وقد ختمت الأبيات بالصلاة على أشرف المخلوقات، فقلت (1) : (ثُمَّ الصَّلاَةُ لِلنَّبِيِّ ذِي الْبَهَا) ، أي: والصلاة والسلام على النبي المعهود، صاحبِ الحوض المورود، وعلى آله وأصحابه وأهل بيته (2) ومُحبِّيه.
والبهاء (3) : بفتح الباء معناه: الْحُسْن. وفي هذا (4) البيت الْجِنَاسُ بكسر الجيم الْمُحرَّفُ (5) ، وضابطه: اختلاف هيئة الحروف (6) ، كقولهم (7)
__________
(1) قوله: (فقلت) ساقط من "د".
(2) في "د" وآل بيته.
(3) وردت هذه الكلمة في المنظومة مقصورة للضرورة الشعرية، فقد قُصرت بحذف الألف التي قبل الهمزة؛ لأَنَّها زائدة لغير معنى، فلما حُذفت الألف رجعت الهمزة إلى أصلها، ثم سُهِّلَتْ بإبدالها ألفا. وَقَصْرُ الممدود من الضرورات التي أجمع النحويون على جوازها، وهي من الضرائر الحسنة. ينظر ما يحتمل الشعر من الضرورة ص 107، والإنصاف 2/745، وضرائر الشعر ص 116، وموارد البصائر ص 228، والضرائر للألوسي ص 39.
(4) قوله: (هذا) ساقط من "د".
(5) الجناس المحرف في هذا البيت واقع بين كلمتي «البَهَا» و «بِهَا» ، وهو من المحسنات البديعية اللفظية، وقد نتج عنه عيب الإصراف، وهو عيب من عيوب القافية، وهو اختلاف المجرى الذي هو حركة الروي بالفتح مع الضم أو الكسر، وهذا العيب لم يجزه الخليل ولا الحامض، وأجازه ابن جني مع استقباحه له كثيرا. ينظر مختصر القوافي ص 32، وشروح سقط الزند 3/1282 و 1283، والكافي في علم القوافي ص 107، ونهاية الراغب ص 370.
(6) أي: اختلاف هيئة الحروف مع اتفاقهما في النوع والعدد والترتيب، والاختلاف قد يكون في الحركة فقط كما مثَّل المؤلف، وقد يكون في الحركة والسكون، نحو: البِدْعَةُ شَرَكُ الشِّرْك. وسُمِّيَ هذا الجناس محرَّفا لانحراف هيئة أحد اللفظين عن هيئة الآخر. ينظر الإيضاح في علوم البلاغة ص 538، والمطول ص 447، وكتاب الطراز 2/359.
(7) ينظر الإيضاح في علوم البلاغة ص 538، والمطول ص 447. والجناس الْمُحرَّف واقع بين لفظتي «البُرْد» و «البَرْد» ، أمَّا الواقع بين لفظتي «جُبَّة» و «جَنَّة» فهو الجناس اللاحق، وهو الاختلاف في نوعي الحرف مع عدم تقاربهما في المخرج. ينظر مفتاح العلوم ص 429، والمطول ص 447 و 448.(14/170)
: (جُبَّة الْبُرْد جَنَّة الْبَرْد) (1) . انتهى، والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا (2) محمد وعلى آله وصحبه وأحِبَّته ومُحِبِّيه (3) ، كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون (4) ، والحمد لله رب العالمين.
تَمَّ نسخها في ليلة الخميس المبارك خلت من الليلة نحوُ ساعة ونصف في شهر جمادى الآخر خلت منه ستة أيام سنة 97، على يد كاتبها الفقير محمود محمد بن الْحِفْنَاوِيِّ (5)
__________
(1) في "د": ... جَنَّة الْبَراد.
(2) قوله: (وسلم) وقوله: (ومولانا) ساقط من "د".
(3) قوله: (وأحِبَّته ومُحِبِّيه) ساقط من "د".
(4) إلى هنا تنتهي نسخة "ج"، وجاء بعدها عبارة ناسخها التالية: وكان الفراغ من تبييضها يوم الاثنين المبارك لاثني عشر من شهر ربيع الأول يوم مولده الشريف، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، آمين آمين آمين.
(5) في المخطوطة بين كلمة «بن» و «الحفناوي» كلمة لم أستطع قراءتها؛ لوجود طمس فيها، كما أَنَّ الطمس أثَّر على كلمة «الحفناوي» فاجتهدت في قراءتها واستصوبت أَنَّها كما كَتبْتُ.
المصادر والمراجع
كتاب الإبدال، لأبي الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي، تحقيق عز الدين التنوخي، مطبعة الترقي، دمشق، 1379، 1380 هـ، نشر المجمع العلمي العربي بدمشق.
كتاب الإبدال، لأبي يوسف يعقوب بن السكيت، تحقيق الدكتور حسين محمد شرف، طباعة الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1398 هـ، نشر مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
أدب الكاتب، لعبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق محمد الدالي، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ.
ارتشاف الضرب من لسان العرب، لأبي حيان الأندلسي النحوي، تحقيق الدكتور رجب عثمان محمد، مطبعة المدني بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1418 هـ، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة.
الاستغناء في أحكام الاستثناء، لشهاب الدين القرافي، تحقيق الدكتور طه محسن، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1402 هـ.
إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين، لعبد الباقي بن عبد المجيد اليماني، تحقيق الدكتور عبد المجيد دياب، الرياض، الطبعة الأولى، 1406 هـ، نشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض.
الأشباه والنظائر في النحو، لجلال الدين السيوطي، تحقيق الدكتور عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
الأصول في النحو، لابن السراج، تحقيق الدكتور عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة الأولى 1405 هـ.
إعراب القراءات الشواذ، لأبي البقاء العكبري، تحقيق محمد السيد أحمد عزوز، طبع ونشر عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1417 هـ.
الأعلام، للزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثامنة، 1989 م.
كتاب الألفاظ والأساليب، أعده وعلق عليه محمد شوقي أمين ومصطفى حجازي، طباعة الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية بالقاهرة، 1977 م، نشر مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
أمالي ابن الشجري، لهبة الله بن علي بن الشجري، تحقيق الدكتور محمود محمد الطناحي، مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة الأولى، 1413 هـ، نشر مكتبة الخانجي، القاهرة.
الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر المكتبة العصرية، بيروت، 1407 هـ.
الإيضاح العضدي، لأبي علي الفارسي، تحقيق الدكتور حسن شاذلي فرهود، دار العلوم الرياض، الطبعة الثانية، 1408 هـ.
الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الخامسة، 1403 هـ.
إيضاح المكنون فى الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لإسماعيل باشا بن محمد أمين البغدادي، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1402 هـ.
براعة التأليف في توضيح بعض خفي الإعراب والتصريف، لمحمد بن أحمد ابن جعفر الدمياطي الشافعي، تحقيق الدكتور محمد أحمد العمروسي، الدار الفنية للنشر والتوزيع بالقاهرة، 1408 هـ.
تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد مرتضى الزبيدي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد، لابن هشام الأنصاري، تحقيق الدكتور عباس مصطفى الصالحي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل، لأبي حيان الأندلسي، تحقيق الدكتور حسن هنداوي، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1418 1420 هـ.
التسهيل = تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، لابن مالك، تحقيق محمد كامل بركات، دار الكاتب العربي 1387 هـ.
التصريح بمضمون التوضيح، للشيخ خالد الأزهري، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد، لمحمد بن أبي بكر الدماميني، تحقيق الدكتور محمد ابن عبد الرحمن المفدى، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، الطبعة الأولى، 1403 1420 هـ.
حاشية الحفني على شرح الأشموني لألفية ابن مالك، نسخة محفوظة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية تحت رقم: 1187.
حاشية الخضري على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، للشيخ محمد الدمياطي الخضري، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأخيرة، 1359 هـ.
حاشية الدسوقي على المغني، لمصطفى بن محمد الدسوقي، مطبعة المشهد الحسيني، القاهرة، 1386 هـ.
حاشية الصَّبَّان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك، مطبوع بهامش شرح الأشموني، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، تأليف الشيخ عبد الرزاق البيطار، تحقيق محمد بهجة البيطار، مطبعة الترقي بدمشق، 1383 هـ، نشر المجمع العلمي العربي بدمشق.
الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام، تأليف الدكتور أحمد أحمد بدوي دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1979 م.
الخطط التوفيقية = الخطط الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، تأليف علي باشا مبارك، مطبعة بولاق بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1305 هـ.
كتاب الدارات، للأصمعي وياقوت الحموي، تحقيق يسري عبد الغني عبد الله، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1407 هـ.
الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، لأحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي، تحقيق الدكتور أحمد محمد الخراط، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، مطابع دار المعارف، مصر، الطبعة الرابعة.
السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، لمحمد بن عبد الله بن حميد النجدي، تحقيق بكر ابن عبد الله أبو زيد والدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، طبع مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1416 هـ.
سفر السعادة وسفير الإفادة، لعلم الدين أبي الحسن علي ابن محمد السخاوي، تحقيق محمد أحمد الدالي، دمشق، 1403 هـ، من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.
سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، لأبي الفضل محمد خليل بن علي المرادي، دار البشائر الإسلامية ودار ابن حزم، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1408 هـ.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحي بن العماد الحنبلي، تحقيق الدكتور محمود الأرناءوط وعبد القادر الأرناءوط، دار ابن كثير، دمشق وبيروت، الطبعة الأولى، 1406 1414 هـ.
شرح أبيات مغني اللبيب، لعبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق عبد العزيز رباح وأحمد يوسف دقاق، دار المأمون للتراث، دمشق وبيروت، الطبعة الأولى، 1393 1401هـ.
شرح ألفية ابن مالك، لابن عقيل، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المعرفة، مصر، الطبعة العشرون، 1400 هـ.
شرح ألفية ابن مالك، لعلي بن محمد بن عيسى الأشموني، عيسى البابي الحلبي، القاهرة
شرح ألفية ابن مالك، لشمس الدين محمد الفارضي الحنبلي، نسخة فلمية محفوظة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رقم: 7444، والأصل محفوظ في المكتبة الأزهرية تحت رقم: 4774.
شرح الأمير على نظم السُّجاعي في «لا سِيَّما» ، تحقيق الدكتور أحمد بن محمد القرشي بحث منشور في مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، المجلد 12، العدد 19، شعبان 1420 هـ.
شرح التسهيل، للحسن بن قاسم المرادي، نسخة فلمية محفوظة في جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية تحت رقم: ف 8903.
شرح التسهيل، لابن مالك، تحقيق الدكتور عبد الرحمن السيد والدكتور محمد بدوي المختون، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1410 هـ.
شرح الرضي لكافية ابن الحاجب، تحقيق الدكتور حسن بن محمد الحفظي، الطبعة الأولى، 1414 هـ، نشر إدارة الثقافة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
شرح شواهد شرح الشافية، لعبد القادر البغدادي، تحقيق محمد نور الحسن وزميليه، مطبوع مع شرح الشافية للرضي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1402 هـ
شرح القصائد التسع المشهورات، لأبي جعفر أحمد بن محمد النحاس، تحقيق أحمد خطاب، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1973 م، نشر وزارة الإعلام العراقية.
شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، لمحمد بن القاسم الأنباري، تحقيق عبد السلام هارون، مطابع دار المعارف في مصر، الطبعة الرابعة، 1400 هـ.
شرح الكافية الشافية، لابن مالك، تحقيق الدكتور عبد المنعم أحمد هريدي، دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى، 1402 هـ.
شرح مغني اللبيب، لمحمد بن أبي بكر الدماميني، مطبوع بهامش المنصف من الكلام على مغني ابن هشام للشمني، المطبعة البهية بمصر.
شرح المفصل، ليعيش بن علي بن يعيش، تصوير مكتبة المتنبي، القاهرة.
شرح المقدمة الجزولية الكبير، للأستاذ أبي علي عمر بن محمد الشلوبين، تحقيق الدكتور تركي بن سهو العتيبي، الطبعة الأولى، القاهرة، 1413 هـ. نشر مكتبة الرشد بالرياض.
شروح سقط الزند، للخطيب التبريزي وابن السيد البطليوسي وصدر الأفاضل الخوارزمي، تحقيق مصطفى السقا وزملائه، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1406 1408 هـ.
شفاء العليل في إيضاح التسهيل، لمحمد بن عيسى السلسيلي، تحقيق الدكتور عبد الله البركاتي، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
شواذ القرآن = مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع، لابن خالويه، عني بنشره ج برجستراسر، مكتبة المتنبي، القاهرة.
الصاحبي، لأحمد بن فارس، تحقيق أحمد صقر، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
ضرائر الشعر، لابن عصفور، تحقيق السيد إبراهيم محمد، دار الأندلس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1980 م.
الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر، للسيد محمود شكري الألوسي، شرحه واعتنى به محمد بهجة الأثري، دار الآفاق العربية بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1418 هـ.
صحيح البخاري، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق الدكتور مصطفى ديب البغا، دمشق، الطبعة الرابعة، 1410 هـ.
كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، ليحيى بن حمزة العلوي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1400 هـ.
عجائب الآثار في التراجم والأخبار، للعلامة المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، تحقيق وشرح حسن محمد جوهر والسيد إبراهيم سالم وزملاءٍ لهما، طباعة ونشر لجنة البيان العربي بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1958 1967 م.
عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح، لبهاء الدين السبكي، دار السرور، بيروت لبنان، مطبوع ضمن (شروح التلخيص) .
فهرست الكتب النحوية المطبوعة، تأليف الدكتور عبد الهادي الفضلي، مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى، 1407 هـ.
الفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة، لابن عابدين، تحقيق الدكتور حاتم الضامن، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1410 هـ.
فوات الوفيات والذيل عليها، لمحمد بن شاكر الكتبي، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، لبنان، 1973 م.
كتاب الكافي في علم القوافي، لأبي بكر محمد بن عبد الملك بن السراج الشنتريني، تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثانية، 1391 هـ، ومعه كتاب المعيار في أوزان الأشعار، للمؤلف نفسه.
الكتاب، لإمام النحاة سيبويه، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة الثانية، 1402 هـ.
كتاب الكناش في فني النحو والصرف، للملك المؤيد الأيوبي صاحب حماة، تحقيق الدكتور رياض بن حسن الخوَّام، طبع ونشر المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1420 هـ.
الكواكب الدرية على متممة الآجرومية، لمحمد بن أحمد الأهدل، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة 1416 هـ.
الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، لنجم الدين الغزي، تحقيق الدكتور جبرائيل سليمان جبور، نشر دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1979 م.
لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت، لبنان.
ما يحتمل الشعر من الضرورة، لأبي سعيد السيرافي، تحقيق الدكتور عوض بن حمد القوزي، مطابع الفرزدق، الرياض، الطبعة الأولى، 1409 هـ.
المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات، لأبي الفتح عثمان بن جني، تحقيق علي النجدي ناصف وزميليه، دار سزكين للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1406 هـ.
مختصر القوافي، لأبي الفتح عثمان بن جني، تحقيق الدكتور حسن شاذلي فرهود، دار المعارف السعودية، الرياض، الطبعة الثانية، 1397 هـ.
المسائل البغداديات، لأبي علي الفارسي، تحقيق صلاح الدين عبد الله السنكاوي، مطبعة العاني، بغداد، 1983 م.
المساعد على تسهيل الفوائد، لبهاء الدين بن عقيل، تحقيق الدكتور محمد كامل بركات، طبع دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1400 هـ.
المصباح المنير، لأحمد بن محمد بن علي الفيومي، مكتبة لبنان، بيروت، لبنان، 1987 م.
كتاب المطول في شرح تلخيص المفتاح، لسعد الدين مسعود التفتازاني الهروي، الطبعة الأولى، القاهرة، 1330 هـ، نشر المكتبة الأزهرية للتراث بالقاهرة.
معاني القرآن، لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء، تحقيق محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي، عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1403 هـ
معجم المؤلفين، تأليف عمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
معجم المطبوعات العربية والمعربة، جمع وترتيب يوسف أليان سركيس، مكتبة الثقافة الدينية، مصر.
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام الأنصاري، تحقيق الدكتور مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، بيروت، الطبعة الخامسة، 1979 م.
مفتاح العلوم، ليوسف بن أبي بكر السكاكي، تحقيق نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403 هـ.
المفصل في علم العربية، لجار الله الزمخشري، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثانية.
المقتضب، للمبرد، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1399 هـ.
موارد البصائر لفرائد الضرائر، لمحمد سليم بن حسين بن عبد الحليم، تحقيق الدكتور حازم سعيد يونس، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 1420 هـ.
نظم الفرائد وحصر الشرائد، لمهذب الدين مهلب بن حسن ابن بركات المهلبي، تحقيق الدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة الأولى، 1406 هـ، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة ومكتبة التراث بمكة المكرمة.
النكت في تفسير كتاب سيبويه، للأعلم الشنتمري، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، الكويت، الطبعة الأولى، 1407 هـ، نشر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في معهد المخطوطات العربية بالكويت.
نهاية الراغب في شرح عروض ابن الحاجب، لجمال الدين عبد الرحيم الإسنوي الشافعي، تحقيق الدكتور شعبان صلاح، مطبعة التقدم، القاهرة، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
النوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري، تحقيق الدكتور محمد عبد القادر أحمد، دار الشروق، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1401 هـ.
هدية العارفين، أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، لإسماعيل باشا البغدادي، دار الفكر، بيروت.
همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، لجلال الدين السيوطي، تحقيق الدكتور عبد العال سالم مكرم، نشر دار البحوث العلمية، الكويت، 1394 1400 هـ.(14/171)
المالكيِّ مذهبا، فُتِحَ عليه وعلى جميع إخوانه في الله تعالى.
****
الحواشي والتعليقات(14/172)
منهج إبراهيم (في الدعوة
كما عرضه القرآن الكريم
د- منظور بن محمد بن محمد رمضان
أستاذ مساعد بقسم الدراسات القرآنية بكلية المعلمين بمكة
ملخص البحث
إن الدعوة إلى الله تعالى من وظائف الأنبياء والمرسلين ومنهاج الصالحين من عباد الله لأنهم صفوة خلق الله، وهي من أهم ركائز الإيمان وأعظم ركن من أركانه، وأمرها وفضلها وخطرها بمكان معلوم، إذ هي بمنزلة الرأس من الجسد والغذاء للبدن، بها بيان الحق ونشر الخير والهدى وتحقق السعادة للبشر، وبها تكشف وسائل الباطل والمنكر وأساليبه الملتوية بشتى الطرق والوسائل، ولقد اعتنى القرآن الكرمي بهذا الركن اعتناء عظيماً واهتم به اهتماماً بالغاً.
فلابد للدعوة والداعية من خصائص وركائز ثابتة وقواعد مؤصلة حتى تسلم من الفشل، ويسلم الداعية من الزلل والميل عن الجادة الصحيحة، لذا يشترك فيها ما يشترك في سائر الأحكام الشرعية من فروض وواجبات ومستحبات.
ولقد كان منهج إبراهيم (في الدعوة إلى الله موضع اهتمام القرآن، ذلك لما اشتملت عليه شخصيته الكريمة من الصفات الحميدة والخصال الكريمة أولاً، ثم ما قامت عليه دعوته على أهم أهداف الدعوة وضوابطها بأساليب نظرية وعملية، وطرق مجدية نافعة، رسم بها الطريق للدعوة والدعاة، وأمر الله تعالى الأمة بالاقتداء به (ليتخذوا طريقته نبراساً لهم يسيرون على منوالها، ودرساً يجعلون الدعوة بها مرغوبة محببة، وبالله التوفيق والسداد.
مقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه ومن والاه، أما بعد:(14/173)
فإن الله تعالى خلق الخلق لحكمة عظيمة وغاية نبيلة ألا وهي عبادته سبحانه وتعالى، واقتضت حكمته أن بعث رسلا مبشرين ومنذرين، ليبينوا للناس حقيقة عبادة الله ليعبدوه على بصيرة وفق ما يشرع لهم، وامتحن الله الرسل بالأمم والأمم بالرسل، ليرسموا بذلك منهج الدعوة وسبيلها الصحيح الذي رسمه الله لهم بقوله: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ((يوسف 108) على حجة واضحة يتميز بها الحق من الباطل، وبرهان صحيح يقنع الخصم ويهدي إلى سواء السبيل.
ولابد لأصحاب الدعوة إلى الله من هذا التميز ولابد لهم من هذا الاقتداء: (أنا ومن اتبعني… ((1) فكل من سار من بعدهم على هذا المنهج القويم فهو على منهج الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو ممن عناهم الله بقوله: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا… ((فصلت 33) .
فما دام أنها دعوة إلى الله تعالى فلابد لها من خصائص مميزة وركائز ثابتة وقواعد راسخة حتى تسلم من الفشل، ويسلم الداعية من الزلل والميل عن الجادة الصحيحة.
وإذا نظرنا إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة رسوله (وسيرته فنَجِدُ أن الدعوة بمجموعها تدور حول محاور ثلاثة:
أولا: توضيح الأمانة وبيانها للناس ثم أداؤها على وجهها، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينّنه للناس ولا تكتمونه…. ((آل عمران 187)
ثانيا: إقامة الحجة والبرهان، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق… ((فصلت 35) .
ثالثا: إنقاذ الأمة ووقايتها من أسباب الهلاك، وهذا ما أشار إليه القرآن بقوله تعالى: (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ((آل عمران 103) . وبمجموع هذه المحاور الثلاثة تتم الدعوة على أصولها.
__________
(1) لحواشي والتعليقات
) أحكام القرآن للقرطبي ج6/211، روح المعاني للألوسي ج2/153.(14/174)
ولقد كان منهج إبراهيم (نموذجا في الدعوة إلى الله وموضع اهتمام القرآن، ذلك لما اشتملت عليه شخصيته الكريمة من الصفات الحميدة والخصال الكريمة أولا، ثم ما قامت عليه دعوته على أهم أهداف الدعوة وضوابطها بأساليب نظرية وعملية، وطرق مجدية نافعة، رسم بها الطريق للدعوة والدعاة، وأمر الله تعالى الأمة بالاقتداء به (سواء كان ذلك في صفاته (الشخصية أو في أساليبه النظرية أو أساليبه العملية، ليتخذوا طريقته نبراسا لهم يسيرون على منوالها، ودروسا يجعلون الدعوة بها مرغوبة محببة.
ولقد نوه القرآن الكريم بمواقفه النبيلة الثابتة، وشهد له بعزيمته القوية الصادقة لا سيما مع أبيه في سبيل دعوته إلى توحيد الله تعالى، إلى أن أُلقِي في النار فأكرمه الله برتبة (الخُلّة) ورفع من شأنه أن ضمه في صف أولي العزم من الرسل، صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ومن هنا كان لهذا الموضوع أهمية بالغة وضرورة ملحة.
أهمية الدعوة وضرورتها:
قال الله (: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ((الأحزاب 72، 73) .
إن الدعوة إلى الله تعالى تعني تحمل الأمانة التي كلف الإنسان بحملها والعمل بمقتضاها ثم دعوة الناس لها، ولذا كانت من وظائف الأنبياء والمرسلين ومنهاج الصالحين المتقين من عباد الله لأنهم صفوة خلق الله، وهي من أهم ركائز الإيمان وأعظم ركن من أركانه، وأمرها وفضلها وخطرها بمكان معلوم، إذ هي بمنزلة الرأس من الجسد والغذاء للبدن والري للعطشان، بها نشر الملة السمحاء التي تمتاز في منهجها ببيان الحق ونشر الخير والهدى وتحقق السعادة للبشر، وتكشف وسائل الباطل والمنكر وأساليبه الملتوية بشتى الطرق والوسائل.(14/175)
ولقد اعتنى القرآن الكريم بهذا الركن اعتناء عظيما واهتم به اهتماما بالغا،.فذكره في عدة مواضع منه، تارة بذكر آدابه وأساليبه التي يجب اتباعها ضمانا لنجاحها، كما قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنّ ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ((النحل 125) .
وتارة بذكر قصص الأنبياء مع أممهم المخالفة لأمر الله وما حل بها، كقصة موسى (مع فرعون، قال تعالى: (هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربّه بالوادى المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى ((النازاعات 15- 19) . وقال تعالى: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكرُ أو يخشى.. ((طه 44) .
وأخرى بالحث والترغيب في الدعوة إلى الله، كما قال تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ... ((يوسف108) . (1) وقال تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا ... ((فصلت 33) .
لذا فليعلم الدعاة أن في أعناقهم أمانة عظيمة حملهم الله إياها، وهم مسئولون عنها أمامه ولا يُعذرون حتى ولو كانوا في أحرج ظروف وأضيقها، لا سيما في زمن الماديات الذي ترك الناس فيه الدعوة إلى الله وزهدوا عنها بحب الدنيا وإيثارها عليها، فليؤدوها على وجهها، انقاذا للأمة من الضلال في الدنيا ومن النار في الآخرة وإقامة للحجة عليها: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ((النساء 165) . في يوم لا يقبل فيه عذر ولا تنفع فيه شفاعة قال تعالى: (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يُستعتبون ((الروم 57) .
موضوع البحث:
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي ج6/211، روح المعاني للألوسي ج2/153.(14/176)
دراسة الآيات التي تحدثت عن منهج إبراهيم (في الدعوة كما عرضه القرآن الكريم من حيث أهميته وضرورته دراسة موضوعية يتبن من خلالها لكل مسلم عظمة الدعوة إلى الله وضرورتها، وما يجب على كل مسلم تجاهها فيجعلها نصب عينيه ويلتزمها في كل شئون حياته العلمية والعملية، حتى تكون همّ حياته ومصدر سعادة إخوانه اقتداء بالخليل (الذي لم يدخر وسعا أو نصيحة أو أهمل سببا في إرشاد أبيه وقومه.
أهمية البحث:
تظهر أهمية البحث وثمرته من حيث استمداده وموضوعه ومنهجه، ومن حيث تطبيقه وصلته بالمجتمع وحاجته إليه ومدى تحقيقه للأهداف والنتائج والغايات المرجوة من ورائه، وإنّ موضوع (منهج إبراهيم (في الدعوة كما عرضه القرآن الكريم) من أهم الموضوعات التي نحن في أمس الحاجة إليها، لا سيما في زمن فسد فيه معتقد كثير من الناس وتبلبلت أفكارهم تجاه دينهم وشريعتهم، فما حصل أو يحصل من ضعف الوازع الديني أو خروج الناس على أحكام الله أو إهمالهم أوامر الله ونواهيه وتساهلهم في ارتكاب المحرمات إلا بسبب تقصير الدعاة في جانب الدعوة، أو لعدم جدواها لعدم اتباع قواعدها المرسومة وفق شريعة الله تعالى واستلم السفهاء من الناس زمام الغواية، فانتشر الإلحاد والملحدون في المجتمعات البشرية ممن يزعمون العلم والفهم وهم في الحقيقة معاول لهدم الإنسانية وطمس معالم الحق في الناس.
الهدف من البحث:(14/177)
إن التفسير الموضوعي يختلف عن التفسير التحليلي أو الإجمالي، فمن حيث المراجع العلمية فإنه يعتمد بصورة كبيرة على الاستنباط والتلخيص لما في الآيات من المعاني والإرشادات والإشارات والأسرار القرآنية الدقيقة بعد الرجوع إلى التفسير بالمأثور والمعقول، كما يقول الزركشي: (أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر والتفكر، واعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقة، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب، أو في قلبه كِبر أو هوى أو حب الدنيا أو يكون غير متحقق الإيمان أو ضعيف التحقيق أو معتمدا على قول مفسر ليس عنده إلا علم بظاهر، أو يكون راجعا إلى معقوله، وهذه كلها حُجُب وموانع وبعضها آكد من بعض) (1)
ومن حيث المنهج فإنه يعتمد على الموضوعات القرآنية فحسب.
ومن حيث التحرير والأسلوب فإن المفسر يحتاج إلى تدبر آيات القرآن الكريم وإلى تعمق فكري لمعاني الذكر الحكيم وتذوق للبيان والأسلوب القرآني الرصين، وإلقاء نظرة عامة على جميع الآيات المجمعة من حيث تأليفها وترتيبها واستنباط العلاقة بينها وربط عناصر الموضوع بعضه ببعض، ثم سبك هذه المعاني في قالب من الحقائق مترابطة متصلة مثل سلسلة الذهب للخروج بنظرية قرآنية جديدة.
وهذا يتأتى (إذا كان العبد مُصْغِيا إلى كلام ربّه ملقى السمع وهو شهيد القلب لمعاني صفات مخاطبه ناظرا إلى قدرته تاركا للمعهود من علمه ومعقوله) (2) فإنه يفتح الله عليه أبواب معرفته بحيث يقف على أسرار عظمة كتاب الله تعالى.
ويمكن تلخيص بعض أهداف هذه الدراسة في النقاط التالية:
__________
(1) البرّهان في علوم القرآن للزركشي ج2/180.
(2) البرّهان في علوم القرآن للزركشي ج2/181.(14/178)
تحقيق مبدأ النصيحة التي يقوم عليها أساس جلب الخير ودفع الشر عن البشر، والتواصي بالحق وبالصبر امتثالا لقول الله تعالى: (والعصر إن الإنسان لفي خُسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ((العصر) ولقول النبي (: (الدين النصيحة) قال الصحابة: لمن يا رسول الله؟، قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) (1) .
جمع ما يتعلق من الآيات بموضوع البحث في مكان واحد، ثم البحث والنظر فيها من زاوية قرآنية محددة، ثم دراستها دراسة موضوعية وافية مركزة منحصرة على ما يتعلق بالموضوع شاملة لجوانبه من حيث بيان ما يتعلق بموضوع (منهج إبراهيم (في الدعوة كما عرضه القرآن الكريم) وضرورته، ومن حيث منهج الآيات في عرض الموضوع، دراسة موضوعية على نمط يغاير نمط الموضوعات العامة، بعيدا عن الإطالة المملة، ثم تفسير الآيات تفسيرا موضوعيا من كتب التفسير بالرواية والدراية، ثم من كتب السنة على أساس وحدة واحدة مترابطة.
تأصيل البحث بالقرآن الكريم وبالسنة الصحيحة ومن واقع منهج السلف في الدعوة.
إخراج هذا الموضوع- الذي لم يسبق أن كتب فيه حسب علمي- بمنهج التفسير الموضوعي، بأسلوب سهل ميسر، وإيصاله إلى مسامعهم بوضوح تام ليسهل عليهم فهمه وإدراكه ثم السير على نهجه دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وإرشادا ونصحا بالتي هي أحسن.
معذرة إلى الله بإقامة حججه ونصب براهينه على الناس وإيقاظهم وتنوير بصائرهم وإقناعهم وتنبيههم من غفلتهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
بيان أهمية موضوع الدعوة إلى الله تعالى لا سيما في زمان تزعزعت فيه العقيدة وتذبذبت الأفكار وترك الناس الدعوة إلى الله زهداً عنها بتقديس المادة وبحب الدنيا وإيثارها عليها.
منهج الآيات في عرض الموضوع:
إنّ منهج الآيات بمجموعها وحسب تناولها للموضوع دارت على محورين رئيسيين:
__________
(1) صحيح مسلم ج1/74.(14/179)
المحور الأول: تكلمت عن أساليب دعوة إبراهيم (النظرية.
المحور الثاني: تكلمت عن أساليب دعوة إبراهيم (العملية.
أما منهجي في عرض الموضوع، فإنني ذكرت الآيات التي تناولت الأساليب النظرية والعلمية في الدعوة وما يتعلق بها، وتفسير الآيات وبيان ما بينها من الصلة والترابط، وذكرت ما فيها من الفوائد والآداب والإرشادات والتوجيهات الربانية الكريمة، مدعما ذلك بالآيات القرآنية وبالأحاديث النبوية الشريفة.
خطة البحث:
اشتمل البحث على: مقدمة، وفصلين، وستة عشر مطلبا.
المقدمة: وفيها بيان فضل الموضوع، أهمية الدعوة وضرورتها، موضوع البحث، أهمية البحث، الهدف من البحث، التعريف بمسمى البحث.
الفصل الأول: صفات إبراهيم (وأثرها في الدعوة.
ويشتمل على توطئة وأربعة عشر صفة.
الفصل الثاني: أساليب إبراهيم (في الدعوة كما عرضها القرآن الكريم.
ويشتمل على توطئة ومبحثين وستة عشر مطالبا:
المبحث الأول: الأساليب النظرية
وتحته أربعة مطالب:
المطلب الأول: الاستعطاف، الثاني: أسلوب المناظرة والمحاجة، الثالث: استثارة الخصم، الرابع: المعاريض.
المبحث الثاني: أساليب إبراهيم (العملية في الدعوة.
ويشتمل على توطئة واثني عشر مطلبا كالتالي:
المطلب الأول: القدوة، الثاني: اللين أولا ثم الشدة، الثالث: الابتداء بالأهم، الرابع: الابتداء بالأقربين، الخامس: التحدي، السادس: تحطيم الأصنام، السابع: الهجرة، الثامن: المفاصلة والموادعة، التاسع: المبادرة بامتثال أمر الله ببناء البيت، العاشر: المبادرة بامتثال أمر الله بذبح ابنه، الحادي عشر: الدعاء والتضرع إلى الله، الثاني عشر: دروس وعِبَر عَبْرَ قصة الخليل إبراهيم (.
* * *
منهج إبراهيم (في الدعوة كما عرضه القرآن الكريم
تعريف المنهج:
قال ابن فارس: النون والهاء والجيم أصلان متباينان:
الأول: النهج الطريق، ونهج لي الأمر: أوضحه، وهو مستقيم المنهاج.(14/180)
والآخر: الانقطاع وأتانا فلان ينهج إذا أتى مبهورا منقطع النفس… (1)
ولعل صلة المعني بهذا الأصل واضحة وهو ما سبق ذكره من حيث بذل الداعية قصارى جهده في إبلاغ الدعوة حتى ينقطع به النفس من شدة البلاغ، وتتفطر قدماه فيبقى مبهورا. من شدة السعي والمسارعة في حضور مجالس القوم ونواديهم وأماكن تجمعاتهم كما كان حال رسل الله. والله أعلم.
والمَنْهَجُ والمنهاج: الطريق الواضح، وكذلك النَهْجُ، قال تعالى: (لكلٍ جعلنا منكم شِرْعَةً ومِنْهَاجَا ((المائدة 48) . وأنْهَجَ الطريقُ أي: استبانَ وصار نَهجَا واضحا بَيِّنا، ويقال: فلان يَستَنهِجُ سبيلَ فلان، أي: يسلُكُ مَسلَكَه (2) .
فالمنهج: الطريق المستقيم الواضح فى الدين (3) .
تعريف الدعوة:
الدعوة: مأخوذة من الدعاء، وهو النداء إلى الشيء والحث على قصده، قال تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام ((يونس 25) . (4) ، والمراد هو جمع الناس على الخير ودلالتهم على الرشد بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
قال ابن تيمية: الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره والدعوة إلى أن يعبد العبد ربّه كأنه يراه (5) .
والداعية: هو الذي يدعو إلى الله تعالى على بصيرة.
فالمقصود مِن منهج إبراهيم (في الدعوة: هي الطريقة والسبيل الذي اتخذه وسلكه مع أبيه وقومه في دعوتهم إلى ربّه تبارك وتعالى.
الفصل الأول:
__________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج (ن هـ ج) .
(2) الصحاح للجوهري ج1/346، المعجم الوسيط لإبراهيم أنيس ورفاقه (957) .
(3) أحكام القرآن للقرطبي ج6/211، روح المعاني للألوسي ج2/153.
(4) انظر مفردات ألفاظ القرآن للراغب (315، 316) .
(5) مجموع فتىًاًوى ابن تيمية ج15/157.(14/181)
دراسة الآيات المشتملة على صفات إبراهيم (وأثرها في الدعوة
الآيات المشتملة على صفات إبراهيم (في الدعوة:
قال تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، إنّ أولى الناس بِإبراهيم لَلَّذين اتبعوه وهذا النبي والذين ءامنوا والله ولي المؤمنين ((آل عمران 67، 68) . وقال تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا ((النساء 125) ، وقال تعالى: (إنّ إبراهيم لأواه حليم ((التوبة 114) . وقال (: (إنّ إبراهيم لحليم أواه منيب ((هود (75) . وقال (: (إنّ إبراهيم كان أمّةً قانِتَا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، وءاتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لَمِن الصالحين، ثم أوحينا إليك أن اتبع مِلَةَ إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ((النحل 120- 123) . وقال: (: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمَسَّك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليّاً، قال سلام عليك سأستغفرلك ربي إنه كان بي حفيّا ((مريم 41-47) . وقال: (: (وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ((الأنبياء 57) . وقال: (: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ((الأنبياء 68) .وقال: (: (الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين ((الشعراء 78- 80) .وقال: (: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فقربّه إليهم قال ألا تأكلون ((الذاريات 24-27) .(14/182)
الفصل الأول: صفات إبراهيم (وأثرها في الدعوة:
توطئة:
إنّ الإسلام في حد ذاته منبع نور وهداية للبشرية، يرى وجوبا أن تتم الدعوة إليه من خلال التطبيق الصحيح له قبل الدعوة إليه بالقول، ويقتضي ذلك الالتزام التام به ظاهرا وباطنا، والتمسك به علماً وعملا، والتحلي بصفاته وآدابه تطبيقا واقتداءً، والدعوة إليه بذلا ونصحا، ولا أدل على ذلك من محمد (.وأصحابه الذين ساروا على نهج إبراهيم (مع الأمم كما قال الله تعالى: (إنّ أولى الناس بِإبراهيم لَلَّذين اتبعوه وهذا النبي والذين ءامنوا والله ولي المؤمنين ((آل عمران 68) .
إذ إن من أسباب مقت الله وغضبه ومن فشل الداعية ودعوته مخالفة الداعية واقعه ومبدأه ومنهجه، ولا أقرب مثلا من أهل الكتاب ومن سار على نهجهم من أهل هذا الزمان من المنتسبين إلى الإسلام حين خالفوا منهج الخليل إبراهيم (فكذبهم الله في دعواهم، فقال تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ((آل عمران 67) .
وإنما كان (مثالا للهداية والطاعة والشكر والإنابة لله، وإماما يُقتدى به في الخير لاستجماعه خصالها وكمالها، كما قال الله (عنه: (إنّ إبراهيم كان أمّةً قانِتَا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، وءاتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لَمِن الصالحين، ثم أوحينا إليك أن اتبع مِلَّةَ إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ((النحل 120- 123) .
هذه الآيات الكريمات حين تصف الخليل إبراهيم (بهذه الصفات الجليلة العظيمة، تتضمن أسرارا قرآنية عظيمة، وانطوى تحتها مباني ثابتة متينة لتشيد للدعاة معالم بارزة يهتدون بها في ظلمات الجهل والجهالات لئلا يضلوا، جدير بنا أن تكون لنا وفقة تأمل وتعقل عند كل صفة منها، وهي أربعة عشر صفة:
1- قال (: (إنّ إبراهيم كان أُمّة (:(14/183)
صفة صغيرة المبنى كبيرة المعنى قليلة الحروف كثيرة الصروف، صفة جمعت جميع خصال الخير وعناصر الفضيلة وكماله، لأنها من كلام الله لتوفي بالغرض على أتم الوجوه وأبلغها: فهو إمام الخير ومعلمه، كان يوحد الله من بين سائر الناس، وعاملا بما عَلَّمَه الله من الشرائع، كما قال تعالى: (إني جاعلك للناس إماما ((البقرة 124) . (1) فهو كما قال ابن عباس رضى الله عنهما: كان عنده (من الخير ما كان عند أمة وجماعة كثيرة،.فإطلاقها عليه (لاستجماعه كمالات لا تكاد توجد إلا متفرقة في أمة كثيرة، وكل هذه المعاني تنطبق عليه (2) .
فهو (خير أهل دينه، جمع من خصال الخير وكمالاتها الحسية والمعنوية ما يعدل بها أمة كاملة،.فهو قد نصب أدلة التوحيد ورفع أعلامها وخفض رايات الشرك، كما قال تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ((البقرة 133) . وقال تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وكانوا لنا عابدين ((الأنبياء 73) . أي: قانتين مطيعين خاضعين.
2- قال (: (قانتا لله… (:
مطيعا خاضعا قائما بأمر ربّه على الوجه الأكمل والأمثل مؤمنا وحده والناس كلهم كفار، داعية إليه مستجمعا لشروط الكمال في نفسه داعيا إليها غيره، مستقيما على دين ربّه حنيفا غير مشرك مثل قومه (3)
__________
(1) انظر جامع البيان للطبري ج14/190، وأحكام القرآن للقرطبي ج10/197.
(2) روح المعاني للألوسي ج5/249.
(3) أحكام القرآن للقرطبي ج2/86، 10/197، وفتح القدير للشوكاني ج1/133، 3/202.
ويؤيد هذا المعنى ما روي عن ابن مسعود (أنه قال: (يرحم الله معاذا!، كان أمة قانتا، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، إنما ذكر الله عزوجل بهذا إبراهيم (، فقال ابن مسعود: إن الأمة الذي يعلم الناس الخير، وإنّ القانت هو المطيع، وهذا وجه حسن في الآية، لأنه إذا كان يعلم الناس الخير فهو يُؤتم به معاني القرآن ج4/111، والمراجع السابقة.
فيستفاد من هذا الحديث: أن كل من اتصف بهذه الصفات التي اتصف بها الخليل إبراهيم (فإنه يشمله هذا الفضل العظيم، وأنه أهل ليكون داعيا إلى الله تعالى.(14/184)
3- قال (: (حنيفا ولم يك من المشركين… (:
أهلا للدعوة إلى الله لاستقامته في نفسه ومقيما غيره على ملة الإسلام استقامة تامة كاملة بعيدا عن الهوى والمطالب النفسية، فهو (لم يمل إلى دين سوى دين الإسلام،.ولم يشرك بالله قط: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ((آل عمران 67) فيه إعلام من الله تعالى لكل من خالف منهج إبراهيم (كائنا من كان قريبا أم بعيدا، بأن إبراهيم (بريء منه وأنهم منه بُرءاء. (1) .
حقا إنّ نعمة الاستقامة على التوحيد والسلامة من الشرك ليستوجبان شكر الله تعالى، فإذا مَنّ الله على العبد بنعم وجب عليه شكرها وتوجيهها إلى منعمها
4- قال (: (شاكرا لأنعمه… (:
شاكرا شكرا دائما كاملا موصولا مستزيدا غير مودع ولا معرض عما أنعم الله عليه من صغير النعم وكبيرها جديدها وقديمها أولها وآخرها ظاهرها وباطنها: (لئن شكرتم لأزيدنكم ((إبراهيم 7) فكان من آثار ذلك الشكر أن (اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم…. (
ونتيجة جهاده في الله حق جهاده، وقنوته وإخلاصه وشكره لربّه، زاده الله من كل ضروب الخير والفضل والنعم، كما قال تعالى: (وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لَمِنَ الصالحين ((النحل 121، 122) . أي: وهبه حسنات كثيرة عامة شاملة لا تختص بنوع معين حسنات بكل معانيها.
فمن هذه الحسنات الموهوبة: الولد الصالح، والثناء الحسن فى الدنيا حتى إن أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه، وأما لسان الصدق والنبوة فلا يوازيهما حسنة، كما قال تعالى حكاية عنه: (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين ((الشعراء 83، 84) .
__________
(1) جامع البيان للطبري ج14/190، 191، وأحكام القرآن للقرطبي ج2/86، 10/197، 198، وفتح القدير للشوكاني ج1/133، 3/202.(14/185)
ومن هذه الحسنات الموهوبة: شكر الخليل (نعم ربّه ابتداءً وختاما ظاهرا وباطنا سرا وعلنا، خالصا مخلصا موصولا عدلا خضوعا واستكانة تعبدا ورقا لرب العالمين مولي النعم، غير مشرك في شكره شريكا من الآلهة والأنداد كما يفعل المشركون، سائلا ربّه في أن يوفقه لذكره وشكره وحسن عبادته حتى يكون أهلا لجنته ودار كرامته التي لا لغو فيها ولا تأثيم قائلا: (واجعلني من ورثة جنة النعيم ((الشعراء 85) . (1) نعمة ونعيما وحبرة وقرة عين بما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
المقام مقام دعوة وإرشاد ولا يخلو من استفزازت وانفعالات وتشنجات، وإبراهيم (بشر رسول قد يثور ويغضب على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء، والحلم سيد الأخلاق ومن لوازم الدعوة الأناءة والصبر، والتحمل من أصولها.
5- قال (: (إنّ إبراهيم لَحلِيمٌ أواه منيب (
الخليل (أقدر على حزم نفسه وضبط أعصابه، ليصفح عن جهالات الناس ويصبر على أذاهم، فهو لم يعاقب قط إلا في الله ولم ينتصر إلا لله، لأنه طبع على أحب الصفات إلى الله وهي: الحلم وكرم الأخلاق والطمأنينة والتؤدة، فأصبحت من صفاته الخِلْقية والخُلُقية (2) ولكن قد يعجز عنها أصحاب الدعوة، فما أجدر بهم أن يقتدوا بإمام الدعوة والدعاة الخليل (.
ومن آثار حلمه: توجعه وتألمه على كفر أبيه وقومه وأذيتهم له، ولم يستعجل لهم بالعقوبة والعذاب على حين أن حالهم يستوجب إحلال العذاب بهم.
6- قال (: (أوّاه…. (:.
__________
(1) انظر جامع البيان للطبري ج14/190- 193، وأحكام القرآن للقرطبي ج2/86، 133، 10/197، 198، وفتح القدير للشوكاني ج1/133، 3/202.
(2) وفي هذا يقول النبي (لأشج عبد القيس (: (إنّ فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناءة) .صحيح مسلم ج1/48.(14/186)
حين يتذكر حرمان أبيه وقومه من نعمة الإيمان ومن نعمة نعيم الجنة، يتذكر عاقبة الذين أساؤوا من قومه السوأى فتذهب نفسه عليهم حسرات، يتوجع على عاقبتهم بدخولهم النار ويتأوه على سماجة رأيهم وسفاهة عقلهم، ولكن لا ينفع الأسى على قوم كافرين، فيطلب من ربّه تبارك وتعالى الصبر والسلوان بكثرة تلاوة كتابه والإنابة والخشوع له، ويبتهل بالدعاء والتضرع إليه سبحانه وتعالى مقرا بالضعف والاستكانة (1) .
7- قال (: (مُنِيب… (:
إنابة وافتقار إلى الله تبارك وتعالى من قدوة الدعاة الخليل (في طلب المدد والعون والسداد في كل الشئون، وتفويض لحال قومه إلى الله، فإنه لا غنى للعبد عن مولاه طرفة عين أو أقل من ذلك، لا سيما في أمر الدعوةِ إلى الله.
فمهما بلغ تمكن العبد وتمكينه ومهما أعطي من قوة واقدام واستكملت لديه قوام الحياة وعناصر السعادة، فلا يزال الضعف والعجز يلازمه، ومهما بلغ من العلم والفهم والذكاء فإن النقص لا يفارقه، إلا من ركب مركب الصدق وتوجه به إلى الله في مغالبة الصعاب بعزيمة صادقة ونية خالصة: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصِدّقون والشهداء عند ربّهم لهم أجرهم ونورهم ((الحديد 19) .
قال (: (إنه كان صديقاً نبياً (:
قال الزمخشري أي: (كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء وبليغا في الصدق) (2) وذكرت هذه الصفة هنا مقترنة مع النبوة لكونه (كما قال الراغب: (صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله ((3)
__________
(1) انظر أحكام القرآن للقرطبي ج8/275.
(2) تفسير الكشاف للزمخشري ج3/17.
(3) مفردات ألفاظ القرآن للراغب (479) .(14/187)
فلا عجب أن يذكر الله تعالى خليله إبراهيم (في معرض كمال الصدق ونهايته، كما يُفهم من معاني الآية الكريمة حيث عبر بصيغة المبالغة، فقال: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً ((مريم 441) فإنّ الصدق ملاك أمر النبوة ومن لوازم الدعوة ومن أخص صفات الداعية، وقد جعله الله من كمال الإيمان، فقال: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون…. ((الحدديد 19) وجعله من مؤيدات النبوة والرسالة، فقال: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ((الحديد 25) وقال: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة ((يوسف 108) . (1) وأمر به فقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ((التوبة 119) لأنه مفتاح الخلة وباب الرضى ورَحبَة الثقة والمودة.
9- قال (: (واتخذ الله إبراهيم خليلا… (:
منزلة الخُلة منزلة رفيعة عظيمة عالية، وهي والصدق توءمان كل منهما يختبيء في الآخر لينوب عنه، ولم تحصل هذه المرتبة إلا للخليلين: محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
ولنقف عند هذه الصفة العظيمة لنستشف بعض معانيها الجليلة وأسرارها اللطيفة:
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي ج1/233، 5/272، وفتح القدير للشوكاني ج3/335.(14/188)
فهو السخي الكريم وهو الذي أحب الله حبا حتى تخلل قلبه بمحبة الله فلم يدع فيه فراغا إلا ملأه بحب الله حتى أحبه الله، فوالى في الله وعادى في الله،.روي أنه لما رمي فى النار بالمنجنيق وصار في الهواء، أتاه جبريل (فقال: ألك حاجة؟، قال: أما إليك فلا، فَخُلَّةُ الله لإبراهيم (: نصرته إياه (1) .
فلما تأتي النتائج مرضية والعواقب حميدة، فتجيش رحمة الله على عباده بالإنعام والتفضل والاكرام، فإبراهيم (يحوز عمله القبول وجهاده الرضى، فيفيض المولى عليه بِخِلع الرحمة والرضوان والقبول، قال تعالى: (وناديناه أن يا إيراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين ((الصافات 104، 105) فيمنح الجليل الجزيل: فيتخذ إبراهيم خليلا.
10- (السخاء والكرم) :
قال تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ... ((الذاريات 24- 27) .
__________
(1) جامع البيان للطبري ج17/45، وذكره القرطبي في أحكامه ج5/400. قال (: (اتخذ الله إبراهيم خليلا: لإطعامه الطعام، وإفشائه السلام، وصلاته بالليل والناس نيام) ذكره القرطبي في أحكامه ج5/401. وفي الحديث: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالِل) أخرجه أبو داود في سننه ج4/259، والترمذي في جامعه ج7/49، قال المنذري: وقد ضعفه بعضهم ورجح بعضهم إرساله مختصر سنن أبي داود ج7/186، وصححه النووي. في رياض الصالحين ج1/287.
وانظر تفسير الطبري ج5/297، 17/45، أحكام القرآن للقرطبي ج5/400، 401، 9/64- 68، 11/303، 17/44، 45، وفتح القدير للشوكاني ج1/519، 5/87، تفسير ابن كثير ج4/235، روح المعاني للألوسي ج9/11، في ظلال القرآن لسيد قطب ج6/3382.
والمنجنيق: آلة قديمة من آلات الحِصار، كان يرمى بها الحجارة الثقيلة عن بعد على الأسوار فتهدمها المعجم الوسيط (855) .(14/189)
الضيافة من مكارم الأخلاق ومِن آداب الإسلام، ومِن خُلق النبيين والمرسلين وعباد الله الصالحين، وهي كرم وبذل حفاوة وتكريم، تستمال بها النفوس وتجتذب وتعطف بها القلوب وتؤلف، والدعوة كذلك بذل للمعروف لين في الكلام سخاء في الأخلاق، والضيف عزيز كريم.
ولذا كان إكرام بعض الناس فى العطاء سببا في إسلامهم، كما روي عن أنس (أن رجلا سأل النبي (غنما بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قوم! أسلموا فوالله إنّ محمدا ليعطي عطاءً من لا يخاف الفقر، فقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها (1)
واعطى يوم حنين صفوان بن أمية (مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة، فقال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله (ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يُعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ (2) .
وقفة لا بد منها: يجب أن يعلم الداعية أن يكون عطاؤه ومنعه لله تعالى فحسب، لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد والعدو والصديق (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ((النساء 135) .
ولا بد أن يكون في حسبانه بأن المال مدعاة للمؤاثرة إن لم يراقب الله فيه، أسوة برسول الله (لا يريد من وراء ذلك جزاء ولا شكورا، فلا يهمه إرضاء قريب أويزعجه غضب صديق أو يثيره شر من أحسن إليه، فلا بد من الصبر والتحمل في ذات الله تعالى ليتحقق المنع والعطاء لله وحده.
11- (الصبر والتحمل) :
إنّ الصبر والتحمل لمن أبرز صفات الداعية وأوجبها ومن أصول منهج الدعوة وأسسها وآدابها،، فمن فقد الصبر فقد الدعوة، فلا يكمل الداعية ولا تتم الدعوة بدون صبر واصطبار.
__________
(1) صحيح مسلم ج4/1806.
(2) صحيح مسلم ج4/1806. وانظر أحكام القرآن للقرطبي ج9/64، 68، 17/44، 45، روح المعاني للألوسي ج5/250، 9/11، في ظلال القرآن لسيد قطب ج6/3382.(14/190)
وأَمَرّ الصبر وأشده صبر عباد الله المخلصين على حقوق الله وحدوده حين يعتدى عليها.
لقد ناظر إبراهيم (قومه في بطلان أمر آلهتهم وألزمهم الحجة وعجزوا عن الجواب، ولكن نظراً لمكانة الآلهة وعظيم شأنها عندهم، ونظراً إلى كبير ما ارتكبه إبراهيم (في حق آلهتهم في نظرهم قالوا: (حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ((الأنبياء 68) . شعور بالعجز والضعف أمام الحق، وتلك سمة الطغاة قديماً وحديثاً، فالذي يتعدى على الآلهة يعاقب بأفظع العقاب وأشده وهو النار.
ذكر ابن كثير عن بعض السلف أنه عرض لإبراهيم (جبريل وهو في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال: أمَّا إليك فلا وأمَّا إلى الله فبلى، وروي أنه قال: (اللهم! أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس أحد يعبدك غيري، حسبى الله ونعم الوكيل) ، وفي رواية قال: (لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ((1)
وهنا تتجلى شخصية إبراهيم (المطبوعة على الحلم والصفح والصبر والتحمل، فإن القوم لم يتركوا باباً من الأذية والتعذيب إلا طرقوه، ولكنه (لم يغضب فيفقد برّه وأدبه مع أبيه، ولم يَدْعُ على قومه بالهلاك مع استحقاقهم لذلك، ولكن فوض أمرهم وأمره إلى الله تعالى.
12- (توكله على الله) :
لا حول ولا قوة للعبد مطلقاً لا سيما فيما لا يقدر عليه غير الله، من: الهداية والإيمان والرزق والنفع والحياة السعيدة، ويتجلى هذا الخلق النبيل في حياة إبراهيم (حينما يفوض أمر دفع ضّر المرض وجلب نفع الشفاء وأمر الرزق والمعاش وأمر الحياة والأجل والعمر إلى ربّه سبحانه بقوله: (الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين ((الشعراء 78- 80) .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج3/184.(14/191)
يقف سيد قطب تحت ظلال هذه الآيات فتتجلى له أسرارها فيستنبط: بما لأجله يصف الخليل (ربّه تبارك وتعالى في هذه الآيات وبما لأجله يفتقر الخلق إليه سبحانه، وبما لأجله يستحق العبادة من عباده، (الذي خلقني فهو يهدين (أنشأني من حيث يعلم ولا أعلم فهو أعلم بحقيقتي وتكويني، وحالي ومآلي، ويرشدني وحده إلى كل ما يهمني ويصلحني من أمور مصالح الدين والدنيا والمعاش والمعاد، هداية متصلة من حين نفخ الروح إلى منتهى أجلي، {والذي هو يطعمني ويسقين} فهو الكفيل بأمر الرزق وهو الذي يطعم ويسقي اختصاصاً وملكاً ولا أحد سواه، (وإذا مرضت فهو يشفين (أدب مع الله فلا ينسب مرضه إلى ربّه وهو يعلم أنه بمشيئة ربّه يمرض ويصح، ولكنه يذكر ربّه في مقام الإنعام والإفضال، ولا يذكره في مقام الابتلاء والامتحان (والذي يميتني ثم يحيين (وكان قومه ينسبون الموت إلى الأسباب، إنه التوكل والاستسلام المطلق الشامل واليقين الكامل من قلب قوي قد امتلأ صدقاً وطمأنينة وثقة بالله (1) .
وإن من آثار توكله على ربّه المحض قوله حين عرض له جبريل قائلاً: ألك حاجة؟ إن لحظات الكَربِ والمصيبةِ لحَظَاتٌ عصيبَةٌ، ومِنْ شأنِ المكروب افتراص لحظات الفرج، لكن الخليل (لعظيم إيمانه وثقته بربّه كان جوابه من فوره دون تردد أو تفكير أو تريث: (أمّا إليك فلا) .
فكانت نتيجة هذا التوجه العظيم إلى الله في أشد حالات الكرب والشدة: (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم (. (الأنبياء 69) .وتَضَامَن الأب مع القوم: (وأرادوا به كيداً (. (الأنبياء 70) . ومع ذلك لم يفقد برّه بأبيه وعطفه على قومه حتى في أحرج الظروف: (فجعلناهم الأخسرين ((الأنبياء 70) .
13- (برّه بأبيه) :
__________
(1) انظر في ظلال القرآن لسيد قطب ج5/2603.(14/192)
بر الوالدين حق ثابت واجب مطلقاً لا يسقط حتى في حال كفرهما، قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا ((النساء 36) وفيه ترويض للنفس على اكتساب الأخلاق الحميدة وتطبيع النفس على تحمل المضايقات ومشاق الدعوة، ففيه ما في الدعوة من المشقة والعناء، قال تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمَسَّك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليّاً، قال سلام عليك سأستغفرلك ربي إنه كان بي حفيّا ((مريم 42- 45) .
يظهر لنا من خلال هذه الصورة كمال برّ إبراهيم (وحلمه، في ألفاظه وتعبيراته وفي تصرفاته في مواجهة قسوة أبيه، حين يخاطبه بألفاظ تُنبيء عن غاية الشفقة والعطف والبر والتعظيم، كما هو شأن الأبوة وحقها الواجب على الأبناء، ليهديه إلى الخير الذي هداه الله إليه، فيقول: (يا أبت ... يا أبت (.
إلا أن هذه الدعوة بأحبّ الألفاظ وأرقّها لا تجد منفذاً إلى القلب القاسي، بل تقابل بالاستنكار والتهديد بألفاظ شديدة اللهجة: (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليّاً (ابتعد عنى سالما، إنذار لك بأشد العقوبات وبالموت الشنيع الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف.
فيظل الرضّي الحليم حليماً ليكون قدوة حسنة ومثالاً يحتذى به في البرّ والدعوة، مجانبا لأسباب الغضب غير جبان أو خائف فيلين جانبه للتهديدات، هكذا الداعية وهكذا تكون الدعوة مقرونة بالشجاعة (1) .
14- (الشجاعه) :
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير ج3/123.(14/193)
إن الشجاعة للرجال من أوصاف الكمال والجمال لا سيما الأنبياء والرسل منهم، وإن تغيير المنكر يحتاج إلى قوة وشجاعة وثبات ولربما لحق الداعية من الضرر والأذى إذا كان الخصم جباراً غشوماً ظلوما، فإذا ما وقف العناد والمكابرة في وجه الحِيَلِ والطرق المؤدية إلى بيان الحق فلا مفر من إثبات الحق وإعلائه ولا محيد عن إبطال الباطل ودحضه وإلزام الخصم وإفحامه.
فلما تبين آخر المطاف رفض قوم إبراهيم (قبول الحق، قارعهم وأعلن الحرب عليهم ونازلهم، فلم يهب من الطغاة الجبابرة بطشهم وجبروتهم في إبلاغ دين الله، بل أعلن بكل شجاعة وإقدام وقوة وبسالة، مُوطنا نفسه على مقاساة المكاره للذب عن دين الله، غير مبالٍ بنفسه قائلا: (وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ((الأنبياء 57) .
هذه بعض صفات الخليل إبراهيم (التي كان لها الأثر البالغ في الدعوة إلى الله تعالى.
وكل صفة من هذه الصفات لها مغزى ومعنى عميق، يجب على الداعية تدبرّها والوقوف عندها واستنباط ما فيها من عبر وعظات ونصائح وإرشادات، حتى يعرف مكانه من الدعوة. ومكان الدعوة منه، والله أعلم.
الفصل الثاني:
أساليب إبراهيم (في الدعوة كما عرضها القرآن الكريم
المبحث الأول:
دراسة الآيات المشتملة على أساليب إبراهيم (النظرية في الدعوة
الآيات المشتملة على أساليب إبراهيم (النظرية في الدعوة:(14/194)
قال تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربّه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدى القوم الظالمين ((البقرة 258) . وقال تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة، إني أراك وقومك في ضلال مبين، وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جنَّ عليه الليل رأىكوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون، وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون، وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إنّ ربك حكيم عليم ((سورة الأنعام 74- 83) . وقال تعالى: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمَسَّك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليّاً، قال سلام عليك سأستغفرلك ربي إنه كان بي حفيّا ((سورة مريم 42- 45) . وقال تعالى: (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا(14/195)
فتى يذكرهم يقال لله إبراهيم قالوا فاتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون، قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم، قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أُفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون؟ (. (الأنبياء 62، 63) . وقال تعالى: (فنظر نظرة في النجوم، فقال إني سقيم (. (الصفات 88، 89) .
الفصل الثاني:
(أساليب إبراهيم (النظرية والعملية في الدعوة)
المراد بالأساليب هي الفنون والطرق المختلفة التي يسلكها الداعية حسب التيسير والنفع، والمقصود بها هنا: الفنون والطرق التي سلكها إبراهيم (فى الدعوة إلى الله تعالى (1) .
وتحته مبحثان:
المبحث الأول: الأساليب النظرية:
والمقصود بالأساليب النظرية: هي الفنون أو الطرق التي تخضع للدراسة والتلقي والتعليم والبحث والتأمل المجرد عن التطبيق والتجارب العملية ووسائلها.
وتحته أربعة مطالب:
المطلب الأول: (الاستعطاف)
الاستعطاف هو العطف واستمالة القلب، قال الراغب: هو الميل والشفقة، يقال: عطف عليه وثَناهُ عاطِفَةُ رَحِمٍ (2) .
__________
(1) مفردات الراغب (419) والصحاح للجوهري ج1/149، المعجم الوسيط (441) .
(2) مفردات الراغب (572) ، وانظر الصحاح للجوهري ج4/1405.(14/196)
ويأتي الاستعطاف في طليعة الأساليب النظرية لأنه مطلب أساسي مهم في معاملة الناس لكي يتقبلوا ما يقال لهم وهو قرين اللين، فقد يتغافل الداعية عنه حينما يغوص في أعماق الدعوة ويأخذه شيء من الحماسة والانفعال والغضب لله ولرسوله (، فلا يقبح ولا يجهل ولا ينتقص ولا يتعالى، وليكن الخليل (قدوته حينما تأدب مع أبيه- على حين صدر من أبيه ما صدر- بقوله: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ((مريم42، 43) . فلم يصفه بالجهل وإن كان هو كذلك، ولم يصف نفسه بالعلم الفائق وإن كان هو كذلك.
وإن من معاني الاستعطاف تذكير العبد بفضل المنعم المتفضل حتى يصرف شكره له لا لغيره، كما نهى الخليل (أباه عما هو عليه من الضلال والغواية، وذكره بفضل الله عليه فقال: (يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمَسَّك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً (. (مريم 44، 45) .
ولذا عُدّ الاستعطاف من صفات الداعية الناجح الذي كثيرا ما يجذب القلوب الشاردة ويؤلف القلوب النافرة ويأتي بالخير بدلا من الزجر والتأنيب والتوبيخ، فإن قانون الدعوة ليس منحصرا في شخصية معينة وإنما هو علم ومعرفة وهداية وفيض رباني، فيقول: (فاتبعني أهدك صراطا سويا (. (مريم 43) فلا غضاضة في أن يتبع الوالد ولده إذا كان على نور وهداية من الله وعلى اتصال بالله.
وهذا ما يجب التنبيه به على الداعية أسوة بالخليل (الذي لم يغب عن باله مبدأ الاستعطاف فلم يفقد برّه بأبيه فيغلظ له في القول ولم يغضب فيتجاوز حدود التوقير، مع ما لقي من الاستنكار والوعيد بأشد العقوبات: (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليّاً ((مريم 46) .(14/197)
ولا يكن الاستعطاف كافيا أو الاستنكار والوعيد مانعا من مواصلة الجهد، كما أن الخليل (مع إعراض أبيه وغلظته لم يقطع أمله ولم يقلل من وعظه ونصائحه حتى في ثنايا تخويفه بل قال: (سلام عليك سأستغفرلك ربي إنه كان بي حفيّا (قلبه ليهديه إلى الخير الذي هداه الله إليه، فخاطبه بألفاظ مفعمة بالتبجيل والتعظيم: (يا أبت..يا أبت (. (1) .
المطلب الثاني: (أسلوب المناظرة والمحاجة)
المناظرة والمحاجة كما يقول السيد الجرجاني: "قريبتا المعنى، وهي: النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب" (2) .
قال القرطبي: "دلت الآيات على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة، وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، فهو كله تعليم من الله السؤال والجواب والمجادلة في الدين، لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل، وجادل النبي (أهل الكتاب وباهلهم (3) ، وتجادل أصحاب النبي (يوم السقيفة وتدافعوا وتناظروا حتى ظهر الحق وصدر ونفذ في أهله وغير ذلك، فالاحتجاج بالعلم والأدلة مباح وشائع. قال تعالى: (فَلِمَ تُحاجّون فيما ليس لكم به عِلْم ((آل عمران 66) ". (4) .
وأمر الله تعالى نبيه (أن يجادل بما أوحى إليه، فقال: (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ((الكهف 22) . يقصد به إظهار الحق والوصول إلى الصواب، فإذا ظهر الحق وتبين وجه الصواب وجب قبوله.
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي ج11/111، فتح القدير للشوكاني ج3/336، روح المعاني للألوسي ج6/96، في ظلال القرآن ج4/2312.
(2) التعريفات للجرجاني (207) .
(3) المباهلة والابتهال: هو الاجتهاد والتضرع في الدعاء باللعن، وذلك أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. معاني القرآن للنحاس ج1/415، وانظر أحكام القرآن للقرطبي ج4/104.
(4) انظر: أحكام القرآن للقرطبي ج3/286.(14/198)
أما اتباع الهوى ومغالبة الخصم أو حب الظهور، فمكابرة وتعنت وبطر للحق وسبب لغضب الله، كاليهود حين عرفوا الحق فأنكروه فغضب الله عليهم ولعنهم، وكقوم إبراهيم (حين ناظرهم وحاجهم ولكن لم يكن منهم إلا العناد والتعنت والمكابرة، كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربّه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدى القوم الظالمين ((البقرة 258) .
يذكر القرآن الكريم لنا مناظرتين ومحاجتين جرتا بين الخليل إبراهيم (وبين قومه:
فالأولى: دارت مع ذلك العنيد نمرود، لإثبات قدرة الله وتصرفه المطلق فى الملك والملكوت، بأسلوب يتسم بالرفق واللين والتحاور المثمر، لغرض عرضها على النبي (وعلى المسلمين في أسلوب التعجب لبيان حال هذا الكافر الذي (آتاه الله الملك (فبطر وكفر وأورثته النعم الكبر والعتو، فوضع هذه المحاجة القبيحة موضع ما يجب عليه من الشكر، وادعى لنفسه ما هو من اختصاص الرب.
وقد احتج إبراهيم (على نمرود بظاهرتين متكررتين في كل لحظة، وبألصق شيء لحس الإنسان، وهما في الوقت نفسه من الأمور التي لا يقدر عليها غير الله تعالى، ومن الأسرار التي خفيت على العقل إدراك حقيقتها، ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد، ومن ثَمّ عرّف إبراهيم ربّه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد ولا يمكن أن يزعمها أحد وهو بربوبية الله تعالى، فقال: (ربي الذي يحيي ويميت (.(14/199)
لكن الطاغية فزع إلى وجه آخر مغالطاً نفسه ومموهاً به على قومه، فنسب ما هو من اختصاص الله لنفسه بقوله: (أنا أحيي وأميت (وعنى بذلك أنا أقتل من أردت قتله فيكون ذلك مني اتلافاً له، وأستحيي من أردت قتله فلا أقتله فيكون ذلك مني إحياءً له، على حدّ ما تعارفوا عليه، كما حكى الله بقوله: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ((المائدة 32) . (1) .
فسلم له إبراهيم (تسليم الجدل، وانتقل معه إلى الاحتجاج بسنة ظاهرة مرئية ليفحمه، فقال له: (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب (لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر له أن يخرج عنها بمخرج المكابرة والمشاغبة، (فبهت الذي كفر (فانقطع وبطلت حجته وسكت متحيراً (2) .
__________
(1) قال القرطبي: ذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم (لما وصف ربّه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أَمْرٌ له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم إلى الحقيقة، وفزع نمروذ إلى المجاز. أحكامه ج3/ 283- 286، وانظر تفسير الطبري ج3/23، ومفردات الراغب (269) روح المعاني للألوسي ج3/15، في ظلال القرآن ج1/297.
(2) يقال: بَهُتَ وبَهِتَ وبُهِتَ: إذا انقطع وسكت متحيراً، وبُهِت يُبْهَت بَهْتاً، ويقال: بهتُّ الرجلَ إذا افتريت عليه كذباً. وقُريء: (فَبَهَتَ (بفتحهما يعني: سب وقذف نمروذ إبراهيم (حين انقطع وفقد الحيلة كشأن المغلوب المخذول، وكونه وُصِف بصفة الكفر للتسجيل عليه، والإشعار بأن تلك المحاجة كُفْرٌ. أحكام القرآن للقرطبي ج3/286.وانظر: تفسير الطبري ج3/25.(14/200)
فألهم الله الخليل (الحجة بتوفيقه كما قال: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ((الأنعام 83) . (1) أما نمروذ فلم يجد ما يتعلل به أو يعتذر وخشي الفضيحة، فأظهر لأعوانه وجلسائه أن هذا إنسان مجنون يجب أن يخرج من مجلسه، فمن جنونه أنه كسر الأصنام وأن النار لم تحرقه، فتحقق فيه قول الله: (والله لا يهدى القوم الظالمين (فلم يمكنه أن يقول: أنا الآتي بها من المشرق؛ لأن ذوي الألباب يكذِّبونه (2) .
أما الثانية: فقد دارت مع أبيه وقومه ليثبت لهم الألوهية والربوبية المطلقتين لله تعالى- وقد حصل شيء من الإيقان بوجود الله- فأُعْلِموا بالأدلة القاطعة ببطلان هذه الآلهة وأُخْبِروا بوجوب وجود الإله الحق.
فأخبرهم من جهة أنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهاً بغير حجة ولا برهان: (أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً (. (الأنعام 81) . لأنه المحيط بكل الكائنات علماً فقام الدليل على أنه الرب: (وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون (. (الأنعام 80) ولأن كل ما في الكون طائع له فقام الدليل أنه الإله الحق قال تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ((لقمان 30) .
__________
(1) كما فعل فرعون مع موسى (عندما حاجه، فقال فرعون: (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (الشعراء (27) .
(2) تفسير الطبري ج3/25، أحكام القرآن للقرطبي ج3/286.(14/201)
فاستفتح الخليل (محاجته بأسلوب يتسم بشيء من الشدة والتوبيخ والاستنكار، مشعراً بأن قضية العقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة وفوق مشاعر الحلم والسماحة والمجاملة: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين، وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين… (. (الأنعام 74، 75) ففي مضمون هذه الآيات إشارة إلى فضيلة صفاء الفطرة التي أخبرنا عنها (عن ربّه تبارك وتعالى: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم- أي: استَخَفّوهم فذهبوا بهم في الباطل- وحَرّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتْهُم أن يشركوا بِى ما لم أنزل به سلطاناً) الحديث (1) .
يستدل إبراهيم (على إثبات ألوهية الله تعالى وربوبيته من خلال ثلاث صفات: (البقاء والدوام والعظمة) مستدلاً على ذلك بأقرب شيء إلى الأنظار يُشاهَد على الدوام.
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في محاجة الخليل (: (فلما جنَّ عليه الليل رأىكوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين، فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون… (. (الأنعام 76- 78) (2) فمن ذا يَرْعى أو يدبر أمر الكون إذا كان الرب يغيب؟ ومثل هذا الكواكب إذا كانت بنورها وبزوغها وضخامتها وعلوها ... فكيف بالأصنام.؟ فقام الدليل على وجوب بطلان هذه الآلهة. (3) .
__________
(1) صحيح مسلم ج4/2197) .وانظر روح المعاني للألوسي ج3/198.
(2) بازغة (طالعة، يقال: بَزَغَ يَبْزُغ بزوغا إذا طلع، وأفل يأفِلُ أفولا إذا غاب. أحكام القرآن للقرطبي ج7/27، المعجم الوسيط (54) .
(3) أحكام القرآن للقرطبي ج7/26، تفسير ابن كثير ج2/151، 152(14/202)
فصدع الخليل (بالحق وأشعرهم بالعجز والاستعانة والافتقار إلى الله للهداية إلى سواء السبيل بقوله: (لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ((الأنعام 77) . وبقوله: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين (. (الأنعام 79) .
ذكر الألوسي أن السر في استدلال إبراهيم (بالنجوم أن القوم كانوا منجمين- والاحتجاج عليهم من واقع معرفتهم وإدراكهم أقوى إلزاما للحجة- وإنما كان يناظرهم على طريقتهم ليبين لهم أن النجوم تقوى وتضعف حسب وقت مطلعها وأفولها، فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان، والكواكب باستحالتها إلى القوة تارة والضعف أخرى ناقصة التأثير عاجزة التدبير، مسخرة لا تملك لنفسها تصرفاً ومثل هذه لا تصلح للإلهية (1) .
__________
(1) انظر روح المعاني للألوسي ج3 /203.(14/203)
لكن الأمر انعكس لانتكاس عقولهم فلجئوا إلى الدفاع عن الآلهة بالتهديد والتخويف من بطشها: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون، وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.. ((الأنعام 80، 81) .حيث يستحقوا أن يتوجوا بتاج العز والكرامة الإلهية، لأنهم: (الذين آمنوا ولم يَلْبِسُوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ((الأنعام 82) . (1) في الدنيا بالهداية والتوفيق للحجج والبراهين، وفي الآخرة: (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ((الأنبياء 103) .
وختاماً يمتنُّ الله على الخليل (بمنّةِ العون غلى الدعوة وعلى غيرها فيقول: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إنّ ربك حكيم عليم ((الأنعام 83) . فعندما تصدق النية ويخلص الإخلاص يأتي التأييد الرباني والإلهام الإلهي ليفتح للعبد أنواع أبواب الدعوة وطرائقها.
المطلب الثالث: (استثارة الخصم)
__________
(1) روى الشيخان وغيرهما عن عبد الله (قال: لما نزلت {الذين آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهم بِظُلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله (، وقالوا: أيّنا لا يظلم نفسه؟، قال رسول الله (: (ليس هو كما تظنون،.إنما هو كما قال لقمان لابنه) : (يا بُنَيّ لا تُشْرِك بِالله إِنّ الشّركَ لَظُلمٌ عَظِيم (. (لقمان 13) . صحيح البخاري ج1/87، 6/389، 8/294، ومسلم ج1/114، جامع البيان للطبري ج5/254.(14/204)
سدت أبواب المخارجة في وجه القوم فلجأ إبراهيم (وهو يبصرهم بطريق الحق- شأن الداعية الحكيم - إلى استثارتهم واستفزازهم ليستيقظوا لمناقشته ومناظرته مرة بعد مرة حتى تتضح القضية الملتبسة التي من أجلها ثار الجدال والنزاع، كما فعل موسى (مع فرعون عندما ذكّره بربوبية الله بقوله: (وأهديك إلى ربك فتخشى ((النازعات 19) . ليظهر ما يجول في الخاطر من حق أو باطل: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ((الأنعام 104) .
فأثارهم أولا عمليّاً ليراجعوا أنفسهم فحطم أصنامهم: (فجعلهم جذاذاً إلا كبيرا لهم ((الأنبياء 58) خَلْقاً ومنزلة، وعلق الفأس في عنقه أو جعله في يده ليحتج به عليهم فيبكتهم كيف تقع هذه الفاجعة وكبير الآلهة حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة؟ أو كما قال ابن كثير: "ليعتقدوا أنه هو الذي غار لنفسه وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها" (1) لأن من شأن المعبود أن يُرْجَع إليه في المهمات والملمات، (لعلهم إليه يرجعون ((الأنعام 58) . ولكنهم إذا رجعوا إليه لم يجدوا عنده خبرا.
فبدلا من مراجعة أنفسهم، إذا هم يبحثون عمن كسرها وفتك بها هذا الفتك المؤلم قائلين: (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فاتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ((الأنبياء 59- 61) . فلا زالوا مصرين على أنها آلهة وهي جذاذٌ.
ثم أثارهم ثانية نظرياً، فاستفزهم بالكلام وقهرهم، فاستولى عليهم الغضب وظهرت فيهم بوادر الانتقام فقالوا: (ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ ((الأنبياء 62) .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج3/182.(14/205)
فقابل إبراهيم (هذا الغضب بالتهكم والتعريض ليزيد من ثورتهم، فيقيم الدليل عليهم على أكمل وجه ويقطع كل شبهة وحجة، فرد عليهم بالججة المسكتة المفحمة: (بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ((الأنبياء 63- 65) . فكيف تعبدون من يعجز عن النطق؟، فازدادوا خيبة وقهراً (1) .
ثم أثارهم ثالثاً ببيان زيف مبدئهم فسفه أحلامهم وسب آلهتم، لعله في ذلك يكون واعظاً، فختم عليهم بهذه الخاتمة قائلاً: (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أُفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون (. (الأنبياء 66، 67) .
المطلب الرابع: (المعاريض)
المعاريض: حمع معراض، من التعريض، وهو خلاف التصريح من القول، وهو التورية بالشيء عن الشيء.
قال الراغب: "هو كلام له وجهان مِن صدق وكذب، أو ظاهر وباطن، فيقصد قائله الباطن ويظهر إرادة الظاهر، قال تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به مِن خِطْبَة النساء ((البقرة 235) . (2) .
لكن محل الجواز فيما يخلص من الظلم أو يحصل على الحق، أما في إبطال الحق أو عكسه فلا يجوز. (3) .
__________
(1) تفسير الطبري ج17/40، تفسير ابن كثير ج3/183، روح المعاني للألوسي ج6/64، في ظلال القرآن لسيد قطب ج4/2386.
(2) مفردات الراغب (560) وانظر الصحاح للجوهري ج3/1087، الفتح ج12/175.
(3) عمدة القاري ج22/218، وانظر الفتح ج10/594، 595.(14/206)
وفي المعاريض من السعة ما يستغني بها الداعية عن الاضطرار إلى الكذب، ولا ضير في ذلك، ومن هذا ما ورد في سيرة الحبيب المصطفى ((1)
وهذا من أساليب الدعوة إلى الله، ذلك لما يعايش الداعية من الموانع والمضايقات وما يواجه من الصعاب والعقبات والمواقف الحرجة، فكان لا بد له من سلاح يُقَدّر به للمواقف بما يناسبها، للخروج من المآزق إبقاء على نفسه واستمرارا للدعوة لئلا يمسها مساس أهل الفوضى والريب، وقطعا لألسنة المنافقين الذين يثيرون الشكوك والجدل والأكاذيب لتشويه صورتها، فلا بد للمسلم إن ضاقت به ضائقة أن يكون حكيما في تصرفاته فَطِنَا لَبِقاً لطيفاً يعرف المداخل والمخارج دون أن يلجأ إلى الكذب أو يحرج نفسه بإخباره خلاف الواقع.
__________
(1) فقد روي أنه إذا أراد سفرا لغزوة وَرَّى بغيرها، ومثله قوله (لمن قال له في طريق الهجرة: ممن الرجل؟، (من ماء) ، حيث أراد (ذكر مبدأ خلقه، ومثله أيضا قول الصديق (حينما سئل عن النبي (فقال: هو هاد يهديني، وغير هذا كثير والله أعلم. صحيح البخاري ج6/112، وروح المعاني للألوسي ج7/101.(14/207)
لكن الخليل إبراهيم (عندما يختار أسلوب التورية والتعريض كما حكى الله تعالى عنه بقوله: (قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون ((الأنبياء 63) . وبقوله تعالى: (فنظر نظرة في النجوم، فقال إني سقيم ((الصافات 88، 89) فليس ذلك خوفا على نفسه وإنما هو ضمان لاستمرارية الدعوة وقطع شبههم وإقامة الدليل عليهم بإلزامهم الحجة تبكيتا لهم، وتنبيها على فساد اعتقادهم بإثارتهم وإيقاظهم من غفلتهم، ليحملهم على التأمل في شأن آلهتهم، رجاء الهداية والوصول إلى الحق، إذ أن شأن الآلهة عند القوم أعلى من حال أنفسهم، فكيف تغفل النجوم عن إخبارهم عما سيحصل للآلهة من الفتك، فأوهمهم (أنه تفكر في أحوالها من حيث الاتصال والتقابل الذي يدل- بزعمهم- على الحوادث وما يترتب عليها، فأثبت لهم (بطلان تأثير النجوم في هذا الكون كلياً، بالتالي ثبت عجز الآلهة رأسا (1) .
فأخرج قوله: (إني سقيم (مخرج التعريض بما يوقعهم في الحيرة والاعتراف ببطلان ألوهية الجمادا وأن نظرتهم في أمر النجوم فاسدة، وأن من لا يملك التحكم في نفسه فهو أعجز من أن يتحكم في غيره، ليبطل بذلك مزاعمهم فأوهمهم من تلك الجهة لِيلقَمُوا حجرا. (2)
__________
(1) وانظر جامع البيان للطبري ج17/40، أحكام القرآن للقرطبي ج11/299، روح المعاني للألوسي ج6/64، في ظلال القرآن لسيد قطب ج4/2386. واستنبط بعض الفضلاء من جوابه (: (بل فعله كبيرهم هذا (أنه أشار إلى الصنم الأكبر، وورى بإبهامه الذي قبض به على الفأس، إذ لولاه لما استطاع القبض على الفأس، لأن اليد بدونه ضعيفة النفع.
(2) أحكام القرآن للقرطبي ج15/92، وتفسير ابن كثير ج4/13، فتح القدير للشوكاني ج4/401. ولقد صدق (فإن الإنسان يعتريه السقم في المستقبل، أو أنه قد فسد مزاجه وتغير حاله فإنه عرضة للسقم الآن، أو أراد أنه سقيم القلب لما رأى من كفر قومه بالله، لأن هذا مما يؤدي إلى سقم القلب والروح والفكر.
... وعن أبي هريرة (أن رسول الله (قال: (لم يكذب إبراهيم النبي (قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله قوله: {إني سقيم} وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} وواحدة في شأن سارة ... الحديث) . رواه البخاري 6/388، ومسلم 4/1840.
ذكر القرطبي عن ابن العربي: "قوله: ولم يعد (هذه أختي) في ذات الله وإن كان دفع بها مكروها، ولكنه لما كان لإبراهيم (فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله، لم يجعلها في ذات الله؛ وذلك لأنه لا يجعل في جنب الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله كما قال: (ألا لله الدين الخالص (الزمر (3) وهذا لو صدر منا لكان لله، ولكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا، وتسمية ذلك في حديث الشفاعة في حقه (ذنبا لأنه كان منه خلاف الأولى، ولقرب محلهم واصطفائهم عُدَّ هذا ذنبا" والله أعلم. أحكام القرآن للقرطبي ج11/301، وانظر روح المعاني للألوسي ج8 /101.(14/208)
المبحث الثاني:
دراسة الآيات المشتملة على أساليب إبراهيم (العملية في الدعوة
(الآيات المشتملة على أساليب إبراهيم (العملية في الدعوة)
قال الله: (ووصى بها إبراهيمُ بَنِيهِ ويعقوبُ ... (. (البقرة 132) . وقال تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدى الظالمين وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا، ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا وجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ((البقرة 124- 129) . وقال (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (. (آل عمرن 67) . وقال تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه (. (التوبة 114) . وقال (: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا. واجنبني وبَنِيَّ أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيئ في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إنّ ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل(14/209)
دعاء، ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (. (إبراهيم (35- 41) . وقال: (إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سَوِيّا، يا أبت لا تعبدِ الشيطان إن الشيطانَ كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسَكَ عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليّاً (. (مريم 42- 45) . وقال تعالى: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي، عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ((مريم 48) . وقال تعالى: (وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين، ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (. (الأنبياء 71) .(14/210)
وقال: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ((الحج 26) . وقال: (رب هب لي حُكْماً وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق فى الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون ((لشعراء 83- 87) . وقال تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين (. (الشعراء 214) . وقال: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ((القصص 57) ..وقال: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا، إنّ الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا. فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له…. ((العنكبوت 16، 17) . وقال تعالى: (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريّته النبوة والكتاب ((العنكبوت 26، 27) وقال تعال: (فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون، ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين، فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وَتَلّهُ للجبين، ونا ديناه أن يا إبراهيم، قد صَدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين، إنّ هذا لهو البلاء المبين، وفَدَيناه بِذِبْح عظيم (. (الصآفات 91- 107) وقال: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني بَرَآءٌ مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون (. (الزخرف 26- 28) . وقال تعالى: (وإبراهيم الذي وفى (. ((14/211)
النجم 37) ..وقال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرَءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وَبَدَا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ((الممتحنة 4) .
المبحث الثاني: (أساليب إبراهيم (العملية في الدعوة)
ويشتمل على توطئة واثني عشر مطلبا كالتالي:
توطئة:
ويقصد بالأساليب العملية التطبيق العملي والامتثال الشخصي الذي تتقعد به القواعد الراسخة للدعوة ليقف الداعية على أصول قوية متينة ثابتة، وإن التطبيق العملي له أثر كبير في نشر الدعوة إلى الله، كما أن العكس بالعكس، فمن نظر في تاريخ سلف الأمة وجد أن دعوتها إلى الإسلام كانت بالتطبيق الصحيح، فلم ينتشر الإسلام على هذه المعمورة بالسيف أو الرمح أو السهم قدر ما انتشر بالدعوة والقدوة الحسنة والتطبيق الصحيح الكامل له، فكانت الأمة مثالاً يقتدى بها في تطبيق تعاليم الإسلام في صغير الأمور وكبيرها، ولا يزال التطبيق العملي الصحيح للإسلام إلى يوم القيامة عاملا أساسيا من عوامل الدعوة إلى الله بين الأفراد والجماعات على مختلف طبقاتهم وثقافاتهم.
ثم خلف من بعدهم خلف شَوّهوا صورة الإسلام وتركوا تعاليمه وأوامره ونواهيه وارتكبوا المخالفات، فأصبحوا بذلك سبباً للصدّ عن الدخول فى الإسلام، وكم ضر الإسلام أهله بسبب التعديات والمخالفات.
المطلب الأول: (القدوة)
القدوة: كما قال الراغب: (هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إنْ حسناً وإنْ قبيحاً، وإنْ ساراً وإنْ ضاراً، ولهذا قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ((الأحزاب 21) . فَوَصَفَها بالحسنة) (1) .
__________
(1) مفردات ألفاظ القرآن للراغب (76) .(14/212)
ولقد جعل الله تعالى الخليل إبراهيم (قدوة للسالكين وإماما للدعوة والدعاة يقتدى به ويتبع أثره فى التوحيد وفى الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ((الأنعام 90) . ونوه في كتابه بذكره وشهد له بقوله: (وإبراهيم الذي وَفّى (. (النجم 37) . (1) . ليكون له في أمر الدعوة قيادة دينية، فصار قدوة الناس وإمامهم في الخير، وحصل له الثناء الدائم، وذلك حين قيامه بما كلفه الله به حق قيام، قال تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما… (. (البقرة 124) . (2) .
وطلب من الله تعالى استمرارية الإمامة من بعده وأن يكثر في الأمة المرشدين الذين يوجهون الناس إلى الخير، قال تعالى على لسانه: (قال ومن ذريتي ((البقرة 125) .وقال: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ... ((البقرة 129) .
__________
(1) جامع البيان للطبري ج1/523، وأحكام القرآن للقرطبي ج2/97، تفسير ابن كثير ج1/164، في ظلال القرآن لسيد قطب ج1/112.
(2) وهذه الكلمات قيل: هي خصال الفطرة العشر: (قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء- يعني الاستنجاء- والمضمضة) وقيل غير ذلك، انظر تفسير الطبري ج1/523، 524، وأحكام القرآن للقرطبي ج2/97، فتح القدير للشوكاني ج1/137، روح المعاني للألوسي ج1/373، في ظلال القرآن لسيد قطب ج1/112.(14/213)
فكل نبي أرسله الله أو كتاب أنزله مِن بَعد إبراهيم (فهو من آثار دعوته، كما قال تعالى: (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب… ((العنكبوت 27) . (1) .ولكن لمن يستحقها بالصلاح والإيمان، لا كما يدعي اليهود ومن كان على شاكلتهم ممن ظلموا أنفسهم بمخالفة منهج الأنبياء والرسل.
يقول سيد قطب: إن الظلم أنواع وألوان، ظلم النفس بالشرك، وظلم الناس بالبغي، والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة، إمامة الرسالة وإمامة الخلافة وإمامة الصلاة، وكل ما كان يشمله معانى الإمامة والقيادة، فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق الإمامة، والظلم بكل معانيه هو أساس الحرمان من الإمامة.
واليهود لا يستحقون الإمامة والقيادة. لانحرافهم عن عقيدة جدهم إبراهيم (ونبذهم شريعة الله ولظلمهم وفسقهم وانتهاكهم لحرمات الله، وكذلك من يسمون أنفسهم اليوم ب (المسلمين) بما ظلموا وبعدوا عن طريق الله، وبما نبذوا شريعة الله وراء ظهورهم، واستبدلوها بالقوانين الوضعية، ودعواهم الإسلام وَهم مجانبون عنه دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله.
إن التصور الإسلامي يقطع كل الصلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والعمل، ويسقط كل الروابط والاعتبارات ما لم تتصل بعروة العقيدة، فهو يفصل بين الولد والوالد والزوج والزوجة إذا انقطع بينهما حبل العقيدة،.فعرب الشرك شيء وعرب الإسلام شيء آخر، والذين آمنوا من أهل الكتاب شيء، والذين انحرفوا عن دين إبراهيم وموسى وعيسى- عليهم السلام- شيء آخر ولا صلة بينهم جميعا ألبتة.
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي ج2/107، تفسير ابن كثير ج1/167.، روح المعاني للألوسي ج1/376، 377، فتح القدير للشوكاني ج1/137، 138.(14/214)
إن الأسرة ليست آباء وأبناء وأحفادا، إنما هي هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة، وإن الأمة ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس واحد معين، إنما هي مجموعة من المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم، هذا هو التصور الإيماني الصحيح الذي ينبثق من خلال هذا البيان الرباني في كتاب الله الكريم. (1) .
فمن انطوى تحت لواء التوحيد فالخليل (قدوته في كمالات الخير لأنه القدوة في نصب أدلة التوحيد ورفع أعلامها وخفض رايات الشرك، قال تعالى: (إنّ إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ((النحل 120) (2) لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا وثنيا، بعيدا عن الهوى والمطالب النفسية مستجمعا شروط الكمال في نفسه: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (. (آل عمران 67) .
لأن ملة التوحيد واحدة والدعوة إليها منهج الأنبياء والمرسلين جميعا قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ((النحل 36) . (3) .
ولذا أمر الله محمدا (- مع علو درجته وعظيم منزلته- بأن يقتدي بأبيه إبراهيم (مسلكا ومنهجا لاستقامته على الطريقة، قال تعالى: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ((النحل 123) .
__________
(1) في ظلال القرآن لسيد قطب ج1/112.
(2) روح المعاني للألوسي ج5/249، وقد سبق معنى الأمة في أول البحث.
(3) روح المعاني للألوسي ج5/251، فتح القدير للشوكاني ج3/202، وقد سبق تفسير هذه الآيات في الفصل الأول: (صفات إبراهيم () .(14/215)
ومن أمثلة هذا الاقتداء بالخليل (مسألة الولاءوالبراء الذي هو أوثق عرى الإيمان ومن مقتضيات العقيدة ولوازمها، قال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه… ((الممتحنة 4) . ليكون ذلك شرعة ومنهاجا للأجيال القادمة، حين تبرأ هو وقومه من الكفار قائلين: (إنا بُرَءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وَبَدَا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ((الممتحنة 4) . (1) .وهذا من دعاء إبراهيم (وأصحابه، وتعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول.
فلا مودة ولا رابطة تربط بين المسلمين وبين الكفار مهما كانت الأسباب والظروف مع الاتكال الكامل على الله تعالى، ولا اعتداد بهم أو بآلهتهم مهما كانت قرابة أو قربى، ولا تنازل ولا تسامح في المباديء، وهذا هو الاقتداء الصحيح والأسوة الحسنة المأمور بها فى الشريعة المحمدية، فمن خالف في هذه القاعدة الأساسية فإنه لا تنفعه قرابة أو قربى (2) .
المطلب الثاني: (اللين أولا ثم الشدة)
__________
(1) قال القرطبي: الآية نص فى الأمر بالاقتداء بإبراهيم (في فعله، وذلك يصحح أن شرع مَن قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله. أحكام القرآن للقرطبي ج18/56.
(2) في ظلال القرآن لسيد قطب ج6/3542، وانظر: أحكام القرآن للقرطبي ج18/56، تفسير ابن كثير ج4/348، روح المعاني للألوسي ج10/69.(14/216)
لقد كان الرفق واللين محمودا في أكثر الأحوال، قال تعالى مُنَوّها بفضله: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكرُ أو يخشى ((طه (43، 44) . وقال: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ((النحل 125) . وقال (: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه) وفي رواية عنه (: (من يحرم الرفق يحرم الخير) (1) ويقول (: (إنّ الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) (2) .
إلا أن للين والرفق مواضع، وللشدة والقسوة مواضع، والداعية بمثابة طبيب يعالج الأمور بمقتضى الحال والشأن، فيعطي كل إنسان مايناسبه من الدواء.
بالنظر إلى اعتبار أن الرفق واللين له الصدارة والأسبقية، وأن الرأفة والرحمة المتضمنة لأرق الألفاظ وأعذبها والتزام الأدب والوقار هو الأساس إلى سبيل الرشاد، ليبرز ذلك كله في صورة المشفق الناصح الأمين الحريص على المصلحة، كما حكى الله عن الخليل وهو يستميل أباه وقومه بأرق الألفاظ وأعذبها: (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سَوِيّا، يا أبت لا تعبدِ الشيطان إن الشيطانَ كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسَكَ عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً (. (مريم (42- 45) .
فإذا وصل اللين والرفق إلى طريق مسدود دون جدوى أو فائدة، فلا ما نع من مجانبة الأدب أحيانا، ليحس الإنسان بعظيم مرتكبه وكبير جرمه، كما حكى الله (عن الخليل (حين دعوته لأبيه وقومه: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ((الأنعام 74) (3) . وقال تعالى عنه: (يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ((مريم 42) .
__________
(1) صحيح مسلم ج4/2003.
(2) صحيح البخاري ج12/280.
(3) أحكام القرآن للقرطبي ج7/22.(14/217)
قال القرطبي: إنها أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه حيث يرميه بالضلال المبين الذي يدل على سفهه (1) ، ويدل عليه ما حكى الله تعالى عنه في أسلوب الاحتقار: (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا أباءنا لها عابدين (. (الأنبياء 52- 53) (2) .فلاحرمة للقرابة ولا تسامح ولا مجاملة في أمر العقيدة، ولا يمكن أن يطغى حق الأبوة على حق الله: (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ((الأنبياء 54) .
فقد يقسو الإنسان أو يستنكر على شخص لمنفعته على أن يكون ذلك درجات حسب الضرورة، فيبدأ بالأهم والأولى والأنفع والأنجع والأنجح، كما أخبر الله بذلك عن الخليل (: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا، إنّ الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا ... (. (العنكبوت 16) .
المطلب الثالث: (البداءة بالأهم)
أحكام الله تعالى كلها مهمة، وإنما كان البداءة بالأهم منها ليكون ذلك طريقا لما بعده، ولذا كان على رأسها تقوى الله تعالى الذي هو أساس الأعمال كلها والبداءة به طريق إلى ما بعده، لأن الخشية ملاك الأمر كله فمن خشي الله أتى منه كل خير، ولأهميته بدأ الخليل (به قال (عنه: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (. (العنكبوت 16) .
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي ج7/22.
(2) أحكام القرآن للقرطبي ج7/22، ج11/111، 296ج13/335، وانظر: في ظلال القرآن لسيد قطب ج4/2311، 2385.(14/218)
ثم ثنى بالأمن والأمان لأنه به تتحقق الخشية، بل لا يقل ضرورة وحاجة عن ضرورة الغذاء والكساء، ولا يستساغ طعام أو شراب، أوتطيب وتتأتى عبادة على وجهها إذا فقد الأمن والأمان، لذا كان في طليعة طلب الخليل (: (رب اجعل هذا البلد ءامنا (. (إبراهيم 35) . فإذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدين والدنيا، ولذا يمتن الله به على قريش مقرونا بالغذاء فيقول: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ((سورة قريش) ويقول: (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويُتخطف الناس من حولهم ((العنكبوت 67) .
ولعظيم مِنّة الأمن على العبد وكبير ضرورة الصحة والعافية عليه فإن الله تعالى سيوجه سؤاله كما قال: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ((سورة التكاثر) قال الطبري: عن ابن عباس وابن مسعود (الأمن والعافية والصحة في الأبدان والأسماع والأبصار (1)
ولقد استجاب الله دعوة الخليل إبراهيم (فجعله حرما آمنا، فلا يُختلى خلاه ولا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تحل لُقَطته إلا لمعَرِّف، قال تعالى: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ((القصص 57) . وقال تعالى: (إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ((آل عمران 96، 97) (2) .
__________
(1) جامع البيان للطبري ج30/285، وانظر فتح القدير للشوكاني ج5/490.
(2) قال الشوكاني: أما الآية التي في البقرة: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا (أي: مكة والمراد الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم، كما يقال: عيشة راضية اي: راض صاحبها. فتح القدير ج1/141.(14/219)
فإذا تحقق اللازم حصل قيام الملزوم من تحقيق التوحيد والقيام بواجب الطاعة والعبادة التي من أجلها خلق الإنسان ومن أجلِّها وأفضلها إقامة الصلاة التي هي عماد الدين وصلة بين العبد وربّه، وما لأجله أسكن ذريته في هذا الوادي الأجرد المقحط وتم بناء هذا البيت، فقال: (واجنبني وبَنِيَّ أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضلَلَن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم، ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا لِيُقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات ... ((إبراهيم 35- 37) . ليكون ذلك عونا لهم على طاعة الله تعالى وذكره وحسن عبادته وطريقا لشكر نعم الله، فقال: (لعلهم يشكرون ((إبراهيم 37) .
فاستجاب الله تعالى دعاءه فقال: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ((القصص 57) . فلا يخلو بلد الله الحرام من اللحم ومن الفاكهة على مختلف فصول السنة.
وأخيرا يتضرع الخليل (إلى ربّه تبارك وتعالى بأن يجعل الله أعماله خالصة لوجهه الكريم لارياء ولا سمعة فيها، وأن يقر عينيه في خاصة ذريته وأهل بيته الأقربين بإصلاحهم فيقول: (ربنا إنك تعلم ما نُخفي وما نُعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء (. (إبراهيم 38، 39) (1) والله أعلم وأحكم.
المطلب الرابع: (الابتداء بالأقربين)
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي ج13/335، روح المعاني للألوسي ج7/144، فتح القدير للشوكاني ج4/196، في ظلال القرآن لسيد قطب ج5/2728.(14/220)
إن للعبد حقا على نفسه وهو مقدم على من سواه ثم بعد ذلك يأتي الابتداء بالأقربين ثم من يليهم حتى لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيحابيهم في الإنذار والتخويف، كما قال الرازي: "إذا تشدد على نفسه أولا ثم بالأقرب فالأقرب ثانيا، لم يكن لأحد فيه طعن ألبتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع" (1)
وهذا كان دأب السلف في الدعوة يبدءون بأنفسهم ثم من يليهم لأن الاهتمام بشأن القربى وهدايتهم إلى الحق أجل وأولى، وتخصيصهم بالإنذار كما قال القرطبي: "لتنحسم أطماع عشيرته وأطماع الأجانب في مفارقته إياهم على الشرك وامتثال لأمر الله: (وأنذر عشيرتك الأقربين ((الشعراء 214) (2) .فإذا حصل قبول وإذعان من القريب كانت استجابة البعيد أسرع، وبذلك تنزاح كل عقبة قعود في سبيله لتصفو له طريق الدعوة ويفسح أمامه مجال التحدي والمنازلة لكل معاند ومخاصم، ولذا بدأ الخليل (بدعوته بأقرب قريب وهو والده، قال تعالى حكاية عنه: (إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً ((مريم 42- 45) (3) .
المطلب الخامس: (التحدي)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج24/172.
(2) أحكام القرآن للقرطبي ج13/143، وانظر تفسير الكشاف للزمخشري ج3/328.
(3) تفسير هذه الآيات في موضوع: (برره بأبيه) .(14/221)
لابد من إثبات الحق وإعلائه ولابد من إبطال الباطل ودحضه، فإذا توقف الرفق واللين ولم تنفع الشدة والقسوة، يأتي دور التحدي والمبارزة لمنازلة الخصم وإفحامه وإلزامه الحجة، وهو ما جرى للخليل إبراهيم (مع أبيه وقومه، حيث وقف العناد والمكابرة في وجه الأدلة والبراهين الواضحة فلا بد من تنحيته وإزالته ليأخذ الحق طريقه، فنازلهم وتوعدهم بكسر أصنامهم، ضاربا بذلك كل الاعتبارات الشخصية ووشايج القرابة واعتبارات العشيرة عرض الحائط، متحديا بذلك أقوى قوة مانعة، دفاعا عن دين الله غير مبالٍ بنفسه، وصدر كلامه (بالقسم واليمين بقوله: (وتالله (قسم ويمين، (لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ((الأنبياء 57) . (1) .
المطلب السادس: (تحطيم الأصنام)
إن التطبيق العملي في الدعوة من أبرز سمات الداعية، قال صلي الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه) (2) وإن من تلك الصور التطبيقية التي نقلها القرآن الكريم للأمة الإسلامية ما ذكره عن الخليل إبراهيم (وهو يتعرض بكل قوة وبسالة لأعز شيء وأكرمه عند قومه آلهتهم، فبين زيفها وأبطلها فكسرها، فَعَلَ ذلك وهو واثق بالله مُوَطِّن نفسه على مقاساة المكاره وتحمل الشدائد في سبيل الله والذب عن دين الله غير مبالٍ بنفسه، فتحدى الطغاة الجبابرة فلم يهب بطشهم وجبروتهم في إبلاغ دين الله، فوقف أمام الأصنام قائلا: (ألا تأكلون، ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين، فأقبلوا إليه يزفون ((الصافات 91- 94) .
لقد تسامع القوم بالخبر وعرفوا الفاعل، فأقبلوا بجمعهم الغاضب الهائج إليه يسرعون قائلين: (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ((الأنبياء 59) .
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي ج11/297، في ظلال القرآن لسيد قطب ج4/2386.
(2) صحيح مسلم ج1/69.(14/222)
تصور إبراهيم (بهذا الحدث العظيم أنهم سيراجعون أنفسهم في أمر آلهتهم، ولكنهم لا زالوا مصرين على أنها آلهة وهي جذاذ يبحثون عمن كسرها وفتك بها هذا الفتك المؤلم قائلين: (قالوا أانت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ((الأنبياء 62) .
فواجه إبراهيم (هذا الحدث بشجاعة وبسالة وبقوة إيمانية وثبات كالجبال الرواسي التي لا تتزعزع، فلم يخف الكثرة الناقمة الغاضبة الهائجة المائجة، فرد عليهم مجيبا بالحق بكل طمأنينة وسكون ثابت الفؤاد غير مبال أو مكترث بهم وجَهّلهم وسفّه أحلامهم، قائلا: (أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعملون ((الصآفات 91- 96) . متوعدا وموبخا ومؤنبا لهم ومنكرا عليهم قائلا: (وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين، فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون ((الأنبياء 57- 58) . (1) .وقائلا: (بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ((الأنبياء 63- 65) . ولكن القوم آثروا العناد والمكابرة فاندفعوا متهورين إلى الدفاع عن الباطل فواجههم بحقيقة فساد فعلهم موبخا لهم (قال أفتعبدون من دون الله ما لا
__________
(1) روي أنه كان لهم كل سنة يوم عيد يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم (: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، وكان قد أضمر في نفسه تنفيذ خطة فاحتال عليهم في التخلف عنهم بقوله: (إني سقيم (فلم يخرج معهم، فانتهز فرصة ذهابهم فدخل بيت الأصنام وهي مصطفة فكسر الكل بالفأس ولم يبق إلا كبير الآلهة شأنا وهيكلا، فعلق الفأس في عنقه أو في يده ليبكتهم بقيام الححجة عليهم لأنهم إذا رجعوا ووجدوا ما حصل لآلهتهم فإنهم حتما سيتجهون إلى الصنم الكبير فيسألوه عن الكاسر. أحكام القرآن للقرطبي ج15/94- 96، تفسير ابن كثير ج4/13، روح المعاني للألوسي ج8/123، 124، فتح القدير للشوكاني ج4/402، في ظلال القرآن لسيد قطب ج5/2992، 2993.(14/223)
ينفعكم شيئاً ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ((الأنبياء 66، 67) ..فإذا كان الحال هكذا فيجب الرحيل عن قوم لا يعقلون ولا يميزون.
المطلب السابع: (الهجرة)
قال القرطبي: "الهجرة أقسام وأنواع منها: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضا في أيام النبي (وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، فإن بقي في دار الحرب كان عاصيا.
ومنها: الخروج من أرض البدعة، قال مالك: (فلا يحل البقاء بأرض يُسب فيها السلف) .
ومنها: الخروج من أرض غلب عليها الحرام، فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم.
ومنها: الفرار من الأذية في الدين والبدن والمال والأهل؛ فإنّ حرمة مال المسلم وأهله كحرمة دمه بل أشد وأوكد، وذلك فضل من الله رخص فيه ليخلصها من ذلك المحذور". (1) .
والهجرة تعني إعلانا بمقاطعة حبل الولاية والنسب والقرابة وهجران في الاعتقاد والأبدان ومفارقة الأوطان، ليتميز الصف الموحد من الصف المشرك، فيلحق من كان بين الكفار بالركب المهاجر في سبيل الله الذين تركوا الركون إلى الدنيا وتجردوا لله وللدفاع عن دينه، وهجروا في ذلك الأهل والمال والوطن.
وأول من فعل هذه الهجرة إبراهيم (وذلك بعدما نفدت الحيل مع أبيه وقومه وسدت سبل الدعوة فقال: (إني مهاجر إلى ربي ((العنكبوت 26) . إذ لا خير في البقاء مع قوم عدموا الخير. وأسبابه، وقالوا تقاسموا ابالله لنبيتنه وأهله: (وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين، ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (. (الأنبياء 71)
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي ج5/349، 350.، ج15/97.(14/224)
فأمره الله بالهجرة هو وابن أخيه لوط عليهما السلام بعيدا عن موطن الكفر والكافرين والضلال والضالين فرارا بدينه وأهله فعوضه الله عن وطنه وقومه بذرية تحمل رسالة الله إلى الأبد، قال تعالى: (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب (. (العنكبوت 26، 27) . فيكفيه ذكرا وفخرا حيث جعل الله تعالى من ذريته سيد الأولين والآخرين وخاتم النبيين والمرسلين، والرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد ((1) .
وهكذا من ترك شيئاً لله أذاقه الله حلاوة الإيمان وعوضه بأحسن وأفضل منها كما قال الخليل (لقومه: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي، عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ((مريم 48) .
المطلب الثامن: (المفاصلة والموادعة)
__________
(1) انظر أحكام القرآن للقرطبي ج11/305، 13/339، فتح القدير للشوكاني ج4/199، في ظلال القرآن لسيد قطب ج4/2388، 5/2732.
روي أنه (خرج من العراق ومعه لوط وسارة بنت عمه هاران الأكبر، وقد كانا مؤمنين به (يلتمس الفرار بدينه، فنزل حران، فمكث بها ما شاء الله، ثم قدم مصر، ثم خرج إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين، ونزل لوط بالمؤتكفة.روح المعاني للألوسي ج6/70.(14/225)
إن لم يكن إذعان للدعوة أو استجابة لرسل الله تعالى أو وقف العناد في وجه الدعوة وبقيت المكابرة مركبا ذلولا لأهل الطغيان، أو انعدم حق الصلة والقرابة، فلا بد من إعلان المفاصلة ولا بد من تنفيذ الموادعة، لتجد الدعوة أرضا خصبة تبذر فيها بذورها، وذلك يتمثل في موقف إبراهيم (حين أعلنها صريحة: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين ((الصافات 99) . (1) .بعد أن كذبه قومه وقد شاهدوا الآيات فتعصبوا للأصنام وَلاءً لها وانتقاما من أجلها، لأن قضية التوحيد فوق كل القضايا وطلب العزلة حفاظا على دين الله أمر واجب: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي، عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ((مريم 48) . (2)
وهذه المفاصلة والموادعة إنما هي إفصاح عن الحب والبغض في الله وتحقيق لمبدأ الولاء والبراء الذي أخبر الله عن خليله (بقوله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ((التوبة 114) . ويؤكد هذا ما جاء في قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني بَرَآءٌ مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ((الزخرف 26- 28) (3) .
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي ج15/97، وفتح القدير للشوكاني ج4/403، روح المعاني للألوسي ج8/126، في طلال القرآن لسيد قطب ج5/2994.
(2) عسى (هذه موجبة لا محالة فإنه (سيد الأنبياء بعد نبينا محمد (، ولكنه (صدر بها لإظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب، والتنبيه على حقيقة الحق من أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل منه عز وجل، لا بطريق الوجوب وأن العبرة بالخاتمة، وذلك لا يعلمه إلا الله. تفسير ابن كثير ج3/124، فتح القدير للشوكاني ج3/336، روح المعاني للألوسي ج6/102.
(3) تفسير ابن كثير ج2/393، فتح القدير للشوكاني ج2/410.(14/226)
وكان من نتيجة هذه المفاصلة والموادعة أن أكرم الله الخليل (فأبقى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) خالدة تالدة ثابتة واضحة لا يتلبس بها الباطل باقية دائمة قائمة في ذريته، كما قال: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ((الزخرف 26- 28) . ولا يزال فيهم إلى الأبد من يدعو إلى التوحيد كموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويحقق وصيته التي وصا بها ذريته وبنيه: (ووصى بها إبراهيمُ بَنِيهِ ويعقوبُ… ((البقرة 132) (1) .
ومن أجلها أمر الله الخليل (بإقامة معلم بارز لها ليبقى معلماً خالدا ورمزا بارزا للحنيفية ليكون معقلا لأهل التوحيد ويبقى دويه إلى الأبد فأمره بناء بيته المطهر ويرفع هو وابنه إسماعيل عليهما السلام قواعده.
المطلب التاسع: (المبادرة بامتثال أمر الله بناء البيت)
بين الله للخليل (موضع بناء البيت وأرشده إليه، وأمره بأن يبنيه على اسمه وحده فهو بيت الله وحده دون سواه، ولتوحيده أقيم هذا البيت منذ اللحظة الأولى. وبأمره يعظم ويقدس ويقصد ويُحج ويُعتمر ويُطاف حوله، وبأمره يُطهر من الشرك والأصنام والأوثان والأرجاس والأنجاس قال (: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ((الحج 26) . (2) . تتعاقب الأجيال على حجه، ويتنافس المسلمون في بلوغ رحابه، في جواره الخير والبركة قال (: (إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ((آل عمران 96، 97) .
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي ج16/76، وفتح القدير للشوكاني ج4/553.
(2) راجع أحكام القرآن للقرطبي ج12/36، فتح القدير للشوكاني ج3/447، روح المعاني للألوسي ج6/142، في ظلال القرآن لسيد قطب ج4/2418.(14/227)
أقيم هذا البيت ليكون مركزا يتجه إليه المسلمون كل يوم خمس مرات ليوثقوا الصلة بربّهم، وليلتقي حوله جموع المسلمين من أقاصي الدنيا، يؤمه أهل الإيمان لأداء فريضة الله وتجديد عهد الطهر والتحرر من عبودية الغير، وليمثل حلقة وصل تجذب العباد إلى الله ليبقى دَوِيّ العبادة وذكر الله في أذهانهم قائما دائما، وليتذكروا على الدوام أن جزاء التضحية والاخلاص لدين الله هو رفع درجات المحسنين المخلصين، وتخليد عمل العاملين: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ((البقرة 125) . (1) .
وليذكّرهم بأن أداء العمل محض إمتثال، ومطلق القيام بالواجب لا يستوجب الأجر، قال تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ((البقرة 125- 127) . بل لا بد في إتيان الطاعات من الابتهال والتضرع في قبولها، ولا بد من الصبر والاحتساب على
الابتلاء فإن الله تعالى لن يناله لحومها ولا دماؤها ولا يريد تعذيب العباد أو قتلهم، ولكن يناله التقوى والاستسلام التام منكم في كل أمر ونهي
المطلب العاشر: (المبادرة بامتثال أمر الله بذبح ابنه)
إن كمال الإيمان يستدعي مبادرة الامتثال وإن قوة اليقين يستلزم الصبر والثقة والثبات، وإن في سبيل الحب الصحيح يرخص كل غال وثمين، فإذا خلد الله تعالى ذكر خليله (في العالمين ببناء بيته الحرام، فكذلك رفع ذكره بمبادرته بامتثاله لأمر ربّه بذبح ابنه وفلذة فؤاده، على حين طلب الخليل (من ربّه على كبر السن وبرغبة الفطرة: (رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم ((الصافات 100، 101) .
__________
(1) انظر أحكام القرآن للقرطبي ج2/110- 120، روح المعاني للألوسي ج1/378- 385، في ظلال القرآن لسيد قطب ج1/113.(14/228)
فلما بلغ الغلام مبلغ القوة والسعي ليحمل عن أبيه بعض متاعب الحياة ويعينه على أمور دينه ودنياه، ويحمل عنه العلم والحكمة فإذا بالأب يقول: (يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ((الصافات 102) .
أدرك الخليل (أنها إشارة من ربّه تبارك وتعالى بالتضحية فلم يتردد أو يراجع نفسه أو يطلب التحقيق، فكيف أذبح إبني الوحيد بمجرد رؤيا رأيتها علها تكون أضغاث أحلام؟، فلم يخطر له إلا خاطر التسليم والتنفيذ حتى وإن لم تكن وحيا صريحا، إلا أنها إشارة من رب السموات والأرض!.
تكفي هذه الإشارة لأمثال الخليل (لينفذ أمر ربّه في إيمان قوي راسخ، دون أن يسأل ربّه شأن المتعللين: لماذا، وكيف، ومتى، وأين أذبح؟!، ليشعر بذلك الأجيال القادمة مِن بعده بأن أوامر الله تنفذ حالا، فهي لا تقبل التراجعات النفسية ووساوسها، ولا تحتمل التفكير والتلكؤ والتأني في تنفيذها، فتلبى كما لبى الخليل (أمر ربّه في غير إزعاج ولا تضجر وتذمر، وتنفذ حكمه في كل أمر ونهي وفي كل محبوب ومكروه طوعا وإنابة واستسلاماً بكل رضى وقبول وهدوء وطمأنينة (1) .
وفي مقابل ذلك- كما يقول سيد قطبب-: فهو (لا يندفع في عجلة وتهور ليخلص نفسه وينتهي منه فورا حتى يريح أعصابه من ثقله، ولكن خاطب ابنه على سبيل الترحم والعطف والشفقة: (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ((الصافات 102) . ذبحا إراديا يتولى تنفيذ هذه المهمة الشاقة- على البشر- بيده دون أن يرسل وحيده في معركة أو يكلفه بأمر تنتهي به حياته ولكن: (أني أذبحك (.
__________
(1) جامع البيان للطبري ج23/76- 81، تفسير الكشاف للزمخشري ج4/52، أحكام القرآن للقرطبي ج15/97- 107، تفسير ابن كثير ج4/15، 16، فتح القدير للشوكاني ج4/403، روح المعاني للألوسي ج8/127- 132، في ظلال القرآن لسيد قطب ج5/2994.(14/229)
وفي الوقت نفسه فهو (ليعرف مدى كمال إيمان ابنه وقوته وصلابته، حتى يأخذه طاعة وإسلاماً فينال كامل أجر الطاعة، لا يريد تنفيذ الأمر على غِرّة دون أن يشير عليه، فيوطن نفسه ويثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه إن سلم، بل يعرض الأمر عليه ويطلب منه التروي والتريث، كالذي يعرض المألوف من الأمر فيقول له: (فانظر ماذا ترى (أي: انظر ماذا تريني أياه من صبرك واحتمالك، أو ما تريك نفسك من الرأي.
فإذا بالابن أعجب من أبيه!، فهو يريد أن يرتقى كالأب إلى الكمال، فيبادله هذه الشفقة الأبوية بالتوقير والتعظيم والتبجيل بكامل الود المعبر عن كمال الرضى بلفظ الأبوة قائلا: (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (. (الصافات 102) .امض لما أمرك الله به في تسليم من غير قلق ولا فزع ولا فقدان وعي ورشد، فالأمر لا يقبل التردد والمشورة (1) .
__________
(1) في ظلال القرآن لسيد قطب ج5/2994، وانظر تفسير الكشاف للزمخشري ج4/52، أحكام القرآن للقرطبي ج15/97- 107، فتح القدير للشوكاني ج4/403.(14/230)
وإنها لفتة قرآنية عظيمة نشاهدها من خلال هذا الموقف كما يصفها الألوسي بقوله: لم يتظاهر إسماعيل (في تنفيذ المهمة الشاقة بالطَولِ والجلادة والشجاعة والإقدام، بل علق الأمر بمشيئة الله استعانة وتبركا وتواضعا وتأدبا مع الله، معترفا بضعفه مدركا حدود قدرته وطاقته في الاحتمال، ليعينه على طاعته فقال: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين ((الصافات 102) أي: من جملة الموفقين للصبر مع ما فيه إغراء للأب على الصبر لِما يعلم من شفقته عليه من عِظم البلاء، حيث أشار إلى أن لله عِبَاداً صابرين (1) .
قال (: (فلما أسلما وَتَلّهُ للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم ((الصافات 103، 104) (2) أي قد وقع العمل موقع الرضى والقبول، ونتائجه قد ظهرت والغاية منه قد تحققت والله لا يريد تعذيب عباده ولا يريد دماءهم ولا أجسادهم في شيء، فكانت النتيجة: (قد صَدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين، إنّ هذا لهو البلاء المبين، وفَدَيناه بِذِبْح عظيم ((الصآفات 101- 107) . فشرع الله الذبح والأضاحي وإراقة الدماء تخليدا لذكرهما وتعظيما لأجرهما وشريعة يعمل بها إلى يوم القيامة، امتثالا لأمر الله وإطعاما للبائس الفقير (3) .
المطلب الحادي عشر: (الدعاء والتضرع إلى الله)
__________
(1) روح المعاني للألوسي ج8/129.، وفرق بين قول إسماعيل (وبين قول موسى (: (ستجدني إن شاء الله صابرا (فلم يوفق موسى (للصبر لأنه لم يسلك هذا المسلك من التواضع في قوله: (ستجدني إن شاء الله صابرا (حيث لم ينظم نفسه الكريمة في سلك الصابرين، بل أخرج الكلام على وَجْهٍ لا يُشْعِرُ بوجود صابر سواه، فلم يتيسر له الصبر، مع أنه لم يُهْمِل أمر الاستثناء.
(2) ومعنى قوله تعالى: (تَلّهُ للجبين (أي صرعه على شقه فوقع أحد جنبيه على الأرض. تفسير الكشاف للزمخشري ج4/52.
(3) أحكام القرآن للقرطبي ج15/97- 107، فتح القدير للشوكاني ج4/403، روح المعاني للألوسي ج8/127- 132(14/231)
الدعاء مخ العبادة أو هو العبادة وسلاح المؤمن ووصله الذي يصله بجناب الله الذي لا تعجزه المسائل، قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعى إذا دعان ((البقرة 186) . والله تعالى يعلم فطر عباده فأمرهم وحثهم على الدعاء ليبثوا ما في صدروهم فيريحوا أعصابهم لتطمئن قلوبهم بأنهم وَكّلُوا وفوضوا أمرهم إلى من هو أقوى وأقدر منهم، قال تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا وخُفْيَة إنه لا يحب المعتدين ((الأعراف 55) . وقال تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ((غافر 60) .
إن الدعوة تستجاب ولكنها بحكمة الله تتحقق في أوانها، غير أن الناس يستعجلون!، وغير المواصلين يملون ويقنطون، قال (: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي) (1) .
غير أن الأنبياء والمرسلين أكثر الناس تضرعا إلى الله بالدعاء لا يقنطون ولا يملون، يواصلون ولا يقطعون، يلحون ولا يفترون، أعظم الناس طمعا في نوال الله وفي طلب العون على أمور الدين والدنيا، كما حكى الله عن زكريا (: (وزكريا إذ نادى ربّه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ((الأنبياء 89) .فرزقه الله بعد (خمس وتسعين) سنة (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري ج11/140.
(2) أحكام القرآن للقرطبي ج11/79.(14/232)
ولقد أدرك الخليل (أهمية الدعاء ومكانته عند الله تعالى، فابتهل وتضرع إلى الله تعالى امتثالاً لأمره وتعليما للعباد، وكرر النداء في دعائه وإنّ تكرار النداء له معنى ومغزى، وقدم ما حقه التقديم في الدعاء فصدر دعواته بهذا النداء الجميل اللطيف حرصا ومبالغة منه في الضراعة والابتهال فقال: (رب اجعل هذا البلد آمنا..... ((إبراهيم 35) . لأنه ترك تَرِكَتَهُ وأهله بهذا الوادي المقفر المجدب الذي لا أنيس فيه، ثم قفل منطلقا فتبعته هاجر رحمة الله عليها قائلة: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي؟، قالت له مرارا، وجعل إبراهيم (من شدة الوجد والحزن لا يلتفت إليها فقالت له: آلله أمرك بهذا؟، قال: نعم. قالت في يقين وإيمان كامل: (إذا لا يضيعنا) ثم رجعت، وانطلق (حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ورفع يديه يناجي ربّه بعيدا عن عيون الناس بعيدا عن أسماعهم يخلص فيها لربّه، ويكشف له عما في صدره، يبوح لحبيبه عما أصابه من اللأوى والحزن، يناجي ربّه في قرب واتصال: (رب (بلا واسطة حتى ولا بحرف نداء، وإن ربّه ليسمع ويرى من غير دعاء ولا نداء، ولكن المكروب يستريح ببيان ما في صدره (1) .
فاستهل طلبه بأمور عدة منها أن يجعل الله هذا البلد- المكان القفر الموحش - مستوطنا مؤنسا معمورا محبوبا آمنا من القحط والجدب والغارات ومن الخوف فلا يرعب أهله حتى يتمكنوا من أداء العبادات فقال: (رب اجعل هذا بلدا آمنا ((إبراهيم 35) . فإذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء من أمور الدين والدنيا.
__________
(1) في ظلال القرآن لسيد قطب ج1/113، 4/2108.(14/233)
ثم يسأله وذريته غاية ما يُطلب في الدعاء وهو الثبات على التوحيد واجتناب الشرك فيقول: (واجنبني وبَنِيَّ أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ((إبرّهيم 35،، 36) (1) .
ثم يكرر طلبه الذي لأجله أسكن ذريته بهذا الوادي بألطف الألفاظ وأحبها إلى الله طمعا فى الاستجابة وطلبا لكفاية مؤنة الرزق وليكون ذلك عونا لهم على طاعة الله، لا سيما في مثل هذا الوادي الجدب البَلْقَع الخالي من كل مرتفق ومرتزق، لما في السعي في حصوله من الانشغال عن ذكر الله فيقول: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ((إبراهيم 37) .
ولقد حقق الله دعوته (، فإن الناس لا يزالون يحنون إلى زيارة البيت يبذلون كل غال وثمين في سبيل الوصول إليه، ومن زاره مرة ازداد شوقا وحنينا إليه.
والأرزاق تجبى إلى مكة بلطف الله ورحمته، حتى إنه ليجتمع فيه من كل أقطار العالم البواكير من الفواكه المختلفة الأزمان والفصول في يوم واحد، كما قال تعالى: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ((القصص 57) .
__________
(1) ذكر ابن كثير عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (تلا قول إبراهيم ((رب إنهن أضللن كثرا من الناس (الآية (إبراهيم 36) وقول عيسى ((إن تعذبهم فإنهم عبادك (الآية (المائدة 118) .، ثم رفع يديه ثم قال: (اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي) وبكى، فقال الله: اذهب يا جبريل إلى محمد ورَبُكَ أعلم، وسله ما يبكيك؟، فأتاه جبريل (فسأله، فأخبرّه رسول الله (ما قال، فقال الله: اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك. تفسيره ج2/540.(14/234)
ثم يمضي الخليل (في دعائه لله تعالى كحال الضعفاء متواضعا يطرح فقره وفاقته وحاجته ووجده أمام ربّه على تَرِكَتِه وفراقه لأهله، مستسلما مسلما أمره إلى مولاه ما يغني عن البيان والكلام، ويسأله معترفا بالعبودية والإخلاص، أن يجنبه الرياء والسمعة ويمن عليه بالرضى، فيقول: (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ((إبراهيم 38) . (1) .
وإن الشكر على النعم على الدوام محمود وعند الحاجة والشوق أحمد وآكد، فيلهج لسانه (بالحمد والشكر على نعم الله الواصلة إليه شأن العبد يحمد ربّه ويثني عليه بالثناء الجميل على نعمه العظيمة بما مَنّ عليه ورزقه من الذرية الصالحة بعد الكبر وما أَجَلَّ الإنعام بها عند إحساس الفرد بقرب نهايته وحاجته الفطرية إلى الإمتداد ببقاء ذِكره، فيقول: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إنّ ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ((إبراهيم 39- 41) . (2) .
__________
(1) فكأن لسان حال الخليل (يقول: اللهم إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا من أنفسنا فلا حاجة لنا إلى الطلب، لكن ندعوك لإظهار العبودية.
(2) سورة إبراهيم (35- 41) وقرأ بعضهم: {ولِوَلدَيّ} يعني أسماعيل وإسحاق. أحكام القرآن للقرطبي ج9/375، وانظر روح المعاني للألوسي ج5/243، وفتح القدير للشوكاني ج3/113(14/235)
ثم يشعرنا الخليل (من خلال بنائه للبيت تصور دوام النقص والعجز عن إتقان العمل، والافتقار إلى رحمة الله في القبول، ليكون العبد بين الخوف والرجاء: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم ((البقرة 127) . (1) .فهو (في أجل الطاعات ولكنه مع ذلك يقدم في دعائه صيغة التفعيل المشعر بالتكلف في القبول والتقصير في أداء العمل وبالضمائر المؤكدة التي تفيد الحصر: (تَقبّل منا إنك أنت السميع العليم ((2) .فغايتنا من العمل هو تنفيذ أمرك، فكلل عملنا بالنجاح والقبول، وأرنا أثر ذلك في معالم الحج، ليبقى ذكرا وذخرا لنا: (ربنا وجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ((البقرة 128) (3)
__________
(1) وعن وهيب بن الورد أنه إذا قرأ هذه الآية، ثم يبكى ويقول: يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك؟، تفسير تفسير ابن كثير ج1/175.
(2) كما حكى الله عن المؤمنين بقوله: (والذين يؤتون ما آتَوّا وقلوبهم وَجِلَة ... (المؤمنون (60) ، أي: يعطون ما أعطوا من الصدقاًت والنفقات ويؤدون حقوق الله عليهم في أموالهم، ومع ذلك فهم خائفون وجِلون أن لا يتقبل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء، عن عائشة رضى الله عنها في هذه الآية، قالت: يا رسول الله هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟، قال: (لا يا ابنة الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله) وفي رواية: (وهم يخافون ألا يتقبل منهم) .تفسير ابن كثير ج3/248.
(3) انظر جامع البيان للطبري ج1/553، 554، وذكر الألوسي: أن التوبة تختلف باختلاف التائبين: فتوبة سائر المسلمين: الندم والعزم على ألا يعود، ورد المظالم إن أمكن ونية الرد إذا لم يمكن. وتوبة الخواص: الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال. وتوبة خواص الخواص: لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فتوبة إبراهيم وإسماعيل من القسم الأخير. روح المعاني للألوسي ج1/386.
وذكر القرطبي: أن المراد بالتوبة هنا هو طلب التثببت والدوام وهذا وجه حسن، وأحسن منه: أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت، أرادا أن يُبيّنا للناس ويعرفاهم، أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. أحكامه ج2/127، 130.(14/236)
وتكررت مسألة الخليل (للذرية استشعارا بالمسئولية واهتماما منه بشأنهم وصلاحهم، وهذا تعبير صادق عن التضامن الذي يدعو إليه الإسلام وهو حب الخير لكل الناس، امتثالا لقول النبي (: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (1) .وكما أخبرنا الله عن عباده المتقين في قوله: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ((الفرقان 74) . وهذا القدر مرغوب فيه شرعا، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له. (2) .
ولذا حرص الخليل وابنه عليهما السلام على أن يبقى هذا التوحيد بقية باقية في عقبهما، فدعا الله: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ((البقرة 129) . فكانت بعثة هذا الرسول الكريم محمد (من ذريتهما بعد قرون مضت استجابة لدعوتهما كما يقول (عن نفسه: (أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى..) الحديث (3) .
قال القرطبي: يقال إنه لم يدع نبيّ إلا لنفسه ولأمته، إلا إبراهيم (فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة. (4) .
__________
(1) صحيح مسلم ج1/67.
(2) تفسير ابن كثير ج1/183.
(3) أخرجه أحمد في مسنده ج 4/127. وانظر أحكام القرآن للقرطبي ج2/131.
(4) أحكام القرآن للقرطبي ج2/126.(14/237)
وينتهز إبراهيم (فرصة اختلائه بربّه متوجها مبتهلا مستزيدا مستكثرا من رب لا يمل ولا يضجر، لا يطلب دنيا أو صحة في الأبدان، ولكن يسأله ما هو أعلى وأولى وأجل فيقول: (رب هب لي حُكْماً وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق فى الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم ((الشعراء 83) (1) .فاستجاب الله دعاءه فقال: (وتركنا عليه في الآخرين ((الصافات 129) . إذ ليس أحد يصلي على محمد (إلا وهو يصلي على إبراهيم (. (2) .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج3/338.ولِذِكْر إبراهيم (في دعائه لفظ (الوراثة) فوائد وأسرار منها: أنه تيمن واقتداء في الطلب بقوله تعالى: (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا (مريم (63) . أي: نبقيها على من كان تقيا من ثمرة تقواه ونمتعه بها كما نبقي على الوارث مال مورثه ونمتعه به، ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يتخير في دعائه أحسن الألفاظ أرقها وأعذبها وأشملها ويحسن في الطلب فإن الله لا يعجزه شيء.
زاد سيد قطب: فيه إشارة إلى أن من أراد الوراثة فالطريق معروف: التوبة والإيمان والعمل الصالح، أما وراثة النسب فلا تجدي، فقد ورث قوم نسب أولئك الأتقياء من النبيين وممن هدى الله واجتبى؛ لكنهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فلم تنفعهم وراثة النسب قال تعالى: (فسوف يلقون غيا (سورة مرريم (59) في ظلال القرآن ج4/2315.
(2) أحكام القرآن للقرطبي ج13/113.(14/238)
ثم ينتقل القرآن الكريم فيصور لنا صورة نادرة من دعاء الخليل (تنبيء عن خوفه ووجله بأن يكون قد قصر في أداء العمل مع بذله قصارى جهده في تبيلغ الرسالة وأداء الأمانة، وهذا هو شأن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فهم على بذل غاية الجهد وتحمل كبير المشقة في تبليغ الرسالة يخافون التقصير، كما أخبر الله عنهم بقوله: (وكأين من نبي قاتل معه رِبيُّونَ كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفرلنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين (. (آل عمران 0146، 147) .
فيدعو الخليل (ربّه خائفا وجلا مشفقا مستحيا، بأن يجيره من جميع خزي يوم القيامة وهَوَانِه، وأن لا يفضحه على رؤوس الأشهاد بالعتاب إن هو قصر في تبيلغ الدعوة وأداء الأمانة، فيقول: (ولا تخزني يوم يبعثون ((الشعراء 83) . (1) .
المطلب الثاني عشر: (دروس وعِبر عَبْرَ قصة الخليل ()
إنّ في منهج إبراهيم (في الدعوة إلى الله دروسا وتوجيهات، مشاهد وعبرا تحمل في طياتها أسرارا عميقة ومواقف ثابتة في الدعوة والطاعة والاصطبار منها:
1- إن أعمال الله غير خاضعة لمقاييس البشر وعِلْمِهم القليل المحدود.
2- يجب على المؤمن أن يتوكل على الله في كل شئونه بحسن معاملته وتوثيق صلته ويصلح الذي بينه وبين ربّه من أمره في السر والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله، فيكفيه الله ما بينه وبين الناس.
__________
(1) فتح القدير للشوكاني ج4/105، 106، روح المعاني للألوسي ج7/98- 100، في ظلال القرآن لسيد قطب ج5/2603، 2604.(14/239)
3- ما كان تحويل النار برداً وسلاماً على إبراهيم (إلا مثلا له نظائر في صور كثيرة، ولكنها قد تهز مشاعر العبد كما هزت هذه الواقعة الرائعة والكرامة الإلهية، فكم من ضائقات وكربات تحيط بالشخص من شأنها أن تكون القاصمة القاضية، وما هي إلا لحظات يسيرة فإذا هي تُحْيِي ولا تُمِيت وتنعش وتعود بالخير، قال تعالى: (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ((هود 10) . وفي الحديث عنه (أنه قال: (تجيء فتن يرقّق بعضها بعضا فيقول المؤمن: هذه مُهْلِكَتي، ثم تنكشف ثم تجيء فتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف- وفي رواية- فيقول المؤمن: هذه هذه) (1) .
4- ليكن في حسبان الداعية أن طريقه محفوف بالمخاطر مفروش بالأشواك، ففي كل لحظة وساعة يتوقع وقوع الخطر، وليكن أسوته الخليل إبراهيم (في ذلك، لا يثنيه تخويف المرجفين ولا يرده بطش الجبارين.
5- إن من أسباب نجاح الداعية عدم المبالاة بتعاظم الأخطار، كحال الخليل (فإنه لم ينزعج ولم يضطرب مع أنه يعاين بعينيه ما ينظم له من الخطر وما يُنْصَبُ له من النكال.
روي أن الأسود بن قيس ذا الحمار تنبأ في اليمن فبعث إلى أبي مسلم الخولاني، فلما جاء قال: أتشهد أني رسول الله؟، قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟، قال: نعم، قال فردد ذلك مرارا، فامر بِنَارٍ عظيمة فأججت ثم ألقي فيها فلم تضره، فأمره بالرحيل فأتى المدينة وقد مات النبي (واستُخْلِف أبو بكر (فقال عمر (لأبي بكر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من فُعِل به كما فُعِل بإبراهيم (2)
__________
(1) صحيح مسلم ج3/1473، وابن ماجه ج2/369.ومعنى (فتن يرقّق بعضها بعضا) : أي يصير خفيفا لِمَا يعقبه، أو يُشَوّق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويلها. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ج2/253.
(2) تهذيب التهذيب لابن حجر ج12/236.(14/240)
والأمثلة للمتأمل المتعظ في هذا الباب كثيرة، نسأل الله أن ينير لنا الطريق ويبصرنا بالحق أينما كان وكنا إنه جواد كريم.
هذا وقد صدق الإمام مسلم (حين قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم (1)
__________
(1) صحيح مسلم ج1/428.
المراجع والمصادر
القرآن الكريم.
الأعلام للزركلي دار العلم للملايين بيروت لبنان ط 12 1997 م.
البرّهان في علوم القرآن لبدر الدين الزركشي ط2 تحقيق محمد أبو الفضل نشر دار المعرفة بيروت.
التعريفات لعبد القاهر الجرجاني
تفسير القرآن العظيم لابن كثير نسخة مصححة على نسخة دار الكتب المصرية دار إحياء التراث العربي بيروت 1388 هـ.
تهذيب التهذيب للحافظ أحمد بن ججر، دار الفكر العربي، ط 1/ عن مطبعة دائرة المعارف النظامية حيدر آباد الدكن هند.
الجامع لأحكام القرآن لمحمد بن أحمد القرطبي وزارة الثقافة نشر دار الكاتب العربي للطباعة القاهرة 1387 هـ.
جامع البيان لابن جرير الطبري ط 2 1373 هـ مصطفى البابي
روح المعاني لمحمود الألوسي دار الفكر بيروت 1398 هـ.
رياض الصالحين للنووي
سنن بن ماجه، محمد مصطفى الأعظمي، ط 1/1403، طبع شركة الطباعة العربية السعودية الرياض.
سنن أبي داود مراجعة وضبط محمد محي الدين عبد الحميد دار الفكر
الصحاح للجوهري تحقيق احمد عبد الغفور عطار ط 2 1399 هـ القاهرة.
صحيح البخاري ضبط: محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب المكتبة السلفية دار الفكر.
صحيح الجامع الصغير للألباني المكتب الإسلامي تحقيق زهير الشاويش ط 3 1410 هـ.
صحيح مسلم ضبط محمد فؤاد عبد الباقي مطبعة دار إحياء الكتب العربية.
فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر المكتبة السلفية دار الفكر.
فتح القدير للشوكاني دار الفكر ط 3 / 1393 هـ.
في ظلال القرآن لسيد قطب دار الشروق القاهرة
مجموع الفتاًوى لابن تيمية ط 1/ طبعة الملك فهد حفظه الله.
مختصر سنن أببي داود للمنذري تحقيق محمد حامد فقي طبعة الملك خالد رحمه الله.
معاني القرآن للنحاس طبعة جامعة أم القرى.
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي
المعجم الوسيط لإبراهيم أنيس ورفاقه ط 2
معجم مقاييس اللغة لابن فارس ط 1 1420 هـ دار الكتب العلمية بيروت.
تفسير الفخر الرازي مفاتيح الغيب ط 1 1401 هـ دار الفكر.
مسند أحمد ترتيب رياض عبد الله عبد الهادي ط 2 1414 هـ دار أحياء التراث العربي.
مفردات ألفاظ القرآن للراغب تحقيق صفوان عدنان داوودي ط 2 1418 هـ دار القلم دمشق.(14/241)
فإنني قد بذلت جهدا كبيرا في جمع وترتيب وتنسيق مادة هذا البحث القيم المبارك، ولا أدعي العصمة والكمال، ولا عدمت أخا كريما فاضلا نصوحا ستيرا ستر الزلة وأسدى النصيحة وأبدى الصواب، وأسأل الله العفو عن الزلات والصفح عن الهفوات، كما أسأل المولى جل وعلا الإخلاص والأجر والمثوبة والنفع، وأن يجعله في ميزان حسنات والدي إنه سميع قريب مجيب الدعوات رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(14/242)
رد خبر الواحد بما يسمى ب (الانقطاع الباطن)
حقيقته، وحكمه وأثره في الفقه الإسلامي
د. ترحيب بن ربيعان الدوسري
الاأستاذ المساعد- بقسم أصول الفقه - كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
ملخص بحث
فكرة البحث ونتائجه:
ذكرت فيه: أن علم أصول الفقه علم عظيم الشأن، به تضبط الاستنباطات، والمآخذ الفقهيات، وهو سياج عن الزلل والخطأ والخلل في التفقه في الدين، وبالتمكن فيه يسهل الترجيح بين الأقوال والمذاهب الفقهية.
عرفت في البحث الخبر لغة واصطلاحاً وذكرت أقسامه، وما يفيده كل قسم من العلم أو الظن وذكرت منزلة السنة عند الشارع وسلف الأمة وأئمتها، وبينت ما يرد به خبر الواحد عند الحنفية بما يسمونه بالانقطاع الباطن وذكرت اقسامه الأربعة ذاكراً أدلتهم في ردهم لخبر الواحد في كل قسم مبيناً الحق فيها مع ذكر الأمثلة التطبيقية في كل قسم من المسائل الفقهية مع ذكر حجج كُلٍّ في كل مسألة فيما يتعلق بهذا المأخذ، مخرجاً أقوال الإمام أبي حنيفة في كل مسألة فقهية بما يتفق مع أصوله وأصول بقية الأئمة الثلاثة والمنقولة عنه وعنهم نقلاً لا مجال في الشك فيه من تقديم السنة على الرأي.
وقد توصلت إلى نتائج هامة جداً أهمها:
1-أن هذه المسائل دخيلة على علم أصول الفقه بل صلتها وثيقة بمباحث علم العقيدة.
2-لا خلاف بين أحد من علماء الأمة –لا سيما الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المعتبرين ومنهم الأئمة الأربعة – في وجوب الاحتجاج بالسنة، معتبرينها صنو القرآن الكريم في التشريع العلمي والعملي.
3- أن الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى يرون حجية خبر الواحد مطلقاً وأنه يفيد العلم والعمل معاً خلافاً لمن شذ عن طريقهم ممن نَسَبَ نفسه إليهم.(14/243)
4- أن الطعن في خبر الواحد الصحيح بما يسمى بالانقطاع الباطن لدليل معارض قول مخترع اخترعه عيسى بن أبان ثم تبعه على ذلك أبو زيد الدبوسي ثم تتابع على القول به كثير من علماء الحنفية كالبزدوي والنسفي وعبد العزيز البخاري حتى أصبح هذا القول أصلاً من أصول الحنفية.
5- لم يَثْبُتْ بناء أي مسألة من المسائل الفقهية على تلك القواعد، كما لم يثبت عن الإمام أبي حنيفة القول بها.
* * *
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الغر الميامين وعلى من اتبع أثره واستن بسنته إلى يوم الدين. وبعد:
أهمية الموضوع:
فإن علم أصول الفقه علم عظيم الشأن، به تضبط الاستنباطات، والمآخذ الفقهية. وهو سياج عظيم لمن أراد التفقه في الدين من الزلل والخطأ والخطل. وبالتمكن فيه يسهل الترجيح في المسائل الفقهية المختلف فيها بين أئمة الفقه لإحاطته بالقواعد الأصولية التي بنى الفقهاء والعلماء عليها فقههم؛ وكلما ازداد رسوخاً في علم أصول الفقه استطاع اختيار القول الراجح بسهولة ويسر مع اطمئنان إلى ما يذهب إليه. إلا أن هذا العلم دخله ما ليس منه – كما دخل غيره من فنون العلم الأخرى – فأذهب بريقه وصفاءه في كثير من مسائله مما يوجب على الباحثين فيه التحري والتحقق من صحة تلك الأصول وتلك القواعد والتأكد من عدم معارضتها لقواعد الشريعة الكلية أو الجزئية.(14/244)
وقد أوضح فضيلة الدكتور محمد العروسي عبد القادركثيراً من تلك المسائل التي أدخلت في مباحث أصول الفقه وليست منه، مبيناً أنها مبنيةٌ على مسائل عقدية منحرفة، فقال:- (ولما تصدى هؤلاء المتكلمون للكتابة في أصول الفقه، لم يكتفوا أن خلطوها بعلم الكلام ومقدماته، بل أدخلوا فيها أموراً افتراضية كتعارض خبرين ثابتين عن النبي (، وكتخصيص عموم الكتاب للسنة، وكجواب الرسول (للسائل بجواب أخص من سؤاله، وكتمثيلهم في مسألة تكليف ما لا يطاق بالمستحيل لغيره وزعمهم أنه واقع في الشريعة. وكل هذه المسائل لا وقوع لها في الشريعة.
ثم إن المتكلمين يرون أن علم الكلام أساس في معرفة الأصول، بل قد يفهم من ثنايا كلام القاضي أنه يرى أن التبحر في فن الكلام شرط في استجماع أوصاف المجتهدين ...
لأن كثيراً من هؤلاء الفقهاء أدخلوا فيما كتبوه عن الأصول شيئاً من أصول الأشعري وشيئاً من أصول الكلامية، فكان حكمهم في الأشياء بحسب معتقداتهم وتصوراتهم لا بحسب الواقع الذي يشهد له الكتاب والسنة ….) (1)
وقال:- أيضاً – (وقرر القاضي مسائل الأصول وبناها على مذهب أبي الحسن الأشعري – رحمه الله – فإنه كان يذهب مذهبه في القدر والصفات والكلام، وينافح عنه.
ولما كان بعض مسائل أصول الفقه تشترك مع بعض مسائل أصول الدين، كمسائل الأخبار، وحجية المتواتر، وأخبار الآحاد، ووقوع النسخ، ومسائل التكليف، كالأمر بالشيء والنهي عنه هل يقتضي الأمر والنهي عن ضدهما؟ والخلاف في جواز كون الأمر مشروطاً ببقاء المأمور على صفات التكليف، وهل الأمر بالفعل يتعلق به حال حدوثه؟ ومسألة الاستطاعة، ومسألة تكليف ما لا يطاق، والمسائل المتعلقة بالإكراه وغيرها من مسائل الإجماع والقياس والاجتهاد.
__________
(1) لحواشي والتعليقات
() انظر: المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين (16-17)(14/245)
وأما حجية الإجماع والكلام في صحته وإثباته فمن مسائل علم الكلام، ولما كان الأمر كذلك، استطاع كثير ممن شارك في علم الكلام أو كتب فيه أن يكتب في أصول الفقه؛ لأنه الميدان الذي ظهر فيه أراء المعتزلة؛ ولأنه الفن الذي يمكن فيه تقرير مذهب أبي الحسن الأشعري أو مذهب غيره ….
ثم تتابع الأصوليون من المتكلمين أو المنتسبون إليهم كالقاضي البيضاوي وابن الحاجب والإسنوي– وفي عصر هؤلاء – وقبله بقليل ظهرت نزعة الكلام في أصول الحنفية ويتضح ذلك في كتابات شراح البزدوي والمنتخب للأخسيكثي، ناهيك عن المتأخرين منهم كالنسفي حافظ الدين وابن الهمام. وهؤلاء المتكلمون من الأصوليين منهم من كتب وألف في الأصلين، ومن له تأليف في أصول الدين وشرح لأحد كتب أصول الفقه) (1) .
ومن هذه المسائل التي حُشر بحثها في علم أصول الفقه وليست منه مقررة على خلاف الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين، وعلى خلاف من ينتسب إليه مقرروها ألا وهو مذهب الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – مسألة الانقطاع الباطن في أخبار الآحاد.
سبب اختيار الموضوع:-
لقد دفعني للكتابة في هذه المسألة غير ما سبق أمورٌ أجمل أهمها فيما يأتي:-
1-توضيح هذه المسألة وبيان تعلقها بمسائل عقدية خطيرة خالف بعض المنتسبين إلى مذاهب الأئمة الأربعة الفقهية فيها أئمتهم.
2-توضيح رأي الأئمة الأربعة ولا سيما رأي أبي حنيفة في هذه المسألة.
3-نصرة الحق وتنقيته مما شابه من باطل.
4-كثرة ما ترتب على القول بها من مسائل فقهية مخالفة للأدلة الشرعية.
5-تبرئة أعلام الحنفية من القول بها وتبيين أن قائلها الأول ليس منهم، وإن كان قد تبنى القول بها فيما بعد كثير من المنتسبين إلى أبي حنيفة.
__________
(1) المصدر السابق (12-14)(14/246)
6-ترغيب طلاب العلم في تعلم أصول الفقه على طريقة أهل السنة والجماعة حقاً (أهل الحديث والأثر) وذلك بالرجوع إلى أقوال الأئمة المعتبرين أمثال الإمام مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والبخاري ومسلم وابن قتيبة والسمعاني وابن عبد البر وابن تيمية وابن القيم وابن كثير ومن سار على طريقتهم واقتفى أثرهم، وفي الوقت نفسه تحذيرهم عن سلوك طريق المتكلمين من معتزلة وأشاعرة وماتريدية وغيرهم.
7-تشجيع طلاب العلم ممن هو متمكن في علم أصل الأصول: العقيدة، وعلم أصول الفقه للكتابة في المسائل التي اختلط فيها الحابل بالنابل، والحق بالباطل لتمييزها، وتوضيحها، وتنقيتها مما علق بها من شوائب باطل المتكلمين وبعض المنتسبين إلى مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - ممن أصبح فيما بعد يُعد من فقهاء الحنفية.
8- جدة الموضوع فإني لا أعلم أن أحداً من الباحثين أفردها ببحث مستقل.
خطة البحث:-
قسمت البحث إلى مقدمة اشتملت على أهمية الموضوع، وسبب اختياره، وخطة البحث، ومنهجي فيه، وإلى ستة مباحث على النحو التالي:-
المبحث الأول:- في تعريف الخبر، وذكر أقسامه.
المبحث الثاني:- في بيان منزلة السنة عند الشارع وسلف الأمة وأئمتها وفيه مطلبان:-
المطلب الأول: في بيان منزلة السنة عند الشارع. وفيه أربع مسائل:-
المسألة الأولى:- في منزلة السنة في كتاب الله.
المسألة الثانية:- في منزلة السنة في السنة.
المسألة الثالثة:- في دلالة الإجماع على منزلة السنة.
المسألة الرابعة:- في دلالة المعقول على منزلة السنة.
المطلب الثاني: في بيان منزلة السنة عند سلف الأمة وأئمتها.
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:- في منزلة السنة عند الصحابة.
المسألة الثانية:- في منزلة السنة عند التابعين.
المسألة الثالثة:- في منزلة السنة عند أعلام الهدى ومصابيح الدجى:- وفيها فقرتان.
الفقرة الأولى: في منزلة السنة عند الأئمة الأربعة على وجه الخصوص(14/247)
الفقرة الثانية: في منزلة السنة عند سائر علماء الأمة.
المبحث الثالث:- في إفادة خبر الواحد العلم.
المبحث الرابع: في المشهور عند الحنفية.
المبحث الخامس:- في تحرير موطن النزاع وذلك ببيان ما المراد بالانقطاع
الباطن، وذكر أقسامه وأنواع كل قسم.
المبحث السادس:- في أوجه انقطاع خبر الواحد الباطن لدليل معارض من
القسم الأول. وفيه أربعة مطالب:-
المطلب الأول:في رد خبر الواحد لكونه مخالفاً لكتاب الله تعالى.وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في أدلة القائلين بها ومناقشتها.
المسألة الثانية: في الآثار الفقهية المترتبة على القول بها.
المطلب الثاني: في رد خبر الواحد لكونه مخالفاً للسنة المشهورة.وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في أدلة القائلين بها ومناقشتها.
المسألة الثانية: في الآثار الفقهية المترتبة على القول بها.
المطلب الثالث:- في رد خبر الواحد لكونه حديثا شاذاً لم يشتهر فيما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته.وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في أدلة القائلين بها ومناقشتها.
المسألة الثانية: في الآثار الفقهية المترتبة على القول بها.
المطلب الرابع:- في انقطاع خبر الواحد لكونه حديثاً قد أعرض عنه الأئمة من الصدر الأول. وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في أدلة القائلين بها ومناقشتها.
المسألة الثانية: في الآثار الفقهية المترتبة على القول بها.
منهجي في البحث
سرت في البحث على النهج الآتي:-
1-عرفت بالمصطلحات العلمية ذات العلاقة بالموضوع، والكلمات الغريبة.
2-عزوت الآيات القرآنية إلى مواطنها من كتاب الله وذلك بذكر اسم السورة ورقم الآية.
3-خرجت الأحاديث من مظانها مبيناً حكم العلماء عليها من حيث الصحة أو عدمها.
4-خرجت الآثار من مظانها.
5-حررت المسألة المبحوثة معتمداً في نسبة الأقوال إلى قائليها والمذاهب إلى أصحابها على الكتب الأصلية والمصادر القديمة.(14/248)
6-ذكرت في المسائل الأربع أدلة المذاهب المختلفة، واعتراضات كلٍ.
7-أبرزت أقوال السلف من الصحابة والتابعين وتابع التابعين والأئمة الأربعة في تلك المسألة لكونهم القدوة.
8-وثقت المسائل الفقهية من مصادرها المعتبرة.
وختاماً فقد اجتهدت فيما كتبت قدر استطاعتي متوخياً فيه الحق والصواب فإن كنت وفقت إليه فبفضل الله وحده أولاً وآخراً وإن كانت الأخرى فأستغفر الله وأتوب إليه.
هذا.. وقد سميت هذا البحث: ب (رد خبر الواحد بما يسمى بالانقطاع الباطن؛ حقيقته، وحكمه، وأثره في الفقه الإسلامي) .
وصلى الله وسلم على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول: في تعريف الخبر وذكر أقسامه
الخبر في اللغة (1) هو:- واحد الأخبار. والخبر ما أتاك من نبأ عمن تستخبر. وخبره بكذا، وأخبره: نبأه. واستخبره: سأله عن الخبر وطلب أن يخبره.
وفي الاصطلاح (2) :- هو الكلام المحتمل للصدق والكذب لذاته.
والمراد بالخبر في هذا البحث: هو الخبر المنقول عن الشارع، وهو قسمان:- متواتر وآحاد.
والمتواتر لغة (3) :- مأخوذ من التواتر وهو التتابع بين أشياء بينها مهلة.
واصطلاحاً (4) :- خبر عددٍ يمتنع معه لكثرته تواطؤٌ على كذبٍ عن محسوسٍ أو خبرُ عددٍ عن عددٍ كذلك إلى أن ينتهي إلى محسوس.
__________
(1) انظر: لسان العرب (4/227) والكليات (2/279-280) .
(2) انظر: معجم البلاغة العربية (1/231)
(3) انظر: القاموس المحيط (631) .
(4) انظر تعريف المتواتر اصطلاحاً في: إحكام الفصول (235) وأصول السرخسي (1/282) والمحصول (2/108) والإحكام للآمدي (2/15) وكشف الأسرار للنسفي (2/4، 6) وشرح الكوكب المنير (2/324) وإرشاد الفحول (41) .(14/249)
والمتواتر يفيد العلم الضروري اليقيني عند جمهور العلماء (1) خلافاً للكعبي وأبي الحسين البصري المعتزلي وأبي الخطاب والجويني والدقاق الشافعي وغيرهم حيث قالوا إنه يفيد العلم النظري.
وأما الآحاد فهو في اللغة (2) : جمع أحدٍ، وهمزته مبدلة من الواو فأصل أحد: وحد.
واصطلاحاً (3) :- هو ما لم يتواتر.
وهذا التعريف يشمل الخبر الصحيح وغيره، إلا أن المراد هنا بخبر الآحاد أو الواحد:- هو الخبر الصحيح المروي عن رسول الله (بعدد من الرواة لا يبلغ عددهم حد التواتر.
وأما الحديث عمَّا يفيده خبر الواحد فسيأتي في موطنه – إن شاء الله –.
المبحث الثاني: في منزلة السنة عند الشارع وسلف الأمة وأئمتها.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في منزلة السنة عند الشارع. وفيه أربع مسائل:-
المسألة الأولى: في منزلة السنة في كتاب الله.
للسنة منزلة عظيمة عند الله وعند رسوله (فهي وحي من الله لرسوله كالقرآن إلا أن الفرق بينها وبين القرآن أن القرآن لفظه ومعناه من الله، والسنة معناها من الله ولفظها من رسول الله (.
__________
(1) انظر:- المعتمد (2/81) وإحكام الفصول (238) وأصول السرخسي (1/283) والبرهان (1/579) والمستصفى (1/133) والإحكام للآمدي (2/18) وكشف الأسرار للبخاري (2/362) وشرح الكوكب المنير (2/326) وإرشاد الفحول (41) وشرح الروضة للطوفي (2/79)
(2) انظر: القاموس المحيط (338) ، والكليات (1/64-65) ، وشرح الكوكب المنير (2/345) ومذكرة أصول الفقه (102) .
(3) انظر: تعريفه اصطلاحاً في:- إحكام الفصول (235) والمستصفى (1/145) وشرح الروضة للطوفي (2/103) والإحكام للآمدي (2/31) وكشف الأسرار للبخاري (2/370) والمغني للخبازي (194) وكشف الأسرار للنسفي (2/13) وشرح الكوكب المنير (2/345) وإرشاد الفحول (43) ومذكرة أصول الفقه (1/102) .(14/250)
وهي مصدر للتشريع ككتاب الله. فالقرآن هو الأصل الذي حوى القواعد الكلية الأساسية من أمور العقيدة والعبادات والأخلاق والمعاملات وغيرها، والسنة هي البيان الحقيقي والشرح الدقيق لما أُحتيِجَ فيه من القرآن إلى تبيين.
فمن رام العمل بالقرآن وحده دون الرجوع إلى السنة - ولا سيما السنة الآحادية لكثرتها وقلة أو ندرة المتواتر منها - فقد كذب، بل هو - في الحقيقة - منسلخ من الإسلام ساعٍ في هدمه، مستهزئ به وبأهله.
وقد دل على حجية السنة - متواترها وآحادها، وأنها المصدر الثاني من مصادر التشريع،وأن الواجب على من انتسب إلى الإسلام والإيمان وجوب الرجوع إليها في كل شيء - الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، والعقل الصريح، والنظر الصحيح.
ولقد جاءت آيات كثيرات تدل بدلالات مختلفة ومتنوعة على أن السنة وحي من الله يجب على المكلفين اتباعها والرجوع إليها، وليس لأحد الخيرة في تركها أو الإعراض عنها.
من ذلك:-
قوله تعالى:- (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ((النجم 3،4) فهذه الآية عامة في جميع ما ينطق به النبي (.
قال ابن حزم (1) –رحمه الله -:- (فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله (على قسمين:-
أحدهما:- وحي متلو مؤلف تأليفاً معجز النظام وهو القرآن.
__________
(1) انظر: الإحكام له (1/95-96) .(14/251)
والثاني:- وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله (وهذا القسم هو المبين عن الله عز وجل مراده منا. قال تعالى:- (لتبين للناس ما نزل إليهم ((النحل 44) ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق فقال تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ((التغابن 12) فكانت الأخبار التي ذكرنا أحد الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع أولها عن آخرها، وهي قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ((النساء 59) فهذا أصل، وهو القرآن.
ثم قال تعالى:- (وأطيعوا الرسول ((النساء 59) فهذا ثانٍ وهو الخبر عن رسول الله (، ثم قال تعالى:- (وأولي الأمر منكم ((النساء 59) فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله (حكمه، وصح لنا بنص القرآن أن الأخبار هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع، قال تعالى:- (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ((النساء 59) .
قال علي:- والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله (؛ لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنِّة والناس كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله (، وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق، وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله ( ...
والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمهما حكم واحد في باب وجوب الطاعة لهما لما قدمناه آنفاً في صدر هذا الباب) انتهى كلامه مختصراً.
المسألة الثانية: في منزلة السنة في السنة النبوية.(14/252)
كما دل الكتاب الكريم على حجية السنة ووجوب العمل بها والانقياد لها ظاهراً وباطناً سراً وعلانيةً، وعدم رد شيء منها، فقد دلت السنة النبوية على ذلك كله. من ذلك:-
أ-قوله (:- (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا يا رسول الله: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) (1) .
ب-قوله (:- (… فمن أطاع محمداً (فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً (فقد عصى الله، ومحمد فَرَّقَ بين الناس) (2) .
ج-قوله (:- (إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض) (3) .
د-قوله (:- (أوصيكم بتقوى الله تعالى، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعةٍ ضلالة) (4) .
هـ-قوله (:- (إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعينيّ، وإني أنا النذير العُريان، فالنجاء، فأطاعة طائفة من قومه فادلجوا، فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذَّب بما جئت به من الحق) (5) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه من أبي هريرة (8/139) .
(2) المصدر السابق من حديث جابر بن عبد الله (8/139-140) .
(3) رواه الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة (1/93) .
(4) رواه البيهقي في السنن الكبرى من حديث العرباض بن سارية (10/114) .
(5) رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي موسي (8/140) .(14/253)
وهذه الأحاديث السابقة وغيرها تدل على ما دلت عليه الآيات الكريمات السابقات من وجوب طاعة الرسول وأن طاعته من طاعة الله وأنه لا يمكن للعبد أن يطيع ربه من غير طاعة نبيه وأن في طاعته النجاء وفي معصيته الخسران المبين في الدنيا والآخرة، وأن سنته (باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وأنها لا تفترق عن كتاب الله حتى يردا على رسول الله حوضه، وأن الضلال والانحراف والابتداع هو ترك سنته وهديه، وأن دعوى من يقول بعدم حجية السنة إنما هي من البدع والاختلافات والضلالات التي حذرنا منها رسول الله (.
وإن من أصرح الأحاديث الدالة على حجية السنة، وضرورة التمسك بها – غير ما سبق – قوله (:-
و (من رغب عن سنتي فليس مني) (1) فمن كان لديه عقل أودين كفاه هذا فضلاً عما ذكر من الآيات والأحاديث وما سَيُذكر.
ز-قوله (:- (نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرُبَّ حامل فقهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه. ثلاثُ لا يَغِلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم) (2) .
قال الإمام الشافعي (3) :- (فلما ندب رسول الله صلى الله عليه إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرَأً يؤديها، والامرءُ واحد: دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أُدِّي إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلالٌ، وحرام يُجتنب، وحدٌّ يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا) .
المسألة الثالثة: في دلالة الإجماع على منزلة السنة النبوية.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك (6/116) .
(2) رواه ابن ماجة في سننه (1/84) والترمذي في سننه (5/34) .
(3) انظر: الرسالة (402-403) .(14/254)
قال الشوكاني (1) :- (اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام ….والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورية دينية ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام) .
المسألة الرابعة: في دلالة المعقول على منزلة السنة النبوية.
قال الدكتور عبد الكريم زيدان (2) :- (ثبت بالدليل القاطع: أن محمداً (رسول الله، ومعنى الرسول: هو المبلغ من الله، ومقتضى الإيمان برسالته: لزوم طاعته، والانقياد لحكمه، وقبول ما يأتي به، وبدون ذلك لا يكون للإيمان به معنى. ولا تتصور طاعة الله والانقياد إلى حكمه، مع المخالفة لرسوله () .
المطلب الثاني: في منزلة السنة عند سلف الأمة وأئمتها.
وفيه ثلاث مسائل:-
المسألة الأولى:- في منزلة السنة عند الصحابة رضي الله عنهم.
لقد كان للسنة النبوية في صدور سلفنا الصالح وأئمتنا منزلة عظيمة جداً فقد كان لها من الحب والاحترام والتقدير ما يهون معه كل شيء، بل كانوا يرون أن الهدى في الاعتصام بها والتمسك والعمل بها في كل شيء هو دليل التقوى، وقد تنوع ذلك الحب بين عمل بها وقول يحض ويدعو إلى توقيرها، والعمل بها، وحفظها، وضبطها، ونشرها، وهجر لمن أعرض عنها، وتحذير عن هجرها وترك لها.
__________
(1) في كتابه إرشاد الفحول (29) . وقد حكى الإجماع على ذلك كثير من أهل العلم. انظر عل سبيل المثال:- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي (376) وحجية السنة (248، 341) وشرح المحلي على جمع الجوامع (2/94-95) وفواتح الرحموت (1/17) .
(2) في كتابه الوجيز (163) وانظر أيضاً منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد (1/108) .(14/255)
ولم يكن أحد أكثر حباً لسنة المصطفى والعمل بها والحض عليها والتمسك بها والتحذير من مخالفتها من الصحابة رضي الله عنهم فقد أشتهر عنهم ذلك شهرةً لا تخفى على أحدٍ، وتواتر عنهم تواتراً لا يُدفع في مواقف كثيرة جداً فاقت العد والحصر.
ولكثرة ما تواتر عنهم في هذا المجال فإني سأكتفي بإيراد بعض الأمثلة التي تفي بالمراد، فمن ذلك:-
1- قول أبي بكر الصديق (1) –رضي الله عنه-: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله (يعمل به، إلا عملت به فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
2-قول عمر بن الخطاب (2) – رضي الله عنه – في تقبيله للحجر الأسود: إنك حجر لا تنفع ولا تضر؛ ولولا أني رأيت رسول الله (يقبلك ما قبلتك.
3-قول علي (3) رضي الله عنه:- إلا إني لست بنبي، ولا يوحى إلي؛ ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه محمد (ما استطعت (4) .
المسألة الثانية:- في منزلة السنة عند التابعين.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه (4/42) في باب فرض الخمس وانظر ما هو بمعناه في سنن الدارمي (1/42) وسنن ابن ماجة (2/910) .
(2) رواه البخاري في صحيح (2/162) في باب تقبيل الحجر وانظر ما هو في معناه في موطأ مالك (1/278) وصحيح البخاري (4/62) وسنن النسائي (8/231) وإعلام الموقعين (1/54-55) .
(3) حجية السنة (248) وانظر ما هو في معناه في صحيح البخاري (2/151) .
(4) وقد نقل عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم ما يدل على توقيرهم للسنة وعدم تقديم شيء عليها والرجوع إليها والتعويل عليها في جميع أمورهم، ومن أولئك عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر وعمران بن حصين وعبد الله بن مغفل وخراش بن جبير وغيرهم. انظر ما ورد عنهم في: صحيح البخاري (6/219) ، (8/123) ومسند الإمام أحمد (1/337) وصحيح مسلم (1/64، 327) ، (3/1176) وشرح السنة للبغوي (8/257) وسنن الدارمي (1/79-80) وجامع بيان العلم وفضله (2/239) .(14/256)
لقد ربى الصحابة رضي الله عنهم التابعين على حب السنة والعمل بها ظاهراً وباطناً سراً وعلانيةً ونشرها بين الناس ودعوتهم للعمل بها والتحذير من مخالفتها ومجانبتها فنقل عن التابعين من الآثار الدالة على ذلك كما نقل عن أساتذتهم رضي الله عنهم أجمعين. فمن ذلك:-
1-قول قتادة بن دعامة (ت 117هـ) (1) :- والله ما رغب أحد عن سنة نبيه (إلا هلك. فعليكم بالسنة وإياكم والبدعة.
2-قول محمد بن مسلم الزهري (ت 124هـ) (2) :- كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض سريعاً (3) .
المسألة الثالثة:- في منزلة السنة عند أعلام الهدى ومصابيح الدجى، وفيها فقرتان: -
الفقرة الأولى:- في منزلة السنة عند الأئمة الأربعة على وجه الخصوص:-
__________
(1) انظر: مفتاح الجنة (152-153) .
(2) رواه اللآلكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/94) .
(3) وقد ورد عن شريح وبن مهران الرياحي وعمربن عبد العزيز ومجاهد والحسن البصري وابن سيرين وغيرهم ما يدل على أن الفلاح في التمسك بالسنة والهلاك والضلال في تركها وأن الراغب عنها مطعون ومتهم في دينه. انظر أقوالهم رحمهم الله تعالى في: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/56-57، 94) وسنن الدارمي (1/40) والمدخل إلى السنن الكبرى (22) وجامع بيان العلم وفضله (2/167-168) ومفتاح السنة (92، 152-153) .(14/257)
لقد سار أعلام الهدى من علماء الأمة من بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم بإحسان على طريق سلفهم الصالح من الاحتجاج بالسنة وتقديرها وتوقيرها والرجوع إليها في كل صغيرٍ وكبيرٍ والتحذير عن مجانبتها أو مخالفتها أو تركها أو التقدم عليها وبين يديها، وقد أُثر عنهم كما أُثر عن سلفهم من الأقوال الدالة على ذلك - وهي كثيرة جداً - إلا أني سأقتصر على بعضها مبتدئياً بذكر أقوال الأئمة الأربعة؛ لإمامتهم، وشهرتهم، ومكانتهم عند عامة الأمة، ثم أذكر أقوال بعض العلماء من عصرهم ومن غيره - من غير استقراء- للدلالة على أن هذا الموقف هو موقف أهل العلم جيلاً بعد جيل.
فمما جاء عن الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى ما يأتي:-
أولاً:- أقوال الإمام أبي حنيفة (ت150هـ) رحمه الله في ذلك:-
1-إذا صح الحديث فهو مذهبي (1) .
2-دخل عليه مرة رجل من أهل الكوفة، والحديث يقرأ عنده، فقال الرجل: دعونا من هذه الأحاديث. فزجره أبو حنيفة أشد الزجر، وقال له: لولا السنة ما فهم أحد منا القرآن (2) .
ثانياً:-أقوال الإمام مالك (ت 179هـ) رحمه الله في ذلك: -
ما من أحدٍ إلا ومأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله ((3) .
ثالثاً:-أقوال الإمام الشافعي (ت 204هـ) رحمه الله تعالى في ذلك:-
1-ليس في سنه الرسول الله (إلا اتباعها (4) .
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين (1/385) وانظر مقالات وكلمات أخرى للإمام في هذا الموضوع في سير أعلام النبلاء (6/401) والمدخل إلى السنن الكبرى (1/46) وإعلام الموقعين (4/123) ومفتاح الجنة (92) والمستخر ج على المستدرك (15) .
(2) انظر: المستخرج على المستدرك (15) .
(3) انظر: عقد الجيد (2/27-28) وله أقوال أخرى في هذا المعنى في: شرح السنة (1/216) والمدخل إلى السنن الكبرى (1/34) والحلية لأبي نعيم (6/326) ومفتاح الجنة (103) وحجية السنة (360) .
(4) انظر: إعلام الموقعين (2/285) .(14/258)
2-كل حديث عن النبي (فهو قولي وإن لم تسمعوه مني (1) .
رابعاً:-أقوال الإمام أحمد (ت 241هـ) رحمه الله في ذلك:-
من رد حديث رسول الله (فهو على شفا هلكة (2) .
الفقرة الثانية:- في منزلة السنة عند سائر علماء الأمة:-
لقد سبق حكاية الإجماع على حجية السنة، وأن العلماء سلفاً وخلفاً متفقون على وجوب الاحتجاج بالسنة وتوقيرها واحترامها والذب عنها والاجتهاد في نشرها وتعليمها للعامة والخاصة، وأنها صنو القرآن في التشريع؛ لأنها وحي من عند الله سبحانه وتعالى، وفي هذه الفقرة سأذكر بعض النقول عن بعض الأئمة-لعدم إمكانية الحصر، ولأن المراد التمثيل - للدلالة على منزلة السنة ومكانتها عند سائر علماء الأمة فمن ذلك:-
__________
(1) انظر: سير إعلام النبلاء (10/34- 35) ، (1/164) وله أقوال شبيهة بهذه تنظر في: المدخل إلى السنن الكبرى (1/34) وإعلام الموقعين (2/282، 285) وكتاب الأم (7/265) وحلية الأولياء (9/106- 107) .
(2) انظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة (2/400) وله أقوال أخرى في هذه المسألة تنظر في كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود (276) وطبقات الحنابلة لأبي يعلى (2/15-16) .(14/259)
قول الحسن بن علي البربهاري (ت 329هـ) :- إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار ولا يقبلها، أو ينكر شيئاً من أخبار رسول الله (فاتهمه على الإسلام، فإنه رديء المذهب والقول …. القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن (1) .
المبحث الثالث: في إفادة خبر الواحد العلم
تبين من النقول السابقة عن الصحابة والتابعين وتابع التابعين والأئمة المرضيين احتجاجهم بالسنة مطلقاً وعدم التمييز بينها، وعدم تقسيمها - كما أُحْدِث فيما بعد – إلى: متواتر وآحاد.
حيث إن الجميع عند أئمة الهدى والتقى سنةٌ واجب اتباعها وقبولها مع ضرورة الانقياد لها لكونها وحياً من الله وما كان كذلك وجب قبوله واعتقاده والعمل به سواء كان في العلميات أو العمليات.
ويكفي العاقل المنصف أن يقنع بما ذُكِر من النقول عن علماء الأمة على قبولها والعمل بها والانقياد لها، وبما نقله العلماء الربانيون من اتفاق السلف وأئمة الدنيا على العمل بالسنة متواترها وآحادها لا فرق في ذلك بين العقائد والعبادات.
قال الإمام الشافعي (2) –رحمه الله -:- (وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث، يكفي بعض هذا منها. ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل. وقد حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان ….
__________
(1) انظر: شرح السنة له (41) وطبقات الحنابلة لأبي يعلى (2/25) وقد قال كثير من أهل العلم بنحو ما قاله البربهاري رحمه الله مثل الحكم بن عتيبة والأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن الشيباني ووكيع وسحنون وابن خزيمة وغيرهم. انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/111) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللآلكائي (1/64) ومفتاح الجنة (75) والمدخل إلى السنن الكبرى (200) وحجية السنة (361) وكتاب معرفة السنن والآثار للبيهقي (84) .
(2) انظر: الرسالة (453-457) .(14/260)
ومحدِّثي الناس وأعلامهم بالأمصار: كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله، والانتهاء إليه، والإفتاء به. ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه، ويقبله عنه من تحته.
ولو جاز لأحدٍ من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي) انتهى باختصار.
وقال (1) –أيضاً-: (لم أسمع أحداً -نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم– يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله (،والتسليم لحكمه. بأن الله عز وجل لم يجعل لأحدٍ بعده إلا اتباعه. وأنه لا يلزم قولٌ بكل حالٍ إلا بكتاب الله أو سنة رسوله (. وأن ما سواهما تبع لهما. وأن فرض الله علينا وعلى الناس من بعدنا وقبلنا، في قبول الخبر عن رسول الله (: واحدٌ. لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله (إلا فرقةٌ، سأصف قولها إن شاء الله تعالى) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (2) : (وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه ولم يتواتر لفظه ولا معناه لكن تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له،….، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد من الأولين والآخرين، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع)
المبحث الرابع: في المشهور عند الحنفية
قسم الحنفية الأخبار إلى متواتر ومشهور وآحاد. وجعلوا المشهور في رتبة بين المتواتر والآحاد، وخصوه بأحكام تُلْحِقُهُ في الاحتجاج به بالمتواتر. وفي هذا المبحث سأتكلم باختصار عن المشهور عند الحنفية خاصة لتعلقه بالمسألة المبحوثة، ولأن المشهور عند الجمهور من قبيل الآحاد.
فالمشهور لغة (3) :- اسم مفعول من شهرت الأمر إذا أظهرته وأعلنته.
__________
(1) انظر: جماع العلم (11-12) .
(2) انظر: مختصر الصواعق (2/372) .
(3) انظر: لسان العرب (7/212) .(14/261)
واصطلاحاً عرفوه بقولهم (1) :- هو ما كان من الآحاد في الأصل، ثم انتشر حتى نقله قوم ثقات لا يتهمون ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب، وهم القرن الثاني من بعد الصحابة، ومن بعدهم.
والمشهور هذا يفيد علم الطمأنينة عندهم حتى أنه تجوز الزيادة به على الكتاب ويضلل جاحده ولا يكفر (2) .
المبحث الخامس: في تحرير موطن النزاع
وذلك ببيان ما المراد بالانقطاع الباطن، وذكر أقسامه وأنواع كل قسم:
يقسم الحنفية الانقطاع الذي يلحق الخبر إلى نوعين رئيسين:- انقطاع صورة، وانقطاع معنى.
أما انقطاع الصورة ففي المراسيل من الأخبار: مراسيل الصحابة رضي الله عنهم، ومراسيل من بعدهم من القرن الثاني والثالث.
وأما انقطاع المعنى فيقسمونه – أيضاً – إلى قسمين:- انقطاع لدليل معارض، وانقطاع لنقصان في حال الراوي.
ويقسمون القسم الأول - وهو ثبوت الانقطاع في خبر الواحد بدليل معارض - إلى أربعة أوجه:-
الأول:- أن يكون خبر الواحد مخالفاً لكتاب الله تعالى أو للسنة المتواترة أو للإجماع.
الثاني:- أن يكون خبر الواحد مخالفاً لسنة مشهورة عن رسول الله.
الثالث:- أن يكون خبر الواحد حديثا شاذاً لم يشتهر فيما تعم به البلوى
ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته.
__________
(1) انظر: أصول السرخسي (1/292) والإحكام للأمدي (2/31) وكشف الأسرار للنسفي (2/11) وكشف الأسرار للبخاري (2/368) وغاية الوصول (97) ونزهة النظر (23) وتدريب الراوي (2/173) وتيسير مصطلح الحديث (22) وشرح الكوكب المنير (2/345) وإرشاد الفحول (43-44) وشرح الروضة للطوفي (2/108)
(2) انظر: أصول الجصاص (3/48) وأصول السرخسي (1/292) وميزان الأصول (429) وكشف الأسرار للنسفي (2/12) وكشف الأسرار للبخاري (2/368) وشرح الكوكب المنير (2/347) وفتح الغفار (2/78) وتيسير التحرير (3/37-38) .(14/262)
الرابع:- أن يكون خبر الواحد حديثاً قد أعرض عنه الأئمة من الصدر الأول بأن ظهر منهم الاختلاف في تلك الحادثة ولم تجر بينهم المحاجة بذلك الحديث.
وأما القسم الثاني:- وهو الانقطاع لنقصان في حال الراوي فيبحثون فيه خبر المستور، والفاسق، والكافر، والصبي، والمعتوه، والمغفل، والمتساهل، وصاحب الهوى.
والذي يهمنا هنا والذي هو مثار البحث هو القسم الأول من الانقطاع لمعني أي ثبوت الانقطاع في خبر الواحد بدليل معارض بأوجهه الأربعة.
ومما ينبغي التَنبيهُ عليه أن الخبر المردود هنا للمعنى المذكور:- هو الخبر الذي صح سنده إلى رسول الله (.
المبحث السادس: في أوجه ثبوت الانقطاع في خبر الواحد لمعنى لدليل معارض وفيه أربعة مطالب:-
المطلب الأول:- في رد الخبر الصحيح المسند لمخالفته كتاب الله أو السنة المتواترة أو للإجماع. وفيه مسألتان:-
المسألة الأولى: في أدلة القائلين بالانقطاع في هذه المسألة ومناقشتها.
قال عيسى بن أبان البصري وأبو زيد الدبوسي والسرخسي والبزدوي والنسفي وعبد العزيز البخاري وغيرهم من المنتسبين لأبي حنيفة رحمه الله تعالى:- إن الخبر الصحيح إذا جاء مخالفاً لكتاب الله أو للسنة المتواترة أو للإجماع فإنه لا يكون مقبولاً ولا حجةً للعمل به، سواء خالف الخبر الكتاب من أصله أو عمومه أو ظاهره، مستدلين على ذلك بالأدلة التالية (1) :-
الدليل الأول:-قوله عليه السلام:- (… فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرطٍ فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق) (2) .
__________
(1) انظر هذه الأدلة في: أصول السرخسي (1/364) وأصول البزدوي (173) وكشف الأسرار للنسفي (2/49) وكشف الأسرار للبخاري (3/9) وقواطع الأدلة (2/392) وما بعدها.
(2) رواه البخاري في صحيحه (3/127) في كتاب المكاتب (3) ومسلم في صحيحه (2/1143) .(14/263)
وقد بَيَّن السرخسي وجه الدلالة منه بقوله (1) : (والمراد كل شرط هو مخالف لكتاب الله تعالى لا أن يكون المراد ما لا يوجد عينه في كتاب الله تعالى فإن عين هذا الحديث لا يوجد في كتاب الله تعالى.
وبالإجماع من الأحكام ما هو ثابت بخبر الواحد والقياس وإن كان لا يوجد ذلك في كتاب الله تعالى.
فعرفنا أن المراد ما يكون مخالفا لكتاب الله تعالى وذلك تنصيص على أن كل حديث هو مخالف لكتاب الله تعالى فهو مردود) .
ويمكن مناقشة هذا الرأي على النحو التالي:-
أولاً:- بأن يقال هل سبقكم أحد من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو واحد من الأئمة الأربعة إلى هذا الفهم؟
فإن قالوا: لا. قلنا: إذن لا حاجة لنا بهذا القول المخترع.
وإن قالوا: نعم. قلنا: سموا لنا من قال بهذا ممن سبق من أهل العلم. ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً. ذلك أن الحديث لا يشك في ثبوته أحد، فهو في الصحيحين، وإذا كان ذلك كذلك فإنه مما قد تعبد به الصحابة رضي الله عنهم ربهم وتقربوا إليه بالعمل بمدلوله ومفهومه فيجب حينئذٍ الرجوع إلى أقوالهم وأفعالهم وفهمهم له وإلا لزم من القول بما ذكره هؤلاء لوازم خطيرة وسيئة، من ذلك: نسبة الجهل إلي السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المتبوعين، وعملهم بالباطل لخفاء الحق عليهم حتى فهمه متأخرو الحنفية، وهذا لا يقول به جاهل فضلاً عمن ينسب نفسه إلى العلم.
وحين الرجوع إلى كتب أهل العلم الذين نقلوا عن سلفنا وجدنا أن المراد ب (كتاب الله) في قوله: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله) : أي حكمه كقوله تعالى:- (كتاب الله عليكم ((النساء 24) وقول النبي (:- (كتاب الله القصاص) (2) في كسر السن.
فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وحكمه الذي حكم به على لسان رسوله.
__________
(1) في أصوله (1/364) .
(2) رواه البخاري في صحيحه (3/169) ومسلم في صحيحه (3/1302) .(14/264)
وليس المراد به القرآن قطعاً؛ فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن بل علمت من السنة فعلم أن المراد ب (كتاب الله) : حكمه.
ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له، فيكون باطلاً (1) .
قال السمعاني في قواطع الأدلة (2) :- (فالمراد من كتاب الله: هو حكم الله تعالى وتقدس) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (3) –رحمه الله تعالى -: (فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع فليس في كتاب الله بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع) .
وقال (4) –أيضاً-: (يدل على ذلك أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار؛ لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار) .
ثانياً:- أن قولهم هذا مبني على أن هناك تعارضاً بين الكتاب والسنة الصحيحة وهذا غير صحيح.
__________
(1) انظر: إعلام الموقعين (1/348) .
(2) 2/413) .
(3) انظر: القواعد النورانية (1/187) .
(4) انظر: المصدر السابق (1/209) .(14/265)
قال ابن حزم (1) : (ويبين صحة ما قلنا من أنه لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن ونصوص كلام النبي (وما نقل من أفعاله، قول الله عز وجل مخبراً عن رسوله عليه السلام: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ((النجم 3) وقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ((الأحزاب 21) وقال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ((النساء 82) فأخبر عز وجل أن كلام نبيه (وحي من عنده، كالقرآن في أنه وحي، وفي أنه كل من عند الله عز وجل، وأخبرنا تعالى أنه راض عن أفعال نبيه (، وأنه موفق لمراد ربه تعالى فيها لترغيبه عز وجل في الإئتساء به عليه السلام، فلما صح أن كل ذلك من عند الله تعالى، ووجدناه تعالى قد أخبرنا أنه لا اختلاف فيما كان من عنده تعالى صح أن لا تعارض ولا اختلاف في شيء من القرآن والحديث الصحيح، وأنه كله متفق كما قلنا ضرورة، وبطل مذهب من أراد ضرب الحديث بعضه ببعض، أو ضرب الحديث بالقرآن، وصح أن ليس شيء من كل ذلك مخالفاً لسائره) .
والقول بعدم وقوع التعارض بين الأدلة الشرعية مطلقاً في نفس الأمر هو قول أئمة السلف والأئمة الأربعة وكثير من علماء الأصول (2) .
ثالثاً:-قولهم هذا مبني على أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وقد سبق في المباحث السابقة بيان إفادته العلم عند سلفنا الصالح والأئمة ومنهم إمام المذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
ومما يزيد الأمر وضوحاً في كون خبر الواحد مما يحتج به في العقيدة، وأنه يفيد العلم عند أهل العلم:-
__________
(1) انظر: الإحكام (1/174) .
(2) انظر: إرشاد الفحول (243) ونهاية السول (4/434) والإحكام للأمدي (4/171) والإبهاج (3/199) وكتاب التعارض والترجيح (54-56) وخبر الواحد في التشريع الإسلامي (480) والسنة المفترى عليها (236) وإعلام الموقعين (1/331) .(14/266)
1-قول أبي حنيفة (1) -رحمه الله -: (وخبر المعراج حق، فمن رده فهو ضال مبتدع) .
2-وقوله (2) –أيضاً -: (وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى عليه السلام من السماء، وسائر علامات يوم القيامة، على ما وردت به الأخبار الصحيحة حق كائن) .
3-أن أهل العلم من أهل السنة والجماعة قد قاموا بذكر عقائدهم المبنية على الكتاب وصحيح السنة في مؤلفاتهم التي ألفوها للرد على المبتدعة، أو لبيان عقيدتهم ابتداءً (3) .
فلو لم يفد خبر الواحد العلم لما احتجوا به ولما اعتقدوا ما فيه؟ !!
فمن القسم الأول ما يأتي:-
أ-كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) .
ب-كتاب الرد على الجهمية لعبد الله بن أحمد بن عبد الله الجعفي (ت229هـ) .
ج-كتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) .
د-كتاب الرد على الجهمية لأمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ) .
هـ-كتاب خلق أفعال العباد للبخاري.
وكتاب الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية المشبهة لعبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276هـ) .
ز-كتاب الرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي (ت 280 هـ) .
ح-كتاب الرد على بشر المريسي للدارمي.
ط-كتاب الإبانة عن أصول الديانة للإمام أبي الحسن الأشعري (ت 324هـ) .
ي-كتاب الرد على الجهمية لعبد الرحمن بن أبي حاتم (ت 327هـ) .
وأما القسم الثاني فمنه:-
1-كتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) .
2-كتاب السنة لأبي بكر الأثرم (ت 260هـ) .
3-كتاب السنة لابن أبي عاصم (ت 277هـ) .
4-كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل (ت 290هـ) .
5-كتاب السنة لمحمد بن نصر المروزي (ت 294هـ) .
__________
(1) انظر: كتاب الفقه الأكبر بشرح القاري (165) .
(2) انظر: المصدر السابق (166، 168) .
(3) انظر: خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته (87-88) .(14/267)
6-كتاب السنة لأحمد بن محمد هارون الخلال (ت 311هـ) .
7-كتاب التوحيد لابن خزيمة (ت 311هـ) .
8-كتاب الشريعة لأبي بكر الآجري (ت 360هـ) .
9-كتاب العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (ت 369 هـ) .
10-كتاب الصفات، وكتاب رؤية الله جل جلاله لأبي الحسن الدارقطني (ت 385هـ) .
11-كتاب الإبانة لعبيد الله بن محمد بن بطة (ت 387هـ) .
12-كتاب التوحيد لمحمد بن اسحاق بن مندة (ت 395هـ) .
13-كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لهبة الله اللآلكائي (ت 418هـ) .
14-كتاب ذم الكلام وأهله لعبد الله بن محمد الهروي (ت 481هـ) .
فهؤلاء أئمة الدنيا في وقتهم قد احتجوا بأخبار الآحاد في عقائدهم وردودهم على المبتدعة، فهل يصح أن يتواطأ هؤلاء على العمل بالباطل والدعوة إليه والمنافحة عنه؟
من له مسكة من عقل وذرة من إيمان لا يقول إلا: لا.
رابعاً:-قولهم هذا مبني -أيضاً - على أن خبر الواحد قد يكون بخلاف الواقع وهذا غير صحيح لعصمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أن تجتمع على ضلالة. وقد سبق بيان ذلك في مبحث إفادة خبر الواحد العلم فليرجع إليه.
الدليل الثاني:- قوله عليه السلام:- (تكثر الأحاديث لكم بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافقه فاقبلوه واعلموا أنه مني وما خالفه فردوه واعلموا أني منه بريء) .
والجواب عن هذا الدليل بأن يقال:-
أولاً:- هذا الحديث نقده النقاد أهل الحديث والأثر فقالوا: إنه لا يصح عن رسول الله (، وقد روي بألفاظ مختلفة فها هي محكوماً عليها من قبلهم:-
1- (سئلت اليهود عن موسى فأكثروا فيه وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وسئلت النصارى عن عيسى فأكثروا فيه وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وأنه ستفشو عني أحاديث فما أتاكم من حديثي فاقرؤوا كتاب الله واعتبروا فما وافق كتاب الله فأنا قلته ومالم يوافق كتاب الله فلم أقله) (1) . (عن ابن عمر) .
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير (12/316) برقم 13224.(14/268)
قال السخاوي (1) : قال الحافظ ابن حجر عنه: إنه جاء من طرق لا تخلو عن مقال.
وقال الهيثمي (2) : وفيه أبو حاضر عبد الملك بن عبد ربه وهو منكر الحديث.
قال العلامة الألباني (3) رحمه الله: ضعيف.
2- (إذا رويتم – ويروى- إذا حدثتم عني حديثاً فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه وإن خالف فردوه) .
قال الصغاني (4) : موضوع.
3- (إنكم ستختلفون من بعدي فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فعني وما خالفه فليس عني) (5) . (عن ابن عباس) .
4- (ما من نبي إلا وقد كذب عليه من بعده ألا وسيكذب علي من بعدي كما كذب على من كان قبلي فما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فهو عني وما خالفه فليس عني) (6) . (جابر بن زيد) .
5- (إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإن لم يوافقه فردوه) (عن أبي هريرة) .
قال الخطابي (7) : حديث باطل لا أصل له.
وقال يحيى بن معين (8) : هذا حديث وضعته الزنادقة.
6- (إذا سمعتم عني حديثاً فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه) .
قال العجلوني (9) : هذا الحديث من أوضع الموضوعات ... بل صح خلافه.
7- (ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله) . (عن أبي هريرة) .
قال ابن معين في تاريخه (10) :- سمعت يحيى يقول: كان يحيى بن آدم يحدث بحديث بن أبي ذئب عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي (. وغير يحيى بن آدم يرسله.
__________
(1) انظر: المقاصد الحسنة (36-37) .
(2) انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/170) .
(3) انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (3/209) .
(4) انظر: كتابه الموضوعات (76) .
(5) انظر: مسند الربيع بن حبيب (36) .
(6) انظر: مسند الربيع بن حبيب (365) .
(7) انظر: تفسير القرطبي (1/38) وعون المعبود (12/232) .
(8) انظر: المصدرين السابقين.
(9) انظر: كشف الخفاء (2/569) .
(10) انظر: (3/446) .(14/269)
8- (ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله)
قال الشافعي (1) : ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر.
9- (ألا إن رحا الإسلام دائرة قال كيف نصنع يا رسول الله قال أعرضوا حديثي على الكتاب فما وافقه فهو مني وأنا قلته) (2) . (عن ثوبان) .
قال الهيثمي (3) : وفيه يزيد بن ربيعة وهو متروك منكر الحديث.
10- (إنها تكون بعدي رواة يروون عني الحديث فأعرضوا حديثهم على القرآن فما وافق القرآن فخذوا به وما لم يوافق القرآن فلا تأخذوا به) . (عن علي بن أبي طالب) .
وقد أعله الدارقطني (4) بقوله: هذا وهم، والصواب عن عاصم بن زيد عن علي بن الحسين مرسلاً عن النبي (.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله (5) : ضعيف.
11- (ستبلغكم عني أحاديث، فاعرضوها على القرآن، فما وافق القرآن فالزموه، وما خالف القرآن فارفضوه) (6) (عن الحسن البصري) .
قال العلامة الألباني (7) رحمه الله: ضعيف جداً.
وخلاصة القول في هذه الأحاديث ما ذكره ابن عبد البر وغيره من أهل العلم.
قال ابن عبد البر (8) : (وهذه الألفاظ لا تصح عنه (عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه) .
وقال الدكتور عبد الغني عبد الخالق في كتابه حجية السنة (9) : (أما عن أحاديث العرض على كتاب الله: فكلها ضعيفة، لا يصح التمسك بها.
فمنها: ما هو منقطع. ومنها: ما بعض رواته غير ثقة أو مجهول. ومنها: ما جمع بينهما) .
__________
(1) انظر: الرسالة (224-225) .
(2) رواه الطبراني في الكبير: (2/97) ورقمه 1429.
(3) انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/170) .
(4) انظر: سنن الدارقطني (4/208) .
(5) انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (3/209) .
(6) انظر: ذم الكلام وأهله () .
(7) انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (3/210) .
(8) انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/233) .
(9) انظر: (ص 474) وما بعدها.(14/270)
فائدة: من غريب ما ذكره عبد العزيز البخاري الحنفي في كتابه كشف الأسرار حينما أراد الرد على من طعن في ثبوت بعض الروايات السابقة والرد على قدح يحيى بن معين فيها بقوله: هذا حديث وضعته الزنادقة.
قال عبد العزيز البخاري (1) : (والجواب أن الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أورد هذا الحديث في كتابه، وهو الطود المنيع في هذا الفن وإمام هذه الصنعة فكفى بإيراده دليلاً على صحته ولم يلتف إلى طعن غيره بعد ... ) .
قلت:- هذا الكلام يوهم أن البخاري أورده في صحيحه إذ كتابه إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى صحيحه.
وبعد البحث تبيَّن أنه يشير إلى ما ذكره البخاري في التاريخ الكبير (2) حيث قال: (سعيد بن أبي سعيد المقبري أبو سعد قال: ابن أبي أويس ينسب إلى مقبرة، وقال غيره: أبو سعيد مكاتب لامرأة من بني ليث مدني.
وقال ابن طهمان: عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبي (: " ما سمعتم عني من حديث تعرفونه فصدقوه "
وقال يحيى: عن أبي هريرة. وهو وهم. ليس فيه أبو هريرة هو سعيد بن كيسان) .
فالبخاري رحمه تعالى يشير إلى أن هذا المروي لا يصح لكونه مرسلاً لا أنه كما أوهم عبد العزيز البخاري بكلامه أن الحديث مروي في الصحيح أو أن البخاري صححه في كتابه التاريخ الكبير أو في غيره.
ثانياً:-لقد عارض هذه الأحاديث قوم من أهل العلم، وقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفاً لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله ألا يقبل من حديث رسول الله (إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته، ويحذر المخالفة عن أمره جملة على كل حال (3) .
__________
(1) انظر: كشف الأسرار له (3/10) .
(2) 3/474) .
(3) قاله ابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/233) .(14/271)
ثالثاً:-لا يمكن القول بأن معنى تلك المرويات: أن ما صدر عن رسول الله (على نوعين:-
- نوع وافق الكتاب، وهذا يعمل به.
- ونوع خالف الكتاب، وهذا لا يعمل به.
والنوع الأخير لا يمكن القول به عند الجميع لأن الرسول (معصوم بالاتفاق عن أن يصدر عنه ما يخالف القرآن ويضاده؛ لأن الله قال فيه: (قل إنّما اتبع ما يوحى إليّ من ربي ((الأعراف 203) .
وقال –أيضاً -: (إن اتبع إلا ما يوحى إليّ وما أنا إلا نذير مبين ((الأحقاف9) وقال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ((النجم 3)
وقال: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إليّ ((يونس 15) .
فكلٌ يعتقد أن ما صدر عن الرسول (لا يخالف القرآن (1) .
قال الشافعي (2) رحمه الله: (إن الله عز وجل وضع نبيه (من كتابه ودينه بالموضع الذي أبان في كتابه.
فالفرض على خلقه أن يكونوا عالمين بأنه لا يقبل فيما أنزل الله عليه إلا بما أنزل عليه، وأنه لا يخالف كتاب الله، وأنه بيّن عن الله عزَّ وعلا معنى ما أراد الله.
وبيان ذلك في كتاب الله عزَّ وجلَّ: قال الله تبارك وتعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا إئت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إلي ((يونس 15) .
وقال الله عزَّ وجلَّ لنبيه (: (اتبع ما أوحي إليك من ربك ((الأنعام 106) . وقال مثل هذا في غير آية.
وقال عزَّ وجلَّ: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ((النساء 80) .
وقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ((النساء 65) .
ثم قال: ولا تكون سنةٌ أبداً تخالف القرآن) انتهى كلامه باختصار.
__________
(1) انظر: حجية السنة (475-476) .
(2) انظر: كتاب جماع العلم (118-124) .(14/272)
والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه بينها ابن القيم – رحمه الله – أحسن بيان فقال (1) :-
(أحدها:- أن تكون موافقةً له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها.
الثاني:- أن تكون بياناً لما أريد بالقرآن وتفسيراً له.
الثالث:- أن تكون موجبةً لحكم سكت القرآن عن ايجابه أو محرمةً لما سكت عن تحريمه.
ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض القرآن بوجهٍ ما، فما كان منها زائداً على القرآن فهو تشريعٌ مبتدأٌ من النبي (تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته وليس هذا تقديماً لها على كتاب الله بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسول الله (لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى وسقطت طاعته المختصة به، وإنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به وقد قال الله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ((النساء 80) .
وكيف يكمن أحداً من أهل العلم أن لا يقبل حديثاً زائداً على كتاب الله، فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب، ولا حديث خيار الشرط، ولا أحاديث الشفعة، ولا حديث الرهن في الحضر، مع أنه زائد على ما في القرآن، ولا حديث ميراث الجدة، ولا حديث تخيير الأمة إذا أعتقت تحت زوجها، ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة، ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، ولا أحاديث إحداد المتوفي عنها زوجها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة) .
رابعاً:-هذه المرويات التي استدلوا بها معارضة بمرويات أخرى من جنسها، وأخرى صحيحة.
__________
(1) انظر: إعلام الموقعين (2/307-308) وانظر أيضاً الرسالة للشافعي (91) وما بعدها.(14/273)
فأما التي من جنسها فما رواه الدارقطني في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (: (سيأتيكم عني أحاديث مختلفة فما جاءكم موافقاً لكتاب الله ولسنتي فهو مني وما جاءكم مخالفاً لكتاب الله ولسنتي فليس مني) (1) .
قال البيهقي (2) : (تفرد به صالح بن موسى الطلحي وهو ضعيف لا يحتج بحديثه) .
فهذا الحديث يأمر بعرض ما يرد علينا مما لا نطمئن إليه ولا نعلم أهو من شرع الله أم لا على كتاب الله وسنة رسوله (، فتبين أن المراد من أحاديث العرض التي ذكرها المخالف: هو الرجوع إلى الكتاب والسنة لمعرفة مراد الله ومراد رسوله مما قد يشكل علينا لا أن المراد من ذلك ما ادعاه المخالف من عرض السنة الأحادية الصحيحة -والتي قد تكون نصاً صريحاً أو ظاهراً واضحاً – على كتاب الله فإن وافقته وإلا ردت.
وأما الروايات الصحيحة التي عارضت ما عليه تلك السقيمة فمنها:-
1-حديث المقدام بن معدي كرب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله (: (يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله (مثل حرم الله) (3) .
قال الترمذي (4) : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وقال الألباني (5) : صحيح.
__________
(1) انظر: سنن الدارقطني (4/208) .
(2) انظر: مفتاح الجنة (52) .
(3) رواه الإمام أحمد في المسند (4/132) ، (4/130) والدارمي في سننه (1/153) وأبو داود في سننه (4/200) وابن ماجة في سننه (1/6) والترمذي في سننه (5/38) والطبراني في المعجم الكبير (20/274،283) والدارقطني في سننه (4/287) والبيهقي في السنن الكبرى (7/76) ، (9/331-332) .
(4) انظر: سنن الترمذي (5/38) .
(5) انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/1360) .(14/274)
2-حديث أبي رافع قال: قال رسول الله (: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله أتبعناه) (1) .
قال أبو عيسى (2) : هذا حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم (3) : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الألباني (4) : صحيح.
3-حديث العرباض بن سارية قال: قال رسول الله (: (أيحسب امرؤ قد شبع حتى بَطِنَ وهو متكئ على أريكته لا يظن أن الله حرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله حرمت وأمرت ووعظت بأشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر ألا وإنه لا يحل لكم من السباع كل ذي ناب ولا الحمر الأهلية) (5) .
4-قوله (:- (إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض) (6) .
__________
(1) رواه أحمد في المسند (6/8) وأبوداود في سننه (4/200) وابن ماجة في سننه (1/6) والترمذي في سننه (5/37) والطبراني في المعجم الأوسط (8/292) وكذا في المعجم الكبير (1/316) ، (1/327) والحاكم في المستدرك (1/190-191) والبيهقي في السنن الكبرى (7/76) .
(2) انظر: سنن الترمذي (5/37) .
(3) انظر: مستدرك الحاكم (1/190-191) .
(4) انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/1204) .
(5) رواه أبو داود في سننه (3/170) والطبراني في المعجم الأوسط (7/184-185) وفي المعجم الكبير (18/258) والبيهقي في السنن الكبرى (9/204) .
(6) رواه الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة (1/93)(14/275)
الدليل الثالث (1) :- (ولأن الكتاب متيقن به وفي اتصال الخبر الواحد برسول الله (شبهة، فعند تعذر الأخذ بهما لا بد من أن يؤخذ بالمتيقن ويترك ما فيه شبهة ... لأن المتن من الكتاب متيقن به ومتن الحديث لا ينفك عن شبهة، لاحتمال النقل بالمعنى، ثم قوام المعنى بالمتن فإنما يشتغل بالترجيح من حيث المتن أولاً إلى أن يجيء إلى المعنى ولا شك أن الكتاب يترجح باعتبار النقل المتواتر في المتن على خبر الواحد فكانت مخالفة الخبر للكتاب دليلاً ظاهراً على الزيافة فيه) .
ويمكن الجواب عن هذا الدليل بما يأتي:-
1-أما قولهم: (ولأن الكتاب متيقن به، وفي اتصال الخبر الواحد برسول الله (شبهة)
الشق الأول منه مسلم به، وأما الشق الآخر وهو وجود الشبهة في اتصال الحديث برسول الله (وأنه قد يكون في الظاهر صحيحاً وفي نفس الأمر غير صحيح، فيقال:
أ-لقد تعبدنا الله في كثير من الأحكام بالأمور الظاهرة كالقضاء بشهادة الشهود مع احتمال أن يكونوا شهود زورٍ، والمفتي يفتي بحسب سؤال السائل لا ما يتعلق بدواخله وباطنه إلى غير ذلك.
ب-قد بيَّنا فيما سبق أن أخبار الآحاد الصحيحة قد قال العلماء السابقون من الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة بقبولها في العقائد والعبادات وهي مفيدة للعلم عندهم فلا حاجة للإعادة.
ج-إن دعوى احتمال الشبهة في صحة اتصال أخبار الآحاد إلى رسول الله (هي كدعوى من يدعي أن هذا العام مخصوص ولا مخصص، أو أن هذا الدليل المطلق مقيد ولا مقيد، أو أن هذا الحكم منسوخ ولا وجود لناسخه ونحو ذلك، فما أسهل الدعاوى!!!
__________
(1) انظر هذا الدليل في: أصول السرخسي (1/365) وكشف الأسرار للبخاري (3/9-10)(14/276)
فكلام الأصوليين القائلين بهذا القول، والقائلين بظنية حجية أخبار الآحاد متجه إلى الفرض الذهني فهم يقولون: كل أخبار الآحاد تفيد الظن، لوجود احتمال انقطاعها بأي نوع من أنواع الانقطاع ككذب الراوي أو نسيانه أو خطئه في روايته ... الخ.
بخلاف أئمة الحديث والأثر فإن حكمهم متجه إلى كل حديث وإسناده على حده فكانت أحكامهم على الأحاديث وأسانيدها – بل أحياناً على الحديث وسنده - مختلفة فقالوا: هذا حديث صحيح لذاته، وهذا صحيح لغيره، وهذا حسن لذاته، وهذا حسن لغيره، وهذا ضعيف، وآخر موضوع، وهكذا … حسب عدالة الرواة وضبطهم واتصال السند وصحة السماع وغير ذلك مما هو معروف في علم مصطلح الحديث.
فليس كل حديث آحاد يفيد الظن، ولا كل حديث آحاد يفيد القطع بل فيه وفيه، فمن نسب إلى السلف القول بأحد الكُلِّيتين فقد أخطأ، إلا أنهم يقولون: إن خبر الواحد الصحيح يفيد العلم، والعلم هنا ليس هو العلم المراد عند المتكلمين من الأصوليين كما أن معنى الظن عند علماء السلف ليس هو بمعنى الظن عند الخلف، فلا العلم هو العلم ولا الظن هو الظن.
لأن ما ثبت بالدليل الشرعي فهو علم، وقد يكون العلم مقطوعاً به إذا كان الدليل المثبت له قطعي الدلالة، قطعي الثبوت، وقد يكون ظناً غالباً أو راجحاً إذا كان الدليل المثبت له دون ذلك. وهو قول العلماء السابقين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة المرضيين.
وأما الخلف فالعلم عندهم مقصور على اليقين الثابت بالعقل - هذا هو الأصل -، وقد يثبتون اليقين بالدليل النقلي.
والظن في إطلاقهم هو: الشك أو التخمين أو الخرص أو الوهم – والظن بهذا المعنى لا يطلقه السلف على ما ثبت بالدليل العقلي أو النقلي – ويستدل الخلف على دعواهم تلك بالآيات التي نزلت منكرة على الكفار عبادتهم لآلهتهم الباطلة نحو قوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ((الأنعام 117) .(14/277)
وقوله: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ((الأنعام 149) .
وقوله: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا ((يونس 36) .
وقوله: (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين ((الجاثية 31) .
وقوله: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ((النجم 23) .
فالظن المذكور في الآيات السابقات معناه: الشك أو الوهم أو الخرص أو التخمين.
وهذا هو الظن المذموم الذي لا يجوز لأحد العمل به في العقائد أو العبادات.
وأما الظن الذي عمل به السلف فهو المذكور في قوله تعالى: (إني ظننت أني ملاق حسابيه ((الحاقة 20) وقوله: (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ((التوبة 119) وقوله تعالى: (فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله ((البقرة 230) .
وقوله: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ((الحجرات 12) .
وقوله: (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك ((يوقف 42) .
فالظن في هذه الآيات ونحوها المراد منه: العلم واليقين، أو الظن الراجح والغالب.
وهذا الظن يجب العمل به في العقائد والعبادات على حد سواء إذ هو علم والعلم يجب العمل به.
ولهذا نظير في الأمور الحسية فنظيره الميزان الذي توزن به الأشيئاء، فإن الميزان الصحيح ما استوت كفتاه وهذه الحالة بمثابة الشك، فإذا وُضِع في إحدى كفتيه أي شيء ما -مهما بلغ في الخفة - فإن الكفة التي فيها ذلك الشيء ستبدأ تدريجياً بالانخفاض والميلان إلى أسفل، وهذه الحالة أشبه بالظن الغالب أو الراجح أي رجحان شيء على شيء آخر، وكلما زِيْدَ في هذه الكفة من الأوزان فإنها ستزداد في الميلان والانخفاض إلى درجةٍ لا يمكن بعدها نزول هذه الكفة أكثر مما نزلت إليه، وهذه المرحلة أشبه بمرحلة اليقين والقطع.(14/278)
كذا سائر العلوم أو الأشيئاء المطلوب معرفتها فإنها تبدأ بالوضوح شيئاً فشيئاً حتى تصبح يقينية لا يمكن الشك فيها بوجه من الوجوه. فكما أن الناظر إلى ذلك الميزان لا يمكنه دفع رجحان إحدى الكفتين على الأخرى، كذا الناظر في خبر الواحد الذي درس سنده فلم يجد ما يقدح في صحته؛ فإنه لا يستطيع حينئذٍ دفع ما يجده في صدوره من اعتقاد صحته ورجحان ثبوته إلا بالهوى والتشهي.
د-إن أخبار الآحاد المضافة إلى الشارع ليست كسائر الأخبار المضافة إلى غيره؛ لأن أخبار الشارع محفوظة عن الضياع أو الاشتباه بالأخبار المكذوبة عليه، بخلاف أخبار الآحاد عن غيره فإنها قد تضيع وقد تشتبه بالمكذوبة ولا تعلم إلى قيام الساعة.
قال ابن حزم (1) : قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ((الحجر 9) .
وقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ((النحل 44) .
فصح أن كلام رسول الله (كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل. فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يُحَرَّف منه شيء أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذباً وضمانه خائساً وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل، فوجب أن الذي أتانا به محمد (محفوظ بتولي الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبداً إلى انقضاء الدنيا.
قال تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ((الأنعام 19) .
__________
(1) انظر: الإحكام (1/117-118) .(14/279)
فإذ ذلك كذلك فبالضرورة نعلم أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء مما قاله رسول الله (في الدين ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز لأحد من الناس بيقين إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ ولكان قول الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ((الحجر 9) كذباً ووعداً مخلفاً وهذا لا يقوله مسلم) .
هـ-ومما يزيد الأمر وضوحاً في أن الله سبحانه وتعالى حافظ لوحيه إلى قيام الساعة أنه جل وعلا نصب أئمةً أعلاماً جهابذةً حفاظاً أثباتاً نقاداً للحديث يَمِيزُون الطيب من الخبيث، والصحيح من السقيم، والحق من الباطل. قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة. قال: يعيش لها الجهابذة (1) .
فمن هؤلاء الجهابذة:- عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت157هـ) ، وشعبه بن الحجاج (ت 160هـ) ، وسفيان الثوري (ت161هـ) ، ومالك بن أنس (ت179 هـ) ، وحماد بن زيد (ت179هـ) ، وعبد الله بن المبارك (ت181هـ) ، ووكيع بن الجراح (ت196هـ) ، وسفيان بن عيينة (ت 198هـ) ، ويحيى بن سعيد القطان (ت198هـ) ، وعبد الرحمن بن مهدي (ت198هـ) ، ويحيى بن معين (ت233هـ) ، وعلي بن المديني (ت234هـ) ، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه (ت238هـ) ، وأحمد بن حنبل (ت241هـ) ، وأبو محمد عبد الله الدارمي (ت255هـ) ، ومحمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ) ، ومسلم بن الحجاج القشيري (ت261هـ) ، وعبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي (ت264هـ) ، وأبو داود السجستاني (ت275هـ) ، وأبو حاتم الرازي محمد بن إدريس الحنظلي (ت277هـ) .
فهؤلاء الذين لا يختلف فيهم ويعتمد على جرحهم وتعديلهم ويحتج بحديثهم وكلامهم في الرجال والحديث قبولاً أو رداً ….
__________
(1) انظر: هذا الكلام والذي بعده في: كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/3، 10) .(14/280)
لاتفاق أهل العلم على الشهادة لهم بذلك. كما أن الله لم ينزلهم هذه المنزلة إذ انطق ألسنة أهل العلم لهم بذلك إلا وقد جعلهم أعلاماً لدينه، ومناراً لاستقامة طريقه وألبسهم لباس أعمالهم.
فما قبله هؤلاء فهو المقبول وما ردوه فهو المردود (1) . لا سيما وقد قال رسول الله (في حديث عبادة بن الصامت في مبايعتهم الرسول (: بايعنا رسول الله صلى عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر …وعلى أن لا ننازع الأمر أهله (2) …الحديث.
فالقول بترك الحديث الذي قبلوه وأخذ ما تركوه هو من منازعة الأمر أهله.
ويلزم هؤلاء على القول بهذه القاعدة المزعومة رد ما يسمونه عندهم مشهوراً لكونه آحاد الأصل، وقد يكون ضعيفاً أو موضوعاً، إذ لا يلزم من كونه مشهوراً أن يكون صحيحاً، فما يدعونه في قبول هذا هو بعينه ما سيدعيه الآخرون في قبولهم لخبر الواحد صحيح السند، فليس قول أولى من قول، بل القول الأخير أولى بالقبول وأحرى.
ز-قولهم: إن في اتصال الخبر الواحد برسول الله (شبهة.
يقال لهم: ليس البحث في أخبار الآحاد مطلقاً، ولا من حيث الناحية النظرية فهذا لا قيمة له.
وإنما البحث في إفادة الخبر الصحيح المسند المروي من طريق الآحاد والذي دُوِّن في دواوين أهل العلم كالصحيحين وسنن ابن ماجة وأبي داود والترمذي والنسائي وموطأ مالك ومسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم والسنن الكبرى للبيهقي ومصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ... الخ.
فما اتُفِقَ على صحته من قبل هؤلاء العلماء الأعلام –الذين سبق ذكرهم – ما حكمه؟ بمعنى، هل يقال بعد ذلك إن في اتصال الخبر الواحد برسول الله (شبهة؟!!. اللهم: لا، إلا من مكابر. وهذا مما ينزه عنه أهل العلم.
__________
(1) انظر: قواطع الأدلة (2/406) وما بعدها.
(2) رواه مسلم في صحيحه (3/1470) .(14/281)
وهل يقال –أيضاً -: هي أخبار آحاد لا تفيد إلا الظن؟!! اللهم: لا؛ لأن في ذلك طعناً في الإجماع المتيقن من حفظ الله لدينه فلا يمكن أن تكون تلك الأحاديث التي تداولها العلماء –بعد فحصها ومحصها- بالحفظ والنقل والشرح والتدريس والوعظ والإرشاد معتقدين صحتها وصحة ما دلت عليه جيلاً بعد جيلٍ لا يمكن تكون غير صحيحة في نفس الأمر، هذا من المحال عقلاً وشرعاً. كما أن ما أجمع أولئك الجهابذة على تضعيفه لا يكون صحيحاً في نفس الأمر، أما ما اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه فهذا مما يقال إنه في مجال الأخذ والرد والبحث والمناقشة وحينئذٍ لا تثريب على من عمل بما صح عنده أولم يعمل به لعدم صحته عنده، وهذا كنظير اختلاف الصحابة على قولين، فإنه لا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث. بل لا يتصور ها هنا إلا أحد قولين الصحة أو عدمها.
قال شيخ الإسلام (1) : (فإن العصمة ثبتت بالنسبة الإجماعية، كما أن خبر التواتر يجوز الخطأ والكذب على واحدٍ واحد من المخبرين بمفرده ولا يجوز على المجموع، والأمة معصومة من الخطأ في روايتها ورأيها ورؤياها ... ) .
فإن قالوا: نحن من الأمة وقد خالفنا في حجية خبر الواحد أو صحته.
قلنا: أنتم مسبوقون بإجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المرضيين على الاحتجاج بما كان هذا سبيله.
لذا وجب التنبيه على أن طرح قضية حجية خبر الواحد ينبغي أن تكون في هذا الإطار، أعني أخبار الآحاد الصحيحة المنقولة في دواوين أئمة الإسلام، أما تعميمها في كل خبر وفي كل وقت ففيه تعمية للحق ومدعاة لاعتقاد الباطل وخروج عن نطاق البحث العلمي الصحيح.
ح-وإما قولهم: (فعند تعذر الأخذ بهما لا بد من أن يؤخذ بالمتيقن ويترك ما فيه شبهة) .
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (1/9-10، 257) ، (13/351-352) ، (18/17) .(14/282)
فالجواب:لقد بُيِّن أن خبر الواحد الذي صح سنده وعمل به وتلقي بالقبول من قبل علماء الحديث والأثر أنه متيقن وليس فيه شبهة أبداً.
وأما قولهم: إن تعذر الأخذ بهما. فهذه دعوى مجردة عن الدليل، وقد سبق –أيضاً – ذكر البيان الساطع في أنه لا تعارض البتة بين الأدلة الشرعية إلا في حالة النسخ، والعمل بالناسخ هو المتعين.
ط- وأما قولهم: (لأن المتن من الكتاب متيقن به ومتن الحديث لا ينفك عن شبهة، لاحتمال النقل بالمعنى، ثم قوام المعنى بالمتن فإنما يشتغل بالترجيح من حيث المتن أولاً إلى أن يجيء إلى المعنى ولا شك أن الكتاب يترجح باعتبار النقل المتواتر في المتن على خبر الواحد فكانت مخالفة الخبر للكتاب دليلاً ظاهراً على الزيافة فيه) .
قلت: لا خلاف بين أحد من المسلمين في صدق الشق الأول وهو قولهم إن متن الكتاب متيقن، كما أنه لا خلاف بين الأئمة الأربعة وجمهور العلماء في جواز نقل الحديث بالمعنى بما لا يحيل المعنى أو يغيره تغييراً يؤثر على صحة الاستدلال به مما لم نُتَعَبد بلفظه كألفاظ الأذان والإقامة والأذكار والأدعية (1) ، وحينئذٍ فليس هناك كبير فائدة من قولهم لاحتمال النقل بالمعنى؛ لأن الأصل عدم نقله بالمعنى، ولو فُرِضَ -أيضاً - نقله بالمعنى فلا يخلو من أن يكون النقل بالمعنى هو عين المعنى المستفاد من اللفظ النبوي أو لا، فإن كان هو هو سقطت الدعوى، وإن كانت الأخرى فلا يخلو من أن يتكشف خطأ ناقل الحديث إلى معناه الجديد أو لا فإن كُشف الخطأ سقطت الدعوى أيضاً ولزم العمل بالدليل المُبَيِّن، وإن كانت الأخرى فهذا لا يصح فرض وقوعه لما سبق من حكاية الإجماع على أن الله قد تكفل بحفظ دينه وأنه لا يمكن أن تجمع أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم على ضلالة.
__________
(1) انظر:قواطع الأدلة (2/326-331) .(14/283)
ونقول –أيضاً - إن المسألة إنما هي مفروضة في حديث صحيح ثابت منقول إلينا نقل آحاد مروي بلفظه عن رسول الله (، فإذا كان ذلك كذلك فيجب قبوله لصحته ولعدم وجود ما يقدح فيه.
علماً بأنا قد بينا أن الأخبار المعنية هي الأخبار الصحيحة التي رواها أئمة الحديث والسنة في مصنفاتهم التي سبق ذكرها، لا مطلق الأخبار. وما ذكروه من احتمالات لعدم العمل بها قد سبق بيان وجه بطلانها.
فالواجب أن تفرض المسألة في تعارض خبر آحاد صحيح مروي بلفظه مع كتاب الله، فهل يقبل أو يرفض لمعارضته الظاهرة للكتاب؟!!
والقول بوجوب قبوله هو المتعين لما سبق من أدلة كثيرة على حجية السنة عموماً وأخبار الآحاد على وجه الخصوص. ولأنه يلزمهم في ردهم لأخبار الآحاد حين معارضتها لظاهر الكتاب رد ما ادعوه من قبيل المشهور للعله نفسها. وما يذكرونه من حجج لقبول أحاديثهم المشهورة هي بعينها الحجج الداعية إلى قبول أخبار الآحاد الصحيحة.
قال أبو المظفر السمعاني (1) : (إنا نظن أن النبي (قال الذي قال في خبر الواحد، وقام لنا الدليل القطعي على العمل بما يغلب على ظننا من ذلك. فكل هذا علم؛لأنا نعلم أنه غلب على ظننا صدق الراوي، ونعلم قيام الدليل على وجوب العمل بما ظنناه، فثبتت مساواة الطريق إلى العلم بحكم الخبر طريقنا إلى العلم بعموم الكتاب) .
المسألة الثانية:- في الآثار الفقهية المترتبة على القول بهذا النوع من الانقطاع:
لقد تبين من استعراض أدلة القائلين برد خبر الواحد الذي صح سنده لمخالفته ظاهر الكتاب أنها لم تكن صائبة، ومع هذا كله ترتب على القول بها مسائل فقهيةٍ كثيرةٍ – خلا المسائل العقدية –.
وفي هذا الموطن سأتطرق –إن شاء الله – إلى بعض المسائل المهمة المبنية على هذه القاعدة ذاكراً لها على سبيل المثال تاركاً ذكر أدلة كلٍ والمناقشات التي دارت فيها خشية الخروج عن أصل الموضوع فمن تلك المسائل:-
__________
(1) انظر: قواطع الأدلة (2/419) .(14/284)
1- نقض الوضوء بمس الذكر (1) .
قال السرخسي: (ولهذا لم يقبل علماؤنا خبر الوضوء من مس الذكر؛ لأنه مخالف للكتاب فإن الله تعالى قال:- (فيه رجال يحبون أن يتطهروا ((التوبة 108) يعني الاستنجاء بالماء فقد مدحهم بذلك وسمى فعلهم تطهراً.
ومعلوم أن الاستنجاء بالماء لا يكون إلا بمس الذكر. فالحديث الذي يجعل مسه حدثاً بمنزلة البول، يكون مخالفاً لما في الكتاب؛ لأن الفعل الذي هو حدث لا يكون تطهراً)
المناقشة:- يمكن مناقشة ما ذكره السرخسي على النحو التالي:-
أولاً: الحديث الذي أشار إليه السرخسي هو (من مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ) (2) قد ورد بألفاظ متقاربة ومن طرق مختلفة بعضها حسنة وبعضها صحيحة (3) .
__________
(1) انظر: هذه المسألة في: أصول السرخسي (1/365) وكشف الإسرار للبخاري (3/10-11) وكشف الأسرار للنسفي (2/48-51) .
(2) انظر: سنن الترمذي (1/128) .
(3) روي هذا الحديث من تسع طرق ذكرها ابن الجوزي في كتابه الخلاف (1/176) والحديث رواه: مالك في الموطأ (1/42-43) ،والطيالسي في مسنده (2/230) والإمام أحمد في المسند (2/223) ، (5/194) ، (6/406-407) والدارمي في سننه (1/199) وأبوداود في سننه (1/46) وابن ماجة في سننه (1/161-163) والنسائي في سننه (1/100، 216) والنسائي في السنن الكبرى (1/98) والدارقطني في سننه (1/146) والحاكم في المستدرك (1/229) والبيهقي في السنن الكبرى (1/128-138) قال ابن عبد البر رحمه في كتابه التمهيد (17/197) : (وكل من خرج في الصحيح ذكر حديث بسرة في هذا الباب وحديث طلق بن علي إلا البخاري فإنهما عنده متعارضان معلولان وعند غيره هما صحيحان) .(14/285)
وأما الحديث الذي عارض حديث بسرة فهو حديث طلق بن علي قال: خرجنا إلى نبي الله (وفداً حتى قدمنا عليه فبايعناه وصلينا معه فجاء رجل كأنه بدوي فقال يا رسول الله: ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ. فقال: (وهل هو إلا بضعة أو مضغة منك) (1)
قال الترمذي (2) : هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب.
وقد ذهب جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة إلى إيجاب الوضوء من مس الذكر (3) .
وذهب بعض الصحابة والتابعين وبعض الفقهاء كأبي حنيفة والثوري وغيرهما إلى عدم نقض الوضوء بمس الذكر (4) .
أقول: من هذا العرض الموجز لأقوال العلماء في تصحيح الحديثين أو تضعيفهما أو تصحيح أحدهما دون الآخر ومن ثم اختلافهم في القول بأيهما، تبين أن سبب الخلاف هو هذا لا ما ذكره متأخرو الحنفية من أن سببه هو مخالفة الحديث لظاهر القرآن.
ومما يؤيد أن هذا هو السبب -وهو تصحيح الحديثين أو تضعيفهما أوأحدهما دون الآخر- أن بعض أهل العلم قد جمع بينهما فقال: يحمل ذكر الوضوء في حديث بسرة على غسل اليدين لا الوضوء الشرعي.
قال ابن قتيبة (5) : (أما عَلِمَ أن كثيراً من أهل الفقه قد ذهبوا إلى أن الوضوء يجب من مس الفرج في المنام واليقظة بهذا الحديث وبالحديث الآخر من مس فرجه فليتوضأ وإن كنا نحن لا نذهب إلى ذلك ونرى أن الوضوء الذي أمر به من مس فرجه غسل اليد لأن الفروج مخارج الحدث والنجاسات ... ) .
__________
(1) انظر: الحديث والتعليق هذا في: السنن الكبرى للبيهقي (1/134-135) .
(2) انظر: سنن الترمذي (1/132) .
(3) انظر: سنن الترمذي (1/132) ومستدرك الحاكم (1/229) والتمهيد (17/198، 199) .
(4) انظر: سنن الترمذي (1/132) ومستدرك الحاكم (1/229) والتمهيد (17/201) .
(5) انظر: تأويل مختلف الحديث (131) .(14/286)
ثانياً: وأما قولهم: (فإن الله تعالى قال:- (فيه رجال يحبون أن يتطهروا ((التوبة 108) يعني الاستنجاء بالماء فقد مدحهم بذلك وسمى فعلهم تطهراً.
ومعلوم أن الاستنجاء بالماء لا يكون إلا بمس الذكر. فالحديث الذي يجعل مسه حدثاً بمنزلة البول، يكون مخالفاً لما في الكتاب؛ لأن الفعل الذي هو حدث لا يكون تطهراً)
فيقال: نعم امتدح الله أهل قباء بذلك. قال الشعبي (1) : هم أهل مسجد قباء أنزل الله فيهم هذا.
قال رسول الله (: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطهور فما طهوركم هذا؟ قالوا: يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة. فقال رسول الله (: فهل مع ذلك من غيره؟ فقالوا: لا غير إلا أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء.
قال: هو ذاك فعليكموه) (2) .
قال الحاكم (3) : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فالآية امتدحتهم لتطهرهم أي لإزالتهم النجاسة الحقيقية من الفرجين بالماء فهو كتطهير الثياب والأماكن من النجاسات الحسية، لا أن المراد بالتطهر الطهارة عن الحدث فهذا كل الصحابة رضي الله عنهم فيه سواء. وتلك الطهارة لا تزول عن الشخص كما لو أرعف أو خرجت منه ريح بعد استنجائه وحينئذٍ ليس هناك مخالفة بين الحديث والآية.وبهذا يتضح خطأ قولهم: (فالحديث الذي يجعل مسه حدثاً بمنزلة البول، يكون مخالفاً لما في الكتاب؛ لأن الفعل الذي هو حدث لا يكون تطهراً) .
فإن قالوا: إن الله تعالى جعل الاستنجاء تطهراً مطلقاً فينبغي أن يكون تطهراً حقيقة وحكماً، فلو جعل المس حدثاً لا يكون تطهراً من كل وجه.
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (8/259-260) وتفسير ابن كثير (2/390) .
(2) رواه ابن ماجة (1/127-128) والترمذي في سننه (5/280) والدارقطني في سننه (1/62) والحاكم في المستدرك (1/258) ، (2/365) والبيهقي في السنن الكبرى (1/105) .
(3) انظر: المستدرك (2/365) .(14/287)
قيل: هذا قول ضعيف لأنه يلزم منه أن من أزال النجاسة عن السبيلين أصبح متطهراً أي متوضأ حكماً وهذا لا قائل به أبداً.
2- المبتوتة نفقتها وسكناها:-
قال السرخسي: (وكذلك لم يقبل حديث فاطمة بنت قيس في أن لا نفقة للمبتوتة؛ لأنه مخالف للكتاب وهو قوله تعالى:- (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ((الطلاق 6) .
ولا خلاف أن المراد وأنفقوا عليهن من وجدكم، فالمراد الحائل؛ فإنه عطف عليه قوله تعالى:- (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ((الطلاق 6) .
قلت: ورد في هذه المسألة حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها المشار إليه آنفاً، وحديث آخر عن عمر بن الخطاب مما جعل العلماء يختلفون في حكم نفقة وسكنى المبتوتة.
وسيكون بحث المسألة في فقرات على النحو التالي:
1-روى مسلم في صحيحه (1) حديث فاطمة بنت قيس أنهاقالت: إن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء. فجاءت رسول الله (فذكرت ذلك له، فقال: (ليس لك عليه نفقة) .
2-روى الدارقطني في سننه (2) قال: قالت فاطمة بنت قيس: قال رسول الله (: (المطلقة ثلاثاً لا سكنى لها ولا نفقة إنما السكنى والنفقة لمن يملك الرجعة) .
وروى الدارقطني (3) عن: (عمر بن الخطاب أنه لما بلغه قول فاطمة بنت قيس قال: لا ندع كتاب الله لقول امرأة لعلها نسيت) .
__________
(1) 2/1114) وقد رواه مسلم رحمه بألفاظ مختلفة منها: فقال (: (لا نفقة لك ولا سكنى) وفي لفظ: (ليست لها نفقة وعليها العدة) ، وفي لفظ: (لا نفقة لك) ، وفي لفظ: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم.
(2) 4/22) .
(3) في سننه (4/24) .(14/288)
وروى الدارقطني (1) – أيضاً – أن عمر رضي الله عنه قال: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا (لقول امرأة لا ندري حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة قال الله تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن ( {الطلاق 1} الآية
قال ابن القيم (2) : (قد أعاذ الله أمير المؤمنين من هذا الكلام الباطل الذي لا يصح عنه أبداً. قال الإمام أحمد: لا يصح ذلك عن عمر) .
وروى الدارقطني (3) عن عمر رضي الله عنه أنه قال لفاطمة رضي الله عنها: (إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله (وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة (لا تخرجوهن من بيوتهن ( {الطلاق 1} الآية.
قال الدارقطني: ولم يقل فيه وسنة نبينا.
وروى الدارقطني عن الحسن بن عمارة عن سلمة بن كهيل عن عبد الله بن الخليل الحضرمي قال ذكر لعمر بن الخطاب قول فاطمة بنت قيس أن رسول الله (لم يجعل لها السكنى ولا النفقة فقال عمر لا ندع كتاب الله وسنة نبيه لقول امرأة.
قال الدارقطني: الحسن بن عمارة متروك.
وفي سنن الدارقطني (4) أن: (عمر قال: لا ندع كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة المطلقة ثلاثاً لها السكنى والنفقة)
قال الدارقطني: أشعث بن سوار ضعيف الحديث ورواه الأعمش عن إبراهيم عن الأسود ولم يقل وسنة نبينا وقد كتبناه قبل هذا والأعمش أثبت من أشعث وأحفظ منه.
3-روى البخاري في صحيحه (5) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما لفاطمة،ألا تتقي الله؟ يعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة.
وفي صحيحه (6) - أيضاً - عنها: قالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص لها النبي (.
4-قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7) : (وادعى بعض الحنفية أن في بعض طرق حديث عمر: للمطلقة ثلاثاً السكنى والنفقة) .
__________
(1) في سننه (4/25) .
(2) انظر: زاد المعاد (5/539) وفتح الباري (9/481) .
(3) في سننه (4/25) .
(4) 4/27) .
(5) 6/183) .
(6) 6/183-184) .
(7) 9/481) .(14/289)
5-قال الطحاوي (1) : (خالفت فاطمة سنة رسول الله (؛ لأن عمر روى خلاف ماروت …)
6-قال حماد بن أبي سليمان: أخبرت إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس، فقال لي إبراهيم: إن عمر أخبر بقولها فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب الله تعالى، وقول النبي (لقول امرأة لعلها أوهمت. سمعت النبي (يقول: لها السكنى والنفقة (2) .
7-قال ابن القيم (3) : (وأما حديث حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله (يقول: (لها السكنى والنفقة) .
فنحن نشهد بالله شهادة نسأل عنها إذا لقيناه أن هذا كذب على عمر رضي الله عنه وكذب على رسول الله (وينبغي أن لا يحمل الإنسان فرط الإنتصار للمذاهب والتعصب لها على معارضة سنن رسول الله (الصحيحة الصريحة بالكذب البحت فلو يكون هذا عند عمر رضي الله عنه عن النبي (لخرست فاطمة وذووها ولم ينبسوا بكلمة ولا دعت فاطمة إلى المناظرة ولا احتيج إلى ذكر إخراجها لبذاء لسانها ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام المنتصرين للسنن فقط لا لمذهب ولا لرجل.
هذا قبل أن نصل به إلى إبراهيم ولو قدر وصولنا بالحديث إلى إبراهيم لانقطع نخاعه فإن إبراهيم لم يولد إلا بعد موت عمر رضي الله عنه بسنين) .
8-قال ابن عبد البر (4) : (أحاديث فاطمة كلها لم يختلف في أنها لا نفقة لها؛ وإنما اختلف في ذكر السكنى، فمنهم من ذكرها، ومنهم من لم يذكرها..
وأما الصحابة، فقد اختلفوا ...
منهم من يقول: لها السكني والنفقة. منهم: عمر، وابن مسعود.
ومنهم من يقول: لها السكنى ولا نفقة. منهم: ابن عمر، وعائشة.
ومنهم يقول: لا سكنى لها ولا نفقة. وممن قال بذلك: علي، وابن عباس، وجابر) .
__________
(1) انظر: فتح الباري (9/481) .
(2) ذكره ابن حزم في المحلى (10/ 297-298) .
(3) انظر: زاد المعاد (5/ 539) .
(4) انظر: التمهيد (19/144، 151-152) .(14/290)
وقد اختلف العلماء في حكم نفقة وسكنى المبتوتة كاختلاف الصحابة رضي الله عنهم إلى ثلاثة أقوال (1) :
الأول: - ليس لها سكنى ولا نفقة. وبه قال الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وأحمد وإسحاق.
الثاني: - لها السكنى والنفقة. وبه قال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه.
الثالث: - لها السكنى ولا نفقة لها. وبه قال مالك بن أنس والليث بن سعد والشافعي.
وبعد هذا الاستعراض الموجز للروايات الواردة في المسألة وأقوال الصحابة والعلماء فيها تبين أن ترك بعض العلماء لرواية فاطمة بنت قيس إنما هو لتعارض روايتها مع رواية عمر بن الخطاب، ولاختلاف ألفاظ حديث فاطمة في ذكر النفقة والسكنى؛ فسبب اختلاف العلماء هو تعارض الروايات والسنن، لاكما يصوره متأخرو الحنفية من أن أبا حنيفة ومن معه من الأئمة قد ردوا خبر فاطمة رضي الله عنها لكونه مخالفاً لكتاب الله.
يوضح ذلك أنه لو كان حديث فاطمة رضي الله عنها باطلاً لمخالفته كتاب الله لما احتج به الأئمة كلهم في غير هذه المسألة.
قال ابن القيم (2) : (ولا يعلم أحد من الفقهاء رحمهم الله إلا وقد احتج بحديث فاطمة بنت قيس هذا وأخذ به في بعض الأحكام كمالك والشافعي وجمهور الأمة يحتجون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلاً.
والشافعي نفسه احتج به: على جواز جمع الثلاث؛ لأن في بعض ألفاظه (فطلقني ثلاثاً) ، وقد بينا أنه إنما طلقها آخر ثلاث كما أخبرت به عن نفسها.
واحتج به من يرى جواز نظر المرأة إلى الرجال.
واحتج به الأئمة كلهم على جواز خطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن المرأة قد سكنت إلى الخاطب الأول.
__________
(1) انظر هذه الأقوال وأدلة كلٍ والمناقشات التي جرت فيها في: الأم (5/237-238) والمغني (8/185) وبدائع الصنائع (3/209) والتمهيد (19/141) .
(2) انظر: زاد المعاد (5/540-541) .(14/291)
واحتجوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحة لمن استشاره أن يزوجه أو يعامله أو يسافر معه وأن ذلك ليس بغيبة.
واحتجوا به على جواز نكاح القرشية من غير القرشي.
واحتجوا به على وقوع الطلاق في حال غيبة أحد الزوجين عن الآخر وأنه لا يشترط حضوره ومواجهته به.
واحتجوا به على جواز التعريض بخطبة المعتدة البائن.
وكانت هذه الأحكام كلها حاصلة ببركة روايتها وصدق حديثها فاستنبطتها الأمة منها وعملت بها فما بال روايتها ترد في حكمٍ واحدٍ من أحكام هذا الحديث وتقبل فيما عداه فإن كانت حفظته قبلت في جميعه وإن لم تكن حفظته وجب أن لا يقبل في شيء من أحكامه وبالله التوفيق) .
3- القضاء بالشاهد واليمين:-
قال السرخسي: (وكذلك لم يقبل خبر القضاء بالشاهد واليمين؛ لأنه مخالف للكتاب من أوجه:-
فإن الله تعالى قال:- (واستشهدوا شهيدين من رجالكم ( {البقرة 282} الآية
وقوله (واستشهدوا (أمر بفعل هو مجمل فيما يرجع إلى عدد الشهود كقول القائل: كُلْ. يكون مجملاً فيما يرجع إلى بيان المأكول، فيكون ما بعده تفسيراً لذلك المجمل وبياناً لجميع ما هو المراد بالأمر وهو استشهاد رجلين فإن لم يكونا فرجل وامرأتان، كقول القائل: كُلْ طعام كذا فإن لم يكن كذا فكذا، أو أذنت لك أن تعامل فلاناً فإن لم يكن ففلاناً، يكون ذلك بياناً لجميع ما هو المراد بالأمر والإذن.
وإذا ثبت أن جميع ما هو المذكور في الآية كان خبر القضاء بالشاهد واليمين زائداً عليه والزيادة على النص كالنسخ عندنا.
يقرره قوله تعالى:- (وأدنى ألا ترتابوا ( {البقرة 282} فقد نص على أن أدنى ما تنتفي به الريبة شهادة شاهدين بهذه الصفة وليس دون الأدنى شيء آخر تنتفي به الريبة.(14/292)
ولأنه نقل الحكم من استشهاد الرجل الثاني بعد شهادة الشاهد الواحد إلى استشهاد امرأتين مع أن حضور النساء مجالس القضاء لأداء الشهادة خلاف العادة وقد أُمِرْن بالقرار في البيوت شرعاً، فلو كان يمين المدعي مع الشاهد الواحد حجة لما نقل الحكم إلى استشهاد امرأتين وهو خلاف المعتاد مع تمكن المدعي من اتمام حجته بيمينه …) .
ويمكن الجواب عما سبق في النقاط التالية: -
1-الحديث الذي ردوه هو حديث رواه جمع من الصحابة كأبي هريرة وابن عباس وجابر رضي الله عنهم بلفظ (أن النبي (قضى بيمينٍ وشاهدٍ) (1) .
قال ابن عبد البر (2) : (وفي اليمين مع الشاهد آثار متواترة حسان ثابتة متصلة أصحها إسناداً وأحسنها حديث ابن عباس وهو حديث لا مطعن لأحد في إسناده ولا خلاف بين أهل المعرفة بالحديث في أن رجاله ثقات) .
وحق له حكاية ذلك، فقد قال الإمام مالك (3) : (إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو عامل على الكوفة: أن اقض باليمين مع الشاهد.
وقال: إن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار سئلا هل يقضى باليمين مع الشاهد؟ فقالا: نعم.
قال مالك: مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد) .
__________
(1) رواه مالك في الموطأ (2/821) وأحمد في المسند (1/323) ، (3/305) ، (5/285) ومسلم في صحيحه (2/1337) وأبو داود في سننه (3/309) وابن ماجة في سننه (2/793) والترمذي في سننه (3/627) والنسائي في السنن الكبرى (3/490) وأبو يعلى في مسنده (12/37) وابن حبان في صحيحه (11/462) والطبراني في المعجم الصغير (2/9) والأوسط (2/19) ، (5/98) ، (5/310) ، (7/229) والكبير (1/370) ، (5/150) ، (6/16) ، (11/105) والدارقطني فيسننه (4/212) والحاكم في المستدرك (3/593) والبيهقي في السنن الكبرى (10/167،170) وابن عبد البر في التمهيد (2/134) .
(2) انظر: التمهيد (2/138) .
(3) انظر: الموطأ (2/722) .(14/293)
وروى النسائي (1) (أن شريحاً قضى باليمين مع الشاهد الواحد في مسجد الكوفة. وأن عمر بن عبد العزيز قضى باليمين مع الشاهد) .
وقد قضى باليمين مع الشاهد قبل هؤلاء جميعاً رسول الله (وصحابته الكرام: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وعبد الله بن عمر، ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر القضاء باليمين مع الشاهد، وإلىهذا القول ذهب جمهور التابعين:سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد وعروة وسالم وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وعلي بن حسين وأبو جعفر محمد بن علي وأبو الزناد وغيرهم، ومن الأئمة: مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم واسحاق بن راهوية وأبو عبيد وأبو ثور وداود بن علي، وجماعة أهل الأثر. ذكر ذلك ابن عبد البر (2) ، ثم قال (3) : هو الذي لا يجوز عندي خلافه لتواتر الآثار به عن النبي (وعمل أهل المدينة به قرناً بعد قرن.
قال الحافظ ابن حجر (4) : (وفي الباب – يعني القضاء بالشاهد مع اليمين – عن نحو من عشرين من الصحابة فيها الحسان والضعاف، وبدون ذلك تثبت الشهرة) .
قال ابن عبد البر (5) : (فهؤلاء قضاة أهل العراق أيضاً يقضون باليمين مع الشاهد في زمن الصحابة وصدر الأمة، وحسبك به عملاً متوارثاً بالمدينة) .
__________
(1) في السنن الكبرى (3/491) .
(2) انظر: التمهيد (2/153) .
(3) انظر: المصدر السابق (2/154) .
(4) في فتح الباري (5/282) .
(5) انظر: التمهيد (2/157) .(14/294)
قلت: إن لم يكن القضاء باليمين مع الشاهد متواتراً تصح به الزيادة على القرآن إجماعاً فلا أقل من أن يكون حديثاً مشهوراً على رأي عيسى بن أبان (1) ومن تبعه كأبي زيد الدبوسي والسرخسي والبزدوي وغيرهم فيعمل به، وإن لم يكن عمل هؤلاء الأئمة الأعلام من الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة وغيرهم به، وروايتهم له تستدعي الشهرة فلا شهرة حينئذٍ ولا تواترله إلا إذا حكم بذلك عيسى بن أبان ومن تبعه. فما قاله أو عمل به هؤلاء المنتسبون إلى أبي حنيفة - رحمه الله -فهو المشهور وهو المتواتر وما لا فلا! !!
فإن قيل: قد خالف في ذلك إمام المذهب أبو حنيفة والثوري وعطاء وغيرهم (2) فقالوا: بعدم القضاء باليمين مع الشاهد الواحد.
قلت: خالفوا لأنه لم يصح عندهم الخبر في ذلك، كيف وقد قال أبو حنيفة رحمه الله: (ما جاءنا عن الله وعن رسوله فعلى الرأس والعين) لا أنهم يقولون كما يقوله هؤلاء: إن الحديث قد صح عندنا ولكن لا نعمل به لمخالفته كتاب الله. أقول: معاذ الله أن يكون ذلك هو قولهم.
يوضحه قول عطاء (3) : إن أول من قضى به عبد الملك بن مروان. فهذا دليل على أنه لم يصح عنده فيه شيء لا عن رسول الله (ولا عن صحابته أو التابعين.
وبهذا يتبين خطأ قول السرخسي ومن معه: (كان خبر القضاء بالشاهد واليمين زائداً عليه والزيادة على النص كالنسخ عندنا) .
2-وأما قوله: (فإن الله تعالى قال:- (واستشهدوا شهيدين من رجالكم ( {البقرة 282} الآية
وقوله (واستشهدوا (أمر بفعل هو مجمل فيما يرجع إلى عدد الشهود ... ، فيكون ما بعده تفسيراً لذلك المجمل وبياناً لجميع ما هو المراد بالأمر وهو استشهاد رجلين فإن لم يكونا فرجل وامرأتان …
__________
(1) هو أول من ابتدع هذه القواعد الموهومة المخالفة للكتاب والسنة وعمل الأمة والأئمة. انظر: قواطع الأدلة (2/412) .
(2) انظر: التمهيد (2/154)
(3) انظر: التمهيد (2/154) .(14/295)
وإذا ثبت أن جميع ما هو المذكور في الآية كان خبر القضاء بالشاهد واليمين زائداً عليه والزيادة على النص كالنسخ عندنا.
يقرره قوله تعالى:- (وأدنى ألا ترتابوا ( {البقرة 282} فقد نص على أن أدنى ما تنتفي به الريبة شهادة شاهدين بهذه الصفة وليس دون الأدنى شيء آخر تنتفي به الريبة) .
فالجواب عن ذلك بأمور منها:
أولاً: - إنه ليس في جعل اليمين والشاهد حجةً دليلٌ على النسخ في هذه الآية؛ لأن الآية ما تعرضت بنفي ولا إثبات، وهذا لأن التخيير بين الشيئين لا يتعرض لما عداهما بتحريم ولا إيجاب، فانتفاء الثالث ليس بحكم الآية بل بحكم أن الأصل فيه الانتفاء. والنقل من الأصل لا يكون نسخاً (1) .
ثانياً: - إن طرق الحكم شيء وطرق حفظ الحقوق شيء آخر وليس بينهما تلازم فتحفظ الحقوق بما لا يحكم به الحاكم مما يعلم صاحب الحق أنه يحفظ به حقه ويحكم الحاكم بما لا يحفظ به صاحب الحق حقه ولا خطر على باله من نكول ورد يمين وغير ذلك. قاله ابن القيم (2) ثم قال: (قال الشافعي: واليمين مع الشاهد لا تخالف من ظاهر القرآن شيئا لأنا نحكم بشاهدين وشاهد وامرأتين فإذا كان شاهد واحد حكمنا بشاهد ويمين وليس ذا يخالف القرآن لأنه لم يحرم أن يكون أقل مما نص عليه في كتابه. ورسول الله (أعلم بما أراد الله وقد أمرنا الله أن نأخذ ما آتانا
__________
(1) نص على ذلك أبو المظفر السمعاني. انظر: كتابه قواطع الأدلة (3/154) .
(2) انظر: الطرق الحكمية (1/198-199) وفتح الباري (5/282) .(14/296)
قلت- القائل ابن القيم -: وليس في القرآن ما يقتضي أنه لا يحكم إلا بشاهدين أو شاهد وامرأتين فإن الله سبحانه إنما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النصاب ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به فضلاً عن أن يكون قد أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك ولهذا يحكم الحاكم بالنكول واليمين المردودة والمرأة الواحدة والنساء المنفردات لا رجل معهن وبمعاقد القمط ووجوه الآجر وغير ذلك من طرق الحكم التي لم تذكر في القرآن فإن كان الحكم بالشاهد واليمين مخالفاً لكتاب الله فهذه أشد مخالفةً لكتاب الله منه وإن لم تكن هذه الأشياء مخالفةً للقرآن فالحكم بالشاهد واليمين أولى ألا يكون مخالفاً للقرآن ...
والقضاء بالشاهد واليمين مما أراه الله تعالى لنبيه (فإنه سبحانه قال: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ( {النساء 105} .
وقد حكم بالشاهد واليمين وهو مما أراه الله إياه قطعاً) .
المطلب الثاني: في رد خبر الواحد لكونه مخالفاً للسنة المشهورة
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في أدلة القائلين بها ومناقشتها.
لم يتطرق القائلون بهذه القاعدة إلى أدلتها بخصوصها اكتفاءً بما ذكروه من أدلة في المطلب الأول وهو انقطاع خبر الواحد لمخالفته لكتاب الله تعالى فالأدلة، والمناقشات هي هي، إلا أنهم قد ذكروا وجهاً آخر لرد خبر الواحد لمخالفته السنة المشهورة –باصطلاحهم-فقالوا: إن (خبر الواحد إذا خالف السنة المشهورة فهو منقطع في حكم العمل به؛ لأن ما يكون متواتراً من السنة أو مستفيضاً أو مجمعاً عليه فهو بمنزلة الكتاب في ثبوت علم اليقين به وما فيه شبهة فهو: مردود في مقابلة اليقين، وكذلك المشهور من السنة، فإنه أقوى من الغريب لكونه أبعد عن موضع الشبهة ولهذا جاز النسخ بالمشهور دون الغريب فالضعيف لا يظهر في مقابلة القوي) .(14/297)
ويمكن أن يقال: بأنه ليس هناك تعارض البتة بين الكتاب وصحيح السنة، وقد سبق التنبيه على مثل هذا فليرجع إليه، وأما قولهم إن المشهور من السنة أقوى من الغريب (السنة الآحادية الصحيحة) فهذه القوة لا تمنع من العمل بالخبر الصحيح لا سيما إذا كانت دلالة خبر الواحد قطعية ودلالة المشهور محتملة كأن تكون عامة أو مطلقة أو مجملة.
وقولهم إن الضعيف لا ينسخ القوي فهذا غير مسلم فإن النسخ متعلق بالدلالة لا بالسند فالناسخ صحيح السند –وهذا لابد منه - رافع لدلالة المنسوخ ومبطل لها.
قال الشيخ الشنقيطي (1) رحمه الله: (التحقيق الذي لا شك فيه هو جواز وقوع نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه والدليل الوقوع.
أما قولهم إن المتواتر أقوى من الآحاد والأقوى لا يرفع بما هو دونه فإنهم قد غطلوا فيه غلطاً عظيماً مع كثرتهم وعلمهم، وإيضاح ذلك أنه لا تعارض البتة بين خبرين مختلفي التاريخ لإمكان صدق كل منهما في وقته، وقد أجمع جميع النظار أنه لا يلزم التناقض بين القضيتين إلا إذا اتحد زمنهما، أما إن اختلفا فيجوز صدق كل منهما في وقتهما، فلو قلت: النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس، وقلت أيضاً: لم يصل إلى بيت المقدس، وعنيت بالأولى ما قبل النسخ، وبالثانية ما بعده لكانت كل منهما صادقة في وقتها.
__________
(1) في مذكرة أصول الفقه (86-87) .(14/298)
ومثال نسخ القرآن بأخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه نسخ إباحة الحمر الأهلية - مثلاً -المنصوص عليها بالحصر الصريح في آية (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً … ( {الأنعام 145} الآية، بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها عنه لأن الآية من سورة الأنعام وهي مكية أي نازلة قبل الهجرة بلا خلاف، وتحريم الحمر الأهلية بالسنة واقع بعد ذلك في خيبر ولا منافاة البتة بين آية الأنعام المذكورة وأحاديث تحريم الحمر الأهلية لاختلاف زمنهما، فالآية وقت نزولها لم يكن محرماً إلا الأربعة المنصوصة فيها، وتحريم الحمر الأهلية طارئ بعد ذلك، والطروء ليس منافياً لما قبله، وإنما تحصل المنافاة بينهما لو كان في الآية ما يدل على نفي تحريم شيء في المستقبل غير الأربعة المذكورة في الآية، وهذا لم تتعرض له الآية بل الصيغة فيها مختصة بالماضي لقوله: (قل لا أجد فيما أوحي إلي ( {الأنعام 145} بصيغة الماضي، ولم يقل فيما سيوحى إلي في المستقبل، وهو واضح كما ترى، والله أعلم) .
المسألة الثانية: في الآثار الفقهية المترتبة على القول بها.
لقد ترتب على القول بهذه القاعدة الموهومة مسائل فقهية كثيرة منها:-
1- القضاء بالشاهد واليمين.
قال السرخسي (1) : (لم يعمل بخبر القضاء بالشاهد واليمين لأنه مخالف للسنة المشهورة، وهو قوله عليه السلام:- (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) (2)
__________
(1) انظر: أصول السرخسي (1/365) .
(2) الحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/252) من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر)
وأصله في الصحيحين ففي صحيح البخاري من كتاب الرهن (3/116) أن ابن مليكة قال: كتبت إلى ابن عباس فكتب إليَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه.
وفي صحيح مسلم (3/1336) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (….ولكن اليمين على المدعى عليه) وفيه أيضاً (1/124) من حديث وائل بن حجر قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجلان يختصمان في أرض، فقال أحدهما: إن هذا انتزى على أرضي يا رسول الله في الجاهلية، فقال: بينتك. فقال: ليس لي بينة. قال: يمينه. قال: إذن يذهب بها. قال: ليس لك إلا ذاك …) الحديث.(14/299)
من وجهين:-
أحدهما:- أن في هذا الحديث بيان أن اليمين في جانب المنكر دون المدعي.
والثاني:- أن فيه بيان أنه لا يجمع بين اليمين والبينة فلا تصلح اليمين متممة للبينة بحال) .
الجواب: لقد سبق أن بينت أن السنة الصحيحة لا تعارض بينها وبين كتاب الله إذ الجميع وحي من عند الله العليم الحكيم، وذكرت الأدلة على عدم وقوع ذلك. كما نقلت أقوال العلماء بل إجماعهم على عدم وقوع التعارض والتضاد بين الكتاب والسنة الآحادية الصحيحة. وحينئذٍ فلا حاجة بنا للإعادة بل تنظر في موطنها.
وما ذكروه في هذا الوجه من عدم أخذهم بحديث النبي (من أنه قضى باليمين مع الشاهد ما هو إلا إمعان في رد السنة الصحيحة الصريحة عن رسول الله وصحبه الكرام والأئمة الأعلام بقواعد موهومة مزعومة، فالحديث – عندهم – لا محالة مردود - مع كونه متواتراً عند أهل العلم والاختصاص - إما لمخالفته الكتاب –كما سبق - أو لمخالفته السنة المشهورة.
ومن العجيب حقاً قصرهم الشهرة في حديث (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) دون حديث القضاء بشاهد مع يمين المدعي، مما يدل دلالة لا لبس فيها أن الشهرة معيارها هو: موافقة الحديث لمذهبهم. فما وافق مذهبهم فهو مشهور ولو كان ضعيفاً وربما موضوعاً وما خالف مذهبهم فهو ضعيف أو خبر آحاد لا تقوم به حجة ولو كان في الصحيحين وبقية كتب السنة كحديث القضاء باليمين مع الشاهد.
أما قولهم إن هذا الحديث بيان أن اليمين في جانب المنكر دون المدعي، فلا يسلم لهم القصر وحصر اليمين في جانب المدعى عليه، -وأيضاً -هذا القول مبني على حجية مفهوم المخالفة، والحنفية لا يقولون بحجيته أبداً.
وقد أجاد ابن القيم رحمه الله في رد هذه الدعوى ولحسن جوابه وقوته فقد قمت بنقله بتمامه.
قال ابن القيم الجوزية (1) : - (فصل: منزلة السنة من الكتاب)
والذين ردوا هذه المسألة لهم طرق:-
__________
(1) انظر: الطرق الحكمية (106-111) .(14/300)
الطريق الأول: أنها خلاف كتاب الله فلا تقبل وقد بين الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وغيرهم أن كتاب الله لا يخالفها بوجه وإنها لموافقة لكتاب الله وأنكر الإمام أحمد والشافعي على من رد أحاديث رسول الله (لزعمه أنها تخالف ظاهر القرآن وللإمام أحمد في ذلك كتاب مفرد سماه كتاب طاعة الرسول
والذي يجب على كل مسلم اعتقاده أنه ليس في سنن رسول الله (الصحيحة سنة واحدة تخالف كتاب الله بل السنن مع كتاب الله على ثلاث منازل:-
المنزلة الأولى:- سنة موافقة شاهدة بنفس ما شهد به الكتاب المنزل.
المنزلة الثانية:- سنة تفسر الكتاب وتبين مراد الله منه وتقيد مطلقه.
المنزلة الثالثة:- سنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب فتبينه بياناً مبتدأً.
ولا يجوز رد واحدة من هذه الأقسام الثلاثة
وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة.
الطريق الثاني:- أن اليمين إنما شرعت في جانب المدعى عليه فلا تشرع في جانب المدعي.
قالوا: ويدل على ذلك قوله (: (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر) فجعل اليمين من جانب المنكر.
وهذه الطريقة ضعيفة جداً من وجوه:-
أحدها:- أن أحاديث القضاء بالشاهدين واليمين أصح وأصرح وأشهر وهذا الحديث لم يروه أحد من أهل الكتب الستة.
الثاني:- أنه لو قاومها في الصحة والشهرة لوجب تقديمها عليه لخصوصها وعمومه.(14/301)
الثالث:- أن اليمين إنما كانت في جانب المدعى عليه حيث لم يترجح جانب المدعي بشيء غير الدعوى فيكون جانب المدعى عليه أولى باليمين لقوته بأصل براءة الذمة فكان هو أقوى المدعيين باستصحاب الأصل فكانت اليمين من جهته فإذا ترجح المدعي بلوث أو نكول أو شاهد كان أولى باليمين لقوة جانبه بذلك فاليمين مشروعة في جانب أقوى المتداعيين فأيهما قوي جانبه شرعت اليمين في حقه بقوته وتأكيده ولهذا لما قوي جانب المدعين باللوث شرعت الأيمان في جانبهم ولما قوي جانب المدعي بنكول المدعى عليه ردت اليمين عليه كما حكم به الصحابة، وصوبه الإمام أحمد وقال: ما هو ببعيد يحلف ويأخذ. ولما قوي جانب المدعى عليه بالبراءة الأصلية كانت اليمين في حقه وكذلك الأمناء كالمودع والمستأجر والوكيل والوصي القول قولهم ويحلفون لقوة جانبهم بالأيمان فهذه قاعدة الشريعة المستمرة
فإذا أقام المدعي شاهداً واحداً قوي جانبه فترجح على جانب المدعى عليه الذي ليس معه إلا مجرد استصحاب الأصل وهو دليل ضعيف يدفع بكل دليل يخالفه ولهذا يدفع بالنكول واليمين المردودة واللوث والقرائن الظاهرة فدفع بقول الشاهد الواحد وقويت شهادته بيمين المدعي فأي قياس أحسن من هذا وأوضح مع موافقته للنصوص والآثار التي لا تدفع) انتهى كلامه.
2- بيع الرطب بالتمر:-
قال السرخسي (1) : (لم يعمل أبو حنيفة بخبر سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه - في بيع الرطب بالتمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أينتقص إذا جف) قالوا: نعم.قال:- (فلا إذاً) ، لأنه مخالف للسنة المشهورة وهو قوله عليه السلام: (التمر بالتمر مثل بمثل) (2) .
من وجهين:-
أحدهما:- أن فيها اشتراط المماثلة في الكيل مطلقاً لجواز العقد. فالتقييد باشتراط المماثلة في أعدل الأحوال وهو بعد الجفوف يكون زيادة.
__________
(1) انظر: أصول السرخسي (1/367) .
(2) في السنن الكبري (3/496) ، (4/22) .(14/302)
والثاني:- أنه جعل فضلاً يظهر بالكيل هو الحرام في السنة المشهورة.
فجعل فضل يظهر عند فوات وصف مرغوب فيه رباً حراماً يكون مخالفاً لذلك الحكم) انتهى كلامه.
قلت: روى سعد بن أبي وقاص قال: تبايع رجلان على عهد رسول الله (بتمر ورطب. فقال النبي (: (هل ينقص الرطب إذا يبس؟) فقالوا: نعم. فقال النبي (: فلا إذاً) .
وهذا الحديث رواه مالك (1) ،وبدالرزاق (2) ،وأحمد (3) ،وأبو داود (4) ، وابن ماجة (5) ، والترمذي (6) ، والنسائي (7) ، وأبو يعلى (8) ، وابن حبان (9) ، والدارقطني (10) والحاكم (11) ، والبيهقي (12) .
وقال الحاكم (13) : هذا حديث صحيح، والشيخان لم يخرجاه لما خشياه من جهالة زيد أبي عياش.
وأما الحديث الآخر وهو حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله (: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) . فحديث رواه الشيخان (14) وغيرهما.
وأما الجواب عما ذكره السرخسي وغيره من وجود تعارض بين الحديثين فنقول: ليس هناك تعارض بين أحاديث رسول الله (متواترها ومشهورها الثابتة وآحادها الصحيحة فالكل من عند الله العليم الحكيم وقد سبق التنبيه على هذا مراراً وتكراراً فليرجع إليه.
__________
(1) في الموطأ (2/624) .
(2) في مصنفه (8/32) .
(3) في المسند (1/175) ، (1/179) .
(4) في سننه (3/215) .
(5) في سننه (2/761) .
(6) في سننه (3/528) .
(7) في السنن الكبري (3/496) ، (4/22) .
(8) في مسنده (2/68) ، (2/141) .
(9) في صحيحه (11/378) .
(10) في سننه (3/49-50) .
(11) في المستدرك (2/44) .
(12) في السنن الكبرى (5/294، 295) .
(13) في المستدرك (2/44) .
(14) انظر: صحيح البخاري (3/29) وصحيح مسلم (3/1211) .(14/303)
وعلى فرض وجود التعارض بينهما فإن أمكن الجمع تعين كأن يقال: إن حديث النهي عن بيع التمر بالتمر إلا مثلاً بمثل عام، وحديث سعد خاص بالنهي عن بيع الرطب بالتمر فيجعل مخصصاً لعموم حديث عبادة بن الصامت السابق فلا يكون حينئذٍ أي تعارض فكأن النبي (قال: يجوز بيع البدلين رَطْبَيْن أو يابسين إذا وجدت المساواة ولا يجوز بيعهما إذا كان أحدهما رَطْبَاً والآخر يابساً ولو وجدت المساواة.
فالرسول (لما سئل عن بيع التمر بالرطب أرشدهم إلى أن العلة في التحريم عدم المماثلة؛ لأن مآلهما عدم المساواة إذا يبس الآخر.
قال ابن القيم (1) : (كانوا إذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر فقال: أينقص الرطب إذا جف قالوا: نعم قال: فلا إذن. ولم يكن يخفى عليه (نقصان الرطب بجفافه ولكن نبههم على علة الحكم) .
وقد أوضح ذلك الإمام ابن عبد البر بقوله (2) : ( ... للعلماء فيه قولان:-
أحدهما: وهو أضعفهما أنه استفهام، استفهم عنه أهل النخيل والمعرفة بالتمور والرطب ورد الأمر إليهم في علم نقصان الرطب إذا يبس.
والقول الآخر: وهو أصحهما أن رسول الله لم يستفهم عن ذلك ولكنه قرر أصحابه على صحة نقصان الرطب إذا يبس ليبين لهم المعنى الذي منه منع.
فقال لهم: أينقص الرطب: أي أليس ينقص الرطب إذا يبس وقد نهيتكم عن بيع التمر بالتمر إلا مثلاً بمثل.
فهذا تقرير منه وتوبيخ وليس باستفهام في الحقيقة لأن مثل هذا لا يجوز جهله على النبي (، والاستفهام في كلام العرب قد يأتي بمعنى التقرير كثيراً وبمعنى التوبيخ، كما قال الله عز وجل: (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءآنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ( {المائدة 116} فهذا استفهام: معناه التقرير وليس معناه أنه استفهام عما جهل جل الله وتعالى عن ذلك.
__________
(1) في مدارج السالكين (2/294) .
(2) انظر: التمهيد (19/192-193) .(14/304)
ومن التقرير- أيضاً- بلفظ الاستفهام قوله عز وجل: (ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون ( {يونس 59}
وقوله: (ءآلله خير أم ما يشركون ( {النمل 59} .
وقوله: (وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي ( {طه 18} وهذا كثير.
وقوله (في هذا الحديث أينقص الرطب إذا يبس نحو قوله: (أرأيت إن منع الله الثمرة ففيم يأخذ أحدكم مال أخيه) فإنه قد قال أليس الرطب إذا يبس نقص فكيف تبيعونه بالتمر، والتمر لا يجوز بالتمر إلا مثلاً بمثل، والمماثلة معروفة في مثل هذا فلا تبيعوا التمر بالرطب بحال.
فهذا أصل في مراعاة المآل في ذلك وهذا تقرير قوله (عند من نزهه ونفى عنه أن يكون جهل أن الرطب ينقص إذا يبس وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى وبه التوفيق) انتهى كلامه.
وأما ما نُسِبَ إلى أبي حنيفة رحمه الله من عدم الأخذ بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لأنه مخالف للسنة المشهورة وهو قوله عليه السلام:- (التمر بالتمر مثل بمثل) (1) ، فكذب محض فإنه لم يتركه لهذه القاعدة الباطلة وإنما تركه لعدم صحته عنده فقد سئل عن هذه المسألة حينما دخل بغداد فاحتج بحديث النهي عن بيع التمر بالتمر، فأورد عليه حديث سعد فقال (2) : هذا الحديث دار على زيد أبي عياش وهو ممن لا يقبل حديثه.
يؤيد ذلك قول الحاكم في المستدرك عن حديث سعد: هذا حديث صحيح، والشيخان لم يخرجاه لما خشياه من جهالة زيد أبي عياش.
وأما صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن فقد خالفاه في المسألة فقالا بالحديث الذي رواه سعد لصحته عندهما.
__________
(1) في السنن الكبري (3/496) ، (4/22) .
(2) انظر: كشف الأسرار للبخاري (3/15) .(14/305)
وبهذا يتبين فساد ما نُسب (1) إلى الإمام وصاحبيه من أنهم قد تركوا حديث سعد لكونه مخالفاً للحديث المشهور.
ولما أعترض على هذه الدعوى بأن الصاحبين قد عملا بحديث سعد وهو مخالف للحديث المشهور، قالوا: إنما عملا به، بناء على أن لفظ المشهور تناول التمر فقط، والرطب ليس بتمر عادةً وعُرْفاً. بدليل أن من حلف لا يأكل تمراً فأكل رطباً أو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعدما صار تمراً لم يحنث،لا أنهما لا يقولان بأن الحديث يرد لمخالفته السنة المشهورة.
فهؤلاء الذين قَوَّلُوا الأئمة مالم يقولوه قد ارتكبوا جناياتٍ لا حصر لها أعظمها نسبة القول إليهم بأنهم قد ردوا سنن المصطفى الصحيحة بأهوائهم، وهذا لا يقوله جاهل فضلاً عمن ينسب نفسه إلى العلم.
المطلب الثالث: في رد خبر الواحد لكونه حديثاً شاذاً لم يشتهر
فيما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته
وفيه مسألتان:-
المسألة الأولى: في أدلة القائلين بهذه القاعدة ومناقشتها.
إن خبر الواحد الذي صح سنده إذا ورد موجباً للعمل فيما يعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته للعمل به لا يقبل، عند عيسى بن أبان وأبي زيد الدبوسي والسرخسي والبزدوي وعبد العزيز البخاري وغيرهم ممن تبعهم ممن ينتسب لمذهب أبي حنيفة رحمه الله محتجين على ما ادعوه بما يأتي:-
قالوا (2) : (إن صاحب الشرع كان مأموراً بأن يُبَيِّن للناس ما يحتاجون إليه وقد أمرهم بأن ينقلوا عنه ما يحتاج إليه من بعدهم.
__________
(1) نسب هذه القاعدة الباطلة لأبي حنيفة وصاحبيه كل من: السرخسي والبزدوي وعبد العزيز البخاري.انظر: أصول السرخسي (1/367) وأصول البزدوي (175-176) وكشف الأسرار (3/15-16) .
(2) انظر: أصول السرخسي (1/368) وكشف الأسرار للبخاري (3/16-18) .(14/306)
فإذا كانت الحادثة مما تعم به البلوى فالظاهر أن صاحب الشرع لم يترك بيان ذلك للكافة وتعليمهم. وأنهم لم يتركوا نقله على وجه الاستفاضة، فحين لم يشتهر النقل عنهم عرفنا أنه سهو أو منسوخ، ألا ترى أن المتأخرين لما نقلوه اشتهر فيهم فلو كان ثابتاً في المتقدمين لاشتهر أيضاً وما تفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته) انتهى.
والجواب عن هذا الدليل بأن يقال (1) : (إنما يجب ذلك لو لزم المكلفين العمل به على كل حال، فأما إذا لزمهم العمل بشرط أن يبلغهم الخبر فليس في ذلك تكليف ما لا طريق إليه، ولو وجب ما ذكروه فيما تعم به البلوى لوجب فيما لا تعم به البلوى أيضاً؛ لأنه وإن كانت البلوى لا تعم به لكنه يجوز وقوعه لكل واحد من آحاد الناس، فيجب في حكمه إشاعة حكمه خوفاً من أن لا يصل إلى من يُبتلى به فيضيع فرض عليه.
جواب آخر: أن الحكم وإن عم به البلوى، فليس هو بشيء وقعت واقعته في الحال لكلّ أحد في نفسه وذاته، بل غاية ما في الباب: توهم وقوعه. وإذا لم يكن إلا محض التوهم، فإذا وقع يمكن الوصول إلى موجب الحكم؛ لأن حكمه وإن نقله الواحد والاثنان فالتمكن من الوصول إليه موجود. فيكفي ذلك؛ لأنه إذا أمكنه الوصول فليس يضيع الحكم) .
فالنبي (مبلغ عن الله وقد يبلغ الكافة وقد يبلغ العديد القليل وأحياناً الفرد والفردين، فقوله (: (نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها) (2) والحديث لم يشترط ما شرطه هؤلاء بل أطلق لكل من سمع مقالته أن يبلغها سواء كانوا جماعة أو أفرادا أو حتى فرداً واحداً أن يبلغ ما سمع فالواجب أنه متى ما صح عن رسول الله صلى الله من خبر وجب قبوله وعدم رده، وقد سبق بيان وجوب قبول خبر الواحد العدل فليرجع إليه.
__________
(1) ذكره أبو المظفر السمعاني. انظر: قواطع الأدلة (2/362-263) .
(2) سبق تخريجه.(14/307)
وأما قولهم: (ولهذا لم تقبل شهادة الواحد من أهل المصر على رؤية هلال رمضان إذا لم يكن بالسماء علة.
ولم يقبل قول الوصي فيما يدعي من إنفاق مال عظيم على اليتيم في مدة يسيرة، وإن كان ذلك محتملاً؛ لأن الظاهر يكذبه في ذلك) .
فيقال: هذا غير مسلم؛ لأنه قياس مع الفارق فكم من مواقف لرسول الله (بيَّن فيها بياناً عاماً ونقلت من طريق الآحاد كحجه وخطب الجمع ورجم ماعز وغير ذلك، ولهذا فإن المطلوب نقل حديث رسول الله (، وقد يترك بعض الصحابة الرواية اكتفاءً بنقل غيره.
كما أنا لا نسلم عدم قبول شهادة العدل الواحد على رؤية هلال رمضان وإن شاركه غيره الرؤية ولم يروه.
قال ابن عباس (1) : تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم: غداً فجاء أعرابي إلى النبي (فذكر أنه رآه، فقال النبي (: (أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) قال نعم: فأمر النبي (بلالاً فنادى في الناس: صوموا، ثم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً ثم صوموا ولا تصوموا قبله يوماً)
قال ابن القيم (2) : (فأي فرق بين أن يشهد العدل الواحد على أمر رآه وعاينه يتعلق بمشهود له وعليه وبين أن يخبر بما رآه وعاينه مما يتعلق بالعموم وقد أجمع المسلمون على قبول أذان المؤذن الواحد وهو شهادة منه بدخول الوقت وخبر عنه يتعلق بالمخبر وغيره وكذلك أجمعوا على قبول فتوى المفتي الواحد وهي خبر عن حكم شرعي يعم المستفتي وغيره) .
المسألة الثانية: في الآثار الفقهية المترتبة على القول بها.
لقد ترتب على القول بهذه القاعدة مسائل فقهية كثيرة أهمها ما يأتي: -
1-الوضوء من مس الذكر:-
قال السرخسي: (وعلى هذا الأصل لم نعمل بحديث الوضوء من مس الذكر؛ لأن بسرة تفردت بروايته مع عموم الحاجة لهم إلى معرفته.
__________
(1) انظر: سنن ابن ماجة (1/529) .
(2) انظر: إعلام الموقعين (1/104) .(14/308)
فالقول بأن النبي عليه السلام خصها بتعليم هذا الحكم مع أنها لا تحتاج إليه ولم يعلم سائر الصحابة مع شدة حاجتهم إليه شبه المحال) .
أقول: قد سبق مناقشة هذه المسألة في القاعدة السابقة وهي مخالفة خبر الواحد للكتاب فلا حاجة للإعادة.
2- الوضوء مما مسته النار:
أقول:ورد عن رسول الله (أنه قال كما في حديث زيد بن ثابت: (الوضوء مما مست النار) .
وقوله عليه السلام كما في حديث أبي هريرة: (توضأوا مما مست النار) .
وقوله عليه السلام كما في حديث عائشة: (توضأوا مما مست النار) .
وكل هذه الأحاديث في صحيح مسلم (1) .
وورد فيه من حديث ابن عباس (2) : أن رسول الله (أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ.
وورد من حديث ميمونة (3) : أن النبي (أكل عندها كتفاً ثم صلى ولم يتوضأ.
وعن جابر بن عبد الله قال (4) : آخر الأمرين من رسول الله (ترك الوضوء مما مست النار.
قال الحافظ ابن حجر (5) : (قال النووي: كان الخلاف فيه معروفاً بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار إلا ما تقدم استثناؤه من لحوم الإبل.
وجمع الخطابي بوجه آخر وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب) .
قال ابن عبد البر (6) : (وقوله (توضئوا مما مست النار أمر منه بالوضوء المعهود للصلاة لمن أكل طعاماً مسته النار، وذلك عند أكثر العلماء، وعند جماعة أئمة الفقهاء منسوخ بأكله (طعاماً مسته النار وصلاته بعد ذلك دون أن يحدث وضوءاً.
فاستدل العلماء بذلك على أن أمره بالوضوء مما مست النار منسوخ.
__________
(1) انظر: صحيح مسلم (1/272-273) .
(2) انظر: صحيح مسلم (1/273) .
(3) انظر: صحيح مسلم (1/274) .
(4) رواه أبوداود في سننه (1/49) والنسائي في السنن الكبرى (1/105) وابن خزيمة في صحيحه (1/28) وابن حبان في صحيحه (3/417) .
(5) انظر: المجموع (2/57-60) وفتح الباري (1/311) .
(6) انظر: التمهيد (3/330-332) .(14/309)
وأشكل ذلك على طائفة كثيرة من أهل العلم بالمدينة والبصرة ولم يقفوا على الناسخ في ذلك من المنسوخ أو لم يعرفوا منه غير الوجه الواحد فكانوا يوجبون الوضوء مما مست النار ويتوضأون من ذلك، وممن روى عنه ذلك زيد بن ثابت وابن عمرو، وأبو موسى وأبو هريرة وعائشة وأم حبيبة أما المؤمنين، واختلف فيه عن أبي طلحة الأنصاري وعن ابن عمر وأنس بن مالك وبه قال خارجة بن زيد بن ثابت وأبو بكر بن عبد الرحمن وابنه عبد الملك ومحمد ابن المنكدر وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب الزهري فهؤلاء كلهم مدنيون، وقال به من أهل العراق أبو قلابة وأبو مخلد والحسن البصري ويحيى بن يعمر وهؤلاء كلهم بصريون.
وكان ابن شهاب رحمه الله قد عرف الوجهين جميعاً في ذلك وروى الحديثين المتعارضين في هذا الباب وكان يذهب إلى أن قوله (توضأوا مما غيرت النار ناسخ لفعله المذكور في حديث ابن عباس هذا ومثله وهذا مما غلط فيه الزهري مع سعة علمه وقد ناظره أصحابه في ذلك فقالوا كيف يذهب الناسخ على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء الراشدون فأجابهم بأن قال: أعيى الفقهاء أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله (من منسوخه) .
قلت: مما سبق ذكره من بعض الأحاديث والآثار في المسألة وأقوال العلماء اتضح أنها معدودة من باب تعارض الأدلة من الأحاديث والآثار المروية فيها فمن رجح أحد الطرفين قال به ومن جمع قال بما توصل إليه في نظره ولم يذكر أحد من العلماء الذين ذُكِروا أنه ترك حديث توضأوا مما مست النار لكونه حديثاً روي فيما تعم به البلوى فلا يعمل به.
3-تغسيل الجنازة وحملها:
لم يعمل القائلون بهذه القاعدة بخبر الوضوء والغسل من حمل الجنازة أو تغسيلها، لكون الخبر المروي في المسألة خبر آحاد فيما يعم به البلوى فلا يقبل.(14/310)
قلت: الحديث المشار إليه هو حديث رواه المغيرة (1) وحذيقة (2) وأبو هريرة (3) وابن عباس (4) قالوا: قال رسول الله (: (من غسل ميتاً فليغتسل) .
وزاد أبو هريرة (5) في حديثه: (ومن حمله فليتوضأ) .
وفي لفظ (6) : (من حمل جنازةً فليتوضأ) .
وفي لفظ (7) : (ِمنْ غُسْلِه الغُسْلُ، ومِنْ حَمْلِه الوضوء) .
وقد اختلف العلماء في تصحيحه، فقال الترمذي (8) : (حديث حسن، وقد روي عن أبي هريرة موقوفاً) .
وقال الإمام أحمد وعلي بن المديني (9) : لا يصح في هذا الباب شيء.
وقال محمد بن يحيى (10) : لا أعلم من غسل ميتاً فليغتسل حديثاً ثابتاً ولو ثبت لزمنا استعماله.
قال ابن حجر (11) : (وذكر البيهقي له طرقاً وضعفها،ثم قال: والصحيح أنه موقوف.
وقال البخاري: الأشبه موقوف.
وقد حسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وله طريق أخرى من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رفعه: مَنْ غَسَّل مَيْتَاً فليغتسل. ذكره الدارقطني وقال: فيه نظر. قال الحافظ: رواته موثقون) انتهى كلامه باختصار.
__________
(1) انظر: مسند الإمام أحمد (4/246) .
(2) انظر: معجم الطبراني الأوسط (3/149) والسنن الكبرى للبيهقي (1/303) .
(3) انظر: مسند الإمام أحمد (2/280، 433، 472) وسنن ابن ماجة (1/470) والسنن الكبرى للبيهقي (1/302) .
(4) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (1/305) .
(5) انظر: مسند الإمام أحمد (2/454) وصحيح ابن حبان (3/436) والطبراني في المعجم الأوسط (1/296) والسنن الكبرى للبيهقي (1/300، 302) .
(6) انظر: مسند الطيالسي (2/305) ومصنف ابن أبي شيبة (3/47) والسنن الكبرى للبيهقي (1/303) والكامل في الضعفاء (2/456) .
(7) انظر: سنن الترمذي (3/318) والسنن الكبرى للبيهقي (1/300-301) .
(8) في سننه (3/318) .
(9) انظر: تلخيص الحبير (1/136) .
(10) انظر: تلخيص الحبير (1/136) .
(11) انظر: تلخيص الحبير (1/136) .(14/311)
وقد جاء ما يعارض الأحاديث السابقة مثل قوله عليه السلام فيما رواه الحاكم (1) عن ابن عباس قال: قال رسول الله (: (ليس عليكم في غُسْلِ ميتكم غُسْلٌ إذا غسلتموه فإن ميتكم ليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم)
قال الحاكم (2) : (هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.
وفيه رفض لحديث مختلف فيه على محمد بن عمرو بأسانيد (من غسل ميتاً فليغتسل)) .
قلت: ولهذا اختلفت طرائق العلماء في العمل بهذه الأحاديث، فبعضهم رفضها لضعفها عنده، وبعضهم قال: إن الغسل من تغسيل الميت منسوخ كما ذهب إليه أبوداود (3) ، وأيده الحافظ ابن حجر في كتابه تلخيص الحبير (4) محتجاً بالحديث الأخير.
وقال: وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث والله أعلم.
وبعضهم جمع بين الأحاديث فقال: يحمل الأمر في الغسل على الندب أو المراد بالغسل غسل الأيدي كما صرح به في الحديث الأخير، يؤيده ما روي عن ابن عمر قال (5) : كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل.
قال البيهقي (6) : (أخبرنا أبو الحسين بن بشران العدل ببغداد ثنا إسماعيل بن محمد الصفار ثنا عبد الكريم بن الهيثم ثنا أبو اليمان أخبرني شعيب بن أبي حمزة قال: وقال نافع:كنا نغسل الميت فيتوضأ بعضنا ويغتسل بعض ثم يعود فنكفنه ثم نحنطه ونصلي عليه ولا نعيد الوضوء.
وبإسناده قال: أخبرني شعيب قال: قال نافع: قد رأيت عبد الله بن عمر حنط سعيد بن زيد وحمله فيمن حمله ثم دخل المسجد فصلى ولم يتوضأ) .
قال الخطابي (7) : (لا أعلم أحداً من الفقهاء يوجب الاغتسال على من غسل الميت ولا الوضوء من حمله، ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب) .
__________
(1) في المستدرك (1/543) والسنن الكبرى للبيهقي (1/306) .
(2) في المستدرك (1/543) .
(3) في سننه (3/201) .
(4) 1/137-138) .
(5) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (1/306) .
(6) في السنن الكبرى (1/306) .
(7) في معالم السنن (3/305) .(14/312)
أقول: تبين من استعراض الأحاديث والآثار الواردة في المسألة وأقوال العلماء فيها أنه لا صلة لأقوالهم بهذه القاعدة المزعومة فمن صحح الأحاديث جمع أو قال بالنسخ ومن ضعف رجع إلى البراءة الأصلية وأنه لا تكليف إلا بدليل صحيح.
4-رفع الأيدي عند الركوع وعند رفع الرأس منه:
ذهب القائلون بهذه القاعدة إلى عدم العمل بالأحاديث الواردة في الحض على رفع الأيدي عند الركوع وعند الرفع منه لكون هذه الأحاديث أخبار آحاد مروية فيما يعم به البلوى فلا تقبل.
والأحاديث المشار إليها أحاديث كثيرة وآثار متنوعة عن الصحابة والتابعين وغيرهم، فمن تلك الأحاديث:-
1-مارواه البخاري ومسلم في صحيحيهما (1) من حديث مالك بن الحويرث قال: إن رسول الله (كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه. وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه. وإذا رفع رأسه من الركوع، فقال (سمع الله لمن حمده) فعل مثل ذلك.
2- مارواه الشيخان في صحيحيهما (2) عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله (إذا قام للصلاة، رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه. ثم كبر. فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك.وإذا رفع من الركوع فعل مثل ذلك.
أقول: لقد روى كثير من علماء الحديث هذا الحديث في دواوينهم عن هذين الصحابيين وعن غيرهما، وممن روى ذلك: ابن أبي شيبة (3) ، والدارمي (4) ، وأبوداود (5) ، ابن ماجة (6) ، والترمذي (7) ، والنسائي (8) ، وابن خزيمة (9) ، والدارقطني (10) ، والبيهقي (11) ، وغيرهم.
__________
(1) انظر: صحيح البخاري (1/180) وصحيح مسلم (1/292) .
(2) انظر: صحيح البخاري (1/180) وصحيح مسلم (1/293) .
(3) في مصنفه (1/212) .
(4) في سننه (1/342) .
(5) في سننه (1/198) .
(6) في سننه (1/280) .
(7) في سننه (2/35) .
(8) في السنن الكبرى (1/221) .
(9) في صحيحه (1/294) .
(10) في سننه (1/287) .
(11) في السنن الكبرى (2/68) .(14/313)
قال الترمذي (1) : (وفي الباب عن عمر وعلي ووائل بن حجر ومالك بن الحويرث وأنس وأبي هريرة وأبي حميد وأبي أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة وأبي قتادة وأبي موسى الأشعري وجابر وعمير الليثي) .
قال الحسن البصري (2) :كان أصحاب رسول الله (يرفعون أيديهم إذا ركعوا وإذا رفعوا رؤوسهم من الركوع كأنما أيديهم مراوح.
وروى البخاري في (جزء رفع اليدين) (3) عن مالك: أن ابن عمر كان إذا رأى رجلاً لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى.
ونقل البخاري عن شيخه علي بن المديني قوله (4) : رفع اليدين حق على المسلمين بما رواه الزهري عن سالم عن أبيه.
قال البخاري في (جزء رفع اليدين) (5) : من زعم أن رفع الأيدي بدعة فقد طعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف من بعدهم وأهل الحجاز وأهل المدينة وأهل مكة وعدة من أهل العراق وأهل الشام وأهل اليمن وعلماء أهل خراسان منهم ابن المبارك حتى شيوخنا عيسى بن موسى وأبو أحمد وكعب بن سعيد …..ولم يثبت عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يرفع يديه) .
وذكر أنه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة (6) .
وذكر الحاكم وأبو القاسم بن منده ممن رواه: العشرة المبشرة بالجنة (7) .
قال الحافظ ابن حجر (8) :وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلاً.
قلت: إذا كان هذا الحديث وما في معناه قد بلغ عدد رواة أصله من الصحابة خمسين صحابياً أفلا يكون هذا الحديث من قبيل المتواتر؟!
__________
(1) في سننه (2/35) .
(2) السنن الكبرى للبيهقي (2/75) .
(3) ص 17) .
(4) انظر: جزء رفع اليدين (ص 9) .
(5) ص 54-55) .
(6) انظر: جزء رفع اليدين (ص 7) .
(7) انظر: فتح الباري (2/220) .
(8) في فتح الباري (2/220) .(14/314)
-وأيضاً - أولم يتحقق فيه أن (صاحب الشرع كان مأموراً بأن يُبَيِّن للناس ما يحتاجون إليه وقد أمرهم بأن ينقلوا عنه ما يحتاج إليه من بعدهم. فإذا كانت الحادثة مما تعم به البلوى فالظاهر أن صاحب الشرع لم يترك بيان ذلك للكافة وتعليمهم) .
أقول: فهل ترك صاحب الشرع بيان هذه السنة لكافة أصحابه وتعليمهم إياها مع أن عدد رواتها قد بلغوا خمسين رواياً؟!!
وبعد: فإنه لا يصح أن يقال: لا يجوز العمل بهذه السنة؛ لأنه لم يشتهر النقل فيها مع حاجة الخاص والعام إلى معرفتها؛ لأن هذا القول يكون حينئذٍ مكابرة مع ما ذكر من عدد رواتها وصحة طرقها وعدم وجود دليل صحيح يعارضها أو يدفعها.
فائدة:-
قال النووي رحمه الله (1) : (والأحاديث الصحيحة في الباب كثيرةٌ غَيْرُ منحصرة ... )
قلت: بهذه النقول وغيرها تَبَيَّنَ أن قول الجصاص (2) : (حديث رفع اليدين في الركوع، لو كان ثابتاً لنقل نقلاً متواتراً) قولٌ عارٍ عن التحقيق والتدقيق والبحث العلمي الرصين المتجرد للدليل لا للتعصب المقيت؛ لأنه قد سبق –وسيأتي إن شاء الله- النقل عن أئمة الحديث والأثر روايتهم له من طرق بلغت حد التواتر عند أهل العلم والمعرفة بالحديث وطرقه، وإلا فإن الجصاص ومن قال بقوله إنما هم مخبرون عن حالهم ومبلغ علمهم، وهم صادقون فيما أخبروا به عن أنفسهم مخطئون في حكمهم على أئمة الدنيا من أهل الحديث والأثر ومخطئون-أيضاً - في حكمهم على الحديث نفسه، كما أن القول بما ادعاه الجصاص ومن وافقه فيه فتح باب عظيم من أبواب الشر والفساد لرد سنة سيد المرسلين إذ لا يُعْجِزُ أي شخص لا يريد العمل بالسنة أن يدعي ما ادعوه.
__________
(1) انظر: المجموع (3/401) .
(2) انظر: الفصول في الأصول (3/115) .(14/315)
- وأيضاً - مخالف الجصاص ومن معه لا يُعْجِزُهُ أن يقول فيما ادعاه الجصاص ومن معه من تواتر بعض الأحاديث أو اشتهارها بأنها لم تثبت لأنها لو كانت ثابتة لنقلت نقلاً متواتراً، فما كان جوابهم عنها فهو بعينه جواب مخالفيهم.
فائدة أخرى:
قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي رحمه الله (1) : (لا نعلم مصراً من الأمصار ينسب إلى أهله العلم قديماً تركوا بإجماعهم رفع اليدين عند الخفض والرفع في الصلاة إلا أهل الكوفة.
والسبب في ذلك تعلقهم بما روي عن ابن مسعود عن النبي (: أنه كان لا يرفع يديه في الصلاة إلا مرة في أول شيء) انتهى.
قال ابن عبد البر (2) : (هو حديث انفرد به عاصم بن كليب واختلف عليه في ألفاظه وقد ضعف الحديث أحمد بن حنبل وعلله ورمى به) .
وقد احتج بعض متأخري الكوفة بحديث مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله (: (مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة) (3) .
قال ابن عبد البر (4) : (وهذا لا حجة فيه لأن الذي نهاهم عنه رسول الله (غير الذي كان يفعله لأنه محال أن ينهاهم عما سن لهم وإنما رأى أقواماً يعبثون بأيديهم ويرفعونها في غير مواضع الرفع فنهاهم عن ذلك.
وكان في العرب القادمين والأعراب من لا يعرف حدود دينه في الصلاة وغيرها وبعث (معلماً فلما رآهم يعبثون بأيديهم في الصلاة نهاهم وأمرهم بالسكون فيها وليس هذا من هذا الباب في شيء والله أعلم) انتهى.
قلت: لم يعمل أبو حنيفة وسفيان الثوري والحسن بن حي وفقهاء الكوفة بأحاديث رفع اليدين في الركوع والرفع منه؛ لأنها لم تصح عندهم، مع تمسكهم بما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه من عدم رفعه ليديه في تلك المواطن.
__________
(1) انظر: التمهيد 9/213) .
(2) في التمهيد (9/219) .
(3) رواه مسلم في صحيحه (1/322) .
(4) في التمهيد (9/221-222) .(14/316)
والدليل على عدم صحة هذه السنة عند أبي حنيفة رحمه الله ما رواه البيهقي في السنن الكبرى (1) حيث قال: (قال: وكيع صليت في مسجد الكوفة فإذا أبو حنيفة قائم يصلي وابن المبارك إلى جنبه يصلي فإذا عبد الله يرفع يديه كلما ركع وكلما رفع وأبوحنيفة لا يرفع فلما فرغوا من الصلاة.
قال أبو حنيفة لعبد الله: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تكثر رفع اليدين أردت أن تطير.
قال له عبد الله: يا أبا حنيفة قد رأيتك ترفع يديك حين افتتحت الصلاة فأردت أن تطير.
فسكت أبو حنيفه.
قال وكيع: فما رأيت جواباً أحضر من جواب عبد الله لأبي حنيفة) .
قلت: من المعلوم من الدين بالضرورة أن الاستهزاء بشيء من السنة الصحيحة الثابتة هو استهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبشرعه، والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بشرعه كفر مخرج من الملة.
فإن قيل بثبوت هذه السنة عند أبي حنيفة ومن ثَمَّ صدر عنه ما صدر فهذا كفر بالله ينزه عنه أبو حنيفة رحمه الله فلزم حينئذٍ القول بأن هذه السنة لم تثبت عنده، بدليل أنه كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، بما ظن صحته عن ابن مسعود رضي الله عنه من عدم الرفع في غير تكبيرة الإحرام، ولم يقل لابن المبارك ما قال له في الرفع عند الركوع والرفع منه لكونها سنة في نظره.
فالمسألة إذن ليست كما صورها السرخسي ومن قال بقوله من أنها من باب خبر الواحد إذا روى خبراً فيما يعم به البلوى لا يقبل، بل هي من قبيل عمل كل إمام بما بلغه من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
المطلب الرابع: في رد خبر الواحد لكونه حديثاً قد أعرض عنه الأئمة من الصدر الأول وهو ما لم تجر المحاجة بخبر الواحد بين الصحابة مع ظهور الاختلاف بينهم في الحكم
وفيه مسألتان:-
__________
(1) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (2/82) .(14/317)
المسألة الأولى: في أدلة القائلين بهذه القاعدة (1) :
استدل القائلون بصحة هذه القاعدة: بأن الخبر الذي هذه صفته لا يقبل؛ لأنه زيف؛ ذلك أن الصحابة هم الأصول في نقل الدين ولا يتهمون بالكتمان ولا بترك الاحتجاج بما هو الحجة والاشتغال بما ليس بحجة.
فإذا ظهر منهم الاختلاف في الحكم وجرت المحاجة بينهم فيه بالرأي -والرأي ليس بحجة- مع ثبوت الخبر فلوكان الخبر صحيحاً لاحتج به بعضهم على بعض حتى يرتفع به الخلاف الثابت بينهم بناءً على الرأي فكان إعراض الكل عن الاحتجاج به دليلاً ظاهراً على أنه سهو ممن رواه بعدهم أو هو منسوخ.
وقد يعترض على هذا بأن يقال: لا يخلو حين اختلاف الصحابة في المسألة من أن يعلموا جميعاً أو يعلم بعضهم أن فيها دليلاً عن رسول الله (أو أن لا يعلموا بأجمعهم، فإن علموا بالدليل ومن ثم تركوه جميعاً قائلين بأنه لم يصح عن رسول صلى الله عليه وسلم فيها شيء؛ فإن ذلك والقول والفعل إجماع منهم على عدم صحته وأنه مطعون فيه أو منسوخ وإجماعهم حجة، وإن علمه البعض دون البعض الآخر، فإن كان موافقاً لقولهم ولم يحتجوا به وقالوا عن الحديث بأنه لم يثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم فقد يقال: إنه لا يصح لاحتمال أنه إذا سمعه المخالف لهم قد يقر به عن الرسول عليه السلام ويرجع عن قوله. وإن كان مخالفاً لقولهم موافقاً لقول مخالفيهم فترك من علمه العمل به لا يدل على عدم صحته لما سبق، وإن لم يعلم به الجميع فلا يخلو من أن يكون مخالفاً لقول الجميع أو لا، فإن كان مخالفاً لقول الجميع فهذا دليل على أنه غير صحيح ثم هذا لا يتصور وقوعه لعصمة الله أمة محمد (من الاجتماع على ضلالة فإن وقع فهذا دليل على بطلانه، وإن كان الحديث موافقاً لأحد القولين، فهذا متصور وقوعه ومن ثم فالراجح من القولين ما وافق الحديث.
__________
(1) انظر: أصول السرخسي (1/369) وكشف الأسرار للبخاري (3/18-19) وكشف الأسرار للنسفي (2/53) .(14/318)
المسألة الثانية: الآثار الفقهية المترتبة على القول بهذه القاعدة:
لقد ترتب على القول بهذه القاعدة رد بعض الأحاديث الواردة في بعض المسائل الفقهية والتي منها ما يأتي: -
الحديث الأول: (الطلاق بالرجال والعدة بالنساء) .
قال السرخسي (1) : (فإن الكبار من الصحابة اختلفوا في هذا وأعرضوا عن الاحتجاج بهذا الحديث أصلاً فعرفنا أنه غير ثابت أو مؤول. والمراد به أن إيقاع الطلاق إلى الرجال) .
قلت: روي هذا الحديث عن علي (2) وابن مسعود (3) وابن عباس (4) وزيد بن ثابت (5) بلفظ: (الطلاق بالرجال والعدة بالنساء) .
وروي عن بعض التابعين منهم:سعيد بن المسيب (6) ، والشعبي (7) ، وعكرمة (8) ، وسليمان ابن يسار (9) نحوه.
وروي عن علي (10) وعبد الله (11) أنهما قالا: (الطلاق والعدة بالنساء) . وبه قال اثنا عشر من أصحاب رسول الله ((12) .
كما روي نحوه عن إبراهيم (13) والحسن (14) وغيرهما.
__________
(1) انظر: أصول السرخسي (1/369) .
(2) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (7/370) .
(3) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (7/370) ومسند ابن الجعد (117) والمعجم الكبير للطبراني (9/337) .
(4) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (7/370) ومصنف عبد الرزاق (7/236) .
(5) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (7/369) .
(6) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (7/370) ومصنف ابن أبي شيبة (4/102) ومصنف عبد الرزاق (7/236) .
(7) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (4/101) .
(8) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (4/101) .
(9) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (4/101) .
(10) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (4/100) ومصنف عبد الرزاق (7/237) .
(11) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (4/101) ومصنف عبد الرزاق (7/237) .
(12) انظر: مصنف عبد الرزاق (7/237) .
(13) انظر: مصنف عبد الرزاق (7/237) ومصنف ابن أبي شيبة (4/101) .
(14) انظر: مصنف عبد الرزاق (7/237) ومصنف ابن أبي شيبة (4/101) .(14/319)
وقد أطال العلماء البحث في هذه الآثار تصحيحاً وتضعيفاً، رفعاً ووقفاً، فلتنظر في: الدراية في تخريج أحاديث الهداية (1) ، ونصب الراية (2) ، وتلخيص الحبير (3) ، ونيل الأوطار (4) ، وتحفة الأحوذي (5) ، وعون المعبود (6) .
قال ابن الجوزي (7) : (وقد رويت أحاديث في الطرفين كلها ضعاف) .
ومن هنا يتبين عدم صحة إدراج هذا الحديث في هذا الوجه من وجوه الانقطاع لمعنى بدليل معارض، ذلك أن هذا ليس من قبيل خبر الواحد الصحيح الذي أعرض عنه الصحابة في الاحتجاج به بل هي من قبيل اختلاف الصحابة على قولين فمن سعد بالنظر الصحيح في الدليل فهو أولى بالحق.
وقد بَيَّن المباركفوري (8) خلاف العلماء في هذه المسألة بقول مختصر مفيد، فقال: (قال أبو حنيفة: الطلاق يتعلق بالمرأة،فإن كانت أمة يكون طلاقها اثنتين سواء كان زوجها حراً أو عبداً.
وقال الشافعي ومالك وأحمد: الطلاق يتعلق بالرجل فطلاق العبد اثنتان وطلاق الحر ثلاث ولا نظر للزوجة.
وعدة الأمة على نصف عدة الحرة فيما له نصف فعدة الحرة ثلاث حيض وعدة الأمة حيضتان لأنه لا نصف للحيض
وإن كانت تعتد بالأشهر فعدة الأمة شهر ونصف وعدة الحرة ثلاثة أشهر) .
الحديث الثاني: ما يروى أن النبي (قال: (ابتغوا في أموال اليتامى خيراً كيلا تأكلها الصدقة)
قال السرخسي: (فإن الصحابة اختلفوا في وجوب الزكاة في مال الصبي وأعرضوا عن الاحتجاج بهذا الحديث أصلاً فعرفنا أنه غير ثابت إذ لو كان ثابتاً لاشتهر فيهم وجرت المحاجة به بعد تحقق الحاجة إليه بظهور الاختلاف) .
__________
(1) 2/70) .
(2) 3/225) .
(3) 3/212) .
(4) 7/26) ، (7/92) .
(5) 4/301-302) .
(6) 6/184) .
(7) انظر: أحاديث الخلاف (2/299) .
(8) في تحفة الأحوذي (4/301) .(14/320)
قلت: الحديث الذي أشار إليه السرخسي قد روي عن جماعة من الصحابة مرفوعاً وموقوفاً، فمن ذلك (1) :-
1- ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص (2) أن رسول الله (قام فخطب الناس، فقال: من ولي يتيماً له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة.
وفي لفظ: قال (3) : قال رسول الله (: احفظوا اليتامى في أموالهم لا تأكلها الزكاة.
وفي لفظ آخر: أن رسول الله (قال (4) : ألا من ولي يتيماً له مال فليتجر له فيه ولا يتركه تأكله الزكاة.
وفي لفظ: قال (5) : قال رسول الله (: ابتغوا اليتامى في أموالهم لا تأكلها الزكاة.
2-ما رواه أنس بن مالك قال (6) :قال رسول الله (: اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة.
3-ما رواه يوسف بن ماهك (7) أن رسول الله (قال: ابتغوا في مال اليتيم أو في أموال اليتامى لا تذهبها أو لا تستهلكها الصدقة.
قال البيهقي (8) : هذا مرسل.
4- ما رواه - أيضاً - عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال (9) : قال رسول الله (: في مال اليتيم زكاة.
وأما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والتي تدل على وجوب الزكاة في مال اليتيم فكثيرة منها:-
__________
(1) للوقوف على طرق ما روي في المسألة من أحاديث وآثار والحكم عليها يرجع – ضرورة – إلى: الدراية (1/249) وتلخيص الحبير (2/157) وتحفة الأحوذي (3/238) .
(2) انظر: سنن الدارقطني (2/110) .
(3) انظر: سنن الدارقطني (2/110) .
(4) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (4/107) ، (6/2) .
(5) انظر: المعجم الأوسط للطبراني (1/298) .
(6) انظر: المعجم الأوسط للطبراني (4/264) .
(7) انظر: مصنف عبد الرزاق (4/66) والسنن الكبرى للبيهقي (4/107) ، (6/2) .
(8) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (4/107) .
(9) انظر: سنن الدارقطني (2/110-114) .(14/321)
أ-قال سعيد بن المسيب (1) : إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة.
ب-قال عبد الرحمن بن أبي ليلى (2) : إن علياً زكى أموال بني أبي رافع فلما دفعها إليهم وجدوها بنقص.
فقالوا: إنا وجدناها بنقص.
فقال علي رضي الله تعالى عنه: أترون أن يكون عندي مالٌ لا أزكيه.
ج-قال عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال (3) : كانت عائشة رضي الله تعالى عنها تليني وأخاً لي يتيم في حجرها وكانت تخرج من أموالنا الزكاة.
د-قال نافع (4) : إن ابن عمركان يستسلف أموال اليتامى عنده لأنه كان يرى أنه أحرز له من الوضع. قال: وكان يؤدي زكاته من أموالهم.
هـ-روى سالم عن أبيه (5) : أنه كان عنده مال يتيمين فجعل يزكيه.
فقلت: يا أبتاه لا تتجر فيه ولا تضرب، ما أسرع هذه فيه.
قال: َلأُزَكِيَّنَهُ ولو لم يبق إلا درهم. قال: ثم اشترى لهما به داراً.
وحديث عبد الرزاق عن ابن جريج قال (6) : سئل عطاء أفي مال اليتيم الصامت صدقة؟ فعجب، وقال: ماله لا يكون عليه صدقة؟ قال: نعم على مال اليتيم الصامت والحرث والماشية وغير ذلك من ماله.
ز-وقد روي الأمر بتزكية مال اليتيم عن الحسن بن علي وجابر بن عبد الله وغيرهما (7) .
وإلى وجوب الزكاة في مال اليتيم ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم.
هذا وقد رويت بعض الآثار عن بعض الصحابة وبعض التابعين تدل على عدم القول بتزكية مال اليتيم، منها:-
__________
(1) انظر: سنن الدارقطني (2/110-114) والسنن الكبرى للبيهقي (4/107) ، (6/2) .
(2) انظر: سنن الدارقطني (2/110-114) والسنن الكبرى للبيهقي (4/107) .
(3) انظر: مصنف عبد الرزاق (4/66) والسنن الكبرى للبيهقي (4/107) ، (6/2) .
(4) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (6/2) .
(5) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (6/2) .
(6) انظر: مصنف عبد الرزاق (4/66) .
(7) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (4/107) . .(14/322)
1-ما رواه عكرمة عن ابن عباس قال (1) : لا يجب على مال الصغير زكاة حتى تجب عليه الصلاة.
قال الدارقطني (2) : (فيه ابن لهيعة لا يحتج به) .
2-ما رواه مجاهد عن ابن مسعود قال (3) : من ولي مال يتيم فَلْيُحْصِ عليه السنين فإذا دفع إليه ماله أخبره بما فيه من الزكاة فإن شاء زكى وإن شاء ترك.
قال الشافعي (4) : هذا ليس بثابت عن ابن مسعود من وجهين:
أحدهما: أنه منقطع، وأن الذي رواه: ليس بحافظ.
قال البيهقي (5) : (قال الشيخ: وجهة انقطاعه: أن مجاهداً لم يدرك ابن مسعود. وراويه الذي ليس بحافظ: هو ليث ابن أبي سليم، وقد ضعفه أهل العلم بالحديث.
وروي عن ابن عباس إلا أنه يتفرد بإسناده ابن لهيعة، وابن لهيعة لا يحتج به والله أعلم) .
3-ما رواه عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن يقول في زكاة مال اليتيم (6) : ليست عليه زكاة كما ليست عليه صلاة.
4-ما رواه عبد الرزاق عن الثوري عن يونس عن الحسن قال: سألته عن مال اليتيم.
فقال (7) : عندي مال لابن أخي فما أزكيه.
5-ما رواه –أيضاً - عبد الرزاق عن الثوري عن جابر عن الشعبي، ومنصور عن إبراهيم قال (8) : ليس على مال اليتيم زكاة.
وإلى عدم وجوب الزكاة في مال اليتيم ذهب الأئمة سفيان الثوري وعبد الله ابن المبارك وأبوحنيفة وأصحابه.
__________
(1) انظر: سنن الدارقطني (2/110) .
(2) في سننه (2/110) .
(3) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (4/107) .
(4) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (4/107) .
(5) في السنن الكبرى (4/107) .
(6) انظر: مصنف عبد الرزاق (4/66) .
(7) انظر: مصنف عبد الرزاق (4/66) .
(8) انظر: مصنف عبد الرزاق (4/66) .(14/323)
قال ابن الهمام (1) : (وأما ما روي عن عمر وابنه وعائشة رضي الله عنهم من القول بالوجوب في مال الصبي والمجنون لا يستلزم كونه عن سماع، إذ يمكن الرأي فيه، فيجوز كونه بناء عليه فحاصله قول صحابي عن اجتهاد عارضه رأي صحابي آخر) انتهى.
قلت: ذكرت قول ابن الهمام للدلالة على أن ما قاله السرخسي ومن معه من أن هذه المسألة مبنية على أن خبر الواحد الصحيح المسند إذا روي في مسألة تنازع فيها الصحابة رضي الله عنهم ولم يلتفت أحد منهم إلى الاحتجاج به فإن ذلك يدل على زيفه أو نسخه قول مجانبه الصواب، ذلك أن الصحابة لم يثبت عنهم بالسند الصحيح الاختلاف في وجوب الزكاة في مال اليتيم (2) ، ومنه تتضح مجازفة السرخسي ومن قال بقوله بأن الصحابة قد تركوا بأجمعهم الاحتجاج بالأحاديث السابقة، وعلى فرض تسليم اختلافهم في ذلك فمن أخبر السرخسي ومن معه بأن القائلين بوجوبها من الصحابة والتابعين لم يعولوا على الاحتجاج بها، كيف وقد نُقِل ما نُقِل، بل إن هذه الدعوى الباطلة لتفتح الباب على مصراعيه للطعن في كل حديث اختلف الصحابة في مسألة هو نص فيها إذ لا يُعْجِز المخالف أن يقول ما قاله هؤلاء، وبهذا المسلك تُبْطَلُ السُنَنُ.
* * *
الخاتمة:
بتوفيق من الله وحده لا شريك له انتهيت من هذا البحث متوصلاً إلى نتائج هامة أهمها ما يأتي:-
1-أن علم أصول الفقه علم عظيم الشأن في علوم الشريعة الإسلامية إلا أنه قد شانه وأذهب بريقه وصفاءة - في بعض جوانبه - بعض ما أدخل فيه من مسائل ليس لها صلة به البتة.
ومن هذه المسائل الدخيلة على هذا الفن مسألتنا المبحوثة في هذا البحث فهي مسألة وثيقة الصلة بمحث من مباحث علم العقيدة.
__________
(1) انظر: شرح فتح القدير (2 / 157) .
(2) نص على ذلك المباركفوري في تحفة الأحوذي (3/239) .(14/324)
2-كما توصلت إلى أنه لا خلاف بين أحد من علماء الأمة -لا سيما الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المعتبرين ومنهم الأئمة الأربعة - في وجوب الاحتجاج بالسنة، معتبرينها صنو القرآن الكريم في التشريع العلمي والعملي.
3-أن الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى يرون حجية خبر الواحد مطلقاً وأنه يفيد العلم والعمل معاً خلافاً لمن شذ عن طريقهم ممن نَسَبَ نفسه إليهم.
4-أن تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد تقسيم اصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا لم يؤد إلى رد الأخبار سواء في باب العقيدة أو العمل.
5-اشتهر مذهب الحنفية دون بقية المذاهب بقسم ثالث من أقسام الأخبار، وهو ما يعرف ب (المشهور) حيث جعلوه قسيماً للمتواتر والآحاد وقالوا إنه يمكن الزيادة به على النص كالمتواتر، فهو عندهم فوق الآحاد ودون المتواتر؛ لذا كانت أحكامه فيها شبه بأحكام الآحاد لكون أصله آحاداً، وفيها شبه بأحكام المتواتر لكونه قد تواتر فيما بعد.
6-أن الطعن في خبر الواحد الصحيح بما يسمى بالانقطاع الباطن لدليل معارض قول مخترع اخترعه عيسى بن أبان ثم تبعه على ذلك أبو زيد الدبوسي وفيما بعد بقية علماء الحنفية كالبزدوي والنسفي وعبد العزيز البخاري حتى أصبح هذا القول أصلاً من أصول الحنفية.
7- أن أبا حنيفة وصاحبيه رحمهم الله تعالى براء من هذه القواعد الموهومة، حيث لم يثبت – بعد البحث العلمي الدقيق – عنهم القول بها، وما أثر عنهم من فتاوى فقهية لم تكن مبنية عليها، وأما هذه القواعد المذكورة فهي من اختراع عيسى بن أبان حيث قام باستخلاص ما يؤيدها من بعض فتاوى الإمام أبي حنيفة والصاحبين بتعسف شديد، وتخريج أقوالهم عليها لإضفاء القبول عليها لدى
اتباع الإمام، فليست هذه القواعد قواعد أصول فقه أبي حنيفة وأصحابه وإنما هي قواعد أصول فقه عيسى بن أبان وأتباعه.(14/325)
قال الشيخ ابن جبرين (1) : ( ... وبهذا يعرف تقديس هؤلاء الأئمة للحديث المتواتر والآحاد.
ولما أن روي عنهم بعض المسائل التي لا تجتمع ظاهراً مع ما صح من الأحاديث، وكان قد قلدهم بعض من أتى بعدهم، واعتمد أقوالهم نصوصاً ترد لها الأحاديث الصحيحة، وكان لا بد يعتذر أتباعهم عن تلك الأحاديث الواردة عليهم، فهنالك وضعوا قواعد وأصولاً زعموا أن أئمتهم لا يقبلون ما خالفها من أخبار الآحاد، ككون الحديث فيما تعم به البلوى، أو خلاف القياس، أو لم يعمل به راوية ونحو ذلك. وإذا كان قد روي عن الأئمة شيء من تلك القواعد فلعلهم أرادوا بها معنى صحيحاً لا على الإطلاق ... )
وقال (2)
__________
(1) انظر: أخبار الآحاد في الحديث النبوي (188) .
(2) انظر: المصدر السابق (182) .
المصادر والمراجع
الإبهاج في شرح المنهاج، لعلي بن عبد الكافي السبكي (ت 756هـ) وولده عبد الوهاب بن علي (ت 771هـ) ، صححه جماعة من العلماء، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1404هـ –1984م
إحكام الفصول في أحكام الأصول،لسليمان بن خلف الباجي (ت474هـ) ، تحقيق / الدكتور عبد الله محمد الجبوري، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1409هـ-1989م
الإحكام في أصول الأحكام، لعلي بن أبي علي بن محمد الآمدي (ت 631هـ)
الإحكام في أصول الأحكام، لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري (ت456 هـ) ، دار الآفاق الجديدة للنشر – بيروت – لبنان – طبعة 1403هـ 1983م، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – طبعة 1405هـ –1983م
أخبار الآحاد في الحديث النبوي، حجيتها، مفادها، العمل بموجبها، لعبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، طبع دار عالم الفوائد – مكة المكرمة – السعودية، الطبعة الثانية –1416هـ
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، لمحمد بن علي الشوكاني (ت1255 هـ) ، طبع دار المعرفة – بيروت – لبنان، عباس أحمد الباز – مكة المكرمة
أصول السرخسي، لمحمد بن أحمد السرخسي (ت 490هـ) ، تحقيق أبو الوفا الأفغاني لجنة إحياء المعارف النعمانية – حيدر آباد الدكن – الهند.
إعلام الموقعين عن رب العالمين، لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (751هـ) ، تعليق / طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل – بيروت – لبنان
الأم، لمحمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ) ، مكتبة الكليات الأزهرية – مصر – بإشراف / محمد زهدي النجار، طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة، الطبعة الأولى 1381هـ _ 1961م
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر مسعود الكاسأني الحنفي (ت 587هـ) ، الطبعة الثانية 1402 هـ –1982م، دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان.
البرهان في أصول الفقه، لعبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني (ت478 هـ) ، تحقيق / عبد العظيم الديب، طبع دولة قطر – على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، الطبعة الأولى 1399هـ
تأويل مختلف الحديث، لعبد الله بن مسلم قتيبة الدنوري (ت/276هـ) ، تحقيق/محمد زهري النجار، سنة الطبع 1393هـ – 1972م، دار الجيل – بيروت -لبنان
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (ت1353 هـ) ، دار الكتب العلمية - بيروت -لبنان
تحقيق أحاديث الخلاف، لعبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي (ت/597 هـ) ، تحقيق/مسعد عبد الحميد محمد السعدي، الطبعة الأولى سنة الطبع/1415هـ، دار الكتب العلمية –بيروت –لبنان
تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911هـ) ، تحقيق / عبد الوهاب عبد اللطيف، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الثانية 1399هـ – 1979م
التعارض والترجيح عند الأصوليين وأثرهما في الفقه الإسلامي، د. محمد بن إبراهيم محمد الحفناوي، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع – مصر - المنصورة، الطبعة الثانية (1408هـ – 1987م)
تلخيص الحبير في أحاديث الراافعي الكبير، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تحقيق / السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، سنة الطبع 1384هـ –1964م، المدينة المنورة - السعودية
التمهيد في أصول الفقه، لمحفوظ بن أحمد بن الحسن أبي الخطاب الكلوذاني (ت510 هـ) ، تحقيق / الدكتور مفيد محمد أبو عمشه، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، طبع دار المدني – جده – السعودية، الطبعة الأولى 1406هـ –1985م
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ليوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري (ت 436 هـ) ، تحقيق/مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، سنة الطبع 1387هـ، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب
تيسير التحرير، لمحمد أمين المعروف بأمير باد شاه، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان
تيسير مصطلح الحديث، لمحمود الطحان، الطبعة الرابعة (1402هـ-1982م) ، طبع مكتبة السروات للنشر والتوزيع
جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، ليوسف بن عبد البر النمري القرطبي (ت463 هـ) ، تقديم / الأستاذ عبد الكريم الخطيب، طبع المطبعة الفنية، الطبعة الثانية 1402 هـ – 1982م، دار الكتب الإسلامية – القاهرة – مصر
الجامع لأحكام القرآن، لمحمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي (ت671 هـ) المحقق/ أحمد بن العلم البرودي، الطبعة الثانية - 1372م، جهة النشر دار الشعب القاهرة مصر
الجرح والتعديل، لعبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الزاري التميمي (ت 327 هـ) ، الطبعة الأولى – 1371هـ-1952م، دار الأحياء التراث العربي – بيروت - لبنان
جماع العلم، لمحمد بن أدريس الشافعي (ت 204 هـ) ، الطبعة الأولى - 1405هـ، دار الكتب العلمية – بيروت - لبنان
حاشية ابن عابدين، محمد أمين، طبع دار الفكر – بيروت - لبنان، الطبعة الثانية – 1386هـ
حاشية الجلال المحلي على جمع الجوامع، محمد بن أحمد المحلي، طبع بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية 1356هـ – 1937م.
حجية السنة، د. عبد الغني عبد الخالق، دار القرآن الكريم – بيروت – والمعهد العالمي للفكر الإسلامي- واشنطن، الطبعة الأولى 1407هـ –1986م
حلية الأولياء، أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني (ت 430هـ) ، تحقيق / عبد الحفيظ سعد عطية، طبع دار السعادة / على نفقة محمد إسماعيل ومحمد أمين أفندي، الطبعة الأولى 1392هـ –1972م
خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته، القاضي برهون، مطبعة النجاح الجديدة – المغرب – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1415هـ – 1995م
الدارية في تخريج أحاديث الهداية، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)
المحقق / عبد الله بن هاشم اليماني المدني، دار المعرفة - بيروت - لبنان
ذم الكلام وأهله، عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (ت481هـ) ، تحقيق / عبد الرحمن ابن عبد العزيز الشبل، مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة – السعودية
الطبعة الأولى 1416هـ –1996م.
الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ) ، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر طبع المكتبة العلمية – بيروت – لبنان
زاد المعاد في هدي خير العباد، لأبي عبد الله محمد أبي بكر الزرعي الدمشقي أبن القيم الجوزية (ت 751هـ) ، تحقيق وتخريج / شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط
الطبعة الثانية (1405هـ-1985م) ، جهة النشر مؤسسة الرسالة بيروت لبنان
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة، محمد ناصر الدين الألباني تحقيق / زهير الشاويش، المكتب الإسلامي – دمشق – بيروت، الطبعة الخامسة 1405هـ – 1985م
السنة المفترى عليها، سالم علي البنهساوي، دار الوفاء – مصر – المنصورة. طبع دار البحوث العلمية – الكويت – الكويت، الطبعة الرابعة 1413هـ – 1992م
السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مصطفى السباعي، المكتبة الإسلامي - دمشق – بيروت، الطبعة الثانية (1398هـ-1978م)
سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني (ت 275هـ) ، تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي طبع دار إحياء الكتب العربية – مصر – القاهرة، دار الحديث
سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة (ت 279هـ) ، تحقيق / أحمد محمد شاكر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية 1398هـ – 1978م
سنن الدارقطني، لعلي بن عمر أبو الحسن الدارقطني (ت385 هـ) ، تحقيق / السيد هاشم اليماني المدني، 1386هـ – 1966م، دار المعرفة – بيروت - لبنان
سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت 255هـ) ، تحقيق / السيد عبد الله هاشم يماني، طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة، طبعة 1386هـ 1966م
السنن الكبرى، لأحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي (ت 303 هـ) تحقيق / د. عبد الغفار سليمان البنداري،سيد كسروي حسن، الطبعة الأولى 1411هـ –1991م، دار الكتب العلمية – بيروت - لبنان
سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748هـ) ، تحقيق / شعيب الأرناؤط ومحمد نعيم العرقسوسي، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة التاسعة 1413هـ
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللآلكائي (ت 418هـ) ، تحقيق / د. أحمد سعد حمدان، دار طيبة للنشر والتوزيع – الرياض – السعودية
شرح السنة، حسين بن مسعود البغوي (ت 516هـ) ، تحقيق / شعيب الأورناؤط ومحمد زهير الشاويش، طبع المكتب الإسلامي – بيروت – لبنان، الطبعة الثانية 1403هـ – 1983م
شرح فتح القدير، محمد بن عبد الواحد السيواسي (ت681هـ) ، طبع دار الفكر – بيروت – لبنان، الطبعة الثانية
شرح الكوكب المنير، محمد بن أحمد بن عبد العزيز المعروف بابن النجار (ت 972هـ) تحقيق / الدكتور محمد الزحيلي، والدكتور نزيه حماد، طبع دار الفكر – دمشق – سوريا، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى
شرح مختصر الروضة، سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي (ت 716هـ) تحقيق / د. عبد الله بن عبد المحسن التركي،طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1410هـ –1990م
صحيح ابن خزيمة (ت 311هـ) ، لمحمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي، 1414هـ_1994م، مكتبة دار الباز - السعودية
صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (ت 256هـ) ،طبع المكتبة الإسلامية – استانبول – تركيا، مكتبة العلم – جدة – السعودية
صحيح الجامع الصغيروزيادته، محمد ناصر الدين الألباني، تحقيق / زهير الشاويش، المكتب الإسلامي - بيروت - لبنان، الطبعة الثانية (1406 هـ –1986م)
طبقات الحنابلة، محمد بن أبي يعلى (ت 524هـ) ، دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت – لبنان
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لأبي عبد الله محمد أبي بكر الزرعي الدمشقي أبن القيم الجوزية (ت 751هـ) ، تحقيق / د. محمد جميل غازي، دار المدني للطباعة والنشر - السعودية - جدة، الطبعة الأولى
العدة في أصول الفقه، محمد بن حسين الفراء أبو يعلى (ت 458هـ) ، تحقيق / أحمد بن علي سير المباركي، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1400هـ –1980م
عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق العظيم أبادي، الطبعة الثانية 1415هـ، بيروت - لبنان
فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852هـ) ، بترقيم / محمد فؤاد عبد الباقي، طبع بإشراف محب الدين الخطيب في دار المعرفة – بيروت – لبنان
فتح الغفار بشرح المنار، زين الدين بن إبراهيم الشهير بابن نجيم (ت970هـ) ، طبع مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، الطبعة الأولى 1255هـ 1936م
الفصول في الأصول (أصول الجصاص) ، لأحمد بن على الرازي الجصاص (370هـ) تحقيق / الدكتور عجيل جاسم النشمي، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، الطبعة الأولى 1405هـ – 1985م
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري،طبع المطبعة الأميرية – بولاق – مصر، الطبعة الأولى 1324هـ
القاموس المحيط، لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي، طبع مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1406هـ – 1986م
قواطع الأدلة في أصول الفقه، منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني (ت 489هـ)
تحقيق / الدكتور / عبد الله بن حافظ حكمي، الطبعة الأولى 1419هـ – 1998م
الكامل في ضعفاء الرجال، لعبد الله عدي بن عبد الله الجرجاني (ت365 هـ) تحقيق / يحي مختار غزاوي، الطبعة الثانية 1409هـ-1988م، دار الفكر – بيروت - لبنان
كتاب مسائل الإمام أحمد، سليمان بن الأشعث بن اسحاق بن بشير بن شداد السجستاني
تقديم / محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت – لبنان
الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، لعبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي (ت235 هـ) ، تحقيق / كمال يوسف الحوت، الطبعة الأولى 1409هـ، مكتبة الرشد – الرياض - السعودية
كشف الأسرار شرح المصنف على المنار، لعبد الله بن أحمد المعروف بالنسفي (ت 710هـ) ، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1406هـ – 1986م
كشف الأسرار في أصول فخر الإسلام البزدوي، لعبد العزيز بن أحمد البخاري (ت 730هـ) ،الصدف ببشرز – كراتشي – باكستان.
كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما أشتهر من الأحاديث على الناس، لإسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي (ت 1162 هـ) ،تحقيق / أحمد القلاس، الطبعة الرابعة 1405هـ
جهة النشر/ مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان.
الكليات معجم المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني الكفوي (ت1094 هـ) ، تحقيق / د. عدنان درويش، ومحمد المصري، دار الكتاب الإسلامي – القاهرة – مصر، الطبعة الثانية (1413هـ –1992م)
لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، طبع دار صادر – بيروت – لبنان.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لعلي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807هـ) ، دار الريان للتراث – القاهرة – مصر، طبع سنة 1407هـ
المجموع شرح المهذب، لأبي زكريا محيي بن شرف النووي (ت676 هـ) ، جهة النشر / دار الفكر – بيروت - لبنان
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، جمع وترتيب / عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، طبع بإشراف الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين.
المحصول في علم الأصول، لمحمد بن عمر بن الحسين الرازي (ت 606هـ)
طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1408هـ –1988م
المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين، لمحمد العروسي عبد القادر، دار حافظ للنشر والتوزيع –جده – السعودية، الطبعة الأولى 1410هـ –1990م
المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل، جمع وتحقيق ودراسة / عبد الإله بن سلمان بن سالم الأحمد، دار طيبة - الرياض – المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1412هـ
المستدرك على الصحيحين، لمحمد بن عبد الله المعروف بالحاكم (ت 405هـ)
طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان.
المستخرح على المستدرك للحاكم (أمالي الحافظ العراقي) ، لعبد الرحيم بن الحسين العراقي (806هـ) ، تحقيق / محمد عبد المنعم رشاد، الطبعة الأولى – 1410هـ
الناشر مكتبة السنة – القاهرة – مصر
المستصفى من علم الأصول، لمحمد بن محمد الغزالي (ت 505هـ) ، طبع المطبعة الأميرية – بولاق – مصر، الطبعة الأولى 1324هـ.
المسند، لسليمان بن داود بن الجارود الطيالسي (ت 204هـ) ، مكتبة المعرفة – الرياض – السعودية
مسند الإمام أحمد، لأحمد بن حنبل الشيباني، طبع المكتب الإسلامي – بيروت – لبنان، الطبعة الخامسة 1405هـ –1985م
المسودة في أصول الفقه، لعبد السلام بن عبد الله بن الخضر، وعبد الحليم بن عبد السلام، وأحمد بن عبد الحليم، جمع / أحمد بن محمد الحنبلي، تحقيق / محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني – السعودية - مصر
معالم السنن للخطابي، لحمد محمد شاكر بن إبراهيم الخطابي (ت388) ، تحقيق / محمد شاكر، ومحمد حامد الفقي، دار المعرفة - بيروت - لبنان
المعتمد في أصول الفقه، لمحمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436هـ) ، تقديم / خليل الميس، طبع دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1403هـ –1983م
المعجم الأوسط، لسليمان بن أحمد الطبراني (ت360 هـ) ، تحقيق / طارق بن عوض الله بن محمد، وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين – القاهرة – مصر، طبع سنة 1415هـ
معجم البلاغة العربية، د. بدوي طبانه، دار العلوم للطباعة والنشر - السعوية، الطبعة الأولى (1402هـ –1982)
المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360هـ) ، تحقيق / حمدي عبد المجيد السلفي،طبع مطبعة الوطن العربي – العراق، الطبعة الأولى 1400هـ
المغني، لعبد الله بن أحمد بن محمد ين قدامة المقدسي (ت620 هـ) ، طبعة (1401هـ –1981م) ، مكتبة الرياض
المغني في أصول الفقه، لعمر بن محمد بن عمر الخبازي (ت 691هـ) ، تحقيق د. محمد مظهر بقا، الطبعة الأولى (1403هـ) ، مركز البحث العلمي في جامعة أم القرى
مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911هـ) ، تحقيق / بدر بن عبد الله البدر، دار النفائس للنشر والتوزيع - الكويت - الحولي، ومؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع - لبنان - بيروت، الطبعة الأولى (1414هـ –1993م)
مناقب الشافعي، لأحمد بن الحسين البيهقي (ت 458هـ) ، تحقيق / السيد أحمد صقر، طبع مكتبة دار التراث – القاهرة – مصر، دار النصر للطباعة – القاهرة – مصر الطبعة الأولى 1391هـ – 1971م
منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، لعثمان بن علي حسين، الطبعة الأولى 1412هـ –1992م، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع - الرياض - السعودية، الطبعة الأولى
الموطأ، لمالك بن أنس، تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاه
ميزان الأصول في نتائج العقول، لمحمد بن أحمد السمرقندي (ت 539هـ) ، تحقيق / الدكتور محمد زكي عبد البر، مطابع الدوحة الحديثة – الدوحة – قطر، الطبعة الأولى 1404هـ – 1984م
نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، لأحمد بن علي العسقلاني (ت 852هـ) ، مكتبة طيبة – المدينة المنورة – السعودية، طبع سنة 1404هـ
نهاية السهول في شرح منهاج الأصول، لعبد الرحيم بن الحسن الأسنوي (ت772 هـ)
طبع / عالم الكتب – بيروت - لبنان
الوجيز في أصول الفقه، لعبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة - بيروت - لبنان، طبع سنة (1987م)(14/326)
– أيضاً -: (وقد نسب إلى أبي حنيفة رد خبر الواحد إذا خالف الأصول كالاستحسان والاستصحاب، وأنا أعتقد أن أكثر تلك الروايات التي تحكي عن هؤلاء الأئمة مخالفة للقواعد الشرعية لا تصح عنهم، وإنما خرجها على مذاهبهم بعض من غلا في تقليدهم، عندما وجد لهم أقوالاً اعتمدوا فيها القياس، حيث لم تبلغهم الأحاديث فيها، أو لم تتضح لهم دلالتها، فأراد بعض أتباعهم أن يعتذر عنهم بأن تلك الأحاديث آحاد قد خالفت الأصول، ثم أضيفت تلك القواعد إلى مذاهب الأئمة لشهرتها عند أتباعهم ... )
8-لم يَثْبُتْ بناء أي مسألة من المسائل الفقهية على تلك القواعد، كما لم يثبت عن الإمام أبي حنيفة ما يؤيد ما ذهب إليه أولئك القائلين بها.
9-كما توصلت إلى أن كثيراً من هؤلاء – وإن كان من اتباع الإمام أبي حنيفة رحمه الله حفاظ وأئمة أمثال الطحاوي وغيره – قليلة بضاعتهم بعلم الحديث ومصطلحه ومعرفة الرجال والجرح والتعديل والتمييز بين صحيح السنة وسقيمها ومتواترها وآحادها، فهم يصححون ما هو ضعيف عند أهل العلم بالحديث، ويضعفون ما هو ثابت كثبوت الجبال الراسيات عند أهله، ويحكمون بأحادية ما تواتر، وشهرة وتواتر ما ضُعِّفَ أو أُنْكِرَ عند علماء السنة والأثر.
يوضح ذلك ما يأتي:-
1-تصحيحهم لحديث (تكثر الأحاديث لكم بعدي فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافقه فاقبلوه واعلموا أنه مني وما خالفه فردوه واعلموا أني منه بريء) .
مع أنه لا يصح عند أهل العلم بالحديث بل قال بعضهم إنه من وضع الزنادقة.
2-تركهم لحديث فاطمة بنت قيس مع كونه صحيحاً مخرجاً في صحيح مسلم وغيره، وأخذهم بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا (لقول امرأة لا ندري حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة ... )(14/327)
مع أن أهل العلم بالحديث قالوا عنه كما قال ابن القيم: (قد أعاذ الله أمير المؤمنين من هذا الكلام الباطل الذي لا يصح عنه أبداً. قال الإمام أحمد: لا يصح ذلك عن عمر) .
3-ردهم لما تواتر عند علماء الحديث والأثر كما في حديث قضاء النبي صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد، ورفعه ليديه في الركوع وحين الرفع منه.
4- قولهم بعد ذكرهم لحديث (الطلاق بالرجال والعدة بالنساء) ، وحديث (ابتغوا في أموال اليتامى خيراً كيلا تأكلها الصدقة) حديثان صحيحان أعرض الصحابة عن الاحتجاج بهما في موطن النزاع والحجاج.
وقد سبق بيان أن هذين ليسا كما ذكروا بل هما مما اختلف العلماء فيهما تصحيحاً وتضعيفاً، رفعاً ووقفاً.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.(14/328)