هذه أمهات المعاني التي تجهلها الأمة أو تغلط في فهمها وواجب المثقفين- بعد أن يستوثقوا منها بالمخالطة- أن يرفعوا عنها الجهل بها أو الغلط فيها. وكيف يكون ذلك؟ يكون بتنزل المثقف في مخاطبة العامي واستدراجه في كل اجتماع إلى بيان ما يجهله أو يغلط فيه، ويتخير لذلك المناسبات وأوقات الفراغ، وقد شاهدنا المثقفين إذا اجتمعوا بعوام الأمة وسمعوا سخافاتهم يقابلونهم بالضحك أو بالاحتقار، وهذه نقطة من نقط تضييع الواجب حيث يجب أداؤه. فما ضرهم- سامحهم الله- لو عملوا بما ذكرناه؟ إذا لقاموا بالواجب وأوصلوا للعامي خيرًا ما بعده خير وأحسنوا إليه إحسانا يستحقه.(2/130)
الدروس العلمية بتبسة*
بسم الله الرحمن الرّحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله.
الدروس العلمية بالجامع الأخضر وسيدي قموش وسيدي بومعزة بقسنطينة والآن بتبسة.
قسنطينة في 20 شوال 1362هـ / 19 أكتوير 1943م.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بيان من المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى الأمة الجزائرية الكريمة.
إن المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين المنعقد بمكتب الرئاسة بقسنطينة يوم 17 أكتوبر الحاضر، قد قرّر استمرار التعليم المسجدي الديني لتلامذة الجامع الأخضر بتبسة كالعادة الجارية في السنتين الماضيتين لدواع ضرورية قاهرة. وأسند- كالمعتاد- القيام بذلك التعليم إلى كفاءة الأستاذ النفّاع الشيخ العربي التبسي الكاتب العام لجمعية العلماء مع التنويه بذكره، والإفصاح عن شكره على ما قام به في السنتين الماضيتين من المواظبة على تلك الدروس النافعة لأبناء الأمة في دينهم ولغتهم، وما بذله من جهد وأظهره من حزم وعزم في استمرارها على أكمل وجه.
فالمجلس الإداري يعلن لشباب الأمة المتعطش إلى تلك الدروس الحية في علوم الدين ووسائله، المتشوّف إلى أوان افتتاحها وموسم أفراحها أن الشروع فيها سيكون- إن شاء الله- يوم 15 نوفمبر الآتي ضمن برنامج محكم مضبوط يقوم بتنفيذه الأستاذ العربي التبسي وجماعة من الاساتذة تحت إشرافه.
كما يعلن المجلس للأمة أنه كان حريصًا أشدّ الحرص على إرجاع تلك الدروس إلى قسنطينة- مهدها الأول ومركزها الأصلي- رفقًا بالطلبة وجمعًا لهم بين الغرض القريب.
__________
* من كتاب "نفح الأزهار عما في مدينة قسنطينة من الأخبار" للأستاذ سليمان الصيد، [ص:200].(2/131)
والسفر القاصد. ولكن المجلس نزل على حكم الضرورة فأخّر تنجيز هذه الرغبة إلى السنة الدراسية المقبلة، وهو يُعِدّ لذلك عدّته من الآن.
ويعلن للأمة أيضًا أن "صندوق الطلبة" بنظامه الخاص باق بقسنطينة بيد أمينه الحاج كرماني حموش بعنوانه المعروف، وتحت نظر لجنته الخاصة التي تديره، وأنه ما زال قائمًا بواجباته التي أنشئ لتحقيقها من كِراء المأوى للتلامذة وتوزيع الإعانات عليهم وصرف جرايات للأساتذة المعاونين للأستاذ التبسي. أما هو فلم يزل مُصرًا على التبرّع بأعماله خالصة لله وللعلم.
وإن لجنة الصندوق تجري على عاداتها في نشر حسابات السنة الماضية دخلًا وخرجًا على الأمة، وترفع رجاءها طالبة من المحسنين أن يكونوا في هذه السنة أندى يدًا وأسخى كفًّا منهم في السنوات الماضية، لأن دائرة الإنفاق قد اتّسعت ووجوهه قد تعددت، وحق التدارك لما فات في السنة الماضية قد وجب، وتوفير مبالغ الإعانة للطلبة قد تعين، وترقية المشروع من جميع جوانبه قد لزمت.
والمجلس الإداري يضم رجاءه إلى رجاء اللجنة ويهيب بالكرام الخيّرين- العارفين لقيمة هذا المشروع العلمي الجليل- أن لا تَهِنَ لهم همّة ولا تكز لهم يد في إمداده بالمال، وإنه إنما وسّع دائرته في هذه السنة اتكالًا على هِمَمهم التي كانت عونًا له في كل مشروع علمي، وتنشيطًا له دائمًا على المضي إلى الأمام في ترقية التعليم الديني العربي، وإن الله لمع المحسنين.
رئيس جمعية العلماء المسلمين
الجزائريين
محمد البشير الإبراهيمي(2/132)
تقرير إلى لجنة الإصلاحات الإسلامية بالجزائر*
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تتشرّف بحمل لواء الإصلاح الديني بالدعوة إلى نشره وتحقيقه، ذات برنامج عملي في تعليم الإسلام على حقيقته من أصليه- الكتاب والسنّة-، وفي نشر الفضائل الإسلامية والأخلاق القرآنية، وما يقتضيه ذلك من محاربة البدع والخرافات والجمود والرذائل والمحرّمات، وفي تعليم اللغة العربية الفصحى على أنها لغة الدين ومفتاحه، لا تفهم حقائقه وحكمه إلّا بها، وما يقتضيه ذلك من إحياء الآداب العربية الراقية، وهي دائبة في تنفيذ برنامجها بقدر ما يثسع له الإمكان ومغالبة العراقيل.
ومع أن دائرة أعمال الجمعية قاصرة على الدين والعربية، فإنّ لها في السياسة الإسلامية الجزائرية رأيًا مقررًا لم تضع له برنامجًا، ولم تصبغه بصبغة حزبية، وإنما هو ثمرة الصفات الثلاث التي تصف الجمعية بها نفسها وهي العلم والإسلام والجزائر، وطالما صرّح رجال الجمعية بهذا الرأي في خطبهم، ونشروه بأقلامهم، وذكروه في المناسبات لرجال الإدارة المسؤولين، حتى صارت الجمل المعبّرة عن ذلك الرأي كألفاظ القانون لا تحتمل غير معناها، وهذه الجمل هي: إن الأمّة الجزائرية أمة مسلمة عربية تربطها بالمسلمين رابطة الإسلام العامة، وتربطها بالعرب رابطة العروبة العامة، وتصلها بفرنسا صلة المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة، فيجب عليها بحكم دينها أن تَحْيَى مع كل من يساكنها حياة الإحسان والخير والرحمة، فتحسن وتطالب غيرها بالإحسان، وتبذل الخير والرحمة وتطالب غيرها بالخير والرحمة، فإذا قامت بواجب حيوي مشترك كان من الإنصاف لها أن تتمتع بالحقوق الحيوية المترتبة على ذلك الواجب، وأن تساوي غيرها في
__________
* استُدْعيَ الإمام من طرف لجنة الإصلاحات الإسلامية الجزائرية- التابعة للحكومة الفرنسية- للاستماع إلى رأيه، فتقدم بهذا التقرير يوم 6 محرم 1363 الموافق لِ 3 جانفي 1944.(2/133)
الحياة كما ساوته في الواجب، مع الاحتفاظ التام بمقوّماتها الطبيعية التي منها الإسلام والعروبة وعدم التنازل عن الشخصية التي هي بها أمة، وهذا هو ما تقتضيه قواعد الإنسانية وقوانين العدل والإنصاف.
وأنا بصفتي جزائريًا من حقّه الطبيعي أن يفكّر في الحالة التي عليها وطنه وأبناء وَطَنِه، ومن حقّه أن يبدي رأيه بكل صراحة في ما يجب أن يناله من الإصلاحات، وبصفتي عالمًا مسلمًا من واجبه أن يدافع عن الإسلام وأحكامه ولغة دينه، وأن يغضب لحظهما المغبون مع الإدارة الجزائرية الاستعمارية، وبصفتي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من واجبه أن يعبّر عن رأيها في المشكلات الإسلامية الجزائرية الخطيرة، ويشارك برأيه في ما يجب من الإصلاح السياسي والتعليمي إذْ هما أخوان للإصلاح الديني،- فبهذه الصفات الثلاث أقدم شكري للجنة المحترمة، لجنة الإصلاحات الجزائرية التي هيّأت لي الفرصة لإعلان رأيي بكل حرية في الإصلاحات التي تقتضي الظروف الإسراع بتنجيزها بكل إخلاص في مصلحة فرنسا وفي مصلحة الأمة الجزائرية الإسلامية معًا.
أصارح اللجنة المحترمة بأن كل ما فهمته إلى حدّ الآن من التصريحات الرسمية في هذه المسألة هو شيء مجمل لا يمكن معه تكوين رأي مفضل كامل يتناول من الإصلاحات أصولها وفروعها، إذْ مسألة الإصلاحات الإسلامية الجرائرية ليست من الأمور الهيّنة التي تحلّ بالعبارات المجملة والآراء المقتضبة.
وأصول هذه الإصلاحات الثلاث- وهي الإصلاح السياسي والإصلاح التعليمي والإصلاح الاقتصادي- لكل واحد منها فروع تحتاج إلى شرح وتفصيل، ومتى توفّر في الساعين فيها والقائمين على تنفيذها الإخلاص والإنصاف وبعد النظر سهل عليهم الوصول إلى نتيجة عاجلة وثمرة مرضية، وإذا رأت اللجنة المحترمة إجمالًا في رأيي فسببه الإجمال في الرسميات.
أنا أعتقد أن هناك أنواعًا من الإصلاحات تجب المبادرة بتنفيذها بصورة حازمة حاسمة، لأنها زيادة عن كونها معقولة في نفسها، لا يكثر حولها الجدل والاعتراض: وهى القضاء الإسلامي، والمساجد وأوقافها وموظفوها، والتعليم العربي الحرّ، وها هو رأيي مجملًا في الثلاثة:
أولًا- ـ[إصلاح القضاء الإسلامي]ـ: نرى أن مما تجب المبادرة به من الإصلاحات الخاصة إصلاح القضاء الإسلامي لأنه على غاية من الاختلال، لا من الجهة العملية ولا من الجهة العلمية، وان الأحوال الشخصية الإسلامية التي أعلن تصريح الجنرال "ديغول" المحافظة عليها وجعلها أساسًا للإصلاحات هي في الحقيقة والواقع لا وجود لها، أو هي بفعل القرارات أصبحت أمرًا وهميًا ولم يبق منها إلّا الخيال، لأنّ مظهرها العملي منحصر في النكاح والطلاق والميراث، وهي في الظاهر موكولة إلى قضاة مسلمين، ولكن أحكامهم(2/134)
قابلة للنقض حتى من قاضي الصلح، وهي في الظاهر أيضًا مستندة إلى الفقه الإسلامي، ولكنها في الواقع خاضعة لقرارات الوكيل العام تتصرف فيها وتوجّهها كما شاءت.
وهذا الخلل الفاحش في القضاء العملي ينضم إليه خلل أسوأ منه أثرًا في القضاء العلمي، وهو أن تعليم فقه المعاملات الإسلامية التي يتكوّن منها علم القضاء ناقص جدًا بل هو في حكم المعدوم، لأن برنامجه وأسلوب تعليمه لا يفيان بغرض ولا يوصلان المتعلّم إلى الكفاءة اللازمة، فكيف يجعل قضاء مثل هذا في الأحوال الشخصية أساسًا للإصلاحات وهو في نفسه فاسد يحتاج للإصلاح، وإصلاح هذا الخلل يكون بتوسيع برامج التعليم القضائي، وتكميلها بإتقان دراسة الأصول ومآخذ الأحكام وحكمة التشريع الإسلامي، والتوسّع في الغرض التطبيقي، وعدم الاقتصار على كتاب أو كتابين في الفقه، وإسناد وظائف التعليم القضائي إلى فقهاء أكفاء، يختارون الكتب ويقرّرون البرامج، ويقومون بتنفيذها ويتدرّجون بالتلميذ إلى الكفاءة لا إلى الشهادة وحدها، ويجعلون للأخلاق والتربية حظًا من عنايتهم واجتهادهم.
فإذا أُجري الإصلاح على هذه الصورة من الآن رجونا أن يخرج لنا هذا التعليم قضاة أكفاء صالحين يتمّون إصلاح القضاء علميًا وعمليًا، كما أرى لزوم النظر من الآن في تشكيل مجلس قضائي إسلامي أعلى يتولّى- أو يستشار على الأقل- في تعيين القضاة وتعقب أحكامهم، وبهذا لا بغيره يتحقق الإصلاح العملي للقضاء الإسلامي، ويخرج من الدائرة الضيّقة- دائرة الحجر والاختلال- إلى الدائرة الواسعة وهي دائرة التمكّن والاستقلال، أما إذا بقي الأمر على ما هو عليه فإن قانون الأحوال الشخصية اسم بلا مسمّى، وقشور بلا لباب، وهيهات أن يُبنى الإصلاح على أصل فاسد.
ثانيًا- ـ[مسألة التعليم العربي الحرّ]ـ: الموجود من التعليم العربي في المدارس الحكومية لا قيمة له، والموجود منه في المدارس الحرة مضغوط عليه إلى درجة الإزهاق، مطوق بالقرارات الإدارية الجائرة، وقد احتجّت الأمة العربية الجزائرية على هذه القرارات وأثبتت بالقول والفعل أنها متمسكة بلغتها التي هي ترجمان دينها وآدابها وماضيها، وأنه لا يصدّها عن هذا الحق الطبيعي إرهاق ولا تزهيد، فممّا يرضيها الآن أن تكون مسألة التعليم العربي في طليعة الإصلاحات، وأن تعطى الحرية المطلقة في تعليم أبنائها لغة دينهم وآدابهم، خصوصًا وهي في هذه الحالة لا تكلف الحكومة شيئًا من المال ولا غيره من التكاليف، بل هي مستعدّة في هذا السبيل بمالها ومعلّميها، وإنما تطلب لتحقيق هذا الإصلاح شيئًا واحدًا وهو إلغاء تلك القرارات القديمة وتلك التشديدات والعراقيل واستبدالها بحرية ثابتة صريحة مكفولة مع المراقبة القانونية.
ثالثًا- ـ[المساجد وموظفوها وأوقافها]ـ: النظام الذي تدير به الحكومة الجزائرية مساجد المسلمين، وتعيّن بمقتضاه الموظفين الدينيين، لا يوجد نظام مثله في شذوذه وبُعده عن(2/135)
أصول العدالة والحق، والأمة الإسلامية الجزائرية لا تجهل المعنى الذي يحمل الإدارة الجزائرية على التمسّك بإدارة المساجد واحتكار تعيين الموظفين الدينيين، مع مخالفتها الصريحة لقانون فصل الدين عن الحكومة، ولا يخفى عليها أن ذلك أسلوب من أساليب الإدارة الاستعمارية التي تسمّي معاكسة الإسلام محافظة على الإسلام.
والمساجد ملك للإسلام والمسلمين لا للحكومة، والمسلم الذي يصلّي في المسجد هو أعرف الناس بآداب المساجد، والمسلم الذي يُصِّلي وراء إمام هو الذي يعرف مَن يصلح للإمامة، فما معنى تدخّل الحكومة الفرنسية في دين قوم مسلمين؟ وما معنى فرض الحكومة على المسلم أن يصلّي وراء رجل تعيّنه هي؟ وما معنى أن تخترع حكومة لائكية كهنوتًا في دين ديموقراطي لا كهنوت فيه؟ فمن حق الأمة الإسلامية أن تُسلّم لها مساجدها، وُيوكّل إليها تعيين مَن تختاره من الأئمة والمؤذنين، وتنفيذ ذلك من أيسر الأمور، وذلك أن تتأسّس في كل قرية لها مسجد جمعية دينية تشرف على مسجدها، وتختار له من يعمره من إمام ومؤذّن وغيرهما، وأن تنتخب كل عمالة أو كل دائرة عدة أعضاء من جمعياتها الدينية يتكوّن من مجموعهم مجلس ديني أعلى يجتمع في العاصمة في أوقات معيّنة للنظر في مصالح المساجد العامة وموظّفيها، وهذا المجلس هو الذي يتفاهم مع الحكومة في مسألة ريع الأوقاف.
الإصلاح السياسي:
لعلّه ليس من غرض اللجنة المحترمة أن تسألني عن المسائل السابقة، فأكون قد تبرّعت ببيان رأيي مجملًا فيها، أما الإصلاح السياسي فهو المقصود بالسؤال بلا شك، لأن التصريحات الرسمية دائرة عليه، فأصارح اللجنة المحترمة للمرّة الثانية بما أعتقده الحق، وهو أن التصريح الرسمي بإدخال عشرات الآلاف من المسلمين الجزائريين في الجنسية الفرنسية، من غير استفتاء الأمة ولا مشورتها، قد أثار في أذهان الجمهور الأعظم من الأمة ذكرى شروع "فيوليت" الذي ثارت حوله عواصف من المناقشات بين الأمة وبين الدوائر الاستعمارية سنة 1936، ثم حكم عليه الزمن بالاندثار والموت لعدم صلاحيته، ونسيته الأمة حتى رأت صورته واضحة في ما يراد أن تبنى عليه الإصلاحات الجديدة. ونقول بكل صراحة إن هذا المشروع ليس مما يرضي الأمة الإسلامية الجزائرية التي لا تريد أن تكافأ اليوم بمشروع لم يف برغائبها سنة 1936، ولا تريد أن يحيا بعد أن حكم الدهر عليه بالموت، ولا تريد أن تُذكَّر به بعد أن نسيته غير آسفة عليه.
فمن الإنصاف لهذه الأمة المسلمة- بعدما سبق منها من إلحاح في المطالبة بحقها وبعدما قدمته من تضحيات من الأنفس ومن الأموال- أن تُعطى حقّها في الحرية والحياة كاملًا غير منقوص، كما أدّت واجبها كاملًا غير منقوص، وأن تُساوي غيرها في الحياة كما ساوته في الموت، وأن لا تُرغم على الدخول في الجنسية الفرنسية لا أفرادًا ولا جماعات.(2/136)
والأمة الإسلامية الجزائرية تعتقد أن إدخال طائفة منها في الجنسية الفرنسية هو خطوة إلى إدماجها في جنس غير جنسها، وهي لا ترضى بجنسها بدلًا ولا بدينها بديلًا، وتعتقد أن هذا الاندماج محو لشخصيتها العربية وذاتيتها الإسلامية، وأنه مخالف لسنّة الله الذي خلق الناس أجناسًا لكل جنس خصائص ومميزات، ومخالف لسنن الاجتماع البشري ومخالف للتاريخ وللاعتبارات الجغرافية المبنية عليه، ومخالف لمصلحة فرنسا نفسها التي جربت هذا الاندماج مع غيرنا فلم يأتها بالفائدة المطلوية.
إننا نرى أن المصلحة المشتركة بين جميع المتساكنين بالقطر الجزائري والنظر السديد في بناء مستقبله على أساس تؤمن معه غائلة استعمار جنس لجنس وامتياز عنصر علي عنصر واستعباد طائفة لطائفة، كل ذلك يقتضي بناء هيكل الإصلاح الجديد على الاسس الآتية:
أولًا: إنشاء جنسية جزائرية تشمل جميع الطوائف التي تعيش بهذا الوطن بغير تمييز بين أصولهم وأديانهم، يتساوون بموجبها في الحقوق والواجبات.
ثانًا: تستبدل جميع التشكيلات الاستعمارية بحكومة تسمّى "الحكومة الجزائرية" تكون مسؤولة أمام مجلس تشريعي جزائري (برلمان).
ثالثًا: الوظائف الإدارية تُعطى لجميع الجزائريين على أساس الكفاءة الشخصية.
رابعًا: تعتبر اللغة العربية لغةً رسمية في المعارف والإدارات بجانب اللغة الفرنسية.
خامسًا: يحفظ لأهل كل دين حقّهم في إقامة شعائر دينهم، وتصوفهم المطلق في معابدهم وأوقافهم بواسطة تشكيلات حرّة يرتضونها لأنفسهم.
سادسًا: الأحوال الشخصية للمسلمين خاصة، تجري على التفصيل السابق في إصلاح القضاء الإسلامي.
هذه آرائي التي أعتبرها بحق آراء الجمهور الأعظم من الأمة الإسلامية الجزائرية، أقدّمها للجنة المحترمة بكل إخلاص واحترام، وأنا أرجو لها توفيقًا ونجاحًا في أعمالها، وأن يتم على يديها ما فيه خير الجزائر وفرنسا معًا، وأتمنى أن توضع العلاقات الجزائرية الفرنسية على أساس متين من الثقة والتعاون الصادق.
الجزائر في 3 جانفي 1944.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين(2/137)
التقرير* الذي قدّمه مجلس إدارة
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
إلى الحكومة الجزائرية (1)
(بعد اجتماعه المنعقد في 5 أوت سنة 1944 في المسائل الدينية الثلاث: المساجد، التعليم، القضاء)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بحكم أمانة الدين وعهد الله، وشهادة الواقع تعتبر نفسها مسؤولة عند الله وأمام الأمّة الجزائرية عن الإسلام ومعابده وتعليمه ولغته وجميع شعائره الحقيقية وأحكامه القضائية.
وتعلم أن الحكم القاطع في الإسلام في مسألة المساجد هو أن التصرف فيها لجماعة المسلمين دون سواهم، وأن أئمة المساجد ومن جرى مجراهم يجب أن يكون أمرهم راجعًا إلى جماعة المسلمين دون سواهم في الاختيار والتولية والعزل والمراقبة وتقرير الجرايات، وما شرع الوقف الخيري في الإسلام إلا ليقوم بواجبات دينية واجتماعية أهمها هذه، فينفق منها على المساجد وعلى القائمين بها من غير احتياج إلى الخزينة العامة (بيت المال)، وعلى هذا الأساس تعتبر جمعية العلماء كل تدخل حكومي في هذه الأمور الدينية ظلمًا وتعديًا وهدمًا لمبدإ احترام الأديان وحرية الضمائر كيفما كان نوع الحكومة: لا دينيًا أو متدينًا بغير الإسلام.
وكما يعتبر الإسلام تدخل غير المسلم في شؤون الدين الإسلامي ظلمًا وتعديًا كذلك يعتبر تدخل المسلمين في شؤون الدين الموسوي أو العيسوي تعديًا وظلمًا، وعلى هذا المبدإ جرت الحكومات الإسلامية في التاريخ، فكانت تكل شؤون الأديان الأخرى إلى أربابها وإلى علمائها، وكانت مجالس الأحبار ومجالس الأساقفة هي التي تتحكم بكل حرية في المعابد وأوقافها وفي القضاة وأحكامهم، ولا يتدخل القضاء الإسلامي الأعلى في شيء من شؤونهم الدينية.
__________
* تقرير نشرته الجمعية، طبع بالمطبعة الجزائرية الإسلامية، أوت 1944، 26 صفحة حجم صغير.
1) الحكومة الجزائرية: الولاية العامة الفرنسية في الجزائر.(2/138)
هذه هي الحقيقة في النظر الإسلامي الذي لا يتغير بتغير النظريات الزمنية، وعلى هذا فالأمة الجزائرية المسلمة بواسطة علمائها هي صاحبة الحق المُطلَقِ دينًا وعقلًا وعرفًا معقولًا في إقامة دينها وادارة معاهده واختيار من يصلح لوظائفه من خطابة وامامة وقضاء وتعليم بما تقتضيه قواعد الدين، وتصح به عبادته وأحكامه، وبما أنها هي التي تصلي في المساجد فحقها الطبيعي المحعقول أن تختار من تقدمه للصلاة، كما أن من حقها الطبيي أيضًا أن تختار قضاتها الذين تضع في أيديهم ركنًا من أركانها الاجتماعية الخطيرة وهو النكاح، وركنًا من أركانها المالية الخطيرة وهو الميراث، وأن يكون لها من الإشراف على تعليمهم، ومن النظر في توليتهم وعزلهم، ما يمكنها من رقابتهم، وبضمن لها الانتفاع بهم وتحقق مصلحتها فيهم، وقيامهم بالعدل والإنصاف فيما يوكل إليهم على ما تقتضيه قواعد الدين.
وجمعية العلماء والأمة الإسلامية الجزائرية من ص ورائها يرون جميعًا بأعينهم ان الدينين المتجاورين مع الإسلام في قطر واحد يتمتع أهلوهما ومعابدهما بالحرية التامة والاستقلال الكامل دون المسلمين ودينهم ومعابدهم، فتكون هذه الحقيقة المحسوسة، اعتقادًا جازمًا في قلب كل مسلم بأن هذا ظلم من أقبح الظلم، وتعد على الإسلام من أقبح أنواع التعدي، واحتقار للمسلمين من أقبح أنواع الاحتقار، وإذا كان هناك ما هو أقبح منه فهو غضب الإدارة الجزائرية على كل من يشرحه بلسانه أو يطالب بالعدلما فيه، وهنا تقدم جميعة العلماء التي يفرض عليها الدين أن تقول كلمة الحق بعد اعتقاده، فتعبر بلسان الأمة جمعاء بهذه الحقائق التي أشرنا إليها وخلاصتها أنه:
"ليس من العدل ولا من الحق أن تتدخل الإدارة الجزائرية في شؤون الدين الإسلامي وانما الحق في ذلك للمسلمين وحدهم، لأن الإسلام يفرض عليهم القيام بذلك ".
ثم تبسط الجمعية للحكومة الجزائرية النقط الآتية مبينة رأيها فيها بكل حرية وكل إخلاص، معلنة أن أول نقطة يجب أن يفمها الطرفان على حقيقتها- إذ على فهمها يتوقف حل الاشكال- هي أن الدين هو ما يفهمها علماء الدين، لا ما يفهمه عامة المسلمين الجاهلة ولا ما تفهمه الإدارة بواسطة أعوانها الجاهلين أو الخادمين لأغراضهم الخاصة.
واذا كان المرجوع إليه في شؤون الدينين الموسوي والعيسوي هو احبار الأول وأساقفة الثاني وهم أحرار في معايشهم، فلماذا يذاد علماء الإسلام الأحرار في معايشهم عن هذا الحق؟ ولماذا يرجع فيه إلى غير أهله أو إلى بعض أهله المرتبطين مع الحكومة برباط المصلحة الشخصية؟ - وإذا قلنا علماء الإسلام فإنما نعني كل عالم فقيه بحقائق الكتاب والسنة. إذ هما منبع الإسلام- عالم بتاريخ الإسلام العملي عامل فيما يصلح المسلمين من(2/139)
هديه وآدابه، وإن جمعية العلماء لا تحتكر هذا الحق لنفسها، وإنما تزن الأمور بالواء المشهود، وهو أنها هي الهيأة الدينية الوحيدة التي قامت بشرائط الإسلام، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعاهدت الله على الدفاع عن عقائد الإسلام بالبرهان، وعن حقائق الإسلام بالعلم، وعن شعائر الإسلام بالعمل، ووقفت المواقف الثابتة في ذلك كله. لياذا كانت الجمعية قد لقيت في تاريخها خلافًا مع بعض الأشخاص أو الهيآت الإسلامية فما ذلك بخلاف في الدين، وما ذلك بخلاف بين دينين، وإنما هو خلاف بين العلم والجهل، وإنما هو خلاف داخلي لو لم يلق تشجيعًا من خصوم الجمعية لرجع المخالفون مسلمين لأن الرجوع إلى الحق فريضة إسلامية، ولأن الحق في الإسلام واحد لا يتعدد.
مقاصد الجمعية ترجع إلى ثلاث نقط هي:
1 - المساجد وموظفوها وأوقافها
2 - التعليم العربي ومدارسه ومعلموه
3 - القضاء الإسلامي وتعليمه ورجاله.
المساجد وأوقافها:
تمهيد: كانت الحكومة الفرنسية لأول عهدها باحتلال الجزائر وضعت يدها على مساجد المسلمين وأوقافهم، ووضعت سلطتها على أئِمة المساجد وموظفيها باسم نظام جائر زينته للناس بعهود كتابية ووعود شفاهية صدرت من بعض رجالها العسكريين والمدنيين، مضمونها أنها تحترم الإسلام ومعابده وشعائره وقد حكم التاريخ على تلك العهود والوعود، وبَيَّنَ قيمتها للناس أجمعين.
فهذا هو الدور الأول
ثم جاءت الجمهورية الثالثة فكانت قواعدها الكلمات الثلاث:
الحرية، الأخوة، المساواة
وكان من أصولها فصل الدين عن الحكم ليكون ذلك محققًا للكلمات الثلاث، وكان من مقتضى ذلك الفصل أن يكون عامًا لجميع الأديان، وفي جميع الأقطار التي تخضع للسلطة الفرنسية، وإن يكون قاضيًا على النظام الخاص بالإسلام في الجزائر، ولكن شيئًا من ذلك لم يقع، وبقي الإسلام ومعابده في الجزائر لا تحظى باحترام كما شرطته العهود والوعود، ولا تحظى بانفصال عن الحكومة كما قررته أصول الجمهورية.(2/140)
وهذا هو الدور الثاني
ثم جاء قانون 27 سبتمبر 1907 فكانت فصوله صريحة في فصل الدين عن الحكومة وفي إعطاء الناس حرياتهم كاملة في كل ما يتعلق بدياناتهم، وفهم الناس جميعًا أن ذلك القانون إنما يعني المسلمين دون غيرهم أو قبل غيرهم، لأنهم هم الذين كانوا محرومين من تلك الحرية، ولكن الواقع، بعد ذلك، أن ذلك القانون لم ينفذ منه ولا حرف فيما يتعلّق بالدين الإسلامي، وبقيت الإدارة الجزائرية تتصرّف في المساجد وأوقافها وموظفيها، وتقبض بيد من حديد على الوظائف الدينية، وتصرفها حسب شهواتها وأهوائها السياسية، وتضع حبائل الترغيب والترهيب في طريق الطالبين لتلك الوظائف، وتزن أقدارهم لا بالإجازات العلمية ولا باختيار الأمة المسلمة لهم، ولا بحسن السيرة بين أوساطها بل (بالدوسي) (2) الإداري الذي لا يعرف الدين، والذي يزكي ويجرح بقواعد غير قواعد الإسلام وأصول الفضائل، ويشترط في الإمام ما لا يشترطه الإسلام. أدّت هذه السياسة التي يراد منها هدم الإسلام في دياره بالمطاولة إلى سخط عام ملأ جوانح المسلمين وأثار غضب العلماء الأحرار، فرفعوا أصواتهم بطلب بعض الحق في لين ورفق فاتهموا وعوقبوا بالمنع من تعليم دين الله في بيوت الله.
وجرت بعد حرب 14 - 1918 حوادث في تاريخ الوظائف الدينية ظهر فيها عامل جديد وهو: إرصاد بعض الوظائف لبعض الجنود المحاربين إرضاء لهم لا لخصوصية سوى أنهم جنود، وجرت الإجراءات على أشكال لا يرضاها الإسلام ولا يرضاها المسلمون، ولا يرضاها أحرار الفكر من الأوروبيين ولا يرضاها المتدينون منهم، وإنما ترضي رغائب استعمارية ونزعات إدارية انتفاعية، معروفة في تاريخ الاستعمار الجزائري لم يخل منها دور من أدواره، ومبنى أمرها على ملك الأبدان بالقوّة والتسلط، لا على ملك القلوب بالعدل والتسامح، وهي سياسة ظهر خطأها وفشلها منذ قرون، وكفرت بها كل الحكومات وجميع الأمم إلا الحكومة الجزائرية في الجزائر فإنها بقيت مؤمنة بها عاملة بمقتضاها آخذة بأسبابها.
قلنا إن قانون 27 سبتمبر سنة 1907 لم يطبق منه حرف بل وقع من الإدارة ما يناقضه من تشكليها لبعض هيآت دينية لا يد للأمة في اختيار أفرادها، وقد أسندت رئاستها في بعض الأوقات إلى مسيحيين، وان هذا لمن أقبح ما وقع في هذه المسألة منذ نشأت إلى الآن. ولو طبق قانون 27 سبتمبر 1907 تطبيقًا صحيحًا بنصوصه الصريحة على الدين الإسلامي في الجزائر لما حدثت المشاكل المقلقة التي أثارت الخواطر وَهَيَّجَت الأفكار في هذه السنين الأخيرة.
__________
2) الدّوسي: كلمة فرنسية معناها المِلَف.(2/141)
وهذا هو الدور الثالث
ثم جاء تصريح الجنرال كاترو الوالي العام على الجزائر المنشور في الجرائد يوم 4 أوت سنة 944 1 فكان صريحًا في إرجاع القضية إلى قانون 27 سبتمبر سنة 1907 تحقيقا لأصل فصل الدين عن الحكومة، والأمة بعد صدور القرار متشوفة إلى تطبيق قانون 1907 تطبيقًا كاملًا وقد ساءها وهي في حرارة الانتظار أن تعين الحكومة مفتي الجزائر تعيينًا على النمط القديم، وفي ذلك مخالفة بيِّنة لما فهمته من قرار الجنرال كاترو.
ونحن الآن باسم الدين وباسم الأمة نتمسك بعبارة (فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الجزائرية). ونريد تطبيقها على الكيفية الآثية:
أولًا: فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الجزائرية فصلًا حقيقيًا بحيث لا تتدخل في شيء من شؤونه لا ظاهرًا ولا باطنا، لا في أصوله ولا في فروعه.
ثانيًا: تسليم ذلك كله إلى أيدي الأمة الإسلامية صاحبة الحق المطلق فيه، وتقرير سلطتهم على أمور دينهم تقريرًا فعليًا خالصًا لا التواء فيه، وإنما يتحقق ذلك ويصير نافذًا بما يأتي:
أ- تشكيل مجلس إسلامي أعلى مؤقت بعاصمة الجزائر يتركب من:
1 - بعض العلماء الأحرار المعترف بعلمهم وأعمالهم للدين الإسلامي.
2 - وبعض أعيان المسلمين المتدينين البعيدين عن المناصب الحكومية.
3 - وبعض الموظفين المتدينين بشرط أن يكونوا أقل من النصف، ويتسلم هذا المجلس جميع السلطة التي كانت للحكومة في الشؤون الدينية.
ب- من أهم أعمال المجلس أن يتولى تشكيل جمعيات دينية بالطرق الممكنة انتخابًا أو تعيينًا، وله أن يكتفي بما يراه صالحًا من الجمعيات الدينية الحرة السابقة.
ج- فإذا تمت تلك التشكيلات ينعقد مؤتمر ديني من المجلس الأعلى ورؤساء الجمعيات الدينية وبعض أعضائها البارزين، وفي هذا المؤتمر يوضع النظام العام للمستقبل طبق قانون الفصل.
د- كل ما يقرره هذا المؤتمر يعتبر قانونًا نافذًا يجب الخضوع له ولا ينقضه إلا مؤتمر سنوي آخر.
ج - بعد انعقاد المؤتمر الأول ينحل المجلس الأعلى المؤقت وتنتخب الجمعيات الدينية مجلسًا على النظام السابق وإلى المدة التي يقررها المؤتمر.(2/142)
ويملك المجلس الإسلامي الأعلى المنتخب، السلطة التنفيذية لمقررات المؤتمر الدينية السنوية، أما السلطة التشريعية فيملكها المؤتمر، وليس للمجلس الأعلى إلّا تقديم الارشادات ووضع التقارير والدفاع أمام المؤتمر.
التعليم العربي الحر ومدارسه ومعلموه
كانت الإدارة الجزائرية إلى ما قبل حرب 1914 تتظاهر بشيء من التساهل مع التعليم العربي الحر لأنه كان- إذ ذاك- قاصرًا لا يفتح ذهنًا ولا يغذي عقلًا ولا يربي ملكة لغوية، فلما هب شعور الأمة وقوي باحتياجها إلى فهم لغتها لتفهم دينها، وتطور التعليم الحر في العقدين الأخيرين كسائر الكائنات الحية، وأصبح على شيء من النظام والحياة وخصوصًا بعد ظهور جمعية العلماء، قلقت الإدارة الجزائرية لذلك، ولما لم تجد الإدارة الجزائرية بيدها من القوانين العامة ما تتخذه سلاحًا التجأت إلى القرارات الإدارية. فأنشثت عدة منها ترمي إلى غرض واحد، وهو قتل اللغة العربية بالتضييق على تعليمها ومطاردة رجالها وإلجام صحافتها.
ومن أسوإ ما في تلك القرارات شرًا وأشده إيلامًا وجرحًا لعواطف المسلمين عامة وللعرب خاصة ما جاء في بعض بنود تلك القرارات من اعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في بلاد عربية وهي الجزائر، وجاء دور تنفيذها على يد صغار الإداريين فبالغوا وأسرفوا في التنكيل والمحاكمة، وسيق معلمو العربية إلى مجالس القضاء كما يساق المجرمون، وفرضت عليهم العقوبات المالية والبدنية من سجن وتغريب ولا زالت بقاياهم في المنفى إلى الآن.
احتجت جمعية العلماء على تلك المعاملات الاحتجاجات المتوالية فلم تسمع لها شكوى ولم يرجع إليها جواب، وطلبت المفاهمة الشفاهية فاجيبت بالمماطلة والتسويف، وعطلت الجرائد وأغلقت النوادي وكل ذلك بعضه من بعض.
ومن الغريب أن جمعية العلماء صرحت للحكومة مرارًا بأنها تقبل بكل سرور مراقبة مدارسها من طرف مفتشي المعارف الرسميين، ولكن لم تر في هذه السنين الطويلة مفتشًا واحدًا زار مدرسة من مدارسها، وما كانت ترى إلّا عون البوليس يزورها لتبليغ الأمر بالإغلاق أو العون الشرعي يزورها لتبليغ الاستدعاء للمحاكمة.
مطالب جمعية العلماء: في قضية التعليم العربي
أولًا: إلغاء جميع القرارات السابقة المتعلقة بالتعليم إلغاء صريحًا سواء كانت إدارية أو وزارية.(2/143)
ثانيًا: نسخ جميع تلك القرارات بقانون صريح يقرر حرية التعليم العربي وعدم تقييده بشيء، ويلاحظ في وضع ذلك القانون المسائل الآتية:
أ- جمعية العلماء أو الجمعيات العلمية الأخرى يكون لها الحق بمقتضى ذلك القانون أن تنشىء ما تشاء من المدارس فيما تشاء من البلدان.
ب- ليس على تلك الجمعيات إلّا إعلام الإدارة باسم المدرسة ومحلها وبأسماء المعلمين فيها، ثم تشرع في العمل بلا توقف على إجراءات أخرى.
ج- يتضمن القانون ضمانات كافية مقنعة في عدم الالتجاء إلى تعطيل المدارس العربية للأسباب السياسية أو غيرها من الاعتبارات، لأن تعطيل المدارس العربية في نتيجته يعد عقوبة للأولاد المتعلمين لم يقترفوا أسبابها، وهذا ظلم لهم.
د- كما لا تتدخل الإدارة في اختيار المعلمين ولا تتدخل في وضع البرامج التعليمية ولا في اختيار الكتب المدرسية.
هـ- على جمعية العلماء أو الجمعيات العلمية الأخرى أن تخضع للمراقبة الصحية العامة في دائرة قوانينها ولمراقبة التفتيش الرسمي.
القضاء الإسلامي وتعليمه ورجاله:
القضاء بين المسلمين في أحوالهم الشخصية والمالية والجنائية يتجزء لا يتجزأ من دينهم، لأن الحكم بينهم فيها حكم من الله، ولأن أصول تلك الأحكام منصوصة في الكتاب والسنة، وكل ما فيهما فهو دين، ولأنهم ما خضعوا لتلك الأحكام إلّا بصفة كونهم مسلمين.
والدولة الفرنسية نفسها تعترف بهذه الحقيقة اعترافًا صريحًا، فقد كانت إلى العهد القريب تعارض مطالبة الجزائريين بحقوقهم السياسية لتمسكهم بالقانون الإسلامي في الأحوال الشخصية.
والحقيقة أن الحكومة الجزائرية منذ الاحتلال بترت القضاء الإسلامي فانتزعت منه أحكام الجنايات والأحكام المالية، ولم تبق له إلّا أحكام النكاح والطلاق والمواريث، ويا ليتها أبقتها له حقيقة، ولكنه مع المطاولة احتكرت تعليمه واحتكرت وظائفه لمن يتخرّجون على يدها وبتعاليمها، وجعلت نقض أحكامهم وتعقبها بيد القضاة الفرنسيين، وأصبح القضاء الإسلامي حتى في هذا القدر الضئيل خاضعًا للقضاء الفرنسي، وأصبح القضاة بحكم الضرورة لا يرجعون في أحكامهم إلى النصوص الفقهية، وإنما يرجعون إلى اللوائح التي(2/144)
يضعها وكلاء الحق العام الفرنسيون، وفي هذا من الاجحاف وظلم القضاء الإسلامي ما لا يرضى به المسلمون.
ولا ننسى أنها وقعت محاولات واستفتاءات في بعض الأحيان يراد منها إلغاء القضاء الإسلامي بالتدريج وإرجاع شمولاته إلى القضاء الفرنسي. إن المسلمين يشكون هذه الحال، ويشكون نتائجها السيئة من الاضطراب والفوضى في المحاكمات، والضعف والجهل في القضاة، ويعلمون أن ذلك كله ناشئ عن سوء التعليم القضائي وعن إهمال التربية الإسلامية الفاضلة التي هي الشرط الأساسي في القضاة، وعن استبداد القضاء الفرنسي على القضاء الإسلامي، وعن عدم شعور القضاة بمراقبة الأمة لهم مراقبة دينية، وجمعية العلماء والأمة الإسلامية معها تطالب الحكومة الجزائرية بوضع حد لهذه الحالة الشاذة المضطربة.
وجمعية العلماء وإن كانت ترى أن القضاء الإسلامي في الإسلام جزء من الدين ترى في هذه النقطة لزوم التدريج في إصلاح القضاء، والدين لا هوادة فيه.
وها هي أصول للإصلاح نقدمها بكل إخلاص:
التعليم القضائي:: يجب توسيع برامج التعليم القضائي في مادة العربية والفقه والأصول ودراسة التفسير والحديث ومآخذ الأحكام منها وتاريخ القضاء في الإسلام وفلسفة التشريع وعلم النفس. كذلك يجب فتح الباب لقبول علماء مدرسين لتلك العلوم من المتخرجين من جامع الزيتونة أو غيره لا تعتبر فيهم إلّا الكفاءة لما يراد منهم.
الوظائف القضائية: كذلك يجب إدخال عناصر من المتخرجين من جامع الزيتونة أو غيره من المعاهد الأخرى في الخطط القضائية.
السلطة العليا: كذلك يجب تكوين مجلس قضائي أعلى من القضاة المسلمين يتولى اختيار القضاة وتسميتهم ومراقبتهم والنظر في سلوكهم وتحديد عقوباتهم، وتكون سلطة هذا المجلس مستقلة عن القضاء الفرنسي.
محاكم للاستئناف: كذلك يجب تكوين محاكم استئناف إسلامية تستأنف إليها الأاحكام الأولية وتكون سلطتها إسلامية محضة، وهذه النقطة من أهم نقط الإصلاح من حيث الاعتبار لأن حكم القاضي المسلم لا ينقضه إلّا قاض مسلم.
وفي الختام نلفت نظر الحكومة إلى مسألتين أخريين عاملتهما إلى الآن بالتشديد، وكان ينبغي لها أن تتساهل فيهما لصلتهما القوية بخدمة الدين وهما تجول العلماء للوعظ والارشاد، والنوادي العربية.(2/145)
التجول:
أول واجب على علماء الدين نشر الهداية الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكبر وسيلة إلى ذلك دروس الوعظ والإرشاد، وجمعية العلماء ما سنت سنة التجول في البلدان للوعظ والإرشاد إلّا قيامًا بهذا الواجب، ولكن الإدارة ضايقتهم في هذا الواجب فمنعتهم من التجول لاعتبارات وهمية هم يتبرؤون منها، وآخر ما وقع من هذا النوع منع رئيس جمعية العلماء من التجول ولا زال هذا المنع جارًيا إلى الآن. إن تجول العلماء للوعظ والإرشاد من وسائل نشر الدين وتعليمه، ومن القواعد المسلمة أن ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب.
النوادي:
جمعية العلماء ترى أن النوادي التي أسستها أو تؤسسها هي في حكم مدارس التعليم ومكملة لوظائفها. لأن طبقات الأمة ثلاث: صغار تضمهم المدارس الابتدائية، وكبار تجمعهم المساجد، وشبان تتخطفهم الأزقة وأماكن الخمر والفجور، فإذا أرادت الجمعية أن تقوم بواجبها الديني معهم لم تجدهم في المساجد ولا في المدارس، فمن واجب الجمعية أن تنشط النوادي لتقوم بمهمتها التهذيبية فيها، وعلى الحكومة أن لا تضايقها فيما يقوم بحياتها فتمنعها من المشروبات المباحة كما وقع في قرار مارس سنة 1938.
نرجو بكل تأكيد أن يلغى هذا القرار وبقية القرارات الجائرة فتتمتع المدارس والمساجد والنوادي بالحرية التامة.
عن المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
الرَّئِيسُ: محمد البشير الابراهيمي(2/146)
في السجن العسكري
بالعاصمة ثم قسنطينة
(1945 - 1946) *
__________
* بعد حوادث 8 ماي 1945، قُبض على الإمام، وسُجنِ فشُلَّ نشاطه، ولم يطلق سراحه إر في شهر مارس 1946.(2/147)
رسالة إلى الأستاذ إبراهيم الكتاني*
هذه - أطال الله بقاء أخي- قطعة من فصل طويل من ملحمة أطول، نُظمتْ في أوقات الفراغ في شهري ناجر من الصيف الماضي، وقد اشتملت على أفانين من الجدّ والهزل، والشخْت والجزل، ووصف الرخاء والأزْل، والولاية والعزل، والنكْث والغزْل، وتراجم لرجال سَواسِيَة في الحس كأسنان الحمار، قد أبصروا بعَماهم، وعرفوا بسيماهم، فإذا رأيت أحدَهم رأيتهم جميعًا، وإذا سمعت اللغو كنت لكلامهم سميعًا، وبذلك أراحوا الناقد والواصف، إذْ يجمعهم قولك: أُشَابَة ومَنَاصِفْ. وان الطائفة من الناس لتشترك في خلال حتى لا يكون خطأً أن تشير إليها بهذا مكان هؤلاء، وكثيرًا ما أفكر في قومي ويذهب بي التفكير إلى أقصاه، فأجدهم كما قال ذو الرُّمَّة في وصف قبيلة تعرف بامرئ القيس:
فَأَمْثَلُ أَخْلاَقِ امْرِئ الْقَيْسِ أَنَّهَا … صِلاَبٌ عَلَى طُولِ الْهَوَانِ جُلُودُهَا
فهذا من ذلك، وإذا طردنا القياس فما زال الناس كالناس، ولقد تسامى الخيال إلى وصف رجل من طائفة ممتازة وترجمته بأسلوب هزلي ليتسع القول وتتزاحب آفاقه، لأن الحقيقة في هؤلاء أضيق من أفحوص القطاة، فاتسع القول حتى ناهز ألف بيت، ثم عرضتُ جميع أفراد الطائفة على تلك الصفات فوجدتهم نسخًا من كتاب.
ولئن تمتْ هذه الملحمة لتكوننّ أكبر ملحمة عرفت في تاريخ العربية، فقد قرأنا في تاريخ أدب هذه اللغة أن لَأبَان بن عبد الحميد أرجوزة في الحكم والأمثال بلغتْ آلاف الأبيات، وقرأنا منها قطعًا صالحة، وأكثر ما نظم أدباء العربية الملاحم أو شبه الملاحم في
__________
* أرسلت هذه الرسالة من تلمسان في بداية سنة 1945، وبعض أبيات الأرجوزة نُشرت في "البصائر" (أنظر الجزء الثالث (عيون البصائر، [ص:484]).(2/149)
بحر الرجز، وانّي لَأستعذبه رغمًا عن عدّ المعرّي إياه من سفساف القريض، قصَّرتم أيها النفر فقصَّر بكم.
وأنا لا أستعذب من الرجز إلّا ما سلس وسهلت أجزاؤه كرجز ابن الخطيب في "نظم الحلل" ورجز شوقي في "دول الإسلام"، ولم أسمع ولا قرأت رجزًا أعذب ولا أسلس من رجز الشناقطة.
حاولت أن أنظم تاريخ الإسلام- وأنا في المنفى- وهيأتْ لي خواطري ملحمة تبلغ عشرات الألوف من الأبيات، وقد رضت القوافي في عدّة وقائع شهيرة كبدر واليرموك والقادسية في أول الإسلام والارك والعقاب بالأندلس، ونظمتُ في دخول الإسلام إلى افريقية وبناء القيروان وموت عقبة ووصف مرابطة الثغور وفي طارق وموسى وطريف عدة فصول أبلغها وصف في جبل طارق لمحت فيه إلى الأحداث التاريخية التي كان سببًا فيها، ولكن القريحة جمدت من عيد الفطر فلم أصنع بيتًا واحدًا.
إذا قرأتم هذا الفصل وأعجبكم فإني أوافيكم مع كل رسالة بفصل، وستجدون في فصول الشيطان ما يضحككم في هذا الزمن العابس.
...
يَا دِينُ إنَّ الدَّيْنَ ليس ينْسَى … بَلْ يُقْتَضَى مُعَجَّلًا أَوْ يُنْسَا
يَا دينُ إنَّ الصّبغَ لَنْ يَحُولَا … وإن عندك لهم ذُهولَا
وعندك التِّراث والطوائِلْ … مما قَرى الأوائِلُ الأوائلْ
وهذه أَخلافهم تداعتْ … بصورة قد أفظعتْ وراعتْ
تألَّبوا عنك لأخذ الثار … وأجلبوا في القسطل المُثار
ونَصبوا لكيدك الأشراكَا … من ألف عام لم تَزلْ دِراكا
يا كَيْدةً كادوا لهذا الدينِ … مجتاحةً لولا صلاحُ الدينِ
ووقعةٌ بالسهل من حِطِّينِ … دماؤهم في تُربها كالطينِ
تكوّنوا من بعد ما استكانوا … واخشوشنوا من بعدِ ما استلانوا
واتصلوا من بعد ما فصَلْتا … ونبتوا من بعد ما استأصَلْتا
لم يُنْسِهِم طولُ المدى السيوفَا … لَامعةً والخيلَ والزُّحوفَا
ونظروا في أصلك اعتبارا … ليفقهوا الحِكمَ والأَسرارا
واقتبسوا منك الأصول والسُّنَنْ … ففرعوا بها الهضابَ والفُنَنْ(2/150)
وأخذوا في الكون بالأسبابِ … وإنْ غدوا في الدين في تَبَابِ
كأنّهم في الرأي والإعدادِ … من عُصْبة الزبير والمقدادِ
ومنه:
قد تحركتَ فقالوا: حيُّ … كما استجاش للنذير الحيُّ
فحذروا أنْ تستعيدَ الكره … وأن تعيد للعوالي الجره
وأن هذي الثَّورةَ الروحيَّه … تُعيدُ تلك الفَوْرَةَ النوحيَّه
وذكروا آثارك الخوالدَا … ومَجْدَك الفذَّ الصريحَ التالدَا
وذكروا أنَّهُم في القِدَمِ … لم يدركوا شأوك في التقدمِ
وذكروا ما فيك من إصلاح … للجمع والفرد ومِنْ فَلاِحِ
وذكروا كيف طويتَ المغربَيْن … في فجّك الأغرّ بعد المشرقيْن
وكيف خرَّجتَ رُعاةَ الأمَمِ … من أمَّة كانت رُعاة غَنَمِ
ومنه:
ثم استعانوا من بنيك بثُبَاتْ … ليس لهم في موقف الحق ثَبَاتْ
استجلبوهم بِالدَّها والَكَيْدِ … واستدرَجوهم للزُّبَى كالصيدِ
استضعفوهم واستخفوا شَانَهُمْ … وألبسوهم- ضلَّةً- ما شَانَهُمْ
وسحَروا أعينَهم واسترهبُوا … ورغَّبوا بعاجل ورهَّبوا(2/151)
رسالة إلى الطلبة الجزائريين بالزيتونة*
بمناسبة ذكرى الإمام ابن باديس
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أحيي بتحيات الله المباركة الطيبة أبنائي المهاجرين في سبيله، لا أخص بتحيتي من ينتسبون إلى وطن، أو تجمعهم جمعية، بل أعم من يظلهم دين ويربطهم لسان، ويجمعهم جامع، أولئك كلهم أبنائي؛ يستوون في حيي لهم، وعطفي عليهم، وآمالي فيهم، آحادهم وجموعهم.
وأحيي بأحسن منها إخواني العلماء من حضر منهم في هذا المشهد وَمَن غاب عنه- أولئك الذين طبعتهم يد الرحمن على أن يكونوا أَلْسِنَةَ العروبة وحرسة الإسلام بهذا الشمال الإفريقي- تحية تحرك النفحات سواكنها وتثير المناسبات كوامنها، في هذه المناسبة التي حقيقتها ومغزاها إعلان الفضل من أهله، ووصل لرحم علمية لو أتى عليها النسيان لأضحت مجفوة، وبر بإمام لو لم تعمر الأفئدة ذكراه والألسنة ذكره لأصبح حقه مكفورًا.
أيها العلماء الخِيَرة، أيها الأبناء البررة:
حيّكم الله وبيّاكم، وأبقاكم عوامل رفع لهذا الوطن وأحياكم، وأطال أعماركم للعربية تعلون صروحها وتنقشون في الأنفس لا في الأوراق شروحها، ولهذه الأمة تضمدون جروحها وتداوون قروحها، وللملة الحنفية تحمون حماها وترمون من رماها.
إن الإسلام والعروبة- يا إخواني ويا أبنائى- إذا ذكرا ذابت القيود، وتلاشت الحدود، واجتمعت الأقطار على رحبها في بيت. وأن أخوة الإسلام والعروبة لا تقوم على الأقوال وإن طالت وكثرت، وإنما تقوم على الأعمال والحقائق. ولو أوتينا رشدنا لأقمنا كلمتي المسلم
__________
* بعث الإمام الإبراهيمي هذه الكلمة إلى الطلبة الجزائريين بالزيتونة (تونس)، مشاركة لهم في إحياء الذكرى السابعة لوفاة الإمام ابن باديس (أفريل 1947م) ونشرت في جريدة "العبقرية"، ع3، تلمسان- الجزائر، 1366هـ.(2/152)
العربي مقام هذا النسب المعروف إلى البلدان والقبائل، فما هذا النسب إلا ثُغَر ومداخل لشيطان الوطنيات الضيقة التي ليست من ديننا ولا من ميراث سلفنا، فتواصوا جميعًا بتحقيق هذه النسبة الإسلامية العربية وتثبيت أصولها في نفوس أبناء هذه الأمة.
أيها الإخوان، أيها الأبناء:
لا نكون مُبالِغين إذا قلنا إن لفقيدنا العزيز عبد الحميد بن باديس مِنَّة على كل من يحمل بين جنبيه روحًا جديدة أو فكرة سديدة من أبناء الجزائر أينما كانوا، لا فرق في ذلك بين طلاب العلم وبين غيرهم من طلاب الحياة في جميع فروعها، وإن من دلائل الوفاء وشكر الصنيع في نفوس أولئك الطلاب أن ينهجوا نهجه في التفكير وطرائق الإصلاح، ويتعاونوا على إكمال ما بدأ بوضعه من أسس العلم والحياة ويشاركوا في هذه الذكريات التي تقام كل سنة لعرض أعماله واستخراج العبر من تلك الحياة التي ليست حياة فرد وإنما هي حياة أجيال؛ إذ كامل الوفاء لفقيدنا العزيز هو الذي عمل عمله في نفوس أبنائنا، وحَدَا بهذه الطائفة المهاجرة في سبيل العلم بجامعة الزيتونة المعمورة إلى إحياء هذه الذكرى في هذه السنة بتونس.
وإن في كون الذكرى بتونس، وفي مشاركة الأفذاذ النوابغ من رجال العلم والأدب للطائف دقيقة ومغازي سامية وإلهامات رقيقة؛ هي من آثار الروحية والوجدان والضمير، لا من آثار المجاملة والتدريس، فإذا جاوزنا الصلة العلمية الروحية العربية جاءت الصلة الزيتونية الوثيقة، وإنها لصلة مرعية الأنساب مبرورة العهود محكمة الوثائق.
أيها الإخوان:
أشكركم شكرًا تثقل موازينه، يطرزه الحب ويزيّنه برّكم بأخيكم وأخي، الذي نَفِي بعهده الثقيل، وأرجو أن تتضافر الأيدي وتتوافر الهمم وتتعاون الألسنة والأقلام على خدمة هذا الدين وتاريخه ولسانه بهذا الوطن الذي هو قطعة من ملك الإسلام ورُكن من حصن العروبة الأشم.
أحي- على بعد الدار- تونس العزيزة علي، الحبيبة إليَّ، فكم لي بها من علاقات
يبلى الزمن وهي جديدة، وأعلاق تنحط القمم وهي- أبدًا- عالية، وذخائر من صداقة وأصدقاء هي مع أعمالي كل رأس مالي.
وواشوقاه إلى تونس، وواشوقاه إليكم أيها الإخوان الخِيَرة والأبناء البررة.(2/153)
كتاب مفتوح لسعادة وزير الداخلية
للجهورية الفرنسية*
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يا سعادة الوزير:
إن الأصداء المتجاوبة عن زيارتكم للقطر الجزائري أفهمت الأمة الجزائرية المسلمة أنها زيارة تمهدون بها لإصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي يفتقر إليه هذا الوطن. فالتفتت هذه الأمة إلى الماضي واستعرضت الزيارات الوزارية المتعاقبة وآثارها فهبطت درجة التفاؤل فيها إلى حد بعيد، ولكن ما جاء في بعض خطبكم (إن الظروف غير الظروف) أمسك فيها رمق الأمل.
كان من تمنيات الأمة أن يقال عن زيارتكم إنها استجابت للصرخات المنبعثة من أعماقها. وإنها تمهيد لتحقيق مطالبها. وسترون بأعينكم وتدركون بعقلكم- إن لم تحل الحوائل بينك وبين الحقيقة- ما يقنع ضميركم الحي وعاطفتكم الإنسانية وفكركم الديموقراطي أن القضية الجزائرية لا تداوى بإصلاحات مهما كانت سريعة وإنما تداوى بحقوق تعطى ورغائب تحقق. فارم بعينيك- يا سعادة الوزير- إلى ما وراء الصفوف الأمامية التي تقابلك في هذه الزيارة تر الحقيقة. وأرهف سمعك إلى الأصوات المنبعثة من تلك الجهة تسمع الحقيقة، وإن الطبيب لا يبني العلاج على أقوال الأصحاء وشهادتهم للمريض، وإنما يرتب العلاج على كلام المريض لأنه ينير له سبيل الحكمة. وعلى أناته وصرخاته لأنها تثير فيه عاطفة الرحمة. وإذا اجتمعت الحكمة والرحمة في نفس الطبيب ضمنا سداد الدواء وعاجل الشفاء.
وإننا نتمنى لكم في زيارتكم هذه توفيقًا يرفع ذكركم. ويقرن بحل القضية الجزائرية اسمكم.
__________
* جريدة "النهضة" التونسية، 30 أفريل 1947، وجريدة "الإصلاح"، عدد 48، 8 ماي 1947م.(2/154)
بقيت جهة أخرى تمسّ إحساس المسلمين وتحزّ في نفوسهم وهي الدين الإسلامي من أوقافه المهضومة إلى معابده المظلومة إلى تعاليمه المعدومة إلى قضائه المشوّه، وقد أغفلتم هذه الجهة في تصريحاتكم فقال قوم إن الدينيات لا تدخل في السياسات. وقال المسلمون إذا كان الأمر كذلك فما بال الحكومة الجزائرية احتكرت لنفسها كل ما يتعلق بديننا منذ قرن وزيادة فاستولت على أوقافنا ومساجدنا وأمسكت في يدها مقاليد رجال الدين منا. وضايقت التعليم الديني بالقرارات، ومسخت القضاء الإسلامي في الأحوال الشخصية وهي من صميم الدين.
إن الأمة الجزائرية المسلمة تعتقد أن حقها الديني لا ينبغي أن يكون محل جدال ومطل لأنه لا يتعارض مع مصلحة دين آخر. وترى أن من حقها- كأمة ذات مقومات حيوية- أن تطالب بفصل الدين الإسلامي عن الحكومة فصلًا رسميًا عاجلًا وأن تسلم لها أوقافها الدينية ومساجدها تتصرف فيها تصرّفًا حقيقيًا مباشرًا وأن ترفع القيود الإدارية عن تعليمها الديني العربي وأن تتمتعّ في أحوالها الشخصية الدينية بقضاء نافذ صريح مبني على تعليم إسلامي واسع صحيح.
يا جناب الوزير:
إذا سمعتم صيحات طلاب الحقوق السياسية والاقتصادية فاسمعوا هذه الصيحة المنبعثة من طلاب الحقوق الدينية. وان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تعبّر في هذا عن رأي كل مسلم جزائري. وهي تحمل- مع هذا- لسعادتكم كل تقدير واحترام.
رئيس جمعية العلماء
محمد البشير الإبراهيمي(2/155)
رسالة إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني*
حضرة الأديب الفاضل الأستاذ أحمد توفيق المدني أسعده الله،
سلام عليكم وتحيات مباركات.
أما بعد ... فقد بلغني بواسطة الشيخ إبراهيم بيوض نسخة بخطّكم من القانون الأساسي للمجلس الإسلامي الأعلى وما يتّصل به وما يتفرّع عنه، لأطّلع عليها وأرى رأيي فيها.
غير أنّي لا أستطيع أن أبدي أيَّ رَأْيٍ في الموضوع الأصلي قبل أن أطّلع على نصّ رسالة الوالي العام للشيخ الطيب العقبي المتضمنة لهذه المسألة بصفته عضوًا في لجنة الإصلاحات العليا، وقبل أن تطلعوني على حقيقة لا بدّ من الاطلاع عليها وهي هل هذا القانون المسطّر بخطّكم من قبل المطالب التي تُعرض على الحكومة، ولها بعد ذلك حق القبول أو الرفض لكلّه أو لبعضه، أو حق التعديل لبعض ألفاظه ومواده، أو هو قانون أساسي نهائي لقضية فرغ منها وسلّمتها الحكومة تسليمًا نهائيًا لا رجوع لها فيه ولا تدخّل في تشكيلها وتكييفها وتسييرها في المستقبل.
وإذا كان هذا الأخير هو الحقيقة فما هي الضمانات التي أخذتموها على الحكومة لتحقيق هذا البرنامج حتّى تطمئن الأمّة إلى هذا الحلّ.
قد دعيتُ أنا والشيخ العربي التبسي برسالتين بإمضاء الشيخ الطيب العقبي للحضور في اجتماع كأنّه تمهيدي للمسألة، وإنّ إجابتنا تتوقّف على اطّلاعنا على رسالة الوالي العام للشيخ العقبي وعلى إجابتكم لنا عن السؤال المذكور.
ودمتم لأخيكم
محمد البشير الإبراهيمي
__________
* جريدة "الإصلاح"، العدد 60، 6 سبتمبر 1947م.(2/156)
رئيس جمعية العلماء
ومدير «البصائر»
ومؤسس «معهد ابن باديس»
يتكلم
(1947 - 1952)(2/157)
بلاغ من جمعية العلماء *
يتردد في بعض المجالس الخصوصية منذ عام كلام إذا جرّد من إطار الدعاية وحذفت حواشيه بقيت منه جملتان، وقد حفظهما الناس وتناقلتهما الألسن وافتتن بهما بعض المغفلين وهما: "إن الاستقلال الديني قد حصل، وإن حرية المساجد قد تمّت" ويأتي من وراء هاتين الجملتين كلام إذا جرّد من ألفاظ التعريض واللمز، ومقدّمات التظلّم والأنانية بقيت منه جملة واحدة وهي: إن جمعية العلماء- بتصلبها وعنادها وامتناعها من المشاركة بالتبعية للعاملين- كانت سببًا في تعطيل حلّ القضية الدينية.
هذه جمل تقال وتحكى وتكتب بألفاظ لا تتغيّر حتى أصبحت كمواد القانون تفسدها زيادة حرف ونقصان حرف.
ونحن نقول في الجملتين الأوليين ما قيل في الرؤيا: إنها تسرّ ولا تغرّ، ولو كان ذلك حقًا لكنّا أول المستبشرين وأول المبشّرين لأنه تحقيق لآمال جمعية العلماء ونتيجة لمساعيها المتكررة.
ونقول في الجملة الثالثة إنها مناقضة لما قبلها، لأنه إذا حصل الاستقلال الديني وتمّت حرية المساجد فلا معنى لذكر جمعية العلماء ولا معنى لمشاركتها في أمر فرغ منه إذ من العبث سعي العقلاء في تحصيل الحاصل.
والحقيقة التي يجب أن تعرفها الأمة هي أن قضية المساجد وما يتبعها بل جميع مطالب جمعية العلماء لم تزل على الحالة القديمة التي يعرفها الناس لم يتم فيها شيء.
وأن الحكومة لم تزل في موقفها الذي يعرفه الناس لم تتزحزح عنه ولا شبرًا.
__________
"البصائر"، العدد 1، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 25 جويليه 1947م. (بدون إمضاء).(2/159)
وأن جمعية العلماء لم تزل متمسّكة بمطالبها التي يعرفها الناس لم تتساهل ولم تتنزّل.
وأن كل ما ذاع في الموضوع من كلام وكل ما أحاط به من إشاعات، وكل ما فتح فيه مع غير جمعية العلماء من مفاوضات فهو من المناورات الحكومية التي يراد بها تطويل المدة وبث التفرّق وإقصاء جمعية العلماء وإلهاء الأمة بالقشور عن الحقائق.
والفروق بين جمعية العلماء وبين غيرها تظهر في أمور منها:
إن جمعية العلماء تعتبر هذه القضية قضية أمة لا تحلّ إلا بعلمها ورضاها، والحكومة ومن لفّ لفها لا يرونها بهذه العين ولا يزنونها بهذا الميزان.
وأن جمعية العلماء بما شرحت من هذه القضية وبما درست مدة خمسة عشر عامًا ترى أنها لا تحتاج إلى إعادة نظر وفتح مفاوضات جديدة وإنما تحتاج إلى التنجيز على الصورة التي شرحتها الجمعية وفصلتها.
وإن جمعية العلماء ترى أن أوقاف المساجد هي بيت القصيد في القضية فلا يجوز التساهل فيها ولا الاغترار فيها بالوعود ولا الاكتفاء بالحلول السطحية، ولا خير لأمة فقيرة عريانة في استلام مساجد فقيرة عريانة، والحكومة- فيما اختبرنا وعلمنا- لا تريد أن ترد شيئًا من الأوقاف، أو تريد الإرضاء بصورة كلها إجحاف، وقد سمعنا منها نغمة جديدة وهي أن تسليم أوقاف المسلمين يفتح عليها باب مطالبة المسيحيين بأوقافهم، ونحن نرى أن القضيتين لا تجتمعان في سبب ولا غاية لأن الأوقاف المسيحية أخذت عقب ثورة من الأمة المسيحية على الدين ورجال الدين وعلى الحكم ورجال الحكم وانتهت بقلب نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري، وبفصل الدين عن الحكومة بصورة حاسمة، وثورة الأمة المسيحية على نظامها تعني رضاها بكل ما ينتج عن الثورة.
أما في الجزائر فإن الحالة مخالفة لذلك تمام المخالفة فالدين غير الدين والأسباب غير الأسباب، والدولة الفرنسية تعهّدت للمسلمين في هذا الوطن بالمحافظة على كل ما ينتسب إلى الدين وأنزلت نفسها منزلتهم في التصرّف فوضعت يدها على أوقافهم ومساجدهم ووظائفهم الدينية، وأوهمتهم بهذه الظواهر أن كل شيء على أصله، وفي ظل تلك العهود والمظاهر احتوت على كل شيء فقلبت أعيان الأوقاف وبقيت تنفق على المساجد سترًا لذلك التصرّف الجائر، وأن إنفاق الحكومة على المساجد طول هذه المدة هو الفارق الأكبر بين أوقاف الجزائر وأوقاف فرنسا، وهو نفسه حجّتنا الكبرى في المطالبة بأوقافنا على الصورة التي لا حق للفصل فيها إلا للمجلس الإسلامي المنتخب من الجمعيات الدينية.
إن جمعية العلماء لا تفهم من معنى الاستقلال الديني وحرية المساجد إلا المعنى الصريح الذي تطالب به وهو إعلان الحكومة فصل الدين الإسلامي عن الدولة وأن تترك(2/160)
المسلمين وشأنهم في تأسيس جمعيات دينية حرة بعيدة عن المؤثرات الحكومية السرية والعلنية، فإذا تمّ ذلك انتخبت تلك الجمعيات مجلسًا إسلاميًا يستمدّ سلطته من الأمة لا من الحكومة وهو الذي يتولى إدارة الأوقاف وإدارة المساجد بسلطة غير مقيّدة بشيء.
أما ما دام عامل العمالة هو الذي يولي رجال الدين ويعزل استنادًا على "الدوسي البوليسي" لا على الكفاءة الدينية، وما دامت الجرايات تقبض من الخزينة العامة وما دام العالم الديني لا يستطيع أن يلقي درسًا في كلام الله إلا بعد الترخيص من رئيس جمعية دينية حكومية غير منتخبة من الأمة، مع العلم اليقين بأن ذلك الرَّئِيسُ لا يرخص إلا بعد أن يسترخص ولا يأذن إلا بعد أن يستأذن وأنه (واسطة خير) فقط- ما دام الأمر كذلك وهو الواقع الذي لا ريب فيه- فنحن نعترف بأننا لم نرزق عقولًا نفهم بها معنى هذا الاستقلال.
إن جمعية العلماء تعلن لمروّجي هذا الاستقلال الديني، وللمغترين به أنه لا حقيقة له وأنها لا تشاركهم في الانخداع للمناورات والتشكيلات، فقد عرفنا حق المعرفة ان الحكومة الجزائرية كلما أرادت دفن شيء أكثرت من تشكيل اللجان، وانتقلت به من ميدان إلى ميدان.
إن جمعية العلماء سبقت إلى المطالبة بالحقوق الدينية وفاوضت فيها ودرست وحقّقت لأن ذلك كله من وظيفتها الطبيعية، ومن واجب كل مسلم صحيح النية في خدمة الإسلام أن يضمّ صوته إلى صوتها ويجعل مطالبها المقدّمة في أوت سنة 1944 هي الأصل والقاعدة، ولا يعين الحكومة على التشتيت وتفريق الكلمة وتكثير الهيئات والشيع، ولا يسايرها في تجاهلها لجمعية العلماء، فليس في هذا كله خير للقضية الدينية.
ألا فليعلم كل مسلم جزائري أن جمعية العلماء لا تريد أن تحتكر لنفسها هذه القضية بوسائلها ونتائجها، وأنها تطالب باسم الأمة للأمة، وأنها ترى أن هذه القضية ليست من التفاهة بحيث تحل على يد فرد أو أفراد كما تقول الحكومة وتريد، وأنها لا تضلل الأمة فتسمّي لها الأشياء بغير أسمائها.
ألا فلتعلم الأمة حق العلم أن كل شيء في القضية على حاله القديم فلا "الاستقلال الديني حصل ولا حرية المساجد تمّت".
ألا فلتعلم الحكومة أن الأمة لا ترضيها هذه المناورات ولا تلهيها هذه الدعايات ولا يرضيها إلا فصل الدين الإسلامي عن الحكومة فصلًا صريحًا مطلقًا من كل قيد وأن تترك لها الحرية التامّة في انتخاب جمعياتها الدينية ومجلسها الإسلامي.
المجلس الإداري لجمعية العلماء.(2/161)
نصيحة دينية
تقدّمها جمعية العلماء للأمة الجزائرية الإسلامية*
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أيتها الأمة ...
إن التفرّق شرّ كله، وشرّ أنواع التفرّق ما كان في الدين، وأشنع أنواع التفرّق في الدين ما كان منشؤه الهوى والغرض، ونتيجته التعادي والتباغض وأثره في نفوس الأجانب السخرية من الدين والتنقّص له واتخاذ أعمال أهله حجة عليه، وما أعظم جناية المسلم الذي يقيم من أعماله الفاسدة حجة على دينه الصحيح، وما أشنع جريمة المسلم الذي يعرض- بسوء عمله- دينه الطاهر النقي للزراية والاحتقار.
أيها المسلمون الجزائريون ...
في كل عام تفتنون في دينكم مرّتين، فتختلفون في الصوم اختلافًا شنيعًا وتتفرّقون في الإفطار تفرّقًا أشنع، وكلّما جاء شهر رمضان الذي تصفد فيه الشياطين، انطلقت من بينكم شياطين تدعوكم إلى التفرّق في شعيرة لم تشرع إلا للجمع، وتزيّن لكم الاختلاف في الدين باسم الفقه في الدين.
ولو كان تفرّقكم في الصوم والإفطار مبنيًا على اعتبار صحيح وعلى أسباب ضرورية- كعدم العلم بالرؤية مثلًا- لهان الأمر وكان لكم بعض العذر ولكنه في الأغلب مبني على جمود، وعناد مقصود، وتمحلات فقهية لا ترجع إلى مستند صحيح من نص، ولا إلى برهان صريح من علم، ثم انتهى بكم العناد واللجاج إلى شر ما تقع عليه العين من تفرّق واختلاف، وهو أن البيت الواحد يضمّ صائمين ومفطرين فضلًا عن القرية الواحدة، والصائم يرمي المفطر بالموبقات والمفطر يرمي الصائم بالشناعات وبين هذين ضاعت الحرمة الحقيقية والحكمة الحقيقية، وبين البطون الخماص والبطان تتلاشى المعاني العالية التي طواها
__________
* "البصائر"، العدد 1، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 23 جويلية 1947م.
بيان نشر مستقلًا ووزع على الشعب قبل رمضان من نفس العام 1366هـ.(2/162)
الإسلام فيما شرع من صوم وشرع من إفطار وبضعف إحساس الرحمة والإحسان وتنطفئ بشاشة العيد وبهجته وإشراقه، ويجف ما يفيض به على المسلمين من خير وأنس وتسامح وحب، فانظروا- رحمكم الله- إلى ما يبقي ذلك الخلاف في نفوسكم من حزازات وعداوات وتقطيع لما أمر الله به أن يوصل من أخوة الإسلام.
إن التفرّق في الصوم يذهب بجلال الصوم وحكمته.
وإن التفرّق في العيد يذهب بجمال العيد وبهجته.
وإن الله تعالى ما شرع هذه الشعائر عبثًا وإنما شرعها لحكم جليلة أعلاها جمع الأمة على الدين، لتجتمع في شؤونها الدنيوية، وتوحيدها في عبادة الله، لتتربى على الاتحاد في مصالحها العامة المشتركة.
يا للعجب أيكون الشهر الذي جعله الله مقوّيًا للإرادات، ومشددًا للعزائم ومطهرًا للأرواح ومهبًّا لنفحات الخير والرحمة والمحبة سببًا للفتور والضعف ومدبًّا للبغضاء والعداوة؟ أتجعلون من هذا الشهر الذي جعله الله جامعًا للقلوب على الأخوة وللأرواح على الطهر وللمشاعر على الإحسان وسيلة إلى التفريق والتشتيت؟
أيها المسلمون ...
هذا شهر رمضان على الأبواب فأحيوا في نفوسكم جميع معانيه الدينية والاجتماعية وابدأوا لتحقيق ذلك بالاتحاد في صومه والاتحاد في الخروج منه وأظهروا في هذين اليومين بالمظهر المشرف لدينكم ولجماعتكم، واجتمعوا على السرور بمقدمه وعلى الابتهاج بوداعه، واعلموا أن للاتحاد هيبة، وأن في الاجتماع قوة وسطوة فاستجلوا هذه المعاني في مظاهر دينكم، واستغلّوا ثمراتها في ظواهر دنياكم.
لا عذر لكم في الاختلاف في هذا الزمن الذي قارب بين أجزاء الأرض وقرب بين أفراد البشر وسهل نقل الأخبار وصحّح مقاييس العلم وضبط موازين الأشياء وأحكم الاتصال بين الناس وأعان على فهم حقائق الدين.
لا تجعلوا الحدود الإقليمية التي وضعها المخلوق، حدودًا فارقة في الشعائر التي وضعها الخالق، ولا ترتابوا في أخبار التليفون إذا عرف الصوت وتعدد الناقل، ولا ترتابوا في أخبار الإذاعة فإنها أمنع من أن يتطرق إليها الخلل في هذا الباب وأنها لا تذيع إلا ما تقدّمه لها الهيئات الشرعية.
لا تلتفتوا إلى شبهة تباعد الأقطار فكثيرًا ما يكون يوم عيد الأضحى بمنى هو يوم عيد الأضحى عندنا بشهادة الحجّاج منكم، وبينكم وبين منى آلاف الأميال، صوموا(2/163)
وافطروا على الأخيار التليفونية من الثقات المعروفين إلى الثقات المعروفين من جميع أجزاء الشمال الإفريقي.
صوموا وافطروا على أخبار إذاعة تونس، فما تونس إلا جارة قسنطينة، وعلى أخبار إذاعة الرباط فما الرباط إلا جار وهران، وعلى أخبار إذاعة الجزائر فما الجزائر إلا قلب هذا الشمال الإسلامي العربي.
لا تتراخوا في أداء الشهادة برؤية الهلال وتعميمها بجميع الوسائل وأقواها وأسرعها التليفون.
لا تسمعوا كلام الجاهلين الذين يسوّلون لكم الخلاف في الدين باسم الدين ويطعنون في رؤية تونس أو فاس أو قسنطينة ويضيقون عليكم ما وسع الله، لا تقلدوا بعض الفقهاء الجامدين الذين يريدون أن يحتكروا التصرّف في الصوم والإفطار ويفرّقوا كلمة الأمة بِجُمودِهِم وجهلهم، واعلموا أن الله تعالى لم يكل هذا الأمر إليهم في كتاب ولا سنة ولا ورثوه عن سلف وإنما الشأن كله لجماعة المسلمين ولكن جماعة المسلمين أضاعوا هذا الحق من أيديهم فتسلّط عليه قوم لم يجعل الله لهم الحكم فيه فجعلوا لأنفسهم التحكّم عليه.
إن جمعية العلماء ستقوم بواجبها كالعادة فتتلقّى الأخبار وتعمّمها بما تملك من وسائل التعميم، وتتعاون مع جميع الهيئات في القيام بهذا الواجب.
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
محمد البشير الإبراهيمي(2/164)
المسلمون في جزيرة صقلية*
تقرأ هذا العنوان فتقول:
هذه جملة مفيدة ... فقد كان المسلمون في صقلية حقًا، فتحوها بسيوفهم ونشروا فيها كلمة التوحيد ونقلوا إليها قبسًا من حضارة الإسلام وتعاليمه، وشادوا فيها المساجد والمدارس، ومكّنوا فيها للغة العرب وآدابهم إذ كان ركاب الفتح من القيروان وكان قائد الحملة علمًا من أعلام التشريع والقضاء هو أسد ابن الفرات، ولبثوا فيها قرونًا اصطبغت في خلالها الجزيرة بالصبغة الإسلامية العربية حتى أخرجت من سلائل الفاتحين والداخلين أئمة في الفقه والدين ونوابغ في الطب والحكمة وقادة في الفكر والتدبير وفحولًا في الأدب والشعر وزوّدت المكتبة العربية بذخائر لم يبق من الكثير إلا أسماؤها.
تلك هي صقلية المضطجعة في عباب البحر الأبيض يفصلها عن (البر الكبير) نهر من المالح في مقدار غلوة رام، ويفصلها عن تونس مضيق في مقدار عشرات الأميال، فهي بذلك قريبة الموقع من أفريقيا وهي بانفصالها عن أوروبا كأنها تريد الفرار منها إلى تونس والاتصال بها فيقعدها العجز وكأن الفاتحين أدركوا ذلك فأتوها إذ لم تأتهم ووصلوها حين لم تصل إليهم.
وتلك الجملة المفيدة التي تقرأها في العنوان هي التي ألهم الأستاذ أحمد توفيق المدني تسمية كتابه المفيد، وهو كتاب جلّا فيه مؤلفه صحيفة من صحائف الفتح الإسلامي لأطراف أوروبا وجزائرها، وسد به نقصًا طالما شعر به الباحثون في تاريخ الإسلام كلما انتهى بهم البحث إلى تلك الحقبة من الزمن في تلك القطعة من الأرض، فأعوزتهم الوثائق والمستندات، لأن الموجود منها في تواريخنا العامة- مع صحته وصدقه- مشتت غير منظم ومضاف غير مستقل.
__________
* "البصائر"، العدد 2، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 1 أوت 1947م. (بدون امضاء).(2/165)
والحق كأن البلدان كالأناسي منها المحظوظ ومنها المحروم، وأن الأندلس من بين أجزاء أوروبا الإسلامية أوفرها حظا من عناية المؤرخين، وأن صقلية وقبرس وكريت وما أشبهها أقلها حظًا من ذلك، وإذا كان الحظ والحرمان يخضعان للتعليل فإن علل ذلك واضحة.
وعسى أن يكون كتاب الأستاذ المدني حافزًا لهمم الباحثين حتى يصلوا ما انقطع من هذه المباحث المتعلقة بامتداد الفتح الإسلامي إلى جزائر البحر الأبيض وضفافه الشمالية، فإن هذه المباحث أصبحت- لبعدنا عن زمانها- كالخرائب الدفينة تحتاج إلى رفع الأتربة والأجحار قبل استجلاء الحقائق والأسرار.
وبعد فقد تلطف الأستاذ المدني فأهدى نسخة من هذا الكتاب اللطيف إلى مكتبة جمعية العلماء فوجب التعجل بهذا القدر من التنويه مراعين في ذلك حق المؤلف وخدمته للتاريخ آملين أن يتسع الوقت لنقد الكتاب وتحليله فنوفي بذلك حق الكتاب.(2/166)
السيد محمد خطّاب الفرقاني*
هذا الرجل من أبناء الجزائر الذين رفعوا رأس الجزائر، ومن أبناء هذا الشمال الذين أوسعوه برًا وتكرمة وجعلوا من مالهم ومواهبهم وسائل لغرس الأخوة بين أبنائه، ولم يعيشوا لأنفسهم بل عاشوا لإخوانهم وأوطانهم وما أقل هذا الصنف من الرجال فينا ويا للأسف!
ولد السيد محمد خطاب في جبال (الميلية) الشماء، ونشأ بين صخورها الصماء، وفتح عينيه على آثار من الشمم والهِمم والعزة والكرم، وعلى عصامية في الحياة امتاز بها أبناء الجبال، فكان لذلك كله في حياته وتكوينه أثر غير قليل، وفتح عينيه- كذلك- على آثار الاستعمار في أرض أجداده وفي نفوس قومه، فكان لذلك في عقله وفكره أثر غير قليل، ثم هاجر إلى المغرب سنة أربع وعشرين ميلادية بعد هجرة أخيه الأديب الكاتب الأستاذ رابح الفرقاني المترجم الحر بفاس، واتخذ الأخوان من المغرب وطنًا لهما وكونا بكرم أخلاقهما ولطف شمائلهما مكانة ممتازة بين أهله.
والسيد محمد خطاب عصامي النفس عربي النزعة لا يسير في الحياة إلّا على وحي الفطرة وهداية الاستعداد ومسايرة القومية، لذلك اختار الفلاحة حرفة فنجح فيها وبارك الله في أعماله، فتأثل منها ثروة عريضة رأى من شكر الله عليها أن يفىء بجزء منها على المشاريع العلمية النافعة لوطنه الكبير، وللسيد محمد خطاب في مبراته العلمية ومكارمه رأي هو فيه نسيج وحده، فهو يرى تمام المكرمة وكمالها أن تكون على يد جمعية العلماء، وله في جمعية العلماء اعتقاد مصمم وله بها صلة وثيقة الأسباب تمتد أوائلها إلى أوائل الحركة التعليمية بقسنطينة، وله ولأخيه الأديب علائق متينة مرعية بإمام النهضة المرحوم عبد الحميد
__________
"البصائر"، العدد 4، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 29 أوت 1947م. (بدون امضاء).(2/167)
ابن باديس، وكان لهما في حياته اشتراك مالي سنوي مقرر في كل مشاريع جمعية العلماء من جرائدها إلى صندوق الطلبة إلى مدرسة التربية والتعليم.
وفي السنة الماضية قرر السيد محمد خطاب مبرتين ماليتين يدفعهما مسانهة على يد جمعية العلماء: أولاهما تصرف في ترقية التعليم بمدارس الجمعية وقدرها نصف مليون فرنك، وقد أدخلت الجمعية هذا المبلغ في العام الماضي في شراء المركز بإذن من صاحب المبرة، والثانية تصرفها الجمعية باجتهادها في مصلحة الطلبة الجزائريين بجامع الزيتونة وقدرها ماثة ألف فرنك، وقد اكترت بها جمعية العلماء في العام الماضي مركزًا لجمعية الطلبة. وللسيد محمد خطاب مبرة ثالثة خاصة بمسقط رأسه (الميلية) وهي مدرسة خطاب إحدى المدارس التي تديرها جمعية العلماء، بناها بماله منذ سنوات ورأى الآن أنها لا تكفي أبناء القرية، ففوض إلى جمعية العلماء أن تتولى توسيعها أو تجديدها من ماله الخاص بالغة ما بلغت النفقات.
زار السيد محمد خطاب الجزائر في أوائل رمضان الماضي لتفقد إخوانه وأصدقائه ومشاريعه المالية الكثيرة لأنه في السنوات الأخيرة جاوز أفق الفلاحة إلى الصناعة والتجارة، فشارك في عدة شركات وطنية بماله وبإرشاده ورأيه، وزار مركز جمعية العلماء وإدارة "البصائر" وذاكرَ رئيس الجمعية في عدة مشاريع علمية وفي حال الطلبة الجزائريين الذين يطلبون العلم بالقرويين وما يجب لهم من عناية ورعاية، ووصل على يده جماعة من فقراء أهل العلم بإعانات وصدقات مستورة، وتبرع على جريدة "البصائر" بمبلغ خمسين ألف فرنك.
إننا كما نعدّ أخانا السيد محمد خطاب عصاميًّا مجددًا في أعماله آخذًا بالنظام الدقيق في مشاريعه، محافظًا في إيمانه ووطنيته، نعده أيضًا حجة قائمة على أمثاله من أبناء الوطن الذين تأثلوا الثروات فيه أو في خارجه، فلم ينفعوا وطنهم بشيء يرفع الذكر ويجلب الفخر ويعظم الأجر، ولو أنهم كانوا مثل هذا الرجل أو قريبًا منه لم يبق في الوطن ولد بلا تعليم ولا فقير بلا قوت، ولا مريض بلا دواء، فإذا قلنا لهذا الرجل: كثر الله من أمثالك، فلسنا ندعو له وإنما ندعو للوطن.
إن جريدة "البصائر" لا تمدح أحدًا إلّا حيث يكون المدح دعاية إلى حسن التأسي والاقتداء ولا تثني إلا على عمل يتصل بمبدئها الديني التعليمي أو يؤيده، ولا تطري إلّا المناقب المذكرة بأمجاد الأوائل، المحيية لمكارمهم وآثارهم في سبيل العلم والخير العام، وأخونا السيد محمد خطاب يجمع ذلك كله.(2/168)
كوارث الاستعمار*
فات "البصائر" بسبب عطلة المطبعة أسبوعين في آخر رمضان- أن تشارك الأمة التونسية العزيزة في إعلان الحزن على ما أصابها في العهد الأخير من كوارث الاستعمار التي تجلت في الحادثتين الداميتين، حادثة (جبل الجلود) وحادثة (صفاقس).
أما التألم والامتعاض من قتل الأبرياء المسالمين، وأما الحزن والأسى لإخواننا الذين ماتوا مظلومين، ولأطفالهم وزوجاتهم الذين بقوا بلا مال ولا عائل فإن حظنا منها لا يقل عن حظ إخواننا التونسيين، ومحال أن يتألم عضو من جسد ولا تتألم له سائر الأعضاء، وقد ألّفت هذه المصائب المتوالية، وهذه المظالم المتحدة المصدر، بين قلوبنا تأليفًا جديدًا محكم النسج، وأرهفت إحساسنا وصيرتنا كتلة من لحم مرضوض، في لجة من الدموع المرفضة، فلا يمتاز في مصائبنا معز من معزى.
عذرنا إلى إخواننا أننا لم نخسر في باب التعزية إلّا سطورًا سوداء في أوراق بيضاء تقرأ وتهجر، وعوضنا الغالي عنها إحساسات مضطرمة في نفوس متألمة.
__________
* "البصائر"، العدد 3، السنة الأولى من السلسلة الثاتية، 3 سبتمبر 1947م. (بدون امضاء).(2/169)
إحياء التعليم المسجدي بمدينة قسنطينة*
(إعداد المركز، برنامج أربع سنوات، تعيين المشائخ والمدرّسين، الارتباط بجامع الزيتونة)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أجمعت جمعية العلماء أمرها وصمّمت على إحياء تلك السنة التي سنها إمام النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله-. وهي التعليم المسجدي. ونعني بالتعليم المسجدي ذلك التعليم الذي تلتزم فيه كتب معيّنة في العلوم الدينية من تفسير وحديث وفقه وأصول وأخلاق. والعلوم اللسانية من قواعد ولغة وأدب. والعلوم الخادمة للدين من تاريخ وحساب وغيرهما، ويقوم به مشائخ مقتدرون في تلك العلوم محسنون لتعليمها، ونسمّيه مسجديًا لأنه كان من فجر الإسلام إلى الآن وما زال يلقى في المساجد. وما زالت تقوم به من غير انقطاع ثلاثة من أقدم مساجدنا وأعظمها، الأزهر والزيتونة والقرويين، على تفاوت بينها في التوسع والنظام والكتب والأسلوب. وهذا التعليم ضروري للأمّة الإسلامية في حياتها الدينية لأنها مفتقرة دائمًا إلى من يفتيها في النوازل اليومية ويبيّن لها أحكام الحلال والحرام. وما بقي الإسلام محفوظًا إلا بهذا النوع من التعليم الذي من أصوله تفسير القرآن والحديث النبوي. وإذا كنا نشهد ضعف هذا التعليم وركوده وعقمه في هذه الأزمنة المتأخرة فما هي إلا من عوارض جاءته من سوء الاختيار للكتب، أو فساد الأسلوب في التأدية أو من قصور الملكة في المدرس أو من ذلك جميعًا، ثم تأصل بمرور الزمن. والضعف دائمًا يجرّ بعضه إلى بعضه.
وقد شعرت معاهدنا المذكورة منذ سنوات بهذه النقائص فاجتهدت في إصلاحها وتكميلها. وعملت على سدّ الخلل وتوسيع الدائرة ومجاراة الزمن وسنراها عما قريب واصلة إلى الغاية إن شاء الله، فتخرج لنا فرسان منابر يهدون هذه الجماهير المتثائبة، وأعلام أدب
__________
* "البصائر"، العدد 7، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 19 سبتمبر 1947م.(2/170)
يحرّكون هذه المشاعر المخدّرة، وعلماء استنباط يحلّون هذه المشكلات الحيوية التي عاقت الأمم الإسلامية عن مجاراة السابقين في الحياة.
أما الجزائر فقد بدأت في نهضتها القائمة بهذا النوع من التعليم وقام إمامها الشيخ عبد الحميد بن باديس في ذلك المقام المحمود فسلخ من عمره خمسًا وعشرين سنة على التعليم الحي المثمر المنظم. وتخرّج من دروسه جيل كامل هو عماد النهضة اليوم بما أعده للحياة وهيّأه للقيادة. وان الكثيرين من تلامذته هم اليوم، المجلون في ميدان التعليم المكتبي الذي تقوم به جمعية العلماء، وقد كان- رحمه الله- يرمي بتعليمه مع تحصيل العلم إلى ثمرات العلم ويرمي إلى أشياء كان يقصدها قصدًا ويلحّ فيها إلحاحًا، منها تقوية الإرادة والعزيمة في تلاميذه، فكان يفيض عليهم من روحه القوية فيضًا مِن القوة يعدهم بها للعمل في أمّة مفتقرة إلى العاملين.
ولما مات الأستاذ- رحمه الله- اضطلعت جمعية العلماء بذلك التعليم وأسندته إلى الكفء المجمع على كفاءته في هذا الباب وهو الشيخ العربي التبسي ونقلت مركزه من قسنطينة إلى تبسة نقلًا مؤقتًا نزولًا على حكم الضرورة، فقام الأستاذ التبسي وأعوانه خير قيام بما أسند إليهم، ثم جاءت الحوادث المحزنة فطوي البساط بما فيه. كان من آثار ذلك التعليم المثمر الذي دام سنوات في تبسة ومن آثار ما تقوم به جمعية العلماء من مرغبات في العلم وأعمال جليلة في التعليم المكتبي أن لجّت الرغبة بشباب الأمّة في الاندفاع إلى العلم والرحلة في طلبه حيث ما كان. فرحلت المئات منهم إلى جامع الزيتونة والعشرات إلى القرويين وأبعد القليل منهم النجعة فرحل إلى القاهرة. وقد أنساهم الحرص ما يجب للرحلة من احتياطات فوقع الكثير منهم في المحذور.
وجمعية العلماء- وهي التى أنشأت هذه الرغبة المتأججة في نفوس الشباب- لا تلومهم ولا تثبطهم على هذا الاندفاع، وإنما ترى أن الرحلة وقطع آلاف الأميال في سبيل التعليم الابتدائي ليست من العقل ولا من السداد. وما دامت معاهدنا الثلاثة كليات فالواجب أن لا يرحل إليها إلا من استكمل التعليم الابتدائي في وطنه وقطع مراحله في مكاتبه أو مدارسه أو زواياه واستعد للتعليم الثانوي، فهناك تحسن به الرحلة وتكون لها فائدة، وهذا واجب تشترك فيه الأمّة والجمعية والطلبة.
أما جمعية العلماء فلا تدّعي أنها تقوم بواجبها كاملًا في هذه السنة وحسبها أنها فكّرت وقدّرت وأنها تبتدئ في هذه السنة بتحقيق بعض الواجب. أما الواجب الكامل فلا تستطيع تأديته إلا يوم يتيسّر لها فتح معهد في تلمسان وآخر في الجزائر وثالث في قسنطينة. وقد وُضعت الخطط والبرامج لذلك كله. والعقبة الكأداء في سبيلها هي المال والأماكن.(2/171)
أما بعض الواجب الذي عقدت العزم على تنفيذه في هذه السنة، فهو البدء بقسنطينة أولًا، وقد اشترت دارًا كبيرة من دور آل الشيخ بن الفقون لتتخذها مركزًا لإدارة التعليم وتتخذ من بعض حجراتها مساكن للطلبة المعوزين. وأسندت الإشراف على التعليم والدروس العالية للأستاذ النفاع الشيخ العربي التبسي وعيّنت للتدريس مشائخ أكفاء ممتازين بماضيهم وعملهم وتحصيلهم. وهم المشائخ: السعيد الزموشي، أحمد حماني، عبد القادر الياجوري، نعيم النعيمي، عبد المجيد حيرش، العباس بن الشيخ الحسين، أحمد حسين، وستنقلهم إلى قسنطينة تباعًا متى تمّ إعداد الدار وإحضار الوسائل وقد التزمت الجمعية أن يكون هذا التعليم متناسقًا مع القسم الابتدائي بجامع الزيتونة في سنواته والكثير من كتبه وفي أسلوبه وفي امتحانه حتى كأن معهد قسنطينة فرع من فروع جامع الزيتونة.
وستتصل الجمعية بمشيخة الجامع الأعظم وتعمل معها على التناسق بين التعليمين وعلى اعتبار الشهادة التي تخوّل للجزائريين الالتحاق بالتعليم الثانوي بجامع الزيتونة، وبهذا إن شاء الله نصل إلى الغاية المطلوبة وهي أن لا يرحل إلى تونس ولا إلى غيرها إلّا من استكمل معلوماته الابتدائية في الجزائر، وفي ذلك شرف للجزائر لقيامها بالواجب ونفع لأبنائها بتقصير المسافة ورفع التكاليف.
أما بعد، فإن التعليم بفرع قسنطينة لا يتمّ إلا بعد إعداد المحل وإصلاحه، ونحن جادّون في ذلك ومجتهدون ولعلّ الشروع يكون في أواخر أكتوير الآتي وما هو ببعيد، وليرتقب أبناؤنا الطلبة الذين يريدون الالتحاق بهذا المعهد شروط الالتحاق مفصلة في العدد الآتي.(2/172)
معهد قسنطينة*
(إدارته، برنامجه، شروط الالتحاق به)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يسمّى المعهد معهد عبد الحميد بن باديس.
تتألف الإدارة العامة للمعهد من ثلاث هيئات متضامنة، وكل واحدة منها مسؤولة فيما يخصها من الأعمال للمجلس الإداري لجمعية العلماء.
الأولى الهيئة العلمية، والثانية الهيئة المالية، والثالثة هيئة المراقبة والضبط، ويرأس المدير العام جميع الهيئات، وللمجلس الإداري الإشراف الأعلى على الجميع وإليه المرجع في الكليات، وهو الذي يفصل الخلاف بين الهيئات أو بين أفراد الهيئة الواحدة.
فالهيئة العلمية تتألّف من المشائخ المدرّسين، ووظيفتها وضع البرنامج وتنفيذه واختيار الكتب وامتحان التلامذة، وتوزيعهم على السنوات حسب الأهلية والاستحقاق.
والهيئة المالية تقوم بجمع المال وضبطه وصرفه في مصالح المعهد التي تقرّرها الهيئات الثلاث مجتمعة، وأول ما تبدأ به لتحقيق غرضها إعادة فتح صندوق الطلبة باسم (صندوق التعليم) وتفتح له حسابًا جاريًا في البريد تسهيلًا على المتبرّعين المحسنين.
وهيئة المراقبة والضبط تقوم بتسجيل أسماء التلامذة ومراقبتهم خارج المعهد مراقبة دقيقة، وملاحظة سلوكهم من استقامة واعوجاج، وتطبيق لائحة المعهد الداخلية عليهم، ولوكل إليها النظر في النظافة والصحة والعلاج والفصل بين التلامذة فيما يشجر بينهم من خلاف.
كل هيئة من الهيئتين الأخيرتين تتألف من رئيس وثلاثة أعضاء.
__________
* "البصائر"، العدد 8، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 26 سبتمبر 1947م.(2/173)
مدة الدراسة بالمعهد أربع سنوات تبتدئ بالسنة الأولى وينتقل التلميذ إلى الثانية ثم الثالثة بامتحان: وتنتهي السنوات الأربع بشهادة تساوي في القوة مثلها في جامع الزيتونة، وتخوّل تلك الشهادة لحاملها الدخول في القسم الثانوي من الجامع المذكور.
الدروس اليومية ستة: ثلاثة في الصباح وثلاثة في المساء، وكل درس يستغرق ساعة إلا عشر دقائق.
برنامج الدراسة وكتبها هو برنامج السنوات الابتدائية في جامع الزيتونة، فإن خولف في بعض الجزئيات فإلى كمال وسداد إن شاء الله.
وسيحرص المعهد على تكميل البرنامج بدروس في مبادئ الرياضيات والطبيعيات والجغرافيا والتاريخ وحفظ الصحة وأصول الأشياء، يقوم بها طائفة ممتازة من الأساتذة والأطباء والصيادلة والمحامين ويؤدّي فيها التلامذة الامتحانات السنوية.
يقوم بفحص التلامذة وأماكن الدراسة والسكنى جماعة من الأطباء يومًا من كل أسبوع، وتخصّص لفحص التلامذة حجرة خاصة مجهّزة بالضروريات اللازمة.
شروط قبول التلامذة
أولًا: أن لا ينقص عمر التلميذ عن ست عشرة سنة.
ثايًا: أن لا يكون مصابًا بمرض مُعْدٍ بشهادة طبيب المعهد.
ثالثًا: أن يقدّمه أبوه أو وليّه- ما دام قاصرًا- بتعريف كتابي يتضمن علمه ورضاه ويتعهد فيه بلوازم التلميذ وضرورياته.
رابعًا: أن يكون حافظًا لجزء معتبر من القرآن كالربع ولا يقبل من يحفظ أقل منه. وحافظ القرآن كله يقدّم في القبول وفي جميع الامتيازات.
خامسًا: القدرة على نفقات الأكل والسكنى بحسب حال التلميذ، والمعهد لا يلتزم بشيء من ذلك نظرًا لضيق موارده المالية. ولا يعين في هذه السنة إلا عددًا محدودًا من المعوزين إعانات متفاوتة. وله الحق في تقديرها، واختيار مستحقيها وهو يؤثر في القبول والإعانات تلامذة مدارس الجمعية الذين أنهوا برنامج السنة الخامسة، وفازوا في امتحاناتها بتفوّق.
سادسًا: كسوتان للشتاء على حسب حال الطالب، وفراش وغطاء.(2/174)
تنبيهات وتوضيحات:
1 - طلبات الالتحاق تقدم من الآن إلى لجنة المراقبة بعنوانها المؤقّت وهو بالفرنسية: رقم 17، شارع عبد الحميد بن باديس، ويكتب على ظهر الغلاف بالعربية: لجنة المراقبة لمعهد عبد الحميد بن باديس: وكذلك المخابرات والاسترشادات كلها تكون بهذا العنوان.
2 - على الطالب أن يوضح عنوانه غاية التوضيح ليضمن رجوع الجواب إليه.
3 - للمعهد لائحة داخلية مفصّلة لواجبات المدرّسين والتلامذة، مبيّنة لحدودهم، محدّدة للصلات بينهم.
4 - ينشر المعهد في كل شهرين- على الأكثر- نشرة صغيرة داخلية، تشرح أعمال المعهد وسير التعليم فيه. وتسجّل حركته بإنصاف وتسمّي كتبه ودروسه وتلاميذه، وتعلن مداخيله ونفقاته حتى تكون الأمّة على بصيرة من ذلك كله، وستحلى النشرة بقطع قصيرة من إنشاء التلامذة أنفسهم في مواضيع يرشدهم إليها معلموهم تدريبًا لهم على التفكير والكتابة.
5 - هذه السنة مرحلة أولى، والمرحلة الأولى دائمًا شاقة، ويخفّف من مشقّتها تنظيم العمل وتوسيع الأمل. وهي سنة ابتداء- والابتداء لا يخلو من نقص وخلل- والعذر قائم. والعمل على التكميل متواصل.
6 - هذا واجب جمعية العلماء، أدّته بحسب ما وسعه جهدها وستؤدّيه كاملًا بتعديد الفروع وتكثير الطلاب وترقية التعليم. وهذه بعض أعمالها في خدمة العلم والدين والعربية. وبقي واجب الأمّة وهو بذل المال لصندوق التعليم، وقد عوّدتنا أن تجود بإخلاص وتبذل عن بصيرة، وعوّدناها أن نأخذ بحساب ونعطي بحساب. وما نحن وهي إلا شركاء في واجب محتّم للدين وهو دين الجميع- وحق مؤكّد للعلم والعربية وهما فخر الجميع- علينا العمل والتعليم، والإرشاد والتنظيم، وعليها الإمداد بالمال وبذلك يؤدّي كل واحد منا قسطه من هذا الواجب. ويلتقي الجميع إن شاء الله في ما عند الله من أجر، وفيما عند الناس من محمدة وذكر. وفيما يسجّله التاريخ من مجد وفخر.
7 - إذا تمّ هذا التعاون على ما نريد ونرجو فسيقدّم المعهد لجامع الزيتونة في أول كل سنة عددًا ممتازًا من أبناء الجزائر، تفخر بهم الزيتونة قبل الجزائر.
8 - المدرّسون أكفاء بارعون، والإدارة رشيدة، والدروس حيّة مفيدة، والمراقبة على الأخلاق- وهي رأس المال- شديدة، والخطوات- إن شاء الله- موفّقة سديدة، والعزائم على تعليم أبناء الأمة مشدودة، والنيّات ببلوغ الآمال معقودة. والله المستعان.(2/175)
جريدة (العَلَم) الخفاق أو (العلم) الشامخ*
لكلم (العَلَم) في لغة العرب معان أشهرها في الاستعمال القديم الجبل، وأشهرها في الاستعمال الحديث: الراية، وزميلتنا العلم جديدة، وصاحبها الفاضل مجدد. فلا شك أنه يعني باسمها المعنى الثاني الذي أصبح رمزًا للمجد وشارة للاستقلال وشيئًا من كرائم الشعوب التي يقول فيها شوقي:
هَذِي كَرَائِمُ أَشْيَاءِ الشُّعُوبِ فَإِنْ … مَاتَتْ فَكُلُّ وُجُودٍ يُشْبِهُ العَدَمَا
بل قد كان لها بعض ذلك في قديم العرب من يوم سمّاها الشاعر (خرق الملوك) إلى يوم عقدت أول راية في الإسلام.
إن الأسماء إذا ذُكرت استحضر الذهن مسمياتها وخصائصها الذاتية والعرضية ولوازمها القريبة والبعيدة، وانتزع- في مثل إيماضة البرق- من بين تلك الخصائص أقواها وأسماها وأبرزها وأبقاها. وصحيفة (العلم) تحمل من معنى اللفظ أجمل الخصائص وأقرب اللوازم. فهي شامخة كالجبل تبعث الروعة والقوّة والإعجاب، خافقة كالراية ترمز إلى الوحدة وتوحي بالمجد وتشعر بالحرية.
لم تلق صحيفة من صحف المملكة المغربية ما لقيته جريدة (العلم) من عنت الرقابة حتى ليوشك أن يغلب الأبيض فيها على الأسود. ولكن قارئها يستجلي في بياضها من معاني الاعتبار أبلغ مما يفهم في سوادها من معاني المقالات والأخبار.
سلخت الزميلة سنة من حياتها فأصدرت عددًا خاصًا عامرًا بالمفيد، مسجّلًا للمرحلة الأولى من السفر البعيد، ولليوم الأول من العمر المديد، ونحن نعلن إعجابنا بثبات الزميلة
__________
* "البصائر"، العدد 8، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 26 سبتمبر 1947م. (بدون إمضاء).(2/176)
وتقديرنا للجهود التي يبذلها صاحبها القباج، ونتمنى له ولها كل ما نتمناه لرجالنا العاملين من صبر على المقاومة، ولصحافتنا الصادقة من استمرار على الكفاح.
لا نطري الزميلة ذلك الإطراء المقلّد، بل نقول فيها ما هي أهله، وما أحق صحافتنا العربية بهذا الشمال، وهي متوافية على قصد واحد من خدمة الأمّة أن تتوافى على منهج واحد في التحسين والتهجين، وعلى أسلوب متقارب من البيان والتبيين، وأن تقتصد في التحلية والتلقيب، فإن كثرة الحلى والألقاب تدلية بغرور وتلهية بفراغ.
وما أحوجنا إلى تضامن صحفي بهذا الشمال يدفع الضيم، ويمكن الأخوّة ثم يصفّي اللغة ويقوّي الأساليب، ثم يوسّع المادة ويرقّي المواضيع، ثم يكتسح اللغو ويعَرّي التقليد. وإنّا للحديث عن ذلك التضامن لعائدون.(2/177)
عزاء للأستاذ التبسي*
ترفع "البصائر" إلى الأستاذ الشيخ العربي التبسي، نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أحرّ التعازي على مصيبته بفقد أخيه الشاب البشير فرحات، وتتمنّى أن تكون هذه المصيبة خاتمة المحن التي شغلت بال الأستاذ مدة تقرب من السنة، وعاقته عن القيام بأعمال جليلة، كان يقدّمها لجمعيته وأمّته.
وقد عزاه بالحضور إلى تبسة في اليوم الثالث لموت الفقيد وفد عظيم يمثّل الجمعيات والهيئات، فعن جمعية العلماء رئيسها، وعن معهد عبد الحميد بن باديس وفد من مدرّسيه ورجاله، وعن جمعية التربية والتعليم رئيسها وبعض أعضائها، وعن هيئة التعليم العامة بعض كبار المعلمين، وعن قسنطينة بعض أعيانها، وتوالت وفود التعزية من جميع نواحي العمالة القسنطينية.
ويقول الملازمون للأستاذ التبسي من تلامذته والحاضرون لجميع الاقتبالات والأحاديث من خلصائه المقرّبين: إن أحاديث الأستاذ مع الوفود كانت أحاديث المؤمن القوي، الواثق بالله، الراضي بقضاء الله وكانت أحاديث معز لا معزى.
وإن أحاديثه في الدين والاجتماع كانت كدأبه إذا تكلّم في الدين، تجلية حقائق، في نصوع بيان، وإن حديثه في السياسة إذا انجرَّ الحديث إليها كان كله حملات على الاستعمار ومكائده، وإنه لا يرجى منه خير، وإن حديثه عن السياسيين والنوّاب، كان حديث المحايد الحرّ الذي لا يتحيّز لفريق دون فريق، ولا يرضى لنفسه ولمقامه أن يكون بوق دعاية لمبدإ دون مبدإ، لأن مبدأه أسمى منها جميعًا، وكان حديث العالم الذي يزن الرجال بأعمالهم، وحيث لا أعمال فلا رجال، ويزن الأحزاب بوضوح مباديها، وحيث لا وضوح في المبادئ فلا أحزاب.
__________
* "البصائر"، العدد 10، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 13 أكتوبر 1947م. (بدون إمضاء).(2/178)
هذه خلاصة الأحاديث، وهؤلاء رواتها- وهي بعد وقبل- أحاديث مجالس تتناوبها الألسنة، ويقطعها الانتقال، وتقتضيها المبادهات، ويبتدئها متكلم فيكملها سامع، ووحدة المتكلم شرط في الكلام، وليست تصريحات يتهيّأ لها الفكر، ويوزن لها الكلام، ويشترط فيها التسلسل.
وبعد، فإن أضلّ الناس كيدًا من يمدح الأستاذ التبسي فلا يزيد في مدحه على أنه إِمَّعة في الرأي، وأضلّ منه سعيًا من يكون له في المشهد حامدًا، وفي الغيب كائدًا ...(2/179)
ذكرى الأمير شكيب أرسلان*
الأستاذ محمد علي الطاهر، أخ نعتزّ بأخوّته ومجاهد نعترف بجهاده وصدق بلائه، لا في سبيل فلسطين المظلومة فقط- التي عرف بها وعرفت به ووقف قلمه ولسانه ومواهبه على نصرها في محنتها من يوم طرقها البلاء إلى الآن- بل في قضية العروبة أينما وجد أبناؤها، وجريدته الشورى كانت آية الجهاد، وميدان فوارس الطراد، وقد كان من عجيب صنع الله في تجلية إخلاص المخلصين، أن ينال الجريدة المجاهدة في فلسطين، ما نال فلسطين من الظلم والحيف، وإن كان ظلم القريب أنكى على الحر من ظلم الغريب.
وصلتنا من ذلك الأخ المجاهد رسالة تطفح سرورًا بالبصائر وعودتها إلى الظهور. وبما سنى الله لرجال جمعية العلماء من السلامة من الأيدي الظالمة وللجمعية من السير والتقدم في الظروف المظلمة. وتفيض أسى لما يعانيه مغربنا العربي من ويلات الاستعمار وكل ما في الرسالة يدلّ على أن قلب الأخ الأستاذ معلّق بهذا الشمال. وما زال الشمال مستقرّ القلوب.
وأرسل لنا الأستاذ الطاهر مع الرسالة نسختين من كتابه (ذكرى الأمير شكيب أرسلان) هدية، خصّص إحدى النسختين بنا والأخرى أمانة أبلغناها إلى مأمنها، والكتاب جزء حافل جمع فيه الأستاذ دموع الباكين على صديقه وأستاذه في الجهاد الأمير شكيب أرسلان، وحسرات المتفجعين على مصاب العروبة والإسلام لفقده. وما أكثر الباكين على الأمير شكيب وما أكثر المتحسرين. وإننا نعتقد أن ما جمعه الأستاذ الطاهر من المراثي والتحليلات هو ما وصلت إليه يده مما نُشر في الصحف، وان ما لم يصل إليه من ذلك شيء كثير.
قرأنا الكتاب فلم نعجب لوفاء الرجل لصديقه ورفيقه أكثر مما عجبنا لصبره على جمع هذه الأشتات. في وقت تقطعت فيه الصلات وتباعدت الأقطار. وهمته في إخراجه في هذه
__________
* "البصائر"، العدد 13، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 15 نوفمبر 1947م. (بدون إمضاء).(2/180)
الظروف العابسة الشحيحة، لم نعجب لوفاء الرجل لصديقه لأن العلاقة بينهما في الحياة كانت وثيقة العرى لم يتخلّلها فتور. وكانت مساندة في الجهاد تسمو عن الأغراض والأهواء. وعلاقة هذا شأنها في الحياة لا يزيدها الموت إلا متانة واستمساكًا، خصوصًا إذا كان لها من صفاء الجوهر النفسي ظهير، وإن حظ الأستاذ الطاهر من ذلك الصفاء لكبير.
نشكر للأستاذ هديته ونرجو أن تسامحه الأيام في كتابة تاريخ الأمير بقلمه، وتحقّق وعده لأبناء العروبة بقضاء دَيْن في أعناقهم لأميرهم، ومثله من يضطلع بذلك.(2/181)
ديكتاتور (مايو) *
هو متصرف حوز "مايو" (1) الممتزج له مع مدرسة "تيغيلت" من قرى بني منصور صولات من الباطل وأنواع من الظلم والتعدي والخروج عن القانون بلغ فيه إلى نفي المعلّم بالمدرسة من حوز مايو. كأن حوز مايو مملكة لهذا الديكتاتور يحكم فيها بأمره، وكل من يدخلها فهو أجنبي عنها ولو كان من عمالة قسنطينة كالشيخ محمد الطاهر التاملوكي.
قد رفعنا أمر هذا الديكتاتور باسم جمعية العلماء مرة ثانية إلى رؤسائه عسى أن يوقفوه عند حدّه.
أما نحن فسنشرح معاملاته الطاغية لمدرسة بني منصور مدة عامين، وظلمه لجمعيتها ومعلمها وجزهم إلى المحاكمات بتهم باطلة. وسنفضح عداوته للتعليم العربي ولحركة الإصلاح الديني وتدخّله فيما لا يعنيه من ذلك. ونقيم منه الدليل على أن من أمثاله من الموظفين من هو بلاء على الأمّة والقانون قبل أن يكون بلاء على الأمّة.
أما ذلك المرابط، الطالع الهابط، فنحن له مرابطون، فليرتقب إنا مرتقبون ...
__________
* "البصائر"، العدد 22، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 9 فيفري 1948م. (بدون إمضاء).
1) "مايُو" اسم فرنسي لبلدة كانت تُسَمَّى "مشدالة"، وإليها ينسب العلَّامة أبو الفضل المشدالي. وقد أعيد إليها اسها بعد استعادة الاستقلال.(2/182)
مبارك الميلي*
حياة كلها جدّ وعمل، وحي كله فكر وعلم، وعمر كله درس وتحصيل، وشباب كله تلقّ واستفادة، وكهولة كلها إنتاج وإفادة، ونفس كلها ضمير وواجب، وروح كلها ذكاء وعقل، وعقل كله رأي وبصيرة، وبصيرة كلها نور وإشراق، ومجموعة خلال سديدة، وأعمال مفيدة. قلّ أن اجتمعت في رجل من رجال النهضات، فإذا اجتمعت هيّأت لصاحبها مكانه من قيادة الجيل، ومهّدت له مقعده من زعامة النهضة.
ذلكم مبارك الميلي الذي فقدته الجزائر من ثلاث سنين ففقدت بفقده مؤرّخها الحريص على تجلية تاريخها المغمور، وإنارة جوانبه المظلمة، ووصل عراه المنفصمة، وفقدته المحافل الإصلاحية ففقدت منه عالمًا بالسلفية الحقة عاملًا بها، صحيح الإدراك لفقه الكتاب والسنّة واسع الاطلاع على النصوص والفهوم، دقيق الفهم لها والتمييز بينها والتطبيق لكلياتها. وفقدته دواوين الكتابة ففقدت كاتبًا فحل الأسلوب جزل العبارة لبقًا بتوزيع الألفاظ على المعاني، طبقة ممتازة في دقة التصوير والإحاطة بالأطراف وضبط الموضوع والملك لعنانه. وفقدته مجالس النظر والرأي ففقدت مدرهًا لا يبارى في سوق الحجة وحضور البديهة وسداد الرمية والصلابة في الحق والوقوف عند حدوده. وفقدته جمعية العلماء ففقدت ركنًا باذخًا من أركانها لا كلًا ولا وكلًا، بل نهاضًا بالعبء مضطلعًا بما حمل من واجب، لا تؤتى الجمعية من الثغر الذي تكل إليه سده ولا تخشى الخصم الذي تسند إليه مراسه. وفقدت بفقده علمًا كانت تَسْتَضِيءُ برأيه في المشكلات فلا يرى الرأي في معضلة إلا جاء مثل فلق الصبح.
تشوب هذه الذكريات التي نقيمها لرجالنا في هذا العهد شائبة نقص، إلّا تحسب علينا في باب فساد الذوق تعد من سوء الصنيع، وهي أن المتكلمين فيها والكاتبين يقيمون منها
__________
* "البصائر"، العدد 26، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 8 مارس 1948م.(2/183)
مناحة مأتم، فيتفجعون للمصيبة، ويبكون على الفقيد ولو غبرت عليه السنون، ويثيرون أشجان السامعين بتهويل المصيبة فيه، وتجد الشعريات سبيلًا إلى ألسنتهم وأقلامهم ومنفذًا إلى نفوسهم وعواطفهم فتفسد على الحكمة أمرها. وكل فجيعة لم يمسحها السلو، تحكم فيها الغلو، لأن السلو يفرغ المجال للاتعاظ والتأمل، والغلو يفتح الباب للانتحال والتعمل. ولا أكذّب الواقع فأنا أجد في نفسي هذا الميل كلما قمت متكلمًا في حفل من هذه الذكريات، وأجدني في حالة من التأثّر أتمثل فيها الفجيعة حاضرة فأقول في البكاء والاستبكاء أكثر مما أقول في التأسي والاعتبار. وإني أتخيّل أن منشأ ذلك في نفسي حالة واقعية وهي الفراغ الذي يتركه في الصفوف كل راحل من رجالنا وأن كل من خلا موضعه في الميدان منهم عزّ عنه العوض. ولو كنا من قوم القائل: (إذا مات منا سيد قام سيد) لكانت حالتنا النفسية غير ما هي.
والجانب المفيد في هذه الذكريات أن تكون درسًا لخصائص الرجال، وتجلية لمناشئ ذلك فيهم، ووضعًا للأيدي على الذخائر الخلقية المودعة في نفوسهم الكبيرة وإعلانًا للميزات العالية التي كانوا بها رجالًا، وإذاعة لما يجهله الناس أو يغلطون فيه من موازين الرجولة أو يبخسونه من قيمها، كل ذلك بتصوير يبيّن موقع التأسي ويسوق إليه ويحمل عليه.
وجوانب العظمة في حياة أخينا مبارك كثيرة، ومآخذ العظات والأسى من تلك الحياة أكثر. ولعل الكاتبين لسيرته والدارسين لحياته اليوم أو غدًا يستوفون البحث في نواحي تلك العظمة ويستخرجون تلك العظات يدلون بها قوافل شبابنا المغذة في صحراء الحياة على خضرائها، وينصبون منها أعلامًا هادية للضُّلَّال، ومنارات مرشدة للآتي من الأجيال. وأنا سائق لناشئتنا العلمية من حياة هذا الرجل عظة واحدة وقائل فيها ما تحتمله كلمة قصيرة في صحيفة صغيرة: تلك العظة هي طريقته في تحصيل العلم ووسيلته إلى تلك الدرجة التي وصل إليها في اتقان التحصيل وسعة الاطلاع وانفساح الذرع وإحسان الاستثمار.
فالرجل تلقّى التعليم البدائي في "ميلة" والمتوسط في قسنطينة والنهائي في الزيتونة. وليس في هذه المراحل ما يفوق به القرين أقرانه. فكثير من المحصلين بيننا سلكوا هذا السبيل: البداية في الوطن، والنهاية في الزيتونة، وقليل من يبعد النجعة إلى الأزهر، هذا هو الشأن. إن أبعدنا فمنذ خراب أمصار العلم كتلمسان وبجاية، وإن قربنا فمن رحلة أسرة الشيخ المختار الشوثري العياضي إلى هجرة قريبنا الشيخ سعد قطوش السطيفي في العقد الثالث من هذا القرن الهجري.(2/184)
شارك مبارك أقرانه وشاركه السابقون له في الطلب واللاحقون في كل شيء، شاركهم في البداية والنهاية وفيما بينهما، وشاركهم في الأساتذة والكتب والمدّة والشروط. ولم ينفرد دونهم بذكاء مفرط خارق للمعتاد المألوف، وإن كان حظه من الذكاء موفورًا، ولا بقريحة شفافه تنكشف لها المحجبات ويعد فيها واحد الآحاد، وإن كان نصيبه من استنارة القريحة نصيبًا مذكورًا. ولا بحافظة واعية تصطاد كل ما تسمع، كما يؤثر عن حفاظ اللغة والحديث والشعر والأنساب، وإن كانت حافظته فوق المستوى العادي. فما الذي بلغ به ما بلغ من الشفوف على أقرانه في كثير مما لا يسمّى العالم عالمًا إلا به؟
إن الذي بلغ به تلك المكانة من العلم أربعة أشياء ما اجتمعت في طالب علم إلا رفعته بالعلم إلى تلك المنزلة: استعداد قوي، وهمّة بعيدة، ونفس كبيرة، وانقطاع عن الشواغل الفكرية والجسمية يصل إلى حدّ التبتل. وهذه الأخيرة- لعمري- هي بيت القصيد.
يشهد كل من عرف مباركًا وذاكره أو ناظره أو سأله في شيء مما يتذاكر فيه الناس أو يتناظرون أو يسأل فيه جاهله عالمه، أو جاذبه الحديث في أحوال الأمم ووقائع التاريخ وعوارض الاجتماع أنه يخاطب منه عالمًا أي عالم، وأنه يناظر منه فحل عراك وجدل حكاك، وأنه يساجل منه بحرًا لا تخاض لجّته وحبرًا لا تدحض حجّته، وأنه يرجع منه إلى عقل متين ورأي رصين ودليل لا يضلّ ومنطق لا يختل، وقريحة خصبة وذهن صيود وطبع مشبوب وألمعية كشافة. هكذا عرفنا مباركًا وبهذا شهدنا، وهكذا عرفه من يوثق بمعرفتهم ويرتاح إلى إنصافهم ويطمأن إلى شهادتهم، لا نختلف في هذا وإنما نختلف في مردّ ذلك إلى أسبابه وأبوابه. فيقول الخليون الفارغون: "إنها مواهب وحظوظ". ويقول المسدّدون المقاربون: "إنه استعداد أعانه الدرس وقوته القراءة" ويقول المعللون الباحثون -ونحن منهم-: "إن كل ما شاهدناه في أخينا مبارك وشهدنا به هو نتيجة لأسباب مترتبة في نفسها وفي نفسه وهي استعداده للعلم وإيمانه به واعتقاده لشرفه ومنزلته واجتهاده في تلقّيه وانقطاعه لتحصيله وإخلاصه في طلبه وحبس الدقائق والأنفاس عليه وحده حتى ما يضاره بشاغل ولا يزاحمه بعائق ثم صرف الهمة كلها إلى الاستزادة منه بالمطالعة والقراءة".
هذه هي الأسباب التي كوّنت لنا من مبارك الميلي عالمًا مستكمل الأدوات يملأ معناه لفظه. وهي أسباب- كما نرى- كسبية يستطيع كل طالب للعلم أن يقلّل منها فيقل أو يكثر منها فيعظم ويجل. وإنما يتفاوتون بالطبيعة في شيئين: الاستعداد وبُعد الهمّة، وإن الثاني منهما أصل لجميع ما ذكرنا. وكأين من طالب قوي الاستعداد ميسّر الأسباب ولكنه بارد الهمّة ضعيف الإرادة فلا يعود عليه استعداده بغناء.(2/185)
ليس في هذه الأجيال التي أظلّها زمننا إلا عصابة معدودة اتفق لها ما اتفق لأخينا مبارك من أسباب النبوغ في العلم والتمكن من التحصيل، وإن لم يتفق لجميعهم ما اتفق له من الشهرة وذيوع الإسم لأن للشهرة أسبابًا أخرى منها العمل والإفادة والإنتاج والتضحية والصدوف عن قيود الوظائف والانغماس في المجتمع لخدمته ونفعه. ونحن نعرف هذه العصابة العصامية ونعرف مبلغها من العلم وحظها من العمل. ومنهم المقصر فيه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق. وبها نقيم الحجّة على شبابنا الذي نعدّه للميراث والاستخلاف، والذي فتنته الفتن وألهته الملهيات عن التحصيل للعلم. وبهم نضرب الأمثال ليذكر الغافل وينشط الخامل. وإن في سير الكاملين لذكرى للمقصّرين والخاملين.(2/186)
نداء إلى الشعب*
إذا أصيبت الأمّة بكارثة من كوارث الزمان ووجد فيها من يتألم لتلك الكارثة ويهتز لها فذلك دليل قوي على حيوية الأمّة ورشدها ومقياس صحيح لتقدّمها ونهوضها.
وهي بذلك تقيم، لأصدقائها وخصومها، البراهين القاطعة على أنها خليقة بحرّيتها، جديرة بأن تتبوّأ مكانتها بين الأمم الحزة.
أما إذا كانت الأمّة غافلة عن واجبها نحو المجموع لا يفكّر أفرادها إلا فيما حولهم ولا تنظر جماعاتها إلا إلى محيطها الخاص، فهي أمّة غبية ليست خليقة بالاحترام ولا جديرة بما تصبو إليه من حرية.
نقول هذا بمناسبة الكارثة العظمى التي حلّت بساحة "الشريعة" ونواحيها من أحواز "تبسّة".
ففي ليلة 28 من شهر فيفري، دهمت سكان تلك الجهة سيول جارفة وحملت عليهم الأودية الهائلة من كل صوب، فلم تترك شيئًا من الأبنية والعباد والفلاحة والحيوانات والأقوات إلا أتت عليه وتركت أراضيهم وعمارتهم قاعًا صفصفًا.
وقد قُدّرت الخسائر المالية بعشرات الملايين، أما الضحايا من الأنفس البشرية فإنها تزيد على المائة. وما زالت عمليات الاكتشاف مستمرة، وأما الأفراد الذين بقوا بلا مأوى ولا قوت فعددهم يزيد على الألف.
فواجب الأمّة أن تهتز لهذا الحادث وتتكثل حوله وتعيره جانبًا كبيرًا من الأهمية فتسرع بتشكيل لجان، وفتح اكتتابات في أهم مدن القطر وقراه لإسعاف من نكبوا بهذه الكارثة الجسيمة وتخفيف الوطأة عنهم، وذلك من أول مظاهر وجود الأمّة.
__________
* "البصائر"، العدد 28، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 22 مارس 1948م. (بدون إمضاء).(2/187)
وفي طليعة من نوجّه إليهم هذه الصرخة، شُعَب جمعية العلماء في جميع أنحاء القطر لأنهم الممثلون لجمعية العلماء وهي الهيئة الوحيدة التي تعبّر عن شعور الأمّة تعبيرًا صحيحًا وتحسّ بآلامها وتعمل على تحقيق رغائبها قبل كل هيئة. وهي التي ما وُجدت إلا لتضمّد جراح الأمّة وتداوي كلومها وتقودها إلى المستوى الذي يشرّفها ويليق بكرامتها.
وقد شاهدنا أمثال هذه الكوارث إذا نزلت بالأمم الراقية كيف تتكتّل الشعوب والحكومات حولها.
شاهدنا الزلازل التي حلّت بتركيا وإيطاليا وشاهدنا حوادث الطوفان الذي دهم فرنسا في وقت من الأوقات كيف تكتّلت حكوماتهم وشعوبهم حولها وقاموا وقعدوا من أجلها وملأوا الدنيا صراخًا وعويلًا وشاهدناهم لا يكتفون بجهود حكوماتهم وشعوبهم بل يستعطفون الحكومات والشعوب النائية.
أما نحن الجزائريين فأصواتنا مكبوتة وحرّيتنا مصفدة فلا نعوّل إلا على أنفسنا ولا نستنجد في مثل هذه الكوارث إلا بأمّتنا، فهي- وحدها- عليها الاتكال ومنها المعونة.
وواجبنا في مثل هذه المواقف أن نضرب المثل الأعلى للإحساس المشترك والشعور الإنساني والقيام بما يقتضيه منا الواجب الديني والوطني، وبذلك نضرب الرقم القياسي للأجيال الآتية بأننا أناس نشعر بالمسؤولية ونتحمل أعباءها مهما عظمت.
وبهذا نحمل الخصوم والأصدقاء على احترامنا والإعجاب بنا.
أيتها الأمّة الكريمة، إن إسعاف هؤلاء المنكوبين أمر أكيد يقتضيه منا الدين وحقوق المواطن على مواطنه فلا يليق بأمّة تحترم نفسها وتحرص على أن يحترمها غيرها أن تغض الطرف عن قيامها بالواجب في مثل هذه المآسي التي يلين لها الجماد.
وما دمت، أيتها الأمّة مؤمنة بالقرآن الكريم فتذكّري قول الله تعالى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} و {مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}.
وما دمت تؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فتذكري قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، وقوله: «مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وقوله: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ».(2/188)
أيتها الأمّة الكريمة إنك إذا قمت بواجبك في أمثال هذه المآسي تكونين قد أرضيت الله ورسوله وحملت خصومك على احترامك وبرهنت على أنك جديرة بما تطمحين إليه من عزّة وسيادة.
وفي الختام، أرجوك أن تسنّي هذه السنّة الحسنة، فإن «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
هذا وقد افتتحت جمعية العلماء هذا الاكتتاب بإعانة قدرها 10000 فرنك.(2/189)
بلاغ إلى الأمّة العربية الجزائرية*
(من المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الدستور الذي وضعته الحكومة الفرنسية للجزائر ووافق عليه برلمانها في أكتوبر 1947 هو دستور ناقص من جميع جهاته لم يحقق رغبة واحدة من الرغائب الوطنية للجزائر.
وآفته أنه فرض عليها فرضًا، ولم يُؤخذ رأيها فيه. والدستور النافع هو الذي يكون للأمة رأي في وضعه، واختيار لمنهاجه، ويد في تشريعه ويكون ناشئًا عن رغائبها ليكون محقّقًا لرغائبها.
ولتلك الآفة لم يرضه حزب من أحزاب الأمّة ولا نائب من نوّابها على اختلاف مشاربهم الحزبية وعلى تفاوت حظوظهم في الوطنية، بل قابله جميعهم بالاستنكار.
والمجلس الجزائري الذي ينفّذ ذلك الدستور هو مجلس ناقص أيضًا من جهات كثيرة، بعضها في أصل وضعه كعدم اعتبار النسبة العددية في السكان، وبعضها في وسائل تشكيله كاستبداد الحكومة بتخطيط الدوائر الانتخابية، وتدخّلها في توجيه الانتخاب إلى جهاتها وضغطها على حرية المنتخبين كما عهدناه منها فيما هو أقل من هذا الانتخاب قيمة وأحط منه اعتبارًا.
ومع تلك النقائص كلها فإن مصلحة الأمّة الحقيقية توجب عليها أن تجاري الظروف وأن تستغل ما في هذا الدستور من خير ولو كان كقطرة من بحر.
وجمعية العلماء التي هي جمعية الأمّة كلها تفرض عليها حقيقتها ووضعيتها أن تكون فوق الطوائف والأحزاب لتكون حكمًا بينهم إذا اختلفوا على مصلحة، وهي لا تستمد حكمها إلا من منطق الواقع والحكمة والمصلحة العامة والنظر البعيد.
وعليه، فهي تتقدّم إلى الأمّة العربية الجزائرية بأحزابها وهيئاتها وأفرادها بالحقائق الآتية:
__________
* "البصائر"، العدد 29، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 29 مارس 1948م.(2/190)
أولًا: إن اختلاف الأحزاب، وما جرّه الخلاف من سباب، وما جرّه السباب من أحقاد، وما جرّته الأحقاد من تضييع للمصلحة، كل ذلك استنكرته الجمعية بالاعتقاد، وأنكرته بالقول الصريح، وسعت في إزالته بالعمل الجدّي، لأنها تعلم أن عواقبه وخيمة، وأن أدنى عواقبه تمزيق الشمل وإضعاف القوّة: وأنه- أولًا وأخيرًا- ليس من مصلحة الوطن والأمّة، وإنما هو من مصلحة خصوم الوطن وأعداء الأمّة. وقد قامت الجمعية في أوقات ومناسبات شتّى بمساع جدّية صريحة للتقريب بين الأحزاب وإقرار روح الأخوّة والتسامح في النفوس لتصل من ذلك إلى اتحاد متين يوجّه الجهود والكفاءات إلى خدمة المصالح الحقيقية للوطن. وآخر جهودها ما قامت به في هذه الأسابيع الأخيرة المتصلة بكتابة هذه السطور ... وهي- وإن لم تصل إلى غايتها من جمع الكلمة- لم تيأس من ذلك ولم تفشل وما زالت تفترص الفرص لتجديد السعي في جمع الكلمة على الحق وتوحيد الأحزاب على المصلحة العامة للوطن. وهي تعتقد أن الاتحاد الذي تنشده الأمّة وتعلّق آمالها على جمعية العلماء في تحقيقه إذا لم يتم اليوم فسيتمّ غدًا. والجمعية تعلن أنه ليس من مصلحة الأمّة ولا من مصلحة الأحزاب ولا من مقتضيات الذوق أن تشرح مساعيها للاتحاد في هذه الظروف.
ثانيًا: يجب على الهيئات الداعية للانتخابات باسم الحزبية أن تجرّد دعايتها من السب والقدح وجرح العواطف وإثارة الأحقاد، وأن تبني تلك الدعاية على أشرف ما تُبنى عليه الدعايات في الأمم الحيّة وهو المبادئ والبرامج ووسائل تحقيقها. وعلى القادة والمترشحين أن لا يقولوا ولا يعملوا إلا ما يبقي على الأخوّة ويعين في المستقبل على جمع الكلمة، وعلى عقلاء الأمّة أن يلزموا أولئك الدعاة عند حدود الاعتدال، ويفهموهم أن في مكافحة الاستعمار ما يستنفد أقوال القائلين وأعمال العاملين. وليعلموا جميعًا أن هذه النقطة من أسس تربية الأمّة تربية رشيدة.
ثالثًا: يجب على الأحزاب التي تجعل رائدها مصلحة الوطن العليا أن تجري في الدورة الثانية على قاعدة متبادلة وهي أن تسلم الأقلية منهم للأكثرية وأن تعاونها على الفوز لكي يسدوا الطريق في وجه الحكوميين والانتفاعيين الذين لا يمثّلون إلا أنفسهم.
رابعًا: يجب على الناخبين أن يقدّروا هذه الانتخابات حق قدرها، وأن لا يستخفوا بها، ولا يقاطعوها، وأن لا يتخلف أحد عن الانتخاب، وأن لا يتأثّر بتهديد الإدارة وتخويفها وليعلم أن إعطاء ورقته شهادة للوطن أو عليه. فليعرف أين يضع ورقته ولمن يعطي شهادته. وأن المقاطعة وإعطاء الورقة لغير الرجال العاملين هو تضييع لحقوق الوطن يعود عليه بأشأم العواقب.(2/191)
خامسًا: يجب على الأمّة أن تميز بين أصحاب المبادئ وأصحاب الأغراض والمنافع الشخصية، وأن تفرّق بين من يقدّمه حزب أو جماعة من الأمّة وبين من يقدّم نفسه. والواجب عليها بعد أن تميّز هؤلاء من هؤلاء أن تعطي أصواتها لأصحاب المبادئ، وتنبذ الفريق المستغل المستعمر المفتون بكراسي النيابة لا ليخدم الأمّة بل ليخدم نفسه. وقد جرّبت الأمّة هذا النوع من النواب، ولا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين. وأن أخزى الرجال رجل يتوصل إلى النيابة عن الأمّة بوسائل سخيفة وأوراق مسروقة وحريات مغصوبة.
سادسًا: يجب على الأمّة أن تحذر كل الحذر من المرشّحين المستقلّين، فإن هذا الوصف خداع يلوذ به كل حكومي وينتحله كل انتفاعي ولا يصدق منه إلا القليل وإذا وجد من هذا القليل مترشح فأهل دائرته أعلم به: فليستوثقوا منه ومن صلاحيته وخدمته للمصلحة الوطنية ..
أيتها الأمّة!
إننا نعرف الإدارة الجزائرية الاستعمارية. ونعرف أنها لم تغيّر شيئًا من عاداتها القديمة. ونعلم أنها تجهد جهدها لتقيم من هذا الانتخاب دليلًا على أن نوّاب الجزائر لا يطلبون لها إلا الخبز والثياب، وأن هذا هو كل ما تطلبه الأمّة الجزائرية وكل ما تستحقه. فَكَذِّبي هذا الدليل بدليل يدحضه بحسن اختيارك للرجال ذوي المبادئ المطالبين بحقوقك السياسية المثبتين لاستحقاقك الحرية الكاملة التي ترفعك إلى المكانة العالية بين الأمم الحية.
عن المجلس الإداري
الرَّئِيسُ: محمد البشير الإبراهيمي(2/192)
الأستاذ محمد بن العربي العلوي*
تاريخ الرجال علم برع فيه مؤرخو الإسلام، وتفننوا في تقسيمه وتفريعه. ولا نظن أن أمّة من أمم العلم والحضارة كتبت جزءًا يسيرًا مما كتب علماء الإسلام في تاريخ رجاله وطبقاتهم. وقد خمدت تلك الشعلة من عهد السخاوي والسيوطي وأضرابهما في الشرق ومن عهد أقرب منه وهو عهد ابن القاضي في المغرب. ومرّت هذه القرون ورجالها أغفالًا لم توسم بتعريف. ولعل هذه النهضة تحيي- فيما أحيت من الرسوم الدائرة- هذا النوع الجليل من تاريخ الرجال.
والأستاذ الأكبر الشيخ محمد العربي العلوي، إمام سلفي وعالم مستقل واجتماعي جامع. وهو- في نظرنا- أحق برتبة الإمامة من كثير ممن خلع عليهم المؤرخون هذا اللقب. ونحن في أخص الصفات التي تربطنا به وهي السلفية والإصلاح نجاوز درجة الإعجاب به إلى الفخر والتعاظم.
وهذه مقالة للأستاذ علال تكشف عن بعض نواحي عظمة هذا الإمام. ولعل الأقدار تقيض من يكتب له ترجمة حافلة تكشف عن مواقع الأسوة بذلك الرجل خصوصًا في سلفيته وجراءته في تلك السلفية، وهي نقطة التلاقي الحقيقية بينه وبين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
ولو أن هذه النهضة وصلت في أطوارها إلى كتابة معلمة لرجالها لكان من تمامها أن لا يكتب ترجمة ابن العربي إلا علال.
وهذه مقالته نقلًا عن جريدة "الإخوان المسلمون".
__________
* مقدّمة مقال نُشر بالجريدة للأستاذ علال الفاسي عنوانه "علم من أعلام النهضة الإسلامية"، "البصائر"، العدد 30، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 5 أفريل 1948م. (بدون إمضاء).(2/193)
ذكرى عبد الحميد بن باديس الثامنة
وموقع معهد منها*
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أظلتنا الذكرى الثامنة لموت فقيد العروبة والإسلام ومحييهما بهذا القطر عبد الحميد بن باديس، ونحن في بحر لجي من الفتن المحيطة بالعروبة والإسلام، نغالب
تيارها، ونروّض بالعزيمة زخارها، ونقاوم بالإيمان والثبات إعصارها. وكأنها توافت على ميعاد لتمتحن وفاءنا للفقيد وتلهينا بأباطيلها عن القيام بحقه، وتحملنا بقسوتها على النسيان لفضله، فما وجدت إلا ما يشجيها بالغم، ويزجيها على الرغم.
وقد كانت إقامة هذه الذكرى في السنين الماضية لا تعدو إثارة الشجون الراكدة وتعديد فضائل الفقيد وتهويل المصيبة فيه. فإن زادت فبتجلية مواقع الأسوة للشباب المتعلم من سيرته، ومع اتساع آفاق تلك السيرة وانفساح مجال القول فيها فقد أصبح الحديث عنها من المكرّر المعاد.
أما ذكرى هذه السنة فإنها تمتاز بشيئين جديدين يحلو الحديث عنهما ولا يتطرق إلى سامعيه الملل، ويأتي المتحدث فيهما بالحكمة السائرة في هذا الباب وهي ذكر العظماء بأعمالهم، وحثّ الأمّة على تحقيق آمالهم.
هذان الشيئان هما: عودة "البصائر" إلى الظهور وتأسيس معهد ابن باديس بقسنطينة.
مات الفقيد في السادس عشر من أبريل سنة 1940 وفي نفسه حسرة من تعطيل "البصائر". وكان معتزًّا بها أيما اعتزاز.
وكان في السنة الأخيرة لتعطيلها هو الروح المقوّم لها، فكان يغذيها بنفحات من روحه ونفثات من قلمه. وكان يعلّق آماله في ترقيتها على رفيقه كاتب هذه السطور، وكان الكاتب
__________
* "البصائر"، العدد 32، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 19 أفريل 1948م.(2/194)
لا يتسع وقته لذلك، لأن الهبّة التعليمية كانت في عنفوانها، ورغبة الأمّة في درس القرآن والحديث كانت متأججة مضطرمة، فكان الكاتب يرى أن من الإجرام تبريد تلك الفورة بالتقصير وإنفاق الوقت في غير التعليم. وكان- رحمه الله- يشتد عليّ في اللوم ويصمي بالتقصير في حق "البصائر"، فإذا زارني بتلمسان ورأى الدروس تنتظم الساعات وسمع درس التفسير بالليل ودرس الموطأ في الصباح الباكر ورأى إقبال الجماهير وتأثّرهم، ابتهج ابتهاج الظافر، ونسي "البصائر" والحديث عنها. واسترحت من لومه وعتابه.
وأذكر أنه صادف في ليلة من تلك الليالي الزاهرة بحياته درسًا في دار الحديث من تلمسان في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، فقال لي- رحمه الله- بعد تمام الدرس ما معناه: (إن هذا الدرس وحده كاف لإحياء أمة مستعدة. ولقد زادني هذا الدرس إيمانًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن: "لا تنقضي عجائبه". وإن ما سمعته منك في معنى اتخاذ البيوت قبلة هو ما حوم عليه علماء الاجتماع في مبدإ تكوين الوحدة الاجتماعية للأمم. وأين هداية التجارب من هداية كلام الله؟ ولوددت لو أن المسلمين كلهم يسمعون مثل هذه الدروس). فقلت ممازحًا له: و"البصائر" ... فقال لي: ما عليك بعد هذا الجهد أن لا تكتب في البصائر. ولو أن التلاميذ أوتوا حظًا من النشاط والتوفيق لما ضاعت هذه الدروس ولنشرت كما هي ففزنا بالحسنيين. فقلت له: عزائي عن هذا أن دروسك لم تكتب وقد شارفت ختم القرآن وأين هذا الوشل من ذلك البحر؟ وما قلت له هذا مجاملًا ولا متواضعًا. وما كان مبنى الأمر بيننا- ما عشنا- على الرياء والمجاملة: رحمه الله رحمه الله. فعودة "البصائر" إلى الظهور بهذه الديباجة وبهذا الأسلوب أمل من آمال الفقيد قد تحقّق، ودين له على جمعية العلماء وفت به في وقته. وما أرهق الدائن ولا مطل الغريم، ولو عاش- رحمه الله- لقرّ بهذا العمل عينا. فليكن هذا العمل هو زين هذه الذكرى وجمالها وشارتها الممتازة ووشيها الفني.
ثم هات الحديث عن المعهد. إنه- والله- الغرة اللائحة في هذه الذكرى. فقد كان من آمال المرحوم أن تكوّن جمعية العلماء في الجزائر كلية- بالمعنى الحقيقي للفظ الكلية- وكان يرى أن هذه الكلية هي العلة الغائية لوجود جمعية العلماء وهي الثمرة للتعليم الذي تجهد فيه وتلاقي في سبيله العنت والنصب، وكنا معشر إخوانه نشاركه في الأمنية والعمل. والغاية من الكلية، وهي أن تخرّج للأمّة علماء اختصاصيين في فهم الدين على حقيقته، وفي فقه أسرار الشريعة مأخوذة من كتاب الله والصحيح من سنّة نبيّه، وفي طرائق الدعوة والإرشاد التي بُني عليها الإسلام، وفي الخطابة التي هي سلاح تلك الدعوة، وفي الأخلاق والآداب الإسلامية التي هي لباب الدين، وفي فقه أسرار اللسان العربي وآدابه، مع المشاركة في علوم الحياة التي هي سلاح العصر، بحيث يخرج المتخرّج منها كامل الأدوات.(2/195)
وكان- رحمه الله- كثير التحدّث عن هذه الكلية، تصوّر له خواطره منها أكمل مثال، فتجيش تلك الخواطر حديثًا ممتعًا لذيذًا ننازعه إياه ونجاذبه حبله فنذكي خياله في التصوّر وبراعته في التصوير ونحدو آماله إلى التحقق، وكان كلما اجتمعت ثلة من إخوانه تشاركه في الأمنية والرأي يجري حديث الكلية ويقول لإخوانه: أنا أستكفيكم في كل أمر يتعلّق بالكلية إلا الاستعمار فأنا أكفيكموه فخلوا بيني وبينه. يقول ذلك إيمانًا بربّه، واعتدادًا بنفسه، واعتزازًا بدينه. وكان منقطع النظير في هذه الثلاثة.
وقد اقترح على كاتب هذه السطور أن يضع برنامجًا جامعًا لدروس الكلية وكتبها ودرجاتها ومناهج التربية فيها وطرائق التعليم العالي، فقلت له: إن هذا شيء يأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة، وقبله التمهيد ثم التشييد، فقال لي: إن البرنامج يذكي النشاط ويغري الهمم بالعمل. ففعلت. وجاء البرنامج حافلًا بالتدقيقات الفنية في التربية والاعتبارات العملية في التعليم، والكتب القيّمة للدراسة، ومعه تخطيط للكلية ومرافقها. فلما قرأه قال لي: كأني أرى بعيني ما خطّه قلمك حقيقة واقعة. وما ذلك على الأمّة الجزائرية الماجدة بعزيز. وما ذلك على رجالها المخلصين بكثير.
مات الأستاذ الرَّئِيسُ والأمنية تختلج في نفسه وتعتلج مع خواطره. ولقد مات وعواصف الفتن تعصف، ومدافع الحرب تقصف، وأعضاء الجمعية مشتتون بسبب تلك الهزاهز التي تُذهل الخليل عن خليله. فلما تنفّس الخناق قليلًا رأت جمعية العلماء التى كان يعمل الفقيد لها وباسمها وهي الوارثة لمعنوياته والمؤتمنة على مبدإ الإصلاح المشترك، أن تتمّ أعماله وتُحقّق آماله، وأن تبرز الكلية من الخيال إلى الحقيقة، فوجدت أن ذلك- كما هو الواقع- يستلزم اجتياز مراحل متتابعة: توسيع التعليم العربي الابتدائي بتكثير مدارسه وتصحيح مناهجه وإعداد رجاله، وقد بلغت الجمعية من هذا في السَّنوات الأخيرة- رغمًا عن العراقيل- ما تُغبط عليه، وما لو اطلع عليه المرحوم من وراء حجاب الغيب لسرّه ولعدّه من الخوارق. ثم خطت إلى المرحلة الثانية خطوة بتأسيسها لمعهد قسنطينة في أواخر السنة الماضية. ولسنا نعدّ المعهد مدرسة ثانوية فضلًا عن كونه كلية لأننا نسمّي الأشياء بأسمائها ولا نزور فيها. ولأننا نعلم أن تفخيم مثل هذه الأشياء مزلقة إلى الكذب فيها والتزوير على الحقيقة بها، ومدعاة إلى غشّ الأمّة في أبنائها. وما وجد التفخيم إلا كان سببًا في الترخيم. والترخيم حذف ونقص. وإنما المعهد مدرسة دينية ابتدائية أرقى من مدارس البنين تهيّئ للتعليم الثانوي الذي يهيّئ للتعليم العالي. وما ربطناه بجامع الزيتونة إلا تمهيدًا لذلك، وإلّا تدريبًا لطلّابه من أوّل مرحلة على المناهج التي تفضي بهم إلى آخر مرحلة، حتى ينتقلوا من الأشبه إلى الأشبه، فلا تشتبه عليهم المسالك ولا يضلّ بهم الدليل، والنية معقودة- إذا يسّر الله الأسباب- على إحداث معهد في الجزائر وآخر في تلمسان تسهيلًا على الطلاب واستيعابًا لعددهم المتزايد.(2/196)
وسنربط الجميع- على التدريج والاقتضاء والاستعداد- بالزيتونة والقرويين، بل ستكون هذه المعاهد إحدى وسائل التقريب بين الكليتين. فإننا نعتقد أن الزمن سائر بكليتينا إلى الإصلاح الذي يتطلبه الزمن والبلوغ من الإصلاح إلى أعلى ذروة، وسائر بهما حتمًا أو اختيارًا إلى توحيد المناهج والكتب. وسيكون آخر ما ينتهي إليه الإصلاح بطبيعته إلغاء التعليمين الابتدائي والثانوي من الكليتين وقصرهما على التعليم العالي للعلوم الإسلامية العربية - بالمعنى الواسع لهذه العلوم- وما تتطلّبه من علوم الحياة وإيكال ذينك التعليمين إلى مدارس في الآفاق موحّدة البرامج، موحّدة الإدارة والإشراف.
فأَما كلية وتدرس الاجرومية فلا، ثم لا، ثم لا. إن كل واحد من اللفظين يتبرّأ من صاحبه وأخشى أن يتبرآ معًا منا لسوء ما تصرفنا فيهما.
إن هذا النوع من المجازفة بالأسماء مما تساهلنا فيه فسهل علينا فصار لنا عادة فَعَمَّمنَاهُ فأصبح لنا سبة. ولو شئنا لضربنا الأمثال. وإن هذا التساهل هو الذي جرّأ المفترين على تسمية المدارس الابتدائية كليات وما أخذوا ذلك إلا من أن جامع الزيتونة يدرس الأجرومية وهو كلية. فكل مدرسة تدرّس الأجرومية فهي كلية، ويا ويلنا إذا تفطّن هؤلاء لكلمة (جامعة) التي تجري على بعض الألسنة والأقلام وصفًا للزيتونة والقرويين. إذًا، لأصبحت كتاتيب ألف با كليات، ومدارس الأجرومية وابن عاشر جامعات. وسيعينهم على ذلك أن لفظ الجامعة أخفّ وأجرى على اللسان وأسير لقربها من الجامع حتى كأنها مونَّثُهُ، وأرجو أن لا يكون في النهي عن المنكر دلالة عليه.
إننا نبني أساس نهضة فلنضع الأساس على صخرة وإلا انهار البناء، ولا والله لا نجاري الأمم في ميدان الحياة حتى تكون كلياتنا ككلياتهم في أسمائها ومسمّياتها. فإن لم يكن هذا فنحن هازلون في جدّ الزمان، ومغترّون في الخوف بعهد الأمان، وسائرون إلى الوراء بهدي الشيطان. ومن تطلّع إلى ثوب المجد فليحكه بأنامله ومن تشوّف إلى رفع الذكر فليجلبه بعوامله. أو لا فالشاعر (1) صارخ في واد. وسيبويه نافخ في رماد.
...
إن معهد ابنَ بادِيس تفسير لرؤيا ابن باديس. فعلى الأمّة التي تحبه وتحيي ذكراه في مثل هذا الأسبوع من كل سنة أن تعلم أن البكاء والأقوال لا يزيدان في تاريخه ولا في تاريخ الأمّة بابًا ولا فصلًا ولا صحيفة. وإن الذي يزيد ويفيد هو أن تلتفّ حول معهده بقلوبها
__________
1) هو القائل: "ما حك جلدك ... الخ".(2/197)
وعقولها وأموالها حتى يكبر ويترعرع، وتبسق أفنانه وتتفرّع، وحتى تكثر أمثاله في القطر. فما نزعم أنه غاية، وإنما هو بداية.
إن الواجبات علينا تلقاء هذا المعهد موزّعة بطبيعتها. فعلى الأمّة بذل المال من المرتخص والغال. وعلى الطلبة أمران: إقبال على العلم يصحبه إيمان بضرورته وتحمّل لمتاعبه. وانقطاع إليه يصحبه اعتقاد جازم بشرفه وأنه نور الحياة وأساس الوطنية ورائد الحرية. فمن لم يكن من الطلبة على هذه الصفات فليلزم داره، وليقطع في الأماني ليله وفي الغرور نهاره. وعلى جمعية العلماء الرأي والتنظيم، والتربية والتعليم، وما من رجالها إلا من هو بحظه زعيم.
إن الأمّة حين تزرع على يد جمعية العلماء ستحصد العلم وستجني الثمرات الطيّبة وتستغل الريع المبارك. لا يتخلّف شيء عن ميعاده ولا نتيجة عن مقدّماتها. وإنها حين تضع أموالها في هذا المعهد تؤدّي واجبًا عليها لنفسها وتقضي حقًا مؤكد القضاء لدينها ولوطنها. وإنها حين تضع المال في أيدي القائمين على المشروع، تضعه في الأيدي التي لا تخون ولا تختر، بل تربّه وتربّيه للأمّة. وقد رأت الأمّة مصادر المال منشورة معلنة. وسترى مصارفه كذلك موضحة مبنية، كدأب الجمعية في كل مشروع تمسّ فيه يدها مال الأمّة. وإننا نتحدّى جميع القائمين بالمشاريع العامّة أن يفعلوا كفعلنا. ونحن نبتهج بكل عامل للعلم ساع في تعليم الأمّة معتقد أن العلم وحده هو سلاح الحياة وسبيل النجاة. ولكننا أعداء للاتجار بالعلم والتزوير على الأمّة باسمه. خصوم للعيسوية الراقصة المرقصة بجميع مظاهرها.
...
هذه هي الكلمة التي نقدّم بها هذه الذكرى وهي بيت القصيد فيها. ولم ننح فيها منحى البكاء والتحسّر وتعداد المناقب، وإنما نحونا المنحى العملي الذي وجدت أسبابه، وفتحت أبوابه.(2/198)
ذوق صحفي بارد*
تعاني فلسطين "المجاهدة" محنة لا تحلّ إلا بعزائم وعقائد وإيمان تظاهرها أموال ورجال، على كثرة مصائبها وتفاوت تلك المصائب في الشدة والنكاية والإيلام، فإن أشد تلك المصائب وأوجعها إيلامًا تحذلق بعض الأقلام في تسميتها بـ "الشهيدة" كأنما تنعاها قبل الموت ونعيق بعض الغربان البشرية بأخبار الهزائم وتسويد بعض الصحف لأطرافها حدادًا عليها.
ما هذه التفاهة في الذوق أيها الصحفيون! أماتت فلسطين حتى تصفوها بـ "الشهيدة" وتجلّلوا صحفكم بالسواد حدادًا عليها.
إن لم يكن فعال فليكن حسن فال ... إن فلسطين حية ولكنها تجاهد ومأزومة ولكنها تكابد ولفألكم الخيبة ...
أتدرون أن ذوقكم هذا لا يحلو إلا لخصوم فلسطين؟
__________
* "البصائر"، العدد 35 السنة الأولى من السلسلة الثانية ماي. (بدون إمضاء).(2/199)
"البصائر" وأزمتها المالية
- 1 - *
تعاني جريدة "البصائر" أزمة مالية خانقة، بعض أسبابها الرَّئِيسُية غلاء الورق والطبع، غلاءً فجائيًا لم نقرأ له حسابًا في ظرف واسع. وبعض أسبابها الثانوية تضييع البريد لكثير من الطرود، فلا تصل إلى الباعة ولا تبقى عندنا، وتخسر "البصائر" نفقاتها. ومنها تهاون بعض الباعة في إرجاع المخلفات على الفور لتصرف إلى جهات أخرى، ومنها كثرة ما يرسل منها هدايا.
و"البصائر" جريدة البيان الحرّ، فلا تجعل الإسفاف منجاة من الكساد، وصحيفة الحق المر، فلا يكون المال مسكتًا لها عن حرب الفساد، ثم هي لا تطلب الرواج من طريق أخبار الولادة والزواج.
إن الجرائد لا تقوم بدخل البيع والاشتراك وإنما تقوم بالإعلانات والإعانات. أما الإعلانات فلا يتفق مع مشرب "البصائر" منها إلا القليل، وأجره ضئيل. وأما الإعانات فليس في أغنيائنا من تهزّه الأريحية فيجود على "البصائر" بمئات الآلاف فيشحذ بماله سلاحًا من أسلحة الحق، ويُطلق به لسانًا من ألسنة الصدق، فالتجأنا إلى صميم الأمّة من أنصار البيان العربي والدين الحنيف، واخوان الدفاع عن الخير والفضيلة. وها نحن أولاء نعلن للأمّة فتح باب الاكتتاب، راجين منها أن تمدّ اليد وتحسن العون، وأن تعلم حق العلم أن "البصائر" تتعفّف ولا تتكفّف. ولولا الضرورة لما قالت كلمة في هذا الباب.
قد طبعنا أوراق الاكتتاب ووزّعناها على الشعَب والأشخاص الذين نعتمدهم ونخصّهم بالثقة والإخلاص فليعمروها بأسماء المكتتبين ومقدار ما تبرّعوا به وليرسلوا ما تجمع بواسطة الشيك باسم المدير كما هو مرقوم في أوراق الاكتتاب ويرجعوا الأوراق إلى إدارة "البصائر" ممضاة بإمضاء القابض.
وللمبالغة في الاحتياط ختمنا كل ورقة في أعلاها بختم المدير باللون الأحمر، فكل ورقة ليس عليها ذلك الختم فهي مزوّرة.
__________
* "البصائر"، العدد 36، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 17 ماي 1948م. (بدون إمضاء).(2/200)
- 2 - *
جريدة "البصائر" هي لسان حال جمعية العلماء ولسان العروبة والإسلام بهاته الديار، وخادمة العلم والتعليم وسائر الحركات الفكرية والأدبية في ميدان الثقافة الشرقية، وحاملة راية الجهاد المستمر في ميدان الكفاح الوطني، وبهذه الاعتبارات فهي جريدة كل مسلم جزائري يحمل بين جنبيه الغيرة على وطنه ولغته ودينه.
ولكن رغم ذلك- ويا للأسف- فإن هاته الجريدة توشك أن تتعطل عن القيام بواجبها مكرهة، إذ هي لا تعتمد في مواردها المادية إلّا على اشتراكات المشتركين ودخل الباعة، وليس لها اعتمادات أو إعانات أو إعلانات تقوّي ميزانيتها، وإذا كان المشتركون يتهاونون في دفع ما بذمتهم أو لا يدفعونه حتى نرسل إليهم مَن يأخذه منهم، والباعة يتقاعسون عن تصفية حساباتهم بانتظام وفي كل شهر، فإن نظام سير هذين الموردين الوحيدين للجريدة يختلّ، وإذا اختلّ فهي لا شك سائرة إلى الهاوية، لا قدّر الله، وذلك ليس في مصلحة الدين ولغة الدين ولا في مصلحة قضايا الوطن الهامة.
لهذا تعطلت "البصائر" عن الصدور هاته المدة الأخيرة، وانها لتعتذر لحضرات المشتركين الذين سدَّدُوا ما بذمتهم، وترجو من غيرهم أن يدفعوا ما عليهم، ومن الباعة أن يصفّوا حساباتهم ويرسلوا ما لديهم من مال "البصائر" في أقرب وقت لكي تعود "البصائر" إلى الصدور بانتظام.
غير أننا فتحنا اكتتابًا عامًا لإعانة الجريدة للاختصار من مدّة احتجابها ووجّهنا قوائم الاكتتاب للمشائخ مديري المدارس وبعض رؤساء الشّعَب بجميع جهات القطر، وإننا لنرجوهم أن يعجّلوا بإرسال ما جمعوه بواسطة "شيك" البصائر، ونحثّ أنصار "البصائر" وأحبابها على مساعدة جريدتهم وإغاثتها من هاته الحالة السيئة التي تجتازها، ونقدّم لهؤلاء وهؤلاء تشكراتنا الخالصة. وعلى من يرغب في المشاركة في هذا العمل أن يطلب من المركز قوائم الاكتتاب.
__________
* "البصائر"، العدد 134، السنة الثالثة، 11 ديسمبر 1950م. (بدون إمضاء).(2/201)
هدية ذات مغزى جليل*
أهدى الأخ العربي الحرّ محمد جعفر مال الله ملاحظ الأوراق بمديرية المساحة العامة ببغداد، إلى إدارة "البصائر" رسمًا فنيًا بديعًا لاسم "البصائر" وملحقاته من خط الفنان مهدي صالح أحد خطاطي "دار الخط العربي" ببغداد، وقد حلينا بهذا الرسم اللطيف، صدر العدد 37 وصدر هذا العدد تنويهًا بهذه الهدية الفنية واعترافًا بلطف موقعها منا، وإنها "عربون أخوّة صادقة بين بغداد وبين الشمال الإفريقي أحد مواطن العروبة التي يريد الاستعمار أن يفصل بعضها من بعضها" كما يقول الأخ محمد جعفر مال الله في رسالته اللطيفة التي أرسلها إلينا مع الهدية.
ليهنأ الأخ محمد جعفر، فهذا الشمال الإفريقي كله قلوب تهفو إلى الشرق العربي والشرق الإسلامي، وكله نفوس تتطلع إلى ما يأتي منه من أنوار، وكله عقول تعرف ما أنبت ذلك الشرق من علوم وفنون وحضارات، وتعترف لبغداد بما أفاءت على العروبة والإسلام من خير وفضل، وتنتظر اليوم الذي تنمحي فيه الحواجز المزيّفة فتتصل الأجزاء كما اتصلت القلوب.
إن كل عربي بهذا الشمال يقرأ "البصائر" ليذكر- كلما وقعت عينه على اسمها ماثلًا في الصدر- أن ذلك الرسم قطعة من بغداد وطرفة من طرفه، ترمز إلى الأخوّة الصادقة والتعاون الوثيق على خدمة العروبة في جميع مواطنها.
و"البصائر" تحمل التحيات الزكيات والشكر الخالص من أسرتها وقرّائها وأنصارها إلى الأخ محمد جعفر مال الله وإلى الأخ مهدي صالح وإلى رجال إدارة المساحة ودار الخط العربي وإلى جميع الهيئات العاملة للعروبة والإسلام ببغداد، وإلى الأخ الواصل لرحم العروبة
__________
* "البصائر"، العدد 38، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 7 جوان 1948م. (بدون إمضاء).(2/202)
الدكتور تقي الدين الهلالي الجزائري الذي بشّر بـ "البصائر" في العراق ودلّ عليها دلالة النسيم اللطيف على الزهر العبق. تحمل "البصائر" هذه التحيات على بعد الدار كفاء لتحية الأخ مال الله في رسالته، فقد عمّمها لكل مستحق من أبناء العروبة في هذا الوطن، وحيّا الله دجلة وجانبيها مواطن الفن والشعر ومواطى العزّ والفخر. ولا زالت الرصافة، منبت حصافة، ولا زال الكرخ، زندًا يوري بالمرخ. وليهنأ "البصائر" هذا التقدير الذي تفيض به رسائل أنصار البيان العربي في الشرق.
أما تلك العين التي رسمها الفنان فوق اسم "البصائر" فيقيننا أنه لم يصوّرها وهمًا وإنما فوقها سهمًا. والعين البصيرة لا تدرك إلا بنفاذ البصيرة.(2/203)
نداء وتحذير
إلى الشعب الجزئري المسلم العربي *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أيها الشعب العربي المسلم:
في هذه الظروف الدقيقة التي تجتازها فلسطين العربية وفي هذا الصراع العنيف الذي حمل عليه إخوانك العرب حملًا وأُلجئوا إليه إلجاء لا خيار فيه، وفي هذه الحرب المستعرة التي يوشك أن تضيق بها الرقعة فيتطاير شررها إلى جوانب العالم فتحرقه أو تغرقه، وفي هذه الأزمة التي عقدها الطمع فعجز عن حلّها العالم الذي لم يعرف القناعة، وأنشأها الباطل فلم يستطع التغلب عليها الرؤساء الذين لم يعرفوا الحق، وفي هذه المعركة التي قسمت كلًا من العالمين الملحد والمتديّن إلى معسكرين: بعض أسلحتهما الحديد والنار، وبعضها الرأي والمكيدة، وبعض أسبابهم إليها الحق الذي لا شبهة فيه، وأكثرها الباطل الذي لا مرية فيه. في هذه الظلمات المتراكمة نتوجّه إليك مخلصين بنصيحة تضمن استمرار السير، وحفظ الاتجاه، وسلامة العاقبة.
نحن نعتقد أن ميدان القتال بين العرب وبين اليهود هو فلسطين. أما الجزائر وغيرها من بقية أقطار العروبة فهي ميادين شعور وعطف وأخوّة وتضامن، يشعر فيها العربي بمحنة أخيه في فلسطين فيعطف عليه وبحمله العطف على مواساته بما استطاع مما يخفف محنته أو يعينه على ظالمه. ويعتقد أن فلسطين وطن عربي كل الحق فيه للعرب، فيردّ دعوى المدّعين ودعاية الداعين بالحجة والمنطق، ويسمع كلمة الباطل في قومه فينقضها بكلمة الحق، ويرى مواطنه اليهودي يزوّد إخوانه في فلسطين أو يجهّز مقاتلتهم فيفعل مثل ما فعل، وكما أننا لا نلوم يهود العالم على إظهار عواطفهم نحو إخوانهم في فلسطين. لا نقبل اللوم من شخص أو من حكومة على إظهار عواطفنا نحو إخواننا عرب فلسطين، ولا نقبل التحجير علينا فيما
__________
* "البصائر"، العدد 40، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م. (بدون إمضاء).(2/204)
نستطيع إعانتهم به، ولا نرضى أن يكون حرامًا علينا ما هو حلال لليهود. ومن أنصفنا أنصفناه وزدنا.
ونحن نعتقد أيضًا أن العربي بطبيعته رزين ساكن، وأن المسلم بطبيعة دينه مسالم متسامح، وأن الطبيعتين بعيدتان عن الشر لا تقبلانه ولا تقبلان عليه إلا مكروهتين أو مغرورتين، ونعلم مع ذلك أن الاستعمار بطبيعته كائد ماكر، وأن له في الكيد والمكر طرائق تعجز الشياطين أن تأتي بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. وأن للحكومات الاستعمارية جواسيس وأعوانًا ربّتهم على افتراص الفرص لتلك المكائد وعلى اختيار الظروف لها وخلق الأسباب. فكلما عنّ لهم سبب تافه، أو جرت حادثة بسيطة مما يجري كل يوم، أو تحرّك شعور في الأمّة ولو لمعنى ديني محترم أو طبيعي محتوم، شرحوه للحكومة وأولوه، وجسموه وهوّلوه، وصرفوه عن معناه الطبيعي إلى مجرى آخر يوافق هوى الحكومة لتبني عليه مكائدها، وتتخذ منه ذريعة للانتقام.
إننا لا نشكّ بما في أذهاننا من الشواهد، وبما عوّدتنا الحكومة من العوائد أن قضية فلسطين من القضايا التي يتخذ منها خصوم العرب والمسلمين وسيلة كيد لهم في كل أرض فيها للاستعمار سلطان وعلى الخصوص في شمال إفريقيا.
إن أعظم ذنوبكم في نظر الاستعمار هو أنكم رفعتم أصواتكم بطلب حقوقكم الوطنية من دينية ودنيوية: فهو لا يفكر في إنصافكم ولا في الرفق بكم، وإنما يفكر فيما يسكت هذا الصوت من ترغيب أو ترهيب. وهو قادر أن يجعل من مثل قضية فلسطين وسيلة إلى ذلك الإسكات. فإياكم أن يستفزكم هو وأعوانه حتى يحرجكم فيخرجكم عن وقاركم. وإياكم أن يجعل لكم من قضية فلسطين مشغلة عن قضيتكم الوطنية.
إن الجزائر وطنكم الصغير، وإن إفريقيا الشمالية وطنكم الكبير، وإن فلسطين قطعة من جزيرة العرب التي هي وطنكم الأكبر، وإن الرجل الصحيح الوطنية هو الذي لا تلهيه الأحداث عن القيام بواجبات وطنيه الأصغر والأكبر.
قد ترون في هذه الظروف ما يستفز أعصابكم وتسمعون ما يجرح شعوركم وتقرأون ما يؤلم ضمائركم، فلا تقابلوا ذلك بالغضب ولا تجعلوه مثارًا للشر، بل قابلوا كل ذلك بالسكون والهدوء وضبط الأعصاب، واعملوا من الصالحات لكم ومن النافعات لفلسطين ما يطفئ الغضب ويدفع الشر، فإن ذلك يزيل غضب الشيطان، ويزيد حرارة الإيمان. إن الدعاية الصهيونية والاستعمارية تنسب لجنسكم العربي كل نقيصة من الفوضى والطيش وحب الفتك والسفك وخلق الوحشية والجفاء فكذّبوا أقوالهم بأفعالكم.(2/205)
ندعوكم- ناصحين مخلصين- إلى السكون والهدوء وضبط الأعصاب، فقد كانت حادثة 5 أوت سنة 1934 وليدة تحريض من أجنبي لم يرد بكم خيرًا، وكانت واقعة وجدة بالأمس نتيجة استفزاز من أجنبي لم يرد بكم خيرًا، فقابلوا التحريض بالرفض، وقابلوا الاستفزاز بالصبر. وان العقل نعم السلاح، وان العاقبة للصابرين.
محمد البشير الإبراهيمي
فرحات عباس
إبراهيم بيوض
الطيب العقبي(2/206)
إمتحانات المعهد والمدارس *
بدأت الامتحانات السنوية لتلامذة معهد عبد الحميد بن باديس يوم السبت الثاني عشر من شهر جوان الحالي، وستخفّ بها موازين وتثقل موازين. والشواهد السابقة تدلّ على أن النجاح سيكون عظيمًا، وأن التجربة ستكون موفّقة، وسننشر أسماء الناجحين كلها.
إن لمدير المعهد الأستاذ الجليل الشيخ العربي التبسي عينًا فاحصة وذهنًا واعيًا هيّآ له تراتيب جديدة في الكتب والدراسة، وشرائط مفيدة في القبول والانتساب وسيبني على تجربة هذه السنة وعلى نتائج الامتحانات قواعد تنهض بالمعهد في السنة الثانية من عمره نهضة عظيمة، وسننشر هذه التراتيب في العشر الأول من شهر سبتمبر الآتي.
وتبتدئ الامتحانات في المدارس الابتدائية يوم 20 من شهر جوان الحالي كما أعلمنا به في العدد الماضي.
وسيكون يوم الأحد الخامس من شهر جويلية الآتي هو يوم الاحتفال بتوزج الجوائز على الناجحين، فعلى أهل الفضل والإحسان وأنصار العلم أن يتبرّعوا بكتب وأدوات كتابة ومحافظ لتكون جوائز لأولئك الناجحين من أبناء الأمّة.
أما الاحتفال العام لختم دروس التعليم فسيكون يوم 29 جويلية في جميع المدارس. والمشاهدات والتقارير متظافرة على أن المشائخ المعلمين أدّوا الأمانة على أكمل وجه مع كثرة المثبطات وتنوّعها من الاغتراب إلى أزمة السكنى إلى عجز الأجور عن القيام بالضروريات، وهي- لعمري- مثبطات لا تغالب إلا بالصبر والإخلاص، وان حظ أبنائنا
__________
* "البصائر"، العدد 40، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م. (بدون إمضاء).(2/207)
المعلّمين منهما غير قليل، وإن تقديرنا لأعمالهم لتقدير جزيل. وإن كان التقدير، لا يغني المعلم ولا يغني المدير، وقد كانت مشكلة المرتبات في هذه السنة ناشئة في القليل عن الأزمة المالية، وفي الكثير عن أزمة أخرى نفسية ممقوتة، هي أزمة الخلافات الحزبية على الانتخابات التي هبّت ريحها من أول السنة الدراسية على كثير من الجمعيات المحلية، ثم عصفت في أواسط السنة وأواخرها فلفّت في أذيالها بعض المعلمين، ولم يدر هؤلاء ولا هؤلاء ماذا يجني ذلك المظهر المتنافر على التعليم من خراب واضطراب، وسنشرح تلك الأضرار بالبراهين في مقالات رمضان إن شاء الله حين تقرّ شقاشق التعليم وتخبو حمية الحزبية ويكون الجميع على استعداد لتذوّق الحق.
إن أبعد الناس عن الفلاح والنجاح من يبني الأمور الشريفة، على الاعتبارات السخيفة. وحرام أن نبني تعليم السنة الآتية على تلك النقائص من التنافر القلبي والتشاكس الحزبي، بل نبنيه على تعاون وثيق بين المشائخ والجمعيات.(2/208)
الهيئة العليا لإعانة فلسطين *
إعانة فلسطين فريضة مؤكّدة على كل عربي وعلى كل مسلم، فمن قام به أدّى ما عليه من حق لعروبته ولإسلامه، ومن لم يؤدّه فهو دين في ذمّته لا يبرأ منه إلا بأدائه.
ومن سبق فله فضيلة السبق ومن تأخر شفعت له المعاذير القائمة حتى تزول، فإذا زالت تعلق الطلب ووجب البدار.
وقد قامت الأمم العربية والإسلامية بهذا الواجب: كل أمّة على قدر استعدادها وعلى حسب الظروف المحيطة بها لا على حسب الشعور والوجدان، فالشعور قدر مشترك بين الجميع لا يفضل فيه عربي عربيًا ولا يفوق فيه مسلم مسلمًا لأن مرجعه إلى العروبة، والعروبة رحم موصولة. وإلى الدين، والدين عهد إلهي لا ينقض. وقد يكون الشعور عند الأمم العربية أو الإسلامية البعيدة الدار، أو التي تحول بينها وبين فلسطين الحوائل أقوى منه عند الأمم القريبة الجوار، المتصلة الأسباب، الميسّرة المآرب، لقاعدة يعرفها علماء النفس وهي أن الحرمان يذكي الشعور. والأمّة الجزائرية العربية المسلمة من هذا القبيل فهي بعيدة الدار أسيرة في قبضة الاستعمار. يعد عليها الآهة تتأوهها والكلمة تقولها والبث تستريح إليه فضلًا عما فوق ذلك. ولكن الاستعمار لم يستطع أن يصل بكيده وقهره إلى مقرّ الإيمان بعروبة فلسطين ومستودع الشعور نحو عرب فلسطين. وهذان هما كل ما تملك الأمّة الجزائرية من ذخيرة معنوية.
وإذا تأخرت الأمّة الجزائرية عن إعانة فلسطين بالممكن الميسور فعذرها أنها كانت منهمكة في المطالبة بحقها في الحياة، وكانت من أجل ذلك في صراع مستمر مع الاستعمار وكانت- بتدبير الاستعمار- موزّعة القوى بين أحزاب متناحرة صارفة أكثر همّها إلى الفوز في الإنتخابات والحظوة بكراسي النيابات. صمّاء عن الدعوة إلى التآخي والاتحاد. إلى أن لعب الاستعمار
__________
* "البصائر"، العدد 41، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م. (بدون إمضاء).(2/209)
بجميعهم وضربهم تلك الضربة في انتخابات المجلس الجزائري الأخيرة. تلك الضربة التي لا يحمل وزرها ومسؤوليتها إلا من هيّأ للحكومة أن تقدم على تلك الفضيحة.
كانت هذه الجريدة كتبت فصولًا متتابعة مؤثرة في قضية فلسطين فشرحت فيها كثيرًا من الخفايا وكشفت عن كثير من الخبايا وقامت عن الجزائر بالحق الأدبي لفلسطين كاملًا. وحق لهذه الصحيفة أن تفخر بأنها شاركت أخواتها العربيات في الشرق بجهد لا يقلّ عن جهودهن، وبجهاد قلمي لا يقصر عن جهادهن.
وكانت هذه الجريدة تكرّر دعوة الأحزاب إلى الاتحاد في الشؤون الداخلية ومنها الانتخابات ليتخذوا من ذلك ذريعة إلى القيام بعمل جليل مشترك في إعانة فلسطين يشرّف الجزائر العربية ويرفع رأسها ولكن خابت الدعوة. وكان مدير هذه الجريدة وإخوانه العلماء بذلوا من الجهد العملي في سبيل الاتحاد ما تفرضه عليهم عروبتهم ودينهم ووطنيتهم. ولكن خابت أعمالهم، وإن لم تخب آمالهم. ومرّت قضية فلسطين في أطوار سريعة غبنت فيها العروبة والإسلام أفحش غبن، وظُلِمَا أقبح ظلم وصرح الاستعمار بشواهد الأقوال والأحوال أنه أخو الاستعمار وناصره ومقيم قواعده، ووصلت فلسطين إلى الدرجة التي يجب فيها العون على كل عربي وعلى كل مسلم وان بعدت الدار وتكالب الاستعمار. فجدّدنا الدعوة إلى الاتحاد منذ أسابيع وكنا البادئين بالدعوة لا كما تزوره بعض البلاغات الحزبية. واتخذنا من قضية فلسطين وسيلة جديدة للاتحاد عسى أن يجتمع عليها ما تشتّت من القلوب النافرة. وكان للأخ الشيخ الطيب العقبي مساع محمودة في هذا السبيل. وكانت الأمّة التي أضناها الخلاف وكادت بسببه- تكفر بالأحزاب ورجالها- مستبشرة بهذه المساعي راجية أن تكون الحوادث لقّنت رجال الأحزاب درسًا قاسيًا يردّهم إلى الصواب فيما دعوناهم إليه هذه المرّة. ولكن رجال "حركة الانتصار للحريات الديمقراطية" لم يكونوا ديمقراطيين. فبعد أن قبلوا الدعوة وحضر ممثّلهم لا يحمل قيدًا ولا يشترط شرطًا. أفهمنا في اليوم الثاني باسم حزبه أنهم لا يرضون إلا بأن يكون كل شيء تحت رئاستهم. وأنه إذا لم يكن ذلك فلا يكون شيء.
وقد تشكّلت الهيئة العليا من أربعة على الصورة الآتية: ولعل التاريخ الذي غبناه مرارًا ينتقم منا هذه المرّة فيلجئنا إلى نشر كل شيء بشواهده وشهوده وأيامه ولياليه.
وهذا تركيب الهيئة العليا:
محمد البشير الإبراهيمي: رئيس
عباس فرحات: كاتب عام
الطيب العقبي: أمين مال
إبراهيم بيوض: نائبه
***(2/210)
ثم تألّفت لجنة تنفيذية بالعاصمة من رجال العلم والثقافة ورجال الأعمال والاقتصاد وشباب العمل. وبدأت الهيئة العليا بإرسال برقية تأييد لسعادة عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية وبرقيات احتجاج واستنكار للحكومات المسؤولة، وقد جاءنا منها نصوص البرقيات مع بلاغ. ونحن ننشر الجميع- كما يراه القارئ- في هذا العدد.(2/211)
"البصائر" ومعهد ابن باديس *
للبصائر أن تفخر- في غير من- بما قدّمته لمعهد عبد الحميد بن باديس من خدمة له وتنويه بشأنه. وتعدّ ذلك من أعمالها الصالحات لأنها تعتقد أن هذا المعهد هو المرحلة الثانية من مراحل النهضة العلمية التي بنى دعائمها رجال جمعية العلماء في عقد ونصف عقد من السنين.
وللبصائر أن تبتهج بهذا النجاح الباهر الذي تجلّت عنه اختبارات الانتقال في سنة المعهد الأولى، وبهذه النتائج المدهشة التي حصل عليها تلاميذ المعهد في الكمية والكيفية، وبهذه الكفاءة الممتازة من مدير المعهد وأساتذته.
حضرت بنفسي معظم أيام الاختبار التي دامت عشرة أيام، وعجبت للنظام والضبط قبل أن أعجب للنتائج، وأشهد أن لجان الامتحان كانت متشدّدة لا متساهلة ومع ذلك فقد أبى العمل الجليل إلا أن يعرب عن نفسه، وأبى العرق الأصيل إلا أن يبين عن عتقه. والحمد لله الذي وفّق وأعان، والفضل لأخينا الشيخ العربي التبسي مدير المعهد ولأبنائنا الأساتذة المدرّسين بالمعهد، فقد كشف الاختبار، عن صدق الاختيار وحقّقوا رجاءنا فيهم. وان التوفيق في اختيار الكفاءات هو أول مراتب النجاح.
والبصائر حين تقدّم للمعهد هذه المعونة الأدبية الثمينة، تتمنى لو أن حالتها المالية تسمح لها بتعزيز هذه المعونة بأخرى مادية هو أحوج ما يكون إليها، وإذًا لجادت عليه بكل فواضلها غير بخيلة ولا منانة، ولضربت المثل الشرود للأمّة في البذل للمشاريع النافعة، ولأقامت الدليل المحسوس على أن هذه العصابة القليلة من العلماء تري للأمّة مالها وتربّيه،
__________
* "البصائر"، العدد 41، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م.(2/212)
وتبديه ولا تخفيه، ثم تحيله كيمياء التدبير علمًا وبناءً ومشاريع ورجالًا وحقائق وأعمالًا تنفع الناس وتمكث في الأرض.
وقد رأت "البصائر"- بمناسبة انتهاء دروس المعهد- أن تشارك في إمداده بالمال، وتساهم في تحقيق برنامجه الواسع للسنة المقبلة، فأجمعت الرأي على أن تتبرعّ عليه بعدد في القريب، فتعدّه إعدادًا خاصًا وتحلي صدره بصورة عبد الحميد بن باديس الذي يتشرّف المعهد بالانتساب إليه وبصور المدير والأساتذة ورجال لجنة المالية والمراقبة وبكلمات للأساتذة، وتنشر أسماء التلامذة الناجحين في الاختبار تنشيطًا لهم ولأوليائهم.
ولكن هل يجمل بـ "البصائر" أن تنفرد بهذه المكرمة البكر دون قرّائها؟ وهل يجمل بقرّاء "البصائر" أن يشتروا هذا العدد الذي هو سجلّ شرف بالقيمة الاعتيادية التي لا تشرّفهم ولا تغني عن المعهد غناء؟ لا والله ... لا يجمل بـ "البصائر" أن تنفرد، ولا يجمل بقرّائها أن يتمسكوا بحقهم المشروع. ومَن الفيصل في القضية؟ الفيصل هو "البصائر". فقد حكمت بأن تكون قيمة هذا العدد الخاص بالمعهد "خمسين فرنكا": وهي تتقدّم بالرجاء الخالص إلى الأمّة أن لا يثقل عليها هذا المبلغ في هذا السبيل، وإلى الباعة أن يتنازلوا عن حقهم المعلوم، وإلى المشتركين أن يتسامحوا ويدخلوا مع الجمهور في سوق الشراء فيشتروا ذلك العدد الخاص من الباعة كسائر القرّاء لتظهر الأمّة كلها بمظهر واحد في السماحة والبذل. وسيبدأ مدير الجريدة وأسرتها وعمّالها فيشترون الأعداد الأولى حين تخرجها المطبعة، ثم يتولّون البيع بأنفسهم. وعلى أبنائنا الأساتذة والمعلّمين وجميع الإخوان المصلحين أن يقتني كل واحد منهم عددًا وأن يتولّى بنفسه بيع ما يستطيع من النسخ وأن يتباروا في هذا المضمار، فإنه مضمار شرف وميدان استباق إلى الخيرات.
ويد بالمال للعلم تجود … مزنة بالغيث تهمي وتجود
رب صرح شيد للعلم غدا … وهو للأمّة كون ووجود(2/213)
معهد عبد الحميد بن باديس:
ما له وما عليه *
أخذت القلم لأكتب كلمة عن المعهد في هذا العدد الخاص به من "البصائر" فاستعرضت ماضيه منذ كان فكرة إلى أن أصبح حقيقة مبصرة، فرجع الصدى
قريبًا لقرب العهد كما ترجع ومضة "الرادار" حين تصطدم بجسم في فراغ الأثير. ثم استعرضت مستقبله فمثّلته الخواطر آمالًا كلها حلاوة وطيب، وغايات كلها نسيم بليل وزهر رطيب، وانفتحت آفاقه عن مثل رونق الضحى وإشراق الأصيل. فتفتحت نفسي للكتابة وهممت- على كلال الذهن والجوارح- أن أكتبها في نفس، وقلت لتكونن كلمة ذات أثر، تملأ السمع والبصر. ولأثأرن بها لنفسي من العوائق التي رمت طبعي بالجفاف وقريحتي بالركود. ولكن نفسي وقفت موقف الرقيب، بين المحب والحبيب، وأبت إلا أن أكتب عليها ... قلت لها إن هذا ليس لي ولا لك بعادة. وأنا امرؤ- كما تعلمين- ركب في طباعي نوع من الخمول والزهد في كل ما يتعلق بك. وأشهد كما تشهدين- أنه ليس من الخمول المصطنع ولا من الزهد المكتسب وإنما هو نوع لا ثواب فيه ولا محمدة، كالطول في الطويل، والسواد في الأسود، والبلادة في الجمل. فلجت في التعرض، فقاطعتها بكتابة كلمات صادقة عن الشيخين اللذين يقوم المعهد على اسميهما: ابن عاشور وابن باديس ولكنها لم تقنع وشوّشت كل ما في ذهني من صور جميلة وأخيلة بارعة لمستقبل المعهد، وطال اللجاج حتى خشيت أن أفوّت على العدد الخاص ميقاته. ومن عادتي في هذه الكلمات التي أفتتح بها أعداد "البصائر" أن أكتبها- في الغالب- في النصف الأخير من آخر
__________
* "البصائر"، العدد 44، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م.(2/214)
ليلة في الأسبوع، ولا أكتبها إلا بعد مضايقة من المطبعة لحمزة (1)، ومضايقة من حمزة لي: وحمزة- فيما يتراءى لي- أجرأ أسرة البصائر علَيّ، وقد أكتب الكلمة وأنا مسافر فأحسّ في باطن نفسي راحة من مضايقة حمزة لي. وأن مضايقات حمزة لأعود بالخير على "البصائر" من ضيقي وتبرمي، ولعلّي كشفت عن بعض السبب في التفاوت الذي يلمسه القرّاء في تلك الكلمات في الأسلوب والموضوع والطول والقصر.
سلكت مع نفسي في المدافعة والمساومة فجًا آخر فقلت: سأرضيك- نسيئة لا نقدًا- بالكتابة على صحيفة سخيفة، تدعو إلى دين بني حنيفة. أو على صحافي حافي شره ليس بالخافي. فقالت: لست مسيئة، حتى أرضى النسيئة. ولا يكتب عن صحافي أو صحيفة في عدد خاص، إلا رجل (باص). ونفسي- كما يعلم بعض القرّاء- جزائرية سطيفية، فكلمة باص بتشديد الصاد من لغتها. ومعناه: لا عقل له. فقلت: أو قد بلغت بي إلى هذا الحدّ يا أمة الله؟ فقالت: ولا بدّ من الكتابة عليّ في هذا العدد. فقد كتبتَ على بعض النفوس فقال الناس أحسنت التصوير، وقالوا أبدعت. وأنا أعلم من هنياتك أنك ستكتب على نفوس أخرى. وأعلم من خفاياك أنك ستسلك بها شعابًا من التصوير لم تسلكها إلا في ملاحم أفلو (2) التي سيقرؤها الناس بعد موتك- وأنا نفسك التي بين جنبيك، وأنا أقرب الأشياء إليك، وأنا وأنا ... ومضت تتجنّى وتتعنّت. فقلت فضحتني فضحك الله. وإنك لمملوءة الوطاب، من سوء أدب الخطاب. ولست في هذه المرّة أمة الله وإنما أنت أمة الشيطان، وسأكل الكتابة عليك إلى فلان ... قالت: بائع مدح وقدح. يعرف القيم الفلسية، لا القيم النفسية. وأحر به أن لا يشرف إذا مدح، ولا ينكى إذا قدح. وهنا فلسفة أنت عن معرفتها غني، قلت: فإلى فلان ... قالت: يتسرع، ويتبرع، ولا يتورع. فإذا مسّته الحاجة يتضرّع، وإذا مسّته الكلمة يتجرّع من الغمّ ما يتجرّع. وأخلق بكتابته أن تكون صبغة من نفسه. قلت: فإلى فلان ... قالت ذاك طائش السهام، راكد الإلهام. ثائر الأوهام، فأية منزلة تبلغنيها كتابته؟ وعرضت عليها نسقًا من الكتاب الراضين عليها والساخطين فأبت إلا أن تكون الكتابة مني عني.
وقعت من نفسي- لأول مرّة منذ اصطحبنا- على باقعة، فجنحت للسلم. ولولا حرمة الشهر وعهد المعهد لأخرجت للقرّاء من هذه المحاورات بين رجل ونفسه ما يضحكهم في الزمن العابس، ويسيرهم إلى السرور والركب حابس.
وقد اتفقنا بعد طول الجهد على أن أكتب عليها وعلى المعهد من الجهة التي يتصلان فيها. وهي أثرها في تكوينه- فإذا قرأ القرّاء لي هذه الكلمة المهلهلة ورأوا فيها حديثًا عن
__________
1) هو الشيخ حمزة بوكوشة عميد "البصائر".
2) "أفلو" قرية بالجنوب الوهراني، نفت السلطة الاستعمارية إليها كاتب المقال في أوائل الحرب فنظم في أيام الفراغ ملحمة رجزية في شجون من الحياة.(2/215)
نفسي فليعلموا أنني مغلوب على أمري من عجوز. ولم يغلبك مثل مغلب. وليصدقوا الله كما صدقتهم، فما منهم إلا من غلبته عجوز بأحد معانيها، ولا أستثني أم الخبائث فقديمًا سمّتها العرب عجوزًا.
وهل أنبئ القرّاء بسرّ وهو أنني أضمرت الخديعة لنفسي، وقلت أعطيها قليلًا وأكدي، فانتقمت مني كما انتقمت بعوضة توت من كاشف قبره، وفاضح سرّه. فنثرت كل ما كان في خاطري منظومًا من الصور الفنية عن المعهد ومستقبله وما ننوي له من أعمال وما نعلق عليه من آمال. وجاءت المقالة عادية النمط، عليها ميسم الصدق، وليس عليها جلاله، وفيها مخيلة الحق، وليس فيها جماله.
...
معهد عبد الحميد بن باديس:
والمعهد تجمعه ثلاث كلمات: مكان، وإدارة، وتعليم.
أما المكان فهو دار منسوبة إلى أسرة عريقة في المجد، وهي أسرة ابن الشيخ الفقون التي يعرفها التاريخ بأعلامها في العلم والأدب.
شاركت الأمة الجزائرية كلها في بذل الأموال التي اشترت بها الدار، وأنفقت على إصلاحها وإعدادها، وشارك كاتب هذه السطور بكل ما يملك وما يملك إلا اللسان القوال، والعزم الصوال، والجثمان الجوال. ولولا هذه الثلاثة لما اشتري المعهد ولا عمر في هذه السنة ولتأخر وجوده في التاريخ سنة أو سنتين أو سنوات. وان في تأخير هذا المشروع إطالة لمرض الجهل وتأخيرًا لشفاء هذه الأمّة، وأن في التعجيل به تعجيلًا لشفائها ونقصًا من المرض ومدّته.
فقد كان جميع إخواني ومن ورائهم أنصار العلم متفقين على ضرورة إنشاء المعهد، وأنه الخطوة الثانية بعد التعليم الابتدائي الذي وصلنا فيه إلى نتيجة صالحة وغاية متمكنة. ولكنهم كانوا متفقين على أن الزمن غير صالح للشروع في العمل نظرًا لحالة الأمة المالية وتوالي الأزمات عليها.
وجزى الله إخوان الصدق أصدق الجزاء فما أن رأوا تصميمي وعزيمتي على شراء المكان حتى انشرحت صدورهم للذي انشرح له صدري. واستسهلنا الصعوبات فسهلت، وهززنا الأمة للتعاون على الخير والعلم فاهتزت. وقطعنا في الأسابيع مراحل ما كانت تقطع في الشهور والسنوات. وكان الشراء والإصلاح جاريين في جهة، والتنظيم والاستعداد للتعليم(2/216)
جاربين في ناحية، والمقاومات الخفية والعلنية ممن لا يخافون الله جارية في ناحية ثالثة إلى أن غلب الحق على الباطل والعزيمة على التخذيل. وفتح المعهد أبوابه بعد شهرين من بداية العمل، والحمد لله الذي وفق وأعان، والشكر للأمّة التي شبّت على الحق، وعرفت العاملين للحق فأيّدت ونصرت.
...
وأما الإدارة فقد كانت- في رأيي- وما زالت أصعب من المال. لأن الصورة الكاملة التي يتصوّرها ذهني للإدارة الرشيدة الحازمة اللائقة بهذا المعهد العظيم، نادرة عندنا. ونحن قوم نقرأ لكل شيء حسابه. ولا نقدّم لجلائل الأعمال إلا الأكفاء من الرجال. وقد كنت مذخرًا لإدارة المعهد كفؤها الممتاز وجذيلها المحكك الأخ الأستاذ العربي التبسي الذي كانت تمنعه موانع قاهرة من تولّي الإدارة ومن الانتقال من بلده إلى قسنطينة، وكنت أقدّر تلك الموانع، وأزنها بميزانها الصحيح، وأراها بمثل العين التي يراها بها. فكيف العمل؟ العمل هو جعل تلك العوامل كلها عاملًا واحدًا وتفتيته حتى يصير ذرات، أرضينا سكان تبسة الكرام الذين كانوا يعدون انتقال الأستاذ التبسي عنهم كبيرة يرتكبها من يتسبّب فيها، وأقنعناهم بأن الشيخ العربي رجل أمّة كاملة لا بلدة واحدة. ورجل الأعمال العظيمة لا الأعمال الصغيرة. فاقتنعوا. وأمنا لهم مشاريعهم العلمية والدينية، بإيجاد من يخلف الأستاذ فيها فرضوا مخلصين. وقد كنت قبل ذلك كله تلطفت في الحيلة على أخي الشيخ العربي لما أعتقده من إخلاصه الكامل في خدمة أمّته، ومن تقديره لجهود أخيه هذا. وذلك أنه لما هوّل عليّ قضية المال الذي يتطلبه المعهد في شرائه وتعميره، هوّنت عليه القضية وهوّلت عليه شأن الإدارة إذا لم يقبلها هو، فلم يجد بدًّا من تهوينها عليّ إخلاصًا منه ومقاسمة للعبء مع أخيه. وإن أنس فلا أنس قوله لإخوانه المشائخ المدرّسين يوم اجتمعنا لنقرّر منهاج السير في التعليم.
أيها الإخوان:
"إن التعليم بوطنكم هذا، وفي أمّتكم هذه ميدان تضحية وجهاد، لا مسرح راحة ونعيم. فلنكن جنود العلم في هذه السنة الأولى، ولنسكن في المعهد كأبنائنا الطلبة، ولنعش عيشهم: عيش الاغتراب عن الأهل. فانسوا الأهل والعشيرة ولا تزوروهم إلا لمامًا. أنا أضيقكم ذرعًا بالعيال للبعد وعدم وجود الكافي، ومع ذلك فها أنا فاعل فافعلوا. وها أنذا بادئ فاتبعوا". فكانت كلماته هذه مؤثّرة في المشائخ، ماسحة لكل ما كان يساورهم من قلق ... ومضت السنة الدراسية على أتمّ ما يكون من النظام الإداري، وعلى أكمل ما يكون من الإلفة والانسجام بين المشائخ بعضهم مع بعض، وبينهم وبين(2/217)
مديرهم، حتى كأنهم أبناء أسرة واحدة، دبّوا في حضن واحدة، وشبّوا في كنف واحد، وربّوا تحت رعاية واحدة، توزّع الحنان بالسوية، وتبني الحياة على الحب. وأن مرجع هذا كله إلى الأخلاق الرضية التي يجب أن يكون مظهرها الأول العلماء. حي الله الأخلاق. وأحيا الله الأخلاق.
وأنا أصدق القراء، فقد نجح المعهد في جميع نواحيه، ووالله ما اغتبطت بجميع ذلك ما اغتبطت بهذا الانسجام بين مشائخه، وهذه الرحمة المظللة لهم، وهذه المياسرة المتبادلة بينهم. وما كان اغتباطي موفورًا إلا لما قاسيته وأقاسيه من المعضلات النفسية والمشكلات الأخلاقية والتعاكس والتشاكس بين بعض أبنائي المعلمين، وما هي إلا بقايا من آثار التربية المضطربة لم يهذّبها العلم وسيهذّبها التأسي.
إن هذا الانسجام البديع بين مشائخ المعهد سيكون درسًا عمليًا نافعًا لتلاميذهم يأخذونه بالتأسي لا بالتلقين. وسيكون أثبت أساس لتربيتهم الأخلاقية وأعزّ ميراث يرثونه عن مشائخهم، وان الانسجام بين التلامذة سبب خطير من أسباب النجاح. فليعلم أبناؤنا التلامذة هذا وليفقهوه.
والأستاذ التبسي- كما شهد الاختبار وصدقت التجربة- مدير بارع، ومربّ كامل خرجته الكليتان الزيتونة والأزهر في العلم، وخرجه القرآن والسيرة النبوية في التديّن الصحيح والأخلاق المتينة، وأعانه ذكاؤه وألمعيته على فهم النفوس، وأعانته عفّته ونزاهته على التزام الصدق والتصلب في الحق وإن أغضب جميع الناس، وألزمته وطنيته الصادقة بالذوبان في الأمّة والانقطاع لخدمتها بأنفع الأعمال، وأعانه بيانه ويقينه على نصر الحق بالحجة الناهضة ومقارعة الاستعمار في جميع مظاهره. فجاءتنا هذه العوامل مجتمعة منه برجل يملأ جوامع الدين ومجامع العلم ومحافل الأدب ومجالس الجمعيات ونوادي السياسة ومكاتب الإدارات ومعاهد التربية.
والأستاذ التبسي في إدارته يتساهل في حقوق نفسه الأدبية إلى درجة التنازل والتضييع، ولا يتساهل في فتيل من النظام أو الوقت أو الأخلاق أو الحدود المرسومة، ولقد كان- زيادة على الدروس التي يلقيها بنفسه- يطوف على الأقسام كلها بالتناوب متفقدًا، فيسمع المشائخ يلقون أو يسألون، والتلامذة يجيبون، ولقد كان بين المشائخ في أول السنة تفاوت، وبين التلامذة تباين عظيم، وكنت أنا ألمح هذا في الشهرين الأولين كلما اختلفت إلى المعهد، فما مضى شهران حتى رأيت بعيني أن ذلك التفاوت صار انسجامًا، وأن ذلك التباين انقلب اتحادًا ظهرت آثاره في آداب التلامذة وأخلاقهم وشمل هيئات الدخول والخروج والنوم والأكل وسائر التصرفات، وما جاء ذلك إلا من ضبط المدير وحزمه(2/218)
وجاذبيته. وأشهد ... لقد حدّثني المشائخ في الأشهر الأخيرة فرادى ومجتمعين بأنهم انجذبوا إلى العلم انجذابًا جديدًا، وحببت سيرة الأستاذ التبسي التعليم إليهم على ما فيه من مكاره ومتاعب وأنهم أصبحوا لا يجدون بعد جهد سبع ساعات متواصلة يوميًا، نصبًا ولا لغوبًا.
وليس الأستاذ التبسي جديدًا في سياسة التعليم والارتياض على الإدارة. فقد باشر التعليم المدرسي سنين عددًا بمدرسة "سيق" وباشر الإدارة والتعليمين المسجدي والمدرسي سنين بمدرسة تبسة ومسجدها اللذين أنشأهما بجهده ونفوذه. ثم اضطلع بالتعليم المسجدي وإدارته لتلامذة الجامع الأخضر، بعد موت الأستاذ الرَّئِيسُ عبد الحميد بن باديس وانتقال التلامذة إلى تبسة في أيام الهزاهز والفتن. وأن من تلامذته في ذلك العهد رجالًا هم زينة مدارسنا اليوم، ومنهم من هاجر إلى الشرق ليكمل علمه فأوفى وبرز.
...
وأما التعليم فهو الغرض والغاية من المعهد وأن معهدنا ليعنى من أول يوم بالتربية التي تهملها المعاهد كبيرها وصغيرها أو تتساهل فيها مع أنها هي الأصل والأهم المقدّم. كما يعنى باهتمام بغرس العقائد الصحيحة في أذهان التلاميذ وبتعويدهم على العبادات البدنية حتى ينشأوا مؤمنين عاملين للصالحات. وما قام الإسلام إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ونقول آسفين: إن معاهدنا الإسلامية في الشرق والغرب فرطت في جنب هذا الأصل العظيم وأهملت الأصلح واقتصرت على الصالح. ولعل موجة الإصلاح الآخذة في الامتداد تأتي على النقاثص وتأتي بالكمالات.
وقد صدق الاختيار في المشائخ الذين وسدنا إليهم أمر التعليم في هذه السنة، فما منهم إلا من جلا وجلى وأحرز الغاية وحقّق الظن. وقد بنينا اختيارهم على أساس التجربة والمعرفة اليقينية بدرجة التحصيل، لا على اعتبار الشهادات الجامعية، وان كنا نقدّرها حق قدرها ولا نستخف بها. فالشيخان أحمد حماني وأحمد حسين يحملان شهادة "العالمية" من الزيتونة والشيخان عبد المجيد حيرش والمولود النجار يحملان شهادة التحصيل من الزيتونة أيضًا. والشيخ العباس بن الشيخ متخرج من القروبين. ولأكثرهم دربة بالتعليم ومران عليه وعلى أساليبه حيث قضوا فيه سنوات في ظل الحركة الإصلاحية وفي ميدان النهضة التعليمية، أما الشيخ نعيم النعيمي فهو عصامي في العلم، وحجة على أن الذكاء والاستعداد يأتيان مع قليل من التعليم بالعجائب. والرجل مجموعة مواهب لو نظّمت في الصغر ووجّهت لجاءت شهادة قاطعة على أن لا مبالغة في كل ما يروى عن أفذاذ المتقدمين. فهو يحفظ الأحاديث(2/219)
بأسانيدها (لا على طريقة عبد الحي) ويحفظ عدة ألفيات في السير وعلوم الأثر والنحو وغيرها، ويحفظ كثيرًا من متون العلم ويجيد فهمها وتفهيمها، ويحفظ جزءًا غير قليل من اللغة مع التفقه في التراكيب، ويحفظ أكثر مما يلزم الأديب حفظه من أشعار العرب قديمها وحديثها ومن رسائل البلغاء قريبًا من ذلك ويقرض قطعًا من الشعر كقطع الروض نقاء لغة، وصفاء ديباجة، وحلاوة صنعة. وقد أسلس له الرجز قياده فهو يأتي منه بالمطولات لزومية منسجمة سائغة في روية تشبه الارتجال. وهو ثاني اثنين من رجاز العرب في عصرنا هذا، ولو شئت لذكرت الأول كما يقول الصاحب ابن عباد. وإنما آثرت نعيمًا بهذه الكلمات لأنه ليست له "شهادة" فجئته بهذه الشهادة.
والنية معقودة على إلحاق الثلاثة الذين خلفتهم الأعذار الغالبة بالمعهد في سنته الثانية.
وهم المشائخ المدرّسون: محمد السعيد الزموشي، وعبد القادر الياجوري، ومحمد الجيلاني المجاجي الأصنامي، وكلهم متخرجون من جامع الزيتونة، وثالثهم يمتاز بالتلقي عن الأستاذ الرَّئِيسُ عبد الحميد بن باديس ومعدود في الطبقة الأولى من تلامذته، وقد باشر التعليم في حياة الأستاذ وتحت إشرافه. وكل من الثلاثة مبرز في صناعة التدريس.
...
الفرع وأصله:
والمعهد وإن كان فرعًا عن جامع الزيتونة لا يخرج عن برامج أصله في الجملة. ولكنه قد يزيد عليها لفائدة محقّقة أو راجحة. وهو ينوي التوسع في مبادئ علوم الحياة وينوي توجيه النوابغ فيها إلى استكمال معلوماتهم في جهة أخرى غير الزيتونة على نفقته وتحت إشرافه ورقابته ليأخذوا من العلوم التطبيقية بنصيب فينتفعوا وتنتفع الأمّة بهم. وسيخرج المعهد عن نظام جامع الزيتونة في نقطة تحديد السن فيأخذ بالتحديد جريًا على السنة المأثورة عند جميع الأمم، ولعل جامع الزيتونة سينتهي بالتدريج إلى الأخذ بالتحديد.
...
ومطالب المعهد:
كان العبء المالي في السنة الماضية ثقيلًا جدًّا، لأن ثمن الشراء والإصلاح- وهو يناهز سبعة ملايين من الفرنكات- زاحم النفقات الشهرية من أكرية وأجور وإعانات، والتقى معها في شهر واحد، فأدّى ذلك إلى أن المعهد ما زال مدينًا ببعض قيمته. أما السنة الآتية(2/220)
فسيكون العبء أثقل لأن عدد المدرّسين سيزيد، وعدد التلامذة سيتضاعف وسنجد أنفسنا مضطرين إلى زيادة أقسام في السنة الأولى، وزيادة قسمين على الأقل في السنة الثانية، وزيادة قسم في السنة الثالثة. وإحداث سنة رابعة، ويترتّب على ذلك كله مضاعفة الأجور والإعانات وأجور السكنى.
وان إدارة المعهد، ومعها اللجنة المالية، ومعهما جميع المصلحين وأنصار العلم باذلون جهودهم في إحضار السكنى للمشائخ وللتلاميذ. لأن المشائخ- ومنهم المدير- لا يستطيعون أن يعيشوا بعداء عن أهليهم سنة أخرى. وقد آذنوني بذلك من السنة الماضية واشترطوا فقبلت اعتمادًا على الله وعلى الأمّة. والشرط أملك، فلتعلم الأمّة هذا ولتعلم معه أننا قمنا بالواجب وبنينا لأبنائها صرحًا شامخًا، ومعهدًا للعلم باذخًا، وأبرأنا ذممنا من كل ما نستطيع الوفاء به. وأننا واثقنا الأمّة على التعليم فوفينا، وعاهدناها على السير بها إلى الأمام فبررنا. فإن وقع تقصير بعد الآن عن الغاية أو تراجع إلى الوراء فتبعته ملقاة على الأمّة وحدها.
وإذا كانت هذه الأمّة تريد الحياة حقًا فقد شرعنا لها سننها، وفتحنا بابها وخططنا خطتها وبنينا أساسها، وقد قمنا في هذا الباب بواجبنا كاملًا، فليقم كل فرد من أفراد الأمّة بواجبه، حتى تحفظ هذه المشاريع وتقوى وتتكامل.
...
النجاح يقوّي الأمل:
نجح المعهد في السنة الأولى من عمره نجاحًا فوق المأمول. وأحسّ بذلك المشائخ والتلامذة، وأنصار العلم المتتبعون لسيره، والخصوم المتربصون به الدوائر وكل زائر له، وجاءت الامتحانات مصدقة لذلك. ولقد قرأت في أيام الامتحان ثلاث قطع من إنشاء تلاميذ السنة الثالثة، فوالله ما كدت أصدّق أنها من إنشائهم، لولا الأدلّة القاطعة على ذلك. ولولا أني توصلت بلطف الاستدراج إلى اليقين.
إن هذا النجاح قوّى الرجاء في تحقيق الغاية من المعهد، وبسط الأمل، وهوّن العسير من الوسائل بما بثّه في نفوسنا ونفوس الأمّة من اطمئنان، وبما أكّد بيننا وبينها من ثقة، وأننا سنعمل على توسيع الميدان في هذه السنة بما ذكرناه من زيادة المشائخ والتلامذة والأقسام، وإحداث السنة الرابعة التي يحصل التلميذ فيها على الشهادة الأهلية ويخطو منها إلى جامع الزيتونة. وإدارة المعهد منهمكة في إعداد التراتيب الجديدة، على ضوء التجارب القديمة،(2/221)
وستعلن ذلك مع الشروط في أوائل سبتمبر الآتي. وسنستدعي من يمكن استدعاؤه من أبناء الجزائر المغتربين في طلب العلم، الناهلين من ينابيعه الصافية العذبة المحصلين على أعلى درجاته علمًا وشهادة، لينفخوا في المعهد من أرواحهم القوية. ويبثوا فيه نشاطًا أقوى من نشاطنا، ونظامًا أكمل من نظامنا.
هذا وإن الشرط الأساسي لنجاح المعهد وسيره من كامل إلى أكمل هو استقلاله في إدارته ونظامه وماله، وقد حقّقنا له هذا الشرط من أول يوم، فلا يتدخل في إدارته غير مديره ومستشاريه من المشائخ، وسيتكوّن منهم في المستقبل القريب مجلس إدارة بمعناه الصحيح. وكوّنا لجانه العاملة في النظام والمالية من رجال الإصلاح بقسنطينة. فالمعهد يجمعه قولك: فرع باسق بقسنطينة لأصل ثابت بتونس.
...
همسة في أذن الأمّة:
بوركت أيتها الأمّة، وبورك فيك الكرم وعلوّ الهمّة. إن معهدًا واحدًا لا يكفي لأمّة شارف عددها عشرة ملايين، فماذا أنت صانعة؟
أنت أمّة ولود للذرية. فالواجب أن تكوني ولودًا لأسباب الحياة لهذه الذرية. وفي مقدمة أسباب الحياة المدارس والمصانع. فإن كنت تلدين الأحياء ولا تلدين الحياة فبئس الأمّة أنت.
إننا ننظر النظر البعيد في صالحك وما فتحنا معهد قسنطينة حتى عقدنا العزم على فتح معهد في مدينة الجزائر وآخر في مدينة تلمسان. يأوي كل واحد منها ألف تلميذ، لنغسل عنك لطخة عار سجّلته عن نفسك بهجرة أبنائك إلى الشرق والغرب في طلب مبادئ الفقه والعربية.
أيتها الأمّة:
قلنا لك ان العلم هو عمارة الوطن وأساس الوطنية ومنشئ الوطنيين. وأرشدناك إلى أن العلم بالتعلم. وحثثناك على تكثير مدارسه. وما غششناك في نصيحة، ولا دليناك بغرور. ولا استهويناك بخيال. في حين تألب عليك الغاشون والغارون والمستهوون.
لك علينا البناء والتشييد، ولنا عليك العون والتأييد، وهذه مائة مدرسة وبضع عشرات من المدارس الابتدائية شدتها بإرشادنا، وبذلت فيها الملايين لم يلامس أيدينا منها درهم(2/222)
واحد، بل أنت الدافعة، وأنت القابضة، وأنتِ الصارفة، وأنت المتصرفة، كل ذلك بواسطة الجمعيات الممثّلة لك. فلا تكذبي الحق المبين، وكذبي دعاوي المدّعين. وعاقدي العاملين لك على أمرين متلازمين: الأعمال الإيجابية، والعمليات الحسابية. لا على قاعدة: دع الحساب، ليوم الحساب.
أيتها الأمّة:
إن المشاريع التي بنيتها فأعليت بناءها ما زالت تعتمد على الإحسان المشتّت من الاكتتاب والاشتراك. وان هذه الحالة إن نفعت في هذه المرحلة، لا تنفع في جميع المراحل، فهل فكرت فيما يحفظ بقاء هذه المشاريع وحياتها؟
إن بقاء المشاريع وحياتها لا يكون بالسؤال ومدّ الأيدي في كل يوم. وإنما يكون بمداخيل قارة من أوقاف، أو مؤسّسات للدخل، أو زكوات شرعية. فعودي إلى ما كان عليه سلفك من وقف الرباع والعقارات على مدارس العلم. وحصني الأوقاف ما استطعت حتى لا تعبث بها الأغراض، ولا تتلاعب بها الأيدي.
كلمة الختام:
لعلّي أرضيت نفسي بذكرها مرات وإن ضحّيت في مرضاتها بالأسلوب والنسق، ولعلّي - بما ذكرته من إنفاق سنة كاملة من عمري في سبيل المعهد- قمت بالعذر عما وقع مني من تقصير وإخلال بالواجب في الأعمال العلمية العامة، ومع الأشخاص والجمعيات التي ترجع في أمورها إليّ وخصوصًا مع أبنائي المعلمين. فأشهد أني قصرت فيما تعوّدوه مني من إجابة مطالبهم وإزاحة عللهم. وعذري هو ما ذكرت. فليعلموا أنني- في الحقيقة- ما شغلت عنهم إلا بهم. وسينتهي هذا التقصير بانتهاء موجباته.(2/223)
لجنة الأهلة والأعياد الإسلامية *
ما هذه اللجنة التي فرضت نفسها على المسلمين، أو فرضتها الحكومة على دين المسلمين؟ وعلى أي سند تستند؟ أعلى الدين؟ والدين لم يجعل للقضاة ولا لِلِّجَانِ سلطانًا على شعائره. أم على التاريخ؟ والتاريخ لم يعرف في جميع عصوره جماعة بهذا الإسم. أم على التقليد الموروث المتلقى من الأمّة بالقبول عن طوع واختيار؟ والتقاليد لا تعتبر إلا إذا عركتها الأزمنة وأصبحت جزءًا من حياة الأمّة، جارية منها مجرى الضروريات التي لا غنى عنها.
يقول الشيخ قاضي الجزائر في بلاغه الذي نشره بالجرائد الفرنسية قبيل رمضان ما معناه: إنه رئيس للجنة الأهلة والأعياد الإسلامية الكبيرة، وإن هذه اللجنة أصيلة، وإنها لا صلة لها بالحكومة، ولا مدخل للحكومة فيها، هذا معنى كلامه. ونحن وجميع الناس لا نعرف إلا أنها حكومية لحمًا ودمًا ووضعًا. وأنها حديثة عهد بالولادة والتسمية. سبقتها لجنة أخرى مبتدعة كانت تسمّى لجنة الأهلة. لم يطل عمرها كبقية الأوضاع المزوّرة على الدين والتاريخ. ولا نعرف عمن ورثها الشيخ القاضي لولا الحكومة؟ ولا ندري من قلّده إياها لولا الحكومة؟ ولا من أي طريق توصّل إليها لولا القضاء؟ ولا من أي طريق توصل إلى القضاء لولا الحكومة؟ فالحكومة هي الأولى والأخيرة في الموضوع ولا معنى لإنكار ذلك. ولم يتوصل بها الشيخ بانتخاب من الأمّة، ولا بمؤهّلات علمية أو دينية.
وإذا كان من بعض تراتيب الحكومات الإسلامية في القديم نصب قاض خاص بالأهلة، منقطع طول العام لتتبع مطالعها ومغاربها فإن ذلك سند انقطع، وسنة ماتت. على أن مفهوم "قاض" للأهلة غير مفهوم رئيس للأهلة والأعياد الإسلامية الكبيرة. فإن إدخال الأعياد هنا يشعر بأنها لجنة احتفالات بالأعياد تقيمها وتنظمها.
__________
* "البصائر"، العدد 45، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 21 جوان 1948م.(2/224)
ويقول الشيخ القاضي فيما ردّ به على زميله المفتي الحنفي ونشره بجريدة "الوزبر": إن لجنة الأهلة والمواسم الإسلامية في جميع أقطار الإسلام من خطط القاضي المالكي. ونحن نعرف أقطار الإسلام، ولكننا لا نعرف هذه الخطة. ونعرف تاريخ القضاء ولا نعرف أن هذه الخطة من خصائصه ولو كان مالكيًا. ثم ما معنى خطط القاضي؟ لقد كانت للقاضي خطط يوم كانت في يده الحدود والمظالم والتعزيرات والحسبة والأموال. أما قضاة (ما تحت الاستعمار الفرنسي) فهم كمسائل (ما وراء الطبيعة) وإنما ينظرون في الأنكحة والمواربث وأموال المحاجير نظرًا مقيّدًا بالقانون الفرنسي، وبسلطة القاضي الفرنسي.
ويقول أيضًا: إن لجنته لا تقلّ قيمتها عن الهيئات الموجودة في الأقطار الإسلامية الأخرى. ونحن لا نسلم هذا إلا إذا سلّمنا أن هيأة قاضي الجزائر مساوية للهيئات الإسلامية في العلم والدين والمحافظة على الشعائر والذب عنها ولا نستطيع التسليم بذلك إلا إذا رزقنا جرأة كجرأة الشيخ القاضي.
ويقول أيضًا: إن أعضاء هيأته كلهم متضامنون متحدون متفقون على ما فيه الخير والصلاح ودرء الخلاف والشقاق بين إخوانهم المسلمين الخ ... وبعض هذا صحيح، وهو التضامن، فقد تضامنوا في ليلة الشك على النوم من الساعة التاسعة ونصف- العاشرة، وتركوا الأمّة تنتظر.
...
إن سلطة القاضي في الإسلام مقصورة على أحكام المعاملات الدنيوية ولا صلة لها بالعبادات، البتة، ومن أحكام المعاملات سماع الشهادة وتعديلها أو تجريحها، لأنها أساس في إيصال الحقوق إلى أهلها. أما الشهادة على الرؤية، رؤية الهلال، فهي من باب الخبر، لا من باب الشهادة. إذ لا حق للمخلوق هنا: وكل من سمع الخبر تعلّق به الحكم، وهو وجوب الصوم. والفرق بين الشهادة والخبر معروف عند الفقهاء. ولكن قضاتنا صيروا الخبر - رغم أنفه- شهادة، ودخلوا من بابها إلى رمضان الذي هو عبادة محضة لا يدخل فيها حكم الحاكم، فابتدأ تدخّلهم في مسألة الصوم بتلقّي الشهادات وتسجيلها ثم توسعوا في المسألة لهذا العهد حتى توهموا- بسكوت العامة- أنها من مناطق نفوذهم. ثم ترقت المواصلات الإخباربة بالتلفون والراديو، فأصبحت المسألة مصدر شهرة، فنافسهم فيها المفتون، ونازعوهم حبل النفوذ والظهور ثم ازدادت عناية الأمّة بدينها، فازداد الفريقان بها تعلّقًا. يتخذ منها المفتي مشغلة لوظيفته العاطلة، وتعميرًا لوقته الفارغ. ويتخذ منها القاضي أداة ظهور وزلفى للأمّة، وعلالة بالنفوذ الديني، ومظهرًا من مظاهر العناية بالدين يتجدد في(2/225)
كل عام. ومن فاتته السلطة النافذة في صميم وظيفته، التمسها بالتصنع والانتحال، وانتجعها في المراعي البعيدة.
ثم جاءت الحكومة في الأخير لتستغل ما زرعت بذوره، وغرست جذوره. وكان صوم هذا العام هو مصنع التجربة ...
هذه هي وظيفة القاضي مقيّدة محدودة. أما المفتي فإنه لم يذكر في الكتاب. ولا مفتي في الإسلام بهذه الصورة. وإنما الفتوى في الدين واجب مشاع بين علماء الدين، وإذا كان خلفاء بني أمية يقيمون في مواسم الحج الأكبر مناديًا ينادي لا يفتي في الناس إلا عطاء، أو لا يفتي في الناس إلا طاوس، وإذا كانوا يقولون لا يُفتى ومالك بالمدينة، فما ذلك إلا أنه عطاء وطاوس ومالك ...
ونحن نسمّي حادثة هذا العام مهزلة حكمًا بالظاهر، وقياسًا على ما كان يقع في الأعوام الماضية من التلاعب وتقوية أسباب الخلاف بين جماعات هذه الأمّة المسكينة. أما في هذا العام فهي مهزلة ومكيدة معًا. فقد دلّت القرائن على أنها مكيدة مدبّرة محبوكة الأطراف، اشتركت فيها عدة هيئات وأشخاص أولها الهيئة الحكومية، وآخرها هيئة الأهلة والأعياد، وبينهما ما شاء الهوى من وسائط وأدوات. منها راديو الجزائر الذي بادر إلى النوم، كأنما كان هو واللجنة فيه على ميعاد، ولا نبرئ راديو تونس في هذا العام، فقد رأيناه يتثاءب ويتمطّى ويتناوب ويضيق به الصبر فتسكت نامته، وآذان سامعيه معلّقة به. كأنما سرت إليه نفحة من وحي الجزائر.
وهكذا تقوم الشواهد كل يوم على أنه لا ثقة بهذه المصالح والهيئات التي لا تتحرك ولا تسكن إلا بالوحي والإيعاز، ومنها مرصد (بوزريعة) الذي يعتمد عليه الشيخ القاضي ويقول عنه لسان حاله: إنه حيث لا هلال في المرصد، فلا هلال في السماء. ونحن لا نثق ببوزريعة ولا بمكبراته، ومتى كان بوزريعة مصدر شريعة؟ ومتى كان مصدر وحي بالصوم والإفطار؟
إن الرصد علم. لم يبلغ بنا الجمود أن ننكره. ولكن الاستعمار يفسد العلم بإفساد العلماء. ويوم يجمع علماء الإسلام على الرجوع في الصوم إلى الحساب والترحيل يكون لهم في علماء الفلك منهم مندوحة عن مراصد الاستعمار التي يشيّدها، ويقيّدها. وعن علمائها الذين لا يسميهم حتى يسممهم.
أصل هذه المهزلة أو المكيدة، وعفتها التي سهّلت على مرتكبيها ارتكابها مهزلة أخرى صنعها الاستعمار صنعًا ليذرّ بها الرماد في العيون، فقد شرع في العام الماضي قانونًا يقضي باعتبار الأعياد الإسلامية أعيادًا رسمية تعطل فيها المصالح والأعمال. ومن ذلك اليوم زيد في اسم (لجنة الأهلة) سطر وهو (والأعياد الإسلامية الكبيرة).(2/226)
وإلى الآن لم ندر ما مرادهم بالكبيرة؟
لم تبلغ بنا البلاهة إلى حدّ أن تخفى علينا المقاصد الحقيقية من هذه الترهات. فقد فطنا من أول لحظة للقصد من هذا التشريع التافه. وسبق الشيخ أبو القاسم البيضاوي فكتب مقالة في العدد الثامن عشر من "البصائر" كشف فيها الغطاء عن هذه اللعبة، ونبّه الأمّة إلى ما ينطوي عليه هذا القانون من كيد. وأن الغاية منه التوصل إلى العبث بأعيادنا والتحكم في شعائرنا بواسطة لجنة كلجنة الأهلة والأعياد.
كانت المكيدة مفضوحة بنفسها وبأيدي رجالها الذين غفلوا عن موطن النقد فافتضحوا ودلونا على أن الأمر كله وحي وإيعازات.
ذلك أن ليلة الأربعاء هي ليلة الشك. فكان الواجب على لجنة الأهلة أن تنسى الأعياد، وأن تأخذ للأمر حيطته بأربعة أمور:
الأول: أن تبقى مجتمعة في مكتبها إلى ما بعد منتصف الليل لتتلقّى الأخبار لاسيّما وبلاغ الشيخ القاضي يتضمن هذا.
الثاني: أن تتقدم إلى إدارة البريد بإبقاء المكاتب البريدية في القرى الصغيرة مفتوحة إلى ذلك الوقت.
الثالث: أن تتقدم إلى إدارة الراديو بمثل ذلك.
الرابع: أن تكون على اتفاق مع جميع قضاة القطر بأن يتصلوا بها إلى ذلك الوقت. ولو شاءت اللجنة لفعلت ذلك من دون مانع ولا عائق، أولًا لأن للقضاة جمعية ورئيسها
هو رئيس اللجنة. وثانيًا لأن هذه الأشياء الأربعة حكومية، فهي أخوات من الرضاع وقد سمعنا أن جمعية القضاة اجتمعت مرات، ولم نسمع أنهم ذكروا هذه المسألة الخطيرة بكلمة.
غير أن لجنة الأهلة والدعاية لم تفعل شيئا من ذلك، بل فعلت نقيض ذلك. فما جاءت الساعة التاسعة ونصف- العاشرة حتى كانت مكاتب القاضيين والمفتيين بالجزائر كلها مغلقة، وأهلها نائمون. وسرى النوم منهم إلى الراديو فغطّ، كأن الليلة ليست ليلة شك. وكأن الأمّة ليست في انتظارهم وانتظاره وكأن الشيخ القاضي لم يكتب في ذلك بلاغا. ولو أنه انتظر إلى نصف الليل، لَقام عن نفسه بالعذر سواء صدّق خبر قسنطينة أو كذّبه.
وقد طلب مركز جمعية العلماء مكاتب القاضيين والمفتيين مرارًا إلى ما بعد نصف الليل، فلم يجبه أحد، وجاءتنا الأخبار من الآفاق بأن عشرات من الناس طلبوا مكتب اللجنة(2/227)
عشرات المرات فلم يجبهم أحد. وأن محكمة قسنطينة خاطبته بعد العاشرة لتبلغه الخبر الذي تلقّته بالرؤية فوجدته نائمًا. وبلغتنا الأخبار الصادقة بأن كثيرًا من المحاكم لم تفتح ليلة الأربعاء ولا دقيقة، وأن قاضي سطيف استيقظ في الساعة الثامنة من صباح الأربعاء فبلغه أن الرؤية ثبتت عند قاضي قسنطينة، فأمر مناديًا ينادي في الناس بالإمساك فقابله مفتي البلد به بمناد آخر ينادي بالفطر. وكانت فتنة، وكان تشويش، وكانت سخرية بالغة من الأجانب. وما كان القاضي ولا المفتي يريد بما صنع وجه الله ولا نصر الحق، وإنما هو تنازع على نفوذ موهوم ورياسة زائفة.
ومما يزيد في الحسرة والألم أن جريدة "ديبيش قسنطينة" نشرت صباح الأربعاء خبرين متناقضين في إطار واحد، أحدهما بالحرف الدقيق ومعناه أن قاضي قسنطينة أثبت الصوم، والآخر بالحرف الغليظ ومعناه أن قاضي الجزائر يقول: لا رؤية، ولا هلال، ولا صوم. وجريدة "الديبيش" من ألسنة الاستعمار الحادة، ومن معامل الكيد للإسلام والمسلمين، ومصانع الاستخفاف بهما، والاحتقار لهما. ولها في كل حرف تنشره عنهما حكمة وغرض. ففي نشر الخبرين معًا في إطار واحد بنوعين من الحروف أحدهما يلفت النظر، معان لا تخفى علينا ومغاز لا نستغرب منها، ودلالة على دعايتها لأحد الخبرين، وترجيحًا له. وإننا لا نلومها على شيء خلقت له، فقامت به أحسن قيام. وإنما نلوم هذه الهيئة القضائية المتشاكسة على إدخالها الأغراض الشخصية في مسائل الدين، وعلى هذا التلاعب الذي مهّدت به السبيل للسخرية من الإسلام والمسلمين.
...
أصبحنا لا نثق بهذه الهيئات المسيرة، ولا بهذه الآلات المسخرة. فهل للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن ينظروا لدينهم، ويجمعوا على أمر يشرف الإسلام وينقذه من هذه الفوضى المخزية. وسندلي برأينا في ذلك ونشارك في وضع خطة الإنقاذ.
وقد كنا نشرنا على الأمة منشورًا في العام الماضي، وأعدنا نشره في هذا العام مكنا فيه للثقة بمراكز الإذاعة في تونس والجزائر والرباط، وبالأخبار التي تأتيها من الهيئات الشرعية، حملًا لها ولهم على محمل الأمان والائتمان. ولم نراع في ذلك كونهم قضاة ولا مفتيين. وإنما راعينا كونهم عمالًا مؤتمنين. أما الآن ... وبعد اطلاعنا على هذه الخائنة منهم فقد بدا لنا فيهم بداء. وما على الأمة بعد هذا إلا أن تعتمد على نفسها، وأن تتبادل الأخبار التلفونية من شاهدين إلى شاهدين، وأن تجتهد في تعميم الأخبار بالوسائل الممكنة.(2/228)
سنة من عمر "البصائر" *
بتاريخ هذا العدد تسلخ "البصائر" السنة الأولى من سلسلتها الثانية حامدة لله تعالى على ما وفق وأعان ويسر، شاكرة للكتاب والقراء ما بذلوا من عون وتنشيط. فخورة بهذه الأسرة المخلصة المتعاونة، وبهذا الجيش اللجب من العلماء والكتاب والشعراء، وهذا المدد المتلاحق من القراء والأنصار. معتزة بهم، معتقدة أن الله سبحانه لم يقيض لجريدة مثل ما قيض للبصائر من أعوان وأنصار. وأنه ما قيض لها ذلك حتى وفقها للإخلاص، ويسرها لليسرى، وجملها بالصدق، وهيأها لحمل أمانة الحق.
سلخت "البصائر" هذه السنة من عمرها مرفوعة الرأس موفورة الكرامة، نقية العرض، طاهرة اللسان. لم تتنازل من حقوق الأمة في دينها ودنياها على شعرة، ولم تعش على خبيث المطاعم، ولم تبع لقرائها ما حرم الله من كذب وسب، ولم تعودهم عوائد السوء من التضليل وقلب الحقائق، ولم تتنزل لمسافهة السفهاء الذين تحركهم المطامع الدنية والأيدي الخفية. إلى مناوشتها والتحرش بها ليشغلوها بالباطل عن الحق، وبغير المفيد عن المفيد، وليفتحوا معها واجهة من الخصام الداخلي ليس من مصلحة الأمة ولا من مصلحتهم لو كانوا يعقلون. ولكن "البصائر" تفطنت لكيدهم وما يضمرون، فأعرضت عنهم فلجوا، فاحتقرتهم. ثم وزنتهم فوجدت الغش والتزوير والتضليل والتدجيل وإنكار الحقائق الملموسة، ووزنت جمعية العلماء التي يحاربونها فوجدت العلم، والأعمال المفيدة، والمدارس المشيدة، فتركت البصائر الكلمة لهذه الأعمال، لتدمغ بنفسها تلك الأقوال. ولو شاءت البصائر لأوقفت كل سفيه عند حده، ولسقته من الرد حميمًا وغساقًا. ولئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون بجمعية العلماء ليكونن للبصائر معهم موقف جديد، في عامها الجديد.
__________
* "البصائر"، العدد 45، السنة الأولى من السلسلة الثانية، 2 أوت 1948م.(2/229)
ومن الغريب في أمر هؤلاء أنهم يعمدون إلى سيئاتهم التي صارت طبيعية فيهم فيحاولون - عمدًا- إلصاقها بجمعية العلماء. وهذا نوع من التضليل وتغطية الإجرام لا يطول أمده ولا يلبث أن يفتضح صاحبه.
وهم يجهدون في أن يقلبوا حسنات جمعية العلماء سيئات، وأنهم لا يستطيعون ذلك، وكيف يستطيعون؟ ومن حسناتها القرآن تهتدي به وتهدي، ومن حسناتها الإسلام تنوه به وتنشر محاسنه، ومن حسناتها هذا البيان العربي الذي أحيته في الألسنة والأقلام، ومن حسناتها هذه المدارس العديدة المتوجة بهذا المعهد الباذخ، ومن حسناتها عشرات الألوف من أطفال الأمة فتحت أعينهم على النور ونهجت لهم نهج الحياة.
والبصائر سجل للحركة العلمية والأدبية بهذا القطر، وثبت حافل بأعمال جمعية العلماء، وكنز من البيان العربي تشد عليه أيدي الضنانة وأعدادها تكون في كل سنة مجلدًا نفيسًا تزان به الخزائن، فعلى قرائها أن يحتفظوا بها، وقد أبقت إدارة البصائر مجاميع ستجلدها وتبيعها لمن فاته جمعها أو قراءتها، وكان النظام يقتضي أن تكون المجموعة مؤلفة من خمسين عددًا، ولكن عطلة الأعياد وعوائق أخرى اعترضتنا في أثناء السنة حتمت علينا أن تكون مجموعة هذه السنة مؤلفة من خمسة وأربعين عددًا هذا آخرها.
وأما ما بذلته أسرة البصائر من جهد ظهرت آثاره في الأسلوب وجمال الطبع، ودقة التصحيح- فهو شيء تحتسبه الأسرة في خدمة العربية ولا تمنه، وإنها لترجو فوق ذلك مظهرًا.
أما المواضيع التي تخصها البصائر في عامها الثاني بالعناية- زيادة على العموميات- وتحمل فيها الحملات الصادقة: ففي مقدمتها فصل الدين عن الحكومة وما يتفرع عن الفصل، كالمساجد والأوقاف، وحرية الصوم والحج وحرية التعليم العربي، ومنها دراسة مناهج التعليم في المدارس الحرة والمعاهد، ومحاربة الجراثيم التي داخلت الجهاز التعليمي، وستبتدئ من العدد الآتي بنشر سلسلة بعنوان (جناية الحزبية على التعليم) تفضح فيها هؤلاء الذين يوحون إلى التلاميذ ما يزهدهم في العلم، ويعوق سيرهم فيه، ويقلل تحصيلهم له، حتى يرمينا الزمان- بسببهم- بجيل أشل، يزيد في بلاء الأمة، ويحقق الأمنية الكبرى من أماني الاستعمار التي عجز عن تحقيقها بنفسه فاستعان عليها بهؤلاء، ويصدق التهمة العظمى التي يرمينا بها الاستعمار، وهي أننا شعب بليد لا استعداد فينا للعلم، وأنها- والله- لجريمة يرتكبها هؤلاء الدساسون للتلامذة، والمندسون في صفوفهم، وإن أول واجب على الأمة أن تتفطن لهذه الجريمة ولهؤلاء المجرمين، وأن تتصورها بعواقبها، وأن لا تستخف بها فتضيع عليها رغائبها وأموالها وجيلًا كاملًا من أبنائها.(2/230)
سنة "البصائر" الجديدة *
تستقبل "البصائر" بهذا العدد عامًا جديدًا من عمرها المديد بالأعمال لا بالأقوال، العامر بالحقائق لا بالخيالات، وبالجد لا بالهزل، وبالبناء لا بالهدم، سائلة من
الله تعالى- في اخبات المؤمن، وخشوع القانت- توفيقًا ينير السبيل، وإعانة تسهل العسير، وتأييدًا يشد الأزر، ومددًا روحانيًّا يقوى العزائم ويغذي اليقين، ويثبت الأقدام.
تستقبل "البصائر" هذه المرحلة الجديدة من مراحل جهادها، وهي على أشد ما كانت عليه من الإيمان واليقين والاستبصار والحزم والثبات والصبر، وهي الخلال التي اتسمت بها من يوم نشأت، ولم تزدها ممارسة الأيام والحوادث إلّا شدة فيها، واستمساكًا بها، فكانت عدتها في الشدائد، وسلاحها في مواطن البأس واليأس، حين تهفو الأحلام وتطيش الآراء، وتزيغ البصائر، ولا تظن نفس بنفس خيرًا.
...
قطعت البصائر عامها الأول من عهدها الجديد في مقارعة الاستعمار، في الميدان الديني والعلمي كثيرًا، وفي الميدان السياسي قليلًا. كشفت نياته وألاعيبه في قضايا فصل الدين الإسلامي عن الحكومة، وحرية التعليم العربي والحج، وفضحت مكايده في وضع الدستور الجزائري ومهازل الانتخاب، ولم تعف أعوانه في الميدانين، المتسترين منهم والمجاهرين، ثم شاركت بجهد المقل في قضية فلسطين بتلك المقالات التي أمدها اللسان العربي بقبس من بيانه، وأمدها البلاغ الإسلامي بقوّة من برهانه، وأمدها التاريخ الصادق بفواصل من فرقانه، ثم طافت في فترات العام المتقطعة بموانع الاهتمام من شؤون الجزائر، فوضعت في
__________
* "البصائر"، العدد 46، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 23 أوت 1948م.(2/231)
كل جرح دواء، ورفعت لكل غادر لواء، وأعطت في كل حدث رأيًا، ولكل مشكلة علاجًا، ونصبت في كل ميدان جنديًّا، كل ذلك بقدر ما وسعه جهدها، وانفسح لعمله ذرعها، ثم لم تغفل يومًا عن وظيفتها الأصلية وهي خدمة التعليم العربي ومدارسه ورجاله.
...
والبصائر حين تضع تلك الشارة الثمينة على صدرها، بل ذلك التاج اللامع على رأسها، وهو كلمتا: العروبة والإسلام- لا تضعها رمزًا بلا حقيقة، ولا عنوانًا بلا كتاب، ولا حلية على عجوز، بل هي حقيقة صادقة، ومزنة وادقة، وأعمال مبرورة للعروبة والإسلام. لا تزيد فيها ولا مبالغة. فالبصائر هي مجلى البيان العربي بهذا القطر، وهي حارسة الهدي المحمدي بهذا القطر، وهي المؤتمنة على الفضائل الشرقية بهذا الوطن في وقت أجلب فيه الاستعمار بخيله ورجله على هذه الثلاثة، ينتقّصها ليزهد فيها، وينقصها ليبيدها. تمالئه على ذلك نزعتان خبيثتان، كلاهما من غرس يده: نزعة الالحاد التي هي شر ما نسلت الحضارة الغربية، ومن آثارها قطع الصلة بيننا وبين الشرق وروحانيته، ونزعة أخرى تلبس باسم الشرق العربي، وتأكل الخبز باسمه، زخرف القول غرورًا، ولكنها لا تعمل ما يرضيه، ولا تبني ما يعليه، وإنما ترفع العقيرة باسمه فتفضحها رطانة الأنباط، وتربط نفسها معه بمثل خيط العنكبوت فينحل الرباط، وتمتحن بخصائصه فإذا هي ... كما قيل في حجام ساباط.
والبصائر ترى أن الشرق العربي شركة مساهمة، للمغرب العربي حق المساهمة فيه برأس مال، ليس منه الأقوال ولا الخيال، وأن جمعية العلماء التي تمثلها جريدة البصائر هي الهيأة الوحيدة التي قدمت حصتها كاملة للشركة العربية من رأس المال، بما أصلته للعروبة من أصول، وبما فصلته لها من فصول، وبما أقامته لها من معالم. نقول هذا ولا نبخس الهيآت العاملة أشياءها، وإنما نقول: ان رأس المال الذي نعتبر به شركاء في هذه الشركة العظمى- لا يتحقق بالبرقيات، ولا باحتفالات يوم العروبة. إذ غاية ما يدل عليه ذلك إثبات أننا عرب، وهذا تحصيل حاصل، وليس فيه في حدّ ذاته حاصل، وإن تأسيس مدرسة عربية، لأفصح في الدلالة على الاتصال من ألف برقية.
إن هذه التهاويل والقشور هي من أسوأ ما جلبه إلينا الاستعمار من ضلال الحضارة الغربية. يلهينا بها عن الواجبات، ويحجب علينا بها الحقائق، وقبلها رمانا بالسم القاتل من فكرة الوطنيات الضيقة، ليضيع علينا الوطنية العامة. فلما ضاعت من أيدينا وأفكارنا- ابتلعنا لقمة، ولو حافظنا على الوطنية الكبرى العامة لما مزق أوصالنا هذا التمزيق الشنيع. فهل نعتبر؟ وهل نذكر؟(2/232)
إن أعظم فائدة نجنيها من الجامعة العربية هي استبدال الوطنيات المحدودة بالوطنية الجامعة الواسعة، ولا تضع الجامعة العربية رجلها في طريق الفلاح إلّا يوم توحد التعليم ووسائل الثقافة والقضاء والنقد والجيش والتمثيل السياسي، ولو وفقت إلى ذلك من قديم لوجد "وسيط" الأمم الظالمة صفًا واحدًا، وإمامًا واحدًا، ولسانًا واحدًا، ولما رأيناه يطير كالديك من غصن إلى غصن ويؤذن على كل غصن بأذان ... ويا ويح فلسطين، إذا كان يدافع عنها شركاء متشاكسون.
و"البصائر"- بعد هذا كله- ستعالج في عامها الجديد مشكلة التعليم العربي في أقطار العروبة وستمد يدها وبصرها إلى ما وراء الحدود، وستدلي برأيها- بكل إخلاص- في التعليم الجامعي بجامعاتنا الدينية العزيزة وستتوسع في القول بضرورة توحيد المناهج، والعناية بالتربية الخلقية في جامعاتنا ومدارسنا الابتدائية ولها في هذا الاستعداد القوي الذي استحكم في نفوس رجال العلم والعمل- أكبر أمل في النجاح.
...
و"البصائر" ستشتد في مقاومة هذه "الاستعمارات" المقاومة للتعليم، وسيجدونها غصةً وشجًا وسمًا ناقعًا وغيظًا، وسيجدونها عن العلم نضاحة، ولأعدائه فضاحة، وسيجدونها- ما داموا على ذلك- حيث يجد العدو عدوه، لا حيث يجد الصديق صديقه.
...
و"البصائر" جريدة العروبة والإسلام، فلتبق جريدة العروبة والإسلام.(2/233)
جناية الحزبية على التعليم والعلم *
مائة وثلاثون مدرسة عربية ابتدائية مجهزة بكل الأسباب المادية العصرية اللازمة للمدارس، وبجهاز آخر من المعنويات أعظم منها شأنًا وأجل خطرًا، وبجند من المعلمين الأكفاء قوامه مائتان وخمسون معلمًا، من بينهم عشرات من النوابغ في التعليم والإدارة، ومشحونة بزهاء ثلاثين ألف تلميذ من أبناء الأمة بنين وبنات، يتلقون مبادىء الدين الصحيح عقيدة وأعمالًا، ومبادىء العربية الفصيحة نطقًا وكتابة وإنشاء، ويتربون على الوطنية الحقيقية وعلى الهداية الإسلامية والآداب العربية، ويتكون منهم جيل مسلح بالعلم، ثابت العقيدة في دينه ووطنه، قوي العزيمة في العمل لهما ... ويزيد في قيمة هذه الحصون العلمية أن الأمة تملك أعيان نحو الخمسين منها، وتملك الانتفاع بالباقي على وجه الكراء.
وسبعة وثلاثون مدرسة أخرى شرعت الأمة في تشييدها في هذه السنة، وفيها ما يحتوي على ستة عشر قسمًا، وفيها ما تقدر نفقاته بخمسة عشر مليونًا من الفرنكات.
ومعهد تجهيزي عظيم، يخطو إلى الرقي والكمال في كل يوم في نظامه وبرامجه وأساتذته وتلامذته. يُؤوي من تخرجه تلك المدارس، ليزود الأمة منهم بالوعاظ والمرشدين وخطباء المنابر، ويزود الطامحين منهم إلى المزيد من العلم بالمؤهلات إلى ما يطمحون إليه.
وجمعيات بلغت المآت، مقسمة على العلم والإحسان والأدب والرياضة، تبث في الأمة النظام، والإدارة، وآداب الاجتماع، وديمقراطية الانتخاب، وتعلمها كيف تناقش، وكيف تصوغ الرأي، وكيف تدافع عنه، وكيف تنقضه بالحجة، وكيف تزن الأفكار، وكيف تحاسب العاملين، وتدربها على التدرج من الإدارات الصغرى إلى الإدارات الكبرى. لأن
__________
* "البصائر"، العدد 46، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 23 أوت 1948م.(2/234)
الأمة التي لا تحسن إدارة جمعية صغيرة، لا تحسن بالطبع- إدارة مجلس فضلًا عن حكومة، ولا كالجمعيات مدارس تدريب، ونماذج تجريب.
ونواد بلغت العشرات، غايتها إصلاح ما أفسدت المقاهي والملاهي من أخلاق الشباب، وكلها ميادين للعمل، ومنابر للخطابة، ومستغلات للعلم والتعليم.
وآلاف من الشباب العربي المسلم كان كالمجهول في نسبه، وكالجاهل لحسبه، ففتحت المحاضرات الحية أذهانه على تاريخ أسلافه وفتقت ألسنته على آدابهم، فتقاسم على أن يقفو الأثر، ويجدد ما اندثر، وأقبل على العلم حتى إذا ضاقت به الجزائر فارقها كالنحلة، ترحل إلى المكان السحيق، لترجع إلى خليتها بالرحيق.
وإصلاح ديني تمكن من النفوس وتغلغل إلى الأفئدة، فطهرها من الشوائب التي شابت الدين، ومن النقائص التي شانت الدنيا، وصحح العقائد فصحت القواعد، وصحح العزائم، فأقدمت على العظائم، وإذا صحت العقائد وصلحت النيات، ظهرت الآثار في العزائم والإرادات. وفضائل شرقية كانت مشرفة على التلاشي فأحيتها مدارسة القرآن وممارسة التاريخ، وإفشاء الآداب العربية، ونشر المآثر العربية.
وأمة كاملة كانت نهبًا مقسمًا بين استعمارين متعاونين على إبادتها: مادي متسلط على الأبدان، وروحاني متسلط على العقول، فصححت حركة الإصلاح الديني عقولها، فصح تفكيرها، واتزن تقديرها، واستقام اتجاهها للحياة، وان تحرير العقول من الأوهام، سبيل ممهد إلى تحرير الأبدان من الاستعباد.
...
هذا هو رأس المال الضخم الذي أثلته جمعية العلماء للأمة الجزائرية في بضع سنين، وغذت به البقايا المدخرة من ميراث الأسلاف.
وهذه هي الأعمال التي عملتها جمعية العلماء للعروبة والإسلام، فحفظت لهما وطنًا أشرف على الضياع، وأمة أحاطت بها عوامل المسخ، فأصبحت أمة عربية مسلمة شرقية نضاهي بها أخواتها في العروبة والإسلام، بل نباهيهن بها، وما شيدت جمعية العلماء هذا البناء الشامخ من الماديات والمعنويات ورفعت سمكه إلّا بعد أن أزالت أنقاضًا من الباطل والضلال تنوء بالعصب أولى القوّة والأيد، وبعد أن نازلت جيوشًا من المبطلين المضلين تَكِعُّ عن لقائها الأبطال، وبعد أن لقيت من حماة الاستعمارين ما تلقاه فئة الحق من فئات الباطل: كانوا أكثر وأوفر، وكنا أثبت وأصبر، وكانت العاقبة للصابرين.(2/235)
وهذا ما وضعته جمعية العلماء من أسس ثابتة للوطنية الحقة، فأروني ماذا صنعت هذه الجماعات التي تسمي نفسها أحزابًا سياسية وحركات وطنية؟ وماذا عمل هؤلاء اللائكون لكلمة الوطن، من عمل صالح للوطن؟ وماذا قدم هؤلاء الماضغون لكلمتي العروبة والإسلام، من خدمة نافعة للعروبة والإسلام؟ وماذا عرف هؤلاء المزورون على الشرق العربي من الشرق العربي؟
لا نعرف نحن، ولا تعرف الأمة، ولا يعرف المنجم، لهؤلاء أثرًا صالحًا في تربية الأمة، ولا عملًا إيجابيًا مثمرًا في فائدة الأمة، بل لم نعرف جميعًا عنهم إلّا الضد. ففي باب التربية لم نر منهم إلّا التدريب على السب والكذب والاختلاق وقلب الحقائق والتمرين على التزوير والدعايات المضللة، والتعويد على الشقاق، والتبعيد عن الاتحاد، وفي باب الأعمال لم نر منهم إلّا عملًا واحدًا، هو الذي سميناه "جناية الحزبية على التعليم والعلم".
هؤلاء القوم قطعوا الأعوام الطوال، في الأقوال والجدال، وجمع الأموال، وتعليل الأمة بالخيال، ومجموع هذا هو ما يسمونه سياسة ووطنية. فلما فحصنا هذا وقارنا مقدماته بنتائجه لم نجده إلّا تمهيدًا للانتخابات ووسائل للفوز بكراسي النيابات، وما يتبعها من خصائص وامتيازات.
هذه هي الحقيقة وإن ألبستها الدعايات الجوفاء في الداخل والخارج ألف ثوب زور، وسنشرحها بالأدلة ونكشف الغطاء عن هذا الزيف، فلا أبطل من الباطل إلّا السكوت عليه. وقد كانت مواسم الانتخاب تأتي بعد السنوات فيكون في الفترات بينها مجال لدعوى المدعي وتضليل المضلل، ولكنها كثرت وتعددت وصحبها من مغريات الأجور ما أذهل المحتاط، عن أخذ الاحتياط، فافتضحت المقاصد، وظهرت العيوب.
كثرت مواسم الانتخاب حتى أصبحت كأعياد اليهود، لا يفصل بعضها من بعضها إلّا الأيام والأسابيع، وكان ذلك كله مقصودًا من الاستعمار. لما يعلمه في أمتنا من ضعف، وفي أحزابنا من تخاذل وأطماع، وفي مؤسساتنا ومشاريعنا العلمية من اعتماد على الوحدات المتماسكة من الأمة، فأصبح يرميهم في كل فصل بانتخاب يوهن به صرح التعليم، ويفرق به الجمعيات المتراصة حوله، والتعليم هو عدو الاستعمار الألد لو كان هؤلاء القوم يعقلون.
كان هؤلاء القوم عونًا للاستعمار على ما أراد من كيد التعليم واضعافه، فقد وقع في السنة الماضية انتخابان وأمعنت الحزبية في التضريب بين جماعات الأمة، وبالغت في التضليل والأماني، وبالغت في السب وتقطيع الأوصال، وبالغت في تمزيق الشمل المجموع حول التعليم: فما انتهى الانتخاب الأخير إلّا والجمعيات القائمة بالمدارس منشقة متعادية، والهمم التي كانت مجمعة على التعليم باردة فاترة والأيدي التي كانت مبسوطة للتعليم(2/236)
مقبوضة شحيحة، وطاف طائف النعرات الحزبية ببعض المعلمين فنسوا واجبهم وأضاعوا الانسجام مع زملائهم- والانسجام شرط أساسي لنجاح التعليم- وفتحوا الباب للعامة في التحزب والتعصب، وكانت النتيجة- لولا أن تداركناها بالحكمة- بلاء مصبوبًا على مدارسنا وهي في خطواتها الأولى، ولو أن مدارسنا اشتدت أصولها، وامتدت فروعها، وكانت تأوي في الجانب المالي إلى ركن شديد، وترجع في الجانب العملي إلى رأي رشيد لكان وبال هذه النعرات الحزبية الشيطانية راجعًا إلى أصحابه وحدهم، ولو كان محركو هذه النعرات الحزبية يريدون بالوطن خيرًا- كما يزعمون- لجانبوا بدعايتهم هذا الجهاز التعليمي بمدارسه ومعلميه وجمعياته وموارده المالية، ولكنهم متعمدون لذلك متمالئون مع الاستعمار عليه، ومن ذا الذي يستطيع إقامة الدليل على براءتهم من هذه الجريمة، وأقوالهم شاهدة بذلك؟
هذه إحدى جنايات الحزبية على التعليم زيادة على جنايتها على الأخوة والمصلحة الوطنية العامة.
إن التعليم عند الأمم التي عرفت الحياة معدود في المقومات التي هي رأس مال الوطن، ورأس المال يسمو عن الحزبيات، ولكن التعليم عند هؤلاء الدجالين منا معدود في الدرجة الأخيرة من الاعتبار، فيجب في نظرهم السخيف أن يخضع للانتخاب، وسمخر هو ورجاله للأحزاب، وقد تختلف الأحزاب عند تلك الأمم في فكرة سياسية، وترتفع حرارة الخلاف إلى درجة الغليان ولكن ... محال أن يصل الخلاف أو تمتد أسبابه إلى قدس التعليم ومدارسه ورجاله ونظمه وبرامجه ووسائله. محال ذلك لأن التعليم- عندهم- فودتى الأحزاب وفودتى الحزبية وأشرف منهما ولأنه رأس مال الأمة، وذخيرة الوطن، وهما مقدسان عند الأحزاب التي تحترم أممها وأوطانها ....
اشتد الخلاف واحتد بين الأحزاب الفرنسية من الشيوعية المتعصبة إلى الكاثوليكية المتعصبة. فهل سمعتم أن الخلاف بينها تناول- يومًا- المدارس والكليات والدين والتعليم؟(2/237)
مجلة أفريقيا الشمالية*
لم يزل مكان المجلات العربية في وطننا فارغا، ولم يزل تطلع القراء إليها شديدًا، منذ احتجبت مجلة "الشهاب" وضعف الرجاء في عودتها إلى الظهور، حتى صدرت مجلة "افريقيا الشمالية" فسدت بعض الفراغ، وأنعشت بعض الأمل، وأرتنا مثالًا من تغلب الهمة على الصعوبة، وانتصار العزيمة على القنوط.
وصاحب "افريقيا الشمالية" ولدنا الشيخ اسماعيل العربي من تلاميذ الإمام عبد الحميد ابن باديس، ومن ذلك الشباب الذي جهزته جمعية العلماء قبل الحرب لنشر "الإصلاح" والعربية فيما وراء البحار، وأحد أفراد بعثتها إلى القاهرة، وقد لبث فيها نحوًا من ثمان سنوات ما بين الجامعة الأزهرية، والجامعة الأميريكية إلى أن عاد إلى الوطن منذ سنة، فسمت همته إلى هذا النوع من خدمة الثقافة بوطنه، وهي خدمة جليلة لولا ما يعترضها من الصعوبات، وأصعبها وأشقها الطباعة، فمن النقائص الفاضحة في نهضة العربية بالجزائر فقد المطابع العربية.
والشيخ اسماعيل العربي كفء لهذا العمل إذا وجد المساعدة والتنشيط وذللت أمامه عقبة الطباعة، وهو كاتب ممتاز في العلميات النفسية والأخلاقية.
صدر من المجلة الجزءان الأول والثاني في هيأة لطيفة، وروح أدبية خفيفة، وبداية تدل على أنها سائرة إلى غايات شريفة.
__________
* "البصائر"، العدد 46، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 23 أوت 1948 (بدون إمضاء).(2/238)
و"البصائر" تتمنى لمجلة "افريقيا الشمالية" انتصازا يُقوّي المعنويات، وانتشارًا يقوم بالماديات، وتحسّنًا يضمن الاقبال واطراد السير، ولا تبخل عنها بالمستطاع من العون والتأييد، وأيسره حثّ الأمة على الاشتراك فيها.
وتتمنّى لصاحبها نفحات تغذى الأمل، وتدفع إلى العمل، وتطرد طائف الملل، والله
في عون الصحافي ما دام الصحافي في عون أخيه، وصبر جميل، أيها الزميل، فكلانا مبتلى ...(2/239)
أدعاية أم سعاية؟ أم هما معًا؟ *
قالوا: ان جريدة "المغرب العربي" كتبت في الوجه الفرنسي من أحد أعدادها الأخيرة، ما معناه: أن الإبراهيمي يتجوّل في عمالة قسنطينة ليجمع زكاة الحبوب لفلسطين، إلى آخر العبارة، فلم نستغرب من هذه الرواية إلا شيئًا واحدًا، وهو أن يوجد في أخبار "المغرب العربى" كلام ثلثاه صدق ...
فقد قالت: إن الإبراهيمي يتجوّل: وهذا حق، وقالت: انه يجمع زكاة الحبوب، وهذا صدق، وقالت: إن تلك الحبوب لفلسطين، وهذا كذب مقصود متعمد، بل ما سيق الكلام الذي قبله إلّا لأجله، وما اقترفت جريدة "المغرب العربي" جريمة الصدق في الجملتين الأوليين إلّا لأنهما وسيلة ومعبر إلى هذه الكذبة التي يسميها الناس كلهم كذبة، وتعتقدها تلك الجريدة من الحسنات الكبرى لأنها تجمع بين الدعاية والسعاية.
كنا نهينا بعض الطلبة عن منكر يعوق عن طلب العلم، ولا يتلاقى مع العلم في سبيل، وهو هجر الدروس لأجل القيام بالدعايات الانتخابية، فسمت الجريدة المذكورة هذا النهي سعاية منا بالطلبة. فما قول العقلاء اليوم فيما كتبته عن جمع الزكاة لفلسطين؟ خصوصًا حين كتبت ذلك في وجهها الفرنسي ليفهمه من وجه إليه مباشرة بلا واسطة ....
أما الصدق في القضية فهو أن الإبراهيمي تقدم إلى الفلاحين بالعمالة القسنطينية بأن يدفعوا نصف زكاة الحبوب للفقراء والمساكين، ويدفعوا النصف الآخر للمشاريع العلمية التي ببلادهم، ففهموا وامتثلوا، وضل سعي الكائدين.
وما قالت جريدة "المغرب العربي" ذلك الكلام إلّا بعد أن طاف "باعة المغرب العربي" الجهات التي زارها الإبراهيمي لينهوا الناس- بإلحاح- عن هذا المعروف الذي أمر به،
__________
* "البصائر"، العدد 47، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 30 أوت 1948م، (بدون إمضاء).(2/240)
ولكن الناس كانوا أعقل من أن تؤثر عليهم هذه الدعايات، وأعلم بمن يضلهم ومن يهديهم، وأعرف بمن يستزلهم عن أموالهم ليضعها في جيبه، وبمن يأمرهم بالعدل والإحسان ليضعوا أموالهم بأيديهم في يد الله فتكون حسنات في الآخرة ونفعًا في الدنيا، ولعل هذا هو الذي تنقمه منا تلك الجريدة وباعتها، وتنتقم لأجله من المدارس بإفسادها لأنها تنقص عليهم "المدخول"، ومن شك في هذا فليتصفح جريدة "المغرب العربي" بوجهيها ولينظر هل دافعت عن حرية التعليم العربي؟ وهل انتقدت القوانين الجائرة الخانقة للتعليم العربي؟ وهل انتصرت للمدارس العربية التي يغلقها الاستعمار كل يوم؟
إن هذا الصنيع من أصحاب "المغرب العربي" وباعته في حديثهم عن زكاة الحبوب وفلسطين- يلزمهم بواحد من اثنين ولا ثالث لهما. إما أنهم يعتقدون حقا أن الحبوب تجمع لفلسطين، وعليه فهم أعداء لفلسطين يصدون الناس عن إعانتها، وإما أنهم يعلمون أنها تجمع للعلم، وعليه فهم أعداء للعلم يصدون الناس عن إعانته وإمداده، وأحد الأمرين لازم لهم لا يستطيعون عنه انفكاكًا.
لم نتعود ذكر هذه الجريدة، فمعذرة إليها هذه المرة.(2/241)
برقية تعزية في وفاة المنصف باي *
نصّ البرقية التي أرسلها الرَّئِيسُ الجليل إلى الأمير محمد الرؤوف نجل الفقيد، والأمير الهاشمي، والأمير حسين، والأمير محمد إخوة الفقيد، في تعزيتهم عن الفجيعة التي حلّت بهم وبالأمة التونسية جمعاء:
قسنطينة يوم السبت 4 سبتمير 1948.
إن وفاة صاحب الجلالة سيدي محمد المنصف كارثة عامة يشارككم في الحزن عليها المسلمون عمومًا وسكّان شمال أفريقيا خصوصًا.
ويزيد آثارها الدامية تمكنًا في النفوس ما أحاط بها من ظروف الغربة والظلم.
إنني باسمي وباسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومن ورائها الأمة الجزائرية أعرب لكم عن الأسف العميق لهذه المصيبة، وأتقدم إليكم وإلى الأمة التونسية بالتعزية الخالصة.
محمد البشير الإبراهيمي
__________
* "البصائر"، العدد 49، السنة الثانية، 13 سبتمبر 1948، وفي نفس العدد مقال "دمعة على المنصف" (انظر الجزء الثالث من آثار الشيخ).(2/242)
كارثة الأغواط *
لم تصلنا تفاصيلها، ولكن ما وصلنا من أخبارها المروّعة في هذين اليومين كاف في تصوّر الفجيعة، وفظاعة المصيبة، فإلى رحمة الله تلك الأرواح التي ذهبت ضحيّة التفريط وعدم الاحتياط. وإن بقاء الثكنات العسكرية ومستودعات جهنّم وسط المدن الآهلة- لَمِن سيّئات الاستعمار التي لا تغفر، وخصوصًا في هذا العصر.
إن جمعية العلماء تتقدّم بالتعازي الحارة إلى العائلات المنكوبة سائلة من الله أن يعظّم أجور الأحياء في الأموات.
__________
* "البصائر"، العدد 51، السنة الثانية، 27 سبتمبر 1948 (بدون إمضاء).(2/243)
إلى المشائخ المعلمين *
قرر المجلس الإداري لجمعية العلماء عدة قرارات مفيدة في شأن التعليم، وصمّم على تنفيذها وعلى تلافي النقائص المحققة بقدر الإمكان.
ومن أهم ما قرّره تنجيز البرنامج الموحّد، وتنجيز اللائحة الداخلية التي تحدّد الحقوق والواجبات والعلائق بين المعلّمين أنفسهم وبينهم وبين الجمعيات المحلّية.
ومن أهم ما قرّره ترتيب درجات المعلمين (كادر) حتى لا تغبن الكفاءات ولا تهضم الأقدمية.
إلى عدّة إصلاحات خطيرة تعود على التعليم، بالخير العميم.
إن المجلس استعرض نتائج الامتحانات للسنة الماضية فوجد في بعضها نقصًا ملموسًا، وضعفًا محسوسًا ودقّق البحث في أسباب ذلك فوجدها ترجع إلى العناصر الآتية:
أوّلًا: روح التذمر المستولية على كثير من المعلّمين بسبب فقد السكنى واضطراب المعيشة، وهم على حق في هذا، وسنسعى في إزالته، والذنب فيه للجمعيات المحلّية.
ثانيًا: غلاء أسعار الضروريات، وعدم قيام الأجور بها، وهو مِثْلُ الأول في اهتمامنا به وتقديرنا له.
ثالثًا: افتتان بعض المعلّمين بالنزعات الحزبية.
رابعًا: عدم انضباط البرامج.
هذه بعض النقائص وأغربها أن يكون الكمال سببًا في النقص، فإن من بعض أسباب الضغف كثرة المدارس وشدّة إقبال الأمة، فأدّى ذلك إلى التساهل في بعض الاعتبارات اللّازمة، وظهر أن الرغبة زادت على الموجود من الرجال العاملين في التعليم.
__________
* "البصائر"، العدد 31، السنة الثانية، 27 سبتمبر 1948 (بدون إمضاء).(2/244)
بيان من المجلس الإداري لجمعية العلماء *
قرار رقم 16، جلسة يوم الإثنين 9 ذي القعدة عام 1367هـ
الموافق للثالث عشر من سبتمبر 1948م.
جمعية العلماء- في حقيقتها- دفاع منظم قوي عن الإسلام والعروبة بهذا القطر. هيأه الله عناية بدينه ولغة كتابه، وهيأ له نوعًا من العلماء ممتازًا بقوّة العلم وقوّة الروح. ليقوم بما قام به المصلحون المصطفون من علماء الإسلام في جميع العصور كلما طاف بالدين طائف بدعة من الداخل، أو عارض شبهة من الخارج. فيقمعون البدعة لئلا تندثر السنن، ويردون الشبهة لئلا تلتبس الحقائق، وكلما تجافت الألسنة عن صراط العربية، وجفت النفوس والقرائح من الأدب العربي، فيقومون زيغ الألسنة لئلا تضيع الفصاحة، ويعالجون القرائح لئلا تفسد الأذواق، وما زال الإسلام مبتلى بالبدع والشبهات، وما زالت العربية مرزوءة في فصاحتها بهذه الضرائر من اللهجات النابية، والرطانات الغريبة، ولولا دفاع الله عنهما بمثل جمعية العلماء لانزوى القرآن في المصاحف وانضوت روائع العربيية إلى المتاحف. كما هو واقع بهما من يوم ظهر في الميدان أفجر عدوّ لهما على وجه الدهر، وهو الاستعمار المسيحي.
وعمل جمعية العلماء- في جملته- إرث مذخور، ونصيب مفروض، لا يستحقه إلا العلماء أولوا الأيدي والأبصار، الذين أخذوا الكتاب بقوّة، ودرسوا ما فيه بتدبر، ولا يضطلع بحمله قليل العلم، ولا كليل الفهم، ولا ضعيف المنة، ولا منزور الحظ من البيان والإلهام.
__________
* "البصائر"، العدد 31، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 27 سبتمبر 1948م.(2/245)
وأعمال جمعية العلماء للإسلام والعربية هي البناء المتين للقومية، والتفسير الصحيح للوطنية، والشرح العملي لمعنى الأمة، والمعنى الجامع لهذه الكلمات الجليلة التي أصبحت عند أمم الأعمال مفخرة الفاخر، وعند أمم الأقوال- مثلنا- سخرية الساخر.
...
وكما امتحن الله الإسلام بخصومه الكائدين له، المتربصين به، ليجلو حقه بباطلهم، ويظهر حقيقته بمزاعمهم، وبقوي حجته بشبهاتهم، ويثبت قواعده بما يحاولون من هدمه، حتى كأنه- بسببهم- موجود مرتين، أو كأنه موجود وجودًا مضاعفًا، وهذه إحدى سنن الله في الحق والباطل، ما وقف الباطل أمام الحق إلا كان حجة له لا عليه، بل كان حججًا مطوية في حجة، ففي تهافت الباطل حجة، وفي تَخَاذُل أصحابه حجة، وفي خذلان الله لهم في العاقبة حجة الحجج.
وكما امتحن الله اللغة العربية بهذه الرطانات الناشزة ليقيم من عيها دليلًا على فصاحتها، ومن هجنتها برهانًا على صراحتها، كما يشهد قبح الشوهاء لجمال الحسناء، إذا تواقفتا في مشهد.
كذلك ابتلى جمعية العلماء بجماعات يعارضون أعمالها، ويسفهون آراءها، ويطمسون حسناتها، ويَتَنَقَّصُون جلاثل آثارها ويعارضون بأقوالهم أفعالها، فلا تكون عواقبهم إلّا كعواقب من يترصد للإسلام الأذى، ويبيت للعربية المحو والإبادة، وما جعل الله الأولين إلا سلفًا ومثلا للآخرين.
...
كان من المعقول أن يقف الكتابي أو الوثني في طريق الإسلام ليقطع مجراه أو ليصد تياره، ذيادًا عن دينه أن يهضم، وعن حوضه أن يهدم.
وكان من الطبيعي أن يقف الأعجمي اللغة موقف المكابر في فضل العربية وجمالها وسحر بيانها، حَمِيَّة للغته أن تنتقص، ولآدابها أن تبخس، وما زالت المحاماة عن اللغات كالمحاماة عن الأعراض- غريزة بشرية. حتى لو سألت السوداني المتوحش عن لغته لقال: إنها أفضل اللغات، وإنها أفصح اللغات.
ولكن غير المعقول وغير الطبيعي أن تقوم جماعة تحسب في عداد المسلمين وتعد من أبناء العرب، فتجاهر بالتنكر للإسلام والعربية، وتقيم العراقيل في سبيل انتشارهما، وتحارب الداعين إليهما والمدافعين عنهما، وتكون- من حيث تدري أو من حيث لا تدري- عونًا لأعدائهما عليهما.(2/246)
إن الاستعمار ليطير فرحًا بالكلمة يقولها المسلم في تهوين الإسلام، وباللفظة يلفظها العربي في توهين الأمة العربية. لأنه يعلم منشأ ذلك في نفس القائل، ولعلم أثره في نفس السامع، وهو التدرج إلى التحلل من الدين، والهجران للعربية. فكيف به إذا سمع التزهيد فيهما يخطب به في المحافل؟ وكيف به إذا علم أن هذه الفكرة أصبحت مذهبًا يدعو إليه الدعاة، ويجتهد في نشره المجتهدون؟ إنها لجريمة. إنها لجريمة ...
هذا كله بعينه ومينه هو ما يقوم به دعاة هذه الحركة التي سمت نفسها "حركة الانتصار للحريات الديمقراطية" مع جمعية العلماء، وتعليمها للإسلام والعربية، ومدارسها التي تعلم فيها الإسلام والعربية، ورجالها الذين تعتمد عليهم في ذلك التعليم، فقد وقفت هذه الطائفة موقف العداوة المكشوفة الصريحة لجمعية العلماء، لا لشيء تنقمه منها إلا أنها جمعية العلماء التي عرفها الناس وعرفوا أعمالها الجليلة في نشر الإسلام والعربية، ومواقفها المشرفة في الدفاع عن الإسلام والعربية. فإن لم يكن هذا هو الذي ينقمونه من الجمعية فما هو؟ أَثَأْرٌ لهم عندها؟ ولا ثأر. أم مزاحمة لهم منها؟ ولا مزاحمة. أم خلاف في الرأي؟ وهل يبلغ الخلاف في رأي دنيوي إلى حرب الدين واللغة؟ أم حقد طبيعي لا يغالب؟ وهل يبلغ الحقد بصاحبه إلى حدّ أن يخرب بيته بيده؟ ألا إن لهم في ذلك مأربًا يخفونه ولا يبدونه، وهو أن تكون الجمعية مسخرة في أيديهم، وقنطرة يعبرون بها إلى أغراضهم، وهذا ما لا يكون، وسحقًا لما يأفكون.
هذه الطائفة تبث دعاتها في المدن والقرى، وتفرض عليهم سب جمعية العلماء ورجالها، وتحقير أعمالها، وحض الأمة على البقاء في الجهل والأمية، وعلى نفض يدها من التعليم ومدارسه، وعلى هدم المدارس هدمًا معنويًّا بقبض الأيدي عن إعانتها، وبتقبيح التعليم من حيث هو، وتبث دعاة آخرين إلى الطلبة المهاجرين إلى الزيتونة والقرويين يزهدونهم في العلم، ويلهونهم عنه، ويصدونهم عن سبيله، ويشغلونهم عنه بأمور مهما غلا فيها الغالون فإنها لا تبلغ في القيمة ما يبلغه العلم، ومهما كانت نافعة فإنها لا تنفع إلّا بالعلم ومع العلم، وتبث دعاة آخرين يدعون إلى مقاطعة "البصائر" لسان الصدق، ومجلى البيان، ومفخرة الصحافة العربية بهذا القطر، ومثال الجرأة والصراحة في الحق، وتبلغ بهم الوقاحة إلى أن يسبوا بائعيها ومشتريها.
كل هذا مما يقوم به دعاة هذه الطائفة ويقولونه بصراحة لا تعمية فيها، وكل هذا مما شهدت به عليهم مآت الألوف من طبقات الأمة، وكل هذا معدود عند كبيرهم وصغيرهم من أصول الوطنية، وكل هذا يقع في داخل القطر الجزائري، أما في الخارج فهم يتسترون بثوب شفاف من الدعايات- ويشاركون الحركات العاملة بما يشارك به المفلس، أو بما يشارك به "طير الليل" طيور النهار.
***(2/247)
هذه الجهود التي ينفقها هؤلاء في حرب العلماء والتعلم والتعليم والبصائر هو عند كل عاقل حرب للإسلام وللعروبة- لا إسم له إلّا هذا، ولا معنى له إلّا هذا، ولا يحتمل معنى آخر غير هذا.
وجمعية العلماء سكتت طويلًا عن هذا الباطل لعله يبطل من نفسه، وعن هؤلاء المبطلين لعلهم يرعوون، فما زادهم سكوتها إلّا جرأة، حتى أوشك السكوت أن يكون إقرارًا للباطل، وقد قررت الآن، أن لا تسكت بعد الآن وستدمغ الباطل بالحق، والكذب بالصدق، وستدافع عن نفسها كما دافعت عن الإسلام والعروبة، وهي تشهد الله والأمة على أنها لم تبدأ بالهجوم وإنما هي مدافعة عن نفسها، بعدما أصبح سكوتها سكوتًا عن الحق وهي لم تتعود أن تسكت عن الحق.
عن المجلس الإداري لجمعية العلماء
محمد البشير الإبراهيمي(2/248)
مقدمة كتاب "مجالس التذكير" *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القرآن كتاب الإنسانية العليا استشرفت إليه قبل أربعة عشر قرنًا حين ضامها أبناؤها فعقوها فارتكسوا في الحيوانية السفلى فأخلدوا إلى الأرض فأكثروا فيها الفساد، فأنزله الله من السماء ليصلح به الأرض وليدل أهلها المستخلفين عليها من بني آدم على الطريق الواصلة بالله، ويجدد ما رثّ من علائقهم به.
وما أشد شبه الإنسانية اليوم بالإنسانية قبيل نزول القرآن في جفاف العواطف وضراوة الغرائز وتحكم الأهواء والتباس السبل وتحكيم القوّة وتغول الوثنية المالية. وما أحوج الإنسانية اليوم إلى القرآن وهي في هذا الظلام الحالك من الضلال وقد عجز العقل عن هدايتها وحده كما عجز قديمًا عن هدايتها لولا تأييد الله له بالأمداد السماوية من الوحي الذي يقوي ضعفه إذا أدركه الوهن ويصلح خطاه إذا اختل ميزانه.
وكما أتى القرآن لأول نزوله بالعجائب والمعجزات في إصلاح البشر فإنه حقيق بأن يأتي بتلك المعجزات في كل زمان إذا وجد ذلك الطراز العالي من العقول التي فهمته، وذلك النمط السامي من الهمم التي نشرته وعممته، فإن القرآن لا يأتي بمعجزاته ولا يؤتي آثاره في إصلاح النفوس إلّا إذا تولته بالفهم عقول كعقول السلف وتولته بالتطبيق العملي نفوس سامية وهمم بعيدة كنفوسهم وهممهم. أما انتشاره بين المسلمين بهذه الصورة الجافة من الحفظ المجرد، وبهذا النمط السخيف من الفهم السطحي، وبهذا الأسلوب التقليدي من التفسير اللفظي- فإنه لا يفيدهم شيئًا ولا يفيد بهم شيئًا. بل يزيدهم بعدًا عن هدايته ويزيد أعداءهم
__________
* مقدمة الشيخ لكتاب مجالس التذكير للإمام عبد الحميد بن باديس وهو الذي جمعت فيه أهم الأبواب التي كانت تصدر تحت هذا العنوان في مجلة الشهاب، طبع الكتاب بالمطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة بمناسبة الذكرى الثامنة لوفاة الإمام ابن باديس 16 أفريل 1948.(2/249)
استخفافًا بهم وإمعانًا في التكالب عليهم والتحكم في رقابهم وأوطانهم، ولو فهمنا القرآن كما فهمه السلف، وعملنا به كما عملوا به، وحكمناه في نفوسنا كما حكموه وجعلنا أهواءنا ومشاربنا تابعة له وموزونة بميزانه- لو فعلنا ذلك لكنا به أعزة في أنفسنا وأئمة لغيرنا.
تفسير القرآن تفهيم لمعانيه وأحكامه وحكمه وآدابه ومواعظه والتفهيم تابع للفهم، فمن أحسن فهمه أحسن تفهيمه، ومن لم يحسن فهمه لم يحسن تفهيمه وإن كتب فيه المجلدات وأملى فيه ألوف المجالس، وفهم القرآن يتوقف- بعد القريحة الصافية والذهن النير- على التعمق في أسرار البيان العربي، والتفقه لروح السنة المحمدية المبينة لمقاصد القرآن، الشارحة لأغراضه بالقول والعمل، والاطلاع الواسع على فهوم علماء القرون الثلاثة الفاضلة، ثم على التأمل في سنن الله في الكائنات ودراسة ما تنتجه العلوم الاختبارية من كشف لتلك السنن وعجائبها، وقد فهمه السلف حق الفهم ففسروه حق التفسير مستعينين على ذلك بما ذكرنا من القرائح والأذهان، وأسرار البيان، ومستعينين بإرشاده على فقه سنن الأكوان، ولو لم ينحسر تيار الفهوم الإسلامية للقرآن بما وقف في سبيله من توزع المذاهب والعصبيات المذهبية لانتهى بها الأمر إلى كشف أسرار الطبيعة ومكنونات الكون، ولسبق العقل الإسلامي إلى اكتشاف هذه العجائب العلمية التي هي مفاخر هذا العصر.
كان علماء السلف يشرحون الجانب العملي من القرآن على أنه هداية عامة لجميع البشر يطالب كل مؤمن بفهمها والعمل بها، وكانوا يتحاشون الجانب الغيبي منه لأنه مما لا يصل إليه عقل المكلف فلا يطالب بعلمه ولا يحاسب على التقصير فيه، وكانوا ينظرون إلى الجانب الكوني منه نظرات مسددة لو صحبها بحث مسدد ممن أتى بعدهم.
وللمفسرين من عهد التدوين إلى الآن طرائق في فهم القرآن وأساليب في كتابة تفسيره.
أما الأساليب فقلما تختلف إلّا ببعد العصور حين تختلف الأساليب الأدبية، فتنحط أو تعلو فيسري التطور منها إلى الأساليب العلمية. أما الطرائق فإنها تختلف باختلاف الاختصاص في المفسرين والعلوم التي غلبت عليهم وعرفوا بها.
فالمحدثون يلتزمون التفسير بالمأثور، فإن اختلفت الرواية فمنهم من يروي المتناقضين ويدعك في حيرة، ومنهم من يدخل نظره وفكره في التعديل والترجيح كما يفعل أبو جعفر الطبري.
ومقلدة المذاهب يفسرون القرآن بقواعد مذاهبهم ويحكمونها فيه، فإذا خالف نصّه قاعدة من قواعدهم ردوه بالتأويل إليها. وهذا شر ما أصيب به هذا العلم بل هو نوع من التعطيل، وباب من التحريف والتبديل، لأنه في حقيقة أمره وضع لكلام الله في الدرجة الثانية من كلام المخلوق، وفي منزلة الفرع من أصله يرد إليه إذا خالفه، وأعظم بها زلة، وإن هذه(2/250)
الزلة هي الغالبة من صنيع المفتتنين بالمذاهب والمتعصبين لها يتباعدون عن القرآن ما شاء لهم الهوى. فإذا تناولوه فبهذه النظرة الخاطئة.
والمتكلمون في معاني القرآن معظمهم من اللغويين والنحاة، فهم يتكلمون غالبًا على الألفاظ المفردة وأوجه الإعراب، فهم أقرب الكاتبين في الغريب أمثال الأصفهاني وأبي ذر الهروي، وإنما أطلقوا على كتبهم هذا الاسم (معاني القرآن) لأن بساطة الأسماء كانت هي الغالبة في زمنهم.
والإخباريون مفتونون بالقصص فلا يقعون إلا على الآيات المتعلقة به، ويا ليتهم يحققون الحكمة من القصص، فيجلون العبر منها ويستخرجون الدقائق من سنن الله في الأمم وجميع الكائنات، ولكنهم يسترسلون مع الرواية وتستهويهم غرابة الأخبار فينتهي بهم ذلك إلى الإسرائيليات الخاطئة الكاذبة وقد أدخلوا بصنيعهم هذا على المسلمين ضررًا عظيمًا، وعلى التاريخ فسادًا كبيرًا.
وأصحاب المذاهب العقلية إذا تعاطوا التفسير لا يتوسعون إلا في الاستدلالات العقلية
على إثبات الصفات أو نفيها وعلى الغيبيات والنبوات وما يتعلق بها.
والنحاة والباحثون في أسرار التراكيب لا يفيضون إلّا في توجيه الأعاريب أو في نكت البلاغة كما يفعل الزمخشري وأبو حيان.
هكذا فعل القدماء والمحدثون بالقرآن، حكموا فيه نحلهم ومذاهبهم وصناعتهم الغالبة عليهم، فأضاعوا هديه وبلاغه وأبعدوا الأمة عنه، وصرفوها عن حكمه وأسراره، ولو ذهبنا مذهب التحديد في معاني الألفاظ الاصطلاحية لوجدنا المفسّر من هؤلاء قليلًا.
أما المفسرون الذين يصدق عليهم هذا الوصف فهم الذين يشرحون فقه القرآن ويستثيرون أسراره وحكمه معتمدين على القرآن نفسه وعلى السنة وعلى البيان العربي كما أشرنا إلى ذلك قبلًا. ومن هؤلاء من اقتصر على الأحكام فقط كابن العربي والجصّاص وعبد المنعم بن الفرس، وهؤلاء الثلاثة هم الذين انتهت إلينا كتبهم، ومنهم من عمم ولكن توسعه ظاهر في الأحكام: أحكام العبادات والمعاملات كالقرطبي وابن عطية وأضرابهما.
وكان خمود وكان ركود، وضرب التقليد بجرانه فقضى على ذكاء الأذكياء وفهم الفهماء إلى أن أذن الله للعقل الإسلامي أن ينفلت من عقال التقليد ويستقل في الفهم، وللنهضة العلمية الإسلامية أن يتبلج فجرها، ويعم نورها فكانت إرهاصات التجديد لهذه العلم ظاهرة في ثلاثة من أذكى علمائنا وأوسعهم اطلاعًا: الشوكاني والألوسي وصديق حسن خان، على تفاوت بينهم في قوة النزعة الاستقلالية، وفي القدرة على التخلص من الصبغة(2/251)
المذهبية التقليدية، ثم كانت المعجزة بعد ذلك الإرهاص بظهور إمام المفسرين بلا منازع محمد عبده أبلغ من تكلم في التفسير بيانًا لهديه وفهمًا لأسراره وتوفيقًا بين آيات الله في القرآن، وبين آياته في الأكوان. فبوجود هذا الإمام وجد علم التفسير وتم ولم ينقصه إلّا أنه لم يكتبه بقلمه كما بينه بلسانه، ولو فعل لأبقى للمسلمين تفسيرًا لا للقرآن بل لمعجزات القرآن، ولكنه مات دون ذلك، فخلفه ترجمان أفكاره ومستودع أسراره محمد رشيد رضا فكتب في التفسير ما كتب ودون آراء الإمام فيه، وشرع للعلماء منهاجه ومات قبل أن يتمه، فانتهت إمامة التفسير بعده في العالم الإسلامي كله إلى أخينا وصديقنا ومنشىء النهضة الإصلاحية العلمية بالجزائر بل بالشمال الافريقي عبد الحميد بن باديس.
كان للأخ الصديق عبد الحميد بن باديس رحمه الله ذوق خاص في فهم القرآن كأنه حاسة زائدة خص بها. يرفده- بعد الذكاء المشرق، والقريحة الوقادة، والبصيرة النافذة- بيان ناصع، واطلاع واسع، وذرع فسيح في العلوم النفسية والكونية وباع مديد في علم الاجتماع ورأي سديد في عوارضه وأمراضه. يمدّ ذلك كله شجاعة في الرأي وشجاعة في القول لم يرزقهما إلّا الأفذاذ المعدودون في البشر. وله في القرآن رأي بنى عليه كل أعماله في العلم والإصلاح والتربية والتعليم، وهو أنه لا فلاح للمسلمين إلّا بالرجوع إلى هديه والاستقامة على طريقته، وهو رأي الهداة المصلحين من قبله، وكان يرى- حين تصدى لتفسير القرآن- أن في تدوين التفسير بالكتابة مشغلة عن العمل المقدم وإضاعة لعمر الضلال، لذلك آثر البدء بتفسيره درسًا تسمعه الجماهير فتتعجل من الاهتداء به ما يتعجله المريض المنهك من الدواء، وما يتعجله المسافر العجلان من الزاد وكان- رحمه الله- يستطيع أن يجمع بين الحسنيين لولا أنه كان مشغولًا مع ذلك بتعليم جيل وتربية أمة ومكافحة أمية ومعالجة أمراض اجتماعية ومصارعة استعمار يؤيدها. فاقتصر على تفسير القرآن درسًا ينهل منه الصادي، ويتزود منه الرائح والغادي، وعكف عليه إلى أن ختمه في خمس وعشرين سنة، ولم يختم التفسير درسًا ودراية بهذا الوطن غيره منذ ختمه أبو عبد الله الشريف التلمساني في المائة الثامنة.
كان ذلك الأخ الصديق رحمه الله يعلل النفس باتساع الوقت وانفساح الأجل حتى يكتب تفسيرًا على طريقته في الدرس، وكان كلما جرتنا شجون الحديث إلى التفسير يتمنى علي أن نتعاون على كتابة التفسير ويغرينى بأن الكتابة عليّ أسهل منها عليه، ولا أنسى مجلسًا كنا فيه على ربوة من جبل تلمسان في زيارة من زياراته لي وكنا في حالة حزن لموت الشيخ رشيد رضا قبل أسبوع من ذلك اليوم فذكرنا تفسير المنار، وأسفنا لانقطاعه بموت صاحبه فقلت له: ليس لإكماله إلّا أنت، فقال لي: ليس لإكماله إلا أنت، فقلت له: حتى يكون لي علم رشيد وسعة رشيد ومكتبة رشيد ومكاتب القاهرة المفتوحة في وجه رشيد فقال لي(2/252)
واثقًا مؤكدًا: إننا لو تعاونا وتفرغنا للعمل لأخرجنا للأمة تفسيرًا يغطي على التفاسير من غير احتياج إلى ما ذكرت.
ولما احتفلت الأمة الجزائرية ذلك الاحتفال الحافل بختمه لتفسير القرآن عام 1357 هجرية وكتبت بقلمي تفسير المعوذتين مقتبسًا من درس الختم وأخرجته في ذلك الأسلوب الذي قرأه الناس في مجلة الشهاب أعجب به أيما إعجاب، وتجدد أمله في أن نتعاون على كتابة تفسير كامل، ولكن العوارض باعدت بين الأمل والعمل سنتين ثم جاء الموت فباعد بيني وبينه، ثم ألحت الحوادث والأعمال بعده فلم تبق للقلم فرصة للتحرير ولا للسان مجالًا في التفسير، وإنا لله.
لم يكتب الأخ الصديق أماليه في التفسير ولم يكتب تلامذته الكثيرون شيئًا منها، وضاع
على الأمة كنز علم لا يُقَوَّمُ بمال، ولا يعوض بحال، ومات فمات علم التفسير وماتت طريقة ابن باديس في التفسير، ولكن الله تعالى أبى إلّا أن يذيع فضله وعلمه، فألهمه كتابة مجالس معدودة من تلك الدروس وكان ينشرها فواتح لأعداد مجلة الشهاب ويسميها (مجالس التذكير) وهي نموذج صادق من فهمه للقرآن وتفسيره له. كما أنها نموذج من أسلوبه الخطابي وأسلوبه الكتابي.
هذه المجالس العامرة هي التي تصدى الأخ الوفي السيد أحمد بوشمال عضد الإمام المفسر وصفيه وكاتبه والمؤتمن على أسراره، لتجريدها من مجلّة الشهاب ونشرها كتابًا مستقلًا، قيامًا بحق الوفاء للإمام الفقيد وإحياء لذكراه بأشرف أثر من آثاره، وها هو ذا بين أيدي القراء يستروحون منه نفحات منعشة من روح ذلك الرجل العظيم، ويقرأونه فلا يريدهم عرفانًا بقدره فحسبهم ما بنى وشاد، وعلم وأفاد، وما ربى للأمة من رجال كالجبال، وما بث فيها من فضائل وآداب، وما أبقى لها من تراث علمي خالد، لا يرثه الأخ عن الأخ، ولا الولد عن الوالد.
وشكرًا للأخ الوفي أحمد بوشمال على هذا العمل الذي هو عنوان الوفاء.(2/253)
مجالس التذكير *
هذ هو العنوان الذي كان يضعه الأستاذ الرَّئِيسُ عبد الحمد بن باديس- رحمه الله- لما يكتبه بقلمه البليغ في تفسير بعض الآيات القرآنية الجامعة ويجعله فواتح لأعداد مجلة "الشهاب" وهي لمع لامعة في التفسير، يتمنى قارئها عند كل جملة منها لو أن الأستاذ أتمّ تفسير القرآن كله كتابة، كما أتمّه درسًا على تلك الطريقة وبذلك التحليل، إذ يرى أسلوبًا مشرق الجوانب بنور العلم لا يفوقه في الروعة إلا حسن فهم كاتبه للقرآن.
قرأ الناس تلك الفواتح في "الشهاب" واستفاد منها المستعدون ما يسّر عليهم فهم القرآن في جملته إذ جعلوا من ذلك القليل مرشدًا للكثير، فكأنهم لازموا الأستاذ خمسًا وعشرين سنة. واستفاد منه المتأدبون مثالًا عاليًا من ذلك الأسلوب الذي يجمع الأدب والعلم، فيستهوي العالم والأديب. وقد كان الأستاذ- في قلة من علمائنا- ممن انطبعت ملكاتهم على ذلك الأسلوب الذي يعلم العلم والأدب. ومن تلك القلّة: الراغب ومسكويه وابن العربي وعياض والزمخشري وابن خلدون والشاطبي.
ولكن "الشهاب" مجلة، والمجلّة عندنا بنت عم الجريدة، تلفظ، ولا تحفظ، وتُتلى ثم تُلقى. وتضيع الأجزاء، ثم يضيع الكل. وقد نشأ بعد موت الأستاذ جيل نفور من تلك النظريات الجوفاء، وتلك الأساليب الرثة، وتلك الكتب التي تحملها، شديد الظمأ إلى التحقيق العلمي الذي يفضي به إلى الاستقلال في العلم. وفتنة هذا الزمان الاستقلال في كل شيء. وهذا الجيل لم يدرك دروس الأستاذ الحافلة، ولكنه أدرك مخايلها في مثل هذه الفصول من كتاباته، وأدرك آثارها في نفوس تلامذته، وأدرك أوصافها جائلة في أفواه الناس، فازداد شوقًا إليها، ولهفة عليها. فغير كثير على قادة هذا الجيل أن يهيّئوا له ما يروي ظمأه
__________
* "البصائر"، العدد 51، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 27 سبتمبر 1948م.(2/254)
ويرضي هواه من الكتب الممتازة بالتحقيق العلمي، وأن لا يتركوه فريسة لتلك الكتب المعتلّة التي نرجو أن يكون جيلنا آخر ضحاياها.
ومن الشعور بهذه الحالة التي ألممنا بها إلمامًا، سمت همّة صديقنا الوفي الأديب أحمد بوشمال كاتب الأستاذ المفسّر وأمين سرّه، فجرّد من مجلة "الشهاب" قطعة صالحة من مجالس التذكير، وطبعها في مطبعة "الشهاب" طبعًا أنيق الحرف بديع الورق، فجاء تحفة فنية صغيرة الحجم، ولكنها عالية القدر وفي نيّته أن يصدر البقية في جزء آخر. وقد طلب من كاتب هذه السطور أن يقدّمه إلى القرّاء بكلمة فكتبها في جلسة سمر كثر ضجيجها، وتمتّع من الجد إلى الهزل حجيجها، فجاءت كما يهوى العاتب، لم تف بحق المكتوب ولا بحق الكاتب. وعسى أن لا تكون كلمتي هذه دعاية سيّئة للكتاب، فهو غني عن المقدّمة بما فيه من علم وعرفان. ونصيحتي الخالصة إلى كل من قرأه متفرّقًا أن يقرأه مجتمعًا وإلى كل من لم يقرأه أن يقرأه، وإلى كل ناشئ من هذا الجيل أن يجعله لدراسة التفسير مفتاحًا.(2/255)
جريدة "العلم" الخفاق *
لهذه الجريدة الجريئة مكانة في نفوسنا لأن لها مكانة في نفسها ... ومن كرم على نفسه كرم على الناس. ولا تساويها في حلول هذا المحل من جرائدنا الشمالية إلا جريدة "الإرادة". وما جاءهما ذلك إلا من مزيج من الخلال، أهمها الاحتفاظ بالكرامة، والتحفظ في "المهنة".
أصدرت هذه الزميلة الكريمة عددًا ممتازًا لأول سنتها الثالثة، فجاء ممتازًا حسًّا ومعنًى، جديرًا بالتهنئة على أنه آخر الوثبات الثلاث الخطيرة، ومن للزميلة العزيزة بالسلامة من قَلَم المراقب، وقلم الغاسق الواقب؟
أيتها الزميلة: إن "البصائر" الضنينة بالتقريظ، لا تنتهي بها الضنانة إلى التفريط ...
__________
* "البصائر"، العدد 31، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 27 سبتمبر 1948م. (بدون إمضاء).(2/256)
كيف تشكّلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين *
- 1 -
أن إغفال الحقائق يعدّ جناية عليها وعلى التاريخ فقط، ولا يهيّئ للمبطلين أن يعلنوا باطلهم، لرضينا أن تعصب بنا هذه الجناية ولم نكتب في هذه المسألة حرفًا ولكان بحسبنا أن نقتسم الخطتين بيننا، فنعمل ويقول غيرنا إلى أن ينجلي الصباح. ولكننا جرّبنا فكشفت لنا التجربة عن حقيقة واقعة، وهي أننا كلما أمسكنا عن تجلية الحقائق فرارًا من المهاترات وتجنّبًا للغو، وإيثارًا للنافع المفيد، لم يمسك القوّالون عن إعلان باطلهم، واتخذوا من سكوتنا حجة على أنهم محقون. لذلك وعدنا بأن نكتب عن حقيقة ما تضمّنه عنوان هذه الكلمة، ولذلك نفي اليوم بالوعد. وما سكتنا هذه المدّة إلا لمصلحة كانت محققة، ثم أصبحت راجحة، ثم أمست مفسدة.
وداع آخر حتّم علينا الكتابة، وهو إلحاح القرّاء علينا في طلب بيان الحقيقة.
...
كتبنا في "البصائر" تلك الكلمات المتتالية عن فلسطين، وبينّا فيها لإخواننا في الشرق العربي أن في بني عمّهم أقلامًا. وقد أحدثت تلك المقالات أثرها في الشّرق، وعرفوا لها قيمتها، وتناقلتها الجرائد والمجلات، وناهيك بمجلة "الرسالة"، فقد نقلت منها مقالة عن الانكليز، وكتب إلينا طائفة من أدباء الشرق ومفكّريه يثنون ويعجبون، كتب إلينا كاتب من النجف، وآخر من الموصل، وثالث من طرابلس الشام، ورابع من جبل عامل، وخمسة من فلسطين، وجماعة من مصر، وكاتبان من ليبيا، رسائل كلها إعجاب، وثناء مستطاب. وقال الأستاذ فائز الصائغ أستاذ الفلسفة بالجامعة الأمريكية ببيروت حين قرأ مقالة "يا فلسطين" في
__________
* "البصائر"، العدد 52، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 11 أكتوبر 1948م.(2/257)
العدد الخامس من "البصائر"، ما معناه: إنه لم يكتب مثلها من يوم جرت الأقلام في قضية فلسطين. وقد ختمت تلك المقالات ببيان حق فلسطين على العرب، ونحن منهم، فبيّنت أن أول واجب علينا هو بذل المال. ووقفت عند هذا الحد، وربأت بنفسي أن أحتكر الدعوة والعمل، وانتظرت وقع المقال في نفوس الأمّة. ولو شئت لفتحت اكتتابًا لفلسطين باسم "البصائر"، أو باسم جمعية العلماء، وفيهما- بحمد الله- الكفاية والكفاءة. ولهما- من فضل الله- الكلمة المسموعة في الأمّة والثقة المتينة، والسمعة العاطرة النقية. ولكنني تركت الميدان لغيري، لعلمي أن في الوطن رجالًا لهم سابقة الفضل في قضية فلسطين، وهيئات تحمل من هذا الإسم وسام الشرف، وقد عملت في ظروف أخرى جهد المستطاع من الخير لفلسطين، وإن لم يظهر لها في الطور الأخير أثر. وقد رمزت لهذا بتقديم مكتبتي الصغيرة لأية هيئة تتقدّم للقيام بهذا الواجب. وحكمة أخرى في عدم انفرادي بالعمل، وهي أنني كنت أترقب الفرصة المناسبة لأقوم بدعوة جديدة إلى توحيد الأحزاب والصفوف بعدما ضاعت جهودي القديمة، وأرجو أن يكون لي من قضية فلسطين عون على ما أريد، لأنها قضية دينية قومية سياسية، ففيها من كل غرض جانب وفيها لكل هوى جاذب.
ثم خرجت في أثناء ذلك في جولة استطلاعية للمدارس، فبلغني- وأنا بمطارح غيبتي- أن لجنة نادي الترقي القديمة عازمة على العمل، وأنها زارت مركز جمعية العلماء سائلة عني طالبة مني المشاركة في العمل، وأنها عرضت هذا الطلب على الحزبين الجزائريين. ولما رجعت من تلك الجولة زارني- في داري- الأستاذ الشيخ الطيب العقبي وهو الروح المدبّرة لتلك اللجنة، وأخبرني بأن اللجنة تتنازل- مسرورة- عن اسمها ومطبوعاتها وأعمالها. وأنها تودّ الانضمام إلى هيئة قوية مؤلّفة من رؤساء الهيئات والأحزاب، وصارحني بأنه يشاطرني الرجاء في أن تكون قضية فلسطين مباركة كأرضها فتكون سببًا في جمع ما تشتّت من أحزابنا، وأجمعنا الرأي على أن ندعو الحزبين اللذين كنت تعبت في التأليف بينهما فلم أفلح. وقوي أملي في هذه المرّة أن قضية فلسطين ليس فيها كراسي ولا نيابة، وغاب عني أن فيها شيئًا اسمه ... الرئاسة، وقلت عسى أن يصدق الفال، فنجتمع على هذا العمل الجليل، ونظهر بالمظهر الذي يشرّف الإسلام والعروبة والجزائر. والتزم الأستاذ العقبي بدعوة رئيسي الحزبين، وفعل. فأما رئيس حزب البيان فأجاب الدعوة واستجاب إلى الداعي، وقبل هو وأصحابه العمل مع كل أحد، لأن قضية فلسطين في نظرهم فوق الاعتبارات الحزبية. وأما حركة الانتصار للحريات الديمقراطية فقد قال قائلهم عندما دعوا لأول مرّة: إن فلسطين هنا في الجزائر ولا شأن لنا بفلسطين أخرى، لأن أبناء الأمّة في السجون، وعائلاتهم تعاني ألم الحاجة والجوع، ثم بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون من عقد الاجتماعات التمهيدية، بمركز جمعية العلماء وبنادي الترقّي، ومن ضغط التيار الإجماعي من(2/258)
الأمّة، وهالهم أن نكون نحن البادئين بالدعوة لأمر يجب- في مذهبهم- استغلاله للدعاية والمال. فأرسلوا رائدهم السيد أحمد مزغنه معلنًا لقبول الانضمام والمشاركة، وحضر الجلسة الثانية بنادي الترقّي وسمع المقرّرات البدائية، واقترح اقتراحًا فهمنا مغزاه من أول حرف، لهذه المناسبة، وهو أن يزور كاتب هذه السطور والعقبي وعباس فرحات رئيسهم الأعلى السيد الحاج مصالي، لأنه ممنوع من الهبوط إلى الجزائر، وما كانت الحيلة لتخفى علينا، ونحن أعلم الناس بمسالك القوم وأساليبهم في الدعاية لأنفسهم، ولكننا رجحنا شرف القضية على كل اعتبار، وقبلنا الاقتراح "على طول الخط" فزرناه من الغد في جماعة: الكاتب والعقبي وبيوض وفرحات وصاطور والدكتور ابن خليل، ووجدنا عنده السيدين: مزغنه وبودا. وتمّ الاتفاق على الهيئة واسمها وأعضائها الخمسة وأعمالها وعلى البرقيات. وكان سرور وكان ارتياح، وسرت الأخبار إلى الأمّة فطارت فرحًا. ولم يجر في تلك الجلسة ذكر للنقطة الحساسة، وهي احتكار القوم للرياسة، وإنما نبّه كاتب السطور إلى أن هؤلاء الأعضاء الخمسة، كالأسماء الخمسة، متساوية في الإعراب، وليس فيها أَمٌّ للباب. فقال القوم: إنها مائدة مستديرة، فقلنا إنها دائرة مستديرة، وليس لها زاوية. وكان المصوّر حاضرًا معدًّا (بالتوصية) فأخذ لنا مجتمعين عدة مناظر على تراتيب منوّعة اقترحت اقتراحًا (بالتوصية) أيضًا، وما كانت الحيلة لتخفى علينا هذه المرّة أيضًا، وهي دائرة على الدعاية والمال دائمًا، ولكن اعتبار فلسطين طغى على كل اعتبار في نفوسنا. وقلت لهم: أرسلوا لنا نسخة من كل منظر، لتذاع وتُنشر، ونحن ندفع قيمتها. وألحّ الشيخ العقبي في طلب هذا فوجموا ثم قالوا: نعم. كلمة تكاد حروفها تتزايل من الارتخاء والتخاذل. وانصرفنا والبِشر باد على الوجوه، ولكن النفوس فريقان: فريق باطنه كظاهره، وفريق يرى- كما دلّت العواقب- أن الحصول على الصور هو غنيمة الموقعة، وهي كل ما في الباب، وما عداها- حتى فلسطين- سراب في يباب، ويا لله لفلسطين ... حتى دماؤها وأشلاؤها تتخذ ذريعة للدعاية والمال، وحتى اسمها وقضيتها تتخذ أدوات للانتفاع والاستغلال، ولكن هذا ما وقع. وتتبع الرواية يرحمك الله.(2/259)
- 2 - *
كنت خلاصة ما تمّ في ذلك الاجتماع الذي قصصنا أخباره، أن الهيئة تتركّب من خمسة: العقبي، وبيوض، وعباس فرحات، ومصالي الحاج، وكاتب هذه السطور. وإنها هيئة إخوان لا رئيس فيها ولا مرؤوس، وإنما يرأس كل جلسة من يجتمعون في مكتبه، وأن اسمها (الهيئة العليا لإعانة فلسطين)، وأن تبدأ أعمالها بإرسال برقيات باسمها إلى جهات مخصوصة منها برقية تأييد وإعلان لوصل رحم العروبة، ترسل إلى أمين الجامعة العربية عبد الرحمن عزام باشا، ومنها برقية تنديد واستنكار ترسل إلى منظمة الأمم المتحدة، وأن تشكل على الأثر لجنة تنفيذية من أعيان الأمّة لا تراعى فيهم حزبية ولا غيرها من الاعتبارات الضيّقة، تتولّى جمع الهبات المالية باسم الهيئة.
وكان مصالي الحاج في أثناء الاجتماع حريصًا على ذكر إخواننا مسلمي شمال إفريقيا بفرنسا، يدمج الكلام عنهم إدماجًا بلا مناسبة، واستطرادًا بلا نكتة، كأن له فيهم أربًا خاصًا، أو كأن له عندهم حسابًا خاصًا. ولم أتبيّن مراده من ذلك إلا بعد حين.
وافترقنا على الساعة الواحدة بعد زوال ذلك اليوم على أن نرسل البرقيات في مسائه، واقترح مصالي أن يتولّى صوغ البرقيات صاطور المحامي (وهو بياني) (1)، واقترح أحد الحاضرين أن يحضر معه مزغنة (وهو انتصاري) (2)، واجتمع الاثنان على الساعة الرابعة بمكتبي في مركز جمعية العلماء، ووضع صاطور صيغة البرقيات، ووافق عليها مزغنة، ولما فرغا من ذلك دخلت مكتبي فوجدت صاطور يكتب البلاغ الذي ينشر في الجرائد عن الهيئة، وتلا الصيغة على زميله فارتضاها، ودفعت نسخ البرقيات إلى كاتب المركز فترجمها فارتضيتها.
__________
* "البصائر"، العدد 53، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 18 أكتوبر 1948م.
1) بياني: نسبة إلى حزب أحباب البيان الذي كان يرأسه فرحات عبّاس.
2) انتصاري: نسبة إلى حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذي كان يرأسه ميصالي الحاج.(2/260)
ولم يبق إلا أن تعرض على زملائي ليوقّعوا عليها، وهنا جاءت المشكلة التي دونها مشكلة فلسطين نفسها ...
كنت أتوقع- تمرّسًا لا تفرّسًا- أن يختلف الرجلان في ترتيب الأسماء الخمسة وأن يتعضب كل منهما لحزبه ولصاحبه وكل منهما يمثّل هيئة سياسية. وكان من المعقول أن تمحو قضية فلسطين كل أثر حزبي في النفوس، وأن تنسي هؤلاء المتحزبين أنفسهم وأحزابهم، وأن يحسبوا حسابًا للأمّة التي بلغ بها الحماس إلى أقصى حدوده وأن يقدّروا الدعوة التي جمعتهم على اسم الإسلام والعروبة وفلسطين، وأن يحترموا الداعين من العلماء لأنهم البادئون بالدعوة، والمتقدّمون بالفكرة، ولأنهم (فوق الأحزاب)، ولأن وجودهم يرفع الخلاف.
ولكن مزغنة خالف المعقول والمنقول وقال: إن اسم رئيسه يجب أن يتقدّم على جميع الأسماء ... ، قال له صاطور في هدوء: ولماذا؟ قال: لأنه محبوب ومعروف في الشرق ... ولأن حزبه حاز الكثرة في الانتخابات ... قال له صاطور: لسنا في مقام تكاثر وتفاخر. ولسنا في مقام انتخاب، ولو شئت لقلت في كثرتكم وشهرتكم ما ينقضها عليك. ولكنني أنا وحزبي راضون- بكل افتخار- بأن يتقدم اسم جمعية العلماء على الجميع وراضون بعد ذلك بأن يكون اسمنا في الأخير. وسألاني رأيي وقد أيقنت أن قد ظهرت السرائر، وتحرّك داء الضرائر، فقلت: اصنعوا كما صنع إخوانكم في تونس بالأمس. وكان من المصادفات وجود عدد من جريدة "النهضة" بين يدي فيه تفصيل ما وقع بتونس، فقرأت عليهما البلاغ والبرقيات وفيه ذكر الشيخ محمد الشاذلي بن القاضي في صدر البلاغ. فلم يقتنع مزغنة. ولم يجد من الجواب إلا أن تونس غير الجزائر. فقال له صاطور: ولكن قضية فلسطين هي قضية فلسطين ... ولكن جمعية العلماء هي الداعية ... وأين كنتم وأين كنا منذ ثمانية أشهر وعشرة أشهر؟ وأصرّ مزغنة على رأيه، فأصرّ صاطور على رأيه، فأصررت على تقديم اسم الشيخ العقبي رفعًا للخلاف. ووالله لقد تمنيت أن لو كان حضر مجلسنا واحد أو جماعة من المغرورين بهؤلاء القوم والمتأثرين بدعاياتهم الجوفاء في تونس والمغرب، إذن لعرف من حقيقة أمرهم في مجلس واحد ما عرفناه في سنين. ولعلم من هذا المجلس أن الجزائر المسكينة تستدفع البلاء الأسود بالبلاء الأزرق، ولصدق أن عند بعض رجالها أفكارًا لا كالأفكار. ولتحقق أنه ليس من المحال وجود منزلة بين الإقرار والإنكار ...
وفي ختام الجلسة قال مزغنة: إن هذه مشكلة لا يضطلع بحلّها، ومعضلة لا يستقلّ بحملها، ولا بدّ من مشورة (الصغار) بهذا اللفظ، وهو يعني به الشبان. وأنذرنا بأنهم لا يقبلون. وافترقنا على أن يعرض مزغنة مشكلته على صغاره فيحكموا حكمهم فيها ويرجع إلينا بالقول الفصل غداة غد، وانتظرناه صباح الغد فلم يرجع، وصادفناه أنا والعقبي في الطريق(2/261)
العام فقلنا له: إن المسألة لا تحتمل التطويل، فأفهمنا أنها في نظرهم من أخطر المسائل ... ولا بدّ لهم من أخذ (موقف) فيها. وأجّل الوعد إلى المساء، ولكنه لم يرجع ولم يف بالوعد.
أما أنا فلم يزدني ذلك كله علمًا بالقوم وبأساليبهم في اللعب والدوران، فقد بلوتهم في جميع المواقف، ونفضت جعابهم جعبة جعبة، وتقريت شعابهم شعبة شعبة، ودرستهم تقريبًا وتبعيدًا، وخالطتهم تصويبًا وتصعيدًا. إلى أن كان اتصالي بهم في مفاوضات الاتحاد بين الحزبين ستة أشهر كاملة. وأنا قديم العهد بدراسة الملل والنحل والفرق، فغير بعيد عنّي أن أدرس الأحزاب والجمعيات، وأما الشيخ العقبي فقد بدا له منهم ما لم يخطر له ببال، وبدا له أن هذا التلاعب واقع منهم لا من رئيسهم، فعرض عليّ أن نلقى ذلك الرَّئِيسُ وحده مرّة ثانية إبلاغًا في النصيحة، واستبراءً للذمّة، وتبليغًا للأمانة الدينية، فأفهمته "أن العصا من العصية" وشرحت له ما يجهل من الحقائق، ولكنه آثر الاحتياط وإقامة الحجّة، فلقينا الرَّئِيسُ، يثلثنا الشيخ بيوض، ويربعنا الأستاذ توفيق المدني، وقصصنا عليه قصّة أصحابه وسفرائه، من يوم فارقناه إلى يوم لقيناه، وكنا نتوقع أن يقول: إنه لا علم له بشيء من ذلك كما هي عادته معنا ومع الأستاذ العربي التبسي أيام كان يسعى للاتحاد بين الحزبين. ولكنه خرق العادة وقال: إنه موافق على كُلِّ ما قرّره أصحابه، وإنه لا يستطيع أن ينقض منه حرفًا، ولا أن يخرج عنه شبرًا، وتظاهر بالأسف لكون المسألة تتعلّق باسمه. وزاد في وصف حزبه أنه حزب طاهر، وفي وصف نفسه أنه محبوب. وعادت به الذاكرة إلى الاجتماع الأول فعدّ من نقائصه بل من تواطئنا على الغلط فيه أننا لم نعيّن للهيئة رئيسًا، وأفاض في الحديث عن الرياسة ولزومها للهيئات ولو قلّ أفرادها، وكانت ألفاظه كلها ترشح بترشيح نفسه للرياسة.
ثم تكلّم العقبي فشرح له مقصدنا الحقيقي من هذه المساعي، وبيّن له أن العلماء قد ضربوا المثل في الحرص على جمع الكلمة وانتهاز أسبابها، وأن جمعية العلماء هي صاحبة الفضل على الوطن بما طهرت من عقائد، وما علّمت من أجيال، وما أقامت للإسلام والعروبة من معالم: وفصل له أعمال أصحابه فأوسعها تنديدًا وتقبيحًا ... وصرح له أن كل دعايات حزبه قائمة على التبجح بالتضحية، ولكنهم لم يضحّوا باسم ... فأين هذا من دعوى التضحية؟
وتكلّم الأستاذ المدني فذكر أن ما وقع بالجزائر هو عين ما وقع بتونس، مع فارق ... وهو هذه النتيجة. مع أن الحزبية في القطرين تلبس لبوسًا واحدًا.
وتكلّم الشيخ بيوض في قضية فلسطين وما تتطلّبه منا من تضامن الهيئات، ونسيان الشخصيات والحزازات، ولمح لما يجب على الرجال، من احترام الرجال، وصرح بالتحذير من عواقب هذا التشدّد في الصغائر، وهذا الشذوذ الذي جاء من جهة واحدة.(2/262)
وطلبنا في النهاية نسخًا من الصور التي أخذت لنا مجتمعين في الاجتماع الأول على أن ندفع ثمنها لتبقى عندنا تذكرة بعمل لم يتمّ ... فأكّد لنا السيد الرَّئِيسُ أنهم لم يخرجوا منها ولا نسخة ... والناس كلهم يستبعدون هذا من جماعة يعدّون من أبرع محترفي بيع الصور.
وخرجنا مزوّدين بما شاء الله من معلومات جديدة في علم النفس.
...
والفصل الأخير من هذه الرواية هو أن مزغنة الذي لم يف بالوعد ولم يرجع إلينا بنفي ولا إثبات، وفى بشيء آخر، وهو أنه- في ذلك اليوم- أذاع بيانًا عن هيئة حزبية خارجة عن الاتحاد، ليس فيها إلا اسمه وعنوانه، وبهذا حقّق مبدأً أساسيًا من مبادئ حزبه، وهو أنه لا يعمل مع أحد ولا يتّحد مع أحد، لأنه وُجد للخلاف، وعاش على الخلاف. ولا يعيش - بطبيعته- إلا على الخلاف. وبهذا كشف الغطاء عن حقيقة علمناها منذ سنتين، وجهلها الغافلون المغرورون، وهي أن رئيسهم رئيس (شرفي) ليس له من الأمر شيء، وأن بينه وبين مزغنة، إدغامًا بلا غنة ... كما يدغم اللام في اللام، فلا يظهر إلا المتحرك ... وأن ذلك الرَّئِيسُ الشرفي أسير في قبضتين: قبضة الحكومة، وقبضة العصابة المزغنية، وأن هذه العصابة تستغلّ اسمه، وتستذلّ رسمه. فمن كان في قلبه شيء من الشفقة على الرجل، وفي يده شيء من القدرة على إنقاذه، فلينقذه من أسر أصحابه.
ثم أخذ يوهم أنه هو البادئ مع سكوته ثمانية أشهر. وأخذ هو وجماعته وورقتهم ذات الوجهين، يتقوّلون علينا الأقاويل ...
...
والفصل الأول والأخير في الرواية أن (الهيئة العليا لإعانة فلسطين) تمّ تكوينها في ذلك اليوم، وقامت على أربع دعائم قوية متينة تتمتعّ بالثقة التامة في الماليات. وفي ذلك اليوم تكوّنت اللجنة التنفيذية من أهل العلم والفضل والجاه من الأمّة، واحتفظنا للهيئة باسمها الأصلي، وأطلقنا عليها وصف (هيئة الاتحاد)، وجعلنا شعارها الحكمة والصمت، ثم شرعنا في العمل في خواتم رمضان المبارك، فاجتمع لدينا من هبات المحسنين عدة ملايين من الفرنكات أبلغناها إلى مأمنها في فلسطين، واستلمنا الشهادة القاطعة على وصولها، ورفعنا رأس الجزائر، ومحونا عنها بعض التقصير. وما زلنا جاذين في عملنا الصامت لا ضوضاء ولا جلبة.(2/263)
أما القوم فقد عملوا في ثلبنا وتنقصنا أضعاف ما عملوا لفلسطين، ولو كنا نعلم أنهم يعملون لفلسطين- حقيقة- للقوا منا كل إعانة وتشجيع ... على أنهم لم يستغنوا عن الالتجاء إلى اسمي- حتى في هذه المرّة- فقد قامت الشواهد، وقام الشهود على أنهم جمعوا المال لفلسطين هنا وفي فرنسا باسم كاتب هذه السطور. وليست هذه بأول مرّة ارتكبوا فيها هذه الخطيئة.
هذا بيان مجمل للحقيقة بلا تعليق. ولولا اقتضاء التاريخ والحقيقة، ولولا الاستجابة لطلابهما، لما خططنا في هذه الرواية حرفًا.
أما التعليق ... فنسأل أهل النحو، أي اللفظين أصلح؟ ... الإلغاء ... أو التعليق ...(2/264)
قادة الجيل الجديد في ميادين العلم *
هذه قائمة المعلّمين الذين جهّزتهم جمعية العلماء للتعليم في مدارسها فجهّزت منهم كتائب لحرب الأميّة. وجنّدتهم، فجنّدت منهم أبطالًا لا ينثنون ولا ينهزمون، ورشّحتهم، فرشّحت منهم سدادًا للثغور وصدادًا للطارقين، وذادة عن حمى العلم. ونصبتهم، فنصبت منهم أعلام هداية للجيل الجديد، وأقطاب تربية وتثقيف له. وإذا كانت جمعية العلماء قد أطلقت على مدارسها اسمًا واحدًا وهو "التربية والتعليم" فهؤلاء هم المربّون وهؤلاء هم المعلّمون، وهؤلاء هم جنود العلم، وكفى بهذه الصفات شرفًا وفخرًا.
نعم هؤلاء هم جنود العلم. وإن من خصائص الجندية: المشقة والنصب، وذلك هو مناط الشرف فيها. (ولولا المشقة ساد الناس كلهم)، فليعلم أبناؤنا المعلّمون هذه الحقيقة ليُدركوا شرف ما كُلّفوا به، ومشقة ما حملوه، ليوطّنوا أنفسهم على تحمّل لأوائه. وليعتبروا أنهم مسؤولون عن جيل كامل، فلا يكتب التاريخ عنهم أنهم قصّروا في واجب، أو خانوا أمانة، أو ختروا عهدًا.
أما الجوانب المادية فإن جمعية العلماء مهتمة بشأنها كل الاهتمام، مشفقة على أبنائها المعلّمين كل الشفقة. وستتعاون مع الجمعيات المحلية على إزاحة العلل، وسدّ الخلل، وتحسين الحالة. وقد قامت الجمعية بعدة أعمال من صميم الإصلاح في هذه السنة، منها إعلان اللائحة الداخلية التي تحدّد العلاقات والوظائف والحقوق والواجبات بين الهيئات المتعاونة على التعليم، ومنها وضع الدرجات للمعلمين حتى لا يغبن متقدّم، ولا يحابى متأخر، ومنها وضع البرنامج المتحد، ومنها الزيادة في الأجور. وسيعلن هذا عن قريب في منشور خاص يوجّه كل عمل منها بالجهة المختصة به.
__________
* "البصائر"، العدد 36، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 15 نوفمبر 1948م.(2/265)
لم تبق إلا مشكلة المشاكل، وهي إيجاد المساكن للمعلمين، وسنعالجها بما تسعه الطاقة. على أن جمعية العلماء قرّرت أنها لا تقبل في المستقبل احتضان مدرسة، ولا تأذن ببنائها، ولا تنشط القائمين بها إلا إذا كانت سكنى المعلمين والمديرين هي الشرط الأول في الاحتضان، والعمل الأول في البناء. وحسبنا ما لقينا من عنت، وما لقي أبناؤنا المعلمون من تشتيت شمل، فعلى الأمّة أن تهتم بهذه الناحية، وأن تجعلها في محل العناية، وإلا فسيأتي يوم تتعطل فيه كثير من المدارس بهذا السبب، ويومئذ تتحمل الأمّة تبعة ذلك، وتتجرع مرارة ذلك.(2/266)
قرار من المجلس الإداري لجمعية العلماء
المسلمين الجزائريين *
قرر المجلس الإداري لجمعية العلماء في جلسته المنعقدة في مدينة قسنطينة في 13 من شهر سبتمبر 1948 - تكوين لجنة خاصة بالتعليم اسمها "لجنة التعليم العليا" تتولّى كل ما يتعلّق بالتعليم من برامج، ولوائح، ومراقبة وتفتيش، وتلقي شكايات، وتعيين معلّمين تحت إشراف رئيس الجمعية، ومع مراجعته في مهمات المسائل.
وقد شكل المجلس الإداري هذه اللجنة من عضوين إداريين هما الاستاذان: العبّاس بن الشيخ الحسين وعبد القادر الياجورى، و11 من قدماء المعلّمين وهم الأساتذة: إسماعيل العربي، محمد الغسيرى، أبو بكر الأغواطي، محمد الصالح رمضان، أحمد حمَّاني، علي مرحوم، أحمد رضا حوحو، الصادق حماني، أحمد بن ذياب، ولم يحضر الجيلالي الأصنامي ومحمد بابا أحمد لأعذار، ثم جعلت لها مكتبًا دائمًا يكون مقرّه مركز جمعية العلماء بالجزائر ويتألف هذا المكتب من المشائخ:
1 - إسماعيل العربي رئيس
2 - محمد الغسيري وأبو بكر الأغواطي عضوان
وهذا المكتب الدائم هو الذي يتولّى أعضاؤه التفتيش بأنفسهم طبقًا لبرنامج خاص يضعونه لذلك.
واللجنة الكاملة تجتمع في السنة مرّتين بالمركز، مرّة قبيل الشروع في الدروس، ومرّة
بعد الانتهاء من الامتحانات، في أيام يعيّنها ويحدّدها رئيس المكتب.
__________
* "البصائر"، العدد 57، السنة الثانية، 22 نوفمبر 1948.(2/267)
فعلى المديرين والمعلّمين ورؤساء الجمعيات المحلية للمدارس أن يكتبوا من الآن في كل ما يتعلّق بشؤون التعليم إلى رئيس مكتب اللجنة الدائمة بعنوان مركز جمعية العلماء.
عن المجلس
رئيس الجمعية
محمد البشير الابراهيمي(2/268)
"زواوة" الكبرى تستمسك بعروة الإسلام
الوثقى وتطلب الرجوع إلى الأصل *
جاءتنا العريضة التي ننشر نصّها وإمضاءات أصحابها كاملة، من رجال زواوة الكبرى يطلبون فيها بتأكيد من الحكومة الجزائرية إلغاء القوانين الخاصة بزواوة في الأحوال الشخصية، تلك القوانين التي تستند على العوائد والأعراف لا على أحكام الشريعة الإسلامية المطهرة. ويطلبون الرجوع إلى الأصل، وهو أحكام الشرع الإسلامي في النكاح والطلاق وما يتفرّع عنهما، وفي الميراث والوصية والحجر.
والحكم بالعوائد مطلب عزيز من مطالب الاستعمار الفرنسي، زرع بذوره في أرض زواوة وتعهّدها بالسقي والعلاج، وقوّاها بتقوية مراكز التبشير وإطلاق يد المبشرين، وظنّ أنها استغلظت واستوت على سوقها، واطمأنت إليها النفوس. فجاءت هذه العريضة مجتثة لما غُرس من أصله، وأقامت الدليل للمغرورين بالظواهر على أن زواوة معقل من معاقل الإسلام والعروبة، كانت وما زالت على ذلك.
جاءت قضية الظهير البربري بالمغرب الأقصى في وقت استيقظ فيه الشعور الإسلامي فأقام العالم الإسلامي وأقعده، ولم يدر إلا القليل من الناس أن لذلك الظهير أصلًا، وهو (قوانين زواوة الغريبة).
إن الغاية التي يرمي إليها الاستعمار من تمكين العوائد وجعلها أساسًا للأحكام، هو إبعاد طوائف من المسلمين عن الإسلام بالتدريج حتى تضعف فيهم النعرة الدينية وعاطفة التآخي الإسلامي، وتصير الأمّة الواحدة أمّتين أو أممًا.
__________
* "البصائر"، العدد 59، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 6 ديسمبر 1948م.(2/269)
أما الموقّعون على العريضة فهم خلاصة الوطن الزواوي، وهم أصحاب الرأي والتوجيه فيه، ولا نشكّ أن الأمّة الزواوية الأصيلة من ورائهم في هذا المطلب. وأكرم بأصحاب الزوايا حين ينتصرون للدين هذا الانتصار.
صوتنا مع أصواتكم- أيها الإخوان- ورأينا مع آرائكم. ولنا كلمة أخرى في الموضوع.(2/270)
حيّا الله تونس *
جمعية العلماء، وشُعَبها، ومدارسها، ومعلموها، والجمعيات المتفرّعة منها، و"البصائر" - وأسرتها. كل هذا الجهاز العلمي الثقافي العتيد يتقدّم بالشكر الخالص، والثناء الجمّ والتحيات الطيبات، إلى تونس العزيزة، مصوّرة في ذلك الطراز الرفيع من الزيتونة والهالة المحيطة بها، المنوّرة لأرجائها، من شيخها الجليل، إلى مدرّسيها الفحول، إلى تلك الجموع السالمة من التلامذة، ومن الصحف ورجالها، ومن الأحزاب ومسيريها، كفاء ما قاموا به وأظهروه من ضروب الحفاوة والترحيب بالأستاذ الشيخ العربي التبسي نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومدير معهد عبد الحميد بن باديس، وصاحب الآثار الجليلة في العلم والإصلاح، والآراء السديدة في السياسة والاجتماع، والمواقف الجرئية في تمكين الإسلام والعروبة بالقطر الجزائري.
وجمعية العلماء وفروعها المختلفة تعد تلك الحفاوة من تونس احتفاءً بالجمعية وتكريمًا لها ومغالاة بقيمتها وعرفانًا لقدرها واعترافًا بأعمالها. وهي تكافئها على تلك الحفاوة العملية بتقدير منبعه القلب، وثناء مصدره اللسان، وتنويه مطلعه جريدة "البصائر". وهذا جهد المقل.
وتونس قبلة الجزائر العلمية، ومأرزها الذي تأرز إليه في النوائب، ومنارتها التي تُشرف منها على الشرق وأنواره، فلا عجب إذا حرصت جمعية العلماء على تمتين الحبال الواصلة بين الجزائر وبينها، وعلى توضيح ما يخفى من أحوال الجار على جاره، وإزالة ما يلبس به سيّئ القصد وسيّئ الفهم على صحيح العقد حسن القصد، ولا عجب إذا اختارت لهذه السفارة أقدر رجل على الاضطلاع بها وهو الأستاذ التبسّي، ولا عجب إذا عرفت تونس
__________
* "البصائر"، العدد 60، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 20 سبتمبر 1948م.(2/271)
العلمية لهذا السفير الكفء قيمته ومكانته فاحتفت به هذا الاحتفاء الذي هو ترجمة مؤدّية لما تكنّه تونس للنهضة العلمية والفكرية بالجزائر من تقدير وتأييد.
والأستاذ التبسي عالم عريق النسبة في الإصلاح، بعيد الغور في التفكير، سديد النظر في الحكم على الأشياء، عزوف الهمّة عن المظاهر والسفاسف، انتهى به العلم والتجربة وأحداث الزمان إلى أن تونس والجزائر والمغرب شيء واحد، وأنها لا تفلح في الحياة ولا تنتصر في الجهاد لها إلا إذا أصبحت هذه الثلاثة شيئًا واحدًا، ثم انتهى به العمل لهذه المقاصد العالية إلى معرفة حظ العالم من العمل، وحظه من تبعة التقصير فيه، لذلك كله أصبح علمًا فردًا في قيادة الأمّة في جميع ميادين حياتها، ولذلك سَمَتْ همّته إلى تعرّف أحوال إخوانه العلماء، فكان هذا المعنى أحد بواعثه على هذه الرحلة. ولقد عاش في تونس والقاهرة طالبًا محصّلًا ثم أقام في وطنه الجزائر عاملًا مربّيًا عشرين سنة، زار بعدها تونس وفيها البقية من مشائخه والكثير من أقرانه، فشاهد التبدل العجيب، وشهد بالتطور المفيد. وكنا نتوسم من وراء رحلته الرجوع إلينا بفوائد تغذّي حركتنا، وتحفزنا إلى التقدّم فيها. وتهوّن علينا بعض ما نلقى في سبيلها، فكان لنا من هذه الرحلة فوق ما نرجو.(2/272)
تنبيه أكيد إلى رؤساء الجمعيات المحلية *
يجب عليكم- أيها السادة- أن تحرصوا كل الحرص على تعمير صناديق جمعياتكم بكل وسيلة: بالاكتتاب، وبالاشتراك الشهري، وبالزيادة في أجور التعليم على أولياء التلاميذ. وقد قرّر المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين رفع الأجور في هذه السنة من الجهتين.
قرّر رفع ما يدفعه آباء التلاميذ إلى مائتي فرنك شهريًا، وزاد في أجور المعلّمين على حسب غلاء الأسعار، وارتفاع قيم الضروريات.
فعليكم أن تجتهدوا في تحضير المال اللّازم لمواجهة هذه الزيادة التي لا بدّ منها، وسيصلكم منشور عام في شأنها، مفضل على حسب درجات المعلّمين.
لا ينتهي هذا الشهر حتى يكون المنشور في أيديكم، فنفّذوه بارك الله فيكم.
أما الآن فيجب أن تدفعوا لهم على حسب الترتيب القديم، فإذا جاءكم المنشور، فادفعوا لهم ما نقص عن الشهرين الفارطين: أكتوبر ونوفمبر، لأن الزيادة تعتبر من أوّل السنة الدراسية وهي فاتح أكتوبر.
عن المجلس الإداري الرَّئِيسُ
محمد البشير الابراهيمي
__________
* "البصائر"، العدد 60، السنة الثانية، 20 ديسمبر 1948.(2/273)
تحذير
- 1 - *
بَلَغَتْنَا أخبار ورسائل من معتمدي جمعية العلماء في كثير من القرى أنَّ هناك جماعة طوافين بأيديهم وصولات مزوّرة باسم جمعية العلماء، وبعضها باسم جمعية التربية
والتعليم، وليس فيها اسم بلدة معيَّنة، ويقبضون بَدَلَها مبالغ على أنها اشتراكات في إحدى الجمعيتين، وليس في الوصولات إمضاء، كما رأينا فيما وصلَنا منها، وإنما فيها هذه الكلمة: "أمين المال بقسنطينة".
ونحن لا نشكّ في أن هذه مكيدة مقصودة، يقصد منها مدبّروها أمرين جوهرين: أحدهما اختلاس المال ولو كانت الوسيلة خسيسة، والثاني تشويه سمعة جمعية العلماء ذات الصفحة الناصعة والذمة النزيهة في الماليات والتي عوّدت الأمة على المحاسبة الدقيقة فيها.
وجمعية العلماء تبرأ إلى الله وإلى الأمة من هذه الطائفة السارقة المارقة المحترفة لهذه الحرفة السخيفة، التي تريد أن تعيش على حساب الغير، وتدسّ سمّ الخيانة في منابع الثقة والأمانة. وتُعلن للأمة أن نظام الجمعية المالي أعلى من أن تتطرّق إليه الظنون بأعمال هؤلاء اللصوص، وأنها لا تأخذ ولا تُعطي إلّا بالوصولات المضبوطة الممضاة من المسؤولين، وتسجّل كل ذلك على نظام "مسك الدفاتر" في أرقى أصنافه، وأنها لتحذّر الأمة من أن تدفع مالها لهؤلاء المزوّرين.
وتُعلن براءتها أيضًا من جماعة ما زال يبلغنا عنهم أنهم يبيعون صورة الأستاذ عبد الحميد ابن باديس باسم جمعية العلماء، وقد حذّرناهم مرارًا.
__________
* "البصائر"، العدد 61، السنة الثانية، 27 ديسمبر 1948.(2/274)
وها هي ذي كيفيات تحصيل أموال الجمعية زيادة في الإيضاح:
1) الاشتراكات في جمعية العلماء يستخلصها رؤساء الشُّعب، ورجال الوفود السنوية.
2) مالية "المعهد" يرسلها المتبرّعون برقم (الشيك) الخاصّ أو المعتمدون الذين يحملون اعتمادات ووصولات بإمضاء القابض والمدير، وختم الإدارة، وهي وصولات لا تحتمل التزوير.
3) مالية "البصائر" يرسلها المشتركون برقم (الشيك)، أو يقبضها رجال الوفود، أو المعتمَدون الذين يحملون اعتمادات من إدارة الجريدة، وقد عزمنا على إرسال متجوّلين معتمدين، وبدأنا بعمالة قسنطينة فأوفدنا إليها السيد عبد الرحمن بن الحاج صالح ومعه اعتماد رسمي، فليعتمده المشتركون، وليدفعوا له على التقدير الجديد وهو ألف فرنك.(2/275)
- 2 - *
جاءتنا رسائل من مصلحي "البليدة" تخبر بأن نشرة مطبوعة باسم (جمعية الفتاة الجزائرية) تباع في البليدة باسم جمعية العلماء ويقول بائعوها (ومنهم عجائز في الحمامات) إنّ رئيس جمعية العلماء هو الذي كلّفهم ببيع هذه النشرة.
ورئيس جمعية العلماء يتبرّأ من هذه النشرة ومن مروّجيها بالكذب، بل يتبرّأ من هذه الجمعية التي تسمّى بجمعية الفتاة الجزائرية لأنها محفوفة بالريب من كل جانب، ولأنّ الوقت لم يحن بعد لزج الفتاة المسلمة الجزائرية في هذه المآزق، وما دام رجالنا لم يبلغوا المستوى الأخلاقي الديني الذي يضمن للفتاة السلامة من الأخطار والمعاطب، فإن هذه الحركات التي يقوم بها بعض الرجال وبعض النساء باسم الفتاة الجزائرية تعدّ كلها إفسادًا لتربيتها واستعجالًا بها إلى الغرق.
__________
* "البصائر"، العدد 75، السنة الثانية، 11 أفريل 1949 (بدون إمضاء).(2/276)
"صوت المسجد" *
صوت أذن الله أن يخفض، لأنه مؤلف من غير مقاطع الحق، خارج من غير مخارج الصدق. ناشز عن مجاريه الأصلية، مندفع من غير حنجرته الطبيعية.
وكما أن صاحب هذا الصوت مترجم من المالكية إلى الحنفية، ومنقول من العامية إلى الخاصية، ومن الشارع إلى الوظيفة. فإن كلمة صوت ههنا مترجمة عن كلمة "لافوا" ( La Voix) (1) الشائعة في اسماء الجرائد، مثل "لافوا ديزامبل " ( La Voix des Humbles) (2) و "لافوا انديجان " ( La Voix Indigènes) (3). ولا نشكّ في أن مآل هذا الصوت هو مآل تلك الأصوات التي لم ترتفع إلا لتنخفض، ولم تتعال إلا لتتسفل. ولأمر ما، يتهافت أقوام على هذه الكلمات التقليدية، فلا يضيفون كلمة "صوت " إلا لما هو في سياق الموت.
والمجلة التي تحمل هذا الاسم هي الأقنوم الثالث من الهيكل الذي نزل الوحي على الشيخ المفتي بوضع قواعده، على أن يكون هو نفسه الأقنوم الرابع ... وكل من الثلاثة مكمل لبقية الأجزاء، فاعل فيه، منفعل به. أو كلها زروع زرعتها يد واحدة، بمحراث واحد، على ثور واحد، لتحصد تلك اليد ما زرعت في يوم ما، ويفوز الثور بالعلف و"دعوة الخير".
وصوت المسجد- في حقيقته وقدسيته- هو صوت الحق صريحًا غير مجمجم، واضحًا غير مبهم، مبينًا غير ملتبس. يبتدئ من "الله أكبر" تقال صادعة، وتُسمع رادعة. تلفظها الألسن الداعية، فتعيها الآذان الواعية. وينتهي بما يتعالى فيه من تفسير لكلام الله
__________
* "البصائر"، العدد 63، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 31 جانفي 1949م.
1) La Voix: كلمة فرنسية معناها صوت أو نداء.
2) La Voix des Humbles: صوت المستضعفين، وهو اسم جريدة.
3) La Voix Indigènes: صوت الأهالي، وهو اسم جريدة.(2/277)
تنفطر له قلوب الجبابرة، وتقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم بالغيب، ومن بيان لسنّة رسوله يجتثّ الشرور من النفوس، ويقمع الأهواء في الأفئدة، ويزدجر به دعاة البدعة، ومن نصائح للمسلمين لا يرهب فيها ذو سلطان لسلطانه ولا يدهن فيها غني لأجل غناه، ومن تقريع للظالمين، واستعداء على المبطلين، وتقرير لمصالح المسلمين.
وهل الأصوات التي تتخافت اليوم في مساجدنا كفيلة بذلك محقّقة لحكمة المساجد في الإسلام؟ وهل يرتفع للمساجد صوت وهي في قبضة الاستعمار؟ وهل يؤدّي المسجد اليوم جزءًا مما كان يؤدّيه في أيام السلف الأبرار؟ وهل يحقق وظيفته وهو محروم من أصوات العلماء الأحرار؟
أسئلة نوجّهها للمبتدع لهذه التسمية، فلا يجيب عليها بالتعمية.
أم يقول: إن صوت المسجد هو صوت "النائحة المأجورة" ... صوته الذي يتشاجى به، ويتباكى فيه، في خطبه الجمعية التي تُرْدَى (تذاع بالراديو) وما يسبقها من أصوات تصف تنقلاته خطوة خطوة إلى أن يركب على أعواد المنبر؟ فقد حكى الحاكون من ذلك العجب العجاب.
وبعد، فإن التفسير الصحيح لصوت المسجد هو هذه الأصوات المنبعثة من قلوب الأمّة، المطالبة بحرية المساجد وأوقافها، وسيتردّد صداها، حتى تبلغ مداها، وإن شذَّ عنها صوت العاصمي. ومن يضلل الله فما له من هاد. وكيف يهدي الله قومًا يقول أحدهم: (إنه لا يبالي بأحد، ما دام يصلّي الركعة بمائة فرنك؟) ولا شك أن ركعة المفتي أغلى، وإن لم يكن وزنها عند الله أثقل.
أفمن هؤلاء (المسعرين) الذين يزنون دين الله بالفرنكات، يُرجى أن يرتفع للمسجد صوت؟ ونحمد الله أن عددهم قليل في الأئمة، ذليل عند الأمّة.
أما والله لو نطق المسجد لقال لهؤلاء: إليكم عني: فلست منكم ولستم مني.
أما مقالات المجلة فإني لم أقرأها، ولا شأن لي بها، وإنما أحكم عليها بمثل حكم صاحب المجلة عليها، وهو أنه لا عبرة بها، لأن غرضه الأساسي هو شيء اسمه مجلة، اسمها صوت المسجد، يتخذه سلّمًا لدرجات من الجاه يتطلعّ إلى بلوغها، وأسآر من المال يتحرق على ولوغها. وإذا حصلت المقاصد، فعلى الوسائل العفاء.
وقد سمعت البارحة شيطان رؤبة ينشد أرجوزة في تقريظ المجلة وصاحبها وخانتني الحافظة فلم أحفظ منها- مع الأسف- إلا قوله:
ألم تروا ما قاله في الأعرج (4) … فكل ذاك خارج من مخرجي
فحسب قرّاء المجلة لذة أن ما فيها خارج من مخرج الشيطان. فليذوقوا أو فليتركوا ...
__________
4) الأعرج: هو الإمام الإبراهيمي نفسه.(2/278)
شكوى العاصمي *
إِلَاهِي يا مستجيبَ الدعا … ولا جالب اليسر للمعسر
تفضل على عبدك العاصمي … وعرضه للعارض الممطر
بِمالٍ لو كان أجر الخنا … وريح المطفف والمخسر
فما العسر إلّا ربيب الحلال … وما اليسر إلّا من الميسر
فإنك يا خالقي عالمٌ … بأني على مذهب الأشعري
أرى الرزق ما ينفع المقترين … وإن سرقوا المال في المشعر
...
ولي حاجة من بنات الفؤاد … سقتها الأماني ولم تثمر
ركبتُ إلى نيلها عزمتي … ولي عزمة كاللظى المسعر
وجمجمتُ عنها ولم أبدها … وما السرّ إلا سلاح السري
تقحمتُ فيها الصعاب التي … يضيق بها الواغل المجتري
رقيتُ لأسبابها سلّمًا … وجثت برذل ومستنكر
وحالفتُ فيها الدّنايا التي … إذا ذُكر الخير لم تذكر
وأُرغمتُ يومًا لحمل القفاف … فما كنت عنها بمستكبر
وما زلتُ في نيلها دائبًا … إذا أقصر الناسُ لم أقصر
لزمتُ الصيام وواصلته … وصليت وحدي وفي معشري
رضيت الإمامة في جامع … أراه من الضيق كالمحجر
لأبلغ منه إلى جامع … من الرحب كالجامع الأكبر
وعدت إلى الحظ أبغي رضاه … ومن يركب الحظ لم يعثر
__________
* مسودة وُجدت في أوراق الإمام.(2/279)
بذلت لتحصيلها كل شيء … سوى المال- إني منه عري
وما أنا (في الجمع) كالمصطفى (1) … وما أنا (في الطرح) كالأزهري (2)
ألَا هلْ يراني الرفاق الكرام … أقوم وأقعى على المنبر
وأحمل تلك العصا صولجانًا … وحَمْلُ العصا شيمة المنبري
أصولُ على متنه داعيًا … وأزأر في القوم كالقسور
وأهجم عنهم بوعظي ولا … أميز به جانيًا من بري
لئلا يقالَ امرؤ جاهل … بوضع الحوادث والأعصر
وتُخرج حنجرتي نغمةً … كمجرى الخفيف على البنصر
أباهي الأئمة في زيّهم … بشدّ النطاق على المئزر
وأنضو لثامًا على لحيتي … من الصبغ: زورًا على منكر
فإن المشيب بريد الوقار … لمن كان يعتدّ بالمظهر
وأسمو عليهم بفرط الذكا … وطيب الأرومة والعنصر
وأعبر دونهم بالدها … حدودًا من الْجَاهِ لم تعبر
وعندي أساليب من ذا الدها … إذا نزر الحظ لم تنزر
وأسبر من مدهشات الأمور … شؤونًا على الدهر لم تسبر
واْخبر عنهم بأسرارهم … وما حَالف السعد كالمخبر
هنالك أغدو رئيسًا لهم … بغير انتخاب ولا محضر
ويصبح أمري على جمعهم … كأمر العَريف على العسكر
فيا منيةً نبتتْ في الحشا … بربّك طولي ولا تقصري
فإن الزمان ينيل المنى … على رغم شانئنا الأبتر
تكفل إِلَاهي بتحقيقها … فإنك إن تعطها أشكر
...
وقُلْ لابن باديس كن آمنًا … بعشّك في الجامع الأخضرِ
قنعتَ بما حُزْتَه من علوم … وطيب الأحاديث كالعنبر
وأضنيتَ نفسكَ في أمّة … وعن وطن كالفلا مُقْفِر
ولم تدرِ أنَّ الهَنَا والوظيف … مع الجهل أحلى من السكر
وأن الخضوع لمُسْتَعْمِرٍ … به الدار إنْ تنهدم تعمر
ذوو الحقّ في الدين حكّامنا … فما لك عن حقّهم تجتري
__________
1) هو الشيخ مصطفى القاسمي.
2) هو الشيخ المولود الحافظي الأزهري.(2/280)
أطعتَ البشير (3) وأعوانه … فخلّوك أعرى من الخنصر
ذوو الحق في الدين حكامنا … فما لك عن حقهم تجتري
ولم أنس لي ليلة بالقصير … وطالع سعدي في المشتري
أكلت بها حزَّة من جزور …، نمت على جانبي الأيسر
إذا هاتف في غضون الدُّجى … كسِرٍّ بطَيِّ الحشا مضمر
يقطل: أيا عاص (4) كن أسودا … وكن أصفرًا شيب بالأحمر
فأوَّلت ترخيمه في النَّدا … بصوتي رخيمًا على المعشر
وأوَّلتها رفعة في المقام … أسود بها الحاسد المفتري
وأوَّلتها خطَّة أرتقي … بها من كبير إلى أكبر
تراقص حولي طيوف المنى … فهن لي بصبح بها مسفر؟
أمَالِكَ رِقِّي تلطَّف بها … فعبدك- إن لم ينلها- خري
وهذي المجالس ما شأنها … تعضُّ بواع ومستظهر
ألم ترَ من حيلتي أَنَّني … بهذي المجالس لم أحضُر
مخافة أن يغضب المستشار … فيمحو وعدي من الدّفتر
ويمناي ما نشطت مرّة … لتنميق سطر ولا أسطر
يسيل لعابي إذا نشروا … أسامي تلمع كالجوهر
ولقِّب ذا بأمير البيان … وهذاك بالكاتب العبقري
وما كنت دون امرئ منهما … ولكن أدور على محور
وأخشى الرّقيب وتضريبه … على اسمي بالمرقم الأحمر
فما عاش من لم يكن مدهنا … ومن لم يصانع ولم يحذر
وأهوى الشِّهاب وتزعجني … شهاب بإحراقه ينبري
وإنّ العدا نحلوني الغداة … سطورًا ببالي لم تخطر
فوافت مع الصّبح مهتاجة … جلاوذة كالدُّبى ينبري
فهذا يصبّ وهذا يشب … وهذا يشاوس عن أخزر
وهذا يساقي وهذا يلاقي … بوجه على الملتقى أمعر
فما زلت معتذرًا حالفًا … لمن لم يقدر ولم يعذر
حلفت لئن رأيت عنوانه … سجّرت به النّار في المجمر
جزاء لما ساق لي من أذى … وما جرّ من تهمة للبري
__________
3) هو الإمام الإبراهمي نفسه.
4) ترخيم لاسم "العاصمي".(2/281)
الشيخ أبو القاسم بن حلوش *
بلغني في أثناء الأسبوع الماضي- وأنا على فراش المرض- خبر بموت العالم العامل المصلح الشيخ أبي القاسم بن حلوش، العضو الإداري السابق بجمعية العلماء
ووالد ولدنا الروحي الأديب الكاتب الشيخ مصطفى بن حلوش، بداره من ربض "تاجديت" بمستغانم.
أسفت لموت الشيخ أبي القاسم أعظم مما آسف لفقد قريب، لأن هذه الطائفة الإصلاحية التي كان الشيخ أبو القاسم أحد أفرادها إنما تتقارب على المشارب، لا على المناسب، وتتصاحب بالأرواح لا بالأبدان.
والشيخ أبو القاسم- رحمه الله- مصلح بطبعه وتربيته، خلق في منبع من منابع البدع، وفتح عينيه عليها. فأنكرتها فطرته السليمة، وتربيته القويمة من أول أمره، ونشأ على نفور منها وازدراء لأهلها. ولقي منهم تجريحًا وأذًى، ولقوا منه تسفيهًا وإنكارًا، وكان كل ذلك مزيدًا في رفعة شأنه.
طلب العلم على فئة من الفقهاء المدارين المجارين للعامة في أهوائها، فأخذ ما صلح من علمهم، وهجر ما قبح من أعمالهم، ووحّد الله وعبده بما شرع على الوجه الذي شرع، وابتنى لنفسه مسجدًا من ماله بسوق "تاجديت" يصلّي فيه بأتباعه في السيرة، ويُلقي عليهم دروسًا في الوعظ والإرشاد، وفيه بدأ بنشر الإصلاح العملي فنبذ البدع اللاصقة بالعبادات. ولم يزل متطلعًا إلى العلم الصحيح يطلع بدره، متشوّفًا إلى الحق الصريح بتبلج فجره، إلى أن ظهرت بواكير الحركة الإصلاحية العلمية في دروس الأستاذ الرَّئِيسُ الشيخ عبد الحميد ابن باديس، فجهّز ولده الشيخ مصطفى حلوش لتلك الدروس ليستدرك بأحد أولاده ما فاته
__________
* "البصائر"، العدد 63، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 31 جانفي 1949م.(2/282)
في نفسه، وأقرّ الله عينه ببلوغ مرامه. فكان من ذلك الولد للإصلاح ما يكون من جندي من جنوده المخلصين. فشارك بقلمه ولسانه في جميع الميادين.
عاش الشيخ أبو القاسم بعد ذلك على سمت الصالحين، يتنعم بما يرى من انتصار الحق وأتباعه، واندحار الباطل وأشياعه، إلى أن وافته منيّته راضيًا مرضيًا. فرحمه الله وأثابه جزاء إيمانه واستقامته.
وأنا عن نفسي وعن جمعية العلماء ومؤسساتها أتقدّم بالتعزية إلى ولدنا الشيخٍ مصطفى حلوش وإخوانه وأهل بيته، وإلى جميع أفراد الأسرة بمستغانم وسبدو مشاركًا لهم في الحزن، حاثًّا لهم على الصبر، راجيًا لفقيدهم الرحمة.(2/283)
إلى الأمّة *
بدأت المناورات الحكومية في قضية المساجد. فبدأتها من الذنب. وفي تلمسان لعبة، وفي الجزائر لعبة، وفي غيرهما لعب وألاعيب.
نحذر الحكومة من الاعتماد على جمعياتها الدينية التي صنعتها بيدها. فإن الأمّة لا ترضى ولا تعترف إلا بجمعيات منتخبة انتخابًا حرًّا من المسلمين أهل الدين، لا تدخل فيه الحكومة بأمر ولا برأي ولا بإشارة، فلتعلن الحكومة رسميًّا قضية الفصل. وتعلن معه حيادها في تكوين الجمعيات، ولتحدّد لتكوين الجمعيات أمدًا تنتهي إليه هي والأمّة.
رأي جمعية العلماء في هذه القضية معروف، يتفق عليه الإبراهيمي والتبسي والعقبي وكل العلماء، ولا يخالف فيه إلا جاهل، ولا قيمة لرأي الجاهل، أو عالم مأجور؟ والعالم المأجور، كالسفيه المحجور، هذا يفسخ دَيْنَه، وذاك ينسخ دينه.
في العدد الآتي نبدأ الحديث في هذه القضية، فنشرح ونجرح. ولعلنا نمسّ أبطالها البارزين في الميدان ... فمعذرة إليهم من الآن ...
__________
* "البصائر"، العدد 74، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 4 أفريل 1949م. (بدون إمضاء).(2/284)
رمضان: وحدة الصوم والإفطار *
وضعنا الديني في هذا الوطن وضع شاذ غريب، كوضعنا السياسي أو أشدّ شذوذًا وغرابة، بل ما كان وضعنا الديني غريبًا إلا لأن وضعنا السياسي غريب، ولو كنا نملك الحقوق السياسية كبني آدم لاستتبع ذلك الحقوق الدينية، لأننا أمّة مسلمة ما زال لنا من قرآننا عاصم من الإلحاد، ومن ميراثنا الجنسي معاذ من الزيغ، ومن فطرتنا الشرقية واق من هذا التحلل الذي أصيبت به الأمم.
ولكننا أضعنا الحق السياسي فأصبحنا كالكمي سلب سلاحه فأصبح ماله فيئًا للغانمين، وعرضه نهبًا للمغيرين، ومهجته جزر السباع ... أضعنا الحق السياسي من زمن بعيد، ووسمنا بسمة العبيد، وطال الأمد حتى استكانت النفوس، فامتدت اليد التي ملكت الرقبة إلى القلوب تفسدها، وإلى الألسنة تسكتها، فلما استقام لها كل ذلك ضربت علينا الحجر في الدين وأقامت على كل شعيرة من شعائرنا وصيًا، صورته منّا، وحقيقته لغيرنا، فعلى الصلاة وصيّ، وعلى الحج وصيّ، وعلى الصوم والأهلة والأعياد وصيّ ...
لو أن هذه المجاميع التي تسمّى الأمم أوتيت رشدها لجعلت السلطان الأعلى في الحياة للدين، ولجعلته هو المهيمن على السياسة، ولو فعلت ذلك لجرت أمورها على الخير والسداد، لأن الدين- وإن اختلفت أوضاعه- يأمر بالخير ويدعو إلى الإحسان ويرشح بالرحمة، ويقيّد الغرائز الحيوانية، ويضع الموازين القسط لكل شيء، أما السياسة فإنها- وان اختلفت ألوانها- تأمر بالفحشاء وتدعو إلى الفساد في الأرض، وتفيض بالأنانية، وتبني أمورها على التسلط والافتراس. والدين والسياسة هما دعامتا الحياة، وقطباها اللذان عليهما المدار، فإذا تساندا على الحق وتسايرا إلى السعادة، وكان الدين هو المرجع عند اشتباه
__________
* "البصائر"، العدد 84، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 20 جوان 1949م.(2/285)
السبل، جاء الخير وتحققت المصلحة، كما كان ذلك في الطور الأول للإسلام، والصدر الأول من المسلمين، وإذا عتت السياسة عن أمر الدين طغت العواطف على العقول، وكانت الفتنة والفساد الكبير، وهذا هو الواقع في هذا العصر.
وعصرنا هذا عصر سياسي، لا يدور فلكه إلا على السياسة. وأركان الحياة فيه مدبرة بهذا الطبع الخامس الذي يسمّى السياسة. ونحن قد نستسيغ تأثر الاقتصاد بالسياسة، لأنه منها كالخادم والمخدوم، ولأن بينهما روابط يوثقها لؤم المطامع، وقد نستسيغ- كذلك- تأثر العلم بالسياسة، وجعلها إياه إحدى الوسائل للكيد والاحتيال، لأن العلم لا دين له، بآية أن الناس عرفوا علم الدين، ولم يعرفوا دين العلم. وهذا العلم قد وسع الكون حتى ضاق، وانتقل من نبش الأرض إلى السبع الطباق، فكيف يكون له حد يقف عنده؟ أم كيف يكون له دين وقد داخله من الغرور، مازين له الشرور؟ وقد غرّ العقول التي كانت آلته فدانت له بنوع من الألوهية غريب؟
يستسيغ العقل هذا مجبرًا كمختار، ولكنه يرى أن السماجة السمجة هي تدخل السياسة في الدين، وأن تجعل من روحانياته السماوية مهابط لماديتها الأرضية، وأن تتخذ منه آلة لأغراضها الخسيسة، وأن تسخر رجاله لخدمة ركابها، وهذا بعينه ومينه ما هو واقع في الجزائر.
...
كان الخلاف في الصوم والإفطار أمرًا دائرًا بين المسلمين في هذا الوطن يسبّبه جهل العامة، أو تعصب الفقهاء، أو تباعد الأمكنة، وقد تزيّنه سماحة الدين ويسر تكاليفه أحيانًا، وكنا- على ذلك- ننكره ونعدّه شرًّا على الأمّة، وسبيلًا إلى التفرق في الدين، ونعمل للتوحيد فيهما ما نستطيع، بالعلم الذي يرع الجهل والتسامح التي يميت التعصب، والتعميم الذي يزيل التباعد. وكدنا ننجح في توحيد الأمّة على يوم واحد للصوم والإفطار، حتى يزدان جمال العبادة بجمال الاتحاد فيها، والتقرّب إلى الله بتقارب القلوب فيه. ولكن الحكومة الجزائرية التي تريد دائمًا أن تجعل من الدين الإسلامي دعامة لسياستها، وسلاحًا في أيدي ساستها. كبر عليها أن يبقى هذا الركن الإسلامي مفلتًا من يدها وخارجًا عن تصرّفها، بعد أن هيمنت على الصلاة والحج، فكوّنت- لسنوات خلت- لجنة الأهلة والأعياد الإسلامية من موظفيها الذين يدينون بطاعتها قبل طاعة الله، ويخضعون لأمرها وإن خالف أمر الدين، ثم وضعت في أيديهم لعبة يفتنون بها الصائمين والمفطرين، وهي اعتبار الأعياد الإسلامية رسمية تعطل فيها المصالح، ويستريح الموظفون والعمال، لتضلّهما عن الهدى، وتستزلهما عن الحق،(2/286)
ليرجحا- إذا اختلف الناس- عيد الحكومة على العيد الديني، ثم يعتقدا- مع طول الزمن- أن رأي الحكومة في الدين هو الرأي، وأن أمرها هو المتبع، وأن حكمها في الخلاف الديني هو فصل الخطاب ...
فهمنا مرمى هذه الحيلة لأول ما دبّ دبيبها، بل تبيّنا مغزى هذه المكيدة لأول ما ذرّ قرنها، ونشرنا على الأمّة في العامين الماضيين بيانين أعلنا فيهما كلمة الحق وإن كانت موجعة، وجهرنا بحكم الله وإن كان ثقيلًا على الحكومة ولجنتها، وها نحن أولاء نعززهما في هذا العام بهذا البيان الثالث، لم نغيّر فيه رأينا لأن الدين لا يتغير، ولأن خصمنا في القضية هو الحكومة، ومواقفها من ديننا لم تتغير.
...
إن حكومة الجزائر ليست مسلمة حتى يكون حكمها في شؤون الدين مقبولًا فضلًا عن أن يكون مطاعًا، وإن جميع تصرفاتها في ما يتعلق بالدين باطلة، وإن قضاتها الذين نصبتهم موظفون قانونيون لا دينيون، بدليل أن أحكامهم تستند في أكثرها على القانون لا على الدين، ولو كان للأمّة رأي في توليتهم لما كان لهم سلطة على دينها، لأن أحكامهم لا تتناول العبادات، فكيف بهم والأمّة لا يد لها في ولايتهم، ولا رقابة على تصرفاتهم؟
هذه حقيقة أكبر شهودها الغضب منها. ويزيدها توكيدًا عدم عناية هذه الطائفة بهذه المسألة، فلا يستجمعون الشواهد والأدلة، على ثبوت الأهلة، وقد رأينا من تهاونهم- حاشا القليل منهم- ما يقضي بالعجب، ومن أشنعه أنهم ينامون ليلة ترقب الهلال على الساعة العاشرة أو قبلها، ومنه اعتماد بعضهم على عاملة التلفون لتجيب الناس على لسانه بالنفي أو بالإثبات ...
...
الأمر- إذن- لجماعة المسلمين، وليست جماعات المسلمين في هذا الوطن بأقل عناية واهتمامًا بالأهلة والصوم من غيرهم، وإنما ينقصهم أمر واحد: عدم العناية بالتبليغ، ولهم في هذا عذران: الأول أن وسيلة التبليغ العامة- وهي التلفون- ليست متيسرة للجميع، ومن تيسّرت له يلقى من العنت والاحتقار ما يزهده فيها، والثاني ميل عام في الجمهور إلى عدم الثقة بالقضاة في هذا الشأن.
ونكرّر القول بأن الأمر لجماعة المسلمين، وليست جماعة المسلمين محصورة في جمعية العلماء. وإن أقرب قطر إسلامي إلينا، تولّي قضاته حكومة إسلامية، ويعتني جمهوره(2/287)
بتبليغ الشهادات إلى قضاته، هو تونس والمغرب. وإن حكومة الجزائر إذا ضيّقت علينا المسالك في التلفون، لا تستطيع أن تضيّق علينا الأثير.
وعليه، فالواجب أن نعتمد على أنفسنا، وأن نعتني برؤية الهلال عناية كاملة، وأن نعتني بالتبليغ بعضنا إلى البعض بواسطة التلفون ما أمكن، وأن نبذل الجهد في تعميم الخبر إلى الأماكن القريبة رجالًا وركبانًا، وأن نعتمد على رؤية تونس والمغرب بواسطة الراديو. فأخباره موثوق بها.
أما لجنة الجزائر فإن مبنى أمرها على استقلال الجزائر ... ولكن فيما يفرّق كلمة المسلمين. فإن عملت برؤية القطرين فهو رجوع منها إلى الصواب وان خالفت فخالفوها.(2/288)
معهد عبد الحميد بن باديس *
من الأعمال ما يبيّض أوجه العاملين، في الدنيا بالذكر الحسن وفي الأخرى بالجزاء الحسن الأوفى. وهذا المعهد من الأعمال التي تبيّض وجه الأمّة الجزائرية، وتعلي ذكرها في التاريخ وتغلي قيمتها بين الأمم، وتذكّر بها إذا ذكرت الأمم بأعمالها وتباهت بالجلائل من تلك الأعمال.
لا يزكو لأمّة عمل، ولا يثقل وزنه، ولا يجيز لها التاريخ أن تفاخر به، إلا إذا كان من كسب يدها، وكان مما عملته لنفسها بنفسها، اجتهادًا لا تقليد فيه، واستقلالًا لا تحكم فيه، وملكًا لا استعارة فيه. والمعهد الباديسي- قبل كل شيء وبعد كل شي- من عمل الأمّة لنفسها، شادته بمالها على قلة في المال، وعمرته برجالها على فقر من الرجال، وحبسته على أبنائها ليعصمهم من منكرات المعاهد، أو لينقذهم من تنكر المعاهد، وسيرته في ليل من الأحداث داج، وفي جو من الأعاصير أدكن، وفي بحر من السياسة ورجالها هائج، وفي مجتمع متشابه فجاج الفكر، متقارب القلوب على الشر والنكر، وفي غواش من الفتن متلاحمة، وجماعات من البشر غير متضامنة ولا متراحمة. ولم تعتمد في تكوينه إلا على الله ثم على نفسها، ثم على العرق الأصيل من جنسها، والقوّة الكامنة من دينها. فجاء عملًا خالصًا منها لها لم تشبه بشائبة اعتماد على حكومة تصرّفه على أهوائها، ولم تشنه باعتماد على شخص يستغله في مطامعه. وكان- لذلك كله- عملًا طيّبًا مباركًا، يعليه بُعد الهمّة ويحوطه بعد النظر، وتسيّره قوة الإيمان، وتزيّنه لمحة الاستقلال، وتسمه النية الصالحة بسماتها، وتظهر في آثاره البركة والنماء، ويعرف الخير واليمن في أواخره كما عرفا في أوائله.
__________
* "البصائر"، العدد 85، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 4 جويلية 1949م.(2/289)
وهذا المعهد- باعتبار آخر- هو إحدى الكفارات التي تقدّمها الأمّة الجزائرية عما اجترحته من مآثم الجهل والأميّة، وسيئات الغفلة والتفريط وأسباب التأخر والجمود، وجنايات الابتداع في الدين والاتباع في الدنيا. لتمحو بالجد في الحياة آثار الهزل فيها، وتمحو بالعلم آثار الجهل، وبالقراءة آثار الأميّة، ثم تمسح بهما ما تراكم على دينها من محدثات، وما غطى على تاريخها من نسيان، ثم تخط بهما ما يتطلبه غدها من رسوم للعمل وأعلام للهداية، ووسائل للتنفيذ والتطبيق. ثم تجلّي لنفسها مناهج الحياة على هدى العلم، وبوحي القلم، كما سار سلفها الصالح الماجد على هدى العلم، وبوحي القلم إلى حياة العز والشرف والسيادة.
هذه هي المعاني الكامنة في هذا المعهد، كما كانت كامنة في نفس من نسب إليه وتحلّى باسمه، وكما هي كامنة في النفوس الصالحة الطاهرة من هذه الأمّة، وستظهر بالتدريج إذا اطرد نموه، وتفرّعت أفنانه، وتعهدته الأيدي بالبذل، والعقول بالتدبير، والقرائح بالتغذية، وصالحو المؤمنين بالمحافظة والحماية، ويومئذ تكون الأمّة قد استكرمت الغرس فاستطابت الجني، واستمجدت الزناد فحمدت الورى.
نقول: إن المعهد من عمل الأمّة، وهو قول حق وإنصاف للأمّة، ويقول العقلاء العارفون المنصفون: إنه هو الغرّة اللائحة في أعمال جمعية العلماء، وإنه هو تاج المدارس التي شيّدتها لحفظ دين الأمّة ولغتها، وهذا أيضًا قول حق وإنصاف لجمعية العلماء. وما جمعية العلماء إلا الأمّة المسلمة العربية الصالحة المصلحة، ذائدة عن كيانها، مدافعة عن قرآنها، مناضلة عن لسانها بلسانها، وما هذه الأمّة المسلمة العربية إلا جمعية العلماء متأثرة بخطواتها، منقادة لإرشادها، واثقة بأمانتها، مؤيّدة لمبادئها، سائرة في الدين والدنيا على هداها، ومن شذّ من الفريقين شذّ في النار. ولولا جمعية العلماء لما تحرّرت العقول والأفكار، فاستشرفت إلى تحرير الأجسام، ولولا الأمّة، وإيمانها بالجمعية، وثقتها برجالها وإمدادها لها بالمعونة الصادقة لما استطاعت الجمعية أن تقوم بهذه الأعمال الجليلة، ولما استطاعت هذه الحركة المباركة أن تنمو وتترعرع، وتتأصل وتتفرّع. وقديمًا قام الدين على هاد إلى الحق، ومهتد بالحق، وقامت الدنيا على قائد بالصدق، ومنقاد إلى الصدق.
جمعية العلماء والأمّة الصالحة جزءان يتألف منهما كل، ونصفان يتكوّن منهما كون كامل.
***(2/290)
سلخ هذا المعهد الجليل السنة الثانية الدراسية من عمره العلمي المبارك، وخطا في ميدان العلم والتثقيف الخطوة الثانية من خطاه المسدّدة، محفوفًا بالرعاية الشاملة من جمعية العلماء، وبالعناية الكاملة من صالحي الأمّة، وبالحماية العليا من الله الواحد الأحد.
سلخ هذا المعهد سنته الدراسية الثانية، ومعناها في لغة النظام العلمي تسعة أشهر تتخلّلها فترات، وتتحيّفها عطل واستراحات، فتنقص تسعة الأشهر أسابيع، فيكون عمره العلمي سنة وربع السنة مما يعرف الناس في عد أعمارهم، ولكنه يأتي بما يشبه معجزة عيسى نطقا في المهد، بحفظ العهد.
أُجريت الامتحانات- من مبتدإ شهر يونيو- لتلاميذه الذين بلغوا في هذه السنة ستمائة عدا، وانتهت بعد أسبوعين فأسفرت عن نتائج تُقرّ أعين العاملين لخير العروبة والإسلام في هذا القطر، وتُبهج خواطرهم وتشرح صدورهم.
جرت هذه الامتحانات في حالة حكيمة من حزم الإدارة وضبطها، وأمانة الشيوخ واحتياطهم، واستعداد التلامذة واعتمادهم على أنفسهم، لا تسمح بالإجحاف ولا بالمحاباة، فكانت النتائج فوق ما يقدر المشدد والمتسامح، وكانت فوق النسب المقدّرة من المشائخ والتلاميذ، وكانت بشيرًا بطور من الذكاء والنبوغ والبراعة تجني منه الجزائر الخير الكثير لدينها ولغتها، وكانت- في الأخير- برهانًا صادقا على أن شيوخ المعهد كانوا يعلمون ... وأن تلامذة المعهد كانوا يقرأون ويتعلمون ... بمعنى أن شيوخ المعهد كانوا يؤدّون واجبهم بإخلاص وأمانة ونصح وحسن توجيه، لم تثبطهم شدائد العيش ومكاره الحياة، ولم تثن هممهم الصعوبات المعترضة في سبيل التربية والتعليم. وأن التلامذة كانوا منقطعين إلى التعليم بجد واجتهاد وإخلاص، لم تلههم عنه ملهيات المجالس، ولم تغوهم شياطين الأزقة، ولم تضارر العلم في نفوسهم وساوس الأفكار. ولقد كان لشياطين الأزقة بهؤلاء التلامذة الصغار لمم وإلمام، ومساورة واقتحام، فكانوا يقعدون لهم بكل صراط، يضلونهم عن العلم، ويصدّونهم عن سبيله، ويزيّنون لهم مفارقة المعهد، ويلقّنونهم سب العلم وشتم العلماء مما ظهر أثره على ألسنة بعض الأغرار من صغار الطلبة فظهر أثره في خيبتهم في الامتحان، فكان عظة بالغة لهم ولغيرهم، ولقد رأيت بعيني بعض هؤلاء الأشرار في لبسة عجب يندسون بين الطلبة ويلازمونهم إلى باب المعهد يزيّنون الباطل ويقبحون الحق ويوسوسون في صدور التلامذة ما لا يوسوس قرينهم الشيطان الرجيم، ولكن الله أحبط أعمالهم، وخيّب آمالهم.
***(2/291)
واحتفل المعهد في الخامس عشر من يونيو بختم الدروس والامتحانات وأعلن هذه النتائج في جمع عظيم من مشائخه وهيئاته المتعاونة، وكثير من مديري المدارس ورؤساء شُعَب جمعية العلماء بعمالة قسنطينة حضروا بمناسبة مؤتمرهم الذي انعقد في اليوم التالي ليوم الاحتفال. وخطب مدير المعهد الأستاذ العربي التبسي، وخطب كاتب هذه السطور، فكانت الخطبتان دائرتين على حثّ الأمّة على الاستعداد للسنة الآتية بالبذل والتشجيع، لأن معظم تلامذة السنة الأولى انتقلوا إلى الثانية، وسيضطر المعهد إلى قبول مثل عددهم لتعميرها، وسيضطره ذلك طبعًا إلى إحضار ثلاث وسائل جديدة للتلامذة الجدد: مساكن لسكناهم، وأقسام لدروسهم، ومشائخ لتعليمهم، وأن هذه الضرورة ستتجدّد في كل سنة، إلى أن يتساوى عدد الخارجين من السنة الرابعة بالداخلين في السنة الأولى، فعلى الأمّة أن تتنبّه لهذا، وأن تتبيّن شأنه وخطره، وأن تعدّ له عدّته. وأن يكون لها من الاهتمام به ما يكافئ اهتمام إدارة المعهد وجهود جمعية العلماء.
هذا ولا يفوتنا أن نسجّل ملاحظة غريبة في نسبة نجاح تلامذة المعهد في امتحانات هذه السنة، فقد كانت للنجاح مجار مطردة على حسب الجهات، وكان مظهر النجاح الأعلى في تلامذة جبال زواوة ثم في تلامذة جبال أوراس، ثم في تلامذة العمالة الوهرانية على العموم، ثم في بعض مدن عمالة قسنطينة، ولذلك كله علل سنشرحها.
أما التفصيلات، وأسماء الناجحين، وتجلية العبر، فسنجمعها في عدد خاص من "البصائر" نصدره في النصف الأخير من شهر شوال، فلينتظره القرّاء.(2/292)
دروس الوعظ والإرشاد في رمضان *
يجب لليالي شهر رمضان المبارك أن تكون حية عند المسلمين لا بما هم عليه من السهرات الوقحة، واللهو الماجن، والشهوات القاتلة، فإن هذا النوع من الإحياء هو - في حقيقته- إماتة لحكمة الصوم وقتل لسرّه وخيره، ومحو لروحانياته وآثاره النافعة.
وقد جاء الأمر بإحياء ليالي رمضان، وهو لا يختص بالتهجد، وإنما يشمل النافع بالمنطوق، والأنفع بمفهوم الأولوية، ومن الأنفع الذي لا يتمارى فيه للمسلمين في هذا العصر إحياء ليالي هذا الشهر بمجالس التذكير العامة ودروس الوعظ والإرشاد، بشرط أن تكون المجالس جدية موقظة، والدروس حية محيية، ولن تكون كذلك إلا إذا كانت مدارسة لكتاب الله ولسنة نبيّه في المواضيع المتصلة بحياة الأمّة الدينية والدنيوية، وتعميرًا لنفوس المسلمين بالخير الذي يفيض منهما، وتقريبًا لما تباعد بينهم وبينهما.
هذا هو الإحياء الحقيقي الذي هو أكثر نفعًا وأجزل عائدة، وأقرب من مراد الشارع وحكمته، فإذا وفق المسلم إلى إحياء بقية الليل أو جزء منه بالتهجد والتلاوة، فقد جمع له الخير من طرفيه، وجاء بالحسنيين في قرن.
جرت جمعية العلماء- منذ أعوام- على سُنَّة حميدة جعلتها من صميم أعمالها، وهي إحياء ليالي هذا الشهر بدروس الوعظ والتذكير في الحديث والتفسير، في مجامع المسلمين ومدارسهم ونواديهم بل وفي ديارهم، ولو كانت المساجد حرّة كما يريد الإسلام لانتهت هذه السنة إلى غايتها، وأتت بكل ما هو محقق لها من النتائج، ولظهرت آثار ذلك جليّة في أقوال المسلمين بالصدق، وفي أعمالهم بالتوفيق، وفي حركاتهم بالنجاح، وفي آرائهم بالتسديد، ولكنها- مع ذلك- لم تخل من آثار صالحة في نفوس الجمهور الذي يحضرها ولغشاها.
__________
* "البصائر"، العدد 86، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 11 جويلية 1949م.(2/293)
وفي هذا العام وزعت الجمعية كثيرًا من مدرّسيها على مراكز متعددة في القطر للقيام بهذه السنة المباركة، وألزمت المعلمين المقيمين في مراكز التعليم أن يقوموا بهذا الواجب في هذا الشهر، فتمّ العمل على أتمّ وجه وأكمل نظام. ثم وزّعت عليهم المنشور الآتي تذكيرًا لهم وتوكيدًا عليهم، وهذا هو نصّه:
الأخ المحترم الشيخ ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أما بعد، فإن أشرف عمل تتقرّبون به إلى الله وتخدمون به دينكم وأمّتكم في هذا الشهر المبارك هو إحياء لياليه بدروس الوعظ والإرشاد وتذكير إخوانكم المسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
وإن جمعية العلماء تعلم أنكم قائمون بهذا الواجب في بلدانكم ولكنها تذكركم وتوصيكم بأن لا تفرطوا فيه ليلة واحدة من ليالي هذا الشهر وأن تخصّوا بالعناية المواضيع الراجعة إلى إصلاح الأخلاق، فمن فساد الأخلاق أتيت أمّتكم ومن ثغور الأخلاق دخل شياطين الإنس والجن إلى نفوسها فأفسدوها.
حثوا إخوانكم على إقامة الفرائض الدينية والاجتماعية التي أضاعوها كالزكاة والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر والمرحمة والتعاون على البر والتقوى والتآلف والتحابب مستندين في ذلك كله على كتاب الله وحديث نبيّه مستدلين بنصوصهما على النهج السلفي لجمعيتكم.
والصلاة الصلاة فإنها عماد الدين، والعلم العلم فإنه عماد الدين والدنيا فعليهما حضّوا وإليهما فادعوا، والله يوفقكم ويرعاكم وينفع بكم والسلام عليكم ورحمة الله.
رئيس جمعية العلماء
محمد البشير الإبراهيمي(2/294)
إلى الكتّاب *
للبصائر طرفان: أعلى وهو معرض العربية الراقية في الألفاظ والمعاني والأساليب، وهو السوق الذي تجلب إليه كرائم اللغة من مأنوس صيّره الاستعمال فصيحًا، وغريب يصيّره الاستعمال مأنوسًا، وهو مجلى الفصاحة والبلاغة في نمطهما العالي، وهو أيضًا النموذج الذي لو احتذاه الناشئون من أبنائنا الكتّاب لفحلت أساليبهم واستحكمت ملكاتهم مع إتقان القواعد ووفرة المحفوظ.
ولهذا الطرف رجاله المعدودون، وهو نمط إعجاب أدباء الشرق بهذه الجريدة.
وطرف أدنى، وهو ما ينحط عن تلك المنزلة، ولا يصل إلى درجة الإسفاف، وبين الطرفين أوساط ورتب تعلو وتنزل، وهي مضطرب واسع يتقلب فيه كتّابنا، من سابق إلى الغاية مستشرف لبلوغها ومقصر عن ذلك.
ولكن بعض الكتّاب- هداهم الله رشدهم- بالغوا قبل أن يبلغوا، فهم يوافوننا بمقالات دون الطرف الأدنى، فنضطر إلى إهمالها اضطرارًا فيلوذون بحق (التشجيع) ... فليعلموا- علّمهم الله- أن التشجيع لا يكون على حساب اللغة وتراكيبها، ولا على حساب "البصائر" ومنزلتها، وليفهموا أن الاعتماد على التشجيع، معطّش ومجيع.
ونصيحتنا إلى هؤلاء وإلى ناشئتنا الكاتبة أن ينظروا لأنفسهم وأن يعتمدوا عليها، وأن يُدمنوا القراءة لآثار فحول الكتّاب من قدماء ومحدثين، وأن يحملوا أقلامهم على احتذائها بالتدريج، وأن يتكثروا بحفظ اللغة الأدبية، ويتبصروا في مواقع استعمالها في التراكيب، وأن يكونوا عصاميين في الأدب والكتابة، فإن المعاهد التي تقلبوا فيها للتحصيل لا تخرّج أديبًا ولا كاتبًا، ما دام حظ البيان فيها منزورًا، وعلم اللغة والإنشاء فيها مهجورًا، والأدب العربي فيها لا يدرس قصدًا، وإنما تعرض نتفه عرضًا.
__________
* "البصائر"، العدد 86، السنة الثانية من السلسلة الثانية، 11 جويلية 1949م. (بدون إمضاء).(2/295)
ذكرى بدر بمركز جمعية العلماء *
تقديم: محمد الغسيري
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكرني ما كتبه واقتبسه الأستاذ أبو بكر الأغواطي من درس الأستاذ الرَّئِيسُ الشيخ محمد البشير الإبراهيمى، الذي ألقاه بمدينة الأغواط يوم زارها في الأيام الأخيرة، أنه واجب علي وقد كتب لي أن أحضر بعض دروسه الرمضانية بالجزائر، ومنها الدرس النفيس الذي ألقاه بالمركز يوم 17 رمضان بمناسبة ذكرى بدر لسنة 1368، أن اقتبس بعضه لأقدمه إلى قرّاء "البصائر" ليتصوّروا جلال هذه الدروس، وما قدرت أن أنقل إليهم من معانيه إلا يسيرًا، فليعذروني إذا أنا لم أقدّم لهم غذاء لذيذًا كما يشتهون ويشتهي الفن، فحسبي لديهم أن قدّمت الغذاء، وحسبي لدى نفسي أن أرضيتها فيما طالما تحرّقت عليه أسفًا وحنت إليه شوقًا، ألا وهو ضياع تلك الدروس القيّمة والمحاضرات العامرة التي يلقيها الرَّئِيسُ في جولاته بربوع القطر الجزائري، تلك التي لا تتقطع طول السنة، وما أشبهها إلا بنهر عذب جارٍ يستقي منه القريب، ولا يحرم منه البعيد، أجل طالما تذامرنا وتقاسمنا- نحن معشر تلامذة الأستاذ ورفقائه- على أن كل من قسم له حضور تلك الدروس ليكتبن كل ما أسعدته ذاكرته بحفظه، وقلمه بتسطيره، ولكنّا نخلف مرة، ولا يسعدنا الحظ لمرافقة الأستاذ في أسفاره مرات، على أن حاضري الدرس من الكتّاب يؤخذون بالسماع، ويندهشون فلا يكتبون شيئًا، وكانت النتيجة ضياع كنوز من العلم والحياة لا تقوم بمال.
أجل لم ينقطع الأستاذ الرَّئِيسُ عن الجولان لخدمة الأمة والجمعيات والمدارس والمعهد إلا بضعة أشهر في السنة الفارطة لمرض أقعده، ولعدم وجود سيارة تقلّه، فتعطل كثير من الأعمال، واشتاقت المحافل إلى سماع صيحاته ونصائحه وبيانه الساحر، وحلّ المشكلات، واستمرّت الحالة كذلك زمنا قصر فيه أعماله وزياراته كلها على المعهد وحده، ولما تهيأت له الوسائل جاب البلاد في أمد وجيز تناول فيه بالزيارة ما يلي:
__________
* "البصائر"، العدد 87، السنة الثانية من السلسة الثانية، 18 جويلية 1949م.(2/296)
قسنطينة، سمندو، عزابة، مزغيش، عين قشرة، الميلية، الشقفة، أولاد علال، جيجل، القرارم، شاطودان، العلمة (سانت آرنو)، سطيف، حضنة أولاد دراج، برج بوعريريج، وهناك جاء العمل الحازم، ورجع عزم الأستاذ إلى الصول، ونشط لسانه إلى القول، واستهلّ سلسلة أحاديثه ودروسه بخطبة في الاحتفال بختم دروس معهد عبد الحميد ابن باديس بقسنطينة، وبحديث في مؤتمر شُعَب جمعية العلماء بعمالة قسنطينة كما تكلّم في غالب البلدان السالفة الذكر، ثم سافر إلى الجزائر، وما مكث عند أهله- حسبما أخبرنا- إلا ثلاث ساعات سافر بعدها إلى المدية، وألقى فيها درسًا بالجامع الجديد، ومنها إلى الأغواط (وقد نقل بعض أحاديثه فيها الأخ أبو بكر ونشره في "البصائر" في حينه) ثم عاد إلى المدية فتقبل فيها دارًا عظيمة وهبها لجمعية العلماء محسنان كبيران لتكون مدرسة للتعليم، وبعد صلاة الجمعة في الجامع الجديد ألقى محاضرة أعلن فيها تبرع المحسنين بالدار وأعلن حكمه عليها أن تكون مدرسة خاصة بالبنات مؤلفة من ثمانية أقسام، وألزم رجال المدية باسم العلم أن ينهضوا لبناء مدرسة للبنين، وأنحى عليهم باللائمة في التقصير والتأخّر في مضمار التأسيس حتى على القرى الصغيرة مع أنهم من السابقين في النهضات على اختلات أنواعها، ثم قصد الأصنام بدعوة من جماعة مدرستها "مدرسة ابن خلدون" ليتكلم في احتفال أعدّته المدرسة، ولم يرجع إلى الجزائر إلا في أول رمضان.
إن نسينا شيئًا من عيوبنا فلا ننسى أن أكبرها هو إضاعة مثل هذه الدروس والمحاضرات، وإن فيها- والله- لكنوزًا من العلم والحكمة غالية، وإن أسينا فأول ما نأسى عليه أن لا يرافق الأستاذ العظيم في كل جولاته اثنان أو ثلاثة من الكتاب ليدوّنوا كل ما تنفرج عنه شفتاه، وكل ما يلفظه لسانه العذب الحكيم من الدرر، أما أنا فحسبي- أخيرًا- أن أقدّم إلى القرّاء ما يلي:
...
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد: فإن الأمم تعرف في هذه الحياة بأيامها، والأيام أفراح وأتراح، الفرد فيها كالجماعة، وإن أعمار الأمم منها ما كان كله كالصفحات البيضاء نقاء وإشراقًا، ومنها ما كان مظلمًا حالك السواد، وإذا درسنا بدايات الأمم ونهاياتها- وهي ضارية في القدم والطول- وجدناها كبدايات ونهايات الأفراد سواء بسواء، وإذا أمعنّا النظر في أيام الجميع السارة لم نلفها إلا قليلة جدًا، وكذلكم كانت أيام المسلمين الزاهية السعيدة تكاد تعد على الأصابع، وما كان يوم بدر إلا من هذه الأيام القليلة، وما كانت واقعة بدر إلا من هذه(2/297)
الوقائع المشرفة في تاريخ الإسلام والمسلمين الطويل، فلقد حيّرت المؤرّخين وملأت الأسفار بأسماء أبطالها القليلين، وذكر مآثرهم، وتعداد مناقبهم، وذكر عددهم الحربية المتواضعة، والإشادة بالمكان- كل ميزته أنه به قليل ماء، ما كان يوم بدر إلا يومًا من أيام الله في الإسلام- إذن، وهل يحسن التذكير إلا بأيام الله؟ ولقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} ذكر موسى بني إسرائيل بأيام الله، وذكرهم بآلائه عليهم، ولما لم ينفعهم التذكير، وخالفوا أوامر الله وكثيرًا ما قتلوا أنبياءهم بغير حق، حقّت عليهم كلمة الله، وحاق بهم العذاب وهم لا يشعرون، فكان التيه الذي ظلّوا فيه معذبين أربعين سنة، كانت كافية لأن تنهض جيلًا من الشباب عزيزًا، شديد المراس، يأبى الضيم، ولا يرضى المهانة، وكافية لأن تذهب جيلًا من العجزة وشيوخ الهمم الأذلاء الذين درجوا في ساحات الذل، وشبوا وشابوا تحت كلاكل الاستعباد والسخرة المقيتة، وتلك حكمة الله في تذكير الأمم بأيام الله، لتتعظ، وترجع إلى الله، وتتدرّع بالعبر والمثلات، وحسن الاقتداء.
نعم، إن أيام النكبات عند العقلاء أعظم من أيام الرخاء والهناء، وأيام البلاء في حياة المسلمين أزهى أيامهم، وأجدى عليهم نفعًا، وأبقى ذكرًا، وأخلد أثرًا، والمؤرّخون الحقيقيون هم الذين يعنون بذكر جانب الاعتبار من الأحداث التاريخية الكبرى- لا أولئك الذين يسردون الوقائع سردًا- ليدرس الناس أسباب سقوط الدول، وأسباب عزّتها، وتكون مؤلفاتهم خير معوان للأجيال المقبلة لتتنكّب طرق الشر والشقاء، وتسلك مسالك الرشد والهدى، ولا أخال حديثنا الليلة يتناول غير ذلك الجانب الأهم من الوقائع.
إن يوم بدر، ويوم أحد ليعدّان- باعتبار آثارهما- مِن غُرّ أيامنا التاريخية، فلقد كان الأول نصرًا، وكان الثاني كسرًا، أفكان يوم أحد شرًا على المسلمين، وهم يعلمون ما سبب الهزيمة؟
إن القيم المعنوية في الرجال، من زكاء النفس، وعلوّ الهمّة، وإطاعة أوامر الله، هو الجانب المعتبر في حياة الرجال، وذلك ما أتاح النصر للمسلمين يوم بدر وهم قلة، وإن الطمع في الأسلاب الحقيرة، ومخالفة أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هما السبب في هزيمة المسلمين يوم أحد، وهم كثرة، وأن القوة المعنوية التي تسلّح بها رجال بدر هي التي رجّحت كفّتهم، ولئن استشهد منهم قليل فقد انتصر الباقي على عدو قوي البأس، محارب بطل، يفوقهم عددًا وعدة، وشتّان بين من يسترخص الموت من أجل الحياة، وبين من يحاولها لإرضاء الشهوات، شهوات الغلب، ومحبة السمعة الزائفة، ومحاولة تحدي سنن الله وإرادته الرامية للأخذ بيد المستضعف في الأرض، وهو ما هزم المشركين يوم بدر وتركهم عظة وذكرى إلى يوم الدين، وكذلكم كانت واقعة أحد درسًا قاسيًا للمسلمين عرفوا به مصدر الداء، داء الغرور، ذلك المرض الذي ما أصيب به فرد أو جماعة إلا أهلكه، فلا يغترن أحد بنفسه،(2/298)
ولا يغرنه زهوه وخيلاؤه فإن الدائرة في الأخير لا تدور إلا على رأسه، وإن من أعظم أدواء الغرور أن يلبس الإنسان غير لبوسه فيجني نتيجته هزيمة منكرة، ومرارة مستديمة، وتتعطّل به قوة الفرد، وقوى الجماعة، وأي خير بعد ذهاب القوة؟ ... وهل دارت الدائرة في غزوة أحد إلا على رأس المسلمين؟
ثم إذا طوينا صفحات من التاريخ، وجئنا نعدّد أيام المسلمين الزاهرة كيوم اليرموك، ويوم القادسية، وأجنادين، وذكرنا رجالها، وفي مقدمتهم خالد بن الوليد، وعياض بن غنم وما أدراك من هما، وتصوّرنا العقبات التي لاقاها أولئك الأبطال في صلابة النفوس، ووعورة المسالك، وحداثة عهدهم بالنهوض، سواء مع الفرس أو الروم، عرفنا جلال عظمة تلك الأيام، وعصامية أولئك الأبطال المغاوير، وإذا ذكرنا أيام المسلمين الزاهرة التي مهّدت للمسلمين فتح مصر، وشمال أفريقيا، والأندلس وذكرنا في تاريخ الأندلس مثلًا واقعة "الأرك" و "الزلاقة" ويوميهما، وذكرنا عبد الرحمن بن معاوية الداخل، وعبد الرحمن الناصر، وتصوّرنا حضارة العرب بالأندلس- كما في الشرق- تمثّلنا الإسلام في أروع مباهجه، وأعلى مكارمه، وأسمى روحياته.
أضِف إلى تلك الأيام يومًا أغرّ محجلًا ماجدًا في تاريخ المسملين ألا وهو يوم حطين بفلسطين، في عهد صلاح الدين، وما صلاح الدين إلا رجل كردي عادي لا يملك من ألقاب الشرف والحسب شيئًا، كان يدعى يوسف بن أيوب وكفى، ولكنّه كان صلاح الدين وحامي حمى المسلمين بحق، فهو قد رفع رأس المسلمين عاليًا، وحطّم الصليبيين تحطيمًا، وردّ غاراتهم ردًا قرّر مصير حياة المسلمين بعد ذلك في جميع جهات العالم، وأنقذ مكّة والمدينة حيث مأرز الإسلام وفخار المسلمين.
أجل حارب الصليبيين الذين رابطوا قرب المعرّة نحو مائة عام يستعدّون لتسديد الضربة القاضية فهزمهم هزيمة شنعاء لم يعرف التاريخ نظيرها في تلك الأيام، وهم قوم غلاظ شداد يحملون في نفوسهم حقدًا على الإسلام والمسلمين طالما غذاه القساوسة والرهبان في أوروبا بمختلف أنواع التغذية المسمومة، الراجعة إلى خبث الطوية، وفساد التربية، وسوء التوجيه، أولئك هم الصليبيون الذين حاربهم صلاح الدين، وتلك بعض صفاتهم، وأولئك هم الذين ما تزال بعض سماتهم ماثلة للعيان في بعض الأمم حتى في أيامنا هذه.
بلى، إن الأرك والعقاب بالأندلس، وحطين بفلسطين، واليرموك بالشام، والقادسية بالعراق، وبدر بالحجاز هي أسماء أماكن وقعت فيها غزوات، ولكنها لا تدلّ في فهمي إلا على درس خالد في الوطنية العليا، إذ خلود الأماكن خلود للأوطان، وإن في حياة خالد وعبد الرحمن الناصر، وصلاح الدين الأيوبي وما أتوا من خوارق العادة لأعظم درس في سير(2/299)
الرجال، وخلود الأبطال، وإن من حافظ على الأوطان ولم يبخس الرجال حقّهم كتب الله له الخلود، ومن ضيّع الأوطان، وبخس عظماءه حقّهم ذهب في الذاهبين، وهل يمكن أن يحفظ القلب في غير الجسد؟ وهل ينسى المسلمون تلك الأماكن وأولئك الرجال؟
نعم كانت بدر موقعة حاسمة في تاريخ المسلمين كما كانت الوقائع الآنفة الذكر في غالبها نصرًا مبينًا، وما كان الدين الإسلامي ليبيح الحرب، وما كان ليحبّبها إلى النفوس، بل يبشع بها وبمثيرها ولكنه يحبّ السلام، ويدعو إلى السلام، إلا إذا اضطرّ إليها اضطرارًا ليدفع الشرّ بالشرّ، وهناك يخوضها المسلمون في غير هوادة حتى إذا وضعت الحرب أوزارها، رجعوا إلى البناء والتعمير، ونشر العلم والعدالة والإخاء بين الناس، وراحوا يصافون حتى المحاريين المعتدين، وما أكثر هؤلاء وما أصدق قول الشاعر الأول في هذا المعنى:
تَعْدُو الذِّئَابُ عَلَى مَنْ لَا كِلَابَ لَهُ … وَتَتَّقِي صَوْلَةَ الْمُسْتَأْسِدِ الْحَامِي
وما أصدق قول حكيم العصر شوقي في نفس المعنى:
ألم ترَ أنهم صلفوا وتاهوا … وسدّوا الباب عنا موصدينا
ولو كنا هناك نجر سيفًا … وجدنا عندهم عطفًا ولينا
هذه حقيقة الإسلام، وهذا هو التاريخ الإسلامي فليقتد المسلمون، وليؤوبوا إلى الله، وليذكروا بأيامهم وليقبلوا على العلم.
وفقنا الله وإياكم لما يُحِبُّه ويرضاه.(2/300)
إلى القرّاء *
لم يبق لسنة "البصائر" الثانية إلّا قليل من الزمن، ولم يبق من حصّتها من الأعداد إلّا العدد الآتي وهو عدد 95 إذْ به تكمل أعداد السنة خمسة وأربعين، وكان النظام يقتضي أن يصدر هذا العدد الختامي قبل نهاية السنة، ولكن المطبعة فاجأتنا بأنها تبدأ عطلتها السنوية في السادس من الشهر الجاري، وتستغرق أسبوعين.
وعليه فإنّ عدد 95 لا يصدر إلاّ بعد نهاية العطلة، وبه تكمل السنة الثانية، وسيكون خاصًا بالمعهد الباديسي، مفتتحًا بكلمة طويلة شارحة بقلم مدير "البصائر" ورئيس جمعية العلماء، وبكلمة للأستاذ التبسي مدير المعهد، فكلمات لشيوخ المعهد مع صورهم الشمسية.
وسيكون هذا العدد حَافلًا بالمعلومات والآراء، مؤرخًا للسنتين الماضيتين، راسمًا لخطط المستقبل، مفصلًا لمالية المعهد دخلًا وخرجًا من يوم تأسيسه إلى الآن، مسجّلًا لأسماء الناجحين من تلامذة السنة، مصوّرًا لما بذلته جمعية العلماء في تكوينه وتسييره المالي من جهود، ولما بذله مديره من حزم ونشاط، ولما بذله شيوخه في التربية وحسن التوجيه من شجاعة وصبر، ولما قامت بها الأمة أو قصّرت فيه من واجبات، كل ذلك بالميزان الذي لا يبخس ولا يخسر، والعقل الذي لا يظلم ولا يغلو ولا يحابي.
أما صحائفه فستكون اثنتي عشرة، وأما قيمته فستكون ثمانين فرنكًا للنسخة تسدّد منها نفقاته، وما فضل فهو إعانة للمعهد، فعلى الباعة أن يخبروا بالمقادير التي يستطيعون ترويجها بالضبط، وأن يلتزموا كتابة ببيع جميع ما يطلبونه، وأن لا يدخلوا ثمن هذا العدد في المحاسبة، بل يرسلونه وحده في (شيك) "البصائر" مكتوبًا على ظهره: "حساب العدد
__________
* "البصائر"، العدد 89، السنة الثانية، 8 أوت 1949م (بدون إمضاء).(2/301)
الخاص"، وليعذرنا حضرات الباعة الكرام بما أردنا التشديد عليهم، ولكنها الضرورة حتّمت علينا هذا.
ومن لم يلتزم هذه الشروط فإننا لا نرسل إليه هذا العدد الخاص، لأنّنا لا نطبع منه إلاّ على مقدار الطلب بسبب كثرة التكاليف.
وعلى الباعة الأفاضل أن يوافونا بذلك قبل الخامس والعشرين من شهر أوت الجاري، ولهم أن يخصموا أجرة البيع كالعادة.
ونرجو بكل تأكيد من المشتركين الكرام في داخل القطر أن يشاركوا عموم القرّاء فيشتروا هذا العدد من الباعة، تنشيطًا لإدارة "البصائر"، وإعانةً للمعهد.
...
أما السنة الثالثة فسنستهلّها بعدد خاصّ، ولكن في الحجم العادي، نجعله مثالًا لنظام الجريدة الجديد، ثم نصدر العدد الثاني من السنة الجديدة خاصًا بمدارس الجمعية، مزينًا برسوم جميلة لبعضها، وسنوفي فيه أبناءنا المعلّمين جنود التربية والتعليم وجمعياتنا المحلية ما يستحقّونه من التمجيد والتنويه والتشجيع، وسيكون مثل عدد المعهد في الحجم والقيمة.
وهذان العددان سنفرغ فيهما مجهودًا عظيمًا من الوقت والمال، نرجو أن يقابله القرّاء بمجهود يكافئه من التشجيع والإقبال، وعليهم السلام.
...
انهالتْ علينا عشرات البرقيات ومئات الرسائل من الإخوان المقدّرين للأعمال، في التهنئة بهذا العيد، ونحن نردّ عليهم التهنئة بأبلغ منها، معتذرين لحضراتهم بأنّ إجابة كل فرد خارجة عن نطاق الإمكان، معلنين لهم أنّ التهنئة عادة وأدب، ولكن أعيادنا مسختها أحداث الدهر، وشوّهتها طبائع السوء منا، حتى أصبحت لا تستحق التهنئة، فإذا رأوا منا زهدًا في الكتابة عنها، فهذا سببه، ولهم على كل حال فضل البادئ بمقتضيات الأدب.(2/302)
الرقم السجين *
إلى مدير البريد العام بعمالة قسنطينة:
لا نشك في أن مصلحة البريد وتوابعه في هذا القطر تابعة للحكومة، خاضعة لتصرفاتها، ولا نشك في أن الحكومة تسيطر على المشتركين في هذه المصلحة وعلى عملائها بنوعين من المراقبة: أحدهما عام، في الأحداث العامة كالحروب والثاني خاص لقوم مخصوصين، ولا نجهل أن للحكومة طريقة خاصة في مراقبة بعض الأرقام، وهي استراق السمع بواسطة منضدة الاستماع: ( Table d'Ecoute) ولكننا نحدّثك اليوم على معاملة شاذة لا تدخل في واحد من النوعين.
في "بوسطة" (1) تبسة رقم سجين لم ينتفع به صاحبه ولم تنتفع منه المصلحة التي أنت مديرها، فهل تستطيع أن تطلق سراحه؟ هذا الرقم هو رقم 59 - 1، أو رقم مدرسة تهذيب البنين، أو رقم الشيخ العربي التبسي، صاحبه نائب رئيس جمعية العلماء، ومدير معهد ابن باديس، وله- كغيره- مصالح وارتباطات توجب عليه أن يتصل بهم، ويتصلوا به، ولكنهم كلّما طلبوه لم يسمعوا في الجواب من عاملة التليفون إلا إحدى كلمتين: انه لم يجب، أو انه معطّل مختلّ وهو تحت (التصليح)، وقد يتكرّر الطلب من طالب واحد صباحًا ومساءً في أيام متوالية، فلا يكون الجواب في التسعين من المائة إلا بما ذكرنا. وقد يتناقض جواب عاملة التليفون في الوقت الواحد فتقول مرة: إنه لم يجب، وتقول مرة: إنه مخثلّ، ونتحفق بالبحث والسؤال أن صاحب التليفون ملازم لمكتبه، وأن جهاز التليفون سليم معافى.
__________
* "البصائر"، العدد 90، السنة الثانية من السلسة الثانية، 5 سبتمبر 1949م.
1) بوسطة: كلمة فرنسية ( La poste) وهي البريد.(2/303)
ونحن نشهد بما علمناه من المآت وبما شاهدناه بأنفسنا منذ سنوات، بل من يوم سجل
هذا الرقم بإدارة البريد، وهو أننا نطلبه في الشهر عشر مرات أو أكثر، وفي أوقات نستيقن فيها وجود صاحب الرقم باتفاق معه فيكون الجواب في جميعها: انه لم يجب، ولا تنخرم القاعدة إلا قليلًا.
وقد طلبناه في رمضان من عدة جهات فقيل لنا انه لم يجب، وطلبناه ليلة عيد الفطر الماضي فقالت لنا العاملة في لهجة مريبة ما لفظه بالحرف: il ne répond pas (2) وكرّرنا السؤال، فسمعنا نفس الجواب. وكنا في هذه المدة الطويلة ارتكبنا عدة طرائق من الحيل، وعدة أنواع من الامتحانات، فأثبتت أن هذه المعاملة مقصودة، ولكننا لم نفقه لها سرًّا ولا حكمة.
إن صاحب الرقم يدفع الرسوم القانونية كالناس ولكنه لا ينتفع به كالناس، فما معنى هذا؟ إن كان هذا الرقم مخيفًا فاربطوه (بمنضدة الاستماع) بالحبال الوثيقة، لا بالأسلاك الدقيقة، ولا تتركوه على هذه الحالة: أبكم أصمّ، أو مريضًا مستشفيًا. إن هذا أنفع للمصلحة في جلب المال، وأصلح للحكومة في الاطلاع على (الأحوال)، أما هذه المعاملة فإنها شاذة وقحة سمجة لا طعم لها ولا لون ولا معنى.
لا نعتقد أن لعاملات التليفون المتعاقبات ثأرا مخصوصًا عند الأستاذ التبسي، ترثه اللاحقة عن السابقة، ولا نعتقد أن هذه المعاملة وحي من إدارة عليا، لأن مصلحتها في العكس، وإنما نظن أن الأمر لا يعدو إدارات تبسة المستبدة، وأن منشأها كيد لصاحب الرقم، وحقد عليه، وانتقام منه، فجروا بسوء صنيعهم لمصلحة البريد التهمة والخسارة معًا.
إلى مدير البريد العام بقسنطينة نرفع هذه القضية ليبحث عنها، ويزيل هذا الخلل من نفوس عمّاله، لا من جهاز التلفون. ولا يطالبنا بالحجج القطعية، فإننا نسمع الجواب كلامًا، يذهب مع الريح، لا كتابة تبقى على الورق. وكل ظالم يحتال لظلمه ألف حيلة. ولولا الظلم ما تظلمنا، ولولا أنه واقع على رقم خاص لعممنا.
__________
2) il ne répond pas : إنه لا يُجيب.(2/304)
مؤتمر الثقافة الإسلامية
- 1 - *
للجمعية - الخلدونية بتونس- منذ كانت- يد بيضاء على الثقافة الإسلامية، وأثر بليغ في إحياء التراث الإسلامي بقدر ما يسع جهدها، وقد سارت في عهدها الأخير منذ رأسها الأستاذ محمد الفاضل بن عاشور بخطى واسعة إلى التقدّم، وقدمت لنهضتنا العربية الإسلامية بهذا الشمال مآثر جليلة، وكستها صبغة ثابتة من التجدّد ورسمت لها خطة صادقة في التوجيه والاتساع، فوصل رئيسها الفاضل بمحاضراته شرق الإسلام بغربه، وجسّم العروبة بجناحيها، وأحيا من الوفاء للشرق رسومًا طمسها الإهمال حينًا والأنانية أحيانًا، ولم يقف عند الحدود الضيّقة التي ائتم فيها كثير من قومنا بالاستعمار، فشكرنا له ذلك، وعددناه وصولًا لأرحام طال بينها التجافي حتى أوشكت تتنافر.
وفي هذه السنة رأت الجمعية الخلدونية أن نخطو خطوة جديدة، وتسنّ سنة حميدة، في الجانب الذي نوصم فيه بالنقصان، ونوسم بالتقصير، فدعت إلى عقد مؤتمر ثقافي إسلامي تحت إشرافها، وعيّنت لافتتاحه اليوم العاشر من شهر سبتمبر الآتي، وأحسنت كل الإحسان في إسناد رئاسته إلى فضيلة العالم الأستاذ محمد المختار بن محمود.
وقد دلتنا نشرات الهيأة التحضيرية للمؤتمر التي وصلتنا على أن الاستعدادات قائمة على نظام بديع، وأن المؤتمر سيكون محققًا للغاية التي عقد لأجلها، وسيرفع رأس هذا الشمال الأفريقي الذي أمعن في الهزل، فبدا عليه الهزال.
وجمعية العلماء، وجريدة "البصائر" ترحّبان بالمؤتمر، وترجوان له نجاحًا يقطع ألسنة الخصوم، ويشرح صدور قوم مؤمنين، ويكون غيظًا للحاسدين، وقمعًا للمفسدين.
__________
* "البصائر"، العدد 90، السنة الثانية من السلسة الثانية، 5 سبتمبر 1949م.(2/305)
وترجوان للجمعية الخلدونية توفيقًا دائمًا إلى مثل هذا العمل الجليل، وأن يكون لها من هذا المؤتمر الأول دليل هادٍ إلى الكمال فيما يتبعه، وتجربة نافعة في تعرّف الوجوه واستقراء السبل.
وسترسل جمعية العلماء وفدًا يمثّلها في المؤتمر، لا ليسدّ ثلمة في المؤتمر، ولكن ليكون رمزًا للتعاون العلمي، والتناصر الأخوي، فقد عاقت جمعية العلماء أعمالها الداخلية لمدارسها وجمعياتها عن الاستعداد الكامل للمؤتمر، وتعارض حقّان فقدمت ألزمهما وما لا تعذر فيه بحال، على ما للعذر فيه مجال، ونقلت أعضاء الوفد من العمل المجهد إلى المؤتمر على غير استعداد، كما ينقل الجندي من الحقل إلى الميدان، فلا يطمعن إخواننا المؤتمرون في أكثر من ذلك من جمعية دائبة على العمل المتواصل، وليس لرجالها فراغ، ولا عطلة صيفية، ولا راحة.(2/306)
- 2 - *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان
أحيي على بعد الدار إخواني المؤتمرين رجال العلم، وأهل الفضل والنبل، وقد جمعتْهم غاية واحدة، وحدا بهم حادٍ واحد، هو خدمة الثقافة الإسلامية والكشف عن مكنوناتها المخبوءة.
لا يضير هذه التحية أن تكون صدى بعيد الرجع ... فإن البُعد أبلغ في البلوغ، فنور الشمس لا يَتَلأْلَأ إلّا في البُعد السحيق.
أيها المؤتمرون الكرام
أحييكم تحية المسلم البرّ بدينه ولغته، لِلْمُسلم البرّ بدينه ولغته، وأكبر فيكم هذه الهمم التي دفعتكم لهذا النوع المثمر من خدمة الإسلام وإحياء مآثر رجاله، وأرجو أن يكون مؤتمركم مقدمة لأمثاله وفاتحة لما هو أكبر منه وأعمّ فائدة، وأغبطكم على ما حظيتم به من اجتماع كان أمنية المتمني وخيال المتخيل فأصبح حقيقة وأصبح واقعًا.
أيها الإخوان: تمنيتُ- منذ دعا داعي المؤتمر فأسمع- أن أكون من حاضريه ومن المشاركين لكم بجهد المستطيع في بنائه وتعميره، ولكن أعمالي للثقافة الإسلامية، في وطن متطلع للثقافة الإسلامية، عاقتني عن حضور مؤتمر الثقافة الإسلامية، وعسى أن تكون أعمالي شفيعة لي عند إخواني فلا يرمونني بتقصير.
__________
* مسودة رسالة بعث بها الإمام إلى مؤتمر الثقافة الإسلامية، وُجِدتْ بين أوراقه.(2/307)
أيها الإخوان: ما زلت أتمنى على الله أمنية شغلت عقلي وفكري منذ مِزْت الخير من الشر، وهي أن يسترجع علماء الإسلام ما أضاعوه من قيادة المسلمين، وما زالت الأقدار تدافعني عن هذه الأمنية وتؤيسني منها حتى دلتني المخايل الصادقة من مؤتمركم هذا وتباشير أخرى سبقته على أن هذه الأمنية قريبة المنال إذا صحّت العزائم.
إن علماء الدين أئمة، فإذا لم يخدموا الأمم الإسلامية في جميع الميادين النافعة، ولم يقودوها بقوة في المقاصد الصالحة، ولم يصرفوها في نواحي الخير والمصلحة، ولم يوجّهوها إلى شرف الحياتين وسعادة الدارين، وإذا لم تتوجه الأمة إلى حيث وجّهوها، ولم تستقبل الوجهة التي استقبلوها، فلا معنى لهذه الإمامة.
أن قيادة علماء الدين للأمة هي وظيفتهم الأصيلة، وهي وظيفة يفرضها الدين ويرتضيها العقل، وتوجبها مصلحة المسلمين، وقد فرط علماءنا في القيام بهذه الوظيفة منذ أزمنة متطاولة، فخرجت القيادة من أيديهم إلى أيدٍ لا تحسن القيادة، أو تحسنها في سبيل غير سبيل الدين ومدار غير مداره، فانتهت الأمة بقيادة هؤلاء إلى ما ترون وتشهدون، وليس ما ترون وتشهدون بالذي يرضاه الله ودينه، أو ترتضيه الحياة الشريفة.
جرّبت الأمم الإسلامية- بعد الصدر الفاضل- أنواعًا من القيادة، فما أوقعتها إلاّ في المهالك والبلايا، وما كانت عواقبها إلّا عقوبات، وقد أفلست جميع التجارب، واستشرف المسلمون إلى هداةٍ وحُدَاةٍ من علماء الدين يستردون ما أضاعوه من سلطان، حتى يردّوا هذا السواد المنتشر المتخبّط في داجية من الضلال في الدين والدنيا، إلى الحظيرة الجامعة والقلعة المنيعة، وإن الاسترداد لهذا الحق الضائع لَأقرب منالًا إذا اجتمعتم مثل اجتماعكم اليوم، وفكرتم في المسألة حق التفكير، وإن في زمنكم وأحداثه وفي أمتكم وتجاربها لَأَعوانًا لكم على تقريب الغاية وصدق الآية.
إنّ في العالم الديني الموفق شمائل من الدين ونفحات من روح الله وآثارًا من قوته، وفي الإسلام القوّة والرحمة، والعدل والحكمة، والصدق والنصيحة، والعفة والأمانة، والإيثار والتضحية، وهذه- لعمركم- هي جوامع المؤهلات للقيادة حتى في هذا الزمن الطافر، وفي هذا العالم الكافر، وقد أصبحت الأمم التي جافت الدين وصدت عنه تلتمس شعاعه تهتدي به في ظلمات الحياة، وأسبابه لتعتصم به من هذه السيول الجارفة من الآراء والأحداث، فكيف بأمة لم تنقطع بينها وبين دينها الأسباب.
اجعلوا من بعض أعمالكم في هذا المؤتمر استعادة سلطان الدين على النفوس وفي قيادة الأمة بزمام الدين، فإن في تقوية النفوذ الديني تقوية لسلطانكم على الأمة.(2/308)
أيها الإخوان: إن للثقافة الإسلامية ماضيًا مشرقًا وحاضرًا مظلمًا، فهل لكم يا أنصار الثقافة أن لا تقصروا جهودكم وأبحاثكم على ماضيها، وهل لكم أن تعطوا مستقبلها الحظ الأوفر من عنايتكم، فتخطوا لمستقبل الثقافة الإسلامية معالم جديدة يهتدي بها الجيل الجديد.
إن هذا الجيل الجديد من أبنائنا واقف في مفترق طرق لا يدري أيها يسلك وقد فتح عينيه على زخارف تستهوي من الثقافة الغربية، وقد أصبحت هذه الثقافة أقرب إلى عقله وذوقه لما مهّد أهلها ودعاتها من المسالك إلى النفوس، ولما تنطوي عليه من المغريات والمعاني الحيوانية، ولما فيها من موجبات التحلل والانطلاق، ولما تزخر به من الشهوات وحظوظ الجسد، ولما يشهد لأهلها من شهود العلم، وهو يفتح عينيه كل يوم منها على جديد.
أما الثقافة الإسلامية التي هي أحق به وهو أحقّ بها فقد أصابها من الجمود والركود ما جعلها بعيدة من عقله، غريبة عن ذوقه، نافرة من إحساسه، وما ذلك كله إلّا من سوء ما صنع الأب، وما صنعت الأم، وما أثّر الكتاب، وما طبع المعلّم، وما اقترف المجتمع، حتى أصبح الناشئ يحتقر أبويه، ويستحي من جنسه، ويسخر من دينه، وما بينه وبين أن يتنكّر لهؤلاء جميعًا إلّا أن يطلع على شيء من آداب الغرب، أَوْ يُلِمَّ بشيء من لغات الغرب ومجتمعات الغرب.
إن المظهر البارز للثقافة الإسلامية هو كتبنا وعلومنا ومناهج الدراسة عندنا وأساليب البحث وطرائق التربية، ومن الكذب على الله وعلى الحق أن نزعم أن الكتب التي ندرسها، والمناهج التي نسلكها تحقق المعنى العالي للثقافة الإسلامية.
وإن الثقافة، إذا تحقق معناها العرفي الواسع مسايرًا لمأخذها اللغوي الضيّق، تلابس النفوس، وتتغلغل إلى المكامن، وتدبّ إلى السرائر، فتجتث من الفرد أسباب النقص ومن الجماعة آثار الركود، وتفيض على الجميع روح الحياة، يصبحون بها صالحين للحياة.
وإن أكبر امتحان تمتحن به الثقافة الإسلامية في أدوارها الأخيرة أن نقتطع في تاريخ الإسلام صحائفه الأخيرة، وهي خمسة قرون ونصف قرن وننظر ماذا تحدر إلينا من أهلها من الآثار والأعمال، وقد نجد عشرات الألوف من المؤلفات، أقلّها السمين، وأكثرها الغثّ، فتكون النتيجة أننا أضعنا خمسة قرون ونصف قرن في الأقوال من غير أن نعمل شيئًا.
هذه الآثار القولية ظاهرة في الشروح والحواشي والتعاليق المملوءة بالجدل اللّفظي العقيم، فأين الآثار العلمية في هذا الانحطاط المريع في الأخلاق، وهذا الزيغ الملحد في العقائد، وهذا الوهن في العزائم، وهذا الاستسلام الذي أفضى بنا إلى الاستعباد.(2/309)
أيها الإخوان: أعيذكم بالله وبشرف الثقافة وبروح الجدّ من عصركم أن تهتمّوا بالماضي دون الحاضر أو بالحاضر دون المستقبل.
صِلوا مستقبل الثقافة الإسلامية بماضيها البعيد، واقطعوا من هذه السلسلة الطويلة عدّة حلقات هي هذه القرون الخمسة، فلا تمروا بها إلاّ للعظة والاعتبار، إذْ ليس فيها ما يُشرِّف ولا ما يحسّن سمعة المسلمين.
ستفترقون غدًا وسيقول الناس عنكم ما يقولون، فاحذروا أن يقولوا عنكم بعد الآن ما كانوا يقولون: إنهم قوّالون، وإنهم مازالوا حيث كانوا وكان أسلافهم الأقربون، يقولون كثيرًا ولا يعملون شيئًا، وإن عالَم العمل لم يعرف لعلماء الدين منهم فضيلة إلّا التلقيب "بصاحب الفضيلة".
ان من ورائكم ومن بين أيديكم وعن أيمانكم وعن شمائلكم عالَمًا عرف المؤتمرات، وعرف كيف يستفيد منها، وعرف كيف يجعلها أداة للأعمال ووسيلة إلى المفيد، وانهم يرقبونكم بالنظر الفاحص والفكر الناقد، فاعرفوا كيف تدفعون هذا الازدراء.
لا تفترقوا حتى تقرروا إعادة هذا المؤتمر وتجعلوه سنّة سنوية، وأن يكون الحديث عليه ملء النوادي وشغل الألْسنة، واجعلوه كالشمس لا تغرب اليوم إلّا تشرق غدًا، ولا تغيب إلّا تترك الشوق والانتظار.
وهاتوا الحديث عن منابع الثقافة الإسلامية في عصركم الحاضر: الأزهر والقرويين والزيتونة ومعاهد الشام والعراق والهند. إنها محتاجة إلى الإصلاح، وإنها مفتقرة إلى التوحيد، وإنها في حاجة إلى التوجيه الصالح.(2/310)
في حفل ختام السنة الدراسية
بمعهد عبد الحميد بن باديس
تقديم عبد الرحمن شيبان
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد أسبوعين كاملين قضاهما أساتذة المعهد الباديسي في امتحان دقيق للتلامذة، ختم ذلكم النشاط العلمي العظيم باحتفال استعرضت فيه نتائج الأعمال الدراسية التي قام بها المعهد خلال السنة الثانية من عمره الزاهر الميمون.
ففي يوم الثلاثاء 18 شعبان 1368 و 14 جوان 1949 ازدان فناء المعهد بأعيان قسنطينة على اختلاف طبقاتهم: ورؤساء شُعَب جمعية العلماء، وعدد من معلّمي مدارسها من مختلف نواحي العمالة القسنطينية، وهيأة مدرسة التربية والتعليم، وجمهرة من طلبة المعهد، وأساتذتهم، يتصدّر الجميع الشيخان الجليلان: فضيلة الأستاذ العربي التبسي مدير المعهد، وسماحة الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء.
افتتح الاحتفال على الساعة العاشرة صباحًا بتلاوة آيات بينات من القرآن الكريم ... وإثر ذلك قام جناب المدير الجليل الشيخ التبسي فرحّب بالحاضرين شاكرا لهم تلبيتهم للدعوة ثم قال: بهذا الاحتفال يكون المعهد قد اجتاز سنتين من عمره، وهي مدّة قصيرة في زمانها، لكنها عامرة ضخمة بنتائجها، فلقد بلغ عدد التلامذة الملتحقين بالمعهد نحو سبعمائة تلميذ ... ثم تعرض الخطيب إلى الأساتذة الذين جلبتهم الإدارة لتدريس العلوم الرياضية والقواعد الصحية ... ثم انتقل الخطيب إلى ذكر ما يجب على الأمة أن تقوم به نحو المعهد الذي هو مؤسستها الدينية والقومية الكبرى ... ثم دعا الخطيب الأمة إلى محاسبة جميع العاملين في الحقل الوطني العام، فقال: يجب على الأمة أن تضرب على يد كلّ من تسوّل له نفسه الأثيمة بأن يعبث بحركاتها العلمية أو السياسية أو الاقتصادية، فكفانا ما قاسينا من كيد الدخالين، وما تجرّعنا من غصص العابثين ...
وختم مدير المعهد خطابه العامر بقوله: انتهى ما أردت أن أقول لكم، وأما ما تأخذونه بين أيديكم فكلام الشيخ، وهو يشير- بكل تواضع وإخلاص- إلى الإمام الثاني للنهضة الإصلاحية، الأستاذ الرَّئِيسُ محمد البشير الابراهيمي، وهنا سرتْ في نفوس الحاضرين "هزّة" انبعثت من روح الأستاذ الرَّئِيسُ إعلانًا منه (بالإلقاء) واستعدادًا من الحاضرين (للتلقّي)، وما هي إلّا لحظة حتى وجدنا أنفسنا سابحة في روض فلسفي أدبي، تحفّ به النضرة والخصوبة من كلّ جانب!
__________
* "البصائر"، العدد 90، 5 سبتمبر 1949م.(2/311)
ثم ماذا؟ لا أكاتمك يا قارئي العزيز، فقد حاولتُ أن ألخص لك ما يمكن لي تلخيصه من كلام الأستاذ الرَّئِيسُ، لكن تحليق روحي وراء المعاني الفلسفية الأدبية السامية التي "يرسلها" الخطيب في كلام فني رائع كبّل يدي وأنساني "مهمتي" كمدوّن لما يجري في الاحتفال، على أني لا أضنّ عليك ببعض ما علق بذهني من تلك الشدور والزهور.
قال حضرة الرَّئِيسُ وهو يتحدّث عن فصل الصيف: ما أغرب فصل الصيف، وما أعظم شأنه بين الفصول! يفاخره الربيع بأنه الفصل الذي تبعث فيه القوّة، وتندفع فيه الحياة، وأنه الفصل الذي تهواه النفوس ويتغنّى به الشعراء، فلا يأتي بشيء! ويفاخره الشتاء بأنه الفصل الذي "تكمن" فيه الحياة، وتستتر فيه القوّة، فلا يأتي بشيء! ويفاخره الخريف بأنه فصل الخزن والادخار، فلا يأتي بشيء! ذلك لأنّ أمر الصيف أبعد من كل ذلك مدى، وأعمق صدى، فهو الفصل الذي يتحاسب فيه العامل والبطال، فيفور العامل بجني الثمرة، جزاء كدّه وجدّه، وينقلب البطال بالحسرة والندامة، جزاء تقاعسه وتكاسله. وأعجب من ذلك أنّ الصيف فصل "حساب" عام لما يجري في العالمين المادي والأدبي على السواء، ففي الصيف يحصد الفلّاح ما بذر في الحقول، وفيه يحصد المعلّم ما بذر في العقول، فكل من الفلاّح والمعلّم زارع، هذا يزرع العلم وذاك يبذر الزرع، وكلاهما يترقّب هذا الفصل، وهنا محلّ السرّ والاستغراب!
ثم أخذ الأستاذ الرَّئِيسُ في شرح المعنى السامي للامتحان فقال: ما الامتحان إلّا استعراض للمواهب، ووزن للجهود، فبواسطته نعرف مكانة التلميذ من الذكاء ومقداره من التحصيل ... إن الأمم تتخذ من الامتحان معنيين رمزيين هما: التوديع والاستقبال، فالامتحان توديع لحياة قديمة هي حياة السنة الدراسية التي مضت، واستقبال لحياة جديدة هي حياة السنة الدراسية التي تأتي. والحياة كلّها ما هي إلا سلسلة من المراحل، كلما قطعتَ مرحلة جاءت أمامك مرحلة أخرى، والعاقل مَن ينظر دومًا إلى المستقبل، ولا يلتفت إلى الماضي إلّا على وجه الاتّعاظ والاعتبار.
ثم كأني بالأستاذ الرَّئِيسُ يريد أن يشرح السرّ في النتائج الباهرة التي أسفر عنها نشاط المعهد فقال: إنّي أشهد الله صادقًا أن النتيجة كانت سارّة جدًّا. لماذا؟ لألها مبنية على الحق والصدق أوّلًا، ولأنها ثانيًا وليدة أمور ثلاثة هي: حزم الإدارة، ونشاط الأساتذة، واجتهاد الطلبة. إن مجموع هذا وذاك هو الذي فاجأنا بهذه النتيجة الباهرة! وحاشا المعهد أن يقدّم للأمة نتيجة مزيفة، زيادة أو نقضا، فإنّ ذلك لا يفعله إلّا الغاشّ الماكر.
ثم تعرّض الرَّئِيسُ إلى فضل المعهد على تكييف الطلبة تكييفًا موحّدًا في الغاية والاتجاه، منسجمًا في المظهر والسلوك، وإنْ كانوا من قبل لفي اختلاف مبين في الأخلاق(2/312)
والميول والأهواء، ومضى في هذا السبيل يقول: وإذا ما وجد بالمعهد شذوذ في بعض الأفكار فإن ذلك مما يرفع من شأنه لأنّ الشذوذ للقواعد العلمية ما هو إلّا دليل على صحّتها. ثم توجّه الرَّئِيسُ بكلمة توجيهية حكيمة إلى رجال التعليم عمومًا فقال: إن أعمالكم أعمال فكرية أدبية، فلا تتركوا للسلطان المادّي مجالًا للتسرّب إلى محيطكم، حتى لا يعبث بإيمانكم، ويحبط جهادكم، بل الواجب أن تكون علاقاتكم بعضكم ببعض، وعلاقاتكم بمهمّتكم الشريفة، علاقات روحية، أسمى ما تكون الروحيات، ظاهرًا وباطنًا، فبذلك تستطيعون أن تؤدّوا رسالتكم العظمى التي هي: بناء الحق وهدم الباطل! ...
ثم ختم الرَّئِيسُ الجليل خطابه، مؤكّدًا ما كان لاحظه فضيلة المدير، من احتياجنا الماسّ إلى العلوم العصرية، فقال: إن لكل عصر سلاحه، فلنتقدم لعصرنا بسلاح عصرنا، فإن العلوم التي عندنا لا تكفي، ولا يقول خلاف ذلك إلّا جهول أو جحود، فإنّ سلفنا الصالح لم يقتصر على العلوم الدينية وحدها، إلّا مع التحقق بأنّ لكل ميدان من ميادين حياتهم، رجاله القائمين بشؤونه، فنحن إذا أردنا الحياة فلا مناص لنا من الجدّ في طلب العلوم التي بها تكون الحياة.(2/313)
محمد خطاب الفرقاني *
كتبنا عن هذا المحسن الفذ كلمة في العدد 86 وفصلنا القول في مبراته للعلم، شكرًا لها بالإظهار وتقديرًا، وحملًا لغيره على الاقتداء به والتأسّي، لا مدحًا لشخصه، فهو
عندنا في منزلة فوق ذلك، ولا استدرارًا للمزيد من برّه، فالرجل جار في البر على طبع أصيل، وأضيع شيء قولك للأسد أشجع، وللنجم اطلع، وإنما نحن قوّامون على العلم، مؤتمنون على حركاته القائمة، فمن البرّ به، البر بمن يحسن إليه، ويعيننا عليه.
وإن هذا العدد الخاص بالمعهد الباديسي لأدنى إلى هذا المحسن الكبير، وأليق بتخليد اسمه، ورفع ذكره، فلم يزل- حفظه الله- يشيد بالمعهد من يوم تأسيسه، ويعدّه- كما هو في الواقع- غرة أعمال جمعية العلماء، ويتعهّده بالدعاية الحسنة، والرعاية النافعة، ويخصّه بالقسط الوافر من مبرّته السنوية، وله- بعد ذلك كله- رأي صحيح في حياته واستمرار سيره يوافق رأينا، وأمل واسع في وسائل ترقيته يطابق أملنا، وستحقّق الأيام ذلك الأمل، فإن وعود المحسنين أمثاله كالقبض باليد.
ولهذا المحسمن البر صلة روحية متينة بإمام النهضة المبرور الأستاذ الرَّئِيسُ عبد الحميد ابن باديس، كانت تحمله على زيارته إلى قسنطينة على بعد الدار، مع صلات من البر للمشاريع كصندوق الطلبة إذ ذاك.
وله كذلك صلة ود واعجاب بمدير المعهد الأستاذ الشيخ العربي التبسي، انضاف إليها حب للمعهد وإعجاب به. فتجشّم زيارة الأستاذ المدير في المعهد في أواخر شهر جوان الماضي، وطاف بأقسام المعهد ورأى بعينه بعض مواقع إحسانه، وتفاوض مع الأستاذ المدير في شؤون المعهد وحاضره ومستقبله، واجتمع المحسن بماله والمحسن بعلمه على القربى في الخلال، والاستعداد للكمال، والامتداد في الآمال. وخرج الزائر الكريم مزهوًا فخورًا بأن
__________
* "البصائر"، العدد 90، السنة الثانية من السلسة الثانية، 3 سبتمبر 1949م. (بدون إمضاء).(2/314)
يكون لوطنه ولقومه من حصون العلم مثل هذا الحصن، وأن تكون له يد في وضع أحجاره وتعمير حجراته، محدثًا عن مشاهدة وعيان، مؤمنًا بأنه أصاب موقع الصنيعة.
ومما فاتنا ذكره في المقال السابق عن هذا المحسن نكتة تتباهى بها الأمم التي بلغت في الإحسان إلى العلم شأوًا مغربًا، وهي أنها لا تقف به عند الحدود الإقليمية الضيّقة، بل تتسع فيه اتساع العلم وتجعله كالمطر، لا يبالي أين وقع، ما دام ينفع حيثما وقع. وأخونا خطاب من ذلك الطراز الذي لم يقف بإحسانه عند حد، فله على الطلبة الجزائريين المهاجرين إلى القرويين آثار من الإحسان على يد الجمعية الجزائرية المكوّنة من إخواننا الذين شرفوا وطنهم الجامع أينما حلّوا، وله على إخوانهم الزيتونيين مثل ذلك، وله على المؤسسات العلمية في الجزائر ما بينّا بعضه للقرّاء في المقال السابق.
إن هذا الصنيع- لعمر الحق- من هذا المحسن لخطوة في التقريب بين الإخوان، والتقارب بين الأوطان، وهي الأمنية التي عمل الصالحون منّا لتحقيقها، فمنهم من قضى نحبه متحسّرًا على فوتها، ومنهم من ينتظر تحققها.
ألا إن الثناء على محمد خطاب ثناء على جميع المحسنين إلى المعهد، لأنه رمزهم الأعلى، فلكل محسن حظه من هذا الثناء وإن لم يذكر اسمه، لأن الإحسان كالحرفة، ومن مدح حرفتك فقد مدحك، وإن لم يعرفك، فلا يظنن إخواننا في الحق وأعواننا على الخير، أننا نسيناهم أو بخسناهم حقّهم.
وسلام على أخينا خطاب في المحسنين، وسلام على إخوان لنا في المغرب وتونس يعملون لنشر العلم متعاونين. ويسعون لتوحيد وسائله وآثاره جاهدين.(2/315)
"البصائر" في سنتها الثالثة *
بهذا العدد دخلت "البصائر" في سنتها الثالثة من طورها الجديد، أو من سلسلتها الثانية مستعينة بالله متوكلة عليه، مستعيذة بالمعوذات من كلامه، تستدفع بها كيد الكائد، وحسد الحاسد، وطغيان المتحكّم، وتستجلب بها من روح الله نفحات تنعش الفكر، وتسدّد القلم، وتمسح عن النفس الكلال والسأم.
تستأنف "البصائر" بهذا العدد مرحلة من مراحل جهادها في سبيل العروبة والإسلام، ولكنها مرحلة متّصلة الأسباب بما قبلها، ملتحمة الحاضر بالماضي، فميادين العمل في جميع المراحل واحدة، والعقيدة التي تعمل لها "البصائر" واحدة، والخصم واحد، وان ظهر في كل ثنية بشبح، وتلوّن في كل مطلع بلون، وحلّ في كل قضية بعون.
قطعت "البصائر" حولين من شبابها نامية مترعرعة- على كثرة ما لقيت من عوائق النمو- في جهاد للظلم مستمر، وجلاد مع المبطلين مستحرّ، بعدما قطعت أحوال صباها في التمرّس على الإقدام، والارتياض على الاقتحام، والتعوّد على الصراع والقراع، وهي في حالي صباها وشبابها ثابتة الخطى، واضحة المنهج، لم تزلّ لها قدم بعد ثبوتها، ولم تزغ لها في الحق بصيرة ولا بصر، ويسّرها الله لما خلقت له، فما نبا لها في معضلة رأي، ولا كبا بها في معترك فكر، ولا هفا لها في فتنة حلم.
واجهت "البصائر" في هاتين السنتين أحداثًا مثيرة، في ميادين كثيرة، فجال فيها هذا القلم جولات موفّقة، ان اخطأه في بعضها النجاح الذي يعرفه الناس، فلم يخطئه الإخلاص الذي يعلمه الله، والصدق الذي يحبّه الله، والنصح الذي يأمر به، وان العامل المخلص ليبوء بنجاحين، أحدهما مضمون، وهو إرضاء الله، وارضاء الضمير الذي هو وازع الله في نفس المؤمن.
__________
* "البصائر"، العدد 91، السنة الثانية من السلسة الثانية، 26 سبتمبر 1949م.(2/316)
عالجت "البصائر" في مستهلّ سنتها الأولى قضية الأحزاب وهي الفتنة التي مزّقت الشمل، وصدعت الوحدة، وأفسدت ما صلح من ضمائر الأمة، ونفخ فيها الاستعمار من روحه، فحاربت الحق بالباطل والحقيقة بالخيال، ووقفت عرضة للتعليم العربي الديني الذي هو الزاد الروحي لهذه الأمة، فبيّنت "البصائر" النهج القاصد، ونصحت المخطئ، وفضحت المريب، واشتدّت لحكمة، ولانت بحكمة، فلما أدّت حق الله، وأمانة النصح، وكلت الأمر إلى الزمن، وتركت سنن الله تجري في أعنتها وما زالت هذه السنن تري المبصرين صدق "البصائر".
وجاءت قضية فلسطين تتابع أدوارها الأخيرة المزعجة، ولفلسطين على كل مسلم حق، وفي عنق كل عربي عهد، فقامت "البصائر" ببعض الواجب على مسلمي الجزائر، وكتبت تلك المقالات التي قلّما كتبت صحيفة مثلها، ونعت على العرب وملوكهم تواكلهم وتخاذلهم واغترارهم، وأنذرتهم سوء المصير، فلما وقعت النكبة التي سجّلت على المسلمين خزي الأبد، ووسمت العرب سمة الذل التي لا تُمْحَى، جفّ الريق والمداد، وأغضينا الجفون على القذى، وفي النفس من الحزن لواعج، وفيها زفرات مكبوتة، لا تكون- إذا انفجرت- من باب: أوسعتهم سبًا وراحوا بالإبل. وإنما تكون صرصرًا عاتية على أمراء العرب وكبرائهم الذين لم يأكلوا تراث العروبة ولكن أضاعوه، ولم يحفظوا مجد الإسلام بل باعوه، وتكون حربًا على هذه الأخلاق الدخيلة على الدم العربي التي هيّأته للذل والعبودية والهوان. وما زالت هذه الزفرات تعتلج وتتصاعد، حتى انبرى كاهن الحي لنقد ملوك العرب وأخلاق العرب بأسلوله الذي رجع بالعربية إلى عهود الجاهلية. فقضى بعض الحق وشفى شيئًا مما في النفس، وقد أخبرنا الكاهن بأن للكهانة فترات قسرية، وأنه سيجول- حين يعاوده نجيه- في أقطار العرب، ويتناول قادتهم وعلماءهم بما هم أهله.
إن تلك العاقبة الشنعاء لقضية فلسطين يعود وزرها على ملوك العرب وحكوماتهم وأحزابهم، وأنهم لا يعذرون فيها ولا يستعتبون، وأن كارثة المشرّدين هي العورة التي لا توارى في الجسم العربي، وهي الفضيحة السوداء في تاريخهم، وأن ويلات اللاجئين كلها مكتوبة في صحائف أولئك القادة والأمراء ... وسيتقاضى من كتبت له الحياة من أولئك اللاجئين ثأرهم من قادة العرب وأمراء العرب. وويل للطاعمين الناعمين من الجياع الظماء ...
أما السنة الثانية التي سلختها "البصائر" بالأمس فقد كانت قضيتها الشاغلة هي: التعليم العربي، وفصل الدين عن الحكومة. وقد حملت "البصائر" في الأولى الحملات الصادقة، بتلك المقالات الفاضحة وأبلت في الثانية بما فيه البلاغ. وما زال هذا القلم بليلًا بمدته، ينتظر انقطاع القواطع ليعود إلى الميدان. وإذا كانت القضيتان واقفتين حيث وقف القلم، فما(2/317)
ذلك بمانعنا من أداء الواجب، ولا مثبطنا عن مواصلة الكفاح. وان لتصامم الحكومة عن كلامنا، وتعاميها عن حقّنا لحدًا تنتهي إليه، وإننا لا نملّ حتى تمل.
...
أصابت هذا القلم فترات في أثناء السنة الماضية سببها كثرة الأعمال المرهقة والرحلات المتواصلة في سبيل المعهد والمدارس، وليس من أسبابها المرض الذي أقعد صاحبه شهرين وزيادة، فلقد كان ذلك المرض أجدى على "البصائر" من العافية والسلامة، ففي أيامه وعلى فراشه كتبت عشر مقالات في معاملة الحكومة للتعليم العربي، حتى سمّاه الأستاذ التبسي "المرض المنتج" وقال لبعض من ثقلت عليه وطأة تلك المقالات من صنائع الحكومة ما معناه: إني لا أرضى للإبراهيمي أن يشاك بشوكة ولكن هذه المقالات حبّبت إلي طول مرضه مع سلامة العاقبة.
تألّم القرّاء لتلك الفترات، فوافتنا رسائلهم تشكو وتعتب، وامتعض لذلك المعجبون باستهلالات "البصائر" من إخواننا الشرقيين، وساورتهم الظنون التي يجسّمها بعد الديار، وانقطاع الأخبار، فكتبوا يسألون يستفسرون. وحرن الكاهن (لا بارك الله فيه) فكأنما كنّا في الفتور على ميعاد، وخلا في "البصائر" ثغر من ديدبانه، وجلا من فرسانها فارس عن ميدانه، ولولا عزمة من "أبي محمد" تنهل ديمة (1)، وتبرق ولافا (2)، ولولا إكباب منه لا يعرف الإغباب، في الأفق الذي خصّص له قلمه، ولولا عزيمة أخرى في العهد الأخير من "أبي عزيز"، لخف وزن "البصائر"، وجف رونقها.
وهذا القلم الذي لا يزدهيه إعجاب المعجبين، لا يقصر- إن شاء الله- عن مدى في خدمة العروبة والإسلام، ما احتضنته الأنامل، وما أرضعته الدُّوِيّ، وأنه ليشكر أولئك القرّاء المتألمين من احتباس جريه، ويقول لهم: إنه لا يسكن إلا ليتحرّك لسان صاحبه في خدمة العلم، وتتحرّك قدماه في ميدان العمل.
...
وجر بعدي عن "البصائر" وقوع هفوات فيها ما كانت لتقع لو كنت قريبًا منها، كما جر ذلك البعد شيوع الأخطاء المطبعية وتصحيح الجريدة نصف الجمال فيها. وأنا أتأسف لذلك وإن كان وقوعه عن غير قصد من القائمين عليها.
__________
1) مطر ديمة: لا يقلع.
2) برق ولاف: متتابع.(2/318)
وسبب ذلك البعد تقصيرًا في حقوق الزميلات المبادلة من التقريظ والإشهار، وفي حقوق بعض الإخوان الذين تلطفوا بإهداء مؤلفاتهم، وإن حقًا علي أن أذكر بالخير مجلات العرفان، والجامعة العربية، والْمُعَلِّم العربي، والتمدّن الإسلامي، والشرق، والعالم العربي، ولواء الإسلام، والمعلم الجديد، والعصبة الأندلسية، والشعاع، والمجلة الإسلامية (بالإنكليزية). أذكر هؤلاء بالخير، لأنهن بادرن فبادلن، وان لم يصلنا من الواحدة في السنة إلا بعض الأعداد، لاختلال في البريد أو اختلاس من عامل مريد. كما أذكر بالعتب مجلات بادلناها فلم تتنزّل للمبادلة، وجاملناها فأبت الإجمال في المعاملة، ومنها مجلة الرسالة المصرية مع إجلالنا لها ولصاحبها، ومجلة المستمع العربي.
ولست أنسى يدًا لإخوان الصدق وأنصار البيان علي، لست أنسى ذلك الأخ النجفي الذي بالغ فوصف "البصائر" بأنها أرقى جريدة في العالم العربي من المحيط إلى الخليج ولا ذلك الأخ البصري النابت في معدن اللسان، الذي أطرى "البصائر" بما أخجل من ذكره، ولا ذلك الأخ المسلم اللاهوري الذي أثنى وأشاد، ولا ذلك العربي البرازيلي الذي قرّظ "البصائر" في جريدة إسبانية اللغة أبلغ تقريظ وصوّر ديباجتها، ولست أنسى الأستاذ محمد علي الطاهر الذي أنصف فيما وصف.
لست أنسى هؤلاء ولا غيرهم من أهل الفضل الذين لم تحضرني حتى نسبهم في هذه اللحظة. أما عالم الشام الأخ الوفي الشيخ محمد بهجة البيطار فإنني أنشر رسالته في هذا العدد وإن طال عليها الأمد لما فيها من تغنٍ بأعمال جمعية العلماء، ولو كنّا من عشّاق الإطراء لنشرنا من رسائل المعجبين ما يغيظ الحاسدين.
...
هذه لمحة دالّة على منزلة "البصائر" عند صاغة الكلام، وهدى الله أبناءنا الكتّاب، وأُدَباءَنَا الغضاب، الذين نحرّكهم إلى الكتابة والقول، فكأنما نحرّك منهم صخرة صفاء. فإذا بضوا بقطرة تجنّوا، فإذا خلوا إلى أنفسهم تمنّوا، ولو عافاهم الله من داء الغرور لعلموا أن الكتابة في "البصائر" سلّم إلى المجد، وذريعة إلى الخلود. ولفهموا أن الأديب الحقّ فيه من السماء مسحة الصحو، وعليه من السماء صبغة الصفو، وأن طبع الأديب من طبع الماء: سائل، جار، متفجّر، فإذا قيل للماء: سل، وللغصن: مل، فقد غبنت الحقائق.
على أن أبناءنا هؤلاء- عفا الله عنهم- ليسوا من ليل الحياة في سحره، ولا من رييع الأدب في زهره، فما ضرّ لو ركبوا الأناة إلى الكمال.(2/319)
رفع إيهام *
في المقال الرابع من مقالات "فصل الدين عن الحكومة" والمنشور بالعدد 88 كلمة حَمَلَها بعض الناس على غير المقصود منها عندنا، وأوَّلوها تأويلًا لم يخطر لنا على بال، ولم يهجس لنا به خاطر.
تلك الكلمة هي قولنا في تعداد الجهات التي تسخّرها الحكومة لإبقاء ما كان على ما كان في القضية الدينية: "وأشياع من الزملاء والمنتدين"، ففسَّروها بجهة نَعُدُّها في المهتدين لا في المعتدين.
والواقع الذي يعلمه منا عالم الغيب والشهادة أن الذي خطر ببالنا حين جرى القلم بتلك الكلمة هو ناد "ممتزج "، وُضع من أول يوم على ظاهر من الجمع، وباطن من التفريق، وعلى مقاصد مبيتة من الشر والكيد للإسلام والمسلمين، فهو مكمن للاستهواء يحمل اسم النادي، كما حمل مسجد الضرار اسم المسجد، وكانت بَلَغَتْنا عنه هنات من الآراء في قضيتنا الدينية، وبلغتنا عن بعض رجاله إعدادات لها، واستعانات ببعض زملائه عليها، وبَلغنا عن بعض ذوي الدخائل السيئة أن له تهافتًا عليه، وتمرّغًا بأعتابه، يبتغي به الوسيلة إلى بلوغ غرضه، وبَلغنا في الأخير أنه أصبح كعالم المثال عند بعض الحكماء المتألهين، يتنزل إليه الرفيع، ويرتفع إليه الوضيع، وما كان كذلك إلّا لأنه وُضع لذلك، فقرَّب ذلك كله من أذهاننا المعنى الذي قصدناه به، ولم ينقص من قيمته عندنا حالته الحاضرة، وانه متردّد بين الحياة والموت، فذلك شأن هذه المشاريع الموضوعة لمعنى: تؤسَّس للضرر والضرار، وتدخر لوقت الحاجة.
__________
* "البصائر"، العدد 91، السنة الثالثة، 26 سبتمر 1949 (بدون إمضاء)، والنادي المقصود هو "النادي الفرنسي- الإسلامي".(2/320)
هذا هو الذي قصدنا، فإن كان في الكلمة خفاء في الدلالة، فليس فيها بعد من السياق، وإنْ كان فيها موهم من الاشتراك اللفظي، فليس لتأويلها شاهد من الواقع.
نرجو من المؤوّلين أن يعلموا أننا ممن يفرق بين الحق والباطل، وأنه لا خصم لنا في القضية الدينية إلّا الحكومة ومَن اتخذته من المضلّين عَضُدا، أمّا العاملون لتحرير الدين، والساعون في إرجاع الحقّ إلى أهله فهم إخواننا وأنصارنا.(2/321)
المعهد والمدارس *
المعهد الباديسي المعمور هو الحجة الناهضة الناطقة بفضل جمعية العلماء، وهو الميثاق المعقود بينها وبين الأمة. فمن قصر في نصيبه من العمل له فعليه التبعة، وعلى هذا تواثق الطرفان تواثقًا ضمنيًّا، أيده واقع الحال وشاهده، حتى أصبح الناطق منا والساكت سواء في لزوم العهد، وعمارة الذمة.
يدخل المعهد في سنته الثالثة من عمره الطويل- إن شاء الله- في الوقت الذي عيناه لافتتاحه في العدد الماضي، وهو يوم 15 أكتوبر وسيواجه هذه السنة الجديدة وتكاليفها الثقيلة، بعزم ثابت، وإيمان متين، مستعينا بالله، واثقًا بالأمة الجزائرية المسلمة، مسورًا بالسور الكلي من عقولها وضمائرها، جادًا في تبليغ الأمانة، وأداء الواجب، محفوفًا بالزمرة المختارة التي صدق فيها الاختيار، وأيده الإلهام من مديره المستكمل لأدوات الإدارة، إلى مشائخه، إلى اللجان العاملة في جميع فروع العمل.
...
يقوم المعهد على قواعد متناسقة، لو اختلت منها واحدة ظهر الخلل في جميعها، الأولى: الإدارة التي وكلت إلى الأستاذ العربي التبسي، فلم توكل إلى وكل.
والثانية: التدريس الذي أسند إلى جماعة قارب بينها العلم ثم قارب بينها العمل، ثم قارب بينها حزم الإدارة وجاذبيتها، حتى أصبحت كالجسم الواحد، تأتمر أعضاؤه لقلب، وتتحرك أجهزته بروح، وتسعى جوارحه بإرادة.
والثالثة: فئة من أعضاء اللجان تعمل احتسابًا لوجه الله ولنشر العلم وخير الوطن.
__________
* "البصائر"، العدد 92، السنة الثالثة من السلسة الثانية، 17 أكتوبر 1949م.(2/322)
والرابعة: تلامذة من أبناء العشائر الجزائرية، أخرجت المدارس الابتدائية جزءًا منها، وأخرجت البوادي والجبال أجزاء أخرى، ولكن حب العلم قارب بين أجسامهم وأرواحهم، وجمع تلك الأبعاض المتباعدة فكون منها هيكلًا، صقله حسن الإدارة فسوى منه جسمًا جميل التقاطيع ملتحم الأجزاء.
والخامسة: كرام محسنون طبعهم الإسلام على الوطنية الصحيحة، وعلى وضع الإحسان في محله، وعلى بذل المال في أحسن وسيلة لنفع الوطن، وهي العلم، وفي هؤلاء
السابق المبرز، واللاحق المتأخر، {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}.
...
والمعهد في سنته الثالثة أحوج ما يكون إلى العون والتأييد، وإلى مضاعفة الجهود، لتكون كل خطوة أوسع وأثبت من سابقتها، وقد كثرت أعماله فكثرت حاجاته، وحيث أنه يعتمد في كل شيء على الأمة فقد تأكدت حقوقه على الأمة، وفي كلمة مديره الأستاذ التبسي التي نشرت في العدد الماضي الخاص بالمعهد، بلاغ لقوم يعقلون.
أما الأسئلة المتوالدة التي تجول في بعض النفوس، وتجري على بعض الألسنة في النظام الذي يرجع إليه المعهد في تعيين مشائخه وموظفيه، والأساس الذي ينبنى عليه ذلك في حاضره ومستقبله- فإننا نجيب أصحابها بأن ماضي المعهد وحاضره بنيا على ما اقتضته الظروف المستعجلة، إذ كان تكوين المعهد من أساسه أعجوبة من أعاجيب الفجاءة وكان أمره دائرًا بين اثنين: كاتب هذه السطور بحكم منصبه في جمعية العلماء ومنزلته في الأمة، والأستاذ التبسي بحكم مقامه العلمي، ومكانته في الشعب، وقيمته العملية عنذ إخوانه العلماء، ومع ضيق دائرة التكوين، فإن كل شيء وضع في محله بلا محاباة ولا اجحاف، وقد صرحنا في أوائل السنة الماضية بأن المعهد مستقل في إدارته، ويجب أن يكون كذلك حتى يبعد عن مهاب الأهواء، وحتى تتمكن إدارته من وضع الأسس الصالحة للمستقبل بالتدريج، وما زلنا نعد من توفيق الله للمعهد ومن آيات عنايته به إسناد إدارته إلى الأستاذ التبسي، فليطمئن المتسائلون والمشفقون على المعهد فإن المشرفين عليه غير غافلين عن هذه النقطة، وان الإدارة ساعية في وضع كل شيء على الأساس الصحيح حتى يعمر المعهد بالكفاءات، ولا يضيع حق ذي حق فيه، وإن الجهاز الحالي من المشائخ المدرسين وغيرهم من الموظفين- كلهم من أعضاء جمعية العلماء الإداريين أو العاملين، وكثير منهم من بواكير الحركة وأولي الأيدي في تسييرها، وكلهم خاضعون لأوامر الجمعية، منفذون لبرامجها، ومعاذ الحق أن تذود الجمعية ذا حق عن حقه، أو تحابي أحدًا دون أحد، أو تبني المعهد- وهو أشرف أعمالها- على أساس من الاحتكار لا يأتي بخير.(2/323)
إن إقرار النظم ليس بالهين، وإننا- إن شاء الله- لا نضيع لحظة في غير طائل، وإن من أوكد أعمالنا إقرار نظام المعهد على قواعد ثابتة، أرسخ مما يقدر المقدرون، فليتأن المستعجلون، وليصبر المتطلعون وليقصر المتشائمون، فإننا للخير عاملون، وفي الإصلاح مجتهدون، وعلى الله متوكلون.
والمدارس
أتمت لجنة التعليم العليا أعمالها في أسابيع متواصلة الأيام بالليالي فوزعت المعلمين على المدارس على صورة تجمع بين مصلحة المعلم والمدرسة والجمعية المحلية، مستندة في ذلك على تجارب السنة الماضية، وعلى الملفات الخاصة بكل مدرسة، وعلى الملاحظات المتجمعة من المفتش ورؤساء الشعَب ورؤساء الجمعيات المشرفة على المدارس، وقد اجتهدت اللجنة ما وسعها الاجتهاد، وقاربت بين النظريات المتباعدة.
ثم عاودت النظر في البرامج واللوائح وأكملت النقائص الموجودة في القديم، وأنشأت نظمًا جديدة تقتضيها الحالة، ولا تستغني عنها الحركة، وعرضت علي أعمالها بعد الانتهاء جزئية جزئية في ثلاث جلسات طويلة، فلاحظت على ما يستحق الملاحظة، ووافقت على جميع الأعمال، وقدمت شكري خالصًا طيبًا للجنة على أعمالها الجليلة.
وإني أعد اللجنة قد وفقت في النتائج التي وصلت إليها، وأنها اجتهدت في النصح، وبالغت في الاحتياط، وجعلت همها الأول خير المدرسة وفائدة التعليم، ولكني- مع ذلك- أجزم بأنه يوجد في المعلمين من لا يرضى بالمكان الذي عين فيه، وفي الجمعيات من لا ترتاح إلى المعلم الذي عين لها، وأنا أقول للجميع قولة الناصح المجرب: إنه ليس في الإمكان، ابدع مما كان، وإن كل شيء كان عن بصيرة، وبعد تقليب للآراء والأنظار، فلا يتهمن مُتَّهِم بسوء القصد أو بسوء الاختيار، وإن الخير كله في التعاون الخالص بين الهيآت العاملة، وليعلم أبناؤنا المعلمون وأعضاء الجمعيات المحلية أن حركتنا قائمة على جهودنا الخاصة وتضحياتنا الخاصة، ونحن شركاء في هذا الواجب وليس واحد منا غريبًا عن الدار، أو أجيرًا عند الجار، وإنما هي واجبات نشترك في أدائها، فمن قصر فعليه وزر تقصيره.
وأنا- فقد كنت أرثي وما زلت لحال أبنائي المعلمين المغتربين في قضيتي السكني والأجرة، وما زلت أجاهد في سبيلهم، وأحمل الجمعيات المحلية تبعة التقصير، وسأقوم بنفسي هذه السنة في هذا السبيل وأزيح العلل ما استطعت، ورجائي الأكيد من أبنائي جميعًا أن يعينوني- على أنفسهم- كل بما يملك.
وستنشر "البصائر" في هذا العدد ما يمكن نشره، وتؤخر بقية أعمال اللجنة إلى العدد الخاص بالمدارس، وقد تأخر لاعتبارات ضرورية.(2/324)
نفحات من الشعر الجزائري الحديث*
مقدمة كتبها الشيخ لقصيدة "تحية الحجاج" للشاعر محمد العيد
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تلم بشاعر الشمال الأفريقي محمد العيد آل خليفة في هذا العهد الأخير نوبة نفسية غريبة عن شعراء المادة، وما هو منهم ولا هم منه، وكان من آثار هذه النوبة في نفسه ايثاره للعزلة عن الناس، وهجره لقول الشعر، وكان من ثمراتها المرة للأمة حرمانها من صوت ذلك الطائر الغرد، وهي تخشى أن تحتد هذه النوبة وتشتد، فتنعكس إلى نزعة صوفية جارفة تقضي على تلك الشاعرية الجياشة بكل شاردة من الحكم الفياضة بكل بديع من القول.
حرام أن تحرم الجزائر من نفثات شاعرها الفذ، وحرام أن يبقى شعر ذلك الشاعر الفحل غير مدون ولا مطبوع، ولكن من المسؤول عن ذلك؟ المسؤول الأول هو الشاعر نفسه، فقد أردناه على جمع شعره، وكفيناه مئونة التصحيح والتعليق والانفاق، فأبى وتصعب، وتفنن العذر منه وتشعب، وما ذلك في نظرنا الا أثر من آثار تلك الحالة النفسية التي أشرنا إليها.
وهذه قصيدة جديدة مملوءة بالحكم، ترسلها قريحة الشاعر العبقري، في الوقت الذي يرجع فيه الحجاج من الحجاز، يهنيء فيها المستحقين بقبول التوبة وسلامة الأوبة، ويتخلص إلى أفانين من الحكمة والوصف.
وليس كل الحجاج يستحقون هذه التهنئة، ففيهم من حج زورا، وعمل منزورًا، ورجع موزورًا، وأهدى بدنة فكأنما قرب زرزورا، ولكن التجليات التي غمرت الشاعر ففاضت قريحته بهذه القصيدة، هي التجليات الزمنية، فهذا الوقت هو زمن رجوع الحجاج إلى مواطنهم، بلا فرق بين المشرق منهم وبين المغرب، ولا فرق بين البر والفاجر، فهنأ
__________
* "البصائر"، العدد 94، السنة الثالثة من السلسة الثانية، 7 نوفمبر 1949 (بدون إمضاء).(2/325)
الحجاج ولم يهنيء العير، ونوى أصحاب الجنة ولم ينو أصحاب السعير، والدعوات المرسلة تطير إلى أهليها، والصفات المطلقة تتوزع على مستحقيها، ولا جناح على الداعي ولا على الواصف.
وأن عسى أن تنجلي هذه النوبة فيعود محمد العيد إلى عهد:
………………………… استوح شعرك من حنايا الأضلع
وإلى عهد:
………………………… حي حفلا كزخرف الروض عني
فمتى تعود، تلك العهود**.
__________
** نشرت القصيدة في نفس العدد عقب المقدمة، وهي منشورة في "ديوان محمد العيد" (الشركة الوطنية للنشر والتوزج، الجزائر، 1967) [ص:194].(2/326)
برقية احتجاج *
ننشر هنا برقية الاحتجاج التي بعثت بها جمعية العلماء إلى المراجع العليا للسلطات الفرنسية على ما عومل به أحد أعضائها المحترمين بمدينة "تبسّة"، وهو الشيخ عيسى سلطاني، وهذا نصّ البرقية:
رئيس الجمهورية الفرنسية
رئيس الوزارة
ونوير الداخلية
ونوير العدلية
جاك ديكلو، نائب رئيس المجلس الوطني
شارل الويس رئيس الجماعة الاشتراكية
والي الجزائر العام
عامل قسنطينة
ترفع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين احتجاجها على المعاملة الجائرة التي عومل بها أحد أعضائها من ذوي المكانة الرفيعة في التعليم الديني الإسلامي بإفريقيا الشمالية، إذْ سامه سوء العذاب "كوميسار" الدرك بمدينة تبسّة وأهين لديه إهانة شنيعة.
وحيث ان جمعية العلماء تحيط حضرتكم علمًا بهذه الأعمال الوحشية التي تعد من طرف "الكوميسار" حملة مدبّرة ضدّ سمعة الإسلام وتعليمه، فهي تلفت نظركم إلى أن هذا الجور لا يتلاءم في شيء مع احترام الشخصية الإنسانية التى تعهد به الدستور الفرنسي، والتصريح العالمي لحقوق الإنسان.
رئيس جميعة العلماء
محمد البشير الإبراهيمي
__________
* "البصائر"، العدد 94، السنة الثالثة، 7 نوفمبر 1949.(2/327)
الفضيل الورتلاني
- 1 - *
الأستاذ الفضيل الورتلاني ممّن أنبتتْهم هذه النهضة الجزائرية المباركة نباتًا حسنًا، فعمل بإخلاص في ميادين الجهاد في الجزائر ثم نَبَتْ به الديار، فنزل مصر، وجال في ربوع الشرق كلها جولات، رفعت صوت الجزائر عاليا في تلك الربوع، وكوّنتْ منه زعيمًا جزائريًا بحق، وشخصية بارزة لها مقامها المعلوم بين رجالات الشرق كلهم، ولقد حزّ في نفوس شرذمة من المغرضين في الجزائر ما أحرزه الورتلاني من النجاح في الأوساط السياسية بالشرق، فراحوا يتقوّلون عليه الأقاويل ويتهمونه في إخلاصه وجهاده للنيل منه ومن جمعية العلماء المسلمين التي يحاولون ثلبها في مفخرة من مفاخرها، والتنقيص من مقامها في شخص أحد أبنائها البررة.
وقد فضح الله هذه الطائفة المغرضة وأضلّ سعيها بهذا المقال القيّم البليغ الذي بعث به
إلينا مدير اللجنة التنفيذية للحزب الحرّ الدستوري التونسي، الأستاذ محي الدين القليبي، الزعيم التونسي المعروف.
__________
* "البصائر"، العدد 97، السنة الثالثة، 5 ديسمبر 1949.(2/328)
- 2 - *
الفضيل الورتلاني نشأ نشأة الصبا والحداثة في أحضان الفطرة الطاهرة وفي أحضان الجبال الشماء، فاكتسب من الأولى قوّة الروح، وصفاء العقيدة والصلابة في الدين، ومن الثانية قوّة الجسم، ووثاقة التركيب، وسلامة الحواس، ثم نشأ نشأة الشباب في أحضان جمعية العلماء، ففتح عينيه على الميادين العامرة بأبطالها، وفتح أذنيه على الأصوات المجلجلة بالعلم والإصلاح، من دروس عامرة بحقائق التنزيل والحكم النبوية، ومحاضرات بليغة في التاريخ الإسلامي والأدب العربي، تفيض بالبيان الساحر وتتدفق بالبلاغة الرائعة، فنشأ مؤمنا متين العقيدة، حرًا عميق الفكر، صريحًا لاذع الصراحة، جريء اللسان على كلمة الحق، شجاع الرأي إذا جمجمت الآراء وتخافتت، غيورًا على وطنه غيرته على دينه، إذن فهو معدود من بواكير هذه النهضة المباركة في الجزائر، رافقها في جميع مراحلها وشارك- على فتوته- الشيوخ المحنكين في بنائها.
لازم إمام النهضة عبد الحميد بن باديس سنوات، فتأثر بمنازعه في الخطابة ومواقفه في حرب الضلال، وسقيت ملكته بغيث ذلك البيان الهامي فأصبح فارس منابر، وحضر اجتماعات جمعية العلماء العامة والخاصة، فاكتسب منها الصراحة في الرأي، والجراءة في النقد، والاحترام للمبادىء لا للأشخاص ثم لابس السياسيين، وغشى مجتمعاتهم فرأى من زيغ العقيدة وزيف الوطنية وانحلال الأخلاق- نقيض ما رأى من رجال جمعية العلماء، فثار عليهم ودهوا منه بباقعة، وكان الأستاذ الرَّئِيسُ يقدر له- وهو في الحداثة- عواقب الرجال، ويتخيل فيه مخايل الأبطال، ويقول له كلما رأى منه مخيلة صدق: (لمثل هذا كنت أحسيك الحسا).
__________
* "البصائر"، العدد 115، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 6 مارس 1950م.(2/329)
ثم جاوز البحر سنة 36 ميلادية، بموافقة من الأستاذ الرَّئِيسُ ومني ليرد على الضالين من أبناء قومه هداية الإسلام، وليرد على الناشئين هناك من أبنائهم ما أضاعه الوسط من دين ولغة، وليزرع في قلوب الآباء والأبناء معًا حب الدين والجنس واللغة والوطن، وليعيد إلى الجزائر- بذلك كله- قلوبًا تنكرت لها، وأفئدة هوت إلى غيرها، وغراسًا أظمأه الاستعمار في مغارسه فالتمس الريّ والنماء في غيرها. فتتبعهم الفضيل في مطارح اغترابهم وجمع شملهم على الدين، وقلوبهم على التعارف والأخوة، وجمع أبناءهم على تعلم العربية، وأسس في باريز وضواحيها بضعة عشر ناديًا، عمرها هو ورفاقه الذين أمدته بهم جمعية العلماء بدروس التذكير للآباء والتعليم للأبناء والمحاضرات الجامعة في الأخلاق والحياة، ونجح الفضيل في أعماله كلها نجاحًا عاد على المسلمين في فرنسا بالخير والبركة وعاد على جمعية العلماء بالسمعة العطرة والدعاية الطيبة، وكان في تلك المدة كلها متصل الأسباب بجمعية العلماء مراسلة واستمدادًا وإشارة واستشارة، وقد رجع في أثنائها إلى الجزائر، كلما انعقد اجتماع أو حزب أمر، وما زلت أذكر حضوره في اجتماع الجمعية صيف سنة 37 وحضوره على إثر ذلك افتتاح مدرسة "دار الحديث" بمدينة تلمسان، وخطبته، في ذلك الحشد الذي ضم عشرين ألفًا بعد سماعه لقصيدة الشاعر محمد العيد، وحملته الجارفة على التجنس والمتجنسين.
وفي سنة 38 فيما أذكر هاجر إلى مصر مستزيدًا من العلم والتجارب، مستجمعًا قوّته للعمل في ميدان أوسع وجو أصفى: وكانت له المواقف المشهودة والرحلات الموفقة إلى الأقطار العربية، وكان في تلك المدة كلها متصلًا بنا على قدر ما تسمح به ظروف الحرب، إلى أن وقعت حادثة اليمن، وشاءت الأقدار أن يكون ضيفًا عليها، وأن تكون في أول اتصالاته بها، وشاءت ألْسِنَة الشر وطبائع السوء أن تحشره في زمرة المتهمين بتدبيرها، وشاءت فئات من مرضى الحسد وصرعى الغل والحقد أن يتخذوا من تلك التهمة المتهافتة الشواهد ذريعة للنيل من سمعته والقدح في كرامته وشرفه، ثلة من المشارقة، وقليل من المغاربة، وكنا سمعنا أخبار الحادثة في حينها وخبر الاتهام، فلم نستطع- مع جزمنا بكذبه- دفعه بالقول ولا بالفعل، وسمعنا بعد ذلك ما لاكه أولئك الحسدة ورددوه، فلم نشأ أن نوسع فريتهم نقضًا ودحضًا لعلمنا اليقين بأسباب الحادثة، وعلل الاتهام، وبالمحرك لهؤلاء الناعقين، ولمعرفتنا بالفضيل وظواهره وخوافيه، وادّخرنا رأينا وقوّتنا ودفاعنا إلى الفرص المناسبة.
ولكن الوفاء توأم الصدق، والحق يفجأ أنصاره بالعجائب، فقد أراد الله أن يلجم المتخرصين وأن يجر ألسنتهم بوفيين من اخوان الصدق وأخدان الحق، وأن تكون "البصائر" هي مجلى هذه الحقيقة، فرماهم بالأمس بكلمة الأستاذ محيي الدين القليبي التي كشف فيها(2/330)
عن بعض الحقيقة كشف الخبير المطلع، ورماهم اليوم بهذه المقالة التي نقدمها بهذه الكلمات، وهي من رجل عبقري لا يفري أحد فريه في هذا الموضوع، وهو الأستاذ رشيد أمين سنو، صاحب جريدة "بريد اليوم" البيروتية، وقد كان موظفًا مؤتمنًا في حكومة اليمن، ووقعت الحادثة وهو بها، فشاهد من حقائقها وآثارها، وعلم من أسبابها وملابساتها وأسرارها ما لم يشهده ولم يعلمه واحد ممن كتب عن الحادثة رجمًا بالغيب، أو رواية عن ضنين، أو صُدُورًا عن هوى.
و"البصائر" تقدم تعريفًا موجزًا بهذا الرجل قبل كلمته ليعلم قراؤها في المغارب من هو هذا الرجل، فيزدادوا ثقة بآرائه، وتأكدًا من صدق روايته، وإيمانًا بمكانته وكفاءته، زيادة عما يجب علينا من عرفان أقدار رجالنا، ومن تعميم التعارف بين أبناء الضاد أينما كانوا.
الأستاذ الكاتب العالم رشيد أمين سنو من عائلة سنو الشهيرة في لبنان، هو اليوم المدير العام للشركة العربية للنشر والتوزيع، كاتب وأديب وشاعر يحمل شهادة الليسانس في الآداب، وتقلب في وظائف كبيرة عديدة، كان أستاذًا للفلسفة في الكلية العلمانية في "طرطوس"، ثم مديرًا لكلية المقاصد الإسلامية في "صيدا" ثم مفتشًا عامًا في أيام الحرب للتموين في سوريا ولبنان، ثم رئيسًا لتحرير جريدة "بريد اليوم" اليومية، ثم تولى بناء على طلب حكومة اليمن وظيفة المدير العام للإذاعة والنشر في اليمن حيث قضى سنة كاملة، ثم أوفدته الحكومة اليمنية في مهمة خاصة في بعض الأقطار العربية في صيف سنة 1947، وبعد إنجاز مهمته عاد للمرة الثانية إلى اليمن، وظل هنالك حتى وقعت الثورة ولم يتركها إلا بعد الثورة بنحو شهرين، وكانت صلته بالأستاذ الفضيل الورتلاني طول هذه المدة وثيقة مستمرة (1).
__________
ا) نشرت كلمة الأستاذ رشيد سنو بنفس العدد من "البصائر" عقب كلمة الشيخ.(2/331)
الأستاذ علي الحمامي
- 1 - *
كانت "البصائر" في الأسبوع الماضي تتأهب للصدور حين بلغها نبأ الفاجعة، فأسرع الأستاذ أبو محمد، وكتب كلمة حزينة صور فيها وقع المصاب الجلل في القلوب، وأثر الخطب الداهم في النفوس، وأودعها شعور هذا الشمال بالكارثة الفادحة التي كان من شهدائها الأبرار ثلاثة من أبطال المغرب العربي، وهم الأساتذة: علي الحمامي والدكتور ثامر، ومحمد بن عبود سقطوا ثلاثتهم بجنب ثلة من رجال الباكستان وممثلي الأقطار الإسلامية في ذلك المؤتمر الاقتصادي الكبير الذي جلا صورًا صادقة لعظمة الباكستان وجوانب نهضتها الاقتصادية الواسعة، ورسم للعالم الإسلامي ما إن تمسك به نجا من خطر الغزو الاقتصادي الأجنبي، فلم يخش بخسًا ولا رهقًا.
واليوم نعود وكلنا أسف وحسرة فننشر هنا كلمة ثانية للأستاذ محي الدين القليبي بعث بها إلينا كتحليل واف لحياة أحد الشهداء الثلاثة، وهو الأستاذ علي الحمامي الجزائري. وإن الحادثة على فداحتها وعظم هولها لعنوان في نظرنا على الفجر الجديد، لأنها إن حزت في نفوسنا وهزت هذا العالم الإسلامي هزة عنيفة في مثل هذا الظرف العصيب فقد دلت على أننا قد ابتدأنا نموت لنحيا، وودعنا عهدًا مظلمًا، لم نكن فيه أحياء ولا أمواتًا لنستقبل عهدًا جديدًا تسير الأمجاد في ركابه وتشرق عبقرية الشرق في جوانبه.
وإني لأذكر بهذا الصدد كلمة لأستاذنا الأكبر عبد الحميد بن باديس باني النهضة الجزائرية قالها بمحضر جماعة من الشباب، وهو يعلق على قول من قال في المجلس:
__________
* مقدمة كتبها الشيخ لمقال عن الأستاذ الحمامي بقلم الزعيم التونسي محي الدين القليبي، "البصائر"، العدد 100، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 26 ديسير 1949، (بدون إمضاء).(2/332)
"إن الغرب يخاطر كثيرًا بحياة أبنانه" وتلك هي: "ما الحياة إلّا في المخاطرة، ولن يحيا هذا الشرق حتى يركب الأهوال، ويخاطر كالغرب، وإذا ما جاء هذا اليوم فأيقنوا أن الغرب سيقف أمام الشرق وقفة إجلال وإكبار، ويومئذ يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه".
وشاء الله أن تكون كارثة الطيران هذه خاتمة المؤتمر المحزنة لتزيد في توحيد آلام هذا الشرق وآماله، وتمكن له في جمع أوصاله وضم أجزائه وأطرافه.
إذ لا شيء يبني الأمم وسوق الشعوب إلى غاياتها السامية في الحياة كالآلام المشتركة والنهضات المحفوفة بالأخطار.
وبعد فإن "البصائر" لَتحي للمرة الثانية أرواح هؤلاء الشهداء، وتتقدم بتعازيها الخالصة أولًا وأخيرًا إلى أمة الباكستان الشقيقة والعالم الإسلامي الذي أثبت وحدته في هذا المؤتمر، وحقق فكرة الجامعة الإسلامية رغم المفترين الذين يقولون باستحالتها حسدًا من عند أنفسهم.
ورحم الله شهداءنا جميعًا، وهدى شبابنا إلى الاستنارة بتضحياتهم والسير على ضوء بطولتهم وجهادهم حتى يتمّوا ما بدأوا ويشيدوا ما رفعوا من قواعد الجامعة الإسلامية.(2/333)
- 2 - *
في تشييع جثمان الفقيد علي الحمّامي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أيها الاخوان ... أيها الشبّان:
إن هذا التابوت الموضوع بين أيديكم لا يحمل جثمان شخص، وإنما يحمل قطعة من الوطن الجزائري فُصِلتْ عنه ثم رُدَّتْ إليه ... قطعة من الوطن الجزائري فَصَلَها عنه ظلم البشر، ثم رَدَّها إليه عدل الله.
إن الجواهر لَتُذكر بمعادنها، فإذا ذُكر اللؤلؤ ذكرت عُمَان، وإذا ذُكر الياقوت ذكرت سيلان، وإذا ذكرت الأمم ذخائرها من الرجال، وكرائمها من العقول والأذهان، أبت الأوطان إلّا أن تأخذ حظها من تشريف النسبة فقيل فلان الفلاني ... وفلان الفلاني ...
أيها الاخوان! إن الفرار من الظلم والتغرب في سبيل الحريّة طبيعة قديمة في النفوس الكريمة، وما هو فرار ولا هي غربة، وإنما هو الحق يفرّ مغلوبًا ليكر غالبًا، ويصدر مطلوبًا لِيَردَ طالبًا، سنة الله في الحرية- وهي الحق كله- ظهرت في إبراهيم حين هاجر من بابل إلى كنعان ليغرس بذور النبوة في فلسطين والحجاز، وظهرت في موسى فَفَرَّ من مصر إلى مدين ليعود إلى فرعون بآيات ربّه، وظهرت في محمد - صلى الله عليه وسلم - فهاجر من مكة إلى يثرب ليرجع إلى مكّة مجتمع القوّة مشدود الأسر.
أيها الشبّان! إن في تاريخكم لَصحائف وضّاءة بحياة المغامرين في طلب الحريّة أو في طلب الملك والمجد والسيادة، فالْتمسوها في الجاهلية من امرئ القيس وعروة الرحال، وخذوها في الإسلام من حياة صقر قريش وإدريس بن عبد الله وأبي عبد الله الشيعي، واطلبوا معاني البطولة والتضحية والإيثار من سير أبطالكم تجدوا في كل مفخرة إمامًا.
__________
* "البصائر"، العدد 102، السنة الثالثة، 9 جانفي 1950، ضمن مقال الأستاذ باعزيز بن عمر.(2/334)
الزميل المنستيري *
للزميل الكريم الأخ محمد المنصف المنستيري صاحب جريدة "الإرادة" مكانة ممتازة في نفوسنا، لعل من موجباتها تعارفًا روحانيًّا أظهرت المواقف آثاره، وتقاربًا فكريًّا غرست الأقلام أشجاره، ثم زكت ثماره، وفنًا كتابيًّا وخزه البيان وأشاع اخضراره، لذلك كله كانت مصيبته بفقد ولده مصيبة مشتركة بيننا، حملنا معه حزنها وألمها والامتعاض لها، كما يمتعض الصديق للمكروه يصيب صديقه، والأخ للسوء يمس أخاه.
ونحن نتقدم إلى الأخ الكريم- على هذا البساط- بالتعزية القلبية، داعين لأخوته بالصبر، معتقدين أن في إيمانه ومتانة عقيدته وازعا عن الجزع الذي يذهب بالأجر، وأن في تمرسه بالزمان وأهله ما يخفف وقع إحدى مصائب الدهر.
وعزاء للأخ الكريم ولنا جميعًا عن المصيبة الخاصة، بهذه المصائب العامة التي نخوض لججها، وبهذه القضايا الوطنية التي نسوق بالحق حججها.
__________
* "البصائر"، العدد 106، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 6 فيفرى 1950م.(2/335)
أقطاب الفرقة القومية المصرية *
في مركز جمعية العلماء
(ملخص بقلم باعزيز بن عمر)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
زار بعض أقطاب الفرقة يوم الأربعاء14 فيفري 1950، مركز جمعية العلماء بالعاصمة يتقدمهم الأستاذان الكبيران مدير الفرقة يوسف بك وهبي، ومديرها الفني زكي طليمات والأستاذ أحمد علام، والأستاذ فاخر فاخر، فرحب بهم الأستاذ الرَّئِيسُ محمد البشير الإبراهيمي ترحيب الروض بالطل، في مجمع حافل بالأدباء والشعراء من معلمي المدارس وأنصار جمعية العلماء، وحي في أشخاصهم الكريمة مصر العالمة الناهضة تحية أودعها من شريف المعاني وجميل الأدب وعميق الحب لمصر ما نقلنا إلى مغانيها الجميلة، وجعلنا نتنقل في ربوعها نتنسم فيها أخبار الجدود ممن لا يزال ذكرهم يعطر المجالس.
ولقد تصرف الأستاذ الرَّئِيسُ في معنى التحية وجاء بالمرقص والمطرب وجال بنا في سماء البلاغة جولة بعيدة، وذكر أن العرب تفننوا في أنواع التحيات حتى كادوا يجعلونها كلها مادية إلى أن جاء الإسلام فلطف التحية، وخلصها من أدران المادة والعظمة الطاغيتين على العالم يومئذ، لأن الإسلام دين روحي يضع الموازين القسط، ولا يعطي للأجسام إلّا المجال الضيق، وأشار إلى تصرف المعري وابن الرومي في معنى التحية وساق شواهد رائعة على ذلك، إلى أن قال: أما تحيتنا اليوم للضيوف الكرام الذين لا أسميهم ضيوفًا إلا مجازًا، فهي تحية العلم للفن، وتحية الروح للروح، تقدمها إليكم هذه النخبة من رجال جمعية العلماء التي تعمل على إكساء هذا الوطن روحًا وبدنًا، وإنهم جميعهم ليحيون اليوم مصر فيكم، وهنا وجه كلمة عتاب إلى مصر قائلًا: إن لنا على مصر حقوقًا، ولها علينا حق واحد.
لها علينا الزعامة في الأدب والفن، والإمامة في العلم والمعرفة، ولنا عليها حق الأخ الصغير، أخذ باليد إلى الرشد، وتربية تفضي إلى السعادة، ورعاية شاملة للخير والمصلحة، ولنا عليها حق الجار ذي القربى حفاظ وحماية وإحسان.
__________
* "البصائر"، العدد 108، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 20 فيفري 1950م.(2/336)
فهل قمنا نحن بما علينا من حق؟ وهل قامت مصر بما عليها من حقوق؟
أما نحن فقد قمنا بما يقوم به الطفل البريء الساذج: محبة واحترام وتقليد وائتمام، واتكلنا بعد ذلك على الله وعلى أنفسنا.
وأما مصر فنقول آسفين أنها لم تعرفنا كما يجب أن تعرفنا ولم ترع لنا ماضينا وتاريخنا المتصل بها، إلى غير هذا- من روائع الأستاذ التي وردت في خطابه البليغ الذي لا يقوى هذا القلم على أن يمتع القراء بكل شوارده وآياته البينات، فاكتفى بهذا الذي وعته الذاكرة من ألفاظه ومعانيه.
وتقدم بعد الأستاذ الرَّئِيسُ الضيف الكريم الأستاذ زكي طليمات مدير الفرقة الفني فرد التحية، وكانت تعبيرًا صادقًا عن أثر ما شاهده في الجزائر وتصويرًا لنهضة مصر وأخذها بأسباب الحياة في جميع الميادين، وقد أفرغ إحساسه هذا في قوله: "أحس بأني في محراب مقدس يشع فيه نور الإسلام وناره، لأن للإسلام نورًا ونارًا، فنوره للمبصرين المهتدين، وناره للجاحدين والمناوئين، كما أني سعيد إذ أجد نفسي بجوار هذا الأستاذ العظيم، وإني لأعتبره حقًا رئيس الجزائر ومحيي نهضتها العلمية، وإني أتمنى لو تتاح لي الفرص فأترك أعمالي كلها وأُلَازِمُه ملازمة التلميذ لأستفيد من علومه وآدابه وأوصيكم أن تكونوا جميعًا أعوانه المخلصين وأنصاره الأمناء".
وقفى عليه زميله الأستاذ وهبي مدير الفرقة فقال: "إني أحدثكم بصفتي فنانًا قبل كل شيء، وأشارككم في المهنة، فأنتم تعلمون في المدارس، ونحن نعلم في المسارح، وما أعظم مهنة التعليم فهل أنتم تشرفوننا بانتسابنا إليكم في هذا التعليم؟ إلى أن قال: سنعود إلى مصر، وسنكون هناك أبواقًا لكم ولنهضتكم".
وختم قائلًا: "فلو استطاع النيل أن يشق طريقه في الصحارى إليكم لفعل، ولو أمكن للأهرام أن تنتقل لانتقلت وانحنت ومن ورائها أبو الهول، أمامكم، ولكنه بعث بهذا العبد لينحني أمامكم".
ثم قام الشيخ أحمد سحنون فحياهم بقصيدة بلغت من الرقة منتهاها، وشارك الشيخ بيوض بكلمة عن تطلع الصحراء إلى كل جديد في مصر، وحرصها على الاهتداء بأنوار نهضتها القوية، كما شارك الشيخ طاهر البكاري بكلمة قدم بها تأليفه المدرسي الذي قدمه كهدية للضيوف الكرام.
وتناول المحتفلون بعد هذا الغذاء الفكري كؤوس الشاي والحلوى في جو من الأخوة الشاملة وأحاديث الأدب العالي والفن الرفيع.(2/337)
كتاب "نقرأ ونكتب" *
نحن في حاجة شديدة إلى الكتب المدرسية الابتدائية لمدارسنا العربية الحرّة، وفي عجز ظاهر عن استيراد المقادير اللازمة لها من مصر، لأسباب كثيرة.
ويسرّنا من أبنائنا المعلّمين في هذه المدارس أن يشاركونا في تخفيف هذا العبء، وفي سدّ جانب من هذا النقص، وأن يقوموا باستغلال تجاربهم الخاصة في التعليم وجهودهم المفيدة فيه، فيُخرجوها كتبًا مدرسية، بعد أن كانت تلقينًا.
أمنية كنا نتمناها على أبنائنا المعلمين، وفيهم الكفء الذي تمّت تجاربه، وشارفت النضج مواهبه، وقد قام ولدانا الشيخ الطاهر بكارى- مدير المدرسة الصادقية بسلام باي من العاصمة- ورفيقه الشيخ المولود طياب بتحقيق جزء من هذه الأمنية، إذْ وضعا كتابًا صغيرًا لتعليم "ألف باء"، وزيناه بصور لطيفة، وعنوناه بجملتين "نقرأ ونكتب" ليوقظا باسم الكتاب في نفس التلميذ الصغير معنى القراءة والكتابة من أول يوم.
والكتاب محاولة أولى، نرجو أن تكون مشجعة للمؤلفين ولاخوانهم المعلّمين بمدارس جمعية العلماء على متابعة التأليف المدرسي، ومراعاة الإتقان فيه، وبنائه على التجارب من جهتهم، والاستعدادات من جهة تلامذتهم، فنكون قد استفدنا فائدتين: التحقيق لتوحيد التعليم كما نرجوه ونعمل له، والاستغناء عن كثير ممّا نحتاج إليه اليوم فلا نجده.
وفي الكتاب تسامح في بعض الألفاظ والتراكيب، وخروج في بعض الأناشيد عن الموازين المألوفة، نرجو أن يتداركهما المؤلفان في الطبعة الثانية، وعذرهما أنها محاولة أولى كما قلنا.
فعلى مديري المدارس أن يعتمدوا هذا الكتاب للأقسام الأولية.
__________
* "البصائر"، العدد 109، السنة الثالثة، 27 فيفري 1950.(2/338)
بيان حقيقة ورفع إيهام ... *
قالت جريدة "الزهرة" التونسية في عدد يوم الثلاثاء 18 جمادى الأولى 1369، (رقم 13003) ما لفظه: "وصل إلى العاصمة عمان الشيخ الطيب العقبي من جمعية العلماء الجزائريين إلخ ... ".
وفي هذا الكلام شيء مخالف للحقيقة يجب تبيينه، لأنه يوهم القرّاء أن الشيخ الطيب العقبي ما دام من جمعية العلماء فهو موفد منها، ومتكلّم باسمها، وعامل في هذه القضية بمبدئها. والحقيقة أن الشيخ الطيب العقبي ليس من جمعية العلماء ولا عاملًا باسمها، لأنه استعفى من عضويتها سنة 1938 ميلادية، ومن ذلك الحين إلى الآن وهو يعمل باسمه الخاص، وعلى عهدته الخاصة.
وهل تجهل جريدة "الزهرة" هذه الحقيقة؟ نحن نعتقد أنها لا تجهلها، ونعتقد أنه لو كان العقبي من جمعية العلماء حقًا لَمَا ذكرت اسمه، لأنها لم تتعوّد ذكر الجمعية ورجالها إلا فيما يشبه هذا المقام ...
أما كونه عضوًا في هيأة الدفاع عن فلسطين كما ذكرت "الزهرة"، فالحقيقة أنه كان عضوًا في لجنة إعانة فلسطين التي تكوّنت بدافع الغيرة الإسلامية، والوطنية الجامعة، غير مختصة بجمعية العلماء، بل كان أمين مالها، وقد قام بواجبه فيها، ولكن تلك اللجنة أتمّتْ أعمالها بشرف وأمانة، وأبلغتْ ما جمعتْه من مال إلى مأمنه، وانتهت وظيفتها الأساسية بسبب ما تمّ من تغييرات في وضعية فلسطين.
__________
* كتب الشيخ هذا المقال في شهر مارس 1950، قصد نشره ثم عدل عن ذلك وعوضه بمقال أطول عنوانه (لجنة فرانس- إسلام) الذي نشر في حلقتين في شهر أفريل 1950 - انظر: آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الجزء الثالث، ص 328 - 332، والمستشرق المقصود هو لويس ماسينيون.(2/339)
وأما هيأة "فرنسا- الإسلام- التي ذكرت "الزهرة" أن العقبي مبعوث من طرفها فإننا لا نعرفها، ولا نؤمن بها، فإن كانت موجودة فهي لِشَرّ الإسلام لا لخيره، وللإضرار به لا لنفعه، وإننا نعتقد أن فرنسا أكبر عدوّ للإسلام، وهل يأتي من العدوّ خير؟
إن هذه الهيأة- التي لم نتبيّن إلى الآن حقيقتها- "تدجيلة" جديدة لم يَخْلُ زَمنٌ من أشباهها، ابتكرها بعض المستشرقين الذين يجعلون الاستشراق ذريعة لاستِهْوَاء المفتونين من الشرقيين، ويُغَطّون لهم به ضراوة الحَجّاج، بطراوة "الحَلّاج"، ويبكون لهم على لَيْلَاهم، وهم الذين قتلوها.
أين كان هذا المستشرق يوم شاركت دولته في جريمة فلسطين، وإخراج الإسلام منها، بموافقتها على التقسيم، وبمساعداتها المفضوحة لليهود من يوم وُلدت القضية إلى الآن؟ إنه كان ساكتًا سكوت المغتبط بتلك الأدوار الأثيمة، لأن الإحساس المتنبّه فيه إذ ذاك هو إحساسه الفرنسي، فلما تمّت الأدوار، وبلغت نهايتها، وعلم أن اليهود سَيأخذون المسالك على دينه ودولته معًا- تَنَبَّه إحساسه المسيحي الحانق على اليهود، وجاء يُعَزِّي المسلمين البسطاء تعزية الشامت، ويُنَبِّه دولته إلى أن هناك منفذًا تدخل منه أصبعها في فلسطين، وهو وَقْفُ أي مدين "الجزائري"، وأن هناك ميدانًا تسترجع فيه عطف المسلمين الأغرار، وهو قضية المشرّدين، وأن ذلك لا يتمّ إلّا بتدوبل القدس. فكأن هذا المستشرق لم يَكْفِهِ استغلال دولته للأحياء منّا فابْتَكَرَ لها طريقةً لاستغلال الأموات، وإنَّ هذه لَإحْدى فوائد الاستشراق لهم ... ولنا، وعلى كل حال فهو قَدْ رَمَى الشبكة، وأصاب ما قُدِرَ له من الرزق ومن ضلّ فإنما يضل على نفسه.
ليت شعري! ماذا يجدي علينا تدويل القدس بعد أن ضاعت فلسطين كلها؟ وماذا تغني عن المشرّدين هذه الصدقات الممنونة بعد أن فقدوا أرضهم وديارهم؟(2/340)
المولد النبوي الكريم
- 1 - *
أوقفنا مقالات "تاريخ المولد النبوي في المغرب العربي" عن قصد لأنها طالت، ولأن ما كُتب منها يدخل فى رسالة مستقلة، ولأن المهم منها إنما هو الجانب التاريخي، أما الحكم الشرعي فيها فنحن لا نقر ذلك الاستحسان الذي يبالغ فيه بعض من نقل الكاتب كلامهم من علماء تلك العصور، فهم يجعلون من حبّ المولود العظيم عذرًا في ارتكاب بِدَع المولد، ومسوغًا لأعمال الملوك الذين لا غاية لهم من تلك الموالد إلّا الدعاية لأنفسهم، وقرن أسمائهم باسم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مديح الشعراء، واستجلاب العامة بذلك كله. ولو أنهم جعلوا تلك الاحتفالات ذرائع لإصلاح حال الأمة، وحملها على الرجوع إلى السُّنَن النبوية، والاهتداء بالهدي المحمدي، لَكان لفعلهم محمل سديد، وأثر حميد، لأن الأمور بمقاصدها.
أما الحبّ الصحيح لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي يدع صاحبه عن البِدَع، ويحمله على الاقتداء الصحيح، كما كان السلف يحبّونه، فيُحيون سننه، ويذودون عن شريعته ودينه، مِن غير أن يقيموا له الموالد ويُنفقوا فيها الأموال الطائلة التي تفتقر المصالح العامة إلى القليل منها فلا تجده.
ونحن نحتفل بالمولد على طريقة غير تلك الطريقة، وبأسلوب غير ذلك الأسلوب، فنجلي فيه السيرة النبوية، والأخلاق المحمدية، ونكشف عما فيها من السر، وما لها من الأثر في إصلاحنا إذا اتبعناها، وفي هلاكنا إذا أعرضنا عنها، ففي احتفالاتنا تجديد للصلة بنبيّنا في الجهات التي هو بها نبيّنا ونحن فيها أمته.
__________
* "البصائر"، العدد 114، السنة الثالثة، 3 أفريل 1950: تقديم لمقال الأستاذ عبد الوهاب بن منصور بعنوان "عنوان المرقصات والمطربات لابن سعيد المغربي".(2/341)
لا نقلّل بهذا من قيمة عمل ولدنا الأستاذ الكاتب وبحثه وسعة اطلاعه، بل نحرضه على تكميل بحثه وجمعه وطبعه، وإنما حركناه إلى أبحاث أخرى هو أهلها، ولا يضطلع بها غير قلمه، وهي إحياء الآثار المنسية لسلفنا، وإحياء علمائنا الذين عمروا الغرب ولكن جهلهم الشرق، وغير ذلك مما تقوم عليه نهضة الجزائر العلمية.
وسيقرأ القراء اليوم تعريفه بكتاب من آثار سلفنا فيقرأون الممتع اللذيذ، وأول الغيث قطر.(2/342)
- 2 - *
إحياء ذكرى المولد النبوي إحياء لمعاني النبوة، وتذكير بكل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من هدى، وما كان عليه من كمالات نفسية، فعلى المتكلمين في هذه الذكرى أنْ يذكروا المسلمين بما كان عليه نبيهم من خلق عظيم، وبما كان لدينهم من استعلاء بتلك الأخلاق.
لهذه الناحية الحية نجيز إقامَ هذه الاحتفالات، ونعدها مواسم تربية، ودروس هداية، والقائلون ببدعيتها إنما تمثلوها في الناحية الميتة من قصص المولد الشائعة.(2/343)
مدرسة أولاد سيدي إبراهيم *
العزيمة أخت العقيدة، وهما كجناحي الطائر للرجال وللأعمال، والعقيدة بلا عزيمة باطلة، والعزيمة بلا عقيدة عاطلة، وما نهض الرجال العظام بالعظائم إلّا بعد أن صفت عقائدهم من شوائب الشك والتردد، وصحت عزائمهم على العمل النافع.
هناك في الحدود الفاصلة بين مقاطعتي الجزائر وقسنطينة وعلى ضفتي طريق الحديد الواصلة بينهما، وعلى مقربة من مضيق (أبواب الحديد) ذات الذكريات الأليمة في احتلال الجزائر، هناك أرض جدباء إلا من شجيرات التين والزيتون، وجبال جرداء إلّا من قزع من الصنوبر كقزع السحاب هنا وهناك، وفي تلك الأرض المتطامنة الظمأى إلى الماء والعلم تقع قرية (أولاد سيدي إبراهيم) مكتنفة من الغرب بجبال وانوغة ومن الجنوب بجبال المنصورة، ومن الشرق بآكام مزيتة ذات المحل والنحل، ومن الشمال وبعض الشرق ببني منصور وبني عباس، تنفحها شماريخ (جرجرة) العاتية بالنسيم الرطب في القيظ، وتلفحها بقر الثلج في الشتاء.
ومن تلك القرية نفر شاب قبل عقدين من السنين إلى قسنطينة يتلقى العلم على عبد الحميد بن باديس، ويقتبس من دينه وخلقه وأدبه ويتخرج على يديه في مناهج خدمة الأمة، ذلك الفتى هو الشيخ سعيد البابي، وتلك هي نيته فيما هاجر إليه، فبماذا رجع إلى قومه؟
رجع- كما رجع إخوانه من تلامذة الإمام- داعيًّا قومه إلى هدي الكتاب والسنة والأخذ بأسباب الحياة العزيزة، فعرفه من عرف وأنكره من أنكر، ولكن العقيدة الصحيحة إذا ظاهرتها العزيمة الصحيحة أتتا بما يشبه الخوارق، فقد رأينا في الأيام الأخيرة أثرًا من آثار العقيدة والعزيمة أكبرناه، وهو أن تلك الفئة القليلة التي تأثرت بمبادىء جمعية العلماء من
__________
* "البصائر"، العدد 113، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 15 أفريل 1930م.(2/344)
أولاد سيدي إبراهيم- انتشرت في ظاهر القرية في مجاميع من البيوت تغرس في كل شبر صالح من الأرض شجرة تين أو شجرة زيتون، وتقوم على تربية النحل واستنتاج المعز، وتبتعد عن لغو القرية وملهياتها وسفاسفها، فتنصرف جهودها إلى الجد والعمل الناقع، وهذا - لعمر الحياة- هو السبيل القويم في الحياة.
وفي هذه السنة تعلو هممهم درجات، فيخطون الخطوة الموفقة إلى تشييد مدرسة عظيمة بعد تشييد المسجد، في بقعة وسط بين تلك المجاميع من البيوت، ولم يكتفوا بالمدرسة الأم، حتى فتحوا لها فرعًا في جيزة الوادي وسط مجموعة أخرى من البيوت ليخففوا العناء على الأولاد الذين تبعد منازلهم عن المدرسة الكبيرة وهم عازمون على بناء فروع لكل مجموعة متقاربة، فلو رأيتهم في وقت العمل يبنون متعاونين ويجمعون الحجر إلى الحجر والفلس إلى الفلس والرأي إلى الرأي، ويقسمون الاختصاصات على أصحابها لرأيت مثالًا عجبًا من التعاون كأنهم أخذوه عن النحل الذي حذقوا القيام على تربيته وتدبيره، وغير عجيب أن يأخذ الإنسان المكتسب عن الحيوان غرائزه الخلقية.
إنني معجب بهذه الفئة الصالحة، داع لها بالتوفيق والتسديد، راج لجماعاتنا العاملة للعلم أن يكون حظها في التعاون عليه كحظ جماعة سيدي ابراهيم.(2/345)
برقية تأييد لمطالب التلامذة الزيتونيين *
أرسل رئيس جمعية العلماء البرقية التالية تأييدًا للطلبة الزيتونيين في مطالبهم التي أضربوا من أجلها، وتنويها بأحقية تلك المطالب، واستنكارًا للمواقف الرخوة التي تقفها الحكومة من الطلبة، وقد وجه البرقية إلى لجنة صوت الطالب الزيتوني وإلى شيخ الجامع الأعظم وإلى الجريدتين اليوميتين بتونس: "النهضة" و "الزهرة" ونص البرقية:
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بجميع شُعَبها ومؤسساتها العلمية واتباعها- تؤيد بكل قواها مطالب التلامذة الزيتونيين، وتعطف عطفًا لا حد له على قضيتهم وترجو أن يكون اضرابهم المشروع موصلًا إلى الغاية التي يرجونها ونرجوها لهم، وتستنكر تصامم الحكومة - إلى هذا الحد- عن إجابة رغائبهم.
وجمعية العلماء تعتقد أن العصر عصر الأجد الأنفع من النظم والعلوم، لا عصر الجمود على العادات الموروثة، وأن تباطؤ الحكومة في تنفيذ مثل هذه الرغائب معناه ربط الشعوب بقديم من تلك العادات أثبت الزمان عدم صلاحيته، ووقوفه في طريق التطوّر، وقد كانت هي من النابذين له والعاقبة للحق وللصابرين عليه.
قلوبنا وأفكارنا والسنتنا وأقلامنا مع أبنائنا الزيتونيين.
محمد البشير الإبراهيمي
__________
* "البصائر"، العدد 188، السنة الثالثة من السلسة الثانية، 1 ماي 1930م.(2/346)
الوعظ في رمضان *
الوعظ الديني من وظائف جمعية العلماء، وبه بدأت حركتها العظيمة، ومن طريقه توصلت إلى شواعر الأمة فحركتها إلى الإصلاح والاهتداء بالكتاب والسنة، وإلى العلم والتعليم.
ولجمعية العلماء سنة حميدة جرت عليها منذ نشأت، وهي تخصيص شهر رمضان المبارك بعناية زائدة في الوعظ والإرشاد لأنه شهر عبادة، ولأن نفس المسلم فيه تتفتّح للخير، وعقله يستعد لتلقي كلمة الحق، ولأن الشيطان لا يصفد فيه حتى يزرع بذور الشر في نفوس المسلمين، فيهيؤها إلى بدع رمضان المعروفة وإلى تلك الأخلاق التي تلازم ضعفاء الإيمان والإرادة في أيام الصوم، وإلى الاستخفاف بحرماته.
تدعو جمعية العلماء رجالها في كل عام إلى القيام المنظم بدروس الوعظ والتذكير في أمسيات شهر رمضان وفي لياليه فيقومون بذلك الواجب على أكمل وجه، وقد رأت في هذا العام أن تتوسع في هذا الباب، وتعممه ما استطاعت بالإكثار من مراكز الوعظ، وأن تتقدم إلى وعاظها بالتوكيد على أن يطرقوا مواضيع الأخلاق الإسلامية والتربية الإسلامية معتمدين على آيات الكتاب التي يفهمونها فهمًا صحيحًا وعلى الأحاديث الصحيحة وعلى السيرة النبوية الثابتة، وأن يخصوا بالعناية مواضيع التربية الاجتماعية، وأن يشددوا النكير على البدع التي تفشو في رمضان.
وها هي ذي قائمة المشائخ الوعاظ الذين عينتهم جمعية العلماء، وبيان مراكزهم، وعلى أبنائنا رجال الجمعية أن لا يعتبروا هذا تخصيصًا، فعلى كل مستقر في قرية قادر على التذكير ممن لم نذكر أسماءهم- أن يعمر هذا الشهر العظيم بالدروس الدينية.
__________
* "البصائر"، العدد 122، السنة الثالثة من السلسة الثانية، 3 جوان 1950م.(2/347)
فتح جامع "الحنايا" ومدرستها *
تقديم أحمد بن ذياب
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هل الفلسفة في خدمة الأدب أو الأدب في خدمة الفلسفة؟ أما الأدب ففن ثابت الأركان، باسق الأغصان، قوي الدعائم، محفوظ الأصول، ثري الرج والغلة، نهدف إليه لأنه في ذاته غاية سامية، ونريده لأنه تراث روحي خصيب، وتخفق إليه قلوبنا لأنه كنه الحياة، ولغة التعبير الصادق عن جمالها الباهر، وجلالها القاهر، لهذا نربأ به أن يكون وسيلة وهو الغاية، وخادمًا وهو المخدوم، ونطمح أن نراه رفيقًا للفلسفة، يساعدها وتساعده، ويفتح لها أبوابًا ما كانت لتهتدي إلى فتحها لولا مقاليده، وتعرج هي به إلى سموات لا تواتيه أجنحته على الصعود إليها لولا منطقها وحكمتها.
فنحن نرى أن كل فلسفة- أيًّا كان نوعها- عاطل إذا لم يحلها الأدب، وإن كل أدب
- مهما علا- رخيص إذا لم تغل الفلسفة قيمته.
ومن هنا كان الإبراهيمي مفخرة الجيل، وآية الدنيا، ومنة القدر على العربية وأدبها وفلسفتها، وأحد العباقرة الذين يفرضون خلودهم على الأيام فهو العالم الديني الممتليء الجوانب من روح الشريعة وفقه أسرار الدين، وهو الفيلسوف الاجتماعي الذي لا يشق له غبار، وهو المربي الخبير بمواطن الرشد ومزالق الغي، أما التاريخ وقصصه وعبره، وأما الأدب وعصوره وشعره ومنثوره، وأما اللغة وغريبها ومأنوسها وتاريخ أطوارها، فهو في هذه كلها كما قيل: "حدث عن البحر ولا حرج"، وتمم الله عليه نعمته فآتاه حافظة موعية وذاكرة واعية، وأكمل له أدوات العالم الأديب الفيلسوف.
أنت كلما استمعت إليه يخطب، أو أصغيت إليه وهو يحاضر، أو قرأت له ما يكتب،
أو جلست إليه في حلقات الدروس هالك منه الأسلوب الرائع والبرهان الساطع، ولم تعد
__________
* "البصائر"، العدد 124، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 19 جوان 1930م.(2/348)
تدري من أية النواحي يتملكك العجب؟ أمن فصاحة لسانه؟ أم من بلاغة كلامه؟ أم من توليد المواضيع وسبكها؟ أم من أزهار المعاني تتفتق عنها أكمام الألفاظ المنتقاة؟ أم من طواعية اللغة للسانه وطواعية لسانه للغة؟ ورأيت كيف يستخدم الأدب الفلسفة، وكيف تستعين الفلسفة بالأدب، فيجريان كفرسي رهان من شباة قلم الإبراهيمي الجبار، أو من لسانه القئول الصئول، ورأيت كيف تكون روعتهما مسخرين لخدمة الحق، مؤيدين للحقيقة، ناصرين لجنود الخير، وقلت معي: سبحان الذي يؤتي الحكمة وفصل الخطاب من يشاء ويحرمهما من يشاء.
أقدم هذه الكلمة بين يدي محاولة أرجو أن أوفق فيها إلى تقديم شبه صورة للخطاب الجامع الذي ألقاه الأستاذ الرَّئِيسُ الإبراهيمي غداة افتتاح مسجد قرية "الحنايا" ومدرستها، وإني- حين آمل متابعة الأستاذ في اختصار أو اختزال ما يلقي- لواجد عنتًا كبيرًا، فقد شكا الشاكون قبلي ممن حاول مثل ما حاولت أنهم يؤخذون بروعة المسموع عن مواصلة الكتابة لأن معانيه كلها أبكار، ومواعظه كلها حكم نفيسة، وحكمه كلها غوال، وأطرافه- إن كان لكلامه أطراف- كلها طرائف نادرة.
وقد اعتمدت في هذه المحاولة على ما سجله الشيخان عبد الوهاب بن منصور وعبد الرحمن غريب مضافًا إلى ما سجله قلمي الضعيف الواني، فإن قاربت الإصابة فالفضل لهما، وإن قصرت فالوزر علي وحدي ...
قال الأستاذ العظيم- بعد الجمل التي اعتاد أن يفتتح بها خطبه ودروسه في الثناء على
الله والصلاة والسلام على رسوله-:
أيها الإخوان، أيها الأبناء:
إنني كلما استعرضت حال هذه الأمة في فكري، أو عرضت نفسها على عيني قصدًا في المحافل، أو عفوًا في المجامع والأسواق- تلوح لخاطري آية من كتاب الله تنطق بسننه المطردة في الأمم والقرون، وقد لاح لي عندما اعترضتني اليوم هذه الجموع الحاشدة، بل هذه الوفود الراشدة، في أقصى القرية- آية هي من دلائل قدرة الله على البعث الأخير، ومن الحجج الدامغة على منكريه ولكنها- مع ذلك- قريبة الخطور في أذهان المتفائلين مثلي بالبعث الأول في هذه الحياة الدنيا.
تلك الآية هي قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}.
لاحت لي آية البعث من القرآن عندما لاحت لي آية الانبعاث منكم، فأجلت بصيرتي
في الأولى، عندما أجلت بصري في الثانية، فما زادت الثانية الأولى إلّا تمكينًا وتثبيتًا، ولم(2/349)
يصرف ذهني عن التدبر فيهما، والاعتبار بهما، والإيمان بحقيقتهما- هذه المناظر الخالبة للعقول، الفاتنة للأعين، ولا هذه الأصوات المتصاعدة بالتكبير والتهليل، ولا تلك المتعالية من حناجر النساء بالزغردة والتأهيل.
أيها الإخوان، أيها الأبناء:
إن موت الأمم، وحياة الأمم، لفظان مطروقان مستعملان في نصابهما من الوضع اللغوي، كموت الأرض بالقحط، وحياتها بالغيث، لا ينبو بهما ذوق ولا منطق ولا فهم، وإن معناهما لأوسع وأجل من معنى حياة الفرد، وموت الفرد، هذه حياة محدودة، وموت لا رجعة بعده إلّا في اليوم الآخر، وتلك حياة ممدودة الأسباب ينتابها الضعف فتعالج، ويلم بها المرض فتداوى، ويطرقها الوهن فتقوى، ويدركها الانحلال فتشد، ويعرض لها الانتقاض فترمم، وتظلم آفاقها بالجهل فتنار بالعلم.
طالما قال القائلون عن أمتنا: إنها ماتت وطالما فرح الشامتون بموتها، وطالما نعاها نعاة الاستعمار على مسمع منا، وأعلنوا البشائر بموتها في عيدهم المئوي فعدوه تشييعًا لجنازة الإسلام الذي هو مساك حياة هذه الأمة في هذا الوطن، فقالوا: ماتت لا رحمها الله، وصدقهم ضعفاء الإيمان منا فقالوا: ماتت رحمها الله، وقلنا نحن: إنها مريضة مشفية، ولكن يرجى لها الشفاء إن حضر الطبيب وأحسن استعمال الدواء، فحقق الله قولنا، وخيب أقوال المبطلين وكذب فألهم، فحضر الطبيب في حين الحاجة إليه، وأذّن بالإصلاح في آذان المريض فانتفض انتفاضة تطايرت بها الأثقال، وانفصمت الأغلال، وكان من آثارها هذا اليوم الذي لا يصوره الخيال والوهم، وإنما يصوره العيان والواقع.
فإذا بقي في الدنيا ممسوس، يكابر في المحسوس، ولا يصدق بوجود هذه الأمة، ولا يؤمن بحياتها، فقولوا له: تطلع من هذه الثنايا على قرية الحنايا، وقارن يومها بأمسها، يراجعك اليقين، ويعاودك الإيمان.
قلنا في هذه الأمة- وما زلنا نقول: إن عوارض الموت وأسبابه كلها موجودة فيها من الجهل والفقر والتخاذل وفساد الأخلاق واختلاف الرأي وفقد القيادة الرشيدة، وقلنا- مع ذلك- وما زلنا نقول: إنها مرجوة الحياة ما دام مناط الرجاء فيها سالمًا صحيحًا، ومناط الرجاء هو نقطة من الإيمان ما زالت لائطة بالقلوب، وصلة بالقرآن ما زالت مرعية في الألسنة، وإن هذا الرجاء معلق بخيط دقيق لا نقول انه كخيط العنكبوت، ولكننا نقول: انه أقوى من السلاسل الحديدية، إذا أمده الاستعداد والتدبير الرشيد.
هذه النقطة هي مبعث القوّة ولو بعد حين، وهي مكمن السيادة والعزة ولو في الأخير، والسبق يعرف آخر المضمار.(2/350)
من أطوار هده الأمة في التاريخ أن اختلف ملوكها وقادتها وساستها، وذاقت من خلافهم
الشر والبلاء، واختلف علماؤها في الدين فكان خلافهم وبالًا على الأمة، وتشتيتًا لشملها، وصدعًا لجدار وحدتها، وقطعًا لما أمر الله به أن يوصل من أرحامها، ثم فر العلماء من الميدان وتركوه للأمراء المستبدين، ثم ألقى الأمراء المقاليد في أيدي السفهاء من الأنصار والذرية والأتباع، وكل أولئك قد فعل في هذه الأمة ما لم يفعله "نيرون"، وكل تلك الأعمال قد أثرت في أخلاق الأمة التأثير العميق وسكت العلماء أذلة وهم صاغرون، يرون الحق مهضومًا فلا ينطقون، والمنكر فاشيًا فلا يغيرون ولا ينكرون، وهيهات بعد أن تنازلوا عن حقهم طائعين.
يقع ذلك كله في كل طور من الأطوار التاريخية حتى يبتلى المؤمنون، ويظنوا بالله الظنون، وإذا بذلك العرق يتحرك، وإذا بتلك الانتفاضة تعرو، وإذا بالأمة قائمة من كبوتها، تذود قادة السوء عن القيادة، وعلماء السوء عن الامامة، وتنزل دخيل الشر بدار الغربة. جربنا فصحت التجربة، وبلونا فصدق الابتلاء، وامتحنا فدل الامتحان على أن عرق الإيمان في قلوب هذه الأمة كعرق الذهب في المنجم كلاهما لا يبلى وان تطاولت القرون، ثم جلونا هذا العرق في عمل ثلاثين سنة خلت فإذا خصائصه الطبيعية لم تتغير.
هذه الأمة كبا بها الزمن وأدارها على غرائب من تصاريفه حتى أصبحت عونًا له على نفسها، وترصد لها العدو كل غائلة، ففتنها عن دنياها حتى سلمت له فيها، ثم فتنها عن دينها حتى كادت تتلقاه عنه مشوها ممسوخًا، وأحاطت بها خطيئاتها من كل جانب فجنت على نفسها بما كسبت أيديها من سوء الأقوال، وفساد الأعمال، ولكن ذلك العرق المخبوء في تلك المضغة يتحرك فيأتي بالعجائب.
هذا تطور شهدناه في تاريخ الأمة الجزائرية الحديث، كما شاهدناه في تاريخ أسلافها وجيرانها، وما هذا المنظر المعجب المطرب بآخر منظر في رواية التاريخ.
أيها الإخوان، أيها الأبناء:
إن يومكم هذا قد تعاظم حتى كاد ينسي الأيام الغر التي سبقته في تاريخ نهضتكم العلمية، فلا تنسوها، ولكن تناسوها، لا تنسوها فلولاها لما كان هذا اليوم بهذه العظمة، وتناسوها لئلا تغركم فتقعد بكم عن تكرار أمثال هذا اليوم بأكمل منه وأعظم روعة منه. عدوا هذا اليوم فاتحة لأيام علمية أزهر وأعطر، وأفخم وأضخم، عدوه كالبسملة من لوح القارىء، عدوه مقدمة لكتاب متعدد الأسفار، انفخوا فيه من الأعمال، لا من الآمال، اجعلوه نموذجًا لأيام المستقبل، وطالعًا من طوالع سعودها، وأعيذكم أن يقصر بكم النظر فتجعلوه ختامًا لأيامكم القريبة، من يوم "الغزوات" إلى يوم "ندرومة" إلى يوم "وهران" إلى(2/351)
يوم "بسكرة" إلى يوم "جيجل" بالأمس القريب- لا تجعلوه ختامًا وإن كان مسكًا فإن المسك تذهب به الرياح، وليومكم ما بعده، له يوم "سطيف" ويوم افتتاح مدرسة "بسكرة" ويوم افتتاح مدرسة البنات بـ "جيجل" وأيام أخر، كلها غرر.
هذا اليوم من الأيام التي تلتقي فيها قلوب الأمة الواحدة على غرض واحد شريف، وأيديها على عمل واحد مفيد، وإن كل من حضر هذا الحفل العظيم، وكان في قلبه مثقال ذرة من حب المصلحة العامة، أو كان في قلبه شيء من الاعتزاز بالمجد القومي، وكل من شاهد مشهدنا هذا وكان في قلبه فتيل من إيمان- فإنه لا يخرج من هذا المشهد إلا كيوم ولدته أمه طاهر القلب طاهر الضمير طاهر اليد واللسان، نقي الفؤاد من هذ الأمراض التي زادتنا ضعفًا على ضعف وساقتنا إلى الأسر فالموت.
إن فخر هذا اليوم ليس لهذه القرية وحدها وإنما هو فخر الوطن الجزائري، وليس لمصلحي الحنايا الذين صبروا حتى أراهم الله عاقبة الصابرين، وإنما هو للأمة الجزائرية كلها يعم حتى المثبطين والمعاكسين والهادمين، إننا قوم نبني للأمة ولأبناء الأمة، وإنا لنعلم أن فيها من يحاربنا ويفتري علينا العظائم ويسعى جهده ليهدمنا وما بنينا، وحسبنا ردًا عليهم أننا نعمل وهم يقولون، وأن في هذه القرية نفسها مرضى جمود وصرعى خرافة، وأذناب استعمار وأنهم يودون لو هدموا ما شيدنا، ونحن نقول لهم: عفا الله عنكم- أيها الإخوان- وهداكم، لو تعقلتم قليلًا لعلمتم أن التاريخ حين يكتب هذا اليوم لا يسجل فخره خالصًا لنا، وإنما ينسبه إلى قرية "الحنايا" وأنتم منها، وأن الوفود إذا رجعت إلى أوطانها وشادت بهذا العمل الجليل نسبته إلى سكان "الحنايا" وأنتم منهم، وإنما للعاملين حظهم من الثناء والحمد، فكونوا مع العاملين تقاسموهم تلك الحظوظ من حسن الذكر، وذخيرة الأجر.
أيها الإخوان، أيها الأبناء:
لا تظنوا أن الحياة المعنوية التي نسعى لها اليوم بأقوى أسبابها وهو العلم هبة تنزل من السماء، وإنما هي شيء كسبي يناله الجاهدون، ويحرمه الراقدون، فاعرفوا هذه الحياة وافهموها، واجعلوا وسيلتها الأولى العمل الصالح، وارجعوا فيها إلى كتاب الله وسنة نبيه، وخذوها بالمحاذاة والتلقين والاتعاظ بأحوالكم الماضية وأحوال الأمم قبلكم، فإذا عرفتم هذا النوع من الحياة طلبتموه واذا طلبتموه وجدتموه، وإذا وجدتموه سعدتم به وأسعدتم.
إن الحياة بلا سعادة قدر مشترك بيننا وبين النمل على ضعفه، والحمار على ذله وخسفه والجمل على إذلاله وتسخيره، فإذا كنتم اليوم تسمون أحياء، فمن هذا النوع.
لا تفرحوا بحياتكم هذه، فإنكم أشقياء بها، وإن العاقل لا يرضى بهذا النوع من الحياة التي
لا سعادة فيها ولا شرف، وإن سكوتنا عليها واطمئناننا إليها يعدّ قدحًا في تعقلنا، ولوكنا عقلاء حقًا(2/352)
لما بكينا على ميت فارق هذه الحياة، ولا فرحنا بمولود يستقبل هذه الحياة ... لوكنا عقلاء حقا لعكسنا هذه القضية وتبادلنا التهاني على الموت، لأن الميت خفف ثقلأ على نفسه وأهله وعشيرته وأمته، ولأن الحي امشراح من عضو أشل كان يئوده كما تئود اليد الشلاء صاحبها، فمن الخير له قطعها بعد أن أصبحت لاكاسبة ولاكاتبة، ولوكنا عقلاء حقًا لما تهللنا للمولود منا يستهل على ما نحن فيه من حياة باثسة، ولو أن الجنين في بطن أمه طرقه البريد بخبر من أخبار هذه الحياة التي نحياها وكان له اختيار لآثر البقاء هناك حتى يموت اختناقًا.
أيها الإخوان، أيها الأبناء:
إن يومكم هذا عنوان على الحياة ورمز إليها، وان هذه المؤسسة المباركة بمسجدها ومدرستها مزرعة للحياة فتعاهدوها بالعناية، وإن هذه المدارس التي تشيد في كل يوم حصون للعربية والإسلام، وهما أساس الحياة السعيدة، وإن إخوانكم مصلحي الحنايا قد أروكم مصداق انبثاق القوّة عن الضعف، وتصديقًا لعاقبة الثبات على الحق، وأروكم مثالًا مصغرًا لبداية الحياة، فإن أردتم أن تحيوا فاطلبوا سعادة الحياة، أوْ لَا، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها وأروح، إن حياتنا الحالية أثقال متوالية، فلا ترضوا بزيادة الثقل وخففوا ما استطعتم، والعلم العلم فنعم آلة التخفيف هو.
ليت شعري ماذا نورث أبناءنا من هذه الحياة بقسميها المادي والمعنوي؟ أنورثهم الأرض؟ وليس بأيدينا شيء منها، أم نورثهم المال؟ ونحن أفقر من عليها؟ أم نورثهم الدين وحقائقه وآدابه؟ وقد نبذناه ظهريًّا، واتخذناه سخريًّا، وغطيناه بالبدع والأوهام، أم نورثهم الحب والتآخي؟ وبعضنا لبعض عدو، يتجسس عليه ولبيعه بالثمن البخس، ولحسده على ما لا يتحاسد عليه العقلاء ولا المجانين.
هذه هي الحقيقة، ومن أخبركم بغير هذا فقد غشكم وكذبكم.
أنتم تزعمون أنكم تحققون حكمة الله من الزواج، ولكنكم لم تفقهوا الحكمة وما دمتم
لا تفهمون الحال، فلن تفقهوا المآل، وما دمنا في غمرة ساهين، وعن الحقيقة لاهين، فكذب ما تخبر به الألسن في قول الناس: (انهم بخير).
وما دمنا نعتقد أن حياتنا حياة، وأن ديننا هو دين محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وما دمنا لا نتصور أحوالنا كما هي في حقيقتها- فإننا بعداء عن النجاح.
أما إذا رجعنا إلى العقل الصحيح نستشيره، وإلى الدين الصحيح نسترشده ونسير على هديه، وإلى الناصحين منا نأتم بهم- فليوشكن أن يغير الله ما بنا بعد أن غيرنا ما بأنفسنا، وأخذنا بالأسباب نتذرع بها للمسببات، ونبذنا التواكل الذي ينافي الدين والدنيا كمن طمع في الحصاد وهو لم يزرع، أو في الأولاد وهو لم يتزوج.(2/353)
هذه هي حالتنا التي يجب أن نتواصى بتفهمها لنقوى على علاجها لأن ما نحن فيه ليس موتًا، وإنما هو مرض عضال.
هذه هي القرية التي أحياها الله بالعلم، بعد أن استيأس الناس من حياتها، وستبقى حية
قوية لأن حياتها مستمدة من الروح لا من المادة وحياة الروح والعلم لا يدركها الفناء، وكأن الله تعالى ضرب المثل بهذه القرية الضعيفة للمعتبرين، وأقامها حجة على المتخلفين.
أيها الإخوان، أيها الأبناء:
وهذه الوفود الكريمة قد أقبلت من أطراف العمالة زمرًا تعاون على الخير وتشد أزر العاملين، وتبتهج بعيد الدين والعلم، وتصدق قول نبينا: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمِثْلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». فقد اشتكى إخوانهم عوزًا في المال ونقصًا في القدرة على الإكمال، فتداعوا إلى العون، وسنرى منهم ما يشرح الصدور ويقر الأعين.
وإذا كان فيكم من سعى من بعيد فقد قطعتُ إليكم جميعًا ألف ميل في ليلة واحدة، من بجاية مدينة العلم والتاريخ، إلى تلمسان مدينة العلم والتاريخ إلى بنتها ومحجورتها "الحنايا"، وإذا تقاربت القلوب واتحدت المقاصد طويت الابعاد وهان السفر وعناؤه.
حدانا حاد واحد، هو أغنية العلم، وساقنا سائق واحد هو داعي العلم، ولقد ساقني وساق "سائقي" إليكم شعور صادق يجمعنا جميعًا وهو الفرح والاستبشار بهذه المقدمة التي ستكون لها نتائج، والإعانة والتأييد لفئة صالحة تجمعنا بها وشائج وأي وشائج، وإنني أتوسم الوجوه فأرى فيها المثنى والمثلث، وأعني بالمثنى من حضر العام الماضي في فتح مدرسة "ندرومة" وحضر هذه السنة في هذا المشهد، وبالمثلث من حضر العام قبل الماضي فتح مدرسة الغزوات، وحضر في العام الماضي فتح مدرسة "ندرومة" وهذا العام في هذا المشهد، أطال الله أعماركم لحضور المشهد الرابع في وهران والخامس وما بعده في غيرهن.
وما هذه سنوات، وإنما هي مراحل نقطعها إلى إسعاد الأمة وإعزازها، ونستدع ما فيها
من نصب ولغوب بالفيض الرباني الذي يغمر الأرواح الطاهرة، والنفحات الإلهية التي تهب على قلوب المؤمنين فتنتعش.
وسيشهدنا الله مشاهد أخرى أهم وأعظم، وسنقطع مراحل أوسع وأمجد، وإني في كل هذه التنقلات المتعبة أتسمع كأن هاتفًا من وراء الغيب يقول: إلى أين؟ ... إلى أين؟ .... فأجيبه؟ إلى الحياة العزيزة ... إلى تمكين سلطان القرآن .... إلى إحياء البيان العربي .... إلى الجنة ....(2/354)
والله أرحم من أن يتركنا سدى، وأرأف من أن يكلنا إلى سيآتنا، حقق الله رجائي ورجاءكم، ويرحم الله عبدًا قال آمين.
فانطلقت عند الجملة الأخيرة ألوف الأصوات تدوي من المسجد ورحابه ومن الشوارع المكتظة والدكاكين، تجيب في صوت واحد: آمين آمين.
هذه هي الصورة التي استطعت أن أنقلها إليك أيها القارىء العزيز وقد حاولنا المحافظة
على ألفاظ الأستاذ كمن يحافظ على الدرر الغوالي فأفلت منها الكثير فحافظنا على المعنى جهدنا، أما ما ضاع لفظه ومعناه فعذرنا فيه واضح، لكم تمنينا لقراء "البصائر" لو كانوا كلهم معنا حتى يتمتعوا بلذة الاستماع للسان العربي المبين، وينعموا بنشوة أخرى من حسن الالقاء وتأثيره، ولأخذوا حظهم من تلك الروعة التي كانت تغمر الاجتماع.(2/355)
المعهد الباديسي *
الأعمال الكبيرة إذا توزعتها الأيدي، وتقاسمتها الهمم- هان حملها وخف ثقلها، وإن بلغت في العظم ما بلغت، والمعهد الباديسى من هذه الأعمال الكبيرة، ويزيد في عظمه أنه في وطن صفر من المال، وأقفر من الرجال، وتعطلت فيه الهمم والذمم، وعقمت أرضه فخلا بطنها من الذخائر، وظهرها من الأخاير، وبعد عهده بالعظائم والمآثر، وخلت صفحاته الأخيرة من الأعاظم والأكابر، ويزيد في عظمته وجلاله أنه وليد نهضة لا تستند إلى حكومة ولا تأوي إلى ركن مالي شديد، فنشأ حرًا طليقًا من القيود العائقة، والمنن المكدرة، يستند على أفضال من الله لا مطففة ولا مغبونة، وعلى هبات من الأمة لا مكدرة ولا ممنونة، وعلى همم من رجال جمعية العلماء لا مقصرة ولا وانية، ومن ورائه ومن أمامه مثبطات من الظلم، تعوق، وكأنها تشوق، وتعد المنايا، وكأنها تعد الأماني.
يقوم هذا العمل الجليل، أو الحمل الثقيل على دعائم من الرأي، وقوامه الإدارة، ومن العلم، وملاكه التعليم، ومن المال، ومساكه الأمة، وتتوقف حياته على بقاء هذه الدعائم متساوقة في الغرض، متساوية في الآداء، متماسكة في الحمل، فإذا اختل منها عامل في العمل، أو قصرت أداة في الأداء- اختل التوازن وسرى التعطيل إلى بقية الأجزاء.
...
قام المعهد في سنتيه الأوليين على الأخ الأستاذ الشيخ العربي التبسي فيما يرجع إلى الإدارة والتسيير، وهما الوصفان المقومان لروح المعهد، وما سواهما الجسد، فطوى مراحل كثيرة من التقدم في مرحلتين، والأستاذ التبسي كما يعرفه الناس- مثل شرود في صحة
__________
* "البصائر"، العدد 131، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 18 سبتمبر 1950م.(2/356)
العلم، وثبات العمل وفي الإخلاص والجد والصرامة ومتانة الخلق وقرطسة الغرض، وفي الانقطاع لخدمة هذه الأمة التي قل خادموها، وكثر هادموها، فلما ألح عليه المرض وتواترت العلل، وأضناه الجهد، تنزى الاشفاق عليه والإشفاق على المعهد في صدور إخوانه، وتَجارَيا إلى غاية، فكان الإشفاق عليه أغلب، والنظر في تخفيف العناء عنه أصوب، فقام مقامه الأخ الأستاذ محمد خير الدين في إدارة المعهد وتسييره هذه السنة الثالثة نائبًا عنه، عاملًا باسمه، راجعًا إليه في الكليات، واستخدم الأستاذ خير الدين في الإدارة عقله وأناته وعمقه، فتكشف عن نشاط موفور، وفر عن كفاءة مدخرة، وتشظى عن مواهب كالجواهر صفاء ولألأة، وجلى في ميدان العمل وبرز، وما زال هذا الطراز الأول من رجال جمعية العلماء كالمذكيات في الحلبة، جريها غلاب، وما يزالون كالسيوف المأثورة تروع مغمدة ومصلتة.
وكأن الأخ التبسي عاهد الله أن يلقاه مقبلًا غير مدبر في ميدان الجهاد العلمي، فهو
- مع اضطراب صحته، ومع اضطلاع الأخ خير الدين بما حمل من شؤون المعهد- يتعهد المعهد بنفسه، ويشارك برأيه في كل شأن يجد وفي كل حادث يلم، وما زالت تومض على المعهد طوال السنة إشراقات من آرائه الصائبة، وتتوالى عليه إمدادات من توجيهاته السديدة، عجل الله له الشفاء، وأسبغ عليه أردية الصحة والعافية، وأقر به عين العلم والإصلاح، وشد به أزر إخوانه الذين لا يستغنون لحظة عن رأيه وعلمه.
****
أما كاتب هذه السطور فهو مشارك لإخوانه كلهم في ما تخصصوا له من شؤون المعهد، يسعى بذمتهم وهو أدناهم، ويحمل مع كل واحد منهم جزءًا من كله، بالرأي في الإدارة، وبالإرشاد في التعليم وبالدأب المتواصل في دلالة الأمة على هذا المشروع العظيم حتى تصوب إليه قلوبها، وتصب في سبيله جيوبها، وكان كلما تجهم في المعهد جو عاجله بالبشر والإيناس، وكلما ضاقت برجاله حيلة عالجها ببسط الأمل، ومن صحب الدنيا بغير هذه الخلال ضاق به رحبها، وكان مع هذه الأعمال الخالصة للمعهد لا يضيع حقًا من حقوق الجمعية ومدارسها وصحيفتها ومشاريعها المتشعبة، يمده في ذلك كله عون من الله واطمئنان من الضمير بأداء الواجب إلى أن طافت به في أخريات هذه السنة مضنيات من الأمراض، ومنهكات من الأتعاب فأقعدته عن تلك الواجبات الثقيلة، واثقلها تدبير الأموال اللازمة للمعهد، وحالت بينه وبين أحب شيء إليه وإلى القراء وهو الكتابة في "البصائر" حتى كادت تتداعى دعامة من دعائم المعهد، وهي الدعامة المالية، لولا لطف الله.
***(2/357)
يعد الاخوان كلهم، والأمة من ورائهم- تفضلًا منهم ومنها- هذا العاجز هو العامل الأقوى في قيام المشاريع العلمية من الناحية المالية وأنا- مع اعتزازي بهذه الذخيرة الثمينة من ثقة الأمة بي، وأمل الإخوان في- أصارحهم جميعًا بأن البناء الذي يقوم على شخص واحد متداع إلى السقوط، وأن الرجاء المعلق على جهة واحدة أيل إلى القنوط، وأنه قد آن للأمة أن تعلم أن هذا البناء الضخم من المدارس والمعاهد التي شادتها بدعوة من جمعية العلماء لا يتم تمامه، ولا ينتهي إلى غايته من الكمال، ولا يؤتي ثمراته بهذه الطرائق الهزيلة ذات الحدود المحدودة في جمع المال، وتلك الوسائل التي يوشك أن يملّها الناس فتتعطل المشاريع في لحظة كما يموت الميت بالسكتة القلبية.
إننا لا نثق ببقاء هذا البناء متين الأساس، ثابت الأركان، إلّا ببناءآخر من المشاريع ذات الريع القار يحفظ حياته، وأن يصحب هذا الجد من الأمة في الإنشاء، جد آخر في الاستمرار، وأن يصحب هذا النظر القصير في المبادىء نظر بعيد في الخواتم، "والأمور بخواتمها".
ونبدأ دائمًا في التمثيل بالمعهد، لأنه هو مرجع المدارس وهو المكمل لها، تقدم إليه الأمة أبناءها أطفالًا، وثتقاضاهم منه رجالًا، فهذا المعهد محتاج إلى أبنية كثيرة ليكمل ويؤتي ثماره: إلى دُورٍ لسكنى الطلبة، وإلى أقسام واسعة للدروس، وإلى فروع في العواصم لتقريب العلم إلى الطلاب، وإلى معهد خاص بالبنات المسلمات اللاتي شببن عن طوق التعليم الابتدائي وأصبحن يطلبن المزيد الحافًا، وأصبحنا نلاقي من الحافهن رهقًا، وترافق هذه المراحل للمعهد مراحل أخرى للمدارس، فقد أصبحت تتطلب معاهد واسعة للتعليم الثانوي تصل الخطوة الأولى الطبيعية بخطوة ثانية ضرورية، وأصبحت تتطلب معاهد لتخريج المعلمين، ما دامت معاهدنا العليا من الأزهر إلى القرويين تخرج لنا المعلم لا المربي، وما دامت مقصرة في إمدادنا بالكفاية والكفاءة ...
وهذا البناء الضخم- إن تم- يفتقر إلى بناء أضخم منه، يتألف من مشاريع مالية دارة
ذات ريع منظم مضمون، تلتقي في الغاية مع الوقف عند أسلافنا، وتزيد عليه بنظام العصر وألوانه، وتحفظ على المشاريع العلمية استمرار الحياة وقوتها وكمالها.
سيقول القانعون باليسير من جبناء العزائم وقصار النظر، المكتفون بالمخايل، وهي سراب، عن المعصرات، وهي شراب، ان هذا هول هائل، وقول لا تسعه إلّا لهاة القائل، ومرام صعب، تضيق به قدرة هذا الشعب، وأنا أقول لهؤلاء القانعين: إنني أخاطب أمة آمنت بالبقاء بعد أن توالت عليها نذر الفناء، وتلقت النداء من دينها وتاريخها فاستجابت للنداء، وأمة هذا شأنها وهذه حالتها- لا يعجزها أن تحقق وجودها واستحقاقها للحياة بهذه(2/358)
الأعمال، ولا يكثر عليها في شراء الحياة أن تبذل هذه الأموال، ان أمة كانت- وما زالت- تنفق ألوف الملايين فيما يفنيها ويبليها، لا تكتب لها التوبة والتكفير إلّا إذا أنفقت أمثالها فيما يبنيها ويعليها. فإذا اختلطت في آذانها أصوات الباطل بصوت الحق- فمن ملكاتها الإسلامية أن تميز الأذان من المكاء والتصدية بأنه حيعلة إلى الصلاة، وتثويب بالجنة، ودعوة إلى الله ....
لجنة المعهد من رجال جمعية العلماء تحمل نفوسًا كبيرة، وان أتعبت في مرادها الأجسام، وقد كانت- وما زالت- حسنة الظن بالله، قوية الثقة بالأمة، عودت الأمة أن تدعوها إلى الخير، وعودتها الأمة أن تستجيب، وما زال حسن ظنها بالله يتجسم حتى أصبح كرأي العين، وما زالت ثقتها بالأمة تعظم حتى أمست كقبض اليد، وقد وضعت يدها على قطعة أرض بظاهر قسنطينة، ذرعها المربع 20 ألف ميتر، وان الرجاء ليحدوها إلى أن تشيد عليها "معهد عبد الحميد بن باديس" بصورته الكاملة التي تمثلها لها الخواطر ...
... والأحلام .... عند ذوي الأحلام ... نيران على أعلام ... فما هو رأي الأمة في تأويل هذا الحلم؟ ...(2/359)
مدارس جمعية العلماء *
تمت السنة الدراسية لمدارس الجمعية منذ شهرين وأجريت الامتحانات السنوية في حينها لعشرات الألوف من تلاميذها من بنين وبنات، وكانت النتائج في المجموع فوق الرضى من فضل الله وعناية المجتهدين من أبنائنا المعلمين الناصحين. وأقيمت احتفالات توزيع الجوائز على الناجحين في أمهات المدارس فكانت كلها بهجة وسرورًا، وقد دعيت إلى الحضور في أكثرها فلم يسعدني الحظ إلّا بحضور احتفالين منها أحدهما في مدرسة شرشال ليلة الخامس والعشرين من رمضان والثاني في مدرسة سطيف ليلة الخامس عشر من شوال فرأيت في كليهما ما سر وأعجب.
عاقتني العوائق والأشغال المتراكمة ودروس رمضان وآثار الأتعاب والأمراض في أعصابي عن كتابة كلمة في "البصائر" كالمعتاد أنهي بها أعمال السنة وأهنىء بها جنود العلم العاملين من معلمين وتلامذة، وأدلهم بها على مواطن الضعف، ومواقع التقصير إبلاغًا في النصيحة، وتنبيهًا إلى التدارك، ولكن الأشغال ألحت في التعويق، والأمراض تمادت في الاستشراء، فقطعت البحر طلبًا للاستشفاء لا للراحة والاستجمام، ولو قصدت إلى ذلك لكان لي في جبال الجزائر مهرب ورجعت بعد أربعين يومًا بما كتب الله من نتيجة، فقد ذهبت استطب من مرض السكر فرجعت أشكو ألمًا في الحلق أجمع الأطباء على أن أصله قديم وأنه اتصل بأوتار الصوت وأن عاقبته السكات وأن دواءه السكوت، فليسكت صاحبه مدة ستة أشهر على الأقل، وهل أسكت؟ لا أدري، غير أن الأطباء ليسوا مني على ثقة.
رجعت بعد أن راهق زمن فتح المدارس واجتمعت لجنة التعليم العليا تعمل أعمالها للسنة الجديدة وأنا كليل الذهن كليل القلم، فما علي إلا أن أهنىء أبنائى المعلمين على
__________
* "البصائر"، العدد 131، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 18 سبتمبر 1950م.(2/360)
جهودهم الموفقة في السنة الماضية، وأذكرهم بأن الأمانة المشتركة بيني وبينهم وحق الأمة في عنقي وأعناقهم- لا يقتضيان أن نتسامح وأن نتجامل وأن نتعامل بالعواطف، وما علي في هذه الكلمة العجلى إلا أن أثني الثناء الطيب على أعضاء لجنة التعليم العليا، كفاء لما قاموا به هذا الأسبوع من أعمال جليلة، تفيض على المدارس ونظمها جدة وحيوية وتقدمًا.
أما الكلمة الناصحة الواعظة للمعلمين فلينتظروها في العدد الآتي إن شاء الله (1).
__________
1) نشرت الكلمة بعنوان (كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين) أنظرها في الجزء الثالث من آثار الإمام.(2/361)
الأستاذ إبراهيم الكتّاني *
للأستاذ البحّاثة العالم السلفي الشيخ محمد إبراهيم الكتاني، أحد علماء المغرب الأفذاذ المستقلين- مكانة ممتازة في نفوس رجال جمعية العلماء، وصلة روحية قوية بهم من أيام المرحوم الأستاذ الرَّئِيسُ عبد الحميد بن باديس.
والأستاذ الكتّاني من المعجبين بحركة جمعية العلماء الإصلاحية، والمتتبعين لأطوارها، ومن العاملين على ربط الحركات السلفية بعضها ببعض تاريخا وعملًا.
زار هذا الأستاذ الكريم في الأيام الأخيرة إدارة "البصائر" بمركز جمعية العلماء، ودفعه الوفاء إلى زيارة المعهد الباديسي وقبر صاحبه بقسنطينة.
و"البصائر" ورجال جمعية العلماء على اختلاف ميادينهم، يرحّبون بالضيف العزيز من قلوب تحمل له الحبّ والاحترام، ويرجون له إقامة طيبة وأوبة حميدة.
__________
* "البصائر"، العدد 133، السنة الثالثة، 23 أكتوبر 1950م. (بدون إمضاء).(2/362)
رسل الصحافة المصرية في الجزائر *
تقديم باعزيز بن عمر
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وأخيرًا تحققت الأمنية، وخفق القلب بحبّ مصر إذْ تمّ ما أذاعته الصحف ومحطات الإذاعة منذ أشهر من عزم الحكومة المصرية على السماح لثلّة من أعلام الصحافة المصرية بعقد رحلة صحافية إلى ربوع هذا الشمال الافريقي.
حلّ الوفد الصحافي المصري بالجزائر بعد أن مرّ بربوع الخضراء سريعًا، فاقتبله بمطار الجزائر وفد من ممثلي الصحف الوطنية وهيآتها ...
وكان الوفد يتألف من الأساتذة: حسين أبو الفتح نقيب الصحفيين المصريين ورئيس الوفد، وعزيز بك مِرْزا رئيس تحرير "الأهرام"، وحبيب جاماتي عن دار الهلال، وعبد الحميد يونس عن دار الإذاعة المصرية وهو من أساتذة كلية الآداب بالجامعة المصرية، وجورج زيزوس من شركة الإعلانات الشرقية، وجلال الدين الحمامصي عن "أخبار اليوم"، والدكتور علي الرجال عن "الأساس" لسان حال الحزب السعدي، والسيدة سميرة عبد القادر حمزة عن "البلاغ"، وأنطون نجيب عن "المقطم"، وزكريا لطفي عن "الزمان".
في مركز جمعية العلماء انتظم عقد هذا الجمع الحاشد على الساعة العاشرة من هذه الليلة الزاهرة، فوقف الرَّئِيسُ الجليل محمد البشير الإبراهيمي فحيى مصر العالمة الناهضة، وحيى وفد صحفها الراقية باسم الجزائر كلها تحية أودعها من شريف المعاني وبليغ الكلم ما ذكرنا بعهود العربية المشرقة أيام الجاحظ وابن المقفع، وابن زيدون، وابن خلدون، ورحب بوادي النيل كله في شخص وفده الأمين ترحيبًا نبه الأذهان إلى ما لا يزال قائمًا بين مصر والجزائر من روابط اللغة والدين والجنس، رغم ما حاوله ويحاوله المستعمرون من الضرب
__________
* "البصائر"، العدد 134، السنة الثالثة من السلسلة الثانية، 11 ديسمبر 1950م.(2/363)
بالطمس عليها، وأذكى ببيانه العذب الرائق عواطف الحاضرين، فأبصروا خلال عباراته البليغة ماضي الإسلام والعروبة الزاهر في هذه الديار.
فاستمع إلى ما علق بالذهن من شوارد ألفاظة ومعانيه وهو يرتجل خطابه البليغ:
"أيها الاخوان الأعزة!
إننا نرحب بضيوفنا الكرام، وكلمة الضيف فيها ما فيها من الغربة والتكلف. فإذا ما خاطبت الاخوان بها جريًا على الوضع المألوف فمن المحال أن أخاطبكم بعد الآن بكلمة الضيف.
ذلك أن العربي عربي أينما حل، فالعربي المصري في الجزائر عربي، والعربي الجزائري
في مصر عربي.
أيها الاخوان!
كل هؤلاء متشوق إلى رؤيتكم، وقد أبطأتم عنا بنحو ساعة فوجفت القلوب أن يكون الاستعمار قد حال بيننا وبينكم، إذ ليس من المحال في حقه أن يحول بين المرء وقلبه، وبين الابن وأبيه، والأخ وأخيه.
أيها الإخوان!
إن للشرق ولمصر وبالأخص لفضلًا عظيمًا على الشمال الأفريقي.
وإننا ما زلنا نحفظ شيئًا كثيرًا عن تاريخ مصر وأدبها وحوادثها، وفيمن ترون من هؤلاء
من يلوكون ألسنتهم بالعربية، ويتبذخون بالتحدث بها عن مصر وأحوال نهضتها، ولا أكون مغاليًا إذا قلت: إن كل هؤلاء يحفظون قصائد لشعراء مصر والشرق كشوقي وحافظ وغيرهما، ويعرفون ما وقع بين طه حسين والرافعي والعقاد، وفيهم من ينظم الشعر على طريقة البارودي.
وإن التاريخ ليروي أن علماء جزائريين أخذوا العلم الصحيح عن مصر، فالعلّامة المشدالي الذي ما زالت قريته موجودة إلى اليوم في قرى "زواوة" من هؤلاء أخذ العلم من مصر على النظام المعروف يومئذ، ثم رجع إلى وطنه وبث العلم صحيحًا فيه كما أخذه.
أيها الاخوان!
إن الاستعمار أراد أن يجوع عقولنا بنزع العلم من صدورنا، فلم يفلح، سلوه فهو أخبث وأخبر بكل هذا، إذ حاول هذا التجويع العقلي والفكري، فقلنا له كلا، إنك لن تستطيع إلى ذلك سبيلًا.
فمهما جاعت البطون، وحفيت الأرجل، وعريت الظهور فإننا ما زلنا نحتفظ بعربيتنا.(2/364)
أيها الإخوان الأعزة أساتذة مصر!
كل هؤلاء يمئلون الشعب الجزائري بجميع طبقاته: فيهم المعلّم المجاهد، والسياسي المحنك، والتاجر المقتصد، وفيهم، وفيهم ... وكلهم يستقبلونكم في دار جمعية العلماء، ولو تَرَامَتْ إليهم أخبار رحلتكم في فسحة من الزمن لرأيتم غير ما ترون: رأيتم جموعًا حاشدة ملتفة حولكم هاتفة باسمكم مقرونًا بالإكبار، وباسم مصر مقرونًا بالتبجيل والاحترام.
نحيّيكم باسم جمعية العلماء، وإنما نحييكم باسم الأمة الجزائرية المسلمة العربية، فما منزلة جمعية العلماء من هذه الأمة إلّا منزلة القلب من الجسد، شَاءَتْ أو أبتْ، فهي ناشرة محاسن الإسلام فيها، وهي مجلية حقائقه وآدابه فيها، وهي حافظة لسانه المبين فيه.
نحيّيكم ونحيّي في أشخاصكم مصر ونوابغها في الأدب والتشريع، وصحافتها الراقية، وأقلامها المشرعة حفاظًا عن الشرق والإسلام والعروبة، وكلياتها التي هي موارد للظماء ومناهل للعلم والعرفان، وشعبها العربي الكريم.
فاحتفظوا بنا، واكتبوا عنّا، واصغوا إلينا.
أيها الإخوان: قد أطلنا عليكم الحديث، ذلك أن المريض الذي يئنّ قد يأرز إلى تسلية نفسه بهذا، فإن الطبيب مهما كان بارعًا في وصف ألم المريض فلن يصفه إلّا وصفًا علميًا بيد أن المريض مع ذلك أدرى بوصف مرضه وألمه.
هذا بعض ما نثره الرَّئِيسُ الجليل من الآيات البينات على مسامع من خفوا إلى مركز جمعية العلماء من ممثلي الأحزاب والهيآت ليحيوا ضيوف الجزائر الكرام.
ولولا ما طغى على الذاكرة من الشعور بالجمال والجلال اللذين غشيا هذا المشهد التاريخي العظيم، لاستطاعت أن تثبت للقارىء أكثر من هذا من جولاته ولفتاته التاريخية التي نقلنا على جناحها بعيدًا، فشاهدنا منازل وربوعًا لا تزال تتعطر المجالس بذكرها، وتهفو إليها الأفئدة والأسماع كلما ذكر مجدها الغابر وعصرها الزاهر.(2/365)
"البصائر" في سنتها الرابعة *
بهذا العدد تدخل "البصائر" في سنتها الرابعة من سلسلتها الجديدة على النهج الذي نهجناه لها، وهو اعتبار سنتها خمسة وأربعين عددًا، من غير مراعاة للمدة التي تصدر فيها هذه الأعداد، تقديمًا لمصلحة المشترك قبل مصلحة الجريدة، وإيثارًا للمعنويات على الماديات، وإراغة للمعاني الفاضلة التي منها أن تكون العلاقة بين الجريدة وبين قرّائها علاقة المربّي بتلميذه، لا علاقة التاجر بعميله، ونقضا لتلك العادة المألوفة التي تجري عليها معظم الجرائد، فتعامل المشترك على السنة الزمنية المحدودة باثني عشر شهرًا، وتأتي أسباب التعطيل فتتخوّن من الأعداد بقدرها ويكون الغبن على المشترك، ونحن راضون بهذا المسلك وإن أوقعنا في الضيق والحرج، كما وقع في هذه السنة.
قطعت "البصائر" ثلاثة أحوال من عمرها الجديد المديد إن شاء الله معتمدة على الله، معتدّة بنفسها، معتزّة بقرّائها، ناطقة بالحق، قوّامة عليه، حربًا على الباطل والمبطلين، لم تلن لها في مواقفتهم قناة، ولم تهن في منازلتهم عزيمة، ترتفع في أسلوبها حتى تشارف الأفق الأعلى للبيان العربي، وتخفض الجناح- في غير إسفاف- حتى تذلّل قطوفها للجانين من جميع الطبقات، تطرق العقول ببراهينها فتخشع، وتغزو الأفئدة ببيانها فتطرب، حتى كثر المعجبون بها من الخاصة، وكثر المتشيّعون لها من العامة، وإن لديها من شهادات من يعتدّ بشهادتهم من صيارفة الكلام وجهابذة الرأي ما تتباهي به وتفاخر.
...
__________
* "البصائر"، العدد 136، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 8 جانفي 1951م.(2/366)
لم تصب "البصائر" في جميع عهودها بأزمة مالية كالتي وقعت فيها في هذه السنة، ولم تعان من الضيق المادي ما عانت في هذه السنة، فكان ذلك بعض الأسباب في تأخّر سنتها إلى هذا اليوم، فقد امتدّت سنتها الاعتبارية إلى سنة زمنية ونصف سنة.
والسبب في هذه الضيقة الخانقة أنه ليس لـ"البصائر" مال احتياطي ترجع إليه في الأزمات، ولا مورد آخر كأجور الإعلان أو الإعانات الفردية، كما هو الشأن في الجرائد التي تعيش على الإعلان، أو تعتمد على صناديق المنظمات أو الإمدادات السخية من الأنصار، فكل أولئك ليس لـ"البصائر" منها شيء، وإنما تعتمد "البصائر" على شيء واحد، وهو قيمة الاشتراك وثمن البيع، فإذا قصر هذا المورد ففي جهود مديرها الخاصة ما يضمن انتظام صدورها واستمراره، ولكن هذه الجهود لا تقوم قاعدة عامة لتسيير مشروع عظيم كجريدة "البصائر".
وقد تعففت عن المطاعم المشتبهة، والموارد الكدرة، ولو أغضت قليلًا وترخصت لكانت أغنى جريدة في هذا الشمال، فقد عرضت عليها مئات الآلاف ثمنًا للإعلان عن شيء تسعه الإباحة، ويضيق به المبدأ، فآثرت المحافظة على المبدإ، وعُرض عليها مليونان في السنة ثمنًا للإعلان عن سلعة تتجاذبها جوانب منها المريب، فأعرضت عنها ترفعًا، وعرض عليها نصف مليون ثمنًا لفتيا، فرأت أن هذا المال هو جزء من آلاف الأجزاء مما يؤخذ من الأمّة الإسلامية الجزائرية بهذه الفتوى، فأعرضت عنها، وأن صغار النفوس من الفقهاء ليبيعون مثل هذه الفتوى ببضعة آلاف من الفرنكات.
كانت "البصائر" في سنتيها الماضيتين تخرج كفافا لا عليها ولا لها، أو تخرج بقليل من الدين يسدّد من دخل السنة الجديدة، فلما ضربت الأزمة العامة بأرواقها ظهر أثرها على "البصائر" من نصف السنة الماضية متجلّي الأسباب في النقص الملموس في البيع، وفي ارتفاع أجور الطبع وسعر الورق، وفي النفقات غير الاعتيادية كالاشتراك في صندوق المنحة العائلية، وفي متخلفات الباعة، وفي كثرة ما توزّعه الإدارة مجانًا في المبادلات والهدايا للشرقين العربي والإسلامي وللأميركتين الوسطى والجنوبية، وقد بلغ هذا الفصل الأخير أربعمائة نسخة من كل عدد، وهو شيء لازم لجريدة كـ"البصائر"، قيمتها المعنوية في الدعاية إلى العروبة والإسلام، ووظيفتها السامية هي تبليغ الدعوة الإصلاحية لا التجارة والربح المادي، وفي جنب هذه المعاني لا يستكثر أن تنفق ستون ألف فرنك في الشهر على المتخلفات والهدايا.
تنفق إدراة "البصائر" على العدد الواحد أكثر من مائة ألف فرنك، فالمبلغ الاعتيادي من النفقات هو خمسة ملايين في السنة على التقريب تُزاد عليها النفقات غير الاعتيادية فيرتفع(2/367)
المبلغ إلى ستة ملايين تقريبًا في السنة، والحاصل من الاشتراك والبيع لا يفي بهذا المبلغ، ولو كان في صندوق جمعية العلماء فضل من المال لأنفقت منه على "البصائر" وسدّدت عجزها لأنها لسان حالها، ولكن صندوق الجمعية المتكوّن من ذلك المبلغ الطفيف من الاشتراك لا يكاد يقوم بواجبات إدارتها وموظفيها.
هذه حقائق نواجه بها قرّاء الجريدة وأنصارها والمعجبين بها، حتى يكونوا على يقين مما نعاني، وحتى نقيم لهم العذر في فتحنا للاكتتاب العام لـ"البصائر" وحتى تكون هذه الحقائق حافزة لهممهم إلى الاكتتاب، وإذا كانوا يعتقدون- كما هو الوائع - أن "البصائر" سدّت فراغًا لا يسدّه غيرها، وأنها أصبحت رمزًا للعروبة بهذا الوطن، وأنها أعلت من قدر الجزائر وأغلت من قيمتها، وأنها مفخرتها الوحيدة فليعتقدوا- مع ذلك- أن لها على كل جزائري حقًا، بل على كل ناطق بالضاد في الشمال الإفريقي.
ونحن نعتقد- وأصحاب القلوب الحية معنا في هذا الاعتقاد- أن من جوانب النقص المعيب في الأمّة الجزائرية ونهضتها أن لا تكون لـ"البصائر" مطبعة خاصة، وأن لا تكون يومية، وأن لا تساندها مجلة علمية تخدم مبدأ جمعية العلماء وحركتها الإصلاحية الجليلة.
وبينما نحن نشكو هذه الضائقة ونحاول أن نجد لها حلًّا، أو أن نضع لها حدّا، تفاجئنا المطبعة بكتاب رسمي، تنذرنا فيه- مع الأسف- أن الظروف اضطرّتها إلى أن تزيد في أجرة الطبع ثلاثة وعشرين في المائة ابتداءً من الشهر القابل جانفي 1951.
فقلنا: (اشتدى أزمة) فوالله أنها لعزمة منا أن نشتد معك، وأن لا نمكّنك من لسان العروبة فتخرسيه، ومن هيكل الجزائر فتضرسيه، فهل لأبناء العروبة عزمة على المضي مثل عزمتنا؟ ذلك ما سيسجله التاريخ في كتاب، ويشهد له أو عليه الاكتتاب.
...
ونحن ... فإننا لم نأس على شيء مما سبّب الفتور لـ"البصائر" ورماها بالعجز والتقصير، ما أسينا على حقوق قد ضاعت، ويعزّ على "البصائر" أن تضيع، وعلى مواقف مرّت مع الزمن، ولم تكن لـ"البصائر" فيها صولة يخرّ لها الباطل صريعًا، أو جولة تذر المبطلين أشلاء، أو كلمة تتنزل بالنصر على إخوان عزّ ناصرهم، وتتهلّل بالبشر مع إخوان لا يجود عليهم الزمان العبوس إلا بيوم ضاحك في السنة، وتفيض بالدمع- وهو أيسر الجزاء وأكبر العزاء- لإخوان عقدت أفراح الطغاة على مناحاتهم، ونزل الظلم القاهر على العتو العاهر بساحاتهم.(2/368)
من تلك الحقوق التي ضاعت فرصتها، وأجرضت غصتها، حق عيد العرش المحمدي الذي تخفق أكمدتنا فرحًا به قبل أن تخفق أكمدة إخواننا المغاربة، ومنها حق إخواننا الليبيين الذين طلعت عليهم شمس يوم بالفرحة الكبرى فلم نشاركهم فيها، ولم نتقدم إليهم بجهد المقل من نصيحة خالصة هي أثمن ما يهدي الجار إلى جاره، أو دعوة صالحة هي أقل ما يَرْفِد به المؤمن أخاه، ومنها حق إخواننا شهداء "النفيضة" ومأساتهم الدامية، التي لقينا من برحها ما لقيه إخواننا التونسيون، ومنها حق إخواننا الصحافيين المصريين الذين أريدوا على ما يراد عليه الحُرّ الأبي، فاستنكفوا الحمل على الهضيمة، ومنها المؤلفات والمجلات التي تهدى لـ"البصائر" من أنصارها والمعجبين بها من الشرق والغرب، وكلهم آمل أن تقول "البصائر" فيه كلمة، وأن تعرف كتابه وتقدّمه للقرّاء، تقريظًا أو نقدًا، وقد كثرت هذه الهدايا في هذه السنة كثرة دلّت على ما لـ"البصائر" في نفوس أولئك الإخوان من مكانة وقيمة.
هذا ما تأسى عليه "البصائر"، لا على (ورق) ينقطع ثم يعود، وكف تبخل ثم تجود ...
وان عسى أن تقضي من هذه الحقوق ما لم يفت بفوات زمنه.
...
لم تكن هذه العوائق في حسابنا، يوم كتبنا ما كتبنا في افتتاحية السنة الماضية ووعدنا فيه بما وعدنا، فاسترسلنا مع الأماني حتى تجسمت وكأنها حقائق، وقد أدّبنا الزمان بعوائقه وبوائقه، فأصبحنا لا نعد وعدًا لا نثق بإنجازه، وهدنا إلى الزمن نستعتبه في ما تجري به تصاريفه، ومن ثم فإننا لا نعد القرّاء في هذ السنة شيئًا من التحسين أو التلوين إلا بقدر ما تسمح العوائق، ومن فضلة ما تسأر الأحداث، ولخير من حلاوة وعد تعقبها مرارة الاخلاف- مرارة صبر تتلوها لذة المفاجأة.
ويعتب علي بعض الإخوان بالكلام الكثير والرسائل الوفيرة هجري للكتابة في "البصائر" ويعدون ذلك هو السبب أو هو أقوى الأسباب لهذا الفتور الذي اعترى "البصائر" في سيرها، ويقول كاتب: إن "البصائر" فقدت روعتها وسحرها. ويقول غيره ما يشبه هذا الكلام، ويقول غيرهما غيره، ويتهمني آخرون بأنني أشوق ثم أعوق، ويغريني بعضهم بأنواع من المغريات استفزازًا واستثارة، ويتداهى بعضهم لتحريكي فيقول لي: إن قلمك ليس بذاك، وإن قومك لا يقرأون للقلم، ولكن للاسم، إذ ما زالوا على نوع من عبادة الأسماء، إلى غير ذلك مما تواجهني به الألسنة والأقلام، وعفا الله عن إخواني وصنع لهم، لكأنهم يقولون في لسان باقل: انه سيف أغفلته الصياقل، وأنا- مع اعتزازي بحسن ظن الإخوان- قائل لهم: إني لا(2/369)
أرى لهذا القلم منزلة ترفع "البصائر" كالتي تضعونه فيها، ولوددت- والله- لو أقررت أعينكم بما تبتغون منه، وما كان هجري للكتابة في هذه الأشهر دلالًا يداوى بالصد، ولا ملالًا يعالج بالمغريات، ولكنني رجل ممتحن بالعمل لهذه الحركة المباركة في جميع جهاتها، وقد تشعّبت حتى كاد آخرها يعطل أولها، فإذا هجرت الكتابة في "البصائر" فلأن عملًا ما استأثر بالوقت كله، ولأن عملًا آخر ينتظر، وقد ابتلتنا حالة الأمّة وقلّة الرجال بنوع غريب من النهم في العمل مغافصة في الدقائق، وإشفاقًا من العوائق، كل هذا مع طوارق من المرض، بعض أسبابها السن، وبعضها الإجهاد، وبعضها الإهمال، ويا ويح أمّة تلقى العدد العديد بواحد ...(2/370)
رحلتنا إلى باريس *
رحلنا إلى باريز، أنا والأخ الأستاذ الشيخ العربي التبسي، في أواخر شهر أكتوير الأخير، وأقمنا بها خمسين يومًا، ثم رجعت وأقام الأستاذ التبسي لإتمام بقايا من الأعمال ومن العلاج.
نحن نعلم أن الأمّة متشوفة إلى الاطلاع على أسباب هذه الرحلة ونتائجها الإيجابية أو السلبية، وقد ألمّت الجرائد الفرنسية هنا وفي باريز ببعض أسبابها وتكلم بعضها في صلب القضية، وفيها المنصف المصيب وفيها المتعسف المخطئ، أما نحن فلم نشأ أن نكتب عن الرحلة، لا قبلها ولا في أثنائها، ولنا في ذلك رأي، ليس منه التكتم، فما في الحقيقة كتمان، وما تعوّدنا أن نتكتم أو أن نعمل في الخفاء، ولكننا كنا نرى أن الكلام عن الشيء في مبادئه هو من باب الأخبار، فربأنا بالوقت أن يشغل بالأخبار، فتركناها لأهلها يخوضون فيها، وتربصنا بالكلام إلى نهاية الرحلة.
ذهبنا إلى باريز لخدمة قضيتين، باريز هي مركزهما، وهي ميدان الأعمال لهما، الأولى قضيتنا المعروفة ذات الشعبتين، وهي فصل الحكومة الجزائرية عن الدين الإسلامي، وحرية التعليم العربي، وهي القضية التي قضينا عقدين من السنين في الحديث عنها، والخطابة فيها، والمطالبة بها وما زلنا- إلى أن يبلغ الحق فيها أمده- نتحدث عنها، ونخطب فيها، ونطالب بها، وما زالت حكومة الجزائر متصامة عن صوت الأمّة فيها، نخاطبها بالكلام الفصيح، والحق الصريح، فكأنما نخاطب صخرة صمّاء، ونجلو الحقائق الواضحة عليها، فكأنما نعرضها على مقلة عمياء، فلما عيينا بالأمر ذهبنا إلى باريز لعلمنا أن الأمر منها بدأ وإليها يعود، وأن نقل القضية من هناك إلى هنا إنما هو حيلة وتداه، كنقل قطع الشطرنج من بيت
__________
* "البصائر"، العدد 136، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 8 جانفي 1951م.(2/371)
في الرقعة إلى بيت، لا تنقل القطعة من بيت إلا على نية نقل آخر، والرقعة واحدة ... ذهبنا إلى باريز ولقينا بقضيتنا المسؤولين من رجال التنفيذ، ورجال التشريع، ورجال الصحافة، وشرحنا القضية على أكمل وجه، وأنرنا جوانبها بنور البرهان ورأينا وقلنا وسمعنا وقارنّا بين الأصل والفرع، وسنفصل ذلك كلّه في كلمة في الأعداد الآتية، وفي أحاديث نجمع الناس عليها في العواصم الثلاث، في وقت نعلن عنه قريبًا.
...
القضية الثانية قضية إخواننا الجزائريين النازحين إلى فرنسا في سبيل العمل للقوت حينما ضاقت بهم بلادهم، وتنكرت لهم، وشخت عليهم بما تنبت وما تنبط، فخرجوا كرهًا في صورة طوع، وجبرًا في هيئة اختيار، وان عددهم في فرنسا لكثير، يبلغ مئات الآلاف، وان لهم علينا لحقّا أكيدًا في أن نتعهّدهم بالموعظة، كما تعهّدنا إخوانهم هنا، وأن نتسبب إلى تأسيس مدارس هناك لتعليمهم وتعليم أبنائهم، حتى تبقى نسبتهم إلى الإسلام محفوظة، وعلاقتهم بالإسلام متينة، ولجمعية العلماء في هذا الميدان سابقة فضل بحركة التعليم التي كوّنتها في فرنسا قبل الحرب ومدّت لها في انتشار حتى كادت كل موطن منها فيه مسلم جزائري، وقد آتت تلك الحركة ثمارها، ولكن الحرب الأخيرة قضت عليها وذهبت بما لها من مؤسسات، فكان من مقاصدنا في هذه الرحلة أن نعيد تلك الحركة المباركة أقوى مما كانت، فخالطنا إخواننا هناك وحادثناهم، فابتهجوا بهذه البوادر الطيبة وحييت فيهم الآمال، واجتمعنا بهم في مجاميع محدودة، ثم عقدنا اجتماعًا في "ليل" من مدن الشمال، ثم عقدنا اجتماعًا حافلًا في باريز، تحت رعاية شعبة جمعية العلماء بها، ورأينا من الإقبال والاستعداد ما شجّعنا على المضي في العمل، وقوّى أملنا في النجاح.
سنفيض القول في هذا الموضوع، وفي الخطوات الأولى التي خطوناها في المشروع، في الأحاديث العامة التي سنجمع لها الأمّة، وفي الأعداد الآتية من "البصائر" إن شاء الله.(2/372)
بيان من رئاسة جمعية العلماء
- 1 - *
إن علاقة الجمعيات المحلية القائمة بتسيير المدارس بجمعية العلماء، ليست علاقة أدبية فقط، بل هي علاقة عملية، تترتّب عليها مسؤوليات ثقيلة. وعليه، فإننا نخبر إخواننا
رؤساء وأعضاء تلك الجمعيات، أن كل رسالة يكتبها إلينا أحدهم باسمه الخاص في المسائل المتعلقة بالمدارس ومعلّميها، مما يتوقف على رأينا، فإننا لا نعتبرها، ونعدّها لغوًا.
فعليهم، إذا حدث شيء يقتضي الإخبار بشيء، أو الطلب لشيء، أن يجتمعوا ويقرّروا رأيًا غالبًا أو مجمعًا عليه، ويسجّلوه في دفتر الجمعية، ثم يرسلوا إلينا بنسخة من ذلك القرار، عليها الرقم المسجّل في الدفتر، وختم الجمعية، وإمضاء رئيس الجلسة وكاتبها، وتكون الرسالة في ورقة مطبوعة باسم الجمعية، فإذا اختلّ شيء من هذه الشروط فإننا لا نعتبر شيئًا منها ولا نتقيّد به ولا يكون علينا حجّة.
دعانا إلى هذا البيان حوادث وقعت في هذه السنة في بعض الجهات، فكانت تأتينا في شأنها رسائل فردية من بعض أعضاء الجمعية المحلية، ممن نعرفهم بأسمائهم وأشخاصهم، فنهتم ونرسل المندوبين للتحقيق وننفق النفقات، فإذا تلك الرسالة لا تعبّر إلا عن رأي صاحبها، وقد تأتينا رسالة أخرى من عضو آخر نعرفه، تثبت ما نفت الأولى، وتنفي ما أثبتت، فنقع في فوضى تفسد الأعمال أو تعطلها، أو تؤذي إلى أحكام خاطئة.
وقع هذا وتعدّد، وأدّى إلى مفاسد، ونحمد الله على أنه قليل، وعلى اْنه نبّهنا إلى التشدّد في النظام المعين على العمل، ووجب التنبيه للإخوان المتعاونين على الخير، فليلتزموا العمل بما بيناه.
رئيس جمعية العلماء:
محمد البشير الإبراهيمي
__________
* "البصائر"، العدد 136، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 8 جانفي 1951م.(2/373)
- 2 - *
تشعّبت أعمال جمعية العلماء وتكاثرت، وأصبحت تستدعي تنقلات متوالية قد تستغرق العام كله، وهذه الأعمال والتنقلات منصبة بحكم الضرورة والطبيعة على رئيس الجمعية، وقد أكلت أوقاته كلها، وأوشكت أن تخرج عن طوقه فتقع الفوضى والاختلال، فرأى المجلس الإداري للجمعية أن يشدّ عضده بعون ينتدبه لبعض ما كان يقوم به من الأعمال، فيخفف عنه بعض العناء، فوقع الاختيار على الشيخ العباس بن الشيخ الحسين المدرّس بالمعهد الباديسي، لكفاءته واقتداره ونشاطه، فأُعفي من التدريس بالمعهد، وأُلحق بمكتب الرَّئِيسُ، ليستعين به على تصريف الأمور، وليكون نائبه في كل ما يوجّهه إليه من شؤون المدارس والجمعيات والشعَب والمعلّمين والجمهور.
بينا هذا ليعلمه جميع أعضاء الشعب والجمعيات والمعلمون، وليعتبروه نائبًا عن الرَّئِيسُ في كل ما يباشرونه من شؤونهم، وليكونوا معه يدًا واحدة على الخير والحق.
رئيس جمعية العلماء:
محمد البشير الإبراهيمي
__________
* "البصائر"، العدد 136، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 8 جانفي 1951م.(2/374)
من ثمرات الأخوة الإسلامية
شخصية باكستانية تزور الجزائر *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ما زال الإسلام- وإن ضعفت آثاره في نفوس أهله وضعفت عقولهم عن فهم حقائقه- يشعّ بالروحانيات التي تقهر المادة وتغلبها على سلطانها، حتى في أيام صولتها وحولها، وما زال يجمع قلوب أبنائه على نوع غريب من الأخوة تُنسيهم إياه الأحداث، ثم يتنبّه في نفوسهم بأيسر منبّه.
أمعنت عوامل الشر في تشتيت المسلمين والتبعيد بين قلوبهم باختلاف المذاهب والمنازع في الدين والدنيا، وبين أبدانهم بالسدود المانعة، والحدود الفاصلة، وبين ألسنتهم بكثرة اللغات والرطانات، ولكن قوة الروحانية في الإسلام تغلّبت على تلك العوامل كلها وأبقت في نفوس المسلمين سمة ثابتة لا تنمحي، ولكنها تختفي حتى تظنّ بها الظنون، ثم تستعلن فتخيب الظنون.
ولو أن أمة ذات دين ظهر بها وظهرت به، ثم أصابها بعض ما أصاب المسلمين من انحلال وتفكك وبلايا ومحن لَنسيتْ دينها أو لَكفرتْ به ولم يبق من آثاره فيها ولا من آثارها فيه شيء، ولكنّه الإسلام، ولكنه سلطان الإسلام على النفوس.
زار الجزائر في الأسبوع الماضي ضيف باكستاني مسلم يجمع بين ثقافة إسلامية عالية، مظهرها فهم عميق لحقائق الإسلام، واطلاع واسع على دقائق تاريخه، وتطبيق حكيم لنظريات الإسلام على تطورات الزمن، وبين ثقافة إنكليزية واسعة، مظهرها تمكن من لغة الانكليز وآدابها، وتأثر بسعة صدور الانكليز وصراحتهم واعتدادهم بأنفسهم ... ، يجمع بين الثقافتين من غير أن تضار إحداهما الأخرى لتمكنه فيهما معًا، ممّا يدل على أن مضارة ثقافة لثقافة إنما تكون من القوية في نفس المثقّف للضعيفة فيها.
__________
* "البصائر"، العدد 136، السنة الرابعة، 8 جانفي 1951 (بدون إمضاء).(2/375)
هذا الضيف الكريم هو إنعام الله خان، الكاتب العام للمؤتمر الإسلامي الذي سينعقد في شهر فيفري القادم في كراتشي عاصمة الباكستان تحت إشراف الشعب الباكستاني. والأستاذ إنعام الله خان يمثل ديموقراطية الإسلام الصحيحة، فهو يتمنى الخير لجميع الناس بشرط أن يكون حظ المسلمين من ذلك الخير موفورًا، ومكانتهم بين الناس محترمة، وهو مزهو باستقلال بلاده كما هو مزهو باستقلال أندونيسيا وليبيا، وهو لا يدين بالوطنيات الضيّقة المحدودة وسفّه أصحابها، وهو يرى أن القوتين المتناحرتين في العالَم، المتعاونتين - بقصد أو بغير قصد- على إزعاجه وترويعه، سائرتان بالبشرية إلى الإبادة والاستئصال، وأنه لا ينجي العالم من شرّهما إلاّ واسطة قوية ذات خصائص روحية فعالة، هذه الواسطة هي الإسلام في مثله العليا لا غيره، يحقّق مطالب الروح والجسم معًا، ويؤلّف بين ما نراه متنافرًا منها، ويقمع الغرائز الحيوانية فيردّها إلى الاعتدال، والاعتدال هو الحلقة المفقودة في تينك القوتين. ويقول: لو أن عقلاء الأمم، المشفقين على العالم الإنساني، المتشائمين من حالته الحاضرة، أدركوا هذه الخصائص في الإسلام، لَأتوا إليه مذعنين، ولَحكموه فيما شجر بين الفريقين، ولو فعلوا لَوجدوه الحكم الذي ترضى حكومته، لأنه يحقّق لكل فريق رغبته، بطريقة لم تخطر على بال مصلح.
والأستاذ إنعام الله خان يقوم برحلة طويلة في الأقطار الإسلامية داعيًا إلى المؤتمر الإسلامي، فبعد أن أقام في "لايك ساكسس" من أمريكا، داعيًا لمصلحة دولته في قضية كشمير، مرّ بلندن ثم بباريس، وهنالك زار وفد جمعية العلماء، واجتمع بكثير من رجالات المغارب الثلاثة، ومن هناك بدأ برنامجه في زيارة الأقطار الإسلامية، فزار المغرب الأقصى ومكث فيه ثلاثة أيام، ولقي من إخواننا هناك حفاوة شرحت صدره وأنطقته بالشكر، ثم زار الجزائر- على ما سنصف- ومنها إلى تونس فليبيا، فالقاهرة، فأنقرة، فدمشق، فبيروت، فبغداد، فكراتشي.
...
كان هذا الضيف المحترم على وعد مع رئيس جمعية العلماء باللقاء في الجزائر، عيّنا فيه اليوم والساعة منذ اجتماعهما في باريس، فلما كان مساء يوم الخميس 21 ديسمبر الماضي ذهب الرَّئِيسُ لاستقباله في مطار الجزائر (ميزون بلانش) (1) وكان في اسقباله أيضًا جماعة من رجال الحركتين الوطنيتين، فحيوه جميعًا وهنأوه بسلامة القدوم، وتجلت الأخوة الإسلامية، فكأنه لم يكن ضيفًا حلّ ببلد غربة، وانما هو جزائري غاب ثم آب، ثم سار به موكب
__________
1) "ميزون بلانش": كلمة فرنسية معناها "الدار البيضاء"، ويسمّى الآن مطار "هواري بومدين".(2/376)
الاستقبال إلى نزل (ألّيتي) ليستريح قليلًا ويغيّر بذلة السفر، ثم ذهب إلى دار الرَّئِيسُ فتناول فيها طعام العشاء وسمر إلى نصف الليل، وفي صباح الجمعة 22 زار ضريح المرحوم علي الحمّامي الذي عرفه وشهد نقل جثته من كراتشي، وتناول الافطار في ذلك اليوم في ضيافة حزب البيان، وعلى الساعة السادسة من مساء الجمعة أقامت له جمعية العلماء بمركزها حفلة شاي حضرتها طائفة من معلّمي مدارس جمعية العلماء وطائفة من رؤساء شُعَب الجمعية، وطائفة من رجال الاصلاح، وطائفة من رجال الحزبين البارزين (2)، وخطب الرَّئِيسُ فرحّب بالضيف وأفاض في تحليل أخوة الإسلام وآثارها واستخدامها في الخير العام والرحمة الشاملة، وترجمت خلاصتها للضيف بالإنكليزية، فردّ عنها بخطبة كلها تأييد ونصح للحاضرين بالرجوع إلى هداية للإسلام، وكان كلامه يترجم للحاضرين جملة جملة، فيؤثر فيهم أبلغ التأثير، وبعد الحفلة تناول العشاء في ضيافة حزب الشعب.
وفي صباح السبت ألقى محاضرة باللغة الإنكليزية في قاعة سينما "دنيازاد" وكانت الدعوة باسم الأستاذ مراد كيوان صاحب مجلة "الإسلام الفتى"، وبعد أن قدّمه الأستاذ أحمد توفيق المدني بكلمة عربية والأستاذ كيوان بكلمة فرنسية قام الضيف المحاضر فألقى محاضرته جملة جملة، وكان نظام الترجمة بديعًا حقًا، فقد وقف الأستاذ كيوان عن يمين المحاضر والأستاذ المدني عن يساره، فيلقي المحاضر الجملة بالإنكيزية، فيترجمها كيوان بالفرنسية، فيترجمها توفيق إلى العربية الفصحى، فيسمع السامع ثلاث لغات في نسق واحد كأنها من لسان واحد.
أما المحاضرة فكلها في تمجيد الإسلام وأخذ المثل العليا من سير رجاله، وخصّ المحاضر ثلاثة من الصحابة هم مجالي القدوة للمسلمين في خلال انفردوا بها: بلالا في الصبر والثبات، وأبا بكر في السبق إلى الحقّ مع منافاته لما شبَّ عليه وشاب، وعلي في الايثار وبيع النفس والفداء حين بات على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الهجرة وهو يعلم أنه الموت. وما أحلى ذكره لغار حراء ووصفه بأنه منارة النور.
ثم استخرج من عبر التاريخ الإسلامي والتاريخ الإنساني ما بلغ به الغاية من التأثير، ثم وصف شيئًا من حالة المسلمين اليوم وصف العالِم الواسع الاطلاع، وجش مواطن الألم فأدهش، ودلّ على مطالع الأمل فأنْعَش، وكان في كل ذلك بارعًا.
وبعد انتهائه وهدوء عاصفة التصفيق قام رئيس جمعية العلماء فانتزع من المحاضر ومحاضرته أمثلة ضربها للسامعين مؤكدًا على تطبيقها ومقارنتها، ومنها آثار سبق التربية الإسلامية إلى النفوس، وسبق دراسة التاريخ الإسلامي الصحيح إلى الأذهان، ونعى على
__________
2) الحزبين البارزين: هما حزب البيان، وحزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية.(2/377)
مثقّفينا جهلهم بتاريخ الإسلام وقعودهم عن دراسته، ونسب زهدهم فيه إلى تنفير المدارس الابتدائية منه لأنها لا تذكر لهم من تاريخ نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - إلّا ما ينفّر النفوس البدائية منه مثل أنه كان يتيمًا، وأنه كان يرعى الغنم، وأنه كان فقيرًا، وأنه تزوج امرأة كبيرة غنية وهو شاب، وهذه الجمل إذا لم تُفسَر بمعانيها العليا فسّرتْ نفسها بمعانيها السفلى في نفوس الصغار، وهنا تنفير متعمّد.
ثم خرج من ذلك إلى لزوم الأخذ بالتربية الدينية والتعاليم الدينية، والتاريخ الديني من أول مرحلة في العمر، وأن هذه التربية هي التي كوّنتْ ضيفنا وحمته وصيّرته بحيث يدخل البحر ولا يغرق.
وقام بعده السيد أحمد بودة، فرحّب بالضيف باسم حزب الشعب ونوّه بالمقاومة الجزائرية، وقام بعده المحامي أحمد بومنجل فحيّا الضيف باسم حزب البيان، وختم رئيس جمعية العلماء الاحتفال بكلمة وجّهها إلى المسؤولين في لزوم التضامن والاتحاد، وإلى الحاضرين في لزوم التعاون على تحقيق هذا الاتحاد، فابتهج الحاضرون وصفقوا تصفيقًا أبلغ من التعبير عن تشوف الأمة للاتحاد وشعورها بضرر الخلاف وشرّه.
وفي صباح الأحد زار الضيف- ومعه جماعة من رجال حزب الشعب- مركز جمعية العلماء للمرة الثانية، وفي المساء شيّعه إلى المطار في طريقه إلى تونس الرَّئِيسُ في جماعة من رجال المركز ورجال حزب الشعب وسافر مشيّعًا بالحفاوة، كما قدم مستقبلًا بالترحيب.
هذا وقد استقبل الضيفُ في محله من النزل ممثلين لهيآت الشبان والجمعيات الفنية والرياضية، وتلقاهم سائلًا منقّبًا دارسًا.
رافقته السلامة.(2/378)
افتتاح مدرسة بسكرة *
تلخيص الحفناوي هالي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
باسم الله، ثم باسم العلم، والعروبة والإسلام، وباسم الجزائر العربية المسلمة، أفتح مدرسة التربية والتعليم الإسلامية ...
إنكم ستسمعون مني كلمات من باب الحمد والشكر، ولكنها من باب الحث والازعاج، وسأصل بها مبدأ هذا العمل بنهايته، فقد بدأناه مجتمعين، وختمناه مجتمعين، ولكن كل أعمالنا فيه تعدّ شيئًا يترقب تمامه، فإذا كنتُ قاسيًا في كلامي فذلك لأن عملي معكم نسخة من عمل الطبيب: يجرح ولكنه يبرئ.
وما دمنا في موقف استنهاض الهمم وشدّ العزائم، وما دمت عارفًا بأسرار لغتي وتاريخ أجدادي، فإنني أوثر أن يكون افتتاح هذا الحفل التاريخي بالشعر، كما كان أجدادنا يقيمون المنابر لشعرائهم بين السماطين، في مقامات المفاخرة والمنافرة، وفي مقامات الصلح وحمل المغارم، وفي مقامات الاستنجاد والاستنصار، فيشحذون العزائم، ويهيئون النفوس لاقتحام العظائم، لأن الشعر عندهم هو الرقية التي تسل الأضغان، وهو الوصلة التي تصل بين شعور المتكلم وشعور السامع.
وقد كان الشاعر يطفئ نائرة أو يسعرها ببيت من الشعر، وقد كانت الجيوش تنتصر أو تنهزم ببيت واحد من الشعر، وكم من بطل همّ بأن يكع في المجال الضنك، فيردّه إلى الحفاظ والنخوة بيت من الشعر يذكره ... رووا أن معاوية بن أبي سفيان هم بالهزيمة يوم صفين، فما ردّته عن ذلك إلّا أبيات ابن الإِطْنابة التي يقول فيها:
وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ: … مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي
__________
* "البصائر"، العدد 140، و141، 5 فيفري 1951.(2/379)
ورووا أن ابن هانئ الاندلسي، شاعر الزاب (وطنكم هذا) وشاعر الدولة الفاطمية، أنشد ممدوحه قصيدة من الشعر والممدوح راكب، وفوارسه حافة به، فلما بلغ إلى قوله يخاطب الجيش الراكب:
مَنْ مِنْكُمُ المَلِكُ المُطَاعُ كَأَنَّهُ … تَحْتَ السَّوَابِغِ تُبَّعٌ فِي حِمْيَرِ
ترجل الجيش كله، ولم يبق راكبًا إلّا الملك الممدوح، وهو جواب ليس له في الأجوبة المكتوبة ولا المنطوقة نظير.
بذلك كان الشعراء في العرب يتولون قيادة النفوس، كما كان العلماء في الإسلام يتولون قيادة العقول، وبتلك القيادة استطاع الشعر أن ينشر فيهم مكارم الأخلاق ومحامد الشيم، وبذلك غدا أجدادكم العرب مضرب المثل بين الأمم في سخاء اليد وشرف النفس وكرم الطبع وقوة العزيمة.
فأنا أريد أن أرجع بكم إلى ذلك الماضي الجليل، ولئن قال لنا أقوام: إنكم تعيشون في الماضى القديم، لَنقولن: إننا نعيش بالاستمداد من الماضي، والعمل للحاضر، والاستعداد للمستقبل، ولعلكم في هذا المجلس سترتفعون بالذكريات إلى الماضي الخالد، حين تستمعون من الشعر ما يمثل لكم زهيرًا والنابغة في الأوّلين، وأبا العتاهية والمتنبي في المحدثين حين تسمعون الوصية ممزوجة بالحكمة مدغمة في النصيحة معجونة بالفخر، من شاعر بسكرة، بل شاعر الجزائر بل شاعر العروبة والإسلام- ولا أحابي- محمد العيد آل خليفة.
إنَّ حجب الغيب شفافة عند الشعراء، فأذكر أنني منذ سنوات كنت هنا ببسكرة أخط الخطوط الأولى من التدبير لمدرستكم التي نفتحها اليوم، وكانت المعاكسات واقفة لنا في كل مسلك، ثم عرجتُ على مدينة "باتنة" على وعد لإقامة حفلتها المدرسية، فوقف شاعرنا محمد العيد في ذلك الحفل يلقي قصيدته العينية المشهورة، يذكر فيها أعمالي ويسألني- في لهفة- عن بلده "بسكرة" وعن حظها في هذه المنقبة وهي بناء المدارس، فيقول:
فهل نخلت أرض النخيل شؤونها … وهل شرعت (مشروعها) المتوقعا
وها هو يتلقّى الجواب اليوم وبعد سنوات، فقد نخلت "بسكرة" شؤونها، وأصبح مشروعها واقعًا لا متوقعًا.
إني أجاهركم بأنكم جهلتم قدر شاعركم، وواطأكم على هذا الجهل الجزائريون جميعًا، ولو كان محمد العيد في أمة غير الأمة الجزائرية لكان له شأن يستأثر بهوى الأنفس، وذكر يسير مسير الشمس.(2/380)
(ثم التفت الأستاذ الرَّئِيسُ إلى الأستاذ الشاعر وقدّمه إلى المذياع فألقى قصيدته العامرة بالحكم ومطلعها:
أراكَ- بلا جَدْوَى- تضج من الظُّلْمِ … إلى العِلْم- إنْ رُمْتَ النَّجاةَ- إلى العِلْمِ
وقوطع في أثنائها عدة مرات بالتصفيق والاستعادة. وبعد انتهائه من الإلقاء عاد الأستاذ الرَّئِيسُ إلى الكلام فقال ما معناه بالكثير من ألفاظه:)
الخطباء في الدنيا أنواع، وقد تعوّدتم أن تسمعوني خطيبًا فتتأثرون بما أقول أو لا تتأثرون، كاستماعكم إلى كل خطيب، وإني أقدّم لكم اليوم خطيبًا لا كالخطباء، أحيلكم على خطيب هو أفصح مني لسانًا وأوسع بيانًا وأقوى حجّةً وأبلغ تأثيرًا، أحيلكم على خطيب صامت تستمعون إليه بأعينكم لا بآذانكم، وتفهمون عنه بقلولكم لا بعواطفكم،
وقد تنطق الأشياءُ وهي صوامت … وما كلّ نطق المشبرين كلامُ
هذا الخطيب المفصح المبين هو هذا البناء الشامخ الباذخ الذي يحدثكم عن نفسه فيُعْرِب، ويحدثكم عن أنفسكم فيُطرِب، ويحدثكم عن الخصوم فيدمغ باطلهم ويدحض حججهم، ولئن اعتدنا كثرة الكلام وقلّة الأعمال، فمن واجبنا اليوم أن نسكت ونمتّع النفوس بلذّة العمل وثمرات العمل، وأن نعطي للعين حظّها من المتاع وللسان حظه من الراحة.
إن جمعية العلماء لا تخاطبكم إلّا بهذه الألسن، فهي تبني، ثم تقول للناس: هاؤم انظروا أَعْمَالِيَهْ ... ، على هذه القاعدة سارت منذ نشأت، وبهذه القاعدة نجحت واطرد سيرها، ففي كل يوم رأي يقرّر وعزيمة تفرى ومدرسة تُشيّد، وعلى هذه التربية الصالحة قام رجالها وأنصارها يعملون ثم يقولون، فيكون لقولهم سناد من العمل يقطع الخصم، ويُسكت الألسنة الكاذبة ويضرب للأمة الأمثال، وعلى هذه القاعدة جرى الأمر هنا: فقد قام رجال الجمعية بالبناء كالمعتاد، وقدّموا أملاكهم ضمانًا للسداد، وقدّمتهم للعظائم فتقدموا بلا نكول ولا تردّد، فلمّا تم العمل دَعَوْتُكم للمساعدة والعون، دعوتكم والشاهد في يدي، والبيّنة حاضرة، والعمل نقد لا وعد، وما هذه بأوّل مدرسة تبنيها جمعية العلماء، بل سبقتها عشرات المدارس في العمالات الثلاث (وهنا عدّد الأستاذ الرَّئِيسُ المدارس الضخمة التي شيّدتها الأمة بإرشاد جمعية العلماء وتحت إشرافها، ثم قال:
فهذه المدارس هي حصون الإسلام الحصينة، ومعاقل العربية المنيعة بهذا الوطن، ولولا فضل الله علينا ورحمته وحفظه لكتابه ولغة كتابه لما زكا منا عمل، ولا تحقّق لنا أمل، ولما تمّتْ هذه الأعمال العتيدة، ونحن بهذه الحالة من الضعف والهوان، وقفة الأنصار والأعوان.(2/381)
إننا أسّسنا هذه المدارس بفضل الله ثم بمال الأمة، علينا الرأي والتدبير، والتخطيط والإشراف، ثم التنظيم والتعمير، وعلى الأمة ما وراء ذلك، وقد أنشأنا هذه المشاريع ثم سيّرناها ثم سايرناها وبلونا شروطها ومقتضياتها، فوجدنا أن شرط الوجوب فيها هو الإيمان بحياة الإسلام والعربية والوطنية الصادقة، وأن شروط الصحّة والكمال فيها منحصرة في المال، الذي هو قوام الأعمال. فالمال هو الشرط الأساسي لقيامها، والمال هو الشرط اللازم لحفظها واستمرار وجودها، وإنّي لَأرسلها فيكم كلمة منذرة لا مبشّرة، وهي أن مشاريعكم التي تَمَّت والتي تنتظر، كلها معرَّضة للانهيار والخراب- إنْ لم يكن ذلك اليوم فغدًا- ما لم تُصحِّحوها بما يضمن بقاءها من مستغلات مالية وأوقاف، كما حفظ أسلافكم هذه المآثر التي أبقوها لكم بالمستغلات الموقوفة، ولكنهم احتاطوا لزمنهم المؤمن بما وسعه إمكانهم، فاحتاطوا أنتم لزمنكم الفاجر بما يسعه إمكانكم، ولَأنتم في زَمَن سافر عن فضائله ورذائله، فأنتم أقدر على الاحتياط منهم. وكما يحتاج ما تغرسونه بأيديكم إلى التعَهُّد بالسقي والإصلاح، يحتاج ما تبنونه بأيديكم إلى التعَهُّدِ بالحفظ والرعاية، ومرجع ذلك كله إلى المال، وان الثمار التي تأكلونها من غروسكم اليوم قد دفعتم أثمانها مقدمة منذ سنوات، فكأنكم أقرضتم الأرض، فردّت القرض، ولا تزالون معها كل يوم في قرض. كذلك المدارس، كذلك المدارس!
بهذا المال النزر الذي يتجمّع من الغني والفقير والتاجر والفلّاح والعامل، ومن هذا التعاون الأخوي الإسلامي، بنيْنا هذه المدارس التي تخلد على الدهر، وبمثل هذه المقادير الموزعة التي لا تضرّ أحدًا وتنفع كل أحد، سنقيم بازاء هذه المدارس مستغلات تحفظ دوامها وتصونها من الضياع ...
مدّوا أيديكم لهذا المشروع واسخوا فيه، ولا تضِنُّوا عليه بالغزيز فإنه أعزّ، ولا بالنفيس إنه أنفس، ولا تنفقوا فيه من الفضول بل من الصميم، وإنني حين أدعوكم اليوم إلى البذل فيه لا أدعوكم لتخليص ما تمّ منه، فهذا أقلّ من هممكم، وهذا جناح قد تمّ ونبتَتْ خوافيه وطالت قوادمه وأصبح يدعو لنفسه بنفسه، وإنما أدعوكم لتكميل الجناح الناقص لطائرنا الميمون، وقد نبهكم إلى ذك شاعرنا محمد العيد بقوله:
وطير بديع لو يضم جناحه … إليه لحاز الحسن أجمع بالضم (1)
وإني لآخذ عليه سكوته عن رأس هذا الطائر، ورأسه هو بيوت تشاد لإسكان المدير والمعلّمين، فإذا أتممتم الجناح الثاني، وبنيتم الطوابق العلوية وبنيتم بيوت السكنى،
__________
1) بشير الشاعر إلى أن الذي تم بناؤه إنما هو جناح واحد، ويقابله جناح آخر لم يتم، وقد أبدع في التمثيل بالطير، وفي ذكر الجناحين مع لفظ الضم احسان في التصرف، وتصوير شعرى جميل.(2/382)
أصبحت مدرستكم ذات عشرين قسمًا وقاعة للمحاضرات، وأصبحتم بها جديرين بالفخر والشكر والثناء العاطر وتسجيل التاريخ.
ما أبرك هذه المدارس على الجزائر! وما أسعد الجزائر بها! فقد حركتها إليها يدٌ واحدة ودعاها إليها صوت واحد، فاجتمعتْ وتقاربتْ وتعارفتْ بعد التناكر وإنّي لَأَرى في هذا المحشر وجُوهًا من مدن التلول وقراها، ووجوهًا من قرى الصحراء كلها جمعها داعي العلم ليوم العلم، ولو شهدتم احتفال مدرسة الفلاح بوهران واحتفالات "الغزوات" و"ندرومة" و"الحنايا" و"بني مصاف" بمدارسها، لرأيتم ما هو أعجب من اجتماع الأمة الوهرانية في صعيد واحد استجابةً لصوت العلم.
إن هذا اليوم في هذه البلدة خط فاصل بين الماضي المظلم والآتي المشرق، وفيه تخْطون الخطوة الأولى للمستقبل السعيد، وفيه تَخُطُّون الكلمة الأولى من تاريخكم الجديد، وإن هذا اليوم لا يقنع منكم باليسير، بل بما يمحو زلة التقصير.
إن كنائن "الجيوب" ككنائن الغيوب، هذه يجليها عالم الغيب لمواقيتها، وتلك تجليها الهمم البعيدة الغور وهذا اليوم بعض مواقيتها، وان "الاستطاعة" كلمة لا نقبل تفسيرها من المستطيع، بل تُفَسِّرُها آثار نعمة الله، وقد قال شاعركم منذ الساعة كلمة قطع عليكم بها كل المعاذير، وهي قوله: ولا تجعلوا الآفات للشحّ حجّة.
والآفات التي تتعلّلون بها هي نقص الثمر، وافساد المطر، وكساد السوق وقلّة الموسوق، وهي أعذار، بيض الوجوه عليها أعين سود، كما قال الشاعر الأوّل.
في نفض الجيوب العامرة، رحض للعيوب الغامرة، فاعرفوا على ما أنتم مقدمون، وتوكَّلوا على الله متعاونين على البرّ والتقوى والله معكم.(2/383)
فرية غريبة *
في غمرة الأخبار المتعلقة بالمكيدة المدبّرة التي سمّوها حادثة الجلاوي مع جلالة سلطان - المغرب، وجدت بعض الجهات السياسية منفذًا لفتنة تفتن بها الناس وتلهيهم بحكايتها والتحدث بها عن الانتصار لصاحب الحق في تلك المكيدة، ولتغطي بها الفضيحة التي هي صائرة إليها.
وهذه الفتنة هي (الخلافة الإسلامية). فذكرتها بعض الصحف الفرنسية هنا بكلام مضطرب، ما تعوّدنا أن نلتفت إلى مثله، لو كان صحيح السند، مستقيم المتن، فكيف به وهو مضطرب الأجزاء، مجهول النسبة، ثم نقلته بعض الجرائد العربية المغربية وعلقت عليه.
وقد عنانا من أمر هذه الفرية شيء واحد، وهو ذكر جمعية العلماء مقرونة برأي يقل عن الكذب، ويجلّ عنه الصدق.
ونحن نخشى- إن زدنا على هذه الكلمات- أن نكون قد أبلغنا صاحب تلك الفرية بعض قصده في الفتنة والإلهاء، وإنما نقول: إن جمعية العلماء لا تدخل في هذه الأمور، لاعتقادها أن المسلمين لا يستفيدون منها- بعد الحالة التي وصلوا إليها- إلا كما يستفيدون من وقف الشيخ أبي مدين بعد أن ضاعت فلسطين وضاعت أوقاف الإسلام كلها ...
__________
* "البصائر"، العدد 143، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 19 فيفري 1951م.(2/384)
حركة الإسلام في أوروبا *
الإسلام روح تجري، ونفحة تسري، وحقيقة ليس بين العقول وبين قبولها إلا مواجهتها لها، وليس بين النفوس وبين الإذعان لها إلا إشراقها عليها من مجاليها الأولى. لذلك نراه في جميع مراحل التاريخ يقطع الفيافي بلا دليل، ويقطع البحار بلا هاد، ويغزو مجاهل إفريقيا في الوسط والجنوب، ومنتبذات آسيا في الوسط والشرق، ثم يدخل شرق أوروبا مع الفتوحات العثمانية، كما دخل غربها في القديم مع الفتوحات الأموية، وكما دخل جنوبها مع الفتوحات القيروانية. وهو في كل ذلك يقتحم الأذهان، من غير استئذان. وليست تلك الفتوحات الحربية هي التي غرسته أو مكّنت له، لأن الفتح في الإسلام لم يكن في يوم ما إكراهًا على الدين. وإنما مكّنت للإسلام طبيعته ويسره ولطف مدخله على النفوس وملاءمته للفطر والأذواق والعقول. ولو بقي الإسلام على روحانيته القوية، ونورانيته المشرقة، ولو لم يفسده أهله بما أدخلوه عليه من بدع، وشانوه به من ضلال، لطبق الخافقين، ولجمع أبناءه على القوّة والعزّة والسيادة حتى يملكوا به الكون كله، ولكنهم أفسدوه واختلفوا فيه، وفرّقوه شيعًا ومذاهب، فضعف تأثّرهم به، فضعف تأثيره فيهم، فصاروا إلى ما نرى ونسمع.
لا يعود المسلم إلى العزة والسيادة حتى يغيّر ما به فيرجع إلى حقائق القرآن يستلهمها الرشد، ويستمد منها تشديد العزيمة، وتسديد الرأي وإصابة الصواب ومتانة الأخلاق، فيأخذ دينه بقوة، تهديه إلى أن يأخذ دنياه بقوة، ويقوده كل ذلك إلى أخذ السعادة بأسبابها.
__________
* "البصائر"، العدد 147، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 19 مارس 1951م.(2/385)
ولو كان المسلم مسلمًا حقّا لعرف نفسه، ولو عرف نفسه لعرف أخاه، ولو عرف أخاه لكان قوّيًا به في المعنى، كثيرًا به في المادة. ويوم نصل إلى هذه الدرجة نكون قد أعدنا تاريخ الإسلام من جديد. ونكون قد أضفنا إلى هذا العنصر المادي العصري الفوار عنصرًا روحانيًا فوارًا يلطف من حدّته ويخفف من شدته، فيتكوّن منهما مزاج صالح يصلح عليه الكون كله، لا المسلمون وحدهم.
إنك لترى للمسلمين وجودًا في كل قطر، وتسمع عنهم نبأ في كل ناحية، ولكنهم متفرقون في زمن أصبح فيه التكتل شرطًا للحياة، ومتباعدون في وقت أصبح فيه التقارب أساسًا للقوّة، ومتناكرون في عصر أصبح فيه التعارف أقوى وسائل التعاون. ومنصرفون عن الجامعة الإسلامية الواسعة إلى جوامع أخرى ضيقة الآفاق من جنسية وإقليمية في هذا الزمن الذي يتداعى فيه أتباع الأديان القديمة، ومعتنقو النحل الحديثة، إلى التجمع حول المبادئ الروحية أو الفكرية.
...
وهناك في الأقاصي من شمالي أوروبا طوائف من إخواننا المسلمين المتحدرين من السلائل التركية والصقلبية التي امتزجت في شبه جريرة البلقان، ثم مدّت مدّها إلى النمسا وهنغاريا، ثم نزحت منها مجاميع إلى الشمال، فكان من بقاياها هذه المجموعة المتوطنة في (فنلندا).
ولا نشكّ أن إخواننا هؤلاء قد اصطبغوا بصبغة ذلك الوطن في حياتهم الدنيوية وطرق معايشهم، ولا نشكّ أنهم أخذوا فيها بنظام العصر وقوّته وجدّه، ولكنهم في حياتهم الدينية، مستضعفون محتاجون إلى إمداد من إخوانهم المسلمين في جميع الأقطار، تقوّي ضعفهم المادي وتكمل نقصهم العلمي، وتشعرهم بالعزة والكرامة وترفع رؤوسهم بين مواطنيهم.
ويظهر للقارئ من كلمة الأستاذ محمد فهمي عوض المنشورة في العدد الماضي ومن الصور التي ننشرها اليوم، ومن الرسالة المفصلة التي كتبها إلينا الشيخ حبيب الرحمان شاكر إمام المسلمين في فنلندا، يظهر من ذلك كله ما هم في حاجة إليه، فليس لهم مسجد جامع يؤدّون فيه الشعائر الدينية، وإنما يصلّون الجمعة في قاعة سينما يكترونها لساعات، وليس عندهم من الكتب الدينية العربية شيء إلا المصاحف، وإنما يتمتعون بشيئين مهما تكن قيمتهما غالية فإنهما لا تغنيان عن المفقود. وهما: العقيدة المتينة، والحرية التامة.
وجمعية العلماء تبتهج بهذه الصلة الجديدة بإخواننا مسلمي فنلندا، وتصل بهذه الكلمة وشائج القربى الدينية، وتحرّك بها سواكن همم المسلمين في الشرق والغرب ليلتفتوا إلى هذه الناحية من جسمهم فيداووا علّتها، ويسدّوا خلتها، ويربحوا بها ما يزيد في عددهم، وإن هذا لأقل ما يوجبه الإسلام على المسلم.(2/386)
حركة جمعية العلماء بباريس *
الأستاذ الجليل الشيخ العربي التبسي، عالم القطر ومفتيه، وداعي الرشد ومؤتيه، كما يقول ابن الخطيب في ابن رشد، وهو يمتاز بشعور حاد ملتهب، واهتمام عام بشؤون المسلمين وحالتهم الحاضرة. تحدّثه عن غيرها، وتبعد به عنها ما شئت، فإذا هو منجذب إليها بأدنى مناسبة، ومسترسل في الحديث عنها إلى غير حدّ، وسائق جليسه إلى الخوض فيها، وهو وصاف ماهر لأدواء المسلمين وأدويتها، يفيض كالسيل إذا أفاض فيها.
كانت إقامة الأستاذ التبسي في باريس أواخر السنة الفارطة خيرًا وبركة على الجالية الجزائرية فيها، فقد كان وهو في الجزائر- وما زال- يحمل همّا مضاعفًا من سوء حالتها الدينية والاجتماعية، فلما سافر إلى باريس، ورأى بعينه واطلع على حقيقة الحال، وتصوّر مآل تلك الجالية العظيمة التي تزوجت هناك ونسلت، هاله أن تكون عواقب الآباء والأبناء نسيان الإسلام والعربية العامية فضلًا عن العلمية، والانسلاخ منهما بالتدريج، إن لم تتداركهم جمعية العلماء بالإنقاذ، لأنها هي المسؤولة وحدها عن إنقاذهم، وفي باريس وحدها ما يقرب من مائة وخمسين ألف عامل جزائري. وقد ولد المتزوجون منهم نحوًا من خمسة عشر ألف ولد، وهذا العدد يكون جيشًا كاملًا إن خسرته الجزائر لأسباب قاهرة، فحرام أن يخسره الإسلام والعروبة.
فكّرت جمعية العلماء في أداء هذا الواجب لإخواننا المهاجرين إلى فرنسا، مرّات، بل لم تبرح مفكرة فيه منذ نشأت، وقد باشرته بالفعل في بعض الأوقات بما وسعه إمكانها، وقام الأستاذ الورتيلاني في هذا السبيل المقام المحمود لسنوات قبل الحرب الأخيرة وأمدّته الجمعية بطائفة من المعلمين والمحاضرين، وكان عدد الجالية إذ ذاك أقل، وكان الخطر
__________
* "البصائر"، العدد 148، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 26 مارس 1951م. (بدون إمضاء).(2/387)
المتوغ أخف، أما الآن فقد تضاعف العدد، وتفاقم الخطر، ولا دافع له إلا جهد جبار منظم تقوده جمعية العلماء، ويعاون عليه كلّ مسلم صحيح الإسلام، صادق الوطنية، صحيح الإدراك والتصور للحالة وعواقبها، فهناك أولاد بلغوا الحلم، وهم لا يعرفون شيئًا عن الإسلام، ولا كلمة عن العربية، وهناك بنات بلغن حد التزوج، وهن ينتظرن ما يُهيِّئُه القدر لهن من حظ، وقد شهدنا بالاختبار أن كثيرًا من الأمهات صالحات في الحياة، معينات على تدبيرها، وهن لا يمانعن في تربية أولادهن تربية دينية، إذا وجد من يقوم بها، وهل يقوم بها الآباء؟ وهم أنفسهم في حاجة إلى هذا النوع من التربية.
إن هذا الواجب مؤكد على جمعية العلماء من حيث الإرشاد والتوجيه والتعليم، وعلى الجالية الجزائرية بما فيها من هيئات نقابية وحزبية من حيث العون المادي، كما هو واقع في الجزائر، على أن يبقى مال فرنسا في فرنسا، تسير به الحركة على أيدي هيئات تتكوّن من الجالية لهذا الغرض.
وقد قام الأستاذ التبسي بأول واجب في القضية، وهو لفت الأذهان إلى هذا، وتحضير النظم اللازمة، وتكوين الهيئات العاملة، وبلغ من ذلك كله الغاية، ولم يبق إلا العمل الإيجابي، وهو ما بدأنا فيه منذ الآن.
...
والأستاذ عبد الرحمان اليعلاوي رجل كله عقل، يظهر أثر العقل في أقواله المتزنة، ويظهر في أعماله المنظمة، ويظهر في كتابته الأدبية والسياسية، ويظهر في أحواله المنزلية الخاصة، ويظهر في علائقه بالناس، فهو يواصل بعقل، ويقاطع بعقل، ويحبّ هونًا، ويبغض هونًا، يجادلك في العلم أو في السياسة أو في الاجتماع، فيكون عقله أكبر أعوانه عليك، وأمضى أدواته في الإقناع أو الإلزام، وفي الدفاع وفي الهجوم.
جزائري النسب، لم تزل بقايا أسرته في قرية من ضواحي قنزات قاعدة بني يعلى، ومن هنا جاءت نسبته التي عرف بها، تونسي المولد في بلد سوق الأربعاء، وبها أقاربه الأدنون، زيتوني النشأة الروحية والعلمية، درس في الزيتونة إلى أعلى درجاتها إذ ذاك، وهي درجة (التطويع) وصاحب نهضة الشباب في عنفوانها، وكان أحد العاملين المعدودين لتغذيتها، وشارك في الحركة الدستورية لأول عهدها، فضاقت الحكومة ذرعًا بنشاطه فيها فأبعدته إلى القطر الجزائري بدعوى أنه جزائري الأصل، فأقام بمدينة عنابة نحوًا من ثمانية أعوام، يعلّم ويُلقي دروس الوعظ والإرشاد، وكانت الإرهاصات بظهور جمعية العلماء تتتابع، فكانت دروسه أحدها لاشتمالها على المبادئ الإصلاحية، ثم أظلّه تكوينها وهو في "عنابة"، فهلّل(2/388)
لها ونافح عن مبادئها بلسانه وقلمه، ولم يلبث أن جاوز البحر إلى فرنسا في حدود سنة 1932، واستقرّ بباريس يزاول عملًا كتابيًا شريفًا، وهو عصامي في اللغة الفرنساوية اعتمد في تعلمها على مواهبه وذكائه حتى أتقنها تكلمًا وكتابة، وهو يترجم عنها وإليها كأحسن ما يترجم الذين حذقوها في مدارسها من الصغر. يمتاز الأستاذ اليعلاوي بوفور الحظ من خلال وفضائل نزرت حظوظ أقرانه منها، رأسها الصدق، والوفاء، والإخلاص، وبذل النصيحة والاعتراف بالفضل لأهله، والمسارعة إلى العون، ومن وفائه لإخوانه الذين شاركهم في الطلب والتحصيل بالزيتونة من جزائريين وتونسيين، أنه محتفظ بودّهم، محافظ على عهدهم، فلا يذكرهم إلا بأحسن ما يعلمه عنهم، ويتعهدهم بالسؤال من كل وارد، والتحية مع كل صادر، ومن إخلاصه تفانيه في نشر مبادئ جمعية العلماء، وإنفاق الفضل من أوقاته في التبشير بها والدعوة إليها.
يشغل الأستاذ اليعلاوي من وظائف جمعية العلماء رئاسة شعبتها بباريس منذ سنين وهو معتمدها الوحيد ومرجعها في كل ما لها من علائق وشؤون وراء البحر، والجمعية تثق الثقة التامة برأيه وأمانته، كما تثق بعلمه وعقيدته، وتركن إلى عقله وأناته، كما تركن إلى صدقه وإخلاصه، وتفخر بأن يكون مثله في استكمال التجارب وسعة الاطلاع على رأس حركتها في فرنسا.
والأستاذ اليعلاوي- مع ذلك كله- دائب الحركة، جمّ النشاط، دقيق النظام، منسّق المواعيد، لا تلمّ الفوضى بساحته، ولا تضيّع حزمه بساطة المظهر وهدوء الطبع. وهو لذلك، يتمتع بالاحترام من كل من عرفه، وبسمعة عاطرة هي حلية المسامع والأفواه.
وقد شارك الأستاذ التبسي في كل خطوة خطاها في تمهيد السبيل لتنظيم حركة التعليم والإرشاد بباريس وضواحيها، ونظم الاجتماعات وعلا صوته فيها، بارك الله فيه وأعانه، وسدّد خطاه.
...
والشيخ سعيد البابي واسطة الطبقات الوسطى من تلامذة الأستاذ الرَّئِيسُ المرحوم عبد الحميد بن باديس، الذين ربّاهم على هدي القرآن، وأعدّهم لخدمة هذه الأمّة، وراضهم على الصبر وتحمّل المكاره في سبيلها، وسلّحهم بالفضائل الإسلامية لتأخذ الأمّة عنهم بالقدوة في أعمالهم ما يحملها على التصديق بأقوالهم، طريقة في التربية المثلى كان- رحمه الله- يأخذ بها تلامذته، حتى إذا عاقهم الزمن عن أن يصدروا عنه بعلم غزير، صدروا عنه بفكر نيّر وإرادة قوية وعزيمة شديدة، ومنهج سديد للعمل.(2/389)
والشيخ السعيد مثال نادر في التضحية ونكران الذات، يتصف بكل ما يتصف به الجندي المخلص المطيع في جيش جمعية العلماء فلا يحفظ عنه أنه كلّف بأمر من شؤونها فكانت له فيه كبوة أو تردّد، بل كان يمضي فيه مضي السهم، لا يلوي على مصلحة خاصة، بل بلونا منه أنه يكلف بعمل ما من أعمال الجمعية، وهو في حالة تشفع فيها المعاذير من مرض قريب أو موته فلا يتلكّأ ولا يعتذر.
باشر التعليم مع العاملين في ميدانه فظفر باحترام الأبناء وثقة الآباء، وتكشف عن صبر وحزم وقناعة ودؤب على العمل، قلّ أن تراها مجموعة في غيره؟ وهو الآن مدير لمدرسة التربية والتعليم ببلدة (باتنه)، لا تراه إلا عاملًا في المدرسة، أو عاملًا لجمعية المدرسة، يقوم بما تعجز عنه الجماعة من الأعباء الثقيلة. عمل قبيل الحرب الأخيرة في حركة جمعية العلماء بباريس معلّمًا في أحد نواديها. فلما عزمت الجمعية في هذه الأيام على تجديد تلك الحركة، اختارته ليكون عونًا تشدّ به عضد الأستاذ اليعلاوي في هذا الطور الأول، طور التمهيد والتحضير فيتفقد الفروع التابعة للشعبة المركزية داعية وواعظًا، حتى إذا تمّ التمهيد عزّزته الجمعية بثان وثالث وبكل ما تتطلبه الحركة، فهو طليعة يتبعها أمداد، ورائد تعقبه رواد.(2/390)
الدكتور عبد الكريم جرمانوس *
الدكتور عبد الكريم جرمانوس، مسلم مجري الأرومة، شرقي النزعة، نشأ جبار الذهن، سليم الفطرة، نيّر الفكر، فحدت به نزعته الشرقية إلى ثعلّم أمهات لغات الشرق الإسلامي: التركية والفارسية والعربية، وتعاونت هذه اللغات المتشابكة الأدب والفلسفة، المترابطة التاريخ والمواطن على تكوينه تكوينا شرقيًا جديدًا، ووجّهته بطبيعتها إلى دراسة الإسلام في أصوله الأولى، وانضاف إليها عامل آخر هو فطرته السليمة وفكره النير، فهدته إلى الإسلام، فأسلم إسلامًا صحيحًا مكينًا مبنيًا على الاقتناع الموصل إلى اليقين، والدراسة العميقة المفضية إلى الحق، لا ذلك الإسلام المبني على التقليد المريب، أو على الحيل السياسية المخادعة.
فالدكتور عبد الكريم جرمانوس مستشرق من ذلك الطراز الذي ينفذ إلى لباب اللغات والمبادئ فيتأثّر بها تأثرًا وجدانيًا صادقًا، لا من هذا الطراز الذي عرفنا بعض أفراده ذوي الملكات القاصرة في اللغات الشرقية، والأنظار السطحية فيها، فغاية هؤلاء، الاتجار بالاستشراق وجعله ذريعة لخدمة ركاب السياسيين وسلّمًا للوصول إلى الوظائف.
ما كنا نجهل هذا الأخ المسلم، والمستشرق الصادق، قبل اليوم، فقد عرفناه من مقالاته التي حرّرها بالعربية الفصحى، وقرأنا عن مؤلفاته في كثير من المجلات العربية، وقدرنا من ذلك كله قيمته ووزنه.
وقد اتصل بنا في هذه الأيام، اتصال المسلم بأخيه المسلم، بهذه الرسالة القيّمة التي ننشرها عقب هذا الكلام، فعرفنا فيها بنفسه وبالبواعث الأولى التي حبّبت إليه الإسلام،
__________
* "البصائر"، العدد 148، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 26 مارس 1951م.(2/391)
وببعض نظراته فيه، وبشيء عن نشأة الإسلام في المجر، وشكا شكوى المسلم الغيور على دينه من عوائق انتشار الإسلام في وطنه (هنغاريا).
ونحن نغتبط بهذه الرسالة، ونعدّها عامل اتصال بين الأجزاء المتباعدة من أهل هذا الدين، ونفحة من نفحات الإسلام العاطرة في أوروبا، ونوجّه إلى أخينا عبد الكريم- على بعد الدار- ثناءً خالصًا على هذه التحفة اللطيفة وتحيات تحمل من الربيع روحه وريحانه، ومن الشباب اقتباله وريعانه (1).
__________
1) نص الرسالة منشور بنفس العدد من "البصائر".(2/392)
نغمة شاذة *
كتب الأستاذ "أبو محمد" مقالاته المطولة في المحنة التي نستحي أن نسميها محنة. المغرب الأقصى وملكه وشعبه، لأنها محنتنا جميعًا، ولأنها امتحان لرجولتنا جميعًا، وغمز لكرامتنا وإبائنا جميعًا، فمهما كتبنا فيها وأطلنا، ومهما شرحنا من أسبابها وغاياتها وفصلنا، ومهما انتصرنا فيها لإخواننا المظلومين ودافعنا عنهم- نعد أنفسنا مقصرين عن غاية الانتصار والدفاع، وان منطقنا الصحيح في هذه القضية أن كل مسلم لم يتحرك له لسان ولا قلم فيها- متهم في إسلامه، وأن كل عربي لم يمتعض لها- ضنين في نسبه، وأن كل وطني لم ينتصر لإخوانه الوطنيين المقصودين بالشر فيها- كاذب في دعواه، وبسبب التأثر بهذه القاعدة مس أبو محمد- في ما مس- حزب الشورى والاستقلال، وواخذه بمواقف نظر إليها بغير العين التي ينظر بها الحزب، ولأبي محمد رأيه وفكره وقلمه ومقامه في السياسة، ولكن كثيرًا من إخواننا رجال الحزب تألموا لذلك فتظلموا، وكتبوا إلينا يستعدوننا على أبي محمد، ويستنكرون شدته على الحزب ويعدونه قد كتب من غير تثبت. وكتب إلينا جماعة أخرى من رجال الحزب ينكرون على الأستاذ الوزاني تصريحاته في الندوة الصحافية خاصة، وكل هذه الرسائل- وان اختلفت في أسلوب الاحتجاج- مهذبة مؤدبة اللهجة، مجمعة على إجلال "البصائر"، والتنويه بشرف مواقفها وقوتها في الدفاع، ومن بين تلك الرسائل رسالة من زعيم الحزب الأستاذ محمد بن الحسن الوزاني، خاطب فيها أبا محمد مخاطبة السياسي الأديب للسياسي الأديب، وظهر فيها مظهر الكيس المرتاض على آداب السلوك.
و"البصائر" ترحب بهذه الرسائل، ولا يضيق صدرها بهذا الاحتجاج، ما دام دفاعًا خالصًا من إخوان لنا نحبهم جميعًا ولا نفرق بين أحد منهم، ولكنها لا ترضى أبدًا- عن
__________
* "البصائر"، العدد 149، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 2 أفريل 1951. (بدون إمضاء).(2/393)
رسالة واحدة ناشزة عن أخواتها، نابية كل النبو عن الأدب، كتبها أحد المحتجين، وأطال فعثر، وهو رجل من فاس، يدعى: التهامي ... واتهم فيها أبا محمد في صراحة، بأنه يبيع قلمه ... واتهمت "البصائر" بأنها اشتريت وما كفاه ذلك الافك حثى صرح بالمشتري.
كبرت كلمة ينطق بها هذا المغفل، ويجري بها قلمه. "البصائر" التي جاهدت في ميدانين، فصارعت دجاجلة الدين حتى صرعتهم، وقارعت فراعنة السياسة، وقاومت وحدها قوى الشر مجتمعة- تبيع شرف الجهاد بثمن، وتدافع عن المجاهدين بأجرة.
إن "البصائر" في دفاعها هذا إنما تدافع عن نفسها وعن دينها وعن قومها، وهل يتهم المدافع عن نفسه وعن دينه وقومه، بمثل هذه التهمة الآفكة؟
ولو كانت "البصائر" تتنزل للمطاعم الخبيثة، لباعت الجانب السلبي فقط- وهو السكوت- بالثمن الغالي، وصاحبنا التهامي المغفل ... يعرف الأيدي التي تملك ذلك الثمن، فهل سكتت؟
قولوا لهذا المغفل: ان "البصائر" وقفت موقف الدفاع عن إخوان أنت منهم ولكنك أبيت أن تكون منهم، فاخرج وحدك صاغرًا، وإنها لا تريد منك ولا منهم جزاء ولا شكورًا، لأنها قامت بواجب شكره وأجره عند الله، وبيعه ليس مما أحل الله ... دافعت عن ملك مظلوم، وشعب مغبون، وحزب مقصود بالشر والبلاء، ووطن مهدد بالضياع والابتلاع، وفي هذا كله دفاع عنك لو كنت تعقل، ولو كان الحزب الذي "تدعي" الانتماء إليه مقصودًا بالانتقام، مصرحًا باسمه في هذا الميدان- لوجدتنا سراعًا إلى نصرته، خفافًا إلى نجدته، ولرأيت "البصائر" تقذف بالحمم لا بالكلم، في الدفاع عنه.
لا عفا الله عنك يا تهامي ... لكأن فيك- والله- شعبة من سميك (1) - ... ولو كنت عاشر عشرة ممن يحمل هذا الإسم، وينطق بهذا الإثم- لاطردت القاعدة، وتواتر القياس، وهجر هذا الإسم، كما هجر "عبد العزى" في الإسلام، وانتقل الناس بأبنائهم من تهامة إلى نجران ...
إننا لا نعلم منزلتك في النباهة، ودرجتك في الحزب، فإن كنت تستحق هذا العتاب فهو تأديب لك، وإن كنت لا تستحقه لخمول قدرك، وخسوف بدرك، فأرجعه إلينا مشكورًا، واردده علينا معذورًا.
__________
1) شعبة من سميّك: المقصود بسميه هو التهامي الجلاوي الذي وضعته فرنسا على عرش المغرب عندما نفت الملك محمد الخامس.(2/394)
صحف الشرق العربي *
تصل إلى "البصائر" باسم المبادلة الصحفية أعداد متفرّقة من مجلات الشرق العربي وجرائده، فيصل إليها العدد الرابع مثلًا، ولا يصل ما قبله وما بعده، ثم السابع وهكذا، ويكون هذا الخلل سببًا في حرماننا من الاطلاع على أخبار الشرق متسلسلة، وتفوتنا فوائد علمية عظيمة نحن في أشدّ الحاجة إليها، وتفوتنا تفاصيل الأحداث التي تهمّنا والأحاديث التي تتعلّق بنا، ويفوتنا الاطلاع على سير الحركة العلمية والكتب القديمة والجديدة التي تُنشر، وتفوتنا أخبار وفيات العظماء من العلماء والأدباء، وبذلك كله أصبح اتصالنا بالشرق متقطعًا قليل الفائدة.
والسبب في هذا الخلل يرجع- في الأغلب الأعم- إلى إدارة البريد في الجزائر، ويرجع- في القليل النادر- إلى زملائنا أصحاب الجرائد الذين يقتصرون على كتابة العنوان بالعربية، ولا يكتبونه بالحروف الافرنجية غفلة منهم عن الواقع أو جهلًا به، وقد نبّهناهم إلى ذلك في "البصائر"، والواقع هو أن إدارة البريد في الجزائر مصابة بمس استعماري كأخواتها وبنات عمها من الإدارات الحكومية، فلا تعترف بالعربية، ولا تقيم لها وزنًا، ولا تشترط في موزّعيها أن تكون لهم معرفة بالحروف العربية، وكان الواجب أن تفعل ذلك، أو تضع- على الأقل- في إدارة التوزيع مترجمًا يترجم العناوين، لأن ما يرد عليها بالعربية ليس بالشيء القليل، وما إدارة البريد إلا مؤسسة تجارية، وما المتواصلون بواسطتها إلا زبائنها وعملاؤها يأخذون منها ويعطون، وينفعونها وينتفعون، ومن أصول التجارة، الأمانة والثقة والحرص على إرضاء العميل.
__________
* "البصائر"، العدد 149، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 2 أفريل 1951. (بدون إمضاء).(2/395)
فإلى إدارة البريد الجزائري نوجّه هذه الكلمة المنصفة، راجين أن تسدّ هذا الخلل بإقامة مترجم رسمي للعربية في إدارتها، حرصًا على أداء الأمانات إلى أهلها، وأن لا تجاري السياسة في إهمال العربية والاستخفاف بها، وأن تتذكر المصالح التي تفوّتها علينا بهذا الضياع، والأموال التي تضيع على أصحاب الجرائد والمجلات الذين يبادلوننا.
وننبّه إدارة البريد إلى أنه كثيرًا ما تأتينا أشياء ليست لنا، فندفعها إلى أصحابها أو نردّها إلى البريد، ونعلم من ذلك أن كثيرًا مما هو لنا يُدفع إلى غيرنا، والسبب في ذلك هو أن عنوانها مكتوب بالعربية وإذا كانت الأمانة تحتّم علينا أن نردّ ما ليس لنا، فمن يضمن لنا أن غيرنا يفعل مثل فعلنا؟(2/396)
الكتب المهداة إلى "البصائر" *
أُهديت إلينا في السنوات الماضية عدة كتب من مؤلفيها، أو من ناشريها، بعضها باسمنا، وبعضها باسم "البصائر"؛ وإهداء كتاب إلى صاحب جريدة معناه في
عُرف الناس طلب كلمة عن الكتاب، كأنها إعلان عنه، وهذه الكلمة يريدها صاحب الكتاب- دائمًا- كلمة خير تُلفت قرّاء الصحيفة إليه وإلى كتابه، ويريدها صاحب الصحيفة كلمة حقّ وإنصاف، إمّا للكتاب وإما عليه، ويريدها القراء تصويرًا حقيقيًا لا غشّ فيه، ويقف صاحب الجريدة بين اثنين، أحقهما بالارضاء القارئ؟ هذا إذا كان صاحب الجريدة أهلًا لأن يقول في الكتب هذا مفيد، وهذا غير مفيد؛ فإن لم يكن من أهل ذلك فحسبه الشكر على الهدية، وتكون معاملة بين اثنين: أهدى أحدهما كتابًا، فتقاضى الشكر ثوابًا، وأخذ الثاني هدية، فكافأ عنها بالثناء، ولا حظَّ للقارئ في شي من هذا.
و"البصائر" لم تقصر عن الرتبة الأولى، ولكنها لم ترزق من الأحوال المساعدة، والأقلام الناقدة، ما يحقّق رغبتها في أن تكون عارضة لهذه البضائع بقيمتها العلمية من غير غش ولا تدليس، ومرشدة لمواقع الإحسان والإجادة فيها بلا بخس للكتاب ولا تغرير لقارئه.
على أن شبابنا في حاجة إلى قراءة القديم النافع، والجديد العامر، وفي حاجة إلى الإرشاد الخالص إليهما؟ ومن حقهم علينا أن نرشدهم إلى تنظيم القراءة، وأن نبيّن لهم ما يُقرأ وما لا يُقرأ لأن أوقاتهم محدودة، ولأن ... دراهمهم معدودة ...
وصاحب "البصائر" مستغرق الأوقات في الأعمال العامة، وأبناؤه الكتّاب المتأهلون لهذا متفرقون في مراكز التعليم المتباعدة، فلم يبق إلا أن نسكت كما سكتنا، وهو ما لا تسعه
__________
* "البصائر"، العدد 149، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 2 أفريل 1951، (بدون إمضاء).(2/397)
المروءة، ونحن في خجل من ماضيه، فكيف نقرّه أو نقيم عليه، أو نتنزّل إلى الرتبة الدنيا، فنكتفي بالشكر وهو أيسر الجزاء.
وقد كنا وضعنا الكتب المهداة على حدة، انتظارًا لفرصة قراءتها، فالكتابة عليها، فلم تتح الشواغل لنا فرصة، وسننشر في المستقبل على التوالي بعض تلك الهدايا، ومعذرة إلى أصحابها الأفاضل عما وراء ذلك.(2/398)
اتحاد الأحزاب بالمغرب الأقصى *
(بيان موجه من أحزاب المغرب إلى الرأي العام
المغربي خاصة والرأي العام العربي عامة)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يسر أحزاب الاستقلال، الشورى والاستقلال، الإصلاح، الوحدة المغربية أن تعلن للشعب المغربي الكريم خاصة وللأمم العربية عامة أنها رأت، وقد بدأت قضية المغرب تأخذ مكانتها من الاهتمام الدولي وسيرها إلى الأمم المتحدة، ضرورة توحيد الصفوف وجمع الكلمة، فاجتمع لهذه الغاية السادة:
علال الفاسي، وعبد الخالق الطريس، والمكي الناصري، وأحمد بن سودة نائبًا عن محمد حسن الوزاني لعدم تمكنه من الحضور عند الشيخ المحترم محمود بك أبي الفتح (عضو مجلس الشيوخ المصري) ووقعوا ميثاقًا وطنيًا قوميًا، بحضور بعثة نقابة الصحافة المصرية ومندوب الجامعة العربية، وقد بني هذا الميثاق على ما يأتي:
أولًا: أن تعمل الأحزاب جميعًا لاستقلال المغرب استقلالًا تامًا فلا يقبل أي حزب مبدأ الانخراط في الوحدة الفرنسية، إنما تقوم العلاقات بين المغرب المستقل وبين فرنسا على أساس معاهدة جديدة.
ثانيًا: إنه ليس لواحد منهم غاية يسعى إليها قبل الاستقلال.
ثالثًا: لا مفاوضة قبل إعلان الاستقلال.
رابعًا: لا مفاوضة مع المستعمر في الجزئيات ضمن النظام الحاضر.
خامسًا: كل عمل يؤيد توجيهات الإقامة العامة ضد جلالة الملك محمد الخامس يعتبر خرقًا لمبادئ الميثاق.
__________
* "البصائر"، العدد 151، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 16 أفريل 1951 م، (بدون إمضاء).(2/399)
سادسًا: تعاون مراكش مع الجامعة العربية وفي دائرتها قبل الاستقلال وبعده واجب قومي. سابعًا: يلتزم الموقعون ألا يقبلوا تركيب جبهة مع الحزب الشيوعي المغربي.
ثامنًا: تؤسس الأحزاب الموقعة لجنة اتصال وتشاور مع الاحتفاظ لكل حزب بحريته ضمن نظام هذا الميثاق.
والأحزاب الموقعة على هذا الميثاق تنتهز هذه الفرصة السعيدة لتعبر لسعادة الشيخ محمود أبي الفتح بك عن شكرها وامتنانها للمجهودات التي بذلها في تقريب وجهات النظر والمساعدة والوصول لهذه الغاية المنشودة. كما تشكر حضرات أعضاء بعثة نقابة الصحافة المصرية: الأساتذة محمد عبد القادر حمزة، ومحمد زكي عبد القادر، وحبيب جاماتي، وزكريا لطفي جمعة، وحضرة مندوب الجامعة العربية الأستاذ صالح أبي رقيق.
والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
طنجة في التاسع من أبريل سنة 1951.
"البصائر": هذه هي الأمنية التي كنا نتمناها على الله، ونعمل لها بأقوالها وأعمالنا. لعلمنا أن الاتحاد هو السلاح الوحيد الذي نستطيع أن نفل به سلاح الاستعمار.
في أمتنا حظ مقسوم للاستعمار، من المرتزقة والأئمة والعلماء والموظفين ومشائخ الطرق، فإذا اختلفت العناصر الصالحة، كان ذلك مزيدًا في حظه. فهذا الاتحاد العتيد الذي هيأ الله أسبابه فكانت كلها عجبًا- يُعَدُّ تفسيرًا لحظ الاستعمار وتوفيرًا لحقوق الوطن، فقد كان الاستعمار يعتمد على الأشخاص من الطوائف المذكورة وعلى المعاني التي يقررها الخلاف في الأمة، فخسر المعاني وأصبح لا يعتمد إلّا على الأشخاص، وهي أوهى العمادين.
وإذا كان هذا الاتحاد نعمة من الله لا يكافئها شكر، فلبعض مخلوقاته فيها يد لا تقابل بالنكر، ومن مخلوقاته الجنرال جوان، فقد كان لظلمه وعتوه وغطرسته الأثر الواضح في جمع الشمل المتشتت، وتعاطف الاخوة المتقاطعين.
أما إخواننا العرب الذين هبوا للتحقيق والبحث، فأصبحوا عاملين للاحياء والبعث، وجرت على أيديهم المعجزة ... مقرونة بالتحدي للاستعمار- فقد قاموا بواجب تفرضه الاخوة والإنسانية، وأرادوا أمرًا فأراد الله ما هو خير وأنفع.
طالما وجهت جمعية العلماء الدعوة إلى الاتحاد، عامة لأحزاب الشمال الافريقي وخاصة لحزبي الجزائر القوميين، وما زالت دائبة على ذلك، تعده من الفروض التي لا تبرأ(2/400)
ذمتها إلا بتحقيقها: وعن قريب- بعون الله- تزف "البصائر" البشرى الثانية، فالثالثة، كما زفت أولاهن اليوم.
نزف التهاني العاطرة بأزهار الربيع إلى إخواننا الذين أضناهم الخلاف، باستقرار القلوب الواجفة في حناياها، وإلى الشيخ المحترم الأستاذ محمود أبي الفتح، بهذا الفتح القريب الذي هيأه الله له، وإلى مندوب الجامعة العربية، بما جمع الله من القلوب على يديه، وإلى زملائنا رجال الصحافة المصرية، بهذا الرزق الدسم الذي سناه الله لأقلامهم حين ينقلبون إلى أهليهم، فينيرون القضية، وينصرون الحق، وينشرون الحقيقة، ويفخرون بما تم على أيديهم وأقلامهم من خير عميم لإخوانهم، وإلى الأستاذ سعيد رمضان، بما أضاف إلى "إخوانه" من إخوان، وفي الأخير- نهنئ إخواننا: علال والوزاني والطريس والناصري، بهذه الفرصة التي نقلتهم من مقام الرجولة إلى مقام البطولة.
نسوق إليهم هذه التهنئة الخالصة مقرونة بالإجلال، باسم "البصائر"، واسم جمعية العلماء، واسم الأحزاب الوطنية في الجزائر، واسم الأمة الجزائرية المقاسمة للمغرب في أفراحه وأحزانه، متمنين على الله- تمنيًا مقرونًا بالعمل- أن يقدر للجزائر وتونس ما قدر للمغرب من اتحاد وأنصار، وأن يتم نعمته بتوفيق أحزاب هذا الشمال إلى اتحاد عام، يساير حكمة الله في خلقه وطنًا واحدًا، وأن يهدي علماء الدين، فيكونوا أعوانًا على الحق، لا إخوانًا للشياطين، وقادة للأحرار لا عبيدًا للعبيد؟ وأن يكونوا- كما كان سلفهم- أعلام هداية في الدين والدنيا.(2/401)
تنصّل من تهمة *
"نحن الذين يوقعون أسفله عقب تاريخه (مقدّم الزاوية التجانية بالرباط محمد بن العياشي، والمدرّس بها وببعض مساجد الرباط عبد الواحد بن عبد الله، وإمامها المكي الاعتابي) باسمنا واسم التجانين بالرباط نكذب ما نسبته صحيفة فرنسية إلى التجانين بالرباط من أنهم تبرّأوا من حزب الاستقلال، ونصرّح بأن الدين الإسلامي يحرّم على المسلم أن يتبرّأ من المسلم ونؤكد بهذه المناسبة تعلّقنا بالعرش العلوي المجيد وصاحبه جلالة السلطان سيدنا محمد الخامس- نصره الله-. وننبّه أيضا على أن عريضة علماء الرباط المؤرّخة بعاشر ربيع الثاني الفارط المرفوعة إلى الجلالة الشريفة أول من وقّعها عبد الواحد بن عبد الله المذكور وبعده المقدّم والإمام المذكوران وغيرهما من علماء الرباط تجانين وغير تجانين، وأن الذي رفع هذه العريضة إلى الجلالة الشريفة هو المقدّم محمد بن العياشي المذكور مع بعض علماء الرباط ".
وحرّر في خامس وعشرين جمادى الثانية عام 0731هـ.
محمد بن العياشي- عبد الواحد بن عبد الله- المكي الاعتابي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
"البصائر"، نشرنا هذا التبرّؤ بألفاظه، وأسماء أصحابه، لاعتقادنا أن أصحابه صادقون في دعواهم، وأن كل مسلم صحيح الإسلام في المغرب الأقصى، بل في الشمال الإفريقي المتلاصق الأجزاء، المتقارب الميول والأفكار. يستحيل أن ينطوي على خلاف لجلالة السلطان، أو مشاقة للرجال الأحرار العاملين على تحرير الوطن، وأن غاية ضعفاء الإيمان والإرادات منّا أن يقعدوا، وقلوبهم مملوءة ببغض الاستعمار وجوارحهم كلها مع الأحرار، يعاونونهم ولو بما لا كلفة فيه، وهو الدعاء، وقد يكون هذا الدعاء- لفرط الضعف- سريًا، وقد يكون غير مقبول عند الله لأن دعاء الجبناء في ضلال.
__________
* "البصائر"، العدد 151، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 16 أفريل 1951م. (بدون إمضاء).(2/402)
أما هذه الشراذم المجاهرة بولاء الاستعمار، والتنكر للوطن وبنيه، فهي فئة انتهى بها فساد الفطرة إلى دركة لا تزيد على العجماوات إلا بأن فيها خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
ثم نقول لهؤلاء الإخوان المتبرّئين: ما هذه النسبة التي خصصتم أنفسكم بها حتى أصبحت مناطًا لأحكام خاصة بكم، ومنها هذا الاتهام؟ ... وان العقلاء ليحكمون بأن هذه الجريدة لم تظلمكم، لأنكم بهذه النسبة الخاصة أوقفتم أنفسكم هذا الموقف ولأن الاستعمار عهد منكم هذا أو من أسلافكم، أو من أمثالكم من أصحاب هذه النسب الشاذة في الإسلام، ولو لم تنفردوا بهذه النسبة وبقيتم في غمار المسلمين لما علقت بكم هذه التهمة.
إنهم ما علقوا بكم هذه التهمة لأنكم مسلمون، بل لأنكم تيجانيون، وشرّ الخصائص خصوصية جرت إلى صاحبها التهم، ووصمته بما يشذّ به عن قومه، أو بما يصيّره خصمًا لهم. وانهم لم يرموكم هذه المرّة بهذه التهمة إلا ليشغلوكم بالسلب عن الإيجاب وبالدفاع عن أنفسكم عن الدفاع عن دينكم ومليككم وعن المظلومين من أبناء وطنكم. وليس هذا النوع من توزيع القوى في النفس الواحدة، وتشتيتها في الأمّة الواحدة، إلا من خصائص الاستعمار، ومما امتاز بالحذق فيه والبراعة في استعماله.
إنهم رأوا تفرّقنا في النسب، وغلوّنا فيها، فوسّعوا الشقّ، فهلّا رجعنا إلى النسبة المحمدية الجامعة، وسددنا في وجوههم هذه المنافذ.
إن العاقل لا ينتحل نسبة أو وصفًا إلا إذا اعتقد أنه يكتسب بذلك شرفا لم يكن له، وأنتم- قبل أن تكونوا تيجانيين- كنتم مسلمين، أفلم يكفكم شرف الإسلام حتى التمستم ما يكمّله من هذه النسب المفرّقة؟ أم أن الإسلام- في نظركم- قاصر عن أنْ يصل بأهله إلى درجات الشرف الرفيعة، فجئتم تلتمسون الشرف والرفعة في غيره؟ فاحذروا ... فإن من النتائج اللازمة لصنيعكم هذا نتيجة قبيحة جدًا في حكم الشرع وفي حكم العقل وهي أن أصحاب هذه النسب يعتقدون أنهم أرفع قدرًا من العاطلين منها، ومن العاطلين منها أبو بكر وعمر وجميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...
لا نريد أن نحرجكم بجدل ديني فرغنا منه، ودهمنا ودهمكم من عوادي الدهر ما شغلنا عنه، ولكننا نقول لكم قول الناقد البصير، المشفق من المصير: انه لولا هذه النسب المفرّقة لشمل المسلمين، لما وجد الاستعمار منفذًا يلج منه إلى أوطاننا، ولما وجد من المطايا الذلل أمثال عبد الحي ... فإن هذا الرجل لم يعتزّ بالإسلام ولم يعتزّ بالعلم، وابتغى العزّة من غيرهما فذلّ وأذلّ قومه، وما امتطاه الاستعمار لأنه مُحَدِّث، وإنما امتطاه من حيث أنه شيخ(2/403)
طريقة، وإذا كان من الأساطير أن يركب الجن القنافذ، فمن الحقائق أن يفتح الاستعمار ببعض الرجال، كوى ومنافذ.
أما والله، لولا هذه النسب التي فرّقت كلمة المسلمين وباعدت بين قلويهم، لما جعل الاستعمار من الأمّة الواحدة أممًا يضرب بعضها ببعضها، ويسلّط بعضها على بعضها، ويرهب بعضها ببعضها، ولولا هذه المعاني الدخيلة في الإسلام لما ثبتت للاستعمار في أرضنا قدم.
ومن العجب أنكم منسوبون إلى العلم، ثم أنتم توثرون على هذه النسبة الشريفة ضرة تضيمها، وتضرب عليها الذل والمهانة.
احذفوا هذه الزوائد، وكونوا من أمّتكم الواحدة تندفع عنكم هذه التهمة وتصبحوا في غنية عن هذا التنصل.(2/404)
بيانات للأمّة من المكتب الإداري لجمعية
العلماء في قضية الصوم والإفطار *
1 - ثبت هلال شعبان ثبوتًا شرعيًا، ليلة الاثنين (مساء الأحد) في مصر وفي تونس، وأخبرت هيئاتهما العلمية بذلك وعمّمته بجميع وسائل التعميم كالجرائد وغيرها، وجرت الحكومات والصحف في التاريخ اليومي على اعتبار يوم الاثنين أول يوم من شعبان، كما ثبت ذلك بالرؤية هنا في عدة جهات من القطر الجزائري ولم يبلغنا ذلك إلا مؤخرًا، ولكن الخبر لم يعمّم، لزهد العامة في التبليغ إلى القضاة، لأنها لم تر منهم العناية بمثل هذه القضية.
2 - الأقطار الإسلامية كلها دار واحدة، فحيثما ثبتت الرؤية وعلمت على وجهها الشرعي الصحيح، قامت بها الحجة على الجميع، وتعلّق بهم الحكم صومًا وإفطارًا، ولا عبرة بما هو شائع من اختلاف المطالع، فإن القواعد الفلكية اليقينية تنقضه.
3 - وظيفة القضاة في هذا الباب لا تتجاوز سماع الشهادات بالرؤية وتعديلها وتسجيلها (بشرط أن لا يكون القاضي نفسه مسلوب العدالة)، أما الحكم بالصوم أو الإفطار فهو من الله ورسوله، إذا تحقّق موجبه، فكل من سمع خبر الرؤية من عدلين تعلّق به الحكم.
4 - المذاييع كافية في الأخبار إذا كان للمسلمين فيها يد، لأنها لا تستطيع الاختلاق في هذا الباب، فإن اختلفت فالمثبت منها مقدّم على النافي، لأن عدم رؤية الهلال في جهة لا يقتضي عدم رؤيته في جهة أخرى، ولكن يحسن أن يذفع الخبر اثنان، حتى يكون تبليغ الشهادة كأدائها بواسطة اثنين، وما يقال في المذيعين يقال في المستمعين لهما إذا أريد نقل الخبر، وما يقال في خبر الإذاعة يقال في خبر التلفون.
5 - رؤية الهلال صباحًا قبل طلوع الشمس يمنع من رؤيته مساء بعد غروبها، بل هو محال في القواعد الفلكية القطعية، إذ لا بدّ في كل شهر قمري من ليلة محاق لا يقابل القمر
__________
* "البصائر"، العدد 157، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 28 ماي 1951م. (بدون إمضاء).(2/405)
الشمس فيها بجانب من جوانبه فيقتبس الجزء المقدّر له من نورها، وهو نصف سبع، بل يطلع مغمورًا بنورها، ويغرب مغمورًا بنورها، فلا يراه أحد في الصباح ولا في المساء، وهو معنى المحاق، فإذا طلع قبلها، فلا بدّ من غروبه قبلها، كما هي سنته في جميع أيام الشهر، وإذا جوزنا رؤيته صباحًا ومساءً في اليوم الأخير من الشهر، لزمنا تجويز ذلك في جميع أيام الشهر، وهذا محال في عالم الواقع، ومما يمنع ذلك وينقضه أن الهلال الذي يرى صباحًا هو هلال الشهر الماضي، والهلال الذي يُرى في المساء هو هلال الشهر الآتي، ولا يجتمع هلالا شهرين في يوم واحد، ولا يوزّع يوم واحد بين شهرين، إلا إذا كان هناك هلالان، أو كان في النظام الشمسي اختلال، وإن هذا كله لمحال في سنّة من قدر القمر منازل، وجعل الشمس والقمر بحسبان، وحاش سنن الله في الدين والكون أن تتناقض هذا التناقض، وكلام الفقهاء في هذه القضية كلام فقهي، ومن محاسن الفقهاء أنهم يرجعون في كل شيء إلى أهله، كما رجعوا إلى الأطباء في أشياء، والحكم في هذه القضية علماء الفلك، وقواعد الفلك كقواعد الحساب والهندسة، كلها قطعية، والرجوع إلى القطعيات اليقينية من مقاصد الدين الإسلامي.
6 - اختلاف المسلمين في الصوم والإفطار بعد عموم الخبر بالرؤية قبيح جدًا، ولو مع التأول، لأنه يذهب بجمال الشعيرة، ويطمس أعلام الحكمة فيها، ويغطي على روعة الاتحاد، ويباعد بين القلوب، ويغرس فيها بذور النفرة، ويعين شياطين الفتنة من الإنس والجن على تقطيع الروابط بين المسلمين، ويجلب استخفاف الأجانب بالمسلمين وبدينهم، ولأنه- مع ذلك كله- نوع شنيع من التفرّق في الدين، الذي أمر الله نبيّه بالبراءة من فاعليه والمتسبّبين فيه.
7 - من أقبح القبائح اعتبار التقسيمات السياسية أو الجغرافية بين الأقطار الإسلامية في قضية دينية كهذه، فيصبح للمغرب صوم وعيد، وللجزائر صوم وعيد، وهكذا، وأي دليل يأخذه الاستعمار على أننا أمم شتّى لا أمّة واحدة أكبر من هذا؟ إنها أكبر حجّة علينا، نقدّمها بأنفسنا.
8 - الإنصاف أن نعمل برؤية الأقطار الإسلامية، وتعمل هي برؤيتنا، ولكن ليس من الإنصاف أن يعطينا إخواننا شهادات مبنية على أصول إسلامية واعتبارات شرعية، ومؤهلات دينية، ويأخذوا منا شهادات على يد لجنة كوّنتها حكومة استعمارية لغايات ليس منها الدين، وما أحقّنا بقول القائل:
وَلِي كَبِدٌ مَقْرُوحَةٌ مَنْ يَبِيعُنِي … بِهَا كَبِداً لَيْسَتْ بِذَاتِ قُرُوحِ؟
أَبَاهَا عَلَيَّ النَّاسُ لَا يَشْتَرُونَهَا … وَمَنْ يَشْتَرِي ذَا عِلَّةٍ بِصَحِيحِ؟(2/406)
9 - الحج عرفة، ويوم عرفة وأيام منى التي يتشوق إليها حجّاجنا إنما تتحقّق برؤية الحجاز، وكثيرًا ما يكون يوم العيد عندهم هو يوم العيد عندنا، وكثيرًا ما يكون يوم الصوم هو يوم النحر، وقد أصبحت أخبار الحجاز تصلنا في لحظة بواسطة الإذاعة، فما هو هذا العقل السخيف الذي يتردّد في العمل برؤية الحجاز، أو في عمل الحجاز برؤيتنا لو كانت تنتهي إليهم بواسطة (سالمة)؟
10 - جمعية العلماء تعمل لإرجاع المسلمين إلى الحق في دينهم، وجمعهم على الحق فيه، فهي تدعو إلى ترك الخلاف في الصوم والإفطار لما بيّنته من شروره، وهي- حين تدعو إلى ذلك- إنما تدعو إلى الرجوع إلى الحق في الدين، وإذا كانت تنكر على لجنة الأهلة أمرها، فإن ذلك الإنكار موجّه إلى تشكيلها، وإلى اليد التي تسيّرها، وإلى الغاية التي تراد منها، لا إلى أشخاصها، ولو أننا سألنا رئيس اللجنة اليوم، وأجابنا بالصدق، لأخبرنا من الآن بيوم الصوم ويوم الفطر، كأن الحديث عن شهر جوان، لا عن شهر رمضان، وقد أخبر م. نايجلان في وقت مضى عن يوم عيد إسلامي قبل دخول شهره، ومن يستطيع أن يخبر بأسماء النواب، قبل يوم الانتخاب، لا يبعد عليه أن يخبر بيوم عيد يتوقف على الهلال، قبل ظهور هلاله.
11 - تدخل الحكومة في شؤوننا الدينية باطل، وكل ما بُني على الباطل فهو باطل، والمعدوم شرعًا كالمعدوم حسًّا.
12 - حيث أن المرجع الديني التنفيذي مفقود في الجزائر، فالمرجع هو جماعة المسلمين، وهي تتمثّل في جمعية العلماء وشُعَبِها وأنصارها، وبناءً على هذا فجمعية العلماء ترى من الواجب عليها، ومن طبيعة عملها الخيري، أن تكون واسطة بين أطراف القطر في تحمل الشهادة بالرؤية، وفي أدائها، وفي تعميم الأخبار بها بكل الوسائل التي تدخل في إمكانها.
13 - مركز جمعية العلماء في الجزائر يبقى مفتوحًا إلى الساعة الواحدة بعد نصف الليل، لتلقّي الأخبار، والإجابة عنها، وتوزيعها، فعلى الأمّة كلها، وعلى شعب جمعية العلماء ومعلّميها وجمعياتها المحلية بالخصوص، أن يرقبوا هلال رمضان مساء الاثنين رابع شهر جوان الآتي، ومن رأى الهلال فليبلغّ الخبر حالًا بأية وسيلة إلى المركز القريب إليه من المراكز الآتي ذكرها، وعليه أن يبلّغه إلى ما يجاوره ويحيط به من المنازل والقرى.
14 - تجربة سنوات دلّتنا على أن الطلبات التلفونية- مستخبرة أو مخبرة- تتزاحم على إدارة بريد العاصمة فيتعطل المتأخر منها، لذلك رأت الجمعية أن تنظّم الاتصال في هذه السنة تنظيمًا يمنع التعطيل، وذلك بأن لا يتصل المخبرون والسائلون بمركز الجمعية في(2/407)
العاصمة رأسًا، بل يتصل كل واحد منهم بالمركز القريب منه من المراكز المذكورة في آخر هذه الكلمة، وذلك المركز يتصل بمركز العمالة، وهو يتصل بمركز العاصمة.
...
فعلى الإخوان والمشائخ المعلّمين أن يقوموا في هذه القضية المقام المحمود، وأن يبذلوا جهدهم في تبليغ خبر الرؤية إن ثبتت ثبوتًا شرعيًا، وأن يسعوا في الحصول على الغاية الشريفة، وهي توحيد الأمّة على الصوم والإفطار، ونسأل الله أن يمدّ العاملين المخلصين بعونه.(2/408)
أكبر زلّة تقترفها لجنة الأهلة *
لم تتحرّك هذه اللجنة إلا بعد أن صدر العدد 157 من "البصائر" وفيه كلمة عن رؤية هلال رمضان، وما قرّرته جمعية العلماء في قضية الصوم، وقضية الصوم هذه هي (العمل) الذي تحتكره اللجنة، وتعدّه من حقوقها، أو من خصائصها على الأقل، بحكم القانون الجمهوري الفرنساوي، لا بحكم الإسلام، ولا بحكم جماعة المسلمين.
ولكن رئيس هذه اللجنة التي تدّعي استحقاق هذا الحق، لم يتحرّك لإثبات حقه إلا حين بقي بيننا وبين رمضان ثلاثة أيام، ولولا أننا (افتتنا على حقه) وأزعجناه بما كتبنا لاسترسل في سكونه وسكوته إلى الساعة التاسعة من ليلة الشك، كما تسمّيها اللجنة لا كما يعرفها الفقه، وفيها يجمع الرَّئِيسُ لجنته الاجتماع التقليدي الذي ينتهي بانتهاء الساعة العاشرة من تلك الليلة، والنتيجة دائمًا هي هي: توفد اللجنة الشيخين المفتيين (1) إلى راديو الجزائر الموضوع تحت تصرفها، ليذيعا على مستمعيه جملتين تقليديتين، إحداهما: لم يثبت رمضان، والأخرى: لا تسمعوا للمشوّشين، والمشوّشون- بالطبع- هم هذه "الأمّة" التي تسمّى جمعية العلماء.
هذا هو التقليد المتّبع في هذه اللجنة، وإن خالفته هذه السنة ببقائها حصة زائدة في الانتظار تمويهًا وتضليلًا، ولعلّ هذه المخالفة من آثار إزعاجنا لها، فمعذرة- أيتها اللجنة- فإن الأعمال بالنياّت، وما نوينا قط الإساءة ولا الإزعاج، وما نتمنى لك إلا النوم الهادئ والأحلام اللذيذة.
...
__________
* "البصائر"، العدد 160، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 18 جوان 1951م.
1) الشيخين المفتيين: أي المفتي المالكي والمفتي الحنفي.(2/409)
كانت حركة رئيس اللجنة في هذه المرّة بمعنى آخر من معاني الحركة في اللغة وهو الاضطراب وعدم الاستقرار على رأي، فقد أعلن في ثلاثة أيام إعلانات متناقضة في قضية واحدة: أعلن في الجرائد الفرنسية أن شعبان ثبت بالاثنين، بعد أن لم يبق من شعبان إلا ثلاثة أيام، فأين كان حضرة الرَّئِيسُ؟ أم أين كان شهر شعبان؟ أم انقطعت الصلة بين الموجود والزمان؟ أم أن حضرة الرَّئِيسُ ليس بـ"موجود"؟ وأذاع أنه سيتصل بالمغرب وتونس، وأنه سيعمل برؤية الأقطار الإسلامية، ثم أعلن في الجرائد أنه لا يعتمد إلا على رؤية القطر الجزائري على أيدي قضاته ... وأنه سيصعد إلى "بوزريعة" ليستقبل هلال رمضان بنفسه.
وذهب الفضوليون مذاهب شتى في اقدام رئيس اللجنة على ذكر الأقطار الإسلامية فقال قوم: إنها شجاعة، وقال قوم: إنها رجوع إلى الحق، وقال العقلاء والعارفون: إنها نزوة عابرة، وفلتة عارضة، اعترت صاحبها في فترة الوحي، فلما هبط الوحي نسخها بما يناقضها، والوحي الحقيقي الذي لا يلقى فيه الشيطان، هو ما جاء في البلاغ الأخير، وفحواه: (إن رمضان الجزائري، لا يثبت إلا برؤية جزائرية يعدلها قضاة جزائريون)، وإنها لنزعة "استقلالية" تشكر عليها اللجنة ورئيسها، لو بقي في الجزائر من يشكر الإحسان، ولو رزق الله الوطن بمن يفهم هذه المنازع الدقيقة لأنزل أصحابها منزلة الأئمة لدعاة الاستقلال، لأن مغزى هذه النزعة بدء الاستقلال من السماء ... ونسخ كلمة "فصاعدًا" المبتذلة بكلمة "فهابطًا" ... ولكن أين من يفهم؟
يُستنتج من هذا الاضطراب المتدلّي أنه لو حبس رمضان ركائبه يومين آخرين واتسع الوقت لبلاغ آخر لكان نصّه قريبًا من هذه الصورة: (تعلن لجنة الأهلة أنها لا تعتمد إلا على الرؤية التي تثبت في العاصمة وأحوازها المحدودة بالحراش شرقًا، وبوزريعة والأبيار غربًا، والمرسى شمالًا، والجنوب معروف، مع ملاحظة أن من رآه من البحر لا يُعدّ في حكم المرسى، وأن ابن عكنون لا يدخل في الأحواز).
يشهد لصدق هذه الصورة تتبّع أحوال هذه اللجنة وأعمالها، فكلها تدلّ على أنها لا صلة لها بالقطر ولا بقضاته، وأن همها كله منحصر في العاصمة، كأنها تريد أن تجعل منها دائرة نفوذ خاصة، أو ميدان تجربة لقوّتها، لذلك نراها تعتني بها كثيرًا، ولا تكتفي بإعلان رأيها في الصوم والإفطار في الراديو، بل يتفقد بعض أعضائها المقاهي والمجتمعات ليروا بأعينهم ثمرة نفوذهم، وقد شاهد الناس منهم يوم الثلاثاء (أول رمضان) ما يقضي بالعجب، وشاهدوا في ذلك اليوم إمامًا من أنصار اللجنة متنكرًا في هيئة "باش آغا"، وطالما التبس على الناس بذلك، وقد ظلّ جالسًا في مقهى بحي "العقيبة" ساعات وهو يحتسي القهوة أمام المفطرين والصائمين، وكأنه يحرس شعبان أن تنتهك حرماته ... وإننا لا نعجب من هذا ما(2/410)
دامت اللجنة من أدوات العاصمة، وما دامت تكميلًا لأجهزة لازمة للعاصمة، وتعميرًا لركن خال من "دار العجائب" (2) فيها.
إن السماجة التي لا يستسيغها ذوق هي اعتبار القطر الجزائري وحدة دينية بحدوده الجغرافية، وأسمج من هذا وأسخف، اعتباره وحدة (هلالية)، فإن أطرافه الشرقية هي أقرب إلى تونس منها إلى الجزائر، وكذلك يقال في الأطراف الغربية بالنسبة إلى فاس، ولا أسمج من هذين إلا اعتبار لجنة الأهلة للعاصمة وحدة (صومية) أو (إفطارية).
...
وثبت رمضان بالثلاثاء في مصر وتونس وبلغتنا أخبار الرؤية بالطرق الشرعية فعممناها بما نستطيع، وأصبحت عمالة قسنطينة على صوم، إلا شراذم من المكابرين لايصومون لله وإنما يتبعون أهواءهم ويعاكسون أهل الحق، وصام على أخبارنا معظم العمالة الوهرانية، ولم تتخلّف إلا طائفة من الجامدين، أو ممن لم يبلغهم الخبر، ثم ثبتت رؤية الهلال في معسكر وفي سيق، وعمّ الخبر بها في صباح الثلاثاء فأمسك كل من كان مفطرًا، وأعلنها مفتي وهران رسميًا فأمسك أصحاب الصوم الحكومي، وأصبح معظم العمالة الجزائرية صائمًا إلا من لم يبلغه الخبر، أو لم يفارقه الجمود، وبقيت العاصمة ... وهي ميدان العراك ونقطة الاشتراك، في نظر اللجنة، وفي العاصمة خصائص، وفيها تيارات، وفيها الشطر الأول من هذا البيت: تسقط الطير حيث ينتثر الحب، وفيها مناخ القوافل التي ترد مثقلة، وتصدر مخفة، وفيها ملتقى أسباب الرغبة والرهبة، ومع ذلك فقد كان مركز الجمعية ومراكز الإصلاح خلايا نحل، أو قرى نمل. وما انصرف الناس حتى ثبت الصوم فبلغوا وعمّموا ما استطاعوا، وأصبح غالب سكان العاصمة صائمًا، ولم يفطر إلا المتساهلون المسترسلون في شهواتهم، يتخذون من بلاغ اللجنة في الراديو رخصة لأهوائهم، وحسب هذه اللجنة زللًا أن تكون قدوة لأصحاب الأهواء، وإننا لنعرف أن في هذا الجراد المنتشر في العاصمة، الذي نقله الاستعمار من الرقاع الخصيبة، إلى الرباع الجديبة، طوائف تكون دائمًا آخر من يصوم، وأول من يفطر، فلا تغترن اللجنة بأنهم أكلوا على ندائها، وشربوا على غنائها، ولا تغترن بأصحاب المقاهي وأصحاب المطابخ، فأولئك يعلمون من أمر هذه اللجنة ما يجهله كثير من الناس يعلمون أن البوليس السرّي والعلني من ورائها ومن أمامها، وأن كل من يخالف رأي اللجنة فقد خالف أمر الحكومة، وإنْ وافق أمر الله، وأن من وراء تلك المخالفة نزع الرخصة وانتحال الأسباب للتغريم، فهم مكرهون، في صورة مختارين.
__________
2) دار العجائب: الاسم الذي يطلقه بعض الجزائريين على المتحف.(2/411)
وأفعال العقلاء تصان عن العبث ... فما الحكمة في تكدير راحة رئيس اللجنة ساعة أو ساعتين من العام؟ وما الحكمة في اجتماع اللجنة ساعة أو ساعتين من السنة؟ ولا ندري ماذا تنتظر في تلك الساعات؟ فإن كانت تنتظر أخبار العالم الإسلامي فهي قد أعلنت أنها مقطوعة الصلة به، ولا تعمل برؤيته، وإن كانت تنتظر الأخبار من داخل القطر، فهذا تعب ضائع، إِنَّ تسعين من المائة من قضاة القطر يكونون نائمين ملء عيونهم في تلك الساعة، أو منهمكين في أعمال ليلية حرّة، ولا يهمهم من أمر رمضان شيء، ولأجل هذه المعاني فيهم انقطعت صلة الجمهور بهم إلا في الخصومات الضرورية، وكوّنت العوائد السيئة بين الفريقين نفرة، فأصبح الناس يرون الهلال ولا يشهدون بالرؤية أمام القاضي، وقد يراه جار المحكمة أو من تجمعهم بالقاضي بلدة، ولكن لا يبلغون ولا يشهدون. ويرجع بعض السبب إلى أنهم لم يروا منهم العناية بالشؤون الدينية، ومنهم من لا يفتح المحكمة ليلًا لأن ذلك مخالف للقانون، ومنهم من لا يشارك المسلمين في مساجدهم وشعائرهم، ومنهم من يقارف- على أعين الناس- أمورًا منكرة في الدين قادحة في المنصب، منافية للشرف.
... أسباب بعضها من بعضها، تراكمت فأثمرت هذه الحالة التي نأسف لها، ونحمل القضاة تبعتها، وإن كنا نعتقد أن البريء منهم أخذ بذنب المجرم، ولكن المسلم الفطري له منطق مخصوص، ولا لوم عليه إذا اعتقد أن القاضي الذي لا يشارك المسلمين في صلاتهم، لا يشاركهم في صومهم، وهو- لذلك- لا يكون أهلًا لتعديل الشهادة وهو مجروح.
...
وهل أتى لجنة الأهلة أن هلال رمضان رُئِي في (معسكر) وفي (سيق) وأن مفتي وهران عمل بتلك الرؤية؟ ونسأل اللجنة- في إحراج وإزعاج- لو بلغك خبر الرؤية نهارًا مثل يوم الثلاثاء بدء رمضاننا هذا، فهل تثبتينه، وتعممين الخبر به، وتسعين إلى الراديو لإذاعته، ليمسك الناس، كما هو واجب شرعًا؟ أم تسكتين وتصرّين على الإثم؟
أجابت اللجنة أو لم تجب فإننا على يقين من أن الأخبار تبلغها فتسكت حياء من الشريك أو "المعلم"، لأن الرأي الذي أعطته متفق عليه مبتوت فيه من قبل أن يخلق الهلال، ولا تستطيع أن تخرق الإجماع وحدها، وآية الليل عند هذه اللجنة تمحو آيه النهار ...
***(2/412)
وبورك هلال هذا الشهر في الأهلة، لكأنه كان جبارًا عنيدًا، لم يعترف به الجاحدون فأراهم نفسه في الليلة الثانية ومعه شهادة الميلاد. فما قول لجنة الأهلة فيه؟
ألم يخجلها بجماله ونوره وترعرعه؟ أما العجائز فقد رأينه وأكبرنه وحكمن أنه ابن ثلاث، وهن أعرف بالمواليد ... ولَعَنَّ من كان سببًا في إفطارهن، وأما اللجنة فستقول: إن الكبر والارتفاع لا عبرة بهما ... ومن أين لها أن تعلم أن ما زاد على نصف السبع فهو من ليلة ماضية؟ ...
...
والزلّة التي لا تغفر لهذه اللجنة، هي أنها تسبّبت لطائفة من المسلمين في انتهاك حرمة رمضان بالإفطار في يوم من أيامه الثابتة التي لا ينازعه فيها شعبان، بعذر أقبح من الذنب، وهو أن الرؤية خارجية، ثم ثبتت الرؤية الداخلية فلم تخبر الناس بها ليمسكوا، ورضيت لهم أن يتمادوا على الإفطار، وباءت بآثامهم جميعًا.
إن هذا لأعظم غشّ للمسلمين في ركن من أركان الدين، فليتنبه المسلمون وليحذروا هؤلاء الغشاشين المتسترين بالألقاب، وليعلموا أنهم مسخَّرون لهذا الغش، مأجورون بأموال المسلمين، على هدم الإسلام، والتفرقة بين المسلمين.(2/413)
ونعود إلى لجنة الأهلة *
حملنا على هذه اللجنة حملة صادقة، وحملناها ما حملت من أوزار المفطرين على شهادتها الباطلة، ولم نكن في شيء من ذلك متحاملين ولا مبالغين، فكل ما قلناه فيها من يوم نشأت ونقوله فيها ما دامت، فهو حق، وقد نقصر أحيانًا فيما يجب لها من إنكار لوجودها واستنكار لأعمالها، وتسفيه لآرائها، وتحذير للأمّة من دخائلها ومظاهرها.
عددنا تكوين الحكومة لهذه اللجنة تدخلًا جديدًا في ديننا، ونعد قبول أعضاء هذه اللجنة لهذه الوظيفة المبتدعة تحديًا لإرادة الأمّة، وتثبيتًا للتدخل الحكومي في وقت تحاول فيه الأمّة قطع دابر هذا التدخل، وان تدخل الحكومة في ديننا لا يكون إلا إفسادًا له، حكم الدين بهذا، وأيّده العقل وأيّدتهما الوقائع المفضوحة التي لا يعمى عنها إلا عُمي "البصائر".
فكل ما نظهره من الإنكار الشديد، والاستنكار الشنيع فهو مصروف إلى هذا المعنى، وهو معدود عند الله في أعمالنا الصالحة، وحسناتنا المتقبلة إن شاء الله، وهو معدود عند المؤمنين الصادقين في دفاعنا عن الدين، ووقوفنا للغاشين فيه بالمرصاد.
وما زالت الحوادث في كل سنة تؤيّد رأينا في هذه اللجنة، وأنها أُنشئت لغشّ المسلمين في دينهم وإفساد صومهم وإفطارهم، وإبعادهم عن الأسباب التي تجمعهم بإخوانهم في الأقطار الأخرى.
وغفلة الأمّة عن هؤلاء الغشاشين هي التي أطمعتهم فيها، وأوهمتهم أن الأمر لهم من دون المؤمنين، فتجاوزوا حدود الإخبار إلى الحكم، فأصبحت اللجنة (تحكم) بالصوم أو
__________
* "البصائر"، العدد 161، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 25 جوان 1951م.(2/414)
بالإفطار، كأنهما قضيتا نكاح وطلاق، وهي في ذلك مفترية على الله ودينه، جاهلة بحكم شريعته، ولو أن هذه اللجنة كانت تعتني كما يعتني غيرها في الأقطار الإسلامية، فتتبع ثلاثة أهلة أو أربعة قبل رمضان، وتعلن في الجرائد العربية، ثم تقيم إلى الفجر تنتظر الأخبار، وتوصي القضاة والمفتين بأن ينتظروا إلى الفجر، ويسجّلوا الشهادات ويوافوها بها ولو في نهار الغد فإذا تأدّت إليها الشهادات في اليوم التالي عملت بها، ونقضت خبر الليل بخبر النهار. لو أنها فعلت ذلك لاستطاعت أن تغطي بعض عيبها الأكبر وهو أنها حكومية، وأن تستر شيئًا قبيحًا بشيء حسن، ولكن هذه اللجنة واقفة تحت المثل (سكت ألفًا ونطق خلفًا)، فهي تنام طول العام، وتمرّ عليها شهور العبادة فلا تعيرها التفاتًا، حتى إذا بقيت لرمضان أيام معدودة أثارت التشويش ببلاغاتها الفرنسية كأن لغة رمضان فرنسية، وبهذا الراديو الذي أصبح- بسببها- يذيع الفتنة والغشّ للمسلمين ويشيعهما، ثم لا تلتفت لما يأتي من الشهادات المثبتة بعد الساعة الحادية عشرة ليلًا، كأن هذه القضية الدينية المهمة مؤقتة بساعة إن لم تثبت فيها الشهادة عند هذه اللجنة سقط الصوم عن المسلمين.
...
في كل عام تقع من هذه اللجنة زلّة فاضحة، تكفي وحدها دليلًا على غشّها للمسلمين، ولبسها الحق بالباطل، ولكن زلة هذا العام أنست ما تقدّمها، وجاءت صلعاء سافرة في زلّات اللجنة ...
أعلنت اللجنة تنكرها للعالم الإسلامي، وتسفيهها لآرائه، وقدحها في شهاداته ثم أعلنت مع نصف الليل في الإذاعة بلسان مُفْتيَيْها، الحكم القاطع بعدم الصوم، بغير استثناء ولا احتياط لما عسى أن يظهر من شهادات الرؤية، ولا نصيحة للمسلمين بأن من ثبتت عنده الرؤية وجب عليه تبييت الصوم، أو الإمساك نهارًا ولو بقيت للمغرب دقائق، بل (حكمت) بالصوم وسدّت المنافذ، وعطّلت أحكام الشرع، كأنَّ صوم المسلمين متاع لهذه اللجنة تتصرف فيه كما تشاء ولم يزد الفتيان أو (البَرَّاحان) (1) كلمة على الحكم بالإفطار، سوى ما كرّره المفتي (ذو المذهبين)، مع شدة في اللهجة وضغط في النبرات، من التحذير من المشوّشين ... فهل من المشوّشين في نظره مسلمو مصر وتونس؟ وهل من المشوّشين تلك الجماعة المستفيضة التي رأت الهلال في "تيغنيف" قرب معسكر؟ وهل من المشوّشين من رأوه في "سيق" وفي "حمام بوحجر" وفي "جبال زواوة"؟ ... وهل من المشوّشين مفتي معسكر الذي عدل شهادة الرؤية وعمل بها وأعلن الصوم؟ وهل من المشوّشين مفتي وهران؟
__________
1) البرَّاحان: مثنَّى برَّاح، وهو الشخص الذي يذيع الأخبار في السوق وفي التجمّعات.(2/415)
جاء في تقرير المكتب العَمَالِي (2) لجمعية العلماء بوهران. أن المفتي بلغه خبر الرؤية من معسكر بعد نصف الليل، فأخبر به رئيس لجنة الأهلة، فأصرّ الرَّئِيسُ على الضلال وغشّ المسلمين، وقال: (انه حكم على يوم الثلاثاء بأنه ليس من رمضان حكمًا نهائيًا، وانه ألحقه بشعبان)، وانه لا يرجع في هذا الحكم الذي حكم به، وأن مفتي وهران بعد أن بلغ، أعلن الصوم بالبراح، ثم أعلنه في الصباح بالمدفع، فأصبحت وهران كلها صائمة، إلا فقيهًا معروفًا بمذهب خاص في الخلاف والفتنة ...
فالرؤية- إذن- ثبتت في عدة نواح من القطر الجزائري ثبوتًا مستفيضًا، والشهادة بذلك بلغت إلى اللجنة ليلًا ونهارًا فلم تعمل بها، ولم يزدها ذلك إلا إصرارًا على العناد والضلال.
واللجنة- إذن- متعمدة لغشّ المسلمين في دينهم، لا شك عندنا في ذلك ولا مراء بعد الذي ذكرنا، وهل يبقى بعد هذا عذرٌ للذين أفطروا على أخبار هذه اللجنة، بعد أن تبيّن غشّها وافتُضح أمرها؟ ... لا عذر مع هذا، ولا عذر بعد هذا، ولا يعد المعتمد عليها- بعد الآن- متأولًا، بل يعد متعمدًا.
واللجنة- إذن- غير صادقة في دعواها العمل بالرؤية الداخلية، فمعسكر وسيق، وحمام بوحجر كلها من الجزائر ... وعليه، فقد نهضت حجتنا عليها، أنها لأمر ما، لا تبالي برؤية القطر ولا غيرها، ولا تبالي أصام الناس أم أفطروا؟ وأن همها كله منصرف إلى العاصمة وحدها، لتجعل منها وحدة ... في أمر ما ...
...
يقول المثل: (خرقاء وجدت صوفًا) ونقول نحن: (لجنة وجدت مذياعًا) ... لجنة ركبت من الغشّ وللغشّ، وجدت مذياعًا تذيع فيه غشها، وتستهوي به الغافلين والمستهترين، ولو كان هذا المذياع حرًّا أو على شيء من الحرية لما رضي بإذاعة الغشّ، بل لو كان يحترم شعور المسلمين لما سمح بنشر الغشّ لدينهم، وهو يعلم أنه غش، ولكن الراديو واللجنة سلالة رحم واحدة، أو صنعة يد واحدة، فلا عجب إذا كان كل واحد منهما مكملًا لصاحبه.
من لقي أعضاء هذه اللجنة مجتمعين في أنديتهم، أو هائمين في أوديتهم، فليلق عليهم هذه الأسئلة، ولا ينتظر الجواب:
هل رُئِيَ الهلال في عدة جهات من القطر؟
__________
2) المكتب العَمَالي: نسبة إلى العَمَالَة، وهي المحافظة أو الولاية.(2/416)
هل بلغكم الخبر ليلًا؟
فإن لم يبلغكم ليلًا فهل بلغكم نهارًا؟
فإن بلغكم ليلًا فلماذا لم تخبروا مقلّديكم ليبيتوا؟
وإن بلغكم نهارًا فلماذا لم تخبروهم ليمسكوا؟
فإن لم تفعلوا فأنتم غشاشون للمسلمين.
وإن قلتم إن الخبر لم يبلغنا ليلًا ولا نهارًا، غير صادقين.
أيتها الأمّة:
قد دلّتك هذه اللجنة على نفسها، وفضحها الله في هذه السنة بسوء أعمالها. قالت: إنها لا تعمل بشهادة الأقطار الإسلامية، ثم تبيّن أنها لا تعمل بشهادة القطر الجزائري، ولا معنى لهذا إلا أنها متعمدة لإفساد صوم المسلمين وإفطارهم ...
لا معنى لعملها إلا هذا.
لا تصدّقوها بعد الآن.
لا تثقوا بها.
لا تثقوا بهذا البوق الذي يذيع غشّها.
لا عذر لكم بعد الآن ...(2/417)
هلال رمضان: معلومات وتنبيهات *
1 - جاءنا في التقرير الأخير من المكتب العمالي لجمعية العلماء بوهران ما خلاصته:
زيادة على رؤية هلال رمضان ليلة الثلاثاء رؤية مستفيضة بقرية "تيغنيف" وقرية "سيق" وقرية "حمام بو حجر" فقد ثبتت رؤيته تلك الليلة في القرى الآتية: "تيزي" و"عيون افكان" و"مسرقين"و"بطيوه".
فهذه سبع بلدان رُئِي فيها هلال رمضان ليلة الثلاثاء، أما رؤية "تيزي" فقد بلغت إلى محكمة معسكر، وسجلها عدل المحكمة بحضرة مفتي البلدة وجماعة، وبلغها العدل إلى مفتي وهران، وأبلغت إلى رئيس اللجنة فلم يقبلها ... ويشاع أن هذا الرَّئِيسُ علل عدم القبول بأن "الواجب" أن تكون الشهادة أمام القاضي لا العدل، وهذا شرط جديد شرعه رئيس اللجنة، ولو جاءته وثيقة الرؤية من قاض لما عدم عذرًا آخر، ولو شهد الإنس والجن لوجدت هذه اللجنة في كل شهادة قادحًا، حتى لا يبقى إلّا الأمر المدبر بليل ....
وأما رؤية "بطيوه" فقد كانت مسلسلة بالرسميين، من إمام "بطيوه" الرسمي إلى مفتي وهران إلى رئيس اللجنة، ولكن هذا كله لم يشفع لها عند اللجنة أو عند رئيسها.
وأما القريتان الأخريان فإنهما لم تخبرا جمعية العلماء لبعد مكان الرؤية عن مركز التيليفون، ولم تخبرا المحاكم للعلة التي ذكرناها في الكلمات السابقة، ولكن القرى كلها عممت الخبر لكل من يمكن الاتصال به.
2 - أصبح ثبوت رمضان بالثلاثاء أمرًا لا يكابر فيه حتى الذين يريدون أن يكون للجزائر هلال خاص.
__________
* " البصائر"، العدد 162، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 2 جويلية 1951م.(2/418)
3 - نرجو أن يكون الشهر كاملًا، فيكون العيد بالخميس، فتفطر الأمة كلها في يوم واحد، ونتقي شر الخلاف والعناد.
4 - الرجوع إلى الحق فريضة وفضيلة، فعلى مقلدي اللجنة في أول رمضان أن لا يقلدوها في الإفطار، إن ثبتت الرؤية ليلة الثلاثين من رمضان، وأصرت اللجنة على عنادها وعبثها، وستلبس على مقلديها بأنهم إذا خلعوا ربقة تقليدها فإن (رمضانهم) يكون ثمانية وعشرين يومًا، ولكن اللجنة هي التي سببت لهم الإفطار في اليوم الأول من رمضان، أفيرضون أن تتسبب لهم في صوم يوم العيد؟ فيبدَأُوا صومهم بمأثم ويختموه بمأثم، وشر أهون من شرين.
5 - سنكون في رؤية شوال، كما كنا في رؤية رمضان- صلة حق، وواسطة خير في تبليغ خبر الرؤية إن ثبتت ليلة الثلاثين من رمضان، وهي ليلة الأربعاء، في داخل القطر أو في خارجه، ونحن مع المثبت إن صح خبره وتحققت رؤيته مع التشدد والاحتياط وعدم التساهل، فلا نعمل بالرؤية الضعيفة في أدائها أو تحملها، ولا برؤية نشم منها رائحة التساهل في تعديلها أو تبليغها، فإذا ادعيت الرؤية في قطر من الأقطار الإسلامية، ولم تثبت في سائرها ممن يساويه أو يفوقه في العناية والاهتمام ووجود المرجع الديني- فإننا مع الأكثر، فإذا كانت المحاكم الشرعية في مصر تبقى مفتوحة إلى الفجر لانتظار الشهادات، وفي تونس تبقى مفتوحة إلى نصف الليل مثلًا، فذلك تفوق في العناية والاهتمام يصير تقليد صاحبه أرجح وأقرب إلى الصواب، ومركز الجمعية مفتوح ليلة الثلاثين إلى نصف الليل، والمراكز الفرعية كلها متصلة به لهذا الغرض.
6 - نرجو أن تتشدد تونس في تعديل الرؤية وتحتاط ولا تتساهل، فهي أقرب الأقطار الإسلامية- ذات القضاء الإسلامي المستند على إمارة شرعية- إلينا، فإن قبولها لشهادة الرؤية في عيد الفطر من العام الماضي يعد تساهلًا منها، بعدما رأت الألوف المؤلفة الهلال صباح ذلك اليوم قبل طلوع الشمس بثلاثة أرباع الساعة، وإذا كنا نقلد تونس لمكانة المجلس الشرعي الذي هو مرجع ديني نحن محرومون من مثله- فإنما نقلدها في المعقول المقبول، وإنما نقلدها لمعنى جليل يذهب التساهل بجلاله، فأما أن ننقض بهذا التقليد سنة من سنن الله في كونه برؤية أربع أعين قد تكون إحداهن عوراء، وقد تكون اثنتان منهن عمشاوين- فلا، لا ... لا سيما مع فساد الزمان، وإذا رُئِي الهلال صباحًا ومساءً في يوم واحد، فأحد الرأيين مخطئ لا محالة، ولا يسعنا أن نخطئ رؤية الألوف لرؤية اثنين، والاحتياط في هذه الأمور ألزم وأحزم.(2/419)
7 - كل عيد يصرف على هوى هذه اللجنة فهو عيد حكومي، لمسته يد الحكومة فجردته من المعاني الدينية والقومية والاجتماعية، وتعطيل المصالح فيه لا يعدو الحاقه بعيد (الكرنفال) وما أشبهه، وإن لم يكن فيه فرحه وطلاقته، ويد هذه الحكومة، يد مسمومة، ما لامست شيئا من ديننا إلّا أهدته السم، ونزعت منه الروح، وأبقت له الإسم ....
8 - يضاعف جمال العيد وجلاله اتحاد المسلمين عليه، وكم لاتحاد المسلمين في أعيادهم من معان، وكم له من مزايا، أجلها أنه يغذي قوّة المسلمين الروحية، ويمد قوتهم المادية بأمداد التحابب والتعاطف، فالتعاون والتناصر، وقد حضرنا الأعياد في الأقطار الإسلامية التي لها مرجع ديني، تلقي إليه الأمة بالمقاليد ففهمنا تلك المعاني واستجلينا تلك المزايا، ولمسنا آثارها في اتحادهم على الأعياد، أما في الجزائر فكثيرًا ما تكون في القرية الواحدة ثلاث فرق، بثلاثة أعياد، في ثلاثة أيام متعاقبة، فكيف نطمع أن تكون للأعياد روعة؟ أم كيف نطمع أن تكون لها في نفوسنا تلك الآثار التي هي الحكمة العليا في الأعياد؟ ولا سبب لهذا البلاء إلّا فقد المرجع الديني الذي يجمع الأمة على الحق.
9 - لعل قراء البصائر من إخواننا في الشرق والغرب ينكرون ولوعنا بهذه القضية ويعدونها أهون من هذا الترديد لها، وتكرار القول فيها، وينزل بمكانة البصائر في نفوسهم هذا الأنين المتصاعد من هذا القلم المتألم .... ويا ويح الشجي من الخلي، ويمينًا لو اطلعوا على الحقيقة، أو لو ابتلوا ببعض ما ابتلينا به- لقام لنا عندهم عذر، أو لكان لنا منهم شفيع.(2/420)
شكر واعتذار
- 1 - *
قبل بضعة أسابيع أجرى علي القدر حادثة اصطدام بين سيارتين في الطريق بين مغنية وتلمسان، من نوع ما يتكرر وقوعه كل يوم فيذهب بالأرواح، أو يحدث العاهات الملازمة، ولكن حادثتي صاحبها لطف الله، فسببت آلامًا، وعطلت القلم أيامًا، وكانت عاقبتها سلامة وسلامًا.
غير أن إخوان الصدق في داخل القطر وخارجه تصوروا الحادثة كما يتصورها السامع، تصورًا يصحبه التهويل، فانهالت علي رسائلهم وبرقياتهم سائلة داعية متألمة.
وأنا أتقدم إلى هؤلاء الاخوان الصادقين بالثناء العاطر على هذه العواطف الأخوية السامية، وبالابتهال إلى الله أن يحفظ عليهم هذا الكنز الثمين من الفضائل التي حلاهم بها، في وقت تضاءلت فيه الفضيلة، ونزرت حظوظ الرجال منها.
وأتقدم بالاعتذار إلى الذين آلمهم احتجاب هذا القلم عنهم عدة أسابيع، مبشرًا لهم بأنه سيعود إلى الميدان، أمضى مما كان.
__________
* "البصائر"، العدد 168، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 3 سبتمبر 1951.(2/421)
- 2 - *
فُجعت في ولد أختى، بل ولدي تربية وتنشئة، فخفّ إخوان الصدق لمشاركتي في التوجع، وتعزيتي على المصيبة، وتواترت رسائلهم وبرقياتهم تحمل من معاني الأخوّة أطيبها وأعلاها. وأنا أشكر لجميع الإخوان هذه العاطفة الأخوية الشريفة، سواء منهم من حضر الدفن ومن عزّى بالمراسلة، وأخصّ بالثناء شعَب جمعية العلماء بالعاصمة وأحوازها، فقد خفّف حضورهم وقع الفجيعة. فأنا أسأل الله أن يكافئ جميع الإخوان عني بالإحسان وأُرسل إليهم هذه الكلمة محيية شاكرة مجيبة.
__________
* "البصائر"، العدد 175، السنة الرابعة، 26 نوفمبر 1951م.(2/422)
الإجتماع العام لجمعية العلماء *
أولًا: ينعقد الاجتماع يوم الأحد 30 سبتمبر الجاري، على الساعة الثامنة والنصف صباحًا.
ثانيًا: بناء على تعذر التحصيل على قاعة كبيرة، فقد اضطررنا إلى عقد الاجتماع بقاعة سينما "دنيازاد".
ثالثًا: بما أن قاعة سينما دنيازاد لا تسع إلا عددًا محدودًا لا يجاوز ستمائة مقعد، فقد تحتم أن يكون عدد الحاضرين محدودًا، فالواجب على شُعَب الجمعية ان تسلك طريقة التمثيل، فترسل كل شعبة أفراد معينين يمثلونها ويمثلون الناحية التي تشملها أعمال تلك الشعبة، وتختارهم من أهل الرأي والسابقة والأثر في خدمة الجمعية والحمل الصحيح لفكرتها الإصلاحية ومبادئها، وتمكن لكل واحد منهم ورقة من أوراق الاستدعاء التي تصلهم من المركز بعد تعميرها باسمه، وتزودهم برسالة ممضاة من رئيس الشعبة ومتضمنة لعدد الممثلين وأسمائهم.
رابعًا: على هؤلاء الممثلين أن يمروا بمركز الجمعية في الجزائر يوم السبت 29 سبتمبر الجاري ليسلموا أوراق الاستدعاء ويستلموا أوراق الدخول ليستظهروا بها عند مدخل القاعة لرجال التنظيم.
خامسًا: كل من ليس بيده شهادة التمثيل من شعبته الخاصة لا يؤذن له في الدخول، لأن هذا هو النظام العام المعمول به في جميع الجمعيات والأحزاب.
سادسًا: وجهت رسائل خاصة للأعضاء العاملين، فيجب على كل من بلغته الرسالة أن يحضروا بمركز الجمعية في اليوم الذي عين لهم ولا يتأخروا.
__________
* "البصائر"، العدد 170، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 17 سبتمبر 1951.(2/423)
نظام الاجتماع
أعمال صباح يوم الأحد 30 سبتمبر بقاعة سينما "دنيازاد"
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أولًا: يفتتح الاجتماع بتلاوة آيات من كلام الله.
ثانيًا: كلمة ترحيب بالحاضرين يلقيها نائب رئيس الجمعية.
ثالثًا: التقرير الأدبي يلقيه رئيس الجمعية.
رابعًا: التقرير المالي يلقيه أمين مال الجمعية.
خامسًا: تنقيح مواد من القانون الأساسي لمناقشته والتصديق عليه.
سادسًا: وصايا ونصائح يقوم بها الرَّئِيسُ ونائبه، وبها تنتهي أعمال المجلس القديم.
أعمال مساء يوم الأحد المذكور بمركز جمعية العلماء
من الساعة الخامسة إلى السابعة: أحاديث متنوعة في الضواحي الاجتماعية التي تهم الجمعية، وتنفع الحاضرين بوجه عام، وتنير الطريق أمام المجلس الجديد بصفة خاصة، وهذا العمل غير رسمي ولكنه مفيد.
أعمال اليوم الثاني وهو غرة أكتوبر سنة 1951 في مركز جمعية العلماء
على الساعة السابعة صباحًا يجتمع الأعضاء العاملون في المركز ليشكلوا لجنة منهم لترشيح المجلس الجديد، ومكتبًا للاشراف على الانتخاب، وبعد ذلك مباشرة تجري عملية الانتخاب، بحيث يتم هذا كله على الساعة الثالثة عشرة، وبهذا تنتهي الأعمال الرسمية. وعلى الساعة الثالثة بعد الزوال يشترك الأعضاء العاملون والمؤيدون في اجتماع بالمركز يعرض المجلس الجديد فيه نفسه عليهم، ويتعاهد الجميع على ما فيه خير العروبة والاعلام، ويختم الاجتماع بتوديع المشائخ المعلمين لينصرفوا إلى مدارسهم التي تنتظر الفتح يوم خامس أكتوبر.
عن المكتب الإداري
محمد البشير الإبراهيمي(2/424)
التقرير الأدبي *
الحمد لله الموفق المعين، إياه نعبد وإياه نستعين، منجز الوعد بالنصر لعباده المؤمنين، منزل السكينة على الصابرين المخلصين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق
الأمين، القوي المكين، نبي الحرية، وعدو العبودية، ومطهر العقول من أدران الوثنية، وسائق ركب الإنسانية، إلى السعادة الأبدية، وعلى آله وأصحابه أحلاف السيوف، وقادة الزحوف، وأئمة الصفوف، وعلى التابعين لآثارهم في نصر الدين، إلى يوم الدين.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
اللهم هب لنا توفيقًا ينير الطريق، وهداية تقي العثرات، وعناية تأخذ باليد إلى الحق، ويقينًا يزيل اللبس في مواطن الشبهات، وتأييدًا يثبت الأقدام في مواقع الزلل، وثباتًا يعصم من الفرار في ميادين الصراع بين الخير والشر، وصبرًا يزع عن النكوص على الأعقاب، وشجاعة تفل الحديد، وتنسخ آية هذا العصر الجديد، وبيانًا يفحم الخصم في مواقف الجدل، وعفة تقهر الغرائز الجامحة، والشهوات العارمة، والمطامع المتعرضة بكل سبيل، وأفض علينا لطفًا يصحب خفايا الأقدار عند حلول المصائب، وأصحبنا ولاية منك تخرجنا من الظلمات إلى النور، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
__________
* "البصائر"، العدد 172، 173، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 15 أكتوبر 1951م.(2/425)
اللهم جنبنا زلة الرأي، وزلزلة العقيدة، ودغل الضمير ورين البصيرة، وخيبة الرجاء، وطيش السهام، وجنبنا الخوف من غيرك، والجحود لخيرك والبخل عليك برزقك، والرهبة من عدوك، والضلال في معرفتك، والهجر لكتابك،- والشك في وعدك، والاستخفاف بوعيدك، والدخل في الانتساب إليك واجنبنا وقومنا أن نعبد هذه الأصنام التي أضلت كثيرًا من الناس.
اللهم ارزق أمة محمد التفاتًا صادقًا إليك، والتفافًا محكمًا حول كتابك، واتباعًا كاملًا لنبيك، وعرفانًا شاملًا بأنفسهم فقد جهلوها، وتعارفًا نافعًا بين أجزائهم فإنهم أنكروها، وبصيرة نافذة في حقائق الحياة فقد اشتبهت عليهم سبلها الواضحة، وهب لهم من لدنك نفحة تصحح الأخوة السقيمة وتصل الرَّحِمَ المجفوة، وتمكن للثقة بينهم، واتحادًا يجمع الشمل الممزق ويعيد المجد الضائع، ويرهب عدوك وعدوهم، ورجوعًا إلى هديك يقربهم من رضاك، ويسبب لهم رحمتك ويزحزحهم عن عذاب الخزي، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت.
اللهم واحفظ هذه العصابة الذائدة عن حماك، المعظمة لحرماتك، الواقفة بالمرصاد لكل معتد عليها، الناصرة لدينك، والمدافعة- ولا مِنَّة- عن بيوتك، القائدة لرعيل الحق في سبيلك، فإنها كثيرة بك، معتزة بعزتك، قوية بتوفيقك، وإنها إن هلكت لم تعبد في هذه الأرض.
...
أيها الإخوان الكرام، أيها الأبناء الأعزة!
مرحبًا بالوفود غير خزايا ولا ندامى، وسلام لكم من أصحاب اليمين، وسلام عليكم بما صبرتم وأنفقتم من وقت ومال، وأضعتم من منافع وأعمال، وتحيات الله المباركات الطيبات تغشاكم في الحل والترحال، وتلقاكم في الغدوات والروحات، ما دمتم وفي سبيل الله مغداكم ومراحكم، وفي مرضاته قيدكم وسراحكم، قدمتم خير مقدم، ووقيتم المأثم والمندم، وبؤتم- إن شاء الله- بحسن المنقلب، وسلامة الغياب والاياب، وحيتكم ملائكة الله المسبحون الصافون، وعباده المحتشدون الحافون، بما نصرتم من حقه، وكثرتم من حزبه، ونضر هذه الوجوه التي تستبشر في مراضيه، وتبسر في مساخطه، وثبت هذه الأقدام التي اغبرت في سبيل العلم، وتأييد العاملين له، والناشرين للوائه بعد الطي.
فيكم يا وفود التكرمة، وبقايا سلائل المقداد وعكرمة، مخايل صادقة من أجدادكم العرب الذين كانوا إذا دعاهم الداعي لمنقبة تشاد، أو لمأثرة تبنى، خفوا إليه سراعًا، وإذا(2/426)
استصرخهم المستنصر لضيم تأباه من ابن الحرة، نفسه الحرة، أقبلوا إليه شدًا، وأوسعوه نصرًا وعونًا، وقد جربناكم في الحالين فصدقت المخيلة.
...
أيها الإخوان، أيها الأبناء!
هذه نهاية خمس سنوات قضيناها- بمعونتكم- في العمل المثمر، وقطعناها- بتأييد الله ثم بتأييدكم- في الخير العام لهذه الأمة التي تنكر لها الزمان بما كسبت أيديها، وأشاح عنها وجهه، وأتاح لها الجار الذي لا يبيت جاره إلّا على وجل، والعدو الذي يسمي لها الشر باسم الخير فيغرها، ثم يبيعه لها ملفوفًا في غشاء الخير فيغشها، ثم يمن عليها بذلك فيحتقرها، ثم يفرض عليها أن تشكره على ذلك فيذلها.
هذه خمس سنوات وصلنا لياليها بأيامها في القيام بالعهد الذي عاهدنا الأمة عليه في صيف سنة 1946 من النهوض بالجمعية والانتقال بها من طور الركود إلى طور الحركة، ومن حال الضعف إلى حال القوّة، حتى انتهيت إلى ما نعتقد أنه تمام طور، وكمال نصاب، فجئنا بكم اليوم لنعرض عليكم أعمال هذه السنوات الخمس التي هي طور كامل من أطوار جمعيتكم تم وكمل، ووجب الانتقال منه إلى طور جديد، ببرنامج جديد، وعزائم جديدة وأعوان جدد، وتفكير جديد، وتقدير جديد وهمم جديدة.
إن الأعمال العظيمة لا تقيد بالأيام، ولا تقدر بالسنوات ولا تشوش بالحساب الآلي، ولا تعطل بالأوضاع العرفية، وإنما هي أطوار يتم تمامها في زمن طويل أو قصير، وقد كانت جمعيتكم أطوارًا لا توزن بالأيام والليالي، وإنما توزن بتمام الأعمال وكمالها، واستجماع أجزاء هياكلها، وقد كان تمام طورها الأول في ست سنوات، هي سنوات الصراع بين الحق والباطل، هي السنوات التي قطعناها في إصلاح العقول التي أفسدها الضلال في الدين، وفي تصفية النفوس التي كدرتها الخرافات، واعدادها لفهم حقائق الدين والدنيا، وغرس القابليات الصحيحة فيها للخير، ودك الحصون التي كانت مانعة لنا من الاتصال بالجيل الناشىء حتى نستطيع تعليمه الحق، وتربيته على الحق، والحيلولة بينه وبين الفساد المتفشي في الآباء والأمهات، فقد كان الآباء الذين مردوا على الضلال لا يرتضون لأبنائهم إلّا أن يرثوا عنهم ذلك الضلال، فجاهدنا في تلك السنوات الست في تنقية الأشواك من طريقنا إلى الصغار، لنتمكن من تربية عقولهم على العقائد الصحيحة في الدين والدنيا، ونفوسهم على الفضائل الكاملة في الجسم والروح، وألسنتهم على البيان العربي، وأفكارهم على التأمل والإدراك علمًا وعملًا، وكنا جارين في ذلك كله على سنة الحارث الهمام ... لا يزرع البذر(2/427)
إلّا بعد تنقية الأرض وتمهيدها وإثارتها، فلما تم لنا من ذلك شيء في بعض الجهات ووجدت القابلية- انتقلنا إلى المرحلة الثانية، وهي التعليم، بعزيمة المؤمن المنتصر المقدر لمواقع الخطى، المستفيد من الصواب والخطأ، ولم يبق لنا من أعمال الطور الأول إلّا مواقف حراسة ودفاع لئلا يعاود الباطل كرته، على نحو من دفاع الجندي الظافر في أطراف الميدان.
كان الطور الأول طور هدم ورفع أنقاض، وكان الطور الثاني طور بناء وتشييد ... بناء للعقول والأرواح والنفوس بمواد العلم والحكمة والفضيلة وتشييد للحياة الفاضلة الحافلة بالسعادة والنضرة، المبنية على المثل العليا من الرجولة والبطولة والنبوغ، ولا تذكروا مع هذا تشييد المباني، فهي في المحل الأول وهو في المحل الثاني، وأين بناء الجدران، من بناء مقومات الإنسان؟ إن في بناء العقول والأرواح والنفوس والأذهان لمحاكاة لصنع الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وإن في فتق لسانه على البيان المنمق، وتشقيقه على الكلام المشقق، لتحقيقًا لحكمة الذي خلق الإنسان علمه البيان، وأين يقع ذلك من هذا؟
استغرق هذا الطور سبع سنوات تخللتها نكسة الحرب وتعطيل التعليم في سنوات منها، وكان الربح الذي أفاءته علينا سنوات التعطيل أربى من الخسارة، فقد تنبهت مشاعر الأمة في حقبة التعطيل، وكمل استعدادها، فما كادت الحوائل تزول حتى تأججت الرغبات المكبوتة، وانفجر الاستعداد الكامن، وأقبلت الأمة تبني المدارس وتعلي، سائرة على هدي جمعية العلماء، وجارينا ذلك التيار على ما في مجاراته من أخطار، وفتحت عشرات المدارس فيما بين سنة 1943 وسنة 1945، وجاءت حوادث 8 ماي فأعادت النكسة وشلت الهمم والعزائم، ورمت الأمة بالداء العياء الذي ما زالت تعاني عقابيله، وهو الخوف والرهبة.
وجاء الطور الثالث يعدو سابقًا في صيف 1946 متسمًا بالحزم والتصميم والنظام والترامي إلى الكمال، والرمي إلى هدف واحد، والإيمان الجازم بالغاية وجمع القوى المتفرقة في سبيل الوصول إليها، وإن هذا الطور كيوم من أيام الله في جمعيتكم، لا يقدر بالساعات، وإنما هو هيكل من الأعمال متعدد الأجزاء لا يتم بتمام جزء منها، وإنما يتم بتمام جميعها، وقد استعددنا للقيام بإتمام هذا الهيكل، وصاحبنا من توفيق الله ما شهدنا آثاره، فلم ننقطع يومًا عن الأعمال المتممة لهذا الهيكل في السنوات الخمس، وإنما انقطعنا عن شيء عرفي، قرره الاصطلاح والقانون، وسمياه (الاجتماع العام) فلم يُفَوِّتْ علينا هذا الانقطاع إلّا اجتماعًا محدودًا في مكان محدود في ساعات محدودة، تلقى فيه كلمات معدودة، وأبخس بهذا كله فائتًا في جنب ما تم وحصل في هذه السنوات الخمس من الأعمال الإيجابية الباهرة التي لولا عون الله وتيسيره، وسر الإخلاص لما تم بعضها في(2/428)
عشرات السنين، ولو قارنا بين ما أجدى علينا هذا الانقطاع وما رزأنا لوجدنا الجدوى أرجح من الإضاعة، فلم تمر في تاريخ جمعية العلماء سنوات أبرك على الأمة وأعود عليها بالخير من هذه السنوات، فكأنهن البقرات السمان أو السنبلات الخضر في رؤيا يوسف غير أنهن خمس ....
على أن انقطاع الاجتماع العام لم يكن مخالفًا للقانون العرفي كما يتوهمه بعض الناس. بل كان مستندًا على أسناد قانونية متينة، فإن كثيرًا من أهل الرأي من الأعضاء العاملين والمؤيدين كانوا مجمعين في أول كل سنة من هذه السنوات على عدم لزوم الاجتماع العام محتجين بأن المجلس الإداري قائم بمشاريع عظيمة واسعة النطاق، تملك عليه وقته وتفكيره وجهده، ويستدعي إتمامها سنين من الوقت وملايين من المال، ومجهودًا متواصلًا من الأعمال، ويقتضي جمعًا بين أول الرأي وآخره، وبدء العمل وتمامه، فليس من سداد الرأي ولا من صواب التدبير تشويه الهيكل بتشويش العمل- وهو في انتظام أمره واطراد سيره- باجتماعات آلية يعطل اعدادها وقتًا غير قصير، ويستنفد مالًا غير يسير، بل من لباب الحكمة أن لا تختلف الأيدي المسيرة كيلا يختلف الرأي، وأن يبقى المجلس الإداري قائمًا على تلك المشاريع، حتى يقدم للأمة عملًا كاملًا، فما أضر الجمعيات والحكومات، وما عطل بناء الأعمال العظيمة فيها حسية ومعنوية إلّا هذه السنة السيئة، وهي أن يبدأ الأعمال ويضع لها البرامج والتخطيطات غير من يوكل إليه إتمامها، وما شل عبقريات الرجال إلّا عروض هذا الخيال، وهو أنهم يبدأون العمل على تدبير وتقدير، ثم يخلفهم عليه من لا يرى فيه رأيهم، ولا يفكر تفكيرهم ولا يوافق ذوقه ذوقهم، ولا يكون له من الهمّة في إنجازه ما لهم من الهمّة فيه، والأعمال همم وذمم وقيم.
أيها الإخوان:
تنقسم الأعمال التي باشرها المجلس الإداري لجمعيتكم في السنوات الخمس الماضية إلى قسمين: مشروعات ومواقف، وأهم المشروعات- المدارس و"البصائر" والمعهد الباديسي، وتضاف إليها حركة باريس ومكتب مصر، وأهم المواقف موقف الدفاع عن حرية الدين، والدفاع عن حرية التعليم العربي، ويتبع ذلك موقفه من قضايا العروبة والإسلام، وها نحن أولاء نتحدث إليكم عن هذا الأهم من المشاريع، مجملين في بعضها حيث لا فائدة في التفصيل، مفصلين في بعضها حيث يحسن اطلاعكم عليه. فإذا انتهينا من ذلك تقدمنا بإرشادات إلى المجلس الجديد فيما يجب عليه لاتصال العمل في هذه المشاريع وتقويتها والمحافظة عليها، وزودناه بخلاصة التجارب التي حصلنا عليها من المراس للحوادث، والمراس على المكاره والمصاعب، وان هذا لخير زاد يقدمه سلف لخلف، وأنفع ميراث يرثه خلف عن سلف.(2/429)
المدارس
يتكلم بعض الأدباء والمتألهة عن عدد الثلاثة، ويتخيلون له من بين الأعداد سرًا يحومون عليه ولا يكشفون عنه، ويطرقون بابه ولا يلجون، ويعدون اعتباره في العادات والأديان، والإكثار من ذكره والتحديد به ظاهرة قديمة في العادات متفشية في الأديان واردة على ألسنة الرسل المعصومين، فالثلاثيات أو الثواليث هي أكثر شيوعًا من كل ما اشتق من الأعداد أو تصرف منها، ففي الإسلام التثليث في الطهارة، والثلاث في العصمة، والثلاثة والثلاثون في الذكر، وفي العادات تكرير اللفظ ثلاثًا للتأكيد، وفي كثير من أطوار الأدب العربي ثواليث من الشعراء تنتهي إليهم الشهرة في جيلهم وتقف، وفي الأخلاق ثواليث تتقارب في الأثر اشتراكًا، أو تتباعد تضادًا، وتتماثل حتى في الوزن وأشكال الحروف كالجهل والجبن والجفاء أو كالجدب والجرد والجفاف، والحقيقة أنه لا سر في هذا وإنما فيه غرابة، لأن الثلاثة هي أول عدد يجمع درجتي العدد، وهما الشفع والوتر، ولكنهم مع هذه الحيرة في الثلاثيات لا يستغربون الثنائيات، والكون كله مملوء بها وقائم عليها، والتقسيم كله راجع إليها، فهي محل السر وإن لم تكن محل الغرابة لكثرتها، كالليل والنهار والظلمة والنور، والخير والشر والحق والباطل، وفي الكون سماء وأرض وفي الاحياء ذكر وأنثى، وفي جوارحهم كثرة مزدوجة كالعينين واليدين، وفيما يختلفون فيه العفة والطمع، وفيما يقتتلون عليه الجوع والشبع، وفيما يتدافعون عليه الحرية والعبودية، وفي أخراهم النار والجنة، وفي دنياهم المدرسة والسجن ...
هذه فلسفة فارغة، ولكن في بعض جوانبها مجالي للعبر، وجوالب للتفكير، فالدنيا أخت الآخرة أو ضرتها وفي كليهما متقابلات يؤدي بعضها إلى بعضها، أو يدل بعضها على بعضها، فالمدرسة هي جنة الدنيا والسجن هو نارها ... والأمة التي لا تبني المدارس تبنى لها السجون، والأمة التي لا تصنع الحياة يصنع لها الموت، والأمة التي لا تعمل لنفسها ما ينفعها ويسعدها، يعمل لها غيرها ما يضرها ويشقيها، والأمة التي لا تحك جسمها بظفرها فترفق وتلتذ، تحكها الأظفار الجاسية فتدمى وتتألم، والأمة التي لا تغضب للعز الذاهب ترضى بالذل الجليب، والأمة التي تتخذ الخلاف مركبًا يغرقها في اللجة، والأمة التي لا تكرم شبابها بالعلم والتثقيف مضيعة لرأس مالها، والأمة التي لا تجعل الأخلاق ملاكها، أمة تتعجل هلاكها، والأمة التي تلد لغيرها- أمة تلد العبيد، لا أمة تلد الأحرار الصناديد، والأمة التي تعتمد في حياتها على غيرها طفيلية على موائد الحياة حقيقة بالقهر والنهر وقصم الظهر، والحياة بلا علم متاع مستعار، والوطن بلا علم عورة مكشوفة، ونهب مقسم، سنة من سنن الله كسنته في تكوير الليل على النهار.(2/430)
لطالما قرعنا أسماع أمتنا بهذه الحقائق في المجتمعات الحاشدة بالكبار والصغار والنساء والرجال، في دروس الوعظ الديني، وفي محاضرات الإرشاد الاجتماعي، وعلى منابر الجمع والأعياد، وضربنا لها الأمثال بالأمم حاضرة وغابرة، وأفهمناها أنه إذا كانت الدار مقبرة فالحياة فيها موت، وإذا كان الشارع ملهى فهو طريق إلى السجن، وأن المدرسة هي طريق الحياة وطريق النجاة وطريق السعادة، وان الوطن أمانة الإسلام في أعناقنا، ووديعة العرب في ذممنا، فمن بعض حقه علينا أن نحفظ دينه من الضياع، وأن نحفظ لسانه من الانحراف، وأنه لا سبيل إلى ذلك إلّا بالمدرسة التي تبنيها الأمة بمالها، وتحوطها برعايتها، وتجعلها حصونًا تقي أبناءها الانحلال الديني والانهيار الخلقي وتحفظهم من ترف الغنى وذل الفقر، وتربيهم على الرجولة والقوة، وتوحيد النزعات، وتصحيح الفطرة، وتقويم الألسنة وتمتين الإرادات والعزائم، وتغرس الفضيلة في نفوسهم، وتصلح فيهم ما أفسده المنزل والشارع، وتروضهم على حب الوطن وبنائه طبقًا عن طبق.
وكأنما تلاقت كلماتنا الواعظة وآذان الأمة الواعية، في غمرة من غمرات التأثر والانفعال، والامتعاض للحال، والتشاؤم من المآل، فكان أثر ذلك تلك الهبَّة التي وضعت حجر الأساس لهذه النهضة، وأنتجت عدة مدارس في نواحي القطر المتفرقة، ثم تضاعفت الهبة من آثار الحرب المتناقضة في النفوس، فاشتد الإقبال على إنشاء المدارس، وسرت العدوى فولدت التنافس المحمود بين الجماعات والقرى، حتى أن المؤرخ ليعد- صادقًا- سنة 1943 وما بعدها موسم حمى فائرة، أعراضها تأسيس المدارس، وهذيانها الحديث عن المدارس، وكان تشجيع جمعية العلماء لهذه الحركة المباركة- على ما فيها من أخطار الاندفاع- مبنيًّا على حكمة، وهي أن تثبيط الهمم المتوثبة تبريد للحمية الفائرة، وفي التبريد من الأضرار ما ان أيسره- في مثل أمتنا- معاودة الهجوع وهي قريبة عهد به، مع كثرة الأيدي المهدئة، وتجاوب النغمات المهدهدة، لإعادة النائم إلى نومه.
ثم تضاعفت الهبة لأوائل هذا الطور وهو سنة 1946 وكانت في هذه المرة مستكملة البواعث، وضاعف رجال الجمعية جهودهم في التنشيط، وكان من آثار هذا المزيج من النشاط والتنشيط أن تم في هذه السنوات الخمس عدد من المدارس هي مفخرة الفاخر، وملجمة الساخر، ولئن كان من مفاخر الطور الأول للجمعية مدرسة دار الحديث بتلمسان ومدرسة تهذيب البنين بتبسة، وكان من مفاخر الطور الثاني مدرسة الحياة بجيجل، ومدرسة شاطودان، فمن مفاخر هذا الطور الأخير مدرسة ندرومة، ومدرسة سيق، ومدرسة وهران ومدرسة أبي العباس، ومدرسة تيهرت، ومدرسة الأصنام، ومدرسة الأغواط، ومدرسة بوفريك، ومدرسة سانت أوجين، ومدرسة حي بيلكور في الجزائر، ومدرسة قنزات، ومدرسة سطيف، ومدرسة العلمة، ومدرسة بسكرة، ومدرسة سكيكدة، ومدرسة عنابة، ومدرسة(2/431)
خطاب بالميلية، فهذه أمهات المدارس التي شيدتها الأمة وأعلتها على مقدار من همتها وأنفقت فيها عشرات الملايين، وتداعت فيها إلى البذل على بصيرة وإيمان ويقين، ومن وراء هذا الطراز المشرف والنموذج الكامل من المدارس، نموذج هو دونه في الضخامة، تمثله مدارس مغنية والحنايا والغزوات والطهير، وعقارات اشتريت بقصد الإصلاح والتجديد، ومساحات من الأرض حيزت بقصد البناء ولئن تمت ليكونن بعضها أضخم وأعظم مما تم تشييده، كمدرسة خنشلة، ومدرسة الشريعة، ومدرسة البنات بجيجل، وغيرها.
ومما يسترعي الانتباه أن هذه المدارس شيدت كلها على طراز متقارب الهندسة والمظهر، وهو شيء مقصود أشرنا به ونفذناه، وأبعدنا النجعة في تطلب سره، وهو أن تفهم الأجيال الآتية أن هذا الجيل الذي بنى وشيد، كان جيلًا منسجم الذوق، موحد اللمحات الذهنية، متقارب النظرات الفنية، وانتقل من ذلك إلى أنه جيل ينظر إلى الحياة نظرة واحدة، ولا يصمنا باختلاف الذوق، واختلال الذهن، وانطماس النظرة، وما زال اتحاد الذوق في أمة دليلًا على وحدة تفكيرها، وسداد نظرتها، وما زلنا نرى الطراز الأندلسي موحد التقسيم والتخطيط، فنشهد لأصحابه بوحدة الذوق وانسجام اللمحة، والتواطؤ على فنون الحياة، ونستدل بذلك على أشياء أخرى من شؤونهم في غير المعمار، ونحن بهذا التقارب البادي في طراز مدارسنا والذي سيتم تمامه في المستقبل نكون قد سجلنا لجيلنا الحاضر منقبة، وفرضنا على الأجيال الآتية نوعًا من الإكبار لنا، والتقدير لأعمالنا فائدته لنا حسن الذكر وطيب الأحاديث من بعدنا، وتزيين صحائفنا السوداء بلمحة من جمال، وفائدته لأجيالنا الآتية متاع من الفخر الصادق بنا، وخطة من التأسي الصالح بأعمالنا وآثارنا، وحفز لهم إلى تكميلها والمحافظة عليها، ولو أننا تركنا لهم صورًا شوهاء مختلفة المظاهر والأشكال لأضللناهم، ولنبت عيونهم وأذواقهم عن آثارنا، فكان ذلك مدرجة لنسيانهم لنا، وعقوقهم إيانا، وإذًا لأضعنا عليهم سبب فخر، وفوتنا على أنفسنا مناط ذكر، فلتكن هذه النكتة عظة لبناة المدارس من أبناء هذا الجيل، فإليهم سقنا الحديث، وإياهم عنينا بالتذكرة.
...
بلغ عدد المدارس الابتدائية، مائة وخمسًا وعشرين مدرسة، (بإسقاط المعطل منها إداريًّا)، وتشتمل هذه المدارس على أكثر من ثلاثمائة فصل.
وبلغ عدد التلاميذ النهاريين:
الملازمين ................... 16286
الذكور منهم ................ 10590
والإناث .................... 5696(2/432)
وبلغ عدد التلامذة الليليين الذين تشغلهم المكاتب الفرنسية:
بالنهار .......... 20000
(وهذا الإحصاء خاص بمن شارك في امتحانات هذه السنة).
فمجموع التلامذة الذين تضمهم مدارسنا قريب من سبعة وثلاثين ألف تلميذ وقد يجاوزون الأربعين ألفًا في بعض الأوقات.
ولكن الانقطاع في أثناء السنة كثير، لأن أسبابه كثيرة في أمتنا، فإذا أسقطنا هذا العدد القليل من ذلك الرقم الهائل المحروم من التعليم بجميع أنواعه، وهو مليونان من شباب الأمة وأطفالها- وجدنا أنفسنا لم نزل في مبتدإ المرحلة، وسمعنا الواجب ينادينا ويحثّنا على مضاعفة الجهد لإنقاذ هذا الجيل البائس من الأمية والجهل، فإذا لم نفعل أضعنا جيلًا كاملًا، وحققنا أمنية الاستعمار فيه.
وبلغ عدد المعلمين .......... 275 معلمًا يتقاضون أجورًا لا تكاد تكفي لضرورياتهم، تبلغ سبعة وثلاثين مليونًا في السنة تقريبًا.
وبلغت قضايا المحاكمات للمعلمين (بتهمة التعليم) سبعًا وعشرين قضية، حكم في جميعها بالتغريم، وفي ثلاث منها بالتغريم والحبس ... وفي واحدة منها بالسجن والتغريم المضاعف واستؤنفت عدة قضايا منها إلى المحاكم العليا في باريس فأيدت أحكام الجزائر في جميعها، ولم تنقض منها حكمًا، مما يدل على أن "العلة في الرأس"، وأن بين أيدينا سجلًا جامعًا لهذه المحاكمات سوف ننشره في العالمين تشنيعًا على الاستعمار، وكشفًا لسيئاته.
ومن آيات الله في هذه المدارس أنها حية في حكمه، تعلم وتؤدي واجبها، ولكنها ميتة في حكم الاستعمار، لأنها مخالفة لقوانينه الجائرة، وأغراضه الخبيثة، مناهضة لوجوده، ففي حياتها وموتها خلاف بين الله وبين الاستعمار، وفي استمرارها وتعطيلها غلاب بين أحكم الحاكمين، وأظلم الظالمين، ومغالب الله مغلوب.
أيها الاخوان:
إن الاستعمار ينظر إلى مدارسكم بعين الغضب، فهل أنتم ناظرون إليها بعين الرضا (1)، ومقدمون إليها ما ينشأ عن الرضا من تأييد والتفاف واستماتة في الدفاع عنها؟
إنه جاد في قتل لغتكم، فهل أنتم جادون في إحيائها؟ (2) وإنه ينظر إليكم بالعين النافذة إلى السرائر، وقد جسَّ مواقع الضعف منكم فوجدها في التفرق والتخاذل والبخل، فاتخذ منها دلائل على موت مشاريعكم، فهو يغفل ويتصامم لتموت بأيديكم لا بيده، فيكون له
__________
1 و2) أجاب الحاضرون هنا بإجماع: نعم!(2/433)
بذلك بلوغ غرض وإقامة دليل، وانه ليحاكم مدرسة بعينها ويترك ما بين أيديها وما خلفها من المدارس، ليذكرنا دائمًا أنه هو هو وأنه بالمرصاد وأنه إذا شاء فعل، ومن مكره الكُبَّار أنه يفحش في المحاكمة ويغلظ فيحاكم المعلمين على الصورة التي يحاكم بها المجرمين في مجلس واحد، وينادي مناديه على متهم بسرقة وعلى متهم بتعليم القرآن، أو بفتح مدرسة بلا رخصة، وكثيرًا ما يكون يوم المحاكمة هو يوم الجمعة فاسمعوا وعوا ...
أيها الإخوان:
هذه المدارس التي تعتمد ماديًّا على الأمة وحدها، وأدبيًّا على جمعية العلماء وحدها مفتقرة إلى مدد متلاحق من المال والنظام، وان الأول لألزم من الثاني ومقدم عليه، فإن النظام لا تطمئن قواعده إلّا بالمال، وان قلة المال هي السبب الوحيد فيما يبدو على مدارسنا من اضطراب وخلل، وخذوا مثلًا جزئية واحدة وهي لجنة التعليم والتفتيش، فإن عددًا ضخمًا من المدارس والمعلمين والتلامذة مثل هذا يحتاج إلى إدارة خاصة بمديرها وكتابها ومفتشيها ولوائحها وملفاتها تكون مرجعًا للجمعيات المحلية فيما يخصها، وللمديرين والمعلمين فيما يخصهم، وفيصلًا في الخلاف الذي ينجم، والإشكال الذي يطرأ، ومسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة من أمر المدارس، وعن التفتيش والمراقبة للامتحانات، وقد تنبه المجلس الإداري لهذا كله، وتبين فائدته ولزومه، من أول هذا الطور، فكون لجنة التعليم من قدماء المديرين، وبعض أعضاء المجلس الإداري، وأسند إليها كل ما يتعلق بالتعليم، وزودها بالأدوات اللازمة، فقامت بأعمال نافعة ووضعت اللوائح والنظم، ونظمت التفتيش، وبدأت التجربة بواحد، وقطعت سنتين في تجربة كانت مشجعة في الجملة، ثم استأنفت العمل، ونقَّحَتْ كل ما لم يظهر صلاحه من اللوائح، وقد مضت عليها أربع سنوات ولم يقع فيها تجديد، ولم يظهر على أعمالها تقدم، بسبب فقد الأموال اللازمة، وحسبكم أنها كلفت الجمعية قريبًا من مليون فرنك في سنتها الأولى، وقد قدمت للمجلس الإداري بعد اجتماعها الأخير، وبعد إنجازها لأعمالها، تقريرًا وافيًا عن حالة التعليم مستقاة معانيه من تقارير المفتشين والمديرين، واقترحت مقترحات مفيدة ضرورية، وقدرت لتنفيذها. على أكمل وجه مليونين ونصف مليون من الفرنكات، وانه لمبلغ نزر بالنسبة إلى ما يترتب على تلك المقترحات من الفوائد، ولكن أين هذا المبلغ من المال؟
أصارحكم بأن من الموارد المالية التي خصصناها للجنة- اشتراكات سنوية فرضناها على المدارس بنسب متفاوتة بحسب ضعفها وقوّتها، وأشرنا عليها أن تحتسبها من نفقاتها العامة، ولكن كثيرًا من المدارس لم يدفع ذلك المبلغ التافه سنتين، تعللا بالأزمة، مع تكرر الطلب وان هذا لأحد الأسباب في كثير من التقصير والخلل الذي نعترف به منصفين، ولكننا لا نرضى أن نتحمل مسؤوليته وحدنا بل المسؤولية ملقاة على الجمعيات المحلية ومن ورائها الأمة.(2/434)
أيها الإخوان:
كلمة صريحة مريحة، إن كنتم جادين في هذه النهضة، مؤمنين بنتائجها وغاياتها، فكونوا مؤمنين بأنه لا يتم لها تمام بالأقوال وتخطيط البرامج على الورق، وإنما يتوقف كل شيء فيها على المال، وان المطلع على بواطن الحالة عندنا ليأخذه العجب من سير هذه الحركة العتيدة بهذه المبالغ الطفيفة من المال، أما غير المطلع فقد يظن الظنون، وقد تطايرت منذ سنوات أخبار عن جمعيتكم عرفنا مصدرها ومغزاها، وبلغت إلى مصر والعالم الشرقي، وتقول هذه الأخبار ان جمعية العلماء تملك خمسمائة مليون من الفرنكات، وانحط بها بعضهم إلى ثمانين مليونًا، وكأن ناقلي هذه الأخبار ومصدقيها يعتقدون أن جمعية العلماء شركة تتجر في المواد الرائجة، وما علموا أنّه لو اجتمع لجمعية العلماء هذا المبلغ من المال لأنفقته في سنة واحدة على تشييد المدارس لهذا الجيش المتشرد من أبناء الأمة، لأن ادخار المال، لا يكون إلّا بعد استكمال الأعمال، ونحن لم نصل بعد هذا الجهد المضني في عشرين سنة إلّا إلى تحقيق جزء من رغائب الأمة، وإخراج نحو مائة ألف من سجن الأمية، ولكننا نقوم بواجبنا، على قدر حالنا، ونذر المتخرصين ينطقون عن الهوى، ويخوضون في ضحضاح الأوهام.
المعهد الباديسي
من غرر أعمال المجلس الإداري في هذه السنوات الخمس إنشاء المعهد الباديسي بقسنطينة، بحيث إذا عدت أعمال جمعيتكم كان درة تاجها، ونكتة انتاجها، وذبالة سراجها والمرقاة العليا في معراجها، والبرهان القاطع على بلوغ الجمعية رشدها، والأمة أشدها.
قضينا عن الأمة بإنشاء هذا المعهد حاجتين في النفس: إحياء اسم أخينا واضع الأس في بناء النهضة التعليمية في الجزائر الإمام الرَّئِيسُ عبد الحميد بن باديس بنسبة المعهد إليه، وتسجيل الاعتراف بفضله علينا وعلى الأمة، وان الاعتراف بفضل الرجال، من دلائل الكمال، ومن أوثق ما يربط الأجيال بالأجيال.
والثانية إقامة قنطرة يمر منها أبناء الأمة الذين قطعوا مرحلة التعليم الابتدائي- إلى التعليم الثانوي، وهو النتيجة الطبيعية لنهضة التعليم الابتدائي إذا طرد سيرها، ولم تقف العوائق في طريقها.(2/435)
وان بين هذا المعهد وبين من أطلقنا عليه اسمه- لصلة من الأمل، تجسمت فكانت كالعمل، حتى كأنه- رحمه الله- أنشأه بيده، فقد نبتت في ذهن الإمام المرحوم فكرة شغلت عليه فكره، فكان يكثر من ذكرها، ويجعلها منتهى آماله في الحياة، ويقربها منه الرجاء، فكأنها منه في قبضة المتناول، تلك الفكرة هي إنشاء كلية إسلامية عربية في الجزائر تدرس فيها أسرار البيان العربي، وحقائق القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي، والفضائل الإسلامية مفصلة على الغاية التي ترمي إليها حركة الإصلاح الديني والاجتماعي التي استفحل أمرها في الجزائر، لتخرج للإسلام- الرجل المصلح السلفي الكامل وتنبت للعروبة من جديد ألسنة تخب في الدعاية وتضع، وتطير في آفاقها وتقع، وكنا نشركه في هذه الفكرة فنتجاذب أطراف الحديث عنها إذ اجتمعنا، ويغمرنا الرجاء بتحقيقها، وكان- رحمه الله- أوسعنا استرسالًا مع الخيال في تشييد الكلية، حتى أنه ليطوي مراحل التمهيد الطبيعية ووسائل الإعداد الضرورية، كأنها طويت بالفعل، وإنا لنتحدث ذات غداة عن التعليم الابتدائي، والشوط الذي قطعناه فيه، ولم يكن لنا إذ ذاك إلّا بضع عشرة مدرسة فقفز بنا إلى الكلية، ولزوم المبادرة بالدعوة والترويج لها في أوساط الأمة، فعارضناه بأن تحقيق هذا الأمل يتوقف على مرحلتين تسبقانه طبعًا ووضعًا، وهما تعليم ابتدائي متقن واسع، فإذا تم وانتشر وكثر الحاملون لشهادته تطلب بطبيعته تعليمًا ثانويًّا، فإذا توجهت الأمة إليه، وجدت وآمنت بضرورته لحياتها اندفعت إلى تأسيس مدارسه، لأن العلم إذا انتشرت تباشيره في الأمة، وخالطت بشاشته أرواحها، أصبح كالسيل المتدافع، يقذف تيارًا بتيار، وحينئذٍ يجب التفكير في الكلية والتعليم العالي، وستكون الأمة إذ ذاك مندفعة إلى هذه المرحلة بما سبقها منساقة إليها بطبيعة الحال، ولم يكن- رحمه الله- ممن ينكر هذا بذوقه وشعوره، وإنما كان لقوّة أمله، وفيضان إحساسه، وصدق ثقته بنفسه وبربه وبأمته- يسمو إلى النهايات، ثقة منه بتكامل البدايات.
بقي ذلك الأمل عالقًا بأذهاننا، مستوليًا على شعورنا، حتى لحق الأستاذ الرَّئِيسُ بربه وخلفناه- معشر إخوانه- على حمل هذه الأمانة العظيمة، فوضعنا نصب أعيننا ذلك الأمل، وأخذنا في إعداد وسيلته الطبيعية الأولى وتقويتها، وهي تكثير المدارس الابتدائية، وترقية برامجها، بما يحتمله الوسع، وأعاننا على ذلك إقبال الأمة على العلم، وشعورها بضرورته، تأثرًا بالدعاية التي اضطلعت بها الجمعية، حتى بلغت المدارس وتلامذتها إلى الحد الذي سمعتم، فكان هذا مما عجل التفكير في إنشاء المعهد لنسد به بعض الحاجة ولنجعله نواة للتعليم الثانوي الذي ما زلنا لا نملك أسبابه الكاملة، ولنرضى به رغبات طائفة من أبنائنا الذين أتموا الدراسة الابتدائية، حتى لا تنتكس النهضة وتتراجع ولنمتحن به صدق الأمة وجدّها في النهضة، وقدرتنا على اقتحام المرحلة الثانية في التعليم، وقد أسفر الامتحان من(2/436)
جهة الأمة عن تشجيع مؤثر، له خطره وستسمعون مصداقه من أخينا الأستاذ أمين المال، في فصل المعهد ومؤسساته ونفقاته، ولو اتسع المجال، ولم تتوال الأزمات على الأمة في السنوات الأخيرة، لتقدمنا إليكم اليوم بثلاثة معاهد للذكور، وبمعهد على الأقل للإناث، وإنني لا أخرج من العهدة إلّا بمصارحتكم بأن الأمة لا تستبرىء لدينها، وأمانة الله عندها إلّا بخطوة ثابتة سديدة إلى تعليم ثانوي منظّم، فإن غاية التعليم الابتدائي رفع الأمية وتكثير القارئين، وإثارة الشوق إلى العلم، فإذا لم تفتح في وجوه تلامذة هذا النوع أبواب التعليم الثانوي- انكسرت رغباتهم، وفتر شوقهم، وأدى ذلك إلى موت الأمل في نفوسهم، ثم إلى نوع خطير من الزهد في العلم، والرجوع إلى الأمية المريحة، ولا عذر للأمة في هذا بفقر ولا قلة، فإنها باجتماعها كثيرة غنية غير فقيرة، وان الحجة قائمة عليها بما تنفقه في اللهو وتبدده في الكماليات المباحة، والشهوات المحرمة.
إن أمة تنفق مآت الملايين في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها في السنة على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها- لأمة كاذبة على الله سفيهة في تصرفاتها، ومن عدل الله فيها أن لا يغير ما بها، حتى تنوب وتثوب، وقد ضربنا لها الأمثال، وسقنا العبر، وحذرناها من التمادي في الغي، وبشرناها بابتسام الحياة لها إن هي رجعت إلى الله، ولبت داعيه، وأقمنا لها الدليل من هذه البواكير الطيبة لحركتنا التعليمية وإننا نبرأ إلى الله من أمانة مغشوشة ونصيحة مدخولة وبلاغ خاطىء.
والمعهد الآن يستقبل سنته الخامسة يحنو على سبعمائة تلميذ من أبناء الأمة واثني عشر مدرسًا من علمائها، ويسير بخطوات وئيدة، ولكنها سديدة، معتمدًا في حياته على الأمة متوكلًا على فضل الله.
"البصائر"
كان من أعمال المجلس الإداري لجمعيتكم في أوائل هذه الحقبة- إنجازًا للوعد الذي قطعه على نفسه في اجتماع سنة 1946 - إصدار "البصائر" في طورها الجديد، ولقي في إصدارها ما لا يدركه إلّا المباشرون لمثل هذه الأعمال، وأصعبها وأثقلها محملًا- المطبعة- ولكنه صمم وعزم، فخرجت من أول يوم مولودًا كاملًا، واحتلت من أول يوم مكان الصدارة من بين الجرائد العربية في الشمال الافريقي، ودخلت الشرق العربي فرحبت(2/437)
بها المحافل العلمية والأدبية التي اتصلت بها، وانهالت على إدارتها رسائل الإعجاب والتقدير من أئمة الكلام وحملة الأقلام، واعتبروها نموذجًا فنيًّا راقيًا، ثم دخلت الشرق الإسلامي فتفتحت لها القلوب المؤمنة، وتهللت لها وجوه المسلمين وعدوها لسانًا من ألسنة الإسلام، نطق حين أجرت المطامع الألسنة، وسيف من سيوف الإسلام انتضى حين أغمدت الرغبة والرهبة سيوفه، ودخلت النوادي العربية في الأميركتين فكانت سفيرًا موفق السفارة بين الجزائر وبين أبناء العروبة في تلك البلاد التي حيزت إليها الدنيا بحذافيرها، وزويت لها الأرض من أطرافها، وأَعْدَتْ كل داخل إليها بجنون المادة فكانت "البصائر" هناك قبسًا من روحانية الشرق ودعوة محبوبة إليه، تتداول الأيدي العدد الواحد منها حتى يبلى، ولو أن الناس هناك كانوا يقرأون العربية لأحدثت انقلابًا يكون مآله الرجوع إلى أحكام الروح.
ثم دخلت أوروبا وتغلغلت إلى أقاصيها الشمالية، فكأنما طلعت منها على الجاليات الإسلامية هناك شمس ثانية، وكأنما امتد منها حبل واصل بين المسلمين هنا إلى إخوانهم النازحين الغرباء هناك، وقد بلغت من المكانة عندهم أن جملها أصبحت نماذج تنتزع منها الدروس الدينية والخطب الجمعية.
وقفت "البصائر" في القضايا الجزائرية وفي قضايا العروبة والإسلام مواقف شريفة لم تقفها صحيفة عربية ولا أعجمية، وقاومت الاستعمار بالتشنيع عليه وهتك أستاره وكشف سرائره، ولم يثنها عن ذلك وقوع المكروه فضلًا عن توقعه، وكانت شجًا في حلقه وغصة في لهاته، وغيظًا في صدره، وخصمًا لا تلين قناته.
ووقفت في قضية فصل الدين عن الحكومة مواقف صادقة فضحت فيها نيات الاستعمار المبيتة، وكشفت عن مقاصده الخبيثة، وواجهته بحقائق لم يستطع لها إنكارًا ولا ردًا، وسكت سكتة السارق الذي فضحه نور الفجر، وإذا لم تحصل الأمة بعد تلك الحملات الصادقة على طائل، فذلك راجع إلى عناد الاستعمار المعروف، ,وإلى علة أخرى في الأمة ما زلنا نطب لها، ولم نصل إلى نهاية العلاج بعد، وهي أن إيمانها بحقها ما يزال ضعيفًا، ولو أنها عوفيت من هذه العلة، وتم برؤها منها- لأجرت ألسنتنا وأقلامنا بعزمة مصممة، تفصل القضية في يوم أو بعض يوم، ولتركت الاستعمار يقول ما قاله إمامه الأول فرعون: آمنت أنه لا إله إلّا الذي خلق الأمة الجزائرية.
ووقفت في قضية حرية التعليم العربي مواقف مشهودة، سيحفظها التاريخ وتحمدها العربية فيما تحمد، من مواقف النصرة لها، والدفاع عنها، وسيحمدها المنصفون من العرب وأنصار العروبة يوم تجتمع أطراف الأخبار، وتتجلى الحقائق، وبعلم أولئك الأنصار أن(2/438)
عصابة قليلة العدد في الجزائر قامت بمكرمة عرفت عند العرب فأحيت الموءودة ... أحيت البيان العربي في ألسنة أدارها الاستعمار على رطانات غريبة ومكن لها فيها، ليسقط الضاد من مخارجها، وأنها أرجعت طائفة من أبناء العروبة إلى حظيرة العروبة.
ووقفت من قضية فلسطين موقف المجاهد المستبسل الكرار وأتت في القضية بما لم تأته صحيفة عربية، وجلت من وجوه الرأي الصريح ما لم يجله مفكر عربي، وسددت سهام النقد إلى المتخاذلين من قادة العرب، فكشفت دخائلهم وقبحت سيرهم وأعمالهم وانخداعهم لدسائس أوروبا وأحيت معهم سنن السلف الناصحين من نصيحة صادعة، وكلمة حق قارعة، وقالت لهم ما يغضبهم ولكنه يرضي الله.
ووقفت مع المغرب الأقصى في محنته الأخيرة موقف الأخ الصادق الأخوة يظاهر ويناصر وكأنه يحامي عن داره، لا عن دار جاره، وحملت على الاستعمار وعلى أنصاره الحاطبين في حبله حملات شعواء أقلقت باله وأَقَضَّتْ مضجعه، فلم ينعم له صباح، حتى منع رواجها بالمغرب، وأوصد دونها أبوابه.
ووقفت من الشاب المسلم الجزائري موقف الأب المرشد الناصح المشفق تدعوه إلى تعاليم دينه، وبيان لغته، ومعرفة تاريخه، والمحافظة على ميراثه الجنسي وخصائصه وأخلاقه، وأن يفهم الحياة ويواجهها بحقائقها، وأن يجمع شمله على الشبيبة وحب الوطن ونفعه، وأن يزاحم الأجنبي في علمه وعمله بالمنكب القوي، وأن لا يكون فارغًا في هذا الزمان الملآن، ولا عابثًا في هذا العصر الجاد، وأن يكاثر شباب العالم علمًا بعلم وعملًا بعمل، وأن يتجه إلى سمت، ويعمل له في صمت، وأن يعمل بدستور شوقي للشباب:
هَلْ علمتم أمة في جهلها … ظهرت في المجد حسناء الرداء
باطن الأمة من ظاهرها … إنما السائل من لون الاناء
فخذوا العلم على أعلامه … واطلبوا الحكمة عند الحكماء
واحكموا الدنيا بسلطان فما … خلقت نضرتها للضعفاء
وَاقْرَأوا تاريخم واحتفظوا … بفصيح جاءكم من فصحاء
وأما والله لو أن شبابنا كانوا على حظ من فهم لغتهم، وكانوا يقرأون "البصائر" لما تفرق لهم شمل، ولا ضل بهم سبيل، ولتلاقوا على حب دينهم وهوى وطنهم.
ووقفت من الشرق موقف المتعصب لأمجاده، الناشر لروحانيته وحكمه وفضائله، المردد لأصدائه وأصواته، الفاخر بأبطاله في الحرب، وعباقرته في العلم، ودهاته في السياسة، المثبت لإمامته للغرب وسيادته عليه.(2/439)
ووقفت من الحضارة الغربية موقف المحترس الحذر، تدعو إلى ما فيها من علم وقوّة، وتنهى عما فيها من قشور وتوافه ورذائل.
كل هذه المواقف- ومثلها معها- وقفتها "البصائر" حتى استولت على أمد السبق في الشهرة، وانتزعت الاحترام لها والإعجاب بها، واستردت للجزائر ما كانت مغبونة فيه من حسن السمعة، وهي لا ترجو من وراء ذلك عوضًا ولا تسجل منة، وإنما هي في كل ذلك مؤدية لواجب، قائمة بحق.
إن مواقف "البصائر" هي مواقف جمعية العلماء لأنها لسان حالها، وترجمان أفكارها، وكل ما فيها من حسنات فهي من حسنات جمعية العلماء.
قضية فصل الدين عن الحكومة
هذه القضية هي أعضل ما تعانيه جمعية العلماء من القضايا، وأشدها مراسًا، وأكثرها تشعبًا وتعقيدًا، لأنها تقع من الاستعمار في المواقع الحساسة، فهي- في حقيقتها- صراع بين الحق والمصلحة، وأعقد ما تكون القضايا إذا جالت في هذا المجال، وتنازعها هذان العاملان: الحق ببرهانه، والهوى بطغيانه، وقضيتنا هذه من هذا القبيل، يصطرع فيها جهد جبار من جهتنا، وجهد جبار من جهة الحكومة، ويقوي جهدنا فيها أن من ورائه حقًا طبيعيا، وأمة كاملة تطالب به، وروحًا عالمية نزاعة إلى الحق من حيث انه حق، ومستقبلًا يسعى للتجرد من لبوس الماضي، ويقوي جهد الحكومة أن من ورائه مالًا وسلطة، وقصدًا جوهريًّا للاستعمار، وغاية له في إفساد معنويات الشعب الجزائري قد بلغها أو كاد.
ونحن نرى- حين نطالب ونشتد- أن الأمة الجزائرية المسلمة كلها من ورائنا متوافية على قصد واحد، وهو تحرير دينها، لا تختلف علينا في هذا إلّا طائفة قليلة العدد، أَذَلَّ الطمع أعناقها، وأوهمها أن في يد الحكومة أرزاقها، وبلغ بها فساد الفطرة أن أصبحت آلات لهدم هذا الدين، وعونًا عليه للمعتدين، وهذه الطائفة لا تخلو منها أمة ولا عصر، وكأن وجودها شيء من أمر الله يغر به المبطلين ويثبت به أهل الحق.
أما الاستعمار فهو يرى أن وجود هذه الطائفة- التي أوجدها بيده- هو بعض الشواهد على باطله، وأنها كافية لتصيير ذلك الباطل حقًا.(2/440)
ومن المؤسف أن الاستعمار يفهم من معاني فصل الدين عن الحكومة أكثر مما نفهم، ويدرك من آثار القضية وخطرها أعظم مما يدرك جمهور المسلمين أصحاب الحق فيها- ولولا فهمه العميق للقضية، وإدراكه لخطرها لما تشدد هذا التشدد كله في الفصل بعد أن أفحمته الحجج، ولما داور هذه المداورة، بعد أن ضيقنا عليه الخناق، فنقل القضية من مجلسه الوطني ذي النفوذ، إلى مجلسه الجزائري الذي لا نفوذ له.
وعسى أن يأخذ الغافلون منا عن خطر هذه القضية- درسًا من تصلب الاستعمار فيها، فيعلموا أنه يدافع عن مصلحة قيمتها عدة مليارات ذهبية من أوقافنا، وعن جيش من الموظفين الدينيين يستخدمه في أغراض استعمارية، وعن سلطة واسعة لا حدّ لها في الميدان الديني.
إن بقاء الإسلام ومعابده ورجاله وشعائره وأوقافه في يد حكومة الجزائر- هو أعظم جريمة في هذا العصر، ولكنها جريمة يبوء بإثمها وسبتها في التاريخ فريقان: فرنسا بارتكابها، والأمة الجزائرية بالغفلة عنها والتساهل فيها، وإذا كانت فرنسا لا تستحي من الإصرار على مأثم، ومن تشويه سمعتها بهذه اللطخة، فإننا نستحي من الله أن يرانا مقصرين في حق دينه، نائمين عن العمل لتحريره، وقد قامت "البصائر" في مدى أربع سنوات بما يجب أن يقوم به المؤمن الصادق إذا مس دينه بسوء، فكتبت عشرات المقالات، وشهرت بالحكومة ونددت، وأقامت الحجج، وأبطلت المكائد، وان في تلك المقالات لتسجيلًا لمواقف جمعية العلماء في هذه القضية، وان فيها لبلاغًا لقوم يعقلون.
وما زلنا نطالب، وما زلنا نغالب، لا يهدأ لنا بال، ولا تكل لنا إرادة، ولا تفل لنا عزيمة، حتى يتحرر الإسلام في الجزائر، ويرجع الحق إلى أهله والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
ومن أعمال جمعية العلماء البارزة لهذه القضية في هذه الحقبة مباغتة المجلس الجزائري بتلك المذكرة التي قرأتموها، وقد أطارت صواب الحكومة ومجلسها، فحاصوا وماجوا، ثم لاذوا بالصمت والتظاهر بعدم المبالاة، ثم أتبعناها بتدبيرآخر محصناه حتى ترجح لنا الإقدام عليه، وهو السفر إلى فرنسا، والاتصال بجهات الاختصاص في القضية، فسافرنا وبسطنا القضية للرأي العام الفرنسي، وقابلنا رئيس الوزارة ووزير الداخلية ووزير العدل، واللجان السياسية للأحزاب، واللجنة البرلمانية، وشرحنا لهم الحقائق فما وجدنا إلا الكلام المعسول والوعود الواهية، وما استفدنا إلّا أن "العصية من العصا"، وان "زييدا هو ابن زيد": ورجعنا أقوى مما كنا، ثقة بالله وبأنفسنا، واستفدنا شيئًا آخر أعمق أثرًا، وهو نشر القضية في العالم بواسطة الجرائد وشركات الأخبار.
وقد تكفلت "البصائر" بخدمة هذه القضية كما ذكرناه في الحديث السابق عليها، فلا فائدة في التطويل به عليكم.(2/441)
العمل في فرنسا
في فرنسا جالية عظيمة من المسلمين الجزائريين، تبلغ مآت الآلاف، متفرقة على مدن الصناعة، عاملة على كسب القوت، بعد أن أجلاهم الاستعمار عن وطنهم بأساليبه المعروفة، فخرجوا منه مكرهين كمختارين، وقد قضت عليهم الضرورة أن يعيشوا في وطن ليس فيه إسلام ولا عربية وأن تطول إقامتهم فيه أو تدوم، وقضت على بعضهم أن ينقل إليه زوجته المسلمة أو يتزوج فيه من أجنبية وينسل، وقد بلغ عدد أطفالهم في باريس وضواحيها نحوًا من عشرين ألف طفل.
هذه أمة كاملة لو اجتمعت لعمرت مدينة، أو كونت مملكة كمملكة شرق الأردن، حملها طلب القوت على النزوح من وطنها الأصلي إلى وطن آخر، وعلى العيش بين أمة قوية في العدد، قوية بالعلم والعمل، فمن الطبيعي أن تتحلل وتذوب فيها، ومن الطبيعي أن تنسى دينها ولغتها، وجميع مقوماتها، ومن الطبيعي أن يصير هذا العدد على مر السنين زيادة في تلك الأمة القابلة للامتزاج، بقدر ما يكون نقصانًا من الأمة الجزائرية، فمن المسؤول عن هذه الكارثة التي تنقص منا وتزيد في غيرنا؟
كانت جمعية العلماء فكرت في هذه القضية الخطيرة وتدبرت عواقبها، قبل أن يبلغ العدد إلى هذا الحد، فرأت من الواجب عليها، ومن الأشبه بها، ومن جنس عملها، أن تلتفت إلى هذه الطائفة وتهتم بها، وأن تتخذ الوسائل لإنقاذها من الكفر والذوبان والانسلاخ عن العروبة والإسلام، وبدأت عملها التجريبي سنة 1936 على يد الأستاذ الفضيل الورتلاني، ذكره الله بخير الذكر، وأمدته بطائفة من المعلمين، يوجد منهم بينكم الآن أربعة أو خمسة، وكانت الأماكن متيسرة إذ ذاك، فاستطاع الشيخ الفضيل أن يفتح في مدة قصيرة أحد عشر ناديًا مقسمة على أحياء باريس، واستطاع بلباقته أن يجمع الناس فيها على دروس الدين وتعليم الصبيان، واستطاب المسلمون الجزائريون ذلك فأمدوه بالعون والتأييد، ونجحت الحركة أيما نجاح، ومدت مدها إلى عدة مدن في الجنوب، واطرد النجاح فيها، قريبًا من ثلاث سنوات، وخرج الورتلاني من فرنسا، وجاءت الحرب فقضت على تلك الحركة، فلم يبق لها أثر، إلّا بعضًا من رجال ذلك العهد يتحسرون عليه ويتعللون با ذكريات.
ولما انتهت الحرب فكرت الجمعية في إحياء الحركة، فأوفدت أحد رجالها الشيخ سعيد صالحي ليدرس الأحوال، ويمهد للأعمال، فوجد عقدة العقد هي قضية الأماكن، ومنذ سنتين كلفت الجمعية رئيس شعبتها في باريس، ومعتمدها في أوروبا الشيخ عبد الرحمن(2/442)
اليعلاوي بأن يقدم لها تقريرًا عن القضية، ففعل، وبين أن أكبر الموانع من استئناف الحركة هو عدم وجود الأماكن، وفي أواخر السنة الماضية سافر أخوكم هذا مع الأستاذ التبسي إلى باريس، لغرضين: أحدهما خدمة قضية الفصل التي سمعتموها، والثاني الاتصال بإخواننا الجزائريين مباشرة والتفاهم معهم على إخراج هذه القضية من دور الكلام إلى دور التنجيز، فاجتمعنا بالكثير منهم، وخطبنا في عشرات الاجتماعات في باريس وفي الضواحي، وعقدنا اجتماعات عامة لذلك، وكانت أفراح إخواننا بهذه الحركة لا توصف، ولكن المانع القديم لما يزل قائمًا، والمساعي في إيجاد الأماكن مبذولة إلى الآن بصورة جدية، والتفكير متجه إلى شراء مركز ممتاز لجمعية العلماء بباريس، فإن تم اليوم فستبدأ الحركة غدًا، لأن كل عمل يتوقف على هذا المركز.
هذه مراحل الحركة قطعتها لكم بالإيجاز، لتفكروا في إخوانكم، وتهتموا بشأنهم كتفكيرنا واهتمامنا، وإن هذه المسألة لكبيرة وإن مسؤوليتها عند الله وعند الناس لثقيلة، وإنها ليست مسألة الأمة وحدها بل هي مسألة الإسلام.
وهناك طائفة أخرى من أبناء الجزائر، هم تلامذة الكليات في فرنسا، وإن التفكير في حالهم لحقيق بنا وبكم، وقد بدأنا بالتجربة والله المستعان.
العمل في مصر
مصر هي قلب العالم الإسلامي، والبرزخ الذي تهوي إليه الأفئدة ويلتقي فيه الأخ بأخيه حرًا طليقًا.
وهي كذلك منبع من منابع الثقافة، ومهجر لأبنائنا الطالبين للعلم، وفيها عدد وافر من أبناء الجزائر طلبوا العلم وحصلوا على درجات عالية فيه، وقد استدرجناهم ليرجعوا إلى وطنهم، وينضموا إلى صفوف العاملين فيه، ويعاونونا على خدمته في هذا الميدان العلمي الثقافي، فلم يرضوا أن يفارقوا بلد الحرية إلى بلد العبودية، فما عذرناهم، ولا شكرناهم، لأن من يحب وطنه يجب عليه أن يستهين في خدمته بكل شيء.
وبما أن مصر هي ملتقى المسلمين كلهم، فقد كونا في أخريات السنة الماضية مكتبًا رسميًّا متألفًا من ثلاثة من أبناء الجزائر المقيمين في القاهرة وقد عملوا في هذه الأشهر أعمالًا جليلة باسم الجمعية، ورفعوا ذكرها، وكانوا صلة بينها وبين العالم الإسلامي كله.(2/443)
وان أشرف ما قام به المكتب- السعي في قبول بعثات من أبناء الجزائر باسم جمعية العلماء في المعاهد العلمية الكبرى، على نفقة الحكومة المصرية، وبعض الحكومات الشرقية، وقد سافر جماعة من أبنائنا لهذا الغرض، مزودين بشهادات منا، وستتكامل البعثة المكونة من عشرين تلميذا فتوزع على الأزهر والجامعة المصرية والمعاهد الأخرى، وإن هذا المكتب لم يزل في المرحلة الأولى، وهي مرحلة التكوين، وسيأتي من الأعمال الجليلة ما يقر أعينكم.
ذخر من النصائح للمجلس الجديد:
أيها الإخوة الكرام، أيها الأبناء البررة، هذه أمهات الأعمال التي قام بها المجلس الإداري لجمعيتكم، فأدى الأماتة، وبلغ بالسفينة إلى ساحل النجاة في بحر من الأحداث متلاطم الأمواج، وسبل من السياسة كثيرة الالتواء والاعوجاج، وهو اليوم يلقي الحمل فخورًا بأعماله التي إن لم يصب في بعضها النجاح فقد حفظ فيها الشرف، وإن لم يكتب له فيها النصر فلم تكتب عليه الهزيمة، وان في التجاريب لعلمًا ليس في الكتب، وان في مراس الحوادث لقتلًا لها، وكشفا لدخائلها واطلاعًا على حقائقها، وحقيق عليَّ أن لا أختم كلامي حتى أتقدم بنصائح وإرشادات للمجلس الجديد، ولمن يأتي بعده، وأن عسى أن يجد فيها النور والهداية، ويستفيد منها ما يستفيده الأواخر من تجاريب الأوائل.
أوصيه بتقوى الله فهي ملاك كل شيء، وأوصيه بالاعتماد عليه فهو ناصر المستضعفين، وأوصيه بالصبر فهو السلاح الذي يفل الأسلحة، وليقرنه بالحق فقد قرن الله بينهما- أوصيه بالصبر على جفاء الإخوان، وتجهم الزمان، وتنكر الأقوياء، ووقع الأحداث، وعلى تلكؤ الأمة في الاستجابة، وتصاممها عن صوت الحق، وليعذرها قبل أن تعتذر إليه، فإنها حديثة عهد بالإفاقة من نوم طويل ثقيل.
وأوصيه باستقبال الحوادث بالصدر الرحب والعزيمة الثابتة المصممة، والحزم النافذ الحاسم، فإن التردد مزلة قدم.
وأوصيه بالروية والرأي والاناة في الحكم على الأشياء، فإن الارتجال مجلبة ندم. وأوصيه بالمحافظة على هذه الجمعية فإنها أمانة الله والأمة عندنا فيجب أن تسلمها يد
قوية وذمة مؤتمنة إلى يد أقوى وذمة أكثر ائتمانًا.(2/444)
وأوصيه بإتقان القديم وتصحيحه، قبل التفكير في الجديد، فإن تشعب الأعمال مضيعة لجميعها، وان إصلاح الموجود خير وأجدى من السعي للمفقود.
وأوصيه بالانسجام فإن لا يكن طبيعيًّا اكتسبه، وان لا يكن موجودًا اجتلبه.
وأوصيه بالتضامن في السراء والضراء، والتعاضد في الآراء والأعمال، فإن التخاذل أول مراتب الخيبة.
وأوصيه بالصدق في الحال وأن يكون ظاهره كباطنه فإن الأمة تنظر إليه نظرة الإجلال، فليكن أهلًا لهذا الإجلال.
وأوصيه بأبنائنا المعلمين خيرًا فهم جند الجمعية وحراسها، وهم قوة الجمعية وسلاحها، وهم القائمون بأشرف أعمالها، وهو التعليم، فليأخذهم بالنظام فهو أضبط لأحوالهم وأعون لهم على أعمالهم، وليكمل نقص ناقصهم بالإرشاد، وليكن وسيطًا حكيمًا بينهم وبين الجمعيات المشاركة لهم في العمل، فهما جناحا الجمعية اللذان تحلق بهما إلى الكمال.
وأوصيه بالشباب فإنهم ذخر الغد، وأمل الأبد، ورأس مال هذه الأمة، فليلابسهم، وليغرس فيهم حب دينهم ولغتهم ووطنهم وتاريخهم، وليقو فيهم ملكة الاعتزاز بها، وليبسط في آمالهم الوطنية، وليرضهم على الفضائل الشرقية، وليجمع قلوبهم على الإسلام وكتابه، وألسنتهم على لغته وآدابه، وليتألف شاردهم بالرفق والأناة، فإن للشباب نزوات، وليقو رجاءهم في الحياة، "فإن اليأس يخترم الشبابا": ولْيُرَبِّهم على التقليل من الأقوال، والتكثير من الأعمال، وليوجههم إلى حياة الشرف، حياة العلم مقرونًا بالعمل، فهذه سمة العصر وشبابه، وليربط حاضرهم بماضيهم، فقد أوشكت الصلة بينهما أن تنقطع عندهم، وأوشك الاستعمار والحضارة الغربية أن يتركاهم بلا ماض، فالقارىء منهم يعرف عن نابوليون أكثر مما يعرف عن عمر، والأمي منهم يجهلهما معًا، ولا ذنب لهم في ذلك، وإنما الذنب ذنب الزمن الغادر والعصر الفاجر، وليحملهم على التحابب فإن الحب رباط القلوب وإن الحب يثمر الاتحاد.
وأوصيه بالأمة الجزائرية المسلمة، فليكن لها تكن له.
أيها الإخوان أيها الأبناء:
أودعكم بمثل ما استقبلتكم به من التحيات المباركات الطيبات، تحية الأبوة للبنوة، وتحية القرابة والأخوة، وتحية الشيخوخة للفتوة، وتحية الضعف للقوة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(2/445)
معهد عبد الحميد بن باديس
شراء دار عظيمة لسكنى تلامذته
فتح اكتتاب باثْنَيْ عشر مليونًا لقيمتها وإصلاحها*
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المعهد الباديسي هو مفخرة الأمة الجزائرية، وهو غرة أعمال جمعية العلماء وأعظمها خطرًا، وأعلاها قدرًا وأكثرها نفعًا، فهو يؤوي سبعمائة تلميذ من أبناء الأمة، ويهيئهم لأن يصبحوا قادة لحركاتها، ومسيرين لنهضاتها في جميع الميادين الحيوية، ومنه تخرج البعثات العلمية والصناعية، ومن صفوفه يتخرج الوعاظ المرشدون والخطباء والكتاب والمعلمون.
هذا المعهد يعتمد في نفقاته الباهظة على الأمة وحدها، ولولاها لما سار خطوة واحدة في سبيله، ولما أدّى شيئًا من الواجبات التي تحملها، وقد قامت الأمة- إلى هذه الساعة- بالواجب المالي، على ما يسعه حالها وإمكانها.
وما زالت إدارة المعهد تعاني مشكلة كبرى، تعترضها في كل سنة، وهي مشكلة الأماكن: أماكن الدراسة، وأماكن السكنى، فبناية المعهد في حدّ ذاتها لا تتسع للدراسة فضلًا عن السكنى، ومع أن للمعهد ملحقين لتخفيف الضغط فإن أقسامه لا تكفي إلّا لسبعمائة تلميذ مع الضيق والرهق، وهذا هو أحد الأسباب في أن إدارة المعهد لا تقبل إلّا هذا العدد، وترفض في كل سنة مآت الطلبات، ولو لم تكن الأمة محرومة من مساجدها لكان لتلامذة المعهد فيها متسع للدراسة، لأن ذلك بعض ما تؤديه المساجد من الواجبات، ولأن ذلك بعض مقاصد محبسيها ومؤسسيها، ولكن هذه الحكومة الاستعمارية الظالمة المحاربة للإسلام مصرة على استخدام مساجدنا لإيواء الجواسيس الذين يخدمون الحكومة (كما شهد بذلك الأستاذ بيرك مدير الشؤون الأهلية سابقًا في مقال له منشور في مجلة "البحر المتوسط") لا لتخريج العلماء الذين ينفعون الأمة.
__________
* "البصائر"، العدد 175، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 26 نوفمبر 1951م.(2/446)
أما مساكن الطلبة فإن إدارة المعهد تلقى في كل سنة أنواعًا من التعب في إحضار المساكن الكافية لهذا العدد من التلامذة، ويتفرق مآت منهم على الفنادق والحمامات على حسابهم الخاص فيلجئهم غلاء الأسعار إلى مساكن رطبة ضيقة تقضي على صحتهم، ومع أن إدارة المعهد أنفقت في هذه السنوات ملايين في كراء أماكن السكنى، ولكنها أماكن غير صالحة من الوجهة الصحية، حتى أصبح التلامذة مهددين بالأمراض الصدرية وغيرها.
ويعز على إدارة المعهد أن تجهد هذا الجهد كله في تنوير عقول أبناء الأمة بالعلم ثم تعرض أبدانهم للأمراض المستعصية بسبب السكنى في أماكن رطبة محرومة من الشمس والهواء، ويصحب ذلك عيب آخر، وهو عدم تمكن الإدارة من مراقبتهم وضبطهم مع تفرقهم.
لذلك كله رأت في مستهل هذه السنة الدراسية أن تخطو خطوة حاسمة في الموضوع، فأقدمت على شراء دار واسعة ذات ثلاث طبقات، تتسع لإسكان خمسمائة تلميذ، واقعة في مكان يجمع بين الجمال والصحة، ويأخذ حظه من الشمس والهواء من ثلاث جهات.
إن محلا يجمع هذا العدد من الطلبة ويسهل على الإدارة مراقبة أخلاقهم وتنظيم أوقاتهم، وضبط أعمالهم- لقليل الوجود، حقيق بأن تبذل فيه الأموال والجهود.
وجمعية العلماء المسؤولة عن أبناء الأمة، الناظرة إلى مستقبلهم بعين بصيرة- ترى أن هذه النهضة العلمية التي تشرف عليها وتسيرها، يجب أن تساير عصرها ولا تتخلف عن قوافله المجدة، وأن من شروطها الضرورية إعداد ما يستطاع من أبناء هذا الجيل إعدادًا صحيحًا في عقولهم وفي أبدانهم، ومحو الفوارق الاجتماعية بينهم حتى يشعروا أنهم أبناء أمة واحدة يجب عليهم أن يعملوا لها كما عملت لهم، ولا يكون ذلك إلّا بتسويتهم في المعيشة والسكنى، كما هم متساوون في الدراسة والتلقي، فإذا لم تستطع إدارة المعهد جمع تلامذته في مطعم واحد، على غذاء واحد، فلا أقل من جمعهم في مسكن واحد، وإذا حققت إدارة المعهد هذا، فهي عاملة على تحقيق ذاك بعون الله وفضل الأمة.
لذلك ... فجمعية العلماء- بعد موافقتها لإدارة المعهد على هذا المشروع وتأييدها فيه، وشكرها عليه- تعلن من ساعة صدور هذه الكلمة فتح اكتتاب عام شامل بهذا المبلغ، يشترك فيه كل مسلم جزائري وكل مسلمة جزائرية، فلا يشذ عنه إلّا المدخول في عقيدته الدينية، لأن الإسلام للجميع، أو المدخول في عقيدته الوطنية، لأن هؤلاء التلامذة هم عماد الوطن في حياته المستقبلة.
ولتعلم الأمة أن هذا المال الذي تدفعه- قرض حسن لهذا الجيل، أنه سيرده لها أضعافًا مضاعفة.(2/447)
العمل عظيم، ولكن الأمة أعظم منه، فعلى الموسح أن يبذل على قدر سعته، ولا يبخل على الله والوطن، ولا يتعلل بالأزمة، وأن يشكر نعمة الله عليه بالفعل لا بالقول، وعلى المقتر أن يعلي همته، ويعلن إيمانه، فإن درهمه عند الله يوازن الجبال.
نخاطب من الأمة ضمائرها، ومواقع الإيمان منها، ومكامن النخوة والغيرة فيها، ونعمم الخطاب إلى جميع الطبقات من تجار وفلاحين وأصحاب مهن حرة وصناع، وعمال، ونذكرهم بأن لله عليهم حقًا، وأن للوطن عليهم حقًا، وأن للعروبة والإسلام عليهم حقوقًا، وأن لهذا الجيل الناشىء المتطلع إلى حياة العلم والعز والسعادة- عليهم حقوقًا، فليعدوه لذلك كما تعد الذخائر للمستقبل، وليحدّوه بذلك كما تحد السيوف للنزال، ولا تهولنهم هذه الحقوق التي عددناها فهي- في غايتها- حق واحد.
ليذكروا أن له على بعضهم نعمًا متجددة من الرزق في كل يوم، وله على بعضهم نعم مما تنبت الأرض أو مما تنتج النعم في كل عام، وأنه يربيها بفضله، ويسلبها بعدله ... فليحصنوها بالبذل في مراضيه، وليصونوها "بتضييعها" في سبله، وان أكبر السبل المؤدية إلى رضاه نشر العلم بين عباده.
إن من الدين، نشر علم الدين وتثبيته، وإن من صميم الوطنية تعليم أبناء الوطن، وإن من أصول القومية، إحياء اللغة العربية، وإن المعهد الباديسي كفيل بهذه الثلاثة، وإنه- مع ذلك- لنموذج من صنعة، وخطوة من ميدان، وعنوان من كتاب، ومرحلة من شقة، فاقطعوها بشجاعة وثبات، يسهل عليكم ما بعدها من الوثبات ....
ها هوذا قائد الحركة، ومرسل هذه الصيحة، يضرب لكم المثل مع ضعفه وإقلاله، فيقتطع من مرتبه الذي يقوت منه عياله خمسة آلاف من كل شهر لمدة سنة، ثم يجمعها فتصير ستين ألف فرنك، فيحتم عليه الواجب أن يقدمها دفعة واحدة، فيستقرضها من المخلوق، ويقرضها الخالق، ويضعها باسمه في (شيك) المعهد.(2/448)
بلاغ *
قرر المجلس الإدراي لجمعية العلماء في اجتماع أكتوبر الماضي- باقتراح من الرَّئِيسُ- إحداث منصب مدير للمركز، يعاون الرَّئِيسُ في مهمات الأعمال التي كثرت فشغلته عن أهمّها، واختار المجلس- بالإجماع- لهذا المنصب الشيخ عبد اللطيف سلطاني القنطري، ناظر معهد عبد الحميد بن باديس سابقًا، وأمين مال جمعية العلماء الآن.
وقد باشر الشيخ المذكور منصبه في المركز، وأسندتْ إليه جميع الأعمال التي كان المركز يتوقف فيها على الرَّئِيسُ من مقابلة الزوّار وأصحاب المصالح، وإنجاز ما يمكن إنجازه من مصالحهم، والإشراف على موظفي المركز ومراقبة أعمالهم، وتنفيذ مقرّرات المكتب الدائم، والاطلاع على البريد وتوزيعه على ذوي الاختصاص من الموظفين، والإجابة عن الرسائل في حينها، وقبض مالية الجمعية و"البصائر"، وإمضاء "الشيكات" اللازمة لإخراج المال على الشروط المقرّرة في القانون الأساسي واللوائح، إلى غير ذلك من الأعمال اليومية، بحيث لا يُرجع إلى الرَّئِيسُ الّا في الأمور والقضايا المهمة.
إن إحداث هذا المنصب شيء دعتْ إليه ضرورة كثرة الأعمال، واختيار هذا الرجل له شيء اقتضتْهُ الحكمة، فالمدير الآن هو المسؤول عن مركز الجمعية، فعلى موظّفي المركز أن يرجعوا إليه، وعلى أصحاب المصالح المرتبطة بالجمعية أن يعتمدوه، وعلى الجميع أن يعاونوه على إقرار النظام وسرعة الإنجاز للقضايا، والله يتولّى الجميع بعونه وتوفيقه.
__________
* "البصائر"، العدد 176، السنة الرابعة، 15 ديسمبر 1951.(2/449)
التهنئة باستقلال ليبيا *
1 - نصّ البرقية التي أرسلها رئيس جمعية العلماء إلى الملك إدريس السنوسي:
الجزائر في 24 ديسمبر 1951
جلالة الملك إدريس السنوسي ملك ليبيا- بنغازي
جمعية العلماء المسلمين المترجمة عن إحساسات الأمة الجزائرية تُعلن مشاركتها للشعب اللّيبي في ابتهاجه بتحقيق استقلاله، وترفع إلى جلالتكم تهانيها الأخوية راجية تتويج هذا الاستقلال بالوحدة الشاملة والتقدّم المطرد تحت رعايتكم الحكيمة.
الرَّئِيسُ: محمد البشير الإبراهيمي
2 - نصّ البرقية التي بعث بها رئيس جمعية العلماء إلى سعادة بشير بك سعداوي، رئيس المؤتمر الوطني بطرابلس:
الجزائر في 24 ديسمبر 1951
جمعية العلماء المسلمين المعَبِّرة عن عواطف الشعب الجزائري تشارككم في الفرح بإعلان الاستقلال، وتتقدم إلى شعب ليبيا بالتهنئة الأخوية، وتتمنّى أن تتضافر الجهود لتحقيق وحدة ليبيا.
الرَّئِيسُ: محمد البشير الإبراهيمي
__________
* "البصائر"، العدد 178 - 179، السنة الرابعة، 7 جانفي 1952م.(2/450)
الأستاذ محي الدين القليبي *
زارنا في هذا الأسبوع الأديب الكاتب المفكر الرحّالة الأستاذ محي الدين القليبي، زيارة تمكين للأخوة الصادقة، وإحياءً لعهد الصحبة القديم، ونزل ضيفًا على جمعية العلماء، فوجد هذا العدد الخاص بمصر في دور الإعداد، فرغبنا إليه أن يشارك فيه بكلمة، فكتب الكلمة المتينة التي ننشرها بعد هذه التوطئة، في نقطة من موضوع الحالة الحاضرة في مصر.
والأستاذ القليبي كاتب اختصاصي في مثل هذه الموضوعات، مرتاض القلم على الجري فيها طلق العنان، ومفكّر ألْمعي فيما يختلف فيه الرأي منها، فيأتي رأيه فيها كفلق الصبح، لكثرة ما درسها وبحث فيها نظريًا، ولما باشرها وساهم فيها عمليًا.
و"البصائر" تغتنم هذه الفرصة الغالية، فتتقدّم إلى الاستاذ القليبي، بترحيب الثابت على العهد، وتحية المقيم على الودّ، وشكر العارف بالمنّة، راجية له إقامة حميدة، وأوبة سعيدة، وصحّة تعين على أداء الأمانة وخدمة الوطن.
__________
* "البصائر"، عدد 178 و179، السنة الرابعة، 7 جانفي 1952: تقديم مقال للأستاذ القلييي بعنوان "كتائب التحرير في مصر ومَن أحقّ بتسييرها؟ "(2/451)
دار الطلبة بقسنطينة
- 1 - *
الخليون الفارغون يعتقدون أننا ما زلنا نتنقل بهذه الأمة من شديد إلى أشد. أما نحن فنعتقد أننا ما زلنا ننتقل بها من واجب أكيد إلى ما هو أوكد وأوجب.
واجب الساعة وفريضة الوقت هي دار الطلبة بقسنطينة، وإن من جمال الواجب إن لم يكن من كماله أن يكون أداؤه في وقته، فتبادر الأمة التي حركناها بالأقوال، وأيدنا أقوالنا بالأعمال، إلى المساهمة بأقصى ما يسعه الإمكان في هذا المشروع الجليل حتى تقطع هذه المرحلة التي هي أوسع المراحل إلى الغاية، فإذا قطعتها فستكون المرحلة الثانية إنشاء معهد الجزائر، ثم تأتي المرحلة الثالثة.
أيتها الأمة، إن خير ما يكون الإيجاف، في السنوات العجاف. فلا تتعللي بالسنين، فإنها تدول، ولا تعتذري بالأزمات فإنها تزول، وابني لنفسك ما يعود عليك نفعه ويبقى لك أجره وشكره.
__________
* "البصائر"، العدد 178 - 179، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 7 جانفي 1952م.(2/452)
- 2 - *
فيها لكل تلميذ جزائري حق، فلها على كل مسلم جزائري حق
ــــــــــــــــــــــــــــــ
شباب الأمة هم عمادها، وهم مادة حياتها، وهم سر بقائها.
وخيرة شباب الأمة هم المتعلمون المثقفون، البانون لحياتهم وحياة أمتهم على العلم.
وصفوة الشباب المتعلم المثقف هم المتشبعون بالثقافة الإسلامية العربية، والمقدمون لها، لأنهم هم الحافظون لمقوماتها، والمحافظون على مواريثها، وهم المثبتون لوجودها، وهم المصححون لتاريخها، وهم الواصلون لمستقبلها بماضيها.
في تكوين هذا النوع من الشباب تسعى جمعية العلماء، وفي سبيله تجاهد وتجالد، وفي سبيله تلقى الأذى من القريب الضال، ومن الغريب العادي، ولأجل إحياء الإسلام في نفسه، وإحياء العربية في لسانه، أنشأت المدارس الأولية لتحقيق نقطة الابتداء، وأنشأت المعهد الباديسي لتحقيق نقطة التوسط، وإنها لعاملة- بعون الله- على البلوغ إلى نقطة النهاية، من هذه الغاية.
لا يحسن الشباب إلى أمته كلها إلّا إذا تبنته كلّه، حتى لا يقول كبير: حسبي ولدي، ولا يقول صغير: حسبي والدي.
ولا ينفع الشباب أمته إلّا إذا جمع بين صحة العقل، وبين صحة الجسم. أما صحة العقل فإن علينا بنيانها، وفي ذممنا ضمانها؛ وأما صحة الجسم فمن المسكن الصالح مبتداها، وإلى الغذاء النافع منتهاها، وكلا هذين دَين على الأمة واجب الأداء.
وإن "دار الطلبة" التي اشرتها إدارة المعهد الباديسي بقسنطينة لكفيلة بتحقيق تلك البداية، فشارك أيها الجزائري المسلم ببذل مالك في شرائها، تشارك في تصحيح أبدان،
__________
* "البصائر"، العدد 180، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 14 جانفي 1952م.(2/453)
ستعطيك غدها، وتمد إلى نصرتك يدها، وتكون سندك غدًا إذا كنت اليوم سندها، وأقرض الوطن في أبنائه قرضًا حسنًا يردده لك أضعافًا مضاعفة.
المال الذي تنفقه في المحرمات يسوقك إلى النار، والمال الذي تبدده في الشهوات يجلب لك العار، والمال الذي تدخره للورثة الجاهلين تهديه إلى الأشرار، وتبوء أنت بالتبار والخسار.
أما المال الذي تحي به العلم وتميت به الجهل فهو الذي يتوجك في الدنيا بتاج الفخار، وينزلك عند الله في منازل الأبرار.(2/454)
- 3 - *
يا طالب
لا تأس بعد اليوم "يا طالب" … فالعلم غال شأنه، غالب
أنت بعين الرعي في أمة … قد جلب الخير لها جالب
تبوأ "الدار"، وعذ بالحمى … لا ضر بعد اليوم "يا طالب"
__________
* "البصائر"، العدد 180، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 14 جانفي 1952م.(2/455)
بلاغات *
- 1 -
قرر المكتب الدائم للمجلس الإداري لجمعية العلماء استبدال رؤساء المكاتب العمالية القديمة بمسؤولين، لأن الحالة تطورت، والأعمال كثرت وتنوعت، فلا تنضبط إلّا بالنظام وتحديد المسؤولية، وقد وضع المكتب لهؤلاء المسؤولين لائحة داخلية مُفصلة لأعمالهم، محددة لمسؤولياتهم، ضابطة لفروع تلك الأعمال، ووجه لكل مسؤول نسخة منها، ليعرف حدود أعماله، ويقوم بتنفيذها على بينة.
والمسؤولون لهذه السنة هم:
الشيخ العباس بن الشيخ الحسين- عن عمالة قسنطينة،
الشيخ علي الشرفي- عن عمالة الجزائر،
الشيخ السعيد الزموشي- عن عمالة وهران،
وهذه الوظيفة مرتبطة رأسًا بمدير المركز، فعلى المشائخ المسؤولين أن يكونوا على اتصال دائم به، لتتصل فروع الأعمال بأصولها، وعليهم أن يقوموا بواجباتهم بكل حزم، وأن يكونوا محققين للثقة التي وضعتها جمعيتهم فيهم. وفقهم الله وأعانهم، وسدد في خدمة العلم خطاهم.
__________
* "البصائر"، العدد 180 السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 14 جانفي 1952م.(2/456)
- 2 -
فتحت "البصائر" باب التهاني والتعازي لتشارك أنصارها المخلصين في أفراحهم وأتراحهم، ولكن بعض الدجالين دخلوا في هذه الصفحة من باب التدليس ليشوهوا خطتها، وليرفعوا أسماءهم المخفوضة بذكرها في صفحة القراء، كما وقع في خبر من مروانة بتهنئة نكرة لم يعرف إلا بالمناوأة الكاذبة لجمعية العلماء.
وعليه فإننا نعلن- مرة ثانية- أن "البصائر" لا تنشر حرفًا بتهنئة ولا تعزية إلّا لمن تعرفه معرفة اليقين، فليقصر الدجالون وليقصر المتقربون المتبرعون بالتهنئة أو التعزية على لسان "البصائر". فليست "البصائر" كشكول تهان وتعاز، ولا سجل "أحوال شخصية" كما يتوهمون.
- 3 -
تصلنا مقالات بدون إمضاء، أو بإمضاء مستعار من غير ذكر الإمضاء الحقيقي، أو بإمضاء مقتضب من غير توضيح.
إلى هؤلاء الكتاب نعلن أننا لا ننشر هذا النوع من المقالات وان توفرت فيها الشروط كلها، وإن الواجب على من يكتب أن يمضي إمضاء صريحًا واضحًا، وله أن يرمز أو يستعير اسمًا آخر بشرط أن يكتب اسمه الصحيح وإمضاءه الحقيقي في ورقة خاصة تحفظ في الإدارة.
- 4 -
تجمعت في الإدارة مقالات كثيرة وقصائد، وتأخر نشر ما يستحق النشر منها بسبب الاضطراب الذي حصل في صدور الجريدة في الأشهر الأخيرة، وقد استعرضتها لجنة "البصائر" وستنشر الصالح منها وما لم يفت وقته تباعًا في الأعداد القادمة.
- 5 -
"البصائر" ليست كتابًا ولا ديوانًا للشعر، ولا جريدة يومية، وانما هي جريدة أسبوعية وقد تعترضها العوائق المادية فتصدر مرتين في الشهر أو دون ذلك. فعلى الكتاب أن يقصروا المقالات فإن ذلك أسهل لنشرها وأنشط لقرائها، وعلى الشعراء أن يوافونا بالمقاطيع الجميلة فإن أطالوا فليلموا بمواضيع ذات عناولن محركة للشواعر، ومن لم يحرك المشاعر، فليس بشاعر.(2/457)
- 6 -
نحن أعلم الناس بمعنى "التشجيع" وبآثاره في نفوس ناشئتنا، ولكن من الأشياء ما لا يشجع، لأنه لا يشجع، وقد قدر الله أن لا تكون "البصائر" ميدانًا للتدريب، ووددنا- والله- لو اتسعت مقدرتنا لإنشاء جريدة "الناشئين" وتخصيصها لتدريبهم على الإنشاء.
الاحتجاج علينا "بالتشجيع" احتجاج في غير محله. لأن النمط الذي يقرأ "البصائر" في الغرب والشرق عرفها على صورة فلا نرضى لها أن تنحط عن تلك الصورة.
- 7 -
كان المسؤول عن "البصائر" مديرها وحده، وحاله في عدم الاستقرار معروف، أما الآن فقد قضت الضرورة بأن تشكل لها لجنة، لا ينشر شيء إلا باتفاق أعضائها، فتوزعت المسؤولية بهذا، وقد عزمت اللجنة أن تنفذ لائحتها بكل دقة، ابتداء من أول السنة الخامسة، (أي من العدد الآتي).
- 8 -
وفي الإدارة مقالات وقصائد، ما أكثرها وما أطولها، في حفلات المولد. وكم وددنا أن ننشر جميعها، لأنها من أعمال مدارسنا، ومن صوغ أبنائنا، ولكن ماذا تصنع جريدة أسبوعية - وقد تعطل عن أسبوعيتها- في هذه المقالات كلها.
إننا لا نملك إلّا الاعتذار لأصحابها بضيق الوقت وفوات المناسبة، وإن الحديث في غير وقته لممجوج.(2/458)
خاتمة السنة الرابعة لـ"البصائر" *
بهذا العدد تنتهي السنة الرابعة لـ"البصائر"، وبه يتم المجلد الرابع المؤلف من خمسة وأربعين عددًا، وفاء بالميثاق الذي ارتبطت به، وواثقت مشتركيها عليه، وهو المعاملة على الأعداد، لا على الأيام.
وسنة "البصائر" غريبة في عالم الجرائد الأسبوعية، لأن هذه المعاملة مع المشتركين، غريبة ولكنها- مع غرابتها- عدل، التزمناه مختارين، وإن أدى إلى تشويش وعدم انضباط في السنة التاريخية.
فمن عادة الجرائد أنها تعد سنواتها بالأيام، لا بالأعداد، وتبدأها من اليوم الذي أنشئت فيه الجريدة، فإذا قدر لها من العوائق ما يقصر أعداد السنة كلها على عشرة، فتلك هي السنة، وفي هذا غبن للمشتركين طالما أطلق ألسنتهم بالشكوى، وطالما نقلهم تكرره من الشكوى إلى عدم الثقة بالجرائد وأصحابها، وعدم الثقة هنا معناه الإعراض عن الاشتراك فيها، فتعيش الجريدة مريضة معتلة ضيقة المدار، أو تموت في سنتها الأولى، وقد ازداد سوء الظن تمكنًا في نفوس القراء بهذا الصنف من الجرائد، الذي يعيش على الاشتراك، حتى أذى إلى الزهد فيها وعدم التفرقة بين الكامل وبين الناقص، وإن هذا لبعض السبب في ما نشاهده من تداعي الجرائد الأسبوعية للسقوط، وفي ما تعانيه الوفية الصادقة منها من أزمات مالية.
وقد شرحنا في فواتح السنوات الماضية من "البصائر" ما رمينا إليه من اعتبار السنة خمسة وأربعين عددًا، وإن صدرت في سنة ونصف أو أكثر من ذلك، كما وقع في هذه السنة التي هي أطول سني "البصائر"، لما جرى فيها من تأخر الجريدة في الأشهر الأخيرة أسبوعين
__________
* "البصائر"، العدد 180، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، 14 جانفي 1932م.(2/459)
وثلاثة، وقد تألم القراء لذلك التأخر، وسألوا عن أسبابه فلم نجبهم، لأن الجواب معلوم ضرورة، وهو ارتفاع ثمن الطبع والورق، وزيادة الأداءات القانونية وأجور الموظفين، و"البصائر" لا تعتمد على مورد مالي غير قيمة الاشتراك وثمن البيع، وهما لا يفيان بهذه النفقات الثقيلة، وإنه لا يعرف حقيقة ما نعاني في هذا الباب إلّا من عانى مثله، ومن عذيرنا ممن لا يفهم؟ وممن إذا فهم لا يعذر؟ ومن لنا بمن يفهم أن "البصائر" جريدة الجهاد في سبيل الإسلام والعربية، فمن واجب كل مسلم عربي أن يجاهد في سبيلها؟ وأنها جريدة "الإعلان " عن وجود الجزائر، فمن واجب كل جزائري أن يدعو إليها، وكأن الجزائر لم تلد ممن يفهم هذا إلّا رجلًا واحدًا، وكم دعونا أن يكثر الله من أمثاله في هذه الأمة، فكان دعاؤنا في ضلال.
ولكن ... هل استفادت "البصائر" من هذه المعاملة "التجارية" التي أنصفت فيها مشتركيها ولم تنصف نفسها؟ لا ... إنها لم تستفد إلّا القيل والقال، وكثرة السؤال، وتوزع قرائها بين التمني لها والتجني عليها، فالذين يقرأونها إعجابًا ببيانها أو انتصارًا لمبدئها يتمنون، والذين يقرأونها تعميرًا لفراغ الوقت يتجنون، وكلا هذين لا يجلب لها نفعًا، ولا يملك لأزماتها دفعًا، ولا يفكر واحد منهما في أكثر من أن الاشتراك عقد بينه وبين الجريدة يوجب له التمتع الشخصي بقراءتها.
يضاف إلى هذا كله هذه العادة السيئة التي ركبت مشتركي الجرائد، وهي أنهم لا يدفعون قيمة الاشتراك من تلقاء أنفسهم فيخففوا عن الجريدة نفقات كانت في راحة منها، بل يكلفونها إرسال المتجولين، ويتردد المتجولون مرارًا فتتضاعف النفقات، وتتأخر الجريدة أسبوعًا فيسمع المتجولون عبارات في الانتقاد "مؤدبة" ودروسًا في التجنّي "مهذبة" ويقولون لنا: ان الدراهم بدون "بصائر" لا تدخل. فنقول لهم: وان "البصائر" بدون "دراهم " لا تخرج، وننتظر حتى يقيض الله لنا خارقًا يفك جهتي هذا الدور ...
إنما تقوم بالجرائد تبرعات سخية من أصحاب المبادئ، أو إعلانات غنية من أصحاب المتاجر والمصانع، وليس لـ"البصائر" شيء من هذا، وقد افتتحنا في أثناء العام الماضي اكتتابًا، ورجونا أن يسدد دين الجريدة، ويربو بما يسيرها عدة أشهر، حتى تدخر دخلها الاعتيادي للأزمات، ولكن الاكتتاب لم يزد على سداد الدين إلّا بما سيّر الجريدة في أشهر الاكتتاب، وعادت إلى دخلها العادي فلم يكفها، فعادت إلى الدين، إلى أن جاء الاجتماع العام، فرأينا- نزولًا على حكم الظروف- أن نصدرها في الأسبوعين مرة حتى تعتدل ميزانيتها فلم تعتدل، ونحن الآن بين أحد أمرين: إما أن نزيد في قيمة الاشتراك، أو ننزل بالسنة إلى أربعين عددًا، وسنطالع القراء في العدد الآتي بما تتفق عليه "لجنة البصائر".(2/460)
ولعل الله خار "البصائر" في هذا التقدير، لتقتحم العقبات وتصارع الأزمات وحدها، فتسن للمسترشدين بها والسارين على نورها سنن الصبر والمجاهدة والتضحية، لأنها جريدة الجهاد، وهل يقوم الجهاد إلّا على هذه الصورة؟
و"البصائر"- مع هذا كله- تحمد الله على أن أصيبت في نظامها ومادياتها، ولم تصب في عقيدتها ومبدإها ومعنوياتها، فقد قطعت هذه السنة كما قطعت السنوات قبلها، أقوى ما تكون حرارة إيمان، وصلابة عقيدة وثبات صبغة، وشدة وطأة على الظلم والظالمين، وخفة خطى إلى غوث المنكوبين ونصر المظلومين، وان موقفها من قضية المغرب وقضية مصر لأصدق الشاهدين.(2/461)
فاتحة السنة الخامسة لـ"البصائر" *
... وبهذا العدد تفتتح "البصائر" سنتها الخامسة مبتدئة باسم الله القوي المعين، مستعينة به، متوكلة عليه، صابرة على وعثاء السفر وبعد الشقة، ماضية في سبيل الدعوة إلى الحق، متحملة لما يصيبها في سبيله، واثقة بنصر الله الذي ينصر من ينصره، مغتبطة برضى قرائها عنها، وإعجابهم بها، وتألمهم لهذه الصدمات التي تعترض نشاطها أحيانًا فتخمده، راجية- بعد ذلك كله- أن تكون سنتها الخامسة أبرك عليها من السنوات الخالية، وأعمر بالنشاط والعمل، وأبعد عن العوائق والمثبطات.
تفتتح "البصائر" سنتها الخامسة بعهد وثيق تقطعه لقرائها أن لا يجدوها إلّا حيث يرضى الله وان سخط جميع الخلق: يجدونها في مواقف الدفاع عن الإسلام، والنضال عن العروبة، والذود عن الجزائر، ويجدونها في ميادين الانتصار للمسلمين والعرب وللشرق.
...
كان من أماني "البصائر" أن تكون لها مطبعة خاصة، وليس بكثير في جنبها أن تكون لها مطبعة، ولا بكثير على الأمة أن تنشئ لـ"البصائر" مطبعة. إنها لو فعلت لخدمت نفسها قبل أن تخدم "البصائر"، ولكن هذه الأمنية ما زالت تعترضها صعاب من شح الأيدي، وكزازة الأنفس، وقصور الهمم عن السمو، وجهل السواد المادي بوجوه المنفعة المادية، وكسلهم عن مجاراة الأحياء في أساليب الحياة.
وكان من أمانيها أن تخلع القديم من الأشكال والمواضيع، وأن تفتح أبوابًا فتحها ضروري لتطور الحركة العلمية، ولتغير الأوضاع العامة في الجزائر وغيرها، وأن تطوف على
__________
* "البصائر"، العدد 181، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، 21 جانفي 1932م.(2/462)
صنوف القراء بصنوف الرغائب فيجد كل صنف منهم فيها ما يرضي نزعته، ويروي غلته، ولكن يحول بينها وبين هذه الغاية فقد الأعوان، وتزاحم الشواغل.
وكان من أمانيها أن ينصرها أهل العلم- في هذا الشمال كله- كما نصرتهم، ويرفعوا شأنها كما رفعت رؤوسهم، ولكنهم- سامحهم الله- اكتفوا بالثناء، والثناء ينعش ولا يغذي، وبالإعجاب، والإعجاب شهادة بالجمال لا زيادة فيه.
وكان من أمانيها أن تكون صحيفة الشمال الافريقي كله، تغشى نواديه وبواديه، تجلو الحقائق بالصدق، وتكشف عن النقائص بالأمانة والإخلاص، ولكن الاستعمار أبى عليها ذلك وضيق مجالها، فحجر عليها الدخول إلى المغرب الأقصى، والمغرب من بين أجزاء الشمال هو أكملها في الخير نصابًا، وأوفاها من الكمال نصيبًا.
...
إن السنوات مراحل سفر إلى غاية، تقطعها الكائنات الحية الدائبة، وفيها السهول، وفيها الحزون، وفيها الشعاف، وفيها الشعاب، وفيها من مشابه البر الفجاج، وفيها من خصائص البحر الأمواج؛ والحازم من يقدر ذلك، ولا يثنيه عن غايته شيء من ذلك. وكذلك كانت "البصائر" وكذلك تكون إن شاء الله.(2/463)
خطاب أمام الوفود العربية والإسلامية
في الأمم المتحدة *
في مساء الثلاثاء29 جانفي 1952 أقامت شعبة جمعية العلماء بباريس مأدبة عشاء بنزل "العالَمين" (دو موند) في شارع الأوبرا على شرف الوفود العربية والإسلامية في منظمة الأمم المتحدة، وقد ألقيت في هذا الحفل ثلاث خطب: الأولى للأستاذ عبد الرحمن عزام الأمين العام لجامعة الدول العربية، والثانية للأستاذ محمد البشير الإبراهيمي رئيس علماء الجزائر، والثالثة للأستاذ فارس الخوري رئيس الوفد السوري.
وقد ألقى الأستاذ الإبراهيمي خطبته ارتجالًا ولخّصها الأستاذ أحمد بن سودة تلخيصًا وافيًا بحيث لم يند عنه إلا القليل من ألفاظها ومعانيها:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
حضرات أصحاب المعالي الوزراء،
حضرات أصحاب السعادة والعزة،
حضرات الزملاء حملة الأقلام،
حضرات الإخوان:
هذه ليلة ارتفعت فيها الكلف، وغاب عنها العواذل، وغفل عنها الرقباء- إن شاء الله- فاسمحوا لي أن أخرج عن الوضع المتعارف في رسوم الخطاب، فأنا بصفتي رجلًا مسلمًا دينيًا أمثل الإسلام في بساطته وسماحته واعتباراته الروحية، يحلو لي أن أخاطبكم بما جاء به الإسلام في آدابه الراقية، ومثله العليا، وهو وصف الأخوة.
إن النبوّة هي أكمل الخصائص الإنسانية، وأشرف المواهب الإلهية، ولكن الله حين يرفع ذكر الأنبياء يضعهم في الدرجة الأولى من معارج الرقي، وهي درجة العبودية لله، فمحمد عبد الله قبل أن يكون رسوله، وفي القرآن: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ}، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}.
__________
* "البصائر"، العدد 183، السنة الخامسة من السلسلة الخامسة، 18 فيفري 1952م.(2/464)
فأنا حين أخاطب إخواني الكرام الذين أتاح لي الحظ السعيد أن أقف أمامهم في هذه اللحظة، لا يحلو لي إلا أن أخاطبهم بهذا الوصف الجليل، وهو وصف الأخوة الذي منذ فقدناه لم نجد أنفسنا، وكأننا حبات انقطع سلكها فانتثرت فأصبحت كل حبة منها في كف لاقط، فمعذرة إلى إخواني الذين أعتزّ بأخوتهم ان خرجت عن النمط المألوف في رسوم الخطاب، وخاطبتهم بيا أيها الإخوان (تصفيق متواصل).
أيها الإخوان المتلاقون على هوى واحد هو هوى الوطن الجامع، المتعبّدون بعقيدة واحدة هي عقيدة تحرير هذا الوطن الجامع، الطالعون كالكواكب من أفق واحد هو هذا الشرق الذي اطلعت سماؤه الشمس والقمر، وأطلعت أرضه الأنبياء والحكماء.
أحييكم باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وباسم شعبتها المركزية بباريس، تحية العروبة التي هي أكرم ما أنجبت البشرية من سلائل، وتحية الإسلام الذي هو أصفى ما تشظت عنه صدفة الوحي من لآلئ، وتحية الشرق الذي أعتقد مخلصًا أنكم أزكى نباته، وأنكم الصفوة المختارة من بُناته. وأحييكم باسم الجزائر العربية المسلمة المجاهدة الصابرة، التي هي غصن فينان من دوحة الإسلام، وفرع ريّان من شجرة العروبة، وزهرة فوّاحة من رياض الشرق (تصفيق حاد)، تغرّبت هذه الزهرة كما تغربت قبلها نخلة عبد الرحمان الداخل، فلم تشنْها غربة، وما زالت متّصلة بالشرق العربي، تستمدّ منه القوّة والفتوّة، وما زالت متّصلة بالشرق الإسلامي، تستصبح بأنواره، وتتغنّى بأمجاده، وتعيش على ذكرياته، وهي على صلة بالشرق متينة، كانت وما زالت متمسّكة بحبله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (تصفيق)، وما زالت قائمة على غرس عقبة والمهاجر وحسّان بن شريك، بالتعهّد والحفظ، وما زالت ناطقة بلسان هلال بن عامر بن صعصعة منذ طغت موجة أبنائه عليها ... تلك الموجة التي يسميها المؤرّخ المجحف إغارة على الأوطان، وتخريبًا للعمران، ويسمّيها المؤرّخ المنصف إنارة للأذهان وتعريبًا للسان، فحيثما حل هلال من سهولها حلّت العروبة، وأينما سار، سار في ركابه البيان العربي الذي من بقاياه ما تسمعون.
هذه هي الجزائر التي أحييكم باسمها، والتي ترون أبناءها أمامكم بين شيخة وشباب، يلتقيان في غاية واحدة، وإن نزغ بينهما الشيطان، فكما ينزغ بين الأخوين، ولكنهما في النهاية إلى التجمّع والاتحاد، وهؤلاء أبناء الجزائر الذين أحييكم باسمهم يا إخواننا، وأستحي أن أقول: يا ضيوفنا، فإننا جميعًا في دار غربة، وكم وددنا لو اجتمعت هذه الوفود في دارنا (الجزائر) فترون ما يشرح صدوركم، ويبهج خواطركم من ارتباط الجزائر بالشرق والعروبة والإسلام.(2/465)
أيها الإخوان ... أيها الزملاء حملة الأقلام!
أحقيقة ما ترى عيناي أم خيال؟ إخوة طوّحت بهم الأقدار، وفرّقتهم صروف الدهر في الأقطار، حتى ما يلتقي رائح منهم بمبتكر، ثم يجتمعون في هذه الليلة وفي هذه البلدة على غرة وعلى غير ميعاد، كما تجتمع أشتات الزهر في إبّانها وفي مكانها، تختلف منها الألوان والأشكال، ويجمعها الشذى والطيب والجمال.
أحق أن باريس- وهي منبع شقائنا، وهي الصفحة العابسة في وجوهنا- تنزل لحظة عن عادتها فتتيح لنا أن نجتمع بين حناياها هذا الاجتماع الرائع؟ فلولا حقوق للأوطان في أعناقنا، ولولا عهود يجب أن نرعاها لديارنا، لكنّا نغفر لباريس جميع ما جرّته علينا من جرائر، ونمحو لها بهذه الحسنة جميع السيّئات، ولكن تأبى علينا ذلك دماء في تونس تسيل (تصفيق وتأثّر)، وشعب في المغارب الثلاثة يعذب، وشباب تفتح له السجون والمعتقلات، وتغلق في وجهه المدارس والمعابد، ودين في الجزائر ممتهن الكرامة، فهيهات أن نصفح عن باريس أو نصافحها بعد أن جنينا المر من ثمراتها، وهيهات أن يسمّيها دار العلم، من لم ير منها إلا الظلم، وهيهات أن يدعوها عاصمة النور من لم تغشَهُ منها إلا الظلمات، وهيهات أن يلقّبها دار المساواة من لم تعامله إلا بالإجحاف.
أيها الإخوان!
ها هو الشرق رمى باريس بأفلاذ كبده، يدافعون عن حماه بالحق، ويجادلون عن حقّه بالمنطق، وما منهم إلا السيف مضاء، والسيل اندفاعًا، وإن وراءهم لشبابًا سينطق يوم يسكتون، وسيتكلم بما يخرس الاستعمار ويسوءه، وان بعد اللسان لخطيبًا صامتًا هو السنان، وإننا لرجال، وإننا لأبناء رجال، وإننا لأحفاد رجال وإن أجدادنا دوّخوا العالم، ولكن بالعدل، وسادوه، ولكن بالإحسان، وإن فينا لقطرات من دماء أولئك الجدود، وإن فينا لبقايا مدّخرة سيجليها الله إلى حين.
رمى الشرق باريس بهذه الأفلاذ، فخاطبوا الأمم وخطبوا في منظمة الأمم، هذه المنظمة التي سمّيت بغير اسمها، وحليت بغير صفتها، وما هي إلا مجمع يقود أقوياؤه ضعفاءه، ويسوق أغنياؤه فقراءه، وما هي إلا سوق تُشترى فيه "الأصوات" بأغلى مما كانت تشترى به أصوات "الغريض" و "معبد"، غير أن الأصوات القديمة كانت فنًا يمتزج بالنفوس، وموسيقى تتسرّب إلى الخواطر، أما هذه الأصوات فإنها تنصر الظلم، وتؤيد الاستعلاء والطغيان، وشتّان ما بين الصوتين، وتباع فيه الذمم والهمم والأمم بيع البضائع في السوق السوداء، وما هي إلا مجلس نصبوه للشورى فكان للشر وعقدوه للعدل والتناصف، فكان فيه كل شيء إلا العدل والتناصف.(2/466)
رمى الشرق باريس بأفلاذ كبده فعز على المغرب العربي أن يبقى بعيدًا مع قرب الدار، فرمى باريس بأفلاذ من كبده ليلقى الأخ أخاه فيتناجيان بالبر والتقوى، ويتطارحان الألم والشكوى. ويهش وجه لوجه، ويخفق قلب لقلب، وتصافح يد يدًا، وترد تحية عن تحية، ثم يقوى ساعد بساعد ويشتدّ عضد بعضد، ويمتزج ضعف بضعف فينبثقان عن قوّة، وضعيفان يغلبان قويًا (تصفيق).
أيها الإخوان!
لم يؤثر الفاتحون المتعاقبون على الشمال الأفريقي، ولا أثّرت الأديان الراحلة إليه، جزءًا مما أثر الإسلام، وأثرت العروبة، ذلك لأن الفاتحين لهذا الوطن قبل الإسلام إنما جاءوه بدين القوة وشريعة الاستغلال، أما الإسلام فقد جاء بالعدل والإحسان، وجاء وافيًا بمطالب الروح، ومطالب الجسم، وجاء لإقرار الإنسانية بمعناها الصحيح في هذه الأرض، لذلك كان سريع المدخل إلى النفوس، لطيف التخلّل في الأفكار، قوي التأثير على العقول، ولذلك طال في هذا الشمال أمدُه، وسيبقى ما دامت الفوارق قائمة بين الإنسان والحيوان.
وإن هذا الشمال الأفريقي كل لا يتجزأ (تصفيق) تربط بين أجزائه دماء الأجداد، ولسان العرب، ودين الإسلام، وسواحل البحر في الشمال، وحبال الرمال في الصحارى، وسلاسل الأطلس الأشم في الوسط، واتحاد الماء والهواء والغذاء، وإنها لخصائص تجمع الأوطان المتباينة، فكيف لا تجمع الوطن الواحد؟ إن تفرّق هذه الأجزاء لم يأت من طبيعتها وإنما جاء من طبائعنا الدخيلة، ومن تأثراتنا الغريبة بالدخلاء، وإنني متفائل بأن هذه الليلة ستكون فاتحة لعهد جديد واتحاد عتيد، ونور من الرحمة والإخاء ينتظم المغارب في سلك. إنني متفائل بما يتفاءل به السارون المدلجون من انبلاج الفجر، فعسى أن يتحقق هذا التفاؤل فتكون هذه الليلة أول خيط في نسيج الوحدة الأفريقية التي هي آخر أمل للمتفائلين مثلي، وإن العنوان الدال على ما وراءه هو اجتماع جميع حركات الشمال الأفريقي في هذا المحفل الزاهر، وان البشير بتحقّق هذا الأمل هو امتزاجنا بإخواننا الشرقيين حول هذه الموائد ومن بركاتهم أن تجتمع حركاتنا كلها في صعيد واحد، وكلها لسان يعبِّر، وقلب يفكّر، وآذان تسمع، وإنّا لنرجو أن تكون قلوينا غدًا غير قلوبنا بالأمس، وأن نفيء إلى الحق الذي أمر الله بالفيأة إليه، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (تصفيق متواصل).
...
أيها الإخوان!
يقول المستعمرون عنا: إننا خياليون، وإننا- حين نعتزّ بأسلافنا- نعيش في الخيال، ونعتمد على الماضي، ونتّكل على الموتى، يقولون هذا عنا في معرض الاستهزاء بنا، أو في(2/467)
معرض النصح لنا، وأنا لا أدري متى كان إبليس مذكرًا. ما يرمون إليه، أنهم يريدون أن ننسى ماضينا فنعيش بلا ماضٍ، حتى إذا استيقظنا من نومنا أو من تنويمهم لنا، لم نجد ماضيًا نبني عليه حاضرنا، فاندمجنا في حاضرهم، وهو كل ما يرمون إليه. وسلوهم ... هل نسوا ماضيهم؟ إنهم يبنون حاضرهم على ماضيهم، إنهم يعتزّون بآبائهم وأجدادهم، إنهم يخلدون عظماءهم في الفكر والأدب والفلسفة والحرب والفن، إنهم لا ينسون الجندي ذا الأثر فضلًا عن القائد الفاتح، وهذه تماثيلهم تشهد وهذه متاحفهم تردّد الشهادة.
إن القوم يحتقرون حاضرنا الذي أوصلونا إليه، ويعتقدون أننا صبيان، فيتذكّرون ماضيهم ليبنوا عليه حاضرهم ومستقبلهم، وينكرون علينا ذلك، فمن حقّنا، بل من واجبنا أن نعرف ماضينا والرجال الذين عمروه في ميادين الحياة، فنعرف من هو أبو بكر ومن هو عمر؟، ونعرف ما صنع عقبة وحسّان وطارق وموسى وطريف في الغرب، وما صنع المثنى وسعد وخالد وقتيبة في الشرق.
ألا أنهم يذكِّرون أبناءهم بماضيهم، ويلقّنونهم سِيَر أجدادهم وأعمالهم، وإنهم يذكرون أبناءنا المتأثرين بعلومهم وصناعاتهم بذلك، ويأتونهم بما يملأ عقولهم ونفوسهم حتى لا يبقى فيها متّسع لذكريات ماضينا وأسلافنا، وإن الواحد من هذا الصنف من أبنائنا ليعرف الكثير عن نابوليون، ولا يعرف شيئًا عن عمر، ويحفظ تاريخ "جان دارك" عن ظهر قلب، ولا يحفظ كلمة عن عائشة وخديجة، وإن هذه لهي الخسارة التي لا تعوّض، وإني أتخيّل أن لهم في تحريف الكثير من أسماء أعلامنا مأربًا يوم كانوا يأخذون العلم عنّا، كأنهم ألهموا من يومئذ أن الزمان سيدول وأن دورة الفلك علينا بالسعد ستنتهي، وأننا سنعود إلى الأخذ عنهم، فحرّفوا أسماءنا لتشتبه على أبنائنا، فلا يعرفون أن "افيرويس" هو ابن رشد، وأن "افيسن" هو ابن سينا، وان "جيبرال طار" هو جبل طارق، وهكذا يتكلم أبناؤنا اليوم بهذه الأسماء، وهكذا ينطقون بها، ولا يهتدون إلى أصحابها حتى يقيّض الله لهم من يكشف الحقيقة، ثم يبقى أثر الشك في نفوسهم، لما يصحب تثقيفهم الأجنبي من تحقير لجنسهم وحكم على تاريخهم بالعقم الفكري ... وإنها لمصيبة يجب علينا أن نتنبّه إلى خطرها، ونبادرها بالعلاج، وان دواءها الوحيد هو تثقيف أبنائنا تثقيفًا عربيًا شرقيًا موحّدًا، وأقول موحّدًا لأنني أعتقد أن الخلافات السياسية التي مُني بها الشرق، يرجع معظمها إلى اختلاف الثقافات، فالمثقّف ثقافة انكليزية يحترم انكلترا، والمثقّف ثقافة فرنسية يحترم فرنسا، وهكذا وزّعنا الاحترام على الغير، فلم يبق من احترامنا لأنفسنا شيء، وكأننا استبدلنا بجنسيتنا الواحدة جنسيات متعددة، كلها غريبة عنّا، وكلّها مجمعة على اهتضامنا وهضمنا، ولولا نزعات موروثة عن الأجداد الذين قهروا الرومان في أفريقيا، ودفعوا الصليبيين عن الشرق، لم يبق لنا من ذلك التراث الغالي شيء، بفعل التجهيل الذي هو غاية الاستعمار فينا، وبفعل هذه التعاليم الغريبة عنّا.(2/468)
أيها الإخوان!
ليس من سداد الرأي أن يضيع الضعيف وقته في لوم الأقوياء، وليس من المجدي أن يدخل معه في جدل. إن من تمام معنى اللوم أن يتسبّب في توبة، أو يجر إلى إنابة، ونحن نعلم أن القوم لا يتوبون ولا يذكرون، فالواجب أن نلوم أنفسنا على التقصير، ونقرعها عن الانقياد لآراء هؤلاء القوم ولإرشادهم ... أما لومنا إياهم فهو لوم الخروف للذئب، وأما طمعنا في توبتهم فهو طمع الخروف في توبة الذئب، فإن أردتم أن تروا المثل الخارق من توبة الذئب فقلّموا أظافره، واهتموا أنيابه، كذلك إن أردتم توبة القوي فاحتقروا قوّته، واحذروا أن تكونوا زيادة فيها، فإنه يتصاغر ثم ينخذل، ثم يساويكم فإذا هو أقل منكم وأضعف. إن هذه هي الأمثال التي يعقلها الطغاة، وإن هذه هي التوبة التي يجب أن يُحملوا عليها حملًا، ويلجأوا إليها إلجاءً.
كذلك يجب أن لا نقضي أعمالنا في التلاوم، وأن لا نكون كمن قال فيهم القرآن: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} فإذا تلاومنا فليكن ذلك زجرًا عن الشر، وردعًا عن الخلاف، ثم رجوعًا سريعًا إلى الحق، ولقد نهى شوقي إخواننا المصريين حينما كانوا يتلاومون فيشغلهم التلاوم عن قضيتهم والاستعداد، وبرأهم في موقف تجب فيه المؤاخذة الوطنية، ليردّهم إلى سبيل الرشاد، فقال:
لا يلم بعضكم على الخطب بعضًا … أيها القوم، كلكم أبرياء
فلندع اللوم والعتاب جانبًا، ولنفعل ما يفعله الصاحي حين يستيقظ من النوم من حزم وتشمير وجد، فبذلك يلحق القوافل المبكّرة، لا بالتباطؤ والإخلاد ولعن الشيطان ومعاودة النوم.
إن شبابنا هم أحق الناس باستجلاء هذه العبر، وهم أحق بوصل مبتدئهم بالخبر، وهم أحق بأخذ مواعظ الحياة عن المتنبي، وبتلقّي دروسهم الفطرية البدوية عنه، وأن لا يكونوا شبابًا- بالمعنى الذي يملأ هذه الكلمة- حتى يؤدّوا امتحانًا في الحياة على منهج المتنبي وطريقته، إذ يقول:
وأهوى من الفتيان كل سميدع … نجيب كصدر السهمري المقوَّمِ
خطت تحته العيس الفلاة وخالطت … به الخيل كُبَّات الخميس العرمرم
فإن فعلوا ذلك فأنا كفيل لهم أن يدخلوا هذا البحر المتلاطم من حضارة عصرهم ولا يغرقوا، وأن يعبّوا من هذه التعاليم المتباينة في حياة عصرهم ثم لا يشرقوا ... (تصفيق).(2/469)
أيها الإخوان!
إن القوم درسونا وفهمونا، وتيقّنوا أننا لن نضيع ولن نفنى ما دمنا متمسّكين بالعرى القوية من الإسلام والعربية والشرق، فرمونا بالوهن في مقوّماتنا حتى تضعضعت وبدأوا بالدين فسخّروا علماءه بوسائل شتى حتى أضعفوا سلطانهم وأزالوا هيبتهم من نفوس المسلمين، ووجدوا ثغرًا قديمة من ضلالاتنا فيه فوسّعوها وأدخلوا فيه ما ليس منه، وشجّعوا البدع المحدثة في الدين بتشجيع أهلها، وأعانهم على ذلك كله الانحطاط العام الذي ابتليت به العلوم الإسلامية من المائة الثامنة إلى الآن، فكاثروها بعلومهم المادية حتى غمروها وزهدوا أهلها فيها وأصبحت عقيمة جامدة ثم عمدوا إلى الكبراء فأغووهم بالأموال والألقاب والرتب، وأغروا بينهم العداوة والبغضاء، وشغلوهم بالتوافه عن العظائم، وببعضهم عن الأجنبي، وبأنفسهم عن الشعوب، فما استفاقوا وما استفقنا إلا وأوطاننا مقسّمة، وقسمتنا هي القليلة، وممالكنا كثيرة، ولكن معانيها للأجنبي، وألفاظها لنا، ثم عمدوا إلى الشباب فرموه بهذه التهاويل من الحضارة الغربية وبهذه التعاليم التي تأتي بنيانه الفكري والعقلي من القواعد، وتحرف المسلم عن قبلته، وتحول الشرقي إلى الغرب، وإن من خصائص هذه الحضارة أن فيها كل معاني السحر وأساليب الجذب، وحسبكم منها أنها تفرّق بين المرء وأخيه والمرء وولده، فأصبح أبناؤنا يهرعون إلى معاهد العلم الغربية عن طوع مِنَّا يشبه الكره، أو عن كره يشبه الطوع، فيرجعون إلينا ومعهم العلم وأشياء أخرى ليس منها الإسلام ولا الشرقية، ومعهم أسماؤهم، وليس معهم عقولهم ولا أفكارهم، وإن هذه لهي المصيبة الكبرى التي لا نبعد إذا سمّيناها مسخًا، وليتها كانت مسخًا للأفراد، ولكنها مسخ للأمم ونسخ لمقوّماتها.
...
أيها الإخوان!
إن النقطة التي ابتدأ منها بلاؤنا وشقاؤنا هي أنهم أرادونا على الانقسام، وزيّنوه لنا كما يزيّن الشيطان للإنسان سوء عمله، فأطعناهم وانقسمنا، فوسعوا شقة الانقسام بيننا بأموالهم وأعمالهم وآرائهم وعلومهم، ولم يتركوا أداة من أدوات التقسيم إلا حشدوها في هذا السبيل، ولم يغفلوا الأستاذ والكتاب والراهب والمرأة والتاجر والسمسار حتى بلغوا الغاية في تقسيمنا شيعًا ودولًا وممالك، كما توزّع قطعة الأرض الكبيرة الصالحة إلى قطع صغيرة لا تصلح واحدة منها ولا تكفي، ثم عمدوا إلى خيرات الأرض فاحتكروها لأنفسهم، واستخرجوها بعقولهم المدبّرة، وأيدينا المسخّرة، فكان لهم منها حظ العقل، ولنا منها حظ اليد، ولو أننا تعاسرنا عليهم من أول يوم في تقسيمنا، ولذنا بكعبة الوحدة(2/470)
نطوف بها ونلتزم أركانها، لما نالوا منّا نيلًا، ولما وصلنا إلى هذه الحالة، أما وقد بلغوا من تقسيمنا ما يريدون، وأصبحنا في درجة من الضعف المادي والضعف العقلي نعتقد فيها أن الله خلقنا خلقة الأرنب، وخلقهم خلقة الأسد، وجفّ القلم، ولا تبديل لخلق الله. فأول واجب علينا، بل أول نقطة يجب أن نبتدئ منها السير، هي أن نكفر بهذا الانقسام، ونكفر عليه بضدّه، وهو الوحدة الشاملة لجميع الأجزاء، وكيف يكون ذلك وقد بُنيت على ذلك التقسيم أوضاع جديدة وممالك وملوك وحدود، وان تغيير الممالك لصعب، وإن فطام الملوك عن لذة الملك لأصعب منه؟ فلنلتمس مفتاح قضيتنا من بين هذا الركام من الأدوات البالية، ولنعتصم بالأمر الميسور، وهو أن نوحّد التعليم ومناهجه، والتجارة وأوضاعها، ولنطمس هذه الحدود الفاصلة بين أجزاء الوطن الواحد، وليرتفق بعضنا ببعضنا، فيما يزيد فيه بعضنا على بعضنا، ولنكن يدًا واحدة على الأجنبي، ولنعتبر المعتدي على جزء منا معتديًا على جميع الأجزاء، وعدو العراق هو عدو مراكش، ولنذكر من خصال الأمم ما فعلته ايطاليا في ضم أجزائها، وما فعلته ألمانيا، وما فعلته فرنسا التي لم تنم لها عين ولم ينعم لها عيش في قضية الألزاس واللورين، ولو أن معتديًا اعتدى على جزء من انكلترا (وهي كجزيرة العرب) لتداعى الإنكليز من أطراف الأرض لاسترجاعه، فلمَ لا نكون كذلك؟
إنهم إن علموا ذلك منّا، وعلموا جدنا فيه تابوا عن سيرتهم فينا وأقلعوا، أما من لان للأكل فليس من حقّه أن يلوم الأكلة.
...
والذي روحي بيده ... ما يسرّني أن للعرب ثماني دول، ولا أن للمسلمين عشرين دولة، ما داموا على هذه الحالة، وإنما يسرّني ويثلج صدري أن يكون المسلمون كلهم شعبًا واحدًا بحكومة واحدة، وعلى عقيدة في الحياة واحدة، وعلى اتجاه إلى السعادة واحد، فإذا وجد هذا الشعب لم يبق لهؤلاء الأقوياء إلا أن يقولوا: إن في الشرق قومًا جبّارين، وإنه لم يبق لنا بينهم موضع.
إن القوم استضعفونا ففرّقونا فأكلونا لقمة لقمة، فأوجدوا هذا الشعب الموحّد تَحيوا وتُحيوا العالم به، أوجدوه تُسعَدوا وتُسعِدوا العالم به ... إن العالم اليوم مريض، وانه يتلمّس الشفاء، فأروه أن في الإسلام شفاءه، وانه في خصام منهك، وانه يلتمس الحكم، فأحيوا الإسلام الصحيح يكن حكمًا في مشكلة هذا العصر ... مشكلة الغنى والفقر ... تكتّلوا ففي استطاعتكم أن تتكتلوا ... تكتّلوا يمدّكم العصر بروحه ... انه عصر التكتّل، وان الأقولاء لم(2/471)
تغنِ عنهم قوّتهم شيئًا فأصبحوا يلتمسون أنواعًا من التكتّل مع القريب ومع الغريب، فهذه انكلترا تتكتّل، وهذه أمريكا، وهذه روسيا ... فكيف لا يتكتّل الضعفاء.
إننا ضعفاء، ومن القوة أن نعترف بأننا ضعفاء، لأن من كتم داءه قتله، فمن الواجب علينا أن لا نتعاظم بالكذب، ما دمنا لا ننال إلا الفتات من مائدة الحياة.
...
أيها الإخوان!
إذا حدّثتكم عن الإسلام، أو أجريته على لساني، فلست أعني هذه المظاهر الموجودة بين المسلمين، وإنما أعني تلك الحقائق التي سعد بها أصحاب محمد وأسعدوا بها العالم، تلك الحقائق التي سارت الإنسانية على هداها قرونًا فما ضلّت عن سبيل الحق ولا زاغت، إنما أعني تلك الآداب التي صحّحت العقل والفكر، وصحّحت الاتجاه والقصد، ووحّدت القلوب والشواعر. فإن أردتم أن تستبدلوا السعادة بالشقاء فعودوا إلى ذلك الطراز العالي المتّصل بالسماء، إن السعادة منبثقة من النفوس، وان الشقاء لكذلك، وإن إرادة الإنسان هي زمامه إلى الجنة أو إلى النار.
إن أول من يجب عليه أن يؤذن بهذا الصوت جهيرًا مدويًا هم علماء الإسلام، فكل عالم مسلم لا يدعو إلى اتحاد المسملين، وإلى إحياء حقائق الإسلام العالية، وإلى إسعاد الشرق بها فهو خائن لدينه، ولأمانة الله عنده. وإن العالم المسلم الذي يسكت عن كلمة الحق في حينها والذي لا يعمل لإقامة الحق، ولا يرضى أن يموت في سبيل الحق، جبان، والجبن والإيمان لا يلتقيان في قلب مؤمن.
إن عهد الله في أعناق علماء الدين لعهد ثقيل، وان أمانة الإسلام في نفوس علمائه لعظيمة، وإنهم لمسؤولون عليها يوم تنشر الصحائف في هذه الدار، وفي تلك الدار.
...
أيها الإخوان!
إن الكلام لطويل، وإن الوقت لقصير، فليكن آخر ما نتواصى به: الحق والصبر والاتحاد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/472)
ـ[آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي]ـ
جمع وتقديم نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
الجزء الثالث
عيون البصائر
الناشر: دار الغرب الإسلامي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(3/1)
1997 دار الغرب الإسلامي
الطبعة الأولى(3/2)
آثَارُ الإِمَام
مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي(3/3)
ـ[صورة]ـ
باريس
1951(3/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الطبعة الثالثة من "عيون البصائر"
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه صور من الإبداع الأدبي، وسمو البيان العربي- وقد نحتت كلماتها من لآلئ النثر الفني، ورسمت عباراتها بروائع الذوق الشعري- نقدمها لقراء العربية، ودارسي خطابها، عساهم يكتشفون من خلالها نسجًا فريدًا في منهج الخطاب العربي المعاصر، هو ما أصبح يعرف عند فلاسفة اللغة الغربيين- اليوم- "بسلطة النص".
إنها مدرسة، ذات "أسلوبية" قل مثيلها في منهجية خطابنا العربي المرسل. فهي تضرب بجذورها في أعماق التراث العربي القديم، في الوقت الذي تبسط فيه أغصانها المتعددة على فروع المعرفة الحديثة. وهي نسج فريد من الأدب. يجمع بين حكمة قُسِّ ابْنِ سَاعِدَةَ الأيَادي وفصاحة سَحْبَانَ، وَعَقْلانيَّة أبي عُثمان الجاحظ، وإشارات أبي حَيَّان التوحيدي، إلى جانب رشاقة أسلوب عبد الحميد الكاتب، وأناقة عبارة أحمد حَسَن الزيات، ورمزية مصطفى صادق الرَّافعي، غير أنها تزيد على ذلك كله، بخصوصيات أخرى هي أنها جزائرية العزيمة في التصدي للاستعمار، ومغاربية الالتزام في الدفاع عن الحرية، وعروبية الانتماء في التأصيل الحضاري، وإسلامية المنهج في علم التصحيح العقدي.
تلك هي مدرسة "عيون البصائر"- وقد كحل الله بنور الحق بصيرة كاتبها - فراعت بالحكمة العقلية في معناها، وطرزت بالعبارة البلاغية في مبناها، فجاءت معلمة معرفية جامعة مانعة. سيجد- فيها - فقهاء الألسنية، وفلاسفة التاريخ السياسي، وعلماء الاجتماع، والعارفون بالفقه وأصوله، الحق المنشود وقد فصَّلته، والمنهج المقدود، وقد برهنته، فيستنطقون بذلك الحوادث التاريخية التي وضعت لها مُقدماتها ويستجوبون أبطال التاريخ، بالموضوعية التي حددت خصائصها ومميزاتها.(3/5)
على أن ما يجب التنبيه إليه منذ البداية هو أن لقراءة هذا الكتاب ودراسته، قواعد وشروطًا، لابد من توفرها لمن أراد القيام بهذه الرسالة العلمية. فمضمون الكتاب يحتوي على رموز قرآنية، وإيحاءات معرفية، وألغاز سياسية، واستعارات مجازية، ولا بُدَّ لمن رام الإقدام على هذه المهمة من التحلي باستعداد فكري خاص، والتسلح بأدوات معرفية معينة، تُمكِّن من تخطِّي الصعاب، وكشف أسرار الحجاب. ولعل من أهم الأدوات المعرفية المطلوبة في فنَّ قراءة "عيون البصائر" التزود بما يمكن من فهم الرموز التالية:
1 - الرمز القرآني:
إن في مقدمة الرموز التي يحيل إليها الإمام محمد البشير الإبراهيمي في خطابه، الآية القرآنية، التي يدمجها ببراعة وسط عباراته، ويوظفها توظيفًا رائعًا في الدفاع عن قضاياه، فلا يدرك كنهها وبعدها، إلا العارفون بالقرآن المتضلّعون في فن إعجازه البياني.
ولا يكاد يخلو مقال من هذه الرمزية القرآنية التي غَدت سمة من سمات الخطاب الإبراهيمي والتي أضفت عليه سُمُوًّا، تجلَّى على الخصوص في حسن تصريفه للأفعال والمصادر، في اقتباس عجيب من الآيات، ولجوء حكيم إلى مرجعية القرآن- وهل "البصائر في حقيقتها [إلا] فكرة استولت على العقول، فكانت عقيدة مشدودة العقد ببرهان القرآن".
"وإن الصحف في لسان العُرْف، كالصحائف في لسان الدِّين، منها: "صحائف الأبرار" و "صحائف الفجار" لذلك كان من حظ الأولى الابتلاء بالتعطيل والتعويق".
إن الصحف والصحائف إحالات إلى رموز قرآنية لا يدرك أبعادها إلامن ذاق حلاوة العربية بحلاوة القرآن.
وجاءت القضية الوطنية الجزائرية، فوجد الخطاب الإبراهيمي في القرآن خير ينبوع، يغرس فيه ريشته ليصوغ عباراته القذائفية، ويرسلها على الاستعمار وأذْنابه.
يأخُذُ الإبراهيمي أحد الأمثلة في مقارنة الاستعمار الإنجليزي بالاستعمار الفرنسي في علاقة كل منهما بالشعوب الرازحة تحت نيرهما ... فيقول: "قرأنا سير الإنجليز في الهند فوجدناهم بالغوا في إعطاء الحرية للأديان ... [حتى] سووا في تلك الحرية بين "قراء البقرة" بالحق [وهم المسلمون] وبين "عبَّاد البقرة" بالباطل [وهم الهندوس] " [ص:104].
وعندما يشير الإبراهيمي إلى من يسمون برجال الدين الحكوميين آنذاك، يتجه إلى قطبهم وهو الشيخ محمد العاصمي "المفتي الحنفي" الذي عينته الحكومة الفرنسية، فيأخذ من القرآن وصف الأصنام، ومقارعة الأنبياء لها، ويقف على الخُصوص عند قصة إبراهيم عليه السلام مع(3/6)
كبير أصنام قومه ليستخلص النتيجة من انتصار النُّبوة- وهي حق- على الصنم- وهو باطل-. فيرسم لنا الصورة التالية: "ما أشأم العاصمي على نفسه! فقد سكتنا عنه فأبى، بعد أن جارانا فكبَا، وما تحدثنا عَنه في الماضي إلا باعتباره أداة لا شخصًا، وما سكتنا عنه بعد ذلك إلا لأننا أوسعنا تلك الأدوات تحطيمًا وتهشيمًا و"رغنا عليها ضربًا باليمين" ويضيف: "هاج هذا المخلوق الشر بتماديه في الشر .. لأن هذه الطريقة هي التي تُظهره وتقربه زُلفى إلى آلهته .. إنه لهم مولى شؤم، وعشير سوء، لبئس المولى، ولبئس العشير" [ص:150].
ثم يعمد إلى الاستعمار فيقارن بينه وبين المستضعفين المبتلين بحكمه ليقول "ألا إن في الاستعمار لفحة من جهنم، وإن في المستضعفين سِمات من أهلها أظهرها أنهم لا يموتون ولا يحيون" [ص:220].
وفي موضع آخر نقرأ له: "يا هؤلاء! إن الاستعمار شيطان، وإن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًّا " [ص:288].
وعند توعيته الأحزاب الجزائرية بواجب الوحدة، ومغبة الافتراق يمهد لذلك بالقرآن أيضًا فَيُعرِّضُ بالفرقة قائلاً: "ما ذكر القرآن الأحزاب بلفظ الجمع إلا في مقام الخلاف والهزيمة {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [الآية 37 السورة مريم]، {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [الآية 11، سورة ص] وإن حزب الله في الأمة الجزائرية هو جمعية العلماء [ص:66].
ثم يتجه مباشرة إلى قادة الأحزاب فيخاطبهم- مُستخدمًا نفس الرمزية القرآنية- "يا قادة الأحزاب! إن في صفوفكم دساسين مدخولين من الرجال لهم أغراض في المنافع والكراسي، ولهم مقاصد في الإفساد، وإنَّكم لتعرفونهم بسيماهم وتعرفونهم في لحن القول فأخرجوهم من الصفوف" [ص:302].
وفي ردّ الإبراهيمي على الزعم الاستعماري الفرنسي بأن "الجزائر فرنسية" ينبري لهذا الزعم بالبراهين القرآنية الرائعة، ومنها قوله: "ولو أن الاستعمار شرعها زجلًا بالتسبيح في ناشئة الليل، وجعل كفاء سماعها جزاء الأبرار، لكان في آذاننا وقر من سماعها، ولعددناها غثّة مرذولة، ممزوجة مملوءة، ولهدينا بالفطرة إلى الطيب من القول، وهي أن الجزائر ليست فرنسية، ولن تكون فرنسية، كلمات قالها أولنا، ويقولها آخرنا، ومات عليها سلفنا، وسيلقى الله عليها خلفنا" [ص:349].
أما عن فلسطين السليبة، فإن الإبراهيمي جعل منها قضية كل جزائري وكل عربي، وكل مسلم ... فخصها بسلسلة من المقالات حاول فيها استنهاض الهمّة العربية، والعزة الإسلامية، فاستعان على ذلك بنفس الإعجاز القرآني، خصوصًا "وأن فلسطين وديعة محمد(3/7)
عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة. إنا إذًا لخاسرون" [ص:445].
وضاعت فلسطين منا حين "قسمت بالتصويت وهو أضعف صدى، وعلى الأوراق وهي أنزر جدًا، وبالأغلبية السائرة على غير هُدى تحديًا للعرب الذين كانوا في ذلك المجلس أضعف ناصرًا، وأقل عددًا " [ص:453].
ما أبرع الإبراهيمي، وما أروع أسلوبه الرمزي القرآني هذا في التأثير على قارئه ... وأنّى لهذا القارئ أن يدرك كنه هذه الرموز وأبعادها، إن لم يكن مدركًا للقرآن، معتادًا على إعجازه البياني، وبرهانه الرَّبَّاني! ... تلك إذن هي الأداة المعرفية الضَّرورية الأولى لمن يروم قراءة "عيون البصائر".
2 - الإبداع البياني:
إن في البنيوية اللغوية، للخطاب الإبراهيمي، لَسرًا عميقًا، هو الذي يجليه السحر البياني، الذي يأخذ من النحو العربي شروحَهُ، ومن المجاز البلاغي وضوحه ومن الفقه الديني طروحَه، ليبعَثَ الكل في سمو إشارة، ودقة عبارة.
وهل يستطيع القارئ العادي أن يدرك هندسة هذه العبارات، وفلسفة تلك الإشارات، إن لم يكن معدًا إعدادًا ثقافيًا دقيقًا عميقًا؛
ذلك هو العائق المعرفي الذي يصطدم به فاقد التكوين الثقافي، في قراءته للنص الإبراهيمي في "عيون البصائر"، فمن أول استهلال تطالعنا به "عيون البصائر"، إلى آخر التسابيح الشعرية ممثلة في "سجع الكهان"، ومرورًا "بالقضية ذات الذَّنب الطويل"، و"عادت لعترها لميس"، و"الشك في الإيجاب نصف السلب"، "وإبليس ينهى عن المُنكر"، و"كلمات مظلومة" ... إلخ. كلها مقالات يجب أن تقرأ بعقل مفتوح، وقريحة وقادة، مزودة بزاد ثقافي خاص. وإن من متطلبات هذه الاستعدادات، ضرورة استحضار قاموس موسوعي متعدد الاختصاصات للتغلب على عقَبة الفهم.
وإنَّنا لنتساءل- بكل موضوعية: لمن كان يكتب الإبراهيمي هذه المقالات، إذا علمنا المستوى الثقافي السائد آنذاك، في الجزائر على الخصوص، وحظ الجزائر من العربية في ذلك الحين!!؛؛
وإنه لممَّا يبعث فينا النخوة، والعزة، أن ردود فعل هذه المقالات، فاقت كل تصور في داخل الجزائر وخارجها، مما يدلل على تفوق النوع الثقافي على الكمي، وهو ما يمثله علماء(3/8)
الجزائر ومعلموها وطلابها في عهد جمعية العلماء، وبذلك تتحقق أولى البراهين على عمق الأصالة العربية والعروبية في الجزائر.
واقرأ معي براعة الاستهلال، التي استهلّت «البصائر» بها عودتها في سلسلتها الثانية بعد تعطيلها بسبب الحرب العالمية من سنة 1939 إلى 1947م.
يستهلّ افتتاحيته بهذا الدعاء المؤثر في بيان ندر مثيله: "اللهم يا ناصر المستضعفين انصرنا ... واجعل لنا في كل غاشية من الفتنة، ردءًا من السكينة، وفي كل داهمة من البلاء درعًا من الصبر، وعلى كل داجية من الشك علمًا من اليقين، وفي كل نازلة من الفزع واقية من الثبات، وفي كل ناجمة من الضلال نُورًا من الهداية، ومع كل طائف من الهوى رادعًا من العقل، وفي كل عارض من الشبهة لائحًا من البرهان ... ومع كل فرعون من الطغاة المستبدين موسى من الحماة المقاومين" [ص:41].
إن من هذا البيان لسحرًا، ففيه العقيدة، والحكمة، والبلاغة، والمنطق، والتاريخ، والتصوف، وكل ذلك في عبارات قلَّت فدلَّت.
وفي نفس السياق التاريخي يمضي الكاتب في زرع حكمه، فيلقي على قارئه هذه الحكمة البالغة "كذلك حملة الألسنة والأقلام [من العلماء والمثقفين في الأمة] .. فلتأتهم المصائب من كل صوب، ولتنزل عليهم الضرورات من كل سماء، وليخرجوا من كل شيء إلا من شيئين: القلم واللسان. إن بيع القلم واللسان، أقبح من بيع الجندي لسلاحه" [ص:43].
إن هذا لهو ميثاق الشرف يَضعهُ الإبراهيمي لكل عالم ولكل مثقف في تعامله مع قضايا وطنه، ذلك أن أخطر شيء على المثقف، هو بيع الذمة، إذ تكون في ذلك نهايته، وإن عُدَّ من الأحياء.
وفي التذكير بعراقة الإنسان الجزائري، في أعماق الحضارة العربية يسوق كاتب "عيون البصائر" هذا التصوير البلاغي الفني لجهود جمعية العلماء في تثبيت أصالة الجزائر، فيقول: "وجاءت جمعية العلماء على عبوس من الدهر، وتنكر من الأقوياء فنفخت من روح العروبة في تلك الأنساب فإذا هي صريحة، وسكبت من سر البيان العربي في تلك الألسنة فإذا هي فصيحة، وأجالت الأقلام في كشف تلك الكنوز فإذا هي ناصعة بيضاء لم يزدها تقادم الزمان إلا جدة ... جمعية العلماء هي التي حققت للجزائري نسبه العربي الصريح بريئًا من شوائب الإقراف والهجنة [ص:57].
إن في كل لفظة من هذه العبارات، يكمن إيحاء يحيل إلى قضية معينة ... فإضافة إلى سحر البيان، وبراعة التصوير، وهندسة اللفظة، تضاف خُصوبة المرجعية التاريخية والعقدية، والفكرية ...(3/9)
واستمع إليه وهو يحاجج الاستعمار بقوله:
"ياحضرة الاستعمار! إننا إذا حاكمناك إلى الحق غلبناك، وإذا حاكمتنا إلى القوة غلبتنا، ولكننا قوم ندين بأن العاقبة للحق، لا للقوة" [ص:63].
إنها مقدمة بيانية سليمة، لنتيجة دينية قويمة.
هكذا نرى إذن، أن من خصوصيات "الإبداع البياني" في الخطاب الإبراهيمي، هذا الربط المحكم البديع بين المبنى والمعنى، أو بين الموسيقى التصويرية والدلالة التعبيرية، وكل ذلك في سجع مقل، وإيجاز غير مخل ... "إن هذه الأمة أنجبت الجندي الذي يحرس الحق لا الجندي الذي يخرس الحق". وما هذا الراهب الذي جاءتنا به فرنسا إلا أنه "ليبارك على القاتل، ويدني الصيد من الخاتل، ويعاون المُعمِّر على امتلاك الأرض، والحاكم على انتهاك العرض" [ص:98].
وقوله: "أتطلبون الفص من اللص، وتقيسون في مَوْرِد النص" [ص:358].
"والمرأة الجزائرية تنتحب، والحكومة الجزائرية تريد لَها أن تنتخب" [ص:131].
"وإن بعض القضاة أعوان للقضاء على القضاء" [ص:132].
أمثلة كثيرة وُشِّيت بها مقالات "عيون البصائر"، تشد الدارس إليها فلا تدع عقله يسهو، أو عينه تغفو، لأن متابعة التسلسل البياني تحول دون ذلك ...
فمن لا يعرف الاستعارة لا يدرك العبارة في أدب الإمام الإبراهيمي، ومن لم يحظ بقواعد العربية، لا يستطيع فقه الصورة التمثيلية ...
والإحاطة بالبلاغة والنحو وسيلة ضرورية من وسائل معرفة التاريخ السياسي للجزائر، وبدون ذلك، يبقى الفهم مبتورًا، وتعال معي إلى هذا التصوير البياني السياسي، الفني، في عبارة لجنة "فرانس- إسلام " التي دعا إلى تكوينها المستشرق الفرنسي، لوي ماسينيون، كمحاولة، لتجسيد الدمج السياسي للجزائر المسلمة في الكيان الفرنسي، تحت اسم ثقافي و"حضاري" هو تجسيد الصداقة بين فرنسا المستعمِرة والجزائر المسلمة المستعمَرة.
يتصدى الإبراهيمي لهذه الأحبولة الاستعمارية فيجمع لها كل الأدوات المعرفية البيانية، ليحكم بتهافتها مثبتًا ذلك بالبراهين العقلية، والقواعد النحوية، والمنطقية الصورية ... مطبقًا على ذلك كله منهجه التحليلي البلاغي الرهيب.
فيقول عن "فرانس- إسلام":
"كلمتان أكرهتا على الجوار في اللفظ والكتابة، فجاءت كل واحدة منهما ناشزة على صاحبتها، نابية عن موضعها منها، لأنهما وقعتا في تركيب لا تعرفه العربية ولا يقبله الذوق العربي" [ص:350].(3/10)
لقد اهتدى الإبراهيمي بفطرية الوطنية الأصيلة، وذوقه العربي السليم إلى أن التراكيب العربية النحوية ترفض إسناد فرنسا للإسلام في تركيبتها المقترحة، فلا تركيب الإسناد ولا التركيب الإضافي، ولا التركيب الوصفي ولا التركيب المزجي هنا بقادر على تأدية دوره الوظيفي.
يقول الإبراهيمي:
"في العربية تركيب الإسناد، والإسلام لا يرضى أن يسند إلى فرنسا الاستعمارية، ولا أن تسند هي إليه، وفي العربية التركيب الإضافي والإسلام لا يسمح أن يُضاف إلى فرنسا ولا أن تضاف هي إليه، وفي العربية التركيب المزجي، والإسلام وفرنسا كالزيت والماء لا يمتزجان إلا في لحظة التحريك العنيف، ثم يعود كل منهما إلى سنته من المباينة والمنافرة" [ص:350].
مقدمات نحوية سليمة، لنتائج منطقية سليمة، وتصوير بياني بارع يفضي في النهاية إلى هذه الحقيقة العقلية القائمة على البرهنَة العقلية، والتدليل التاريخي: "وفي الشرائع الاستعمارية الفرنسية بالجزائر مذهب كانوا يسمون جانبه التأثيري "الإدماج " وجانبه التأثري "الاندماج" ومعناه قريب من معنى التركيب المزجي، ولكن هذا المذهب التحق بالمذاهب البائدة التي ولدها العتو عن أمر الله والعُلو في أرض الله، فتلك آراؤه سخرية الساخر وأولئك رجاله لعنة الأول والآخر" [ص:350].
تصوير رائع وَرَبْطٌ محكم بين المقولات الفكرية كفرنسا والإسلام، والإدماج والاندماج، وبين المقدمات العقلية المستوحاة من القواعد النحوية، كالتركيب المزجي، والزيت والماء، والمعاني التاريخية، كالعتو، والعُلو، والمذاهب البائدة، والتناسخ ... إلخ. وتلك هي عبقرية النص، في الخطاب الإبراهيمي من خلال الإبداع البياني.
3 - العمق العرفاني:
وفي "عيون البصائر"، صور إِبداعية أُخرى، هي التي يجليها ما اصطلحنا على تسميته "بالعمق العرفاني".
وهذا اللون المعرفي عند الإبراهيمي، يمثل مزيجًا من أصول الفقه، وفقه اللغة، والتصوف، والفلسفة، مقرونًا بالفكر السياسي الجزائري، في محاولة للإفحام بالإلهام. فانظر إلى توظيفه للعبارات الفقهية الدينية في القضية المصيرية التي يمثل الاستعمار رأس مقدمتها:
"ولو أن الاستعمار كان فقيهًا في سنن الله في الأمم والطبائع لأنصف الأمم من نفسه، فاستراح وأراح، ولعلم أن عين المظلوم كعين الاستعمار كلتاهما يقظة" [ص:47] استدلال رائع في الربط بين فقه الاستعمار، وسنن الله في الأمم، وبين عين الاستعمار [الظالم] وعين المظلوم [المستعمَر] ووجه الشبه بينهما هي اليقظة مع البون الشاسع بين اليقظتين.(3/11)
ولا أدلّ على ظلم الاستعمار الفرنسي بالذات من جمعه بين المتناقضات في تسلطه على الجزائر "حكومة لائكية في الظاهر مسيحية في الواقع، جمهورية على الورق، فردية في الحقيقة، تجمع يديها على دين المسلمين ودنياهم، وتتدخل حتى في كيفية دفن موتاهم" [ص:60].
وما ذلك كله إلا من وضع يدها على أوقاف المسلمين، وتعيين موظفين عملاء لها، تدير بهم شؤون المسلمين. لذلك لا نستغرب قسوة الخطاب الإبراهيمي وحدته في مخاطبة ووصف من كان عقبة في طريق تحرير أوقاف المسلمين، وخلاصهم من ربقة الاستعمار، ويركز الخطاب على "المفتي الحنفي" بالجزائر فيأتي الخطاب في شكل صاعقة. "ما زلنا نتتبع أخبار هذا الرجل منذ سنين، ونتوسم من حركاته أنه عامل نصب وخفض معًا، وأنه مهيأ من الحكومة لأن يكون "حلقة مفقودة" لقضية ما، في يوم ما" [ص:86] "وفي الإدارة الجزائرية العليا مطبخة- ليست كالمطابخ- تطبخ فيها الآراء والأفكار في كل ما دقّ وجلّ من شؤون المسلمين ...
وفي هذا المعمل صنع العاصمي [المفتي الحنفي] وامتحن فكشف الامتحان عن استيفاء الخصائص والصلاحيات للاستعمال، وأصبح موظفًا في إحدى هذه الوظائف وهي الإفتاء الحنفي بالجزائر، أي مفتي الجامع الحنفي بالجزائر، إذ لم يبق من الحنفية بالجزائر إلا جامع يحمل هذه النسبة ... وإن وجود وظيفة مفتي حنفي في الجزائر تزوير على المذهب الحنفي، وأين العاصمي ومَنْ جرى مجراه من فقه أبي حنيفة ودقائقه وقياسه؛! " [ص:88].
وينتهي الخطاب الإبراهيمي بعد هذه المقدمات العرفانية الفقهية في التعريض بقضية الاستعمار للدين الإسلامي في الجزائر، إلى هذه النتيجة الخطيرة: "إن نسبة الحنفي تشترك في بني حنيفة وأبي حنيفة، فلينظر العاصمي [المفتي الحنفى] أشبه النسبتين به ... وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الذين آووه ونصروه، ومن غرائب الشبه أن مسيلمة الحنفي كان تشويشًا على النبوة الحقة، وأن المفتي الحنفي كان تشويشًا على مطالب المسلمين الحقَّة" [ص:88].
إنها لبراعة في التخريج هذه التي يربط فيها بين قوم مسيلمة الكذاب في عصر إسلام النبوة وبين المفتي الحكومي العاصمي، في عصر إسلام الصحوة والفتوة .. وإن في ذلك لدلالة على سعة الثقافة العرفانية التي يتسم بها مؤلف "عيون البصائر" فيوظف مقولاتها في تاريخ الصراع الفكري والعقدي بين الظالمين والمظلومين.
إن هذه الثقافة الموسوعية العرفانية لدى الإمام الإبراهيمي، هي التي نجدها في امتداد القضية السالفة وهي قضية فصل الدين عن الحكومة أو فصل الحكومة عن الدين.
فمن العنوان ذاته يتخذ الخطاب الإبراهيمي مدخلًا للعرض والتحليل، فيأتي بتجليات عرفانية لا نعثر على مثلها في غير هذا الخطاب، يقول بهذا الخصوص:(3/12)
"ولكننا نغير العنوان في هذه المرة أكان العنوان السابق: فصل الدين عن الحكومة، ونقول: فصل الحكومة عن الدين، قلبًا في الوضع لا في الموضوع، تفاؤلًا للحالة بعدم الاستبقاء كما يتفاءل بقلب الرداء في الاستسقاء، وإن بين التركيبين الإضافيين لفرقًا دقيقًا في لغتنا العربية، تخيله الفقهاء في بحث ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة، وحققه البيانيون في بحث: سلب العموم وعموم السلب .. فدين الإسلام في منزلته من النفوس، وفي منزلته من المعابد وفي مظهره من الأشخاص والمعاني، ثابت أصيل، لم يرد على شيء حتى يفصل عنه، وإنما وردت عليه هذه الحكومة ورود الغاصب الذي يحتل بالقوة لا بالحق" [ص:118].
أليس في هذه الاستعارة التمثيلية ما يُؤكد صحة ما ذهبنا إليه من قبل، وهو أن فاقد الثقافة الفقهية لا حَظَّ له في غوص أعماق الدلالة التي يرمي إليها الخطاب الإبراهيمي، فقلب الرداء في الاستسقاء، وورود الماء على النجاسة، وسلب العموم وعموم السلب، كلها مصطلحات ومفاهيم عرفانية لا يدركها إلا من كان له رصيد من الفقه، والبيان، والحياة الروحية الإسلامية.
ولو شئنا لأثبتنا من الأمثلة في هذا الباب ما لا يسمح به تقديم محدود الكلمات والصفحات، ولكننا لا نستطيع مهما حاولنا، مقاومة إيراد نموذج آخر للعمق العرفاني، في "عيون البصائر"، في محاولة منا لمساعدة القارئ والباحث على توجيه عقله- منهجيًا - نحو بعض الرموز المعرفية في هذا الخطاب، لنشجعه على الغوص أكثر في طريق الحفر والتنقيب عن الجواهر وما أكثرها ..
والمثال نأخذه من نفس الموضوع الطويل الحلقات، وهو موضوع فصل الحكومة عن الدين .. ونركز فيه على إحداث أوسمة ونياشين "تمنحها الحكومة الفرنسية للأئمة والمفتين".
يعالج الشيخ الإبراهيمي هذه القضية بأسلوبه العرفاني البليغ فيقدمها في هذه الصورة الفنية. "نجحت [الحكومة الفرنسية في الجزائر] بهذا الجند العاطل المرتزق الذي جندته واصطادته بشبكة المطامع، من الأئمة، والمفتين، والخطباء، والمؤذنين، والقَوَمَة، والحزابين، وأتباع "شريعة يوسف" أجمعين .. كوَّرتهم وصوَّرتهم، ونقَّحتهم، وحوَّرَتْهُم، وعلى المنوال الحكومي دوَّرتهم، حتى أصبحوا جزءً أصيلاً من الأدوات الحكومية".
"ومن المضحكات أو المبكيات في هذا الباب .. باب إدماج شيء في شيء غريب عنه، واعتبارهما شيئًا واحدًا .. إنعام الحكومة بنياشينها على أصحاب الوظائف الدينية" [ص:122].(3/13)
"وإن لهذه النياشين لأسماء ونسبًا إلى أعمال، فهل فيها أسماء دينية أو نسب إلى أعمال دينية؛؛ " [ص:122].
ويخترع الإبراهيمي بخياله الأدبي الفسيح، وثقافته العرفانية الواسعة، عناوين استحقاق للأوسمة الدينية مستوحاة من حقيقة الفقه، والثقافة الإسلامية، فيجيب على سؤاله المطروح بقوله:
"لا تتم المهزلة على وجهها الأكمل إلا إذا وضعت لنياشين رجال الدين أسماء دينية وعناوين فقهية، لمعان يتفاضلون فيها؛؛ كنيشان (إطالة الغرة والتحجيل)، ونيشان (كثرة الخطى إلى المساجد)، ونيشان (التهجير إلى الجمعة)، ونيشان (الطمأنينة والاعتدال)، ونيشان (وإن تشاح متساوون) وتختم القائمة بشيء خاص بأمثال العاصمي كنيشان (وقبل خبر الواحد)، ونيشان (واشترك طارد مع ذي حبالة) [ص:123].
إن كل مصطلح من هذه المصطلحات يحيل إلى قضية فقهية أصولية في الثقافة الإسلامية، وأنى لغير المتضلعين في هذه الثقافة من فهم مرامي الخطاب هنا، وتقبيح حاملي النيشان، بغير استحقاق من "رجال الدين".
لذلك كان ضروريًا، الاستعانة على دراسة الخطاب الإبراهيمي، بإحداث القابلية والاستعداد، ولن يتأتى ذلك إلا بالأخذ بنصيب من فنون الثقافة الإسلامية، وملء الوطاب بمفاتيح الدخول إليها، مما سبق ومما سيأتي ذكره.
4 - الفكر العقلاني:
قد نظلم الخطاب الإبراهيمي، لو أننا قصرناه على الجانب المعرفي الفقهي، الصوفي، البياني، البلاغي، وفصلنا عنه الجانب الفلسفي، العقلي، العلمي ... ذلك أن هذا الخطاب يأبى إلا أن يأخذ حظه من هذه الجوانب المعاصرة كلها، وفي براعة لا تقل عما ألفناه عنده في مجال الذوق الأدبي، والبيان البلاغي، والتبحر الفقهي، والذكاء السياسي ...
فقد جاء الخطاب حسب دراستنا له، معاصرًا لاهتمامات العقل آنذاك، فاتسم بالحكمة الفلسفية من حيث المعنى، وبالنزعة العقلية من حيث البرهنة، فكان خطابًا متوازنًا ذا تعادلية، تجمع بين الفلسفة والدين، دونما غلو أو إفراط.
ونعتقد أن ذلك كان ضروريًا من حيث المنهج، إذ أنه مطلب أمْلَتْه الظروف السياسية والفكرية، والثقافية المحيطة، فكان لابد- إذا أريد للخطاب أن يحقق هدفه- من ركوب المنهج الفلسفي والعقلي لإكساب القضية الكبرى، قوة الحجة، ومنطقية الدليل.(3/14)
وما أبلغ الإبراهيمي وقد رأينا قوته في توظيف الرمزية الدينية في وصفه للاستعمار، وما أبلغه اليوم وهو يوظف الأساليب العلمية والعقلية في إعطاء حكمه على الاستعمار- فإذا كان الاستعمار في الرمز الديني- شيطانًا - كما رأينا- فإنه بلغة العلم "سلّ يحارب أسباب المناعة في الجسم الصحيح" [ص:47]. وعملية "التلقيح بمادة الاستعمار وهي مادة من خصائصها تعقيم الخصائص" [ص:97] وإذا الطب الاستعماري لم يقض على المرض، وإنما قضى على الصحة.
بعد هذا، نلتقي بالمعادلات العقلية في منهج الخطاب الإبراهيمي، ففي قضية فصل الحكومة عن الدين دائمًا، وهي المقدمة الصغرى، لتحقيق النتيجة الكبرى، فصل الجزائر عن الحكومة الفرنسية- في هذه القضية يتناول الخطاب أسلوب التسويف والمماطلة الذي تسلكه الحكومة الفرنسية مع الجزائريين ليطول الأمد فتنسى العقول، وتقسو القلوب، وتتشعب المسالك على المطالبين بحقوقهم ... لذلك يعمد الخطاب إلى هذه المعادلة العقلية: "أما الأمد فقد طال مئة وعشرين سنة، فتناسى أولنا ولم ينسَ أخيرنا ... وأما تشعب السبل فقد أعددنا له- من أول يوم- دليلاً لا يضل وهو الحق. وجانبًا لا يزل وهو الصبر، وسيفًا لا يكل وهو الحجة، ونصيرًا لا يذل، وهو العقل، وميزانًا لا يختل، وهو الرأي، فلا تتشعب علينا السبل إلا رميناها بهذه الأدوات مجموعة فتنزوي وتتجمع كقضبان الحديد في محطة القطار، مآلها بحكم الهندسة إلى خطين متوازيين" [ص:142].
بهذا البرهان المنطقي، أبطل الإبراهيمي المعادلة الفاسدة التي أقام عليها الاستعمار مقدماته، وهي "البطلان بالتقادم" كما يقول رجال القانون: وأقام عليها حجة علمية هندسية وهي مآل الكثرة إلى خطين متوازيين، ثم إلى محطة واحدة هي محطة الوصول، إنه برهان عقلي يقوم على الدليل العلمي.
وهناك نموذج آخر للمعادلة العقلية، يوردها في علاقة الحكومة الفرنسية بأتباعها من علماء الدين وهي أن هذه الحكومة تبقي على السحنة، وتفرغ الإنسان من الشحنة: "وواعجبًا لما تصنع هذه الحكومة ببعض الرِّجال مِنّا، تعمد إلى الواحد منهم، فتبقيه على سحنته، ولكنها تفرغه من شحنته" [ص:149]. ويقول في مكان آخر: "وما زالت [الحكومة] بهم [رجال الدين] تروضهم على المهانة وتسوسهم بالرغبة والرهبة، حتى نسوا الله ونسوا أنفسهم ... وأصبحوا في العهد الأخير كالأسلاك الكهربائية المفرغة من الشحنة، ليس فيها سلب ولا إيجاب". [ص:162 - 163].
وفي معادلة منطقية أخرى يوظف صاحب "عيون البصائر" صورة عقلية رهيبة لمأساة 8 مايو 1945، فيقول: "اثنان قد خلقا لمشأمة، الاستعمار والحرب، ولحكمة ما، كانا سليلي(3/15)
أبوة لا يتم أولهما إلا بثانيهما ولا يكون ثانيهما إلا وسيلة لأولهما. وقد تلاقت يداهما الآثمتان في هذا الوطن، هذا مودع إلى ميعاد، فقعقعة السلاح تحيته، وذلك مزمع أن يقيم إلى غير ميعاد فجثث القتلى من هذه الأمة ضحيته" [ص:333].
إن ما يتميز به الخطاب الإبراهيمي، إذن، هو: استعانته بكل المناهج، كالتاريخية التحليلية، والفلسفية النقدية، والرياضية البرهانية، وهي تترجم كلها مدى أهمية الموسوعية المعرفية التي تطبع ثقافة الإمام البشير، وخصوصًا مدى تفتحه على ثقافة عصره، وهو الذي ورث تكوينًا على يد علماء "تقليديين".
والأهم في كل ذلك أنه بهذا الأسلوب يرفع أية قضية من قضايا مجتمعه وشعبه- مهما صغرت- إلى درجة التحليل المعرفي ليجعل منها قضية عقلية كبرى. وكما يقول هو عن إحدى هذه القضايا، وهي تضييق الحكومة الفرنسية على المدارس القرآنية، ومطاردة معلميها، وإخضاعهم للمساءلة، والنفي، والمحاكمة: "قضية بسيطة، أساسها ظلم، وحائطها بغي، وسقفها عدوان، وأصلها الأصيل ((فتح مكتب قرآني بدون رخصة حكومية)) تتدحرج من محكمة إلى محكمة، ومن حاكم إلى حاكم حولا كاملاً": [ص:226]. "وما أغرب شأن الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي: فئة تدرس في جامعة، وملايين ترسف في (جامعة) - وهي القيد الذي يجمع اليدين والرجلين- ويا بعد ما بين الطرفين" [ص:231].
وما أبرعه من عقل، يضفي على كل قضية طابع الاستنباط العقلي، ليلفت الانتباه، فيقابل بين فكرة صحيحة وأخرى فاسدة، وبين خاطرة أصيلة، وأخرى وافدة، ليبني النتيجة على المقدمات وتلك- والله- مهمة الفيلسوف القدير، والمحامي الخبير. إن هذا المنهج المقارن الذي نلتقي به في أدب الإمام الإبراهيمي، ليعد نسجًا فريدًا في الخطاب العربي المعاصر، حيث يستخدم فن "التوليد اللغوي" و "التصوير المعنوي" في رسمه لحدود القضايا، فيضفي بذلك على تلك القضية طابع الأهمية المفقود، وعامل الخطورة المقصود، ويجعل القارئ أو السامع الموجه إليه الخطاب، مأسور العقل، مشدود البصيرة.
لنستمع إليه في هذه الصورة الرائعة في مقابلة الدين السماوي، بالسماء لننتهي معه إلى نتيجة بالغة الأهمية، وهي مسؤولية علماء الدين. في طريقة عرض الدين وجناية جهلهم عليه: "والدين السماوي، علو وصفاء، وظهور بلا خفاء، وحقائق ثابتة، ونسب غير متفاوتة، وحركات منظمة، وأحكام مقوّمة، فإن خفيت السماء فمن الغيم، وهو من الأرض، وإذا خفيت حقائق الدين فمن الجهل أو من الضيم، وهو من سوء العرض" [ص:183].
وعندما يتوجه الكاتب بالخطاب إلى طلاب العلم من أبناء الجزائر في تونس، والمغرب، يرسم لهم صورة عقلية دامغة الحجة في إيجاد التفرقة بين المعرفة المطلوبة،(3/16)
والسياسة المنكوبة ليربط الشباب في النهاية بالوطنية في أظهر صورها، وأنبلِ مبادئها "إن الوطنية لَعَقيلَةُ كرام، لا يساق في مهرها بهرج الكلام، وكريمة بيت، لا تنال بِلوْ ولا بِلَيْت، وإن العلم كبير أناس لا يصاحب إلا بضبط الأنفاس" [ص:315].
"العلم ... العلم ... أيها الشباب، لا يلهيكم عنه سمسار أحزاب، ينفخ في ميزاب، ولا داعية انتخاب في المجامع صخاب، ولا يلفتنكم عنه معلل بسراب، ولا حاو بجراب، ولا عاو في خراب يأتَمُّ بغراب، ولا يَفْتِنَنَّكُمْ منزو في خنقة ولا ملتو في زنقة، ولا جالس في ساباط، على بساط يحاكي فيكم سنة الله في الأسباط، فكل واحد من هؤلاء مشعوذ خلاب، وساحر كذاب" [ص:316].
أرأيتم هذه الإيحاءات، والإحالات على تعددها، كيف أنها تشير، منفردة ومجتمعة، إلى آفات المجتمع الجزائري آنذاك، وهي آفات فيها الحزبي المخادع باسم السياسة، وفيها الطرقي المضلل باسم الدين، وفيها المشعوذ، والحاوي، وكلها ظواهر مقيتة في حياة المجتمع الجزائري، ولقد وفق الخطاب الإبراهيمي في توظيف هذه الآفات، بمخاطبة العقل الطلابي وتحذيره باسم العلم من مخاطرها.
إن الفكر العقلاني لطافح، بمنهجه، وأدلته، وبراهينه في خطاب "عيون البصائر"، وسيؤسر القارئ بصوره الخلابة الجذابة، بما أوتي هذا الخطاب من حكمة وفصل خطاب. وحسبنا أن ننبه القارئ والدارس إلى هذه الجوانب المضيئة في الخطاب، حتى يملأ منها النفس والوطاب.
5 - السياق التّارِيخاني:
تبارك الذي خلق محمد البشير الإبراهيمي، فجعله كاتب الجزائر الأصيل، وابن العروبة السليل، وحامي حمى الإسلام المثيل. أمده بالإلهام فكان عقله ناطقًا بسمو الفكر، ولسانه ذاكرًا لله بالشكر، وضميره طافحًا بحب الأمة، إلى حد السكر.
لقد وضع لنا "عيون البصائر"، فجاءت جامعة للبيان، والعرفان، ومدونة لسيرة الأعداء والخلان يجد فيها القارئ الموسوعة الثقافية، والأدبية، والتاريخية، والسياسية للجزائر بثوابتها في غير تعصب، وبطموحاتها واستعداداتها للتوثب.
إن الشباب الجزائري، ومن ورائه الشباب العربي والإسلامي، الدارس، سيجد في "عيون البصائر" أبرز حوادث العصر، بتموجاتها، وصراعاتها، وتحدياتها، وردود أفعالها ... وهي كافية لمن اقتصر عليها، بشرط فك رموزها الكثيرة. وتجاوز ألغازها وإيحاءاتها العسيرة وهو ما يمثل السياق التاريخي أو التاريخاني للجزائر والعالم الإسلامي، في عصر الإبراهيمي.(3/17)
ولا أحب أن أنتهي من هذا التقديم دون إشراك القارئ معي، في تذوق حلاوة بعض النماذج الفريدة التي تعكس روح تاريخ العصر، بدءًا بالمحلية، وانتهاءً بالعالمية.
ولعل من ألغاز "عيون البصائر"، "سجع الكهان" و"كلمات مظلومة" وغيرها، وأكتفي بتقديم نماذج من هذه الألغاز ليدرك القارئ أية حلاوة متضمنة في هذه الألغاز.
يقول الإبراهيمي عن عنوانه كلمات مظلومة: كالعدل، والاستعمار، والإصلاحات، والديمقراطية ... وغيرها "إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها، كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر، وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم، يزيد على القبح بأنه تزوير على الحقيقة، وتغليط للتاريخ" [ص:506].
وعن "الاستعمار" يقول: بأن أصل هذه الكلمة في لغتنا طيب ففي القرآن {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} "ولكن إخراجها من المعنى العربي الطيب إلى المعنى الغربي الخبيث ظلم لها "والذي صير هذه الكلمة بغيضة إلى النفوس ثقيلة على الأسماع ... هو معناها الخارجي- كما يقول المنطق- وهو معنى مرادف للإثم، والبغي، والخراب، والظلم، والتعدي، والفساد، والنهب، والسرقة، والشر، والقسوة، والانتهاك، والقتل والحيوانية ... إلى عشرات من مئات من هذه الرذائل تفسرها آثاره، وتتجلى عنها وقائعه" [ص:506].
أما عن "الديمقراطية": "هذا الرأي اليوناني النظري الجميل" فقد أصابها الظلم هي الأخرى "لم تظلم هذه الكلمة ما ظلمت في هذه العهود الأخيرة، فقد أصبحت أداة خداع في الحرب وفي السلم، جاءت الحرب فجندها الاستعمار في كتائبه وجاء السلم فكانت سرابًا بقيعة، ولقد كثر أدعياؤها ومدعوها والداعون إليها، والمدعي لها مغرور، والداعي إليها مأجور، والدعي فيها لابس ثوبي زور ... لك الله أيتها الديمقراطية ... " [ص:508].
وعن الإرهاب يقول الشيخ: "ودع عنك حديث الإرهاب فما هو إلا سراب" [ص:436].
هذه إذن هي الكلمات المظلومة في قاموس "عيون البصائر" ولقد جاءت الممارسة العربية والغربية المعاصرة، لتدلل على صحة ما ذهب إليه الإمام البشير، وصدقت تنبؤاته فكان كأنما يرى بنور الله ...
فإذا انتقلنا إلى "سجع الكهان" فإننا نجد لونًا آخر من الخطاب السياسي الأدبي، لم تعهده مجامعنا، إنه خطاب يجمع بين الرشاقة اللفظية، والخفة المعنوية، بين الذكاء السياسي، والتوظيف التاريخي، في صور تمثيلية ما عرف مثلها في خطابنا المعاصر، فهذه(3/18)
الفصول "فيها الزمزمة المفصحة والتعمية المبصرة، وفيها التقريع والتبكيت، وفيها السخرية والتنكيت ... وفيها العسل للأبرار وما أقلهم، وفيها اللسع للفجار وما أكثرهم ... فلعلها تهز من أبناء العروبة جامدًا أو تؤز منهم خامدًا، فتجني شيئًا من ثمرة النية، وتغير أواخر هذه الأسماء المبنية" [ص:518].
هل نحن مع طلاسم كاهن؛ لا، بَلْ إنها رموز للواقع التاريخي المشين في عالمنا العربي والإسلامي آنذاك، آثر الكاتب هذا الأسلوب الرمزي الإشاري، للدلالة عليه ويمضي "كاهن الحي" وهو الإسم المستعار الذي أمضيت به الفصول، فيعمد إلى الوقائع التاريخية من خلال آثارها، ويسوق هذه الصور عنها:
"أيتها البُحيرة [المقصود بحيرة طبرية] مالك في حيرة؛ لقد شهدت لبدر بن عمار بالفتوة، فهل تشهدين لأبي الطيب بالنبوة؛ وحدثي الولي (ياولية) أيهما كان عليك بلية، ذاك الذي وردك زائرًا، أم هذا الذي وردك خائرًا؛ إنهما لا يستويان! ذاك أسد غاب رزقه في الناب، وهذا حلف وِجار، رزقه على الجار ... ذاك ورد الفرات زئيره، وهذا جاوز الفرات تزويره" [ص:520].
"أيها الخاذل للغزى [جمع غاز] ما أنت لها شم، إنما أنت لعبد العزى، أغضبت سراة الحي، وأزعجت الميت منهم والحي، من لؤي إلى أبي نمي ... فويحك، أما تخاف أن تهلك، يوم يقال: يا محمد إنه ليس من أهلك" [ص:521].
وفي نفس السياق التاريخي يسوق كاهن الحي صورة أخرى يبدؤها هكذا: "أيها العربي: الحق سافر، والعدو كافر، والقوي ظافر، فعلام تنافر، خصمك إلى خنافر [كان كاهنًا في حمير ثم أسلم على يد معاذ بن جبل] ويلك إن المنافرة لا تكون إلا في المشكوك، وإن الحق تحميه السيوف لا الصكوك ... مجلس الأمن مخيف، والراضي بحكمه ووضعه ذو عقل سخيف، إنهم ليسوا من شكلك، وإنهم متفقون على أكلك" [ص:523].
"أيها الأعارب ... هل فيكم بقايا من حرب أو من محارب، دبت بينكم العقارب، وأنتم أقارب، فتكدرت المشارب وتقوضت المضارب، وغاب المسدد في الرأي والمقارب" [ص:524]. "أقسم بالذئب الأطلس، والثعبان الأملس، إن المتجر بالأحرار لمفلس، وإن العاقل بين الأشرار لمبلس، وإن العربي لزنيم إذا بقي في المجلس" [ص:532].
ويسوق الإبراهيمي في قضايا العروبة، قضية ليبيا وموافقة مجلس الأمم المتحدة على استقلالها عن الإيطاليين، فيعجب المؤلف كيف وافقت روسيا على استقلال ليبيا، ويعلل ذلك بقوله: "ولولا العملاق [أي أمريكا] الذي يضع رجله على طهران، ويده على الظهران وعينه على وهران، لما صادقت روسيا على ذلك القرار" [ص:406].(3/19)
بهذه الرموز، والألغاز، والإيحاءات، والإحالات دشن كاتب "عيون البصائر" هذا الفن الرمزي الجديد في الأدب العربي، في محاولة منه لاستنهاض الهمم وتبرئة الذمم، وسيجد الدارسون فيها دلالات على التاريخ وأبطاله، وإحالات على التاريخ العربي وأفعاله على أن هذا كله إنما كان موصولًا بالصراع الحضاري، والسياسي الدائر في الجزائر، ومنطقتها، بين الأحرار، والاستعمار الفرنسي.
لذلك كان حظ المثبطين، والمتقاعسين، والعملاء المندسين، حظ الأسد من كتابات الإمام الإبراهيمي ولا تكاد هذه المقالات تغفل فئة، أو تغطي على شخص، وإنما هي تجمع الجميع ضمن خندق واحد هو الخندق الاستعماري المضاد، لتضربهم في نفس الحجر الاستعماري الذي رضوا لأنفسهم أن يكونوا فيه ... ولقد وجدنا في الخندق المعادي أسماء، وعناوين، وسمات لأشخاص، وأحزاب، وتنظيمات، تباعدت مواطنها، واختلفت مشاربها، من الزوايا الحادة، إلى الأحزاب المنفرجة، ومن التنظيمات الدالة "إلى الشخصيات الضالة" ولكنها التقت جميعًا على محاربة الجزائر الحضارية الأصيلة كما جسدتها جمعية العلماء.
ففي مقال له عن مؤتمر الزوايا، بعد مؤتمر الأئمة، بقيادة الشيخ عبد الحي الكتاني المغربي، يختار المؤلف عنوانًا ذا إيحاءات عديدة هو: أفي كل حي ... عبد الحي؛ فيقول عن طائفة أهل الزوايا: "وعرفنا عن هذه الطائفة أنها كانت في تاريخ الاستعمار طلائع لجنوده، وأعمدة لبنوده، وشباكًا لصيده، وحبائل لكيده" [ص:392].
ثم ينحو إلى زعيمها عبد الحي الكتاني فيقول عنه "وعرفنا في قائدها الجديد، وحامل رايتها عبد الحي الكتاني أنه كان كالدرهم الزائف لا يدخل في معاملة إلا كان الغش والتدليس واضطراب السوق" [ص:393].
ولعل خير ما نختم به هذه المقدمة، النموذج الرائع للشباب الجزائري كما تمثله رائد الفكر الإسلامي مؤلف "عيون البصائر" فلقد رسم للشباب الجزائري مبادئ مضيئة، طالبهم أن يتخذوها قواعد لحياتهم فقال: "أتمثله مصاولاً لخصومه بالحجاج والإقناع، لا باللجاج والإقذاع، مرهبًا لأعدائه بالأعمال لا بالأقوال ...
أتمثله بانيًا للوطنية على خمس كما بني الدين على خمس، السباب آفة الشباب، واليأس مفسد للبأس، والآمال لا تدرك بغير الأعمال، والخيال أوله لذة وآخره خبال، والأوطان لا تخدم باتباع خطوات الشيطان ... يا شباب الجزائر هكذا كونوا ... أو لا تكونوا" [ص:517].
هذه إذن، سبحات فكرية، في خطاب "عيون البصائر" كما تراءى لنا، ولعل القارئ سيلحظ أننا لم نشر بالنقد للكتاب، لأننا وقعنا أسارى الجوانب الإيحائية الطافحة في(3/20)
الكتاب، وهي حقيقة! وللموضوعية، فإني حاولت أن أسلط بعض مناهج النقد على الكتاب، فما أفلحت، ولعل ذلك مَرَدُّهُ- في نظري- إلى قصور في القلم، وحسب هذا القلم شرفًا، أن يطول بالحق والوفاء قصره، وأن يتخذ لنفسه الشعار الذي رفعه محمد البشير الإبراهيمي عندما كتب ذات مرة "بأن هذا القلم قد براه الله لينضح العسل المصفى للمقسطين، وينطف الصاب والحنظل للقاسطين، ويرسل الحمم مدرارًا على المستعمرين".
وكفى به شعارًا، يتخذه المثقفون، والكتاب، والمفكرون، مبدأ خالدًا لهم.
وإذن فإن ما يمكن استخلاصه في تقديمنا لكتاب "عيون البصائر" أن نستعير من الرافعي مقولته الرائعة في تقديم كتابه "وحي القلم": "إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد، فلا تنتظر الورد، وإن لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب" ونحن نضيف، إذا لم تكن "عيون البصائر" هي الجزائر في عمقها الحضاري، فلا ننتظر إلا جزائر الواق الواق.
د. عبد الرزاق قسوم(3/21)
السياق التاريخي (1947 - 1952)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تعدو أطماع فرنسا في الجزائر إلى ما قبل سنة 1830 بوقت طويل، فقد بعث الملك الفرنسي شارل التاسع رسالة في 11 مايو 1572 إلى سفيره في استانبول فرانسوا دو نواي ( F. de Noailles) يأمره فيها أن يطلب من السلطان العثماني سليم الثاني أن يتخلَّى - مقابل مبلغ مالي سنوي- عن الجزائر ليعيِّنَ عليها أخاه دوق أنجو ( le duc d'Anjou) - ( الملك هنري الثالث فيما بعد) (1).
وإذا كانت هذه المحاولة قد فشلت، فإن فرنسا لم تيأس من تحقيق أمنيتها في الاستيلاء على الجزائر، فتعددت- منذ ذلك الوقت- خططها، وتنوّعت مشروعاتها، التي تتحدث جميعها عن استعادة هذه البلاد- الجزائر- للمسيحية (2).
وحقّق الفرنسيون أملهم باحتلال مدينة الجزائر سنة 1830، وبدأوا تنفيذ خطة مَحْوِ خصائص الجزائر الحضارية، من دين ولغة ومعالم تاريخية، ليسهل- زعموا- استعادة الجزائر للمسيحية، ولم يتوقفوا عن تنفيذ تلك الخطة- ساعة من نها ر- طيلة وجودهم بالجزائر. ولذلك اعتبر الإمام الإبراهيمي احتلال فرنسا للجزائر "حلقةً من الصليبية الأولى" (3)، وأنه "قَرْنٌ من
__________
1) يزعم الفرنسيون أن طلَبَ مَلِكِهِمْ شارل التاسع كان بناءً على رغبة من الجزائريين!! وهو زَعْمٌ لا برها ن لهم عليه، ولا يصمد أمام أدنى نقد. انظر ذلك الزعم فى: Revue africaine, 5e année
N° 25, janvier 1861, pp.1 - 13
2) أحمد عزت عبد الكريم: دراسات في تاريخ العرب الحديث، بيروت، دار النهضة العربية، 1970، [ص:305].
3) انظر مقال "قضية فصل الدين .. لمحات تاريخية" في هذا الجزء من الآثار.(3/23)
الصليبية نَجَم، لا جيش من الفرنسيين هَجَم" (4)، وأن هذه الصليبية لم تخف حِدَّتها، ولم يتغيّر لونها، ولم تضعف فَوْرَتُها بتعاقب السنين وتطور الأفكار؛ بل بقيت هي هي "تَجَمْهَرت فرنسا أو تَدَكْتَرت، أو اختلفت عليها الألوان بَياضًا وحمرة" (5).
كانت مواقعت علماء الجزائر من الوجود الفرنسي ببلادهم (1830 - 1962)، ومن خطة الفرنسيين لتنصيرها وفَرْنَستها مختلفة، ويمكن تقسيمهم إلى أربعة أقسام.
1 - فريق منهم لم يستطيعوا صبرًا على محنة بلادهم، فغادروها إلى البلدان العربية والإسلامية، مثل المغرب، وتونس، ومصر، والحجاز، والشام، وتركيا. وهؤلاء إن لم ينفعوا بلادهم؛ فقد خدموا إخوانهم المسلمين في البلدان التي استقرّوابها، وأسهموا بنصيب طيب في نهضة تلك البلدان.
2 - وفريق انعزلوا عن الناس، وابتعدوا عن المجتمع، وراحوا يتفرجون على محنة وطنهم، ويتَحَسَّرون على مأساة شعبهم، ويتأوَّلون في سلوكهم السلبي ذاك آية كريمة، هي قوله تعالى: { .. لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ .. }. فمَثَل هؤلاء العلماء كَمَثَل العضو المشلول من الجسد؛ يراه الناس ولا يحسُّون أثره.
3 - وفريق غلبت عليهم شِقْوَتهم، وضلوا عن علم، وهلكوا عن بَيِّنَة، فانْسَلَخوا من آيات الله التي آتاهم، واشتروا بها ثمنًا قليلًا، وخانوا الله ورسوله والمؤمنين، وتَحَيَّزوا إلى الفرنسيين الذين اتّخذوهم سُخْرِيًّا ضد شعبهم، ووطنهم، ودينهم.
4 - وفريق فقهوا دين الله عزّ وجل، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يخونوا أماناتهم، فوقفوا إلى جانب شعبهم في مأساته، وحفظوا له خصائصه من الذَّوَبان، وثَبَّتُوا له مقوّماته الحضارية التي استردّ بها سيادته، واسترجع بفضلها استقلاله.
ومن هذا الفريق الإمام محمد البشير الإبراهيمي- رضي الله عنه وأرضاه- الذي ما إن استكمل تحصيله العلمي حتى عاد إلى وطنه، ليضع علمه وجهوده في خدمة شعبه، وليقود جهاده الحضاري وصراعه الفكري ضد الفرنسيين.
كان في مُكْنَةِ الإمام الإبراهيمي أن يعيش دنياه منَعَّمًا، وأن ينال منها نصيبًا موفورًا؛ لما آتاه الله من بسطة في العلم، واستبحار في المعرفة؛ كان في مستطاعه أن يبقى مكرَّمًا في مكة بالقرب من البيت المعمور؛ أو أن يَتَدَيَّر طيبَة الطيبة بجوار خير الخلق كلهم؛ أو أن يستقرّ معزَّزًا بدمشق؛ أو أن يستوطن القاهرة ويحوز في أزهرها مكانًا عليًا، أو أن يقيم
__________
4) نفس المرجع.
5) نفس المرجع.(3/24)
بتونس أو المغرب قريبًا من مسقط الرأس، وما كان- لو فعل- مَلُومًا ولا مَذْمومًا؛ ولكنه رفض ذلك كله، وفَضَّل الأَوْبَةَ إلى الجزائر، ليُحْيِيَ مواتها، ويبعثها من مَرْقَدِها، وُيزيل ظُلمَتَها، ويضيء ليلها، رغم معرفته بما كان ينتظره من معاناة، وما سيلاقيه من أذى مادي ومعنوي على يد الفرنسيين، الذين لا يترددون في البطش بمن يقف في طريق مخططهم الإدماجي التنصيري، وخاصة إذا كان هذا الواقف من نوع الإبراهيمي ووزنه وقيمته.
إن معظم هذه المقالات تعرض جوانب من مواقف الإمام الإبراهيمي في وجه ذلك المخطط، وتبيّن مدى شراسة الفرنسيين في تطبيقه، كما تعكس مدى استماتة الإمام في مقاومته، حتى إنه لَيُخَيَّل إلى القارئ أن الإمام مُقاتِلٌ يقاتل لا كاتب يُجادِل.
ومما يدل على تلك الاستماتة، وإدراك الإمام أن القضية قضية حياة أو موت، أن المرض أقعده، وألزمه الفراش أكثر من شهرين، وتشدَّدَ الطبيب في تعليماته له بلزوم الإخلاد إلى الراحة (6)؛ ولكنه تحدّى المرض، وألقى بتعليمات الطبيب وراء ظهره، وكتب "عشر مقالات في معاملة الحكومة (الفرنسية) للتعليم العربي، حتى سمّاه الأستاذ التبسي "المرض المنتِج"، وقال لبعض من ثقُلَت عليه وطأة تلك المقالات من صنائع الحكومة ما معناه: إنني لا أَرْضَى للإبراهيمي أن يُشاك بشوكة، ولكن هذه المقالات حَبَّبَت إليَّ طول مرضه مع سلامة العاقبة" (7).
إن هذا الجزء يضم صفوة المقالات التي كتبها الإمام افتتاحيات لجريدة البصائر أو مقالات رئيسية فيها فيما بين سنتَي 1947 - 1952. وهي مقالات اختارها الإمام نفسه، وأشرف على طبعها أول مرة سنة 1962، وقد حذفنا منها بعض المقالات (8) وأدرجناها في الجزء الرابع من هذه الطبعة، وهو الجزء الذي يحتوي على ما عثرنا عليه من مقالاته التي كتبها بين سنتَي 1952 و 1954، بعد سفره إلى المشرق العربي، كما حذفنا منه مقالة "مناجاة مبتورة .. " وألحقناها بالجزء الثاني، لأنه كتبها في أثناء اعتقاله بآفلو. وننبّه إلى وجود قصيدة للشيخ أحمد سحنون ضمن هذا الجزء، ولكن الإمام الإبراهيمي اعتبرها من "عيون البصائر"، وضمّها إلى مقالاته، وفي ذلك إشارة إلى عدة معانٍ منها:
* تقدير الإمام للشيخ أحمد سحنون، واعتراف بدوره في خدمة «البصائر».
* تَوَسُّم الإمام الثبات في الشيخ أحمد سحنون، وهو ما أكَّدَتْه الأيام والحوادث.
* اعتبار الإمام أن القصيدة بنتُ فكره وإن لم تكن بنت قلمه.
__________
6) انظر نهاية مقال "التعليم العربي والحكومة- 3" في هذا الجزء من الآثار.
7) انظر مقال "البصائر في سنتها الثالثة" في الجزء الثاني من هذه الآثار.
8) هذه المقالات هي: تحية غائب كالآيب- حكمة الصوم في الإسلام- من هو المودودي؛(3/25)
* موضوع القصيدة، الذي هو الإشادة بالمركز العام لجمعية العلماء في الجزائر العاصمة، الذي أصبح محورَ النشاط الديني، والثقافي، والسياسي.
لقد تناولت هذه المقالات العَيْناء عدة قضايا كانت وما تزال موضع اهتمام، ومجال صدام إلى يوم الناس هذا، ولم يتغيّر منها إلا الأسلوب والوسائل.
تناول قضية فصل الدين عن الحكومة، وبرهن في مقالاته أنه لا حق لفرنسا في الإشراف على الدين الإسلامي، لأنها ليست دولة إسلامية، ولأن دستورها يُحرِّم عليها الإشراف حتى على دينها. فأي منطق يخوِّلُ لها الإشراف على الدين الإسلامي؛ ويصل الإمام إلى لُبِّ القضية؛ وهو أن إشراف فرنسا على الدين الإسلامي إنما هو بقصد محوه، ويستوي في هذا القصد جميع الفرنسيين، فـ"إلى الآن لم يرزقنا الله حاسّة ندرك بها الفرق بين فرنسي وفرنسي .. بل الذي أدركناه وشهدت به التجارب القطعية أنهم نُسَخٌ من كتاب؛ فالعالم، والنائب، والجندي، والحاكم، والموظف البسيط، والفلاح كلهم في ذلك سواء، وكلهم جَارٍ على جِبِلَّةٍ كأنها من الخَلْقيات التي لا تتغير، ومَن زَعَم فيهم غير هذا فهو مخدوع أو مخادع" (9). وننبّه هنا إلى أن بعض دعاة اللائكية في بلادنا يخدعون الشعب وُيوهِمُونه بأنهم إنما يدعون إلى مادعا إليه الإمام الإبراهيمي من فصل الدين عن الدولة. وكذبوا، وصدق الإمام الإبراهيمي. وهم في كذبهم كأسلافهم الذين تقوَّلُوا على الله، فقالوا إنه يقول: "لا تقربوا الصلاة .. "، ويقول: "فويل للمصلين .. ".
إن الإمام الإبراهيمي دعا إلى فصل الدين الإسلامي عن الدولة الفرنسية، لأنها دولة نصرانية في الجوهر، لائكية في المظهر، وفي كلتا الحالتين لاحق لها في الإشراف على الدين الإسلامي. أما اللائكيون عندنا فهَدَفُهُم هو القضاء على الإسلام في الجزائر، ودعوتهم هذه مرحلة من مراحل تحقيق ذلك الهدف.
وفي تناوله لهذه القضية المحورية، راغ الإمامُ الإبراهيمي على مخططيها ومنفّذيها ضَرْبًا باليمين، وسَقاهُم حميمًا وغسَّاقًا، جزاء وفاقًا.
وعلى رأس مخططيها المستشرق الفرنسي "لويس ماسينيون "، مهندس السياسة الفرنسية في الشؤون الإسلامية، ولا شك أن الإمام يعلم- منذ كان في الشام- مَدى تورُّط "ماسينيون" في المشروع الاستعماري، حيث عمل فترة في القنصلية الفرنسية ببيروت، وكان مكلَّفًا بمهمة قَذِرة؛ وهي شراء ذِمَم مَن لا ذمّة لهم، واستنزال هِمَم من لا همّة لهم، حتى سُمِّي "الصندوقْجِي"، كما كُلِّف سنة 1919 - من طرف وزارة الخارجية
__________
9) انظر مقال "هل دولة فرنسا لائكية؛ " في هذا الجزء من الآثار.(3/26)
الفرنسية- "بوضع نظام أساسي سوري بالاتفاق مع الأمير فيصل بن الحسين- ملك العراق لاحقًا - وقد استمرّ عمله ستة أشهر" (10).
ومن المعروف أن الإمام الإبراهيمي كان على علاقة طيبة مع الأمير فيصل، الذي دعاه إلى العودة إلى الحجاز للإشراف على شؤون المعارف، فاعتذر الإمام.
وقد كان ماسينيون يحقد على الإمام الإبراهيمي، لأنه كان يتصدّى لمخططاته ويكشفها، وقد وصل هذا الحقد إلى درجة لم يستطع ماسينيون معها كتمانه، فقال للدكتور جميل صليبا: "إن هذا الرجل- الإبراهيمي- من ألدّ أعدائي" (11).
ومن منفذي السياسة الفرنسية في الميدان الديني الطرقيون المنحرفون ورجال الدين الرسميون، وفي مقدمتهم "محمد العاصمي"، الذي أنْعَمتْ عليه فرنسا بمنصب مفتي الحنفية في الجزائر، وبما أن المذهب الحنفي لم يَبْقَ له وجود في الجزائر، فقد رأى الإمام الإبراهيمي أن هذه النسبة- المفتي الحنفي- ليست لأبي حنيفة، وإنما هي لبني حنيفة، قوم مسيلمة الكذاب.
وتناولت هذه المقالات قضية التعليم العربي ومعاملة الدولة الفرنسية له ولأصحابه، وكشف الإمام في هذه المقالات نية الفرنسيين، وهي أنهم يريدون تجريد الجزائريين من "وطنهم الفكري"، كما سلبوهم "وطنهم الجغرافي"، وكما يريدون سَلْبَهم وتجريدهم من "وطنهم الروحي".
من أجل ذلك جعل الإمام التعليمَ العربيَّ شُغلَه الشاغل، وهمَّه الدائم، وكان يعتبره قضية حياة، لا بقاء للشعب الجزائري إلّا به.
وفي هذا الإطار تناول الإمام قضية اللهجة البربرية التي لم تطرح في الجزائر منذ أشرقت أرضها بنور الإسلام، رغم أن كل الدول الإسلامية التي نشأت في الجزائر بربرية. وكشف الإمام الهدف الفرنسي من وراء الدعوة إلى البربرية، وتخصيص إذاعة لها، وهو أنه "سلاح مبتكر لحرب العربية ومكيدة مدبرة للتقليل من أهميتها، وحجة مصطنعة لإسكات المطالبين بحقّها في وطنها" (12)، "ومن عادة الاستعمار أن يحيي المعاني الميتة ليقتل بها المعاني الحية"، كما يقول الإمام الإبراهيمي.
__________
10) عن أعمال ماسينيون في الشام، انظر: حسني سبح، خواطر وسوانح وعِبر، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ج 3، مجلد 59، يوليو 1984، وج 4، مجلد 59، أكتوبر 1984، وانظر مقال: "لجنة فرانس- إسلام" في هذا الجزء من الآثار.
11) مجلة الثقافة، ع 87، الجزائر، مايو- يونيو 1983، [ص:37].
12) انظر مقال "موجة جديدة" ومقال "اللغة العربية في الجزائر عقيلة حرة .. " في هذا الجزء من الآثار.(3/27)
وكما نال أعوان فرنسا وآلاتها المسخرة لضرب الدين الإسلامي قسطهم من تشنيع الإمام الإبراهيمي؛ نال أعوانها في حرب اللغة العربية نصيبهم من هجومه، خاصة وأن كثيرًا من هؤلاء الأعوان من أدعياء الوطنية ومحتكريها.
وتناول الإمام في بعض هذه المقالات بعض المشاكل الاجتماعية بالجزائر كمسألة الزواج، والطلاق، وقضية اتحاد الأحزاب الجزائرية.
لقد حثَّ الإمامُ الشباب على الزواج ورغَّبَهم فيه، وحذَّر من مزاحمة المرأة الفرنسية للمرأة الجزائرية في هذا الأمر "فحذار أن يكون شبابنا فرائس هذا الاستعمار الضعيف القوي" (13)، لأن الزواج عنده أشرف خدمة للوطن "إنكم لا تخدمون وطنكم بأشرف من أن تتزوّجوا، فيصبح لكم عرض تدافعون عنه، وزوجات تحامون عنهم، وأولاد يوسعون الآمال، إن الزوجة والأولاد حبال تربط الوطني بوطنه وتزيد في إيمانه ... ولمَن تُخدم الأوطان، إذا لم يكن ذلك لحماية من على ظهرها من أولاد وحُرُم، ومَن في بطنها من رفات ورِمَم" (14). وتحدث عن الطلاق لا كما يتحدث عنه الفقهاء التقليديون. ودعا الإمام إلى التشدّد في إيقاع الطلاق لما ينجز عنه من مآسٍ، ويعقِّبُ على مبدإ "العصمة بيد الزوج" بأن "الإسلام لا يعطي هذه الحقوق أو هذه الامتيازات إلا المسلمَ الصحيح الإسلام القوي الإيمان ... أما إعطاء هذه الامتيازات إلى الجاهلين المتحللين من قيود الإسلام فهو لا يقل شناعة وسوء أثر عن إعطاء السلاح للمجانين ... إن العصمة امتياز لرجالكم، ما لم تطغوا فيه وتظلموا، فإذا طغيتهم فيه وجُرتم عن القصد، كما هي حالتكم اليوم، انتزعه منكم القضاء الإسلامي لو كان" (15).
أما مسألة اتحاد الأحزاب (16) الجزائرية لمواجهة الاستعمار الفرنسي فقد أبدأ الإمام فيها وأعاد، وقال فيها وأجاد، وسعى في سبيلها سعيًا كثيرًا، لأن ذلك الاتحاد هو المعقل الوحيد
__________
13) انظر مقال "الشبّان والزواج" في هذا الجزء من الآثار.
14) المرجع نفسه.
15) انظر مقال "الطلاق" في هذا الجزء من الآثار.
16) لا يعني الإمام في الحقيقة إلا حزبين هما حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وحزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية، أما الحزب الشيوعي الجزائري فلم يكن له تأثير على الشعب الجزائري، وذلك بسبب إلحاده، ولكثرة الأوروبيين فيه، ولتنكره للقضية الوطنية، حيث لم يكن يؤمن بالانفصال عن فرنسا، وكل ما كان يعمل له هو أن تتخلص الجزائر من الاستعمار الفرنسي الأزرق لترتمي في أحضان أخيه الاستعمار الفرنسي الأحمر. بل لقد دعا الشيوعيون الجزائريون- في فترة من تاريخهم- إلى إلحاق الجزائر بالاتحاد السوفياتي. وحول هذه النقطة انظر ما جاء في جريدة "النضال الاجتماعى" ( La lutte sociale) - الناطقة باسمهم- في عددها الصادر يوم 12 يناير 1923 في المقال المعنون « Que sera l'Algérie en 1950» ( ماذا ستكون الجزائر سنة 1950).(3/28)
للقضية الجزائرية، والوسيلة الوحيدة لنجاحها، ومن أجل ذلك توجّه إلى الشعب الجزائري ودعاه إلى حمل الأحزاب على الاتحاد.
وينبغي الإشارة هنا إلى ما يردّده بعض المغرضين من أن الإمام الإبراهيمي كان يوالي حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري؛ الذي كان في مواقفه بعضُ اللين تجاه فرنسا، ويناوئ حزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية الداعي إلى الانفصال عن فرنسا.
والحقيقة هي أنه ما كان الإبراهيمي "بيانيًا " ولا "انتصاريًا "، ولكنه كان يعتبر نفسه والجمعية التي يرأسها "فوق الأحزاب"، ليكونا حَكَمًا بينها، إن تنازعت في شيء أو اختلفت في شأن.
كان الإمام الإبراهيمي يعلم أن مواقف أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري من ثوابت الشعب الجزائري يشوبها بعض الضعف، وأن مواقفهم السياسية يطبعها بعض اللين، وكل ذلك بسبب الثقافة الفرنسية التي تلقّوها (17)، وكان يعلم- أيضا- أن فيهم كفاءات علمية، وطاقات فكرية كان الشعب الجزائري في أمسّ الحاجة إليها، فكان الإمام بين أمرين: إمّا أن يهمل تلك الكفاءات، ويفرط في تلك الطاقات فلا تستفيد الجزائر منها، وإمّا أن يعمل على كسبها، ويجتهد في أن يعيدها إلى شعبها، ويُنقذها من ضلالها، فتصير أكثر إيمانًا بثوابت شعبها، وأَصْلَب في مواقفها السياسية، وهذا ما فعله الإمام. إنّ مَثَلَه في ذلك كَمَثَل الطبيب الذي يغشى المواطن الموبوءة لعلاج الناس وإنقاذهم من الوباء الفاتك. وقد أثبتت الأيام حِكمة تصرّف الإمام، وسدادَ رأيه، إذ اعترف كثير من أعضاء ذلك الحزب بأخطائهم، وتراجعوا عن مواقفهم السياسية، وانضموا إلى الثورة التحريرية.
وتحدّث الإمام عن سياسة القمع والإرهاب الفرنسية في الجزائر، فكشف دسائسها، وصوَّر فضائعها، وفضح وسائلها، فتناول ذلك الدستور في وصفه بـ"الأعرج" الذي فُرِض على الشعب الجزائري، وسَخِر من ذلك "البرلمان" الأخرس، ومن أعضائه، إذ رفض أن يسمّيهم نوّابًا، "مادامت الانتخابات بِالعِصِيِّ"، وندَّد بتلك الحملات الوحشية التي كانت تُرْعِبُ الآمنين، وتبطش بالمستضعفين. وفي هذا الإطار تندرج تلك المقالات المُعَنْوَنة بـ"ويح المستضعفين- حَدِّثونا عن العدل فإننا نسيناه 1، 2، 3 - ويحهم ... أهي حملة حربية"، وهي مقالات لا يعلم كثير من الناس أنها كُتِبَت إثْر "الاعتقال للمئات من شباب
__________
17) الحقيقة هي أن بعض أعضاء "حزب الشعب الجزائري"، الذي صار يسمى "حركة انتصار الحريات الديمقراطية" كانوا هم أيضًا - وما يزالون- مُسْتَلَبين، ولم تكن نظرتهم إلى الدين الإسلامي واللغة العربية، والاستقلال الحضاري، أفضل من نظرة أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري.(3/29)
الأمة"، بعد اكتشاف مصالح الأمن الفرنسية- في مارس 1950 - المنظمة الخاصة ( l'organisation spéciale)، وهي منظمة سرية، أُنشئت سنة 1947، لتدريب الشبّان الجزائريين على الأعمال العسكرية، استعدادًا لإعلان الجها د من أجل تحرير البلاد.
وقد أنهى الإمام هذه المقالات بتأكيد ما دعا إليه سنة 1936 من "أن الحقوق التي أخذت اغتصابًا لا تسترجع إلا غلابًا " (18)، فقال مخاطبًا الشعب الجزائري: "إن القوم - الفرنسيين- لا يدينون إلا بالقوة، فاطلبها بأسبابها، وأْتِها من أبوابها، وأقوى أسبابها العلم، وأوسع أبوابها العمل، فخُذْهُما بقوة تَعِشْ حميدًا وتَمُتْ شهيدًا " (19).
إن الإمام الإبراهيمي ليس رجُلَ قطر مهما اتّسعت أرجاؤه، وليس رجُلَ إقليم مهما امتدّت أطرافه، ولكنه رجُل أمّة برَّحت به مِحَنُها، وصهرت جوانحه آلامها، وأمَضَّه هوانُها على الناس، فحمل أثقالها مع أثقال وطنه، فأجال فكره في قضاياها، وأسال قلمه في مشكلاتها، وعمل على أن يعيدها - كما شاء ربّها - {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. وكان لها في كل ما كتب وقال وعمل من الناصحين.
وكانت قضية القضايا عنده هي فلسطين، التي صَوَّرها فأحسن صُوَرها، وجادل عنها فأتقن الجدال، إذ دَبَّج عنها مقالات لم يُبْلِها تعاقبُ الأيام، وعَنَت لها أئمة الكلام، وأعْجَزَت حَمَلَة الأقلام، وخضعَتْ لها كَمَلَةُ الأحلام، فقد جاء فيها بما لم يأت الأوائل من بيان رائع، وبرهان ساطع، ودليل قاطع، حتى قال عنها الأستاذ فايز الصائغ- أستاذ الفلسفة بالجامعة الأمريكية ببيروت، إنه "لم يُكتَب مِثلُها من يوم جَرَت الأقلام في قضية فلسطين" (20).
لقد كانت تلك المقالات آية في صدق لهجتها، وعُمْق معاناة كاتبها، فلم تترك خائنًا إلا كَشَفَته، ولا جَبانًا إلّا عيَّرَتْهُ، ولا بَخيلًا إلا وبَّخَته، ولا مقصِّرًا إلا عنَّفَتْه، ولا متقاعسًا إلا وَخَزَتْه، ولا خاذلًا إلا فضَحَتْه.
لقد دفع الإمامَ إلى الاهتمام بالقضية الفلسطينية أمران أساسيان هما:
1 - إنها قضية دينية، ففلسطين هي أرض النبوّات التي لا إيمان لمن لا يؤمن بها، وهي موطن كثير من الرسُل الذين أُمِر المسلمون أن يؤمنوابهم جميعًا، وأن لايفرِّقوا بين
أحد منهم، وهي تضم ثالِث أقداس المسلمين، وهي قبلتُهم الأولى، والمستهدَفُ فيها - بَدْءًا وختامًا - هو الإسلام.
__________
18) انظر مقال "الإصلاح الديني لا يتم إلا بالإصلاح الاجتماعي" في الجزء الأول من هذه الآثار.
19) انظر مقال "ويحهم أهي حملة حربية"، [ص:379].
20) انظر مقال "كيف تشكلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين- 1" في الجزء الثاني من هذه الآثار.(3/30)
- إنها تشبه القضية الجزائرية، فاليهود يريدون استئصال الفلسطينيين من فلسطين، كما يريد الفرنسيون استئصال الجزائريين من الجزائر.
من أجل ذلك، لم يكتفِ الإمامُ الإبراهيمي في قضية فلسطين بالقول، ولكنه سارع إلى الفعل، فشكَّل هيئة عليا لإعانة فلسطين (21)، وتبرَّع لها بأنفس ما يملك العالِمُ، وهو مكتبته (22)، وخَرَج من مالٍ اقترضه، ليُؤْثِرَ به- رغم خصاصته- مَن جاءه يستعينه على السفر إلى فلسطين للجها د (23).
ويضم هذا الجزء مقالات تناولت شخصيات مدحًا أو قدحًا. والإمام الإبراهيمي عندما يمدح شخصًا لا يمدحه لذاته مهما علت منزلته، أو غلت قيمته، ومهما عظم جاهه أو كَثُر ماله، أو غزُر عِلْمُه، ولكنه يمدح ما يجسده ذلك الشخص من وفاء لمبادئ الإسلام، وجهادٍ في سبيلها، وولاءً للأوطان وسعي في تحريرها، وهو عندما يذم شخصًا لا يذمّه لذاته، ولكنه يذم فعاله، ويُقَبِّح خِلالَه من انعدام مروءة، وسفالة همة، وخيانة الإسلام، وولاء لأعدائه، وتنكّر للأوطان وسعي في إذلالها.
لقد أشاد بالإمام ابن باديس، وكيف لا يستحق الإكبار والتمجيد من "أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغِيَرُ، ودينًا لابَسَتْه المحدثات والبدَعُ، ولسانًا أكلته الرطانات الأجنبية، وتاريخًا غطّى عليه النسيان، ومجْدًا أشاعه ورثةُ السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب" (24)؛ وأشاد بالإمام محمد الطاهر بن عاشور، لأنه عَمِل لإصلاح "الزيتونة" التي أطفأ نُورها التقليدُ الأعمى، والكسلُ العقلي، والشلل الذهني، وسعى إلى إعادتها شجرة مباركة، يُضيءُ زيتُها، وتؤتي أكلها. ورَثَى "المنصف باي"، لأنه نَهَج لأمته نهْجَ الكرامة، وشرع لها سنن التضحية، وعلَّمَها "كيف تموت الأسود جوعًا وظمأ، ولا تطعمُ الأذى ولا تَرِد القذى". وأثْنَى على محمد خطاب، ذلك الرجل العصامي الذي أنفق من مال الله الذي آتاه، فبنى صروحًا للعلم، وشاد قلاعًا للدين، ولم يُلْهِه التكاثر في الأموال عن حقوق الأوطان. وانتصر للسلطان محمد الخامس في محنته، وفي الدفاع عن حقوق وطنه، لأنه أبَى أن يعطي الدنية في دينه، ورفض أن يكون عَبْدًا في صورة مَلِك ...
__________
21) انظر مقال "الهيئة العليا لإعانة فلسطين" في الجزء الثاني من هذه الآثار.
22) انظر مقال "أما عرب الشمال الافريقي" في هذا الجزء من الآثار.
23) شهد بذلك الأستاذ حمزة بوكوشة- رحمه الله- في مقاله "لحظات مع الشيخ البشير الإبراهيمي"، جريدة الشعب، عدد 2309، الجزائر، 21 مايو 1970.
24) انظر مقال "الرجال أعمال" في هذا الجزء من الآثار.(3/31)
أما الذين أساءوا بما علموا، فقد كان لهم الإمامُ بالمرصاد، ومنهم عبد الحي الكتّاني، الذي "هو مكيدة مدبَّرة، وفتنة محضَرَة .. " اتّخذه الاستعمار الفرنسي سُخْرِيًّا، يفرِّقُ به الصف، ويشتت به الرأي، ويوهن به العزم، ويُضِلُّ به عن سواء السبيل، ويسوق على يده الويل.
...
يقول الإمام الإبراهيمي:
لا نرتضي إمَامَنا في الصَّفِّ ... ما لم يكن أَمَامَنا في الصَّفِّ
وإن هذه المقالات تؤكد أن الإمامَ كان في مقدمة صفوف أمّته وشعبه، يقود أنصار الحق، ويضرب الأمثال للناس في الصدع بالحق، والثبات عليه، وعدم التفريط فيه مهما تكن الابتلاءات، وتتوالَ الامتحانات.
إن من أهمّ أسباب نجاح الإمام الإبراهيمي في أداء الأمانات الثقيلة التي حَمَلَها، ولم يَؤُدْه حِفْظُها، أنه لم يكن يسعى لدنيا يصيبها، أو لزعامة زائفة ينالها، ولكنه كان يجاهد في سبيل رفعة الإسلام، وفي سبيل استعادة سيادة الجزائر، وفي سبيل عزة المسلمين.
إن هناك "زعماء" ادّعوا الجهاد في سبيل تلك المبادئ، ولكن الأيام سرعان ما كشفتهم، وتبيّن أنهم يقولون فيها بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وظهر للناس أنهم ما كانوا يعملون إلا لتحقيق أغراض شخصية، ونيل مآرب آنية، بل إن منهم من قضى بقية حياته في حماية أعداء شعبه، ولذلك لفظهم الناس، وأهملهم التاريخ، فلم يُرفع لهم ذكر، ولم يكتب في فضلهم سطر، ولم يُخلَّد لهم اسم.
تمتاز هذه المقالات بالأسلوب الجميل، والمعنى الجليل، والهدف النبيل، والرأي الأصيل، وعمق التحليل، ودقة التعليل، فاستحقّت أن تُسَمَّى "عُيُونًا"، واستحقّ مُنْشِئُها أن يقال فيه:
قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل
وأن يقال أيضًا:
هيهات لا يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل
سمَّى الإمام الإبراهيمي هذه المقالات "عيون البصائر"، وإن لكلمة "العين" في لغة يعرب لَمَعانٍ كثيرة، منها: العين، نبع الماء، والماء هو مصدر الحياة، فكأن "عيون البصائر"(3/32)
"ماءً فكريًا"، تحيا به العقول، كما تحيا بالماء الحقول، وقد كانت عيون البصائر "ماءًا حيويًا" ضد "الأفكار الميتة" التي يشيعها الطرقيون والضُّلّال، وضد "الأفكار القاتلة" التي يبثّها أرباب "المَخابِر الفكرية" الفرنسية، وأتباعهم من "المسلمين".
والعين، هي آلة الإبصار التي تمنع المرء من الوقوع في المطبات، والاصطدام بالأشياء، وقد كانت هذه المقالات "عيونًا " أبصر بها الجزائريون طريقهم، ورأوا بها عدوَّهم، وأبصروا بها حقائق دينهم ودنياهم. والعين هو النفيس من كل شيء، وقد كانت هذه المقالات وستبقى من أنفس ما دَبَّجَتْه الأقلام، وأبدعته الأحلام، من معاني فحْلَة في عبارات جزلة.
وقديمًا قيل:
وقلَّما أبصرتْ عيناك ذا لَقَب ... إلا ومعناه- إن فكَّرْتَ- في لقبه
وإن صاحب هذه الآثار هو "محمد البشير طالب الإبراهيمي".
فـ"محمد"، اسم مفعول من "التحميد"، والإمام يستحق ذلك لعظيم فِعالِه، وجَليل خِلاله. و"البشير"، فقد كان الإمام بشيرًا لوطنه وقومه، زرع فيهم الأمل، ودعاهم إلى العمل، وأخرجهم من اليأس، وجعل لحياتهم هدفًا نبيلًا يسعون إلى تحقيقه، ويكدحون في سبيله. و"طالب"، وقد كان الإمام طالبَ حق لوطنه، وطالب كرامة لقومه، وطالب عز وسؤدد لأمته. و"الإبراهيمي"، وقد قَبَض الإمام قَبْضَةً من جهاد أبيه إبراهيم (25) - عليه السلام- ضد الشِّرْك والضلال، فعاش داعيًا إلى التوحيد، دالًّا على الله بآيات كتابه المسطور، وعجائب كتابه المنظور.
رحم الله الإمام الإبراهيمي، وجزاه عن جهاده الجزاء الأوفى، وجعلنا أهلًا لحمل تراثه.
محمد الهادي الحسني
البليدة (الجزائر)، 16 أفريل 1997.
__________
25) اقتباسًا من قوله تعالى: { .. مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} سورة الحج، الآية 78.(3/33)
مقدمة الطبعة الثانية من "عيون البصائر"
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 1 -
حين طلبت إليّ الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الإذن بإعادة طبع كتاب "عيون البصائر" لوالدي المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بعد أن نفدت طبعته الأولى واشتدّ الطلب عليه، متمنية عليّ أن أقدم لهذه الطبعة الثانية، وجدتني أمام هذا الموقف المزدوج: الموافقة على تجديد الطبع من نحو، والتردد في التقديم من نحو آخر.
وأملت أن أعهد بذلك إلى أحد الخُلّص من إخوانه الذين رافقوه على هذه الطريق الطويلة، أمد الله في أعمارهم، وشاركوه أعباءها والتقوا معه في كثير من أحداثها وكانوا معه إخوة جهاد ورفقة كفاح .. تهيبًا مني للحرج الذي سأشعر به حين أكتب عن والدي.
وقد وجدت في شخص الأستاذ محمد العيد أمير شعراء الجزائر- كما كان يحلو للشيخ أن يطلق عليه- الإنسان الذي تمنيت أن ينهض بهذا العبء. فقد كانت بينهما هذه الألفة الجامعة وهذه المودة المتمكنة وهذا التواصل المتصل .. وكان الأستاذ محمد العيد من أوائل الذين نذروا أنفسهم للإصلاح تعليمًا للناشئة، وتوعية للجماهير، وتسخيرًا لفنه الرفيع في سبيل الأهداف الوطنية الغالية. ونهض شعره بهذه المهمات النبيلة فكان نورًا للشعب يضيء جوانب الطريق وكان نارًا متأججة يحترق بها المستعمر.
- 2 -
ولكن الأستاذ الشيخ العيد غلب عليه طبعه الشعري وكأنما أثارت هذه المناسبة ذكرياته الطويلة فإذا هو يؤثر الشّعر على النثر، لأن "الموضوع متسع الأطراف متشعب الجوانب يستدعي بسطة في القول ومزيدًا من التحري والتدقيق في حياة فقيدنا الجليل وصديقي الوفي والدكم الكريم رحمه الله وأنعم عليه بمغفرته ورضاه. وعلمت يقينًا أنني أعجز عنه وأقف دون إتمامه. ولم أجد بدًّا(3/35)
من العدول عن النثر إلى الشعر الذي هجرني هجرًا غير جميل فاستعطفته واستنجدته وإذا به يبضّ للخاطر الكليل بهذا القدر الضئيل. وهو على ضآلته ما كنت أظن أنني أظفر بمثله وقد بعثته إليكم، لتروا فيه رأيكم، فإن كان عندكم صالحًا كما أردتم فذلكم ما تقر به عيني وينشرح به صدري، وإن كان دونه أو بخلافه فحسبي أني بذلت فيه قصارى الجهد وحاولت أن أبلغ فيه غاية القصد" (1).
- 3 -
أمام هذا، كان عليّ أن أتناول الحديث ولكن وجدتني أتهيب ذلك مرة أخرى من نحو آخر وأتساءل في ما بيني وبين نفسي هل في وسع الإنسان أن يكتب عن أقرب الناس إليه وأمتّهم رحمًا به وأشدهم تواصلًا معه؛ هل في وسع الإنسان أن يكتب عن والده؛ وما عساه أن يقول عنه وعن آثاره؛ ألا يجد أنه في موقف حرج يصعب أن يتفاداه؛
كانت حراجة الموقف لا تنبع من سعة الموضوع، ولكنها تكمن في أننا نخشى أن تغلب علينا ذاتيتنا وأن تستبد بنا محبّتنا وأن يحول التقدير الأبوي بيننا وبين موضوعية الحديث، أو على النقيض أن يكون الإسراف في التحرر من الذاتية ونشدان الموضوعية سبيلًا إلى تغييب بعض الحقائق أو السكوت عنها أو الاجتزاء بطرف منها دون طرف، إيثارًا للتواضع وبعدًا عن الإشادة في مواجهة هذا الموقف الذي يشبه الإبرة الممغنطة في اتجاه أحد قطبيها إلى الشمال واتجاه الآخر إلى الجنوب وعودتها إليهما كلما زحزحت عنهما. أوشكت أن أنتهي إلى أن أترك هذه الطبعة الجديدة من غير مقدمة نثرية، ووجدت في القصيدة الشعرية وفي الرسائل التي يعدها بعض طلبة الدراسات العليا ما يجلو شخصية الشيخ وسيرته في حياته وأسلوبه.
- 4 -
إنه عسير عليّ أن أعطي هذه المجموعة مكانها من سير البيان العربي .. ذلك أن الذين كانوا يقرأونها في المشرق والمغرب كانوا يواجهون أسلوبًا هو أشد ما تكون الأساليب رصانة وأقوى ما تكون جزالة وأقدر ما تكون على التفنن في المعالجة .. كان له من المشارقة صفاء البيان ومن المغاربة منطقية العرض وكان من أسلوب القرآن الكريم- تنوعًا وأصالة- استمداده واستلها مه.
إن هذه المقالات لا تصور الشيخ في أبعاده كلها. ويحتاج الدارس الأدبي إلى أن يصطنع قدرًا كبيرًا من التخيل حتى يستطيع أن يستكمل تقديرها حق قدرها .. فقد كتبت في ظروف صعبة شديدة الصعوبة كان فيها للاستعمار عيون مبثوثة وسيوف مصلتة وقدرة على الشر تخطيطًا وتنفيذًا .. ولكن هذا لم يحجب نصاعة الأسلوب ولا وضوح القضايا ولا براعة العرض.
__________
1) من رسالة خاصة قدم بها للقصيدة.(3/36)
- 5 -
إن بعض قيمة هذه المقالات أنها أرادت تأكيد معنى أساسي كان أبرز المعاني الجوهرية في حركة الإصلاح وفي حركة الثورة .. ذلك هو الرجوع إلى الأصالة: الدفاع عن دين الجزائر ولغتها وشخصيتها، وتثبيت ذلك في نفوس الأجيال الجزائرية التي كانت في المعركة أو التي كانت في الظل .. التي كانت تخوض المعركة ضد الاستعمار والتي كانت تتأهب لخوضها.
- 6 -
ثم هي استمدت من الإسلام، روحه وعقيدته ونظامه، صفتها الكلية .. ولذلك فإنها لم تقتصر على الجزائر وإنما تجاوزتها إلى أكثر أقطار العالم الإسلامي التي كانت تكتوي بنار الاستعمار وتنزل بها نوازله .. فقد كتب عن تونس والمغرب، وكتب عن فلسطين سلسلة المقالات التي يقرأها الإنسان العربي الآن فيحس كأنما هي ابنة اليوم بهذا الذي صاحبها من صفاء وبعد نظر وعمق معاناة .. إنها تبدو بنت الأحداث في الستينات كما كانت بنت الأحداث في الأربعينات. لأن صاحبها تجاوز الجزئيات العارضة فيها إلى المشكلة الكبرى، واستبان له، في وضوح البصيرة، الأبعاد التي كانت تخفى آنذاك على الكثيرين.
ومثل ذلك ما كتب عن اليمن تحت حكم الأئمة، وما كتب في مواجهة الاستعمار أو في التهكم على عملائه أو في كشف عوراته وفضح نياته.
- 7 -
إننا في العادة نتطلع إلى هذه الطائفة من رجالنا وعلمائنا الذين قادوا حركة الإصلاح وقدحوا شرارات الثورة الأولى وضمنوا لشعلة الثورة زيتها ووقودها من إيمان الشعب ومن اندفاعه ومن مشاركته الكاملة، على أنهم أبرز ما في التاريخ الجزائري الحديث .. ومن المؤكد أن شيئًا من ذلك لم يكن ليتوافر لهم لولا معنى الصمود الذي كان يملأ حياتهم .. إنهم لم يبدأوا المعركة ليتخلوا عنها وإنما بدأوها ليتابعوها بهذا العزم والتصميم واعتبار الاستشهاد غاية النصر .. ولذلك شُرّد منهم من شُرّد وقتل من قتل وأوذي من أوذي بدون أن يرهب عدوًا أو يلين لغاصب أو يخضع لتهديد أو وعيد .. وقد كان الشيخ رحمه الله أحد هؤلاء الذين شردوا وأوذوا وهددوا فما لانت له قناة .. وظل يجوب الجزائر طولًا وعرضًا، مثيرًا ومحركًا للجماهير ومصلحًا ومقربًا بين القادة، وداعيًا إلى التآخي الذي يهدر الجزئيات والذاتيات في سبيل الهدف الكبير .. وكان العلم هو المشعل الذي حرص على أن يتقد في كل مدينة، وإصلاح النفس هو الذي يجب أن يخالط كل جزائري، ونظافة المجتمع من الخرافات والبدع والضلالات التي(3/37)
كان يغذيها الاستعمار أو يشجعها، هي التي يجب أن تسود كل بيئة جزائرية.
- 8 -
ما أكثر ما ترددت في سياقة هذا الحديث، وما أكثر ما قاد التردد إلى إغفال جوانب منه لم يحن بعد أوان الحديث عنها. لقد قصدت إلى أن يكون حديثًا مجردًا من غير ذكر للأحداث ولا تسجيل للمواقف .. وأحسبني لا أخالف ذلك إذا أنا أشرت إشارة خاطفة إلى الجانب الذاتي الإنساني من حياة الشيخ رحمه الله .. فقد كان أحلى ما عنده وأيسره أن يجاوز ذاته في سبيل رغبات إخوانه وكان يؤثر أصدقاءه وتلامذته بما يختارون، لا وفاء لهم فحسب بل ولاء كذلك للفكرة التي كانت تجمعه بهم .. ما أغضى عن يد امتدت إليه، ولا أشاح بوجه عن طالب عرف ولا ضن بجاه أو جهد على مستجير، ولا برأي على مستشير ولا بعون لصاحب حاجة .. كان إذا أعوزه الأمر استدان ليفك ضائقة إخوانه، وكان يتابع حاجات الناس ومشاكلهم حتى تقضى أو تحل من غير غفلة ولا نسيان.
- 9 -
لقد آثرت أن أتجاوز عن كثير من النقاط حرصًا على موضوعية هذه الكلمة أو مغالاة في هذا الحرص. إن ذلك يجرد الكلمة من جوها العاطفي الذي كان يجب أن يخالطها وأن يغلّفها، ويحجب كثيرًا من الجوانب التي كان عليها جلاؤها من حياة الشيخ ويسكت عن جوانب أخرى، ويوجز غيرها .. إن هذه الكلمة ليست إلا وقفة قصيرة ومجردة .. لم أنظر فيها بعين الابن، ولا بعين الرفيق في بعض مراحل العمر، ولا بالعين التي ينظر بها الطالب والمريد إلى الأستاذ والرائد .. وإنما نظرت بعين هذا الجيل إلى واحد ممن كانوا في مقام القيادة منه: القيادة الروحية والقيادة الفكرية على السواء.
- 10 -
وبعد، فمن الخير أن أفسح لقصيدة الشاعر الكبير الأستاذ محمد العيد حفظه الله. وأتوجه إلى الله العلي القدير أن يوفقنا ويسدد خطانا على الطريق المستقيم، إنه سميع مجيب.
الجزائر في 21 ماي 1970
أحمد طالب الإبراهيمي
وزير التربية الوطنية(3/38)
مشاعل حكمة
قصيدة الشاعر الكبير الأستاذ الشيخ محمد العيد آل خليفة التي كتبها كمقدمة للطبعة الثانية من "عيون البصائر".
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب لمن أملاه بالعلم يشهد ... يطالعنا بالعود والعود أحمد
يتوجه باسم الإله وحمده ... نصير لمن يدعو إليه مؤيد
"عيون " بها تجلو «البصائر» نورها ... علينا كما يجلو الكواكب مرصد
تجلى بها نور الهداية فاجتلى ... بها هدف الإصلاح من هو أرمد
وأطلعها فكر "البشير" بأفقه ... فما هي إلا أنجم تتوقد
ولا أدَّعي أني أقدم سفره ... فذلك شأو عن بياني يبعد
أراه اكتفى عن كل حلى بذاته ... فأغناه عن حلى جمال مجرد
وكنت بشعري "للبشير" مواكبا ... على سمعه في موكب العلم أنشد
وقد يسمع البيت البليغ فينتشي ... وقد يسمع البيت المسفَّ فينقد
وما هو إلا كاتب ثاقب الحجى ... ورائد فكر مصلح ومجدد
جرى حبره في الصحف كالبحر زاخرا ... بغيرته للحق يرغي ويزبد
روائعه أرض الجزائر مهدها ... ولكن لها في أرض عبقر مولد
لقد رئس الأعلام مجدًا وسؤددا ... وهل كان كالعرفان مجد وسؤدد
وكان منارًا للعقول ومعلما ... يشير إلى تحريرها ويمهد
ينادي إلى حرية الفكر لاهجًا ... بها، منكرًا ما يدعي المتقيد
له قلم إن رام دفع الأذى به ... فرمح رديني وسيف مهند
وإن رام إذكاء العقول فمشعل ... وإن رام إرواء القلوب فمورد
وإن رام وصفًا فهو أجمل ريشة ... لأبرع رسام على الفن تُسعد(3/39)
وإن رام جدًا فهو صور مجلجل ... رهيب يقيم الهازلين ويقعد
وإن رام مزحًا فهو للقلب بلسم ... من الهم شاف للشقاء مبدد
وإن رام إرهاف الشعور بفنه ... فعود به يشدى ولحن يردد
لقد كان للفصحى أباها وأمها ... ومرجعها إن ندّ أو شذ مغرد
وكان صديقًا لابن باديس مخلصًا ... وصاحب شوراه الذي لايفنَّد
وقام جديرًا بالرئاسة بعده ... قديرًا عليها فضله ليس يجحد
فيا لهما من فرقدين بأفقنا ... أنارا وغارا فرقد ثم فرقد
سلام على الأعلام ما طاب ذكرهم ... وآثارهم في العلم والعلم يخلد
لقد زرعوا زرعًا فأخرج شطأه ... كأخصب محصول لمن هب يحصد
وأبقوه للأجيال ذخرًا مباركًا ... وزادًا من الذكرى لمن يتزود
وأقبل جيل بعدهم غرس ثورة ... عصامية يرجو النمو ويَنشُد
ويبني على أرض الجزائر أمة ... مثالية في وعيها ويشيّد
شباب تبارى دارسًا ومدرسا ... بميدان مجد أيهم فيه أمجد
يشد على الفصحى يدًا ويمدها ... يدا باللغات النافعات ويسند
فيا فتية الجيل الجديد إلى العلى ... إلى العلم فامضوا كلكم وتجندوا
أرى غدنا المرجو تُلقى فروضه ... عليكم وآمال الجزائر تعقد
وهذا كتاب فيه تبصرة لكم ... وتوعية مُثلى وقول مسدد
نصوص معانيها ينابيع فُجّرت ... لكم ومبانيها كؤوس تُنضَّد
خذوها وصايامن حكيم مُجرّب ... تمنى عليكم أن تسودوا وترشدوا
وأملى عليكم مُنفِسات من المنى ... كعهد فمن منكم بها يتعهد؛
تمنى عليكم أن تكونوا وعاتها ... وأكفاءها أو لا تكونوا وتوجدوا
وغاب وأبقاها مشاعل حكمة ... فقودوا بها الركبان تهدوا وتهتدوا
بسكرة، 2 ربيع الأول 1390هـ الموافق 7 ماي 1970م.
محمد العيد آل خليفة(3/40)
إستهلال *
اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ نَبْتَدِي، وبِهَدْيِكِ نَهْتَدِي، وَبِكَ يَا مُعِينُ، نَسْتَرْشِدُ وَنَسْتَعِينُ، وَنَسْأَلُكَ أَنْ تُكَحِّلَ بِنُورِ الْحَقِّ بَصَائِرَنَا، وَأَنْ تَجْعَلَ إِلَى رِضَاكَ مَصَائِرَنَا، نَحْمَدُكَ عَلَى أَنْ سَدَّدْتَ فِي خِدْمَةِ دِينِكَ خُطُوَاتِنَا، وَثَبَّتَّ عَلَى صِرَاطِ الْحَقِّ أَقْدَامَنَا.
وَنُصَلِّي وَنُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّكَ الَّذِي دَعَا إِلَيْكَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَتَوَلَّاكَ فَكُنْتَ وَلِيَّهُ وَنَصِيرَهُ، وَعَلَى آلِهِ الْمُتَّبِعِينَ لِسُنَّتِهِ، وَأَصْحَابِهِ الْمُبَيِّنِينَ لِشَرِيعَتِهِ.
اللَّهُمَّ يَا نَاصِرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ انْصُرْنَا، وَخُذْ بِنَوَاصِينَا إِلَى الْحَقِّ، وَاجْعَل لَّنَا فِي كُلِّ غَاشِيَةٍ مِنَ الْفِتْنَةِ رِدْءًا مَنَ السَّكِينَةِ، وَفِي كُلِّ دَاهِمَةٍ مِنَ الْبَلَاءِ دِرْعًا مِنَ الصَّبْرِ، وَفِي كُلِّ دَاجِيَّةٍ مِنَ الشَّكِّ عِلْمًا مِنَ الْيَقِينِ، وَفِي كُلِّ نَازِلَةٍ مِنَ الْفَزَعِ وَاقِيَّةً مِنَ الثَّبَاتِ، وَفِي كُلِّ نَاجِمَةٍ مِنَ الضَّلَالِ نُورًا مِنَ الْهِدَايَةِ، وَمَعَ كُلِّ طَائِفٍ مِنَ الْهَوَى رَادِعًا مِنَ الْعَقْلِ. وَفِي كُلِّ عَارِضٍ مِنَ الشُّبْهَةِ لَائِحًا مِنَ الْبُرْهَانِ، وَفِي كُلِّ مُلِمَّةٍ مِنَ الْعَجْزِ بَاعِثًا مِنَ النَّشَاطِ، وَفِي كُلِّ مَجْهَلَةٍ مِنَ الْبَاطِلِ مَعَالِمَ مِنَ الْحَقِّ الْيَقِينِ، وَمَعَ كُلِّ فِرْعَوْنَ مِنَ الطُّغَاةِ الْمُسْتَبِدِّينَ مُوسَى مِنَ الْحُمَاةِ الْمُقَاوِمِينَ.
*ــــــــــــــــــــــــــ*ــــــــــــــــــــــــــ*
وهذه جريدة «البصائر» تعود إلى الظهور بعد احتجاب طال أمدُه، وكما تعود الشمسُ إلى الإشراق بعد التغيب، وتعود الشجرة إلى الإيراق بعد التسلب، فلا يكون اعتكارُ الظلام، وإن جلل الأفقَ بسواده، إلا معنًى من معاني التشويق إلى الشمس، ولا يكون صر الشتاء،
__________
* نشرت في العدد 1 من جريدة «البصائر»، 25 جويلية سنة 1947.(3/41)
وإن أعرَى الأشجار باشتداده، إلا خزنًا لقوة الحياة في الأشجار، والشمس موجودة، وإن غابت عن نصف الكون، والشجرة حية، وإن أفقدها الصرّ جمالَ اللون، كذلك صحيفة «البصائر»، احتجبتْ صورتها عن العيان، وإن كانت حيةً في النفوس، ممثلة في الأفكار، وإن في احتجابها لصُنعًا إلهيًّا، يدركه أيقاظ الشواعر، وأحياء الضمائر، وهو إذكاءُ الشوق إليها، فقد كان الشوق إليها يتجدد في أخريات كل أسبوع، فتطفئه قعقعة البريد، واتصالُ المراد بالمريد، فأصبح الشوق إليها- بعد احتجابها- يتجدد في كل يوم.
ولقد اشتدّ شوقُ العالم الإصلاحي إلى جريدته، واتصل حنينه، وطال انتظاره، وأصبح - لتعلقه بها- يوجه العتابَ القاسي إلى المسؤولين عنها. لأنه كان يرى فيها مددًا من النصرة وفيضًا من القوة، وكانت أعدادُها تحمل إليه حقائقَ الدين الإسلامي، ونفحات البيان العربي، وكان يرى من مقالاتها صواعق مرسلةً على المبتدعة والظالمين، ويجدُ في قراءتها سلوةَ الظاعن وأنسَ المقيم.
إن «البصائر» في حقيقتها فكرةٌ استولت على العقول، فكانت عقيدةً مشدودةَ العقد ببرهان القرآن، ثم فاضت على أسلات الألسنة فكانت كلامًا مشرقَ الجوانب بنور الحكمة، ثم جاشت على أسنة الأقلام، فكانت كتابةً في صحيفة، والذي تعطل من «البصائر» إنما هو المظهر الأخير من مظاهرها، وما كان للظلم وإن مَدّ مده، وجهد جهدَه، ولا للحوادث وإن بلغت الغايةَ من الشدة أن تنال من العقائد نيلًا، وإنما تصيب الألسنة بالسكات إلى حين، وتبتلي الأقلامَ بالتحطيم إلى أوان، وإن الصحف في لسان العرف كالصحائف في لسان الدين، منها صحائف الأبرار، وصحائف الفجار، لذلك كان من حظ الأولى الابتلاءُ بالتعطيل والتعويق.
...
جريدة «البصائر» هي أحد الألسنة الأربعة الصامتة لجمعية العلماء، تلك الألسنة التي كانت تفيض بالحكمة الإلهية المستمدة من كلام الله وكلام رسوله، والتي كانت ترمي بالشرَر على المبطلين والمعطلين، وكانت كلما أغمد الظلمُ لسانًا منها سل الحق لسانًا لا ينثلم ولا ينبو، وتلك هي: السنة، والشريعة، والصراط، والبصائر: أسماءٌ ألهم القرآنُ استعمالها، وفصَّلت القرائح الملتهبة، والأقلام المسددة إجمالها، وصدق واقعُ العيان فالها، وما زالت جمعية العلماء تتلمح العواملَ الإلهيةَ في كل ما تأتي وما تذر، وتستند على الإلهامات الربانية حتى في أسماء صُحفها، ولا مكذبةَ فما أخطأها التوفيق ولا مرة.
وإذا كُتبَ للصُحف الثلاث الأولى أن تستشهدَ في المعترَك، وهي في ميعة الصبا، مقبلةً غيرَ مدبرة، لم تخِس بأمانة، ولم تُزَنّ بخيانة، فقد قدر "للبصائر" أن تعمر وأن تحتك بالزمن(3/42)
وأحداثه سنين، فكمُلت الخبرة واستحكمت التجربة، وكان تعطيلها لأوائل هذه الحرب مثلًا شرودًا في الحفاظ والإباء، ومنقبةً بكرًا في الكبرياء والعزة، ذلك أنه لما تجهَّمت الأيام، وتنكرت الأحداثُ، واستبهمت المسالك، ولوّح لها أن تجريَ على ما يراد منها، لا على ما تريد، قالت ما قالته الزباءُ قبلها "بيدي لا بيد عمرو"، وخار الله للقائمين عليها في ذلك التعطيل، كما خار لهم من قبل في تقرير السكوت (1)، ولعمري ان التعطيل لخيرٌ من نشر الأباطيل.
إذ "تقرير السكوت" من غرر أعمال جمعية العلماء، ومن آرائها التي تشظَّتْ عنها صدَفةُ الحكمة، ومن شواردها التي لا تضاد إلا ببعد النظر، فقد وقاها ذلك التقرير مزالقَ لا يتلاقى فيها رضا الله برضا المخلوق، ولقد كانت الجمعية تعلمُ أن القوةَ التي تستطيع الإسكاتَ لا تستطيع الإنطاق، ولأنْ يسكتَ العاقل مختارًا، في وقت يحسن السكوت فيه، خير من أن ينطق مختارًا في وقت لا يحسن الكلام فيه، وكل نَطْقة تمليها الظروف لا الضمائر تثمر سكتةً عن الحق، ما من ذلك بدّ.
ألا إن فرسانَ الكلام والأقلام، كفرسان النزال والعراك في كثير من الخصائص، وكما أنّ الكمي المعلم يضيق بالفاقة ذَرعه، فتهون عليه بيضته ودرعه، وهيهات أن يهون عليه سيفه ورمحه، لأن وظيفة البيضة والدرع أن يحفظا على الكميّ في ساعة الروعْ مهجته، وهي أهونُ مفقود في تلك الساعة. أما وظيفة السيف والرمح فهي الإنكاءُ في العدو، والإنكاء في العدو هو الغاية التي تنتهي إليها شجاعة الشجاع. كذلك حملةُ الألسنة والأقلام يجبُ أن يكونوا، ليحققوا التشبيه الذي تواطأت عليه آداب الأمم، فلتأتهم المصائب من كل صوب، ولتنزل عليهم الضرورات من كل سماء، وليخرجوا من كل شيء إلا من شيئين: القلم واللسان ... إن بيع القلم واللسان أقبحُ من بيع الجنديّ لسلاحه.
إن جمعية العلماء حين قررت السكوتَ حافظت على هذين ولم تتسامح في تسخيرهما لأحد، وتركت أحداثَ الدهر تعملُ عملها، على أنها ما سكتتْ عن درس ديني أو علمي، ولا عن نصيحة رشيدة، ولا عن موعظة حسنة، وإنما قررت السكوتَ عن كل ما يقال لها فيه: قولي.
__________
1) لما أعلنت الحرب العالمية الأخيرة اجتمع أعضاء المجلس الإداري لجمعية العلماء ليقرروا ما يلزم لمستقبل الجمعية احتياطًا لأنهم خشوا أن تمنعهم التدبيرات العسكرية من الاجتماع واللقاء في أثناء الحرب فيكون كل عضو محبوسًا في بلدته وربما كلف كل عضو بتصريح أو بإبداء رأي لا يتفق مع مبادئ الجمعية، فاتفقوا على تقرير السكوت سدًّا للباب بمعنى أن كل من سئل وحده أو كلف بشيء مما يرجع إلى الجمعية سكت ولم يجب بشيء.(3/43)
ولقد جاذبني أطرافَ هذه القضية في الأشهر الأولى من بداية الحرب كبير من رجال الحكم، كان يضم يديه على سلطة واسعة، مدنية وعسكرية، وألحّ عليّ، في صراحة- أن أخرج من الصمت إلى الكلام باسمي أو باسم الجمعية- (وهو يعني سكوتًا خاصًّا وكلامًا خاصًّا) فقلت له من كلام طويل: إننا كنا في السلم نتكلم فيُقلقُكم كلامُنا، وإننا سكتنا في الحرب فأقلقكم سكوتنا، ففي أيّ موضع نكون بين هذين؛ وتنبه ضميره الإنساني عند سماع هذا الكلام فلمحتُ عليه آثارَ الاقتناع، ولكن ضميره العسكري أبى عليه إلا أن يجرِيَ بالمسألة إلى آخر الشوط.
وإن الإنصاف ليتقاضاني- وقد مرت على المحاورة سبعُ سنين- أن أذكر له لطفَ الحديث وأدبَ الخطاب وتمجيد الصراحة، ولا أحاسبه على الضمير العسكري، لأنني أعلم أن الاستعمار يشرك بين الأقوياء والضعفاء في إفساد الضمائر.
...
هذا فصل قصير تحكيه «البصائر» من تاريخ حياتها الأولى ومن حسن الختام لتلك الحياة، فخورةً مزهوةً بأنها بذَّتْ أخواتها الشهيدات بما جلتْ من محاسن الإسلام والعربية، وبما جاهدتْ في سبيلهما، وبما مهدتْ للإصلاح الديني من عقبات، وبما لقيت في صراع الاستعماريْن الروحي والبدني من مكاره، وبما حوته حقيبتها من ذخائر العبر والتجاربب، وبما قدمتْ من صالحات لحياتها الثانية.
...
كنا نعلم مبلغ تشوّف الأمة إلى جريدتها، وكنا معها نعلل النفسَ بالآمال، فلما أحيينا سنةَ الاجتماعات العامة السنوية في السنة الماضية أعلنا للأمة وعدًا بإصدار «البصائر» أولًا، و"الشهاب" ثانيًا، وضربنا لذلك موعدًا محدودًا قدرناه بإعداد العدد اللازمة.
فتهللت أسرّةُ السامعين، وطفح البشرُ على وجوههم، وتنوقلت الأحاديث بتلك البشرى في القطر كله، فانتعشت الآمال، وجليت الأقلام التي علاها الصدأ من طول ما أغمدت، وما كنا حين وعدنا بهازلين ولا معللين، وإنما كانت دواعي الرجاء عندنا غالبة، وقوة التصميم والحزم فينا متوفرة، وما تجلت لنا الحقائق من أول مرحلة، وهي الحصول على الرخصة، إلا بعدَ أن شرعنا في إعداد العدة لإنجاز الوعد، فكذبتنا الظنون، واعترضتنا المعاكسات القانونية، ولما ألغي اشتراط الرخصة أبقت بعدها ما يقوم مقامها في التعسير والإرهاق، وهو الورق الذي لا يعطى إلا (برخصة) فحاولنا الحصولَ عليه ولكن بغير جدوى،(3/44)
ثم جاءت ثالثة الأثافي، وهي المطبعة، وفي هذه المحاولات التي حاولناها بحرص ونشاط انقضت سنة كاملة، ومن العبث أن نطيلَ القولَ فيها، وأن نعيدَ الحديثَ عنها والتشكي منها.
...
ها إن نومة «البصائر» - على طولها- أصبحتْ كإغفاءة المهموم في قصرها وفائدتها بفضل الصبر والأناة، وها هي ذي عادت إلى الحياة، ووخزتها الخضرة من جوانبها، فسلوها كيف تركت جمعية العلماء وكيف وجدتها؛ وسلوها حين فتحت عينيها عن الوجود الثانى، ماذا عرفتْ وماذا أنكرتْ من الناس والأحوال؛
أما عن الناس وأحوالهم فقد عرفتْ هذا الشعورَ الفياضَ من الأحياء المستضعفين بحقهم في الحياة، وهذا الإصرارَ الدائبَ على المطالبة به، وهذا المنطقَ الحكيمَ الذي يترجم تلك المطالبة، وهذا البغضَ المتأججَ للاستعمار وحماته، والاستعباد ودعاته، وهذا الإجماعَ المنعقدَ بين الضعفاء على الأخذ بتلابيب الأقوياء، حتى يؤدوا الحق إلى طلابه، كأن الضعف رحمٌ شابكة بينهم، فهم يتباروْن في وصلها والبر بها، إلى كيت وكيت مما أيقظته المصائب بعد همود، وأذكتْ نارَه الحوادث بعد خمود، وكان ليد الله فيه الأثر الذي لا ينكر.
وأنكرتْ هذا الجفاف الذي انتهى بعواطف الأقوياء إلى درجة التحجر، وهذا التنمر الحيواني الذي يظهره الاستعمار ليخيف به الفرائسَ حتى تسكنَ إلى حين، وهذه الديمقراطية الزائفة التي اتخذها أدعياؤها حبالة صيد، ووسيلة كيد. ولاكوها بألسنة مقطوعة الصلة بالقلوب، وأصبحت في أفواههم كالعلك يمضَغ ولا يزدرد، وهذا النفاقَ السياسي الذي غطى على فضيلة الصراحة، فلم يصفُ معه ضمير، ولم يصدق معه لسان، ولم تثبت عليه ثقة، وهذه الأساليب الإدارية العوجاء التي فضحها الحق فما زادت في مقاومته على أن فضحتْ نفسها، وأنكرتْ- آخرَ ما أنكرت- هذا الجو القاتم الذي منع الراحةَ والهدوءَ، وسلب السكونَ والاطمئنان، وبعث القلقَ والاضطراب إلى هنات وهنات، أسخفها معاملة الإدارة الجزائرية لجريدة «البصائر». فقد مرت سنةٌ و «البصائر» تطالب بحقها في الحياة، وحظها من الورق، ولم تحصُل بعدَ هذا الزمن الطويل على طائل.
هذا بعض ما عرفت «البصائر» وأنكرتْ من الناس وأحوالهم؛ فأما جمعية العلماء وكيف كانت وكيف هي الآن، وما هي مواقفها في مبادئها وما يمس مبادئها، فهي الميادين التي حَييتْ جريدة «البصائر» لاقتحامها، فانتظروا فستُجلّي لكم الحقائق كما هي، وستفضح المخبآت التي كثر فيها لغط اللاغطين، وستكشف الدعاوى الزائفةَ التي تجري بها ألسنة المضللين.(3/45)
من الحقائق العريانة *
في هذا الوطن الجزائري شعبٌ عربيٌّ مسلم، ذو ميراث روحاني عريق، وهو الإسلام وآدابه وأخلاقه، وذو ميراث مادي شاده أسلافه لحفظ ذلك التراث، وهو المساجد بهياكلها وأوقافها، وذو نظام قضائيّ مصلحي، لحفظ تكوينه العائلي والاجتماعي؛ وذو منظومة من الفضائل العربية الشرقية منتقلة بالإرث الطبيعي من الأصول السامية، إلى الفروع النامية، لحفظ خصائصه الجنسية من التحلل والإدغام، وذو لسان وسع وحي الله، وخلد حكمة الفطرة، وجرى بالشعر والفن، وحوى سرّ البيان، وجلا مكنونات الفكر، ثم خدم العلم، وسجل التاريخ، وشاد الحضارة، ووضح معالم التشريع، وحدا بركب الإنسانية حينًا فأطرَب.
حافظ هذا الشعب على هذا التراث قرونًا تزيد على العشرة، وغالبته حوادثُ الدهر عليه فلم تغلبه، وما كان هذا الشعب بدْعًا في الاحتفاظ بهذه المقوّمات الطبيعية؛ بل كل شعوب الدنيا قائمة على أمثال هذه المقوّمات، لا يستنزلها عنها إلا من يريد أن يهضمها (1) قبل الأكل، ليهضمها (2) بعد الأكل؛ كما يفعل وعاظ الاستعمار، ومشعوذو السياسة، لتخدير الأمم المستضعفة، فيقبحون لها العنصرية، وهم من حماتها، ويزهدونها في الجنسية، وهم من دعاتها.
جاء الاستعمارُ الفرنسي إلى هذا الوطن، كما تجيء الأمراضُ الوافدة، تحمل الموتَ وأسباب الموت، فوجد هذه المقوّمات راسخةَ الأصول، نامية الفروع، على نسبة من
__________
* نشرت في العدد 1 من جريدة «البصائر»، 25 جويلية سنة 1947.
1) من الهضيمة التي هي الكلم.
2) من هضم الأكل المعروف.(3/46)
زمنها، فتعهد في الظاهر باحترامها، والمحافظة عليها، وقطع قادته وأئمته العهودَ على أنفسهم وعلى دولتهم ليكونُنَّ الحامين للموجود المشهود من عقائد ومعابد وعوائد، ولكنهم عملوا في الباطن على محوها بالتدريج، وتمّ لهم- على طول الزمن بالقوة وبطرائق من التضليل والتغفيل- جزءٌ مما أرادوا؛ والاستعمارُ سلٌّ يحارب أسبابَ المناعة في الجسم الصحيح؛ وهو في هذا الوطن قد أدار قوانينه على نسْخ الأحكام الإسلامية، وعبث بحرمة المعابد، وحارب الإيمانَ بالإلحاد، والفضائلَ بحماية الرذائل، والتعليمَ بإفشاء الأمية، والبيانَ العربي بهذه البلبلة التي لا يستقيم معها تعبير ولا تفكير.
ومهما يكنْ نجاحُ الاستعمار في هذا الباب فما هو بالنجاح الذي يشرّفُ فرنسا، أو يمجد تاريخها، بعد أن أبقى جروحًا دامية في نفوس المسلمين، وبعد أن كان من نتائجه هذا الجو المتغير الذي يتمنى له كل عاقل الصفاءَ والإشراق، وهذه الحالةَ المحزنة التي يود كل منصف أن تزولَ، وأن يخلفها طور سرور واطمئنان.
...
لبثت عواملُ الاستعمار تهدم من هيكل الإسلام ولا تبني، وترمي المقوّمات الإسلامية والخصائصَ العربية في كل يوم بفاقرة من المسخ، إلى أن تكونت جمعيةُ العلماء المسلمين الجزائريين منذ خمسةَ عشرَ عامًا، تكونًا طبيعيها كأنه نتيجة لازمة لتلك الحالة، وقامت تعمل لإصلاح الإسلام بين المسلمين، وللمطالبة بحقوقه المغصوبة، وبحرية لغته المسْلوبة، وسمع الاستعمارُ لأول مرة في حياته بهذه الديار، نغمةً جديدةً لم تألفها أذُناه، تدعو إلى الحق، في قوّة، وتطالب بالإنصاف في منطق؛ وأحسّ دبيبَ الحياة والشعور في الجسم الإسلامي؛ فلم ينظر إلى ذلك كله على أنه حق طبيعي معقول، ضاع بين حيلة المحتال، وغفلة الغافل، في وقت؛ فمن المعقول أن يرجعَ إلى نصابه بين إنصاف المنصف، وحزم الحازم، في وقت آخر؛ ولكنه نظر إلى ذلك على أنه شذوذ في قاعدة، وخرق لإجماع، وتطاوُلٌ من عبد على مالك؛ ورتب على مقدّمات الدعوة الإصلاحية نتائجَ لا ترتبط بها؛ فقاومها ونصب المكايد للعلماء العاملين، وبثّ المصائد للمغرورين والمذبذبين، وكان ما كان، ولكنّ ذلك كله لم يزد حركةَ الإصلاح إلا تغلغلاً في الأمة، ولم يزد الأمةَ إلا قوةَ شعور بحقها المهضوم؛ فتعالت الأصوات من كل ناحية وتداعى طلابُ الإصلاح في كل ميدان؛ ولو أن الاستعمارَ كان فقيهًا في سنن الله في الأمم والطبائع لأنصفَ الأمم من نفسه فاستراح وأراح، ولعلم أن عين المظلوم، كعين الاستعمار، كلتاهما يقظة.
***(3/47)
كانت جمعية العلماء تقوم في كل مناسبة- كتبديل الجهاز الإداريّ هنا أو الجهاز الحكوميّ الأعلى في باريز، وفي اجتماعاتها العامة، وفي مقابلاتها لرجال الحكومة- باحتجاجات عن المعاملات الشاذة التي يعامل بها الإسلام في داره، وتعامل بها العربية في موطنها، وكانت تقوم بتظلمات وبيانات، ولكنها كانت تقابل دائمًا بالسكوت والإهمال، إلى أن كان شهر أغسطس من سنة 1944، وكانت الحكومة الفرنسية (3) إذ ذاك ممثلةً هنا بالجزائر فقدمت الجمعية مطالبها بصورة أوضحَ وأصرحَ من جميع ما تقدّمها في كراسة مفصّلة (4)، تشتمل على مطالب الأمة في التعليم العربيّ، وفي المساجد وأوقافها، وفي القضاء الإسلامي وإصلاحه، وقد لقيتْ تلك المطالب ما لقيه ما قبلها من سكوت وإهمال.
...
واليوم وقد عادت جريدة الجمعية إلى الظهور، وجب أن نحمل العددَ الأولَ على وجه التذكير خلاصةً من مواقف جمعية العلماء ومن مطالبها التي هي مطالب الأمة العربية الجزائرية، في أعزّ عزيز عليها، وهو دينها ولغتها.
وإنّ ما نقدمه هنا هو صورة من الحقيقة والواقع، وتصويرٌ لما تعانيه هذه الأمة من افتئات عليها، واستخفاف بمقدراتها، وإذا وُجد في ما نكتبه تنديد مرّ، فإن سوء المعاملة والتصامّ عن سماع صوت الحق هو الذي أملاه علينا.
التعليم العربي ...
اللغة العربية هي لغة الإسلام الرسمية، ومن ثمّ فهي لغة المسلمين الدينيةُ الرسمية، ولهذه اللغة على الأمة الجزائرية حقان أكيدان، كل منهما يقتضي وجوبَ تعلمها، فكيف إذا اجتمعا، حق من حيث انها لُغةُ دين الأمة، بحكم أنّ الأمة مسلمة، وحق من حيث إنها لغة جنسها، بحكم أن الأمة عربية الجنس؛ ففي المحافظة عليها محافظةٌ على جنسية ودين معًا، ومن هنا نشأ ما نراه من حرص متأصّل في هذه الأمة على تعلم العربية، وما نشهده من مطالبة إجماعية بحرّية تعليمها، وما نشاهده من قلق واضطراب في أوساط الأمة لموقف الحكومة المخجل من اللغة العربية، وما نراه من سخط عميق على القرارات والقوانين التي تعرقل تعليمها، وذلك كله لأنها مفتاحُ الدين، أو جزءٌ من الدين.
__________
3) الحكومة الفرنسية في الجزائر: هي حكومة فرنسا الحرة برئاسة الجنرال دوغول.
4) نُشرت في الجزء الثاني من آثار الإمام، [ص:138 - 146].(3/48)
وجمعية العلماء التي تعد أشرفَ أعمالها تعليمَ العربية، قد أقامت خمسة عشر عامًا تطالب في غير ملل بحرية التعليم العربي الذي هو أساسُ التعليم الديني، وما زالت تصارع العوارض الحائلةَ، وهي عوارض القرارات الإدارية، والقوانين الموضوعة لخنق العربية وقتلها؛ وما زالت الجمعية تنكر تلك القرارات وتقول عنها في صراحة: إنها قراراتٌ جائرة أنتجتها ظروف خالية من الرحمة ومن الكياسة، وأملتها أفكار خالية من الحكمة والسداد، وبواعثُ من الغرض والهوى؛ يؤيد ذلك كله وحيٌ من شيطان الاستعمار المريد، فجاءت في مجموعها لا تستند على منطق ولا نظر سديد، وإنما تستند على القوة أولاً، وعلى الحيلة ثانيًا، وعلى العنصرية البغيضة ثالثًا.
إن جمعية العلماء، باسم الأمة الجزائرية المسلمة عمومًا، تطالب الحكومة الجزائرية (3) الاستعمارية- في إلحاح- بإلغاء جميع القرارات القديمة المتعلقة بالتعليم العربيّ، واستبدال قانون موحد عادل بها، لا يكون من طرف واحد، كالقرارات القديمة، بل يكون للأمة رأيٌ فيه، ولجمعية العلماء اشتراك في وضعه، ويكون واضحَ الدلالة، بيِّنَ المقاصد، صريحَ المعاني، لا إبهام فيه ولا غموض.
وجمعية العلماء ترى أن التعليمَ العربي الذي تسعى لحريته وترقيته هو جزء من التعليم العام الذي هو وسيلة التثقيف، والتثقيف هو أشرف مقاصد الحكومات الرشيدة، وإن الحكومات الرشيدة لتلتمس المعونةَ على تثقيف شعوبها من كل من يستطيعه من جمعيات وأفراد، وتبذُل لهم من التنشيط والتيسير ما يحقق ذلك، فما بالُ الحكومة الجزائرية الاستعمارية تعاكسُ وتضَع العراقيلَ في طريق التثقيف مع أنها عاجزة- باعترافها- عن تعميمه ونشره؛
أليست تلك المعاكسات كلها لأن التعليم عربى إسلامي؛
أليست النتيجة المنطقية أن تلك المعاكسات كلها حرب على الإسلام والعربية؛
بلى ... وإن ذلك لهو الحق الذي لا تغطيه مجاملات الخطب، ولا تزويق الألفاظ ولا أكاذيب رجال الحكومة، إن جمعية العلماء تشكوُ مر الشكوى من تلك القرارات بأجمعها، وتستنكر بنوع خاصّ ذلك القرار المتضمن لإيجاب الرخصة على المعلم، لأن هذا القرارَ إن سهل تنفيذُه في عمل شخصيّ، كمعلم، في مكتب، فإنه لا يسهُلُ العملُ به على جمعية عظيمة، تدير عشرات المدارس وتُشرف على مئات المعلمين، لأنها قد تنقل معلمًا في كل يوم، وقد ينفصل عنها معلمٌ في كل يوم وقد يموت. ففي تكليفها العملَ بهذا القرار تكليف بما لا يُطاق ولا يتم معه عمل.
__________
5) الحكومة الجزائرية: هي الولاية العامة الفرنسية في الجزائر.(3/49)
وقد يتأتى للحكومة أن تقول: إن عملية الرخصة بسيطة، وما هي إلا طلب وإيجاب، وقد امتحنا هذا القولَ فوجدْنا الحكومة تيسّر على من رضيتْ عنه، وتعسّرُ على المغضوب عليهم، وتدخل بهم في بحر من الإجراءات لا ساحلَ له، حتى ييأسَ الآمل، ويفتر العامل.
إن الحكومة التي لا يعجزُها أن توجد للحق ضرائرَ من الباطل، ولا يعجزُها أن تثيرَ الغبارَ في وجوه العاملين للخير، ولا يعجزُها أن تمنعَ المسلمَ من الحج- لانتسابه إلى جمعية العلماء أو لمشرَبه السياسي- لا يعجزُها أن تجعلَ من طلب الرخصة وسيلةً للمنع.
وجمعية العلماء تستنكر كذلك هذا التجاهلَ الممقوت من الإدارات الحكومية، للعلاقات الوثيقة بين المدارس والجمعية، وللإشراف الفعلي من الجمعية على المدارس، بل للتأسيس العملي من الجمعية لكثير من المدارس، تطبيقًا للفصل السادس من قانونها، فالحكومة تتجاهل كل هذا ولا تريد أن تفهمه ولا أن تعترف به؛ يدل على ذلك ما وقع من التعطيل لمدرستي "بني منصور" و "سيدي عيسى" من عمالة (6) الجزائر، ولمدرستيْ "قايس" و "عزّابة" من عمالة قسنطينة، وكل ذلك وقع في هذه الأيام، أيام الجمهورية الرابعة، والتفاصيل عند الإدارة، وما المظلوم فيها بأعلم من الظالم.
والحقيقة التي يجب أن تفهمها الحكومة، هي أن المدارسَ التي تشرف عليها جمعية العلماء وحدةٌ لا تتجزأ، والجمعية هي المسؤولة عن جميعها من حيث التعليم؛ فمن حسن الذوق، إن لم يكن من حسن النظام، أن تعتبرَها الحكومة على حقيقتها، فإذا حدث ما يوجب تدخلها، خاطبتْ في ذلك الجمعيةَ، لا المعلمَ ولا الجمعيةَ المحلية.
وخلاصة رأي جمعية العلماء في التعليم العربي، أنه أصبح ضرورةً من ضرورات الأمة، وأن القرارات المتعلقةَ به كلها ترمي إلى التضييق عليه وقتله، وأن تنفيذها موكول إلى عمال يتولونه بالغرض والهوَى، وقد كثرتْ هذه القرارات وملحقاتها وشروحها. حتى أنسى آخرها أولها؛ وأن الحكومة قد تشككت عن تنفيذها لمكيدة، ولكنها تبقى كالأسلحة المدسوسة لوقت الحاجة، وأن الأمة فهمت هذا فأصبحتْ لا تثق بوعد، ولا تطمئن إلى سكوت، حتى تلغى هذه القرارات، وتتلاقى الأمة والحكومة على قرار واحد معقول، لا ينفرد بوضعه عقل واحد بل عقول.
... والصحافة العربية
لا تزال آثار ذلك القرار "الشّوطاني" (7) باديةً في معاملة الصحافة العربية واعتبار لغتها أجنبيةً
__________
6) عَمالَة: مُحافَظة- وِلاية.
7) شوطان أحد رؤساء الوزارات الفرنسية وأحد أقطاب الاستعمار وهو الذي أصدر قانونًا بمرسوم يصرح باعتبار العربية لغة أجنبية في الجزائر.(3/50)
في وطنها، ولا تزال الأمةُ العربيةُ الجزائرية تنكره وتتحداه، فهل آن الأوان لإلغائه والتنفيس على الصحافة وإعطائها حقوقها الطبيعية، وهل آن للإنصاف أنْ يلامسَ هذه الأفكارَ الرجعيةَ؛
والنوادي ...
إن جمعية العلماء ترى أن النواديَ الإسلاميةَ التي تؤسسها، أو تشرف عليها، هي وسط جامع، بين المدرسة وبين الجامع، لأن هناك طائفة عظيمة من شباب الأمة لا تجدُ الجمعية وسيلةَ لتبليغه دعوة الدين والعلم إلا في تلك النوادي، وإن وضعية النوادي تعتمد على دخل ماليّ خاصّ من المشروبات المباحة التي تباع فيها، فكان من حلقات تلك السلسلة الموضوعة لتطويق التعليم العربي من جميع نواحيه، ذلك القرار الغريبُ الذي يمنعُ بيعَ المشروبات المباحة في النوادي، ونتيجته هي إفقار النوادي من روّادها، لعدم ما يجذبهم إليها، وما يحببهم فيها، وجمعية العلماء تعد ذلك القرارَ في غايته ملحقًا بالقرارات الموضوعة للتضييق على التعليم العربي.
... والمساجد وأوقافها
ابتلاع أوقاف المسلمين، والاستيلاءُ على مساجدهم، وإحالةُ بعضها كنائس ومتاحف ومستودعات، كل ذلك من أصول الاستعمار، وكل ذلك وقع في القطر الجزائري، واحتكارُ التصرف في المساجد والسيطرةُ على موظفيها أسلوبٌ من أساليب الإدارة الجزائرية، حافظتْ عليه في جميع عهودها لمعانٍ معلومة، ومقاصدَ مفهومة، وكلّ ما كتب في عهد الاحتلال من عهود، وكل ما بذل بعد ذلك من وعود، فهو شيء يكذّبه الواقع.
وفصل الدين عن الحكومة مبدأ جمهوري فرنسي، ولكنه من أكذب المبادئ بالنسبة إلى دين الإسلام في الجزائر، فما زالت الإدارة الجزائرية في جميع عهودها متمسكة بما أوْرثها الاستعمار من مساجدنا أكثرَ وأشدّ من تمسك المتديّن بدينه، لا تبالي بحقوق طبيعية، ولا بمبادئ جمهورية، ولا بمفارقات دينية، ولا بعواطفَ إنسانية، ولا سبب لهذا الإمعان في التسلط والاحتكار إلا استضعاف المسلمين واحتقارهم، وإلا فما بالُ هذه الحكومة لم تتسلطْ على معابد اليهود، ولا نقول عن معابد المسيحيين، لأننا لسنا ممن يعتقد (لائكية) الحكومة الجزائرية الاستعمارية.
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين باسم الأمة الجزائرية تريد بكل توكيد فصلَ الدين الإسلامي عن الحكومة، تحقيقًا للمبدإ الجمهوري وتسوية بين الأديان الثلاثة المتجاورة في الوطن الذي لو تساوَى أهله في حرية الأديان، وفي حرية الحياة، لكان أسعدَ الأوطان بأهله، ولكان أهله أسعد الناس به.(3/51)
تريد الأمة فصلَ الدين عن الحكومة فصلًا حقيقيها واقعيًّا لا مواربة فيه ولا تعمية ولا تضليل، وأن تنفضَ الحكومة يدَها من الدين الإسلامي، وتبرئ ذمتها من أوقافه، فتسوّي مع ممثلي الأمة الذين تختارهم هي، لا الحكومة، مسألةَ الأوقاف، بالعدل والإنصاف، وتُسلم لهم المساجد تسليمًا مطلقًا، ليتصرفوا فيها تصرفًا مطلقًا، بحيث لا تتدخل لهم بعد الآن في تعيين إمام ولا غيره، ولا في ما يستحقونه من جراية ولا في تكوين جمعية دينية.
وأن تتركَ الحكومة هذه المناورات التي طالما رأيناها سابقًا، وما زلنا نراها، من التفاهم مع شخص في مسألة خطيرة كهذه، أو اختيار هيئة من دون استشارة الأمة ولا رضاها، وإن أقرب هذه المناورات الحركةُ القائمة في هذه الأيام لتأسيس جمعيات دينية من الموظفين الرسميين، والأشخاص الحكوميين، الذين لا تثق بهم الأمة، ولا تطمئن إليهم في دينها ولا في دنياها.
إن الأمة الإسلامية ترى أن المساجدَ والأوقافَ هما مسألة واحدة لا يمكن الفصل بينهما، كالشخص وظله، وإن الأمة لا ترضَى أن تستلم مساجدَها فقيرةً عريانة، ولا ترضَى أن يتولى المفاوضةَ عنها شخص أو هيئة تختارها الحكومة، ولا جمعيات دينية تكوّنها الحكومة؛ وتعد ذلك كله من باب نزع الشيء من اليد اليمنى، ووضعه في اليسرى، وإن الأمة أصبحتْ يقظةً حذرة من هذه المناورات، متفطنة لمراميها، لا تؤخذ في دينها بالخدَع.
لا ترضى الأمة إلا بأن تختار هي الجمعيات الدينيةَ، بعيدةً عن المؤثرات الحكومية؛ وأن تنتخبَ تلك الجمعياتُ مجلسًا إسلاميًّا يتولى تسويةَ الأوقاف ويُولي وَيعزل، ويتصرف بعيدًا من المؤثرات الحكومية أيضًا، ولا يستمد قوّته إلا من المؤتمر السنوي للجمعيات الدينية.
إن الأمة أصبحتْ لا تثق بشيء مما تمسه يد الحكومة من كل ما له علاقة بالدين، ولا سببَ لسوء الظن بالحكومة، وارتفاع الثقة بها إلا الحكومة نفسها، بسياستها الدينية المضطربة وتدخلها في ما لا يعنيها من شؤون الدين، وإصرارها على العناد في الحق، وتحدّيها لشعور الأمة؛ باختيارها من الحلول أبعدَها عن رضا الأمة، وفي الأخير بفرضها على الأمة طائفةً لا تبالي بمصلحة الأمة، كأن الأمة بعلمائها وعقلائها ودهمائها كلها سفيهة، ولا رشيد إلا هذه الفئة من المرتزقة الانتفاعيين.
في السنة الماضية قرأت الأمة منشورَ الوالي العام المؤرخ بيوم 22 مارس سنة 1946 وفي أوله ما ترجمته بالحرف: "إن فصل الدين عن الدولة حسب القانون الذي نفذ على الجزائر سنتي 1905 و 1907 لم يمكن إلى يومنا هذا تطبيقه بدقة، وأهم سبب لهذا هو أن المسلمين أنفسهم تباطأوا في أمر الجمعيات الدينية التي نص على وجوبها القانون، فهم لم يؤسسوا في الكثير من الجهات جمعيات دينية، ولم يعملوا عملًا منظمًا في الجمعيات التي وقع تأسيسها، إلخ".(3/52)
قرأت الأمة هذا فعجبتْ كيف يتهَم المسلمون بأنهم السببُ في تأخر فصل الدين عن الحكومة مع أن ذلك القانونَ الذي ذكره المنشور قيّد في حينه بقيد من حديد، وهو قرار تفويض التصرف في المساجد إلى الوالي العام لمدة معينة، ثم ما زالت تتجدد.
وعجب المسلمون كيف يتهمون بالتراخي في تأسيس الجمعيات الدينية، وهم يرَوْن أن ما أسس منها بقيَ بلا عمل، حتى قتله الملل، لأن السيد "البريفي" (8) يولي ويعزل، ويتصرف بإرادته، بدون توقف على الجمعيات الدينية، فماذا تصنع هذه الجمعيات؛ إنها إذا أرادتْ أن تعملَ عملًا لا يرضي حاكمًا بسيطًا، خلق لها ضرّةً من جمعية أخرى، فإذا طالبتْ إحداهما بشيء قيلَ لها إنكما اثنتان فاتفقا، ومحالٌ أن تتفقا.
ثم قرأت الأمة في آخر المنشور أمرَ السلطات الحكومية بأن تدفع الناس إلى تأسيس الجمعيات الدينية، وأن يوقظوا الجمعيات النائمة، إلخ.
لماذا لم يوجهْ هذا الأمر إلى الأمة مباشرة، وتضمنُ لها الحريةُ التامةُ والأمان من تدخل الحكومة.
ثم قرأت الأمة صورةَ عقد رسمي وُزّع على جميع الإدارات ليُمضيه حاكم البلدة المسيحي ورئيس جمعيتها الدينية المسلم، وفيه العجب العجاب، من بواعث القلق والاضطراب.
ومنذ سنتين تقريبًا تأسست إدارة الإصلاحات، ولكنها إلى الآن لم تصلح شيئًا في دين ولا دنيا، وما زادت إلا أنها أقامت الدليلَ على أنها بنتُ إدارة الشؤون الأهلية، ورثتْ عن أمها كل خصائصها، ولم تخالفها إلا في الاسم.
وفي هذه السنة رأت الأمة أن أعوان الحكومة من أوربيين آمرين، وأهليين مؤتمرين، منهمكون جميعهم في تكوين جمعيات دينية في كثير من البلدان، فما معنى هذا؛ معناه واضح مكشوف عند الأمة وغايته معروفة.
لو جرى هذا وما أشبهه في مسألة من مسائل الدنيا، لفهمت الأمة أنه أسلوب من أساليب الحكومة الاستعمارية، تعذر فيه لأنها حكومة، ولكنه يجري في مسألة دينية، لا رأيَ فيها إلا لصاحب الحق وهو الأمة.
إن هذه الحيل أصبحت مكشوفة، وإنها شواهد على سوء النية، وإن الأمة أصبحت على بيّنة من هذه المهازل، فلا تنام عن حق ولا تسكت عنه، وإن الأمة الإسلامية الجزائرية لا ترضى ببقاء الحالة على ما هي عليه، ولا ترضى بشيء من هذه الحلول التي تدبر في الظلام، ولا يرضيها إلا فصل صريح، تعلنه الحكومة في وضوح، وتترك المجالَ الحر للأمة لتنظم جمعياتها وتؤلف مجلسها الديني بحرية، ثم تتقدم للمحاسبة والاستلام.
__________
8) البريفي: كلمة فرنسية معناها المحافظ- الوالي.(3/53)
جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها *
- 1 -
لجمعية العلماء أعمال ومواقف؛ لها أعمال في الميدان الديني، لا يتطرق إليها التبديل والتغيير؛ لأن المرجع فيها إلى نصوص الدين من كتاب الله، وصحيح السنة وإجماع السلف.
ولها أعمال في ميدان التعليم العربي، لا يعتريها الفتور والتخاذل، ولا النكوص والتراجع؛ لأن الدافع إليها طبيعي وحيوي، والجمعية في هذين الميدانين إمام لا يقلد، وقائدٌ لا يستوحي، وحارسٌ لا يؤامر ولا يستشير.
ولها في الحياة السياسية والاجتماعية للأمة الجزائرية آراء محصتها التجربة، وأيدها المنطق؛ ومواقف لم تراع فيها إلا المصلحة المحققة أو الراجحة، ولم تبال في مواقفها بمن طار ولا بمن وقع؛ فالطائر قد تصدمه نواميس الخفة والثقل، فينقلب مضعضعًا أو مكسورًا، والواقع قد تزعجه الحوادث فيتحرك مختارًا أو مقهورًا.
ولجمعية العلماء أضداد في أعمالها، يقصرون جهودَهم على التنقيص منها، والزّراية بها؛ وخصومٌ في مواقفها، يلوون ألسنتهم بانتقادها واتهامها، ويُشيعون عليها قالة السوء والعيب؛ وأعداءٌ يقفون لها بالمرصاد في كلا الميدانين، فلا تعمل عملًا إلا تقوّلوا، ولا تقفُ موقفًا إلا تغوّلوا، وقد تجمع الغايةُ بين هؤلاء جميعًا، فيتكون منهم مزيج غريب، يجمعه قولك "أعداء العروبة والإسلام ". نسميهم بهذا على رغم أنوفهم، لأن أعمالهم وأقوالهم شاهدة عليهم بذلك.
__________
* نشرت في العدد 2 من جريدة «البصائر»، 1 أوت سنة 1947.(3/54)
من أعداء الجمعية الاستعمار وأنصاره وصنائعه، يعادونها لأنها وقفت بينهم وبين الأمة سدًّا، وفضحت سرائرهم في ما يبيتون للإسلام والعربية من كيد.
ومن خصومها رجال الأحزاب السياسية من قومنا من أفراد وأحزاب، يضادونها كلما جروا مع الأهواء فلم توافقهم، وكلما أرادوا احتكار الزعامة في الأمة فلم تسمح لهم، وكلما طلبوا تأييد الجمعية لهم في الصغائر- كالانتخابات- فلم تستجب لهم، وكلما هاموا بالشعريات والخيالات، فردتهم إلى الحقائق، وكلما أرادوا تضليل الأمة وابتزاز أموالها فعارضتهم.
الواقع أن جمعية العلماء لم تزل في نزاع وصراع مع هؤلاء جميعًا، وأن محل هذا النزاع وهدف هذا الصراع هو الأمة الجزائرية، فالجمعية تريدُها أمةً عربيةً مسلمةً كما هو قسمها في القدر، وحظها في التاريخ، وحقها في الإرث، وحقيقتها في الواقع والمصطلح- تريدها كذلك، وتعمل لتحقيق ذلك؛ والاستعمار يريدها هيكلًا لا تترابط أجزاؤه، ولا تتماسك أعضاؤه، يوجه وجهه إلى الغرب، ويمكن في أفكاره لأهواء الغرب، وفي لسانه لرطانات الغرب؛ بل يريد الاستعمار أن يقتلع جذور هذه الأمة من تربة، ويغرسها في تربة، فتأتي مضعوفة هزيلة، لا من هذه ولا من هذه.
ورجال السياسة من قومنا يريدونها متبوَّأ لزعامتهم المزعومة، وسيادتهم الموهومة، فيعللونها بالأباطيل، ويروضونها على التصفيق والتهليل، ويسوسونها بطرقية سياسية، لا تختلف عن تلك الطرقية الدينية- التي حاربناها حتى قتلناها- في كثير ولا قليل.
...
هذه هي الحقيقة طال عليها الكتمان حتى شابتها شوائب من الباطل، وأحاطت بها شبهات من الظنون الخاطئة، ولو كان هذا التشويه للحقائق مقصورًا علينا، ودائرًا في المدار الضيق من مجتمعاتنا، لهان الأمر؛ ولكن رياح الإعلان حملته إلى ما وراء الحدود، وأوصلته إلى إخوان لنا يسوءنا أن يفهمونا على غير حقيقتنا، وأوترتها في آذان يسوءنا أن تسمع عنا غير الحق، ويسوءنا بعد ذلك كله أن يبنى تاريخ نهضة الجزائر بغير أحجاره.
إن جمعية العلماء لا يخرجها عن وقارها لغو اللاغين، فتجاريهم في الدعوى والإعلان، ولكنها تفخر بأعمالها ومواقفها ولا تقول إلا حقًّا.
وإن «البصائر» بعد هذا السكوت الطويل يسرها أن تسجل للجمعية غرر أعمالها للإسلام والعروبة والجزائر، ومواقفها المشرفة لها ولهذه الثلاثة.(3/55)
عملها في توجيه الأمة:
لا تستطيع هيئة من الهيئات العاملة لخير الجزائر أن تتعلق بغبار جمعية العلماء في هذا المضمار، أو تدعي أن لها يدًا مثل يدها في توجيه الأمة الجزائرية للصالحات، وتربيتها التربية العقلية والروحية المثمرة، ورياضتها على الفضيلة الشرقية الإسلامية، وتصحيح نظرتها للحياة، ووزنها للرجال، وتقديرها للأعمال.
كل ذلك من اختصاصات جمعية العلماء، وكل ما تم منه فهو من صنع يدها، لا فضل فيه لأحد سواها، وأوّل يد بيضاء لها في هذا الباب تحرير العقول من الأوهام والضلالات في الدين والدنيا، وتحرير النفوس من تأليه الأهواء والرجال، وإن تحرير العقول لأساسٌ لتحرير الأبدان، وأصْلٌ له، ومحال أن يتحرّر بدَنٌ يحمل عقلًا عبدًا.
إن هذا النوع من التحرير لا يقوم به، ولا يقوَى عليه، إلا العلماء الربانيون المصلحون، فهو أثر طبيعي للإصلاح الديني الذي اضطلعت بحمله جمعية العلماء، عرف ذلك من عرَفه لها إنصافًا، وأنكره من أنكره عنادًا وحسدًا. فما زادها اعتراف المعترف إلا نشاطًا، وما زادها جحودُ الجاحد إلا حزمًا وثباتًا.
بذلك التحرير العقلي الذي أساسه توحيدُ الله، تمكنت الجمعية من توحيد الميول المختلفة، والمشارب المتباينة. والنزعات المتضاربة.
وبذلك التحرير أيقظت في الأمة قوة التمييز بين الصالح من الرجال والصحيح من المبادئ، وبين الطالح والزائف منهما.
وبذلك التحرير أراحت الأمة من أصنام كانت تتعبدها باسم الدين أو باسم السياسة. وبذلك التحرير زرعت البذرة الأولى لما يسمى الرأي العام في الجزائر، وتكوُّن الرأي العام بمعناه الصحيح هو بلوغ الرشد بالنسبة إلى الجماعات.
إن الأمة الجزائرية، كغيرها من الأمم الإسلامية، ما سقطت في هذه الهوّة السحيقة من الانحطاط إلا حين فقدت القيادة الرشيدة في الدين، تلك القيادة التي هي قبس من شعلة الوحي، وشعبة من قوة النبوّة، والتي تنبثق عنها جماعات المسلمين، حينما يضرب الفساد والنخر في أصول مجتمعهم.
فإذا وجدت الأمة هذه القيادة التي لا يسفهُ في يدها زمام، ولا تضطرب مقادة، وجدت نفسها، ومن وجد نفسه وجد الحقيقة.(3/56)
عملها للعروبة:
ها هنا معاقد الفخار لجمعية العلماء، وها هنا معارج الصعود إلى التي لا فوقها، وها هنا تنمحي الغضاضة من المدح، فيكون تقريرًا من الحقيقة لنفسها، لا مدحًا من مادح؛ وإذا ملأت جمعية العلماء ماضيها فخرًا، وهزَّت أعطافها تيهًا، فلا حرج في ذلك.
دع الطنطنة لعشاق المظاهر والتهاويل، ودع الأصداء الفارغة تجب نفسها، ودع الدعوى للمتشبعين بما ليس فيهم، وهات الحقيقة التي لا تدحض، والحجة التي لا تنقض.
إن العروبة جذم بشري من أرسخها عرقًا، وأطيبها عذقًا، عرفه التاريخ باديًا وحاضرًا، وعرف فيه الحكمة والنبوّة، وعرفته الفطرة لأول عهودها فتبنَّتْهُ صغيرًا وحالفته كبيرًا.
وإن العربية هي لسان العروبة، الناطق بأمجادها، الناشر لمفاخرها وحكمها؛ فكل مدع للعروبة فشاهده لسانه، وكل معتز بالعروبة فهو ذليل، إلا أن تمده هذه المضغة اللينةُ بالنصر والتأييد، فلينظر أدعياء العروبة، الذين لا يديرون ألسنتهم على بيانها، ولا يديرون أفكارهم على حكمتها، في أي منزلة يضعون أنفسهم.
إن الشعب الجزائري فرع باسق من تلك الدوحة الفينانة وزهرة عبقة من تلك الروضة الغناء، عَدَت عليه عوادي الدهر، فنسي مجد العروبة، ولكنه لم ينس أبوتها، وابتلاه الاستعمار- عن قصد- بالبلبلة، فانحرفت فيه الحروف عن مخارجها إلا الضاد؛ ولم يبق من العروبة مع هذا وذاك إلا سماتٌ وشمائل، ولا من العربية إلا آيات ومخائل. وجاءت جمعية العلماء، على عبوس من الدهر، وتنكر من الأقوياء، فنفخت من روح العروبة في تلك الأنساب، فإذا هي صريحة، وسكبت من سر البيان العربي في تلك الألسنة، فإذا هي فصيحة، وأجالت الأقلام في كشف تلك الكنوز فإذا هي ناصعةٌ بيضاء لم يزدها تقادم الزمان إلا جدة.
جمعية العلماء هي التي حققت للجزائري نسبه العربي الصريح، بريئًا من شوائب الإقراف والهجنة، وأحيت في نفسه شعور الاعتزاز بنفسه، وفي لسانه شعور الكرامة للغته، وفي ضميره شعور الارتباط بين المقومات الثلاثة: الجنس واللغة والوطن، يمدّها الشرق بسناه، ويغذّيها الإسلام بروحانيته.
وجمعية العلماء هي التي أثبتت للاستعمار أن الدماء البربرية التي مازجت الدم العربي أصبحت عربية بحكم الإسلام، وبحكم العمومة والخؤولة الممتدتين في سلسلة من الزمن، ذرعها ثلاثة عشر قرنًا، مزاجٌ فطري، أحكمت القدرة تداخل أجزائه، والتحامٌ نسبي وصل التاريخ أطرافه مرتين ..(3/57)
كأن الجزيرة العربية أم رؤوم لهذا الشمال، تعدّه فلذةً من كبدها، فهي تعطف عليه وتحن إليه، وتجعل منه مراوح لِقَيْظها، وضفافًا لفيضها، حنت إليه في حقبة غابرة من التاريخ، فرمته بقبائل يمانين، من بنيها الميامين، ينقلون إليه الدماء والخصائص، والمكارم والمفاخر، وحنت إليه بعد الإسلام، فأوفدت إليه الغر البهاليل من أصحاب محمد، يحملون الرحمة والسلام والبيان، ويفتحون الأذهان والعقول والأفكار؛ وما كانت غارة هلال بن عامر في المائة الخامسة للهجرة- على ما فيها من الهنات- إلا تلقيحًا لتلك الدماء التي أثَّرت فيها مؤثرات الهواء والتربة، وطول الثواء والغربة، وعمل فيها تداول الأمم الفاتحة، وتعاقبُ الدِّلاء الماتحة.
هذا بعض ما قدمته جمعية العلماء للعروبة من صنائع لهذا الوطن، تفخر به من غير منّ، وتجود به من غير ضنّ، ولولا الحياءُ لقالت أكثر من ذلك، ولَتَحَدَّتْ كل العاملين في الشرق العربي لرفعة العربية وإعلاء شأنها بين اللغات، بأنها عملت لها أكثر مما عملوا، عملوا لها وهم أحرار آمنون، في بلد لسانه وجنسه عربيان وحاكمه ومحكومه عربيَّان، وعملنا لها تحت زمجرة الاستعمار ودمدمة أنصاره، وأنقذناها من بين أنيابه وأظفاره.
رفعنا منارها في وطن لم يبقِ الاستعمار من عروبته إلا "اسم الجنس"، يضربه مثلًا للدناءة والخسة وللجهل والانحطاط، ولم يبق من عربيته إلا "اسم الفعل" يجعله رمزًا للبذاءة والسباب والشتم.
وفي أمة أشاع الاستعمار في جوانبها جاهليةً بلا مكارم، وأميةً بلا شعر، وفي جيل مخضرم مفتون، أعرضهم في العروبة دعوى هو أكبرُهم عقوقًا للعربية، وأشدّهم بالقومية تبجحًا هو أشدّهم نكايةً فيها، ومقاومةً لتعليمها ونشرها.(3/58)
جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها
موقفها من السياسة والساسة *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 2 -
للسياسة في جميع بلاد الله وعند جميع خلقه معنىً محدودٌ قارٌّ في حيزه من الإدراك، إلا في هذا البلد وعند حكومته الاستعمارية وساسته المقلدين، فإن معناها غير
محدود ولا مستقرّ، يتسع إلى أقصى حدود الاتساع، فيحمل ما قارب وما باعد، وما جانس وما خالف، وما اطّرد وما شذَّ، ويضيق إلى أقصى حدود الضيق، فتلتوي مسالكه، وتنسدّ مجاريه، وتتهافتُ أقيسته، ولا يتبين فيه مورد من مصدر، كل ذلك بالتبع لأهواء الاستعمار المتباينة، وأهويته المتناوحة، والاستعمار كله رجسٌ من عمل الشيطان، فغيرُ غريب أن يكون من خصائصه تغيير الأوضاع والمعاني، ليصحح لنفسه الألوهيّة المزوّرة ولو إلى حين.
على أن معنى السياسة عندنا- في تردده بين طرفي السعة والضيق- يتسفّل دائمًا ولا يعلو، ويتبذل أبدًا ولا يسمو، ويوشك هذا اللفظ بسوء تصريف الاستعمار له أن يصبح بلا معنى كالألفاظ المهملة، وكما جازف الاستعمارُ قبل اليوم بكلمة "عدو فرنسا" يرمي بها قي غير هدف، ويسم بها كل مَن هبّ ودبّ، فكان من آثار ذلك أن نبه الناس إلى عداوة فرنسا، وفتح لهم بما يردّد من لفظها، وبما يُبدع من أسبابها، أبوابًا وطرائق، كذلك جازف بكلمة السياسة، يرمي بها حتى المصلين والحجاج، فكان من آثار ذلك أن غمرت الناس هذه الموجة المكتسحة من السياسة، ولا يجني الظالم إلا على نفسه، وإذا أراد الله بأمة خيرًا جعل يقظتها على أيدي أعدائها.
أما إن السياسة تكون خيرًا لأقوام، وشرًّا لآخرين، وتكون عقود حلية كما تكون عُقَدَ خنق، فهذا ما قرأناه في قاموس الاستعمار وعلمناه من مذاهبه، وهو- على علاته- مقبول،
__________
* نشرت في العدد 3 من جريدة «البصائر»، 8 أوت سنة 1947.(3/59)
إذا كان للسياسة معناها المعقول، ولكن السخافة كلها في هذا التبذّل الذي أصبحت معه كلمة السياسة كلفظ "البعبع"- هذا يخوف به الصغار، ولا حقيقة له، وتلك يخوَّف بها الكبار، ولا معنى لها؛ وما جاء هذا البلاء إلا من الوضعية الشاذة التي بني عليها نظام الحكم الاستعماري على المسلمين في الجزائر- حكومةٌ "لائكية" في الظاهر، مسيحية في الواقع، جمهوريةٌ على الورق، فردية في الحقيقة؛ تجمع يديها على دين المسلمين ودنياهم، وتتدخل حتى في كيفية دفن موتاهم؛ وما دامت هذه السيادة سائدة، وما دامت العنصرية موجودة، فإن هذه اللفظة (لفظة السياسة) تبقى ذليلةً مهينة، مجردةً من جلالها وسُموها، نجدها في باب الإجرام والاتهام، أكثر مما نجدها في باب الإكبار والاحترام.
إن أعلى معاني السياسة عند الحاكمين هو تدبير الممالك بالقانون والنظام، وحياطة الشعوب بالإنصاف والإحسان، فإذا نزلوا بها صارت إلى معنى التحيل على الضعيف ليؤكل، وقتل مقوّماته ليهضم، والكيد للمستيقظ حتى ينام، والهدهدة للنائم حتى لا يستيقظ.
وهذا المعنى الأخير هو الذي جرى عليه الاستعمار، ووضعه في قواميسه، وأقرّه في موضعه من نفوس رجاله ودُعاته؛ بحيث إذا أطلق بينهم لفظ السياسة لا يفهمون منه إلا هذا؛ وتراهم يحرّمون على الشعوب الخاضعة لهم- الخوض في هذا المعنى السافل، لئلا يجرّهم إلى الخوض في المعنى العالي، وتراهم يهيئون لتلك الشعوب من قشور ذلك المعنى وفتاته تعلات يلهونهم بها إذا بلغ بهم التبرم حده، ومن هذه التعلات الانتخابات الناقصة التي فتح الاستعمار للجزائريين كوّةً منها، فلم تدخل عليهم إلا الشر وضياع الأموال وتمزيق الوحدة.
هذا معنى السياسة عند الحاكمين، عاليًا ونازلًا، أما عند المحكومين فأعلى معانيها إحياءُ المقومات التي ماتت أو ضعفت أو تراخت، من دين ولغة وجنس وأخلاق وتاريخ وتقاليد، وتصحيحُ قواعدها في النفوس، ثم المطالبةُ بالحقوق الضائعة في منطق وإيمان، ثم الإصرارُ على المطالبة في قوة وشدة، ثم التصلبُ في الإصرار في استماتة وتضحية، مع اختيار الفرص الملائمة لكل حالة؛ درجاتٌ بعضها فوق بعض؛ فإذا نزلوا بها صارت إلى هذا التحاسد على الرياسة، وهذا التهافت على كراسي النيابة، وهذه المناقشات الفارغة في القشور، وهذا الجدل الشاتم السباب، وهذا الافتتان المزري بالأشخاص، وكل ذلك نراه على أقبح صوره في المجتمع الجزائري، في حين أن ذلك كله ليس من مصلحة الأمة الجزائرية، ولا في فائدة قضيتها، بل هو كله في مصلحة الاستعمار.
إن هذه السفاسفَ لم تبنَ على مقاصدَ صحيحة، فلم تأت بنتائج صحيحة، ولم تنشأ عن إيمان راسخ، فلم تظهر لها ثمرةٌ ناضجة، ولما بليت السرائر تبين أن سياسيينا كلهم(3/60)
يتسابقون إلى غاية واحدة، هي كراسي النيابات وما يتبعها من الألقاب والمرتبات، وإذا كل شيء مبدأُه السياسة فنهايته التجارة؛ والأعمال بخواتمها.
هذه هي السياسة في الجزائر بين الحاكم والمحكوم؛ يجعلها الأولُ أداة مساومة، وفخ اقتناص للمذبذبين، وسلاح ترهيب وتخويف للمخلصين، ويجعلها الثاني وسيلة جاه، وذريعة تضليل للأمة، وقد بلوناها، وخبرناها، وحاولنا إصلاحها في رجال السياسة منا، إشفاقًا على هذه الأمة الصالحة، فبحت الأصوات، وأَكْدَت الوسائل، فلا يقولن قائل فيها وفينا غير هذا فأهل مكة أدرى بشعابها.
أما جمعية العلماء فليست من أولئك ولا من هؤلاء، ولكنها- بطبيعة الحال وبمكانتها من الأمة- متهمة من أولئك وهؤلاء.
يقول عنها الاستعمار في معرض التبرم بها والتسخط عليها: إنها جمعية سياسية في ثوب ديني، وإنها تستر القومية بستار الدين، وتخفي الوطنية بخفاء (1) العلم والعربية؛ ويتنطع في بعض نوباته العصبية فيقول عنها: إنها تخدم سياسةً أجنبية، ويجاري الطبيعة أحيانًا فيقول: إنها تعمل للجامعة العربية أو الإسلامية، ويلبس مسوح الرهبان تارةً أخرى فيشوب التهديد بالوعظ، ويقول لنا: إن جلال العلم لا يتفق مع أوساخ السياسة، وتغلب عليه طباع السوء فيقذف بأعضاء الجمعية في السجون، ويُلقي بهم في المعتقلات مع المجرمين.
ويقول عنها ساسة الانتخاب منا والمسحورون بكراسي النيابات، أقوالًا تختلف باختلاف أهوائهم فيها، وتباين مبادئهم ومبادئها، فيقول الموتورون في الانتخاب: إنها نصرت فريقًا على فريق، ويحملهم الغلوّ في الحزبية على القول بأنها رجحت مبدأ على مبدإ.
ويقول آخرون قطعت الطريق بينهم وبين الأمة: إنها تدخلت في السياسة وما ينبغي لها، لأنها لا تحسن السياسة ولا تنطقُ بلسانها؛ لسان السياسة أعجميٌ، ولسانها عربيّ مبين ...
آراء وأقاويلُ لا يراد بها وجه الحق، ولا مصلحة الوطن، وإنما يراد بها إرضاء النزعات الحزبية المبنية على التحاسد في ما لا يتحاسد عليه العقلاء.
ثم يلتقي هؤلاء جميعًا مع الاستعمار في نقطة اتصال، تلجئهم إليها الضرورة إلجاء، حتى يصير المختار فيها كالمكره؛ وهي حرب الجمعية، لا لأنها سياسية، ولا لأنها تدخلت في السياسة، بل لأنها أثبتت للعروبة حقها في هذا الوطن، وأثبتت للعربية حظها في ألسنة بنيه، وأثبتت للإسلام سلطانه على مهجهم وأرواحهم.
__________
1) الخفاء بالكسر: الستر الذي يخفي.(3/61)
وجمعية العلماء تقول لهؤلاء مجتمعين:
تجمعتم من كل أَوْبٍ وبَلْدَةٍ … على واحد، لا زلتمُ قِرنَ واحد
ثم تقول لكل فريق على انفراد ما يلجم فاه، وإن لم يردعه عن هواه، تقول للاستعمار: إنه لا يصدُقك جلية الجمعية إلا الجمعية، لأن دينها يأبى عليها الكذب والرياء والنفاق، وهي الأقانيم الثلاثة التي يقوم عليها الاستعمار.
إن جمعية العلماء أشرف من أن تعمل لغير مبدئها، أو تسخر مواهبها في خدمة الغير كائنًا من كان، ولو كانت فاعلة للانت لترغيبك وترهيبك.
(يا حضرة الاستعمار) إن جمعية العلماء تعمل للإسلام بإصلاح عقائده، وتفهيم حقائقه، وإحياء آدابه وتاريخه، وتطالبك بتسليم مساجده وأوقافه إلى أهلهما.
وتطالبك باستقلال قضائه.
وتسمي عدوانك على الإسلام ولسانه ومعابده وقضائه، عدوانًا بصريح اللفظ. وتطالبك بحرية التعليم العربي.
وتدافع عن الذاتية الجزائرية التي هي عبارة عن العروبة والإسلام مجتمعين في وطن.
وتعمل لإحياء اللغة العربية وآدابها وتاريخها، في موطن عربي وبين قوم من العرب.
وتعمل لتوحيد كلمة المسلمين في الدين والدنيا.
وتعمل لتمكين أخوّة الإسلام العامة بين المسلمين كلهم.
وتذكر المسلمين الذين يبلغهم صوتها بحقائق دينهم وسيَر أعلامهم وأمجاد تاريخهم.
وتعمل لتقوية رابطة العروبة بين العربي والعربي، لأن ذلك طريق إلى خدمة اللغة والأدب.
فإذا كانت هذه الأعمال تعدّ- في فهمك ونظرك- سياسة، فنحن سياسيون في العلانية لا في السر، وبالصراحة لا بالجمجمة.
إننا نعد كل هذا دينًا على الحقيقة لا على التوسع والتخيل، ونعدّه من واجبات الإسلام التي لا نخرج من عهدتها إلا بأدائها على وجهها الصحيح الكامل.
ولتعلم أننا نفهم الإسلام على حقيقته، وأننا لا نستنزل عن ذلك الفهم برقية راق، ولا بتهديد مهدِّد، ولتعلم سلفًا، ولتسلم منطقيًّا وواقعيًّا أننا حين تختلف الأنظار بينك وبين(3/62)
الإسلام، فنحن مع الإسلام، لأننا مسلمون، ولتعلم أن تلك الأعمال تقزيدنا مع جلال العلم جلال العمل.
لتعلم أنه ما دام الإسلامُ عقيدةً وشعائر، وقرآنًا، وحديثًا، وقبلة واحدة، فالمسلمون كلهم أمة واحدة، وما دامت اللغة العربية لسانًا وبيانًا وترجمانًا فالعرب كلهم أمة واحدة؛ كل ذلك كما أراد القدر المقدور، والطبيعة المطبوعة، والأعراق المتواصلة، والأرحام المتشابكة، فلا "إسلام جزائري" (2) كما تريد، ولا عنصرية بربرية كما تشاء.
ولتعلم- آخر ما تعلم- أن زمنًا كنتَ تسلط فيه المسلم على المسلم ليقتله في سبيلك، قد انقضى وأنه لا يعود ...
ولكن ما قولك- أيها الاستعمار- في تدخلك في ديننا، وابتلاعك لأوقافنا، واحتكارك للتصرف في وظائف ديننا، وتحكمك في شعائرنا، وتسلطك على قضائنا، وامتهانك للغتنا؛ ما قولك في كل ذلك، أهو من الدين أم من السياسة؟
وكيف تبيح لنفسك التدخل فيما لا يعنيك من شؤون ديننا، ثم تحرم علينا الدخول فيما يعنينا من شؤون دنيانا؟
وهبنا وإياك فريقين، فريق أخضع الدين للسياسة ظالمًا، وفريق أدخل السياسة في الدين متظلمًا، فهل يستويان؟ إننا إذا حاكمناك إلى الحق غلبناك، وإذا حاكمتنا إلى القوة غلبتنا؛ ولكننا قوم ندين بأن العاقبة للحق لا للقوة.
__________
2) الإسلام الجزائري هو غاية كان يعمل لها الاستعمار بجميع الوسائل ليفصل على مر الزمن بين مسلمي الجزائر وبين بقية المسلمين، ولكن الله خيبه.(3/63)
جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها *
- 3 -
ثم نقول لبعض إخواننا وساستنا الذين يناوئون جمعية العلماء، وهي مادّة قوتهم، وعماد أعمالهم، وأصل فروعهم، ومجمع غاياتهم التي يعملون لها إن كانوا صادقين، نقول لهم على اختلاف نزَعاتهم من أفراد وجماعات: إن السياسة لباب وقشور، وإن حظ الكثير منكم- مع الأسف والمعذرة- القشورُ دون اللباب.
أما لباب السياسة بمعناها العام عند جميع العقلاء فهو عبارة واحدة: إيجاد الأمة، ولا توجد الأمة إلا بتثبيت مقوّماتها من جنس، ولغة، ودين، وتقاليدَ صحيحة، وعادات صالحة، وفضائلَ جنسية أصيلة، وبتصحيح عقيدتها وإيمانها بالحياة، وبتربيتها على الاعتداد بنفسها، والاعتزاز بقوّتها المعنوية، والمغالاة بقيمتها وبميراثها، وبالإمعان في ذلك كله حتى يكون لها عقيدةً راسخة تناضل عنها، وتستميت في سبيلها، وترَى أنّ وجود تلك المقومات شرط لوجودها، فإذا انعدم الشرط انعدم المشروط، ثم يفيض عليها من مجموع تلك الحالات إلهام لا يغالب ولا يردّ، بأن تلك المقوّمات متى اجتمعت تلاقحت، ومتى تلاقحت ولدَت " وطنًا".
فاسمحوا لنا حين نفتخر بأن هذا اللُّبابَ من حظ جمعية العلماء، له عملت، وفي ميدانه سابقت فسبقت، وفي سبيله لقيت الأذى والكيد والاتهام، وفي معناه اصطدم فهمها بفهم الاستعمار، هي تفهمه دينًا، وهو يفهمه سياسة، اسمحوا لنا حين نعتقد أن حظ بعضكم من هذا اللباب صفر في صفر، فإن لوَوْا ألسنتهم بشيء من ذلك كذبتهم أعمالهم، وصدمهم الواقع، وإذا حاولوا شيئًا من ذلك شفّ ثوبُ التصنع عما تحته فافتضحوا.
إن جمعية العلماء تبني المقوّمات التي لا تكون الأمة أمةً إلا بها، ولا تكون وحدةً متماسكة الأجزاء إلا بالمحافظة عليها، فواجب على كل سياسي مخلص أن
__________
* نشرت في العدد 4 من جريدة «البصائر»، 29 أوت سنة 1947.(3/64)
يعينها على ذلك، وينشطها، ويعرف لها أعمالها، لا أن يخذلها ويئبطها ويبسط لسانه بالسوء فيها.
وان الاستعمار ما عكف على هدم تلك المقوّمات قرنًا كاملًا إلا لأنه كان يعلم أن سيأتي يوم يصيح فيه صائح بكلمة "حقي"، فقدّرَ لذلك اليوم، ولذلك الصائح، أنهما لا يأتيان، حتى لا تكون هذه الأمة في موضعها من الأرض لأنها أضاعته، ولا في موضعها من التاريخ لأنها نسيته؛ ولعمري إذا لم توجد الأمة فما صياحُ الصائحين إلا نفخ في رماد.
إن جمعية العلماء تعمل لسياسة التربية لأنها الأصل، وبعض ساستنا- مع الأسف- يعملون لتربية السياسة، ولا يعلمون أنها فرع لا يقوم إلا على أصله؛ وأيُّ عاقل لا يدرك أن الأصول مقدَّمةٌ على الفروع، وإن الاستعمار لأفقه وأقوى زكانة، وأصدقُ حدْسًا، من هؤلاء حين يسمي أعمالَ جمعية العلماء سياسة، وما هي بالسياسة في معناها المعروف ولا قريبة منه، ولكنه يسميها كذلك لأنه يعرف نتائجها وآثارها، وأنها اللُّباب وغيرها القشور؛ ويعرف أنها إيجاد لما أعدَم، وبناء لما هدَم، وزرعٌ لما قلع، وتجديد لما أتلف، وفي كلمة واحدة، هي تحد صارخ لأسلوبه، وما خدعناه في ذلك- والله- ولا ضلّلناه، وإنها لنقطة اصطدام على الحقيقة بين نظر الجمعية وبين نظر الاستعمار؛ فلا الإسلام يسمح لنا أن نعمل غير ما عملناه، ولا الاستعمار يرضى عن ذلك العمل، وقد أجبناه وانتهينا، ومضَينا وما انثنينا.
أَيُريد هؤلاء أن يبنوا الفروع على غير أصولها، فيبوءوا بضياع الأصل والفرع معًا؟ أم يريدون أن يجعلوا الفروع سلمًا للأصول، على طريقة أبي دلامة (1)، فيبوءوا باختلال المنطق وفساد القياس؟!
إننا نعدّ ضعف النتائج من أعمال الأحزاب في هذا الشرق العربي كله آتيًا من غفلتهم أو تغافلهم عن هذه الأصول، ومن إهمالهم لتربية الجماهير وتصحيح مقوّماتها، حتى تصبحَ أمةً وقوةً ورَأيًا عامًّا وما شاء الحق؛ ومن ترويضهم إياها على لفظ الحق قبل اعتقاد استحقاقه، وعلى لفظ الخصم قبل إحضار الحجة، وعلى لفظ العدو قبل أخذ الحيطة؛ ومن اغترارهم بالظواهر قبل سبْر البواطن، وبالسطحيات قبل وزن الجوهريات، وبالأقوال قبل أن تشهد الأفعال، ففي الوقت الذي كان فيه جمال الدين الأفغاني يضع أساس الوطنية الإسلامية على صخرة الإسلام الصحيح، ويهيب بالمسلمين أن ينفضوا أيديهم من ملوكهم ورؤسائهم وفقهائهم، لأنهم أصل بلائهم وشقائهم، وفي الوقت الذي كان محمد عبده يطيل ذلك البناء ويعليه كان مصطفى كامل- على إخلاصه لدينه ووطنه- يوجه الأمة المصرية إلى مقام
__________
1) حكايته مع بعض الخلفاء مشهورة حين حكمه في الجائزة فاقترح كلب صيد ثم ترقى منه إلى طلب خادم وزوجة تطبخ الصيد ودار تؤوي الجميع، إلخ.(3/65)
الخلافة العظمى المتداعي، ويخيف الاستعمارَ بشبح لا يخيف، ثم جرَت الأحزابُ المصرية إلى الآن على ذلك المنهج: إهمال شنيع لتربية الأمة وتقوية مقوماتها، وتطاحنٌ أشنع على الرياسة والحكم، وترديدٌ لكلمة الوطنية دون تثبيت لدعائمها، وتغن بمصالح الوطن وهي ضائعة، وترام بالتهم، والجريمةُ عالقة بالجميع، وتقديسٌ للأشخاص، والمبادئ مهدورة، والاستعمار من وراء الجميع يضحك ملءَ شدقيه، وينام ملءَ عينيه.
ليت شعري: إذا كان من خصائص الاستعمار أنه يمحق المقوِّمات ويميتها، ثم يكون من خصائص أغلب الأحزاب أنها تهملها ولا تلتفت إليها، فهل يلام العقلاء إذا حكموا بأن هذه الأحزابَ شر على الشرق من الاستعمار، لأن الاستعمار يأتيه من حيث يحذَر، والحذر- دائمًا- يقظ، أما هذه الأحزاب فإنها تأتيه من حيث يأمن، والآمن أبدًا نائم، فإذا انضم إلى هذا الداء المستشري خلاف الأحزاب ومنازعاتها، كانت النتيجة الطبيعية ما نرى وما نسمع، وقد أصبح هذا الشرق في تعدّد أحزابه السياسية كعهده في الخلافة العباسية يوم كان كل خلاف جدليّ في لفظة يسفر عن فرقة أو فرق، وكل مجلس مناظرة بين فريفين ينفضّ عن ثالث ورابع، ونراهم يقولون: إن كثرة الأحزاب في أمة عنوان يقظتها وانتباهها، وضمانُ وصولها إلى حقها، ولكننا لم نرَ من تعدد الأحزاب إلا نقصًا في القوة، ونقضًا للوحدة، وتنفيسًا على الخصم، واشتغالًا من بعضهم ببعضهم؛ وتعالتْ كلمة القرآن، فإنه لا يكاد يذكر الأحزابَ بلفظ الجمع إلا في مقام الخلاف والهزيمة {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ}، ولا يكاد يذكر الحزب بلفظ المفرد إلا في مقام الخير والفلاح {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وإن حزبَ الله في الأمة الجزائرية هو جمعية العلماء، وانها لمفلحة لا محالة.
إن من الغفلة والبله أن نقيس أحزابنا بالأحزاب الأوروبية، فإن تلك الأحزابَ ظهرتْ في أمم استكملتْ تربيتها وصححتْ مقوماتها، بدعوة دعاة جمعوا الكلمة، وعلماءَ أحيوا اللغة، ومعلمين راضوا الأجيال على ذلك، وأينَ نحن وأحزابنا من ذلك؟
يا إخواننا- خطاب عطف وتشريف- لسنا والله نبغضكم، فما أنتم إلا جزء منا، ولسنا والله نحتقركم فما أنتم إلا رأس مال هذه الأمة الفقيرة، ولسنا والله نتهمكم بممالأة الاستعمار فأنتم عندنا أجلّ من ذلك، ولكننا نعدّ مقاومةَ المقاومين منكم لجمعية العلماء ناشئةً عن بعدهم عن التربية الإسلامية والثقافة العربية، ونجد في كل عيب من عيوبهم أثرًا بارزًا من آثار الاستعمار في تربيتهم.
إن أقبح ما في أساليبكم أنكم تقسرون المبادئ على الخضوع للشخصيات في أمة حديثة عهد بعبادة الأشخاص، فتعرضونهما معًا للضياع، وأن أسوأ أعمالكم احتقاركم للسواد الأعظم من الأمة- وهي أمتكم- فلا تفكرون في إعدادها، ولا في درجة استعدادها، ولا(3/66)
تلتفتون إلى تصحيح الأسس فيها، ولا تعبأون بدينها ولا بلغتها، ولا تظهرون بالمظاهر التي تقربكم منها، ولا تنيرون أمامها السبلَ ببرامجَ واضحة ومبادئ معقولة، ولا تشركونها في رأي ولا مشورة، ولا تتصلون بها إلا حين ينعق غراب الانتخاب.
إن منكم من يحتقر لغةَ الأمة فلا يقيم لها وزنًا، وفيكم من يحتقر دينها فلا يقرأ له حسابًا، وفيكم من يحتقر بناتها فلا يتزوج منهن، وفيكم من يأنف من خؤولتها لأبنائه فيختار لهم أخوالًا غرباء، وإن بعض ذلك لقدْح محسوس في أمتكم الحاضرة، وإن بعضه لسم مدسوس في أعراق أمتكم المقبلة؛ فيا ويحكم هل هذا كله إلا من آثار الاستعمار في نفوسكم، شعرتم أم لم تشعروا؟
يا إخواننا! إنكم أحرجتمونا بأعمالكم وأقوالكم وأحوالكم، فأخرجتمونا من مقام التلطف في النصيحة إلى مقام الإيجاع في التنديد؛ وأردتم أن تثلموا سيفًا من سيوف الحق، فلا تلوموه إذا خشن متنه وآلم جرحه، فتجرّعوا هذه النصائح على مرارتها في لهواتكم، فما نحن- بمكاننا في الدين- أقل من أن ننصح، ولا أنتم- بمكانتكم في أنفسكم- أجل من أن تنتصحوا.
يا إخواننا! إن الدعوى والزعم وسفاسف الأقوال وتوافه الأعمال وتصغير الكبائر وتكبير الصغائر، كلّ ذلك مما لا تقوم عليه عقيدةٌ سياسية ولا تربيةٌ وطنية.
إننا لو جمعنا كل آرائكم في السياسة، وفرضنا تحقيقها لما أفادت الأمة شيئًا وهي بهذه الحالة من التربية فكيف وأنتم متباينون؛ وكيف وأنتم مع الخلاف يكفر بعضُكم ببعض، ويلعنُ بعضُكم بعضًا؟
إن وراء السياسة شيئًا اسمه الكياسة، وهي خلق ضروري للسياسي، وإن السياسي الذي يحترم نفسه، يحترم غيره مهما خالفه في الرأي، ومهما كان الخلاف جوهريًّا، فإذا لزم النقد، فلا يكون الباعث عليه الحقد، وليكن موجهًا إلى الآراء بالتمحيص، لا إلى الأشخاص بالتنقيص.
إننا لا نتصور كيف يخدم السياسي أمته بتقطيع أوصالها، وشتم رجالها، وتسفيه كل رأي إلا رأيه، ولا نتصوّر أن مما تخدم به الأمة هذه الدروس (العالية) في أساليب السبّ التي يلقنها بعض الأحزاب لطائفة من شباب الأمة في (معاهد) المقاهي والأزقة؛ إن تضرية الشبان على الشتم والسباب جريمة لا تغتفر ...
إن شباب الأمة هو الدم الجديد في حياتها؛ فمن الواجب أن يصان هذا الدم عن أخلاط الفساد؛ ومن الواجب أن يتمثَّل فيهم الطهر والفضيلة والخير، ومن الواجب أن تربى ألسنتهم على الصدق وقول الحق، لا على البذاء وعورات الكلام.(3/67)
يا قومنا! إننا نخشى أن تفسدوا على الأمة (بهذه الدروس) جيلًا كاملًا كنا نجهد أنفسنا في تربيته على طهارة الإسلام، وهمم العرب، ومجد العروبة، والإيمان بحقوق الوطن، والعمل على تحقيق استقلاله وحرّيته، ونبنيه طبقًا عن طبق، ونعلي أخلاقه خلقًا عن خلق، نخشى أن تضيّعوا على الأمة هذا الجيل، وتفسدوا مواهبه، وتلهوه بالمناقشات الحزبية عن الحقائق القومية.
نخشى ذلك ... ونخشى أكثر منه على هذه الطائفة المقبلة على العلم المنكبّة على تحصيله ... هذه الطلائع التي هي آمال الأمة، ومناطُ رجائها، والتي لا تحقّق رجاءَ الأمة إلا إذا انقطعت إلى العلم وتخصّصت في فروعه، ثم زحفت إلى ميادين العمل مستكملة الأدوات تامة التسلّح، تتولى القيادة بإرشاد العلم، وتحسن الإدارة بنظام العلم، فتثأر لأمّتها من الجهل بالمعرفة، ومن الفقر بالغنى، ومن الضعف بالقوة، ومن العبودية بالتحرير، وتكتسح من ميدان الدين بقايا الدجالين، ومن ميدان السياسة والنيابة بقايا السماسرة والمتّجرين، ومن أفق الرياسة بقايا المشعوذين والأميين.
هذه الطائفة الطاهرة، الطائفة بمناسك العلم، قد ألهبتم في أطرافها الحريق بسوء تصرفكم، فبدأت تنصرف من رحاب العلم إلى أفنية المقاهي، ومن إجماع العلم إلى خلاف الحزبية.
إن من طلّاب العلم هؤلاء من يدرسُ الدين، وإن الدين لا يجيز لدارسه أن يفتي في أحكامه إلا بعد استحكام الملكة واستجماع الأدلة حذرًا من تحليل محرم، وإن منهم الدارسَ للطبّ، وإن قانون الطب لا يجيزُ لدارسه أن يضعَ مبضعًا في جسم إلا بعد تدريب وإجازة خوفًا من إتلاف شخص ... فهل بلغ من هوان الأمة عليكم أن تضعوا حظها في الحياة في منزلة أحطّ من حظ امرأة في طلاق، وأن تجعلوا حقّها في الدواء أبخسَ من حق مريض على طبيبه؟ ..
إنها- والله- لجريمة يقيم بها مرتكبوها الدليلَ على أنهم أعداء للعلم، وقطّاع لطريقه، أم يقولون: "لا علم بدون استقلال" فيعاكسون سنّة الله التي تقول: "لا استقلال بدون علم"، أم يقولون ما قاله كبير منهم: "إن محمدًا لم يأت بالعلم وإنما أتى بالسياسة" و "إن روسيا لم تفلح بالعلم وإنما أفلحت بالسياسة"؟ ...
يا قومنا! إن الأمة تنظر إلى الأعمال لا إلى العقائد، وإننا لنتوقّع أن تشعر الأمة بما في سلوككم من اضطراب وتناقض بين المبادئ والأعمال فتتزعزع ثقتها بالأحزاب جميعًا، ويذهب الحق في الباطل، وإننا- والله- لا نرضى لكم هذه العاقبة، ولا نرضى لأمة فقيرة من الرجال أن يسوء ظنّها برجالها.(3/68)
هذه نصائح مريرة، وحقائق شهيرة، لم نسمّ فيها أحدًا، فمن استفزّه الغضب منها، أو نزا به الألم من وقعها، فهو المريب، يكاد يقول: خذوني.
وبعد، فإن جمعية العلماء فوق الأحزاب كلها، ما ظهر منها وما بطن، وإن مبدأها أعلى من المبادئ كلها، ما استسرّ منها وما علن، ولقد اتصلت بجميع الأحزاب فرادَى ومجتمعين في المصالح العامة، فأرتْهم بأقوالها وأعمالها أنها فوق الأحزاب، وقد احتكّت بها جميع الأحزاب، من خاطب لوُدّها إجلالًا، إلى رائم من نفوذها استغلالًا، إلى عامل على الكيد لها احتيالًا، فأرتْهم بمعاملاتها لجميعهم أنها فوق الأحزاب، ودعت الأحزاب إلى الصلح والاتحاد، وجمعتهم للاشتراك في العمل، فكانت في ذلك كله فوق الأحزاب.
وما دامتْ تعمل في ميدان لا يختلف فيه الرأيُ، ولا يتشعّب الهوى، فإن منطق الواقع لا يسمح لها بغير ذلك، وإن تاريخها يشهد بأنها تنصر الحق حيثما وجد، وتدور معه حيث دار؛ وأنها تزنُ الرجالَ بأعمالهم الصحيحة، ومبادئهم الثابتة، وتزن الأحزاب ببرامجها الواضحة وآرائها العملية، وأنها تقارب الجميع وتباعدهم على قدْر قربهم من الإسلام والعروبة وبعدهم عنهما.
هذه هي الحقيقة لا يماري فيها إلا ذو دخلة سيئة وهوًى مضلّ.
أما حين تمتدّ الأيدي الآثمة إلى حمى الدين أو حمى القومية العربية، أو حين يتساهل السياسيون في حقّهما، فإنّ للجمعية في ذلك كلمتها الصريحة التي لا جمجمة فيها، وموقفها المشرّف الذي لا هوادة فيه.
حاربتْ سياسةَ الاندماج في جميع مظاهرها، فقاومت التجنيس، ونازلت أنصاره الحُمْس ودعاته المقاويلَ، حتى قهرتهم وأخرستهم، وقطعت الحبلَ في أيديهم، ثم أفتتْ فتواها الجريئة فيه، يوم كانت الجرأة في مثل هذه المسائل بابًا من العذاب، فكان ذلك منها تحديًا للاستعمار، وإبطالًا لكيده، وتعطيلًا لسحره، وأثبتتْ بتلك المواقف للجزائر إسلاميتها.
وحاربت العنصرية التي كان الاستعمار يغذّيها ويعدّها من أمضى أسلحته لقطع أوصال الأمة، فقطعت دابرها، والاستعمارُ خزيانُ ينظر، وأثبتت بذلك للجزائر قوميتها العربية. وحاربتْ- آخرَ ما حاربتْ- لائحة 7 مارس بشدّة وقوة، وشنعتْ بها في دروسها وخطبها، وبيّنتْ للأمة الدسائسَ التي تنطوي عليها اللائحة، وأنها وسيلة "شيطانية" إلى الاندماج جيء بها بعد خيبة الوسائل التي تقدمتها.(3/69)
هذه هي الميادين التي تفردت فيها جمعية العلماء بالبطولة في حرب الاندماج ودعاته والمروِّجين له، وهذه أعمالها فيه قائمة بشواهدها، داحضةً لافتراء المفترين، وأقاويل المتقوّلين، بأنها أيّدت أو تؤّيد سياسة الاندماج، ولو كانت الجمعية تحارب الاندماجَ باسم السياسة وبأسلوب السياسيين لجاز أن يقال: "قد بدا لها بداء"، وما أكثر البدَوات في السياسة، ولكنها حاربته باسم الدين، والدين كلّه يقين لا يتزعزع، وبصائر لا تزيغ.(3/70)
جمعية العلماء وجهادها فى:
فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية فى الجزائز.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مطالب الجمعية في:
تحرير المساجد برفع يد الحكومة عنها.
تحرير الأوقاف الإسلامية بإرجاعها إلى المسلمين.
تحرير رجال الدين الإسلامي من الحكومة المسيحية.
تحرير القضاء الإسلامي برفع جميع القيود عنه.
تحرير الحج بعدم تدخل الحكومة في أي شأن من شئونه.
تحرير الصوم، بحيث تبتعد الحكومة عن كل شئونه.(3/71)
قضية فصل الدين
ومن فروع هذه القضية:
الحجّ *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
سكتنا - متعمّدين- عن المهازل التي جرَتْ في حجّ هذه السنة، فلم نبادرها بالنقد جزئية، ولم نعالجها بالتجريح واحدة واحدة، مع أنها حقيقة بذلك، ومع علمنا بأن أصلها باطل، فهي باطلة: ولكننا سكتنا حتى ينتهي الشريط وتتمّ الرواية التي ابتدأت فصولها يوم أعلنت الشروط والأسعار والمواقيت إلى يوم سافرت السفينة في بحرين: بحر من الماء وبحر من الفوضى والاختلال.
سكتنا- مع مرارة السكوت- لا رضى بما تصنع الحكومة في شعيرة إسلامية محضة، ولا إقرارًا لعبثها بديننا، ولكننا سكتنا انتظارًا لانسدال الستار حتى تقوم الحجة وتنقطع المعاذير، فنضيف قضية الحج إلى قضايا المساجد والأوقاف والتعليم الديني، ونحمل الحملات الصادقة في سبيل تحريرها، فلتعلم هذه الحكومة السائرة على منهج لا يتبدّل في احتكار أمور ديننا أننا سائرون على منهج لا يتبدّل في المطالبة بحقّنا الديني الطبيعي، وفي التظلّم منها والتشنيع عليها، وأننا لها بالمرصاد.
كان المتفائلون يظنّون- وبعض الظن إثم- أن الحكومة تنفض يدها من مسألة الحج في هذه السنة. فإن لم تنفض يدها بالمرة صحّحتْ أخطاءها القديمة، وعدّلت آراءها السقيمة، ووسعت الدائرة وخفّفت الشروط، ولم تتمسّك إلا بما هو حق لا ينتقده أحد مثل التلقيح وتحديد العوض النقدي.
وكانوا يظنّون أنها اتعظت بأحداث الدهر وتقلباته، واستعادت بعض رشدها الذي فارقها يوم كانت (تحجج) في كل سنة بضعة من صنائعها على طيارة، ترسلهم دعاة ليسبحوا
__________
* نشرت في العدد 11 من جريدة «البصائر»، 20 أكتوبر سنة 1947.(3/73)
بحمدها، ويوافوها بالأخبار والتقارير؛ تظهر لهم الثقة بهم، وهي تسيء الظن بجميعهم لأنهم مسلمون، تفعل ذلك كله لتقيم الدليل- في زعمها- على تسامحها في الدين واعتنائها بالإسلام والمسلمين؛ وما اهتمامها- والله- إلا بنفسها وسيادتها وباستعمارها. تُدعمه ولو بالأوهام، وتثبته ولو بالتلبيس والإيهام؛ وما ذلك النوع من "التحجيجِ" في نظر الإسلام والمسلمين إلا هزءٌ مكشوف، وسخرية مفضوحة، فهمها المسلمون شرقًا وغربًا، وأوسعوها انتقادًا وقدحًا، ووصفوها بأنها حبالة صيد للأغرار، ووسيلة كيد للإسلام.
خاب ظنّ الظانين وكذب فأل المتفائلين، ورأينا دار الحكومة الجزائرية كدار ابن لقمان باقية على حالها، ورأينا من غرائب التصرفات في حج هذه السنة أشياء جديدة مبتكرة لم يسبق لها مثيل، وعلمنا أن ذلك الطراز الذي نعرفه من حماة الاستعمار لا يهدأ لهم بال، ولا يطيب لهم منام إلا إذا أدخلوا أصابعهم في شعائرنا الدينية وأجروها كما يريدون لا كما نريد ويريد ديننا، فكأن السيادة على الأبدان والتحكم في الماديات لا تتم لذته عندهم ولا يرضي أهواءهم الطاغية إلا بفرض السيادة على الأرواح والتحكّم في ما بين العباد وبين خالقهم، وكفى بهذا محادة لله، وحربًا للدين من حيث هو دين، ويا ما أسخفَ تلك الجمل التقليدية التي تجري على ألسنة حكّام الاستعمار في خطبهم حينما يريدون التخدير والتضليل، وهي: ان فرنسا تحترم الإسلام.
إن حماة الاستعمار يعدون من الأركان القومية في دعايتهم ضد الشيوعية أنها لا تحترم الأديان، وأنها تحاربها، وأنها تنتهك حرماتها ومقدّساتها؛ وليت شعري ماذا أبقوا هم للشيوعية من حرب الأديان وانتهاك حرماتها ومقدّساتها بعد الذي رأينا، والذي شهدنا.
...
الحجّ في الإسلام ركن من أركانه التي بُنيَ عليها، يشاركها في الركنية والروح والمعنى العام للتعبّد، ويزيد عليها بمعانٍ اجتماعية حكيمة من السير في الأرض، والاطلاع على الأحوال، والاستزادة من العلم، والاختبار لأحوال الأمم، والاعتبار بها، والامتزاج بالأمم المشتركة في الدين، والتعارف بين الإخوة المتباعدين في المواطن: فهو مؤتمر اجتماعي للمسلمين، تحصن بالفرضية المحتّمة ليضمن له البقاء والاستمرار، واختار الله له من الأماكن تلك الصحراء الطاهرة بلعاب الشمس، المصهورة بحرارتها، المهيأة لرسالة التوحيد بدءًا وختامًا ليذكر المسلمين بالفطرة التي هي من خصائص دينهم.
والحجّ في نظر الاستعمار أداة مهيّأة لاستعباد الأمم الإسلامية التي أوقعها القدر في قبضته، يصرفهم بها في مصالحه، ويستخدمهم بسببها في أغراضه، ويسخّرهم بها كما تشاء(3/74)
أهواؤه لا كما يشاء الإسلام وتقتضيه حكمته، ويجعل من وجوبه عليهم وسيلة لإخضاعهم وإذلالهم واستنزالهم على حُكمه، ويجعل من خشيته من اتصال المسلمين وتعارفهم مبررًا للتضييق عليهم.
نتحدَّث عن الاستعمار الفرنسي لأنه بأعيننا، ولأنه أخبث أنواع الاستعمار، إن لم يكن في جميع المعاملات ففي ما يتعلق بالدين الإسلامي على القطع والجزم، فقد رأينا رأي العين ما تتمتّع به الأمم الإسلامية من حرية واسعة مَرنة في دينها تحت الحكومات الاستعمارية ولا نستثني روسيا القيصرية.
يتحكّم الاستعمار الفرنسي في الحجّ ويجري عليه ألاعيبه حتى يخرج عن حقيقته الدينية التي هي معاملة بين المسلم وربّه إلى مساومة تجارية سياسية أحد طرفيها الدين والضمير، وإلى معاملة استبدادية بين حاكم مسيحي مستبدّ، بيده الباب ومفتاحه والرخصة والذهب والمركب وطرُق السفر في البر والبحر والجو، وبين مسلم مغلوب على أمره ليس له إلا إيمان في قلبه، وامتثال لأمر ربّه، ورجاء في أن يمحو بالحجّ ما تقدّم من ذنبه، وشوق يتجدّد كلما سمع قول الله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وتذكيه أهلة تلك الأشهر، واستطاعة بدنية هي من نعمة الله عليه، واستطاعة مالية اختزلتها الأزمات فعوّرتْ عينها ولم تبقِ منها إلا أسماء ممنوعة من الصرف، وأخيلة لا يستقرّ عليها الطرف.
رأى الاستعمار أن شرط الاستطاعة الذي هو شرط ديني وطبيعي لكل شيء في الدنيا لا يكفي في التثقيل على المسلم، فأضاف إليه شروطًا من عنده تثقل الكواهل، وتجرح الضمائر، وتنافي الروح الديني، وتشوب الإخلاص القلبي، وتصير المستطيع غير مستطيع، وغير المستطيع مستطيعًا ...
وانظر ما تشترطه الحكومة في الحاج تتبيّن صدق ما قلناه وتعلم أننا غير متجنين عليها ولا مبالغين في نقدها، تقول الحكومة في أول شروطها ما نصه:
أولًا: البراءة من التهم والإجرامات المدنية والسياسية. يا للعجب! أيكون الإجرام المدني مانعًا من الحج؟! أيكون الإجرام السياسي مانعًا من الحج؟!
وما هو الإجرام المدني؟ إنه السرقة وأكل أموال الناس بالباطل وشهادة الزور، إلخ. ولا نقول الزنا وشرب الخمر والقمار، لأن قوانين الاستعمار تبيحها وتعدها من الحلال الطيب، ولا تعاقب عليها ولا تعدها من "الإجرامات المدنية" مع أنها أمهات الرذائل وأصول الخبائث، وكيف يمنع هذا المجرم من الحجّ وتعاكس عقيدته بأن الحج يمحو خطاياه.(3/75)
إن في الإسلام شيئًا لا يعرفه الاستعمار ولا يفقه له معنى لأنه لم يتصف به ولا مرة، وهذا الشيء هو "التوبة": فالمسلم إذا تاب من كبيرة يعتقد أن من كمال التوبة أن يُكثر من الطاعات ومنها الحج، وعلى هذا فالمذنبون هم أحق الناس بالحج.
ثم ما معنى الإجرام السياسي؟ إنه حبّ الوطن، والعمل على نفع أبنائه، وبغض الاستعمار، والعمل لمقاومته: فهذا هو الإجرام السياسي الذي تعتبره الحكومة الجزائرية مانعًا من أداء واجب ديني، ولا ندري لماذا لم تجعله مانعًا من أداء الصلاة والصيام؛ فإن كانت تعتبره في الحج خوفًا من تشهير الحاج السياسي بسياستها والتنديد بها بين المسلمين، فقد أخطأت التقدير، فإنّ مسلمي الشرق لا يحتاجون إلى من يندّد بسياسة فرنسا وظلمها ولا يحتاجون إلى من يكشف لهم عن مساوئ الاستعمار الفرنسي؛ فهم يعلمون من ذلك كله فوق ما نعلم. لأن من ذاقه منهم ذاق السمّ الزّعاف، ومن سمع عنه سمع ما يصمّ الآذان ويسيل العبرات.
إننا مع الاستعمار على طرفي نقيض في تفسير كلمة "الجرم"، فنحن نعد الخمر والزنا من أعظم الجرائم، وهو يعدّهما من المباحات ومن موارد الاستغلال الغزيرة، ولا يعدهما قادحين في سيرة ولا منصب، حتى في مناصبنا الدينية الشريفة كالقضاء والإمامة، ونحن نعد السياسة عملًا طبيعيًّا معقولًا ووسيلة من وسائل خدمة الوطني لوطنه ولبني جنسه، وهو يعدّه كذلك بالنسبة إلى الأوروبي السيّد، أما بالنسبة إلى المسلم فهي جرم يمنع صاحبه من الحج، وما زال هذا الخلاف بيننا وبين الاستعمار في معنى لفظة "الجرم" يتطلب حكمًا ولا يجده.
وزاد الحمأة امتدادًا ما صحب حجّ هذه السنة من فوضى في الإجراءات واختلاف بين الإدارات، فهذه تعطي وتلك تمنع، وهذه توسّع وتلك تضيّق، وهذه تنقض ما أبرمته تلك، والحاج المسكين بين هذه الإدارات المختلفة التي كأنها إمارات مستقلّة- كالكرة تتقاذفها اللجج، وتتلقفها الصوالجة؛ وكل كاتب في إدارة، وكل مكلف بعمل مما يتعلّق بالحجاج قلّ أو جلّ، فهو حاكم بأمره، يعد ويمني، أو يتوعّد ويتشدّد. والإجراءات تحبو من مكتب إلى مكتب، ومصالح الطالبين متعطلة، وأوقاتهم ضائعة، وآمالهم في الحج معلّقة بين الرجاء واليأس. حتى ظنّوا أن ليست هنا حكومة مسيطرة ولا نظام متّبع، ولا قانون نافذ؛ ونقول مؤكّدين: إن كثيرين منهم لم يستيقنوا، إلى ساعة السفر، أنهم مسافرون أو غير مسافرين- مع أن الرخص والنقد في جيوبهم وآثار التلقيح في جنوبهم- لكثرة ما سمعوا من الوعود المتناقضة مرّة بالإعطاء، ومرة بالحرمان، ولكثرة ما شاهدوا من الخلاف بين الإدارات العليا وبين الإدارات السفلى؛ وقد رأينا في بعض البلدان في الأيام الأخيرة رجالَ البوليس يبلغون أمرًا حكوميًّا صادرًا من دار العامل يقضي بإلغاء الترخيص لمن حجّوا في العام الماضي، ثم رأينا طائفة منهم استعادت رُخصها وسافرت بالفعل، لأنها عملت بقاعدة "العب كما يلعب صاحبك".(3/76)
والمرأة ... فقد كان لها في حج هذا العام شأن عجيب. قالت الحكومة لا يحج في هذا العام من النساء إلا عدد محدود، مع أن النساء المسلمات ليس فيهن مجرمات مدنيات ولا سياسيات، وأنهن لا يقتلن أزواجهن ولا يضربنهم كما تفعل سيداتهن الأوروبيات، ولا يعرفن ما الجرائد وما السياسة وما الأحزاب.
تقول الحكومة: لأنها خصّصت لهن أسرّة محدودة. ولماذا؛ ...
وقد أجيلت تلك الأسرّة المحدودة على طالبات الحجّ الكثيرات كما تجال القداح، فكانت من نصيب المحظوظات.
وقد كان يوم السفر واليومان السابقان له، أيام حشر في مدينة الجزائر، حشر فيه المحرومون والموعودون، وكل واحد متعلق بشفيع أو شفعاء من النواب وذوي الجاه و "وسطاء الخير" من مسلمين ومسيحيين ويهود، فكان منظرًا مزرًيا بشرف الإسلام، وجلال الحج وبسمعة الحكومة أيضًا.
ونقول الحق. إنه لم تظهر أعراض الجنون بالحج على عوام الجزائريين في سنة، مثلما ظهرت في هذه السنة، ولو عقل هؤلاء المتهافتون على الإدارات المتقرّبون إليها بالشفاعات في أمر ديني، وعرفوا قيمة أنفسهم، وقيمة دينهم، لعلموا أن هذه المأساة تكررت وتكررت في كل عام، وأنها لا تعالج بمثل هذه التضرعات والتوسلات ما دام أصلها ثابتًا. وإنما نستأصل جرثومتها بشيء واحد وهو فصل الدين عن الحكومة. فليسعوا إليه متساندين وليعملوا له متّحدين، فإذا حصّلنا الفصل رجعنا إلى الأصل، وإذا نقضنا الأساس لهذه القضية، انتقضت فروعها.(3/77)
الأديان الثلاثة في الجزائر *
تتجاور في الجزائر أديان ثلاثة، أصلها من السماء وإن أخلد أتباعها إلى الأرض، وأساسها التوحيد وإن شانها أهلها بالتثليث أو الوثنية، وكتبها وحي إلهي، ولكن وصمها بعضهم بالتحريف والتبديل، وخلطها بعضهم بالأجنبي والدخيل، وعاملها بعضهم بالتأويل والتعطيل.
أما الإسلام فهو أوثقها اتصالًا بالأصول السماوية، وأوسعها امتدادًا مع التاريخ، وأبقاها أثرًا في صحائفه، وأعمقها تأثيرًا في نفوس معتنقيه لملاءمة روحه روحهم، ولمناسبة الفطرة فيه وفيهم، ولأن تأثرهم به كان عن اقتناع لا عن إكراه، ولأن الجانب الإنساني الاجتماعي هو أرحب الجوانب فيه، وكان الإسلام- لأول انتشاره- يتتبع مواقع الفطرة الإلهية، وينتجع مساقطها، لذلك نرى الأمم التي دانت به فأخلصت له هي الأمم القريبة العهد بالفطرة وسماحتها، على حين أن الأمم التي عبدتها المادة، وعقدتها الحضارة، وغمرتها شهوات العقل- أو شهوات الجسد- لم تدن بالإسلام إلّا على حرف، ولم تخلص سرائرهم إليه الإخلاص المذعن العميق، وفي أمة البربر وأمة فارس شاهد لا يكذب في ذلك.
جاء الإسلام إلى هذا الشمال فوجد من اليهودية عرقًا ناشزًا منتبرًا، ومن النصرانية عرقًا سائسًا نخرًا، فقضى عليهما بسماحه، ولم يقض على أهلهما لسماحته، وأعانه على ذلك بعدهما عن الفطرة، وحرج مدخلهما إلى النفوس، فاليهودية دين لا يدخل إلّا في النفوس الفارغة أو التي أجمت (1) الوثنية، فهي تتطلب ما يسد الفراغ أو يدفع الملل، زيادة عن كونها لم تصحبها دعاية ولا إقناع. والنصرانية دخلت هذا الوطن في ركاب الغزاة الرومانيين
__________
* نظرت في العدد 13 من «البصائر»، 10 نوفمبر 1947.
1) عافت وكرهت.(3/78)
وفي ظل سيوفهم، بعيدًا عن روحانيتها السامية، مصطبغة بالعنجهية الرومانية والعتو الروماني، فكان مقامها واستقرارها تابعين في الطول والتمكن للاستعمار الروماني.
وقد كان للتشريع الإسلامي المتعلق بمعاملة أهل الكتاب ورعايتهم والرفق بهم أكبر الأثر في الإبقاء على الكتابيين واحترام ما يدينون به فعاشوا متمتعين بالحقوق، معفين من الواجبات، وكانوا كلما ضامهم أمير جائر لم يسلم من جوره مسلم ولا كتابي، وجدوا في القرآن وفي الوصايا النبوية وفي عهود الخلفاء الراشدين ما يرد عنهم الشرور والغوائل؛ حتى أصبح هذا الشمال ملاذًا عاصمًا لكل من ترجف به راجفة في أوربا من اليهود، وللمسيحية عند اليهودية تِرَاتٌ لا يزيدها القدم إلّا جدة، كما أصبح مقيلًا لكل من تبوأه من المسيحيين، يجدون فيه- تحت ظل الإسلام- العيش الرغيد، والأمان المنيم، والعدل الشائع، والجوار الذي لا يخفر. ولولا تلك النزوات التي كانت تبدو من ملوك المسيحية من وراء البحار، وتلك الغارات التي كانوا يشنونها على سواحل أفريقيا الشمالية طمعًا في الفتح، لما ريع لمسيحي في هذه الديار سرب ولا مسه أذى.
فالإسلام، في إبان قوته وعنفوان فورته، تعرف إلى الدينين بالخير والحق والعدل والإحسان، وأبقى على الدماء والعقائد والمعابد، بل حماها وحافظ عليها أكثر من محافظة الدول المسيحية، ولما جاز البحر إلى الأندلس لينشر الهداية والنور ووجدهما هناك يضطهد أقواهما أضعفهما، رفع الضيم عن المضيم وسوّى بينهما في عدله وعاملهما بتلك المعاملة نفسها، ولم يشهد التاريخ أنه أكره يهوديًّا أو مسيحيًّا على الإسلام، على نحو ما فعلت (إيزابيلا) و (فرديناند) ومن خلفهما مع المسلمين يوم دالت دولتهم وزالت صولتهم؛ أو كما فعلت الحكومات الإسبانية بعدهم في وهران وبجاية وتونس، من انتهاك حرمات الإسلام، وكل تلك الفظائع وقعت في بدء الإرهاصات المبشرة بالحضارة الغربية السائدة الآن.
إن الإسلام ضَرَب الخراج على الأرض ولكنه لم يخرج أهلها غصبًا، وضرب الجزية على الرقاب، ولكنه حماها من الظلم، وفتح لها باب العلم، وأعفاها من تكاليف الجندية والتسخير، فأين تلك المعاملة السمحة الرحيمة مما تعامل به الحكومات المسيحية والمؤسسات اليهودية الإسلام اليوم؟ وأين تلك الصراحة المتجلية في أحكام الإسلام، والمقاصد السامية في سياسته من هذا النفاق المتستر، والرياء المدسوس، والسموم الماثلة في سياسة الدول المسيحية وقوانينها، وفي برامج الجمعيات اليهودية ونظمها؟ إن الإسلام لا يرى الكتابيَّ إلّا ذميًّا له كل ما للمسلم من حقوق، وليس عليه كل ما على المسلم من واجبات، أو معاهدًا يوفى له بعهده، أو مستأمنًا يبلغ به مأمنه، أو محاربًا ينبذ إليه على سواء، بلا ظلم في الأولى، ولا نقض في الثانية، ولا نكث في الثالثة، ولا غدر في الرابعة.
***(3/79)
هذه هي معاملة الإسلام للدينين حيثما جمعتهم أرض، يوم كانت له السيادة والسلطان، ولو كنا نكتب دراسة لموضوع أو فصلًا من كتاب لأقمنا الشواهد وضربنا الأمثال، ولكننا نكتب مقالًا لجريدة؛ فحسبنا أن نلمح ونشير، وأن نوازن ونقارن بين معاملتين في وطن محدود، وأن نضع الميزان للجزاء الذي لقيه الإسلام من دينين مُجاورين له في دار.
جاء الاستعمار الدنس الجزائر يحمل:
السيف والصليب، ذاك للتمكن، وهذا للتمكين، فملك الأرض واستعبد الرقاب، وفرض الجزى، وسخر العقول والأبدان؛ ولو وقف عند حدود الدنيويات لقلنا: تلك هي طبيعة الاستعمار الجائع تدفعه الشهوات إلى اللذات، فيجري إلى مداها ويقف، وتدفعه الأنانية إلى الحيوانية فيلتقم ولا ينتقم، ولكنه كان استعمارًا دينيًّا مسيحيًّا عاريًا؛ وقف للإسلام بالمرصاد من أول يوم، وانتهك حرماته من أول يوم؛ فابتز أمواله الموقوفة بالقهر، وتصرف في معابده بالتحويل والهدم، وتحكم في الباقي منها بالاحتكار والاستبداد، وتدخل في شعائره بالتضييق والتشديد، كل ذلك بروح مسيحية رومانية تشع بالحقد وتفور بالانتقام، ولم يكتف بذلك حتى احتضن اليهودية، وحمَى أهلها، وأشركهم في السيادة، ليؤلبها مع المسيحية على حرب الإسلام، ويجندها في الكتائب المغيرة عليه.
وقد تبدلت الأوضاع بعد ذلك في فرنسا، وتطورت الأفكار، وترقت المعارف، واستوسقت الحضارة، وضاقت النفوس بالكنيسة، فزوتها عن الحكم ونزعت من يدها المقاليد، ولكن ذلك كله كان مقصورًا على فرنسا، ومحدودًا بحدودها، أما هنا في الجزائر ... وحيث يوجد الإسلام وكتابه ولسانه، فإن المسيحية معدودة من عُدد الاستعمار وأسلحته لحرب الإسلام وقرآنه ولغته، لا يختلف في ذلك رأي، ولا يضيق به صدر، ولا يسمع فيه قول مجرح ولا منتقد، ولا تُقبل فيه دعوى أنه مناف لمبادئ الجمهورية أو الإنسانية أو اللادينية، وما أحمق من يقيس الجزائر بفرنسا! ... أيها الأحمق، إن الثوب مفصل على قدر لابسه، ولست بذاك، أنت من هنا لا من هناك ...
...
إن الجزائر اليوم ميدان صراع، لا أقول بين الأديان الثلاثة كل على انفراده، وإنما أقول بين الإسلام وحده من جهة، وبين المسيحية واليهودية مجتمعتين من جهة أخرى.
أما المسيحية فهي حاملة اللواء، وقائدة الرعيل، ومن ورائها الاستعمار بخيله ورجله، وجيوشه، ومدافعه، وقوانينه، وأمواله، وجرائده، يحمي حماها، وينافح عنها، والحكومة برجالها، وأدواتها، ووسائلها، تمدها بالعون، وتبذل لها المساعدة والتنشيط، وتمهد لها(3/80)
سبل العمل، وتوسع لها في مجال الحرية لبثّ دعايتها التبشيرية إلى أقصى حد، ومن ثم فهي تؤسس مراكز التبشير، وتعمرها بالدعاة والأطباء والمعلمين، وتجهزها بكل وسائل الإغراء والإغواء، وتغتنم المجاعات والأوبئة فرصًا لاصطياد الجُوّع واليتامى والمرضى لتفتنهم عن دينهم بلقمة أو ثوب أو جرعة دواء، وما مهد لها تلك الأسباب إلا الاستعمار، فهو الذي أجاع وأعرى، وهو الذي أفقر وأمرض، وهو الذي مكن للجهل والجمود؛ كل ذلك عن عمد وقصد، وكل ذلك ليذل، ويقل، ويهيئ للمبشرين وسائل التنصير، وقد بلغ من تأييد الحكومة الجزائرية للتبشير أنها أوكلت للمبشرين في الكثير من مراكزهم توزيع المؤن المخصصة على المسلمين لتحببهم إلى الناس ولتيسر لهم سبل الاختلاط، حتى يجر حديث حديثًا، وتتسرب الدعاية التبشيرية بينهما، وإن توزيع التموين في زمننا هذا لسلطة تعلو على جميع السلط، وجاذب من أعظم الجواذب.
وأما اليهودية فهي تناصر الاستعمار على الإسلام بوسائل أخرى منها "التفقير"، وتظاهر المسيحية على الإسلام في نواح أخرى غير التبشير، لأن من تقاليد اليهودية أنها لا تمتهن بالعرض، ولا تكاثر بالأتباع، لأنها دين طائفة مخصوصة، ولأنها جنسية ودين معًا، فمن صونها أن لا يزاحم بها في أسواق التبشير، كما أن من تقاليد اليهودية أيضًا أنها لا تضيع أية فرصة للمقايضة بالمصالح الجنسية، والمنافع القومية المادية، لا تراعي في ذلك قديمًا مأثورًا، ولا تاريخًا محفوظًا، وإنما تقدر المصلحة بالحاضر وإن كان زائفًا أو مدخولًا، وقد جاءت قضية فلسطين فرصة ملائمة لسلسلة من هذه المقايضات مع أمم وحكومات، تنوسيت فيها الأحقاد الموروثة، وأهدرت الحقوق القائمة، وأنكرت الآداب والمجاملات المرعية، وما حمل النائب اليهودي "مايير" في مجلس النواب الفرنسي حملته المشهورة على المسلمين الجزائريين، وكان فيها فرنسويًا أكثر من الفرنساويين، بل مسيحيًّا أكبر من المسيحيين، إلّا مقايضة شهد الناس آثارها في تسهيل الحكومة الفرنساوية سبيل الهجرة والتهريب إلى فلسطين، وشهدنا نحن هنا سوابقها ولواحقها من كل ما يبذله يهود الجزائر في سبيل فلسطين، من أموال طائلة، وتجهيزات سخية، وتسهيلات ميسرة للمهاجرين إلى فلسطين.
...
ما الذي ألب على الإسلام هذه القوات المتظاهرة؟ وما الذي جمع على حربه تلك القلوب المتنافرة؟ إنه- بلا شك- الخشية من قوته الروحية الرهيبة أن تنبعث كرة أخرى فتصنع الأعاجيب، وتغير وجه الدنيا كما غيرته قبل ثلاثة عشر قرنًا، وإن الدين الذي يطوي المناهل بلا سائق ولا حاد، ويقتحم المجاهل بلا دليل ولا هاد، وينتشر بين أقوام عاكفين على أصنامهم، أو مغرورين بأوهامهم، لا يمده ركاز، ولا يسنده عكاز- لحقيق أن يخشى(3/81)
منه، وأن تمتلئ من رهبته قلوب ذئاب البشرية رُعبًا، ولو أن للدعوة المحمدية عُشر ما للدعوة المسيحية من أسناد وأمداد، وهمم راعية، وألسنة داعية، لغمر المشرقين، وعمر القطبين، ولو أن دينًا لقي من الأذى والمقاومة عُشر ما لقي الإسلام لتلاشى واندثر، ولم تبق له عين ولا أثر، وإن من أكبر الدلائل وأصدق البراهين على حقية الإسلام بقاءه مع هذه الغارات الشعواء من الخارج ومع هذه العوامل المخربة من الداخل، وإن هذه لأنكى وأضر، فلكم أراد به أعداؤه كيدًا تارة بقوّة السيف، وتارة بقوة العلم، فوجدوه في الأولى صلب المكسر، ووجدوه في الثانية ناهض الحجة، وردوا بغيظهم لم ينالوا خيرًا، ولكنهم عادوا فضللوا أبناءه عنه، ولفتوهم عن مشرقه، وفتنوهم بزخارف الأقوال والأعمال ليصدوهم عن سبيله، وإن أخوف ما يخافه المشفقون على الإسلام جهل المسلمين لحقائقه وانصرافهم عن هدايته، فإن هذا هو الذي يطمع الأعداء فيهم وفيه، وما يطمع الجار الحاسد في الاستيلاء على كرائم جاره الميت إلّا الوارث السفيه.
...
إن الإسلام في الجزائر ثابت ثبوت الرواسي، متين القواعد والأواسي، قد جلا الإصلاح حقائقه فكان له منه كفيل مؤتمن، واستنارت بصائر المصلحين بنوره فكان له منهم حارس يقظ، وعاد كتابه (القرآن) إلى منزلته في الإمامة فكان له منه الحمى الذي لا يطرق، والسياج الذي لا يخرق.(3/82)
فصل الدين عن الحكومة *
طلائع ومقدمات
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - الواجب على أعضاء المجلس الجزائري المسلمين أن يطلبوا إدخال الدين المسيحي بكنائسه وأمواله ورجاله، تحت سلطة الحكومة دخولًا عمليًّا، بحيث تكون هي التي تتصرف في الأموال، وتولي من يكون جاريًا على هواها، وتعزل من يدعو إلى نزعة سياسية أو إلى حزب أو إلى انتخاب، وأن يطلبوا إدخال الدين اليهودي ببيعه وأحباره وأوقافه تحت سلطتها أيضًا، بحيث لا يجري شيء من التصرفات في ذلك الدين إلّا بأمرها وعلى ما يرضيها، فتسمي الموظفين الدينيين، وتقوم لهم بأجورهم، وتحاسبهم على الأنفاس، وتعزل كل من يستحق العزل، كل ذلك على ما يشهد "الدوسي" (1) المبارك.
يجب على النواب أن يطالبوا بهذا ويتشددوا فيه، لأنه هو الديموقراطية، وحكومة الجزائر ديمقراطية، ولأنه إنصاف وعدل، وحكومة الجزائر منصفة عادلة- تبارك الله أحسن الخالقين- ولأنه المظهر الواضح لقوة الحكومة وسلطتها، ولأنه زيادة في تلك القوّة وتلك السلطة.
فإذا أبى عليهم ذلك زملاؤهم من النواب الفرنسيين واليهود، وقالوا: إنهم لا يتدخلون في الأديان، أو أبت الحكومة، وقالت: إنها حكومة لائكية، فليقل النواب المسلمون في صراحة وحق: والإسلام؟ ... لماذا يبقى غريبًا شاذًا بعيدًا عن هذه اللائكية؟ إن الأديان في الوطن ثلاثة، فمن الواجب أن تعامل معاملة واحدة، وإن المسلمين ومعابدهم أكثر عددًا، فمن الإنصاف أن يكونوا هم القاعدة في المعاملة، والأصل في وضع الأحكام، وما دام دينهم "مستعمَرًا" فمن العدل أن يكون الدينان مستعمَرين أيضًا، فإذا لطفنا العبارة قلنا: ما دام الإسلام في قبضة الحكومة، فليكن الدينان الآخران في قبضتها أيضًا.
__________
* نشرت في العدد 57 من «البصائر»، السنة الثانية، 22 نوفمبر سنة 1948.
1) الدّوسي: كلمة فرنسية معناها الملف.(3/83)
هذا هو المنطق المعقول الحكيم الصائب المتزن، فليتمسك به النواب المسلمون، وليكونوا رجالًا، فإذا رضيت الحكومة (واستطاعت) ضمّ الدينين إلى حوزتها، ووضعتهما تحت تصرفها، كما ضمت الشركات المالية مثلًا، فإن الأمة الإسلامية من وراء النواب ترضى ببقاء مساجدها وأوقافها بيد الحكومة، ونحن نكسر الأقلام، ونكم الأفواه، ونحبس الألسنة، فلا نتحرك في هذه المسألة بحرف ولا نفس، لأن هذه الحالة الخاصة بنا إن كانت خيرًا فنحن لا نرضى أن نستأثر بها دون جيراننا المسيحيين واليهود، وإن كانت شرًّا فلماذا نختص بها وحدنا، ونحن نريد أن يشاركونا فيها حتى يخف ثقلها، ويهون وقعها، والمصيبة إذا عمت هانت، ومن معاني الديمقراطية الاشتراك في الخير والشر.
إن المسألة خطيرة، وإنها مسألة تهم تسعة ملايين من المسلمين، وإن النواب مسؤولون عنها عند الله، محاسبون عليها من الأمة، وإن حجة الأمة فيها أوضح من الشمس، وإننا سنشرحها للنواب حتى يكونوا على بصيرة، وحتى لا يغتروا بالآراء المسخرة من الطوائف المسحرة.
...
2 - لو كانت الحكومة الفرنسية صادقة في فصل الإسلام عن حكومة الجزائر، مجتهدة فيه غير مقلدة للإدارة الجزائرية، ولا متأثرة بأفكارها الاستعمارية الضيقة، لو كانت كذلك لتولت بنفسها ذلك الفصل قبل تقرير دستور الجزائر، ولنفذت الفصل بأصوله وفروعه، حتى يكون الدستور- كدساتير الأمم الديمقراطية- خالصًا للدنيويات التي يشترك فيها جميع الناس، خاليًا من الدينيات التي تخص الطوائف، وبذلك يكون دستورًا لأمة جزائرية منسجمة، حرة في أديانها مقيدة بدستور واحد في دنياها، ولكن الحكومة الفرنسية- في ما بلونا من أمرها- يدركها الغرق في تيار المستعمرين وأعوانهم من الحكام الإداريين كلما اعترضتها مشكلة من مشاكل الجزائر، فلا تسنّ إلّا ما يرضيهم وإن أغضبت الحق والإنسانية، وهدمت الجمهورية والديمقراطية ولا ندري أذلك كله دلال أم هيبة أم هما معًا؟
وفي فصل الدين عن الحكومة وإيكاله إلى أهله شرف عظيم للحكومات الديمقراطية، وأيُّ شرف أعظم لفرنسا- مثلًا- من أن يعلن رئيس جمهوريتها أو رئيس وزرائها- بموافقة برلمانها- أنها فصلت الإسلام بمساجده وأوقافه وقضائه عن حكومة الجزائر وتركته لأهله، يتصرفون فيه بحرية كما يتصرف إخوانهم في المغرب وتونس والهند والصين، فتفوز فرنسا وبرلمانها بالذكر الحسن والثناء الطيب في العالم الإسلامي أولًا، وفي العالم الديمقراطي ثانيًا، لأن التسلط على الأديان بالصورة التي في الجزائر ليس من الإسلام ولا من(3/84)
الديمقراطية ولا من الإنسانية، فلا عجب أن يطرب لتحرير دين عظيم من ربقة الاستعباد في ناحية من الأرض، كل مسلم على وجه الأرض وكل ديمقراطي وكل إنسان.
ولكن الحكومة الفرنسية تتنازل عن هذا الشرف العظيم، وهو إعلان الفصل القطعي تشريعًا وتنفيذًا، للمجلس الجزائري، وهو محجور البرلمان الفرنسي، وللحكومة الجزائرية، وهي فرع الحكومة الفرنسية؛ فهل كان هذا التنازل تواضعًا وزهدًا وإيثارًا للمجلس الجزائري ومحبة؟ لا لا.
... ونحن نعرف السر في هذا التنازل ونعرف أن حكومة فرنسا وحكومة الجزائر كانتا على اتفاق فيه، ونعرف أن من تقاليد الحكومة الجزائرية التمسك الشديد بهذه السلطة المطلقة على مساجد المسلمين وأوقافهم، وما هي سلطة، بل هي ملك مديد، رعاياه هذا العدد العديد من المفتين والأئمة والمؤذنين و"رجال الدين"، وإن لحكومة الجزائر في بقاء هذا الجيش تحت يدها مآرب أخرى تفوتها بانفلاته من يدها، وما زالت هذه الحكومة منذ عشرات السنين تعارض في قضية الفصل وتطاول وتمدّ الآجال، إلى أن أرهقتها المطالبة وحدثت فكرة "دستور الجزائر" فأوحت إلى حكومة فرنسا أن تنص على الفصل، وتكل تنفيذه إلى المجلس الجزائري الذي ولده الدستور، لتصل عن طريقه إلى فائدتين: الأولى بقاء ما كان على ما كان، والثانية إفهام العالم بأن نواب المسلمين هم الذين رضوا بل طلبوا إبقاء ما كان على ما كان، وما فعلت هذا إلّا لاعتمادها على نفسها وعلى وسائلها المعروفة في تكوين المجلس الجزائري وتشكيله على الكيفية التي تضمن لها ما تريد؛ وقد فعلت كل ذلك وكونت لنفسها وسائل الفوز، ولم تبق إلّا غيرة السادات النواب على كرامة دينهم وتقديمها على كل اعتبار؛ فليفهم النواب المسلمون هذا جيدًا، وليحاسبوا ضمائرهم، وليعلموا أن الدين لا مساومة فيه ولا مهاودة، وأن جميل الحكومة مع بعضهم في الأول لا يكون على حساب الدين في الأخير.
...
3 - ووقع الفصل في باريز لفظًا وكتابة ونصًّا في الدستور. فهل يقع الفصل هنا في الجزائر؟ وهل يقع على ما تريده الأمة، أو على ما تبغيه الحكومة؟ والنواب المسلمون مهما يبلغ ببعضهم التأثر فإنهم لا يوافقونها على إبقاء ما كان على ما كان، لأن ذلك مناقض للفصل الذي نص عليه الدستور نصًّا صريحًا ...
أما الحكومة الجزائرية فإنها تحلف برأس كل عزيز عليها أنها قادرة على الجمع بين الفصل والوصل في آن واحد، وأنها زعيمة بالجمع بين المتناقضات، ولا عجب من حكومة(3/85)
كاثوليكية لائكية، أن تضيف لهما نقيضًا ثالثًا، هو (التمسك بالإسلام) ...
قال الراوي: وكيف يتم ذلك؛ ...
...
4 - ذلك أن الحكومة الجزائرية معروفة بالحزم في مثل هذه القضية من شؤون المسلمين، ومعروفة بادخار الرجال لأوقات الشدة وبوضع الإحسان عند من يشكره ولا يكفره، ومن بين من ادخرتهم لهذه القضية، وجربتهم فكشفت التجربة عن إخلاص وطاعة، واصطنعتهم فكان الاصطناع في محله- رجل طموح إلى المناصب، يركب لأجلها الصعب والذلول، ويستسهل في سبيلها إخراب البصرة وإحراق روما، وهو الحاج، الحاج فعلًا، الحاج نية، أمير الحج الجزائري في إحدى الحجات، الشيخ محمد العاصمي المفتي الحنفي بالجزائر.
ما زلنا نتتبع أعمال هذا الرجل منذ سنين، ونتوسم من حركاته أنه عامل نصب وخفض معًا، وأنه مهيأ من الحكومة لأن يكون "حلقة مفقودة" لقضية ما في يوم ما، حتى أوقفنا حسن حظنا أو حظه في هذه الأيام على تقرير مطول في هذه القضية، مرفوع باسمه إلى المجلس الجزائري، مقدم إلى بعض أعضائه دون بعضهم، ومما يلفت منه نظر القاصرين (أمثالنا) - ويبين لهم أن الأمر مدبر من زمان بعيد- أن التقرير مؤرخ بيوم 21 مارس سنة 1948، مع أن المجلس الجزائري لم ينتخب أعضاؤه إلّا يوم 4 أبريل سنة 1948.
وقرأنا التقرير من أوله إلى آخره، وأعدنا قراءته استجلاء أو استحلاء، فوالذي خلق العاصمي- وقدر أن يكون مفتيًا في العاصمة- ما وجدنا فيه من العاصمي إلّا اسمه وختمه. أما ما عدا الاسم والختم فهو من وضع إدارة غير إدارة الفتيا ورجال غير (رجال الدين)، وقد فهمنا التقرير ومراميه، والمحور الذي يدور عليه، وسنشرحه شرحًا يفك معضلاته، ويفتح مقفلاته. ومعذرة إلى القراء، فهذه طلائع يتبعها الجيش العرمرم، ومقدمات بعدها الحكم المبرم ...(3/86)
التقرير الحكومي العاصمي *
ملاحطات عامة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
في الإدارة الجزائرية العليا مطبخة- ليست كالمطابخ- تُطبخ فيها الآراء والأفكار في كل ما دق وجل من شؤون المسلمين، والقائمون على هذا المطبخ طهاة يُحسنون الفن، ودهاة يحكمون بأول الظن، وهم منتخبون من طراز خاص، أول الشروط فيهم أن يكونوا قد أفنوا أعمارهم في حكم المسلمين، واجتازوا المراتب الإدارية من أدناها إلى أعلاها، وتمرسوا بمحكوميهم، وفهموا ميولهم واتجاهاتهم، ودرسوا مواطن الضعف والقوّة فيهم، وآخر الشروط فيهم أن يكونوا استعماريين قبل كل شيء، والسيد السند من هؤلاء هو الذي يُثبت أنه حكم المسلمين حكمًا استبداديًّا وعرف كيف يرهقهم، وكيف يُذلهم وكيف يضرب بعضهم ببعض ويمزق شملهم، وكيف يديرهم على أن يكونوا آلات صماء لا أناسًا، وكيف يستلب منهم العقل والإدراك، وكيف يروضهم على أن يقابلوا اللكم بالبكم، والصفع بالشكر ... حتى يكتسب من كل ذلك ملكة فيما يسمونه "السياسة الأهلية"، بحيث لو كانت لها درجات كالدرجات العلمية لمنحوا صاحبها لقب أستاذ في الشيطنة، كما يقال أستاذ في الفلسفة.
في هذا المطبخ طبخ التقرير العاصمي ملفوفًا بتوابله، وفيه وُلد محفوفًا بقوابله، فجاء كما رأيناه وفيه طعم الإدارة ولونها وريحُها، ولو نطق لشهد بالمطبخ والطابخ.
...
وفي تلك الإدارة نفسها معمل لصنع الرجال على أشكال ومقادير مخصوصة، لا يشترط في المادة الخام إلّا أن تكون ذات قابلية واستعداد، وطوع وانقياد، وفي المعمل جهاز
__________
* نشرت في العدد 58 من «البصائر»، 29 نوفمبر عام 1948.(3/87)
كيموي من خصائصه إحالة الأعيان معاني، والمعاني أعيانًا فيحيل الرجال مكائد، والمكائد رجالًا ... وفي هذا المعمل صُنع العاصمي وامتحن، فكشف الامتحان عن استيفاء الخصائص والصلاحية للاستعمال، وأصبح- بعد استكمال التجربة والاختبار- موظفًا في إحدى هذه الوظائف (المدّخرة لوقت الحاجة ولمن تدعو إليهم الحاجة) وهي الإفتاء الحنفي بالجزائر، أي مفتي الجامع الحنفي بالجزائر، إذ لم يبق من الحنفية فيها إلّا جامع يحمل هذه النسبة، وكان من دهاء الاستعمار أن استغل هذه النسبة المجردة، ورأى أن الجامع يجمع ولا يفرق، فوضع فيه رجلًا- أيًّا كان- ليفرق به ولا يجمع، وحفظ به هذه الوظيفة لهذه الغاية، ومن دأب الاستعمار فينا أن يُعمر الرجال بالوظائف، لا الوظائف بالرجال، وإذا لم يبق في الجزائر من يتعبد على مذهب أبي حنيفة أو يتعامل عليه، فأيُّ معنى لوجود مفت حنفي أو قاض حنفي، لولا أن للاستعمار مأربًا في إبقاء هذه المعالم الصورية من بقايا العهد التركي، على أن نسبة المساجد إلى المذاهب ليست من الإسلام في شيء، إذ هي منافية لروح الإسلام، ومناقضة لحكمته في المساجد.
إن وظيفة المفتي من أساسها تزوير على الإسلام، لأن الفتيا في الحلال والحرام حق على كل عالم بالأحكام مستوف للشرائط المقررة في الدين ... وإن وجود وظيفة مفت حنفي في الجزائر تزوير على المذهب الحنفي، وأين العاصمي ومن جرى مجراه من فقه أبي حنيفة ودقائقه وقياسه؛ إن نسبة الحنفي، تشترك في بني حنيفة وأبي حنيفة، فلينظر العاصمي أشبه النسبتين به، وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الذين آووه ونصروه، ومن غرائب الشبه أن مسيلمة الحنفي كان تشويشًا على النبوة الحقة، وأن المفتي الحنفي كان تشويشًا على مطالب المسلمين الحقة.
...
والتقرير محبوك الأطراف حبكًا استعمارًّيا، مسبوك الألفاظ سبكًا إدارًّيا، يبدأ من الحكومة وينتهي إليها، يلوح من خلال ألفاظه ومعانيه حرص الحكومة على أن لا يفلت هذا الصيد من يدها، فهي تستنجد التاريخ وتستشهد بعوائد المسلمين ونظم الأقطار الإسلامية.
وهو ينطوي على تلك الروح التي نعرفها في المعاهدات السياسية من دس الحيلة، وإخفاء الغرض، والاستهواء بالمصلحة، والتزوير على التاريخ، والقياس مع الفارق.
وهو يدور على أصل واحد، ولكنه أصل فاسد، يفسد كل ما انبنى عليه، وهو أن أولى الناس بالتصرّف في المساجد هم الموظفون الرسميون، ويسميهم التقرير "رجال الدين"، كأن الأمة كلها نساء الدين، وليس من رجاله إلّا العاصمي وآله وصحبه، ويستشهد على ذلك بأن(3/88)
الحالة كانت على هذا في العهد التركي وهي على هذا في الأقطار الإسلامية، وهذا كله افتراء على الحقيقة وعلى التاريخ سنكشف أمره، ويستنتج التقرير من هذا أن المسألة كانت إدارية، ويجب أن تبقى إدارية، ويبدئ في هذا ويعيد، لأنه هو بيت القصيد ...
وهو يقبح الانتخاب (يعني انتخاب الجمعيات الدينية في تكوينها، وانتخابها هي للمجلس الإسلامي الأعلى الذي أجمع عليه كل المطالبين وأهل الرأي)، ويغالط في الأمر بأن انتخاب تسعة ملايين هو الفوضى بعينها، ويقدح في الجمعيات الدينية بأن وظيفتها الترميم والإصلاح والفرش، ويهوّل بأن الانتخاب مدخل من مداخل السياسة إلى المساجد. كما يقدح في الجمعيات والهيئات المطالبة بحقوق الأمة في دينها- بأن وراء كل واحدة منها حزبًا سياسيًّا يؤيدها، إلى غير ذلك مما سننقله عند المناقشة التفصيلية.
...
يا هذا أو يا هؤلاء، أعني البارز منكم والمستتر، إن الإسلام دين (ديمقراطي) سمح، وليس فيه نظام ... "أكليريكي" متسلط كبقية الأديان، وإنما هو دين روحي، تقوم بمصالحه المادية الخلافة إن كانت، فإن لم تكن فالحكومة القائمة، فإن لم توجد فجماعة المسلمين، وإن من تسمونهم رجال الدين، تعينهم- في غير الجزائر- الحكومات الإسلامية أو جماعة المسلمين، والحكومات الإسلامية وجماعة المسلمين لا تكيد لدينها بل تنصح وتسدد وتقارب، ولا تختار للوظائف الدينية إلّا أصحاب المؤهلات العلمية، المستكملين للشروط الدينية، لأن وراء الجميع رقيبًا عتيدًا من الدين، وأمام الكل حسابًا شديدًا يوم الدين، وأما "رجال الدين" عندنا فقد اختارتهم حكومة لائكية متسلطة، وما اختارتهم إلّا بعد أن ارتضتهم ووزنتهم بميزانها لا بميزان الإسلام، وراعت فيهم شروطها لا شروط الإسلام، وما رأيناها تحفل في هذه الوظائف بالعلم، ولا بالكفاية الدينية، وإنما تحفل بشيء واحد هو ما يشهد به "الدوسي"، وما عهدنا موظفًا من هؤلاء جاءته الوظيفة وهو في داره من غير أن يسعى لها سعيها، بل ما وصلت الحكومة حبلهم بحبالها إلّا بعد أن اتخذوا لها الأسباب، وطافوا بالأبواب، وما زلنا نقول: إن الحكومة تحتفظ بهذه الوظائف الدينية لأصحاب الخصائص المطلوبة لها، وإنها في حقيقتها مصائد لا وظائف، وإنها لا تدفع لهم الأجور على الصلاة والأذان والفتيا فسواء عندها أصلّى المسلمون أم لم يصلوا، إنما تدفعها لغايات ومقاصد يجمعها قولك: "القيد والصيد" ومحال على الحكومة أن تُطعم ثمرها من يعصي أمرها، وقد قرأنا في محاضر المجلس المالي القديم أسماء عجيبة لأجور هذا النوع من الموظفين.(3/89)
أليس تسليم الحكومة المساجد إلى هؤلاء الموظفين تسليمًا من الحكومة إلى الحكومة؛ وهل يستطيع واحد من هؤلاء أن يعصي لها أمرًا ولو كان فيه خراب الكعبة.
أما ما يغالط به التقرير من أن الانتخاب يجر السياسة إلى المساجد، وما يتهمنا به معشر المطالبين برفع سلطة الحكومة على الدين وتسليمها للأمة، من أن وراءنا أحزابًا سياسية، فهو سلاح من أسلحة الحكومة المفلولة، ما زالت تحارب به كل عامل، وكلمة من كلماتها المعلولة، ما فتئت تسكت بها كل قائل، ونحن نرد عليها هذه التهمة بالحقيقة، وهي أن تسلطها على مساجدنا وأوقافنا- وهي لائكية- هو عين السياسة، وإسنادها الوظائف الدينية إلى من تختاره وترتضيه هو رأس السياسة، ووضع هذا التقرير باسم العاصمي هو ذنب السياسة، ولولا السياسة ما كان للمفتي الحنفي وجود، ولولاها ما تيسرت حجاته المتعددة، ولا قضيت حاجاته المتجددة، وإذا كان غير العاصمي منسوبًا إلى السياسة، أو متهمًا بها، أو لصيقًا فيها، فالعاصمي ابن السياسة لصلبها ولرحمها، ولكنه ولد من غير السبيل المعتاد، على رأي عبد الحي الكتاني.
وبعد فقد قرأ القراء تمهيد التقرير في العدد الماضي، وتبينوا من كل جملة منه رمية إلى هدف، وقذفة بالدين إلى جدف (1)، وسننقل لهم ما يتعلق به غرض المناقشة في الأعداد الآتية، وإنما هذه ملاحظات عامة.
__________
1) الجدف هو الحدث، وهو لغة فيه مما تعاقب فيه الثاء والفاء وهو القبر.(3/90)
كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية الفرنسية *
أيها الرئيس:
نحييكم- على كثرة الحوائل بيننا- كما يحيي العربي الكريم ضيفه. ويسوءنا ويسوء الحقيقة أن تزوروا الجزائر فتروا كل شيء إلّا الجزائر.
يسوء الحقيقة أن تزوروا الجزائر زيارة تعدّ من أعمالكم وتسجل في تاريخكم، وتشغل نقلة الأخبار ومستمعيها أيامًا، ويسيل فيها نهران من مال ومداد، وأنتم لم تروا الجزائر الحقيقية بما فيها من مآس وبلايا وجهل وفقر وظلم، وشعب كامل يتألم، وطائفة قليلة تتحكم، وإنما رأيتم زُمرًا لم يحدها إليكم أمل واسع ولم يحفزها إلى لقائكم ضمير حر، ولم يعرضها أمامكم سائق من عقيدة، ولا داع من اختيار، وإنما جمعت بوسائل كالتجنيد الإجباري، وسيقت بأسباب من الترغيب والترهيب ليس فيها إيمان ولا وجدان.
يسوء الحقيقة والواقع أن تزوروا الجزائر هذه الزيارة التقليدية التي تقابل بالمظاهر المصطنعة، والخطب المصنوعة، وأن تحاطوا بالمواكب الرسمية التي تحجب عنكم الحقائق كما يحجب الضباب نور الشمس، وأن تصافح سمعكم أصوات ليس فيها صوت حر، فلو كنتم أجانب عن الجزائر وعما يجري فيها لخشينا أن تصدروا عن الجزائر وفي ذهنكم منها صورة غير صورتها.
كل الذي ترونه وتسمعونه في زيارتكم هذه مجموعًا ومتفرقًا ليس هو الجزائر ولا صوت الجزائر، وإنما هو شيء مألوف في الجزائر لا يثير اهتمامًا من عاقل، ولا حركة من مجنون!
أما حقيقة الجزائر فاستجلوها- إن كنتم تريدون الحقيقة- مما وراء المظاهر تجدوها في جملة: وطن تسعة أعشار من فيه رقيق زراعي وخدم صناعي مفروض عليه الحرمان من
__________
* نشرت في العدد 81 من جريدة «البصائر»، 30 ماي سنة 1949.(3/91)
كل حق، وعشره العاشر سادة مفروض لهم التمتع بكل حق، وبين الفريقين فريق انفصل عن الأول ولم يصل إلى الثاني، وهو الذي ترونه.
...
تغير الكون وما فيه، ولم تتغير الحكومة الجزائرية في نظرتها إلى الدين الإسلامي والمسلمين، فالدين الإسلامي مملوك للحكومة الجزائرية، تحتكر التصرّف في مساجده ورجاله وأوقافه وقضائه، وقضية فصل الدين عن الحكومة معلقة بين السماء والأرض، لا يهبط بها إنصاف، ولا يصعد بها عدل، وواقفة بين حكومة فرنسا وحكومة الجزائر موقف التنافس، تلك تحكم بالفصل قولًا وهذه تحكم بالوصل عملًا، وهي تماطل في الفصل لأنها لا تريده، وهي تهيئ الوسائل لتعطيل تنفيذه، أو لجعله صورة بلا حقيقة، وجسدًا بلا روح، وهي تملك من وسائل التعطيل مجلسًا يقدم البحث في مرتباته وألقابه على البحث في مصالح الأمة التي لم يكن لها في تكوينه رأي، ولا في انتخابه حرية.
والتعليم الديني في هذا الوطن المسلم معطل بتعطيل المساجد، ومئات الآلاف من شباب المسلمين تتشوق إلى تعلم دينها، ولكن مساجدهم الموقوفة لذلك مغلقة في وجوههم، والدين الإسلامي وتعلمه وتعليمه حق طبيعي وضروري لتسعة ملايين من المسلمين، ولكنهم محرومون منه، والتعليم العربي في هذا الوطن العربي جريمة يعاقب مرتكبها بما يعاقب به المجرم من تغريم، وتغريب وسجن؛ ومدارسه تعاني من التضييق والتعطيل ألوانًا متجددة، ورجاله عرضة في كل حين للمحاكمات في المحاكم الجمهورية التي تتسم بوسمكم، والمحاكمات على التعليم جارية على قدم وساق في هذه الأيام، التي تسبق زيارتكم، كأنها إعداد لها، وابتهاج بها؛ ولو كانت قضايا المحاكم، وسجلات البوليس، وأعمال الحكام، مما يعرض عليكم، أو كان عمار السجون ممن يمثلون بين يديكم- لرأيتم من الأولى عشرات القضايا المتعلقة بالتعليم العربي في ضمن الجرائم والمخالفات، ولرأيتم من بين الآخرين كثيرًا من المعلّمين في عداد المجرمين! وإن قانونًا يمنع التعليم كيفما كان لونه، ويعاقب المعلم كيفما كان جنسه لهو قانون عدو للعلم!! فكيف تسيغه فرنسا (العالمة) وكيف تشرعه فرنسا (المعلمة)؟ ...
أيها الرئيس:
إن الشعب الجزائري قد أصبح- من طول ما جرب ومارس- في حالة يأس من العدالة، وتسفيه للوعود والعهود، وكفر بهذه الديمقراطية التي يسمع بها ولا يراها، وإنه أصبح لا يؤمن إلّا بأركان حياته الأربعة، ذاتيته الجزائرية، وجنسيته ولغته العربيتين، ودينه(3/92)
الإسلامي، لا يستنزل عنها برقى الخطب والمواعيد، ولا يبغي عنها حولًا، ولا بها بديلًا.
وإن الشعب الجزائري لا ينتفع بنتائج شيء لا رأي له في مقدماته، وإن الدستور الجزائري على نقصه واختلاله لم يكن للأمة فيه رأي، فكيف يجني منه ثمرة؟ أو ينتفع منه بنتيجة؟ وإن المجلس الذي انبثق منه ناقص بنقصه، مختل باختلاله، وقد جالت الأيدي في تكوينه، فجاء كالمولود سقطًا، ليس فيه شيء من خصائص الحياة، فكيف ترجى منه الحياة؟
وإن الشعب الجزائري مريض متطلع للشفاء وجاهل متوثب إلى العلم، وبائس متشوق للنعيم، ومنهوك من الظلم، مستشرف إلى العدالة، ومستعبد ينشد الحرية ومهضوم الحق يطلب حقه في الحياة، وديمقراطي الفطرة والدين، يحن إلى الديمقراطية الطبيعية، لا الصناعية؛ ولكنه ليس كما يقال عنه: جائع يطلب الخبز، فإن وجده سكت.
أيها الرئيس:
إن حكومات الجزائر تعاقبت في ألوان من المذاهب، ولكن الشعب الجزائري لم ينل على يدها خيرًا، ولم يصل إلى قليل ولا كثير من حقه المهضوم، لا في دينه ولا في دنياه، وإنما هي مظاهر تتبدل بلا فائدة، وسطحيات تغير بلا جدوى، وأسماء بلا معان، والحقيقة هي هي!! ...
وان هذه الحكومات المتعاقبة تجري- من يوم كانت- على أسلوب من شر أساليب الاستعمار وأقبحها، فهي تتخذ الدين الإسلامي آلة لخدمة السياسة، ولذلك تتمسك هذا التمسك بمساجده وأسبابه، وهي تجعل السياسة آلة لهدم الدين الإسلامي، وهي تحارب اللغة العربية والتعليم العربي لتجعل من ذلك وسيلة إلى محو الجنسية العربية، وهي تسد أبواب العلم في وجوه المتعلمين بوسائل شتى ليبقى الشعب أميًّا جاهلًا، فينسى نفسه وتاريخه، ويقنع بأخس الحظوظ في الحياة، وإن بقاء نحو من مليونين من أبناء الشعب محرومين من التعليم بجميع أنواعه لأصدق دليل على ذلك.
إن حكومة توسع السجون، وتضيق المدارس، حكومة سيئة الظن بنفسها قبل أن تكون سيئة الظن بالشعب.
أيها الرئيس:
ظهرت في عهد هذه الجمهورية الرابعة نغمة جديدة أنكرناها وكفرنا بها لأنها لا تنسجم مع ماضينا، ولا تتناسق مع حالنا ولا مستقبلنا، وانتقدها الرأي العام العالمي العاقل اليقظ المنطقي لأنها ناشزة عن قرارها، مخالفة للواقع المحسوس؛ هذه النغمة هي نغمة "الوحدة الفرنسية". ولا يشك عاقل في أن كلمة الوحدة هذه مقطوعة الصلة من معناها، وكأن(3/93)
واضعها هازئ بنفسه، أو بالناس، أو بهما معًا، وكأنها سخرية ساخر، لم تسبقها روية، ولم يحكمها منطق، ولم يَحكها تدبر.
لا يسيغ منطق ولا عقل كيف تكون الوحدة بين سيد وبين مسود، وكيف تتصور بين حاكم مزهو بعصبية جنسية تظاهرها عصبية دينية، وبين محكوم؟ وكيف تتفق في وطن ساكنوه صنفان، وقوانينه صنفان؟ وكيف تتم في بلد كنيسته حرة، وبيعته حرة، ومسجده مستعبد؟ وكيف تتجاور في عقيدة أو لسان مع كلمة السيادة الفرنسية التي تلوكها الألسنة، وتنضح بها الأقلام خصوصًا في هذه الأيام؟!
...
إنكم أقمتم في الجزائر في عهدها الأخير عامين، وأحطتم رؤية وعلمًا بما يجري فيها، وإنها باقية حيث تركتموها، ما تقدمت إلّا في التأخر، وما ترقت إلّا في الانحطاط، فنعيذكم بشرف الحرية، وحرمة الضمير الإنساني، وكرامة العلم- أن تغتروا بما تسمعونه من خطب، وبما ترونه من مظاهر، فكل ذلك مهيأ لتغطية الحقيقة والتضليل عنها، فالتمسوها في جدب العقول لا في خصب الأرض، وفي فوضى الحياة لا في نظام المواكب، وفي بؤس البادية لا في نعيم المدينة- تجدوها ماثلة للعيان، ناطقة بالبرهان، صادقة في البيان.(3/94)
هل دولة فرنسا لائكية *
(تعليق على كلمات في خطبة م. نيجلان في عين صالح)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
لم نتعرّض في يوم من الأيام لأعمال الوالي العام الحالي، ولم نعلّق على خطبه بحرف، لأننا قوم نعمد في مقاومتنا إلى المبادئ لا إلى الأشخاص، ولا نتوجّه في حربنا إلى رجال الاستعمار، بل إلى الاستعمار الذي يتكلمون باسمه، فإذا زال الاستعمار رجع هؤلاء الرجال نَاسًا كالناس، أو ماتوا كمدًا عليه؛ ولأننا نرى أنه والٍ كالولاة في باب السياسة الجزائرية، وفي باب معاملة العربي الجزائري، وفرنسي كالفرنسيين في باب الاستعمار وفهمه والمحافظة عليه. وكلّ والٍ في الجزائر فهو مبعوث برسالة، ومتلق الوحي من فرنسا، فهو مبلغها، فعامل بها، فمنفّذ لها؛ وكل فرنسي معمر في أرض الجزائر، أو ممثل للاستعمار فيها، أو موظف في حكومتها، فهو جبّار في الأرض مفوّض عليها، معتقد أنه ملك بين رعايا، ومالك بين عبيد، فالمعمر كله أنانية واستئثار، والحاكم كله ترفّع واحتقار، والموظف كله سخرية وانتهار، والحالة هي الحالة، تختلف مشارب الولاة ونزعاتهم الحزبية، فإذا جاءوا هنا كانوا شيئًا واحدًا! لذلك قلنا قديمًا:
لا يقتضي تحوّل الأحوال … ذهاب والٍ ومجيء وال
وإلى الآن لم يرزقنا الله حاسّة ندرك بها الفرق بين فرنسي وفرنسي من الطراز الذي ذكرناه، بل الذي أدركناه، وشهدت به التجارب القطعية أنهم نسخ من كتاب، فالعالم، والنائب، والجندي، والحاكم، والموظف البسيط، والفلّاح، كلهم في ذلك سواء، وكلهم جار فيه على جبلة كأنها من الخلقيات التي لا تتغير، ومن زعم فيهم غير هذا فهو مخدوع أو مخادع.
وأخرى زهدتنا في الحديث عن هذه الخطب وهذه الأعماللإوهي أنها شرح للاستعمار، وقد عرفناه، وتغنٍّ بالقوّة، وقد آمَنَّا بأن الله أقوى، وصدى من كلام
__________
* نشرت في العدد 103 من جريدة «البصائر»، 16 جابفي سنة 1950.(3/95)
الاستعماريين القدماء، وقد مللناه. فأمّا عدل ينشر، وصلاح يُؤثر، وأعمال تجمع القلوب على الصفاء، ومواعيد مقرونة بالوفاء وعلاج للعلل، وترقيع للخلل- فإننا لم نرَ من ذلك شيئًا- وأما معجزات من الأعمال، التي يتفاضل بها الرجال، فإننا لم نرَ في ناحية الإيجاب إلا اغتصاب الحكومة لأوراق الانتخاب، واستلابها لإرادة الناخبين بالقوّة المسلّحة، وبناء مجلس لا يتصل بالديمقراطية من قريب ولا من بعيد؛ ولم نرَ في ناحية السلب إلا سكوتها العميق عن القضايا التي أحالها البرلمان الفرنسي على المجلس الجزائري، ومنها قضية "فصل الحكومة عن الدين" ...
...
لم نتعرّض لأعمال الوزير الوالي وخطبه المتكررة، حتى سمعنا خطبته الأخيرة (بعين صالح)، وقرأناها في الصحف، فلفتتنا كلمات منها، جلَّى فيها مقاصد الاستعمار بالجزائر، ونبّهنا على السر في تشدّد حكومته في قضيّتنا الدينية، وتصامِّها على سماع كلمة الحق فيها، تلك الكلمات هي ثناؤه- في معرض الامتنان على الجزائر- على الجندي، والمعلّم، والطبيب، والراهب، وقرنه إياهم في قرن. ومعنى هذه الكلمات عندنا أن فرنسا قذفت هذا الوطن بأربعة أنواع من القوى مختلفة التأثير، متّحدة الأثر، متباعدة الميادين، ولكنها تلتقي على هدف واحد، وهو التمكين للاستعمار؛ وأنها حاربته بأربعة أصناف من الأسلحة البشرية، أخفّها فتكًا وأقصرها مدى، الجندي ...
جاءت فرنسا إلى الجزائر بالراهب "الاستعماري" لتفسد به على المسلمين دينهم، وتفتنهم به عن عقائدهم، وتشككهم بتثليثه في توحيدهم، وتضار في ألسنتهم كلمة "الهادي" بكلمة "الفادي". ذلك كله بعد ما أمدّته بالعون، وضمنت له الحرية، وكفرت به هناك لتؤمن به هنا.
وجاءت بالمعلّم "الاستعماري" ليفسد على أبناء المسلمين عقولهم، ويلقي الاضطراب في أفكارهم، ويسْتَنْزِلَهم عن لغتهم وآدابهم، ويشوّه لهم تاريخهم، ويقلّل سلفهم في أعينهم، ويزهدهم في دينهم ونبيّهم، ويعلّمهم- بعد ذلك- تعليمًا ناقصًا: شر من الجهل.
وجاءت بالطبيب "الاستعماري" ليحاري على صحة أبنائها قبل كل شيء، بآية أنه لا يكون إلا حيث يكون الأوربيون، لا في المداشر التي يسكنها الألوف من المسلمين وحدهم، ولا في القبائل المتجاورة التي تعد عشرات الألوف منهم. أما هذا الطبيب الاستعماري بالنسبة الى المسلمين فكأنما جاء ليداوي علة بعلل، ويقتل جرثومة بخلق جراثيم، ويجرّب معلوماته فيهم كما يجرّبها في الأرانب؛ ثم يعيش على أمراضهم التي مكّن(3/96)
لها الاستعمار بالفقر والجهل، مما جعل الجزائر كلها- إذا استثنينا الحواضر- بستان المشمش في نظر ابن الرومي (1). هذا هو المعنى الذي نفهمه من مجيء هؤلاء، ومن ثناء السيد الوزير الوالي عليهم.
...
وبعد، فهل تتّسع الصدور لمناقشة هذه الكلمات الصريحة، بكلمات صريحة؟
جاءت فرنسا إلى الجزائر بالجندي ففتح بالقوة، ومهّد بالقوة، وسجّل لها في تاريخ الإنسانية صحائف لا ندري ما لونها، إلا إذا قرأنا "رسائل سانت أرنو"، وتقرير لجنة البحث البرلمانية سنة 1833، وكتاب "كريستيان" وكلام النائب المنصف "روجي" في مجلسى الأمة الفرنسي شهر جانفي سنة 1834.
ثم جاءت بعده بالمعلّم والطبيب والراهب، بعد أن أجرت لهم عملية التلقيح بمادة "الاستعمار"، وهي مادة من خصائصها تعقيم الخصائص، فلم يبق المعلم معلمًا علميًّا، ولا الطبيب طبيبًا إنسانيًّا، ولا الراهب أبًا روحيًا، وإنما جاءوا في ركاب الاستعمار ليخدموه ويثبتوا أركانه.
ونظر الناس بعد مرور مائة وعشرين سنة على هذه "الرحمات" الثلاث المرسلة إلى الجزائر من سماء فرنسا، فإذا تسعة وتسعون في المائة من أبناء الأمة الجزائرية أميّون، لم يرَوْا مدرسة، ولم يسمعوا بمعلم، فقدوا قديمهم ببركة الاستعمار، ولم يجدوا الجديد! وإذا الطب الاستعماري لم يقضِ على المرض وإنما قضى على الصحة، فأربعمائة ألف من مجموع الأمة مسلولون، والباقون معلولون، وعشرات الآلاف من الأجنّة تسقط لفقد العناية، ومثلها من الصبيان يموت لسوء التغذية، ومثلها من الأحداث يذبل عوده لفقد وسائل التنمية، وإذا الراهب المبشّر ذئب فلاة، يتربّص اليتم لينصِّر الأبناء، والمجاعات ليفتن الآباء، فكأن من وصايا المسيح عنده أن لا يطعم البطن إلا إذا أخذ القلب، وأن لا يكسو الظهر إلا بالتجريد من الدين، ولا ينشر تعاليم المسيح إلا باستغلال أزمات الضعفاء والبائسين! ... حاشا لدين المسيح عليه السلام وكلمته التي ألقاها إلى مريم أن يكون هذا طريقه إلى النفوس، وهذه طريقته في الانتشار. إن المسيح كان عدوًّا للظلم والباطل، وإن الاستعمار أقبح باطل وأشنع ظلم على وجه الأرض، فهل يُعدّ من أتباع المسيح وورثة هديه من ينصر الاستعمار؟
__________
1) يقول ابن الرومي:
إذا ما رأيت الدهر بستان مشمش … فأيقن بحق أنه لطبيب
يغل له ما لا يغل لربّه … يغل مريضًا حمل كل قضيب(3/97)
إن الاستعمار القائم على الجندي والمعلّم والطبيب والراهب هيكل حيواني يمشي على أربع ... وإن الاستعمار قد قضى بواسطة هؤلاء الأربعة على عشرة ملايين من البشر، فرمى مواهبهم بالتعطيل، وعقولهم بالخمود، وأذهانهم بالركود، وأفكارهم بالعقم، وأضاع على الإنسانية بضياعهم عشرة ملايين من المواهب والعقول والأذهان والأفكار وهي رأس مال عظيم كانت تستعين به- لولا الاستعمار- على الخير العام والمنفعة، وتنتفع به في إقامة دعائم المدنية، فما أشأم الاستعمار على الإنسانية! ...
إن هذه الأمة كانت قبل الاستعمار ذات مقوّمات من دينها ولسانها، وذات مقومات من ماضيها وحاضرها، وكانت أرقى عقلًا، وأسمى روحًا، وأوفر علمًا، وأعلى فكرًا من أمم البلقان لذلك العهد، بدليل أن هذه الأمة كان لها حظ من حكم نفسها بنفسها لم تصل إليه تلك، ولو سارت سيرها الطبيعي ولم يعترضها الاستعمار بعوائقه وبوائقه لأنجبت المعلم الذي يملي الحكمة، لا المعلم الذي يمالئ الحكومة، ولأنجبت الجندي الذي يحرس الحق، لا الجندي الذي يخرس الحق، ولأنجبت المتأله الذي يؤمن بمحمد وعيسى ويوحّد الناس على هديهما، لا المتألّه الذي يسخر الاستعمار لإحياء فريق بإماتة فريق.
...
إننا أمة علم ودين، لم ينقطع سندنا فيهما إلى آبائنا الأولين، وإننا أمة شكران لا أمة نكران، فلو أن المعلّم الذي جاءتنا به فرنسا علّم ناصحًا، وربّى مخلصًا، وثقّف مستقلًا، وبثّ العلم لوجه العلم، ونشر المعرفة تعميمًا للمعرفة، وزرع الأخوة الصادقة في سبيل الإنسانية الكاملة، ولم يقيده الاستعمار ببرامجه، ولا سيّره على مناهجه، لظهرت آثاره الطيبة في الأمة، ولأنطقتنا تلك الآثار بالاعتراف والثناء بالجميل، ولكنّه علّم متحيزًا إلى فئة، وأورد على غير مشربنا، وغرس في نفوس أبنائنا التنكّر لماضيهم، والتسفيه لتاريخهم، والنسيان للغتهم ودينهم. أفهذه هي النعمة التي تمنها فرنسا علينا وتتقاضانا شكرها؟ ...
ولو أن الراهب الذي جاءتنا به فرنسا جاء لينشر تعاليم عيسى بين أتباعه، ويبث تسامحه بين أشياعه وغير أشياعه، للقي منّا التبجيل والاحترام، لأننا أعلم الناس بتعاليم المسيح، ولأننا لا نفرّق بين أحد من رسل الله، ولأننا نعتقد أن النبوات كلها حق وهداية وخير، وأن لاحقها ينسخ سابقها بما هو أكمل وأفضل وأجمع لشمل البشر، وأنفى للشرّ والفساد بينهم، ولكن الراهب الذي جاءتنا به فرنسا إنما جاء ليبارك على القاتل، ويدني الصيد من الخاتل، ويعاون المعمر على امتلاك الأرض، والحاكم على انتهاك العرض، وإنما جاء ليغفر للذين(3/98)
يسفكون دماء الأبرياء ما اقترفوه من ذنوب وآثام. أفهذه هي المنقبة التي تفخر بها فرنسا، وتعدّها من وسائل التمدين، وتتقدّم بها إلى التاريخ؟
...
هناك المظهر، وهنا المخبر ... هناك يقولون إن فرنسا حاملة لواء الحرية وحادية الأمم إليها، وإنها حامية حقوق الإنسان، وإنها زعيمة التحرير في العالم، وإنها أستاذة المثل العليا للإنسانية، وإنها منارة العدل التي يهتدي بها المظلومون، يبدئون القول في ذلك ويعيدونه وينشرونه في العالم، ويكتبونه في كل سطر من صحفهم ومؤلفاتهم ... وهنا يفرضون علينا العبودية، ويمنون بها علينا، ويريدون منّا أن نسمّيها بغير اسمها، وأن نكافئهم عليها حمدًا وشكرًا ... ويزور بلادنا من سمع تلك الدعاية وتأثّر بها فتصوّرنا بها أحرارًا في ملكوت وأبرارًا في نعيم، فلا تقع عينه إلا على عهود بائدة من الأشخاص والأحكام والمعاملات، لا تصلح إلا لمتاحف الأثريات، ولا ترى من هذه الأمة إلا عظامًا معروقة، وجموعًا مفروقة، وأشكالًا من الجحيم مسروقة، ويتردّد بين تكذيب السماع وتصديق العيان، ... ولكن الحقيقة أن ذلك مظهر، وهذا مخبر، ويا بعد ما بينهما.
وقبل وبعد، فهل حكومة فرنسا بعد إعدادها للرهبان، واعتمادها على الرهبان، دولة لائكية؟(3/99)
فصل الدين عن الحكومة ... *
- 1 -
ما زالت هذه الحكومة تمزج الصلف بالتصلّب، والتردّد بالتقلّب، وتخلط الممانعة بالمدافعة، وتؤيّد التحيّل بالتخيّل، وتكمل الإصرار على الباطل بالعناد فيه، في قضية حقّنا فيها أوضح من الشمس، وباطلها فيها أعرق من الإدبار من أمس.
وما تزال تهيم في أودية من الضلال، وتتصامّ عن الأصوات المتعالية من أصحاب الحق، بطلب الحق، وتتعامى عن الحقائق التي بينّاها لها، وعن النذر التي جلتها عليها الأيام، وتحن إلى تقاليدها الاستعمارية البالية في التسلّط على ضمائر المستضعفين ومعنوياتهم لتفسدها عليهم، فهي تظهر في كل يوم بجديد، في مسألة لا قديم لها فيها ولا جديد ... ونحن لا نستغرب هذا ولا أكثر من هذا من حكومة تدين بالهوى لا بالعقل، وترتجل الأحكام حيث يجب التروّي، وتتروّى حيث يجب الارتجال، وتدور على قطب قلق من المكاتب المتعاكسة، ورؤساء المكاتب المتشاكسين، وعلى تواطؤ في التباطؤ، يُفني الآمال، ويُضني الآملين، ويضلّ الأعمال، ويملّ العاملين، لا على شورى تعصم الرأيَ من الضلال، ولا على استبداد يحرم الرأي من الظهور! ولعمري ... إن هذه الحالة هي شرّ ما تُساس به الأمم وتُدار به الحكومات، ويصاب به الحاكمون حين يصابون بالأزمات النفسية، والقلاقل الفكرية، والزعازع الحزبية، والأمراض العنصرية، وهو أسوأ ما تبتلى به الشعوب التي تدور عليها كواكب النحس، فتوزن بموازبن البخس.
كأني بهذه الحكومة اللايكية المسيحية- معًا- الديمقراطية الديكتاتوربة- معًا- ترمي ببصرها إلى ما وراء حدود الجزائر من الأقطار الإسلامية الحرة في ديانتها، المدبرة لشؤونها الدينية بنفسها وبحكوماتها، فترى أن حكومات تلك الأقطار هي القائمة على شؤون الدين،
__________
* نشرت في العدد 75 من جريدة «البصائر»، السلسلة الثانية، 11 أفريل سنة 1949.(3/100)
والمسيّرة لنظمه، فتجعل البابين بابًا واحدًا، وتقول: هذا من باب ذاك ... هن حكومات، وأنا حكومة، وهنّ يتصرفن في الدين، فأنا أتصرف في الدين ... فتقيس مع الفارق، وتقف على "ويل للمصلين" ... ويغيب عليها في هذا البُحران أن تلك الحكومات إسلامية، فهي تمارس شؤون الدين، بحكم الدين، وتجري هي تصرفاتها فيها وتسييرها لها على أحكام الدين، وترجع في ما يشكل عليها إلى رجال الدين، وهم- بالطبع- ليسوا كعلماء دين الحكومة الجزائرية ...
علمنا هذا مما علمناه من أعمال الحكومة، وبلوناه من سرائرها، وجلوناه من جرائرها، واستنبطناه من تمسكّها الشديد، وتشدّدها الأعمى، وحيرتها واضطرابها في هذه القضية، ثم مما قرأناه في السطور (وبين السطور) في تقريرها الذي وسمته بالتقرير العاصمي.
وإذا ذكرت أن الشيء الواحد يتفق مصدرًا فإذا هو شيء واحد، كما تعقله وتفهمه، وتعرفه وتعلمه، ثم يختلف مظهرًا فإذا هو شيئان أو أشياء، كما تشاء الأهواء، إذا ذكرت ذلك فاذكر أن العاصمي في تقريره المملوء بالمنطق الأعوج، المبني على التاريخ الأعرج، معناه أن الحكومة استعملت المساجد (ورجالها) يوم استلمتها من يد المفتيين الحنفي والمالكي. فمن العدل (ومن المطابقة) (ومن مراعاة النظير) أن ترجعهما إلى المفتيين (يعني الحاليين) أو (يعني مفتيًا واحدًا من الحاليين).
واسأل العرّافين: لو لم يكن العاصمي مفتيًا، أو لو عُزل عن الإفتاء، أكان يرى هذا الرأي؟ يقول كل عرّاف: لا. ويقولون أيضا: إن العاصمي لا ينطق عن هواه وإنما ينطق عن وحي ساداته ومواليه. وليس هذا الرأي ابن يومه، ولا ابن التقرير، وإنما هو ابن سنين. فقد زارني العاصمي مبكرًا متنكّرًا منذ سنوات، وكان يومئذٍ يحضر جلسات نادي الترقّي، ويشايع الأستاذ العقبي ظاهرًا على آرائه في القضية، فأفضى إليّ بهذا الرأي على أنه من بدائعه، وقال لي: إن مساعي العقبي ضائعة، وإنها ضرب في حديد بارد، وإن هذا الرأي هو الرأي المقبول المعقول. فقلت له ما معناه: إن المفتيين اللذين سلّما المساجد، سلّما ما لا يملكان. فعملهما ليس بحجّة علينا، وسلّما، وسيف الاستعمار مصلت على رأسيهما، فتسليمهما ليس بحجة علينا، وفعلا تلك الفعلة الشنعاء استسلامًا للجبن، واحتفاظًا بالوظيف والرغيف، وفعل المستسلم ليس بحجة علينا، وقلت له إن استلامكما لها لا يقل شناعة، ولا يختلف مقاصد وأغراضًا عن تسليمهما، وإذا تنازلنا قلنا: إننا لا نأمن أن تستلماها، فيأتي مفتيان آخران فيسلّماها، ما دامت حجتك دائرة على: مفتٍ يسلّم، ومفتٍ يستلم، وكلا عمليهما غير مشروع، وقلت له: إن الرأي في القضية للعلماء الأحرار وإن الحق فيها للأمة المسلمة، وإن المفتي الأول لا حق له في التسليم، وإن المفتي الأخير لا حق له في الاسْتلام، والأول(3/101)
مبطل في العطاء والأخير مبطل حين يأخذ. وكلاهما موظف مأجور، أقلّ ما يقال فيه إنه متهم؛ ولو كان المفتيان اللذان سلّما المساجد والأوقاف إلى الحكومة مسلمين يخافان الله ويرجوان لقاءه لما أقدما على ذلك، ولآثرا الموت شنقًا على ارتكاب ما ارتكباه وأقلّ ما كان ينتظره الإسلام منهما- إن أكرها على ذلك- أن يسلّما الوظيفة لا المساجد؛ ولكنهما كانا أحرص على الوظيفة منهما على دينهما.
وقلت له: أتظن أن عملكما في الاستلام يعد تكفيرًا عن إجرامهما في التسليم؛ أم تظن أن عمل الحكومة في التسليم لكما يُعدّ توبة لها، من الغصب؛ أنتما موظفان لا تملكان لأنفسكما حرية، فكيف تُحرّران المساجد والأوقاف؛ إن الأمر متشابه الأواخر بالأوائل، وبعضه من بعضه، وإن تسليم الحكومة شيئًا لموظّفيها لا يكون معناه البديهي إلا تسليم الحكومة لنفسها؛ ومن القواعد المقرّرة في الفقه: العبد وما ملك لسيّده، ولا يتم تحرير المساجد إلا على أيدي الأحرار.
...
وهذه القضية هي أخت التي فرغنا من الحديث عنها بالأمس، كلتاهما مما تشتدّ جمعية العلماء والأمة في المطالبة بتحريره، لأن كلتيهما من صميم الدين، وقد كانت لنا في هذه مواقف مشهودة، كالتي كانت لنا في تلك، بل كنا نقرن بينهما دائمًا كشهادتي الإسلام إحداهما مكمّلة للأخرى، فلا نريد أن تبقى للحكومة يد ولا إصبع في تعليمنا العربي الديني، ولا في شعائرنا الدينية ولا في مساجدنا، ولا نريد إلا أن تكون الأمة حرة في دينها، مطلقة التصرّف في مساجدها وأوقافها وشعائر دينها.
وللحكومة في هذه القضية قوانين وقرارات متشابكة متناقضة كالتي في تلك، وفيها الظاهر، وفيها الباطن، وفيها ذو الوجهين، وفيها الصريح في الفصل، وفيها ما يقيّده، ولا نتشاغل بمناقشتها لأن الدستور الجزائري الأبتر قضى عليها جميعًا، وحسم القضية فصرّح بالفصل، ولم يبقَ إلا التنفيذ فوكّله إلى المجلس الجزائري فأبت حكومة الجزائر إلا أن تعكّر الصفو فركبت العظائم في تكوين ذلك المجلس، حتى جاء كما تهوى، ويهوى لها الهوى. وهي بعد ذلك دائبة على إبقاء هذه القضية وأخوات لها كما كانت؛ فأوعزت بالتقرير العاصمي لتوهم به النوّاب، ولكون أحد الأسباب؛ ثم عمدت إلى ألاعيب أخرى في الجمعيات الدينية؛ وليست مهزلة الانتخاب التكميلي للجمعية الدينية بالجزائر بآخرة المهازل، وسنناقش هذه المهازل وأصحابها الحساب. والأمة لا ترضى إلا بالفصل الحقيقي على الوجه الذي يسطره العلماء الأحرار، والمسلمون الأبرار.(3/102)
فصل الدين عن الحكومة
- 2 - *
سلّمنا أن فرنسا دولة مستعمرة من ذلك الطراز الاستعماري اللاتيني الأزرق، وأنها تمتاز بادّعاء أنها ممدّنة العالم ومعلّمته وناشرة لواء الحرية فيه، وأنها السابقة إلى نبذ
الأديان، وقطع الصلة بين الله وعباده، وأنها واضعة نظام اللائكية التي معناها وضع سور بين الحكومات وبين الأديان كيفما كان نوعها، ومعناها أيضًا تقوية السلطة المادية، وتوهين السلطة الروحية، وأنها الأستاذة الكبرى لكلّ من سلك هذا السبيل، وتأسّى بهذه الشرعة، وأنها مرجع كل إباحي، وقدوة كل ملحد، وأنها شيخة مصطفى كامل في الأولين ومصطفى كمال في الآخرين، ما هتف الأول في الوطنية إلا بشعارها، وما تغنّى في الحرية إلا على مزمارها؛ وما استدبر الثاني مشرق الشمس إلا ليستقبل مغرب أنوارها، وما نبذ حروف العرب إلا ليستبدل راءَه بغَيْنها (1) وطورانه بنارها.
كل هذا مما تدعيه فرنسا وتغري به البله منّا وتغرّ المغفلين.
ولكن ما بالها خالفت العالم الاستعماري كله، وخرقت إجماعه، وشذّت عن قاعدته، فهو يسالم الأديان حتى الباطل منها وغير المعقول، ويترك أهلها أحرارًا في شعائرهم ومعابدهم، ويوليها شيئًا من الرعاية والاحترام، ويكتفي بالتسلّط على الجانب الدنيوي من حياتهم؛ أما هي فتضايق الإسلام في الجزائر وتحتكر معابده وشعائره، وتمتهن رجاله، وتبتلع أوقافه، فلا مسجد إلا ما فتحته ولا إمام إلا من نصبته، ولا مفتي إلا من (حنفته) أو (ملّكته)، ولا شيخ طريق إلا من (سلّكته) ولا حاج إلا من حجّجته أو نسّكته، ولا صائم ولا مفطر إلا على يد (لجنتها)، ولا هلال إلا ما شهد برؤيته (قاضيها)! ...
...
__________
* نشرت في العدد 83 من جريدة «البصائر»، 13 جوان سنة 1949.
1) بغينِها: كثير من الفرنسيين ينطقون الرّاء غينًا.(3/103)
قرأنا سِير الإنكليز في الهند فوجدناهم بالغوا في إعطاء الحرية للأديان حتى بلغوا حد السخافة، وسوّوا في تلك الحرية بين (قرّاء البقرة) بالحق، وبين (عباد البقرة) بالباطل، ويسّروا سبيل الحج حتى اتّسع معنى الاستطاعة.
وقرأنا عن تلك الدويلات الاستعمارية- وشهدنا- أنها تحترم الأديان الموجودة في مستعمراتها حتى الوثني منها، والمضاد لحضارة الإنسان، والواقف في طريق الرقي العقلي. ولو أنها خصّت الوثني منها بالاحترام والحرية لقلنا: إنها مكيدة تجعل بها حرية الدين وسيلة لاستعباد المتدينين به. ولكنها أرخت عنان الحرية للإسلام الذي هو أعظم خصوم الاستعمار، وأقوى عامل للتخلّص منه.
ثم ما بالها خالفت نفسها، وناقضت مبدأها؛ فهي في فرنسا تدين باللائكية وحرية الأديان، ينصّ على ذلك دستورها، ويجري عليه تعليمها، وتتأثّر به أمّتها، وهي في الجزائر "تتمسّك" بالإسلام هذا التمسّك، وتتشدّد في "القيام" به هذا التشدّد، وتتعنّت في الانفصال عنه هذا التعنّت.
...
في الدول المستعمرة مَن هي أبرع من فرنسا في فقه الاستعمار، ومَن بلغت فيه رتبة الاجتهاد المطلق، وهي- مع ذلك- تعامل الإسلام بما يليق به من كرامة، وبما يستحقه من حرية، فهل هي في هذا جاهلة لأصول الاستعمار؟ وهل هي في هذا غافلة عما في حريته من خطر؟ لا ... وإنما هي في هذا أوسع نظرًا وأكثر تبصّرًا بالعواقب من فرنسا. وهي ترى أن إعطاء الحرية للإسلام جلب للهناء والسعادة وحسن العشرة ولو إلى حين، وهي تعتقد في قرارة نفسها أن الاستعمار لصوصية، واللصوصية أحوج الأشياء إلى الحذق، وهي قد جرّبتْ فعلّمتها التجارب أن حرية الأديان لا خطر فيها، وإنما هي خير وراحة ورضىً واطمئنان؛ ولو أن فرنسا السيّئة الظن بالإسلام، والموجسة من حريته خيفة، رمتْ ببصرها إلى ما وراء الحدود الجزائرية، ولو أنها كانت ممن ينتفع بالتجارب، لرأت في المغرب وتونس ما ينقض عليها عقيدتها في الإسلام، ولغيّر نظرتها إليه، وحكمها عليه، فالإسلام في القطرين حرّ، وإدارته بيد أهله ولم يأتها الخطر من تلك الحرية، بل إن حرية الدين في القطرين سدّت عليها أبوابًا من الخطر والإقلاق. وإذا قلنا إن الإسلام حرّ في المغرب وتونس فإننا لا نعني من الحرية معناها الواسع الصحيح لأن الاستعمار الفرنسي لا ينسى عوائده. ولا يخالف أصوله وما زال يتخذ من أعماله في الجزائر- على شناعتها- نموذجًا يحتذيه في الأقطار التي ابتليت به: لا ينتفع بالعظات، ولا يتطور مع الأوقات، وفي تدخله في الأوقاف الدينية بتونس(3/104)
ومراكش، واستهوائه لأكابر رجال الدين، وامتداد نفوذه إلى السلطة القضائية، أكبر دليل على ما قلناه.
...
الاستعمار كله رجس من عمل الشيطان، يلتقي القائمون به على سجايا خبيثة، وغرائز شرهة، ونظرات عميقة إلى وسائل الافتراس، وإخضاع الفرائس، وأهمّ تلك الوسائل قتلُ المعنويات وتخدير الإحساسات الروحية؛ ولكن هناك تفاوتًا بين استعمار واستعمار، فاستعمار يباشر وسائله بالحقد ويشربها معاني من الانتقام؛ وآخر يباشرها بنوع من التسامح واللين؛ والاستعمار الفرنسي من النوع الأول، وبين النوعين فرق، وإن كانا بغيضين ممقوتين، لأنهما استغلال للأموال، واستعباد للأجساد، ويزيد أحدهما بأن فيه ترويحًا على الأرواح، ولولا ما بلوناه من شر الاستعمار الفرنسي على ديننا ولغتنا، وما تجرعناه في سبيل إحيائهما من غصص، وما كابدنا في إنقاذهما منه من بلاء، لما ذكرنا الاستعمار بخير، ولما أجريناه على ألسنتنا إلا مقرونًا باللعنة مصحوبًا بالسخط، ولكن في الشر خيارًا لا يقدره قدره إلا المبتلى بالأشد من أنواعه.
ساء مثلًا الاستعماران: ما يُقعد منهما الروحانيات المقعد الخشن، وما يُقعدها المقعد الوطيء، وما يتعمدها بالقتل الوَحِيِّ، وما يبتليها بالموت البطيء؛ وسيسوآن- وإن طال أمدهما- مصيرًا، وسيخذلهما القاهر الذي يُمهل ولا يُهمل، ولا يجدان من دونه وليًّا ولا نصيرًا.
...
أكثرنا من ذكر الاستعمار في المعارض التي يلتقي بنا أو نلتقي به فيها حتى كدنا نألفه فتأنس له نفوسنا، ويشغلنا ترداد اسمه عن الاستعداد للتخلص منه، كما يشغلنا الإكثار من لعن الشيطان عن الاحتراس من وساوسه، والتحفظ من مكايده؛ فلنرجع إلى أنفسنا وإلى أمّتنا، ولنناقشها الحساب: ماذا أعدت لتحرير الدين؟ وبماذا استعدت؟
لنخرج من الأقوال إلى الأعمال، ومن الافتراق إلى الاجتماع، ومن التفريط إلى الحزم، ومن المهاودة إلى التصميم، ومن المطاولة إلى الإنجاز، ومن التخاذل إلى التناصر، ومن الجمجمة إلى الصراحة، ومن السلب إلى الإيجاب.
إن المسألة خطيرة، وإن الأمّة الجزائرية المسلمة في قلق عظيم، وإن أصحاب الأغراض والمنافع من حكومة وحكوميين يعبثون بديننا ونحن ننظر.
فلنقف الوقفة الحازمة التي توقف كل عابث عند حدّه.(3/105)
فصل الدين عن الحكومة
- 3 - *
شهر رمضان ظرف زماني للدين، فكلّ حديث فيه عن الدين عبادة، والمساجد ظروف مكانية للعبادة، بينها وبين رمضان صلات وكّدها الله الذي كتب الصوم وجعله له، وشرّف المساجد فجعلها بيوته، وشرع لهما حُرُمات متشابهة، ومنها هجر اللغو، والتزام الصدق، وحبس الأنفاس على طاعة الله؛ فالمسلم في المسجد مواجه لربّه، واقف بين يديه، وفي رمضان مكبوت عن شهواته، مأخوذ بناصيته إلى الحق.
فالحديث عن المساجد من الدين، والتنديد بأعمال الظالمين لها والغاصبين لحقوقها من الدين، وانتقاد القائمين فيها من الدين أيضًا! فنحن- من رمضان والمساجد- في دائرة مغناطيسية من الدين، لا نفلت منها إلا لنقع فيها، وداعي الدين هو الذي يحرّك ألسنتنا إلى النطق، وأقلامنا إلى الكتابة، وعقولنا إلى التفكير في هذه المسألة؛ ونحن نعتقد أننا حين نكتب حرفًا، أو ننطق بكلمة، أو نرسل رأيًا في هذه القضية، ننطق بحق ونكتب حقًّا، ونرى حقًّا، ولو كرّرنا ذلك ألف مرة، وأننا حين نسكت- نسكت عن باطل لا يجوز إقراره ولا السكوت عليه- ونعتقد أن الأمة حين تسكت، أو تقصر، أو تتخاذل في هذه القضية، مجمعة على محرم، مأخوذة به عند الله، يوم يطالب كل ذي حق بحقّه ويطالب رب العباد بحق دينه، وويل لمن كان ربّه خصمه يوم القصاص.
ونعتقد أيضًا أن هذه الحكومة المسيحية مصرّة على باطل أبطلته الأديان والقوانين والمدنيات والعوائد، وأنها عجزت عن دينها المسيحي أن تحرّره من احتكار روما، وعن دين موسى أن تنتزعه من مجامع الأحبار، فجاءت إلى ديننا تتحكّم فيه، وتلصّ أوقافه وتسخر رجاله الضعفاء لمصالحها، وتجعل من معابده ميادين لاحتفالاتها بالنصر والكسر،
__________
* نشرت في العدد 87 من جريدة «البصائر»، 18 جويلية 1949.(3/106)
ومن أئمته ألسنة تجهر بالدعاء لها، وما دعاء الظالمين إلا في ضلال.
نعتقد أن كل ما قرّرته هذه الحكومة المسيحية، وكل ما تقرره في شؤون ديننا باطل منقوض دينًا وعقلًا وقانونًا، حتى تسمية الأئمة والمؤذنين فهي باطلة وطلب هذه الوظائف من هذه الحكومة باطل، والرضى بها باطل، لأن شرط نصب الإمام أن يكون من حكومة مسلمة، أو من جماعة المسلمين، لا يختلف في هذا مسلمان، ولا يخالف فيه إلا "العاصمي" في قياسه لحكومة الجزائر على حكومة ابن سعود، وهو قياس لا يشبهه في الفساد إلا قياس مسيلمة على محمد في شهادة الإخلاص!!
وإن هذا القياس لدرجة في العلم لا تبلغ إلا بخذلان من الله، ودرجة في العمل لا تُرتقَى إلا بتوفيق من الحكومة.
...
ونحن قد قمنا في هذه القضية مقامات يحمدها الدين، وأبلينا في هذا الميدان بلاء الثابتين الصابرين، ما نكص لنا فيه بطل، ولا وهنت لنا فيه عزيمة، ولا تغيّر لنا فيه رأي، ولا التبس علينا من وجوه الرأي فيه مذهب.
ألححْنا في المطالبة بتحرير المساجد والأوقاف، وسقنا على ذلك من الحجج ما لا يدحض، وكشفنا عن المستور من مقاصد الحكومة، وقلنا لها (بالقلم واللسان): إن سكُوت مَنْ قبلنا لا يكون حجة علينا، وإن تخاذل من معنا لا يكون مسوغًا لبقاء هذا الوضع الجائر واستمراره، بل قلنا لها: إنها هي السبب الوحيد لهذا التخاذل، وهي التي صيّرت طوائف منّا مبطلة تخذل الحق وأهل الحق، وإن بقاء الوظائف الدينية في يدها هو أصل هذا البلاء، وإن هذا البلاء لا ينقطع حتى يُنزع حبل الدين من تلك اليد ويوضع في أيدي أهله. وقلنا لها: إن الواجب المعجل المحتّم، والعمل السديد المنظّم، هو إعلان رئيس الحكومة أمرين متلازمين؛ أولهما تنفيذ قانون الفصل الذي تضمنه الدستور الجزائري الأعرج، وثانيهما حياد الحكومة التام في تأسيس الجمعيات الدينية التي تنتخب المجلس الإسلامي الأعلى.
وقلنا لها: إن ابتلاعها لأوقافنا الدينية والخيرية ظلم، والظلم لا يدوم، ولصوصية، واللصوصية لا تتأتى إلا في الغفلة أو النوم أو الظلام، فأما في الانتباه واليقظة والنور فافتراس تبرره القوة والعتو، وليسا من صبغة هذا الزمان.
وكأني بقائل يقول: ما لكم تُبدئون في هذه القضية وتعيدون؟ مع أن الفصل واقع في الأمر نفسه، واقع في بنود الدستور الجزائري ... فقد قضى ذلك الدستور على جميع القرارات التي كانت تحدّد سلطة الحكومة على المساجد حينًا، وتمدّدها أحيانًا. ونحن نقول(3/107)
لهذا القائل: لو كنت تعرف ما تقول عذرناك، ولو كنت تعرف ما نقول عذرتنا في الإبداء والإعادة. فقد بُلينا بحكومةٍ جُمع فيها كل ما تفرّق في غيرها ... وقد بلوناها في جميع حالاتها وألوانها، فإذا هي هي، تُغطّي الشمس بالغربال، وتطاول العماليق بالتنبال، وترصد لكل كلمة من الحق كلمات من الباطل تنسخها أو تمسخها، ولكل صوت من الخير أصواتًا من الشر تشوشه أو تلغو فيه، ولكل صلاة إلى الله مُكاء وتصدية من الشيطان، ولكل داع إلى الجنة دعاة إلى أبواب جهنّم، ولكل مطالب بتحرير المساجد مطالبين بإبقائها في العبودية، وقد رصدت قبل ذلك لكل مطلق في قوانينها قيودًا وسلاسل وأغلالًا، فلا يطمع الطامع في فتح باب إلا أوجدت له قفلًا ...
وما الدستور الجزائري الأبتر إلا أحبولة من تلك الأحابيل، وما المجلس الجزائري إلا سليل للمسلول، فإذا كان الدستور قد جعل فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الجزائرية أحد بنوده، فقد أيّد حكومة الجزائر من المجلس الجزائري بأحد جنوده، وحكومة الجزائر لا تريد الفصل، ولن تريده، ولا ترضاه، ولا ترضى على من يرضاه؛ والدستور حكم بالفصل، ولكنه وكل تنفيذه إلى هذا المجلس الذي صنعته الحكومة بيدها، ونفخت فيه من روحها، ومعنى ذلك أن الدستور ترك للحكومة منفذًا تستطيع هي بأساليبها أن تجعل منه بابًا واسعًا، وقد فعلت ...
...
ونحن نعلم أن المسألة من أولها إلى آخرها سفسطة وتضليل، ولا ندري كيف يتأتى لهذا المجلس المصنوع، المحدود السلطة، المقصور على الماليات، أن ينفّذ قضية ليس المال إلا جانبًا من جوانبها الكثيرة، ومعظم الجوانب خارجة عن دائرة نفوذه. وهبْ أنه اتسع نظره للأوقاف الإسلامية، فماذا يصنع في الجوانب الأخرى؟ أيبقي ما كان على ما كان؟
وكنا نرجو أن يكون المجلس أكمل من الدستور، ينتخب أعضاؤه انتخابًا حرًّا، وتظهر فيه النيابة عن الأمة بمظهرها الحقيقي، ويكون النوّاب نوّابًا حقيقيين يؤثرون مصلحة الأمة على مصلحة الحكومة، ولو وقع ذلك لكانت جمعية العلماء أول المطمئنين إلى أعمال النوَّاب في مطالبها الدينية، كيفما كانت أعمالهم الأخرى.
وقد مرّت على هذا المجلس سنتان، وعرفنا من أعماله وبرامجه اليد التي توجّهه والريح التي تسيّره، والجهة التي يتّجه إليها، وصدق كل ما قلناه فيه، وأن عسى أن يهبط عليه الوحي في لحظة فيتناول مسألة فصل الدين الإسلامي بآراء مسيحية، وأفكار لائكية، وعقول بين ذلك ... ثم ينتخب لدراسة الموضوع مقررين مسيحيين أو لائكيين أو ما شاء الهوى ... ويا ضيعة الإسلام بين الأهواء!(3/108)
فصل الدين عن الحكومة
- 4 - *
... ونظرنا نظر المستقلّ، الذي يبني أحكامه على الواقع المحسوس، فوجدنا هذا الوليد الناقص الذي يسمّونه الدستور الجزائري لم يشرّع جديدًا، ولم يزرع مفيدًا، ولم يزد على أن نقل هذه القضية من ميدان إلى ميدان، ومن يد إلى يد، نقلها من فرنسا إلى الجزائر، ومن برلمان يسيطر على الأفراد، إلى شبه برلمان يسيطر عليه فرد ... ليدفع الغضاضة عن فرنسا اللائكية، ويلصقها بفرنسا (المسلمة) التي تتمسّك من الإسلام بمعابده ورجاله، وتعرف كيف تسيره وتسيرهم. فكأنه يقول لحكومة الجزائر: لنتُ قليلًا فاشتدي، ورضيت قليلًا فاحتدي، وتركت لك ما إن عملت به لن تضلي من بعدي، ولم أضع لك قانونًا بل شبكة كلها خروق، فاخرجي من أيها شئت ... وكأنه يقول لها "بدأت فتممي" وخصصت فعمّمي، وصدعت الحائط فرمّمي، وتساهلت فصمّمي، وأشرت بالترياق وأنت ... فسمّمي، وجملت الوجه قليلًا فدمّمي، وقالوا إن فرنسا تغضب الإسلام، فأقيمي الدليل على أن المسلمين راضون، وشدّدي اللام من صفتهم فإذا هم "مسلِّمون". ففهمت حكومة الجزائر هذه الإشارة، وتلقتها كأنها بشارة؛ وكيف لا تستبشر؟ والدستور برمّته (لامركزية) من النوع الذي يسيل عليه لعابها، وبنود القضية الدينية منه إطلاق ليدها في التصرف المطلق، لذلك فهي قد فهمت من الدستور أشياء غير ما فهم الناس، ولذلك قامت بالتنفيذ على حسب مفهومها لا على حسب فهم الناس، فبدأت بالمجلس الجزائري فصاغته على ما يوافق هواها، وظفرت منه بمفرد يأتي بجمع، ولها من ورائه مدد من (رجال الدين)، وعدد من المرتزقة المجنّدين، وبدد من الظلمة المعتدين، وأوزاع من العوام غير المهتدين، وأشياع من الزملاء (المنتدين) (1)، فإذا اتحد هؤلاء بهؤلاء اتحادًا كيماويًّا تمّ المطلوب،
__________
* نشرت في العدد 88 من جريدة «البصائر»، 25 جويلية 1949.
1) المنتدون في اصطلاحنا هم كل من دخل "النادي الفرنسي الإسلامي". وهو نادٍ أنشأته حكومة الجزائر وزوّدته بمال ورجال وبرامج للاصطياد والتنويم والتلفيق.(3/109)
وكان حزب الحق هو المغلوب، ومن هذا ولهذا وضع التقرير العاصمي، وكأنه مقدّمة لكتاب، أو طليعة لكتائب، ومن هذا ولهذا رأى الناس مفتي الجامع الحنفي مترددًا دائمًا على مقر المجلس، متصلًا بأعضائه مداخلًا لهم، متطارحًا عليهم، متملقًا إياهم، لا يفارق أحدهم إلا ليتصل بآخر. كأنه المعني بقول القائل: لا يرسل الساق إلا ممسكًا ساقًا، وكأنه آنس منهم صاغية، فهدّد في بعض ما كتب بأن (سعيه سوف يرى) ...
...
ونظرنا نظرة أخرى فإذا هذه القضية قد خرجت من يد الحكومة- بالمعنى الذي نعرفه للحكومة- وأنها لا تملك فيها رأيًا، ولا تهتدي سبيلًا، على ما استباحت في سبيلها من حرمات، وارتكبت من محرّمات، وأن القضية أصبحت كرة تتلاعب بها الأهواء المتعاكسة، والمكاتب المتشاكسة. ففي الولاية العامة مكاتب، لكل مكتب في القضية نظر ووجهة هو موليها، ولكلّ مكتب غاشية من (رجال الدين) تطرق الأبواب خلسة، وتقنع من البخت السعيد بالجلسة، وفي إدارة عامل الجزائر مكاتب أخرى تُزاحم وتُلقي دلوها في الدلاء، ويلوذ بها جماعة من (رجال الدين)، ولكل واحد من عمّال العمالات (2) رأي في القضية ومنهاج عملي يجري عليه، وعلى الدستور الجزائري العفاء، ولكل واحد منهم (محاسيب) من رجال الدين، يفيدون ويستفيدون، وإن اهتبال العمّال بهذه القضية لأمر طبيعي، لأنها سلطة مجدودة، وسلطنة غير محدودة، فهم يخشون أن تفلت منهم، فهم الذين يولون رجال الدين ويعزلون، فكيف عن هذه العروش ينزلون؟ وكيف لا يعذرون إذا جاحشوا عنها إلى آخر رمق؟
وإن هذا هو الذي يفسّر لنا موقف عامل قسنطينة من الوفد الذي فاوضه في قضية الجامع الكبير منذ أشهر.
ذلك أن طائفة من أعيان مدينة قسنطينة وفضلائها هالهم ما رأوا من إقبال طلبة الآفاق على معهد عبد الحميد بن باديس، وهالهم أن يضيق المعهد بهم، فيرجعوا خائبين، ورأوا أن في ذلك مسًّا بكرامتهم، وخدشًا لسمعة بلدتهم، فعقدوا اجتماعًا في المعهد، وحضرناه معهم لنبلى في العذر، وقرّروا إيفاد وفد إلى عامل العمالة باسم مدينة قسنطينة ليفاوضه في فتح الجامع الأعظم في وجوه هذه المئات التي ضاق عنها المعهد ولم تجد أماكن لدراسة دينها ولغتها، وتألف الوفد من رئيسي أكبر الأسر القسنطينية، وأعرقها في العلم والشهرة، وأطولها امتدادًا مع التاريخ، وأقربهما لرضى الحكومة، وهما الحاج محمد المصطفى بن
__________
2) عُمّال: جمع عامِل وهو "المحافظ أو الوالي". والعَمالة: المحافظة- الولاية.(3/110)
باديس، والحاج الخوجة بن الشيخ الفقون، ومن نائبين في البرلمان الفرنسي وهما السيدان الهاشمي بن شنوف وعبد القادر قاضي، ومن محاميين مشهورين هما الأستاذان الحاج إدريس، والحاج مصطفى با أحمد، ومن ثلاثة من رجال الإصلاح الحافِّين من حول المعهد، والتقى الوفد بالعامل على ميعاد، وشرح له القضية، وما من رجاله إلا منطيق مبين، وكان مما قالوا له: إن هذه المسألة لا تهم شخصًا معينًا، ولا هيئة معينة، وإنما تهم الأمة وأبناءها بصفة عامة، ثم تهم- بوجه خاص- مدينة قسنطينة التي يأبى لها شرفها وسمعتها أن ترى أبناء الأمة الجزائرية يؤمونها لطلب العلم، ثم يرجعون كالمطرودين منها، لا لشيء إلا لأنهم لم يجدوا أمكنة للدراسة، ومساجد الأمة خاوية على عروشها، معطلة من أعظم وظائفها وهو التعليم، وتكلم ابن باديس على سنّه ومقامه وبيته فأقنع، وتكلّم النائبان بما لهما من حق النيابة وقوتها فأحسنا، وتكلم المحاميان بما لهما من المكانة في القانون فأفحما، ولكن حضرة العامل كان قيصري النزعة في الخطاب والجواب، فلم يزد على أن رد عليهم بكلمات جوفاء من الطراز المألوف، وبوعود من الطراز المألوف أيضًا ... وبتنصّل من أوائل القضية وأواخرها مألوف أيضًا ... وبإحالة على مرجع أعلى منه، وهذا من المألوف أيضًا، ثم ضرب للوفد موعدًا بإرجاع الخبر، وهذا من المسكنات المألوفة أيضًا ... ولعلّ السادة ما زالوا ينتظرون رجوع الخبر إلى الآن ...
ولم يخلُ هذا الاجتماع- على ما بلغنا- من تلك العادة الممقوتة التي تفننت هذه الحكومة فيها، وبرعت في استخدامها، وهي التلويح بشق معارض ... فقد تعوّدت أن ترصد لكل حق معارضًا من الباطل، تقيمه وتنصبه، وتدّخره من يوم الاستغناء ليوم الحاجة، أو ترتجله ارتجالًا، إذا حفزها الأمر، ولهذه الغاية نراها تُكوِّن جمعية دينية، في كل بلدة فيها جمعية دينية حرّة لتضار هذه بتلك، فكلّما طالبت جمعية العلماء بحق، أو وقفت موقفًا يغيظ الحكومة أوحت إلى جمعيتها: أنْ عارضي، وقولي: لا، فيما قالت فيه الجمعية الحرة: نعم، وكم تجرّعنا من هذه العادة من صاب، وكم لقينا فيها من أوصاب.
ويلوح لنا أن لعامل قسنطينة على الخصوص هوى غالبًا مبرحًا في الجامع الأعظم، وأنه حريص على إبقائه في يده، ولو حكم المجلس الجزائري، ولو تصافت المكاتب، ورجع إلى الحق (المعتوب) والعاتب؛ وكأن له فيها غرضًا بديعًا، وذوقًا لطيفًا وهو أن يجعل منه مزارًا للزوّار من العظماء، ومتحفًا عامرًا بالتحف الآدمية المتحركة، والدمى البشرية الحية، فكلما زار قسنطينة عظيم من فرنسا ذو حيثية، طيف به على الجامع الكبير والبيعة الكبرى، والكنيسة العظمى، ليرجع الزائر إلى وطنه بصورة رائعة من امتزاج الأديان، وإيمان جديد بقدرة الرجال على المزج والعجن، وبشهادة صادقة للعامل بأنه لا يفرّق (بين أحد من رسله) ... ومن عاش في الجزائر رجبًا، رأى عجائب لا عجبًا.(3/111)
فصل الدين عن الحكومة (5)
أو فصل، رمضان والأعياد عن
قاضي الجزائر ... *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... وما ظنُّ الناس؟ أيظنون أننا نقصد في ما كتبنا ونكتب من هذه الأسماء والألقاب أصحابها المعروفين؛ لا والله، فهم عندنا أقل من أن يجول لنا فيهم خاطر، أو يثور لنا فيهم اهتمام، وإنما نقصد من هذه الأسماء والألقاب- التي تجري على أقلامنا في هذه المواضيع- معاني خبيثة، وفكرًا شيطانية أصبحت هذه الأسماء دوال عليها، وأعلامًا لها، ومرتبطة بها ارتباط اللفظ بمدلوله الوضعي.
إن هذه الأسماء والألقاب التي فرضت علينا كلمة الحق تناولها بالنقد والتجريح، ليست أعلام أشخاص، ولا ألقاب أشخاص، وإنما هي أعلام أجناس لمعانٍ استعمارية، كما قالوا في فجار، إنه علم للفجرة، ... فإذا حاربنا اسمًا من هذه الأسماء فإنما نحارب الفكرة التي رضي صاحبه أن يمثّلها، والصوت الذي رضي أن يكون بوقًا له، لا الشخص الذي تحده الحدود، وتنمّيه الجدود، والفِكَر إنما تتمثل في المظاهر ذات القابلية. والناس يحملون من طبائع الأرض ألوانًا شتى، ففيهم القار المكين، وفيهم القابل للانخساف، والمتداعي للانهيار؛ وما ذنبنا إذا رضي أصحاب هذه الأسماء والألقاب أن يكونوا مظاهر للفكرة التي ينكرها الإسلام، ويمقتها المسلمون، وتحاربها منا الألسنة والأقلام؟ وما ذنبنا إذا رضي هؤلاء أن يتمثّلوا أفكارًا خبيثة لا رجالًا، ومبادئ لعينة لا أشخاصًا، وظلالًا من يحموم لا باردة ولا كريمة؟ ... لا ذنب لنا في ذلك وإنما الذنب لمن جعل نفسه عرضة لوطء الأقدام ووخز الأقلام.
نحن نريد- جادّين- فصل ديننا بجميع شعائره وعلائقه عن حكومة الجزائر اللائكية المسيحية فصلًا ناجزًا حاسمًا، لا تلكؤ فيه ولا هوادة؛ ونريد بتّ حباله من حبالها في المعنويات والماديات، ونعمل لذلك متساندين في الحق، مستندين على الحق، والحكومة
__________
* نشرت في العدد 89 من جريدة «البصائر»، 8 أوت 1949.(3/112)
تريد بقاء حبالها بحباله مربوطة، ويدها في التصرّف فيه مبسوطة، وتحاور فلا تصدق في محاورة، وتشاور فلا تخلص في مشاورة، فإذا أعشاها الحق بنوره، وأفحمها البرهان بظهوره عمدت إلى شخص من هذه الشخوص فغطّت به مقصدًا من مقاصدها المفضوحة وسترت باسمه الإسلامي وصبغته الإسلامية مكيدة من مكائدها المكشوفة، فبالأمس غطت فضيحة استعباد المساجد باسم المفتي العاصمي، واليوم تستر مكيدة تدخلها في الأعياد الإسلامية باسم القاضي، ولا مفتي، ولا قاضي، وإنما هي الحكومة متسترة بهذه الأسماء التي لا تستر، متقنعة بهذه الأسماء والصفات والثياب، لابسة لها لِبسة الممثل ... كأنها تقصد ما يقصده (القالب الحيران) (1).
هذه أهدافنا نسدد إليها سهام التجريح، وهي مبادئ ظهرتْ بمظهر رجال، أو رجال صيّرتهم قابلية الاستعمال مبادئ؛ ولكن ما بالهم كلّما مسّهم النقد بحرارته صاحوا وناحوا، وثاروا وخاروا، وتظلموا وتألموا؟ أنا لا أصدق أن ذلك كله انتصار للكرامة الشخصية، وإنما هو إغراء لنا بموالاة الحملات عليهم، ليزداد شأنهم نباهة عند مسخّريهم، وليتّخذوا بذلك وسيلة وزلفى لأسيادهم، وذريعة لنيل الممتنع من مرادهم، وإن شأنهم في التظلّم منا شأن القائل:
أدعو عليه وقلبي … يقول: يا رب لا لا
...
ولم ننتقل بالقرّاء من ميدان إلى ميدان، وإنما حدث في القضية ما أوجب تغيير العنوان، ... فقد كان الصوم والإفطار والأهلة والأعياد كلها بعيدة عن تدخّل الحكومة، وكانت كالناحية المستقلّة من الوطن المستعمر، لم يصبها من تسلّط الحكومة ما أصاب المساجد والأوقاف والحج، فالأعياد لا تقام مسايرة لمقصدها، والأهلة لا تُرى بعينها، ولا بمرصدها، ولم يكن ذلك استعفافًا منها، وإنما كان استخفافًا بها، لعدم وجود المال فيها ... فرمضان ليس له أوقاف تنفق عليه، ولا سفينة تحمل إليه، والأعياد، عاطلة الأجياد، آمنة من طروق زياد، وطارق بن زياد ... وكان المسلمون يصومون ويفطرون متفقين أو مختلفين، لا يتبعون في ذلك إلا أحكام الدين أو تأويلات لا تخرج في الأغلب عن الدين، ولا ينقادون إلا لعوائد إن كان بعضها قبيحًا، فليس منه الانقياد للحكومة.
__________
1) من مزاعم العرب أن من حار ولم يتبين له وجه الصواب فدواؤه أن يلبس ثوبه مقلوبًا لتزول عنه الحيرة، يقول شاعرهم:
جدت جداد بلاعب وتبدلت … في الحي لبسة قالب حيران(3/113)
ولما جد جد القضية الدينية بيننا وبين الحكومة انتهى بنا الأمر إلى إمعان في الذياد، وانتهى بها إلى غلو في الكياد، فرأت أن (تُلحق) الصوم والأعياد الدينية بالمساجد والحج، حتى يعمّها الاستعمار، ويشملها الاحتكار، وبنت الجديد في القضية- وهو لجنة الأهلة والأعياد الإسلامية- على القديم، وهو لجنة الأهلة التي كانت وبانت واستصدرت قانونًا يجعل الأعياد الإسلامية رسمية، تعطل فيها الأعمال والمصالح الحكومية، لتفتن العمّال والموظفين بذلك، فيكون صغوهم إليها، وهواهم معها، ولها في ذلك مآرب أخرى، وعمدت إلى قاضٍ من قضاتها المخلصين في ابتغاء مرضاتها، فنصّبته رئيسًا لتلك اللجنة، وشدّت عضده بعصبة من طرازه، لتحرّك النار بأيديهم، وتعمل ما شاءت بأسمائهم وألقابهم، وبدأت التجربة العملية المفضوحة في العام الماضي.
ومن أغرب المتناقضات في شؤون هذه الحكومة أنها تقتل الشيء، ثم تحاول استغلال خصائص الإحياء منه، فهي التي مسخت هذه الألقاب الإسلامية وامتهنتها، وجرّدتها من كل احترام، باحتكارها للتصرّف فيها، ووضعها في غير مواضعها، وإلباسها لغير مستحقّيها، ثم بدت لها بدَوات، فجاءت الآن تريد أن تستغل آثار هذه الألقاب في نفوس المسلمين، وهيهات ... إن المسلمين لا يحترمون هذه الألقاب إلا إذا كانت من وضعهم في اللغة الدينية، وما زالت فيهم بقية من الرشد الديني يُفرقون بها بين ما يريدونه لأنفسهم وبين ما يراد بهم، وبين ما يحوكونه بأيديهم، وبين ما يُحاك لهم ...
...
وفي هذا العام ... جاءت ليلة الثلاثين من شعبان، فباتت جمعية العلماء مرابطة بمركزها الذي لا يغلق حتى تغلق مراكز التليفون، تتلقّى الأخبار وتوزّعها، وباتت الأمّة متّصلة بها، اتصال من يهمّه الأمر بمن يعنيه الأمر، وأصبحت الأمّة صائمة في شبه إجماع على الثبوت، وعلى إلهام واحد من الحق، لا يد لهذه اللجنة فيه.
أما لجنة الأهلة فباتت نائمة ملء جفونها من غير علة ... لم تمتثل من سنن الله إلا جعل الليل لباسًا ... وإنما أرادت أن تثبت وجودها، وتعلنَ عن نفسها، فأوعزت من أول الليل إلى الإذاعة- كما بلغنا من مستمعيها- أن تدعو بالشفاء لرئيسها المريض، وأن تقول على لسانها: إن الصوم ثبت عندها ثبوتًا شرعيًا ... ولم تُبين وجه الثبوت، أهو بالرؤية، أو بحساب المرصد؟ ... ففهمنا من ذلك الإجراء البسيط أن شهر رمضان خفيف الوزن عند الحكومة لأنه لا عطلة فيه، بقدر ما هو ثقيل على اللجنة، وفهمنا أن هذه اللجنة ترتجل هذه الإعلانات ارتجالًا من غير تثبّت ولا عناية، لتفيد البسطاء أنها حية كإفادة حياة المتكلّم من(3/114)
وراء جدار، وفهمنا أنّ آخرَ ما يعني هذه اللجنة هو دين الأمة وصومها وإفطارها.
وجاء العيد فوقعت الواقعة ...
جاءت ليلة الثلاثين من رمضان، فجرَتْ جمعية العلماء على عادتها من السهر والاحتياط، وجرَت الأمة على عادتها من الاتصال بها للإخبار والاستخبار، وجرت اللجنة على عادتها من الارتجال وعدم الانتظار، وما كنا ندري أن الأمر دُبِّر بليل بين الحكومة وبين اللجنة- قبل ذلك بيوم أو بأيام- على (جعل) العيد يوم الأربعاء، وقطع النظر عن الرؤية والرائين، والمسلمين أجمعين، حتى المحاكم الأخرى ووثائقها وشهودها، كأن الحكومة ولجنتها لا يعنيها في أمر العيد وعطلته إلا العاصمة، ولا يعنيها من المسلمين إلّا سكّان العاصمة، ولا يعنيها من إفساد شؤون الدين إلا ما كان في العاصمة؛ فإذا نجحتْ في شيء من ذلك فيها فذلك هو النجاح ... وكأن هذا القاضي على الأهلة والأعياد ظن أنه رقي أسباب السماء بسلّم، فتوهّم أن (تصويم) المسلمين (وتفطيرهم) أصبحا من مشمولات نظره وحكمه، كما يحكم في طلاق امرأة، أو زواج رجل، أو مال محجور، وسكت عنه الناس فيما يوافق الحق، فتمادى فيما يخالفه، وقال: ما دمتُ أحكمُ على الأهلة فلأقل لها كوني فتكون، ولا تكوني فلا تكون، وما دام المرصد طوعَ إشارتي، والإذاعة تؤدّي- بالأمانة- عبارتي، فلآخذ من هنا، وأضعْ ههنا، ولأخرج عن طاعة الخارج، فهنا المُحُّ وهناك (المارج) ...
وهكذا أصبح يقدم على العظائم في الدين، وأصبح (يحكم) بالصوم في شوال والفطر في رمضان، ولعلّه لو قيل له: إن حكم القاضي لا يدخل هنا، يجيب بأنه يدخل بصفته رئيسًا للأهلة أو رئيسًا عليها ... وينسى أنه لو لم يكن قاضيًا لم يكن رئيسًا على الأهلة ... وأن القضاء هو الذي رقّاه إلى الرياسة على مخلوقات ليست من جنسه، وليس من جنسها.
أعلنت اللجنة قبيل العيد بأيام، بواسطة الإذاعة تقول لمستمعيها: انتظروا هلال شوال ليلة الثلاثاء. ومن رآه، فليخبر اللجنة، ومقتضى هذا البلاغ أن تنتظر اللجنة في مركزها، وتتلقى الأخبار والشهادات طول الليل، لأن القطر متباعد الأطراف، والراءون في الغالب بعيدون عن مراكز الأخبار، ومكاتب البريد.
ولكن اللجنة احتاطت في ذلك البلاغ لنومها، فحدّدت الإخبار الرسمي بالساعة العاشرة ليلًا، وهي مدة لا تكفي لإفطار الشهود واتصالهم بمراكز الأخبار أو تأدية الشهادات. وجاءت الليلة الموعودة، فكان القاضي بين عاملين، أهونهما الوفاء بوعده، وأجلّهما ما قالت حذام ... فقذف الإذاعة ببلاع محضر، أعلن فيه الرأي المدبر، وهو أن العيد يوم الأربعاء، لأن مرصد "بوزريعة" قال إن الهلال لا يُرى، ولأن الشيخ بخيت الفقيه قال كذا، ولأن الفلكي التونسي قال كذا، وكل هذا تجديد في عالم البلاغات من اللجنة المجددة،(3/115)
وكل هذا تغطية لقول حذام، هالا فالقول ما قالت حذام ...
والناس كلهم يعلمون أنه إذا ذكرت اللجنة أو رئيسها القاضي فقد ذكرت الحكومة، كما يطلق الخاص، ويراد به العام. ويعلمون أن من لا يُعجزه أن يُرغم نتائج الانتخابات على الظهور عشية السبت، من غير اعتبار لشهادة الصندوق، لا يعجزه أن يعكس القضية فيرغم الهلال على عدم الظهور إلى يوم الأربعاء، من غير التفات إلى شهادة الرؤية.
... وقذفت اللجنة ذلك البلاغ المدبّر إلى الإذاعة، ومن يدرينا؟ فلعلّها أرسلته في النهار، وأوصتْ أن لا يُذاع إلا في الميقات المحدود، تغطية لذنب الفضيحة، وإلا فما الذي منع اللجنة أن تنتظر حتى تسمع وثائق القضاة الرسميين على الأقلّ؟ إن كانت لا تقيم وزنًا لشهادة غيرهم ... بل بلغنا أن اللجنة تلقّت أخبارًا بالرؤية، ولكنها تصامَّت عن سماعها، وأغلقت الباب واستسلمت للنوم والهدوء.
أما جمعية العلماء فقد انتظرت إلى الساعة الثالثة صباحًا، وأما الأمّة فقد اتصلت بها مخبرة مستخبرة بقدر ما وسع الإمكان، وسمح التليفون، فكانت النتيجة أن الهلال رُئي بالشهادة العادلة في بلدان متعددة منها: الغزوات، وندرومه، وفرنده، من عمالة وهران، ومنها: برج بوعريريج، وبني ورتيلان، وبريكة، وورقلة، وتمرْنة، وبعض نواحي الميلية، وعنابة، من عمالة قسنطينة، ومنها فحص الجزائر.
استوفينا الشهادات من البلدان المذكورة بتلقّي السماع من عدلين إلى عدلين فأكثر، وكانت الأصوات معروفة من الطرفين معرفة قطعية، وتمّ ذلك عندنا نصف الليل، وأدّى إلينا قاضي قسنطينة بنفسه ما ثبت لديه منها؛ فشرعنا في الأداء والتبليغ على الوجه الشرعي السابق، ونشرنا الخبر وعمّمناه في معظم القطر بعد أن عمّمناه في العاصمة وأحوازها بكل واسطة، وأخبرْنا نادي الترقّي بهذه الشهادات كلها بواسطة عدلين، فبلغني أن بعضَ الناس ما زالوا مفتتنين ببلاع الراديو المحفوف بشهادة الفلك والعلم وفتوى الشيخ بخيت، فخشيت أن تأخذ هذه الفتنة الجديدة مأخذها في بعض النفوس فيضيع الحق، ونفقد جلالة الإجماع عليه، وتضيع فرصة من فرص اجتماع الأمة على شعيرة من شعائرها فيفرح المبطلون الذين يعيشون على الافتراق والتفريق، فذهبتُ بنفسي إلى النادي، وأعلنتُ في الملأ كل ما تأدَّى إليّ من الشهادات، فآمن المؤمنون، وأجمعوا على إقامة سنته في وقتها بمراكز الإصلاح من العاصمة، ببلكور، وسلام باي، وحي السانتوجين، والجزائر، وأردنا أن نبلغ صوت الحق لهذه اللجنة الهاجعة، ونوقظ أعضاءها النائمين أو المتناومين، فنقيم عليهم الحجة إبلاغًا في النصيحة، ومبالغة في جمع الكلمة، وقمعًا لفتنة الراديو وفتنة المشوّشين الذين رأيناهم يدخلون في صفوف الأمة المتراصّة، يوسوسون بالباطل، ويغرون بالخلاف، وقلنا: نبلغ القوم(3/116)
ما ناموا عنه، فإما رجوع إلى الحق ونسخ لإذاعة الراديو بضدها، وإما مكابرة وعناد في الشمس وضحاها فيفتضحون وتتكشّف للأعين تلك اليد التي تسيرهم.
وذهبت أنا والأستاذ الشيخ الطيب العقبي وجماعة كثيرة من العقلاء، فبدأنا برئيس اللجنة. وتقدم من العقلاء من طرق الباب، وأفهم القضية من وراء حجاب، فتوارى ولم يرد الجواب، فتقدّم الشيخ العقبي بنفسه وخاطبه بالصوت الذي يعرف ففعل مثل ذلك، ففهم من لم يكن يفهم، وعلم من لم يكن يعلم، حقيقة هذه اللجنة، وأنها أداةُ إفساد للدين وتفريق لأهله، ورجعنا في السحر- بعد أن أفشينا العيد على أهل الحي- فأعلمنا الجماهير المحتشدة بالعيد وحثثناهم على إقامة سنّة الصلاة واستماع خطبتها، فانصرفوا يعلوهم جمال الإجماع وجلاله، مبشّرين بالعيد، محذّرين من هذه اللجنة، داعين لجمعية العلماء، هاتفين باسمها، ذاكرين لفضلها على الدين، شاكرين للعلماء الأحرار لطف مداخلهم في إقامة الحجة على أعوان الباطل وأدوات الحكومة.
وما طلعت الشمس حتى كانت الألوف من المصلين رجالًا ونساءً في الأماكن التي عيّنتها جمعية العلماء للصلاة، وعيّنت أئمتها، وأقيمت صلاة العيد وخطبته في أربعة مواضع من العاصمة على صورة لم يسبق لها نظير، روعة وجلالًا وسلفية.
صلّى وخطب في بطحاء جامع "بيلكور"، كاتب هذه السطور، وعيّن للإمامة والخطبة بمدرسة الحراش- الشيخ ربيع أبو شامة، وللإمامة والخطبة بجامع "سانتوجين "- الشيخ أحمد سحنون، وللإمامة والخطبة بمدرسة سلام باي- الشيخ سعيد صالحي.
...
وأحقَّ الله الحق، وأبطل الباطل، وفرح المؤمنون بنصر الله لدينه، ولاذ اللطيم بأمّه يشكو وينتصر، فأصبحت المساجد محاطة بشراذم من البوليس تحمي بيوت الله من عباد الله، وكانت هذه الفعلة أكبرَ سيئات اللجنة البغيضة، ورجحت العاصمة- التى هي ميدان الصراع- كفة الحق على كفة الباطل، وأوقف السائق الإلهي الأمور عند غايتها.
ثم كانت خاتمة الفضائح ما كتبه رئيس اللجنة في ذلك اليوم في جريدة "آخر ساعة" ... وقد تناولته الجرائد الإفرنسية وأفاضت فيه، وقد لفت الناس إليه اعتراف القاضي بأن المرصد قرّر أن هلال شوّال يولد ليلة الثلاثاء ويبقى ثماني عشرة دقيقة ... ولكنه قد لا يُرى لعوامل جوية. وسخّر الله صاحب الجريدة لنصرة الحق، فاستخرج من شهادة المرصد أن الهلال يبقى أكثر من خمسين دقيقة. وقرأ الذين سمعوا بلاغ الإذاعة هذا التناقض فقالوا: سبحان من يطبع على القلوب، ليجعل للحق أنصارًا من خصومه وأعدائه ...(3/117)
فصل الدين عن الحكومة (6)
ونعود إلى فصل الحكومة عن الدين *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 1 -
... ولكننا نغيّر العنوان في هذه المرة، ونقول: فصل الحكومة عن الدين قلبًا في الوضع لا في الموضوع، وتفاؤلًا للحالة بعدم الاستبقاء، كما يُتفاءل بقلب الرداء في الاستسقاء، وأن بين التركيبين الإضافيين لفرقًا دقيقًا في لغتنا العربية، تخيله الفقهاء في بحث ورود النجاسة على الماء، وورود الماء على النجاسة، وحققه البيانيون في بحث: سلب العموم، وعموم السلب، فدين الإسلام- في منزلته من النفوس، وفي منزله من المعابد، وفي مظهره من الأشخاص والمعاني- ثابت أصيل، لم يردْ على شيء حتى يُفصل عنه، وإنما وردت عليه هذه الحكومة ورود الغاصب الذي يحتل بالقوة لا بالحق، أو ورود الواغل الذي لا يحترم نفسه، فكأنه يقول للناس: لا تحترموني، أو ورود الدخيل الذي يندس ويتدسس، وأحد سلاحيه الحيلة منه، وثانيهما الغفلة عنه، فإذا انكشفت الحيلة، وانقشعت الغفلة- أخرج مذمومًا، وَعُتِلَ ملومًا، أو ورود الجار الجنب الذي يجاورك على الكراهة لا على الكرامة، فيجور ولا يجير، تلين معه إدلالًا، فيشتدّ معك إذلالًا، وتتسمح معه في الظواهر، فيتوقح بمدّ اليد إلى السرائر، وترخي له المقادة في علاقته بك، فيجاوزها إلى علاقتك بالله.
...
نقول نحن- بلغة الحق والواقع-: إن الجزائر عربية مسلمة، فيشهد لنا التاريخ والدم، والأدب، والرُّفات، والأسماء والسمات، وجولان "الضاد" في اللهوات.
ويقول المتكلمون بلسان القوة والجبروت، المجانبون للمنطق والعقل، المتجانفون للإثم والحوب: إن الجزائر فرنسية، فتتهافتُ الحجج، وتعقم الأشكال، وتتبرأ المقدمات من نتائجها.
ويقول الأجنبي العاقل هازئًا بهم: ما لهذه الفئة تتناقض؟ وما لها تستجلب السخرية منها بهذا التناقض؟ تزعم أن الجزائر فرنسية، فيسخر منها العقلاء، ثم لا تنفذ فيها أصل الأصول
__________
* نشرت في العدد 104 من جريدة «البصائر»، 23 جانفي 1950.(3/118)
في القوانين الفرنسية، وهو فصل الدين عن الحكومة؟ مع أنه من أساس الدستور الفرنسي، فتهدم دعواها بعملها، ويسخر منها العقلاء والمجانين.
أما القانون الدولي فهو- في هذا الباب- شاهد زور لا تقبل شهادته، لأنه- دائمًا- يشهد للقوة على الضعف، وللباطل على الحق.
...
وتحلف هذه الحكومة بالله إن أرادت إلا الحسنى بدين الإسلام، وإن قصدت بوضع اليد عليه إلا المحافظة على معابده من الضياع، وعلى شعائره خشية الترك والنسيان، وتستشهد على ذلك بأتباعها وصنائعها، فيشهدون؛ ولو كانت صادقة في هذه الدعوى، بارة في هذا القسم، وكانت المحافظة على الأديان بهذه الطريقة من طبيعتها- لكان الدينُ المسيحيّ أولى برعايتها، وأحق باهتمامها ومحافظتها، لأن رجال الحكم فيها كلهم مسيحيون، فهم أحرص الناس على حفظ دينهم (بهذه الطريقة)، وهي أحرص الناس على مسايرة عواطفهم، والأخذ بخواطرهم.
وهذه الحكومة لائكية في الزعم والمظهر، وإن كانت مسيحية في الحقيقة والجوهر، وعلى أي الحالتين كانت فلا يُصدقها أحد في دعوى المحافظة على الإسلام، لأنها إن كانت "لائكية"، فاللائكية لا هم لها بل لا معنى لها إلا محو الأديان، لأنها خطر على سلطتها الزمنية في زعمها، وإن كانت مسيحية فالمسيحية همها محو الإسلام على الخصوص، فأين تقع دعوى المحافظة عليه؟ ..
وتعالوا نسلم جدلًا أنها صادقة في دعواها، ومخلصة في نيتها، فبماذا تفسر المحافظة على الإسلام؟ أبابتلاع أوقافه، وأكلها أكلًا لمًّا؟ والأوقاف هي الأساس المادي للدين؛ أم بتحويلها للمساجد الكبيرة كنائس؟ أم بحسن اختيارها لرجال الدين؟ أم بأعمالها (المشكورة) في حرية الحج؟ أم بتدخلاتها المعروفة في الصوم والإفطار والأعياد؟ أم بتنشيطها على الزرد و (أعراس الشيطان)؟
إن مائة وعشرين سنة تشهد بشهورها وأعوامها، ولياليها وأيامها، وساعاتها ودقائقها بأن هذه الحكومة، على اختلاف رجالها ونزعاتها، لم تعمل عملًا إيجابيًّا يسمى- ولو مجازًا- محافظة على الإسلام، بل ما عملت إلا على إضعافه ومحوه.
إن أول شرط لتحقيق اسم المحافظة هو التعليم الديني، وهي تُحاربه وتشتد وتنشط في التضييق عليه، وإن آخر شرط لتحقيق تلك المحافظة هو إنشاء مدرسة أو مدارس لتخريج الأئمة والخطباء والوعاظ والمؤذنين، كما يتخرج رهبان المسيحية من مدارس اللاهوت وكلياته، أو كما يتخرج رجال الدين الإسلامي في الأقطار الإسلامية من معاهد العلوم الدينية،(3/119)
فهل فعلت حكومة الجزائر شيئًا من هذا؟ كلا، إنها تجتلب رجال الدين من أوساط الأمة، وتشترط فيهم شروطها لا شروط الدين، وتجريهم على طريقتها لا على طريقة الإسلام، وتقدم أطوعهم عنانًا، وأسرعهم استجابة على غيره، وتعتبر فيهم ما تعتبره في عون (البوليس)، من القدرة على أداء (السربيس) (1). ولو كانت تُنفق عليهم في التخريج، أو تجلبهم من مكة أو الأزهر، لما كانت لها شبهة صدق في دعوى المحافظة على الإسلام، ولما كان لنا عذر في الرضى والسكوت لأن الدين ليس دينها، ولا هي أهله. فكيف وهي تأخذهم (جاهزين) بلا تعب ولا معاناة، وتمتحنهم في اللياقة الحكومية، لا في الكفاية والاستحقاق الديني.
إنما يحافظ على الدين أهله، الذين أشربوا في قلوبهم حبه، واختلطت أرواحهم بروحه، وامتزجت عقولهم بعقائده، وطبعت أخلاقهم على مقاييسه، وارتاضت جوارحهم على عباداته، وتغلغل الإيمان به إلى مستقر اليقين من نفوسهم، وأصبحت شعائره جزءًا من حياتهم وصورة من أدبهم.
إن سرّ تسلط الحكومة الجزائرية على الإسلام بدءًا، وتمسكها به استمرارًا ليس من حيث إنه دين يجب أن تحافظ عليه وعلى معابده وشعائره، ولكن ذلك لغاية أخرى غير المحافظة وهي أنها تعد ذلك جزءًا من العمل الاستعماري الذي يتسلط على الأبدان، ثم يعد التسلط على الأديان تكميلًا لا يتم المعنى بدونه، فلما استعبدت أبدان المسلمين مدت يدها إلى دينهم، وأبت عليهم أن يكونوا أحرارًا فيه، ليتم لها التسلط على الجانبين الروحي والمادي، ولم تستطع التسلط على الدين الموسوي لأن أهله ملوك لا مماليك، ولا نذكر الدين المسيحي لأنه دين الحكومة الرسمي، بل دين فرنسا (بنت الكنيسة البكر). وعلى هذه الحقيقة فوضعية رجال الدين الإسلامي عند هذه الحكومة ليست وضعية رجال الدين، وإنما هي وضعية الجزء المكمل للجهاز الحكومي كالجند والبوليس، فالإمام والضابط والمفتي والكوميسير (2)، و (البراح) (3) والمؤذن والبواب والحزاب، كل أولئك سواء في نظر الحكومة وفي اعتبارها، وفي نظر أنفسهم بعد أن راضتهم على ذلك، وكل أولئك موظف عندها، مفروض عليه السمع والطاعة في تأدية أعماله، وكل أولئك تجري عليه التحريات البوليسية قبل تعيينه، ويمتاز الموظف الديني بقابلية التسخير لكل عمل ... وبحرمانه من ثمرات التقاعد ... وبأنه ذنب لكل ذي سلطة حكومية كيفما كان مقامه، لأنه ليس له مرجع ديني معين يرجع إليه، ولا رئيس مخصوص يكون مسؤولًا لديه، فأصبح المسكين مرؤوسًا لجماعة من البوليس، إلى شيخ المدينة، إلى المتصرف، إلى قاضي الصلح، إلى أصغر كاتب في إدارة.
__________
1) السربيس: كلمة فرنسية معناها: الخِدمة.
2) الكوميسير: كلمة فرنسية معناها: محافظ الشرطة.
3) البرّاح: المُنادي في الأسواق.(3/120)
فصل الدين عن الحكومة (7)
ونعود إلى فصل الحكومة عن الدين *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 2 -
ومن المعروف عند أهل الأديان، وأصحاب القوانين، أن رجال الدين إنما يستمدون سلطانهم ويرجعون في تصرفاتهم إلى سلطة دينية تكون هي مرجعهم الوحيد، كما أن رجال الجندية والحكم والأمن يستمدون سلطتهم من مراجع تناسب وظائفهم وتتصل بها، لأن لكل سلطة مرجعًا من جنسها، يكون أصلًا لها، وتكون هي مكملة له، وإن هذا هو الواقع في الديانتين: المسيحية التي مرجعها الفاتيكان، ولو كانت في أرض غير فرنسية، والموسوية التي مرجعها إلى مجالس الأحبار في أية أرض كانت.
أما الواقع في الجزائر- بالنسبة للإسلام وحده- فإن رجال الدين والجمعيات الدينية، كلها تشكيلات حكومية بحتة، ولا تستمد سلطتها إلا من الحكومة، ولا تستند في أعمالها إلا على الحكومة، ولا صلة لها بالشعب المسلم الذي هو صاحب الحق الأصلي، وإنها لَحالةٌ من الباطل والمنكر يمقتها العقل، وتبرأ منها العدالة، ويمجها المنطق وينكرها الدستور الفرنسي الأصيل ...
...
سلكتْ هذه الحكومة الاستعمارية- منذ كانت- إلى محو الإسلام من الجزائر مسالك شتى، فلما أيقنت أن ذلك لا يتم لها من طريق الشعوذة والترغيب عمدت إلى تشويهه بهذه الأساليب التي ما زالت محتفظة بها، دائبة عليها إلى الآن، وغايتها من هذه الأساليب ثلاثة أمور: تكوين إسلام جزائري مقطوع الصلة بماضي الإسلام الحقيقي، وتكوين مسلمين مقطوعي الأسباب من جميع المسلمين، وتكوين طائفة تقوم لها بذلك ممن تسميهم رجال
__________
* نشرت في العدد 103 من جريدة «البصائر»، 30 جانفي 1930.(3/121)
الدين، تنشئهم على الشروط (الوظيفية)، وتروضهم على الأساليب الحكومية، حتى ينسوا أنفسهم، وعلاقتهم بالدين وصلتهم بالأمة، وتمتهنهم في مهن أخرى غير الدين، حتى يعتقدوا أنهم يُؤدون عملًا للحكومة ورجالها لا لله ودينه، وأنهم يُصلون الركعة لمائة الفرنك لا للواجب الديني، وأنهم يقرأون الحزب (للبايليك) لا للتعبد بالتلاوة.
خابت الحكومة في الأولى والثانية خيبة ذريعة، أما في الثالثة فقد نجحت بهذا الجند العاطل المرتزق الذي جندته واصطادته بشبكة المطامع، من الأئمة والمفتين، والخطباء والمؤذنين، والقومة والحزابين (1)، وأتباع "شريعة يوسف" أجمعين ... كوّرتهم وصورتهم، ونقحتهم، و "حوّرتهم" (2)، وعلى المنوال الحكومي دورتهم، حتى أصبحوا جزءًا أصيلًا من الأدوات الحكومية، لا يفرق بينهم وبين سائر الموظفين الحكوميين فارق حتى في التبديل والنقل من بلدة إلى بلدة، فإن حكمة النقل إنما تظهر في الموظف العسكري أو الإداري، أما رجل الدين فأية حكمة في نقله؟ ... لولا اعتباره موظفًا حكوميًّا يُنقل لمعانٍ إدارية، وحكم حكومية ... أما إن كان نقله لنقص أو تقصير في الواجب الديني فإن الدين يعزله ولا ينقله ...
هذا أكبر دليل، وأنهض حجة على أن هذه الوظائف فارقت الدين، والتحقت بالحكومة ...
ومن المضحكات أو المبكيات في هذا الباب ... باب إدماج شيء في شيء غريب عنه، واعتبارهما شيئًا واحدًا- برغم اختلاف الطبيعتين والمزاجين- إنعام الحكومة بنياشينها (3) على أصحاب الوظائف الدينية ... أية علاقة أو أي نسب بين الوظيفة الدينية وبين النيشان؟ إن الأصل في هذه النياشين أنها تشريفات، أو مكافآت من الحكومات لرجالها العسكريين والإداريين، ومنشطات لهم على العمل الحكومي الذي يتفاضل فيه العاملون، فيحملهم الإنعام بها، أو التشوّف لها على المنافسة والاستباق، وتتجدّد فيهم الرغبة في أداء الواجب والإخلاص فيه، وبلوغ الحد الأقصى منه؛ وما هو حظ المفتي والإمام مثلًا من هذه المعاني؟ وما هو التفاوت بين إمام وإمام، حتى يستحقّ أحدهما هذا الوسام؟ وما هو العمل الذي يؤذيه الإمام إلى الحكومة حتى يظفر منها بهذا الإنعام؟ وما هي "المسابقة" التي تعقدها بين رجال الدين حتى يتبيّن لها المصلّي من المجلّي؟ ...
وإن لهذه النياشين لأسماء ونسبًا إلى أعمال، فهل فيها أسماء دينية، أو نسب إلى أعمال دينية؟
__________
1) الحزَّاب: موظّف مُكلَّف بقراءة الورد اليومي (الحزب) من القرآن الكريم في المسجد.
2) حوَّرتْهُم: نحت من اسم قاضٍ يسمّى "ابن حُورَة"، كان مواليًا لفرنسا.
3) نياشينها: جمع نيشان، وهو الوِسام.(3/122)
لا تتم المهزلة على وجهها الأكمل إلا إذا وُضعتْ لنياشين رجال الدين أسماء دينية وعناوين فقهية، لمعان يتفاضلون فيها؟ كنيشان (إطالة الغرة والتحجيل) ونيشان (كثرة الخطى إلى المساجد)، ونيشان (التهجير للجمعة)، ونيشان (الطمأنينة والاعتدال)، ونيشان (وإن تشاح متساوون)، وتختم القائمة بشيء خاص بأمثال العاصمي كنيشان (وقبل خبر الواحد)، ونيشان (واشترك طارد مع ذي حبالة).
...
يا قوم: إن هذه الحكومة تقدّم الارتياد، على الاصطياد؛ وقد ارتادت سلفكم القريب، فوجدتهم أصلب منكم عودًا، وأعلى منكم همة، وأوفر حظًّا من الشجاعة، لأنهم كانوا على بقية من إيمان، وعلى فضلة من شهامة، وعلى شيء من الاعتزاز بالشرف الديني، وعلى نسبة ما من القرب من الله، والاتصال بالأمة، فحماهم ذلك كله من تأثير سحرها واستهوائها. وإن هذه الحكومة تقدم التجريب على التخريب، وقد جربتكم فوجدت منكم جدارًا متداعيًا للسقوط، فما أقامته بل خرّبته، لأنه لم يكن لغلامين يتيمين في المدينة، ولا كان تحته كنز لهما، ولا كانت هي تنظر بعين صاحب موسى ...
وإن وسمها لكم بالنياشين، يعرّ ويشين، لأنكم- كما تزعمون- رجالُ دين، لا رجالَ ميادين، وأصحاب نسبة لها شَان، أعلى من النيشان، فإن كانت هذه النياشين مجازاة على الصلاة، فجزاء الصلاة على الله، وإن كانت لنفع في الدنيا، فالدنانير أنفع لكم من الزنانير.
إن أمّتكم ما زالت على بقية من عقل تُميز بها الأشياء، وعلى أساس من دين تَزنُ به العمل والثواب، وفهم تُدرك به الخطأ والصواب؛ وإنها لا تفهم هذه المكافآت إلا أنها على أعمال- غير الدين- أنتم لها عاملون، فهل أنتم عاملون بما يراد منكم، ثم بما يراد بكم؟ أم أنتم لا تبصرون؟
لو كنتم تحملون سمة الآثار التاريخية، وكان استبقاءُ هذه الحكومة عليكم في معنى المحافظة على التحف، لكان ذلك أشرف لكم، لأن في هذا النوع من المحافظة احترامًا للتاريخ، وإجلالًا للقديم، ولكن في احتفاظ هذه الحكومة بكم كل معاني الاحتقار لكم ولدينكم ولماضيكم، وفيه كلّ معاني التسفيه لأمّتكم، وفيه- مع ذلك- سدٌّ لباب الحرية الدينية، وأنتم السداد.
***(3/123)
واضيعتاه! ... وواذلاه! ... أفي الوقت الذي تتشوّق فيه الأمم المحكومة كلها إلى نيل حقوقها السياسية، وحريتها وحقّها في الحكم الذاتي والتصرّف المطلق، وفي الوقت الذي يتفق فيه مجلس الأمم المتحدة على تحرير سبعين مليونًا من جزر الهند الشرقية من الاستعمار الهولندي، وعلى تحرير القطر الليبي، وفي الوقت الذي تسمح فيه إنكلترا (شيخة الاستعمار) بأغلى جوهرة في تاجها، وبأغنى مزرعة من مستعمراتها، وهي الهند وباكستان، وقد كانتا أمس بمنزلة القلب الذي هو سر الحياة واستمرار الوجود لبريطانيا كلها ... في هذه الظروف التي أصبح فيها طعم الاستعمار المادي الحلو اللذيذ مرًّا كريهًا حتى في حلوق غلاة الاستعمار، يبقى الدين الإسلامي بمعابده وأوقافه ورجاله مستعمرًا مستعبدًا في الجزائر وحدها؟(3/124)
فصل الدين عن الحكومة (8)
فصل الحكومة عن الدين *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 1 -
... وما هي هذه المسيحية المستظلة بلواء الاستعمار في وطننا؟ وأي جامع جمع بينهما؟ آلخير أم الشر؟ وهل تعمل منفصلة عنه، أو مؤتمرة بأمره؟ وماذا صنعت في قضية الإسلام مع الاستعمار في الجزائر؟ وهل أمرتْ بمعروف أو نهتْ عن منكر في هذه القضية كما هو شأن الأديان السماوية الصحيحة النسبة إلى السماء، التي لا تختلف في معنى المعروف والمنكر؟
أسئلة غير متناسقة، نرسلها إرسال من لا يريد عنها جوابًا، لأن أجوبتها تُنتزع من الواقع الذي يشهده كل واحد، فلا يجهله واحد.
وإنما نقول تمهيدًا لكلام يجول في الخواطر: إن هذه هي مسيحية أوروبا المادية التي قطعتْ (روما) صلتها بروحانية الشرق، وجفّفتها من مائيته، واتخذها الطغاة سلمًا إلى الملك والتسلط، ثم لعبت بها تصاريف الدهر حتى زاحمت الماديين على مادتهم فتنكّروا لها ثم أنكروها، وضايقت العقل في تفكيره فكفر بها، وتنورها العلم فلم يجد على نارها هدى؛ فلما طغت عليها مذاهب العقل في أوروبا، وضاقت بها مسالك الفكر، ولم تساوقها وسائل الحضارة من علم وسياسة واقتصاد وفن واجتماع، قفزت إلى أوطان غير أوطانها، ووقعت قي منابت غير منابتها، للتبشير بالمسيح ودينه، بين أقوام يعرفون المسيح ويؤمنون به ويعتقدون فيه الحقّ، وتوسلتْ إلى غايتها بالاستعمار الذي يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، فقطعتْ معه البحار، وأوغلت معه في البراري والقفار، تخدم ركابه، وتصل بأسبابها أسبابه، وتستجديه الحماية والرعاية، لتسترجع هنا ما فقدته هناك، ولتربح هنا ما خسرته هناك، ولكنها بعد بذل الجهود، وتوطيد المهود، باءت بالفشل، وعند الراهب "زويمر" وخلفائه الخبر اليقين ...
__________
* نُشرت في العدد 106 من جريدة «البصائر»، 6 فيفري سنة 1950.(3/125)
أما أن للأديان السماوية في أصلها النقي أسبابًا واصلة إلى الله، وأن بينها أرحامًا متشابكة على الحق والخير، ونسبًا مرفوعة إلى الملإ الأعلى تتقاضاها التعاون والتناصر على الحق والخير، فذلك ما نعلمه قبل غيرنا، ونعمل به أكثر من غيرنا، لأن ذلك مما غرسه فينا الإسلام الذي كشف عن معاني الألوهية والنبوة والوحي، وأبان حكمة إنزال الكتب، وبيّن أن النسبة إلى الله هي الرابطة الوثقى بين عباده، إذا ارتبطوا بها سعدوا.
وأما أن الإسلام أقام الحجة على الأديان وأهلها بعدله وتسامحه وفضائله، وبذَّها بعقائده المبنية على توحيد الوجهة، وعباداته المثمرة لتزكية النفس، وأحكامه الكافلة للمصلحة، وبمسايرته للفطرة وصلاحيته لجميع الأزمنة والأمكنة، فذلك شيء يشهد به أعداؤه حين تتغلب عقولهم على أهوائهم.
ولكن هناك ديونًا من الإحسان والبر للإسلام على المسيحية، سجّلها التاريخ، وأقام عليها من الواقع شهودًا لا ينالها التجريح، فهل كافأته هذه المسيحية وأمها اليهودية إحسانًا بإحسان، وجميلًا بجميل، وعهدًا بعهد، ورعاية برعاية، وحرية بحرية؟ وهل شكرتا له تلك المنن التي طوّقها بها في التاريخ الطويل المتعاقب؟ ...
جاورت المسيحية الإسلام في العراق، وهو مستقر قوته، متمثلة في مذاهبها القديمة، مغلوبة على أمرها، ذليلة الجوار للمجوسية، فرعى لها نسبتها إلى عيسى وإنجيله، وأرخى لها في عنان الحرية والظهور، وعاملها معاملة الغالب الكريم، لم يمتهنها بتحفظ، ولم يشن حريتها بتدخل، ولم يشب معاملته لها بتدسس، وأهَّل أهلها للمناصب الجليلة، وأحلّهم المراتب النبيهة، وسوّغهم الهبات غير مكدّرة ولا ممنونة، وقاد إحساسهم بالإحسان، ولم يجرّهم- كما يفعل الاستعمار المسيحي- بالأرسان ...
وجاورته في مصر، جارة بيته، وجوهرة فتوحه، فلم ترَ جارًا أوفى ذمامًا، ولا أمنع جوارًا، ولا أرحم قوة، ولا أعف جوارح منه. ووجدت في فسطاط عمرو من ظلال الأمن، وأفياء الحرية ما لم تجده في قصور القياصرة من الرومان والبطالسة من يونان، ثم تغيّر الزمن، ودالت الملوك والممالك، ولكن رحمة الإسلام بالمسيحية لم تتغيّر لأن وصايا نبي الإسلام بأهل ذمته لم تتغير، ولأن من طبيعة الإسلام رعي الذمام.
ثم غزا الأندلس ظافر الألوية، فغزا ظلم الملوك، وطغيان الطواغيت، وفساد المجتمع وتفاوت الطبقات، وأنانية الرؤساء، ولم يغزُ المسيحية ... وجاورته قرونًا كثيرة، فحمدت منه الجوار، وتبوّأت في ذمّته قرار الأمن والحرية، ولم تلق إلا الرفق واللين والرحمة، ومن آثار تلك الحرية اشتراك المسلم والمسيحي في اقتطاف ثمرات الحضارة الإسلامية من علم وأدب وفن وصناعة، ومن آثار ذلك الاشتراك كثير مما تنعم به أوروبا اليوم.(3/126)
وبمثل تلك المعاملة عامل اليهودية في جميع الأقطار التي بسط فيها ظله، ونشر فيها عدله وفضله، عاملها بالحسنى، وحفظ فيها رحم إبراهيم، وأخوة موسى، فكانت الأقطار الإسلامية مأرزًا تأرز إليه اليهودية كلما مسّها ضيم من المسيحية؛ واليهود كلما انفجر عليهم تعضب من المسيحيين، فلا تجد ولا يجدون إلا الظل الظليل، والملجأ والمقيل، كل ذلك لأن الإسلام- مع نسخه للأديان، ومع اعتباره أن البشرية لا يصلحها إلا دين واحد- خصّ السماوية منها بالاعتبار، وخصّ أهلها بأحكام تقرّبهم من المسلم، وسماهم أهل الكتاب، تنويهًا بالعلم وإرشادًا إليه.
...
ودالت دولة الإسلام! ... وزالت قوّة المسلمين! ... ووفدتْ على أوطانهم وافدة الاستعمار ... وفتح المسلمون أعينهم على السلاح، وآذانهم على قعقعته، فإذا اليهودية التي حموها بالأمس، والمسيحية التي أحسنوا إليها بالأمس، من عداد الأسلحة المختارة لحرب الإسلام والمسلمين ... والله أكبر.
...
لو أن المسيحية كانت تسير برشد وبصيرة، وتجري على شيء من بقايا هدي المسيح، لاتخذت من الإسلام صديقًا لا عدوًّا، وحليفًا لا منابذًا، ولو كانت على شيء من الوفاء وحفظ الجميل لذكرت له مواقفه في الإبقاء عليها، وفي تحريرها من سلطة المستبدين من ملوكها، وقد كان من القوّة بحيث يستطيع محوها من دياره، ولو ذكرت ذلك لأرضته في جميع الأقطار بإعانته على التحرير في الجزائر، ولو فعلت ذلك لخدمت مصلحتها قبل مصلحة الإسلام، ولكن روحانية عيسى جفّت ... ولكن موازين الأحلام خفّت ... ولكن مغريات الاستعمار حفت ... فأصبح دين المسيح خادمًا للاستعمار، وأصبح أصحابه في غفلة يعمهون، لا يدرون أن هذا الاستعمار من عمل الشيطان ومن أعداء المسيح، وأنه يستخدم المسيحية لهدم الأديان، ثم يعود عليها هي فيهدمها، وإن هذا لهو الحق المبين.
تقف المسيحية في الجزائر من عمل حكومتها في استعباد الإسلام، وقفة المتفرج في الظاهر، ووقفة المعين للحكومة في الباطن، فهل يهنؤها أن تكون هي حرة طليقة، وأن يكون الإسلام في سلاسل الحكومة وأغلالها؟
إن الطليق الذي لا يمدّ يده لإنقاذ الأسير، وهو قادر على إنقاذه، يوسم بواحدة من اثنتين: إما أنه راض مغتبط، وإما أنه شامت متشفّ، ففي أية منزلة تضع المسيحية نفسها(3/127)
من هاتين، إن تبرّأت من الثالثة ... فإذا قالت: إن الإسلام خصمها، قلنا لها، إن الخصم الشريف القوي الشجاع لا يرضى لخصمه أن يكون أسيرًا في يد غيره، ولا يرضى له إلا أن يكون حرًّا طليقًا مثله، حتى إذا نازل، نازل كفؤًا، وإذا غلب، غلب كفؤًا؛ أما رضى الخصم الشجاع لخصمه بالأصفاد والأغلال فهو غميزة في الشجاعة، ونقيصة في الكفاءة، وقادح في دعوى الخصومة ... فإذا قالت: إنه أسير في يدي ... قلنا لها: هذا هو المراد، ويهنيك الحلول والاتحاد ...
تشكو المسيحية من طغيان الإلحاد وكثرة أسبابه، ولكنها تعمل على تمكين الإلحاد وتقوية أساسه، فهي تنصر الاستعمار، وهو أبو الإلحاد وأمه، وهو فاتح أبوابه، ورابط أسبابه، وهي تحارب الإسلام، وهو الحصن الذي يتحطم الإلحاد على صخوره، ولعمري ليس في التناقض أغرب من هذا.
من أراد الحقيقة في كلمة فهي: إن المسيحية هي الاستعمار، وسيأكلها يوم لا يجد ما يأكله!
...
يا قوم ... إن الأيام دول؛ وان دين الله لا يثبت بالمزامير، ولا بالمسامير، وإنما يثبت بحقائقه وفضائله، وستفترقون على ضلالة، كما اجتمعتم على ضلالة، وسيأتي يوم تنتصرون فيه بالإسلام ... ثم لا تُنصرون.(3/128)
فصل الدين عن الحكومة (9)
فصل الحكومة عن الدين *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 2 -
ينزغ شيطان الاستعمار الحكومة، فتحرك مسائل كانت نائمة، ارتجالًا بلا باعث من الحكمة، ولا داع من الضرورة، ولا مناسبة من الوقت، ولا اقتضاء من المصلحة، ونسكت نحن على مضض حتى ينفد الصبر، ثم نتحرك للكلام ...
يوحي شيطان الاستعمار إلى الحكومة وحيًا متتابعًا لا فترة فيه، فإذا تلقّت الوحي ونزل به الروح الخبيث على قلبها نجمته على فترات، وأوحت في كل فترة إلى أوليائها ما يثير شرًّا، أو يوقظ فتنة، وقد أصبح المجلس الجزائري اليوم متنزل وحيها، فلا تمضي فترة إلا أوحت إليه شيئًا من ذلك النوع الذي يثير الشرور، أو يوقظ الفتن.
أي داع من الحكمة، أم أي مقتضٍ من المصلحة لإثارة قضية إعطاء المرأة المسلمة حق الانتخاب؛ كأننا فرغنا من جميع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وحصّلنا جميع الحقوق والمصالح، ولم تبق إلا هذه القضية، وكأن الرجل المسلم استوفى جميع الحقوق، ومنها حق الانتخاب، وجنتْ يداه جميع الثمرات، ومنها ثمرة الانتخاب، ونال جميع الحريات، ومنها حرية الانتخاب ... وبقيت المرأة المسلمة محرومة من ذلك كله، فوجب على الحكومة العادلة، وعلى المجلس الرحيم، أن ينصفاها، وأن يرفعا عنها هذا الإجحاف، وأن يعجّلا لها بالحق الضائع والثمرة المغصوبة، والحرية المسلوبة. إذن فلتحيَ العدالة ... ولتحيَ المساواة ...
إن الرجل المسلم لم يملك إلى اليوم حق الانتخاب، وكل ما حصل عليه في هذا الباب، أن يسجّل اسمه في قوائم الانتخاب، كما يسجَّل في قوائم المواليد، وأن يحمل ورقة اسمها ورقة الانتخاب، كما يحمل ورقة التعريف، فإذا جاء أجل الانتخاب سيق بالكره إلى الجهة التي تريدها الحكومة، فإن أبى فهو عدو للحكومة، فإن غاب ... أكمل به
__________
* نُشرت في العدد 108 من جريدة «البصائر»، 20 فيفري سنة 1950.(3/129)
النصاب، وإن المسلم الجزائري لغائب عن كل شيء ومنسيّ في كل مشهد. ولم نر مشهدًا يعتد فيه بغيبته إلا مشاهد الانتخاب، أفيريدون بإعطاء المرأة المسلمة ورقة الانتخاب أن يشركوها مع الرجل في هذه "النعم"؟ أم هم يحسدونها على السلامة من نهر القائد وتهديده، ومن زمجرة الحاكم ووعيده، ومن عصا البوليس وسياطه، ومن رؤية المزعجات من الدبابات والرشاشات، فهم ينتقمون منها- بدافع الحسد- ويجرّونها إلى هذا العذاب، بإعطائها ورقة الانتخاب، وما لهم لا يعطونها حق (التوظف)؟ إن قالوا: إنّها لا تحسن العمل، قلنا: وهي كذلك لا تحسن الانتخاب، وهل أجدى على الأمّة إعطاء حق الانتخاب للرجال الأميين شيئًا؟ إنه ما جرّ عليهم إلا الوبال، وإن القانون الأخير الذي عمّم هذا (الحق) على سكان الدواوير (1) والصحارى الأميين، ما سُنّ لمصلحة المسلم الأمّي ولا القارئ، وإنما سنّته الحكومة لتغمر القلة القارئة بالكثرة الأميّة، والفئة العالمة بالفئات الجاهلة، فتضمن الفوز لمرشّحيها، وقد كان ذلك، فاستمرأت الطعم، فأرادت أن تفتح الباب للمرأة المتعلمة، ثم للجاهلة، ليكون لها رديف منهن تدّخره لوقت الحاجة.
وكل ما قلناه عن الانتخاب فهو القاعدة، فإن شذّ عنها شيء فهو (تعويذة) يُدفع بها النقد، وستار تغطّى به الحقيقة.
أما حكم الإسلام فسندمغ به حجج الجاهلين به في مناسبة أخرى. وإنما نقول إن الإسلام في جملته لا يزجّ بالمرأة في هذه المضايق، وفي كل ما يجُرُّ إليها، رفقًا بها وإبقاء على شرفها ورعاية لرقة شعورها، ولطافة جوهرها، لا احتقارًا لمنزلتها، ولا استخفافًا بشأنها، وإنه ليسوّي بينها وبين الرجل في كثير من منازل الكرامة والاعتبار، حتى إنه ليجيز إجارتها للجاني وللفارّ بخربة، بدليل حديث «ويسعى بذمّتهم أدناهم»، وحديث «أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ».
وقد جرت الأديان والحضارات الأصيلة على هذا المنهاج الذي نهجه الإسلام في المرأة، إلى أن جاءت هذه الحضارة القائمة فأرخت للمرأة العنان، فزاغت الحرية المفرطة عن الاعتدال، فتعدّت طورها الطبيعي، فأصبحت مشكلة يعسر حلّها، لا إنسانًا يعسر إقناعه. وسيندم الفاتحون لهذا الباب، المنادون بإعطاء المرأة حق الانتخاب، يوم تصبح ظبية الوعساء أسد غاب، وتصبح النوائب مناهضات للنواب.
وإذا كانت أوروبا، على عراقتها في الحضارة والعلم- وتدرّج المرأة فيهما مساير للرجل- لم تفكّر بعض أممها في إعطاء هذا الحق للمرأة إلا في السنوات الأخيرة، وفي ظروف استثنائية كما يقولون، فكيف تُقدِم حكومة الجزائر ومجلسها على هذه الطفرة بالمرأة العربية المسلمة ... وهي ما زالت في الدرك الأسفل من الانحطاط. وهلّا فكّروا في تقوية
__________
1) الدواوير: جمع دَوَّار، وحدة إدارية تشمل عدة قرى.(3/130)
عقلها بالعلم، وفي تقوية جسمها بالغذاء، وفي حفظ صحتها بالعلاج، وفي حفظ نسلها بالرعاية، وفي تخفيف ويلاتها بالاهتمام، أم هم يعتبرون المرأة العربية المسلمة في الجزائر قطعة من المرأة الفرنسية في أوروبا؟
المرأة الجزائرية تنتحب، والحكومة الجزائرية تريد لها أن تنتخب ... والفرق بسيط، ما دام الفارق نقطة ... وقاتل الله هذه الخاء، فما أعسرها في المخرج. وما أسعد من لا ينطق بالخاء ... وصدق المثل: عسى الغويرُ أيؤسا ...
وإذا كانت نظرةُ الإسلام إلى القضية هي هذه، فهي من الدين الذي يجب فصل الحكومة عنه.
...
والقضاء الإسلامي أيضًا من الدين، فما لهم يجهلون؟ ... فقد أثيرت في هذه الدورة للمجلس الجزائري قضية القضاء الإسلامي، نزل بها الوحي المفاجئ، مستورة بجلباب شفاف، وهو كلمة الإصلاح التي عنونوها بها، وتلهّى المجلس أسبوعًا أو يزيد، ووع النقاش في حواشيها وفي صميمها، واختلف الرأي واشتدّ الجدال، وافترق المجلس فيها معسكرين، يحرّك كل واحد منهما الدالان وقالت النظارة: إن الأمر جد، وإذا بالوحي ينزل مرّة أخرى بالنسخ أو بالفسخ، والنسخ قبل إمكان العمل جائز عند الأصوليين، قائم الشواهد من الواقع، وإذا القضية كأنها تدريب على لعبة لا بحث في قضية جدّية.
وقبل هذا الوحي كان إرهاص ... فقد أُثيرت قبل هذه القضية بأسابيع قضية أخرى من سلالتها، أو تشير إليها، أو تدل عليها، أو تنذر بها، أو كأنها مقدّمة لكتاب، أو طليعة لكتيبة، أو ما شئت أن تجيل فيه فكرك! تلك القضية هي: الاكتفاء بشاهدين في عقود الأنكحة الإسلامية، وعدم اشتراط التسجيل عند القاضي ... وقد شغل بها المجلس وزجّى بها الفراغ أيامًا، ثم بردت الحرارة ونامت التقارير، وكانت كلها شقشقة هدرت ثم قرّت!
إن للحكومة- بلا ريب- نية مبيّتة في إلغاء القضاء الإسلامي بالتدريج، فهي تمهّد الأسباب لذلك وتهيّئ من زمان بعيد، ولكنها لا تريد أن يجيء ذلك الإلغاء مباشرة، ولا أن تُقدِم عليه في دفعة واحدة، وإنما تعمل له بالحيلة والمطاولة حتى يتم وكأنه أمر طبيعي، لا يثير لغطًا ولا يحدث تشويشًا.
نلمح هذه الحقيقة في ظل الأعمال التي تأتيها الحكومة باسم التنظيم للقضاء الإسلامي، وفي ظل الأقوال التي تقولها فيه، ونفهم أن تعقيد الإجراءات القضائية وتكثير اللوائح(3/131)
والبلاغات فيها، والبطء المملّ في سير النوازل، والتغاضي لبعض القضاة عن الهنات الأخلاقية المخلّة بشرف القضاء، المشوّهة لسمعته، وإبعاد مراكز القضاء عن المتقاضين، وإرادة فتح باب التخيير للمتقاضين بين القاضي المسلم وبين القاضي الأوروبي، كل ذلك وما أشبهه يرمي إلى تنفير المسلم من القضاء الإسلامي وتزهيده في التحاكم إلى القاضي المسلم، واختياره للقضاء الفرنسي، وإن مسألة الأسابيع الماضية التي سمّيناها إرهاصًا لنذير من النذر، لأن الآثار اللازمة لها كثيرة منها تطفيف المنفعة المادية للقضاة والتضييق لدائرة نفوذهم، والتقليل للتردّد عليهم والاتصال بهم، وهذا باب من أبواب التزهيد فيهم، فإذا أضفت إلى هذا الباب فصل السلوك والسيرة كان زهدُ المسلم في القاضي زهدًا محقّقًا، وكان إلغاء هذا القضاء المتمثّل في هذا القاضي أمرًا مرغويًا فيه.
إننا نريد لقضائنا حرمة ومكانة، ونريد لرجاله سمعة ومنزلة، ونغار عليهما، وندافع عنهما بحمية وحماسة، ونطالب بإصلاح القضاء ثم باستقلاله، ونرى أنه لا عزّ لأمة إلا بعزة قضائها وقضاتها، ولكن بعض القضاة كانوا بأقوالهم وأعمالهم عونًا علينا، وكانوا مع الاستعمار إلبًا على مطالبنا، وكأنهم ضمنوا لأنفسهم الخلود في هذه الوظائف المهينة، فاطمأنوا لهذه (الخبزة) الذليلة، فذاقوا وبال أمرهم حين سيموا الخسف بالأمس، وحملوا على خطة الهوان، فلم يجدوا وليًّا ولا نصيرًا.
حقيقة ... إن بعض القضاة أعوان للقضاء على القضاء ...
وبعد ... فنحن لا يهمنا أن يشغل المجلس الجزائري نفسه بالتوافه، ولا أن يعمر أوقاته بالفراغ، ولا أن تنجلي معاركه عن غير فتح ولا غنيمة، فإن كل واحد ميسر لما خلق له، وإن كثيرًا من الأشياء المنسوبة إلينا، المحسوبة علينا، هي من باب كلمة " Stop" في البرقية، تدخل في حساب جيوبنا، لا في حساب مصلحتنا، فندفع ثمنها من غير أن نستفيد منها شيئًا.
وإنما يهمّنا أن القضية من صميم الدين، فكان الواجب أن يُرجع فيها إلى أهل الدين وهم المسلمون وحدهم، وكان من اللياقة والحكمة أن يُستشار فيها أهل العلم بالدين، لأنهم أدرى بالخلل وبوجوه إصلاحه، وما شأن النواب غير المسلمين في هذه القضية الإسلامية البحتة؟ مع أن المجلس مبني من أول يوم على التفريق بين جنسين لكل منهما صندوق انتخاب، لأن لكل منهما مصالح تخصه، أم أن أولئك النواب يعتقدون أن القضاء الإسلامي ليس من الدين؟(3/132)
فصل الدين عن الحكومة (10)
فصل الحكومة عن الدين *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 3 -
ولعل رجال هذا المجلس- حين كانوا يخوضون في قضية (إصلاح القضاء الإسلامي) - كانوا يظنون أو يعتقدون أن القضاء في الإسلام ليس من الدين، وإنما هو تشريعات زمنية، يأخذ منها الزمان ويدع، وهم في هذا بين اثنتين: الجهل بقيمة الإسلام، أو التجاهل، والإسلام يراعي المصالح الزمنية ويبني أحكامه على تطوراتها، ويكل إلى علمائه الراسخين في فقه الكتاب والسنّة أن يُراعوا لكل وقت أحواله، وأن يقيموا الموازين على أساس جلب المصلحة ودرء المفسدة، وأن يضعوا بين أيدي قضاة الإسلام من القواعد ما يعصمهم من الخطإ في التنفيذ، ولكن هذا التسامح كله إنما هو في غير ما (يعمر القلب، ويعمر البيت)، في غير ما يعمر القلب من توحيد وعبادة ناشئة عن التوحيد، وفي غير ما يعمر البيت ويكوّن الأسرة، من النكاح وتوابعه ولوازمه من حقوق الزوجية والنفقات وأحكام الطلاق والعدّة والصدقات والحمل والإرضاع، فكل أولئك من صميم الدين، بيّن الكتاب أصولها وحِكَمَها وأحكامها، وشرحت السنة القولية والعملية فروعها ودقائقها، ولم يتركها الله سدى ولا وكلها إلى الآراء والأزمنة، لأن دينه دين الفطرة ... ومن لي بأن يفهم الناس والعلماء منهم معنى هذه الكلمة الجليلة، كلمة الفطرة؟ إنها لا تفهم من القواميس، وإنما تفهم بتفهم أسرار كلام الله، وكلام محمد بن عبد الله.
إن أحكام النكاح وتوابعه تعدّ من مفاخر التشريع الإسلامي المستند على الوحي الإلهي، ولا يوجد دين من الأديان السماوية أو الوضعية- ولا أستثني- اعتنى بهذه الأحكام وفضل القول فيها وبنى أصولها على الفطرة وما تحتمل وما لا تحتمل، إلا دين الإسلام، وحكمة ذلك كله أن هذه الأبواب هي التي تُبنى عليها الأسرة التي هي نواة الأمّة، وإن صلاح الأمّة
__________
* نُشرت في العدد 159 من جريدة «البصائر»، 27 فيفري سنة 1950.(3/133)
وفسادها، تابعان لصلاح الأسرة وفسادها، فعناية الإسلام بهذه الأبواب أكبر برهان على عنايته بإصلاح الأمّة وإسعادها.
ولو أن العالم النفسي من علماء العصر يدرُس التشريع الإسلامي في منابعه الأولى وبلغته الأصلية، ثم يقابل بينه وبين قواعد علم النفس لآمن بالله وبدينه الحق. إن الطبائع الفردية في البشر تختلف وتتباين، وعوارض الحب والبغض تتغيّر وتزول، فمن الخطإ في التشريع أن تُجعل أساسًا لحكم عام، أو قاعدة اجتماعية، فالخلطة الطائرة القصيرة، المصحوبة بنزوات الشباب، التي يجعلها الأوروبيون شرطًا في الزواج، ويزعمون أنها ضامنة لدوام العشرة وسعادة البيت، قلما تصدُق، لأنها لا تكشف عن الجواهر الأخلاقية الأصلية، مع ما يصحبها من الغش والتصنع، وكثيرًا ما نرى الزوجين منهم بعد نُصول الصبغ الكاذب، وانكشاف الحقائق الطبيعية، يرجعان إلى حالة من المعاكسة والخلاف هي العذاب بعينه، والإسلام لا يبني على هذه الاعتبارات الزائلة، وإنما يبني على اعتبارات عُليا، إن لم تُلائم هوى طاغيًا في الفرد فإنها تلائم مصلحة المجموع. وإن كل ما قلناه ونقوله في هذا الموضوع إنما هو حال الإسلام، لا حال المسلمين.
...
نعتقد أن المثقفين من أعضاء المجلس المسلمين كانوا يعتقدون في القضية خلاف ما يعتقده زملاؤهم، كانوا يعتقدون أن هذه المسألة دينية، يجب الرجوعُ فيها إلى أهل العلم بالدين، ولكن صوت الحق في هذا المجلس تعلوه أصوات الباطل والجهل، فلا تدع قائل الحق يقول، ولا تسمعه إذا قال، لأن المجلس كان مأخوذًا بسحر الوحي ورهبته، فلم يُفق من غشيته حتى نزل الوحي الثاني بالمجلس، وقيل له: قف ... فإن القضية ليست من خصائصك، وإنما هي من خصائص وزير العدل الإفرنسي في باريس.
ليت شعري ... هل كان هذا مجهولًا يوم وُضعت القضية في جدول الأعمال؟
لا نعني أعضاء المجلس بهذا السؤال، فقد قرأنا في الأمثال أن الحائط قال للوتد لمَ تشقني؛ فقال له: سل من يدقني ...
...
وإذا كان أعضاء المجلس الجزائري يعتقدون ويقولون: إن القضاء ليس من الدين، فقد قالها قبلهم حاكم مسؤول منذ سبع سنوات، وكان هدفه في كلامه إثبات عدم "دينية" القضاء(3/134)
ليمهّد للحكومة بقاء يدها مبسوطة عليه كالمسائل الإدارية، تبدّل وتغيّر و ... وتلغى، فتناول هذه المسألة الدينية بمنطق استعماري، وفكر عنصري، ولم نستطع الردّ عليه إذ ذاك لعدم وجود صحيفة تنشر لنا، فاكتفينا بتوضيح المسألة في تقريرنا الذي قدّمناه للحكومة في رمضان 1363 ونص ما قلناه:
"القضاء بين المسلمين في أحوالهم الشخصية والمالية والجنائية جزء لا يتجزأ من دينهم، لأن الحكمَ بينهم فيها حكم من الله، ولأن أصولَ تلك الأحكام منصوصة في الكتاب والسنّة، وكل ما فيها فهو دين، ولأنهم ما خضعوا لتلك الأحكام إلا بصفة كونهم مسلمين.
والدولة الفرنسية نفسها تعترف بهذه الحقيقة اعترافًا صريحًا، فقد كانت إلى العهد القريب تعارض مطالبة الجزائريين بحقوقهم السياسية لتمسّكهم بالقانون الأساسي في الأحوال الشخصية. والحقيقة أن الحكومة الجزائرية منذ الاحتلال بَترت القضاء الإسلاميّ فانتزعت منه أحكام الجنايات والأحكام المالية، ولم تُبق له إلا أحكام النكاح والطلاق والمواريث، ولا ليتها أبقتها له حقيقة، ولكنها مع المطاولة احتكرت تعليمه واحتكرت وظائفه لمن يتخرجون على يدها وبتعاليمها، وجعلت نقض أحكامهم وتعقّبها بيد القضاة الفرنسيين، وأصبح القضاء الإسلامي حتى في هذا القدر الضئيل خاضعًا للقضاء الفرنسي وأصبح القضاةُ بحكم الضرورة لا يرجعون في أحكامهم إلى النصوص الفقهية، وإنما يرجعون إلى اللوائح التي يضعها وكلاء الحق العام الفرنسيون، وفي هذا من الإجحاف وظلم القضاء الإسلامي ما لا يرضى به المسلمون.
ولا ننسى أنها وقعت محاولات واستفتاءات في بعض الأحيان، يُراد منها إلغاء القضاء الإسلامي بالتدريج، وإرجاع مشمولاته إلى القضاء الفرنسي، إن المسلمين يشكون هذه الحال، ويشكون نتائجها السيّئة من الاضطراب والفوضى في المحاكمات، والضعف والجهل في القضاة، ويعلمون أن ذلك كله ناشئ من سوء التعليم القضائي وعن إهمال التربية الإسلامية الفاضلة التي هي الشرط الأساسي في القضاة، وعن استبداد القضاء الفرنسي على القضاء الإسلامي، وعن عدم شعور القضاة بمراقبة الأمّة لهم مراقبة دينية.
وجمعية العلماء والأمّة الإسلامية معها تطالب الحكومة الجزائرية بوضع حدّ لهذه الحالة الشاذة المضطربة".
ثم أجملنا رأينا في نقط الإصلاح اللازمة التي لا بدّ منها لمن يريد الإصلاح وله فيه قصد صالح ونية حسنة، ولو أن الحكومة أعارت مطالبنا الدينية التفاتًا من ذلك الحين، وقد مرّت بعده سبع سنوات، لأحسنت إلينا وإلى نفسها، ولخفّفتْ عنا وعن نفسها كثيرًا من هذه(3/135)
الأعباء والمتاعب، ولوَجدتْ نفسها اليوم خالية الذرع من هذه المشاكل، ولكن أين الاستعمار من الإحسان؟ إن طالب الإحسان من الاستعمار كطالب النسل من العقيم ... قلنا- إذ ذاك- في بيان نقط الإصلاح ما نصّه:
"وها هي ذي أصول الإصلاح نقدّمها بكل إخلاص:
التعليم القضائي:
يجب توسيع برامج التعليم القضائي في مادة العربية والفقه والأصول ودراسة التفسير والحديث ومآخذ الأحكام منها وتاريخ القضاء في الإسلام وفلسفة التشريع وعلم النفس. كذلك يجب فتح الباب لقبول علماء مدرّسين لتلك العلوم من المتخرّجين من جامع الزيتونة أو غيره، لا تعتبر فيهم إلا الكفاية لما يراد منهم.
الوظائف القضائية:
كذلك يجب إدخال عناصر من المتخرجين من جامع الزيتونة أو غيره من المعاهد الأخرى في الخطط القضائية.
السلطة العليا:
كذلك يجب تكوين مجلس قضائي أعلى من القضاة المسلمين يتولّى اختيارَ القضاة وتسميتهم ومراقبتهم والنظر في سلوكهم وتحديد عقوباتهم، وتكون سلطة هذا المجلس مستقلة عن القضاء الفرنسي.
محاكم الاستئناف:
كذلك يجب تكوين محاكم استئناف إسلامية، تستأنف إليها الأحكام الأولية وتكون سلطتها إسلامية محضة، وهذه النقطة من أهم نقط الإصلاح من حيث الاعتبار، لأن حكم القاضي المسلم لا ينقضه إلا قاض مسلم".
هذا ما قلناه منذ سبع سنوات خلتْ في إصلاح القضاء الإسلامي، وما زلنا نقوله، وما زلنا نرفع أصواتنا بأن المسلم لا يجوز له دينًا أن يتحاكم إلى حاكم غير مسلم، ولا يجوز له أن يستبيح نكاحًا أو إرثًا من أية جهة كان أو دمًا بأية شبهة كانت، إلا بحكم قاض مسلم.(3/136)
الدين المظلوم *
كان الإسلام عزيز الجانب، منيع الحمى، يوم كان يدافع عن نفسه بروحانيته القوية، وحقائقه الواضحة، وعقائده الصافية، وأحكامه السمحة، وآدابه القويمة، وحكمه المتحكمة في العقول، وكان يُدافع عنه جند من أبنائه، عرضهم على ميزانه فرجحوا، واستعرضهم فنجحوا، وامتحن قلوبهم للتقوى فتكشفوا عن الطيب والطهر، وتلاقت العقائد الصريحة والقواعد الصحيحة على إنارة غسق الأرض بإشراق السماء، فظلّل الإسلام الكون بعدله وسماحته، وكان له في المشارق والمغارب مستقر ومستودع، وعلا بذلك على الأديان فجلّلها بالأمان، وأجارها من النسيان، وجاورها بالإحسان، فلما ضعف سلطانه على نفوس أبنائه ضعف سلطانهم على الأرض فاختلّ فتلاشى، ذلك يومَ أصبح قرآنه أغاني على الألسنة، لا أشفية للصدور، وأحاديثه أحاديث للتلهية والتغرير، لا معادن للأحكام والأخلاق، ويومَ قُفي على عقائده بالخرافات، ونسخت أحكامه بالعادات، وبدّلت آدابه بالتقاليد؛ فلما اطمأن المسلمون إلى هذا المهاد الذليل هانوا على الله وهانوا على أنفسهم فهانوا على الناس، فأصبحوا بهذه المنزلة لا يحمدون عليها ولا يُحسدون، وأصبح دينهم هدفًا لكل رام، ونهزة لكل عاد، وفريسة لكل مفترس.
دفع الإسلام أبناءه بتلك الروحانية العنيفة إلى ميادين الحياة، بعد أن عرّفهم بمعاني الحياة: دفع الأبطالَ إلى الفتح، وجعل الرفق رديفه، ودفعَ أولي الهمم إلى الملك، وجعل العدلَ حليفه، ودفعَ العلماء إلى التربية، وجعل الإصلاح غايتها، ودفع الأغنياء إلى بناء المآثر، وجعل عزةَ الأمّة نهايتها، فسدّ كل واحد ثغرة وأبقى فيها الآثار الخوالد: أبقى الأبطالُ تلك الفتوحات التي هي مفاتيح ملك الإسلام، وأبقى الخلفاء تلك السير التي هي
__________
* نُشرت في العدد 122 من جريدة «البصائر»، 5 جوان سنة 1950.(3/137)
جمال الأيام، وأبقى العلماء تلك الأسفار الكريمة التي هي عطر التاريخ وأزهاره، وأبقى الأغنياء هذه المعاقلَ الباذخة التي هي بيوت الله.
...
والدين المظلوم في زماننا هو الإسلام في الجزائر: مظلوم من أهله، إذ لم يدافعوا عنه، ولم يأخذوا له بحقه من ظالمه، ومظلوم من هذه الحكومة ذات الألوان التي تحكم الجزائر بما تمليه القوّة، لا بما يُوحيه الحق والعدل، وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة، وأشنع غضاضة؛ ولا نتحدث عن الغابرين الذين فرطوا في جنب دينهم حتى أضاعوه من أيديهم فأضاعوا الرشد، ورضوا بالحجر، كمن أضاع بالسفه أرضه، وقنع بأن يبقى فيها أجيرًا؛ لا نتحدث عن هؤلاء الذين أضاعوا التراث، وتركونا نحاول انتزاعه من بين الأنياب والبراثن فهم أمّة خلت: إلى الله إيابها، وعليه حسابها.
ولكن نتحدث عن جمعية العلماء وعصرها وأهل عصرها، بعد ما تجلّت الحقائق، وزالت حجب الغفلة، ودنت الحقوق من طالبيها، وخالط حب الحرية العامة شغاف القلوب، وأصبحت أنشودة العصر، ونشيدة السود والحمر.
أما جمعية العلماء فلم تنم عن حق من حقوق الإسلام، ولم تفرط في قلامة ظفر منها، بل قامت بواجبات الدفاع عنه في ثلاثة ميادين في وقت واحد:
دافعت عنه في الميدان الخارجي بما ردّت من شُبه الطاعنين، وكفكفت من غلواء المبشّرين، وبما أقامت من حصون في وجوه الملحدين، وما منهم إلا من يريد أن يطفئ نوره ويقطع ظهوره.
ودافعتْ عنه في الميدان الخاص بالحكومة الجزائرية في قضية (فصل الدين عن الحكومة) فقد تناولتْ هذه القضية بالشرح والتحليل منذ عشرين سنة خلتْ، وتناولها هذا القلمُ بالبيان والتدليل من ثلاث سنوات، ولم تهن لها عزيمة ولا خارت لها قوّة في المطالبة، ولم يخدعها وعد، ولا ردّها وعيد عن تقبيح سلوك الحكومة وموقفها من هذه القضية، ولا رَمتها المطاولة بالملل، الذي يرمي العاملين بالفشل، بل ما زادتها المطاولة إلا مراسًا وإقدامًا، لعلمها بأن العاقبة للمتّقين، وأن الله مع الصابرين العاملين المثابرين، وقد مرّت عليها ثلاث سنوات متوالية وهي من القضية في عمل دائم وقول مستمر، وسيل من الكتابة منهمر، فلا هي سكتتْ، ولا الحكومة نطقتْ، ومن البلية خطاب من لا يجيب.
ودافعتْ عنه في الميدان الداخلي، بينها وبين قومها وأبناء ملّتها، حتى علم الجاهل واهتدى الضال، وفاء إلى الرشد الغوي؛ وسيعلم المتمادون على العناد أننا محضنا النصح،(3/138)
والدين النصيحة، وأننا وفينا، والدين أمانة، وأن الذي أوجب علينا النصح، أوجب عليهم الانتصاح، وقد قمنا بالواجب، فهلّا قاموا به كما قمنا؟ وهلّا فاءوا إلى الحق ورجعوا إلى كلمة سواء بيننا وبينهم أن نتعاون على نصر ديننا، وإنقاذه من اليد الغاصبة! وسيعلمون جميعًا قيمة أعمالنا ونصائحنا يومَ ترفع الحكومة يدها عن معابدنا وشعائرنا وأوقافنا، وتسدل الستار عن هذه البوارق المعشية، من الوظائف والألقاب والنياشين، فيجد المسلم نفسه معتزًّا بالله، قويًّا بإيمانه، أهلًا لما أهله قومه، عامر الباطن بالشرف يلبس المملوكَ لا المستعار، ويومئذ يستيقنون أن هذه الحكومة كانت تغري بيننا العداوة والبغضاء لمصلحتها لا لمصلحتنا جميعًا، ولا لمصلحة فريق، وأنها تعد وتمني وما تعد إلا غرورًا.
ولو أن إخواننا أنصفوا الحق وأنصفونا لكان حظنا منهم الإعانة والتنشيط على هذا الجهد الذي نبذله، وهذا الجهاد الذي نقوم به، فإن لم يكن هذا فعدم الوقوف في صف الحكومة، وهو أضعف الإيمان.
ولو ذهبنا نصفي الحساب مع هؤلاء الإخوان لكانت الفذلكة هكذا:
لا ذنب لنا عندهم إلا كلمة الحق نقولها صريحة فتشرح وتجرح، مجلجلة فتصك وتصخ، موجّهة إلى المبادئ والمعاني، فيتصايح الأشخاص ويتظلمون؛ وما ذنبنا إذا كانت كلمة الحق هي كلمة الله لا كلمتنا ومن عند الله لا من عندنا؟ وما ذنبنا إذا كان الحكم الذي نحكمه هو حكم محمد بن عبد الله؟ بل ما ذنبنا إذا رضي بعض الأشخاص أن يكون تفسيرًا لتلك المبادئ ودريئة لوقاية الخصم؟!
أمن الحق أن يكون التصرف في ديننا بجميع أركانه موكولًا إلى غيرنا فنسكت عنه ثم نرتقي إلى أسفل فنعينه على ذلك؟ أمن البرّ بأمّتكم أن تسجّلوا عليها السفه والعجز حتى في أخصّ مميزاتها؟ أمن الشرف أن ترضوا لدينكم ولأمّتكم بهذه المهانة؟ أمن كرامة الموظف الديني أن يكون تابعًا لحكومة لائكية، ومسخرًا لشركاء متشاكسين؟ إن هذه- والله- هي الدنية، التي أباها عمر يوم الحديبية.
وتتم الفذلكة بأن لا ذنب لإخواننا عندنا إلا لشيء واحد، وهو هذا التهافت على مغريات الحكومة المباشرة وغير المباشرة، وهذا الانخداع بمكايدها الظاهرة والمضمرة، وهذا التسليم المطلق لها في أمور الدين.
احذروا- يا قوم- أن يكتب لكم التاريخ سيئة تأكل جميع حسناتكم، وهي: أننا نريد تحرير الدين وأنكم تريدون بقاءه في العبودية ...
***(3/139)
أما بعد، فإننا قدّمنا في الأسبوع الماضي إلى الوالي العام، وإلى رئيس المجلس الجزائري، وإلى جميع أعضائه، مذكرة بطلب تنجيز فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الجزائرية، وببيان رأينا في كيفية الفصل، لم نحدْ فيها عن آرائنا القديمة، ولم نزد إلا ما جدّ في القضية من حكم البرلمان الفرنسي في المادة السادسة والخمسين من القانون الأساسي للجزائر، وهو التصريح بأن الفصل مضمون، أسوة بالدينين المسيحي والموسوي، وأن النظر في التنفيذ موكول إلى المجلس الجزائري.
وقد نشرنا المذكرة في العالم وصحفه ليرى مُبصر ويسمع واع، وسئمت الأمّة القلقة من هذا التباطؤ المقصود من الحكومة، وقرأ المذكّرة من وصلت إليه، فعرضت علينا تأييدها لنا في طلب التنفيذ، فقلنا لها: إنك أبطأت عن الخير، كما أبطأت الحكومة في التنفيذ، فانهالت برقيات الاستنجاز على الوالي العام، وعلى رئيس المجلس، وعلى أعضائه من دوائر انتخابهم، حتى التجأ الرئيس إلى نوع من الكياسة، فأصدر بلاغًا أذاعه الراديو ونشرته الصحف، وحدّد فيه عرض القضية في الفترة الجامعة بين سنتي 1950 - 1951.
إننا لا نرى رأي الرئيس في أن القضية متشعبة متعصبة، بل نراها في غاية البساطة والسهولة، وما شعّبها وصعّبها وعقّدها إلا نظرُها بالمنظار الاستعماري، ومن نظرها بغير هذا المنظار، وتبيّن وجه الحق فيها، تسهّلت له ولانت وانحلت من تلقاء نفسها.
إن الدِّين- يا حضرة الرئيس- كالدَّيْن، قاعدته: "مطلُ الغني ظُلم"!
...
وهناك نقطة كانت تتعلّل بها الحكومة، وتعدّها من معاذيرها، وطالما سمعناها من المسؤولين من رجال الحكومة، وهي أننا مختلفون، وأنها إذا أرْضت طائفة منا أغضبت طائفة، وإرضاؤنا جميعًا من المحال.
أما نحن فقد آذناها مرارًا بأننا لا نريد أن نحتكر هذه القضية لأنفسنا، لا في المطالبة، ولا في الرأي، ولا في التصرف، وإنما نطالب بإرجاع حق المسلمين إلى المسلمين، وأما غيرنا فنعتقد أن الحكومة هي التي تحرّكهم للخلاف وتشير عليهم به، لا نقول هذا رجمًا بالغيب وتجنّيًا على الحكومة، بل لنا عليه شواهد حسّية في الجمعيات الدينية وغيرها.
ولقطع هذه التعلات والمعاذير، قدّمنا للحكومة اقتراحًا ملحقًا بالمذكّرة يتضمن جريدة بأسماء الأشخاص الذين يتألف منهم المجلس الإسلامي المؤقّت، يمثّلون طبقات الأمّة، ولم نراع فيها إلا الحظ الكافي من الثقافة العامة والشعور بالمسؤولية الدينية، وأنهم غير(3/140)
مرتبطين بالحكومة بوظيفة دينية أو غير دينية، وفيهم العالم وشيخ الزاوبة والفلاح والتاجر والطبيب والمحامي.
هذا كله في المجلس المؤقّت الذي هو ذريعة إلى المجلس الأصيل المنتخب، على ما بيّناه في أصل المذكّرة، فإذا جاء الانتخاب، سدّ علينا وعلى غيرنا الباب، وبقيت الكلمة خالصة للأمّة.
وإننا نتحدّى الحكومة بأكثر من هذا، نتحدّاها بأننا إذا رأينا صدقها في الفصل، وإخلاصها في التنفيذ، ونفض يدها من كل ما يتعلّق بالقضية، وأقامت لنا الدليل على أن باطنها في ذلك كظاهرها، فإننا مستعدون لتسليم القضية إلى أي قادر على تسييرها من جماعات المسلمين، وللتنازل الخالص عن حظوظ جمعية العلماء في القضية.
فهل في التحدي أبلغ من هذا؟(3/141)
فصل الدين عن الحكومة (11)
أهذه هي المرحلة الأخيرة من:
فصل الحكومة عن الدين *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 1 -
أتظن هذه الحكومة أنها تسوِّف ما شاء لها الهوى في هذه القضية، وتسخر منا ومن ديننا ما شاء لها الغدر والطغيان، ليطول علينا الأمد فننسى، أو تتشعب علينا المسالك فنقل، أو تتكاثر علينا الخصوم فيضيع صوت الحق في أصوات الباطل؟
أما الأمد فقد طال مائة وعشرين سنة، فتناسى أولنا ولم ينس أخيرنا، وما زاد طول العهد إلا تذكرًا ويقظة واستمساكًا بالحبل على طوله وامتداده، ومن طبيعة المسلم التي لا تفارقه في جميع أطوراه أنه ينسى المصيبة في دنياه لإيمانه باللطف الرباني معها، واعتقاده للأجر الأخروي فيها، ولا ينسى المصيبة في دينه لاتهامه نفسه بالتقصير في دفعها، واعتقاده لزوم التكفير عن التقصير.
وأما تشعب السبل فقد أعددنا له- من أول يوم- دليلًا لا يضل، وهو الحق؛ وجانبًا لا يزل، وهو الصبر، وسيفًا لا يكل، وهو الحجة، ونصيرًا لا يذل، وهو العقل، وميزانًا لا يختل، وهو الرأي؛ فلا تتشعب علينا السبل إلا رميناها بهذه الأدوات مجموعة فتنزوي وتتجمع كقضبان الحديد في محطة القطار، مآلها بحكم الهندسة إلى خطين متوازيين. وأما الخصوم فليكثروا ما شاؤوا، فإن كثرتهم إلى قلة، وإن مرجعهم إلى واحد وهو الحكومة، فكل خصم لنا في هذه القضية فهو إما جزءٌ من هيكل الحكومة، أو ناطق بلسانها، أو عامل بإرادتها، أو مسخر لمصلحتها، وهاتوا المنطق ... فهل يُعقل أن مسلمًا صحيح النسبة إلى الإسلام يرضى ببقاء دينه في قبضة حكومة لا تدين به؟ وهل يُعقل أن يكون هذا المسلم خصمًا لمن يطالب بتحرير دينه؟ ... إن كلمة حرية وحدها أصبحت تهزّ الشعوب
__________
* نشرت في العدد 137 من «البصائر»، 15 جانفي عام 1951.(3/142)
هزًّا، وأصبحت مقادة في أيدي الدعاة- حتى المشعوذين منهم- يقودون بها الجماهير، ولو إلى السعير، فكيف بمن يطالب مخلصًا بتحرير دين عظيم، من بلاء عظيم؟ وهاتوا المنطق ثانيًا، فهما في قضيتنا أمران: فصل صريح وهو ما نطالب به، أو إبقاءٌ للحال على حاله، وهو ما تريده الحكومة، ولا واسطة بين الطرفين، ولا منزلة بين المنزلتين؛ فأي مجال يسع الخصوم؟ وعلى أي بساط تقع الخصومة؟
أما ما تصوره الحكومة- ولا نقول تتصوره- من وجود خصوم لنا في القضية، فلا وجود له إلّا حيث توجد هي، ولا مكان له في التعقل إلّا إذا زيد في مقدمات علم المنطق- مع التصوّر والتصديق- قسم ثالث، وهو (التصوير)؛ فهؤلاء الخصوم صوَّرتهم الحكومة، فأساءت تصويرهم، وقالت لهم: كونوا خصومًا للحق فكانوا، وقولوا إفكًا وزورًا فقالوا. وإن الفارق الأكبر بيننا وبين هؤلاء الخصوم المصورين المزوَّرين أن الحكومة تستطيع إسكاتهم بكلمة بل بإشارة، ولا تستطيع إسكاتنا بملء الجو كلامًا، وهل في الفوارق بين الأشياء ما هو أوضح من هذا؟ وهاتوا المنطق ثالثًا. فهذه الأمة الجزائرية المسلمة لو اجتمعت في صعيد واحد، وقيل: امتازوا اليوم أيها المجرمون؛ فبقيت خالصة من الدغل، نقية من الدخل، ثم عرض عليها الأمران على جليتهما، فماذا كانت تختار؟ وإلى جانب من تنحاز؟ ... لا نحن نشك في النتيجة ولا الحكومة تشك، لولا أنها تماري في الشمس، ولولا أنها تعتمد على حذقها في (التصوير)، واقتدارها عليه، وحوزها لأدواته وأصباغه، وبختها الخارق في العثور على "الهيولَى" القابلة.
أما ما تقوله الحكومة، ويقوله هؤلاء الخصوم (المصوّرون)، من أن الخلاف بيننا وبينهم اختلاف في حال؛ يعنون في الكيفية التي يقع عليها الفصل، والأيدي التي تتناول الشيء المفصول، فهو قول يُقصد منه معنى ستر العورة بسربال، فيفهم معنى تغطية الشمس بغربال!
...
كتبنا في هذه القضية ما إن مداده لَيُكَوِّنُ عدة غُدران، وما إن صحائفه لتغطي بضعة جدران، ولكن كنا مع هذه الحكومة المتصامَّة- من عتو، ومن استعلاء- كمن يحرق البخور لأصحاب القبور.
ونحن نعلم أن الحكومة تترجم كل ما نكتب، وتقرأه فتفلي الحروف وتحدد مواقعها من الكلمات ومواقع الكلمات من الجمل، ومقام الجمل من المواضيع، وتفسر وتحلل على قدر ملكتها في العربية وحظها من بيانها، وتستعرض الاحتمالات القريبة والبعيدة في المعاني، وتحمّل الكلام من المقاصد وحظها ما يطيق وما لا يطيق، وتجاوز أنواع الدلالات المعروفة، من مطابقة وتضمن والتزام، إلى الإشارة والإيماء والاقتضاء- تفعل كل ذلك لا لتمحص(3/143)
الحق ثم تفيء إليه عند ظهوره، بل لتؤلف قاموسًا من الجمل- التي هي لباب الحق- فتنسقها في ملفات، فتحاسبنا عليها متى عرضت دورة فوق العادة، أو فورة فوق القانون.
ونحن لا يهمنا هذا، لعلمنا أنها ما كانت حكومة إلّا لهذا، وإنما يهمنا أن تتمادى على السكوت، والسكوت لا يثبت حقًّا، ولا ينفي باطلًا، وأن تعطل القوانين التي ما كانت حيث هي إلّا لتنفيذها، وأن تصر على الحنث العظيم، وهو التصرّف المطلق في دين ليس منها، وليست منه، مع وجود أهله المستوفين لشروط القيام به، والقدرة عليه، والمعرفة بآدابه، والائتمان على أعماله، ونعني بهذا (الأهل) الأمة الجزائرية المسلمة بمجموعها، لا فردًا بعينه، ولا طائفة بوصفها، ولا جماعة بنسبتها.
لم نسمع من هذه الحكومة لأن بيننا وبينها حجابًا من غضبها علينا، وإعراضها عنا، واستخفافها بنا، وإنما سمعنا ممن سمع منها- أنها تحتج حين يفحمها الجدل، وتلحمها الحجة، بأنها لم تجد من تسلم له المساجد، أو تضع القضية بحذافيرها في يديه، لأن المسلمين- زعمت- مختلفون، فإذا ما اتحدوا على رأي، أو تواطأوا على جماعة، دفعت إليهم (دينهم).
وقد قلنا لها في صراحة المحق الجريء: إنك أنت أصل الشقاق، ومنبع الخلاف، وكيف يمكن قطع خلاف أنت فاتحة أبوابه، وأنت مسببة أسبابه؟ فما جعل المسلمين مختلفين في قضية دينية محضة إلّا أنت، وما بذر الشقاق بينهم إلّا يداك. كان الدين الإسلامي بطبيعته لا يتأثر بالمصالح الدنيوية، فلم تزالي برجاله حتى أفسدتِ فطرتهم الدينية وصيرت الإمام في المحراب كالجندي في الميدان، والبوليس في الشارع، والقائد في الدوار، يسابق في الخدمة وينافس في الزلفى، ويزاحم على الدرجة ويتطلع إلى النيشان، تلوحين بالمطامع والوظائف لطائفة فتلتفّ حولك، وتمدين لها في جاه زائف ورتب نازلة فتزداد تعلقًا بك، وتنقضين شروط الكفاءة الدينية بالكفاءة الإدارية، فتنقضين بذلك أصلًا من أصول الإسلام، وتتساهلين حيث يجب التشدد في اعتبار الشهادة العلمية، والقيمة الأخلاقية، وتُروّضينهم على أسوإ ما يُربى عليه رجل الدين في الإسلام، وهو التوجه إلى الحكومة والوقوف بأبوابها، ثم أشعرتهم بأن أمرهم كله إليك، وأن رزقهم كله في يديك، وتفاقم الأمر حتى أصبح عادة، فوصلوا أسبابهم بك وقطعوها من الدين، وآمنوا بأن الأمر إليك فكفروا بجماعة المسلمين، فلما انتهى الأمر إلى هذا الحدّ، وآتت أعمالك ثمارها المرة، سلطت بعضًا على بعض، لتشغلي بعضًا ببعض وتستريحي.
الحكومة تخلق الخلاف لتتخذ منه عذرًا لإبقاء ما كان على ما كان؛ هذه هي الحقيقة، فإذا كان في بيانها إغضاب الحكومة فإن فيه إرضاء الحق.(3/144)
فصل الدين عن الحكومة (12)
أهذه هي المرحلة الأخيرة من قضية:
فصل الحكومة عن الدين *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 2 -
قطعت هذه القضية في تاريخ الاستعمار مراحل عدة، لا نعدّ منها مرحلة التسليم، ولا مرحلة الاستلام، وإنما نعد منها مراحل المقاومة والمطالبة، التي جاءت بعد أن
نام الاستعمار ملء جفنيه، اطمئنانًا إلى أن القضية تمت كما يريد ويتمنى، ونامت نومة الأبد، وكيف لا يطمئن من يشرع المنكر، ويسن الباطل، فلا يسمع نأمة اعتراض؟ كيف لا تطمئن حكومة مسيحية تنصب مسيحيًّا على رأس جمعية دينية إسلامية، فلا ترى من المسلمين غضبًا ولا استنكارًا؟ وهل في باب النكاية بالإسلام وأهله أبلغ من هذا؟ وهل هذا إلّا صورة مقنعة مما أصاب الإسلام في إسبانيا؟ وهل هو إلّا مقدمة لمحوه وترحيله من هذا الوطن؟ وهل هو إلّا ميراث لاتيني تتسلمه أمة منهم من أمة؟ لعمر الحق ... إنها لوخزة مؤلمة للمسلمين، ولكنها وخزة مقصودة للتجربة الأخيرة لهذا الجسم، لينظر أيتحرك ويتألم؟ أم يسكت فلا يتكلم؟ ولكن هذه التجربة أسفرت كما ترى وتسمع عن نار كانت كامنة فاشتعلت، وصرخات كانت مكبوتة فانفجرت، ومقاومة زعزعت عرشي "ميشال" و"دورنو" وزلزلت الأرض بمن ظاهروهما بالسكوت والرضى، ولكن الحكومة- وقد أفلت منها رأس الحبل- أبت إلّا أن تمسك بوسطه، فأصبحت تشكل الجمعيات الدينية الإسلامية بالوحي السري، أو بالعمل العلني، وتقيم عليها رجالًا ليسوا مسيحيين ولكنهم أطوع لها، وأسرع في تنفيذ أغراضها من المسيحيين.
ولقد فاوضني- منذ سنتين- رجل مسؤول من رجال الحكومة في تجديد الجمعية الدينية الصورية القائمة بالعاصمة، على أساس أن نتقاسم، فنختار رجالًا وتختار الحكومة رجالًا تتألف الجمعية من جميعهم، فأسلست له لأرى ما عنده، وتسهّل معي ليرى ما
__________
* نشرت في العدد 138 من «البصائر»، 22 جانفي عام 1951.(3/145)
عندي، وكان البساط يقتضي ذلك مني ومنه، فلما وصلنا إلى الأعضاء القدماء ومسستهم بالنقد الديني لهم وللحكومة في تعيينهم تظاهر لي باستعداد الحكومة للتنازل في شأنهم، وبقدرته هو- بشخصه- على إقناع بعضهم بالتنازل، إلّا واحدًا سماه فإن الحكومة تتمسك ببقائه، ولا تتنازل في شأنه بحال، واستعرضت في ذهني خصائص هذا الرجل- وأنا أعرفه- فلم أجده في دين ولا دنيا، فسألت محدثي عن السر المودع في ذلك الرجل فلم يُجبني؛ فعلمت أن الرجل الذي لا يصلح منا لدين ولا دنيا، هو الذي يصلح للحكومة، وفهمت يومئذ ميزانًا جديدًا من موازين الحكومة للرجال، ومعنى جديدًا من معاني اصطناعها لهم.
...
ومن المراحل التاريخية الأخيرة لهذه القضية حكم البرلمان الفرنسي فيها سنة 1947، واثباتها في الدستور الجزائري مادة من مواده بتلك الصورة التي نراها تطويلًا في محل التقصير ونعدها روية في مقام الارتجال، ونعتبرها نقلًا للقضية من ميدان إلى ميدان بلا موجب، وتقليبًا لها من يد إلى يد بلا فائدة، وسعيًا بها بين باريس وبين الجزائر ذاهبة وآيبة بلا حكمة؛ وليس في القضية ما يستدعي هذا التشعب كله، لو لم يكن الأمر فيها مبيتًا على (تنويمها)، لا على تقويمها، وعلى إفساد الحالة لا على إصلاحها، وعلى الإمعان في الظلم، لا على الكف عنه، وليس في القضية ما يقتضي إركابها البحر أربع مرات، مع القدرة على إرسالها بالطيارة مرة واحدة- لولا الأهواء الغالبة والنزعات الغالية، والشهوات الطامحة، والمطامع المستحكمة.
إن الحق في القضية أبين من أن تكثر فيه المشاورات، أو تتعدد فيه المداورات، أو تختلف فيه الآراء؛ وما هو إلّا قطع وانفصال، وفطام وفصال، وسل للثياب من الثياب.
وقد كتبنا في هذه الصحيفة على هذه المرحلة، وعلى الدستور الجزائري، وموقع هذه القضية منه، وأوسعناه شرحًا وبيانًا واحتجاجًا عليه في مواطن النقص واحتجاجًا به في الألفاظ الصريحة منه، وكشفًا عن الخبايا فيه، كما كتبنا عن المجلس الجزائري الذي ولده الدستور لينفذه فعطله وأوسعناه نصحًا خالصًا ونقدًا واضحًا، وطالبناه بالتنفيذ السريع مع تحرّي الحق والصواب؛ ووصفناه بما هو أهله لم نقصر ولم نتقلد؛ وما زلنا في موقفنا من الدستور ومن المجلس في قضيتنا الخاصة لم يختلف لنا فيهما رأي، ولم يتبدل لنا موقف، وما زلنا نطالب بالحق، ونندد بالباطل حتى يبلغ الكتاب أجله، وإن الله لمع الصادقين.
***(3/146)
وكانت آخر المراحل العملية في القضية مذكرة جمعية العلماء التي قدمتها في شهر ماي 1950 وشرحت فيها نظرها في حل القضية؛ قدمتها للمجلس الجزائري والحكومة الجزائرية، ونشرتها للرأي العام، وإلى من يتولون قيادته من نواب وصحافيين.
كل ما في تلك المذكرة من صميم الموضوع ليس بجديد، بل هو مما لاكته الألسن، وجرت به الأقلام وعرفه الخصمان والشهود، والحق يتغير لبوسه ولا يتغير سوسه (1)، ولا جديد فيها إلّا اقتراحنا للأسماء التي يتألف منها المجلس الإسلامي المؤقت، وليس بهذا الجديد كبير شأن، كما توهم بعض الناس، لا كما توهمت الحكومة؛ فقد وردت علينا على أثر إعلان المذكرة رسائل كثيرة ينتقد أصحابها حشر بعض الأسماء في المجلس، ويقول لنا كثيرون: إننا قرأنا الأسماء فعرفنا وأنكرنا ...
إلخ؛ أما نحن فقد عرفنا الأسماء كلها، وذكرناها عن قصد مخلص، من غير أن نستشير واحدًا من أصحابها، لأننا في مقام اقتراح وشهادة، لا في مقام فرض وإلزام؛ ونشهد أنه لم يرد علينا استنكارٌ أو تبرؤ من واحد ممن ذكرت أسماؤهم؛ وما قصدنا بذكر تلك الأسماء المختلفة المشارب إلّا دحض تلك الشبهة التي تتمسك بها الحكومة، وتشيعها علينا ألسنتها العييّة المأجورة، وهي أننا نريد احتكار القضية لأنفسنا قبل الفصل، واحتكار استغلالها بعد الفصل؛ وقد قطعنا على الحكومة وأتباعها كل سبيل، وسددنا عليها مسالك العذر، وتحديناها التحدي البليغ بأننا إذا علمنا إخلاصها في الفصل، وسلوكها السبيل القويم فيه، فإننا نتنازل- مخلصين طائعين فرحين- لكل جماعة حرة من إخواننا المسلمين، ممن لا ينخدعون لمكايد الحكومة، ولا تلهيهم بالقشور عن اللباب، ولا تصيدهم بالرغبة، ولا تصدهم بالرهبة؛ ولو كنا نريد ذلك لأنفسنا لقلناه فصيحًا صريحًا، ولو قلناه لما كنا مدفوعين عنه إلّا من هذه الحكومة ومريديها المسخرين لها، الناطقين باسمها؛ ولو حملتنا الأمة إياه لاضطلعنا به، حملًا له، واقتدارًا عليه، وسدادًا في توجيهه، وكفاءة لتسييره؛ وهل نحن أعجز في العلم أو في العمل أو في الاضطلاع من هؤلاء المتهافتين؟
وهل يستوي الذين ينادون بتسليم القضية إلى جماعة من المسلمين بواسطة جماعة من المسلمين، والذين يريدون تسليمها إلى الحكومة، بواسطة رجال ... من الحكومة؟
...
وماذا كان من الحكومة بعد نشر المذكرة؟ إنها عكفت على تلك الأسماء توازن وتقارن، وتستعيد الذكريات الماضية، وتراجع الملفات المدخرة، وتتشمم النسمات، وتضع
__________
1) السوس: هو الأصل.(3/147)
الموازين وتميز من لها ممن عليها، وتضع علامات التعجب والاستفهام، ثم تجمع وتطرح وتقسم، ثم توعز إلى دوائر استعلاماتها في المدن والقرى لتحقق وتستنطق وتبحث كل (مشبوه)، وكانت الإجابات- بالطبع- لا باختلاف الأنظار والعقول، ولكن باختلاف الحظوظ من الرهبة من الحكومة والخوف من غضبها، ثم عمدت في الأيام الأخيرة بواسطة بوليسها إلى نوع غريب من الاستفتاء لا نشك أن له صلة بقضية فصل الدين، هذا النوع من الاستفتاء هو استدعاء بعض رجال جمعيات المدارس، وحصبهم بعدة أسئلة يدسّون في أثنائها: هل أنتم من أتباع جمعية العلماء؟ أو من أتباع فلان ... أو أتباع فلان ... أو أتباع العاصمي؟ ...
واعجبًا لما يفعل الزمان! ... آلعاصمي ... أصبح من ذوي الأتباع؟ وإنا لا ندري أي نوع من الأتباع يريدون؟ آلْأَتْبَاع في المذهب الحنفي الذي هو مفتيه؟ أم الأتباع في التدجيل الديني الذي أصبح يأتيه؟ أم في المذهب الحكومي الذي أصبح يتطاول به ويتيه؟ ...(3/148)
فصل الدين عن الحكومة (13)
أهذه هي المرحلة الأخيرة من قضية:
فصل الحكومة عن الدين *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 3 -
... وواعجبًا لما تصنع هذه الحكومة ببعض الرجال منا، تعمد إلى الواحد منهم فتبقيه على سحنته، ولكنها تفرغه من شحنته ... تفرغه من معاني الإسلام، والغيرة عليه، والطيرة له، والدفاع عنه، والاعتزاز به، وتملأه بمعان أخرى منها الإفك والزور، ومنها الأنانية والغرور، ومنها الاستخفاف بالإسلام، والاحتقار للمسلمين، ومنها الانقياد للحكومة، والاعتماد عليها، والاعتزاز بها، والتعالي بقوّتها على عباد الله، والتغني بمدحها حتى في بيوت الله؛ فيصبح ذلك الواحد لا يأبه لنقض الإسلام، ولا يغضب لنسخ الأحكام، ولا يبالي بغضب المسلمين؛ كل ذلك لأن الحكومة شاءت ذلك! وإن أباه الله ورسوله والمؤمنون من عباده، وكل ذلك لأن الواحد من هؤلاء راض نفسه على التنكر للإرادة والعزيمة وما جرى مجراهما من الفضائل الشخصية، وعلى الذوبان في الغير، والاستطاعة بالغير، ثم لا يكون هذا الغير إلّا الحكومة بالطبع، لأنها هي التي زرعت الزرع، فهي التي تجني الثمرة.
...
وكل ما ذكرناه من الصور هو تحقيق لا تخيّل، وهو مشخص على أكمله في هذا الشيء الذي يقال له العاصمي، فهو المثال الموضح للقاعدة العامة، وهو الجامع لما تفرق في غيره من جزئياتها، وآية ذلك أنه وصل إلى ما هو فيه بغير الوسائل التي يسلكها الناس لمثل ذلك في المتعارف عندهم، وكأنه يضع قدمه حيث ينتهي طرفه، وما هو إلّا طالب كآلاف الطلبة (1)، من مثل طبقته، فلماذا تقدم وتأخروا؟ ولماذا أصبح رأسًا بعد أن كان بالأمس ذنبًا؟ أهو الحظ؟ لا بل
__________
* نشرت في العدد 139 من «البصائر»، 29 جانفي عام 1951.
1) طالب كآلاف الطلّاب: الطالب هو معلّمُ الصبيان القرآن الكريم.(3/149)
هو شيء آخر غير الحظ، هو شيء تشمه الحكومة الجزائرية بحاسة زائدة فيها، فتميز به السابق من أدواتها من المقصر، ودع عنك المؤهلات العلمية، ودع عنك الموازين الصحيحة، ودع عنك القيم المعقولة، فذلك كله لا قيمة له، ولا عبرة به في هذا الباب، ودع عنك حُرمة الدين، فلو كان للإسلام حرمة في نفس هذه الحكومة لما خاض هذا القلم في هذه المستنقعات، ولو كان له في نفسها اعتبار، لاشترطت في طلاب وظائفه أقل ما تشترطه في طلاب وظائفها. إننا لنعلم السر في هذه النغمة الجديدة، وهي إدماج العاصمي في ذوي الأتباع، فهي تريد إيهام البسطاء بأن له أتباعًا، حتى تقيم منه ومنهم معارضة في سبيل الحق، ومن زين له المنطق أن يجعل الشاذ قاعدة، فكيف لا يهون عليه أن يجعل من الفرد أمة، ومن الخيال حقيقة، ومن المحال ممكنًا؛ ونقول للذين يتوهمون وبوهمون أن للرجل أتباعًا: إن أتباع هذا الرجل من جنس مذهبه، وإن المقدمة الأولى لنتيجتكم هذه قد ممبقتها بأعوام، يوم أمسى ناسخًا في محكمة موجودة. فأصبح رئيسًا لمذهب معدوم، فتباعد طرفي القضية يقدح في هذا الإنتاج؛ فإذا سوغ لكم منطقكم أن تقولوا: هذا مفتي مذهب، وكل مفتي مذهب له أتباع، فلا تأمنوا أن يقول قائل: إنه مفتي مذهب غير موجود، فله أتباع ... غير موجودين ... فإن قلتم: إنكم لا تريدون المذهب الفقهي، وإنما تريدون المذهب (الصناعي)، قلنا: إن هذا المذهب لا يتبع العاصمي فيه إلّا الأخسرون أعمالًا، الأضلون سعيًا.
...
ما أشأم العاصمي على نفسه! فقد سكتنا عنه فأبى، بعد أن جارانا فكبا، وما تحدئنا عنه في الماضي إلّا باعتباره أداة لا شخصًا، وما سكتنا عنه بعد ذلك إلّا لأننا أوسعنا تلك الأدوات تحطيمًا وتهشيمًا، ورُغنا عليها ضربًا باليمين، ولكن هذا الرجل (المصنوع) يأبى علينا إلّا أن نعتبره ثميئًا قائمًا بذاته، ولذلك فهو لم يسكت حين سكتنا، وتمادى على السب والشتم ليشغل العاملين بهذا الفراغ، وليؤدي عملًا كعمل الإفتاء، في وظيفة كوظيفة الإفتاء، وليكون في هذا الزمان (ذا الوظيفتين)، كما كان يقال في أيام عز الإسلام: ذو الرياستين وذو الوزارتين. هاج هذا المخلوق الشر بتماديه في الشر، وجنى على نفسه وعلى شركائه الراضين بصنعه، وقديمًا فهمنا أن له أربًا في اللجاج والمراء، لأن هذه الطريقة هي التي تظهره وتقربه زلفى إلى آلهته، ولكن هل لشركائه مثل أربه حتى يعرضهم لما كانوا منه في أوسع عاقبة؛ إنه لهم مولى شؤم، وعشير سوء، لبئس المولى، ولبئس العشير!
وها نحن أولاء نعود للحديث عنه مكرهين، ولا نخوض من جديد في شبهاته التى يظنها حججًا، وضحضاحه الذي يراه لججًا، إذ بعض المحظور في ذلك أننا نحقق له بعض مناه،(3/150)
وهو أن نتعمق معه في جدل يشغلنا عن المفيد بغير المفيد، ويستفرغ جهدنا في المفروع منه، وإننا نقولها مرة أخرى في صراحة وصدق: إننا لا نعني بما نقول ذلك الرجل المدعو محمد العاصمي الذي شب في (قصير الحيران)، واكتهل معلمًا للصبيان، وشاب خادمًا لقاض في ديوان، وماشانا في بعض أطواره، وصاحبنا- على حرف- في بعض أطوراه وكان حذرًا منا في جميع أطواره، لغرابة أدواره، وبعد أغواره، وغموض أسراره، فكل ما في ذلك الرجل لا يعنينا، لأنه رجل مات، وحال فات، وإنما يعنينا هذا الشيء المسمى محمد العاصمي المفتي الحنفي، الذي وسع الشق، بتنكره للحق، والذي نصب نفسه عونًا للمعتدين على الدين، والذي استطال بقوّة الأجانب على ضعف الأقارب، والذي سود وجه الإسلام بمؤازرة الظلام، والذي جعل الإفتاء ذريعة للافتيات، وإساءة الأحياء حجة على إحسان الأموات، والذي أقام نفسه عرضة في طريق مطالبة الأمة بحق من حقوقها، والذي تولى من لم يجعل له الله على الإسلام سلطانًا، والذي قاس حكومة مسيحية على حكومة مسلمة، في تصرّف ديني محض، فأغضب الله، وأفسد العلم، وافترى على التاريخ، والذي يتوقح في الإصرار على إفساد عبادات المسلمين بتولي الإمامة ممن لا يدين بدينهم، والذي يرضى لطائفة جعلهم الله شفعاء لخلقه- أن يكون هو شفيعهم في نيل هذه الوظيفة الشريفة إلى (معمر) مسيحي، والذي يطرب لحكاية المذيع لتنقلاته في المسجد في وقت يحرم فيه الكلام، ثم يجمع بين ذلك وبين رواية أثر: ومن مس الحصا فقد لغا، إلخ، والذي يسعى جاهدًا بأقواله وأعماله في إبقاء الشعائر الدينية الإسلامية لعبة في يد من لا يعظم شعائر الله؛ والذي غير دين الله فجعل الكذب والسباب والوقيعة والقذف ومدح أهل الحكم والجاه- كلها "من صوت المسجد" ومما يجوز أن يخطب به على منابر الجمع.
فهذا هو العاصمي الذي لا نزال نذكره بمثل ما يُجزى به إبليس عن فعلته، ونثني عليه بمثل ما أثنى به الأعرابي على بعلته ...
...
وبعد فإن الحق في القضية أن كلام العاصمي وأمثاله- ممن يطالبون بإبقائها على ما هي عليه- هو من الباطل الذي لا يجوز لمسلم السكوت عنه، لأن فيه تماديًا على بطلان عبادات المسلمين وعلى تعطيل المعنى الذي شرعت له الشعائر؛ وإن الحق الذي حومنا عليه مرارًا ولم نقع- حتى خشينا أن يصيبنا الله بقارعة من عنده، جزاء على كتمانه- هو أن تولي الإمامة من حاكم مسيحي باطل، وإن طلب الإمامة من ذلك الحاكم قريبة فوق الباطل، وعليه فالصلاة وراء إمام معين من ذلك الحاكم باطلة، ومن ادعى خلاف هذا فهو يكذب بالقرآن، كما هو كاذب على أبي حنيفة النعمان.(3/151)
فصل الدين عن الحكومة (14)
أهذه هي المرحلة الأخيرة من قضية:
فصل الحكومة عن الدين *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 4 -
... وكأني ببعض خواص العامة، وبعض عوام الطلبة، يستغربون هذا الحكم الحاسم ببطلان العبادات التي يأتمون فيها بهذا الصنف من الأئمة، أو يعدونه جرأة جرها التلاحي معهم أو مع كبيرهم، الذي زين لهم مقاومة الحق والاستمرار على الباطل.
وكأني بهم يستعظمون الحكم ببطلان عبادات المسلمين التي درجوا عليها أحقابًا وينكرون علينا أن نبطل ما أقره (الأوائل) وسكتوا عليه، وفيهم العلماء، وفيهم الفقهاء، أفكانوا كلهم على ضلال في هذه القضية؟ ونحن نتحقق هذا الاستغراب وهذا الاستعظام منهم لأنه من النزعات العامية المستولية على عقولنا، ومن تناولنا للأشياء الكبيرة بالأنظار القصيرة، وهذا أصل بلائنا في الدين، وشقائنا في الدنيا؛ ومرجع ذلك كله في هؤلاء تعوُّد المنكر حتى يصير معروفًا، والإلف له حتى تسكن إليه النفوس، وهذه هي علتنا فيما فشا بيننا من بدع ومنكرات وضلالات: يسكت عليها الأول فتصير عادة، وتستحكم فتصير سنة، وتتكاثر أنواعها فتغطي على الدين الصحيح، وعلى السنن المأثورة فيه، وعلى المناهج القويمة في شؤون الدنيا.
ويا طالما سمعنا هذه النغمات في مواقفنا الإصلاحية، فكلما شددنا الحملة على منكر لنزيله أو نزلزله، تعالت الصيحات بالاستعظام والاحتجاج بسكوت (الأوائل)؛ فنمضي على الحق، لا نلوي على أول ولا أخير، ثم لا تكون العاقبة إلا للحق وأهله.
فيا قوم ... اعلموا- علمكم الله- أن سكوت الأوائل على المنكر لا يكون حجة على الله، وأن إقرار الأواخر له لا يكون حجة على دينه، بل لله الحجة البالغة على عباده، ولرسوله البينة القائمة على أمته؛ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وهل مما آتانا الرسول أن نعطي الدنية في ديننا، ونرضى باختيار المسيحيين لأئمتنا، ونصلي خلف من يطلب الإمامة
__________
* نشرت في العدد 140 - 141 من «البصائر»، 5 فيفري عام 1951.(3/152)
منهم، ومن يدفع ثمنها طاعة لهم، ورجوعًا في الدين إليهم، وكيدًا لقومه وإعانة عليهم، وتمكينًا لنفوذهم وسلطانهم على الإسلام؛ أهذا هو الواقع أم أنتم لا تبصرون؟
إن سكوت علماء الأرض كلهم على الباطل في الدين لا يصيره حقًّا، وإن تواطؤهم جميعًا على منكر فيه لا يصيره معروفًا، وإننا لسنا من الكرامة على الله أن ينسخ أحكام دينه لأجلنا، أو ينسخ صواب دينه لأجل خطئنا فيه، وما ثَمَّ إلّا ما ختمت به الرسالة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا فليس اليوم بدين، كما قال مالك- رضي الله عنه- وقد بطلت عقائدنا يوم زغنا فيها عما جاء به القرآن، فكيف لا تبطل عباداتنا المسجدية يوم رضينا بتولية أئمتها من حكومة مسيحية، ويوم رضينا بتصرّف تلك الحكومة فيها، ويوم نظرنا إلى الظواهر، وعمينا عن الحقائق، ويوم غلبنا على الماديات فتبرعنا بالروحيات: غلبنا على الأوقاف، ولكننا تبرعنا بما عداها، بسكوتنا وتخاذلنا ومطامعنا؛ ولو أن أوائلكم (وفيهم العلماء وفيهم الفقهاء) تفطنوا للمكيدة لعلموا، يوم أخذت أوقافهم كرهًا، أنها ما أخذت إلّا لتجر معها المساجد، وأن المساجد لا تؤخذ إلّا لتجر معها الأئمة، وأن الأئمة لا يجلبون إلّا ليجروا معهم الأمة، ولو تفطنوا لذلك لأنفقوا على المساجد من أموالهم الخاصة، وتركوها حرّة منعزلة عن التدخل الحكومي حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ولكنهم جعلوا الدين تبعًا للدنيا، فضاع الدين والدنيا؛ وها أنتم أولاء ترون أن (الأوائل) هم الذين أبطلوا عبادتكم بسكوتهم عن كلمة الحق في وقتها، ولو لم يسكتوا لكفونا وإياكم مؤونة السؤال والجواب ...
يا قوم ... لئن كان الحكم ببطلان عبادات المسلمين كبيرة عندكم فأكبر منها عند الله وعند عباده المستبصرين في دينهم أن يتولى الإمام الإمامة من حكومة مسيحية، ولو كان ذلك إكراهًا لكان له وجه من التأويل، لكنها قضية لا يتصور فيها الإكراه بحال، وإن أكبر منها عند الله أن يتعمد المسلم طلب الإمامة من حكومة مسيحية، وحسبكم بالطلب وحده قادحًا في الدين، فكيف بالرضى بعد ذلك والاطمئنان، فكيف بالاستهانة بغضب الله في جنب غضب الحاكم المسيحي؟ فكيف لي ما وراء ذلك مما نسمعه ونشهده؟
...
إن إمامة الصلاة استخلاف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن مكانتها من الدين هي مكانة الصلاة نفسها، فإذا هانت في نظركم إلى هذه الدرجة فقد أهنتم الدين، ومن أهان الدين فهو غير حقيق بالانتساب إليه؛ وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - كلما غاب عن المدينة استخلف من ينوب عنه في الصلاة، كما يستخلف- أو قبل أن يستخلف- من ينوب عنه في الحكم بين الناس، وكان إذا جهز سرية أو بعث بعثًا فأهمّ ما يوصي به قوله: وليصل بكم فلان؛ ولم(3/153)
يشغله مرض الموت عن الاهتمام بإمام الصلاة، فاختار لها أبا بكر، وقال: مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس؛ ولم يَكِل هذه المسألة العظيمة للصحابة، وفيهم جبال العلم وأفذاذ التقوى والدين، ولم يثنه عن اختيار أبي بكر رأي عائشة وحفصة في اختيار عمر؛ وإن الصحابة- رضي الله عنهم- كانوا يعتبرون إمامة الصلاة درجة فوق الخلافة العظمى، بدليل استدلالهم على استحقاق أبي بكر للخلافة بتقديم رسول الله إياه لإمامة الصلاة، وقال قائلهم: أفلا نرتضي لدنيانا من ارتضاه رسول الله لديننا؟
والحقيقة الجامعة في الإسلام أنه لا يولي الإمام إلّا من كان صالحًا- هو نفسه- للإمامة، مثل الخليفة أو نائبه، وقد كان الخلفاء يتولونها بأنفسهم، ولا يُنيبون عنهم فيها إلّا حيث تبعد الجماعات، فينزلون عن هذا الحق لجماعات المسلمين.
ومن أصول الإسلام ومناهج تربيته الحكيمة أن الإمامة لا تطلب، وأن أمير المسلمين، أو جماعة المسلمين هم الذين يختارون لها من يرتضون دينه وأمانته، وقد يُلزمونه بها إلزامًا، كما يلزمون بالقضاء، لأن أهل الخير والصلاح الذين مُلئت قلوبهم من خشية الله كانوا يتهيبونها ويرونها من العهود الثقيلة، وأين هؤلاء من أولئك؟ إن كثيرًا من هؤلاء لا يطلب الإمامة لذاتها، ولا لإقامة الشعيرة، ولا حرصًا على تعمير بيوت الله، وإنما يطلبها ويرتكب الموبقات في طلبها، لأجل المرتب الشهري، ولولا المرتب لما رأيتم أحدًا منهم يدخل المساجد، وافهموا وحدكم السر في تباعدهم عنا، وهروبهم منا، وممالأتهم للحكومة علينا، فكل ذلك من أجل المرتب ... كل هذا ونحن لا نريد لهم قطع المرتب، وإنما نريد لهم تثبيته واستحقاقه بشرف على يد إخوانهم المسلمين، لا على يد حكومة مسيحية؛ ولو كان للإسلام سلطان على النفوس، لما أقدم واحد منهم على هذه العظيمة، ولما تابعه عليها أحد إن هو فعلها.
قال الأول: أذل الحرص أعناق الرجال.
ونحن نقول: أذل "الخبز" أعناق أشباه الرجال، فلو أن هذه الحكومة- على عُتوّها وإضمارها الشر للإسلام- رأت منا زهدًا في هذه الوظائف، وعزوفًا عنها، ورأت مع ذلك إجماعًا منا على كلمة الحق فيها، وتسليمًا من الخاملين للعاملين منا- لو أنها رأت ذلك منا لكان موقفها من القضية غير موقفها، ولكنها نثرت الحبّ، فتساقطت العصافير، وطرحت الأب، فتهافتت اليعافير، وسقط عليها العاصمي فوجدت (الضالة) في الضال، وفهمت (دلالة الالتزام) من الدال، وتعاقدت الرفقة على الصفقة.
...
لو كان من أقسام الإضافة في النحو ما هو بمعنى (على) لخلعنا على العاصمي لقب "حجة الإسلام".(3/154)
فصل الدين عن الحكومة (15)
أهذه هي المرحلة الأخيرة من قضية:
فصل الحكومة عن الدين *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 5 -
... ولو أن أفراد هذه الطائفة رُزقوا بصائر ينظرون بها الأشياء على حقيقتها، وعقولًا يُدركون بها الأمور باعتبار غاياتها وعواقبها- لعلموا كما علمنا أن هذه الحكومة سائرة على مذهب استعماري دوّنه (أئمتها) الأولون، وهذبه (شراحها) المتأخرون، وإنها بالغة من ذلك المذهب إلى غايته، أو ملاقية حتفها دونه كما يقول العرب؛ وأنها من قساوة القلب وجمود العاطفة بالدرجة التي لا تؤثر فيها الأحاديث البليغة، ولا الأحداث البالغة- ذلك المذهب هو ترحيل الإسلام من المحراب، ليتسنى لها ترحيله من الجامع، ثم الوطن.
هذا نص المتن، وجاء (شرّاح) هذا المذهب (المحققون) فأرشدوا إلى وسائل تلك الغاية، وبينوا السبل المؤدية إليها، فأفاضوا وأطنبوا، إلى أن جاء بعض حذاقهم البارعين في بناء فقه السياسة على علم النفس- على غير طريقة فقهائنا الجامدين- فأرجع الوسائل الكثيرة المتشعبة إلى وسيلة واحدة، وهي ترحيله- أولًا وقبل كل شيء- من نفوس هذه الطائفة القائمة بالدين في نظر الناس، لأنها هي المباشرة للمساجد، والقائمة بالشعائر فيها، والمسجد هو مرجع المسلم ومتقلبه، فهو الذي يُغذي الإسلام في نفسه، بما يتردد عليه خمس مرات في اليوم والليلة، وبما يسمعه فيه من قرآن وخطب ودروس، وهو الذي يكوّنه ويوجهه، بما يصبغه به من ألوان ثابتة، وبما ينفض عليه من روحانية قوية، وبما يغشى في جوانبه من فضائل أصيلة، وبما يُشيع في دخائله من أنوار وهاجة، وبما يغرسه فيه من آمال شريفة، وبما يطبعه عليه من أخلاق قويمة، وبما يخطه له من سبل للسعادة، وبما يركبه فيه من استعداد للعزة والسيادة، وعليه فالواجب الاعتناء بهذه الطائفة، وإعدادها (للتفريغ) من هذه المعاني كلها، وجرها بعاملين من الرغبة والرهبة حتى تستشعر أن مرجعها الوحيد في مصالحها الشخصية هو الحكومة، وتتدرج من ذلك إلى الشعور بأن مرجع الدين وشعائره هو
__________
* نشرت في العدد 142 من «البصائر»، 12 فيفري عام 1951.(3/155)
الحكومة أيضًا، فإذا أوغلت في ذلك ودخل الزمان بطوله في القضية- تراخت علائق هذه الطائفة بقدر ما اشتدت بالحكومة، وانحلت روابطها بالإسلام بقدر ما استوثقت مع الحكومة؛ والحاجة زمام، فليكن وكد الحكومة إلصاق الحاجة بهؤلاء الرهط حتى يسهل انقيادهم، وقد قال حكيمهم محمد عبده: أكبر أعوانك الحاجة إليك؛ ويومئذ يُصبحون في الفراغ من المعاني الإسلامية كمدافع المتحف، كل ما فيها من مظاهر الروعة: الإسم والصورة ...
هذا كلام الشارح الحاذق، نقلناه إلى هؤلاء باصطلاحات الفقهاء، لنقربه إلى أذهانهم - إن أبقت لهم هذه التربية أذهانًا يدركون بها هذه الحقائق- وليعلموا أنهم على هذا الغرار طُبعوا من حيث لا يشعرون، وأنهم إلى هذه الغاية يُساقون وهم ينظرون، وأن الحكومة وجدت فيهم الآلة القابلة، فعرضتهم سوأة مكشوفة للسابلة.
ولو أنهم- عافاهم الله- فهموا أن ما يتقاضونه من الحكومة هو غلة وقف أجدادهم، لما جعلوه علة لعقوق أجدادهم ... ولما باؤوا إليها بالمنة به، ولعلموا أي جليل أعطوا عن العوض، وأي خسيس أخذوا من العرض، فإن هذه الحكومة إنما تشتري بذلك منهم هممهم وذممهم، والخضوع لها، والخوف منها، والتصريف في مطالبها.
أما والله لو علموا ذلك كما نعلمه، وفهموا سره كما نفهمه، ثم كانوا- مع ذلك- من الغضب لكرامتهم وكرامة دينهم بالمنزلة التي يرضاها منهم الدين- إذن لاستعفوا من هذه الوظائف بالجملة لا بالتفصيل ... ولو أنهم فعلوا ذلك لانحلت المشكلة في لحظة، ولجردوا هذه الحكومة من سلاح طالما جردته في وجوه العاملين لخير هذا الدين؛ ولتحرر الإسلام من هذا الاستعباد الذي هم أحد أسبابه، بل هم أكبر أسبابه ... ولكنهم لا يفعلون، لموت الكرامة الدينية في نفوسهم، ولاستمرائهم هذا المطعم الخبيث المصدر، الذي لا يأكله إلّا الخاطئون، وما هو- والله- بالحلال ولا بالطيب؛ وقبح الله خبزة أبيع بها ديني، وأعقّ بها سلفي، وأهين بها نفسي، وأهدم بها شرفي، وأكون بها حجة على قومي وتاريخي؛ ولكن ... أين من يعقل أو من يعي؟
...
رأينا بأعيننا كيف يتهافت رجال الدين على إدارة الحاكم في مدينة تلمسان، وكيف يتعبدون بزيارته بكرة وأصيلًا، وكيف يتسابقون إلى التحكك بأعتابه، والتردد على أبوابه، فلا هم يرجعون إلى همة تزع، ودين يردع، فيَرْعوُون، ولا الحاكم يرجع إلى حكمة فيجعل لعلاقته بهؤلاء وعلاقتهم به حدًّا يُبقي على شرف منصبهم الديني، ونحن نعرف أي الوظائف أدعى لملازمة أصحابها للحاكم الرئيس أو لكثرة ترددهم عليه؛ ولكننا لا ندري علاقة رجال الدين الإسلامي بالحاكم المسيحي، حتى يتردّدوا عليه كل هذا التردد، أليأخذوا عليه أحكام الصلاة؟ كلا، ولكن ذلك مصداق قول الشارح المتقدم.(3/156)
ورأينا بأعيننا كيف يتهافتون على مكتب مدير الاستعلامات (رئيس المكتب الثاني) بقسنطينة، وكيف يرجعون إليه حتى في فتح المسجد وإغلاقه، وكيف يرجون رحمته ويخافون عذابه، وكيف يتقربون إليه بما هو من جنس صنعته، وكيف يصرّفهم بالكلمة والإشارة كما يُصرف قائد الفرقة الموسيقية فرقته، ثم نتساءل: ما هي علاقة رجال الدين بإدارة الاستعلامات؟ فإن كان فيها سر ديني إلهي، فلماذا لا يتردد عليها رجال الدينين المسيحيّ واليهودي؟ والجواب عند ذلك الشارح الحاذق المحقق ...
كذلك ما زلنا نجهل معنى (السانديكة) (1) التي سموها جمعية رجال الدين، ونتساءل: لماذا لا تكفي رجالها مؤونة التردد على هذه الإدارات، أو تكفهم عنها؟ إلّا أن يكون معنى وجودها محصورًا في مقاومة العاملين لتحرير الدين ورجاله، والواقفين بالمرصاد للحكومة فيها، والمعترضين كالشجى في حلقها، بآية أن هذه (السانديكة) لم تعمل من أعمال (السانديكات) إلّا تقريرها الأول، ومذكرتها الأخيرة وكلاهما محقِّق لذلك المعنى الذي فهمناه من تكوينها، وإن العمال، وبعض طبقات الموظفين الدنيويين لأشرف قصدًا، وأعلى همة، وأنبل غاية من رجال الدين، لأنهم لا يرضون المهانة لبني حرفتهم، فإذا ظلم واحد منهم، انتصروا له بالإضراب والاحتجاج، حتى ينتصفوا له من ظالمه، وسلوا رجال الدين: لو أن واحدًا منهم لحقته مظلمة أو إهانة، أكانوا ينتصرون له ويحتجون، ولو ... بالاستعفاء الإجماعي؟ ... إنهم لا يفعلون ذلك ولو سقطت السماء على الأرض، وحالف بطن الراحة الشعر، لأن زأرة واحدة من مدير الاستعلامات تكفي لانخذال الأعضاء، وانخلاع القلوب، وجفاف الريق في اللهوات، فما أشأم هؤلاء على الإسلام، وما أتعس جد الإسلام بهؤلاء!
...
وانا لنعلم أن أنصار «البصائر» يربأون بها أن تنزل من عليائها للعاصمي وشيعته، وإن من شيعته لأبا فلان، وأبا فلان، ويعدون هذا كله غميزة في مقامها الأدبي، وزراية بمكانتها المعنوية، ولكنهم لا يعلمون ما نعلم من أثر هؤلاء مجتمعين ومفترقين في قضية الأمة، ولا يفهمون ما نفهم من أنهم أصبحوا متاريس وقاية لهذه الحكومة، وأنها نصبتهم ليكونوا لها حجة حين أعوزتها الحجج ... ولماذا ذكر الله إبليس، وكرر اسمه في القرآن؟ ...
...
من ينصب نفسه دريئة، فلا يرجُ أن تكون عيشته مريئة، ولا يَدَّعِ أن ذمته بريئة! ...
__________
1) السانديكة: كلمة فرنسية معناها النَّقابَة.(3/157)
فصل الدين عن الحكومة (16)
... نظرتنا إليها *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نعود إلى قضية الفصل، كما يعود التلميذ إلى الفصل ... معتقدًا أنه خلق له، وأن سعادته مرتبطة به، فهو- لتلك العقيدة- لا يسأم من الرّواح والغدوة، وهو- من تلك العقيدة- يستمد القوّة والنشاط، وكذلك نحن، نطوِّف ما نطوّف، ثم نرجعُ إلى هذه القضية، ولا يقعدنا عنها سكوت الساكتين ولا تخذيل المخذّلين، ولا جهل الجاهلين بقيمتها وبالآثار السيئة التي غرستها في الأمة، منذ كانت، وبالآثار الحسنة التي تكون لها يوم تستقر في نصاب الحق، ونحن قوم خلقنا لهذا، وأخذ علينا عهد الله أن نقف فيه المواقف الصادقة، وأن لا نزال به حتى نثبت حقه الأصيل، وننفي باطله الدخيل، وأن لا تغلب ضعفنا فيه قوّة الشيطان، لأننا أقوياء بالحق، أشدّاء بالإيمان، أعزّة بالله، وإننا إذا لم نوفِّ بعهد الله بؤنا بتبعة التقصير، ومهدنا للباطل سبيل التمكن والاستمرار، وما زلنا- منذ هدانا الله لهذا- نتلمح من عناية الله بهذا الدين، وتكفّله بحفظه، نجمًا يسايرنا في ظلمات الظلم، ونتنور منها نورًا يهدينا السبيل، ويكشف لنا عن نيات السوء المبيتة، ويعرفنا بشياطين الشر الراصدة، ويُنير لنا جوانب العمل، حتى كأننا منه دائمًا في نهار ضاح، وما زال لله جندٌ ميسر لنصر دينه، تجهزه العناية الإلهية لحين الحاجة إليه، فكلما بسط العادون أيديهم إليه بالسوء وظنوا أنها الفاقرة- قام بنصره منهم معشر خشن ... ومن آية الله في هذا الجند أنه لا يتراءى إلّا حين تزيغ الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، ولا تظن نفس بنفس خيرًا، ومن آيته أنه هو الذي يستولي على الأمد، ولظفر بالعاقبة.
...
عاهدنا الله أن نطهر دينه، من الداخل ومن الخارج، وأن ننصره على أنفسنا حتى يكون له عليها سلطان، قبل أن ننصره على الأجنبي حتى لا يكون له عليه سلطان ... لذاك حملنا
__________
* نشرت في العدد 154 من جريدة «البصائر»، 7 ماي سنة 1951.(3/158)
حملتنا المشهورة على البدع والضلالات حتى قوّضنا أركانها، وأتينا بنيانها من القواعد؛ فتلك بيوتها خاويةً بما أقر أهلها من منكر، وما هجروا من معروف، وقد أصبح من أكبر أعواننا عليها ربائب حجورها، ولسائب (1) جحورها، وأفراخ وُكُورِهَا، ممن هداهم الله وأنار بصائرهم بالحق، وإن سائرهم لسائر في طريق الهداية، ومن لم يهده القرآن، وكلناه إلى الزمان، ونعم المربي هو ...
فلما بلغنا الغاية من ذلك التطهير- أو كدنا- انكفأنا إلى هذه الضلالة الناعمة بالأمن، النائمة في ظلّ القوّة، وهي بقاء مساجد الإسلام ورجاله وأوقافه وشعائره في يد غير يد أبنائه، تصرفه على ما تريد، لا على ما يريد الإسلام، وإنها لكبيرة عند الله وعند صالحي عباده أن يعطي المسلم الدنية في دينه، وها نحن أولاء نعمل- في غير كلل- على تطهير الإسلام من هذه الضلالة كما طهرناه من الأولى، وإنا لمتبعو أخراهما بأولاهما؛ وإن لاذت بالفرقد، أو عاذت ببقيع الغرقد، وإننا لا نبالي في عملنا بطول الزمن، وتوالي المحن؛ فما الزمن إلّا من أعواننا، وما المحن- وإن توالت- إلّا مسانّ لعزائمنا، وما أعمارنا في عمر الإسلام إلّا دقيقة من دهر، فلننفقها في ما يعليه ...
وهذا المنهج الذي سلكناه وقدرناه من أول خطوة، هو الذي يجلي عذرنا في السكوت عن بعض الباطل إلى حين، مثل سكوتنا عن الصلاة خلف أئمة الحكومة، وتلامذة الفقه المعكوس، فلا يقولن قائل: ما عدا مما بدا، وإنّ لنا في رسول الله لأسوةً حسنة، فقد كان يسكت عن أهون الشرين إلى حين، لخفة ضرره، أو عن أعظم الشرين إلى حين، ليرصد له القوى ويستجمع الوسائل، وكلاهما شر، وكلاهما باطل من يوم جاء الحق، ويا ليت قومنا يعلمون السر في مناجزته للشرك، وإرجائه للخمر، أو في تقديمه للتبني، وتأخيره للاسترقاق.
...
وهذه القضية هي الجزء الأهم من أعمال جمعية العلماء لأهميتها في ذاتها، ولأثرها البليغ في نفسية الأمة، شرًّا في طورها القديم الذي نريد تخليصها منه، وخيرًا وبركة في طورها الجديد الذي نريده لها ونريدها له، ولمنزلتها الرفيعة في القضية الوطنية العامة، وتشاركها في هذه المزايا كلها- قضية التعليم العربي؛ والقضيتان متلازمتان، لا تنفك إحداهما عن الأخرى، ونظرتنا إليهما نظرة واحدة ... نرى فيهما شيئًا لا تتم حياة هذه الأمة إلّا به، فالإسلام والعروبة دعامتان تمسكان هذا الوطن أن يزول، وفي فصل الإسلام عن
__________
1) اللسب هو اللدغ، لسبته الحية: لدغته.(3/159)
الحكومة تثبيتٌ للدعامة الأولى، وفي التعليم العربي تمكين للجنسية العربية؛ ولا يقدر قدر هاتين الدعامتين، ولا يعمل جاهدًا في تثبيته، إلّا من يعلم- كما نعلم- أن الاستعمار جاء إلى هذا الوطن بثلاثة أشياء، ليمحو بها ثلاثة أشياء: جاء باللاتينية ليغمُر بها العروبة، وجاء باللغة الفرنسية ليقضي بها على اللغة العربية، وجاء بالمسيحية لينسخ بها الإسلام، يبدأ بالمجاورة، ثم المضارّة، ثم ترحيل الأقوى للأضعف، وكل أعماله وشرائعه- بعد ذلك- حياطة لهذه المبادئ وتقوية لها، وما عمله في إحياء النزعات البربرية إلّا مثال من المبدإ الأول، وما ضغطه على التعليم العربي إلّا مثال من القاعدة الثانية، وما تشجيعه للضلالات والبدع، وتلكؤه في فصل الإسلام عن الحكومة، ومشروع الإسلام الجزائري إلّا أمثلةٌ من المبدإ الثالث، وما مشروع الاندماج الذي باء بالخيبة والبوار، ولقب "مسلم فرنساوي" الذي يعرفنا به- وغيرهما من مبتكراته- إلّا عناوين على كتاب طويل عريض، مقدمته "مسلم فرنساوي" وخاتمته " فرنسوي مسيحي".
لعمري ... إن أنكر وأشنع ما في اللغات، من تزاوج الصفات، هذا التزاوج بين صفتين "مسلم فرنسوي"! إنها مزاوجة لا يرتضيها عقل ولا دين ولا ذوق، فإن الإسلام دين، والتفرنس جنس ليس من الأجناس التي اعتنقت الإسلام دينًا، فالتزاوج بين الصفتين محكوم فيه بالتفريق والتحريم المؤبد "بعد العقد وقبله" كما يقول الفقهاء، ولهذا التزاوج صيغٌ، كلها نكر وشناعة وبُعد عن الواقع، فمنها "مسلم مسيحي" و "عربي فرنساوي" وما قول فقهاء الاستعمار (دام فضلهم) لو قبلنا هذا التزاوج، وقلنا لواحد من فرنسيي الجزائر: "فرنسوي مسلم"؟
إن هذا التزاوج على هذا الوضع صيغة مختارة لترويض النفوس النافرة على غاية مقصودة، وتهيئة تدريجية لقبولها، ولا ليت قومي يعلمون ...
أما الكلمة العبقرية التي اختارها الله لنا، فهي "مسلم عربي جزائري" ...
...
نظرتنا إلى قضية الموضوع أنها أساس متين من أسس الوطنية، ووزننا لأعمالنا فيها أنها أعمال وطنية أولية، فإن الوطن مسلم عريق في الإسلام، عربي أصيل في العروبة، وعلى كل وطني مخلص في خدمة وطنه أن يبدأ من هنا، وإلّا فهو مغموز في وطنيته: إما مدسوس فيها، أو متاجر بها، أو مخدوع عنها، أما الوطني الصميم فهو المدافع عن دين وطنه ولغة قومه، حتى يثبت أن هناك وطنًا يشرّف الانتساب إليه، وقومية يحسن الاعتزاز بها، وما بذَل الاستعمار هذا الجهد كله في حرب الإسلام والعربية بهذا الوطن، إلّا ليجرده من اسم(3/160)
"الوطن " ويجرد أهله من صفة "الوطنيين"، لأن الوطن إذا جرد من هذين، لم يعدُ أن يكون "قطعة أرض موات" يحوزها من طلب أو من غلب.
وما زالت فرنسا- على جمهوريتها ولائكيتها- تعد المبشرين بالمسيحية من أكبر الوطنيين، وتعد الناشرين للغتها في الأوطان الأخرى في طليعة الخادمين لوطنهم، لعلمها أن الوطن كل، أثمنُ أجزائه اللغة والدين، فكيف بمن يخدم دينه في وطنه، ويزرع لغته في أرضها؟
ويا ليت قومي يعلمون! ...
إننا لنعلم أن للحكومة في هذه القضية أبوابًا ومخارج، وتقارير وبرامج، وأنها تدير الرأي في أيها أصلح، وأيها أضمن لبقاء سلطتها على الدين الإسلامي، وإنّ لها في ذلك أعوانًا، ضربت عليهم الأزلام، فكانت لنا منهم الأسماء، ولها منهم كل شيء، وإن قطع الوتين أهونُ عليها من انقطاع سلطتها على هذا الدين، ولو تقاضتها الظروف أن تلبس العمامة- لتنتحل شبه الإمامة، وتحفظ لنفسها شيئًا من هذه السلطة- لما تردّدت في لوثها، وتكويرها، وزيادة عذَبة أطولَ من عذَبة "الهندي".
أما نحن فلا نرضى في القضية إلّا بالحق كاملًا، وهو أن يرجع ميراث محمد إلى أمة محمد، فإن كانت رشيدة فهي أحق به، وإن كانت سفيهة لم تخسر رأس المال، وهو تصحيح العبادات والشعائر؛ ومهما تبلغ من السفه فلن تبلغ فيه إلى درجة الاستعمار الذي ابتلع الآف الملايين من قيمة أوقافها، وجاد عليها ببضع "كيلوات" من الزلابية، وبدار سماها بأدل الأسماء على المهانة والسخرية وهي "دار الصدقة (2) ".
لتتلوّن الحكومة ما شاء لها التلون، ولتطاول ما وسعتها المطاولة، ولتتصامم عن سماع صوت الحق ما شاءت أن تتصامَّ، فما بد لها من أن تعترف بالحق، وتفيءَ إلى الحقيقة، وما بد لصوت الحق أن يخرق الآذان الصمّ، وإذا كانت- كما عهدناها- تعد صوت الحق طنين ذباب، فلتعلم أن منه ما يكدر الراحة، ويذود النوم عن الجفون.
__________
2) دار من بقايا الأوقاف الإسلامية بمدينة الجزائر أبقاها الاستعمار يجتمع بها طائفة قليلة من الفقراء في بعض الأوقات وتوزع عليهم بعض فرنكات، بعد أن كانت في هذه المدينة عقارات موقوفة على سبل الخير كلها، شملت أصحاب العاهات كلهم وشملت تزويج الفقيرات وتجهيزهن كسوة وحلية وفرشًا.(3/161)
فصل الدين عن الحكومة (17)
... لمحات تاريخية *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
احتلت فرنسا هذا الوطن بالقوّة، وبينها وبينه بحر فاصل، وبينها وبينه دينان متخالفان، وجنسان متضادان، ولسانان متباينان، وبينهما- مع ذلك كله- أخلاق متنافرة، واجتماعيات متغايرة، بل بينهما شرق وغرب بكل ما بين الشرق والغرب من فروق، وإذا تباينت المقومات بين جنسين كل هذا التباين، كان تسلط أحدهما على الآخر غير مضمون الاستمرار، فإن استمر فغير مضمون الاستقرار، لأنه يعتمد دائمًا على القوّة المادية وحدها، والقوّة المادية ليست سلاح كل وقت.
سبيل المتسلطين لدوام السلطة أحد أمرين: إما الإحسان الذي يملك النفوس، والعدل الذي يحفظ الحقوق، والتساهل الذي يستهوي الأفئدة، والرحمة التي تأسر العواطف، وإما المحق لمقومات المغلوب الروحية والمادية مغافصة، أو تدريجًا، وتحطيم عناصر المقاومة فيه جهرة أو اغتيالًا، فأيّ السبيلين سلكت فرنسا في الجزائر؟
إنها آثرت الأمر الأخير من أول يوم، ووضعت له الأصول، ورتبت الوسائل، وآثرت من أنواعه التدريج المغطى بالكيد والاحتيال، وبدأت من المقوّمات بالدين، لأنها تعرف أثره في النفوس والإرادات، وتقدر ما فيه من قوّة التحصن من الانحلال، وقوّة المقاومة للمعاني الطارئة، فوضعته نصب عينيها، ومدت يدها إليه بالتنقص، فالتهمت أوقافه المحبوسة على مصالحه، لتجرده من القوة المادية التي هي قوامه، وتلصق برجاله الحاجة إليها فتخضعهم لما تريده منهم، فتصيرهم أدوات تأتمر بأمرها لا بأمر الدين، وتخضع لسلطانها لا لسلطان الدين، وما زالت بهم تروضهم على المهانة، وتسوسهم بالرغبة والرهبة، حتى نسوا الله ونسوا أنفسهم، ونسوا الفوارق بين رجل الدين الذي يدين بطاعة الله، وبين موظف الحكومة
__________
* نشرت في العدد 156 من جريدة «البصائر»، 21 ماي سنة 1931.(3/162)
الذي يدين بطاعة الحكومة، وأصبحوا في العهد الأخير كالأسلاك الكهربائية المفرغة من الشحنة ... ليس فيها سلب ولا إيجاب ...
غاب عن فرنسا- وهي تحوك هذا التدبير- ما يغيب عن كل مستكبر جبار، وهو درس القابليات في الأشياء، ولو درست لهداها الدرس إلى الحقيقة، وهي أن الإسلام والعروبة شيئان ليست فيهما قابلية الذوبان والانمحاء، لأن فيهما من أثر يد الله ما يعصمهما من ذلك، وعليهما من أصباغ الشرق الخالدة ما يحفظهما من التآكل والتحاتّ، ولو أن فرنسا امتهنت الإسلام في ثورة التغلب الأولى ثم فاءت إلى الرشد لكان لها شبه العذر لأن الإجراءات العسكرية دين على حدة ليس فيه حلال وحرام، وليس فيه عبادة ولا معبد، وليس فيه حدود ولا حرمات، ولكنها تمادت على امتهانه إلى اليوم في أطوار كلها سلم، وكلها اطمئنان، فأفصح الأخير من أعمالها على الأول من مقاصدها، وإنها لشواهد لا تستطيع فرنسا تكذيبها ولا نقضها، ولا نحتاج نحن إلى توضيحها وتزكيتها.
...
احتلت فرنسا هذا الوطن فوجدت فيه دينًا قائمًا بأهله، تقوم به هيأة دينية، تشرف عليها حكومة إسلامية بصفتها مسلمةً لا بصفتها حكومة؛ وللأمير المسلم حق الإشراف على الدينيات باسم الإسلام، فخيل إليها التعصب- وهي مسيحية- أن دينًا ينسخ دينًا، وإن كانت لا تعتقد أن نبؤة تنسخ نبوة، وأنها- بقوّتها وجبروتها- تستطيع أن تغالب الله وتعانده في أحكامه، فتنسخ لاحق الأديان بسابقها، ففعلت فعلتها بهذه النية، وبهذا القصد، ولهذا الغرض، ووجدت في هذا الوطن نوعين من الأملاك العامة: أملاك الحكومة من قصور للأمراء وإدارات لمصالح الدولة وثكنات لجندها، وأملاك الدين من مساجد تقيم الشعائر، وأوقاف تقيم المساجد، وتحقق وجوه البر والإحسان، وقد حبسها المسلمون على المسلمين لا على الدولة، ولكن فرنسا المنحرفة على الجمهورية الأولى، المتطلعة إلى الجمهورية الثانية - اعتبرت كل ما وجدته في الجزائر من النوعين إرثًا عن الدولة التركية، وغنيمة من غنائم الحرب معها، وليت شعري ... حين عمرت الثكنات بجنودها المقاتلين، وعمرت الإدارات بحكامها الإداريين، لِمَ لمْ تعمر المساجد برجال الكنيسة المسيحيين؟ لا ... بل يجب أن ننصفها ... فقد حوّلت بعض المساجد الكبرى كنائس، وعمرتها برجال الكنيسة المسيحيين ... وناهيك بمسجد "كيتشاوة" العظيم الذي صيرته "كاتدرائية" عظمى في العاصمة وكأنها فعلت ذلك لتجعله عنوانًا لما تبيته للإسلام من شر، ونذيرًا للمسلمين بما يترقبهم في دينهم من وبل، ودليلًا ماثلًا على أن احتلال فرنسا للجزائر كان حلقة من الصليبية الأولى، ولا غرابة في ذلك، فإن فرنسا الاستعمارية كانت- وما زالت- تفور باللاتينية(3/163)
والمسيحية، تصارع بالأولى الجنسيات، وتقارع بالثانية الأديان، وإن معاملتها للإسلام هذه المعاملة- التي ابتدأت من يوم الاحتلال ودامت إلى هذه اللحظة- كانت مدبرة من قبل الاحتلال جريًا على تلك الطبيعة، ولقد جاء قواد الاحتلال وفي أيديهم الأسلحة القاتلة، وعلى ألسنتهم الوعود الكاذبة، وفي حقائبهم القوانين التى يعاملون بها الإسلام، وكل ذلك مدبر من وراء البحر، قبل خوض البحر.
...
اقرأ قرار 7 ديسمبر 1830 (أي سنة الاحتلال بعينها) فإذا وصلت إلى المادة الثالثة منه فإنك تجد فيها: "إن القائمين بأملاك الأوقاف ملزومون بأن يقدموا في ظرف ثلاثة أيام من تاريخ القرار تصريحًا يبيّن صفة ووضع وحالة عقارات الأوقاف التي يستغلونها بالكراء أو غيره، ومحصول الكراء أو الغلة وتاريخ الدخل الأخير".
وإذا وصلت إلى المادة الرابعة منه فإنك تقرأ فيه: "إنه يجب على القضاة والمفتين والعلماء- وغيرهم من القائمين على إدارة الأوقاف- تسليم العقود والكتب والسجلات والسندات المتعلقة بتدبير شؤون تلك الأملاك وقائمة أسماء المكترين مع بيان مبلغ الأكرية السنوية وزمن الأداء الأخير- يسلمون كل ذلك إلى مدير الأملاك".
وإذا وصلت إلى المادة السادسة منه فإنك تجدها هكذا: "إن كل شخص خاضع للتصريح المذكور في المادة الثالثة من هذا القرار، ولا يدلي بما عنده، يحكم عليه بغرامة لا تقل عن المدخول السنوي للعقار الذي لم يسجله".
وإذا وصلت إلى السابعة فإنك تجد تقرير مكافأة لكل من يكشف عن عقار غير مسجل، واطوِ بعد ذلك ثلاث عشرة سنة فقط، فإنك تجد قرارًا من وزير الحربية مؤرخًا بيوم 23 مارس سنة 1843 ينص على "أن مصاريف ومداخيل المؤسسات الدينية تضم إلى ميزانية الاستعمار".
ألا تؤمن بعد هذا بما شرحته لك من أن احتلال الجزائر إنما هو قرن من الصليبية نجم، لا جيش من الفرنسيين هجم.
...
شغلت قضية فصل الدين عن الحكومة، الأمة الفرنسية أحقابًا، ويرجع التفكير فيها إلى الثورة الأولى سنة 1789، ويرجع التأثير فيها إلى الجمهورية الثالثة 1871، إلى أن تم(3/164)
الفصل العملي النهائي فيها سنة 1905، بالرغم من احتجاج البابا المتواصل، ووصول العلاقات بينه وبين حكومة فرنسا إلى أسوأ الأحوال، وقد قال مقرر مشروع الفصل كلمته السياسية البليغة: "الحكومة الفرنسية ليست ضد الدين، ولكنها لادينية L'Etat français"
"n'est pas antireligieux, il est a-religieux وهي كلمة ذات وجوه ومخارج، نفهمها نحن كما شئنا ونفهمها كما شاء قائلها، ويفهمها كل ذي عقل بعقليته الخاصة، وتفهمها المستعمرات من شرح الواقع لها، ويتم الفصل في فرنسا على تلك الصورة الحاسمة بين ضجيج المتطرفين في تأييده والمتطرفين في مناهضته، وفي بقايا الغبار الثائر من قضية الضابط "دريفوس". كل ذلك والدين المفصول دين فرنسا، اقترن تاريخه بتاريخها قرونًا، واتحد مزاجه بمزاجها، وعرفت فيه بأنها "ابنة الكنيسة البكر"، ومقتضى ذلك كله أن يكون الإسلام في الجزائر مفصولًا عن حكومتها مع أو قبل فصل المسيحية عن حكومة فرنسا، لأن الإسلام ليس دين الحكومة، وليس منها، وليست منه بسبيل.
ولكن ذلك الفصل بقي مقصورًا على فرنسا وحدها، ولم يقطع البحر إلى الجزائر ... لأن الدين في الجزائر الإسلام ... والثورة وآثارها، والجمهورية ومبادئها، كل أولئك لم ينشئ العقل الفرنسي اللاتيني المسيحي إنشاء جديدًا، ولم ينزع منه ما وقر فيه من آثار الصليبية ضد الإسلام، والعقلية الغالبة في أيام احتلال الجزائر، هي الغالبة في أيام نضج المبادئ الجمهورية وهي المسيطرة عليه في هذه الأيام التي نسخ العلم فيها كل عهد وفسخ الزمن بأحداثه كل عقد، وأصبحت فيه الحرية أنشودة كل لاغ، ونشيدة كل باغ، والتمس ما شئت مجالًا آخر لتطور هذه العقلية، فأما في الإسلام ... وأما في الجزائر ... فلا ... ومكلف هؤلاء القوم ضد طباعهم، متطلب في الماء جذوة نار، كما يقول التهامي الشاعر، لذلك بقيت قضية فصل الإسلام عن حكومة الجزائر منظورة بالعين الاستعمارية، وموزونة بالميزان الصليبي، ومفهومة بالعقل المتحجر، "تجمهرت" فرنسا أو "تدكترت" أو اختلفت عليها الألوان بياضًا وحمرة، فالاستعمار في الجزائر هو هو في نظرتها، والإسلام في الجزائر هو هو في حكمها واعتقادها، ولاستقرار هذه العقيدة في مستقر اليقين من نفس الحكومة الفرنسية، نراها حين تلجئها الأحداث إلى تغيير في الوضعية، أو يكثر عليها الإلحاح في تبديل الحالة، تدور حول نفسها ولا يزايل قدمها موضعه، فتصدر القوانين بالفصل، ولكنها تقيدها بالتحفظات التي تجعل الفصل تأكيدًا للوصل، أو تفتح فيها من المنافذ ما يجعل المنفذ- وهو استعماري طبعًا- في حلّ من كل ما يفعل، كما فعلت في قانون 1907 وفي دستور الجزائر الأخير ... والدارس لهذه القوانين بعقل مجرد، يراها بعيدة من الصراحة والحسم، دائرة على المداورة والمطاولة والاستبقاء.(3/165)
فصل الدين عن الحكومة (18)
... ومن فروعها صوم رمضان *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... وما زلنا نحن والحكومة الجزائرية ننظر إلى هذه القضية بعينين، إحداهما حولاء ... ونتناولها بعقلين، أحدهما مؤوف.
أما أحد العقلين فيتلقى الوحي من القوّة التي تعمي عن الرشد، ويمتص الغذاء من الحقد المتأصل الذي يضل عن الهدى، وينحط إلى الغرائز الحيوانية يأخذ عنها مثله السفلى، ويبني العلائق بين الناس على العنصرية والتفوق والسيادة، ويرجع بطبقات البشر كلها إلى قسمين، قوي آكل، وضعيف مأكول، ولا ثالث، ويذهب في الألفاظ ومعانيها ولوازمها مذاهب غريبة عن متعارف اللغات، فظلم القادر لا يسمى ظلمًا، لأنه صدر من قادر، وقتل الأرواح لا يسمى قتلًا، ما دامت الأجساد تتحرك، واهتضام الأديان السماوبة لا يسمى كفرًا، لأنّ القوّة إله ثان، نبيُّه هذا العقل، وكتابه ينحصر في آية: لا صلة بين السماء والأرض، وشريعته مبنية على قاعدة: كن قويًّا واصنع ما شئت. ثم يستشهد منطق العقل العام، وسنن الكون وطبائع البشر فتخذله.
وأما العقل الآخر فتؤيده حكمة الله العليا في الأديان، وهي أن لكل طائفة دينها الذي ربطتها به الوراثة والاختيار، ولكل دين أهله الذين عقدت بينهم وبينه الفطرة والذوق، يصرفونه بأنفسهم، لأنهم أعرف بعقائده، وأعلم بآدابه، وأبصر بشروطه وأسبابه، وأفقه في وسائله ومقاصده، وأقوم على أحكامه، فهم لذلك أملك به وأجدر بتصريف شؤونه، وتظاهره سنة التطور التى انتهت ببعض الأمم إلى أن تعد من الرشد ابتعاد الحكومات عن سياسة الدين، ولو كان أصيلًا فيها، وكانت أصيلة فيه، وإيكاله إلى رجاله المنقطعين له، واقتصارها على سياسة الدنيا، ويشهد له أن أعظم حكومات هذا العصر، وهما أمريكا وانكلترا، تعدان من أسباب عظمتهما حرية الأديان والمعتقدات، وتفسران ذلك بترك
__________
* نشرت في العدد 157 من جريدة «البصائر»، 28 ماي سنة 1951.(3/166)
الشؤون الدينية لأهلها، وتوزيع اختصاصات الدنيا والدين بحيث لا تختلط إحداهما بالأخرى، وإننا لنجد بذورًا من ذلك في أساس تكوين الدولة الإسلامية، وإن اختلفت الحالتان في الدواعي والمرامي، ونلمح ذلك في تخصيص الإمامة برجال، والقضاء برجال، وإمارة الحج برجال، ونعتقد أنه لو طالت بعمر حياة وتمهد له ما يريد من إعداد الأمة وتربيتها- لخطا خطوات في توزيع الأعمال، وتقييد سلطة العمال، حتى ينتهي ذلك بطبيعة الحال إلى انفراد رجال الحكم بسد الثغور، وهو عمل عسكري، وتأمين السابلة وهو عمل اقتصادي، وإقامة الحدود، وهو عمل قضائي، وترك أمور الدين المحضة إلى علماء الدين المنقطعين له علمًا وعملًا، وليس معنى هذا سقوط التكاليف الدينية عن الطبقات الأخرى، ولا التساهل فيها، كما تفيده كلمة "حرية التدين" في هذا العصر، وإنما كلامنا في تسيير شؤون الدين، وهو موضوع الحديث، كذلك ليس من معناه أن لا تساس الأمة باسم الدين، كما هو مفهوم "حكومة تيوقراطية"، فالإسلام أضمن للعدل والمساواة، وأحفظ لمصالح البشر الخاصة والعامة من أن يتبرم به متبرم، أو يعد الحكم باسمه "تيوقراطيًّا".
وهذا صوم رمضان ... عبادة دينية محضة، وهي أبعد العبادات عن الماديات التي تغري بتدخل الطامعين في شؤونه، فهو أشبه بالفقير الذي ليس معه من المال ما يغري اللصوص بالاعتداء عليه، إذ ليس له من الأوقاف ما يقيمه كالصلاة والمساجد، ولا يفتقر في إقامته وأدائه إلى سفينة أو طائرة تنقل إليه، ولا إلى رخصة انتقال تثير غريزة التحكم، ومع ذلك كله فإن الحكومة الجزائرية عزّ عليها أن تفلته، وعز عليها أن لا تشارك فيه إلّا ببضع كيلوات من "الزلابية" ... فألحقته في العهد الأخير، بالحج والمساجد، كما ألحقت "فزّان" بمستعمراتها، وتلك شنشنة الاستعمار- واللاتيني منه على الخصوص- يعتبر الأوطان والأديان والأرواح والأبدان- وما هو لله وما هو للشيطان- شيئًا واحدًا يجب أن يخضع لجبروته ويدخل في سلطانه.
حَلَا لهذه الحكومة المسيحية اللائكية معًا، الجمهورية الديكتاتورية معًا، الجامعة بين الأضداد، الضاربة دون حرية الجزائر بالأسداد- أن تحارب الله في دينه الإسلام، فتنتهك حرماته، وتأكل تراثه أكلًا لمًّا، وتتخذ رجاله خَوَلًا لها، تستخدمهم في أغراضها بماله، وتنصب من نفسها مرجعًا لهم دون أهله، ثم تعمد إلى الحج فتبيحه لمن تشاء، وتحرمه على من تشاء، وتضع العواثير في طريقه، وتكوّن جمعية من أتباعها باسم "أحباس الحرمين"، بعد أن لم تبقِ منها أثرًا ولا عينًا، إمعانًا في السخرية بالإسلام وأهله، وتشارك المسلمين في أداء هذا الركن "بجهد المقل" من حاكم مسيحي وخليفة وقائد وكاتب وجاويش وجماعة من الجواسيس، يحصُون على الحجاج أنفاسهم، ويُلقون في أذهانهم أن البحر والسفينة، ومكة وشعابها كلها مستعمرات لهذه الحكومة.(3/167)
عزّ عليها أن تنقض أركان الإسلام ركنًا ركنًا ويبقى هذا الركن- وهو الصوم- خارجًا عن نفوذها، ورأت نقصًا في سمعتها، وغميزةً في كرامتها أن تفلت شعيرة الصوم من قبضتها، واهتبلت الوقت الذي اشتدت فيه مطالبتنا بالأوقاف والمساجد وحرية الحج، فمدت يدها إلى الصوم، تعبث فيه بالكيد، وتُفسده بالحيلة، وكأنها تريد أن تلهينا بشيء عن شيء، وكأنها تقول لنا: يا طالبي النهاية، ارجعوا إلى البداية ...
دبت حركتها إلى صوم رمضان دبيبًا خفيًّا من هذه الثغرة التي أصبحت شرًّا على المسلمين، ووبالًا على دينهم، وهي وظيفة الفتوى والقضاء، فكونت من رجالها فيهما "لجنة الأهلة" فأصبحوا يتحكمون في هلال رمضان المسكين وحده يثبتونه وهم في جحورهم، أو يخفونه وهو في كبد السماء، اتباعًا لوحي مرسوم لا يتعدونه، ثم أمدّت تلك اللجنة بسلاح من القانون وهو اعتبار الأعياد الإسلامية رسمية، تعطل فيها الأعمال الحكومية والمهنية والصناعية، وما شرعت ذلك القانون حبًّا في الإسلام، واحترامًا للمسلمين، وإنما شرعته لتلجئ الموظفين والعمال المسلمين إلى اتباع رأي لجنتها في الصوم والإفطار، إذا اختلفت الآراء، وتهيّئ الجزائر للانقطاع عن الأقطار الإسلامية، وتتوصل بذلك إلى بسط نفوذها على هذا الركن، وتقطع العلاقة بين الجزائر وبين العالم الإسلامي، وتحاول- من جديد- تكوين "إسلام جزائري"، بعد أن أخفقت التجارب القديمة.
تدخلٌ مفضوح أضافته الحكومة إلى أعمالها القديمة، وتدخلاتها الأثيمة في شؤون ديننا، لتثبت به سلطتها عليه، وأضفناه نحن إلى قائمة ما نكشف عليه من كيدها، وما نقاومه من ظلمها، فلا هي ترعوي، ولا نحن نسكت، فعلى الأمة أن تتفطن لهذه المكايد الشيطانية، وتزنها بآثارها، وتعتبرها بعواقبها، فإن هذه الحكومة لا تعمل عملًا إ، وله غاية وعاقبة، ثم لا تكون الغاية إلّا هدمًا لركن من أركان ديننا، ولا تكون العاقبة إلّا ريحًا لها وخسارًا لنا، وإن الحزم أن نبت هذه الحبال التي تمدها منا إلينا، وأن نعاملها بالقطيعة وأن نتولى صومنا بشهادتنا وأعيننا، وبالاتباع لإخواننا المسلمين حيثما كانوا، إذا بلغتنا أخبارُهم على وجه شرعي صحيح ... وبكل ما نملك من الوسائل.
إن آثار الاستعمار فينا هي التي جعلتنا سريعي التأثر بدواعي الفرقة، وقد نجح في تفريقنا في الدنيويات لأنه يملك أسبابه، فرجع إلى الدينيات يزيدنا فيها تفريقًا على تفريق، فعلى الأمة أن تحذر هذه الفخاخ المنصوبة، وأن ترجع في مسألة الصوم والأعياد إلى أحكام دينها وحِكَمه، وأن ترفع الخلاف بالرجوع إلى الحق.(3/168)
فصل الدين عن الحكومة (19)
... خصمان، فمن الحكم؟ *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 1 -
قضية شاذة، لا يجد الباحث فيها والمؤرخ لها نظيرًا فيما تباشره حكومات الدنيا من شؤون أممها، مؤمنها وملحدها، ولا يجد للقوانين التي تصرفها نظيرًا في قوانين الدنيا، سماويها ووضعيها، وقد يستسيغ العاقل من أعمال الحكومات أن تراقب كل شيء حذرًا واحتياطًا، ولكنه لا يستسيغ منها أن تتصرف في كل شيء تحكمًا واستبدادًا.
تقوم هذه القضية على خصمين: الأمة بحقها في دينها، وحجتها الناهضة في الإرث والاستحقاق، والحكومة بمصلحتها المادية، وشبهتها الواهية في التغلب والاستلحاق؛ وتحامي عن الأمة جمعية العلماء، بما لها من حق في الدين، وبما عليها من عهود في الدفاع عنه، ويحامي عن الحكومة جهازُها الإداري المتركب من الرجال الذين شابت مفارقهم في تنفيذ مآرب الاستعمار، وشبوا على بغض الإسلام، واحتقار المسلم، واستباحة دمه وبدنه وماله وعرضه، وإنكار ذاتيته وإنسانيته، ومن "رجال الدين" المتهافتين على وظائفه، المشترين لها من الحكومة بأغلى ثمن وهو شرفه والغيرة عليه، والذين أعمت الأطماع بصائرهم فتنكروا لدينهم، وأصبحوا أعوانًا عليه، وآلات لهدمه.
فالقضية- في حقيقتها- صراع بين الحق وبين المصلحة، فإذا كان صاحب الحق لا يتنازل، ومدعي المصلحة لا يسلم، لم تزدد القضية إلّا تعقدًا؛ وإذا تمادى هذا الإصرار من الطرفين، إصرار المحقّ على حقه، وإصرار المبطل على باطله، فمن الحَكم؟ ...
الواقع- برغمنا- أن خصمنا في القضية هو الحَكم، ما دام يملك ما لا نملك من المال الذي يوجه وجوه أصحاب المطامع إليه، والنواب الذين يعولون في الوصول إلى كراسي النيابة عليه، وهذه الطائفة التي تقبل الأرض بين يديه؛ ولكننا- على ذلك كله-
__________
* نشرت في العدد 158 من جريدة «البصائر»، 4 جوان سنة 1951.(3/169)
مصرون على المطالبة بحقنا، لا يثنينا تهديد ولا وعيد، ولا مراوغة ولا مطاولة، إلى أن تفصل القضية على وجه يرضي الإسلام ويرضي الأمة، ونحن نتجاهل كل حل لا يفي بالرغبة كاملةً، ونواصل كفاحنا ما دمنا وما دامت هذه الحكومة مصرّة على باطلها، تنتحل له في كل يوم أسباب البقاء، وتلتمس وجوه الحيل، وتستنجد هذا الفريق منا ليكون عونًا لها علينا.
...
كلا الخصمين غضبان على الآخر: الحكومة غضبى علينا إلى حدّ التمزق، ما عندنا في ذلك شك، ونحن غضاب عليها إلى درجة التميز، ما عندها في ذلك ريب، وآية غضبنا هذا الشرر المتطاير في «البصائر»، فما هي دواعي هذا الغضب؟
أما غضب الحكومة علينا فمنشؤه واضح عندنا، فهي تعتقد أننا أول من أطار من عينيها نوم مائة سنة نومًا هادئًا مطمئنًا، وأوّل من نبه الأمة من غفلتها عن هذه القضية، وأول من كشف الغطاء وشنع وقبح وأقام الحجة وضرب المثل وسدّ منافذ التعلّات، وأول من وقف في وجهها من هذا الصنف مطالبًا ملحًّا، لم يردعه تخويف، ولم يثنه تسويف، ولم ينخدع بمغالطة، وجماع هذه الأسباب أنها ترى فينا شبح من يريد خلع الحلة من لابسها، بعد أن طال بها استمتاعه، وخلع الإمرة من صاحبها بعد أن استحكم فيها اضطلاعه، وهي ترى في انفصال الدين عنها زعزعةً للاستعمار، وحرمانًا له من مال وافر، وجاه عريض، وسلطان ممتد، وجيش كان رهن الإشارة، وإذا كانت هذه هي أسباب غضبها علينا ... فلا زالت غضبى!
وأما غضبنا نحن عليها فهو غضب لديننا أن تمتهن كرامته، وأن يبقى هو ورجاله آلةً مسخرة لغير أهله، ولم نغضب إلّا لحق غصب، وطالبنا الغاصب بالنصفة فيه فلم يستجب، لم نغضب إلّا لهذه المهانة التي لحقت الإسلام دون الأديان، والأمة المسلمة دون بقية الأمم، وقد عرفنا استعباد الإنسان، وتسخير الحيوان، فأما استعباد الأديان فلم نعرف منه ولم يعرف منه الناس إلّا هذا المثال الفرد في الجزائر، ومع الإسلام خاصة.
...
مواقفنا المشهودة في هذه القضية هي مبعث الشر بيننا وبين الحكومة، فنحن لا نسكت حتى تنصف، وهي لا ترضى حتى نسكت، أفتريد أن نبقى في هذا الدور الذي لا انفكاك منه؟ وإن القضية لأهوَن من هذا كله، لو كان لهذه الحكومة قليل من التدبر وحسن القصد، خصوصًا بعد أن أرحناها من أنفسنا، وتحديناها بأن تسلم الحق إلى أهله كاملًا لا نقص فيه(3/170)
ولا غش ولا مواربة ولا حيلة ولا تغطية بموظفيها وأذنابها، ولا تفرقة بين المساجد وأوقافها؛ ونحن نتخلى عن حقنا كجمعية، ولا نتمسك إلّا بحقنا الطبيعي الذي لا تستطيع هذه الحكومة ولا غيرها أن تجردنا منه، وهو أننا أفراد من الأمة، لنا رأي في كل ما يضرها وما ينفعها، أما مع ما نعلمه ونستيقنه من أن في مطابخ الحكومة آراة تطبخ وتكون، وفي مكاتبها برامج تخطط وتحضر، وأنها- كلها- ليست في مصلحة الأمة ودينها، وإنما هي مصلحة الحكومة بالذات، وفي صالح رهط من أصحاب المطامع والأغراض بالتبع، فإننا نثبت في موقفنا، ونواصل التشهير بالظلم والتشنيع عليه حتى يموت الظلم أو نموت.
...
قضية فصل الدين، وقضية حرية التعليم العربي، هما مبدأُنا الذي لا نحيد عنه، وهما ميداننا الذي لا نبرح منازلين الحكومة فيه، ومواقفنا فيهما هي التي أثارت- وما زالت تثير- سخط الحكومة وغضبها علينا؛ وعناد الحكومة فيها هو الذي يُلجئنا إلى التوسل بكل وسيلة في الوصول إلى غايتنا فيهما، حتى خيل إلى هذه الحكومة أننا جمعية سياسية متسترة بثوب الدين، وأشاعت ذلك على ألسنة سماسرتها ودعاتها حتى ملأت به الدنيا، وهي مخطئة في هذا الفهم، أو متعمدة له، لتستبيح به كل ما تعاملنا به من عسف وإرهاق، فلتعلم هذه الحكومة أننا في سبيل مبدئنا احتككنا بالسياسة وشاركنا في مؤتمرها، واتصلنا برجالها، واصطلينا بنارها، وفي سبيل مبدئنا نأخذ بجميع الأسباب إلّا سببًا يحرّمه ديننا، أو يأباه علينا شرفنا؛ ومن ابتلي بمثل هذه الحكومة في عنادها للحق، وتصلبها على الباطل، أدركه الإعياء فملّ، أو اشتبهت عليه السبلُ فضلّ، أو خانه الصبر فزل، أما نحن فوالله ما زلت لنا قدم، ولا زاغ لنا بصر، ولا ضعفت لنا عقيدة، ولا غامت لنا بصيرة، وإننا نأتي ما نأتي وعقولنا في مستقرها ... وطالما صارحنا هذه الحكومة- في غير خلابة- بأنها هي التي خرجت من وضعها فأدخلت الدين في السياسة، فاضطرتنا إلى أن نقابلها بالمثل فندخل السياسة في الدين؛ والبادئ أظلم، على أن تدخلنا في السياسة أدنى إلى الشرف، وأبعدُ عن الاستهجان من تدخلها في الدين.
...
لا ندري في أيّ قسم تعد هذه الحكومة مساجدنا التي استبدت بها، وأوقافنا التي احتجنتها؟(3/171)
إن كانت تعدها غنائم حرب، فهي قد حاربت الحكومة التركية وأخذت أموالها، ولم تحارب الله حتى تأخذ ماله ... وإن كانت تعدها ميراثًا، فقد أفهمناها أن الدين لا يرثه الأجنبي عنه مع وجود الوارث الأصيل، وإن كانت تعدّها مال يتامى فقد كبر اليتامى ورشدوا، وإن كانت تعدها مال مفقود، فقد رجع المفقود، قبل الأجل المحدود، فالأحجى بها أن تقول: هو مالٌ مغصوب، لنسألها: ومن المغصوب منه؟ لتقول: هو الله ... فإذا قالت ذلك ألقت إلينا بالمعاذير ...(3/172)
فصل الدين عن الحكومة (20)
... خصمان، فمن الحكم ... ؟ *
(تتمة وخاتمة)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- 2 -
زين للاستعمار سوء عمله فطغى وبغى، وكفر وعتا، وأتى من الشر ما أتى، فلو تصور إنسانًا لأربى على فرعون الذي نازع الله ربوبيته، وحدثته نفسه أن يطلع إلى إله موسى، وعلى عاقر الناقة الذي جرّ العذاب على قومه، ولو تصور حيوانًا لكان وحشا (إن لا يلغ في الدماء ينتهس) ولو تصور ماءً لكان ملحًا زُعاقًا، وحميًا وغساقًا، أو ريحًا لكان إعصارًا يدمر كل شيء بإذن الشيطان، ولكنه حقيقة، والحقائق- كما يقول المناطقة- توجد في ضمن أفرادها، فالاستعمار هو هذه الأخلاق المتفشية في المنتسبين إليه، والآخذين بدينه، وهذه الأفكار التي لا تفكّر إلّا في استعباد الناس، وصوغ القيود لبقاء ذلك الاستعباد، وهذه العقول المحدودة، التي تسخر العلم للصناعة، والصناعة للإبادة والتدمير، وهذه الضمائر الجافة من الرحمة بالمستضعفين، بل الاستعمار هو هذه الأجهزة المتناقضة التي يلعن بعضها بعضًا، من ألسنة تنطف العسل، وتنطق بالحرية والإخاء والسلام، ونفوس من ورائها تضمر خلاف ذلك، وأعمال من ورائهما تشرح "باب التناقض" بـ"باب العكس" وتنتهك حرمات الله وأديانه، وتسوس البشر بشرائع البحر: حوت يلقم حوتًا، وبقوانين الغابة: ضار يفترس وادعًا ...
إن الاستعمار لا يؤمن بالله حتى نسأله الإنصاف لدينه الحق، ولكنه يؤمن بالقوّة، فلنحذره عواقب الاغترار، فإن هذه الأمة في مجموعها قوّة ... قوّة بعددها، وبالمعاني التي استيقظت فيها، وبإيمانها بحقها، وبتصميمها على استرجاعه؛ فإذا تعامَى عن هذه القوات كلها فإن تقلبات الدهر ستفتح عينيه منها على ما يكرَه، وإن الله للظالمين لبالمرصاد.
...
__________
* نشرت في العدد 159 من جريدة «البصائر»، 11 جوان سنة 1951.(3/173)
وفي العالم قضايا وخصومات، بين الشعوب والحكومات، وما كانت الشعوب في يوم من الأيام أقل من أن تخاصِم. وما كانت الحكومات أجل من أن تحاكَم، بل إن الشعوب في هذا الزمان هي مصدر السلطان، وهي التي تقيم الحكومات وتسقطها، وهي التي تبني العروش وتقوّضها؛ والقضاء في حال الاستقرار والسلم هو الميزان العادل بين الفرد والفرد، وبين الشعب والحكومة، فإن اختلّ مزاج أحدهما لجأت الحكومة إلى الجيش، ولجأ الشعب إلى الثورة، وانجحر القضاء في غرفة؛ ولكن وضعنا مع هذه الحكومة وضع شاذ غريب، ليس له نظير في العالم كله، فلا نحن منها، ولا نحن أجانبُ عنها ... لا نحن منها فنحاكمها إلى قضاء مشترك بيننا وبينها، لنا شطر الرأي في وضعه، ولنا شطر العمل في تنفيذ أحكامه، فإذا تحاكمنا إليه حكم بيننا بالسوية، وكانت يدنا فيه أكبر ضمان لحقنا؛ ولا نحن أجانب عنها فنحاكمها إذا ظلمتنا وهضمت حقنا إلى محكمة دولية مثل محكمة العدل، أو جمعية الأمم.
حقيقة إن وضعنا شاذ غريب إلى أقصى حدود الشذوذ والغرابة، وإن علاقتنا بهذه الحكومة لا يوجد لها نظير فيما بين الشعوب والحكومات، لا في عصور الظلام، ولا في عصور النور؛ فقد ألجأتنا بظلمها واعتدائها على مقدساتنا إلى حالة من الغضب لا اعتدال فيها، وألجأناها بمطالبتنا وإصرارنا إلى نوع من العناد لا عقل معه؛ وما قول العقلاء المنصفين في شعب يعد زهاءَ عشرة ملايين من أشرف العناصر البشرية، ويتحلى بخلال إنسانية قلّ أن توجد في أرقى الأمم، ويلتفت إلى تاريخ كله إشراق ونور، وإلى ماض كله مآثر ومحامد، ويرتبط في عقائده وآدابه بمئات الملايين من البشر يشاركون في سياسة العالم ومعارفه وعمرانه بأفكار وعقول وأيد لا تقصر عن شأو، ولا تقصِّر في إحسان، ويعتز بجيران من جنسه إن لا يكن كمالًا فيهم، لم يكن نقصًا منهم ... ثم لا يكون له- مع ذلك كله- شرك في الحكومة التي تحكمه، ولا رأي في القوانين التي تسيره، ولا ممثل في المجالس التي تدير وطنه ... وما قول أولئك العقلاء المنصفين في حكومة ... في حكومة ... جمهورية فيما تدعي، ديمقراطية فيما تزعم، تحكم هذا الشعب الذي وصفناه بقوانين لا رأي له فيها، ولا يد له في تنفيذها، وتغالط العالم فيه بنواب منه، لا حرية له في انتخابهم، وليس له منهم ولا لهم منه إلّا الاسم والزّي ... لكأن وضعيتنا صورة من أطوار بائدة، لحكومات وشعوب خالية، احتفظ بها الدهر لشقوتنا، لتكون حجته للعصور الآتية على زيغ هذه الحضارة وزيف شرائعها وكذب دعاويها، وأنها طلاءٌ ظاهري ليستر القبح والشين والعرّ، وما هو بساترها ...
...
ومجموع القضية الجزائرية بجميع أطرافها الدينية والسياسية والاقتصادية، كلها من هذا القبيل في الشذوذ والغرابة، لأن جميع القوانين التي تسيرها شرعت من طرف واحد،(3/174)
وينفذها طرف واحد، لأ صلة بينه وبين الشعب في مزاج ولا تاريخ ولا دين إلّا قوّته وطغيانه، وإن هذا لهو أصل شقاء الجزائر وبلائها، وإنه لأضر ما تشكوه الجزائر، وأفظع ما تعانيه، وإنه لأكبر الأسباب في هذا الغضب المتزايد في الأمة، وهذا القلق المنتشر بينها، وإنه- والله- لوضع غريب، وقبيح أن يكون الحاكم الفرنسي هو المشرّع والمنفذ والمرجع في كل شيء، وأن يكون المسلم الجزائري من هذا الوضع في دائرة مفرغة، يبتدئ من حيث ينتهي، وينتهي من حيث يبتدئ، ويشتكي من الظلم إلى الظالم، ويستعدي عليه القوانين المكتوبة في الأوراق، فيجدها منسوخةً بقوانين أخرى في النفوس، ويفزع إلى ما يفزع إليه أفراد الأمم من قضاة ومحاكم، فلا يجد في ذلك شيئًا يمت إليه بنسب أو يعلق به بسبب، ويلجأ إلى ما تلجأ إليه الشعوب من حماتها الذين اصطنعتهم لنفسها ونصبت منهم رقباء على حكوماتها، وهم النواب، فلا يجد منهم من يعترف له بمنة سابقة، أو يدخر عنده يدًا لاحقة ...
إن الأمة التي ليس لها على نوابها سلطان يحملهم على ترضيتها والخوف من غضبها، وليس لها على قضاتها وحكامها يد تشعرهم بمكانها منهم، ومكانهم منها، هي أمة سوائم، تساق إلى الموت وهي تنظر، ومن مارَى في وجود مثال منها في هذا العصر فالأمة الجزائرية هي المثال الشاهد المشهود.
...
وخُض في حديث غير هذا فللحديث شعاب، وقد كررنا هذا الحديث حتى ملّ، فاطرد عنا سأم التكرار بطريف، وإن كان غير ظريف، وهلم بنا إلى أمثال العرب، وقعْ منها على قولهم: "رمتني بدائها وانسلت"، وجاوزْ مورده البعيد إلى مضرب قريب، وحاول فإن التوفيق لك حليف.
أرأيتك هذا الاستعمار الذي نمارس منه الشقاء ونتجرع بسببه العلقم ... إنه يجهد نفسه في عيب الشيوعية، ويقيم من نفسه عدوًّا لها، ومن أعماله حربًا عليها، وما هو- في الواقع- إلّا داع لها بتلك الأعمال التي هي أبلغ من الأقوال، فهو بذلك يزرعها من حيث يريد اقتلاعها، ويُثبتها من حيث يريد زعزعتها، وليس في السفه ولا في الخطل ولا في التناقض أشنع من هذا، وإنه ليعد أمضى سلاح يسدده في الدعاية ضدها، أنها عدوة للأديان وأنها عاملة على محوها ... وليت شعري ماذا أبقى الاستعمار الفرنسي "الديمقراطي" للشيوعية من حرب الأديان ومنها الإسلام؟ ... إننا نشهد ونُشهد الله على أن الشيوعية إن حاربت الأديان، أو الإسلام خاصة، فهي تلميذة للاستعمار الفرنسي في ذلك، فهو الذي خطط لها الخطط وفتح لها الباب وضرب الأمثلة، ومن البعيد أن يساوي التلميذ الناشئ شيخه المحنك المحكك، ومن العيب أن يعيب الأستاذ على تلميذه اتباع خطواته ...(3/175)
القضية ذات الذنب ... الطويل *
- 1 -
تعوّد الناس إطلاق الوصف على الكواكب السماوية ذوات الأذناب، لأنهم تعوّدوا رؤيتها بالعين في بعض الأطوار الفلكية، وسماعَ أخبارها والمزاعم التي تعقد حولَ أسبابها وآثارها، وأجمعوا- قبل معرفة أسبابها الطبيعية- على التشاؤم منها، واعتقاد أنها ستلف هذا الكوكب الأرضيّ بذنبها في يوم من الأيام فتطوّح به، كما يلفّ الفيل قطعة الخشب بخرطومه ويطوح بها.
ولكنهم لم يتعوّدوا إطلاق هذا الوصف على القضايا الأرضية، مع أن منها ما يفرَع الكواكب ذوات الأذناب طولًا، ويفوقها خطرًا وشؤمًا وتفزيعًا، واذكر الآن- بعد أن نبّهناك- ما شئت من القضايا ذوات الأذناب، فإنك ستنسى واحدةً هي أطولهن ذنبًا، لأنها دقت في الغرابة حتى خفيتْ على الأذهان، وتعاصت عن الحل لأن الذي أحكم عقدَها هو الشيطان، وللشيطان ولوع بالإسلام لأنه موتور له، بما فضح من مكائده، وبما. بالغ في التحذير منه، وبما حصّن النفوس منه من المعوّذات، فلا عجب إذا كانت آثارُ يده بارزة في هذه القضية على يد أعظم أعوانه في المعاني وهو الاستعمار، وأكبر أعوانه من الأشخاص وهم دعاة الاستعمار، فلندُلّك على هذه القضية متبرّعين: هي قضية فصل الإسلام عن حكومة الجزائر ...
...
عد ما شئت من القضايا ذوات الأذناب الطويلة، واخترْ منها أشدّها تعقيدًا، وأكثرها تشعّبًا وعواملَ خلاف، وتناقض مصالح، وقلْ- مع ذلك كله- إن حلّها قريب، ممكن،
__________
* نُشرت في العدد 175 من جريدة «البصائر»، 26 نوفمبر سنة 1931.(3/176)
ميسور، إلا قضيتنا هذه فإن تعصب الشيطان وأعوانه فيها صيّر حلّها قريبًا من المستحيل، ولعل قضية "الزيت" بين الفرس والإنجليز تحلّ في ساعة أو ساعتين، ولعلّ قضية "الجلاء" بين مصر وانجلترا تفصل في يوم أو يومين، ولعلّ الصراع بين "الكتلتين" ينتهي في شهر أو شهرين؛ أما فصل الدين الإسلامي عن حكومة الجزائر فهو- بما يحيط به من مقاصد الحكومة، وما يكتنفه من ظنونها- بعيدُ التصوّر في الذهن، بعيدُ الوقوع في الحسّ، غير ممكن التحديد بسنة أو سنتين، فإذا جال التحديد في خاطر الحكومة جاوزتْ به عشرات السنين، إلى القرن والقرنين، أو إلى ما يقدّر الاستعمار لنفسه من العمر، فكأن هذه القضية- في نظره- من أسباب طول العمر، فامتدادها امتداد لعمره، وليس كل هذا منه لأن القضية في نفسها صعبة، فهي- لو خلص القصد- من أسهل القضايا؛ وليس كل ذلك لأن أحدَ الطرفين فيها ضعيف، فهذا قدر مشترك في كثير من القضايا العالمية، وليس كل ذلك لأننا أصررْنا على المطالبة بالفصل إصرارًا لا تسامحَ فيه، فإن إصرارنا على الحق نتيجة لإصرار الحكومة على الباطل، وليس كل هذا لأن حق الأمّة في القضية غير واضح ... بل كل ذلك ... لأن حق الأمّة فيها أوضح من الشمس ... ومن طبائع هذا الاستعمار، التي عرف بها وعرفتْ به، أنه يعمد إلى الحق فيصوّره باطلًا وإلى الوضوح فيلبسه مدارع من اللبس.
إن عقلية هذا الاستعمار الذي بلينا به- حين تتصل بالإسلام- عقلية "لاتينية" أولًا، صليبية ثانيًا، فهي تتخبّط بين لجّتين، لا تنحسرُ إحداهما حتى تجلّل الأخرى وترين، وتتغذّى من عنصرين، لا ينضب أحدهما حتى يثرّ الآخر ويفور، وهو بهذين الدافعين احتلّ الجزائر، ولهذين الباعثين عامل الإسلام فيها هذه المعاملة الشنيعة؛ ولعمرُ الحق إنهما لوَسْمان في الاستعمار الفرنسي للإسلام، متأصّلان فيه، مؤثران في أعماله، سائقان إلى جميع تصرفاته، يظهرهما لحاجة، أو يظهرُ أحدَهما لمصلحة؛ وقد يخفيهما لكيد، فتعرب عنهما هذه البوادر التي تبدر حينًا بعد حين من ساسته وقساوسته، فيصرّحون بأن الجزائر كانت لاتينيةً في القديم، ومفهومه الموافق أن تكون لاتينيةً في الحديث، وأنها كانت مسيحية في الغابرين، وفحواه أنها مسيحية في الآخرين، وعلى هذه القوالب صُبّت القوانين التي تساس بها الجزائر، وبهذه الروح نفذت، ولهذه الغاية يعمل العاملون من رجال الاستعمار في أيّ مظهر ظهروا، وبأيّ اسم تكلّموا، ولا عبرة بهذه الأغشية التي يموّهون بها أعمالهم من العلم والفن والمدنية والديمقراطية والإنسانية، فتلك ألوانٌ غير قارة ولا ثابتة، تخدع العينَ والأذن، ولكنها لا تخدع الحقيقة.
...
هذا هو مدد الاستعمار الفرنسي الأصيل، وهذا هو ميراثه غير المدّعى ولا الدخيل، وهو مثار هذه النزعات التي يجهد في إحيائها في الشمال الأفريقي كالنزعة البربرية، ويُعميه(3/177)
الهوى فيحاول أن يصلَ آخر الحبل الممدود بأوله وينسى أو يتناسى ثلاثة عشر قرنًا طبعت فيها العروبة والإسلام هذا الشمال بالطابع الذي لا يمحى، ووسمه بالسمة التي لا تزول ...
طرأتْ على فرنسا عدة مؤثّرات في القرون الأخيرة، من العلوم والفنون والصنائع، وانبثقتْ منها عدة مذاهب اجتماعية، واتسعتْ لعدة جنسيات وأديان، وكل واحدة من هذه المؤثّرات كافية لتحويل النظرة من أفق إلى أفق، ونقل الاتجاه من سبيل إلى سبيل، وتبديل العقلية من نزعة إلى نزعة، وقد فعلتْ هذه المؤثرات فعلها في العقلية الفرنسية فتغيّرتْ في كل شيء إلا في الاستعمار وما يتبعه من آثام، فإنها بقيت- كما كانت- "لاتينية"، وفي معاملة الإسلام فإنها بقيت- كما كانت- "صليبية"، ومن ناقضَنا في هذا جئناه بالدليل الذي لا ينقض، وهو حالة الإسلام في الجزائر، ومن رمانا بالمبالغة والتهويل رميناه بالحجّة المسكتة، وهي أن في الجزائر ثلاثةَ أديان يتمتع اثنان منها بالحرية الكاملة والاحترام الشامل، ويخص الإسلام- وحده- بهذه المعاملة الشاذّة التي هي في واقعها استعباد واضطهاد، وفي مغزاها احتقار وانتقام، وإن في هذا وحده لمقنعًا حتى للمكابرين.
...
لا يجد الباحث عناء في العثور على مصداق ما قلناه من تمكّن النزعة الصليبية في هؤلاء القوم، فهذه باريس منبع الثقافات والفنون والصنائع، التي استطاعت أن تجمع المتناقضات، وثوقف الإلحادَ بجنب المسيحية المتشدّدة، والإباحية العارية بجنب الحشمة المتزمتة، واللهو المعربد بجنب الوقار الساكن، تضم فيما تنضم عليه بيئة "صناعية" لصنع العقول، يديرها رجالُ دين، ويُدبّرها مستشرق شهير، وتقف جهودَها ونشاطها على تغذية النزعة البربرية في نفوس أبناء الجزائر والمغرب، من التلامذة الدارسين للعلم، أو العوام العاملين للقوت، وتغريهم بالتنكر للإسلام لأنه دينُ العرب، وبالتنصل من العربية لأنها جنسية طارئة غريبة، وتحاول إقناعهم بأن هذا الوطن بربري، وأن العقلية البربرية أقرب إلى اللاتينية منها إلى العربية، بسبب قرب الجوار، وصلة البحر المتوسط المتقارب الشاطئين، وبما تركه الاستعمار اللاتيني القديم فيها من آثار وتلاقيح، ولم يظلم الماريشالَ "ليوتي" من نسب إليه وضع الحجر الأول لبناء هذه المدرسة، وأن أول المتخرّجين فيها نابغة من أبناء المغرب، ولكن خلفاءَه في تلك النزعة وسعوا الدائرة، ولم يعودوا يقنعون بصيد المثقفين من أمثال ذلك النابغة، ونقلهم من صميم الإسلام إلى صميم المسيحية، بل أصبحوا يأنفون أن يكون للمسلم أو العربي مكانة ممتازة في المسيحية، كما يأنفون أن يكون لأحدهما مكانة ممتازة في العلم أو في السياسة أو في الجندية، وإنما يعملون اليوم للذبذبة والتشكيك حتى يتنكر العربي لعروبته، والمسلم لإسلامه، ولخلق جنسين يسهل عليهم ضربُ أحدهما بالآخر،(3/178)
فيستريحوا منهما معًا، ذلك لأنهم يعلمون أن الإسلام هو مساك الأخوة الروحية، فإذا وهى وضعف تأثيره على النفوس، نجمت النعرات المفرقة، ووجد دعاة التفريق مداخلَ للإغراء واللإغواء.
وليس في هذا الوطن بربري وعربي كما يوهمون، وإنما هم جزائريون، جمعهم الإسلام على تعاليمه، ووحدتهم العربية على بيانها، كما أوضحناه بالأدلة في مقال "عروبة الشمال الأفريقي" المنشور بعدد 150 من هذه الجريدة، ولكن من عادة الاستعمار أن يحصي المعاني الميتة ليقتل بها المعانيَ الحيّة، ويزيّن للناس الباطلَ ليدحض به الحق، وقد أكثر من هذا حتى أشعر الأمم به، فأصبحت لا تفهم من كلماته إلا عكس معانيها.
...
وتعصبْ- أيها المسلم- لدينك التعصبَ الطبيعي المعقول، وزد على ذلك القسط الطبيعي جميعَ ما يرمونك به من أنواع التعصب المرذول، فإنك لست ببالغ معشار ما عند هؤلاء من التعصب للمسيحية، ولكن تعصّبهم منظّم تحرسه القوّة، فأصبح معدودًا في حسناتهم، وتعصّبك فوضى يخمده الضعف، فأصبح مزيدًا في سيئاتك، وقد أوهموك أن التعصب مذموم، واستعانوا عليك بجهلك، ففرطت في محموده ومذمومه، وتجرّدت من أنفذ سلاح تحفظ به دينك، وما زلت تفرط في حقه خوفًا من أن ينبزوك بباطله، حتى أمسيتَ تعيش بلا عصبية لدينك، ولا عصبية لدنياك، وان هذا لسر ما ناله الاستعمار منك، لأنك بسببه أضعتَ الدينَ، وبسببه أضعت الدنيا، وخسرت الصفقتين.
إننا لا نلتمس دليلًا على انطواء هؤلاء القوم على النزعة الصليبية، وان هذه القرون لم تضعفها فيهم ولم تنسهم إياها- أكبر ولا أكثر إقناعًا من قول القائد العسكري الذي احتلّ دمشق على إثر الحرب العالمية الأولى، فقد وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي، وقال يخاطبه: قد زعمت أننا لا نعود، وها نحن أولاء عدنا ولا نخرج ...
...
وقد نعلم أن بعض رجال الإدارة الاستعمارية، وبعض الجارين في أعنّتهم من رجال الدين المسيحي، يتهمون صاحب هذا القلم بأنه ينشره لهذه الحقائق يثير الفتن، ويحصي كوامن الإحن، وانه يتهجّم على المسيحية، ونعلم أن كلامهم هذا نمط من التخويف بالباطل للصدّ عن الحق، ولا والله الذي أوحده، وكتبه التي أؤمن بها جميعًا، ورُسله الذين لا أفرّق بين أحد منهم، ما هاجمت دينًا بالباطل، وإنما نعيت على رجال الأديان أن يكونوا(3/179)
أعوانًا للاستعمار الظالم الذي لا يقبله دين، وعبتُ على رجال المسيحية أن يمالئوا السياسة على اهتضام الإسلام، وأن يمارسوا التبشير في ظل الحكومة وفي حماية قوّتها، فإن هذا غمزٌ في كرامة الدين الذي يدْعون إليه، لأن سبيل الأديان إلى النفوس هو الإقناع، لا الحيلة والقوّة، وبيّنت لهم أن دينَ السياسة إلحادٌ في دين الله، وأنها إن أكلتْ بهم اليوم فستأكلهم غدًا، فتعالوا يا قومُ إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن نتعاونَ على تحرير الأديان، ثم لكم علينا أن نتعاونَ على ما فيه خير الإنسان.
...
وفي الأخير ... وضعت حكومة الجزائر هذه القضية في جدول أعمال المجلس الجزائري لهذه الدورة. فهل عزمت على قطع الذنَب؟ لا نظن ... وسنرى، وسنقول ...(3/180)
القضية ذات الذنب ... الطويل *
- 2 -
... وها هم أولاء قد وضعوا القضية في جدول أعمال المجلس الجزائري، ولا نبحث عن الدواعي لهذا (الاستعجال) لأننا نعلمها، وخطب رئيس المجلس في جلسة الافتتاح فذكرها، وهو- في هذه الدورة- مسلم، فهل يرجو الراجون أن يكون من اسمه ودينه وجنسه أعوانٌ لرئاسته على فصل هذه القضية على وجه يرضي هذه العناصر الأربعة فيه؟ وخطب الوالي العام في ذلك الافتتاح فذكرها وخصها بالتنويه من بين أعمال المجلس، ونحن نعلم أن الخطبتين تحدّرتا من غمام واحد، أو نحتتا من معدن واحد، وأن ما تمنع الكياسةُ ذكرَه في خطبة الوالي يُباح ذكره في خطبة الرئيس، لذلك قرأنا في خطبة الرئيس من التعريض بنا ما لم نقرأه في خطبة الوالي، ونشهد أنه تعريض لطيف في ذوقنا، وإن كان خشنًا في قصد الرئيس.
وبادر المجلسُ فألّف اللجنة التي تنظر القضية وتبحثها، ونشر أسماءَ رجالها من القسمين (1)، وتسامح في هذه المرّة فأدخل في اللجنة رجالًا كانوا مذودين عن حياض اللجان، فكأن طائفًا من الديمقراطية طاف بهذا المجلس، أو كأن خاطرةً من الوحي تنزّلت عليه، أو كأن هاتفًا من وراء الغيب هتف به: أنْ أثبتْ وجودَك ... فإن استطاع المجلس أن ينقل القضية من ذيل الجدول إلى رأسه، اتّحدت القرائن على أن هناك اتجاهًا جديدًا ولو في هذه القضية بخصوصها، وكل الفضل في هذا الاتجاه راجع إلى الظروف.
...
__________
* نشرت في العدد 176 من جريدة «البصائر»، 15 ديسمبر سنة 1931.
1) من القِسْمَين: كان المجلس الجزائري مؤلفًا مناصفة من الجزائريين والفرنسيين.(3/181)
ولكل عاقل أن يسأل: لماذا يتوقف هذا المجلس في هذه القضية على تقديم الحكومة إياها وعرضها عليه؟ مع أن البرلمان الفرنسي وكل تنفيذها إليه لا إلى الحكومة، ولماذا يتربّص بها هذه المدّة الطويلة؟ مع أنها أهم من جميع القضايا التي عُرضت عليه في خلال السنوات الثلاث الماضية، والجواب معلوم، يكاد لوضوحه أن يحكمَ على السائل بأنه ... غير عاقل.
ومع كل هذه البوادر فإننا لا نظن أن الحكومة جادّة في فصل القضية فصلًا نهائيًّا تبتّ فيه الحبال، وتقطع العلائق، وتقيم به العدل في نصابه، وتسوّي به بين الأديان، وتُرضي به أمة كاملة مطالبة بحقها، جادّة في الحصول عليه ... لا نظن ذلك بها ... لأن لها طبعًا غير الطبائع، ولأن لها في هذه القضية تاريخًا حافلًا بالمداورات، ولأن لها سمعًا ألف التصامّ عن سماع كلمة الحق حتى صمّ بالفعل؛ ومن أراك من نفسه الإصرار على الباطل، وهو يعلم أنه باطل، فقد أرشدك إلى عدم الثقة به إن ادّعى أنه رجع إلى الحق، ولا نظن أن المجلس يستطيع أن يفعل في القضية شيئًا، ما دام زمامه في يد الحكومة، وما دام غيرَ مستقل الإرادة.
...
إن الأصلَ في هذه المجالس أنها تصارع الحكومات، وتناقشها الحساب، وتردّها إلى الصواب، وتحارب النزعات الفردية، كل ذلك لأنها تأوي من الأمّة إلى ركن شديد، أما المجلس الجزائري فإن شأنه غريب، وأمره عجيب.
إننا- مع احترامنا لأشخاص هذا المجلس- لا نسكت عن الانتقاد لوضعه ولأعماله، ولا نمسك عن سوْق النصائح إليه، وإن كانت مرّةً في ذوقه، ثقيلةً على سمعه، ولا نتملّقه ليكون في جانبنا أو يجريَ على هوانا، فإننا قوم لا نرضى أن تكون لنا منّة على الحق، ولا نرضى أن تكون لأحد علينا منّة في الإعانة على خدمة الحق، لأن الحق للجميع، وفوق الجميع، وإنه لا خصم لنا في هذه القضية نحاول الانتصارَ عليه، وإنما نحاول نزع حق من غاصب وهو الحكومة، وإرجاعه إلى صاحبه وهو الأمّة، فمن أعاننا في هذا السبيل فقد أعان الحق وأعان الأمّة وأعان نفسه.
...
أصبحنا لا ندري أهما شيئان أم شيء واحد. هذه الحكومة بصبغتها وأعمالها، وهذا المجلس بوضعه وتشكيله، وأسباب تشكيله، ووسائل تشكيله، الأسماء تختلف، والعلائق تأتلف، والأوضاع غريبة، واللبيب يفهم.(3/182)
ولقد كنا نسأل فصلَ الحكومة عن الدين، فطوّحتْ بنا التصاريف إلى حالة أوشكنا معها أن نسأل فصل الحكومة عن المجلس، لأن تحرير المجلس من سيطرة الحكومة عليه هو الخطوة الأولى في فصل الدين عن الحكومة.
إن الشرط الأساسي للفصل أن لا يكون للحكومة برنامج خاص في القضية، وأن لا يكون للموظفين الدينيين برنامج خاص فيها، لأنهم أبناء الحكومة، وللأب حق الاعتصار في بعض أموال بنيه، أو لأنهم عبيدُها، والعبد وما ملك لسيّده.
أما إذا كانت الحكومة تقدّم للمجلس ملف القضية، وفيما هو (ملفوف) فيه برنامجها الخاص، وعلى أحد وجهيه طابع الرغبة، وعلى الآخر طابع الرهبة، وكأنه لباسُ جندي، يزعج بشارته، قبل أن يزعج بإشارته، وكأنه يقول للمجلس: "نفذني لأني برنامج الحكومة" ثم يستشهد ببرامج الأنصار التي تشهد له (وقد قرأنا منها ثلاثة). أما إذا كان الأمر هكذا فهو أكبر دليل على أن الحكومة لا تنوي الفصل، وإنما تنوي ضده، وما هذه الحركة الجديدة منها إلا فعلة من فعلاتها المعروفة التي تذرّ بها الرماد في العيون، وتطيل بها العلل، حتى تجلب للعاملين الملل.
نذكّر المجلس بأن الفصل مقرّر في صُلب الدستورين الفرنسي والجزائري، فليس له ولا من وظيفته النظر فيه، ونحذّره من هذه الأحابيل التي تلبس الحق بالباطل، فتخيّل إليه أن هذه الكيفية فصل، وما هي إلا الوصل القديم أعوزته شهادة رسمية قانونية، فجاء يلتمسها من المجلس بالحيلة ...
...
أما نحن فما زلنا في هذه القضية على مذهبنا القديم، لم يتغيّر لنا فيها رأيٌ، ولم يتجدّد لنا فيه نظر، وأنَّى يتغيّر الرأي أو يتجدّد النظر في قضية دينية إلهية، تضفي على كل ملابساتها لبوس الدين الذي لا تغيّره الأزمنة، ولا تؤثّر فيه الأحداث، ولا تتجدّد فيه النظريات، والدين السماوي كالسماء: علو وصفاء، وظهور بلا خفاء، وحقائق ثابتة، ونسب غير متفاوتة، وحركات منظّمة، وأحكام مقوّمة، فإن خفيت السماء فمن الغيم، وهو من الأرض، وإذا خفيتْ حقائق الدين فمن الجهل أو من الضيم، وهما من سوء العرض، وكما أن السماء نور تحجبه الأرض عن نفسها، فالدين السماوي رحمة يحيلها البشر نقمة وشرًّا بما تكتسب أيديهم من موبقات، وتبتكر عقولهم من ضلالات.
وقد شرحْنا هذه القضية فيما رفعناه إلى الحكومة من مذكرات، وآخرها مذكّرة ماي سنة 1950، وفيما كتبناه على صفحات هذه الجريدة، وإنه لكثير، وبينا الحقائق، وأقمنا(3/183)
الأدلّة، وضربنا الأمثال، وبسطنا الحلول وقرّبناها إلى الأذهان، فكنا في ذلك كله كمن ينادي صخرة صمّاء، فإذا دلّت هذه الحركة القائمة اليوم على أن الآذان تفتّحت لسبب ما فإننا سنلقي فيها اليوم ما ألقيناه أمس.
لم نزل واقفين عند حدود مذكّرتنا في ماي سنة 1950 لم نتقدم عنها ولم نتأخر، فإن كان عندنا جديد، فهو أن كل حلّ يبقي للحكومة أثرًا في شؤون ديننا فهو حل باطل، وأن كل فصل ينطوي على الحيلة فهو- في نظرنا- لغو، لا يقنعنا ولا يرضي الأمّة، وأن كل تشريك للموظفين الدينيين في الرأي والنظر فهو تشريك للحكومة، كما حققناه في تلك المذكّرة.
...
إن الفصل الحقيقي الذي نريده هو تسليم الدين الإسلامي إلى أهله المسلمين، فإن أحسنوا فيه فلأنفسهم، وإن أساؤوا فعلى أنفسهم، كما يفعل المسيحي في دينه، واليهودي في دينه، وكذَب وفجر من زعم أننا دعاة فوضى، وهل في العالم من يمجّد النظام مثل المسلم الذي راضه الإسلام على آدابه وتعاليمه؟ وهل يوجد أحكمُ من ذلك النظام الذي بينّاه وأشرنا به في مذكّرتنا؟ وكذَب وفجر من ادّعى أننا مختلفون في أصل ديننا، فإن كان بيننا خلاف فهو من آثار الاستعمار، لا من آثار الإسلام، والحكومة الاستعمارية هي زارعة الخلاف بيننا، وهي التي تسقيه كلما ذبل، وتغذّيه كلما ضعف، وكذَب وفجر من قال إن جمعية العلماء تريد احتكار القضية لنفسها، وما جمعية العلماء إلا الأمّة المسلمة، وما أعمالها إلا تثبيت الإسلام، والدفاع عنه، فإن وُجد في الأمّة من يخالفها اليوم فسيوافقها في الغد القريب، لأنها تدعو إلى القرآن، وأي مسلم يخالفها في هذا؟ وتدعو إلى سنة محمد، وأيّ مسلم ينكر عليها هذا إلا من ينطق بلسان الاستعمار؟
...
كلّ فصل على دغل فنحن ننكره ونحاربه، وسنتمادى على مقاومتنا له، وسنبقى- كما كنا- عاملين على تحرير ديننا، ننتقل مع خصومنا من ميدان إلى ميدان، حتى نلقى الله أو يحكم بيننا وبينهم بالحق، وهو خير الحاكمين.(3/184)
كتاب مفتوح
إلى الأعضاء المسلمين بالمجلس الجزائري *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أيها السادة:
اسمحوا لنا حين سمّيناكم أعضاء ولم نسمّكم نوابًا فإننا ممن لا يكذب على الحقيقة؛ وكل عاقل يعرف الوسيلة التي تذرّعتم بها إلى هذا المنصب، يستحي أن يسمّيكم نوابًا بمعنى النيابة الذي يعرفه الناس؛ وإنما أنتم أعضاء تألف منها هيكل غير متجانس الأجزاء لا يجمع بينها إلا معنى بعيد، وعاملٌ غريب، ومصلحة ليس لكم ولا للأمّة منها شيء: وإنما أنتم موظّفون، لكم من النيابة لفظها وحروفها، ولكم من الوظيفة معناها وحقيقتها، وما دامت الانتخابات بالعصيّ فأبشروا بطول البقاء في هذه الكراسي.
النيابة وكالة عن جمهور؛ والشرط في الموكل أن يكون حرًّا مختارًا مطلق التصرّف. ولا أجرح عواطفكم بذكر شروط الوكيل؛ فليت شعري إذا قال النوّاب الأحرار: نحن وكلاء الأمّة، ونحن اختارتنا الأمّة. فماذا تقولون؟ ...
إن لكل عيب سترًا يغطّيه. وقد ستروكم بكلمة "مستقل" فما زاد العيبُ إلا افتضاحًا، لأن هذه الكلمة قد وُضعت في غير محلّها.
إن من المناظر التى تثير العبر وتُسيل العبرات في هذه الانتخابات أنكم كنتم تروْن كما يرى الناس صندوقين للانتخاب في قرية واحدة أو شارع واحد يدخل الأوروبي إلى أحدهما منشرحَ الصدر باسمَ الثغر حرّ التصرّف مطلقَ الإرادة والاختيار، فيعطي ورقته لمن شاء، معتقدًا أنه أدّى شهادة خالصة للحق لم يراع فيها إلا مصلحة جنسه ورضى ضميره.
__________
* نُشرت في العدد 33 من جريدة «البصائر»، 26 أفريل سنة 1948.(3/185)
ويدخل العربي إلى الآخر خائفًا وجلًا منزعجًا مسلوبَ الإرادة والحرية لا يرى حوله إلا إرهابًا وسلاحًا وألسنةً تتوعّد، وأيديًا تتهدّد، وأعينًا ترمي بالشرر، ويعطي ورقته لمن يُراد منه لا لمن يريد، إن من يرى هذا المنظر لا يعجب إذا رأى بعد ذلك أن الفائزين في الصندوق الأول نوّاب وإن اختلفوا في المبادئ، وان الفائزين في الصندوق الثاني نوائب وإن سمّوا أنفسهم "مستقلّين".
...
يا قوم: نحن وأنتم من أمّة جرى عليها القدر بأن يفرض عليها الاستعمار كل شيء فرضًا، وأن لا يعتبر رأيها حتى في أمسّ الأشياء بحياتها، وأن لا يسمع لها صوتًا ولو ردّد صداه المشرقُ والمغرب. آية ذلك أن الأحزاب الفرنسية من اليمين إلى اليسار- وشأنها الاختلاف في كلّ شيء- اتفقت على احتقارنا وعدم المبالاة بنا في شيء يخصّنا وهو دستور الجزائر، فوضع كلّ حزب للجزائر دستورًا بنى أصوله وفروعه على ما يوافق هوى حزبه لا على ما يوافق مصلحة الجزائر ورغبة أهلها؛ كأن الوطن موات، وكأن أهله أموات، وكأن تسعة ملايين مسلم كلهم أطفال قاصرون يتحكم في مصالحهم الأوصياء والقضاة وليس فيهم رجل رشيد.
وبين تنازع الأحزاب ومعاكسة الحكومة وُلد هذا الدستور الأبتر الذي أنتم ومجلسكم من ثمراته. ولم يوجد في الدنيا شيء يجمع بين كونه مسخوطًا عليه كأنه نقمة، ومحسودًا عليه كأنه نعمة، إلا هذا الدستور، فما أشبه هذه الأمّة بقول القائل:
"حتى على الموت لا أنجو من الحسد"
وبين سخط الساخط وحسد الحاسد جرت أمور، ونُصبت جسور، وصلتم منها إلى هذه المقاعد؛ فهل أنتم- بعد خمود الفورة والصحو من نشوة الفوز- شاعرون بواجبكم، ومقدّرون لمسؤوليتكم؟
لا نطالبكم بما هو خارج عن نصوص الدستور، فما أنتم لذلك بأهل. وما نحن بالذين نكلّفكم الشطط، أو نطالبكم بما ليس في الطاقة، وأنتم رجال، للوطن عليكم حق الأبوّة، وللأمّة عليكم حق الأمومة؛ فهل أنتم عارفون بحقوق الأبوين؟
إن مَنْ لم يكن منكم عالمًا لن يخطئه أن يكون عاقلًا، ومهما بلغتم من المكانة عند أنفسكم، أو بلغ بكم الحظ عند غيركم، فلن تستغنوا عن وعظ واعظ، ونصيحة ناصح، ولو شئنا أن نلقّنكم درسًا مختصرًا في معنى الشرف والرجولة لقلنا لكم: إنه لا شرف في الوصول إلى ما وصلتم إليه بمثل الوسائل التي وصلتم بها، ولا رجولة لمن يرقص على(3/186)
الأشلاء والدماء والسجن والتغريم؛ ولكننا نعلم أن زماننا أملكُ بأحوالنا، وأن أحوالنا أشبهُ ببعضها من الغراب بالغراب، فلا نستنكر على مَن فرض الدستور أن يفرض رجاله، ولا على من ضيّق نصوصه أن يضيّق مجاله، ولا على من استعمل الإكراه في الدين، أن يستعمل الإكراه في الدنيا؛ وقبل النيابة كانت الإمامة، وقبل جحا كان أبو دلامة، ولعلّكم تعلمون ما ورد في من أمّ قومًا وهم له كارهون، وعلى الائتمام به مكرهون ...
إن هذا كله لا يمنعنا من تأدية ما في ذممنا من واجب النصيحة. فاذكروا قبل كل شيء أن "الأصوات" التي وصلتم بها إلى هذه المقاعد هي أصوات إخوانكم المسلمين. تقولون إنها جاءت عفوًا من غير ظلم، وتقول الحقيقة إنها كانت عدْوًا بغير علم. وليست أصواتَ اليهود والإسبان، والفرنسيين والطليان، فكل جنس ألزم طائرَه في عنقه؛ ولو أن أحب الناس فيكم، وأحوجهم إليكم، وأعظمهم مصلحةً في وجودكم، أراد أن يرفعكم على أعناق غير أمّتكم لما استطاع، ولو استطاع لما سمحتْ نفسه بذلك، لأنكم- وأمّتكم معكم- أحطّ قدرًا في نظره من ذلك، فاذكروا حقوق أمّتكم عليكم في النهايات، إن لم تذكروها في البدايات، واذكروها في النتائج وإن أغفلتموها في المقدّمات، واذكروها عند اقتسام المصالح لعلّها تغفر لكم بعض السيّئات.
...
إن دينكم ودين أمّتكم الإسلام، وقد عدَتْ عليه عوادي الاستعمار، فابتلع أوقافه، واحتكر التصرّف في مساجده ورجاله، وتسامح مع الأديان كلها فبت حبلها من حباله إلا مع الإسلام، وقد طالبت الأمّة بفصل دينها عن الحكومة كما انفصلت الأديان، وبتسليم مساجدها وأوقافها إلى يدها لأنها أحقّ بتسييرها والتصرف فيها، ولأن الإسلام نفسه يوجب عليها ذلك، كما طالبت بفصل القضاء الإسلامي- وهو جزء من دينها- عن القضاء الفرنسي، لأنه لا يتحاكم إليه إلا المسلمون فيما هو من خصائصهم، كما طالبت بحريّة الحج لأنه ركن من أركان دينها لا تتمكّن من إقامته على وجهه إلا إذا كان مطلقًا من القيود.
طالبت الأمّة بهذا الأصل الذي هو "الفصل" وبجميع فروعه المذكورة، وألحّت في الطلب، واختارت المناسبات، واستعملت الوسائل، فما كانت تلقى إلا الآذان الصمّاء، والوعود الجوفاء، إلى أن فرض عليها "دستور الجزائر"، فجاء بمادة صريحة في فصل الإسلام عن الحكومة الجزائرية، وكان النص على ذلك صريحًا لا يقبل التأويل، ووكل تنفيذ ذلك إلى المجلس الجزائري، ونحن نعلم أن هذه القضية ستعرض على المجلس، وأنه صاحب الاختصاص فيها، والمسؤولية عنها، وأن الحكومة ستريدكم على إبقاء ما كان على ما كان،(3/187)
أو تعرض عليكم حلولًا لا تحقق رغائبَ الأمّة، أو برنامجًا من سلالة الدستور، فيه من مشابهه النقص والتشويه، فماذا أنتم صانعون؟ إن المسألة مسألة دين وأمّة، وإن الأمّة بالمرصاد، وإن جميل الحكومة معكم لا يكون ثمنه مقتطعًا من حساب القضية الدينية.
وإن لغتكم العربية مصفدةٌ بالسلاسل والأغلال من القوانين والقرارات، وإن مدارسها- على ضعفها وقلّتها- معرّضة للإغلاق. وإذا كانت اللغة سائرةً إلى المحو والاندثار بسبب هذه التضييقات فإن النتيجة الحتمية لذلك هي محو الدين واندثاره لأنها الوسيلة الوحيدة التي يتوتف عليها حفظه وبقاؤه.
أتدرون لماذا أوقف البرلمان الفرنسي تنفيذَ قانون الفصل عليكم، مع أنه لو تولّى تنفيذه لأراح واستراح؟ إنها لعبة شيطانية بكم من دهاة الاستعمار، إنها توريط لكم، إنهم يريدون أن يحرّكوا النار بأيديكم، إنهم كانوا على اتصال بالحكومة الجزائرية، وكانوا على ثقة من أن المجلس الجزائري سيتمّ كما يريدون- وقد تمّ كما أرادوا- وأنهم لا ينتخبون له إلا كل سامع مطيع، وأن الحكومة الجزائرية ستوحي إليهم بأن لا يرضوا بفصل الدين عنها فتكون النتيجة التي تذيعها فرنسا في العالم أن المسلمين هم الذين لم يرضَوا بانفصال دينهم عنها، فتفوز مرّتين، ويخسر المسلمون شيئين: الدين والسمعة.
إن هذه المكيدة ستلصق بكم سبة الدهر وستجعلكم أشأمَ على جنسكم ودينكم من عاقر الناقة.
...
إن أقوامًا قبلكم وصلوا إلى ما وصلتم إليه، وارتقوا على اكتاف الأمّة إلى كراسي النيابة ولكنهم خانوا العهد وأضاعوا الحقوق، فسجّل عليهم التاريخ خزي الأبد وكلة المقت، فحذار حذار أن تكونوا مثلهم.
وفي الماضي لمن بقي اعتبار، وإن أيام النيابة معدودة فاعمروها بالصالح الباقي.(3/188)
كلمتنا عن الأئمة *
كتبنا في العدد 139 من «البصائر» كلمةً عن الأئمة الحكوميين، وبينا حكم الله- المبني على حكمته- فيهم، ثم شرحنا تلك الكلمة بكلمة ثانية في العدد 140، ثم وضّحناها بكلمة ثالثة في العدد 142، ثم سمعنا هيعةَ المغرب الأقصى فطرنا إليها خفافًا، ووافيناها مع الصبح سراعًا، وشغلنا عن واجب مهم بواجب أهمّ، ووصلنا جهادًا بجهاد، من غير أن نخرج عن دائرة الدفاع عن الدين، ومن غير أن نخسر واحدة من الحسنيين، وإذا كانت «البصائر» قد لقيتْ مصرعها في المغرب فتلك غاية الجهاد، وتلك عاقبة كنا نقدّرها، ولا نحذرها؛ وحسب هذا القلم شرفًا أن يطولَ بالحق قصرُه، وأن تحشرَ مع سيوف الفتح كِسَره، ولا نامت أعينُ الجبناء.
وها نحن أولاء نعود إلى الميدان الأول أوفرَ ما نكون نشاطًا، وأكثر ما نكون اغتباطًا، فقد كانت هذه الفترة كافيةً لاختمار تلك الكلمات عن الإمامة في الأذهان، ولتعرف المدى الذي وصلتْ إليه هذه الأمّة من تفهّم الحقائق الدينية العليا، فطالما شغلتهم الظواهر عن تلك الحقائق، وطالما ألهتهم القشور عن اللباب، وطالما غرّهم بالله ودينه الغرور، وطالما دسّ لهم الاستعمار السم في الدسم.
وانتهى إلينا من تسقط الأخبار، وقصّ الآثار، أن الأمّة كانت بعد تلك الكلمات أزواجًا ثلاثة: فأما الذين استنارت بصائرهم، وآمنوا بأن الدين لله، وأن بيوته لا يعمرها إلا من خشي الله، وأن تراث الإسلام لا يرثه إلا المسلمون فزادتهم تلك الكلمات إيمانًا بذلك واستبصارًا فيه وثباتًا عليه؛ وأما العوام المغرورون بالمداورة، والأتباع المجرورون بالمجاورة، فقد نقلهم صدى تلك الكلمات من رتبة اليقين بصحة الباطل، إلى رتبة
__________
* نُشرت في العدد 153 من جريدة «البصائر»، 30 أفريل سنة 1951.(3/189)
الشك فيه، فهم يتساءلون، ثم تغلبهم العادة فيتساهلون، وأما الذين في قلوبهم مرض من الأئمة وأتباعهم، والمتشوفين إلى الوظائف من أشياعهم، فزادتهم مرضًا إلى مرضهم، وأصبحوا يخطبون بسبنا، والعاقل فيهم من يعرّض بذلك ولا يصرّح، وفزعوا إلى الفقه اللفظي، يقلّبون أوراقه ويستنجدونه ويستذرون منه بالكنف الذي لا يحمي، كأننا حين كتبنا تلك الكلمات كنا نجهل كلام الفقهاء في صفات الإمام وشرائط الإمامة وجوبًا وكمالًا، وكأننا كنّا غافلين عن أئمة صقلية والأندلس في فورات التغلّب، أو جاهلين بمعنى العبارة التي يردّدها المؤرّخون وهي "أن العدو أبقى لهم دينهم"، فإن معناها أنه أبقى لجماعة المسلمين التصرّف التام في دينهم، ومنه تولية الأئمة، وكأننا كنا بمنزلتهم في الجهل بأن الفقهاء إنما يذكرون الشروط الجزئية (الشخصية) وأما الكليات فتفهم من فعله - صلى الله عليه وسلم - وعمله، ومن مقاصد الشريعة العامة، ومن الحكم المنطوية في تلك المقاصد، ومن تلك الكليات أن الإسلام شرطٌ أولي في المولي (بالكسر) وفي المولّى (بالفتح) وأن الأول يكون أعلى قدرًا وأرفع منزلة في الإسلام من الثاني، ذلك أن المولّي للإمام هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو نائبه وهو الخليفة، أو نائب الخليفة وهو الأمير، أو نائب الأمير، وهم جماعة المسلمين مجتمعين، وهؤلاء كلهم أعلى منزلة في الإسلام من الإمام، وما كانوا كذلك إلا بحكم الإسلام، فهل هؤلاء الأئمة مع من ولّاهم بهذه المنزلة؟ وهل يرضى منهم الإسلام أن يكونوا بهذه المنزلة؟
إن الإسلام لا يرضى للإمام الذي نصبه "شفيعًا" للمصلّين أن ينقلب فيصبح "متشفّعًا" لنيل الإمامة بمن لا يدين بالإسلام، بل بمن يهين الإسلام.
على أن الشرائط التي يذكرها الفقهاء في الإمامِ كلها حجة على هؤلاء الأئمة بألفاظها ومعانيها وحقائقها ومراميها، وكلّها عناوين على معادن من قوّة النفس والروح والعقل، ورموز إلى مراتبَ عليا مما يتفاوت فيه الناس حتى تصحّ إمامة واحد منهم، ولا تصحّ إمامة الآخر.
فهم يشترطون الإسلام، وهم يعنون به نوعًا يناسب هذه المرتبة الشريفة، وهو بالضرورة أعلى مما يشترط في الشاهد أو المذكي أو راعي الغنم، وهم يشترطون الذكورة، وهم يعنون بها الرجولة، ومغزاها في لغة الدين وفي لغة التخاطب مغزًى بعيد، يرجع إلى كمال الإنسانية، وهم يشترطون الفحولة، وهي تكميل لصفة الرجولة وقوّة لها، وهم يشترطون الحرية، ومعناها الجامع يتألّف من مجموعة فضائل، من استقلال الفهم واستقلال العلم واستقلال الفكر واستقلال الإرادة، والخلو من أنواع الاسترقاق كلها، وإن منها لما هو شرّ من استرقاق البدن بدركات، وحسبك باسترقاق الروح نقصًا، وحسبك به قادحًا في الإيمان فضلًا عن الإمامة.(3/190)
فهل توفّرتْ هذه الشروط الفقهية في هؤلاء الأئمة حتى تكون إمامتهم صحيحة؟ أم هم يحسبون أن دين الله ألفاظ مما يتعايش به الناس في البيع والشراء، أو مما يتحاسبون به من الأعداد المسرودة، تعد عشرةً فإذا هي عشرة؟
إن في الفقه فقهًا لا تصل إليه المدارك القاصرة، وهو لباب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه؛ وهو الذي ورثه عنه أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين؛ وهو الذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به؛ وهو الذي يجلب لهم عز الدنيا والآخرة، وهو الذي نريد أن نحييه في هذ الأمّة فتحيا به، ونصحّح به عقائدها، ونقوّم به فهومها، فتصحّ عباداتها وأعمالها، فإن العبادات هي أثر العقائد، كما أن الأعمال هي أثر الإرادات، وما يبنى منها على الصحيح يكون صحيحًا، وما يبنى على الفاسد فهو فاسد.
إن الإسلام إنما شرع العبادات لتكون شواهدَ وبيّنات على العقائد الإيمانية، ثم جعل المسجد بيته ليكون مظهرًا لتلك الشهادة، فكل ما يقع فيه من صلاة واجتماع لها، ومجالس مدارسة وخطب، فهو إعلان لتلك الشهادة، وكل ما يتصل به من محراب ومنبر ومئذنة وإمام فهو مؤدّ لتلك الشهادة، فيجب أن تتظاهر هذه الأشياء كلها على الحق، وأن يكون بناؤها على أساس الحق، حتى تكون شهادتها حقًّا على عقائد الحق.
وإن كل ما يؤدّيه المسجد- في حكمته الإسلامية- هو إقامة لدولة القرآن، وتشييد لمدرسة القرآن، ورفع لمنارة القرآن، وكل مختلف إلى المسجد مقيم لحقّه وحق الله فيه، فهو "خرّيج" مدرسة القرآن، و"خرّيجو" هذه المدرسة هم الذين قوّموا عوج الكون، وعدلوا ميل الزمان، وكانوا في هذه الدنيا نورًا ورحمة.
وإن المسجد لا يؤدّي وظيفته، ولا يكون مدرسةً للقرآن، إلا إذا شاده أهل القرآن، وعمروه على مناهج القرآن، وذادوا عنه كل عادية، وما جعل القرآن المساجد لله إلا لتكون منبعًا لهدايته، وما وصف الذين يعمرون مساجد الله بأنهم لا يخشون إلا الله، إلا ليقيم الحجة على ضعفاء الإيمان ويعزلهم عن هذه المرتبة.
وصدق الله، وصدق رسوله الذي وصف القرآن بأنه "لا تنقضي عجائبه". فوالله لكأنَّ هذه الجملة: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} من هذه الآية، بهذا الأسلوب، المفيد للحصر بأبلغ صيغه، نزلت اليوم، وهّاجةً بأنوار الرسالة، مطلولةً بأنداء الوحي، لتكون حجّتنا القاطعة على هذا النمط من عمار المساجد، الذين يخشوْن المخلوق، ولا يخشوْن الله، ولو كانت شرائط الإمامة- حتى التي يذكرها الفقهاء- متوفرةً فيهم، لما أسخطوا الله بإرضاء الاستعمار ... وليكذبونا بموقف واحد أرضَوا به ربهم، وأسخطوا الحكومة ... إنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا، ما دام أمر توليتهم في يديها.(3/191)
إن هذه الظواهر الغرّارة التي أبقاها الاستعمار من الأسماء والصفات والهيئات، لا تحجب عنا الحقيقة، ولا تسكتنا عن كلمة الحق فيها، وهي أن تولية حكومة غير مسلمة لأئمة المسلمين، إفسادٌ للدين، وإبطالٌ للعبادات، لأنها نسخٌ لأحكام القرآن، وتعطيل لحكمته، وإطفاءٌ لروحانية الإسلام في نفوس طائفة أخذ عليها العهد أن تنشرَ هدايته، وتنطق باسمه، وتتقدّم الصفوف للدفاع عنه، وإن الرضى بهذه الحالة إقرار للإفساد، وإعانة عليه.
إن للاستعمار في إفساد العقائد والأديان طريقةً هو فيها نسيج وحده. يعمد إلى الأسماء فيبقيها ويثبتها، وإلى الظواهر فيسبغ عليها ألوانًا تجعلها قائمة الذات في رأي العين، جميلة الوضع في حكم الذوق، محتفظة بالمقوّمات السطحية في لمس اليد، ثم يعمد إلى الحقائق والمعاني بوسائل المنوّم والساحر فيمسخها ويغيّرها ... هل رأيت الجوزة المؤوفة (1)؟ ... إن رأيتها رأيت ظاهرًا جميلًا، وقشرةً صلبة، ثم تكسرُها فتجد نخالة مما أسأر الدود، أو سوادًا مما فعل الماء المتسرّب، وهي- مع ذلك- جوزة تشترى، ويُدفع فيها الثمن، وتُقدّم تكرمةً للضيف ... وذلك شأن الاستعمار في رجال الدين منا ...
أيها القوم، لسنا لكم خصومًا، وإنما نحن نصحاء، ولا خصم لنا في القضية إلا الاستعمار. إننا نريد تحريركم، وتصحيحَ بنائكم، وإرجاعكم إلى الله، وتقويةَ صلتكم بالأمّة التي تصلّي وراءكم، حتى تكونوا شفعاءها إلى الله، وإن نزاعنا مع الاستعمار في ميدان من صميم الدين، فلا تقفوا في طريقنا، ولا تكونوا عونا له علينا، وإننا لا نسكت حتى نؤدّيَ حق الله فيه، وفيكم إن أبيتم إلا ذلك ...
أنصفونا ولو مرّة واحدة، أيكون شفيعًا للمسلمين عند ربّهم من يصلّي (للبايليك) (2) ويقرأ الحزب (للبايليك) ويتردّد على أبواب الحكام ... لغير حاجة؟ ...(3/192)
وشهد شاهد *
شهادة الشيخ بيرك على "رجال الدين"
ــــــــــــــــــــــــــــــ
في أيام الحملة الكبرى على الحكومة، وكتابة تلك السلسلة الوثيقة الحلقات من المقالات، في قضية فصل الحكومة عن الدين، ظهر "رجال الدين" بمظهر مناقض للدين، فكشفوا الستر عن حقيقتهم المستورة، ووقفوا في صف الحكومة مؤيّدين لها، خاذلين لدينهم وللمدافعين عن حرّيته، مطالبين بتأبيد استعباده، عاملين بكل جهدهم على بقائه بيد حكومة مسيحية تخرّبه بأيديهم، وتشوّه حقائقه بألسنتهم، وتلوّثُ محاريبه ومنابره بضلالتهم ... وتمسخ أحكامه بفتاويهم، وقد أخذوا في الزمن الأخير ببعض مظاهر العصر، وتسلّحوا ببعض أسلحته بإملاء من الحكومة للدفاع عن الباطل، فكوّنوا جمعية، وأنشأوا مجلة، وجهّزوا كتيبةً من الكتاب يقودها أعمى، خذلانًا من الله ليشترك عاقلهم وسفيههم في هذه المخزيات، بحكم العضوية في الجمعية، والاشتراك في المجلة، بعد ما كانوا يعملون فرادَى، فيمتاز البريء منهم من المجرم، ولو في دائرته الضيّقة وبين أهله وجيرانه.
دافعناهم- عندما ظهروا بذلك المظهر- بالحق فركبوا رؤوسهم، فتسامحنا قليلًا إبقاءً على حرمة المحراب والمنبر التي انتهكوها، فتشدّدوا إبقاءً على "حرمة" الخبزة، فكشفنا عن بعض الحقائق المستورة فلجّوا وحاصُوا، وثاروا وخاروا، فلما عتوا عن أمر ربّهم رميناهم بالآبدَة ... وهي أن الصلاة خلفهم باطلة ... لأن إمامتهم باطلة ... لأنهم جواسيس ...
...
__________
* نشرت في العدد 177 من جريدة «البصائر»، 17 ديسمبر سنة 1951.(3/193)
فعل ذلك الحكم الصادر فعله في نفوس القوم، وكان وقعه فيها أليمًا، وهم أول من يعلم أنه حق، ولكنهم كانوا يسترونه بظواهرَ كاذبة، معتزّين بقوّة الحكومة مغترّين بغفلة الجمهور الذي يغشى المساجد، آمنين أن تقال فيهم كلمة الحق الفاصلة.
وكان تأثير ذلك الحكم في طبقات الأمّة بحسب درجاتها في الفهم ذكاءً وغباءً، وبحسب حالاتها في الحكم على الأشياء صراحةً ونفاقًا، وعلى قدر تأثّرها بالدين احتياطًا وتساهلًا، فأما الأذكياء الصرحاء المحتاطون فأقلعوا عن ائتمام يقودهم إلى غضب الله، واستشفاع يجرّهم مع الشفعاء إلى الدرك الأسفل، وأما غيرهم فقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمّة، ووجدناهم يأتمون بهذا الصنف من الأئمة، وأما بعض القَعَدة من الفقهاء الذين لا ينصرون حقًّا، ولا يخذلون باطلًا فلبسوا لبوس القاضي أبي الحسن النباهي الأندلسي في موقفه من لسان الدين ابن الخطيب حين ألّف كتابه في ذم الوثيقة والموثقين ... فتناجَوا بالإنكار علينا، ودافعوا عن هذه الطائفة بما هو أنكى فيها، وأشنع من السب الصريح، وهو "إبقاء الستر مسدولًا على الختر" وهم يعلمون أنه لا تستر إلا العورات، فالقوم- في نظر أنصارهم من الفقهاء- عورات يجب أن تستر، وهكذا تكون النصرة، وهكذا يكون الدفاع.
وما كانت تلك الآبدة التي رميناهم بها من آثار لجاج الجدل المحتدم، ولا كانت سلاحًا مدخرًا لآخر المعركة، ولا كانت منا خطرةً عارضة، ولكننا كنا فيها على يقين من أمرنا، وعلى بيّنة من ربنا، وعلى علم ضروري بما يجري من الفضائح التي رتّبنا عليها ذلك الحكم، فالوظيفة الدينية الإسلامية أصبحتْ عند الحكومة- بتهافت هؤلاء القوم عليها- مشروطةً بالجوسسة، والقوم أصبحوا بها جواسيس على الأمّة على حساب دينها، إلا القليل، ولا حكم للقليل.
ونحن لم نستثن هذا القليل من ذلك الحكم، لأنه إذا حافظ على شرف نفسه في نظرنا ونظر الناس، وعُرف بتوفر شروط الكمال عندنا وعند الناس، فبماذا يتحصن أمام الحاكم حين يريده على شيء مما ينافي الشرف، ما دام عزله وولايته بيده؟
إن كلامنا على عمومه، في الوظيفة على عمومها، لا في الموظف، وما دامت الجوسسة في حكم الحاكم من لوازم هذه الوظيفة، وفي ترجيح طالب على طالب، فلا معنى للاستثناء، ولا قيمة عند الله لاستقامة لم تربأ بصاحبها عن طلب وظيفة دينية من حكومة معتدية على دينه.
كلامنا في أصل القضية، وهو غير قابل للاستثناء، ولا كلام لنا في الفضل والعلم والاستقامة، فنحن أعرفُ الناس بأهلها، وبحظوظهم من العلم أو الفضْل، ولكنهم مغمورون بهذه الطائفة كلها، فليقصر اللائمون لنا على التعميم، وليعرفوا هذه الحقيقة، ولينصفوا الدين قبل الأشخاص إن كانوا مؤمنين، ونحن نرى أن هذه القلّة المحتمية بالفضل غير محمية من غضب الحاكم عليها، واحتقاره لها، ومن إهماله إياها في الاعتبار والمنزلة.(3/194)
ولحا الله هذه الوظائف، فكم كانت سببًا في إفساد الدين، وفي تخريب الدنيا، وكم جرّ التكالب عليها إلى تفريق شمل، وتمزيق وحدة، وإذا كان هذا في الوظائف الدنيوية سيئًا، فهو في الوظائف الدينية أسوأ، وإن البلاء المنصبّ على جامع الزيتونة لآتٍ- في معظمه- من هذا الوادي.
...
وما زلنا نشهد من صنع الله في نصر الحق أنه يأتي ببيّناته وحججه من حيث لا يحتسب أهله، وينتزع الشهادة له من أعدائه من حيث لا يشعرون، كما ينزل النصرَ على عباده المؤمنين بعد أن يستيئسوا؛ فقد عثرنا في الأسابيع الأخيرة على مقال للشيخ "بيرك" مدير الشؤون الأهلية بالولاية العامة بالجزائر أثناء الحرب الأخيرة، نشرته مجلة "البحر المتوسط" الفرنسية التي تصدر بالجزائر في جزئها الحادي عشر، الصادر عن شهري جويليه- أوت من سنة 1951 شهد فيه كاتبه المتخصص في شؤون هذه الطائفة بحقيقتها، ووصفها بصفات أهونها هذه الصفة، وهي الجوسسة، التي كنا نستحي من وصفهم بها لو لم يحرجونا.
والشيخ "بيرك " رجل إداري، شابَ قرْناه في الوظائف الإدارية الخاصة بالمسلمين، وكانت خاتمة تلك الوظائف إدارة الشؤون الأهلية المعروفة في تاريخ الاستعمار بأقطابها: لوسياني، وميرانت، وميو، وبيرك، وما منهم إلّا له فيها مقام معلوم وتصرف مذموم، وله من تمكين أوضاعها جزء مقسوم ... وهذه الإدارة هي مرجع رجال الدين في التوْلية والعزل، والتيسير والتوجيه، ومنها يتنزّل الرضى والسخط عليهم، فالشيخ "بيرك" كان رئيس القوم وموجّههم ومربّيهم ومكمّلَ ما كان ناقصًا فيهم من رسوم الخضوع والامتثال المطلق، وقد لابسهم ولابسوه، وعرف مداخلهم ومخارجهم، وأكمل تربيتهم و"تسليكهم"؛ فإذا شهد عليهم بشيء فهي شهادة عيان، وإذا وصفهم بنقيصة فهي من صنع يده فيهم.
عنوانُ هذه القطعة التي قرأناها من كلامه، واقتطفنا منها هذه الشهادة "العلماء والمرابطون" (1) وقد كتبها سنة 1946، فهو قد كتبها في أخريات أيامه، وضمّنها شيئًا من
__________
1) هذه الكلمة شائعة في المغرب العربي وقصرها في الجزائر، وأصلها منحدر من مرابطة الثغور يوم كان لهم شأن في سداد الثغور التي يطرق منها العدوّ، وكانوا لا يرجعون إلى حكومة ولا نظام، وإنما كانوا يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ثم انتقل هذا الاسم إلى العباد المنقطعين لعبادة الله في الجبال والمغاور، وفي هذه الأزمنة المتأخرة أجمعت العامة على أن تطلق هذا الوصف على كل درويش وكل دجّال وكل مشعوذ بالنسب أو بالدين، ولا يطلقها العوام على العلماء، ولما قامت جمعية العلماء استنجد بهم الاستعمار لحرب الجمعية ولكن الله خذلهم جميعًا.(3/195)
تاريخ حركتنا، وآراءه، فينا وفي غيرنا، فجاءت هذه الشهادة التي نقلناها من كلمته وكأنها وصية محتضر، يعترف بالخطأ، وينعى على حكومته سوءَ تصرّفها، ويُنذرها عواقب هذا التصرف، ويقول كلمة الحق في هذه الطائفة، وكأنه يقول كلمة الحق في نفسه ...
لا يهمّنا ما قاله عنا وعن حركتنا، ولا تهمّنا أغلاطه العلمية في أطوارها التاريخية، ولا تهافُت استنتاجه في القضايا الإسلامية، ولا جعله للجزئيات كليات، شأن الكتّاب الغربيين حين يكتبون عنا، وإنما يهمّنا من "مقاله" رأيه في أصحابه وصنائعه رجال الدين، الذين ذمّهم بما كان يمدحهم عليه، ووضعهم في مرتبة دنية، بالأعمال التي كان يرشّحهم بها للمقامات العلية.
قال ما ترجمته الحرفية:
"إن خطأنا الفاحش في سياستنا الدينية منذ عشرين سنة، هو أننا تساهلنا في وجود موظفين دينيين في المساجد، يسيطر عليهم الجهل المركّب والطمع وعدم التهذيب، ولا حدّ لرغباتهم في أن يُحمدوا بما لم يفعلوا.
فعدم الكفاءة، والمبالغة في الخضوع والانقياد، هي الشهادات الوحيدة التي يمكن لهم أن يعتزّوا بها.
لقد رأينا مفتيًا يستفتي الطيب العقبي في موضوع صبياني، حكم فيه علماء الدين أكثرَ من مائة مرّة، لكن هذا المفتي كان جاسوسًا مخبرًا للبوليس، كما سمعنا أحد الموظفين الدينيين في مؤتمر عام يظهر فكرًا من الأفكار البالية التي يمجّها الذوق، حتى انفجر زملاؤه التونسيون والمغاربة ضحكًا لم يستطيعوا له دفعًا، لكن هذا الموظف الديني ممن لا يكادون يفارقون مكاتب البوليس، ورأينا أحد الحزابين لم تمكّنه معلوماته القرآنية التافهة من اتقاء أغلاط في الحفظ والتجويد لا تصدُر عن أقلّ المسلمين علمًا، لكن هذا الحزاب كان عونًا مأجورًا للانتخابات.
وهكذا ظهرَ في "الإسلام الجزائري" مراؤون لا همّ لهم سوى الامتثال إلى الظاهر من الأوامر، وزنادقة (يدافعون عما احتكروه من امتيازات)، ولا يقيمون لكبريات المشاكل وزْنًا، فأغلبيتهم مارقون من الدين جهلًا أو قلة إدراك.
وهكذا شاركنا في انحطاط "هيئتنا الدينية الإسلامية" معجّلين بإذلالها ... هذا هو الخطأ الكبير، والذنب الذي لا يغتفر، وإنا لنؤدّي اليوم ثمنه غاليًا".
(مقتطف من مجلة "البحر المتوسط"، جزء11، جويليه - أوت 1951).
هذه شهادة الرجل في أصحابه، ولا يستطيع أحدٌ تجريحها، لأنها شهادة صاحب في أصحابه، في شيء من صميم الصحبة الجامعة بينهم، ومن صلب الموضوع الذي كانوا مصطحبين عليه، ويا ليته زاد في التمثيل للوقائع الشخصية سرقة أكفان الموتى يوم كانت(3/196)
الأكفان "مقسطة"، فقد سرق إمام قماش الأكفان، فلما تحقّقت التهمة رفعته الحكومة من منصب إمام إلى منصب مفتٍ ...
...
نعجب- أولًا- لاختيار القائمين على المجلة نشر هذا المقال في هذا الوقت، وفيه هذه الشهادة الصريحة، ونعجب- ثانيًا- كيف لم ينشره الكاتب في حياته؟ وكيف لم يسعَ في إصلاح هذه الحالة التي صوّرها، يوم كان يملك الإصلاح؟ وكيف لم يغيّر هذا المنكر حين كان قادرًا على تغييره بعد ما عرف الخطأ وغلاءَ ثمنه؟ ... ولقد عرفْنا هذا الرجل ولقيناه وفاوضناه مفاوضات رسميةً- بحكم منصبه- في قضية فصل الدين، وفي حرية التعليم العربي، فلم نر منه إلا مدافعًا عن الاستعمار وأوضاعه، ولم نجد منه تساهلًا في القضيتين، ولا اعترافًا بحقنا فيهما، وإن كان يحسنُ الإصغاء لكلامنا، ويُظهر التسليم لحججنا.
إننا نرسل إليه- وهو في العالم الآخر- شكرنا، لا على هذه الفضيحة التي نخجل منها قبل أن يخجل هؤلاء القوم الذين صلبتْ على عضّ الهوان جلودهم، وإنما نشكره على أن وضع في أيدينا الحجة القاطعة على ما نتهم به هذه الحكومة- صراحةً- من أنها عاملة على إفساد الإسلام بإفساد رجاله ... وكفى بكلام هذا الرجل دليلًا لنا، وحجّة عليها.
وإن في الجمل التي نقلناها من مقاله كلمتين، كل واحدة منهما حجة لنا في جميع ما كتبناه، وأدرنا عليه كلامنا في الحكومة وفي هذا الموضوع، الأولى تصريحه بالإسلام الجزائري: L'Islam algérien، والثانية نسبته الهيئة الدينية الإسلامية إليه وإلى حكومته، في قوله: Notre clergé musulman ومن قرأ مقالاتنا في الموضوع، عرف موقع هاتين الكلمتين، وأثرهما البليغ في تصديق اتهاماتنا للحكومة، وأننا لم نكن متجنّين ولا مبالغين.
...
والآن أوجه الخطاب إلى المشهود عليهم، وكأنه ليس في الميدان إلا أنا وهم، فأقول:
أيها السادة: لقد أقمتم عليّ القيامة يوم كتبت فيكم ما كتبت، ولم أصفْكم إلا ببعض ما وصفكم به الشيخ "بيرك"، وثارت ثائرتكم عليّ، ورميتموني بالعظائم، وأطلقتم العنان لألسنتكم العيية، وأقلامكم المفلولة، فنضحتْ بسبي، ورشَحت بثلبي، ولم تتركوا سبيلًا للتأليب عليّ والإغراء بي إلا سلكتموه، فأين أنتم اليوم؟ وأين حميتكم في الانتصار للكرامة الشخصية؟ ولا أقول: لكرامة الإسلام، فقد برّأتم أنفسكم منها.(3/197)
كنت وصفتكم ببعض هذه الصفات تفاريق، وقد جمعها الشيخ "بيرك " ووصفكم بها جملة، وإن التفاريق لأخف وقْعًا من الجملة، وأنا اليوم حي وهو ميت لا ترجون رحمته ولا تخافون بطشه؛ فما لكم لا تثورون عليه بعضَ ثورتكم علي؟ وما لكم لا تحشدون الأنصار للرد عليه ونقض كلامه؟ ...
الحجة قائمةٌ عليكم، ولكن أحد مقيميها اسمه "محمد البشير" والآخر اسمه "أوغستان بيرك " وهذا وحده عند الجبناء أمثالكم كاف في ثورتكم عليّ، وسكوتكم عليه.
لتعلموا أن قعودكم عن نقض شهادته عليكم، هو آخر الشهادات وأقطعها على أن كل ما قاله فيكم حق وواقع، وأنكم جواسيس ... وأن الصلاة خلفكم باطلة ...(3/198)
جمعية العلماء
وحرية التعليم العربي
وحرية الصحافة العربية
ورفع القيود والقرارات الموضوعة للتضييق عن التعليم العربي
ــــــــــــــــــــــــــــــ(3/199)
إلى أبنائي الطلبة
المهاجرين في سبيل العلم *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أوجه النداء إلى جميع أبنائنا المهاجرين إلى الشرق العربي، أو إلى أطراف المغرب العربي، أو إلى أوربا، ثم أخصّص المهاجرين إلى تونس لأنهم كثرة، ولأن في أحوالهم لغيرهم عبرة.
إنكم يا أبناءَنا مناطُ آمالنا، ومستوح أمانينا، نعدكم لحمل الأمانة وهي ثقيلة، ولاستحقاق الإرث، وهو ذو تبعات وذو تكاليف، وننتظرُ منكم ما ينتظره المدلج في الظلام من تباشير الصبح.
وإنكم يا أبناءَنا فارقتم الأهل، وفيهم الآباء والأمهات، وفارقتم الديارَ التي خلعتم فيها التمائم، وفارقتم الوطن الذي له على كل حرّ كريم دَين! وفاؤه الحب، وكفاؤه النفع والجميل، وما هوّن فراقكم على آبائكم وهوّن فراقهم عليكم إلا الآمالُ اللائحة لكم ولهم في مستقبلكم، ولما تعودون به من علم يصحبه فخر، وحسنُ ذكر، وطيبُ أحدوثة.
إن آباءَكم يتخيّلون من وراء هجرتكم ما يعود به المجاهد المقدام من أجر وغنيمة، وما يرجع به التاجر المخاطر من أرباح وطرائف.
وإنكم لتتخيلون من وراء هجرتكم- وأنتم في ربيع الحياة- ما يفوق أفوافَ الربيع حُسنًا وجمالًا، ويفوق أزهارَه أريجًا وعطرًا.
وإن الوطن- وهو أبو الجميع- يتطلع من وراء هذه الهجرة إلى إحياء وتعمير وإعادة مجد وبناء تاريخ؛ نحن نعلم أن الأب العامي الفقير حين يرضى بفراق ولده، ويزوّده ببعض ما يملك من قوت العيال الصغار طائعًا مختارًا مطمئنًّا، إنما يفعل ذلك اعتقادًا بأن فعله تكفير
__________
* نُشرت في العدد 9 من جريدة «البصائر»، 3 أكتوبر سنة 1947.(3/201)
عن جريمة الجهل، ومحو لوصمة الأميّة، وتنصّل من ضَعة الخمول، وأن الأب العالم الذي يرضى بذلك ويهون عليه، إنما يفعله معتقدًا أن ولده سيكون أعلمَ منه، وأوسع اطلاعًا، وأنفذ بصيرة على نسبة من زمنه، وتطورات زمنه؛ ولا يعتقد غير ذلك منهم إلا مغرور بنفسه، الجاهلُ أحسن إدراكًا للزمن منه؛ وأن الوطن حين يرضى بخلوّه من أبنائه أنهم ما أخلوْه إلا ليعمروه، وما قطعوه إلا ليصلوه، وما فارقوه شبانًا عزلًا إلا ليعودوا إليه كهولًا مسلّحين بقوة التفكير، تظاهرها قوة العلم، تظاهرها قوة العمل.
يا أبنائي، إذا عرفتم هذا، وعرفتم واجبَ أنفسكم التي تحمّلت الأتعاب، وتجرّعت مرارة الاغتراب، وذاقت طعم الحاجة والشدة، وواجبَ آبائكم الذين غذَوا وربَّوا، وأجابوا داعيَ العلوم فيكم ولبّوا، وواجب الوطن المجدب الذي جعلكم روّاده إلى القطر، وأرسلكم وانتظر، ورجا من إيابكم الحيا والحياة؛ إذا عرفتم ذلك كله، فماذا أعددتم لهذه الواجبات؟
إنكم لا تضطلعون بهذه الواجبات إلا إذا انقطعتم لطلب العلم، وتبتلتم إليه تبتيلًا، وأنفقتم الدقائق والساعات في تحصيله، وعكفتم على أخذه من أفواه الرجال وبطون الكتب، واستثرتم كنوزَه بالبحث والمطالعة، وكثرة المناظرة والمراجعة، ووصلتم في طلبه سوادَ الليل ببياض النهار.
إن أسلافكم كانوا يعدّون الرحلة في سبيل العلم من شروط الكمال فيه، بل كانوا، في دولة الرواية، يعدّون الرحلة للقاء الرجال من شروط الوجوب؛ فكانوا يقطعون البراري والصحارى والقفار، ويلقون في سبيله المعاطب والأخطار، وكانوا يجوعون في سبيله ويعرون، ويظمأون ويضحون، لا يتشكّون الفاقة والنصَب، ولا يعدّون الراحة إلا التعب، ولكنهم لا يضيّعون أوقاتهم- إذا وصلوا إلى أمصار العلم ولقوا رجاله- في مثل ما تضيّعون فيه أوقاتكم من إسفاف ولغو، بل كانوا يحاسبون أنفسهم على الدقيقة أن تضيع إلا في استفادة وتحصيل.
فتعالوا نقارن سيرتكم بسيرتهم، وتحصيلكم، ثم نتحاسب على النتيجة!
كانوا يقيّدون وأنتم لا تقيّدون، وكانوا ينسخون الأصولَ بأيديهم ويضبطونها بالعرض والمقابلة حرفًا حرفًا وكلمة كلمة؛ وأنتم أراحتكم المطابع، ويسّرت لكم الكتب؛ ورُبّ تيسير جلب التعسير؛ فإن هذا التيسير رمى العقول بالكسل، والأيدي بالشلل، حتى لا تجريَ في إصلاح الأغلاط المتفشية في تلك الكتب.
وكانوا يرجعون بالرواية الواسعة والمحفوظ الغزير، وينقلون الجديد من العلم، والطريف من الآراء والمفيد من الكتب، من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، فانظروا بماذا ترجعون أنتم اليوم؟(3/202)
وكانوا ينقطعون عن أهليهم وديارهم انقطاعًا متصلًا يدوم سنوات، وأنتم تزورون أهلكم ودياركم في كل موسم، وفي كل عطلة، ويزورونكم، وتخاطبونهم في اليوم الواحد ويخاطبونكم.
الحقيقة أننا لا نسمّي رحلتنا اليوم رحلةً إلا بضرب من التوسع، كما نسمّي السفر بالطائرة سفرًا، ونضعه بجنب السفر على الإبل.
...
يا أبناءنا، إن الحياة قسمان: حياة علمية، وحياة عملية، وإن الثانية منهما تنبني على الأولى قوّة وضعفًا، وإنتاجًا وعقمًا، وإنكم لا تكونون أقوياء في العمل إلا إذا كنتم أقوياء في العلم، ولا تكونون أقوياء في العلم إلا إذا انقطعتم له، ووقفتم عليه الوقتَ كله، إن العلم لا يعطي القياد إلا لمن مهره السهاد، وصرَف إليه أعنّة الاجتهاد.
لا تعتمدوا على حلق الدروس وحدها، واعتمدوا معها على حلق المذاكرة، إن المذاكرة لقاحُ العلم، فاشغلوا أوقاتكم حين تخرجون من الدرس بالمذاكرة في ذلك الدرس، إنكم إن تفعلوا تنفتح لكم أبواب من العلم، وتلحْ لكم آفاق واسعة من الفهم.
لا تقنعوا بالكتاب المقرّر، واقرأوا غيره من الكتب السهلة المبسوطة في ذلك العلم، تستحكم الملكة ويتسع الإدراك، وسينتهي الإصلاح الذي تقوم به إدارات جامعاتنا إلى اختيار كتب سهلة ممتعة في كل علم، تفرض عليكم قراءتها ومطالعتها، ثم كتب أخرى، في المعارف العامة، كالتاريخ، والأدب، والحكمة، والأخلاق، والتربية، فوطّنوا أنفسكم على ذلك من الآن، وروّضوها على اختيار النافع المفيد من الكتب؛ ومن العار الفاضح أن لا نرى في الكثير من أبنائنا الذين تخرّجوا من الزيتونة، واتّجهوا بفطرتهم إلى الأدب، من استوعب كتاب الأغاني قراءة، ولا في من اتجهوا إلى علوم الدين من استوعب قراءة الصحيحين والسنن؛ ولعمري ما سلاح الأديب إلا الأغاني وأمثاله، ولا سلاح الفقيه إلا تلك الكتب وأشباهها.
لا تقطعوا الفاضل من أوقاتكم في ذرع الأزقة إلا بمقدار ما تستعيدون به النشاط البدني، ولا في الجلوس في المقاهي إلا بقدر ما تدفعون به الملل والركود، ولا في قراءة الجرائد إلا بقدر ما تطلعون به على الحوادث الكبرى، وتصلون به مجاري التاريخ.
خذوا من كل ذلك بمقدار، ووفّروا الوقت كله للدرس النافع والمطالعة المثمرة.(3/203)
لا تعتمدوا على حفظ المتون وحدها، بل احفظوا كل ما يقوّي مادتكم اللغوية، وُيُنمّي ثروتكم الفكرية، ويُغذّي ملكتكم البيانية؛ والقرآن القرآن! تعاهدوه بالحفظ وأحيوه بالتلاوة، وربّوا ألسنتكم على الاستشهاد به في اللغة والقواعد، وعلى الاستشهاد به في الدين والأخلاق، وعلى الاستظهار به في الجدل، وعلى الاعتماد عليه في الاعتبار بسنن الله في الكون.
اتركوا المناقشات الحزبية والخلافات السياسية لأهلها، المضطلعين بها، المنقطعين لها، ودعوا كل قافلة تسير في طريقها، وكل حامل لأمانة من أمانات الوطن مضطلعًا بحملها، قائمًا بعهده فيها، حتى تنتهي تلك الأمانات بطبيعتها إلى جيلكم، فتأخذوها بقوة واستحقاق، واعلموا أن كل مَن يدعوكم إلى ذلك إنما يدعوكم ليضلّكم عن سبيل العلم فهو مضلّ، وكل مضلّ مضرّ؛ أو ليتكثر بكم فهو غاشّ، وكل غاشّ ممقوت، أو ليلهيكم بما لا تحسنون عما تحسنون، فهو ماكر، وكل ماكر ممكور به؛ إن من يريد أن يتكثر بكم لا يتكثر إلا ليقللكم، ولا يتقوّى بكم حسًّا إلا على حساب إضعافكم معنى، فالحذر الحذر! فإن الوطن يرجو أن يبني بكم جيلًا قويّ الأسْر، شديد العزائم، سديد الآراء، متين العلم، متماسك الأجزاء، يدفع عنه هذه الفوضى السائدة في الآراء، وهذا الفتور البادي على الأعمال، وهذا الخمول المخيّم على الأفكار، وهذا الاضطراب المستحكم في الحياة، وهذا الخلاف المستمر على السفاسف، فإذا جاريتم هذه الأهواء المتباينة، واستجبتم لهذه الأصوات المتنافرة، ضيّعتم على الوطن جيلًا، وزدتم في بلائه ومحنته، وأطلتم مدة المرض بتأخير العلاج.
لا يعذلكم في حب وطنكم إلا ظالم، ولا يصرفكم عن إتقان وسائل النفع له إلا أظلم منه، أنتم اليوم جنود العلم فاستعدّوا لتكونوا غدًا جنود العمل.
إن وطنكم مفتقر إلى جيل قويّ البدن، قويّ الروح، مستكمل الأدوات من فضائل وعزائم، وإن هذا الجيل لمنتظرٌ تكوينه منكم، ومحال أن تخرج الحالة التي أنتم عليها جيلًا بهذه الصفات.
إننا نعلم أنكم تنطوون في أيام الطلب على خيالات وأماني من الراحة ورُفهنية العيش، وعلى آمال فسيحة في المستقبل، يوم تنتقلون إلى العمل، وتنتقلون إلى أهليكم تحملون الشهادات والألقاب.
وإن هذا هو منشأ القلق والاضطراب في نفوس الكثيرين من إخوانكم الذين يزاولون التعليم الآن.
فادفعوا عنكم هذه الخيالات، ووطنوا النفوس على أنكم تلقوْن من البلاء والمجهدة في الحياة العملية أضعاف ما تلقون منهما في الحياة العلمية.(3/204)
لا أقول لكم هذا تهويلًا، ولكن أقوله ترويضًا، ومن وطّن نفسه على المكروه هانت عليه الشدائد، ووجد كل شيء ضاحكًا باسمًا جميلًا محبولًا.
ومن تخيّل الراحة وحكم أخيلتها في نفسه، ثم كذبته الآمال كان بين عذابين، أمضّهما كذب المخيلة.
يا أبنائي!
إن الزمن قد وضعكم وضعًا صيّركم جديرين بأن تطلبوا العلم لوجه الله، ولوجه العلم، لا للوظائف ولا للشهادات.
تطلبون الوظائف في تونس، فيحول بينكم وبينها نظام الاحتكار، وتطلبونها في الجزائر فتمنعكم منها سياسة الاستعمار! وربّ ضارّة نافعة!
إذا كانت السياسة الاستعمارية تجعل منكم جزائريين في تونس، ثم تجعل منكم تونسيين في الجزائر، فاطغوا عليها بقوة الإرادة، وبقوة العلم، وبقوة الشباب؛ وكونوا وسطًا عامرًا لا تظهر فيه الجزائرية ولا التونسية، ولا تفترق فيه الأنساب، وإنما تجمعكم فيه العروبة والإسلام، ووطنيتهما العامة؛ وإن هذا الوسط هو الذي يسود في المستقبل القريب، وهو الذي تمحى معه الخطوط الجغرافية، والحدود الوهمية.
لا تستشعروا الغربة فأنتم في وطنكم وبين أهليكم، وفي وطنكم الجامع.
وإن دم الجيل ومزاجه ليتعاطفان بالإلهام، فاجروا على إلهام الخير مع إخوانكم الشبان تَنْمُ المحبة وتقوَ بواعث الخير.
إن في تونس تيارات مختلفة اقتضتها مقتضيات زمانية ومكانية خاصة، فإياكم أن تنغمسوا فيها، أو تكونوا في جانب دون جانب.
وإذا دعاكم منها داع فاعتصموا بالعلم الذي هاجرتم لأجله، وبالمعهد الجليل الذي تذوب بين جدرانه جميع الاعتبارات.(3/205)
اللغة العربية في الجزائر
عقيلة حرّة، ليس لها ضرّة *
ــــــــــــــــــــــــــــــ
اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبةً ولا دخيلة، بل هي في دارها، وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواخي مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل، ممتدة مع الماضي لأنها دخلتْ هذا الوطن مع الإسلام على ألسنة الفاتحين ترحلَ برحيلهم وتقيم بإقامتهم. فلما أقام الإسلامُ بهذا الشمال الأفريقي إقامةَ الأبد وضربَ بجرانه فيه أقامتْ معه العربية لا تريم ولا تبرَح، ما دام الإسلام مقيمًا لا يتزحزح، ومن ذلك الحين بدأت تتغلغل في النفوس، وتنساغ في الألسنة واللهوات، وتنساب بين الشفاه والأفواه. يريدها طيبًا وعذوبة أن القرآن بها يُتلى، وأن الصلوات بها تبدأ وتُختم، فما مضى عليها جيل أو جيلان حتى اتسعتْ دائرتها، وخالطت الحواس والشواعر، وجاوزت الإبانة عن الدين إلى الإبانة عن الدنيا، فأصبحت لغة دين ودنيا معًا، وجاء دور القلم والتدوين فدوّنت بها علوم الإسلام وآدابه وفلسفته وروحانيته، وعرف البربر على طريقها ما لم يكونوا يعرفون، وسعتْ إليها حكمة يونان، تستجديها البيان، وتستعديها على الزمان، فأجدت وأعْدت. وطار إلى البربر منها قبس لم تكن لتطيره لغة الرومان، وزاحمت البربرية على ألسنة البربر فغلبتْ وبزت، وسلّطت سحرها على النفوس البربرية فأحالتها عربية، كل ذلك باختيار لا أثر فيه للجبر، واقتناع لا يد فيه للقهر، وديمقراطية لا شبح فيها للاستعمار. وكذَب وفجَر كل من يسمّي الفتح الإسلامي استعمارًا. وإنما هو راحة من الهم الناصب، ورحمة من العذاب الواصب، وإنصاف للبربر من الجوْر الروماني البغيض.
من قال إن البربر دخلوا في الإسلام طوعًا فقد لزمه القول بأنهم قبلوا العربية عفوًا، لأنهما شيئان متلازمان حقيقة وواقعًا، لا يمكن الفصل بينهما، ومحاول الفصل بينهما
كمحاول الفصل بين الفرقدين.
__________
* نُشرت في العدد 41 من جريدة «البصائر»، 28 جوان سنة 1948.(3/206)
ومن شهد أن البربرية ما زالت قائمة الذات في بعض الجهات، فقد شهد للعربية بحسن الجوار، وشهد للإسلام بالعدل والإحسان، إذ لو كان الإسلام دين جبرية وتسلط لمَحا البربرية في بعض قرن فإن تسامح ففي قرن.
إذا رضي البربري لنفسه الإسلام طوعًا بلا إكراه، ورضي للسانه العربية عفوًا بلا استكراه، فأضيعُ شيء ما تقول العواذل، واللغة البربرية إذا تنازلت عن موضعها من ألسنة ذويها للعربية لأنها لسان العلم وآلة المصلحة، فإن كل ما يزعمه المبطلون بعد ذلك فضول.
إن العربي الفاتح لهذا الوطن جاء بالإسلام ومعه العدل، وجاء بالعربية ومعها العلم، فالعدل هو الذي أخضع البربر للعرب، ولكنه خضوع الأخوة، لا خضوع القوة، وتسليم الاحترام، لا تسليم الاجترام. والعلم هو الذي طوّع البربرية للعربية، ولكنه تطويع البهرج للجيدة، لا طاعة الأمَة للسيدة.
لتلك الروحانية في الإسلام، ولذلك الجمال في اللغة العربية، أصبح الإسلام في عهد قريب صبغة الوطن التي لا تنصُل ولا تحول. وأصبحت العربية عقيلةً حرّة، ليس لها بهذا الوطن ضرّة.
...
ما هذه النغمة الناشزة التي تصك الأسماعَ حينًا بعد حين، والتي لا تظهر إلا في نوبات من جنون الاستعمار؟
ما هذه النغمة السمجة التي ارتفعت قبل سنين في راديو الجزائر بإذاعة الأغاني القبايلية. وإذاعة الأخبار باللسان القبايلي (1). ثم ارتفعت قبل أسابيع من قاعة المجلس الجزائري بلزوم مترجم للقبايلية في مقابلة مترجم للعربية؟
أكل هذا إنصاف للقبايلية، وإكرام لأهلها، واعتراف بحقها في الحياة، وبأصالتها في الوطن؟
كلا. إنه تدجيل سياسي على طائفة من هذه الأمّة، ومكر استعماري بطائفة أخرى، وتفرقة شنيعة بينهما، وسخرية عميقة بهما.
إن هاتين النغمتين وما جرى مجراهما هي حداء الاستعمار بالقوافل السائرة على غير هدى، لتزداد إمعانًا في الفيافي الطامسة، فحذار أن يطرب لها أحد. وإن النغمتين من آلة
__________
1) اللسان القبايلي: نسبة إلى "القبائل"، وهي لهجة بربرية.(3/207)
واحدة مشوّشة الدساتين، مضطربة الأوتار، ومغزاهما واحد، وهو إسكات نغمة أخرى تنطق بالحق وتقول: إن هذا الوطن عربي، فيجب أن تكون لغته العربية رسمية. فجاءت تلك النغمات الشاذّة ردًّا على هذه النغمة المطردة، ونقضًا لها وتشويشًا عليها، ولتُلقي في الأذهان أن هذا الوطن مجموع أجناس ولغات لا ترجحُ إحداهن على الأخرى، فلا تستحق إحداهن أن تكون رسمية.
لا يوجد قبائلي يسكن الحواضر إلا وهو يفهم عن الفرنسية. ولا يوجد في "قبائل" القرى - وهم السواد الأعظم- إلا قليل ممن لا يحسن إلا القبايلية، ولكن ذلك السواد الأعظم لا يملك جهاز راديو واحدًا لأنهم محرومون من النور الكهربائي كما هم محرومون من نور العلم، وكل ذلك من فضل الاستعمار عليهم. فما معنى التدجيل على القبائل بلغتهم؟
ولا يوجد عضو قبايلي في المجلس الجزائريّ إلا وهو يحسن الفرنسية، فما معنى اقتراح مترجم للقبايلية؟
أما نحن فقد فهمنا المعنى. وأما الحقيقة فهي أن الوطن عربي.
وأن القبائل مسلمون عرب، كتابهم القرآن يقرأونه بالعربية، ولا يرضَون بدينهم ولا بلغته بديلًا. ولكن الظالمين لا يعقلون.(3/208)
حقائق *
أقربُ الأعمال إلى التمام والنفع والإثمار ما بني منها على التجربة الاستقرائية الممحّصة، ومن بنى عمله على غير هذه القاعدة فهو مخادع أو مخدوع، وهذا زمن "اجتماعي" لا يؤمن للفردية بوجود، ولا يخضع لها في حكم، ولا يعوّل عليها في عمل، وقد انتقلت فيه الأعمال العامة من أيدي الأفراد إلى أيدي الجماعات والجمعيات، فازدادت تلك القاعدة تمكنًا وتأكّدًا؛ ووجب على الجماعات العاملة أن تراعيها في أعمالها حتى لا تفشل وتخيب؛ وإن فشل الأفراد أهون وأبعد عن ردّ الفعل من فشل الجماعات.
من أراد أن يخدم هذه الأمّ فليقرأها كما يقرأ الكتاب وليدرسها كما يدرس الحقائق العلمية. فإذا استقام له ذلك استقام له العمل، وأمن الخطأ فيه، وضمن النجاح والتمام له؛ فإن تصدّى لأيّ عمل يمسّ الأمّة من غير درس لاتجاهها ولا معرفة بدرجة استعدادها كان حظه الفشل.
وأنا رجل ممن هيّأتهم الأقدار لخدمة هذه الأمّة في نواح دقيقة شريفة لا يقبل فيها الزيف، ولا يتسمح فيها مع الباطل؛ من هذه النواحي ما هو أمانة تؤدّى بلا تصرّف، وما علينا إلا أن نقول ونُبلغ، وما على الأمّة إلا أن تسمع وتطيع؛ وهذا هو الدين في سلطانه الأعلى، ومنها ما يقتضي المسايرةَ والمجاراةَ لاستعداد الأمّة، وهذا هو الجانب الاجتماعي، ومنه التعليم.
فأزعم أنني جرّبت ودرست، وأنني قرأت هذه الأمّة وفهمتها كما أقرأ الكتاب وأفهمه، وما هذا ببعيد ولا كثير على من خدم أمّةً ولابسها عشرات السنين معلّمًا مدرّسًا واعظًا خطيبًا، محاضرًا ينتزع مواضيعَ محاضراته من وجوه الجمهور قبل أعمالهم؛ وقد خرجتُ من
__________
* نُشرت في العدد 47 من جريدة «البصائر»، 30 أوت سنة 1948.(3/209)
هذه الدراسة الطويلة بنتائج جليلة يجب أن تدوّن وأن تكون دستورًا للعاملين، ولست بصدد تدوينها هنا، وإنما أسجل واحدة هي بسبيل مما نحن فيه؛ وهي أن هذه الأمّة أصبحت كالتاجر الحذر من تقلب الأسواق، لا يصارف إلا يدًا بيد؛ ومرجع ذلك فيها إلى أسباب معقولة، فقد ألحّ عليها الدجّالون باسم الدين قرونًا، وراضوها على أن تعطيَ ولا تأخذ، ولا تسأل لماذا؛ حتى قامت حركة الإصلاح الديني واكتسحت التخريف فحرّرت الأمّة من أولئك الدجّالين؛ ثم ظهر في الميدان دجّالون في صورة أخرى وباسم آخر وهو السياسة؛ والصنفان يلتقيان في نقطة، وهي أن بضاعتهما وعود غرارة، وبروق كاذبة، وخيالات لا حقيقة لها، وأماني لم تسلك لها وسائلها. ومقدّماتٌ لم تربط بها نتائجها؛ لا إصلاح لما فسد من الأخلاق، ولا تقوية لما ارتخى من عرى الأخوّة، ولا بناءٌ لكيان الأمّة بالتربية الصالحة والتعليم النافع؛ ويلتقيان أيضًا في نقطة أخرى وهي محاربة العلم ورجاله، ومقاومة التعليم بجميع أنواعه؛ والباعث للفريقين على هذا واضح، وهو أن العلم نور، وهم يعملون في الظلام، والعلم إيقاظ للأمّة، وهم يريدون بقاءها في النوم لينالوا منها ما يريدون؛ وقد فات كلًّا من الفريقين أن الإلحاح على الفريسة يخلق منها مفترسًا، وأن كثرة الوخز تثير الإحساس الكامن؛ وقد أصبحت هذه الأمّة على كثرة الوخز حسّاسةً مهتاجةً لا تصدّق إلا بالواقع، ولا تؤمن إلا بالمحسوس لما ألحّ عليها التدجيل الذي يعد ولا ينجز، والدجّالون الذين يأخذون ولا يعطون؛ وإن هذا الخلق ليزداد فيها تمكّنًا على الأيام؛ وسينتهي بها إلى أن تصفّي حسابها مع من لم يصفِّ حسابه معها، ولا يغترّ المغترّون بهذه الظواهر الهادئة، فما هي إلا أواخر فورة، وأوائل ثورة، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.(3/210)
بوركت يا دار *
نصّ القصيدة التي ألقاها الشاعر أحمد سحنون في حفلة افتتاح دار العلماء (المركز العام)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بوركت يا دارُ، لا حلّتك أكدار … فأنتِ معقل جند العلم يا دار
قد كنت حلمًا جميلًا رفّ طائره … بالوهم، حتى اجتلتك اليوم أنظار
قد كنت واجبَ شعب هبّ مندفعًا … كالسيل، تحدوه للأوطان أوطار
قد كنت حاجةَ نفس للعلا طمحت … فحقّقت حاجة في النفس أقدار
قد كنت فكرةَ بناء لأمّته … واليوم أنت بناءٌ ليس ينهار
وهكذا العزم لا تثنيه عاديةٌ … عن المضيّ ولا يطفيه إعصار
عزمُ "البشير" (1) أحال العجزَ عاصفة … والعزمُ كالسيف للأخطار بتار
"جمعيةُ العلماء" اليومَ إن طفرَت … نشوى فكم نالها من قبلُ أكدار
قد هزّها من وناها واستقلّ بها … نسرٌ تعوّد خوضَ الجوّ جبّار
فاليومَ نستقبل الدنيا بأفئدة … شعّتْ بها من أماني المجد أنوار
واليوم نهتف بالبشرى مردّدةً … نشيدَها الحلوَ أرجاءٌ وأقطار
واليوم نفرغ للأعمال في ثقة … والكل للكل أعوانٌ وأنصار
نمضي لتحقيق غايات مقدّسة … فيها يحاربنا باغ وغدّار
سلاحنا الحق، والإيمانُ قائدنا … وجندنا الصبر لا يعروه إدبار
"جمعيةُ العلماء" اليوم قد وجدتْ … اداتها، فلتسرْ لم تبقَ أعذار
فجرُ الحياة بدا في الأفق مؤتلقًا … تهفو قلوبٌ لمرآه وأبصار
يا دارُ فيك جمال الفن قد ظهرت … آياته، كل جزء فيه آثار
وشى مبانيك ذوق من بنيك سما … كما توشي حواشي الروض أزهار
__________
* نُشرت في العدد 54 من جريدة «البصائر»، 25 أكتوبر سنة 1948.
1) عَزْمُ "البشير": هو الإمام محمد البشير الإبراهيمي.(3/211)
يا دارُ يهنيك ما تجنيه من ثمر… فيك البلادُ، وللأعمال أثمار
يا دار فيك تعيد الضادُ عزّتها … وكل قلب به للضاد إكبار
وفيك يبعثُ ماض طالما حييت … على مآتيه أجيال وأعصار
وتستعاد "عكاظ" فيك ثانيةً … بها تدوّي أناشيدٌ وأشعار
تفديك دُورٌ لغير الهدم ما بنيت … بل تفتديك من الأسواء أعمار
يفديك جيرانُ سوء منك أكمدَهم … جيشٌ عتيدٌ من الأحرار جرّار
غصّوا بهم حنقًا عنهم، ولا عجب … ليسوا بأول جيران لنا جاروا
يا فتيةَ الضاد حان الوقت فاطرحوا … هذا الونى وانهضوا، فالناس قد طاروا
سيروا على نهج آباء لكم سلفوا … فإنهم في طريق المجد قد ساروا
شقّوا الزحامَ إلى العلياء واقتحموا … أخطارَها، إنما العلياءُ أخطار
اسعوا لتحيوا حياة العز، أو فَرِدُوا … حوضَ الردى، فالردى يُمحى به العار
أرواحُ آبائكم في الخلد قد هتفت:… تحرّروا، فجميع الناس أحرار(3/212)
المعهد الباديسي *
فتح المعهد الباديسي في الشهر الماضي أبوابه، واستقبل بالبِشر والترحيب مدرّسيه وطلّابه، ومدّته شعاب القطر بسيل من التلاميذ ملأ رحابه. تعرف في وجوههم الرغبة في العلم والأمل في تحصيله، وتستبين من صغر الأسنان، وطراوة الأفنان، وتباعد الديار، أن وراءهم نفوسًا من الآباء والأمهات نذرتهم للعلم وقرّبتهم له، وتحملت ألم البعد والغربة، في سبيل هذه القربة.
كأن تلامذة السنة الماضية أذّنوا في جهات القطر أذانًا عاليًا، ونادَوا في جنباته نداء متواليًا: حيّ على المعهد، حيّ على خير العمل، فتلاحق المدد، وتضاعف العدد، وكأن فترة الصيف كانت كلها تهيئةً وإعدادًا لم تقرأ إدارة المعهد حسابه، حتى فاض عليها السيل؛ والمتتبع لهذه النهضة العلمية التي هبّت ريحها عاتيةً في القطر الجزائري، يحسن به أن يؤرّخ لأطوارها بهذه الفواصل الزمنية التي يسبقها الفتور، وتصحبها الحرارة، ويعقبها النشاط؛ فالمدارس تتزايد في كل سنة، وتلامذة المعهد يتزايدون في كل سنة. فالنهضة العلمية إلى امتداد، وعمل العاملين لها إلى نجاح إن شاء الله.
بدأ المعهد في سنته الأولى على خلاف ما تبدأ به مشاريعنا، قويًّا جيّاشًا بالحركة والنشاط، ولكنه نشاط من جهة واحدة، من المدير والمدرّسين، ولم يبدُ النشاط من الجهة
الثانية، جهة التلامذة، إلا في النصف الأخير من السنة الدراسية حين فهموا ما قرأوا، وبدأوا يهضمون ما فهموا، على تفاوت أسنانهم، وحين سيقوا بالحزم والكياسة إلى الانسجام في المظاهر، والاستقامة في الأخلاق، حتى تمّت السنة، وجاء الامتحان بأحسن النتائج التي شهدها كل محتك بالمعهد، متصل بأسبابه. ووفتْ هيئة الإدارة والتدريس بما نذرتْ، ففازت بالريع الزكيّ مما بذَرتْ.
__________
* نُشرت في العدد 59 من جريدة «البصائر»، 6 ديسمبر عام 1948.(3/213)
أما في هذه السنة فقد غمر النشاط المدرّسين والتلامذة، وبدأت الحركة مملوءة بالحياة والنشاط، وسرَت العدوى من القدماء إلى الجدد. وأصبح النشاط والنظام سمةً ثابتة للمعهد، يؤخذ بها كل من اتصل به، وكان الإقبالُ عظيمًا مع تضييق الإدارة في شروط الالتحاق، فتلقّت لجنة القبول ثمانمائة طلب في شهر سبتمبر وحده. وامتازت هذه السنة الثانية بالميزات الآتية:
1 - زيادة عدد المقبولين بضعف ما كانوا في السنة الماضية، إذ بلغ عددهم ستمائة تلميذ.
2 - إنشاء السنة الرابعة التي يحصل التلميذ في نهايتها على الشهادة الأهلية.
3 - زيادة ثلاثة مدرّسين أكفياء، وهم المشايخ عبد القادر الياجوري، وعبد اللطيف القنطري، وعبد الرحمن شيبان. والثلاثة محرزون لشهادة التحصيل من الكلية الزيتونية. وما زال المعهد في حاجة إلى ثلاثة آخرين.
4 - تحسين برنامج الرياضيات وعلوم الحياة بإسناد تعليمها إلى مدرّسين أكفياء مثقفين بالثقافتين.
5 - تحسينات واسعة ذات أثر في النظامين الداخلي والدراسي.
6 - تشديد المراقبة على التلاميذ في الناحية الأخلاقية، ولا نبالغ إذا قلنا: إن التربية الفاضلة هي الغرّة اللائحة في جبين المعهد الباديسي، وهي الميزة التي يمتاز بها على
جميع معاهدنا من أعلاها إلى أدناها، ولو تكاملت وسائلها- ومنها توحيد السكنى- لأخرج المعهدُ في بضع سنين للأمّة الجزائرية جيلًا مسلّحًا بالفضائل، زعيمًا بإحياء
الدين والدنيا، ولقدَّم لجامع الزيتونة نموذجًا من خرّيجي السنة الرابعة يجمع بين حياة الفكر ومتانة الخلق.
7 - اشتراء ثلاث بنايات حبسًا على المعهد، اثنتين منها لسكنى المشايخ المتأهّلين، وواحدة لسكنى الطلبة، وهي تسع مائة وستين طالبًا. وقد بلغت قيمة جميعهن شراءً وإصلاحًا أحد عشر مليونًا من الفرنكات.
...
هذه الميزات هي الخطوات الواسعة التي تقدّم بها المعهد إلى الأمام في هذه السنة، وهي خطوات جريئة حازمة، لا يقوم بها إلا جريء حازم مثل جمعية العلماء، ولولا ثقة الأمّة بجمعية العلماء، وثقة جمعية العلماء بنفسها وبأمانتها، ما أقدمت على هذه العظائم، في مثل هذه الظروف العصيبة. وما أقدمها على هذه المخاطر إلا أمر خطير، وهو إسكان الطلبة، فقد(3/214)
لقيت إدارة المعهد ولجانه العناءَ المضني في حل مشكلة الإسكان، وبذلت الغالي من الجهد والوقت والمال، فلم تجد من الأماكن ما يكفي، ولم تجد في الموجود ما يشرّف المعهد والعلم، وما زالت مشكلة المساكن قائمة تتطلب حلّها. ومحالٌ أن تحلّ إلا ببناء حيّ كامل للطلبة، يحمل اسمهم، ويتّسم بسيماهم؛ وما ذلك على الأمّة الجزائرية بعسير، وما هو في جنب المعهد الجليل بكثير، وإن لجمعية العلماء لأملًا يلوح من خلال المستقبل، تعتمد على الله وعلى الأمّة في تحقيقه، وإن في نفسها لصورةً كاملة للمعهد، سيبرزها للوجود اطّراد النهضة، وعزيمة الجمعية، وهمّة الأمّة، وثقتها المتينة بالجمعية.
...
ومن شأن النهضات إذا استحكمت أسبابها في الأمم، وقويت دواعيها من إلحاح الزمان، وحفز الضرورة، أن تظهر متساوقةً في الأسباب والمسبّبات. غير أن الناظر إلى نهضتنا نظرة استبصار، يرى فيها نشوزًا في بعض جوانبها؛ فإن هذا الإقبال الذي نشاهده من أمّتنا على العلم لا يقابله إقبال آخر على البذل يكافئه ويقوم به؛ وهذه هي علة العلل في ما تعانيه مشاريعنا العلمية من ضيق ورهق، والحقيقة الواقعية هي أن مشاريعنا قائمة في الجانب المالي على الفقراء ومتوسطي الحال. أما الأغنياء- إلا من رحم ربّك- فلم يقوموا بما يجب للنهضة من بذل إلا بمثل ما يقوم به الفقراء أو بقريب من منزلتهم.
وإلى هؤلاء المتقاعسين عن البذل، المتصامّين عن العذل، نرسلها صيحة إنذار، ليس معها إعذار، ونقول لهم: إن كل ما يصيب هذه الحركة المباركة من شلل، أو يعتريها من خلل، فأنتم المسؤولون عنه عند الله وعند الناس، فلتنفقوا مما جعلكم الله مستخلفين فيه، ولتعلموا أن كل ما تنفقونه في هذا السبيل يعلي ذكركَم، ويزكّي أموالكم، ويعود عليكم وعلى أمّتكم بالنفع، وإن قبض الأيدي عن الإعانة مسبّة، وسوء مغبّة، وأن مقادير الأموال هي أقدار الرجال، و"أن الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة إلا من قال هاء وهاء" كما جاء في الحديث الصحيح.
أما الفقراء والمتوسطون فقد أبلوا، وأما قادة الحركة فقد شادوا وأعلوا، وأما أمثالكم فقد جاءوا بالوشل، وأما المثبطون فقد باءوا بالفشل، وأما القافلة فهي تسير، فيها المعيي وليس فيها الكسير.
...
أما قيمة المعهد المعنوية عند الأمّة فهي القيمة الغالية، وأما منزلته فهي المنزلة العالية، وأما الثقة به فهي المثل الشرود، والزرد المسرود، إلا فئةً عُرفت بسيماها، إذ أضلّها الله وأعماها، جرت من الخبث على نسق، وسرَتْ من الجهل في غسق. تحارب الله ورسوله(3/215)
وكتابه، وتعادي العربية والعلم والتعليم، وتهدم دعائم الوطنية باسمها، وتتبع في ذلك كله ما يلقي الشيطان وأولياؤه وعابدوه ... هذه الفئة هي التي تحارب المعهد، وقبله حاربت المدارس والتعليم وزهدت فيهما، وقبل ذلك حاربت الدين وقلّلت من شأنه ... وهذه الفئة هي التي تشيع قالة السوء فيه، وقبل ذلك أشاعتها في مؤسسيه وفي من يتشرف باسمه، فما باءت إلا بالخذلان والخسران ... هذه الفئة التي لم تجد في الجزائر من يستمعُ لوساوسها، وينقاد لدسائسها، فشحنت بضاعتها الكاسدة إلى تونس ونشرت في بعض جرائدها المريضة بداء هذه الفتنة، والتي لا تتحفظ في رواية، ولا تتثبت في خبر، أن المعهد الباديسي يحاسب التلامذة على أفكارهم ... وكل هذا افتراء وزور وبهتان عظيم، وإن المعهد ليربّي أبناءه على حرية الفكر في حدودها، وعلى حرية القول ما لم تصل إلى الدركة التي عليها هذه الفئة العابدة للشيطان. وتربّيهم على الوطنية الحقيقية التي تستند على الدين والعلم والفضيلة، لا على الوطنية الزائفة، وطنية التزوير والتضليل، والتزمير والتطبيل. وقبل وبعد، فللمعهد نظامه الصارم في تربية أبنائه على الدين وفضائله، وليخسأ كل أفاك أثيم.
ومن خسّة هذه الفئة ونذالتها أنها أرصدت رجالًا منها متجرّدين من العقل والدين، وأجرتْ لهم أجرًا معلومًا ليجوبوا أزقة قسنطينة ويختلفوا إلى مقاهيها ويختلطوا بطلبة المعهد، ليفتنوهم عن العلم، ويصدّوهم عن سبيله، ويزيّنوا لهم الجهل والبطالة ...
إن الاستعمار- وهو العدو اللدود للعربية والدين وتعليمهما- لم يبلغ في حربها ما بلغته هذه الفئة العابدة للشيطان. ومن يدري؛ فلعلّ هذه الفئة بعضُ أسلحته. وما لنا نرتاب؟ فهم أمضى أسلحته ...
...
ويمينًا بالذي طهر المعهد، وأنزل في كتابه {أَلَمْ أَعْهَدْ}، لنقطعنّ من هذه الفتنة دابرَها، ولنقعن من هذه الفئة مقيمها وعابرَها ...(3/216)
التعليم العربي والحكومة *
- 1 -
كلُّ الوسائل التي تتذرعّ بها حكومة الجزائر لمقاومة التعليم العربي هي: إما قوانين أصدرها مجلس الأمّة في فرنسا في أوقات مختلفة، ولأسباب متنوّعة، وإما قرارات إدارية فردية، مصدرها الجزائر، ومبناها على إيعازات بوليسية، توجبها الروح الاستعمارية، والنوع الأول غالبه عام مطلق، يشمل كل تعليم حرّ لم تباشره الحكومة، بأية لغة كان، ومن أية جمعية صدر، والثاني خاص بنا معشر المسلمين، مصبوبٌ علينا وحدَنا، موضوع بالقصد المباشر للتضييق على لغتنا وديننا، وقد كثر هذا النوع وتوالد، حتى أصبح بعضه ينسي بعضه عند المنفذين، مع اجتهادهم وحرصهم، وكلما زادت الأمّة إقبالًا على تعلّم لغتها ودينها، زادت الحكومة في القيد تضييقًا، حتى لو أنها نفّذت تلك القرارات بحذافيرها لما بقي في الجزائر من يكتب حرف هجاء عربيًّا، ولكنها تضع القرارات وتسكت، لتكون عند تنفيذها قديمة عتيقة، ومن (صنع الأوائل)؛ والعتق أصل من أصول الحسن والاستكرام، وصنع الأوائل موضع للاعتبار والاحترام.
كلا النوعين شرٌّ على التعليم العربي وبلاء وإرهاق وتضييق، أما القرارات فإنها لم توضع إلا لذاك. ولم تركب موادّها إلا للإهلاك، لأنها صادرة عن نفوس متشبعة بالاستعمار القاتم، حتى إن الدولة المؤقتة التي تشكلت بالجزائر سنة 1943 لم تنسنا- وهي في أشدّ أوقاتها ضيقًا وحرجًا- فزادت في حبل تلك القرارات طاقة، ليس للمدارس بها طاقة، وأما القوانين فإن شارعها وواضعها لم يراع فيها وضعية الأمّة الجزائرية ولا موضع تعليم العربية من دينها، ولا نشكّ في أنه لم يتصوّر ذلك في ذهنه، ولم يخطر له على بال، وإنما لاحظ حين الوضع- شأن المشرعين وواضعي القوانين- الحالة الغالبة، وهي حالة أمّته الفرنسية،
__________
* نُشرت في العدد 65 من جريدة «البصائر»، 31 جانفي سنة 1949.(3/217)
لاحظ تعليمًا حرًّا في أمّة حرّة، ذات حقوق مقرّرة، وقوانين محترمة، وحرية للفرد والجماعة مكفولة. فإذا وسّع فذلك ما تقتضيه الحرية، وإذا ضيّق فلأن التعليم الحرّ في نظره يعدّ افتياتًا على الحكومة التي تكفّلت بالتعليم قبل الخبز والماء؛ والأمّة الفرنسية لا تحتاج إلى هذا النوع الذي نسمّيه التعليم الحرّ، أو التعليم الشعبي، لا سيّما في قسمه الابتدائي؛ لأن التعليم عندها إجباري إلزامي للذكور والإناث، وتقوم به الحكومة مجانًا، فما حاجتها إلى جمعية أو مكتب للتعليم الابتدائي؟ ولم يبقَ خارجًا عن دائرة الإلزام والوجوب إلا التعليم الديني، والتعليم الثانوي والعالي؛ والنوعان الأخيران لا يتناولهما قانون، لأن طلابهما كبار وأحرار؛ والنوع الأول تمارسه الهيئات الدينية أو الكنائسية. وهو الذي يمكن أن يمسّه القانون اللائكي بالتضييق، ولكننا نرى الحكومات هنا وفي فرنسا تعطف عليه، وتعينه أدبيًّا بالتسهيل والتيسير، وماديًّا بالمال والهبات العقارية، وأنف اللائكية راغم. أما إن جاوز هذا التعليم البحر للتبشير والتنصير، فالحكومة الجزائرية تصبح له هي المولى وهي النصير.
أما نحن فإن حالتنا تناقض حالة الأمّة الفرنسية مناقضةً تامة في جميع تلك الخصائص التي لاحظها مشرّع تلك القوانين وبنى عليها أحكامه؛ ديننا مخالف لدينها، تعلّمًا وعلمًا وعملًا، ولساننا مخالف للسانها، وضعًا ونطقًا وكتابة، وطبيعتنا العامة مخالفة لطبيعتها، وأوضاعنا مباينة لأوضاعها، وليست لنا حقوق مقرّرة، ولا نساس بقوانين قارّة، وليست لنا حرية في الحياة مكفولة، ولا تعليم إلزامي. وللمتحكمين فينا قصد مصمّم في القضاء على ديننا ولغتنا، وفي بقائنا على الجهل والأميّة، وفي حرماننا من جميع أنواع العلم الذي مفتاحه التعليم، بدليل أن الحكومة الاستعمارية لم تشأ- ولا أقول لم تستطع- أن تعلم منا في قرن وخمس قرن تعليمًا ابتدائيًّا أبتر إلا أقل من العشر ممن هم في سن التعليم، ولم تشأ أن تخلط أبناءها بأبنائنا فيه، لتقيم الدليل الواضح الفاضح على أن تعليمها لأبنائنا تعليم ناقص.
إذا كانت تلك حالتهم، وهذه حالتنا، وهذه مسافة التباين بيننا وبينهم، فكيف يصحّ عند العقلاء أن يجري علينا في التعليم الحرّ قانون واحد، وهو عندهم نافلة، وهو عندنا من أوكد الفروض؟ وكيف يراد منا أن نذعن لذلك القانون الذي لم نخطر- بوضعيتنا الشاذة- على بال شارعه؟ وكيف تلزمنا هذه الحكومة الاستعمارية بأن نبني أمرًا على غير مضارعه؟ وبأية وسيلة نتوسل إلى تعليم أبنائنا دينهم الحافظ لأخلاقهم، ولغتهم الحافظة لدينهم؟ إذا لم نعتمد على جهودنا الخاصة، وعلى ما هدانا إليه العصر من نظم وجمعيات.
وافرضْ أن رجلًا فرنسيًّا فتح مكتبًا حرًّا للتعليم الابتدائي، فهل تظن أن الحكومة تعارض أو تعاكس أو تعطّل، أو تعامله بأقل من القليل مما تعاملنا به؟ تقول الحكومة- هنا- إن الفرنسي مهذّب لا يدوس القانون، ومنها طلب الرخصة، ولا يأنف منها كما تأنفون. ونقول نحن هنا: لا لا. ولكن الفرنسي حرّ عزيز لا يستطيع (كوميسير) أن ينهره، ولا بوليس أن(3/218)
يقهره، ولا حاكم أن يحتقره، ولا هم جميعًا أن يماطلوه أو يعطلوه. فإذا طلب الرخصة صباحًا فإنه يعطاها مساءً، أما المسلم فإنه يقدّم طلب الرخصة إلى أصغر مكلّف فيدخل به في بحر من الإجراءات لا ساحل له، حتى يفرغ جيبه، وتحفى قدماه، ويكل ذهنه، زيادة على السخرية والاحتقار. فإذا قدّر لذلك الطلب أن يخرج من مكتب الصغير إلى مكتب الكبير، تجدّدت الإجراءات، وتعدّدت التحرّيات، وكثرت المراجعات، وانفتح للصغير باب الاعتذار، واتسع للطالب أفق الانتظار، حتى يمل وييأس؛ والمحظوظ هو الذي يحصل على الرخصة في سنة؛ وما المحظوظ إلا من قامت الشواهد على إخلاصه للحكومة، وأثبتَ الفحص الإداري براءته من العيوب صغيرها وكبيرها؛ وأكبرها أن فيه وسمًا من جمعية العلماء ونسبة إليها، أو أنه يحمل فكرتها الإصلاحية؛ وأصغرها أن يكون اشترك في جمعية علمية، أو حضر في حفل أدبي، أو استمع لنشيد قومي أو انتسب إلى حركة سياسية، فكل هذا مما يسجّل في الصحائف، وكل هذا مما يوجب لصاحبه الحرمان من رخصة التعليم، أضف إلى ذلك أن كل طالب للرخصة تصك أذنيه، من أول موظف مكلف، هذه الجملة: "احذر أن تفتح المدرسة قبل أن تأتيك الرخصة"، وهو يعلم أنها لا تأتي؛ فقدر- أنت- أن هذا الطالب المسكين إنما يفتح المكتب ليتعيش بأجرة تعليم القرآن، أو ليقوت عياله بأجرة تعليم القواعد البسيطة من العلم، فهل يعامله الجوع والحاجة هذه المعاملة البطيئة؛ وهل يعذره الجوع والحاجة إلى أن تتم الإجراءات؟
هذا هو ما يجري في الجزائر في هذه المسألة البسيطة، وهذا قليل مما يقاسيه طالب الرخصة المسلم، زيادة عما لم نصوّره من إرهاق بالأسئلة، وحساب عسير عما تكنه الضمائر من الميول، وجرح للكرامة الإسلامية العربية، وازدراء للهيئة والشكل، وإلجاء إلى المواقف المهينة. وهذا ما جعلنا نمقتها ونسترذلها ونكفر بها، فما هي- والله- رخصة تطلب فينالها المجدود، ويحرمها المحدود، وإنما هي غضة يعسر ابتلاعها، وقصة يثقل سماعها، ورهصة لا تحتمل أوجاعها؛ وإن للحكومة فيها من وراء ذلك لسرًّا، وهو أنها تجعل منها أداة تصرف بها الطالبين. وليت المتاع بها طويل، ولكنه متاع قليل، بل هي أحط وأقل من رخصة "فتح مقهى" مثلًا؛ ولا تبقى نافذةً إلا بقدر ما يبقى صاحبها مغفولًا عنه أو مستقيمًا في نظر الحكومة؛ فإذا زاغ عن الصراط، أو قصر في الاشتراط، فنزعها منه أهون عليها من قصّ القلامة.(3/219)
التعليم العربي والحكومة *
- 2 -
لا معنى للشمول في القوانين، ما لم يصاحبه شمول في التطبيق والتنفيذ؛ وإذا كان واضع القانون ليس منا، ومنفذه ليس منا، فمن البلاء تطبيقه علينا.
ألا إن في الاستعمار لفحةً من جهنم، وإن في المستضعفين سمات من أهلها، أظهرُها أنهم لا يموتون ولا يحيون.
وكما أن جهنم تتقى بالأعمال الصالحة، وأساسها الإيمان، فإن الاستعمار يتقى بالأعمال الصالحة، وأساسها العلم، وإذا كان العدو الأكبر لجهنم، هو العمل الصالح، فإن العدو الأكبر للاستعمار هو التعليم.
يحرّم الاستعمار الفرنسي التعليم على مسلمي الجزائر، ويفرضه على أبنائه وفي وطنه، فاعجبْ لشيء واحد يحرَّم في وطن، ويُفرض في وطن؛ ومن عرف الاستعمار معرفتنا به لم يعجب ولم يندهش، خصوصًا في وطن كالجزائر، لغته العربية، ودينه الإسلام، وطنٌ أنهكه الاستعمار، فلم يبقِ منه لحمًا إلا تعرّقه، ولا عظمًا إلا هشمه، فانتزع خيراته الطبيعية من أيدي أهله، ثم تسلل إلى مكامن النفوس لينزع الإيمان من قلوبهم، بهذه الوسائل التي منها تسيير مساجدهم على هواه، وحرمانهم من تعلم دينهم ولغتهم، فلما رآهم هبّوا ودبّوا، وأيقن أنهم ربما أوضعوا وخبوا، رماهم بهذه القوانين التي بعضها يشلّ، وبعضها يغلّ، وجميعها يقتل.
...
__________
نُشرت في العدد 66 من جريدة «البصائر»، 7 فيفري سنة 1949.(3/220)
قلنا للحكومة مرّات- في صدق وإخلاص-: إن هذه الأمّة رضيتْ لأبنائها سوء التغذية، ولكنها لا ترضى لهم- أبدًا- سوء التربية: وإنها صبرت مكرهة على أسباب الفقر، ولكنها لا تصبر- أبدًا- على موجبات الكفر.
وقلنا لها: إن هذه الأمّة أصبحت منك بمنزلة الهرّة التي دخل صاحبها النار بسببها، لأنه لم يطعمها، ولم يدعها تأكل من خشاشِ الأرض؛ فلا أنت علمت الدنيا، ولا أنت سمحت لنا بتعليم الدين.
وقلنا لها: إن هذه الأشياء الروحية التي تسمّى الدين والعقيدة والضمير، هي أشياء طبيعية، بل هي أجزاء من الوجود الإنساني، فمقاومها كمصادم الجبل الأشم، لا يبوءُ إلا بالزعزعة والضعضعة؛ أفتسمحين للإباحية بالإباحة، ولتحلل الأخلاق بالتحليل، حتى تراخت الأواصر، وانحلت العناصر، وفي ذلك البلاءُ العظيم، ثم تتشدّدين في الدين وتعليمه هذا التشدّد؟
وقلنا لها: إن تعطيل المدارس العربية بالأوامر الإدارية- لأن المعلم الذي يعلّم، أو الجمعية التي تدير، غير مرضيّ عنهما- يعد عقوبةً للأطفال الصغار الذين لم يرتكبوا ذنبًا، ولو أنها عقوبة لهم في أبدانهم لقلنا: جرح ويندمل، ولكنها عقوبة لهم في دينهم وشواعرهم وعقولهم. إننا نريدهم أَنَاسِيَ وأشياءَ نافعة لنفسها وللمجتمع، وأنت تريدينهم لصوصًا وحيوانات ضارّة وبلاءً على أنفسهم وعلى الأمّة.
وقلنا لها: إن هذه المدارس التي شيّدتها الأمّة لأبنائها بأموالها ولم ترزأ خزانتك فيها درهمًا ولا دينارًا، قد أصبحت تضاهي مدارسك سعةً ونظامًا وجمالًا واستكمالًا لشرائط الصحة، واسترحنا واسترحت. فلو كان الأمر بيننا جارًيا على المنطق، مبنيًّا على حسن النية، لكنت- إذا لم تنشطي- لم تخذُلي، وإذا لم تعيني، لم تعارضي، وإذا لم تعتبرينا أعوانك على تهذيب هذا الشعب، لم تعتبرينا أعداءً ومشوّشين على سياستك الاستعمارية، فما زالت الدول عاجزةً عن تعليم أممها وعن تهذيبها، وما زالت الجمعيات تعاونها في ذلك، وما زال الفريقان متآزرين على التهذيب العام، في عصر التهذيب العام. أفلا تنتج القضايا المنطقية في هذه القضية أنك مصممة بأعمالك على قتل التعليم وقتل العربية وقتل الإسلام؟
وقلنا لها: إننا قوم لا نفرّ من المسؤولية بل نتحملها مسرورين. ولا نعمل أعمالنا في ليل دامس، بل نعملها في وضح النهار، وإن لكل مدرسة من مدارسنا جمعيةً جاريةً في تكوينها على القوانين العامة، مسؤولة عن أعمالها، مستوفيةً للإجراءات الرسمية، وأول المواد في قوانينها الأساسية أنها جمعيات تعليم ديني عربي؛ فإذا كان في مدرستها معلم أو معلمون فهي "الضامنة" فيهم والمسؤولة عنهم. فمن العدل أن يكون الترخيص في تشكيل الجمعية ترخيصًا(3/221)
لها في التعليم ما دامت هي المسؤولة عن المدرسة والمؤسسة لها. ومن الشطط، بل من الظلم، بل من التناقض، بل من المحال العادي، أن تطالب بعد ذلك بترخيصات شخصية لكل معلم.
أما أن هذا من الشطط الذي لا يطاق احتماله، فلأن المعلم قد ينفصل عن الجمعية في أيام، لأنه لم يرضها، أو لأنها لم ترضه، وقد يمرض أو يموت، فتضطر إلى معلم آخر، وقد يتكرر هذا المعنى في الشهر الواحد مرّات، وفي كل مرّة تتكرّر الإجراءات اللازمة للرخصة، وفي كل إجراء ما قدّمنا في المقال السابق من التعقيدات المقصودة.
وأما أنه ظلم، فلأن تلك العمليات تستلزم- طبعًا- تعطيل المدرسة، وتشريد الأطفال بناء على قاعدة "لا تفتح المدرسة حتى تحصل الرخصة".
وأما أنه تناقض، فلأن مؤدّاه أن الترخيص الأول في تكوين الجمعية عبث ولغو، ولا معنى له، ولا قيمة لتسجيله في الدفاتر الرسمية، ولا لاعتراف القانون بها، ولا لتعليق المسؤولية على أعمالها، لأن المسؤولية تتعلق بالأعمال، وعمل الجمعية إنما هو التعليم، واشتراط الرخصة الخاصة في المعلم تعطيل لها عن مباشرة هذا العمل الذي اعترف لها القانون به يوم اعترف بها.
وأما أنه من المحال العادي فلأن نظر الجمعية ونظر الحكومة في المعلم متباينان بل هما كالخطين المتوازيين في الهندسة، لا يلتقيان مهما امتدّا، فالجمعية تشترط في المعلم كفاءته العلمية والأخلاقية، أو تزكية جمعية العلماء له، ولا تشترط غير ذلك. والحكومة تشترط شهادة "الدوسي البوليسي"، ولا تشترط غير ذلك. وشتان ما بينهما عندنا في الجزائر، لاختلاف النظرين في أصل الميزان الذي يوزَن به المعلم، ولاختلافهما- إلى حدّ التضاد- في معنى المؤهلات والمواقع.
قلت لرجل من رجال الإدارة الحكومية الجزائرية، وهو يفاوضني في هذه القضية مفاوضة رسمية، وكنا يومئذ نتناقش ونبحث الأسباب التي توجب حرمان المعلم من إعطاء رخصة التعليم، فقلت له: يظهر لي أنه لا يمكن أن نتلاقى معكم في نقطة، ما دام مقياس الفضيلة عندنا وعندكم متفاوتًا إلى هذا الحدّ، فنحن نرى- مثلًا- أن السياسة ليست جريمة ولا ما هو أهونُ من الجريمة، وإنما هي حق طبيعي يمارسه كل عاقل، وتزيد عندنا بمعنى، وهو أنها لم تعدُ أن تكون أنةً يستريح إليها المظلوم ... وأنتم ترونها- بالإضافة إلينا فقط- جريمة أية جريمة، وتعاقبون عليها بالسجن والنفي فضلًا عن الحرمان من رخصة التعليم ... ونحن نرى أن الزنا والخمر وما أشبههما كبائر تسقط العدالة والشهادة، ولا نرتضي مرتكبها معلمًا لأبنائنا ... وأنتم لا ترونها جرائم، ولا تعاقبون عليها. فللقاضي- مثلًا- أن يسكر(3/222)
ويعربد ويفسق ويكفر، ولا حرج عليه لأنه حرّ ... ولا نعتقد أن ميزان الفضيلة اختل عندكم إلى هذه الدرجة، ولكن شيطان الاستعمار يزيّن لكم كل ما تستقبحه الأديان، وتستهجنه العقول، إذا كان ذلك في المستعمرات. قلت له: وأنا أؤكّد لك أن كل ما زرعتموه في المستعمرات من خبائث ورذائل، وسقيتموه بماء الحرية لينمو ويترعرع، فتفسدوا به أهلها وتهلكوهم، ستجنون ثمراته المرّة في أبنائكم وفي وطنكم. فأنتم تسخرون الشيطان للإفساد من حيث يشعر، ولكنه يعود فيسخركم للفساد من حيث لا تشعرون ...
جرّنا إلى هذا كله حديث "الرخصة" فلها الويل: أهي رخصة تعليم، أم غصّةٌ وعذاب أليم؟(3/223)
التعليم العربي والحكومة *
- 3 -
قضية واحدة من بين عشرات القضايا، يتجلّى فيها كل ما صرّحنا به، ولمّحنا إليه، من معاملة الحكومة للتعليم العربي، وتصميمها على محوه، بالتضييق والمعاكسة، واتخاذها من هذه القوانين والقرارات سبلًا إلى ما تريد من ذلك؛ وهذه القضية تشهد بكثرة الإجراءات وتعقيدها، وتكشف عن مقاصد الحكومة منها، وتقيم لنا العذر فيما نبديه من تألّم، وما نجهر به من تنديد بالحكومة ومعاملاتها، وتشهير بقوانينها وقراراتها، وفيما نصارحها به من أننا لا نرضى بهذه القوانين لأنها مفروضة علينا فرضًا في أمر يتعلق بنا وحدنا، وهو ديننا ولغتنا، ولا نحترمها، لأنها باطل،، والباطل لا يحترم، ولا نقرّها، لأنها حرب على ديننا ولغتنا، ولا نحتملها ولو أدّتْ إلى إغلاق جميع المدارس دفعة واحدة. وأننا لا نرضى إلا بالحرية الصريحة، فإن لم تكن فالموتة المريحة. وإنما يقبل العقلاءُ المقبول، وإنما يعقلون المعقول، وإذا كان للقويّ مأربٌ في قتل الضعيف، فمن السماجة أن يسنّ لقتله قانونًا، بل من الشهامة أن يسن لذبحه سكينًا.
وقبلُ وبعدُ فإن هذه القضية التي نصفها اليوم، شهادة قاطعة على ظلم الاستعمار، ونموذج من تعنّته ومصادرته للحق، وبيانٌ واضح لطريقة من طرائقه في حرب الدين والعلم، ووسيلةٌ من وسائله في قتل معنويات الشعوب، وعنوان على مخازيه التي منها أن يعتبر الإسلام غريبًا وهو في داره، والعربية أجنبية وهي في منبتها.
...
__________
* نُشرت في العدد 67 من جريدة «البصائر»، 14 فيفري سنة 1949.(3/224)
هناك على مقربة من الحدود الفاصلة بين مقاطعتي الجزائر وقسنطينة، قرية صغيرة من قرى بني منصور، تدعى "تيغيلتْ" تابعةً في التصرّف الاستبدادي لحوز (مايو) (1). طاف بأهلها منذ سنوات طائف من الشعور الديني، واخترقت آذانهم الأصوات المتعالية من جمعية العلماء في الدعوة إلى التعليم العربي، فأنكروا حالتهم وحالة أبنائهم من الجهل والأميّة، إذ كانوا محرومين من كل ما يسمّى تعليمًا، فأجمعوا أمرهم وكوّنوا جمعية، وأسّسوا كتّابًا لتعليم أبنائهم، على قدر حالهم، ومبلغ مالهم، واتصلوا بنا اتصال المسلم المسترشد، بأخيه المرشد. فعينّا لها معلمًا لم نأت به من مصر، ولا من العراق، بل من عمالة قسنطينة، وشرع في تعليم الأولاد تعليمًا ابتدائيًا بسيطًا ليس فيه كيفية تحطيم الذرّة، ولا كيفية تحضير القنبلة الذريّة؛ وإنما هو تعليم لأشكال الحروف العربية وتركيب الكلمات منها؛ وما مضت أسابيع حتى هاجت الحكومة وماجت، ونشط ممثّلها متصرف حوز "مايو" (2) وأعوانه نشاطًا، ما نظنهم يبذلون معشاره في تتبع المجرمين وقطّاع الطرق ومحترفي السوق الأسود؛ واستدعى المعلم وأعضاءَ الجمعية إلى إدارته مرارًا، وأمرهم بإغلاق المدرسة، وطرد المعلم، وهدّدهم في كلامه بكل ما تمليه الغطرسة على جبار مستبد، ولما رأى أن كلامه لم يؤثّر التأثير الذي يرضي فرعونيته، وأن المعلم لم يذهب، وأن المدرسة لم تغلق- جلب الجميع بقوة "الجندرمة" (3)، وأحالهم على دائرة البوليس السرّي متهمين بتهم لفّقها أعوانه- وهي تهم محضرة جاهزة في كل إدارة وبيد كل مدير، يستعملها كلما خانه القانون، وخذله الحق، فيرجع إلى تلك التهم لينتقم بها، فاستنطقهم البوليس السرّي لا باللسان بل بالعصا (والكرباج)، وأدخلهم السجن "رهن الاستنطاق" كما يقولون.
أما المعلم فقد نفاه حاكم (مايو) نفيًا شفويًّا، وهدّده- إن بقي في حوزه- بالعقوبات الرادعة وبإخراجه بقوة الجندرمة مشيًا على رجليه إلى بلاده (لأنه أجنبي) ... يعني أنه من قرية تسمّى (تاملوكة) تابعة لنانكين، من بلاد الصين، لا لقسنطينة. وكَذَبَ الجغرافيون ولو صدقوا ...
تعاقبت التحقيقات في هذه المسألة "الخطيرة"، فلمّا تمّت- وما كادت- أحيلت إلى قاضي الصلح بمايو، وحمل أولئك المساكين ثباتهم على دينهم، ورغبتهم في تعليم أولادهم، على أن ينفقوا النفقات، ويضحّوا بالمصالح، ويأتوا بالمحامين من الجزائر. ثم رفعت المسألة بعد حكم قاضي الصلح فيها إلى محكمة الاستئناف بالعاصمة، فتضاعفت على المساكين الأتعاب، وتعطّلت الأعمال، وانفتح عليهم بابٌ لا يسدّ من نفقات الذهاب
__________
1) حَوْز "مايو": الحَوْز وحدة إدارية يسكنها فرنسيون وجزائريون. و"مايو" هي مدينة "مشَدَّالَة".
2) اسم إفرنجي لقرية استعمارية واقعة في شرقي مقاطعة الجزائر في الحدود الداخلة بينها وبين مقاطعة قسنطينة.
3) اسم للحرس الوطني الفرنسي، وهم أدوات الترويع، وزبانية الإرهاب للجزائريين.(3/225)
والإياب وأجور المحامين، وعلى ذلك كله فهم صابرون، محتسبون عند الله ما نالهم من أذىً في أبدانهم، ونقص في أموالهم، معتقدون أن العاقبة للمتقين ...
ونودي على القضية في محكمة الاستئناف في الأسبوع الماضي بعد حول كامل وزيادة من يوم نشأت، ولكنها لم تفصل بل تأجّلت، ولا يعلم إلا الله بماذا تنتهي؟
...
من لي بمن يسجّلها ويعجّلها لعنةً خالدةً على الاستعمار؟ ومن لي بمن يزجيها ولا يرجيها سبةً تالدةً له ولأنصاره في العالمين؟ ومن لي بمن يصبّها ولا يغبّها دموعًا سخينة على جدث الإنصاف وعلى رُفات المنصفين؟ ومن لي بمن يرسلها صارخةً صاخَّةً في آذان أدعياء الديمقراطية ودُعاتها والمدّعين لها، أينما حلّوا، أن يتصدّقوا علينا مشكورين بالكفّ من هذه الدعوة الدعية، فقد غثت ورثت، وسمُجت و (خمجت) (4)؟
قضية بسيطة، أساسها ظلم، وحائطها بغيٌ، وسقفها عدوان، وأصلها الأصيل "فتح مكتب قرآني بدون رخصة حكومية" تتدحرج من محكمة إلى محكمة، ومن حاكم إلى حاكم، حولًا كاملًا: أفي الحق هذا؟ ... كلا.
وفي كل دور من أدوارها يتجشم المتهمون فيها قطع مائتي ميل ذهابًا وإيابًا، وإنفاق ما هم في حاجة إليه لقوت عيالهم في الركوب وأجور المحامين. أمن الإنصاف هذا؟ ... كلا.
إن حولًا كاملًا ليكفي لفضّ مشكلة برلين وما أشبهها من مشكلات العالم الكبرى، ولكنها لم تكف لفصل قضية جمعية بني منصور، المتعقدة المتشعبة التي ظهر فيها وجه الحق لرجال الإدارة فاتهموا وطالبوا وحرّروا التقارير واستعدوا فيها المحاكم العدلية. وخفي وجه الحق فيها على غيرهم. ولعل الذنب في هذا التطويل الذي استغرق حولًا كاملًا، محمول على الزمان الذي أصبح ... ولا بركة فيه ...
وسلني أنبئك عمّن جندت الحكومة لهذه القضية التي نزعم نحن أنها بسيطة. إنها جنّدت كبير الجماعة، والحارس، والجندرمة، والبوليس السرّي والعلني، والمتبرع والمتصرّف، وأعوانه ورئيسه، وعامل عمالة الجزائر، وقاضي الصلح بمايو، وقضاة الاستئناف بالجزائر، كلّ هؤلاء مرّت بهم هذه القضية، وكلهم نظروا فيها وفي أوراقها وملفاتها.
__________
4) هذه اللفظة عامية، ولعل لها أصلًا من قول العرب "ماء خمجرير" أي متغير منتن.(3/226)
أما الجانب الإداري من هؤلاء فيقول: إن هؤلاء المتهمين مجرمون، معتدون على القانون، وإن من العدل، ومن المحافظة على الأمن ردعهم وزجرهم، وأما الجانب العدلي فلم نسمع كلمته الأخيرة، وأما نحن ... فقد قال ديكتاتور (مايو) فينا كلمة ذهبية إذ قال لبعض الجماعة: لو أنكم جئتم بمعلم من طلبة الزوايا (5) - من بلاد القبائل- لما عارضتكم في شيء، ولوَجدتم مني المساعدة والإعانة. ولكنكم اتصلتم بجمعية العلماء وجئتم بالمعلم من تلامذتها وأنصارها. وأنا لا أسمح أن يدخل إلى وطني (هذا الميكروب).
...
أنا مريض، والموضوع طويل عريض، وقد أصبحتُ بين عاملين: همّ يتجدّد وطبيب يتشدّد، وإن حق الضمير لأوكد عندي من حق الجسد، وليقع الاستعمار أو ليطرْ فإننا نتعلم لغتنا وديننا، ولو في سمّ الخياط، أو على مثل حدّ الصراط.
__________
5) جمع زاوية، وهي مراكز مشايخ الطرق الصوفية، وقد كانت قبل الاستعمار الفرنسي تقوم بجانب من التعليم الديني والعربي، ولكن الاستعمار سخّرها حتى أصبح معظم القائمين عليها مطاياه يرتكب الموبقات باسمهم، وهذه الطوائف هي الأسلحة التي كان يحارب بها جمعية العلماء، ولكن الله نصرها على التابع والمتبوع.(3/227)
التعليم العربي والحكومة *
- 4 -
لم تقف الحكومة في حرب التعليم العربي ومضايقته عند تلك الحدود التي شرحناها وقبحناها، وتلك القوانين والقرارات التي جرّحناها وفضحناها، بل أتتْ في هاتين السنتين الأخيرتين بما هو أقبح وأدلّ على سوء النية في التضييق على مدارسنا والتعطيل لها، وابتكرت أنواعًا من العرقلة، أخرجت بها القضية من باب القانون، والنظام، والمحافظة على الصحة، إلى باب العناد السخيف، والمعاكسة اللئيمة، التي تربأ كل حكومة محترمة لنفسها أن ترتكبها مع خصم لها، وإن لجّ في الخصومة، فضلًا عمن ليس بخصم، وإنما هو طالب حق، فضلًا عن كون المطلوب شريفًا لا ينازع في شرفه حتى الشيطان الرجيم، وهو العلم ...
منذ سنتين، أو منذ جدّت الأمّة الجزائرية في الحركة التعليمية بقيادة جمعية العلماء، ورأت الحكومة أنها عزمة دينية إجماعية لا تفلها القوانين، ولا تشلّها القرارات المكتوبة، عمدت هذه الحكومة إلى قرارات أخرى (شفاهية)، لم تصدُر بها المراسيم، ولم تصبغ بالصبغة الرسمية وإنما هي إيعازات إلى المديرين والمعلمين بمكاتبها الرسمية الابتدائية، ليقوموا على تنفيذها بالضبط والدقة. وهي إذا نفذت كانت أنكى وأضرّ بالتعليم العربي من تلك القوانين المكتوبة.
ونحن فقد أصبحنا مفتوحًا علينا في فهم هذه الحكومة ومقاصدها واتجاهاتها، وأصبحنا من المبرّزين في تأويل تصرفاتها وأعمالها، وأصبحنا نتدسَّس إلى مدبّ السرائر من نياتها وخواطرها، كما تفعل هي معنا، وهذا بذاك ولا عتب ... ففهمنا بالقرائن الصادقة، والشواهد الناطقة، أن هناك برنامجًا عمليًّا واسعًا عميقًا ذا شُعب متعدّدة ومرام بعيدة، لحرب التعليم العربي، يعتمد على التنفيذ الصامت لا على القرارات المعلنة التي تثير النقد والاعتراض، وأن اعتماد الحكومة في تنفيذه، على المديرين ورجال التعليم؛ ومن أشنع ما تتسم به الحكومات
__________
* نُشرت في العدد 68 من جريدة «البصائر»، 21 فيفري سنة 1949.(3/228)
الاستعمارية، التسلط على رجال العلم، ورجال القضاء، وتصريفهم في أغراضها المنافية لشرف العلم وشرف القضاء؛ والعلم رمز الإنسانية والكمال، والقضاء رمز العدل والمساواة؛ ومن رشد الحكومات الصالحة أن تكفل للعلم والقضاء الحرية والاستقلال، وتبعد برجالهما عن جميع المؤثّرات، فإذا سخرهما الاستعمار في أغراضه، واتخذ من رجالهما أدوات لتنفيذها، فذلك هو الفساد في الأرض؛ ولذلك تجدنا لا نثق ببعض علماء المشرقيات الذين يتخذ منهم الاستعمار مستشارين في وزارات الخارجية، فيجعل من العلم، معينًا على الظلم.
...
رأينا من آثار هذه البرامج في كثير من القرى تساهلًا عظيمًا في قبول التلامذة بالمكاتب الابتدائية الفرنسية، خلافًا للسنة المقرّرة عند الحكومة، وخلافًا لعملها المطلق ... الذي طالما نعيناه عليها وأنكرناه، وهو عدم عنايتها بتعليم أولاد المسلمين؛ وما كان هذا التساهل رحمةً منها بهم، ولكن لتصُدّ أكبر عدد منهم من غشيان المدارس العربية الحرّة، ثم تجريهم على برنامج فارغ إلا من التوافه، مضطرب الساعات، فمنهم من يأخذ ساعتين، ومنهم من يأخذ أربعًا، فيخسر التعليم العربي، ولا يحصل على التعليم الفرنسي. والعذر الذي تسمعه منهم على هذا الاضطراب هو عدم وجود الأماكن! ... ونقول نحن: إذا لم تكن الأماكن كافية لهم، فلماذا تقبلونهم من أول يوم؛ ولو أنصفوا لقالوا: إن قصدنا الوحيد هو معاكسة التعليم العربي وكفى ...
إن مدارسنا عامرةٌ بهذا الصنف من الأطفال. وهو هذا الصنف المتشرد الضائع الذي لم يجد إلى التعليم الحكومي سبيلًا؛ وان عدده لكثير، إنه ليقارب التسعين من المائة من أبناء الأمّة التي تدفع الضرائب، وتقوم بواجبات الجندية ... وما كنا في يوم من الأيام حربًا للتعليم الفرنسي على تفاهته؛ بل نحضّ عليه، ونعدّه باباً من أبواب الثقافة، وسلاحًا من أسلحة الحياة. وإنما نريد أن نجمع لأبنائنا بين التعليمين، جمعًا للمصلحتين، وما داموا محرومين من التعليم الفرنسي، فمن حقنا ومن واجبنا ومن الإحسان إلى أبنائنا أن نشغلهم النهار كله بتعلّم دينهم ولغتهم؛ بدليل أننا لا نقبل في مدارسنا تلامذة الفرنسية إلا بعد الرابعة والنصف مساء، لئلا يحرموا من أحد التعليمين، على ما في هذه الساعات الزائدة من إرهاق للمعلّمين والتلامذة عندنا.
هذا ما نراه نحن؛ أما الحكومة فإنها ترى أن بقاء أبنائنا هائمين في الأزقة معرضين للشر والفساد، خير من تعليمنا إياهم تعليمًا عربيًّا وإسلاميًّا، فلما صمّمنا على أداء الواجب علينا لديننا وأمّتنا، صمّمت على المعاكسة والتضييق، فلما لججنا في المقاومة، لجأت إلى مثل هذا العناد الذي لو تمّ وعمّ لكان مفسدًا لتعليمها، قبل أن يكون مفسدًا لتعليمنا.(3/229)
قد أصبح من عقائدنا الراسخة، بل أصبح من الحقائق الواقعة أن هذه الحكومة عاملة على إفساد تعليمها الرسمي لأبنائنا، وتصييره هيكلًا بلا روح، وحرمانهم في الأخير من مفتاح التعليم الثانوي. وهو "الشهادة الابتدائية". فهي تتعهد البرامج بالتنقيص من المفيد والزيادة من السفاسف. وهي تكثر بزعمها من التعليم الصناعي الآلي لتبعد أبناءنا عن منشطات الفكر والروح، وهي تكل تعليم أبنائنا- بدعوى الضرورة- إلى طائفة ليست لهم كفاءة المعلم، ولا شهادته، ولا مؤهلاته، ومن أغرب ما وقفنا عليه في أول هذه السنة الدراسية نسخةٌ من هذه الأوامر ... التي توجّه إلى مديري المكاتب الفرنسية، ومما فيها: الأمرُ بالتقدم إلى طلبة العربية الذين يعرفون القراءة والكتابة البسيطتين، وترغيبهم في تعليم العربية بالمكاتب الفرنسية. فما معى هذا؟ ومتى كانت المكاتب الحكومية الابتدائية تعلّم العربية؟ لا معنى لذلك إلا أن المطبخة دائبة على الطبخ.
ورأينا من آثار ذلك البرنامج، في كثير من المدارس الفرنسية، تمديد ساعات الدراسة المسائية إلى الساعة الخامسة، خلافًا للقانون السائر في جميع المدارس. ولا موجب لهذا إلا تفويت ميقات المدرسة العربية على التلميذ، وليتهم يعمرون له تلك الساعة بنافع مفيد، لكنهم يعمرونها بلهو فارغ أو بعمل شاق؛ ولقد مررتُ في شتاء السنة الماضية بقرية "بريكة" فرأيت بعيني تلامذة المكتب الفرنسي (المسلمين طبعًا) يجمعون الزيتون من بستان تابع للمكتب أو لإدارة المتصرف، وكان ذلك في الساعة الخامسة إلا ربعًا بالضبط.
وما يسّر على الحكومة وأعوانها تنفيذ هذه الأمور الشاذة، وتطبيقها بسهولة، إلا أصل أصلته. وهو عزل التلامذة المسلمين من زملائهم الأوروبيين في التعليم الابتدائي في مكاتب خاصة بهم، يطلقون عليها اسم " Ecole indigène" (1). ولو كانوا مع أبنائها لما عاملتهم هذه المعاملة. ولقد كانت الشهادة الابتدائية إلى وقت قريب تقسم على نمطين: أحدهما يعرف بنمط Titre indigène وكلمة (أنديجان) هذه في قاموس الاستعمار وفي ألسنة حماته الطغاة هي نبز وتحقير لهذا العنصر الشريف الذي أوقعته الأقدار، وتصرفات الفجار، في قبضة الاستعمار الفرنسي. فإن كذبتنا الحكومة وقالت إن التعليم واحد، والبرنامج واحد، فلتخبرنا: ما هي العلة في تخصيص أبناء المسلمين بمكاتب منبوزة بهذا النبز؟ أم هي تعد هذا من الديمقراطية الفرنسية؟ وقد عرفنا- بفضل الله- هذا الطراز من الديمقراطية، فعرفنا أنه مرادف للعنصرية السوداء اللون، العنيفة التأثير.
...
__________
1) " Ecole indigène": مدرسة أهلية، أي خاصة بالجزائريين الذين كانت فرنسا تسمّيهم "أهالي" احتقارًا لهم.(3/230)
بعد هذا كله- وأمثاله معه- تمنّ فرنسا على مسلمي الجزائر، وتقول: إنها علمتْ، وما علمت، ولكنها قلمت ... وما أغرب شأن الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي: فئةٌ تدرس في جامعة، وملايين ترسف في (جامعة) (2) ويا بُعدَ ما بين الطرفين!
__________
2) الجامعة هي القيد الذي يجمع اليدين والرجلين.(3/231)
التعليم العربي والحكومة *
- 5 -
يرجع تاريخ هذه المشادّة القائمة بيننا وبين الحكومة في قضية التعليم العربي إلى خمس عشرة سنة، فهي مقارنة لظهور جمعية العلماء تقريبًا، ولكنها تشتد وتتعقّد في كل سنة، تبعًا لنمو الحركة الإصلاحية واستفحالها وتطوّرها، فكلما اشتدّت حركة التعليم وامتدّت، ظهر للحكومة فيها رأي فسنّت لشلّها قانونًا أو قرارًا. وسكتت عن تنفيذه إلى حين؛ كما كانت متسامحة مع الجمعية لأوّل ظهورها، في إلقاء دروس التذكير في المساجد؛ فلما استفحل ذلك ورأت أنه مضرّ بسياستها الاستعمارية، وأنه تحنيثٌ لها في اليمين الذي قطعته على نفسها: لتحاربن الإسلام في الجزائر، ولتحصرنه في مثل جحر الضبّ من الضيق، ولتقطعن صلته بماضيه وصلته بمطلعه، حتى يتكون لها إسلام جزائري جغرافي محصور في حدود أربعة، خال من روحانية الإسلام وفضائله، لما رأتْ ذلك أصدرت القرارات بمنع أعضاء الجمعية من إلقاء الدروس الدينية في المساجد، وقصر إلقاء الدروس في المساجد على الموظفين الرسميين، أو "رجال الدين" كما يسمّيهم تقريرها الأخير، فمنعت كاتبَ هذه السطور من إلقاء دروس التفسير بالجامع الأعظم من تلمسان، ببرقية من الوالي العام إلى عامل وهران، وكان ذلك في أواخر سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة؛ ثم منعت الأستاذ العقبي من إلقاء دروسه بمساجد العاصمة بقرار (ميشال) المعروف.
ابتدأت المشادّة من ذلك الحين، وكانت في مبدإ أمرها مشادّةً في حرية المساجد، لأن الحركة التعليمية نشأت بعد ذلك، بعد أن تغلغلت دعوةُ جمعية العلماء في النفوس فحرّكتها، وفي الآذان ففتحتها؛ فأنت ترى أن تاريخ المشادّة طويل، وأن هذه القوانين والقرارات كان يتنزّل بها الوحي الاستعماري منجمة حسب المصالح ...
__________
* نُشرت في العدد 69 من جريدة «البصائر»، 28 فيفري سنة 1949.(3/232)
وقد تعاقب على الجزائر في هذه الحقبة سبعة ولاة مختلفي الميول السياسية، متنوعّي الحزبية، ولم يستطعْ واحد منهم أن يحلّ هذه المشكلة بوجه يرضي المسلمين، أو يبرقع - على الأقل- وجه الاستعمار البغيض في مسألة دينية كهذه. بل ما صدرت القرارات الخانقة إلا في عهد كثير من هؤلاء السبعة. ومن لم يضرّ منهم في السلب لم ينفع في الإيجاب. وكم ترك الأول للآخر.
كما تعاقب أربعة مديرين على إدارة الشؤون الأهلية، أو "الأنديجانية" بالتعبير الصحيح، فلم يستطع واحدٌ منهم فضّ المشكلة، لأن الطبيعة الاستعمارية واحدة في الجميع، بل كانوا بتلك الطبيعة يضعون في طريق حلّها العقاب، ويُمدّون نار الاستعمار فيها بالثقاب. وهذه الإدارة هي النافذة الوحيدة التي تشرف منها الحكومة على المسلمين الجزائريين، وهي المعمل المختص بحبك المكائد، وفتل الحبال، وهي المطبخ الذي تُطبخ فيه الآراء على حسب الشهوات، وهي "البورصة" التي كانت تباع فيها الضمائر وتشترى. وهذه الإدارة في جميع أدوارها كانت تجهز برجال استعماريين من الطراز الأول، وأول الشروط فيهم أن يمضوا درجات التدريب الإداري في الأحواز المختلطة (1) "الأنديجانية". وقد رأس هذه الإدارة رجل عالم قانوني وهو السيد (ميو) عميد كلية الحقوق في الجزائر، ولولا الاستعمار وتسخيره للعلماء كما ذكرنا في المقال السابق، لكان أقربَ الرؤساء الحكوميين إلينا، وأحسنهم فهمًا لقضيتنا، ولكن الاستعمار لا يعرف علمًا ولا قانونًا، لأنه لا دين له ولا ضمير، فلم يستطع الرجل أن يتغلّب بعلمه وقانونه على صبغته الإدارية، ولا على روحه الفرنسية، وما تقتضيانه من تقليد استعماري متّبع، ولا نحن سلّمنا في شعرة من مطالبنا، أو تساهلنا في قلامة ظفر منها.
فمرّت أيامه كأيام زملائه الآخرين ودخل وخرج وهو فرنسي في الحالتين، وقد بلوْنا هؤلاء الفرنسيين فوجدناهم يختلفون في المبادئ إلى حدّ التناقض، ولكنهم حين يصلون إلى الاستعمار، ودوْس الضعفاء، وسيادة فرنسا، يتغلب فيهم صوت الدم على صوت الضمير، واتفاق الروح على اختلاف المبادئ، وهذه هي الجرحة القادحة التي لا تنفع معها تزكية في علمائهم ومفكريهم وفلاسفتهم؛ وفي كل ما يدعون ويذيعون في العالم من جمهورية وديمقراطية.
وقد اتصل بنا الأستاذ (ميو) هذا لأول عهده بالإدارة، وطلب الاجتماع بنا لفضّ المسألة الدينية وقضية التعليم، فاستجبنا، وكان الاجتماع الأول حافلًا بالوعود
__________
1) هي أقضية أو نواح غالب سكانها عرب مسلمون، يعيّن لها حكام فرنسيون يحكمونها بأحكام استثنائية، يحبس المرء من غير سب ويغرب بغير سب، ولا حق له حتى في السؤال بكلمة: لماذا.(3/233)
والمجاملات، وكان اجتماعًا غاب عنه الاستعمار بوجهه الجهم، وحفه العلم برعايته للحرمات؛ وكان مما صارحنا به أننا على حق في قضيتنا وأنه منتدب من الحكومة لحلّها معنا بالمفاوضات الهادئة؛ وأن الحكومة قلقة جدًّا من هذه القضية؛ وقال: إنه لشرف للعلم الذي يجمع بيننا أن يحل أحد رجاله مشكلةً عجز عن حلّها أقدرُ الإداريين وأقدمهم، وانتظرنا، فإذا وعود الرجل تثبيط، واذا صعوده تهبيط، وإذا علمه من ذلك النوع الموضوع "تحت الطلب". فلما استيأسنا منه كتبنا إليه رسالة المستيئس، وسننشرها في العدد الآتي نقلًا عن العدد الحادي والعشرين من السلسلة الأولى لجريدة «البصائر»، ليقرأ القرّاء منها صفحة من جهادنا في هذه القضية التي لا نسلّمها حتى نسلّم الأنفاس، لرب الناس.
...
لم نكن في يوم من الأيام مغترّين بهذه المفاوضات التي كانت تتجدّد كلما تجدّد مدير، أو أشار على الحكومة بها مشير، أو جاءها من الأحوال العامة نذير؛ ولا كنا بانين عليها شيئًا إيجابيًّا تطمئن إليه النفس، وتستقرّ عليه الحالة، وينطفئ به هذا الضرام المشبوب في الأمّة، تحرّقًا على دينها ولغتها، وسخطًا على الاستعمار الواقف لهما بالمرصاد؛ بل كنا جارين على سنتنا في التعليم، وتأسيس مدارسه وجمعياته، موفين بعهد الله في خدمة دينه ولغة كتابه.
لم نكن نغترّ بتلك المفاوضات لأننا نعرف قيمتها، ونعرف مقصد الحكومة منها، ونعرف نيّتها التي لا تتبدّل في شأن التعليم العربي؛ ونعلم أن مقصدنا منه ومقصدها فيه متباينان، وأن كلًّا منا متمسّك برأيه التابع لمصلحته، ورأينا في التعليم مبني على عقيدة دينية ومصلحة قومية اجتماعية، ورأي الحكومة مبني على أصول استعمارية، غايتها هدمُ الإسلام والعربية، فأنَّى نلتقي في نقطة؟ ما دمنا نرمي إلى غايتين مختلفتين، وإذا كان خصمك لا يتفق معك في مفهوم الخير والمصلحة والمنفعة، وفي مفهوم الشرّ والمضرّة والمفسدة، بل لا يتفق معك في معنى الحق والباطل، فمن المحال أن تلتقيا على نتيجة، أو تجتمعا على مفيد، أو تفترقا على طائل، ومن العبث أو من سخرية أحدكما بالآخر تضييع الوقت في أمثال هذه المفاوضات، أو تعليق الأعمال والآمال عليها.
إن المفاوضات لا تكون إلا لتجلية الجوانب الغامضة من القضية، أو تبيين النقط المجهولة، أو فهم المقاصد الخفية، أو حلّ المواضيع المشكلة؛ وشرط نجاحها حسنُ النيّة وطهارة القصد من الجانبين. وقضيتنا نيّرة الجوانب، معلومة المذاهب، مفهومة المقاصد، واضحة المعالم، بيّنة الحق؛ ولكن المفاوضات فيها لا تنجح ولن تنجح لفقدان شرط النجاح، وهو حسن النيّة وطهارة القصد في أحد الجانبين ...(3/234)
التعليم العربي والحكومة *
- 6 -
... ودعانا بعد ذلك منذ سنتين آخر مدير لتلك الإدارة أو ذلك المطبخ. وهو السيد (باي) إلى المفاوضة وحلّ المشكلة بأمر من الوالي العام، وعيّن المفاوضين رسميًّا، وعيّنت جمعية العلماء الأساتذة: العربي التبسي، وأحمد بوشمال، وعبد القادر محداد، واجتمع المفاوضون مرّتين، تبيّن منهما البعد السحيق بين وجهتي النظر؛ وكان الحديث في الجلستين خاصًّا بحرية التعليم العربي، وهو أهون المشاكل وأقربها إلى الحل، فكيف لو جاوزوها إلى حرية المساجد والأوقاف وحرية القضاء الإسلامي؛ وهي المشاكل التي تجهد جمعية العلماء في حلّها، وتسعى لتحريرها، ولقد كنا في كل مفاوضة أو محادثة نشترط إعلان إلغاء جميع القوانين والقرارات القديمة المتعلّقة بقضايانا، ثم صياغة قانون واحد صريح نتفق عليه، وتكون مادّته الأولى حرية الدين وجميع متعلقاته، ولكن هذه الحكومة لم تشأ أن تلغي حرفًا واحدًا من تلك القرارات والقوانين. فلما خابت المفاوضات الأخيرة جاءني الشيخ (باي) يومًا إلى منزلي وبيده نسخة مشروع وضعه دهاقين الإدارة بالحكومة الجزائرية لتستصدر الحكومة على نمطه من مجلس الأمّة الفرنسي "قانونًا" أو من الوزارة "ديكري" (1) وكان ذلك المشروع خاصًّا بالتعليم العربي فقط ليس فيه ذكر للمساجد والأوقاف والقضاء، وفيه النص على إلغاء جميع القوانين والقرارات المتعلقة بالتعليم العربي واستبدال هذا القانون الموحّد بها. وترجمت لي تلك النسخة فإذا فيها كل ما في تلك القوانين والقرارات من روح ومعنى مع تبديل في الألفاظ ونقص لحرف وزيادة لآخر، وإذا هو هي، غير أن القديم متفرّق، والجديد مجموع. وطلب مني بكل إلحاح تجديد المفاوضة على هذا الأساس "المتين" وضرب لي أجلًا ضيّقًا، لأن الضرورة- بزعمه- تقتضي الاستعجال، فلم أقبل منه الأجل،
__________
* نُشرت في العدد 70 من جريدة «البصائر»، 7 مارس سنة 1949.
1) "دِيكري": كلمة فرنسية معناها مَرْسُوم.(3/235)
وقبلت المفاوضة بنفسي مع مندوب عيّنه، ولبثنا نتحدث ثلاث ساعات من كل يوم، لمدة أسبوع، حديثًا فارغًا مكرّرًا معادًا وكان محدّثي يقتنع بالحجة، ويسلم بالبرهان، ويتحرك ضميره للاعتراف بالحق أحيانًا، ولكنه لم يكن يملك التفويض اللازم لإنهاء المشاكل، فكان لا بد له من سلوك المداورات الإدارية التي تزيد المشكل إشكالًا.
ومن الأمانة في تبليغ الأعمال للرأي العام، أن ننشر ترجمة تلك النسخة، ليشاركنا القرّاءُ في علم ما نعلم من تقمّصها للقوانين والقرارات القديمة. فكأنه مجموع متون متفرّقة، أحسن الطابع جمعها ونشرها. وإن الحسنة الوحيدة فيها هي تصريحها بإلغاء القوانين القديمة في المادة الأولى التي هي أول ما يطالع القارئ، ولا حرج إذا تضمنت بقية المواد ما يناقض أولها، والإماتة والإحياءُ في آن واحد، من المعجزات التي لا تجري إلا على أيدي نمط من الرجال مخصوص. والأستاذ (باي) عمل في الإدارة الاستعمارية بالمغرب، ثم عمل في مثلها بالجزائر، وهو الآن بتونس، ولا ندري أهو مشتغل بالحل أو بالعقد.
وهذا نصّ النسخة:
"مشروع قانون يخصّ المدارس الابتدائية الحرّة والمدارس الدينية الحرّة في الجزائر.
رئيس مجلس الوزراء:
"تبعًا لتقرير من وزير التعليم الوطني. وبناء على رأي وزير الداخلية. وبناء على قانون 23 أوت 1898، وقوانين 23 أكتوبر و21 فيفري 1936 المتعلقة بالولاية على الجزائر، وإدارتها العليا.
وبناء على قانون 18 جانفي 1887 الخاص بتنظيم التعليم العام.
وبناء على قانون 18 أكتوبر 1892 الخاص بتعليم الأهالي الجزائريين الابتدائي العام والحرّ.
وبناء على المادة 29 من قانون 27 سبتمبر 1907 التي تشرح تنفيذ القانون والتي تحدّد شروط تنفيذ قوانين الفصل بين الدولة والكنيسة (2) في الجزائر، وشروط مزاولة الأعمال الدينية العامة.
وبناء على قانون لجنة التحرير القومي الفرنسي، بتاريخ 6 أوت 1943 الخاص بفتح المدارس الحرّة الإسلامية ذات الصبغة الدينية.
وبناء على قانون 27 نوفمبر 1944 الخاص بسير التعليم الحرّ في الجزائر. وبعد سماع المجلس الدولي الاستشاري. وبإيعاز من الوالي العام على الجزائر يقرّر ... إلخ ".
...
__________
2) هو قانون فصل الدين عن الدولة، وأصله وُضع في فرنسا من أيام الثورة الفرنسية لمنع الكنيسة من الحكم واستقلالها بالدين، فطالبنا نحن بتنفيذه في الجزائر مع الإسلام.(3/236)
هذا سجل واف للقوانين والقرارات المشتبكة حول مسألة واحدة، وهي التعليم العربي بالجزائر، وهي كما ترى من الكثرة بحيث أصبح القانون الأصلي معها كثوب الفقير، كله رُقع، وكله خروق.
ولعل القارئ تهوله هذه الكثرة، وهو لم يقرأ إلا تواريخها وبعض أرقام موادها، وكيف به لو قرأ نصوصها وموادها؟ وما وُضع عليها من الشروح، والحواشي، والتعاليق، والملحقات، والاستدراكات، والزوائد، والإحالات، والتقارير، والبيانات، ولو قرأ كل ذلك لرأى العجب العجاب. وأنسته هذه الكثرة- التي ينسي آخرها أولها- ما نشكو منه من كثرة الشروح والحواشي في كتب فقهائنا المتأخرين ...
وآخر ما يسترعي انتباه القارئ الغافل، من هذا الثبت الحافل، هو تواريخ هذه القوانين والقرارات وتعاقبها وتشابكها وكثرة الإحالات فيها، ففي خمسين سنة وضعت هذه النصوص كلها لمسألة واحدة، وكان أول نصّ منها بسيطًا، ثم تعاهده رجالُ السياسة- بإيعازات من رجال الحكم والإدارة- بالتنقيح والزيادة والتوضيح، حتى وصل إلى هذه الصورة وهذه الكثرة التي تستدعي وضع (كشف ظنون) جديد خاص. ومن يدري؟ فلعلّ واضعه الأول أوصى ببعض ما أوصى به الشيخ خليل في خطبة مختصره بقوله: "فما كان من نقص كملوه" ...
وأنا أشهد أنني اجتمعتُ بجماعة من المحامين، ورجال القانون، وطائفة من العلماء الباحثين، وفئة من أهل الاطلاع الواسع في الشؤون الإدارية، وثلة من المباشرين للمكاتب العامة، وهواة مجاميع الجرائد والمجلّات العلمية والرسمية، وسألت كلًّا منهم عن هذه القوانين وأين توجد مجموعةً، فما عرفوا شيئًا من ذلك، ولا أرشدوني إلى شيء من ذلك، ما عدا ما هو متفرّق في الجريدة الرسمية تفرّقًا شنيعًا، تنفق في جمعه أوقات وجهود، ثم سألت رجال القانون عن فقه هذه القوانين، فأجابني المنصفون منهم بأنه لا فقه لها إلا في أدمغة الإداريين المقلّدين، إذ الشأن في فقه القوانين أن يكونَ (مدهونًا) بالفلسفة الاجتماعية، مطابقًا لروح الزمان والمكان. وهذه القرارات الفردية وهذه القوانين البوليسية لم توضع لإصلاح شيء، وانما وضعت لإفساد شيء، فإذا احتيج فيها إلى شيء فيرجع فيه إلى الفقهاء المفسدين ... قالوا: وهي قبلُ وبعدُ قوانينُ استعمار. قلت لهم: ولا تزول إلا بزوال الاستعمار. قالوا: ولا يبنى على الصالح إلا الصالح. قلت: وكل ما بني على الفاسد فهو فاسد.(3/237)
التعليم العربي والحكومة *
- 7 -
هذه هي مقدّمة المشروع الذي وضعه الشيخ (باي) بمعونة الرجال الاختصاصيين في الإدارة وتقدّموا به إليّ، كأساس للمفاوضة، على أننا إذا اتفقنا على ما فيه قدّم للوزارة لتصدر بنصوصه (ديكري) ينسخ "الديكريات" ويأكل القرارات، ولا أدري، بماذا مهّدتْ إدارة الجزائر لهذا المشروع عند الوزارة، وفي الديوان الجزائري هناك؟ وإنما الذي ندريه أن الوزارة وكل ما تفرّع عنها من اللجان والإدارات (ذات الاختصاص) خاضعةٌ في كل ما يتعلّق بنا للإدارة الجزائرية، ترجع إليها، وتتلقّى الوحي منها، وتصدُر عن رأيها، ولا تنقض ولا تبرم إلا بإشارتها. ألم ترَ أن المقدّمة التي نشرناها خُتمت بهذه الجملة: "وبإيعاز من الوالي العام على الجزائر".
وبعد هذه الديباجة التي تشير إلى جميع القوانين، وتعتمد عليها، و (تأخذ بخاطرها) وتنبّهنا إلى مواقعها، وترمز بكثرتها إلى أن العبء الذي سيخفّف عنا بسببها عظيم، وأن المنّة علينا بها جسيمة، بعد ذلك تأتي مواد المشروع مبنية بأحجار القوانين القديمة، موضوعةً على أساسها، على هذا النسق.
"المادة الأولى: قد أُلغي العنوان الثالث وهو: (التعليم الخاص بالأهالي الأنديجان) من قانون 18 أكتوبر 1892 المتعلّق بالتعليم الابتدائي الحرّ عند الأهالي الجزائريين، وكل النصوص التي كمّلته أو غيّرته".
وهذه المادة هي الجملة الوحيدة المغرية من المشروع، لأن قانون 18 أكتوبر 1892 هو أصل البلاء كله على التعليم العربي في جملته وتفصيله، وكل ما جاء بعده فهو فرع عنه أو تكميل له، ويقول الشيخ (باي) في أول حديث له معنا في المشروع: إن هذه المادة
__________
* نُشرت في العدد 71 من جريدة «البصائر»، 14 مارس سنة 1949.(3/238)
محقّقة لشرطنا الأساسي، وهو إعلان إلغاء جميع القوانين القديمة وتعويضها بقانون واحد جديد؛ ونحن لا نصدّق بذلك ولا نعدّه محقّقًا لشيء ولا مفيدًا لشيء، لأن ذلك القانون وجميع القوانين التي تشبهه، مصوغة كالسلسلة كلها حلق متشابكة، أو كالشبكة كلها خروق لا تسدّها إلا بقلب وضعها؛ وهي غير محقّقة للإلغاء، لأننا اقترحنا على الحكومة أن يكون الإلغاء معلنًا من جانبها. وعرَض هذا الاقتراح مفاوضو جمعية العلماء على مفاوضي الإدارة في المرّة الأولى بصورة أوسع، وهي أن يُعلنَ الإلغاء في الجرائد ويُعلن معه الشروع في المفاوضات، فأبى ذلك مفاوضو الحكومة، وقالوا لممثّلي الجمعية: أعلنوا أنتم إن شئتم ...
"المادة الثانية: يجب على المعاهد الدينية على اختلافها، والتي لا يشتمل برنامج تعليمها سوى الدروس الدينية وبعض مبادئ القراءة والكتابة ولا تعلم المواد الأخرى التي تُدرس في المدارس الابتدائية، وهي المواد المشار إليها في المادة 27 من قانون 18 جانفي 1887 الخاص بالتعليم الابتدائي العام: على هذه المعاهد أن تخضع للنظام الآتي:
أولًا: على المدير الذي يريد فتح مدرسة من هذا النوع أن يخبر- كتابيًّا- نائب عامل العمالة (1) في منطقته، وإذا كان في المناطق الجنوبية العسكرية فليخبر رئيس تلك المنطقة العسكرية. ويستطيع أحد المعلّمين أن يقومَ بهذا الإخبار بدلًا من المدير.
ويجب أن يتضمن هذا الإخبار بصفة خاصة عدد التلاميذ الذين سيدخلون المدرسة.
كما يجب أن يرسل مع الإخبار الأوراق التالية:
1 - تصميم المحل.
2 - شهادة ولادة المدير أو المعلم تثبت أن صاحبها ذو جنسية فرنسية.
3 - شهادة براءة من الأحكام الجنائية لا يزيد تاريخها عن ثلاثة أشهر.
4 - شهادة استقامة وحسن أخلاق.
فإذا لم يجب عامل العمالة أو رئيس المنطقة الجنوبية في ظرف شهر من يوم إرسال هذه الأوراق المشروطة فيمكن فتح المدرسة دون توقف. ولا يرفض طلب فتح مدرسة إلا إذا كان السبب يرجع إلى دواعي الصحة في المحلات، أو سيرة المدير أو المعلمين.
ثانيًا: يجب على المدير أو المعلم أن يسجّل في دفتر خاص أسماءَ التلاميذ وتاريخ ولادتهم وتاريخ دخولهم المدرسة وأسماءَ آبائهم ووكلائهم الشرعيين وعناوينهم. وهذا السجّل يجب أن يكون دائمًا تحت طلب الحكومة".
...
__________
1) نائب عامل العَمالة: نائب الوالي أو المحافظ.(3/239)
ثم يذكر المشروع منع العقوبات البدنية، واشتراط التلقيح، وإبعاد المصابين من التلاميذ بالأمراض المعدية، واستكمال المدرسة للشرائط الصحية، وهي شروط تقوم بها مدارسنا دون اشتراط، لأن ديننا يهدي إلى النظافة والصحة والنظام.
ويرى القارئ لهذه المواد، التي نشرناها بنصها من المشروع، أنها تذكر المدير والمعلم ولا تذكر الجمعية، مع أن مدارسنا كلها تديرها جمعيات لا أفراد، والجمعية أقوى على تحمل المسؤولية، وأقرب للقيام بالتعهدات والشروط، وأدنى أن تحقّق النظام المطلوب في مصلحة اجتماعية كهذه؛ ولكن الحكومة لا تعنيها المصلحة ولا النظام، وإنما يعنيها أن تكثر من أسباب التعطيل، وما يسهّل أسباب التعطيل، لذلك تعترف بالمدير وتتجاهل الجمعيات. لتكون أعمال التعليم كلها فردية، وليكون المسؤولون عنها أفرادًا، وقلع الأفراد أهون عليها من قلع الجماعات؛ واستهواءُ الفرد، أو أخذه بالترغيب والترهيب والمساومات أسهل وأمكن.
وقد ناقشتُ محدّثي الرسمي في هذه النقطة وشرحت له معنى ما ذكرت هنا بإسهاب، وبيّنتُ له ما نعتقده من مقاصد الحكومة فيها، فاقتنع ولم ينكره بذوقه الخاص؛ وإن لكل واحد من رجال الحكومات في كل نازلة ذوقين: ذوقًا إنسانيًّا كأذواق الناس يميّزون به المعقول من غير المعقول، والحلو من المرّ، والحسن من القبيح، لا يخرجون فيه عن طبائع الأشياء وخصائصها وأشكالها ومقاديرها؛ وذوقًا حكوميًّا يتكيّف بالاعتبارات الحكومية، وينعكس وينتكس، بالتعمل والتأثّر، حتى يصير الحلو عند صاحب هذا الذوق مرًّا، والحسن قبيحًا.
اقتنع صاحبي بأن حركتنا التعليمية حركة جمعيات، وأنها هي المسؤولة، وأن الخطاب يجب أن يكون معها، وأن المدير أو المعلم إنما هو موظف عندها، وأن تكليفه بهذه الشروط مدرجة إلى تعطيل أعمال الجمعيات؛ ولكن ذوقه الحكومي لم يسمح له بتجرع هذا ...
وفي المادة الثانية وجوب الإخبار بفتح المدرسة، إلخ. والإخبار المجرّد أمر بسيط، نقبله ولا نتحرج منه؛ ولكننا نقبله على أنه إخبار مجرّد مقرون بالشروع في التعليم؛ أما الحكومة فتسمّيه إخبارًا، وتفسّره استئذانًا، لأنها تقول: إذا لم يجب عامل العمالة أو رئيس المنطقة في ظرف شهر من يوم الإخبار فللطالب أن يفتح المدرسة. إذن فهو استئذان، وترخيص، لاإخبار؛ ولو كان إخبارًا فقط لما توقف على إذن ولا تأجيل؛ وما دام التأجيل مقرّرًا فمعناه أن لعامل العمالة أن يجيب بالرفض، وأن يتعلّل بتلك العلل المستثناة.
هذه واحدة من بقايا المعاني القديمة في هذا المشروع.(3/240)
التعليم العربي والحكومة *
- 8 -
ثم يقول هذا المشروع الذي هيّأوه للوجود، وجرّدوه من خصائص الوجود وعناصره، وأرادونا على أن ننفخ معهم الروح في جماد، فأبينا، واستدرجونا إلى أن نقبل القديم، ملفوفًا في ثوب جديد، معنونًا بعنوان جديد، فأبينا، وأن نتجرّع السم في زجاجة دواء، فامتنعنا، يقول المشروع في تفصيل المادة الثانية:
"رابعًا: يمكن لعامل العمالة بإيعاز من السلطة البلدية، ولحاكم المنطقة العسكرية بإيعاز من السلطة التي تحت نظره، أن ينزع رخصة التعليم مؤقّتًا، أو مؤبّدًا من المدير أو المعلم إذا وقعت منه خطيئة في مزاولة عمله، أو ارتكب ما يفسد أخلاقه وسيرته، ويجب على المدير أو المعلم الذي يخلفه أن يقدّم الأوراق اللازمة المشار إليها في القسم الأول من هذه المادة بحروف: أ، ب، ج، من هذا القانون.
ويستطيع الوالي العام على الجزائر أن يعطّل- بصورة استثنائية- سير أي مدرسة في حين وقوع حادث ذي صبغة خطيرة، وبإيعاز من عامل العمالة أو حاكم المنطقة الجنوبية العسكرية".
كنا وما زلنا نعلن للملأ، ونقول للحكومة: إن البلاءَ المنصبّ على تعليمنا آت أقلّه من القوانين وأكثره من كيفية تنفيذها، ومن القائمين على تنفيذها، وما القائمون على تنفيذها إلا صغار الشرط ومن فوقهم من حكام الأحواز المدنية، والمناطق العسكرية، لأن هؤلاء الجبابرة حين يتولّون تنفيذ القوانين المتعلقة بنا، وبديننا وتعليمنا، لا يباشرون ذلك على أنه تنفيذ لقانون يقف الطرفان عند حدوده ونصوصه، ولا يأتون ذلك بشيء من روح العدل، وإنما يباشرون ذلك على أنه انتقام من العربي المسلم (الأنديجان)، وبروح التشفي والمكر وإطفاء الحقد
__________
* نُشرت في العدد 72 من جريدة «البصائر»، 21 مارس سنة 1949.(3/241)
الكامن، فالتنفيذ عندهم في هذا الباب، تنفيذ عقوبة لا تنفيذ قانون، وقد بلوْنا ذلك وخبرناه فإذا هو هو في جميع صوره ومظاهره وملابساته، حتى في ردّ الجواب، وهيئة الخطاب.
هذا الذي جأرنا بالشكوى منه هو الذي تقرّره وتثبته هذه الفقرة من هذه المادّة من هذا القانون، فتبنّي الرخصة ونزعها وتعطيل سير المدارس (على الإيعازات) من هذا الصنف الذي ما خلق إلا ليكون شرًّا على ديننا ودنيانا، والذي لا يوعز في حقنا إلا بالهضم والظلم، والشر والتضييق، والذي لا يرضيه عنا شيء، إلا أن ننسلخ من كل شيء، فإلى هؤلاء الذين لا يحكمون فينا بالعدل والقانون، وإنما يحكمون بالعاطفة والشهوة، يكل "المشروع" أمرًا حيويًّا، وعلى إيعازاتهم يبني حياتنا وموتنا.
ونرجع الآن إلى مقارنة بين الفقرة التي نقلناها، وبين ما قبلها. فهذه الفقرة تفاجئ بأن لعامل العمالة أن ينزع الرخصة بإيعاز ... وأية رخصة هذه؟ ولم يجر لها ذكر وإنما جرى ذكر الإخبار المجرّد محفوفًا بالإبهام وما يشبه التناقض، وقد ناقشناه في المفاوضة وأشرنا إليه في المقال الماضي.
ثم تتعثّر هذه الفقرة في إجمال للإيعاز وللسبب الذي ينبني عليه وهو (الذنب الخطير) وقد ناقشت المفاوض الحكومي في هذا التناقض وشرحت له في هذا الموضع رأي الجمعية في أصل (الرخصة) وبيّنت له فسادها وأضرارها، وأبواب التحكمات التي تفتحها علينا، وسجّلنا كل شيء ولكن الرجل مفاوض غير مفوّض ... ثم ألزمته بتحديدات لهذه النقط المظلمة، والعبارات المبهمة، ومنها الذنب الذي يستوجب مرتكبه نزع الرخصة منه، فأجاب على الإجمال بإجمال، فشرحت له مراد الحكومة من هذا الإجمال، ومرادها (بالذنب الخطير) وأنها تطلق وتعمّم ليبقى باب التأويل مفتوحًا لرجالها، ولكنها- على كل حال- لا تريد من الذنب شرب الخمر ولعب الميسر، والزنا، وكبائر الإثم والفواحش، لأن هذه كلها مشمولة بحمايتها، وكلها- ولو اجتمعت- أخفّ في الإجرام من جريمة التعليم العربي، وإنما تريد الحكومة من الذنب شيئًا واحدًا، تسمّيه إذا شاءت بأسماء عديدة، وتحصره إذا شاءت في اسم واحد وهو السياسة، ولو كان هذا الوصف الشريف منطبقًا على كل من (تتّهمه) به لهان الأمر، ولكنها تكل إلى عمالها رمي من شاؤوا به. فإذا غضبوا على شخص ما، لأمر ما، ولم يجدوا في أعماله مطعنًا، ولا في حياته مغمزًا، ولا في سيرته معلقًا للتهم، رموه بهذه النقيصة التي لا كمال معها، لينتقموا منه، ويطفئوا نار غضبهم عليه، وما دامت حكومتهم تضع المتون، وتكل إليهم الشروح، فهذا هو الشرح الوجيه التي يتفق مع مراد الشارع، ويؤدّي مراد الشارح.
هذا هو المقصود من الذنب، وضعته الحكومة قصدًا ونيّةً وبيّنه رجالها عملًا وتطبيقًا، وعرفناه نحن مشاهدة وتجريبًا، فكل إجمال فيه ضائع، وكل تفصيل له عبث ولغو.(3/242)
فإذا جاوزنا من المشروع (رابعًا) كما يجاوز الحاج رابغًا، وجدنا (خامسًا) لا يفهمه إلا الراسخون، ولا يضعه إلا الماسخون، وهو:
"خامسًا: في المدن التي لا تكفي مدارسها (الحكومية) العامة لإيواء كل التلاميذ الذين هم في سن الدارسة- يسمح عامل العمالة بإذن كتابيّ منه، بفتح مدارس حرّة ذات صبغة دينية، لمدة لا تتجاوز سنة واحدة دراسية. لتعلّم في ساعات التعليم بالمدارس العامة دون مراعاة للمسافة التي بين المدرستين. ويمكن أن تجدّد هذه الرخصة".
ومعنى هذه المبهمات أن قوانين الحكومة تمنع فتح مدارس (أجنبية) بجنب مدارسها الرسمية وتمنع كل تعليم أجنبي في الساعات التي تكون فيها مدارسها مشغولة بالتعليم الرسمي، كل ذلك بالنسبة للأولاد الصغار الذين يكون سنهم دون الرابعة عشرة، ولكن هذا كله لا يعقل تطبيقه إلا إذا كان التعليم إجبارًّيا، ومدارسه كافية لكل طالب، أما حالتنا مع هذه الحكومة فكلها شذوذ في شذوذ، فالتعليم ليس إجباريًّا، والموجود لفظ بلا معنى، وجسم بلا روح، وتعب بلا فائدة، وللحكومة في جعله كذلك حكم وأسرار، ولعلها من المفيد لنا لا الضار، والمكاتب غير كافية حتى لعشر المعشار، وإدارتها لا تقبل من أبنائنا إلا بمقدار، فلما رأت الحكومة إقبال الأمّة على تعليم أبنائها، تعليمًا عربيًّا دينيًّا، وتصميمها على ذلك، ورأتْ من جهة أخرى تنبّه الأمّة لتقصير الحكومة في التعليم المدني، وعدم قيامها بالواجب له، واحتقارها للمسلمين في كل ما يجب لهم منه، وبخسها لحظّهم منه، لما رأت الحكومة ذلك وتدّبرت عواقبه، أدمج مشرّع هذا المشروع هذه الفقرة، ليلفتنا من جهة إلى هذا القانون المدسوس فيخيفنا به، وليمنّ علينا بأن للعامل أن يرخص: في الدراسة الدينية، للأطفال الصغار، في ساعات التعليم الرسمي، إذا كانت المدرسة لا تكفي لإيوائهم ... وليت شعري، إذا وجدت هذه الأمور كلها، واجتمعت، ثم جاء شخص أو حكومة أو أي كائن يريد منع الناس من التعليم حتى يستأذنوه، وحتى يرخص لهم، ولمدة عام واحد فقط، ثم يعاد الاستئذان ويعاد الترخيص أو يُرفض، إذا جاء إنسان أو حكومة بمثل هذه الموبقات، مع وجود هذه المقتضيات كلها، فماذا يقال فيه؟ الحق أن أقلّ ما يقال فيه: إنه عدوّ لدود للعلم والتعليم، ووليّ حميم للجهل والأميّة، وهذا هو ما قلناه- في صراحة- لهذه الحكومة. وما قلنا لها هذا إلا لما تعاملنا به من مثل هذه التشريعات.
ومن المضحكات قول هذا المشرع: دون مراعاة للمسافة بين المدرستين ...
إن هذه الأمور إذا اجتمعت صيّرت العاقل بين أمرين: إما أن يضع جميع الاعتبارات والقوانين تحت رجليه ويعلم، وإما أن يجنّ ...(3/243)
التعليم العربي والحكومة *
- 9 -
ثم ماذا؟ ...
ثم يقول هذا المشروع الذي لم يرزَق براعة الاستهلال، ولا دليل الحياة من الاستهلال:
"المادة الثالثة: تخضع المعاهد التي يشمل برنامج تعليمها كل أو بعض مواد التعليم الابتدائي المشار إليها في المادة 27 من قانون 1887، لنصوص المادتين الثانية والثالثة من قانون 27 نوفمبر 1944 الخاص بنظام التعليم الحرّ في الجزائر، ولا يطلب من المعلّمين أي شرط ليعلّموا في هذه المعاهد مواد غير مذكورة في المادة 27 من قانون 18 جانفي 1887".
ولسنا بصدد شرح هذه المواليد المختلفة في الأعوام، المتجمعة في أنها ظلم وظلام؛ مقنّعات بقناع النظام. وإن هذه الإحالات المتكرّرة لتكفي وحدها في التعقيد، وخفاء المراد عن المريد، وكلها قوانين كانت نائمة، وكانت الحكومة عنها صائمة، فلم توقظها في وقت من الأوقات، مثل ما أيقظتها في هذه السنوات الأخيرة. لأنها كانت تظن أنها سلاح لغير قتال ولا معركة، لأن الأمّة كانت تغطّ في النوم أيضًا، فما حاجة الحكومة إلى تلك القوانين؛ وإنما وضعتها للاحتياط وقطع الشك ... فلما جدّ جد الأمّة في هذه السنين، وفتحت أعينها على تراث منهوب، وحق مغصوب، ومدّت أيديها للاسترجاع والتجديد، مدّت الحكومة يدها إلى تلك القوانين تحرِّكها وتوقظها، وتغذّيها بالزيادات والملحقات؛ ومن أشنع هذه الزيادات ما وُلد في طالع النحس، وهو ما قرّرته لجنة التحرير القومي يوم كانت الدولة الفرنسية كلها في الجزائر، وكانت فرنسا كلها تضطرم ثورةً وحربًا. ففي ذلك الوقت الحرج الذي ينسى فيه الخليل خليله، لم تنسنا لجنة التحرير القومي، وكافأت الأمّة
__________
* نشرت في العدد 73 من جريدة «البصائر»، 28 مارس سنة 1949.(3/244)
الجزائرية على الإحسان بالإساءة، وعلى المعونة بالخذلان، وعلى الدم بالهدم والهضم؛ وكان الهضم عامًّا لجميع الحقوق، ولكن التعليم العربي نال الحظ الأوفر من هذه الهضيمة، إذ رمته لجنة التحرير القومي بقانونين، وإن لم تكن لها قوّة "التقنين": أحدهما قانون 6 أوت 1943، والثاني قانون 27 نوفمبر 1944؛ وقد ذكرا في هذا المشروع، وأدرجا في مقدّمته، مع القوانين التي يجب الاعتماد عليها، والرجوع إليها: وإن التشريع في أيام الحرب للأمور الاجتماعية، كالتعليم مثلًا يخطئه التوفيق ويحالفه السفه والخطل، لأن زمن الحرب زمن ضرورة وترخص واستثناء، فما يصلح فيه لا يصلح في غيره، وحالة الحرب حالة اضطراب في العقول والأفكار، ليس معها هدوء ولا استقرار، فما شرعته تلك العقول، أو أنتجته تلك الأفكار، لا يكون إلا شدّةً أو انتقامًا أو بلاءً مبينًا. بل نقول: إن عمل لجنة التحرير القومي، أو عمل الحكومة الفرنسية في تلك الأيام في مثل هذه الشؤون، يعد كالعمل يوم القيامة، لا ينفع الأبرار، ولا يضرّ الفجّار.
إن أوجع الضربات المسدّدة للتعليم العربي، من هذا التشريع "الحربي" ما فرضه على المدارس العربية من تعمير خمس عشرة ساعة في الأسبوع بتعليم اللغة الفرنسية.
سألني المفاوض الرسمي- وهو يحاورني في هذه النقطة من المشروع- عن رأي في هذه الساعات الخمس عشرة، وعما يمكن أن نقبله منها، فقلت له: إننا لا نرضى في هذا الباب بشيء يزاحم لغتنا، ويضايق تعليمنا، وبيّنت له في تعليل ذلك الأسباب الآتية:
أولًا: إن مدة التعليم عندنا هي خمسة أيام في الأسبوع، فإذا قسمنا عليها خمس عشرة ساعة كان حاصل القسمة ثلاث ساعات لكل يوم؛ فماذا يبقى لتعليمنا العربي؟
ثاينًا: إن تعليمنا ديني، وفيه حفظ القرآن، وحفظ حصّة من القرآن يستغرق ثلاث ساعات من اليوم، فماذا يبقى لتعليم الدين والعربية؟
ثالثًا: إن أولياء تلامذتنا إنما جاؤونا بأولادهم لتعلّم العربية والدين، ولا نحقّق رغبتهم إلا بتعليم أبنائهم ست ساعات كاملة.
رابعًا: إن أغلب تلامذتنا يتركّب من المطرودين من المكاتب الفرنسية بدعوى مجاوزة السن القانونية، أو بدعوى ضيق الأمكنة عنهم، وفي الجمع لهم بين تعليمين إضاعةٌ للتعليمين معًا.
خامسًا: إن تعليمنا ابتدائي، وما عهدنا تعليمًا ابتدائيًّا يجمع بين نوعين من التعليم.
سادسًا: إن مدارسنا تنفق عليها الأمّة، وهي محدودة الموارد المالية. فمن أين ننفق على طائفة تساوي عدد معلّمي العربية؟ لا نقدر نحن على الإنفاق، ولا نرضى بأن تنفق(3/245)
الحكومة على هؤلاء المعلّمين، إذا رضيت هي بذلك، لأننا نعلم مقاصدها من ذلك، ونعرف عواقب ذلك، ومن عواقبه التدخل والتحكم والتسلّط والإفساد.
سابعًا: إن أولادنا الذين يتعلمون في المكاتب الفرنسية ست ساعات في اليوم لا ينجح منهم تسعون في المائة، لفساد مقصود في البرنامج، واختلال متفق عليه في النظام، فكيف ينجحون أو يستفيدون من ثلاث ساعات في اليوم؟ إلا إذا كان المقصود مضارّة كل من اللغتين للأخرى، وهو ما نقوله ونعتقده ونؤّيده بالشواهد.
ثامنًا: إن للّغة الفرنسية مدارسها وحكومتها وملايينها وقوّتها، فما معنى هذه المضايقة؟ وما معنى هذه المزاوجة التي لا تفيد واحدةً منهما؟
ولتحقيق السبب الخامس من هذه الأسباب وتيسيره علينا جاء المشروع بعد كلامه السابق متصلًا بقوله:
"يستطيع عميد جامعة الجزائر بصفته مديرًا عامًّا للتعليم الوطني في القطر كله أن يضع تحت تصرّف مديري المدارس، حين يطلب منه ذلك، المعلّمين الذين ينقصونهم لتعليم المواد التي تدرس إجباريًّا باللغة الفرنسية" ...
لم نسمع كلمة (إجباريًّا) إلا هنا، وفي مدارسنا التي شدناها بأيدينا، وأنفقنا عليها أموالنا، ونعلم فيها ديننا ولغتنا؛ أما في مدارس الحكومة فلم نسمع كلمة إجباريًّا أبدًا؛ وإلى الآن، وبعد قرن وزيادة، لم تشرع فرنسا قانونًا يقضي بتعليم المسلمين تعليمًا إجباريًّا كما هو الشأن في أبنائها، وكما هو الشأن عند جميع الأمم، وبقيت هذه المنقبة مدّخرة لدور لجنة التحرير، فتقرّر جعل تعليم اللغة الفرنسية إجباريًّا، ولكن في مدارسنا لا في مدارس الحكومة ...
ثم يختم المشروع بهذه المادة التقليدية وهي:
"المادة الرابعة: وزير التعليم الوطني ووزير الداخلية مكلّفان كل في ما يخصّه بتنفيذ هذا القانون الذي سينشر في الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية، وفي الجريدة الرسمية لحكومة الجزائر".
ولكن المشروع أدركه الغرق، ولم يعدُ أن يكون حبرًا على ورق؛ وقد رضيت المفاهمة فيه، مع أنه لا يتضمن إلا جزءًا من مطالبنا لئلا يقال: إننا متعنّتون، وكنت على يقين من أول خطوة بأن المفاهمة ستخفق. كما أخفقت قبلها المفاهمة التي تولّاها الأستاذ التبسي وصاحباه، لأننا انتهينا من فهم الإدارة الجزائرية إلى الدرجة التي لا يطلب بعدها علم. ولكنني ناقشت صاحبي في نقط المشروع الأساسية وهي: الرخصة، وسلطة الحاكم في(3/246)
التعطيل، وأسباب التعطيل، وفرض خمس عشرة ساعة في الأسبوع للفرنسية، وبيّنت له رأينا فيها بشدة وصراحة، ثم رفضت المفاهمة في المشروع بحذافيره، وفي جملته وتفصيله، وأبى لي ديني أن أعطي الدنية فيه، وأبت لي عروبتي أن أقرّ الضيم للغتي، وأبى لي شرف الجمعية وشرف العلم، أن أتمادى في مفاهمة ضالة عقيمة في حق طبيعي ثابت، وأن أجاري الاستعمار في الهبوط إلى هذه التوافه في وقت تطلعت فيه الشعوب التي هي أقل منا شأنًا وأحطّ درجة إلى التحرّر من قيود الاستعمار.
رفضتُ المفاهمة ونفّذت قرارات الجمعية في سير التعليم إلى نهايته، وللحكومة أن تسقط السماء علينا كسفًا، وأن تتجنّى علينا ما شاء لها التجنّي والظلم.
وبعد، فهذه صورة من هذه القضية كلها حقائق. وليست هي كل القضية، وإنما هي جوانب منها تأكدت الحاجة إلى بيانها فبينّاها على النمط الصحفي الذي يفيض على نزوات، الألم، ودواعي الضغط، لا على النسق التاريخي الذي يبيّن الأسباب ويبني عليها النتائج، ويشرح ويتقصّى؛ وإذا كانت في هذه الكلمات كلمة شديدة فإنما ذلك لشدة الدافع إليها، ولعلّ القرّاء الغضاب الساخطين لا يقنعهم هذا الأسلوب الليّن المتساهل، وعذري إليهم أنني لم أقصد إلى الإثارة والاستفزاز، وإنما قصدت أولًا إلى التنبيه الهادئ، وعمدت إلى تقرير الواقع لا إلى إقراره.
أما النتيجة ... وأما رأيي فـ ...(3/247)
التعليم العربي والحكومة *
- 10 -
وأما بعد، فهذه فصول، بعض أجزائها حكاية صادقة، وبعضها تجريح مؤلم، وبعضها رأي صريح، وبعضها نقض هادئ. وفيها جمل ثائرة، وكلمات بالغضب فائرة، وليس فيها تجنّ ولا تعنّت، وليس فيها تساهل في الحق ولا تنازل عن بعضه. فإن عابها البعض بأن فيها تطويلًا في مسألة قصيرة، أو بكاءً في غير مأتم، أو تباكيًا يُشمت العدو، أو أخذًا بقديم من التشكي ينافي روح العصر الذي شبّ عن طوق الصغائر، وخبّ في طلب العظائم والكبائر. فعذر هذا العائب أنه نائم أو غائب، أو جاهل للحال، أو جار مع الخيال.
وكل هؤلاء لم يبتلِ بمثل ما ابتلينا به، من أمّة خدّرها الاستعمار، حتى صيّرها آلات استثمار، ورماها بالجهل وكله علل، وراضها على الأميّة وهي شلل، فنسيتْ نفسها وماضيها، وجهلت حاضرها ومستقبلها، وعميتْ عليها الأنباء، وثقُلت عليها الأعباء، ومن حكومة غلب عليها العناد، وغاب عنها الرشاد، ومن حكام يحكمون العاطفة، وهي غضب وحقد، ويجرون مع الهوى، وهو تشفّ وانتقا، ويخدمون مبدأ، وهو استعمار واستعباد، ومن ابتُلي بمثل ما ابتُلينا به حمد منه الإكثار، واستحسن التطويل، فإن أفاد فهو بيان وتوكيد، أو لا فهو بثّ يريح، ونفث يشفي.
...
أما الحقيقة التي يجب أن تعرفها أمّتنا من هذه المعركة، ويجب أن تشيع فيها شيوع الحقائق المسلمة، ويجب أن يأخذ كل فرد منها حظه من معرفتها، فهي أنها صراع بين الإسلام والمسيحية، ظهرت آثاره في جانبين: في جانبنا بهذا الصبر المستميت، وهذا
__________
* نُشرت في العدد 74 من جريدة «البصائر»، 4 أفريل سنة 1949.(3/248)
التصلب الشديد، وفي هذه المقاومة العنيفة التي يعدّها الخوالف تهوّرًا منا وجنونًا، وظهرت آثاره في الجانب الحكومي بهذا التصامّ عن الحق، وهذا التصميم على الباطل، وهذه البرامج التي تظهر كل يوم لحرب التعليم العربي- الإسلامي، ومن فروع هذا البرنامج الواسع- الانهماك في تشييد مئات المكاتب وفتح مئات الأقسام، لتسع أولادنا فتشغلهم بتعليمها عن تعليمنا، وتُعطّلهم عن تعليم مفيد بتعليم ناقص لا يؤهّلهم لشيء من طرق الحياة ووسائلها، وإنما يؤهّلهم لشيء واحد وهو الاستعباد المريح للسيد ... إذ لا يحصلون من وراء هذا التعليم إلا على كلمات يلوكونها بالفرنسية ويفهمون بها عن الحاكم إذا أمر، وعن المعمّر إذا زمجر، ومن فروعه هذه الأقسام الليلية التي فتحتها الحكومة في هذه السنة، بعد ما مهّدت لها في التي قبلها، وجنّدت فيها جيوشًا من المعلّمين بمرتبات إضافية، لتفتن بها الشبان منا والأحداث عن تعلّم لغتهم ودينهم؛ ومن فروعه هذه المكائد التي تنصبها لطلبة العربية الذين يعرفون القراءة والكتابة لتستهويهم بالوظائف وتُغريهم بالمرتبات.
فهذه- ومثلها كثير- كلها حيل تحوكها الحكومة لتقطع بها الطريق على التعليم العربي الديني، وتسدّ المنافذ على طلّابه. وأين كانت هذه الحكومة بالأمس القريب يوم كان تسعون في المائة من أبنائنا يهيمون في أودية الأميّة؟ أكانت عاجزة بالأمس عما قدرت عليه اليوم؟ إنها كانت بالأمس أقدر منها اليوم على التثقيف العام، وعلى فرض التعليم الإجباري، وكانت أقوى وأقوم، وكانت أنعم بالًا، وأكثر فراغًا. ولكنها كانت مغتبطة بحال المسلم من الجهل والأميّة، وكانت تمهّد له سبيلها، وكانت تتمنّى أن لا يفتح عينه على العلم، وأن لا يفتح عقله للعلم؛ فلما أفاق من غفوته، ونهض من كبوته، وأقبل على الحلم، جاءت تخادعه بهذه البرامج التي ذكرنا بعض فروعها لتلهيه بالقشور عن اللباب، وتُريه النافذة وتمنعه من ولوج الباب.
فلتحذَر الأمّة هذه المظاهر الغرّارة فإنها كالسراب، يخدع الظامئ ولا يرويه. وإن مثل الحكومة كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر، فلما كفر قال إني بريء منك.
إن الحكومة تعتمد، في الوصول إلى غايتها في هذا الباب على الساحر الأكبر وهو المال، تغوي به وتُغري وتغرّ، وتخيّل إلى الناس من سحره أنها تنفع وهي تضرّ، وإذا رجع الأمر إلى المال فالحكومة هي الفائزة بلا شك. لأن المال بيدها لا بيدنا. فلم يبق للأمّة من سلاح تدافع به الحكومة وتُبطل به سحر المال إلا الإيمان والكرامة والعزيمة والإصرار، وهذه كلها من أوائل ما يغرسه الإسلام في نفس المسلم.
...
إن الذين ينظرون من الأشياء إلى ظواهرها، ويقفون عند السطحيات، ويرون أن هذا الصراع أمر عاديّ مما يقع بين الحاكم والمحكوم، إذ كان أمر الأول لا يقوم إلا على(3/249)
القوّة، وعلى العنف في تلك القوّة، وكان أمر الثاني لا يستقيم لحاكمه إلا بالخضوع والانقياد؛ فإن خرج عن هذا الطور فإلى المقاومة، ما أمكنت المقاومة؛ فإن تمرّد أحيانًا فلكي يستريح من العذاب النفسي؛ فإن زاد فذلك عرق الحرية ينبض في القلب أو في اللسان، لتثبت وجودها، ولتدل على نفسها بنفسها.
أما المتعمّقون في التفكير فيرون أن هذه المعركة غير عادية، وإنما شأنها ما ذكرناه، وهو أنه صراع بين الإسلام والمسيحية. فالحكومة- وإن كانت لائكية في الاسم- مسيحية في المعنى والنسبة والأعمال والمظاهر، والاستعمار كله مسيحي، يخفي ذلك ما يخفيه فتفضحه الشواهد والشهود؛ والعنصر اللاتيني في هذا الباب هو إمام الأئمة وقطب الأقطاب.
إن إلحاحنا في المطالبة بحرية التعليم العربي، وبحرية المساجد وإرجاعها مع أوقافها إلى أهلها، وباستقلال القضاء الإسلامي عن القضاء الفرنسي، لأن هذه الثلاثة هي بعض حقوقنا في الحياة، ولا يكمل الجانب الديني منها إلا بهذه الثلاثة مجتمعةً متلازمةً؛ وحرية التديّن حق طبيعي لكل إنسان، وليست الحياة الدينية هي كل حقوقنا. بل هناك الحياة الدنيوية، أو الحقوق السياسية، وهي حق طبيعي أيضًا لنا ولكل إنسان. أثبته الله، ويريد الاستعمار محوه. وما أثبته الله فما له من ماح.
هذه الحقوق السياسية هي نقطة الإشكال في نظر الاستعمار، فهي التي تقضّ مضجعه، وتفسد عليه تخيلاته، وترميه بالمقعد المقيم؛ حتى أصبح يتوهم أن كل صيحة هي دعوة إليها، وأن كل لفظة كناية عنها. وأن كل طريق مؤدّية إليها؛ وحكومة الجزائر سادنةُ الاستعمار، بهذه الديار، مصابة بعارض مزمن، من هذا الخيال المزعج، فهي تصرفنا عن حقوقنا السياسية بكل صارف، وهي تود- بجدع الأنف- أن تمنعنا من التفكير فيها؛ ولو استطاعت لمنعت طيفها أن يلمّ بنا في المنام؛ وهي لذلك تسدّ الذرائع الموصلة إليها، وتحاربنا في الوسائل، لتصدّنا عن المقاصد؛ وهي لذلك تتعمّد إقحام السياسة في كل أعمالنا، وتسمّي كل شيء مما نقول ونعمل سياسة، حتى قراءة القرآن وتأدية الصلاة والصوم والحج، وهي لذلك تدُسّ أنفها في كل أمر ديني، فتتمسّك بالمساجد وأوقافها، وتتحكّم في رجالها، وتسيطر على الحج ووسائله، و (تحجّج) كل عام متصرّفًا فرنسيًا وقائدًا نصف فرنسي وعدة أعوان جواسيس، لتشكّل منهم في سفينة الحج (حوزًا ممتزجًا) (1) بجميع خصائصه وأشخاصه، حتى يشعر المسلم الجزائري أن يد الاستعمار لا تفلته في البر والبحر، وفي مكة والمشاعر ...
__________
1) الحوز الممتزج، هو كل ناحية في القطر الجزائري، سكانها مسلمون، أو معظم سكانها مسلمون، ويُسَمّيه الفرنسيون: Commune mixte، والمتصرّف هو الحكم المستبد الذي يحكم هذه الناحية ويسمّونه: Administrateur، والقانون الذي يستمد منه أحكامه هو قانون الأخذ بيمينه الذي يبيح له أن يضرب الأهلي ويسجنه بغير محاكم.(3/250)
إن الحكومة تسمّي أعمالنا الدينية سياسة لتحاربنا بذلك، كما يلبس القوي خصمه الضعيف لباس الجندي، ويقلّده شبه سلاحه ليقول للناس: إنه جندي، وإنه شاكي السلاح، وإنه مقاتل. وإنه يريد أن يقتلني فيستبيح بذلك قتله ...
ووقفنا عند حدود المطالبة بالحقوق الدينية الطبيعية فلم يعن ذلك شيئًا، وتدرّجنا من اللين إلى الشدّة، فلم ينفعنا ذلك فتيلًا، وجارينا الظروف أحيانًا، فلم يجدِ ذلك نقيرًا، وجاوزنا الحدود أحيانًا، لنستعين بشيء على شيء ولنتخذ من الأشدّ وسيلةً للأخفّ فلم يفد ذلك قطميرًا، وتطوّر الزمان وتطوّرت الأمّة، وتعدّدت المقتضيات، ولكن الحكومة جامدة ودار ابن لقمان على حالها؛ ورجعنا إلى تجارب ربع قرن ندرسها، ونعتصر منها ما نجعله أساسًا لأعمالنا من جديد، وقاعدةً لمستقبلنا ومستقبل ديننا ولغتنا وأبنائنا، فكانت نتيجة الدرس أنه لا أظلم من الظالم إلا من يخضع لظلمه ويحترم قوانينه الظالمة.
أما الرأي الشجاع العاقل الحصيف الموزون بميزان العدل والحق، ولا يضيره أن يكون هو الرأي الأخير، ولا أن يكون رأيَ (العبد الفقير). فهو أن نجمع ونصمّم، ونعتمد على أنفسنا، ونتوكّل على ربّنا، ونتعلّم ديننا ولغتنا وكل ما يخدمهما من علوم وفنون، من البدايات إلى النهايات. لأن ذلك ألزم لحياتنا ووجودنا من الطعام والشراب. ولا نبالي بمخلوق يقف في الطريق، ولا بحقود يغصّ من حقده بالريق.
واذلّاه ... واذلّاه ... أما يكفينا ضعةً وهوانًا أن نستجدي ونمد أكف (الشحاتين) في شؤون ديننا؟
لا استجداء في الدين بعد اليوم- أيتها الأمّة- إن كنت مؤمنة بالله واليوم الآخر، وبمحمد وبالقرآن، وعفا الله عما سلف من ذلك.
أما نحن فقد كنا علماءَ دين، ودعاة علم وتربية، وزرّاع خير ورحمة، ولكن الحكومة تعدّ هذا كله سياسة، وتعتبرنا لأجله سياسيين: فليكن ذلك، ولنكن علماءَ وسياسيين، ولنكن كل شيء ينفع أمّتنا ويحمي ديننا ولغتنا.
ما دمتَ لا تجد صاحبك إلا حيث تكره، فمن العدل أن لا يجدَك صاحبك إلا حيث يكره.(3/251)
معهد عبد الحميد بن باديس *
((عذري فيما يراه قرّاء هذا المقال من نقص في الإبانة، وتشويش في البناء، وتفاوت بين الأجزاء، وبُعد عن المعهود من مثلي في مثله، أنني كتبته في أثناء أسفار، في عشرات من القرى، وفي عشرات من الحالات التي تعتري المسافر، المنهوك الأعصاب من المحاضرات والأحاديث، فجاء المقال وعليه نفض من روح كاتبه، وفيه رُقع ولمع وألوان شتى، وجاء كصاحبه يلهث تعبًا، وكأنه مريض بالسكر، وقد حاولت تنقيحه فأبت الشواغل، وزاحم الواغل ... فتركته كما هو)):
أيتها الأمّة: وإليك يُساق الحديث. هذا موقف الحساب على الأموال والأعمال، وهذا سجله الحافظ للدقائق والجلائل، يُمليها على الأجيال الحاضرة، ويحدّث بها الأجيال المقبلة، متصلة الإسناد، مؤّيدة بالشهود والشواهد، ويسوءنا- والله- أن يتحدّث عنا بتقصير في الواجب، أو يشهد علينا بتضييع للحق، وإضاعة للفرصة، أو يسجّل علينا نقص القادرين على التمام.
إن المرء حديث بعده، وإن الأمّة أحاديث متسلسلة؛ وفيما يتركه الأول للأخير المال والمتاع، وفيه العلم والفضائل وفيه الأحاديث ... وإن الأحفاد وأحفادهم لا ينسون نقصنا لكمالهم، ولا يغضون عن مقابحنا لمحاسنهم، ولا يصفحون عن زللنا لبرّهم بنا؛ ولكنهم سيحاسبون فيناقشون الحساب، وإن هذه النهضة التي بدت مخايلها لا يغطّي كمالها الأخير نقصها الأول، وإن ترعرع في مثل رونق الضحى شبابها، وتفرّعت في أزكى المنابت أفنانها.
إن أحفادنا- يوم تتصل أسبابهم بأسباب هذه النهضة- سيتحدثون عنها وعنا، وسيوفوننا الحساب على أعمالنا لها، وعلى آثارنا فيها حمدًا وذمًّا، كما نتحدّث نحن عن أجدادنا الأدنين والأبعدين، ونذكر ما بنوا وشادوا، وما نقضوا وتبَّرُوا.
__________
* نُشرت في العدد 90 من جريدة «البصائر»، 5 سبتمبر سنة 1949.(3/252)
فاخْشَي- يا أمّة- يومًا يعرض فيه هذا الطور من أطوارك على أخلافك، ويُمتحن هذا الساف (1) الأول من بنائك، بأيدي أبنائك؛ فيجدون النقص هنا، والعوج هناك، والتهافت هنالك، ثم ينظرون فيجدون الأساس قد وُضع على دِمنة ... ذلك هو الفضوح، وتلك هي سخنة العين.
إن التاريخ سيكتب عن يومك هذا أنه ميلاد نهضة، وفجر انقلاب، وبدء تجديد ستنتزع منه هذه الشهادة انتزاعًا لا خيرة فيه، لما في طبيعة يومك هذا من الغلوّ والإسراف، والإخلاء (2) والإسفاف، ولما فيه من الدعاوى الدعية، والشهادات غير المرعية؛ فاحرصي على سدّ الخلل وتقويم العوج ما استطعت، وأكثر مما تستطيعين، حتى تكون الشهادة قريبة من الصدق.
إن عمل الأجداد للخير والنفع، وبناءهم الباقيات الصالحات للعلم، مفخرةٌ للأحفاد، وحفز لهممهم، وتقصير للمسافة عليهم، وتقليل من الجهد والنصَب، وغرس وتمهيد؛ فضعي- أيتها الأمّة- في أيدي أبنائك ما يفاخرون به، وابني لهم ما لا يحتاجون معه إلى الترميم.
إن برّ الآباء للأبناء أساسٌ لبرّ الأبناء للآباء فأقرضوا أبناءكم البرّ الحسن تجدوه مضاعفًا ويؤدّوه إليكم ومعه فائدته وريعه.
ولو أن آباءنا وأجدادنا الأدنين بنوا لنا المدارس لأراحونا من هذه المتاعب التي نلقاها في بناء المدارس، ولصرفنا هذه الجهود في ما بعد البناء من تثمير وتعمير؛ ولكنهم- عفا الله عنهم- عاشوا لأنفسهم في شبه غيبوبة عن زمنهم، يتعلّلون بالخيال، ويلوذون من الحرور بالظل الزائل، ولم يعيشوا لنا، ولا فكّروا فينا، ولا أقرضونا شيئًا يذكّرنا بهم، فماتوا غير مذكورين، ولا مشكورين، وتركونا نمشي بأجرد ضاح؛ ولولا بقية من مساجد القدماء في الأمصار لوجدنا آباءنا يصلّون في الشوارع والأسواق؛ إن أسلافنا الصالحين كانوا مسلّطين على هلكة أموالهم في المصالح العامة، وفي بناء المآثر للأعقاب، وكانوا كلهم بمقربة من قائلهم:
إذا حال حولٌ لم يكنْ في بيوتنا … من المال إلا ذكره وفضائله
يلتقون معه في الذكر والفضائل؛ أما نحن فإن أموالنا تذهب في أعراس الإنسان، وأعراس الشيطان، وفي المآتم والخصومات، وفي المواخير والحانات، وفي فضول الحياة وقشورها، وفي خسائس اللذات والشهوات، ولو أن هذه الأمّة أوتيتْ رشدَها، وأنفقت جزءًا مما تنفقه
__________
1) الساف هو السطر من البناء يضعه البنّاء حجرًا بجنب حجر ثم يملأ الفراغ بالطين أو الكلس وصغار الحجارة ثم ينتقل إلى ما فوقه وهو الساف الثاني.
2) الاخلاء من الشاعر هو خلو شعره من المعاني المبتكرة، فإذا كان الشاعر كذلك قيل هو يخلي.(3/253)
في شهواتها على المصالح العامة، لم يبق في هذا الوطن أمّي ولا مريض ولا عاطل ولا فقير. ولكن الخذلان الذي لا غاية وراءه أن غنيّنا ينفق مئات الألوف على لذّاته وشياطينه، فإذا سُئل بذل القليل، في مشروع جليل، أعرض ونأى بجانبه.
...
هذا المعهد أمانة الله بيننا وبينك- أيتها الأمّة- وعهد العروبة والإسلام في عنقنا وعنقك، وواجب العلم علينا وعليك، وحق الأجيال الزاحفة إلى الحياة من أبنائنا جميعًا، فأيّنا قام بحظه من الأمانة، ووفى بقسطه من العهد، وأدّى ما عليه من الواجب، واستبرأ لذمّته من الحق؟
لا منّة لنا ولا لك على الله ودينه، وما عظم من حرمات العلم، وما أوجب من رعاية الأبناء، وإنما علينا أن نتعاون جميعًا، كل بما قسم الله له، وقد اقتسمنا الخطتين، فقمنا وقعدت، واجتهدنا وقصرت، قمنا بقسطنا من الواجب حق القيام، فدعوْنا ما وسعت الدعاية، وبينا ما وسع البيان، وعلمنا ما أمكن التعليم، ونظّمنا إلى حيث تبلغ غاية التنظيم، ووعدْنا فأنجزنا الوعد، وأخذنا الأمر بقوّة، لأن زمنك قويّ لا يرضى بصحبة الضعفاء.
نحن إنما نبني لك، ونفصّل على مقدارك، ونرشدك إلى ما يجب أن تكوني عليه لتستبدلي حالةً بحالة، ولبوسًا بلبوس.
عصرُك عصر نهوض، ومن لم يجارِ فيه الناهضين كان في الهالكين؛ وقد بدت عليك مخايل النهوض وقال الناس قد نهضت، فحق القول، ولم يبق للنكوص مجال، وما عن هوى نطقنا، ولا عن غشّ صدرنا، حين قلنا لك: إنك لا تنهضين إلا بالعلم، وإن نهضة لا يكون أساسها العلم هي بناء بلا أساس ولا دعامة.
إن النهضات الأصيلة لا تعرف القناعة، ولا تدين بها، ولا ترضى بالتقلّل والتبلّغ، وإنما هي القوّة والفوران، والتأجّج والجيشان، والبناء والرم، والأكل اللم، وصدْم ثابت بسيار، ودفع تيار بتيار.
إن قليلًا للنهضة- في باب العلم- معهد يضم ستمائة تلميذ، في أمّة تعدّ بعشرة ملايين، تسعة أعشارها ونصف عشرها أميّون.
وإن قليلًا للنهضة مائة وثلاثون (3) مدرسة ابتدائية في قطر واسع الأرجاء مترامي الجنبات.
__________
3) كان هذا عدد المدارس الحرّة التي أنشأتها جمعية العلماء بمال الأمّة في السنة التي صدر هذا العدد في شهورها، وقد بلغ عدد تلك المدارس في سنة 1955 قريبًا من أربعمائة مدرسة. وبلغ عدد تلامذة تلك المدارس قريبًا من خمسة وسبعين ألفًا بين ذكور وإناث.
وبلغ عدد المعلمين في السنة المذكورة الأخيرة قريبًا من سبعمائة.(3/254)
وإن قليلًا للنهضة- ولو كانت في مبدئها- أربعون ألف تلميذ يتعلّمون المبادئ الأولية من لغتهم ودينهم من مجموع من الأطفال يبلغ مليونين لا يعرفون منها ولا من غيرها شيئًا.
وان قليلًا للنهضة عشرات من الملايين تنفق على العلم، بجانب مئات من الملايين تصرف في الشهوات والكماليات والمحرّمات.
دعوْنا هذه الأمّة- بعد تحقّقنا للقابلية فيها- إلى التعليم العربي الابتدائي، لأنه الخط الذي تبتدئ منه النهضات العلمية، فلبّتْ لا وانيةً ولا عاجزة، وشادت له من المدارس ما يفخر به الفاخر، ويغصّ به الشانئ الساخر، وتمكّنت منها الرغبة في هذا النوع من التعليم إلى درجة أمنَّا معها الانتكاس والرجوع إلى الوراء؛ ولكن هذا العدد من المدارس لا يتناسب مع النسبة العددية للأمّة، ولا مع طول الركود السابق للنهضة، ولا يفي بالحاجة اللازمة، ولا بدّ من مضاعفة السير لمن تأخر كثيرًا عن القافلة.
ثم خطوْنا بها خطوة ثانية ثابتة إلى الأمام، لأن التعليم الابتدائي وحده لا يكفي همًّا ولا يشفي ألمًا، وإنما هو مفتاح للعلم، وارتفاع عن الأميّة، وإنّ وراءه لدرجات إن لم يؤدّ إليها كان عقيمًا وكان عاطلًا؛ وإن للوقوف عنده والقناعة به لآفات، منها زهد الجيل في العلم، وفتور هممه فيه، وفساد تصوّره له؛ فكانت هذه الخطوة هي المعهد الباديسي.
وهذا المعهد- على عظمته، وظهور نتائجه من أول يوم- ليس إلا معهدًا تجهيزيًّا يحتضن المتخرّجين من السنة الخامسة الابتدائية، ومن ماثلهم من ذوي الجهود الخاصة، فيقوّيهم في الدينيات علمًا وعملًا، وفي القرآن حفظًا وفهمًا، ويروّض ألسنتهم على القراءة والخطابة، وأقلامهم عن الإنشاء والكتابة، وعقولهم على التفكير الصحيح، ويصوغهم صياغة أخلاقية متقاربة، ويشرف بهم على علوم الحياة من باب الرياضيات والطبيعيات، ويهيّئهم تهيئة صحيحة قوية للتعليم العالي، هذه هي حقيقته، لا نغلو في بيانها ولا نقصر، وإن أوائله في ذلك لمنبئة بأواخره.
وأقلّ ما يجب لنهضتنا التعليمية- إن كنا نريد النهوض جادّين- أن تكون لهذه المرحلة التجهيزية منها ثلاثة معاهد: بقسنطينة والجزائر وتلمسان، نجهّزها بالرجال، ونزوّدها بالمال، حتى يؤوي كل واحد منها ألف تلميذ؛ ولو تكافأت جهود جمعية العلماء في هذا السبيل، وجهود الأمّة، وتوافتْ على هدف واحد منه، لبرز هذا العمل الجليل في سنة واحدة من الزمن؛ وإنه لعمل جليل حقًّا، نراه نحن ويراه ذوو العزائم معنا قريبًا، ويراه المثبطون والعاجزون بعيدًا، وما هو ببعيد إلا عن هممهم ...
مرّت على المعهد سنتان نما فيهما وترعرع أضعاف ما كان مقدّرًا لوليد سنتين مثله، في أمّة كأمّتنا، وظرف كهذا الظرف، فما هي الأسباب في هذا النمو السريع؟(3/255)
السبب يرجع إلى عدة عناصر: منها إخلاص القائمين عليه من رئيس ومرؤوس، وجدّهم وثباتهم، ومنها إيمان الباذلين للمال بالعلم، وإنه المنقذ الوحيد للأمّة، ومنها كون التعليم الابتدائي بلغ حدّه، وأصبحت مدارسه تُخرج العشرات من تلامذة السنة الخامسة، فيجدون أنفسهم- بعدما ذاقوا لذة العلم- محرومين من مواصلة التعليم، فوجدوا في المعهد شفاء من ألم الحرمان.
وسبب آخر نفساني، وهو قوّة المقاومة من عناصر الإصلاح لعناصر الإفساد، ومن قوى الخير لقوى الشر، فنشأ من ذلك مزيج من التأثر والتأثير، كان خيرًا وبركة على المعهد، وكان بعض السبب في هذا النمو السريع.
ظهر نجاح المعهد في الناحية المعنوية، فقد استولى على الأمد الأقصى من السمعة الصالحة، في الأوساط الصالحة من الأمّة، وأصبحت تنظر إليه نظر الإعجاب والتقدير، وتُعلّق عليه الآمال الكبار.
وظهر نجاحه في نتائج التعليم، فقد أتى في هذه السنة بالعجب العجاب، وكانت النتائج فوق المستوى العادي، في جميع السنوات، بل كان النجاح منقطع النظير في السنة الثانية، والسر في هذا النجاح هو أن شياطين الوسوسة صُفّدت في هذه السنة، وانقطع ما كانوا يزّينونه للطلبة ويروِّضونهم عليه من تلهية بالباطل، وتدلية بالغرور، ففاء الطلبة إلى الرشد، وأقبلوا على العلم، وباء الشياطين بالخزي والخذلان.
وظهر نجاحه في صحة التوجيه العقلي والفكري والخلقي لتلاميذه، فقد رأيناهم يأتون متأثّرين بأفكار ونزعات شتّى، فلا تمضي عليهم الأشهر الثلاثة الأولى حتى تلين مقادتهم للعلم، ويصبحوا منسجمين في الاتجاه، متقاربين في الأخلاق، معرضين عن اللغو، إلا النادر الذي لا حكم له.
وظهر نجاحه في الإدارة، فقد كانت مثالًا عاليًا في الضبط والحزم والنظام.
...
يعنى المعهد بالرياضيات والطبيعيات، ويجعل منها ذريعة إلى مقاصد سامية، كان التلميذ العربي محرومًا منها، لأن المعاهد العربية خالية منها، وقد قام المعهد في هذه السنة بتجربة موفّقة بلغت الغاية من النجاح، إذ تطوّع الدكتور عبد القادر بن شريف بإلقاء دروس في حفظ الصحة على تلامذة المعهد، مستعينًا بأشرطة سينمائية، فلقيتْ من الطلبة إقبالًا يفوق الحدّ، وتطوّع الصيدلي الأستاذ علاوة عباس بإلقاء دروس أسبوعية في علم وظائف الأعضاء(3/256)
وتركيب الجسم، فكان لها من التأثير والإقبال مثل ذلك، وتطوّع الأستاذ محمد الجيجلي من أساتذة التعليم الثانوي الفرنسي بإلقاء دروس في الجغرافيا، وتطوّع الأستاذ محمد بن عبد الرحمن بإلقاء دروس في الحساب، فكان لهذه الدروس من الآثار الشيء الكثير، وإدارة المعهد عازمة على أن توسّع هذا البرنامج، وتزيد في حصصه الأسبوعية في السنة المقبلة، وهي تشكر هؤلاء الأساتذة على ما قدّموه للمعهد من معونة قيّمة صادقة.
أما السنة الآتية فنحن نعلم من الآن أنها ستكون أكمل وستكون أثقل: تكون أكمل بالتلامذة المدرّبين، والشيوخ المجرّبين، والإدارة المحنّكة، والنظام المحنّك، وتكون أثقل بالتكاليف المالية الجديدة، فالمعهد كما يقرأ القرّاء في تفاصيل الحساب من هذا العدد مدين بما يقرب من ستة ملايين من الفرنكات، وستؤدّى إلى أصحابها في أولّ السنة الدراسية إن شاء الله، ومفروض عليه أن يعمر السنة الأولى التي انتقل أبناؤها إلى السنة الثانية، بأربع طرائق لا تقلّ عن مئتي تلميذ، ومعنى ذلك أنه مضطر إلى إحضار مساكن لنصف هذا العدد على الأقل، وإلى إحضار أربعة أقسام للدراسة، وإلى إحضار أربعة مشايخ جدد للتدريس، وإنها لضرورة لا محيد عنها وعن تحمّل أثقالها، فعلى الأمّة أن تسمع وتعي، وعلى الذين عوّدونا إمداد المعهد بالمال، أن يضاعفوا إمدادهم، وعلى أصحاب البصائر الثاقبة، المفكّرين في المصير والعاقبة، أن يفكروا معنا في إيجاد وسائل للدخل القار، لحفظ حياة هذه المشاريع العلمية، فإن قيامها على ما تقوم عليه اليوم غير مضمون الاستمرار، ولا ضامن للاستقرار، ولنا في هذا الموضوع آراء أنضجتها الروية، ومخضها التمحيص، شرحناها للأمّة في المجامع الحاشدة، وسنجلّيها في «البصائر» لذوي البصائر.(3/257)
مدارس جمعية العلماء *
نجوم متألقة في ليل الجزائر الحالك، منها الكبيرةُ ومنها الصغيرةُ؛ ولكل واحدة حظها من اللألاء والإشراق، وقسطها من الإضاءة لجانب من جوانب هذا الوطن الذي طال في الجهل ليله، وأقام بالأمية ويله.
حياةُ الأمم في هذا العصر بالمدارس، ما في هذا شك، إلا في قلوب ران عليها الجهل، وغان عليها الفساد؛ ونفوس ختم عليها الضلال، وضرب على مشاعرها المسخ، وطال عليها الأمد في الرق، فصدئت منها البصائر، وعميت الأبصار، فتغير نظرها في الحياة ووسائلها؛ فرضيتْ بالدون، ولاذت بالسكون.
الحياة بالعلم، والمدرسة منبع العلم، ومشرَع العرفان، وطريق الهداية إلى الحياة الشريفة؛ فمن طلب هذا النوع من الحياة من غير طريق العلم زل، ومن التمس الهدايةَ إليه من غيرها ضل؛ وحياة الأمم التي نراها ونعاشرها شاهد صدق على ذلك.
تبني الأممُ ما تبني من القصور، وتشيد ما تشيد من المصانع، وتنسق ما تنسق من الحدائق، وتحف ذلك كله بالسور المنيع، فإذا ذلك كله مدينة ضخمة جميلة، ولكنها بغير المدرسة عقد بلا واسطة، أو جسم بلا قلب؛ وإذا ذلك كله إرواء للغرائز الحيوانية، وإرْضاء للعواطف الدنيا بالمتع واللذّات، والتباهي وطلب الذكر؛ أما إرْواء العقل والروح، وإرضاء الميول الصاعدة بهما إلى الأفق الأعلى، فالتمسهما في المدرسة لا في القصر ولا في المصنع، ولو تباهت الأبنية المشيدةُ بغاياتها، وتفاخرتْ بمعانيها لأسكتت المدرسةُ كل منافس.
__________
* نشرت في العدد 93 من جريدة «البصائر»، 31 أكتوبر سنة 1949.(3/258)
تغالى خلفاءُ بني العباس في تشييد قصورهم، وعمروها بأسباب الترَف المادّي، ووسائل اللذات الجسمانية، وأسبغوا عليها كل ما يستهوي من جمال وفن، وتسامت همم الخلفاء إلى إظهار جلال الخلافة في البناء والتشييد، فما قصرَ في ذلك منهم أوّلٌ ولا أخير، وباهتْ بغداد بتلك القصور أمصارَ العالم كله، ولكنهم لم يهتدوا إلى البَنِيّة التي تخمل كل بناء، ولم ينفقوا في تشييد المدرسة بعض ما ينفقون في تشييد القصر من مال وعناية وذوق، إلى أن جاء أحد وزرائهم فسبق للمنقبة التي تغطّي المناقب، وشاد المدرسة النظامية، هنالك علمتْ بغداد أنّ كلّ ما حازَته من جمال كانت تنقصه نقطة الجمال، وأن كل ما وصلتْ إليه من عظمة كان ينقصه سر العظمة، وأن كل ما كتب عنها التاريخ، ودون وصفها الشعرُ خيالٌ أيدته هذه الحقيقة، وأن كلّ ما حوى "الجانبان" (1) بناءٌ تنقصه لبنة التمام.
كانت تلك القصور تزخر بالترف الذي يفضي إلى الرذيلة، وتؤوي في أكنافها أممًا من الجواري والغلمان والفجرة والغدرة، وتخفي في أقبائها الموت والظلم، وتحاك في أرْوقتها المكائدُ والحيل، وتهدر في ساحاتها الأعراض والدماء والفضائل، ويقرّب إليها ناسكوها قرابين المصانعة والنفاق.
أما مدرسة الوزير نظام الملك فقد أصبحتْ تزخر بطلاب العلوم، ويَسطَع في آفاقها من أئمة الإسلام نجوم، ويشع شعاعها فيجاوز النهر إلى خراسان، والبحر إلى الأندلس. ناهيك بابن الصباغ، وأبي حامد الغزالي، وأبي إسحاق الإسفرائيني.
...
تبارك الذي أسند البناء إلى نفسه، فأرشدنا بذلك إلى أنّ البناء من صفات الكمال، ودلنا على أنّ العظيم يبني العظيم، فقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} وقال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} وقال: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} وقال: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ... تبارك الباني، وجل المبنى؛ فهذا الكون كله بناء وتركيب، ونظام وترتيب، وهذه الحياة كلها بناء تحسه الحواس، أو تعقله العقول، أرأيتَ عملَ الإنسان؟ إنه يتكامل حجرًا على حجر في البناء، وحرفًا بعد حرف في الكتابة، وكلمةً بعد كلمة في الحديث، وخيطًا على خيط في النسج، وخطوةً بعد خطوة في المشي؛ أرأيتَ عمله العقلي؟ إنه بناء فكرة على فكرة، وخاطرة على خاطرة، ونتيجة على مقدمات، أرأيتَ صنع الله في العوالم النامية من نبات وحيوان؟ إنها أطوار ودرجات، وأحوال متلاحقة،
__________
1) جانبا بغداد هما العهد والرصافة.(3/259)
وطبقات مترامية إلى غايات، فلا يزاحم طوْرٌ طورًا، ولا تسبق غايةٌ وسيلتها؛ وكل ذلك بناءٌ بديع، وتركيبٌ معجز.
...
والأمم إنما تتفاضل وتتعالى بالبناء للخير والمنفعة والجمال والقوة، وما عدا هذه الأربعةَ فهو فضولُ عابث، لا يدخل في قصد العقلاء؛ وقد بنى أسلافنا لكل أولئك مجتمعةً ومفترقة، بنوا المساجد مظهرًا للخير، وشادوا المدارس مظهرًا للمنفعة، وأعلوا الحصون مظهرًا للقوّة، وسمَكوا القصور مظهرًا للجمال، فضموا أطراف الفخر، وجمعوا حواشي المجد، وحازوا آفاق الكمال، وقادوا الحياة بزمام، وأنشأوا بذلك كله للحضارة الإنسانية الشاملة نموذجًا من المدينة الفاضلة التي تخيلها حكماءُ اليونان، ولم يحققها ساسة يونان، وإنما حققها من ساد بالعدل، وقاد بالعقل؛ وأولئك آبائي!! ...
...
يُعذَر النائم، ولا يعذَر المستيقظ، والأمة نامت نومًا طويلًا ثقيلًا، فإذا عدَدْنا حركتنا القائمةَ اليومَ يقظةً فغير كثير عليها أن تبني بضع مئات من المدارس في بضع سنين، وغير كثير على المستيقظ أن يشتد عدْوًا للحاق بالسابقين، لأن اليقظة استئناف حياة، والحياة المستأنفة ليستْ وجودًا من عدم، وإنما هي تجديد لما انهدم؛ فلها تكاليفُ ثقيلة، ولها صُعدَاء مطالبها طويلة.
أفاقت الأمة الجزائرية إفاقةً غيرَ منتظمة، لأن الأحداث التي سببتْ لها النوم حقنتها بأنواع شتى من المخدارات، منها ما يفسد الدين، ومنها ما يشكك في اليقين، ومنها ما يزلزل العقل، ومنها ما يشل الإرادة، ومنها ما ينسي الماضي، ومنها ما يغير الاتجاه، ومنها ما يزيغ النظر إلى الخير والشر فيغيرُ مفهومهما، ومنها ما يفسد الفطرة، فلما أفاقت وجدت نفسها على مراحل من ماضيها، وعلى قاب قوسين من الاضمحلال والتلاشي؛ ووجدت من الدين عقائدَ لابسها الضلال في الفهم، والضلال في العمل، ومن المال أرزاقًا مقترةً يبض بها الكد المضني، والعرَق الصبيب، ومن الصناعة صنعةَ الجمل التي لا تفيء عليه إلا النقبَ في الظهر، والوجى في الخفّ، والتحجر في الثفنات، ومن العلم ألفاظًا بلا معان، وقشورًا بلا لباب؛ ومن التاريخ معالمَ طامسة، وظلمات دامسة، ومن قيم الحياة الحظ المغبون، والأجر الممنون، ومن المنازل الإنسانية منزلة المضيعة والهوان.(3/260)
ووجدت بعد ذلك العذاب الواصب فئةً منها، يلبسون جلدتها، وبتسمون بأسمائها، ويتكلمون بلغتها، يدعونها إلى جهنم!! ... فمنهم الذي يزين لها الشرّ، ومنهم الذي يقبحُ لها الخير! ... فيهم من يهدِّئها، وليس فيهم من يهديها! كلهم ينوّمها، وليس فيهم من يقوّمها!
وها هي ذي تعبِّد العقاب (2)، وتمهد الصعاب، وتبني لنفسها، وبيدها، وبمالها، على إلهام الخير من ربها، واستلهام الحق من كتابه وسنة نبيه، هذه المدارس التي تنشر «البصائر» في هذا العدد صورَ بعضها لتنشط العاملين، وتغيظ الخاذلين، وتوسع الأمل في نفوس الآملين.
وهذه المدارس التي أربتْ على المائة بالعشرات كلها من آثار جمعية العلماء ومن ثمرات إرشادها وإعدادها للأمة؛ وستسفر هذه الحركة المباركة- إن شاء الله- في بضع سنين أخرى عن مئات من المدارس؛ لأن هذه الرغبة المتأججة في صدور الصالحين من الأمة لا يطفئها تعنت الظالمين، ولا وسوسةُ الدجالين، ولا كيدُ المفسدين.
وإن من لئيم المكر أنْ يحاول بعض الأشرار، المسخرين من الاستعمار، لحرب هذه الحركة، التسلط على بعض هذه المدارس باسم التعليم وهم لا يحسنونه، وباسم النظام وهم لا يتقنونه، وهم يسرّون في أنفسهم التوصّل بتسييرها إلى تدميرها، وبفتحها إلى إغلاقها، وقد فضح الله كيدهم في واحدة أو اثنتين وضعوا أيديهم عليها فعمروها ولكن بالتخريب، وكانوا في ذلك كمسيلمة الكذاب، تفل في بئر حلوة فأصبح ماؤها أجاجًا! ...
...
أما دعائم هذا البناء التي تمسكه أن يزول، وتصونه أن يختل أو يحول، فهم أشبال الغاب، وحماة الثغور، عمار المدارس، وسقاة المغارس، مربو الجيل وأئمته، أبناؤنا المعلمون المستحقون لأجر الجهاد، وشكر العباد، الصابرون على عنت الزمان، وجحود الإنسان، وكلب السلطان، المقدمون على كثرة الخوّان، وقلة الأعوان، جيش الحق، وحاصة (3) الشق، وألسنة الصدق.
أي طلائعَ الزحوف، وأئمة الصفوف، سلام عليكم بما صبرتم، وتحيات من الله مباركات طيبات بما آويتم لغة الضاد ونصرتم، وثناء عليكم يأرج كالمسك من والد برٍّ بكم، شفيق عليكم، نصحه لكم هدى، وروحه وجوارحه لكم فدى ...
__________
2) العقاب جمع عقبة.
3) جمع حائص، وحاص الثوب خاطه وجمع أطرافه بالخيط.(3/261)
إلى أبنائنا المعلمين الأحرار *
أيها الأبناء البررة!
وصفناكم- في العدد الخاص بالمدارس- بما أنتم أهله، وذكرناكم- ذكركم الله في الملإ الأعلى- بالخير والجميل، وأرسلنا إليكم تلك التحية الأبوية الخالصة صادرةً عن قلب يكن لكم الحب والتقدير والشفقة، راجين أن يكون رجع التحية منكم واجبًا يؤدى على أكمل وجوهه، وعملًا يحقق على أحسن حالاته، وغايةً توصَل بأسبابها من أقرب الطرق، وبأنفع الوسائل، لا كلامًا يذهب مع الريح، ولا قشورًا من الأعمال تضيع الوقت، وتبعد الغاية، ولا أنينًا من الشكوى والتسخط يذهب بالصبر ويوهن العزيمة، وهما حلية الأبطال.
ها أنتم هؤلاء تبوأتم من مدارسكم ميادين جهاد، فاحرصوا على أن يكون كل واحد منكم بطل ميدان، وها أنتم هؤلاء خلفتم مرابطة الثغور من سلفكم الذين حموا الدين والدنيا، ووقفوا أنفسهم لإحدى خطتين: الدفاع المجيد، أو موت الشهيد، فاحذروا أن تؤتى أمتكم من ثغرة يقوم على حراستها واحد منكم، فيجلب العار والهزيمة لجميعكم، واعلموا أنكم عاملون، فمسؤولون عن أعمالكم، فمجزيُّون عنها من الله ومن الأمة ومن التاريخ ومن الجيل الذي تقومون على تربيته كيلًا بكيل، ووزنًا بوزن.
إننا- يا أبنائي- كنا أوّل من نام، وآخر من استيقظ، فمن الحزم أن لا نقطع الوقت في العتاب والملام، والحرب بالكلام، فإن ذلك إطالة للمرض، وزيادة في البلاء على المريض، ومن الحزم أن نتحاسب على الدقائق، إذا تحاسب غيرنا على الساعات، وعلى الأيام إذا تحاسب غيرنا على الأعوام.
إنّ وراءَنا من الزمن سائقًا عنيفًا، وإنّ معنا من العصر وروحه زاجرًا مخيفًا، وإن أمامنا
__________
* نشرت في العدد 94 من جريدة «البصائر»، 7 نوفمبر سنة 1949(3/262)
سبلًا وعرة، وصراطًا أرق من الشعرة، وإنّ عن أيماننا وعن شمائلنا عوائقَ من الدهر، ومعوّقين من البشر، وإنّ في طيّ الغيوب، من القدر المحجوب، بوائق في أكمامها لم تفتق، وإنْ أدري أقريب أم بعيد ما أوعد الله الظالمين، ولكنّني أدري أنّ العاقبة للمتقين، وأننا لا نغلب العوائق، ولا نتقي البوائق، إلا بإيماننا بالله، ثم بديننا، ثم بلغتنا، ثم بأنفسنا ثم بالحق الذي جعله الله ميزانًا للكون، وقيومًا على الكائنات، ترجع إليه صاغرة، وتقف عنده داخرة.
إن التقصير في الواجب يعدّ جريمة من جميع الناس، ولكنه في حقنا يضاعف مرتين، فيعدّ جريمتين، لأن المقصر من غيرنا لا يعدم جابرًا أو عاذرًا، فقد يغطي على تقصيره عمل قومه أو حكومته، وقد يقوم له بالعذر حاله الجاري على كمال مقنع؛ أما نحن فحالنا حال اليتيم الضائع الجائع، إذا لم يسعَ لنفسه مات. فإذا قصرنا في العمل لأنفسنا ولما ينفع أمتنا ويرفعها، فمن ذا يعمل لها؟ آلحكومة؟ وقد رأينا من معاملتها لنا أنها تمنع الماعون، وتداوي الحمى بالطاعون، وتبارز الإسلام بالمنكرات، وتجاهر العربية بالعدوان. فمن ضل منا مع هذا فقد ضل على علم، ومن هلك فإنما هلك عن بينة.
وإن لما يبوء به المقصرون من الندامة لمرارة، تجتمع في العقبى مع الخسارة، فيكون منها حال من الحسرة يحلو معه بخع النفوس، وإتلاف المهج؛ وتلك هي الحالة التي نعيذ أنفسنا ونعيذكم بالله من تسبيب أسبابها، وتقريب وسائلها؛ وقد نهى ديننا الإسلام عن التقصير في الواجبات، ونعى التفريط في الحقوق، وبيّن آثاره وعواقبه، وحضّ على الأعمال في مواقيتها، وقبح الكسل والتواكل والإضاعة، فشرع لنا بذلك كله من شرائع الحزم والقوة وضبط الوقت والنفس ما لم يشرعه قانون، ولم تأت به عقلية، وما أخذنا بذلك إلا ليأخذ بحُجَزِنا عن التهور في الكسل والبطالة، ويقينا تجرّع مرارة الندم، وحرارة الحسرة.
قصر آباؤنا وأجدادنا في واجبات اقتضاها زمانهم، وفرطوا في حقوق تقاضاها منهم مكانهم؛ بعد ما لاحت لهم النذر، وقامت عليهم الحجج، ودمغتهم البينات، فغالطوا في الحقائق، وكذبوا بالنذر، وموهوا بالزيف، وغشوا أنفسهم بالأماني والأحلام، وغشونا بالضلالات والأوهام؛ حتى مات من استيقظت شواعرُه منهم بحسرات الندم، ومات الغافلون منهم كما يموت الغفل من النعم، فلا حسرةُ أولئك أجدَت علينا شيئًا، ولا غفلة هؤلاء أفادتنا نقيرًا؛ وإنما أضاف تفريطهم المخجل واجباتهم إلى واجباتنا، فأصبحت حملًا ثقيلًا، هو هذا الذي ننوء به وينوء بنا، هو هذه الأعباء المركومة التي نحاول النهوض بها فيقيمنا الإيمان والأمل، وتُقعدُنا الكثرةُ والثقل، وإن من الظلم تكليف جيل بواجبات أجيال، وإن من الجور أن يحمل القرن الأخير أوزار القرون الماضية. ولو أنهم- سامحهم الله- قاموا بواجباتهم أو ببعضها، لخففوا عنا الكثير، وهوّنوا علينا العسير، كما خففنا نحن وهوّنا على الجيل الآتي؛ ولو أنهم غرسوا الشجرة، لقرّبوا منا جني الثمرة.(3/263)
هذه هي حالتنا- يا أبنائي- نهدم ونرفع الأنقاض ونبني ونعمر في آن واحد، ونؤدّي فريضة الوقت ونقضي الفوائت على غيرنا في آن واحد، ثم نؤدّي الكفارات على ذنوب لم نجترحها ... كل ذلك مع محاربة من الجار، ومشاغبة من الشريك في الدار، ومع وشل من المال لا يتمّ به العمل، ومثبطات من سوء الحال يتضاءل معها- لولا الإيمان- الأمل، وإنها لحالة لا يثبت معها إلا المؤمنون الصابرون الصادقون المخلصون المحتسبون، المؤيَّدون بروح من الله، ونحن وأنتم كل ذلك، إن شاء الله.
...
ها أنتم هؤلاء تربعتم من مدارسكم عروش ممالك؛ رعاياها أبناء الأمة وأفلاذ أكبادها؛ تديرون نفوسهم على الدين وحقائقه، وألسنتهم على اللسان العربي ودقائقه، وتسكبون في آذانهم نغمات العربية، وفي أذهانهم سر العربية، وتدبرون أرواحهم بالفضيلة والخلق المتين، وتروضونهم على الاستعداد للحياة الشريفة بعد أن تجتثوا من نفوسهم بقايا آثار المنزل الجاهل، والأب الغافل، وتقودونهم بزمام التربية إلى مواقع العبر من تاريخهم، ومواطن القدوة الصالحة من سلفهم، ومنابت العز والمجد من مآثر أجدادهم الأولين، فقفوا عند هذه الحدود، واجعلوها مقدّمةً على البرنامج الآلي في العمل والاعتبار، وفي السبر والاختبار، واحرصوا كل الحرص على أن تكون التربية قبل التعليم، واجعلوا الحقيقة الآتية نصب أعينكم، واجعلوها حاديكم في تربية هذا الجيل الصغير، وهاديكم في تكوينه، وهي: أن هذا الجيل الذي أنتم منه لم يؤتَ في خيبته في الحياة من نقص في العلم، وإنما خاب أكثر ما خاب من نقص في الأخلاق، فمنها كانت الخيبة، ومنها كان الإخفاق.
ثم احرصوا على أن يكون ما تلقونه لتلامذتكم من الأقوال، منطبقًا على ما يرونه ويشهدونه منكم من الأعمال؛ فإن الناشئ الصغير مرهف الحس، طُلَعَة إلى مثل هذه الدقائق التي تغفلون عنها، ولا ينالها اهتمامكم، وإنه قويّ الإدراك للمعايب والكمالات، فإذا زينتم له الصدق، فكونوا صادقين، وإذا حسنتم له الصبر، فكونوا من الصابرين، واعلموا أن كل نقش تنقشونه في نفوس تلامذتكم من غير أن يكون منقوشًا في نفوسكم فهو زائل، وأن كل صبغ تنفضونه على أرواحهم من قبل أن يكون متغلغلًا في أرواحكم فهو- لا محالة- ناصل حائل، وأن كل سحر تنفثونه لاستنزالهم غير الصدق فهو باطل؛ ألا إن رأس مال التلميذ هو ما يأخذه عنكم من الأخلاق الصالحة بالقدوة، وأما ما يأخذه عنكم بالتلقين من العلم والمعرفة فهو ربح وفائدة.(3/264)
أوصيكم بتقوى الله فهي العدّة في الشدائد، والعون في الملمات، وهي مهبط الروح والطمأنينة، وهي متنزل الصبر والسكينة، وهي مبعث القوة واليقين، وهي معراج السمو إلى السماء، وهي التي تثبت الأقدام في المزالق، وتربط على القلوب في الفتن.
وأوصيكم بالرفق والأناة في أموركم كلها، وبخفض الجناح للناس كلهم، وباتقاء مواطن الشبه، واجتناب مصارع الفضيلة، وما أكثرها في وطنكم هذا؛ وبإجرار الألسنة عن مراتع الغيبة والنميمة، وفطمها عن مراضع اللغو واللجاج؛ فهي- لعمري- مفتاح باب الشر، وثقاب نار العداوة والبغضاء.
وأوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التي نجم بالشر ناجمها، وهجم- ليفتك بالخير والعلم- هاجمها، وسجم على الوطن بالملح الأجاج ساجمها؛ إنّ هذه الأحزاب، كالميزاب، جمع الماء كدرًا، وفرّقه هدرًا، فلا الزلال جمع، ولا الأرض نفع.
وأوصيكم بحسن العشرة مع بعضكم إذا اجتمعتم، وبحفظ العهد والغيب لبعضكم إذا افترقتم؛ إن العامة التي ائتمنتكم على تربية أبنائها تنظر إلى أعمالكم بالمرآة المكبرة، فالصغيرة من أعمالكم تعدها كبيرة، والخافتة من أقوالكم تسمعها جهيرة، فاحذروا ثم احذروا ...
أي أبنائي! إن هذا القلب الذي أحمله يحمل من الشفقة عليكم، والرحمة بكم، والاهتمام بشؤونكم، ما تنبت منه الحبال، وتنوء بحمله الجبال، وهو يرثي لحالكم من الغربة وإلحاح الأزمات ويودّ بقطع وتينه لو أزيحت عللكم، ورقع بالسداد خللكم، ولكنكم جنود، ومتى طمع الجندي في رفهنية العيش؟ وأسود، ومتى عاش الأسد على التدليل؟ وهو يشعر أن التدليل تذليل.
إنكم- يا أبنائي- رجالُ حركة، فلا تشينوها بالسكون، وأبطال معركة، فلا يكنْ منكم إلى الهوينا ركون.
وإنكم رجال جمعية العلماء، فشرفوا جمعية العلماء.(3/265)
كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار *
- 1 -
أيها الأبناء الأعزّة!
إن هذه الحركة العلمية المباركة أمانةٌ في أعناقنا جميعًا، وعهد إلهي محتم الوفاء علينا جميعًا، فنحن في تحمله وفي وجوب الوفاء به سواسية، ليس صغيرنا بأقل تبعةً ولا أخف حملًا من كبيرنا؛ ونحن في تحمل هذه الأمانة وأدائها أمام ربّ يعلم ما نخفي من النيات وما نعلن من الأعمال، وأمام أمة تعين على الوسائل، وتنتظر النتائج، وتحاسب على ما بينهما، وأمام تاريخ لا يغادر سيئةً ولا حسنةً إلا أحصاها، وأمام خصوم أشداء يحصون الأنفاس ليوقعوا العقوبة ويترقبون العثرة ليعلنوا الشماتة، فلنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الناس، ولنقدّر موقع أقدامنا قبل أن نضع الأقدام، ولنجعل من ضمائرنا علينا رقيبًا لا يغفل ولا يتسامح.
إننا نزيد عليكم- بعد الاشتراك في حمل الأمانة العامة- باستحكام التجربة، وعرك الأيام، وعجم الحوادث، والتمرّس بالخصوم، والصبر على المكاره، والاستخفاف بالحساد الذين أكل الحسد أكبادهم، فما بالينا أطاروا أم وقعوا، وملابسة الأمة على البر والجفاء، وعلى الإحلاء والإمرار، وعلى الخشونة واللين، وبأننا الغرض المنصوب للسهام، لأننا- دائمًا- في مكان القيادة في الصفوف، فلا تصل الرمية إلى أحدكم إلا بعد أن نثخن ولا يبقى فينا موضع لسهم! فإذا رأيتمونا نمسكم بالشدة أحيانًا، ونقسو عليكم في التثقيف، فذلك لكي يخلص لنا من عَشَراتِكُمِ آحادٌ يخلفوننا في هذه الخلال، إذا خلتْ أمكنتنا في المراكز الأمامية، بعد أن يقطعوا من مراحل العمر ومقامات التدريب ما يؤهلهم لذلك.
...
__________
* نشرت في العدد 132 من جريدة «البصائر»، 9 أكتوبر سنة 1950.(3/266)
أنتم في ميادين التعليم فرسان سباق، منكم المبتدي، ومنكم الشادي، وفيكم المغبر، وفيكم المتخلف، ولا يكشف عن جواهر الأصالة والعتق فيكم إلا هذه الأعمال، التي واجهتكم في أطوار الحداثة والاقتبال، خيرةً من الله، فيها الخير واليمن، وتوجيهات منه، فيها السداد والنجح، وامتحانًا من زمنكم، فيه التربية والتمحيص، وفيه التمرس والاحتكاك، فإذا تكشف هذا الامتحان عن نتيجة صادقة كنتم غريبةً في الأجيال، وفلتةً في السنن، وعذركم الشفيع في هذا التفاوت أنكم لستم أبناء مدرسة واحدة، تجمع وتوحد، وتقارب وتسدّد، وأنكم لا ترجعون جميعًا إلى تربية منزلية، أحكمتها العادات الرشيدة، وأقرّتها المصطلحات المفيدة، ولا إلى توجيه حكومي، يهيئكم للحياة، ويسوسكم بالمصلحة، ويروضكم على الرجولة، ويجمعكم على المنفعة، وإنما أنتم أبناء زمن عقه آباؤكم فعقكم، وأضاعوا حقه، فأضاع حقكم، وتنكروا له فتنكر هو لكم، فما افترّت شفاهكم له عن ابتسامة إلا قابلها بالتجهم، ولا أزلفتم إليه بتحقّق إلا عاملكم بالتوهم، ولا مددتم إليه كف رغبة إلا ردّها بالحرمان.
أنتم- في وضعكم الاجتماعي- أبناءُ حياة ليس لكم في تسييرها يد، ووطن ليس لكم في أرضه مستقرّ، وجيل ليس لكم في تكوينه أثر، وتاريخ ليس لكم في تسطيره قلم، وقانون ليس لكم في وضعه شرْك، وحاضر ليس لكم في تدبير مستقبله رَأيٌ، فجئتم على هذه الصورة التي لا تأتي إلا في فترات مجنونة من الزمن، وفي فلتات شاذة من الطبيعة، أو انعكاسات غريبة من نظام الخلق.
وأنتم- في وضعكم العلمي- أبناء مدارس (1)، وجودها في زمان، وروحها في زمان، فهي من يقظتها في حلم، وهي مع جدّة الزمان في قدَم، وهي لا تعطي من الحياة إلا صورَها الميتة، وهياكلها العظمية، وألوانها الحائلة، هذه المدارس التي بنيت بإرشاد القرآن، فأصبحت وهي أبعدُ شيء عن القرآن، وهدْي القرآن، وخلق القرآن، بل لا يُبعد من يقول: إنها أصبحتْ معاول لهدم القرآن، لأنها لم تخدم القرآن، بهذه العلوم التي قالوا: إنها خادمة للقرآن، فلم تزكِّ النفوس التي جاء القرآن لتزكيتها، ولم تهيئها لسعادة الدنيا، ولا لسعادة الآخرة، ولم ترفع العقل من درجة الحَجر إلى درجة الاستقلال في التعقل، ولم تصحح موازينه في إدراك الحياة وفقه أسرارها، وليت شعري: هل صححت دراسةُ المنطق في هذه المدارس- بهذه الطريقة اللفظية العقيمة- إدراكات العقول ومقاييسها، كما صححت دراسته العلمية إدراكات القدماء أو كما صححت إدراكات المعاصرين لماضي الأمم الأخرى؟ وهل طبت هذه المدارس لأخلاق أبنائها الذين أذووْا زهرات أعمارهم فيها؟ وهل أفاضت البيان في قرائحهم وألسنتهم وأقلامهم؟
__________
1) يشير إلى الحالة السيئة التي كان عليها التعليم الديني والعربي لأوائل هذا العهد.(3/267)
ليس الذنب في هذه الحالة الأليمة ذنبكم، وليست التبعة فيها واقعة عليكم. بل أنتم فرائس هذه الأخلاط القاتلة، وأنتم المجني عليكم لا الجناة، وإنما التبعة على الذين يملكون القدرة على التغيير، ثم لا يغيرون، وتواتيهم الفرص إلى الإصلاح، ثم لا يصلحون.
...
إن كثيرًا منكم في حاجة إلى الاستزادة من التحصيل لو تيسرتْ لهم أسبابه، وانفتحت في وجوههم أبوابه، ولكنهم انقطعوا عن التعلم اضطرارًا، فشغلناهم بالتعليم اضطرارًا، لأن حالتنا جميعًا- وأمتنا معنا- حالةُ اضطرار لا اختيار معه، وحالة شذوذ لا قاعدةَ له، وإن التعليم لإحدى طرق العلم للمعلم قبل المتعلم، إذا عرف كيف يصرّف مواهبه، وكيف يستزيد وكيف يستفيد، وكيف ينفذ من قضية من العلم إلى قضية، وكيف يخرج من باب منه إلى باب؛ فاعرفوا كيف تدخلون من باب التعليم إلى العلم، ومن مدخل القراءة إلى الفهم؛ وتوسّعوا في المطالعة يتسع الاطلاع، ولا يصدنكم الغرور عن أن يستفيد القاصر منكم من الكامل، والكامل ممن هو أكمل منه.
إن حاجتنا إليكم هي أن تنقذوا هذا الجيل الناشئ من الأمية التي ضربت بالشلل على مواهب آبائهم، وكانت نقصًا لا يعوَّض في إنسانيتهم، ثم كانت سببًا في كل ما يعانونه من بلاء وشقاء؛ وأن تحببوا إليهم العربية، وتزينوها في قلوبهم، وأن تطبعوهم على التآخي والتعاون على الخير، وأن تربُّوهم على الفضيلة الإسلامية التي هي مناط الشرف والكرامة والكمال، وأن تأخذوهم بممارسة الشعائر الدينية صغارًا، حتى نأمن تضييعهم لها كبارًا، وأن تزرعوا في نفوسهم حب العلم والمعلم، وحب الأب والأم، وحب بعضهم بعضًا، وحب الله ورسوله والإسلام قبل ذلك ومعه وبعده.
لا يضيركم ضعف حظكم من العلم إذا وفر حظكم من الأخلاق الفاضلة، فإن أمتكم في حاجة إلى الأخلاق والفضائل؛ إن حاجتها إلى الفضائل أشد وأوْكد من حاجتها إلى العلم، لأنها ما سقطت هذه السقطة الشنيعة من نقص في العلم، ولكن من نقص في الأخلاق.
أخشى أن تغيب عن بصائركم حقيقةٌ ثابتة، وهي أنكم معلمون للصغار، وأئمةٌ للكبار، أولئك يأخذون من أخلاقكم وعلمكم، وهؤلاء يأخذون من أخلاقكم؛ فإذا راعيتم الجانب الأول، واعتقدتم أنكم معلمون للصغار، وحسبُ المعلم أن يؤدّي وظيفته أداءً آليًّا، وأغفلتم الجانب الثاني فلم تبالوا بما يأخذه منكم استقامةً واعوجاجًا، كان(3/268)