمل لك سعادة، والموت في سبيلك شهادة، ولا تنسي أنني عشت غيظًا لعداك وشجًى في حلوقهم، وكدرًا لصفوهم، وأنني ما زلت أقارع الغاصبين لحقّك في ميدان. وأكافح العابثين بُحُرماتك في ميدان، وأعلّم الغافلين من أبنائك في ميدان، ثلاثة ميادين، استكفيتني فيها فكفيت، ورميت بي في جوانبها فأبليت، ولا منّة لي يا أمّ عليك، وإنما هي حقوق أوجبتها شرائع البر، قام بها الكرام، وخاس بعهدها اللئام.
خطت الأقدار في صحيفتي أن أفتح عيني عليك وأنت موثقة، فهل في غيب الأقدار أن أغمض عيني فيك وأنت مطلقة؟ وكتبت الأقدار عليّ أن لا أملك من أرضك شبرًا، فهل تكتب لي أن أحوز في ثراك قبرًا؟
...
لله في تقدير السنين أسرار، فبها تحسب الأعمار، وفيها تُؤتي الأشجار الثمار، وفيها يتجدد الحنين والادِّكَار، وفيها يهِيج الشوق بين المتجانسات فينشأ بين الفعل والانفعال وجود، ولقد غبتُ عن الجزائر سنةً وبعض السنة، فكنت أغالب الشوق فأغلبه، فلما قيل: هذا يوم 7 مارس- وهو موفِّي سنة الفراق- هجم عليّ من الشوق ما لا يُغلب، فتمثّلتُ بقول الوزير ابن الخطيب السلماني:
وجاشت جنودُ البين والصبر والأسى … عليّ فكان الصبر أضعفها جندا
غبت عن الجزائر بجسمي سنةً وبعض السنة، ولكنني ما غبت عنها بروحي وفكري دقيقة ولا بعض الدقيقة، وما عملت لغيرها عملًا ولا جزءًا من عمل، فلساني رطب بذكرها، وشخصي عنوان عليها ورمز إليها، وأحاديثي تعريف بها وإغلاءٌ لقيمتها، ومحاضراتي في
__________
1) الغرس بكسر الغين: شيء من الجنين تمخطه القابلة، والعرس بالكسر: الزوجة، يريد أنه ولد فيها وتزوّج، والولادة والزواج هما بابا الحياة.(4/183)
المحافل الحاشدة في الشرقين هي فضائلها شائعة، ومفاخرها ذائعة، ومباخرها ضائعة، وأعمالي تمجيد لها ورفع لشأنها، وتنويه بنهضتها وتشريف "لجمعية علمائها"، وما الجزائر إلا جمعية العلماء، لولاها لكانت الجزائر مثل جزائر واق الواق اسمًا يجري على اللسان، ومسمّى معدومًا في الوجود، لا يُنكِر هذا إلا صبيٌّ أو غبيٌّ، أو عقل وراءه خبي.
أشهد لقد كنت ألقَى في أسفاري أنواعًا من التعب فلا يهوّنها عليّ ولا يغريني بالإقدام على غيرها إلا يقيني أنها مقلد في قيمة الجزائر وقيمة جمعية العلماء، وكنت ألقى من إخواني في العروبة والإسلام إقبالًا عليّ واحتفاءً بي على نسق من فضلهم وتكرّمهم، فلا يزدهيني من ذلك إلا أنه احتفاء بالجزائر وبجمعية العلماء، وسعدت بلقاء كثير من عظماء الشرق وعلمائه وأمرائه وقادة الرأي فيه، فما عددت ذلك إلا من سعادة الجزائر وجمعية العلماء، ووالله ما أنسانيهما تبدّل المناظر، وتنوّع الأشخاص، ولا لفتني عنهما تعاقب المحاسن على بصري، وتوارد معانيها على بصيرتي، بل كانتا دائمًا شغلَ خواطري، ونجوى سرائري، وطالما طرقتني منهما أطياف، كأنها أسياف، فأرتاع وألتاع، وأكاد أطير شوقًا، ثم يمسح ذلك كلّه عن نفسي أن في سبيلهما سكوني واضطرابي، ولو خرجت تاجرًا لكنت في الأخسرين صفقة، ولو خرجت متروّحًا لكنت كمن هجر الجام ومديره، والروض وغديره، إلى جفاة السَّفْر (2)، وجفاء القفر.
...
أيها الوطن الحبيب:
رضيت من قسمة الله أن لم يجعلني أبًا لأبناء الصلب وأفلاذ القلب وحدهم، ولو خُلقتُ لهم لحبوت وأبَوْت (3)، وعثرت في مصلحتهم وكبوت، ولصنعت لهم ما تصنع الطير لأفراخها ... بل جعلني أبًا لأبنائك كلهم، يلوذون من علمي بكنف رعاية، ويعوذون من حلمي بسور حماية، فأسوق ضالَّهم ليهتدي، وأحثّ مهتديهم ليزداد هداية.
ورضيت فوق الرضى بأبوّتك لي أن رضيت ببنوّتي لك، ويمينًا لو تبرّجت لي المواطن في حُللها، وتطامنت لي الجبال بقُللها، لتفتنني عنك لما رأيت لك عديلًا، ولا اتخذت بك بديلًا، وإذا كانت أوطان الإسلام كلها وطن المسلم بحكم الدين، فإن اختصاصك بالهوى والحب من حكم الفطرة السليمة، ولنا في رسول الله أسوة حسنة في حبّه لمكّة وحنينه إليها.
__________
2) السفر: المسافرون.
3) أبوت أولادي: صنعت لهم ما يصنع الآباء لأبنائهم.(4/184)
ورضيت أكمل الرضى أن كان جهد المقل مني يرضيك، وما هو إلا لبنة في بنائك، وقطرة في إنائك، ورعيٌ لذمّتك، وسيٌ في كشف غمّتك، ورضيت من الجزاء على ذلك كله برضى الله وقبوله، فلا يهولنَّك فراغك مني أيامًا، فعسى أن يكون المسك ختامًا، وعسى أن تسعد بآثار غيبتي أعوامًا.
...
أيها الوطن الحبيب:
إخوتُك في الوطن العربي الأكبر رفاق سفر، ولكنهم ساروا بالأمس وخلفوك، وذكر بعضهم بعضًا ونسوك، فلتهنأ اليوم أن واحدًا من أبنائك ألحقك بالسائرين، ثم جلّى بك فأصبحتَ في المقدّمة، وذكّر بك الناسين، فلهجت باسمك الألسنة، وإنهم شركة مساهمة لم يكن لك فيها سهم، فلتقرّ عينًا بابنك الذي أصبحت به في الشركة ذا سهم رابح، كما كنت به في موقف النضال ذا سهم مصيب وأنت تدري من هو ذلك الابن.
أيها الوطن الحبيب:
أما الشوق إليك فحدّث عنه ولا حرج، وأما فراقك فشدّة يعقبها الفرج، وأما الحديث عليك فأزهار تضوّع منها الأرج، وأما ما رفعتُ من ذكرك فسئ من دب ودرج، وأما الانصراف عنك فإرجاف بالغيّ لم يجاوز صاحبه اللوى والمنعرج، وأما الأوبة فما زلت أسمع الواجب يهتف بي: أن يا بشير، إذا قضيت المناسك، فعجّل الأوبة إلى ناسك ... وسلام عليك يوم لقيت من "عقبة" وصحبه بِرًّا، فكنت شامخًا مشمخرًّا، ويوم لقيت من "بيجو" وحزبه سرًّا، فسلّمت مضطرًّا، وأمسيتَ عابسًا مكفهرًّا، وللانتقام مسرًّا، وسلام عليك يوم تصبح حرًّا، متهللًا مفترًّا، معتزًّا بالله لا مغترًّا.
ومعذرةً إليك إذا كنت ارتخيت، ثم انتخيت، فإنما هي نخوة الأُباة الأشاوس، يدفعون بها وساوس الصدور، ويدفعون بها في صدور الوساوس.(4/185)
من هو المودودي؟ *
هو الأستاذ العلّامة أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان؛ أصفه وصف العارف الذي قرأ وشاهد، فهو رجل لم ترَ عيناي كثيرًا من مثله، بل لم أرَ مثله في خصائص امتاز بها عن علماء الإسلام في هذا العصر، منها الصلابة في الحق، والصبر على البلاء في سبيله، والعزُوف عن مجاراة الحاكمين فضلًا عن تملّقهم، وهو أفقه من رأيته أو سمعت به في باكستان والهند في حقائق الإسلام تشريعًا وتاريخًا، واسع الاطّلاع، دقيق الفهم، بارع الذهن، نيّر الفكر، كبير العقل، مشرق الروح على تجهّم في ظاهره، سديد التصرّف في المقارنة والموازنة والاستنباط، مستقلٌّ في الاستدلال إلى حد، يمضي من الشريعة إلى مقاصدها العامة، دون احتفال بالجزئيات إلا بمقدار ما يدخل من هذه إلى تلك، عميق الغوص في استخراج النكت، متين العقيدة، تظهر آثارها على أعماله ومواقفه قوة وثباتًا، كما تظهر آثار الغذاء الصالح على البدن فراهةً ونعمة، فلسفي النزعة العلمية لا العقلية، يذوده افتتانه بالنص والواقع عن أن يكون فيلسوفًا عقليًا، ولولا ذلك لكانه، فهو يؤمن بالنص، ويؤمن بعمل العقل في النص، ثم لا يزيد إلا بمقدار، جمهوري العشرة ولكنه خصوصي الزعامة، يرى أن لها- لا للزعيم- حقوقًا تحفظ النظام، وتوزّع الأعمال على الكفاءات، وتقف بالمتطفلين عند حد، فهمت هذا من مجموع أحواله ومن ملابستي لبعض أنصاره، فصورته بهذه العبارات، وأنا أرى أن الفرق بين الزعامة والزعيم شيء دقيق، ودقته هي التي غرّت الزعماء بأنفسهم، وغرّت الأتباع بهم.
وهو هيوبة للتحدّث بالعربية، مع دقة فهمه للقرآن والحديث وكتب الدين، واقتداره على تطبيقها، ويرجع سبب ضعفه في الكلام بالعربية إلى قلة استعماله لها في الحديث والكتابة، فهو مع كثرة مؤلفاته التي تبلغ العشرات لم يكتب كتابًا واحدًا بالعربية وكل
__________
* نُشرت في العدد 232 من جريدة «البصائر»، 5 يونيو سنة 1953.(4/186)
مؤلفاته بالأوردية والإنكليزية، وكلها في المواضيع الإسلامية الخطيرة، التي تقتضيها النهضة والتجديد، ويكثر الخوض فيها في هذا العصر، ويتناولها الغربيون بالنقد والتشويه، وللأستاذ مشاركة قوية في معارف العصر واطّلاع على حضارته، وهو يزنها بالميزان القسط، فلا إنكار ولا اندفاع، بل إنه يقف منها موقف الحذر والانتباه، وقد ترجم أحد أعضاء الجماعة طائفةً من كتبه إلى العربية فمكّن بذلك أبناء العرب من الاطّلاع على أفكاره، وهذا العضو هو صديقنا الوفي الشيخ مسعود عالم الندوي، وقد أهدى لي جميعها منذ سنوات وأنا في الجزائر، فلمحتُ فكرًا شفّافًا، ورأيًا حكيمًا، وفكرًا عميقًا، وتساوقًا بين الألفاظ ومعانيها، لا ينم على أن هناك انتقالًا من لغة إلى لغة، وتبيّنت السرّ في ذلك، وهو أن الموضوعات إسلامية، واللغتان إسلاميتان، والمؤلف والمترجم سليلا فكرة، فعملت الروح عملها العجيب في ذلك، وصديقنا مسعود- لطف الله به- ثاني اثنين في القارة الهندية يحسنان الكتابة بالعربية كأبنائها، والآخر هو الأستاذ أبو الحسن الندوي.
والعلّامة المودودي وثيق الصلة بجمعية العلماء الجزائريين، من طريق جريدة «البصائر»، متتبع لحركتها، معجب بها وبأعمالها، قويّ الشعور بقرب المسافة بين مبادئها ومبادئه. وهو يحمل بين جنبيه قلبًا عامرًا بالاهتمام بأحوال المسلمين، والأسى لحاضرهم، والإعجاب بماضيهم، والتنويه بالنظام الحكومي في الإسلام، يراه أعدلَ نظام إنساني، وأضبط نظام للنزوات البشرية، وأحفظ نظام للمصالح المتشابكة، ومن هنا نشأت فكرته في الحكومة الإسلامية، وقد سرّ كثيرًا بالمعاني التي تنطوي عليها رحلتي، لأن تقارب المسلمين بالتعارف يُفضي بهم إلى التعاون على إصلاح شؤونهم، وهو ينعى عليّ شيئًا واحدًا وهو أنني لم أشتغل بتأليف كتب على أحوال المسلمين على النمط الذي سمعه من كلامي، فأجبته بما لم يقتنع به لأنه يعتقد أن هذه الأحاديث العادية التي سمعها مني كتب لا ينقصها إلا التدوين، ورأيه في التأليف أن تكون الكتب صغيرة الحجم حتى تسهل قراءتها وتصريفها، وهذا هو المسلك الذي سلكه في كتبه فكلها كراريس مستقلّة بموضوعات.
...
لقيي جماعة من أصحابه لأوّل نزولي بكراتشي، واتصلوا بي اتصالَ الأخوة والمشرب، فوجدتهم يعرفون عن جمعية العلماء ما يمكن أن يستفاد من جريدة «البصائر»، وسمع الأستاذ المودودي بوصولي وهو بمقامه من مدينة لاهور عاصمة البنجاب، فانتظر زيارتي لها فلما عزمت على الرحلة إلى الداخل وكان نظام الرحلة يقتضي أن أسافر إلى كشمير أولًا وأن لا أنزل في لاهور، كتبت إليه أن يلقاني بمحطة لاهور، حرصًا مني على التعارف الشخصي،(4/187)
قبل زيارتي للاهور، ولكن الرسالة لم تصله في حينها لأن الحكومة تعطل رسائله للمراقبة، لما بينها وبينه من الانحراف الذي سنتعرّض له، ولما بلغته الرسالة أسف وأرسل من ورائي رسولًا إلى راولبيندي التي هي منتهى رحلتي بالقطار وبينها وبين لاهور مئات الأميال فأدركني الرسول بها وبلّغني سلامه واسفه وانتظاره.
فلما رجعت من كشمير وبشاور لم أشأ أن أزعجه فلم أخبره إلا بعد نزولي بالفندق في لاهور، فزارني. وتعارفت الأجساد بعد تعارف الأرواح فإذا هو رجل رَبعة، مهيب الطلعة، ممتلى صحة وحيوية، يغلب السوادُ البياض على لحيته الكثة المهيبة، ثم استدعاني إلى داره، وهي مركز الجماعة، فاجتمعنا على الشاي في ثُلّة من أعضاء الجماعة، وطلبوا مني كلمة ونحن على موائد الشاي، فخطبت وأفضت في المواضيع الإسلامية الشاغلة للأفكار، وكان- خفّف الله محنته- يستوقفني كلّما علت لغتي وتخللتها الإشارات والكنايات، ليترجم له أحد تلامذته البارعين في العربية ما غمض عليه، تقصيًا منه للمعاني وحرصًا على أن لا يفوته منها شيء.
...
أما ما بينه وبين حكومة باكستان، فأكبر أسبابه وأظهرها أن مبدأ الجماعة الإسلامية هو إقامة حكومة إسلامية في باكستان بالمعنى الصحيح الكامل الذي لا هوادة فيه ولا تساهل، يتضمن دستورها الحكم بما أنزل الله في المعاملات والحدود والقصاص، وللأستاذ المودودي في ذلك آراء بعيدة المدى ومناهج وتخطيطات مدروسة لا تقبل الجدل، بل له دستور كامل مهيّأ وقد نقلت منه مجلة "المسلمون" الغرّاء التي تصدر بمصر قطعًا دلّت على ما ذكرناه وعلى انفساح ذرع العلّامة المودودي في فهم النظام الإسلامي، وحجة الجماعة في ذلك أن المسلمين ما رضُوا بالانفصال عن الهند وما هانت عليهم التضحيات الجسيمة التي لم تضحّ بها أمةٌ في الدماء والأموال إلا في سبيل إقامة دينهم على حقيقته، أما إبقاء ما كان على ما كان فهو لا يساوي تلك التضحيات ولا جزءًا منها.
وحكومة باكستان- وإن كانت إسلامية المظهر- مدنيةُ المخبر، لم تزل تسير على النُظم التي وضعها الإنكليز للهند، وهي تريد أن يكون دستورها إسلاميًّا لأن الشعب يريد ذلك، أو لأن معظم الشعب يريد ذلك، ولكنها تريده تدريجيًّا ومع التسامح والتسهّل، ومراعاة مقتضيات الأحوال؛ وهناك طائفة من المستغربين لا تريد الدستور الإسلامي، ولكنها تعمل في الخفاء غالبًا لقلّتها بالنسبة إلى الشعب، ويعتقد المتبصّرون أن هذه الطائفة تلقى تأييدًا أجنبيًّا قويًّا، ولا تتّسع هذه الكلمة لترجيح إحدى الفكرتين، وإن كان لنا في ذلك رأيٌ صارحنا به بعض المسؤولين في ذلك الحين.(4/188)
لهذا الذي شرحناه ضاقت الحكومة ذرعًا بالمودودي وتشدّده، وصلابته، وصراحة آرائه، وتسرّعه (في نظرها) فكانت تحبسه كلما ظهرت آراؤه المؤثرة، أو فتاواه في الحوادث الخاصة، وتنظر إليه بعين الحذر دائمًا، وقد نسبت إليه فتوى في قضية كشمير أيام اشتدادها والاصطدام المسلّح فيها، ووصفت بأنها سلاح في يد العدو، ومَدَد للدعاية الهندوسية، وقد كنتُ كثير الاهتمام بهذه الفتوى، شديد الحرص على أن أطّلع على حقيقتها، لأنها حكيت لي على وجه لو صحّ لكنت أول المخالفين لها، وقد ألقيت السؤال عنها في مجلس الأستاذ في داره، ولكن السؤال ضاع في معمعة المواضيع التي كان الحديث يتشقق عنها. ثم أنستني أحاديث المجلس إعادة السؤال، ولم تزل في نفسي حزة من فوات تلك الفرصة، ولا أدري هل تعود. وكل ذلك الحرص مني لآخذ الحقيقة من مصدرها ولأتباحث مع الأستاذ فيما يُنتقد عليه إن كانت حقًّا.
ومع احتفاظنا برأينا في الخلاف بين المودودي وبين الحكومة في إقامة حكومة على أساس دستور إسلامي، فإننا نقول كلمة صريحة لوجه الحق وهي أن المودودي وحده أقدر رجل على وضع الدستور الإسلامي المنشود لدولة باكستان، وأبرعُ عالم في انتزاع ذلك الدستور من القرآن والحديث، ومن المقاصد العامّة في التشريع الإسلامي والأصول المتّفق عليها بين الأمة، وأنا مع هذا مؤمن بأن العقبة الكأداء في طريق المودودي ودستوره ليست هي الحكومة وحدها بل العقبة التي تنبهر فيها الأنفاس هي جمود فقهاء المذاهب، وما أكثر المذاهب في باكستان! ...
...
وفي الأشهر الأخيرة حدثت اضطرابات في باكستان، وسالت دماء، وأمسكت كثير من الجرائد العربية عن شرحها، فلم نتبيّن دواعيها بالتفصيل ولا أغراضها، وأغلبُ الظن أنها تدور على "إسلامية الحكومة". ولعلّ الحكومة رأت آثار المودودي وأصحابه فيها بارزة فسجنته وسجنت كثيرًا منهم، ثم أحالته على محكمة عسكرية عقدت بمدينة لاهور فحكمت عليه بالإعدام وجاءت الأخبار بأنها خففت حكم الإعدام بالسجن أربعة عشر عامًا، فاهتزّ المسلمون بباكستان لهذا الحكم القاسي بنوعيه الثقيل والخفيف، وانصبّ على الحكومة تيّار من الاحتجاج والتظاهر بالغضب، ولا نشك أن تخفيف الحكم أثر من آثار تلك الغضبة.
ثم قامت الهيئات الإسلامية القوية بالاحتجاج والاستنكار من مصر وسوريا والعراق والكويت، وتأكّدت عندي الأخبار وأنا بالكويت فامتعضت- علم الله- لذلك وحزنت لما بيني وبين الرجل من صلات ولما بينه وبين جمعية العلماء من تقدير. ولأن الرجل ليس رجل(4/189)
إقليم أو قطر، إنما هو للمسلمين كلهم، فمن بعض حقّه علينا جميعًا أن نسعى في خلاصه من السجن بعد أن تراجعت الحكومة عن حكم الإعدام.
لذلك أبرقتُ البرقية المنشورة بعد هذه الكلمة لكل من حاكم باكستان العام ورئيس حكومتها باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أمثلها أنا وولدها ومفخرتها الأستاذ الفضيل الورتلاني وباسم المغرب العربي كله لأن حظه في الإسلام والانتصار لحُماته ليس بقليل، وإن عسى أن تراعي حكومة باكستان المسلمة هذا الشعور الإسلامي المتدفق بالأمس فرحًا بوجودها، والمتدفق اليوم غيرة على سمعتها أن يقال عنها إنها تحارب حرّية الرأي بل حرية الدين، وأن تدرك أنّ ما ينادي به المودودي وتعدّه هي جريمة يستحقّ عليها الإعدام أو السجن، هو رأي جميع المسلمين فيها. فكلهم يتمنّى ويطالب بأن تكون حكومة باكستان إسلامية لتكون فخرًا للمسلمين ومرجعًا وملاذًا وعزًّا للإسلام وملجأً ومعاذًا.
...
كان من تمام الواجب عليّ لصديقي- بعد أن انتصرت له بجهد المقل- أن أعرّف به بني وطني وقرّاء «البصائر»، ليعرفوا أي رجل غضبتُ له هذه الغضبة. ولعلّ البشائر تحمل إلينا نبأ الإفراج عليه، فينقلب غضب المسلمين رضى، وحزنهم فرحًا، وحسب المودودي جزاء في الدنيا على جهاده للإسلام أن يجمع المسلمون على الانتصار له هذا الإجماع، وما عند الله خير وأبقى.
وسلام على المودودي طليقًا وسجينًا.(4/190)
نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستان
وإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حضرة صاحب الفخامة السيد غلام محمد حاكم باكستان العام- كراتشي،
حضرة صاحب الدولة السيد محمد علي رئيس الوزارة الباكستانية- كراتشي:
شاع في أنحاء العالم أن المحكمة العسكرية بمدينة لاهور حكمت بالإعدام على عالم من أكبر علماء الإسلام ومن أعظم دعاته، وهو الشيخ أبو الأعلى المودودي، ثم شاع الخبر بأن الحكومة الباكستانية خففت هذا الحكم إلى السجن أربع عشرة سنة.
إن هذه الأخبار أحزنت مئات الملايين من المسلمين في العالم، وسرّت أعداء الإسلام كلهم، ومهما تكن الدواعي لهذه الأحكام القاسية فإن المسلمين في جميع الدنيا لا يرضون لحكومة باكستان الإسلامية أن يسجّل عليها التاريخ قتل علماء الدين أو سجنهم، لأنها لا تعدم بإعدام المودودي شخصًا، وإنما تحطّم سيفًا من سيوف الإسلام، وتسكت صوتًا من أصوات الإسلام، وتطمس مفخرة من مفاخر الإسلام، ويا فرحة أعداء الإسلام بذلك.
إننا باسم جمعية العلماء الجزائريين وباسم ثلاثين مليون مسلم في المغرب العربي نتوجّه في شدة وإلحاح إلى دولة باكستان الرشيدة التي نفخر بها ونعلّق عليها الآمال في إعلاء كلمة الإسلام أن ترجع عن هذه الأحكام التي تزعج نفوس المسلمين، وتطلق سراح المودودي عاجلًا لتردّ الاطمئنان إلى نفوس جميع المسلمين.
إن فرح المسلمين بنشأة باكستان، وعطفهم عليها، وانتصارهم لقضاياها، هو رأس مال عظيم للدولة الباكستانية، الواجب أن تزكيه بإطلاق حرية رجل من أكبر رجال الإسلام مهما كانت جريمته السياسية فإنها لا تعدو أن تكون جريمة رأي.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
ورئيس تحرير جريدة «البصائر»
الفضيل الورتلاني
عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
والداعية الإسلامي(4/191)
في الكويت وبغداد
ودمشق وعمّان ومكّة
(من ماي إلى أغسطس 1953)
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/193)
حكمة الصوم في الإسلام *
يسمّي الناس هذا الشهر العظيم بشهر الصوم، أو شهر الإمساك فيقتصرون على الظاهر من أمره، فيبتدئ التقصير منهم في جَنْبِه من تسميته بأهون خصائصه ووصفه بأيسر صفاته، ووزنه بأخفّ الموازين، وشيوع هذه المعاني السطحية بين الناس يُفضي بالنفوس إلى تأثّرات باطنية، تبعدُها عن الحقائق العليا وتنزل بها إلى المراتب الدنيا، وقد توجّهها إلى جهات معاكسة للوجهة المؤدية إلى الله، ومن نتائج ذلك أن الناس أصبحوا يتعاملون مع الله على نحو من معاملة بعضهم بعضًا، فالنفوس الراهبة تخاف الله خوفًا تفضله على قياس الخوف من الملوك والأقوياء، مع أن الخوف من المخلوق يقتضي البعد عنه، والحذر منه والبغضَ له، أما الخوف من الله فإنه يقرب إليه، ولا يبعد عنه، ويثمر الحبّ والرضى والسكينة والاطمئنان، فأنّى يقاس أحدهما على الآخر! ولكنه الضلال في فهم العبادة جر إلى الضلال في فهم آثارها ومعانيها، ثم إلى الحرمان من آثارها ومعانيها؛ والنفوس الراغبة تطمع في الله طمعًا تقيسه بمقياس الطمع في المخلوق، فتلحف في السؤال ثم تضجر، وتعبده تملّقَا لا تعلّقًا، وكأنها تعطيه لتأخذ منه، وكأن العبادة عملية تجاريّة بين طرفين، مبنى أمرها على المصالح والمعاوضات، ومن غريب أمر هذه النفوس أنها تستأنس لهذا المعنى بعبارات القرآن مثل قوله تعالى: {هَئ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} الآية، وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} الآية، وقوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ ائمُؤْمِنِينَ} الآية، ولم تدرِ أن هذه أمثال ضربها الذي لا يستحي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها، بالمُحَسّات المدركة لجميع الناس، ليستدرجهم منها إلى المعقولات العليا التي لا يعقلها إلا العالمون.
ما مسخ العبادات عندنا وصيّرها عادمة التأثير، إلا تفسيرُها بمعاني الدنيا، وتفصيلُها على مقاييسها، فالخوف من الله كالخوف من المخلوق، والرجاء في الله على وزن الرجاء في
__________
* نشرت في العدد 232 من جريدة «البصائر»، 5 جوان 1953.(4/195)
غيره، ودعاؤه كدعاء الناس، والتوكّل كالتوكّل، والقرب كالقرب، والعلاقات كالعلاقات، وعلى هذه الأقيسة دخلت في المعاملات مع الله معاني التحيّل والمواربة والخلابة، فدخلت معها معاني الإشراك، فذهبت آثار العبادات وبقيت صُوَرُها. فلم تنهَ الصلاة عن الفحشاء والمنكر، ولم يهذّب الصوم النفوس، ولم يكفكف من ضراوتها، ولم يزرع فيها الرحمة، ولم يغرها بالإحسان.
ولو أن المسلمين فقهوا توحيد الله من بيان القرآن، وآيات الأكوان، لما ضلّوا هذا الضلال البعيد في فهم المعاملات الفرعية مع الله- وهي العبادات- وتوحيد الله هو نقطة البدء في طريق الاتصال به ومنه تبدأ الاستقامة أو الانحراف فمن وحّد الله حق توحيده، قدره حق قدره، فعرفه عن علم، وعبده عن فهم، ولم تلتبس عليه معاني الدين بمعاني الدنيا، وإن كانت الألفاظ واحدة، وإن أَدْرِي أمن رحمة الله بنا، أم من ابتلائه لنا أن جعل لغة الدين والدنيا واحدة؟
أما شهر رمضان عند الأيقاظ المتذكّرين، فهو شهر التجليات الرحمانية على القلوب المؤمنة، ينضحها بالرحمة، وينفح عليها بالرّوح، ويخزها بالمواعظ، فإذا هي كأعواد الربيع جدّةً ونضرة، وطراوة وخضرة، ولحكمة ما كان قمريًا لا شمسيًا، ليكون ربيعًا للنفوس متنقلًا على الفصول، فيروّض النفوس على الشدة في الاعتدال، وعلى الاعتدال في الشدة.
إن رمضان يحرّك النفوس إلى الخير، ويسكّنها عن الشر، فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة، وأبعد عن الشر من الطفولة البلهاء، ويطلقها من أسر العادات. ويحرّرها من رقّ الشهوات، ويجتثّ منها فساد الطباع، ورعونة الغرائز، ويطوف عليها في أيّامه بمحكمات الصبر، ومثبّتات العزيمة، وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله والقرب منه.
هو مستشفى زمانيّ، يستطبّ فيه المؤمن لروحه بتقوية المعاني الملكية في نفسه، ولبدنه بالتخفّف من المعاني الحيوانية.
...
لكل عبادة في الإسلام حكمة أو حِكَم، يظهر بعضُها بالنصّ عليه أو بأدنى عمل عقليّ، ويخفى بعضها إلا على المتأمّلين المتعمّقين في التفكير والتدبّر، والموفّقين في الاستجلاء والاستنباط، والحكمة الجامعة في العبادات كلّها هي تزكية النفس وتطهيرها من النقائص الروحية، وتصفيتها من الكدرات، وإعدادُ ها للكمال الإنساني، وتقريبها للملإ الأعلى، وتلطيف كثافتها الحيوانية، وينفرد الصوم من بين العبادات بأنه قمعٌ للغرائز عن الاسترسال في الشهوات التي هي أصل البلاء على الروح والبدن، وفطم أمهات الجوارح عن أمهات الملذات، ولا(4/196)
مؤدب للإنسان كالكبح لضراوة الغرائز فيه، والحدّ من سلطان الشهوات عليه، بل هو في الحقيقة نصر له على هذه العوامل التي تبعده عن الكمال، وكما يحسن في عرف التربية أن يؤخذ الطفل بالشدة في بعض الأحيان، وأن يعاقب بالحرمان من بعض ما تميل إليه نفسه، يجب في التربية الدينيّة للكبار المكلّفين أن يؤخذوا بالشدة في أحيان متقاربة كمواقيت الصلاة {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ائخَاشِعِينَ}، أو متباعدة كشهر الصوم، فإنه لا يأتي إلا بعد أحد عشر شهرًا، كلها انطلاق في المباحات، وإمعان فيها، واسترسال مع دواعيها، وإن شهرًا في التقييد الجزئي بعد أحد عشر شهرًا في الانطلاق الكلي لقليل، وإن جزءًا من اثني عشر جزءًا ليسير في حكم المقارنات النسبية، فهو يسر في الإسلام ما بعده يُسر، وسماحة ما بعدها سماحة.
لو أن مسرفًا في تعاطي الشهوات، يطاوع بطنه في التهام ما حلا من المطاعم وما مرّ، وما برد منها وما حرّ، ويطاوع داعيته الأخرى باستيفاء اللذة إلى أقصى حد، لكانت عاقبة أمره شقاءً ووبالًا، ونقصًا في صحته واختلالًا، ولكانت الحمية منه في بعض الأوقات واجبًا مما يأمر به الطبيب الناصح، تخفيفًا على الأجهزة البدنية، وادّخارًا لبعض القوّة إلى الكبر، وإبقاءً على اعتدال المزاج، وتدبيرًا منظمًا للصحة، بلى ... وإن ذلك لهو الحكمة البارزة في الصوم، تطبيقًا للتدبير في شهر، وإرشادًا إليه في بقية الأشهر: وإذا كان كثير من المسلمين قد أفسدوا اليوم هذه الحكمة بالإفراط في التمتّع بالشهوات في ليالي رمضان حتى كأنها واجبات فاتتهم، فهم يقضونها مضاعفة مع واجبات الليل، وأفسدوا أجر التعب فيه بنوم نهاره، وسهر ليله في غير طاعة، فإن ذلك لا يقدح في الحكمة الدينية، لأن من كمال هذه الحكمة أن يقتصد المسلم في كل شيء وفي كل وقت، وأن يجمع بين سنّة الدين وبين سنّة الكون في جعل الليل لِباسًا والنهار مَعاشًا.
...
إن هذا الاستعداد المتناهي الذي يستعدّه مسلمو اليوم لرمضان بالتفنن والاستكثار من المطاعم والمشارب مخالف لأوامر الدين، منافٍ لحفظ الصحة، مناقض لقواعد الاقتصاد. ولو كان هؤلاء متأدّبين بآداب الدين لاقتصروا على المعتاد المعروف في طعامهم وشرابهم، وأنفقوا الزائد في طرق البر والإحسان التي تناسب رمضان، من إطعام الفقراء واليتامى والأيامى، والغالب أن يكون لكل غنيّ مسرف في هذا النوع جارٌ أو جيران من الفقراء والأيامى واليتامى، وهم أحقّ الناس ببرّ الجار الغني، ولو فعل الأغنياء والمسرفون ذلك لأضافوا إلى قربة الصوم قربة أخرى ذات قيمة عظيمة عند الله، وهي الإحسان إلى المعدمين، وذات مزية في المجتمع، لأنها تقرّب القلوب في الشهر المبارك، وتشعر الصائمين كلّهم بأنه شهر إحسان ورحمة وتوكيد للأخوة الإسلامية.(4/197)
وإذا كان من لطائف الحكم المنطوية في فريضة الصوم قمع الغرائز، فمنها أيضًا إمرار العوارض الجسمية على من لم يتعوّدها، ففي الناس مترفون منعّمون، يستحيل في العادة أن يذوقوا ألم الجوع لما تيسّر لهم من أسباب الشبع، فكان في هذا التجويع الإجباري بالصوم إشراك لهم مع الفقراء في الجوع حتى يذوقوا طعمه، ويتصوّروه على حقيقته، إذا وقف أمامهم سائل جائع يشكو الجوع ويشكو آلامه ويطلب العون بلقمة على دفعه، ومن ذاق الألم من شيء رقّ للمتألمين منه.
وتصوّر أنت غنيًّا واجدًا ميسّر الأسباب لا يطلب شيئًا من شهوات البطن إلا وجده محضرًا، ثم يقف أمامه فقير عادم لم يذق الطعام منذ ليال، فهو يتفنن في وصف الجوع وآلامه، والمضطر حين يطلب الإحسان، أخطب من سحبان، فهل ترى نفس هذا الغني المنعّم تتحرك للخير، وتهتزّ للإحسان، كما تتحرّك وتهتزّ، وتسرع إلى النجدة نفس من سبق له الحرمان من الطعام والتألّم لفقده؟
...
ومن مزايا هذه العبادة في غير هذا الباب أنها عبادة سلبيّة، بمعنى أنها ليس فيها عمل إيجابي من أعمال الجوارح، كالصلاة والحج، وحتى الزكاة فإن فيها نقلًا ودفعًا، وإخراجًا، وإنما الصّوم إمساك عن شيء كان مباحًا في أيام غير رمضان، ثم يعود إلى أصله بعد خروج رمضان، والإمساك وإن كان عملًا إلا أنّه سلب وانتفاء، وسرّ هذه المزيّة أنه أبعد العبادات عن الرياء الماحق للأعمال، حتى إن التسميع فيه- وهو قول الصائم: إني صائم- لا يحمله السامع على أنه تمدّح بالصوم، وليس فيه عمل يُرى، ولا أثر حقيقي أو مصطنع كأثر السجود في الجباه، إلا الشحوب الذي يكون من المرض كما يكون من الصوم، ولهذا البعد من الرياء ورد في حديث قدسي: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».
ومن عظم منزلة الصوم عند الله أن شرعه عقوبةً وكفارةً عن ارتكاب بعض المخالفات كالحنث في اليمين، والتمتعّ بالعمرة إلى الحج، والظهار، وقتل الخَطإ، وفطر العمد في رمضان، ولم يجعل هذا لغيره من العبادات والأركان، فلا تكفير عن ذنب بصلاة ولا حجّ ولا مال من جنس الزكاة.
...
وفي التعريف الفقهي للصوم بأنه إمساك عن شهوتين اقتصارٌ على ما يحقق معناه الظاهري الذي تناط به الأحكام بين الناس، وتظهر الفروق، فيقول الفقيه: هذا مجزئ، وهذا غير(4/198)
مجزئ ويقول العامي: هذا مفطر وهذا صائم، أما حقيقة الصوم الكامل التي يناط بها القبول عند الله، فهو إمساك أشدّ وأشقّ لأنه يتناول الإمساك عن شهوات اللسان أيضًا، من كذب وغيبة ونميمة وشهادة زور وأَيْمان غموس وخوض في الأعراض، وغير ذلك مما يسمّى حصائد الألسنة. فالصائم الموفّق هو الذي يفطم لسانه عن هذه الشهوات الموبقة، وأشدّها ضررًا الغيبة وإشاعة الفاحشة.
وهذا النوع من الإمساك يدخل في معنى الصوم لغة وفي مفهومه شرعًا، ونصوص الدين تدل على أنه شرط في القبول، مثل: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ ائجُوعُ وَائعَطَشُ»، ومن اللطائف القرآنية أن الله تعالى وصف المغتاب بأنه {يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} وهذه الكناية البديعة تصوّر هذا النوع من الإفطار الخفيّ أبشع تصوير، يستشعر السامع منه أن المأكول لحم إنسان، وكفى به شناعة، وبأنه ميت، والميت يذكّر بالميتة، وذلك أشنع وأبلغ في التنفير.
أما هذه الحالات التي أصبحت لازمةً للصوم بين المسلمين، ويعتذرون لفاعلها بأنه صائم، مثل سرعة الغضب، والانفعال، واللجاج في الخصومة على التوافه، والاندفاع في السباب لأيسر الأسباب- فكلها رذائل في غير رمضان، فهي فيه أرذل، لأنها تذهب بجمال الصوم وبأجره، وكل قبيح اقترن بجميلٍ شانه، وأذهب بهاءه ورونقه، وكم رأينا من آثار سيئة ترتّبت على ذلك، والجاهلون بسرّ الصوم وحكمه يعتقدون أن ذلك كلّه من آثار الصوم وعوارضه، وكذبوا وأخطأوا ... فإن الصوم يؤثر في نفوس المؤمنين الضابطين لنزواتهم عكسَ تلك الآثار: هدوء واطمئنان وتسامح وتحمّل، وورَد لدفع ذلك من آداب النبوّة أمرُ الصائم إذا شارّه غيره أن يقول: «إِنِّي صَائِمٌ».
فعلى الدعاة إلى الحق والوعّاظ المذكّرين وخطباء المنابر أن يحيوا آداب الصوم في نفوسهم، ثم يذكّروا الناس بها حتى تحيا في نفوس الناس، ومن صبر على الصوم المديد، في الحر الشديد، ابتغاء القرب من الله فليصبر على ما هو أهون ... ليصبر على الأذى المفضي إلى اللجاج المبعد عن الله.(4/199)
تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، وهو المستعان، ولا إله غيره، ولا رب سواه، ونسأله الهداية في الختم وفي البداية، ونصلي ونسلم على رسوله الداعي إلى الدين القويم، والمرشد إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وأصحابه قالة الحق، وحاصة الشق، وألسنة الصدق، ورتقة الفتق، ونعوذ بالله من زيغ العقيدة، وضلال الرأي، ومرض الفهم، وطغيان الوهم، ومن القول على الله بغير علم.
اللهمّ اجعلنا هادين مهديين، ومتّبعين لا مبتدعين، وواقفين عند حدودك لا معتدين، واجعل ألسنتنا تابعة لقلوبنا، وقلوبنا متصلة بك، حتى نكون قائلين بالحق، عاملين له، واصلين بالقول والعمل إلى مرضاتك.
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَئتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.
...
وهذه صحيفة أخرى من صحائف الأبرار، تدعو إلى الحق- إن شاء الله- على بصيرة، وتظاهر أخواتها المتفرقات في العالم الإسلامي، اللواتي سبقنها إلى الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، ونشر دينه الحق، ونشر سنّة نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، كصحيفة «البصائر» في الجزائر، ومجلتَي "الدعوة" و "المسلمون" في مصر، ومجلة "الأخوة الإسلامية" في بغداد، فهذه هي الصحائف التي رفعت الصوت بالحق، في زمن عمّ فيه الباطل، وبثّت النور في أفق غمره الظلام، وأن عسى أن يكون لها من مجلة "الإرشاد" ولي ونصير، ومنجد وظهير، وأن عسى أن تلتقي بهذه الأخوات، وتجتمع هذه الأصوات على بعث الأموات، وإحياء الموات، وتدارك الفوات، وأن عسى أن تنسخ هذه الصحائف أحكام الزمن الحائف وتصدّ بحزم القائد العارف، تيّاره الجارف، ما دامت من ورائها عقائد ثابتة، وعزائم مصمّمة، وألسنة
__________
* مجلة "الإرشاد"، أوت 1953، الكويت.(4/200)
مبينة، ومن أمامها جماعات تحسن الإصغاء، وتستجيب للدعاء، ومن وراء الجميع عون من الله يحيل الضعف قوة، وعناية منه تنير الطريق، ومدد من توفيقه يأخذ باليد إلى الحقيقة، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
...
الدعوة إلى الله وظيفة أهل الحق من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي أثمن ميراث ورثوه عنه، وهي أدقّ ميزان يوزن به هؤلاء الورثة ليتبين الأصيل من الدخيل، فإذا قصر أهل الحق في الدعوة إليه ضاع الدين، وإذا لم يحموا سننه غمرتها البدع، وإذا لم يجلوا محاسنه علتها الشوائب فغطّتها، وإذا لم يتعاهدوا عقائده بالتصحيح داخلها الشك، ثم دخلها الشرك، وإذا لم يصونوا أخلاقهم بالمحافظة والتربية أصابها الوهن والتحلّل، وكل ذلك لا يقوم ولا يستقيم إلا بقيام الدعوة واستمرارها واستقامتها على الطريقة التي كان عليها محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الهداة من العلم، والبصيرة في العلم، والبيّنة من العلم والحكمة في الدعوة، والإخلاص في العمل، وتحكيم القرآن في ذلك كله.
ولا يظنن ظان أن الدعوة إلى الله ختمت بالقرآن، وأنه أغنى عنها فقطع أسبابها، وسدّ أبوابها، بل الحقيقة عكس ذلك فالقرآن هو الذي وصل الأسباب، وفتح الأبواب، وجعل الدعوة سنّة متوارثة في الأعقاب، وما دامت عوارض الاجتماع البشري وأطوار العقل الإنساني تدني الناس من القرآن إلى حد تحكيمه في الخواطر والهواجس وتبعدهم منه إلى درجة الكفر به - فالقرآن ذاته محتاج إلى دعوة الناس إليه- بل الدعوة إليه هي أصل دعوات الحق، ولم يمر على المسلمين زمن كانوا أبعد فيه عن القرآن كهذا الزمن، فلذلك وجب على كل من امتحن الله قلبه للتقوى، وآتاه هداه أن يصرف قوّته كلها في دعوة المسلمين إلى القرآن ليقيموه ويحقّقوا حكمة الله في تنزيله، ويحكموه في أهواء النفوس ومنازع العقول، ويسيروا بهديه وعلى نوره فإنه لا يهديهم إلا إلى الخير ولا يقودهم إلا إلى السعادة.
...
الحق والباطل في صراع، منذ ركّب الله الطباع، وإنما يظهر الحق على الباطل حين يحسن أهله الدعوة إليه على بصيرة، والدفاع عنه بقوة وقد قام الإسلام على الدعوة، فقوّته- يوم كان قويًا- آتية من قوة الدعوة، وضعفه- يوم أصبح ضعيفًا- آت من ضعف الدعوة.
وقد حييت الدعوة إلى القرآن في زمننا هذا على صورة لم يشهد تاريخ الإسلام لها مثيلًا بعد الصدر الأول وقرونه الفاضلة، وارتفعت الأصوات بها في جوانب العالم الإسلامي، متعددة النواحي متّحدة الغايات والمناحي، فمن دعوة إلى عقائد القرآن وعدم الحيدة عنها في توحيد الله، وتنزيهه وتصحيح المعاملة معه، وتجديد الصلة به، ومن دعوة إلى إحياء آدابه في(4/201)
النفوس، ومن دعوة إلى إحياء أحكامه وجعلها أصولًا للقوانين الدنيوية، ومن دعوة إلى درس حقائقه العليا وآياته في الأنفس والآفاق، ومن دعوة إلى الاهتداء بإرشاده إلى أسرار الكون التي كشفت عنها العلوم التجريبية في عصرنا هذا، وغفل عنها المسلمون ففاز باكتشافها واستثمارها غيرهم، وستفضي هذه الدعوة المتجددة إلى ما أفضى إليه أصلها من خير وعزّ وقوة وسيادة، وإذا جرت الأخيرة على سنن الأولى في الجد والقوة والحزم فستكون مثلها في سرعة ظهور الآثار وقرب الجني من أيدي القاطفين.
لا نقص في هذه الدعوات إلا أنها لم تزل متفرقة المسالك، متباعدة المواطن، فعلى قادة هذه الحركات أن يوحّدوا الأعمال والوسائل، وأن يجمعوا هذه القوى المتفرقة لتكون أقوى، ويوحّدوا القيادة العامة ليكون ذلك أدعى لرهبة الخصوم المتألبين، وأجمع لشمل الأتباع والجنود، وإذا كنّا نرى أصحاب الباطل يجتمعون على باطلهم ليدحضوا به الحق، فكيف لا يجتمع أهل الحق على حقّهم؟ ومن طبيعة الحق أن يجمع الناس على أنفسهم، وعلى أولئك القادة أن يبنوا أمرهم على العلم الصحيح والتربية الرشيدة، وعليهم أن يبدأوا بإنشاء جيل قويم يبنونه على التربية الإسلامية القويمة ليكون أساسًا لمن بعده، وأن يغرسوا فيه العقائد والأخلاق القرآنية من الصغر، وأن يروّضوه على الصبر والعفة والجد مع طراوة العود، وأن يوجّهوه الوجهة السديدة في الدين والحياة، ويرشّحوه للعظائم حتى ينشأ مستعدًا لها مستخفًّا بأثقالها.
إن شيوع ضلالات العقائد وبدع العبادات والخلاف في الدين هو الذي جرّ على المسلمين هذا التحلّل من الدين، وهذا البعد عن أصليه الأصليين، وهو الذي جرّدهم من مزاياه وأخلاقه حتى وصلوا إلى ما نراه.
وتلك الخلال من إقرار البدع والضلالات هي التي مهّدت السبيل لدخول الإلحاد على النفوس، وهيّأت النفوس لقبول الإلحاد، ومحال أن ينفذ الإلحاد إلى النفوس المؤمنة، فإن الإيمان حصن حصين للنفوس التي تحمله، ولكن الضلالات والبدع ترمي الجد بالهوينا، وترمي الحصانة بالوهن، وترمي الحقيقة بالوهم، فإذا هذه النفوس كالثغور المفتوحة لكل مهاجم.
...
نصيحتي للقائمين على هذه المجلة أن يسلكوا بها الطريق الواضح إلى الدعوة، وأن يستفيدوا منها من تجارب من سبقهم، وأن يحشدوا لها الأقلام المتينة، والعقول الرصينة، وأن يعتنوا بتصحيحها، فالتصحيح نصف الجمال.(4/202)
الأستاذ كامل كيلاني *
الرجل الذي انتهت إليه حكمة التربية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بعث الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من بغداد إلى الأستاذ كامل كيلاني بالقاهرة الكتاب الآتي بعد الديباجة:
"أكتب إليكم مهنئًا بالعيد، وإن كانت معانيه البليغة ممسوحة من نفسي، لأنني أفهمه موقف حساب وعرض، لم يعرض فيه العرب من أعمالهم إلا المخزي، ولم يحاسب فيه المسلمون من عباداتهم إلا بغير المجزي، ولكن التهنئة أصبحت كلامًا يدور على الألسنة برغم الضمائر الحية والشواعر اليقظة!
زرت الكويت ورأيت ما رأيت، وألقيت عدة محاضرات كانت- بتوفيق الله- غيثًا على جدب، وفراتًا على ظمإٍ، ولم أنس في لحظة أخي "كاملًا". وهل ينسى الإنسان جزءًا من نفسه كاملًا؟!
الحركات عند إخواننا العرب بطيئة جدًا، يحتاج المتعرّض لها إلى صبر متين وأناة، وإلى لطف احتيال، أو إلى ما جمعه الشاعر الذي يقول: ليس للحاجات، الخ، وأنتم أعرف بالبقية!
أنا- فيما أعدّ نفسي- مبشر بالمبادئ الصالحة والكتب الصالحة، لأن التجارب انتهت بي إلى أنه ما أفسد العلم ورجاله إلا الكتب الفاسدة.
وبما أن الحرص على استقامة الإنسان يبدأ بتقويم الطفل، ولا يستقيم الطفل إلا إذا غرس عقله في "مكتبة الأطفال"، وقد تكون هذه التعبيرات نافرة أو متنافرة، ولا يعنيني أمرها، فإن المعنى الذي أقصده هو هذا:
__________
* صحيفة "منبر الشرق"، عام 1953.(4/203)
إنني أُشهد الله، وأشهد أمام خلقه، بأن الرجل الذي انتهت إليه حكمة التربية من طريق كتب التعليم هو الأستاذ "كامل كيلاني".
وستشهد هذه النهضة بهذا يوم يمدّ مدّها، ويجد جدّها. أحييكم وولدنا "رشادًا" وأدعو لكم بالتوفيق، وسأكاتبكم من الشام.(4/204)
في نادي القلم ببغداد *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوة الكرام:
نادي القلم! اسم شعري لطيف، عليه من السماء صفاؤه، ومن الربيع أنداءه، وفيه من آثار الله وصقله، ومن مساوقة الفطرة وبساطة التركيب، وفيه من الغمام ما يحكي ودقه، وفيه من الواقع ما يحقق صدقه.
أسماء النوادي والجمعيات كأسماء الأناسي، فيها الصادق والكاذب، ولكن الفارق الجوهري بينهما أن أسماء الأناسي توضع من غير اختيار أصحابها ولا مشورتهم، ومن غير ترقّب لتحقق معنى الاسم في المسمّى، وتوضع في غمرة من الفرح بالكائنات الجديدة، فيدخل فيها- أوّل ما يدخل- عنصر التفاؤل المبني على الأماني، أو عنصر التوقي من العين أو من الموت، وهذا يرجع إلى المزاعم التي لم تفارق الإنسان بدويًا وحضريًا، ولم يفارقها وثنيًا ومتألهًا.
أما أسماء النوادي والجمعيات والأحزاب فإنها توضع بعد تحديد معانيها وتبيين مقاصدها، فكان الواجب أن تكون صادقة دائمًا وأن لا يدخلها الزيف، ولكن الناس يحبّون الاغراب والانحراف، لذلك نراهم يغربون في الأسماء، فيغرقون في الإيهام والتغرير، وإن أحبّ الأسماء في هذا الموضوع ما كان طبيعيًا وما كان منتزعًا من الموضوع كاسم نادي القلم، فإنه اسم مفصّل على موضوعه، ومن ثم فهو أصدق شيء في الدلالة على موضوعه، لا يشبهه في أسماء الأناسي إلّا اسم "عبد الله"، فإن هذا الاسم لا يغرّ ولا يكذب، فالإنسان، آمن أو كفر، وبَرَّ أو فَجَر، فهو عبد الله. بخلاف أسماء الفأل التي لا يحتاط فيها للعواقب كصلاح الدين لمن أفسد
__________
* نشرت جريدة "التحرير" البغدادية (جوان 1953) ملخّصًا من هذه الكلمة، نقلته جريدة «البصائر»، العدد 236، السنة السادسة، 10 جويلية 1953، ثم وجدنا في أوراق الإمام مسودّة منها، ننشرها اليوم.(4/205)
الدين، وبرهان الدين لِمَن هو برهان لأعداء الدين على الدين، ولا يشبهه في أسماء الكتب إلا اسم "إصلاح المنطق" و "لسان العرب" و "كتاب النبات".
أيها الإخوان:
لي من الصلات الطبيعية بنادي القلم أنني أحد هذه العصبة التي تتّخذ من القلم أداة جهاد في زمن لغة بنيه أبعد ما تكون عن القلم، والحَكَم فيهم السيفُ لا القلمُ، فكأنهم من تلامذة المتنبّي حين يقول:
حَتَّى رَجَعْتُ وَأقْلَامِي قَوَائِلُ لِي … ائمَجْدُ لِلسَّيْفِ لَيْسَ ائمَجْدُ لِئقَلَمِ
أُكْتُبْ بِنَا أَبَداً بَعْدَ ائكِتَابِ بِهِ … فَإِنَّمَا نَحْنُ لِئأَسْيَافِ كَائخَدَمِ
ولي من الصلات المتينة بهذا النادي أن الرجال الذين هم عمده ودعائمه من أصدقائي الذين أعتزّ بصداقتهم، وأعدّ لقاءهم والتعرّف إليهم فصلًا حافلًا بالفخر من تاريخ حياتي، كالأستاذ الجليل شاعر العروبة محمد رضا الشبيبي، والأستاذ الأديب محمد بهجة الأثري، والأستاذ الدكتور محمد فاضل الجمالي، والدكتور أحمد سوسة، والدكتور جواد علي، وجمهرة أعضاء نادي القلم.
أيها الإخوان:
القلم بين أهله رحم يجب أن تبل ببلالها، وغير كثير على ذويها أن يتعارفوا وأن يتنازعوا أمرهم بينهم فيمحوا القطيعة بالوصال، وعلى ذلك فغير بعيد منّي أن أقول كلمة في نادي القلم، وأن أتحدث إلى أبناء أسرةٍ أنا واحد منهم فيما يجب لهذه الرحم من حقوق وفيما يجب على أبنائها البررة من أعمال، يقوّيها التعاون ويضعفها التهاون، وأن أول الواجبات عليهم أن يلمّوا ما أصابها من شعث، ويقوّوا ما انتابها من وهَن، وأن يردّوا على هذه الحرفة التي يُباشرها القلم هيبتها في القلوب وتأثيرها في النفوس ومكانتها بين الناس، وأن يثلموا بهذه الأدوات الضعيفة قوّة الأقوياء، ويلينوا بها قسوة القساة، وأن يردّوا بها حجّة السيف داحضةً والسيف مفلولًا، وأن يتسامَوْا بهذه الطائفة من حملة الأقلام عن تدنيس نفسها بالمطامع وتسخير قواها للشهوات الدنية، فتتجافى عن الهزل في الزمن الجادّ، وعن الإسفاف في حين احتياجنا إلى السمو، وعن التدلّي في عصر الترقّي، وعن الطمع في وقت أحد أسلحتنا فيه التعفّف عما تقدمه لنا يد العدوّ من مطاعم كلها مطاعن، ومشارب كلها إلى الموت مسارب، وملابس كلها محابس، وأفكار كلها للموبقات أوكار، وعلوم كلها في ديننا ومقوّماتنا كلوم.
أيها الإخوان: حملةُ الأقلام فينا كثير، ولكن المصيب المسدّد منهم قليل، وكما يحتاج السيف إلى ساعد قوي يحتاج القلم إلى فكر مسدّد، وإن أقلامنا اليوم كالسيوف التي قال فيها الأول:(4/206)
فهذي سيوف يا عدي بن مالك … كثير ولكن أين بالسيف ضارب
وإن كثيرًا ممن يحترف هذه الحرفة بيننا اليوم ممن يصدق عليهم قول الشاعر:
تبًّا لدهر قد أتى بعجاب … ومَحا فنونَ الفضل والآداب
وأتى بكُتَّاب لو انبسطت يدي … فيهم رددتهمُ إلى الكُتَّاب
وإن منهم لأدعياء يتقحمون عرينًا نامت آساده، فكأنّ القائل عَناهُم بقوله:
لقيط في الكتابة يدّعيها … كدعوى آل حرب في زياد
فدع عنك الكتابةَ لستَ منها … ولو لَطَّخْتَ ثوبك بالمداد
أيها الإخوان: شتّان ما بين السماء والسماوة، فمن السخافة في عقل العقلاء أن يقال إنهما واحد لأنّ النسبة إلى كليهما في حكم اللغة واحدة.
أيها الإخوان الزملاء، لا يفهم الناس من نادي القلم أنه متحف للأقلام يضم أنواعها وأشكالها وتطورات جواهرها على الزمن من القصب إلى الذهب، وإنما يفهمون- على الأقل - أنه شيء غير ذلك، فما هو هذا الشيء؟ لقد أحسنتم وهُديتهم إلى الطيب من العمل حيث لم تقيدوه بمكان، فرفعتم بذلك أوهامًا منها أنّه نادٍ كالنوادي، وجئتم بكمال يظنّه الناس نقصًا، وهو أنه فكرة محلّها القلوب الواعية، ومظهرها الهمم الساعية، وبقي أن يعرف الناس آثارها الظاهرة.
إنّ على هذا النادي الفكري عهدًا مسؤولًا، إنْ غفل عنه قبل اليوم فلن تغفر له غفلته عنه بعد اليوم، ذلك العهد المسؤول هو أن يوجّه بطريق القدوة هذه القوافل الخابطة في غير هدى إلى الصراط القويم، يوجّهها إلى خدمة هذه الأمّة التي منها خلقهم وعليها رزقهم، يفهمها أن هذا الوطن مسلم منذ غرس فيه الفاتحون من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - شجرة الإسلام وسقوها بدمائهم، فكيف يعلو فيه صوت ملحد أو صوت وثني؟
إنّ من السماجة بل من الخيانة أن يوكل خبر المسلمين بالتنقص من دينهم، وأن تطمس بينهم حضارة العرب- وأسبابها ما زالت في الأيدي- بحضارات قامت على الظلم والتسخير والوثنية، كل هذه الأدران لا ترحض إلّا بما تنضحه الأقلام الطاهرة القوية من حقائق وحكم وتوجيهات.
إنّ في العراق جفافًا لا تُحييه إلّا غيوث المداد من الأقلام الراشدة، وَوَاعجبًا كيف يُصيب العراق جفاف الثرى حتّى تجلب القوت الغالي من الخارج، وفيها الرافدان؟ أم كيف يُصيب العراقيين جفافُ الفكر والعقل حتّى يستعيروا المبادئ الضارة من الأجنبي، وفيهم القرآن يهدي، والعربية تُجدي، والتاريخ الإسلامي يُعيد ويُبدي؟(4/207)
وواعجبًا لأبنائنا يتنكّرون لدينهم- وهو حق- وهم يعلمون أنّ اليهود حقّقوا حلمًا دينيًا صبروا له عشرات القرون، وأنّ الهنود يغارون للبقرة تُهان فتطيح الرقاب، وقد بنوا على ذلك دولة، فكيف لا يغار المسلم على حقائقه وحقوقه الدينية؟ وكيف لا يبني عليها دولةً تطاول الدول؟
أيها الزملاء الكملة: يجب عليكم أن توجّهوا بأقلامكم الهادية هذه الأقلام الضالّة، ثم تتوجّهوا جميعًا إلى الوجهة السديدة التي تنفع وتدفع وترفع وتسْفع وتشفع، واسمعوا منّي معمولات هذه العوامل: إن الوجهة السديدة هي التي تنفع القريب، وتدفع الغريب، وترفع القناع عن المريب، وتشفع للمنيب، وتسفع المعتدين بالناصية.
أيها الإخوان: إن القلم الذي نسبتم ناديكم إليه ذو نَسَب عريق في دينكم وفي آدابكم، فأيّ دين من الأديان السماوية مجّد القلم كما مجّده الإسلام أو وضعه في منزلة مثل المنزلة التي وضعه فيها القرآن؟ فقد وضعه في منزلة لا يرقَى إليها المتطاول، ولا تنالها يَدُ المتناول، نَسَبه الله إلى نفسه وجعله أحد الرواميز الأربعة إلى قوته وكمال قدرته وإحاطة علمه: العرش واللوح والكرسي والقلم، ثم زاده تشريفًا فأقسم به عزّ وجلّ فقال: {ن وَائقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، ولا يُقسم الخالق العظيم إلّا بمخلوق عظيم، وعظمة المخلوقات من عظمة آثاره في النفع والخير، ثم زاده رفعًا فجعله أداة تعليمه لخلقه: {عَلَّمَ بِائقَلَمِ، عَلَّمَ ائإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
إن الأشياء كلها في هذا الوجود تروج وتكسد وتصلح وتفسد وتقبح وتحسن إلّا القلم، فإن سوقه دائمًا إلى رواج، ولا يصحّ في الأذهان أن يأتي يوم تستغني فيه الأمم عن القلم، إلّا إذا صحّ في تلك الأذهان أن يأتي يوم تقلب فيه الأوضاع والحقائق، وتنتكس العقول إلى الوراء، ويخرج فيه الكون من تدبير الله إلى تدبير الشيطان، والإنسان من تدبير العقل إلى تدبير البطن، وينعكس فيه الفهم من نطق اللسان إلى نطق الدبر، ويومئذ يكون أفضل الذِّكر أن يقال كلّما ذُكِر الشيطان: رضي الله عنه.
أيها الإخوان: القوة اليوم بالأقلام، وبالجواري المنشآت في البحر كالأعلام، فإذا فاتتكم القوة الثانية فلا تفوتنكم القوة الأولى.
لقد سمعنا شوقي يخاطب الترك بقوله:
نحنو عليكم ولا ننسى لنا وطنًا … ولا سريرًا ولا تاجًا ولا عَلَما
هذي كرائمُ أشياءِ الشعوبِ فإنْ … ماتَتْ فكل وجودٍ يشبهُ العَدَما
وأنا أقول: إن كريمة كرائم الشعوب هي القلم المحرّر، واللّسان المعبّر، والعقل المدبّر، فإذا ضاعت هذه فالوجود هو العدم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/208)
حركتنا حركات أحياء *
جوانب من الخطبة الفيّاضة المرتجلة التي تفضّل بإلقائها سماحة الشيخ محمد البشير
الإبراهيمي على شباب الإخوان في المركز العام لخّصها مندوب المجلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا موقف الشكر على النعمة التي أنعمها الله على جمعية الأخوة الإسلامية إذ اجتمعت بأعضائها بعد فترة غياب. وهناك فرق- أيها الإخوة- بين المقيم والغائب وهو أن المقيم لا يشعر بالتبدّل والتغيّر إلا قليلًا، أما الغائب فإنه يشعر بهذا التبدّل ويحسّ بالفرق بين الحالة الماضية والحالة الحاضرة. وأخوكم هذا قد غاب عنكم السنة أو فوق السنة فاسألوه ينبئكم: ماذا رأيت لما فارقتنا وأقبلت إلينا؟
لا شك أن حركتكم حركة ناجحة وإني شعرت بهذا التبدّل وهذا التقدّم المحسوس الذي تلمسه اليد، فقد تركتكم في مسجد ورجعت فوجدتكم في دار ومسجد.
إن حركاتنا حركات حق، ودعوة إلى الحق، فالواجب أن تكون في تقدم واستمرار على غرار الدعوة المحمدية الأولى ... بدأت قليلة العدد بطيئة الأثر. فالإسلام في بداية أمره استند على أربعة ثم توسّع وشمل العالم، فالله سبحانه وتعالى يخرج من الضعف القوّة، فالإسلام قام على أكتاف أربعة: على امرأة هي خديجة، وعلى شيخ هو أبو بكر، وعلى صبي هو علي، وعلى مولى هو زيد بن حارثة. فهذا ضعف باعتبار الناس، وهذه الأركان الأربعة الضعيفة التي عددتها هي التي قام عليها الإسلام، وهؤلاء الأربعة هم الذين حملوا عرش الإسلام. ثم ان الإسلام أخذ يسري كما تسري النار في الهشيم، غير أن سريانه في النفوس ضعيف في الظاهر قوي في الباطن.
لما سأل هرقل أبا سفيان- وإن هرقل داهية زمانه-: أيكم أقرب نسبًا إلى هذا الرجل؟ (يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، فأشير إلى أبي سفيان، فسأله أسئلة تعد دستورًا في علم النفس، وكان من ضمنها: أيزيد أتباعه أم يقلّون؟ فأجاب أبو سفيان: بل يزيدون ...
__________
* مجلة "الأخوة الإسلامية"، السنة الأولى، العدد الثالث عشر، بغداد، 2 رمضان 1372هـ الموافق لـ15 ماي 1953م.(4/209)
وإني فرح بهذه الجمعية التي هي قطعة من قلبي وهي امتداد للحركة التي دعوت إليها، وكلما سمعت أنها ملكت شيئًا من أرض أو امتدّت شبرًا فإني أشعر بالسرور والغبطة، بل إذا بلغني أن الشيخ أمجد الزهاوي يشعر بقوّة في جسمه وفكره ازددتُ فرحًا، وقد أراد الله أن يكون هو سبب وجودي بينكم الآن. وقد التقيت مع الأستاذ الصواف في القاهرة فجرّني أو جررته أو تجاررنا. فأشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة وأسأله لهذه الجمعية التي تمثّل الإسلام بكامله أو أنها تمثّل السياسة الإسلامية وهي إصلاح بين المرء وربّه، وهيهات أن يصلح المرء ما لم يصلح المعاملة مع الله وما لم يعمل لله وحده.
وما أخّر المسلمين إلا هذا الشرك الذي أبعد المسلمين عن عبادة الله. لأن الإنسان إذا تلفّت إلى جهات متعددة فإنه يصبح بلا إرادة، وما الإنسان إلّا إرادة وعزيمة فإذا صلحت إرادته صلحت عزيمته، وإذا أراد الإنسان شيئًا وسعى لتحقيقه فإن إرادته تؤدي به إلى نيل مبتغاه، ومن أصبح بلا إرادة أصبح مسيّرًا مثل ما هو حالنا اليوم.
فانظروا ذات اليمين وذات الشمال تجدوا المسلمين مسيرين متأخرين في كل شيء، فإن أرادوا أن يكونوا كغيرهم من الأمم فعليهم بأن يقتدوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكم أن تطلقوا على هذه الدعوة ما تشاؤون من تعابير: فسموها بحركة أخوة أو حركة إحياء، لا إحياء الإسلام لأن الإسلام حي بل إحياء الإسلام في نفوسنا، وإن الإسلام لا يقوم بالكم بل بالكيف، وتدبروا آيات سورة الأنفال حول المؤمنين الصابرين الذين رغم قلة عددهم يغلبوا أضعاف ذلك العدد من الكافرين وينتصروا عليهم. ولم يرد الله سبحانه وتعالى إرهاقنا بل أراد أن يثبتنا على القوة الحقّة التي هي قوة النفوس التي تستكن في الإرادات.
أيها الأبناء:
إن أمتكم تعول عليكم شرط أن تعدّوا أنفسكم إعدادًا روحيًا لا بدنيًا، فإذا أشرقت أنوار الإسلام وغمرت هدايته كل المجتمع البشري، فإن هذا المجتمع سينعم بالخير العميم، وتتحقّق له السعادة في الدنيا والآخرة، والإعداد الروحي يجعل المسلم موقنًا بأنه إذا مات في سبيل الله ينتقل من حياة بعضها شقاء إلى حياة كلها سعادة، فكونوا مسلمين كاملين، أي كونوا عاملين في سبيل الله، وإياكم أن تكونوا أنصاف أو أرباع مسلمين وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا واقتدوا بالقدوة الصالحة، وإن الواحد منّا يستطيع أن يقود الملايين بشرط أن تكون النفوس مستعدة. وإن هذا الشباب إذا تدرّب على الإقدام وقوّة العزيمة وعدم الخوف إلا من الله فإنه يأتي بالأعاجيب.
وإن الله يأتي بعبارات الحصر والخوف {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}، وإن المسلمين لم يؤخذوا إلا من الابتعاد عن خشية الله ... فإذا كان المسلم لا يرهب إلّا الله فإنه لا يعبد وثنًا ولا(4/210)
يهاب ظالمًا مهما بلغ طغيانه. ويوم كان المسلمون كذلك سادوا الدنيا وملكوها بالعدل، ولما انتقلوا إلى اعتقادهم بالمخلوق واعتمادهم على المخلوق استعبدوا.
فحسبكم أن في الأرض خمسمائة مليون مسلم كلهم مستعبدون، وحياة المسلمين لا تحتاج إلى ترجمة لأنهم كلهم خاضعون لهذا الاستعباد.
فلو أقمنا لجنة لامتحان المسلمين لسقط 99% منهم، لأننا مسلمون باللفظ وإلّا فكيف نُغلب بالكَفَرة، أيكذب القرآن؟ حاشا لله: بل نحن كاذبون، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِئعَبِيدِ}، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، وقد كرّر الله سبحانه هذا المعنى بأساليب مختلفة، فنحن إذن بين أمرين: فإما أننا كاذبون في إسلامنا، أو أن الله قد جار علينا، والله نزيه عن الجور. إذن فنحن كاذبون في إسلامنا ظالمون لأنفسنا فعلينا أن نتوب والتوبة تكون بالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى واتّباع أوامره ونواهيه، والإقلاع عن الخضوع لغيره، وبمواجهة الحياة والاستهانة بها.
أتدرون لماذا ملكنا الغربيون؟ لقد ملكونا لأننا انغمسنا في الكماليات السخيفة التي غمرونا بها والتي تملأ الشوارع والمحلات ليضعفوا بها اقتصادنا ويمتصّوا ثرواتنا، وانظروا إلى حكوماتنا التي لا تهتم إلّا بالشيء التافه والوضيع من الصناعات الوطنية.
إن العلماء يقسمون الحاجيات إلى: أولًا ضروري، ثانيًا حاجي، ثالثًا كمالي، رابعًا تحسيني. فالضروري هو الذي يستر الجسم ويصونه، أما نحن فننتقل من لبس الكتّان إلى القطن إلى الصوف ثم إلى المحرمات كالحرير، ومن استعمال الساعة النحاسية إلى الفضية إلى الذهبية، وهذه أموالنا تخرج من جيوبنا إلى خزائن الدول الغربية لتعود لنا بحبال نشنق بها وأسلحة نقتل بها، وأصبح كثير مما نستورده من الكماليات كالضروريات لا نطيق العيش بدونه، فصرنا نأكل الحلوى ونحن في البلوى.
أيها الأبناء:
بدأت بالشكر على هذه النعمة- نعمة الاجتماع- وعرضت لكم أشياء مؤلمة عن واقعنا كمسلمين، وأرجع بكم إلى حياة الاستئثار فأدعوكم إلى العمل والنظر إلى الحياة نظر تفاؤل، واعلموا أن الفجر قريب، وأن شمس الإسلام لا تغيب والله أكبر ولله الحمد.(4/211)
حركة جمعية العلماء الجزائريين
وواقع العالم الإسلامي *
وجّه أحد أعضاء أسرة مجلة "الأخوة الإسلامية" سؤالين عن جمعية العلماء وواقع العالم الإسلامي إلى سماحة العلّامة الأكبر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بمناسبة نزوله في العراق، وها هو ذا سماحته يجيب عليهما مشكورًا وفيهما العبر الغالية والتوجيهات العالية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
حركة جمعية العلماء:
الحركة التي قامت بها جمعية العلماء في الجزائر منذ ثلاثين سنة تقريبًا وعرفت بالحركة الإصلاحية الدينية هي في حقيقتها دعوة القرآن والسنّة الصحيحة فهمًا وعملًا ورجوع بالمسلمين إليهما لأنهما أصل الدين ومنبعه ولأنهما سبب سعادة المسلمين وسيادتهم في العصور الأولى، وفي القرآن ما فيه من هداية وتوجيه صالح وتمكين للمقوّمات التي لا تعتز الأمم إلا بها ولا تقوم إلا عليها.
ولذلك كان من آثار جمعية العلماء يقظة همم المسلمين وتنبيه شعورهم وتذكر أمجادهم تاريخًا، فهبّوا بذلك التأثر مطالبين بحقوقهم عاملين بما يثبت تلك الحقوق من علم واستعداد، بعد ما أنساهم الاستعمار بكيده كل ذلك ففرّق جامعتهم وجرّدهم من أسباب القوة وما عرفت الجزائر قيادة روحية رشيدة قبل جمعية العلماء، وكل ما جاء بعدها من الحركات السياسية المحضة فهو في الدرجة الثانية من الاعتبار وفي آخر الدرجات من التأثير. أزعجت حركة جمعية العلماء الدولة الفرنسية إزعاجًا ظهر أثره في المعاملات الجائرة التي تعامل بها الجمعية من يوم منشئها إلى الآن، لأن الدول الأوربية المستعمرة تهدف لتميت
__________
* مجلة "الأخوة الإسلامية"، السنة الأولى، العدد الثالث عشر، بغداد، 2 رمضان 1372هـ الموافق لـ 15 ماي 1953م.(4/212)
الدعوات الروحية وآثارها في النفوس لأنها أثبت صبغة وأسد خطى وأصدق نتيجة، وزاد في انزعاجها منها أنها حركة بناء للعقول وللمدارس التي تربي العقول، وأنها تعنى بالتربية والتعليم والتكوين والإعداد، وأنها تبني النتائج على مقدّمات صحيحة، وأن الغاية الطبيعية لعملها هي إيجاد أمّة تعرف كيف تطالب وممن تطالب وبماذا تطالب، ثم تصرّ على المطالبة وتعرف كيف تأخذ وكيف تحافظ على ما أخذت، ولا تنكس في مرحلة من مراحلها ولا تنتكس ولا تصالح لأنها تفكّر وتقدّر ولا يزعج الاستعمار شيء مثل الإعداد والتربية والرجوع إلى منابع القوة والعزة من دين ولغة وتاريخ، ولذلك نراه يعمد إلى مقوّمات الأمم بالتشويه والمسخ والطمس حتى تنسى الأمة مقوّماتها فيسهل عليه ابتلاعها والقضاء عليها، وهكذا فعل بالجزائر منذ احتلالها، وهكذا فعل بتونس ومراكش بعدها، وما ابتلى الله الأمة الإسلامية به إلا بعد أن ضعفت فيها تلك المقوّمات بالإهمال والجهل واستبدال الضلالة بالهدى والرق في الدين ومحال أن تتسلّط أمة، وإن بلغت من القوة ما بلغت، على أمة محتفظة بمقوّماتها المعنوية والروحية المستمدّة من دينها، وبمقوّماتها الذاتية المستمدّة من لغتها وتاريخها وخصائصها الجنسية وأمجادها الموروثة، ولا يرهب الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي هذه الحركات السياسية المحضة مثلما يرهب حركة جمعية العلماء التي بدأت في الجزائر وسرت عدواها بالتأثّر والاحتذاء إلى الجناحين مراكش وتونس، ومن خصائص القرآن إذا فهمه الناس وعملوا به أنه يجمع بنيه على مبدإٍ واحد ويوجّههم وجهة واحدة. وسلاح الاستعمار الذي رمى به الشرق هو تفريق المجموع، فليفهم المسلمون أنهم إذا أحيوا القرآن وتعاليمه في نفوسهم أبطلوا جميع مكائد الاستعمار، وأنه لا سلاح لهم بعد أن وصلوا إلى هذه الحالة من الضعف إلا ما يقتبسونه من القرآن من الأخذ بأسباب القوة الروحية والقوة المادية.
واقع العالم الإسلامي:
واقع العالم الإسلامي اليوم أنه مستعبد مسخّر يتعب ليسعد عدوّه ويموت ليحيي غيره ولا درجة في الخزي والهوان أحط من هذه، ولا ينكر هذا إلا مغرور بالظواهر أو مخدّر من الاستعمار أو جاهل لا فكر ولا عقل له فلا يقبل له رأي ولا يصحّ منه حكم. عداد المسلمين في العالم يزيد على خمسمائة مليون ولكن أي شعب من شعوبه يعدّ مستقلًا استقلالًا حقيقيًا بريئًا من شوائب التدخّل الأوربي كاملًا مستوفيًا لشرائطه وعناصره من السياسة والعلم والاقتصاد؟ الواقع المشهود للعيان أنهم عالة على غيرهم وفي كل شيء، فسياستهم العامة مسيّرة على هوى غيرهم لا على مصالح شعوبهم، ووراء كل حكومة من حكوماتهم أشباح خفية تأمر فتطاع وتنهى فتمتثل وتغضب فيقرأ لها حساب، والعلم يأخذونه على أعدائهم كما يملونه سمًا أو ترياقًا، وخيرات بلادهم وهي أساس قوّتهم محتكرة للأجنبي، حظّهم منها(4/213)
الحظ الأوكس والتجارة والصناعة لا يد لهم فيها ولا رجل: يبيعون القنطار من نتاج أوطانهم رخيصًا ثم يشترون الداني منه غاليًا، فإذا أغلق صاحب السوق سوقه في وجوههم أفلس غنيّهم ومات فقيرهم جوعًا وهلك عريًا وهم مع هذا مشغولون بالتوافه مفتونون بظواهر السلطة مقدّرون لأسباب الخلاف والتباعد بينهم، لا يفكّرون بالاتحاد الذي يحمي جميعهم ولا في التعاون الذي يحرّرهم ويأتيهم بالقوة ويدفع عنهم استغلال الأجنبي لمرافقهم ولا يتحاكمون في حلّ مشاكلهم إلى العقل الذي يقرر قاعدة: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" ثم يحكم لواحد من الأولين ليحرم الذئب. أما علة هذه الحالة فهي متشعبة المسالك متعددة النواحي ولكنها ترجع كلها إلى سبب الأسباب وهو ضعف الأخوة الإسلامية إلى درجة قريبة من العدم، حتى أصبحت كلمة تقال على الألسنة ولا قرار لها في القلوب، ولو كان لها معنى يخالط النفوس ويؤثر فيها لرجعت حكوماتهم كلها إلى حكومة واحدة أو إلى حكومات متحدة في الرأي واعتبار المصلحه العامة، ولرجع علماؤهم إلى الكلمة الجامعة في الدين وشعوبهم إلى المنفعة الجامعة في الدنيا ولرجع أهل الرأي منهم إلى المنزلة التي وضعهم فيها القرآن وهي منزلة بعد الله ورسوله مباشرة. وأما دواء هذه العلة فهو معروف من العلة نفسها ومبدؤها من علماء الدين، فالواجب المتعيّن عليهم أن يتداعوا إلى نبذ الخلاف في الدين واللياذ بالمتفق عليه وهو القرآن، ثم يحملوا الحاكمين على إقامته والاهتداء بما أرشد إليه ويحملوا المحكومين على التخلّق بآدابه والوقوف عند حدوده والإذعان لأحكامه.(4/214)
هل لمن أضاع فلسطين عيد؟ *
للناس عيد ولي همّان في العيد … فلا يغرنّك تصويبي وتصعيدي
همّ التي لبثت في القيد راسفة … قرنًا وعشرين في عسف وتعبيد
وهمّ أخت لها بالأمس قد فنيت … حماتها بين تقتيل وتشريد
كان القياض لها في صفقة عقدت … من ساسة الشر تعريبًا بتهويد
جرحان ما برحا في القلب جسهما … مود وتركهما- لشقوتي- مود
ذكرت بيتًا له في المبتدا خبر … في كل حفل من الماضين مشهود
إن دام هذا ولم تحدث له غير … لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
ويح إحياء القلوب وإيقاظ الإحساس ماذا يتجرّعون من جرع الأسى في هذه الأعياد التي يفرح فيها الخليون ويمرحون، أيتكلفون السرور والانبساط قضاء لحق العرف ومجاراة لمن حولهم من أهل وولدان وصحب غافلين وجيران، أم يستجيبون لشعورهم وينزلون على حكمه فلا تفتر لهم شفة عن ثغر ولا تتهلّل لهم سريرة ببشر ولا تشرق لهم صفحة بسرور.
ويح النفوس الحزينة من يوم الزينة، إنه يثير كوامنها ويحرّك سواكنها فلا ترى في سرور المسرورين إلا مضاعفة لمعاني الحزن فيها ولا ترى في فرح الفرحين إلا أنه شماتة بها.
__________
* مجلة "الاخوة الإسلامية"، العدد الخامس عشر، بغداد، 1 شوال 1372هـ الموافق لـ 12 جوان 1953م، مع التقديم الآتي: ما زال سماحة الحبر الجزائري العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي يحلّ بين ظهرانينا، ولما وجد أن رمضان المبارك قد استعدّ للرحيل وأن هلال شوّال أخذ يقترب سريعًا، والعالم الإسلامي لا يزال كما عهده يستقبل عيدًا ويودّع آخر لا يلتفت إلى قلبه الجريح فلسطين الشهيدة وشرفه المثلوم ودينه المضيع، ولما أيقن سماحته أن العالم الإسلامي لا يزال في لهوه وغفلته اعتصره الألم فنفث ذلك القلب الذكي الكبير ما سطره اليراع في هذه الكلمة القيّمة الموجّهة إلى العالم الإسلامي في مناسبة عيد الفطر المبارك، وقد اختصّ بها "الأخوة الإسلامية" فجزاه الله أحسن ما يجزى عامل عالم مؤمن عن عمله.(4/215)
مرّت عليّ وأنا في الجزائر عدة أعياد من السنوات الأخيرة التي صرح الشر فيها للعرب والمسلمين عن محضه فكنت ألقى تلك الأعياد بغير ما يلقاها به الناس، ألقاها بتجهّم اضطراري وانقباض نفسي وكان الرائي يراني وأنا معه وأراه وكأنه ليس معي، فقد كانت تظللني في العيد سحائب من الكآبة لحال قومي العرب وإخواني المسلمين وأنا كثير التفكير فيهم والاهتمام بهم والاغتمام من أجلهم، فأغبطهم تارةً لأنهم في راحة مما أنا فيه وأزدريهم حينًا لأنهم لم يكونوا عونًا لي على ما أنا فيه، وما أشبههم في الحالتين إلا بالغنم تُساق إلى الذبح وهي لاهية تخطف الكلأ من حافتي الطريق لأنها لا تدري ما يُراد بها.
وجاءت نكبة فلسطين فكانت في قلبي جرحًا على جرح وكانت الطامة والصاخة معًا وكانت مشغلة لفكري بأسبابها ومآسيها وعواقبها القريبة والبعيدة، فلا تصوّر لي الخواطر إلّا أشنع ما في تلك العواقب، وكأن أحزان السنة كلها كانت تتجمّع عَلَيّ في يوم العيد وكنت أغطّي باطن أمري بالتجمّل، فإذا عدمت المتنفس من الرجال والأعمال والأحوال رجعتُ إلى العيد الذي هو مثار أشجاني فجرّدت منه شخصًا أخاطبه وأناجيه وأشكوه وأشكو إليه وأسأله وأجيبه وأبثّه الشكاية من قومي غيظًا على القادرين وتأنيبًا للغادرين، حتى اجتمعت لي من ذلك صحائف مدوّنة نشرت القليل منها على الناس وطويت الكثير إلى حين. ثم رحلت عن الجزائر في السنة الماضية فكانت بيني وبين الأعياد هدنة عقد أوّلها العراق ومخايل الرجاء فيه وعقدت آخرها مكة ومخايل الرجاء في الله وهذا هو العيد الثالث يظفي فبماذا أستقبله؟
أنا الآن أشدّ تأثّرًا بنكبة فلسطين مني في الماضي.
فقد لمست يدي الجرح وهو بالدم يثعب، ورأت عَيْنايَ العربي وهو على البركان يلعب، وسمعت أذناي غراب البين وهو بالفراق ينعب، ثم سمعت أنين اللاجي وعذر المداجي وتفسير الأحاجي. فيا عيد أقبل غير نحس ولا سعيد، واذهب غير ذميم ولا حميد، وإن لم يجد حساب ولا أغنى عتاب، لك علينا حق التجلّة التي أوجبها الله لك شكرًا على إتمام العبادة لا على مألوف العادة، ودعنا معشر المنتظرين لهلالك المستعدّين لاستقبالك، نتحاسب أو نتعاتب، وإن لم يجد حساب ولا أغنى عتاب، ليس لك ولا لأمثالك من الأيام ذنب إنما أنت وهي قوارير تلوّنها أعمالنا وتلوّثها سيّئاتنا وآثامنا، فإذا لوّناك بالسواد أو لوّثناك بالشر فمعذرة وغفرًا، إن هي إلا مناظر تشهدها كلما أظللت وتراها كلما أطللت.
أيها العرب: ها هوذا عيد الفطر قد أقبل وكأني بكم تجرون فيه على عوائدكم وتنفقون المال بلا حساب على الحلل يرتديها أولادكم وعلى الطعام والشراب توفّرون منه حظ بطونكم، وكأني بكم تسيرون فيه على مأثوركم من اللهو واللعب وإرخاء الأعنّة لمطايا(4/216)
الشهوات من جوارحكم فتركبون منها ما حلّ وما حَرُمَ، كل هذا وأمثاله معه سيقع، فماذا أعددتم للأخرى من الواجبات التي هي أدنى لروح العيد، وأجلب لسرور الرجال في العيد، وأقرب لرضى الله وهي حقوق فلسطين وأهل فلسطين ومشرّدي فلسطين ويتامى فلسطين وأيامى فلسطين والمسجد الأقصى من فلسطين، أم قست قلوبكم فأنتم لها لا تذكرون؟
ويحكم ... إن هذا العيد يغشاكم في نهاية كل عام، فاعتبروه رقيبًا يقدّر الثواب أو مفتّشًا يوقع العقاب أو حسيبًا يصفّي الحساب، فماذا أعددتم له احتياطًا لهذه الافتراضات كلها؟
هبوه رقيبًا- وأيقنوا أنه رقيب عتيد- فهل تداركتم أخطاءكم بالرجوع فيها إلى الصواب، وتداركتم خطاياكم بالتوبة منها والإقلاع عنها، أو تداركتم تضييعكم لفلسطين بالاستعداد الصادق لاسترجاعها أو تداركتم تعريضكم يتامى القدس للتنصّر بالنظر لهم والسعي لإنقاذهم، أو تداركتم إعراضكم عن اللاجئين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بالمساعي الجدية لإرجاعهم، أو تداركتم إهمالكم للمسجد الأقصى الذي أصبح تحت رحمة صهيون بالحفاظ في حمايته وإعداد وسائل تلك الحماية، وهيهات هيهات ... ضاع المسجد الأقصى يوم ضاعت فلسطين ولا مطمع في إنقاذه إلا بإنقاذ فلسطين كلها.
وهبوه مفتّشًا- واعتقدوا أنه مفتّش لا تجوز عليه المغالطة- فهل أعددتم له شيئًا على قياس مما تعرفون في هذا الباب وأيسره: جواب محرّر لكل سؤال مقدّر؟
وهبوه حسيبًا- واعلموا أنه حسيب يناقش حتى في ذرة جرت ذرة- فهل استعرضتم جداول أعمالكم في السنة كلها وضبطتم ما لكم وما عليكم؟
ليس هذا ولا ذاك ولا ذلك بواقع منكم، وسيغشاكم فيجد السفينة غارقة في أوحالها ودار ابن لقمان باقية على حالها. لقد عوّدتموه ذلك وعوّدكم تضييق المسالك وحلول المهالك (وأول راضٍ سيرة من سيرها).
أيها العرب: إن الواحد منكم يموت له الطفل الصغير فيلتزم الحداد ويتدثّر السواد ويمر عليه العيد فلا تزدهيه ملابسه ولا تستهويه مجالسه، ولا ينزع لباس الحزن إلى وفاء السنة، يتحدّى بذلك نصوص الدين المنصوصة وأحوال الدنيا المخصوصة وقد ماتت فلسطين وهي أعزّ شهيد وأحقّه بالحزن عليه فويحكم أهي أهون مفقود عليكم؟ أم أن نخوتكم ماتت معها، إنها والله لأولى بالحزن عليها من كل محزون عليه وإنها والله لأولى بعدم الصبر ممن قال فيه القائل:
والصبر يحمد في المواطن كلها … إلا عليك فإنه مذموم(4/217)
وإن مما يذكي نخوتكم ويزيدكم حرارة حزن على القتيل، وخفة طيرة للأخذ بثأره خسة القاتل فأين أنتم يا هداكم الله؟
أيها العرب: إن الذنب في نفسه ذنب، وإن عدم الاعتراف به يصيّره ذنبين، ولكن التوبة الصادقة المصحوبة بالعمل تمحوهما معًا، فتعالوا نعترف بما يعلمه الله منّا فإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.
ألستم أنتم الذين أضعتم فلسطين، بجهلكم وتجاهلكم مرة، وخذلكم وتخاذلكم ثانية، وباغتراركم وتغافلكم ثالثة، وبقبولكم للهدنة رابعة، وباختلاف ساستكم وقادتكم خامسة، وبعدم الاستعداد سادسة، وبخيانة بعضكم سابعة، وبما عدوّكم أعلم به منكم ثامنة؟ وفي أثناء ذلك كتب الحفيظان عليكم من الموبقات ما يملأ السجلّات.
كانت نتيجة النتائج لذلك كله أن أضعتم فلسطين وأضعتم معها شرفكم ودفنتم في أرضها مجد العرب وعزّ الإسلام وميراث الإسلام وضاعفتم البلاء على نصف العرب في المغرب العربي كانوا ينتظرون انتصارهم في المعترك السياسي على إثر انتصاركم في المعترك الحربي، ولكنهم باؤوا من عاقبة خذلانكم بشد الخناق وشدة الإرهاق وكان من النتائج المخقلة تشريد مليون عربي عن ديارهم، ولو أن عشرهم كان مسلّحًا لما ضاع شبر من فلسطين، ولو أن العشر وجد السلاح اليوم لاسترجع فلسطين، وها هم أولاء يتردّدون على حافات فلسطين تتقاذفهم المصائب ويتخطفهم الموت من كل جانب ولكنه موت الجوع والعري والحر والبرد لا موت الذياد والشرف.
وكان من النتائج المحزنة أن وضع صهيون رجله في ماء العقبة. أتدرون موقع الحزن من ذلك؟ إنه قطع لأوداجكم إذ لم يبق لكم بعد العقبة شبر من اليابسة تتواصلون عليه أو تمدّون فوقه سكة حديدية تصل أجزاءكم أو طريقًا للسيارات أو سلكًا للمخاطبات، وإنه بعد ذلك إيذان بغزوه لمكة والمدينة وتهديد صارخ لمواني الحجاز. وكان من النتائج الفرعية أن عشرات الآلاف من يتامى المجاهدين دفعهم الجوع إلى التنصر في مدينة القدس تحت سمع وبصر بقية المسلمين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلًا.
وكانت خاتمة النتائج أننا قرّبنا من صهيون ما كان بعيدًا وأدنينا منه أمانيه، فالقدس محطة الإسراء وموطئ أقدام محمد - صلى الله عليه وسلم - وفتح عمر، أصبح لقمة متردّدة بين لهواته والمسجد الأقصى كاثرته البيع والكنائس وتعاونت على إخفاء مآذنه وإسكات أذانه.
ويل للعرب من شر قد حلّ ولا أقول قد اقترب.(4/218)
حالة المسلمين *
تتردّد على أقلام الكتّاب العرب وعلى ألسنة خطبائهم منذ عهد قريب كلمات: الوعي، اليقظة، النهضة، منسوبة إلى الإسلام أو مضافة إلى المسلمين، والكلمة الأولى منهن حديثة الاستعمال في المعنى الاصطلاحي المراد منها وإن كانت عريقة النسبة في معناها الوضعي، والوعي في معناه الاجتماعى الذي يعنيه هؤلاء الكتّاب والخطباء إدراك بعد جهل، واليقظة في قصدهم تنبّه بعد غفلة، والنهضة معناها حركة بعد ركود.
فهل هذه الأقلام والألسنة متهافتة على هذه الكلمات تصف حقيقة أم تصوّر خيالًا؟ فإن الصفات لا تتحقق إلا بظهور آثارها في الخارج وبشهادة الواقع الذي لا يمارى فيه لها، والوعي الحقيقي يصحبه رعي ويعقبه سعي واليقظة الحقيقية يصحبها علم لا هوينا فيه ويتبعها عمل لا تردّد فيه.
والنهضة الحقيقية يصحبها حزم لا هوينا فيه ويتبعها عزم ويسوقها إقدام لا إحجام فيه إلى غاية لا اشتباه فيها. وهل هذه الآثار وهذه الدوال موجودة حقيقة في المجتمعات الإسلامية؟ لا نثبت فنكون متفائلين في موضوع لا ينفع فيه التفاؤل، ولا ننكر فنكون مثبطين في مقام ينفر فيه التثبيط، إنما نقول مقرّرين للواقع إن شاء الله، إن المعاني الحقيقية للألفاظ الثلاثة لا تظهر إلا إذا سبقتها إرهاصات أو أمارات كما يسبق الفجر طلوع الشمس وأدلّها تقارب القلوب وتعارف الشخوص أو تجاوب الشعور وتجانس الأفكار وتعاطف الأرواح وتهيؤ الطباع إلى الاستحالة من صبغة إلى صبغة، وإلى الانسلاخ من جلدة إلى جلدة، وصدق التوجيهات من النتائج إلى المقدمات ومن الوسائل إلى الغايات، وسهولة التغلّب على
__________
* مجلة "الاخوة الإسلامية"، العدد السابع عشر، بغداد، 28 شوال 1372هـ الموافق لـ 10 يوليو 1953م.(4/219)
المضائق وسرعة الاستجابة إلى داعي الحق إذا دُعيَ إليه، وخفّة الإقدام إلى الأمام وتلمّس القيادة الرشيدة والشعور بالحاجة إلى توحيدها وغير ذلك من العوارض التي تظهر لمثل هذه الأطوار من حياة الأمم، وهل هذه الإرهاصات موجودة؟ نعم يوجد بعضها القليل ولكن آفته الكبرى أنه متّجه إلى غير القبلة المشروعة وإن الرياح تسوق سحبه إلى غير أرضنا.
لنخرج من النفاق الغرار الخادع إلى الصدق والصراحة فنقول: الموجود من تلك الأشياء الثلاثة هو الأسماء مفسّرة في الغالب بغير معانيها مصوّرة بغير صورها الحقيقية، وإذا فسد التصوّر فسد التصوير، لأننا ما زلنا نبني تصوراتنا على أُسس من الأماني ونزجّها بالفال ومعاني الفال، فلا تنتهي بنا إلى الأعمال وإنما تنتهي إلى الخيال ثم إلى الخبال، وما زلنا على بقية من الافتتان بالتفسيرات القاموسية التي تقول لنا مثلًا ان اليقظة هي الصحو من النوم ولو أن نائمًا صحا من نومه صحوًا كاملًا ولم يبق في أجفانه فتور ولا ترفيف ولكنه بقي في مضجعه لم يعمل عملًا ولم يأت شيئًا من مستلزمات الصحو ونواقض النوم لكان هذا كافيًا في تحقيق المعنى القاموسي، ولكنه لا يفيد المعنى الاجتماعي بل يعد كما لو كان يغط في نومه، وكذلك تقول في معنى اليقظة ومعنى النهضة. تصحيح معاني هذه الكلمات يستلزم إصلاحًا شاملًا للمفاسد النفسية ويتغلغل إلى مكامن الأمراض فيها فيطهّرها ليبني العلاج على أصل صحيح وإلى عروق الشرّ منها فيمتلخها ليأمن النكسة، ومردّ ذلك كله إلى الأخلاق فهي أول ما فسد بيننا فتكون أول ما أفسد علينا كل شيء. فلتكن هي أول ما نصلح إن كنّا جادّين في تثبيت الوعي واليقظة والنهضة ... لأن الأخلاق إذا استقامت تفتّحت البصائر للوعي وتهيّأت الشواعر لليقظة وانبعثت القوى للنهضة. فكان الوعي بصيرًا وكانت اليقظة عامّة وكانت النهضة شاملة وكانت الحياة لذلك كله كاملة.
نعترف أن نومنا كان ثقيلًا وبأن عمر أمراضنا كان طويلاً. نعرف أن النوم الثقيل لا يصحو صاحبه لا بصوت يصخّ أو بضرب يصكّ وأن المرض الطويل لا يشفى المبتلى به إلا بتدبير حكيم قد يفضي إلى البتر أو القطع، وقد أصابنا من القوارع ما لو أصاب أهل الكهف لأبطل المعجزة في قصتهم ومما كانوا به مثلًا في الآخرين. ولكننا لم نصح من نوم إلا لنستغرق في نوم ولم ننفلت من قبضة منوّم؛ إلا لنقع في قبضة منوّم. صحونا من نوم الاتكال فنقلنا إلى نوم التواكل. وخرجنا من نوم الجهل ومن نوم الركود إلى طفرة تدقّ الأعناق وانفلتنا من تنويم تجّار الدين فوقعنا في تنويم تجّار السياسة. أولئك يمنوننا بسعادة الآخرة من دون أن يسلكوا بنا سبيلها الواضحة، وهؤلاء أصبحوا يغنون لنا ... بسعادة الدنيا دون أن يدلّونا على نهجها الصحيح، وكانت العاقبة لذلك كلّه ما نرى وما نحسّ وما نشكو.
وما أضلّنا إلا المجرمون الذين يدعونا بعضهم إلى الجمع بوسيلة التفريق ويدعونا بعضهم إلى النجاة بطريقة التغريق، والأولون هم رجال الدين الضالون الذين فرّقوه إلى مذاهب(4/220)
وطوائف، والآخرون رجال السياسة الغاشون الذين بدّلوا المشرب الواحد فجعلوه مشارب ... فهل هبة من روح الإسلام على أرواح المسلمين تذهب بهؤلاء وهؤلاء إلى حيث ألقت، وتجمع قلوبهم على عقيدة الحق الواحدة وألسنتهم على كلمة الحق الجامعة وأيديهم على بناء حصن الحق على الأُسس التي وضعها محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولا مطمع لنا في الوصول إلى هذه الغاية إلا إذا أصبح المسلم يلتفت إلى جهاته الأربع فلا يرى إلا أخًا يشارك في الآلام والآمال ... فهو حقيق أن يشاركه في العمل.
إن الوسائل إلى هذه الغاية كثيرة وأقربها نفعًا وأجداها أثرًا أن تربى الأحداث من الصبا على غير ما ربّانا آباؤنا وأن نحجب عليهم نقائصنا، فإن اطّلعوا عليها سمّيناها باسمها وأنها نقائص وأنها سبب هلاكنا وحذّرناهم من التقليد لنا فيها. فإذا شبّوا على هذه الهداية سلكنا بهم سبيل الحق الواحدة ووجّهناهم بتلك القابلية إلى وجهة واحدة وحميناهم من هذه التيارات الفكرية التي تتجاذبهم ومن الذئاب الغربية التي تتخطفهم.
إن شبابنا اليوم يتخبّط في ظلمات من الأفكار المتضاربة والسبل المضلّة، تتنازعه الدعايات المختلفة التي يقرأها في الجريدة والكتاب ويسمعها في الشارع وفي المدرسة ويرى مظاهرها في البيت وفي المسجد. وكل داع إلى ضلالة فكرية أو إلى نحلة دينية مفرّقة يرفع صوته ويجهر ويزين ويغري ويعد ويمني ونحن ساكتون. كأن أمر هؤلاء الشبّان لا يعنينا وكأنهم ليسوا منّا ولسنا منهم، ولا عاصم من تربية صالحة موحّدة يعصمهم من التأثّر بهذه الدعايات ولا حامي من مذكّر أو معلّم أو مدرسة أو قانون يحميهم من الوقوع في هذه الأشراك.
إن شبابنا هم هدف هذه الدعايات وهم ميدان الصراع وموضوع النزاع بين دعاة الفكرة الجامعة وصوتهم ضعيف وعملهم ضئيل، وبين دعاة الشيوعية والإلحاد والوطنيات الضيّقة والعنصريات المحدودة وأصواتهم عالية وأسنادهم قوية ومحرّكهم الأول واحد، وإن لم يشعروا به أو غالطوا أنفسهم وغالطونا فيه وما هم إلا أسلحة في يده موجّهة إلى شبابنا، إن لم يصب بواحد منها أصاب بالآخر، وهو الظافر على كل حال، إن لم تعالجه بما يبطل كيده ويفل أسلحته كلها. وهو حماية هذا الشباب وتحصينه بالمعوذات من فضائل الإسلام وأخلاقه وروحانيته وإن فيه العوض المضاعف عن كل ما تمنيه به الدعايات الخارجية.
إذا كان الشباب لا يفهم الدين من البيت ولا من المسجد ولا من المدرسة ولا من المجتمعات فإن فهم شيئًا منه في شيء منها فهمه خلافًا وشعوذة وتخريفًا، ففي أي موضع يفهم الإسلام على حقيقته طهارة وسموًا واتحادًا وقوة وعزّة وسيادة؟ إن عاملناه بالإنصاف نقول انه معذور إن زلّ وضلّ بالانسياق مع هذه التيارات الخاطئة التي تختلف بالأسماء والمبادئ وتتفق في الغاية وهي حرب الإسلام في أبنائه لتحاربه بعد ذلك بأبنائه ...(4/221)
وإذا كان الشاب يجلس إلى أبويه وذويه فلا يسمع إلا المذهب والخلاف ولمز المخالفين بالمذهب قبل المخالفين بالدين ثم يجلس إلى العالم الديني فلا يسمع إلا "عندنا وعندهم"، ثم يجلس في المدرسة فلا يسمع ذكرًا للإسلام ولا تمجيدًا لمبادئه وعظمائه وتاريخه، ولا يرى فيها شيئًا من مظاهره بل لا يسمع إلا تحقيرًا لماضيه وغضًا من أمجاده. إذا كان لا يسمع في مضطربه إلا هذا ولا يرى إلا هذا فكيف نطمع أن ينتصر مع هذه الدعايات الجارفة؟ إننا حين نطمع في هذا لفي غيّ بعيد ...
إن شبابنا لجهلهم بالإسلام أصبحوا لا يثقون بماضيه، وكيف يثقون بماض مجهول وهذا حاضره؟ أم كيف يدافعون عن هذا الماضي المجهول إذا عرض لهم الطعن فيه في الكتاب الطاعن؟ أم سمعوا اللعن له من الأستاذ اللاعن؟ أم كيف يفخرون بالمجهول إذا جليت المفاخر الأجنبية في كتاب يقرّره قانون ويزكيه أستاذ؟ اعذروا الشبّان ولا تبكوا على ضياعهم فأنتم الذين أضعتموهم ولا تلوموهم ولوموا أنفسكم. أهملتموهم فذوقوا وبال الإهمال وأنزلتموهم إلى اللجة وقلتم لهم إياكم أن تغرقوا ... ثم استرعيتم عليهم الذئاب ومن استرعى الذئب ظلم ...
لا أحمق منا: نلقّن أبناءنا الخلاف في الدين والدنيا بأعمالنا ونقول لهم بألسنتنا اتّحدوا، وإن صالحة يأخذها الابن عن أبيه بطريق القدوة خير من ألف نصيحة باللسان.
النهضات الصادقة تبدأ من الأخلاق وتنتهي إلى الأخلاق، وما زادت بحوث الفلسفة ماضيها وحاضرها في الأخلاق شيئًا على ما جاء به الإسلام وأقرّته الفطر السليمة، ويزيد الإسلام على هذه الفلسفات ويشقّ بقوة العرض للفضيلة والتشويق لها وشرح آثارها في الفرد والجماعة وبيان صلتها الوثيقة بالأقانيم الثلاثة الحق والخير والجمال، وإن شعراء العرب الفطريين لأدق تصويرًا للفضائل وأصدق تعبيرًا عليها وتفسيرًا لآثارها وحثًا على التحلّي بها من جميع الفلاسفة النظريين، وقد أثرت الماديات في هذا العصر على عقول فلاسفته ورانت عليها العصبيات الجنسية والإقليمية حتى انعكس نظرهم في فهم الفضيلة فسمّوها بغير اسمها فأصبحت القوة فضيلة يدعى إليها بدل الرحمة، والظلم فضيلة يتمجد بها بدل العدل، والاستعباد فضيلة يتغنّى بها بدل الحرية، وكل هذا يدلّ على أن الفضيلة في نظر الفلسفة العملية الجديدة هي لباس للعقل لا نبع منه وأنها خاضعة للحكم لا للحكمة، أما الفضائل في نظر الإسلام وحكمه فإنها صبغة لا تتحوّل وحقيقة لا تتغيّر ولا تتبدّل، فالصدق في معناه الإسلامي هو الصدق لا تتصرّف في معناه المصالح والمنافع ولا تتلاعب به الأهواء والمطامع والوفاء هو الوفاء، والعدل والإحسان والرفق والعفو عند القادر، كل أولئك من الفضائل الثابتة ثبوت الحقائق لا تنال منها تصاريف الأيام ولا يتصوّر أن يأتي على الناس يوم تجمع فيه عقول العقلاء على أن الصدق مثلًا رذيلة تصِمُ صاحبها بالذم إلا إذا جوزنا مجيء يوم يخرج(4/222)
فيه الكون من تدبير الله إلى تدبير الشيطان ويكون أفضل الذكر فيه أن يقال كلما ذكر الشيطان: رضي الله عنه.
فالموازين القرآنية للفضائل هي التي يجب أن تحكم في العقول حتى تأمن على الفضيلة ما يجري بيننا على "الأوراق النقدية". ونحن أهل القرآن أحق الناس بالدعوة إلى هذا وتبيّنه ونشره في هذا العالم المضطرب الذي فقد الفضائل الإنسانية فانحدر إلى حيوانية عارمة توشك أن تفضي به إلى الفناء.
نحن أهل القرآن- الذي وضع الموازين القسط للفضائل وحثّ عليها وجعلها أساسًا للسعادة وسلّمًا للسيادة- أولى الناس بأن نزن النهضات بحظوظها من الفضائل وأن نبني بأيدينا أساس نهضتنا على صخرة الفضائل طبقًا عن طبق، ونحن- لو أجلنا بصائرنا في القرآن- أبعد الناس عن فساد التصوّر في تسمية هذه الحركات المتهافتة في المجتمعات الإسلامية نهضة.(4/223)
في مجمع اللغة العربية بدمشق *
أيها الإخوان الأصفياء:
لي من الصلات الطبيعية بهذا المجمع العتيد أنّني واحد من هذه العصابة الحاملة لتراث الإسلام العلمي، ولتراث العرب الأدبي، ولخصائص الشرق الروحية، وأنّني أحد الغالين المتشدّدين في المحافظة على علوم الإسلام وآداب العرب وخصائص الشرق، المؤمنين بأنّها كانتْ في فترة من التاريخ منبع إسعاد وإعزاز وقوّة، فإذا كانتْ قد نضبت في فترة أخرى فَبِما كسبتْ أيدي أهلها من تفريط وإضاعة، وهي بعد ذلك أهلٌ أن تدِر حلائبها، وتثر سحائبها، حين يعود الإحساس ويجود الإبْساس.
وإنني واحد من هذا الصنف الجديد الذي لا يرى العلم علمًا حتّى يكون مفيدًا، ولا يرى الرأي رأيًا حتّى يكون سديدًا، ولا يرى الكتاب وسيلةً للعلم حتّى يظهرَ عليه أثر العقل المستقلّ، ويلوحَ عليه ميسم الفكر الولود، وينفض عليه صبغ القريحة الحيّة.
وإنّني واحد ممن لا يرى الخلَف برًّا بسلفه حتى يكون برًّا بزمنه وحتّى يزيد في بناء السلف سافا، وفي تاريخهم صحيفة، وفي عددهم رقمًا، وفي متحفهم تحفة، وحتّى يغمر نقصهم بتمامه، ويُقَوِّمَ فوضاهم بنظامه، ويُجمِّلَ بَدْأَهم بختامه.
وأنا- بعد ذلك كلّه- واحد من هذه العصبة التي تتخذ من القلم أداة جهاد، حين فاتها أن تتّخذ السيف من أدوات الجهاد، وفاتها أن تصطنع الحديد ذا البأس الشديد، فاصطنعت اليراع للقراع، واكتفتْ من أعمال الإيمان بأضعف الإيمان، عقوقًا لسيّدنا إبراهيم الذي راغ على أصنام الكلدانيين ضربًا باليمين، في هذا الزمن الذي أصبحت لغة بَنِيهِ مشتقّة من قعقعة الكتائب لا من جعجعة الكتب ولا من عجعجة الألسنة.
__________
* فقرات من الكلمة التي أُلقيت في مجمع اللغة العربية بدمشق ارتجالًا، يونيو 1953.(4/224)
ولي- أيها الإخوان الكرام- من الصلات المكتسبة بهذا المجمع أن أكثر الأعضاء الذين هم عُمَدُه ودعائمه من أصدقائي الذين أعْتزُّ بصداقتهم، وأعتدّ بعلمهم وإدراكهم لحقائقه، فأستاذنا المرحوم محمد كرد علي، وأستاذنا الشيخ الإمام عبد القادر المغربي، والأستاذ الشاعر خليل مردم بك، وصديقنا العالم الشيخ محمد بهجت البيطار، والأستاذ الدكتور جميل صليبا، وغيرهم، كلّهم من الجواهر التي عرفت قِيَمها، وكلّهم من الدوائح التي استمطرتُ دِيَمها، بل كلهم من السلائل التي عرفت خيمها قبل أن أعرف خِيمَها. ولم لا، وأنا مجنون هذه الأمّة العربية، المفتون بماضيها وحاضرها، فإذا كنت أفخر بأنّني أعرف من قبائلها الغابرة حتّى السكوف والسكاسك، وأعرف من منازلها الدائرة حتّى اللّوى والدكادك، فكيف لا تزدهيني معرفة رجالها الحاضرين الحاملين لراياتها ورواياتها، وكيف لا أفخر بصداقة أعلامها في الوقت الحاضر، وما منهم إلّا مَن نظم فيها ونثر، وما كبا في ميادينها ولا عثر، وأَحْيَا مِن معالمها ما اندثر، وانبط العين بعد أن خص الأثر.
لو سألتموني- أيها الإخوان- ماذا أحبْبتُ من الأمّة العربية ولماذا أحببتُها هذا الحبّ الذي بلغ درجة الافتتان، وأوّلها جاهلي وآخرها جاهلي، لَأَجبتُ جوابًا يأكل الأجوبة كلّها ويُسكت الشقاشق الهادرة، وهو أنني أحببت منها ما أحبَّ الله منها يوم أنزل وَحْيَه الكامل بلسانها، واختار رسوله الخاتم من أبنائها، وحسبي شرفًا وتوفيقًا أن أحبّ ما أحبّ الله، وإذا كانتْ في أوّلها ضالّة فقد هداها القرآن يوم عرفته، وإذا رجَعتْ إلى ضلالها القديم فسيرجع القرآن بها يوم تعرفه إلى الهداية، رغم أنف أوروبا وتلامذتها المغرورين بها، ورغم أسواقها العامرة بكل شيء إلّا الهدى، وأبواقها الفارغة من كل شيء إلّا الصدى.
أيها الإخوان: إنّ العلم بين أهله رحم يجب أن تبل ببلالها، وغير كثير على ذويها أن يتعارفوا وأن يتلاقوا على صلة تلك الرحم، وأن يتعاونوا على البر بها، وأن يتعاهدوها بالإشاعة بعد الإضاعة، وأن يتنازعوا أمر العلم بينهم، فينفوا عنه تحريف الجاهلية وانتحال المبطلين.(4/225)
دولة القرآن *
القرآن كتاب الكون، لا تفسّره حق التفسير إلا حوادث الكون. والقرآن كتاب الدعوة، لا تكشف عن حقائقه العليا إلا تصاريف الدهر. والقرآن كتاب الهداية الإلهية العامة، فلا يفهمه إلا المستعدّون لها. والقرآن «لا يبلى جديده، ولا تنقضي عجائبه».
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جاء القرآن لهداية البشر وإسعادهم، والاهتداء به متوقف على فهمه فهمًا صحيحًا، وفهمه الصحيح متوقف على أمور: منها فقه أسرار اللسان العربي فقهًا ينتهي إلى ما يسمّى ملكة وذوقًا، ومنها الاطّلاع الواسع على السنة القولية والعملية التي هي شرح وبيان للقرآن، ومنها استعراض القرآن كله عند التوجّه إلى فهم آية منه أو إلى درسها، لأن القرآن كل لا يختلف أجزاؤه، ولا يزيغ نظمه، ولا تتعاند حججه، ولا تتناقض بيّناته، ومن ثم قيل: إن القرآن يفسّر بعضه بعضًا، بمعنى أن مبيّنه يشرح مجمله، ومقيده يبيّن المراد من مطلقه، إلى آخر الأنحاء التي جاء عليها القرآن في نظمه البديع، وترتيبه المعجز، ومنها الرجوع في مناحيه الخصوصية إلى مقاصده العامة، لأن خصوصيات القرآن وعمومياته متساوقة يشهد بعضها لبعضها، وكل هذه الأمور لا تتهيأ إلا لصاحب الفطرة السليمة، والتدبّر العميق، والقريحة اليقظة، والذهن الصافي، والذكاء الوهّاج.
والقرآن حجة على غيره، وليس غيره حجة عليه، فبئس ما تفعله بعض الطوائف الخاضعة للتمذهب من تحكيم الاصطلاحات المذهبية، والآراء الفقهية، أو العقلية فيه، وإرجاعه بالتأويل إليها إذا خالفته. ومن الخطل، بل من الخذلان المفضي بصاحبه إلى ما يستعاذ منه أن يجعل الرأي الاجتهادي غير المعصوم أصلًا، ويجعل القرآن المعصوم فرعًا، وأن يعقد التوازن بين كلام المخلوق وكلام الخالق، إن هذا لهو الضلال البعيد.
ما أضاع المسلمين ومزّق جامعتهم ونزل بهم إلى هذا الدرك من الهوان إلا بعدهم عن هداية القرآن، وجعلهم إياه عضين، وعدم تحكيمهم له في أهواء النفوس ليكفكف منها،
__________
* مجلة "المسلمون"، السنة الثانية، العدد العاشر، ذو الحجة 1372هـ / أغسطس 1953م. كما نشرت هذه الكلمة كمقدمة لكتاب الأستاذ عبد العزيز العلي المطوع في "تفسير سورة العصر".(4/226)
وفي مزالق الآراء ليأخذ بيدهم إلى صوابها، وفي نواجم الفتن ليجلي غماءها، وفي معترك الشهوات ليكسر شرتها، وفي مفارق سبل الحياة ليهدي إلى أقومها، وفي أسواق المصالح والمفاسد ليميّز هذه من تلك، وفي مجامع العقائد ليميّز حقّها من باطلها، وفي شعب الأحكام ليقطع فيها بفصل الخطاب، وان ذلك كله لموجود في القرآن بالنص أو بالظاهر أو بالإشارة والاقتضاء، مع مزيد تعجز عنه عقول البشر مهما ارتقت، وهو تعقيب كل حكم بحكمة، وكل أمر بما يثبته في النفس، وكل نهي بما ينفر عنه، لأن القرآن كلام خالق النفوس، وعالم ما تكن وما تبدي، ومركب الطبائع، وعالم ما يصلح وما يفسد، وبارئ الإنسان وسطًا بين عالمين: أحدهما خير محض والآخر شر محض، فجعله ذا قابلية لهما من غير أن يكون أحدهما ذاتيًا فيه، ليبتليه أيشكر أم يكفر، وليمتحنه أي الطريقين يختار، كل ذلك ليجعل سعادته بيده، وعاقبته باختياره، وتزكيته أو تدسيته من كسبه، وحتى يهلك عن بيّنة، أو يحيا عن بينة.
...
ما كان الصدر الأول من سلفنا صالحًا بالجبلة والطبع، فالرعيل الأول منهم وهم الصحابة كانوا في جاهلية جهلاء كبقية العرب، وإنما أصْلَحَهم القرآن لما استمسكوا بعروته واهتدوا بهديه، ووقفوا عند حدوده، وحكموه في أنفسهم، وجعلوا منه ميزانًا لأهوائهم وميولهم، وأقاموا شعائره المزكية، وشرائعه العادلة في أنفسهم، وفيمن يليهم، كما أمر الله أن تقام، فبذلك أصبحوا صالحين مصلحين، سادة في غير جبرية، قادة في غير عنف، ولا يصلح المسلمون ويسعدون إلا إذا رجعوا إلى القرآن يلتمسون فيه الاشفية لأدوائهم، والكبح لأهوائهم، ثم التمسوا فيه مواقع الهداية التي اهتدى بها أسلافهم. وإذا كان العقلاء كلهم مجمعين على أن المسلمين الأولين صلحوا فأصلحوا العالم، وسادوه فلم يبطروا، وساسوه بالعدل والرفق، وزرعوا فيه الرحمة والحب والسلام، وأن ذلك كله جاءهم من هذا القرآن، لأنه الشيء الجديد الذي حوّل أذهانهم، وهذّب طباعهم، وثبّت الفضائل في نفوسهم، فإن الإجماع على ذلك ينتج لنا أن سبب انحطاط المسلمين في القرون الأخيرة هو هجرهم للقرآن، ونبذه وراء ظهورهم واقتصارهم على حفظ كلماته، وحفظ القرآن- وإن كان فضيلة- لا يغني غناء ما لم يفهم، ثم يعمل به.
وهجر المسلمين للقرآن يرد إلى أسباب، بعضها آتٍ من نفوسهم، وبعضها آتٍ من خارجها. فمن الأول افتتانهم بآراء الناس، وبالمصطلحات التي تتجدد بتجدد الزمان، ومع طول الأمد رانت الغفلة، وقست القلوب وطغت فتنة التقليد، وتقديس الأئمة والمشايخ، والعصبية للآباء والأجداد، وغلت طوائف منهم في التعبّد فنجمت ناجمة التصوّف والاستغراق(4/227)
فاختلّت الموازنة التي أقامها القرآن بين الجسم والروح، وغلت طوائف أخرى في تمجيد العقل فاستشرف إلى ما وراء الحدود المحددة له، وتسامى إلى الحظائر الغيبية فتشعبت به السبل إلى الحق في معرفة الله وتوحيده، ونجمت لذلك ناجمة علم الكلام، وما استتبعه من جدل وتأويل وتعطيل، وتشابهت السبل على عامة المسلمين لكثرة هذه الطوائف، فكان هذا التفرّق الشنيع في الدين أصوله وفروعه. وفي غمرة هذه الفتن بين علماء الدين ضاع سلطانهم الديني على الأمة، فاستبدّ بها الملوك وساقوها في طريق شهواتهم فأفسدوا دينها ودنياها وكان ما كان من هذه العواقب المحزنة.
ومن الثاني تلك الدسائس الدخيلة التي صاحبت تاريخ الإسلام من حركات الوضع للأحاديث، إلى هجوم الآراء والمعتقدات المنافية للقرآن، إلى ما ادّخر لزماننا من إلقاء المبشّرين والمستشرقين للشبهات في نصوص القرآن عن عمد ليصدّوا المسلمين عن هديه، وان خطر هذه الفتنة الأخيرة لأعظم مما يتصوّره علماؤنا، ويقدّره أولياء أمورنا.
هذه العوامل مجتمعة ومفترقة، وما تبعها أو لازمها من عوامل فرعية هي التي باعدت بين المسلمين وبين قرآنهم، فباعدت بينهم وبين الخير والسعادة والعزة، وأصبحوا- كما يرى الرائي- أذلة مستعبدين، ولا يزالون كذلك ما داموا مجانبين لسنن القرآن، معرضين عن آياته وإرشاداته، غافلين عما أرشد إليه من السنن الكونية. ولو أنهم تواردوا على الاستمساك به في هذه القرون الأربعة عشر لكانوا هم السابقين بإرشاده إلى اكتشاف أسرار الكون، واختراع هذه العجائب الآلية، ولم يكن موقفهم منها موقف المكذب أولًا، المندهش آخرًا. ففي القرآن آيات للمتوسمين، وإرشاد للعقل البشري يتدرّج مع استعداده، وفيه من الكشف عن غرائب النفوس وألوانها، وعن حقائق الكون وأسرار مواليده ما يسير بمتدبّره رويدًا رويدًا حتى يضع يده على الحقيقة، ويكشف له عن وجهها، ويكاد يكون من البديهيات فيه ما يقرره في أطوار الأجنة، وتزاوج النبات، وتكوّن المطر، وتصاريف الرياح، وتكوير الليل على النهار، وإثبات الصلة بين علويات هذا الكون وسفلياته، ولكن المسلمين ظلّوا غافلين حتى عن هذه البديهيات، إلى أن جاءتهم من غير طريق قرآنهم، ثم دلّهم القرآن على نفسه فلاذوا بالفخر الكاذب، وربّما دلّهم على مواقع هذه الأشياء في القرآن مَن ليس من أهل القرآن، وأن هذا لهو الخذلان المبين.
وما زاد المسلمين ضلالًا عن منبع الهداية وعماية عنها إلا فريق من العلماء وضعوا أنفسهم في موضع القدوة والتعليم، وطوائف من غلاة المتصوّفة انتحلوا وظيفة التربية والتقريب من الله. فهم الذين أبعدوهم عن القرآن، وأضلوهم عن سبيله بما زّينوا لهم من اتباع غير سبيله، وبما أوهموهم أنه عالٍ على الأفهام، وما دروا بأن من لازم هذا المذهب كفر، وهو أنه إذا كان لا يفهم فإنزاله عبث، وأنى يكون هذا؟ ومنزله- تعالت أسماؤه-(4/228)
يصفه بأنه عربي مبين، وأنه غير ذي عوج، وأنه ميسر للذكر، وينعته بأنه يهدي للتي هي أقوم، وكيف يهدي إذا كان لا يفهم؟ ومن عجيب أمر هؤلاء وهؤلاء أنهم يصدرون في شأن القرآن عن هوى لا عن بصيرة، فبينما يسدّون على الناس باب الاهتداء به في الأخلاق التي تزكي النفس، والعقائد التي تقوّي الإرادات، والعبادات التي تغذي الإيمان، والأحكام التي تحفظ الحقوق، وكل هذا داخل في عالم التكليف، وكله من عالم الشهادة، بينما يصدّون عن الاهتداء في ذلك بالقرآن نراهم يتعلّقون بالجوانب الغيبية منه، وهي التي استأثر الله بعلمها، فيخوضون في الروح والملائكة والجن وما بعد الموت، ويتوسّعون في الحديث عن الجنة والنار، حتى ليكادون يضعون لهما خرائط مجسّمة، وسبيل المؤمن القرآني العاقل في هذه الغيبيات أن يؤمن بها كما وردت، وأن يكل علم حقيقتها إلى الله، ليتفرّغ لعالم الشهادة الذي هو عالم التكليف.
...
وما زلنا نرى من آيات حفظ الله لدينه أن يقوم في كل عصر داعٍ أو دعاة إلى القرآن، وإمام أو أئمة يوجّهون الأمة الإسلامية إليه، ومفسّر أو مفسّرون يشرحون للأمة مراد الله منه، ويتناولون تفسيره بالأدوات التي ذكرناها في أول هذه الكلمة، ويجعلونه حجة على المذاهب والاصطلاحات ومنازع الرأي والعقل، وحكمًا بينها، وأصلًا ترجع إليه ولا يرجع إليها، ومن المبشّرات بالخير ورجوع دولة القرآن أن الدعوة إليه قد تجددت في هذا الزمان على صورة لم يسبق لها مثيل، وأن أصوات الدعاة المصلحين قد تعالت بذلك وتجاوبت وتلاقت على هدى، تدعو إلى دراسته واستخراج ذخائره وإحياء دعوته إلى الفضيلة والخير والمحبة وأخذ العقائد والعبادات وأحكام المعاملات منه، والاستعانة على ذلك بمفهوم السلف الصالح وتطبيقاتهم، وتحكيمه في كل ما يشجر من خلاف في الدين والدنيا، وكان من آثار ذلك أن أصبح العلماء المستعدّون للعمل، والعوام المتهيّئون للعلم يردّدون الجمل الآتية، وتجول في نفوسهم معانيها، وهي: "لماذا نهجر دستور القرآن وهو من عند الله، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتبذل ولا يتغيّر، ثم نلتجئ إلى دساتير الغرب وقوانينه وهي من أوضاع البشر القاصرة، يظهر في كل حين تناقضها ومنافاتها للمصلحة، فتبدل وتغيّر، ولا تزال تبدّل وتغيّر، مع أن واضعيها والموضوعة لهم من جنس واحد، وعلى طبيعة واحدة ومصلحة واحدة؟ لقد بؤنا بالصفقة الخاسرة مرتين.
إن هذا الغليان في أفكار المسلمين وكثرة حديثهم عن القرآن، وإقبالهم على دعاته ومدارسه، وتحدّي أساليبه في الوعظ وفي الكتابة، كل ذلك بشائر برجوع دولته وإصلاح البشرية به من جديد، واتخاذه مرجعًا وملاذًا للأمم الأجنبية التي لم يستقرّ لدساتيرها(4/229)
الوضعية قرار، فاضطربت حياتها، واستشرفت نفوسها إلى قانون سماوي يحفظ حقوقها، ويحدّد للفرد حقّه، وللجماعة حقّها. ولعمري ان هذه المطالب كلها لفي القرآن، لو وجد القرآن من أهله من يقيمه ويبلغ دعوته وينشر هدايته.
...
ثم ما هذه النغمات الناشزة عن هذا الايقاع اللذيذ، إيقاع الدعوة إلى إقامة الدستور القرآني؟ ما هذه النغمات الممجوجة المترددة التي تصور أن الدستور القرآني يتحيف حقوق الأقليات المساكنة للمسلمين أو يجحف بها؟ ... إنها نغمات صادرة عن مصدرين: أعداء القرآن ينصبون بها العواثير في طريق الدعوة إليه، وضعفاء الصلة بالقرآن الجاهلين آثاره وتاريخه في إصلاح الكون كله، فليقل لنا الفريقان: متى ظلم القرآن غير المؤمنين به؟ ومتى أضاع لهم حقًا، أو استباح لهم مالًا، أو انتهك لهم عرضًا، أو هدم لهم معبدًا، أو حملهم على مكروه في دينهم، أو أكرههم على تغيير عقيدة من عقائدهم، أو حمّلهم في أمور دنياهم ما لا يطيقون؟ ... بلى، إنه عاملهم في كل ذلك بما لم يطمع في معشاره الأقليات ولا الأكثريات من شعوب اليوم الواقعة تحت حكم الدول العالمة المتحضرة الخاطئة الكاذبة التي تزعم لنفسها الفضائل كلها ولا تتخلق بواحدة منها.
من أصول الإسلام أنه لا إكراه في الدين، وأين موضع هذا عند هذه الدول الباغية؟
ومن أصول الإسلام الوفاء بالعهد في السلم والحرب، وأين هذا مما تفعله هذه الدول الطاغية؟ ومن أصول الإسلام أن لا يكلف من دخل في ذمته بالدفاع الحربي، وأين هذا مما تفعله هذه الدول الظالمة التي تجند المحكومين بالإكراه ليموتوا في سبيلها من دون جزاء ولا شكر؟ ومن أصول الإسلام أن لا يقتل في الحرب إلّا المقاتل، وأن لا يقتل الأعزل المعتزل والشيخ الكبير والمرأة والطفل والمنقطع للعبادة، وهذه الأصناف هي ثلثا الأمم المحاربة، فأين هذا مما ترتكبه الأمم المتمدنة في حروبها اليوم من الإبادة للكبير والصغير والمرأة والرجل والطفل والجنين، وما تتفنن فيه من وسائل الاستئصال؟ وكفى بواقعة "هيروشيما" اليابانية شاهدًا لا يكذب.
إن الإسلام يعامل المخالفين بالرحمة، لأن قرآنه هو دستور الرحمة، ويضعهم في أربع مراتب، لكل مرتبة حكمها العادل: الذمي المقيم في وطن الإسلام له كل ما للمسلم، وليس عليه كل ما على المسلم، فهو محمي النفس والمال والعرض، حر في التصرفات المالية، آمن في الظعن والإقامة، وليس عليه ما على المسلم من أعباء القتال والدفاع، والمستأمن آمن على حقوقه حتى يبلغ مأمنه، والمعاهد موفى له بعهده من غير ختر ولا غدر، والحربي يعامل(4/230)
بما رضيه لنفسه من غير أن يجاوزه إلى غيره من أهله أو بني ملته، فإذا شذ أمير مسلم أو قائد عن هذه القواعد الأساسية في الإسلام وظلم طائفة من هذه الطوائف أو فردًا من أفرادها فقد خرج عن حكم الإسلام، وإذا حكى التاريخ عن ملوك مسلمين ظلمة فهؤلاء بطبيعة حالهم يظلمون المسلمين قبل أن يظلموا المخالفين، وليست أعمالهم حجة على القرآن، بل للقرآن الحجة عليهم، وأيسر أحكام الإسلام فيهم أن يعزلوا وأعلاها أن يقتلوا.
أين هذا من قوانين اليوم ومعاملة اليوم أيها الناطقون بغير علم، الصادرون عن غير فهم؟ وأين عدل القرآن من جوركم أيها الجائرون في الحكم، المحاربون للحقيقة في الحرب والسلم، البانون لحياتهم في الظلام على الظلم؟ وأين تجدون الرحمة والعدالة إذا لم تجدوها في ظلال القرآن، أيتها الأقليات غير الوفية، المدفوعة من الخلف بالأيدي الخفية؟
...
أثمرت الحركات الإصلاحية منذ أكثر من مائة سنة ثمرات زكية، وفتحت الأذهان لحقيقة، وهي أن القرآن يفهم، وأنه ميسر للفهم، فانفتحت للدارسين أبواب كانت مقفلة، وكثر جريانه على ألسنة الخطباء والمرشدين منزلة آياته في منازلها من الأحداث الطارئة متجاوبة مع العلم، مقسمة على المواضيع المتجددة، وكثر جريانه على أقلام الكتاب في المباحث الدينية والأخلاقية والاجتماعية والكونية، يقيمون منه شواهد على كل حقيقة، وأدلاء على كل طريق، وأعلامًا هادية إلى كل غاية، فإذا هو يفسر نفسه بنفسه وتتسابق معانيه الواضحة إلى الأذهان، وأعان على ذلك هذه النهضة الأدبية التي لم ترَ العربية أعمق منها غورًا، ولا أوسع منها دائرة، فأصبح بها القرآن قريبًا إلى الأفهام، مؤثرًا في العقول، وأصبحنا نسمع من تلامذتنا الذين ربيناهم على القرآن حفظًا وفهمًا وعملًا، ورضناهم على الغوص وراء معانيه- آراء في الاجتماع الإنساني سندها القرآن ما كانت تزيغها أفكار الشيوخ، وآراء في الدستور القرآني وتطبيقه على زماننا ومكاننا ومصالحنا، ما كانت تسيغها عقول الأجيال الماضية. وهؤلاء التلامذة لم يزالوا بعد في المراحل العلمية المتوسطة، فكيف بهم إذا أمدتهم الحياة بتجاربها، وأمدهم العلم باختباراته؟ لعمر أبيك انه القرآن حين تتجلى عجائبه على الفطر السليمة، والعقول الصافية.
...
وولدنا المسلم القرآني الشيخ عبد العزيز العلي المطوع القناعي الكويتي رجل مسلم، سليم الفطرة، متين التدين، صحيح العقيدة، صليب العروبة، نعده من مفاخر هذا الجيل(4/231)
وأثبتهم صبغة في التمسك بدينه والغيرة عليه والوفاء للقرآن تلاوة لِلَفظِهِ، وتدبرًا لمعانيه، والدعوة إلى الحق به، والعمل على نشره، والتشجيع على فهمه، والصلة بعلمائه، والشدة على خصومه والمنافرين له، وهو مع ذلك رحيب أفق التفكير، سديد النظرة، حاضر الذهن، صافي القريحة، وقد تضافرت هذه العوامل على توفير حظه من فهم القرآن وعلى تزويده بملكة أهلته لأن يطارح العلماء فهمه، فيسبقهم في بعض الأحيان إلى اكتشاف نكته وغرائبه، وقد عرض علينا طائفة من فهومه لآيات متفرقة، فرأينا فهمًا سديدًا واتجاهًا حميدًا، وتفطنا للدقائق الكامنة في الألفاظ والآيات، بصرًا بما بين الآي والسور في ترتيبها التوقيفي من المناسبات والصلات.
رأينا في هذا الرجل مجموعة من المؤهلات الكسبية، والمواهب الفطرية، هي النموذج الصحيح للعقل الذي يفهم القرآن على أنه هداية عامة للبشر، وأنه كتاب الكون، وأنه الدستور الكامل لإصلاح الأفراد والجماعات، وأنه صالح لكل زمان ومكان بمجاراته للعقل، ودعوته إلى العلم، وجمعه بين مطالب الروح والجسم.
وقد قدم لنا في اجتماعنا الأخير بالقاهرة قطعًا من خواطره المتفرقة في معاني سورة "العصر" وغيرها، ونظرنا فيها فاقترحنا عليه أن لا يضيع أمثال هذه الفوائد، وأن يجمعها في كراريس ويحفظها بالطبع، لتكون في جملة ما يقدم لهذه الأجيال السائرة إلى القرآن على شعاع القرآن، وقد استجاب- حفظه الله- لرأينا، وقدم للطبع هذه القطعة الصغيرة من خواطره في سورة "العصر" وصدرناها نحن بهذه الكلمة المقتضبة في الدعوة إلى القرآن، وعسى أن تكون مشجعة له على مواصلة السير في هذا النهج القويم مع ترديد النظر، وتمحيص الفكر، وتقليبه على وجوهه، وإحسان التأليف بين أطرافه وعدم الاقتناع بأول خاطر، وأوصيه بأن يعرض كل خاطرة تخطر له على القرآن كله ثم على الآيات الخاصة بموضوع الخاطرة، مع خلوص النية وصدق المعاملة مع الله في كتابه، وتوخي نفع المسلمين بدلالتهم على طرق الانتفاع بهذا الكنز الثمين، وأوصيه ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وتوقي مساخطه التي تطفئ نور البصيرة، وتردي مجترحها في المهلكات.
ونحن معشر الدعاة إلى هداية الكتاب والسنة نستبشر بهذه المقدمات، ونتمنى أن تكون مؤدية إلى نتائجها الجليلة، ونرحب بهذه الطلائع الفكرية، ونرتقب ما وراءها من كتائب أنصار القرآن.(4/232)
في مصر
(من أغسطس إلى ديسمبر 1953)
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/233)
برقيات احتجاج
على خلع الملك محمد الخامس
وعلى المعاهدة الليبية البريطانية *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تلقّى مركز جمعية العلماء في الجزائر من مكتب الجمعية بالقاهرة نص البرقيات الآتية التي كان أبرق بها إلى الجهات المختصّة بها وهذه نصوصها:
1 - السيد رئيس الجمهورية الفرنسية (باريس)،
السيد رئيس الوزارة الفرنسية (باريس)،
السيد رئيس مجلس النواب الفرنسي (باريس).
أعمال حكومتكم الاستعمارية في المغرب الأقصى أثارت غضب العالم الإسلامي كله على فرنسا وحرّكت فيهم روح الانتقام لأن كل ما تفعله حكومتكم ضد جلالة السلطان يعد تعديًا شنيعًا على سلطة دينية شرعية، ونقضًا حتى لاتفاقات الحماية المفروضة الجائرة. كل عقلاء العالم يعتقدون أن هذه الأساليب الاستعمارية المفضوحة ليست في مصلحة فرنسا بل هي هدم لسمعتها في العالم.
إلى متى تعمل فرنسا لصالح شرذمة من الاستعماريين الذين لا تهمّهم إلا مصالحهم الشخصية؟
الخير كل الخير لكم في تقديركم للعواقب الوخيمة وللظروف العالمية الخطيرة.
عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة
محمد البشير الإبراهيمي
الفضيل الورتلاني
__________
* «البصائر»، العدد 240، السنة السادسة من السلسلة الثانية، 11 سبتمبر 1953.(4/235)
2 - جلالة الملك مولاي محمد بن يوسف (الرباط).
حيّاكم الله ونصركم وثبّت أقدامكم على الحق.
المسلمون كلهم معكم بأرواحهم وعقولهم في موقفكم الشريف أمام الاستعمار الباغي وأساليبه المفضوحة، فاثبتوا ينصركم الله.
إن أمانة الله في أعناقكم لا ينزعها منكم إلا ظالم ولا يؤدي الأمانة إلا أمثالكم من المؤمنين الثابتين. وأنتم تعلمون أن التفريط فيها خيانة لله وللوطن والتاريخ، أعانكم الله وأيّدكم بروح منه.
عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة
محمد البشير الإبراهيمي
الفضيل الورتلاني
3 - جلالة الملك ادريس السنوسي (بنغازي).
الشعوب العربية والإسلامية كلها ساخطة على المعاهدة التي يُراد عقدها بين الانكليز وبين الحكومة الليبية، ويعدّونها أشأم على الوطن من كل استعمار مضى.
وإخوانكم في المغرب العربي يحتجّون بشدّة على هذا الارتباط المشؤوم لأنه قاطع لأوصال الوطن العربي وقاضٍ على ما يعلّقونه من آمال على استقلال ليبيا.
فباسم الجزائريين كلهم نطالبكم باستخدام نفوذكم لإبطال هذه المعاهدة المخزية أعانكم الله.
عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة
محمد البشير الإبراهيمي
الفضيل الورتلاني
4 - حضرة السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية (القاهرة).
العالمان العربي والإسلامي في هذه اللحظة تشتعل أطرافهما وينصبّ عليهما البلاء من كل جانب، فمن المعاهدة الليبية- الانكليزية المكبّلة إلى الخطوة المجرمة التي تريد أن تخطوها فرنسا في المغرب العربي ضد جلالة السلطان وشعبه.(4/236)
نرى أن هذه اللحظة هي أحرج اللحظات في تاريخ العروبة وفي حياة الإسلام، ونعتقد أن أول واجب تفرضه عليكم مسؤولياتكم الجسيمة هو دعوة اللجنة السياسية للجامعة العربية لاجتماع سريع حازم واتخاذ موقف أسرع وأجرأ وأحزم قبل فوات الأوان وحصول قاصمة الظهر بالأمة العربية.
أنتم أول من يفهم أن هذا الأسلوب الجديد من فرنسا هو القضاء على أماني المغرب العربي كله، وأن مغزى الأسلوب الانكليزي في ليبيا هو قطع أوداج الأمة العربية، وأن الأسلويين مدبّران يلتقيان على عاقبة فظيعة لمصر أولًا بالتطويق، وللعالم العربي ثانيًا بالتعويق.
نسألكم بشرف العروبة أن تبلغوا صورة هذه البرقية إلى الحكومات العربية كلها.
عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة
محمد البشير الإبراهيمي
الفضيل الورتلاني(4/237)
كلمة إلى الشعب الليبي *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان الليبيون الكرام:
حيّاكم الله وبصّركم بالعواقب، وجعل لكم في الماضي عبرة للحاضر وعظة للمستقبل، ونصركم في معارك الرأي كما نصركم في معارك الحرب، وأراكم الخير خيرًا لتتبعوه، والشر شرًا لتتقوه وتجانبوه، ووقاكم شر تحكّم الأفراد وزلل الساسة، وأخرجكم من ظلمات الاستبداد إلى نور الشورى، ووفّق قادتكم إلى التي هي أحسن عاقبة، وجعل لكم في كل مسلك ضيّق فرجًا عاجلًا ومخرجًا حسنًا.
وسلام عليكم بما جاهدتم في سبيله، وناضلتم عن دينه، وبما حافظتم على هذه القطعة الثمينة من الوطن العربي العزيز التي هي ميراث مشترك بينكم وبين إخوانكم العرب بالفرض وإخوانكم المسلمين بالتعصيب.
أيها الإخوان:
لم يعرف العصر الحديث شعبًا غيركم دافع عن حريّته كما دافعتم، ولا شعبًا دفع من أثمان الحرية مثلما دفعتم، فقد قدمتم من دمائكم وأموالكم ما لم يقدّمه غيركم من الأمم التي ابتُليت بتسلّط الأقوياء عليها ... قدمت الأمم شبّانها فداء لأوطانها، أما أنتم فقدمتم الشبّان والكهول والشيوخ، وناهيكم بشيخ المجاهدين وإمام الشهداء عمر المختار، فضربتم الأمثال وملأتم التاريخ بالأعمال، وصبرتم في سبيل وطنكم على الجوع والعطش والعري والتشريد، ولم تهن لكم عزيمة ولا ضعف إيمان ولا تزعزعت عقيدة، ولم تخطئوا كما أخطأ غيركم في فهم الحقيقة الكاملة للحياة، وهي أن يحيا الإنسان كريما أو يموت كريمًا، وان الحياة بلا حرية موت أفظع من الموت.
__________
* كلمة أُلقيت بإذاعة "صوت العرب" بالقاهرة، 1953.(4/238)
كذلك لم يبتلِ الله فيمن ابتلى من خلقه بمثل ما ابتلاكم به من استعمار حيواني شرِه أذاقكم لباس الجوع، ولم يستطع أن يذيقكم عذاب الخوف، ولكنكم أذقتموه الهزائم التي سجّلها التاريخ، وقاوم ضعفكم الذي يمدّه الإيمان قوّته التي يمدّها الطغيان، وصدقتم ما عاهدتم الله عليه فمنكم من قضى نحبه ومنكم من ينتظر وما بدّلتم تبديلًا.
أيها الإخوان:
لم تتفق جمعية الأمم على قضية مثلما اتفقت على استقلالكم، على ما شاب ذلك الاستقلال من شوائب، وعلى ما حفّه من مصائب، وعلى ما سبقه وتبعه من مناورات وألاعيب، فكل ذلك يشفع له أنه مولود، والمولود يولد ضعيفًا ثم تقوّيه العناية والرعاية والحياطة والمحافظة، وكذلك قال الناس عنكم وبذلك استقبلوا استقلالكم مع الرحمة بكم والإشفاق عليكم.
أيها الإخوان:
فرح إخوانكم العرب والمسلمون باستقلالكم لأنهم يعدّونه جزءًا من استقلالهم أو تثبيتًا له أو وسيلة لاستقلال غير المستقلّ منهم، بل لأنهم يرون فيه تحقيقًا لأكبر حاجة في نفوسهم وهي الاتصال بين شرقهم وغربهم. فقد كانت ليبيا- وما زالت- كما وضعها الله جسرًا بين الشرق والغرب مرّ عليه الفاتحون من أسلافنا يحملون إلينا الهدى ودين الحق، ومرّت عليه مواكب العروبة ممثلة في بني هلال بن عامر بن صعصعة يحملون إلينا الخصائص الجنسية والبيان، ومرّ عليه الدعاة إلى الحق من أئمة الدين، والحاملون للعدل والإحسان من الغزاة المجاهدين، فعلى سهول أرضكم مرّ عقبة فاتحًا وأبو المهاجر منبتًا وحسّان معمرًا ومطهّرًا للبقعة وطارقًا موسّعًا للرقعة، وعليها مرّ إدريس ليغرس في المغرب شجرة النبوّة وعبد الرحمن ليقيم فيه الخلافة المروانية.
فكان أول الواجبات على مليككم وحكومتكم أن يحافظوا على هذا الاستقلال وأن يقدّروا الأثمان التي اشتُري بها وأن يسوسوه بالحكمة والحذر، وأن يحفظوا ذمة الشهداء الأبرار من بنيه، وأن يرعوا حرمة ما أريق على جوانبه من دموع ودماء، وأن يديجوه على الذلل السماح من الطرائف، وأن يجنبوه وهو في خطواته الأولى مزالق المعاهدات مع من لا عهد له ولا ميثاق، وأن يربطوا مستقبله بالشرق لا بالغرب، وبالقريب لا بالغريب.
ولكنهم- مع الأسف- جاءوه بالكفن وهو في ثياب العرس، وعرضوا النوائح في مواكب الفرح، وأرادوا أن يعالجوه من الفقر فعالجوه بالفقر ومعه الذل، وأن يداووه فداووه من الحمّى بالطاعون، وقيّدوه بقيد من حديد مع مستعمر عتيد وجبّار عنيد وعدوّ لدود عرف(4/239)
بنقض العهود وتجاوز الحدود، ومع مفترس ما زالت أظافره حمراء من دماء المسلمين والعرب، وما زال واضعًا قدميه النجستين على البقاع الطاهرة من أرضنا في "القناة" من مصر وفي "الحبانية" من العراق وفي "المفرق" من الأردن، وما زال ممتدًا كالسرطان على الشواطئ الشرقية لجزيرة العرب، وما زال في السودان يماطل بالوعد الباطل.
كل هذه الأوصاف تعبير لجنس اسمه الانكليز، وكل تلك البلايا وأمثالها معها، شرح للمعاهدة التي تريد حكومة ليبيا أن تعقدها مع الانكليز.
أيها الإخوان الليبيون:
إنها ليست معاهدة ... إنها استعمار جديد أشنع من الاستعمار الإيطالي الذي بلوتم مره وعانيتم شرّه، إنها في مآلها تضييع للوطن واستعباد لبنيه ... إنها تمكين اختياري للعدو من رقابكم. إنكم ستصبحون بسببها غرباء في أوطانكم مستعبدين لأعدائكم ... إنها مكيدة خفيت حتى اتّضحت، واستترت حتى افتضحت، ودبّرت بليل لتغطية ما فيها من الويل.
أيها الإخوان:
سلوا إخوانكم وجيرانكم في مصر ماذا لقوا من العدو الغادر في مدة سبعين سنة. سلوهم هل صدق له معهم عهد أو بر له يمين. سلوهم هل جلا عن أرضهم في المواعيد الكثيرة التي قطعها على نفسه بالجلاء، وهل وقف عند نصوص المعاهدات التي أبرمها ووقع عليها؟
العاقل من اتّعظ بغيره فاتّعظوا ولا تقدموا على أمر فيه هلاككم وهلاك إخوانكم، فإن معاهدته معكم معناها الكيد لمصر وتطويقها. فبينما تجاهد لإخراجه من القناة الضيّقة إذا به يحادها بكم وبوطنكم الواسع الغني.
أيها الإخوان:
إذا نفّذت هذه المعاهدة فسترون بأعينكم بعد سنوات قليلة سماءكم وقد ملئت بطيّاراته، وأرضكم وقد غصّت بجنوده ومطاراته، وخيرات أرضكم مما على ظهرها وبطنها، وهي في قبضته يصرفها بمشيئته وفي قبضته، والاتصالات بينكم وبين إخوانكم في الشرق وفي الغرب وقد أصبحت مقطوعة ممنوعة.
أيها الإخوان:
إننا نخاطب الليبيين، وإن حكّامكم منكم فهم داخلون في الخطاب فليراجعوا بصائرهم، وليرجعوا إلى أمّتهم يستهدونها ويسترشدون بها، وإلى إخوانهم العرب يستعينونهم ويستنجدون بهم، وليخافوا عذاب الله وحساب التاريخ.(4/240)
أيها الإخوان:
إن الضرورة الدافعة إلى هذه الصفقة الخاسرة مليون جنيه، ولكنكم ستبيعون فيها الوطن كله، وشرف الوطن كله، وحرية الوطن كله، وإن هذا الثمن البخس الذي تبيعون به وطنًا كاملًا وشعبًا كاملًا تستطيع كل حكومة عربية أن تسدده عنكم في كل سنة، ومن حدّثكم بغير هذا فهو مخدوع أو خادع.
أيها الإخوان:
قفوا كلكم صفًا واحدًا في طريق هذه المعاهدة المخسرة حتى تمزّقوها قبل أن تمزّقكم.(4/241)
تقارب العرب ... بشير اتحادهم *
سماحة العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كبير علماء الجزائر ذو قلم ناطق بالصدق قائل بالحق، فضلًا عن فصاحة اللسان وحلو البيان، وقد تفضّل مشكورًا فحلّى جيد هذا الكتاب بالكلمة التالية:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
"لم يمر على العرب عهد كانوا أحوج فيه إلى الاتحاد وجمع الكلمة من هذا العهد، لأن المصائب التي جرّها عليهم التفرّق كانت تأتي متفرقة المواقع متباعدة الأزمنة، بحيث لا يحسّ بوقعها المؤلم جميع العرب إلى أن وقعت واقعة فلسطين، وسود عارها وجوه العرب كلهم، وزاد في افتضاحهم بها أن القارعة حلّت بهم وهم مجتمعون، فكانت صاخة خرقت الآذان ونفذت إلى مواقع الإحساس من العرب جميعًا.
...
لا يجمع القلوب شيء كالمصائب ولا يعمّ التنبّه والإحساس إلا بعمومها، ولا أعم ولا أطم في تاريخ العرب من واقعة فلسطين، فهل جمعت قلوب العرب؟ وهل رجعت بعقولهم إلى مستقرّ الإدراك؟ وهل غسلت ما كان فيهم من أنانية وأثرة وما كان بينهم من تنافس لا ينفع إلا عدوّهم؟ إنها إن أثمرت هذه الثمرة ستصبح نعمة علينا، نكافئ عليها صهيون بالشكر الجزيل، فقد ساق إلينا الخير من حيث أراد بنا الشر، وأية نعمة أعظم من نعمة تجمع شمل العرب، وتوحّد كلمتهم بعد هذا التفرّق الذي ترك الجزيرة رقعًا ملوّنة بألوان شتى!
__________
* بمناسبة زيارة الأمير عبد الله الجابر الصباح إلى مصر سنة 1953 صدر كتاب "المدينة الفاضلة أو سويسرا الشرق" جمع مواده الأستاذ عبد الكريم محمد الذي طلب من الإمام الإبراهيمي أن يساهم فيه، فكانت هذه الكلمة.(4/242)
التقارب بريد الاتحاد، والتزاور دليله، والتحاور بشيره، والتشاور مفتاح بابه، وكل هذا يقع في هذه الأيام بين رؤساء العرب وأولي الرأي فيهم ويتكرر وتصحبه مبشرات مؤذنة بقرب تبلّج فجر من الاتحاد تعقبه الوحدة الشاملة التي ترهب أعداء العرب ويقول معها صهيون عن جزيرة العرب: إن فيها قومًا جبّارين.
...
كانت زيارة الأمير عبد الله الجابر الصباح رئيس معارف الكويت لمصر حدثًا له آثاره الجلية في تقارب العرب، لأن لبلاده مكانة في تاريخ الجزيرة العربية الحديث، ولبيته مكانة في البيوتات العربية البارزة، ولشخصه منزلة مستمدّة من فطرة العربي وهمّته وشهامته ونبله وبساطته وسماحة نفسه، ومن أدب المسلم وتواضعه وصدقه في القول والفعل والحال، وكان لاحتفاء مصر بزيارته وافتنانها في تكريمه مزاج لطيف من الرسمية والشعبية جمع لأول مرة بين روح الشعب وروح الحكومة، ودلّ لأول مرة على أن حكومة مصر من شعب مصر، وقد كانت أمثال هذه الاحتفالات تقوم على المجاملة والنفاق، لا على الإخلاص والمحبة، وعلى الرهبة والملق، لا على الرغبة والصدق. وأن هذا المزاج اللطيف الذي ظهر على حفاوة مصر برجل عربي له منزلته، لوسط بين الرسمية المتكلفة والشعبية المتخلفة، وهو- في حقيقته- وصل لأرحام كانت مجفوة والرحم إذا تنبهت أسبابها تأتي بكل عجيب وتجرف كل ما كان يحجبها من حجب وما كان يغطّي عليها من عقوق وقطيعة.
...
نحن لا نرى في ملوك العرب وأمراء العرب وقادة الرأي في العرب- وإن تعددوا واختلفت مشاربهم وأهواؤهم- إلا أنهم مستحفظون على مجد العرب، وأن عليهم عهدًا أن يعيدوه، ووسائل هذه الإعادة ممكنة لهم، ميسورة عليهم، لا تكلفهم عناء إلا اطّراح الأنانية، وإننا لا نحاسبهم على أسباب الإضاعة، لأنها قديمة، وليسوا مسؤولين عنها، وإنما نطالبهم بإعادة ما ضاع من ذلك المجد. وليس تعددهم بمنافٍ لذلك ولا مانع منه إذا اتحدت الوجهة واتّحد العمل واشتركت الأيدي في البناء على منهاج صحيح. فليتعددوا بالشخص، وليتّحدوا بالمعنى يفوا بحق الله وحق العروبة ويعيدوا المجد الضائع والحق المنهوب.
...
ويقولون: إن المال هو الذي وجّه الأفئدة إلى الكويت، وإن الغنى هو الذي صرف الوجوه والآمال إلى البيت الصباحي، وكأنهم يقولون ان احتفاء مصر بالأمير الكويتي هو أثر(4/243)
من ذلك المعنى، أو شعبة من تأثيره، وأنا أقول إن العرق الكريم كريم في ذاته، وإن الكويت والبيت الصباحي فيه ... اختصّا برأس مال معنوي، وهو الخلال العربية الصميمة ومنها الجد، والآداب الإسلامية القويمة، ومنها حب الخير ثم فعله، وهذا هو الاستعداد الفطري السليم الذي لا يزيد المال فيه، ولا ينقص العدم منه، فهذا هو رأس مال الكويت الحقيقي الذي لم تفسده العوامل الدخيلة ولم تهدمه المعاول المختلفة المتعددة لهدم العرب بهدم أخلاقهم وإفساد أذواقهم، ولو سلمت هذه الأخلاق للعرب وللمسلمين لسلم لهم كل شيء وكانت منبهة لهم إلى تلافي الخلل قبل الفوات، وضمّ الشمل قبل الشتات.
هذه الخلال في الكويت وفي غيرها من أمهات القرى العربية السالمة هي التي نعدّها رأس المال، قبل المال، فلما فاض عليها المال فاضت معه تلك الأخلاق وقادته إلى الصالحات ولم يقدها إلى المهلكات ونِعِمّا المال الصالح للعبد الصالح، والمال- منذ كان المال- لا يفسد الصالحين، بل يزيدهم صلاحًا. ولا يصلح الفاسدين بالطبع والجبلة، والمال كالماء إنما يحيي الأرض الخصبة. وأقرب الطبائع من المثل العليا في سياسة المال طبيعة العرب الذين يقول أولهم:
إذا حال حول لم يكن في بيوتنا … من المال إلا ذكره وفضائله
...
نحن مستنون- إن شاء الله- بسنة القرآن في تنزيله الأحكام على الأعمال لا على العاملين، لأن العاملين يفنون، والأعمال تبقى ببقاء آثارها. ولم نعوّد ألسنتنا ولا أقلامنا مدح شخص لذاته أو للقبه أو لبيته أو لمنصبه، فإذا أثنينا على شخص كان الثناء منصبًا على عمله الصالح النافع وعلى هذا الأصل القرآني، فنحن نثني مسرورين مبتهجين على هذه الأعمال الصالحة التي قامت بها إمارة الكويت على يد أميرها وآل بيته، وإعانة علمائها وسراتها وأهل الرأي فيها، من تشييد المدارس التي هي حصون العلم، ومستشفيات العقول؛ وتجهيز القوافل من شباب العرب إلى مصر ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، وليدرسوا الحياة فيأخذوا بأقوى أسبابها إلى أشرف غاياتها، ومن فتح الباب لأبناء العرب من الخليج العربي إلى الجزائر العربية ليقطعوا مرحلة من مراحل التعليم في الكويت، فيتلاقى أبناء العمومة من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق على بساط العلم الجامع وفي ثرى الأخوة الندي، وتتلاقى الأفكار التي شتتها تباعد الديار، وكيد الاستعمار، ومن شحن اللغة العربية إلى أبنائها المغتربين في باكستان والهند لتبقى صلتهم بإخوانهم ووطنهم ممدودة ومن تحقيق أسباب العمران والتمدين في تلك الصحراء الجرداء. وإنها لأعمال جليلة في ذاتها، محمود فاعلها بالتبع لها، ونحمد الله لأمراء الكويت أن وفّقهم إلى أداء زكاة المال بهذه الصورة النافعة وأن وفقهم إلى شكره على النعم بهذه الصيغة العملية البليغة".(4/244)
افتتاح دار الطلبة بقسنطينة *
وفاءً بالوعد، يسرّنا أن نحلي جريدة «البصائر» بالكلمة القيّمة التوجيهية، التي سجّلها حضرة الأستاذ الرئيس الجليل بالقاهرة، وأُلقيت في حفلة افتتاح دار الطلبة بقسنطينة. ولهذا الخطاب العظيم الأهمية، مقدّمة للأستاذ الكبير الشيخ الفضيل الورتلاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
سجّلت هذه الكلمة للعلّامة الجليل حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي- حفظه الله- بمكتب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالقاهرة في
أغسطس 1953، مشاركة من المكتب ورجاله للأمة الجزائرية في أفراحها بفتح "دار الطلبة" التابعة لمعهد خالد الذكر الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس رضي الله عنه، أحيا الله الأمة الجزائرية مسلمة عربية مجاهدة وتحية لها عاطرة زكية مباركة طيّبة من ابنها الداعي لها بالتوفيق.
الفضيل الورتلاني
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلّا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيّدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوان من مشائخ وتلاميذ وأنصار: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتحياته الطيبات تغشاكم، وتعطر موقفكم في هذا المشهد الكريم وممشاكم، والدعوات الصالحات ترتفع إلى الله جلّ جلاله، أن يصل توفيقكم، ويجعل السداد رفيقكم، وأن يجعلكم دائمًا بهذه الخطا في الصالحات، سراع الأيدي إلى البذل في الباقيات، مجتمعي الكلمة على الحق والخير والنفع، مسددي الرأي فيما تأتون وما تذرون.
أيها الإخوان:
ما زالت تلوح في خيالي تلك الصور المشرقة من ماضيكم في الاحتفالات بفتح المدارس فأنتزع منها صورة مكبرة للاحتفال بفتح "دار الطلبة"، وما زلت أنثر الأزهار من ذكركم الطيّب
__________
* «البصائر»، العدد 250، السنة السادسة من السلسلة الثانية، 11 ديسمبر 1953.(4/245)
في المجالس والأندية، ومن أعمالكم الجليلة في ميدان العلم، وما زلت أقرن هذه المعجزة بالتحدي، هذه المعجزة التي أظهرها الله على أيديكم، بل هذه المنقبة التي خصّكم الله بها، فما رأى الناس قبلكم أمة في مثل حالكم من الضعف والفقر والجهل والهوان تثب هذه الوثبة، بباعث من إيمانها، وتستيقظ فجأة على صوت الدعاة المخلصين من أبنائها فتبني نهضتها من أول يوم على أساس من الإسلام مكين، وحائط من العروبة متين، وعلى سبب من الحكمة رزين، وسند من العقل رصين، وتطوي العصور طيًا لتتصل بالقرآن فتتخذه دليلًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - فتتخذه إمامًا، وبالشرق في روحانيته النقية فتتخذه موئلًا، وبالتاريخ المحمدي في صحائفه الطاهرة فتتخذ منه مرشدًا. وما رأى الناس قبلكم أمة في مثل حالكم من ظلم الغريب، وجفاء القريب، وإضلال الهادي، وبغي العادي، ثم تُكوِّن في عشرين سنة من الحصا جبلًا شامخًا، ومن الأوشال بحرًا زاخرًا، وتبني بالفلس المقدّر، والعيش المقتّر، هذا العدد العديد من المدارس الضخمة ثم تتوّجها بهذا المعهد الفخم الذي تلوح عليه من مخايل عبد الحميد بن باديس سمات، وتهب عليه من روحه الطاهرة نسمات، ثم تهزّكم أريحية العرب، وسماح الإسلام، ونخوة الأجداد، فتكملون المفخرة بهذه الدار التي تجمع روعة الحرم إلى قوة الهرم.
أيها الإخوان الكرام:
إن لهذه الدار على قرب العهد من تشييدها لتاريخًا متصل الحلقات، ومن حلقاته التفكير والتقدير والرأي والتدبير، واليد واللسان، وان من عجائب الدهر تتابع هذه الحلقات بسرعة، وان أظهر صنع الله في هذا لباد، ولولا صنعه لما تمّ شيء من هذه الأعجوبة التي لم تستند على شيء من الوسائل المادية يوم تكوينها وإنما صحبها الإيمان والإرادة والعزيمة والحزم والتصميم، وهي وسائل ما اجتمعت في شيء إلا أتت بالعجائب وما تعاونت على شيء إلا أضفت عليه الوجود والخلود.
هذه الدار ذات تاريخ، بل أصبحت اليوم فاصلًا بين تاريخ وتاريخ. بين تاريخ مؤلف من حالة الطالب البائسة المضطربة التي كان عليها بالأمس، وبين تاريخه اليوم وقد أصبح شمله جميعًا، وحياته منظّمة، وأحواله مرتّبة، وسكنه نظيفًا، وستصبح هذه الدار تاريخًا قائمًا بنفسه، يوم يؤتي النظام والاطمئنان آثارهما في حياة التلميذ.
إن بدايتكم هذه وأنتم الضعفاء، هي نهاية الأقوياء ذوي الطول والحول والدولة والصولة والعراقة والأصالة في العلم وأسبابه، فما بدأوا في التفكير والاهتمام بحال التلميذ وإقراره فيما يناسب شرفه، إلا منذ عقود قليلة من السنين، وإذا كانت الغاية هي راحة طالب العلم، وتسهيل السبيل في طريقه إلى العلم، وتمهيد الوسائل له فإنهم لم يصلوا إلى تحقيق هذه الغاية إلا بعد مرور قرون على نهضتهم العلمية.(4/246)
أما أنتم فقد حقّقتم شيئًا منها في أوائل النهضة، وان نهضة تقترن مبادئها بتحقيق بعض الغايات منها لنهضة حقيقة بالتمجيد والاحترام.
افخروا أيها الإخوان الشاهدون ما شئتم بهذه الدار: فقد بنيتم بأيديكم وبمالكم ولوطنكم، ودينكم، ولغتكم، ولأبنائكم، ونرجو أن يوزعهم الله شكران هذه الأيادي ويجنبهم كفرانها. افخروا فقد حزتم الفخار من أطرافه، انكم لم تبنوا دارًا، وإنما بنيتم أجيالًا، وأقمتم دينًا، وكتبتم تاريخًا وثبتم نهضة، ولا منة عليكم إلا لله.
إن النهضات أيها الإخوان، كيفما كان لونها، هي بناء وتعمير، وهذا لعمري هو البناء وهذا هو التعمير، وفي مثل هذا فليتنافس المتنافسون، إن نهضة تبتدئ بمثل ما بدأتم لحرية أن تنتهي إلى الأمد الذي تنتهي إليه النهضات الخالدة.
هذا هو البناء الذي فيه من كل كبد فلذة، وفيه من كل كيس فلس، وفيه من كل عقل رأي، وفيه من كل فكر شعبة من شعب الفكر، وفيه من كل عزيمة أثر من آثار العزائم. أعيذكم أيها الإخوان الكرام، أن تقنعوا في نهضتكم بغاية، أو تقفوا عند حد. إن القناعة إنما تحصل فيما يقيم الجسم لا فيما يقيم الأمة، وان آية الأمة المهيأة للخير أن لا تفرغ من مأثرة، إلا لتبدأ مأثرة، ولا تنفض أيديها من عمل إلا لتضعها في عمل، فكونوا دائمًا مستعدّين، واجعلوا هدفكم دائمًا العظائم لا الصغائر، وقد جرّبتم الإيمان وماذا يصنع، وجربتم التعاون وأنه ينفع، وجرّبتم الثقة بالله فأتت بالعجائب. شدّوا الحيازيم واعتمدوا على الله وثقوا بعونه وما أنفقتم من خير فهو يخلفه وهو خير الرازقين.
الحاجة يا إخواني إلى العلم ملحّة والخصم في القضية لدود، فلا ترهبوا الظالمين ولا تسمعوا للمرجفين ولا تلتفتوا إلى الناعقين، فإن فيهم الحسود وفيهم الحقود وفيهم المسخر وكلهم عدو لكم فأغيظوهم بالعمل الصالح واحذروهم كما تحذرون الشيطان.
أيها الإخوان الكرام:
عهدتكم مستجيبين لدعوة الحق، لبّيتموها يوم كانت دعوة إلى توحيد الله، ويوم كانت تثويبًا بتوحيد الصفوف في سبيله، ويوم كانت ترغيبًا في العلم ويوم كانت أذانًا بتشييد المدارس، ويوم كانت حداء بالأجيال الناشئة إليه، ويوم أصبحت سباقًا إلى التغالي فيه والتعالي به، ويوم أمست مساعي حثيثة في قطع مراحله وصعود درجاته، إلى هذا اليوم الذي استحالت الدعوة فيه إلى بناء العظائم والآثار وتمهيد العقبات في طريق طلّابه.
أيها الإخوان في العلم، اليوم قضيت الحاجة واطمأن المشفقون، فلتهنأ جمعية العلماء بهذا النجاح، وليهنأ المعهد العظيم بهذه التكملة بل بهذا الكمال، ولتهنأ الأمة بهذه(4/247)
الثمرات لجهودها الخالصة المخلصة وئيَهْنَأ التلاميذ بهذا القرار المكين الذي أعدته لهم الأمة، وليجعلوا حمد الله على هذه النعمة اجتهادًا في العلم وإخلاصًا لله فيه واعترافًا للجمعية بالجميل وموثقًا يعطونه على أنفسهم للأمة، ليخلصن في خدمتها ونفعها ولينصرن دينها وليقيمن عقائده وعباداته وأحكامه وفضائله ولغته وليصدقن الله ما عاهدوه عليه في ذلك كله.
أيها الإخوان:
يعزّ علي أن أكون غائبًا عنكم بشخصي ويسلّيني أن أشارككم بصوتي فاعجبوا للغائب الحاضر واعجبوا للعلم الذي قرب البعيد، وأتى بالعجيب، ونقل الصوت إليكم في سلك. أما روحي فهي حاضرة معكم في كل حين، وأما سمعي فهو مرهف دائمًا لتلقّف أخباركم حتى كأني معكم أرى وأسمع وما أنا بالنامي ولا أنا بالجاحد.
وحيا الله إخواني أعضاء جمعية العلماء وقد وفوا بالعهد وأدّوا الأمانة وأحسنوا المناب، وما كنت يوم كنت بينهم إلا بهم، وما أنا اليوم إلا ناشر فضلهم، ومذيع مفاخرهم. فجزاهم الله عن دينهم وأمّتهم ووطنهم أفضل ما يجزي عاملًا عن عمله.
أيها الإخوان:
كأني أراكم بعيني كعهدي بكم تتسابقون إلى البذل في سبيل العلم، وتجودون بالغالي في سبيل الأغلى وبالثمين قيمة للأثمن وبعرض الدنيا قيمة لما عند الله من منازل الكرامة، فحقّقوا ظني أيها الإخوان ولا تفترقوا إلا والدار داركم ودار أبنائكم حسًا ومعنى، وقولًا وفعلًا، واعرفوا قيمة صفقةٍ الله فيها هو البائع، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.
أيها الإخوان الشاهدون:
عطّروا سمعتكم في الداخل بمثل هذه الأعمال، ومكّنوا صلتكم بجمعية العلماء، بإمدادها بالعون المادي وطاعتها في المعروف والائتمام بها في العلم والدين والفضيلة. أما في الخارج وأعني بالخارج الشرقين: العربي والإسلامي، فالله أرحم بالجزائر من أن يتركها نهبًا للظنون وعرضًا لقالة السوء، فقد رزقها الرحمن الرحيم ابنًا شرّفها بعد الضعة وعرفها من التنكير، وصرفها الجمود وكان عليها عنوانًا مطرزًا ولها رمزًا موشّى وعليها دليلًا هاديًا، ذلكم فاعرفوه هو الأستاذ العبقري الفضيل الورتلاني الذي خدم الجزائر ولم يمنّ عليها وأعطاها من دون أن يأخذ منها والذي عرف الشرق كله عجمه وعربه قيمته وفضله واعترف باستحقاقه للأستاذية واستكماله لشرائط الزعامة؛ ولعمر الحق أنه لأذكى نبات جزائري جنى الشرق ثمراته حينما حرمته الجزائر وانه لأزكى زهر ضوع شذاه في الشرق بعد ما تفتّح في الجزائر، وأن مواهبه وتجاربه تجارتا فيه إلى غاية واحدة فجاء منه رجل، أي رجل وتضافرتا على(4/248)
إحلاله مقامًا تقصر عنه أعناق المتطاولين للزعامة، وإني حين أهنئ به الجزائر صادقًا مخلصًا أحجم عن تهنئته بالجزائر لأنني أعتقد صادقًا مخلصًا أنها لم تعرف ما عرف الشرقان له من مكانة وتقدير.
إنني أحييكم باسمه وباسمي تحية تكافئ ما نكنّه للجزائر معًا من حب وما نحمله معًا لجمعية العلماء من إعظام وأشهد لنفسي وله أننا لم نمن عليها ذكرًا لها رفعناه، ولا فضلًا لها كان كامنًا فأذعناه.
وتحيّاتنا العاطرة بأنفاس الريحان تهب على جمعكم هذا ودعواتنا إلى الله في مظان الإجابة تتنزل وتصعد إلى معارج القدس بالتوفيق، وبسلوك أحسن طريق، وننصر دين الله في أرجائها، ولينصرن الله من ينصره والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/249)
نصيحة وتحذير *
رأيت في القاهرة عددًا كثيرًا من شبّان الجزائر، معظمهم وصل إليها في هذه السنة والتي قبلها بوسائل كلها أتعاب ومشاق، والتحقوا كلهم بالقسم العام في الأزهر، وهذا القسم هو الذي يحشر فيه كل مبتدئ كما يدل عليه اسمه، وزارني كثير من هؤلاء الطلبة الجزائريين يطلبون الإعانة المالية مني أو من الأزهر بوساطتي، وسألتهم وتقصيت، فسمعت من أقوالهم، وعلمت من مظاهرهم ما يحزن ويؤسف، وجر شيء إلي شيء، فعلمت بالقرائن القريبة أنهم منحدرون إلى هاوية لا قرار لها من البؤس لا يحصل معها علم، ولا يبقى عليها خلق، ولا تشرف منسوبًا ولا منسوبًا إليه. فحملتني الشفقة عليهم وعلى سمعة الجزائر على أن أكتب هذه الكلمة محذّرًا من لم يقع، لكيلا يقع، فعسى أن تكون تبصرة لمن قرأها أو بلغته ممن قرأها في الجزائر، وعسى أن تكون موعظة للعابثين بهؤلاء الضحايا هنا في مصر، فبعض الناس يكونون عونًا للمصيبة على المصاب، وبعض الناس يكونون لبعض {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِئإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ}.
كنت أسألهم واحدًا واحدًا: لماذا قدمت من الجزائر؟ فيجيبونني واحدًا واحدًا: جئت لطلب العلم، فأسألهم: وهل استرشدتم برشيد عارف بالأحوال؟ فيقولون: لا. فأعلم أنهم مغرورون بالأوهام الشائعة التي تصوّر أن العلم في مصر مبذول، ولا تصوّر أن الخبز فيها غير مبذول، وأعلم أن لهم قصدًا حسنًا، ولكن حسن القصد لا يشفع لصاحبه ولا يكون عذرًا في المخاطرات التي لا تستند إلى بصيرة.
وطلب العلم شيء محمود بل واجب، والرحلة إليه شيء مستحسن، وسنة قديمة سنّها أوائلنا وكانت عندهم شرطًا في كمال العالم، وشهادة خاصة يعطيها المترجمون للرحّالة حين
__________
* «البصائر»، العدد 240، السنة السادسة من السلسلة الثانية، 11 سبتمبر 1953.(4/250)
يقولون في ترجمته: رحل ولقي الرجال. ولكن الرحلة في القديم كان لها غرض صحيح وهو استكمال العلم لا بدايته، فبعد أن يحصل الأندلسي- مثلًا- كل ما هو موجود في بلده من أنواع، ويستوعب الأخذ عن جميع علمائه تسمو نفسه إلى بقية من العلم غير موجودة، أو إلى التوسّع في الموجود منها فيرحل لذلك، ثم يرجع إلى وطنه بالمقلد، والعلم الجديد.
أما أبناء الجزائر الذين نكتب هذه الكلمة من أجلهم فإنهم يرحلون من الجزائر ويقطعون المراحل مشيًا على الأقدام في بعض الحالات عجزًا عن ثمن الركوب، كل ذلك ليدرسوا (الأجرومية) في الأزهر، ثم إذا وصلوا إلى مصر وضاقت بهم سبل المعيشة انقطعوا حتى عن الاجرومية وطلبوا العمل فلم يجدوه، لأن أهل الوطن أنفسهم يشكون البطالة، أو طلبهم العمل فلم يجدهم، لأنهم لا يحسنون عملًا فنيًا.
لا نصف صنيع هؤلاء بأنفسهم إلا بأنه غفلة واغترار وجهل بحقائق الأشياء، والجاهل يجب عليه أن يتعلم طريق العلم ووسائله قبل العلم، وأيسر وسيلة يستطيعها كل أحد هي الاستشارة، فما لهم لا يستشيرون؟ ولو أنهم استشاروا النصحاء العارفين لصدوهم عن هذا النوع من الهجرة، ولنصحوهم بتعلّم المبادئ في الجزائر أو في تونس وهي تكاد تكون قطعة من وطنهم، فإذا حصلوا كل ما في جامع الزيتونة كانت رحلة الراحل منهم إلى مصر أو غيرها معقولة مقبولة، وكانت الإعانة عليها واجبة وذات قيمة.
الواجب على أبناء الجزائر أن يتبصّروا في هذه القضية وأن يتدبّروا عواقبها، وأن يعرفوا - قبل كل شيء- أن سماء مصر لا تمطر الذهب والفضة ولا الورق النقدي، وأن مصر قامت بما فوق الواجب مع أبناء الأقطار العربية والإسلامية، وتساهلت حتى أدّاها التساهل إلى الفوضى، وأعانت بالكثير، ولكن فوضى الهجرة صيّره قليلًا غير مفيد، والإعانة التي لا تفيد هي خسارة مرتين.
إن قطع آلاف الأميال، وركوب المخاطر والأهوال، في سبيل الدراسة الابتدائية أمر لا يفعله عاقل ولا يجيزه، فهو سفه في الرأي وتبديد للقوة في غير منفعة، وهو سبّة للوطن الذي هاجر منه الطالب، لأنه شهادة على أنه لا علم فيه ولا تعليم، فليتدبّر هذا أبناؤنا المجازفون، فإذا زاد على ذلك تقدّم السن كان من أفحش الخطإ، فقد لاحظنا في جميع من رأينا أنهم جاوزوا العشرين من أعمارهم وفيهم ابن الثلاثين. وأمثال هؤلاء فاتهم وقت التحصيل المنظّم، ومتى يحصلون وهم في هذه السن؟ وكيف يحصلون وهم على هذه الحالة من البؤس؟ وكيف يطمئن الذهن للتحصيل، إذا كان العقل والجنب والبطن كلها غير مطمئنة ولا مستقرّة؟
لعلّ أبناءنا يحتجون اليوم بتلك الفلتات التي يسمعون بها من أن فلانًا هاجر إلى الأزهر وهو لا يملك فتيلًا ثم حصل وأصبح عالمًا، وفاتهم أن تلك فلتات كما سمّيناها فهي شذوذ(4/251)
فردي جاء من قوة الصبر والاحتمال أو من أسباب أخرى تبنى عليها الشذوذات ولكنها لا تصبح قاعدة عامّة في جميع الناس، ونحن الذين سبقنا هذا الجيل نعرف أفرادًا من هؤلاء، ونعرف أنهم لم يحصلوا التحصيل الحقيقي الذي ينفعون به قومهم إذا رجعوا إليهم، وإنما حصلوا النسبة الأزهرية، وهي في كثير من أصحابها تغرّ ولا تسرّ.
...
لا ينفع الجزائر ويشرّفها، ولا يرفع مصر ويعرفها، إلا اثنان:
يافع عمره أربعة عشر عامًا يحمل الشهادة الابتدائية من مدارس جمعية العلماء أو الشهادة الابتدائية الفرنسية مع حظ في العربية يكون في قوّتها، ومن ورائه من ينفق عليه انفاقًا منظّمًا، فهذا تؤهله سنّه ومعارفه الضرورية للدخول في المدارس الثانوية المصرية، فيمرّ على مراحل التعليم الثانوي إلى البكالوريا العربية، ثم إلى التعليم الجامعي إلى آخر شهاداته، كما تؤهله شهادته العربية لدخول الأزهر فيبني تعلّمه حجرًا عن حجر إلى تمام البناء، بشرط أن يكون عليه إشراف حكيم ورقابة شديدة تحفظ عليه نظام دروسه ونظام حياته وأخلاقه.
وشاب في العشرين أو فوقها بقليل يحمل شهادة التحصيل من جامع الزيتونة أو شهادة المعهد الباديسي في منهاجه الجديد، فهذا تؤهله سنّه ومعارفه الثانوية لدخول عدة معاهد كلها مفيدة، ومنها كلية أصول الدين التابعة للأزهر وكلية دار العلوم وكلية الآداب التابعتان للجامعة المصرية، ويكون من ورائه من ينفق عليه إنفاقًا منظّمًا ومن يشرف عليه كذلك.
هذان الصنفان هما اللذان ينفعان الجزائر، ويشرّفان سمعة مصر، وتكون إعانتهما وضعًا للشيء في محله.
أما أن يفارق الشاب الجزائري وطنه، وسنّه مرتفعة، وعقله فارغ من العلم وجيبه فارغ من المال، فهذه الحالة هي التي نحذر منها وننصح من لم يقع أن لا يقع فيها، وحسبه أن يتعلّم في وطنه ما يرفع عنه الجهل أو ما ينفع به الناس نفعًا محدودًا وهو لا يعدم ذلك في وطنه.
في الجزائر جمعية العلماء وهي تجاهد في هذا السبيل، فتفتح المدارس وتهيّئ البعوث وتشرف عليها، وهي متخصصة في الاطّلاع على وسائل العلم، فما لهؤلاء القوم لا يستشيرونها؟ وما لهم حين يستشيرونها لا يعملون بنصائحها وتوجيهاتها؟
ألا ان جمعية العلماء لا تقرّ هذه الفوضى التي لا تعود على الجزائر إلا بسوء الأحدوثة، وقد بذلت جهودًا في تنظيم بعثاتها والجري بها على الشروط الواجبة، ومع ذلك فما زالت(4/252)
أمامها أشواط دون الوصول إلى الغاية في كمال النظام، وهي لا تستطيع أن تعين بشيء من جاهها أو من مالها إلا من أعانها على نفسه باستيفاء الشروط والتزام النظام وقبول النصيحة والتوجيه، أما من خالف شيئًا من ذلك، أو انقاد لدعاوى المغررين فلا سبيل له عليها، ولا حجة بينه وبينها.
يا أبناءنا: إن جمعية العلماء تريد لكم العلم، وقد عملت ما استطاعت، ولكنها لا ترضى لكم الفوضى والتعب الفارغ والسعي الضائع، ولا ترضى- أبدًا- لابن الجزائر أن يهاجر إلى مصر في سبيل العلم من غير استعداد علمي يؤهل، واستعداد مالي يسهل.
إن الرحلة في طلب العلم كالرحلة لأداء الحج، كلتاهما مشروطة بالاستطاعة، وإن شرط الاستطاعة في طلب العلم لأوكد، لأن مناسك الحج تقضى في أيام ومناسك العلم لا تقضى إلا في أعوام.
هذه كلمة محذرة، فعلى قرّائها أن يبلغوها حتى يكون الغائب كالشاهد.(4/253)
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين *
جمعية العلماء هذه جمعية دينية علمية عملت للعروبة والإسلام ثلاثين سنة أعمالًا عظيمة جليلة فأحيت العربية في الجزائر على صورة قل أن يوجد لها نظير في الأقطار العربية وأحيت الإسلام الصحيح بإحياء علومه فأنقذت بذلك أمّة تعد أحد عشر مليونًا من الكفر والانعجام بعد ما عملت فرنسا مائة سنة كاملة لمحو العربية وطمس الإسلام.
المشاريع التي أنجزتها هذه الجمعية:
أولًا: مائة وخمسون مدرسة ابتدائية تضمّ خمسين ألفًا من بنين وبنات يدرسون مبادئ العربية وعلوم الدين وعلوم الحياة العامة على أحسن منهاج وأقوى نظام؛ وقد قامت الأمّة الجزائرية بإرشاد جمعية العلماء بتشييد هذه المدارس بأيديها وأموالها التي تقتطعها من القوت الضروري فأصبحت هذه المدارس كلها ملكًا للأمّة وذخيرة لأبنائها ثم قامت بالإنفاق الواجب لتعميرها؛ وليس لها معين على هذا المحمل الثقيل إلا الله وليس لها أوقاف لأن فرنسا استولت من يوم احتلالها للجزائر على جميع الأوقاف الإسلامية ووزعت أراضيها على المعمرين وحوّلت المساجد إلى كنائس وهي اليوم تعاكس حركة جمعية العلماء وتعتبر تعليم الإسلام ولغته جريمة تعاقب من يباشرها أو يعين عليه. ولولا قوة الإيمان وتوفيق الله وما أفرغه على هذه الجمعية من صبر وثبات لم تثبت للفتن يومًا ولم تصنع في هذا السبيل شيئًا.
ثانيًا: معهد ثانوي يضم ألفًا وثلاثمائة تلميذ يدرسون علوم اللغة والدين والتاريخ الإسلامي والرياضيات وعلوم الحياة على المناهج الثانوية الواسعة.
__________
* تعريف بجمعية العلماء وُزِّع على وسائل الإعلام بالقاهرة.(4/254)
ثالثًا: خرجت الجمعية من مدارسها الابتدائية نحو مائتين وخمسين ألف تلميذ ولكنها لم تستطع أن تعلمهم التعليم الثانوي الضروري ولا سبب لذلك إلا فقد المال لأن استيعاب هذا العدد يستلزم تشييد سبعين مدرسة ثانوية كبيرة على الأقل كما أنه يوجد من أبناء الأمة مليون ونصف مليون محرومين من التعليم بجميع أنواعه وفرنسا لا تريد أن تعلمهم والجمعية لا تستطيع أن تعلمهم دفعة واحدة أو دفعًا متقاربة لأن القيام بهذا العمل العظيم يستلزم إحضار ألفي مدرس على الأقل ولكن الجمعية سائرة إلى هذه الغاية بالتدريج مستعينة بالله.
رابعًا: من أعمال هذه الجمعية مشروع (محو الأمية) وقد أنقذت بأعمالها وإرشادها نحو سبعمائة ألف وخمسين ألفًا من مصيبة الأمية.
خامسًا: لهذه الجمعية بعثات إلى جامع الزيتونة في تونس تبلغ في بعض السنين ألفًا وسبعمائة تلميذ ولها في جامع القرويين بمدينة فاس من المغرب الأقصى بعثات تصل في بعض السنين إلى المائتين وتزيد.
سادسًا: لهذه الجمعية في الشرق العربي بعثات، فلها في مصر بعثة مركبة من أربعين تلميذًا ولها في العراق بعثة مركبة من أحد عشر تلميذًا ولها في سوريا بعثة مركبة من عشرة تلاميذ. وهي ساعية في إرسال البعثات الأخرى إلى الأقطار العربية والإسلامية.
سابعًا: وقد أنشأت هذه الجمعية في القاهرة مكتبًا واسع الأعمال ليشرف على هذه البعثات الحالية وما يتجدد بعدها، وليراقب دراستها وسلوكها وليكون أداة اتصال بين الشرق العربي والمغرب العربي.
ثامنًا: كما أنشأت هذه الجمعية من مدة طويلة مكتبًا إسلاميًا في باريس وزوّدته بمعلّمين ليحفظوا على العمّال المسلمين الجزائريين دينهم وعددهم أكثر من خمسمائة ألف، وليحفظوا على أبنائهم المولودين بفرنسا لغتهم وتربيتهم الإسلامية وهؤلاء الأطفال أكثر من ثلاثين ألفًا، وهذا مشروع ضخم لا تقدر عليه إلّا الحكومات، ولكن جمعية العلماء قائمة بما تستطيع من واجب وقد بلغت مراكز التعليم الإسلامي التي أنشأتها جمعية العلماء في فرنسا في بعض الأوقات خمسة وثلاثين مركزًا، منها سبعة عشر في باريس وحدها، وقد زارها كثير من المصريين والسوربين وغيرهم فأُعجبوا بها.
تاسعًا: ومن أعمال هذه الجمعية القيام بالوعظ والإرشاد على أكمل وجه ولها جند منظم يشتمل على نحو مائتي واعظ ديني.
عاشرًا: أنشأت هذه الجمعية في تاريخها نحو سبعين مسجدًا في المدن والقرى وعمرتها بالأئمة الصالحين والمدرّسين النافعين لأن المساجد العتيقة العظيمة استولت عليها(4/255)
فرنسا من يوم الاحتلال وما زالت تحت تصرفها حتى الآن، وما زالت هذه الجمعية تطالب بإرجاعها إلى المسلمين.
حادي عشر: مشروع النوادي، فقد أنشأت جمعية العلماء في كثير من المدن والقرى نوادي للتهذيب والتربية الإسلامية بلغت في بعض الأحيان ثمانين ناديًا لتبلغ دعوتها بواسطة هذه النوادي إلى الشبّان فتنقذهم من المقاهي وتجرّهم إلى النوادي والمدارس والمساجد.
أما مالية جمعية العلماء فكلها من الأمة المؤمنة الفقيرة تحصّله عن طريق الاشتراكات الشهرية الطفيفة.
ولجمعية العلماء في الأمور المالية قانون صارم وهو أنها لا تقبض درهمًا إلا بإيصال ولا تخرجه إلا بإيصال وتعلن في جريدتها كل ما يدخل وكل ما يخرج. ثم تذيع حساباتها التفصيلية على رؤوس الأشهاد في اجتماع سنوي عام. ولكل مشترك مهما قلّ شأنه حق المناقشة والاطلاع.
وجريدة جمعية العلماء المعبّرة عن مبادئها، القائمة بدعوتها، هي جريدة «البصائر» المعروفة في العالمين العربي والإسلامي وقد عطلت فرنسا قبلها أربع جرائد لهذه الجمعية. هذه الأمة الجزائرية المسلمة العربية الصميمة قامت بواجبها بإيمان وقوة وشجاعة وحافظت للعرب والمسلمين على رأس مال عظيم وهو أحد عشر مليونًا من صميمهم ولكنها وقفت في منتصف الطريق فتوجّهت إلى إخوانها في العروبة ترجو منهم المدد المعنوي والمادي لتواصل سيرها إلى الغاية التي تشرفهم جميعًا ولتؤدي أمانة الله وتقوم بعهده المسؤول.
القاهرة، سبتمبر 1953.
رئيس جمعية العلماء الجزائريين
محمد البشير الإبراهيمي(4/256)
في صميم القضية الصينية
بداية النهاية *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أيظن الخليون الغافلون من الفريقين أن المعارك بيننا وبين الحكومة الاستعمارية في قضية المساجد والأوقاف انتهت بهذه الطريقة الهازلة الشوهاء التي تمخّض بها المجلس الجزائري ووضعها لأقصى أمد الحمل سقطًا بعد آلام وأوجاع زاد في فظاعتها أن حمله بها كان عن سِفاح؟ ولا عجب إذا حملها كرهًا أن يضعها كرهًا.
إنما هذه نهاية طور من أطوارها الغريبة التي صاحبتها العقلية الفرنسية منذ كان الاستعمار في الجزائر، وقد تعوّدنا من هذه العقلية المذبذبة بين الدين والإلحاد، الملفحة بجراثيم اليهودية والمادية أنها كلّما عرضت لقضية الدين الإسلامي في الجزائر جالت بها في مثل هذه المجالات الملتبسة وعالجتها بنصوص لا يعرف فيها عموم من خصوص وتركت القضية دائرة والعقول معها حائرة، ولكنها لم تحشد لها في مرة من المرات مثل هذا الحشد.
كنا نقدّر هذه النهاية ونحن في مراحل العراك ونصوّرها بقريب مما وقعت عليه مما دلّتنا عليه التجارب ومما استقيناه من مقاصد هذه الحكومة وأنها نذرت على نفسها فوفت بالنذر أن تكون عدوًا للإسلام ما دام لها وجود، وخصمًا للمسلمين ما امتدّت بها الحياة، وحربًا على الحق في أي ميدان ظهر، ومن عجيب صنع الشيطان في هذه الحكومة أنها كلما ضعفت فيها النزعة الدينية بكثرة المذاهب العقلية وتيار الحضارة المادية أمدّها الشيطان بلقاح من اليهودية المعادية للإسلام والنصرانية معًا فأذكت فيها ما برد، وضربت منهما ما
__________
* كتبت هذه الكلمة في القاهرة في أغسطس 1933 بعد اطلاع الشيخ على موقف المجلس الجزائري من قضية فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية، وعلى البرقية التي أرسلتها جمعية العلماء في الجزائر للحكومة الفرنسية بباريس والمنشورة في «البصائر»، العدد 235، 3 يوليو 1953، وهي كلمة غير منشورة، ويمكن إضافتها إلى سلسلة المقالات التي نشرت في الجزء الثالث من الآثار تحت عنوان: "فصل الدين عن الحكومة".(4/257)
ضعف بما قوي وشفت غيظها من الفريقين. أليس حاكم فرنسا اليوم والمتحكّم في مصائرها يهوديًا ومن ورائه يهود العالم؟
كنا نعلم هذه النهاية لقضية الإسلام في الجزائر من يوم عرفنا اليمين من الشمال، وبلونا أحزاب اليمين في فرنسا وأحزاب الشمال، لأننا عاصرناهم جميعًا وعاشرناهم قائلًا وسميعًا فما وجدنا منهم في جانبنا منصفًا، ووجدناهم يختلفون إلى درجة الشقاق ويشتجرون إلى نهاية اللجاج، حتى إذا لاح شبح من أشباحنا لعيونهم وعرضت قضية من قضايانا تحت أيديهم تألفت الأحزاب وتآلفت الآراء وتألبت الجموع لأننا نحن وديننا عدو مشترك في نظرهم، وكأن منافرة الضاد للهواتهم مستلزمة لمنافرة أهله لهم ومنافرة دينه لأذواقهم، واللهاة هي نهاية المقاطع الحرفية كما أنها نهاية الحاسّة الذائقة.
...
جاهدنا في سبيل هذه القضية عشرين سنة أو تزيد لم يفل لنا فيها رأي ولم تفل عزيمة، ولم يكل لنا فيها قلم ولا لسان ووقفنا فيها مواقف صادقة خالصة لله ولدينه ولهذه الأمة التي كتب الله عليها أن يكون بعض أبنائها وبالًا عليها وعلى دينها وأعوانًا عليها مع الغاصب، وألجأنا الاستعمار مرات إلى إبرازها بعد أن كان حريصًا على إضمارها، وإلى الحديث عنها بعد أن كان الحديث عنها محرّمًا، وإلى نقلها من ميدان إلى ميدان، ومن وراء البحر إلى ما دون البحر، وشغلناه بها عن كثير من مهماته، ونقضنا شبهاته فيها بالحجج والبيّنات وأفادنا الاشتغال بها والاهتمام بالبحث فيها فوائد أقلّها الاطّلاع على الوثائق الأصلية التي أملاها التعصب الديني والحقد الصليبي، وأجلها افتضاح المارقين منّا الذين باعوا جوهر الدين بعرض الدنيا، وظنّ الاستعمار أنه يغالبنا بهم وبأسمائهم وألقابهم فخذله الله بهم وفضح بعضهم ببعض، وحصلنا من ذلك كله على ذخيرة مادية وأخرى معنوية، وسنترك القضية للأعقاب المجاهدين واضحة المعالم كاملة الوثائق، ناطقة بالحق على الأعوان والخوان، وكأن هذا الدور أخير- وما هو بالأخير- ولكنه انفرد بمظاهر هي التصميم والحزم منّا، والعناد والكيد من خصمنا. فقد بالغنا في التحدي فبالغ في التداهي والتحايل فلفّ القضية بلفافتين من الدستور الجزائري والمجلس الجزائري ونقلها ملفوفة بهما من فرنسا إلى الجزائر وحملت المجلس الجزائري على أن يحمل هذا الحل الأخير نَتْنًا ويضعه يَتْنًا.
وكان في هذا المجلس كثير ممن اسمه محمد وهو عدو لمحمد ودين محمد، وإننا لنجزم بأن هذا الحل المشوّه موضوع مع الدستور الجزائري في آن واحد، وإنما أخّروه(4/258)
ليخرجوه إلى الناس باسم مجلس يجمع المذبح والمسبح، ويجمع السيد والعبد والزبد بلا زبد، وفيه جماعة ينطقون بالعين من مخرجها- مع علمنا بالنتائج قبل سوق مقدماتها-.
دعانا إلى خوض تلك المعارك وإلى إثارة ذلك النزاع المحتدم، عهد الله في نصرة دينه يجب أن نفي به، وعهد من محمد - صلى الله عليه وسلم - في الجهر بكلمة الحق في وجه من يثقل عليه سماعها، وقد جمجم بها الجبناء من أسلافنا فأضاعوا الحق وبَاءُوا بإثم الإضاعة، والجبناء من معاصرينا فكانوا حجة الباطل علينا ولله الحجة البالغة، وشيءآخر جعلنا نلج في خصومة الاستعمار وهو أنه يعد سكوت الساكت رضى بالمسكوت عليه، فيصبح حقًا مكتسبًا ثلاث مرات: مرة بالقوة التي يملك أسبابها، ومرة بالحيلة التي يفتح أبوابها، ومرة بسكوت أهل الحق على حقّهم. فأردنا أن لا يسجّل التاريخ علينا ما سجّله على الأقدمين من سلفنا من مهانة السكوت بعد الإضاعة أو السكوت الذي سبب الإضاعة، ومن وقاحة الاستعمار أنه يسمّي الحقوق المغتصبة حقوقًا مكتسبة، وقد أفحمناه مرارًا بأن أملاك الدولة المغلوبة قد تصبح بحكم السيف والمدفع أملاكًا مكتسبة للدولة، ما دام السيف سببًا رابعًا من أسباب الميراث، أما أملاك الله التي هي الأوقاف الدينية، وبيوته التي هي المساجد فهي ميراث للدين وأهله لا تغتصب ولا تكتسب، إلا لعدو لله يحاربه كما يحارب المخلوقين ثم يلجّ في طغيانه فيعتقد أنه انتصر عليه.
...
أما جمعية العلماء فلم يجدّ عليها جديد وما رأت من نتائج جهادها إلا أنها كشفت الستر عن حقيقة الاستعمار للمغرورين فيه، وجرأت المكافحين الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان على الأخذ بتلابيبه حتى لا يستريح ولا يهدأ له بال، وعلى زعزعة أركانه إن لم يقدروا على إتيانها من القواعد. ولا ترى جمعية العلماء إلا أن المسألة ما زالت في النقطة التي منها بدأت وأن هذه الأصباغ الحائلة لم تنقل خطأ إلى صواب ولم تقر حقيقة في نصاب.
ولا نقول ربحنا أو خسرنا، فالربح والخسارة من مفردات قاموس التجّار، أما الجهاد الذي غايته تثبيت الحقائق الإلهية في الأرض وغرس البذور الروحية في الوجود فلغته سماوية لا تحمل معاني التراب، متسامية لا تسفّ إلى ما تحت السحاب، وأما المجاهدون في ذلك السبيل، فلا يعدون الربح والخسارة في آرابهم، ولا يدخلون الوقت- طال أم قصر- في حسابهم.
ولو كانت فرنسا تتقايض مع الناس بالضمائر والعقول والقيم والمثل والغايات لقلنا إنها - بتصرفها في القضية الإسلامية- خسرت تاريخها ومبادئها ومقوّماتها ودعاويها التي تذيعها في الناس وبضائعها المزوّرة التي تعرضها على العالم، ولكنها لا تتقايض- فيما تكشفت عنه(4/259)
في العهد الأخير- إلا بالتنمّر للضعفاء والتذلل للأقوياء، والكيد فيما بين ذلك، ووالله لو أنها تركت في قلوبنا مكانًا للشفقة لأشفقنا عليها من هذا التخبّط الذي تعانيه، ومن هذا الإفلاس الذي أصابها في الرأي والرجال حتى أصبح أعداؤها هم الذين يسيرونها، والموثورون لها هم الذين يتحكمون في مصائرها.
إن فرنسا اليوم تتحرّك في سياستها معنا بطريقة الاحتراق الداخلي، ووقود ذلك الاحتراق هو الحقد، فهل ينفعها هذا الوقود؟ أم يعود فيحرق المحرِّك والمحرَّك، وهل تحفظ لها الحياة هذه الحركة؟ أم هي ذاهبة بها إلى الزوال؟ الحكم لله العلي الكبير.
...
وما ظن الاستعمار بجمعية العلماء؟ أيظن أنها تمل وتكل فتضعف فتستكين؟ لا والله، ولقد خاب ظنّه وطاش سهمه، إنما يكل من كان في ريب من أمره وفي عماية من عمله، أما من كان من أمره على بيّنة ومن عمله على بصيرة، ومن ربه على عهد فهيهات لما يظنّه به الظانون، وان جمعية العلماء لفي موقعها الثابت، وعلى عقيدتها الراسخة، وفي ميدانها الفسيح من الكفاح، ولقد جاهرنا هذه الحكومة مرارًا بأن هذه القضية دينية محضة فلتنفض يدها منها ولتبقِ المجل خالصًا لسياستها معنا ولنا مع سياستها، فأما إذا أبت إلا أن تجعل ديننا جزءًا من سياستها، فسننتقل معها إلى الميدان الذي أرادته واختارته لنفسها ولنا، وسنقود كتائب السياسة في أضيق موالجها جالبة علينا ما جلبت، وسوف تجدنا- إن شاء الله- عند سوء ظنّها، وسوف تجدنا- كما عرفتنا- حيث تكره لا حيث تحب، وسوف نعلمها فقهًا جديدًا وهو أن أرض الجزائر حتى سجونها مساجد لإقامة الصلوات، وأن كل عود فيها حتى المشانق منابر خطبة ومطية خطيب، وأن كل صخرة فيها مئذنة ينبعث منها "الله أكبر"، وسوف يريه بنا أن عاقبة المعتدي على الإسلام وخيمة.
1 - نحن سياسيون منذ خلقنا، لأننا مسلمون منذ نشأنا، وما الإسلام الصحيح بجميع مظاهره إلا السياسة في أشرف مظاهرها، وما المسلم الصحيح إلا المرشح الإلهي لتسيير دفّتها أو لترجيح كفّتها، فإذا نام النائمون منا حتى سلبت منهم القيادة ثم نزعت منهم السيادة، فنحن- إن شاء الله- كفّارة الذنب، وحبل الطُّنْب.
2 - نحن سياسيون طبعًا وجبلة، ونحن الذين أيقظنا الشعور بهذا الحق الإلهي المسلوب، فما سار سائر في السياسة إلا على هدانا، وما ارتفعت فيها صيحة إلا وكانت صدى مرددًا لصيحاتنا، ولكننا كنّا لا نريد أن نخلط شيئًا كل وسائله حق، بشيء بعض وسائله باطل، وأن نميّز بين ما لا جدال فيه ممّا فيه جدال، وكنّا نريد أن نبدأ بأصل(4/260)
السياسات كلّها وهو الدين لنبني عليه كل ما يأتي بعده، فنسالم ونحن مسلمون ونخاصم ونحن مسلمون ونصادق أو نعادي ونحن مسلمون، فيكون في إسلامنا ضمان للمعدلة حتى مع خصومنا، فمن كان من أبنائنا في ريب من الحكمة في سلوكنا فلينظر تشدد الاستعمار معنا، وشدة "تمسّكه"، إنه لا يعاديكم فيسرف في العداوة، ويظلمنا فيمعن في الظلم إلا لأنكم مسلمون، ولأن هذا الإسلام منبع قوة تقتل الضعف، ومبعث روحانية تقهر المادة، فهل لكم أن تقابلوا "تمسّكه" بالمعنى الذي يريده، بتمسّك من جهتكم بالمعنى الذي يريده الله؟
3 - نحن سياسيون لأن ديننا يعد السياسة جزءًا من العقيدة، ولأن زمننا يعتبر السياسة هي الحياة، ولأنها آية البطولة، ولأن وضعها يصير السياسة ألزم للحياة من الماء والهواء، ولأن السياسة نوع من الجهاد ونحن مجاهدون بالطبيعة فنحن سياسيون بالطبيعة، ولأن الاستعمار الفرنسي بظلمه وعسفه لم يغرس في الجزائر إلا ثمرتين: بغض كل جزائري لفرنسا حتى الأطفال، وصيرورة كل جزائري سياسيًا حتى الأئمة.
ليت الاستعمار يأخذ من هذه الصراحة ما يغريه بزيادة التشدّد ظنًا منه أنه يشغلنا بجانب عن جانب ويلهينا بديننا عن دنيانا، حتى يعلم أننا أصبحنا- والفضل له- لا يلهينا شيء عن شيء، وأننا إذا لم نستطع شيئًا استطعنا أشياء، وأننا إذا لم نستطع أن نكون عطشًا لخصمنا كنا كدرًا في الماء، وأننا إذا حرمنا قمح الأرض زرعناها أشواكًا، وأنه لم يبقَ قلب في الجزائر يتّسع لذرة من حب فرنسا، أو يتّسع لخيط أمل فيها، وليعلم أخيرًا أن الله للظالمين بالمرصاد.
...
إن كانت مهزلة المجلس الجزائري وقراراته في قضيتنا هي نهاية البداية في ظنّه، فإنها بداية النهاية في يقيننا، وان درسها الأول كلمتان: شحذ الرأي وتصميمه ومواصلة الكفاح وتعميمه ...
إن الاستعمار الفرنسي استعمار صليبي بنى أمره من أول يوم على ابتلاع الأوقاف الإسلامية ليجرّد الإسلام من السلاح المادي فيتسلّط على معابده ورجاله ويقودهم بزمام الحاجة إلى حيث يريد، ولولا فهمنا لهذه الحقائق لما تشددنا كل هذا التشدّد في قضية الأوقاف.(4/261)
المرأة المسلمة في الجزائر *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان المسلمون، أيتها الأخوات المسلمات:
مواضيع الحديث عن المسلمين كثيرة لأن أمراضهم كثيرة، ومن قضى الله عليه بأن يتحدث في شؤون المسلمين اليوم أو يكتب عنهم، فقد ساق له نوعًا من الغنى لا يعرفه الناس ولا تعرفه القواميس، أما الناس فإنهم يعدّونه غنى خير منه الافلاس، أما القواميس فإنها لا تعرف من الغنى إلّا ما عرفته العرب، والعرب- وإن اتسعت لغتهم وتشقّقت ألفاظها عن بحر زاخر من المعاني- لم يكونوا مسلمين، وإنما كانوا مسوقين بفطرة الله في أول أمرهم، وبهداية الدين في آخره، وكانوا مخلصين للإثنين كل في دولته، كانوا مشركين فوحّدوا، ومشتّتين فاتحدوا، وكانوا رعاء غنم فأصبحوا رعاة أمم، وكانوا مجدبين فأمرعوا، ومدلجين فأصبحوا، وكانوا شجعانًا فثبّت الإسلام فيهم الشجاعة، وأجوادًا فحثّهم الإسلام على السماحة، وتمّم بنبيّه مكارم الأخلاق فيهم، فرجعت خيالاتهم إلى الحقيقة.
أما المسلمون اليوم فليسوا من ذلك في شيء، بل ليسوا من معنى الأمة في شيء إلّا بضرب من التجوز والتساهل، هم جسد يثبت وجود الواسطة بين الموت والحياة كما أثبتها القرآن لأهل جهنّم، هم جسد بعض أجزائه أشل معطل، وبعضه مصاب بعاهة تمنعه العمل فهو كالأشل المعطل، وبعضه مستعمل في غير ما خُلق له فهو كالكلمة المحرفة عن وضعها في اللفظ أو المنحرفة عن موضعها في الجملة، فهي لا تحدث إلّا التشويش والالتباس وفساد المعنى.
لذلك كثرت المواضيع أمام المتحدث عليهم أو الكاتب عنهم وتعدّدت إلى غير حدّ، وتكاثرت عليه الضباب حتى لا يدري ما يصيد، ولا يدري بأيها يبدأ ولا بأيها يختم، وهو
__________
* من محاضرة عن "المرأة" أُلقيت في "جمعية الشبّان المسلمين" عام 1953م.(4/262)
لذلك كله لا يطمع في ضبط ولا إحاطة إلّا كما يطمع الغريق في بحر جياش القوارب في الدنو من الساحل.
المرأة المسلمة موضوع ذو شعب: جهلها، تربيتها، تعليمها، حجابها، وظيفتها في البيت، والرجل المسلم موضوع أكثر تشعبًا، والشاب المسلم موضوع، والطفل كذلك، والعرب موضوع والعجم موضوع، والمغرب موضوع والمشرق موضوع، والغني موضوع والفقير موضوع، والملوك موضوع، والسوق موضوع، ونسبة الجميع إلى الإسلام هي موضوع المواضيع، وهنالك تتشعّب المذاهب كتشعّب المذاهب، وتنطمس المسالك على السالك، والأمراض إذا كثرت ولدت الضُّعف، وولد الضعف أمراضًا أخرى.
وإن مما زاد المواضيع كثرة وتوعّرًا على المتكلم في شؤون المسلمين هذا التفاوت الفاحش بين أطراف الشعب الواحد منهم، فتجد الغني الواسع الغنى والفقير الواسع الفقر وتجد المثقف الواسع الثقافة يقابله الأميّ الجاهل بما تحت مواقع سمعه وبصره، وإن أمم هذا الزمان قد تقاربت خصوصًا في باب الثقافة فنجد جميع الأفراد مشتركين في القراءة والكتابة وفي البدائيات من المعارف العامة، فإذا قفز منهم أفراد إلى ذروة العلم بقي الحبل متصلًا بينهم بمبادئ العلم والمعرفة، خلافًا لما عندنا فإن الحبال مقطوعة بين الطبقات، ولذلك نجد الموضوعات عندهم قليلة ومحصورة، فإذا تحدث المتحدث أو كتب الكاتب فإنما يتحدث أو يكتب عن شيء مضبوط محدود أو عن شيء ناقص يفتقر إلى الكمال.
هم لا يتحدثون عن الحرية لأنها حاصلة، ولا عن التعليم لأنه مضمون، ولا عن العمل لأنه مكفول، ولا يتحدثون كثيرًا- إلى ما قبل سنوات- عن الطبقات لأنها متقاربة ولها حدود تقف عندها، ولا عن المرأة لأنها استقرّت في الموضع الذي حدّدته لها حضارتهم.
أيها الإخوان: أهمّ الموضوعات- وإن كثرت وتشعبت- ما يتعلق بالأحياء الناطقين، بل هي أصل الموضوعات كلها، وعليها يتوقف كل شيء، وعلى إصلاحها يتوقف كل إصلاح، وإن لهؤلاء الأحياء حدودًا رسمتها الطبيعة والواقع، فمَن تحدث عنها فهو مُتحدث عن أصل الخير والسعادة، أو عن أصل البلاء والشقاء، فالواجب على خطبائنا وشعرائنا وكتّابنا أن يديروا الألسنة والأقلام في هذا المدار الضيّق، وليناولوه بالتحقيق وليعالجوه بالإصلاح، وإن أركانه لأربعة فلا يزيدون الخامس ولا ينقص الرابع: هي الرجل والمرأة والشاب والطفل.
كانت المرأة المسلمة في الجزائر إلى عهد قريب، لا يجاوز أربعين سنة، محرومة من كل ما يسمّى تعليمًا إلّا شيئًا من القرآن يؤدي إلى معرفة القراءة والكتابة البسيطة، وهذا النوع على تفاهته خاص ببعض بيوت العلم، ولا يجاوزون بالبنت فيه الثانية عشرة من عمرها.(4/263)
هذه هي الحالة السائدة في الجزائر منذ قرون وتشاركها فيها جميع الأقطار الإسلامية على تفاوت بسيط بينها، والسبب في هذه الحالة نزعة قديمة خاطئة راجت بين المسلمين وهي أن تعليم البنت مفسدة لها، ويلوك أصحاب هذه النزعة آثارًا مقطوعة الأسانيد، مخالفة لمقاصد الشريعة العامة وتربية محمد - صلى الله عليه وسلم - العملية لنسائه ونساء المسلمين العالمات، ثم يؤيّدون تلك الآثار الضعيفة الإسناد بأقوال الشعراء الذين يستمدّون شعورهم من شريعة العواطف المتباينة، لا من شريعة الله الجامعة، ومتى كان الشعراء مصدر فتوى في الدين؟
هذه هي علة العلل في الحالة التي أفضت بالمرأة المسلمة إلى هذه الدرجة التي ما زالت عقابيلها سارية في المجتمع الإسلامي، وما زالت لطخة عار فيه، وان المرأة إذا تعطلت عطّلت الرجل وإذا تأخرت أخّرته، ولا سبب لانحطاط المرأة عندنا إلا هذا الضلال الذي شوّه الدين وقضى على المرأة بالخمول فقضت على الرجل بالفشل، وكانت نكبة على المسلمين. وما المرأة المسلمة الجزائرية إلا جزءًا من المجموعة الإسلامية.
بعد تلك السنوات التي جعلناها حدًا لقديم المرأة الجزائرية، جاء طورها الجديد ويبدأ من نحو أربعين سنة، وقد يستقيم للباحث أن يسمّيه الفجر الكاذب ليوم تعليم المرأة المسلمة الجزائرية، ويصدق هذه التسمية أمران، الأول: أنه بدأ بتعلّم اللغة الفرنسية وهي لغة ليست من روحها ولا من تقاليدها، واللغة الأجنبية إن حسنت فإنما تحسن بعد اللغة المتصلة بالروح والتاريخ والمقوّمات الأصيلة فهي بالنسبة للجزائرية ربح، أما رأس المال فهو اللغة العربية، والثاني: أنها بدأت في المدن الحديثة الحضارة، ونعني المدن التي عمرت في عهد الاستعمار الفرنسي مثل سكيكدة وسطيف وسيدي أبي العبّاس.
ونقصد بكونها حديثة الحضارة أن عمارها طارئون وليست فيها بيوتات عريقة تمثّل حضارتها الإسلامية وتحفظ تاريخها العلمي. ثم سرى هذا التعليم الفرنسي بعد سنوات قليلة إلى المدن التاريخية ذات التقاليد الموروثة والماضي العلمي العتيد، وهي تلمسان وبجاية وقسنطينة والجزائر وما هو من نوعها، وانساق أولياء الفتيات المسلمات إلى هذا التعليم الأجنبي انسياقا غريبًا بعد أن كانوا معرضين عنه بضع سنوات حتى إنك لتجد للواحد منهم بنتًا كبيرة حرمها من هذا التعليم وفوّته عليها ثم سمح به طائعًا مختارًا لأختها الصغيرة أو لأخواتها الصغيرات، وما تغيّر الشخص ولكن تغيّرت فكرته وشعوره، وليس هذا من أثر الدعاية للتعليم الفرنسي، فإن الدعاية قديمة العهد وأبو البنت هو أبو الولد، وقد سمح لولده بالتعليم الفرنسي قبل سماحه لبنته بعشرات السنين، وقد رأى في ولده حسنات هذا التعليم وسيئاته، وإنما السبب الأول لهذا الإقبال على تعليم البنت باللغة الفرنسية هو تقليد من أغرب أنواع التقليد (يصح أن نسمّيه تقليد المنافسة) وغرابته أنه تقليد من الأعلى للأدون، وهو في موضوعنا تقليد الحضري العريق للمتحضر الجديد، ومن أمثلته تقليد الغني الأصيل لغني(4/264)
الحرب، فهو منافسة في صورة تقليد، ومن أمثلته البارزة شعور بعض المسيحيين في الشرق بضرورة وطن قومي مسيحي، فإن هذه الفكرة ما نبتت إلا بعد وجود الوطن القومي اليهودي، والمسيحي أعز من اليهودي نفرًا وأكثر نفيرًا.
إذن فإقدام البنت المسلمة على العلم باللغة الفرنسية بدأ من العهد الذي حدّدناه تقريبًا، ونرجّح أن لإقبالها على هذا النوع من التعليم المخالف لبيئتها وتقاليدها سببًا آخر ظاهريًا غير ما ذكرنا من تقليد المنافسة، وهو أنه لا يوجد إذ ذاك تعليم رسمي ولا حر باللغة العربية يسبق هذا التعليم، ولا تنسَ أن للتطوّر الفكري أثره في هذه المسألة.
فلننظر الآن ماذا أتى به هذا التعليم من النتائج في أمة تبلغ عشرة ملايين أو تزيد، ونصف هذه الملايين نساء.
إنه لم يأتِ بنتيجة تذكر، لأن معظم المتتبعات لهذا التعليم يقفن عند حد الشهادة الابتدائية ثم يلزمن بيوتهن، وفي الغالب يقبلن على الحرَف النسوية اليدوية وقليلات منهن ينتقلن إلى التعليم الثانوي، وأقلّ من القليل يجاوزنه إلى العالي. وكانت النتيجة إلى هذا العهد أن بضعة آلاف لا تجاوز جمع القلة من البنات المسلمات يحملن الشهادة الابتدائية الفرنسية، وعشرات يحملن شهادة الكفاءة للتعليم فهن معلّمات في المدارس الابتدائية الحكومية وعدد قليل منهن- فيما بلغت إليه تحرياتنا- يحملن ليسانس الآداب وإحداهن أستاذة في مدرسة ثانوية هي شريفة قزّال، وتوجد بالجزائر كلها دكتورة واحدة ممتازة في الطب هي علجية نور الدين ولها عيادة ناجحة في عاصمة الجزائر، واثنتان- فيما علمنا- صيدليتان، وواحدة محصلة على شهادة التبريز في الآداب الفرنسية (اقريقاسيون) بأطروحة قدمتها عن الغزالي وهي حليمة بن عابد، وهي الآن تعمل في الرباط أستاذة، والصنف الوحيد من أصناف العلم الذي كثرت حاملات شهادته من الجزائريات هو القبالة. فالقوابل المسلمات كثرن في العهد الأخير ولعلهن جاوزن المئة، وهذا النوع يرضى عنه حتى المحافظون لحاجتهم إليه ولعلاقته بالنساء والبيوت، فهم أكثر اطمئنانًا إليه دون غيره، ولعلّ هذا هو السبب في كثرة القوابل المسلمات وأعان على هذا الميل العام للتطبيب الفنّي.
ليست البنت الجزائرية مدفوعة عن الذكاء بل الأمر بالعكس، فقد شهد لها الرجال القائمون على التعليم الفرنسي بالذكاء الخارق، ولكن الذي أخّرها عن السبق عوامل اجتماعية ودينية ما زال لها شأن عظيم في المجتمع الجزائري.
هذا هو ما سمّيناه بالفجر الكاذب لتعليم المرأة الجزائرية، وقد أتى رغم ذلك هذه النتائج الطفيفة، ويقيننا أنه يأتي بنتائجه الكاملة بعد أن جاء الفجر الصادق.(4/265)
أما الفجر الصادق لتعليم الفتاة الجزائرية فهو يبتدئ من سنة 1931، أي منذ اثنتين وعشرين سنة يوم تكوّنت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لإحياء العروبة والإسلام بالقطر الجزائري ومغالبة الاستعمار عليهما، وخطت خطواتها المشكورة في التعليم العربي الإسلامي على نظم عصرية، وكانت خطوتها الأولى تحبيب العلم إلى الجماهير بواسطة الدروس الدينية والمحاضرات الاجتماعية ليساعدهم الجمهور على الغاية المقصودة وهي تعليم الناشئة وإحياء الدين في نفوسها والعربية في ألسنتها، وحارب الاستعمار رجالها فصمدوا له حتى قهروه ولهم اليوم نحو مئة وخمسون مدرسة عربية حرة تحتوي على نحو خمسين ألف تلميذ من بنين وبنات، ولهم معهد ثانوي يحتوي على ألف وخمسمئة تلميذ، وقد رأينا نتاجه في القاهرة فرأينا آثار الحزم والجرأة والإخلاص.
...(4/266)
إلى الشباب *
أوجّه طلائع الحديث في هذه الليلة إلى الشباب الذين هم الساف الجديد في بناء الأمة، والدم المجدّد لحياتها، والامتداد الطبيعي لتاريخها، وهم الحلقات المحققة لمعنى الخلود الذي ينشده كل حيّ عاقل ويتمناه حتى إذا فاته في نفسه التمسه في نسله، وقربت له الأماني معنى من معنى، فتعلّل بالخيال عن الحقيقة، وتسلّى بشبه الشيء عن الشيء، ودأب جاهدًا في تدنيته وتوفير الراحة والهناء والسعادة له، ويعلّل نفسه بأنه سيرث اسمه وماله وهو لا يعلم أنه سيموت اسمه ويُبدّد ماله، وما زالت التعلات صارفة عن اليأس منذ طبع الله الطباع.
وأقول: الشباب. ولستُ أعني بهذا اللفظ معناه المصدري في عرف اللغة، ولا ذلك الطور الثالث من عمر هذا الصنف البشري في مقاييس الأعمار، وإنما أعني بهذا اللفظ طائفة من الأناسي انتهوا في الحياة إلى ذلك الطور الثالث بعد الطفولة واليفاعة، فجمعتهم اللغة على شبيبة وشبّان، ووصفتهم بالمعنى في نحو لطيف من أنحائها فقالت: شباب وشبيبة، كما وصف القرآن محمّدًا بأنه رحمة، وكما وصفت الخنساء الظبية بأنها إقبال وإدبار، ثم جمعتهم سنّة التكامل على القوة والفتوة، وجمعهم اتحاد السنّ أو تقاربه على التعاطف والأخوّة، وجمعهم الدين على التكاليف والواجبات، ووقفت بهم الحياة على جددها، تعرض عليهم السعادة في صور ملتبسة بالشقاء، والشقاء في صور ملتبسة بالسعادة، واكتنفتهم الملائكة والشياطين، أولائك يدعونهم إلى الجنّة محفوفةً بالمكاره، مسوقة بالصبر والألم، وهؤلاء يدعونهم إلى النار ملفوفة بالشهوات، مسوقةً بالإغراء والتزويق والتزيين- ووقفنا نحن معاشر الآباء من ورائهم، نتمنّى لهم ونتجنّى عليهم، ونقترف في حقهم ولا نعترف بظلمنا إياهم، ونُرخي في تربيتهم أو نشدّد، ولكننا لا نقارب ولا نسدّد، ونعطيهم من
__________
* محاضرة ألقاها الإمام في أحد أندية الشباب بالقاهرة.(4/267)
أفعالنا ما نمنعهم منه بأقوالنا: ننهاهم عن الكذب ونكذب أمامهم الكذب الحريت، وننهاهم عن الرذائل جملة وتفصيلًا، ثم نخالفهم إلى ما ننهاهم عنه، فيأخذون الرذيلة عنا بالقدوة والتأسّي، ويحتقروننا لأننا قبحنا لهم الكذب بالقول ثم أشهدناهم بالعمل على أننا كاذبون.
إلى هؤلاء الشباب الوارثين لحسناتنا وسيآتنا، المهيئين لخيرنا وشرنا، الحاملين لخصائصنا وألواننا إلى مَن بعدهم من أبنائهم، المتبرمين هنا بحالة هم مقدمون عليها كرهًا، فقد كنا مثلهم شبابًا وسيصبحون مثلنا شيوخًا، وسيلقون من أبنائهم ما لقينا نحن منهم، وسيلقى منهم أبناؤهم ما لقوه هم منّا، جزاءً وفاقًا وقصاصًا عدلًا، وسنّة أجراها الواحد القهّار، وجرى بها الفلك الدوار- إلى هذا الجيل الذي عودتنا الحياة المدبِرة أن نشفق عليه، وعوّدته الحياة المقبِلة أن يشفق منا، أتوجه وإياه أعني وإليه أسوق الحديث، داعيًا له بما دعا له شوقي في قوله:
إن أسأنا لكم أو لم نُسئ … نحن هلكى فلكم طول البقاء
متمنيًا له ما تمنّاه له شوقي في قوله:
هل يمدّ الله لي العيشَ، عَسَى … أن أراكم في الفريق السعداء
لا أخالف شوقي إلّا في التخصيص فقد خاطب بهذا شباب النيل، وأنا أهتف بشباب العرب، وبشباب الإسلام، أهتِفُ بشباب العرب أن يرعوا حق العروبة وأن يكونوا أوفياء لها، وأن يعلموا أنها ليست جنسية تميز، ولا نسبة تعرف، وأنها ليست جلدة تسمّر أو تحمّر، ولا بلدة تعمر وتقفر، وأنها ليست جزيرة يحيط بها البحر ولا قلادة تحيط بالنحر، وأنها ليست متاعًا ممّا يرث الوارثون، ولا أرضًا مما يحرث الحارثون، وإنما هي خلال وخصال، وهمم تتشقّق عن فعال، وإنما هي بناء مآثر، وتشييد أمجاد ومحامد، وإنما هي مساع من الكرام إلى المكارم، ودواع من العظماء إلى العظائم، وإنما هي عزائم، لا تعرف الهزائم، وإنما هي عزّة وكرامة، وشدّة في الحفاظ وصرامة، وإنما هي طموح وجموح: طموح إلى منازل العزّ وجموح عن مواطن الذلّ، وإنما هي رجولة وبطولة، وأصالة وفحولة، وإنما هي طبع أصيل ورأي جليل، ولسان بالبيان بليل، وعقل على الحكمة دليل، فمجموع هؤلاء هو العروبة، وجامع هؤلاء هو العربي، وما عداه فهو تعللّ بباطل، وتعلق بضلال، وتخلق يكذبه الخلق، وخيانة للعروبة في اسمها وفي وسمها، وعقوق للأجداد، كأنما عناهم المعزي بقوله:
جَمالَ ذي الأرضِ كانوا في الحياة وهُمْ … بَعْد المماتِ جَمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ
ثم أهتف بشباب الإسلام ليعلموا أن الإسلام ليس لفظًا تلوكه الألسنة المنفصلة عن القلوب، وتتناوله قوانين التعريف بموازينها الحرفية، وتقلّبه اشتقاقات اللغة على معانيها(4/268)
الوضعية فينزل به إلى المعاني الوضيعة من السلم إلى الاستسلام ... إلّا أن في الإسلام الشرعي نوعًا من معنى الإسلام اللغوي، ولكنه أرفع تلك المعاني وأعلاها، هو معنى تتقطع دونه الأفهام والأوهام، معنى لو طاف طائفه بعقول العرب أهل اللغة قبل الإسلام لَرفع هممهم عن عبادة الشجر والحجر، ولَسَما بهم حينما بُعث محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الجدل بالباطل ليدحضوا به الحق: هو إسلام الوجه لله عنوانًا لإسلام القوى الباطنة له، هو المعنى الذي خالطت بشاشته قلب نبي التوحيد إبراهيم فقال: أسلمتُ وجهي، وتذوقته بلقيس حين هداها الله فقالت: وأسلمت، ألا وإن في الاستسلام نوعًا من المعاني لم يتخيله وضع ولا عرف، ولم يتداوله نقل ولا استعمال حتى جاء محمد بالهدى ودين الحق، ونقل اللغة من طور إلى طور، هو استسلام الجوارح- وسلطانها القلب- لله ولعظمته وقدرته وعلمه حتى توحّده وحده، وتعبده وحده، وتدعوه في النائبات وحده، وتنيب إليه وحده، وتذعن إلى سلطانه وحده، وتخشاه وحده، فتستقل عن الأغيار بقدر ذلك الاستسلام إليه، وتتحرّر بقدر العبودية له، وتتوحّد قواها بقدر إفراده بالألوهية، وتعتزّ بقدر التذلّل لعظموته، وتنجح في الحياة بقدر اتباعها لسننه، وتصفو من الكدرات الحيوانية بقدر اتّصالها به، وتتزكى سرائرها بقدر إيمانها به، وتبعد عن الشرور والآثام بقدر قربها منه، ثم تسود الكائنات بأمره، وتخضع الكون لسلطانها بسلطانه، وتكشف أسرار الوجود بصدق التأمّل في آياته والتفكر في بدائع ملكوته.
هذه بعض معاني هذا الدين العظيم دين الله السماوي الذي بلّغه محمد - صلى الله عليه وسلم - وفسّره بأقواله وشرحه بأفعاله، ووسعته لغة العرب، وحمله إلينا الأمناء الهداة، وعصمه القرآن آية الله الكبرى ومعجزة الدهر الخالدة وكتاب الكون الأبدي، وكنز الحكمة المعروض على العقول والأفكار وعلى الأسماع والأنظار لتأخذ منه كل جارحة حظها من الغذاء.
أيها الشباب: شاع بين الناس مبدأ فطري توارد عليه المحدثون والقدماء، ونصره الحس، وهو أن الكبير قريب من الموت يغذّ إليه السير مكرهًا كمختار وعجلان كمتريث، ومن ثم فهو قريب من الله، والقرب من الله مدعاة عند العاقل المتأله إلى الاستعداد لِلقائه، والتزوّد للدار الآخرة بأهبها وليوم الفاقة العظمى بالأعمال الصالحة، وقد قال شاعر حكيم يصوّر هذا القرب:
وإن امرءًا قد سار خمسين حجّة … إلى منهل من وِرْدِهِ لَقَرِيبُ
تواضعوا على هذا وأكثروا فيه القول، وأداروا عليه النصائح والمواعظ للجماعات المتدينة، يزجونها للشيوخ المسرعين إلى الموت، الذين طووا المراحل ودنوا من الساحل- حتى أوهموا الشبّان أن الشباب عصمة لهم من الموت، وأنتج لهم القياس الفاسد أنهم بعيدون عن الله، ولا يبعد في نظر المتوسم في غرائب النفوس أن يكون تخصيص الشيوخ(4/269)
الهرمين بتلك المواعظ بعض السبب في اغترار الشبّان وانهماكهم في الشهوات واسترسالهم مع النزوات، وبعض السبب في إبعادهم عن الله مضافًا إلى جنون الشباب وسلطان الهوى وتنبه الغرائز الحيوانية.
وأنا أرى أن الشبّان أحق الناس بذلك الوعظ وبالتوجيه إلى الله والتقريب منه، وبالتعهّد المنظّم والحراسة اليقظة حتى تكون أقوى الملكات التي تتربّى فيهم ملكة الخوف من الله، في وقت قابلية الملكات للثبوت والاستقرار في النفوس، وفي وقت تنازع الخير والشرّ للنفوس الجديدة، وإنها لكبيرة أن ينشّأ الشاب على الخير والاتصال بالله من الصغر، ولكن جزاءها عند الله أكبر، لما يصحبها من مغالبة للهوى في لجاجه وطغيانه، ومجاهدةٍ للغريزة في عنفوانها وسلطانها، ولهذا السرّ عدّ - صلى الله عليه وسلم - الشاب الذي ينشأ في طاعة الله أحد السبعة الذين يظلّلهم الله بظلّه يوم لا ظلَّ إلّا ظلّه، وعدّ الشيخ الزاني أحد الثلاثة الذين يلعنهم الله واللاعنون من عباده، لأن المعصية من مثله خالصة لوجه الشيطان لم تصحبها داعية ولم يخفّفها عذر، ولم تسبقها مغالبة ولا جهاد.
أيها الشباب: ساءَ مَثَلًا من أوهمكم أن بينكم وبين الموت فسحة وإمهالًا، لقد علمتم أن الموت لا يخاف الصغير ولا يعاف الكبير، وأسوأ منه نظرًا من توهّم أنكم لذلك أبعد عن الله من حيث المعاد، فإنكم أقرب إلى الله من حيث المبدأ، وان أثر يد الله فيكم لَأظهر، وان المسحة الإلاهية على شبابكم لأوضح، وان أغصانكمِ الغضّة المورقة لمطلولة بانداء السماء وقد وخزتها خضرته من كل جانب، وان نفحات الله لتشمّ من أعطافكم وشمائلكم، فلئن كنا قريبًا من لقاء الله بالموت فلَأنتم أقرب إليه بالحياة، ولئن صحبكم الاتصال به في جميع المراحل فيا بشراكم، ولئن كنا نقبل عليه كارهين متَسَخِّطين على الموت، فأنتم مقبلون من عنده فرحين بالحياة مستبشرين، فصلوا حبلكم بحبله واحفظوا عهده، وحذار أن تقطعكم عنه القواطع.
أيها الشباب: إن الشباب نسب بينكم ورحم وجامعة، ولا مؤثِّر في الشباب إلّا الشباب، فليكن بعضكم لبعض إمامًا، وئيعلّم المهتدون الضُلّال.
دينكم- أيها الشباب- لا يفتننكم عنه ناعق بإلحاد، ولا ناع بتنقّص.
وربّكم- أيها الشباب- لا يقطعنكم عنه خنّاس من الجنّة والناس.
وكتاب ربّكم- أيها الشباب- هو البرهان والنور، وهو الفَلَج والظهور، وهو الحجّة البالغة، والآية الدامغة، فلا يزهّدنكم فيه زنديق يؤول وجاهل يعطل ومستشرق خبيث الدخلة، يتخذه عضين، ليفتن الغافلين، ويلبّس على المستضعفين.(4/270)
إن دينكم شوّهتْه الأضاليل، وإن سيرة نبيّكم غمرتها الأباطيل، وإن كتابكم ضيّعته التآويل، فهل لكم يا شباب الإسلام أن تمحوا بأيديكم الطاهرة الزيف والزيغ عنها، وتكتبوهُ في نفوس الناس جديدًا كما نزل وكما فهمه أصحاب رسول الله عن رسول الله، إنكم قد اهتديتم إلى سواء الصراط فاهدوا إلى سواء الصراط، إنكم لو عبدتم الله الليل والنهار لكان خيرًا من ذلك كله عند الله وأقرب زلفى إليه أن تجاهدوا في سبيله بهداية خلقه إليه.
إن تلك الفئة القليلة من أصحاب محمد ما فتحوا الكون بقوة العَدد والعُدد ولكن بقوة الروح، فانفخوا في هذه الأرواح الضعيفة التي أضعفها الضلال عن طريق الحق تنقلب نارًا متأججة.
حيّاكم الله وأحياكم وأبقاكم للإسلام تذودون عن حياضه وترودون في رياضه، وللغة العرب تصلون أسبابها، وتردون عليها نضرتها وشبابها، ولمواطن الإسلام تصونون عرضها وتردون قرضها، وتحفظون سماءها وأرضها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/271)
تكريم الأستاذ مسعود الجلّالي *
تقديم:
أقام مكتب جمعية العلماء بالقاهرة حفلة شاي للأخ الأستاذ مسعود الجلّالي بمناسبة نيله للشهادة العالية من كلية أصول الدين بالأزهر الشريف، وقد حضرها جمع حافل من الشخصيات الإسلامية الكبرى نذكر منهم حضرات السادة: الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر، وأحمد حلمي باشا، وعلي المؤيد سفير اليمن بالقاهرة، ونجيب الراوي سفير العراق بالقاهرة، والدكتور منصور فهمي، ومحمد أمين بوغرا حاكم التركستان الشرقية سابقًا، والأستاذ محي الدين القليبي، والأستاذ صالح عشماوي وغيرهم. وكان في استقبال الضيوف الكرام سماحة الشيخ البشير الإبراهيمي والأستاذ الفضيل الورتلاني وطلاب البعثات العلمية لجمعية العلماء بمصر والشرق العربي، وقد كانت فرصة سعيدة جمعتْ بين بعثات جمعية العلماء بمصر وسوريا والكويت بمناسبة مرور الأخيرتين بمصر في طريقهما إلى معاهد سوريا والكويت العلمية، فالتقى فيها شباب آمن بالله، ثم بحياة أمته وتحرير وطنه من كل نير واستعباد، فهاجر يبغي العلم ويطلب الحكمة، وكله غيرة وحماس وتطلع إلى مستقبل سعيد لأمته ووطنه العزيز، وفّقه الله وحقّق آماله.
ولما اكتمل عقد الحاضرين وقف سماحة الشيخ البشير الإبراهيمي فألقى خطابًا رائعًا حيّا فيه الضيوف الحاضرين حسب اقتراح سماحة الشيخ، وبعدئذ تطرق الشيخ في الكلام إلى الجزائر فأبان كيف عمل الاستعمار منذ وطئت قدماه أرض الجزائر على محو الشخصية الإسلامية والقضاء على اللغة العربية فيها وأنه بذل أقصى ما يستطيع بذله في هذا الميدان من فرض القوانين الجائرة، وتحريم التعليم باللغة العربية، والاستيلاء على الأوقاف الإسلامية، وتحويل المساجد والمدارس إلى كنائس نصرانية، وتشجيع البعثات التبشيرية ومدّها بالعون المادي والأدبي، مستغلة في ذلك حالة الفقر واليتم والترمل التي تركتها الحروب الطويلة التي خاضها المجاهدون الجزائريون ذودًا عن بلادهم ودفاعًا عن كرامة دينهم وقوميتهم، أمام المستعمر الغاصب، ثم ضربه أخيرًا نطاقًا حديديًا بين الجزائر وشقيقاتها في الشرق حتى لا يعرفوا ما يجري فيها وما يدبره الاستعمار من دسائس ومكائد للإسلام والعروبة حتى يسهل عليه تحطيم كل قواها المعنوية والأدبية بعد ذلك.
ت. ر. ع.
__________
* «البصائر»، العدد 249، 4 ديسمبر 1953م.(4/272)
ثم قال:
أيها السادة: كانت هذه الأعمال الفظيعة التي صبّها الاستعمار على الجزائر حافزة لنا على مضاعفة العمل، ودافعة لطائفة من العلماء الغيورين على أن يقاوموها بكل ما يستطيعون من قوّة مهما كلفهم ذلك من تضحيات وجهود حتى لا يتركوا للمستعمر أية فرصة ينفذ فيها أغراضه المنكرة للقضاء على شخصية الأمة ومقوماتها- لا قدّر الله-، ويتضح هذا جيدًا في خطاب ألقاه أحد الخطباء في احتفال كبير أقامته فرنسا بمناسبة اكتمال قرن من الزمان لاحتلالها للجزائر، قال بعد أن عدد عظمة فرنسا وقوة جيشها الحربية في ذلك الحين: إننا أيها السادة لم نقم هذا الحفل في الواقع لأجل مرور قرن كامل لاحتلالنا للجزائر فحسب، لأن مائة سنة لا قيمة لها في عمر الأمم، فقد بقي الرومان في هذه البلاد عدّة قرون ثم ذهبوا، وبقي العرب في إسبانيا سبعة قرون ثم ذهبوا أيضًا، ولكننا أقمنا هذا الاحتفال لتشييع جنازة الإسلام في الجزائر، فكانت هذه الكلمة من فم هذا المستعمر الباغي كشعلة من النار في أنفس الوطنيين الأحرار، ألهبت فيهم الحماس ودفعتهم إلى توحيد الصفوف وتكتيل الجهود وتنظيم الأعمال لما يجب أن يعمل، ثم كانت لنا أخيرًا بمثابة النذير القوي لما يراد بالإسلام والعروبة في بلادنا العزيزة إن لم نقابل أعمال المستعمرين ومكرهم بأعمال إيجابية وطنية تحبط كل ما يبيّتون من نيات سيئة لهذا الوطن الإسلامي العزيز، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. فاجتمعت القلوب، وتجاوبت الأرواح، وتلاقت العواطف كلها على العمل والفداء والتضحية، وفي هذا الجوّ - أيها السادة- تكونت جمعية العلماء وبرزت للوجود لتحمل الراية، وتنشر لواء الكفاح الإسلامي بين المواطنين، ثم لِتَقِفَ حجر عثرة في طريق المستعمر، فتكون شجى في حلقه وغصّة في نفسه، وحارسًا قويًا على إسلام الجزائر وعروبتها وتاريخها المجيد من كل سوء وكل مكروه، وعلى ضوء هذا الاتجاه من الاستعمار في محاربة الإسلام في الجزائر، اتجهت أعمال جمعية العلماء إلى تقوية الإسلام في النفوس، وغرسه في القلوب، وطبع حياة الأمة كلها بطابعه، ونشر اللغة العربية بين مختلف طبقات الشعب، وبذلك أحبطنا ما كان يبنيه المستعمرون من آمال في كل من تشييع جنازة الإسلام وقبر اللغة العربية في الجزائر- لا قدّر الله- {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ائكَافِرُونَ}.
وقد أصبحت للجمعية الآن عشرات المدارس والنوادي ومراكز الوعظ والإرشاد في كل أنحاء الجزائر، كما أنَّ شُعَبَ الجمعية منتشرة في كامل القطر، وهي تقوم بمهمتها الإسلامية الوطنية بهمّة ونشاط، وللجمعية معهد ثانوي يضم بين جنباته الآن قرابة الألف طالب، يضارع أرقى المعاهد الثانوية المصرية، ومنه ترسل الجمعية بعثاتها إلى الشرق العربي، وإنّ(4/273)
إقبال الأمّة على بناء هذه المدارس الضخمة- أيها السادة- التي لا تقوم بها إلّا الحكومات، ليس معناه دليلًا على غنائها وسعة ثرائها لأنّ فرنسا لم تترك سبيلًا إلى إفقارها وسلب ثروتها منها إلا سلكته، ولكنه دليل على قوة إيمان هذه الأمّة وصلابة عقيدتها في الله وعظمة روحها المعنوية مما جعل كل المحاولات الاستعمارية الظالمة تتحطم على صخرة إيمانها العتيد، وتبوء بالتالي بالفشل الذريع.(4/274)
القدس وعمّان ودمشق
وبغداد ومصر
(من ديسمبر 1953 إلى أكتوبر 1954)
ــــــــــــــــــــــــــــــ(4/275)
رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي *
الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
يوجّه التعليم في خدمة العروبة والإسلام في الجزائر
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كان العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين من كبار المجاهدين الذين عملوا على حماية العروبة والإسلام في الجزائر، وكان له الفضل في تعريف المشرق العربي بكفاح الجزائر من أجل الحرية والاستقلال. كان لي شرف التعرّف عليه لأول مرة في باريس سنة 1951 حيث اجتمعت الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وقد وجدت فيه آنذاك ينبوعًا فيّاضًا من ينابيع العلم والإيمان وكان يترجم علمه وإيمانه إلى لغة الجهاد والعمل، وما زلت أتذكّر الخطاب الذي ألقاه في حفل أقمته على شرف نيل ليبيا للاستقلال في باريس في بداية سنة 1952 حيث قال ما مآله ان الجزائر سوف تلحق بجهادها شقيقاتها وسوف تظهر من البطولات وتقدم من التضحيات من أجل حريتها واستقلالها ما سيرفع رأس العروبة والإسلام عاليًا، ومن باريس توطدت بيني وبين العلّامة المجاهد صلة أخوية متينة فكنت أقوم باستقباله والحفاوة به في بغداد كلّما قدم إليها وصار يعتمد عليّ في العراق ويعتبرني كسفير لحركة الكفاح الجزائري لدى الحكومة العراقية، وهذا ما حاولت القيام به بكل همة وأمانة، وقد وجدت بين أوراقي هذه الرسالة الموجّهة إلي والتي تعتبر من جهاد العلّامة في سبيل حماية العروبة والإسلام في الجزائر عن طريق نشر التعليم والثقافة، وها أنا أقدّمها كوثيقة تاريخية تفسّر لنا نهضة الجزائر المباركة اليوم في حماية العروبة والإسلام.
الدكتور محمد فاضل الجمالي
__________
* مجلة "جوهر الإسلام"، السنة الرابعة، العدد 6، تونس، مارس 1972.(4/277)
بغداد في 6 كانون الثاني (جانفي) سنة 1954.
حضرة صاحب الفخامة الدكتور محمد فاضل الجمالي
رئيس الوزارة العراقية ورئيس مجلس الجامعة العربية في دورتها الحالية المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرجو من فخامتكم أن تقرأوا هذا البيان بإمعان وأن تعرضوه على مجلس الجامعة وأن تتولوا بيانه والدفاع عنه مشكورين.
كاتب هذا البيان إلى فخامتكم وإلى مجلس الجامعة الموقّر هو رسول أمة عربية مسلمة في الجزائر تعد أكثر من عشرة ملايين من النفوس وتجاهد الجهاد العنيف في سبيل عروبتها وإسلامها.
وهو قائد حركة ثقافية علمية أساسها العروبة والإسلام.
وهو رئيس جمعية منظّمة حقّقت في عقدين من السنين أشياء تعد من خوارق العادات في هذا العصر فشيّدت مائة وخمسين مدرسة ابتدائية عربية ومعهدًا ثانويًا فخمًا كامل الأدوات وعلمت مئات الآلاف من مجموع مليوني طفل محرومين من التعليم بجميع أنواعه، كل ذلك بمال طفيف تدفعه أمة فقيرة ولكن مؤمنة بمعاني الجهاد ونتائج الجهاد.
رسالتي التي أحملها من الأمة الجزائرية العربية إلى أخواتها العربيات في الشرق العربي هو شرح الحالة على حقيقتها وطلب النجدة السريعة بإعانات مالية تحفظ الموجود في الجزائر وتدفعه خطوات إلى الأمام وتعين هذه الجمعية على إكمال رسالتها التي لا تتم إلا بمئات أخرى من المدارس تستوعب أكبر عدد من الأطفال المحرومين الذين يريد لهم الاستعمار أن يبقوا مشرّدين، وبإيفاد مئات من الطلبة الحاصلين على الشهادة الابتدائية العربية إلى معاهد الشرق العربي ليكملوا دراساتهم فيها على نفقة حكوماتها وليرجعوا إلى أوطانهم معلّمين مجاهدين.
بلغت الرسالة على أكمل وجه وأدّيت الأمانة غير منقوصة وكرّرت وأعدت وكانت النتيجة أن استجابت معظم الحكومات العربية فقبلت أعدادًا محدودة من تلاميذ جمعية العلماء في معاهدها وعلى نفقتها.
وأنا مع شكري لهذه الحكومات فإنني ما زلت أطلب المزيد. ولو أن حكوماتنا العربية أنفقت على ألف تلميذ جزائري لما كان ذلك كثيرًا عليها ولا على الجزائر، ولو أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية أنفقت على ألف أخرى لما كان ذلك كثيرًا عليها ولا على الجزائر، وبرهان كلامي يتركّب من عدة مقدّمات يقينية يجب على كل عربي في الشرق أن(4/278)
يفهمها وأن يؤمن بها، لا سيّما الحكومات والساسة وقادة الرأي، وأنا كفيل بشرحها وبيانها لأنه من أصول رسالتي:
الأول: إن الشعب الجزائري مؤلف من عشرة ملايين وزيادة كلهم عرب أصلاء، وكلهم مسلمون متصلبون، والاستعمار الفرنسي عامل على مسخهم وإخراجهم من عروبتهم وإسلامهم، ولولا خصال فطرية في التصلّب والاعتزاز بجنسيتهم ودينهم وشرقيتهم، ولولا جمعية العلماء وجهادها عشر سنين في التمهيد وعشرين سنة في العمل لبلغ الاستعمار منهم ما أراده، ولو ضاعوا لكان ضياعهم مصيبة على المجموعة العربية لأنه نقص في رأس مالها من الرجال المتشددين في عروبتهم، والزمان زمان تكتّل وتكاثر في العدد ونحن نرى أقوياءه يتكاثرون بمن ليس منهم ولا تجمعه بهم جامعة، فكيف بالأخ الأقرب المشارك في الدم واللسان والخصائص الجنسية.
الثاني: إن جامعة الدول العربية ملزمة بروح ميثاقها العام أن تحرّر كل عربي على وجه الأرض بالمستطاع من وسائلها التدريجية، ولا نشك أن للشعب الجزائري مكانته في نفس الجامعة، وقيمته في تقدير الجامعة و"خانته" في برنامج الجامعة، فإذا كانت الجامعة لا تستطيع أن تحرّر القطر الجزائري كوطن فهي تستطيع أن تحرّر العقول والأفكار بالعلم والمعرفة من الجهل والضلال اللذين هما أساس الاستعمار. والجامعة أول من يعلم أن الشعب الذي لم تتحرّر عقوله وأفكاره من قيود الجهل والوهم يستحيل أن تتحرّر أبدانه أو يعسر أن تتحرّر، وقد هيأت جمعية العلماء هذا الشعب للاستقلال بما لقّنته من معاني الحياة الشريفة وبما بثّت فيه من معاني العروبة والوطنية والحرية وبما ربطته بالشرق ربطًا محكمًا، وهي تُرَبّيهِ لا على المطالبة بحقّه بل أخذ حقّه بيده، كل ذلك بالفعل الذي قامت عليه الشواهد لا بالأقوال الفارغة التي لا عليها شاهد، وان هذه الجمعية تعلم أن ركب العرب لا يُحْدَى إلا بلغة العرب، ولا يطرب إلا على أغاني العروبة، وتعلم أن قافلة الإسلام لا تهدى إلا بدلالة القرآن، وكل هذا فعلته جمعية العلماء وما زالت تفعله، وقد صحّت التجربة وصدقت النتيجة، وعلى هذا فلجامعة الدول العربية من جمعية العلماء الجزائريين سند قويم ودليل هاد ومعين أمين.
الثالث: ان الشعب الجزائري العربي غريب في وضعه لا يقاس بشعب ولا يقاس به شعب عربي آخر لأن لكل شعب من الشعوب العربية المستقلّة رأس مال من الحرية والحكم والمال ومواريث الأسلاف من مدارس ومساجد ومعاهد وأوقاف. تونس ومراكش المحيطتان بالجزائر ما يزال فيهما شيء من تلك المواريث، ففيهما المساجد الكثيرة الضخمة، فيهما بقية أوقاف دارة وفيهما صور من الحكم وأنواع من الوظائف العليا، وفي تونس جامعة الزيتونة ثانية الجامعات الإسلامية بعد الأزهر، وفي مراكش جامعة القرويين ثالثة الجامعات الإسلامية بعد الأزهر والزيتونة ولكل واحدة من الجامعتين ميزانية ضخمة من الأوقاف ومن(4/279)
الخزانة العامة، وكل واحدة منهما محفوظة ومسيّرة بميزانيتها القارة، أما الجزائر فلم يبق فيها أثر ولا عين من تلك المواريث، فالأوقاف الإسلامية العظيمة صادرها الاستعمار في السنة الأولى لاحتلاله والمساجد العظيمة صيّرها كنائس ومرافق عامة في السنوات العشر الأول انتقامًا من المقاومة التي كان يلقاها في الشعب الجزائري، وبقية المساجد هي ووظائفها تحت يده وسلطانه وهي كذلك إلى الآن وصيّر من وظائفها وسائل تجنّد للجوسسة، ومن رجالها ألسنة للتسبيح بحمد فرنسا، حتى يكون المسلمون بعضهم لبعض عدوًا، وهم الآن حرب على التعليم العربي وعلى جميع الحركات المناهضة لفرنسا وفي مقدمتها جمعية العلماء، وفرنسا ترصد مئات الملايين من ميزانيتها لحرب العربية والإسلام في الجزائر، وتجنّد الآلاف من أذنابها لمقاومتها والتزهيد فيها.
وفي هذا التصوير، وهو قليل من كثير، تتضح عظمة الأعمال التي قامت بها جمعية العلماء الجزائريين وفي وسط هذه الظلمات المعكرة بالظلم والجهل والفقر، وان جمعية توجد شيئًا من لا شيء لحقيقة بالتقدير والإعانة العملية ... ان جمعية تشيد مائة وخمسين مدرسة ابتدائية وتعمرها بنحو خمسين ألف تلميذ من بنين وبنات يدرسون العربية والإسلام ثم تنشئ معهدًا ثانويًا يحتوي على ألف وخمسمائة تلميذ وتشيد سبعين مسجدًا لإقامة الشعائر الإسلامية، وتؤسّس مائة ناد وزيادة للمحاضرات العلمية والاجتماعية، وتنظّم البرامج الفعّالة لمكافحة الأمية ثم تمدّ نظرها إلى ما هو أعظم من ذلك، فهي عازمة مصمّمة إن تيسّرت لها الوسائل المادية أن تشيد ألف مدرسة تستوعب مئات الآلاف من الأطفال المشرّدين، وهذا المقدار من المدارس هو القدر الضروري الذي يفتقر إليه الشعب الجزائري ويستتبع ذلك عدة معاهد ثانوية ينتقل إليها الآلاف من المحصلين على الشهادة الابتدائية وعدة معاهد لتخريج المعلمين لهذا الجيش الجرّار من المتعلمين. كل هذا من الآمال التي تسعى جمعية العلماء لتحقيقها، وان جمعية تعمل مثل تلك الأعمال وتأمل مثل هذه الآمال لحقيقة بأن يؤخذ بيدها وأن تعان على تثبيت أعمالها وتحقيق آمالها.
وهذا مجمل من حقيقة هذه الجمعية كنت قدمت تفصيله في مذكّرتين للأمانة العامة لجامعة الدول العربية من نحو سنة مضت، كما بيّنته أبلغ بيان لإخواني العرب شعوبًا وحكومات في هذه الرحلة التي استغرقت من وقتي ما يقرب من السنتين، وقد برأت بهذا التبليغ إلى الله وإلى التاريخ وإلى ضميري وأمانتي، ولم يبق إلا واجب الإخوان لإخوانهم، وقد بدأت بوادره في هذه العشرات من الطلّاب الذين قبلتهم الحكومات العربية في معاهدها على نفقتها وفي مبلغ مائة وعشرين جنيهًا مصريًا قرّرته الأمانة العامة إعانة لمكتب جمعية العلماء في القاهرة، وذلك المكتب الذي أسّسته ليكون واسطة بين الشرق العربي وغربه، وسفيرًا أمينًا بين الجزائر وأخواتها العربيات شعوبًا وحكومات.(4/280)
أنا راجع إلى الجزائر بعد مدة تطول أو تقصر ... راجع إلى ميدان جهادي وأعمالي وهو الميدان الذي يعزّ علي أن أفارقه، وأتمنّى أن أموت فيه إن شاء الله مقبلًا غير مدبر ... وآكد أمل يعمر خاطري أن يفهم إخواننا العرب شعوبًا وحكومات حقيقتنا كما هي كأنهم يرونها بأعينهم، وأن يتبيّنوا أعمالنا وآمالنا، فيكون سرورهم بالأعمال مدعاة لإعانتنا على تحقيق الآمال، فإذا فهمونا على حقيقتنا علموا أن هذا الشعب المجاهد لا زال في حاجة إلى مئات من المدارس الابتدائية تنقذ ذلك العدد المعرض للكفر والاستعجام من أبنائه، وما زال مفتقرًا إلى عدد من المدارس الثانوية ترضي رغبات الآلاف من الحاملين للشهادة الابتدائية، وما زال في حاجة إلى عدة معاهد من صنف دور المعلمين.
وليس كثيرًا على جامعة الدول العربية أن تبني باسمها وبمالها دارًا للمعلّمين وأخرى للمعلّمات في الجزائر ومعهدًا ثانويًا أو معهدين تخفيفًا للعبء الثقيل الذي تحمله جمعية العلماء والأمة من ورائها.
وليس كثيرًا على الحكومات العربية أن تعلم في معاهدها وعلى نفقتها بضع مئات من أبناء الجزائر ليصبحوا معلّمين لأبناء شعبهم ورسل ثقافة بين المشرق العربي والمغرب العربي.
إن مكتب جمعية العلماء بالقاهرة هو جمعية العلماء ممثلة في القاهرة، فهو لسانها الناطق بأعمالها، المصوّر لحقيقتها وأمانيها، وهو السفير الأمين بين الشعب الجزائري وبين الشرق العربي كله، وهو المبلغ الصادق بين الطرفين، وهو الذي يشرف على هذه البعثات الرسمية المنظّمة مهما كثر عددها، وهو متحمّل في هذا السبيل لأعباء لا قبل له بها ولكنها واجبات، وهو في هذا اليوم مسؤول عن نفقات عشرات من الطلّاب لم يلتحقوا بالهيئات الرسمية، وهو كأصله لا ينفق فلسًا من المال ولا دقيقة من الوقت في الشخصيات، وانه منفق كل جهوده في نفع المجموع الجزائري، وهو يمد رجله على قدر الكساء فإن وجد السعة توسّع في البعوث.
أيها الإخوان: إنني أعتقد أنني لا أملك إلا التبليغ وقد بلّغت، ولا أستطيع إلا الإفهام وقد أفهمت، ولي من خصائص العروبة حظ في البيان وقد بيّنت، ولي من حقيقة العالم المسلم النصح وقد نصحت، فاللهمّ اشهد.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين(4/281)
أضعنا فلسطين *
دعاة الحركة الإسلامية يقولون:
____
دعت جمعية الأخوة الإسلامية الشعب العراقي الكريم إلى الحفلة الخطابية التي أقامتها في جامع الإمام الأعظم احتفاءً بضيوف العراق الكرام سماحة العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس علماء الجزائر، وفضيلة المجاهد الكبير الأستاذ الفضيل الورتلاني وفضيلة الأستاذ السيد مجتى نواب صفوي زعيم جمعية فدائيان إسلام، وما إن أزفت الساعة السابعة من مساء الخميس 7 - 1 حتى غصّ الجامع والفناء على سعتهما بالحاضرين وأعلن عن ابتداء الحفلة فافتتحت بخير ما يفتتح اجتماع مبارك بآيات من الذكر الحكيم، ثم نهض فضيلة الأستاذ محمد محمود الصوّاف وألقى كلمة ترحيبية بالضيوف المجاهدين وقال: وما هذا الاجتماع المبارك إلا ثمرة من ثمرات المؤتمر الإسلامي، وكانت كلمة بليغة عبّر فيها عن مشاعر المسلمين الذين يتحرّقون أسى على ما وصلت إليه حالة العالم الإسلامي وخاصة فلسطين.
ثم قدّم سماحة الحبر الجزائري العلّامة محمد البشير الإبراهيمي فألقى كلمة بليغة استهلّها بحمد الله والشكر ثم حيّا المسلمين جميعًا وقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إن معرفة كارثة فلسطين لا تعدو أن تكون أسئلة وأجوبة، فإن استطعنا أن نعرف الأجوبة استطعنا أن نعرف الداء ثم نعالجه ...
أما السؤال الأول فهو: هل أضعنا فلسطين؟
الجواب: نعم.
السؤال الثاني: هل أعطيناها أم أخذوها منّا؟
الجواب: أعطيناها نحن ...
__________
* مجلة "الأخوة الإسلامية"، السنة الثانية، العدد الرابع، بغداد، 30 جمادى الأولى 1373هـ الموافق لـ 5 فيفرى 1954م.(4/282)
السؤال الثالث: هل يمكن استرجاعها؟
الجواب: يمكن استرجاعها ...
ثم قال: بماذا أضعنا فلسطين؟
الجواب: أضعناها بالكلام.
فقد كان الشعراء ينظمون القصائد الطويلة العريضة في مديح العرب وتسفيل اليهود، والكتّاب يكتبون والساسة يصرّحون. فبين النظم والتصريح والكتابة والخطابة ضاعت فلسطين ...
ثم قال: الرجل البطل يعمل كثيرًا ولا يقول شيئًا ...(4/283)
الصراع بين الإسلام وأعدائه *
الصراع بين الحق والباطل قديم، كان منذ خلق الله البشر وجعل للأهواء حظًا من السلطان على نفوسهم. ومن فروع هذا الصراع، الصراع بين الإسلام والكفر، فقد صرع الإسلام في عنفوان قوّته السماوية الأولى كل ما كان قائمًا من الأديان والنحل الباطلة ومزّق بنوره وبرهانه الضلالات التي كانت مغطّية على العقول حتى استقرّ في قراره من النفوس والأقطار وضرب بجرّانه في القطعة العامرة من أرض الله.
وأصبح برهانه لائحًا وبيّناته واضحة وقوّته غالبة فإما مسلم وإما ملق بالسلم، ومن كلمته العالية أنه جعل فريضة الدعوة إليه كلمة باقية في أهله تتوجّه إلى الضال ليهتدي وإلى المهتدي كي لا يضل.
فلما ضعفت الدعوة إلى الإسلام في المسلمين بما شاب هدايتهم من ضلال وما خالط عزائمهم من وهن، ثم تلاشت بتفرّقهم فيه واشتغالهم بالجدل الداخلي وغفلتهم عن فوائد الدعوة فيهم وفي غيرهم وبعدهم عن منبع هدايته الأولى هاجت عليهم دعايات الأديان الأخرى وما تفرّع عنها من مذاهب مادية تغري بالمادة وتؤلّهها ومن مذاهب فكرية تغري الفكر المسلم بالمروق من الدين وخلع ربقته ثم تشعّبت هذه المذاهب الفكرية إلى شعبتين: واحدة تسعى سعيها وتبذل وسائلها لفتنة المسلم عن دينه وإدخاله في دين آخر، وهذه الشعبة تجعل هدفها أطفال المسلمين الأحداث والأخرى تريد المسلم أن يخرج من الإسلام إلى الإلحاد المحض الذي يكفر بالأديان كلها، وهذه الشعبة تجعل هدفها شباب المسلمين لما يصحب الشباب من قوّة الإحساس وسرعة التأثّر وتأجّج العاطفة والميل إلى الانطلاق.
__________
* مجلة "الأخوة الإسلامية"، العدد العاشر، السنة الثانية، بغداد، 1 شوّال 1373هـ الموافق 2 جوان 1954م.(4/284)
والشعبتان معًا تلتقيان عند غاية واحدة هي فصل المسلمين وهم قوة في العدد عن دينهم وهو مناط قوّتهم الروحية ليتم للقائمين على الشعبتين استعباد أبدان المسلمين واستغلال خيرات أوطانهم. ومن ظن من عقلاء المسلمين وعلمائهم أن هذه الحملة عليهم وعلى دينهم ليستْ مدبرة وليست منظّمة وليست متعاونة متساندة وليست مرصدة لوقتها ورامية إلى هذا الهدف، من ظنّ هذا فأقل درجته أنه مغفل جاهل مغرور.
ولو حافظ المسلمون على فريضة الدعوة في دينهم وكانت لهم دعاية منظمة يمدّها الأغنياء بالمال والعقلاء بالرأي والعلماء بالبرهان المثبت للحقائق الإسلامية وبالتوجيه لغاية الغايات فيه وهي إسعاد الانسانية وتحقيق السلام بين البشر والقضاء على الطغيان والعدوان والظلم، وإقامة العدل بين الناس ونشر المحبة بينهم، لو فعلوا ذلك وحافظوا عليه في كل أطوار الزمن لكانوا اليوم فيصلًا بين الكتلتين المتطاحنتين وحاجزًا حصينًا بين البشرية وبين الكارثة المتوقعة التي لا تبقي على بر ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر، بل إنني أعتقد اعتقادًا جازمًا انه لو كان للإسلام دعاة فاهمون لحقيقة الإسلام محسنون للإبانة عنها ولعرضها على العقول لرجعت إليه هذه الأمم الحائرة في هذا العصر، الثائرة على أديانه وقوانينه وأوضاعه لأن أديانه لم تحفظ لهم الاستقرار النفسي والطمأنينة الروحية، ولأن قوانينه الوضعية لم تضمن لهم المصالح المادية ولم تقم الموازين القسط بين طبقاتهم، ولأن الأوضاع العامة لم تحقن دماءهم ولم تغرس المحبة بينهم، فهم لذلك تائهون متطلعون إلى حال تغيّر هذه الأحوال، وفي الإسلام ما يقوم بذلك كله ويرجع بالناس إليه وإلى اختياره حكمًا ترضى حكومته لو وجد من يدعو إليه على بصيرة ويبيّن حقائقه ويحسن عرضها على العقول ببرهان الواقع والمعقول.
لم يمضِ على المسلمين في تاريخهم الطويل عهد كهذا العهد في قعودهم عن الدعوة إلى دينهم وفي هجوم الدعاية الأجنبية عليهم والقضيتان متلازمتان في الطباع البشرية الغالبة وفي طبيعة الاجتماع الذي هو أملك لأحوالهم.
فمن سننه أن من لم يدافع دوفع وأن من لم يهاجم هوجم وأن من سكت على الحق أنطق غيره بالباطل، ولم يَمْضِ عليهم زمن تألّبت فيه قوى الشرّ عليهم وتألّفت جنوده على ما بينها من دعوات ومناقضات كما تألّبت في هذا الزمن، فالأديان كاليهودية والمسيحية الغربية الاستعمارية والبوذية والوثنية بجميع ألوانها والمذاهب الاجتماعية المادية كلها أصبحت أَئبًا على المسلمين والإسلام، متداعية إلى ذلك عن قصد واتفاق صادرة في ذلك عن عهد وميثاق يسند بعضها بعضًا ويقرض بعضها بعضًا العون والتأييد، وأن العقلاء من هذه الأمم المتعاونة على حرب الإسلام مسوقون بأيدي الساسة الطامعين والقساوسة المتعصّبين والملاحدة المستهترين حتى أصبح باطن أمرهم كظاهره وهو أنهم قوة متحدة لحرب الإسلام(4/285)
يشارك فيها ذو الدين بدينه وذو المال بماله وذو العقل بعقله. ويشارك فيها الساكت بسكوته ... لا نلوم هؤلاء الأقوام على ما يسرون من عداوة الإسلام وما يعلنون ولا على ما صنعوا بأهله وما يصنعون، فما اللوم برادّهم على ما هم ماضون فيه بعد أن ابتلوا سرائرنا وامتحنوا ضمائرنا، فوجدوها عورات ومنافذ خالية من الحراسة التي يعرفونها عنّا، ومن المناعة التي يتوقّعونها منَّا فسدّدوا الغارة على ديارنا فاكتسحوها، وشدّدوا الحملة على خيرات أوطاننا فاستباحوها، ثم شنّوا غارة أفجر وأنكر على عقولنا ليمسخوها، إذ بذلك وحده يضمنون التمتعّ بخيراتنا والتلذذ باستعبادنا.
لا نلومهم على ذلك، فما منهم إلا موتور من هذا الإسلام في ماضيه وأحد أطوار تاريخه فهو حاقد عليه يتخيّل في شبحه مفوّتًا للعز والسلطان، ومقيّدًا للشهوات في اتّباع الشيطان، أو مانعًا من الانطلاق الحيواني في بغي الإنسان على الإنسان، وما ينقمون من الإسلام إلا أنه يقيّد الغريزة الحيوانية عن الظلم والتسلّط والشهوة ويفيض عليها من النور السماوي ما يرفعها إلى أفق أسمى، وهم بعد ذلك عمون عما وراء ذلك الذي ينقمونه من خير في الإسلام ونفع، ولا نملك لهم أن يهتدوا إلى ما في الإسلام من عز بالله وعدل في أحكامه بين عباده رحمة بهم وإحسانًا وإلى ما فيه من انطلاق ولكن إلى الآفاق العليا الملكية.
إنما نلوم أنفسنا ونلوم قومنا على التفريط والإضاعة وعلى إهمال الدعوة لدينهم والعرض لجماله ومحاسنه وعلى التخاذل في وجه هذه القوة المتألبة المتكالبة عليهم وعلى دينهم حتى أصبح سكوتنا وإهمالنا عونًا لها على هدم ديننا ومحو فضائلنا والقضاء على مقوّماتنا، فأغنياؤنا ممسكون عن البذل في سبيل الدعوة إلى دينهم، وكأن الأمر لا يعنيهم وكأن الدين ليس دينهم، وكأنهم لا يعلمون أن هذا التكالب إن استمرّ لا يبقي لهم عرضًا ولا مالًا ولا متاعًا، وقد بلغت الغفلة ببعضهم أن يعين الجمعيات التبشيرية المسيحية بماله وكأنه يقلّد عدوّه سلاحًا قتّالًا يقتل به دينه وقومه، ولم يبق عليه من فضائح الجهل إلا أن يقول لعدوّه اقتلنى به. إننا لا نكون مسلمين حقًا ولا نستطيع أن ندفع هذه الجيوش المغيرة علينا وعلى ديننا تارة باسم العلم وتارة باسم الخير والإحسان وأخرى باسم الرحمة بالإنسان إلا إذا علمنا ما يراد بنا وفقهنا الغايات لهذه الغارات وتحديناها بجميع قوانا المعنوية والمادية وحشدها في ميدان واحد هو ميدان الدفاع عن حياتنا الروحية والمادية، ولا يتم لهذا الشأن تمام إلا إذا أقمنا الدعوة إلى الله وإلى دينه الإسلام على أساس قوي من أحجار العالم الربّاني والخطيب الذي يتكلم بقلبه لا بلسانه والكاتب الذي يكتب بقلمه ما يمليه عقله والغني المستهين بماله في سبيل دينه، ثم وجّهنا هذه الدعوة إلى القريب قبل الغريب، إلى المسلم الضالّ قبل الأجنبي، فإذا فعلت الدعوة فعلها في نفوس المسلمين وأرجعتهم إلى ربّهم فاتصلوا به فتمسّكوا بكتابه وهدي نبيّه وتمجّدوا بتاريخه وأمجاده وفضائله ولسانه كنا قلّدناهم سلاحًا لا(4/286)
يفلّ وأسبغنا عليهم حصانة روحية لا تؤثر عليها هذه الدعايات المضللة وحصانة أخرى مادية ملازمة لها لا تهزمها الجموع المجمعة ولو كان بعضها لبعض ظهيرًا.
المسلمون في حاجة أكيدة إلى دعاية داخلية تهدي ضالهم وتصلح فاسدهم تبتدئ من البيت وتجاوزه إلى الجار والقرية حتى تنتظم المجتمع كله. فإذا عمرت القلوب والبيوت والمجتمعات بمعاني الإسلام الصحيحة أعطت ثمراتها الصحيحة وجاء نصر الله والفتح ربطًا للوعد بالإنجاز ووصولًا إلى الحقيقة على المجاز، ويومئذ تزول هذه الفوارق البغيضة من تلقاء نفسها، فلا مذهب إلا مذهب الحق ولا طريقة إلا طريق القرآن ولا نزعة إلا نزعة المجد والسمو ولا عاطفة إلا عاطفة المحبة والخير ولا غاية إلا نشر السلام والطمأنينة في هذا العالم المضطرب.
لا يأس من روح الله ... فهذه مخايل نصر وهذه مبشرات القطر وهذه طلائع الزحوف الحاملة لراية الدعوة الإسلامية، وهؤلاء عصب من علماء الإسلام قائمون بإحياء هذه الفريضة بصدق وإخلاص وتضحية ومن ورائهم كتائب من شباب الإسلام تفتّحت بصائرهم على نوره يحملون ألسنة قوّالة للحق وعقولًا جوّالة في ميدان الحق وإن عددهم كل يوم لفي ازدياد، وإن نجاحهم فيما يمارسونه من الدعوة إلى الله لفي اطراد، فما على القاعدين إلا أن ينضمُّوا وما على الغافين إلا أن يهتموا ولا على المستيئسين إلا أن يستبشروا ويؤيّدوا وما على الغافلين عن ذاك الشر المستطير إلا أن ينتبهوا إلى هذا الخير فيعملوا على نمائه وبقائه، وإن أثمن هدية يقدّمها المسلم إلى هؤلاء الدعاة هي الاهتداء إلى الحق والاقتداء بأهل الحق.(4/287)
معنى الصوم *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
للإسلام في كل عبادة من عباداته حكم تستجليها العقول على قدر استعدادها، فمنها حكم ظاهرة يدركها العقل الواعي بسهولة، ومنها حكم خفية، يفتقر العقل في اجتلائها إلى فضل تأمل وجولان فكر.
ولكلّ عبادة في الإسلام تؤدّى على وجهها المشروع وبمعناها الحقيقي آثار في النفوس تختلف باختلاف العابدين في صدق التوجّه واستجماع الخواطر واستحضار العلاقة بالمعبود، والغرض الأخصّ للإسلام في عباداته التي شرعها، وهو تزكية النفس وتصفيتها من شوائب الحيوانية الملازمة لها من أصل الجبلة وترقيتها للمنازل الإنسانية الكاملة، وتغذيتها بالمعاني السماوية الطاهرة، وفتح الطريق أمامها للملإ الأعلى، لأن الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه كائن وسط ذو قابلية للصفاء الملكي والكدر الحيواني، وذو تركيب يجمع حمأ الأرض وإشراق السماء، وقد أوتي العقل والإرادة والتمييز ليسعد في الحياتين المنظورة والمذخورة، أو يشقى فيهما، امتحانًا للعقل من خالق العقل والمنعم به، ليظهر مزية العاقل على غير العاقل من المخلوقات. والعبادات إذا لم تعط آثارها في أعمال الإنسان الظاهرة، فهي عبادة مدخولة أو جسم بلا روح.
والصوم في الإسلام عبادة سلبية، بمعنى أنها إمساك مطلق عن عدة شهوات نفسية في اليوم كله لمدة شهر معيّن، فليس فيها عمل ظاهر للجوارح كأعمال الصلاة وأعمال الحج مثلًا، ولكن آثار الصوم في النفوس جليلة، وفيه من الحكم أنه قمع للقوى الشهوانية في الإنسان، وأنه تنمية للإرادة وتدريب على التحكم في نوازع النفس، وهو في جملته امتحان سنوي يؤدّيه المسلم بين يدي ربّه، والنجاح في هذا الامتحان يكون بأداء الصوم على وجهه
__________
* حديث في إذاعة بغداد، ماي 1954.(4/288)
الكامل المشروع، ولكن درجة النجاح لا يعلمها إلا الله لتوقف الأمر فيه على أشياء خفية لا تظهر للناس، ومنها الإخلاص، ولذا ورد في النصوص الدينية: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».
والصوم مشروع في جميع الأديان السماوية، وحكمته فيها واحدة، ولكن هيئاته وكيفياته تختلف، واختلاف المظاهر في العبادة الواحدة لا يقدح في اتحاد حقيقتها ولا في اتحاد حكمها، لأن المظاهر قشور والحقائق هي اللباب.
وهذا الإمساك يشمل في اعتبار الدين الكامل عدة أشياء جوهرية تمسك المسلمون بالظواهر منها كالإمساك عن شهوة البطن، وغفلوا عن غيرها وهي سر الصوم وجوهره وغايته المقصودة في تزكية النفس، وأهمّها الإمساك عن شهوة اللسان من اللغو والكذب والغيبة والنميمة، ومنها اطمئنان النفس وفرحها بالاتصال بالله، ومنها تعمير النهار كله بالأعمال الصالحة، ومنها الحرص على أداء العبادات الأخرى كالصلاة في مواقيتها، ومنها كثرة الإحسان إلى الفقراء والبائسين وإدخال السرور عليهم بجميع الوسائل، حتى يشترك الناس كلهم في الخير فتتقارب قلوبهم وتتعاون أنواع البر على تهذيب نفوسهم وتصفية صدورهم من عوامل الغل والبغضاء، وتثبيت ملكات الخير فيهم.
ومن المقاصد الإلهية البارزة في ناحية من نواحي الصوم أنه تجويع إلزامي، يذوق فيه ألم الجوع من لم يذقه طول عمره من المنعمين الواجدين، وفي ذلك من سر التربية ما هو معروف في أخذ الطفل بالشدة في بعض الأوقات، ومن لوازم هذا التجويع ترقيق العواطف وتهيئة صاحبها للإحسان إلى الفقراء المحرومين، فإن مَن لم يذق طعم الجوع لا يعرف حقيقة الجوع ولا يحسّ آثاره ولا يتصوّره تصوّرًا حقيقيًا، ولا يهزّه إذا ذكّر به، فالغي الذي لم يذق آلام الجوع طول عمره لا يتأثر إذا وقف أمامه سائل محروم يشكو الجوع ويصف آلامه ويطلب الإحسان بما يخفّف تلك الآلام، فيخاطبه وكأنما يخاطب صخرة صمّاء، لأنه يحدّثه بلغة الجوع، ولغة الجوع لا يفهمها المترفون المنعّمون وإنما يفهمها الجياع، فكيف نرجو من هذا الغي أن يتأثر وأن يهتزّ للإحسان، وهو لم يَجُع مرة واحدة في عمره، فهو لا يتصوّر ألم الجوع، ومن لم يتصوّر لم يصدق، ومن لم يحسّ بالألم لم يحسن إلى المتألمين. ولو أن المسلمين أقاموا سنة الإحسان التي أرشدهم إليها الصوم لم ينبت في أرضهم مبدأ من هذه المبادئ التي كفرت بالله وكانت شرًّا على الإنسانية.
وأنا فقد عافاني الله من وجع الأضراس طول عمري فانعدم إحساسي به، فكلما وصف لي الناس وجع الأضراس وشكوا آلامه المبرحة سخرت منهم وعددت الشكوى من ذلك نقيصة فيهم هلعًا أو خورًا أو ما شئت، وفي هذه الأيام غمزني ضرس من أضراسي غمزة(4/289)
مؤلمة أطارت صوابي، وأصبحت أؤمن بأن وجع الأضراس حق، وأنه فوق ما سمعت عنه، وأن شاكيه معذور جدير بالرثاء والتخفيف بكلّ ما يستطاع.
هذه هي القاعدة العامة في طبائع الناس، فأما الذي يحسن لأن الإحسان طبيعة قارة فيه، أو يحسن لأن الإحسان فضيلة وكفى، فهؤلاء شذوذ في القاعدة العامة.
وشهر الصوم في الإسلام هو مستشفى زماني تعالج فيه النفوس من النقائص التي تراكمت عليها في جميع الشهور من السنة، ومكّن لها الاسترسال في الشهوات التي يغري بها الإمكان والوُجْد، فيداويها هذا الشهر بالفطام والحِمْية والحيلولة بين الصائم وبين المراتع البهيمية، ولكن هذه الأشفية كلها لا تنفع إلا بالقصد والاعتدال.
لو اتّبع الناس أوامر ربّهم ووقفوا عند حدوده لصلحت الأرض وسعد من عليها، ولكنهم اتبعوا أهواءهم ففسدوا وأفسدوا في الأرض وشقوا وأشقوا الناس.
والسلام عليكم أيها الصائمون ورحمة الله وبركاته.(4/290)
أعيادنا بين العادة والعبادة *
كلمتا العادة والعيد تجتمعان في أصل الاشتقاق اللفظي وتلتقيان على الاشتراك في المعنى الوضعي، ولكن الإسلام حينما شرع عيديه العظيمين بين بناء مشروعيتهما على معانٍ دينية جليلة وأبقى اللفظ للدلالة على الزمن الموقّت لتلك المعاني كما هو شأنه في جميع حقائقه وأحكامه القدرية والتكليفية والكونية المشهودة والمغيبة، يدل عليها بمفردات وتراكيب عربية مما يعرف الناس ويبقي لها جزءًا من المعنى يتصل بالمعاني الدينية أي اتصال أو يكون جزءًا منها ثم يصرف بقية الأجزاء من المعاني إلى الغرض الديني الكامل حتى لا يكون اللفظ منقولًا من معنى قديم أفرغ منه إفراغًا إلى معنى جديد شحن به شحنًا. وما كاد الإسلام يظلّل العرب بلوائه حتى كانت للألفاظ التي تصرف في معانيها الوضعية بالتخصيص أو التعميم أو غيرها من وجوه التصرّف مفهومة لا يلتوي فيها ذهن ولا يجافيها إدراك، وانتقلت مع الإسلام إلى الأمم الأخرى فإذا اللغة العربية قائمة بهذا الدين كأنما أعدّت له إعدادًا ووضعت وضعًا أوليًا خاصًا لمعانيه الدينية الجديدة، وكانت بذلك أحسن مؤد لحقائقه وأعظم حامل لأسراره، ويتلطف علماء البيان حينما يسمّون هذا النوع من التصرّف "الحقائق الشرعية"، يقابلون به الحقائق الوضعية. وهنا يتجلّى لطف الله وسماحة دينه إذ لم يجعل للدين لغة خاصة وللدنيا أخرى، بل جعل لغة الدنيا هي لغة الدين مع أن لغة الدنيا لا تتسع- في العادة- لحمل الحقائق العليا كصفات الله ولا لوصف الغيبيات المطلقة كالعوالم الروحانية وما بعد الموت ودار الجزاء.
لم يبقَ من معنى كلمة العيد في الإسلام إلا أنه يعود في زمن مقدّر، أما ما عدا ذلك فصرفه إلى معانٍ دينية مما ينفع الناس، ففي العيدين المشروعين أحكام تقمع الهوى، من
__________
* مجلة "الأخوة الإسلامية"، العدد الحادي عشر، السنة الثانية، بغداد، 17 شوّال 1373هـ الموافق لـ 18 جوان 1954م.(4/291)
ورائها حكم تغذّي العقل، من تحتها أسرار تصفي النفس، من بين يديها ذكريات تثمر التأسي، في الحق والخير، وفي أطوائها عِبَر تجلي الحقائق وأمثلة عملية في الإحسان وتقوية ملكته وقواعد متينة في التربية الفاضلة وموازين تقيم المعدلة بين الأصناف المتفاوتة من البشر ومقاصد سديدة في حفظ الوحدة وإصلاح الشأن ودروس تطبيقية عالية في التضحية والإيثار والرحمة والمحبة، وهما مع ذلك كله ميدان استباق إلى الخيرات ومنافسة في المكرمات.
قرن الإسلام كل واحد من العيدين بشعيرة من شعائره العامة لها جلالها الخطير في الروحانيات، ولها خطرها الجليل في الاجتماعيات ولها ريحها الهابّة بالخير والبر والإحسان والرحمة، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية التي لا تكون الأمة أمة صالحة للوجود نافعة في الوجود إلا بها.
هاتان الشعيرتان هما شهر رمضان الذي جاء عيد الفطر مسك ختامه، وكلمة الشكر على تمامه، والحج الذي كان عيد الأضحى بعض أيامه، والظرف الموعي لمعظم أحكامه، وناهيك بالشعيرتين منزلة بين شعائر الإسلام. وإنهما مظهر الامتحان الذي هو أساس التكليف وان كليهما سوق امتيار يمتار منه الموفقون طرائف الخير والعاملون لله فيه بالصدق والوفاء، وما كل تاجر رابح، وما كل متجر ربيح وما كل بضاعة من أعمال العاملين تروج عنه الله، وان شر ما باء به تاجر في تجارة أن يجتمع عليه التعب والخسارة.
هذا الربط الإلهي بين العيدين وبين الشعيرتين كافٍ في الحكم عليهما وكاشف عن وجه الحقيقة فيهما، وأنهما عيدان دينيان بكل ما شرع فيهما من سنن حتى ما ندب إليه الدين وهو في ظاهر أمره دنيوي كالتجمّل والتحلّي والتعطّر والتوسعة على العيال وإلطاف الضيوف والمرح واختيار المناعم والأطايب واللهو، مما لا يخرج إلى حد السرف والتغالي والتفاخر المذموم.
فمن تحرّر المحاسن في الإسلام أن المباحات إذا حسنت فيها النية وأريد بها تحقيق حكمة الله أو شكر نعمته انقلبت قربات، إلى الغاية التي نطق بها الحديث الصحيح: «حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ».
كِلا طرفي العيد في معناه الإسلامي جلال وجمال، وتمام وكمال، وربط واتصال، وبشاشة تخالط القلوب، واطمئنان يلازم الجنوب، وبسط وانشراح، وهجر للهموم واطراح، وكأنه شباب وخطته النضرة، أو غصن عاوده الربيع فوخزته الخضرة. فلو وصف العيد نفسه وصف الخائل المزهو وخلع على نفسه كل ما انتهى إليه خيال الشعراء لكان مقصّرًا عن الغاية مما وصفه الإسلام به ولكان نازلًا عن المنزلة التي وضعه فيها، وليس السر في يومه الذي يبتدئ بطلوع شمس وينتهي بغروبها، وإنما السرّ فيما يعمر ذلك اليوم من أعمال، وما يغمره من إحسان وافضال، وما يغشى النفوس المستعدّة للخير فيه من سموّ وكمال.(4/292)